You are on page 1of 5

‫املحاضرة السادسة‬

‫المقارن ة بي ن العلوم اإلنس انية والعلوم‬


‫الطبيــــــعيــــة‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن تط بيق المنهج العلمي في دراس ة المجتم ع ل ه خصوص ياته ال تي تم يزه عن العل وم الطبيعي ة؛‬
‫فاإلنسان موضوع البحث‪ ،‬ليس جمادا؛ بل كائنا حيا له مشاعره‪ ،‬وأحاسيسه التي ال يمكن دائما التنبؤ‬
‫بها‪ ،‬كما أن الباحث االجتماعي لكونه جزء من المجتمع فإنه يواجه تحديا في التعامل بموضوعية مع‬
‫قض ايا تهم ه‪ ،‬وتمس وج وده‪ ،‬وانتمائ ه؛ باإلض افة إلى االل تزام بالحقيق ة في مج ال البحث االجتم اعي ل ه‬
‫محاذيره خصوصا في المجتمعات التي تضع قيودا على حرية الرأي والتعبير‪.‬‬
‫ويمكن الق ول بص فة عام ة أن العلم ه و في األس اس موج ه إلى دراس ة طبيعي ة‪ ،‬ويش تمل ه ذا‬
‫المصطلح على العالم الفيزيقي وكذا عالم األحياء‪ ،‬وبكلمات أخرى‪ ،‬فإن كل ما هو موجود أو منتج دون‬
‫ت دخل من ط رف اإلنس ان يمث ل م ا نس ميه بالطبيع ة‪ ،‬أم ا الف روع الخاص ة مث ل‪ :‬الفيزي اء والكيمي اء‬
‫والبيولوجيا فقد وضعت أصال لدراسة هذه الطبيعة‪ ،‬وسواء سميت بالعلوم الطبيعية أو الدقيقة‪ ،‬أو مجرد‬
‫علوم‪ ،‬فإنها حاليا تسمى بعلوم الطبيعة‪.‬‬
‫هناك فروع أخرى متصلة بها مثل‪ :‬الفلك والجيولوجيا‪ ،‬وأخرى جديدة تكونت عن طريق ما‬
‫يسمى بالتوأمة مثل‪ :‬الفيزياء الفلكية‪ ،‬والكيمياء العضوية‪ .‬لقد مثلت علوم الطبيعة طريقة عمل يحتذى‬
‫به ا‪ ،‬لم تفت أ تتط ور وتنمو بش كل معت بر إلى يومن ا هذا‪ ،‬من جهت ه‪ ،‬يعت بر اإلنس ان موض وع دراس ة له ا‬
‫خصائص ها ومميزاته ا العلمي ة‪ ،‬واله دف من مث ل ه ذه الدراس ات ال تي تج ري في مختل ف ف روع العل وم‬
‫اإلنسانية هو معرفة وفهم اإلنسان ومعنى أو داللة أفعاله‪.‬‬
‫تش تمل ه ذه العل وم ال تي ك انت تس مى في الس ابق بعل وم اإلنس ان‪ ،‬ثم الحق ا ب العلوم االجتماعي ة‪،‬‬
‫خاصة في العالم األنجلوسكسوني على فروع عديدة تقوم بدراسة اإلنسان من جوانب متعددة‪ :‬ففي علم‬
‫النفس مثال فإن التركيز يكون بصفة خاصة على الظواهر النفسية‪ ،‬أما في علم االجتماع؛ فإننا سنبحث‬
‫عن تفس ير الظ واهر االجتماعي ة‪ ،‬أم ا في الت اريخ فإنن ا س نقوم بدراس ة األح داث والوق ائع الماض ية‪ ،‬أم ا‬
‫العالق ات السياس ية واالقتص ادية واإلداري ة فإنه ا س تكون موض وع اهتم ام ف روع علم السياس ية وعلم‬
‫االقتصاد واإلدارة‪.‬‬
‫‪ -‬المقارنة بين العلوم اإلنسانية والعلوم الطبيعية‪:‬‬
‫‪ -1‬طرق عملها‪ :‬لكي نفهم طريقة عمل علوم الطبيعة فهما جيدا البد أن نضع في أذهاننا أنها تتعامل‬
‫م ع األش ياء المادي ة؛ فهي تح اول اكتش اف العالق ات بين الظ واهر أو األش ياء المادي ة‪ ،‬ولمالحظ ة ه ذه‬
‫الظواهر واألشياء بكيفية جيدة تستعمل هذه العلوم أدوات متطورة إلى حد كبير‪ ،‬إن بعض هذه األدوات‬
‫مث ل المجه ر يس اعد في تبس يط مع اني ه ذه األش ياء ومكوناته ا‪ ،‬وتّمكن المالح ظ من رؤي ة أدق ح تى‬
‫ألصغر األجسام التي تتركب منها‪ ،‬والتي يستحيل علينا رؤيتها بالعين المجردة‪ ،‬كما يسمح لنا جهاز‬
‫األوديوم تر (‪ )Audiomètre‬بقي اس األص وات التي يتع ذر علين ا س ماعها في الح االت العادي ة‪ .‬إن ه ذه‬
‫األدوات واألجهزة الخاصة سمحت لعلوم الطبيعة بتنمية تجاربها وتطويرها‪ ،‬وذلك بالعودة الدائمة إلى‬
‫التجربة‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬فإننا نثير موضوعا أو ظاهرة بهدف دراستها (أو إعادة دراستها)‪ ،‬وبالرجوع‬
‫عموم ا إلى المخ بر ال ذي يمكنن ا من خلق ش روط إنت اج ه ذه الظ اهرة ومعالج ة عناص رها‪ ،‬هك ذا تصبح‬
‫المادة واألداة والتجربة عناصر يتغذى منها نموذج البحث في علوم الطبيعة‪ ،‬هذا األخير يوفر شروطا‬
‫مثالية لتكرار التجربة كلما دعت الضرورة إلى ذلك‪.‬‬
‫إن العلوم اإلنسانية لها هي األخرى طريقة عملها؛ ولفهمها البد أن نضع في أذهاننا أننا بصدد‬
‫دراسة كائنات بشرية‪ ،‬إن القضية هنا تختلف عما هي عليه في علوم الطبيعة‪ ،‬ذلك أننا هنا نتعامل مع‬
‫ك ائن يتح دث‪ ،‬يتج اوب ويتفاع ل مع أمثال ه‪ ،‬ويمتل ك وعي ا ومق درة على التعلم والفهم‪ ،‬لهذا فالتعام ل م ع‬
‫"الموض وع" هن ا ينبغي أن يك ون مص حوبا بح ذر وعناي ة كب يرين‪ ،‬فقبل الش روع في دراس ة ه ذا الك ائن‬
‫البش ري‪ ،‬مثال الب د من طلب إذن ه؛ حيث يمكن أن يع ارض ذلك أو يقبل ه‪ ،‬وك ذلك ف إن اس تعمال أدوات‬
‫البحث ال يتم ع ادة إال بموافق ة األش خاص موض وع الدراس ة‪ .‬إن ه ذا االس تعمال ألدوات البحث (‬
‫‪ ) Instrumentation‬يمكن أن يأخذ أشكاال خاصة‪ ،‬ومنها إمكانية استجواب هذا الموضوع وهو الكائن‬
‫البشري‪ .‬إن العلوم اإلنسانية ليست تقليدا أعمى لعلوم الطبيعة‪ ،‬خاصة إذا أخذنا بعين االعتبار مميزات‬
‫مواضيع كل منهما‪ ،‬وحتى وإ ن كانت مجاالت النشاط محددة في إطار علمي‪ ،‬ومع كل ذلك فال يوجد‬
‫تع ارض في الطريقة العلمي ة المتبع ة في كلت ا الح التين م ا ع دا بعض الف روق ال تي ال مف ر منه ا أثن اء‬
‫المعالجة الفعلية اعتبارا لخصوصيات كل موضوع‪.‬‬
‫‪ -2‬خصائص ها المم يزة ‪ :‬لكي نتع رف أك ثر على الخص ائص المم يزة بين عل وم الطبيعة والعل وم‬
‫اإلنس انية‪ ،‬الب د من اختب ار خص ائص موض وعيهما بح ذر ش ديد‪ ،‬أول ه ذه الخص ائص هي أن الك ائن‬
‫البش ري يش عر بوج وده؛ في حين يظه ر أن الموض وع (أو الك ائن) الم ادي ال ي درك وال يش عر بوج وده‬
‫الخاص‪ ،‬زيادة على ذلك فإن الكائن البشري ال يستسلم بالضرورة لمن يقوم بدراسته‪ ،‬إنه يقوم بتعديل‬
‫الوضع من تلقاء نفسه أثناء الدراسة‪.‬‬
‫يلي ذلك أن الكائن البشري يعطي معنى لما يحيط به‪ ،‬وبكلمات أخرى إنه يؤول وجوده‪ ،‬إال أنه‬
‫من غ ير المعق ول أن يك ون األم ر ك ذلك فيم ا يخص الك ائن الم ادي أو الط بيعي؛ فمثال ليس في مق دور‬
‫حج ر كب ير أن يق اوم التحلي ل ال ذي نجري ه علي ه‪ ،‬أم ا الش خص فيمكن ه أن يع ارض التأوي ل ال ذي يقدم ه‬
‫طرف آخر حول أفعاله وسلوكاته ‪.‬‬
‫يضاف إلى هذا وخالفا لممارس أو ممارسة علوم الطبيعة فإن الباحث في العلوم اإلنسانية‪ ،‬ه و‬
‫من نفس طبيعة الموضوع المدروس (المبحوث)‪ ،‬ولهذا ينبغي علينا مضاعفة الحذر حول ما نقدمه أو‬
‫ما نذكر به حول تجربتنا الشخصية‪ ،‬ذلك ألنها ليست بالضرورة هي نفس تجربة اآلخرين‪ ،‬وله ذا ينبغي‬
‫علينا أيضا تجنب اآلخرين دوافعنا وحوافزنا الخاصة‪.‬‬
‫يض اف إلى ذل ك أن األش خاص أو الجماع ات ليس وا ص ورا يط ابق ك ل منه ا األخ رى‪ ،‬فكل‬
‫ش خص ه و عب ارة لتج ارب أص لية يجعل ه في النهاي ة فري د من نوع ه‪ ،‬باختص ار هن اك مجموعة من‬
‫العوام ل ال تي يمكن أن تت دخل في س لوك ك ل ش خص وتص رفه‪ ،‬وه ذا م ا يجع ل من مهمة مراقب ة ه ذه‬
‫العوام ل مهم ة ص عبة للغاي ة‪ ،‬ه ذا م ا يجع ل المالحظ ة في ه ذه الحال ة أم را معق دا منه ل و تعل ق األم ر‬
‫بدراسة حيوانات من نفس الفصيلة أو دراسة عينتين من نفس المعدن‪ ،‬وإذا كان في إمكاننا بالنسبة إلى‬
‫الحال ة األخ يرة‪ ،‬إع ادة إنت اج وتك رار التجرب ة كلم ا دعت الض رورة إلى ذل ك ألن مكون ات الموض وع‬
‫س تظل هي عينه ا‪ ،‬ف إن الوض عيات والمواض يع تتطلب سلس لة من المح اذير والش روط ال تي ال يمكنن ا‬
‫المحافظ ة عليه ا دائم ا وبس هولة‪ ،‬وق د يك ون ه دفنا ه و دراس ة بعض الس لوكات المح ددة فق ط‪ ،‬وال تقب ل‬
‫ب ذلك إال بعض العناص ر وعن طواعي ة‪ ،‬وله ذا ال يمكن إع ادة إنت اج عن طواعي ة وض عيات تمت‬
‫دراستها‪ ،‬واعتبار ذلك كما لو أننا اشتغلنا حول مواضيع فيزيقية‪.‬‬
‫بعب ارة أخ رى‪ ،‬ف إن الع الم الم ادي أك ثر بس اطة من الع الم اإلنس اني‪ ،‬فالع الم الف يزيقي ال يمكنه‬
‫إنت اج نفس ه‪ ،‬أم ا الع الم الحي فيمكن ه ذل ك ولكن بدرج ة أق ل تعقي دا من الك ائن البش ري‪ ،‬له ذا فموض وع‬
‫العلوم اإلنسانية هو أكثر تعقيدا من موضع العلوم الطبيعية‪ ،‬حتى ولو كنا سواء في هذا الجانب أو ذاك‪،‬‬
‫ال نزال بعيدين كثيرا عن النفوذ إلى كل األسرار‪ ،‬ذلك أن الكائن البشري يعطي معنى ألفعاله‪ ،‬وأن كل‬
‫شخص هو ذات أو (هوية) أصلية؛ وبالتالي مظهرا من مظاهر تعقد الموضوع‪ ،‬واألكثر من هذا حتى‬
‫وإن كان من الممكن أن يخضع الكائن البشري للقياس‪ ،‬فقياس أفعاله وتصرفاته ليس أمرا سهال‪ ،‬كما‬
‫هو حال الكائن المادي في علوم الطبيع ة؛ في هذه الحالة األخيرة‪ ،‬فإنه من الممكن استعمال مجموعة‬
‫من األدوات التي ال تمدد المعاني فقط ولكنها تمدنا بقياسات دقيقة للظواهر األساسية المطلوب دراستها‪،‬‬
‫أما في العلوم اإلنسانية‪ ،‬فإذا كانت بعض الظواهر قابلة للقياس مثل حساب تكاليف المعيشة فهي ممكنة‪،‬‬
‫لكن هناك ظواهر أخرى مثل الهوية الوطنية ال يمكن فهمها بالضرورة بواسطة قياسات كمية‪.‬‬
‫أيض ا‪ ،‬إذا ك انت العل وم اإلنس انية تمي ل إلى التفس ير‪ ،‬فإنه ا في كث ير من األحي ان ال تس مح‬
‫بالدراسة الدقيقة للعلل أو المسببات؛ في حين أن األمر في علوم الطبيعة‪ ،‬وبفضل التجربة‪ ،‬منتشرا إلى‬
‫حد كبير‪ ،‬ولهذا يمكننا إثارة ومراقبة الوضعيات التي تسمح لنا بدراسة اآلثار التي تحدثها ظاهرة ما‬
‫في ظ اهرة أخ رى‪ ،‬أم ا في العل وم اإلنس انية فق د تت داخل ع دة ظ واهر؛ مم ا يجعل من الص عب؛ ب ل من‬
‫المس تحيل مراقب ة الظ واهر ال تي تس مح بع زل الس بب أو األس باب‪ ،‬وإذا ك ان من الممكن إعف اء بعض‬
‫العوام ل المفس رة لظ اهرة م ا‪ ،‬فإن ه من الن ادر أن يح دث ذل ك بالنس بة إلى عالق ة بين س بب ونتيج ة‪ .‬في‬
‫األخير فإن العلوم اإلنسانية قد وضعت نموذجا لتسهيل فهمها للظواهر يتم بواسطتها أخذ بعين االعتبار‬
‫المعنى الذي تعطيه الكائنات البشرية لسلوكاتها ضمن مجموع التأويالت‪.‬‬
‫وللمقارن ة بين خصوص يات الموض وع في العل وم اإلنس انية وخصوص ياته في عل وم الطبيع ة‬
‫أنظر الجدول اآلتي‪:‬‬
‫الموضوع في علوم الطبيعة‬ ‫الموضوع في العلوم اإلنسانية‬
‫‪ 1.‬ليس له وعي بوجوده‪.‬‬ ‫‪ 1.‬له وعي بوجوده ‪.‬‬
‫‪ 2.‬ال يعطي معنى ألفعاله‪.‬‬ ‫‪ 2.‬يعطي معنى انفعاله‪.‬‬
‫‪ 3.‬ليس من نفس طبيعة المالحظة‪.‬‬ ‫‪ 3.‬إنه من نفس طبيعة المالحظة‪.‬‬
‫‪ 4.‬يمكن إعادة إنتاجه‪.‬‬ ‫‪ 4.‬غير ممكن إعادة إنتاجه‪.‬‬
‫‪ 5.‬بسيط‪.‬‬ ‫‪ 5.‬معقد‪.‬‬
‫‪ 6.‬يقبل القياس‪.‬‬ ‫‪ 6.‬يقبل قياسه جزئيا‪.‬‬
‫‪ 7.‬يقبل بالسببية‪.‬‬ ‫‪ 7.‬يقبل بالتحليل التفسيري‪.‬‬
‫‪ 8.‬ال يقبل بالتحليل الفهمي‪.‬‬ ‫‪ 8.‬يقبل بالتحليل الفهمي‪.‬‬
‫م ا عدا ه ذه الخصوص يات توج د تش ابهات بين مواض يع العل وم اإلنس انية ومواض يع عل وم‬
‫الطبيعة؛ فاألرض مثال قد عرفت تطورا بالضبط كما عرف الكائن البشري تطورا تاريخيا سواء بشكل‬
‫ف ردي أو جم اعي‪ ،‬فالموض وعان لهم ا إذا تاريخاني ة هك ذا بع دما اعتق دنا‪ ،‬ومن ذ زمن طوي ل‪ ،‬أن دراس ة‬
‫اإلنسان هي وحدها التي مازالت عرضة للتداخالت بين المالحظ والمالحظ فإننا نعرف اآلن عن طريق‬
‫نتائج بعض التجارب الفيزيائية حول الجزئيات أن حضور الباحث يؤثر في دراسة الظاهرة‪ ،‬يوجد إذن‬
‫تفاعل بين الموضوع والباحث في كلتا الحالتين؛ وبالتالي ينبغي علينا دائما أن نعيد النظر ما أمكن في‬
‫عالقتنا بالموضوع وذلك لكي نتجنب الخلط في معرفتنا الموضوعية التي نسعى إليها‪ ،‬في األخير فإن‬
‫عل وم الطبيع ة على األق ل فيم ا يتعل ق بدراس ة األحي اء‪ ،‬ولتكن الخلي ة مثال له ا موض وع يحظى ببعض‬
‫االستقاللية على غرار الكائن البشري؛ فالخلية يمكن أن تنمو‪ ،‬وأن تعيد إنتاجها‪ ،‬ومع ذلك فإن تعقدها‬
‫قد تقلص كثيرا مقارنة بالخلية اإلنسانية وخلية المجتمعات البشرية‪.‬‬

You might also like