You are on page 1of 22

‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫المقدمة‪:‬‬
‫الفضاء المسرحي عنصر أساسي من عناصر العرض سواء في جانبه‬
‫المرئي المجسد فعلياً على خشبة المسرح‪ ،‬أو في جانبه المتخيل أي جانبه‬
‫الخف ي الذي تفرضه إمكانيات الخشبة والذي يعتمد على خيال المتلقي‬
‫ومرجعياته الخاصة إلكمال خط سير األحداث في فضاءات أخرى مغايرة عن‬
‫الديكور المجسد فعلياً‪.‬‬
‫فالفضاء المسرحي لخشبة المسرح يمكن أن يمتد فيما وراء منطقة‬
‫التمثيل المنظورة بمعنى أن الممثل قد يغادر الفضاء المسرحي المنظور (خشبة‬
‫المسرح ) ذاهباً إلى حجرة أخرى ال يراها الجمهور لمقابلة بعض الشخصيات‬
‫األخرى‪ ،‬أو ربما يعود الممثل إلى خشبة المسرح بعد إتمام رحلة طويلة‪ ،‬وفي‬
‫هذه الحالة فإن الحجرة التي ال يراها الجمهور هي إمتداد وهمي لخشبة المسرح‪،‬‬
‫وعلى ذلك فالفضاء المسرحي غير المنظور ليس أقل أهمية وحقيقة من الفضاء‬
‫المسرحي المنظور حيث يتضح الفرق بينهما في الفرق بين المساحة التي يمكن‬
‫رؤيتها حسياً والمساحة التي يمكن تخيلها ذهنياً وهذا بالطبع يتطلب استجابة‬
‫خيالية من جانب المتلقي‪.‬‬
‫إال أن هناك من يرى أن اإلمتداد الوهمي لخشبة المسرح ( الفضاء‬
‫المسرحي غير المنظور ) يقوم على اإليهام الذي يقيد المبدع والمتلقي ويجعل‬
‫األول عارضاً والثاني مستهلكاً غير فاعل في العملية المسرحية‪ ،‬حيث يصبح‬
‫العرض فرجة معتمد على الخداع الذي يخاطب الحس وليس العقل‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫ويمكن تقسيم الفضاء المسرحي إلى ثالثة أنواع هي‪:‬‬


‫‪ -1‬مواقع محايدة‪ :‬وهي أماكن مفتوحة وخالية‪ ،‬ال يميزها مالمح محددة ثابتة‬
‫وال ترتبط بأنماط استعمال محددة‪ ،‬وفي هذه المواقع قد يوجه العرض المسرحي‬
‫جنباً إلى جنب مع أنشطة أخرى مثل المالهي‪ ،‬واأللعاب الرياضية والمتنزهات‪.‬‬
‫‪ -2‬مواقع عارضة‪ :‬وهي مواقع تقدم العروض المسرحية بصورة متكمله ولكنها‬
‫غير منتظمة وعادة ما تكون أبنية عامة مثل الكنائس أو قصور األمراء‬
‫والملوك‪ ،‬أو قاعات المحاضرات‪.‬‬
‫‪ -3‬مواقع مخصصة دائمة‪ :‬وهي أماكن خصصت تماماً لهدف هو تقديم‬
‫العروض المسرحية مثل المسارح‪ ،‬دار األوب ار أو ما شابه ذلك‪.‬‬
‫إذاً فالوظيفة األولى التي يحققها الفضاء المرئي هو تحديد مكان الحدث‬
‫الدرامي‪ ،‬هذا باإلضافة إلى وظائفه السيميولوجية باعتباره نظاماً أساسياً من‬
‫أنظمة العالمات التي تظهر في أي عرض مسرحي‪ ،‬وقد يحتل المكان‬
‫المسرحي موقع الصدارة على مستوى النص أو العرض فيصبح البطل الرئيسي‬
‫للمسرحية‪ .‬فبغير المكان ال وجود للعمل المسرحي‪.‬‬
‫ويعد المكان هو الصفة التي تحدد الشخصيات وأنماطها الحياتية‬ ‫ُ‬
‫ومستوياتها االجتماعية‪ ،‬واالقتصادية‪ .‬ومن خالل المكان يتحدد نوع االنتماء‬
‫للشخصية‪ ،‬أي بواسطة المكان يمكن التعرف على ثقافة الشخصيات ومستوى‬
‫إدراكهم ووعيهم‪ ،‬وبذلك يصبح المكان هوية ويبقى اإلنسان هو محور المكان‪،‬‬
‫وقراءة المكان تدل على فهم الشخصية‪.‬‬
‫إن جميع األمكنة مختلفة عن بعضها بعضا وان تشابه األمكنة ال يعني‬
‫تشابه الشخصيات فهناك مكان ديني‪ ،‬ومكان تعليمي‪ ،‬ومكان ترفيهي وغيرها‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫وعموماً فإن الجمهور المتلقي ال يعنيه كثي اًر أن يرى في العرض المسرحي مكان ًا‬
‫بعينه معروفاً لديه بقدر ما يعنيه ما يثيره هذا المكان في أعماقه‪.‬‬
‫فالمكان في العرض المسرحي ال يعد مكاناً كالذي نعيش فيه أو نخترقه‬
‫يومياً‪ ،‬ولكنه يتشكل كعنصر من بين العناصر المكونة للحدث الدرامي‪ ،‬وسواء‬
‫جاء في صورة مشهد وصفي أو مجرد إطار للحدث فإن مهمته األساسية هي‬
‫التنظيم الدرامي لألحداث‪.‬‬
‫إن دراسة المكان تتطلب قدرة معرفية من قبل الجمهور المتلقي لمعرفة‬
‫حال ومدلول اإلشارة التي ترسلها مكونات العرض المسرحي‪ ،‬ونقصد بالدال‬
‫والمدلول " أي الدال هو صورة سمعية أو بصرية‪ ،‬والمدلول هو تصور ذهني‬
‫غير عادي " إذاً الدال في المكان هو اإلطار الخارجي للمسرح والمدلول هو‬
‫كل ما هو موجود داخل المكان‪ .‬فالدالالت سواء أكانت لغوية لفظية‪ ،‬أو سمعية‬
‫صامته‪ ،‬أو ضوئية‪ ،‬أو إظالمية متحركة‪ ،‬أو ساكنة‪ ،‬أو ثابتة تسهم جميعها‬
‫بوصفها مفردات للصورة الصوتية أو المرئية على خشبة المسرح في خلق‬
‫التعبير الممتع‪ ،‬والمقنع فالمؤثر الذي يصل عن طريق ما تشتمل عليه من‬
‫جماليات الصورة المسرحية إلى إمتاع المتلقي وما توحي به من معان وقيم‬
‫وأفكار إلى إقناعه ومحاولة التأثير على حسه وتوجهاته‪.‬‬
‫هذا وتتعدد الدالالت داخل العروض المسرحية فنجدها مثالً في اآلتي‪.‬‬
‫‪ -‬أشجار تتحول إلى هياكل عظمية داللة على الموت‪.‬‬
‫‪ -‬جدران أيله للسقوط داللة على الدمار‪.‬‬
‫‪ -‬شخصيات تتحرك بألية معينة داللة على أنها فقدان إنسانيتها وتحولت‬
‫إلى أآلت‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫‪ -‬بقع من الدماء على علم دولة ما داللة على الحرب وحالة الدولة‬
‫الدامي‪.‬‬
‫‪ -‬وضع أسالك شا ئكة على مكان معين داللة على السجن والحصار‪.‬‬
‫‪ -‬استخدام الساللم والمرتفعات داللة على تعدد مستويات الصراع‪.‬‬
‫‪ -‬وضع الكمبوشة في مقدمة خشبة المسرح تحمل دالالت عديدة منها‬
‫أنها بئر عميق‪ ،‬أو قبر‪ ،‬أو فضاء لقمع حرية الشخصيات وتعذيبها‪.‬‬
‫‪ -‬وضع ستارة بيضاء في الخلفية على البانوراما تحمل دالالت عديدة‪.‬‬
‫أبرزها أنها تعبر عن كفن أبيض كبير يحيط بالشخصيات ‪ ،‬أو أنها‬
‫شراع لسفينة تبحر بواسطتها الشخصيات‪.‬‬
‫‪ -‬خروج الموتى من قبورهم داللة على ما كانوا يتمنون ولكن الموت وقف‬
‫حائالً بينهم وبين تحقيق تلك األماني‪.‬‬
‫إذاً الدال قائم في الشكل‪ ،‬أو األسلوب‪ ،‬أو الوسيلة‪ ،‬أو األداة‪ ،‬والمدلول‬
‫قائم على المحتوى‪ ،‬والمضمون‪ ،‬والهدف أو النتيجة أو القيمة والتواصل إلى‬
‫المدلول الذي ال يتحقق بدون اكتشاف العالقة بين الدال (الصورة أو العالمة)‬
‫والمدلول (المعنى) الذي تشير إليه العالمة أو تسعى إلى تحقيقه‪ .‬إن هذه‬
‫الد الالت المختلفة تتطلب رؤية إبداعية من قبل المخرج وقدرات استيعابه من‬
‫قبل الجمهور المتلقي‪.‬‬
‫وأخي اًر ومن خالل ما تقدم يمكن تحديد إشكالية البحث في التساؤالت اآلتية‪.‬‬
‫‪ -1‬ما دالالت المكان في عرض المسرحي " وسط البلد "؟‬
‫‪ -2‬هل حمل المكان دالالت مضافة ومتعارف عليها في عرض مسرحية‬
‫"وسط البلد"‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫‪ -3‬هل تشكل دالالت المكان عامالً أساسياً في عرض مسرحية "وسط‬


‫البلد"‪.‬‬
‫أهمية البحث‪:‬‬
‫تأتي أهمية البحث كونه يسلط الضوء على تعدد دالالت المكان‬
‫ووظيفته الدرامية في العرض المسرحي‪ ،‬كما قد يفيد مخرجي العروض‬
‫المسرحية في معالجتهم اإلخراجية للعروض التي تتناول دالالت المكان وكذلك‬
‫الباحثين الستكمال زوايا عديدة في هذا الموضوع‪.‬‬
‫هدف البحث‪:‬‬
‫التعرف على دالالت المكان في العرض المسرحي‬
‫منهج البحث والعينة‪:‬‬
‫المنهج هو التحليل الدرامي للعرض المسرحي " وسط البلد " تأليف‬
‫واخراج ناصر عبد المنعم والذي عرض على خشبة المسرح الحديث‪،‬سنة‬
‫‪2002‬م‬
‫مصطلحات البحث‪:‬‬
‫داللة‪ :‬جاء في ( المعجم الوجيز ) ( دل ) على الشيء واليه دالله‪ :‬أرشده‪،‬‬
‫فهو دال‪ ،‬والشيء مدلوله عليه واليه ( أدل ) عليه‪ :‬وثق بمحبته‪( .‬ودلل على‬
‫المسألة)‪ :‬قام الدليل عليها و ( دلل ) على السلعة‪ :‬أعلن بيعها بالمساومة‬
‫(ستدل) عليه‪ :‬طلب أن يدل عليه واستدل بالشيء على الشيء‪ :‬اتخذه دليالً‬
‫عليه (والداللة ) اإلرشاد – وما يدل عليه اللفظ عند إطالقه وتجمع دالئل‬
‫ودالالت والدليل‪ :‬المرشد‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫التعريف اإلجرائي للدالالت‪ :‬هي معنى تكويني قصدي ‪ ،‬يهدف إلى تحفيز‬
‫معاني ذاتية وموضوعية وتحليلها إلى حقائق معينة مرتبطة بذهن الجمهور‬
‫المتلقي تسهم في تفعيل العالقة بين الدال والمدلول‬
‫المكان اصطالحياً‪ :‬هو الميدان الذي تجري فيه أحداث مشهد من المشاهد أو‬
‫دراما من الدرامات ومن الصعب العمل في المسرح بدون المكان المسرحي‬
‫فعليه وفيه تنساب األحداث المسرحية‪.‬‬
‫التعريف اإلجرائي للمكان‪ :‬هو الحيز الذي تشغله كل األشياء الموجودة داخل‬
‫العرض المسرحي‪.‬‬
‫التحليل الدرامي لعرض مسرحية " وسط البلد "‪:‬‬
‫ُيعد المكان جامعاً لكل ما يعرض على خشبة المسرح من مادة درامية‬
‫وسينواجرافية‪ ،‬واستعراضية‪ .‬أي أنه ترجمة للشكل‪ ،‬والحجم‪ ،‬والمسافة‪ ،‬والضوء‬
‫لعالم النص‪ .‬فهو ينسج عالقات مع الشخصيات‪ ،‬واألحداث والزمن حتى يتحول‬
‫من كونه مكاناً تدور فيه األحداث وتلتحم به الشخصيات إلى فضاء جامع لكل‬
‫مكوناتها‪.‬‬
‫ولهذا فالمكان ُيعد األكثر ثقالً وتنوعاً في التأثير‪ ،‬كونه الجامع إلطار العرض‬
‫المسرحي‪ ،‬وحدوده الجغرافية‪ ،‬وبيئته الثقافية والمخرج عندما يصف مكاناً ال‬
‫يصف وقعاً مجرد ولكنه واقع مشكالً تشكيالً فنياً‪ ،‬فالبيئة المكانية على المستوى‬
‫الفيزيائي المحسوسي ليست هي ما يشغل بال الجمهور المتلقي إال أنها قد تنقل‬
‫له دالالت تفيد في فهم العرض المسرحي‪ ،‬وهناك ثالثة طرق للتعرف على‬
‫المكان حسياً ومادياً‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫الطريقة األولى‪ :‬وتستعمل في خشبات المسارح الخالية من المناظر أو الديكور‪.‬‬


‫وفيها يكتب المؤلف الدرامي أماكن المشاهد ما بين قوسين أو (هاللين)‪ ،‬ويشير‬
‫إليها الممثلون باإللقاء التمثيلي‪ ،‬لتعريف الجماهير بالمكان المسرحي‪ ،‬وقد‬
‫استعملت هذه الطريقة في مسرح شيكسبير ( مسرح الجلوب ‪ ) GLOB‬في‬
‫القرن السادس عشر الميالدي وبدايات القرن السابع عشر الميالدي‪.‬‬
‫الطريقة الثانية‪ :‬وهي مستعمله في مسرح الشرق األقصى وبخاصة في المسرح‬
‫الصيني‪ .‬خشبة مسرح خالية أيضاً من المناظر أو الديكور المسرحي‪ ،‬لكن‬
‫الممثل هنا يمثل مهمة الديكور‪ ،‬أو في حاالت أخرى يتعمد الحوار مساعدة‬
‫النظارة من الجماهير على استنباط المكان‪.‬‬
‫الطريقة الثالثة‪ :‬وهي الطريقة المتطورة التي شاعت منذ عصر النهضة‬
‫األوروبي‪ ،‬وفيها يجري الدليل على المكان المسرحي بالديكور أو بالمناظر‪،‬‬
‫ويكون الديكور بالتصميم‪ ،‬والتنفيذ‪ ،‬واأللوان واألحجام أو الصبغات النفسية التي‬
‫تشير إلى مكان ( الحادثة المسرحية) إشارة واضحة جلية من اللبس أو‬
‫التحوير‪ .‬وهذه الطريقة األخيرة هي المستعملة حتى وقتنا الحاضر في المسرح‬
‫الحديث‪.‬‬
‫وعلى هذا فالمكان في العرض المسرحي يختلف عن المكان في العالم‬
‫الخارجي‪ -‬حتى وأن أتفق معه في االسم‪ ،‬أو الوصف‪ -‬فهو متخيل لفظي‬
‫صناعته اللغة‪ ،‬ورسمه خيال المخرج‪ ،‬واستقبله خيال المتلقي ليضفي عليه‬
‫بعض سماته الشخصية والمخرج عندما يختار المكان ملعباً للحدث من شأنه‬
‫أن يرسم رؤية الحقه للمناخ‪ ،‬واألشخاص‪ ،‬واألحداث‪ ،‬فالمكان تساؤالً محاط ًا‬
‫بالغموض في انتظار اإلجابة عنه داخل العرض المسرحي‪ ،‬والمتلقي يحاول من‬

‫‪21‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫خالل سير األحداث الدرامية فك شفرة المكان وتحليله ليصل إلى داللته ويحيل‬
‫المكان المتلقي إلى مكان ثابت ومحدد هو "وسط البلد " الذي يحمل عنواناً‬
‫للمسرحية التي كتبها واخراجها " ناصر عبد المنعم وعرضت على خشبة‬
‫المسرح الحديث‪.‬‬
‫في البداية نجد عنوان المسرحية منذ اللحظة األولى يستدعي منطقة " وسط‬
‫البلد " في مدينة القاهرة بخصوصيتها إلى ذهن الجمهور‪ ،‬ليضع مالمح عامه‬
‫ألفاق التلقي‪.‬‬
‫فكرة العرض‪:‬‬
‫تدور حول الصراع الطبقي بين أبناء الطبقة العليا األرستقراطية وأبناء‬
‫الطبقة الدنيا الفقيرة‪ ،‬ويقع هذا الصراع على مستويين هما المكان والحدث‬
‫الدرامي‪ .‬حيث ال يمكن التصالح بين أبناء الطبقتين وان حدث التصالح بينهما‪،‬‬
‫فذلك‪ ،‬لفترة وجيزة ألن الصراع بينهما ال بد أن ينتهي بانتصار أو هزيمة‪ ،‬وألن‬
‫المكان ال بد وأن تؤل ملكيته إلحدى الطبقتين‪.‬‬
‫زمن الحدث‪:‬‬
‫يحاول المخرج رصد الحياة المصرية من خالل حي في " وسط البلد "‬
‫يعيش فيه األرستقراطيون الذين مازالوا يقيمون في العمارات التي يملكونها في "‬
‫وسط البلد " ثم ما يمكن أن نطلق عليهم المهمشين األخرون أولئك الذين‬
‫يولدون ويعيشون في الشوارع وينتقلون من مهنة إلى أخرى ليرتفع بعضهم من‬
‫خالل " وسائل مشروعة وأخرى غير مشروعة " مثل التهريب‪ ،‬والسمسرة‪،‬‬
‫واألعمال الخدمية‪ ،‬واألنشطة االستهالكية‪ ،‬والمشاريع االقتصادية الوهمية‪ .‬وقد‬

‫‪22‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫شهدت هذه الطبقة ثراءاً فاحشاً واستف اززياً نظ أًر للدور المشبوه الذي كانت تقوم‬
‫به في االقتصاد القومي وخاصة بعد االنفتاح االقتصادي‪.‬‬
‫مكان الحدث‪:‬‬
‫يقع في منطقة "وسط البلد" التي تمثل المركز التجاري واالجتماعي‬
‫للقاهرة‪ ،‬حيث توجد المصالح الحكومية‪ ،‬والعمارات الشاهقة والمباني القديمة‬
‫التي يقترب طرازها المعماري من الطراز األوروبي الكالسيكي‪ ،‬وذلك عندما‬
‫كانت القاهرة نظيفة وخالية من الزحام والضوضاء وتتسم بالتناسق واالتساق‬
‫والخصوصية‪ ،‬حيث شيدت النخبة القديمة في مصر "وسط البلد" لتكون الحي‬
‫األوروبي للقاهرة‪ .‬وهذا المظهر الحضاري اختفى من منطقة " وسط البلد" ليطل‬
‫علينا منظر قبيح أخر جسده المخرج من خالل صوت الراوي وعين الكامي ار‬
‫السينمائية‪.‬‬
‫يبدأ العرض المسرحي بصوت الراوي الذي يصف أجواء " وسط البلد "‬
‫بتاريخها وشاعريتها‪ .‬ويستطرد صوت الراوي في رسم صور مفصلة‪ ،‬حيث رسم‬
‫المخرج خريطة للمكان بمساعدة عين الكامي ار السينمائية التي تجولت في شوارع‬
‫وميادين القاهرة‪ ،‬وهنا يتضح شيئين هما‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬مزج الواقع بإشارات ملحمية‪ ،‬حيث عمد المخرج على كسر اإليهام‬
‫المسرحي عن طريق االعتماد على صوت الراوي‪ ،‬وتوظيف الكامي ار السينمائية‪،‬‬
‫واستخدام المونتاج والتتابع الزمني للقطات ليعزف على أوتار القلوب الحزن‬
‫الساكن في األعماق لما ألت إليه مدينة القاهرة من تشوهات وعشوائية نتيحة‬
‫غياب الذوق والجمال‪ ،‬والتنسيق الحضاري‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫ثانياً‪ :‬هي المصادرة على خيال المتلقي باالستغناء عن الفضاء المتخيل عن‬
‫طريق تصويره‪ .‬فالمخرج ال يعني بوصف المكان فقط‪ ،‬ولكن يوصف‬
‫الشخصيات الدرامية بداخله‪.‬‬
‫تدور أحداث عرض مسرحية " وسط البلد " في إطار تشكيلي‬
‫سينجرافي يتسم باالنسجام والهارمونية‪ ،‬والجمال‪ ،‬حيث يكشف المنظر المرئي‬
‫لديكور العرض عن مستويين لخشبة المسرح‪.‬‬
‫المستوى األول رأسي‪ :‬نرى فيه شرفة يقترب طرازها من الطراز المعماري‬
‫لمباني " وسط البلد " مع مجموعة من النوافذ في الجهة المقابلة‪.‬‬
‫المستوى الثاني أفقي‪ :‬حيث يكشف المنظر المرئي عن أحد ممرات " وسط‬
‫البلد " الذي يحتوي على محل األنتيكات الذي يملكه ( عم خليل ) ومطعم‪،‬‬
‫ومقهى‪ ،‬ودكان فارغ‪.‬‬
‫عمق خشبة المسرح في الخلفية‪:‬‬
‫يوجد بانوراما إلحدى عمارات " وسط البلد " القديمة التي تصادر هي‬
‫األخرى على خيال المتلقي بسبب منظرها غير المالئم للمنظر المجسد‪ ،‬مما‬
‫تبعث في نفس المتلقي شعو اًر بالغربة مع المكان المسرحي الذي يستمر طوال‬
‫العرض‪.‬‬
‫تتأكد بطولة المكان من خالل استغراق المخرج في رسم تفاصيل المكان عن‬
‫طريق الكامي ار وصوت الراوي والشخصيات الدرامية‪ ،‬نفسها فالمكان يتسم‬
‫بالتلقا ئية الفطرية‪ ،‬كما تظهر بعض الشخصيات كجزء من تفاصيل المكان أكثر‬
‫من كونها شخصيات درامية مشاركة في الحدث الدرامي‪ ،‬مثل الراقصة ( ناني )‬
‫وفرقتها االستعراضية والشاعر الصعيدي‪ ،‬والفنان التشكيلي‪ ،‬وكذلك ( عم خليل‬

‫‪24‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫) صاحب محل األنتيكات الذي يسرد تاريخ الممر بتفاصيله الكثيرة والمتغيرة‬
‫عبر الزمن‪ ،‬وذلك في المشهد األول لظهوره‪ ،‬وهو نفس المشهد الذي تنتهي به‬
‫المسرحية دون أن تكون لشخصية ( عم خليل ) دور حقيقي ومؤثر في الدراما‪.‬‬
‫يعتمد المخرج على الصوت وليس على الراوي الحقيقي الذي يعتبر‬
‫جزءاً من المسرحية يؤدي دوره على خشبة المسرح‪ ،‬يعلق على الحدث ويفسر‬
‫ما كان وما يجب أن يكون‪ ،‬ولكن الراوي هنا بمعنى الصوت فقط‪ ،‬كما يستعين‬
‫بأشرطة سينمائية هي في حقيقتها جيدة ولكن المبالغة في السرد ضد أي دراما‪.‬‬
‫وال شك أن عملية الوصف التي قام بها صوت الراوي ال تُعد في جوهرها بنقل‬
‫األشكال واأللوان بقدر ما تعني تهيئة مخيلة الجمهور المتلقي ليقوم بإعادة‬
‫ترتيب هذه األشكال واأللوان حسب تلقيه‪ ،‬وفي إطار ربطها بالشخصيات التي‬
‫تتفاعل معها‪ .‬فمن خالل عنصر الوصف ينقل لنا المخرج ثقافة مجتمع حوى‬
‫كل الطبقات وتعامل وتفاعل معها‪ ،‬ولهذا فأن الممر ال يمثل موقعاً جغرافياً أو‬
‫إطار‪ ،‬لألحداث بقدر ما أصبح مكاناً له سيادة مطلفة في إنتاج الشخصيات‬
‫واألحداث فهو يسهم في خلق عالقات إنسانية تحمل أبعاداً فنية وفلسفية‬
‫وايديولوجية‪.‬‬
‫يتعرض المخرج للمكان من خالل وجهة نظر الشخصيات الناظرة إليه‪،‬‬
‫كما يعد اختيار أسماً حقيقياً للمكان من باب إيهام المتلقي بواقعية األحداث‬
‫ويعيد‬
‫وصدقها‪ ،‬ولكن يظل المكان في النهاية مكاناً متخيالً ُيبدعه المخرج ُ‬
‫تشكيل معالمه وفق رؤيته الخاصة‪ .‬فقيمة المكان وأهميته تعودان إلى كونه‬
‫حاوياً لبنية المسرحية‪ ،‬فهو ينسج عالقات نصية مع الشخصيات واألحداث‬
‫والزمن‪ ،‬حتى يتحول عن كونه مكاناً تدور فيه األحداث وتلتحم به الشخصيات‬

‫‪25‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫إلى فضاء حاوي لكل مكوناتها‪ .‬أي أن المخرج ال يتعامل مع المكان بحدوده‬
‫الجغرافية فحسب وانما يتعامل معه كحيز إنساني يشكل أنماطاً للعالقات‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫يتمتع المكان ( الممر ) بالثراء الداللي‪ .‬إذ يكون غنياً بالدالئل التي‬
‫تشير إلى مدلوالت تدل على عالقات المكان ( بالفعل‪ ،‬والفاعل‪ ،‬والزمان )‪ .‬وقد‬
‫حاول المخرج إيجاد عالقة سببية تربط بين األشكال في الفضاء المسرحي‪ ،‬تلك‬
‫األشكال التي يمتاز بعضها بالسكون وبعضها بالحركة‪ ،‬فقد أوجد عالقة بين‬
‫الممثل المتحرك واألرضية األفقية والمنظر الرأسي لخشبة المسرح‪ ،‬وذلك‬
‫بابتكار تصاميم وفق مفاهيم المكان‪ ،‬والكثافة والكتلة‪ ،‬وذلك بتوظيف برتيكابالت‬
‫ومنصات تربط بين المنظر المرسوم‪ ،‬واألرضية‪ ،‬وتسمح للممثل كي يتحرك‬
‫أفقياً وعمودياً‪.‬‬
‫فقد قسم المخرج خشبة المسرح إلى مستويين رأسي وأفقي‪ ،‬ومن خالل‬
‫هذا التقسيم يظهر الصراع الدرامي الذي يتمركز حول الممر‪.‬‬
‫فالمكان هنا يعبر عن الصراعات الداخلية والخارجية للشخصيات‬
‫الدرامية حيث يتحرك أبناء الطبقة الدنيا الفقيرة على المستوى األفقي لخشبة‬
‫المسرح‪ ،‬بينما يتحرك أبناء الطبقة العليا األرستقراطية على المستوى الرأسي‬
‫لخشبة المسرح‪ ،‬في بداية العرض تظهر شخصية ( ليلى ) كفتاة تنتمي للطبقة‬
‫العليا على المستوى الرأسي لخشبة‬ ‫العليا األرستقراطية من خالل الشرفة‬
‫المسرح حيث تتحدث إلى ( حمدي ) الشاب اإلنتهازي والذي ينتمي إلى الطبقة‬
‫الدنيا المرتبطة بأرض الممر‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫تمثل شخصية ( ليلى ) وشقيقها ( نيازي ) نموذجاً ألبناء طبقة اجتماعية جاهلة‬
‫ثقافياً‪ .‬ولكنها ذات وجاهة مالية اجتماعية شكلية وحولهما عدد من نوعيتهما‬
‫يشاركونهما السطحية ( فليلي ) مثال للفتاة المدللة وأخيها ( نيازي ) ال يعرف‬
‫معنى لحياته إال في صاالت الديسكو‪.‬‬
‫يتبلور الصراع الطبقي بين ( حمدي وأصدقائه ) من ناحية وعائلة (‬
‫ليلى ونيازي) من ناحية أخرى‪ .‬وذلك من خالل حركة الشخصيات على أرضية‬
‫الممر فالممر يتجاوز كونه مكاناً لبؤرة الحدث ليتحول إلى متحدث رسمي‬
‫وشاهد عيان على التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري‪ ،‬جاعالً من‬
‫ساكنية أبطاالً يعبرون من خالل عالقتهم بالمكان عن أزمة هذه الشخصيات‪،‬‬
‫حيث يزحف (حمدي ) بطبقته الدنيا من الجهة اليمنى لخشبة المسرح متجه ًا‬
‫إلى اليسار ومقترباً شيئاً فشيئ ًا من الطبقة العليا األرستقراطية (عائلة ليلى‬
‫ونيازي) بينما تتراجع الطبقة األخيرة إلى الجهة اليسرى تجاه المطعم الذي‬
‫يمتلكونه‪.‬‬
‫في المساحة الوسطى بين الجهتين تتشابك العالقات الدرامية بين‬
‫الطبقتين على أرضية الممر‪ .‬وهنا نجد داللة وتأكيداً للصراع الدرامي بين‬
‫الطبقتين من خالل توظيف تقنيات اإلضاءة‪ ،‬والظالل والتكوينات اللونية‬
‫وتوظيف اللون األحمر للداللة والتأثير على مشاعر وأحاسيس المتلقي وكذلك‬
‫تأكيد صفات الزمان والمكان والحدث الدرامي‪.‬‬
‫يزحف ( حمدي ) الشاب الجاهل ومجهول النسب والذي ينتمي إلى‬
‫الطبقة الدنيا إلى الممر‪ ،‬في البداية كسمسار ال يملك سوى كرسي بجوار منزل‬
‫عائلة (ليلى ) ثم يتحايل عليها ليسيطر في البداية على الدكان الفارغ الذي‬

‫‪27‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫تملكه أسراتها مستغالً عطفها وشفقتها عليه‪ .‬ثم يبدأ ( حمدي ) في التوسع‬
‫ليستولي بعد ذلك على المقهى متحايالً ليسيطر رويداً رويدا على الممر بأكمله‪،‬‬
‫ثم يمتلك (حمدي ) المال عن طريق زواجه من أمرآة أكبر منه‪ .‬في سن والدته‬
‫هي ( أم رمضان ) ليستغل أمالكها في مشاريعه معتمداً على االستفادة من‬
‫التحوالت االقتصادية لفترة االنفتاح وما بعدها‪.‬‬
‫والشك أن تفشي ظاهرة االنفتاح االقتصادي كانت سبباً في زلزلة كيان‬
‫المجتمع المصري واتساع الفجوة بين قلة غنية وكثرة فقيرة‪ ،‬وما رافق ذلك من‬
‫انحدار للقيم وانتشار للرشوة والفساد والمحسوبية‪.‬‬
‫في الحقيقة هناك أشخاص ونماذج بشرية دالة في جوهرها على ألوان‬
‫هذه الفترة االنتهازية أكثر من كونها شخصيات من لحم ودم وذات أبعاد إنسانية‬
‫محددة‪ .‬فكما يخلق المكان الشخصية‪ ،‬فإن الشخصية قد تفيد في صياغة‬
‫المكان بما يتناسب مع طبيعة التحول االجتماعي والسياسي‪ ،‬األمر الذي يترتب‬
‫عليه ظهور شخصيات ذات صبغة اجتماعية معينة تصاعدت مع قوانين‬
‫االنفتاح االقتصادي‪ .‬فشخصية ( حمدي ) تمثل صوت وصورة األيديولوجية‬
‫التي تبناها مجتمع تلك الفترة ( فحمدي ) ذو عقلية تشكلت وفقاً إلطار الفلسفة‬
‫البراجماتية ( المنفعة ) والسياسية ( الميكافيلية ) الغاية تبرر الوسيلة –‬
‫مستخدماً كافة طرق التحليل ومظاهر الضعف اإلنساني والشفقة لالستحواذ‬
‫على ما يريده‪ُ .‬يالحظ الباحث أن شخصية ( حمدي ) االنتهازية وهي أكثر‬
‫الشخصيات الدرامية امتالكاً وسيطرة على المكان‪ .‬ورغم اهتمام المخرج برسم‬
‫تفاصيلها إال أنها جاءت مفروضة على الحبكة الدرامية وحتى مع المساحة‬
‫الكبيرة للشخصية على مستوى العرض‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫فالحدث الدرامي يتطور من خالله عالقة الحب التي جمعت بين (هناء‬
‫) أبنة الطبقة العليا األرستقراطية‪ ،‬وبين ( رمضان ) ابن بائعة الكشري والذي‬
‫ينتمي إلى الطبقة الدنيا الفقيرة ويرى الباحث أن إقحام ( حمدي ) على العالقة‬
‫بين ( هناء ) و( رمضان ) ورفضه لعالقتهما جاء غير مبرر درامياً وغير‬
‫مقنع ( فرمضان ) ليس إال صديق يتردد على المقهى الذي يمتلكه (حمدي )‪،‬‬
‫كما أن شخصية ( حمدي ) االنتهازية المتسلطة من المفترض أنها ترى في‬
‫زواج (رمضان ) من ( هناء ) مكسباً وصعوداً لطبقته ومحاولة إلزالة الفوارق‬
‫بينهما تماماً‪ ،‬كما فعل هو أيضاً بزواجه من ( أم رمضان )‪.‬‬
‫ويرى الباحث أن ( حمدي ) ربما ألنه أصبح يمتلك المال فقد اعتقد أنه‬
‫صعد إلى الطبقة العليا الغنية‪ ،‬ومن ثم بدأ يتنكر من أبناء طبقته الدنيا‪.‬‬
‫يعتمد المخرج في تطوير صراعه حول المكان ( الممر ) على‬
‫المشهدين الرئيسيين من مسرحية ( روميو وجولييت ) للكاتب اإلنجليزي ( وليم‬
‫شيكسبير) وهما مشهد الشرفة‪ ،‬ومشهد المقابر‪.‬‬
‫يبتعد المخرج عن واقعية المكان في طرح األحداث الدرامية حيث يجسد‬
‫مشهد الشرفة من خالل لعبة التمثيل داخل التمثيل أو المسرح داخل المسرح‬
‫لبرانديلو‪.‬‬
‫تعلب ( هناء ) دور جولييت ويلعب ( رمضان ) دور روميو مع‬
‫االستعانة بأزياء القرن السابع عشر الميالدي واستخدام الشرفة المرتفعة‬
‫والمجسدة على الخشبة‪ ،‬وعلى كرسي يقف عليه روميو كمحاولة للصعود من‬
‫المستوى األفقي إلى المستوى الرأس لخشبة المسرح‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫تفاعلت الموسيقى الحالمة بشكل إيجابي مع السينوجرافيا الممثلة في األزياء‬


‫والديكور واإلضاءة الموحية‪ ،‬كما ساهمت الحركة االستعراضية لمجموعة من‬
‫الراقصين والراقصات في أثراء ما يعرض على خشبة المسرح من مادة درامية‪.‬‬
‫مع تغير المنظر المسرحي وانتقال مكان الحدث إلى المقابر‪ ،‬ورغم‬
‫الكثافة الشعورية المتدفقة التي تحملها حوارات المحبين والتي أظهرت الجانب‬
‫الخفي من شخصية كل منهما‪ ،‬تكتشف (هناء) بأن ( رمضان ) ما هو إال‬
‫إنسان تافه (وبايخ) على حد تعبيرها وفي المقابل يكتشف (رمضان) مدى‬
‫سذاجة ورفاهية ( هناء ) فيقر ار االنفصال االختياري‪ ،‬وعلى الرغم من أن الدفاع‬
‫وراء االنفصال ال يتسم بالقوة وغير مدعم درامياً‪ ،‬إال أنه جاء مالئماً للفكرة التي‬
‫يطرحها العرض‪.‬‬
‫لم تجد أسرة ( ليلى ونيازي ) وخاصة بعد أن زحف ( حمدي ) وفرض‬
‫سيطرته على الممر سوى التمسك بأخر ما تملكه وهو ( المطعم ) الذي يمثل‬
‫أخر مصدر للرزق وملجأ أخي اًر لهم‪.‬‬
‫يالحظ الباحث أن الرؤية اإلخراجية لمشهد المقابر قد اعتمدت على‬
‫األداء التمثيلي دون توظيف أية معادالت جمالية‪ .‬بمعنى أن اإلضاءة‬
‫والموسيقى لم تُعبر عن الحالة النفسية للشخصيات وما يدور بداخلها من‬
‫انفعاالت وأحاسيس تكشف عن انتزاع قناع الحب المزيف بينهما‪.‬‬
‫ولكن على الرغم من ذلك فقد وفق المخرج في اختيار المقابر كمكان‬
‫الحدث الدرامي‪ ،‬وكمكان لكشف االختالف الجوهري والطبقي بين المحبين‬
‫كفضاء مرئي‪ ،‬ذلك ألن القبر هو رمز وداللة على الموت‪ ،‬فالموت ُيعد هو‬
‫الحقيقة الوحيدة التي ال تقبل الزيف أو الخداع‪ ،‬كذلك فإن توظيف الممر كمكان‬

‫‪30‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫رئيسي لحدث الدرامي يمثل تناقضاً مع المقابر‪ .‬فالممر هو رمز للحياة‬


‫وباعتبارة مكاناً للخروج والعبور واالنتقال من حالة إلى حالة ومن موقف إلى‬
‫موقف أخر‪ ،‬وهوما يعني في المسرحية االنتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة‬
‫اجتماعية أخرى مما يعطي توازناً بين المكان كمعنى تعبيري وبين الفكرة‬
‫الرئيسة للعرض‪.‬‬
‫إذا كان المخرج قد ُوفق في طرح رؤيته ككاتب درامي‪ ،‬فإنه عمل على‬
‫إظهار رؤيته اإلخراجية وتأكيدها في كل مشهد وذلك على النحو األتي‪.‬‬
‫* عمل على المزج بين عدة مناهج مسرحية إال أنه لم يستطع صهرها معاً‬
‫في قالب واحد‪ .‬فقد اعتمد على كسر اإليهام المسرحي عن طريق السرد على‬
‫حساب الدراما‪ ،‬واالعتماد على عنصر صوت الراوي والزمن الماضي‪ ،‬وضمير‬
‫الغائب‪ ،‬واللقطة العامة بواسطة الكامي ار السينمائية‪ ،‬فوجدنا كل مشهد قائم بذاته‪.‬‬
‫كذلك اعتمد المخرج على تقنيات التركيب‪ ،‬والمونتاج‪ ،‬والتوليف كأسلوب بريختي‬
‫ملحمي‪ ،‬ولكن مع كل ذلك فقد كان يقوم بتغيير الديكور في الظالم‪.‬‬
‫* في مشهد الشرفة لوليم شيكسبير وظف نموذج من مسرح لويجي بيرانديلو‬
‫(التمثيل داخل التمثيل أو المسرح داخل المسرح)‪.‬‬
‫* وظف المخرج الديكور المسرحي مستخدماً عدة مناهج ففي المشهد األول‬
‫وظف ديكو اًر واقعياً وكذلك في مشهد الشرفة‪.‬‬
‫* بينما مشهد المقابر فقد وظف ديكو اًر تجريدياً عبارة عن لوحتان منحوتتان‪.‬‬
‫* في مشهد الشرفة تفاعلت الموسيقى والديكور واإلضاءة مع الحدث الدرامي‪،‬‬
‫وساهمت في إثراء ما يعرض على الخشبة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫* بينما في مشهد المقابر لم تعبر تقنيات الموسيقى واإلضاءة عن الحالة‬


‫النفسية للشخصيات وما يدور بداخلها من انفعاالت وأحاسيس‪.‬‬
‫تنوعت دالالت أسماء الشخصيات الدرامية في العرض المسرحي وذلك على‬
‫النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪ -‬حرص الكاتب الدرامي على اختيار أسماء شعبية للشخصيات الدرامية‬
‫التي تنتمي إلى الطبقة الدنيا الفقيرة مثل ( رمضان‪ ،‬حمدي‪ ،‬عم خليل‪،‬‬
‫أم رمضان ) داللة وتعبي اًر عن هذه الطبقة االجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬حرص الكاتب الدرامي على اختيار اسماء للشخصيات الدرامية التي‬
‫تعبر عن الطبقة العليا األرستقراطية مثل ( ليلى‪ ،‬نيازي‪ ،‬هناء )‪.‬‬
‫‪ -‬كذلك لم يستخدم الكاتب الدرامي أسماء للشخصيات الدرامية التي لعبت‬
‫أدوار الفنانين في العرض‪ ،‬مثل الشاعر الصعيدي‪ ،‬الفنان التشكيلي‪،‬‬
‫والراقصة االستعراضية مما يعطي داللة على عدم وجود هوية للفن‬
‫في تلك الفترة والتي تحول فيها المسرح إلى مسرح تجاري يخاطب‬
‫الغرائز ويعتمد على الكوميديا الهابطة التي تتناسب وعقلية ومزاج‬
‫السائح العربي‪.‬‬
‫نتائج الدراسة التحليلية‪:‬‬
‫‪ -1‬برزت جغرافية المكان من خالل تقسيم خشبة المسرح إلى مستوى‬
‫رأسي ومستوى أفقي‪ ،‬وعمق في خلفية البانوراما‪ .‬فأعطى المكان‬
‫دالالت مضافة ومتعارف عليها ساهمت في إبراز فكرة العرض‬
‫وكشفت عن تعدد الصراع الدرامي على مستوى المكان والحدث‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫ال أساسياً في العرض المسرحي‪ .‬فقد‬


‫‪ -2‬شكلت دالالت المكان عام ً‬
‫استفاض المخرج في رسم تفاصيل المكان المتمثل في الممر‪ ،‬وذلك‬
‫عن طريق صوت الراوي والشخصيات الدرامية‪ ،‬وعين الكامي ار‬
‫السينمائية مما أعطى داللة ألهمية المكان وأكد أنه البطل الرئيس‬
‫للعرض المسرحي‪.‬‬
‫‪ -3‬عبر المكان عن داللة الصراع الطبقي‪ ،‬ومن خالل حركة الشخصيات‬
‫الدرامية على أرضية الممر‪ ،‬فتحرك أبناء الطبقة الدنيا على المستوى‬
‫األفقي‪ ،‬بينما تحرك أبناء الطبقة العليا على المستوى الرأسي لخشبة‬
‫المسرح وتشابكت العالقات الدرامية بين الطبقتين في المسافة الوسطى‬
‫بين الجهتين‪.‬‬
‫‪ -4‬أتاح التنوع الداللي في تحوالت المكان رؤية جمالية‪ ،‬ساهمت في‬
‫تفعيل الخطاب الدرامي وأثرت في أداء الشخصيات التي تعاملت مع‬
‫مفردات المكان‪ .‬ليس كونها مفردات واقعية بل مفردات تعبيرية قابلة‬
‫للتحول كما في مشهدي الشرفة والمقابر‪.‬‬
‫‪ -5‬تفاوت مستوى المكان التعبيري ومستوى تنوعه الداللي داخل العرض‬
‫المسرحي مما أدى إلى تعدد أساليب المخرج في التعامل مع مفردات‬
‫المكان‪ .‬فمنها ما ظل ضمن تصوراته األيقونية‪ ،‬ومنها ما تحول إلى‬
‫عالمات اشارية أو رمزية‪.‬‬
‫‪ -6‬اختيار الممر كمكان رئيس للحدث الدرامي‪ ،‬أعطى داللة على أن‬
‫السيطرة واالستحواذ عليه هو الطريقة الوحيدة للعبور واالنتقال من‬
‫طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫‪ -7‬قام المخرج بالمزج بين عدة مذاهب مسرحية‪ .‬إال أنه لم يستطع صهرها‬
‫في قالب واحد أبرز هذه المذاهب هو المسرح الملحمي التعليمي‬
‫لبرتولت بريخت‪ ،‬ومسرح لويجي بيرانديلو (المسرح داخل المسرح)‪،‬‬
‫كذلك المذهب الواقعي لستانسالفسكي‪.‬‬
‫‪ -8‬ساهمت تقنيات اإلضاءة المسرحية وتكويناتها اللونية في إعطاء‬
‫دالالت عديدة داخل العرض المسرحي‪ .‬منها أنها كشفت عن جغرافية‬
‫المكان وتأكيد صفتي الزمان والحدث الدرامي وما يدور داخل‬
‫الشخصيات الدرامية من مشاعر وانفعاالت‪.‬‬
‫‪ -9‬تفاعلت الموسيقى والديكور والحركة المسرحية واالستعراضية في إثراء‬
‫ما يعرض على خشبة المسرح من مادة درامية‪ .‬وخاصة في مشهد‬
‫الشرفة‪ ،‬كما أعطت دالالت جمالية وتشكيلية ساعدت على إضافة‬
‫عنصر الجمال واإلبهار للعرض المسرحي‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ -1‬مروة مهدي‪ :‬البطل المكان وسط البلد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مجلة المسرح الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب‪ ،‬العدد ‪ 166 ،165‬إغسطس‪ ،‬وسبتمبر‪،‬‬
‫‪ ،2002‬ص‪.112 ،‬‬
‫‪ -2‬جيمس ميروند‪ :‬الفضاء المسرحي‪ ،‬ترجمة محمد السيد وأخرون‬
‫اصدارات مهرجان‪ ،‬القاهرة الدولي للمسرح التجريبي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الدورة‬
‫الثامنة‪ ،1996 ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ -3‬رضا غالب‪ :‬تنظيرات الهوية المسرحية العربية في سياق التاريخ‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬و ازرة الثقافة‪ ،‬المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون‬
‫الشعبية‪ ،‬دراسات في المسرح المصري‪ ،‬العدد‪ ،2009 ،18‬ص‪.175‬‬
‫‪ -4‬جوليان هلتون‪ :‬نظرية العرض المسرحي‪ ،‬ترجمة نهاية صليحه‪،‬‬
‫الشارقة‪ ،‬مركز الشارقة لإلبداع الفكري ‪ ،2001‬ص ‪.39‬‬
‫‪ -5‬يعقوب الشاروني‪ :‬الدور التربوي لمسرح الطفل‪ ،‬الحلقة الدراسية حول‬
‫مسرح الطفل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪1977‬م‪ ،‬ص‬
‫‪.177‬‬
‫‪ -6‬زينب فرغلي‪ :‬المكان بين الواقع والفن‪ ،‬الدوحة قطر‪ ،‬مجلة الجسرة‬
‫الثقافية العدد‪ ،21‬ربيع ‪ 2010‬ص‪.180 ،‬‬
‫‪ -7‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‬
‫الدار البيضاء ‪1990‬م‪ ،‬ص ‪.1‬‬
‫‪ -8‬هاني أبو الحسن سالم‪ :‬سيميولوجيا المسرح بين النص والعرض دار‬
‫الوفاء للطباعة‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،2006 ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪35‬‬
‫داللة المكان في عرض مسرحية " وسط البلد " "دراسة تحليلية"‬

‫‪ -9‬المعجم الوجيز‪ :‬القاهرة‪ ،‬مجمع اللغة العربية مادة ( دل ) ‪1990‬م‪،‬‬


‫ص ‪.132‬‬
‫‪ -10‬كمال الدين عيد‪ :‬إعالم ومصطلحات المسرح األوروبي اإلسكندرية‪،‬‬
‫دار الوفاء للطباعة‪ ،2006 ،‬ص‪.680‬‬
‫‪ -11‬صبري عبد العزيز‪ :‬القيم التشكيلية في الصورة المرئية المسرحية‬
‫القاهرة‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،2001 ،‬ص‪.93‬‬
‫‪ -12‬ميخائيل باختيين‪ :‬أشكال الزمان والمكان في الرواية‪ ،‬ترجمة يوسف‬
‫عالف‪ ،‬دمشق‪ ،‬منشورات و ازرة الثقافة‪1990 ،‬م‪ ،‬ص ‪.335‬‬
‫‪ -13‬أحمد السيد بخيت‪ :‬شخصية الفالح في المسرح المصري رسالة‬
‫ماجستير كلية التربية النوعية‪ ،‬جامعة عين شمس‪ ،2007 ،‬ص‪.226‬‬
‫‪ -14‬عبد المنعم عثمان‪ :‬الديكور المسرحي والتشكيل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سان بيتر‬
‫للطباعة‪ ،2001 ،‬ص ‪.7‬‬

‫‪36‬‬

You might also like