Professional Documents
Culture Documents
إن ربي رحيم ودود
إن ربي رحيم ودود
فاتن صبري
(اإلنسان)9: 1
ولكن هللا جل جالله غني عنا ،فحبه لنا حب تفضل ورحمة ،حبُّ قويٍّ لضعيف ،وحب غني لفقير ،وحب قادر
عظيم لصغير ،وحب حكمة.ٍ لعاجز ،حبُّ
قالت :كيف هذا؟
ت واثقة تماما من حكمة
قلت لها :أال تأخذي بيد طفلك الصغير بكل حب إلى غرفة العمليات ليشقوا بطنه ،وأن ِ
الطبيب وحبه للصغير وحرصه على نجاته.
قالت :كيف يُحبهم وهو يُقيد حريتهم) وال يسمح لهم بأن يفعلوا ما يحلو لهم؟ ألم تسمعي بالفردانية؟ ألم تسمعي
بهذا المفهوم المتطور )،وهو أن قرارات الفرد يجب أن تكون مستندة على منفعته ومتعته الشخصية وهو مركز
االهتمام الرئيسي ،أي أن مصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات البلد وتأثيرات ال ُمجتمع والدين ،وتسمح له
بتغيير جنسه ،ويفعل ما يحلو له ،ويرتدي) ويتصرف) في الطريق كما يُريد ،فالطريق للجميع.
قلت لها :وهل تسمحين ألطفالك بفعل ما يحلو لهم بذريعة حبك لهم؟ هل تسمحي البنك الصغير أن يُلقي بنفسه
من نافذة المنزل أو يلعب بسلك الكهرباء المكشوف؟
قلت لها :عبارة الطريق) للجميع صحيحة لكن فهمك لها خاطئ ،لو كنت تسكنين مع مجموعة من األشخاص
في منزل واحد مشترك ،هل كان سيعجبك تفسيرك لهذه العبارة؟ هل كنت ستقبلين بأن يقوم أحد شركائك في
المنزل بعمل مشين كقضاء الحاجة في صالة المنزل بحجة أن المنزل للجميع؟ هل ستقبلين الحياة بهذا المنزل
بدون قوانين وال ضوابط تحكمها؟ فاإلنسان بالحرية ال ُمطلقة يصبح كائن قبيح ،وكما ثبت بما ال يدع مجاال
للشك أنه عاجز على تحمل هذه الحرية.
الفردانية ال يمكن لها أن تكون هوية بديلة عن الهوية الجامعة مهما كانت قوة الفرد أو نفوذه .أفراد المجتمع
طبقات ال يصلح بعضها إال ببعض ،وال غنى لبعضها عن بعض .فمنهم الجنود واألطباء) والممرضون،
والقضاة ،فكيف يتسنى ألي منهم أن يُغلب منفعته ومصلحته الشخصية على اآلخرين ليحقق سعادته ،ويكون
هو مركز االهتمام الرئيسي؟)
قالت :وكيف تتحقق السعادة إذاً؟
قلت لها :السعادة في الفردانية ،هي االنتصار ،الهيمنة وامتالك التكنولوجيا .لكن السعادة في اإلسالم ،هي
القلب المطمئن ،الزواج الناجح ،المسكن الواسع ،الجار الصالح ،المركب المريح ،المشاركة والتعاون.
وق))د جعلت الحض))ارة اإلس))المية وال))تي تش))كلت من م))زيج من مختل))ف الش))عوب والقبائ))ل الفرداني))ة كالرس)م)
البياني ،فجعلت حساب وجزاء ،واجبات وحقوق ،وكما يقع على الفرد العقاب أيضا ً يُكافأ ،ولقد ح))رر اإلس))الم
أيضا ً الفرد من العصبية القبلية وأعاده إلى الفطرة السليمة ،كمدني اجتماعي ،يعيش في جماعة تحترمه وتُق))در
إمكانيته التفكيرية وقدرته على التعايش مع اآلخرين ،فاألمة ال ُمتطلعة للتقدم وال))تي تتب))نى ه))دفا ً س))امياً ،تنطل)ق)
من مفهوم الكيان الواح)د ،فلك)ل ف)رد اجته))اده وأفك))اره وقدرات))ه ،لكن التط))بيق يحت))اج إلى الجماع))ة ،وبالت))الي
يتساوى الجميع هنا حسب ما قدمه كل فرد ).وبذلك يكون اإلسالم قد حدد عالقة الفرد ب))ال ُمجتمع ،وأوض))ح ب))أن
الفرد ليس سوى) جز ٍء صغير ال يتجزأ من الهوية الجماعية ال))تي ب))دورها تكف))ل ض))بط إيق))اع الحي))اة .مم))ا أنتج
مجتمعا ً مستقراً وآمناً ،ألنه كلما اختل التوازن بين الطبقات ،ستظهر) الصراعات ،ويُفتقد الرض))ا في ال ُمجتم))ع.
فلم يعد المال هو المعيار األعلى الذي يُميز مالكه عن اآلخرين ،وال بالمال تتحقق القوة وقيادة العالم .القائد في
النظ))ام اإلس))المي ال يُقيَّم بم))ا يمل))ك من م))ال ،لكن بم))ا لدي))ه من ِعلم وأخالق وع))دل ،وبه))ذه الص))فات وح))دها
استطاعوا سابقا ً التقدم وتحقيق االنتصارات).
قال الرسول) صلى هللا عليه وسلم:
"مثل المؤمنين في توادهم) وتراحمهم) وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى".2
قالت :الفردانية ترتبط بالشذوذ) الجنسي بشكل مباشر ،فلماذا ال تُحبون الش))اذ جنس))ياً ،فم))ا لدي))ه من ُمي))ول ،ه))و
مسألة جينية طبيعية ،و ُميول) طبيعي ،ويجب أن نحترمه.
قلت لها :وهل تحترمي) ُميول السارق) إلى السرقة؟ فهذا أيضا ً ُميول ،ولكنه في الحالتين ُميول غير طبيعي ،إنه
خروج على الفطرة البشرية ،واعتداء على الطبيعة ،ويجب أن يُق َّوم.
لقد خلق هللا اإلنسان وهداه إلى الطريق) السليم ،ولديه حرية االختيار بين طريق) الخير وطريق الشر.
" َو َه َد ْينَاهُ النَّ ْج َد ْي ِن "( . البلد)10 :
ولذلك نجد أن المجتمعات التي تُحرِّم المثلية نادراً ما يظهر فيها هذا الشذوذ ،والبيئة التي تُبيح وتُشجع على
هذا السلوك ،تزداد فيها نسبة المثليين ،مما يدل على أن الذي يُحدد احتمال الشذوذ) لدى اإلنسان ،هو البيئة
والتعاليم ال ُمحيطة به.
ولذلك قال تعالى عن قوم) لوط:
ش ْه َوةً الر َجا َل َ سبَقَ ُك ْ;م بِ َها ِمنْ َأ َح ٍد ِمنَ ا ْل َعالَ ِمينَ (ِ )80إنَّ ُك ْ;م لَتَْأتُونَ ِّ
شةَ َما َ " َولُوطًا ِإ ْذ قَا َل لِقَ ْو ِم ِه َأتَْأتُونَ ا ْلفَ ِ
اح َ
اب قَ ْو ِم ِه ِإاَّل َأنْ قَالُوا َأ ْخ ِر ُجو ُه ْم ِمنْ قَ ْريَتِ ُك ْم ِإنَّ ُه ْم
س ِرفُونَ (َ )81و َما َكانَ َج َو َ سا ِء بَ ْل َأ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم ُم ْ
ِمنْ دُو ِن النِّ َ
اس يَتَطَهَّرُونَ (( . " )82األعراف)82 – 80 : ُأنَ ٌ
هذه اآلية تؤكد أن الشذوذ ليس وراثياً ،وليس من أصل تركيب الشفرة الوراثية لإلنسان ،ألن قوم لوط هم أول
من ابتدع هذا النوع من الفاحشة .وهذا يتطابق مع أوسع دراسة علمية ،والتي تُؤكد أن الشذوذ) الجنسي ال
عالقة له بالجينات الوراثية.3
إن هوية اإلنسان تتغير في كل لحظة ،حسب مشاهدته للفضائيات ،أو استخدامه للتكنولوجيا أو تعص))به لفري))ق
كرة قدم مثالً ،فالعولمة صنعت منه إنسانا ً معقدا .فالخائن أصبح صاحب وجه))ة نظ))ر .والش))اذ) أص))بح ص))احب
سلوك طبيعي ،وأصبح لديه الصالحية القانونية للمشاركة في نقاشات علنية ،بل وعلينا دعمه والتص))الح مع))ه.
وأصبحت الغَلبة لمن لديه التكنولوجيا ،فإذا كان الشاذ هو الط))رف ال))ذي يمتل))ك أس))باب الق))وة ،فس))يفرض على
الطرف اآلخ)ر قناعات)ه .مم)ا أدى إلى إفس)اد) عالق)ة اإلنس)ان بنفس)ه وب ُمجتمع)ه وبخالق)ه .وبارتب)اط الفرداني)ة
بالشذوذ الجنسي بشكل مباشر ،تالشت هنا الفط)رة اآلدمي)ة ال)تي ينتمي له)ا الجنس البش)ري ،وس)قطت مف)اهيم
العائل))ة الواح))دة ،فب))دأ الغ))رب بوض))ع حل))ول للتخلص من الفرداني))ة ،ألن االس))تمرار به))ذا المفه))وم سيُض))يع
المكاسب الذي حققها اإلنسان ال ُمعاصر )،كما أضاع مفهوم العائلة ،وبالتالي) م)ا زال الغ)رب ح)تى الي)وم يُع)اني
من ُمشكلة تقلص أعداد األفراد) في ال ُمجتمع ،والذي أدى إلى فتح األبواب الستقطاب ال ُمهاجرين.4
كانت ال ُمدرِّ سة قد أكملت حوارها معي قائلة :وكيف تتطور) دول ُملحدة وتتخلف دول مؤمنة باهلل ،على الرغم
من حُبه لهم.
قُلت لها :وهل يُعطي ُمدير المدرسة البنه الفاشل شهادة النجاح ،ل ُمجرد أنه ابنه فقط؟ هناك قوانين وأنظمة
يجب أن تُتبع في هذه المدرسة ،ويُح َّدد بنا ًء عليها الناجح والراسب .لكن هذا ال يُغير واقع أن مدير المدرسة
يحب ابنه أكثر من الجميع وهو حامل اسمه ووريثه الوحيد).
قلت لها :فالكون كالمدرسة له قوانينه وسُننه ،ولقد حقق غير المؤمنين التقدم المادي والتطور التكنولوجي
بسبب أخذهم بالقوانين الكونية والسنن اإللهية ،ومن ثم استطاعوا بناء أنظمة سياسية جيدة ،وأنظمة تعليمية
وتربوية قوية وذات معايير) منهجية .وكان هذا التقدم المادي فقط لمن أخذ منهم بزمام السنن اإللهية والقوانين
الكونية ،وهذا دليل على أن النجاح الدنيوي ال يُحابي أبيض وال أسود ،والعدل من أسمائه عز وجل ،والظلم
من أقبح ما حذرنا هللا منه .ولكن مع هذا فاهلل لن يُعط غير المؤمن اآلخرة التي هي لعباد هللا المؤمنين وأحبائه.
قال رسول) هللا صلى هللا عليه وسلم:
)ر ِة ،وأ َّما الك))افِ ُر في ْ
ُط َع ُم حس )نَةً ،يُ ْعطَى علَيْه))ا في ال))دنيا ويُث))ابُ عليه))ا في اآل ِخ) َ "ِإ َّن هللاَ تع))الى ال يِ ْ
ظلِ ُم الم))ؤ ِمنَ َ
اآلخر ِة لم تكنَ لَهُ حسنةٌ يُ ْعطَى) بِها خيرًا" .
5
ِ بِ َح َسناتِ ِه في الدنيا ،حتى إذا أفضى إلى
فاهلل تعالى يُعطيهم في الدنيا ما يستحقونه باعتبار ما عندهم من خير وما يبذلونه من حق.
كما أن هللا تعالى قد ينصر) أمة كافرة على أمة مسلمة ،عقوبة لها على معاصيها ،كما حدث بغزوة أحد.
َص ْيتُ ْم ِمنْ بَ ْع ِد َما َأ َرا ُك ْم َما سونَ ُه ْم بِِإ ْذنِ ِه َحتَّى ِإ َذا فَ ِ
ش ْلتُ ْم َوتَنَازَ ْعتُ ْم فِي اَأْل ْم ِر َوع َ ص َدقَ ُك ُم هَّللا ُ َو ْع َدهُ ِإ ْذ ت َُح ُّ
" َولَقَ ْد َ
ص َرف ُك ْم َع ْن ُه ْم لِيَ ْبتَلِيَ ُك ْم( ." آل عمران)152 : َ ُ
تُ ِحبُّونَ ِم ْن ُك ْم َمنْ يُ ِري ُد ال ُّد ْنيَا َو ِم ْن ُك ْم َمنْ يُ ِري ُد اآْل ِخ َرةَ ث َّم َ
( 7رواه البخاري)
وأذكر قصة لي مع ممثل هندي شهير ،كان قد اعتنق الهندوسية مؤخراً ،وفي أثناء حواري معه وفريق) عمله،
عن رحمة هللا وحبه لعباده ،قال أحدهم لي :كيف يصف هللا نفسه بالغفور الرحيم تارة ،وشديد العقاب تارة
أخرى؟ قلت له :هللا غفور رحيم مع أصحاب الذنوب التي تُرتكب دون إصرار وبحكم) بشرية اإلنسان
وضعفه ،وال يقصد بها تحدي الخالق ،لكنه تعالى يقصم من يتحداه ويُنكر) وجوده ،أو يُصوره في صنم أو
حيوان ،فقاطعني ال ُممثل بصورة غير الئقة وقال :هذه صغائر) وهللا ال يهتم بها.
قلت له :إنك لو شتمت حيوان فلن يلومك أحد ،أما أن تشتم والديك ،فسوف) تُالم وبشدة .ال تنظر) إلى ِ
صغر
المعصية ،لكن انظر َمن عصيت.
استطرد األمريكي) قائال :كيف يُعاقب الخالق عباده بعذاب ال ينتهي ،على معاص قليلة ،كان قد ارتكبها في
حياته القصيرة.
قلت له :إﻥ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺗصل بأﺻﺤﺎﺑﻬﺎ إﻟﻰ ﺣُﻜﻢ ﺍﻟ ُﻤﺆﺑﺪ .ﻓﻬﻞ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﻳﻘﻮﻝ أﻥ ﺣُﻜﻢ ﺍﻟ ُﻤﺆﺑﺪ ظُلم ،ألﻥ
ﺍﻟﻤﺠﺮﻡ ﺍﺭﺗﻜﺐ ﺟﺮﻳﻤﺘﻪ ﺑﺪﻗﺎﺋﻖ ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ؟ ﻫﻞ ﺣُﻜﻢ العشر ﺳﻨﻮﺍﺕ ﺣُﻜﻢ ﻇﺎﻟﻢ ،ﻷﻥ ﺍﻟ ُﻤﺠﺮﻡ ﻟﻢ ﻳﺨﺘﻠﺲ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻮﺍﻝ
إﻻ ﺳﻨﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ فقط .إﻥ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺎﺕ ﻻ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺪﺓ ﺍﺭﺗﻜﺎﺏ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺑﻞ ﺑﺤﺠﻢ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﻭﻓﻈﺎﻋﺘﻬﺎ).
واستطرد) األمريكي حواره معي قائالً :ولماذا كرر اإلله التحذير من النار ،أال يدل ذلك على عدم رحمته وعدم
محبته لنا؟
قلت له :أنا ُأرهق أوالدي بكثرة تنبيهي) لهم كلما سافروا أو ذهبوا إلى العمل ،أن يأخذوا حذرهم في ذهابهم
وإيابهم ،فهل تعتبرني ُأما ً قاسية؟ هذا قلب للموازين ،فإنكم تجعلون من الرحمة قسوة ،فاهلل يُنبه عباده
ويحذرهم) لرحمته بهم ،ويرشدهم إلى طريق الخالص ،ووعدهم بتبديل سيئاتهم حسنات عندما يتوبوا) إليه.
ت ۗ َو َكانَ هَّللا ُ َغفُو ًرا َّر ِحي ًما" .
سنَا ٍ صالِ ًحا فَُأو ٰلَِئكَ يُبَ ِّد ُل هَّللا ُ َ
سيَِّئاتِ ِه ْم َح َ "ِإاَّل َمن ت َ
َاب َوآ َمنَ َو َع ِم َل َع َماًل َ
(الفرقان)70:
قلت له ُمعقبة :ولماذا لم يلفت نظرك) ِعظَم الثواب والنعيم) في جنات الخلود ُمقابل قليل من الطاعات؟
ت ت َْج ِري ِمنْ ت َْحتِ َها اَأْل ْن َها ُر َخالِ ِدينَ فِي َها َأبَدًا صالِ ًحا يُ َكفِّ ْر َع ْنهُ َ
سيَِّئاتِ ِه َويُ ْد ِخ ْلهُ َجنَّا ٍ " َو َمنْ يُْؤ ِمنْ بِاهَّلل ِ َويَ ْع َم ْل َ
َذلِ َك ا ْلفَ ْو ُز ا ْل َع ِظي ُم" ( .التغابن)9:
ِإنَّهُ َكانَ بِ ُك ْم َر ِحي ًما:
أكمل األمريكي حواره قائالً :ولماذا طلب هللا من نبيه إبراهيم ذبح ابنه ،أليست هذه قسوة؟
قلت له :وهل طلب هللا منك ذلك؟ إذا ادعى شخص أنه أذكى رجل في العالم ،فمن الطبيعي جداً أن يخضع
ألصعب االختبارات ،إلثبات ادعاءه .وإبراهيم) عليه السالم نبي ورسول) يوحى إليه ،وقد) صرَّح أن هللا أحب
إليه من كل شيء ،فاختبره هللا ليُثبت هذا الحب.
علما أنه ورد) على زمن نبي هللا إبراهيم عادة تقديم األبناء قربانا) لآللهة ،وأراد هللا ان يُبطل هذه العادة في
تقديم االضحية بدالً عن األبناء.
قال :ولماذا يُكرر) القرآن أن هللا يُحب المؤمنين الصالحين وال يُحب الكافرين ،أليسوا جميعا ً عباده؟
قلت له :هللا تعالى أرشد جميع عباده لطريق الخالص ،وال يرضى) لهم الكفر ،لكنه ال يُحب السلوك الخاطئ
نفسه الذي يسلكه اإلنسان بالكفر واإلفساد في األرض.
ضهُ لَ ُك ْم ۗ َواَل تَ ِز ُر َوا ِز َرةٌ ِو ْز َر ُأ ْخ َر ٰى ۗ ِإن تَ ْكفُ ُروا فَِإنَّ هَّللا َ َغنِ ٌّي عَن ُك ْم ۖ َواَل يَ ْر َ
ض ٰى لِ ِعبَا ِد ِه ا ْل ُك ْف َر ۖ وَِإن تَ ْ
ش ُك ُروا يَ ْر َ
الصدُو ِر (الزمر)7: ت ُّ ثُ َّم ِإلَ ٰى َربِّ ُكم َّم ْر ِج ُع ُك ْ;م فَيُنَبُِّئ ُكم بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ۚ ِإنَّهُ َعلِي ٌم بِ َذا ِ
قلت له أيضاً :ما قولك في أب يُكرر أمام أبنائه أنني فخور) بكم جميعاً ،إن سرقتم وزنيتم وقتلتم ،وأفسدتم في
األرض فأنتم بالنسبة لي كالعابد الصالح؟ ببساطة أقرب وصف لهذا األب هو أنه كالشيطان ،يحث أبناؤه على
الفساد في األرض.
قال :ولماذا يُذكرنا) هللا دائما في القرآن بنعمه علينا ،فما أعطانا إياه بالنسبة لما يمتلكه ال شيء ،فأين العظمة
في ذلك؟
قلت له :هللا يُذكرنا بنعمه علينا ،ليحمينا من أنفسنا من التوجه لغيره بالشكر) والعرفان ،فإننا إن لم نعبده فسوف)
نتوجه بالعبادة لغيره .فكلما حصلت أنا على المال مثالً ،أو شعرت بنشوة النجاح ،وافتخرت) بإنجازاتي فكأنني)
أشكر نفسي دون أن أشعر ،وُأرجع نجاحي إلى قدراتي) التي هي أصالً من هللا ،فأفتح حينها صفحة من القرآن
ألقرأ اآلية الكريمة وما توفيقي إال باهلل ،فأعود وأقول الحمد هلل.
قلت له أيضاً :إن أهداك أحد هدية ،هل تفرح بالهدية لذاتها أم بداللتها على محبة من أهداها إليك؟
قلت له مستطردة :فعظمة العطاء بقيمة مصدره ،فلو أعطيتك 100دينار ،وأعطاك ال َملِك دينار ،لكنت فرحت
أكثر بدينار الملك ،وألشعلت وسائل التواصل االجتماعي بهذا الخبر.
طبعا الياباني كان يستمع ولم يتدخل أبدا خالل الثالث ساعات.
عاد األمريكي وسأل :أليست قسوة ،أن يُحاسبنا) هللا على أعمال هو كتبها علينا أصالً؟
قلت له :إنك عندما تريد مثال أن تشتري) شيئا من المتجر ،وتُقرر أن ترسل االبن األول لشراء هذا الشيء،
ألنك على ِعلم مسبق أن هذا الولد حكيم ،وسوف يذهب ُمباشرة لشراء ما تُريده تماما ،وتعلم أن الولد اآلخر
سوف ينشغل باللعب مع أقرانه ،ويُضيع المال ،وهذا في الواقع افتراض قد بنيت حُك َمك عليه.
قلت له :االطالع على األقدار) ال يتناقض مع إرادة اختيارنا ،ألن هللا يعلم أفعالنا بنا ًء على علمه التام بنوايانا
واختياراتنا ).وله المثل األعلى -يعلم طبيعة البشر ،فهو) الذي خلقنا ويعلم) ما في قلوبنا من الرغبة بالخير أو
الشر ويعلم نوايانا و ُمطلع على أفعالنا ،وتسجيل هذا ال ِعلم عنده ال يُناقض إرادة اختيارنا) .علما بأن هللا ِعلمه
ُمطلق ،وتوقعات البشر تُصيب وتُخطأ.
قلت له أيضاً :من الممكن أن يتصرف اإلنسان بطريقه ال تُرضي) هللا ،لكن تصرفه لن يأ ِ
ت ضد إرادته تعالى،
فقد أعطي هللا خلقه إرادة االختيار ،لكن تصرفاتهم تلك وإن كانت فيها معصية له ،فهي ال تزال ضمن إرادة
هللا وال يمكن أن تُعاكسها ألنه تعالى لم يُعط أحداً مجاالً لتجاوز) مشيئته.
قال :فلماذا يسمح بالمعصية؟
قلت له :أحيانا عندما يصر ابني مثال الصغير على مساس النار وأقول) له ال تفعل هذا الشيء ،لكن في لحظة
ما ،عندما أجده عنيدا أسمح له أن يمسها لكي يتعلم من تجربته ،ألنني علمت بعلمي بشخصية ابني أن هذا
الولد لن يتعلم إال اذا جرب ،وهلل المثل األعلى ،فاهلل يعلم طبيعة هذا الشخص ويعلم أنه لن يتعلم إال اذا جرب،
ولهذا نجد أن هناك كثيراً من الناس يتعرضون الختبارات بسيطة من هللا ،وهناك بشر يتعرضون الختبارات
صعبه ،هذا كله بعلمه سبحانه فربما) يكون ذلك ألنه يعلم أن هذا الشخص لن يتعلم ولن يرجع إلى هللا إال
باختبار صعب.
قال :ولماذا يُجبرنا) على اإليمان؟
قلت له :وهل أجبرك هللا على اإليمان به؟ أنت تقف أمامي وت َّدعي أنك غير مؤمن به.
إنك ال تستطيع) أن تُجبر قلبك وتُكرهه على قبول شيء ال يُريده ،فإنه من الممكن أن تُجبر شخص على البقاء
معك تحت التهديد والترهيب ،لكن ال تستطيع إجبار هذا الشخص على أن يحبك ،لقد حفظ هللا قلوبنا من أي
شكل من أشكال االكراه ،لهذا السبب هو يُحاسبنا ويكافئنا بناء على نوايانا) وما تحمله قلوبنا).
وفي نهاية الزيارة كانت المفاجأة ،جاء األمريكي وقال لي أنه يريد أن يلتقط صور داخل المسجد ،وأثناء
غياب األمريكي جاءني الياباني ،وقال لي :أنا ُأعجبت جدا بهذا الدين ،ما هذا الدين العظيم؟ أنا أريد أن أعتنق
هذا الدين ،وقد كانت مفاجئة مذهلة لي ،حيث أنني لم أجد منه أي ردة فعل خالل الزيارة وكان يستمع فقط.
وشهد الياباني أمام االمريكي بأن ال إله إال هللا وأن محمدا رسول هللا وما كان على األمريكي إال أن يُبارك له،
وطلب مني الياباني تفاصيل أكثر عن ممارسة هذا الدين وقد أعطيته رقم تليفون المركز) االسالمي في
طوكيو ،وقد وعدني بأن يستمر على هذا الطريق.
:يأتي هللا بقوم يُ ِحبُّ ُه ْم ويُ ِحبُّونَه;
ستَ ْغفِرُونَ لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا َو ِ
سعْتَ ش َو َمنْ َح ْولَهُ يُ َ
سبِّ ُحونَ بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َويُْؤ ِمنُونَ بِ ِه َويَ ْ "الَّ ِذينَ يَ ْح ِملُونَ ا ْل َع ْر َ
يم "( .غافر)7 : سبِيلَ َك َوقِ ِه ْم َع َذ َ
اب ا ْل َج ِح ِ َي ٍء َّر ْح َمةً َو ِع ْلما ً فَا ْغفِ ْر لِلَّ ِذينَ تَابُوا َواتَّبَ ُعوا َ
ُك َّل ش ْ
ويتجلى محبة هللا ورحمته لعباده في خلقهم وتكريمهم) وإرشادهم) وبيان الطريق) الحق لهم.
ص َّو ْرنَا ُك ْم ثُ َّم
ش ُكرُونَ ﴿َ ﴾١٠ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا ُك ْم ثُ َّم َ
ش ۗ قَلِياًل َّما تَ ْ
ض َو َج َع ْلنَا لَ ُك ْم فِي َها َم َعايِ َ" َولَقَ ْد َم َّكنَّا ُك ْم فِي اَأْل ْر ِ
سا ِج ِدينَ ﴿( ."﴾١١األعراف ) 11- 10 : يس لَ ْم يَ ُكن ِّمنَ ال َّس َجدُوا ِإاَّل ِإ ْبلِ َ س ُجدُوا آِل َد َم فَ َ
قُ ْلنَا لِ ْل َماَل ِئ َك ِة ا ْ
ومن اإلشارات اللطيفة في القرآن الكريم أن هللا قدم ذكر حبه لعباده على ذكر حب العباد له ،وذلك من لطفه
العظيم ،ورحمته الواسعة بهم.
س ْوفَ يَْأتِي هَّللا ُ بِقَ ْو ٍم يُ ِحبُّ ُه ْم َويُ ِحبُّونَهُ( . " ...المائدة)5 :
"... فَ َ
ومن اإلشارات اللطيفة في القرآن الكريم أيضاً ،أن رحمة هللا ولطفه تتجلى حتى فيما يُصيب االنسان من
مصائب وضر.
ش ْيًئا َواَل يُنقِ ُذو ِن"(.يس )23 :
شفَا َعتُ ُه ْم َ
ض ٍّر اَّل تُ ْغ ِن َعنِّي َ "َأَأتَّ ِخ ُذ ِمن دُونِ ِه آلِ َهةً ِإن يُ ِرد ِ
ْن ال َّر ْح ٰ َمنُ بِ ُ
فإذا شاء "الرحمن" أن يصيب اإلنسان بالضر ،فإن هذا ُموجب لرحمته ولطفه ،ويصير األمر الذي ظاهره
الضر في حقيقته رحمة ،وخيرًا للمؤمن؛ ألن الرحمن ال يصدر عنه إال الرحمة واللطف والبر.
ش ْيًئا َوه َُو ش ٌَّر لَ ُك ْم َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوَأ ْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُمونَ ".
سى َأنْ ت ُِحبُّوا َ سى َأنْ تَ ْك َرهُوا َ
ش ْيًئا َوه َُو َخ ْي ٌر لَ ُك ْم َو َع َ " َو َع َ
(البقرة )216 :
ومن رحمة هللا بخلقه أن وزع) األرزاق بينهم ،وجعل بينهم حاجات يقضيها أحدهم لآلخر ،ليتحقق التعاون فيما
بينهم ،بما يعود بالنفع على الجميع ،ولو استغنى) بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم ،وكان من تمام رحمته
بهم أن جعل فيهم الغني والفقير ،والعزيز والذليل ،والعاجز والقادر ،وأبقى باب العطاء والفضل الرباني
مفتوحا للتنافس فيه ولدوام التعلق به.
ت
ض َد َر َجا ٍ ض ُه ْم فَ ْو َ
ق بَ ْع ٍ شتَ ُه ْ;م فِي ا ْل َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا ۚ َو َرفَ ْعنَا بَ ْع َ س ُمونَ َر ْح َمتَ َربِّ َك ۚ نَ ْحنُ قَ َ
س ْمنَا بَ ْينَ ُه ْم َم ِعي َ "َأ ُه ْم يَ ْق ِ
س ْخ ِريًّا ۗ َو َر ْح َمتُ َربِّكَ َخ ْي ٌر ِم َّما يَ ْج َمعُونَ "( .الزخرف )32 : ضا ُ لِيَتَّ ِخ َذ بَ ْع ُ
ض ُه ْم بَ ْع ً
وتتجلى رحمة هللا في شريعته وأحكامه والتي هي خير ورحمة للخلق سواء ما يتعلق بهدايتهم وحفظ دينهم ،أو ما يتعلق
بحفظ أنفسهم وأبدانهم ،عقولهم وأفكارهم ،حفظ أعراضهم وأنسابهم وأوالدهم ،وحفظ أموالهم وممتلكاتهم.
فكل ما يتعلق بهذه الضروريات) الخمس من أحكام إنما جاءت رحمة بالناس بالمحافظة عليها وحمايتها) من
الفساد والعدوان ،ورفع الحرج والعنت عن الناس ،وحفظ لكل ذي حق حقه ،حتى يتسنى) لهم العيش في بيئة
صالحة وآمنة وسعيدة ،حيث أن الحق في البيئة السليمة هو من ركائز حق الحياة.
س َل ۗ َوهَّللا ُ اَل يُ ِح ُّب ا ْلفَ َ
سادَ"( . البقرة)205 : س َد ِفي َها َويُ ْهلِكَ ا ْل َح ْر َث َوالنَّ ْ س َع ٰى فِي اَأْل ْر ِ
ض لِيُ ْف ِ "وَِإ َذا تَ َولَّ ٰى َ
يقول ابن القيم -ويُذكر من باب االعتبار والموعظة " :-أوحى هللا إلى داود عليه السالم فقال :يا داود لو يعلم
المدبرون عني انتظاري) لهم ،ورفقي بهم ،وشوقي) إلى ترك معاصيهم) لماتوا شوقا إلي ،وتقطَّعت أوصالهم)
لمحبتي ،يا داود هذه إرادتي بال ُمدبرين عني فكيف بالمقبلين علي".16