You are on page 1of 13

‫ِإنَّ َربِّي َر ِحي ٌم َو ُدو ٌد‬

‫فاتن صبري‬

‫‪:‬إنّما نُ ْط ِع ُم ُكم لِ َو ْجه هللا‬


‫أذكر أننا أقمنا أول عامين لنا في مدينة الغوس في نيجيريا في شقق فندقية‪ ،‬حتى يتسنى لنا البحث عن منزل‬
‫مناسب وقريب من مدارس األوالد‪ ،‬وكنت حريصة على أن ُأحضر هدايا بسيطة لجميع عمال التنظيف وطاقم)‬
‫االستقبال وسائق السيارة بعد عودتي من أي رحلة سفر‪ ،‬و ُمشاركتي) لهم في الطعام والشراب‪ ،‬لكنني وبكل‬
‫أمانة لم تكن الدعوة في بالي في ذلك الوقت‪ ،‬ولكن أردت بهذه األعمال التقرب إلى هللا‪ ،‬وعند قرارنا بمغادرة‬
‫المكان لالنتقال للمنزل الجديد‪ ،‬فوجئنا) ببكاء الجميع‪ ،‬وقد أخبرنا السائق أنهم يقولون‪ :‬إنهم لم يُقابلوا عائلة‬
‫مسلمة بهذه األخالق تنشر روح المحبة واإلخاء‪ ،‬وهم يريدون أن يُكافئونا‪ ).‬فلم أعد أعرف هل أفرح بسبب‬
‫السعادة التي أدخلناها على قلوبهم‪ ،‬أم أحزن لحال المسلمين اليوم‪ ،‬والذي أعطى أهل هذا البلد هذا التصور) عن‬
‫المسلمين‪ ،‬وقلت للسائق‪ :‬مكافأتنا هي سعادتهم‪ ،‬وتذكرت اآلية الكريمة‪ِ" :‬إنَّ َما نُ ْ‬
‫ط ِع ُم ُك ْم لِ َوجْ ِه هَّللا ِ اَل نُ ِري ُد ِمن ُك ْم‬
‫َج َزا ًء َواَل ُش ُكورًا"‪ ،1‬فارتاحت نفسي‪.‬‬
‫س َعتْ ُك َّل ش َْي ٍء‪:‬‬
‫َو َر ْح َمتِي َو ِ‬
‫أذكر قصة ل ُمدرِّ سة اللغة الفرنسية‪ ،‬وهي أفريقية من دولة "بنين" المجاورة لمدينة الغوس حيث نُقيم‪ ،‬والتي‬
‫ُكنت قد أبلغتها بعد ال ُمحاضرة بحاجتي لخادمة للمنزل تتكلم اللغة الفرنسية‪ ،‬لكي أتمكن وأوالدي) من ُممارسة‬
‫ك‪.‬‬
‫اللغة الفرنسية معها‪ ،‬فتفاجأت بقولها‪ :‬أنا ُمستعدة ألن أعمل خادمة لدي ِ‬
‫درستي ولك احترامك عل ّي‪.‬‬
‫ت ُم َ‬
‫قلت لها‪ :‬أن ِ‬
‫قالت‪ :‬أنت لطيفة للغاية‪ ،‬ولكنني فعالً بحاجة لهذا األمر‪ ،‬فأنت تعرفين أنني آتي كل يوم من دولة "بنين"‬
‫لك البيت صباحا ً وأعمل في المركز مساءاً‪ ،‬وأنا‬
‫المجاورة لهذه المدينة‪ ،‬وأنا بحاجة إلى سكن‪ ،‬وسوف أنظف ِ‬
‫الحظت أنكم ودودون جداً‪ ،‬مع أن كتابكم) (القرآن) لم يتحدث عن الحب أبداً‪ ،‬وال حتى عن حب الخالق لعبيده‪،‬‬
‫وكيف يحبهم وهو يُضيق عليهم في العيش‪.‬‬
‫قُلت لها‪ :‬بالنسبة للسكن‪ ،‬فتفضلي للسكن بدون عمل وال ُمقابل‪ ،‬فلدينا ُملحق خاص للعاملين و ُممكن أن‬
‫تشاركيهم) في المبيت‪.‬‬
‫ت القرآن أصال؟‬
‫أما بخصوص القرآن‪ ،‬فهل قرأ ِ‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ،‬ولكنني سمعت بذلك‪.‬‬
‫ت ما فيه من ذكر لرحمة هللا وحُبه لعباده‪ ،‬ولكن حُب هللا جل جالله للعبد ليس‬
‫ت القرآن ألدرك ِ‬
‫قلت لها‪ :‬لو قرأ ِ‬
‫كحب العباد بعضهم بعضاً‪ ،‬ألن الحب في مقاييس البشـر هو حاجة يفتقدها ال ُمحب‪ ،‬فيجدها عند المحبوب‪،‬‬

‫(اإلنسان‪)9:‬‬ ‫‪1‬‬
‫ولكن هللا جل جالله غني عنا‪ ،‬فحبه لنا حب تفضل ورحمة‪ ،‬حبُّ قويٍّ لضعيف‪ ،‬وحب غني لفقير‪ ،‬وحب قادر‬
‫عظيم لصغير‪ ،‬وحب حكمة‪.‬‬‫ٍ‬ ‫لعاجز‪ ،‬حبُّ‬
‫قالت‪ :‬كيف هذا؟‬
‫ت واثقة تماما من حكمة‬
‫قلت لها‪ :‬أال تأخذي بيد طفلك الصغير بكل حب إلى غرفة العمليات ليشقوا بطنه‪ ،‬وأن ِ‬
‫الطبيب وحبه للصغير وحرصه على نجاته‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كيف يُحبهم وهو يُقيد حريتهم) وال يسمح لهم بأن يفعلوا ما يحلو لهم؟ ألم تسمعي بالفردانية؟ ألم تسمعي‬
‫بهذا المفهوم المتطور‪ )،‬وهو أن قرارات الفرد يجب أن تكون مستندة على منفعته ومتعته الشخصية وهو مركز‬
‫االهتمام الرئيسي‪ ،‬أي أن مصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات البلد وتأثيرات ال ُمجتمع والدين‪ ،‬وتسمح له‬
‫بتغيير جنسه‪ ،‬ويفعل ما يحلو له‪ ،‬ويرتدي) ويتصرف) في الطريق كما يُريد‪ ،‬فالطريق للجميع‪.‬‬
‫قلت لها‪ :‬وهل تسمحين ألطفالك بفعل ما يحلو لهم بذريعة حبك لهم؟ هل تسمحي البنك الصغير أن يُلقي بنفسه‬
‫من نافذة المنزل أو يلعب بسلك الكهرباء المكشوف؟‬
‫قلت لها‪ :‬عبارة الطريق) للجميع صحيحة لكن فهمك لها خاطئ‪ ،‬لو كنت تسكنين مع مجموعة من األشخاص‬
‫في منزل واحد مشترك‪ ،‬هل كان سيعجبك تفسيرك لهذه العبارة؟ هل كنت ستقبلين بأن يقوم أحد شركائك في‬
‫المنزل بعمل مشين كقضاء الحاجة في صالة المنزل بحجة أن المنزل للجميع؟ هل ستقبلين الحياة بهذا المنزل‬
‫بدون قوانين وال ضوابط تحكمها؟ فاإلنسان بالحرية ال ُمطلقة يصبح كائن قبيح‪ ،‬وكما ثبت بما ال يدع مجاال‬
‫للشك أنه عاجز على تحمل هذه الحرية‪.‬‬
‫الفردانية ال يمكن لها أن تكون هوية بديلة عن الهوية الجامعة مهما كانت قوة الفرد أو نفوذه‪ .‬أفراد المجتمع‬
‫طبقات ال يصلح بعضها إال ببعض‪ ،‬وال غنى لبعضها عن بعض‪ .‬فمنهم الجنود واألطباء) والممرضون‪،‬‬
‫والقضاة‪ ،‬فكيف يتسنى ألي منهم أن يُغلب منفعته ومصلحته الشخصية على اآلخرين ليحقق سعادته‪ ،‬ويكون‬
‫هو مركز االهتمام الرئيسي؟)‬
‫قالت‪ :‬وكيف تتحقق السعادة إذاً؟‬
‫قلت لها‪ :‬السعادة في الفردانية‪ ،‬هي االنتصار‪ ،‬الهيمنة وامتالك التكنولوجيا‪ .‬لكن السعادة في اإلسالم‪ ،‬هي‬
‫القلب المطمئن‪ ،‬الزواج الناجح‪ ،‬المسكن الواسع‪ ،‬الجار الصالح‪ ،‬المركب المريح‪ ،‬المشاركة والتعاون‪.‬‬

‫وق))د جعلت الحض))ارة اإلس))المية وال))تي تش))كلت من م))زيج من مختل))ف الش))عوب والقبائ))ل الفرداني))ة كالرس)م)‬
‫البياني‪ ،‬فجعلت حساب وجزاء‪ ،‬واجبات وحقوق‪ ،‬وكما يقع على الفرد العقاب أيضا ً يُكافأ‪ ،‬ولقد ح))رر اإلس))الم‬
‫أيضا ً الفرد من العصبية القبلية وأعاده إلى الفطرة السليمة‪ ،‬كمدني اجتماعي‪ ،‬يعيش في جماعة تحترمه وتُق))در‬
‫إمكانيته التفكيرية وقدرته على التعايش مع اآلخرين‪ ،‬فاألمة ال ُمتطلعة للتقدم وال))تي تتب))نى ه))دفا ً س))امياً‪ ،‬تنطل)ق)‬
‫من مفهوم الكيان الواح)د‪ ،‬فلك)ل ف)رد اجته))اده وأفك))اره وقدرات))ه‪ ،‬لكن التط))بيق يحت))اج إلى الجماع))ة‪ ،‬وبالت))الي‬
‫يتساوى الجميع هنا حسب ما قدمه كل فرد‪ ).‬وبذلك يكون اإلسالم قد حدد عالقة الفرد ب))ال ُمجتمع‪ ،‬وأوض))ح ب))أن‬
‫الفرد ليس سوى) جز ٍء صغير ال يتجزأ من الهوية الجماعية ال))تي ب))دورها تكف))ل ض))بط إيق))اع الحي))اة‪ .‬مم))ا أنتج‬
‫مجتمعا ً مستقراً وآمناً‪ ،‬ألنه كلما اختل التوازن بين الطبقات‪ ،‬ستظهر) الصراعات‪ ،‬ويُفتقد الرض))ا في ال ُمجتم))ع‪.‬‬
‫فلم يعد المال هو المعيار األعلى الذي يُميز مالكه عن اآلخرين‪ ،‬وال بالمال تتحقق القوة وقيادة العالم‪ .‬القائد في‬
‫النظ))ام اإلس))المي ال يُقيَّم بم))ا يمل))ك من م))ال‪ ،‬لكن بم))ا لدي))ه من ِعلم وأخالق وع))دل‪ ،‬وبه))ذه الص))فات وح))دها‬
‫استطاعوا سابقا ً التقدم وتحقيق االنتصارات‪).‬‬
‫قال الرسول) صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"مثل المؤمنين في توادهم) وتراحمهم) وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر‬
‫والحمى"‪.2‬‬
‫قالت‪ :‬الفردانية ترتبط بالشذوذ) الجنسي بشكل مباشر‪ ،‬فلماذا ال تُحبون الش))اذ جنس))ياً‪ ،‬فم))ا لدي))ه من ُمي))ول‪ ،‬ه))و‬
‫مسألة جينية طبيعية‪ ،‬و ُميول) طبيعي‪ ،‬ويجب أن نحترمه‪.‬‬
‫قلت لها‪ :‬وهل تحترمي) ُميول السارق) إلى السرقة؟ فهذا أيضا ً ُميول‪ ،‬ولكنه في الحالتين ُميول غير طبيعي‪ ،‬إنه‬
‫خروج على الفطرة البشرية‪ ،‬واعتداء على الطبيعة‪ ،‬ويجب أن يُق َّوم‪.‬‬
‫لقد خلق هللا اإلنسان وهداه إلى الطريق) السليم‪ ،‬ولديه حرية االختيار بين‪ ‬طريق) الخير وطريق الشر‪.‬‬
‫" َو َه َد ْينَاهُ النَّ ْج َد ْي ِن "‪( . ‬البلد‪)10  :‬‬
‫ولذلك نجد أن المجتمعات التي تُحرِّم المثلية نادراً ما يظهر فيها هذا الشذوذ‪ ،‬والبيئة التي تُبيح وتُشجع على‬
‫هذا السلوك‪ ،‬تزداد فيها نسبة المثليين‪ ،‬مما يدل على أن الذي يُحدد احتمال الشذوذ) لدى اإلنسان‪ ،‬هو البيئة‬
‫والتعاليم ال ُمحيطة به‪.‬‬
‫ولذلك قال تعالى عن قوم) لوط‪:‬‬
‫ش ْه َوةً‬ ‫الر َجا َل َ‬ ‫سبَقَ ُك ْ;م بِ َها ِمنْ َأ َح ٍد ِمنَ ا ْل َعالَ ِمينَ (‪ِ )80‬إنَّ ُك ْ;م لَتَْأتُونَ ِّ‬
‫شةَ َما َ‬ ‫" َولُوطًا ِإ ْذ قَا َل لِقَ ْو ِم ِه َأتَْأتُونَ ا ْلفَ ِ‬
‫اح َ‬
‫اب قَ ْو ِم ِه ِإاَّل َأنْ قَالُوا َأ ْخ ِر ُجو ُه ْم ِمنْ قَ ْريَتِ ُك ْم ِإنَّ ُه ْم‬
‫س ِرفُونَ (‪َ )81‬و َما َكانَ َج َو َ‬ ‫سا ِء بَ ْل َأ ْنتُ ْم قَ ْو ٌم ُم ْ‬
‫ِمنْ دُو ِن النِّ َ‬
‫اس يَتَطَهَّرُونَ (‪( . " )82‬األعراف‪)82 – 80 :‬‬ ‫ُأنَ ٌ‬
‫هذه اآلية تؤكد أن الشذوذ ليس وراثياً‪ ،‬وليس من أصل تركيب الشفرة الوراثية لإلنسان‪ ،‬ألن قوم لوط هم أول‬
‫من ابتدع هذا النوع من الفاحشة‪ .‬وهذا يتطابق مع أوسع دراسة علمية‪ ،‬والتي تُؤكد أن الشذوذ) الجنسي ال‬
‫عالقة له بالجينات الوراثية‪.3‬‬
‫إن هوية اإلنسان تتغير في كل لحظة‪ ،‬حسب مشاهدته للفضائيات‪ ،‬أو استخدامه للتكنولوجيا أو تعص))به لفري))ق‬
‫كرة قدم مثالً‪ ،‬فالعولمة صنعت منه إنسانا ً معقدا‪ .‬فالخائن أصبح صاحب وجه))ة نظ))ر‪ .‬والش))اذ) أص))بح ص))احب‬
‫سلوك طبيعي‪ ،‬وأصبح لديه الصالحية القانونية للمشاركة في نقاشات علنية‪ ،‬بل وعلينا دعمه والتص))الح مع))ه‪.‬‬
‫وأصبحت الغَلبة لمن لديه التكنولوجيا‪ ،‬فإذا كان الشاذ هو الط))رف ال))ذي يمتل))ك أس))باب الق))وة‪ ،‬فس))يفرض على‬
‫الطرف اآلخ)ر قناعات)ه‪ .‬مم)ا أدى إلى إفس)اد) عالق)ة اإلنس)ان بنفس)ه وب ُمجتمع)ه وبخالق)ه‪ .‬وبارتب)اط الفرداني)ة‬
‫بالشذوذ الجنسي بشكل مباشر‪ ،‬تالشت هنا الفط)رة اآلدمي)ة ال)تي ينتمي له)ا الجنس البش)ري‪ ،‬وس)قطت مف)اهيم‬
‫العائل))ة الواح))دة‪ ،‬فب))دأ الغ))رب بوض))ع حل))ول للتخلص من الفرداني))ة‪ ،‬ألن االس))تمرار به))ذا المفه))وم سيُض))يع‬
‫المكاسب الذي حققها اإلنسان ال ُمعاصر‪ )،‬كما أضاع مفهوم العائلة‪ ،‬وبالتالي) م)ا زال الغ)رب ح)تى الي)وم يُع)اني‬
‫من ُمشكلة تقلص أعداد األفراد) في ال ُمجتمع‪ ،‬والذي أدى إلى فتح األبواب الستقطاب ال ُمهاجرين‪.4‬‬

‫‪( 2‬رواه مسلم)‬


‫‪https://www.nature.com 3‬‬
‫‪https://kaheel7.net/?p=15851‬‬
‫‪4‬من مقال مفھوم الفردانیة المطلقة والفرد في األمة بقلم‪ :‬مروان صباح‪ ،‬جريدة الوطن‪.‬‬
‫فاإليمان باهلل واحترام) قوانين الكون التي خلقها لنا‪ ،‬وااللتزام ب)أوامره ونواهي)ه‪ ،‬ه)و طري)ق) الس)عادة في ال)دنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬

‫َو َما َكانَ َعطَا ُء َربِّكَ َم ْحظُو ًرا‪:‬‬

‫كانت ال ُمدرِّ سة قد أكملت حوارها معي قائلة‪ :‬وكيف تتطور) دول ُملحدة وتتخلف دول مؤمنة باهلل‪ ،‬على الرغم‬
‫من حُبه لهم‪.‬‬
‫قُلت لها‪ :‬وهل يُعطي ُمدير المدرسة البنه الفاشل شهادة النجاح‪ ،‬ل ُمجرد أنه ابنه فقط؟ هناك قوانين وأنظمة‬
‫يجب أن تُتبع في هذه المدرسة‪ ،‬ويُح َّدد بنا ًء عليها الناجح والراسب‪ .‬لكن هذا ال يُغير واقع أن مدير المدرسة‬
‫يحب ابنه أكثر من الجميع وهو حامل اسمه ووريثه الوحيد‪).‬‬
‫قلت لها‪ :‬فالكون كالمدرسة له قوانينه وسُننه‪ ،‬ولقد حقق غير المؤمنين التقدم المادي والتطور التكنولوجي‬
‫بسبب أخذهم بالقوانين الكونية والسنن اإللهية‪ ،‬ومن ثم استطاعوا بناء أنظمة سياسية جيدة‪ ،‬وأنظمة تعليمية‬
‫وتربوية قوية وذات معايير) منهجية‪ .‬وكان هذا التقدم المادي فقط لمن أخذ منهم بزمام السنن اإللهية والقوانين‬
‫الكونية‪ ،‬وهذا دليل على أن النجاح الدنيوي ال يُحابي أبيض وال أسود‪ ،‬والعدل من أسمائه عز وجل‪ ،‬والظلم‬
‫من أقبح ما حذرنا هللا منه‪ .‬ولكن مع هذا فاهلل لن يُعط غير المؤمن اآلخرة التي هي لعباد هللا المؤمنين وأحبائه‪.‬‬
‫قال رسول) هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫)ر ِة‪ ،‬وأ َّما الك))افِ ُر في ْ‬
‫ُط َع ُم‬ ‫حس )نَةً‪ ،‬يُ ْعطَى علَيْه))ا في ال))دنيا ويُث))ابُ عليه))ا في اآل ِخ) َ‬ ‫"ِإ َّن هللاَ تع))الى ال يِ ْ‬
‫ظلِ ُم الم))ؤ ِمنَ َ‬
‫اآلخر ِة لم تكنَ لَهُ حسنةٌ يُ ْعطَى) بِها خيرًا" ‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫ِ‬ ‫بِ َح َسناتِ ِه في الدنيا‪ ،‬حتى إذا أفضى إلى‬
‫فاهلل تعالى يُعطيهم في الدنيا ما يستحقونه باعتبار ما عندهم من خير وما يبذلونه من حق‪.‬‬
‫كما أن هللا تعالى قد ينصر) أمة كافرة على أمة مسلمة‪ ،‬عقوبة لها على معاصيها‪ ،‬كما حدث بغزوة أحد‪.‬‬
‫َص ْيتُ ْم ِمنْ بَ ْع ِد َما َأ َرا ُك ْم َما‬ ‫سونَ ُه ْم بِِإ ْذنِ ِه َحتَّى ِإ َذا فَ ِ‬
‫ش ْلتُ ْم َوتَنَازَ ْعتُ ْم فِي اَأْل ْم ِر َوع َ‬ ‫ص َدقَ ُك ُم هَّللا ُ َو ْع َدهُ ِإ ْذ ت َُح ُّ‬
‫" َولَقَ ْد َ‬
‫ص َرف ُك ْم َع ْن ُه ْم لِيَ ْبتَلِيَ ُك ْم‪( ." ‬آل عمران‪)152 :‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تُ ِحبُّونَ ِم ْن ُك ْم َمنْ يُ ِري ُد ال ُّد ْنيَا َو ِم ْن ُك ْم َمنْ يُ ِري ُد اآْل ِخ َرةَ ث َّم َ‬

‫قال رسول) هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬


‫"إن هللا قسم بينكم أخالقكم كما قسم) بينكم أرزاقكم‪ ،‬وإن هللا يُعطي الدنيا من يحب ومن ال يُحب‪ ،‬وال يُعطي‬
‫اإليمان إال من يُحب"‪. 6‬‬
‫آمنت به اآلن فسوف يُعطيني) ماالً ومنزالً؟‬
‫ُ‬ ‫فقالت‪ :‬إذاً إن‬
‫ُعطيك والدك مااًل ومنزال هل كنتي ستُنكرين وجوده؟‬
‫ِ‬ ‫قلت لها‪ :‬وإن لم ي‬

‫( حديث صحيح)‬ ‫‪5‬‬

‫( حديث صحيح)‬ ‫‪6‬‬


‫هللا يَ ْنت َِظ ُرنا‪:‬‬
‫في قصة جميلة لمجموعة من ال ُملحدين الصينيين الذين كانوا يتساءلون عن رحمة هللا‪ ،‬فقال أحدهم‪:‬‬
‫كيف يُعطينا الخالق غرائز ثم يُطالبنا بأن ال نستعملها؟ ويُعطينا) المال ويُطالبنا) بأن نخسره بالصدقات‪ ،‬ويُعطينا‬
‫الوقت ويُطالبنا بأن نُضيعه في العبادات؟ أليس هذا دليل على القسوة؟‬
‫قلت له‪ :‬إذا فأنت تؤمن به واعتراضك فقط على رحمته من عدمها؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬أنا ال ُأؤمن به ألنه قاسي‪).‬‬
‫ضحكت وقلت له‪ :‬افتراضك أنه قاسي‪ ،‬دليل على إيمانك بوجوده‪ ،‬أنت لألسف تُناقض نفسك‪ .‬تعالى هللا عن‬
‫أن يكون ظال ًما أو قاسيًا‪ ،‬فهو الرحمن الرحيم‪ ،‬لكن رحمته هي الرحمة ال ُمطلقة‪ .‬وعلى أية حال فإن القسوة‬
‫التي تفترضها) ليست حجة ضد وجود هللا‪ ،‬بل ضد رحمته‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬أنت برغبتك بإطالق غرائزك‪ ،‬تريد أن تكون عبداً لها‪ ،‬وهللا يريدك) أن تكون سيداً عليها‪ ،‬يُريدك هللا‬
‫إنسانا عاقالً حكيما ً يتحكم في غرائزه‪ ،‬فليس المطلوب منك تعطيل الغرائز) بل توجيهها لالرتقاء بالروح وسمو‬
‫النفس‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬ألديك أطفال؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬عندما تُلزم أوالدك بتخصيص بعض الوقت في ال ُمذاكرة‪ ،‬ليحصلوا على مكانة علمية في المستقبل‪،‬‬
‫مع رغبتهم في اللعب فقط‪ ،‬هل تُعتبر أنت في هذه اللحظة أب قاسي؟)‬
‫حينها تفاجأت بالمجموعة تنتفض من الفرحة إلجابتي‪ ،‬وسألني أحدهم‪ :‬ماذا نفعل اآلن وقد أبعدنا عن هللا‬
‫كثيراً‪ ،‬هل يقبلنا إذا عدنا وقد أسأنا إليه كثيراً؟‬
‫قلت له‪ :‬أنتم أسأتم ألنفسكم فقط‪ ،‬فاهلل تعالى ليس بحاجة لنا‪ ،‬بل نحن بحاجة إليه‪ ،‬ولكن على أية حال‪ ،‬ماذا‬
‫كنت سوف تفعل أنت عندما يبتعد عنك ابنك العاصي؟ هل كنت ستفضحه وتُشهِّر به‪ ،‬هل كنت ستطلب منه أن‬
‫يقتل نفسه؟‬
‫قال‪ :‬سأبقى ُمنتظراً عودته‪ ،‬وُأسامحه إن عاد‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬إذاً فاهلل ينتظركم) اآلن‪.‬‬
‫فشهق فرحا ً وردد) بصوت عالي‪ :‬هللا ينتظرنا) ويُكررها‪ .‬وصار) الجميع يلتفت لبعضه البعض ويقول‪ :‬هللا‬
‫ينتظرنا‪.‬‬
‫صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم‪ ،‬يَقُولُ‪ " :‬هلَل ُ أش ُّد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلَته‬
‫ُول هللاِ َ‬
‫َرس َ‬
‫ِّ‬
‫فاضطج َع في ظلها قد أيس من‬
‫َ‬ ‫فأيس منها‪ ،‬فأتى شجرةً‬‫َ‬ ‫بأرض فَاَل ة‪ ،‬فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫را ِحلَته‪ ،‬فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده‪ ،‬فأخذ ب ِخطامها‪ ،‬ث َّم قال ِمن ش َّدة الفرح‪ :‬الله َّم أنت عبدي وأنا‬
‫ربُّك‪ ،‬أخطأ من ِش َّدة الفَرح"‪.7‬‬

‫‪ ( 7‬رواه البخاري)‬
‫وأذكر قصة لي مع ممثل هندي شهير‪ ،‬كان قد اعتنق الهندوسية مؤخراً‪ ،‬وفي أثناء حواري معه وفريق) عمله‪،‬‬
‫عن رحمة هللا وحبه لعباده‪ ،‬قال أحدهم لي‪ :‬كيف يصف هللا نفسه بالغفور الرحيم تارة‪ ،‬وشديد العقاب تارة‬
‫أخرى؟ قلت له‪ :‬هللا غفور رحيم مع أصحاب الذنوب التي تُرتكب دون إصرار وبحكم) بشرية اإلنسان‬
‫وضعفه‪ ،‬وال يقصد بها تحدي الخالق‪ ،‬لكنه تعالى يقصم من يتحداه ويُنكر) وجوده‪ ،‬أو يُصوره في صنم أو‬
‫حيوان‪ ،‬فقاطعني ال ُممثل بصورة غير الئقة وقال‪ :‬هذه صغائر) وهللا ال يهتم بها‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬إنك لو شتمت حيوان فلن يلومك أحد‪ ،‬أما أن تشتم والديك‪ ،‬فسوف) تُالم وبشدة‪ .‬ال تنظر) إلى ِ‬
‫صغر‬
‫المعصية‪ ،‬لكن انظر َمن عصيت‪.‬‬

‫فَاتَّبِ ُعونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم هَّللا ُ‪:‬‬


‫من التجارب العنيفة التي ُخضتها في مجال الدعوة‪ ،‬كانت مع امرأة من جنوب أفريقيا) وأخيها النصرانيين‪،‬‬
‫وزوجة أخيها التايالندية البوذية‪ .‬المرأة وأخيها من سكان أفريقيا الجنوبية البيض‪ ،‬وكانوا يتميزون بضخامة‬
‫عجيبة في األجساد‪ ،‬بينما زوجة األخ كانت صغيرة الحجم جداً‪ ،‬وكنت قد ارتبكت في البداية للتناقض في‬
‫أشكال وأحجام) وعقائد الزوار‪ ،‬وشراسة المرأة في عرضها للدين النصراني) عل ّي‪ ،‬حيث كان من المفترض أن‬
‫أبدأ حواري) معهم بعرض ُمختصر عن اإلسالم‪ ،‬وقد فاجأتني بسيل من العبارات الغريبة وبدون توقف‪ ،‬ولم‬
‫تُعطني حتى الفرصة ألن أتكلم كلمة واحدة‪ ،‬وهي تقول‪" :‬هللا محبة"‪ ،‬هللا يُحبك‪ ،‬هللا مات من أجلك‪.‬‬
‫تمالكت نفسي وقُلت لها‪ :‬حسناً‪ ،‬أنا ُمستعدة العتناق النصرانية‪ ،‬إن أجب ِ‬
‫ت عن أسئلتي‪.‬‬
‫فرحت الزائرة كثيراً‪ ،‬وذهبت لتُحضر زوجة أخيها لتسمع الحوار‪ ،‬حيث كانت زوجة األخ في زاوية أخرى‬
‫في المسجد تلتقط بعض الصور) التذكارية‪ ،‬وفهمت أن المرأة الجنوب أفريقية تُحاول مع زوجة أخيها من فترة‬
‫لتترك البوذية وتعتنق) النصرانية‪ ،‬فاعتقدت الزائرة أن قبولي للنصرانية سوف يكون حافزاً لزوجة أخيها‪.‬‬
‫قالت الزائرة في حضور زوجة أخيها‪ :‬أخبريني) ما هي أسئلتك‪.‬‬
‫قلت لها‪ :‬أنت تقولين إن هللا يُحبني ومات من أجلي‪ ،‬للتكفير عن ذنوبي‪.‬‬
‫قالت نعم‪.‬‬
‫قلت لها‪ :‬وهل حبي البني يجعلني أقتل نفسي ألسامحه على أخطاؤه؟‬
‫وهل حب هللا لي يجعله عاجزاً أن يغفر لي إن رجعت وعدت إليه؟‬
‫وهل حُبه لي يجعله يُحاسبني) على خطيئة ارتكبها غيري وهي خطيئة آدم‪ ،‬ويُعطيني الخالص ل ُمجرد إيماني‬
‫بموت شخص آخر على الصليب‪ ،‬وليس بصالح عملي؟‬
‫وهل حب هللا للمسيح تجعله عاجزاً عن حمايته من القتل والصلب؟‬
‫وكيف يموت هللا وهو حي ال يموت في عقيدتكم؟ أليس هذا تناقض؟‬
‫وعندما مات لثالثة أيام حسب اعتقادكم‪ ،‬من كان يُدير الكون في غيابه المزعوم؟‬
‫ومن كان يُعطي ويرزق‪ )،‬من كان يحيي ويميت‪ ،‬من أحياه هو نفسه عندما مات؟‬
‫ومع أن هللا قادر على كل شيء كما تُبررون) عقيدتكم‪ ،‬لكن هل يفعل هللا ما ال يليق بجالله‪ ،‬كأن يُعلَّق على‬
‫خشبة ويُبصق) عليه ويُعذب ويموت مصلوباً‪ ،‬والمصلوب) يُعتبر ملعون في كتابكم؟‬
‫وأين قال المسيح في كتابكم أنه هو هللا؟‬
‫ولما بكى المسيح وصلّى لطلب اإلغاثة من هللا عندما أرادوا صلبه‪ ،‬كان قد صلى لنفسه؟‬
‫تعالى هللا عن ذلك عُلواً كبيرا‪.‬‬
‫وكنت قد الحظت ارتباكها واختالسها) نظرات لزوجة أخيها‪ ،‬وشعرت أنها بدأت تخشى من تأثير كالمي على‬
‫زوجة أخيها‪ ،‬وقالت بعجلة بدون أن تُجيب على أي سؤال‪ :‬لقد أعجبني ثوبك كثيراً‪ ،‬وحضنتي) بشدة حتى‬
‫شعرت بالخوف على نفسي‪ ،‬وتركتني وأمسكت بيد زوجة أخيها وغادرت المسجد فوراً‪.‬‬
‫وأذكر أنني قد واجهت موقف) شبيه بهذا الموقف‪ ،‬مع فرنسي) نصراني ُمتدين‪ ،‬حيث قال لي‪ :‬هللا يحبك‪ ،‬هللا‬
‫مات من أجلك‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬من أخبركم) بهذا؟ هللا نفسه أم المسيح؟‬
‫قال‪ :‬القديس بولص‪ ،‬وهو شخص ذكي ومتعلم جداً‪ ،‬ودرجة تعليمه في مستوى درجة تعليم شخص في وقتنا‬
‫الحاضر ممن يحملون ثالث شهادات دكتوراه‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬وما عالقة درجة تعليم بولص بالوحي اإللهي؟‬
‫قال‪ :‬لقد رأى مناما ً أخبره أن هللا مات من أجلنا‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬الوحي اإللهي يأتي من هللا‪ ،‬ومنه الوحي بالرساالت السماوية‪ ،‬ونقيض)ه ال)وحي الش)يطاني ال)ذي ي)أتي‬
‫عن طريق المنامات للبشر‪ ،‬وكانت قد أضحكته إجابتي‪.‬‬
‫واستطردت) قائلة‪ :‬ثم إن ال ِعلم البشرى هو إنتاج بشرى‪ ،‬يُصيب ويخطئ‪ ،‬ومنه االبداع العلمي وااللهام) األدبي‪.‬‬
‫وهو تجارب وخبرات إبداعية‪ .‬وال عالقة لها بالوحي اإللهي على اإلطالق‪.‬‬
‫وقلت له أخيراً‪ :‬أنا ليس لدي الكثير من المعلومات عن هذه النقطة‪ ،‬لكنني أتعجب ممن يترك رسالة المسيح‬
‫الحقيقية التي هي وحي إلهي‪ ،‬ويتبع رؤيا) منام‪ ،‬ليس فيها شيء من المنطق) و ُمخالفة للفطرة والعقل بكل‬
‫المقاييس‪ ،‬لشخص لم يُقابل المسيح في حياته كبولص‪ ،‬ل ُمجرد أنه ُمتعلم؟ وقد كان من ألد أعداء المسيح‪،‬‬
‫وحاول جاهداً هدم دينه والقضاء عليه‪ ،‬وكان ممن َّ‬
‫عذب أتباعه‪.‬‬
‫وقلت ُمستطردة‪ :‬فأنا اآلن كإنسانة ُمحبة للمسيح‪ ،‬وعل ّي أن أصدق رسالته‪.‬‬
‫وقد قال المسيح‪ :‬هللا واحد أحد‪ ،8‬ويقول القديس بولص هللا ثالثة في واحد‪.9‬‬
‫وقال المسيح في كتابكم‪ :‬سوف أصعد إلى أبي وأبيكم‪ ،‬ربي وربكم)‪ ،10‬وقال) القديس بولص‪ :‬المسيح االبن‬
‫المولود الوحيد هلل‪.11‬‬
‫وقال المسيح في كتابكم‪ :‬أنا ال أستطيع أن أعمل شيئا ً بنفسي‪ ،12‬ويقول بولص‪ :‬المسيح كلي القدرة‪.13‬‬

‫‪)Mark 12:29( 8‬‬


‫‪9‬‬
‫(‪)Corinthians 12:3-6‬‬
‫‪)John 17:20 (10‬‬
‫‪)Galatians 4: 4,5(  11‬‬
‫‪)John 30:5( 12‬‬
‫‪)John 5:15( 13‬‬
‫وقال المسيح في كتابكم‪ :‬اإلله أعظم مني‪ ،14‬وقال) بولص‪ :‬أن ال ُمسيح ُمساوي لإلله في العظمة‪.15‬‬
‫فأخبرني) أرجوك ماذا عل ّي أن أفعل اآلن؟ ُأصدق المسيح‪ ،‬أم ُأصدق بولص؟‬
‫قال‪ :‬تعرفين كل هذا‪ ،‬وتقولين ليس لديك معلومات؟ هل تسمحين لي بالتقاط بعض الصور) ألنني عندي موعد‬
‫هام وعل ّي المغادرة‪.‬‬
‫قُلت له‪ :‬تفضل‪.‬‬

‫َما يَ ْف َع ُل هَّللا ُ بِ َع َذابِ ُك ْم ِإنْ َ‬


‫ش َك ْرتُ ْم َوآ َم ْنتُ ْم‪;:‬‬
‫قصة أخري ألمريكي) وياباني من أروع القصص التي عشتها في حياتي‪ ،‬حيث كنت في ذلك اليوم متعبه جدا‬
‫وكان هذا اليوم حافال بالعمل‪ ،‬وكانوا قد أخبروني) أن في انتظاري) زائرين أمريكي) وياباني‪ ،‬وظننت أنهم‬
‫أصدقاء لكنني فوجئت أنهم ال يعرفون بعضهم البعض‪ ،‬ولكن تقابلوا في غرفة االنتظار) في المركز‪ ،‬فأخذتهم)‬
‫في زيارة الي الداخل مع تعبي الشديد لكنني سبحان هللا وافقت‪.‬‬
‫وجئت باألمريكي ينهال عل ّي باألسئلة بشكل ُمتواصل‪ ،‬وسؤال يتبعه سؤال‪ ،‬طبعا الياباني) كان يتكلم االنجليزية‬
‫بطالقه ولكنه كان يستمع‪ ،‬لم يُقاطعنا) وكان يستمع بإنصات‪ ،‬لكن األمريكي) كان ال يتوقف عن األسئلة بشكل‬
‫غير طبيعي لدرجة أنني شككت أنه يريد ُمهاجمة اإلسالم وأنه ال يسأل لالستفادة‪ ،‬حيث أنه سألني أسئلة كثيرة‬
‫استمرت إلى ثالث ساعات‪.‬‬
‫وقد طلب مني أن يتعلم ويحفظ سورة الفاتحة‪ ،‬وحفظها‪ ،‬وطلب أن يتعلم سورة االخالص وأن يتعلم الصالة‪،‬‬
‫في الزيارة خالل الثالث ساعات‪ ،‬وقد) ألهمني هللا الصبر مع تعبي الشديد‪ ،‬وشعرت الحقا ً من طبيعة أسئلته أنه‬
‫ُملحد وال يعتنق أي ديانة‪ ،‬ألن النصراني) عادة ال يُهاجم الخالق‪.‬‬
‫فقال من ضمن ما سأل‪ :‬لماذا ال يَقبل هللا االدعاء بأن المسيح ابنه‪ ،‬هل يغار هللا من المسيح؟‬
‫قلت له‪ :‬عندما تُرسل لي طرداً مع ساعي البريد‪ ،‬وُأذيع أنا بين الناس أن ساعي البريد هو ابنك‪ ،‬هل تقبل أنت‬
‫بهذا؟‬
‫قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬هل ألنك تغار منه؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬ألنه ببساطة ليس ابني‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬إذاً‪ ،‬فأنت تقبل على خالقك ما ال تقبله لنفسك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا يُعذب هللا بالنار؟‬
‫قلت له‪ :‬وماذا تنتظر من هللا ليفعل بمن يُع ِّذب األطفال باألسلحة الكيماوية مثال‪ ،‬أن يُدخله الجنة؟‬

‫‪)John 28:14( 14‬‬


‫‪15‬‬
‫(‪)Hebrews 3:1‬‬
‫قلت له‪ :‬ومن تبرأ من أمه وأبيه وأهانهم) وطردهم) من المنزل وجعلهم في الشارع مثالً‪ ،‬ماذا تشعر تجاه هذا‬
‫الشخص؟‬
‫قال‪ :‬اشعر بغيظ شديد‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬إن قلت لك أنني سوف) ُأدخله منزلي) وسوف ُأكرمه وسوف ُأطعمه وسوف أشكره على هذا العمل هل‬
‫تُقدر أنت عملي‪ ،‬هل تتقبل ذلك مني؟‬
‫قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬وهلل المثل األعلى‪ ،‬ماذا تنتظر ِم َّمن رفض خالقه وكفر به؟ من عوقب بالنار فكأنما ُوضع في مكانه‬
‫الصحيح‪ ،‬هذا الشخص احتقر السالم والخير على األرض‪ ،‬فلم يستحق نعيم الجنة‪.‬‬
‫"‪َ ..‬ولَ ْو ُردُّوا لَ َعادُوا لِ َما نُ ُهوا َع ْنهُ وَِإنَّ ُه ْم لَ َكا ِذبُونَ "‪ (.‬األنعام ‪)20 :‬‬
‫أي أن ذنبهم ليس ذنبا ً محدوداً في الزمان بل هو خصلة ثابتة‪.‬‬
‫سبُونَ َأنَّ ُه ْم َعلَ ٰى ش َْى ٍء ۚ َأٓاَل ِإنَّ ُه ْم ُه ُم ٱ ْل ٰ َك ِذبُونَ "‪.‬‬
‫"يَ ْو َم يَ ْب َعثُ ُه ُم ٱهَّلل ُ َج ِمي ًعا فَيَ ْحلِفُونَ لَهۥُ َك َما يَ ْحلِفُونَ لَ ُك ْم ۖ َويَ ْح َ‬
‫(المجادلة ‪)18:‬‬
‫فهم يواجهون هللا أيضا ً بالحلف الكذب‪ ،‬وهم بين يديه يوم القيامة‪.‬‬
‫اب النَّا ِر ۖ ُه ْم ِفي َها َخالِدُونَ "‪ (. ‬األعراف ‪)36 :‬‬ ‫ستَ ْكبَ ُروا َع ْن َها ُأو ٰلَِئ َك َأ ْ‬
‫ص َح ُ‬ ‫" َوالَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا َوا ْ‬
‫كما أن الشر يمكن أن يأتي من أناس في قلوبهم) حسد وغيرة ويكونوا) سببا ً في بث المشاكل والنزاعات بين‬
‫البشر‪ .‬فكان من العدالة أن يكون جزائهم النار وهو ما يتناسب مع طبيعتهم‪).‬‬
‫وصفة هللا العادل تقتضي أن يكون ُمنتقما ً إلى جانب رحمته‪ ،‬فاهلل في النصرانية "محبة " فقط وفي) اليهودية‬
‫ِ‬
‫" غضب" فقط‪ ،‬وفي) اإلسالم هو إله عادل ورحيم وله األسماء الحسنى جميعًا‪ ،‬وهي صفات الجمال والجالل‪.‬‬
‫قلت له ُمستطردة‪ :‬ثم إنه في الواقع العملي في الحياة‪ ،‬نستخدم النار لعزل الشوائب عن المادة النقية‪ ،‬كالذهب‬
‫والفضة‪ ،‬ولذلك فإن هللا تعالى ‪ -‬وهلل المثل األعلى ‪ -‬يستخدم النار لتنقية عباده في الحياة اآلخرة من الذنوب‬
‫واآلثام‪ ،‬ويخرج من النار في النهاية من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان برحمته‪.‬‬
‫قال‪ :‬أريد دليال ملموسا َ على وجود هللا‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬أنت تطلب أضعف البراهين‪ .‬فنحن نُبصر قوس قزح والسراب وليس لهما وجود ملموس! ونُصدق)‬
‫العلم المادي‪.‬‬ ‫وجود الجاذبية دون أن نراها ل ُمجرد أن أثبتها ِ‬
‫صا ُر َو ُه َو يُ ْد ِر ُك اَأْل ْب َ‬
‫صا َر ۖ َو ُه َو اللَّ ِطيفُ ا ْل َخبِي ُر" ‪ (.‬األنعام‪)103 :‬‬ ‫"اَّل تُ ْد ِر ُكهُ اَأْل ْب َ‬
‫إن ُمجرد الظن بالقدرة على اإلحاطة باإلدراك الكامل هلل هو عين الجهل به‪ ،‬فقد تقودك السيارة إلى شاطئ‬
‫البحر‪ ،‬ولكن ال تُمكنك من الخوض فيه‪ .‬فلو سألتك مثال عن مياه البحر تُساوي كم لتر‪ ،‬وأجبت بأي رقم فأنت‬
‫جاهل‪ ،‬ولو أجبت بال أعلم فأنت عالِم‪ .‬إن الطريق) الوحيد لمعرفة هللا هي آياته في الكون وآياته القرآنية‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا ال يكون هناك آلهة أخرى ترزق وتشفي؟‬
‫فلت له‪ :‬وهل ادعى أحد غير هللا أنه الرازق) الشافي‪ ،‬لندرس صدق) دعواه من عدمها؟‬
‫أن اإلنسان في الشدة يتوجّه إلى حقيقة واحدة ويرجو ربّا ً واحداً ال أكثر‪ .‬وقد) أثبت العلم وحدة‬
‫ُالحظ ّ‬
‫كذلك ي َ‬
‫المادة‪ ،‬ووحدانية النظام في الكون من خالل التعرف على مظاهر الكون وظواهره‪ ،‬ومن خالل التشابه‬
‫والتماثل في الوجود‪.‬‬
‫ثم تخيل على مستوى األسرة الواحدة عندما يختلف األب واألم على اتخاذ قرار مصيري) يخص األسرة‪،‬‬
‫ويكون ضحية اختالفهم ضياع األطفال وتدمير) ُمستقبلهم‪ ،‬فما بالك في إلهين أو أكثر يحكمان الكون‪.‬‬
‫صفُونَ "‪( .‬األنبياء‪)22 :‬‬ ‫س ْب َحانَ هَّللا ِ َر ِّب ا ْل َع ْر ِ‬
‫ش َع َّما يَ ِ‬ ‫"لَ ْو َكانَ ِفي ِه َما آلِ َهةٌ ِإاَّل هَّللا ُ لَفَ َ‬
‫س َدتَا ۚ فَ ُ‬
‫قال‪ :‬هل يستطيع الخالق أن يُحيي ميتا ً أمامي؟‬
‫قلت له‪ :‬العجيب أنكم أنتم الملحدون تُكررون نفس األسئلة وكأنكم) متفقون عليها‪ ،‬مع أنني على قناعة أنكم على‬
‫يقين من عدم واقعيتها ومنطقيتها‪).‬‬
‫قلت له ُمستطردة‪ :‬وإن أحيى هللا أمامك الموتى فلن يُقنعك ذلك‪ ،‬كما حدث في قصة موسى عليه السالم وغيره‬
‫من األنبياء الذين قدموا) ألقوامهم ال ُمعجزات‪ ،‬لكن أقوامهم اتهموهم) بالسحرة‪.‬‬
‫ٰ‬
‫اح ٌر َأ ْو َم ْجنُونٌ ﴿‪َ ﴾٥٢‬أت ََو َ‬
‫اص ْوا بِ ِه ۚ بَ ْل ُه ْم قَ ْو ٌم طَا ُغونَ ﴿‬ ‫س ِ‬ ‫" َك َذلِ َك َما َأتَى الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِهم ِّمن َّر ُ‬
‫سو ٍل ِإاَّل قَالُوا َ‬
‫‪( ."﴾٥٣‬الذاريات ‪)53-52 :‬‬
‫َي ٍء قُبُاًل َّما َكانُوا لِيُْؤ ِمنُوا ِإاَّل َأن يَشَا َء‬
‫" َولَ ْو َأنَّنَا نَ َّز ْلنَا ِإلَ ْي ِه ُم ا ْل َماَل ِئ َكةَ َو َكلَّ َم ُه ُم ا ْل َم ْوت َٰى َو َحش َْرنَا َعلَ ْي ِه ْم ُك َّل ش ْ‬
‫اللَّـهُ َولَ ٰـ ِكنَّ َأ ْكثَ َر ُه ْم يَ ْج َهلُونَ "‪(.‬األنعام; ‪)111 :‬‬

‫استطرد األمريكي) قائال‪ :‬كيف يُعاقب الخالق عباده بعذاب ال ينتهي‪ ،‬على معاص قليلة‪ ،‬كان قد ارتكبها في‬
‫حياته القصيرة‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬إﻥ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺗصل بأﺻﺤﺎﺑﻬﺎ إﻟﻰ ﺣُﻜﻢ ﺍﻟ ُﻤﺆﺑﺪ‪ .‬ﻓﻬﻞ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﻳﻘﻮﻝ أﻥ ﺣُﻜﻢ ﺍﻟ ُﻤﺆﺑﺪ ظُلم‪ ،‬ألﻥ‬
‫ﺍﻟﻤﺠﺮﻡ ﺍﺭﺗﻜﺐ ﺟﺮﻳﻤﺘﻪ ﺑﺪﻗﺎﺋﻖ ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ؟ ﻫﻞ ﺣُﻜﻢ العشر ﺳﻨﻮﺍﺕ ﺣُﻜﻢ ﻇﺎﻟﻢ‪ ،‬ﻷﻥ ﺍﻟ ُﻤﺠﺮﻡ ﻟﻢ ﻳﺨﺘﻠﺲ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﻮﺍﻝ‬
‫إﻻ ﺳﻨﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ فقط‪ .‬إﻥ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺎﺕ ﻻ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺪﺓ ﺍﺭﺗﻜﺎﺏ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺑﻞ ﺑﺤﺠﻢ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﻭﻓﻈﺎﻋﺘﻬﺎ‪).‬‬
‫واستطرد) األمريكي حواره معي قائالً‪ :‬ولماذا كرر اإلله التحذير من النار‪ ،‬أال يدل ذلك على عدم رحمته وعدم‬
‫محبته لنا؟‬
‫قلت له‪ :‬أنا ُأرهق أوالدي بكثرة تنبيهي) لهم كلما سافروا أو ذهبوا إلى العمل‪ ،‬أن يأخذوا حذرهم في ذهابهم‬
‫وإيابهم‪ ،‬فهل تعتبرني ُأما ً قاسية؟ هذا قلب للموازين‪ ،‬فإنكم تجعلون من الرحمة قسوة‪ ،‬فاهلل يُنبه عباده‬
‫ويحذرهم) لرحمته بهم‪ ،‬ويرشدهم إلى طريق الخالص‪ ،‬ووعدهم بتبديل سيئاتهم حسنات عندما يتوبوا) إليه‪.‬‬
‫ت ۗ َو َكانَ هَّللا ُ َغفُو ًرا َّر ِحي ًما" ‪.‬‬
‫سنَا ٍ‬ ‫صالِ ًحا فَُأو ٰلَِئكَ يُبَ ِّد ُل هَّللا ُ َ‬
‫سيَِّئاتِ ِه ْم َح َ‬ ‫"ِإاَّل َمن ت َ‬
‫َاب َوآ َمنَ َو َع ِم َل َع َماًل َ‬
‫(الفرقان‪)70:‬‬
‫قلت له ُمعقبة‪ :‬ولماذا لم يلفت نظرك) ِعظَم الثواب والنعيم) في جنات الخلود ُمقابل قليل من الطاعات؟‬
‫ت ت َْج ِري ِمنْ ت َْحتِ َها اَأْل ْن َها ُر َخالِ ِدينَ فِي َها َأبَدًا‬ ‫صالِ ًحا يُ َكفِّ ْر َع ْنهُ َ‬
‫سيَِّئاتِ ِه َويُ ْد ِخ ْلهُ َجنَّا ٍ‬ ‫" َو َمنْ يُْؤ ِمنْ بِاهَّلل ِ َويَ ْع َم ْل َ‬
‫َذلِ َك ا ْلفَ ْو ُز ا ْل َع ِظي ُم" ‪( .‬التغابن‪)9:‬‬
‫ِإنَّهُ َكانَ بِ ُك ْم َر ِحي ًما‪:‬‬
‫أكمل األمريكي حواره قائالً‪ :‬ولماذا طلب هللا من نبيه إبراهيم ذبح ابنه‪ ،‬أليست هذه قسوة؟‬
‫قلت له‪ :‬وهل طلب هللا منك ذلك؟ إذا ادعى شخص أنه أذكى رجل في العالم‪ ،‬فمن الطبيعي جداً أن يخضع‬
‫ألصعب االختبارات‪ ،‬إلثبات ادعاءه‪ .‬وإبراهيم) عليه السالم نبي ورسول) يوحى إليه‪ ،‬وقد) صرَّح أن هللا أحب‬
‫إليه من كل شيء‪ ،‬فاختبره هللا ليُثبت هذا الحب‪.‬‬
‫علما أنه ورد) على زمن نبي هللا إبراهيم عادة تقديم األبناء قربانا) لآللهة‪ ،‬وأراد هللا ان يُبطل هذه العادة في‬
‫تقديم االضحية بدالً عن األبناء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا يُكرر) القرآن أن هللا يُحب المؤمنين الصالحين وال يُحب الكافرين‪ ،‬أليسوا جميعا ً عباده؟‬
‫قلت له‪ :‬هللا تعالى أرشد جميع عباده لطريق الخالص‪ ،‬وال يرضى) لهم الكفر‪ ،‬لكنه ال يُحب السلوك الخاطئ‬
‫نفسه الذي يسلكه اإلنسان بالكفر واإلفساد في األرض‪.‬‬
‫ضهُ لَ ُك ْم ۗ َواَل تَ ِز ُر َوا ِز َرةٌ ِو ْز َر ُأ ْخ َر ٰى ۗ‬ ‫ِإن تَ ْكفُ ُروا فَِإنَّ هَّللا َ َغنِ ٌّي عَن ُك ْم ۖ َواَل يَ ْر َ‬
‫ض ٰى لِ ِعبَا ِد ِه ا ْل ُك ْف َر ۖ وَِإن تَ ْ‬
‫ش ُك ُروا يَ ْر َ‬
‫الصدُو ِر (الزمر‪)7:‬‬ ‫ت ُّ‬ ‫ثُ َّم ِإلَ ٰى َربِّ ُكم َّم ْر ِج ُع ُك ْ;م فَيُنَبُِّئ ُكم بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ۚ ِإنَّهُ َعلِي ٌم بِ َذا ِ‬
‫قلت له أيضاً‪ :‬ما قولك في أب يُكرر أمام أبنائه أنني فخور) بكم جميعاً‪ ،‬إن سرقتم وزنيتم وقتلتم‪ ،‬وأفسدتم في‬
‫األرض فأنتم بالنسبة لي كالعابد الصالح؟ ببساطة أقرب وصف لهذا األب هو أنه كالشيطان‪ ،‬يحث أبناؤه على‬
‫الفساد في األرض‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا يُذكرنا) هللا دائما في القرآن بنعمه علينا‪ ،‬فما أعطانا إياه بالنسبة لما يمتلكه ال شيء‪ ،‬فأين العظمة‬
‫في ذلك؟‬
‫قلت له‪ :‬هللا يُذكرنا بنعمه علينا‪ ،‬ليحمينا من أنفسنا من التوجه لغيره بالشكر) والعرفان‪ ،‬فإننا إن لم نعبده فسوف)‬
‫نتوجه بالعبادة لغيره‪ .‬فكلما حصلت أنا على المال مثالً‪ ،‬أو شعرت بنشوة النجاح‪ ،‬وافتخرت) بإنجازاتي فكأنني)‬
‫أشكر نفسي دون أن أشعر‪ ،‬وُأرجع نجاحي إلى قدراتي) التي هي أصالً من هللا‪ ،‬فأفتح حينها صفحة من القرآن‬
‫ألقرأ اآلية الكريمة وما توفيقي إال باهلل‪ ،‬فأعود وأقول الحمد هلل‪.‬‬
‫قلت له أيضاً‪ :‬إن أهداك أحد هدية‪ ،‬هل تفرح بالهدية لذاتها أم بداللتها على محبة من أهداها إليك؟‬
‫قلت له مستطردة‪ :‬فعظمة العطاء بقيمة مصدره‪ ،‬فلو أعطيتك ‪ 100‬دينار‪ ،‬وأعطاك ال َملِك دينار‪ ،‬لكنت فرحت‬
‫أكثر بدينار الملك‪ ،‬وألشعلت وسائل التواصل االجتماعي بهذا الخبر‪.‬‬
‫طبعا الياباني كان يستمع ولم يتدخل أبدا خالل الثالث ساعات‪.‬‬
‫عاد األمريكي وسأل‪ :‬أليست قسوة‪ ،‬أن يُحاسبنا) هللا على أعمال هو كتبها علينا أصالً؟‬
‫قلت له‪ :‬إنك عندما تريد مثال أن تشتري) شيئا من المتجر‪ ،‬وتُقرر أن ترسل االبن األول لشراء هذا الشيء‪،‬‬
‫ألنك على ِعلم مسبق أن هذا الولد حكيم‪ ،‬وسوف يذهب ُمباشرة لشراء ما تُريده تماما‪ ،‬وتعلم أن الولد اآلخر‬
‫سوف ينشغل باللعب مع أقرانه‪ ،‬ويُضيع المال‪ ،‬وهذا في الواقع افتراض قد بنيت حُك َمك عليه‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬االطالع على األقدار) ال يتناقض مع إرادة اختيارنا‪ ،‬ألن هللا يعلم أفعالنا بنا ًء على علمه التام بنوايانا‬
‫واختياراتنا‪ ).‬وله المثل األعلى‪ -‬يعلم طبيعة البشر‪ ،‬فهو) الذي خلقنا ويعلم) ما في قلوبنا من الرغبة بالخير أو‬
‫الشر ويعلم نوايانا و ُمطلع على أفعالنا‪ ،‬وتسجيل هذا ال ِعلم عنده ال يُناقض إرادة اختيارنا)‪ .‬علما بأن هللا ِعلمه‬
‫ُمطلق‪ ،‬وتوقعات البشر تُصيب وتُخطأ‪.‬‬

‫قلت له أيضاً‪ :‬من الممكن أن يتصرف اإلنسان بطريقه ال تُرضي) هللا‪ ،‬لكن تصرفه لن يأ ِ‬
‫ت ضد إرادته تعالى‪،‬‬
‫فقد أعطي هللا خلقه إرادة االختيار‪ ،‬لكن تصرفاتهم تلك وإن كانت فيها معصية له‪ ،‬فهي ال تزال ضمن إرادة‬
‫هللا وال يمكن أن تُعاكسها ألنه تعالى لم يُعط أحداً مجاالً لتجاوز) مشيئته‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلماذا يسمح بالمعصية؟‬
‫قلت له‪ :‬أحيانا عندما يصر ابني مثال الصغير على مساس النار وأقول) له ال تفعل هذا الشيء‪ ،‬لكن في لحظة‬
‫ما‪ ،‬عندما أجده عنيدا أسمح له أن يمسها لكي يتعلم من تجربته‪ ،‬ألنني علمت بعلمي بشخصية ابني أن هذا‬
‫الولد لن يتعلم إال اذا جرب‪ ،‬وهلل المثل األعلى‪ ،‬فاهلل يعلم طبيعة هذا الشخص ويعلم أنه لن يتعلم إال اذا جرب‪،‬‬
‫ولهذا نجد أن هناك كثيراً من الناس يتعرضون الختبارات بسيطة من هللا‪ ،‬وهناك بشر يتعرضون الختبارات‬
‫صعبه‪ ،‬هذا كله بعلمه سبحانه فربما) يكون ذلك ألنه يعلم أن هذا الشخص لن يتعلم ولن يرجع إلى هللا إال‬
‫باختبار صعب‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا يُجبرنا) على اإليمان؟‬
‫قلت له‪ :‬وهل أجبرك هللا على اإليمان به؟ أنت تقف أمامي وت َّدعي أنك غير مؤمن به‪.‬‬
‫إنك ال تستطيع) أن تُجبر قلبك وتُكرهه على قبول شيء ال يُريده‪ ،‬فإنه من الممكن أن تُجبر شخص على البقاء‬
‫معك تحت التهديد والترهيب‪ ،‬لكن ال تستطيع إجبار هذا الشخص على أن يحبك‪ ،‬لقد حفظ هللا قلوبنا من أي‬
‫شكل من أشكال االكراه‪ ،‬لهذا السبب هو يُحاسبنا ويكافئنا بناء على نوايانا) وما تحمله قلوبنا‪).‬‬
‫وفي نهاية الزيارة كانت المفاجأة‪ ،‬جاء األمريكي وقال لي أنه يريد أن يلتقط صور داخل المسجد‪ ،‬وأثناء‬
‫غياب األمريكي جاءني الياباني‪ ،‬وقال لي‪ :‬أنا ُأعجبت جدا بهذا الدين‪ ،‬ما هذا الدين العظيم؟ أنا أريد أن أعتنق‬
‫هذا الدين‪ ،‬وقد كانت مفاجئة مذهلة لي‪ ،‬حيث أنني لم أجد منه أي ردة فعل خالل الزيارة وكان يستمع فقط‪.‬‬
‫وشهد الياباني أمام االمريكي بأن ال إله إال هللا وأن محمدا رسول هللا وما كان على األمريكي إال أن يُبارك له‪،‬‬
‫وطلب مني الياباني تفاصيل أكثر عن ممارسة هذا الدين وقد أعطيته رقم تليفون المركز) االسالمي في‬
‫طوكيو‪ ،‬وقد وعدني بأن يستمر على هذا الطريق‪.‬‬
‫‪:‬يأتي هللا بقوم يُ ِحبُّ ُه ْم ويُ ِحبُّونَه;‬
‫ستَ ْغفِرُونَ لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا َو ِ‬
‫سعْتَ‬ ‫ش َو َمنْ َح ْولَهُ يُ َ‬
‫سبِّ ُحونَ بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َويُْؤ ِمنُونَ بِ ِه َويَ ْ‬ ‫"الَّ ِذينَ يَ ْح ِملُونَ ا ْل َع ْر َ‬
‫يم "‪( .‬غافر‪)7 :‬‬ ‫سبِيلَ َك َوقِ ِه ْم َع َذ َ‬
‫اب ا ْل َج ِح ِ‬ ‫َي ٍء َّر ْح َمةً َو ِع ْلما ً فَا ْغفِ ْر لِلَّ ِذينَ تَابُوا َواتَّبَ ُعوا َ‬
‫ُك َّل ش ْ‬
‫ويتجلى محبة هللا ورحمته لعباده في خلقهم وتكريمهم) وإرشادهم) وبيان الطريق) الحق لهم‪.‬‬
‫ص َّو ْرنَا ُك ْم ثُ َّم‬
‫ش ُكرُونَ ﴿‪َ ﴾١٠‬ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا ُك ْم ثُ َّم َ‬
‫ش ۗ قَلِياًل َّما تَ ْ‬
‫ض َو َج َع ْلنَا لَ ُك ْم فِي َها َم َعايِ َ‬‫" َولَقَ ْد َم َّكنَّا ُك ْم فِي اَأْل ْر ِ‬
‫سا ِج ِدينَ ﴿‪( ."﴾١١‬األعراف ‪) 11- 10 :‬‬ ‫يس لَ ْم يَ ُكن ِّمنَ ال َّ‬‫س َجدُوا ِإاَّل ِإ ْبلِ َ‬ ‫س ُجدُوا آِل َد َم فَ َ‬
‫قُ ْلنَا لِ ْل َماَل ِئ َك ِة ا ْ‬
‫ومن اإلشارات اللطيفة في القرآن الكريم أن هللا قدم ذكر حبه لعباده على ذكر حب العباد له‪ ،‬وذلك من لطفه‬
‫العظيم‪ ،‬ورحمته الواسعة بهم‪.‬‬
‫س ْوفَ يَْأتِي هَّللا ُ بِقَ ْو ٍم يُ ِحبُّ ُه ْم َويُ ِحبُّونَهُ‪( . " ...‬المائدة‪)5 :‬‬
‫"‪... ‬فَ َ‬
‫ومن اإلشارات اللطيفة في القرآن الكريم أيضاً‪ ،‬أن رحمة هللا ولطفه تتجلى حتى فيما يُصيب االنسان من‬
‫مصائب وضر‪.‬‬
‫ش ْيًئا َواَل يُنقِ ُذو ِن"‪(.‬يس ‪)23 :‬‬
‫شفَا َعتُ ُه ْم َ‬
‫ض ٍّر اَّل تُ ْغ ِن َعنِّي َ‬ ‫"َأَأتَّ ِخ ُذ ِمن دُونِ ِه آلِ َهةً ِإن يُ ِرد ِ‬
‫ْن ال َّر ْح ٰ َمنُ بِ ُ‬
‫فإذا شاء "الرحمن" أن يصيب اإلنسان بالضر‪ ،‬فإن هذا ُموجب لرحمته ولطفه‪ ،‬ويصير األمر الذي ظاهره‬
‫الضر في حقيقته رحمة‪ ،‬وخيرًا للمؤمن؛ ألن الرحمن ال يصدر عنه إال الرحمة واللطف والبر‪.‬‬
‫ش ْيًئا َوه َُو ش ٌَّر لَ ُك ْم َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوَأ ْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُمونَ "‪.‬‬
‫سى َأنْ ت ُِحبُّوا َ‬ ‫سى َأنْ تَ ْك َرهُوا َ‬
‫ش ْيًئا َوه َُو َخ ْي ٌر لَ ُك ْم َو َع َ‬ ‫" َو َع َ‬
‫(البقرة ‪)216 :‬‬
‫ومن رحمة هللا بخلقه أن وزع) األرزاق بينهم‪ ،‬وجعل بينهم حاجات يقضيها أحدهم لآلخر‪ ،‬ليتحقق التعاون فيما‬
‫بينهم‪ ،‬بما يعود بالنفع على الجميع‪ ،‬ولو استغنى) بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم‪ ،‬وكان من تمام رحمته‬
‫بهم أن جعل فيهم الغني والفقير‪ ،‬والعزيز والذليل‪ ،‬والعاجز والقادر‪ ،‬وأبقى باب العطاء والفضل الرباني‬
‫مفتوحا للتنافس فيه ولدوام التعلق به‪.‬‬
‫ت‬
‫ض َد َر َجا ٍ‬ ‫ض ُه ْم فَ ْو َ‬
‫ق بَ ْع ٍ‬ ‫شتَ ُه ْ;م فِي ا ْل َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا ۚ َو َرفَ ْعنَا بَ ْع َ‬ ‫س ُمونَ َر ْح َمتَ َربِّ َك ۚ نَ ْحنُ قَ َ‬
‫س ْمنَا بَ ْينَ ُه ْم َم ِعي َ‬ ‫"َأ ُه ْم يَ ْق ِ‬
‫س ْخ ِريًّا ۗ َو َر ْح َمتُ َربِّكَ َخ ْي ٌر ِم َّما يَ ْج َمعُونَ "‪( .‬الزخرف ‪)32 :‬‬ ‫ضا ُ‬ ‫لِيَتَّ ِخ َذ بَ ْع ُ‬
‫ض ُه ْم بَ ْع ً‬
‫وتتجلى رحمة هللا في شريعته وأحكامه والتي هي خير ورحمة للخلق سواء ما يتعلق بهدايتهم وحفظ دينهم‪ ،‬أو ما يتعلق‬
‫بحفظ أنفسهم وأبدانهم‪ ،‬عقولهم وأفكارهم‪ ،‬حفظ أعراضهم وأنسابهم وأوالدهم‪ ،‬وحفظ أموالهم وممتلكاتهم‪.‬‬
‫فكل ما يتعلق بهذه الضروريات) الخمس من أحكام إنما جاءت رحمة بالناس بالمحافظة عليها وحمايتها) من‬
‫الفساد والعدوان‪ ،‬ورفع الحرج والعنت عن الناس‪ ،‬وحفظ لكل ذي حق حقه‪ ،‬حتى يتسنى) لهم العيش في بيئة‬
‫صالحة وآمنة وسعيدة‪ ،‬حيث أن الحق في البيئة السليمة هو من ركائز حق الحياة‪.‬‬
‫س َل ۗ َوهَّللا ُ اَل يُ ِح ُّب ا ْلفَ َ‬
‫سادَ"‪( . ‬البقرة‪)205 :‬‬ ‫س َد ِفي َها َويُ ْهلِكَ ا ْل َح ْر َث َوالنَّ ْ‬ ‫س َع ٰى فِي اَأْل ْر ِ‬
‫ض لِيُ ْف ِ‬ ‫"وَِإ َذا تَ َولَّ ٰى َ‬
‫يقول ابن القيم ‪ -‬ويُذكر من باب االعتبار والموعظة ‪" :-‬أوحى هللا إلى داود عليه السالم فقال‪ :‬يا داود لو يعلم‬
‫المدبرون عني انتظاري) لهم‪ ،‬ورفقي بهم‪ ،‬وشوقي) إلى ترك معاصيهم) لماتوا شوقا إلي‪ ،‬وتقطَّعت أوصالهم)‬
‫لمحبتي‪ ،‬يا داود هذه إرادتي بال ُمدبرين عني فكيف بالمقبلين علي"‪.16‬‬

‫‪ 16‬روضة المحبين (ص ‪)438‬‬

You might also like