You are on page 1of 37

‫أعمال القلوب‬

‫ف احلج والعمرة‬

‫اختصره‪ :‬انيف بن علي التميمي املكي‬

‫ذو احلجة ‪1439‬‬

‫‪1‬‬
‫بسم هللا الرمحن الرحيم وبه أستعني‬

‫احلمد هلل وحده والصالة والسالم على من ال نيب بعده‪ ..‬وبعد‪:‬‬


‫(يشعثون‬
‫أخرج ابن سعد عن عمر رضي هللا عنه أنه قال يوماً وهو بطريق مكة وهو حي ّدث نفسه‪ّ :‬‬
‫ويغَبُّون‪ ،‬ويتعبون ويضجرون ال يريدون بذلك شيئاً من عرض الدنيا! ما نعلم سفراً خرياً من هذا) يعين‪:‬‬ ‫ر‬
‫احلج‪.‬‬
‫والعبادات كلها هلا مقاصد يف الباطن تريب العبد وتدنيه وهتذبه وتزكيه‪ ،‬قال ابن اجلوزي رمحه هللا‬
‫تعاىل‪( :‬اعلم أ ّن أصل العبادة معقول‪ ،‬وهو ذل العبد ملواله بطاعته‪ .‬فإ ّن الصالة فيها من التواضع والذل‬
‫ما يفهم منه التعبد‪.‬‬
‫ويف الزكاة إرفاق ومواساة يفهم معناه‪.‬‬
‫ويف الصوم كسر شهوة النفس لتنقاد طائعة إىل خمدومها ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ويف تشريف البيت ونصبه مقصداً‪ ،‬وجعل له ما حواليها حرماً تفخيما له‪ ،‬وإقبال اخللق شعثاً غَباً‬
‫كإقبال العبد إىل مواله ذليالً معتذراً‪ :‬أمر مفهوم‪.‬‬
‫والنفس أتنس من التعبد مبا تفهمه‪ ،‬فيكون ميل الطبع إليه معيناً على فعله‪ ،‬وابعثاً؛ فوظفت هلا‬
‫وظائف ال تفهمها‪ ،‬ليتم انقيادها‪ ،‬كالسعي والرمي‪ ،‬فإنّه الحظ يف ذلك للنفس‪ ،‬وال أنس فيه للطبع‪ ،‬وال‬
‫يهتدي العقل إىل معناه‪ ،‬فال يكون الباعث إىل امتثال األمر فيه سوى جمرد األمر واالنقياد احملض‪ .‬وهبذا‬
‫اإليضاح تعرف أسرار العبادات الغامضة) ‪ .‬واحلكم اليت تنطوي عليها العبادات أوسع من أن حييط هبا‬
‫(‪)2‬‬

‫قل ٌم؛ لكن الغرض لفت النظر إىل هذه املقاصد‪.‬‬

‫( ) حملمود شاكر مقالة بعنوان "عبادة األحرار" ذكر فيها‪ :‬أ ّن معىن الصيام هو عتق النفس اإلنسانية من كل ٍّّ‬
‫‪1‬‬
‫رق‪ ،‬من رق احلياة ومطالبها‬
‫ومن رق األبدان وحاجاهتا يف مآكلها ومشارهبا‪ ،‬من رق النفس وشهواهتا‪ ،‬ومن رق العقول ونوازعها‪ ،‬ومن رق املخاوف حاضرها‬
‫وغائبها‪ ،‬حىت تشعر اب حلرية اخلالصة‪ ،‬حرية الوجود‪ ،‬وحرية اإلرادة وحرية العمل‪ ،‬فتحرير النفس املسلمة هو غاية الصيام الذي‬
‫كتب عليها فرضاً وأتتيه تطوعاً؛ لتعلم هذه النفس احلرة أن هللا الذي استخلفها يف األرض لتقيم فيها احلق ولتقضي فيها ابحلق‬
‫ولتعمل فيها ابحلق ال يرضى هلا أن تذل ألعظم حاجات البدن؛ ألهنا أقوى منها وال ألعىت مطالب احلياة ألهنا أمسى منها‪ ،‬وال‬
‫أعز سلطاهنا منها‪ ..‬فالصيام كما ترى هو عبادة األحرار وهو هتذيب األحرار وهو ثقافة األحرار‪.‬‬ ‫ألطغى قوى األرض ألهنا ّ‬
‫(‪ )2‬مثري العزم الساكن (ص ‪ ،)286 - 285‬وقد ذكره الغزايل قبله يف األحياء بعبارة قريبة من هذا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ومن مقاصد احلج الكلية‪:‬‬
‫‪ -1‬رايضة النفس على الصَب و التحرر من عادات الرتف و التكلف تعويداً للمسلم على التجرد‬
‫من العبودية للعادات واملآلوفات حىت يكون حراً إال من عبودية هللا تعاىل‪ :‬وهذا واضح من أ ّن احلج ملا‬
‫فرض – يف اإلسالم – كان يوجب على الرجل االمتناع عن الطيب و بعض مظاهر الزينة‪ ،‬مكتفياً ابلبسيط‬
‫من اللباس‪ ،‬ضاحياً للشمس مدة السفر من ذي احلليفة – ميقات املدينة – إىل مكة املكرمة‪ ،‬وهي عادة‬
‫عشرة أايم‪ ،‬ويفرض على املرأة اليت كان النقاب والقفاز حيميان نضارة ونعومة يدها أن ختلعهما وأن تضحي‬
‫للشمس كل هذه املسافة سافرة الوجه ابرزة للشمس والكلف والغَبة‪ ،‬ممتنعة عن الطيب ومظاهر أخرى‬
‫للزينة‪ .‬وقد وصف النيب ‪ ‬احلج أبنه "جهاد ال قتال فيه"‪ ،‬ورب العز واجلالل وصف احلاج بــ(أتوين شعثاً‬
‫غَباً) وأهنم (أيتوك رجاالً وعلى كل ضامر) وإذا كانت الراحلة ضمرت من مشقة السفر ووعثائه فكذلك‬
‫راكبها‪.‬‬
‫‪-2‬رايضة النفس على التواضع والبعد عن الكَب وتنقية النفس من األخالق املذمومة إمجاالً‪ :‬فقد‬
‫حج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على رحل رث وقطيفة ال تساوي أربعة دراهم وقال‪ " :‬اللهم حجاً‬
‫مَبوراً ال رايء فيه وال مسعة"‪ .‬والتواضع ليس فقط قيمة أساسية من قيم اإلسالم‪ ،‬بل هو مصدر لتوليد‬
‫وتطوير وتنمية عدد من القيم اإلسالمية األخرى‪ ،‬ونقيض التواضع الكَب‪ .‬واآلايت القرآنية اليت وردت فيها‬
‫مادة (كَب) وما اشتق منها تبلغ اثنتني وأربعني آية وكلها تبني أ ّن الكَب سبب الضالل أو نتيجته أو مسة‬
‫الضالني أو وصفاً سببياً الستحقاق العقاب الدنيوي واألخروي‪ ،‬واملتواضع قادر على حتقيق الوسطية (مسة‬
‫اإلسالم) وابلعكس فال ترى غالياً أو متطرفاً يف أحد اجلانبني إال ويف صدره كَب ما هو ببالغه‪.‬‬
‫ض فِي ِه َّن‬
‫ومن ذلك هني احلاج عن الفحش والسباب واللغو واجلدال واملماراة‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬فر رم ْن فرـرر ر‬
‫اَّلل}[البقرة‪]197 :‬؛ ليعتاد املسلم‬ ‫وق رورال ِج رد رال ِيف ْ‬
‫احلر ِّج رورما ترـ ْف رعلوا ِم ْن رخ ٍّْري يـر ْعلر ْمه َّ‬ ‫ث رورال فس ر‬
‫احلر َّج فر رال ررفر ر‬
‫ْ‬
‫كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫على االبتعاد عن مثل هذه األخالق املذمومة بعد احلج؛ ألهنا مذمومة يف ّ‬
‫‪ -٣‬وجود فرصة للمسلم لكي يرى احلياة على حقيقتها‪ ،‬فتنكشف له حقائق احلياة كما سوف‬
‫تتكشف له عند املوت‪ ،‬فيعلم أ ّن كثرياً من األمور اليت اعتاد أ ْن يراها مهمة أو مثينة وال ميكن االستغناء‬
‫عنها هي يف احلقيقة غري مهمة وال قيمة هلا وميكن االستغناء عنها‪ ،‬ويرى الفروق اليت أوجدها الناس بني‬
‫الناس فروق اصطناعية وزائفة وال وزن هلا يف ميزان هللا فالناس سواسية ال اعتبار ألنساهبم وال أللواهنم وال‬

‫‪3‬‬
‫ملكانتهم االجتماعية‪ ،‬فإذا أجَبته ظروف احلياة على مراعاة هذه الفروق وانعكست على جوارحه الظاهرة‬
‫ومل يتأثر هبا قلبه الذي يبقى شاهداً على الوحدانية‪ ،‬موقناً أب ّن احلياة الدنيا متاع الغرور ‪.‬‬
‫(‪)٣‬‬

‫أتمل يف نوم احلجاج يف مزدلفة‪ ،‬فالوقوف فيها ليالً فقط فال حيتاجون إىل اخليام اليت يتفاوتون يف‬
‫مظهرها‪ ،‬ومدة الوقوف فيها سويعات قليلة فيتجرد احلجاج فيها من األمتعة واحلقائب اليت قد تظهر غىن‬
‫البعض أو تعاظمه‪ ..‬فهم يف مزدلفة كلهم ينامون نومة الفقراء على األرض العارية‪ ،‬ورمبا أكلوا أكل الفقراء‪..‬‬
‫تراهم قد اصطفوا يف طوابري طويلة أمام دورات املياه‪ ،‬الفقري مع الغين‪ ،‬واألسود مع األبيض‪ ،‬متلبسني‬
‫مبظاهر الفقر والضعف بعيداً عن مظاهر الغِىن لكي يدرك اجلميع وهم يرون هذه املناظر يف مزدلفة‪ ..‬أ ْن‬
‫ال عظيم عظمة مطلقة إال هللا وحده سبحانه!‬

‫‪-4‬حتقيق احملبة هلل تعاىل‪ :‬فاحلج ال يتم حىت يرتك الوطن الذي أحبه وينتمي إليه‪ ..‬حىت يفارق ماله‬
‫وأهله وعشريته‪ ..‬ينفصل عن كل حمبوب وهو ال يدري أيعود إليها أم ال‪ .‬بل حىت لو غادر معه احملبوب‬
‫كالزوجة واملالبس الفاخرة والعطور الزكية فإ ّن هذه احملبوابت تكون حراماً عليك مبجرد اإلحرام حتقيقاً‬
‫لتجريد احملبة هلل رب العاملني‪ .‬بل مكة ذاهتا فيها حمبوابت أخرى عظيمة كاملسجد احلرام والكعبة املشرفة‬
‫واحلجر األسود ومقام إبراهيم وبئر زمزم وأرض احلرم نفسها‪ ،‬هذه كلها حمبوبة‪ ،‬ومع هذا يفارقها ويفارق‬
‫أرض احلرم تسليماً ألمر هللا وحكمه سبحانه وتعاىل وذلك يف أعظم أايم احلج إىل عرفة ‪-‬وهي خارج حدود‬
‫احلرم‪ -‬هناك حيث ختلو أرضها من كل حمبوب فال يبقى حمبوب إال هللا وحده سبحانه وتعاىل برهاانً منه‬
‫على أ ّن هللا سبحانه أحب إليه من هذه كلها وهذا من صدق وإخالص احملبة هلل عز وجل قوالً وعمالً‪.‬‬
‫غاد للبيت إال وهو ممتحن يف صدق حمبته هلل تعاىل ويف األعمال القلبية األخرى‪ ،‬وقد نبأان‬ ‫وما من ٍّ‬
‫اَّلل بِ رش ْي ٍّء ِم رن َّ‬
‫الصْي ِد ترـنراله‬ ‫َّ ِ‬
‫هللا بذلك يف كتابه فذكر أمنوذجاً لالمتحان‪ { :‬راي أريـُّ رها الذ ر‬
‫ين رآمنوا لريرـْبـل رونَّكم َّ‬
‫ب}(املائدة ‪ )94‬وقد كان الصيد للمسافر قدمياً أمر يف غاية‬ ‫أريْ ِديك ْم روِررماحك ْم لِيرـ ْعلر رم َّ‬
‫اَّلل رم ْن رَيرافه ِابلْغرْي ِ‬
‫األمهية إذ ال مطاعم ومع عناء السفر وطول الشقة والفقر أو القلة أحياانً يصبح حلم الصيد من القلب‬
‫مبكان مث يدنيه هللا منك حىت ال حتتاج إىل آلة لكي متسك به فيكفي أ ْن متد يدك فتصيده‪ ..‬امتحاانً من‬
‫(‪)4‬‬

‫هللا يف األعمال القلبية‪ ..‬واالمتحاانت ليست حكراً على الصيد‪..‬‬

‫(‪ )٣‬مقالة للشيخ صاحل احلصني بعنوان "جتربة حاج" وينظر‪ :‬الشيخ صاحل احلصني قطوف من سريته ‪ ،227‬ومقاصد احلج يف ضوء‬
‫القرآن الكرمي حملمد اخلويل مقالة‪.‬‬
‫(‪ )4‬قال ابن رشيد الفهري‪( :‬صحبين يف الطريق من املدينة على ساكنها الصالة والسالم قاصدين إىل البيت احلرام أحد الشيوخ من‬
‫شرفاء املدينة‪ ،‬فلما وافينا رابغ ‪-‬يعين بعد األحرام‪ -‬رأيت أمراً عجباً من ختلل الوحش‪ :‬الغزال واألرنب بني اجلمال والرحال‪ ،‬حبيث‬
‫‪4‬‬
‫فثم امتحاانت يف احملبوابت احملرمة أصالً على احملرم وغريه؛ كابتالء الرجال ابلنساء والنساء ابلرجال‬
‫غري احملارم عند الطواف ورمي اجلمار وعند دخول احلرم واخلروج منه ويف الطرقات إليه ويف كل املناسك يف‬
‫زحام تدنوا فيه األجساد من األجساد‪ ..‬واألنفاس من األنفاس‪ ..‬ليتم االختبار واالبتالء‪ ..‬آهلل أحب إليكم‬
‫أم احلرام؟‬
‫لقد امتحن هللا إبراهيم عليه السالم يف احملبة يف مكة عند اجلمرات‪ ..‬مث انل درجة اخللة بعد‬
‫جناحه‪ ..‬فبعد أن أختَب عليه السالم ابلعقم سنني طويلة مث أختَب بعد أن جاءه الولد أبن يرتكه وأمه يف و ٍّاد‬
‫غري ذي زرع ويرحل إىل الشام‪ ،‬مث يشدد عليه االختبار ويؤمر ابلرجوع إليهم‪ ،‬مث بعد فرحته بلقاء ولده‬
‫الوحيد يؤمر بذحبه‪ ،‬فيأيت إىل مكان هذه اجلمرات لتنفيذ األمر فيأتيه الشيطان ثالث مرات يوسوس له‬
‫لريده عن تنفيذ أمر ربه فما جيد من إبراهيم إال الرد احلاسم الرجم ابحلجر والرتديد أ ّن (هللا أكَب) من كل‬
‫حمبوب ‪( ...‬هللا أكَب) (هللا أكَب) (هللا أكَب)‪.‬‬

‫‪-5‬حتقيق اخلوف من هللا تعاىل‪ :‬فقد وصف النيب ‪ ‬احلج أبنه "جهاد ال قتال فيه"‪ ،‬وهل اجلهاد‬
‫إال قرين اخلوف‪ ،‬وقد كانت عمرته ‪ ‬عام احلديبية مقرونة خبوف حىت تداعوا للبيعة حتت الشجرة مث يف‬
‫عمرة القضية اشرتطوا أن حيملوا السالح خوفاً من غدر قريش‪ ،‬وال زال اخلوف مقاران للحج ال يكاد ينفك‬
‫عنه‪ ،‬وكلما احنل خوف جتدد خوف جديد ذو هيئة جديدة‪.‬‬
‫فبعد أن انتهى اخلوف من قريش استجد اخلوف من قطاع الطرق يف أغلب الطرق املؤدية إىل البقاع‬
‫الطاهرة واستمرت قروانً متطاولة وكان الذاهب إىل مكة مفقود والقادم منها مولود‪.‬‬
‫وملا احنل اخلوف من قطاع الطرق وأمنت السبل استجد خوف حرائق اخليام‪ ،‬وصارت قرينة احلج‬
‫سنني طويلة‪.‬‬
‫وملا احنلت ظاهرة حرائق اخليام استجد خوف املظاهرات مث التفجريات مث زحام اجلمرات‪ ،‬مث السيول‬
‫مث األمراض املعدية‪ ..‬وكلما أغلق ابب خوف انفتح ابب خوف جديد! ولعل املقصد من ذلك وهللا أعلم‪،‬‬
‫االرتقاء بعبادة اخلوف من هللا سبحانه من الزعم ابللسان إىل التحقيق ابجلوارح واجلنان‪.‬‬
‫فمع جتدد املخاوف يقدم احلاج ولسان حاله خويف من وعيد هللا يف حق من مل حيج وهو قادر‪،‬‬
‫أعظم من هذه املخاوف كلها‪.‬‬

‫يناله الناس أبيديهم‪ ،‬والناس ينادون‪ :‬حرام حرام! واجلوارح قد سلسلت ِخيفة تعدي جاهل يعتسف اجملاهل‪ ،‬فقال يف ذلك الشيخ‬
‫الشريف‪ :‬أتمل ترـرر عجباً! هكذا عادتنا يف هذا الطريق! يؤمنا وحنن حمرمون مير به من الوحش ما ترى‪ ،‬فإذا عدان حملني مل جند به‬
‫شيئاً‪ .‬فلما عدان كان كما قال! فبان يل من معىن اآلية الكرمية) املختار من الرحالت احلجازية ‪.1٣6/1‬‬
‫‪5‬‬
‫‪-6‬مث مع هذه املقاصد الكلية وغريها مما مل يذكر جتد أ ّن هللا تعاىل دعا هؤالء إىل بقعة قدسها هللا‬
‫وابركها وجعلها قياماً للناس‪ ،‬حىت خصها اجلليل الكرمي‪ :‬أبنه يتفضل فيها على عباده من النعم األصلية‬
‫كنعمة اهلداية والعلم النافع‪ ،‬والعمل الصاحل‪ ،‬واحلكمة‪ ،‬ومن مراتب العبودية كرتبة اإلميان واإلحسان‪،‬‬
‫والشهادة والص ّديقيّة‪ ،‬وغريها‪ ،‬أكثر وأسرع مما يعطي يف غريها من البلدان األخرى‪ .‬ويستجيب هللا فيها‬
‫ملن طلب منه هذه النعم واملراتب‪ ،‬أسرع مما يستجيب يف غريها من البلدان‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعاىل يعطي‬
‫هذه النعم يف كل بلد من األرض‪ ،‬ولكنها يف مكة أسرع وأكثر وهللا أعلم‪.‬‬
‫فهذا اخلليل إبراهيم عليه السالم أعطاه هللا رتبة اإلسالم واإلميان واإلحسان والنبوة والرسالة خارج‬
‫مكة‪ .‬لكن حينما أراد الكرمي أن يتفضل عليه برتبة اخللّة وهي أعلى الرتب‪ ،‬دعاه إىل مكة‪ ،‬وهناك كان‬
‫االبتالء أشد وكان العطاء أكَب فأعطي رتبة اخللّة‪.‬‬
‫وهذا نبينا حممد ﷺ ميأل قلبه يف مكة بكل النعم األصلية بعد ابتالءات عظيمة‪ ،‬مث ينعم عليه برتبة‬
‫اخللة يف مكة‪ ،‬مث يؤذن له أن يهاجر إىل املدينة‪.‬‬
‫ولذلك لعل من مقاصد احلج أن يدعى املسلم إىل هذا املكان‪ ،‬الذي يتجلى فيه كرم هللا سبحانه‬
‫وعطاؤه أكثر من غريه من األماكن‪ ،‬فتكثَّف عليه العبادة يف أايم معدودات ليعطى من هذه النعم وغريها‬
‫أكثر مما يعطى يف بلده الذي جاء منه‪.‬‬
‫فإذا أتمل احلاج هذه اخلاصية ملكة أحل على هللا سبحانه ابلدعاء أن يكثر له من النعم كلها األصلية‬
‫والفرعية‪ ،‬خاصة األصلية‪ ،‬وأن يرفع مقامه يف العبودية‪ .‬فرمبا استجاب هللا له يف هذه الرحلة القصرية‪،‬‬
‫وضاعف علمه أو حكمته أو تقواه أو عمله الصاحل أو رفع درجته‪ ،‬فجاء مسلماً ورجع مؤمناً‪ ،‬أو جاء‬
‫مؤمناً ورجع حمسناً‪ ،‬أو جاء حمسناً ورجع ص ّديقاً‪..‬‬
‫وسنة هللا يف النعم األصلية أال يعطيها عبداً من عباده حىت يبتليه وَيتَبه ‪-‬كما مضى اإلشارة إليه‬
‫قريباً يف الفقرة ‪ ،-4‬ولذلك اشتد االبتالء على إبراهيم عليه السالم يف مكة أكثر من العراق والشام واشتد‬
‫االبتالء على حممد عليه الصالة والسالم يف مكة أكثر من املدينة وذلك ليصال إىل مرتبة اخللة وهللا أعلم‪.‬‬
‫فلهذا يشتد االبتالء واالختبار على احلاج يف مكة متهيداً لعطية عظيمة يرجوها من هللا عز وجل‬
‫إن هو صَب واتقى هللا سبحانه ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬

‫(‪ )5‬مستفاد من رسالة‪ :‬من مقاصد احلج للشيخ خالد بن صاحل السالمة‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫واحلج كما ترى رحلة ال كأي رحلة‪ ..‬هي رحلة قلب إن هدى هللا وأعان بكرمه‪ ..‬وقد كنت وقفت‬
‫خريا‪ ،‬فراق يل مجعه وترتيبه‬
‫على كتاب "أعمال القلوب يف احلج والعمرة" لراقمه عبد هللا العنزي جزاه هللا ً‬
‫فاختصرت الكتاب لنفسي عوانً يل على تعقله‪ ،‬فكان هذه األوراق‪ ..‬ورب حامل فقه ليس بفقيه‪ ..‬ورب‬
‫حامل فقه إىل من هو أفقه منه‪ .‬اللهم فقهنا وبصران وخذ بنواصينا إليك ودلنا عليك يف عافية‪ ،‬وال حول‬
‫وال قوة إال ابهلل العلي العظيم‪.‬‬

‫فإىل املقصود ومن هللا العون والسداد‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫أمر هللا احلاج أن يتزود بزادين يف طريقه إىل مكة‪:‬‬
‫‪-‬حسي يوصله إىل مكة‪.‬‬
‫اب}(البقرة‪.)197‬‬ ‫ِ‬
‫ون اي أوِيل األرلْب ِ‬ ‫‪-‬ومعنوي يصله بربه‪{ .‬وترـزَّودواْ فرِإ َّن خري َّ ِ‬
‫ر‬ ‫الزاد التَّـ ْق روى رواتـَّق ر ْ‬ ‫ر ْر‬ ‫رر‬
‫وأصل التقوى عمل القلب قال ‪" :‬التقوى هاهنا" ويشري إىل صدره ثالث مرات‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫لقد أمر النيب ‪ ‬أب ْن تؤخذ عنه املناسك؛ واألمر عام فشمل املناسك الظاهرة والباطنة‪ .‬ومن تتبع‬
‫ظاهرا وابطنًا‪ ،‬ففي السنن الكَبى عن جابر رضي‬ ‫أحاديث النيب ‪ ‬جيد الصحابة ‪ ‬وصفوا حجه ‪ً ‬‬
‫هللا عنهما يصف طوافه ‪( ‬فبدأ ابحلجر فاستلمه‪ ،‬وفاضت عيناه ابلبكاء)‪ .‬حسنه ابن كثري‪ .‬وقال ‪-‬‬
‫أيضا ‪ -‬يصف حاله ‪ ‬وهو يفيض من عرفات (أفاض رسول هللا ‪ ‬وعليه السكينة) رواه النسائي‬ ‫ً‬
‫وصححه األلباين‪.‬‬
‫قال ابن القيم رمحه هللا‪(:‬أما احلج فشأن آخر ال يدركه إال احلنفاء الذين ضربوا يف احملبة بسهم‪،‬‬
‫وشأنه أجل من أن حتيط به العبارة‪ ،‬وهو خاصة هذا الدين احلنيف‪ ،‬حىت قيل يف قوله تعاىل‪{ :‬حنرـ رفاء ََِّّللِ}‬
‫(‪)6‬‬
‫حجاجا) ‪.‬‬
‫ً‬ ‫(أي‬
‫وقال ابن السعدي‪(:‬احلج مبناه على احلب واإلخالص والتوحيد والثناء والذكر للحميد اجمليد‪ ،‬فإمنا‬
‫(‪)7‬‬
‫شرعت املناسك إلقامة ذكر هللا) ‪.‬‬
‫وإذا أتملت احلج والعمرة! وجدهتما كاالعتكاف اعتزال للدنيا وشهوهتا وإقبال على العبادة؛ ليخرج‬
‫القلب من ظلمات اجلهل واهلوى إىل حالوة اإلميان‪.‬‬
‫إ ّن حقيقة احلج والعمرة املَبوران أ ْن يتما بتحقيق اإلخالص واملتابعة هلديه ‪‬؛ وذلك أبمرين‪:‬‬
‫‪ )1‬القيام ابألعمال الظاهرة؛ كاإلحرام والطواف والتنقل بني املشاعر‪.‬‬
‫‪ )2‬القيام ابألعمال الباطنة‪ ،‬وهي أعمال القلوب املتصلة بكل شعرية من أفعال احلج الظاهرة من‬
‫احملبة والتعظيم واخلضوع والتسليم ‪ ...‬واإلخالل يف أحدمها يضعف أثر احلج والعمرة يف النفس ويقلل‬
‫األجر‪.‬‬
‫وهذان األمران يدخالن يف مسمى اإلميان عند أهل السنة واجلماعة؛ وكل عبادة هلا ظاهر وهو‬
‫قول اللسان وعمل اجلوارح‪ ،‬وهلا ابطن وهو قول القلب وعمل القلب‪ ،‬ومن ذلك احلج والعمرة‪.‬‬

‫(‪ )6‬مفتاح دار السعادة‪.‬‬


‫(‪ )7‬جمموع الفوائد واقتناص األوابد‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫قال ابن تيمية رمحه هللا‪(:‬فإن دخول أعمال القلوب يف اإلميان أوىل من دخول أعمال اجلوارح‬
‫ابتفاق الطوائف كلها) ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬

‫خصوصا‪:‬‬
‫ً‬ ‫عموما ويف احلج والعمرة‬
‫أمهية أعمال القلوب ً‬
‫‪ -‬من اخلطأ االهتمام ابإلتيان أبعمال الظاهر واحلرص على تكميلها وكماهلا‪ ،‬أو توهم أ ّن الذمة تَبأ‬
‫أخل أبعمال الباطن‪ ،‬مع أ ّن عمل القلب هو األصل وواجباته أش ّد من واجبات‬ ‫واألجر اتم وإن َّ‬
‫اجلوارح‪.‬‬
‫وجواب من واجبات األبدان وآكد منها‪ ،‬وكأهنا ليست‬ ‫يقول ابن القيم رمحه هللا‪( :‬واجبات القلوب أش ّد ً‬
‫من واجبات الدين عند كثري من الناس‪ ،‬بل هي من ابب الفضائل واملستحبات‪ .‬فرتاه يتحرج من ترك‬
‫واجب من واجبات البدن‪ ،‬وقد ترك ما هو أهم واجبات القلوب وأفرضها‪ ،‬ويتحرج من فعل أدىن احملرمات‪،‬‬
‫وقد ارتكب من حمرمات القلوب ما هو أشد حترميًا وأعظم إمثًا) ‪.‬‬
‫( ‪)9‬‬

‫عموما‪:‬‬
‫‪ -‬من أمهيتها ً‬
‫ِ‬
‫ص رل‬ ‫‪ )1‬أ ّن احلساب عليها يوم القيامة إضافة ألعمال اجلوارح {يـوم تـبـلرى َّ ِ‬
‫{وح ّ‬
‫السررائر}(الطارق‪ )9‬ر‬ ‫رْ ر ْ‬
‫الصدوِر}(العادايت‪ )10‬ألهنا هي املقصودة والغاية‪ .‬وال يعين هذا التقليل من أعمال الظاهر؛ فمن‬ ‫رما ِيف ُّ‬
‫أعمال الظاهر ما تركه كفر كالصالة‪.‬‬
‫‪ )2‬أ ّن القلب هو حمل نظر الرب تبارك وتعاىل‪ ،‬ففي حديث الذي رواه مسلم‪( :‬إ ّن هللا ال ينظر إىل‬
‫صوركم وال إىل أموالكم‪ ،‬ولكن ينظر إىل قلوبكم وأعمالكم) فبدأ ابلباطن قبل أعمال الظاهر‪ .‬قال ابن‬
‫تيمية رمحه هللا‪( :‬األعمال الظاهرة ال تكون صاحلة مقبولة إال بتوسط عمل القلب) ‪.‬‬
‫(‪)10‬‬

‫‪ )٣‬وهلذا تتفاضل درجات العمل بتفاضل ما يف القلوب‪ ،‬قال ابن تيمية‪( :‬األعمال تتفاضل بتفاضل‬
‫احدا‪ ،‬وبني صالتيهما كما‬
‫ما يف القلوب من اإلميان واإلخالص‪ ،‬وإ ّن الرجلني ليكون مقامهما يف الصف و ً‬
‫بني السماء واألرض) ‪.‬‬
‫(‪)11‬‬

‫‪ )4‬صالح الباطن صالح للظاهر والعكس ابلعكس حلديث‪" :‬أال وإ ّن يف اجلسد مضغة إذا صلحت‬
‫صلح اجلسد كله ‪ ...‬أال وهي القلب"‪ .‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫(‪ )8‬جمموع الفتاوى‪.‬‬


‫(‪ )9‬إغاثة اللهفان‪.‬‬
‫(‪ )10‬جمموع الفتاوى‪.‬‬
‫(‪ )11‬منهاج السنة‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫‪ )5‬لذة العبادة واألنس هبا ال تتأتى إال بتحقيق أعمال القلوب أثناء القيام بتلك العبادة‪.‬‬

‫خصوصا‪:‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬من أمهيتها للحج والعمرة‬
‫‪ )1‬أ ّن التعبد هبا واستحضارها يعني على اإلتيان أبعمال الظاهر على أكمل وجه أبركاهنا وواجباهتا‬
‫وسننها‪ .‬قال ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬إذا حسنت السرائر أصلح هللا الظواهر‪ ،‬فإ ّن هللا مع الذين اتقوا والذين‬
‫هم حمسنون) ‪.‬‬
‫( ‪)12‬‬

‫‪ )2‬صدق التعبد أبعمال القلب يف شعائر احلج عو ٌن إبذن هللا على تغري حال احلاج بعد نسكه إىل‬
‫حياة إميانية أفضل‪.‬‬

‫التأهب للحج والعمرة قبل السفر‪:‬‬


‫شرعا سواء كان حسيًا؛ كالوضوء للصالة والسحور للصيام‪ ،‬واإلحرام‬‫التهيؤ للعبادات أمر مطلوب ً‬
‫معنواي؛ ككثرة الذكر واالستغفار والتوبة واستحضار النية وغريها‪ .‬وهذا دأب‬
‫ً‬ ‫للنسك‪ .‬أو كان التهيؤ‬
‫الصاحلني من قبل وصفوة املخلصني‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ )1‬عندما أراد هللا تعاىل أ ْن ينزل على موسى ‪ ‬التوراة وقَّت له ثالثني ليلة مث أمتها جل جالله‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني لرْيـلرةً}(األعراف‪ .)142‬وقد ذكر أ ّن موسى كان يصوم تلك األايم ويتعبد‬‫بعشر {فرـتر َّم مي رقات رربِّه أ ْرربرع ر‬
‫هتيؤا لوعد هللا‪ .‬ذكره ابن كثري وغريه‪.‬‬ ‫هللا فيها ً‬
‫‪ )2‬شق صدره ‪ ‬مرتني يف صغره وهو يف بين سعد ومرة أخرى ليلة اإلسراء واملعراج وقبلها عند‬
‫البعثة قال ابن حجر رمحه هللا‪( :‬لكل منها حكمة‪ ،‬فاألوىل كما عند مسلم (هذا حظ الشيطان منك) زمن‬
‫الطفولة فنشأ على أكمل األحوال‪ ،‬مث عند البعث زايدة يف إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي يف‬
‫أكمل األحوال من التطهري‪ ،‬مث عند إرادة العروج إىل السماء ليتأهب للمناجاة)‪.‬اهـ ‪.‬‬
‫( ‪)1٣‬‬

‫‪ )٣‬إهلام هللا لنبيه ‪ ‬اخللوة يف غار حراء الليايل ذوات العدد هتيئة من هللا تعاىل لنزول الوحي عليه‪.‬‬
‫قال ابن حجر‪( :‬والسر فيه أ ّن اخللوة فراغ القلب ملا يتوجه له) ‪.‬‬
‫(‪)14‬‬

‫(‪ )12‬جمموع الفتاوى‪.‬‬


‫(‪ )1٣‬بتصرف من فتح البارئ‪.‬‬
‫(‪ )14‬فتح البارئ‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫صياما منه يف شعبان) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )4‬حديث عائشة رضي هللا عنها‪( :‬وما رأيته ‪ ‬أكثر ً‬
‫قال ابن رجب رمحه هللا‪( :‬قيل يف صوم شعبان معىن آخر‪ :‬أ ْن صيامه كالتمرين على صيام رمضان فيدخل‬
‫فيه بقوة ونشاط ليحصل التأهب لتلقي رمضان وتراتض النفوس بذلك على طاعة الرمحن)اهـ ‪.‬‬
‫(‪)15‬‬

‫ومما ينبغي أ ْن يتهيأ له الراغب يف النسك قبل سفره‪:‬‬


‫‪ )1‬التوبة الصادقة مع كثرة الذكر‪.‬‬
‫‪ )2‬استشعار فضيلة احلج والعمرة‪ ،‬ليقوى الرجاء والعزم عليهما‪.‬‬
‫‪ )٣‬جماهدة النفس يف حفظ اخلواطر واجلوارح عن اآلاثم‪.‬‬
‫‪ )4‬القراءة يف كتب املناسك والسؤال عما يشكل‪.‬‬

‫التوبة قبل احلج والعمرة‪:‬‬


‫التخلية قبل التحلية‪ .‬ومن فوائدها‪ :‬هتيئة القلب ملا يوضع فيه من حتلية‪ .‬قال ابن القيم رمحه هللا‪:‬‬
‫(القلب املشغول مبحبة غري هللا وإرادته والشوق إليه واألنس به ال ميكن شغله مبحبة هللا وإرادته وحبه‬
‫والشوق إىل لقائه‪ ،‬إال بتفريغه من تعلقه بغريه) ‪ .‬الفوائد‪.‬‬
‫(‪)16‬‬

‫فالقلب املشغول ابلشبهات والشهوات ال يكون قابالً ملا يرده من نفحات رابنية‪.‬‬

‫الشوق إىل احلج والعمرة‪:‬‬


‫الشوق إىل لقاء هللا تعاىل من أعمال القلوب‪ ،‬إذ هو أثر من آاثر احملبة‪ ،‬وكلما زادت احملبة زاد‬
‫الشوق‪.‬‬
‫قال ابن القيم رمحه هللا‪( :‬ما من مؤمن إال ويف قلبه حمبة هلل تعاىل‪ ،‬وطمأنينة بذكره‪ ،‬وسرور بذلك‪،‬‬
‫حيس به‪ ،‬الشتغال قلبه بغريه‪ ،‬وانصرافه إىل ما هو مشغول به‪ ،‬فوجود‬
‫أنس بقربه‪ ،‬وإن مل َّ‬
‫وشوق إىل لقائه‪ ،‬و ٌ‬
‫الشيء غري اإلحساس والشعور به‪ .‬وقوة ذلك وضعفه وزايدته ونقصانه‪ ،‬هو حبسب قوة اإلميان وضعفه‬
‫وزايدته ونقصانه) ‪.‬‬
‫(‪)17‬‬

‫وعلى هذا فشوق الناس منازل حبسب كمال إمياهنم ونقصاهنم‪.‬‬


‫وينقسم الشوق إىل قسمني‪:‬‬

‫(‪ )15‬بتصرف من لطائف املعارف‪.‬‬


‫(‪ )16‬الفوائد‪.‬‬
‫(‪ )17‬إغاثة اللهفان‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫‪ )1‬الشوق إىل لقاء هللا يف اآلخرة قال ‪" :‬وأسألك الشوق إىل لقائك يف غري ضراء مضرة وال‬
‫فتنة مضلة" رواه اإلمام أمحد والنسائي وصححه األلباين‪.‬‬
‫وفرحا بلقاء ربه والقرب منه‪ ،‬وهلذا‬ ‫‪ )2‬الشوق إىل قربه يف الدنيا ابملسارعة إىل العبادات مشتاقًّا ً‬
‫قال ‪":‬أرحنا هبا اي بالل" رواه أمحد والنسائي وصححه األلباين‪ ،‬وقال ‪" :‬جعلت قرة عيين يف الصالة"‬
‫رواه أبو داود وصححه األلباين‪.‬‬
‫ويدخل يف الثاين الشوق إىل احلج والعمرة ومن عالمات ذلك‪:‬‬
‫اج رع ْل أرفْئِ ردةً ِّم رن الن ِ‬ ‫ٍّ ِ‬
‫َّاس رهتْ ِوي إِلرْي ِه ْم}‬ ‫أ‪ -‬أ ّن مكة {بِرواد رغ ِْري ذي رزْرٍّع} وبلدة حارة ومع ذلك {فر ْ‬
‫حتن إليها القلوب وتشتاق‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وحر ويف عوامها‬ ‫زحام ٌّ‬
‫ب ‪ -‬أ ّن الرحلة إليها قدميًا وحديثًا حتفها أخطار وعقبات‪ ،‬مث إذا وصلها ف ٌ‬
‫(‪)18‬‬
‫حتن إليها القلوب وتشتاق ‪.‬‬‫غلظة طبع‪ ،‬ومع هذا ّ‬

‫ومن أسباب هذا احلنني‪:‬‬


‫يت}‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ )1‬تعظيم هللا هلذا البيت حىت أضافه إىل نفسه املقدسة { روطر ّه ْر بـرْي ر‬
‫‪ )2‬أ ّن هللا جعله مثابة للناس‪ ،‬كلما صدروا عنه رجعوا إليه من جديد ملنافعهم الدينية والدنيوية‪ ،‬ال‬
‫َّاس}(البقرة ‪.)125‬‬ ‫ت رمثرابرةً لِّلن ِ‬
‫{وإِ ْذ رج رع ْلنرا الْبرـْي ر‬
‫وطرا ر‬
‫يقضون منه ً‬
‫اج رع ْل أرفْئِ ردةً ِّم رن الن ِ‬
‫َّاس رهتْ ِوي إِلرْي ِه ْم}(إبراهيم‪.)٣7‬‬ ‫‪ )٣‬دعوة إبراهيم ‪{:‬فر ْ‬
‫وطرا‬
‫جاذاب للقلوب‪ ،‬فهي حتجه‪ ،‬وال تقضي منه ً‬ ‫سرا عجيبًا ً‬ ‫قال ابن سعدي رمحه هللا‪(:‬جعل فيه ً‬
‫سر إضافته تعاىل إىل‬‫وتوقه‪ ،‬وهذا ُّ‬ ‫على الدوام‪ ،‬بل كلما أكثر العبد الرتدد إليه ازداد شوقه‪ ،‬وعظم رولرعه ْ‬
‫(‪)19‬‬
‫نفسه املقدسة) ‪.‬‬

‫وهذا الشوق له فوائد هي من لطف هللا تعاىل‪:‬‬

‫(‪ )18‬قال األستاذ حممد لبيب البرـترنوينّ ‪-‬تويف سنة ‪1٣57‬ه ـ‪( :-‬ولقد كانت احلكومة املصرية يف الزمن الغابر خترج إىل الشوارع واحلارات‬
‫يف أشهر احلج أانساً يتغنون أبانشيد يسموهنا "حتانني" حترك عواطف الناس إىل أداء هذه الفريضة ‪-‬احلج‪ -‬كما كانت خطباء‬
‫املساجد حتث عليها وترغب الناس فيها وال يزالون كذلك إىل اآلن) وقال األستاذ حميي الدين رضا ‪-‬حج سنة ‪1٣5٣‬هــ‪( :‬وبعد‬
‫كتابة ما تقدم صليت اجلمعة أمس يف مسجد الرفاعي ‪-‬يف القاهرة‪ -‬فسمعت اخلطيب حيث على أداء فريضة احلج مبنطق بليغ‬
‫وصوت مؤثر‪ ،‬وفصاحة وطالقة أبكت احلاضرين‪ ،‬وجعلت كل واحد يتمىن لو استطاع أداء هذه الفريضة)‪ .‬الشوق واحلنني إىل‬
‫احلرمني حملمد الشريف ص ‪ 18‬واملختار من الرحالت احلجازية له‪.1068/٣ ،804/2 :‬‬
‫(‪ )19‬تيسري الكرمي الرمحن‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫‪َ )1‬يفف على الناسك ما جيده من املشقة يف الطريق وأثناء املناسك‪.‬‬
‫‪ )2‬بسبب الشوق يستشعر الطمأنينة واللذة يف مناسكه وطريقه‪.‬‬
‫قال ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬اعلم أ ّن حمركات القلوب إىل هللا عز وجل ثالثة‪ :‬احملبة واخلوف والرجاء‪،‬‬
‫ألهنا تراد يف الدنيا واآلخرة خبالف اخلوف فإنّه يزول يف اآلخرة) ‪.‬‬
‫(‪)20‬‬
‫وأقواها احملبة وهي مقصودة تراد لذاهتا‪ّ ،‬‬
‫ومن أتى ملكة ألجل هذه احملركات الثالثة أعظم ممن أتى لبعضها‪.‬‬

‫أعمال القلوب يف احلج والعمرة‪:‬‬


‫‪-‬املواقيت‪:‬‬
‫حرما؛ وللحرم حرم وهو املواقيت‪ .‬ومن رمحة هللا تسهيالً على‬‫من عظمة البيت أ ْن جعل هللا له ً‬
‫احلاج واملعتمر جعل املواقيت حميطة ابحلرم من كل اجلهات‪ ،‬وأبعدها ذو احلليفة قال ابن حجر رمحه هللا‪:‬‬
‫(قيل احلكمة يف ذلك أ ْن تعظم أجور أهل املدينة) ‪.‬‬
‫(‪)21‬‬

‫ومن عبادات القلب وأثر املواقيت عليها‪:‬‬


‫مستعدا للعبادة عَب ما يف املواقيت من تنظف وتطيب واإلحرام‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ )1‬هتيئة القلب ليكون‬
‫‪ )2‬حتريك حمبة هللا والشوق إليه مرة بعد أخرى‪ ،‬فالباعث على النسك ابتداء احملبة فإذا وصل‬
‫امليقات شحذت ما يف القلوب وجددته بعد كلل الطريق‪ ،‬ملا فيها من عالمة على قرب الوصول‪.‬‬
‫‪ )٣‬اهليبة واإلجالل والتعظيم كلما قرب احلاج واملعتمر من حرم هللا‪.‬‬
‫ولقد كانت هذه املعاين حاضرة فيمن كتب عن رحلته إىل احلرمني؛ لكن يف العصر احلاضر خف‬
‫أثرها عند كثري والسبب‪:‬‬
‫‪ )1‬ضعف التهيؤ لدى كثري من الناس قبل خروجه‪.‬‬
‫‪ )2‬تيسر أسباب الوصول للحرم مع وسائل النقل احلديثة خاصة السيارات‪.‬‬

‫‪-‬اإلحرام من امليقات‪:‬‬
‫قال ابن قدامة يف خمتصر املنهاج‪( :‬يتذكر وقت إحرامه وجترده من ثيابه إذا لبس احملرم اإلحرام لبس‬
‫كفنه‪ ،‬وأنّه سيلقى ربه على زي خمالف لزي أهل الدنيا)‪ .‬ولعل من املوافقات والتشابه بني مالبس اإلحرام‬

‫(‪ )20‬جمموع الفتاوى‪.‬‬


‫(‪ )21‬فتح البارئ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫{اي أريـُّ رها النَّاس اتـَّقوا رربَّك ْم إِ َّن‬
‫واألكفان أ ْن هللا عز وجل بدأ سورة احلج ابحلديث عن يوم القيامة وأهواهلا ر‬
‫اع ِة رش ْيءٌ رع ِظ ٌيم }(احلج‪ )1‬فاألكفان بداية قيامة كل إنسان‪ ،‬ومالبس اإلحرام بداية مشاعر‬ ‫الس ر‬
‫رزلْرزلرةر َّ‬
‫حمرما ليقبل على ربه‪ ،‬ومىت‬ ‫املناسك‪ ،‬وامليت جيرد ويلبس األكفان ليقبل على ربه‪ ،‬فكذلك الناسك يتجرد ً‬
‫ما استشعر الناسك هذا املعىن فإنه يقوي إميانه بيوم القيامة وما فيه من أهوال‪ ،‬وكلما زاد إميانه أوصله ذلك‬
‫كأان رأي‬ ‫إىل درجة اليقني أبنّه يراها كما قال حنظلة‪( :‬نكون عند رسول هللا ‪ ‬يذ ّكِران ابلنار واجلنة‪ ،‬حىت َّ‬
‫عني) رواه مسلم‪.‬‬
‫واليقني من عمل القلب اليت يسعى إليها املؤمن‪.‬‬
‫فرحا وحزًان وشوقًا‬ ‫قال سفيان الثوري رمحه هللا‪( :‬لو أ ْن اليقني استقر يف القلب كما ينبغي لطار ً‬
‫إىل اجلنة‪ ،‬أو خوفًا من النار) ‪.‬‬
‫(‪)22‬‬

‫قال ابن القيم رمحه هللا‪( :‬اليقني من اإلميان مبنزلة الروح من اجلسد ‪ ...‬ومىت وصل "اليقني" إىل‬
‫وغم‪ ،‬فامتأل حمبة هلل‪ ،‬وخوفًا منه ورضى‬ ‫وهم ّ‬‫نورا وإشراقًا‪ ،‬وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط ّ‬ ‫القلب امتأل ً‬
‫(‪)2٣‬‬
‫وشكرا له‪ ،‬وتوكالً عليه‪ ..،‬فهو مادة مجيع املقامات واحلامل هلا) ‪.‬‬
‫ً‬ ‫به‬

‫‪-‬التلبية‪:‬‬
‫(فأهل‬
‫َّ‬ ‫هي شعار احلج وعالمة التوحيد الذي هو روح احلج بل العبادات كلها‪ ،‬وهلذا قال جابر‪:‬‬
‫وسر قول العبد (ال‬
‫رسول هللا ‪ ‬ابلتوحيد ‪ .)...‬يقول ابن القيم‪( :‬احلج خاصة احلنيفية ومعونة الصالة ُّ‬
‫إله إال هللا) فإنّه مؤسس على التوحيد احملض واحملبة اخلالصة‪ ،‬وهو استزارة احملبوب ألحبابه ودعوته إىل بيته‬
‫وحمل كرامته‪ ،‬وشعارهم التلبية إجابة حمب لدعوة حبيبه‪ ،‬وهلذا كان للتلبية موقع عند هللا) ‪ .‬بتصرف‪.‬‬
‫(‪)24‬‬

‫مفتاح دار السعادة‪.‬‬


‫‪-‬معىن التلبية‪ :‬هلا عدة معان؛ لكن قال ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬املليب هو املستسلم املنقاد لغريه‪ ،‬كما‬
‫ب وأخذ بلبِّه‪ ،‬واملعىن َّإان جميبوك لدعوتك‪ ،‬مستسلمون حلكمتك‪ ،‬مطيعون ألمرك مرة بعد‬ ‫ِ‬
‫ينقاد الذي لبّ ر‬
‫مرة‪ ،‬ال نزال على ذلك) ‪.‬‬
‫( ‪)25‬‬

‫(‪ )22‬حلية األولياء‪.‬‬


‫(‪ )2٣‬مدارج السالكني‪.‬‬
‫(‪ )24‬بتصرف مفتاح دار السعادة‪.‬‬
‫(‪ )25‬جمموع الفتاوى‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫وك‬ ‫{وأرِذّن ِيف الن ِ‬
‫َّاس ِاب ْحلر ِّج رأيْت ر‬ ‫‪-‬حقيقة التلبية‪ :‬إجابة لدعوة هللا تعاىل لعباده على لسان إبراهيم ر‬
‫ني ِمن ك ِّل فر ٍّّج رع ِم ٍّيق}(احلج ‪ )27‬ذكره جماهد وابن تيمية وغريمها‪.‬‬ ‫ِرجاالً وعلرى ك ِل ِ ِ‬
‫ضام ٍّر رأيْت ر‬
‫ر رر ّ ر‬
‫من أعمال القلب يف التلبية‪:‬‬
‫‪ )1‬اإلخالص فيها فالنيب ‪ ‬عندما أراد الدخول يف النسك قال‪":‬اللهم حجة ال رايء فيها وال‬
‫{وأرِمتُّواْ ْ‬
‫احلر َّج روالْع ْمررةر َِّّللِ}‬ ‫مسعة‪ ،‬لبيك اللهم حجة وعمرة" رواه ابن ماجه وصححه األلباين‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ر‬
‫ظاهرا‪.‬‬
‫(البقرة‪ )196‬أمر صريح ابإلخالص فيها ابطنًا‪ ،‬وإمتامها ً‬
‫وأتيت أمهية اإلخالص من جهة‪:‬‬
‫[‪ ]1‬أنّه شرط لقبول العمل‪.‬‬
‫[‪ ]2‬أ ّن تفاضل األعمال عند هللا على قدر اإلخالص‪ ،‬يقول ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬فإ ّن‬
‫األعمال تتفاضل بتفاضل ما يف القلب من اإلميان واإلخالص‪ ،‬وإ ْن الرجلني ليكون‬
‫احدا‪ ،‬وبني صالتيهما كما بني السماء واألرض)‪ .‬منهاج السنة‪.‬‬ ‫مقامهما يف الصف و ً‬
‫[‪ ]٣‬أ ّن اإلخالص يضاعف األعمال وإ ْن كانت صغرية { روإِن ترك رح رسنرةً‬
‫اع ْف رها}(النساء ‪ .)40‬قال ابن سعدي رمحه هللا‪( :‬حبسب حاهلا ونفعها‪ ،‬وحال‬ ‫ضِ‬ ‫ير‬
‫إخالصا وحمبة وكماالً)‪.‬‬
‫ً‬ ‫صاحبها‬
‫[‪ ]4‬أ ّن اإلخالص سبب لتكفري الكبائر‪ ،‬قال ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬فهذه سقت الكلب‬
‫بغي سقت كلبًا يغفر هلا‪ ...‬فإ ّن‬ ‫كل ّ‬ ‫إبميان خالص كان يف قلبها فغفر هلا‪ ،‬وإال فليس ُّ‬
‫(‪)26‬‬
‫األعمال تتفاضل بتفاضل ما يف القلب من اإلميان واإلخالص) ‪.‬‬
‫ويف مقابل ذلك أول من تسعر هبم النار ثالثة‪ ،‬هم يف الظاهر أقرب الناس إىل اجلنة لكن‬
‫بسبب أ ّن أعماهلم خلت من اإلخالص استحقوا النار‪.‬‬

‫‪ )2‬ينبغي للناسك أ ْن يستحضر الصدق مع هللا يف تلبيته‪ ،‬و ّأهنا إجابة دعوة هللا جل وعال ابالنقياد‬
‫والتسليم حلكمته‪ ،‬وطاعة أوامره مرة بعد مرة‪ ،‬والدوام على ذلك‪.‬‬

‫(‪ )26‬منهاج السنة‪.‬‬


‫‪15‬‬
‫كذب وإميان إالَّ‬
‫قال ابن القيم‪( :‬اإلميان أساسه الصدق‪ ،‬والنفاق أساسه الكذب؛ فال جيتمع ٌ‬
‫َّق بِِه أ ْولرئِ ر‬
‫ك هم الْمتـَّقو رن}(الزمر‪.)٣٣‬‬ ‫صد ر‬ ‫وأحدمها حمارب لآلخر‪ .‬قال تعاىل‪{ :‬والَّ ِذي جاء ِاب ِ ِ‬
‫لص ْدق رو ر‬
‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ٌ‬
‫(‪)27‬‬
‫فالذي جاء ابلصدق‪ :‬هو من شأنه الصدق يف قوله وعمله وحاله) ‪.‬‬
‫وهلل املثل األعلى لو أ ّن ملكاً من ملوك الدنيا دعا رجالً ليغدق عليه العطاء فقال‪( :‬لبيك) لكنه‬
‫منصرف عنه بوجهه وقلبه فما ظنكم؟!‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫‪ )٣‬أ ْن يستحضر مع تلبيته اخلوف أن تـررّد عليه ويرجو القبول‪ .‬قال ابن قدامة يف خمتصر املنهاج‬
‫َّاس ِاب ْحلر ِّج}‪ .‬ولريج القبول‪ ،‬وليخش‬‫(وإذا لىب فليستحضر بتلبيته إجابة هللا تعاىل إذ قال‪ { :‬روأرِذّن ِيف الن ِ‬
‫عدم اإلجابة)‪ .‬وهلذا كان بعض السلف مع تقواهم َيشون أ ْن ترد عليهم تلبيتهم‪ .‬فعلي بن حسني ‪-‬زين‬
‫اصفر لونه وارتعد‪ ،‬ومل يستطع أ ْن يليب فقيل‪ :‬ما لك ال تليب؟!‬ ‫العابدين‪ -‬ملا أحرم واستوت به راحلته‪َّ ،‬‬
‫فقال‪ :‬أخشى أ ْن يقول يل‪ :‬ال لبيك وال سعديك‪ .‬قيل البن عمر ما أكثر احلاج! قال ما أقلهم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫الراكب كثري واحلاج قليل‪.‬‬
‫خبشوع وتدبر‪ ،‬عند الرتمذي وصححه‬ ‫ٍّ‬ ‫‪ )4‬أ ْن يستحضر فضلها ومعناه‪ ،‬فذلك مدعاةٌ للكثار منها‬
‫حجر أو ٍّ‬ ‫يليب إال َّلىب ما عن ميينه ومشاله من ٍّ‬ ‫األلباين‪( :‬ما من ٍّ‬
‫شجر أو مدر؛ حىت تنقطع األرض‬ ‫مسلم ِّ‬
‫من ها هنا وها هنا)‪.‬‬

‫‪-‬الناسك وفد هللا وضيفه‪ :‬عند البزار وحسنه األلباين أنّه ‪ ‬قال‪":‬احل َّج ُّ‬
‫اج والع َّمار وفد هللا‪ ،‬دعاهم‬
‫فأجابوه وسألوه فأعطاهم"‪ .‬قال ابن سعدي‪( :‬احلج استزارة الرب ألحبابه‪ ،‬أوفدهم إىل كرامته ودعاهم إىل‬
‫فضله وإحسانه‪ ،‬ليسبغ عليهم من النعم والكرامات) ‪.‬‬
‫( ‪)28‬‬

‫وإذا استحضر هذا استفاد أعماالً قلبية منها‪:‬‬


‫كرمي جواد‪.‬‬‫ضيف على ٍّ‬
‫‪ )1‬حالوة اإلميان واألنس مبناجاته وعبادته‪ ،‬ألنّه ٌ‬
‫‪ )2‬إحساسه أبنه ضيفه يقوي رجاءه وحسن ظنه بربه أ ْن يغفر له ويستجيب دعاءه‪.‬‬
‫‪ )٣‬إحساسه أبنّه ضيفه جيعله يستحي من ربه أ ْن َي ّل بواجب أو أييت حبرام وهو يف ضيافته وهبذا‬
‫احلر ّج}(البقرة ‪ .)197‬واحلياء من هللا تعاىل من أعمال‬ ‫وق روالر ِج رد رال ِيف ْ‬
‫ث روالر فس ر‬
‫حيقق {فرالر ررفر ر‬
‫القلوب وشعب اإلميان‪ .‬وعند الرتمذي أنّه ‪ ‬قال‪" :‬استحيوا من هللا عز وجل حق احلياء"‪ .‬قلنا‬

‫(‪ )27‬مدارج السالكني‪.‬‬


‫(‪ )28‬جمموع الفوائد واقتناص األوابد‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫اي رسول هللا‪ :‬إ َّان نستحي واحلمد هلل‪ ،‬قال‪" :‬ليس ذلكم‪ ،‬ولكن من استحيا من هللا حق احلياء‬
‫فليحفظ الرأس وما حوى‪ ،‬وليحفظ البطن وما وعى‪ ،‬وليذكر املوت والبلى‪ ،‬ومن أراد اآلخرة ترك‬
‫زينة الدنيا‪ ،‬فمن فعل ذلك فقد استحيا من هللا عز وجل حق احلياء"‪ .‬حسنه األلباين‪.‬‬

‫‪-‬التكبري يف احلج والعمرة‪:‬‬


‫شيء يف ذاته وصفاته وأفعاله)‪ .‬ابن القيم‪.‬‬ ‫معىن التكبري‪( :‬أ ّن هللا أكَب من كل ٍّ‬
‫التكبري من أكثر األذكار الواردة يف العبادات‪ .‬وقد أمران بذلك { روركَِّْبه تر ْكبِرياً}(اإلسراء ‪)111‬‬
‫وهو مفتاح الصالة وشعار اخلفض والرفع فيها‪ ،‬وهو مشروعٌ يف اجلهاد وهو من الذكر املالزم للناسك فيكَب‬
‫يف طوافه وعلى الصفا وعند رمي اجلمار وعند الذبح ويف تنقله يكَب مع التلبية‪ ،‬ويف العشر يكَب وكذا أايم‬
‫التشريق‪ ،‬فما السر؟!‬
‫إ ْن استحضار كَبايئه سبحانه وعظمته وجَبوته وقهره لكل شيء يوجب اإلجالل والتعظيم واحملبة‬
‫واإلخالص واخلوف والرجاء والتوكل عليه وحده‪ ،‬فيتوجه القلب للكبري الذي هو أكَب من كل شيء‪،‬‬
‫فيستحي أ ْن يلتفت إىل غريه أو أيبه به)‪.‬‬
‫{ما لرك ْم رال ترـ ْرجو رن ََِّّللِ روقراراً}(نوح‪ ،)1٣‬وقال ابن عباس‪(:‬ال ترجون‬
‫وهذا من إجالل هللا وتوقريه َّ‬
‫هلل عظمة)‪ .‬فالتقصري يف تعظيم هللا مذموم‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪( :‬روح العبادة‪ :‬هو واإلجالل واحملبة‪ ،‬فإ ْن ختلى أحدمها عن اآلخر فسدت‪ ،‬فإذا‬
‫اقرتن هبذين الثناء على احملبوب املعظم فذلك حقيقة احلمد) ‪.‬‬
‫(‪)29‬‬

‫قال ابن تيمية‪(:‬التكبري مشروعٌ يف املواضع الكبار‪ ،‬ليبني أ ٍّّن هللا أكَب‪ ،‬وتستويل كَبايؤه يف القلوب‬
‫على كَبايء تلك األمور الكبار‪ ،‬فيكون الدين كله هلل‪ ،‬ويكون العباد له مكَبين‪ ،‬فيحصل هلم مقصودان‪:‬‬
‫مقصود العبادة بتكبري قلوهبم هلل‪ ،‬ومقصود االستعانة ابنقياد سائر املطالب لكَبايئه) ‪.‬‬
‫(‪)٣0‬‬

‫‪-‬حمظورات اإلحرام‪:‬‬
‫من مقاصدها على الرتبية يف أعمال القلوب‪:‬‬

‫(‪ )29‬مدارج السالكني‪.‬‬


‫(‪ )٣0‬جمموع الفتاوى‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫كن من‬ ‫جل أعمال القلوب ور ٌ‬ ‫‪ )1‬توقظ يف قلب الناسك اخلوف من هللا‪ .‬واخلوف من هللا من أ ّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني} (آل عمران‪ .)175‬وإذا سكن اخلوف يف القلب‬ ‫أركان اإلميان {فرالر رخترافوه ْم رو رخافون إِن كنتم ُّم ْؤمن ر‬
‫اَّلل رمن رَيرافه‬ ‫ِ‬
‫أحرق مواضع الشهوة فيها وطرد الدنيا عنها‪ .‬وهلذا قال هللا عز وجل عن الصيد‪{ :‬ليرـ ْعلر رم ّ‬
‫ب}(املائدة ‪.)94‬‬ ‫ِابلْغرْي ِ‬
‫‪ )2‬وإذا استقر اخلوف يف القلب نشأ عنه مراقبة هللا عز وجل‪ ،‬واملراقبة ترقى ابلعبد إىل درجة‬
‫اإلحسان‪" :‬أن تعبد هللا كأنك تراه فإن مل تكن تراه فإنه يراك"‪.‬‬
‫واملراقبة كما يقول ابن القيم‪( :‬هي دوام علم العبد‪ ،‬وتيقنه ابطالع احلق سبحانه وتعاىل على ظاهره‬
‫وابطنه‪ ،‬كل وقت وكل طرفة عني) ‪.‬‬
‫(‪)٣1‬‬

‫وإذا وصل اىل مرتبة املراقبة أمثر ذلك‪:‬‬


‫أ) تقوى هللا يف السر والعلن‪ .‬فيسارع اىل اخلريات ويفر من احملرمات‪ ،‬ومن آاثر التقوى‬
‫تعظيمه لشعائر هللا يف احلج‪.‬‬
‫ب) املراقبة هللا تشعره بقربه من ربه‪ ،‬فينشأ عن ذلك الفرح والسرور وهذا له أ ٌثر كبري على‬
‫العبد يف مداومته على الطاعات واالستقامة على الدين‪.‬‬
‫قال ابن القيم رمحه هللا‪( :‬من مل جيد هذا السرور‪ ،‬وال شيئاً منه فليتهم إميانه وأعماله فإ ّن‬
‫للميان حالوة من مل يذقها فلريجع‪ ،‬وليقتبس نوراً جيد به حالوة اإلميان) ‪.‬‬
‫(‪)٣2‬‬

‫والناسكون الذين أيقظت حمظورات اإلحرام قلوهبم ابخلوف من هللا ومراقبته صنفان‪:‬‬
‫صنف كانت احملظورات سبباً إليقاظ قلبه ابخلوف من هللا ومراقبته يف مجيع أحواله‪ ،‬فلم‬
‫(‪ٌ - )1‬‬
‫يقتصر على حمظورات اإلحرام‪ ،‬بل كل حرٍّام أو شبهة يتباعد عنه‪ ،‬فكان ذلك سبباً يف استقامته‪.‬‬
‫صنف اقتصر على ترك حمظورات اإلحرام دون غريها فوقع يف احلرام والبسه حىت يف النسك‬ ‫(‪ٌ - )2‬‬
‫كالغيبة وإيذاء اآلخرين فدخل يف الرفث والفسوق‪.‬‬

‫(‪ )٣1‬مدارج السالكني‪.‬‬


‫(‪ )٣2‬مدارج السالكني‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫‪-‬البيت العتيق‪:‬‬
‫خص هللا به الكعبة البيت احلرام من حني بناه إبراهيم وإىل‬
‫يقول ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬وكذلك ما َّ‬
‫هذا الوقت‪ :‬من تعظيمه وتوقريه‪ ،‬واجنذاب القلوب إليه‪ ،‬ومن املعلوم إ ّن امللوك يبنون احلصون واملدائن‬
‫والقصور ابآلالت العظيمة البناء احملكم‪ ،‬مث ال يلبث أ ْن ينهدم ويهان‪.‬‬
‫بيت مبين من حجارة سود بو ٍّاد غري ذي زرع‪ ،‬ليس عنده ما تشتهيه األنفس من البساتني‬ ‫والكعبة ٌ‬
‫واملياه وغريها‪ ،‬وال عنده عسكر حيميه من األعداء‪ ،‬وال يف طريقه من الشهوات ما تشتهيه األنفس‪ ،‬بل‬
‫كثريا ما يكون يف طريقه من اخلوف والتعب والعطش واجلوع ما ال يعلمه إال هللا‪ ،‬ومع هذا فقد جعل هللا‬ ‫ً‬
‫من أفئدة الناس اليت هتوي إليه ما ال يعلمه إال هللا‪.‬‬
‫أذل به رقاب أهل األرض‪ ،‬حىت تقصده عظماء‬ ‫وقد رجعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما ّ‬
‫امللوك ورؤساء اجلبابرة‪ ،‬فيكونون هناك يف الذل واملسكنة كآحاد الناس‪ ،‬وهذا مما يعلم ابالضطرار أنّه خارج‬
‫(‪)٣٣‬‬
‫عن قدرة البشر وقوى نفوسهم وأبداهنم) ‪.‬‬
‫ك) رواه الرتمذي وحسنه‬ ‫لقد عظم النيب ‪ ‬الكعبة بقوله وفعله‪ ،‬فلما رآها ‪ ‬قال هلا‪(:‬ما أرعظرم ِ‬
‫ر‬
‫األلباين‪ .‬واختذها قبلة وطاف هبا ‪ ‬وطهرها من رجس األواثن‪ .‬وما ذاك إال ملكانته عند هللا‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت و ِضع لِلن ِ ِ‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬إِ َّن أ َّرورل بـي ٍّ‬
‫ت بـريِّـنر ٌ‬
‫ات‬ ‫آاي ٌ‬‫ني (‪ )96‬فيه ر‬ ‫َّاس لرلَّذي بِبر َّكةر مبر راركاً روه ًدى لّْل رعالرم ر‬ ‫ر‬ ‫رْ‬
‫َّم رقام إِبْـررا ِه ريم رورمن رد رخلره ركا رن ِآمناً}(آل عمران‪.)97 - 96‬‬
‫احلررر رام‬
‫ت ْ‬ ‫اَّلل الْ رك ْعبرةر الْبرـْي ر‬
‫{ج رع رل ّ‬‫فذكر أنّه مبارك كثري اخلري دائمه‪ ،‬وأنّه هدى‪ ..‬ويف قوله تعاىل‪ :‬ر‬
‫معظما‪ .‬قال ابن عباس‪( :‬البيت احلرام‬ ‫َّاس}(املائدة ‪ .)97‬تقوم عليه مصاحل دينهم ودنياهم ما دام ً‬ ‫قِيراماً لِّلن ِ‬
‫حمجوجا)‪.‬‬
‫ً‬ ‫قياما ما دام‬ ‫قيام العامل‪ ،‬فال يزال ً‬

‫‪-‬الطواف‪:‬‬
‫ملا بدأ النيب ‪ ‬الطواف (بدأ ابحلجر فاستلمه وفاضت عيناه ابلبكاء) رواه البيهقي وجوده ابن‬
‫كثري‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد الرمحن الدوسري رمحه هللا‪( :‬و ّأما الطواف حول الكعبة فهو تشبُّه منهم ابملالئكة‬
‫احلافني بعرش هللا‪ ،‬الطائفني به‪ ،‬ويف هذا من مسو الروح ما ال يصفه الواصفون) ‪.‬‬
‫(‪)٣4‬‬

‫(‪ )٣٣‬الصفدية‪.‬‬
‫(‪ )٣4‬احلج أحكامه‪-‬أسراره‪-‬منافعه‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫احلاصل أ ّن الطواف حيرك يف القلب ما يلي‪:‬‬
‫ببيت أضافه هللا لنفسه‪{:‬وطر ِهر بـي ِ ِ ِِ‬ ‫‪ )1‬حمبة هللا جل وعال والشوق إليه؛ ألنّه يطوف ٍّ‬
‫ني}‪.‬‬‫يت للطَّائف ر‬‫ر ّ ْ رْ ر‬
‫قال ابن القيم رمحه هللا‪( :‬هذه اإلضافة هي اليت أقبلت بقلوب العاملني وسلبت نفوسهم حبًّا له وشوقًا على‬
‫رؤيته) ‪.‬‬
‫(‪)٣5‬‬

‫يقول ابن تيمية‪( :‬القلب إّمنا خلق ألجل حب هللا تعاىل وهذه الفطرة اليت فطر هللا عليها عباده) ‪.‬‬
‫(‪)٣6‬‬

‫‪ )2‬مشهد الطواف حيرك يف القلب عظمة هللا وكَبايءه‪ ،‬فيتولد من ذلك اخلشوع واخلضوع والتذلل‬
‫واالنكسار والتضرع واالفتقار‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪( :‬أحب القلوب إىل هللا سبحانه‪ :‬قلب قد متكنت منه هذه الكسرة‪ ،‬وملكته هذه‬
‫الذلة‪ ،‬فهو انكس الرأس بني يدي ربه‪ ،‬ال يرفع رأسه إليه حياء وخجالً من هللا) ‪.‬‬
‫(‪)٣7‬‬

‫‪ )٣‬الطواف يشعره بقربه من هللا‪ ،‬فتقوى بذلك حمبته هلل ورجاؤه وحسن ظنه‪ ،‬وهذا مدعاة لكثرة‬
‫الذكر‪.‬‬
‫‪ )4‬قال ‪" :‬إمنا جعل الطواف ابلبيت‪ ،‬وبني الصفا واملروة‪ ،‬ورمي اجلمار إلقامة ذكر هللا"‪ .‬والذكر‬
‫يشمل ذكر الثناء والدعاء‪.‬‬
‫‪ -‬وذكر الثناء له روحان وأدب‪ ،‬فروحاه مها التضرع واخلوف‪ ،‬واألدب هو (دون اجلهر يف القول)‪ .‬فعلى‬
‫ك‬‫ك ِيف نـر ْف ِس ر‬
‫قدر التضرع واخلوف يف القلب الذاكر وقيامه أبدبه يكون أثره عليه‪ ،‬ودليله‪ { :‬رواذْكر َّربَّ ر‬
‫اجلر ْه ِر ِم رن الْ رق ْوِل}‪.‬‬
‫ضُّرعاً رو ِخي رفةً رودو رن ْ‬
‫تر ر‬
‫جهرا وعالنية َيشى منه الرايء‪ ،‬فعلى قدر‬ ‫‪ -‬وذكر الدعاء له روح وأدب‪ ،‬فروحه التضرع‪ ،‬وأدبه اإلخفاء ال ً‬
‫ضُّرعاً روخ ْفيرةً}‪.‬‬
‫التضرع يف قلب الداعي‪ ،‬وقيامه أبدبه تكون إجابة دعائه‪ ،‬ودليله‪ْ { :‬ادعواْ رربَّك ْم تر ر‬

‫والتضرع واخلوف من أعمال القلوب اليت على الناسك استشعارها‪ ،‬وقيام القلب هبا عند الذكر‬
‫والدعاء‪.‬‬
‫عن أيب موسى ‪ ‬قال‪( :‬كنا مع رسول هللا ‪ ،‬فكنا إذا أشرفنا على و ٍّاد هللنا وكَبان‪ ،‬وارتفعت‬
‫أصم وال غائبًا‪ ،‬إنه معكم‬
‫أصواتنا‪ ،‬فقال النيب ‪":‬اي أيها الناس‪ :‬اربرعوا على أنفسكم‪ ،‬فإنكم ال تدعون َّ‬
‫إنه مسيع قريب‪ ،‬تبارك امسه‪ ،‬وتعاىل جده") متفق عليها‪.‬‬

‫(‪ )٣5‬بدائع الفوائد‪.‬‬


‫(‪ )٣6‬جمموع الفتاوى‪.‬‬
‫(‪ )٣7‬مدارج السالكني‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫قال ابن حجر رمحه هللا‪"( :‬اربرعوا" أي ارفقوا‪ ،‬قال الطَبي‪( :‬فيه كراهة رفع الصوت ابلدعاء والذكر‪،‬‬
‫وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعني) ‪.‬‬
‫(‪)٣8‬‬

‫ومما ينبغي يف اإلحرام عامة ويف الطواف خاصة حفظ البصر‪ ،‬فإطالقه يضعف اخلشوع وإقباله على‬
‫هللا وشعوره بلذة الطاعة‪.‬‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫قال ابن اجلوزي‪( :‬اعلم أ ّن غض البصر عن احلرام واجب‪ ،‬ولكم جلب إطالقه من آفة‪،‬‬
‫تعظيما‬
‫يف زمن اإلحرام وكشف النساء وجوههن‪ ،‬فينبغي ملن يتقي هللا أ ْن يزجر هواه يف مثل ذلك املقام‪ً ،‬‬
‫للمقصود‪ ،‬وقد فسد كثري إبطالق أبصارهم هناك) ‪.‬‬
‫(‪)٣9‬‬

‫‪-‬احلجر األسود‪:‬‬
‫احلجر األسود مبدأ كل شوط ومنتهاه‪ ،‬ويف املسند أنّه ‪ ‬قال‪" :‬احلجر األسود من اجلنة"‪ ،‬وقد‬
‫فاضت عيناه ‪ ‬ملا استلم احلجر وأخَب ‪ ‬أنّه يشهد على من استلمه حبق وأ ّن مسحه هو والركن اليماين‬
‫حيطان اخلطااي حطًا‪.‬‬
‫ومن املعاين القلبية يف احلجر األسود‪:‬‬
‫‪ )1‬أنّه يذكران ابجلنة والعمل هلا‪ ،‬فما من شيء يف األرض من اجلنة بني أيدينا إال هذا احلجر‪.‬‬
‫‪ )2‬التسليم للشارع يف التقبيل له واستالمه والتزامه علمنا احلكمة أم مل نعلمها‪ .‬ففي مسلم عن‬
‫سويد بن غفلة‪( :‬رأيت عمر قبَّل احلجر والتزمه‪ ،‬وقال‪ :‬رأيت النيب ‪ ‬بك حفيًا) وعند البخاري أنّه قال‪:‬‬
‫(إين أعلم أنك حجر ال تضر وال تنفع ولو ال أين رأيت رسول هللا ‪ ‬يقبلك ما قبلتك)‪.‬‬
‫قال حمب الدين الطَبي رمحه هللا‪( :‬الناس كانوا حديثي عهد بعبادة األصنام فخشي عمر أ ْن يظن‬
‫اجلهال أ ّن استالم احلجر من ابب تعظيم بعض األحجار كما كانت العرب تفعل يف اجلاهلية‪ ،‬فأراد عمر‬
‫أ ْن يعلم الناس أ ّن استالمه اتباع لفعل رسول هللا ‪ ،‬ال أ ّن احلجر ينفع ويضر بذاته كما كانت اجلاهلية‬
‫تعتقده يف األواثن) ‪.‬‬
‫(‪)40‬‬

‫قال ابن حجر‪( :‬يف قول عمر هذا التسليم للشارع يف أمور الدين وحسن االتباع فيما مل يكشف‬
‫عن معانيها) ‪ .‬والتسليم من عمل القلب‪.‬‬
‫(‪)41‬‬

‫(‪ )٣8‬فتح البارئ‪.‬‬


‫(‪ )٣9‬مثري العزم الساكن إىل أشرف األماكن‪.‬‬
‫(‪ )40‬فتح البارئ‪.‬‬
‫(‪ )41‬فتح البارئ‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫بياضا من اللنب‪ ،‬فسودته خطااي بين‬
‫‪ )٣‬عند الرتمذي‪( :‬نزل احلجر األسود من اجلنة‪ ،‬وهو أشد ً‬
‫آدم)‪ .‬فيتذكر شؤم املعصية كيف أثرت على احلجر األصم‪ ،‬وكيف يكون أتثريها على القلوب‪.‬‬
‫قال حمب الدين الطَبي رمحه هللا‪( :‬بقاؤه أسود ‪-‬وهللا أعلم‪ -‬إّمنا كان لالعتبار‪ ،‬ليعلم أ ّن اخلطااي‬
‫إذا أثرت يف احلجر فتأثريها يف القلوب أعظم) ‪.‬‬
‫( ‪)42‬‬

‫‪-‬مقام إبراهيم عليه الصالة والسالم‪:‬‬


‫ات َّم رقام إِبْـرر ِاه ريم} وعن أنس قال‪ :‬قال عمر بن‬
‫ت بـريِّـنر ٌ‬ ‫ٍّ ِ ِ‬
‫قال تعاىل‪{ :‬إِ َّن أ َّرورل بـرْيت‪ ...‬فيه ر‬
‫آاي ٌ‬
‫اخلطاب ‪(:‬وافقت ريب يف ثالث‪ ،‬قلت‪ :‬اي رسول هللا‪ ،‬لو اختذت من مقام إبراهيم مصلى‪ ،‬فنزلت‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫صلًّى})‪.‬‬‫{ رو َّاختذواْ من َّم رقام إِبْـرراه ريم م ر‬
‫قال ابن حجر رمحه هللا‪( :‬قال ابن اجلوزي‪ :‬إمنا طلب عمر االستنان إببراهيم ‪ ‬مع النهي عن‬
‫ك لِلن ِ‬
‫َّاس إِ رماماً} وقوله‬ ‫النظر يف كتاب التوراة؛ ألنّه مسع قول هللا تعاىل يف حق إبراهيم‪{ :‬إِِين ج ِ‬
‫اعل ر‬ ‫ّ ر‬
‫ِ ِ ِ َّ ِ ِ‬
‫تعاىل‪{:‬أرن اتَّب ْع ملةر إبْـرراه ريم} ر‬
‫فعلم أ ّن االئتمام إببراهيم من هذه الشريعة‪ ،‬ولكون البيت مضافًا إليه وأ ّن أثر‬
‫قدميه يف املقام كرقم الباين يف البناء ليذكر به بعد موته‪ ،‬فرأى الصالة عند املقام كقراءة الطائف ابلبيت‬
‫اسم من بناه)‪ ،‬قال ابن حجر‪( :‬وهي مناسبة لطيفة) ‪.‬‬
‫(‪)4٣‬‬

‫ومقام إبراهيم من اآلايت البينات له يف القلوب ما يلي‪:‬‬


‫‪ ]1‬أ ّن النيب ‪ ‬وقف حيث أمر ومل يزد عليه بتقبيل أو تَبك‪ .‬قال ابن تيمية‪( :‬حىت مقام إبراهيم الذي‬
‫(‪)44‬‬
‫مبكة ال يقبَّل وال ميسح‪ ،‬فكيف مبا سواه من املقامات واملشاهد) ‪.‬‬
‫اج رعل ِّيل لِ رسا رن‬ ‫{و ْ‬ ‫‪ ]2‬مقام إبراهيم ‪ ‬وأثر قدميه من الذكر احلسن استجابة من هللا له حني دعا‪ :‬ر‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍّ‬
‫وتعظيما له وإشادة إبمامته‬ ‫ً‬ ‫ين}(الشعراء‪ .)84‬فمقام إبراهيم كالتذكار له‪ ،‬إحياءً لذكره‬ ‫ص ْدق ِيف ْاآلخ ِر ر‬
‫وتنشيطًا لالقتداء به يف أعماله العظيمة كدعوته للتوحيد‪ ،‬وصَبه على األذى والبالء يف ذات هللا والتسليم‬
‫َّاس إِ رماماً}(البقرة ‪ .)124‬فسريته‬ ‫ك لِلن ِ‬ ‫له‪ ،‬وبنائه البيت {إِ َّن إِبـر ِاهيم ركا رن أ َّمةً}(النحل‪{ ،)120‬إِِين ج ِ‬
‫اعل ر‬ ‫ّ ر‬ ‫ْر ر‬
‫{وإِ ِذ ابْـترـلرى إِبْـرر ِاه ريم رربُّه‬
‫حترك يف النفس علو اهلمة لنيل اإلمامة يف الدين‪ ،‬إذ هي دعوة إبراهيم لذريته ر‬

‫القرى لقاصد أم القرى‪ .‬ويف كتاب تعظيم احلج عند السلف ص ‪ :19‬قال بعض السلف‪ :‬استالم احلجر هو أال يعود إىل معصية‪.‬‬ ‫(‪ِ )42‬‬
‫والقصد من ذلك اإلشارة إىل االستحياء من هللا أن يعود العبد للمعصية بعد أدائه للحج‪.‬‬
‫(‪ )4٣‬فتح البارئ‪.‬‬
‫(‪ )44‬جمموع الفتاوى‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ال روِمن ذ ِّريَِّيت قر ر‬ ‫ك لِلن ِ‬
‫َّاس إِ رماماً قر ر‬ ‫ال إِِين ج ِ‬ ‫ِ ِ ٍّ‬
‫ني} (البقرة‬ ‫ال الر يـرنرال رع ْهدي الظَّالم ر‬ ‫اعل ر‬ ‫ب ركل رمات فرأررمتَّه َّن قر ر ّ ر‬
‫‪.)124‬‬
‫فمن أراد اإلمامة يف الدين وأ ْن تناله دعوة أبيه إبراهيم فليتم ما ابتاله هللا واختَبه به من أوامر ظاهرة‬
‫وابطنة فليقمها‪ ،‬ونواهٍّ ظاهرة وابطنة فليجتنبها‪.‬‬
‫ص رَبوا روركانوا ِِب رايتِنرا‬ ‫ِ ِ‬
‫{و رج رع ْلنرا مْنـه ْم أرئ َّمةً يـر ْهدو رن ِأب ْرم ِرران لر َّما ر‬
‫واإلمامة يف الدين ال تنال إال ابلصَب واليقني ر‬
‫يوقِنو رن}(السجدة ‪ .)24‬والصَب واليقني من عبادات القلب‪ ،‬ال جتتمعان يف قلب عبد حىت جيمع من‬
‫خصال اخلري وأعمال القلوب الشيء الكثري‪.‬‬
‫‪ -‬وقد مضى يف اإلحرام احلديث عن اليقني‪.‬‬
‫‪ -‬وأما الصَب فنصف اإلميان‪ ،‬ونصفه اآلخر الشكر‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪( :‬الصَب من اإلميان مبنزلة الرأس من اجلسد‪ ،‬وال إميان ملن ال صَب له‪ ،‬كما أنّه ال جسد‬
‫ملن ال رأس له‪ ،‬وقال عمر بن اخلطاب ‪(:‬خري عيش أدركناه ابلصَب) وأخَب ‪ ‬يف الصحيح‪" :‬أنه ضياء"‪،‬‬
‫(‪)45‬‬
‫وقال‪" :‬من يتصَب يصَبه هللا") ‪.‬‬

‫‪-‬الصالة خلف املقام‪:‬‬


‫عن جابر ‪ ‬قال‪ :‬عن حجة النيب ‪( :‬قرأ يف ركعيت الطواف بسوريت اإلخالص {ق ْل راي أريـُّ رها‬
‫رح ٌد}) رواه الرتمذي وصححه األلباين‪ .‬فالكافرون سورة التوحيد العملي‬ ‫الْ ركافِرو رن} و{ق ْل ه رو َّ‬
‫اَّلل أ ر‬
‫واإلخالص سورة التوحيد االعتقادي‪.‬‬
‫وال يستشعر الناسك لذة هاتني الركعتني رغم قربه الشديد من الكعبة إال إذا اجتهد يف اخلشوع‬
‫الذي هو قيام القلب بني يدي الرب ابخلضوع والذل واإلقبال عليه بكليته‪.‬‬
‫واخلشوع هو روح الصالة وحياهتا‪ ،‬فيستحضر عظمة من يقف بني يده وأنّه يسمعه ويراه فينكسر‬
‫اسج ْد‬ ‫وخضوعا وحينها تعرج روحه إىل امللكوت األعلى فيقرتب من ربه كما قال تعاىل‪ { :‬رو ْ‬ ‫ً‬ ‫قلبه له ذالًّ‬
‫ب}(العلق ‪ )19‬وعند مسلم‪" :‬أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"‪.‬‬ ‫رواقْرِرت ْ‬
‫يقول ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬فالداعي والساجد يوجه روحه إىل هللا؛ والروح هلا عروج يناسبها‪ ،‬فتقرب‬
‫من هللا بال ريب حبسب ختلصها من الشوائب‪ ،‬فيكون هللا عز وجل منها قريبًا قرًاب يلزم من قرهبا)‪ ،‬ويقول‪:‬‬

‫(‪ )45‬مدارج السالكني‪.‬‬


‫‪23‬‬
‫اضعا؛ وهذا هو الذي دلت عليه نصوص‬
‫(إ ّن روح املصلي تقرب إىل هللا يف السجود‪ ،‬وإ ْن كان بدنه متو ً‬
‫الكتاب) ‪.‬‬
‫(‪)46‬‬

‫‪-‬السعي بني الصفا واملروة‪:‬‬


‫قال أنس ‪( :‬كنا نرى ذلك من أمر اجلاهلية‪ ،‬فلما جاء اإلسالم أمسكنا عنهما‪ ،‬فأنزل هللا عز‬
‫اَّللِ}) رواه البخاري‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وجل‪{ :‬إِ َّن َّ‬
‫الص رفا روالْ رم ْرروةر من رش رعآئ ِر ّ‬
‫ومما ينبغي للساعي أ ْن يستشعر ما يلي‪:‬‬
‫حممد ‪ ‬ومناسك أبينا إبراهيم وأكدها النيب ‪ ‬فليس القصد‬ ‫‪ ]1‬أ ّن السعي من شعائر هللا ومن مناسك ٍّ‬
‫من قوله ‪ ‬ملا ذكر سعي أ ّمنا هاجر عليها السالم "فذلك سعي الناس بينهما"؛ أننا نسعى جملرد سعيها‪،‬‬
‫حلكمة أرادها سبحانه‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ولكن كانت هي أول من فعل ذلك‪ ،‬مث شرع هللا جل وعال السعي بني الصفا واملروة‬
‫لعل منها ذكر أمنا هاجر وابنها إمساعيل وما حصل يف قصتهما من عَب ومواعظ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ ]2‬أ ْن يتذكر الساعي حقيقة توكل أمنا هاجر ملا تركها إبراهيم وابنها فقالت له‪( :‬أين تذهب وترتكنا هبذا‬
‫الوادي ليس فيه أنس وال شيء‪ ،‬فقالت له ذلك مراراً‪ ،‬وجعل ال يلتفت إليها‪ ،‬فقالت له‪ :‬آهلل أمرك هبذا؟!‬
‫قال نعم‪ .‬قالت‪ :‬إذن ال يضيعنا)‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫والتوكل من أعمال القلب {وعلرى ِ‬
‫ني}(املائدة‪.)2٣‬‬ ‫اَّلل فرـترـ روَّكلواْ إِن كنتم ُّم ْؤمن ر‬
‫رر ّ‬
‫قال ابن القيم‪(:‬التوكل‪ :‬حمض االعتماد والثقة والسكون إىل من له األمر كله‪ ،‬وعلم العبد بتفرد‬
‫احلق تعاىل وحده مبلك األشياء كلها‪ ..،‬أن ‪ ...‬مجيع مصاحله كلها‪ :‬بيده وحده‪ ،‬ال بيد غريه) ‪.‬‬
‫(‪)47‬‬

‫وأ ْن يعلم أب ّن التوكل ال يعارض اجتهاد البدن يف بذل األسباب‪ ،‬فهاجر سعت مراراً طلباً للماء أو‬
‫من يساعدها ورضيعها‪.‬‬
‫‪ ]٣‬أ ْن يتذكر الساعي حال أمنا هاجر فمع بالء الغربة والوحدة والوحشة والعطش ورضيعها يبكي مل تيأس‬
‫شوط يتجدد توكلها وحسن ظنها ابهلل رهبا‪ ،‬أل ّهنا‬ ‫ومل تقنط من رمحة هللا فكررت السعي سبع مرات ويف كل ٍّ‬
‫تعلم أ ْن اليأس خمالف لصدق الرجاء ابهلل وصدق التوكل عليه وحسن الظن به {إِنَّه الر يـيأرس ِمن َّرو ِح اَّللِ‬
‫ْ ّ‬ ‫رْ‬ ‫ٌ‬
‫إِالَّ الْ رق ْوم الْ ركافِرو رن}(يوسف‪.)87‬‬

‫(‪ )46‬جمموع الفتاوى‪.‬‬


‫(‪ )47‬مدارج السالكني‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫قال العز بن عبد السالم رمحه هللا‪( :‬اليأس من رمحة هللا‪ :‬هو استصغ ٌار لسعة رمحته عز وجل‬
‫(‪)48‬‬
‫ذنب عظيم وتضييق لفضاء جوده) ‪.‬‬ ‫ومغفرته‪ ،‬وذلك ٌ‬
‫سبب يف عدم إجابة الدعاء وطول الكرب ففي الصحيحني أنّه ‪‬‬ ‫كما أ ّن اليأس من روح هللا ٌ‬
‫قال‪" :‬يستجاب ألحدكم ما مل يعجل‪ ،‬يقول‪ :‬دعوت فلم يستجب يل"‪.‬‬
‫‪ ]4‬أ ْن يتذكر الساعي حال أمنا هاجر فرغم صدق توكلها ما بذهلا السبب إال ّأهنا كانت مفتقرة متضرعة‬
‫فجمعت ذلك كله مما عجل بتفريج الكربة وزوال احملنة‪.‬‬
‫قال ابن كثري‪( :‬مل تزل تردد يف هذه البقعة املشرفة بني الصفا واملروة متذللةً خائفةً وجلةً مضطرةً‬
‫فقريةً إىل هللا عز وجل‪ ،‬حىت كشف هللا كربتها‪ ،‬وآنس غربتها وفرج شدهتا ‪ ...‬فالساعي بينهما ينبغي له‬
‫(‪)49‬‬
‫أ ْن يستحضر فقره وذلَّه وحاجته إىل هللا) ‪.‬‬
‫(‪)50‬‬
‫واالفتقار إىل هللا كما يقول ابن القيم‪( :‬هو حقيقة العبودية ولبُّها) ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة حني أوصى أحد إخوانه‪( :‬اعلم أ ّن من هو يف البحر على اللوح ليس أبحوج إىل‬
‫هللا وإىل لطفه ممن هو يف بيته بني أهله وماله‪ ،‬فإذا حققت هذا يف قلبك فاعتمد على هللا اعتماد الغريق‬
‫الذي ال يعلم له سبب جناة غري هللا) ‪ .‬والقصد أال يلتفت قلبه إىل غري هللا ويعلم يقيناً أبنّه ال حول له‬‫(‪)51‬‬

‫وال قوة له إال ابهلل حىت نفسه اليت بني جنبيه‪.‬‬


‫‪ ]5‬أ ْن يتذكر الساعي مقام التسليم الذي فاز به إبراهيم ‪ ‬ومدح به وكفيء ألجله‪ .‬فأمر أن يضعهم‬
‫يف و ٍّاد غري ذي زرع ووضعهم ومل يلتفت هلاجر وهي تناشده‪ ،‬ومل يرد عليها إال حني قالت‪ :‬آهلل أمرك هبذا؟‬
‫فلم يزد على‪( :‬نعم‪).‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رسلِ ْم قر ر‬
‫ني}(البقرة ‪ ،)1٣1‬وملا رمي‬ ‫ب الْ رعالرم ر‬‫رسلر ْمت لرر ِّ‬ ‫ال أ ْ‬ ‫وإبراهيم يف منشأ أمره {إِ ْذ قر ر‬
‫ال لره رربُّه أ ْ‬
‫ابملنجنيق سلّم أمره هلل ومل يعرتض على قدر هللا فجعلها هللا برداً وسالماً عليه‪.‬‬
‫ني}(الصافات ‪ .)10٣‬فجاءه الفرج ابألضحية‪.‬‬ ‫رسلرما وترـلَّه لِْل رجبِ ِ‬
‫وأمر بذبح ابنه فسلّم {فرـلر َّما أ ْ ر ر‬
‫ِ‬ ‫اج رع ْلنرا مسلِم ْ ِ‬
‫ك}(البقرة‬ ‫ك روِمن ذ ِّريَّتِنرا أ َّمةً ُّم ْسل رمةً لَّ ر‬‫ني لر ر‬ ‫ْ ر‬ ‫{ربـَّنرا رو ْ‬
‫وكان دعاؤه وابنه ومها يبنيان الكعبة ر‬
‫ب رسلِ ٍّيم}(الشعراء ‪ )89‬فشهد هللا‬ ‫اَّللر بِرق ْل ٍّ‬
‫‪ )128‬وقد بني ‪ ‬أنه ال ينفع يوم القيامة {إَِّال رم ْن أرترى َّ‬
‫ب رسلِ ٍّيم}(الصافات ‪.)84 - 8٣‬‬ ‫تعاىل أبنّه منهم {وإِ َّن ِمن ِش ريعتِ ِه رِإلبْـر ِاهيم (‪ )8٣‬إِ ْذ رجاء رربَّه بِرق ْل ٍّ‬
‫ر ر‬ ‫ر‬

‫(‪ )48‬شجرة املعارف واألحوال‪.‬‬


‫(‪ )49‬تفسري القرآن العظيم‪.‬‬
‫(‪ )50‬مدارج السالكني‪.‬‬
‫(‪ )51‬الوصية املباركة‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫‪-‬احللق والتقصري‪:‬‬
‫وسك ْم رح َّىت يـرْبـل رغ ا ْهلرْدي رِحملَّه}(البقرة ‪.)196‬‬ ‫ِ‬
‫قال تعاىل‪ {:‬روالر رْحتلقواْ رؤ ر‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫وقد حلق النيب ‪ ‬ودعا للمحلقني ابلرمحة ثالث مرات واملقصرين مرة ٌ‬
‫قال ابن حجر رمحه هللا‪( :‬وفيه أ ّن احللق أفضل من التقصري‪ ،‬ووجهه أنّه أبلغ يف العبادة وأبني‬
‫دل على صدق النية‪ ،‬والذي يقصر يـْبقي على نفسه شيئاً مما يتزين به‪ ،‬خبالف احلالق‬ ‫للخضوع والذلة وأ ُّ‬
‫فإنّه يشعر أبنّه ترك ذلك هلل تعاىل‪ ،‬وفيه إشارة إىل التجرد) ‪.‬‬
‫( ‪)52‬‬

‫احلاصل أ ّن يف احللق والتقصري ٍّ‬


‫معان عدة‪:‬‬
‫‪ ]1‬إظهار التعبد هلل واخلضوع والذلة له جل وعال‪ ،‬فيطأطئ رأسه حلالقه ليجَّز شعره تعبداً هلل‪ ،‬فيزيل شيئاً‬
‫منه ليَبهن على صدق نيته يف التذلل لربه جل وعال‪.‬‬
‫‪ ]2‬انشراح الصدر‪ ،‬وسرور النفس بدعوة الرسول ‪.‬‬
‫‪ ]٣‬التجرد من هوى النفس تذلالً هلل وهذا يف احللق أظهر إذ كانت إطالة الشعر وترجيله والتزين به عادة‬
‫من عادات العرب يف اجلاهلية واإلسالم‪.‬‬

‫‪-‬أعمال القلوب يف احلج‪:‬‬


‫‪-‬يوم الرتوية‪:‬‬
‫مسي بذلك أل ّن الناس قبل أ ْن َيرجوا من مكة إىل مىن كانوا يرتوون فيه املاء ملا بعده‪ ،‬فيتزودون من‬
‫وهتيؤ ليوم عرفة‪ ،‬من ذلك‪:‬‬‫استعداد ٌ‬
‫ٌ‬ ‫املاء ما يكفيهم أايم مىن وعرفات‪ .‬وهذا اليوم‬
‫‪ ]1‬يسن اإلحرام فيه من ضحى اليوم الثامن فيمسك عن حمظورات اإلحرام وهلا أ ٌثر على القلب كما سبق‬
‫ذكره‪.‬‬
‫حمرما‪.‬‬
‫‪ ]2‬يسن له الصالة مبىن من ظهر اليوم الثامن إىل الفجر من يوم عرفة ً‬
‫استعدادا وهتيؤ للقلب‪ .‬وبقدر هتيئه جيد مثرة ذلك‬
‫ً‬ ‫‪ ]٣‬يشرع له التلبية والتكبري وغريها من األذكار والقرآن‬
‫يوم عرفة الذي هو "احلج عرفة"‪.‬‬

‫(‪ )52‬فتح البارئ‪.‬‬


‫‪26‬‬
‫‪-‬يوم عرفة‪:‬‬
‫بني النيب ‪ ‬فضل هذا اليوم ومكانته بقوله‪" :‬احلج عرفة" ويف هذا اليوم معان عظيمة منها‪:‬‬
‫‪ )1‬هذا اليوم يذكر مبشاهد يوم القيامة فلباس الناس واحد ال فرق بني منازهلم وجالبهم هلذا املكان واحد‬
‫اخلوف والرجاء ينظرون رمحة هللا‪ ،‬يف عبادةٍّ جتمع بني اخللوة واالجتماع‪ ،‬فهم جمتمعون يف ٍّ‬
‫مكان واحد‪،‬‬
‫خال بنفسه يدعو ويتضرع منشغل عن اآلخرين‪.‬‬ ‫لكن كل منهم ٍّ‬
‫‪ )2‬يف هذا اليوم يدنو هللا دنواً خاصاً أبهل عرفة ففي احلديث الذي رواه مسلم "ما من ٍّ‬
‫يوم أكثر من أن‬
‫يعتق هللا فيه عبداً من النار من يوم عرفة‪ ،‬وإنه ليدنو مث يباهي هبم املالئكة فيقول‪ :‬ما أراد هؤالء؟"‪ .‬وإذا‬
‫استشعر الناسك هذا قوي رجاؤه واطمأن قلبه ومست روحه‪.‬‬
‫قال ابن املبارك رمحه هللا‪( :‬جئت إىل سفيان الثوري عشية عرفة‪ ،‬وهو جا ٍّث على ركبتيه‪ ،‬وعيناه‬
‫يل‪ ،‬فقلت له‪ :‬من أسوأ هذا اجلمع حاالً؟ قال‪ :‬الذي يظن أن هللا ال يغفر هلم) ‪.‬‬
‫(‪)5٣‬‬
‫هتمالن‪ ،‬فالتفت إ َّ‬
‫{وإِذرا‬
‫داع ر‬ ‫‪ )٣‬الدعاء يف يوم عرفة اجتمع فيه قرابن‪ ،‬قرب هللا اخلاص أبهل املوقف‪ ،‬وقرب هللا العام لكل ٍّ‬
‫ِ‬ ‫سأرلر ِ ِ‬
‫يب}(البقرة ‪.)186‬‬ ‫ك عبرادي رع ِّين فرإِّين قر ِر ٌ‬
‫ر ر‬
‫قال ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬الداعي والساجد يوجه روحه إىل هللا‪ ،‬والروح هلا عروج يناسبها‪ ،‬فتقرب‬
‫يب حبسب ختلصها من الشوائب‪ .‬فيكون هللا عز وجل منها قريباً قرابً يلزم من قرهبا‪،‬‬ ‫من هللا تعاىل بال ر ٍّ‬
‫قرب آخر كقربه عشية عرفة) ‪.‬‬
‫(‪)54‬‬
‫ويكون منه ٌ‬
‫وإذا استحضر الناسك هذا‪ ،‬كان أدعى للمحبة واألنس وقوة الرجاء وكمال اخلضوع والذل‪.‬‬
‫مسألة وطلب‪ .‬ودعاء عبادة وهو الذكر‪ .‬ومن ذلك قول ابن‬ ‫ٍّ‬ ‫‪ )4‬الدعاء يف يوم عرفة وغريه نوعان‪ :‬دعاء‬
‫عمر رضي هللا تعاىل عنهما‪( :‬كنا مع رسول هللا ‪ ‬يف غداة عرفة فمنا املكَب‪ ،‬ومنا املهلل) رواه مسلم‪.‬‬
‫داخل فيه‪.‬‬
‫من لآلخر ٌ‬ ‫كل من النوعني متض ٌ‬ ‫و ٌ‬
‫من للطلب والثناء‬ ‫ذكر للمدعو سبحانه وتعاىل‪ ،‬متض ٌ‬ ‫يقول ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬إ ّن الدعاء هو ٌ‬
‫عليه أبوصافه وأمسائه‪ ،‬فهو ذكر وزايدة‪ ،‬كما أ ّن الذكر مسي دعاءً لتضمنه للطلب‪ ،‬كما قال ‪" :‬أفضل‬
‫متضمن احلب والثناء‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الدعاء احلمد هلل" رواه الرتمذي‪ .‬فسمي احلمد هلل دعاء وهو ثناءٌ حمض؛ أل ّن احلمد‬
‫احد من الدعاء والذكر يتضمن‬ ‫واحلب أعلى أنواع الطلب ‪ -‬إىل أ ْن قال رمحه هللا ‪ -‬واملقصود أ ّن كل و ٍّ‬
‫ضُّرعاً‬‫ك تر ر‬ ‫ك ِيف نـر ْف ِس ر‬
‫{واذْكر َّربَّ ر‬
‫اآلخر ويدخل فيه ‪ ...‬مث قال‪( :‬وأتمل كيف قال يف آية الذكر‪ :‬ر‬

‫(‪ )5٣‬لطائف املعارف‪.‬‬


‫(‪ )54‬جمموع الفتاوى‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫رو ِخي رفةً}(األعراف ‪ )205‬ويف آية الدعاء‪ْ {:‬ادعواْ رربَّك ْم تر ر‬
‫ضُّرعاً روخ ْفيرةً}(األعراف ‪ )55‬فذكر التضرع فيهما‬
‫معاً‪ ،‬وهو التذلل‪ ،‬والتمسكن واالنكسار وهو روح الذكر والدعاء) ‪.‬‬
‫(‪)55‬‬

‫لقد كان النيب ‪ ‬كثري التضرع إىل هللا جل جالله يف مناجاته وذكره ومن ذلك تضرعه ‪ ‬عشية‬
‫عرفة‪ ،‬حىت ظن أصحابه من انشغاله ابلتضرع أنّه صائم‪ ،‬فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لنب وهو واقف‬
‫على بعريه‪ ،‬فشرب منه‪ ،‬وملا سقط خطام دابته تناوله بيد وأبقى يده األخرى مبسوطةً يدعو هبا‪.‬‬
‫ومعىن التضرع مشتقةٌ من الضرع‪ .‬ووجه الشبه كما أ ّن الصغري عند ارتضاعه يلح ويرتفع وحياول‬
‫بكل قوته أ ْن جيذب اللنب‪ ،‬الذي هو مصدر حياته‪ ،‬فكذلك الداعي يلح وحياول أ ْن جيتذب رمحة هللا إليه‬
‫بتضرعه‪ ،‬ورمحة هللا هي مصدر سعادته يف دينه ودنياه‪.‬‬

‫‪-‬املبيت مبزدلفة‪:‬‬
‫ف‬ ‫من االزدالف وهو التقرب؛ أل ّهنم يدنون إىل مىن‪ ،‬وقيل‪ :‬مسيت بذلك جمليء الناس إليها يف زلر ٍّ‬
‫مجعا‪ ،‬ألنّه جيمع فيها بني صاليت املغرب والعشاء‪.‬‬ ‫من الليل أي ساعات‪ .‬وتسمى ً‬
‫احلرررِام رواذْكروه رك رما ره رداك ْم روإِن كنتم‬ ‫اَّللر ِع ر‬
‫ند الْ رم ْش رع ِر ْ‬ ‫ٍّ‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬فرِإ رذا أرفر ْ ِ‬
‫ضتم ّم ْن رعررفرات فراذْكرواْ ّ‬
‫ني}(البقرة ‪.)198‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫ّمن قرـْبله لرم رن الضَّآلّ ر‬
‫ويف حديث جابر رضي هللا عنهما (أنّه ‪ ‬صلى فيها املغرب والعشاء مجعاً مث اضطجع انئماً‬
‫وصلى الصبح حني تبني‪ ،‬مث ركب القصواء حىت أتى املشعر احلرام فاستقبل القبلة‪ ،‬فدعاه وكَبه وهلّله‬
‫ووحده‪ ،‬فلم يزل واق ًفا حىت أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس) رواه مسلم‪ .‬وذلك خمالفةً للمشركني‬ ‫ّ‬
‫فقد كانوا ال ينفرون إال بعد أن تطلع الشمس‪ .‬ومن مثار هذه األعمال على القلب ما يلي‪:‬‬
‫استرـ ْغ ِفرواْ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ )1‬الذكر حىت اإلسفار ابلتكبري والتهليل مث اإلفاضة مستغفراً‪{ :‬مثَّ أرفيضواْ م ْن رحْيث أرفر ر‬
‫اض النَّاس رو ْ‬
‫اَّللر رك ِذ ْك ِرك ْم‬
‫اَّللر}(البقرة ‪ )199‬واالستغفار من الذكر‪ .‬والذكر شعار احملبني‪ ،‬وهلذا أمر الناسك {فراذْكرواْ ّ‬ ‫ّ‬
‫يم ِة‬ ‫ِ ِ‬ ‫رش َّد ِذ ْكراً}(البقرة ‪ )200‬وأمر ابلذكر عند الذبح‪{ :‬لِي ْذكروا اسم َِّ‬
‫اَّلل رعلرى رما رررزقرـهم ّمن رهب ر‬ ‫ْر‬ ‫ر‬ ‫آابءك ْم أ ْرو أ ر‬
‫ر‬
‫ات}(البقرة ‪ .)20٣‬والذكر له روحان ال يؤيت أكله إال‬ ‫ْاألرنْـع ِام} (احلج ‪{ ،)٣4‬واذْكرواْ اَّلل ِيف أ َّرايٍّم َّمعدود ٍّ‬
‫ْ ر‬ ‫ّر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫هبما‪ .‬ومها التضرع واخلوف‪ ،‬ومها عباداتن من عبادات القلب إذا خال القلب منهما فالذكر ال روح له‪.‬‬
‫ضُّرعاً رو ِخي رفةً}(األعراف ‪.)205‬‬ ‫ك تر ر‬‫ك ِيف نـر ْف ِس ر‬
‫{واذْكر َّربَّ ر‬
‫قال تعاىل‪ :‬ر‬

‫(‪ )55‬جمموع الفتاوى‪.‬‬


‫‪28‬‬
‫قال ابن تيمية رمحه هللا‪( :‬خص الذكر ابخليفة حلاجة الذاكر إىل اخلوف‪ ،‬فإ ّن الذكر يستلزم احملبة‬
‫ويثمرها‪ ،‬وال بد ملن أكثر من ذكر هللا أ ْن يثمر له ذلك حمبته‪ ،‬واحملبة ما مل تقرتن ابخلوف فإ ّهنا ال تنفع‬
‫بكثري من اجلهال املغرورين إىل أ ْن استغنوا هبا‬ ‫صاحبها بل تضره‪ .‬أل ّهنا توجب التواين واالنبساط ورمبا آلت ٍّ‬
‫عن الواجبات‪ ...‬فإذا اقرتن احلب ابخلوف مجعه على الطريق ورده إليها ‪ ...‬كاخلائف الذي معه سوط‬
‫يضرب به مطيته‪ ،‬لئال خترج عن الطريق) ‪.‬‬
‫( ‪)56‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫اَّللر ِع ر‬
‫ني}‪.‬‬ ‫احلرررِام رواذْكروه رك رما ره رداك ْم روإِن كنتم ّمن قرـْبله لرم رن الضَّآلّ ر‬
‫ند الْ رم ْش رع ِر ْ‬ ‫‪ )2‬يف قوله تعاىل‪{ :‬فراذْكرواْ ّ‬
‫شكر وإنعام وذكرهم حبال ضالهلم ليظهر قدر اإلنعام‪ ،‬والنعم‬ ‫فالذكر األول ذكر عام والذكر الثاين ذكر ٍّ‬
‫وأعظمها نعمة اهلداية ما حفظت أبفضل من الشكر وال حمقت أبشد من الكفر هبا {لرئِن رش رك ْر ُْت ألر ِز ر‬
‫يدنَّك ْم‬
‫رولرئِن رك رف ْر ُْت إِ َّن رع رذ ِايب لر رش ِدي ٌد}(إبراهيم‪.)7‬‬
‫قال ابن القيم رمحه هللا عن منزلة الشكر‪( :‬هي من أعلى املنازل‪ ،‬وهي فوق منزلة "الرضى" وزايدة‪،‬‬
‫فالرضى مندر ٌج يف الشكر‪ .‬إذ يستحيل وجود الشكر بدونه‪ .‬وهو نصف اإلميان‪ ،‬واإلميان نصفان‪ :‬نصف‬
‫الشكر‪ ،‬ونصف صَب) ‪.‬‬
‫(‪)57‬‬

‫جبمع الصبح مث وقف فقال‪( :‬إ ّن‬ ‫‪ )٣‬عن عمر بن ميمون قال‪( :‬شهدت عمر بن اخلطاب ‪ ‬صلى ٍّ‬
‫املشركني كانوا ال يفيضون حىت تطلع الشمس‪ ،‬ويقولون‪ :‬أشرق ثبري‪ ،‬وإ ّن النيب ‪ ‬خالفهم مث أفاض قبل‬
‫أ ْن تطلع الشمس)‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫فاحلج ومشاعره من إرث أبينا إبراهيم ‪ ،‬لكن املشركني بدلوا‪ ،‬فجاء النيب ‪ ‬فأعاد احلج‬
‫ومشاعره على ما كان عليه من عهد إبراهيم عليه ‪.‬‬
‫قال ابن القيم رمحه هللا‪( :‬الشريعة قد استقرت ‪ -‬وال سيما يف املناسك ‪ -‬على قصد خمالفة‬
‫املشركني) ‪.‬‬
‫(‪)58‬‬

‫ومن مقاصد املخالفة‪:‬‬


‫أ ‪ -‬متييز املسلم يف عبادته عن غريه‪ .‬ومن ذلك أن النيب ‪ ‬خالف اليهود يف صيام عاشوراء‪.‬‬
‫بـ ‪ -‬أن املشاهبة يف الظاهر هلا أثر على املشاهبة يف الباطل‪ ،‬وكذلك هلا أ ٌثر على احملبة واالئتالف‪.‬‬

‫(‪ )56‬جمموع الفتاوى‪.‬‬


‫(‪ )57‬مدارج السالكني‪.‬‬
‫(‪ )58‬حاشية ابن القيم على سنن أيب داود‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫‪-‬رمي اجلمار‪:‬‬
‫عن ابن عباس رضي هللا تعاىل عنهما قال‪( :‬ملا أتى إبراهيم خليل هللا صلوات هللا وسالمه عليه‬
‫املناسك عرض له الشيطان عند مجرة العقبة فرماه بسبع حصيات حىت ساخ يف األرض‪ ،‬مث عرض له عند‬
‫اجلمرة الثانية‪ ،‬فرماه بسبع حصيات حىت ساخ يف األرض‪ ،‬مث عرض له عند اجلمرة الثالثة ورماه بسبع‬
‫حصيات حىت ساخ يف األرض‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬فالشيطان ترمجون وملة أبيكم إبراهيم تتبعون) رواه احلاكم‬
‫وصححه األلباين‪.‬‬
‫وشعرية رمي اجلمار هي أكثر شعائر احلج العملية تكراراً‪ ،‬واألصل يف القيام هبا التسليم هلل جل‬
‫وعال واتباع النيب ‪.‬‬
‫ومن احلكم فيها‪:‬‬
‫ك الْم ْستر ِق ريم(‪)16‬مثَّ آلتِيرـنـَّهم‬ ‫‪ )1‬التذكري بعداوة الشيطان وإصراره على إغواء بين آدم {ألرقْـع رد َّن رهل ْم ِصرراطر ر‬
‫اجلرن َِّة}(األعراف ‪.)27‬‬ ‫رخرر رج أربـر رويْكم ِّم رن ْ‬ ‫ِ‬
‫{اي برِين ر‬
‫آد رم الر يـر ْفتنرـنَّكم الشَّْيطران رك رما أ ْ‬ ‫‪(})17(...‬األعراف)‪ .‬ر‬
‫قال الشيخ الشنقيطي رمحه هللا يف أضواء البيان‪( :‬فذكر هللا الذي شرع الرمي إلقامته هو االقتداء‬
‫ت لرك ْم أ ْس روةٌ رح رسنرةٌ ِيف‬ ‫إببراهيم يف عداوة الشيطان ورميه‪ ،‬وعدم االنقياد إليه‪ ،‬وهللا يقول‪{:‬قر ْد ركانر ْ‬
‫إِبْـرر ِاه ريم}(املمتحنة ‪ ،)4‬فكأ ّن الرمي رمز وإشارة إىل عداوة الشيطان اليت أمران هللا هبا يف قوله‪{:‬إِ َّن الشَّْيطرا رن‬
‫َّخذونره روذ ِّريـَّتره أ ْرولِيراء ِمن د ِوين روه ْم‬‫اختذوه عدواً}(فاطر ‪ ،)6‬ويف قوله منكراً على من واله {أرفرـترـت ِ‬
‫ً‬ ‫ر ّ‬
‫لركم عد ٌّو فر َِّ‬
‫ْ ر‬
‫ومعلوم أن الرجم ابحلجارة من أكَب مظاهر العداوة)‪ .‬وهكذا يفعل املؤمن مع‬ ‫ٌ‬ ‫لرك ْم رعد ٌّو}(الكهف ‪،)50‬‬
‫شياطني اإلنس واجلن‪.‬‬
‫‪ )2‬يشرع الدعاء بعد األوىل والوسطى واإلطالة يف ذلك بتضرٍّع وتذلل‪ ،‬وهذا يشعره حباجته وفقره إىل هللا‪،‬‬
‫فريمي الشيطان وهواه تباعداً منهما‪ ،‬مث يتقرب إىل هللا يدعوه أ ْن يعينه على رمي كل من حيول بينه وبني‬
‫ربه‪.‬‬

‫‪-‬ذبح اهلدي‪:‬‬
‫اهلدي ما يهدى للحرم من ٍّ‬
‫نعم وغريها‪ .‬وقد أهدى النيب ‪ ‬يف عمرة احلديبية‪ .‬رواه البخاري عن‬
‫مروان واملسور‪ .‬وأهدى ‪ ‬وهو ابملدينة وبعث هبا إىل مكة‪ .‬عائشة البخاري‪ .‬ويف حجة الوداع أهدى مائة‬
‫بدنة‪ .‬حديث علي البخاري‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ولقد كان يكفيه ‪ ‬أ ْن يذبح يف حجه شاةً أو سبع بدنة أو سبع بقرة؛ ولكنه ‪ ‬أهدى مائة‬
‫بدنة تعظيماً هلل جل وعال؛ فالذبح من أجل العبادات املالية‪ ،‬وهذه العبادة العظيمة متصلة أبعمال ٍّ‬
‫قلوب‬
‫كثريةٍّ ينبغي استحضارها‪ ،‬منها‪:‬‬
‫اَّللِ رعلرْيـ رها} (احلج‬
‫اس رم َّ‬
‫‪ ]1‬تعظيم هللا جل وجالله‪ ،‬ومن تعظيمه أ ْن يذكر امسه تعاىل عند الذبح {فراذْكروا ْ‬
‫صالرِيت‬ ‫اَّللر}(احلج ‪ ،)٣7‬ومن تعظيمه أال تذبح لغريه {ق ْل إِ َّن ر‬ ‫ك رس َّخرررها لرك ْم لِت ركَِّبوا َّ‬ ‫ِ‬
‫‪ { ،)٣4‬رك رذل ر‬
‫ونس ِكي ورْحمياي وممرر ِايت َِّللِ ر ِب الْعالر ِمني}(األنعام ‪{ ،)162‬فر ِ‬
‫ك رو ْاحنرْر}(الكوثر‪ ،)2‬وعند مسلم‬ ‫ص ِّل لرربِّ ر‬ ‫ر‬ ‫ّ رّ ر ر‬ ‫ر ر ر ر‬ ‫ر‬
‫"لعن هللا من ذبح لغري هللا"‪ .‬قال الشيخ ابن السعدي رمحه هللا‪( :‬ومنها اهلدااي‪ ،‬فتعظيمها ابستحساهنا‬
‫وب} (احلج‪.)٣2‬‬ ‫اَّللِ فرِإ َّهنرا ِمن ترـ ْقوى الْقل ِ‬
‫واستسماهنا‪ ،‬وأن تكون مكملةً من كل وجه)‪ { ،‬رورمن يـ رع ِظّ ْم رش رعائِرر َّ‬
‫ر‬
‫اَّللر حلوم رها رورال ِد رماؤرها رولر ِكن يـرنراله التَّـ ْق روى ِمنك ْم}(احلج ‪ .)٣7‬قال ابن‬ ‫‪ ]2‬اإلخالص هلل {لرن يـرنر رال َّ‬
‫السعدي رمحه هللا‪(:‬إمنا يناله اإلخالص فيها واالحتساب‪ ،‬والنية الصاحلة) ‪.‬‬
‫(‪)59‬‬

‫‪ ]٣‬سرور العبد عند قيامه هبا وحسن الظن ابهلل وقوة اليقني‪ .‬قال ابن تيمية رمحه هللا عند قوله تعاىل‪:‬‬
‫{فر ِ‬
‫ك رو ْاحنرْر }‪ ،‬قال‪( :‬أمره هللا أ ْن جيمع بني هاتني العبادتني العظيمتني‪ ،‬ومها الصالة والنسك‬ ‫ص ِّل لرربِّ ر‬
‫ر‬
‫الدالتان على القرب والتواضع واالفتقار وحسن الظن‪ ،‬وقوة اليقني‪ ،‬وطمأنينة القلب إىل هللا‪ ،‬وإىل ِع ردتِه‬
‫وخلر ِفه عكس حال أهل الكَب والنفرة وأهل الغىن عن هللا‪ ..،‬وأجل العبادات املالية النحر‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫وأمره‪ ،‬وفضله‪ ،‬ر‬
‫وأجل العبادات البدنية الصالة‪ ،‬وما جيتمع للعبد يف الصالة ال جيتمع له يف غريها من سائر العبادات‪ ،‬كما‬
‫عرفه أرابب القلوب احلية‪ ،‬وأصحاب اهلمم العالية‪ ،‬وما جيتمع له يف حنره من إيثار هللا‪ ،‬وحسن الظن به‬
‫مر عجيب إذا قارن ذلك اإلميان واإلخالص‪ ،‬وقد امتثل النيب ‪ ‬أمر‬ ‫وقوة اليقني والوثوق مبا يف يد هللا أ ٌ‬
‫ربه فكان كثري الصالة لربه كثري النحر‪ ،‬حىت حنر بيده يف حجة الوداع ثالاثً وستني) ‪.‬‬
‫(‪)60‬‬

‫‪ ]4‬حمبة هللا جل وعال وتقدمي ذلك على حمبة املال وسائر احملبوابت‪ ،‬وهلذا ملا سئل النيب ‪ ‬عن أفضل‬
‫الرقاب قال‪":‬أنفسها عند أهلها وأغالها"‪ .‬وإبراهيم ‪ ‬أحب إمساعيل حباً شديداً فأمره هللا أب ْن يذحبه‬
‫بيده فلما قدم حب هللا وآثره على هواه وعزم على ذحبه بقي الذبح ال فائدة فيه‪ ،‬فلهذا قال هللا تعاىل‪:‬‬
‫{إِ َّن ره رذا رهل رو الْبر رالء الْمبِني (‪ )106‬روفر رديْـنراه بِ ِذبْ ٍّح رع ِظ ٍّيم (‪(})107‬الصافات)‪.‬‬
‫حمبة زامحت حمبة هللا ورسوله ‪ ‬حبيث تضعفها وتنقصها فهي‬ ‫قال ابن القيم رمحه هللا‪( :‬كل ٍّ‬
‫مذمومة) ‪.‬‬
‫( ‪)61‬‬

‫(‪ )59‬تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان‪.‬‬


‫(‪ )60‬جمموع الفتاوى‪.‬‬
‫(‪ )61‬إغاثة اللهفان‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫‪-‬احللق والتقصري‪:‬‬
‫سبق ذكره‪.‬‬

‫‪-‬طواف اإلفاضة‪:‬‬
‫ت الْ رعتِ ِيق}(احلج ‪ )29‬وعن ابن عمر رضي هللا تعاىل عنهما‪( :‬أ ّن النيب ‪ ‬أفاض‬‫{ولْيطََّّوفوا ِابلْبـي ِ‬
‫رْ‬ ‫رر‬
‫يوم النحر‪ ،‬صلى الظهر مبىن)‪.‬‬
‫قال سفيان الثوري رمحه هللا‪( :‬قدمت مكة فإذا أان أبيب عبد هللا جعفر بن حممد ‪ -‬أي جعفر‬
‫صري يف املشعر‬
‫الصادق ‪ -‬قد أانخ ابألبطح‪ ،‬فقلت‪ :‬اي ابن رسول هللا ملا جعل املوقف من وراء احلرم؟ ومل ي َّْ‬
‫احلرام؟ فقال‪ :‬الكعبة بيت هللا‪ ،‬واحلرم حجابه‪ ،‬واملوقف اببه‪ ،‬فلما قصده الوافدون‪ ،‬أوقفهم ابلباب‬
‫يتضرعون‪ ،‬فلما أذن هلم يف الدخول‪ ،‬أدانهم من الباب الثاين وهو املزدلفة‪ ،‬فلما نظر إىل كثرة تضرعهم‬
‫وطول اجتهادهم رمحهم‪ ،‬فلما رمحهم‪ ،‬أمرهم بتقريب قرابهنم‪ ،‬فلما قربوا قرابهنم‪ ،‬وقضوا تفثهم وتطهروا من‬
‫الذنوب اليت كانت حجاابً بينه وبينهم‪ ،‬أمرهم بزايرة بيته على طهارة) ‪ .‬ومثال ذلك ‪-‬وهلل املثل األعلى‪-‬‬
‫(‪)62‬‬

‫الزائر إىل املضيف يف الدنيا‪ ،‬فثم زائر يقف بسور الباب فال يدخل‪ ،‬ومن ترضى عنه تدخله فناء بيتك‪،‬‬
‫ومن ترضاه أكثر تدخله إىل داخل البيت حيث ال يدخل إال املرضيني‪.‬‬

‫ومما ينبغي التنبيه عليه‪:‬‬


‫‪ )1‬بسبب أ ّن طواف اإلفاضة سبقه طواف القدوم أو العمرة من املتمتع قد ختبو حالوة الشوق‪،‬‬
‫فالذي ينبغي على الناسك أ ْن جيدد شوقه ويراعي أعمال القلوب يف الطواف والسعي ‪ -‬حسبما‬
‫سبق ‪ -‬وجياهد نفسه يف ذلك‪.‬‬
‫يل عبدي ٍّ‬
‫بشيء أحب ايل مما افرتضته عليه"‪ .‬فاألصل احلرص على تكميل الفرض‬ ‫‪" )2‬وما تقرب إ َّ‬
‫واالهتمام به‪ ،‬لكن املالحظ أ ّن البعض يعتين ابلنوافل أكثر من عنايته ابلفرض‪ .‬فاحلرص على‬
‫تكميل طواف اإلفاضة أوىل من طواف القدوم‪.‬‬

‫(‪ )62‬سري أعالم النبالء‪.‬‬


‫‪32‬‬
‫‪-‬أايم التشريق‪:‬‬
‫اَّللر ِيف أ َّرايٍّم‬
‫مسيت بذلك لكثرة تشريق حلم يف الشمس‪ .‬وهي املذكورة يف قوله تعاىل‪ { :‬رواذْكرواْ ّ‬
‫ات}(البقرة ‪.)20٣‬‬ ‫َّمعدود ٍّ‬
‫ْ ر‬
‫وذكر هلل"‪ .‬ومن ذكر هللا فيها التكبري‬ ‫كل وشرب ٍّ‬ ‫ويف احلديث أنّه ‪ ‬قال‪" :‬أايم التشريق أايم أ ٍّ‬
‫عند رمي اجلمرة‪ ،‬وعند الذبح‪ ،‬وعقب الفرائض‪ .‬ويف احلديث أيضاً أنّه ‪ ‬قال‪" :‬إ ّن أعظم األايم عند هللا‬
‫يوم النحر ويوم القِّر" رواه الرتمذي وصححه األلباين‪ .‬ويوم القر هو اليوم احلادي عشر مسي بذلك؛ أل ّن‬
‫احلجاج يقرون فيه مبىن ويقيمون‪.‬‬
‫ومن املعاين يف أايم تشريق‪:‬‬
‫‪ )1‬اإلكثار من الذكر واحلرص على مراعاة العبادات القلبية فيه كما سبق يف مزدلفة‪ .‬قال ابن‬
‫رجب رمحه هللا‪( :‬أايم التشريق جيتمع فيها للمؤمنني نعيم أبداهنم ابألكل والشرب‪ ،‬ونعيم قلوهبم ابلذكر‬
‫والشكر‪ ،‬وبذلك تتم النعمة) ‪.‬‬
‫(‪)6٣‬‬

‫‪ )2‬سئل جعفر الصادق رمحه هللا عن سبب حترمي صيام أايم التشريق للحجاج فقال‪( :‬ألهنم يف‬
‫ضيافة هللا وال جيب على الضيف أ ْن يصوم عند من أضافه) ‪.‬‬
‫(‪)64‬‬

‫وشعور احلاج هبذا جيعله يستشعر قربه من ربه وأنسه به فيقوى رجاؤه‪ ،‬وهذا الشعور له أتثريٌ أيضاً‬
‫على كثرة الذكر وكثرة الدعاء‪.‬‬

‫‪-‬األعمال خبواتيمها‪:‬‬
‫أمر هللا جل وعال عباده يف هناية احلج أبمور‪:‬‬
‫رش َّد ِذ ْكراً}(البقرة ‪ .)200‬قيل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اَّللر ركذ ْك ِرك ْم ر‬
‫آابءك ْم أ ْرو أ ر‬ ‫‪ )1‬كثرة الذكر‪{ :‬فرِإذرا قر ر‬
‫ضْيـتم َّمنراس ركك ْم فراذْكرواْ ّ‬
‫كما يكثر الصيب من ذكر أبيه وأمه (اباب‪/‬ماما) وقيل‪ :‬عن ابن عباس قال‪( :‬كان أهل اجلاهلية يقفون يف‬
‫ذكر غري فعال‬
‫املوسم‪ ،‬فيقول الرجل منهم‪ :‬كان أيب يطعم وحيمل احلر رماالت وحيمل الدايت‪ ،‬ليس هلم ٌ‬
‫رش َّد ِذ ْكراً}‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اَّللر ركذ ْك ِرك ْم ر‬
‫آابءك ْم أ ْرو أ ر‬ ‫آابئهم‪ ،‬فأنزل هللا على حممد ‪{: ‬فراذْكرواْ ّ‬

‫(‪ )6٣‬لطائف املعارف‪.‬‬


‫(‪ )64‬سري أعالم النبالء‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫َّاس رمن يـرقول رربـَّنرا آتِنرا‬‫‪ )2‬الدعاء فقد ذكر هللا الدعاء بعد اإلرشاد إىل كثرة الذكر فقال تعاىل‪{ :‬فر ِم رن الن ِ‬
‫اآلخررةِ رح رسنرةً‬ ‫الدنْـيا حسنرةً وِيف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِ ِِ‬
‫الدنْـيرا رورما لره ِيف اآلخررة م ْن رخالرق (‪ِ )200‬ومْنـهم َّمن يـرقول رربـَّنرا آتنرا ِيف ُّ ر ر ر ر‬ ‫ِيف ُّ‬
‫ب النَّا ِر (‪(})201‬البقرة)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫روقنرا رع رذا ر‬
‫وذم من ال‬ ‫قال ابن كثري رمحه هللا يف التفسري‪( :‬أرشد إىل دعائه بعد كثرة ذكره فإنّه مظنة اإلجابة‪ّ ،‬‬
‫عبادات قلبية سبق اإلشارة إليها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫معرض عن أخراه)‪ .‬والدعاء والذكر له‬ ‫ٌ‬ ‫يسأله إال يف أمور دنياه وهو‬
‫ور َّرِح ٌيم}‬ ‫‪ )٣‬كثرة االستغفار يف هناية احلج {مثَّ أرفِيضواْ ِمن حيث أرفراض النَّاس و ِ‬
‫اَّللر إِ َّن ّ‬
‫اَّللر رغف ٌ‬ ‫استرـ ْغفرواْ ّ‬
‫رْ‬ ‫ر‬ ‫ْ رْ‬
‫استرـ ْغ رفرواْ لِذنوهبِِ ْم} وإ ّما عن تقصريه يف طاعة‪.‬‬‫واالستغفار إما عن معصية وقع فيها {فر ْ‬
‫قال ابن سعدي رمحه هللا‪( :‬هكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة‪ ،‬أ ْن يستغفر هللا عن التقصري‪،‬‬
‫ومن هبا على ربه‪ ،‬وجعلت له حمالً ومنزلةً رفيعة‪،‬‬ ‫ويشكره على التوفيق‪ ،‬ال كمن يرى أنّه قد أكمل العبادة‪َّ ،‬‬
‫عمال أخر)‪.‬‬ ‫حقيق ابلقبول والتوفيق أل ٍّ‬ ‫ِ‬
‫ورد العمل‪ ،‬كما أ ّن األول ٌ‬ ‫حقيق ابملقت ّ‬‫فهذا ٌ‬
‫قال ابن القيم رمحه هللا‪( :‬شرع هللا سبحانه التوبة واالستغفار يف خواتيم األعمال‪ ،‬فشرعها يف خامتة‬
‫احلج وقيام الليل‪ ،‬وعقب الصالة وبعد الوضوء "اللهم اجعلين من التوابني واجعلين من متطهرين"‪ .‬فعلِم أ ّن‬
‫التوبة مشروعةٌ عقيب األعمال الصاحلة) ‪.‬‬
‫(‪)65‬‬

‫مجيل له عن االستغفار‪( :‬االستغفار ميحو ما بقي من عثراته‪،‬‬ ‫كالم ٍّ‬ ‫قال ابن تيمية رمحه هللا ضمن ٍّ‬
‫وميحو الذنب الذي هو من شعب الشرك‪ ،‬فإ ّن الذنوب كلها من شعب الشرك‪ ،‬فالتوحيد يذهب أصل‬
‫بتقصري يف قوله‪ ،‬أو عمله‪ ،‬أو حاله‪ ،‬أو رزقه أو تقلب قلبه‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫الشرك واالستغفار ميحو فروعه‪ ..،‬فمن أحس‬
‫بصدق وإخالص‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫فعليه ابلتوحيد واالستغفار‪ ،‬ففيهما الشفاء إذا كاان‬
‫وكذلك إذا وجد العبد تقصرياً يف حقوق القرابة‪ ،‬واألهل واألوالد‪ ،‬واجلريان‪ ،‬واإلخوان‪ ،‬فعليه ابلدعاء‬
‫هلم‪ ،‬واالستغفار‪ ،‬قال حذيفة ابن اليمان رضي هللا عنهما للنيب ‪ ‬إن يل لساانً ذرابً على أهلي‪ ،‬فقال له‬
‫‪" :‬أين أنت من االستغفارّ؟ إين ألستغفر هللا يف اليوم أكثر من سبعني مرة") رواه أمحد‪.‬‬
‫واإلقرار ابلتقصري يف الطاعة مع االستغفار يولدان يف القلب خضوعاً وذالً وانكساراً وافتقاراً إىل‬
‫هللا عز وجل‪.‬‬
‫الز ِاد التَّـ ْق روى}(البقرة ‪.)197‬‬
‫‪ )4‬تقوى هللا تعاىل‪ { :‬روترـرزَّودواْ فرِإ َّن رخ ْ رري َّ‬

‫(‪ )65‬بتصرف من إعالم املوقعني‪.‬‬


‫‪34‬‬
‫قال ابن القيم رمحه هللا‪(:‬أمر احلجيج أبن يتزودوا لسفرهم‪ ،‬وال يسافروا بغري زاد‪ ،‬مث نبههم على زاد‬
‫سفر اآلخرة‪ ،‬وهو التقوى‪ ...‬املسافر إىل هللا تعاىل والدار اآلخرة ال يصل إال بز ٍّاد من التقوى فجمع بني‬
‫الزادين) ‪.‬‬
‫(‪)66‬‬

‫اَّللر رو ْاعلرموا أرنَّك ْم إِلرْي ِه ْحت رشرو رن}(البقرة‬


‫وختام هللا سبحانه وتعاىل آلايت احلج أتكي ٌد لذلك‪ { :‬رواتـَّقواْ ّ‬
‫‪ .)20٣‬فأمر مبالبسة التقوى قبل احلج وأثناءه وبعده فال ختدعه األماين أبنّه سيكرر احلج ويغفر له ذنوبه‬
‫اثنية فال يدري مىت األجل‪.‬‬

‫‪-‬طواف الوداع‪:‬‬
‫"أ ِمرر الناس أ ْن يكون آخر عهدهم ابلبيت" رواه البخاري‪ ،‬فيلزم احلاج ‪-‬غري املكي‪ -‬أ ْن يودع‬
‫البيت بطواف َيتم به مناسك َيتم به مناسكه قبل أ ْن يغادر راجعاً‪ ،‬وهذا حيرك يف القلب ما يلي‪:‬‬
‫معان إذا كان مع إمكان جتدد اللقاء! فكيف إذا خشي أ ْن‬ ‫‪-1‬احملبة والشوق‪ :‬فالوادع يف حياة احملبني له ٍّ‬
‫يكون هذا آخر لقاء؟ ال شك أنّه وداع حمب حزين يفيض ابلبكاء‪ ..‬حدثين من رأى الشيخ عبدهللا بن‬
‫قعود رمحه هللا أنّه كان يطوف طواف الوداع وهو يبكي يف األشواط السبعة ‪.‬‬
‫(‪)67‬‬

‫‪-2‬اخلوف‪ :‬يتذكر تقصريه يف حق هللا تعاىل وتقصريه يف حجه‪ ،‬فيخاف عدم القبول‪ ،‬ليدفعه هذا اخلوف‬
‫إىل جتديد التوبة واالستغفار واخلضوع واالنكسار‪.‬‬
‫‪-٣‬الرجاء‪ :‬يتذكر كرامة هللا عليه أبن جعله من زّوار بيته وأذن له مبناجاته يف أشرف مكان وزمان يف الوقت‬
‫الذي حرم غريه هذا الفضل‪ ،‬فهو مع هذا الكرم اإلهلي يرجو ويطمع يف القبول وأن َيرج من ذنوبه كما‬
‫ولدته أمه‪.‬‬

‫(‪ )66‬إغاثة اللهفان‪.‬‬


‫(‪ )67‬حدثين به أخي أبو أسامة رجاء احلارثي رمحه هللا ومجعين به يف جنته‪ .‬ويصف جوزف بيتس حال احلجاج وهم يودعون احلرم فيقول‪:‬‬
‫(ويف املساء السابق ملغادرة مكة املكرمة ال بد من طواف الوداع‪ ،‬فيدخل املرء من ابب السالم فيطوف قدر ما يستطيع‪ ،‬وبعض‬
‫الناس يظلون يطوفون حىت يعرتيهم التعب‪ ،‬وتفيض عيوهنم ابلدمع؛ ألهنم يدعون بيت هللا ويبدون حقيقة غري راغبني يف مفارقته‪،‬‬
‫ويشربون من ماء زمزم حىت االمتالء ويرتاجعون إىل ابب الوداع ووجوههم صوب بيت هللا‪ ،‬وابب الوداع هذا مواجه لباب السالم‪،‬‬
‫وعند خروجهم من ابب الوداع يعقدون أيديهم جتاه بيت هللا‪ ،‬فمن غري الالئق أن يولوا ظهورهم للبيت عند الوداع‪ ،‬ويظلون يف‬
‫حالة بكاء وهم يدعون ويتوسلون إىل هللا حىت يصلوا بيوهتم)‪ .‬الشوق واحلنني إىل احلرمني ‪ 44‬واملختار من الرحالت احلجازية‬
‫‪ .٣41/1‬مع مالحظة عدم سنية املشي منكساً يف توديع احلرم؛ لكن الغرض من النقل حكاية احملبة والشوق‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫‪-4‬احلياء‪ :‬يتذكر كرامة هللا عليه أبن جعله من زوار بيته ويتذكر ذنبه وتقصريه يف حق هللا ويف مناسكه‬
‫فيتجلل ابحلياء من هللا أن أنعم الرب عليه وقصر العبد يف حق املنعم‪ ..‬فيطلب العفو‪.‬‬
‫جل جالله‪.‬‬
‫ومن استحضر هذه املقامات فحري به أ ْن يقبل حجه ويغفر ذنبه من الكرمي ّ‬

‫‪-‬االستقامة بعد احلج‪:‬‬


‫كان ابن تيمية يقول‪( :‬أعظم الكرامة لزوم االستقامة!)‪ ،‬وال غرو فاالستقامة مطلوبة من املسلم يف‬
‫كل حني (فاستقم كما أمرت) وهي‪ :‬األخذ مبجامع الدين ولزوم العدل يف ذلك دون إفراط أو تفريط‬
‫والثبات على ذلك‪ .‬قال ابن القيم‪( :‬االستقامة تتعلق ابألقوال واألفعال واألحوال والنيات) ‪ .‬والقلب إذا‬
‫(‪)68‬‬

‫استقام استقامت اجلوارح تبع له‪ ،‬فالقلب كالسيد على اجلوارح‪.‬‬


‫ينبغي للحاج أال يغرت بثواب احلج ومغفرة الذنوب‪ ،‬فريجع بعد احلج إىل ما كان عليه من ذنوب‬
‫فإن السيئات يذهنب احلسنات‪ ،‬وهذا ما فهمه أكابر الصحابة‬ ‫أو يستحدث ذنوابً جديدة اغرتاراً ابحلج‪َّ ،‬‬
‫بشره رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ابجلنة أو أخَبه أبنّه‬ ‫الذين بشروا ابجلنة‪ ،‬قال ابن القيم‪( :‬كل من ّ‬
‫مغفور له مل يفهم منه هو وال غريه من الصحابة إطالق الذنوب ومساحمته برتك الواجبات‪ ،‬بل كانوا أشد‬
‫اجتهاداً وخوفاً بعد البشارة منهم قبلها؛ كالعشرة املشهود هلم ابجلنة‪ ،‬فإهنم علموا أن البشارة مقيَّدة بشروطها‬
‫واالستمرار عليها إىل املوت‪ ،‬ومقيَّدة ابنتفاء موانعها‪ ،‬ومل يفهم أحد منهم من ذلك اإلطالق واإلذن فيما‬
‫شاءوا من األعمال) ‪.‬‬
‫(‪)69‬‬

‫قيل للحسن‪ :‬احلج املَبور جزاؤه اجلنة؟ قال‪ :‬آية ذلك‪ :‬أ ْن يرجع زاهداً يف الدنيا راغباً يف اآلخرة‪،‬‬
‫وقيل له‪ :‬جزاء احلج املغفرة؟ قال‪ :‬آية ذلك‪ :‬أن يدع سيء ما كان عليه من العمل‪ .‬ا‪.‬هــ‪ .‬وال يكون العبد‬
‫اتركاً لسيء العمل إال ابالستقامة‪.‬‬

‫وبعد‪ :‬فإ ّن أايم عشر ذي احلجة وما يعقبها من أعمال احلج مثال مصغر للطريق‪.‬‬
‫فمبدأ األايم العشر متثل حالة التعبد يف الدنيا‪.‬‬
‫مث أييت اإلحرام ولباسه واغتساله وحمظوراته ليذكر ابملوت‪.‬‬
‫مث أييت يوم عرفه بوقوفه الطويل وازدحام البشر فيه ونزول الرب سبحانه ليذكره بيوم القيامة‪.‬‬

‫(‪ )68‬مدارج السالكني‪.‬‬


‫(‪ )69‬الفوائد‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫مث يعقبه فرح العيد والتشريق ليذكر بفرح اجلنة‪ .‬اللهم فردوسك األعلى منها بكرمك ومنتك اي ذا‬
‫املن والكرم ‪.‬‬
‫( ‪)70‬‬
‫ّ‬

‫واحلمد هلل الذي بنعمته تتم الصاحلات‪.‬‬

‫(‪ )70‬فائدة وصلتين عَب رسائل الواتس غري مذيلة ابسم كاتبها‪.‬‬
‫‪37‬‬

You might also like