Professional Documents
Culture Documents
أعمال القلوب في الحج والعمرة
أعمال القلوب في الحج والعمرة
ف احلج والعمرة
1
بسم هللا الرمحن الرحيم وبه أستعني
ويف تشريف البيت ونصبه مقصداً ،وجعل له ما حواليها حرماً تفخيما له ،وإقبال اخللق شعثاً غَباً
كإقبال العبد إىل مواله ذليالً معتذراً :أمر مفهوم.
والنفس أتنس من التعبد مبا تفهمه ،فيكون ميل الطبع إليه معيناً على فعله ،وابعثاً؛ فوظفت هلا
وظائف ال تفهمها ،ليتم انقيادها ،كالسعي والرمي ،فإنّه الحظ يف ذلك للنفس ،وال أنس فيه للطبع ،وال
يهتدي العقل إىل معناه ،فال يكون الباعث إىل امتثال األمر فيه سوى جمرد األمر واالنقياد احملض .وهبذا
اإليضاح تعرف أسرار العبادات الغامضة) .واحلكم اليت تنطوي عليها العبادات أوسع من أن حييط هبا
()2
( ) حملمود شاكر مقالة بعنوان "عبادة األحرار" ذكر فيها :أ ّن معىن الصيام هو عتق النفس اإلنسانية من كل ٍّّ
1
رق ،من رق احلياة ومطالبها
ومن رق األبدان وحاجاهتا يف مآكلها ومشارهبا ،من رق النفس وشهواهتا ،ومن رق العقول ونوازعها ،ومن رق املخاوف حاضرها
وغائبها ،حىت تشعر اب حلرية اخلالصة ،حرية الوجود ،وحرية اإلرادة وحرية العمل ،فتحرير النفس املسلمة هو غاية الصيام الذي
كتب عليها فرضاً وأتتيه تطوعاً؛ لتعلم هذه النفس احلرة أن هللا الذي استخلفها يف األرض لتقيم فيها احلق ولتقضي فيها ابحلق
ولتعمل فيها ابحلق ال يرضى هلا أن تذل ألعظم حاجات البدن؛ ألهنا أقوى منها وال ألعىت مطالب احلياة ألهنا أمسى منها ،وال
أعز سلطاهنا منها ..فالصيام كما ترى هو عبادة األحرار وهو هتذيب األحرار وهو ثقافة األحرار. ألطغى قوى األرض ألهنا ّ
( )2مثري العزم الساكن (ص ،)286 - 285وقد ذكره الغزايل قبله يف األحياء بعبارة قريبة من هذا.
2
ومن مقاصد احلج الكلية:
-1رايضة النفس على الصَب و التحرر من عادات الرتف و التكلف تعويداً للمسلم على التجرد
من العبودية للعادات واملآلوفات حىت يكون حراً إال من عبودية هللا تعاىل :وهذا واضح من أ ّن احلج ملا
فرض – يف اإلسالم – كان يوجب على الرجل االمتناع عن الطيب و بعض مظاهر الزينة ،مكتفياً ابلبسيط
من اللباس ،ضاحياً للشمس مدة السفر من ذي احلليفة – ميقات املدينة – إىل مكة املكرمة ،وهي عادة
عشرة أايم ،ويفرض على املرأة اليت كان النقاب والقفاز حيميان نضارة ونعومة يدها أن ختلعهما وأن تضحي
للشمس كل هذه املسافة سافرة الوجه ابرزة للشمس والكلف والغَبة ،ممتنعة عن الطيب ومظاهر أخرى
للزينة .وقد وصف النيب احلج أبنه "جهاد ال قتال فيه" ،ورب العز واجلالل وصف احلاج بــ(أتوين شعثاً
غَباً) وأهنم (أيتوك رجاالً وعلى كل ضامر) وإذا كانت الراحلة ضمرت من مشقة السفر ووعثائه فكذلك
راكبها.
-2رايضة النفس على التواضع والبعد عن الكَب وتنقية النفس من األخالق املذمومة إمجاالً :فقد
حج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على رحل رث وقطيفة ال تساوي أربعة دراهم وقال " :اللهم حجاً
مَبوراً ال رايء فيه وال مسعة" .والتواضع ليس فقط قيمة أساسية من قيم اإلسالم ،بل هو مصدر لتوليد
وتطوير وتنمية عدد من القيم اإلسالمية األخرى ،ونقيض التواضع الكَب .واآلايت القرآنية اليت وردت فيها
مادة (كَب) وما اشتق منها تبلغ اثنتني وأربعني آية وكلها تبني أ ّن الكَب سبب الضالل أو نتيجته أو مسة
الضالني أو وصفاً سببياً الستحقاق العقاب الدنيوي واألخروي ،واملتواضع قادر على حتقيق الوسطية (مسة
اإلسالم) وابلعكس فال ترى غالياً أو متطرفاً يف أحد اجلانبني إال ويف صدره كَب ما هو ببالغه.
ض فِي ِه َّن
ومن ذلك هني احلاج عن الفحش والسباب واللغو واجلدال واملماراة ،قال تعاىل{ :فر رم ْن فرـرر ر
اَّلل}[البقرة]197 :؛ ليعتاد املسلم وق رورال ِج رد رال ِيف ْ
احلر ِّج رورما ترـ ْف رعلوا ِم ْن رخ ٍّْري يـر ْعلر ْمه َّ ث رورال فس ر
احلر َّج فر رال ررفر ر
ْ
كل زمان ومكان. على االبتعاد عن مثل هذه األخالق املذمومة بعد احلج؛ ألهنا مذمومة يف ّ
-٣وجود فرصة للمسلم لكي يرى احلياة على حقيقتها ،فتنكشف له حقائق احلياة كما سوف
تتكشف له عند املوت ،فيعلم أ ّن كثرياً من األمور اليت اعتاد أ ْن يراها مهمة أو مثينة وال ميكن االستغناء
عنها هي يف احلقيقة غري مهمة وال قيمة هلا وميكن االستغناء عنها ،ويرى الفروق اليت أوجدها الناس بني
الناس فروق اصطناعية وزائفة وال وزن هلا يف ميزان هللا فالناس سواسية ال اعتبار ألنساهبم وال أللواهنم وال
3
ملكانتهم االجتماعية ،فإذا أجَبته ظروف احلياة على مراعاة هذه الفروق وانعكست على جوارحه الظاهرة
ومل يتأثر هبا قلبه الذي يبقى شاهداً على الوحدانية ،موقناً أب ّن احلياة الدنيا متاع الغرور .
()٣
أتمل يف نوم احلجاج يف مزدلفة ،فالوقوف فيها ليالً فقط فال حيتاجون إىل اخليام اليت يتفاوتون يف
مظهرها ،ومدة الوقوف فيها سويعات قليلة فيتجرد احلجاج فيها من األمتعة واحلقائب اليت قد تظهر غىن
البعض أو تعاظمه ..فهم يف مزدلفة كلهم ينامون نومة الفقراء على األرض العارية ،ورمبا أكلوا أكل الفقراء..
تراهم قد اصطفوا يف طوابري طويلة أمام دورات املياه ،الفقري مع الغين ،واألسود مع األبيض ،متلبسني
مبظاهر الفقر والضعف بعيداً عن مظاهر الغِىن لكي يدرك اجلميع وهم يرون هذه املناظر يف مزدلفة ..أ ْن
ال عظيم عظمة مطلقة إال هللا وحده سبحانه!
-4حتقيق احملبة هلل تعاىل :فاحلج ال يتم حىت يرتك الوطن الذي أحبه وينتمي إليه ..حىت يفارق ماله
وأهله وعشريته ..ينفصل عن كل حمبوب وهو ال يدري أيعود إليها أم ال .بل حىت لو غادر معه احملبوب
كالزوجة واملالبس الفاخرة والعطور الزكية فإ ّن هذه احملبوابت تكون حراماً عليك مبجرد اإلحرام حتقيقاً
لتجريد احملبة هلل رب العاملني .بل مكة ذاهتا فيها حمبوابت أخرى عظيمة كاملسجد احلرام والكعبة املشرفة
واحلجر األسود ومقام إبراهيم وبئر زمزم وأرض احلرم نفسها ،هذه كلها حمبوبة ،ومع هذا يفارقها ويفارق
أرض احلرم تسليماً ألمر هللا وحكمه سبحانه وتعاىل وذلك يف أعظم أايم احلج إىل عرفة -وهي خارج حدود
احلرم -هناك حيث ختلو أرضها من كل حمبوب فال يبقى حمبوب إال هللا وحده سبحانه وتعاىل برهاانً منه
على أ ّن هللا سبحانه أحب إليه من هذه كلها وهذا من صدق وإخالص احملبة هلل عز وجل قوالً وعمالً.
غاد للبيت إال وهو ممتحن يف صدق حمبته هلل تعاىل ويف األعمال القلبية األخرى ،وقد نبأان وما من ٍّ
اَّلل بِ رش ْي ٍّء ِم رن َّ
الصْي ِد ترـنراله َّ ِ
هللا بذلك يف كتابه فذكر أمنوذجاً لالمتحان { :راي أريـُّ رها الذ ر
ين رآمنوا لريرـْبـل رونَّكم َّ
ب}(املائدة )94وقد كان الصيد للمسافر قدمياً أمر يف غاية أريْ ِديك ْم روِررماحك ْم لِيرـ ْعلر رم َّ
اَّلل رم ْن رَيرافه ِابلْغرْي ِ
األمهية إذ ال مطاعم ومع عناء السفر وطول الشقة والفقر أو القلة أحياانً يصبح حلم الصيد من القلب
مبكان مث يدنيه هللا منك حىت ال حتتاج إىل آلة لكي متسك به فيكفي أ ْن متد يدك فتصيده ..امتحاانً من
()4
( )٣مقالة للشيخ صاحل احلصني بعنوان "جتربة حاج" وينظر :الشيخ صاحل احلصني قطوف من سريته ،227ومقاصد احلج يف ضوء
القرآن الكرمي حملمد اخلويل مقالة.
( )4قال ابن رشيد الفهري( :صحبين يف الطريق من املدينة على ساكنها الصالة والسالم قاصدين إىل البيت احلرام أحد الشيوخ من
شرفاء املدينة ،فلما وافينا رابغ -يعين بعد األحرام -رأيت أمراً عجباً من ختلل الوحش :الغزال واألرنب بني اجلمال والرحال ،حبيث
4
فثم امتحاانت يف احملبوابت احملرمة أصالً على احملرم وغريه؛ كابتالء الرجال ابلنساء والنساء ابلرجال
غري احملارم عند الطواف ورمي اجلمار وعند دخول احلرم واخلروج منه ويف الطرقات إليه ويف كل املناسك يف
زحام تدنوا فيه األجساد من األجساد ..واألنفاس من األنفاس ..ليتم االختبار واالبتالء ..آهلل أحب إليكم
أم احلرام؟
لقد امتحن هللا إبراهيم عليه السالم يف احملبة يف مكة عند اجلمرات ..مث انل درجة اخللة بعد
جناحه ..فبعد أن أختَب عليه السالم ابلعقم سنني طويلة مث أختَب بعد أن جاءه الولد أبن يرتكه وأمه يف و ٍّاد
غري ذي زرع ويرحل إىل الشام ،مث يشدد عليه االختبار ويؤمر ابلرجوع إليهم ،مث بعد فرحته بلقاء ولده
الوحيد يؤمر بذحبه ،فيأيت إىل مكان هذه اجلمرات لتنفيذ األمر فيأتيه الشيطان ثالث مرات يوسوس له
لريده عن تنفيذ أمر ربه فما جيد من إبراهيم إال الرد احلاسم الرجم ابحلجر والرتديد أ ّن (هللا أكَب) من كل
حمبوب ( ...هللا أكَب) (هللا أكَب) (هللا أكَب).
-5حتقيق اخلوف من هللا تعاىل :فقد وصف النيب احلج أبنه "جهاد ال قتال فيه" ،وهل اجلهاد
إال قرين اخلوف ،وقد كانت عمرته عام احلديبية مقرونة خبوف حىت تداعوا للبيعة حتت الشجرة مث يف
عمرة القضية اشرتطوا أن حيملوا السالح خوفاً من غدر قريش ،وال زال اخلوف مقاران للحج ال يكاد ينفك
عنه ،وكلما احنل خوف جتدد خوف جديد ذو هيئة جديدة.
فبعد أن انتهى اخلوف من قريش استجد اخلوف من قطاع الطرق يف أغلب الطرق املؤدية إىل البقاع
الطاهرة واستمرت قروانً متطاولة وكان الذاهب إىل مكة مفقود والقادم منها مولود.
وملا احنل اخلوف من قطاع الطرق وأمنت السبل استجد خوف حرائق اخليام ،وصارت قرينة احلج
سنني طويلة.
وملا احنلت ظاهرة حرائق اخليام استجد خوف املظاهرات مث التفجريات مث زحام اجلمرات ،مث السيول
مث األمراض املعدية ..وكلما أغلق ابب خوف انفتح ابب خوف جديد! ولعل املقصد من ذلك وهللا أعلم،
االرتقاء بعبادة اخلوف من هللا سبحانه من الزعم ابللسان إىل التحقيق ابجلوارح واجلنان.
فمع جتدد املخاوف يقدم احلاج ولسان حاله خويف من وعيد هللا يف حق من مل حيج وهو قادر،
أعظم من هذه املخاوف كلها.
يناله الناس أبيديهم ،والناس ينادون :حرام حرام! واجلوارح قد سلسلت ِخيفة تعدي جاهل يعتسف اجملاهل ،فقال يف ذلك الشيخ
الشريف :أتمل ترـرر عجباً! هكذا عادتنا يف هذا الطريق! يؤمنا وحنن حمرمون مير به من الوحش ما ترى ،فإذا عدان حملني مل جند به
شيئاً .فلما عدان كان كما قال! فبان يل من معىن اآلية الكرمية) املختار من الرحالت احلجازية .1٣6/1
5
-6مث مع هذه املقاصد الكلية وغريها مما مل يذكر جتد أ ّن هللا تعاىل دعا هؤالء إىل بقعة قدسها هللا
وابركها وجعلها قياماً للناس ،حىت خصها اجلليل الكرمي :أبنه يتفضل فيها على عباده من النعم األصلية
كنعمة اهلداية والعلم النافع ،والعمل الصاحل ،واحلكمة ،ومن مراتب العبودية كرتبة اإلميان واإلحسان،
والشهادة والص ّديقيّة ،وغريها ،أكثر وأسرع مما يعطي يف غريها من البلدان األخرى .ويستجيب هللا فيها
ملن طلب منه هذه النعم واملراتب ،أسرع مما يستجيب يف غريها من البلدان ،فاهلل سبحانه وتعاىل يعطي
هذه النعم يف كل بلد من األرض ،ولكنها يف مكة أسرع وأكثر وهللا أعلم.
فهذا اخلليل إبراهيم عليه السالم أعطاه هللا رتبة اإلسالم واإلميان واإلحسان والنبوة والرسالة خارج
مكة .لكن حينما أراد الكرمي أن يتفضل عليه برتبة اخللّة وهي أعلى الرتب ،دعاه إىل مكة ،وهناك كان
االبتالء أشد وكان العطاء أكَب فأعطي رتبة اخللّة.
وهذا نبينا حممد ﷺ ميأل قلبه يف مكة بكل النعم األصلية بعد ابتالءات عظيمة ،مث ينعم عليه برتبة
اخللة يف مكة ،مث يؤذن له أن يهاجر إىل املدينة.
ولذلك لعل من مقاصد احلج أن يدعى املسلم إىل هذا املكان ،الذي يتجلى فيه كرم هللا سبحانه
وعطاؤه أكثر من غريه من األماكن ،فتكثَّف عليه العبادة يف أايم معدودات ليعطى من هذه النعم وغريها
أكثر مما يعطى يف بلده الذي جاء منه.
فإذا أتمل احلاج هذه اخلاصية ملكة أحل على هللا سبحانه ابلدعاء أن يكثر له من النعم كلها األصلية
والفرعية ،خاصة األصلية ،وأن يرفع مقامه يف العبودية .فرمبا استجاب هللا له يف هذه الرحلة القصرية،
وضاعف علمه أو حكمته أو تقواه أو عمله الصاحل أو رفع درجته ،فجاء مسلماً ورجع مؤمناً ،أو جاء
مؤمناً ورجع حمسناً ،أو جاء حمسناً ورجع ص ّديقاً..
وسنة هللا يف النعم األصلية أال يعطيها عبداً من عباده حىت يبتليه وَيتَبه -كما مضى اإلشارة إليه
قريباً يف الفقرة ،-4ولذلك اشتد االبتالء على إبراهيم عليه السالم يف مكة أكثر من العراق والشام واشتد
االبتالء على حممد عليه الصالة والسالم يف مكة أكثر من املدينة وذلك ليصال إىل مرتبة اخللة وهللا أعلم.
فلهذا يشتد االبتالء واالختبار على احلاج يف مكة متهيداً لعطية عظيمة يرجوها من هللا عز وجل
إن هو صَب واتقى هللا سبحانه .
()5
( )5مستفاد من رسالة :من مقاصد احلج للشيخ خالد بن صاحل السالمة.
6
واحلج كما ترى رحلة ال كأي رحلة ..هي رحلة قلب إن هدى هللا وأعان بكرمه ..وقد كنت وقفت
خريا ،فراق يل مجعه وترتيبه
على كتاب "أعمال القلوب يف احلج والعمرة" لراقمه عبد هللا العنزي جزاه هللا ً
فاختصرت الكتاب لنفسي عوانً يل على تعقله ،فكان هذه األوراق ..ورب حامل فقه ليس بفقيه ..ورب
حامل فقه إىل من هو أفقه منه .اللهم فقهنا وبصران وخذ بنواصينا إليك ودلنا عليك يف عافية ،وال حول
وال قوة إال ابهلل العلي العظيم.
7
أمر هللا احلاج أن يتزود بزادين يف طريقه إىل مكة:
-حسي يوصله إىل مكة.
اب}(البقرة.)197 ِ
ون اي أوِيل األرلْب ِ -ومعنوي يصله بربه{ .وترـزَّودواْ فرِإ َّن خري َّ ِ
ر الزاد التَّـ ْق روى رواتـَّق ر ْ ر ْر رر
وأصل التقوى عمل القلب قال " :التقوى هاهنا" ويشري إىل صدره ثالث مرات .رواه مسلم.
لقد أمر النيب أب ْن تؤخذ عنه املناسك؛ واألمر عام فشمل املناسك الظاهرة والباطنة .ومن تتبع
ظاهرا وابطنًا ،ففي السنن الكَبى عن جابر رضي أحاديث النيب جيد الصحابة وصفوا حجه ً
هللا عنهما يصف طوافه ( فبدأ ابحلجر فاستلمه ،وفاضت عيناه ابلبكاء) .حسنه ابن كثري .وقال -
أيضا -يصف حاله وهو يفيض من عرفات (أفاض رسول هللا وعليه السكينة) رواه النسائي ً
وصححه األلباين.
قال ابن القيم رمحه هللا(:أما احلج فشأن آخر ال يدركه إال احلنفاء الذين ضربوا يف احملبة بسهم،
وشأنه أجل من أن حتيط به العبارة ،وهو خاصة هذا الدين احلنيف ،حىت قيل يف قوله تعاىل{ :حنرـ رفاء ََِّّللِ}
()6
حجاجا) .
ً (أي
وقال ابن السعدي(:احلج مبناه على احلب واإلخالص والتوحيد والثناء والذكر للحميد اجمليد ،فإمنا
()7
شرعت املناسك إلقامة ذكر هللا) .
وإذا أتملت احلج والعمرة! وجدهتما كاالعتكاف اعتزال للدنيا وشهوهتا وإقبال على العبادة؛ ليخرج
القلب من ظلمات اجلهل واهلوى إىل حالوة اإلميان.
إ ّن حقيقة احلج والعمرة املَبوران أ ْن يتما بتحقيق اإلخالص واملتابعة هلديه ؛ وذلك أبمرين:
)1القيام ابألعمال الظاهرة؛ كاإلحرام والطواف والتنقل بني املشاعر.
)2القيام ابألعمال الباطنة ،وهي أعمال القلوب املتصلة بكل شعرية من أفعال احلج الظاهرة من
احملبة والتعظيم واخلضوع والتسليم ...واإلخالل يف أحدمها يضعف أثر احلج والعمرة يف النفس ويقلل
األجر.
وهذان األمران يدخالن يف مسمى اإلميان عند أهل السنة واجلماعة؛ وكل عبادة هلا ظاهر وهو
قول اللسان وعمل اجلوارح ،وهلا ابطن وهو قول القلب وعمل القلب ،ومن ذلك احلج والعمرة.
8
قال ابن تيمية رمحه هللا(:فإن دخول أعمال القلوب يف اإلميان أوىل من دخول أعمال اجلوارح
ابتفاق الطوائف كلها) .
()8
خصوصا:
ً عموما ويف احلج والعمرة
أمهية أعمال القلوب ً
-من اخلطأ االهتمام ابإلتيان أبعمال الظاهر واحلرص على تكميلها وكماهلا ،أو توهم أ ّن الذمة تَبأ
أخل أبعمال الباطن ،مع أ ّن عمل القلب هو األصل وواجباته أش ّد من واجبات واألجر اتم وإن َّ
اجلوارح.
وجواب من واجبات األبدان وآكد منها ،وكأهنا ليست يقول ابن القيم رمحه هللا( :واجبات القلوب أش ّد ً
من واجبات الدين عند كثري من الناس ،بل هي من ابب الفضائل واملستحبات .فرتاه يتحرج من ترك
واجب من واجبات البدن ،وقد ترك ما هو أهم واجبات القلوب وأفرضها ،ويتحرج من فعل أدىن احملرمات،
وقد ارتكب من حمرمات القلوب ما هو أشد حترميًا وأعظم إمثًا) .
( )9
عموما:
-من أمهيتها ً
ِ
ص رل )1أ ّن احلساب عليها يوم القيامة إضافة ألعمال اجلوارح {يـوم تـبـلرى َّ ِ
{وح ّ
السررائر}(الطارق )9ر رْ ر ْ
الصدوِر}(العادايت )10ألهنا هي املقصودة والغاية .وال يعين هذا التقليل من أعمال الظاهر؛ فمن رما ِيف ُّ
أعمال الظاهر ما تركه كفر كالصالة.
)2أ ّن القلب هو حمل نظر الرب تبارك وتعاىل ،ففي حديث الذي رواه مسلم( :إ ّن هللا ال ينظر إىل
صوركم وال إىل أموالكم ،ولكن ينظر إىل قلوبكم وأعمالكم) فبدأ ابلباطن قبل أعمال الظاهر .قال ابن
تيمية رمحه هللا( :األعمال الظاهرة ال تكون صاحلة مقبولة إال بتوسط عمل القلب) .
()10
)٣وهلذا تتفاضل درجات العمل بتفاضل ما يف القلوب ،قال ابن تيمية( :األعمال تتفاضل بتفاضل
احدا ،وبني صالتيهما كما
ما يف القلوب من اإلميان واإلخالص ،وإ ّن الرجلني ليكون مقامهما يف الصف و ً
بني السماء واألرض) .
()11
)4صالح الباطن صالح للظاهر والعكس ابلعكس حلديث" :أال وإ ّن يف اجلسد مضغة إذا صلحت
صلح اجلسد كله ...أال وهي القلب" .رواه البخاري ومسلم.
خصوصا:
ً -من أمهيتها للحج والعمرة
)1أ ّن التعبد هبا واستحضارها يعني على اإلتيان أبعمال الظاهر على أكمل وجه أبركاهنا وواجباهتا
وسننها .قال ابن تيمية رمحه هللا( :إذا حسنت السرائر أصلح هللا الظواهر ،فإ ّن هللا مع الذين اتقوا والذين
هم حمسنون) .
( )12
)2صدق التعبد أبعمال القلب يف شعائر احلج عو ٌن إبذن هللا على تغري حال احلاج بعد نسكه إىل
حياة إميانية أفضل.
)٣إهلام هللا لنبيه اخللوة يف غار حراء الليايل ذوات العدد هتيئة من هللا تعاىل لنزول الوحي عليه.
قال ابن حجر( :والسر فيه أ ّن اخللوة فراغ القلب ملا يتوجه له) .
()14
فالقلب املشغول ابلشبهات والشهوات ال يكون قابالً ملا يرده من نفحات رابنية.
( )18قال األستاذ حممد لبيب البرـترنوينّ -تويف سنة 1٣57ه ـ( :-ولقد كانت احلكومة املصرية يف الزمن الغابر خترج إىل الشوارع واحلارات
يف أشهر احلج أانساً يتغنون أبانشيد يسموهنا "حتانني" حترك عواطف الناس إىل أداء هذه الفريضة -احلج -كما كانت خطباء
املساجد حتث عليها وترغب الناس فيها وال يزالون كذلك إىل اآلن) وقال األستاذ حميي الدين رضا -حج سنة 1٣5٣هــ( :وبعد
كتابة ما تقدم صليت اجلمعة أمس يف مسجد الرفاعي -يف القاهرة -فسمعت اخلطيب حيث على أداء فريضة احلج مبنطق بليغ
وصوت مؤثر ،وفصاحة وطالقة أبكت احلاضرين ،وجعلت كل واحد يتمىن لو استطاع أداء هذه الفريضة) .الشوق واحلنني إىل
احلرمني حملمد الشريف ص 18واملختار من الرحالت احلجازية له.1068/٣ ،804/2 :
( )19تيسري الكرمي الرمحن.
12
َ )1يفف على الناسك ما جيده من املشقة يف الطريق وأثناء املناسك.
)2بسبب الشوق يستشعر الطمأنينة واللذة يف مناسكه وطريقه.
قال ابن تيمية رمحه هللا( :اعلم أ ّن حمركات القلوب إىل هللا عز وجل ثالثة :احملبة واخلوف والرجاء،
ألهنا تراد يف الدنيا واآلخرة خبالف اخلوف فإنّه يزول يف اآلخرة) .
()20
وأقواها احملبة وهي مقصودة تراد لذاهتاّ ،
ومن أتى ملكة ألجل هذه احملركات الثالثة أعظم ممن أتى لبعضها.
-اإلحرام من امليقات:
قال ابن قدامة يف خمتصر املنهاج( :يتذكر وقت إحرامه وجترده من ثيابه إذا لبس احملرم اإلحرام لبس
كفنه ،وأنّه سيلقى ربه على زي خمالف لزي أهل الدنيا) .ولعل من املوافقات والتشابه بني مالبس اإلحرام
قال ابن القيم رمحه هللا( :اليقني من اإلميان مبنزلة الروح من اجلسد ...ومىت وصل "اليقني" إىل
وغم ،فامتأل حمبة هلل ،وخوفًا منه ورضى وهم ّنورا وإشراقًا ،وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط ّ القلب امتأل ً
()2٣
وشكرا له ،وتوكالً عليه ..،فهو مادة مجيع املقامات واحلامل هلا) .
ً به
-التلبية:
(فأهل
َّ هي شعار احلج وعالمة التوحيد الذي هو روح احلج بل العبادات كلها ،وهلذا قال جابر:
وسر قول العبد (ال
رسول هللا ابلتوحيد .)...يقول ابن القيم( :احلج خاصة احلنيفية ومعونة الصالة ُّ
إله إال هللا) فإنّه مؤسس على التوحيد احملض واحملبة اخلالصة ،وهو استزارة احملبوب ألحبابه ودعوته إىل بيته
وحمل كرامته ،وشعارهم التلبية إجابة حمب لدعوة حبيبه ،وهلذا كان للتلبية موقع عند هللا) .بتصرف.
()24
)2ينبغي للناسك أ ْن يستحضر الصدق مع هللا يف تلبيته ،و ّأهنا إجابة دعوة هللا جل وعال ابالنقياد
والتسليم حلكمته ،وطاعة أوامره مرة بعد مرة ،والدوام على ذلك.
-الناسك وفد هللا وضيفه :عند البزار وحسنه األلباين أنّه قال":احل َّج ُّ
اج والع َّمار وفد هللا ،دعاهم
فأجابوه وسألوه فأعطاهم" .قال ابن سعدي( :احلج استزارة الرب ألحبابه ،أوفدهم إىل كرامته ودعاهم إىل
فضله وإحسانه ،ليسبغ عليهم من النعم والكرامات) .
( )28
قال ابن تيمية(:التكبري مشروعٌ يف املواضع الكبار ،ليبني أ ٍّّن هللا أكَب ،وتستويل كَبايؤه يف القلوب
على كَبايء تلك األمور الكبار ،فيكون الدين كله هلل ،ويكون العباد له مكَبين ،فيحصل هلم مقصودان:
مقصود العبادة بتكبري قلوهبم هلل ،ومقصود االستعانة ابنقياد سائر املطالب لكَبايئه) .
()٣0
-حمظورات اإلحرام:
من مقاصدها على الرتبية يف أعمال القلوب:
والناسكون الذين أيقظت حمظورات اإلحرام قلوهبم ابخلوف من هللا ومراقبته صنفان:
صنف كانت احملظورات سبباً إليقاظ قلبه ابخلوف من هللا ومراقبته يف مجيع أحواله ،فلم
(ٌ - )1
يقتصر على حمظورات اإلحرام ،بل كل حرٍّام أو شبهة يتباعد عنه ،فكان ذلك سبباً يف استقامته.
صنف اقتصر على ترك حمظورات اإلحرام دون غريها فوقع يف احلرام والبسه حىت يف النسك (ٌ - )2
كالغيبة وإيذاء اآلخرين فدخل يف الرفث والفسوق.
-الطواف:
ملا بدأ النيب الطواف (بدأ ابحلجر فاستلمه وفاضت عيناه ابلبكاء) رواه البيهقي وجوده ابن
كثري.
قال الشيخ عبد الرمحن الدوسري رمحه هللا( :و ّأما الطواف حول الكعبة فهو تشبُّه منهم ابملالئكة
احلافني بعرش هللا ،الطائفني به ،ويف هذا من مسو الروح ما ال يصفه الواصفون) .
()٣4
( )٣٣الصفدية.
( )٣4احلج أحكامه-أسراره-منافعه.
19
احلاصل أ ّن الطواف حيرك يف القلب ما يلي:
ببيت أضافه هللا لنفسه{:وطر ِهر بـي ِ ِ ِِ )1حمبة هللا جل وعال والشوق إليه؛ ألنّه يطوف ٍّ
ني}.يت للطَّائف رر ّ ْ رْ ر
قال ابن القيم رمحه هللا( :هذه اإلضافة هي اليت أقبلت بقلوب العاملني وسلبت نفوسهم حبًّا له وشوقًا على
رؤيته) .
()٣5
يقول ابن تيمية( :القلب إّمنا خلق ألجل حب هللا تعاىل وهذه الفطرة اليت فطر هللا عليها عباده) .
()٣6
)2مشهد الطواف حيرك يف القلب عظمة هللا وكَبايءه ،فيتولد من ذلك اخلشوع واخلضوع والتذلل
واالنكسار والتضرع واالفتقار.
قال ابن القيم( :أحب القلوب إىل هللا سبحانه :قلب قد متكنت منه هذه الكسرة ،وملكته هذه
الذلة ،فهو انكس الرأس بني يدي ربه ،ال يرفع رأسه إليه حياء وخجالً من هللا) .
()٣7
)٣الطواف يشعره بقربه من هللا ،فتقوى بذلك حمبته هلل ورجاؤه وحسن ظنه ،وهذا مدعاة لكثرة
الذكر.
)4قال " :إمنا جعل الطواف ابلبيت ،وبني الصفا واملروة ،ورمي اجلمار إلقامة ذكر هللا" .والذكر
يشمل ذكر الثناء والدعاء.
-وذكر الثناء له روحان وأدب ،فروحاه مها التضرع واخلوف ،واألدب هو (دون اجلهر يف القول) .فعلى
كك ِيف نـر ْف ِس ر
قدر التضرع واخلوف يف القلب الذاكر وقيامه أبدبه يكون أثره عليه ،ودليله { :رواذْكر َّربَّ ر
اجلر ْه ِر ِم رن الْ رق ْوِل}.
ضُّرعاً رو ِخي رفةً رودو رن ْ
تر ر
جهرا وعالنية َيشى منه الرايء ،فعلى قدر -وذكر الدعاء له روح وأدب ،فروحه التضرع ،وأدبه اإلخفاء ال ً
ضُّرعاً روخ ْفيرةً}.
التضرع يف قلب الداعي ،وقيامه أبدبه تكون إجابة دعائه ،ودليلهْ { :ادعواْ رربَّك ْم تر ر
والتضرع واخلوف من أعمال القلوب اليت على الناسك استشعارها ،وقيام القلب هبا عند الذكر
والدعاء.
عن أيب موسى قال( :كنا مع رسول هللا ،فكنا إذا أشرفنا على و ٍّاد هللنا وكَبان ،وارتفعت
أصم وال غائبًا ،إنه معكم
أصواتنا ،فقال النيب ":اي أيها الناس :اربرعوا على أنفسكم ،فإنكم ال تدعون َّ
إنه مسيع قريب ،تبارك امسه ،وتعاىل جده") متفق عليها.
ومما ينبغي يف اإلحرام عامة ويف الطواف خاصة حفظ البصر ،فإطالقه يضعف اخلشوع وإقباله على
هللا وشعوره بلذة الطاعة.
وخصوصا
ً قال ابن اجلوزي( :اعلم أ ّن غض البصر عن احلرام واجب ،ولكم جلب إطالقه من آفة،
تعظيما
يف زمن اإلحرام وكشف النساء وجوههن ،فينبغي ملن يتقي هللا أ ْن يزجر هواه يف مثل ذلك املقامً ،
للمقصود ،وقد فسد كثري إبطالق أبصارهم هناك) .
()٣9
-احلجر األسود:
احلجر األسود مبدأ كل شوط ومنتهاه ،ويف املسند أنّه قال" :احلجر األسود من اجلنة" ،وقد
فاضت عيناه ملا استلم احلجر وأخَب أنّه يشهد على من استلمه حبق وأ ّن مسحه هو والركن اليماين
حيطان اخلطااي حطًا.
ومن املعاين القلبية يف احلجر األسود:
)1أنّه يذكران ابجلنة والعمل هلا ،فما من شيء يف األرض من اجلنة بني أيدينا إال هذا احلجر.
)2التسليم للشارع يف التقبيل له واستالمه والتزامه علمنا احلكمة أم مل نعلمها .ففي مسلم عن
سويد بن غفلة( :رأيت عمر قبَّل احلجر والتزمه ،وقال :رأيت النيب بك حفيًا) وعند البخاري أنّه قال:
(إين أعلم أنك حجر ال تضر وال تنفع ولو ال أين رأيت رسول هللا يقبلك ما قبلتك).
قال حمب الدين الطَبي رمحه هللا( :الناس كانوا حديثي عهد بعبادة األصنام فخشي عمر أ ْن يظن
اجلهال أ ّن استالم احلجر من ابب تعظيم بعض األحجار كما كانت العرب تفعل يف اجلاهلية ،فأراد عمر
أ ْن يعلم الناس أ ّن استالمه اتباع لفعل رسول هللا ،ال أ ّن احلجر ينفع ويضر بذاته كما كانت اجلاهلية
تعتقده يف األواثن) .
()40
قال ابن حجر( :يف قول عمر هذا التسليم للشارع يف أمور الدين وحسن االتباع فيما مل يكشف
عن معانيها) .والتسليم من عمل القلب.
()41
القرى لقاصد أم القرى .ويف كتاب تعظيم احلج عند السلف ص :19قال بعض السلف :استالم احلجر هو أال يعود إىل معصية. (ِ )42
والقصد من ذلك اإلشارة إىل االستحياء من هللا أن يعود العبد للمعصية بعد أدائه للحج.
( )4٣فتح البارئ.
( )44جمموع الفتاوى.
22
ِِ ِ ال روِمن ذ ِّريَِّيت قر ر ك لِلن ِ
َّاس إِ رماماً قر ر ال إِِين ج ِ ِ ِ ٍّ
ني} (البقرة ال الر يـرنرال رع ْهدي الظَّالم ر اعل ر ب ركل رمات فرأررمتَّه َّن قر ر ّ ر
.)124
فمن أراد اإلمامة يف الدين وأ ْن تناله دعوة أبيه إبراهيم فليتم ما ابتاله هللا واختَبه به من أوامر ظاهرة
وابطنة فليقمها ،ونواهٍّ ظاهرة وابطنة فليجتنبها.
ص رَبوا روركانوا ِِب رايتِنرا ِ ِ
{و رج رع ْلنرا مْنـه ْم أرئ َّمةً يـر ْهدو رن ِأب ْرم ِرران لر َّما ر
واإلمامة يف الدين ال تنال إال ابلصَب واليقني ر
يوقِنو رن}(السجدة .)24والصَب واليقني من عبادات القلب ،ال جتتمعان يف قلب عبد حىت جيمع من
خصال اخلري وأعمال القلوب الشيء الكثري.
-وقد مضى يف اإلحرام احلديث عن اليقني.
-وأما الصَب فنصف اإلميان ،ونصفه اآلخر الشكر.
قال ابن القيم( :الصَب من اإلميان مبنزلة الرأس من اجلسد ،وال إميان ملن ال صَب له ،كما أنّه ال جسد
ملن ال رأس له ،وقال عمر بن اخلطاب (:خري عيش أدركناه ابلصَب) وأخَب يف الصحيح" :أنه ضياء"،
()45
وقال" :من يتصَب يصَبه هللا") .
وأ ْن يعلم أب ّن التوكل ال يعارض اجتهاد البدن يف بذل األسباب ،فهاجر سعت مراراً طلباً للماء أو
من يساعدها ورضيعها.
]٣أ ْن يتذكر الساعي حال أمنا هاجر فمع بالء الغربة والوحدة والوحشة والعطش ورضيعها يبكي مل تيأس
شوط يتجدد توكلها وحسن ظنها ابهلل رهبا ،أل ّهنا ومل تقنط من رمحة هللا فكررت السعي سبع مرات ويف كل ٍّ
تعلم أ ْن اليأس خمالف لصدق الرجاء ابهلل وصدق التوكل عليه وحسن الظن به {إِنَّه الر يـيأرس ِمن َّرو ِح اَّللِ
ْ ّ رْ ٌ
إِالَّ الْ رق ْوم الْ ركافِرو رن}(يوسف.)87
لقد كان النيب كثري التضرع إىل هللا جل جالله يف مناجاته وذكره ومن ذلك تضرعه عشية
عرفة ،حىت ظن أصحابه من انشغاله ابلتضرع أنّه صائم ،فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لنب وهو واقف
على بعريه ،فشرب منه ،وملا سقط خطام دابته تناوله بيد وأبقى يده األخرى مبسوطةً يدعو هبا.
ومعىن التضرع مشتقةٌ من الضرع .ووجه الشبه كما أ ّن الصغري عند ارتضاعه يلح ويرتفع وحياول
بكل قوته أ ْن جيذب اللنب ،الذي هو مصدر حياته ،فكذلك الداعي يلح وحياول أ ْن جيتذب رمحة هللا إليه
بتضرعه ،ورمحة هللا هي مصدر سعادته يف دينه ودنياه.
-املبيت مبزدلفة:
ف من االزدالف وهو التقرب؛ أل ّهنم يدنون إىل مىن ،وقيل :مسيت بذلك جمليء الناس إليها يف زلر ٍّ
مجعا ،ألنّه جيمع فيها بني صاليت املغرب والعشاء. من الليل أي ساعات .وتسمى ً
احلرررِام رواذْكروه رك رما ره رداك ْم روإِن كنتم اَّللر ِع ر
ند الْ رم ْش رع ِر ْ ٍّ قال تعاىل{ :فرِإ رذا أرفر ْ ِ
ضتم ّم ْن رعررفرات فراذْكرواْ ّ
ني}(البقرة .)198 ِ ِ ِِ ِ
ّمن قرـْبله لرم رن الضَّآلّ ر
ويف حديث جابر رضي هللا عنهما (أنّه صلى فيها املغرب والعشاء مجعاً مث اضطجع انئماً
وصلى الصبح حني تبني ،مث ركب القصواء حىت أتى املشعر احلرام فاستقبل القبلة ،فدعاه وكَبه وهلّله
ووحده ،فلم يزل واق ًفا حىت أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس) رواه مسلم .وذلك خمالفةً للمشركني ّ
فقد كانوا ال ينفرون إال بعد أن تطلع الشمس .ومن مثار هذه األعمال على القلب ما يلي:
استرـ ْغ ِفرواْ ِ ِ
)1الذكر حىت اإلسفار ابلتكبري والتهليل مث اإلفاضة مستغفراً{ :مثَّ أرفيضواْ م ْن رحْيث أرفر ر
اض النَّاس رو ْ
اَّللر رك ِذ ْك ِرك ْم
اَّللر}(البقرة )199واالستغفار من الذكر .والذكر شعار احملبني ،وهلذا أمر الناسك {فراذْكرواْ ّ ّ
يم ِة ِ ِ رش َّد ِذ ْكراً}(البقرة )200وأمر ابلذكر عند الذبح{ :لِي ْذكروا اسم َِّ
اَّلل رعلرى رما رررزقرـهم ّمن رهب ر ْر ر آابءك ْم أ ْرو أ ر
ر
ات}(البقرة .)20٣والذكر له روحان ال يؤيت أكله إال ْاألرنْـع ِام} (احلج { ،)٣4واذْكرواْ اَّلل ِيف أ َّرايٍّم َّمعدود ٍّ
ْ ر ّر ر ر
هبما .ومها التضرع واخلوف ،ومها عباداتن من عبادات القلب إذا خال القلب منهما فالذكر ال روح له.
ضُّرعاً رو ِخي رفةً}(األعراف .)205 ك تر رك ِيف نـر ْف ِس ر
{واذْكر َّربَّ ر
قال تعاىل :ر
ِ ِ ِِ ِ اَّللر ِع ر
ني}. احلرررِام رواذْكروه رك رما ره رداك ْم روإِن كنتم ّمن قرـْبله لرم رن الضَّآلّ ر
ند الْ رم ْش رع ِر ْ )2يف قوله تعاىل{ :فراذْكرواْ ّ
شكر وإنعام وذكرهم حبال ضالهلم ليظهر قدر اإلنعام ،والنعم فالذكر األول ذكر عام والذكر الثاين ذكر ٍّ
وأعظمها نعمة اهلداية ما حفظت أبفضل من الشكر وال حمقت أبشد من الكفر هبا {لرئِن رش رك ْر ُْت ألر ِز ر
يدنَّك ْم
رولرئِن رك رف ْر ُْت إِ َّن رع رذ ِايب لر رش ِدي ٌد}(إبراهيم.)7
قال ابن القيم رمحه هللا عن منزلة الشكر( :هي من أعلى املنازل ،وهي فوق منزلة "الرضى" وزايدة،
فالرضى مندر ٌج يف الشكر .إذ يستحيل وجود الشكر بدونه .وهو نصف اإلميان ،واإلميان نصفان :نصف
الشكر ،ونصف صَب) .
()57
جبمع الصبح مث وقف فقال( :إ ّن )٣عن عمر بن ميمون قال( :شهدت عمر بن اخلطاب صلى ٍّ
املشركني كانوا ال يفيضون حىت تطلع الشمس ،ويقولون :أشرق ثبري ،وإ ّن النيب خالفهم مث أفاض قبل
أ ْن تطلع الشمس) .رواه البخاري.
فاحلج ومشاعره من إرث أبينا إبراهيم ،لكن املشركني بدلوا ،فجاء النيب فأعاد احلج
ومشاعره على ما كان عليه من عهد إبراهيم عليه .
قال ابن القيم رمحه هللا( :الشريعة قد استقرت -وال سيما يف املناسك -على قصد خمالفة
املشركني) .
()58
-ذبح اهلدي:
اهلدي ما يهدى للحرم من ٍّ
نعم وغريها .وقد أهدى النيب يف عمرة احلديبية .رواه البخاري عن
مروان واملسور .وأهدى وهو ابملدينة وبعث هبا إىل مكة .عائشة البخاري .ويف حجة الوداع أهدى مائة
بدنة .حديث علي البخاري.
30
ولقد كان يكفيه أ ْن يذبح يف حجه شاةً أو سبع بدنة أو سبع بقرة؛ ولكنه أهدى مائة
بدنة تعظيماً هلل جل وعال؛ فالذبح من أجل العبادات املالية ،وهذه العبادة العظيمة متصلة أبعمال ٍّ
قلوب
كثريةٍّ ينبغي استحضارها ،منها:
اَّللِ رعلرْيـ رها} (احلج
اس رم َّ
]1تعظيم هللا جل وجالله ،ومن تعظيمه أ ْن يذكر امسه تعاىل عند الذبح {فراذْكروا ْ
صالرِيت اَّللر}(احلج ،)٣7ومن تعظيمه أال تذبح لغريه {ق ْل إِ َّن ر ك رس َّخرررها لرك ْم لِت ركَِّبوا َّ ِ
{ ،)٣4رك رذل ر
ونس ِكي ورْحمياي وممرر ِايت َِّللِ ر ِب الْعالر ِمني}(األنعام { ،)162فر ِ
ك رو ْاحنرْر}(الكوثر ،)2وعند مسلم ص ِّل لرربِّ ر ر ّ رّ ر ر ر ر ر ر ر
"لعن هللا من ذبح لغري هللا" .قال الشيخ ابن السعدي رمحه هللا( :ومنها اهلدااي ،فتعظيمها ابستحساهنا
وب} (احلج.)٣2 اَّللِ فرِإ َّهنرا ِمن ترـ ْقوى الْقل ِ
واستسماهنا ،وأن تكون مكملةً من كل وجه) { ،رورمن يـ رع ِظّ ْم رش رعائِرر َّ
ر
اَّللر حلوم رها رورال ِد رماؤرها رولر ِكن يـرنراله التَّـ ْق روى ِمنك ْم}(احلج .)٣7قال ابن ]2اإلخالص هلل {لرن يـرنر رال َّ
السعدي رمحه هللا(:إمنا يناله اإلخالص فيها واالحتساب ،والنية الصاحلة) .
()59
]٣سرور العبد عند قيامه هبا وحسن الظن ابهلل وقوة اليقني .قال ابن تيمية رمحه هللا عند قوله تعاىل:
{فر ِ
ك رو ْاحنرْر } ،قال( :أمره هللا أ ْن جيمع بني هاتني العبادتني العظيمتني ،ومها الصالة والنسك ص ِّل لرربِّ ر
ر
الدالتان على القرب والتواضع واالفتقار وحسن الظن ،وقوة اليقني ،وطمأنينة القلب إىل هللا ،وإىل ِع ردتِه
وخلر ِفه عكس حال أهل الكَب والنفرة وأهل الغىن عن هللا ..،وأجل العبادات املالية النحر، ِِ
وأمره ،وفضله ،ر
وأجل العبادات البدنية الصالة ،وما جيتمع للعبد يف الصالة ال جيتمع له يف غريها من سائر العبادات ،كما
عرفه أرابب القلوب احلية ،وأصحاب اهلمم العالية ،وما جيتمع له يف حنره من إيثار هللا ،وحسن الظن به
مر عجيب إذا قارن ذلك اإلميان واإلخالص ،وقد امتثل النيب أمر وقوة اليقني والوثوق مبا يف يد هللا أ ٌ
ربه فكان كثري الصالة لربه كثري النحر ،حىت حنر بيده يف حجة الوداع ثالاثً وستني) .
()60
]4حمبة هللا جل وعال وتقدمي ذلك على حمبة املال وسائر احملبوابت ،وهلذا ملا سئل النيب عن أفضل
الرقاب قال":أنفسها عند أهلها وأغالها" .وإبراهيم أحب إمساعيل حباً شديداً فأمره هللا أب ْن يذحبه
بيده فلما قدم حب هللا وآثره على هواه وعزم على ذحبه بقي الذبح ال فائدة فيه ،فلهذا قال هللا تعاىل:
{إِ َّن ره رذا رهل رو الْبر رالء الْمبِني ( )106روفر رديْـنراه بِ ِذبْ ٍّح رع ِظ ٍّيم ((})107الصافات).
حمبة زامحت حمبة هللا ورسوله حبيث تضعفها وتنقصها فهي قال ابن القيم رمحه هللا( :كل ٍّ
مذمومة) .
( )61
-طواف اإلفاضة:
ت الْ رعتِ ِيق}(احلج )29وعن ابن عمر رضي هللا تعاىل عنهما( :أ ّن النيب أفاض{ولْيطََّّوفوا ِابلْبـي ِ
رْ رر
يوم النحر ،صلى الظهر مبىن).
قال سفيان الثوري رمحه هللا( :قدمت مكة فإذا أان أبيب عبد هللا جعفر بن حممد -أي جعفر
صري يف املشعر
الصادق -قد أانخ ابألبطح ،فقلت :اي ابن رسول هللا ملا جعل املوقف من وراء احلرم؟ ومل ي َّْ
احلرام؟ فقال :الكعبة بيت هللا ،واحلرم حجابه ،واملوقف اببه ،فلما قصده الوافدون ،أوقفهم ابلباب
يتضرعون ،فلما أذن هلم يف الدخول ،أدانهم من الباب الثاين وهو املزدلفة ،فلما نظر إىل كثرة تضرعهم
وطول اجتهادهم رمحهم ،فلما رمحهم ،أمرهم بتقريب قرابهنم ،فلما قربوا قرابهنم ،وقضوا تفثهم وتطهروا من
الذنوب اليت كانت حجاابً بينه وبينهم ،أمرهم بزايرة بيته على طهارة) .ومثال ذلك -وهلل املثل األعلى-
()62
الزائر إىل املضيف يف الدنيا ،فثم زائر يقف بسور الباب فال يدخل ،ومن ترضى عنه تدخله فناء بيتك،
ومن ترضاه أكثر تدخله إىل داخل البيت حيث ال يدخل إال املرضيني.
)2سئل جعفر الصادق رمحه هللا عن سبب حترمي صيام أايم التشريق للحجاج فقال( :ألهنم يف
ضيافة هللا وال جيب على الضيف أ ْن يصوم عند من أضافه) .
()64
وشعور احلاج هبذا جيعله يستشعر قربه من ربه وأنسه به فيقوى رجاؤه ،وهذا الشعور له أتثريٌ أيضاً
على كثرة الذكر وكثرة الدعاء.
-األعمال خبواتيمها:
أمر هللا جل وعال عباده يف هناية احلج أبمور:
رش َّد ِذ ْكراً}(البقرة .)200قيل ِ ِ
اَّللر ركذ ْك ِرك ْم ر
آابءك ْم أ ْرو أ ر )1كثرة الذكر{ :فرِإذرا قر ر
ضْيـتم َّمنراس ركك ْم فراذْكرواْ ّ
كما يكثر الصيب من ذكر أبيه وأمه (اباب/ماما) وقيل :عن ابن عباس قال( :كان أهل اجلاهلية يقفون يف
ذكر غري فعال
املوسم ،فيقول الرجل منهم :كان أيب يطعم وحيمل احلر رماالت وحيمل الدايت ،ليس هلم ٌ
رش َّد ِذ ْكراً}. ِ
اَّللر ركذ ْك ِرك ْم ر
آابءك ْم أ ْرو أ ر آابئهم ،فأنزل هللا على حممد {: فراذْكرواْ ّ
مجيل له عن االستغفار( :االستغفار ميحو ما بقي من عثراته، كالم ٍّ قال ابن تيمية رمحه هللا ضمن ٍّ
وميحو الذنب الذي هو من شعب الشرك ،فإ ّن الذنوب كلها من شعب الشرك ،فالتوحيد يذهب أصل
بتقصري يف قوله ،أو عمله ،أو حاله ،أو رزقه أو تقلب قلبه، ٍّ الشرك واالستغفار ميحو فروعه ..،فمن أحس
بصدق وإخالص. ٍّ فعليه ابلتوحيد واالستغفار ،ففيهما الشفاء إذا كاان
وكذلك إذا وجد العبد تقصرياً يف حقوق القرابة ،واألهل واألوالد ،واجلريان ،واإلخوان ،فعليه ابلدعاء
هلم ،واالستغفار ،قال حذيفة ابن اليمان رضي هللا عنهما للنيب إن يل لساانً ذرابً على أهلي ،فقال له
" :أين أنت من االستغفارّ؟ إين ألستغفر هللا يف اليوم أكثر من سبعني مرة") رواه أمحد.
واإلقرار ابلتقصري يف الطاعة مع االستغفار يولدان يف القلب خضوعاً وذالً وانكساراً وافتقاراً إىل
هللا عز وجل.
الز ِاد التَّـ ْق روى}(البقرة .)197
)4تقوى هللا تعاىل { :روترـرزَّودواْ فرِإ َّن رخ ْ رري َّ
-طواف الوداع:
"أ ِمرر الناس أ ْن يكون آخر عهدهم ابلبيت" رواه البخاري ،فيلزم احلاج -غري املكي -أ ْن يودع
البيت بطواف َيتم به مناسك َيتم به مناسكه قبل أ ْن يغادر راجعاً ،وهذا حيرك يف القلب ما يلي:
معان إذا كان مع إمكان جتدد اللقاء! فكيف إذا خشي أ ْن -1احملبة والشوق :فالوادع يف حياة احملبني له ٍّ
يكون هذا آخر لقاء؟ ال شك أنّه وداع حمب حزين يفيض ابلبكاء ..حدثين من رأى الشيخ عبدهللا بن
قعود رمحه هللا أنّه كان يطوف طواف الوداع وهو يبكي يف األشواط السبعة .
()67
-2اخلوف :يتذكر تقصريه يف حق هللا تعاىل وتقصريه يف حجه ،فيخاف عدم القبول ،ليدفعه هذا اخلوف
إىل جتديد التوبة واالستغفار واخلضوع واالنكسار.
-٣الرجاء :يتذكر كرامة هللا عليه أبن جعله من زّوار بيته وأذن له مبناجاته يف أشرف مكان وزمان يف الوقت
الذي حرم غريه هذا الفضل ،فهو مع هذا الكرم اإلهلي يرجو ويطمع يف القبول وأن َيرج من ذنوبه كما
ولدته أمه.
قيل للحسن :احلج املَبور جزاؤه اجلنة؟ قال :آية ذلك :أ ْن يرجع زاهداً يف الدنيا راغباً يف اآلخرة،
وقيل له :جزاء احلج املغفرة؟ قال :آية ذلك :أن يدع سيء ما كان عليه من العمل .ا.هــ .وال يكون العبد
اتركاً لسيء العمل إال ابالستقامة.
وبعد :فإ ّن أايم عشر ذي احلجة وما يعقبها من أعمال احلج مثال مصغر للطريق.
فمبدأ األايم العشر متثل حالة التعبد يف الدنيا.
مث أييت اإلحرام ولباسه واغتساله وحمظوراته ليذكر ابملوت.
مث أييت يوم عرفه بوقوفه الطويل وازدحام البشر فيه ونزول الرب سبحانه ليذكره بيوم القيامة.
( )70فائدة وصلتين عَب رسائل الواتس غري مذيلة ابسم كاتبها.
37