الطبيــــــعيــــة تمهيد: إن تط بيق المنهج العلمي في دراس ة المجتم ع ل ه خصوص ياته ال تي تم يزه عن العل وم الطبيعي ة؛ فاإلنسان موضوع البحث ،ليس جمادا؛ بل كائنا حيا له مشاعره ،وأحاسيسه التي ال يمكن دائما التنبؤ بها ،كما أن الباحث االجتماعي لكونه جزء من المجتمع فإنه يواجه تحديا في التعامل بموضوعية مع قض ايا تهم ه ،وتمس وج وده ،وانتمائ ه؛ باإلض افة إلى االل تزام بالحقيق ة في مج ال البحث االجتم اعي ل ه محاذيره خصوصا في المجتمعات التي تضع قيودا على حرية الرأي والتعبير. ويمكن الق ول بص فة عام ة أن العلم ه و في األس اس موج ه إلى دراس ة طبيعي ة ،ويش تمل ه ذا المصطلح على العالم الفيزيقي وكذا عالم األحياء ،وبكلمات أخرى ،فإن كل ما هو موجود أو منتج دون ت دخل من ط رف اإلنس ان يمث ل م ا نس ميه بالطبيع ة ،أم ا الف روع الخاص ة مث ل :الفيزي اء والكيمي اء والبيولوجيا فقد وضعت أصال لدراسة هذه الطبيعة ،وسواء سميت بالعلوم الطبيعية أو الدقيقة ،أو مجرد علوم ،فإنها حاليا تسمى بعلوم الطبيعة. هناك فروع أخرى متصلة بها مثل :الفلك والجيولوجيا ،وأخرى جديدة تكونت عن طريق ما يسمى بالتوأمة مثل :الفيزياء الفلكية ،والكيمياء العضوية .لقد مثلت علوم الطبيعة طريقة عمل يحتذى به ا ،لم تفت أ تتط ور وتنمو بش كل معت بر إلى يومن ا هذا ،من جهت ه ،يعت بر اإلنس ان موض وع دراس ة له ا خصائص ها ومميزاته ا العلمي ة ،واله دف من مث ل ه ذه الدراس ات ال تي تج ري في مختل ف ف روع العل وم اإلنسانية هو معرفة وفهم اإلنسان ومعنى أو داللة أفعاله. تش تمل ه ذه العل وم ال تي ك انت تس مى في الس ابق بعل وم اإلنس ان ،ثم الحق ا ب العلوم االجتماعي ة، خاصة في العالم األنجلوسكسوني على فروع عديدة تقوم بدراسة اإلنسان من جوانب متعددة :ففي علم النفس مثال فإن التركيز يكون بصفة خاصة على الظواهر النفسية ،أما في علم االجتماع؛ فإننا سنبحث عن تفس ير الظ واهر االجتماعي ة ،أم ا في الت اريخ فإنن ا س نقوم بدراس ة األح داث والوق ائع الماض ية ،أم ا العالق ات السياس ية واالقتص ادية واإلداري ة فإنه ا س تكون موض وع اهتم ام ف روع علم السياس ية وعلم االقتصاد واإلدارة. -المقارنة بين العلوم اإلنسانية والعلوم الطبيعية: -1طرق عملها :لكي نفهم طريقة عمل علوم الطبيعة فهما جيدا البد أن نضع في أذهاننا أنها تتعامل م ع األش ياء المادي ة؛ فهي تح اول اكتش اف العالق ات بين الظ واهر أو األش ياء المادي ة ،ولمالحظ ة ه ذه الظواهر واألشياء بكيفية جيدة تستعمل هذه العلوم أدوات متطورة إلى حد كبير ،إن بعض هذه األدوات مث ل المجه ر يس اعد في تبس يط مع اني ه ذه األش ياء ومكوناته ا ،وتّمكن المالح ظ من رؤي ة أدق ح تى ألصغر األجسام التي تتركب منها ،والتي يستحيل علينا رؤيتها بالعين المجردة ،كما يسمح لنا جهاز األوديوم تر ( )Audiomètreبقي اس األص وات التي يتع ذر علين ا س ماعها في الح االت العادي ة .إن ه ذه األدوات واألجهزة الخاصة سمحت لعلوم الطبيعة بتنمية تجاربها وتطويرها ،وذلك بالعودة الدائمة إلى التجربة. وبعبارة أخرى ،فإننا نثير موضوعا أو ظاهرة بهدف دراستها (أو إعادة دراستها) ،وبالرجوع عموم ا إلى المخ بر ال ذي يمكنن ا من خلق ش روط إنت اج ه ذه الظ اهرة ومعالج ة عناص رها ،هك ذا تصبح المادة واألداة والتجربة عناصر يتغذى منها نموذج البحث في علوم الطبيعة ،هذا األخير يوفر شروطا مثالية لتكرار التجربة كلما دعت الضرورة إلى ذلك. إن العلوم اإلنسانية لها هي األخرى طريقة عملها؛ ولفهمها البد أن نضع في أذهاننا أننا بصدد دراسة كائنات بشرية ،إن القضية هنا تختلف عما هي عليه في علوم الطبيعة ،ذلك أننا هنا نتعامل مع ك ائن يتح دث ،يتج اوب ويتفاع ل مع أمثال ه ،ويمتل ك وعي ا ومق درة على التعلم والفهم ،لهذا فالتعام ل م ع "الموض وع" هن ا ينبغي أن يك ون مص حوبا بح ذر وعناي ة كب يرين ،فقبل الش روع في دراس ة ه ذا الك ائن البش ري ،مثال الب د من طلب إذن ه؛ حيث يمكن أن يع ارض ذلك أو يقبل ه ،وك ذلك ف إن اس تعمال أدوات البحث ال يتم ع ادة إال بموافق ة األش خاص موض وع الدراس ة .إن ه ذا االس تعمال ألدوات البحث ( ) Instrumentationيمكن أن يأخذ أشكاال خاصة ،ومنها إمكانية استجواب هذا الموضوع وهو الكائن البشري .إن العلوم اإلنسانية ليست تقليدا أعمى لعلوم الطبيعة ،خاصة إذا أخذنا بعين االعتبار مميزات مواضيع كل منهما ،وحتى وإ ن كانت مجاالت النشاط محددة في إطار علمي ،ومع كل ذلك فال يوجد تع ارض في الطريقة العلمي ة المتبع ة في كلت ا الح التين م ا ع دا بعض الف روق ال تي ال مف ر منه ا أثن اء المعالجة الفعلية اعتبارا لخصوصيات كل موضوع. -2خصائص ها المم يزة :لكي نتع رف أك ثر على الخص ائص المم يزة بين عل وم الطبيعة والعل وم اإلنس انية ،الب د من اختب ار خص ائص موض وعيهما بح ذر ش ديد ،أول ه ذه الخص ائص هي أن الك ائن البش ري يش عر بوج وده؛ في حين يظه ر أن الموض وع (أو الك ائن) الم ادي ال ي درك وال يش عر بوج وده الخاص ،زيادة على ذلك فإن الكائن البشري ال يستسلم بالضرورة لمن يقوم بدراسته ،إنه يقوم بتعديل الوضع من تلقاء نفسه أثناء الدراسة. يلي ذلك أن الكائن البشري يعطي معنى لما يحيط به ،وبكلمات أخرى إنه يؤول وجوده ،إال أنه من غ ير المعق ول أن يك ون األم ر ك ذلك فيم ا يخص الك ائن الم ادي أو الط بيعي؛ فمثال ليس في مق دور حج ر كب ير أن يق اوم التحلي ل ال ذي نجري ه علي ه ،أم ا الش خص فيمكن ه أن يع ارض التأوي ل ال ذي يقدم ه طرف آخر حول أفعاله وسلوكاته . يضاف إلى هذا وخالفا لممارس أو ممارسة علوم الطبيعة فإن الباحث في العلوم اإلنسانية ،ه و من نفس طبيعة الموضوع المدروس (المبحوث) ،ولهذا ينبغي علينا مضاعفة الحذر حول ما نقدمه أو ما نذكر به حول تجربتنا الشخصية ،ذلك ألنها ليست بالضرورة هي نفس تجربة اآلخرين ،وله ذا ينبغي علينا أيضا تجنب اآلخرين دوافعنا وحوافزنا الخاصة. يض اف إلى ذل ك أن األش خاص أو الجماع ات ليس وا ص ورا يط ابق ك ل منه ا األخ رى ،فكل ش خص ه و عب ارة لتج ارب أص لية يجعل ه في النهاي ة فري د من نوع ه ،باختص ار هن اك مجموعة من العوام ل ال تي يمكن أن تت دخل في س لوك ك ل ش خص وتص رفه ،وه ذا م ا يجع ل من مهمة مراقب ة ه ذه العوام ل مهم ة ص عبة للغاي ة ،ه ذا م ا يجع ل المالحظ ة في ه ذه الحال ة أم را معق دا منه ل و تعل ق األم ر بدراسة حيوانات من نفس الفصيلة أو دراسة عينتين من نفس المعدن ،وإذا كان في إمكاننا بالنسبة إلى الحال ة األخ يرة ،إع ادة إنت اج وتك رار التجرب ة كلم ا دعت الض رورة إلى ذل ك ألن مكون ات الموض وع س تظل هي عينه ا ،ف إن الوض عيات والمواض يع تتطلب سلس لة من المح اذير والش روط ال تي ال يمكنن ا المحافظ ة عليه ا دائم ا وبس هولة ،وق د يك ون ه دفنا ه و دراس ة بعض الس لوكات المح ددة فق ط ،وال تقب ل ب ذلك إال بعض العناص ر وعن طواعي ة ،وله ذا ال يمكن إع ادة إنت اج عن طواعي ة وض عيات تمت دراستها ،واعتبار ذلك كما لو أننا اشتغلنا حول مواضيع فيزيقية. بعب ارة أخ رى ،ف إن الع الم الم ادي أك ثر بس اطة من الع الم اإلنس اني ،فالع الم الف يزيقي ال يمكنه إنت اج نفس ه ،أم ا الع الم الحي فيمكن ه ذل ك ولكن بدرج ة أق ل تعقي دا من الك ائن البش ري ،له ذا فموض وع العلوم اإلنسانية هو أكثر تعقيدا من موضع العلوم الطبيعية ،حتى ولو كنا سواء في هذا الجانب أو ذاك، ال نزال بعيدين كثيرا عن النفوذ إلى كل األسرار ،ذلك أن الكائن البشري يعطي معنى ألفعاله ،وأن كل شخص هو ذات أو (هوية) أصلية؛ وبالتالي مظهرا من مظاهر تعقد الموضوع ،واألكثر من هذا حتى وإن كان من الممكن أن يخضع الكائن البشري للقياس ،فقياس أفعاله وتصرفاته ليس أمرا سهال ،كما هو حال الكائن المادي في علوم الطبيع ة؛ في هذه الحالة األخيرة ،فإنه من الممكن استعمال مجموعة من األدوات التي ال تمدد المعاني فقط ولكنها تمدنا بقياسات دقيقة للظواهر األساسية المطلوب دراستها، أما في العلوم اإلنسانية ،فإذا كانت بعض الظواهر قابلة للقياس مثل حساب تكاليف المعيشة فهي ممكنة، لكن هناك ظواهر أخرى مثل الهوية الوطنية ال يمكن فهمها بالضرورة بواسطة قياسات كمية. أيض ا ،إذا ك انت العل وم اإلنس انية تمي ل إلى التفس ير ،فإنه ا في كث ير من األحي ان ال تس مح بالدراسة الدقيقة للعلل أو المسببات؛ في حين أن األمر في علوم الطبيعة ،وبفضل التجربة ،منتشرا إلى حد كبير ،ولهذا يمكننا إثارة ومراقبة الوضعيات التي تسمح لنا بدراسة اآلثار التي تحدثها ظاهرة ما في ظ اهرة أخ رى ،أم ا في العل وم اإلنس انية فق د تت داخل ع دة ظ واهر؛ مم ا يجعل من الص عب؛ ب ل من المس تحيل مراقب ة الظ واهر ال تي تس مح بع زل الس بب أو األس باب ،وإذا ك ان من الممكن إعف اء بعض العوام ل المفس رة لظ اهرة م ا ،فإن ه من الن ادر أن يح دث ذل ك بالنس بة إلى عالق ة بين س بب ونتيج ة .في األخير فإن العلوم اإلنسانية قد وضعت نموذجا لتسهيل فهمها للظواهر يتم بواسطتها أخذ بعين االعتبار المعنى الذي تعطيه الكائنات البشرية لسلوكاتها ضمن مجموع التأويالت. وللمقارن ة بين خصوص يات الموض وع في العل وم اإلنس انية وخصوص ياته في عل وم الطبيع ة أنظر الجدول اآلتي: الموضوع في علوم الطبيعة الموضوع في العلوم اإلنسانية 1.ليس له وعي بوجوده. 1.له وعي بوجوده . 2.ال يعطي معنى ألفعاله. 2.يعطي معنى انفعاله. 3.ليس من نفس طبيعة المالحظة. 3.إنه من نفس طبيعة المالحظة. 4.يمكن إعادة إنتاجه. 4.غير ممكن إعادة إنتاجه. 5.بسيط. 5.معقد. 6.يقبل القياس. 6.يقبل قياسه جزئيا. 7.يقبل بالسببية. 7.يقبل بالتحليل التفسيري. 8.ال يقبل بالتحليل الفهمي. 8.يقبل بالتحليل الفهمي. م ا عدا ه ذه الخصوص يات توج د تش ابهات بين مواض يع العل وم اإلنس انية ومواض يع عل وم الطبيعة؛ فاألرض مثال قد عرفت تطورا بالضبط كما عرف الكائن البشري تطورا تاريخيا سواء بشكل ف ردي أو جم اعي ،فالموض وعان لهم ا إذا تاريخاني ة هك ذا بع دما اعتق دنا ،ومن ذ زمن طوي ل ،أن دراس ة اإلنسان هي وحدها التي مازالت عرضة للتداخالت بين المالحظ والمالحظ فإننا نعرف اآلن عن طريق نتائج بعض التجارب الفيزيائية حول الجزئيات أن حضور الباحث يؤثر في دراسة الظاهرة ،يوجد إذن تفاعل بين الموضوع والباحث في كلتا الحالتين؛ وبالتالي ينبغي علينا دائما أن نعيد النظر ما أمكن في عالقتنا بالموضوع وذلك لكي نتجنب الخلط في معرفتنا الموضوعية التي نسعى إليها ،في األخير فإن عل وم الطبيع ة على األق ل فيم ا يتعل ق بدراس ة األحي اء ،ولتكن الخلي ة مثال له ا موض وع يحظى ببعض االستقاللية على غرار الكائن البشري؛ فالخلية يمكن أن تنمو ،وأن تعيد إنتاجها ،ومع ذلك فإن تعقدها قد تقلص كثيرا مقارنة بالخلية اإلنسانية وخلية المجتمعات البشرية.
الأسس الابستيمولوجية لمناهج البحث عند العلماء العرب و المسلمين في الحضارة العربية الاسلامية في العلوم الاجتماعية و الانسانية - المنهج العلمي الخلدوني (أنموذجا)