ثانيا :النظريات الحديثة المبكرة للضبط االجتماعي:
-1نظرية النظام الطبيعي:
سادت منذ القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر عدّة نظريات وأفكار تنادي بفكرة القانون الطبيعي Natural Lawوهي ترى أن الناس مثلما لديهم غرائز توجههم ومجبورون على سلوك معين ،فإنهم أيضا ً يدركون ضرورة العيش ضمن حياة اجتماعية منظمة يسودها القانون والضبط وأن عليهم االلتزام بذلك القانون وبقواعد الضبط االجتماعي .ومن أشهر تلك النظريات نظرية "إدوارد روس" "Ross "1866-1901التي أوضحها في مقاالته العديدة قبل أن يجمعها في كتابه الذي ظهر عام " "1901تحت عنوان "الضبط االجتماعي"Social Controlالذي عالج فيه الضبط االجتماعي معالجة شاملة متوخيا ً أن يعطي لهذا الموضوع صورته النظرية الشاملة .ويمكن عرض هذه النظرية في الخطوات اآلتية: أ -النظام الطبيعي. تمثل فكرة النظام الطبيعي جوهر نظرية "روس" الذي يرى أن هناك نظاما ً اجتماعيا ً طبيعيا ً يتغلغل في جميع األفعال اإلنسانية ،ويقوم على وراثة اإلنسان ألربع غرائز طبيعية Natural Instinctsتشكل نظاما ً اجتماعيا ً لإلنسان يقوم على تبادل العالقات بين أفراد المجتمع بشكل ودّي ،ومن ثم تجعل منه كائنا ً اجتماعيا ً متعاونا ً وهذه الغرائز :التعاطف أو المشاركة ،العشرة أو القابلية لالجتماع ،اإلحساس بالعدالة ،الشعور العضوي .وتزود هذه الغرائز اإلنسان بنظام تكاملي ،وتعمل على تدعيم العالقات االجتماعية بصورة ودية وشخصية ،فغريزة التعاطف أو المشاركة تجعل الفرد يتعاطف مع بقية أفراد المجتمع ويقدرهم ويتعاون معهم فال يتعدى على ضوابط المجتمع الذي ينتمون له ،أ ّما غريزة العشرة أو القابلية لالجتماع فتعني أن الفرد ال يمكنه العيش بمفرده فال ب ّد له من االجتماع بأبناء جنسه وهذا االجتماع يحتم عليه احترام ضوابطهم االجتماعية ،وتعمل غريزة اإلحساس بالعدالة على إبعاد الفرد عن االعتداء على حقوق اآلخرين ،ما يساعد على شيوع االستقرار االجتماعي ،وتعني غريزة الشعور العضوي أو رد الفعل ي أو تضرر عض ٌو من ى جسد ٍّ الفردي أن اإلنسان يشعر باأللم إذا أصيب بأذ ً أعضائه ،لذلك ينشأ لديه شعور باالمتناع عن إنزال الضرر واألذى بحياة اآلخرين. وبنفس الوقت يشير"روس" إلى أن تلك الغرائز قد تتعرض للضعف بسبب تطور المجتمع وتحضره وتعقد أبنيته وتباين جماعاته ،وهنا يضطر المجتمع ألن يضع ضوابط مصطنعة تحكم العالقات بين أفراده. ويفّرق "روس" بين نوعين من العوامل المؤثرة في الضبط االجتماعي هما: العوامل األخالقية المتمثلة في الغرائز أعاله ،والعوامل االجتماعية المتمثلة بوسائل الضبط االجتماعي بعد أن زاد حجم السكان وظهرت الجماعات المتباينة اقتصاديا ً أو عنصريا ً أو طبقيا ً أو مهنياً..الخ ،وضعفت الغرائز الطبيعية وظهرت األنانية الفردية. ب -وسائل الضبط االجتماعي. حدّد "روس" Rossأهم وسائل الضبط االجتماعي وفقا ً ألهميتها على النحو "٭ اآلتي-: العقيدة. القانون. الرأي العام. العادة الجمعية. التربية. اإليحاء االجتماعي. الشعائر المثل العليا الشخصية. الدين. والطقوس. التنوير الشخصية. الفن. والتثقيف. قيم النخبة القيم االجتماعية. الخرافات. أو الطليعة. ت -التمييز بين أنواع الضبط: ميّز "روس" بين نوعين من الضبط هما: * الضبط االجتماعي :الذي تمارسه الهيئة االجتماعية ،ومن أهم وسائله ،القانون، العرف ،الدين ،الفن ،الرأي العام والقيم. * الضبط الطبقي :الذي ينبع من طبقة معينة تعيش على حساب بقية المجتمع. ث -طبيعة الضبط االجتماعي وشروطه فاعليته ومقاييسها : يرى "روس" أن الضبط االجتماعي من حيث طبيعته يتذبذب بين القوة والضعف ،وبين الجمود والمرونة ،وذلك بسبب تغيّر الحاجة االجتماعية ذاتها، وتغيّر العادات .ومن أهم مظاهر هذا التغيّر ضعف الروابط األسرية ،وازدياد تحرر المرأة ،وتحرر الصغار من السلطة األبوية في وقت مبكر نسبياً ،ما يستلزم تغيّرات مصاحبة في المصدر األساس الذي تنبع منه عملية الضبط االجتماعي .ويضع "روس" مجموعة من القوانين التي تحدد طريقة تدخل المجتمع في الضبط ،أي أن هناك حدوداً للضبط االجتماعي ال يجب أن يتجاوزها ،وهذه القوانين أو الحدود هي على النحو اآلتي-: -كل زيادة في التدخل االجتماعي ،يجب أن توجه أهدافها إلى األشخاص بوصفهم أعضاء في مجتمع ال أفراداً. -ال يكون التدخل االجتماعي شديداً بحيث يثير عاطفة الناس أو ميلهم إلى الحرية. -يجب أن يحترم التدخل المشاعر التي تساند النظام الطبيعي وتؤيده. -ال يجب أن يكون التدخل االجتماعي بصورة يوقف معها ذلك االنقراض للمظاهر األخالقية السيئة. -ال يجب أن يح ّد التدخل االجتماعي من الصراع من أجل البقاء لدرجة أن يقضي على عملية االنتقاء الطبيعي ،وفي هذا الصدد يؤدي التحكم الزائد والمبالغ فيه إلى تعويق عملية االنتقاء الطبيعي من أن تقوم بوظيفتها. ولكي يكون الضبط االجتماعي فاعالً فإن "روس" يضع عدّة مقاييس لهذه الفاعلية وهي على النحو اآلتي-:
٭"٭ " سبق أن أشرنا إلى ذلك في الفصل األول.
-أفضل أساليب الضبط هي الداخلية ،أ ّما الوسائل الخارجية مثل العقاب ال يجب استخدامها إالّ عند الضرورة القصوى. -طريقة الردع البسيطة تؤدي وظائفها بفاعلية وسرعة دون مشكالت. -أفضل أنواع الضبط هو الضبط التلقائي الذي يظهر أثناء اجتماع الناس وتفاعلهم. ج -اإلحساس الخلقي واإليحاء: يعلق "روس" أهمية كبيرة على ما يدعوه "اإلحساس الخلقي" الذي تخلقه الجماعة في نفوس أفرادها ألجل الحفاظ على قيمها وقواعد السلوك المتعلقة بها، فينشأ هؤالء األفراد حريصين على ضبط سلوكهم الذاتي وكذلك ضبط سلوك اآلخرين أيضاً .والوسيلة التي يتم بواسطتها نقل واستدخال مفاهيم الضبط االجتماعي لدى األفراد الذين توفرت لديهم الغرائز االجتماعية هي "اإليحاء االجتماعي"()38وهناك مالحظة يسجلها "روس" بهذا الصدد ،وهي أنه ليست كل المجتمعات تهتم بنفس مصدر اإليحاء ،ومضمونه حيث إن بعض نواحي اإليحاء ال تهم بعض المجتمعات ،بينما يهمها أنواع أخرى أو صور مختلفة له .فالمجتمع إذن؛ هو الذي يتحكم في صور اإليحاء التي يؤثر بها على أعضائه. ح -مفهوم مراكز إشعاع الضبط: من المفاهيم التي استحدثها "روس" مفهوم مراكز إشعاع الضبط ،وحسب هذا المفهوم فإن قيادة المجتمع تميل إلى التمركز في فئة تمثل التيّار االجتماعي ،أو تمثل طبيعة الوضع االجتماعي في فترة من فترات حياة مجتمع ما ،وهذه الفئة تمثل مصدراً ينطلق أو يشع منه التأثير الفكري في صورة ُمثُل وقيم الضبط االجتماعي. فالمجتمع الذي يعتمد في حياته على الصناعة والمال يرى أفراده أن رجال الصناعة والمال هم الفئة العارفة بطبيعة مجتمعهم وحاجاته وأهدافه ،وهم الفئة القادرة على قيادة المجتمع ،وبالتالي فإن اآلراء والخطط والحلول الصادرة عن هذه الفئة تمثل مركز اإلشعاع الذي يجب أن يقتبس منه المجتمع ضبطه .أ ّما في المجتمع الذي يعتمد في حياته على القادة العسكريين السيما في أوقات الحروب واألزمات السياسية تصبح آراء القادة وأفكارهم مصدر إشعاع للقيم والمثل الضبطية ،وفي المجتمع الديني يكون رجال الدين هم الفئة التي تمثل روح المجتمع ومثله وأهدافه، و هي القادرة على تحقيق أهدافه ،وهنا يصبح رجال الدين مركز إشعاع الضبط وتصرفاته وأفكارهم تمثل قواعد للسلوك االجتماعي ،وهكذا بالنسبة للقيادات األخرى. خ -االنتقادات التي تعرضت لها نظرية "روس" في الضبط: يمكن تحديد أهم االنتقادات التي وجهت لنظرية "روس" على النحو اآلتي: * كان "روس" بيولوجيا ً وسيكولوجيا ً في دراسته للضبط االجتماعي العتماده على الغرائز االجتماعية. * لم يوضح طبيعة العملية التي يتم بها تحول الضوابط االجتماعية إلى خصائص شخصية. * لم يستعمل مفهوم الضبط بشكل محدد. * أكد على الضبط االجتماعي في الحاالت المستقرة في حياة المجتمع ،وأهمل التغير وآثاره على طبيعة الضبط االجتماعي".
-2نظرية الضبط الذاتي:
فكرة الضبط االجتماعي قديمة عند "جارلس هوتون كولي"H.Cooley ""1864-1929وردت في مؤلفاته دون أن يطلق عليها اسما ً محدداً ،ولم يذكر مصطلح الضبط االجتماعي إالّ في وقت متأخر عام " "1918دون أن يخصص كتابا ً محدداً لتوضيحها كما فعل "روس" وإنما جاءت متضمنة في مؤلفاته. وكان موقف "كولي" من المجتمع ووحداته ،موقفا ً واقعياً ،عندما أكد على عدم تقسيم الكل االجتماعي إلى أجزائه ،وذهب إلى أن الحياة الروحية تبقى العنصر الدائم في الحياة االجتماعية ،حيث تكشف عن ذاتها في كلمات مثل نحن ،الذات، وفي هذا الصدد أكد "كولي" على أهمية الرموز واألنماط والمستويات الجمعية، موجهات للعملية االجتماعية والتنظيم االجتماعي ،من هنا ِ والقيم والمثل التي تعد يرى الضبط االجتماعي ،العملية المستمرة التي تكمن في الخلق الذاتي للمجتمع، أي أنه ضبط ذاتي يقوم به المجتمع ،فالمجتمع هو الذي يضبط وهو الذي ينضبط في الوقت ذاته .وبنا ًء عليه فاألفراد ليسوا منعزلين عن العقل االجتماعي والضبط االجتماعي يفرض على الكل االجتماعي وبواسطته ،وهو يظهر في المجتمعات الشاملة والجماعات الخاصة. وقد رفض "كولي" الفكرة التي ترى أن أوجه النشاط االجتماعي تتحرك عن طريق الغرائز ، Instinctsمؤكداً على أن سلوك األفراد ينضبط عن طريق نمو الضمير Conscienceمن خالل المشاركة بالرغم من أنها تتم بطريقة ال شعورية وغير مقصودة ،لذلك فالضبط متضمن في المجتمع ذاته وينتقل إلى الفرد عن طريق المشاركة ،من هنا جاء تأكيده على أهمية الجماعات األولية Primary Groupsفي حياة المجتمع حيث يتعلم منها أفراده قواعد الضبط ويطيعون ضوابطها طاعة عمياء كونها تشكل البوتقة التي تتم في داخلها التنشئة االجتماعية Socializationوتنقل من خاللها عناصر الضبط االجتماعي إلى األفراد ،وأهم ما يكسب هذه الجماعات القابلية على الضبط أنها ليست قسرية تفرض ضوابطها بالقوة ،وإنما هي جماعات يتعاطف معها أفرادها ويلتزمون بضوابطها عن رغبة وطواعية واختيار العتزازهم بكل ما يتصل بجماعاتهم األولية. ويعد تحليل "كولي" للجماعات األولية من اإلضافات البارزة لكل من علم االجتماع وعلم النفس االجتماعي ،ذلك أن فكرة الجماعات األولية قد أهملها الباحثون لفترة طويلة من الزمن ،إذ كان يعتقد أن مثل هذه الجماعات تكون مؤثرة في المجتمعات البدائية فقط ،لكن ثبت مؤخراً أن الجماعات األولية تؤدي دوراً فاعالً في العالم المتحضر السيما بعد أن فقد اإلنسان جذوره اإلنتمائية نتيجة للفردية . Individualism إن تحليل "كولي" لمفهوم الجماعة األولية وطبيعتها ال يعني إهماله للجماعة الثانوية ودورها في ضبط المجتمع .فالجماعات الثانويةSecondary Groups تلك الجماعات التي ظهرت في العالم الصناعي الحديث ،والتي تتميز بكبر حجمها وباتساع نطاق العالقات فيها ،وبسيطرة النظم العلمانية ،والعالقات الرسمية غير المباشرة .وبعد تعقد المجتمع الحديث ،أصبحت أنماط السلوك القديمة عديمة الجدوى إلى حد بعيد ،أصبح من الضروري اللجوء إلى صور جديدة للتكيف مع تتطلب ُ البيئة ،فعالقات الفرد في المجتمع الحديث بالرغم من أنها سطحيّة إالّ أنها تنظيما ً معيناً ،وطريقة خاصة في االمتثال ،ومن أجل ذلك تطورت أنساق الضبط القديمة لتكون أكثر مالئمة للنظام االجتماعي الجديد .من هنا تُعد الجماعات الثانوية وتنظيماتها بمثابة جماعات ضابطة ،وهناك ميل إلى توقع أن هذه الجماعات الرسمية تمارس الضبط تجاه أعضائها ،فإذا ارتبط اإلنسان بتنظيم ثانوي ،فإنه يمتثل ألهدافه ،ويحاول أن يؤثر في تفكير اآلخرين وسلوكهم. وأكد "كولي" في كتابه" الطبيعة البشرية والنظام االجتماعي"Human Nature and the Social orderالصادر عام " "1901على أن نمو الشخصية البشرية يتم من خالل االتصال والتفاعل ،فالذات The Selfتنمو في سياق العالقات االجتماعية من خالل الفكرة التي تتكون لدينا عن أنفسنا من جراء مالحظة ردود أفعال اآلخرين على سلوكنا ،وأطلق عليها عبارة المرآة العاكسة للذات .Looking- Class Selfالتي تتضمن ثالثة عناصر أساسية هي تصور مظهرنا أو تصرفنا بالنسبة للغير ،وتصور حكمه وتقييمه لهذا المظهر أو التصرف وأخيراً وجود نوع من الشعور بالفخر أو الضعة .وهي شبيهة بمفهوم المحاكاة الالشعورية The Unconscious Imitationعند الفيلسوف االجتماعي األمريكي "جورج هربرت ميد" "H.Mead "1863-1931حيث يرى "ميد" أن جميع األفعال أجزاء أو عناصر لتفاعالت أكبر منها ويرى ضرورة االعتماد المتبادل بين األشخاص المشاركين بالفعل إذ أنّ االضطراب أو الخلل الذي يحدث عند أحدهم ال يمكن زواله بدون تعاون زمالئه اآلخرين الذين يشترك معهم في الفعل االجتماعي .وعليه فإن كل قائم بفعل يهتم اهتماما ً كبيراً بردود األفعال المحتملة لآلخرين ألنه ال يستطيع أن يتحمل النتائج المترتبة عن قيامه بأي عمل قد يؤدي إلى تخلّيهم عنه أو عدم تعاونهم معه إذا هو لم يفعل ذلك .ويتجسد ذلك االهتمام بمدى قدرته على القيام بدور اآلخرين كي يستطيع السيطرة على استجابته ،بمعنى اتخاذ دور الغير بالنسبة للفرد ألن ذلك يعني النظر إلى سلوكه الذي ينوي القيام به من وجهة نظر األشخاص الذين يشترك معهم في تحقيق هدف مشترك ،ويتم ذلك عن طريق اللغة بوصفها وسيلة االتصال Communication بين الفرد والمجتمع .ومن خالل هذه العملية يستطيع الفرد أن يقيّم نفسه كما يراها هو ،ويقيّم نفسه كما يقيّمها اآلخرون ،أي "أنا كما أقيّم ذاتي وأنا كما يقيّمني اآلخرون" ، I and Meوهنا يحصل الفرد على الضبط االجتماعي الذي يؤدي إلى تماسكه وتماسك أفعاله. إن الضبط االجتماعي الذي يتحقق لدينا من خالل فكرة المرآة العاكسة للذات التي جاء بها " كولي" يتم وفقا ً للخطوات التالية: أ -التفاعل أو االختالط يقع بين مجموعة أفراد لمدة من الزمن. ب -تقييم الفرد من لدن اآلخرين بعد عملية التفاعل. ت -تقييم الفرد لذاته وفقا ً لتقييم اآلخرين له ،فإذا قيّمه اآلخرون تقيّيما ً إيجابيا ً فإنه يقيّم ذاته وفقا ً لذلك التقييم والعكس بالعكس إذا قيّمه اآلخرون تقييما ً سلبياً. ث -التقييم الذي يحصل عليه الفرد من المجتمع يؤثر تأثيراً واضحا ً في طبيعة تفاعله مع اآلخرين .ذلك أن التقييم السلبي للذات من قبل اآلخرين يدفع بالذات إلى تقليص التفاعل أو تجنبه بينها وبين اآلخرين .بينما التقييم االيجابي للذات من قبل اآلخرين يدفع بالذات إلى التفاعل االيجابي والعميق مع اآلخرين وهكذا .وفي جميع الخطوات السابقة نحاول أن نعمل ونسلك السلوك الذي يستحسنه اآلخرون ،ول ّما كان ما يستحسنه اآلخرون هو االلتزام بمجموعة القواعد والضوابط والتعاليم التي يعتزون بها ويقدسونها ،فإننا سوف نعمل دائما ً على تبني تلك القواعد والضوابط االجتماعية ونتصرف بموجبها بشرط أن ال يتضخم لدينا جانب العظمة إذا ما استحسن اآلخرون عملنا أو سلوكنا فنتصور أن الناس يحكمون على سلوكنا ومظهرنا وعملنا دائما ً باالستحسان ،أو نميل إلى تضخيم جانب الضعة لدينا إذا ما استنكر اآلخرون عملنا أو مظهرنا أو سلوكنا فيجعلنا نعتقد بأن أي خطأ نرتكبه سيجلب سخط اآلخرين واستنكارهم. ثالثاً :النظريات المعاصرة للضبط االجتماعي. -1نظرية ماكس فيبر: تقوم نظرية عالم االجتماع األلماني "ماكس فيبر"M.Weber "1864- "1920على تحليله للسلوك االجتماعي Social Behaviourألعضاء المجتمع. ويعني "فيبر" بالسلوك االجتماعي أية حركة أو فعالية مقصودة يؤديها الفرد، وتأخذ بنظر االعتبار وجود األفراد اآلخرين .والسلوك االجتماعي الذي يعنيه " فيبر" يعتمد على ثالثة شـروط أساسية هي: -وجود شخصين أو أكثر يتفاعالن معا ً ويكونان السلوك. -وجود أدوار اجتماعية متساوية أو مختلفة يشغلها األفراد الذين يقومون بالسلوك. سم -وجود عالقات اجتماعية تتزامن مع عملية السلوك .كذلك فإن "فيبر" ق ّ السلوك إلى ثالثة أنواع هي: -1السلوك الغريزي: وهذا السلوك مصدره الغريزة والعاطفة التي غالبا ً ما تتناقض مع العقل والبصيرة وما تقره الحياة الواقعية التي يعيش فيها الفرد ،والغريزة هي ميل حيواني أو بيولوجي ينبعث من منطقة الالشعور ويدفع صاحبه إلى العمل من أجل إشباع متطلباته وحاجاته الشهوانية والحيوانية دون تفكير بالنتائج أو العواقب التي تتبع السلوك الغريزي)67(.علما ً أن الفرد ال يكون خاضعا ً خضوعا ً تاما ً للحاجات والدوافع الغريزية فهناك منطقة الذات الموجودة في العقل الظاهري التي تهذبها وتضبطها وتهيمن عليها وتمنعها من جلب الضرر لإلنسان والمجتمع. إن الدوافع الغريزية تريد االنطالق وإشباع نزواتها وحاجاتها الحيوانية ،لكن اإلنسان السوي والمنضبط يمنع انطالقها ويهذبها ويوجه دوافعها نحو تحقيق أهدافه وطموحاته بصورة عقالنية ومهذبة من أجل خيره وسعادته ورفاهية مجتمعه. -2السلوك االجتماعي التقليدي: ويتأتى هذا السلوك من عادات وتقاليد وقيم ومثل وأخالق المجتمع .وهذه الضوابط االجتماعية التقليدية تحدّد سلوك اإلنسان وتنظّم عالقاته باآلخرين وترسم أهدافه ومصالحه التي غالبا ً ما تنطبق مع تلك التي يعتمدها المجتمع ويؤمن بها. ويكتسب الفرد هذا النمط من السلوك منذ حداثة حياته من المؤسسات والمنظمات البنيوية التي يحتك بها ويتفاعل معها مثل األسرة والقرابة والمجتمع المحلي وجماعة اللعب والمسجد ..الخ .وهذه المؤسسات والمنظمات تزرع عند الفرد بذور هذا النمط من السلوك وتصب في عروقه النموذج التقليدي للسلوك االجتماعي الذي ينسجم ويتفق مع أخالقية وسلوكية المجتمع التي تُم َّرر بدورها عبر األجيال وتشارك في تحقيق وحدة المجتمع وقوته .ويتجسد هذا النوع من السلوك بطقوس التحية ومراسيم األعياد والمناسبات الوطنية والدينية وحفالت الزواج والختان والمآتم وغيرها. -3السلوك االجتماعي العقلي: وهو السلوك الذي يتميّز بالتعقّل والمنطق والبصيرة واإلدراك الثاقب لألمور والقضايا والمشكالت ،ومصدره منطقة الذات التي تعبّر عن ماهية العالم الخارجي وحقيقة الحياة االجتماعية التي يعيشها األفراد والجماعات ،وعند االقتداء بهذا السلوك يعتمد العضو في احتكاكه مع اآلخرين اللغة الرفيعة والكالم المهذب واألخالق العالية والحجج الموضوعية لألفعال التي يمارسها .كما يتميز بالرقة والوداعة والعفة والطهارة عند مقابلته لآلخرين لكي يكسب ثقتهم وينال رضاهم وبالتالي يحقق أهدافه وطموحاته. سم "فيبر" هذا النوع من السلوك إلى ثالثة أنواع حسب طبيعة الواسطة ويق ّ والغاية وعلى النحو اآلتي-: -سلوك اجتماعي عقلي ذو واسطة عقلية وغاية غير عقلية: إن الغاية أو الواسطة العقلية هي الغاية أو الواسطة األخالقية الشريفة والمهذبة التي تنسجم مع أخالقية ومثل وتعاليم المجتمع وتسير في فلكها .أ ّما الغاية أو الواسطة غير العقلية فهي التي ال تنسجم مع قيم ومثل وأخالقية وأهداف المجتمع. ويتمثل هذا السلوك بحالة المنتج الرأسمالي المحتكر الذي يستعمل اآلالت الميكانيكية الحديثة ويعتمد الخبرات العلمية في اإلنتاج ألجل خلق البضاعة التي يحتاجها المجتمع ،غير أن غايته من اإلنتاج هي تحقيق األرباح المادية واستغالل األفراد. -سلوك اجتماعي عقلي ذو واسطة غير عقلية وغاية عقلية: وهذا السلوك معاكس للسلوك األول من ناحية الواسطة والغاية ،ويتمثل بحالة رغبة الطالب بالنجاح ،لكنه يحاول بلوغ هدفه هذا عن طريق الغش في االمتحان، أو رب األسرة الذي يرغب بامتالكه دار للسكن ،لكن عدم حوزته على األموال الالزمة قد تدفعه إلى السرقة أو االختالس ،وهنا تكون الغاية عقالنية وأخالقية لكن الواسطة ال أخالقية وال تنسجم مع أخالقيات المجتمع ومثله. -سلوك اجتماعي عقلي ذو واسطة عقلية وغاية عقلية: يسمى هذا النوع من السلوك العقلي بالنموذج المثالي للسلوك، Ideal Type وهو السلوك الذي يبتعد عن العاطفة والتحيز والتعصب ويكون سلوكا ً محايداً من حيث أدوات تنفيذه وأغراضه .أي هو سلوك مقبول ومتفق مع أخالقيات المجتمع في الغاية والواسطة ،ويتجسد هذا النمط من السلوك بسلوك الطالب الذي يعد سلوكه مثاليا ً طالما أن واسطته عقلية "السعي واالجتهاد واالنتظام في الدراسة "وغايته عقلية " الحصول على الشهادة العلمية" وسلوك الجندي في المعركة سلوك عقلي مثالي من حيث الواسطة "السالح" ،ومن حيث الهدف أو الغاية "الدفاع عن الوطن" ،وهناك أمثلة ال حصر لها عن النماذج السابقة للسلوك. إذن" ،فيبر" يعطي أهمية كبيرة للقيم والتقاليد والعادات التي تتجسد في السلوك االجتماعي التقليدي الذي يمارسه األفراد في حياتهم اليومية ،ويعلق أهمية أكبر على النموذج المثالي للسلوك الذي تتفق فيه الوسائل مع الغايات وهو سلوك يطمح إليه المجتمع اإلنساني الموحد والقوي ،والذي يشكل االقتراب منه أو الوصول إليه قاعدة مهمة للضبط االجتماعي في المجتمع.