Professional Documents
Culture Documents
المقدمة:
الفضاء المسرحي عنصر أساسي من عناصر العرض سواء في جانبه
المرئي المجسد فعلياً على خشبة المسرح ،أو في جانبه المتخيل أي جانبه
الخف ي الذي تفرضه إمكانيات الخشبة والذي يعتمد على خيال المتلقي
ومرجعياته الخاصة إلكمال خط سير األحداث في فضاءات أخرى مغايرة عن
الديكور المجسد فعلياً.
فالفضاء المسرحي لخشبة المسرح يمكن أن يمتد فيما وراء منطقة
التمثيل المنظورة بمعنى أن الممثل قد يغادر الفضاء المسرحي المنظور (خشبة
المسرح ) ذاهباً إلى حجرة أخرى ال يراها الجمهور لمقابلة بعض الشخصيات
األخرى ،أو ربما يعود الممثل إلى خشبة المسرح بعد إتمام رحلة طويلة ،وفي
هذه الحالة فإن الحجرة التي ال يراها الجمهور هي إمتداد وهمي لخشبة المسرح،
وعلى ذلك فالفضاء المسرحي غير المنظور ليس أقل أهمية وحقيقة من الفضاء
المسرحي المنظور حيث يتضح الفرق بينهما في الفرق بين المساحة التي يمكن
رؤيتها حسياً والمساحة التي يمكن تخيلها ذهنياً وهذا بالطبع يتطلب استجابة
خيالية من جانب المتلقي.
إال أن هناك من يرى أن اإلمتداد الوهمي لخشبة المسرح ( الفضاء
المسرحي غير المنظور ) يقوم على اإليهام الذي يقيد المبدع والمتلقي ويجعل
األول عارضاً والثاني مستهلكاً غير فاعل في العملية المسرحية ،حيث يصبح
العرض فرجة معتمد على الخداع الذي يخاطب الحس وليس العقل.
15
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
16
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
وعموماً فإن الجمهور المتلقي ال يعنيه كثي اًر أن يرى في العرض المسرحي مكان ًا
بعينه معروفاً لديه بقدر ما يعنيه ما يثيره هذا المكان في أعماقه.
فالمكان في العرض المسرحي ال يعد مكاناً كالذي نعيش فيه أو نخترقه
يومياً ،ولكنه يتشكل كعنصر من بين العناصر المكونة للحدث الدرامي ،وسواء
جاء في صورة مشهد وصفي أو مجرد إطار للحدث فإن مهمته األساسية هي
التنظيم الدرامي لألحداث.
إن دراسة المكان تتطلب قدرة معرفية من قبل الجمهور المتلقي لمعرفة
حال ومدلول اإلشارة التي ترسلها مكونات العرض المسرحي ،ونقصد بالدال
والمدلول " أي الدال هو صورة سمعية أو بصرية ،والمدلول هو تصور ذهني
غير عادي " إذاً الدال في المكان هو اإلطار الخارجي للمسرح والمدلول هو
كل ما هو موجود داخل المكان .فالدالالت سواء أكانت لغوية لفظية ،أو سمعية
صامته ،أو ضوئية ،أو إظالمية متحركة ،أو ساكنة ،أو ثابتة تسهم جميعها
بوصفها مفردات للصورة الصوتية أو المرئية على خشبة المسرح في خلق
التعبير الممتع ،والمقنع فالمؤثر الذي يصل عن طريق ما تشتمل عليه من
جماليات الصورة المسرحية إلى إمتاع المتلقي وما توحي به من معان وقيم
وأفكار إلى إقناعه ومحاولة التأثير على حسه وتوجهاته.
هذا وتتعدد الدالالت داخل العروض المسرحية فنجدها مثالً في اآلتي.
-أشجار تتحول إلى هياكل عظمية داللة على الموت.
-جدران أيله للسقوط داللة على الدمار.
-شخصيات تتحرك بألية معينة داللة على أنها فقدان إنسانيتها وتحولت
إلى أآلت.
17
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
-بقع من الدماء على علم دولة ما داللة على الحرب وحالة الدولة
الدامي.
-وضع أسالك شا ئكة على مكان معين داللة على السجن والحصار.
-استخدام الساللم والمرتفعات داللة على تعدد مستويات الصراع.
-وضع الكمبوشة في مقدمة خشبة المسرح تحمل دالالت عديدة منها
أنها بئر عميق ،أو قبر ،أو فضاء لقمع حرية الشخصيات وتعذيبها.
-وضع ستارة بيضاء في الخلفية على البانوراما تحمل دالالت عديدة.
أبرزها أنها تعبر عن كفن أبيض كبير يحيط بالشخصيات ،أو أنها
شراع لسفينة تبحر بواسطتها الشخصيات.
-خروج الموتى من قبورهم داللة على ما كانوا يتمنون ولكن الموت وقف
حائالً بينهم وبين تحقيق تلك األماني.
إذاً الدال قائم في الشكل ،أو األسلوب ،أو الوسيلة ،أو األداة ،والمدلول
قائم على المحتوى ،والمضمون ،والهدف أو النتيجة أو القيمة والتواصل إلى
المدلول الذي ال يتحقق بدون اكتشاف العالقة بين الدال (الصورة أو العالمة)
والمدلول (المعنى) الذي تشير إليه العالمة أو تسعى إلى تحقيقه .إن هذه
الد الالت المختلفة تتطلب رؤية إبداعية من قبل المخرج وقدرات استيعابه من
قبل الجمهور المتلقي.
وأخي اًر ومن خالل ما تقدم يمكن تحديد إشكالية البحث في التساؤالت اآلتية.
-1ما دالالت المكان في عرض المسرحي " وسط البلد "؟
-2هل حمل المكان دالالت مضافة ومتعارف عليها في عرض مسرحية
"وسط البلد".
18
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
19
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
التعريف اإلجرائي للدالالت :هي معنى تكويني قصدي ،يهدف إلى تحفيز
معاني ذاتية وموضوعية وتحليلها إلى حقائق معينة مرتبطة بذهن الجمهور
المتلقي تسهم في تفعيل العالقة بين الدال والمدلول
المكان اصطالحياً :هو الميدان الذي تجري فيه أحداث مشهد من المشاهد أو
دراما من الدرامات ومن الصعب العمل في المسرح بدون المكان المسرحي
فعليه وفيه تنساب األحداث المسرحية.
التعريف اإلجرائي للمكان :هو الحيز الذي تشغله كل األشياء الموجودة داخل
العرض المسرحي.
التحليل الدرامي لعرض مسرحية " وسط البلد ":
ُيعد المكان جامعاً لكل ما يعرض على خشبة المسرح من مادة درامية
وسينواجرافية ،واستعراضية .أي أنه ترجمة للشكل ،والحجم ،والمسافة ،والضوء
لعالم النص .فهو ينسج عالقات مع الشخصيات ،واألحداث والزمن حتى يتحول
من كونه مكاناً تدور فيه األحداث وتلتحم به الشخصيات إلى فضاء جامع لكل
مكوناتها.
ولهذا فالمكان ُيعد األكثر ثقالً وتنوعاً في التأثير ،كونه الجامع إلطار العرض
المسرحي ،وحدوده الجغرافية ،وبيئته الثقافية والمخرج عندما يصف مكاناً ال
يصف وقعاً مجرد ولكنه واقع مشكالً تشكيالً فنياً ،فالبيئة المكانية على المستوى
الفيزيائي المحسوسي ليست هي ما يشغل بال الجمهور المتلقي إال أنها قد تنقل
له دالالت تفيد في فهم العرض المسرحي ،وهناك ثالثة طرق للتعرف على
المكان حسياً ومادياً.
20
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
21
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
خالل سير األحداث الدرامية فك شفرة المكان وتحليله ليصل إلى داللته ويحيل
المكان المتلقي إلى مكان ثابت ومحدد هو "وسط البلد " الذي يحمل عنواناً
للمسرحية التي كتبها واخراجها " ناصر عبد المنعم وعرضت على خشبة
المسرح الحديث.
في البداية نجد عنوان المسرحية منذ اللحظة األولى يستدعي منطقة " وسط
البلد " في مدينة القاهرة بخصوصيتها إلى ذهن الجمهور ،ليضع مالمح عامه
ألفاق التلقي.
فكرة العرض:
تدور حول الصراع الطبقي بين أبناء الطبقة العليا األرستقراطية وأبناء
الطبقة الدنيا الفقيرة ،ويقع هذا الصراع على مستويين هما المكان والحدث
الدرامي .حيث ال يمكن التصالح بين أبناء الطبقتين وان حدث التصالح بينهما،
فذلك ،لفترة وجيزة ألن الصراع بينهما ال بد أن ينتهي بانتصار أو هزيمة ،وألن
المكان ال بد وأن تؤل ملكيته إلحدى الطبقتين.
زمن الحدث:
يحاول المخرج رصد الحياة المصرية من خالل حي في " وسط البلد "
يعيش فيه األرستقراطيون الذين مازالوا يقيمون في العمارات التي يملكونها في "
وسط البلد " ثم ما يمكن أن نطلق عليهم المهمشين األخرون أولئك الذين
يولدون ويعيشون في الشوارع وينتقلون من مهنة إلى أخرى ليرتفع بعضهم من
خالل " وسائل مشروعة وأخرى غير مشروعة " مثل التهريب ،والسمسرة،
واألعمال الخدمية ،واألنشطة االستهالكية ،والمشاريع االقتصادية الوهمية .وقد
22
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
شهدت هذه الطبقة ثراءاً فاحشاً واستف اززياً نظ أًر للدور المشبوه الذي كانت تقوم
به في االقتصاد القومي وخاصة بعد االنفتاح االقتصادي.
مكان الحدث:
يقع في منطقة "وسط البلد" التي تمثل المركز التجاري واالجتماعي
للقاهرة ،حيث توجد المصالح الحكومية ،والعمارات الشاهقة والمباني القديمة
التي يقترب طرازها المعماري من الطراز األوروبي الكالسيكي ،وذلك عندما
كانت القاهرة نظيفة وخالية من الزحام والضوضاء وتتسم بالتناسق واالتساق
والخصوصية ،حيث شيدت النخبة القديمة في مصر "وسط البلد" لتكون الحي
األوروبي للقاهرة .وهذا المظهر الحضاري اختفى من منطقة " وسط البلد" ليطل
علينا منظر قبيح أخر جسده المخرج من خالل صوت الراوي وعين الكامي ار
السينمائية.
يبدأ العرض المسرحي بصوت الراوي الذي يصف أجواء " وسط البلد "
بتاريخها وشاعريتها .ويستطرد صوت الراوي في رسم صور مفصلة ،حيث رسم
المخرج خريطة للمكان بمساعدة عين الكامي ار السينمائية التي تجولت في شوارع
وميادين القاهرة ،وهنا يتضح شيئين هما:
أوالً :مزج الواقع بإشارات ملحمية ،حيث عمد المخرج على كسر اإليهام
المسرحي عن طريق االعتماد على صوت الراوي ،وتوظيف الكامي ار السينمائية،
واستخدام المونتاج والتتابع الزمني للقطات ليعزف على أوتار القلوب الحزن
الساكن في األعماق لما ألت إليه مدينة القاهرة من تشوهات وعشوائية نتيحة
غياب الذوق والجمال ،والتنسيق الحضاري.
23
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
ثانياً :هي المصادرة على خيال المتلقي باالستغناء عن الفضاء المتخيل عن
طريق تصويره .فالمخرج ال يعني بوصف المكان فقط ،ولكن يوصف
الشخصيات الدرامية بداخله.
تدور أحداث عرض مسرحية " وسط البلد " في إطار تشكيلي
سينجرافي يتسم باالنسجام والهارمونية ،والجمال ،حيث يكشف المنظر المرئي
لديكور العرض عن مستويين لخشبة المسرح.
المستوى األول رأسي :نرى فيه شرفة يقترب طرازها من الطراز المعماري
لمباني " وسط البلد " مع مجموعة من النوافذ في الجهة المقابلة.
المستوى الثاني أفقي :حيث يكشف المنظر المرئي عن أحد ممرات " وسط
البلد " الذي يحتوي على محل األنتيكات الذي يملكه ( عم خليل ) ومطعم،
ومقهى ،ودكان فارغ.
عمق خشبة المسرح في الخلفية:
يوجد بانوراما إلحدى عمارات " وسط البلد " القديمة التي تصادر هي
األخرى على خيال المتلقي بسبب منظرها غير المالئم للمنظر المجسد ،مما
تبعث في نفس المتلقي شعو اًر بالغربة مع المكان المسرحي الذي يستمر طوال
العرض.
تتأكد بطولة المكان من خالل استغراق المخرج في رسم تفاصيل المكان عن
طريق الكامي ار وصوت الراوي والشخصيات الدرامية ،نفسها فالمكان يتسم
بالتلقا ئية الفطرية ،كما تظهر بعض الشخصيات كجزء من تفاصيل المكان أكثر
من كونها شخصيات درامية مشاركة في الحدث الدرامي ،مثل الراقصة ( ناني )
وفرقتها االستعراضية والشاعر الصعيدي ،والفنان التشكيلي ،وكذلك ( عم خليل
24
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
) صاحب محل األنتيكات الذي يسرد تاريخ الممر بتفاصيله الكثيرة والمتغيرة
عبر الزمن ،وذلك في المشهد األول لظهوره ،وهو نفس المشهد الذي تنتهي به
المسرحية دون أن تكون لشخصية ( عم خليل ) دور حقيقي ومؤثر في الدراما.
يعتمد المخرج على الصوت وليس على الراوي الحقيقي الذي يعتبر
جزءاً من المسرحية يؤدي دوره على خشبة المسرح ،يعلق على الحدث ويفسر
ما كان وما يجب أن يكون ،ولكن الراوي هنا بمعنى الصوت فقط ،كما يستعين
بأشرطة سينمائية هي في حقيقتها جيدة ولكن المبالغة في السرد ضد أي دراما.
وال شك أن عملية الوصف التي قام بها صوت الراوي ال تُعد في جوهرها بنقل
األشكال واأللوان بقدر ما تعني تهيئة مخيلة الجمهور المتلقي ليقوم بإعادة
ترتيب هذه األشكال واأللوان حسب تلقيه ،وفي إطار ربطها بالشخصيات التي
تتفاعل معها .فمن خالل عنصر الوصف ينقل لنا المخرج ثقافة مجتمع حوى
كل الطبقات وتعامل وتفاعل معها ،ولهذا فأن الممر ال يمثل موقعاً جغرافياً أو
إطار ،لألحداث بقدر ما أصبح مكاناً له سيادة مطلفة في إنتاج الشخصيات
واألحداث فهو يسهم في خلق عالقات إنسانية تحمل أبعاداً فنية وفلسفية
وايديولوجية.
يتعرض المخرج للمكان من خالل وجهة نظر الشخصيات الناظرة إليه،
كما يعد اختيار أسماً حقيقياً للمكان من باب إيهام المتلقي بواقعية األحداث
ويعيد
وصدقها ،ولكن يظل المكان في النهاية مكاناً متخيالً ُيبدعه المخرج ُ
تشكيل معالمه وفق رؤيته الخاصة .فقيمة المكان وأهميته تعودان إلى كونه
حاوياً لبنية المسرحية ،فهو ينسج عالقات نصية مع الشخصيات واألحداث
والزمن ،حتى يتحول عن كونه مكاناً تدور فيه األحداث وتلتحم به الشخصيات
25
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
إلى فضاء حاوي لكل مكوناتها .أي أن المخرج ال يتعامل مع المكان بحدوده
الجغرافية فحسب وانما يتعامل معه كحيز إنساني يشكل أنماطاً للعالقات
االجتماعية.
يتمتع المكان ( الممر ) بالثراء الداللي .إذ يكون غنياً بالدالئل التي
تشير إلى مدلوالت تدل على عالقات المكان ( بالفعل ،والفاعل ،والزمان ) .وقد
حاول المخرج إيجاد عالقة سببية تربط بين األشكال في الفضاء المسرحي ،تلك
األشكال التي يمتاز بعضها بالسكون وبعضها بالحركة ،فقد أوجد عالقة بين
الممثل المتحرك واألرضية األفقية والمنظر الرأسي لخشبة المسرح ،وذلك
بابتكار تصاميم وفق مفاهيم المكان ،والكثافة والكتلة ،وذلك بتوظيف برتيكابالت
ومنصات تربط بين المنظر المرسوم ،واألرضية ،وتسمح للممثل كي يتحرك
أفقياً وعمودياً.
فقد قسم المخرج خشبة المسرح إلى مستويين رأسي وأفقي ،ومن خالل
هذا التقسيم يظهر الصراع الدرامي الذي يتمركز حول الممر.
فالمكان هنا يعبر عن الصراعات الداخلية والخارجية للشخصيات
الدرامية حيث يتحرك أبناء الطبقة الدنيا الفقيرة على المستوى األفقي لخشبة
المسرح ،بينما يتحرك أبناء الطبقة العليا األرستقراطية على المستوى الرأسي
لخشبة المسرح ،في بداية العرض تظهر شخصية ( ليلى ) كفتاة تنتمي للطبقة
العليا على المستوى الرأسي لخشبة العليا األرستقراطية من خالل الشرفة
المسرح حيث تتحدث إلى ( حمدي ) الشاب اإلنتهازي والذي ينتمي إلى الطبقة
الدنيا المرتبطة بأرض الممر.
26
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
تمثل شخصية ( ليلى ) وشقيقها ( نيازي ) نموذجاً ألبناء طبقة اجتماعية جاهلة
ثقافياً .ولكنها ذات وجاهة مالية اجتماعية شكلية وحولهما عدد من نوعيتهما
يشاركونهما السطحية ( فليلي ) مثال للفتاة المدللة وأخيها ( نيازي ) ال يعرف
معنى لحياته إال في صاالت الديسكو.
يتبلور الصراع الطبقي بين ( حمدي وأصدقائه ) من ناحية وعائلة (
ليلى ونيازي) من ناحية أخرى .وذلك من خالل حركة الشخصيات على أرضية
الممر فالممر يتجاوز كونه مكاناً لبؤرة الحدث ليتحول إلى متحدث رسمي
وشاهد عيان على التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري ،جاعالً من
ساكنية أبطاالً يعبرون من خالل عالقتهم بالمكان عن أزمة هذه الشخصيات،
حيث يزحف (حمدي ) بطبقته الدنيا من الجهة اليمنى لخشبة المسرح متجه ًا
إلى اليسار ومقترباً شيئاً فشيئ ًا من الطبقة العليا األرستقراطية (عائلة ليلى
ونيازي) بينما تتراجع الطبقة األخيرة إلى الجهة اليسرى تجاه المطعم الذي
يمتلكونه.
في المساحة الوسطى بين الجهتين تتشابك العالقات الدرامية بين
الطبقتين على أرضية الممر .وهنا نجد داللة وتأكيداً للصراع الدرامي بين
الطبقتين من خالل توظيف تقنيات اإلضاءة ،والظالل والتكوينات اللونية
وتوظيف اللون األحمر للداللة والتأثير على مشاعر وأحاسيس المتلقي وكذلك
تأكيد صفات الزمان والمكان والحدث الدرامي.
يزحف ( حمدي ) الشاب الجاهل ومجهول النسب والذي ينتمي إلى
الطبقة الدنيا إلى الممر ،في البداية كسمسار ال يملك سوى كرسي بجوار منزل
عائلة (ليلى ) ثم يتحايل عليها ليسيطر في البداية على الدكان الفارغ الذي
27
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
تملكه أسراتها مستغالً عطفها وشفقتها عليه .ثم يبدأ ( حمدي ) في التوسع
ليستولي بعد ذلك على المقهى متحايالً ليسيطر رويداً رويدا على الممر بأكمله،
ثم يمتلك (حمدي ) المال عن طريق زواجه من أمرآة أكبر منه .في سن والدته
هي ( أم رمضان ) ليستغل أمالكها في مشاريعه معتمداً على االستفادة من
التحوالت االقتصادية لفترة االنفتاح وما بعدها.
والشك أن تفشي ظاهرة االنفتاح االقتصادي كانت سبباً في زلزلة كيان
المجتمع المصري واتساع الفجوة بين قلة غنية وكثرة فقيرة ،وما رافق ذلك من
انحدار للقيم وانتشار للرشوة والفساد والمحسوبية.
في الحقيقة هناك أشخاص ونماذج بشرية دالة في جوهرها على ألوان
هذه الفترة االنتهازية أكثر من كونها شخصيات من لحم ودم وذات أبعاد إنسانية
محددة .فكما يخلق المكان الشخصية ،فإن الشخصية قد تفيد في صياغة
المكان بما يتناسب مع طبيعة التحول االجتماعي والسياسي ،األمر الذي يترتب
عليه ظهور شخصيات ذات صبغة اجتماعية معينة تصاعدت مع قوانين
االنفتاح االقتصادي .فشخصية ( حمدي ) تمثل صوت وصورة األيديولوجية
التي تبناها مجتمع تلك الفترة ( فحمدي ) ذو عقلية تشكلت وفقاً إلطار الفلسفة
البراجماتية ( المنفعة ) والسياسية ( الميكافيلية ) الغاية تبرر الوسيلة –
مستخدماً كافة طرق التحليل ومظاهر الضعف اإلنساني والشفقة لالستحواذ
على ما يريدهُ .يالحظ الباحث أن شخصية ( حمدي ) االنتهازية وهي أكثر
الشخصيات الدرامية امتالكاً وسيطرة على المكان .ورغم اهتمام المخرج برسم
تفاصيلها إال أنها جاءت مفروضة على الحبكة الدرامية وحتى مع المساحة
الكبيرة للشخصية على مستوى العرض.
28
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
فالحدث الدرامي يتطور من خالله عالقة الحب التي جمعت بين (هناء
) أبنة الطبقة العليا األرستقراطية ،وبين ( رمضان ) ابن بائعة الكشري والذي
ينتمي إلى الطبقة الدنيا الفقيرة ويرى الباحث أن إقحام ( حمدي ) على العالقة
بين ( هناء ) و( رمضان ) ورفضه لعالقتهما جاء غير مبرر درامياً وغير
مقنع ( فرمضان ) ليس إال صديق يتردد على المقهى الذي يمتلكه (حمدي )،
كما أن شخصية ( حمدي ) االنتهازية المتسلطة من المفترض أنها ترى في
زواج (رمضان ) من ( هناء ) مكسباً وصعوداً لطبقته ومحاولة إلزالة الفوارق
بينهما تماماً ،كما فعل هو أيضاً بزواجه من ( أم رمضان ).
ويرى الباحث أن ( حمدي ) ربما ألنه أصبح يمتلك المال فقد اعتقد أنه
صعد إلى الطبقة العليا الغنية ،ومن ثم بدأ يتنكر من أبناء طبقته الدنيا.
يعتمد المخرج في تطوير صراعه حول المكان ( الممر ) على
المشهدين الرئيسيين من مسرحية ( روميو وجولييت ) للكاتب اإلنجليزي ( وليم
شيكسبير) وهما مشهد الشرفة ،ومشهد المقابر.
يبتعد المخرج عن واقعية المكان في طرح األحداث الدرامية حيث يجسد
مشهد الشرفة من خالل لعبة التمثيل داخل التمثيل أو المسرح داخل المسرح
لبرانديلو.
تعلب ( هناء ) دور جولييت ويلعب ( رمضان ) دور روميو مع
االستعانة بأزياء القرن السابع عشر الميالدي واستخدام الشرفة المرتفعة
والمجسدة على الخشبة ،وعلى كرسي يقف عليه روميو كمحاولة للصعود من
المستوى األفقي إلى المستوى الرأس لخشبة المسرح.
29
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
30
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
31
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
32
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
33
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
-7قام المخرج بالمزج بين عدة مذاهب مسرحية .إال أنه لم يستطع صهرها
في قالب واحد أبرز هذه المذاهب هو المسرح الملحمي التعليمي
لبرتولت بريخت ،ومسرح لويجي بيرانديلو (المسرح داخل المسرح)،
كذلك المذهب الواقعي لستانسالفسكي.
-8ساهمت تقنيات اإلضاءة المسرحية وتكويناتها اللونية في إعطاء
دالالت عديدة داخل العرض المسرحي .منها أنها كشفت عن جغرافية
المكان وتأكيد صفتي الزمان والحدث الدرامي وما يدور داخل
الشخصيات الدرامية من مشاعر وانفعاالت.
-9تفاعلت الموسيقى والديكور والحركة المسرحية واالستعراضية في إثراء
ما يعرض على خشبة المسرح من مادة درامية .وخاصة في مشهد
الشرفة ،كما أعطت دالالت جمالية وتشكيلية ساعدت على إضافة
عنصر الجمال واإلبهار للعرض المسرحي.
34
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
المراجع:
-1مروة مهدي :البطل المكان وسط البلد ،القاهرة ،مجلة المسرح الهيئة
المصرية العامة للكتاب ،العدد 166 ،165إغسطس ،وسبتمبر،
،2002ص.112 ،
-2جيمس ميروند :الفضاء المسرحي ،ترجمة محمد السيد وأخرون
اصدارات مهرجان ،القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ،القاهرة ،الدورة
الثامنة ،1996 ،ص .14
-3رضا غالب :تنظيرات الهوية المسرحية العربية في سياق التاريخ،
القاهرة ،و ازرة الثقافة ،المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون
الشعبية ،دراسات في المسرح المصري ،العدد ،2009 ،18ص.175
-4جوليان هلتون :نظرية العرض المسرحي ،ترجمة نهاية صليحه،
الشارقة ،مركز الشارقة لإلبداع الفكري ،2001ص .39
-5يعقوب الشاروني :الدور التربوي لمسرح الطفل ،الحلقة الدراسية حول
مسرح الطفل ،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977م ،ص
.177
-6زينب فرغلي :المكان بين الواقع والفن ،الدوحة قطر ،مجلة الجسرة
الثقافية العدد ،21ربيع 2010ص.180 ،
-7حسن بحراوي :بنية الشكل الروائي ،المركز الثقافي العربي ،بيروت
الدار البيضاء 1990م ،ص .1
-8هاني أبو الحسن سالم :سيميولوجيا المسرح بين النص والعرض دار
الوفاء للطباعة ،اإلسكندرية ،2006 ،ص .13
35
داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"
36