You are on page 1of 8

‫ثانيا‪ :‬النظريات الحديثة المبكرة للضبط االجتماعي‪:‬‬

‫‪ -1‬نظرية النظام الطبيعي‪:‬‬


‫سادت منذ القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر عدّة نظريات‬
‫وأفكار تنادي بفكرة القانون الطبيعي‪ Natural Law‬وهي ترى أن الناس مثلما‬
‫لديهم غرائز توجههم ومجبورون على سلوك معين‪ ،‬فإنهم أيضا ً يدركون ضرورة‬
‫العيش ضمن حياة اجتماعية منظمة يسودها القانون والضبط وأن عليهم االلتزام‬
‫بذلك القانون وبقواعد الضبط االجتماعي‪ .‬ومن أشهر تلك النظريات نظرية "إدوارد‬
‫روس" ‪ "Ross "1866-1901‬التي أوضحها في مقاالته العديدة قبل أن يجمعها‬
‫في كتابه الذي ظهر عام "‪ "1901‬تحت عنوان "الضبط االجتماعي"‪Social‬‬
‫‪ Control‬الذي عالج فيه الضبط االجتماعي معالجة شاملة متوخيا ً أن يعطي لهذا‬
‫الموضوع صورته النظرية الشاملة‪ .‬ويمكن عرض هذه النظرية في الخطوات‬
‫اآلتية‪:‬‬
‫أ‪ -‬النظام الطبيعي‪.‬‬
‫تمثل فكرة النظام الطبيعي جوهر نظرية "روس" الذي يرى أن هناك نظاما ً‬
‫اجتماعيا ً طبيعيا ً يتغلغل في جميع األفعال اإلنسانية‪ ،‬ويقوم على وراثة اإلنسان‬
‫ألربع غرائز طبيعية ‪ Natural Instincts‬تشكل نظاما ً اجتماعيا ً لإلنسان يقوم‬
‫على تبادل العالقات بين أفراد المجتمع بشكل ودّي‪ ،‬ومن ثم تجعل منه كائنا ً‬
‫اجتماعيا ً متعاونا ً وهذه الغرائز‪ :‬التعاطف أو المشاركة‪ ،‬العشرة أو القابلية‬
‫لالجتماع‪ ،‬اإلحساس بالعدالة‪ ،‬الشعور العضوي‪ .‬وتزود هذه الغرائز اإلنسان بنظام‬
‫تكاملي‪ ،‬وتعمل على تدعيم العالقات االجتماعية بصورة ودية وشخصية‪ ،‬فغريزة‬
‫التعاطف أو المشاركة تجعل الفرد يتعاطف مع بقية أفراد المجتمع ويقدرهم‬
‫ويتعاون معهم فال يتعدى على ضوابط المجتمع الذي ينتمون له‪ ،‬أ ّما غريزة العشرة‬
‫أو القابلية لالجتماع فتعني أن الفرد ال يمكنه العيش بمفرده فال ب ّد له من االجتماع‬
‫بأبناء جنسه وهذا االجتماع يحتم عليه احترام ضوابطهم االجتماعية‪ ،‬وتعمل غريزة‬
‫اإلحساس بالعدالة على إبعاد الفرد عن االعتداء على حقوق اآلخرين‪ ،‬ما يساعد‬
‫على شيوع االستقرار االجتماعي‪ ،‬وتعني غريزة الشعور العضوي أو رد الفعل‬
‫ي أو تضرر عض ٌو من‬ ‫ى جسد ٍّ‬
‫الفردي أن اإلنسان يشعر باأللم إذا أصيب بأذ ً‬
‫أعضائه‪ ،‬لذلك ينشأ لديه شعور باالمتناع عن إنزال الضرر واألذى بحياة اآلخرين‪.‬‬
‫وبنفس الوقت يشير"روس" إلى أن تلك الغرائز قد تتعرض للضعف بسبب تطور‬
‫المجتمع وتحضره وتعقد أبنيته وتباين جماعاته‪ ،‬وهنا يضطر المجتمع ألن يضع‬
‫ضوابط مصطنعة تحكم العالقات بين أفراده‪.‬‬
‫ويفّرق "روس" بين نوعين من العوامل المؤثرة في الضبط االجتماعي هما‪:‬‬
‫العوامل األخالقية المتمثلة في الغرائز أعاله‪ ،‬والعوامل االجتماعية المتمثلة بوسائل‬
‫الضبط االجتماعي بعد أن زاد حجم السكان وظهرت الجماعات المتباينة اقتصاديا ً أو‬
‫عنصريا ً أو طبقيا ً أو مهنياً‪..‬الخ‪ ،‬وضعفت الغرائز الطبيعية وظهرت األنانية‬
‫الفردية‪.‬‬
‫ب‪ -‬وسائل الضبط االجتماعي‪.‬‬
‫حدّد "روس"‪ Ross‬أهم وسائل الضبط االجتماعي وفقا ً ألهميتها على النحو‬
‫"٭‬
‫اآلتي‪-:‬‬
‫العقيدة‪.‬‬ ‫القانون‪.‬‬ ‫الرأي العام‪.‬‬
‫العادة الجمعية‪.‬‬ ‫التربية‪.‬‬ ‫اإليحاء االجتماعي‪.‬‬
‫الشعائر‬ ‫المثل العليا الشخصية‪.‬‬ ‫الدين‪.‬‬
‫والطقوس‪.‬‬
‫التنوير‬ ‫الشخصية‪.‬‬ ‫الفن‪.‬‬
‫والتثقيف‪.‬‬
‫قيم النخبة‬ ‫القيم االجتماعية‪.‬‬ ‫الخرافات‪.‬‬
‫أو الطليعة‪.‬‬
‫ت‪ -‬التمييز بين أنواع الضبط‪:‬‬
‫ميّز "روس" بين نوعين من الضبط هما‪:‬‬
‫* الضبط االجتماعي‪ :‬الذي تمارسه الهيئة االجتماعية‪ ،‬ومن أهم وسائله‪ ،‬القانون‪،‬‬
‫العرف‪ ،‬الدين‪ ،‬الفن‪ ،‬الرأي العام والقيم‪.‬‬
‫* الضبط الطبقي‪ :‬الذي ينبع من طبقة معينة تعيش على حساب بقية المجتمع‪.‬‬
‫ث‪ -‬طبيعة الضبط االجتماعي وشروطه فاعليته ومقاييسها ‪:‬‬
‫يرى "روس" أن الضبط االجتماعي من حيث طبيعته يتذبذب بين القوة‬
‫والضعف‪ ،‬وبين الجمود والمرونة‪ ،‬وذلك بسبب تغيّر الحاجة االجتماعية ذاتها‪،‬‬
‫وتغيّر العادات‪ .‬ومن أهم مظاهر هذا التغيّر ضعف الروابط األسرية‪ ،‬وازدياد تحرر‬
‫المرأة‪ ،‬وتحرر الصغار من السلطة األبوية في وقت مبكر نسبياً‪ ،‬ما يستلزم تغيّرات‬
‫مصاحبة في المصدر األساس الذي تنبع منه عملية الضبط االجتماعي‪ .‬ويضع‬
‫"روس" مجموعة من القوانين التي تحدد طريقة تدخل المجتمع في الضبط‪ ،‬أي أن‬
‫هناك حدوداً للضبط االجتماعي ال يجب أن يتجاوزها‪ ،‬وهذه القوانين أو الحدود هي‬
‫على النحو اآلتي‪-:‬‬
‫‪ -‬كل زيادة في التدخل االجتماعي‪ ،‬يجب أن توجه أهدافها إلى األشخاص بوصفهم‬
‫أعضاء في مجتمع ال أفراداً‪.‬‬
‫‪ -‬ال يكون التدخل االجتماعي شديداً بحيث يثير عاطفة الناس أو ميلهم إلى الحرية‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن يحترم التدخل المشاعر التي تساند النظام الطبيعي وتؤيده‪.‬‬
‫‪ -‬ال يجب أن يكون التدخل االجتماعي بصورة يوقف معها ذلك االنقراض للمظاهر‬
‫األخالقية السيئة‪.‬‬
‫‪ -‬ال يجب أن يح ّد التدخل االجتماعي من الصراع من أجل البقاء لدرجة أن يقضي‬
‫على عملية االنتقاء الطبيعي‪ ،‬وفي هذا الصدد يؤدي التحكم الزائد والمبالغ فيه إلى‬
‫تعويق عملية االنتقاء الطبيعي من أن تقوم بوظيفتها‪.‬‬
‫ولكي يكون الضبط االجتماعي فاعالً فإن "روس" يضع عدّة مقاييس لهذه‬
‫الفاعلية وهي على النحو اآلتي‪-:‬‬

‫٭"٭ " سبق أن أشرنا إلى ذلك في الفصل األول‪.‬‬


‫‪ -‬أفضل أساليب الضبط هي الداخلية‪ ،‬أ ّما الوسائل الخارجية مثل العقاب ال يجب‬
‫استخدامها إالّ عند الضرورة القصوى‪.‬‬
‫‪ -‬طريقة الردع البسيطة تؤدي وظائفها بفاعلية وسرعة دون مشكالت‪.‬‬
‫‪ -‬أفضل أنواع الضبط هو الضبط التلقائي الذي يظهر أثناء اجتماع الناس وتفاعلهم‪.‬‬
‫ج‪ -‬اإلحساس الخلقي واإليحاء‪:‬‬
‫يعلق "روس" أهمية كبيرة على ما يدعوه "اإلحساس الخلقي" الذي تخلقه‬
‫الجماعة في نفوس أفرادها ألجل الحفاظ على قيمها وقواعد السلوك المتعلقة بها‪،‬‬
‫فينشأ هؤالء األفراد حريصين على ضبط سلوكهم الذاتي وكذلك ضبط سلوك‬
‫اآلخرين أيضاً‪ .‬والوسيلة التي يتم بواسطتها نقل واستدخال مفاهيم الضبط‬
‫االجتماعي لدى األفراد الذين توفرت لديهم الغرائز االجتماعية هي "اإليحاء‬
‫االجتماعي"(‪)38‬وهناك مالحظة يسجلها "روس" بهذا الصدد‪ ،‬وهي أنه ليست كل‬
‫المجتمعات تهتم بنفس مصدر اإليحاء‪ ،‬ومضمونه حيث إن بعض نواحي اإليحاء ال‬
‫تهم بعض المجتمعات‪ ،‬بينما يهمها أنواع أخرى أو صور مختلفة له‪ .‬فالمجتمع إذن؛‬
‫هو الذي يتحكم في صور اإليحاء التي يؤثر بها على أعضائه‪.‬‬
‫ح‪ -‬مفهوم مراكز إشعاع الضبط‪:‬‬
‫من المفاهيم التي استحدثها "روس" مفهوم مراكز إشعاع الضبط‪ ،‬وحسب هذا‬
‫المفهوم فإن قيادة المجتمع تميل إلى التمركز في فئة تمثل التيّار االجتماعي‪ ،‬أو‬
‫تمثل طبيعة الوضع االجتماعي في فترة من فترات حياة مجتمع ما‪ ،‬وهذه الفئة تمثل‬
‫مصدراً ينطلق أو يشع منه التأثير الفكري في صورة ُمثُل وقيم الضبط االجتماعي‪.‬‬
‫فالمجتمع الذي يعتمد في حياته على الصناعة والمال يرى أفراده أن رجال الصناعة‬
‫والمال هم الفئة العارفة بطبيعة مجتمعهم وحاجاته وأهدافه‪ ،‬وهم الفئة القادرة على‬
‫قيادة المجتمع‪ ،‬وبالتالي فإن اآلراء والخطط والحلول الصادرة عن هذه الفئة تمثل‬
‫مركز اإلشعاع الذي يجب أن يقتبس منه المجتمع ضبطه‪ .‬أ ّما في المجتمع الذي‬
‫يعتمد في حياته على القادة العسكريين السيما في أوقات الحروب واألزمات‬
‫السياسية تصبح آراء القادة وأفكارهم مصدر إشعاع للقيم والمثل الضبطية‪ ،‬وفي‬
‫المجتمع الديني يكون رجال الدين هم الفئة التي تمثل روح المجتمع ومثله وأهدافه‪،‬‬
‫و هي القادرة على تحقيق أهدافه‪ ،‬وهنا يصبح رجال الدين مركز إشعاع الضبط‬
‫وتصرفاته وأفكارهم تمثل قواعد للسلوك االجتماعي‪ ،‬وهكذا بالنسبة للقيادات‬
‫األخرى‪.‬‬
‫خ‪ -‬االنتقادات التي تعرضت لها نظرية "روس" في الضبط‪:‬‬
‫يمكن تحديد أهم االنتقادات التي وجهت لنظرية "روس" على النحو اآلتي‪:‬‬
‫* كان "روس" بيولوجيا ً وسيكولوجيا ً في دراسته للضبط االجتماعي العتماده‬
‫على الغرائز االجتماعية‪.‬‬
‫* لم يوضح طبيعة العملية التي يتم بها تحول الضوابط االجتماعية إلى خصائص‬
‫شخصية‪.‬‬
‫* لم يستعمل مفهوم الضبط بشكل محدد‪.‬‬
‫* أكد على الضبط االجتماعي في الحاالت المستقرة في حياة المجتمع‪ ،‬وأهمل‬
‫التغير وآثاره على طبيعة الضبط االجتماعي"‪.‬‬

‫‪ -2‬نظرية الضبط الذاتي‪:‬‬


‫فكرة الضبط االجتماعي قديمة عند "جارلس هوتون كولي"‪H.Cooley‬‬
‫‪ ""1864-1929‬وردت في مؤلفاته دون أن يطلق عليها اسما ً محدداً‪ ،‬ولم يذكر‬
‫مصطلح الضبط االجتماعي إالّ في وقت متأخر عام "‪ "1918‬دون أن يخصص‬
‫كتابا ً محدداً لتوضيحها كما فعل "روس" وإنما جاءت متضمنة في مؤلفاته‪.‬‬
‫وكان موقف "كولي" من المجتمع ووحداته‪ ،‬موقفا ً واقعياً‪ ،‬عندما أكد على عدم‬
‫تقسيم الكل االجتماعي إلى أجزائه‪ ،‬وذهب إلى أن الحياة الروحية تبقى العنصر‬
‫الدائم في الحياة االجتماعية‪ ،‬حيث تكشف عن ذاتها في كلمات مثل نحن‪ ،‬الذات‪،‬‬
‫وفي هذا الصدد أكد "كولي" على أهمية الرموز واألنماط والمستويات الجمعية‪،‬‬
‫موجهات للعملية االجتماعية والتنظيم االجتماعي‪ ،‬من هنا‬ ‫ِ‬ ‫والقيم والمثل التي تعد‬
‫يرى الضبط االجتماعي‪ ،‬العملية المستمرة التي تكمن في الخلق الذاتي للمجتمع‪،‬‬
‫أي أنه ضبط ذاتي يقوم به المجتمع‪ ،‬فالمجتمع هو الذي يضبط وهو الذي ينضبط‬
‫في الوقت ذاته‪ .‬وبنا ًء عليه فاألفراد ليسوا منعزلين عن العقل االجتماعي والضبط‬
‫االجتماعي يفرض على الكل االجتماعي وبواسطته‪ ،‬وهو يظهر في المجتمعات‬
‫الشاملة والجماعات الخاصة‪.‬‬
‫وقد رفض "كولي" الفكرة التي ترى أن أوجه النشاط االجتماعي تتحرك عن‬
‫طريق الغرائز‪ ، Instincts‬مؤكداً على أن سلوك األفراد ينضبط عن طريق نمو‬
‫الضمير‪ Conscience‬من خالل المشاركة بالرغم من أنها تتم بطريقة ال شعورية‬
‫وغير مقصودة‪ ،‬لذلك فالضبط متضمن في المجتمع ذاته وينتقل إلى الفرد عن‬
‫طريق المشاركة‪ ،‬من هنا جاء تأكيده على أهمية الجماعات األولية ‪Primary‬‬
‫‪ Groups‬في حياة المجتمع حيث يتعلم منها أفراده قواعد الضبط ويطيعون‬
‫ضوابطها طاعة عمياء كونها تشكل البوتقة التي تتم في داخلها التنشئة االجتماعية‬
‫‪ Socialization‬وتنقل من خاللها عناصر الضبط االجتماعي إلى األفراد‪ ،‬وأهم ما‬
‫يكسب هذه الجماعات القابلية على الضبط أنها ليست قسرية تفرض ضوابطها‬
‫بالقوة‪ ،‬وإنما هي جماعات يتعاطف معها أفرادها ويلتزمون بضوابطها عن رغبة‬
‫وطواعية واختيار العتزازهم بكل ما يتصل بجماعاتهم األولية‪.‬‬
‫ويعد تحليل "كولي" للجماعات األولية من اإلضافات البارزة لكل من علم‬
‫االجتماع وعلم النفس االجتماعي‪ ،‬ذلك أن فكرة الجماعات األولية قد أهملها‬
‫الباحثون لفترة طويلة من الزمن‪ ،‬إذ كان يعتقد أن مثل هذه الجماعات تكون مؤثرة‬
‫في المجتمعات البدائية فقط‪ ،‬لكن ثبت مؤخراً أن الجماعات األولية تؤدي دوراً فاعالً‬
‫في العالم المتحضر السيما بعد أن فقد اإلنسان جذوره اإلنتمائية نتيجة للفردية‬
‫‪. Individualism‬‬
‫إن تحليل "كولي" لمفهوم الجماعة األولية وطبيعتها ال يعني إهماله للجماعة‬
‫الثانوية ودورها في ضبط المجتمع‪ .‬فالجماعات الثانوية‪Secondary Groups‬‬
‫تلك الجماعات التي ظهرت في العالم الصناعي الحديث‪ ،‬والتي تتميز بكبر حجمها‬
‫وباتساع نطاق العالقات فيها‪ ،‬وبسيطرة النظم العلمانية‪ ،‬والعالقات الرسمية غير‬
‫المباشرة‪ .‬وبعد تعقد المجتمع الحديث‪ ،‬أصبحت أنماط السلوك القديمة عديمة‬
‫الجدوى إلى حد بعيد‪ ،‬أصبح من الضروري اللجوء إلى صور جديدة للتكيف مع‬
‫تتطلب‬
‫ُ‬ ‫البيئة‪ ،‬فعالقات الفرد في المجتمع الحديث بالرغم من أنها سطحيّة إالّ أنها‬
‫تنظيما ً معيناً‪ ،‬وطريقة خاصة في االمتثال‪ ،‬ومن أجل ذلك تطورت أنساق الضبط‬
‫القديمة لتكون أكثر مالئمة للنظام االجتماعي الجديد‪ .‬من هنا تُعد الجماعات الثانوية‬
‫وتنظيماتها بمثابة جماعات ضابطة‪ ،‬وهناك ميل إلى توقع أن هذه الجماعات‬
‫الرسمية تمارس الضبط تجاه أعضائها‪ ،‬فإذا ارتبط اإلنسان بتنظيم ثانوي‪ ،‬فإنه‬
‫يمتثل ألهدافه‪ ،‬ويحاول أن يؤثر في تفكير اآلخرين وسلوكهم‪.‬‬
‫وأكد "كولي" في كتابه" الطبيعة البشرية والنظام االجتماعي"‪Human‬‬
‫‪ Nature and the Social order‬الصادر عام "‪ "1901‬على أن نمو‬
‫الشخصية البشرية يتم من خالل االتصال والتفاعل‪ ،‬فالذات‪ The Self‬تنمو في‬
‫سياق العالقات االجتماعية من خالل الفكرة التي تتكون لدينا عن أنفسنا من جراء‬
‫مالحظة ردود أفعال اآلخرين على سلوكنا‪ ،‬وأطلق عليها عبارة المرآة العاكسة‬
‫للذات ‪ .Looking- Class Self‬التي تتضمن ثالثة عناصر أساسية هي تصور‬
‫مظهرنا أو تصرفنا بالنسبة للغير‪ ،‬وتصور حكمه وتقييمه لهذا المظهر أو التصرف‬
‫وأخيراً وجود نوع من الشعور بالفخر أو الضعة‪ .‬وهي شبيهة بمفهوم المحاكاة‬
‫الالشعورية ‪ The Unconscious Imitation‬عند الفيلسوف االجتماعي‬
‫األمريكي "جورج هربرت ميد"‪ "H.Mead "1863-1931‬حيث يرى "ميد"‬
‫أن جميع األفعال أجزاء أو عناصر لتفاعالت أكبر منها ويرى ضرورة االعتماد‬
‫المتبادل بين األشخاص المشاركين بالفعل إذ أنّ االضطراب أو الخلل الذي يحدث‬
‫عند أحدهم ال يمكن زواله بدون تعاون زمالئه اآلخرين الذين يشترك معهم في‬
‫الفعل االجتماعي‪ .‬وعليه فإن كل قائم بفعل يهتم اهتماما ً كبيراً بردود األفعال‬
‫المحتملة لآلخرين ألنه ال يستطيع أن يتحمل النتائج المترتبة عن قيامه بأي عمل قد‬
‫يؤدي إلى تخلّيهم عنه أو عدم تعاونهم معه إذا هو لم يفعل ذلك‪ .‬ويتجسد ذلك‬
‫االهتمام بمدى قدرته على القيام بدور اآلخرين كي يستطيع السيطرة على‬
‫استجابته‪ ،‬بمعنى اتخاذ دور الغير بالنسبة للفرد ألن ذلك يعني النظر إلى سلوكه‬
‫الذي ينوي القيام به من وجهة نظر األشخاص الذين يشترك معهم في تحقيق هدف‬
‫مشترك‪ ،‬ويتم ذلك عن طريق اللغة بوصفها وسيلة االتصال ‪Communication‬‬
‫بين الفرد والمجتمع‪ .‬ومن خالل هذه العملية يستطيع الفرد أن يقيّم نفسه كما يراها‬
‫هو‪ ،‬ويقيّم نفسه كما يقيّمها اآلخرون‪ ،‬أي "أنا كما أقيّم ذاتي وأنا كما يقيّمني‬
‫اآلخرون"‪ ، I and Me‬وهنا يحصل الفرد على الضبط االجتماعي الذي يؤدي إلى‬
‫تماسكه وتماسك أفعاله‪.‬‬
‫إن الضبط االجتماعي الذي يتحقق لدينا من خالل فكرة المرآة العاكسة للذات التي‬
‫جاء بها " كولي" يتم وفقا ً للخطوات التالية‪:‬‬
‫أ‪ -‬التفاعل أو االختالط يقع بين مجموعة أفراد لمدة من الزمن‪.‬‬
‫ب‪ -‬تقييم الفرد من لدن اآلخرين بعد عملية التفاعل‪.‬‬
‫ت‪ -‬تقييم الفرد لذاته وفقا ً لتقييم اآلخرين له‪ ،‬فإذا قيّمه اآلخرون تقيّيما ً إيجابيا ً فإنه‬
‫يقيّم ذاته وفقا ً لذلك التقييم والعكس بالعكس إذا قيّمه اآلخرون تقييما ً سلبياً‪.‬‬
‫ث‪ -‬التقييم الذي يحصل عليه الفرد من المجتمع يؤثر تأثيراً واضحا ً في طبيعة‬
‫تفاعله مع اآلخرين‪ .‬ذلك أن التقييم السلبي للذات من قبل اآلخرين يدفع بالذات إلى‬
‫تقليص التفاعل أو تجنبه بينها وبين اآلخرين‪ .‬بينما التقييم االيجابي للذات من قبل‬
‫اآلخرين يدفع بالذات إلى التفاعل االيجابي والعميق مع اآلخرين وهكذا‪ .‬وفي جميع‬
‫الخطوات السابقة نحاول أن نعمل ونسلك السلوك الذي يستحسنه اآلخرون‪ ،‬ول ّما‬
‫كان ما يستحسنه اآلخرون هو االلتزام بمجموعة القواعد والضوابط والتعاليم التي‬
‫يعتزون بها ويقدسونها‪ ،‬فإننا سوف نعمل دائما ً على تبني تلك القواعد والضوابط‬
‫االجتماعية ونتصرف بموجبها بشرط أن ال يتضخم لدينا جانب العظمة إذا ما‬
‫استحسن اآلخرون عملنا أو سلوكنا فنتصور أن الناس يحكمون على سلوكنا‬
‫ومظهرنا وعملنا دائما ً باالستحسان‪ ،‬أو نميل إلى تضخيم جانب الضعة لدينا إذا ما‬
‫استنكر اآلخرون عملنا أو مظهرنا أو سلوكنا فيجعلنا نعتقد بأن أي خطأ نرتكبه‬
‫سيجلب سخط اآلخرين واستنكارهم‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬النظريات المعاصرة للضبط االجتماعي‪.‬‬
‫‪ -1‬نظرية ماكس فيبر‪:‬‬
‫تقوم نظرية عالم االجتماع األلماني "ماكس فيبر"‪M.Weber "1864-‬‬
‫‪ "1920‬على تحليله للسلوك االجتماعي‪ Social Behaviour‬ألعضاء المجتمع‪.‬‬
‫ويعني "فيبر" بالسلوك االجتماعي أية حركة أو فعالية مقصودة يؤديها الفرد‪،‬‬
‫وتأخذ بنظر االعتبار وجود األفراد اآلخرين‪ .‬والسلوك االجتماعي الذي يعنيه "‬
‫فيبر" يعتمد على ثالثة شـروط أساسية هي‪:‬‬
‫‪ -‬وجود شخصين أو أكثر يتفاعالن معا ً ويكونان السلوك‪.‬‬
‫‪ -‬وجود أدوار اجتماعية متساوية أو مختلفة يشغلها األفراد الذين يقومون‬
‫بالسلوك‪.‬‬
‫سم‬‫‪ -‬وجود عالقات اجتماعية تتزامن مع عملية السلوك‪ .‬كذلك فإن "فيبر" ق ّ‬
‫السلوك إلى ثالثة أنواع هي‪:‬‬
‫‪ -1‬السلوك الغريزي‪:‬‬
‫وهذا السلوك مصدره الغريزة والعاطفة التي غالبا ً ما تتناقض مع العقل والبصيرة‬
‫وما تقره الحياة الواقعية التي يعيش فيها الفرد‪ ،‬والغريزة هي ميل حيواني أو‬
‫بيولوجي ينبعث من منطقة الالشعور ويدفع صاحبه إلى العمل من أجل إشباع‬
‫متطلباته وحاجاته الشهوانية والحيوانية دون تفكير بالنتائج أو العواقب التي تتبع‬
‫السلوك الغريزي‪)67(.‬علما ً أن الفرد ال يكون خاضعا ً خضوعا ً تاما ً للحاجات والدوافع‬
‫الغريزية فهناك منطقة الذات الموجودة في العقل الظاهري التي تهذبها وتضبطها‬
‫وتهيمن عليها وتمنعها من جلب الضرر لإلنسان والمجتمع‪.‬‬
‫إن الدوافع الغريزية تريد االنطالق وإشباع نزواتها وحاجاتها الحيوانية‪ ،‬لكن‬
‫اإلنسان السوي والمنضبط يمنع انطالقها ويهذبها ويوجه دوافعها نحو تحقيق‬
‫أهدافه وطموحاته بصورة عقالنية ومهذبة من أجل خيره وسعادته ورفاهية‬
‫مجتمعه‪.‬‬
‫‪ -2‬السلوك االجتماعي التقليدي‪:‬‬
‫ويتأتى هذا السلوك من عادات وتقاليد وقيم ومثل وأخالق المجتمع‪ .‬وهذه‬
‫الضوابط االجتماعية التقليدية تحدّد سلوك اإلنسان وتنظّم عالقاته باآلخرين وترسم‬
‫أهدافه ومصالحه التي غالبا ً ما تنطبق مع تلك التي يعتمدها المجتمع ويؤمن بها‪.‬‬
‫ويكتسب الفرد هذا النمط من السلوك منذ حداثة حياته من المؤسسات والمنظمات‬
‫البنيوية التي يحتك بها ويتفاعل معها مثل األسرة والقرابة والمجتمع المحلي‬
‫وجماعة اللعب والمسجد‪ ..‬الخ‪ .‬وهذه المؤسسات والمنظمات تزرع عند الفرد بذور‬
‫هذا النمط من السلوك وتصب في عروقه النموذج التقليدي للسلوك االجتماعي الذي‬
‫ينسجم ويتفق مع أخالقية وسلوكية المجتمع التي تُم َّرر بدورها عبر األجيال‬
‫وتشارك في تحقيق وحدة المجتمع وقوته‪ .‬ويتجسد هذا النوع من السلوك بطقوس‬
‫التحية ومراسيم األعياد والمناسبات الوطنية والدينية وحفالت الزواج والختان‬
‫والمآتم وغيرها‪.‬‬
‫‪ -3‬السلوك االجتماعي العقلي‪:‬‬
‫وهو السلوك الذي يتميّز بالتعقّل والمنطق والبصيرة واإلدراك الثاقب لألمور‬
‫والقضايا والمشكالت‪ ،‬ومصدره منطقة الذات التي تعبّر عن ماهية العالم الخارجي‬
‫وحقيقة الحياة االجتماعية التي يعيشها األفراد والجماعات‪ ،‬وعند االقتداء بهذا‬
‫السلوك يعتمد العضو في احتكاكه مع اآلخرين اللغة الرفيعة والكالم المهذب‬
‫واألخالق العالية والحجج الموضوعية لألفعال التي يمارسها‪ .‬كما يتميز بالرقة‬
‫والوداعة والعفة والطهارة عند مقابلته لآلخرين لكي يكسب ثقتهم وينال رضاهم‬
‫وبالتالي يحقق أهدافه وطموحاته‪.‬‬
‫سم "فيبر" هذا النوع من السلوك إلى ثالثة أنواع حسب طبيعة الواسطة‬ ‫ويق ّ‬
‫والغاية وعلى النحو اآلتي‪-:‬‬
‫‪ -‬سلوك اجتماعي عقلي ذو واسطة عقلية وغاية غير عقلية‪:‬‬
‫إن الغاية أو الواسطة العقلية هي الغاية أو الواسطة األخالقية الشريفة والمهذبة‬
‫التي تنسجم مع أخالقية ومثل وتعاليم المجتمع وتسير في فلكها‪ .‬أ ّما الغاية أو‬
‫الواسطة غير العقلية فهي التي ال تنسجم مع قيم ومثل وأخالقية وأهداف المجتمع‪.‬‬
‫ويتمثل هذا السلوك بحالة المنتج الرأسمالي المحتكر الذي يستعمل اآلالت‬
‫الميكانيكية الحديثة ويعتمد الخبرات العلمية في اإلنتاج ألجل خلق البضاعة التي‬
‫يحتاجها المجتمع‪ ،‬غير أن غايته من اإلنتاج هي تحقيق األرباح المادية واستغالل‬
‫األفراد‪.‬‬
‫‪ -‬سلوك اجتماعي عقلي ذو واسطة غير عقلية وغاية عقلية‪:‬‬
‫وهذا السلوك معاكس للسلوك األول من ناحية الواسطة والغاية‪ ،‬ويتمثل بحالة‬
‫رغبة الطالب بالنجاح‪ ،‬لكنه يحاول بلوغ هدفه هذا عن طريق الغش في االمتحان‪،‬‬
‫أو رب األسرة الذي يرغب بامتالكه دار للسكن‪ ،‬لكن عدم حوزته على األموال‬
‫الالزمة قد تدفعه إلى السرقة أو االختالس‪ ،‬وهنا تكون الغاية عقالنية وأخالقية لكن‬
‫الواسطة ال أخالقية وال تنسجم مع أخالقيات المجتمع ومثله‪.‬‬
‫‪ -‬سلوك اجتماعي عقلي ذو واسطة عقلية وغاية عقلية‪:‬‬
‫يسمى هذا النوع من السلوك العقلي بالنموذج المثالي للسلوك‪، Ideal Type‬‬
‫وهو السلوك الذي يبتعد عن العاطفة والتحيز والتعصب ويكون سلوكا ً محايداً من‬
‫حيث أدوات تنفيذه وأغراضه‪ .‬أي هو سلوك مقبول ومتفق مع أخالقيات المجتمع‬
‫في الغاية والواسطة‪ ،‬ويتجسد هذا النمط من السلوك بسلوك الطالب الذي يعد‬
‫سلوكه مثاليا ً طالما أن واسطته عقلية "السعي واالجتهاد واالنتظام في الدراسة‬
‫"وغايته عقلية " الحصول على الشهادة العلمية" وسلوك الجندي في المعركة‬
‫سلوك عقلي مثالي من حيث الواسطة "السالح"‪ ،‬ومن حيث الهدف أو الغاية‬
‫"الدفاع عن الوطن"‪ ،‬وهناك أمثلة ال حصر لها عن النماذج السابقة للسلوك‪.‬‬
‫إذن‪" ،‬فيبر" يعطي أهمية كبيرة للقيم والتقاليد والعادات التي تتجسد في السلوك‬
‫االجتماعي التقليدي الذي يمارسه األفراد في حياتهم اليومية‪ ،‬ويعلق أهمية أكبر‬
‫على النموذج المثالي للسلوك الذي تتفق فيه الوسائل مع الغايات وهو سلوك يطمح‬
‫إليه المجتمع اإلنساني الموحد والقوي‪ ،‬والذي يشكل االقتراب منه أو الوصول إليه‬
‫قاعدة مهمة للضبط االجتماعي في المجتمع‪.‬‬

You might also like