You are on page 1of 988

‫ح عبد اهلل عبد العزيز المصلح‬

‫فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر‬


‫المصلح‪ ،‬عبد اهلل عبد العزيز‬
‫هذا محمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهذه براهين رسالته‬
‫عبد اهلل عبد العزيز المصلح ـ ‪ ،‬جدة‬
‫‪988‬ص ؛ ‪ 24×17‬سم‬
‫ردمك‪978-603-01-2918-8 :‬‬
‫‪ -1‬السيرة النبوية أ‪ .‬العنوان‬
‫ديوي ‪239‬‬
‫ردمك‪978-603-01-2918-8 :‬‬

‫رابطة العامل اإلسالمي‬


‫‪Muslim World League‬‬
‫اهليئة العاملية لإلعجاز العلمي يف القرآن والسنة‬
‫‪INTL. Commission on Scientific Signs‬‬
‫‪in the Quran and Sunnah‬‬

‫الرقم املوحد ‪920010097‬‬


‫مكة املكرمة هاتف ‪ - 0125601332‬فاكس ‪012 5601038‬‬
‫ص ب ‪ 5736‬مكة املكرمة ‪21955‬‬
‫جدة هاتف ‪ - 0126920731‬فاكس ‪0126820328‬‬
‫ص ب ‪ 112833‬جدة ‪21371‬‬

‫للمساهمة يف إعادة طباعة كافة إصداراتنا رقم حساب اهليئة العاملية لإلعجاز العلمي يف القران والسنة بالبنك األهلي‬
‫‪IBAN:SA 7510000000155055000109‬‬
‫وارسال سند االيداع أو التحويل على فاكس ‪ - 00966125601038‬هاتف ‪00966125601332‬‬
‫وللتواصل ‪E-Mail:Books@eajaz.org‬‬
D
‫‪5‬‬

‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫@‬
‫‪..‬‬
‫�‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬
‫�ْ� ُ َ َ ا يَ نْبَ غ �� َ َا � َ ْ � َ َ ظ ��‬ ‫َ ��‬‫ٱ‬ ‫�َ� َ‬
‫�‬ ‫ن‬ ‫ا‬‫َ‬
‫ل��ط� �ِ�ك‪.‬‬ ‫�‬ ‫�‬
‫�ه�ك �وعِ�����ي�ِم ��س� �‬ ‫�‬ ‫�‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫�‬
‫�ل�ك ح�م�د ك�م� �������� �ِ�‬
‫��ل� ِل �و ج ِ�‬
‫�ج‬
‫ِي‬
‫َ‬ ‫‪..‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٱ‬
‫��ا ف ْ َ نَ َ � ت � ا ت َ ّ � اتُ ْ ُّ‬ ‫ً‬ ‫�ْ ً ً ً‬ ‫كَ‬ ‫�َْ ُ َ‬ ‫ٱ‬ ‫َ َ‬
‫���ث�ي�را طَ ��� ّ� �ا �ُمبَ��ا َرك�� �ي��ِه �ع��ل� ِ���ع�م��ك � ِ�ل �� �ل� �‬
‫���د �َو �ل� ���ع�د ‪.‬‬
‫ح‬ ‫�‬ ‫ا‬ ‫�د‬
‫�م‬‫ح‬ ‫د‬ ‫��ل��ك � �حل‬
‫��م��‬
‫ى ي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِي �ب‬
‫‪..‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ّ َ �ّ َ َأ شْ َ �ف خَ �ْ�ق � َ َ أ ْ َ ُ � � ْ نَ ّنَ ا َ َ‬
‫ح�ْ���َ‬
‫�ن�ا‬ ‫�‬ ‫� ��ِل� �ك‪� � ،‬و ك� � ��س�ل ‪� � ���� ،‬‬
‫ر ِم رَِ ِ ك بِِي��َ و أَبِ �ي بِ‬ ‫���ص�ِل �و��سِ�ل�م��ع��ل� � ���ر‬
‫ىِ‬ ‫�‬
‫صَ َا ًة َ َ َا ًا ئ� نَ ُ ّت � نَ � نْ �تَ َ‬ ‫قَ َ ُق ْ ََُّ‬
‫ي� إِ� �ل�ى � � ِر ث�‬ ‫�َو��ا �ِئ� ِ�د �ن�ا �َو��د �َ �ِوت�نَ��ا �ح�م�م��ٍد ﷺ � �ل� � �و��س�ل� �م� دَاِ�ِم��ي� �م�ِ�‬
‫�صِ�ل��‬
‫َ‬
‫ٱ � �أ ْ��ضَ �َ �َ نْ َ �َْ اَ‬
‫�ه�‪.‬‬‫� �ل� ر � و م� �ع�لي �‬
‫‪6‬‬

‫أما بعد‪:‬‬
‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫برسالت ِه أنوار اإليمان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أشرقت‬ ‫فهذا هو محمد ! ‪ ..‬الذي‬
‫اإلنسان من عبودي َّ‬ ‫َ‬ ‫أخرج اهللُ‬‫َ‬
‫اإلنسان واألوثان‬ ‫ِ‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫هذا هو محمد ! ‪ ..‬الذي‬
‫إلى عبوديَّة اهلل الرحيم الرحمن‪.‬‬
‫الزكيَّة‪،‬‬ ‫العقول َّ‬ ‫َ‬
‫س السويَّة‪ ،‬وأنار به‬ ‫صاغَ اهللُ به الن َّ ْف َ‬ ‫هذا هو محمد ! ‪ ..‬الذي َ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫تاهت‬ ‫فولدت برسالته اإلنسانيَّة من جديد‪ ،‬بعد أن‬ ‫الفضيلة‪ُ ،‬‬ ‫وصنَع ِب ِه ُمجتمع‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫يه‬
‫هالة‪ ،‬والعسف‪ ،‬والظلم‪ ،‬وجور اإلنسان على أ ِخ ِ‬ ‫روب الوثني ٍة‪ ،‬والج ِ‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫في‬
‫>نحن َق ٌ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬حتى عبَّ َر عن هذا الصحابي الجليل ربعي بن عامر ‪ K‬قائاًل‪:‬‬
‫ُ‬
‫وم‬
‫ْ‬ ‫خرج َم ْن شاءَ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫يق الدُّنيا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ض‬ ‫ن‬ ‫وم‬ ‫‪،‬‬ ‫العباد‬
‫ِ‬ ‫رب‬‫ِّ‬ ‫بادة‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫لى‬ ‫إ‬
‫ِ‬ ‫العباد‬
‫ِ‬ ‫بادة‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫ابتعثنا اهلل؛ لن‬
‫َ‬
‫اَلم<‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫إلى سعتها‪ ،‬وم ْن َ‬
‫س‬ ‫اإل‬
‫ِ‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫إلى‬ ‫ديان‬
‫ِ‬ ‫األ‬ ‫ور‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫منهج‪ ،‬وعَ َمل ُه عَ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َُ‬
‫الحق قدوة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫دل‪ ،‬وثبات ُه على‬ ‫يرت ُه‬ ‫هذا هو محمد ! ‪ِ ..‬س‬
‫الص ِّديقينَ‬ ‫َ‬
‫أنع َم اهللُ عليهم َم َع النَّبيِّين َو ِّ‬ ‫ْ‬
‫للسالكين السائرين في طريق َمن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ودعوت ُ ُه ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫منار‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ ُ َّ ٌ َ ُ ِ ٌ َ َ ٌ‬ ‫والصالح َ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫والش َه َداءَ‬
‫ين‪ ،‬وحجته حية مشهودة منظورة على مر العصور‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫وتنظيما‪،‬‬ ‫الحق‪ :‬عقيدة‪ ،‬وعبادة‪ ،‬وآدابًا‪ ،‬وأخالقا‪،‬‬ ‫هذا هو محمد ! ‪ ..‬دينه‬
‫ناطقة في انسجام ٍّ‬ ‫ٌ‬ ‫وح َّج ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫المسطورة‬
‫ِ‬ ‫اآلية‬
‫جلي بين ِ‬ ‫ته‬ ‫منهجه محفوظ‪،‬‬ ‫لشؤون الحياة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫الكون واإلنسان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫في القرآن والسن ِة‪ ،‬وبين اآلية المنظورة في‬
‫وفي هذا الكتاب الذي جعلت عنوانه (هذا محمد رسول اهلل !‪ ..‬وهذه‬
‫َّ َ َّ‬
‫وجلى‬ ‫اس الحق‬
‫ٰ َ ْ َ‬
‫أبان للن َّ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫‪،‬‬ ‫الهدى‬ ‫الخ ْلق وعَ َل َ‬
‫م‬
‫َ َ‬
‫خير‬ ‫م‬
‫ِّ ُ ُ‬
‫لك‬ ‫براهين رسالته) أقدم‬
‫َّ َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ‬
‫يضا ِء ليلها ك َنهارها‪ ،‬ال يَزيغ عنها ِإال ه ِالك‪.‬‬ ‫الب َ‬
‫فتركهم على َ‬ ‫لهم الحجة؛‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫جمعت‬ ‫لتاريخ البشريَّة قبل بعثة محمد ! قد أ‬ ‫ة‬ ‫ف‬ ‫المنص‬
‫ِ‬ ‫الدراسات‬ ‫إن‬
‫مسىٰ‬ ‫حتى أ َ َ‬
‫َّ‬ ‫وحقائقه النَّاصعةَ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ين الص ِحيح‬
‫ِ‬ ‫الد‬ ‫على‬ ‫أغارا‬ ‫واإللحاد‬ ‫ة‬ ‫الوثني‬ ‫أن‬ ‫على‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫هلل‬
‫ألدنى شي ٍء فيها ـ وهو الذي استخلفه ربه ليكون عبدا ِ‬ ‫مسخرا‬ ‫اإلنسان عبدا‬
‫‪7‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫س ُ‬ ‫ُ َّ‬
‫قد َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫يعبد س ُ‬ ‫ُ‬ ‫ًّ‬
‫العجول واألبقار والذوات‬ ‫واه ـ فما الذي تبق ٰى بعد أن ت‬ ‫ِ‬ ‫حرا ال‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ََ‬
‫شعوب من بني آدم على هذه‬ ‫وتعيش‬ ‫عبد األخشاب واألحجار‪،‬‬ ‫والشهوات‪ ،‬وت‬
‫الخرافات وتلك التفاهات؟!‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫غيبة أنوار التوحيد‪ ،‬واغتيلت‬ ‫لقد ران على األفئدة والعقول ظالم حالك في ِ‬
‫ْ ً‬ ‫َّ َ َّ‬
‫الرحمة حتى أضحت األرض َمذأبة يسودها الفتك واالغتيال‪ ،‬ويفقد‬ ‫معاني‬
‫ِّ َ َ ْ‬ ‫فأي خير ي ُ ٰ‬ ‫َ‬
‫فيها الضعاف نعمة األمان والسكينة‪ُّ ،‬‬
‫هلل‬
‫رجى في أحضان وثني ٍة كفرت با ِ‬ ‫َّ َّ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫وسل َمت قيادها َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لترهات الدجالين؟!‬ ‫وعبدتِ الذات‬
‫ت‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وفي خ ِّ‬
‫محمد ! عم ِ‬ ‫ٍ‬ ‫بعثة‬
‫ضم هذهِ األمواج المتالطمة من الضالل قبل ِ‬ ‫ِ‬
‫النَّاس حيرة أذهلت العقول‪ ،‬كما وصفها ُ‬ ‫ٌ‬
‫أمير الشعرا ِء‪:‬‬
‫صن��م قد َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اس فَ ٰ‬ ‫يت والن َّ ُ‬ ‫َ َ‬
‫صنَ ِم‬
‫هام في َ‬ ‫إال على َ‬ ‫وضى اَل ت ُم ُّر ِبهم‬ ‫أت‬
‫ٍ‬
‫ص ُّم عُ ِمي‬ ‫الفرس م ْن كبر أ َ َ‬ ‫َ َ ُ ُ‬
‫ل‬ ‫اه‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫طغى ف��ي َرعيَّ‬ ‫الروم ي َ ٰ‬ ‫��ل ُّ‬ ‫ُ‬
‫اه‬ ‫فَ َ‬
‫ع‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المقت من بارئها كما جاءَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫استحقت البشري َّ‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذاك‬ ‫آن‬ ‫ة‬ ‫لماذا‬ ‫ا‬ ‫جلي‬ ‫درك‬ ‫ن‬ ‫نا‬ ‫لذا فإن‬
‫>إن اهلل نظر إلى أهل األرض فمقتهم عربهم وعجمهم‪ ،‬إ َّال بقايا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫في الحديث‪َّ :‬‬
‫ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫يه‬
‫الفطرة والت ِ‬
‫ِ‬ ‫الشرود عن منهج‬ ‫ِ‬ ‫مستحق بسبب‬ ‫من أهل الكتاب<‪ ..‬وهو مقت‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ ِ‬
‫رك‪.‬‬ ‫روب الش ِ‬ ‫ِ‬ ‫في د‬
‫شرئ ّ‬ ‫الدهر تَ َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫ب أعناقها لنور الهداية من ربِّها‪ ،‬وتتوق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫حقبة‬ ‫ة‬ ‫ظلت البشري َّ‬
‫حتى بعث اهللُ‬ ‫َّ‬ ‫أرواحها لهاد منقذ يضع عنهم َ‬
‫إصرهم‪ ،‬واألغالل التي كانت عليهم؛‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫لهم هذا النور من ذلك الغار الذي شع منه الهدى‪ ،‬وأشرقت من جنباته الرحمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫غير ذي زرع‬ ‫ِ‬ ‫واد‬
‫ٍ‬ ‫من‬ ‫قاطبة‬ ‫البشرية‬ ‫إلى‬ ‫الهداية‬ ‫أنوار‬ ‫اهلل‬ ‫بعث‬ ‫نعم‪ ..‬لقد‬
‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫في (بكة) من بين مجاهل جبال تهامة التي انتشر فيها كما في غيرها الكثير‬
‫مبلغا يسابق في ِّ‬ ‫ً‬ ‫من عُتُل الشرك وكهنته َّ‬
‫عتوه وطغيانه فرعون‬ ‫ممن بلغ الغرور به‬ ‫ِ‬
‫الذي أغرقه اهلل‪.‬‬
‫‪8‬‬

‫ّ‬
‫النبي‬ ‫واقتضت حكمة اهلل ورحمته بتلك البشرية التائهة أن بعث اهلل إليهم هذا‬ ‫َ‬
‫المفضل على أقرانه من أنبياء اهلل‬ ‫َّ‬ ‫األمي‪ ،‬المحمود في صفاته‪ ،‬النادر بين لداته‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ُُ‬
‫وصفاتٍ‬ ‫َْ‬
‫وحكمة بالغة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ورحمة سابغة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ق عظيم‪،‬‬ ‫ورسله‪ ،‬بما حباه اهلل من خل ٍ‬
‫جليلة؛ ليكون الرحمة المهداة‪ ،‬والنعمة المسداة‪ ،‬والمنَّة من اهلل على خل ِقه‪،‬‬
‫ً‬
‫حكيما‪.‬‬ ‫ٰ‬
‫وكفى باهلل‬ ‫ً‬
‫عليما‪،‬‬ ‫وكفى باهلل‬ ‫ٰ‬
‫ّ‬ ‫َّ ّ‬
‫إن قلة مال محمد ! ويتمه التي ظنَّها عبّاد الاّلت والعز ٰى‪ ،‬وعبّاد ذواتهم‬
‫سببا في أن يجمع في نشأته خير‬ ‫وشهواتهم منقصة‪ ،‬كانت ـ مع شرف نسبه ـ ً‬
‫َّ‬
‫ما في طبقات النَّاس من مزايا‪ ،‬وإنك حين تقرأ سيرة هذا الرجل العظيم قبل بعثته‬
‫طرازا ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ستصل ً‬
‫رفيعا من الفكر‬ ‫يقين راسخ بأنه صلى اهلل عليه وسلم كان‬ ‫ٍ‬ ‫حتما إلى‬
‫الصائب والنظر السديد‪ ،‬صنعه اهلل على عينه‪ ،‬وأنه قبل رعي الغنم وبعده‪ ،‬وقبل‬
‫يقظ القلب في متاهات الحياة الجاهلية‪،‬‬ ‫ممارسة التجارة وبعدها‪ ،‬كان يعيش ِ‬
‫ٰ‬
‫السكارى والغافلين‪.‬‬ ‫ألمعي العقل بين جمهور‬‫ّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫لذا فقد كان اصطفاء اهلل لمحمد ! نعمة لم تلبث روعتها أن تكشفت‬
‫ٰ‬
‫الهدى‬ ‫ّ‬
‫األمي على عينه جيل‬ ‫ّ‬
‫النبي‬ ‫عن قدراته التي منحه اهلل إيَّاها‪ ،‬فصاغ هذا‬
‫والهداية (الجيل الفريد) الذي أهداه رسولنا العظيم للبشرية إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫منحة ربَّانية عرفها العالم للتحرر‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫لقد كانت رسالة محمد بن عبد اهلل ! أعظم‬
‫والمادي من عبودية غير اهلل‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫والعقلي‬ ‫ُّ‬
‫الروحي‬
‫ُّ‬ ‫الحق إلى نصابه‪ُّ :‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وحق المخلوق‪،‬‬ ‫حق الخالق‬ ‫إن رسالة هذا شأنها جاءت لتعيد‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫وحق المخلوق في أن تخلصه من أغالل العبودية‬ ‫حق الخالق في عبادته وحده‪،‬‬
‫َّ‬
‫لغير ربِّه‪ ،‬لكن الطغاة المتجبِّرين عبّاد الذوات والشهوات ال بد وأن يشرقوا بهذه‬
‫ً‬
‫الدعوة التي أرادها اهلل رحمة للعالمين‪:‬‬
‫وكب َّ‬ ‫َ ِّ ُّ َ ْ َ ُ ُ َ َ َ‬ ‫َ َ َّ ُّ َ ُ‬ ‫َ ُّ‬ ‫َ َ‬
‫الس ِاري‬ ‫ِ‬ ‫��م الطغ��اة ِب ِه واللص يخش ٰى سطوع الك‬ ‫��ور فاغت‬
‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫��اض‬ ‫وف‬
‫َ‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫ُ ُ َ ُّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ ُ َ ُّ‬
‫وص الد َج ٰى ِإش َراق أق َم ِار‬ ‫ين ك َما يُخ ِزي لص‬ ‫ور يُخ ِزي الظ ِال ِم‬
‫والوعي كالن ِ‬
‫‪9‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫َّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ َّ‬


‫عاقل أن رسالة عَ ِظيمة هذا شأنها لن تجد عقواًل ضالة ترفضها‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫يظن‬ ‫هل‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أو قلوبًا مريضة تحاربها رغم كل ما فيها من الرحمة والعدل؛ ورغم كل ما تقدمه‬
‫توازن في التعامل مع مكونات اإلنسان الثالثة‪ :‬الروح‪ ،‬العقل‪ ،‬الجسد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫من‬
‫ومن انسجام تام بين مكوناتِ الحياة اإلنسانيَّ ِة الخمسة‪ :‬الفرد‪ ،‬األسرة‪ ،‬اجملتمع‪،‬‬
‫كل ما سن َّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ ٍ‬
‫مراعاة مقامات الناس‬ ‫ِ‬ ‫في‬ ‫راقية‬ ‫سياسات‬ ‫من‬ ‫ته‬ ‫ورغم‬ ‫الدولة‪ ،‬البيئة؛‬
‫وإمكاناتهم وقدراتهم‪.‬‬
‫وأي عَنَ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫ت من الطغاة‬ ‫ٍ‬ ‫ا‬ ‫عنت‬ ‫وجدت‬ ‫العظيمة‬ ‫الرسالة‬ ‫هذه‬ ‫فإن‬ ‫رغم كل ذلك‪،‬‬
‫العظمى كانت َّ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫همته أكبر‪،‬‬ ‫وأصحاب المصالح والشهوات‪ ،‬إال أن صاحب الرسالة‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الحق ال بد وأن يعلو‬ ‫وحرصه على البالغ أعظم‪ ،‬حتى أظهره اهلل عليهم؛ ألن مبدأ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫كما ال بد وأن تسفل ت َّرهات الباطل‪.‬‬
‫َ ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫آتاه اهلل قلبا رحيما بأمته‪{ :‬لق ۡد َجا َءك ۡم َر ُسول ّم ِۡن أنفسِكم ع ِز‬
‫ُ ۡ َ ٌ َ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫ٓ ُ‬ ‫ََ‬
‫يز َعل ۡيهِ َما َعن ُِّت ۡم‬
‫ِيم} [ا �لت�و�ب��‪{ ،]128 :‬فب ِ َما َرح ٖة م َِن ٱللِ لنِ ت ل ُه ۡمۖ‬
‫َ َ‬ ‫هَّ‬ ‫مۡ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫وف َّرح ‪ٞ‬‬ ‫ُۡ ۡ َ َُ ‪ٞ‬‬
‫يص َعل ۡيكم بِٱلمؤ ِمن ِني رء‬
‫َ ُ‬ ‫َحر ٌ‬
‫ِ‬
‫َ َ ۡ ُ َ َ ًّ َ َ ۡ َ ۡ ٱَ َ ُّ ْ ۡ َ ۡ َ �آ �ع ا ن‬
‫ب لنفضوا مِن حول ِكۖ}[ ل �مر �‪ .]159 :‬فقد كان حرصه‬ ‫ولو كنت فظا غل ِيظ ٱلقل ِ‬
‫على نجاتهم أضعاف حرصهم ودأبهم على هالكه؛ ألنه رسول الرحمة وحامل لواء‬
‫المحبة عليه أفضل الصالة والسالم‪.‬‬
‫أب هذان ف��ي الدنيا ُه ُ‬ ‫أم أو ٌ‬ ‫فأنت ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫��م الرحماء ُ‬ ‫وإذا َر ِحم��ت‬
‫بغضاء ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ٌَْ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫ضغن وال‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫الحق‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫ض‬ ‫غ‬ ‫هي‬ ‫ما‬ ‫فإن‬ ‫ب��ت‬ ‫ض‬
‫وإذا ِ‬
‫غ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ورض��ى الكثير تحل��م ورياء ُ‬ ‫ٰ‬ ‫وإذا َرضيت فذاك في مرضاته‬

‫جاء محمد ! بالمعجزة الخالدة ‪ ..‬القرآن الكريم‪.‬‬


‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫َ‬
‫عظيم‬ ‫عظيم صنعه اهلل على عينه‪ ،‬يحمل في ثنايا صدره للعالمين كتابًا‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫رجل‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خضعت عقول أرباب الفصاحة‪ ،‬وصناع البيان على أعتابه‬ ‫معجز اآلي‪،‬‬ ‫المصدر‬
‫َّ‬
‫حتى عجزت عن القدرة على مجاراته فضاًل عن معارضته‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫إنه القرآن العظيم‪ .‬تسأله فيجيبك‪ ،‬وتحاوره فيقنعك‪ .‬وهو شهيد على هذه‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫عصرا بعد عصر‪ ،‬وجيال إثر جيل‪ ،‬ألنه من عند اهلل لعباده بالغا‬ ‫األمة بتجدده‬
‫َّ ً ً‬
‫وحجة حيَّة إلى يوم الدين‪.‬‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫يعل َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الشامخة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫القمم‬ ‫تلك‬ ‫باقتدار‬
‫ٍ‬ ‫ي‬‫المتحد‬ ‫و‬ ‫أن‬ ‫روعته‬ ‫وسر‬ ‫ي‬ ‫التحد‬ ‫براعة‬ ‫إن‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫في مجالها‪ ،‬فينظر إليها من ٍّ‬
‫علو أكثر شموخا‪ ،‬وهذا شأن النبي محمد ! مع‬
‫ّ‬
‫األمي الذي‬ ‫ّ‬
‫النبي‬ ‫أساطين البالغة والبيان من قريش الذين أذهلهم ما جاء به هذا‬
‫َّ‬
‫شعر وال ٌ‬
‫نظم‬ ‫ٌ‬ ‫يتحداهم بكالم ال ِق َبل لهم بمجاراته‪ ،‬وهو الذي ما عُ ِرف عنه‬
‫ٍ‬
‫يفاخر به‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫صنعه الذي جاء به محمد‬ ‫بيان القرآن العظيم وبديعِ ِ‬ ‫نعم‪ ..‬لقد أبهرهم إعجاز ِ‬
‫َّ‬
‫! من عند ربِّه‪ ،‬فتركهم في حيرتهم تائهين حتى قال كبيرهم الوليد بن المغيرة‪:‬‬
‫رجل أعلم باألشعار منِّي‪ ،‬وال أعلم برجزه وال بقصيده وال‬ ‫ٍ‬ ‫<واهلل ما فيكم من‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫الجن منِّي‪ ،‬واهلل ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا‪ ،‬واهلل إن لقوله الذي‬ ‫بأشعار‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫لمثمر أعاله مغدق أسفله‪ ،‬وإنه ليعلو‬ ‫يقول حالوة‪ ،‬وإن عليه لطالوة‪ ،‬وإنه‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫وما ي ُ ٰ‬
‫على‪ ،‬وإنه ليحطم ما تحته>‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫دليل على ربانيَّة مصدر هذا القرآن العظيم أن الذي جاء‬ ‫ٍ‬ ‫أصدق‬ ‫أن‬ ‫حسبك‬
‫َّ ِّ‬ ‫يكتب‪ ،‬فهو ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫به لم يكن َّ‬
‫ية‪ ،‬ولن يجد من في عقله أثارة‬ ‫أمي في أم ٍة أم ٍ‬ ‫ممن يقرأ أو‬
‫ًّ‬
‫من حصافه‪ ،‬أو لمحة من ذكاء‪ ،‬أو قبس من الوعي بدا من التسليم بذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫ٰ َّ ً‬ ‫ُ‬
‫َّ‬
‫يتجرأ‬ ‫ص كذبًا أو‬ ‫يتخ َّر ُ‬ ‫أقوى حجة في وجه من‬ ‫لقد كانت أ ِّمية صاحب الرسالة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بالبهتان على أن محمد بن عبد اهلل ! قد خطه بيمينه {وما ك‬
‫َ‬ ‫ََ ُ َ َ ُ ْ‬
‫نت ت ۡتلوا مِن ق ۡبلِهِۦ مِن‬
‫اب ٱل ُم ۡب ِطلون}[ا �ل�عن�� ��ك�بو ت�‪.]48 :‬‬
‫َ ٗ ٱَّ ۡ َ َ ۡ ُ َ‬ ‫اَ خَ ُ‬ ‫َ‬
‫ب َول ت ُّط ُهۥ ب ِ َي ِمين ِك ۖ إِذا لرت‬ ‫كِتٰ ٖ‬
‫َّ‬
‫إن الغرض األساسي من تقديم هذا الكتاب إلى الناس هو بيان براهين صدق‬
‫النبي محمد !‪ ،‬واستخالص جوانب القدوة واألسوة الحسنة من أخالق هذا‬ ‫ّ‬
‫النبي العظيم‪ ،‬والرسول الرحيم‪ ،‬ومن سيرته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬لذلك فقد‬ ‫ّ‬
‫‪11‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫ُ‬
‫الكتاب بما يلي‪:‬‬ ‫َ‬
‫يعتني هذا‬ ‫حرصت أن‬
‫أول التعريف بالرسول محمد ! حسب مراحل عمره مع التركيز على تجلية‬
‫شمول وتوازن‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ما اختصت به حياته صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫‪P P‬فقد تناول البحث حياته صلى اهلل عليه وسلم في جوانبها الشخصيَّة‪،‬‬
‫وشمل روابطه األسرية واالجتماعية‪ ،‬وتعامالته االقتصادية‪ ،‬وعالقاته‬
‫ُ ۡ َّ َ ٓ َ َ ۠ َ رَ ‪ ُ ۡ ُ ُ ۡ ّ ٞ‬ىَ ٰٓ يََّ َ َّ َ ٓ‬
‫بشرا رسواًل {قل إِنما أنا بش مِثلكم يوح إِل أنما‬ ‫السياسية‪ ،‬فقد كان ! ً‬
‫َ ٰ ُ ُ ۡ َ ٰ ‪ َ َ ٞ ٰ َ ٞ‬اَ َ َ ۡ ُ ْ َ ٓ َ َ ّ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ َ اٗ َ ٰ ٗ َ اَ ُ رۡ ۡ‬
‫شك‬ ‫إِلهكم إِله َ وحِدۖ فمن كن يرجوا ل ِقاء ربِهِۦ فليعمل عمل صل ِحا ول ي ِ‬
‫��ك�ه��ف�‪.]110 :‬‬
‫دا} [ا �ل �‬ ‫َ َ‬
‫ادة ِ َر ّبهِۦٓ أ َح َ ۢ‬
‫ِ‬ ‫ب ِ ِعب‬
‫جرى عليه في حياته صلى اهلل عليه وسلم ما يجري على البشر؛ بل زادت‬ ‫‪ٰ PP‬‬
‫لدى البشر؛ ففي حالة المرض مثاًل كان يعاني‬ ‫معاناته كبشر عن المعتاد ٰ‬
‫ّ‬
‫ضعف ما يعانيه غيره‪ ،‬وقد أجاب ! من سأله عن ذلك قائاًل‪> :‬إني أوعك‬
‫كما يوعك رجالن منكم<‪ .‬متفق عليه‪.‬‬
‫ّ َ َ‬ ‫َّ‬
‫‪P P‬وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه الشريف صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫من شدة الجوع‪ ،‬وكان أشد ما يكون اهتماما بحاجات الناس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫األسري عاش العالقات‬ ‫‪P P‬وقد خ ِب َر فتنة المعاش وذاق أكدارها؛ ففي الجانب‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫وقريبا‪.‬‬ ‫ً‬
‫وصهرا‬ ‫وتحمل تبعاتها‪ :‬زوجا وأبًا‬ ‫األسرية بشت ٰى أشكالها‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪P P‬وفي اجملال االجتماعي‪ :‬كان ً‬
‫وصاحبا‪ ،‬وكذا مارس الشأن‬ ‫جارا ورفيقا‬
‫ٰ‬
‫فاشترى وساوم ورهن‪.‬‬ ‫االقتصادي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫قائدا َّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مسلمة‪ ،‬تولت إدارة شؤون‬
‫ٍ‬ ‫دولة‬
‫ٍ‬ ‫ألول‬ ‫السياسي‪ :‬كان‬ ‫‪P P‬وفي الجانب‬
‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫ّ‬
‫الرعية‪ ،‬وحفظت مصالحهم‪ ،‬ونظمت عالقاتها الداخلية والخارجية‪،‬‬
‫َّ‬
‫وأقامت العدل بين مواطنيها‪ ،‬ووفرت لهم األمن والحماية على اختالف‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ونح ِلهم‪ ،‬وقد خ ِب َر رسول اهلل ! ذلك كله‪ ،‬واستفرغ وسعه‬ ‫ِ‬ ‫هم‬ ‫ل‬
‫ِم ِ‬
‫ل‬
‫‪12‬‬

‫ِّ‬ ‫التصدي ُ‬‫ِّ‬


‫عضالت‪ ،‬وحل‬ ‫ِ‬ ‫للم‬ ‫في اتخاذ األسباب‪ ،‬وبذل جهده في‬
‫َّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫المشكالت‪ ،‬ولم يتوان أو يتواكل؛ بل عزم وتوكل على اهلل حق توكله‪،‬‬
‫ّ‬
‫وكان في ذلك كله قدوة حسنة صلى اهلل عليه وسلم لمن بعده من خلفائه‬
‫الراشدين وأصحابه‪ ،‬وسائر المسلمين أجمعين‪.‬‬
‫‪P P‬أما في جانب عالقته بربه ومحبته وإجالله وتعظيمه‪ ،‬وخشيته واتقائه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫فأمر فوق ما يصفه الواصفون‪ ،‬يدل‬ ‫وكثرة ذكره وشكره وحسن عبادته‪:‬‬
‫على ذلك قوله صلى اهلل عليه وسلم‪> :‬وج ِعلت ق َّرة عيني في الصالة< رواه‬
‫ُ ْ‬

‫أبو دواد‪ ،‬والنسائي بإسناد صحيح‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪َّ P P‬‬
‫أما حرصه صلى اهلل عليه وسلم على دعوة الناس وهدايتهم‪ :‬فقد بلغ حدا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫عاتبه عليه ربه قائال‪{ :‬فلعلك بخع نفسك‬
‫َّ ۡ ْ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ ٰ ‪ َ َ ۡ َّ ٞ‬لَىَ ٰٓ َ‬
‫ع َءاثٰره ِۡم إن ل ۡم يُؤم ُِنوا ب َهٰذا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ً‬
‫ِيث أ َسفا}[ا �ل �‬
‫��ك�ه��ف�‪.]6 :‬‬ ‫َ‬ ‫حۡ‬
‫ٱلد ِ‬
‫أما حسن معاملته الناس‪ ،‬والصبر على أذاهم‪ ،‬والرفق بهم‪ :‬فقد كانت‬ ‫‪َّ P P‬‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫تعالى‪{ :‬لق ۡد َجا َءك ۡم‬ ‫مضرب األمثال‪ ،‬ويكفي أن اهلل شهد بذلك في قوله‬
‫ٓ ُ‬ ‫ََ‬
‫‪ٞ‬‬ ‫كم بٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن َ‬
‫ُ ۡ َ ٌ َ َ ۡ َ َ ُّ ۡ َ ٌ َ َ ۡ ُ‬ ‫َُ ‪ُ َ ۡ ّ ٞ‬‬
‫ِني َر ُءوف‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫يص‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ح‬ ‫م‬‫ِت‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫يز‬‫ز‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ِك‬‫س‬ ‫نف‬ ‫رسول مِن أ‬
‫ِيم} [ا �لت�و�ب��ة‪.]128 :‬‬
‫َّرح ‪ٞ‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وقد اتسمت حياته صلى اهلل عليه وسلم بالتوازن واالعتدال في شت ٰى شؤونها؛‬
‫ٰ‬ ‫ٰ ّ‬
‫يطغى جانب على جانب؛‬ ‫أعطى كل شي ٍء حقه الذي يستحقه دون أن‬ ‫بحيث‬
‫ّ‬
‫فمثاًل‪ :‬لم تصرفه عبادته لربّه وتعلقه به عن الوفاء بالتكاليف األسرية أو أداء الحقوق‬
‫االجتماعية‪ ،‬ولم يمنعه من الوفاء بذلك ثقل الرسالة وأعباء الدعوة والبالغ وأداء‬
‫األمانة التي تنوء بحملها الجبال الراسيات‪ ،‬ولم تنسه قيادة الرجال في مواطن‬
‫الجهاد عن مالطفة األهل واألصحاب‪ ،‬ومداعبة الكبار والصغار‪ ،‬ومؤانستهم‬
‫َّ‬ ‫ٰ ًّ َّ‬
‫أعطى كال حقه ومستحقه‪.‬‬ ‫وإدخال السرور عليهم‪ ،‬بل‬
‫‪13‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫ثانيا نظرة على سيرته ومسيرته صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬


‫ً‬

‫وقد شملت ما يلي‪:‬‬


‫ً‬
‫‪P P‬التعريف بشخصية الرسول ! الزكية منذ ميالده صلى اهلل عليه وسلم مرورا‬
‫ّ‬
‫بصباه‪ ،‬فشبيبته المبكرة‪ ،‬حتى أوان بلوغه أشده حين بدأت إرهاصات‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫النبي الخاتم الذي‬ ‫النبوة‪ ،‬إلى أن نزل عليه الوحي من رب العالمين؛ بأنه‬
‫ال َّ‬
‫نبي بعده‪.‬‬
‫‪P P‬شروعه في دعوة قومه بمكة المكرمة بدءًا بعشيرته األقربين‪ ،‬ومراحل الدعوة‬
‫ثم الجماعية‪ ،‬أو الدعوة السرية‬ ‫ً‬
‫مرورا بالمرحلة الفردية َّ‬ ‫بمكة المكرمة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫عنت وشد ٍة‪ ،‬نتيجة عناد قريش‬ ‫ٍ‬ ‫والجهرية‪ ،‬وما تلقاه صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫ٰ‬
‫واهتدى‪ ،‬وما أعقب‬ ‫ومعارضتها للدين الجديد‪ ،‬واضطهادها لكل من أسلم‬
‫ٰ‬
‫األولى والثانية إلى الحبشة‪.‬‬ ‫إذن للمستضعفين من المسلمين بالهجرة‬ ‫ذلك من ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫‪P P‬الهجرة المباركة إلى المدينة‪ ،‬والتي بدأت معها مرحلة جديدة من حياة‬
‫المسلمين‪ ،‬عندما وجدوا المالذ اآلمن في موطن إخوانهم األنصار الذين‬
‫آووهم‪ ،‬ونصروهم‪ ،‬وآثروهم بالغالي والنفيس‪.‬‬
‫َّ‬ ‫‪P P‬تأسيس َّ‬
‫أول دولة مسلمة بالمدينة المنورة على رأسها قيادة سياسية تمثلت‬
‫َ‬
‫صاح َ‬
‫ب‬ ‫في شخص الرسول ! يعاونه في إدارتها كبار أصحابه ‪ ،J‬وما‬
‫هذه المرحلة الجديدة من نشوء عالقات بينيَّة بين مكونات اجملتمع‬
‫المدني‪ ،‬وما استلزمته األوضاع الجديدة من عقد معاهدات‪ ،‬سواء‬ ‫ّ‬
‫َّ‬
‫ما تعلق منها بتنظيم العالقات داخل المدينة ـ فيما بين المسلمين أو مع‬
‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫غيرهم من أهل الكتاب والوثنيين ـ أم خارج المدينة مع القبائل التي تقطن‬


‫قرب المدينة‪ ،‬أو على أطرافها‪.‬‬
‫‪14‬‬

‫ً‬
‫وقد استعرض الكتاب جملة من األحداث والظروف‪ ،‬واألوضاع المتنوعة‪،‬‬
‫التي عايشها المسلمون في المدينة المنورة‪.‬‬
‫‪P P‬معاناة المسلمين من المنافقين واليهود‪ ،‬وقد أبان الكتاب عن جانب‬
‫مما القاه المسلمون من المنافقين واليهود من مكائد ومؤامرات‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أحداث ومواقف من المشركين وأهل الكتاب داخل جزيرة‬ ‫ٍ‬ ‫وما واجهوه من‬
‫العرب وعلى أطرافها في السلم والحرب‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪P P‬حروب المسلمين وانتصاراتهم وانكساراتهم‪ ،‬وما من اهلل به على المسلمين‬
‫من فتوح كان أعظمها فتح مكة المكرمة‪ ،‬وما غنموه من غنائم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫‪P P‬دخول المسلمين في دين اهلل أفواجا‪ ،‬إثر صلح الحديبية‪ ،‬واجتماعهم‬
‫صعيد واحد بعرفات بأعداد غفيرة في حجة الوداع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الحاشد على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪P P‬الحدث الجلل‪ ،‬والمصاب الجسيم‪ ،‬الذي أحزن المسلمين حزنا شديدا‬
‫وقرة عيونهم محمد ! إلى جوار‬ ‫وأصابهم بالذهول‪ ،‬عندما انتقل حبيبهم َّ‬
‫األمة‪ ،‬وجاهد في اهلل َّ‬ ‫َّ‬
‫وبلغ الرسالة‪ ،‬ونصح َّ‬ ‫َّ‬
‫حق‬ ‫ربِّه‪ ،‬بعد أن أد ٰى األمانة‪،‬‬
‫ًّ‬
‫نبيا عن َّ‬
‫أمته‪.‬‬ ‫الجهاد‪ ،‬صلوات ربِّي وسالمه عليه‪ ،‬وجزاه اهلل خير ما جزى‬
‫ً‬
‫أحداث ومواقف انتهت باختيار خليفة لرسول اهلل‬ ‫ٍ‬ ‫‪P P‬ما تال وفاة الرسول ! من‬
‫َّ‬
‫! اجتمعت عليه كلمة المسلمين‪ ،‬فات َبع السيرة‪ ،‬وواصل بهم المسيرة‪،‬‬
‫ً‬
‫مرضيا‪.‬‬ ‫راضيا‬ ‫ً‬ ‫وثبت على الحق حتى أتاه اليقين‪ ،‬وانتقل إلى رحمة ربه‬
‫ً‬
‫ثالثا بيان ما يلزم من كونه صلى اهلل عليه وسلم خاتم األنبياء والمرسلين‪:‬‬
‫إن كونه صلى اهلل عليه وسلم خاتم األنبياء والمرسلين يتعيّن أن يكون رسواًل‬
‫ّ‬
‫للعالمين جميعهم‪ِ ،‬جنهم وإنسهم‪ ،‬فالناس جميعهم مشمولون بدعوته مهما كانت‬
‫َّ‬ ‫أجناسهم‪ ،‬أو اختلفت ألسنتهم‪ ،‬أو َّ‬
‫تنوعت ألوانهم‪ ،‬وأن ٰى كان زمانهم ومكانهم‪،‬‬
‫رضي بدعوته فهو من َّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫أمة اإلجابة التي هي خير‬ ‫فالكل مشمولون بدعوته !‪ ،‬فمن‬
‫‪15‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫َ‬ ‫َََۡۡ َ‬
‫وف وتنهون ع ِن‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َُۡ ُ َ ۡ‬
‫اس تأمرون بِٱلمعر ِ‬
‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ۡ َ رۡ َ ُ َّ ُ ۡ‬
‫أمة أخرجت للناس‪{ ،‬كنتم خي أم ٍة أخرِجت ل ِلن ِ‬ ‫َّ‬
‫ۡ ُ َ َ ُ ۡ ُ َ هَّ َ َ ۡ َ َ َ َ ۡ ُ ۡ َ ٰ َ اَ َ َ رۡ ٗ َّ ُ ّ ۡ ُ ُ ۡ ُ ۡ ُ َ َ َ ۡ رَ ُ ُ‬
‫ثه ُم‬ ‫ب لكن خيا له ۚم مِنهم ٱلمؤمِنون وأك‬ ‫ٱلمنك ِر وتؤمِنون بِٱللِۗ ولو ءامن أهل ٱلكِت ِ‬
‫َۡ ُ َ آ‬
‫ٱلفٰسِقون} [ � ل�ع�مرا ن�‪ ،]110 :‬ومن أعرض عن اإلسالم فيبقى في عداد أمة الدعوة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫رابعا التنبيه ضمنًا إلى أن دراسة السيرة النبوية بالمنهج االستشراقي قد أد ٰى‬
‫ً‬
‫واسعة من القراء إزاء الرسول !‪،‬‬ ‫شريحة‬ ‫في الجمـــلة إلى نتائج عكسية ٰ‬
‫لدى‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫أقلها أن يتوقف األمر بهم عند حد االنبهار بشخصية الرسول !‪ ،‬وتقدير ما حققته‬
‫من نجاحات‪ ،‬دون محاولة اإليمان به أو متابعته ـ هذا بالنسبة لغير المسلمين ـ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫عجبوا بكتابات المستشرقين وتأثروا بها‪ ،‬وتلقوا‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫الذين‬ ‫المسلمون‬ ‫فون‬ ‫المثق‬ ‫أما‬
‫عنهم سيرة الرسول !‪ ،‬فقد لوحظ على كثير منهم عدم الميل إلى االقتداء به‬
‫!‪ ،‬واالهتداء بهديه‪ ،‬إن لم يصل بهم األمر إلى الدعوة إلى نبذ سيرته باعتبارها‬
‫ً‬
‫لم تعد صالحة لروح العصر‪.‬‬
‫خامسا التعريف بمجمل الحجج والبراهين الدالة على صدق رسالته ! بغية‬‫ً‬
‫أن يفهم القارئ الكريم بعض البراهين واالستدالالت والحجج الدالة على صدق‬
‫ّ‬
‫للنبي محمد ! لتأييد رسالته‪.‬‬ ‫الرسالة‪ ،‬وتعريفه بالمعجزات التي أعطيت‬
‫سادسا تعريف القارئ باإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ ،‬باعتباره نوعًا‬
‫ً‬
‫من أنواع اإلعجاز القرآني؛ ومداره حول إخبار القرآن الكريم ببعض الحقائق‬
‫َ‬
‫ني ِه ۡم َءايٰت ِ َنا‬
‫َ رُ‬ ‫ٰ‬
‫وتعالى‪{ :‬س ِ‬ ‫العلمية التي لم تكن معروفة زمن التنزيل‪ ،‬قال اهلل سبحانه‬
‫ك يَ ۡ‬ ‫َ ّ َ َ َّ ُ لَىَ ٰ لُ ّ‬ ‫حۡ َ ُّ َ َ َ ۡ َ ۡ‬ ‫َ َ ٓ َ ُ ۡ َ ىَّ ٰ َ ينَّ َ َ َّ‬
‫شءٖ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ۥ‬‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫ِ ِ‬‫ر‬‫ب‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ٱلق ۗ أو لم ي‬ ‫ت يَت َب َ ل ُه ۡم أن ُه‬‫س ِهم ح‬
‫اق و يِف أنف ِ‬ ‫يِف ٱٓأۡلف ِ‬
‫يد}[ ف����ص�ل� ت�‪.]53 :‬‬
‫َشه ٌ‬
‫ِ‬
‫وقد أوردت ما يقرب من مائة من الشواهد والدالئل العلمية المعاصرة ضمن‬
‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫َّ‬ ‫ّ‬
‫موضوعات مختلفة تؤكد مجتمعة صدق الرسالة‪ ،‬وتنطق بأن اإلسالم هو دين اهلل‬
‫َّ‬
‫الحق‪ ،‬وأن القرآن كالم اهلل المعجز الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه‬
‫تنزيل من رب العالمين لهداية الناس أجمعين إلى يوم الدين‪..‬‬
‫‪16‬‬

‫وها هو القرآن العظيم‪ ..‬تظهر اليوم كنوزه في عصر العلم‪.‬‬


‫َّ‬ ‫تكلف أو ّ‬ ‫ّ‬
‫تعسف‪ ،‬وإنما توافق واضح‬ ‫حقائق علمية تنطق بها آياته البينات بال‬
‫ٌ‬ ‫َّ ٌ‬
‫سليم من الخلل‪.‬‬ ‫مبرأ من التعارض‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ّ َّ‬
‫الحي‪ ،‬إنه يحدثنا اليوم بلسان زماننا‬ ‫هذه هي الرسالة الخالدة‪ ،‬وذلك هو القرآن‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وهو (العلم) الذي يعتبر الشاهد الثقة والحجة الموثقة‪{ :‬وما أرسلنا مِن رس ٍ‬
‫َ‬ ‫اَّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ۡ‬
‫ََٓ َۡ َ‬
‫ان‬
‫ول إِل بِل ِس ِ‬
‫ِّ‬
‫ِيم} إ[� ب�را �هي�����م‪ ،]4 :‬يحدثنا‬ ‫ٱلك ُ‬‫يز حۡ َ‬‫ٱلل َمن ي َ َشا ٓ ُء َو َي ۡهدِي َمن ي َ َشا ٓ ُء ۚ َو ُه َو ۡٱل َعز ُ‬
‫ي ل َ ُه ۡمۖ َف ُي ِض ُّل هَّ ُ‬
‫قَ ۡو ِمهِۦ يِلُبَ ّ َ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫نِ‬
‫بلسان القوم الذين يفهمون حديثه‪ ،‬يدعوهم إليه بلغة يدركون تفاصيلها‪ ،‬إنه لقرآن عظيم‪.‬‬
‫لذا‪ ..‬فقد حرصنا أن نسير على نهج القرآن الكريم‪ ،‬وأن نتحدث إلى الناس‬
‫بلسان زمانهم‪ ،‬فخصصنا آخر فصل من فصول هذا الكتاب لتبيان مائة حقيقة علمية‬
‫ً‬
‫كونية معاصرة تشهد في عصر (العلم) أن محمدا رسول اهلل !‪.‬‬
‫وقبل أن أنتهي من هذه المقدمة تجدر اإلشارة إلى ما وفق اهلل إليه من قبول‬
‫ً‬ ‫ٰ‬
‫األولى وإقبال الناس عليه‪ ،‬والرغبات الكثيرة جدا التي ترد‬ ‫لهذا الكتاب في طبعته‬
‫ً‬
‫إلينا إلعادة طباعته‪ ،‬بل وترجمته إلى اللغات العالمية األكثر انتشارا‪ ،‬كاإلنجليزية‬
‫والفرنسية وغيرهما؛ لما وجدوا فيه من منهج مميّز وأسلوب يناسب هذا العصر‪،‬‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫وتعالى‪ ،‬هو أهل الثناء‬ ‫وهذا فضل اهلل من به علينا‪ ،‬فله الحمد والشكر سبحانه‬
‫والحمد؛ فالحمد هلل الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا اهلل‪.‬‬
‫ّ‬
‫وها نحن اآلن نحقق هذا األمل وتلك الرغبات بإخراج الطبعة الثالثة من هذا‬
‫ً‬
‫الكتاب‪ ،‬مزيدة ومنقحة‪ ،‬فنسأل اهلل أن يجعل لها مزيدا من القبول واالنتشار‪،‬‬
‫النبي الخاتم محمد !‪.‬‬‫ّ‬ ‫خدمة لهذا الدين ولرسوله‬
‫وقد امتازت هذه الطبعة بعدد من المميزات‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬
‫‪P P‬إعادة تبويب موضوعات الكتاب‪.‬‬
‫‪P P‬إعادة صياغة بعض عناوين الموضوعات العلمية‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫‪P P‬إضافة نقوالت من أقوال المفسرين لتوضيح معاني بعض النصوص‪ ،‬وبيان‬
‫وجه داللتها‪.‬‬
‫‪P P‬ضبط النصوص الحديثية وتخريج ما يحتاج منها إلى تخريج‪.‬‬
‫‪P P‬إضافة ما يلزم من معلومات جديدة لتوضيح األفكار‪ ،‬وبيان المقصود منها‪.‬‬
‫‪P P‬ضبط المصطلحات العلمية بعد الرجوع إلى مصادرها ومراجعها‪.‬‬
‫‪P P‬عرض الموضوعات العلمية في قالب يجمع بين الداللة النصية في القرآن‬
‫والسنة ـ مدعمة بأقوال المفسرين والشارحين ـ وبين الحقائق العلمية‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫علمي أو ِحكم تشريعية‪.‬‬ ‫تضمنته من إعجاز‬ ‫إلبراز ما‬
‫‪P P‬صياغة خاتمة الكتاب صياغة جديدة تظهر أهم النتائج والتوصيات‪.‬‬
‫‪P P‬تزويد الكتاب بفهرس تفصيلي للموضوعات وفق التبويب الجديد يكشف‬
‫عن محتويات الكتاب‪.‬‬
‫وإليكم في خاتمة هذه المقدمة شهادة منصف من علماء هذا القرن هو‪:‬‬
‫البروفيسور >مايكل هارت< في مقدمة كتابه (العظماء المائة في التاريخ) يقول‪:‬‬
‫ً‬
‫محمدا‪ ،‬ليكون َّ‬ ‫ّ‬
‫األول في أهم وأعظم رجال التاريخ‪ ،‬قد يدهش‬ ‫< إن اختياري‬
‫ّ‬
‫أعلى نجاح على المستويين‪:‬‬‫القراء‪ ،‬ولكنَّه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح ٰ‬ ‫ّ‬
‫سل وأنبياءٌ وحكماءٌ بدأوا رساالتٍ عظيمة‪ ،‬ولكنَّهم‬ ‫والدنيوي‪ ،‬فهناك ُر ٌ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الديني‬
‫ماتوا دون إتمامها‪ ،‬كالمسيح في المسيحية‪ ،‬أو شاركهم فيها غيرهم‪ ،‬أو سبقهم‬
‫ً‬
‫محمدا هو الوحيد الذي َّ‬ ‫ٰ‬
‫أتم رسالته‬ ‫كموسى في اليهودية‪ ،‬ولكن‬ ‫إليها سواهم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الدينية‪ ،‬وتحددت أحكامها‪ ،‬وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته‪ ،‬وألنه أقام‬
‫ّ‬ ‫الدنيوي ً‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫أيضا وحد القبائل‬ ‫إلى جانب الدين دولة جديدة‪ ،‬فإنه في هذا اجملال‬
‫مقدمة الطبعة الثالثة‬

‫ّ‬ ‫في شعب‪ ،‬والشعوب في َّ‬


‫أمة‪ ،‬ووضع لها كل أسس حياتها‪ ،‬ورسم أمور دنياها‪،‬‬
‫ً‬
‫ووضعها في موضع االنطالق إلى العالم‪ .‬أيضا في حياته‪ ،‬فهو الذي بدأ الرسالتين‬
‫الدينية والدنيوية وأتمهما >‪.‬‬
‫‪18‬‬

‫لقد آن األوان لهذه البشرية في زماننا هذا الذي تعالت فيه نداءات الباطل‬
‫وتنوعت فيه أساليب اإلغواء واإلغراء فتاهت باإلنسان دروب الضالل‪ ،‬حتى علت‬
‫أصوات تطلب النجدة والغوث طالبة المنقذ من الضالل والمخرج لها َّ‬
‫مما تعانيه‬
‫من الضنك والضيق والحيرة‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬لقد آن األوان لهذه البشرية أن تفتح أقفال قلوبها لهدي النور المبين الذي‬
‫جاء به محمد األمين !‪ ،‬عندها فقط يجدون الفالح والسعادة في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وفي األخير‪ ،‬أحمد اهلل وأشكره على إحسانه وتوفيقه‪ ،‬الذي بفضله ومنِّه‬
‫خالصا لوجهه الكريم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تعالى أن يتقبَّل عملنا ويجعله‬
‫ٰ‬ ‫ُّ‬
‫تتم الصالحات‪ ،‬وأسأله‬
‫وابتغاء مرضاته‪ ،‬وأن يحشرنا في زمرة سيدنا محمد ! مع الذين أنعم اهلل عليهم‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬وحسن أولئك رفيقا‪.‬‬
‫َّ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫قوة إال به‪.‬‬ ‫مجيب‪ ،‬وهو حسبنا ونعم الوكيل‪ ،‬وال حول وال‬ ‫قريب‬ ‫إنه‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وصلى اهلل وسلم على سيِّدنا‬

‫ل‬ ‫�ت‬
‫ا �ل��ك��د���ور‪�/‬ع���دا �ل�ّٰل�ه� �� ن �ع���دا �ل��ع ز �ز� ا ��م���ص�ل��‬
‫�ب ب � �ب �ي ح‬
‫األمين العام للهيئة العالمية لإلعجاز العلمي‬
‫في القرآن والسنة برابطة العالم اإلسالمي‬
‫القسم األول‬

‫ن‬ ‫ة‬ ‫ف‬ ‫أ‬


‫� ��� ��س�� � ���� ا ��لر�ح��م�ة‬‫ت � �م� ا ت‬
‫� ير ب � �‬ ‫� ل‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ويشتمل هذا القسم على فصول‬
‫الفصل األول‬
‫تأمالت يف سرية نيب الرمحة !‬

‫الفصل الثاني‬
‫نظرة على شخصيته !‬
‫الفصل األول‬

‫ن‬ ‫ة‬ ‫ف‬ ‫أ‬


‫ت‬
‫ت� �م� ال � ��� ��س�� � ���� ا ��لر�ح��م�ة‬
‫� ير ب � �‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫‪23‬‬

‫توطئـــــة‬

‫ة‬ ‫ي�ت���ع���� �ع��ل� ا �ل�����ش‬


‫�‬
‫ر� ‪...‬‬ ‫�ن �‬
‫ي� ى ب ي‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تجارب في أي زمان‬ ‫الرقي أن تستفيد من ماضيها‪ ،‬وما مرت به من‬
‫َّ‬ ‫إذا أرادت‬
‫َ‬
‫وتستلهم من دروس‬ ‫ومكان كانت؛ وذلك لتتالفى تكرار ما وقع لها من أخطا ٍء‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫درب الحاضر وآفاق المستقبل ‪.‬‬ ‫الماضي ما ينير لها‬
‫وحاجة المسلمين في هذا العصر إلى تراثهم‪ ،‬ال تقلُّ عن حاجتهم إلى ما جادت به‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الحضارة المعاصرة‪ ،‬من إبداعاتٍ‪ ،‬وإنجازات‪ ،‬إن لم تكن في بعض الجوانب تزيد‪.‬‬
‫َ‬
‫الكثير‪،‬‬ ‫إن في التراث الحضاري اإلسالمي‪ ،‬من الق َيم الحضارية الجميلة الشيءُ‬
‫ً‬ ‫ِ ِ‬
‫تتعرف عليه‪ ،‬وتسعى لتثقيف أبنائها به‪ ،‬تمهيدا إلعادة‬ ‫َ‬ ‫ي باألمة اإلسالمية أن‬ ‫فحر ٌّ‬
‫واالستفادة منه في حاضرها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫إحيائه‪،‬‬
‫َ‬
‫الغني‪،‬‬‫َّ‬ ‫الثري‬
‫َّ‬ ‫ف البشرية بحاضرها الذي كاد ينسيها ماضيها‬ ‫الرغم من شغ ِ‬ ‫وعلى‬
‫ّ‬
‫أي عاقل منصف يُعرض عن الدعوة لالستفادة من تراثنا الجميل‪،‬‬ ‫فال أحسب أن َّ‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫عرض به‪ ،‬وبخاصة وهو يرى أن البشرية منهكة‪ ،‬رغم ما توافر لها من وسائل‬ ‫أو ي ُ‬
‫ٌ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫ّ‬
‫الحصر‪ ،‬متناحرة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫على‬ ‫ت‬ ‫عز‬ ‫ٍ‬ ‫تقنيات‬ ‫من‬ ‫إليه‬ ‫توصلت‬ ‫ما‬ ‫رغم‬ ‫تائهة‬ ‫وأمان‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫راحة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وعوامل االلتقاء بين أفرادها أضعاف عوامل االفتراق‪.‬‬
‫‪24‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫تشفق على حالها‪ ،‬وتبحث في تراثها‪،‬‬ ‫البشرية المعاصرة مدعوة بإلحاح أن‬
‫ُ‬
‫والتسامح‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والتراحم‬ ‫المحبة‬
‫ِ‬ ‫عالم‬ ‫إلى‬ ‫بيدها‬ ‫تأخذ‬ ‫وسيلة‬ ‫تجد‬ ‫لعلها‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أحسب أن البشرية ال مناص لها من أن تتجه إلى الماضي‪ ،‬حيث كان‬
‫لع على‬‫عظماؤها الذين مضوا ُم ْل َك البشرية جمعاء‪ ،‬يحق لألجيال المتتابعة أن َّتط َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫العلوم التي يمكن االستفادة منها في محاصرة مظاهر الفرقة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫وتنهل‬ ‫سي ِرهم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫واالختالف‪ ،‬وبث أسباب التراحم وااللتقاء‪ ،‬وإن لم يكن هذا‪ ،‬فما فائدة أن‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وتاريخهم‪ ،‬إذا لم تستفد منها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هؤالء‬ ‫بسيرة‬ ‫البشرية‬ ‫تحتفظ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ّ ّ‬
‫المواقف الصادقة‪ ،‬ويتفاعلون مع التصرفات‬ ‫إن الناس‪ ،‬كل الناس‪ ،‬يحبون‬
‫َ‬
‫كوامن‬ ‫اإليجابية المؤثرة‪ ،‬ويستجيبون للمشاعر اإلنسانية‪،‬التي تبعث في النفس‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫بواعث الشر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عن‬ ‫هم‬ ‫الخير‪ ،‬وتصرف‬
‫َ‬
‫كثيرون أولئك الذين تعرضوا لمثل هذه الموضوعات‪ ،‬بغية بيانها للناس‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتزيينها في عيونهم‪ ،‬لتجد لها مكانا في قلوبهم‪ ،‬وذلك قياما بالواجب من هؤالء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وأداءً لألمانة‪ .‬كم من عظماء البشرية يستحق أن يكتب تاريخه‪ ،‬ويدون كالمه‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأجدرهم بأن‬ ‫أولى العظماء‬ ‫والجواب بيقين‪ :‬هو أن‬ ‫لتكتحل به عيون القراء‪،‬‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الرحيم محمد بن عبد اهلل !‪.‬‬ ‫تعرف سيرته الخالدة‪ ،‬واالهتداء بهديه هو‬
‫بي محمد ! ذو شجون‪ ،‬ال يتسع له المقام‪ ،‬وال‬ ‫إن الحديث عن سيرة الن ّ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وصف وألصقه به هو الرحيم؛ فهو ال يفارق أقوال‬ ‫ٍ‬ ‫أجمع‬ ‫يأتي عليه الكالم‪ ،‬ولعل‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الن ّ ّ‬
‫بي !‪ ،‬وال أفعاله‪ ،‬في كل أحواله‪ ،‬فهو الرحمة المهداة بكل مظاهرها‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫وحين عزمت على الكتابة عن الن ّ ّ‬
‫أنسبها كتابة‬ ‫بي محمد !‪ ،‬وجدت أن‬
‫وأحداثا‪ ،‬من سيرة الن ّ ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫بي محمد‬ ‫تأمالت في سيرة الرسول ! تضمنت قصصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫!‪ ،‬قد ال تكون جديدة على فئات كثيرة‪ ،‬فقد مرت بهم فرادى‪ ،‬متناثرة‪ ،‬لكن‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أخالقية‪ ،‬تكاملت في‬ ‫ٍ‬ ‫‪،‬‬ ‫نبوية‬
‫ٍ‬ ‫نظرية‬
‫ٍ‬ ‫شكل‬ ‫في‬ ‫الكتاب‬ ‫الجديد المفيد‪ ،‬أن يصاغ‬
‫ُ ِ َ‬
‫البناء‪ ،‬وتوازنت في األنحاء‪ ،‬كانت الرحمة نقطة االرتكاز فيها‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫ً‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬


‫حاولنا قد َر استطاعتنا البحث عن المعلومة الصحيحة‪ ،‬نسوقها دليال‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫نرضى عنها بديال‪ ،‬وإنه منهج يُملي علينا أن نقول‪ ،‬إن جل مباحث هذا القسم من‬
‫ُ‬ ‫َّ ْ‬ ‫ٌ‬
‫منقول عن المصادر األصلية التي تلقتها األجيال بالقبول‪ ،‬فقد نقلنا عنها‪،‬‬ ‫الكتاب‬
‫ِّ‬
‫واستندنا عليها‪ ،‬ونحن ندلل ونحلل‪.‬‬
‫َ‬
‫الهامش ْ‬ ‫َ‬
‫بواحد‬
‫ٍ‬ ‫فاكتفينا‬ ‫اإلحاالت‪،‬‬ ‫وكثرة‬
‫ِ‬ ‫المراجع‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫بسر‬ ‫نثقل‬ ‫ولقد رغبنا أن ال‬
‫منها‪ ،‬وربما باثنين‪ ،‬حتى وإن ورد الحديث أو القصة في مراجع عدة‪.‬‬
‫طفنا على حدائق ذات بهجة‪ ،‬جمعنا قدر استطاعتنا رحيق السيرة العطرة من‬
‫بي ! بالبشر‪ ،‬قدمها للبشرية هدية‪.‬‬‫كل زهرة‪ ،‬فيها مظهر من مظاهر رحمة الن ّ ّ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬
‫‪27‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫المبحث‬
‫األول‬
‫نظرة على حيــاته ‪Z‬‬
‫ٓ َ ۡ َ‬ ‫ً‬
‫لقد أرسل اهلل نبيه محمدا ! بالهدى والحق رحمة للعالمين ﴿ َو َما أ ۡر َسل َنٰك‬
‫أ‬
‫ني﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪.]107 :‬‬ ‫إ اَّل َر مۡ َ‬
‫ح ٗة ّل ِۡل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِي أَ ۡر َس َل َر ُس هَ ُ‬
‫كله ﴿ ُه َو ذَّٱل ٓ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ى َودِين حۡ َ‬
‫ولۥ بِٱل ۡ ُه َد ٰ‬ ‫ين‬ ‫الد‬ ‫ليظهره على‬
‫ۡ‬
‫ٱل ّ ِق يِلُظ ِه َرهُۥ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شكون﴾ [ا �لت�و�ب��ة‪.]33 :‬‬
‫لَىَ ّ لُ ّ َ َ ۡ َ َ ۡ ُ رۡ ُ َ‬
‫ِين كِهِۦ ولو ك ِره ٱلم ِ‬ ‫ع ٱدل ِ‬
‫ُ‬
‫نعيش مع نبي المرحمة‪ ،‬في المراحل األولى‬ ‫وفي هذا المبحث‪ ،‬سوف‬
‫المؤثرة في حياته ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بعض الجوانب‬
‫ِ‬ ‫من حياته‪ ،‬محاولين إلقاءَ الضوء على‬
‫نسب الرسول !‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ًَْ ًُُ‬ ‫ُ‬ ‫أشرف النَّاس ً‬
‫ُ‬ ‫إن الن ّ ّ‬
‫بن‬
‫ِ‬ ‫اهلل‬ ‫عبد‬ ‫بن‬ ‫محمد‬ ‫فهو‬ ‫ا؛‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫وخ‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫هم‬ ‫وأكمل‬ ‫ا‪،‬‬ ‫نسب‬ ‫بي‬
‫ص ّي بن كالب بن ُم َّر َة بن كعب بن ُل َؤ ِّ‬ ‫عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن ُق َ‬
‫!‬
‫بن‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َِ ِ ِْ َ َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كنانة بن خزيمة بن ُ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بن‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ض‬ ‫م‬ ‫بن‬
‫ِ‬ ‫إلياس‬ ‫بن‬ ‫ة‬ ‫ك‬
‫ِ ِ َِ‬ ‫ر‬‫د‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫بن‬
‫ِ ِ‬ ‫النضر‬ ‫بن‬
‫َِ ِ‬ ‫مالك‬ ‫بن‬
‫هر ِ‬‫بن ِف ّ ِ‬
‫غالب ِ‬‫ِ‬
‫ولد إسماعيل عليه السالم ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بن عدنان‪ .‬وال خالف أن (عدنان) من ِ‬ ‫بن مع ِد ِ‬ ‫زار ِ‬ ‫ِن ِ‬
‫(‪)1‬‬

‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫والده هو عبد اهلل بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف؛ وكان جده عبد‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫ً‬ ‫َ‬
‫المطلب قد نذر أن يذبح واحدا من أوالده إذا رزقه اهلل عشرة أبناء‪ ،‬فلما تم له ذلك‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قريش‬ ‫أحب أوالده إليه‪ ،‬فمنعته‬ ‫أقرع بينهم‪ ،‬فخرجت القرعة على عبد اهلل‪ ،‬وكان‬
‫وأخواله من بني مخزوم‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫وتم فداؤه بمائة من اإلبل‪.‬‬

‫((( ابن هشام‪ :‬السيرة النبوية ‪ ،59/1‬وابن قيم الجوزية‪ :‬زاد المعاد ‪ .70/1‬‬
‫‪28‬‬

‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬


‫وهب بن عبد مناف بن زه َرة بن ِكالب‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بنت‬
‫ثم زوجه والده بعد ذلك من آمنة ِ‬
‫ً‬
‫وموضعا‪.‬‬ ‫وهي من أفضل نساء قريش ً‬
‫نسبا‬
‫ً‬
‫متاجرا إلى الشام‪ ،‬فمرض أثناء عودته‪،‬‬ ‫وبعد فترة من زواجه خرج عبد اهلل‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫الجعدي‪ ،‬وكان‬ ‫فنزل عند أخواله في المدينة‪ ،‬فتوفي ودفن في دار النابغة‬
‫خمسة وعشرين ً‬‫ً‬
‫عاما‪ ،‬قبل أن يولد الرسول !‪ ،‬كما توفيت والدته وهو‬ ‫عمره‬
‫في السادسة من عمره (‪.)1‬‬

‫والنسب الرفيع يرفع صاحبه عن سفاسف األمور‪ ،‬ويجعله‬‫ُ‬ ‫ُ‬


‫وطيب المعدن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ‬
‫هر‬
‫ِ‬ ‫وط‬ ‫أنسابهم‬ ‫تزكية‬ ‫على‬ ‫يحرصون‬ ‫والدعاة‬ ‫سل‬ ‫يهتم بمعاليها وفضائلها‪ ،‬والر‬
‫ّ‬
‫أصالبهم‪ ،‬ويُعرفون عند الناس بذلك؛ فيحمدونهم ويثقون بهم (‪.)2‬‬

‫نشأته ودعوته !‪:‬‬


‫بي محمد ! سنة ‪ 570‬لميالد السيد المسيح‪ ،‬وهذا ما ورد في أغلب‬ ‫ُولد الن ّ ُّ‬
‫المصادر التاريخية الموثوق بها‪ ،‬وإن كان بعض العلماء يرى أن الن ّ ّ‬
‫بي ! ولد سنة‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫‪ ،571‬فال أعُد هذا خالفا‪ ،‬إذ يبدو لي أنه ولد في أواخر سنة ‪.570‬‬

‫كانت والدته في مكة المكرمة‪ ،‬وهي مدينة قديمة‪ ،‬تقع في الجزيرة العربية‬
‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫يتيما‪ ،‬ولما ولدته أمه‪ ،‬وكان ابنَها‬
‫حامل به‪ ،‬فولد ً‬ ‫قارة آسيا‪ ،‬توفي والده وأمه‬ ‫من َّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كفله‬
‫ِ‬ ‫ثم‬ ‫سنوات‪،‬‬ ‫ست‬ ‫ه‬ ‫عمر‬ ‫وكان‬ ‫توفيت‪،‬‬ ‫أن‬ ‫إلى‬ ‫رعايته‬ ‫على‬ ‫قامت‬ ‫‪،‬‬‫الوحيد‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫بعدها جده عبد المطلب‪ ،‬ولما بلغ محمد ! الثامنة من عمره‪ ،‬توفي جده‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فضمه ُّ‬ ‫َّ‬
‫عمه أبو طالب‪ ،‬إلى أوالده‪ ،‬وصار يرعاه كأنه واحد منهم‪.‬‬
‫َ‬
‫ليعيل َ‬ ‫لما شارف محمد ! على ِّ‬ ‫َّ‬
‫نفسه‪ ،‬فاشتغل‬ ‫سن الشباب‪ ،‬بدأ يعمل‪،‬‬

‫((( ابن هشام‪ :‬السيرة النبوية ‪ ،156/1‬والطبري‪ :‬تاريخ األمم والملوك ‪.458/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬فقه السيرة للبوطي‪ ،‬ص‪ .45‬انظر‪ :‬وقفات تربوية مع السيرة‪ ،‬أحمد فريد‪ ،‬ص ‪.4‬‬
‫‪29‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫عمل بعد ذلك في التجارة‪ ،‬وسافر خارج‬ ‫في رعاية الغنم ألهل مكة ً ‪ ،‬ثم ِ‬
‫(‪)1‬‬

‫األمين‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بالصادق‬
‫ِ‬ ‫أظفاره‪،‬‬
‫ِ‬ ‫نعومة‬
‫ِ‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬وكان معروفا بين قومه‪ ،‬منذ‬
‫كريمة‪ ،‬من سيدات مجتمعِ قريش‪ ،‬وهي‬ ‫ٍ‬ ‫شريفة‬
‫ٍ‬ ‫امرأة‬
‫ٍ‬ ‫بأموال‬
‫ِ‬ ‫كان يتاجر‬
‫ٍَ ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُ‬
‫عمرها آنذاك‪ ،‬أربعين سنة‪،‬‬ ‫خويلد‪ ،‬وقدر اهلل أن يتزوجها‪ ،‬وكان‬ ‫ٍ‬ ‫بنت‬ ‫خديجة‬
‫بي ! خمسة وعشرون ً‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫وعمر الن ّ‬
‫ُ‬
‫عاما‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫كان له ُ‬
‫أربع بنات‪ ،‬وولدان‪ ،‬كلهم من زوجته خديجة‪ ،‬وقد عاشت حتى بلغت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫زوجة َ‬‫ٌ‬ ‫خمسة وستين ً‬‫ً‬
‫حياتها‪ .‬توفي أوالده‪ ،‬وبناته‬
‫ِ‬ ‫طوال‬ ‫ها‬ ‫غير‬ ‫عنده‬ ‫يكن‬ ‫ولم‬ ‫ا‪،‬‬ ‫عام‬
‫َّ ً‬ ‫ً‬
‫جميعا في حياته‪ ،‬إال بنتا واحدة‪ ،‬وهي فاطمة‪ ،‬فقد توفيت بعده بستة أشهر‪.‬‬
‫بسيطا في طعامه وشرابه ولباسه‪ ،‬كانت ُّ‬‫ً‬ ‫َ َّ‬ ‫لقد عاش الن ّ ّ‬
‫تمر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ها‪،‬‬ ‫كل‬ ‫ه‬ ‫حيات‬ ‫بي‬
‫ُ‬
‫!‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫متواضعا‪ ،‬قريباً‬ ‫بعض األيّام‪ ،‬ال يجد ما يأكله‪ ،‬ال هو وال أهل بيته‪ ،‬وكان‬‫ُ‬ ‫عليه‬
‫ّ‬
‫جميعا‪ ،‬يحبّهم ويحبّونه (‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫إلى الناس‬
‫نزول الوحي‪:‬‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬ ‫لما بلغ الن ّ ُّ‬
‫اإلسالم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫رسالة‬ ‫عليه‬ ‫تعالى‬ ‫اهلل‬ ‫أنزل‬ ‫األربعين‪،‬‬ ‫سن‬ ‫محمد‬ ‫بي‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫!‬
‫الناس إليها‪ ،‬ومكث في مكة ثالث عشرة سنة‪ ،‬ثم انتقل إلى المدينة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وبدأ يدعو‬
‫أكثر أهلها وعُ‬
‫بلدة تبعد قرابة ‪ 500‬كم عن مكة‪ ،‬بعد أن آمن به ُ‬ ‫ٌ‬
‫التاريخ‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫رفوا‬ ‫وهي‬
‫اإلسالمي باسم األنصار‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أول ما بُديء به رسول اهلل ! من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم‪ ،‬فكان ال‬
‫مثل فَ َلق الصبح‪ ،‬ثم ُحبِّ َ‬
‫َ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫ب إليه الخالءُ‪ ،‬وكان يخلو بغار حراء‪،‬‬ ‫يرى رؤيا إال جاءت‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫يرجع إلى أهله‪ ،‬ويتزود‬‫َ‬ ‫َفيتحنَّث فيه ـ يتعبَّد فيه ـ الليالي ذواتِ العدد‪ ،‬قبل أن‬

‫((( انظر‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2262‬‬


‫((( لمزيد من المعلومات‪ ،‬تراجع الكتب التالية‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬البداية والنهاية البن‬
‫كثير‪ ،‬زاد المعاد في هدي خير العباد البن قيم الجوزية ‪.‬‬
‫‪30‬‬

‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫الحق وهو في غار حراء‪،‬‬ ‫يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها‪ ،‬حتى جاءه‬ ‫لذلك‪ ،‬ثم‬
‫َ ُ‬
‫فجاءه الملك فقال‪ :‬اقرأ‪.‬‬
‫قال‪> :‬ما أنا بقارئ<‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد‪ ،‬ثم أرسلني‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪.‬‬
‫قلت‪> :‬ما أنا بقارئ<‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد‪ ،‬ثم أرسلني فقال‪ :‬اقرأ‪،‬‬
‫فقلت‪> :‬ما أنا بقارئ<‪.‬‬
‫ٱق َرأۡ ب ۡ‬ ‫َ‬
‫فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال‪﴿ :‬‬
‫َ ذَّ‬ ‫ۡ‬
‫ٱس ِم َر ّبِك ٱلِي‬ ‫ِ‬
‫أۡ َ ۡ‬ ‫ۡ ۡ‬
‫نس َن م ِۡن َعل ٍق ‪ ٢‬ٱق َرأ َو َر ُّب َك ٱلك َر ُم﴾ [ا �ل�ع�ل ق�‪.]3 -1 :‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ إۡ‬ ‫َ ََ‬
‫ٱل َ ٰ‬
‫خلق ‪ ١‬خلق ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫خويلد فقال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بنت‬
‫ُفرجع بها رسول اهلل ! يرجف فؤاده‪ ،‬فدخل على خديجة ِ‬
‫َّ ُ‬ ‫َ‬
‫>ز ِّملوني<‪َّ ،‬‬
‫الروع‪ ،‬فقال لخديجة‪> :‬ما لي؟< فأخبرها‬ ‫فزملوه حتى ذهب عنه‬
‫الخبر‪ ،‬وقال‪> :‬لقد خشيت على نفسي<‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫الرح َم‪ ،‬وتحمل‬ ‫ِ‬ ‫فقالت خديجة‪ :‬كال‪ ،‬واهلل ما يخزيك اهللُ أبدا‪ ،‬إنك لتصل‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الك َّل‪ ،‬وتكس ُ‬ ‫َ‬
‫الحق؛ فانطلقت‬ ‫نوائب‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫عين‬ ‫وت‬ ‫‪،‬‬‫الضيف‬ ‫قري‬ ‫وت‬ ‫‪،‬‬ ‫المعدوم‬ ‫ب‬ ‫ُ ِ‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة‪،‬‬ ‫خديجة َحتى أتت به ورقة بن نوفل ِ‬ ‫به‬
‫ً‬
‫وكان امرأ تنَ ّ‬
‫َّ‬
‫العبراني‪ ،‬فيكتب من اإلنجيل‬ ‫صر في الجاهلية‪ ،‬وكان يكتب الكتاب‬
‫شيخا ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫كبيرا قد عمي‪ ،‬فقالت له خديجة‪ :‬يابن‬ ‫يكتب‪ ،‬وكان‬ ‫بالعبرانية ما شاء اهلل أن‬
‫عم‪ ،‬اسمع من ابن أخيك‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل ! َ‬
‫خبر ما رأى‪.‬‬ ‫فقال له ورقة‪ :‬يابن أخي‪ ،‬ماذا ترى؟ فأخبره‬
‫َ‬ ‫ّ َ‬
‫الناموس الذي نزل اهللُ على موسى‪ ،‬يا ليتني فيها َجذعا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقال له ورقة‪ :‬هذا‬
‫يخرجك ُ‬ ‫ُ‬ ‫ليتنى أكون ً‬
‫قومك‪.‬‬ ‫حيا إذ‬
‫‪31‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫مخرجي هم؟<‪.‬‬‫ّ‬ ‫فقال رسول اهلل !‪> :‬أو‬


‫ي‪ ،‬وإن يدركني ُ‬ ‫جئت به إال عُود َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫يومك‬ ‫ِ‬ ‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬لم يأت رجل قط بمثل ما‬
‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫أياما ليذهب‬‫الوحي ً‬
‫ُ‬ ‫نصرا مؤز ًرا‪ ،‬ثم لم ينش ْب ورقة أن توفي(‪ )1‬ثم فتر‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أنصرك‬
‫رسول اهلل ! فيها ً‬‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫كئيبا‬ ‫النبي ! من الروعِ‪ ،‬وليتشوق إلى العود بقي‬ ‫ما واجه‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫محزونا‪ ،‬فلما حصل له ذلك‪ ،‬وأخذ ي َ ُ‬ ‫ً‬
‫أكرمه اهلل بالوحي مرة‬ ‫رتقب مجيءَ الوحي‬
‫ً‬
‫ثانية (‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫روى البخاري عن جابر أنه سمع رسول اهلل !‪ ،‬يُحدث عن فترة الوحي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫>فبينا أنا أمشي‪ ،‬سمعت صوتا من السماء‪ ،‬فرفعت بصري ِق َبل السماء‪ ،‬فإذا‬
‫ُ ْ ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ‬
‫كرسي بين السماء واألرض‪ ،‬فج ِئثت‬ ‫الملك الذي جاءني بحرا ٍء‪ ،‬قاعد على‬
‫زملوني ِّ‬
‫فجئت أهلي فقلت‪ِّ :‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫منه ً‬
‫زملوني‪،‬‬ ‫رعبا‪ ،‬حتى هويت إلى األرض‪،‬‬
‫ُ ََ‬
‫يأ ُّي َها ٱل ُم َّدث ُِر ‪ ١‬ق ۡم فأنذ ِۡر ‪ ﴾٢‬ـ إلى قوله ـ‬
‫ۡ ّ‬ ‫َ َ‬
‫فزملوني<‪ ،‬فأنزل اهلل تعالى‪ٰٓ ﴿ :‬‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وتتابع<(‪.)3‬‬ ‫الوحي‬ ‫﴿فٱه ُج ۡر﴾‪ .‬قال أبو سلمة‪ ..> :‬ثم ح ِم َي‬
‫َ ۡ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫((( انظر‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ )3‬وحديث رقم (‪ ،)4953‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)160‬‬
‫((( انظر‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)161‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4926‬‬
‫‪32‬‬

‫المبحث‬
‫جهاد الدعوة إلى َّ‬
‫الله‬ ‫الثــــاني‬
‫وتعالى‬
‫ٰ‬ ‫سبحانه‬
‫سرا‪ ،‬ولم يعلنها إال بعد ُم ِّ‬ ‫َ‬
‫الدعوة إلى اهلل ً‬ ‫ُ‬
‫ضي سنوات‪،‬‬ ‫بدأ رسول اهلل !‬
‫ل اٗل َو َن َه ٗ‬
‫ارا‬ ‫كما قال ربنا على لسان نبيِّه نوح عليه السالم‪﴿:‬قَ َال َر ّب إ ّن َد َع ۡو ُ‬
‫ت قَ ۡو يِم يَ ۡ‬ ‫ِ يِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ ُ اَ ٓ ٓ اَّ‬
‫ِإَون كلَُّ َما َد َع ۡو ُت ُه ۡم لتِ َ ۡغفِ َر ل ُه ۡم َج َعل ٓوا أ َصٰب ِ َع ُه ۡم يِ ٓ‬
‫ف‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يِ‬ ‫ِي إِل ف َِر ٗارا ‪٦‬‬ ‫‪ ٥‬فلم ي ِزدهم دعء‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ارا ‪ُ ٧‬ث َّم إن َد َع ۡو ُت ُه ۡم ج َه ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫ْ‬
‫بوا ۡ‬ ‫ۡ‬
‫ٱس َتك رَ ُ‬ ‫ْ‬
‫صوا َو ۡ‬ ‫َ‬ ‫ٱس َت ۡغ َش ۡوا ْ ث َِي َ‬ ‫َ َ‬
‫ارا ‪ ٨‬ث َّم‬ ‫ٱستِك َب ٗ‬ ‫اب ُه ۡم َوأ رَ ُّ‬ ‫اذانِه ۡم َو ۡ‬
‫ِ‬ ‫ِ يِ‬ ‫ء ِ‬
‫َ‬ ‫ن أَ ۡعلَ ُ‬
‫س ٗارا﴾ [ن� ‪.]9 - 5 :‬‬
‫وح‬
‫ت ل َ ُه ۡم إ رۡ َ‬
‫ِ‬
‫س ۡر ُ‬‫نت ل َ ُه ۡم َوأ رۡ َ‬ ‫إ ِ يِ ّ ٓ‬

‫الل إسرا ًرا)‪:‬‬


‫املرحلة األوىل‪( :‬الدعوة إىل هّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫نزول آيات سورة المدثر‪ ،‬بعرض اإلسالم أوال‬ ‫ِ‬ ‫قام رسول اهلل ! بعد‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫بي‬‫فأسلمت زوجة الن ّ ِّ‬ ‫َ‬
‫الخير‪،‬‬ ‫وكل من َّ‬
‫توس َم فيه‬
‫ِّ‬
‫بيته‪،‬‬
‫َ‬ ‫على ألصق الناس به من ُ أهل ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫! ُّ‬
‫الكلبي‪،‬‬ ‫خويلد‪ ،‬ومواله زيد بن حارثة بن شراحيل‬ ‫ٍ‬ ‫أم المؤمنين خديجة بنت‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وابن ّ‬
‫الرسول !‪ ،‬وصديقه‬ ‫طالب‪ ،‬وكان صبيا يعيش في كفالة ُ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫عمه علي بن أبي‬
‫ُ‬ ‫الحميم أبو بكر الصديق‪ ،‬ثم تتابع كثيرون‪ ،‬وهكذا ّ‬
‫مرت ثالثة أعوام‪ ،‬والدعوة لم‬
‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫بي ! في اجملامعِ والنوادي‪.‬‬ ‫يجهر بها الن ّ ُّ‬
‫ْ‬ ‫األفراد‪ ،‬ولم‬ ‫تزل مقصورة على‬
‫ِ‬
‫الل إعالنا وجها ًرا)‪:‬‬
‫املرحلة الثانية‪( :‬الدعوة إىل هّ‬
‫ك أۡٱلَ ۡق َرب َ‬‫ََ ۡ َ ََ َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ّ ُ‬
‫ني﴾‬ ‫تعالى‪﴿ :‬وأنذِر عشِ ريت‬ ‫الصدد قوله‬
‫ِ‬ ‫وأول ما نزل بهذا‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫[ا � شل����عرا ء‪ ]214 :‬فدعا رسول اهلل ! عشيرته بني هاشم‪ ،‬بعد نزول هذه اآلية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫خمسة وأربعين‬ ‫ٍ‬ ‫فجاؤوا ومعهم ٌ‬
‫نفر من بني المطلب بن عبد مناف‪ ،‬فكانوا نحو‬
‫‪33‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫وتفرقوا‪ ،‬وال يُذكر عنهم ُّ‬


‫ّ‬ ‫َّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫رجاًل (‪ ،)1‬ولما َّ‬
‫فعل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ردة‬
‫ِ‬ ‫أي‬ ‫اس‬ ‫اإلنذار انفض الن‬ ‫تم هذا‬
‫بي ! بالسوء‪ ،‬وقال‪ :‬تبًّا لك سائر اليوم‪ ،‬ألهذا جمعتنا؟‬ ‫واجه الن ّ ّ‬
‫َ‬ ‫لهب‬ ‫سوى أن أبا‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫ب َوت َّب﴾ [ا �ل���م��س�د‪.]1 :‬‬ ‫فنزلت‪﴿ :‬تبت يدا أ يِب له ٖ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ َّ ۡ َ َ‬

‫ٰ‬
‫َ‬
‫ِني﴾ [ا �ل�ح�� ج�ر‪،]94 :‬‬ ‫تعالى‪﴿ :‬فٱصد ِ‬
‫ع ب َما تُ ۡؤ َم ُر َوأ ۡعر ۡض َعن ٱل ۡ ُم رۡشك َ‬ ‫ثم نزل قوله‬
‫َ ۡ َ ۡ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ونواديهم (‪.)2‬‬ ‫يجهر بالدعوة إلى اإلسالم في مجامع المشركين‬ ‫ُ‬ ‫فقام !‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫قريش على‬ ‫الحج أجمعت‬ ‫بالنبي ! في موسم‬ ‫ِّ‬ ‫وخوفا من أن يتأثر أحد‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫هلل‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫إلى‬ ‫الناس‬ ‫لدعوة‬ ‫يخرج‬ ‫فصار‬ ‫اهلل‬ ‫رسول‬ ‫ا‬
‫ٌ ّ‬
‫أم‬ ‫‪،‬‬ ‫ساحر‬ ‫ه‬ ‫بي ! بأن‬ ‫اتهام الن ّ ِّ‬
‫ُ‬ ‫في أسواق عُ َكاظ ومجن َّ‬
‫!‬
‫َ َ‬
‫از‪ ،‬وكان أبو لهب وراءَه يالحقه قائاًل‪ :‬ال‬ ‫ِ‬ ‫ج‬ ‫الم‬ ‫وذي‬ ‫ة‬ ‫ٍ ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تطيعوه فإنه صابئ ٌ كذاب (‪ ،)3‬وما هي إالفترة وجيزة حتى انتشر ذكره ! في بالد‬
‫ّ‬
‫العرب كلها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أساليب حمارب ِة الدعو ِة اإلسالمية‪:‬‬
‫ُ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫بأساليب تمكنها‬ ‫مجابهة الرسول !‬
‫ِ‬ ‫قريش من الحج شرعت في‬ ‫لما فرغت‬
‫ّ‬
‫عوة اإلسالمية الفتية‪ ،‬ومن هذه األساليب‪:‬‬
‫من القضاء على الد ِ‬
‫ُ‬ ‫والتحقير‪ ،‬واالستهزاءُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والتكذيب‪:‬‬ ‫السخرية‬ ‫‪1‬‬
‫َ َ ُ ْ َ َ ُّ َ ذَّ‬
‫يأيها ٱلِي ن ِزل عليهِ ٱذلِكر إِنك لمجنون﴾‬ ‫فكانوا ينادونه باجملنون‪﴿ :‬وقالوا ٰٓ‬
‫ُ ّ َ َ َ ۡ ّ ۡ ُ َّ َ َ َ ۡ ُ ‪ٞ‬‬
‫َ‬
‫[ا �ل�ح�� ج�ر‪ ،]6 :‬ووصموه بالسحر والكذب ﴿وع ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫ج ُب ٓوا أن َجا َءهم ُّمنذِر‪ّ ٞ‬مِن ُه ۡمۖ َوقال ٱلكٰفِ ُرون‬
‫اب﴾ [�ص‪.]4 :‬‬
‫ح ‪ٞ‬ر َك َّذ ٌ‬ ‫َهٰ َذا َ ٰ‬
‫س ِ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫((( انظر‪ :‬فتح الباري شرح الحديث (‪ ،)4771‬وانظر قول أبي لهب في صحيح البخاري‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ،)4972‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)208‬‬
‫((( سيرة ابن إسحاق‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬صحيح بن حيان‪ ،‬حديث رقم (‪ )6562‬وهو صحيح‪ ،‬وهناك تخريجه الكامل‪.‬‬
‫‪34‬‬

‫إثارة الشبهاتِ ونشر الدعاياتِ الكاذبة‪:‬‬ ‫‪2‬‬


‫ۡ َ ُ َْ ۡ َ ُ َ َ‬
‫فكانوا يقولون عن القرآن كما قص القرآن على لسانهم‪﴿ :‬بَل قال ٓوا أضغٰث أ ۡحلِٰۢم‬
‫أ‬ ‫َ ۡ رَ َ ٰ ُ َ ۡ ُ َ َ ‪ َ ۡ ُ ٓ َ َ َ ٔ َ َ ۡ َ ۡ َ ٞ‬أۡ َ َّ ُ َ‬
‫ب ِل ٱفتىه بل هو شاعِر فليأت ِنا ب ِايةٖ كما أرسِل ٱلولون﴾ [ � �ب ي��ا ء‪. ]5 :‬‬
‫�‬ ‫ن‬ ‫ال‬
‫َ َ ُ ْ َ َ ُ أۡ َ َّ َ ۡ َ َ َ َ َ ُ ۡ ىَ َ َ ۡ ُ ۡ ٗ َ َ‬
‫ه تم ٰل عليهِ بك َرة وأ ِصيل﴾ [ ل����ر �ا �‪. ]5 :‬‬
‫ا � ف �ق ن‬ ‫س ِطري ٱلول ِني ٱكتتبها ف يِ َ‬ ‫﴿وقال ٓوا أ ٰ‬

‫وقالوا أيضا عن القرآن الكريم‪﴿ :‬وقال ٱلِين كفروا إِن هذا إِل إِفك‬
‫َ َ َ ذَّ َ َ َ ُ ٓ ْ ۡ َ ٰ َ ٓ اَّ ٓ ۡ ٌ ۡ‬
‫ٱف رَ َ‬
‫تى ٰ ُه‬
‫َ َ اَ َ ُ َ َ ۡ َ ۡ ٌ َ َ ُ َ‬
‫ورا﴾ [ا �ل��ف��ر�ق�ا ن�‪ ]4 :‬أي اشترك هو وزمالؤه‬ ‫ونۖ َف َق ۡد َجا ٓ ُءو ُظ ۡل ٗما َو ُز ٗ‬ ‫وأعنهۥ عليهِ قوم ءاخر‬
‫في اختالقة‪.‬‬
‫َ ّ‬
‫َ َ َ َ َ َّ‬ ‫القرآن إنما يعلمه ٌ‬
‫بشر ﴿ َولق ۡد ن ۡعل ُم أن ُه ۡم‬ ‫وقالوا عن الرسول !‪ ،‬وهو يقرأ‬
‫َ‬
‫ني﴾‬ ‫ب‪ُّ ٞ‬مب ٌ‬ ‫ج ّ‪َ َ ٌ َ َ َ َ ٞ‬‬ ‫لهِ أ ۡع َ‬ ‫يَ‬ ‫ُۡ ُ َ‬
‫ون إ ِ ۡ‬ ‫َ ُ ُ َ َّ َ ُ َ ّ ُ ُ َ رَ ‪ ُ َ ّ ٞ‬ذَّ‬
‫م وهٰذا ل ِسان عر يِ ّ ِ‬‫يِ‬ ‫د‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ِي‬
‫ٱل‬ ‫يقولون إِنما يعل ِمهۥ بشۗ ل ِسان‬
‫[ا �لن�����ح�ل‪. ] 103 :‬‬
‫‪ 3‬ص ُّد الناس عن سماعِ القرآن الكريم‪:‬‬
‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫تعالى‪﴿ :‬وقال ٱل‬ ‫وصف القرآن الكريم حالهم في قوله‬ ‫وقد‬
‫َ َ َ ذَّ َ َ َ ْ اَ‬
‫ِين كف ُروا ل‬
‫ك ۡم تغل ُِبون﴾ [ ف����ص�ل� ت�‪ ،]26 :‬ومعارضته باألساطير‬
‫َ ُ َۡ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ َُ ْ َ َ َُۡ‬
‫ۡ‬
‫ان َوٱلغ ۡوا فِيهِ لعل‬‫تسمعوا ل ِهٰذا ٱلقرء ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ليقص‬ ‫الناس‬ ‫النض ُر بن الحارث‪ ،‬عندما كان يدعو‬ ‫ِ‬ ‫والحكايات‪ ،‬كما كان يفعل‬
‫سماعهم القرآن‬ ‫ِ‬ ‫عليهم أخبار اسفنديار وغيره‪ ،‬بقصد الشغب والحيلولة دون‬
‫الكريم من رسول اهلل !‪( ،‬انظر تفسير هذه اآلية)‪.‬‬
‫الدعوة‬ ‫إيقاف‬ ‫نفعا في‬ ‫ولما رأى المشركون أن هذه األساليب لم تجد ً‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رئيس‬ ‫دينهم‪ ،‬فأخذ كل‬ ‫اإلسالمية‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫وفتنتهم عن ِ‬
‫ِ‬ ‫قرروا القيام بتعذيب المسلمين‬
‫ّ‬
‫طريق‬ ‫َ‬ ‫كل سيّ ٍد على من اختار من عبيده‬ ‫وانقض ُّ‬
‫َّ‬ ‫قبيلته باإلسالم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫دان‬ ‫من‬ ‫ب‬‫يعذ ُ‬
‫اإليمان‪.‬‬
‫يدخ ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وكان ُّ‬
‫نه‬ ‫حصير من سعف النخيل‪ ،‬ثم‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫ه‬ ‫يلف‬ ‫عم عثمان بن عفان‬
‫ٌ َ َّ‬ ‫ٌ‬
‫شرف ومنعة أنبه وأخزاه‪،‬‬ ‫برجل قد أسلم له‬‫ٍ‬ ‫من تحته‪ ،‬وكان أبو جهل إذا سمع‬
‫‪35‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫ً‬
‫ٰ‬
‫وأغرى به‪،‬‬ ‫وتوعَّده بالخسارة الفادحة في المال والجاه‪ ،‬وإن كان ضعيفا ضربه‬
‫ِّ ُ َّ‬
‫عذ ُ‬ ‫ُ‬
‫ب حتى يفقد وعيه‪ ،‬وال يدرى ما يقول‪.‬‬ ‫سنان الرومي ي‬
‫ٍ‬ ‫صهيب بن‬ ‫وكان‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫عمار‪ ،‬وقتل أبو جهل سمية‬
‫ٍ‬ ‫كياسر أبي‬
‫ٍ‬ ‫بعضهم تحت وطأة التعذيب‪،‬‬ ‫ومات‬
‫شهيدة في اإلسالم (‪.)1‬‬
‫ٍ‬ ‫ياسر‪ ،‬وكانت أول‬
‫ٍ‬ ‫زوجة‬
‫عم رسول هّ‬
‫الل !‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫قريش تهدّد أبا طالب َّ‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫طالب‪ ،‬فقالوا‏‪:‬‏ يا أبا طالب‪ ،‬إن ابن‬ ‫ٍ‬ ‫رجال من أشراف قريش إلى أبي‬ ‫مشى‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬ ‫ٍ‬
‫سب آلهتنا‪ ،‬وعاب ديننا‪ ،‬وسفه أحالمنا‪ ،‬وضلل آباءنا‪ ،‬فإما أن تكفه‬ ‫أخيك قد َّ‬
‫ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خالفه‪ ،‬فنكفيكه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫عليه‬ ‫نحن‬ ‫ما‬ ‫مثل‬ ‫على‬ ‫ك‬ ‫فإن‬ ‫وبينه‪،‬‬ ‫بيننا‬ ‫ي‬ ‫خل‬ ‫عنا‪ ،‬وإما أن ت‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫فقال لهم أبو طالب قواًل رقيقا‪ ،‬وردهم ردا جمياًل‪ ،‬فانصرفوا عنه‪ ،‬ومضى رسول‬
‫اهلل ! على ما هو عليه‪ ،‬يُظهر دين اهلل ويدعو إليه ‪.‬‬
‫عمله ودعوته إلى اهلل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫ولكن لم تصبر قريش طوياًل حين رأته ! ماضيا في ِ‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫بل أكثرت ذكره وتذامرت(‪)2‬فيه‪ّ ،‬‬
‫وأقسى‬ ‫طالب بأسلوب أغلظ‬‫ٍ‬ ‫فقررت مراجعة أبي‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫من السابق‪ ،‬فقالوا له‏‪:‬‏ يا أبا طالب‪ ،‬إن لك سنًا وشرفا ومنزلة فينا‪ ،‬وإنا قد‬
‫َْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫استنهيناك َ‬
‫تنه ُه عنا‪ ،‬وإنا واهلل ال نصبر على هذا من شتمِ آبائنا‪،‬‬ ‫ابن أخيك فلم َ‬
‫َّ ّ‬
‫آلهتنا‪ ،‬حتى تكفه عنا‪ ،‬أو ننازله وإيّاك في ذلك‪ ،‬حتى‬ ‫وعيب ِ‬ ‫ِ‬ ‫وتسفيه أحالمنا‪،‬‬‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‪.‬‏‬
‫يهلك أحد الفريقي ‏‬
‫َُ‬
‫فعظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد‪ ،‬فبعث إلى رسول اهلل !‬
‫قومك قد جاءوني‪ ،‬فقالوا لي كذا وكذا‪ ،‬فأبق َّ‬ ‫إن َ‬ ‫َّ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫علي وعلى‬ ‫وقال ل ‏ه ‏‪ :‬يا بن أخي‪،‬‬


‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ِّ‬
‫خاذله‪،‬‬ ‫نفسك‪ ،‬وال تحملني من األمر ما ال أطيق‪ ،‬فظن رسول اهلل ! أن عمه ِ‬ ‫ِّ‬
‫عم‪ ،‬واهلل لو وضعوا الشمس في يميني والقمر‬ ‫ل‪:‬‏‏>‏يا ِّ‬ ‫وأنه ضعف عن نصرته‪ ،‬فقا ‏‬ ‫ُ‬

‫((( انظر‪ :‬تهذيب سيرة ابن هشام‪ ،‬ص ‪.67‬‬


‫ّ‬
‫التحاض على القتال‪ ،‬أي حض بعضهم بعضا على حربه وعداوته ‪.‬‬ ‫((( التذامر‪ ،‬هو‬
‫‪36‬‬

‫ظهره اهلل أو أهلك فيه ـ ما تركته<‏‪،‬‬ ‫في يساري على أن أترك هذا األمر ـ حتى ي ُ ُ‬
‫ولى ناداه أبو طالب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫فلما أقبل قال ل ‏ه‪:‬‏ اذهب يابن‬ ‫ٍ‬ ‫ثم استعبر وبكى‪ ،‬وقام‪ ،‬فلما‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫فواهلل ال أس ِل ُمك لشي ٍء أبدا‪.‬‬ ‫أخي‪ ،‬فقل ما أحببت‪َ ،‬‬
‫ّ‬
‫ماض في عمله‪ ،‬ذهبوا إلى أبي طالب‬ ‫ٍ‬ ‫اهلل‬ ‫رسول‬ ‫أن‬ ‫ولما رأت قريش‬
‫ّ‬ ‫ُ َ ََ‬
‫!‬
‫ُ‬
‫المغيرة وقالوا له‏‪:‬‏ يا أبا طالب‪ ،‬إن هذا الفتى أنهد فتى‬ ‫ِ‬ ‫بن‬ ‫الوليد‬ ‫بن‬ ‫ة‬ ‫بعمار‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫في قريش وأجمله‪ ،‬فخذه فلك عقله ونصره‪ ،‬واتخذه ولدا فهو لك‪ ،‬وأس ِل ْم‬
‫ّ‬ ‫إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك‪ّ ،‬‬
‫وفرق جماعة قومك‪ ،‬وسفه‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫هلل لبئس ما تسومونني‪ ،‬أتعطوني‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫‪:‬‬
‫‏‬ ‫ل‬
‫‏‬ ‫فقا‬ ‫‪،‬‬ ‫برجل‬
‫ٍ‬ ‫رجل‬ ‫هو‬ ‫ما‬ ‫فإن‬ ‫ه‪،‬‬ ‫فنقتل‬ ‫أحالمهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ابنكم أغذوه لكم‪ ،‬وأعطيكم ابني تقتلونه‏؟‏ هذا واهلل ما ال يكون أبدا‏‪.‬‬
‫قريش سلوك سبيل االعتداء على الرسول !‪ ،‬وكان أبو لهب‬ ‫ٌ‬ ‫فقررت‬‫ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫امرأة أبي لهب ـ ُّ‬ ‫ُ‬
‫وتضعه في طريق‬ ‫أم جميل ـ تحمل الشوك‪،‬‬ ‫على رأسهم‪ ،‬وكانت‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الن ّ ّ‬
‫بي ! وعلى بابه ليال‪ ،‬وكانت امرأة سليطة تبسط لسانها في ذ ِّمه‪ ،‬وتثير حربًا‬
‫القرآن ّ‬ ‫ُ‬ ‫شعواءَ على الن ّ ّ‬
‫بحمالة الحطب‏‪.‬‏‬ ‫بي !؛ ولذلك وصفها‬
‫يصلي‪ ،‬وآخر يطرحها في بُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مته‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫الشاة وهو‬ ‫ِ‬ ‫رح َم‬ ‫ُوكان أحدهم يطرح عليه ! ِ‬
‫صبت له‪ ،‬وكان من مقتضيات هذه الظروف المتأزمة أن اتخذ رسول اهلل !‬ ‫إذا ن ِ‬
‫أثرهما في تسيير الدعوة‪ ،‬وهما‏‪:‬‏‬ ‫خطوتين حكيمتين كان لهما ُ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫للتربية‪.‬‏‬
‫ِ‏‬ ‫مركزا للدعوة ومق ًّرا‬ ‫ِّ‬
‫المخزومي‬ ‫اختيار دار األرقم بن أبي األرقم‬ ‫‪1 .1‬‬
‫أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة‏‪.‬‏‬ ‫‪ُ 2 .2‬‬

‫اجتماع املسلمني برسول هّ‬


‫الل ! يف دار األرقم‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ومجالسهم‪ ،‬فاختارها‬
‫ِِّ‬ ‫قريش‬ ‫أعين‬ ‫عن‬ ‫بعيدة‬ ‫الدار في أصل الصفا‪،‬‬ ‫كانت هذه‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫الرسول ! ليجتمع فيها بالمسلمين ًّ‬
‫سرا‪ ،‬فيتلو عليهم آياتِ اهلل‪ ،‬ويزكيهم ويعلمهم‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وليؤدي المسلمون عبادتهم وأعمالهم‪ ،‬ويتلقوا ما أنزل اهلل‬ ‫الكتاب والحكمة؛‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أمن وسالم‪ ،‬وليدخل من يدخل في اإلسالم‪ ،‬وال يعلم به‬ ‫على رسوله‪ ،‬وهم في ٍ‬
‫ٍ‬
‫‪37‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫والنقمة(‪ )1‬‏‪.‬‬
‫ِ‬ ‫السطوة‬
‫ِ‬ ‫الطغاة من أصحاب‬
‫اهلجرة إىل احلبشة‪ ،‬ومالحقة املشركني للمهاجرين‪:‬‬
‫ُ‬
‫كانت بداية االعتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة‪ ،‬بدأت‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫ضعيفة‪ ،‬ثم لم تزل تشتد حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة‪ ،‬فنزلت سورة‬
‫ً ذَّ َ َ ۡ َ ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة‪ ،‬وتعلن بأن أرض اهلل ليست ضيقة ﴿ل ِلِين أحسنوا‬
‫ون أَ ۡج َر ُهم ب َغ رۡي حِسَ‬ ‫ُّ ۡ َ َ َ َ ‪ ُ َ َ ٞ‬هَّ َ ٰ َ ٌ َّ َ ُ َ ىَّ َّ ٰ ُ َ‬
‫اب﴾ [‏ا �ل�ز �مر‏‪:‬‏‪]10‬‏‏‪.‬‏‬
‫َ‬
‫ٖ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يِف هٰ ِذه ِ ٱدلنيا حسنة ۗوأۡرض ٱللِ وسِعة ۗإِنما يوف ٱلص رِب‬
‫فرارا بدينهم‪ ،‬وفي رمضان‬ ‫فأمر الرسول ! المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ً‬
‫كبير من قريش‪ ،‬فقرأ سورة‬ ‫جمع ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫بي ! إلى الحرم‪ ،‬وفيه‬ ‫من نفس السنة خرج الن ّ ّ‬
‫ٍ‬
‫تعالى‪ْۤ﴿ :‬اوُدُجۡسٱَف ِۤهَّلِل َوٱع ُب ُدوا۩﴾‏ ‏[‏ا �لن�����ج����م‏‪:‬‏‪62‬‏]‏ ثم سجد‪ ،‬فلم يتمالك‬
‫ۡ ْ‬
‫ٰ‬ ‫النجم حتى قوله‬
‫ً‬ ‫أحد نفسه حتى َّ‬ ‫ٌ‬
‫خر ساجدا‏ (‪.)2‬‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫وبلغ الخبر إلى مهاجري الحبشة‪ ،‬بأن قريشا أسلمت‪ ،‬فرجعوا إلى مكة‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫نهار‪ ،‬وعرفوا جليَّة‬ ‫ٍ‬ ‫من‬ ‫ساعة‬ ‫مكة‬ ‫دون‬ ‫شوال من السنة نفسها‪ ،‬فلما كانوا‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫ٌ‬
‫األمر‪ ،‬رجع منهم من رجع إلى الحبشة‪ ،‬ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رجل من قريش‪ ،‬‏واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مستخفيا‪ ،‬أو في جوار‬
‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫ً‬
‫تسع عشرة امرأة‏‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثالثة وثمانون رجاًل‪ ،‬وثَ َماني عشرة أو َ‬ ‫فهاجر من الرجال‬
‫قريش عمرو بن العاص‪ ،‬وعبد اهلل بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ‬ ‫ٌ‬ ‫‏أرسلت‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫للنجاشي ولبطارقته‪ ،‬وبعد أن ساق الرجالن تلك‬ ‫وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة‬
‫ُ‬ ‫الهدايا إلى البطارقة‪َّ ،‬‬
‫وزودوهما بالحجج التي يُطرد بها أولئك المسلمون‪ ،‬وبعد‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬


‫النجاشي‪،‬‬ ‫النجاشي بإقصائهم‪ ،‬حضرا إلى‬ ‫أن اتفقا مع البطارقة أن يشيروا على‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وقدما له الهدايا ثم كلماه ‪.‬‬

‫((( سيرة ابن إسحاق‪.‬‬


‫((( انظر‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4862‬حديث رقم (‪.)4863‬‬
‫‪38‬‬

‫ٌ‬
‫ض َوى إلى بلدك غلمان سفهاء‪ ،‬فارقوا دين‬ ‫فقاال له‏‪ :‬أيها الملك‪ ،‬إنّه قد َ‬
‫قومهم‪ ،‬ولم يدخلوا في دينك‪ ،‬وجاءوا بدين ابتدعوه‪ ،‬ال نعرفه نحن وال أنت‪،‬‬
‫َّ‬
‫وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم‬
‫أعلى بهم عينًا‪ ،‬وأعلم بما عابوا عليهم‪ ،‬وعاتبوهم فيه‏‪.‬‬ ‫ٰ‬ ‫إليهم‪ ،‬فهم‬
‫ُّ‬
‫فأسل ْمهم إليهما‪ ،‬فليرداهم إلى قومهم‬
‫ِ‬ ‫الملك‪،‬‬ ‫ها‬ ‫وقالت البطارقة‏ ‏‪ :‬صدقا أي‬
‫وبالده ‏م‪.‬‏‬
‫فأرسل إلى المسلمين ودعاهم‪ ،‬فحضروا‪ ،‬وكانوا قد أجمعوا على الصدق‬
‫ُّ‬
‫النجاشي‪:‬‏ ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم‪،‬‬ ‫كائنًا ما كان‏‪ ،‬فقال لهم‬
‫ل؟‏‬
‫أحد من هذه المل ‏‬
‫ولم تدخلوا به في ديني وال دين ٍ‬
‫قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين ـ‪:‬‏‬
‫جاهلية؛ نعبد األصنام ونأكل الميتة‪ ،‬ونأتي الفواحش‪،‬‬ ‫أيها الملك كنّا ً‬
‫قوما أهل‬
‫ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫القوي الضعيف ‪.‬‬ ‫األرحام‪ ،‬ونسيء ُ الجوار‪ ،‬ويأكل منا‬ ‫ونقطع‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫فكنّا على ذلك حتى بعث اهلل إلينا رسواًل منّا‪ ،‬نعرف َ‬
‫نس َبه وصدقه وأمانته‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ َ‬
‫وعفافه‪ ،‬فدعانا إلى اهلل لنوحده ونعبده‪ ،‬ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه‬
‫من الحجارة واألوثان ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫والكف‬ ‫وأمرنا بصدق الحديث‪ ،‬وأداء األمانة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وحسن الجوار‪،‬‬ ‫َ‬
‫عن المحارم والدماء‪ ،‬ونهانا عن الفواحش‪ ،‬وقول الزور‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وقذف‬
‫ً‬
‫المحصنات‪ ،‬وأمرنا أن نعبد اهلل وحده‪،‬ال نشرك به شيئا ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫بالصالة َّ‬
‫َّ‬
‫والصيام ـ فعدد عليه أمور اإلسالم ـ فصدقناه‪ ،‬وآمنا‬ ‫والزكاة‬ ‫وأمرنا‬
‫به‪ ،‬واتبعناه على ما جاءنا به من دين اهلل ‪.‬‬
‫وحرمنا ما ّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫حرم علينا‪ ،‬وأحللنا‬ ‫فعبدنا اهلل وحده‪ ،‬فلم نشرك به شيئا‪،‬‬
‫َّ‬
‫أحل لنا‪ ،‬فعدا علينا قومنا‪ ،‬فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ُّ‬
‫ليردونا إلى عبادة األوثان‬ ‫ما‬
‫‪39‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫من عبادة اهلل تعالى‪ ،‬وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ‪.‬‬
‫ّ‬
‫فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا‪ ،‬وحالوا بيننا وبين ديننا‪ ،‬خرجنا إلى‬
‫ُ‬
‫بالدك‪ ،‬واخترناك على من سواك‪ ،‬ورغبنا في جوارك‪ ،‬ورجونا أاّل نظلم عندك‬
‫أيها الملك ‪.‬‬
‫جعفر ‏‪ :‬نعم‏‪.‬‏‬‫ٌ‏‬ ‫النجاشي‪:‬‏ هل معك مما جاء به عن اهلل من شيء‏؟‏ فقال له‬ ‫ُّ‏‬ ‫فقال له‬
‫علي‪.‬‬‫النجاشي ‏‪ :‬فاقرأه ّ‬‫ُّ‏‬ ‫فقال له‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬
‫النجاشي حتى اخضلت لحيته‪،‬‬ ‫فقرأ عليه صدرا من‏ ‏‪﴿ :‬كهيعص﴾ فبكى وا ِ‬
‫هلل‬ ‫ٓ ٓ ٓ‬
‫ّ‬
‫وبكى أساقفته حتى ابتلت صحفهم بالدموع‪ ،‬حين سمعوا ما تال عليهم ‪.‬‬ ‫ٰ‬
‫ُّ َّ‬
‫واحدة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مشكاة‬
‫ٍ‬ ‫النجاشي ‏‪ :‬إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من‬ ‫‏‬ ‫ثم قال لهم‬
‫انطلقا‪ ،‬فال واهلل ال أسلمهم إليكما‪ ،‬وال يُكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص‬
‫وصاحبه ـ فخرجا ‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد اهلل بن أبي ربيعة‏‪:‬‏ واهلل آلتينه غدا عنهم‬
‫ً‬
‫أرحاما‬ ‫بما أستأصل به خضراءهم‏ ‏‪ .‬فقال له عبد اهلل بن أبي ربيع ‏ة‪:‬‏ ال تفعل‪ ،‬فإن لهم‬
‫َّ‬
‫أصر على رأيه‏‪.‬‏‬ ‫مرا‬ ‫وإن كانوا قد خالفونا‪ ،‬ولكن عَ ً‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ابن مريم‬ ‫ِ‬ ‫للنجاشي‪:‬‏ أيّها الملك‪ ،‬إنهم يقولون في عيسى‬ ‫ُّ‬ ‫فلما كان الغد قال‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬
‫النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا‪ ،‬ولكنهم‬ ‫عظيما‪ ،‬فأرسل إليهم‬ ‫قواًل‬
‫فلما دخلوا عليه وسألهم‪ ،‬قال له‬ ‫أجمعوا على الصدق‪ ،‬كائنًا ما كانت النتيجة‪ّ ،‬‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫جعفر ‏‪ :‬نقول فيه الذي جاءنا به نبيّنا !‪ :‬هو عبد اهلل ورسوله وروحه وكلمته ألقاها‬ ‫ٌ‬
‫َُ‬ ‫َ‬
‫البتول‪.‬‬ ‫مريم العذرا ِء‬ ‫إلى‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ ً‬
‫النجاشي عودا من األرض ثم قال‏ ‏‪ :‬واهلل ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا‬ ‫فأخذ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‪:‬‏ اذهبوا فأنتم اآلمنون بأرضي‪ ،‬من سبَّكم غ ِرم ـ ثالثا ـ‪،‬‬ ‫العود‪ ،‬ثم قال للمسلمي ‏‬
‫ّ‬ ‫ُّ ّ‬
‫ذهب وإني آذيت رجاًل منكم ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫من‬ ‫جباًل‬ ‫لي‬ ‫أن‬ ‫ما أحب‬
‫‪40‬‬

‫َ‬
‫حاجة لي بها‪ ،‬فواهلل ما أخذ اهللُ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ثم قال لحاشيته‏‪:‬‏ ُردوا عليهما هداياهما‪ ،‬فال‬
‫َ‬
‫الرشوة فيه‪ ،‬وما أطاع النّاس ّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫َ‬
‫فأطيعهم‬ ‫في‪،‬‬ ‫علي ُملكي‪ ،‬فآخذ‬‫رد َّ‬ ‫منِّي رشـوة حين‬
‫فيه‏‪.‬‏‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫بقية‬
‫ولما أخفق المشركون في مكيدتهم‪ ،‬اشتدت ضراوتهم وانقضوا على ِ‬
‫ّ‬
‫المسلمين‪ ،‬ومدوا أيديهم إلى رسول اهلل ! بالسوء ‪.‬‬
‫وخالل هذا الجو الملبّد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق‪ ،‬وهو‬
‫إسالم حمزة بن عبد المطلب‪ ،‬في أواخر السنة السادسة من النبوة‪ ،‬وعمر بن‬
‫الخطاب ‪. R‬‬
‫فغيّر المشركون تفكيرهم في تعاملهم مع الن ّ ّ‬
‫بي ! والمؤمنين‪ ،‬واختاروا‬
‫أسلوب المساوماتِ وتقديم الرغائب والمغريات ‪.‬‬
‫بي ! وعرض عليه المال‪ ،‬والسيادة‪،‬‬‫قريش عتبة بن ربيعة إلى الن ّ ّ‬
‫ٌ‬ ‫فقد أرسلت‬
‫ً‬
‫مريضا! ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫والملك أو المعالجة إن كان‬
‫َ ‪ٞ‬‬
‫يل ّم َِن َّ‬
‫ٱلرِنَٰمۡح‬ ‫زن‬ ‫حم ‪ ١‬ت‬ ‫فلما فرغ قرأ رسول اهلل !‪ :‬بسم اهلل الرحمن الرحيم ﴿ ٓ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫َ ٗ ََ ٗ ََ ۡ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫ُ ً‬ ‫َٰ ‪َ ۡ َ ّ ُ ٞ‬‬
‫ِيرا فأع َرض‬ ‫ت َءاي ٰ ُت ُهۥ ق ۡر َءانا َع َرب ِ ّيا ل ِق ۡو ٖم َي ۡعل ُمون ‪ ٣‬بشِ ريا ونذ‬ ‫ٱلرحِي ِم ‪ ٢‬كِتب ف ِصل‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ ۡ رَ ُ ُ ۡ َ ُ ۡ اَ َ ۡ َ ُ َ‬
‫ك َّن ٖة ّم َِّما تَ ۡد ُعونا إ ِ ۡلهِ﴾‏[‏ ف����ص�ل��ت‏‪-1 :‬‏ ‪5‬‏]‪.‬‏‬
‫َ ٓ يَ‬ ‫ون ‪َ ٤‬وقَالُوا ْ قُلُ ُ‬
‫وب َنا يِ ٓ‬
‫فأ ِ‬ ‫أكثهم فهم ل يسمع‬
‫ُ‬
‫(‪ )1‬‏‪.‬‬
‫ثم مضى رسول اهلل ! فيها‪ ،‬يقرؤها عليه ‏‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫فلما سمعها منه عتبة أنصت له‪ ،‬وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما‪،‬‬
‫ل‪:‬‏ >‏قد سمعت‬ ‫ُ‬
‫يسمع منه‪ ،‬ثم انتهى رسول اهلل ! إلى السجدة منها فسجد‪ ،‬ثم قا ‏‬
‫يا أبا الوليد ما سمعت‪ ،‬فأنت وذاك<(‪.)2‬‬

‫((( سيرة ابن إسحاق‪.‬‬


‫((( تهذيب سيرة ابن هشام ص ‪ ،61‬ط سادسة ‪ -‬مطبعة السنة ‪ -‬القاهرة ‪.1989-1409‬‬
‫‪41‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫حصار بين هاشم يف الشعب (املقاطعة العامة)‪:‬‬


‫بي !‪ ،‬فاجتمعت قريش وأجمعوا أمرهم‬ ‫دعا أبو طالب أقاربه لنصرة الن ّ ّ‬
‫على أن ال يجالسوهم‪ ،‬وال يبايعوهم‪ ،‬وال يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول اهلل‬
‫! للقتل‪ ،‬وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق‪:‬‬
‫ً ً‬
‫أن ال يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا‪ ،‬وال تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه‬
‫للقتل ‪.‬‬
‫ّ‬
‫فأمرهم أبو طالب أن يدخلوا شعبه‪ ،‬فلبثوا فيه ثالث سنين‪ ،‬واشتد عليهم‬
‫بيعا إال بادروا‬ ‫ً‬
‫طعاما يدخل مكة‪ ،‬وال ً‬ ‫البالء‪ ،‬وقطعوا عنهم األسواق‪ ،‬فال يتركون‬
‫فاشتروه‪ ،‬ومنعوه أن يصل شي ٍء منه إلى بني هاشم حتى كان يسمع أصوات نسائهم‬
‫ّ‬
‫واشتدوا على من أسلم‪ّ ،‬‬
‫ممن لم يدخل‬ ‫يتضاغون من وراء الشعب من الجوع‪،‬‬
‫ً‬
‫الشعب‪ ،‬فأوثقوهم وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزااًل شديدا‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك مشى هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي‪ ،‬وكان يصل بني هاشم‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫في الشعب خفية بالليل بالطعام ـ مشى إلى زهير بن أبي أمية المخزومي ـ وانضم‬
‫عدي‪ ،‬وتعاقدوا‬‫ّ‬ ‫البختري بن هشام‪ ،‬وزمعة بن األسود‪ ،‬والمطعم بن‬ ‫ّ‬ ‫إليهما أبو‬
‫بنقض الصحيفة ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫على القيام‬
‫وبعث اهلل على صحيفتهم األرضة فأكلت ما فيها إال ذكر اهلل سبحانه‪ ،‬فذكر‬
‫ّ‬
‫لعمه‪ ،‬فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قال كذا وكذا‪ ،‬فإن كان كاذبًا‬ ‫ذلك ِّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫خلينا بينكم وبينَه‪ ،‬وإن كان صادقا رجعتم عن قطعيتنا‪ ،‬فوافقوا‪ ،‬ففتحوا الصحيفة‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫سحر من صاحبكم‪ ،‬فارتكسوا وعادوا إلى شر ما‬ ‫ٌ‬ ‫فوجدوها كما أخبر‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا‬
‫هم عليه‪ ،‬وخرج رسول اهلل ومن معه من الشعب (‪.)1‬‬

‫((( سيرة ابن إسحاق‪.‬‬


‫‪42‬‬

‫عام احلزن‪:‬‬
‫ّ‬
‫النبوة‪ ،‬بعد‬ ‫طالب‪ ،‬فكانت وفاته في رجب سنة عشر من‬ ‫ّ‬
‫ألم المرض بأبي‬
‫ٍ‬
‫الخروج من الشعب بستة أشه ‏ر‪،‬‏ وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين توفيت أم‬
‫المؤمنين خديجة ‪ ،I‬وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من ّ‬
‫النبوة‪،‬‬
‫ٌ‬
‫خمس وستون سنة‪ ،‬ورسول اهلل ! إذ ذاك في الخمسين من عمره ‪.‬‬ ‫ولها‬
‫ّ‬
‫وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خالل أيّام معدودة‪ ،‬فاهتزت مشاعر الحزن‬
‫واأللم في قلب رسول اهلل !‪ ،‬ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه ‪.‬‬
‫فخرج إلى الطائف رجـاء أن يستجيبوا لدعوته‪ ،‬أو يؤووه وينصـروه على قومه‪،‬‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫األذى‪ ،‬ونالوا منه ما لم ينله قومه منه‏‪.‬‬ ‫ناصرا‪ ،‬بل آذوه أشد‬ ‫فلم ير من يؤويه ولم ير‬
‫ّ‬ ‫وفي شوال من هذه السنة (سنة ‪ 10‬من ّ‬
‫النبوة) تزوج الرسول ! سودة بنت‬
‫ً‬
‫قديما‪ ،‬وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة‪.‬‬ ‫زمعة‪ ،‬وكانت ممن أسلم‬
‫املرحلة الثالثة‪ :‬الدعوة إىل هّ‬
‫الل سبحانه وتعاىل خـارج مكـة‪:‬‬
‫بي ! إلى الطائف‪ ،‬وهي تبعد عن مكة‬ ‫النبوة ‏خرج الن ّ ُّ‬
‫في شوال سنة عشر من ّ‬
‫ً‬
‫ماشيا على قدميه جيئة وذهابًا‪ ،‬ومعه مواله زيد بن حارثة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نحو ستين ميال‪ ،‬سارها‬
‫ٌ‬
‫وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى اإلسالم‪ ،‬فلم تجبه واحدة منه‏ا‪.‬‏‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫وأقام الن ّ ُّ‬
‫بي ! بين أهل الطائف عشرة أيام‪ ،‬ال يدع أحدا من أشرافهم إال جاءه‬
‫َّ‬
‫وكلمه‪ ،‬فقالوا‏‪:‬‏ اخرج من بالدنا‪ ،‬وأغروا به سفهاءهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبُّونه ويصيحون به‪ ،‬حتى اجتمع‬
‫سفيهة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫عليه الناس‪ ،‬فوقفوا له‏صفين‏‏ وجعلوا يرمونه بالحجارة‪ ،‬ويسبُّونه بكلمات‬
‫ورجموا عراقيبه‪ ،‬حتى اختضب نعاله بالدماء (‪.)1‬‏‬

‫((( سيرة ابن إسحاق‪.‬‬


‫‪43‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫َ ٌ‬
‫وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه ِشجاج في رأسه‪ ،‬ولم يزل به‬
‫أميال من‬ ‫ٍ‬ ‫حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة‪ ،‬على ثالثة‬ ‫ٍ‬ ‫السفهاء كذلك حتى ألجؤوه إلى‬
‫فلما التجأ إليه رجعوا عنه‪.‬‬ ‫الطائف‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫َُْ‬
‫جدار‏‪ ،‬ودعا‬ ‫إلى‬ ‫ها‬ ‫ظل‬ ‫تحت‬ ‫فجلس‬ ‫عنب‪،‬‬ ‫من‬ ‫ة‬
‫وأتى الرسول ! إلى حب ٍ‬
‫ل‬ ‫ٰ‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫قائال‪> :‬‬
‫ّ‬
‫ض ْعف ق َّو ِتي‪ ،‬وقلة حيلتي‪ ،‬وهواني على الناس‪،‬‬ ‫‏اللهم إليك أشكو َ‬
‫َ ُ‬
‫رب المستضعفين‪ ،‬وأنت ربّي‪ ،‬إلى من ت ِكلنى‏ ‏؟ إلى بعيد‬ ‫يا أرحم الراحمين‪ ،‬أنت ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫َ َ‬
‫علي غضب فال أبالي‪ ،‬ولكن‬ ‫ملكته أمري‏؟‏ إن لم يكن بك ّ‬ ‫يَتجهَّ ُم ِنى‏؟‏ أم إلى عدو‬
‫عافيتك هي أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه‬
‫ُْ‬ ‫َُ‬
‫العت َب ٰى‬ ‫علي َسخطك‪ ،‬لك‬ ‫ّ‬
‫أمر الدنيا واآلخرة‪ ،‬من أن تنزل بي غضبك‪ ،‬أو يحلَّ َّ‬
‫ترضى‪ ،‬وال حول وال قوة إال بك<(‪.)1‬‬ ‫ٰ‬ ‫حتى‬
‫نصرانيا يقال ل ‏ه‪:‬‏‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫غالما لهما‬ ‫فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما‪ ،‬فدعَوا‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫عَداس‪ ،‬وقاال له‏‪:‬‏خذ ِقطفا من هذا العنب‪ ،‬واذهب به إلى هذا الرجل‏‪.‬‬
‫مد يده إليه قائاًل‏‪:‬‏‏>‏باسم اهلل<‏ ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫ثم أكل‏‪ ،‬فقال‬ ‫فلما وضعه بين يدي الرسول !‬
‫ّ‬
‫أي البالد‬ ‫!‪:‬‏ >من ِّ‬ ‫س‪:‬‏ إن هذا الكالم ما يقوله أهل هذه البالد‪ .‬فقال له الرسول ‏‬ ‫عدا ‏‬
‫نصراني من أهل ِنينَ َوى‏‪.‬‏ فقال رسول اهلل !‏‪:‬‏ >من قرية‬ ‫ٌّ‬ ‫ل‪:‬‏ أنا‬
‫ك؟‏< قا ‏‬
‫ت؟‏ وما دين ‏‬ ‫أن ‏‬
‫َّ‬
‫الرجل الصالح يونس بن َم َّتى‏<‏‏‪.‬‏ قال له‏‪:‬‏ وما يدريك ما يونس بن متى‏؟‏‬
‫نبي<‏‪.‬‬
‫قال الرسول !‏‪:‬‏‏>‏ذاك أخي‪ ،‬كان نبيًّا وأنا ّ‬

‫عداس على رأس الرسول ! ويديه ورجليه يقبّلها‏‪ .‬ورجع الرسول‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫فأكب‬
‫َ ُ‬ ‫ً‬
‫! إلى مكة محزونا‪ ،‬فبعث اهلل إليه جبريل ومعه َملك الجبال‪ ،‬يستأمره أن يطبق‬
‫بي !‪ :‬بل أرجو أن يخرج اهلل عز وجل من‬ ‫األخشبين على أهل مكة‏‪ ،‬فقال الن ّ ّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫أصالبهم من يعبد اهلل عز وجل وحده ال يشرك به شيئا‏‪.‬‏‬

‫((( تهذيب سيرة ابن هشام‪ ،‬ص ‪.89‬‬


‫‪44‬‬

‫وفي ذي القعدة سنة عشر من البعثة عاد الرسول ! إلى مكة؛ ليستأنف‬
‫ممن ي ُ ّ‬
‫سمى من القبائل‪ :‬بنو عامر بن‬ ‫عرض اإلسالم على القبائل واألفراد‪ ،‬وكان ّ‬
‫َ ََ‬ ‫ُ َ‬ ‫ص ْع َ‬
‫َ‬
‫صفة‪ ،‬وفزارة‪ ،‬وغسان‪ ،‬ومرة‪ ،‬وحنيفة‪ ،‬وسليم‪،‬‬ ‫ومح ِارب بن خ‬ ‫ص َعة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َ َّ‬
‫البكاء‪ ،‬وكندة‪ ،‬وكلب‪ ،‬والحارث بن كعب‪ ،‬وعُذ َرة‪،‬‬ ‫وعَ ْبس‪ ،‬وبنو نصر‪ ،‬وبنو‬
‫والحضارمة‪ ،‬فلم يستجب منهم أحد‏ ‏‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفي شوال من هذه السنة ـ سنة ‪ 11‬من النبوة ـ تزوج الرسول ! عائشة‬
‫ٰ‬
‫األولى‬ ‫الصديقة ‪ I‬وهي بنت ست سنين‪ ،‬وبني بها بالمدينة في شوال في السنة‬
‫من الهجرة وهي بنت تسع سنين(‪.)1‬‬
‫اإلســراء واملعــراج‪:‬‬
‫أُسري بالرسول ! إلى بيت المقدس ً‬
‫راكبا على البراق‪ ،‬صحبة جبريل عليه السالم‪،‬‬
‫َ‬
‫إماما عُرج به إلى السماء الدنيا‪ ،‬فرأى فيها آدم ورأى أرواح‬
‫وبعد أن صلى باألنبياء ً‬
‫السعدا ِء عن يمينه واألشقيا ِء عن شماله‪.‬‬
‫ثم عُرج به إلى السماء الثانية‪ ،‬فرأى فيها عيسى ويحيى‪ ،‬عليهما السالم‪ ،‬ثم‬
‫عرج به إلى السماء الثالثة فرأى فيها يوسف عليه السالم‪ ،‬ثم عرج به إلى السماء‬
‫الرابعة فرأى فيها إدريس عليه السالم‪ ،‬ثم عُرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها‬
‫هارون عليه السالم‪ ،‬ثم عرج به إلى السماء السادسة فرأى فيها موسى عليه السالم‪.‬‬
‫ً‬
‫غالما بعث بعدي يدخل‬ ‫فلما جاوزه بكى‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما يبكيك؟ قال‪ :‬أبكي أن‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي‪.‬‬
‫ثم عُرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم‪ ،‬ثم عُرج به إلى سدرة المنتهى‪.‬‬
‫ثم رفع إلى البيت المعمور فرأى هناك جبريل في صورته‪ ،‬له ستمائة جناح‪ ،‬قال‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫ه﴾ [ا �لن�����ج����م‪،)2( ]14-13 :‬‬ ‫ِند س ِۡد َرة ِ ٱل ۡ ُم َ‬
‫نت ىَ ٰ‬ ‫اهلل سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َق ۡد َر َءاهُ نَ ۡزلَ ًة أ ۡخ َر ٰ‬
‫ى ‪ ١٣‬ع َ‬

‫((( انظر‪ :‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪174‬و ‪) 175‬‬ ‫ ‬


‫((( ‪.‬سيرة ابن إسحاق‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫وكلمه ربُّه وفرض عليه ّ‬


‫الصالة‪ ،‬فكانت ّ‬
‫قرة عين الرسول !‪.‬‬ ‫َّ‬

‫فما أصبح الصباح إال ورسول اهلل ! في مكة بين قومه‪ ،‬يخبرهم بأنه‬
‫ُ‬
‫قد أسري به إلى بيت المقدس‪ ،‬وعُ ِرج به إلى السماء‪ ،‬فاشتد تكذيبهم له‪،‬‬
‫وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجاّله اهلل له حتى عاينه‪ ،‬وجعل ي ُ ُ‬
‫خبرهم به‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وال يستطيعون أن يردوا عليه شيئا(‪ ،)1‬وأخبرهم بما رأى عن عيرهم التي رآها‬
‫قدومها‪ ،‬وعن البعير الذي يقدمها‪ ،‬فكان كما‬ ‫ِ‬ ‫في مسراه ومرجعه‪ ،‬وعن وقت‬
‫قال‪ ،‬فلم يزدهم ذلك إال ً‬
‫ثبورا (‪.)2‬‬

‫بيعة العقبة األوىل‪:‬‬


‫ُّ‬
‫نفر من األنصار‪ ،‬كلهم من‬ ‫لقي الرسول ! في الموسم عند العقبة‪ :‬ستة ٍ‬
‫رئاب السلمي‪ ،‬فدعاهم إلى‬‫ٍ‬ ‫الخزرج‪ ،‬منهم أسعد بن زرارة‪ ،‬وجابر بن عبد اهلل بن‬
‫اإلسالم فأسلموا‪ ،‬ثم رجعوا إلى المدينة‪ ،‬فدعوا إلى اإلسالم حتى انتشر اإلسالم‬
‫فيها‪ ،‬ولم تبق ٌ‬
‫دار إال دخلها (‪.)3‬‬
‫فلما كان العام المقبل‪ :‬جاء منهم اثنا عشر رجاًل ـ الستة األ ُ َو ُل خال ً‬
‫جابرا ـ ومعهم‪:‬‬ ‫ّ‬
‫التيهان وغيرهم ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫عبادة بن الصامت‪ ،‬وأبو الهيثم بن‬
‫ّ‬
‫وكان الستة األولون قد قالوا له لما أسلموا ـ إن بين قومنا من العداوة والشر‬
‫ما بينهم‪ ،‬وعسى اهلل أن يجمعهم بك‪ ،‬وسندعوهم إلى أمرك‪ ،‬فإن يجمعهم اهلل‬
‫عليك فال رجل ُّ‬
‫أعز منك(‪.)4‬‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫((( انظر‪ :‬تهذيب سيرة ابن هشام ص ‪84‬‬


‫((( سيرة ابن هشام‪ ،‬وانظر‪ :‬صحيح البخاري ‪ -‬الحديث رقم (‪ ،) 3887‬وصحيح مسلم الحديث رقم‬
‫(‪162‬و‪. )164‬‬
‫((( عماد الدين خليل دراسة في السيرة ص ‪.163‬‬
‫((( سيرة ابن إسحاق‪.‬‬
‫‪46‬‬

‫فلما انصرفوا بعث معهم الرسول ! مصعب بن عمير‪ ،‬وأمره أن يقرئهم‬


‫ّ‬
‫القرآن‪ ،‬ويعلمهم اإلسالم‪.‬‬
‫بيعة العقبة الثانية‪:‬‬
‫ّ‬
‫في موسم الحج‪ ،‬في السنة الثالثة عشرة من النبوة‪ ،‬حضر ألداء مناسك الحج‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫قومهم‬
‫بضع وسبعون نفسا من المسلمين من أهل يثرب‪ ،‬جاءوا ضمن حجاج ِ‬
‫من المشركين‪ ،‬وقد تساءل هؤالء المسلمون فيما بينهم ـ وهم لم يزالوا في يثرب‪ ،‬أو‬
‫كانوا في الطريق ـ‏‪:‬‏ حتى متى نترك رسول اهلل !‪ ،‬يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف‏؟‏‪.‬‬
‫َّ‬
‫سرية‪ ،‬أدت إلى اتفاق‬‫بي ! اتصاالت ِّ‬ ‫فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين الن ّ ِّ‬
‫ّ‬
‫أيام التشريق‪ ،‬في الشعب الذي عند العقبة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الفريقين‪ :‬على أن يجتمعوا في أوسط‬
‫سرية َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫تامة في ظالم الليل‏‪.‬‬ ‫منى‪ ،‬وأن يتم االجتماع في ِّ ٍ‬
‫قرب الجمرة األولى من ٰ‬

‫يقول كعب بن مالك األنصاري ‪K‬‏‪:‬‏ خرجنا إلى الحج‪ ،‬وواعدنا رسول‬
‫الحج‪ ،‬وكانت الليلة‬‫ِّ‬ ‫اهلل ! بالعقبة من أوسط أيام التشريق‪ ،‬فلما فرغنا من‬
‫َ‬
‫التي وعدنا فيها رسول اهلل ! بلقياه‪ ،‬ومعنا عبد اهلل بن عمرو بن ح َرام أبو جابر‪،‬‬
‫ٍ‬
‫سيِّد من ساداتنا‪ ،‬وشريف من أشرافنا‪ ،‬أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا‬
‫من المشركين أمرنا ـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فكلمناه وقلنا له‏‪:‬‏ يا أبا جابر‪ ،‬إنّك سيّ‬
‫ّ‬
‫أشرافنا‪ ،‬وإنا‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫وشريف‬ ‫ساداتنا‪،‬‬ ‫من‬ ‫د‬
‫ً‬ ‫نرغب بك عما أنت فيه أن تكون ً‬
‫حطبا للنار غد‏ا‪.‬‏ ثم دعوناه إلى اإلسالم‪ ،‬وأخبرناه‬
‫بميعاد رسول اهلل ! إيّانا العقبة‪ ،‬قال‏‪:‬‏ فأسلم وشهد معنا العقبة‪ ،‬وكان ً‬
‫نقيبا‏‪.‬‬
‫قال كعب‏ ‏‪ :‬فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا‪ ،‬حتى إذا مضى ثلث الليل‪،‬‬
‫ََ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خرجنا من رحالنا لميعاد رسول اهلل !‪ ،‬نتسلل تسلل القطا مستخفين‪ ،‬حتى‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫اجتمعنا في الش ْعب عند العقبة‪ ،‬ونحن ثالثة وسبعون رجاًل‪ ،‬وامرأتان من نسائنا؛‬
‫ُ‬
‫ن َس ْي َبة بنت كعب ـ أم عُ َمارة ـ من بني مازن بن النجار‪ ،‬وأسماء بنت عمرو ـ أم‬
‫منيع ـ من بني سلم ‏ة ‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول اهلل ! حتى جاءنا‪ ،‬ومعه ّ‬


‫عمه‏ ‏‪ :‬العباس بن‬
‫ّ‬
‫ابن أخيه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أمر‬ ‫يحضر‬ ‫أن‬ ‫أحب‬ ‫ه‬ ‫عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إال أن‬
‫َّ‬
‫ويتوثق له‪ ،‬وبايعوه !‪:‬‬
‫ل‪.‬‏‬
‫‪P P‬على السمع والطاعة في النشاط والكس ‏‬
‫‪P P‬وعلى النفقة في العسر واليس ‏ر‪.‬‏‬
‫‪P P‬وعلى األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏‪.‬‏‬
‫‪P P‬وعلى أن يقوموا في اهلل‪ ،‬ال تأخذهم في اهلل لومة الئم‏‪.‬‏‬
‫بي ! إذا قدم إليهم‪ ،‬ويمنعوه ّ‬
‫مما يمنعون منه أنفسهم‬ ‫‪P P‬وعلى أن ينصروا الن ّ ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫وأزواجهم وأبناءهم‪ ،‬ولهم الجنة (‪.)1‬‏‬
‫أمر ُهم رسول اهلل ! أن يختاروا من بينهم اثني عشر ً‬
‫نقيبا‬ ‫وبعد أن تمت البيعة َ‬
‫(زعيما) يكونون كفالء عن قومهم في تنفيذ بنود البيعة‪َّ ،‬‬
‫فتم اختيار تسعة رجال من‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫وثالثة من األوس‏ ‏‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الخزرج‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫((( عماد الدين خليل‪ :‬دراسة في السيرة ص ‪.164‬‬


‫‪48‬‬

‫المبحث‬
‫الثــالث‬
‫بي ‪ Z‬إلى المدينة‬ ‫هجـرة ّ‬
‫الن ّ‬

‫طالئع اهلجرة‪:‬‬
‫ّ‬
‫وأذن رسول اهلل ! للمسلمين في الهجرة إلى المدينة فبادروا إليها‪ ،‬وأول‬
‫ّ‬ ‫من خرج‪ :‬أبو سلمة بن عبد األسد وزوجته ُّ‬
‫أم سلمة‪ ،‬ولكنها حبست عنه سنة‪،‬‬
‫وحيل بينها وبين ولدها‪ ،‬ثم خرجت بعد هي وولدها إلى المدينة ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫بعضا‪ ،‬ولم يبق منهم بمكة أحد إال رسول اهلل‬ ‫ثم خرجوا أرسااًل يتبع بعضهم‬
‫َّ‬ ‫! وأبو بكر وعلي‪ ،‬أقاما بأمر رسول اهلل ! ومن احتبسه المشركون ً‬
‫كرها‪ ،‬وأعد‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫رسول اهلل ! جهازه ينتظر متى يُؤمر بالخروج‪ ،‬وأعد أبو بكر جهازه (‪.)1‬‬
‫هجـرة ال ّن ّ‬
‫يب !‪:‬‬
‫لما رأى المشركون أصحاب رسول اهلل ! قد تجهزوا وخرجوا بأهلهم‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫حلقة وبأس‪ ،‬فخافوا خروج‬ ‫ٍ‬ ‫إلى المدينة عرفوا أن الدار دار منعة‪ ،‬وأن القوم أهل‬
‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫رسول اهلل ! فيشتد أمره عليهم‪ ،‬فاجتمعوا في دار الندوة‪ ،‬وحضرهم إبليس‬
‫كل منهم برأي‪،‬‬‫في صورة شيخ من أهل نجد‪ ،‬فتذاكروا أمر رسول اهلل ! فأشار ٌ‬
‫ُّ ٍ‬
‫برأي‪ ،‬ما أراكم‬
‫ٍ‬ ‫والشيخ يرده وال يرضاه‪ ،‬إلى أن قال أبو جهل‪ :‬قد فرق لي فيه‬
‫وقعتم عليه‪ ،‬قالوا‪ :‬ما هو؟‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ْ ً‬ ‫ِّ‬
‫صارما‪،‬‬ ‫غالما جلدا‪ ،‬ثم نعطيه سيفا‬ ‫قبيلة من قريش‬
‫قال‪ :‬أرى أن نأخذ من كل ٍ‬

‫((( سيرة ابن إسحاق‪.‬‬


‫‪49‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫َّ‬
‫فيتفرق دمه في القبائل‪ ،‬فال تدري بنو عبد مناف‬ ‫واحد‪،‬‬ ‫رجل‬ ‫ّ‬
‫ثم يضربونه ضربة‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بعد ذلك ما تصنع وال يمكنها معاداة القبائل كلها ونسوق ديته‪.‬‬
‫ُ‬
‫الرأي‪ ،‬فتفرقوا على ذلك‪.‬‬ ‫ٰ‬
‫الفتى! هذا واهلل‬ ‫فقال الشيخ‪ :‬هلل در هذا‬
‫ينام في مضجعه تلك الليلة‪.‬‬ ‫بي ! بذلك‪ ،‬وأمره أن ال َ‬ ‫فجاء جبريل فأخبر الن ّ َّ‬

‫بكر نصف النَّهار ـ في ساعة لم يكن يأتيه فيها ـ‬ ‫رسول اهلل ! إلى أبي ٍ‬ ‫وجاء‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫خرج َمن عندك<‪ :‬فقال‪ :‬إنما هم أهلك يا رسول اهلل‪ ،‬فقال رسول‬ ‫ِ‬ ‫>أ‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫ا‬‫متقنع‬
‫ّ‬
‫اهلل !‪> :‬إن اهلل قد أذن لي في الخروج<‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬الصحبة يا رسول اهلل‪،‬‬
‫راحلتي هاتين‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫قال‪> :‬نعم<‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬فخذ ـ بأبي أنت وأمي ـ إحدى‬
‫عليا أن يبيت تلك الليلة على فراشه(‪.)1‬‬ ‫>بالثمن<‪ ،‬وأمر ً‬
‫َ‬
‫صير الباب‪ ،‬ويرصدونه يريدون بياته‪،‬‬ ‫واجتمع أولئك النفر يتطلعون من ِ‬
‫ً‬
‫ويأتمرون‪ :‬أيّهم يكون أشقاها؟ فخرج رسول اهلل ! فأخذ حفنة من البطحا ِء‪،‬‬
‫ٗ‬ ‫َ ۡ‬ ‫ٗ‬ ‫ينۡ َ‬
‫فذرها على رؤوسهم‪ ،‬وهو يتلو‪َ ﴿ :‬و َج َعل َنا ِم ۢن َب ِ أيۡدِي ِه ۡم َس ّدا َوم ِۡن خلفِ ِه ۡم َس ّدا‬
‫ۡ‬ ‫ّ‬
‫َ َ ۡ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ َ ُ ۡ اَ ُ ۡ ُ َ‬
‫صون﴾ ي[���س‪ ،]9 :‬وأنزل اهلل‪ِ﴿ :‬إَوذ يمكر بِك ِ‬
‫ۡ َ ۡ ُ ُ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ‬
‫ٱلين كفروا‬ ‫فأغشينهم فهم ل يب رِ‬
‫أ‬ ‫ُ ۡ ُ َ َ ۡ َ ۡ ُ ُ َ َ ۡ خُ ۡ‬
‫ين﴾ [ال� ن���ف� �ا ل‪.]30 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ٱلل َخ رۡ ُ‬
‫ي ٱل َمٰكِر َ‬ ‫ٱللۖ َو هَّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وك َو َي ۡمك ُرون َو َي ۡمك ُر هَّ ُ‬ ‫ير ُج َ‬
‫ِ‬ ‫يِلثبِتوك أو يقتلوك أو ِ ۚ‬
‫خوخة في بيت أبي‬
‫ٍ‬ ‫ومضى رسول اهلل ! إلى بيت أبي بكر‪ ،‬فخرجا من‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫القوم ببابه‪ ،‬فقال‪ :‬ما تنتظرون؟ قالوا‪ :‬محمدا !‪،‬‬ ‫رجل فرأى‬ ‫بكر لياًل‪ ،‬فجاء‬
‫ََّ‬ ‫قال‪ :‬خبتُم وخسرتم‪ ،‬قد واهلل َّ‬
‫مر بكم‪ ،‬وذر التراب على رؤوسكم‪ ،‬قالوا‪ :‬واهلل‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫ما أبصرناه‪ ،‬وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم‪ .‬فلما أصبحوا‪ ،‬قام علي ‪K‬‬
‫عن الفراش‪ ،‬فسألوه عن محمد ! فقال‪ :‬ال علم لي به‪.‬‬
‫ومضى رسول اهلل ! وأبو بكر حتى دخال غار ثور‪ ،‬فنسجت العنكبوت‬
‫على بابه‪.‬‬

‫((( سيرة ابن هشام ‪.264/1‬‬


‫‪50‬‬

‫ماهرا ـ وكان على دين‬ ‫ً‬ ‫يقط الليثي‪ ،‬وكان هاديًا‬ ‫وكانا قد استأجرا عبد اهلل بن أ ُ َ‬
‫ر‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ثور بعد ثالث‪،‬‬‫ٍ‬ ‫غار‬ ‫وواعداه‬ ‫راحلتيهما‪،‬‬ ‫إليه‬ ‫ما‬ ‫وسل‬ ‫قومه ـ وأمناه على ذلك‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫قريش في طلبهما‪ ،‬وأخذوا معهم القافة‪ ،‬حتى انتهوا إلى باب الغار‪ ،‬فوقفوا‬ ‫وجدت‬
‫عليه‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه ألبصرنا‪،‬‬
‫فقال‪> :‬ما ظنك باثنين اهلل ثالثهما(‪ )1‬ال تحزن إن اهلل معنا<‪ .‬وكانا يسمعان كالمهم‪،‬‬
‫ّ‬
‫أمرهما‪ ،‬وعامر بن فهيرة يرعى ً‬ ‫أن اهلل عمى عليهم َ‬ ‫ّ‬
‫غنما ألبي بكر‪ ،‬ويتسمع ما‬ ‫إال‬
‫يقال عنهما بمكة‪ ،‬ثم يأتيهما بالخبر لياًل‪ ،‬فإذا كان السحر سرح مع الناس‪.‬‬
‫ً‬
‫جهاز‪ ،‬وصنعنا لهما سفرة في جراب‪ ،‬فقطعت‬ ‫قالت عائشة‪ :‬فجهزناهما أحسن‬
‫ٍ َ‬ ‫ً‬
‫أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها‪ ،‬فأوكت به فم الجراب‪ ،‬وقطعت األخرى‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫النطاقين ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ذات‬ ‫قبت‬ ‫ل‬ ‫فبذلك‬ ‫للقربة؛‬ ‫ا‬ ‫عصام‬
‫النبي ! أنّه قد سكن الناس عن طلبه‪ّ ،‬‬
‫تحرك نحو‬ ‫ف ّ‬ ‫عر َ‬
‫وبعد ثالثة أيام حين َ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫بمشقة‪ ،‬مستعينا باهلل واثقا من نصره ‪ .‬وقد تبعهم سراقة بن‬ ‫ٍ‬ ‫يثرب يغذ السير‪ ،‬وال يعبأ‬
‫مالك >فلما دنا‪ ،‬دعا عليه رسول اهلل ! فساخ فرسه في األرض إلى بطنه‪ ،‬ووثب‬
‫فادع اهلل أن يخلعني ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬
‫مما أنا فيه‪،‬‬ ‫عنه‪ ،‬وقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬قد علمت أن هذا عملك‪،‬‬
‫ُ‬
‫علي أن أعَ ِّميه على من ورائي<(‪.)2‬‬ ‫ولك َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قال سراقة‪> :‬فوقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عليهم‪ ،‬أن سيظهر‬
‫موادعة آمن به‪،‬‬ ‫َ‬
‫كتاب‬ ‫أمر رسول اهلل ! ‪ ...‬فسألت رسول اهلل ! أن يكتب لي‬
‫ٍ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫فأمر عامر بن فهيرة مولى أبي بكر‪ ،‬فكتب لي في رقعة من أدم< (‪.)3‬‬
‫ٍ‬
‫((( انظر‪ :‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪. )2381‬‬
‫((( صحيح مسلم ‪ ، 2311/4‬حديث رقم (‪ )2009‬وانظر صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)3615‬‬
‫وأحمد رقم (‪.)3‬‬
‫((( المستدرك ‪ -‬كتاب الهجرة ‪ 7/3‬وقال‪> :‬حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه<‬
‫ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كسر‬ ‫عمل قام به هو‬
‫ٍ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫وصل الرسول ! (قباء)‪ ،‬وأقام بها عدة أيام‪ ،‬وكان‬
‫مسجدهم‪ ،‬ثم خرج َ‬ ‫َ‬
‫يوم الجمعة‪ ،‬فأدركته صالة الظهر في‬ ‫األصنام(‪ ،)1‬ثم أسس‬
‫بطن وادي (رانوناء)‪ ،‬فكانت أول صالة جمعة في اإلسالم ‪.‬‬
‫َ‬
‫وخرج مسلمو يثرب بزينتهم وسالحهم يستقبلون رسول اهلل !‪ ،‬ويحيطون‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٌّ‬
‫وكل يريد أن يتطلع إليه‪ ،‬ويمأل عينيه من هذا الرجل الذي آمن به وأحبَّه (‪.)2‬‬ ‫كبه‪،‬‬ ‫َ‬
‫بر ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أحد من المسلمين إال ويأخذ بزمام ناقته‪،‬‬ ‫وما كان يمر رسول اهلل ! بمنزل ُ ٍ‬
‫ّ ً‬
‫ويعرض عليه المقام عنده‪ ،‬وهو يقابلهم بطالقة الوجه والبشر‪ ،‬وتجنبا من إحراج‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أحد منهم‪ ،‬كان ! يقول‪> :‬خلوا الناقة إنها مأمورة< ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫مربد لغالمين يتيمين من بني النجار‪ ،‬أمام دار‬ ‫ٍ‬ ‫وأخيرا بركت الناقة عند‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫رسول اهلل ! في دارها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫رحل‬ ‫فأدخلت‬ ‫ه‬ ‫األنصاري‪ ،‬فأسرعت زوجت‬ ‫أبي أيوب‬
‫وبيته !(‪.)3‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫فنزل عندهم رسول اهلل !‪ ،‬إلى أن تم بناء المسجد النبوي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقد غيّر ّ‬
‫النبي ! اسم يثرب إلى (طيبة)(‪ .)4‬واعتبرت هجرته إليها بداية للتأريخ‬
‫ِّ‬
‫اإلسالمي(‪.)5‬‬
‫النبوي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫بناء املسجد‬
‫ُّ‬
‫النبي ! بالمسلمين دائرة بناء الفرد‪ ،‬وبوصوله إلى يثرب شرع في‬ ‫لقد اجتاز‬
‫ََّ‬
‫التخطيط لتكوين الدولة التي تحكمها الشريعة اإلسالمية السمحة‪ ،‬ومن ثم بناء‬
‫َّ‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ ،‬لتشمل كل اإلنسانية في مرحلة ما بعد الدولة‪.‬‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫((( راجع الكامل في التأريخ‪.106 / 2 :‬‬


‫((( البدء والتأريخ‪.177 - 176 / 4 :‬‬
‫((( وصل الن ّ ّ‬
‫بي ! مدينة يثرب في ‪ 12‬ربيع األول‪.‬‬
‫((( ابن خلدون‪ :‬المقدمة ‪ ،283 /‬وتاج العروس‪.85 / 2 :‬‬
‫((( تاريخ الطبري‪.114 - 110 / 2 :‬‬
‫‪52‬‬

‫ّ‬ ‫ُ‬
‫القبلي‬ ‫ومن أولى العقبات التي واجهت تأسيس الدولة اإلسالمية‪ :‬وجود النظام‬
‫الذي كان يحكم العالقات في مجتمع الجزيرة‪ ،‬كما أن ضعف المسلمين كان‬
‫معالجة واقعية ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ال بد له من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومركزا للسلطة‬ ‫فكان المنطلق بناء المسجد؛ ليكون مكانا لمهام متعددة‪،‬‬
‫المركزية التي تدير شؤون الدولة‪ .‬وما أن اشترى رسول اهلل ! األرض المعدة‬
‫بهم ٍة وحماس ‪.‬‬ ‫إلقامة المسجد حتى شرع المسلمون في بناء المسجد ّ‬

‫حرك المسلمين‬ ‫الطاقة التي ت ُ ِّ‬


‫ِ‬ ‫وكان رسول ! هو القدوة واألسوة‪ ،‬ومنبع‬
‫مرة ينقل‬
‫في العمل‪ ،‬فشارك بنفسه ُفي حمل الحجارة واللبن‪ ،‬وبينما هو ! ذات ٍ‬
‫حجرا على بطنه‪ ،‬استقبله أسيد بن حضير‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل أعطني أحمل عنك‬ ‫ً‬
‫قال (صلى اهلل عليه وآله)‪> :‬ال‪ ،‬اذهب فاحمل غيره<‪.‬‬
‫كبيرة‪،‬‬ ‫كلفة‬ ‫دار للرسول !‪ ،‬وألهل بيته‪ ،‬ولم يكن البناء ُ ذا‬ ‫وتم ً‬
‫أيضا بناء‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بي ! الفقراء الذين لم يجدوا لهم مسكنًا‬ ‫زهيدا كحياتهم‪ ،‬ولم ينس الن ّ ُّ‬ ‫ً‬
‫فقد كان‬
‫ً‬
‫يأوون إليه‪ ،‬فألحق لهم مكانا بجانب المسجد (‪.)1‬‬
‫ّ ً‬ ‫ً‬
‫فعاال في بناء‬ ‫مرتكزا في حياة المسلمين العباديَّة والحياتيَّة‪،‬‬ ‫وأصبح المسجد‬
‫الفرد واجملتمع‪.‬‬
‫املؤاخاة بني املهاجرين واألنصار‪:‬‬
‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ثم خطا الن ّ ُّ‬
‫ّ‬
‫الجديدة‪ ،‬والقضا ِء على بعض‬
‫ِ‬ ‫الدولة‬ ‫إلقامة‬ ‫‪،‬‬ ‫أخرى‬ ‫خطوة‬ ‫بي !‬
‫التعاطف وحرارة‬ ‫ً‬
‫مستثمرا حالة‬ ‫قيم النظام القبلي‪ ،‬من دون أن َّ‬
‫يمس القبيلة بشي ٍء‪،‬‬
‫ِ‬
‫اإليمان التي بدت من المسلمين ‪.‬‬
‫ً‬
‫العقيدة والدين‪ ،‬متجاوزا عالقة‬
‫ِ‬ ‫فجعل أساس العالقة بين األفراد رابطة‬
‫الدم والعصبية‪ ،‬فأمر ! المهاجرين واألنصار بالتآخي في اهلل‪ ،‬وأخذ كل رجل‬

‫(((  السيرة النبوية‪.496 / 1 :‬‬


‫‪53‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫ً‬
‫من األنصار أخا له من المهاجرين يشاركه الحياة ‪.‬‬
‫ً‬
‫دامية من تأريـخها‪ ،‬إذ كانت ال تخلو ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أيامها من‬ ‫وبذا طوت المدينة صفحة‬
‫مرير بين األوس والخزرج‪ ،‬يؤججه اليهود بخبثهم ودسائسهم‪ ،‬وانفتح على‬ ‫صراع ٍ‬
‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫العالم عهد جديد من الحياة اإلنسانية الراقية‪ ،‬حيث زرع الرسول ! بذلك عنصرَ‬
‫ُ‬
‫مة‪ ،‬وفاعليتها اإليمانية (‪.)1‬‬‫بقا ِء األ ِ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫(((  السيرة النبوية‪.504 / 1 :‬‬


‫‪54‬‬

‫أبعاد التآخي بين المسلمين‬


‫ُ‬

‫االقتصادي‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫البع ُد‬
‫َ‬
‫المدينة ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ومن أروعِ مظاهر رحمته ! ما فعله مع المهاجرين من مكة إلى‬
‫ََ‬ ‫ً‬
‫كبيرة حينما تركوا َ‬ ‫ً‬
‫وتجارتهم وأموالهم وذكرياتهم ‪..‬‬ ‫ديارهم‬ ‫فقد واجهوا أزمة‬
‫كل ذلك‪ُّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫هلل ورسوله‪ ،‬فكان ال بد من الوقوف إلى جوارهم‬ ‫وفروا إلى ا ِ‬ ‫تركوا‬
‫في أزمتهم هذه ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫فأول ما فعل أنه رفع من شأنهم وقدرهم‪ ،‬وأخبرهم أن هجرتهم هذه هجرة‬
‫َ‬ ‫كريمة‪ ،‬ال ي ُ‬ ‫ٌ‬
‫بلد آخر‪ ،‬بل هم‬ ‫ٍ‬ ‫بانتقاص‪ ،‬فهم ليسوا مجرد الجئين إلى‬ ‫ٍ‬ ‫إليها‬ ‫نظر‬
‫ّ‬ ‫ّ َ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ٰ‬
‫مجاهدون عظماء‪ ،‬وذكر ذلك في أحاديث شتى‪ ،‬لعل من أعظمها‪ :‬أنه بشرهم أنهم‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ‬
‫س ِئل عن أول الناس إجازة فقال‪:‬‬ ‫أول من يجوز الصراط يوم القيامة‪ ،‬وذلك عندما‬
‫ين<(‪.)1‬‬‫>فُ َق َراءُ ْال ُم َهاجر َ‬
‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫مثيل في التاريخ‪ ،‬وهو المؤاخاة بين المهاجرين‬ ‫فريد‪ ،‬ليس له‬
‫ٍ‬ ‫ثم قام بعمل‬
‫ُ‬
‫األمر‬ ‫ديارهم‪ ،‬ووصل‬ ‫في‬ ‫وكفلوهم‬ ‫المهاجرين‪،‬‬ ‫ُ‬
‫األنصار عبءَ‬ ‫ل‬ ‫َّ‬
‫فتحم‬ ‫واألنصار‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫التوارث بعد ذلك (‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫التوارث بين الطائفتين‪ ،‬إلى أن ن ِسخ حك ُم‬ ‫ِ‬ ‫إلى‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ومع أن وض َع األنصار كان أفضل‪ ،‬وأزمة المهاجرين كانت أشد‪ ،‬إال أن الرسول‬
‫رحيما باألنصار كذلك‪ ،‬فلم يشأ أن يُثقل عليهم حتى مع رغبتهم في التضحية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫! كان‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)315‬‬


‫((( انظر‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4580‬‬
‫‪55‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫ََ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬


‫ص ُار ِللن َّ ِب ِّي !‪ :‬اق ِس ْم بَ ْينَنَا َوبَ ْي َن ِإخ َو ِاننَا الن َّ ِخيل‪ ،‬قال‪> :‬ال<‪ ،‬فقالوا‪:‬‬ ‫َق َال ْت األَنْ َ‬
‫ََ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ْ ْ ُ‬ ‫َْ ُ َ َ ََ‬
‫المؤونة‪َ ،‬ونش ِركك ْم ِفي الث َم َر ِة‪ ،‬قالوا‪َ :‬س ِم ْعنَا َوأط ْعنَا(‪ .)1‬قال الحافظ بن‬ ‫تكفونا‬
‫سقيها‪ ،‬والقيام عليها> ‪.‬‬ ‫حجر‪< :‬المؤونة‪ :‬أي العمل في البساتين من ِ‬
‫َ‬ ‫المهلب‪< :‬إنّما قال لهم الن ّ ُّ‬ ‫َّ‬
‫بي !‪> :‬ال<‪ ،‬ألنه علم أن الفتوح ستفتح‬ ‫قال‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عليهم‪ ،‬فك ِر َه أن يخرج شيءٌ من عقار األنصار عنهم> (‪ .)2‬وعندما كانت تحدث‬
‫خ ُم َ‬ ‫ِّ ُ‬ ‫بعض الغنائم‪ ،‬كان الن ّ َّ‬ ‫ُ‬
‫س هذه الغنائم على الفقراء ‪.‬‬ ‫بي ! يوزع‬
‫ٌ‬ ‫َ ْ ّ‬
‫أن الن ّ َّ‬
‫سبي‬ ‫بي ! وصل إليه‬ ‫سمعت‬
‫رسول اهلل ! ِ‬ ‫ِ‬ ‫فهذه فاطمة بنت‬
‫خادما من هذا السبيِ‪ ،‬فقال رسول اهلل !‪:‬‬ ‫ً‬ ‫امرأة تطلبان‬ ‫من الغنائم‪ ،‬فجاءت مع‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫يتامى بدر<(‪.)3‬‬ ‫ٰ‬ ‫>سبقك َّن‬
‫علي ‪ K‬جاء فيها قوله‪ ...> :‬واهلل ال أعطيكم‪ ،‬وأدع‬
‫ُ‬
‫أخرى عن‬ ‫ٰ‬ ‫رواية‬ ‫وفي‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الصفة تطوي بطونهم من الجوع‪ ،‬ال أجد ما أنفق عليهم‪ ،‬لكن أبيعهم وأنفق‬ ‫ِ‬ ‫أهل‬
‫َ‬
‫عليهم أثمانهم<(‪.)4‬‬
‫قتال على فقرا ِء‬ ‫بي ! بتوزيع األراضي التي يحصل عليها بدون‬ ‫كما قام الن ّ ُّ‬
‫ٍ‬
‫النضير بالنبي !‪ ،‬وتحالفوا مع قريش‪ ،‬ونقضوا‬ ‫ِ‬ ‫المسلمين‪ ،‬فعندما غدر يهود بني‬
‫ّ ٍ‬ ‫َ‬
‫بي ! على‬ ‫بي !‪ ،‬عندما قدم المدينة (غدا الن ُّ‬ ‫المعاهدة التي كانت بينهم وبين الن ّ ِّ‬ ‫َ‬

‫بالكتائب‪ ...‬حتى نزلوا على الجال ِء‪ ،‬فجلت بنو النضير‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫بني النضير‬
‫وخصه بها‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫فكان نخل بني النَّضير لرسول اهلل ! خاصة‪ ،‬أعطاه اهلل إيَّاه‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫َ َ ٰ َّ هَّ َ ّ‬ ‫ۡ ُ ۡ َ َ ٓ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ ۡ ۡ َ ۡ َ اَ اَ‬ ‫﴿ َو َما ٓ أَفَا ٓ َء هَّ ُ‬


‫ٱلل لَىَ ٰ‬
‫ٱلل ي ُ َسل ُِط‬ ‫كن‬
‫ب ول ِ‬ ‫ك‬
‫ِ ٖ‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ل‬
‫ٖ‬ ‫ي‬‫خ‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ف‬‫ج‬‫و‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ِۦ‬ ‫هِ‬
‫ول‬ ‫ع َر ُ‬
‫س‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2325‬‬


‫((( فتح الباري ‪9-8/5‬‬
‫((( أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ )2987‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)596‬قال األلباني‪< :‬صحيح>‪ ،‬الصحيحة ‪.1882‬‬
‫ً‬
‫((( مسند أحمد‪ ،‬الحديث رقم (‪ )838‬قال مخرجوه‪< :‬إسناده حسن> وانظر تخريجه فيه مفصال‪.‬‬
‫‪56‬‬

‫ح���ر‪ ،]6 :‬يقول‪ :‬بغير قتال‪ ،‬فأعطى‬‫ِير﴾ [ا �ل‬


‫�ش‬ ‫َ‬
‫شءٖ قد ‪ٞ‬‬ ‫لَىَ لُ ّ يَ‬
‫عك ۡ‬ ‫َ ٓ‬ ‫لَىَ‬
‫ُر ُسل ُهۥ ٰ َ َ ُ َ هَّ ُ‬ ‫َ‬
‫ع من يشاء ۚ وٱلل ٰ ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫بي ! َ‬‫الن ّ ُّ‬
‫ين من األنصار‪ ،‬وكانا‬‫ِ‬ ‫لرجل‬ ‫وقسم‬ ‫بينهم‪،‬‬ ‫ها‬ ‫وقسم‬ ‫للمهاجرين‪،‬‬ ‫ها‬‫أكثر‬
‫غيرهما)(‪.)1‬‬
‫األنصار ِ‬
‫ِ‬ ‫ألحد من‬
‫ٍ‬ ‫ذوي حاجة‪ ،‬ولم يقسم‬
‫ُ‬
‫وهنا كما يقول الحافظ ابن حجر‪< :‬آثر بها المهاجرين‪ ،‬وأمرهم أن يُعيدوا إلى‬
‫الفريقان‬
‫ِ‬ ‫األنصار ما كانوا واسوهم به لما قدموا المدينة‪ ،‬وال شيءَ لهم‪ ،‬فاستغنى‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫جميعا بذلك> (‪.)2‬‬
‫ً‬
‫أما األراضي التي كانت تفتح عنوة ـ كأرض خيبر ـ فإن أرضهم تصبح (هلل‬
‫ورسوله وللمسلمين)‪.‬‬
‫قس َم رسول‬ ‫ومن ثَ َّم‪ ،‬فإنّه في رواية أبي داوود (عن سهل بن أبي حثمة‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وحاجته‪ ،‬ونصفا بين المسلمين‪.)3()...‬‬
‫ِ‬ ‫خيبر نصفين‪ :‬نصفا لنوائبه‬ ‫اهلل !‬
‫بي !‬ ‫فلما صارت األموال بيد الن ّ ِّ‬ ‫لكن كما في رواية بشير بن يسار‪ّ ...( :‬‬
‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫والمسلمين‪ ،‬لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها‪ ،‬فدعا رسول اهلل ! اليهود‬
‫فعاملهم (‪ ... ،)4‬ولهم نصف الثمر‪ .‬فقال لهم رسول اهلل !‪> :‬نقركم على ذلك ما‬
‫عمر إلى تيماءَ وأريحاءَ)(‪.)5‬‬ ‫شئنا‪ّ <...‬‬
‫فقروا بها حتى أجالهم ُ‬

‫بحاجة للعمل‪ ،‬ولكنه في آخر األمر لم‬


‫ٍ‬ ‫ففي بداية قدوم المهاجرين كانوا‬
‫ولمشاركتهم في الفتوح‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بحاجة للعمل؛ الستغنائهم‬
‫ٍ‬ ‫يكونوا‬
‫ِ‬

‫((( أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،) 3004‬قال األلباني‪< :‬حسن اإلسناد> ‪.‬‬
‫((( فتح الباري ‪ 228/6‬في شرح الحديث (‪. )3128‬‬
‫((( أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ )3003‬بدون ذكر (المسلمين )‪.‬‬
‫((( أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،) 3014‬قال األلباني‪< :‬حسن صحيح>‪.‬‬
‫((( مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)551‬‬
‫‪57‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫البعد االجتماعي ويتجلى يف‪:‬‬


‫َّ‬
‫القضا ِء على األمراض االجتماعية المتأصلة في اجملتمع‪ ،‬ومخلفاتِ‬ ‫‪1‬‬
‫ِّ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫الحب والود والتآلف‪ ،‬لسد الثغراتِ؛‬ ‫وإشاعة روح‬
‫ِ‬ ‫القبلي‬ ‫التناحر‬
‫ِ ّ‬
‫الجهود والطاقات‬
‫ِ‬ ‫لئاّل يستغلها المتآمرون على اإلسالم‪ ،‬وتوفير‬
‫مراحله الالحقة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫البشرية لخدمة اإلسالم في‬
‫ِ‬
‫بالق َيمِ اإلسالمية‪.‬‬
‫إلغا ِء العادات القبلية الجاهلية‪ ،‬واستبدالها ِ‬ ‫‪2‬‬
‫التضحية واإليثار‪ ،‬لالنفتاح‬ ‫وتربيتهم على‬ ‫ً‬
‫نفسيا‬ ‫تهيئة المسلمين‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪3‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لنشر الرسالة اإلسالمية‪ ،‬الذي يتطلب مرونة عالية‪،‬‬
‫ُِ‬ ‫على العالم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وقيما رفيعة‪ ،‬يحتاج إليها الداعية المسلم ‪.‬‬

‫البعد السياسي ومن مظاهره‪:‬‬


‫ً‬ ‫ُ‬
‫مستجيبا ألوامر الرسول‬ ‫مترابط من المسلمين‪ ،‬يتحرك‬
‫ٍ‬ ‫تكوين نسيج‬ ‫‪1‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫واحد‪ ،‬في ظرف تعددت فيه الجهات المعادية‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫كفرد‬
‫ٍ‬ ‫والرسالة‪،‬‬
‫دسائسها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ولم تتوقف عن‬
‫ُ‬
‫المقاومة والصمود‪ ،‬والتجربة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ووسائل‬ ‫التنظيمية‪،‬‬ ‫الخبرات‬ ‫تناقل‬ ‫‪2‬‬
‫يعش‬
‫ِ‬ ‫اإليمانية‪ ،‬وطرق التحرك وسط المهاجرين واألنصار‪ ،‬إذ لم‬
‫األنصار تجربة المهاجرين ومحنتهم‪.‬‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫ِّ‬
‫اإلداري ‪.‬‬ ‫كخطوة من خطوات بناء الدولة وهيكلها‬ ‫الفرد‬ ‫بناء‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫‪3‬‬
‫ّ‬
‫بالقو ِة في الدفاع عن أنفسهم‪ ،‬وفق قيم اإلسالم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫إشعار المسلمين‬ ‫‪4‬‬
‫ً‬
‫والعنصرية‪.‬‬
‫ِ‬ ‫القبلية‬
‫ِ‬ ‫بعيدا عن الروح‬
‫ِ‬
‫‪58‬‬

‫معاهدة املدينة‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫النبي ! بالمسلمين من حالة الصراع والمقاومة إلى مرحلة‬ ‫ولكي ينتقل‬
‫َ‬
‫البنا ِء وتطبيق الشريعة اإلسالمية؛ كان ال بد من توفير أجواء األمن واالستقرار‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـ ولو ً‬
‫الجماهيري‪.‬‬ ‫الوسط‬
‫ِ‬ ‫يعيق انتشارها في‬ ‫نسبيا ـ فالصراع قد‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يثرب كانت قوى تنافس المسلمين في الوجود‪ ،‬فاليهود كانوا يشكلون عبئا‬ ‫وفي‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫السياسي المعروف‪ ،‬إضافة إلى عُدتهم وعَد ِدهم‬ ‫ِّ‬ ‫بقوتهم االقتصادية‪ ،‬وخبثهم‬ ‫كبيرا َّ‬
‫ً‬
‫دورهم بقدوم الن ّ ِّ‬ ‫ضعف ُ‬ ‫َ‬ ‫ً َّ ٌ‬
‫بي !‬ ‫ِ‬ ‫وإن‬ ‫ٰ‬
‫أخرى‬ ‫ة‬ ‫الذي ال يُستهان به‪ .‬والمشركون أيضا قو‬
‫ٰ‬
‫بالحسنى‪.‬‬ ‫تماما ـ فجاملهم ! وقابلهم‬ ‫والمهاجرين‪ ،‬ولكنه لم ينته ً‬
‫ِ‬
‫أيضا أن يحتوي وجود المنافقين‪ ،‬وفي خارج المدينة‬ ‫للنبي ! ً‬ ‫ِّ‬ ‫وكان ال بد‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫الفتي‪،‬‬ ‫حقيقيا للكيان اإلسالمي‬ ‫كانت قريش‪ ،‬وسائر القبائل المشركة تمثل تهديدا‬
‫َّ‬
‫وكان على الرسول ! أن يستعد لمواجهتهم ودفع خطرهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وهنا تجلت عظمة الرسول ! ومقدرته السياسية في التعامل مع القوى المتعددة‪،‬‬
‫جميعهم إلى السالم واألمان‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ظهرا النيّات الحسنة والطيّبة تجاه اآلخرين‪ً ،‬‬
‫داعيا‬ ‫ُم ً‬
‫ٌ‬ ‫َ ُ ِّ‬
‫يهود ووثنيين معاهدة‪ ،‬انتظمتها صحيفة‪،‬‬ ‫وقد وقعت بين المسلمين وغيرهم من ٍ‬
‫َ‬
‫عُرفت بصحيفة المدينة‪ ،‬واعت َبرت الجميع مواطنين في الدولة اإلسالمية الفتيّة التي‬
‫ّ‬ ‫أسسها الن ّ ُّ‬
‫بي ! بالمدينة‪ ،‬يتمتع الجميع فيها بالحقوق اإلنسانية على السواء‪.‬‬
‫يؤس ُ‬ ‫دستوري َّ‬
‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لدولة‬
‫ٍ‬ ‫س‬ ‫مشروع‬
‫ٍ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫بمثابة‬ ‫كانت‬ ‫الصحيفة‬ ‫بأن‬ ‫ويمكن القول‬
‫العربي‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫متحضرة في المدينة‪ ،‬تقدم قيمها ُ‬ ‫ّ‬
‫ثم‬ ‫ومثلها إلى اجملتمع‬ ‫ٍ‬ ‫إسالمية‬
‫ٍ‬
‫إلى اجملتمع اإلنساني‪.‬‬
‫وأهم ما تضمنته الصحيفة ما يلي‪:‬‬
‫ُ‬
‫إبراز وجود اجملتمع المسلم‪ ،‬وإشعار الفرد المسلم بقوة انتمائه‬ ‫‪1‬‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إليه‪ :‬فقد جاء فيها‪< :‬إنهم أمة واحدة من دون الناس>‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫َ‬ ‫ّ َّ‬
‫طائفة تفدي‬
‫ٍ‬ ‫القبلي‪ :‬فقد جاء فيها‪< :‬أن كل‬‫ِّ‬ ‫اإلبقاء ُ على الوجود‬ ‫‪2‬‬
‫عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين> مع تحجيم دوره‬
‫وصالحياته ـ لتخفيف العب ِء عن كاهل الدولة‪ ،‬بإشراك القبائل‬
‫َّ‬
‫في بعض النشاطات االجتماعية‪ ،‬فقد جاء في الصحيفة‪< :‬وإن‬
‫َ‬ ‫ُ َ ً‬
‫ين والكثير من العيال ـ‬
‫ٍ‬ ‫بد‬ ‫مثقاًل‬ ‫أي‬ ‫ـ‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫المؤمنين ال يتركون مفر‬
‫ِّ‬
‫عقل>‪ ،‬واالستعانة به لحل‬
‫ٍ‬ ‫بينهم‪ ،‬أن يعطوه بالمعروف في فدا ٍء أو‬
‫جملة من المشكالت‪.‬‬
‫ٍ‬
‫التأكيد على حري ّ ِة العقيدة‪ :‬بالسماح لليهود بالبقاء على ديانتهم‪،‬‬ ‫‪3‬‬
‫وممارسة طقوسهم‪ ،‬واعتبارهم مواطنين في الدولة اإلسالمية‬
‫الجديدة (‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ترسيخ دعائم األمن في المدينة‪ :‬بجعلها ح َر ًما آمنًا ال يجوز القتال‬ ‫‪4‬‬
‫فيه(‪.)2‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫إقرار سيادة الدولة والنظام اإلسالمي‪ ،‬وإرجاع قرار الفصل في الخصومات‬ ‫‪5‬‬
‫إلى القيادة اإلسالمية المتمثلة في شخص الرسول ! (‪.)3‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫توسيع دائرة اجملتمع السياسي‪ :‬باعتبار أن المسلمين واليهود‬ ‫‪6‬‬
‫واحد‪ ،‬ويدافعون عنه (‪.)4‬‬ ‫ٍّ‬
‫سياسي‬ ‫يتعايشون في نظام‬
‫ٍ‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫((( فقد جاء فيها‪< :‬لليهود دينهم‪ ،‬وللمسلمين دينهم‪ ،‬مواليهم وأنفسهم> ‪.‬‬
‫((( فقد جاء فيها‪< :‬وإن يثرب حرام جوفها ألهل هذه الصحيفة>‪.‬‬
‫((( وجاء فيها‪< :‬وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده‪ ،‬فإن‬
‫أمره إلى اهلل عز وجل وإلى محمد رسول اهلل !>‪.‬‬
‫((( فقد جاء فيها‪< :‬إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين> وكان لليهود نصيب من‬
‫المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين‪.‬‬
‫‪60‬‬

‫ُّ‬
‫الحث على إشاعة روح التعاون بين أفراد اجملتمع المسلم؛‬
‫ِ‬ ‫‪7‬‬
‫كي يتجاوز األزمات التي تعترضه(‪.)1‬‬

‫تآمر املنافقني واليهود على املسلمني‪:‬‬


‫ِّ‬
‫بي ! ببناء اجملتمع المسلم‪ ،‬ومن هنا فرض الهجرة على كل مسلم‬ ‫اهتم الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫إال بعذر‪ ،‬وذلك الستقطاب كل الطاقات والكفاءات‪ ،‬وسحبها إلى المدينة‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقد تمتعت المدينة في هذا العهد الجديد بحياة األمن واالستقرار‪ ،‬فأصبح األمر‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مزعجا لسائر القوى التي رفضت دعوة الن ّ ِّ‬ ‫ً‬
‫بي ! أواًل‪ ،‬ورأت فيه طرفا يهدد‬
‫معتقدها ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫راد ال يصد ُه‬ ‫ٍ‬ ‫باط‬ ‫تنمو‬ ‫وقوة‬ ‫الفضائل‪،‬‬ ‫نحو‬ ‫باإلنسان‬ ‫يرتقي‬ ‫ا‬ ‫واليوم أصبح كيان‬
‫ٌ ٌ ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫أحد عن نشر رسالته‪ ،‬فأسلمت أعداد كبيرة منهم ومضى قسم آخر يخطط لالبتعاد‬
‫عنه أو التحالف معه‪.‬‬
‫النبي ! يرصد حركة النفاق‪ ،‬ومساعي اليهود الحاقدة‬ ‫ومن جانب آخر‪ :‬كان ّ‬
‫ِّ‬
‫الفتي بتمزيق صفوفه بالتفرقة بين المسلمين‪.‬‬ ‫لتقويض الكيان اإلسالمي‬
‫ولم تمض فترة طويلة حتى دخل اإلسالم في كل بيت من بيوت المدينة (‪،)2‬‬
‫واتسق النظام االجتماعي العام تحت حكم اإلسالم وقيادة الرسول !‪ .‬وفي هذه‬
‫ُ‬
‫شرعت أحكام الزكاة والصيام وأحكام إقامة الحدود‪ ،‬كما ش ّرع األذان إلقامة‬ ‫الفترة ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الصالة وقبل ذلك كان الن ّ ّ‬
‫بي ! قد أعد مناديا ينادي للصالة إذا جاء وقتها‪ ،‬ونزل‬
‫ً ّ‬ ‫ّ‬
‫الوحي اإللهي يعلم الرسول ! صيغة األذان فدعا الرسول ! بنفسه بالال وعلمه‬
‫َ‬
‫كيفية األذان‪.‬‬

‫((( فقد جاء فيها‪< :‬وأنه ال تجار قريش وال من نصرها‪ ،‬وأن بينهم النصر على من دهم يثرب>‪.‬‬
‫((( السيرة النبوية‪.504 / 1 :‬‬
‫‪61‬‬ ‫األول تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬ ‫الفصل‬

‫التوجه حنو البيت احلرام يف الصالة‪:‬‬


‫ُّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫يتجه في صالته نحو بيت المقدس‪،‬‬ ‫فترة وجودهِ في مكة‬ ‫وكان النبي ! طوال ِ‬
‫َ‬
‫شهرا‪ّ ،‬‬
‫ثم أمره اهلل‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫عشر‬ ‫هجرته المباركة مدة سبعة‬ ‫ِ‬ ‫صالته بعد‬ ‫ِ‬ ‫ولم يغيّر من اتجاه‬
‫ّ‬
‫أن يتجه في صالته نحو الكعبة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫واستهزائهم بالرسول !‬‫ِ‬ ‫اإلسالمي‪،‬‬ ‫للدين‬
‫ِ‬ ‫عدائهم‬ ‫في‬ ‫اليهود‬ ‫وقد أمعن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والرسالة‪ ،‬حت ٰى إنهم كانوا يفخرون على المسلمين بتبعيَّتهم لقبلة اليهود‪ ،‬فكان‬
‫النبي ! ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫هذا يُحزن‬
‫ّ‬ ‫فعن البراء‪ ،‬قال‪ّ :‬‬
‫(لما قدم رسول اهلل ! المدينة صل ٰى نحو بيت المقدس‬
‫ٰ‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫وجه إلى الكعبة‪ ،‬فأنزل اهلل‬ ‫يحب أن ي ُ َّ‬ ‫ُّ‬ ‫شهرا‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫ستة عشر أو سبعة عشر‬
‫فو ِّجه نحو‬
‫ٱلس َماءِۖ فل ُن َو يِلَ َّن َك ق ِۡبلة تَ ۡر َضى ٰ َها ۚ﴾ [ا �ل�ق�� �ة‪ُ ،]144 :‬‬ ‫﴿قد نر‬
‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫ك ف َّ‬ ‫َ ۡ َ َ ٰ َ َ ُّ َ َ ۡ َ‬
‫ب ر‬
‫ّ‬
‫ى تقلب وج ِه يِ‬
‫فمر على قوم من األنصار‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫خرج َّ‬ ‫ثم َ‬ ‫الكعبة‪ ،‬وصل ٰى معه رجل العصر‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بي !‪ ،‬وأنه قد و ِّجه إلى الكعبة‪ ،‬فانحرفوا وهم ركوع‬
‫ُ‬ ‫هو يشهد أنه صل ٰى مع الن ّ ِّ‬
‫في صالة العصر)(‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫وقد كانت حادثة تحويل القبلة بمثابة اختبار للمسلمين‪ ،‬في مدى طاعتهم‬
‫وتحديًا لعناد اليهود واستهزائهم‪ًّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫لكيدهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وردا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وانقيادهم ألوامر الرسول !‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشخصية المسلمة(‪.)2‬‬ ‫ِ‬ ‫كما كانت منطلقا جديدا من منطلقات بنا ِء‬
‫تأمالت في سيرة نبي الرحمة ‪Z‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪. )7252‬‬


‫((( السيرة النبوية‪.598/1 :‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫�ش���خ َ‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫�‬ ‫ة‬
‫���� � ع�ل� ����ص���ت‬
‫ظر �ى ي �ه‬
‫‪65‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫المبحث‬
‫األول‬
‫صــــــــــــــفـاته ‪Z‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ًَْ ًُُ‬ ‫َ‬ ‫كان الن ّ ُّ‬
‫وأطيبهم ريحا‪ ،‬وأكملهم‬ ‫َ‬ ‫أحسن النَّاس خلقا وخلقا‪ ،‬وألينَهم كفا‪،‬‬ ‫بي !‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫وأشجع الناس‪،‬‬ ‫هلل وأشدهم له خشية (‪،)1‬‬ ‫عقال‪ ،‬وأحسنهم عشرة‪ ،‬وأعلمهم با ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫طاعة‬
‫ِ‬ ‫وأكثرهم اجتهادا في‬ ‫َ‬ ‫وأكرم الناس‪ ،‬وأحسنَهم قضاءً‪ ،‬وأسمحهم معاملة‪،‬‬
‫ُّ ً‬
‫ٰ‬
‫تعالى ‪.‬‬ ‫وأرحمهم بعباد اهلل‬ ‫َ‬ ‫وأخشعهم هلل ً‬
‫قلبا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تحمال‪،‬‬ ‫وأصبرهم وأقواهم‬ ‫َ‬ ‫ربّه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫يغضب لها؛ولكنه إذا انت ِهكت حرمات‬ ‫وأشدهم حياءً‪ ،‬وال ينتقم لنفسه‪ ،‬وال‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫والضعيف‪،‬‬ ‫والقوي‬ ‫لغضبه أحد‪،‬‬ ‫يقم‬ ‫لم‬ ‫هلل‬ ‫غضب‬ ‫وإذا‬ ‫‪،‬‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‬ ‫هلل‬ ‫ينتقم‬ ‫ه‬ ‫اهلل‪ ،‬فإن‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وغيره عنده في الحق سواءٌ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والشريف‬ ‫والقريب والبعيد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ً ُّ‬
‫الطعام‬
‫ُِ‬ ‫من‬ ‫ويأكل‬ ‫‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫تركه‬ ‫ه‬ ‫يشته‬
‫ِ‬ ‫لم‬ ‫وإن‬ ‫ه‪،‬‬ ‫أكل‬ ‫اشتهاه‬ ‫إن‬ ‫قط‬ ‫وما عاب طعاما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫تيسر‪ ،‬وال يتكل ُ‬ ‫المباح ما َّ‬
‫ويكافئ عليها‪ ،‬وال يقبل‬ ‫ف في ذلك‪ ،‬ويقبل الهديَّة‬
‫َ‬ ‫ويخدم في مهنة أهله(‪ ،)4‬ويحل ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ (‪)3‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب شاته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ثوب‬ ‫ويرقع‬ ‫نعليه‬ ‫ويخصف‬ ‫‪،‬‬ ‫الصدقة‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫أشد الن َّ‬ ‫ويخد ُم َ‬
‫تواضعا‪.‬‬ ‫اس‬
‫ِ‬ ‫وكان‬ ‫ه‪،‬‬ ‫نفس‬ ‫ِ‬

‫َّ ِّ‬
‫خير‪ :‬أتيت رسول اهلل ! وهو يصلي ولجوفه ٌ‬
‫أزيز كأزيز‬ ‫(((  ولهذا قال عبد اهلل بن الش‬
‫المرجل من البكاء‪ ،‬أبو داود برقم ‪ ،904‬وصححه األلباني في مختصر الشمائل برقم‬‫ِ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫‪ ،276‬ومعنى‪ :‬أزيز المرجل‪ :‬أي غليان القدر‪.‬‬


‫ّ‬

‫(((  صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،) 3563‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2064‬‬
‫((( مسند أحمد ‪ ،106/6‬وفي كتاب الزهد رقم (‪ )7‬وقال مخرجه‪< :‬حديث صحيح>‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ )676‬وأحمد ‪ 49/6‬وفي الزهد رقم (‪.)8‬‬
‫‪66‬‬

‫ّ‬
‫شريف‪ ،‬فعن أنس‪( :‬أن يهوديًا دعا‬ ‫ٍ‬ ‫فقير‪ ،‬أو دني ٍء أو‬
‫ٍ‬
‫ويجيب الداعي‪ :‬من ٍّ‬
‫غني أو‬
‫َ ُ‬ ‫ُّ‬
‫ويشهد‬ ‫يحب المساكين‪،‬‬ ‫سنخة فأجابه) (‪ ،)1‬وكان‬‫ٍ‬ ‫وإهالة‬
‫ِ‬ ‫شعير‬
‫ٍ‬ ‫خبز‬
‫إلى ِ‬ ‫رسول اهلل !‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫يركب‬ ‫يهاب َم ِلكا ِل ُمل ِك ِه‪ ،‬وكان‬
‫ُ‬ ‫جنائزهم‪ ،‬ويعود مرضاهم‪ ،‬وال يحقر ً‬
‫فقيرا لفقره‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫ُ َ‬
‫ويردف خلفه‪ ،‬وال يدع أحدا يمشي خلفه(‪.)2‬‬ ‫الفرس‪ ،‬والبعير‪ ،‬والحمار‪ ،‬والبغلة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ ٌ‬
‫خنصره األيمن‪ ،‬وربَّما لبسه في األيسر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫في‬ ‫يلبسه‬ ‫منه‪،‬‬ ‫ه‬ ‫وفص‬ ‫ة‬ ‫وخاتمه فض‬
‫ُ‬
‫الحجر من الجوع‪ ،‬وقد عرضت عليه مفاتيح خزائن‬ ‫َ‬ ‫يعصب على بطنه‬ ‫ُ‬ ‫وكان‬
‫األرض‪ ،‬ولكنَّه اختار اآلخرة ‪.‬‬
‫ق(‪،)4‬‬ ‫َْ‬
‫البائن ‪ ،‬وال بالقصير‪ ،‬وال باألبيض األمه ِ‬ ‫وكان رسول اهلل ! ليس بالطويل‬
‫(‪)3‬‬
‫ِ‬ ‫ََ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ (‪)5‬‬
‫ضخم القدمين‬ ‫بط(‪ ،! )8()7‬وكان‬ ‫ط ‪ ،‬وال بالس ِ‬
‫(‪)6‬‬
‫وال باآلد ِم ‪ ،‬وال بالجع ِد القط ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الوجه(‪ ،)10‬وكان رجال مربوعًا‪ ،‬بعيد ما بين المنكبين‪،‬‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫أبيض مليح‬ ‫الوجه(‪،)9‬‬
‫ِ‬ ‫حسن‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ )2069‬وأحمد ‪ 211/3‬وفي الزهد رقم (‪ ،)15‬قال ابن‬
‫األثير‪< :‬إهالة سنخة‪ :‬كل شيء من األدهان مما يؤتدم به‪ ،‬وقيل‪ :‬هو ما أذيب من األلية‬
‫والشحم‪ ...‬والسنخة‪ :‬المتغيرة الريح> النهاية في غريب الحديث ‪. 84/1‬‬
‫((( أحمد ‪ ،302/3‬وابن ماجه برقم (‪ ،)246‬والحاكم ‪ ،281/4‬وابن حبان (‪،)6312‬‬
‫وانظر‪ :‬األحاديث الصحيحة برقم (‪.)1557‬‬
‫((( البائن‪ :‬أي ليس بالطويل الطول الظاهر‪.‬‬
‫((( األمهق‪ :‬أي ليس باألبيض شديد البياض‪ ،‬وإنما أبيض مشرب بالحمرة‪.‬‬
‫((( اآلدم‪ :‬األسمر‪.‬‬
‫((( القطط‪ :‬الشعر فيه التواء وانقباض‪.‬‬
‫((( السبط‪ :‬الشعر المسترسل‪.‬‬
‫((( مختصر شمائل الترمذي برقم (‪ ،)1‬وصححه األلباني‪ .‬وهو في البخاري برقم (‪.)3549‬‬
‫((( البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5907‬وحديث رقم (‪.)5908‬‬
‫(‪ ((1‬مسلم‪ ،‬برقم (‪.)2340‬‬
‫‪67‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َ‬ ‫ُ‬
‫وقت إلى منكبيه‪ ،‬وفي وقوتٍ إلى‬ ‫ٍ‬ ‫شعر الج َّم ِة إلى شحمتي أذنيه‪ ،‬وفي‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫عظيم‬
‫نصف أذنيه ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ِّ‬
‫ضخم الكراديس(‪،)2‬‬ ‫ضخم الرأس‪،‬‬ ‫شثن الكفين والقدمين(‪،)1‬‬ ‫كث اللحية‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ ُّ‬ ‫ً ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫صبب(‪ ،)4‬لم ي ُ َر قبله وال‬
‫ٍ‬ ‫من‬ ‫ط‬ ‫ينح‬ ‫ما‬ ‫كأن‬ ‫ا‬ ‫تكفؤ‬ ‫أ‬ ‫تكف‬ ‫ٰ‬
‫مشى‬ ‫الم ْسربة(‪ ،)3‬إذ‬ ‫طويل َ‬
‫َ‬
‫بعده مثله ‪.‬‬
‫ُ‬
‫العقب‪ ،‬منظره أحسن من منظر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الفم‪ ،‬طويل ِش ِّق العين‪ ،‬قليل لحم‬ ‫َ‬
‫عظيم ِّ‬ ‫وكان‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫وخاتم الن َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بيضة الحمامة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كتفيه(‪ )5‬غدة حمراءَ مثل‬ ‫ِ‬ ‫بوة بين‬ ‫القمر‪ ،‬وجهه مثل القمر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الخاتم شعرات مجتمعات بين كتفيه ‪.‬‬ ‫وقيل‪:‬‬
‫ً‬
‫شيئا‪ ،‬وي ُ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫وكان يفرق َ‬
‫سرحها‪،‬‬ ‫رأسه‪ ،‬ويدهن‪ ،‬ويُعفي لحيته وال يأخذ منها‬
‫باإلثمد عند النوم‪،‬‬ ‫ويأمر بتوفيرها وإيفائها‪ ،‬وإعفائها‪ ،‬وكان يأمر باالكتحال‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫البصر ويُنبت الشعر<(‪. )6‬‬
‫َ‬ ‫باإلثمد عند النَّوم؛ فإنه يجلو‬
‫ِ‬ ‫ويقول‪> :‬عليكم‬
‫َ‬
‫خير أكحالكم اإلثمد‪ ،‬يجلو البصر‪ ،‬ويُنبت الشعر<(‪ )7‬وكان قليل‬ ‫وقال‪> :‬إن َ‬
‫ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫لحيته‪ ،‬إذا ادهن لم ي ُ َر شيبُه‪ ،‬وإذا لم يدهن ُرؤي منه شيءٌ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫رأسه وفي‬
‫ِ‬ ‫الشيب في‬
‫ً‬ ‫كان شيبُ ُه ً‬
‫نحوا من عشرين شيبة بيضاء(‪.)8‬‬

‫((( عظيم األصابع غليظها من الكفين والقدمين‪ ،‬انظر‪ :‬رحمة للعالمين ‪.2/4‬‬
‫((( الكراديس‪ :‬رؤوس العظام‪.‬‬
‫((( َ‬
‫الم َ‬
‫سربة‪ :‬الشعر الدقيق الذي يبدأ من الصدر وينتهي بالسرة‪.‬‬
‫((( الصبب‪ :‬انخفاض من األرض‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( انظر الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪.)3637‬‬


‫ّ‬

‫((( الترمذي في الشمائل‪ ،‬وصححه األلباني في مختصر الشمائل‪ ،‬برقم ‪ ،43‬ص‪.45‬‬


‫((( الترمذي في الشمائل‪ ،‬وصححه األلباني في مختصر الشمائل‪ ،‬برقم ‪ ،44‬ص‪.45‬‬
‫نظرة على‬

‫((( انظر صحيح مسلم (‪.)2344-2341‬‬


‫‪68‬‬

‫وكان يقول‪> :‬ش َّيبتني هود وأخواتها< ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫ُ‬
‫وفي لفظ‪> :‬شيّبتني‪ :‬هود‪ ،‬والواقعة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وعم يتساءلون‪ ،‬وإذا‬ ‫َّ‬ ‫والمرسالت‪،‬‬
‫ُ ُ‬
‫الشمس ك ِّورت<(‪. )1‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫يلبس‬ ‫حب لبس القميص‪ ،‬والح ِب َرة(‪ ،)2‬وكان‬ ‫أحمر مخضوبًا‪ ،‬وكان ي ُ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫وش ْيبُ ُه‬
‫ُّ ِّ‬
‫الط َ‬ ‫العمامة‪ ،‬وإ ُ‬
‫ُ‬ ‫يب‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫ساقه(‪ ،)3‬وكان يحب‬ ‫ِ‬ ‫نصف‬
‫ِ‬ ‫زاره إلى‬
‫َ ُ ُ ِ ُ َ ُ‬
‫جال ما‬
‫الر ِ‬ ‫>طيب ِّ‬ ‫ِ‬
‫ظهر ريحه وخ ِف َي لونه‪ ،‬وطيب النِّساء ما ظهر لونه وخ ِفي ِريحه< ‪.‬‬
‫ُ (‪)4‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫يتجمل للعيد والوفود‪ ،‬وي ِحب النظافة‪ ،‬وكان يكره أن يقوم له أحد؛‬ ‫وكان !‬
‫ب السواك‪ ،‬ويبدأ به إذا‬ ‫ّ‬ ‫فال يقوم له الصحابة؛ لعلمهم بكراهته لذلك(‪ ،)5‬وكان يُح ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ويشوص فاه بالسواك إذا قام من الليل‪ ،‬وكان ينام أول الليل‪ ،‬ثم يقوم‬ ‫دخل بيته‪،‬‬
‫يصلي‪ ،‬وكان يطيل صالة الليل حتى تنتفخ قدماه‪ ،‬ثم ي ُ‬ ‫ّ‬
‫وت ُر آخر الليل قبل الفجر ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ٰ‬ ‫ُ ُ‬ ‫وكان يُح ُّ‬
‫المرضى‪ ،‬ويشهد الجنائز‬ ‫يعود‬ ‫غيرهِ‪ ،‬وكان‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫القرآن‬ ‫يسمع‬ ‫أن‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫كثير الحياء‪ ،‬وكان إذا َكر َه شيئًا عُرف في وجهه‪ ،‬وكان يُحبُّ‬ ‫َ‬ ‫وكان‬ ‫عليهم‪،‬‬ ‫ي‬
‫ّ‬
‫ويصل‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ِ ِّ‬ ‫ّ‬
‫ّ ِ‬ ‫َّ َ ُّ‬ ‫َ َّ‬
‫توك ِل ِه؛ ألنه سيد المتوكلين ‪.‬‬ ‫يتوكل على اهلل حق‬ ‫الستر‪ ،‬وكان‬
‫ُ‬
‫حاجة لم أ ِت َّمها‬‫ٍ‬ ‫عشر سنين‪ ،‬فما بعثني في‬ ‫َ‬ ‫بي !‬ ‫ت الن ّ َّ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫قال أنس ‪( :K‬خدم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ض َي لكان< أو >لو قدِّ ر لكان<)(‪ ،)6‬ومع هذا فقد كان يأخذ باألسباب‪.‬‬ ‫إال قال‪> :‬لو ِ‬
‫ق‬
‫تعالى من أمور الجاهلية‬ ‫ٰ‬ ‫وينهى عن الغدر‪ ،‬وقد حفظه اهلل‬ ‫ٰ‬ ‫ُ‬
‫يغدر‪،‬‬ ‫وكان ال‬

‫((( مختصر الشمائل للترمذي‪ ،‬اختصره وصححه األلباني‪ ،‬برقم ‪.35 ،34‬‬
‫((( ثياب من نوع بُ ُرود اليمن‪ ،‬والبُرد‪ :‬ثوب مخطط‪ ،‬ومحبّرة مزينة‪.‬‬
‫((( مختصر شمائل الترمذي‪ ،‬برقم ‪ ،97‬وصححه األلباني‪.‬‬
‫((( مختصر شمائل الترمذي برقم ‪ ،188‬وصححه األلباني‪.‬‬
‫((( أحمد‪.134/3 ،‬‬
‫((( أحمد‪ ،231/3،‬بإسناد صحيح على شرط مسلم وهو صحيح‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ُ‬ ‫الغنم في صغره وما من ٍّ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬


‫الحجر‬ ‫نبي إاّل رعاها(‪ ،)2‬وكان‬ ‫ِ‬ ‫ورعى‬ ‫‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سالم‬ ‫اإل‬
‫ّ ِ‬ ‫قبل‬
‫يسلم عليه قبل البعثة ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫ومن أسمائه ! كما جاء في الحديث‪> :‬أنا محمد‪ ،‬وأنا أحمد‪ ،‬وأنا الماحي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ُ َ‬
‫الحاشر الذي يُحشر الناس على عَ ِق ِبي(‪ ،)4‬وأنا‬ ‫ُ‬ ‫بي الكفر‪ ،‬وأنا‬ ‫مح ٰى ّ‬ ‫الذي ي‬
‫العاقب<(‪.)5‬‬
‫والمق ِّفي(‪،)6‬‬ ‫نبي‪ ،‬وقال !‪> :‬أنا محمد‪ ،‬وأحمد‪ُ ،‬‬ ‫والعاقب الذي ليس بعده ّ‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ونبي الرحمة<(‪ ،)7‬وك َنيته أبو القاسم(‪ ،)8‬بعثه اهلل ليُت ِّم َم‬ ‫ّ‬ ‫ونبي التوبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والحاشر‪،‬‬
‫مكارم األخالق(‪.)9‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ويقصر الخطبة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ويق ُّل اللغو‪ ،‬ويطيل الصالة‪،‬‬ ‫وكان كثير الذكر‪ ،‬دائم الفكر‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫الطيب وال ي َ ُّ‬
‫رده‪ ،‬وي َ ُ‬ ‫ُ ُّ ِّ‬
‫أكثر الناس تبس ًما‪ ،‬وضحك‬ ‫كره الروائح الكريهة‪ ،‬وكان ُ‬
‫ِ‬ ‫ويحب‬
‫حتى بدت نواجذه(‪.)10‬‬ ‫في أوقات ٰ‬
‫ٍ‬

‫((( البخاري‪ ،‬برقم (‪ ،)3829‬وأحمد ‪ ، 222/4‬حديث رقم (‪.)17947‬‬


‫((( البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2262‬و رقم (‪.)3406‬‬
‫((( مسلم‪ ،‬ربقم (‪.)2277‬‬
‫((( أي يحشر الناس على أثره‪ ،‬النهاية‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬ربقم (‪ ،)3532‬ومسلم‪ ،‬ربقم (‪.)2354‬‬
‫المقفي‪ :‬الذي قفى آثار من سبقه من األنبياء ثُ َّم َق َّف ْينَا عَ َلى َآثَاره ْم ب ُر ُ‬
‫س ِلنَا‪....‬انظر‪ :‬زاد‬
‫ّ‬
‫(((‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المعاد‪ ،‬البن القيم‪.94/1 ،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( مسلم‪ ،‬ربقم (‪ ،)2355‬وشمائل الترمذي‪ ،‬ربقم (‪> )316‬مختصر األلباني< ‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬ربقم (‪ ،)3537‬ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2133( )2131‬‬
‫ّ‬

‫ً‬
‫((( أحمد‪ ،381/2 ،‬ربقم (‪ )8952‬قال مخرجوه‪< :‬صحيح> وانظر تخريجه مفصال فيه‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫(‪ ((1‬النواجذ‪ :‬األنياب‪ ،‬وقيل‪ :‬هي الضواحك التي تبدو عند الضحك النهاية‪.20/5 ،‬‬
‫‪70‬‬

‫رسول اهلل ! منذ أسلمت‪ ،‬وال رآني إال تَ َّ‬ ‫ُ‬


‫بس َم‬ ‫جرير‪ :‬ما حجبني‬ ‫ٌ‬ ‫قال‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فضرب في صدري‪،‬‬ ‫َ‬ ‫في وجهي‪ ،‬ولقد شكوت إليه أنِّي ال أثبت على الخيل‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وقال‪> :‬اللهم ثبّته‪ ،‬واجعله هاديًا مهديًّا<(‪ )1‬ويمزح وال يقول إال حقا‪ ،‬وال يجفو‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ َّ‬ ‫ً‬
‫س‬ ‫ويتنف ُ‬ ‫لعق ُهن‪،‬‬ ‫أحدا‪ ،‬ويقبل عذر المعتذر إليه‪ ،‬وكان يأكل بأصابعه الثالث وي‬
‫تكلم بكالم بيِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ويتكل ُ‬ ‫ً‬
‫ن‬
‫ٍ ٍ‬ ‫م‬ ‫تكل‬ ‫وإذا‬ ‫م‪،‬‬ ‫الكل‬
‫ِ‬ ‫بجوامع‬ ‫م‬ ‫اإلناء‪،‬‬ ‫خارج‬ ‫ا‬ ‫الشرب ثالث‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فَ ْ‬
‫ل‪ ،‬يحفظ ُه من جلس إليه‪ ،‬ويعيد الكلمة ثالثا إذا لم تفهم حتى تفهم عنه‪ ،‬وال‬ ‫ٍّ‬ ‫ص‬
‫يتكل ُم من غير حاجة ‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ ُ‬
‫تعريضا‪،‬‬ ‫األخالق ومحاسن األفعال‪ ،‬فكانت معات َبته‬ ‫ِ‬ ‫وقد جمع اهلل له مكارم‬
‫ُّ‬ ‫ٰ‬ ‫ُ ّ‬ ‫وكان ُ‬
‫العفو والصفح‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫على‬ ‫ويحث‬ ‫العنف‪،‬‬ ‫عن‬ ‫وينهى‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫ث‬ ‫يأمر بالرفق ويح‬
‫َ‬
‫التيم َن في طهوره‬ ‫ُّ‬ ‫يحب‬ ‫ُّ‬ ‫والحلم‪ ،‬واألناة‪ ،‬وحسن الخلق ومكارم األخالق‪ ،‬وكان‬ ‫ِ‬
‫غبا‪ ،‬وكانت يده اليسرىٰ‬ ‫الترجل إال ً‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وتَ ُّ‬
‫ونهى عن‬ ‫ٰ‬ ‫نعله‪ ،‬وترجله‪ ،‬وفي شأنه كله‪،‬‬
‫َّ‬ ‫لخالئه وما كان من ٰ‬
‫أذى‪ ،‬وإذا اضطجع اضطجع على جنبه األيمن‪ ،‬ووضع كفه‬ ‫ِِ‬
‫عرس(‪ُ )2‬قبيل الصبح نصبَ‬ ‫ّ‬
‫اليمنى تحت خده األيمن‪ ،‬ويقول أذكار النوم‪ ،‬وإذا َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٰ‬
‫ذراعه ووضع رأسه على كفه ‪.‬‬
‫وكان مجلسه‪ :‬مجلس علم‪ ،‬وحلم‪ ،‬وحياء‪ ،‬وأمانة‪ ،‬وصيانة‪ ،‬وصبر‪،‬‬
‫َُ ُ‬
‫وسكينة‪ ،‬وال ترفع فيه األصوات‪ ،‬وال تنت َهك فيه الحرمات‪ ،‬يتفاضلون في مجلسه‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫بالتقوى‪ ،‬ويتواضعون‪َ ،‬وي ُ َوقرون الكبار‪ ،‬ويرح ُمون الصغار‪ ،‬ويؤثرون المحتاج‪،‬‬
‫ٰ‬
‫ويخرجون دعاة إلى الخير ‪.‬‬
‫َ‬
‫وكان يجلس على األرض‪ ،‬ويأكل على األرض‪ ،‬وكان يمشي مع األرمل ِة‬
‫والمسكين‪ ،‬والعبد‪ ،‬حتى يقضي لهم حاجاتهم‪.‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬ربقم (‪ ،) 3036-3035‬ورقم (‪ ،)3822‬ورقم (‪.)6090‬‬


‫ً‬
‫((( التعريس‪ :‬نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم واالستراحة‪ .‬انظر‪ :‬النهاية في غريب الحديث‬
‫‪.206/3‬‬
‫‪71‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َّ‬
‫يصافح النِّساء غير المحارم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ومر على الصبيان يلعبون فسلم عليهم‪ ،‬وكان ال‬ ‫َّ‬
‫ّ‬ ‫َ َ َّ‬
‫وكان يتألف أصحابه ويتفقدهم‪ ،‬ويكرم كريم كل قوم‪ ،‬ويُقبل بوجهه وحديثه‬
‫ٍ‬ ‫ُ ِّ‬
‫أشر القوم يتألفهم بذلك‪.‬‬ ‫حتى على ِّ‬ ‫حدثه‪ٰ ،‬‬ ‫على من ي‬
‫ُ ٍّ ّ‬ ‫َ‬
‫ف قط‪ ،‬وما قال لي لشي ٍء‬ ‫عشر سنين قال‪( :‬فما قال لي أ‬ ‫وخدمه أنس ‪K‬‬
‫ًُُ‬ ‫صنعته‪ ،‬وال لشي ٍء تركته َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫لم تركته‪ ،‬وكان من أحسن الناس خلقا‬ ‫صنعته ِل َم‬
‫َ ُ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫َ ُ‬
‫كف رسول اهلل !‪،‬‬ ‫ن من ِّ‬ ‫حريرا‪ ،‬وال شيئا كان ألي‬ ‫ً‬ ‫مس ْست خزا‪ ،‬وال‬ ‫وال‬
‫ّ‬
‫طرا أطيب من عَ َرق الن ّ‬ ‫قط وال ع ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بي !)(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وال ش ِممت ِمسكا‬
‫صخابًا(‪ ،)2‬وال ي ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ ِّ ً‬ ‫ً‬
‫بالسيئة السيئة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫جزي‬‫ِ‬ ‫وال‬ ‫ا‬ ‫ش‬ ‫ح‬ ‫تف‬ ‫م‬ ‫وال‬ ‫ا‬ ‫فاحش‬ ‫ولم يكن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫خادما‪ ،‬وال امرأة‪ ،‬وال شيئا قط‪ ،‬إاّل أن‬ ‫بل يعفو ويصفح(‪ )3‬ويحل ُم‪ ،‬ولم يضرب‬
‫َُ‬ ‫ُ‬
‫خيِّ‬ ‫ٰ‬
‫أيسرهما‪ ،‬ما لم يكن‬ ‫شيئين إاّل اختار‬ ‫ِ‬ ‫بين‬ ‫ر‬ ‫تعالى(‪ ،)4‬وما‬ ‫يجاهد في سبيل اهلل‬
‫إثما كان أبعد الناس عنه(‪.)5‬‬ ‫إثما‪ ،‬فإن كان ً‬ ‫ً‬

‫((( البخاري‪ ،‬ربقم (‪ ،)3561‬ومسلم‪ ،‬ربقم (‪ ،)2309‬والترمذي في مختصر الشمائل‪ ،‬واللفظ‬


‫له‪ ،‬ربقم (‪.)296‬‬
‫((( صحيح البخاري (‪ )3559‬والترمذي (‪ )2016‬بهذا اللفظ قال األلباني‪< :‬صحيح>‪.‬‬
‫ّ َّ‬
‫الصخاب‪ :‬الصخب والسخب‪ :‬الضجة واضطراب األصوات للخصام‪ ،‬فهو ! لم يكن‬
‫َّ ً‬
‫صخابا في األسواق وال في غيرها النهاية ‪.14/3‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( أخرجه أحمد ‪ 236/6‬وفي كتاب الزهد رقم (‪ )6‬والترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2016‬وبنحوه‬
‫ّ‬

‫أخرجه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪. )4838‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2328‬‬
‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3560‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2327‬‬
‫‪72‬‬

‫المبحث‬
‫الثــــاني‬
‫أخالقه ‪Z‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫النبي !‪ ،‬ويقلب صفحات سيرته‪ ،‬فسيجده قد بلغ حد‬ ‫ينظر في حياة ِّ‬ ‫إن من‬
‫الحصول‬ ‫َ‬
‫يعجز عن‬ ‫والخالل الكريمة‪ ،‬ولن‬ ‫الكمال اإلنساني في األخالق الفاضلة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫متنوعة‪،‬‬‫ٍ‬ ‫كثيرة‬
‫ٍ‬ ‫قاطعة تؤكد هذه الحقيقة‪ ،‬وقد توصلت إليها بعد قراءاتٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أدلة‬
‫على ٍ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الذهن‪ ،‬في حدود اإلمكان‪ ،‬انحيازا منِّي للمعلومة‬ ‫ِ‬ ‫خالي‬ ‫أكون‬ ‫أن‬ ‫قبلها‬ ‫حرصت‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫حلما‪ ،‬وكان أكرم الناس(‪،)1‬‬ ‫ً‬ ‫أشجع الناس‪ ،‬وأكثرهم‬ ‫َ‬ ‫بي محمد !‬ ‫كان الن ّ ُّ‬
‫عفيفا‪ ،‬أمينًا‪ ،‬وكان ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عادال‪ًّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مهيبا‪،‬‬ ‫عفوا‪ ،‬صادقا‪،‬‬ ‫رحيما‪،‬‬ ‫وأكثرهم زهدا‪ ،‬وكان‬
‫أشد حياءً‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫الحق‪ ،‬وفي الوقت ذاته‬ ‫صلبا في‬ ‫متواضعا‪ ،‬وكان‬ ‫التبسـم‪،‬‬ ‫وكثير‬
‫بريئة(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬ ‫فتاة‬
‫من ٍ‬
‫بي محمد‬ ‫تأملية تحليلية لهذه األخالق‪ ،‬التي اجتمعت في شخصية الن ّ ّ‬ ‫ُّ‬
‫إن نظرة‬
‫ُ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ‬
‫واحد‪،‬‬‫ٍ‬ ‫! ت َبيِّن بجاَلء‪ ،‬أن العظمة إنما تكون حين تجتمع األخالق كلها في شخص‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫تسه َم في سعادة البشرية‪.‬‬ ‫أن‬ ‫وال‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬
‫عظيم‬ ‫تصنع‬ ‫أن‬ ‫يمكنها‬ ‫ال‬ ‫أة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫اجملز‬ ‫القيم‬ ‫ألن‬
‫ِ‬
‫بعض علماء‬ ‫ُ‬ ‫أيضا‪ ،‬حين استحضرت ما ذهب إليه‬ ‫لدي هذا الفهم ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ترجح‬
‫ٰ‬ ‫ّ َّ ُ ُ‬
‫األخاَلق)(‪.)3‬‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫بغيره‬ ‫يقوى‬ ‫ق‬
‫األخالق‪( ،‬من أن كل خ ٍ‬
‫ل‬

‫((( صحيح البخاري رقم (‪ )6‬بلفظ (أجود بالخير من الريح المرسلة )‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2320‬وصحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3562‬‬
‫((( من قصص الشمائل‪ ،‬ص ‪ ،61‬أحمد عز الدين‪.‬‬
‫‪73‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫بي محمد ! بكل هذه األخالق التي سبق‬


‫ِّ‬ ‫إن الدافع الكامن وراء تخلُّق الن ّ ِّ‬
‫كالرحمة‪،‬‬ ‫يتصف بصفات الكمال‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‬ ‫النبوة‪ ،‬ذلك أن اهلل‬ ‫عرضها بإيجاز هو َّ‬
‫ُّ ً‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫أكثر الناس تخلقا بأخالق اهلل‬ ‫والنبي !‬ ‫والعزة‪ ،‬والمغفرة‪.‬‬ ‫والكرم‪ ،‬والرأفة‪،‬‬
‫تعالى‪.‬‬ ‫ٰ‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُُ‬
‫ببيئة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫شخصية‪ ،‬أو تأث ٍر‬ ‫ٍ‬ ‫النبوي ال اعتبار فيه ألمر دنيوي‪ ،‬كمنفعة‬ ‫فالخلق‬
‫ُّ‬
‫أحوال ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أو تغير‬
‫ُّ‬
‫ولقد أدرك ر‪ .‬ف‪ .‬بودلي هذه الحقيقة‪ ،‬دون أن يذكر سببها‪ ،‬حين قال‪< :‬أشك‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫رجل غير محمد تبدلت أحواله الخارجية‪ ،‬ذلك التبدل العظيم‪،‬‬ ‫فيما إذا كان هناك‬
‫َّ‬
‫ولم تتبدل نفسه>(‪.)1‬‬
‫ً‬
‫فثبات تلك الصفات السامية في شخصية رسول اهلل ! كان دليال آخر على‬
‫رب العالمين‪.‬‬ ‫نبوته‪ ،‬وأنّه رسول ِّ‬ ‫َّ‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫يسهل تفهم هذا الثبات‪ ،‬حين نستحضر أن هذه العظمة بكل مظاهرها‪ ،‬هي‬
‫النبوة‬ ‫محمدا ! كان قبل َّ‬ ‫ً‬ ‫نقر ونعترف‪ ،‬بأن الن ّ ّ‬
‫بي‬ ‫النبوة‪ ،‬فإنّنا وإن كنّا ُّ‬ ‫من فيض ّ‬
‫ِّ‬ ‫َّ ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بروز عظمته‪ ،‬المتمثلة في اجتماع كل‬ ‫ِ‬ ‫أن‬ ‫إال‬ ‫‪،‬‬ ‫سامية‬
‫ٍ‬ ‫‪،‬‬ ‫كريمة‬
‫ٍ‬ ‫أخالق‬
‫ٍ‬ ‫ذا‬ ‫‪،‬‬ ‫نبيال‬ ‫ا‬ ‫إنسان‬
‫النبوة‪ ،‬كما أسلفنا‪.‬‬ ‫األخالق الفاضلة في شخصه بتوازن فريد من نوعه‪ ،‬كانت بسبب َّ‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫لم كانت أخالق الن ّ ّ‬ ‫أيضا‪َ ،‬‬ ‫يفسر لنا ً‬ ‫تقدم‪ِّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بي محمد ! أخالقا‬ ‫لعل هذا الذي‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مكان‪ ،‬فهي‬ ‫ٍ‬ ‫لكل‬ ‫صالحة‬ ‫‪،‬‬ ‫زمان‬
‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫في‬ ‫حاضرة‬ ‫هور‪،‬‬ ‫الد‬ ‫مر‬ ‫على‬ ‫دائمة‬ ‫‪،‬‬ ‫باقية‬
‫ّ َ‬ ‫َّ‬
‫تختص بالفئاتِ التي كانت تعنيها أول األمر‪،‬‬ ‫لم تكن للعصر الذي نشأت فيه‪ ،‬ولم‬
‫وليدة بيئة الن ّ ِّ‬ ‫َ‬
‫بي !‪.‬‬ ‫ولم تكن‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫بي محمد ! يمارس هذه األخالق بأفعاله‪ ،‬أكثر من أقواله‪ ،‬وهو‬ ‫كان الن ّ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ّ‬

‫ما جعلها قريبة من الناس‪ ،‬مألوفة لديهم‪ ،‬ممكنة التطبيق‪.‬‬


‫نظرة على‬

‫((( الرسول حياة محمد‪ ،‬ص ‪ ،14‬ر‪ .‬ف‪ .‬بودلي‪.‬‬


‫‪74‬‬

‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫طيبة تذكر‪ ،‬إال ولرسول اهلل ! فيها‬ ‫ٍ‬ ‫خالل‬
‫ٍ‬ ‫حسنة تعرف‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫أخالق‬
‫ٍ‬ ‫ما من‬
‫ِّ‬
‫ٰ‬
‫وتعالى قائاًل‬ ‫أوفر الحظ والنصيب‪ ،‬وكيف ال يكون كذلك‪ ،‬وقد وصفه ربُّه سبحانه‬ ‫ُ‬
‫يم﴾ [ا �ل���ق��ل ‪.]4 :‬‬ ‫ك لَ َع ىَ ٰ ُ ُ َ‬
‫ل خل ٍق ع ِظ ٖ‬
‫َّ َ‬
‫﴿ِإَون‬
‫م‬
‫ّ َ َّ‬
‫وقد يكون أكثر ما تميّز به ! من بين جميع األخالق التي تحل ٰى بها والتي كان‬
‫َ َ ٓ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ اَّ َ مۡ َ ٗ‬
‫عز من قائل ﴿وما أرسلنك إِل رحة‬ ‫وصد َق َّ‬ ‫َ‬
‫الرحمة‪،‬‬ ‫خ ُل َق َّ‬ ‫ُ‬
‫أثر على الناس هو‬ ‫لها ٌ‬
‫نأ‬
‫ني﴾ [ال� �ب�ي��ا ء‪.]107 :‬‬ ‫ّل ِۡل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬
‫ٌ ٌ‬ ‫لخلق الرحمة‪ ،‬الذي امتاز به الن ّ ّ‬ ‫ُ‬
‫أثر بارز على‬ ‫بي محمد !‪ ،‬وتميَّ َز به‬ ‫لقد كان‬
‫ً‬ ‫ِ ً‬ ‫ً‬
‫الخلق العظيم‪ ،‬أتناوله فيها بشي ٍء من‬ ‫ِ‬ ‫قديما وحديثا‪ ،‬وسأقف وقفة مع هذا‬ ‫البشرية‬
‫ِ‬
‫التفصيلِ والتحليل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫لق الرحمة من بين أخالقيَّاته !‬ ‫ِ‬ ‫خ‬ ‫عن‬ ‫للبحث‬ ‫مسالك‪،‬‬ ‫ثالثة‬ ‫سلكت‬ ‫لقد‬
‫وهي‪:‬‬
‫تعالى نفسه‬ ‫ٰ‬ ‫النظر المتأمل في القرآن الكريم‪ :‬فقد وصف اهلل‬ ‫ُ‬ ‫المسلك األول‪:‬‬
‫اسمين له‬ ‫واشتق اهلل من هذه الصفة َ‬ ‫َّ‬ ‫في القرآن‪ ،‬بهذه الصفة في آيات كثيرة‪،‬‬
‫ََ ُ ‪ٞ‬‬
‫اس لرءوف‬ ‫�ح��ة‪﴿ ،]3 :‬إن َ‬
‫ٱلل بِٱنلَّ ِ‬
‫هَّ‬ ‫َّ‬ ‫ت‬
‫ٱلرحِي ِم﴾ [ا �ل��ف� �ا �‬ ‫سبحانه‪َ ،‬و َر َدا في آيات منها‪َّ ﴿ :‬‬
‫ٱلرِنَٰمۡح َّ‬
‫ِ‬
‫��ك�ه��ف�‪.]58 :‬‬ ‫ٱلرحةِۖ﴾ [ا �ل �‬ ‫ِيم﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪ ،]143 :‬ومنها‪﴿ :‬وربك ٱلغفور ذو‬
‫َ َ ُّ َ ۡ َ ُ ُ ُ َّ مۡ َ‬ ‫َّرح ‪ٞ‬‬

‫نفسه بالرحمن الرحيم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬


‫وسم ٰى‬ ‫تعالى لنفسه‪ ،‬صفة الرحمة‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫حيث أثبت اهللُ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫تفضال على الناس ورحمة بهم‪ ،‬فأنزل إليهم دينًا وصفه اهلل بأنه رحمة بهم‪ ،‬في قوله‬
‫َ‬ ‫َُ ۡ‬
‫يم ‪ ٣١‬أه ۡم َيقس ُِمون‬ ‫ع رج ٖل مِن ٱلقريت ِ ع ِظ ٍ‬ ‫ِ ذا ٱلقرءان‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬وقَالُوا ْ ل َ ۡو اَل نُ ّز َل َهٰ َ ۡ ُ ۡ َ ُ لَىَ ٰ َ ُ ّ َ ۡ َ ۡ َ َينۡ َ‬
‫ََ َ‬ ‫يش َت ُه ۡم ف حۡ َ َ ُّ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ ۡ‬
‫َ مۡ َ َ َ ّ َ حَ ۡ ُ َ َ ۡ َ َ ۡ َ ُ َّ َ‬
‫ٱلي ٰوة ِ ٱدلنيا ۚ ورفعنا بعضهم فوق بع ٖض درج ٰ ٖ‬
‫ت‬ ‫يِ‬ ‫رحت ربِكۚ نن قسمنا بينهم معِ‬
‫ي َم ُعون﴾ [ا �ل�ز خ�ر�ف�‪.]32 ،31 :‬‬
‫ّ َ َّ َ َ ۡ ُ ُ َ ۡ ٗ ُ ۡ ّٗ َ َ مۡ َ ُ َ ّ َ َ رۡ ‪ َّ ّ ٞ‬جَ ۡ‬
‫َ‬
‫خذ بعضهم بعضا سخ ِرياۗ ورحت ربِك خي مِما‬ ‫يِلت ِ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫قال ُ‬
‫النبوة‪ ،‬والوحي‪،‬‬ ‫مفسري القرآن‪ ،‬إن الرحمة هنا هي‬ ‫واحد‪ ،‬من‬
‫ٍ‬ ‫غير‬
‫ٰ‬
‫َ‬
‫تعالى‪﴿ :‬وما كنت ترجوا أن يل ٰٓ‬ ‫وكذا في قوله‬
‫َ َ اَ‬ ‫َ َ ُ َ َ ۡ ُ ٓ ْ ُ ۡ ىَ يَ ۡ َ ۡ َ ٰ ُ اَّ َ مۡ َ ٗ‬
‫حة ّمِن َّر ّبِك ۖ فل‬ ‫ق إِلك ٱلكِتب إِل ر‬
‫َ‬
‫ين﴾ [ا �ل���ق���ص���ص‪ .]86 :‬يقول العالمة الشنقيطي‪< :‬والظاهر المتباد ُر‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬
‫ريا ل ِلكٰفِر َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ون َّن َظه ٗ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تك‬
‫‪75‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫الرحمة على ذلك متعدد‬ ‫ِ‬ ‫وإنزال الوحي‪ ،‬وإطالق‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫النبوة‬ ‫أن المراد برحمة ربّك‪:‬‬
‫في القرآن)(‪.)1‬‬
‫ٰ‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫بي محمدا ! بهذه الصفة‪ ،‬كقوله‬
‫ً‬ ‫وصف القرآن الكريم‪ ،‬بعد ذلك الن ّ ّ‬
‫ََ ۡ َ َٓ ُ ۡ َ ُ ‪ُ َ ۡ ّ ٞ‬‬
‫كم بٱل ۡ ُم ۡؤ ِمن َ‬ ‫﴿لقد جاءكم رسول مِن أ‬
‫ُ ۡ َ ٌ َ َ ۡ َ َ ُّ ۡ َ ٌ َ َ ۡ ُ‬
‫ِني‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫يص‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ح‬ ‫م‬‫ِت‬ ‫ن‬‫ع‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫يز‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ِك‬
‫س‬ ‫نف‬
‫ۡ‬ ‫َ َ َ َّ ۡ ْ َ ُ ۡ َ ۡ َ هَّ ُ اَ ٓ َ ٰ َ اَّ ُ َ َ َ ۡ َ َ لَّ ۡ ُ ُ‬ ‫َُ ‪ٞ‬‬
‫تۖ َوه َو َر ُّب ٱل َع ۡر ِش‬ ‫ِيم ‪ ١٢٨‬فإِن تولوا فقل حس يِب ٱلل ل إِله إِل هو ۖ عليهِ توك‬ ‫وف َّرح ‪ٞ‬‬ ‫رء‬
‫ٱلع ِظي ِم﴾ [ا �لت�و�ب��ة‪.]129 ،128 :‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫إن اهلل جعل الن ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫ٰ‬
‫تعالى‪﴿ :‬وما‬ ‫بي محمدا ! هو الرحمة ِب َع ِينها في قوله‬ ‫بل‬
‫ََٓ‬
‫نأ‬ ‫َۡ َ ۡ َٰ َ‬
‫‪.‬‬ ‫﴾‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫َ مۡ‬ ‫اَّ‬
‫‪]107‬‬ ‫ء‪:‬‬ ‫ا‬
‫�‬‫�‬ ‫�‬‫�‬
‫� بي‬ ‫ال‬‫[‬ ‫ٰ‬
‫أرسلنك إِل رحة ل ِلعل ِمني‬
‫ّ‬
‫مبهر‪ ،‬بين تلك‬ ‫ٍ‬ ‫تناسب‬
‫ٌٍ‬ ‫وجود‬ ‫للقارئ‪،‬‬ ‫اتضح‬ ‫قد‬ ‫العرض‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫بعد‬ ‫ه‬ ‫لعل‬
‫ُّ‬
‫أنزل ِدينًا كله رحمة للعالمين جميعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫األوصاف‪ ،‬فاهلل الرحمن الرحيم بمخلوقاته‪َ ،‬‬
‫رحيما‪ ،‬فكان هذا الن ّ ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األنسب‪ ،‬أن يكون الن ّ ُّ‬
‫َ‬
‫بي‬ ‫بي المرسل بهذا الدين رؤوفا‬ ‫فكان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫هو محمد ! رحمة مهداة ونعمة مسداة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ّ ُُ‬
‫تعالى‪ ،‬من إرسال الرسول !‬ ‫ٰ‬ ‫مناسب لتحقيق مراد اهلل‬ ‫إن خلق الرحمة هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫تنفيذ‬
‫ِ‬ ‫باألمة‪ ،‬في‬
‫ِ‬ ‫مفطورا على الرحمة‪ ،‬فكان رحمة من اهلل‬ ‫بهذا الدين‪ ،‬فقد أرسله‬
‫شريعته(‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‪ ،‬لم يصف أحدا من أنبيائه بوصف الرحمة‪،‬‬ ‫الجدير بالمالحظة أن اهلل‬
‫َ‬
‫محمدا !‪ ،‬فقد تحدث القرآن عن خمسة وعشرين ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫إال الن ّ َّ‬
‫نبيا‪ ،‬ووصفهم‬ ‫ٍ‬ ‫بي‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫وأكملها‪ ،‬وعظم شأنهم‪ ،‬في كل موضع ذكروا فيه‪ ،‬إال‬ ‫ِ‬ ‫بأجمل األوصاف‪،‬‬
‫ّ ً‬
‫كثرة صفاتهم الحميدة‪.‬‬ ‫أن أحدا منهم‪ ،‬لم يوصف بهذه الصفة‪ ،‬على ِ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬

‫((( انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪ ،111‬محمد األمين الشنقيطي‪،‬‬
‫دار الفكر‪ 1995 ،‬م‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( انظر التحرير والتنوير‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪ 145-144‬بتصرف‪ ،‬الطاهر ابن عاشور‪.‬‬
‫‪76‬‬

‫بي محمدا ! بهذه الصفة‪ ،‬دون أن‬


‫ً‬ ‫يخص الن ّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫تعالى لحكمة‪ ،‬أن‬ ‫ٰ‬ ‫أراد اهلل‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫جميعا‪ ،‬رحماء ُ في تعاملهم‬ ‫يشاركه فيها أحد‪ ،‬مع أهمية التأكيد على أن أنبياء اهلل‬
‫بعينه‪.‬‬
‫مع أقوامهم‪ ،‬وفي حرصهم على إيمانهم‪ ،‬ولكن حديثي هنا عن الوصف ِ‬
‫محمد !‪ ،‬وفي أقواله‪ ،‬وتوجيهاته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫المسلك الثاني‪ :‬النظر في سيرة الن ّ ِّ‬
‫بي‬
‫كل ما صدر عن الن ّ ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫قول‪،‬‬‫ٍ‬ ‫من‬ ‫!‪،‬‬ ‫بي‬ ‫في‬ ‫حاضرة‬ ‫كانت‬ ‫الرحمة‪،‬‬ ‫صفة‬ ‫أن‬ ‫د‬ ‫يؤك‬
‫ِّ‬ ‫لكل حال‪ ،‬بل هو ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُُ‬
‫والموجه له ‪.‬‬ ‫المهيمن عليه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫المالزم‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫فعل‪ ،‬فهو الخ‬ ‫أو ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ُُ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ولقد كان الن ّ ّ‬
‫مستحضرا هذا الخلق‪ ،‬في كل حركاته‪ ،‬وسكناته‪،‬‬ ‫بي محمد !‬
‫ً ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫يؤكد هذا قوله عن نفسه‪> :‬إنما أنا رحمة مهداة<(‪ ،)1‬وال أشك لحظة أنه كان يستحضر‬
‫ٌ‬
‫أ‬
‫ني﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪.]107 :‬‬ ‫ح ٗة ّل ِۡل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬
‫ك إ اَّل َر مۡ َ‬ ‫ََ ٓ َۡ َ َۡ َ‬
‫تعالى له‪﴿ :‬وما أرسلنٰ ِ‬ ‫ٰ‬ ‫على الدوام قول اهلل‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫مفهوم الرحمة مناسب ً‬ ‫ُ‬
‫تماما ألن يتصف به نبينا محمد !‪،‬‬ ‫المسلك الثالث‪:‬‬
‫ُُ‬ ‫ُ‬
‫ويشهد لذلك تلك التعريفات التي أوردها العلماء لهذا الخلق‪ ،‬ومن ذلك قولهم‪:‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ض ً‬ ‫ٌ‬
‫وجدانية‪ ،‬تَعر ُ‬ ‫ٌ‬
‫لالنعطاف‬
‫ِ‬ ‫مبدأ‬ ‫وتكون‬ ‫القلب‪،‬‬ ‫ة‬ ‫رق‬ ‫به‬ ‫لمن‬ ‫ا‬ ‫غالب‬ ‫ُ ِ‬ ‫حالة‬ ‫<الرحمة‬
‫النفساني‪ ،‬الذي هو مبدأ اإلحسان>(‪.)2‬‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫وأيسرها‪ ،‬قولهم‪< :‬هي رقة يجدها المخلوق في قلبه‪،‬‬ ‫ولعل أوضحها‪،‬‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫وتخفيف آالمه>(‪،)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ومواساته‪،‬‬ ‫سواه‪،‬‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫إلى‬ ‫واإلحسان‬
‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫العطف‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫ه‬ ‫تحمل‬
‫وهي الرحمة التي يناسب أن يوصف بها المخلوق‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وما يسترعي االنتباه ما ذكره ابن القيِّم‪< :‬الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫نفسه‪ ،‬وشقت عليها‪ ،‬فهذه هي الرحمة‬ ‫والمصالح إلى العبد وإن كرهتها‬ ‫ِ‬
‫((( أخرجه الحاكم في المستدرك‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ ،35‬وصححه الشيخ األلباني في الصحيحة‬
‫رقم ‪.490‬‬
‫((( الكليات ج‪ 1‬ص ‪ 471‬أبو البقاء أيوب بن موسى الكفوي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫((( الرحمة في القرآن ص‪ 22‬موسى عبده عسيري ط‪ 1412 ،1‬هـ مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ِّ‬
‫المضار‬ ‫ودفع‬ ‫مصالحك‪،‬‬ ‫إيصال‬ ‫في‬ ‫عليك‬ ‫الحقيقية‪ ،‬فأرحم الناس من ّ‬
‫شق‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عنك>(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫لقد أضاف ابن القيِّم بعدا جديدا لمفهوم الرحمة‪ ،‬وهو أنها تعني أن تمارس‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومريضه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الطبيب‬
‫ِ‬ ‫تحب‪ ،‬وإن لم يرحب بهذا‪ ،‬كما يحصل مع‬ ‫الرحمة على من‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫نظرة على‬

‫((( إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،173‬ابن قيم الجوزية‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪78‬‬

‫المبحث‬
‫شخصي ِة الرسول ‪Z‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫توازن‬ ‫الثــالث‬
‫ُ‬
‫واعتدالها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫نظره ذلك التوازن الدقيق بين معالمها‪،‬‬ ‫من يدرس شخصية الرسول !‪ ،‬يلفت‬
‫ُّ‬ ‫يجده في ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫بشر سواه‪ ،‬هذا التوازن ـ الذي يعد من أبرز دالئل‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫مما ال يمكن أن‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الكم الهائلِ من الشمائل ومحاسن األخالق التي اجتمعت‬ ‫نبوته ـ يتمثل في‬
‫ٌ‬ ‫توظ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫ف صفة‬ ‫صفة‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫متعادل‪ ،‬ال تطغى صفة على‬ ‫ٍ‬ ‫نسق‬
‫ٍ‬ ‫في شخصيَّته‪ ،‬على‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫لبوسها‪.‬‬ ‫حالة‬
‫ٍ‬ ‫موقف ال تحتاجه‪ ،‬وال تليق به‪ ،‬بل لكل مقام مقال‪ ،‬ولكل‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫ٍ‬
‫أم َر‬ ‫نهى عنه َ‬ ‫نهى عنه‪ ،‬أو ما ٰ‬ ‫أم َر به ٰ‬ ‫حتى ال يستطيع ذو عقل أن يقول‪ :‬ليت ما َ‬ ‫ٰ‬
‫ٍ‬
‫أمنية أهل العقل‪،‬‬ ‫كل منه على‬ ‫نقص من عقابه؛ إذ ٌّ‬ ‫َ‬ ‫عفوه أو‬
‫ِ‬ ‫به‪ ،‬أو ليته زاد في ِ‬ ‫ْ‬
‫وفك ِر أهلِ النظر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫والحب‬ ‫مزيد من اإلعجاب‬ ‫ٍ‬ ‫إلى‬ ‫المسلمين‬ ‫يقود‬ ‫الذي‬ ‫البشري‬ ‫الكمال‬ ‫ه‬ ‫إن‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بأسرها أنهم أتباع سيّ ِد البشر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لرسولهم الكريم‪ ،‬مفاخرين الدنيا‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫نفس‬
‫ٍ‬ ‫أسمى غايته‪ ،‬فكان ذا‬ ‫ٰ‬ ‫حقق التوازن األخالقي في شخصيّة الرسول‬
‫النفسي وأبعاده‪ ،‬فما‬ ‫ّ‬ ‫أدنى معرفة بالسلوك‬ ‫تتمتع بمثاليّ ٍة‪ ،‬يدركها من له ٰ‬ ‫ُ‬ ‫سوي َّ ٍِة‪،‬‬
‫الهزلي الذي‬ ‫ّ‬ ‫بالكئيب العبوس الذي تنفر منه الطباع‪ ،‬وال بالكثير الضحك‬ ‫كان !‬
‫ِ‬
‫تسقط مهابته من العيون ‪.‬‬
‫إسراف‪.‬‬ ‫إفراط وال‬ ‫مما يُحزن ويُبكي منه العقالء‪ ،‬في غير‬ ‫ولم يكن حزنه وبكاؤه إال ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫بشهيق ورفع صوتٍ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يكن‬ ‫فلم‬ ‫ه‬ ‫بكاؤ‬ ‫وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه اهلل‪< :‬وأما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫حتى تهمال‪ ،‬ويسمع لصدره ٌ‬ ‫ولكن كانت تدمع عيناه ٰ‬
‫أزيز‪ ،‬وكان بكاؤه تارة رحمة‬
‫‪79‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتارة خوفًا على َّ‬ ‫ً‬


‫خشية اهلل‪ ،‬وتارة عند سماع‬ ‫ِ‬ ‫أمته وشفقة عليها‪ ،‬وتارة من‬ ‫للميّت‪،‬‬
‫مصاحب للخوف والخشية‪ّ ،‬‬
‫ولما‬ ‫ٌ‬ ‫وإجالل‪،‬‬ ‫اشتياق ومحبّ ٍة‬ ‫القرآن‪ ،‬وهو بكاء‬
‫ً ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وبكى رحمة له‪ ،‬وقال‪> :‬تدمع العين ويحزن القلب‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه‬
‫ّ‬
‫وال نقول إاّل ما يرضي ر َّبنا‪ ،‬وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون<‪.‬‬
‫لما قرأ عليه ابن مسعود‬ ‫وبكى ّ‬‫ٰ‬ ‫ونفسها تفيض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٰ‬
‫إحدى بناته‪،‬‬ ‫لما شاهد‬ ‫وبكى ّ‬ ‫ٰ‬
‫ُ‬
‫ٰ‬ ‫ٰ‬ ‫ّ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ف‬ ‫وانتهى فيها إلى قوله‬ ‫سورة النساء‪،‬‬
‫لُ ّ َّ َ‬ ‫َ َ‬
‫ك ۡي َف إ َذا ۡ َ‬
‫ج ۡئ َنا‬ ‫َ‬
‫ك أمة ِۢ بِش ِهي ٖد و ِ‬
‫جئنا مِن ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يدا﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪.]41 :‬‬‫َ لَىَ ٰ َ ٰٓ ُ اَ ٓ ِ َ ٗ‬
‫بِك ع هؤلء ش ِه‬
‫ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫وبكى ّ‬
‫لما كسفت الشمس وصل ٰى صالة‬ ‫ٰ‬
‫وبكى‬ ‫لما مات عثمان بن مظعون‪،‬‬ ‫ٰ‬
‫>رب ألم تعدني أاّل‬‫ِّ‬ ‫الكسوف‪ ،‬وجعل يبكي في صالته‪ ،‬وجعل ينفخ ويقول‪:‬‬
‫لما جلس على قبر‬ ‫وبكى ّ‬
‫ٰ‬ ‫تعذبهم‪ ،‬وأنا فيهم‪ ،‬وهم يستغفرون ونحن نستغفرك<‪.‬‬
‫ّ‬
‫ً‬ ‫ٰ‬
‫إحدى بناته‪ ،‬وكان يبكي أحيانا في صالة الليل(‪.)1‬‬
‫َّ‬ ‫ضح ُك منه‪ ،‬وهو ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ َ ُ‬
‫مما يُتعجب من مثله‪،‬‬ ‫ض ِحك ُه !‪ :‬فكان يضحك مما ي‬ ‫أما‬
‫ستغرب وقوعُه ويُستندر‪ ،‬كما كان يداعب أصحابه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وي ُ‬
‫ّ‬
‫أتى الن ّ َّ‬ ‫َّ‬
‫أن رجاًل ٰ‬
‫بي ! فاستحمله‪ ،‬فقال رسول اهلل‪> :‬إنا‬ ‫مالك‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وعن أنس بن‬
‫ناقة؟ فقال رسول اهلل‪:‬‬ ‫بولد ٍ‬
‫ِ‬ ‫ناقة<‪ .‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ما أصنع‬ ‫ولد ٍ‬ ‫حاملوك على ِ‬
‫>وهل تلد اإلبل إاّل النُّوق<(‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يؤمن لهم كفايتهم‬ ‫المعنى الذي ذكرناه دل هذا الحديث‪ :‬أنه ! كان‬ ‫ٰ‬ ‫إضافة إلى‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ويؤمن وسيلة النقلِ لمن يحتاج إليها‪،‬‬ ‫من المطعمِ والملبسِ والمسكن‪ ...‬إلخ‪،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( ابن القيم‪ :‬زاد المعاد الجزء األول بتصرف‪.‬‬


‫ّ‬

‫((( أخرجه البخاري في األدب المفرد (‪ )268‬ورواه الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪،)1991‬‬
‫وأبو داوود ‪ ،‬حديث رقم (‪ )4999( )4998‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )13817‬وغيرهم‪ ،‬قال‬
‫نظرة على‬

‫مخرجوه‪< :‬إسناده صحيح>‪.‬‬


‫‪80‬‬

‫حتى يصل‬ ‫واما من عَ ْيش<(‪ ،)1‬أي ما يقوم بعيشه‪ٰ ،‬‬ ‫يصيب ق ً‬ ‫َ‬ ‫فقد قال !‪:‬‬
‫ِ‬
‫ٰ‬
‫>حتى‬
‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ٰ‬
‫الغنى‪.‬‬ ‫مراتب‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫إلى‬
‫ِ‬
‫نبوته‪ ،‬فلقد جعل هذا‬ ‫السلوكي في شخصيَّة الرسول أحد دالئل َّ‬ ‫ُّ‬ ‫كان التوازن‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫األب‬‫ُ‬ ‫كل جوانب الحياة؛ فهو‬ ‫التوازن من رسول اهلل القدوة العليا التي تمثلت فيها ُّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والمحارب الشجاع ‪.‬‬ ‫والزوج ورئيس الدولة‪ ،‬والقائد للجيش‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫والمعلم والعابد والزاهد‪ ...‬إلى آخر‬ ‫كما كان المستشار والقاضي والمربي‬
‫ْ َّ‬
‫صفاته ! التي كانت من الثراء‪ ،‬بحيث استوعبت كل جوانب حياة البشر‪ ،‬األمر‬
‫َّ ً‬ ‫َ َ‬
‫الذي جعل من رسول اهلل ! المثل الكامل للناس كافة‪ ،‬على اختالف طبقاتهم‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫النظري‪ ،‬ومرة بالبيان‬
‫ً‬
‫مرتين‪ :‬مرة بالبيان‬ ‫الحج ُة على الناس َّ‬ ‫َّ‬ ‫ومشاربهم‪ٰ ،‬‬
‫حتى تقوم‬
‫ّ‬
‫السلوكي‪:‬‬ ‫العملي‪ .‬وإليك بعض مظاهر هذا التوازن‬ ‫ّ‬
‫ُُ‬ ‫ُ‬
‫المقال‬
‫ِ‬ ‫بين‬ ‫والواقع‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ث‬ ‫الم‬ ‫بين‬ ‫انفصااًل‬ ‫الطويل‬ ‫تاريخها‬ ‫في‬ ‫البشرية‬ ‫شهدت‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ٰ‬
‫والدعوى أبرز‬ ‫دائما المثال والمقال‬ ‫الدعوى والحقيقة‪ ،‬وكان‬ ‫والفعال‪ ،‬بين‬
‫من الواقعِ والفعال والحقيقة‪.‬‬
‫غير أن هذه الظاهرة‬
‫َ َّ‬
‫أدنى معرفة بالتاريخ والحياة‪،‬‬ ‫وهذا شيءٌ يعرفُه من له ٰ‬
‫ٌ‬
‫الرسل وأتباعهم‪ ،‬فهم وحدهم الذين دعَوا اإلنسانيَّة إلى أعظم‬ ‫مفقودة في واقع ُّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫رائع مدهش(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل‬
‫ٍ‬ ‫الذروة‬ ‫هذه‬ ‫العملي‬ ‫بسلوكهم‬ ‫لوا‬ ‫السمو‪ ،‬ومث‬ ‫قمم‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫يخطر بقلب‬ ‫ٰ‬
‫أعلى ما‬ ‫وظهور هذا التوازن في حياة رسول اهلل العمليَّة كان على‬
‫ّ‬ ‫بشر‪ ،‬فهو العابد والزاهد واجملاهد والزوج‪ ،‬والذي ما كان ُ‬
‫بخير إاّل كان أول‬
‫ٍ‬ ‫يأمر‬ ‫ٍ‬
‫ّ َ‬ ‫ٰ‬
‫تارك له‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫كان‬ ‫إاّل‬ ‫شر‬
‫ٍ‬ ‫عن‬ ‫ينهى‬ ‫وال‬ ‫به‪،‬‬ ‫آخذ‬
‫ٍ‬
‫يقوم من الليل ٰ‬
‫حتى تنفطر‬
‫ُ‬ ‫تقول السيدة عائشة ‪> :I‬كان الن ّ ُّ‬
‫بي !‬
‫ُ‬
‫فعن عبادته‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1044‬‬


‫((( سعيد حوى‪ :‬الرسول ص ‪.55‬‬
‫‪81‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫ذنبك وما‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫م‬ ‫تقد‬ ‫ما‬ ‫لك‬ ‫فر‬ ‫غ‬ ‫تصنع هذا يا رسول اهلل‪ ،‬وقد‬ ‫قدماه‪ ،‬فقلت له‪ِ :‬ل َم‬
‫َّ‬
‫شكورا<(‪.)1‬‬ ‫تأخر؟ قال‪ :‬أفال أكون عبدا‬
‫ً‬ ‫ُ ً‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫فط ُر من الشهر حتى نظن أاّل يصوم منه‬ ‫أنس ‪ K‬قال‪> :‬كان رسول اهلل ي ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وعن‬
‫ًِّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫شيئًا‪ ،‬ويصوم ٰ‬
‫حتى نظن أن ال يُفطر منه شيئا‪ ،‬وكان ال تشاء ُ أن تراه من الليل مصليا‬
‫رأيته‪ ،‬وال ً‬ ‫َ‬
‫نائما إال رأيته<(‪.)2‬‬ ‫إال‬
‫ٌ‬ ‫زهده يروي اإلمام أحمد عن عائشة ‪ I‬قالت‪> :‬دخلت َّ‬
‫علي امرأة من‬ ‫ِ‬ ‫وعن‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األنصار‪ ،‬فرأت فراش الن ّ ِّ‬
‫حشوه‬ ‫بي عباءة مثنية‪ ،‬فرجعت إلى منزلها‪ ،‬فبعثت بفراش‬
‫ٍ‬
‫علي رسول اهلل فقال‪ :‬ما هذا؟ فقلت‪ :‬فالنة األنصارية دخلت عليَّ‬ ‫الصوف‪ ،‬فدخل َّ‬
‫َ‬
‫إلي بهذا‪ .‬فقال‪ُ :‬ردِّيه‪ .‬قالت‪ِ :‬فل َم ُأر ُّده‪ ،‬وأعجبني أن يكون في‬ ‫فرأت فراشك‪ ،‬فبعثت َّ‬
‫َ‬ ‫بيتي؟ ٰ‬
‫ٰ‬
‫ألجرى اهلل‬ ‫حتى قال ذلك ثالث مرات‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا عائشة‪ُ ،‬ردِّيه‪ ،‬فواهلل لو ِشئت‬
‫َُْ‬
‫معي جبال الذهب والفضة ‪ .‬قالت‪ :‬فرددته< (‪.)3‬‬
‫ً ّ‬ ‫ً‬ ‫قط‪ ،‬وما ٰ‬ ‫ّ‬
‫رأى شاة سميطا قط‪،‬‬ ‫خوان‬
‫ٍ‬ ‫وهو إمام الزاهدين الذي ما أكل على‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وما ٰ‬
‫رأى منخال منذ أن بعثه اهلل إلى يوم ق ِبض‪ ،‬ما أخذ من الدنيا شيئا‪ ،‬وال أخذت‬
‫ً‬
‫كراكب استظلَّ‬ ‫ٍ‬ ‫منه شيئا‪ ،‬وصدق إذ يقول‪> :‬ما لي وما للدُّنيا‪ ،‬ما أنا في الدُّنيا إال‬
‫َ‬
‫شجرة ث َّم راح وتركها< (‪.)4‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫تحت‬
‫أحسن الناس‬ ‫َ‬ ‫أنس ‪ K‬قال‪> :‬كان الن ّ ُّ‬
‫بي‬ ‫وأما عن شجاعته وجهاده‪ ،‬فيروي ٌ‬ ‫ّ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ليلة فانطلق الناس ِق َبل‬ ‫المدينة ذات ٍ‬
‫ِ‬ ‫فزع أهل‬ ‫ِ‬ ‫ولقد‬ ‫الناس‪،‬‬ ‫وأشجع‬ ‫الناس‬ ‫وأجود‬

‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4836‬ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ )2819‬و(‪.)2820‬‬


‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)1141‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2082‬وأخرجه أحمد في كتاب الزهد رقم (‪ ،)75‬والبيهقي‬
‫ّ‬

‫في دالئل النبوة (‪ ،)345/1‬والخطيب (‪.)102/11‬‬


‫نظرة على‬

‫((( أخرجه الترمذي أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )2377‬و(‪ )3746‬وغيره‪ ،‬قال‪ :‬قال مخرجوه‪< :‬إسناده‬
‫ً‬
‫صحيح> وانظر تخريجه فيه مفصال‪.‬‬
‫‪82‬‬

‫َ ُ‬
‫الناس إلى الصوت‪ ،‬وهو يقول‪ :‬ل ْم تراعُوا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بي‪ ،‬قد سبق‬ ‫الصوت‪ ،‬فاستقبلهم الن ّ ُّ‬
‫سيف‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫نقه‬ ‫َل ْم تُراعُوا‪ ،‬وهو على فرس ألبي طلحة عُ ْري ما عليه س ْر ٌج‪ ،‬في عُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بحرا<(‪. )1‬‬
‫لقد وجدتُه ً‬
‫أكنتم َو َّليتُم َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫حنين‬
‫ٍ‬ ‫يوم‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫البرا‬ ‫إلى‬ ‫رجل‬ ‫وفي صحيح مسلم‪> :‬جاء‬
‫َ‬ ‫َّٰ‬ ‫أشهد على ِّ‬ ‫ُ‬
‫نبي اهلل ! ما ولى‪ ....‬دعا‪ ،‬واستنفر وهو يقول‪ :‬أنا‬ ‫يا أبا عمارة؟ فقال‪:‬‬
‫هم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫بي ال كذب‪ ،‬أنا ابن عبد‪ ‬المطلب‪ ،‬الل ّ‬ ‫الن ّ ُّ‬
‫نزل نصرك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫احمر البأس نتقي به‪ ،‬وإن الشجاع منا للذي يحاذي‬ ‫َّ‬ ‫قال البراء‪ :‬كنَّا‪ ،‬واهلل إذا‬
‫بي !<(‪.)2‬‬ ‫به‪ ،‬يعني الن ّ ّ‬
‫َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫برسول اهلل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫قينا‬ ‫ات‬ ‫‪،‬‬‫القوم‬ ‫القوم‬ ‫َ‬
‫ولقي‬ ‫س‬ ‫َّ‬
‫احمر البأ‬ ‫وعن علي ‪ K‬قال‪ :‬كنَّا إذا‬
‫ٌ‬
‫أدنى من القوم منه‪.‬‬ ‫أحد ٰ‬ ‫فما يكون منَّا‬
‫ّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫شمائله ! التي ٰ‬ ‫َ‬
‫أمته‪ ،‬وكان أول‬ ‫نادى بها‪ ،‬وعلمها‬ ‫ولوال خوف اإلطالة لسردنا‬
‫الممارسين العاملين لها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫صاحب الرسالة‪ ،‬هذا الصدق ال بد‬ ‫الصدق صفة أساسـية ال بد أن يتمتع بها‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫أي حال‪ ،‬بحيث لو امتُ َ‬ ‫ض في ِّ‬ ‫ً‬
‫مطلقا‪ ،‬ال ي ُ َنق ُ‬
‫صاحب الرسالة في كل‬ ‫حن‬ ‫ٍ‬ ‫أن يكون‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫أخبر أو تنبَّأ ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫داعب أو‬ ‫قول له‪ ،‬لكان مطابقا للواقع‪ ،‬إذا وعَـد أو عاهد أو جد أو‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬ ‫الصفة َّ‬‫ُ‬
‫دعوى الرسالة تنتقض من أساسها؛‬ ‫نقض‪ ،‬فإن‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫وإذا انتقضت هذه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫كالمه‬ ‫ِ‬ ‫ثنايا‬ ‫في‬ ‫تجد‬ ‫ال‬ ‫الصادق‬ ‫والرسول‬ ‫صادق‪،‬‬ ‫غير‬ ‫برسول‬
‫ٍ‬ ‫يثقون‬ ‫ال‬ ‫الناس‬ ‫ألن‬
‫ً‬
‫حال من األحوال ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫شيئا من الباطلِ في أي ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وكفى داللة‬ ‫ٰ‬ ‫أوضح السمات في شخصيَّة رسول اهلل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫الصدق‬ ‫ولقد كان‬

‫((( صحيح البخاري (‪.)6033‬‬


‫((( صحيح مسلم (‪.)1776‬‬
‫((( سعيد حوى‪ :‬الرسول ص ‪.23‬‬
‫‪83‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ُ‬ ‫ّ ّ‬ ‫َّ‬ ‫لق ُ‬‫َّ َ َّ‬


‫انطباع يرسخ في نفس‬ ‫ٍ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫إن‬ ‫بل‬ ‫األمين‪،‬‬ ‫ادق‬ ‫بالص‬ ‫بوه‬ ‫الصدق أن قومه‬
‫ِ‬ ‫على هذا‬
‫ِّ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫من ُ‬
‫الصديقين ‪.‬‬ ‫األولى أنه من‬ ‫ٰ‬ ‫يراه للمرة‬
‫بي المدينة‪ ،‬انجفل الناس عليه‪ ،‬فكنت‬ ‫لما قدم الن ّ ُّ‬ ‫فعن عبد اهلل بن سالم قال‪ّ :‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫نت َ‬ ‫ّ َّ ُ‬
‫وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب‪ ،‬فكان أول‬ ‫فيمن انجفل‪ ،‬قال‪ :‬فلما تبي‬
‫ُ‬
‫شي ٍء سمعته يقول‪> :‬أفشوا السالم‪ ،‬وأطعموا الطعام‪ ،‬وصلوا األرحام‪ ،‬وصلُّوا بالليل‬
‫والناس نيام‪ ،‬تدخلون الجنَّة بسالم<(‪. )1‬‬
‫بي‬‫فهو الصادق في وعده وعهده؛ فعن عبد اهلل بن أبي الخنساء قال‪ :‬بايعت الن ّ َّ‬
‫ْ‬
‫آتيه بها في مكانه ذلك‪ ،‬فنسيت يومي‬ ‫وبقيت له بقية‪ ،‬فواعدته أن َ‬ ‫قبل أن يُبعث‬
‫علي‪ ،‬أنا‬ ‫فتى‪ ،‬لقد شققت َّ‬ ‫والغد‪ ،‬فأتيتُه اليوم الثالث وهو في مكانه‪ ،‬فقال‪> :‬يا ٰ‬
‫ثالث أنتظرك<(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬ ‫ها هنا منذ‬
‫ٌ‬
‫رجل‬ ‫يقسم غنائم هوازن‪ ،‬فوقف عليه‬ ‫وبعد غزوة حنين جلس رسول اهلل ِّ‬
‫ً‬ ‫ّ ٍ‬
‫من الناس فقال‪ :‬إن لي عندك موعدا يا رسول اهلل‪ .‬قال‪> :‬صدقت‪ ،‬فاحتكم‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ما شئت<‪ .‬قال‪ :‬أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها‪ .‬قال‪> :‬هي لك‪ ،‬واحتكمت‬
‫ً‬
‫يسيرا<(‪. )3‬‬
‫ّ‬ ‫ٰ‬
‫العزى في قصة إسالمه‪ ،‬أنه عندما كان‬ ‫وأخرج الحاكم عن حويطب بن عبد‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫مشركا‪ ،‬تول ٰى مطالبة الرسول عن مكة في عمرة القضاء‪ ،‬بعد انقضاء الثالثة أيَّام‬
‫قريش‬‫ٌ‬ ‫لعمرة القضاء‪ ،‬وخرجت‬ ‫ولما قدم رسول اهلل‬ ‫المتفق عليها‪ ،‬يقول حويطب‪ّ :‬‬
‫ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫خرج رسول اهلل‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫لكي‬ ‫عمرو‪،‬‬ ‫بن‬ ‫وسهيل‬ ‫أنا‬ ‫بمكة‪،‬‬ ‫ف‬ ‫تخل‬ ‫فيمن‬ ‫كنت‬ ‫من مكة‪،‬‬
‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مضى الوقت‪ّ ،‬‬ ‫ٰ‬
‫مضى‬ ‫فلما انقضت الثالثة أقبلت أنا وسهيل بن عمرو فقلنا‪ :‬قد‬ ‫إذا‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ً‬
‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )23784‬قال مخرجوه‪< :‬اسناده صحيح> انظر تخريجه مفصال‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( سنن أبي داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ )4996‬قال األلباني‪< :‬ضعيف اإلسناد> كما في ضعيف سنن‬
‫نظرة على‬

‫أبي داوود (‪.)1062‬‬


‫((( الرسول !‪ :‬سعيد حوي ص ‪.37‬‬
‫‪84‬‬

‫ْ‬
‫بلدنا‪ .‬فصاح‪> :‬يا بالل‪ ،‬ال‬ ‫شرطك‪ ،‬فاخرج من ِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الشمس وواحد من المسلمين‬ ‫تغب‬
‫ِ‬
‫ممن قدم معنا<(‪. )1‬‬ ‫بمكة‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫َ َ‬
‫البخاري‬ ‫وما حدث أن وعد رسول اهلل أو عاهد فأخلف أو غدر‪ ،‬ولقد روى‬
‫هرقل َّ‬ ‫َ‬
‫لما سأل أبا سفيان عن محمد‪ :‬هل يغدر؟ أجاب‪ :‬ال‪ ،‬فقال هرقل بعد‬ ‫>أن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ذلك‪ :‬وسألتك هل يغدر فزعمت أنه ال يغدر‪ ،‬وكذلك الرسل ال تغدر<(‪ ،)2‬بل إنه‬
‫ً‬ ‫يحيد عن الصدق وال ٰ‬ ‫ُ‬
‫حتى مجاملة ألحد‪.‬‬ ‫ال‬
‫ُ ُ‬
‫وحديثه‬
‫ِ‬ ‫قبل بوجهه‬ ‫فعن عبداهلل عمرو بن العاص ‪ K‬قال‪> :‬كان رسول اهلل ي ِ‬
‫حتى ظننت‬ ‫علي‪ٰ ،‬‬ ‫أشر القوم‪ ،‬يتألفهم بذلك‪ ،‬فكان يُقبل بوجهه وحديثه َّ‬ ‫على ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خير أم أبو بكر؟ فقال‪ :‬أبو بكر‪ .‬فقلت‪:‬‬ ‫أنِّي خير القوم‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أنا ٌ‬
‫خير أم عثمان؟ فقال‪ :‬عثمان‪.‬‬ ‫خير أم عمر؟ فقال‪ :‬عمر‪ ،‬فقلت‪ :‬أنا ٌ‬ ‫يا رسول اهلل‪ ،‬أنا ٌ‬
‫ُ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فلوددت أني لم أكن سألته<(‪. )3‬‬ ‫فلما سألت رسول اهلل فصدقني‪،‬‬
‫َّ‬
‫يتخف ُ‬ ‫ٰ‬
‫ف الكثيرون من قواعد االنضباط‪،‬‬ ‫وحتى في أوقات الدعابة والمرح‪ ،‬حيث‬
‫َّ‬
‫مزاحه؛ فعن أبي هريرة قال‪> :‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إنك‬ ‫ِ‬ ‫كان رسول اهلل الصادق في‬
‫تداعبنا! قال‪ :‬إنِّي ال أقول إال ح ًّقا< (‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫َ ََ‬
‫صفت أخالق رسول اهلل‪ ،‬ما قالته السيّدة‬ ‫من أبلغ وأجمع الكلمات التي و‬
‫ُُ‬
‫عائشة ‪> :I‬كان خلقه القرآن<‪.‬‬
‫حلمه‪،‬‬ ‫يغلب ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫تواضعه ال‬ ‫السمو والتوازن ما جعل‬ ‫ِّ‬ ‫ولقد كانت هذه األخالق من‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وكرمه‪ ،‬وال يغلب ُّ‬ ‫َ‬ ‫حل ُمه َّ‬‫ُ‬
‫صبره‪ ...‬وهكذا في كل شمائله‬ ‫وكرمه‬ ‫بره‬ ‫بره‬ ‫وال يغلب‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫غير األخالقيَّة في حياته ‪.‬‬ ‫انعدام التصرفاتِ ِ‬
‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫وسالمه عليه‪ ،‬هذا مع‬ ‫هلل‬
‫صلوات ا ِ‬
‫النبوة عن أنس ‪ K‬قال‪> :‬كان رسول‬ ‫فعن تواضعه‪ :‬يروي أبو نعيم في دالئل َّ‬
‫ِ ِ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)7‬‬ ‫ ‬


‫((( الحاكم ‪.492/3‬‬
‫((( سنن الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪.)1990‬‬ ‫ ‬
‫((( مختصر الشمائل (‪.)295‬‬
‫‪85‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ً‬ ‫ِّ‬
‫أمة‬
‫عبد وال من ٍ‬ ‫باردة‪ ،‬من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫غداة‬
‫ٍ‬ ‫اهلل من أشد الناس لطفا‪ ،‬واهلل ما كان يمتنع في‬
‫ٰ‬ ‫ٌ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صبي‪ ،‬أن َ‬ ‫ٍّ‬
‫أصغى‬ ‫سائل قط إال‬ ‫وجهه وذراعيه‪ ،‬وما سأله‬ ‫يأتيه بالماء‪ ،‬فيغسل‬ ‫وال‬
‫ٌ‬
‫إليه أذنه‪ ،‬فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه‪ ،‬وما تناول أحد بيده إال‬
‫حتى يكون هو الذي ينزعُها منه< (‪.)1‬‬ ‫ناوله إيَّاها‪ ،‬فلم ينزع ٰ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫أحلم الناس‪ ،‬وأرغبهم في‬ ‫حلمه‪ :‬يقول حجة اإلسالم الغزالي‪< :‬كان !‬ ‫وعن ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫حنين‪ ،‬ورسول اهلل يقسم الغنائم‪ ،‬فقال‬ ‫العفو مع ّ المقدرة> ٌ‪ ،‬يروي َالبخاري يوم ُ َ ٍ‬
‫(‪)2‬‬

‫وجه اهلل‪ .‬فقلت ـ أي عبد اهلل‬ ‫ُ‬ ‫رجل‪ :‬إن هذه لقسمة ما عُ ِدل فيها‪ ،‬وما أريد بها‬ ‫ٌ‬
‫َّ‬
‫راوي الحديث ـ‪ :‬واهلل ألخبرن رسول اهلل‪ .‬فأتيته فأخبرته‪ ،‬فقال‪> :‬من يعدل إذا لم‬
‫ُ‬

‫موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر<(‪. )3‬‬ ‫ٰ‬ ‫ورسوله‪ ،‬رحم اهلل‬ ‫ُ‬ ‫يعدل اهللُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫وعن كرمه‪ :‬يروي الشيخان عن جابر بن عبد اهلل ‪ K‬قال‪> :‬ما ُ‬
‫سئل رسول‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً ّ‬
‫اهلل شيئا قط فقال‪ :‬ال<(‪ )4‬وأخرج أحمد عن أنس أن رسول اهلل لم يسأل شيئا‬
‫رجل فأمر له بشا ٍء كثير بين جبلين من شا ِء‬ ‫ٌ‬ ‫على اإلسالم إال أعطاه‪ ،‬قال‪> :‬فأتاه‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫الرجل إلى قومه فقال‪ :‬يا قوم‪ ،‬أسلموا فإن محمدا يعطي عطاءَ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫الصدقة‪ ،‬فرجع‬
‫يخشى الفاقة<(‪.)5‬‬ ‫ٰ‬ ‫من ال‬
‫ٌ ّ‬
‫يومئذ صفوان بن أميَّة‬ ‫ٍ‬ ‫اهلل‬ ‫رسول‬ ‫ٰ‬
‫>وأعطى‬ ‫حنين‪:‬‬ ‫غزوة‬ ‫في‬ ‫ه‬ ‫وأخرج مسلم أن‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫!‬
‫ُ‬
‫مائة من النِّعم‪ ،‬ثم مائة‪ ،‬ثم مائة ‪ ...‬وأن صفوان قال‪ :‬لقد أعطاني رسول اهلل !‬
‫ّ‬ ‫ٰ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫إلي<(‪.)6‬‬ ‫ألحب الناس َّ‬ ‫حتى إنه‬ ‫إلي‪ ،‬فما بَ ِرح يعطيني‬ ‫ألبغض الناس َّ‬ ‫ُ‬ ‫ما أعطاني‪ ،‬وإنه‬

‫((( حلية األولياء ‪.29 / 3‬‬


‫((( إحياء علوم الدين ‪ 494/1‬ط أولى ‪ -‬دار القلم والدار الشامية ‪1993/4/3‬م‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3150‬‬


‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)6034‬ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2311‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ )2312‬وأحمد ‪.175/3‬‬
‫نظرة على‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ )2313‬و(‪.) 2327‬‬


‫‪86‬‬

‫ٌ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬


‫دينار‬ ‫أسخى الناس‪ ،‬ال يبيت عنده‬ ‫يقول حجة اإلسالم الغزالي‪< :‬وكان‬
‫ً‬
‫درهم‪ ،‬وال يُسأل شيئا إال أعطاه> (‪.)1‬‬ ‫ٌ‬ ‫وال‬
‫ٌّ‬
‫نجراني‬
‫ٌ‬
‫بي !‪ ،‬وعليه بُرد‬ ‫وفي صحيح البخاري‪> :‬عن أنس‪ ،‬كنت أمشي مع الن ّ ِّ‬
‫ُ‬ ‫شديدة‪ٰ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أعرابي فجذبَ‬
‫ٌّ‬ ‫ُ‬
‫عاتق‬
‫ِ‬ ‫صفحة‬
‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫نظرت‬ ‫حتى‬ ‫جذبة‬ ‫ه‬ ‫فأدركه‬ ‫الحاشية‪،‬‬ ‫غليظ‬
‫َّ‬
‫شدة جذبَ‬ ‫ُ‬
‫حاشية ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫مال اهلل‬ ‫من‬ ‫لي‬ ‫مر‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ثم‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫دا‬ ‫الر‬ ‫به‬ ‫رت‬ ‫أث‬ ‫قد‬ ‫!‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫بي‬ ‫الن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ثم أمر له بعطاء<(‪.)2‬‬ ‫ُّ‬
‫الذي عندك‪ ،‬فالتفت إليه فضحك َّ‬

‫أسد قال‪ :‬نزلت أنا وأهلي‬ ‫وفي سنن النسائي وأبي داوود‪> :‬عن رجل من بني ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الغرقد‪ ،‬فقالت لي أهلي‪ :‬اذهب إلى رسول اهلل !‪ ،‬فسـله لنا شـيئا نأكله‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ببقيعِ‬
‫ُ‬ ‫َُ‬
‫فذهبت إلى رسول اهلل !‪ ،‬فوجدت عنده رجاًل يسأله ورسول اهلل ! يقول‪ :‬ال‬
‫َّ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫مغضب‪ ،‬وهو يقول‪ :‬لعمري إنك لتعطي‬ ‫أجد ما أعطيك‪ ،‬فول ٰى الرجل عنه وهو‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫من شئت‪ ،‬قال رسول اهلل !‪ :‬إنَّه ليغضب َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫علي أن ال أجد ما أعطيه‪ ،‬من سأل منكم‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وله أوقية أو عدلها‪ ،‬فقد سأل إلحافا‪.‬‬
‫ً‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ َ ٌ‬


‫درهما‪،‬‬ ‫خير لنا من أوقية‪ ،‬واألوقية أربعون‬ ‫قال األسدي‪ :‬فقلت‪ :‬للقحة‬
‫فقسم لنا منه‬ ‫ٌ‬
‫وزبيب‪َّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫شعير‬ ‫فرجعت ولم أسأله‪ ،‬فقدم على رسول اهلل ! بعد ذلك‬
‫حتى أغنانا اهلل عز وجل<(‪. )3‬‬ ‫ٰ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫والرأفة‪ ،‬إال أنه الحلم والرأفة التي ال تجاوز‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فرغم ما حباه اهلل به من الحلم‬
‫حرمات اهلل‪ ،‬فإذا غض َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ب‪ ،‬فال يقوم لغضبه‬ ‫ِ‬ ‫للحق إذا انتهكت‬ ‫يغضب‬ ‫حدها‪ ،‬فكان‬
‫جاهل‬
‫ٍ‬ ‫أحلم الناس‪ :‬عن‬ ‫ُ‬ ‫يهد َم الباطل وينتهي‪ ،‬وفيما عدا ذلك فهو‬ ‫حتى ِ‬‫شيءٌ ٰ‬
‫منافق يتظاهر بغير ما يبطن (‪.)4‬‬ ‫أو‬ ‫لألدب‪،‬‬ ‫ء‬ ‫مسي‬ ‫أو‬ ‫الخطاب‪،‬‬ ‫يعرف َ‬
‫أدب‬ ‫ُ‬ ‫ال‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫((( إحياء علوم الدين ‪.490/1‬‬


‫((( صحيح البخاري (‪.)3149‬‬
‫((( سنن النسائي‪ ،‬حديث رقم (‪ )2596‬وأبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1627‬قال األلباني‪< :‬صحيح>‪.‬‬
‫((( سعيد حوى‪ :‬الرسول ص ‪.139‬‬
‫‪87‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬


‫ولما نكث بنو قريظة العهد وتحالفوا مع األحزاب على حرب المسلمين‪،‬‬
‫َّ َّ‬
‫سعد بن معاذ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ثم رد اهلل كيدهم في نحورهم‪ ،‬وأمكن اهلل رسوله منهم‪ ،‬رضوا بحكم‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ٌ‬
‫وتسبى نساؤهم وذراريهم‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫رض َيه رسول اهلل‪ ،‬فحكم سعد أن تقتل رجالهم‪،‬‬ ‫كما َّ ِ‬
‫ْ‬
‫وج ُ‬
‫فوق سبعِ‬ ‫الملك(‪ )1‬من‬ ‫بحكم‬ ‫فيهم‬ ‫حكمت‬ ‫>لقد‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫الرسول‪،‬‬ ‫ه‬ ‫فتهلل‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رجل(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬ ‫أربعمائة‬
‫ِ‬ ‫واحد‬
‫ٍ‬ ‫سموات<‪ .‬فقتل رسول اهلل منهم في يوم‬
‫ٍ‬
‫َّ‬
‫أسرى غزوة بدر‪ ،‬قال‪ :‬ومنهم أبو عزة الشاعر‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫وروى ابن إسحاق في َّ‬
‫قص ِة‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مال‪ ،‬وإني لذو‬ ‫كان محتاجا ذا بناتٍ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬لقد عرفت ما لي من ٍ‬
‫َّ‬ ‫حاجة وذو عيال‪ ،‬فامنن َّ‬
‫علي‪ .‬فمن عليه رسول اهلل !‪ ،‬وأخذ عليه أن ال يظاهر‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫شعرا‪ ،‬يمدح به رسول اهلل !‪.‬‬ ‫عليه أحدا‪ .‬فقال أبو عزة في ذلك‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بعقله‬
‫ثم إن أبا عزة هذا نقض ما ُكان عاهد عليه الرسول‪ ،‬ولعب المشركون ِ‬
‫ُّ‬
‫النبي‪:‬‬ ‫أيضا‪ ،‬فقال‬ ‫يمن عليه ً‬ ‫َّ‬
‫بي أن‬ ‫أحد أسر‪ ،‬فسأل الن ّ َّ‬ ‫فرجع إليهم‪ ،‬فلما كان يوم ٍ‬
‫َّ‬
‫فض ِربت‬‫محمدا مرتين<‪ ،‬ثم أمر به ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ضيك وتقول‪ :‬خدعت‬
‫َ َ‬
‫عار‬
‫ُ‬
‫تمسح‬ ‫>ال أدعُك‬
‫ُ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫عنقه (‪.)3‬‬
‫َ َّ‬
‫خطب بنت أبي جهل‪ .‬وعنده‬ ‫َ‬ ‫علي بن أبي طالب‬ ‫أن َّ‬ ‫الم ْس َو ِر بن مخرمة‪،‬‬ ‫ُوعن ِ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فلما سمعت بذلك فاطمة أتت الن َّ‬ ‫فاطمة بنت رسول اهلل !‪َّ .‬‬
‫بي ! فقالت له‪ :‬إن‬
‫ٌ‬ ‫تغضب لبناتك‪ .‬وهذا ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫جهل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أبي‬ ‫ابنة‬ ‫ناكح‬ ‫علي‬ ‫ال‬ ‫ك‬ ‫قومك يتحدثون أن‬
‫تشهد‪ .‬ثم قال‪> :‬أما بعد‪ .‬فإنِّي‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫بي ! فسمعته حين‬ ‫قال الم ْس َو ُر‪ :‬فقام الن ّ ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫محمد مضغة منِّي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بنت‬ ‫فاطمة‬ ‫وإن‬ ‫قني‬ ‫فصد‬ ‫ثني‬ ‫فحد‬ ‫ِ‬ ‫الربيع‬ ‫بن‬ ‫العاص‬ ‫أبا‬ ‫نكحت‬ ‫أ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عدو اهلل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫واهلل ال تجتمع بنت رسول اهلل وبنت‬ ‫ِ‬ ‫أكر ُه أن يفتنوها‪ ،‬وإنَّها‬ ‫وإنَّما َ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( صحيح مسلم ‪ ،‬حديث رقم (‪ )1768‬ومسند أحمد ‪ ،‬حديث رقم (‪.)11170‬‬
‫ّ‬

‫((( في تهذيب سيرة ابن هشام ص ‪.180‬‬


‫نظرة على‬

‫((( قال الحافظ‪< :‬أخرج قصته ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد>‪ .‬وقال ابن هشام في >تهذيب‬
‫بي ! قال‪ > ...‬فتح الباري ‪.530/10‬‬ ‫السيرة<‪< :‬بلغني عن سعيد بن المسيب أن الن ّ ّ‬
‫‪88‬‬

‫علي الخطبة (‪.)1‬‬ ‫عند رجل واحد أبدا<‪ .‬قال‪ ،‬فترك ٌّ‬
‫ٍ‬
‫إنَّه الليِّ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫وسالمه عليه‪.‬‬ ‫عنف(‪ ،)2‬فصلواتِ اهلل‬
‫ٍ‬ ‫غير‬
‫َِ‬ ‫في‬ ‫دة‬ ‫والش‬ ‫‪،‬‬ ‫ضعف‬
‫ٍ‬ ‫غير‬ ‫ي‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫التاريخ س َي َ‬ ‫َّ‬
‫آالف المصلحين والزعماء الذين عاشوا مناضلين من‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫لقد سجل لنا‬
‫كل المبادئ‬ ‫بعامة‪ ،‬ولكن لم تجتمع ُّ‬ ‫أجل فكرة أو مبدإ أفاد شعوبهم أو اإلنسانية َّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أوجه‬ ‫الطيبَّ‬
‫وسائر ِ‬
‫ِ‬ ‫واألخالق والعبادة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫والقيادة‬
‫ِ‬ ‫البيت‬
‫ِ‬ ‫شخص الرسول‪ ،‬في‬ ‫في‬ ‫إال‬ ‫ة‬
‫َ‬
‫واآلخرين‪.‬‬ ‫الحياة التي استنارت ِ بمبعثه‪ ،‬فصلوات اهلل وسالمه عليه في َّ‬
‫األولين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪. )2449‬‬


‫((( انظر‪ :‬غريب الحديث للخطابي (‪. )163/2‬‬
‫‪89‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫المبحث‬
‫الرابــــع‬
‫مظاهر رحمته ‪Z‬‬
‫نبي الرحمة ! منذ فجر دعوته‪ ،‬ينشر ثقافة الرحمة‪ ،‬بين الناس‪،‬‬ ‫لقد بدأ ُّ‬
‫َ ً‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬
‫األولى التي عاش فيها ثالث عشرة سنة يدعو فيها إلى‬ ‫على الرغم من أن البيئة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الرحمة‪ ،‬كانت بيئة معادية له‪ ،‬فلم يكن للرحمة في قلوب المشركين بمكة مكانة‬
‫ٌ‬ ‫َّ ٌ‬ ‫َّ‬
‫الق َيم العربية التي لم‬ ‫ِ‬ ‫أصحابها‬ ‫على‬ ‫أملتها‬ ‫‪،‬‬ ‫محاصرة‬ ‫دة‬ ‫محد‬ ‫مواقف‬ ‫إال‬ ‫تذكر‪،‬‬
‫َ‬
‫منافية لهذه القيم التي صارت‬ ‫ٍ‬ ‫ف معالمها‪ ،‬على الرغم من شيوع ثقافاتٍ‬ ‫تخت ِ‬
‫َّ‬
‫أفراد مضطهدين يزيدون كل يوم‪ ،‬على الرغم‬ ‫ٍ‬ ‫غريبة‪ ،‬ولم يكن معه أعوان‪ ،‬باستثناء‬
‫واضطهاد ‪.‬‬ ‫يتعرضون له من ظلم‪،‬‬ ‫مما كانوا َّ‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حد سوا ٍء‪ ،‬منذ اليوم‬ ‫نبي الرحمة !‪ ،‬بأتباعه وأعدائه على ٍّ‬ ‫مظاهر رحمة ِّ‬ ‫ُ‬ ‫بدأت‬
‫استرعى انتباه الباحثين في سيرته‪ ،‬حين ألزم َ‬ ‫ٰ‬ ‫ّ‬
‫نفسه‪ ،‬وألزم‬ ‫األول لدعوته‪ ،‬وهو ما‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫أتباعه‪ ،‬بعدم الرد على إساءات أعدائهم‪ ،‬وكان ينفذ بهذا توجيهات ربِّه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٰ‬
‫ليستقر‬ ‫األولى‪ ،‬حاضرة ظاهرة‪ ،‬في هذا المنهج‪،‬‬ ‫لقد كانت الرحمة منذ األيام‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬أن كلمة الفصل للمبادئ‪ ،‬والصراع هو صراع معتقدات‬ ‫في أذهان الناس‬
‫ِّ‬ ‫خارجي‪ ،‬من َّ‬ ‫ِّ‬
‫غيرها من المؤثرات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫قو‬ ‫ٍّ‬ ‫ر‬
‫ٍ‬ ‫وحسب‪ ،‬والبقاء ُ فيه لألصلح‪ ،‬دون مؤث‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫والنبي ! عازم على هذا المنهج‪ ،‬وهو يعلم أن خصومه لن يوافقوه عليه ‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ً‬ ‫رأى ً‬ ‫بي ! ٰ‬ ‫أن الن ّ َّ‬‫َّ‬


‫خيرا ورحمة في هذا المنهج الذي يقوم على الصفح‪،‬‬ ‫كما‬
‫َّ‬
‫ّ‬

‫واحد‪،‬‬ ‫مجتمع‬ ‫بالنبي‪ ،‬ومن كفر به‪ ،‬أبناء ُ‬ ‫ِّ‬ ‫آمن‬ ‫ن‬‫م‬‫ألن َ‬ ‫والصبر‪ ،‬والتسامح‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫يضمهم بيت واحد‪.‬‬ ‫القربى‪ ،‬والجوار‪ ،‬وربَّما‬ ‫ٰ‬ ‫صالت‬ ‫تجمعهم‬
‫نظرة على‬
‫‪90‬‬

‫ِّ‬ ‫جميعا‪ ،‬أن ٰ‬


‫نهى أتباعه عن القتال‪ ،‬والرد‬ ‫ً‬ ‫بي ! بهم‬‫لقد كان من رحمة الن ّ ِّ‬
‫حتى ال يقتل األخ أخاه‪ ،‬أو الصديق صديقه‪ ،‬أو الجار جاره‪ ،‬ما أمكن‬ ‫بالم ْثل‪ٰ ،‬‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫إلى ذلك سبيال‪.‬‬
‫ُ‬
‫عديدة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫والغريب‪ ،‬على هذه البيئة سنواتٍ‬ ‫لقد استمر هذا المنهج الفريد‪،‬‬
‫ّ‬
‫ٰ‬
‫حتى اليسيرة بالقتال‪،‬‬ ‫فقد اعتاد الناس في هذه البيئات‪ ،‬أن يحلوا مشاكلهم‬
‫َّ‬
‫نبي الرحمة ! في مكة بهذا األمر ‪.‬‬ ‫وقد فكر أعداء ِّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ٰ‬
‫حتى يقوم بعضنا‬ ‫وقالوا له صراحة‪( :‬كأنك تريد أن يَعظم بيننا الخالف‪،‬‬
‫ٰ‬
‫نتفانى)(‪ ،)1‬أي يقضي بعضنا على بعض‪ٰ ،‬‬
‫حتى ال يكاد‬ ‫إلى بعض بالسيوف ٰ‬
‫حتى‬
‫ٍ‬ ‫ٰ َّ ٍ ٌ‬
‫يبقى منا أحد ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫لكنَّهم لم يعلموا أن الن ّ َّ‬
‫منهج غير‬ ‫بي !‪ ،‬يفكر بغير ما يفكرون به‪ ،‬ولديه‬
‫مألوف‪ ،‬سوف يشهره في وجوههم بدل السيوف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بي ! عن هذا المنهج حين طلب منه أتباعه‪ ،‬أن يدافعوا عن‬ ‫قد أفصح الن ّ ُّ‬
‫عزة ونحن‬ ‫َّ‬ ‫أذى‪ ،‬فقد قالوا له‪ ،‬يا َّ‬ ‫يتعرضون له من ٰ‬ ‫أنفسهم‪ ،‬بسبب ما َّ‬
‫نبي اهلل كنا في ٍ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫فلما آمنَّا صرنا أذلة‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إني أمرت بالعفو‪ ،‬فال تقاتلوا القوم(‪.)2‬‬ ‫مشركون‪َّ ،‬‬

‫جديد‪ ،‬يواجه‬ ‫كر َه أمام منهج‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬


‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وكره من ِ‬
‫وها هم اليوم جميعا رضي من رضي‪ِ ،‬‬
‫واحد ـ‪ ،‬بالدعوة إلى الرحمة‪ ،‬والتسامح‪ ،‬والعفو‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الخالفات ـ ولو من طرف‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لقد لفت الن ّ ُّ‬
‫قديما وحديثا‪ ،‬إلى أن الرحمة كفيلة‬ ‫بي ! بهذا انتباه البشريَّة‪،‬‬
‫مما بينهم‬‫بأن تهيِّئ المناخ المناسب للحوار والتفاهم بين الناس‪ ،‬على الرغم َّ‬
‫فإن الكراهية تعمي‪ ،‬وصوت َّ‬ ‫َّ‬
‫القوة يصمي‪،‬‬ ‫من اختالف في اآلراء واألجناس‪.‬‬
‫وعندها تسود شريعة الغاب‪.‬‬

‫((( البداية والنهاية ج‪ ،3‬ص ‪.68‬‬


‫((( محمد أبو شهبة‪ :‬السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ج‪ ،1‬ص ‪.158‬‬
‫‪91‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬


‫نبي الرحمة ! سلوكا شخصيا وح ْسب‪ ،‬دونما‬ ‫لم يكن خلق الرحمة في ِّ‬
‫التفاتٍ منه إلى المحيطين به‪ ،‬كما هو حال بعض العظماء‪ ،‬حين جعلوا من األخالق‬
‫ً‬
‫الحميدة‪ ،‬صفاتٍ شخصية‪ ،‬امتازوا بها عن أبناء مجتمعهم الذين استمروا على ما هم‬
‫ُ َّ َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫نخبة ال صلة للعامة بها‪ ،‬وهم‬ ‫ٍ‬ ‫توهم أنها أخالق‬ ‫هد بوذا مثال‪ ،‬حتى قد ي‬ ‫عليه مثل ِ‬
‫ز‬
‫غير مطالبين بالتمثل بها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫تخلق الن ّ ُّ‬
‫بي ! بهذا الخلق‪ ،‬ثم أمر به الناس‪ ،‬وتعاهده بأقواله وأفعاله‪،‬‬ ‫فقد‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫تردد‪ :‬إن َّ‬
‫التصرف أوجد بيئة ينمو‬ ‫نبي الرحمة ! بهذا‬ ‫ٍ‬ ‫حتى أمكن القول بال‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫فيها خلق الرحمة‪ ،‬وتنتشر فيها بالتدريج ثقافة التراحم‪ ،‬بغية أن تصبح الرحمة خلقا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جماعيا‪ ،‬بعد أن كانت خلقا فرديًا ـ لدى قلة منهم ـ ضعيفا منزويًا ‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫نبي الرحمة يُعد رسالة إلى المصلحين والعقالء‪،‬‬ ‫إن سلوك ِّ‬ ‫أال يمكن القول‬
‫ِّ‬
‫ومكان‪ ،‬تحمل في طيَّاتها ضرورة‬ ‫ٍ‬ ‫زمان‬
‫ٍ‬ ‫داخل اجملتمعات البشرية‪ ،‬في كل‬
‫أن يقوم هؤالء بالدعوة إلى الفضائل التي يحملونها‪ ،‬وبذل غاية الجهد في سبيل‬
‫ك الناس على ما هم عليه‪.‬‬ ‫ْ‬
‫إقناع الناس بها‪ ،‬وأن ال يقنعوا باإليمان بها هم‪ ،‬ثم تر ِ‬
‫ُ‬
‫نبي الرحمة ! أيَّما اجتهاد‪ ،‬في ترسيخ هذا الخلق‪ ،‬على الرغم‬ ‫لقد اجتهد ُّ‬
‫وتعسف‪ ،‬من ق َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫القى هو وأصحابه‪ ،‬في سبيل هذا‪ ،‬من ٰ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫ومشق‬ ‫أذى‪،‬‬ ‫مما‬
‫قساة في طبعهم‪ ،‬اعترضوا على شخصه‪ ،‬واعترضوا على مبادئ دعوته‪،‬‬ ‫تاة‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫أعدا ٍء ع ٍ‬
‫واعترضوا على أتباعه‪.‬‬
‫ٰ َّ‬ ‫ٌ‬
‫حتى إنه‬ ‫وضع أعداؤه في مكة‪ ،‬القاذورات على رأسه‪ ،‬وهو ساجد‪،‬‬
‫ٰ‬
‫إحدى َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫المرات‪،‬‬ ‫وتعرض للضرب في‬ ‫لم يتمكن من رفعها‪ ،‬فجاءت ابنته فرفعتها‪،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫وبصق عليه أحدهم‪ ،‬وكانوا دائمي السخرية منه(‪.)1‬‬


‫َّ‬
‫ّ‬

‫خباط‪،‬‬‫ٍ‬ ‫كما عذبوا أتباعه‪ ،‬بأبشع صور التعذيب‪ ،‬فقد قتلوا سمية بنت‬
‫نظرة على‬

‫((( البداية والنهاية ج ‪ 3‬ص‪.68‬‬


‫‪92‬‬

‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬


‫بعد تعذيبها‪ ،‬وكانت أول من ضحت بنفسها في اإلسالم‪ ،‬وقتلت في سبيل تعاليم‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ياسر تحت التعذيب‪ ،‬وتعددت صور التعذيب‪،‬‬ ‫دين الرحمة‪ ،‬ثم مات زوجها‬
‫َّ‬
‫طويلة ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وامتدت إلى فتراتٍ‬
‫ً‬
‫المرأة على يد أهل مكة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ونورد هنا صورة من صور التعذيب‪ ،‬التي حصلت‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫وهذه المرأة هي أم سلمة‪ ،‬التي صارت فيما بعد زوجة للنبي ! بعد وفاة زوجها‪،‬‬
‫ُّ‬
‫قصتها هذه‪ ،‬أدعها تقصها عليكم‪:‬‬ ‫فقد ذكرت طرفًا من َّ‬

‫لما قرر أبو سلمة الهجرة ـ تعني زوجها ـ‪ ،‬حملني أنا وابني سلمة‬ ‫<قالت‪ّ :‬‬
‫رجال من بني المغيرة‪ ،‬وهم‬ ‫ٌ‬ ‫بعير لنا‪ ،‬وخرج بنا إلى المدينة‪ ،‬فاعترضه‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫على ٍ‬
‫أهلي‪ ،‬وقالوا له‪ :‬ال ندعك تخرج بابنتنا‪ ،‬وأخذوني منه‪ ،‬ومعي ابني‪ ،‬فلما ٰ‬
‫رأى‬ ‫ِ‬
‫بنو عبد األسد ـ وهم أهل زوجي ـ ما صنع أهلي‪ ،‬قالوا‪ :‬واهلل ال نترك ابننا عندها‪،‬‬
‫إذ نزعتموها من صاحبنا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فتجاذبوا ابني بينهم‪ ،‬حتى خلعوا يده‪ ،‬وظفر به أهل زوجي‪،‬‬
‫ففرق بيني وبين زوجي‪ ،‬وبين ابني‬ ‫بنو عبد‪ ‬األسد‪ ،‬وانطلق بي أهلي بنو المغيرة‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫الصغير‪ ،‬بعد أن خلعت يده‪ ،‬فكنت أخرج كل يوم إلى أطراف مكة‪ ،‬فما أزال‬
‫ٍ‬
‫أبكي من الصباح حتى المساء سنَ ًة‪ ،‬أو ً‬
‫قريبا منها>(‪.)1‬‬
‫أمر شاقٌّ‬
‫نبي الرحمة ! الدعوة إلى التسامح والتراحم‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫كان َّ‬
‫الرد من ِّ‬
‫ثقافة الرحمة‪ ،‬فقد‬ ‫على النفوس‪ ،‬وكان للقرآن الذي ينزل بمكة آنذاك ٌ‬
‫دور في نشر‬
‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ويقص على المسلمين أخبار من سبقهم‪ ،‬من المؤمنين‬ ‫كان يحث على الصبر‪،‬‬
‫ِّ‬
‫من األمم السابقة‪ ،‬ليخفف عنهم ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫مما يُلفت االنتباه ً‬‫إن َّ‬
‫صلة‬
‫ِ‬ ‫يتضمن قط الدعوة إلى قطع‬ ‫أيضا‪ ،‬أن القرآن لم‬ ‫ِ‬
‫الرحم‪ ،‬بين من أسلم ومن بقي على كفره‪ ،‬ولم يأذن بلعنهم‪ ،‬أو ترك ِّ‬
‫البر واإلحسان‬
‫ِّ‬ ‫بهؤالء الذين يحاربون الن ّ ّ‬
‫بي !‪ ،‬ويعذبون أتباعه ‪.‬‬

‫((( مهدي رزق اهلل‪:‬السيرة النبوية في ضوء المصادر األصلية ص‪.477‬‬


‫‪93‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬


‫ربَّما نذهب بعيدا إن قلنا‪ :‬إن ظاهرة التسامح والعفو‪ ،‬كانت أكثر وضوحا‬
‫ألن َّ‬ ‫َّ‬ ‫في دعوة الن ّ ِّ‬
‫نبي الرحمة !‬ ‫بي محمد ! من دعوة المسيح عليه السالم؛‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مرارا بالسماح لهم‬ ‫حصل بينه وبين خصومه عداوة ظاهرة‪ ،‬وطالب أتباعه منه‬
‫ُُ‬ ‫ُّ‬
‫أصر على التمسك بهذا الخلق وألزم به أتباعه ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫بمقاتلة عدوهم‪ ،‬لكنَّه‬
‫ُُ‬ ‫ُّ‬ ‫وكان ي ُ ُّ‬
‫ق بخلق الرحمة‪ ،‬رغم االستفزازات الكثيرة‪،‬‬ ‫صر على وجوب التخل ِ‬ ‫ِ‬
‫تعرض له أتباعه من تعذيب‪.‬‬ ‫التي صدرت من أعدائه في مكة‪ ،‬ورغم ما َّ‬
‫نبي الرحمة !‪ ،‬حين َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫توهموا أن‬ ‫رسالة إلى أولئك الذين أساؤوا فهم ِّ‬ ‫إنها‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫اإلنجليزي الكبير‬ ‫دعوته نقيضة لدعوة المسيح‪ ،‬ولقد أعجبتني عبارة للكاتب‬
‫ً‬
‫برنارد شو‪ ،‬حين وقف على هذه الحقيقة‪ ،‬فقال‪ < :‬لقد درست محمدا باعتباره‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رجال مدهشا‪ ،‬فرأيته بعيدا عن مخاصمة المسيح >(‪.)1‬‬
‫نبي الرحمة ! يواجه أعداءه بالعفو والرحمة‪ ،‬وهم‬ ‫ويستمر األمر على حاله‪ُّ :‬‬ ‫ُّ‬
‫ُّ‬
‫يواجهونه ويواجهون أتباعه بالقسوة‪ ،‬التي كانت أشد مظاهرها‪ ،‬بعد مرور سبع‬
‫ِّ‬
‫بي ! وأتباعه‪ ،‬وكل‬ ‫قرر أعداؤه في مكة محاصرة الن ّ ّ‬ ‫سنوات على دعوته‪ ،‬حين َّ‬
‫ٍ‬
‫واد يعرف بشعب أبي طالب؛ بغية عزلهم عن العالم‬ ‫ُ‬
‫من يقف معه من أقاربه‪ ،‬في ٍ‬
‫ً‬
‫واجتماعيا‪.‬‬ ‫الخارجي‪ ،‬ومقاطعتهم اقتصاديًا‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫واستمر العزل‪ ،‬والحصار‪ ،‬ثالث سنواتٍ‪ ،‬كانت جد‬ ‫لقد نجحوا في هذا‬
‫ِّ‬
‫والنبي لم يُغيِّر ولم يبدل في سلوكه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بي ! ومن معه(‪،)2‬‬ ‫ومروعة على الن ّ ِّ‬
‫ٍ‬ ‫قاسية‪،‬‬‫ٍ‬
‫حينئذ بدأت تظهر ثمار الرحمة‪ ،‬التي وضع بذرتها في تلك البيئة‪ ،‬ورعاها حقَّ‬
‫ٍ‬
‫رعايتها‪ ،‬بأقواله‪ ،‬وأفعاله ‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫وقرروا إنهاء‬ ‫فقد تحركت الرحمة‪ ،‬في قلوب عدد من كبار المعارضين له‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫الحصار‪ ،‬وإلغاء العزلة‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( حسين حسيني معدي‪ ،‬الرسول في عيون غربية منصفة ص ‪.70‬‬


‫نظرة على‬

‫((( السيرة النبوية ج ‪ 1‬ص ‪.430‬‬


‫‪94‬‬

‫كثير من الناس داخل‬ ‫نبي الرحمة ! ومن معه منتصرين‪ ،‬حين تعاطف معهم ٌ‬ ‫خرج ُّ‬
‫َّ‬
‫مكة وخارجها‪ ،‬بسبب ما أصابهم‪ ،‬وشعر أعداؤه بالحرج والهزيمة‪ ،‬ألن قسوتهم‬
‫ً‬ ‫ُهزمت أمام رحمة الن ّ ِّ‬
‫بي ! ومسالمته‪ ،‬فكانت نتائج هذه القسوة عكسيَّة عليهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫لقد أوجد ُّ‬
‫نبي الرحمة ! بيئة تنمو فيها الرحمة‪ ،‬لتصبح ثقافة تنتشر‬
‫ً‬
‫بين الناس‪ ،‬ونجح في جعل الرحمة وسيلة للحفاظ على أصحابه‪ ،‬واستخدمها‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫عدة‪ ،‬كما رأيتم‪ ،‬وهو مسلك لم يكن‬ ‫سالحا‪ ،‬انتصر فيه على أعدائه في مواطن ٍ‬
‫لدى الناس من قبل ‪.‬‬ ‫معروفًا ٰ‬

‫ٰ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫فقد َ‬


‫تعالى‬ ‫ذكر رواة الحديث حديثا‪ ،‬أجمعوا على صحته‪ ،‬جاء فيه‪> :‬أن اهلل‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫تكذيب قومه له‪ ،‬وعرض‬ ‫نبي الرحمة ! بعد أن اشتد‬ ‫أرسل ملكا من السماء إلى ِّ‬
‫ِّ‬
‫بي ! هذا بشد ٍة<(‪.)1‬‬ ‫فأبى الن ّ ُّ‬
‫جميعا‪ٰ ،‬‬ ‫ً‬ ‫يهلكهم‬ ‫عليه أن ِ‬
‫>وأن الن ّ َّ‬ ‫َّ‬
‫بي ! بعد أن رجع من الطائف حزينًا‪ ،‬بسبب ما أصابه من أهلها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫طبق عليهم‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫محمد‬ ‫يا‬ ‫شئت‬ ‫لو‬ ‫‪،‬‬ ‫ك‬ ‫المل‬ ‫فقال‬ ‫الجبال‪،‬‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫مل‬ ‫مع‬ ‫جبريل‬ ‫أرسل اهلل‬
‫ّ‬
‫الجبلين‪ ،‬فقال الن ّ‬
‫تعالى من أصالبهم من يعبد اهلل‬ ‫ٰ‬ ‫بي !‪ :‬بل أرجو أن يُخرج اهلل‬
‫وحده‪ ،‬وال يُشرك به شيئا< ‪.‬‬
‫ً‬

‫بي ! حااًل‪ ،‬بعد أن‬ ‫موقف الن ّ ِّ‬


‫ُ‬ ‫َّ‬
‫بالقوة‪ ،‬لتبدل‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫فلو كان تبدل الموقف منوطا‬
‫ُّ‬
‫تعالى بهذه َّ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫القوة الخارقة‪.‬‬ ‫أمده اهلل‬
‫نبي الرحمة ! منذ بداية أمره‪ ،‬إلى وضع معالم‪ ،‬لما يمكن أن َّ‬
‫تسم ٰى‬ ‫سعى ُّ‬ ‫ٰ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ظاهر من خالل‬ ‫ٌ‬ ‫بمصطلحات العصر (نظريَّة أخالقيَّة في مجال الرحمة)‪ ،‬وهذا‬
‫قادر على بيانها من خالل‬ ‫ب أنِّي ٌ‬ ‫وأحس ُ‬‫َ‬ ‫األقوال والممارسات التي صدرت عنه‪،‬‬
‫المظاهر التالية‪:‬‬

‫((( وأصل الحديث في مسلم‪ ،‬وهو طويل‪ ،‬انظر أصل الحديث في صحيح مسلم‪ ،‬باب‬
‫ما لقي الن ّ ّ‬
‫بي من ٰ‬
‫أذى‪ ،‬حديث رقم (‪.)1795‬‬
‫‪95‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ٌ‬ ‫ٰ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬


‫رحيم‪ ،‬وحسبنا أن‬ ‫رحمن‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‬ ‫لقد كان يذك ُر أتباعه على الدوام‪ ،‬بأن اهلل‬
‫ت‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫ٱلرحِي ِم﴾ [ا �ل��ف� �ا ��ح��ة‪ ]1 :‬في اليوم قرابة ثالثين‬ ‫ٱلرِنَٰمۡح َّ‬‫ٱللِ َّ‬‫هَّ‬
‫نعرف أن المسلم يردد‪ِ﴿ :‬مۡسِب‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ ً‬
‫والتطوع‪ ،‬عندما يقرأ الفاتحة في كل ركعة من صالته‪،‬‬ ‫مرة‪ ،‬في صلوات الفرض‬
‫ُّ‬
‫والتذكير برحمة اهلل‪ ،‬يحمل المسلم على التخلق بها ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬أنه أنزل من السماء جزءًا من‬ ‫ومن مظاهر رحمته سبحانه بمخلوقاته‬
‫ّ‬
‫رحمته إلى األرض‪ ،‬من أجل هذه المخلوقات‪ ،‬يقول الن ُّ‬
‫بي !‪> :‬جعل اهلل الرحمة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في مائة جز ٍء‪ ،‬فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا‪ ،‬وأنزل في األرض جزءًا واحدا‪ ،‬فمن‬
‫َ‬
‫رس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه<(‪.)1‬‬ ‫الف ُ‬ ‫َ‬ ‫الخلق‪ٰ ،‬‬ ‫َ‬
‫حتى ترفع‬ ‫ذلك الجز ِء تتراحم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الف ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫رس لولدها‪ ،‬إشارة لطيفة إلى تراحم الحيوانات‪،‬‬ ‫إن في التنويه برحمة‬
‫ُّ ً‬ ‫َّ‬
‫أولى وأحوج لهذا التراحم‪ ،‬ألنهم أشد فتكا ببعضهم حين تغيب الرحمة‪،‬‬ ‫والناس ٰ‬
‫ّ‬
‫وتحل القوة والكراهية ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫وأهميتها‪،‬‬ ‫نبي الرحمة ! على تذكير أتباعه بمنزلة الرحمة‪،‬‬ ‫وقد حرص ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫خ ٌ‬‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ ً‬ ‫َّ‬
‫واجب‪ ،‬فكان‬ ‫الزم‬ ‫لق‬ ‫جماليا‪ ،‬بل هي‬ ‫تكميليا‬ ‫والتأكيد على أنها ليست خلقا‬
‫مما قاله في هذا المقام‪> :‬من ال يرحم الناس ال يرحمه اهلل<(‪ ،)2‬وقال لهم ً‬
‫أيضا‪:‬‬
‫يرحمهم اهلل‪ ،‬ارحموا َمن في األرض‪ ،‬يرحمكم َمن في السماء<(‪.)3‬‬ ‫ُ‬ ‫>الراحمون‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫أن الن ّ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ ُ ُ‬
‫ثقافة‬
‫ِ‬ ‫يسعى إلى نشر‬ ‫بي ! كان‬ ‫التنويه إليه‪ ،‬في هذا المقام‪،‬‬ ‫حسن‬ ‫مما ي‬
‫َّ‬
‫الخاصة‪،‬‬ ‫يكتف من أصحابه بالرحمة‬ ‫نطاق‪ ،‬بين الناس‪ ،‬ولم‬ ‫الرحمة على أوسع‬
‫ُ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫التي تكون ال محالة بين أبناء األسرة الواحدة‪ ،‬وبين األقارب‪ ،‬واألصدقاء الخلص‪،‬‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫أخرى‪.‬‬ ‫فهذه رحمة محمودة‪ ،‬ولكن يحتمل أن يكون لها دوافع‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6000‬‬


‫ّ‬

‫((( صحيح مسلم الحديث‪ ،‬حديث رقم (‪.)3219‬‬


‫نظرة على‬

‫((( رواه الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1924‬قال األلباني‪ < :‬صحيح >‪.‬‬
‫‪96‬‬

‫بي ! في سبيل هذا المفهوم‪ ،‬يقول ألصحابه‪> :‬لن تؤمنوا ٰ‬


‫حتى‬ ‫ها هو الن ّ ُّ‬
‫تراحموا‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل كلنا رحيم‪ ،‬قال‪ :‬إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫توجيه حسن‪ ،‬يسهم في نشر ثقافة الرحمة بين‬ ‫ولكنها رحمة العامة< (‪ ،)1‬وهذا‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مستحب‪ ،‬وقيمة إنسانية عظيمة‪.‬‬ ‫خلق‬ ‫الناس‪ ،‬من حيث هي‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َْ‬
‫وكان ! يفاضل بين أصحابه‪ ،‬بقد ِر تمثل الرحمة في نفوسهم‪ ،‬ويجعلها ميزة‬
‫بي ! في موطن‬ ‫لهم‪ ،‬فها هو يقول‪> :‬أرحم أمَّتي بأمَّتي أبو بكر<(‪ ،)2‬ويقول الن ّ ُّ‬
‫آخر‪> :‬أرحم هذه األمَّة بها أبو بكر<(‪.)3‬‬
‫َّ‬ ‫تنويه من الن ّ ّ‬
‫ٌ‬
‫بي ! بمنزلة الرحمة‪ ،‬وبقيمتها حين كشف ألصحابه‪ ،‬أنها‬ ‫وهذا‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫مسوغات تفضيل أبي بكر ‪ K‬وعليهم‬ ‫من ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫نبي الرحمة ! لهذا الخلق‪ ،‬في شؤون حياته كلها‪ ،‬دونما‬ ‫وكانت ممارسة ِّ‬
‫ً‬
‫فبكى بكاءً شديدا‪ ،‬والصحابة‬ ‫ٰ‬ ‫أمه‪ ،‬وجلس عنده‪،‬‬ ‫تكلُّف أو تصنُّع‪ ،‬فقد زار قبر ِّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حوله ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫بي !‪،‬‬ ‫المقربين منه‪ ،‬قال‪> :‬كنا عند الن ّ ّ‬


‫َّ‬ ‫زيد ‪ R‬أحد الصحابة‬ ‫وذكر أسامة بن ٍ‬
‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫إحدى بناته تدعوه‪ ،‬وتخبره أن صبيا لها‪ ،‬أو ابنًا لها في الموت‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫فأرسلت إليه‬
‫أعطى‪ ،‬وكل شي ٍء عنده‬ ‫ٰ‬ ‫فقال الرسول !‪ :‬ارجع إليها فأخبرها َّ‬
‫أن هلل ما أخذ وله ما‬
‫َّ‬
‫فمرها فلتصبر ولتحتسب‪ ،‬فعاد الشخص وقال للنبي !‪ :‬إنها قد‬ ‫مسم ٰى‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫بأجل‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫أقسمت لتأتينها‪.‬‬

‫((( رواه الطبراني‪ ،‬ورجاله رجال الصحيح‪ ،‬انظر المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح‪،‬‬
‫ص ‪.779‬‬
‫((( حديث صحيح‪ ،‬انظر سلسلة األحاديث الصحيحة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.223‬‬
‫((( حديث صحيح‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.223‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)976‬‬
‫‪97‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫جبل ‪ ،J‬وانطلقت‬ ‫بن‬ ‫ومعاذ‬ ‫عبادة‪،‬‬ ‫بن‬ ‫سعد‬ ‫معه‬ ‫وقام‬ ‫!‪،‬‬ ‫قال‪ :‬فقام الن ّ ُّ‬
‫بي‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ‬
‫تقعقع كأنها في شن َّ ٍة (‪ ،)1‬ففاضت عينا الرسول !‪،‬‬ ‫الصبي ونفسه‬ ‫ُّ‬ ‫فرفع إليه‬ ‫معهم‪ُ ،‬‬
‫ٌ‬
‫تعالى في قلوب عباده‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫فقال سعد‪ :‬ما هذا يا رسول اهلل؟ قال‪ :‬هذه رحمة جعلها اهلل‬
‫عباده الرحماء<(‪.)2‬‬ ‫وإنما يرحم اهلل من ِ‬
‫َّ‬
‫َّ‬ ‫َ ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫التعجب‪ ،‬ليدل على أن الثقافة‬ ‫الصحابي الذي يحمل شيئا من‬ ‫إن سؤال هذا‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫السائدة آنذاك تستهجن أن يبكي العظيم‪ ،‬ألنه قد يَصغ ُر في عين قومه‪ ،‬فوجدها‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الن ّ ُّ‬
‫بي ! فرصة مواتية لتصحيح المفاهيم‪.‬‬
‫َّ‬
‫بي ! أن يحضر هذا الموقف؛ ألنه ال يحتمل أمثاله‪،‬‬ ‫ب على الن ّ ِّ‬ ‫لقد ُ‬
‫صع َ‬
‫لما حضر ٰ‬ ‫بأمه‪ ،‬ولكن َّ‬ ‫ورحمة منه ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بكى لهذا الموقف‬ ‫رحمة منه بهذا الطفل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫المؤثر‪ ،‬وبعض أصحابه ينظرون إليه‪ ،‬فوجدها فرصة مناسبة ليُبيِّن لهم أن هذا‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫يكافئ الرحيم من عباده‬ ‫الموقف يستدعي البكاء الدال على الرحمة‪ ،‬واهلل الرحيم‬
‫فيرحمه‪.‬‬
‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫أخرى‬ ‫وعندما توفي ولده إبراهيم دمعت عيناه لفراقه(‪ ،)3‬إضافة إلى مواقف‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫وصدق ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عفوية‬
‫ٍ‬ ‫تكرر منه ذلك‪ ،‬والصحابة ينظرون‪ ،‬ويشاركونه البكاء فيها‪ ،‬بكل‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫ّ‬
‫اإليجابي‪ ،‬مع المواقف‬ ‫بي ! إلى ضرورة التفاعل‬ ‫واضحة من الن ّ ِّ‬ ‫ٌ‬
‫إنها دعوات‬
‫َّ‬
‫بما يناسبها‪ ،‬وإلى التحذير من االتصاف بالالمباالة‪ ،‬والقسوة والجمود‪.‬‬
‫ُ‬
‫كبار زعما ِء العرب الذين كانوا‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫الثنين‬
‫ِ‬ ‫شهادتين‬ ‫المقام‬ ‫هذا‬ ‫في‬ ‫ر‬ ‫ونذك‬
‫أشد خصوم ِّ‬ ‫ِّ‬
‫نبي الرحمة !‪ ،‬وقد شهدا هذه الشهادة قبل إسالمهما‪ ،‬وهما‬ ‫من‬
‫ُّ‬
‫الثقفي‪.‬‬ ‫أبو سفيان بن حرب‪ ،‬وعروة بن مسعود‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬

‫((( الشنة‪ :‬قربة الماء‪.‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)923‬‬
‫نظرة على‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2315‬‬


‫‪98‬‬

‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬


‫محمد‬
‫ٍ‬ ‫كحب أصحاب‬ ‫يحب أحدا‬ ‫فقد قال األول‪ < :‬ما رأيت من الناس أحدا‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫محمدا >(‪َّ ،)1‬‬ ‫ً‬
‫أما عروة الثقفي فقد قال ما نصه‪ ،‬وهو يخاطب قريشا‪ < :‬واهلل لقد‬
‫ً‬ ‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ملكا‬ ‫ِّ‬
‫والنجاشي‪ ،‬واهلل ما رأيت ِ‬ ‫وكسرى‬ ‫ووفدت على قيصر‬ ‫وفدت على الملوك‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ ِّ‬
‫محمد محمدا >(‪.)2‬‬‫ٍ‬ ‫أصحاب‬ ‫م‬ ‫يعظ‬ ‫ما‬ ‫مثل‬ ‫أصحابه‬ ‫مه‬ ‫يعظ‬ ‫قط‬
‫الحب‪ ،‬آثاره وثماره‪ ،‬فلقد كان أصحابه شديدي الحرص على متابعته‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لهذا‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫فعل‪ ،‬وكانت لديهم رغبة شديدة في التشبه به‪،‬‬ ‫قول أو ُ ُ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فيما يصدر عنه‪ ،‬من‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫في كل أحواله‪ ،‬وأحسب أن خلق الرحمة في طليعتها‪ .‬فقد حذر أتباعه من قسوة‬
‫َّ‬ ‫وعرض بمن يُعر ُ‬ ‫القلب‪َّ ،‬‬
‫ض عن الرحمة‪ ،‬وشدد عليه بالقول‪ ،‬مهما كانت منزلته‪.‬‬ ‫ِ‬
‫رمحته ! بأتباعه‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫يستغل ُّ‬
‫نبي الرحمة ! أصحابه االستغالل الذي يؤدي إلى تحميلهم‬ ‫لم‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫لمعركة‪ ،‬أو وسائل لتحقيق‬ ‫ٍ‬ ‫ما ال طاقة لهم به‪ ،‬ولم يكن ينظر إليهم على أنهم وقود‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫أهداف رحمة بهم؛ ألنهم بالنسبة إليه هم المعركة التي يقاتل من أجلها‪ ،‬وما هم‬ ‫ٍ‬
‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بوقود لها‪ ،‬وهم الهدف‪ ،‬وما كانوا يوما وسيلة بيده‪ ،‬بالمعنى الذي نرى آثاره‬ ‫ٍ‬
‫كثير من القادة العظماء‪.‬‬ ‫َ‬
‫السلبية في سير ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫فإذا كان األمر كذلك‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬فإنه كان شديد الحرص على التخفيف‬
‫عنهم‪ ،‬وإظهار رحمته بهم‪ ،‬في كل أمورهم اليومية‪ ،‬على الرغم من شعوره األكيد‬
‫ِّ‬ ‫بشدة محبة أصحابه له‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫وقوة رغبتهم في طاعته‪ ،‬ومتابعته في كل ما يصدر عنه‪،‬‬
‫أفعال ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أقوال أو‬
‫ٍ‬ ‫من‬
‫كل شؤون حياتهم‪ ،‬سواءً‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫لقد جعل الرحمة بكل مظاهرها سمة بارزة في‬
‫بي !‪،‬‬ ‫وتعالى‪ ،‬أو بعالقاتهم مع الن ّ ِّ‬‫ٰ‬ ‫ما اتصل بها بعالقاتهم مع ربِّهم سبحانه‬

‫((( انظر سيرة ابن هشام‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪ ،245‬طبقات ابن سعد‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.56‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2732‬‬
‫‪99‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫أو بعالقات بعضهم مع بعض‪ ،‬أو حتى بعالقاتهم مع أقاربهم من غير المسلمين‪.‬‬
‫َّ ّ‬
‫دائمة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫واضحة‬
‫ٍ‬ ‫نصوص‬
‫ٍ‬ ‫عبر‬ ‫فيها‪،‬‬ ‫الترغيب‬ ‫هو‬ ‫الرحمة‬ ‫هذه‬ ‫مظاهر‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫إن‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ليستقر في األذهان‪ ،‬وعلى ِّ‬
‫ألحد تجاوزها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مر األزمان‪ ،‬أنها هي طوق النجاة‪ ،‬وليس‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫أو تجاهلها‪ .‬وقد يتعذر علينا إيراد النصوص جميعها‪ ،‬ولكن حسبنا ما يتسع له‬
‫المقام ‪.‬‬
‫س﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪،]185 :‬‬
‫ۡ‬
‫ك ُم ٱل ُع رۡ َ‬
‫تعالى‪﴿ :‬يرِيد ٱلل بِكم ٱليس ول يرِيد ب ِ‬
‫اَ‬ ‫ۡ‬
‫ُ ُ هَّ ُ ُ ُ ُ رۡ َ َ ُ ُ ُ‬ ‫ٰ‬ ‫فمنها قول اهلل‬
‫وإثبات اليسر‪ ،‬ودفع العسر‪ ،‬من أبرز مظاهر الرحمة‪.‬‬
‫ج﴾ [ا �ل�ح��ج�‪ ،]78 :‬وأيَّة‬ ‫َ‬
‫ِين م ِۡن ح َر ٖ ۚ‬
‫ك ۡم ف ّ‬
‫ٱدل‬ ‫يِ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬وما جعل علي‬
‫َ َ َ ََ َ َۡ ُ‬ ‫ٰ‬ ‫وكذا قول اهلل‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫نبي‬ ‫رحمة أعظم‪ ،‬وأظهر من تلك التي تؤدي إلى رفع الحرج‪ ،‬والضيق‪ ،‬عن أتباع ِّ‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرحمة !‪.‬‬
‫ُ ُ هَّ ُ َ خُ َ ّ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٰ‬
‫تعالى رحمة ظاهرة‪﴿ :‬ي ِريد‬ ‫والتخفيف من اهلل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ٱلل أن ي ِفف َعنك ۡ ۚم َوخل َِق‬
‫ًّ‬
‫نس ُن َضعِيفا﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪ ،]28 :‬أيا كانت صور هذا التخفيف ومظاهره‪.‬‬
‫ٗ‬ ‫إۡ‬
‫ٱل َ ٰ‬‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬
‫رحيم‬ ‫رؤوف‬ ‫والنبي ! من قبل‪ ،‬بأن نبيَّهم‬ ‫َّ‬ ‫تعالى المسلمين‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫ولقد أبلغ اهلل‬
‫تعالى في وصف الن ّ ِّ‬ ‫ٰ‬
‫َ‬
‫بي الكريم ﴿لق ۡد َجا َءك ۡم َر ُسول ّم ِۡن أنفسِك ۡم‬ ‫بهم‪ ،‬في قوله‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫ُ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ِيم﴾ [ا �لت�و�ب��ة‪.]128 :‬‬


‫‪ٞ‬‬
‫ِني َر ُءوف َّرح ‪ٞ‬‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫يص َعل ۡيكم بٱل ُمؤ ِمن َ‬ ‫َ‬ ‫يز َعلَ ۡيهِ َما َعن ُِّت ۡم َحر ٌ‬ ‫َعز ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المضار‪ ،‬والرحمة هي‬ ‫ِّ‬ ‫معنى هذه اآلية‪ :‬الرأفة هي دفع‬ ‫ٰ‬ ‫يقول أهل التفسير‪ ،‬في‬
‫ٌ‬ ‫ٰ َّ‬ ‫ِّ‬
‫بمعنى أن الرأفة مقدمة‪ ،‬فهي من باب التحلية‪ ،‬ثم تكون الرحمة‬ ‫المسار‪،‬‬ ‫جلب‬
‫التي تجلب النفع‪ ،‬فهي إذن من باب التخلية(‪ ،)1‬والمراد بالتخلية إزالة الشوائب‬
‫واألضرار‪ ،‬والمراد بالتحلية تزيين النفس بالخير وما ينفعها‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬


‫وقال بعضهم‪ ،‬الفرق بين الرأفة‪ ،‬والرحمة‪ ،‬أن الرأفة مبالغة‪ ،‬فهي رحمة‬
‫ّ‬

‫َ ََۡ ‪ٞ‬‬ ‫اَ َ ۡ ُ ۡ ُ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ ٌ‬


‫تعالى‪َ ﴿ :‬ول تأخذكم ب ِ ِهما رأفة‬ ‫خاصة‪ ،‬وهي دفع المكروه‪ ،‬وإزالة الضرر‪ ،‬كقوله‬
‫نظرة على‬

‫((( انظر‪ :‬أبا البقاء الكفوي‪ ،‬الكليات‪ ،‬معجم في المصطلحات والفروق اللغوية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.471‬‬
‫‪100‬‬

‫ٰ‬
‫المعنى‪ ،‬ويدخل‬ ‫جامع يدخل فيه ذلك‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫فاسم‬ ‫ٱللِ﴾ [ا �لن�ور‪ ،]2 :‬أما الرحمة‪:‬‬ ‫هَّ‬
‫ِين‬
‫يِف د ِ‬
‫فيه اإلفضال واإلنعام(‪.)1‬‬
‫ٰ‬ ‫تعالى ِّ‬ ‫ٰ‬
‫لنبي الرحمة ! هذين الوصفين‪ ،‬بهذا األسلوب‪ ،‬ليكشف‬ ‫لقد جمع اهلل‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫بجالء عن الحكمة البالغة‪ ،‬التي من أجلها وصف بهما الن ُّ‬
‫بي !‪ ،‬وأنهما وصفان‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫النبي‪ ،‬ألنهم يشعرون أنهم يعيشون‬ ‫يبعثان األمن والطمأنينة‪ ،‬في نفوس أتباع‬
‫ٰ ٰ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫بمقتضى هذين الوصفين‪،‬‬ ‫رحيما‪ ،‬وأن يعمل‬ ‫ً‬ ‫في كنف من كلفه ربُّه أن يكون رؤوفا‬
‫واألذى والحرج‪ ،‬ويجلب لهم األمن والخير والسعادة‪.‬‬ ‫ٰ‬ ‫فيدفع عن أتباعه الضرر‬
‫المعنى العظيم‪ ،‬وهذا الوصف الكريم‪ ،‬فقالها‬ ‫ٰ‬ ‫بي ! هذا‬ ‫لقد استشعر الن ّ ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫صراحة ألصحابه‪> :‬إنَّما أنا رحمة مهداة<(‪. )2‬‬
‫ٌ‬
‫ُ‬ ‫ٰ َّ‬
‫أرى أن كلمة (مهداة) في هذا الحديث‪ ،‬تشعر اإلنسان بجمال الرحمة‪،‬‬ ‫وأنا‬
‫ُّ َ َْ‬ ‫هدى لمن ي ُ َح ُّ‬ ‫مما ي ُ ٰ‬ ‫حتى كأنها َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٰ‬
‫ب‪ ،‬فاهلل يحب خلقه‪،‬‬ ‫وبمدى حاجة البشرية إليها‪ٰ ،‬‬
‫المعنى العظيم‪ ،‬وعمل على‬ ‫ٰ‬ ‫بي محمدا ! الذي استحضر هذا‬
‫ً‬ ‫أهدى إليهم الن ّ َّ‬ ‫ٰ‬ ‫ولهذا‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫تطبيقه‪ ،‬ويؤك ُد الن ّ ُّ‬
‫موطن آخر فقال‪> :‬وإنَّما بعثت رحمة<(‪.)3‬‬ ‫في‬ ‫الوصف‬ ‫هذا‬ ‫بي‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫!‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َّ َّ َ‬ ‫ٰ‬
‫ثمة اتحادا‪ ،‬أو تالزما‪ ،‬ال ينفك بين‬ ‫هذان الحديثان الصحيحان يداّلن أن‬
‫َّ‬ ‫بكل مظاهرها‪ ،‬وبين شخص ِّ‬ ‫ِّ‬
‫يتصور والحالة هذه‪ ،‬أن‬ ‫نبي الرحمة ! فال‬ ‫ِ‬ ‫الرحمة‬
‫فعل‪ ،‬ال تكون الرحمة أبرز سماته‪.‬‬ ‫قول‪ ،‬أو ٌ‬ ‫يصدر عنه ٌ‬ ‫َ‬
‫َّ ً‬ ‫ِّ‬
‫خاصة بتلك الفئة‬ ‫إن هذه الرحمة‪ ،‬بكل صورها‪ ،‬ومظاهرها‪ ،‬ليست‬
‫َّ‬
‫خصهم بهذا الوضع المتميِّز‪ ،‬العتبارات‬ ‫َّ‬ ‫تو َّهم أنه‬ ‫بالنبي !‪ ،‬إذ قد ي ُ َ‬ ‫ِّ‬ ‫التي تحيط‬

‫((( انظر التحرير والتنوير‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.441‬‬


‫((( أخرجه الحاكم في المستدرك‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ ،35‬سبق تخريجه وأصله في صحيح مسلم‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ )2355‬بلفظ‪> :‬أنا نبي الرحمة< ‪.‬‬
‫((( رواه مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2599‬‬
‫‪101‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫تخفى‪ ،‬تمليها الصحبة والمعايشة‪ ،‬والرغبة في استبقائهم‪ ،‬واإلفادة منهم‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫ال‬
‫وما شابهها ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ ُّ َ‬
‫ٰ‬
‫األوفى‬ ‫كل ما ن ِع َم به أصحابه من رحمة‪ ،‬كان لكل من جاء بعدهم النصيب‬ ‫إن‬
‫ِّ‬
‫منه‪ ،‬وهذا ما تؤكده عموميات األقوال والتوجيهات واألفعال ‪.‬‬
‫أن بعضهم سأل الن ّ َّ‬ ‫َّ َّ‬
‫بي ! عن هذه المسألة بالذات‪ ،‬فكان‬ ‫ولقد حدث مرة‬
‫ٰ‬ ‫ً ًّ‬
‫بشرى‪.‬‬ ‫سؤاله نعمة ألن الجواب جاء‬
‫لة‪ٰ ،‬‬ ‫ُْ ً‬ ‫أن رجاًل من أصحاب الن ّ ِّ‬ ‫َّ‬
‫فأتى‬ ‫امرأة قب‬
‫ٍ‬ ‫بي !‪ ،‬أصاب من‬ ‫وبيان هذا‪،‬‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫النبي‪ ،‬فأخبره‪ ،‬فأنزل اهلل عز وجل ﴿وأق ِ ِم ٱلصلوة طر ِ‬
‫يَّ‬ ‫َ‬
‫َّ ٰ َ َ َ يَ نلَّ َ َ ُ ٗ ّ َ ۡ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ٱل ِلۚ إِن‬ ‫ف ٱ هارِ وزلفا مِن‬
‫ين﴾ [�هود‪ ،]115 ،114 :‬فقال الرجل‪:‬‬ ‫ِلذٰكِر َ‬ ‫َ ٰ َ ۡ َ ٰ َّ‬ ‫حۡ َ َ َ ٰ ُ ۡ نۡ َ َّ َّ‬
‫ِ‬ ‫ات ذل ِك ذِكرى ل‬ ‫ت يذهِب ٱلسي ِٔ ِ ۚ‬ ‫ٱلسن ِ‬
‫ألي هذا؟ قال‪> :‬لجميع أمَّتي كلِّهم<(‪.)1‬‬ ‫يا رسول اهلل‪َ ،‬‬
‫ِّ َّ‬ ‫ً‬ ‫إن الن ّ َّ‬ ‫َّ‬
‫بي ! بهذا اإلعالن الذي يفيض رحمة‪ ،‬ليؤكد أن شفقته على أتباعه‬
‫تقل عن شفقته ورحمته بأولئك الذين يعيشون معه‪،‬‬ ‫عبر مئات السنين القادمة‪ ،‬ال ُّ‬
‫ويشاهدونه صباح مساء‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫صاحبت الرحمة تكاليف العبادة كلها‪ ،‬وكانت الرحمة تحدد طبيعة هذه‬
‫وتوجهها‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫العبادات‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ‬
‫سقط التكليف كليَّة عن الشخص‪ ،‬وتعفيه منه‪ ،‬فإن فريضة‬ ‫الرحمة قد ت ِ‬ ‫إن‬
‫َ ُُ‬
‫الجهاد‪ ،‬تسقط عن أصحاب األعذار‪ ،‬كالمريض واألعمى واألعرج ‪.‬‬
‫َّ ۡ َ لَىَ أۡ َ ۡ ىَ ٰ َ َ ‪ َ ٞ‬اَ لَىَ أۡ َ ۡ‬ ‫ٰ‬ ‫ِّ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ليس ع ٱلعم حرج ول ع ٱلعر ِج‬
‫َ‬ ‫وهذا الحكم يسجله قول اهلل‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫يض َح َر ‪ٞ‬جۗ﴾ [ا �ل��ف� ت����ح‪.]17 :‬‬


‫َ ‪ ٞ‬اَ لَىَ ۡ‬
‫ح َرج َول ع ٱل َم ِر ِ‬
‫ّ‬

‫((( أخرجه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)526‬وانظر الروايات من طرق >عن إبراهيم‪ ،‬عن علقمة‬
‫نظرة على‬

‫واألسود‪ ،‬عن عبداهلل بن مسعود< تفسير الطبري‪ :‬جامع البيان ‪.135-134/12‬‬


‫‪102‬‬

‫ُّ‬ ‫ُُ‬
‫الحج‪ ،‬وهو الركن الخامس‪ ،‬عن الذي ال يستطيع أداءه‪ ،‬وهو‬ ‫وكذلك يَسقط‬
‫ما يبينه قول اهلل تعالى‪﴿ :‬وللِ ِ‬
‫ََ‬ ‫اٗ‬ ‫َ يَ‬ ‫اس ح ُِّج بۡٱلَ ۡيت َمن ۡ‬ ‫َ هَّ لَىَ‬
‫ٱس َت َطاع إ ِ ۡلهِ َسبِيل ۚ َو َمن كف َر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ع ٱنلَّ‬
‫�آ �ع ا ن‬
‫ني﴾ [ ل �مر �‪. ]97 :‬‬ ‫ن َعن ۡٱل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٱلل َغ ٌّ‬
‫يِ‬
‫فَإ َّن هَّ َ‬
‫ِ‬
‫المحرمة‪ ،‬عند الضرورة‪( ،‬فالضرورات‬ ‫َّ‬ ‫كما يسقط حكم التحريم‪ ،‬عن األشياء‬
‫ًّ َّ‬
‫تبيح المحظورات)‪ ،‬بشرط عدم نقصانها عنها‪ ،‬ليخرج ما لو كان الميِّت نبيا فإنه‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫المضطر‪ ،‬وما‬ ‫يحل أكله للمضطر؛ ألن حرمته أعظم في نظر الشرع من مهجة‬ ‫ال‬
‫ٌ‬
‫لو أكره على القتل أو الزنا‪ ،‬فال يباح واحد منهما باإلكراه؛ لما فيه من المفسدة‬
‫المكرهِ‪ ،‬أو تزيد (‪.)1‬‬ ‫َ‬ ‫التي تقابل حفظ مهجة‬
‫المحرم‪ ،‬إن لم يتناوله َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫عرض نفسه‬ ‫المحرم‪ ،‬والشراب‬ ‫فمن لم يجد إال الطعام‬
‫َ‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ف َم ِن‬ ‫للهالك‪ ،‬فله أن يأكل منه‪ ،‬ويشرب‪ ،‬وفي بيان هذا الحكم يقول اهلل‬
‫ِيم﴾ [ا �ل���م�ا ئ��د �ة‪ ،]3 :‬إنها الرحمة‬‫ٱلل َغ ُفور‪َّ ٞ‬رح ‪ٞ‬‬ ‫جان ِف ّإِلثۡم فَإ َّن هَّ َ‬ ‫م َم َصة َغ رۡ َ‬
‫ي ُم َت َ‬ ‫خَ ۡ‬ ‫ۡ‬
‫ٖ ِ ٖ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٱض ُط َّر يِف‬
‫يحل له تناول ذلك‪ ،‬وهو يجد مااًل‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫تكمن وراء هذه األحكام‪ ،‬ولكن ال‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫إن الرحمة قد تُسق ُط جزءً‬ ‫َّ‬
‫صر الصالة للمسافر‪ ،‬فإن‬ ‫ق‬ ‫مثل‬ ‫التكليف‪،‬‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫َِ َ ۡ َ َ َ ۡ ُ ۡ ُ َ ٌ َ‬ ‫أۡ َ‬
‫الصالة الرباعية‪ ،‬تصبح ثنائية‪ِ﴿ :‬إَوذا ضبتم يِف ٱل ِ‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ رَ‬
‫ۡرض فليس عليكم جناح أن‬
‫ٗ‬ ‫َ ۡ رُ ُ ْ َ َّ َ ٰ ِ ۡ ۡ ُ ۡ َ َ ۡ َ ُ ُ ذَّ َ َ َ ُ ۚٓ ْ َّ ۡ َ ٰ َ اَ ُ ْ َ ُ‬
‫ين كنوا لك ۡم َع ُد ّوا‬ ‫تقصوا مِن ٱلصلوة إِن خِفتم أن يفتِنكم ٱلِين كفروا إِن ٱلك ِف ِر‬
‫ُّمب ِ ٗينا﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪.]101 :‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫مناسب لظروف الشخص‬
‫َّ ٍ‬ ‫وقت‬
‫ٍ‬ ‫وإن الرحمة قد ترجئ القيام بهذا التكليف‪ ،‬إلى‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫المكلف به‪ ،‬مثل الصيام بالنسبة للمريض والمسافر‪ ،‬فحيث إنه شاقٌّ على هذين‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫وقت‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫إلى‬ ‫الصوم‬ ‫را‬ ‫يؤخ‬ ‫أن‬ ‫وللمريض‬ ‫للمسافر‬ ‫ن‬ ‫أذ‬
‫ِ‬ ‫منه‬ ‫رحمة‬ ‫الصنفين‪ ،‬فإن اهلل‬
‫تزول فيه األسباب التي ُّ‬
‫يشق معها أداء ُ هذا الركن‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫عسير‪ ،‬فالمسافر الذي ال يجد‬ ‫بآخر‬ ‫يسير‬ ‫عمل‬ ‫استبدال‬ ‫عند‬ ‫وإن الرحمة تتجل ٰ‬
‫ى‬
‫ٍ‬ ‫ٍ ٍ‬

‫((( األشباه والنظائر للسيوطي ص ‪ ،84‬ط أولى‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪1983/4/3‬م‪.‬‬
‫‪103‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ِّ‬ ‫للتطهر به‪ ،‬والمريض الذي ال يستطيع استعمال الماء ً‬ ‫ُّ‬ ‫ماءً‬
‫الصحي‪،‬‬ ‫نظرا لوضعه‬
‫ْ‬ ‫نت ۡم ُج ُن ٗبا فَ َّ‬
‫ٱط َّه ُر ۚوا ِإَون‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‪ِ﴿ :‬إَون ُك ُ‬ ‫ُّ‬
‫التيمم‪ ،‬وفي هذا يقول اهلل‬ ‫أجاز الشرع لهما‬
‫ُ ُ َّ ۡ ىَ ٰٓ َ ۡ لَىَ ٰ َ َ َ ۡ َ ٓ َ َ َ ‪ ۡ َ َ َ ٓ َ ّ ُ ُ ۡ َ ٰ َ ۡ َ ٓ َ ۡ َ ّ ُ ّ ٞ‬جَ ْ ٓ‬
‫ت ُدوا َما ٗء‬
‫كنتم مرض أو ع سف ٍر أو جاء أحد مِنكم مِن ٱلغائ ِ ِط أو لمستم ٱلنِساء فلم ِ‬
‫َ َ ُ‬ ‫يد هَّ ُ‬
‫ٱلل يِلَ ۡج َعل َعل ۡيكم ّم ِۡن‬
‫ُ‬
‫ِيكم ّم ِۡن ُه َما يُر ُ‬
‫د‬ ‫ِك ۡم َو َأيۡ‬
‫ُ‬
‫ه‬‫و‬ ‫ٱم َس ُحوا ْ ب ُو ُ‬
‫ج‬
‫َ َ َ َّ ُ ْ َ ٗ‬
‫يدا َط ّي ٗبا فَ ۡ‬
‫ِ‬ ‫ۚ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فتيمموا صعِ‬
‫كن ي ِريد يِلط ِهركم و يِلتِم ن ِعمتهۥ عليكم لعلكم تشكرون﴾ [ ل���م�ا ��د ‪.]6 :‬‬
‫ُ ُ ُ َ ّ َ ُ ۡ َ ُ َّ ۡ َ َ ُ َ َ ۡ ُ ۡ َ َ َّ ُ ۡ َ ۡ ُ ُ َ ا � ئ �ة‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ح َر ٖج َول ٰ ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫إما لكبر‬ ‫المكلف عن الصيام‪َّ ،‬‬ ‫كذلك بالنسبة إلى الصيام‪ ،‬فإن عَج َز الشخص‬
‫ِّ‬
‫طعاما ألحد المساكين‪ ،‬عن كل يوم صيام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لمرض دائم يالزمه‪ ،‬يقدم‬ ‫ٍ‬ ‫سنِّه‪ ،‬أو‬
‫َ َ َ َ َ َ هَّ ٍَ‬ ‫ٍ‬
‫يا ف ُه َو خ رۡي‪ُ ٞ‬ل ۚۥ َوأن‬ ‫ام م ِۡسكِني ف َمن ت َط َّوع خ رۡ ٗ‬
‫ٖۖ‬
‫يقونَ ُهۥ ف ِۡديَة‪َ ٞ‬ط َع ُ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬وع ٱلِين ي ِط‬
‫َ لَىَ ذَّ َ ُ ُ‬ ‫ٰ‬ ‫قال‬
‫نت ۡم ت ۡعل ُمون﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪.]184 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ ُ َ‬‫ْ‬
‫وموا خ رۡي‪ ٞ‬لك ۡم إِن ك‬ ‫تص‬
‫َّ‬ ‫ٰ‬
‫بادية للعيان‪ ،‬بل إننا‬ ‫ٍ‬ ‫يخفى علينا ما في هذه المراتب من مظاهر للرحمة‪،‬‬ ‫وال‬
‫كل هذه األحكام‪ ،‬التي ي ُ ُّ‬ ‫َ ِّ‬ ‫َّ‬
‫سر بها اإلنسان‪.‬‬ ‫نعتقد أن الرحمة كانت وراء‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫بي !‪ ،‬إنما هي بناءٌ متكامل األركان‪،‬‬ ‫أن رحمة الن ّ ِّ‬ ‫إن الحاجة تدعو إلى بيان‬
‫ِّ‬
‫زمان‬
‫ٍ‬ ‫له أسسه ومظاهره‪ ،‬ويحمل في داخله عوامل بقائه‪ ،‬ويغري الناس في كل‬
‫التوجه إليه‪ ،‬والتفاعل معه ‪.‬‬ ‫ومكان إلى َّ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫رحمة‪ ،‬ارتبطت ببعض العظماء‪ ،‬والتي لم تعد‬ ‫ٍ‬ ‫بخالف ما رأينا من مظاهر‬
‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تقوى على البقاء‪،‬‬ ‫شخصيا‪ ،‬ال‬ ‫أن تكون كلمة عابرة‪ ،‬أو موقفا آنيا‪ ،‬أو سلوكا‬
‫وال تسهم في البناء الحضاري للبشرية‪.‬‬
‫َّ‬
‫أن الن ّ َّ‬ ‫ُ ُ‬
‫بي ! لم يكتف ببيان هذه األحكام ألتباعه‪،‬‬ ‫وتحسن اإلشارة هنا‪ ،‬إلى‬
‫َّ‬
‫وإنما حرص على الترغيب فيها‪ ،‬بالقول‪ ،‬حين قال ألصحابه‪ ،‬وهم يسألونه عن‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫إحدى الرخص في العبادات‪> :‬صدقة تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته<(‪.)1‬‬


‫ٌ‬ ‫ٰ‬
‫ّ‬

‫ً‬
‫مسافرا مع أصحابه في رمضان‪ ،‬فدعا بماء‪ ،‬فرفعه‬ ‫وبالفعل كذلك‪ ،‬حين كان‬
‫نظرة على‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)686‬‬


‫‪104‬‬

‫َّ‬ ‫أعلى‪ٰ ،‬‬ ‫ٰ‬


‫حتى يراه الناس‪ ،‬ثم شرب منه‪ .‬وكأن الهدف ترغيب النفوس‪،‬‬ ‫بيديه إلى‬
‫ً‬ ‫ُْ‬
‫وحملها على الرحمة حماًل؛ لتصبح سجية لها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫بي ! ٌ‬ ‫إن هذا المنهج‪ ،‬الذي سلكه الن ّ ُّ‬ ‫َّ‬
‫نابع من شدة رحمته بأصحابه‪ ،‬وبمن‬
‫َّ‬
‫أن ْ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫سيأتي بعدهم‪ٰ ،‬‬
‫ترك هذه الرخص‬ ‫ويتوهم‬ ‫حتى ال يشدد أحد على نفسه‪،‬‬
‫أفضل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وهو ما دفع الن ّ ّ‬
‫بي ! إلى عدم االقتصار على بيان الحكم فقط‪ ،‬وإنما تابع‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫تنفيذه بوسائل عد ٍة‪ ،‬وغضب أحيانا‪ ،‬وعتب على من ال ينعم بهذه الرحمة المهداة‬
‫َّ‬ ‫ٰ‬ ‫ٌ‬
‫مهداة ً‬
‫تهدى الرحمة إال‬ ‫أيضا‪ ،‬وهل‬ ‫من اهلل الرحيم على لسان نبيِّه الذي هو رحمة‬
‫ممن هو رحمة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ٰ‬
‫رأى ُّ‬
‫كبيرا في السن‪ ،‬يمشي بصعوبة‪ ،‬وهو يتوكأ‬ ‫نبي الرحمة ! رجاًل‬
‫َّ‬
‫يحج‬ ‫النبي !‪> :‬ما بال هذا الشيخ؟< قالوا‪ :‬لقد نذر َّ‬
‫وقرر أن‬ ‫ُّ‬ ‫على ولديه‪ ،‬فقال‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫ماشيا‪ ،‬فأنكر النبي ! هذا المسلك‪ ،‬وقال‪> :‬إن اهلل عن تعذيب هذا نفسه ٌّ‬
‫لغني‪،‬‬
‫وأمره أن يركب<(‪.)1‬‬
‫َّ‬ ‫َّ َّ‬
‫ثم إن يعلى بن أمية قال‪ :‬قلت لعمر بن الخطاب ‪ ،K‬إن اهلل يقول‪ ﴿ :‬فل ۡي َس‬
‫ََ‬
‫َ َ ۡ ُ ۡ ُ َ ٌ َ َ ۡ رُ ُ ْ َ َّ َ ٰ ۡ ۡ ُ ۡ َ َ ۡ َ ُ ُ ذَّ َ َ َ ْ‬
‫كف ُر ۚٓوا﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪،]101 :‬‬ ‫عليكم جناح أن تقصوا مِن ٱلصلوة ِ إِن خِفتم أن يفتِنكم ٱلِين‬
‫َ‬ ‫عجبت َّ‬‫ُ‬
‫مما عجبت منه‪ ،‬فسألت رسول اهلل !‬ ‫وقد أمن الناس‪ .‬فقال له عمر‪:‬‬
‫تصدق بها عليكم‪ ،‬فاقبلوا صدقته<(‪. )2‬‬ ‫َّ‬ ‫فقال‪> :‬صدقة‬
‫َّ‬
‫ذلك أن التخفيف في بداية األمر من عدد ركعات الصالة‪ ،‬كان بسبب خوف‬
‫المسلمين من أعدائهم في أثناء السفر‪ ،‬أو القتال‪.‬‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫يلغى هذا الحكم بعد أن زال خطر أعدائهم‪،‬‬ ‫كان بعض الصحابة يتوقع أن‬

‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1865‬وهو بنحوه في صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1643‬‬
‫((( رواه مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)686‬‬
‫‪105‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َّ‬
‫وأصبحوا آمنين‪ ،‬ألن األصل أن تزول رخص األحكام بزوال عللها(‪.)1‬‬
‫َّ‬ ‫بي ! قال لهم‪ٰ ،‬‬ ‫لكن الن ّ َّ‬
‫َّ‬
‫حتى بعد األمن‪ ،‬وزوال الخطر‪ ،‬فإن الحكم باق على‬
‫ٌ‬ ‫ِّ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حاله‪ ،‬صدقة من ربّكم‪ ،‬وهدية لكم رحمة منه‪ ،‬وهو ما يؤكد أن الرحمة مقصودة‬
‫لذاتها في التكاليف الشرعية‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن التدرج في التشريع من أبرز مظاهر الرحمة‪ ،‬التي تشد االنتباه وتثير‬
‫َّ َ َ َ‬
‫نبي الرحمة !‪ ،‬فإن ِفعل (د َرج) في اللغة يعني‪ :‬البدء بالمشي‬ ‫اإلعجاب في سيرة ّ‬
‫َ‬
‫قلياًل قلياًل‪ ،‬ولهذا يقولون درج الطفل‪ ،‬عندما يبدأ يتعلم المشي‪ ،‬ويخطو خطواته‬
‫األولى ببط ٍء وحذر(‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ٰ‬
‫المعنى الذي نقصده‪ ،‬فنعني به (التقدم بالمدعو شيئا‬ ‫من هذه الداللة‪ ،‬نأخذ‬
‫ً‬
‫مخصوصة)(‪.)3‬‬
‫ٍ‬ ‫مشروعة‬
‫ٍ‬ ‫طرق‬
‫ٍ‬ ‫فشيئا للبلوغ به إلى غاية ما طلب منه‪ ،‬وفق‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫نبي الرحمة ! ألتباعه‪ٰ ،‬‬ ‫والمتابع لتوجيهات ّ‬
‫التدرج‬ ‫يرى بكل وضوح منهج‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫هذا‪ ،‬فلقد كان يأخذ بأيديهم‪ ،‬كما تأخذ األم الحنون بيد ولدها‪ ،‬وهي تعلمه‬
‫المشي في خطواته األولى‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫الرحمة هي التي دفعت َّ‬ ‫ُ‬
‫األم إلى التلطف مع ولدها‪ ،‬وهي تعلمه المشي‬ ‫إذا كانت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬فاعلموا أن الرحمة‬ ‫خوفا عليه‪ ،‬وترفقا به‪ ،‬وهذا ال خالف فيه بين الناس‬
‫يتدرج مع أصحابه في األحكام‪.‬‬ ‫بي ! على أن ّ‬ ‫نفسها هي التي حملت الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يخفى علينا أن العادة عندما تتحكم في اإلنسان‪ ،‬يكون من العسير‬ ‫ٰ‬ ‫ليس‬
‫حتى إدخال تعديالت عليها‪ ،‬ويبدو أن األمر كما قال‬ ‫عليه التخلص منها‪ ،‬أو ٰ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( انظر‪ :‬قواعد األحكام في مصالح األنام ‪ 4/2‬دار الكتب العلمية‪.‬‬


‫ّ‬

‫((( انظر المعجم الوسيط‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ ،277‬د‪ .‬إبراهيم أنيس وآخرون بتصرف‪.‬‬
‫بي !‪ ،‬ص ‪ ،17‬إبراهيم المطلق‪ ،‬ط‪ ،1417 ،1‬مركز البحوث‬ ‫((( التدرج في دعوة الن ّ ّ‬
‫نظرة على‬

‫والدراسات اإلسالمية‪.‬‬
‫‪106‬‬

‫ً‬ ‫َّ‬
‫بعض من كتب في علم األخالق‪ :‬بأن العادة تغرس جذورها عميقة في الجهاز‬
‫ّ‬
‫العصبي(‪.)4‬‬
‫التدرج في التشريع‪ ،‬هو ّ‬‫ّ‬ ‫َّ‬
‫تدرج في التربية األخالقية‪ .‬فقد جاء‬ ‫وهذا يعني أن‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫نبي الرحمة ! بهذا الدين‪ ،‬وما تضمنه من تكاليف‪ ،‬وتوجيهات‪ ،‬والبشرية كلها‬
‫شب على بعضها الصغير‪ ،‬وشاب عليها الكبير ‪.‬‬ ‫أسيرة عادات‪ ،‬وضحية شهوات‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫فكان ال بد والحالة هذه‪ ،‬من أخذ هذا الوضع بعين االعتبار‪ ،‬حين العمل‬
‫على تصحيح المسار‪ ،‬الذي كانت تسلكه البشرية التائهة بال وعي ‪.‬‬
‫ّ‬
‫النبوي‪ ،‬لكثرتها‬ ‫ولما كان يصعب علينا تتبع مظاهر التدرج في المنهج‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وتنوعها‪ ،‬فإني استأذنكم في االقتصار على قضية واحدة‪ ،‬وأحسبها دلياًل واضحا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫على ما ذهبنا إليه‪ ،‬تلكم هي قضية تحريم الخمر‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫إن الخمر آفة كل عصر‪ ،‬فالخمر عادة سيئة‪ ،‬بكل المقاييس‪ ،‬لم تكد تسلم‬
‫اجملتمعات منذ القدم‪ ،‬فقد تنقلت على مدى الزمن‪ ،‬من جيل إلى جيل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫منها‬
‫جذورها عميقة في الجهاز العصبي‪ ،‬بل وفي كيان أولئك الذين مردوا‬ ‫َ‬ ‫وغرست‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأدمنوها(‪.)5‬‬ ‫عليها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ظهر ّ‬
‫نبي الرحمة ! في بيئة‪ ،‬تعظم الخمر وتفاخر بتعاطيه‪ ،‬ويمكن القول‪:‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫أشخاصا معدودين‬ ‫بأنه لم يكد يسلم أحد من رجالها من تعاطي الخمر‪ ،‬إال‬
‫على األصابع‪ ،‬حفظ التاريخ لنا ذكرهم‪ ،‬بسبب مخالفتهم لقومهم‪ ،‬وخروجهم‬
‫على المألوف في حياتهم ‪.‬‬
‫َّ‬
‫وأحفظ من هؤالء أبا بكر الصديق ‪ ،K‬الخليفة األول للنبي !‪ ،‬فإنه‬
‫لم يشرب الخمر في حياته‪ ،‬ال في جاهلية‪ ،‬وال في إسالم‪.‬‬

‫((( دستور األخالق في القرآن‪ ،‬ص ‪ ،83‬د‪ .‬دراز‪.‬‬


‫((( دستور األخالق في القرآن‪ ،‬ص ‪ ،83‬د‪ .‬دراز‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬


‫وال أدل على تمكن الخمر من النفوس‪ ،‬وتحكمها في مدمنيها‪ ،‬من قصة‬
‫نبي الرحمة ! َّ‬
‫وقرر السفر إليه‪،‬‬ ‫األعشى‪ ،‬فقد أُعجب بدعوة ّ‬ ‫ٰ‬ ‫الشاعر الكبير‬
‫ّ‬
‫قريش إن أسلم أن يمدح الن ّ‬‫ٌ‬
‫بي ! بقصيدة‪ ،‬تجعل‬ ‫وإعالن إسالمه‪ ،‬فخشيت‬
‫الناس يسارعون إلى اإليمان به‪ ،‬لشهرة هذا الشاعر‪.‬‬
‫فقرر أهل قريش‪ ،‬إغراءه ٰ‬
‫حتى يعدل عن رأيه‪ ،‬فقابله أبو سفيان‪ ،‬زعيم قريش‬ ‫َّ‬
‫آنذاك ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقال له‪ :‬أين أردت يا أبا بصير؟ قال‪ :‬أردت صاحبكم هذا ألسلم ‪.‬‬
‫قال أبو سفيان‪ :‬إنَّه ِّ‬
‫يحرم عليك ً‬
‫أمورا إن أسلمت‪ ،‬قال‪ :‬ما هي؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬الزنا ‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال حاجة لي به ‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم ماذا؟‪.‬‬
‫قال‪ِّ :‬‬
‫يحرم عليك القمار ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫قال‪ :‬لعلي إن لقيته آخذ منه ما يعوضني عن القمار ‪.‬‬
‫ٰ‬
‫وينهى عن الربا‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬
‫َ َ‬
‫قال‪ :‬ما دنت وال أدنت‪ ،‬فال يعنيني هذا األمر‪.‬‬
‫قال أبو سفيان‪ :‬فإنه ِّ‬
‫يحرم الخمر ‪.‬‬
‫َّ‬
‫األعشى‪ ،‬وقال‪ :‬أوه‪ ،‬أرجع إلى بلدي‪ ،‬فأشربها بقيَّة السنة‪،‬‬
‫ٰ‬ ‫وهنا توقف‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ثم آتيه‪ ،‬فعاد إلى بلده‪ ،‬فمات في الطريق(‪.)1‬‬


‫نبي الرحمة ! دينًا‪ ،‬تكون‬ ‫بخ ْلقه‪ ،‬ينزل على ّ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫ّ‬

‫ِ‬ ‫الرحيم‬ ‫تعالى‬ ‫اهلل‬ ‫إن‬


‫نظرة على‬

‫((( انظر البداية والنهاية‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪.250‬‬


‫‪108‬‬

‫من أبرز غاياته‪ ،‬تحريم الخمر‪ ،‬ولكن ما السبيل إلى تحريمه‪ ،‬وتخليص اجملتمع‬
‫ٰ‬ ‫ّ‬
‫تحصى؟‪.‬‬ ‫من أضراره‪ ،‬التي ال تعد وال‬
‫الرحمة تقتضي تحريمه‪ ،‬والرحمة نفسها تدعو إلى النظر في مكانة الخمر‬
‫خطة محكمة في سبيل تحقيق هذا‬ ‫ٍ‬ ‫في نفوس الناس‪ ،‬فكان ال بد من اتباع‬
‫ٍّ‬
‫وقطعي بتحريمها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فوري‪،‬‬ ‫الهدف السامي‪ ،‬ال يكون من معالمها إصدار حكم‬
‫ٍ‬
‫إذ لو حصل هذا‪ ،‬لما أمكن حمل الناس على العمل به‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫وهذا ما أدركته السيِّدة عائشة زوج الن ّ ّ‬
‫بي ! حين قالت‪> :‬إنما نزل أول ما نزل‬
‫ذكر الجنة والنار‪ٰ ،‬‬‫سورة من المفصل فيها ُ‬ ‫ٌ‬
‫حتى إذا ثاب الناس‬ ‫منه ـ أي من القرآن ـ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫إلى اإلسالم نزل الحالل والحرام‪ ،‬ولو نزل أول شي ٍء ال تشربوا الخمر‪ ،‬لقالوا‪ :‬ال‬
‫ً‬
‫ندع الخمر أبدا‪.)1(<..‬‬
‫أمر ذي أهمية‪ ،‬ظاهرة يشهد له الواقع‪،‬‬ ‫السيدة عائشة‪ ،‬عن ٍ‬ ‫يكشف لنا حديث‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫وتؤيده الوقائع‪ ،‬وهو تأخر نزول اآليات التي تتضمن الحديث عن التكاليف‪،‬‬
‫َّ‬
‫والحالل والحرام‪ ،‬إلى أن تمكن اإليمان من النفوس‪ ،‬واطمأن الناس إلى هذا‬
‫بي ! بهم‪ ،‬وشد ِة حرصه عليهم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الدين‪ ،‬واستشعرت قلوبهم مدى رحمة الن ّ ّ‬
‫ّ‬
‫كثر الحديث في بداية نزول القرآن‪ ،‬عن الثواب والعقاب‪ ،‬فرغب في خمر‬
‫ُ‬
‫الجنَّة‪ ،‬وحبَّبه إلى النفوس‪ ،‬حين وصفه القرآن بأنه يخلو من السلبيات الموجودة‬
‫ُ‬
‫ِني ‪ُ ٤٤‬ي َطاف‬ ‫سر ُّم َت َقٰبل َ‬
‫ِ‬ ‫ت ٱنلَّعِي ِم ‪ ٤٣‬لَىَ ٰ‬
‫ع رُ ُ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬يِف جنٰ ِ‬
‫َ َّ‬ ‫ٰ‬ ‫في خمر الدنيا‪ ،‬قال‬
‫ٖ‬ ‫َۡ‬
‫ني﴾ [ا �ل���ص�ا ف��ا ت�‪.]46-43 :‬‬ ‫ِلشرب َ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ذََّ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬
‫كأ ٖس ّمِن َّمعِيِۢن ‪َ ٤٥‬ب ۡيضا َ‬ ‫َ َۡ‬
‫ِِ‬ ‫ل‬ ‫ٖ‬ ‫ة‬ ‫ل‬ ‫ء‬ ‫علي ِهم ب ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فالخمر في الجنَّة ال تذهب بالعقول‪ ،‬وال تفسد األجسام‪ ،‬وال تغتال صاحبها‪،‬‬
‫َّ َ ُ جۡ َ َّ َّ ُ َ ۡ ُ َّ ُ َ َ ٓ َ ۡ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ِيها أن َه ٰ ‪ٞ‬ر‬ ‫شراب لذيذ‪﴿ :‬مثل ٱلنةِ ٱل يِت وعِد ٱلمتقونۖ ف‬ ‫وتقضي عليه(‪ ،)2‬فهي في الجنة‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4993‬‬


‫((( محاسن التأويل‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪ 89‬بتصرف‪ ،‬جمال الدين القاسمي‪2003 ،‬م‪ ،‬دار الحديث‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬تحقيق أحمد بن علي وحمدي ُ‬
‫صبح‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫لة ٖ﴾ [ حم‬
‫��م�د‪. ]15:‬‬
‫َ ۡ َ ٰ ‪ َّ ّ ٞ‬نَ َّ ۡ َ َ َ رَّ ۡ َ ۡ ُ ُ َ ۡ َ ٰ ‪ ۡ ّ ٞ‬مَ ۡ ذََّّ‬
‫ب لم يتغي طعمهۥ وأنهر مِن خ ٖر‬ ‫ّمِن َّما ٓ ٍء َغ رۡ َ‬
‫ي ءاس ِٖن وأنهر مِن ل ٖ‬
‫ِ‬
‫أن اآليات مدحت خمر الجنة‪ ،‬لكنَّها لم َّ‬ ‫َّ‬
‫تذم خمر الدنيا‪،‬‬ ‫والمالحظ هنا‬
‫َّ‬
‫ولعلها تركت المقارنة ألصحاب الن ّ ّ‬
‫بي ! الذين يسمعون هذا الكالم‪.‬‬
‫ٰ‬
‫ونرى ً‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬
‫كثيرا من العلماء يعدونها‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫خطا القرآن الكريم بعد هذا خطوة‬
‫ٰ‬
‫األولى في رحلة التحريم‪.‬‬ ‫الخطوة‬
‫ٰ‬
‫األولى في هذه الطريق في كلمة نزلت‬ ‫يقول العالمة دراز‪ < :‬تمت الخطوة‬
‫ً‬ ‫مست المسألة ًّ‬
‫بمكة‪ ،‬كلمة واحدة َّ‬
‫مسا رقيقا ‪.‬‬
‫فمن بين الخيرات التي استودعها اهلل في الطبيعة‪ ،‬يذكر القرآن >ثمرات النخيل‬
‫َ أۡ َ ۡ َ ٰ َ َّ ُ َ‬
‫واألعناب< ويضيف إليها‪َ ﴿ :‬ومِن ث َم َر ٰ ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خذون م ِۡن ُه َسك ٗرا َورِ ۡزقا‬ ‫ب تت ِ‬ ‫يل وٱلعن ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫ت ٱنلَّ ِ‬
‫َح َس ًنا ۚ إِن يِف ذٰل َِك ٓأَليَة ل ِق ۡو ٖم َي ۡعقِلون﴾[ا �لن�����ح�ل‪.]67:‬‬
‫ُ َ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫ٰ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬


‫األخرى‪ ،‬التي يصفها‬ ‫كر والثمرات‬ ‫ِ‬ ‫الس‬ ‫بين‬ ‫الموازنة‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫إال‬ ‫فهو لم يقصد‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫دافع‬ ‫بأنها حسنة‪ ،‬دون أن يصف هذا السكر نفسه‪ ،‬وبذلك صار لدى المؤمنين‬
‫التحرج والوسوسة تجاه هذا النوع من الشراب>(‪.)1‬‬ ‫ُّ‬ ‫إلى اإلحساس ببعض‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ذكرها أهل الحديث والتفسير(‪ُ )2‬مفادها أن‬ ‫حادثة‪َ ،‬‬ ‫وقد وظف القرآن الكريم‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫طعاما‪ ،‬ودعا الناس إليه‪ ،‬وقدم إليهم‬ ‫الصحابي عبد الرحمن بن عوف ‪ K‬صنع‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫خمرا فشربوا‪ ،‬ثم حانت الصالة فقدموا أحدهم ليصلي بهم‪ ،‬فأخطأ في قراءة‬
‫ٰ‬
‫َ‬
‫تعالى عندها‪ٰٓ َ ﴿ :‬‬ ‫القرآن‪ ،‬بسبب شربه للخمر‪ ،‬فأنزل اهلل‬
‫اَ‬
‫َ َ َُ ْ َۡ َُ ْ‬ ‫ذَّ‬
‫يأ ُّي َها ٱلِين ءامنوا ل تقربوا‬
‫َّ َ ٰ َ َ َ ُ ۡ ُ َ ٰ َ ٰ َ ىَّ ٰ َ ۡ َ ُ ْ َ َ ُ ُ َ ا � ن‬
‫ٱلصلوة وأنتم سكرى حت تعلموا ما تقولون﴾ [ ل����س�ا ء‪.]43 :‬‬
‫يوجه في هذه المرحلة إلى عدم الشرب‪ ،‬وإنَّما ٰ‬ ‫تعالى لم ِّ‬ ‫ٰ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫نهى عن القرب‬ ‫فاهلل‬


‫من الصالة حال الشرب‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( دستور األخالق‪ ،‬ص ‪ ،83‬مرجع سابق‪.‬‬


‫نظرة على‬

‫((( الترمذي ‪ -‬كتاب التفسير ‪ -‬حديث رقم (‪ ،)3026‬قال األلباني‪< :‬صحيح>‪.‬‬


‫‪110‬‬

‫ٰ‬
‫وتضييق الوقت على من يرغب‬ ‫ِ‬ ‫الخمر‪،‬‬ ‫لمحاصرة‬
‫ِ‬ ‫الثانية‪،‬‬ ‫الخطوة‬ ‫كذا‬ ‫ه‬ ‫جاءت‬
‫في تناولها‪ ،‬فإن الصلوات لم ُ‬ ‫َّ‬
‫شرب الخمر‪ ،‬والصلوات تكاد تغطي‬ ‫ُ‬ ‫يعد يناسبُها‬
‫اليوم والليلة ‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫الجزئي‪ُ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ٰ‬
‫غير المباشر منهجا علميا لتوسيع فترات‬ ‫(وهكذا كان هذا التحريم‬
‫ُ‬
‫انقطاع التأثير الكحولي‪ ،‬وفي نفس الوقت تقليل رواج األشربة‪ ،‬وتجريدها‬
‫أزمة اقتصادية‪ ،‬بالتحريم الشامل المفاجئ)(‪.)1‬‬ ‫ُّ‬
‫من سوقها بالتدرج‪ ،‬دون إحداث ٍ‬
‫ً‬
‫بدأت عالقة الصحابة بالخمر في االنحسار‪ ،‬بعد أن جعلها القرآن مضادة‬
‫بعضهم يتساءل عن حكمها‪،‬‬ ‫للصالة‪ ،‬وبعد ما فرض عليها من حصار‪ ،‬مما جعل َ‬
‫ٰ‬ ‫ُ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ي ٔسلونك ع ِن ٱلم ِر وٱلمي رِ ِ‬ ‫الجواب من اهلل‬ ‫فجاء‬
‫ٓ ۡ َ‬ ‫خۡ َ ۡ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ‬ ‫َ َۡ ُ َ َ َ‬
‫سۖ قل فِي ِه َما إِث ‪ٞ‬م كبِري‪َ ٞ‬و َم َنٰفِ ُع‬
‫َ‬
‫ب مِن نف ِع ِه َماۗ ﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪.]219 :‬‬
‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬ ‫ۡ‬
‫ك رَ ُ‬ ‫اس ِإَوث ُم ُه َما أ‬ ‫ل َِّلن ِ‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫مضار الخمر أكثر من منافعه‪ ،‬واسمحوا لي‬ ‫القرآني صريح‪ ،‬في أن‬ ‫النص‬ ‫هذا‬
‫ً‬
‫أن أذكر لفتاتٍ جميلة في هذه اآلية ‪.‬‬
‫كبير‪ ،‬ولم‬ ‫اإلثم بأنَّه ٌ‬ ‫َ‬ ‫فقد قدم اإلثم على النفعِ‪ ،‬كأنه هو األصل‪ ،‬ووصف‬
‫َّ‬
‫َّ ُ‬ ‫ٌ‬
‫يصف المنافع بشيء‪ ،‬وهذه نفحات من رحماتٍ‪ ،‬ألنها تسهم في التنفير من الخمر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٰ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫شعور‪ ،‬بالنفور من‬ ‫لدى الصحابة‪ ،‬وبدأ ينمو لديهم‬ ‫وبدا أن األمر يتضح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حكما صريحا بتحريمها‪،‬‬ ‫لحظة‬
‫ٍ‬ ‫الخمر‪ ،‬ما دامت هذه حالها‪ ،‬وكانوا يتوقعون في أيَّة‬
‫ِّ‬
‫للنبي‬ ‫حتى وجد عمر بن الخطاب ‪ K‬الخليفة الثاني‬ ‫بعد ما تقدم من إرهاصات‪ٰ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫شافيا)(‪.)2‬‬ ‫نفسه‪ ،‬وهو يرفع صوته بالدعاء قائال‪( :‬اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫لقد دلت بعض الروايات أن الصحابة بدأوا بالتخلص من الخمر قبل نزول‬
‫ُ‬
‫حتى قال عبد اهلل بن عمر‪( :‬لقد ح ِّرمت الخمر وما بالمدينة منها‬ ‫ٰ‬ ‫تحريمها‪،‬‬

‫((( دستور األخالق‪ ،‬ص ‪ ،85 ،84‬د‪ .‬دراز‪.‬‬


‫((( انظر التحرير والتنوير‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪.21‬‬
‫‪111‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َّ‬
‫قطعا ال يقصد التعميم الكامل‪ ،‬ولكن يفهم منه أن الخمر لم ي َ ُعد‬ ‫شيءٌ)(‪ ،)1‬وهو ً‬
‫َّ‬
‫لها وجود‪ ،‬كما كانت من ذي قبل‪ ،‬كأنهم اجتنبوها قبل أن يُطلب منهم هذا ‪.‬‬
‫َّ‬
‫موعد مع حكم ما‪ ،‬قادم إليهم‪ ،‬وقد تهيّأت نفوسهم‬ ‫ٍ‬ ‫على‬ ‫هم‬ ‫بدأ الصحابة وكأن‬
‫ٍ َّ‬ ‫َّ‬
‫لقبوله‪ ،‬بل تتشوق إليه‪ ،‬وكأنها تطالب به‪ ،‬إنه التحريم ‪.‬‬
‫ٰ‬
‫َ َ‬
‫ِين َء َام ُن ٓوا ْ إ َّن َما خۡ َ‬
‫ٱل ۡم ُر َوٱل ۡ َم ۡي رِ ُ‬
‫س‬ ‫ِ‬ ‫تعالى‪ٰٓ ﴿ :‬‬
‫يأ ُّي َها ذَّٱل َ‬ ‫وقد كان فعاًل حين نزل قول اهلل‬
‫َ أۡ َ َ ُ َ أۡ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ ‪َ ۡ ّ ٞ‬‬
‫‪.‬‬ ‫﴾‬
‫ۡ َ ُ ُ َ ُ ۡ ُ ُ َ ا � ئ �ة‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫‪]90‬‬ ‫‪:‬‬ ‫�د‬ ‫ا‬
‫�‬
‫�� �‬‫م‬ ‫�‬‫ل‬ ‫[‬ ‫ون‬ ‫ِح‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫وه‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ت‬‫ٱج‬ ‫ف‬ ‫ن‬
‫ِ‬
‫ٰ‬ ‫ط‬ ‫ي‬ ‫ٱلش‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫وٱلنصاب وٱلزلم رِجس مِن‬
‫آية في دقة التنفيذ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫غاية في العجب‪ٍ ،‬‬ ‫لقد تم التحريم‪ ،‬وتم االجتناب‪ ،‬بطريقة ٍ‬
‫وسرعة االستجابة ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫الصحابي أنس بن مالك الصورة كاملة‪ ،‬لهذا الحدث العجيب المهيب‪،‬‬ ‫وينقل لنا‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫كعب‬ ‫األنصاري‪ ،‬وأ َّ‬
‫بي بن‬ ‫قال ‪> :K‬كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح‪ ،‬وأبا طلحة‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫شرابً‬
‫فضيخ وتمر‪ ،‬قال‪ :‬فجاءهم آت‪ ،‬فقال‪ :‬إن الخمر قد ح ُرمت‪ ،‬فقال‬ ‫ٍ‬ ‫من‬ ‫ا‬
‫رار فاكسرها‪ ،‬قال‪ :‬فقمت إلى مهراس ـ يعني‬ ‫الج‬ ‫هذه‬ ‫إلى‬ ‫قم‬ ‫‪،‬‬ ‫أبو طلحة‪ :‬يا ُ‬
‫أنس‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُ‬
‫بأسفله حتى كسرت< ‪.‬‬ ‫حجرا ـ لنا فضربتها‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫(‪)2‬‬

‫ُ‬ ‫َّ‬
‫رواية‪ ،‬فأمر رسول اهلل ! مناديًا‪ :‬أال إن الخمر قد حرمت‪ ،‬فقال لي أبو‬ ‫ٍ‬ ‫وفي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ك المدينة(‪.)3‬‬ ‫فأهرقها‪ ،‬فخرجت فهرقتها‪ ،‬فجرت في سك ِ‬ ‫طلحة‪ :‬اخرج ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫المتدرج‪،‬‬ ‫اليسير‬ ‫جميل‪ ،‬فيقول‪< :‬هذا المسلك‬ ‫تعليق‬ ‫وللعالمة الدكتور دراز‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مرض‬ ‫لعالج‬ ‫ة‪،‬‬ ‫المهر‬ ‫األطباء‬ ‫ها‬ ‫يستخدم‬ ‫يدعونا إلى أن نتذكر الطريقة التي‬
‫ٍَّ‬ ‫ُ‬
‫أوالدهن‬
‫ِ‬ ‫بصفة عامة‪ ،‬المنهج الذي تلجأ إليه األمهات لفطام‬ ‫ٍ‬ ‫مزمن‪ ،‬بل أن نتذكر‬ ‫َّ ٍ‬
‫الرضع‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5579‬‬


‫((( رواه مالك في الموطأ ‪ ،846/2‬حديث رقم (‪.)13‬‬
‫نظرة على‬

‫((( انظر البخاري‪ ،‬كتاب المظالم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2464‬‬


‫‪112‬‬

‫َّ‬
‫ذلك أن هذه الوسائل‪ ،‬التي خلت من العنف‪ ،‬والمفاجأة‪ ،‬تدعو الجهاز‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫أخف األطعمة‪ٰ ،‬‬
‫حتى أعسرها‪،‬‬ ‫نظامه شيئا فشيئا‪ ،‬ابتداءً من‬ ‫َّ‬
‫الهضمي إلى أن يغير‬
‫ًّ‬
‫مارا بجميع الدرجات الوسيطة ‪.‬‬
‫أال ما أعظم رحمة اهلل‪ ،‬التي ترفقت بالعباد‪ ،‬على نحو لم يبلغه ُّ‬
‫فن العالج‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وال حنان األمهات>(‪. )1‬‬
‫ما أجمل هذا القول‪ ،‬وما أصدقه ‪.‬‬
‫وفي صورة مقابلة‪ ،‬فقد صدر سنة ‪ ،1933‬قانون تحريم الخمور في أمريكا‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وألحق بالدستور المادة الثامنة عشرة اإلصالحية‪ ،‬التي تتضمن هذا التحريم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اتخاذها لتنفيذه‪ ،‬وما إن صدر القانون ٰ‬‫ُ‬
‫حتى نشطت تجارة‬ ‫واإلجراءات التي ينبغي‬
‫ُّ‬
‫الخمور السرية‪.‬‬
‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫السرية‬ ‫صارت تباع أنواع من الخمر مضرة بالحياة‪ ،‬وانتشرت األماكن‬
‫َ َ‬
‫التي تصنعها‪ ،‬وتبيعها‪ ،‬وازدادت مراكز البيع غير القانوني‪ ،‬فق ْبل قانون التحريم‪،‬‬
‫كان عدد مصانع الخمور قرابة أربعمائة مصنع‪ ،‬وبعد سبعة أعوام من تحريمه‪،‬‬
‫مصنع‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫صار عدد هذه المصانع قرابة ثمانين ألف‬
‫شرب الخمر بين جميع فئات الشعب‪ ،‬وشمل جميع مناطق البالد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وانتشر‬
‫القرى‪ ،‬واألرياف‪ ،‬وتصاعدت أرقام الجرائم‪ ،‬والحانات‪.‬‬ ‫ٰ‬ ‫بما فيها‬
‫ً‬
‫وفقا إلحصاءات ديوان القضاء األمريكي‪ ،‬فقد َّ‬
‫تم تنفيذ حكم اإلعدام في قرابة‬
‫َّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫مئتي شخص‪ ،‬وزادت الجرائم بين األطفال‪ٰ ،‬‬
‫حتى أعلن قضاة أمريكا‪ :‬أنه لم يكن‬
‫ُ‬ ‫ٍ ً‬
‫من المعهود سابقا أن يقبض على هذا العدد من األطفال في حالة السكر‪ ،‬ولقد‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫دلت تقارير الشرطة أن عدد المدمنين من األطفال‪ ،‬ارتفع إلى ثالثة أضعاف ما كان‬
‫عليه قبل التحريم‪ ،‬وتضاعف عدد الوفيات ‪.‬‬

‫((( دستور األخالق في القرآن‪ ،‬ص ‪.85‬‬


‫‪113‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ً‬
‫وعلى أثر هذا الفشل‪ ،‬ونتيجة لهذه الخسائر في األرواح واألموال‪ ،‬تراجعت‬
‫الدولة عن القانون‪ ،‬وسمحت بإنتاج الخمور‪ ،‬التي تقل نسبة الكحول فيها‬
‫عن ‪.%33‬‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫رسمي‪ ،‬ألغيت بموجبه المادة الثامنة عشرة‪،‬‬ ‫ثم صدر في السنة نفسها‪ ،‬إعالن‬
‫فاشلة‪ ،‬خاضتها الحكومة‬
‫ٍ‬ ‫التي تحرم الخمر‪ ،‬وعاد الخمر كما كان‪ ،‬بعد تجربة‬
‫عشر ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫عاما(‪.)1‬‬ ‫األمريكية‪ ،‬بكل إمكاناتها‪ ،‬مدة أربعة‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫إن َ‬
‫قرار منعِ الخمر لم‬ ‫وقد عل َق أحد العلماء األمريكان على هذا بقوله‪< :‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫إن القرار أ َ‬
‫لغي‬ ‫الخمر جيدة‪ ،‬أو سيئة ضارة أو غير ضارة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يُلغ على أساس أن‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫واقعي هو أن المنع قد فشل>(‪.)2‬‬ ‫على أساس‬
‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫وإذا كانت الرحمة قد ظهرت جليا في التدرج في تحريم الخمر‪ ،‬فإن الرحمة‬
‫نفسه‪ ،‬فقد اكتشف العلماء ُ األضرار المرعبة التي‬ ‫نفسها كانت أظهر في التحريم ِ‬
‫تحدثها الخمر بالجسم‪ ،‬وبعض هذه األضرار‪:‬‬
‫المخ‪.‬‬ ‫خاليا‬ ‫ُ‬
‫إتالف‬ ‫‪PP‬‬
‫ِ‬
‫‪P P‬إتالف الكبد‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪P P‬هبوط عملية التنفس‪.‬‬
‫المناعة في الجسم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫انخفاض‬ ‫‪PP‬‬
‫ِ‬
‫العظام‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هشاشة‬
‫ِ‬ ‫‪P P‬تؤدي إلى‬
‫والسرطان‪.‬‬
‫ِ‬ ‫المعدة‬
‫ِ‬ ‫بقرحة‬
‫ِ‬ ‫‪P P‬اإلصابة‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫لسردها‪ ،‬إضافة إلى األضرار‬


‫ِ‬ ‫وغير هذا من األمراض الصحية التي ال يتسع المقام‬
‫ً‬ ‫ٰ‬
‫تخفى علينا‪ ،‬فكان هذا التحريم رحمة بالناس‪.‬‬ ‫االجتماعية واالقتصادية التي ال‬
‫ّ‬

‫((( انظر‪ :‬الخمر في الفقه اإلسالمي دراسة مقارنة‪ ،‬ص ‪ ،172‬د‪ .‬فكري عكار‪ ،‬ط‪1977 ،1‬م‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪175‬‬


‫‪114‬‬

‫َ‬ ‫َّ‬
‫ماسة إلى سيف الرحمة ـ المصاحب للتدرج ـ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بحاجة‬
‫ٍ‬ ‫إن البشرية المعاصرة‬
‫ومحبة‪.‬‬ ‫لطف‬
‫ِّ‬
‫قضى عليها بكل‬‫ٰ‬ ‫حتى‬ ‫بي محمد ! في وجه الخمر‪ٰ ،‬‬ ‫شهر ُه الن ّ ّ‬
‫الذي َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫التدرج بالتشريعات واألحكام‪ ،‬كان سمة بارزة من سمات هذا الدين‪،‬‬ ‫إن‬
‫التدرج‬ ‫ُّ‬ ‫بي محمد !‪ ،‬فهو لم يقتصر على الخمر فقط‪ ،‬فقد كان‬ ‫الذي بعث به الن ّ ّ‬
‫أخرى مثل الصيام‪ ،‬والزكاة‪ ،‬وبعض المعامالت ومنها الربا ‪.‬‬ ‫ٰ‬ ‫في أحكام‬
‫لما َّ‬ ‫ثم َّ‬ ‫أول األمر كان اختياريًا‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫كما ٰ‬
‫تعود‬ ‫يرى بعض العلماء أن الصيام في‬
‫تعالى‪﴿ :‬ف َمن شه َد‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬
‫فرضا في قول اهلل‬ ‫ً‬
‫ملزما لهم‪ ،‬وأصبح الصيام‬ ‫الناس عليه‪ ،‬صار‬
‫ِ‬
‫كمُ‬ ‫ُ ُ َّ ۡ َ َ ۡ َ ُ ۡ ُ َ َ اَ َ َ ً َ ۡ لَىَ ٰ َ َ َ َّ ‪ ُ ُ َ َ ُ َّ َ ۡ ّ ٞ‬هَّ ُ ُ‬
‫مِنكم ٱلشهر فليصمهۖ ومن كن م ِريضا أو ع سف ٖر ف ِعدة مِن أيا ٍم أخر ۗ ي ِريد ٱلل ب ِ‬
‫س﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪.]185 :‬‬ ‫ۡ ُ رۡ َ َ اَ ُ ُ ُ‬
‫ك ُم ۡٱل ُع رۡ َ‬
‫ٱليس ول ي ِريد ب ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والزكاة كذلك كانت في العهد المكي مطلقة من القيود‪ ،‬وكانت موكولة‬
‫األخوة نحو إخوانهم المؤمنين‪ ،‬فقد تدعو‬ ‫ّ‬ ‫وشعورهم بواجب‬ ‫إلى إيمان الناس‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الحاجة في ذلك إلى إخراج القليل من المال‪ ،‬وقد تدعو الحاجة إلى بذل الكثير (‪. )1‬‬
‫ِّ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ٰ‬
‫بمقتضى ذلك‬ ‫مأمور بإطعامه وسد خلته‪،‬‬ ‫جائع فهو‬ ‫قال الشاطبي‪ < :‬فإذا تعين‬
‫اإلطالق‪ ،‬فإن أطعمه ما ال يرفع الجوع عنه فالطلب باق عليه >(‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫المكي أمر فيه لمطلق إنفاق المال‪ ...‬ولم يبيِّن الواجب‬
‫َّ‬ ‫وقال أيضا‪ < :‬فإن التنزيل‬
‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫وكل إلى اجتهاد المنفق‪ً ،‬‬ ‫ِّ‬
‫سوى الزكاة‪ ،‬وهو‬ ‫علما بأن في المال حقا‬ ‫ِ‬ ‫من غيره‪ ،‬بل‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫ال يتعيِّن تحقيقا‪ ،‬وإنما فيه االجتهاد >(‪.)3‬‬
‫ً‬
‫فرضا وركنًا من أركان اإلسالم‪،‬‬ ‫ثم في السنة الثانية من الهجرة‪ ،‬صارت الزكاة‬ ‫َّ‬
‫ِّ‬
‫وشروطها‪ ،‬وأنصبتها‪ ،‬ومستحقيها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بحدودها‬
‫ِ‬

‫((( فقه الزكاة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ 77‬بتصرف‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪.‬‬


‫((( انظر‪ :‬الموافقات في أصول الشريعة ‪.157/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬الموافقات في أصول الشريعة ‪.240/4‬‬
‫‪115‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٰ‬


‫وهكذا تبدو الرحمة مصاحبة لهذه األحكام‪ ،‬والتشريعات‪ ،‬وكانت حاضرة‬
‫ِّ‬
‫السمو‬
‫ٌ‬
‫بي محمد ! وهو يأخذ بيد البشرية للبلوغ بها إلى‬ ‫كل خطوة خطاها الن ّ ّ‬ ‫ِّ‬
‫في‬
‫ٍ‬
‫ِّ‬
‫األخالقي‪.‬‬
‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‪ ،‬حين شرع هذه‬ ‫رحمة اهلل‬
‫ِ‬ ‫يخفى علينا ذلك التالزم والتكامل بين‬ ‫وال‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫األحكام الرحيمة‪ ،‬وبين رحمة الن ّ‬
‫بي ! الذي تلقاها‪ ،‬ليعمل على تنفيذها بكل‬ ‫ِ‬
‫ورحمة ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫لطف‬
‫ٍ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫نظرة على‬
‫‪116‬‬

‫المبحث‬
‫الخامس‬
‫غزوات الرسول ‪ Z‬وسراياه‬
‫ً‬ ‫ّ ُ‬ ‫استقر الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫واثقة‪ ،‬نحو‬
‫ٍ‬ ‫بخطى‬ ‫يتحرك‬ ‫بي ! والمسلمون في المدينة‪ ،‬بدأ‬ ‫بعد أن‬
‫الفتي‪ ،‬والدولة اإلسالمية الحاضنة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫اإلسالمي‬ ‫القوة الالزمة؛ لتحمي اجملتمع‬ ‫بناء َّ‬
‫القوة‪ ،‬ويسود فيه األقوياء ‪.‬‬ ‫للمسلمين‪ ،‬في واقع‪ ،‬تحكمه ّ‬
‫ِّ‬ ‫ٰ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ُ‬
‫القوى المؤثرة في الجزيرة بل وخارجها ـ كالروم‬ ‫وقد جاء تحركه ليؤكد لكل‬
‫وفق تعاليم السما ِء ‪.‬‬ ‫إصراره على نشر الرسالة اإلسالمية‪ ،‬وبناء الحضارة َ‬ ‫َ‬ ‫وفارس ـ‬
‫ِ‬
‫عقيدة‬ ‫ُ‬
‫أصحاب‬ ‫وكان للمسلمين من أدوات البناء ما لم يملكه غيرهم‪ ،‬فهم‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫وطاّلب ٍّ‬ ‫ُ‬
‫وقتال ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫سيف‬
‫ٍ‬ ‫وأمان‪ ،‬وأهل‬ ‫ٍ‬ ‫ومشرعو سالم‬ ‫وعدل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫حق‬ ‫وفكر‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫وقد توقع رسول اهلل ! أن قريشا‪ ،‬ومن نصب له العداء‪ ،‬سيلجؤون لمحاولة‬
‫استئصال المسلمين‪ ،‬ولو بعد حين‪ ،‬فكان طلبه من األنصار في بيعة العقبة الثانية‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫النصرة والقتال ‪.‬‬
‫التعدي والظلم‪ ،‬بل وخرجت تتتبَّع َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫النبي !‬ ‫كما أن قريشا هي التي تمادت في‬
‫َ‬
‫والمسلمين للقضاء عليهم‪ ،‬وفي مكة صادرت األمالك ونهبت البيوت‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الرغبة ٰ‬ ‫ُ‬
‫خصوصا ـ أن تدخل‬ ‫النبي ! والمسلمين ـ المهاجرين‬ ‫لدى‬ ‫وكانت‬
‫ً‬
‫قريش في اإلسالم طواعية أو أن ال تمضي في غيّها على أقل تقدير‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫صغيرة‬
‫ٍ‬ ‫من هنا بدأ النبي ! يبعث (السرايا)‪ ،‬وهي عبارة عن مجموعاتٍ‬
‫وجودها وعدم استسالمها‪.‬‬ ‫تتحرك لتعلن عن‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وعددها القليل الذي ال يتجاوز الستين فردا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫البسيطة‪،‬‬ ‫تها‬ ‫عد‬ ‫وإذا نظرنا إلى‬
‫‪117‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ُّ‬
‫وكلهم من المهاجرين‪ ،‬وليس فيهم من األنصار الذين بايعوا على القتال والنصرة‪،‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ ً‬ ‫َّ‬
‫ندرك أنها لم تكن مرشحة للقتال‪ ،‬وإنما كانت هذه السرايا وسيلة للضغط‬
‫ِّ ُ‬ ‫لعلها تسمع نداءَ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫اقتصاديا(‪ً )1‬‬
‫وبقلب مفتوح‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الحق بأذن صاغية‪،‬‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫على قريش‬
‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أخرى ‪.‬‬ ‫تهادن المسلمين فال تتعرض لهم؛ لينتشر اإلسالم في أطراف‬ ‫أو ِ‬
‫وهيبة‬ ‫بقوة اإلسالم‬ ‫إشعار اليهود والمنافقين َّ‬ ‫ُ‬ ‫وفي الوقت نفسه كان ينبغي‬
‫ِ‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ّ ُ‬ ‫ٰ‬
‫أشهر على الهجرة المباركة‪ ،‬انطلقت أول سريَّة‪ ،‬وكان‬ ‫ٍ‬ ‫سبعة‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫مضي‬ ‫بعد‬ ‫كذا‬ ‫وه‬
‫ِّ‬ ‫َ ِّ ّ‬
‫عدد أفرادها ثالثين رجاًل‪ ،‬بقيادة حمزة عم النبي (صلى اهلل عليه وآله)‪.‬‬
‫أخرى بقيادة عبيدة بن الحارث‪.‬‬ ‫ٰ‬ ‫ثم تلتها سريَّة‬ ‫َّ‬
‫َّ ٌ ٌ‬
‫وقاص ‪.‬‬‫ٍ‬ ‫أبي‬ ‫بن‬ ‫سعد‬ ‫بقيادة‬ ‫ثالثة‬ ‫وسرية‬
‫رأس مجموعة‬ ‫على‬ ‫للهجرة‪،‬‬ ‫الثاني‬ ‫العام‬ ‫من‬ ‫صفر‬ ‫في‬ ‫وخرج الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫ِ‬ ‫!‬
‫من أتباعه العتراض قوافل قريش‪ ،‬ولكن لم يحصل الصدام بين الطرفين في حركته‬
‫ٍ‬
‫واط‪.‬‬ ‫ُ‬
‫نحو األبوا ِء وب ٍ‬
‫َ َ‬
‫وفي خروجه إلى ذي العشيرة‪ ،‬فقد وادع بني ُمدلج وحلفاءَهم من بني ضمرة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ومعاقبة المعتدي‪ ،‬حين أغار كرز بن جابر‬ ‫ِ‬ ‫النبي ! لرد االعتبار‪،‬‬ ‫وتحرك‬
‫لمالحقته‪،‬‬ ‫بي !‬ ‫الفهري على أطراف المدينة‪ ،‬لسلب اإلبل والمواشي‪ ،‬فخرج الن ّ ّ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫وخلف زيد بن حارثة على المدينة(‪.)2‬‬
‫النبي ! في حركته العسكرية‪ ،‬من مفهوم الجهاد والتضحية من أجل‬ ‫ُّ‬ ‫وانطلق‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫والموادعة‬
‫ِ‬ ‫محترما أعراف وتقاليد الصلح‬ ‫الدين‪ ،‬بداًل عن مفهوم العصبية والثأر‪،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫غزواته التي قادها وسراياه التي بعثها على النحو التالي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وحرمة األشهر الحرم‪ ،‬وجاءت‬ ‫ِ‬
‫ّ‬

‫((( المغازي‪.12 - 11/1 :‬‬


‫نظرة على‬

‫((( راجع السيرة النبوية‪.494 / 1 :‬‬


‫‪118‬‬

‫جدول غزوات الرسول ﷺ وسراياه‬


‫مكانها‬ ‫تارخيها‬ ‫اسم الغزوة‬
‫ودان‬ ‫صفر‪2‬هـ‬ ‫األبواء‬
‫ُب َواط‬ ‫ربيع أول ‪2‬هـ‬ ‫ُب َواط‬
‫العشرية‬ ‫مجادى الثانية ‪2‬هـ‬ ‫العشرية‬
‫َس َفوان‬ ‫ربيع األول ‪2‬هـ‬ ‫بدر األوىل‬
‫بدر‬ ‫رمضان ‪2‬هـ‬ ‫بدر الكربى‬
‫قرقرة القدر‬ ‫حمرم ‪2‬هـ‬ ‫بنوسليم‬
‫املدينة‬ ‫شوال ‪2‬هـ‬ ‫بنو قينقاع‬
‫قرقرة القدر‬ ‫ذو احلجة‪2‬هـ‬ ‫السويق‬
‫ذو أمر‬ ‫حمرم ‪3‬هـ‬ ‫ذو أمر‬
‫حبران‬ ‫ربيع أول ‪3‬هـ‬ ‫حُبران‬
‫جبل أحد‬ ‫شوال ‪3‬هـ‬ ‫أحد‬
‫محراء األسد‬ ‫شوال ‪3‬هـ‬ ‫محراء األسد‬
‫ضواحي املدينة‬ ‫ربيع أول ‪ 4‬هـ‬ ‫بنو النضري‬
‫بدر‬ ‫ذو القعدة ‪ 4‬هـ‬ ‫بدر اآلخرة‬
‫دومة اجلندل‬ ‫ربيع أول ‪ 5‬هـ‬ ‫دومة اجلندل‬
‫املريسيع‬ ‫شعبان ‪ 5‬هـ‬ ‫بنو املصطلق‬
‫املدينة‬ ‫شوال ‪ 5‬هـ‬ ‫اخلندق‬
‫ضواحي املدينة‬ ‫ذو احلجة ‪ 5‬هـ‬ ‫بنو قريظة‬
‫غزان‬ ‫ربيع األول ‪ 6‬هـ‬ ‫بنو حليان‬
‫ذو قرد‬ ‫ربيع األخرة ‪ 6‬هـ‬ ‫ذو قرد‬
‫احلديبية‬ ‫ذو القعدة ‪ 6‬هـ‬ ‫احلديبية‬
‫خنلة‬ ‫حمرم ‪ 7‬هـ‬ ‫ذات الرقاع‬
‫خيرب‬ ‫حمرم ‪ 7‬هـ‬ ‫خيرب‬
‫مكة‬ ‫ذو احلجة ‪ 7‬هـ‬ ‫عمرة القضاء‬
‫مكة‬ ‫رمضان ‪ 8‬هـ‬ ‫فتح مكة‬
‫حنني‬ ‫شوال ‪ 8‬هـ‬ ‫حنني‬
‫الطائف‬ ‫شوال ‪ 8‬هـ‬ ‫الطائف‬
‫تبوك‬ ‫رجب ‪ 9‬هـ‬ ‫تبوك‬
‫‪119‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫جدول توزيع غزوات الرسول على سنوات جهاده‬


‫الغزوة‬ ‫السنة‬
‫بواط‬ ‫العام الثاني للهجرة‬
‫العشرية‬
‫بدر األوىل‬
‫بدر الكربى‬
‫بنو سليم‬
‫بنو قينقاع‬
‫السويق‬
‫ذو أمر‬ ‫العام الثالث للهجرة‬
‫حبران‬
‫أحد‬
‫محراء األسد‬
‫بنو النضري‬ ‫العام الرابع للهجرة‬
‫ذات الرقاع‬
‫بدر اآلخرة‬
‫دومة جلندل‬ ‫العام اخلامس للهجرة‬
‫بنو املصطلق‬
‫اخلندق‬
‫بنو قريظة‬
‫بنو حليان‬ ‫العام السادس للهجرة‬
‫ذو قرد‬
‫احلديبية‬
‫خيرب‬ ‫العام السابع للهجرة‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫عمرة القضاء‬
‫فتح مكة‬ ‫العام الثامن للهجرة‬
‫ّ‬

‫حنني‬
‫الطائف‬
‫نظرة على‬

‫تبوك‬ ‫العام التاسع للهجرة‬


‫‪120‬‬

‫فوائد الغزوات والسرايا‪:‬‬


‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫تقريبا‬ ‫قتال‬ ‫عامة على هذه السرايا والغزوات‪ ،‬نجد أنه لم يحدث‬ ‫ٍ‬ ‫وبنظرة‬
‫ٍ‬
‫ُ َّ ٌ‬ ‫ُ‬
‫في معظمها‪ ،‬ومع ذلك فهي لم تخل من فائدة‪ ،‬بل كان فيها فوائد جمة‪.‬‬
‫نفسيا‪ ،‬كان عند المسلمين‪ ،‬من َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬
‫جراء المنع من القتال‬ ‫حاجزا‬ ‫أوال كسرت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ً‬

‫لمدة ‪14‬سنة بالتمام والكمال‪ ،‬فالمسلمون أ ِم ُروا بعدم حمل السيف‬


‫َّ‬
‫في وجه من يظلمهم طيلة هذه المدة‪ ،‬وترك الدفاع عن النفس كل هذه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫إلف‬
‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫يقود‬ ‫وقد‬ ‫الحيلة‪،‬‬ ‫بقلة‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫شعور‬ ‫أو‬ ‫النفس‬ ‫في‬ ‫ا‬ ‫ضعف‬ ‫يورث‬ ‫الفترة قد‬
‫ِّ‬
‫الذل والهوان‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫متدرجة للصعود‬ ‫ٍ‬ ‫كوسيلة‬
‫ٍ‬ ‫ا‪،‬‬‫نسبي‬ ‫البسيطة‬ ‫فجاءت هذه السرايا والغزوات‬
‫بنفسيَّات الصحابة‪ ،‬من حالة االستكانة إلى حالة االستنفار والنهوض‪ ،‬ومن حالة‬
‫الصبر على عدم الدفاع‪ ،‬إلى حالة الصبر على تبعات الهجوم‪.‬‬
‫َ‬
‫جماعة‬
‫ٍ‬ ‫لقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أمنها‪،‬‬‫ِ‬ ‫على‬ ‫ويحافظ‬ ‫خططها‪،‬‬ ‫ينفذ‬ ‫‪،‬‬ ‫جيش‬ ‫لها‬ ‫‪،‬‬ ‫ممكنة‬ ‫دولة‬ ‫مضطهدة إلى كونهم‬‫ٍ‬
‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ً‬
‫ويُرهب أعداءها‪ ،‬ويحفظ كرامتها‪ .‬لقد كانت نقلة نفسية رائعة‪.‬‬
‫دربت الصحابة على فنون القتال‪ ،‬وركوب الخيل‪ ،‬والحرب‬ ‫َّ‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫ثانيا‬
‫والتحرك والترقب‪.‬‬ ‫على اإلبل‪ ،‬والمناورة والخطة‬
‫َ‬
‫عامة كانوا يركبون الخيل واإلبل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بصفة‬
‫ٍ‬ ‫ن َع ْم هؤالء من الفرسان‪ ،‬والعرب‬
‫ًّ‬
‫تدريب‪ ،‬وخاصة‬ ‫معينة ال بد من‬
‫ٍ‬ ‫ويحاربون بالسيف والدرع‪ ،‬لكن إلتقان مهارة‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫مجرد مسابقة أو استعراض‪ ،‬إنما هي حياة أو موت‪ .‬واألمر إنما‬ ‫أن المسألة ليست‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫وفنائها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫زوالها‬ ‫أو‬ ‫ها‬ ‫وعلو‬ ‫أمة‬ ‫ببقاء‬ ‫ق‬ ‫يتعل‬
‫عرفت المسلمين الدروب والطرق حول المدينة المنورة‪ ،‬وبذلك أدركوا‬‫َّ‬ ‫ً‬
‫نقاط َّ‬
‫القوة والضعف في المنطقة‪َّ ،‬‬
‫ثالثا‬
‫وعرفتهم ديار القبائل المحيطة وقوتها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪121‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ِّ‬ ‫ٰ َّ‬
‫ننسى أن المهاجرين الذين يمثلون العنصر الوحيد في هذه الجيوش ليسوا‬ ‫وال‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫من أهل المدينة‪ ،‬وإنما عاشوا حياتهم بكاملها في مكة‪ ،‬بعيدا عن هذه البقاع بنحو‬
‫ً‬
‫تقريبا‪.‬‬ ‫خمسمائة كيلو متر‬
‫بقوة‬
‫ِ‬ ‫رابعا أشعرت هذه الدوريَّات العسكريَّة المتكررة القبائل المحيطة‬ ‫ً‬
‫َ‬
‫المسلمين‪ ،‬وكشفت جرأتهم في مواجهة قريش أكبر القبائل العربية‬
‫ٍ‬
‫وأقواها ‪.‬‬
‫ً‬ ‫َّ َّ‬
‫وال شك أن هذا األمر قد أدخل الرهبة في قلوب هذه القبائل وخاصة األعراب‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ٰ‬
‫القوى في المنطقة في طريقها للتغير‪.‬‬ ‫فعملت للمسلمين حسابًا‪ ،‬وأدركوا أن موازين‬
‫َّ‬
‫خامسا مكنت المسلمين من بعض المعاهدات مع بعض قبائل المنطقة‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ً‬

‫جوار‪ ،‬بل ودفاع مشترك‪.‬‬ ‫ن‬ ‫عبارة عن معاهدات ُح ْ‬


‫س‬ ‫والتي هي‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫فعلى سبيل المثال‪ :‬عقد رسول اهلل ! معاهدة مع قبيلة بني ضمرة‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬
‫قبيلة بني مدلج‪ ،‬وذلك في غزوة‬ ‫ِ‬ ‫في غزوة األبواء‪ ،‬كما عقد معاهدة مع‬
‫ٍ‬ ‫َّ َّ‬
‫َّ‬
‫ذي العشيرة‪ .‬وال شك أن هذه المعاهدات زادت من قوة المسلمين‪،‬‬
‫أقدامهم في المنطقة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ورسخت‬ ‫َّ‬

‫إسالمي صريح للحرب على أهل مكة الكافرين‪،‬‬‫ٍّ‬ ‫إعالن‬ ‫سادسا كانت بمنزلة‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬

‫وكانت مكة قد أعلنت الحرب من قديم على المسلمين‪ ،‬لكن هذا هو‬
‫َّ ٍ َّ‬ ‫اإلعالن الرسمي َّ‬
‫األول على مكة‪ ،‬وال شك أنه سيُلقي بظالله على العالقة‬
‫بين الدولتين ‪.‬‬
‫مستبد‬ ‫َّ‬
‫تستمر على وضعها السابق كعالقة ظالم بمظلوم‪ ،‬أو كعالقة‬ ‫فهي لن‬
‫ٍ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬


‫أخرى تكافئها وتناظرها‪،‬‬ ‫بدولة‬
‫ٍ‬ ‫دولة‬
‫بمقهور‪ ،‬إنما ستصبح من اآلن فصاعدا عالقة ٍ‬
‫ٍ‬
‫ِّ‬
‫ّ‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬


‫ومن المؤكد أن هذا سيؤثر سلبا في نفسيات أهل مكة‪ ،‬وهم يشاهدون قوة المسلمين‬
‫َ‬ ‫ٰ‬
‫تتنامى‪ ،‬وأعدادهم تتزايد‪ ،‬وجرأتهم تزيد‪.‬‬
‫نظرة على‬
‫‪122‬‬

‫وقفة مع رمحته ! يف اجلهاد‪:‬‬


‫ُّ‬
‫تصور الناس‬ ‫قد يستغرب المرء ُ الحديث عن الرحمة في الجهاد‪ ،‬وما هو في‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٰ‬
‫األمر صحيحا عند الحديث‬ ‫أقسى صوره‪ ،‬وقد يكون هذا‬ ‫إال القتال والعنف في‬
‫أي حضارة أو تشريع غير حضارة اإلسالم وشريعته ‪.‬‬ ‫عن القتال في ِّ‬
‫َّ‬ ‫ولعل هذا يصدق مع ِّ‬ ‫َّ‬
‫قائد غير رسول !؛ ألن رحمة اإلسالم‬ ‫زعيم أو ٍ‬ ‫أي‬
‫ٍ‬
‫أيضا ميدان الجهاد‪ّ ،‬‬
‫وعمت المسلمين وغير المسلمين‪،‬‬ ‫ورحمة الرسول ! شملت ً‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وشواهد ذلك كثيرة ودالئله ظاهرة‪.‬‬
‫ٰ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫أرقى أنواع العبادات في اإلسالم‪،‬‬ ‫وأي عبادة؟ إنه من‬ ‫والجهاد عبادة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫يظن أن العبادة هي الصالة والصوم‬ ‫ومن أعالها منزلة ومكانة‪..‬فمن الناس من‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫والزكاة والحج ونحو ذلك من شعائر وحسب‪ ،‬وال ينظرون إلى العبادة بمفهومها‬
‫َّ‬
‫الشاملِ الواسعِ الذي ينتظم كل صغيرة وكبيرة في الحياة‪..‬‬
‫أ‬
‫ني﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]162 :‬‬
‫اي َو َم َمات للِ هَّ ِ َر ّب ۡٱل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يِ‬
‫ُ ۡ َّ َ اَ َ ُ ُ َ حَ ۡ‬
‫م َي َ‬ ‫ٰ‬
‫تعالى‪﴿ :‬قل إِن صل يِت ونس يِك و‬ ‫يقول‬
‫وانظر إلى الحوار اللطيف الذي حصل بين رسول اهلل ! ومعاذ بن جبل ‪،K‬‬
‫كثيرة في اإلسالم ومنها الجهاد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وفيه يوضح مكانة عباداتٍ‬
‫َ‬ ‫َ ََ ْ ْ ُ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫ُ‬
‫يقول معاذ بن جبل ‪> :K‬كنت َم َع الن َّ ِب ِّي ِفي َسف ٍر فأص َبحت ي َ ْو ًما ق ِر ًيبا‬
‫ْ َ َّ َ َ ُ َ ُ‬ ‫َ َ ُْ ُ‬ ‫هلل‪ ،‬أ َ ْخب ْ‬ ‫ُْ َ َ ْ ُ َ ُ َُْ ُ َ َ ُ َ‬
‫اعد ِني‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ي‬‫و‬ ‫ة‬ ‫ن‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫ل‬ ‫خ‬ ‫د‬ ‫ي‬
‫َ ِ ِ َِ ٍ ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ول‬ ‫ِمنه‪ ،‬ونحن ن ِسير فقلت‪ :‬يا رس‬
‫َ‬ ‫ال‪َ :‬ل َق ْد َسأ ْل َتني عَ ْن عَظيم وإنَّه ل َيس ٌ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َّ َ َ‬
‫عن الن ِار ق‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ير عَلى َمن ي َ َّس َر ُه اهللُ عَل ْيه‪ :‬تعبُد اهللَ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضان‪َ ،‬وتح ُّج ال َب ْيت< ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ش ْيئًا‪َ ،‬وتُق ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ ْ‬
‫وم َر َم َ‬ ‫الصالة‪َ ،‬وتؤ ِتي الزَّ كاة‪ ،‬وتص‬ ‫يم َّ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫وال تش ِر ِ ِ‬
‫ب‬ ‫ك‬
‫ْ َ ََ‬ ‫َ َ ُ ُْ‬ ‫ْ ُ ُ ٌ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ال‪> :‬أَال أ َ ُدلُّ َك عَ َلى أ َ ْب َ‬ ‫ُ َّ َ َ‬
‫الصدقة تط ِف ُئ‪ ،‬الخ ِطيئة‬ ‫الصوم جنَّة‪ ،‬و َّ‬ ‫اب الخ ْي ِر؟ َّ‬ ‫و‬ ‫ثم ق‬
‫َ َ ُ َّ َ‬
‫ِ‬
‫ف اللَّيل< قال‪ :‬ثم تال‪﴿ :‬تتجاف‬
‫َ َ َ ٰىَ‬ ‫ْ‬ ‫و‬‫ْ‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫ْ‬
‫م‬ ‫ل‬ ‫ج‬
‫ُ‬
‫ر‬ ‫ال‬
‫ُ‬
‫الة‬ ‫َ‬
‫ص‬ ‫َ‬
‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫َك َما ي ُ ْطف ُئ ال َماء النَّ َ‬
‫ار‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َ َِّ َ َ َ‬
‫ِۡ ُ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫جنوبهم ع ِن ٱلمضا ِجعِ ﴾ [ ل��س���ج �د ‪ ]16 :‬حتى بلغ ﴿يعملون﴾‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ا � � �ة‬ ‫ُ ُ ُُ ۡ َ َۡ َ‬
‫ُْ ُ َ‬ ‫ُ َ َ َ ُْ َ ْ‬
‫ت‪ :‬بَلىٰ‬ ‫َّ‬
‫َْ ُ‬
‫ودهِ و ِذرو ِة سن ِام ِه؟< قل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س األم ِر كل ِه وعم ِ‬ ‫ِّ‬
‫ثم قال‪> :‬أال أخ ِبرك ِبرأ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪123 Z‬‬
‫ّ‬

‫ْ‬ ‫س األ َ ْ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ َ ُ َ‬


‫الصالة‪َ ،‬و ِذ ْر َوة َسنَ ِام ِه ال ِج َهاد<‪.‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫‪،‬‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ول‬ ‫يا رس‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ُ َ َُ ُ‬
‫ِ‬
‫ود ُ‬
‫ه‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫الم‬ ‫س‬ ‫اإل‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫>ر‬
‫َّ‬
‫ََ َ َ‬ ‫ُْ ُ ََ ٰ َ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ُ َّ َ َ‬
‫هلل‪ ،‬فأخذ ِب ِل َس ِان ِه‬ ‫َّ‬ ‫ال‪> :‬أَال أ ُ ْخب ُر َك ب َ‬
‫َ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫‪:‬‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫؟<‬ ‫ه‬ ‫ِّ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫الك‬ ‫م‬ ‫ثم ق‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫هلل‪َ ،‬و ِإنا ل ُمؤاخذون ِب َما نتكل ُم ِب ِه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف عليك هذا< فقلت‪ :‬يا ن ِب َّي ا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قال‪:‬‬
‫َ‬
‫>ك َّ َ ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اس في النَّار عَلى وجوهه ْم أو عَلى َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب النَّ َ‬ ‫ُ‬ ‫>ثَك َلتك أ ُّمك يَا ُم َعاذ‪ ،‬وهل ي َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫اخ ِر ِه ْم‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ َ ُ َْ‬
‫ِإال َّ حص ِائد أل ِسن ِت ِهم؟< ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫عبادة‪ ،‬ولكن َّ‬ ‫ً‬
‫سنام اإلسالم‪ ،‬واألحاديث في فضله‬ ‫ِ‬ ‫ذروة‬ ‫ه‬ ‫فالجهاد ليس فقط‬
‫يصعب حصرها‪ ..‬والمسلم في جهاده يضحي بنفسه‪ ،‬لينقذ الكافر من عذاب النار‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬
‫حقد وانتقام‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫رحمة‬
‫ٍ‬ ‫نظرة‬ ‫والخلود فيها‪ ،‬فهي‬
‫ٍ‬
‫وأهمية احتياج األمة إليه؛ للذود عن أراضيها وحرماتها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أهمية الجهاد‪،‬‬ ‫ومع ِّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫عامة‬
‫ٍ‬ ‫بصفة‬
‫ٍ‬ ‫واألمة‬ ‫ولرد الظلم ودفعه‪ ،‬إاّل أن الرسول كان يتعامل مع اجملاهدين‬
‫ويخف ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ف عنهم‪ ،‬ويرحمهم ويرفق بهم‪،‬‬ ‫بشي ٍء عظيم من الرحمة‪ ،‬فيقدر ظروفهم‪،‬‬
‫َ ً‬ ‫ٍ‬
‫كثير من الناس ـ برفق‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ف ٍ‬ ‫لدرجة ال تسمح ـ في عر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مع أن الموقف قد يكون ح ِرجا‬
‫أو رحمة!!‬
‫ِّ‬ ‫ِّ ً‬ ‫ُ‬
‫ومن أجمل ما نجده في حياته متعلقا بهذه الجزئية عدم خروجه بنفسه في كل‬
‫ف في السيرة بالغزوات‪،‬‬ ‫المعارك اإلسالمية‪ ،‬فكان يخرج في بعضها‪ ،‬وهو ما عُر َ‬
‫ِ‬
‫ف في السيرة بالسرايا‪..‬‬ ‫وكان ال يخرج في بعضها اآلخر‪ ،‬وهو ما عُر َ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬
‫فلماذا لم يخرج في كل المعارك مع اشتياقه للتضحية والبذل في سبيل اهلل؟!‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫يجيب عن ذلك رسول اهلل بنفسه فيقول‪> :‬وا َّل ِذي نف ِسي ِب َي ِدهِ‪ ،‬ل ْوال أ َّن ِر َجااًل‬
‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ َ َ ُ‬ ‫يب أَنْ ُف ُ‬ ‫ين ال تَط ُ‬ ‫م ْن ْال ُم ْؤمن َ‬
‫س ُه ْم أن يَتخلَّفوا عَنِّي‪َ ،‬وال أ ِجد َما أح ِمل ُه ْم عَل ْي ِه‪،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫ّ‬

‫((( الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ )2616‬وقال‪< :‬حسن صحيح>‪ ،‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 22016‬قال‬
‫مخرجوه‪< :‬إسناده صحيح‪ ،‬رجاله ثقات‪ ،‬رجال الشيخين> انظر‪ :‬تخريجه فيه مفصاًل‪ ،‬قال‬
‫نظرة على‬

‫األلباني‪< :‬صحيح> ‪.‬‬


‫‪124‬‬

‫َ َ ْ ُ َ ُْ َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ‬
‫ت أنِّي أقتل ِفي‬ ‫اهلل‪َ ،‬وا َّل ِذي نف ِسي ِب َي ِدهِ‪ ،‬لو ِدد‬ ‫ِ‬ ‫َما تخلَّفت عَن َس ِريَّ ٍة تغ ُزو ِفي َس ِبيل‬
‫ُ ُ ْ َ ُ ُ ْ َ ُ ُ ُِ ْ َ ُ ُ ْ َ ُ ُ ُ ْ َ ُ ُ ْ‬
‫اهلل‪ ،‬ث َّم أحيا‪ ،‬ث َّم أقتل‪ ،‬ث َّم أحيا‪ ،‬ث َّم أقتل‪ ،‬ث َّم أحيا‪ ،‬ث َّم أقتل< ‪.‬‬
‫َ ُ (‪)1‬‬
‫يل ِ‬ ‫َس ِب‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫فانظر إلى رحمته بالمسلمين المطالبين بالجهاد‪ ،‬فإنه يرفع عنهم الحرج الذي‬
‫فيقرر عدم‬ ‫مرة‪ ،‬ألنَّهم سيضطرون للخروج اتباعًا له‪َّ ،‬‬ ‫كل َّ‬ ‫ِّ‬
‫يحصل بالخروج في‬
‫الخروج ـ مع رغبته فيه ـ ألجل رحمتهم والرفق بهم!‪.‬‬
‫أن المسلمين ً‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ َّ‬
‫كثيرا‬ ‫القتال رحمة به‪ ،‬مع‬ ‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫ضعيف‬ ‫معه‬ ‫يخرج‬ ‫أن‬ ‫يرفض‬ ‫ه‬ ‫ثم إن‬
‫رحيما بضعفاء َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫أمته‪ ،‬وال يقبل أن‬ ‫عون‪ ،‬لكنه كان‬ ‫ٍ‬ ‫ما كانوا ِقلة‪ ،‬ويحتاجون إلى كل‬
‫ٰ‬ ‫حتى لو رغبوا هم في ذلك‪ ،‬اللهم إال إن ُّ‬ ‫ش َّق عليهم ٰ‬ ‫َ ُ‬
‫ورأى منهم رسول‬ ‫أصروا‪،‬‬ ‫ي‬
‫اهلل بعض القدرة على القتال‪..‬‬
‫أم المؤمنين عائشة‬ ‫بي كيف أنَّه أجاب بالرفض على سؤال ِّ‬ ‫وقد رأينا في َح َّجة الن ّ ِّ‬
‫ل‬ ‫ض َل ْال َع َ‬
‫م‬ ‫اد أ َ ْف َ‬‫ََ ْ َ َ‬
‫ه‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫ى‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫‪،‬‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ول‬
‫َ َ ُ َ‬
‫‪ I‬الخاص بالجهاد‪..‬قالت عائشة ‪ :I‬يا رس‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫ََ ُ َ ُ َ َ‬
‫ور<(‪.)2‬‬ ‫ْ‬
‫ج مب ُر ٌ‬‫َ‬
‫اد ح ٌّ‬ ‫ه‬
‫ِ ِ‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ف‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫>ال‪،‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫اهد؟ ق‬ ‫أفال نج ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهذه رحمة بالنساء‪ ،‬وكيف أنه لم يقبل األطفال الصغار في الحرب رحمة‬
‫بهم‪ ،‬وإرجاعُه لبعض الشباب؛ لكونهم يقومون برعاية آبائهم الكبار‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫فم َّما يدل على سعة رحمته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وأوالده؛‬ ‫‪K‬‬ ‫الجموح‬ ‫بن‬ ‫عمرو‬ ‫مع‬ ‫ه‬ ‫موقف‬ ‫أما‬
‫ليس من رؤية واحدة‪ ،‬ولكن من عدة رؤى مختلفة‪..‬‬
‫بدر‪ ،‬أراد عمرو بن الجموح ‪ K‬الخروج‬ ‫إلى‬ ‫الناس‬ ‫اهلل‬ ‫رسول‬ ‫ندب‬ ‫ا‬ ‫َّ‬
‫لم‬
‫ُُ‬ ‫َّ ٍ‬
‫فلما كان يوم أح ٍد‪ ،‬قال لبنيه‪:‬‬ ‫لشدة عرجه‪َّ ،‬‬ ‫معهم‪ ،‬فمنعه بنوه بأمر رسول اهلل‬
‫َّ‬ ‫ُُ‬
‫بدر‪ ،‬فال تمنعوني الخروج إلى أح ٍد؛ فقالوا‪ :‬إن اهلل قد‬ ‫منعتموني الخروج إلى ٍ‬
‫عذرك‪.‬‬

‫َ‬
‫((( البخاري‪ :‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب ت َمنِّي الشهادة‪ ،‬حديث رقم (‪.)2797‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)1520‬‬
‫‪125‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َّ‬
‫فأتى رسول اهلل؛ فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ :‬إن بَ ِن َّي يريدون أن يحبسوني عن هذا‬
‫ٰ‬
‫ِّ‬
‫الوجه‪ ،‬والخروج معك فيه‪ ،‬واهلل إني ألرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة! ‪.‬‬
‫فقال رسول اهلل‪> :‬أمَّا أنت فقد عذرك اهلل‪ ،‬وال جهاد عليك<‪ ،‬وقال لبنيه‪> :‬ال‬
‫َ‬
‫عليكم أن ال تمنعوه ل َعلَّ اهلل أن يرزقه الشهادة<‪.‬‬
‫تردني إلى أهلي ً‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫خائبا‪.‬‬ ‫فأخذ سالحه وولى‪ ،‬وقال‪ :‬اللهم ارزقني الشهادة وال‬
‫ٌ‬ ‫ُُ‬
‫فلما قتل يوم أحد جاءت زوجه هند بنت عمرو عمة جابر بن عبد اهلل؛ فحملته‪،‬‬
‫ُ‬
‫فدفنَ‬
‫قبر واحد؛ فقال رسول اهلل‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫في‬ ‫ا‬ ‫ِ‬ ‫وحملت أخاها عبد اهلل بن عمرو بن حرام‬
‫>والذي نفسي بيده لقد رأيته يطأ الجنَّة بعرجته<(‪.)1‬‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ ٌ‬ ‫َّ‬
‫إن الرحمة هنا ُم َركبة ومتعددة‪ ،‬ففي البداية رحيم به؛ فال يريد المشقة له‬
‫لعرجه‪ ،‬فيعفيه من أمر الجهاد ويرحمه بالمنع‪ ،‬وهو في ذات الوقت رحيم بعائلته‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً َّ‬ ‫ُ َ‬
‫فليبق هو لرعاية‬ ‫أن تفج َع فيه بموته‪ ،‬وخاصة أن أربعة من أبنائه قد خرجوا للجهاد‬
‫مصالح بيتهم ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وأحس‬ ‫ثم عندما وجد اشتياقه للجهاد‪ ،‬رحم شوقه هذا ورغبته‪ ،‬وقدر موقفه‪،‬‬
‫وتوسط عند أبنائه‪َّ ،‬‬
‫وهون عليهم ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫بمشاعره‪ ،‬فقبل منه‪ ،‬بل‬
‫بشرهم بمصيره لئاّل يجزع أبناؤه‪ ،‬ولكيال‬ ‫ولما استُشه َد عمرو بن الجموح ‪َّ K‬‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫وقتال‪..‬‬ ‫بجهاد‬ ‫ٌّ‬
‫مختص‬ ‫األمر‬ ‫أن‬ ‫مع‬ ‫متتابعة‬ ‫متتالية‬ ‫رحمات‬ ‫ها‬ ‫يندموا على خروجه‪..‬إن‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫وكان يخاف على جنوده من شدة اإلرهاق والتعب‪ ،‬وذلك رحمة بهم‪ ،‬ومن‬
‫ذلك ما فعله في غزوة فتح مكة‪ ،‬وكانت في رمضان‪ ،‬وصام رسول اهلل والمؤمنون‪،‬‬
‫ُ ُ‬ ‫َّ‬
‫ثم بلغه أن الناس أ ْر ِهقوا من الصيام‪ ،‬وكان ذلك بعد العصر‪ ،‬فماذا فعل رسول اهلل ؟!‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫َّ َ‬ ‫َ َ ْ َْ َ‬ ‫ََ َ َ ُ ُ‬
‫ح ِإلى َمكة‬ ‫ِْ‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫ال‬ ‫ام‬ ‫ع‬ ‫هلل‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ول‬ ‫يروي جابر بن عبد اهلل ‪ R‬فيقول‪ :‬خرج رس‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ام الن َّ ُ‬
‫ص َ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َ َ َّ ٰ َ َ َ ُ َ َ‬
‫اع ْال َغميم فَ َ‬
‫اس‪ ،‬ث َّم دعَا ِبقدح ِمن َما ٍء ف َرف َع ُه‬
‫ّ‬

‫ِ ِ‬ ‫ِفي رمضان فصام حتى بلغ كر‬


‫ٍ‬
‫نظرة على‬

‫((( اإلصابة‪ ،‬الترجمة (‪ ،)5797‬وأسد الغابة ‪.702/3‬‬


‫‪126‬‬

‫َ ْ َ َ ََ َ‬
‫ام‪ ،‬فقال‪:‬‬‫اس قد ص‬ ‫يل َل ُه بَ ْع َد َذل َك‪ :‬إ َّن بَ ْع َ‬
‫ض الن َّ‬ ‫َ َّ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ َّ َ َ َ َ‬
‫حتى نظر الناس ِإلي ِه؛ ثم ش ِرب ف ِق‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ َ ُْ َ ُ ُ َ َ ُْ َ ُ‬
‫صاة<(‪.)1‬‬ ‫>أول ِئك العصاة أول ِئك الع‬
‫يا لها من رحمة بالغة!! إنَّه لم يشأ أن يسمح باإلفطار للناس بينما ُّ‬
‫يتم‬
‫هو صومه‪ ،‬لئاّل يقع الناس في حرج‪ ،‬فبدأ هو بنقض صيامه واإلفطار على ماء‪،‬‬
‫ليكون قدوة لهم في ذلك‪ ،‬وأفطر معه معظم المسلمين‪ ،‬ولكن بقيت طائفة تريد‬
‫ُ َ َ ُْ َ ُ‬
‫صاة!!< ‪.‬‬ ‫فلما بلغه ذلك‪ ،‬قال‪> :‬أول ِئك الع‬ ‫تتم صومها‪َّ ،‬‬ ‫أن ّ‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫لقد قال في حقهم هذه الكلمات؛ ألنهم ال يرحمون أنفسهم‪ ،‬وال يرحمون‬
‫يتحرج من إفطاره في وجود الصائمين‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫من سيقلدهم في ذلك األمر‪ ،‬أو على األقل‬
‫إن رحمته شملت الجيش بكامله‪ٰ ،‬‬ ‫َّ‬
‫حتى أراد لهم الراحة‪ ،‬فال يجمع عليهم‬
‫َّ ّ‬ ‫َّ‬
‫مشقة الجهاد وجهد الصيام‪ ،‬فإذا علمت أن كل ذلك كان بعد صالة العصر‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٰ‬
‫مدى رحمته التي لم يشأ أن يؤخر النقضاء هذه المدة القليلة المتبقية‬ ‫أدركت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على المغرب‪ ،‬رأفة بجيشه‪ ،‬ورفقا بأمته‪..‬‬
‫يهتم بجراح جنوده وجيشه‪ ،‬ويحرص على مداواتها بيده إن استطاع‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وكان‬
‫بي بيده بمشقص(‪َّ ،)4‬‬ ‫ّ‬
‫وقد ُرم َي سعد بن معاذ ‪ K‬في أكحله(‪ )2‬فحسمه(‪ )3‬الن ّ‬
‫ثم‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫ورمت فحسمه الثانية ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫أوكل َ‬ ‫ً‬
‫أمر‬ ‫وعندما تفاقم الجرح‪ ،‬ولم يستطع رسول اهلل أن يفعل شيئا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ َ‬
‫ِّ‬
‫للطب والعالج‪ ،‬وضرب له خيمة‬ ‫عالجه إلى ُرف ْيدة ‪ ،I‬وكانت مشهورة بإتقانها‬
‫في المسجد‪ ،‬وكان يعوده فيها بنفسه(‪. )6‬‬

‫((( أكحله‪ :‬عرق في وسط الذراع‪.‬‬ ‫ ‬


‫(‪.)1114‬‬ ‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‬

‫((( مشقص‪ :‬سهم بطرف حاد عريض‪.‬‬ ‫ ‬


‫((( حسمه‪ :‬كواه ليقف النزيف‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2208‬‬
‫((( اإلصابة‪ ،‬الترجمة (‪ ،)3200‬أسد الغابة ‪.239/2‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪127 Z‬‬
‫ّ‬

‫َ‬ ‫ُ‬
‫وكان يحزن على أصحابه اجملاهدين إن أصابهم أل ٌم أو قتل‪ ،‬وكان من رحمته‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الناس ببكائه‪،‬‬ ‫رأس الدولة‪ ،‬وسيتأثر‬ ‫أنه يبكي عليهم‪ ،‬مع أنهم شهداء‪ ،‬ومع أنه‬
‫ٌ‬
‫ولكنَّها كانت رحمة في قلبه‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫بي ٰ‬ ‫أن الن ّ ّ‬ ‫َّ‬ ‫يروي ُ‬
‫وجعفرا وابن رواحة للناس‬ ‫نعى زيدا‬ ‫أنس بن مالك ‪:K‬‬
‫خ َذ َها َج ْع َف ٌر فَأُص َ‬ ‫ََ َ ْ ٌ َ ُ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫يب‪،‬‬ ‫ُ َ َِ‬ ‫أ‬ ‫م‬‫َّ‬ ‫ث‬ ‫‪،‬‬ ‫يب‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫ة‬ ‫اي‬ ‫ر‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫ذ‬ ‫قبل أن يأتيهم خبرهم؛ فقال‪> :‬أخ‬
‫َ‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يب‪ ،‬وإ َّن عين ْي َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫اح َة فَأُص َ‬ ‫ْ ُ َ َ َ‬ ‫ُ َ َ َ َ َْ ُ‬
‫ان‪ ،‬ث َّم أخذ الراية‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫اهلل‬ ‫ول‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫اهلل‬
‫ث َّم أخذها عب ِ‬
‫د‬
‫ِ ِ ِ ِ َ ُ ْ ُ َْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يد‬‫سيف من سيوف َاهلل حتى فتح اهلل عليهم< وكان الذي أخذها خ ِالد بن الو ِل ِ‬
‫(‪)1‬‬

‫َُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِمن غ ْي ِر ِإ ْم َر ٍة فف ِتح ل ُه‪.‬‬
‫تعالى نبيَّه ! بخبر ٍّ‬ ‫ٰ‬ ‫أدلة َّ‬ ‫ِّ‬ ‫وفي هذا الحديث ٌ‬
‫غيبي(‪.)2‬‬ ‫ٍ‬ ‫اهلل‬ ‫إخبار‬ ‫وهو‬ ‫ة‪،‬‬ ‫النبو‬ ‫من‬ ‫دليل‬
‫وكان يحرص على راحة جنوده النفسيَّة‪ ،‬وذلك باالطمئنان على عائالتهم أثناء‬
‫ُ‬ ‫ُ ِّ‬
‫ترعى أ َس َر اجملاهدين‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫أمته أن‬ ‫علم َّ‬ ‫خروج الجنود للقتال‪ ،‬فكان يربِّي وينصح وي‬
‫َْ‬ ‫ْ َََ‬
‫رسول اهلل !‪> :‬من جهَّ ز ِ‬ ‫يقول‬
‫ََ ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ‬
‫اهلل فقد غ َزا‪َ ،‬و َمن خلف ُه ِفي أه ِل ِه‬ ‫يل ِ‬ ‫ازيًا ِفي َس ِب‬ ‫غ‬
‫ِ‬
‫ِبخ ْي ٍر فقد غ َزا<(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫يتفقد بنفسه شؤون أهالي الشهداء واجملاهدين وذويهم‪َ ،‬لي َ‬ ‫َّ‬


‫شعر‬ ‫بل كان‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫يهتم بعائلته ويرعاها‪ ،‬ومن ذلك ما رواه أنس‬ ‫اجملاهد أنه إذا مات‪ ،‬فهناك من‬
‫َ َ‬
‫اج ِه ف ِقيل‬ ‫س َل ْيم إال عَ َلى أ َ ْز َ‬
‫و‬ ‫خ ُل بَ ْي ًتا ب ْال َمدينَة َغ ْي َر بَ ْيت أ ُ ِّم ُ‬ ‫َ َّ َّ َّ َ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ‬
‫‪ K‬من أن الن ِبي لم يكن يد‬
‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َ ُ َ َ َ ِّ َ ْ َ ُ َ ُ َ ُ‬
‫َ‬
‫وها َم ِعي<(‪.)4‬‬ ‫خ َ‬ ‫>إني أرحمها ق ِتل أ‬ ‫له فقال‪ِ :‬‬
‫الرضاع أو‬ ‫إما من َّ‬ ‫وقد كان رسول اهلل ! يدخل على أ ُ ِّم ُس َل ْيم ألنَّها كانت خالته َّ‬
‫من النسب على خالف بين العلماء‪ ،‬فتحل له الخلوة بها(‪.)5‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( انظر فتح الباري شرح حديث رقم ( ‪.) 4262‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‬
‫ ‬
‫(‪.)4262‬‬
‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2844‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‬
‫ ‬
‫(‪.)2843‬‬
‫نظرة على‬

‫((( النووي‪ :‬شرح صحيح مسلم ‪.10/16‬‬


‫‪128‬‬

‫خفف ً‬‫َّ ُ ِّ‬


‫كثيرا من أعباء الجهاد ‪.‬‬ ‫وهكذا رحمته تشمل اجملاهد وأسرته مما ي‬
‫ُ‬
‫نادرة من رحماته‪ ،‬وهي رحمته‬ ‫ٍ‬ ‫ورحمة‬
‫ٍ‬ ‫عجيب‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ونختم هذا الموضوع بأمر‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫فالفرار من الزحف كبيرة من الكبائر كما يعلم الجميع‪،‬‬ ‫بالفارين من أرض القتال‪،‬‬
‫َْ ْ ُ َ‬ ‫ً‬
‫وبقاتِ<(‪ .)1‬وذكر منها‪:‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫عندما‬ ‫ا‬ ‫تصريح‬ ‫وذكره رسول اهلل‬
‫ْ‬
‫>اج َتنبُ‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫س‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫وا‬ ‫ِ‬
‫ف<(‪. )2‬‬
‫َ َ َْ َ ْ‬
‫>وال َّتو ِّلي يوم الز ِ‬
‫َّح‬
‫فرق بين َمن كان عادته الفرار‪َ ،‬‬ ‫فإن رسول اهلل ! كان ي ُ ِّ‬ ‫َّ‬
‫ومن حدث‬ ‫ومع ذلك‬
‫عارض ال يتكرر‪ ،‬فهذا النوع األخير كان يرحمه ويرفق به‪ ،‬وال يشير‬ ‫ٍ‬ ‫كحدث‬
‫ٍ‬ ‫ذلك منه‬
‫إلى سلبيّاته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وقد حدث ُ‬
‫عدد ال بأس به من المسلمين بعد موقعة أحد‪ ،‬ولم تنقل كتب‬ ‫ٍ‬ ‫فرار‬
‫َّ َ َّ‬ ‫السنِّة أو السيرة َّ‬
‫عتاب من رسول اهلل ألولئك الفارين‪ ،‬بل إنه حف َزهم‬ ‫ٍ‬ ‫أي لوم أو‬
‫َ‬ ‫ُُ‬ ‫َّ‬
‫ونشطهم للخروج في اليوم التالي ألحد لمطاردة المشركين‪ ،‬ولم يقبل أن يأخذ‬
‫يثق فيهم‪ ،‬ويعتمد عليهم‪ ،‬ويعلم‬ ‫غير أهل أ ُ ُحد‪ ،‬في إشارة واضحة إلى أنَّه ُ‬ ‫معه َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُُ‬ ‫َّ‬
‫يتكر َر‪ ،‬ومن ث َّم فقد أذن‬ ‫َّ‬ ‫أن ما حدث باألمس في أحد كان هفوة عابرة‪ ،‬وخطأ لن‬
‫ْ‬ ‫ِّ ُ‬
‫مؤذن رسول اهلل بطلب العدو‪ ،‬وأن ال يخرج معهم إاّل َمن حضر باألمس(‪.)3‬‬
‫اإلسالمي بقيادة خالد بن‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الجيش‬ ‫كذلك في أعقاب غزوة مؤتة‪ ،‬انسحب‬
‫ً‬ ‫ألن َّ‬‫َّ‬
‫القوتين كانتا غير متساويتين مطلقا‪ ،‬فجيش الرومان أكثر من ستين‬ ‫الوليد ‪K‬؛‬
‫ً‬
‫ضعفا للجيش المسلم ‪.‬‬
‫َّ‬
‫ويروي عبد اهلل بن عمر ‪ R‬ظروف هذا االنسحاب‪ ،‬ورد فعل أهل المدينة له‪،‬‬
‫اس‬ ‫اص(‪ )4‬الن َّ ُ‬‫هلل ! في َسريَّة فَ َح َ‬ ‫ََََ َ ُ ُ‬
‫وكذلك رد فعل الرسول ! فيقول‪ :‬بعثنا رسول ا ِ‬
‫َّ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2766‬‬ ‫ ‬


‫((( الموبقات‪ :‬المهلكات‪.‬‬
‫((( ابن سيد الناس‪ :‬عيون األثر ‪ ،57/2‬ابن هشام‪ :‬السيرة النبوية ‪.52/4‬‬
‫((( فحاص الناس أي‪ :‬انحرفوا وانهزموا‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ب‬ ‫ض‬‫الز ْحف َوبُ ْؤنَا ب ْال َغ َ‬ ‫صنَ ُع؟ َو َق ْد فَ َر ْرنَا م ْن َّ‬ ‫ف نَ ْ‬ ‫اص فَ ُق ْلنَا‪َ :‬ك ْي َ‬ ‫يم ْن َح َ‬ ‫تف َ‬ ‫َْ َ ً َ ُْ ُ‬
‫ِْ َ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫صة و َكن ِ‬ ‫ْ‬
‫حي‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ضنَا أنف َسنَا عَلى َر ُ‬ ‫َ َّ َ ْ َ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خلنَا ال َمدينَ‬ ‫ُ َّ َ ْ َ َ‬ ‫ُ‬
‫هلل ف ِإن كانت‬ ‫ول ا ِ‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‪:‬‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫م‬ ‫ث‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫ف‬ ‫ة‬
‫َ َِ َ ِ‬ ‫ثم قلنا‪ :‬لو د‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ ْ ُِ َ َ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اه قبل َ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َل ُه تَ ْوبَ ٌة‪َ ،‬وإال ذهبنا فأت ْين ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الة الغد ِاة‪ ،‬فخ َرج فقال‪ :‬من القوم؟ قال‪ :‬فقلنا‪:‬‬ ‫َْ ْ ِ‬ ‫ص‬ ‫ِ‬
‫َ ْ ُ ْ َ َّ ُ َ َ َ‬
‫نحن الفرارون قال‪> :‬ال بل أنتم العكارون ‪ ،‬وأنا فئتكم< ‪.‬‬
‫َ (‪)1‬‬
‫(‪)2‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يكتف بذلك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لم‬ ‫ه‬ ‫لقد قدر رسول اهلل ظرفهم‪ ،‬وعذرهم‪ ،‬ورحمهم‪ ،‬بل إن‬
‫ٌ‬ ‫وأثنى عليهم!! فهل ٰ‬ ‫ٰ‬
‫رأى التاريخ مثل ذلك من الرحمة؟! وهل رفع قائد‬ ‫بل مدحهم‬
‫حتى في حال الفرار ـ مثلما فعل رسول اهلل ؟!‪.‬‬ ‫من عزيمة جنده ـ ٰ‬

‫حممد ! احملارب النبيل‪:‬‬


‫عشر ً‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َّ ّ ّ‬
‫عاما‬ ‫أذن بالقتال ألصحابه بعد مرور خمسة‬ ‫لقد ثبت لدي أن النبي ! ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َّ‬
‫على دعوته‪ ،‬فإن القتال شرع في السنة الثانية من الهجرة‪ ،‬على قول أكثر العلماء(‪.)3‬‬
‫ألن دعوة الن ّ ّ‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بي !‬ ‫فقط‪،‬‬
‫ثمان سنواتٍ ٍ‬
‫ِ‬ ‫فيها‬ ‫حارب‬ ‫التي‬ ‫السنوات‬ ‫أن‬ ‫وهذا يعني‬
‫ً‬
‫يخفى‪ ،‬كانت ثالثة وعشرين ً‬ ‫ٰ‬
‫عاما‪.‬‬ ‫كما ال‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫تنص على حرمة القتال‬ ‫إذا أخذنا بعين االعتبار أن الثقافة السائدة آنذاك‪،‬‬
‫ب‬
‫َ‬ ‫َّ َّ َ ُّ ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫في األشهر الحرم‪ ،‬وهي أربعة‪﴿ :‬إِن عِدة ٱلشهورِ عِند ٱللِ ٱثنا عش شهرا يِف كِتٰ ِ‬
‫َ هَّ ۡ َ َ رَ َ َ ۡ ٗ‬
‫ۡ َ ٓ َ ۡ َ َ ٌ ُ ُ ‪ َ َ ۡ ُ ّ َ ٰ َ ٞ‬اَ َ ۡ ْ‬ ‫أۡ َ َ‬ ‫ٱللِ يَ ۡو َم َخلَ َق َّ َ َ‬
‫هَّ‬
‫ِين ٱلق ّي ِ ُ ۚم فل تظل ُِموا فِي ِه َّن‬
‫ت َوٱلۡرض مِنها أربعة حرم ۚ ذل ِك ٱدل‬
‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬
‫ك ۡ ۚم﴾ [ا �لت�و�ب��ة‪.]36:‬‬ ‫أنفس‬
‫َّ‬
‫وكانت هذه الثقافة محل احترام المسلمين وخصومهم‪ ،‬إذا أخذنا هذا‬
‫ُ‬
‫بعين االعتبار‪ ،‬كما أسلفت يسقط من الثمان سنوات قرابة ثالث سنوات‪ ،‬وهي‬
‫ٰ‬
‫مدى ثماني سنوات‪ ،‬فتكون المدة اإلجمالية‬ ‫سنة على‬
‫أشهر من كل ٍ‬
‫ٍ‬ ‫مجموع أربعة‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ّ‬
‫ّ‬

‫((( العكارون الكرارون‪ ،‬أي‪ :‬العائدون للقتال‪ .‬انظر‪ :‬مشكل اآلثار للطحاوي ‪. 357/2‬‬
‫((( الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ )1716‬وقال‪< :‬حديث حسن>‪ ،‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 5384‬‬
‫نظرة على‬

‫((( حديث القرآن عن غزوات الرسول‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.43‬‬


‫‪130‬‬

‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬


‫فقط من سيرته الطويلة‬
‫للنبي ! أن يقاتل فيها عدوه هي خمس سنواتٍ ٍ‬ ‫التي يمكن‬
‫عاما كما أسلفت‪.‬‬ ‫التي امتدت ثالثة وعشرين ً‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إن عدد المعارك التي خاضها الن ّ ُّ‬ ‫ّ‬
‫تسع معارك فقط‪ ،‬إضافة‬ ‫بي !‪ ،‬بلغ‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫محدودة‪ ،‬كان يكلف بها أعدادا من أصحابه؛ إلنجاز مهام‬‫ٍ‬ ‫إلى نشاطات قتاليَّة‬
‫محددة‪ ،‬لم يكن في أغلبها ٌ‬‫َّ‬
‫قتل أو قتال‪.‬‬
‫لقد اجتهد عدد من العلماء في إحصاء الخسائر البشرية للمعارك التي حصلت في‬
‫ٌ‬
‫تضارب في األرقام التي وردت عنهم‪ ،‬وكان أعلى هذه األرقام‬ ‫بي !‪ ،‬وحصل‬ ‫عهد الن ّ ّ‬
‫ثمة اعتبارات كان لها ٌ‬ ‫َّ‬
‫ولعل َّ‬ ‫ً‬
‫أثر في‬ ‫شخصا من األطراف جميعها‪،‬‬ ‫ال يزيد على ‪1048‬‬
‫ُ‬ ‫َّ َّ‬ ‫ِّ‬
‫تقدير‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أعلى‬ ‫على‬ ‫المئات‪،‬‬ ‫يتجاوز‬ ‫ال‬ ‫العدد‬ ‫أن‬ ‫لدي‬ ‫ثبت‬ ‫ولكن‬ ‫باحث‪،‬‬ ‫كل‬ ‫إحصاء‬
‫وعدد من الحمالت الصغيرة المحددة‪.‬‬‫ٍ‬ ‫خالل ثماني سنوات‪ ،‬وفي تسعِ معارك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫أما ونحن في مجال ذكر األرقام‪ ،‬فال بأس أن نذكر عدد َمن قتلوا في الحربين‬
‫العالميتين األولى والثانية فقط ‪.‬‬
‫األولى التي قامت بين عامي ‪1914‬م إلى ‪1918‬م‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫ففي الحرب العالمية‬
‫مرة‪ ،‬ولم ِّ‬
‫يحرك العالم‬ ‫َّ‬
‫تم استعمال األسلحة الكيميائية‪ ،‬في تلك الحرب ألول َّ‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫وتم قصف المدنيّين‪،‬‬
‫األولى‪َّ ،‬‬
‫ٰ‬ ‫عددا من الجنود‪ ،‬مثلما َّ‬
‫حرك في الحرب العالمية‬
‫َ‬ ‫مرة في التاريخ‪َّ ،‬‬ ‫من الجو َّ‬
‫ألول َّ‬
‫وتم إبادة ما يربو عن تسعة ماليين من العساكر‪،‬‬
‫وسبعة ماليين من المدنيين‪.‬‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬بدأت في عام ‪1937‬م‪ ،‬في آسيا‪ ،‬وفي عام ‪1939‬م‬
‫ّ‬
‫في أوروبا‪ ،‬وانتهت الحرب في عام ‪1945‬م‪ ،‬باستسالم اليابان‪ ،‬تعد الحرب‬
‫ً‬
‫العالمية الثانية من الحروب الشمولية‪ ،‬وأكثرها كلفة في تاريخ البشرية‪ ،‬التساع‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫وتعدد مسرح المعارك‪ ،‬فكانت ٌ‬
‫دول كثيرة‪ ،‬طرفا من أطراف النزاع‪،‬‬ ‫بقعة الحرب‪،‬‬
‫فقد حصدت الحرب العالمية الثانية زهاء ‪ 60‬مليون نفس بشرية‪ ،‬بين عسكري‬
‫ومدني‪ 25( :‬مليون عسكري‪ 37 ،‬مليون مدني)‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫فإن ‪ 77‬مليون شخص قتلوا في حربين فقط‪ ،‬خالل ‪ً 12‬‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫عاما‬ ‫أسف وألم‬
‫ٍ‬ ‫وبكل‬
‫ٍ‬
‫ٰ‬ ‫ّ‬
‫تقريبا‪ ،‬منهم ‪ 44‬مليون مدني‪ ،‬يعني أكثر من ثلثي القتلى من المدنيين‪.‬‬‫ً‬
‫ُ‬ ‫وبينما في عصر الرحمة في عهد الن ّ ّ‬
‫بي ! قتل قرابة ‪ 1000‬شخص من أتباع‬
‫كبيرة‪ ،‬ومواجهات‬ ‫بي وخصومه‪ ،‬ال يكاد يوجد بينهم مدني‪ ،‬في تسع معارك‬ ‫الن ّ ّ‬
‫ٍ‬
‫بي ! لخصومه‪.‬‬ ‫صغيرة‪ ،‬على مدى ‪ 23‬سنة من مواجهة الن ّ ّ‬

‫يقول الدكتور نعوم تشومسكي بعد الذهول الذي أصابه من هذه األرقام‪ < :‬لقد‬
‫انتزعت هذه الحقائق من التاريخ‪ ،‬وعلى المرء أن يصرخ بها‪ ،‬ويعلنها على رؤوس‬
‫األشهاد >(‪.)1‬‬
‫ِّ‬ ‫بي ! كان يتجن َّ ُ‬ ‫َّ‬
‫إن الن ّ ّ‬
‫القوي‬ ‫ب القتال ما وجد إلى ذلك سبياًل‪ ،‬اجتناب‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫قتال‪،‬‬‫حاجة إلى ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫القادر‪ ،‬لعلمه أن دعوته حققت وتحقق نجاحات كثيرة‪ ،‬دونما‬
‫َّ‬
‫وهذه حقيقة أكدتها خمس عشرة سنة مضت دون قتال‪ ،‬وكانت زاخرة باإلنجازات‪.‬‬
‫أول معركة خاضها الن ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫بي‬ ‫ٍ‬ ‫التوجه‪ ،‬بما حصل في‬ ‫وال بأس أن نمثل لصحة هذا‬
‫ٌ َّ‬
‫! مع خصومه من أهل مكة‪ ،‬فقد خرج ال يريد قتااًل‪ ،‬وهذه حقيقة سجلها القرآن‬
‫َّ ٓ َ ينۡ َ َّ‬
‫الكريم‪ ،‬حين قال في شأنه وشأن أصحابه‪ِ﴿ :‬إَوذ يعِد‬
‫ۡ َ ُ ُ‬
‫ك ُم هَّ ُ‬
‫ٱلطائِف َت ِ أن َها‬ ‫ٱلل إ ِ ۡح َدى‬
‫َّ ۡ َ َ ُ ُ َ ُ ۡ َ ُ ُ هَّ ُ َ‬ ‫َ ُ ۡ َ َ َ ُّ َ َ َّ َ رۡ َ َ‬
‫َ‬ ‫ٱلل أن حُي َِّق حۡ َ‬
‫ٱل َّق بِكل َِمٰتِهِۦ‬ ‫ات ٱلشوكةِ تكون لكم وي ِريد‬‫يذ ِ‬ ‫لكم وتودون أن غ‬
‫ّ‬
‫ين﴾ [ال� ن���ف� �ا ل‪ ،]7 :‬فكشفت هذه اآلية‪ ،‬عن عدم رغبة الن ّ‬
‫أ‬
‫بي !‬ ‫كٰفِر َ‬‫ََۡ َ َ َ َ ۡ َ‬
‫ويقطع دابِر ٱل‬
‫ًّ‬ ‫في القتال لكنَّه َّ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬
‫للنبي ! أن‬ ‫لما وصل اضطر إليها‪ ،‬ولم يجد منها بدا‪ ،‬وما كان‬
‫بحال‪.‬‬ ‫يهرب من وجه ِّ‬
‫عدوه‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫قريش إلى رشدها‪ ،‬وتعدل‬ ‫تؤوب‬ ‫وتمن ٰى قبيل بدء المعركة بساعات‪ ،‬أن‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ُّ‬
‫ويدل على هذا بوضوح قول الن ّ ّ‬
‫بي ! قبل بدء المعركة بساعات‬ ‫عن المواجهة‪،‬‬
‫ّ‬

‫خير فهو عند صاحب الجمل األحمر‪،‬‬ ‫لمن معه‪> :‬إن كان عند أحد من القوم ٌ‬
‫ٍ‬
‫نظرة على‬

‫((( اإلرهاب واإلرهاب المضاد‪ ،‬ص ‪.14‬‬


‫‪132‬‬

‫يسعى إلقناع قريش‬‫ٰ‬ ‫إن يطيعوه يرشدوا<(‪ .)1‬ويعني به عتبة بن ربيعة‪ ،‬الذي كان‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫بالعدول عن الحرب‪ ،‬لكنَّه لم يتمكن‪ ،‬وغلبه على رأيه أبو جهل وأضرابه‪.‬‬
‫كان أحيانًا يغيِّر طريقه تجنُّ ًبا للقتال‪ ،‬كما حصل حين َّ‬
‫توجه مع أصحابه إلى أداء‬
‫ً‬
‫العمرة‪ ،‬وكان يجعل بينه وبين خصومه وسيطا ليقنعهم بأضرار الحرب‪ ،‬ورغبته‬
‫في السالم‪ ،‬وهو ما حصل قبيل صلح الحديبية(‪.)2‬‬
‫ُ‬
‫يفضل عقد المعاهدات مع خصومه‪ ،‬ويسارع في إبرامها ليغلق‬ ‫بي ! ِّ‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫المعاهدات تبلغ عدد الغزوات‪ ،‬وما هذا إال لحرصه‬ ‫الباب أمام الحرب‪ ،‬وتكاد‬
‫ُّ‬
‫على تجنب الحرب‪.‬‬
‫َّ‬ ‫كان الن ّ ّ‬
‫بي ! إذا اضطر إلى القتال‪ ،‬فال يقاتل إال دفاعًا عن النفس أو األرض‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫حتى وإن بدأ هو بالقتال‪ ،‬فإذا سمع بخطر داهم‪ ،‬أو بلغه أن ً‬ ‫ٰ‬
‫قوما يعدون العدة‬
‫سعى لقتالهم‪ ،‬وهو بهذا يلتزم التوجيه القرآني الواضح‪﴿ :‬وقٰتِلوا يِف سب ِ ِ‬
‫يل‬ ‫َ َ ُ ْ َ‬ ‫ٰ‬ ‫لقتاله‪،‬‬
‫ٱللِ ٱلِين يقتِلونكم ول تعتد ۚوا إِن ٱلل ل يِب ٱلمعتدِين﴾ [ ب���ر ‪.]190 :‬‬
‫حُ ُّ ُ ۡ َ َ ا �ل ق �ة‬ ‫هَّ ذَّ َ ُ َ ٰ ُ َ ُ ۡ َ َ ۡ َ ُ ٓ ْ َّ هَّ‬
‫ۡ‬ ‫اَ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬

‫بي ! َّ‬ ‫َّ‬


‫أن الن ّ ّ‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫لما‬ ‫بي ! يمنع خروج األطفال معه إلى القتال‪ ،‬فقد حدث‬
‫بدر‪ ،‬نظر إلى الجيش‪ ،‬وإذا فيه غالمان صغيران‪ ،‬هما عبد اهلل بن‬ ‫ٍ‬ ‫خرج إلى معركة‬
‫عمر‪ ،‬والبراء بن عازب‪ ،‬فأمرهما الن ّ ّ‬
‫بي ! بالعودة إلى المدينة(‪. )3‬‬
‫َّ‬ ‫عشر ً‬‫َ‬ ‫َ‬
‫صبيا وأعادهم إلى بيوتهم‪ ،‬مع أنهما‬ ‫كما خرج من معركة أحد خمسة‬
‫حاوال الوقوف على رؤوس األصابع والتطاول ليبدوا كبيرين‪ ،‬ولكن لم تفلح‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫أصر الن ّ ّ‬
‫خطتهما‪ ،‬فقد َّ‬
‫بي ! على عودتهما‪ ،‬مع أنه لم يكن يجزم بأنه سوف يقاتل‪،‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫ولكن تحس ًبا لوقوع قتال‪ ،‬كان ال بد من تجنيب األطفال هذه المخاطر رحمة بهم‪.‬‬

‫((( السيرة النبوية دروس وعبر‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،16‬الصالبي‪.‬‬


‫((( انظر في هذا المعنى‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2731‬‬
‫((( انظر السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،124‬المرجع نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.383‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪133 Z‬‬
‫ّ‬

‫عموما‪ ،‬وليس على أطفال‬ ‫ً‬ ‫حريصا على األطفال‬ ‫ً‬ ‫نبي الرحمة !‪،‬‬ ‫فقد كان ُّ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫نهى بشد ٍة‪ ،‬أن يُقتل أحد من أطفال األعداء‪ ،‬حين قال لخالد بن‬ ‫المسلمين فقط‪ ،‬فقد ٰ‬
‫ً‬ ‫الوليد ‪ ،K‬أحد َّ‬
‫يقتلن امرأة وال عسيفا<(‪ )1‬أي خادما‪.‬‬ ‫قواده‪> :‬ال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫َّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫أن الن ّ ّ‬
‫بي ! لم يكن يقاتل أفرادا‪ ،‬وإنما كان يقاتل‬ ‫يُفهم من هذا المسلك‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫خطرا على اإلسالم وأهله‪ ،‬فكان ال بد من إزالتها‪،‬‬ ‫سلطة‪ ،‬إذا تركت فقد تشكل‬
‫ومنحهم فرصة االختيار‬ ‫ِ‬ ‫لفتح اجملال أمام األفراد؛ التخاذ ما يناسبهم من قرار‪،‬‬
‫ِّ‬
‫خارجية ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫دونما مؤث ٍ‬
‫رات‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يحارب بالسيف فكرة‪،‬‬ ‫يعاب عليه‪ ،‬أن‬ ‫يقول األستاذ العقاد‪ < :‬إن اإلسالم إنما‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يحارب بالسيف‬ ‫يعاب عليه أن‬ ‫حارب بالبرهان‪ ،‬واإلقناع‪ ،‬ولكن ال‬ ‫يمكن أن ت‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫سلطة تقف في طريقه‪ ،‬وتحول بينه وبين أسماع المستعدين لإلصغاء إليه؛ ألن‬
‫َّ‬
‫غنى في إخضاعها عن القوة >(‪.)2‬‬ ‫السلطة ال تُزال إال بالسلطة‪ ،‬وال ٰ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫قوة‪ ،‬تساندها في مواطن كثيرة‪ ،‬ال لفرضها على الناس‪،‬‬ ‫إن المبادئ تحتاج إلى ٍ‬
‫ولكن لحمايتها‪ ،‬وإزالة العقبات من أمامها‪.‬‬
‫َّ‬
‫الغرب لم يلتزموا بالمنهج الذي وضعه السيّد المسيح عليه الصالة والسالم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫إن‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫والقائم على أن من لطمك على خدك األيمن فأدر له خدك األيسر‪ ،‬ولقد شهد‬
‫مدى عدة قرون‪ ،‬حروبًا باسم المسيح‪ ،‬وهو منها براءٌ‪ ،‬راح ضحيَّتها‬ ‫ٰ‬ ‫التاريخ على‬
‫ُّ‬ ‫الحقائق المؤلمة‪ ،‬وال ُّ‬ ‫َ‬
‫أود التوسع في هذه‬ ‫ماليين البشر‪ ،‬وليس من أحد ينكر هذه‬
‫القضية‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( أخرجه أبو داوود‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ) 2669‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 15992‬قال مخرجوه‪:‬‬
‫<صحيح لغيره‪ ،‬وهذا إسناده حسن>‪ ،‬وانظر صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪) 3015‬‬
‫ّ‬

‫ومسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 1744‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ) 4739‬أيضا‪.‬‬


‫نظرة على‬

‫((( عبقرية محمد‪ ،‬ص ‪ ،45‬العقاد‪.‬‬


‫‪134‬‬

‫متميز في تجهيز الجيش‪ ،‬لمواجهة خصومه‪ ،‬فلم يكن‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬


‫نظام‬ ‫ِّ‬
‫للنبي !‬ ‫كان‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫أعذارا‬ ‫يُجبر أحدا على الخروج معه‪ ،‬وكان يأذن لمن يريد التخلف عنه حين يبدي‬
‫َ‬
‫ٱلل َعنك ل َِم‬ ‫تعالى قائاًل له‪َ ﴿ :‬ع َفا هَّ ُ‬ ‫ٰ‬ ‫حتى وصل األمر إلى أن يعاتبه اهلل‬ ‫شخصية‪ٰ ،‬‬
‫كأن الن ّ ّ‬‫َّ‬ ‫َ َ َ ُ ۡ َ ىَّ ٰ َ َ َينَّ َ َ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ َ َ ۡ َ َ ۡ َ‬
‫بي !‬ ‫ني﴾ [ا �لت�و�ب��ة‪،]43 :‬‬ ‫كٰذِب َ‬
‫ِ‬ ‫أذِنت لهم حت يتب لك ٱلِين صدقوا وتعلم ٱل‬
‫حتى استغلها من ال عذر له أصاًل‪ ،‬وهم المنافقون‪ ،‬فجاء‬ ‫توسع في قبول األعذار‪ٰ ،‬‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫العتاب ليُظهر الصادق من الكاذب‪.‬‬
‫التصرف مع رغبته في خروج أصحابه معه إذا خرج‪ ،‬ولقد بدا‬ ‫ُّ‬ ‫ال يتعارض هذا‬
‫ٌ‬ ‫ٰ َّ‬
‫منهم الحرص الشديد على الخروج معه‪ ،‬حتى إنه كان يحدث خالف بين االبن‬
‫بي !‪ ،‬كما حصل مع سعد بن‬ ‫وأبيه في أيُّهما يخرج لرغبة االثنين في مرافقة الن ّ ّ‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫خيثمة‪ ،‬وأبيه يوم بدر(‪ ،)1‬وكما حصل ً‬
‫خالف بين أبي أمامة وخاله في أيهما‬ ‫أيضا‬
‫أم أبي أمامة المريضة ‪.‬‬ ‫يبقى مع ِّ‬ ‫ٰ‬
‫َّ‬
‫اعتبار‬
‫ٍ‬ ‫دونما‬ ‫الخروج‪،‬‬ ‫على‬ ‫اإلكراه‬ ‫غير‬ ‫‪،‬‬ ‫واختيار‬
‫ٍ‬ ‫رغبة‬
‫ٍ‬ ‫عن‬ ‫الخروج‬ ‫إن‬
‫لظروف‪ ،‬وهو الذي نراه في الجيوش المتحضرة في الوقت الحاضر‪ ،‬حين يساق‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫الجنود إلى المعارك سوقا‪ ،‬وأكثرهم لها كارهون ‪.‬‬
‫بي ! من أحد القادة‪ ،‬وهو‬ ‫أيضا حين طلب الن ّ ّ‬ ‫جليا‪ً ،‬‬ ‫ًّ‬
‫اتضح هذا المسلك‬
‫ً‬
‫كره أحدا على السير معه‪ ،‬فقد كتب له كتابًا‪ ،‬جاء فيه‪:‬‬ ‫ِ‬
‫عبد‪ ‬اهلل بن جحش‪ ،‬أن ال ي ُ‬
‫كر َه َّن أحدا من أصحابك‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ت‬ ‫وال‬ ‫وبركاته‪،‬‬ ‫اهلل‬ ‫اسم‬ ‫على‬ ‫نخلة‬ ‫تأتي ٍ َ‬
‫بطن‬ ‫حتى َ‬ ‫>سر ٰ‬
‫ِ‬
‫على المسير معك<(‪.)2‬‬
‫ُّ‬ ‫كان الن ّ ّ‬
‫شخصية ذكرنا‬ ‫ٍ‬ ‫ألسباب‬
‫ٍ‬ ‫ألفراد بالتخلف عن الخروج للقتال معه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بي ! يأذن‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫بعضها‪ ،‬وكان أحيانا يطلب من بعضهم التخلف‪ ،‬كما حصل مع عثمان بن عفان ‪،K‬‬

‫((( السيرة النبوية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ ،54‬الصالبي‪.‬‬


‫((( عبقرية محمد‪ ،‬ص ‪ ،60‬العقاد‪.‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪135 Z‬‬
‫ّ‬

‫َّ‬
‫وأذن ألبي أمامة‪ ،‬بل طلب منه‬ ‫فقد أمره أن يتخلف عنه بسبب مرض زوجته ‪ِ ،‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ليبقى بجانب ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬


‫أمه المريضة‪ ،‬ومثل هذا كثير‪.‬‬ ‫ٰ‬ ‫أيضا أن يتخلف عنه‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫معلما بارزا‪ ،‬يدل‬ ‫إن هذه السلوكيَّات عندما يجتمع بعضها إلى بعض‪ ،‬تشكل‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫أن القتال لم يكن هدفًا ًّ‬ ‫َّ‬
‫للنبي ! وال غاية في حد ذاته‪ ،‬فإنه‬ ‫ِّ‬ ‫ملحا‬ ‫بوضوح على‬
‫ً‬ ‫ً َّ ُ‬ ‫ِّ ً‬ ‫ٍ‬
‫قتال‪ ،‬ولم يغب عنه لحظة‪ ،‬أنه أرسل رحمة‬ ‫لم يكن يوما متعطشا لقتل‪ ،‬أو‬ ‫ً‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫للناس‪ ،‬وأنه سوف يستعين بهذه الرحمة أكثر من استعانته بالسالح‪ ،‬لمواجهة‬
‫خصومه في بعض الميادين‪ ،‬وقد حصل هذا بالفعل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن مقولة علماء األخالق (إن األخالقيَّة تعني‪ُّ :‬‬ ‫َّ‬
‫فن السيطرة على األهواء) تتحقق‬
‫كثير من القادة‬ ‫من‬ ‫هو‬ ‫فأين‬ ‫!‪،‬‬ ‫محمد‬ ‫بي‬‫لدى الن ّ ّ‬ ‫ٰ‬ ‫بجال ٍء في الفلسفة القتالية‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫المقدوني‪ ،‬وهوالكو‪ ،‬ونابليون‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫العظام‪ ،‬الذين عرفتهم البشرية‪ ،‬أمثال اإلسكندر‬
‫وهتلر‪ ،‬وغيرهم ممن ال نستحضر ذكرهم‪.‬‬
‫أناسا ال يوجد بينهم وبين هؤالء القادة قضيَّة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جميعا‬ ‫لقد قاتل هؤالء‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫والخاصة‪،‬‬ ‫العامة‬ ‫وال خصومة أصاًل‪ ،‬لكن الدوافع الدنيويَّة‪ ،‬كالشهرة‪ ،‬والمصالح‬
‫أناسا أبرياء‪ ،‬ليسوا‬ ‫أرضا ليست أرضهم‪ ،‬ويقاتلون ً‬ ‫ً‬ ‫جعلت هؤالء القادة يدخلون‬
‫ِّ‬
‫والمحصلة‬ ‫خصوما لهم‪ ،‬وكانت النتيجة قتل مئات األلوف‪ ،‬وتدمير مئات المدن‪،‬‬ ‫ً‬
‫ٌ‬
‫النهائية مزيد من القتل والدمار وعدم االستقرار‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أما الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫بي محمد !‪ :‬فإن قاتل‪ ،‬فإنه يقاتل من قاتلوه‪ ،‬وقاتلوا أتباعه‪ ،‬وأخرجوهم‬
‫ٌّ‬ ‫َّ‬
‫محق فيما يصنع‪،‬‬ ‫من أرضهم‪ ،‬وأخذوا أموالهم‪ ،‬فإنه في عرف الشرائع جميعها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫تصرف واحد يدل على أنه صاحب شهوة‪ ،‬أو باحث‬ ‫ومع هذا لم يصدر منه‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫شهرة في هذا الميدان‪.‬‬‫ٍ‬ ‫عن‬


‫ِّ‬ ‫لقد دعا ٌّ‬
‫ّ‬

‫والنبي محمد ! إلى الرحمة‪،‬‬ ‫كل من المسيح عليه الصالة والسالم‪،‬‬


‫نظرة على‬

‫((( انظر صحيح البخاري‪ ،‬باب مناقب عثمان‪ ،‬حديث رقم ( ‪.)3698‬‬
‫‪136‬‬

‫َّ‬
‫والتسامح بين الناس‪ ،‬وأحسنا أيّما إحسان‪ ،‬لكن المسيح عليه الصالة والسالم‬
‫َّ‬
‫لم يتمكن من نشر ما يدعو إليه‪ ،‬وال من تحقيقه على أرض الواقع‪ ،‬على الهيئة‬
‫َّ ً‬ ‫َّ‬
‫قوة تحمي الرحمة‪ ،‬وتفسح الطريق لها لتصل‬ ‫التي كان يريدها‪ ،‬ألنه لم يجد‬
‫جميعا‪ ،‬بسبب عداوة اليهود له‪ ،‬ووجود سلطة الرومان القاسية ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إلى الناس‬
‫محمدا ! وجد هذه َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫أن الن ّ ّ‬
‫القوة‪ ،‬وأزال بها العقبات التي تقف في وجه‬ ‫بي‬ ‫بيد‬
‫بي ! َّ‬ ‫ّ‬
‫انتشار هذه المبادئ السامية‪ ،‬فكان استخدام الن ّ‬
‫للقوة في بعض المواطن‪،‬‬
‫َّ‬
‫دلياًل على شد ِة حرصه على نشر ثقافة الرحمة‪ ،‬والتسامح والعدل واإلحسان‪،‬‬
‫غيره َّ‬ ‫وإال كان بإمكانه أن يدعو إلى هذه األخالق‪ ،‬كما دعا ُ‬ ‫َّ‬
‫ممن سبقه من العظماء‪،‬‬
‫َّ‬
‫ثم يترك الناس وشأنهم‪ ،‬من شاء تخلق بها‪ ،‬ومن شاء أعرض عنها‪ ،‬وعمل‬
‫بنقيضها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ما كان ِّ‬
‫بحال؛ ألن‬
‫ٍ‬ ‫المسلك‬ ‫هذا‬ ‫يسلك‬ ‫أن‬ ‫للناس‬ ‫رحمة‬ ‫لنبي الرحمة المرسل‬
‫بي !‬ ‫غاليا‪ ،‬لقد كان قتال الن ّ ّ‬ ‫البشرية ستكون الضحية‪ ،‬واإلنسانية ستدفع الثمن ً‬
‫حدود‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫رحمة‪ ،‬كي تسود بين الناس الرحمة‪ ،‬بال عقباتٍ أو‬
‫ف حياة محمد بأحسن‬ ‫توص َ‬ ‫َ‬ ‫األسباني جان ليك‪ < :‬ال يمكن أن‬ ‫ُّ‬ ‫يقول المستشرق‬
‫ٌ‬ ‫نأ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ني﴾ [ال� �ب�ي��ا ء‪ ،]107 :‬كان محمد‬ ‫مما وصفها اهلل بقوله‪﴿ :‬وما أرسلنٰ ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬
‫حة ل ِل َعٰلم َ‬‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫مۡ‬
‫ك إل َر َ‬ ‫اَّ‬ ‫ۡ‬
‫ََ َۡ َ َ‬ ‫ٓ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫رحمة حقيقية >(‪.)1‬‬
‫محمد ذلك الرجل الكبير‬ ‫ٰ‬
‫< لدى‬ ‫اإلنجليزي توماس كارليل‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ويقول الفيلسوف‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الدنيوي ونوايا‬ ‫العظيم النفس‪ ،‬المملوءة رحمة وخيرا وحنانا‪ ،‬أفكار غير الطمعِ‬
‫السلطة والجاه >(‪.)2‬‬ ‫خالف طلب‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ويقول كارليل ً‬
‫أيضا‪ < :‬لم تخل الحروب الشديدة التي وقعت له مع األعراب‬

‫((( انظر‪ :‬عبقرية محمد‪.‬‬


‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.142‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪137 Z‬‬
‫ّ‬

‫ُ‬
‫وغفران‪ ،‬وكان‬‫ٍ‬ ‫رحمة وكرم‬ ‫ٍ‬ ‫قوة‪ ،‬ولكنَّها كذلك لم تخل من دالئل‬ ‫من مشاهد َّ‬
‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫األولى‪ ،‬وال يفتخر بالثانية >(‪. )1‬‬ ‫ٰ‬ ‫محمد ال يعتذر من‬
‫ٰ‬ ‫َ‬
‫معاملة الن ّ ّ‬ ‫ِّ‬
‫ألسرى معركة‬ ‫بي !‬ ‫ويقول المفكر اللورد هدلي‪ ،‬وهو يعلق على‬
‫ِّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫بدر‪ < :‬أفال يدل هذا على أن محمدا لم يكن متصفا بالقسوة‪ ،‬وال متعطشا للدماء‪،‬‬
‫دائما يعمل على حقن الدماء قدر المستطاع >(‪. )2‬‬ ‫كما يقول خصومه‪ ،‬بل كان ً‬

‫داعيا إلى ديانة اإلله الواحد‪،‬‬ ‫بي ً‬ ‫ويقول العالمة األلماني برتلي سانت هيلر‪ < :‬كان الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حتى مع أعدائه‪ ،‬وإن في شخصيَّته صفتين هما‬ ‫ورحيما‪ٰ ،‬‬ ‫وكان في دعوته هذه لطيفا‪،‬‬
‫ِّ‬
‫من أجل الصفات‪ ،‬التي تحملها النفس البشرية‪ ،‬وهما العدالة‪ ،‬والرحمة >(‪.)3‬‬
‫ِّ‬
‫بي ! الرحمة بكل مظاهرها‪ ،‬ولكن‬ ‫ما زال الحديث موصواًل‪ ،‬بممارسة الن ّ ّ‬
‫قوته‪ ،‬وتتابعت انتصاراته‪ ،‬في هذه‬ ‫في ميدان آخر‪ ،‬يوم أن كثُ َر أتباعه‪ ،‬وعَ ُظ َمت َّ‬
‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫األجواء ظهرت صور للرحمة باهرة من النبي ! ألعدائه الذين كانوا يناصبونه‬
‫تعجب‪.‬‬ ‫العداء‪ ،‬كانت موضع إعجاب‪ ،‬وربَّما ُّ‬
‫ٍ‬
‫متسامحا‪َّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫إن الن ّ ّ‬‫َّ‬
‫ولما ذهب إلى المدينة‪ ،‬صار‬ ‫بي محمدا ! كان في مكة‪ ،‬نبيا‬
‫يتصرف الزعماء(‪.)4‬‬ ‫َّ‬ ‫يتصرف كما‬ ‫َّ‬ ‫ورئيسا لدولة‪،‬‬‫ً‬ ‫ً‬
‫حاكما‬
‫قريش على عزل الن ّ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫بي !‬ ‫ومع تذكرنا لما حصل له في مكة‪ ،‬حين أقدمت‬
‫شعب أبي طالب‪ ،‬مدة ثالث سنوات‪ ،‬وكيف منعوا‬ ‫َ‬ ‫وأتباعه وأقربائه‪ ،‬في واد َّ‬
‫يسم ٰى‬ ‫ٍ‬
‫ٰ‬
‫عنهم الطعام‪ ،‬وحرموا االتصال بهم‪ ،‬حتى أشرفوا على الهالك‪ ،‬هم ونساؤهم‬
‫َّ‬
‫وأطفالهم‪ ،‬وربَّما أكل بعضهم الحشرات‪ ،‬والديدان من شدة الجوع(‪.)5‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫ ‬


‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.190‬‬
‫ّ‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.183‬‬


‫((( الرسول في عيون الدراسات االستشراقية المنصفة‪ ،‬ص‪ ،292‬الشيباني‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( السيرة النبوية‪ ،‬ص ‪ 217‬فما بعدها‪ ،‬د‪ .‬مهدي رزق اهلل‪.‬‬
‫‪138‬‬

‫ُ‬ ‫ً‬
‫قوية ي ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وتمضي األيَّام‪ ،‬ويهاجر الن ّ ّ‬
‫حسب لها‬ ‫ويقيم دولة‬ ‫بي ! إلى المدينة‪،‬‬
‫نجد يدخل في اإلسالم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أثال زعيم بني حنيفة من بالد ٍ‬ ‫ألف حساب‪ ،‬وإذا بثمامة بن ٍ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫بي ! وإضعاف أعدائه في مكة‪ ،‬فيتخذ ً‬
‫قرارا بوقف‬ ‫ويقرر من نفسه دعم موقف الن ّ ّ‬ ‫ِّ‬
‫أن مكة ليست ً‬ ‫ٌ َّ‬
‫أرضا زراعية‪.‬‬ ‫تصدير القمح إلى قريش‪ ،‬ومعلوم‬
‫يدب في قلوب أهل مكة‪ ،‬حين هاجمهم شبح الجوع‪ ،‬فكتبوا‬ ‫ُّ‬ ‫بدأ الرعب‬
‫لدى ثمامة ليعاود تصدير‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫بي !‪ ،‬وقيل أرسلوا إليه وفدا‪ ،‬يرجونه أن يتدخل ٰ‬ ‫إلى الن ّ ّ‬
‫القمح إليهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫أن الن ّ ّ‬
‫قاسي القلب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بي ! لم يكن في يوم من األيَّام‪،‬‬ ‫كان أهل مكة يعلمون‬
‫ولهذا قصدوه‪ ،‬في هذا الطلب‪ ،‬رغم خصومتهم له‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫بالنبي محمد ! تعود به الذاكرة إلى سنوات خلت‪ ،‬يوم أن حوصر هو‬ ‫كأني‬
‫وأتباعه وأهله من هؤالء الذين يرجونه اآلن ويذكرونه بما بينهم من رحم‪ ،‬هذه‬
‫تتحرك‪ ،‬ويكتب‬ ‫َّ‬ ‫الرحم التي غابت عنهم يوم أن حاصروه ومن معه‪ ،‬وإذا بالرحمة‬
‫بي ! إلى ثمامة أن يعود إلى ما كان عليه من تصدير القمح إلى قريش‪.‬‬ ‫الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫بخاصة‬ ‫بي ! أن يعاملهم بالمثل‪ ،‬ويتركهم يعانون من الجوع‪،‬‬ ‫كان بمقدور الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أنه ال يد له في هذا األمر‪ ،‬فإنه لم يأمر به‪ ،‬ولم يستشره ثمامة حين منع القمح‬
‫عنهم‪.‬‬
‫ويتكرر‬‫َّ‬ ‫قادر على هذا‪،‬‬ ‫قريشا بالمثل‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫ً‬
‫بي ! أن يعامل‬ ‫لقد أبت رحمة الن ّ ِّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫جدب شديد‪ ،‬كادت تهلك من الجوع‪ ،‬وإذا بهم‬ ‫المشهد‪ ،‬حين أصاب قريشا‬
‫ُ‬
‫ويستجيب‬ ‫َ‬
‫الجدب‪.‬‬ ‫َ‬
‫يدعو اهلل ليرفع عنهم هذا‬ ‫بي ! أن‬ ‫وفدا يطلبون من الن ّ ّ‬ ‫ً‬
‫يرسلون‬
‫َّ‬ ‫الن ّ ّ‬
‫بي ! لطلبهم هذا‪ ،‬ويدعو اهلل ربَّه‪ ،‬وتتحقق االستجابة‪ ،‬ويزول عن قريش هذا‬
‫ٍ‬
‫البأس الشديد(‪. )1‬‬

‫((( تفسير الطبري‪ ،‬ج‪ ،9‬ص ‪ ،235‬معالم التنزيل‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ ،425‬البغوي‪.‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪139 Z‬‬
‫ّ‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫شعور ممزوج بالعجب والسخرية‬ ‫ينتاب المرءَ وهو يعيش مع هذه المواقف‪،‬‬
‫فإن خصوم الن ّ ّ‬ ‫َّ‬ ‫من قريش‪ ،‬وربَّما بالضحك ً‬
‫بي ! هؤالء يعترفون برحمته‪،‬‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫أن الن ّ ّ‬
‫موطن‪ ،‬ولهذا‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫في‬ ‫الرحمة‬ ‫م‬ ‫يقد‬ ‫!‬ ‫بي‬ ‫ويشاهدون مظاهرها‪ ،‬ويعلمون‬
‫يتوسلون أن يعمل على رفع شبح الجوع عنهم‪ ،‬وعن نسائهم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫جاؤوا إليه‬
‫لدى ثمامة ‪.‬‬ ‫وأطفالهم‪ ،‬عن طريق الدعاء‪ ،‬ومن خالل التوسط ٰ‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫استمروا‬ ‫فاعل ما طلبوا‪ ،‬ولقد فعل‪ ،‬ومع هذا‬ ‫يقين أنه‬
‫ٍ‬ ‫لقد كانوا على‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫في عداوتهم‪ ،‬وهنا أعود وأذكركم بمقولة األستاذ العقاد‪ ،‬إن الناس اجترؤوا‬
‫على العظمة بقدر حاجتهم إليها(‪.)1‬‬
‫ِّ‬
‫بيئة تفتقدها‪ ،‬لكنَّه نجح في توظيفها لحل‬ ‫ّ ُّ‬
‫لقد مارس النبي ! الرحمة في ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مشاكله مع خصومه‪ ،‬إن هذه الرحمة ما زالت مفقودة ومعيبة في بيئات معاصرة‪،‬‬
‫هناك من يحول دون ممارسة الناس للرحمة‪ ،‬والشعور بها‪ ،‬والسعادة بممارستها‪،‬‬
‫َ‬
‫حين يزيِّن لهم المتالعبون بالعقول‪ ،‬والعابثون بالعواطف‪ ،‬أن مصلحة هؤالء‬
‫ً‬ ‫مهد ٌد ما لم َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َّ‬
‫يتم الذهاب شرقا‬ ‫الناس ال تتحقق إال بالقتل والتدمير‪ ،‬وأن أمنهم‬
‫وغربًا للقتل والتدمير‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ َّ ً‬
‫قوة ومااًل وإمكانات أن يحل مشاكله إن وجدت ـ عن‬ ‫أال يمكن لمن أوتي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫القوي حين يمارس الرحمة‪ ،‬ويسعد‬ ‫ُّ‬ ‫طريق المحبَّة والرحمة‪ ،‬وعندها يسعد‬
‫الضعيف حين ينعم بآثارها الطيِّبة‪.‬‬
‫ً‬ ‫قدم الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫للغاية لو أخذت بها‪ .‬أذكر‬
‫ِ‬ ‫بي ! نماذج لإلنسانية‪ ،‬ستكون سعيدة‬ ‫لقد‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫في هذا المقام عبارة جميلة قالها ديكارت‪ ،‬جاء فيها‪ :‬أن النبالء ُ أسياد غضبهم‪،‬‬
‫ترى الرحمة ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫توجه‬ ‫أي نبل أعظم من هذا‪ ،‬حين ٰ‬ ‫عبد لرغباته(‪ُّ ،)2‬‬ ‫وأن المتعجرف‬
‫ٍ‬
‫ّ‬

‫((( عبقرية محمد‪ ،‬ص ‪ ،13‬العقاد‪.‬‬


‫نظرة على‬

‫((( انفعاالت النفس‪ ،‬ص ‪ ،99 - 98‬ديكارت‪.‬‬


‫‪140‬‬

‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫مواقف الن ّ ّ‬


‫بي ! مع أشد أعدائه‪ ،‬صدق علماء األخالق‪ ،‬حين قالوا‪ :‬إن الرحمة‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫وواقع له مظاهره(‪.)1‬‬ ‫شعور ينتاب المرء‪ ،‬وإنما هي سلوك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كلمة أو‬‫ٍ‬ ‫ليست مجرد‬
‫فلما‬ ‫بي !؛ َّ‬ ‫تقدر مواقف الن ّ ّ‬ ‫ِّ‬
‫قريش‪ ،‬وال‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫وتمضي األيَّام‪ ،‬وال تتعظ‬
‫صعبا‬‫ً‬ ‫ً‬
‫قريش شرطا‬ ‫ٌ‬ ‫بي !‪ ،‬وبين قريش‪ ،‬وضعت‬ ‫صلح الحديبيَّة بين الن ّ ّ‬ ‫حصل ُ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫على المسلمين شعروا أن فيه إهانة لهم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٰ‬
‫بالنبي !‬ ‫ولحق‬ ‫مسلما‪،‬‬ ‫ومقتضى هذا الشرط‪ :‬إذا خرج أحد من أهل مكة‬
‫بي ! أن يرده إلى أهله في مكة‪ ،‬والعكس ال يكون‬
‫َّ‬ ‫في المدينة فيجب على الن ّ ّ‬
‫بي ! على هذا الشرط الشديد على النفوس‪.‬‬ ‫كذلك‪ ،‬فيوافق الن ّ ُّ‬
‫ٌ‬
‫جندل‪ ،‬ولحقوا بالنبي ! في‬ ‫ٍ‬ ‫وأبي‬ ‫بصير‬‫ٍ‬ ‫أبي‬ ‫أمثال‬ ‫مكة‪،‬‬ ‫شباب‬ ‫من‬ ‫عدد‬ ‫أسلم‬
‫ً‬ ‫ردهم إليها‪ ،‬فطلب منهم الن ّ ُّ‬ ‫ٌ َّ‬
‫بي ! أن يغادروا المدينة تنفيذا‬ ‫المدينة‪ ،‬فطلبت قريش‬
‫لشرط المعاهدة‪.‬‬
‫ُ‬
‫خرج هؤالء الفتية الذين آمنوا بربَّهم من المدينة‪ ،‬لكنَّهم لم يرجعوا إلى مكة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫تسم ٰى‬ ‫بقليل‪ ،‬في منطقة بين مكة والمدينة‬ ‫مئة‬ ‫من‬ ‫أقل‬ ‫وكانوا‬ ‫عوا‪،‬‬ ‫تجم‬ ‫ما‬ ‫وإن‬
‫ٍ َّ‬
‫جهة إلى الشام‪ ،‬فيقتلون من فيها من‬ ‫العيص‪ ،‬وصاروا يعترضون تجارة قريش المت ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫الرجال‪ ،‬ويأخذون األموال‪ٰ ،‬‬
‫حتى كادت تتعطل تجارة أهل مكة‪ ،‬وشعروا أنهم في‬
‫ً‬
‫وضع سي ٍء جدا ال يحسدون عليه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ّ ّ ً‬ ‫ٰ‬ ‫َّ ٌ‬
‫يتوسل إليه أن يرحم حالهم‪ ،‬وأن‬ ‫بي وفدا‬ ‫أخرى يرسل أهل مكة إلى الن‬ ‫ومرة‬
‫بي ! هؤالء‬ ‫يطلب من هذه اجملموعة أن تأتي إليه إلى المدينة‪ ،‬ويعلن خصوم الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫ويرحم‬ ‫بالنبي ! يستجيب لهذا الرجاء‪،‬‬ ‫على المأل أنهم تخلوا عن شرطهم‪ ،‬وإذا‬
‫حالهم‪ ،‬ويطلب من هذه اجملموعة أن تترك موقعها وتأتي إلى المدينة(‪.)2‬‬

‫((( دستور األخالق‪ ،‬ص ‪ ،213‬د‪ .‬دراز‪.‬‬


‫((( انظر صحيح البخاري‪ ،‬كتاب الشروط‪ ،‬حديث رقم (‪.)2732‬‬
‫‪141‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫بي ! ومن معه بكبريائها وبشروطها التعسفيَّة‪ ،‬وإذا‬ ‫قريش الن ّ َّ‬
‫ٌ‬ ‫لقد واجهت‬
‫بالنبي ُّ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يرد عليهم المواجهة بالرحمة‪ ،‬حين يشعر‬ ‫بها تهزم‪ ،‬وتأتي إليه ذليلة‪ ،‬وإذا‬
‫ُّ‬
‫بأحوالهم المعيشية السيِّئة بسبب تعطل تجارتهم‪ ،‬فيطلب عدم التعرض لهم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫إن الن ّ َّ‬
‫بي محمدا ! حارب أعداءه بالرحمة‪ ،‬وانتصر عليهم في مواطن عدة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫بتلك الرحمة‪ ،‬وحاربهم كذلك بالتفضل عليهم‪ ،‬وعدم معاملتهم بالمثل‪ ،‬ورغبهم‬
‫بالدخول في اإلسالم‪ ،‬من خالل ممارسته للرحمة ‪.‬‬
‫بي ! األمان ـ قال‪:‬‬ ‫فهذا الحارث بن هشام يوم فتح مكة ـ وقد أعطاه الن ّ ُّ‬
‫ِّ‬ ‫وجعلت أستحي أن يراني رسول اهلل !‪ ،‬وأذكر رؤيته إي َّ َ‬
‫موطن من‬ ‫ٍ‬ ‫اي في كل‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫داخل المسجد‪ ،‬فتلقاني بالبشر‪..‬‬ ‫فألقاه وهو‬ ‫المشركين‪ ،‬ثم أذكر ِب َّره ورحمته‪،‬‬
‫َّ‬
‫فسلمت عليه‪ ،‬وشهدت شهادة الحق‪ ،‬فقال‪> :‬الحمدهلل الذي هداك‪ ،‬ما كان مثلك‬
‫يجهل اإلسالم‪.)1(<...‬‬
‫آنفا‪َّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ٌ ِّ‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬ ‫سنوات‬ ‫ثماني‬ ‫ت‬ ‫مر‬ ‫ذكر‬ ‫ما‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫وجال‬ ‫بوضوح‬ ‫د‬ ‫تؤك‬ ‫شهيرة‬ ‫حادثة‬ ‫وهناك‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫مكرهين‪ ،‬بسبب اضطهاد‬ ‫بي ! وأصحابه من مكة‪ ،‬حين تركوها َ‬ ‫على إخراج الن ّ‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫كفار قريش لهم‪ ،‬تركوها ولم يتمكن أحد منهم أن يأخذ معه شيئا من أمواله‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫لقد وصفهم القرآن وصفا مؤث ًرا حين قال‪﴿ :‬ل ِلفقراءِ ٱلمه ٰ ِ‬
‫َ ذَّ َ ُ ۡ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َُۡ َٓ ۡ‬
‫ج ِرين ٱلِين أخ ِرجوا‬
‫َ ٰ ۡ َ َ ۡ َ ٰ ۡ َ ۡ َ ُ َ َ ۡ اٗ ّ َ هَّ َ ۡ َ ٰ ٗ َ َ رُ ُ َ هَّ َ َ َ ُ هَ ُ ُ َ َ ُ‬
‫ول ۚ ٓۥ أ ْو ٰٓلئِك ه ُم‬ ‫مِن دِي ِرهِم وأمول ِ ِهم يبتغون فضل مِن ٱللِ ورِضونا وينصون ٱلل ورس‬
‫ح��� ‪.]8 :‬‬‫ون﴾ [ا �ل‬
‫�ش‬ ‫َّ ٰ ُ َ‬
‫ٱلصدِق‬ ‫ر‬
‫بي ! إلى مكة‪ ،‬ومعه عشرة آالف‬ ‫بعد هذه السنوات الثمان‪ ،‬عاد الن ّ ّ‬
‫عدتهم وعتادهم‪ ،‬دخلها على رأس هذه ِّ‬ ‫َّ‬
‫القوة العظيمة‪ ،‬وليس‬ ‫من أصحابه بكامل‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫َّ‬
‫يدور في ذهنه إال الرحمة‪ ،‬وهو في طريقه إلى مكة ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫بلغ الن ّ ّ‬
‫ّ‬

‫بي ! أن أحد قادته العسكريين‪ ،‬وهو سعد بن عبادة‪ ،‬قال‪ :‬اليوم يوم‬
‫نظرة على‬

‫((( المستدرك‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪ ،277‬الحاكم‪.‬‬


‫‪142‬‬

‫بي !‪> :‬بل اليوم يوم المرحمة<‪ ،‬وأخذ‬ ‫تستحل الحرمة‪ ،‬فقال الن ّ ّ‬
‫ُّ‬ ‫الملحمة‪ ،‬اليوم‬
‫َّ‬
‫راية القيادة منه‪ ،‬وسلمها البنه قيس بن سعد(‪. )1‬‬
‫سعد وأعطاها‬‫ٍ‬ ‫ويستوقفنا هذا التصرف الحكيم الرحيم‪ ،‬حين أخذ الراية من‬
‫أما أن يأخذها ولده‪ ،‬فهذا أمر ُّ‬
‫يسر‬ ‫آخر لتأثَّر ولحز َن‪َّ ،‬‬ ‫البنه‪ ،‬فلو أعطاها لشخص َ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫ويسر االبن كذلك‪ ،‬فكان هذا التصرف رحمة من النبي ! بالوالد‬ ‫ُّ‬ ‫األب ً‬
‫كثيرا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫صغيرها‬
‫ِ‬ ‫المواقف‬ ‫كل‬ ‫في‬ ‫الحاضرة‬ ‫الرحمة‬ ‫ها‬ ‫إن‬ ‫هم‪،‬‬ ‫كل‬ ‫وبالولد‪ ،‬بل بأهل مكة‬
‫وكبيرها‪.‬‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫يدخل الن ُّ‬
‫مصيرهم‪،‬‬ ‫بي ! مكة‪ ،‬ويجد أهلها مجتمعين حول الكعبة ينتظرون‬
‫ً‬
‫أشخاصا‬ ‫بي ! وهم الذين آذوه وأخرجوه‪ ،‬وقتلوا‬ ‫عسى أن يفعل بهم الن ّ ّ‬ ‫ٰ‬ ‫وما‬
‫فاعل بكم؟< قالوا‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫بالنبي ! يقول لهم‪> :‬ما ترون أنِّي‬ ‫ِّ‬ ‫أحب الناس إليه‪ ،‬وإذا‬ ‫ِّ‬ ‫من‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫كريم وابن أخ كريم‪ ،‬فقال لهم‪> :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء‪ ،‬ال تثريب عليكم‬ ‫خيرا‪ ،‬أخ‬
‫ٍ‬
‫اليوم‪ ،‬يغفر اهلل لكم<(‪.)2‬‬
‫يرى فالسفة الغرب‪ ،‬من أمثال هوبز ونيتشه ـ الذين بنوا األخالق على دعائم‬ ‫ٰ‬
‫مظهر من مظاهر َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫قوة الشخص‪ ،‬الذي يرحم‬ ‫القوة ـ أن الرحمة حميدة‪ ،‬ألنها‬
‫وبينة على استعالئه على أن ٰ‬ ‫ٌ‬
‫يلقى الضعيف بما يالقي به األنداد‬ ‫من هو أضعف منه‪،‬‬
‫األقوياء(‪.)3‬‬
‫َّ‬ ‫لو اطلع هؤالء على سيرة الن ّ ّ‬
‫بي !‪ ،‬لربَّما أعادوا صياغة هذه النظرية‪ ،‬ألنهم‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫أن الن ّ ّ‬‫َّ‬
‫بي ! كان يالقي األقوياء األنداد بالرحمة أيضا‪ ،‬كما يالقي‬ ‫سوف يرون‬

‫((( السيرة النبوية الصحيحة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،477‬د‪ .‬أكرم العمري‪ ،‬وانظر‪ :‬صحيح البخاري‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ ،)4280‬وفتح الباري ‪.9/8‬‬
‫((( انظر السيرة النبوية‪ ،‬ص ‪ ،569‬د‪ .‬مهدي رزق اهلل‪ ،‬وانظر اجملتمع المدني‪ ،‬ص ‪،179‬‬
‫د‪ .‬العمري‪.‬‬
‫((( أخالق النبي‪ ،‬ص ‪ ،40‬د‪ .‬الحوفي‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪143‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫كثيرة َّ‬ ‫ٌ‬
‫يصعب على كثيرين‬ ‫مرت بنا‪ ،‬وهو ما‬ ‫مواقف‬
‫ٍ‬ ‫ظاهر من‬ ‫الضعفاء‪ ،‬وهذا‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫استيعابه‪ ،‬ألنه مسلك غير مألوف في سير غالبية العظماء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫جميعا‪،‬‬ ‫الرحمة ال غير‪ ،‬كان لها كلمة الفصل‪ ،‬الرحمة التي وسعت أهل مكة‬
‫بي ! دمهم لشدة عداوتهم لإلسالم‬
‫َّ‬ ‫باستثناء ستة أو سبعة أشخاص‪ ،‬أهدر الن ّ ُّ‬
‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫وأهله‪َّ ،‬‬
‫ثم ما لبث أن عفا عن أكثرهم‪ ،‬حين كلمه بعض أصحابه بشأنهم ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ُّ‬
‫والمؤرخ >واشنجتون ايرفنج< الذي يُعد من أوائل العلماء األمريكان‬ ‫ِّ‬ ‫الكاتب‬
‫تابع أحداث فتح مكة‪ ،‬واستوقفه ُ‬
‫عفو‬ ‫الذين عنوا بالحضارة اإلسالمية وتاريخها ـ َ‬
‫ّ‬
‫تصرفات الرسول ! في أعقاب‬ ‫قائال‪ < :‬كانت ُّ‬ ‫ً‬
‫بي عن ألد خصومه‪ ،‬فعلق عليه‬
‫ِّ‬ ‫الن ّ ِّ‬
‫ً‬ ‫ٰ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫تدل على أنَّه ٌّ‬ ‫ُّ‬
‫أبدى رحمة‬ ‫مظفر‪ ،‬فقد‬ ‫مرسل‪ ،‬ال على أنه قائد‬ ‫نبي‬ ‫فتح مكة‬
‫قوي‪ ،‬ولكنَّه َّ‬ ‫َّ‬
‫وشفقة على مواطنيه‪ ،‬برغم أنه أصبح في مركز ٍّ‬ ‫ً‬
‫توج نجاحه وانتصاره‬ ‫ٍ‬
‫بالرحمة والعفو >(‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫أن هناك ً‬ ‫َّ َّ‬
‫دافعا قويًا‪ ،‬يكمن وراء هذه الرحمة‪ ،‬إضافة إلى ما سبق‬ ‫من المؤكد‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫الحب‪ ،‬فقد ثبت لي‪ ،‬أن الن َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يحب مخلوقات‬ ‫بي ! كان‬ ‫الحب‪ ،‬نعم‪ ،‬إنه‬ ‫ذكره‪ ،‬إنه‬
‫جميعا‪ .‬المؤمن والكافر والحيوان والطير‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اهلل‬
‫حب الن ّ ّ‬‫شك في ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بي ! ألتباعه‪،‬‬ ‫الحب الصادق‪ ،‬يأتي بالعجائب‪ ،‬وليس من‬ ‫إن‬
‫أما حبّه الخير للكافرين‪ ،‬فقد شهد به القرآن الكريم حين يقول اهلل لنبيِّه‪﴿ :‬ل َعلك‬ ‫َّ‬
‫َ َّ َ‬
‫َّ‬ ‫َ ٰ ‪ َ َ َ ۡ َّ ٞ‬اَّ َ ُ‬
‫ِني﴾ [ا � شل����عرا ء‪ ،]3 :‬أي كأنك تريد أن تهلك نفسك‬ ‫كونُوا ْ ُم ۡؤ ِمن َ‬ ‫خع نفسك أل ي‬ ‫ب ِ‬
‫َّ‬ ‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫واألسى‪ ،‬ألن هؤالء الكفار لم يؤمنوا‪.‬‬ ‫من شدة الحزن‬
‫ً‬
‫كثيرا‪ ،‬وبان أسفه شفقة منه على هؤالء‪ ،‬ورحمة منه بحالهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫اشتد حزن ُ ُه ً‬ ‫َّ‬
‫لقد‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫حتى قال اهلل له‪﴿ :‬فل تذه‬


‫َ َ َ ۡ َۡ َ‬
‫ب نف ُسك‬
‫ۡ‬ ‫اَ‬ ‫ألنَّه يعلم مصيرهم‪ ،‬إن ماتوا على الكفر‪ٰ ،‬‬
‫ّ‬

‫((( انظر تهذيب سيرة ابن هشام ص ‪.226-225‬‬


‫نظرة على‬

‫((( حياة محمد‪ ،‬ص ‪ ،233‬واشنجتون‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫‪144‬‬

‫ُ‬
‫ت﴾ [ ف��ا طر‪ ،]8:‬أي ارحم نفسك يا محمد‪ ،‬وال يكن حزنك بهذا‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َۡ‬
‫علي ِه ۡم حسر ٰ ٍ ۚ‬
‫ً‬ ‫أديت ما عليك‪ ،‬ولم ِّ‬ ‫َّ‬
‫تقصر معهم أبدا‪.‬‬ ‫الشكل‪ ،‬فقد‬
‫تتحرك رحمة‬ ‫َّ‬ ‫في هذه الساعات التاريخية‪ ،‬وعلى الرغم من تتابع األحداث‪،‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫الن ّ ّ‬
‫المقربين‪ ،‬إنه بالل بن رباح ‪ ،K‬الذي كان عبدا‬ ‫أحد أصحابه‬ ‫ِ‬ ‫بي ! تجاه‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫الحارة بسبب إيمانه‪ ،‬وهو يردد أحد أحد‪.‬‬ ‫في مكة‪ ،‬يعذب فيها على رمالها‬
‫َّ‬ ‫ها هو الن ّ ّ‬
‫بي ! يرحم حاله‪ ،‬وكأنه ينظر إلى شريط الذكريات الذي يستعرضه‬
‫بالل‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫بالل‪ ،‬وهو يدخل مكة بعد سنواتٍ من مغادرته لها‪ ،‬وإذا بالنبي ! يطلب من ٍ‬
‫ِّ‬
‫أن يصعد على ظهر الكعبة ليؤذن للصالة ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫بالل فوق الكعبة يرفع صوته باألذان‪ ،‬ويردد كلمة التوحيد‪ ،‬التي عُذب‬
‫َّ‬
‫ببالل ليرد‬ ‫بي !‬ ‫تكريم ما بعده تكريم‪ ،‬إنَّها الرحمة من الن ّ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫من أجلها‪ ،‬إنه‬
‫ٍ‬
‫مجتمع طالما ظلمه‪ ،‬وقسا عليه ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫له كرامته‪ ،‬ويعيد له اعتباره في‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫إذا كانت رحمة الن ّ ّ‬
‫ببالل تثير اإلعجاب‪ ،‬فإن رحمته بأبي سفيان تثير‬ ‫ٍ‬ ‫بي !‬
‫ً‬
‫بي ! العداء منذ بداية الدعوة‪ ،‬وكان يتزعَّم قريشا‬ ‫العجب‪ ،‬ناصب أبو سفيان الن ّ ّ‬
‫بي !‪ ،‬قبيل‬ ‫فلما أحضر أبو سفيان بين يدي الن ّ ّ‬ ‫للنبي ! وأصحابه‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫في حربها‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫دخوله إلى مكة‪ ،‬أراد الن ّ‬
‫بي ! أن يحفظ له شيئا من كبريائه‪ ،‬رحمة به ‪.‬‬
‫أن َم ْن دخل دار أبي سفيان فهو آمن(‪ ،)1‬فكان لها ٌ‬ ‫َّ‬ ‫أعلن الن ّ ّ‬
‫أثر‬ ‫بي ! ألهل مكة‬
‫َّ‬
‫في جبر خاطره‪ ،‬وحفظ شي ٍء من ماء وجهه‪ ،‬أمام أهل مكة؛ ألن هذه الساعات‬
‫كانت بداية النهاية لزعامة أبي سفيان‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫فرأى الن ّ ّ‬
‫ٰ‬
‫بي ! أنه محتاج للرحمة في هذا الموقف‪ ،‬وهو ما كان‪ ،‬ولعل هذا‬
‫َّ‬
‫بي ! كان وراء إسالم أبي سفيان‪ ،‬وأد ٰى ذلك إلى حسن‬ ‫الموقف الرحيم‪ ،‬من الن ّ ّ‬
‫أيضا في نفسه وأسرته‪.‬‬ ‫إسالمه ً‬

‫((( انظر‪ :‬السيرة النبوية الصحيحة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،479‬العمري‪.‬‬


‫‪145‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َّ‬
‫بأن الن ّ ّ‬ ‫ٌ‬
‫بي ! لم تكن تدفعه انتصاراته‬ ‫وبعد فتح مكة وقعت حادثة تشهد‬
‫بأي‬ ‫قوة ما زالت أمامه‪ِّ ،‬‬ ‫العظيمة إلى اإلصرار على تحقيق المزيد منها‪ ،‬وإزالة أيَّة َّ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫يستغل َّ‬‫َّ‬
‫حب أصحابه‪ ،‬وال رغبتهم في القتال‪ ،‬لتحقيق‬ ‫ثمن كان‪ ،‬كما لم يكن‬ ‫ٍ‬
‫معركة ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫شهرة‪ ،‬أو حسمِ‬
‫ً‬ ‫حاصر الن ّ ّ‬
‫بي ! والمسلمون الطائف فترة من الزمن‪ ،‬وكانت حصونهم منيعة‬
‫بي ! حالهم‪،‬‬ ‫قوي َّ ًة‪ ،‬وأصيب عدد من المسلمين عند أسوار الطائف‪ ،‬فرحم الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫فضج الناس من ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬نرحل ولم‬ ‫وأمر الجيش بفك الحصار والرحيل‪،‬‬
‫ً‬ ‫َّ َّ‬ ‫يفتح علينا الطائف‪ ،‬وأراد الن ّ ّ‬
‫بي ! أن يُشعرهم أنه إنما اتخذ هذا القرار رحمة‬
‫بهم فحسب‪ ،‬فقال لهم‪> :‬ال بأس اغدوا على القتال<‪ ،‬فغدوا فأصابت المسلمين‬
‫فسروا بذلك‬ ‫ُّ‬ ‫بي ! بعدها‪> :‬إنَّا قافلون غدا إن شاء اهلل<‪،‬‬
‫ً‬ ‫جراحات‪ ،‬فقال الن ّ ّ‬ ‫ٌ‬
‫ُ‬
‫وأذعنوا‪ ،‬وجعلوا يرحلون‪ ،‬ورسول اهلل يضحك‪ ،‬فقالوا له‪ :‬يا رسول اهلل أدع‬
‫وائت بهم<(‪.)1‬‬ ‫ثقيف‪ ،‬فقال‪> :‬اللهم اهد ثقيفا‬ ‫على‬
‫ً‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أثر بارز في تغيير َسير األحداث‪ ،‬فهذه المعركة حصلت‬ ‫لقد كان للرحمة ٌ‬
‫َّ‬ ‫القو ُة كلُّها بيد الن ّ ّ‬ ‫بعد فتح مكة‪ ،‬وبعد أن أصبحت َّ‬
‫بي !‪ ،‬فكان من المتوقع‬
‫َّ‬ ‫صر الن ّ ّ‬‫عسكري أن ي ُ َّ‬ ‫ٍّ‬
‫هزيمة ثقيف‪ ،‬مهما كلف األمر من خسائر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بي ! على‬ ‫من منظور‬
‫قريش بأكملها‪ ،‬ويقف‬ ‫ٌ‬ ‫إذ ال يعقل أن يكسب معركة العاصمة مكة‪ ،‬وتستسلم له‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬
‫ثقيف خارجة عن طوعه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قبيلة‬ ‫وتبقى‬ ‫عاجزا عن فتحها‪،‬‬ ‫على أبواب الطائف‬
‫َّ‬
‫أن الن ّ ّ‬
‫بي ! استحضر الرحمة بأتباعه‪ ،‬بسبب ما أصابهم من جراحات‪،‬‬ ‫بيد‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫حساب واحد‪،‬‬ ‫والنبي له‬ ‫ولم يلتفت إلى رغبتهم في القتال‪ ،‬فهم لهم حساباتهم‪،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫وهو الرحمة بهم‪ ،‬وكذا الرحمة بأعدائهم أهل الطائف‪.‬‬


‫يتوقع الن ّ ُّ‬ ‫َّ‬
‫وقت فقط‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مسألة‬ ‫فالمسألة‬ ‫يسلموا‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫يستسلموا‬ ‫أن‬ ‫بي‬ ‫إذ كان‬
‫ّ‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬


‫!‬
‫أولى‪ ،‬ولقد كان ما توقعه‬ ‫ٰ‬ ‫فلم القتال والقتل إذا؟ إن الرحمة في هذا الميدان‬ ‫َ‬
‫نظرة على‬

‫((( زاد المعاد في هدي خير العباد‪ ،‬ج‪ ،497/3‬السيرة النبوية الصحيحة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.511‬‬
‫‪146‬‬

‫مزيد‬ ‫وكفى اهلل الجميع َّ‬


‫شر‬ ‫ٰ‬ ‫بي !‪ ،‬فقد جاء أهل الطائف مسلمين طائعين‪،‬‬ ‫الن ّ ّ‬
‫ٍ‬
‫من القتال‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫هذه جولة سريعة‪ ،‬على مظاهر الرحمة في مواطن الحرب والقتال‪ ،‬في سيرة‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫نبي الرحمة !‪ ،‬وأحسبُها تحمل رسائل حانية إلى الناس كل الناس‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬
‫الحوار أواًل‪ ،‬والرحمة أواًل‪ ،‬ولتكن الحرب آخر‬ ‫الرسالة األولى مفادها‪:‬‬
‫ما يلجأ إليه‪ ،‬كما فعل ّ‬
‫نبي الرحمة !‪.‬‬
‫َّ‬
‫والرسالة الثانية مفادها‪ :‬إن كان وال بد من الحرب‪ ،‬فلتكن حربًا رحيمة‪ ،‬كما‬
‫ً‬
‫وقودا لها‪ ،‬وال ٰ‬ ‫كانت حروب ِّ‬
‫حتى‬ ‫نبي الرحمة !‪ ،‬ال يكون األطفال والنساء‬
‫ً‬
‫بعض من يحضرها‪ ،‬وليكن ضحاياها قلة قليلة ‪.‬‬
‫والرسالة الثالثة مفادها‪ :‬لتكن الحرب وسيلة للتقريب بين الناس‪ ،‬وإزالة‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فرقة‪،‬‬
‫الحواجز‪ ،‬وتلك هي نتائج حروب نبي الرحمة !‪ ،‬ال أن تكون سببا لمزيد ٍ‬
‫ٰ‬ ‫لبث كراهية‪ ،‬وال ً‬ ‫ِّ‬
‫أخرى‪ ،‬ال يعلم لها نهاية ‪.‬‬ ‫لحروب‬
‫ٍ‬ ‫سببا‬ ‫ٍ‬ ‫وال‬
‫ٌ‬ ‫َّ َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫كل موقف َّ‬ ‫َّ َّ‬
‫مظهر من مظاهر رحمة‬ ‫فردي أو عابر‪ ،‬إال أنه‬ ‫مر بنا‪ ،‬وإن بدا أنه‬ ‫ٍ‬ ‫إن‬
‫بي محمد ! للبشرية‪ ،‬وحين يضع هذا الموقف بين أيدي البشرية‪ ،‬وحين‬ ‫الن ّ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫جميعا‪ ،‬هدفها التقارب‬ ‫يلزم أتباعه بها‪ ،‬فإنه يكون قد وضع سياسة عامة للبشر‬
‫والتعاون‪.‬‬
‫بي ! في تحقيق هذه األهداف‪ ،‬ونجح أتباعه في االلتزام بها‪،‬‬ ‫لقد نجح الن ّ ّ‬
‫وفي ممارستها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫والبشرية كلها مدعوة إلى تأملها‪ ،‬لعلها تنتفع بها‪ ،‬فهي كما قلنا‪ ،‬صارت‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫جنس بعينه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أو‬ ‫لبيئة‬
‫ٍ‬ ‫ا‬ ‫ملك‬ ‫وليست‬ ‫مكان‪،‬‬ ‫وال‬ ‫زمان‬ ‫ها‬ ‫يحد‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫عالمية‬ ‫مناراتٍ‬
‫‪147‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫المبحث‬
‫نظرة على عالقته ‪Z‬‬ ‫السادس‬
‫بالمسلمين‬

‫رفقه ! باملرأة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ ّ‬
‫وال أدل على العناية التي حظيت بها المرأة من ِق َبل رسول اهلل !‪ ،‬من معرفتنا‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫بأن النسخة الوحيدة المعتمدة من القرآن الكريم‪ ،‬كانت محفوظة عند السيّدة‬
‫بي ! وابنة الخليفة عمر بن الخطاب ‪. K‬‬ ‫حفصة ‪ I‬زوج الن ّ ّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫لقد كان للمرأة في سيرة الن ّ ّ‬
‫بي ! مساحة كبيرة في حياته‪ ،‬واهتماماته‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أحد‪ٰ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫حتى في األوقات الحرجة‪ ،‬وأشد ما يثير اإلعجاب هنا‪:‬‬ ‫ال يزاحمها فيها‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫أن المرأة نفسها شعرت بأن لها مكانة في قلب الن ّ‬ ‫َّ‬
‫بي ! ومنزلة أكبر من تلك‬
‫ُ‬
‫التي يمنحها لها أقرب الناس إليها‪.‬‬
‫ٰ‬ ‫امرأة إلى الن ّ ّ‬ ‫ٌ‬
‫أخرى‬ ‫بي ! تشتكي زوجها وتبثه همومها‪ ،‬وذهبت‬ ‫ذهبت‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تشتكي أباها‪ ،‬وثالثة اشتكت أخاها‪ ،‬ورابعة اشتكت إليه قريبها‪ ،‬إنها وقائع تكشف‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٰ‬
‫مشاكلهن‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بالنبي !‪ ،‬وعن علمهن بسعة صدره تجاه‬ ‫مدى ثقة النساء‬ ‫عن‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وعن تعاطفه معهن‪ ،‬ورحمته بهن‪.‬‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬ ‫ولنتوقف عند َّ‬ ‫َّ‬
‫جرى لها وكيف عالج الرسول ! مشكلتها‪،‬‬ ‫قصة إحداهن وما‬
‫صلت مع الن ّ ّ‬ ‫َّ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫بي ! صالة الفجر‪ ،‬ثم خرجت وانتظرته‬ ‫سلول ‪،I‬‬ ‫ٍ‬ ‫فهذه جميلة بنت‬
‫فلما رآها‪ ،‬قال‪> :‬من؟‪ ،‬جميلة؟< قالت‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪،‬‬ ‫قريبا من باب بيته‪َّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ّ‬

‫قال‪> :‬ما وراءك؟< قالت‪ :‬زوجي ثابت يا رسول اهلل‪ ،‬قال لها‪> :‬ما شأنه<‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ً‬
‫ال أعيب عليه شيئا في خلقه‪ ،‬ودينه‪ ،‬ولكنِّي ال أحبّه‪ ،‬وال أطيقه‪.‬‬
‫نظرة على‬
‫‪148‬‬

‫يود أن يعرف السبب إذا أمكن ذلك‪ .‬قالت‬ ‫قال لها‪> :‬وما ذاك؟<‪ ،‬كأنَّه ُّ‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫قادما مع أربعة‬ ‫له بكل صراحة‪ :‬لقد نظرت يا رسول اهلل من نافذة بيتي فرأيته‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫منظرا‪ ،‬فكرهته‪َّ .‬‬
‫فلما‬ ‫ً‬ ‫أقصرهم‪ ،‬وأشدهم سوادا‪ ،‬وأقبح ُهم‬ ‫ُ‬ ‫من الرجال‪ ،‬وإذا به‬
‫ََ‬
‫سمع كالمها هذا‪ ،‬ما زاد على أن قال لها‪> :‬أت ُردِّين عليه حديقته؟<‪ ،‬يقصد المهر‬
‫َّ‬
‫الذي دفعه لها‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ .‬فأمره فطلقها(‪.)1‬‬
‫تشتك زوجها إلى أبيها‪،‬‬ ‫عجيبة‪ ،‬ما بال هذه المرأة لم ِ‬ ‫ٍ‬ ‫حادثة‬
‫ٍ‬ ‫يا لها من‬
‫ُ َّ‬
‫للنبي محمد !‪ ،‬فهو ال يخلو‬ ‫ِّ‬ ‫أو أخيها‪ ،‬أحسب أنها ال تجرؤ أن تقول لهما ما قالت‬
‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫تصرف ال يليق بالمرأة‬ ‫إحراج لها‪ ،‬ويجعلها عرضة للوم أو عتاب‪ ،‬ألنه‬ ‫ٍ‬ ‫من‬
‫في عرف اجملتمع‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫نظرت جميلة حولها‪ ،‬للبحث َّ‬
‫عمن تبث له همومها وشعورها األنثوي‪ ،‬فلم‬
‫ِّ‬ ‫تجد غير الن ّ ّ‬
‫بي محمد !‪ ،‬ولقد كان عند حسن ظنِّها‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬فإنه لم‬
‫ٰ‬
‫واكتفى‬ ‫يعاتبها على صنيعها‪ ،‬بل لم ينصحها بالعدول عن رغبتها بفراق ثابت‪،‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫باإلشارة إلى ِّ‬
‫يخسر زوجته‪ ،‬ويخسر معها‬ ‫حق زوجها رحمة به‪ ،‬إذ ال يعقل أن‬
‫حديقته‪.‬‬
‫وتفهم شعورها‪ ،‬ولم يغب عن خاطره ً‬
‫أيضا أن‬ ‫َّ‬ ‫بي ! حالها‪،‬‬ ‫لقد رحم الن ّ ّ‬
‫ثابتا باألمر‪ ،‬فقد استدعاه الن ّ ّ‬‫ً‬ ‫ِّ‬
‫بي ! وقال‬ ‫يستحضر رحمته هذه‪ ،‬وهو يكلم زوجها‬
‫له‪> :‬يا ثابت‪ ،‬جاءتني جميلة‪ ،‬وأنا أطلب منك أن تطلِّقها<‪ ،‬وتأخذ حديقتك‪،‬‬
‫قال‪ :‬أفعل يا رسول اهلل(‪.)2‬‬

‫((( رواه البخاري وغيره بروايات متعددة‪ ،‬انظر البخاري‪ ،‬باب الخلع‪ ،‬حديث رقم (‪ )5273‬إلى‬
‫حديث رقم (‪.)5277‬‬
‫((( في مرسل أبي الزبير عن الدار قطني والبيهقي ‪ ... < :314/7‬فأخذ ماله وخلى سبيلها‪،‬‬
‫فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس بن شماس ‪ ،K‬قال‪ :‬قد قبلت قضاء رسول اهلل !‪ ،> ...‬قال‬‫َّ‬
‫الحافظ ابن حجر‪ < :‬ورجال إسناده ثقات >‪ ،‬فتح الباري ‪.402/9‬‬
‫‪149‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫الرسمي باسم الن ّ ّ‬


‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫بي !‬ ‫الجدير بالمالحظة هنا‪ :‬أن ثابت هذا كان الناطق‬
‫بي ! في المحافل العامة‪،‬‬ ‫في مصطلحات عصرنا‪ ،‬لقد كان خطيب الن ّ ّ‬
‫أبي بن سلول‪ ،‬أحد زعماء قومه‪ ،‬قبل مجيء‬ ‫أما أبو جميلة زوجتُه فهو عبد اهلل بن ّ‬
‫وأشد خصوم الن ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫الن ّ ّ‬
‫بي ! في المدينة على اإلطالق ‪.‬‬ ‫بي ! إلى المدينة‪،‬‬
‫بي ! في هذا الموطن فوق كل اعتبار‪ .‬فلم ينتصر لزوجها‬ ‫وكانت رحمة الن ّ ّ‬
‫ثابت‪ ،‬رغم قربه منه‪ ،‬ومحبَّته له‪ ،‬ولم ينتقم من أبيها عبد اهلل بن سلول‪ ،‬رغم‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬
‫عداوته له‪ ،‬فلم يلتفت في تلك الساعة إال إلى المرأة جميلة فقط فأنصفها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أخرى تشتكي‪ ،‬أباها إلى الن ّ ّ‬ ‫ٰ‬ ‫ٌ‬
‫بي !‪ ،‬إنها خنساء بنت خذام‪ ،‬فقد‬ ‫هذه واحدة‬
‫زوجها من شخص ال تحبّه‪ ،‬ولم يأخذ‬ ‫بي تشتكي أباها‪ ،‬قائلة‪ :‬إنَّه َّ‬ ‫جاءت إلى الن ّ ّ‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫بي النكاح مباشرة دونما نقاش(‪.)1‬‬ ‫رأيها‪ ،‬فأبطل الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫أكد الن ّ ّ‬ ‫َّ‬
‫بي ! بهذا التصرف‪ ،‬أن عهد العبودية للفتاة من قبل أبيها‪،‬‬ ‫لقد‬
‫ً‬
‫أو غيره‪ ،‬قد ذهب دونما رجعة‪ ،‬ولهذا أبطل هذا النكاح‪ ،‬رحمة منه بهذه الفتاة‪،‬‬
‫َّ‬
‫زوج ال تحبّه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مع‬ ‫حياتها‬ ‫ستكون‬ ‫كيف‬ ‫ر‬ ‫َّ‬
‫تصو‬ ‫ه‬ ‫ألن‬
‫بي ! تشتكي إليه بخل زوجها‬ ‫أما هند بنت عتبة‪ ،‬فقد جاءت إلى الن ّ ّ‬
‫ً‬
‫أبي سفيان‪ ،‬قائلة‪ :‬ليس يعطيني ما يكفيني وولدي‪ ،‬إال ما أخذت منه‪ ،‬وهو‬
‫بي !‪> :‬خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف<(‪. )2‬‬ ‫ال يعلم‪ ،‬فقال لها الن ّ ّ‬
‫بي ! ٰ‬ ‫فإن رحمة الن ّ ّ‬ ‫َّ‬
‫تأبى عليه أن تعيش في كنفه امرأة تعاني هي وولدها‪،‬‬
‫قادر على أن ينفق عليهما‪ ،‬لكنَّه يبخل‪.‬‬ ‫ضيق العيش‪ ،‬وزوجها ٌ‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫تفر من قومها ـ وكانوا يضايقونها‪ ،‬ألنها مسلمة وهم كف ٌار ـ‬ ‫أخرى ُّ‬ ‫ٰ‬ ‫وامرأة‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫إلى الن ّ ّ‬


‫بي !‪ ،‬إنها أم كلثوم بنت عقبة‪ ،‬فقد غادرت مكة مهاجرة إلى المدينة‪،‬‬
‫ّ‬

‫((( انظر صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5138‬‬


‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 5364‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 1714‬‬
‫‪150‬‬

‫يرد الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وقع الن ّ ّ‬
‫بي !‬ ‫بي ! المعاهدة مع قريش‪ ،‬والتي كان من ضمنها أن‬ ‫بعد أن‬
‫ً‬
‫مسلما من أهل مكة‪.‬‬ ‫من يأتيه‬
‫يردها الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ولما جاءت ُّ‬ ‫َّ‬
‫بي ! بنص القرآن الكريم‪:‬‬ ‫أم كلثوم مسلمة لم‬
‫وه َّنۖ﴾ [ا �ل���م���مت�����حن����ة‪َّ ،]10 :‬‬
‫َ‬
‫وتم‬ ‫﴿يأيها ٱلِين ءامنوا إِذا جاءكم ٱلمؤمِنت مه ِ‬
‫َ ٰٓ ُّ َ ذَّ َ َ َ ُ ٓ ْ َ َ ٓ َ ُ ُ ۡ ُ ۡ َ ٰ ُ ُ َ ٰ َ ٰ َ ۡ َ ُ ُ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫ت فٱمت ِحن‬
‫جر ٖ‬
‫َّ‬
‫استثناء النساء من هذا الشرط‪ ،‬وقال لقريش إنما الشرط في الرجال‪ ،‬رحمة بهن‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫أنف قريش(‪.)1‬‬ ‫ً‬
‫وتقديرا لحالهن‪ ،‬رغم ِ‬
‫بي !‪ ،‬وأخت علي بن أبي طالب ‪ ،K‬فقد جاءت‬ ‫عم الن ّ ّ‬
‫أم هانئ‪ ،‬بنت ِّ‬‫أما ُّ‬ ‫َّ‬
‫عليا حيث لم يُقم لها ّ‬ ‫ً‬ ‫إلى الن ّ ّ‬
‫أي اعتبار‪ ،‬حين أراد يوم فتح مكة أن‬ ‫بي تشتكي أخاها‬
‫يقتل اثنين من أقارب زوجها استجارا بها‪ ،‬ودخال بيتها‪ .‬فأغلقت عليهما باب بيتها‪.‬‬
‫مسرعة‪ ،‬وقالت له‪ ،‬وهي غاضبة‪ :‬إن ابن ّ‬ ‫ً‬ ‫جاءت إلى الن ّ ّ‬
‫أمي هذا‪،‬‬ ‫بي !‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫عليا‪ ،‬لكنَّها لم تشر إليه باألخوة‪ ،‬ألنها غاضبة منه‪ ،‬إنه يريد أن يقتل‬ ‫وتقصد أخاها ً‬
‫إال أن َّ‬ ‫َّ‬ ‫من استجارا بي‪ ،‬وطلبا الحماية منِّي‪ ،‬فما كان من الن ّ ّ‬
‫تبسم‪ ،‬وقال‬ ‫بي !‬
‫لها‪> :‬قد أجرنا من أجرتِ يا َّأم هانئ<‪ ،‬فجبر خاطرها‪ ،‬ولبَّ ٰى طلبها(‪.)2‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫فخرجت من عنده وهي مسرورة فخورة بما حققت‪ ،‬ولعلها ال تدري أن‬
‫َّ‬
‫بي بالمرأة وحرصه على أن يرد لها االعتبار الذي فقدته في الجاهلية‪ ،‬كان‬ ‫رحمة الن ّ ّ‬
‫تلبية لطلبها‪.‬‬
‫السبب فيما حصلت عليه من ٍ‬
‫بي !‪ ،‬لم تحظ بها في تاريخها الطويل‪،‬‬ ‫حظيت المرأة بنظرة حانية من الن ّ ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫بي ! وهو يقف إلى جانب المرأة يهدم أعرافا‪ ،‬عاشت عليها اجملتمعات‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مستخدما وسائل عدة‪،‬‬ ‫قرونا‪ ،‬ولم يأل جهدا في وضع المرأة الموضع الالئق بها‪،‬‬
‫َّ‬
‫ألنه كان يرحم حالها الذي آلت إليه‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الطبري ‪ 69/28‬دار الفكر‪.‬‬


‫((( انظر صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3171‬‬
‫‪151‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َّ‬
‫بدأت معاملته الحسنة مع أهل بيته‪ ،‬وحث الناس على هذه المعاملة‪ ،‬فكان‬
‫مما قال‪> :‬خيركم خيركم ألهله‪ ،‬وأنا خيركم ألهلي<(‪ )1‬ونقلت عنه زوجه عائشة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أنه >ما ضرب شيئا بيده‪ ،‬ال امرأة وال خادما<(‪.)2‬‬
‫ِّ‬
‫وأب‪ ،‬بل إلى كل‬ ‫زوج‪،‬‬
‫ِّ‬
‫كل‬ ‫إلى‬ ‫محمد‬ ‫هذه رسالة رحمة يبعثها الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫!‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫رجل‪ ،‬وإلى البشر جميعا‪ ،‬فعن األسود قال‪ :‬سألت عائشة ما كان النبي ! يصنع‬ ‫ٍ‬
‫في أهله‪ ،‬قالت‪> :‬كان في مهنة أهله‪ ،‬فإذا حضرت الصالة‪ ،‬قام إلى الصالة< ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫َّ‬
‫بي ! يرحم نساءه‪ ،‬ويساعدهن في أعمال البيت‪ ،‬لشعوره بحاجة‬ ‫كان الن ّ ّ‬
‫يتنافى مع العظمة‪ ،‬وال مع الرجولة‪ ،‬كما‬ ‫ٰ‬ ‫الزوجة إلى هذا العون‪ ،‬وهذا العمل ال‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يتوهم بعض األزواج‪ ،‬وأرجو من النساء أن ال يثرن مشاكل في البيت بعد معرفتهن‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫بهذه المواقف؛ ألن مكارم األخالق تنبع من ذات اإلنسان وال تفرض عليه‪.‬‬
‫َّ‬
‫حث الن ّ ّ‬
‫بي ! على مالطفة المرأة‪ ،‬ومالعبتها‪ ،‬حتى قال‪> :‬كلُّ شي ٍء ليس من‬
‫خصال<‪ ،‬وذكر منها >مالعبة الرجل امرأته‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫وسهو‪َّ ،‬‬
‫إال أربع‬ ‫ذكر اهلل عزَّ وجلَّ ٌ‬
‫لهو‬
‫والسباحة<(‪.)4‬‬
‫بي ! إلى الرجال‪،‬‬ ‫هه الن ّ ّ‬ ‫النبوي الرائع الذي َّ‬
‫وج ُ‬ ‫ِّ‬ ‫األعجب من ذلك التوجيه‬
‫ً‬ ‫وكان َّ‬
‫أول من عمل به‪ ،‬وهو عدم الدخول على الزوجات فجأة‪ ،‬بعد اجمليء من‬
‫السفر‪.‬‬
‫َّ‬
‫أن الن ّ ّ‬ ‫ٰ‬
‫بي ! قال‪> :‬ال تطرقوا النساء‪ ،‬وأرسل‬ ‫روى عبد اهلل بن عمر ‪،R‬‬ ‫فقد‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫من يؤذن الناس أنه ٌ‬
‫قادم الغد<(‪ )5‬ليبلغ الزوجات أن األزواج قدموا من السفر‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( رواه الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3895‬وهو صحيح‪ ،‬سلسلة األحاديث الصحيحة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.575‬‬
‫ّ‬

‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6039‬‬ ‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 2328‬‬
‫ ‬
‫((( رواه النسائي في سننه الكبرى‪ ،‬حديث رقم (‪.)8890‬‬
‫نظرة على‬

‫((( حديث صحيح‪ ،‬انظر سلسلة األحاديث الصحيحة‪ ،‬ج‪ ،7‬ص‪ ،223‬األلباني‪.‬‬
‫‪152‬‬

‫يصلي فيه قلياًل‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫وكان الن ّ ّ‬


‫ثم‬ ‫يتوجه هو وأصحابه إلى المسجد‪،‬‬ ‫بي !‬
‫يتوجه هو وأصحابه إلى بيوت الزوجات‪ ،‬الاّلتي ما إن يسمعن بمقدم األزواج‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬ ‫منهن بتهيئة نفسها لزوجها‪ ،‬وهذا من الن ّ ّ‬ ‫َّ‬ ‫حتى تُبادر ُّ‬ ‫ٰ‬
‫بي ! قمة‬ ‫واحدة‬
‫ٍ‬ ‫كل‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫التصرفات الراقية في هذا العصر‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫في الذوق وغاية الرحمة والتلطف‪ ،‬ويُعد من‬
‫أم المؤمنين السيدة عائشة ‪ I‬لنا‬ ‫بي ! يالعب نساءه‪ ،‬وتروي لنا ُّ‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫ٌ‬ ‫هذه القصة‪ ،‬حين تقول‪ :‬خرجت مع الن ّ ّ‬
‫بي في بعض أسفاره‪ ،‬وأنا جارية لم أحمل‬
‫فتقدموا‪ ،‬ثم قال لي‪> :‬تعالي ٰ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫حتى‬ ‫>تقدموا<‪،‬‬
‫َّ‬ ‫اللحم‪ ،‬ولم أبدن‪ ،‬فقال للناس‪:‬‬
‫حتى إذا حملت اللحم وبدنت‪ ،‬ونسيت‬ ‫أساب َقك<‪ ،‬فسابقته فسبقته‪ ،‬فسكت عنِّي‪ٰ ،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫خرجت معه في بعض أسفاره‪ ،‬فقال للناس‪> :‬تقدموا<‪ ،‬فتقدموا‪ ،‬ثم قال لي‪:‬‬
‫َّ‬
‫أسابقك<‪ ،‬فسابقته فسبقني‪ ،‬فجعل يضحك‪ ،‬ويقول‪> :‬هذه بتلك<(‪.)1‬‬
‫َ‬
‫>تعالي حتى ِ‬
‫ُّ‬
‫قد يكون من العسير تفهم واستيعاب هذه المواقف النبويَّة مع النساء‬
‫من قبل أولئك‪ ،‬الذين جعلوا في أذهانهم مواصفات للعظمة‪ ،‬من خالل زهد‬
‫بوذا‪ ،‬وهجرانه لزوجته‪ ،‬أو من خالل احتقار بعض العظماء للمرأة وتجاهلها‪،‬‬
‫َّ‬
‫آلة لإلنجاب‪ ،‬ولهذا ال ينبغي التشاغل‬ ‫أداة للمتعة‪ ،‬أو ٍ‬
‫والنظر إليها على أنها مجرد ٍ‬
‫ً‬ ‫بها كما َّ‬
‫مر بنا سابقا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن الن ّ ّ‬
‫بي ! نظر إلى المرأة على أنها نصف الدنيا‪ ،‬حين عد النساء شقائق‬
‫الرجال‪ ،‬فقال‪> :‬النساء شقائق الرجال<(‪.)2‬‬
‫َّ‬
‫بي ! النساء وصفه إياهن بالقوارير‪ ،‬والقوارير‬ ‫ومن أجمل ما وصف به الن ّ ّ‬
‫جمع قارورة‪ ،‬وهي اإلناء من الزجاج‪ ،‬وهو عرضة للكسر‪ ،‬بسبب رقته وضعفه‪،‬‬
‫وهذا يقتضي معاملته بلطف والترفَّق به‪ ،‬وهكذا كان ينظر الن ّ ّ‬
‫بي إلى النساء‪.‬‬

‫((( رواه أبو داود‪ ،‬برقم ‪.2578‬‬


‫((( رواه أبو داود‪ ،‬ح ‪ ،236‬قال األلباني‪ < :‬حسن >‪ ،‬وانظر مسند أحمد ‪ ،26195‬وتخريجه‬
‫مفصاًل فيه‪.‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪153 Z‬‬
‫ّ‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫غالم أسود‬ ‫بي ! في بعض أسفاره‪ ،‬ومعه‬ ‫تحدث أنس بن مالك‪ ،‬قال‪ :‬كان الن ّ ّ‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫يقال له‪ ،‬أنجشة‪ ،‬يحدو بهن وكان حسن الصوت‪ ،‬أي‪ :‬ينشد‪ ،‬فقال له رسول اهلل‬
‫!‪> :‬رويدك يا أنجشة‪ ،‬ال تكسر القوارير‪ ...‬يعني‪ :‬ضعفة النساء<(‪.)1‬‬
‫َّ‬
‫قال بعض الشراح‪ ،‬إن أنجشة كان حسن الصوت‪ ،‬وكان يحدو بهن‪ ،‬وينشد‬
‫َّ‬ ‫شيئًا من الشعر‪ ،‬وربَّما فيه بعض الغزل‪ ،‬فلم يأمن الن ّ ُّ‬
‫بي ! أن تتأثر النساء‬
‫َّ‬
‫الكف‬ ‫بما يسمعن‪ ،‬لحسن صوت أنجشة‪ ،‬وألثر الكالم الذي يقوله‪ ،‬فطلب منه‬
‫ً‬
‫عن هذا رحمة منه بالنساء(‪.)2‬‬
‫ّ‬ ‫وهذه أسماء بنت عميس‪ ،‬تأتي إلى الن ّ ّ‬
‫مسألة جد شخصية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بي ! تستشيره في‬
‫بشأن زواجها‪ ،‬فقد تقدم لها اثنان من الصحابة‪ ،‬هما معاوية وأبو جهم‪ ،‬فرغبت‬
‫فإن معاوية ال‬ ‫بي ! وتوجيهه‪ .‬فقال لها‪> :‬ال هذا وال ذاك‪َّ ،‬‬ ‫في أخذ رأي الن ّ ّ‬
‫شديد في معاملة النساء‪ ،‬وأشير عليك أن َّ‬ ‫ٌ‬
‫تتزوجي‬ ‫مال عنده‪ ،‬وأما أبو جهم فهو‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫أسامة بن زيد<(‪ ،)3‬فأخذت بمشورة الن ّ‬
‫وتزوجته‪.‬‬ ‫بي !‬
‫إن الن ّ ّ‬ ‫َّ‬
‫بي ! رحم أسماء وأشفق عليها‪ ،‬حين نصحها بعدم الزواج من معاوية‪،‬‬
‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بسبب فقره‪ٰ ،‬‬
‫أخرى‪ ،‬حين نصحها‬ ‫حتى ال تعيش حياة صعبة‪ ،‬كما رحمها مرة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بعدم الزواج من أبي جهم‪ ،‬فإنه وإن كان ذا مال‪ ،‬إال أنه قاس في معاملة النساء‪،‬‬
‫ٍ‬
‫زوج هذه صفته‪.‬‬ ‫مع‬ ‫الحياة‬ ‫بي‬‫يرضى لها الن ّ ّ‬
‫ٰ‬ ‫وال‬
‫ٍ‬ ‫!‬
‫هذا موقف يستدعي التأمل‪ ،‬ويثير اإلعجاب‪ ،‬فإن هذه المرأة تعلم‪ ،‬كما تعلم‬
‫غيرها من النساء كثرة المهام الجسام المنوطة بالنبي !‪ .‬ومع هذا كان لديهن شعور‬
‫بي ! سوف يقتطع لهن جزءًا من وقته‪.‬‬ ‫بأن الن ّ ّ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 6211‬ومسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 2323‬‬
‫ّ‬

‫((( انظر‪ :‬صحيح مسلم بشرح النووي (‪.)8180/15‬‬


‫نظرة على‬

‫((( رواه مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1480‬‬


‫‪154‬‬

‫بي ! عبد اهلل بن مسعود‪ ،‬تأتي‬ ‫وهذه زينب زوج الصحابي المقرب من الن ّ ّ‬
‫ٌ‬ ‫ٰ‬ ‫تستشير الن ّ ّ‬
‫رحمة كامنة في نفسها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فيرى أن استشارتها نابعة من‬ ‫بي ! في أمر‪،‬‬
‫ِّ‬
‫فيفسح لها اجملال‪ ،‬لممارسة هذه الرحمة بكل طمأنينة ‪.‬‬
‫َّ‬
‫ٰ‬
‫ترى‬ ‫فقد رغبت أن تتصدق بشي ٍء من مالها‪ ،‬ولكنَّها في الوقت نفسه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫شعور بالرغبة‬ ‫أن زوجها وابنها بحاجة إلى هذه الصدقة‪ ،‬فيتجاذبها شعوران‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫وشعور آخر بدفع هذا المال إلى‬ ‫في التصدق على بعض الفقراء‪ ،‬رغبة في األجر‪،‬‬
‫ً‬
‫زوجها وابنها رحمة منها بهما‪.‬‬
‫إال أن قصدت بيت الن ّ ّ‬ ‫َّ‬
‫بي !‪ ،‬تسأله عن هذا النوع من الصدقة‪،‬‬ ‫فما كان أمامها‬
‫َّ‬
‫بي ! رسالتها‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬وأخبرها أن لها في صدقتها هذه أجرين‪ُ ،‬‬ ‫فقرأ الن ّ ّ‬
‫أجر‬
‫بث فيه الن ّ ّ‬‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بي‬ ‫النبوي‪ ،‬الذي‬ ‫وأجر الصدقة(‪ .)1‬فرجعت مسرورة بهذا التوجيه‬ ‫القرابة‬
‫ً‬
‫! الرحمة بين أفراد األسرة الواحدة‪ ،‬وجعل لهذه المرأة الفاضلة مخرجا حسنًا‬
‫في هذا األمر الذي كان يشغل بالها‪.‬‬
‫يتفطن ُّ‬ ‫َّ‬
‫نبي الرحمة ! إلى بعض النساء الالتي ال يملكن المالبس المناسبة‬
‫َّ‬ ‫لحضور بعض المناسبات‪ ،‬كاألعياد‪ ،‬فيقول ِّ‬
‫ألم عطيَّة(‪ )2‬وقد تحدثت معه في‬
‫س المرأة أختها من مالبسها‪ ،‬وهذه لفتة حانية من قلب رحيم‪،‬‬ ‫هذا األمر‪ ،‬لتُلب َ‬
‫ِ‬
‫نفذ ببصيرته إلى عالم المرأة‪ ،‬فوجه هذا التوجيه الحكيم‪ ،‬الذي جبر فيه خاطر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بعض النساء‪ ،‬ورفع عنهن الحرج‪ ،‬وسن بين النساء سنَّة لطيفة يحسن بالنساء التنبُّه‬
‫إليها‪.‬‬
‫بي ! مكة‪ ،‬هرب منها عكرمة بن أبي جهل‪ ،‬ابن أشهر‬ ‫وعندما فتح الن ّ ّ‬
‫قاصدا جهة اليمن‪ ،‬وإذا بزوجته ِّ‬ ‫ً‬
‫أم حكيم‪ ،‬وكانت‬ ‫خصومه‪ ،‬وهام على وجهه‪،‬‬

‫((( أصل الحديث متفق عليه‪ ،‬فقد أخرجه البخاري في كتاب الزكاة‪ ،‬حديث رقم (‪،)1466‬‬
‫ومسلم في كتاب الزكاة‪ ،‬حديث رقم (‪.)1000‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)351‬‬
‫‪155‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫يعفو عن عكرمة‪ ،‬وتقول‬ ‫َ‬ ‫َّ‬


‫وتتوسل إليه أن‬ ‫بي !‬ ‫قد أسلمت‪ .‬تذهب إلى الن ّ ّ‬
‫ّ‬
‫له‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬قد هرب منك عكرمة إلى اليمن‪ ،‬وخاف أن تقتله‪ ،‬فأمنه‪ ،‬فرحم‬
‫َ ّ‬ ‫الن ّ ّ‬
‫بي ! حالها وقدر وضعها‪ ،‬فقال لها بال تردد‪> :‬هو آمن<‪.‬‬
‫أم حكيم في أثر زوجها‪ ،‬فأدركته‪ ،‬وقد ركب البحر‪ ،‬فقالت له‪ :‬يا ابن‬ ‫خرجت ُّ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫عم جئتك من عند أوصل الناس‪ ،‬وأرحم الناس‪ ،‬وخير الناس‪ ،‬فال تهلك نفسك‪.‬‬
‫بي !‪،‬‬ ‫أم حكيم‪ ،‬فدخل على الن ّ ّ‬ ‫البارة الوفيَّة ُّ‬ ‫َّ‬ ‫عاد عكرمة مع زوجته‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫بي !‪ ،‬قام الن ّ‬ ‫ّ‬
‫فلما دخل عكرمة على الن ّ‬ ‫وهي معه‪َّ ،‬‬
‫ومرحبا به‪،‬‬ ‫بي مسرعا إليه‬
‫أمنتني‪ .‬فقال‬ ‫إن هذه أخبرتني أنَّك َّ‬ ‫َّ‬
‫لشدة سروره بقدومه‪ .‬فقال عكرمة‪ :‬يا محمد‬
‫َّ‬

‫بي !‪> :‬صدقت‪ ،‬أنت آمن<‪ ،‬فأسلم وحسن إسالمه(‪.)1‬‬ ‫الن ّ ّ‬

‫يوسع دائرة الرحمة هذه‪ ،‬ليتعامل بها أصحابه‬ ‫بي ! أن ِّ‬ ‫كان من منهج الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫مع النساء‪ ،‬ألنه يرغب في نشر ثقافة الرحمة بالمرأة على أوسع نطاق‪ ،‬وهو‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫قتال لرعاية النساء‬ ‫ٍ‬ ‫أو‬ ‫سفر‪،‬‬ ‫في‬ ‫عنه‬ ‫ف‬ ‫التخل‬ ‫ما تمثل في طلبه من بعض أصحابه‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً َّ‬
‫وتقديرا منه لظروفهن‪.‬‬ ‫رحمة بهن‪،‬‬
‫ُّ‬
‫لعدد من أصحابه‪ ،‬بالتخلف عن القتال معه‪ ،‬بل طلب منهم هذا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أذن‬
‫فقد ِ‬
‫َّ‬
‫بسبب ظروف زوجاتهم‪ ،‬فقد تخلف عنه عثمان بن عفان ‪ K‬بسبب مرض‬
‫زوجته(‪.)2‬‬
‫َّ‬
‫ليبقى بجانب زوجته‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫وأذن ألبي طلحة ‪ K‬أن يتخلف عنه في المسير‬ ‫ِ‬
‫يبقى مع أمهِّ‬‫التي كانت على وشك الوالدة(‪ .)3‬كذلك طلب من أبي أمامة أن ٰ‬
‫المريضة‪ ،‬وال يخرج معه للقتال‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬

‫((( انظر‪ :‬المستدرك على الصحيحين ‪.242-241/3‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3698‬‬
‫نظرة على‬

‫((( المرأة في العهد النبوي‪ ،‬ص ‪.163‬‬


‫‪156‬‬

‫بي !‬ ‫بي ! من هاجر إليه‪ ،‬دون إذن أبويه‪ ،‬بخاصة عندما علم الن ّ ّ‬ ‫ورد الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫ٌ‬ ‫أمه بكت لفراقه‪ ،‬وقدم على الن ّ ّ‬ ‫أن َّ‬‫َّ‬
‫رجل يطلب البيعة على الهجرة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫بي‬ ‫منه‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫وما جئتك ٰ‬
‫والدي‪ ،‬فقال‪> :‬ارجع إليهما‪ ،‬فأضحكهما كما أبكيتهما<(‪.)1‬‬ ‫حتى أبكيت‬
‫بي !‪،‬‬ ‫بي ! يواسي النساء الالتي فقدن أحد أقاربهن في قتال مع الن ّ ّ‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫ٍ‬
‫أم سليم‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫لم تخص َّ‬‫أم سليم‪ ،‬فقيل له‪َ :‬‬ ‫فقد كان يُكثر الدخول على بيت ِّ‬
‫ُ‬
‫>إني أرحمها‪ ،‬قتل أخوها معي<(‪.)2‬‬
‫رمحته ! بالبنات‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫أرحم الناس بالبنات‪ ،‬إذ اإلساءة إليهن أكثر‪ .‬ومن أشد اإلساءات‬ ‫وكان !‬
‫َ‬
‫ٰ‬
‫تعالى‪ِ﴿ :‬إَوذا ب ُ رِ َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أن بعضهم كانوا يئدون بناتهم ويضيقون بوالدتهن‪ ،‬يقول‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ش أ َح ُدهم‬
‫َ‬ ‫أۡ ُ‬
‫ُ‬ ‫ى م َِن ۡٱل َق ۡو ِم مِن ُس ٓوءِ َما ب ُ ّ رِ َ‬
‫ش بِهِۚۦٓ أ ُي ۡمسِك ُهۥ‬ ‫نث َظ َّل َو ۡج ُه ُهۥ ُم ۡس َو ّٗدا َو ُه َو َك ِظ ‪ٞ‬‬
‫يم ‪َ ٥٨‬ي َت َو ٰ َر ٰ‬ ‫بِٱل ىَ ٰ‬
‫رُّ َ َ اَ َ ٓ َ َ حَ ۡ ُ َ‬ ‫ع ُهون أَ ۡم يَ ُد ُّس ُ‬
‫يك ُمون﴾ [ا �لن�����ح�ل‪.]59-58 :‬‬ ‫اب أل ساء ما‬ ‫ِۗ‬ ‫ٱلت‬ ‫ف‬‫يِ‬ ‫ۥ‬ ‫ه‬ ‫ٍ‬ ‫لَىَ ٰ‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫التميمي إلى رسول اهلل ! فقال‪ :‬إني وأدت ثمان‬ ‫فقد جاء قيس بن عاصم‬
‫ً‬
‫واحدة رقبة<‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫بنات لي في الجاهلية‪ ،‬فقال له رسول اهلل !‪> :‬أعتق عن ِّ‬
‫كل‬
‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫واحدة بدنة<(‪.)3‬‬ ‫إبل‪ ،‬قال‪> :‬فأهد عن كل‬ ‫صاحب‬ ‫ي‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وقص عليه ما كان له مع بنته‪ ،‬حين كان يئدها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫رجل إلى الن ّ ّ‬
‫بي !‬ ‫ٌ‬ ‫وجاء‬
‫فلم يملك ! نفسه‪ ،‬وأمطرت عينه واباًل من الدموع حتى أخضلت لحيته‪.‬‬
‫روى الدارمي أن رجاًل أتى الن ّ ّ‬
‫بي ! فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إنا كنَّا أهل‬ ‫ٰ‬ ‫فقد‬
‫َّ‬
‫جاهلية وعبادة أوثان‪ ،‬فكنا نقتل األوالد‪ ،‬وكانت عندي ابنة لي فلما أجابت‪،‬‬
‫ً‬
‫وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها‪.‬‬

‫((( السيرة النبوية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،62‬الصالبي‪.‬‬


‫((( رواه مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2455‬‬
‫((( البزار‪ :‬كشف األستار رقم ‪ ،2280‬والطبرانى ‪.337/18‬‬
‫‪157‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫بئرا من أهلي غير بعيد‪ ،‬فأخذت‬ ‫حتى أتيت ً‬ ‫يوما‪ ،‬فاتبعتني‪ ،‬فمررت ٰ‬ ‫فدعوتها ً‬
‫ٰ‬ ‫ّ‬
‫فبكى رسول‬ ‫بيدها فرديت بها في البئر‪ ،‬وكان آخر عهدي بها أن تقول يا أبتاه أبتاه!‬
‫وكف دمع عينيه‪.‬‬‫َّ‬ ‫اهلل ! ٰ‬
‫حتى‬
‫>كف‬ ‫رجل من جلساء رسول اهلل !‪ :‬أحزنت رسول اهلل !‪ ،‬فقال له‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫فقال له‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫وكف‬ ‫فبكى ٰ‬
‫حتى‬ ‫ٰ‬ ‫علي حديثك<‪ ،‬فأعاده‬ ‫أهمه<‪ ،‬ثم قال له‪> :‬أعد َّ‬
‫عما َّ‬ ‫فإنَّه يسأل َّ‬
‫الدمع من عينيه على لحيته‪ ،‬ثم قال له‪> :‬إن اهلل قد وضع عن الجاهلية ما عملوا‬
‫فاستأنف عملك<(‪.)1‬‬
‫رأسا على عقب‪ ،‬وأصبح‬ ‫حتى انقلب اجملتمع ً‬ ‫بي ! في ذلك‪ٰ ،‬‬ ‫شدد الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫ٰ‬
‫اليتامى‪.‬‬ ‫الذين يئدون بناتهم يتخاصمون في تربية‬
‫بي ! دخل مكة‪> :‬اعتمر الن ّ ّ‬ ‫أن الن ّ ّ‬‫َّ‬
‫بي‬ ‫ففي حديث صلح الحديبية‪ ،‬عن البراء‬
‫َ‬
‫!‪ ...‬فأبى أهل مكة أن يَدعُوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثالثة أيام<‪.‬‬
‫ومضى األجل‪ ،‬أتوا عليّا فقالوا‪ :‬قل لصاحبك اخرج‬ ‫ٰ‬ ‫يقول البراء‪َّ :‬‬
‫>فلما دخلها‬
‫ُ‬ ‫مضى األجل‪ ،‬فخرج الن ّ ّ‬
‫ِّ‬
‫ياعم؛ فتناولها‬ ‫ِّ‬
‫ياعم‬ ‫بي ! فتبعتهم ابنة حمزة‪:‬‬ ‫ٰ‬ ‫عنَّا فقد‬
‫علي‪ ،‬فأخذها بيدها‪ ،‬وقال لفاطمة عليها السالم‪ ،‬دونك ابنة عمك فحملتها‪،‬‬
‫أحق بها وهى ابنة عمي‪ ،‬وقال‬ ‫ّ‬ ‫علي وزيد وجعفر‪ ،‬فقال علي‪ :‬أنا‬ ‫ٌّ‬ ‫فاختصم فيها‬
‫ّ‬
‫فقضى بها الن ّ‬
‫ٰ‬
‫بي !‬ ‫جعفر‪ :‬ابنة عمي وخالتها تحتي‪ ،‬وقال زيد‪ :‬ابنة أخي‪،‬‬
‫لخالتها‪ ،‬وقال‪> :‬الخالة بمنزلة األم<‪ ،‬وقال لعلي‪> :‬أنت منِّي وأنا منك<‪ ،‬وقال‬
‫ُُ‬ ‫َْ‬
‫لجعفر‪> :‬أشبهت خلقي وخلقي<‪ ،‬وقال لزيد‪> :‬أنت أخونا وموالنا<(‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وقد حرض الن ّ ّ‬
‫خاصة‪ ،‬وبشر بشارات عظيمة عليها‪.‬‬ ‫بي ! على تربية البنات‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ٌ‬
‫كثيرة ال يسع لها هذا المقام‪ ،‬منها‪ :‬قول الن ّ ّ‬ ‫ٌ‬
‫بي !‪> :‬من ابتلي‬ ‫وفى ذلك أحاديث‬
‫ّ‬

‫((( سنن الدارمي‪ ،14/1‬حديث رقم (‪.)2‬‬


‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 2699‬‬


‫‪158‬‬

‫من هذه البنات بشي ٍء ُك ّن له ً‬


‫سترا من النَّار<(‪.)1‬‬
‫حتى تبلغا‪،‬‬ ‫وعن أنس بن مالك قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬من عال جاريتين ٰ‬
‫وضم أصابعه<(‪.)2‬‬‫َّ‬ ‫جاء يوم القيامة أنا وهو‬
‫الخدري قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬من عال ثالث بناتٍ فأ َّد َّ‬
‫بهن‬ ‫ّ‬ ‫وعن أبي سعيد‬
‫إليهن فله الجنَّة<(‪.)3‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وزوجهن وأحسن‬
‫>وعن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬من كانت له ٰ‬
‫أنثى‪ ،‬فلم يئدها‪ ،‬ولم‬
‫يُهنها‪ ،‬ولم يؤثر ولده عليها ـ يعني الذكور ـ أدخله اهلل الجنَّة<(‪.)4‬‬
‫ترخيصه ! للبنات بالغناء الذي ال معصية فيه‪:‬‬
‫فعن عائشة ‪ K‬قالت‪ :‬دخل رسول اهلل !‪ ،‬وعندي جاريتان تغنيان بغناء‬
‫ّ‬
‫وحول وجهه‪ ،‬فدخل أبو بكر فانتهرني(‪ )5‬وقال‪:‬‬ ‫بُعاث‪ ،‬فاضطجع على الفراش‬
‫ُ‬
‫مزمار الشيطان عند رسول اهلل !؟ فأقبل عليه رسول اهلل ! فقال‪> :‬دعهما<‪.‬‬
‫وفي رواية فانتهرهما أبو بكر فكشف رسول اهلل ! عنه وقال‪> :‬دعهما يا أبا بكر‬
‫فإنَّها أيام عيد<(‪.)6‬‬
‫وكان يردف الجواري كذلك‪ ،‬قد أخرج محمد بن إسحاق في السيرة عن امرأة‬
‫ُ‬
‫نسوة من بني غفار‪ :‬فقلنا يا رسول اهلل!‬
‫ٍ‬ ‫من بنى غفار قالت‪ :‬أتيت رسول اهلل ! في‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 2629‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)147‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2631‬‬
‫((( سنن أبى داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5147‬قال األلباني‪< :‬ضعيف> ‪.‬‬
‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1957‬سنن أبي داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5146‬قال األلباني‪< :‬ضعيف>‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫زجرا شديدا‪.‬‬ ‫((( فانتهرني‪ :‬زجرني‬
‫((( سيرة ابن هشام ‪ ،291/3‬انظر‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ) 987‬و( ‪،) 3529‬‬
‫وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)892‬‬
‫‪159‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ٰ‬
‫الجرحى‬ ‫قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا‪ ،‬وهو يسير إلى خيبر‪ ،‬فنداوي‬
‫ُ‬
‫ونعين المسلمين بما استطعنا‪ ،‬فقال‪> :‬على بركة اهلل<‪ ،‬قالت‪ :‬فخرجنا معه‪ ،‬وكنت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حقبة رحله‪ ،‬فذكر الحديث ِبطوله(‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫جارية حديثة‪ ،‬فأردفنى رسول اهلل ! على‬
‫عنايته ! باألطفال‪:‬‬
‫بالغا بالطفولة‪ ،‬وحفظ للطفل حياتَه منذ ُّ‬ ‫ً‬
‫تكونه جنينًا‬ ‫ً‬
‫اهتماما‬ ‫أعطى اإلسالم‬ ‫ٰ‬
‫صغيرا‪ ،‬وحظر على الوالدين أن يهمال تربيته ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأواله الرعاية والعناية‬
‫كبيرا من المواقف والقصص واألحداث التي‬ ‫وقد ترك لنا رسولنا الكريم إرثًا ً‬
‫قص ًرا بعيدين عن إدراك ما يحدث‬ ‫تعلمنا التعامل مع األطفال‪ ،‬وعدم اعتبارهم ّ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫حولهم من أمور‪ ،‬والباحث في هذا اإلرث يجد مدرسة متكاملة المناهج‪ ،‬ثابتة‬
‫المبادئ‪ ،‬راسخة األصول في التربية والتنشئة الصالحة‪.‬‬
‫َ‬ ‫فقد كان الن َّ ُّ‬
‫بي ! شديد االهتمام باألطفال؛ ولذلك فقد دعا إلى تأديبهم‪،‬‬
‫َّ‬
‫وغرس األخالق الكريمة في نفوسهم‪ ،‬وحث على رحمتهم والشفقة عليهم‪ ،‬فقال‬
‫كبيرنا‪ ،‬فليس منَّا< (‪.)2‬‬ ‫!‪> :‬من لم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫قَّ‬‫ح‬ ‫نا‪،‬ويعرف‬ ‫صغير‬ ‫يرحم‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وعلو منزلته‪ ،‬هو الذي يبدأ بالسالم‬ ‫ولقد كان ! على عظيم قدره‪،‬‬
‫ُّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ورفقا بهم‪ ،‬وتلطفا معهم‪ ،‬وإلشعارهم بمكانتهم وإعطائهم‬ ‫على األطفال حبا لهم‪ِ ،‬‬
‫وأثنى عليهم‪ ،‬كما فعل مع ابن عمر‪.)3( R‬‬ ‫ٰ‬ ‫الثقة بأنفسهم‪ ،‬وقد مدحهم‬
‫وقد كان ال يكثر عتابهم‪ ،‬ويعذرهم ويرفق بهم؛ كما فعل مع أنس بن مالك‬
‫ً‬
‫‪ .K‬وكان ال يأنف من األكل معهم‪ ،‬ومع ذلك لو رأى منهم مخالفة لألدب‪،‬‬
‫نصحهم وأمرهم بما يصلحهم ‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬

‫((( سيرة ابن اسحاق ص‪.313‬‬


‫((( رواه أبو داود‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4943‬قال األلباني‪< :‬صحيح> ‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬حديث رقم (‪.)3741-3740‬‬


‫‪160‬‬

‫رأى منه‬‫لما ٰ‬ ‫فقد نصح عمر بن أبي سلمة بآداب الطعام بلين ورفق ورحمة‪َّ ،‬‬
‫ُْ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫مخالفة األدب(‪ ،)1‬وكان يوصيهم بالخير‪ ،‬ويعلمهم التوحيد والدين‪ ،‬فلم يكن ِرفقه‬
‫ٰ‬
‫أوصى‬ ‫بمانعة له من نصحهم وإرشادهم وإصالحهم‪ ،‬فقد‬‫ٍ‬ ‫وشفقته العظيمة عليهم‬
‫ابن عباس ‪ R‬فقال له‪> :‬احفظ اهلل يحفظك‪ ...‬إذا سألت فاسأل اهلل‪.)2(<...‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫وكل هذا االهتمام منه ! باألطفال‪ ،‬جاء لعلمه بأنهم في أشد الحاجة‬
‫إلى الرعاية والعطف والحنو أكثر من غيرهم‪ ،‬وذلك لتنمية ثقة الطفل بنفسه‬
‫ً َ‬ ‫ُ ً‬ ‫ًَ‬
‫عضوا ف َّعااًل‬ ‫حتى ينشأ قويًا ثابت الشخصيَّة‪َ ،‬م ِرحا عَطوفا على غيره‪،‬‬ ‫ٰ‬
‫مجتمع ِه(‪.)3‬‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫بعضا من النماذج الجليّة‪ ،‬والمواقف الشريفة‪ ،‬واألساليب الحكيمة‬ ‫ً‬ ‫وسنورد‬
‫بي ! مع األطفال‪ ،‬وكيف كان تواضعه‪ ،‬وحبُّه لهم‪ ،‬ورحمته بهم‪،‬‬ ‫من تعامل الن َّ ّ‬
‫َّ‬
‫الت ِّ‬ ‫ِّ‬
‫أسي بقدوتنا‬ ‫وشفقته عليهم‪ ،‬والغرض من ذلك تحفيز القلوب‪ ،‬وحثها على‬
‫وأتم التسليم ـ‪ ،‬فمن تلك النماذج‬ ‫ُّ‬ ‫وإمامنا محمد بن عبد اهلل ـ عليه أفضل الصالة‬
‫المشرقة ما يلي‪:‬‬
‫تربيكه ! على األطفال وحتني ُكهم والدعا ُء هلم‪:‬‬
‫برك عليهم‪ ،‬ويحنِّكهم‪ ،‬ويدعو لهم‪،‬‬
‫يؤتى بالصبيان‪ ،‬فيُ ّ‬
‫ٰ‬ ‫بي !‬‫كان الن ّ ّ‬
‫فعن عائشة ‪ I‬قالت‪> :‬كان رسول اهلل ! ي ُ ٰ‬
‫ؤتى بالصبيان‪ِّ ،‬‬
‫فيبرك عليهم‪،‬‬
‫ُ‬
‫ويُحنِّكهم‪ ،‬ويدعو لهم<(‪.)4‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬كتاب األطعمة‪ ،‬حديث رقم (‪.)5376‬‬


‫((( أخرجه الترمذي‪ ،‬كتاب صفة القيامة‪ ،‬باب (‪ ،)59‬حديث رقم (‪ ،)2516‬قال األلباني‪< :‬صحيح> ‪.‬‬
‫((( راجع <مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين من منظور التربية اإلسالمية>‪ ،‬ص (‪-123‬‬
‫‪ )124‬لصالح بن سليمان المطلق‪.‬‬
‫((( أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب الدعوات (‪ ،)155/11‬حديث رقم (‪.)6355‬‬
‫‪161‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ًّ‬ ‫عن عائشة >أن الن ّ ّ‬


‫بي ! وضع صبيا في حجره يحنِّكه‪ ،‬فبال عليه‪ ،‬فدعا بماء‬
‫فأتبعه<(‪.)1‬‬
‫يقول ابن حجر ـ رحمه اهلل ـ في الفتح‪ :‬ومن فوائد هذا الحديث‪ < :‬الرفق‬
‫باألطفال‪ ،‬والصبر على ما يحدث منهم‪ ،‬وعدم مؤاخذتهم‪ ،‬لعدم تكليفهم > (‪.)2‬‬
‫ُ‬
‫وعن أنس قال‪ :‬ذهبت بعبد اهلل بن أبي طلحة األنصاري إلى رسول اهلل !‬
‫بعيرا له فقال‪> :‬هل معك تمر؟< فقلت‪:‬‬ ‫حين ولد‪ ،‬ورسول اهلل ! في عباءة ي َ ْهنَأ ُ ً‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫فمجه في فيه‪،‬‬ ‫تمرات‪ ،‬فألقاهن في فيه‪ ،‬فالكهن ثم فغر فا الصبي ِ‬ ‫نعم‪ .‬فناولته‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ َّ‬
‫وسماه عبداهلل(‪.)3‬‬ ‫األنصار التمر<‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫>ح ُّ‬‫فجعل الصبي يتلمظه‪ ،‬فقال رسول اهلل !‪ِ :‬‬
‫وعن أنس قال‪ :‬غدوت إلى رسول اهلل ! بعبد اهلل بن أبي طلحة ليحنِّكه‪،‬‬
‫فوافيته في يده الميسم‪ ،‬ي َ ِس ُم إبل الصدقة(‪.)4‬‬
‫واملسح على رؤوسهم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سال ُم ُه ! على األطفال‪،‬‬
‫ِّ‬
‫عن أنس ‪ K‬قال‪ :‬كان رسول اهلل ! يزور األنصار‪ ،‬ويُسلم على صبيانهم‬
‫ويمسح على رؤوسهم(‪.)5‬‬
‫ُّ‬
‫وعن عبد اهلل بن جعفر ‪ R‬قال‪ :‬مسح رسول اهلل ! بيده على رأسي‪ ،‬قال‪ :‬أظنه‬
‫ً‬
‫جعفرا في ولده<(‪ ..)6‬وقال الذهبي‪ :‬صحيح‪.‬‬
‫ً‬ ‫قال ثالثا‪ ،‬فلما مسح قال‪> :‬اللهم اخلف‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 6002‬‬


‫((( فتح الباري (‪.)434/10‬‬
‫((( رواه مسلم‪ ،‬كتاب اآلداب‪ ،‬باب استحباب تحنيك المولود عند والدته وحمله (‪،)1689/3‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫حديث رقم (‪.)2114‬‬


‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬كتاب الزكاة (‪ ،)366/3‬حديث رقم (‪.)1502‬‬


‫((( رواه النسائي وابن حبان وصححه األلباني‪ ،‬انظر‪ :‬صحيح الجامع‪ ،‬حديث رقم (‪.)4947‬‬
‫نظرة على‬

‫((( أخرجه الحاكم في المستدرك (‪.)372/1‬‬


‫‪162‬‬

‫وعن مصعب بن عبد اهلل قال‪ :‬عبد اهلل بن ثعلبة ولد قبل الهجرة بأربع سنين‪،‬‬
‫ُ َ‬
‫وح ِمل إلى رسول اهلل ! فمسح وجهه‪ ،‬وبرك عليه عام الفتح‪ ،‬وتوفي الرسول !‬
‫شع ُر هؤالء‬‫ُ‬ ‫َّ ّ‬
‫وهو ابن أربع عشرة ‪ .‬ومن هذه األحاديث نعرف كيف كان النبي ! ي ِ‬
‫(‪)1‬‬

‫والحب والعطف‪ ،‬وذلك بالمسح على رؤوسهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الصغار بلذة الرحمة والحنان‪،‬‬
‫ِّ‬
‫وحب الكبار له‪ ،‬واهتمامهم به‪.‬‬ ‫ُ‬
‫األمر الذي يشعر الطفل بوجوده‪،‬‬
‫ٰ‬
‫األولى‪ ،‬ثم خرج‬ ‫وعن جابر بن سمرة قال‪ :‬صليت مع الرسول ! صالة‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫إلى أهله‪ ،‬وخرجت معه‪ ،‬فاستقبله ولدان‪ ،‬فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫فوجدت َلي ِدهِ بردا أو ريحا‪ ،‬كأنما‬ ‫واحدا‪ ،‬قال‪ :‬وأما أنا فمسح خدي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫عطار(‪.)2‬‬
‫ٍ‬ ‫ؤنة‬
‫أخرجها من ج ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫مان يلعبون فسلم‬ ‫ٰ‬
‫عن أنس بن مالك ‪ K‬قال‪ :‬أتى رسول اهلل ! على ِغ ٍ‬
‫ل‬
‫عليهم(‪.)3‬‬
‫ُ‬
‫لقد كان ! بهذا األسلوب يُدخل السرور والفرح إلى نفوس هؤالء الناشئة‪،‬‬
‫ُّ‬
‫التعود على محادثة الكبار‪ ،‬واألخذ والعطاء معهم‪،‬‬ ‫ويعطيهم الدفعة المعنوية في‬
‫حكمته !‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وهذا من‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫غالم في الغلمان‪ ،‬فسلم‬ ‫ٰ‬
‫انتهى إلينا رسول اهلل !‪ ،‬وأنا‬ ‫أنس قال‪:‬‬ ‫وعن‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫جدار ـ أو قال إلى جدار ـ‬
‫ٍ‬ ‫علينا‪ ،‬ثم أخذ بيدي فأرسلني برسالة‪ ،‬وقعد في ظل‬
‫ٰ‬
‫حتى رجعت إليه(‪.)4‬‬

‫((( رواه الحاكم في المستدرك (‪.)279/3‬‬


‫((( رواه مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل (‪ ،)1814/4‬حديث رقم (‪.)2329‬‬
‫((( رواه أبو داود كتاب األدب‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5202‬قال األلباني‪ < :‬صحيح >‪.‬‬
‫((( رواه أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5203‬وصححه األلباني في صحيح أبي داود‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪.)4335‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪163 Z‬‬
‫ّ‬

‫مداعبته ! الصغار ومالطفتهم‪:‬‬


‫عن أنس ‪ K‬قال‪ :‬كان رسول اهلل ! يالعب زينب بنت ِّ‬
‫أم سلمة ويقول‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ً(‪)1‬‬
‫>يا زوينب‪ ،‬يا زوينب< مرارا ‪.‬‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫فيرى‬ ‫وعن أبي هريرة ‪ K‬قال‪ :‬كان الرسول ! َليدلع لسانه للحسين بن علي‪،‬‬
‫ُ‬
‫فيبهش إليه‪ ،‬أي يسرع إليه(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫حمرة لسانه‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫الصبي‬
‫ُ‬
‫وروى الطبراني عن جابر ‪ K‬قال‪ :‬كنَّا مع رسول اهلل ! فدعينا إلى الطعام‪،‬‬
‫َ‬ ‫بي ! أمام القوم‪َّ ،‬‬ ‫الحسين يلعب في الطريق مع صبيان‪ ،‬فأسرع الن َّ ُّ‬ ‫ُ‬
‫ثم بسط يده‬ ‫ٍ‬ ‫فإذا‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فجعل ـ الغالم ـ ُّ‬
‫حتى أخذه فجعل‬ ‫يفر ها هنا وهناك‪ ،‬فيضاحكه رسول اهلل !‪ٰ ،‬‬
‫ثم قال‪> :‬حسين‬
‫ٌ‬ ‫واألخرى بين رأسه وأذنيه‪ ،‬ثم اعتنقه وقبّله‪َّ ،‬‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬
‫إحدى يديه في ذقنه‪،‬‬
‫أحب اهلل من أح َّبه‪ ،‬الحسن والحسين سبطان من األسباط<(‪.)3‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َّ‬ ‫منِّي وأنا منه‪،‬‬
‫وروى البخاري في األدب المفرد والطبراني عن أبي هريرة ‪ K‬قال‪ :‬سمعت‬ ‫ٰ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جميعا‪ ،‬بكفي الحسن‬ ‫أذناي هاتان وبصرت عيناي هاتان‪ ،‬والرسول ! أخذ بيديه‬
‫>ارقه< قال‪ٰ :‬‬
‫فرقى‬ ‫والحسين‪ ،‬وقدميه على قدم رسول اهلل !‪ ،‬والرسول ! يقول‪ْ :‬‬
‫حتى وضع قدميه على صدر الرسول ! ثم قال الرسول !‪> :‬افتح فاك<‪،‬‬ ‫الغالم‪ٰ ،‬‬
‫ثم قبَّله‪ ،‬ثم قال‪> :‬اللهم إنِّي أحبّه فأ ِح َّبه<(‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬

‫ُ‬
‫مرة محمود بن الريبع‪ ،‬وهو ابن خمس سنين‪،‬‬ ‫وقد وقف بين يديه ذات ٍ‬
‫َّ ً‬ ‫َّ‬
‫دلو يمازحه بها‪ ،‬فكان ذلك من البركة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫من‬ ‫ماء‪،‬‬ ‫من‬ ‫ة‬ ‫مج‬ ‫وجهه‬ ‫في‬ ‫!‬ ‫فمج‬

‫((( رواه الضياء المقدسي‪ ،‬وصححه األلباني في الصحيحة رقم (‪.)2141‬‬


‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( رواه أبو الشيخ في كتاب >أخالق الن َّ ّ‬


‫بي ! وآدابه<‪ ،‬وحسنه األلباني في السلسلة الصحيحة‪،‬‬
‫ّ‬

‫رقم (‪.)70‬‬
‫((( الطبراني في الكبير‪ ) 2586 ( ،32/3‬وانظر تخريجه الكامل فيه‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( اللفظ األخير في البخاري‪ ،‬كتاب المناقب (‪ ،)94/7‬حديث رقم (‪.)3749‬‬


‫‪164‬‬

‫فعد بها من‬


‫ُ َّ‬ ‫َّ‬
‫اجملة‪،‬‬ ‫بي إال تلك‬‫لما كبر لم يبق في ذهنه من ذكر رؤية الن َّ ّ‬ ‫أنَّه َّ‬
‫الصحابة(‪. )1‬‬
‫مغتسله‪ ،‬فنضح الماء في‬ ‫َ‬ ‫أم سلمة‪ ،‬وهو في‬ ‫ودخلت عليه ربيبتُه زينب بنت ِّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫البركة في وجهها أنه لم يتغير‪ ،‬فكان ماء ُ الشباب ثابتا‬ ‫وجهها‪ ،‬فكان في ذلك من‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫ظاهرا في رونقها‪ ،‬وهي عجوز كبيرة(‪. )2‬‬ ‫في وجهها‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫صغير‪ ،‬وكان‬ ‫وعن أنس قال‪ :‬كان رسول اهلل ! يدخل علينا‪ ،‬وكان لي أخ‬
‫ُ‬
‫بي ! ذات يوم فرآه حزينًا فقال‪> :‬ما شأن أبي‬ ‫له ن ُ َغ ٌر نلعب به‪ ،‬فمات‪ ،‬فدخل الن ّ ّ‬
‫َُ‬ ‫ً‬
‫عمير حزينا؟< فقالوا‪ :‬مات نغ ُره الذي كان يلعب به يا رسول اهلل‪ ،‬فقال‪> :‬يا أبا عمير‬
‫ما فعل النغير؟ أبا عمير ما فعل النغير؟<(‪. )3‬‬
‫َّ‬
‫قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه اهلل ـ في الفتح‪ < :‬إن هذا الحديث فيه جواز‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ِّ‬
‫الصبي الذي‬ ‫الممازحة وتكرير المزاح‪ ،‬وأنها إباحة سن َّ ٍة ال ُرخصة‪ ،‬وأن ممازحة‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫جائز؛ وتكرير زيارة الممزوح معه‪ ،‬وفيه ترك التكبُّر والترفع‪ ،‬ومنه التلطف‬ ‫لم يميز‬
‫كبيرا‪ ،‬والسؤال عن حاله > (‪.)4‬‬ ‫صغيرا كان أو ً‬
‫ً‬ ‫بالصديق‪،‬‬
‫ُ‬
‫الكثير‪ ،‬فمنها‪:‬‬ ‫وفي هذا الحديث من الفوائد التربوية الشيءُ‬

‫كثرة‬ ‫َّ ُ‬
‫على الرغم من حجم الدعوة التي يقوم بها الرسول !‪ ،‬ورغم ِ‬ ‫‪1‬‬
‫وتربية‬
‫ٍ‬ ‫عبادة‬
‫ٍ‬ ‫المشاغل التي تواجهه‪ ،‬واألعمال التي يقوم بها‪ :‬من‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫اإلسالمية إال أنه جعل له وقتا‪ ،‬لتربية‬
‫ِ‬ ‫وجهاد وتسيير أمور الدولة‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫مكسبا تربويا‪.‬‬ ‫أطفال المسلمين‪ ،‬وهذا الوقت المستقطع يعتبر بحد ذاته‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬كتاب العلم رقم (‪.)77‬‬


‫((( راجع >المواهب اللدنية بالمنح المحمدية< (‪.)354/2‬‬
‫((( مسند أحمد (‪ ،)14071‬قال مخرجوه‪< :‬إسناده صحيح على شرط مسلم‪ ،> ...‬وأخرجه‬
‫البخاري في األدب المفرد (‪ ،)847‬وأبو داوود (‪ ،)4969‬وغيرهم‪ ،‬قال األلباني‪< :‬صحيح> ‪.‬‬
‫((( فتح الباري (‪.)584/10‬‬
‫‪165‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َ‬ ‫الر ُ‬ ‫ُ‬


‫استخدام َّ‬
‫أسلوب التكنية للطفل الصغير‪ ،‬فقال له‪:‬‬ ‫سول !‬ ‫‪2‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ومحترم من الكبار؛‬ ‫يا أبا عُمير!‪ ،‬وهذه التكنية تشعره‪ :‬بأنه مقد ٌر‬
‫ُّ‬
‫فيتطلع إلى معالي األمور‪.‬‬

‫عظيمة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫تربوية‬
‫ٍ‬ ‫تضمنت عبارته توجيهاتٍ‬ ‫‪3‬‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫‪P P‬العبارة قصيرة من حيث عدد الكلمات؛ حيث كان عدد الكلمات ست‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫لسن الصغير‪.‬‬ ‫كلمات وعدد أحرفها اثني عشر‪ ،‬وتلك الكلمات مناسبة‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫‪P P‬الجملة سهلة النطق‪ ،‬وخالية من الكلمات الصعبة‪ ،‬فمن السهل أن ينطق‬
‫ُّ‬
‫الصغير بها؛ يا‪ ..‬أبا‪ ..‬عُمير‪ ..‬ما‪ ..‬فعل‪ ..‬النغير‪...‬‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫معروف؛ من اإلمكان أن يستوعبها‬ ‫‪P P‬الجملة سهلة االستيعاب‪ ،‬ومضمونها‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويعرف مضمونها‪.‬‬ ‫الطفل‬
‫والسجع محبَّ ٌ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ب لنفس الطفل‪،‬‬ ‫لوجود السجع‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الحفظ‪،‬‬ ‫سهلة‬ ‫‪P P‬الجملة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وضحكة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بابتسامة‬
‫ٍ‬ ‫ويستجيب له استجابة تلقائية‪ ،‬يعبر عنها‬
‫َ‬ ‫ٌ َ‬ ‫ُ‬
‫‪P P‬فواصل الجملة مناسبة لنَفس الطفل؛ نالحظ في الجملة أن فواصلها‬
‫ِّ ُ‬
‫مناسبة للوقت الزمني الذي يردده الطفل‪ ،‬فالجملة تبدأ‪ :‬يا أبا عمير! هذا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫المقدار مناسب لنَفسِ الطفل‪ .‬ما فعل النغير‪ ،‬هذا المقدار مناسب لنَفس‬
‫ُ‬
‫الطفل‪ .‬بداية الجملة‪ :‬نداء ـ سكتة ـ استراحة ـ استفهام أغلقت الجملة‪.‬‬
‫يا أبا عمير ما فعل النغير؟!‬
‫ِّ‬ ‫ٰ‬ ‫‪P P‬تَنَ ُّزل َّ‬
‫الر ُ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫العقلي للطفل (أبا عمير)‪ ،‬وهذا من شأنه‬ ‫المستوى‬ ‫سول ! إلى‬


‫ً‬
‫السرور في نفس الطفل وأهله‪ ،‬ويُعتبر ذلك سلوكا تربويًا ودعويًا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫إدخال‬
‫ّ‬

‫ثمر التفاعل بين‬ ‫وأيضا ي ُ ُ‬‫ً‬ ‫حيث تزداد محبَّة أهل الطفل لرسول اهلل !‪،‬‬
‫الر ُ‬
‫َّ‬
‫نظرة على‬

‫سول ! والطفل ‪.‬‬


‫‪166‬‬

‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫ولعل من األمراض النفسيَّة التي تصيب الشباب‪ ،‬ولها امتداد إلى أيَّام‬
‫ُّ‬
‫طفولتهم‪ ،‬حرمانهم من عطف والديهم فيصابون بأمراض‪ :‬كاالنطواء‪ ،‬التوحد‪،‬‬
‫الغيرة‪ ،‬التبرير‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫يكبر (أبو عمير) ويعلم بأن رسول اهلل ! قد داعبه‪ ،‬فإن ذلك‬ ‫‪P P‬عندما‬
‫ِّ‬
‫يدعو إلى ازدياد محبَّته لرسول اهلل !‪ ،‬ومنها تتهيَّأ نفسه لتلقي الجوانب‬
‫التربوية‪ ،‬والعبادية‪ ،‬والجهادية من الرسول !‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٌ‬
‫مدرس‪ ،‬وهو بال شك‬ ‫وهذا ما وجدناه في وقتنا الحاضر عندما يقوم بتعليمنا‬
‫َ َ‬
‫يحب التالميذ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وخاصة عندما يكون د ِمث األخالق متديِّنًا‬
‫َّ‬ ‫سيترك ً‬
‫أثرا في نفوسنا‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ويقدرهم ويشجعهم على تلقي العلوم‪ ،‬وعندما نراه بعد عدة سنوات؛ فإننا نقدره‬
‫ونود خدمته‪ ،‬وذلك ناتج عن جذور العالقة السابقة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ونحترمه‬
‫ً‬
‫قلبيا وفكريًا‪ ،‬لعدة سنوات‪،‬‬
‫مستمرة ً‬ ‫ِّ‬
‫المدرس والتلميذ‬ ‫ولهذا ٰ‬
‫تبقى العالقة بين‬
‫جسر المحبَّة واأللفة(‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫لوجود‬
‫رمحته ! باألطفال‪:‬‬
‫رحيما ليّن الجانب(‪ )2‬وما أبلغ ما قاله أنس بن مالك وهو يصف‬ ‫ً‬ ‫كان الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫هلل<(‪.)3‬‬ ‫ا‬ ‫ول‬‫س‬‫ان أ َ ْر َح َم ب ْالع َيال م ْن َر ُ‬
‫َ َ َْ ُ َ َ ً َ َ‬
‫رحمة رسول اهلل باألطفال‪> :‬ما رأيت أحدا ك‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫َ َ ْ َ ُ ًّ‬ ‫َّ‬
‫ب حقا من رؤية مواقف رحمته باألطفال‪ ،‬ويزداد العجب‬ ‫وإن اإلنسان ليعج‬
‫عاتقه‪ ،‬وهو يُدير الدولة‪ ،‬ويقود‬ ‫ِ‬ ‫عندما تنظر إلى حجم المسئوليات الملقاة على‬

‫الر ُ‬
‫سول في التربية دراسة تحليلية< لنجيب خالد العامر‪ ،‬ص(‪ )96‬وما‬ ‫((( راجع >من أساليب َّ‬
‫بعدها‪.‬‬
‫((( كارين آرمسترونج >سيرة الن ّ ّ‬
‫بي محمد ‪ -‬كتاب سطور< ‪ ،1998‬ترجمة‪ :‬فاطمة نصر‪،‬‬
‫محمد عناني‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ :‬كتاب الفضائل‪ ،‬حديث رقم (‪.)2316‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪167 Z‬‬
‫ّ‬

‫ويتفاوض مع الوفود‪ ،‬ويتعامل مع األصحاب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الجيوش‪ ،‬ويحكم بين الناس‪،‬‬


‫َّ‬
‫كل صغيرة وكبيرة في حياة المسلمين‪ ،‬ويتلق ٰى الوحي من ِّ‬ ‫ِّ‬
‫رب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ويشرف على‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫العالمين‪ ،‬ويصل به إلى كل من يستطيع‪ٰ ،‬‬
‫حتى يرسل الرسائل إلى ملوك العالم‪،‬‬
‫وزعمائه‪ ،‬يدعوهم إلى اإلسالم!!‬
‫إن العجب يزداد ويزداد ٰ‬ ‫َّ‬
‫حتى يبلغ الذروة‪ ،‬عندما تعلم أن رحمته هذه‬ ‫ثم‬
‫َّ‬ ‫ًّ‬
‫كانت في بيئة‪ ،‬ليس فيها حقا لصغير‪ ،‬بل يعتبرون أن رحمة الصغير لون من ألوان‬
‫َّ‬
‫الضعف غير مقبول‪ ،‬حتى يفتخر الرجل بأنه ال يرحم أبناءه!‪.‬‬
‫َّ‬
‫حابس‪ ،‬فقال األقرع‪ :‬إن لي‬ ‫بن‬
‫ُ‬
‫األقرع‬ ‫وعنده‬ ‫علي‪،‬‬ ‫بن‬ ‫الحسن‬ ‫َقبَّل الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫!‬
‫ً‬
‫عشرة من الولد‪ ،‬ما قبَّلت منهم أحدا‪ ،‬فنظر إليه رسول اهلل فقال‪> :‬من ال يرحم‬
‫َ‬
‫ال يُرحم<(‪.)1‬‬
‫القلب ويتحجر‪ٰ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َّ‬ ‫َّ‬
‫حتى‬ ‫يقسو‬ ‫يظن‪ :‬أنه من الرجولة والفحولة أن‬ ‫إن األقرع كان‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫صغيرا‪ ،‬وال يُقبِّل طفاًل‪ ،‬لكن رسول اهلل َرد عليه بالرد المفحم‪ ،‬ولم يكن‬
‫ً‬ ‫ال يرحم‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬
‫خاصا بموقفه فقط‪ ،‬بل أسس لقاعدة من القواعد اإلسالمية الثابتة‪ ..‬إنه قال له‬ ‫ردا‬
‫في إيجاز‪> :‬من ال يَرحم ال يُرحم!<‪.‬‬
‫َ‬

‫طفل‪ ،‬وال على ألمه‪ ..‬يروي‬


‫ٍ‬ ‫لقد كان رسول اهلل ! ال يصبر على بكاء‬
‫بنت رسول اهلل‪،‬‬ ‫ٌ َُ َ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫أبو قتادة >أن رسول اهلل كان يصلي‪ ،‬وهو حامل أمامة بنت زينب ِ‬
‫فإذا سجد وضعها‪ ،‬وإذا قام حملها<(‪.)2‬‬
‫َّ‬
‫إنه هنا في أعظم شعائر اإلسالم‪ ،‬وهي الصالة‪ ،‬ومع ذلك فهو ال يصبر‬
‫امة حفيدته‪ ،‬فيحملها حتى في أثناء الصالة!! ‪.‬‬ ‫على بكاء الطفلة أ ُ َم َ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ُ‬
‫تجعله يطيل أو ي ُ ِّ‬ ‫َّ‬
‫قصر من صالته‪ ،‬بحسب ما يريح األطفال‪،‬‬ ‫بل إن رحمته كانت‬
‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري كتاب األدب‪ ،‬حديث رقم (‪.)5997‬‬


‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب أبواب سترة المصلي‪ ،‬حديث رقم (‪.)516‬‬
‫‪168‬‬

‫موقف عجيب‪ ،‬يطيل السجود في صالة الجماعة على غير عادته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فنحن نراه في‬
‫ً‬ ‫وذلك ٰ‬
‫حتى ال يزعج طفال!(‪ .)1‬وعلى النقيض من هذا نجده يسرع في صالته‬
‫أخرى لكي يرحم طفاًل آخر(‪.)2‬‬ ‫ٰ‬ ‫في ظروف‬
‫ُّ‬
‫ت وال تشد ٍد ـ صالته وصالة المسلمين‪ ،‬لكي‬
‫ُّ‬
‫تعن‬ ‫بال‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ها هو رسول اهلل ي ُ َكيِّ‬
‫ٍ‬
‫َّ‬
‫يرحم الطفل الصغير‪ ،‬وكذلك ليرحم أمه! ‪.‬‬
‫أخرى من السيرة تجد رسول اهلل يفرغ من أوقاته ليلعب‬ ‫ٰ‬ ‫وفي مواقف‬
‫قعدني‬ ‫ُ‬
‫مع األطفال‪ ،‬فهذا أسامة بن زيد يروي‪ ،‬فيقول‪ :‬كان رسول اهلل يأخذني‪ ،‬في ِ‬
‫الحسن على فخذه اآلخر‪ ،‬ثم يضمهما‪ ،‬ثم يقول‪> :‬اللَّ ُه َّم‬ ‫َ‬ ‫قعد‬ ‫ُ‬
‫على فخذه وي َ ِ‬
‫ْارح ْم ُه َما ف ِإنِّي أ ْرح ُم ُه َما<(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫َّ ً‬ ‫ً‬
‫خاصة لرعاية البنات‪ ،‬وذلك لعلمه أن قلوب‬ ‫وكان رسول اهلل يولي أهميَّة‬
‫َّ ً‬
‫وخاصة في هذه البيئة العربية‪ ،‬فكان‬ ‫بشكل أكبر للذكور من األوالد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الناس تميل‬
‫ُ‬ ‫ِّ َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ ِّ‬
‫ال َجاري َ َت ْين َح َّت ٰى تَ ْبل َغا َجاءَ‬ ‫اهلل‪:‬‬ ‫رسول‬ ‫قال‬ ‫‪..‬‬ ‫يهن‬ ‫يرب‬ ‫الذي‬ ‫أجر‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫جد‬ ‫م‬ ‫عظ‬ ‫ي‬
‫َ ْ َ َ‬
‫ع‬ ‫ن‬ ‫>م‬
‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ص ِاب َع ُه<(‪.)4‬‬ ‫ضم أ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫يوم ال ِق َيام ِة أنا وهو و َّ‬
‫ٌ َ ُُ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫يوم أح ٍد‬ ‫وكان من رحمته باألطفال أنه ال يكلفهم ما ال يطيقون‪ ،‬وقد جاءه أطفال‬
‫َ َّ‬
‫فردهم لصغر سنِّهم‪ ،‬وكان منهم عبد اهلل بن عمر بن‬ ‫يريدون الخروج معه للقتال‪،‬‬
‫الخطاب‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وأسيد بن ظهير‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وزيد بن أرقم‪ ،‬وعرابة بن‬
‫أوس‪ ،‬وعمرو بن حزم‪ ،‬وأبو سعيد الخدري‪ ،‬وسعد بن حبة‪ ،‬وغيرهم(‪.)5‬‬

‫((( النسائي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1141‬قال األلباني‪ < :‬صحيح > ‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب األذان‪ ،‬حديث رقم (‪.)709‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب األدب‪ ،‬حديث رقم (‪.)6003‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ :‬كتاب البر والصلة واألدب‪ ،‬حديث رقم (‪.)2631‬‬
‫((( المباركفوري‪ :‬الرحيق المختوم ص‪.228‬‬
‫‪169‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫وقارن هذا باألعداد الهائلة من األطفال الذين يستخدمون اآلن في الحروب‬


‫َّ‬ ‫َّ‬
‫كثيرة من العالم‪ ..‬فقد ذكرت هيئة األمم المتحدة أن هناك أكثر من ثالثمائة‬
‫ٍ‬ ‫بقاع‬
‫في ٍ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫طفل مجن ٍد في عشرين دولة‪ ،‬يمارسون القتال باإلكراه(‪.)1‬‬
‫ٍ‬ ‫ألف‬
‫رمحته ! باأليتام‪:‬‬
‫َّ َّ‬ ‫وإذا كانت ُّ‬
‫كل هذه الرحمة بعموم األطفال‪ ،‬فال شك أن رعايته لألطفال‬
‫ٰ‬ ‫ّ‬ ‫ٰ‬
‫اليتامى‪..‬‬ ‫اليتامى كانت أعظم وأشد‪..‬فمن أقواله‪ ،‬وهو يشجع المسلمين على رعاية‬
‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫السبَّابَ ِة َوال ُوسط ٰى<(‪.)2‬‬ ‫صبُ َع ْيه َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الي ِتيمِ ِفي الجنَّ ِة هكذا وقال‪ِ :‬بأ‬ ‫قال‪> :‬أنا وكاف ُل َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يما بَ ْي َن أبَ َويْن ُم ْس ِل َم ْين ِإلى ط َع ِام ِه َوش َر ِاب ِه‪ ،‬ح َّت ٰى ي َ ْستغ ِن َي‬‫ضم يَت ً‬ ‫>م ْن َ‬ ‫وقال ً‬
‫أيضا‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ْ َ ْ َ ُ ْ َ‬
‫عَن ُه َو َج َبت ل ُه الجنَّة ال َب َّتة<(‪.)3‬‬
‫ْ‬
‫ّ‬
‫اليتامى‪ ،‬أو استغالل ضعفهم‪ ،‬وأكل أموالهم‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫وقد حذر رسول اهلل ! من ظلم‬
‫َ َ ُ َّ َ َ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ ْ ُ َ‬ ‫ً‬
‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫؟‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ا‬‫م‬ ‫و‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫ول‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫وا‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫‪،‬‬ ‫‪:‬‬ ‫قائال‬
‫ْ ُ‬ ‫>اج َتنبُ‬ ‫ْ‬
‫اهلل‬
‫ْ ِ ِ‬‫ب‬ ‫ك‬ ‫ِّر‬‫ش‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات‬ ‫ق‬ ‫وب‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫الس‬
‫َّ‬ ‫وا‬ ‫ِ‬
‫ال ال َي ِتيمِ‪،‬‬ ‫َوالس ْح ُر‪َ ،‬و َق ْت ُل النَّ ْفس ا َّلتي َحر َم اهللُ إال ب ْال َحق‪َ ،‬وأ َ ْك ُل الربَا‪َ ،‬وأ َ ْك ُل َ‬
‫م‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ َ ِْ ْ َّ ْ ِ ِ‬ ‫ِّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ف‪ ،‬وقذف المحصناتِ المؤ ِمناتِ الغ ِافالتِ<(‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وال َّتو ِّلي يوم الزَّ ح ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫وخشية على مال اليتيم أن تأكله الزكاة‪ ،‬أو يقل نتيجة اختالف القيمة مع مرور‬
‫ً‬
‫الزمان‪ ،‬نبَّه‬
‫َْ ُ ْ َ َ ُ ُ‬ ‫يما َل ُه َم ٌ‬ ‫قائال‪> :‬أال َم ْن َول َي يَت ً‬
‫تى تأكله‬ ‫ال‪ ،‬فَلي َّتجر ِفيه‪ ،‬وال يتركه ح ٰ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ََُ‬
‫الصدقة<(‪.)5‬‬

‫((( تقرير الحالة االجتماعية الصادر عن األمم المتحدة ‪ ،2005‬ص‪.121‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب األدب‪ ،‬حديث رقم (‪.)6005‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)19025‬‬


‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب الوصايا‪ ،‬حديث رقم (‪.)2766‬‬


‫َّ‬
‫((( الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)641‬وقال‪< :‬في إسناده مقال‪ ،‬ألن المثنى بن الصباح يضعف‬
‫نظرة على‬

‫الحديث>‪ ،‬قال األلباني‪< :‬ضعيف> ‪.‬‬


‫‪170‬‬

‫رمحته ! باملصابني‪:‬‬
‫قريب‪،‬‬ ‫ً‬
‫ٍ‬ ‫كمرض يصيبه أو يصيب حبيبا له‪ ،‬وكموتِ‬
‫ٍ‬ ‫ال يخلو إنسان من مصيبة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكثيرا‬ ‫ين مع إعسار‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ولما كانت المصائب تضعف المصابين بها‪،‬‬ ‫أو ٍ‬‫د‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫تتحرك تجاه‬ ‫سريعا ما‬ ‫ما تأتي مفاجئة لإلنسان‪ ،‬فإن رحمة رسول اهلل ! كانت‬
‫هؤالء‪.‬‬
‫َّ‬
‫يلخص ذلك عثمان بن عفان ‪ K‬بقوله‪> :‬إنا ـ واهلل ـ قد صحبنا رسول اهلل‬
‫في السفر والحضر‪ ،‬وكان يعود مرضانا‪ ،‬ويتبع جنائزنا‪ ،‬ويغزو معنا‪ ،‬ويواسينا‬
‫بالقليل والكثير<(‪.)1‬‬
‫بشر أزمة المرض‪ ،‬وكان الرسول ! إذا‬ ‫أهم األزمات التي ال يسلم منها ٌ‬ ‫ومن ِّ‬
‫بمريض أسرع لعيادته في بيته‪ ،‬مع كثرة همومه ومشاغله‪ ،‬ولم تكن زيارته‬ ‫سمع َّ ٍ‬
‫َّ‬
‫هذه ُمتكلفة أو اضطرارية‪ ،‬إنما كان يشعر بواجبه ناحية هذا المريض‪..‬‬
‫ًّ‬
‫كيف ال‪ ،‬وهو الذي جعل زيارة المريض حقا من حقوقه؟! قال رسول اهلل !‪:‬‬
‫ُ ْ َ‬
‫يض‪َ ،‬واتِّ َباع الجنَ ِائ ِز‪،‬‬ ‫ر‬ ‫م‬‫اد ُة ْال َ‬‫َ َ َ‬
‫ي‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫الم‬ ‫الس‬ ‫د‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫‪:‬‬‫س‬‫ٌ‬ ‫خْ‬
‫م‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ل‬ ‫>حق ْال ُم ْسلم عَ َلى ْال ُم ْ‬
‫س‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫ْ َِ َ َ ْ ُ ِ ْ‬ ‫َ َ َُ‬
‫اطسِ< ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫يت‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫َّ‬
‫الد‬ ‫ة‬ ‫و ِإجاب‬
‫َ َ ُّ‬ ‫َّ‬
‫ظهر له ـ دون تكلف ـ ُم َواساته‬ ‫ِ‬
‫شت ٰى‪ ،‬فهو ي ُ‬ ‫وكان يهدف من وراء زيارته ألمور‬
‫َ‬
‫ويهون أزمته ومرضه‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫المريض وأهله‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وحرصه عليه‪ ،‬وحبّه له‪ ،‬فيُسعد ذلك‬ ‫َ‬ ‫له‪،‬‬
‫أزمة‬ ‫لخطر أو‬ ‫تعريضه‬ ‫حريصا على التخفيف على المريض‪ ،‬وعدم‬ ‫ً‬ ‫وكان‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫أكبر‪ ،‬وكان يُبدي الكثير من الغضب إذا ٰ‬
‫رأى من يتشدد في حكم من األحكام‬
‫مع مريض ‪.‬‬

‫((( أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)504‬وقال شعيب األرناؤوط‪< :‬إسناده حسن>‪.‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 1240‬‬
‫‪171‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ومن ذلك ما يرويه جابر بن عبد اهلل ‪ K‬فيقول‪ :‬خرجنا في سفر فأصاب رجاًل‬
‫َّ‬
‫حجر؛ فشجه في رأسه‪ ،‬ثم احتلم؛ فسأل أصحابه؛ فقال‪ :‬هل تجدون لي‬ ‫ٌ‬ ‫منَّا‬
‫ً‬ ‫رخصة في ُّ‬
‫التيمم؟ فقالوا‪ :‬ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات ‪.‬‬
‫ّ ّ ُ‬ ‫َّ‬
‫خب َر بذلك فقال‪> :‬قتل‬
‫َُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََُ ُ َََ‬
‫وه قتل ُه ْم اهللُ‪ ،‬أال َسألوا ِإذ ل ْم‬ ‫ِ‬ ‫فلما قدمنا على النبي أ‬
‫بـ‬ ‫ان ي َ ْكفيه أ َ ْن ي َ َت َي َّم َم َوي َ ْعص َر أ َ ْو ي َ ْعص َ‬‫َ ُ َّ َ َ َ‬
‫ك‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫‪،‬‬‫ال‬ ‫ؤ‬ ‫الس‬
‫ُّ‬ ‫ي‬ ‫ع‬ ‫ال‬
‫َ ُ ْ‬
‫اء‬ ‫ف‬ ‫ش‬ ‫ا‬‫م‬ ‫ي َ ْع َل ُموا؛ فَإنَّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ ً ُ َْ َ َ ََْ َ َ َْ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫وسى ـ على جر ِح ِه ِخرقة‪ ،‬ث َّم يمسح عليها‪ ،‬ويغ ِسل س ِائر جس ِدهِ< ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ش َّك ُم َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬
‫بل إن رسول اهلل كان يلبِّي حاجة المريض‪ ،‬ويسير معه حتى يقضي حاجته‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫مرة امرأة في عقلها شيءٌ‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إن لي إليك‬ ‫ولقد جاءته ذات َّ‬
‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ً‬
‫ك<‪.‬‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫‪.‬‬ ‫حاجة‬
‫َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫اج‬ ‫ح‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫ق‬ ‫أ‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫ت‬ ‫ح‬ ‫؛‬ ‫ت‬
‫ِ ِ ِ‬‫ئ‬ ‫ش‬ ‫ك‬ ‫ك‬ ‫س‬
‫ِّ‬ ‫ال‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫ظ‬ ‫ان‬ ‫‪،‬‬ ‫الن‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫م‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫>ي‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫فخال معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬ ‫ٰ‬
‫يهتم رسول اهلل بها أزمة وفاة إنسان‪ ،‬وكان رسول‬ ‫أيضا التي كان ُّ‬ ‫ومن األزمات ً‬
‫اهلل ـ من رحمته ـ يرحم أقارب الميِّت في أمور ال يعيرها الناس اهتماما‪ ،‬ولكنَّها‬
‫ُ‬ ‫أثرا ً‬ ‫تترك ً‬
‫طيبا في النفوس‪ ،‬ومن ذلك إعداد الطعام لهم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ٰ‬
‫جعفر ‪َ K‬فقال‪ :‬لما جاء نعي جعفر قال النبي‪> :‬اصنعوا ِ‬ ‫روى عبد اهلل بن‬
‫آلل‬ ‫َُْ‬
‫َ ْ َ َ َ ً َ َ ْ ََ ُ َ َ َ‬
‫اما‪ ،‬فقد أتاه ْم أ ْم ٌر شغل ُه ْم<(‪.)3‬‬ ‫جعف ٍر طع‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫طعاما‬ ‫وهذا عكس ما اشتهر بين الناس من أن أهل الميت هم الذين يصنعون‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫خالف واضح للسنَّة‪ ،‬فقد قال‬ ‫ٌ‬ ‫لزوارهم‪ ،‬بل إن صناعة أهل الميِّت للطعام للضيوف‬
‫ُ‬ ‫َ ُّ‬
‫جرير بن عبد اهلل ‪> : K‬كنَّا ن ُعد االجتماع إلى أهل الميِّت‪ ،‬وصنعة الطعام من النياحة<(‪.)4‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)336‬قال األلباني‪< :‬حسن> ‪.‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 2326‬‬
‫ّ‬

‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3132‬وابن ماجة‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1610‬قال األلباني‪ <:‬حسن> ‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( النياحة‪ :‬البكاء بصوت مع ترديد عبارات السخط‪ .‬ابن ماجة‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1612‬قال‬
‫في الزوائد‪< :‬إسناده صحيح‪. >...‬‬
‫‪172‬‬

‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وكان يعلم أن النساء يصيبُهن الجزع أكثر من الرجال‪ ،‬فكان يحرص‬
‫َّ‬
‫على تذكيرهن بالصبر عند المصائب‪..‬‬
‫ُْ‬ ‫َّ‬
‫غلبنا عليك الرجال؛‬ ‫للنبي‪َ :‬‬ ‫َّ‬ ‫يروي أبو سعيد الخدري ‪ K‬أن النساء قل َن‬
‫َّ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َّ ً َ َّ‬
‫فوعَظ ُهن وأمرهن‪ ،‬فكان‬ ‫يوما ل ِق َي ُهن فيه؛‬ ‫يوما من نفسك؛ فوعدهن‬ ‫فاجعل لنا ً‬
‫َ َ َ‬ ‫ٌَ ُ َ ُ َ َ ً ْ َ‬ ‫َّ َ ْ ُ‬
‫>ما ِمنك َّن ْام َرأة تقدِّ م ثالثة ِمن َول ِد َها ِإال كان ل َها ِحجابًا ِم َن النَّ ِار‪،‬‬ ‫فيما قال لهن‪:‬‬
‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ ْ َ ٌَ‬
‫ن‪ ،‬فقال‪ :‬واثنتين<(‪.)1‬‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫اث‬ ‫و‬ ‫‪:‬‬ ‫ة‬ ‫فقالت امرأ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ًّ‬
‫ومع كونه يمنع الناس من الجزع‪ ،‬وفقد الصبر‪ ،‬إال أنه كان واقعيا يُقدر ألم‬
‫َ‬
‫الناس ويعذرهم‪ ،‬ومن ث َّم يقبل ببكائهم وحزنهم دون إفراط‪.‬‬
‫َّ ُ َ‬
‫لما ق ِتل أبي جعلت أكشف الثوب‬ ‫يروي جابر بن عبد‪ ‬اهلل ‪ K‬فيقول‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫فجعلت َّ‬‫ْ‬ ‫ُّ‬
‫عمتي فاطمة تبكي؛‬ ‫والنبي ال ينهاني‪،‬‬ ‫عن وجهه وأبكي‪ ،‬وينهونني عنه‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ين أ َ ْو ال تَ ْبك َ‬
‫وه<(‪.)2‬‬ ‫فقال النبي‪> :‬تَ ْبك َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ين‪َ ،‬ما زالت ال َمالئكة تظلُّ ُه بأجن َحت َها ح َّت ٰى َرف ْعت ُم ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ولم تكن وقفات رسول اهلل مع الصحابة عند المرض أو الوفاة فقط‪ ،‬بل‬
‫ُ َ ُ‬ ‫ً‬
‫يب َرج ٌل‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫أي أزمة‪ ،‬ولو كانت عابرة‪ ،‬يقول أبو سعيد الخدري ‪ :K‬أ‬ ‫كانت في ِّ‬
‫َ َْ ََ َ ُ َ ُُْ ََ َ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫في عَ ْهد َر ُ‬
‫هلل ِفي ثِم ٍار ابتاعها؛ فكث َر دينه؛ فقال رسول ا ِ‬
‫َ َ ُ َ َْ‬
‫هلل‪> :‬تص َّدقوا علي ِه<‪،‬‬ ‫ول ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫>خ ُذوا ماَ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ََ َ َ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َّ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ َ‬
‫هلل ِلغرم ِائ ِه‪:‬‬ ‫فتصدق الناس علي ِه فلم يبلغ ذ ِلك وفاء دي ِن ِه‪ ،‬فقال رسول ا ِ‬
‫ُ‬
‫َ َ ْ ُ ْ َ َْ َ َ ُ‬
‫س لك ْم ِإال ذ ِلك<(‪. )3‬‬
‫َ َ‬
‫وجدتم ولي‬
‫رمح ُته ! ِّ‬
‫باملسنني‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫وجاها‪،‬‬ ‫المسن يزداد خبرة ودراية وحكمة‪ ،‬وربَّما يغدو أكثر مااًل‬ ‫إذا كان‬
‫ً‬
‫ونقصا في صحته ﴿ هَّ ُ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫إال أنه بتقدم العمر يزداد ضعفا في بدنه‪،‬‬
‫َ‬
‫َ َ ُ‬ ‫ذَّ‬
‫۞ٱلل ٱلِي خلقكم‬

‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب العلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)101‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب الجنائز‪ ،‬حديث رقم (‪.)1244‬‬
‫((( صحيح مسلم كتاب المساقاة‪ ،‬حديث رقم (‪.)1556‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪173 Z‬‬
‫ّ‬

‫َ ٗ َ ٗ خَ ۡ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ٗ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬


‫ّمِن ض ۡع ٖف ث َّم َج َعل ِم ۢن َب ۡع ِد ض ۡع ٖف ق َّوة ث َّم َج َعل ِم ۢن َب ۡع ِد ق َّوة ٖ ض ۡعفا َوش ۡي َبة ۚ يل ُق َما‬
‫ً‬
‫يشاء ۚ وهو ٱلعل ِيم ٱلقدِير﴾ [ا �لرو�م‪ ،]54 :‬ومراعاة لحاله قال !‪ِ :‬‬
‫ْ ْ‬ ‫ََ ُٓ َ َُ َۡ ُ َۡ ُ‬
‫اهلل‬
‫الل ِ‬ ‫>إ َّن ِمن ِإج ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫يه َوالج ِافي عَن ُه‪َ ،‬و ِإك َر َام ِذي‬
‫ْ ُ ْ َْ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫إ ْك َر َام ذي ال َّش ْي َبة ْال ُم ْ‬
‫آن غي ِر الغ ِالي ِف ِ‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ام‬
‫ِ ِ‬
‫ح‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ ْ ِ‬
‫ْ‬
‫ط<(‪.)1‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ان المق ِس ِ‬ ‫السل ِ‬
‫ط‬ ‫ُّ‬
‫وهو هنا في هذه الكلمات الرقيقة يرفع من قيمة الشيخ الكبير‪ ،‬حتى يجعله‬
‫وسمو مكانتهما‪..‬‬ ‫ِّ‬ ‫مع حامل القرآن‪ ،‬ومع الحاكم العادل مع عظم قدرهما‪،‬‬
‫َ َّ‬ ‫النبي‪ ،‬فأبطأ القوم أن ي ُ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫وسعوا له‪ ،‬ف َرق له‬ ‫وجاء شيخ ذات يوم يريد‬
‫ٍ‬
‫ور ِح َمه‪ ،‬وقال‪> :‬ليس ِمنَّا من لم يرحم ص ِغيرنا‪ ،‬ويعرف حقَّ‬ ‫رسول اهلل َ‬
‫َ ْ َ ْ َْ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ َ‬
‫ك ِب ِيرنا<(‪. )2‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إنه يقول‪ :‬إن الذي ال يرحم الصغير وال يوقر الكبير ليس منَّا نحن المسلمين‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أي أنه ال يتصف بصفاتنا‪ ،‬وال يعمل بأعمالنا‪ ،‬وال يتخلق بأخالقنا‪ ..‬وما أحسب‬
‫ً‬
‫وتوقيره جزءًا‬
‫َ‬ ‫أن قانونا في العالم ـ غير اإلسالم ـ قد جعل احترام الكبير‪،‬‬
‫من اهتماماته ‪.‬‬
‫أروع ما قاله ألبي بكر الصديق ‪ ،K‬يوم فتح مكة‪ ،‬حين ٰ‬ ‫َ‬
‫أتى بأبيه‪:‬‬ ‫وما‬
‫ًّ‬
‫كبيرا مسنا ليُ‬ ‫ً‬
‫سل َم بين يدي رسول اهلل في البيت الحرام‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أبي قحافة‪ ،‬وكان شيخا ً‬
‫َْ َ ٰ َ ُ َ ََ‬ ‫َ َّ َ َ ْ َ‬
‫يه<(‪.)3‬‬ ‫فقال‪> :‬هال ترك‬
‫ْ َ‬
‫ف‬ ‫يه‬
‫ِ ِ ِ ِ‬‫آت‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ون‬‫ك‬ ‫أ‬ ‫ى‬ ‫ت‬‫َّ‬ ‫ح‬ ‫ه‬ ‫ت‬
‫ِ ِِ‬‫ي‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫خ‬ ‫ي‬ ‫َّ‬
‫ش‬ ‫ال‬ ‫ت‬
‫ٌ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫كبير تأخ َر إسالمه‬ ‫إنه القائد المنتصر الذي يدخل مكة فاتحا‪ ،‬وأبو قحافة شيخ‬
‫المنتصر!‬ ‫عاما‪ ،‬ومع ذلك يزوره رسول اهلل !‪ ،‬وهو الرسول الزعيم‬ ‫أكثر من عشرين ً‬
‫ِ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( البخاري في األدب المفرد (‪ ،)357‬قال األلباني‪ <:‬حسن> ‪.‬‬


‫ّ‬

‫((( أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)6733‬والحاكم (‪ ،)178/4‬قال مخرجوه‪< :‬حديث صحيح> ‪.‬‬
‫((( أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)26956‬وابن حبان‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)7208‬والحاكم (‪،)47-46/3‬‬
‫نظرة على‬

‫ً‬
‫قال مخرجو المسند‪< :‬إسناده حسن>‪ ،‬انظر‪ :‬تخريجه فيه مفصال‪.‬‬
‫‪174‬‬

‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬


‫السن في عين رسول اهلل‪ ..‬بل إنه يرفض أن تطول الصالة‬ ‫هذه هي منزلة كبار‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫الجماعية ـ مع ُحبِّه لها وتعظيمه لقدرها ـ ألن ذلك قد ُّ‬
‫السن وغيره‬ ‫يشق على كبير‬
‫من أصحاب الحاجات‪ ،‬وهذا دليل على نظرته الشمولية لمسألة الرحمة‪ ،‬ودليل‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ُُ‬
‫على اتساع أفقه‪ ،‬وإدراكه لحقيقة اإلسالم‪ ،‬وإنه في األساس رحمة للناس وليس‬
‫مشقة وعذابًا لهم ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫لح ُظ ُّ‬ ‫َ َ‬
‫كل ذلك من موقف فريد‪ ،‬رواه أبو مسعود األنصاري ‪ ،K‬وفيه أن‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫رجاًل قال‪ :‬واهلل يا رسول اهلل إني ألتأخر عن صالة الغداة من أجل فالن مما يطيل‬
‫ُْ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫>إ َّن ِمنك ْم‬ ‫قال‪:‬‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫ذ‬
‫ٍ‬ ‫يومئ‬
‫ِ‬ ‫منه‬ ‫ا‬ ‫غضب‬ ‫أشد‬ ‫بنا‪ ،‬فما رأيت رسول اهلل في موعظة‬
‫اج ِة<(‪.)1‬‬
‫ير َوذا ال َح َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يف َوالكب َ‬ ‫َ‬ ‫ين فَأَي ُُّك ْم َما َ‬
‫صلَّى بالنَّاس فَ ْل َي َت َج َّو ْز‪ ،‬فإ َّن فيه ْم الضَّ ع َ‬ ‫ُمنَ ِّفر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رمحته ! باآلباء واألمهات‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫وإذا كانت ُّ‬
‫وأجل‬ ‫كل هذه الرحمة لعموم كبار السن‪ ،‬فإنها وال شك أعظم‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫متحضرا‬ ‫يسمونه‬ ‫في حق الوالدين‪ ..‬إن األبوين في كثير من بالد العالم ـ الذي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في زماننا ـ ال يجدان رعاية وال عونا من أبنائهم بعد أن يتقدم بهما العمر‪ ،‬وتضعف‬
‫أبدانهما‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫رجل إلى رسول اهلل‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫لكن األمر ليس كذلك عند رسول اهلل‪ ،‬فقد جاء‬
‫ْ َ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫صحابَتي؟ قال‪> :‬أ ُّمك‪ .‬قال‪ :‬ث َّم َمن؟ قال‪:‬‬ ‫أحق الناس بحسن‬ ‫َّ‬ ‫يا رسول اهلل‪ ،‬من‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ َ َ ُ‬
‫أ ُّمك‪ .‬قال‪ :‬ث َّم َمن؟ قال‪ :‬أ ُّمك‪ .‬قال‪ :‬ث َّم َمن؟ قال‪ :‬أبوك<(‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬

‫فأحق الناس بالصحبة‪ :‬ليس الصديق وال الحاكم وال صاحب العمل وال غير‬ ‫ُّ‬
‫َّ‬ ‫ُّ ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫أحق الناس بالصحبة ُّ‬
‫األم َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫األم ثالثا لضعفها وشدة‬ ‫األب‪ ،‬وقدم‬ ‫ثم‬ ‫هؤالء‪ ،‬إنما‬
‫احتياجها وبخاصة عند كبرها‪..‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب الجماعة واإلمامة‪ ،‬حديث رقم (‪.)702‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2548‬‬
‫‪175‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫باألم واألب‪ ،‬وليُقارن أهل األرض بين هذه الرحمة‬ ‫هذه هي رحمته‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وما يحدث في العالم أجمع!‪ ..‬بل إنه في موقف آخر يقول ما يتفطر له القلب رقة‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫وتأث ًرا!! لقد جاءه رجل يقول له‪ :‬إني جئت أبايعك على الهجرة‪ ،‬ولقد تركت‬
‫ْ‬
‫فأضحكهما كما أبكيتهما<(‪.)1‬‬
‫َ‬
‫أبوي يبكيان‪ ،‬فقال رسول اهلل‪> :‬ارجع إليهما‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫َ ْ‬
‫يا ل َرح َم ِتك يا رسول اهلل!! فالرجل جاء يبايع على الهجرة‪ ،‬واألمر جد خطير‪،‬‬
‫ومع ذلك فالرسول يهتم ـ ليس فقط برضا والديه وراحتهما ـ بل وبضحكهما‬
‫أمته‪ ،‬وهذه هي رؤيته للواجب نحو‬ ‫ِّ‬
‫السن في َّ‬ ‫وسرورهما!! هذه هي رؤيته لكبار‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الوالدين‪ ،‬وإذا كان هناك في العالم من يدعي أن قانونه يشبه ـ ولو من بعيد ـ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يقين أنه لن يوجد من يدعي أن هناك َمن طبَّق على أرض‬ ‫ٍ‬ ‫على‬ ‫ني‬ ‫قانون رسول اهلل‪ ،‬فإن‬
‫الواقع ما طبَّقه رسول اهلل من مواقف الرحمة‪ ،‬ومن مظاهر الرعاية لحقوق الوالدين!!‬
‫رمح ُته ! بذوي االحتياجات اخلاصة‪:‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٰ‬ ‫جعل الن ّ ّ‬
‫الحق في التداوي؛ ألن سالمة‬ ‫الخاصة‬ ‫للمرضى وذوي االحتياجات‬ ‫بي‬
‫ٌ‬
‫ظاهرا وباطنًا مقصد من مقاصد اإلسالم؛ لذلك قال لألعراب عندما‬ ‫ً‬ ‫البدن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سألوه عن التداوي‪> :‬تَ َد ُاو ْوا‪ ،‬فَإ َّن اهللَ ل ْم ي َ َ‬
‫ض ْع َداءً إال َو َ‬
‫ض َع ل ُه د َواءً غير داء واحد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الهرم‪.)2(<...‬‬
‫ُ‬
‫تعالج المرأة المسلمة رجاًل من المسلمين؛ حيث‬ ‫كذلك لم يكن يمانع أن ِ‬
‫َُ‬
‫جعل رسول اهلل ُرفيدة ـ وهي امرأة من قبيلة أسلم ـ تع ِالج سعد بن معاذ‪ ،‬حين‬
‫ب بنفسها على خدمة‬ ‫الجرحى‪ ،‬وتَ ْح َتس ُ‬
‫ٰ‬ ‫سهم بالخندق‪ ،‬وكانت ‪ I‬تداوي‬ ‫ٌ‬ ‫أصابه‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫من كانت به ض ْي َعة من المسلمين(‪.)3‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2528‬والنسائي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4163‬وابن ماجة‪ ،‬حديث رقم‬
‫ّ‬

‫(‪ ،)2782‬قال األلباني‪<:‬صحيح> ‪.‬‬


‫((( أبو داود‪ ،‬كتاب الطب‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3855‬قال األلباني‪<:‬صحيح> ‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( البخاري‪ :‬األدب المفرد ‪ ،546/2‬حديث رقم (‪ ،)1129‬قال األلباني‪<:‬صحيح> ‪ -‬الصحيحة (‪.)1158‬‬
‫‪176‬‬

‫راقيا؛ وقد كان‬ ‫ثم ها هو رسول اهلل يتعامل مع عمرو بن الجموح ‪ K‬تعاماًل ً‬
‫أن ذلك لم يكن ً‬ ‫َّ َّ‬ ‫َّ‬
‫مانعا له‬ ‫الخاصة‪ ،‬إال‬ ‫أعرج شديد العرج من ذوي االحتياجات‬
‫لهمته العالية‪ ،‬وبذله الواسع في سبيل اهلل ‪.‬‬ ‫أعلى درجات التكريم؛ َّ‬ ‫من حصوله على ٰ‬
‫ُ‬
‫وكان لعمرو بن الجموح بنون أربعة ـ مثل األسد ـ يشهدون المشاهد مع رسول‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫فأتى عمرو بن الجموح رسول اهلل فقال‪ :‬إن‬ ‫فلما كان يوم أ ُحد أرادوا حبسه‪ٰ ،‬‬ ‫اهلل‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه‪ ،‬والخروج معك فيه‪ ،‬فواهلل إني ألرجو‬
‫مخاطبا عَ ْم ًرا‪> :‬أمَّا أنت فقد ع‬ ‫ً‬ ‫أن أطأ بعرجتي هذه في الجنَّة‪ .‬فقال رسول اهلل‬
‫َ ََ ْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذرك‬
‫ُُ َ ًَ‬ ‫َ ََْ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ُ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫وه‪ ،‬ل َعلَّ اهللَ ي َ ْرزق ُه ش َهادة<‪.‬‬ ‫اهللُ فال ِج َهاد عَل ْيك<‪ .‬وقال لبنيه‪> :‬ما عليكم أ َّال تمنع‬
‫َ‬
‫ُْ‬ ‫َْ‬ ‫فقت َل يوم أ ُ ُحد‪ ،‬ثم قال عنه‪َ :‬‬ ‫ّ ّ ُ‬
‫>وا َّل ِذي نف ِسي ِب َي ِدهِ! ِإ َّن ِمنك ْم‬
‫َ َ َ ْ َ َُْ ُ ََ ُ‬ ‫فخرج مع َالنبي ِ‬
‫ْ ََّ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ‬
‫اهلل ألب َّره‪ِ ،‬منهم‪ :‬عمرو بن الجموح‪ ،‬ولقد رأيته يطأ ِفي الجنة‬ ‫ى‬ ‫ل‬‫َم ْن َل ْو أ َ ْق َس َم عَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِب َع ْر َج ِت ِه<(‪.)1‬‬
‫رمح ُته ! بالعمال واخلدم‪:‬‬
‫َّ‬
‫والعمال‪،‬‬ ‫شاهد على عظمة النظرة اإلسالمية للخدم‬ ‫كانت سيرة رسول اهلل ! خير‬
‫ٍ‬
‫إقرارا من رسول اهلل ! لحقوقهم مع التكريم لهم‪ ،‬فقد دعا رسول اهلل‬ ‫ً‬ ‫وكانت‬
‫ِّ‬
‫والبر‬ ‫أصحاب األعمال إلى معاملتهم معاملة إنسانيَّة كريمة‪ ،‬وإلى الشفقة عليهم‪،‬‬
‫بهم‪ ،‬وعدم تكليفهم ما ال يطيقون من األعمال ‪.‬‬
‫َ ْ َ َ‬ ‫َ ْ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُُ َ ُُ‬
‫فقال رسول اهلل‪ِ ...> :‬إخ َوانك ْم خ َولك ْم‪َ ،‬ج َعل ُه ُم اهللُ تحت أيْ ِديك ْم‪ ،‬ف َمن كان‬
‫ْ‬ ‫َ َُ ُ ُ‬ ‫ت يَده فَ ْليُ ْطع ْم ُه م َّما يَأْ ُك ُل‪َ ،‬و ْليُ ْلب ْس ُه م َّما ي َ ْل َب ُ‬
‫س‪َ ،‬وال تك ِّلفوه ْم َما يَغ ِلبُ ُه ْم‪،‬‬
‫َ ُ ُ َ ْ َ‬
‫أخوه تح‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ َ ِ ِ‬
‫َ ْ َ ُْ ُ َ ُ ُ‬
‫ف ِإن كلَّفت ُموه ْم فأ ِعينوه ْم<(‪.)2‬‬

‫((( ابن حبان عن جابر بن عبد‪ ‬اهلل (‪.)7024‬‬


‫((( صحيح البخاري عن أبي ٍّ‬
‫ذر‪ :‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب المعاصي من أمر الجاهلية‪ ،‬وال يكفر‬
‫صاحبها بارتكابها إال بالشرك (‪ ،)30‬ومسلم‪ :‬كتاب األيمان والنذور‪ ،‬باب إطعام المملوك‬
‫مما يأكل‪ ،‬حديث رقم (‪.)1661‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪177 Z‬‬
‫ّ‬

‫ْ ُُ َ ُُ‬
‫>إخ َوانك ْم خ َولك ْم<؛ ليرتفع بدرجة العامل الخادم‬ ‫فجاء تصريح رسول اهلل‪:‬‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫نبراسا لبني‬ ‫العامة التي توفر الحياة الكريمة‬ ‫إلى درجة األخ! ولتصبح هذه الضوابط‬
‫ً‬
‫عموما‪.‬‬ ‫اإلنسان‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫وألزم كذلك صاحب العمل أن ي ُ َوف َي للعامل والخادم أجره المكافئ لجهده‬
‫ُ‬ ‫َ َ َْ َ َ َْ‬ ‫َ ُْ‬
‫ف عَ َرق ُه<(‪.)1‬‬ ‫ير أج َر ُه ق ْبل أن ي َ ِج َّ‬ ‫دون ظلم أو مماطلة‪ ،‬فقال رسول اهلل‪> :‬أعطوا األ ِج‬
‫ٍ‬
‫َ ََْ َ َ‬ ‫َّ‬
‫وحذر رسول اهلل ! من ظلمهم فقال‪> :‬من اقتطع حقَّ ام ِرئ مس ِلم ِبي ِم ِين ِه فقد‬
‫ََ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ً‬
‫ٍ‬ ‫ًٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫أ َ ْو َج َ‬
‫يسيرا يا رسول‬ ‫ب اهللُ ل ُه النَّ َار‪َ ،‬وح َّر َم عَل ْي ِه الجنَّة<‪ .‬فقال رجل‪ :‬وإن كان شيئا‬
‫َ‬
‫اك<(‪.)2‬‬ ‫>وإ ْن َقض ًيبا م ْن أ َ َ‬
‫اهلل؟ فقال‪ِ :‬‬
‫ر‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫الغ ْ‬‫َ‬ ‫أيضا أن ت ُ ْح َفظ حقوقهم الماليَّ‬ ‫حقهم ً‬ ‫ِّ‬
‫ن‪ ،‬والظلم‪ ،‬واالستغالل؛‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫ة‬ ‫ومن‬
‫ال اهللُ‬ ‫َ َ‬
‫رب العزة جل وعال‪> :‬ق‬ ‫َّ‬ ‫القدسي عن ِّ‬ ‫ّ‬ ‫لذلك قال رسول اهلل في الحديث‬
‫َ َ ُ ٌ ْ َ ْ َ َ َ ً َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َْ‬ ‫ص ُم ُه ْم ي َ ْو َم ْالق َي َ‬ ‫خ ْ‬‫َ ََ ٌ َ َ َ‬ ‫ََ َ‬
‫ام ِة‪ ...‬ورجل استأجر أ ِجيرا فاستوفى ِمنه ولم‬ ‫ِ‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫أ‬ ‫ة‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫ث‬ ‫ى‪:‬‬ ‫ال‬ ‫تع‬
‫َ‬
‫ي ُ ْع ِطه أج َره<(‪.)3‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ َ َ ُّ ْ‬
‫وخصم له يوم القيامة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫رقيب عليه‪،‬‬ ‫خادما‪ ،‬أن اهلل‬ ‫كل َمن ظلم عاماًل أو‬ ‫ِليعلم‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬
‫يضر بصحته‪،‬‬ ‫كما يجب على صاحب العمل عدم إرهاق العامل إرهاقا‬
‫َ َ َّ ْ َ َ ْ َ َ‬ ‫ً‬
‫اد ِمك‬ ‫عاجزا َعن َالعمل‪ ،‬ولقد قال رسول اهلل في ذلك‪> :‬ما خففت عن خ ِ‬ ‫َ‬
‫ويجعله‬
‫ِمن عَ َم ِل ِه‪ ،‬كان لك أج ًرا ِفي َم َو ِاز ِينك<(‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مضيئة في الشريعة اإلسالميَّة ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫حق الخادم‬ ‫ومن الحقوق التي تعتبر عالمة‬
‫ً َ َْْ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫في التواضع معه‪ ،‬وفي ذلك ي ُ َرغب الرسول أ َّمته قائال‪:‬‬
‫ْ ََ َ‬
‫>ما استك َب َر َمن أكل َم َع ُه‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( ابن ماجه عن عبد‪ ‬اهلل بن عمر‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2443‬قال األلباني‪<:‬صحيح> ‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( النسائي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5419‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)22239‬قال األلباني‪<:‬صحيح> ‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري عن أبي هريرة‪ :‬كتاب البيوع‪ ،‬حديث رقم (‪.)2227‬‬
‫نظرة على‬

‫((( ابن حبان عن عمرو بن حريث‪ ،‬حديث رقم (‪.)4314‬‬


‫‪178‬‬

‫َ َ ََ‬ ‫ِب ْالح َم َار باأل َ ْس َ‬


‫اق‪َ ،‬واعتقل ال َّشاة فحل َب َها<(‪.)1‬‬
‫َْ َ َ‬ ‫َ‬
‫خاد ُم ُه‪َ ،‬و َرك َ‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫وكان رسول اهلل ُّ‬
‫يهتم برعاية خد ِمه إلى الدرجة التي يحرص فيها على زواجهم؛‬
‫ّ َ َ َُ‬
‫يعة‪،‬‬‫بي فقال لي النبي‪> :‬يا ر ِب‬ ‫كنت أخدم الن ّ ّ‬ ‫ُ‬
‫فعن ربيعة بن كعب األسلمي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ ُ‬
‫أال تت َز َّوج؟< قال‪ :‬فقلت‪ :‬ال واهلل يا رسول اهلل‪ ،‬ما أريد أن أتزوج؛ ما عندي‬
‫أحب أن يشغلني عنك شيء‪ .‬قال‪> :‬فأعرض عنِّي<‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ما يُقيم المرأة‪ ،‬وما‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ ََ َ ُ‬
‫ثم قال لي بعد ذلك‪> :‬يا ر ِبيعة‪ ،‬أال تتز َّوج؟< قال‪ :‬فقلت‪ :‬ال واهلل يا رسول‬
‫أحب أن يشغلني عنك‬ ‫ُّ‬ ‫أتزوج‪ ،‬وما عندي ما يُقيم المرأة‪ ،‬وما‬ ‫اهلل‪ ،‬ما أريد أن َّ‬
‫شيء‪ .‬فأعرض عنِّي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وقال‪ :‬ثم راجعت نفسي‪ ،‬فقلت‪ :‬واهلل يا رسول اهلل أنت أعلم بما يُصلحني‬
‫َّ‬
‫في الدنيا واآلخرة‪ .‬قال‪ :‬وأنا أقول في نفسي‪ :‬لئن قال لي الثالثة ألقولن‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ُ‬
‫فقلت‪ٰ :‬‬ ‫َ َ َ ُ َ َ ََ ُ‬
‫بلى يا رسول اهلل‪،‬‬ ‫يعة‪ ،‬أال تت َز َّوج؟< قال‪:‬‬ ‫قال‪ :‬فقال لي الثالثة‪> :‬يا ر ِب‬
‫َ‬
‫شئت‪ ،‬أو بما أحببت‪ .‬قال‪> :‬انطل ْق إلى آل فالن<‪ .‬إلى ٍّ‬ ‫ُم ْر ِني بما‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫حي من األنصار‪...‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ ِ‬
‫(‪)2‬‬
‫ِ‬
‫فلما أخبرهم أكرموه َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وزوجوه‪.‬‬
‫وقد شملت رحمته ! الخدم وامتدت إلى غير المؤمنين به أصاًل‪ ،‬وذلك كما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مرضا شديدا‪،‬‬ ‫خادما‪ ،‬فقد مرض الغالم‬ ‫اليهودي الذي كان يعمل عنده‬ ‫فعل مع الغالم‬
‫حتى إذا شارف على الموت عاده وجلس عند رأسه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ويتعهده‪ٰ ،‬‬ ‫فظل الن ّ ّ‬
‫بي يزوره‬
‫َّ‬
‫ثم دعاه إلى اإلسالم‪ ،‬فنظر الغالم إلى أبيه متسائاًل‪ ،‬فقال له أبوه‪ :‬أط ِْع أبا القاسم‪.‬‬
‫َْ َ َ‬
‫هلِل ا َّل ِذي أنقذ ُه ِم َن النَّ ِار<(‪.)3‬‬
‫ْ َ ْ ُ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ُ‬
‫فأسلم‪ ،‬ثم فاضت روحه‪ ،‬فخرج النبي وهو يقول‪> :‬الحم ِ‬
‫د‬

‫((( األدب المفرد للبخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ) 550‬قال األلباني‪<:‬حسن>‪ ،‬الصحيحة ( ‪.) 2218‬‬
‫((( الحاكم (‪ ،)172/2‬وقال‪< :‬هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه>‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري عن أنس بن مالك‪ :‬كتاب الجنائز‪ ،‬إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه‬
‫وهل يعرض على الصبي اإلسالم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1356‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪179 Z‬‬
‫ّ‬

‫والعمال التي َّ‬


‫أصلها بالقول والعمل‬ ‫َّ‬ ‫هذه بعض مظاهر رحمته ! بالخدم‬
‫زمن‪ ،‬ذاقوا فيه من الظلم والقهر ألوانا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫رمحته ! باحليوان‪:‬‬
‫أهم الحقوق‬ ‫شملت رحمة الرسول ! الحيوان‪ ،‬فجعل له حقوقا ومن ِّ‬
‫أن رسول اهلل َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٰ‬ ‫التي َّ‬
‫مر‬ ‫روى جابر ‪K‬‬ ‫أصلها رسول اهلل للحيوان عدم إيذائه؛ فقد‬
‫ُ‬
‫على حمار قد و ِس َم في وجهه‪ ،‬فقال‪> :‬ل َع َن اهلل ا َّل ِذي َو َس َم ُه<(‪.)1‬‬
‫َ‬

‫ان<(‪ .)2‬وهذا يعني‬ ‫و‬‫>ل َع َن النَّبي َم ْن َم َّث َل ب ْال َح َي َ‬


‫َ‬
‫وعن عبد‪ ‬اهلل بن عمر ‪ R‬قال‪:‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫ُّ‬
‫أن إيذاء الحيوان وتعذيبه وعدم الرفق به يُعتبر جريمة في نظر الشريعة اإلسالميَّة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫وكذلك شرع رسول اهلل في تأصيله لحقوق الحيوان‪ :‬تحريم حبسه وتجويعه‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ٌَ‬
‫وفي ذلك يقول الرسول !‪> :‬دخلت ْام َرأة النار ِفي ِه َّر ٍة ربطتها‪ ،‬فل ْم تط ِع ْم َها‪َ ،‬ول ْم‬
‫شاش األ َْ‬ ‫َْ ُ ُ ْ َ َ‬
‫ض<(‪. )3‬‬ ‫ر‬ ‫تدعها تأكل ِمن خ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ببعير قد ل ِح َق ظه ُر ُه ِب َبط ِن ِه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫اهلل‬ ‫رسول‬ ‫وروى سهل بن الحنظليَّة قال‪َّ :‬‬
‫مر‬ ‫ٰ‬
‫ْ ُ ْ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ ًٍ َ ُ ُ َ َ َ ً‬ ‫ْ‬
‫ص ِالحة<(‪.)4‬‬
‫ُ‬
‫>ا َّتقوا اهللَ ِفي َه ِذهِ ال َب َه ِائمِ المعجم ِة‪ ،‬فاركبوها ص ِالحة‪ ،‬وكلوها‬
‫بفتيان‬ ‫غرضا‪ ،‬فها هو ذا ابن عمر ُّ‬
‫يمر‬ ‫ً‬ ‫ونهى رسول اهلل عن اتخاذ الحيوان‬
‫ٍ‬
‫َ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫سول‬ ‫طيرا وهم يرمونه‪ ،‬فقال لهم‪ :‬لعن اهلل َمن فعل هذا؛ ِإن ر‬ ‫من قريش قد نصبوا ً‬
‫وح َغ َر ً‬
‫ُّ ُ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ ً‬
‫ضا(‪.)5‬‬ ‫يه الر‬ ‫ن اتخذ شيئ ِ ِ‬
‫ف‬ ‫ا‬ ‫هلل لعن م ِ‬
‫ا ِ‬

‫((( صحيح مسلم‪ :‬كتاب اللباس والزينة‪ ،‬حديث رقم (‪.)2117‬‬


‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب الذبائح والصيد‪ ،‬حديث رقم (‪.)5515‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ :‬كتاب المساقاة‪ ،‬حديث رقم (‪.)3319‬‬
‫ّ‬

‫((( أبو داود‪ :‬كتاب الجهاد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2548‬قال األلباني‪<:‬صحيح> ‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( صحيح مسلم‪ :‬كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان‪ ،‬حديث رقم (‪.)1958‬‬
‫‪180‬‬

‫أصله رسول اهلل من حقوق الحيوان كذلك ما كان من وجوب‬ ‫أهم ما َّ‬ ‫ومن ِّ‬
‫يق‬
‫َ‬
‫تجسد ذلك في قول رسول اهلل‪> :‬بَ ْينَ َما َرج ٌل‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫الرحمة والرفق به‪ ،‬وقد‬
‫يمشي ِبط ْ ِر ُ ُ ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ب يَل َهث‪ ،‬يَأكل‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‪ ،‬ثم خ َرج‪ ،‬فإذا كل ٌ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ش فَ َو َجد بئ ًرا‪ ،‬فن َزل ف َيها فشر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اش َت َّد عَ َل ْيه ْال َع َط ُ‬
‫ْ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َ َ ِ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ِ َ َ ْ َ ْ َ َ ِْ َ َ‬ ‫َ ََْ‬
‫ش ِمثل ال ِذي كان‬ ‫َّ‬ ‫ط‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫ذ‬ ‫ه‬ ‫غ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫د‬‫ق‬ ‫ل‬ ‫‪:‬‬ ‫ل‬ ‫ج‬ ‫ر‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ش‬ ‫ط‬ ‫ال َّث َرى ِمن الع‬
‫َ َِ َ ْ َ ْ َ ِ َ َ َ َ ُ َُ‬ ‫ُ ُ َ ً ُ َ ْ َ َُ‬ ‫ِ‬
‫بَ َل َغ بي‪ .‬فَنَ َز َل الب ْئ َر‪ ،‬فَ َ‬
‫ْ‬
‫يه فسقى الكلب‪ ،‬فشكر اهلل له‬ ‫ف‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫ك‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫م‬‫َّ‬ ‫ث‬ ‫‪،‬‬ ‫اء‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َّ‬
‫ف‬ ‫خ‬ ‫أل‬ ‫م‬
‫َّ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫>في ك ِّل ذاتِ ك ِب ٍد‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫ا؟‬ ‫ً‬
‫أجر‬ ‫البهائم‬ ‫في‬ ‫لنا‬ ‫وإن‬ ‫اهلل‪،‬‬ ‫رسول‬ ‫يا‬ ‫قالوا‪:‬‬ ‫<‪.‬‬ ‫فَ َغ َف َر َل ُ‬
‫ه‬
‫ِ‬
‫ْ َْ‬
‫َرط َب ٍة أج ٌر<(‪.)1‬‬
‫ومن مظاهر شفقة رسول اهلل ورحمته كذلك ما يرويه عبد‪ ‬اهلل بن عمر ‪K‬‬
‫ُ‬ ‫ً ُ‬
‫قائال‪ :‬كنَّا مع رسول اهلل في سفر‪ ،‬فانطلق لحاجته‪ ،‬فرأينا ح َّم َرة معها فرخان‪،‬‬
‫ّ ّ‬ ‫ُ َ ِّ ُ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫َ َ‬
‫فجاءت الحمرة فجعلت تعرش‪ ،‬فجاء النبي فقال‪> :‬من فجع ه ِذهِ‬
‫َ ْ َ َ َ َ‬ ‫فأخذنا ف ْرخ ْي َها‪،‬‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِب َول ِد َها؟ ُر ُّدوا َولد َها ِإل ْي َها<(‪.)2‬‬
‫ٰ‬
‫فعلى‬ ‫ص َبة‪ ،‬وإن لم توجد‬‫الم َراعي الخ ْ‬
‫للدواب َ‬
‫ِّ‬ ‫كما أمرنا رسول اهلل أن نختار‬
‫ِ‬
‫الدواب أن ينتقلوا بها إلى مكان آخر ‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أصحاب هذه‬
‫ُ‬
‫ضى ِب ِه‪َ ،‬وي ُ ِعين‬ ‫يق يُحب الر ْف َق‪َ ،‬وي َ ْر َ‬
‫ُّ‬ ‫يقول رسول اهلل‪> :‬إ َّن اهللَ تَ َب َار َك َوتَ َع َال ٰى َرف ٌ‬
‫ِ‬
‫َ ِ ْ ُ ِّْ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫َ ْ ِ‬
‫ين عَلى ال ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫عَ َل ْيه َ‬
‫ازلها‪ ،‬ف ِإن‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ا‬ ‫وه‬ ‫ل‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ج‬‫ع‬ ‫ال‬ ‫اب‬
‫َّ‬ ‫و‬ ‫ف‪ ،‬فإذا ركِبتم ه ِذهِ َّ‬
‫الد‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫م‬ ‫َ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َِ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت األرض جدبة فانجوا عليها ِب ِنق ِيها‪ .)3(<...‬أي أسرعوا بها للنجاة من تلك‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫كان ِ‬
‫األرض ما دامت قادرة ‪.‬‬
‫ٰ‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ٰ ّ‬
‫أعلى من الرحمة‪ ،‬وأثمن‪ ،‬أوجبها رسول اهلل في‬ ‫أخرى‬ ‫على أن هناك درجة‬
‫معاملة الحيوان‪ ،‬وهي‪ :‬اإلحسان إليه واحترام مشاعره ‪.‬‬

‫((( صحيح البخاري عن أبي هريرة‪ :‬كتاب األدب‪ ،‬حديث رقم (‪.)6009‬‬
‫((( أبو داود‪ :‬كتاب األدب‪ ،‬باب في قتل الذر‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5268‬قال األلباني‪<:‬صحيح> ‪.‬‬
‫((( الموطأ‪ ،‬رواية يحيى الليثي عن خالد بن معدان يرفعه‪ :‬كتاب االستئذان (‪.)979/2‬‬
‫‪181‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َّ‬ ‫ُُ‬ ‫َّ‬


‫ينهى رسول اهلل عن تعذيبه أثناء الذبح‬ ‫ٰ‬ ‫تطبيق لهذا الخلق حين‬ ‫أعظم‬ ‫وإن‬
‫ًّ‬ ‫ٍ‬
‫ألكل لحمه‪ ،‬سواءً كان التعذيب جسديا بسوء اقتياده للذبح‪ ،‬أو برداءة آلة الذبح‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ًّ‬
‫أو كان التعذيب نفسيا برؤية السكين؛ ومن ث َّم يجمع عليه أكثر من َم ْوتة! ‪.‬‬
‫ش َّداد بن أوس قال‪ :‬ثنْ َتان حفظتهما عن رسول اهلل‪ ،‬قال‪> :‬إ َّن اهللَ َك َت َ‬ ‫ٰ َ‬
‫فقد روى‬
‫ب‬ ‫َ َ ْ ََْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الذ ْبح‪،‬‬ ‫اإلح َسان عَلى ك ِّل ش ْي ٍء؛ ف ِإذا قتلت ْم فأح ِسنوا ال ِقتلة‪َ ،‬و ِإذا ذبَحت ْم فأح ِسنوا‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ َ ْ َ َُ َْ ُ ْ َ‬ ‫ِْ‬
‫َولي ِح َّد أحدكم شفرته‪ ،‬فلي ِرح ذ ِبيحته< ‪ .‬وهكذا حق للحيوان أن ينعم باألمن‬
‫َ َ ُ (‪)1‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫واألمان‪ ،‬والراحة واالطمئنان في بيئة عال فيها قول رسول اهلل‪ ،‬وطبِّقت فيها أفعاله‪.‬‬
‫رمحته ! بالبيئة‪:‬‬
‫ً‬
‫جاءت رؤية رسول اهلل للبيئة تأكيدا لتلك النظرة القرآنيَّة الشاملة للكون‪ ،‬التي‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تقوم على أن هناك صلة أساسيَّة وارتباطا متباداًل بين اإلنسان وعناصر الطبيعة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ونقطة انطالقها هي اإليمان بأنه إذا أساء اإلنسان استخدام عنصر من عناصر‬
‫ً‬
‫أضرارا مباشرة ‪.‬‬ ‫ار‬ ‫الطبيعة‪ ،‬أو استنزفه استنزافًا‪ ،‬فإن العالم ُ‬
‫بر َّمته سوف ي ُ َ‬
‫ض ُّ‬
‫ْ َ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫عامة لكل البشر الذين يح َي ْون على ظهر‬ ‫قاعدة َّ‬ ‫ومن ث َّم وضع رسول اهلل‬
‫األرض‪ ،‬وهي عدم إحداث ضرر من أي نوع لهذا الكون‪ ،‬فقال رسول اهلل‪> :‬ال‬
‫ِّ‬
‫ض َر َار‪ .)2(<...‬كما نجد رسول اهلل يحذر من تلويث البيئة‪ ،‬فيقول‪> :‬ا َّتقوا‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ض َر َر َوال‬
‫َ‬
‫الظ ِّل<(‪.)3‬‬
‫الطريق‪َ ،‬و ِّ‬
‫َّ‬ ‫ة‬ ‫ْال َمالَع َن ال َّثالَثَ َة‪ْ :‬ال َب َر َاز في ْال َم َوارد‪َ ،‬و َقارعَ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األذى من حقوق الطريق‪ ،‬فقال رسول اهلل لصحابته‬ ‫ٰ‬ ‫وجعل رسول اهلل إماطة‬
‫الطرقاتِ<‪ .‬فقالوا‪:‬‬
‫ُ ْ َ ْ ُ ُ َ ََ‬ ‫ُ‬
‫الذين يريدون الجلوس في الطريق‪ِ :‬‬
‫َُ‬
‫>إيَّاكم والجلوس على ُّ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ :‬كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان‪ ،‬حديث رقم (‪.)1955‬‬
‫ّ‬

‫((( أحمد عن ابن عباس‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2865‬وهو حديث حسن‪ ...‬وله طرق يقوي بعضها‬
‫ً‬
‫بعضا >جامع العلوم والحكم‪ ،‬الحديث ( ‪. <...) 32‬‬
‫نظرة على‬

‫((( أبو داود عن معاذ بن جبل‪ :‬كتاب الطهارة‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)26‬قال األلباني‪<:‬حسن> ‪.‬‬
‫‪182‬‬

‫َّ‬
‫نتحدث فيها‪ .‬فقال لهم‪> :‬فَإ َذا أَبَ ْيتُ ْم إ َّال ْال َم َجال َ‬ ‫ٌّ َّ‬
‫س‬ ‫َِ‬ ‫مجالسنا‬ ‫هي‬ ‫ما‬ ‫ما لنا بد‪ ،‬إن‬
‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ََُْ‬
‫يق ح َّقها<‪ .‬قالوا‪ :‬وما حق الطريق يا رسول اهلل؟ قال‪ ...> :‬وك ُّ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫الطر َ َ َ‬‫َِّ‬ ‫فأعطوا‬
‫لكل ما فيه إيذاء الناس َّ‬ ‫ٌ ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٰ‬ ‫ُّ‬ ‫ََ‬
‫ممن يستعملون‬ ‫األذى كلمة جامعة‬ ‫وكف‬ ‫األذ ٰى‪.)1(<...‬‬
‫الشوارع والطرقات‪.‬‬
‫كما نجد رسول اهلل يربط بين ثواب اهلل‪ ،‬والمحافظة على البيئة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ََ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ال أُمَّتي‪َ ،‬ح َسن ُ َها َو َسيئُ َها‪ ،‬فَ َو َج ْد ُ‬ ‫ُ َ ْ ََ َ ْ َ ُ‬
‫اسن أع َم ِال َها األذ ٰى‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ِّ‬ ‫>ع ِرضت عل َّي أعم‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ َ َ ُِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫اوي أع َم ِال َها النُّخاعَة تكون ِفي ال َم ْس ِج ِد‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫ي ُ َم ُاط عَ‬
‫يق‪ ،‬ووجدت ِفي مس ِ‬ ‫الط ِر ِ‬ ‫ن َّ‬ ‫ُْ َ ُ ِ‬
‫ال تدفن<(‪.)2‬‬
‫صراحة بنظافة المساكن‪ ،‬فيقول‪> :‬إ َّن اهللَ َطي ٌ‬ ‫ً‬
‫ب‪،‬‬ ‫الطي َ‬
‫ب َّ ِّ‬ ‫ب ي ُ ِح ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِْ‬ ‫ويأمرنا رسول اهلل‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫يف يُحب النَّ َظافَ َة‪ ...‬فنَ‬ ‫نَظ ٌ‬
‫ود<(‪. )3‬‬ ‫شب ُهوا بال َي ُ‬ ‫ََ ْ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫َّ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫أ‬ ‫وا‬‫ف‬ ‫ِّ‬
‫ظ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫نوع‬
‫فما أروع التعاليم النبوية التي تحث على الحياة الطيبة الخالية ِّمن أي ٍ‬
‫الملوثات؛ فتحافظ بذلك على راحة اإلنسان النفسيَّة والصحيَّة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫من أنواع‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ومن ُح ِّ‬
‫يتذوق الجمال ويحث‬ ‫ب رسول اهلل للبيئة ونظافتها نجد رسول اهلل‬
‫الك ْب ِر أن يكون ثوبي‬ ‫ً َ َ‬ ‫ّ‬
‫الذي سأله ْقائال‪ :‬أ ِم ْن ِ‬ ‫للصحابي‬ ‫عليه؛ لذلك قال رسول اهلل‬
‫اس<(‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َج َمال‪ ،‬ال ِك ْب ُر بَط ُر ال َح ِّق َوغ ْم ُط النَّ‬ ‫ح‬ ‫حسنًا ونعلي حسنًا‪> :‬إ َّن اهللَ َجم ٌ‬
‫يل ي ُ‬
‫ُّ‬
‫ِ ً‬ ‫ٰ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َّ‬
‫تعالى لتبقى زاهية‬ ‫وال شك أن من الجمال الحرص على حماية البيئة التي خلقها اهلل‬
‫ً‬
‫بهيجة‪.‬‬

‫((( صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري‪ :‬كتاب المظالم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2465‬‬
‫((( صحيح مسلم عن أبي ٍّ‬
‫ذر‪ :‬كتاب المساجد ومواضع الصالة‪ ،‬حديث رقم (‪.)553‬‬
‫((( الترمذي عن سعد بن أبي وقاص‪ :‬كتاب األدب‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2799‬قال األلباني‪ :‬ضعيف‪،‬‬
‫وقال الترمذي‪ ،‬وخالد بن إلياس يضعف‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم عن عبد‪ ‬اهلل بن مسعود‪ :‬كتاب اإليمان‪ ،‬حديث رقم (‪.)91‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪183 Z‬‬
‫ّ‬

‫ب الروائح الطيِّبة وإشاعتها بين الناس‪،‬‬ ‫كما نجد في إرشاد رسول اهلل إلى ُح ِّ‬
‫وتهاديها‪ ،‬وتجميل البيئة بها؛ حفاظا للبيئة من التلوث؛ حيث قال رسول اهلل‪:‬‬
‫َ ْ‬
‫>من‬
‫يف ْال َم ْحمل َطي ُ‬ ‫ُ َ َ َ ْ َ ْ َ ٌ َ َ ُ َّ ُ َ َّ ُ َ‬
‫يح<(‪.)1‬‬ ‫ِّ ِ‬ ‫الر‬ ‫ب‬ ‫ِ ِ ِّ‬
‫خف ُ‬
‫ع ِرض علي ِه ريحان فاَل يرده؛ ف ِإنه ِ‬
‫>ما ِمن ُم ْس ِلم‬
‫َ ْ‬
‫أمته في غرس األرض وزراعتها‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫وي ُ َر ِّغب رسول اهلل! َّ‬
‫ٍ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ ً َّ َ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ٌ َ َ ُ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ً َ َ َ َ‬
‫السبُ ُع‬ ‫صدقة‪ ،‬و َما أكل َّ‬ ‫يغ ِرس غرسا ِإال كان ما أكِل ِمنه له صدقة‪ ،‬وما سرق ِمنه له‬
‫ان َلهُ‬ ‫ْ ُ َ ُ َ َ ُ َ َ ِ َ ً َ َ َ ْ َ ُ ُ َ َ ٌ َّ َ َ‬ ‫ُْ َُ َ َُ َ ًََ َ َ َََ‬
‫الطير فهو له صدقة‪ ،‬وال يرزؤه أحد ِإال ك‬ ‫ت َّ‬ ‫ِمنه ف ٌهو له صدق ْة‪ ،‬وما أك ِ‬
‫ل‬
‫ُ‬
‫صدقة<(‪ .)2‬كما يَل ِفت األنظار إلى المكاسب التي يجنيها اإلنسان من إحياء األرض‬
‫َ ََ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫عطشى من أعمال ِّ‬
‫البر‬ ‫ٰ‬ ‫غرس بذرة‪ ،‬أو َسقي أرض‬ ‫َ‬ ‫البور؛ إذ جعل زرع شجرة‪ ،‬أو‬
‫َ ْ َ ْ َ َْ ً َ ْ َ ً َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ ً َ َ َ َ َ‬
‫ْواإلحسان‪ ،‬فقال َرسول ٌاهلل‪> :‬من أحيا أرضا ميتة فله ِمنها ـ يع ِني أجرا ـ وما أك ِ‬
‫ت‬ ‫ل‬
‫صدقة<(‪.)3‬‬
‫َْ َُ َ ُ َ َ َ‬
‫ال َع َو ِافي ِمنها فهو له‬
‫أهم الثروات البيئيَّة الطبيعيَّة‪ ،‬فكان االقتصاد‬ ‫ويخص الماء بالذكر باعتباره أحد ِّ‬ ‫ُّ‬
‫ونرى رسول اهلل‬ ‫ٰ‬ ‫مهمتين عند رسول اهلل‪،‬‬ ‫في الماء والمحافظة على طهارته قضيَّ َت ْين َّ‬
‫ِّ‬
‫حتى عندما يكون الماء متوف ًرا ينصح باالقتصاد في استعماله‪.‬‬ ‫ٰ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أن الن ّ ّ‬
‫يتوضأ‪،‬‬ ‫بسعد وهو‬
‫ٍ‬ ‫بي ! َم َّر‬ ‫ومن ذلك ما رواه عبد‪ ‬اهلل بن عمرو‪ ،‬من‬
‫ٌ َ َ ََ ْ َ ْ ُْ َ‬ ‫>ما َه َذا الس َر ُ‬
‫ف يَا َس ْعد؟< قال‪ :‬أفي الوضوء سرف؟ قال‪> :‬نعم‪ ،‬و ِإن كنت‬ ‫فقال‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫َّ‬
‫َ َْ‬
‫عَلى نه ٍر َج ٍار<(‪.)4‬‬
‫التبول في الماء الراكد(‪.)5‬‬ ‫نهى رسول اهلل عن تلويث المياه‪ ،‬وذلك بمنع ُّ‬ ‫كما ٰ‬

‫((( صحيح مسلم عن أبي هريرة‪ :‬كتاب األلفاظ من األدب وغيرها‪ ،‬حديث رقم (‪.)2253‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( صحيح مسلم عن جابر بن عبد‪ ‬اهلل‪ :‬كتاب المساقاة‪ ،‬حديث رقم (‪.)1552‬‬
‫((( أخرجه أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )14269‬وراجع تخريجه الكامل عنده‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( ابن ماجه‪ :‬كتاب الطهارة وسننها‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)425‬قال األلباني‪( :‬ضعيف)‪ ،‬وفي الزوائد‪:‬‬
‫نظرة على‬

‫(‪ ..‬لضعف حي بن عبداهلل وابن لهيعة) ‪.‬‬


‫((( صحيح مسلم عن جابر بن عبد‪ ‬اهلل‪ :‬كتاب الطهارة‪ ،‬حديث رقم (‪.)281‬‬
‫‪184‬‬

‫هذه هي النظرة النبويَّة الشاملة للبيئة‪ ،‬التي مفادها‪ :‬بأن البيئة بجوانبها المختلفة‬
‫ن اهلل في الكون الذي خلقه‬ ‫يتفاعل ويتكامل ويتعاون بعضها مع بعض‪َ ،‬و ْفق ُ‬
‫سنَ‬
‫ِ‬
‫وتعالى في أحسن صورة‪.‬‬ ‫ٰ‬ ‫سبحانه‬
‫‪185‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫المبحث‬
‫نظرة على عالقاته ‪Z‬‬
‫ٌ‬
‫السابع‬
‫بغير المسلمين‬

‫الرسول ! واليهود‪:‬‬
‫دارا لإلسالم والمسلمين‪،‬‬ ‫منذ قدوم رسول اهلل ! إلى المدينة واتخاذها ً‬
‫ِ‬
‫ًّ‬
‫حرص على تنظيم العالقة بين المسلمين وبين اليهود باعتبارهم مواطنين ومكونا‬
‫من مكونات اجملتمع المدني‪ ،‬له حقوقه وخصوصياته ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وبنى عالقته معهم‬ ‫ٰ‬ ‫وقد وقع معهم ! معاهدة تبيِّن حقوقهم وواجباتهم‪،‬‬
‫على أساس التعايش اإلنساني‪ ،‬والتعاون المشترك من أجل المصلحة العامة‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وتركهم يحتكمون إلى شريعتهم‪ ،‬وح َم ٰى خصوصياتهم ‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫سياسي‬ ‫تجميل‬ ‫د‬ ‫ومن ثَ َّم لم يكن الثناء على بعضهم أو االعتراف بوجودهم َّ‬
‫مجر‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫مواقف إيجابية كثيرة‪،‬‬‫َ‬ ‫للواقع الذي يعيشه المسلمون‪ ،‬بل كان حقيقة قائمة‪ ،‬أفرزت‬
‫بل أنتجت تشريعاتٍ في غاية األهمية‪ ،‬كان لها أكبر األثر في تسهيل مهمة التعايش‬
‫بين األديان‪ ،‬والثقافات المختلفة داخل اجملتمع الواحد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وبذلك يتبيَّن لنا أن رسول ! قد أكد على التعايش اإلنساني مع اليهود‪ ،‬من أول‬
‫مهم ٍة معهم‪ ،‬ولم يشأ لهذه‬ ‫يوم دخل فيه المدينة المنورة‪ ،‬بل قام بعقد معاهدات َّ‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫المعاهدات أن تنقضي أو تلغى أبدا‪ ،‬وإنما كان النقض والغدر يأتي دائما من ِقبلِ اليهود‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫النبي محافظا على مبدأ التعايش السلمي‪ ،‬واالعتراف باآلخرين‪،‬‬ ‫وقد ظل‬
‫ّ‬

‫ما دام لم يحدث منهم اعتداء وظلم أو تهديد خطير‪ ،‬بل إنه كان يتجاوز ً‬
‫كثيرا‬
‫نظرة على‬

‫مقبولة من أجل أن تنعم المدينة باالستقرار‪.‬‬


‫ٍ‬ ‫عن تعديَّاتٍ غير‬
‫‪186‬‬

‫حتى إنه قام بعمل قد يستغربه‬ ‫ولم يُغيِّر الرسول هذا النهج إلى آخر حياته‪ٰ ،‬‬
‫يد(‪!!)1‬‬‫د‬
‫َ َ َ َُ ْ ً ْ َ‬
‫ح‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ا‬‫ع‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬‫ل‬ ‫ي إ َلى أ َ َ‬
‫ج‬ ‫اما م ْن ي َ ُهود ٍّ‬ ‫ْ‬
‫اش َت َرى َط َع ً‬ ‫الكثيرون‪ ،‬وهو أنه‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُُ‬ ‫َّ‬
‫ووجه االستغراب‪ :‬أن الصحابة األغنياء كانوا كث ًرا في المدينة المنورة‪،‬‬
‫َ‬
‫أغلى من رسول اهلل‪ ،‬فكان من الميسور أن يُهد ٰى إليه الطعام‪ ،‬أو‬ ‫ولم يكن عندهم ٰ‬
‫على األقل أن يَقترض منهم‪ ،‬أو يرهن درعه عند أحدهم ‪.‬‬
‫ولكن الواضح من الموقف أنه فعل ذلك للتنبيه على جوازه للمسلمين‪،‬‬
‫ً‬
‫ولتوجيه المسلمين إلى جعل العالقة بينهم وبين اليهود طبيعية‪ ،‬ما داموا يحترمون‬
‫جوار المسلمين‪ ،‬وال يعتدون على حرماتهم‪ ،‬ولو وصل الحد إلى رهن الدرع‪،‬‬ ‫َ‬
‫تصرفه كان إلثبات حسن‬ ‫ّ‬ ‫وهو سالح عسكري ُم ِهمٌّ كما هو معلوم‪ ،‬ولكن‬
‫النية‪.‬‬
‫رسول ! والنصارى‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ٰ‬
‫النصارى على أنهم أهل كتاب‪،‬‬ ‫وكما فعل رسول اهلل ! مع يهود‪ ،‬عامل‬
‫وعقد معهم معاهدات في أكثر من مناسبة‪ ،‬مع اختالفه معهم في كثير من األصول‬
‫والفروع االعتقادية‪ ،‬إذ إن بعض معتقداتهم ال يحتمل إال الشرك الصريح باهلل‪،‬‬
‫ههم على تغيير دينهم‪ ،‬وعلى الرغم من خوفه على مصيرهم‬ ‫ومع ذلك لم ي ُ ْكر ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َ َ َ َ ُ ۡ ُ نلَّ َ َ ىَّ َ ُ ُ ْ‬
‫ت يكونوا‬ ‫ٰ‬
‫وتعالى‪﴿ :‬أفأنت تك ِره ٱ اس ح ٰ‬ ‫إال أنه لم يتجاوز فيهم قول اهلل سبحانه‬
‫ن‬
‫ِني﴾ [�يو���س‪. ]99:‬‬
‫ُم ۡؤ ِمن َ‬
‫ُ‬
‫فالمساحة المتاحة له معهم هي دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬وجدالهم‬
‫بالتي هي أحسن‪ ،‬وبعد ذلك يُتركون وشأنهم ليختاروا ما أرادوا‪ ،‬ومن هذا المنطلق‬
‫ٰ‬
‫النصارى على نصرانيَّتهم‪،‬‬ ‫َقبل رسول اهلل أن ي َ ٰ‬
‫بقى اليهود على يهوديتهم‪ ،‬وأن ي َ ٰ‬
‫بقى‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫طيبة بين الطوائف كلها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫بصورة ِسلمي ٍة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وأن يستمر التعامل‬

‫((( البخاري عن السيدة عائشة ل‪ :‬كتاب الرهن‪ ،‬باب من رهن درعه‪ ،‬حديث رقم (‪.)2509‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪187 Z‬‬
‫ّ‬

‫َّ‬
‫ِينۖ﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪ ،]256 :‬وأن الذي‬ ‫إن المبدأ العام واضح‪ ،‬وهو أنَّه ﴿ اَلٓ إ ۡك َراهَ ف ّ‬
‫ٱدل‬
‫َّ‬
‫يِ‬ ‫ِ‬
‫يُسلم دون رغبة‬
‫ِ‬
‫حقيقية ال ينفع نفسه وال مجتمعه ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫معنى ـ إذا ـ لقبول إسالم من أسلم ظاهريًا وهو يبطن الكفر في داخله‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫فال‬
‫ً‬
‫وال معنى أيضا الستمرار الصراع والتنافر‪.‬‬

‫حتى يأتي يوم يحكم‬ ‫فلتكن الحياة الطبيعية الهادئة مع الطوائف غير المسلمة‪ٰ ،‬‬
‫فيه اهلل بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون‪ ..‬يقول سبحانه‪﴿ :‬إِن َر َّبك َيق يِض بَ ۡي َن ُه ۡم يَ ۡو َم‬
‫َ ۡ‬ ‫َّ‬

‫ِيما كنوا فِيهِ ي َتل ِفون﴾ [ا ��جل��ا ��ثي���ة‪.]17 :‬‬


‫خَ ۡ ُ َ‬ ‫َ اَ ُ ْ‬ ‫ۡ‬
‫ٱلقِ َيٰ َمةِ ف‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫شطر كبير من حياته أن يتعايش مع المشركين‪ ،‬ونزلت‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ق‬ ‫الرسول‬ ‫إن‬ ‫بل‬
‫ل‬ ‫ك ۡم َو َ‬ ‫ُ ۡ ُ ُ‬
‫تعالى‪﴿ :‬لكم دِين‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫تترى على هذا النحو في مكة المكرمة‪ ..‬قال‬ ‫ٰ‬ ‫اآليات‬
‫يِ‬
‫ِين﴾ [ا �ل ك�‬
‫��ا ف�رو ن�‪.]6 :‬‬ ‫د ِ‬
‫أ‬
‫ِني﴾ [ال� �عرا �ف�‪ .]199 :‬وقال‬
‫جٰهل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال ً‬
‫أيضا‪ُ ﴿ :‬خذ ۡٱل َع ۡف َو َوأۡ ُم ۡر ب ۡٱل ُع ۡرف َوأَ ۡعر ۡض َعن ۡٱل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ۡ ۡ َ ۡ ُ رۡ‬
‫شك ِني﴾ [ ح�� ج ر‪.]94 :‬‬
‫�‬ ‫�‬
‫ل‬
‫�‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫سبحانه‪﴿ :‬وأعرِض ع ِن ٱلم ِ‬
‫لقد كان هذا نهجه في مكة‪ ،‬ولكنهم حاربوه واضطهدوه وأخرجوا أصحابه‪،‬‬
‫وطاردوهم‪ ،‬وضيَّقوا عليهم كل سبيل‪ ،‬فلم يكن بدٌّ من القتال والمقاومة‪.‬‬
‫منهجه ! يف التعامل مع النصارى‪:‬‬
‫ُ‬
‫جانب التبشير‪ ،‬ولم يكن‬ ‫غلب على حياة الرسول اهلل ! وعلى أقواله وأفعاله‬
‫يخرج عن هذا المنهج بالرغم من قسوة المشركين عليه‪.‬‬
‫ًّ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫اد الديلي ـ وكان جاهليا ثم أسلم ـ قال‪ :‬رأيت رسول‬ ‫ٰ‬


‫روى ربيعة بن عبَّ‬
‫ٍ‬
‫ولوا‪ :‬ال َ إ َل َه إال َّ اهللُ‬
‫ُ ُ ُ‬ ‫ص َر عيني بسوق ذي اجملاز يقول‪> :‬أَي َ‬ ‫اهلل بَ َ‬
‫ّ‬

‫ِ ِ‬ ‫ق‬ ‫‪،‬‬ ‫اس‬‫َّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ُّه‬


‫ُْ ُ‬
‫تف ِلحوا<‪.‬‬
‫نظرة على‬
‫‪188‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫صفون(‪ )2‬عليه‪ ،‬فما رأيت أحدا يقول شيئا‪،‬‬ ‫ويدخل في فجاجها(‪ )1‬والناس ُم َت َق ِّ‬
‫ُْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫اس‪ ،‬قولوا‪ :‬ال ِإل َه ِإال َّ اهللُ تف ِلحوا<‪.‬‬ ‫وهو ال يسكت‪ ،‬يقول‪> :‬أي َُّها النَّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ‬
‫كاذب‪.‬‬ ‫صابئ‬ ‫يرتين‪ ،‬يقول‪ :‬إنه‬ ‫ض َيء الوجه ذا غ ِد‬ ‫إال أن وراءه رجاًل أحول و ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فقلت‪ :‬من هذا؟ قالوا‪ :‬محمد بن عبد‪ ‬اهلل‪ ،‬وهو يذكر النبوة‪ .‬قلت‪ :‬من هذا الذي‬
‫كذبه؟ قالوا‪َّ :‬‬ ‫ُ ِّ‬
‫لهب(‪.)3‬‬
‫ٍ‬ ‫أبو‬ ‫ه‬ ‫عم‬ ‫ي‬
‫حتى مع السفاهة الواضحة ألبي‬ ‫ٰ‬ ‫فالرسول لم يخرج عن أدبه في المعاملة‬
‫َّ‬
‫جهل وأبي لهب‪ ،‬وظل على منهج التبشير يدعو الناس إلى الفالح والنجاة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ُْ‬ ‫ِّ‬
‫ك الدنيا قبل نعيم اآلخرة‪ ،‬إن هم آمنوا باهلل ولم يشركوا‬ ‫بل إنه كان يبشرهم بمل ِ‬
‫ً‬
‫به شيئا‪.‬‬
‫قريش وجاءه الن ّ ّ‬
‫بي‬ ‫ٌ‬ ‫قال عبد‪ ‬اهلل بن عباس ‪> :R‬مرض أبو طالب فجاءته‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يمنعه‪ ،‬وشكوه‬ ‫رجل‪ ،‬فقام أبو جهل كي‬ ‫ٍ‬ ‫مجلس‬ ‫!‪ ،‬وعند أبي طالب‬
‫ُ ُ ُْ ْ َ َ ً‬
‫>إنِّي أ ِريد ِمنهم ك ِلمة‬ ‫قومك؟ قال‪ِ :‬‬ ‫إلى أبي طالب‪ ،‬فقال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬ما تريد من‬
‫َ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ َْ‬ ‫ين َل ُه ْم ب َها ْال َع َر ُ‬
‫ب‪َ ،‬وتؤدِّي ِإلي ِهم العجم ال ِجزية<‪.‬‬
‫َُ‬ ‫َ ًَ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫احدة ت ِد‬ ‫و ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ ًَ َ ًَ‬
‫احدة<‪ .‬قال‪> :‬يَا عَ ِّم‪ ،‬قولوا‪ :‬ال ِإل َه ِإال َّ اهللُ<‪.‬‬ ‫قال‪ :‬كلمة واحدة؟! قال‪> :‬ك ِلمة و ِ‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫فقالوا‪ً :‬‬
‫إلها واحدا؟! ما سمعنا بهذا في الملة اآلخرة إن هذا إال اختالق‪.‬‬
‫َ ذَّ َ َ َ ْ‬
‫ِين كف ُروا يِف ع َِّزة ٖ‬
‫ّ ۡ‬
‫ان ذِي ٱذلِك ِر ‪ ١‬ب ِل ٱل‬ ‫قال‪ :‬فنزل فيهم القرآن‪َ ۡ ُ ۡ َ ٓ ﴿ :‬‬
‫ص وٱلقرء ِ‬ ‫ۚ‬
‫اق﴾ إلى قوله‪َ ﴿ :‬ما َس ِم ۡع َنا ب ِ َهٰذا يِف ٱل ِملةِ ٱٓأۡلخِرة ِ إِن هذا إِل ٱختِلق﴾ [��سور� �ص‪. ]7:‬‬
‫ة‬
‫(‪)4‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٰ‬ ‫َ ۡ َ ٰ َ ٓ اَّ ۡ َ‬ ‫ۡ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫وشِق ٖ‬

‫َ ّ‬
‫((( الفجاج‪ :‬جمع الفج‪ ،‬وهو الطريق الواسع والمكان البعيد‪ .‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة‬
‫فجج ‪.338/2‬‬
‫ِّ‬
‫المتقصفون‪ :‬المزدحمون واجملتمعون‪ .‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة قصف ‪.283/9‬‬ ‫(((‬
‫((( أحمد (‪ ،)16027 - 16020‬و(‪ ،)341‬وراجع هناك تخريجه وتصحيحه‪.‬‬
‫((( الترمذي‪ :‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب سورة ص‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3232‬وقال‪<:‬هذا حديث حسن>‪.‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪189 Z‬‬
‫ّ‬

‫فهو ال يعبس في وجوهم‪ ،‬وال يقاطع مجالسهم‪ ،‬وال ينظر لهم نظرة المتكبِّر‬
‫ّ‬
‫ويبشرهم ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بملك الدنيا ونعيم اآلخرة‪.‬‬ ‫المعرض‪ ،‬إنما يتلطف إليهم ويتودد‪،‬‬
‫ً َّ‬ ‫َّ‬
‫أيضا أن الرسول ! تعامل في حياته مع كل الطوائف التي من‬ ‫وال شك‬
‫ِّ‬
‫المحتمل أن يتعامل معها المسلمون‪ ،‬ومر بكل الظروف التي من الممكن أن تمر‬
‫بها األمة اإلسالمية ‪.‬‬
‫فمن ظروف حرب إلى ظروف سلم‪ ،‬ومن أيام غنى إلى أيام فقر‪ ،‬ومن فترات‬
‫قوة‪ ،‬إلى فترات ضعف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫عمليا للدين‬ ‫وتمثل السيرة النبوية إعجازا إلهيا واضحا جليا في كونها تطبيقا‬
‫ً‬
‫اإلسالمي في وقت وجيز‪ ،‬لم يتجاوز ثالثا وعشرين سنة؛ حتى يتحقق التوجيه‬
‫هَّ ُ ۡ َ ٌ َ َ َ ‪ َ ّ ٞ‬اَ َ َ ۡ ُ ْ هَّ َ يۡ‬
‫الرباني الحكيم‪﴿ :‬لق ۡد كن لك ۡم يِف َر ُسو ِل ٱللِ أسوة حسنة ل ِمن كن يرجوا‬
‫َّ َ اَ َ َ ُ‬
‫ٱلل َوٱلَ ۡو َم‬
‫أ‬
‫ريا﴾ [ال� �ح�ز ا ب�‪.]21 :‬‬‫ٱلل َكث ِ ٗ‬
‫ٱٓأۡلخ َِر َو َذ َك َر هَّ َ‬
‫َّ‬
‫ولقد تعامل رسول اهلل مع كل األمور التي واجهته بطريقة فذة‪ ،‬وأسلوب حكيم‪،‬‬
‫ً‬ ‫َُ‬
‫المط َّهرة كنوزا ثمينة من فنون التعامل‪ ،‬ومن آداب العالقات ‪.‬‬ ‫وقد حفظت لنا السنة‬
‫وبرز في كل جانب من جوانب حياته العنصر األخالقي‪ ،‬كعنصر في سلوكه‬
‫صل‬ ‫خ ُلق كريم‪ ،‬وأدب رفيع‪َ ،‬‬
‫وو َ‬ ‫ُ‬
‫وتصرفاته وال يخلو قول أو فعل لرسول اهلل من‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مبالغة ـ إلى قمة الكمال البشري‪ ،‬وهذا الذي نستطيع أن نفهمه من قوله‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ـ بال‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ق<(‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ ُ‬
‫>إنما ب ِعثت ألت ِّمم مك ِارم األخال ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫بروز واضح‬
‫ٍ‬ ‫فعل من‬
‫ٍ‬ ‫موقف وال حدث وال قول‪ ،‬وال رد‬ ‫وهكذا فال يخلو‬
‫ٍ‬
‫حتى في المواقف التي يصعب فيها تصور األخالق‬ ‫ٰ‬ ‫لهذه األخالق الحميدة‪،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫مؤثر‪ ،‬وذلك كأمور الحرب والسياسة‪ ،‬والتعامل مع الظالمين والفاسقين‬ ‫ٍ‬ ‫كعامل‬
‫ٍ‬
‫ّ‬

‫ِّ‬
‫والمحاربين للمسلمين والمتربصين بهم‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( السلسلة الصحيحة (‪.)45‬‬


‫‪190‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫لقد كانت معضلة حقيقية عند كثير من المتعاملين بالسياسة أن تنضبط تعامالتهم‬
‫ِّ‬
‫المتمعن في مواقفها‬ ‫إنسانية‪ ،‬ولكن الدارس للسيرة النبوية‪،‬‬ ‫ِبقيم أخالقية وضوابط‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫القيم وتلك الضوابط األخالقية واضحة في كل مواقف السيرة بال استثناء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هذه‬ ‫يجد‬
‫ُُ‬
‫وال غرو في ذلك‪ ،‬فهذا الخلق هو الذي وصفه اهلل بالخلق العظيم‪ ،‬حيث قال‬
‫يم ﴾ [ا �ل���ق��ل ‪.]4:‬‬ ‫ك لَ َع ىَ ٰ ُ ُ َ‬
‫ل خل ٍق ع ِظ ٖ‬
‫َّ َ‬
‫يخاطبه‪ِ﴿ :‬إَون‬
‫م‬
‫فإن السيرة النبوية معين ٌّ‬ ‫َّ‬
‫ثر ال ينضب؛ في الجانب النظري‪ ،‬وفي‬ ‫ومن هنا‬
‫الجانب التطبيقي‪.‬‬
‫َّ‬
‫لقد أثبت رسول اهلل أن األحكام الشرعية والمثل الراقية التي جاءت في كتاب‬
‫اهلل قابلة للتطبيق‪ ،‬وأنها األصلح لتنظيم حياة البشر أجمعين‪ ،‬وأنها النور المبين‬
‫لمن أراد الهداية بصدق‪.‬‬
‫ووفِّقت ُّ‬
‫ُ‬ ‫َ ََ‬ ‫ً ّ‬ ‫ً‬
‫أم المؤمنين‬ ‫صدقت‬ ‫أمر إلهي‪ ،‬وقد‬ ‫ٍ‬ ‫لكل‬ ‫صادقة‬ ‫ترجمة‬ ‫كما كانت حياته‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عائشة في وصف أخالقه ! عندما قالت‪> :‬كان خلق ُه الق ْرآن<(‪.)1‬‬
‫ِّ‬
‫إنها صفحة بيضاء نقية‪ ،‬ما أحسب أن الفالسفة والمنظرين والمفكرين‬
‫حيا بين الناس‪ٰ ،‬‬ ‫ً ًّ‬ ‫َّ ً‬
‫حتى إن أفالطون‬ ‫مرة أنها يمكن أن تكون واقعا‬ ‫قد تصوروا‬
‫في جمهوريته والفارابي في مدينته الفاضلة‪ ،‬وتوماس مور في مدينته الفاضلة الثانية‬
‫صلوا في التنظير إلى مثقال ذرة مما كان عليه رسولنا ! في الواقع‪.‬‬ ‫َ‬
‫(اليوتوبيا) لم ي ِ‬
‫ونقتصر في الحديث هنا على تعامل الرسول ! مع غير المسلمين‬
‫من المسالمين المعاهدين‪ ،‬الذين يعيشون في اجملتمع المسلم‪.‬‬
‫عدله ! مع املخالفني له‪:‬‬
‫ُ‬ ‫إذا كانت صور عدل الرسول ! التي َّ‬
‫مرت بنا فيما سبق مع المسلمين تثير‬
‫َّ‬
‫دهشتنا‪ ،‬فالعجب كل العجب من عدله رسول اهلل عندما يحكم بين مسلم وغير‬

‫((( رواه البخاري في األدب المفرد (‪.)308‬‬


‫‪191‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َ‬
‫أمر ُمطلق‪ ،‬ال عالقة له باألديان واألجناس والعصبيات‬ ‫عنده ٌ‬ ‫مسلم؛ فالعدل‬
‫والمصالح المتعارضة‪ ،‬وغير ذلك من الروابط األرضية والعالقات الدنيوية‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫رجل من‬ ‫وأمثال هذه المواقف في السيرة النبوية كثيرة نذكر منها‪ :‬عندما سرق‬
‫إحدى قبائل األنصار من بني أبيرق بن ظفر بن الحارث‪ ،‬وكان َ‬
‫اسمه‬ ‫ٰ‬ ‫المسلمين من‬
‫ُ‬
‫في رواية‪> :‬طعمة بن أبيرق<‪ ،‬وفي رواية أخرى‪> :‬بشير بن أبيرق<‪.‬‬
‫جار له مسلم يقال له‪> :‬قتادة بن النعمان<‪،‬‬ ‫ً‬
‫وكان هذا الرجل قد سرق درعا من ٍ‬
‫خرق في الجراب‬ ‫فلما حمله جعل الدقيق ينتثر من‬ ‫وأخفى الدرع في جراب فيه ٌ‬
‫دقيق‪َّ ،‬‬ ‫ٰ‬
‫ٍ‬
‫رجل من اليهود يقال له‪> :‬زيد بن السمين<‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫انتهى إلى الدار‪ ،‬ثم خبَّأها عند‬
‫ٰ‬ ‫ٰ‬
‫حتى‬
‫ت الدرع عند >طعمة< فحلف باهلل ما أخذها‪ ،‬فقال أصحاب الدرع‪ :‬لقد رأينا‬ ‫ُ َ‬
‫فالت ِمس ِ‬
‫أثر الدقيق في داخل داره‪.‬‬
‫اليهودي‪ ،‬فوجدوا الدرع‬ ‫ُّ‬ ‫فلما حلف تركوه‪ ،‬واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫إلي طعمة بن أبيرق!! فجاء بنو ظفر ـ وهم قوم طعمة ـ‬ ‫اليهودي‪ :‬دفعها َّ‬ ‫عنده‪ ،‬فقال‬
‫َّ‬
‫اليهودي‪،‬‬ ‫فه َّم رسول اهلل أن يعاقب‬ ‫إلى رسول اهلل‪ ،‬وسألوه أن يجادل عن صاحبهم‪َ ،‬‬
‫َّ ٓ َ َ نۡ َ ٓ يَ ۡ َ‬
‫فأنزل اهلل هذه اآليات من سورة النساء‪﴿ :‬إِنا أنزلا إِل‬
‫حۡ َ ّ َ ۡ ُ‬
‫ك َم َبينۡ َ‬ ‫ك ۡٱلك َِتٰ َ‬
‫ب بِٱل ِق لتِ ح‬
‫ٱلل اَك َن َغ ُف ٗ‬ ‫ٱس َت ۡغ ِفر هَّ َ‬
‫ٱلل إ َّن هَّ َ‬ ‫يما ‪َ ١٠٥‬و ۡ‬ ‫ِني َخص ٗ‬ ‫كن ّل ِۡل َخآئن َ‬ ‫َ ٓ َ َ ٰ َ هَّ ُ َ اَ َ ُ‬
‫ورا‬ ‫ِ ۖ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس بِما أرىك ٱللۚ ول ت‬ ‫ٱنلَّ ِ‬
‫ِيما ‪١٠٧‬‬ ‫ٱلل اَل حُي ُِّب َمن اَك َن َخ َّوانًا أَث ٗ‬ ‫نف َس ُه ۡم إ َّن هَّ َ‬ ‫َ اَ ُ َ ٰ ۡ َ ذَّ َ خَ ۡ َ ُ َ َ ُ‬
‫ِيما ‪ ١٠٦‬ول تجدِل ع ِن ٱلِين يتانون أ‬ ‫َّرح ٗ‬
‫ۚ ِ‬
‫َۡ‬
‫ض م َِن ٱلق ۡو ِل ۚ‬ ‫ون َما اَل يَ ۡر ىَ ٰ‬ ‫َ اَ َ ۡ َ ۡ ُ َ َ هَّ َ ُ َ َ َ ُ ۡ ۡ ُ َ ّ ُ َ‬
‫اس ول يستخفون مِن ٱللِ وهو معهم إِذ يبيِت‬
‫ُۡ َ‬
‫ي َ ۡس َتخفون م َِن ٱنلَّ ِ‬
‫حۡ َ َ ٰ ُّ ۡ َ َ َ ُ َ ُ‬ ‫تۡ َ ۡ‬ ‫َ ٰٓ َ ُ ۡ َ ٰٓ ُ اَ ٓ‬ ‫ون حُم ً‬ ‫َ اَ َ هَّ ُ َ َ ۡ َ ُ َ‬
‫جٰدِل‬ ‫هؤلءِ َج ٰ َدلُ ۡم عن ُه ۡم يِف ٱليوة ِ ٱدلنيا فمن ي‬ ‫ِيطا ‪ ١٠٨‬هأنتم‬ ‫وكن ٱلل بِما يعمل‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫اٗ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫هَّ َ َ‬
‫ٱلل ع ۡن ُه ۡم يَ ۡو َم ٱل ِق َيٰ َمةِ أم َّمن يَكون َعل ۡي ِه ۡم َوك ِيل ‪َ ١٠٩‬و َمن َي ۡع َمل ُس ٓو ًءا أ ۡو َيظل ِۡم نف َس ُهۥ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫َ َ َ ۡ ۡ ۡ ٗ َ َّ َ َ ۡ ُ ُ لَىَ ٰ َ ۡ‬ ‫ورا َّرح ٗ‬‫ٱلل َغ ُف ٗ‬‫ٱلل جَي ِد هَّ َ‬‫ُث َّم ي َ ۡس َت ۡغفِر هَّ َ‬
‫سهِۚۦ‬ ‫ع نف ِ‬ ‫ِيما ‪ ١١٠‬ومن يكسِب إِثما فإِنما يكسِبهۥ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٱح َت َم َل ُب ۡه َتٰناٗ‬‫ِب َخطيَٓ ٔ ًة أَ ۡو إثۡ ٗما ُث َّم يَ ۡر ِم بهِۦ بَر ٗيٓ ٔا َف َقد ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ َ ۡ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َو اَك َن هَّ ُ‬
‫ّ‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل عل ِيما حكِيما ‪ ١١١‬ومن يكس‬


‫ِإَوث ٗما ُّمب ِ ٗينا﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪.)1(]112-105‬‬
‫ۡ‬
‫نظرة على‬

‫((( الترمذي عن قتادة بن النعمان ‪ 3036‬قال األلباني (حسن)‪.‬‬


‫‪192‬‬

‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬


‫اليهودي لوجود القرائن ضده‪ ،‬ولكن‬ ‫لقد اعتقد رسول اهلل أن السارق هو‬
‫ً‬
‫الوحي نزل بخالف ذلك؛ فلم يكتم شيئا ـ وحاشاه ـ بل قام وأعلن بوضوح‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫اليهودي بريء‪ ،‬وأن السارق‬ ‫وصراحة أن‬
‫ٍّ‬
‫يهودي اجتمع قومه من اليهود‬ ‫وليس األمر هينًا؛ حيث إن التبرئة تأتي في ِّ‬
‫حق‬
‫ِّ‬
‫على تكذيب اإلسالم‪ ،‬والكيد له‪ ،‬والطعن في رسوله‪ ،‬وبث الفرقة بين أتباعه‪..‬‬
‫ٍّ‬
‫يهودي بغير حق‪.‬‬ ‫تبرر اتهام‬‫ومع ذلك‪ ،‬فكل هذه السلبيات والخلفيات ال ِّ‬
‫إحدى قبائل األنصار‪ ،‬وما أدراك من هم‬ ‫ٰ‬ ‫وهذا االتهام في حق رجل مسلم من‬
‫َ‬
‫األنصار!! هم الذين آووا ونصروا‪ ،‬وهم كر ُ‬
‫ش الرسول ! وعيبته(‪ ،)1‬وهم أهل‬ ‫ِ‬
‫مبر ًرا‬ ‫دار اإلسالم‪ ،‬وعلى أكتافهم قامت الدولة اإلسالمية‪ ،‬ولكن ُّ‬
‫كل هذا ليس ِّ‬
‫سارق منهم‪ ،‬ولو كان على حساب يهودي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لتبرئة‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫إضافة إلى أن هذا الموقف قد يُعطي مساحة جديدة لليهود‪ ،‬يكيلون فيها‬
‫ُّ‬
‫التهم واالدعاءات للمسلمين‪ :‬فها هم المسلمون يسرقون‪ ،‬وها هم يرمون األبرياء‬
‫ُّ‬
‫بالتهم‪ ،‬وها هم يجتمعون على نصرة ظالم‪ ،‬وها هم يكذبون‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫إنها ِمساحة واسعة قد أتيحت لليهود؛ ليواصلوا طعنَهم في جسد األمة‬
‫َّ‬
‫ِّ‬
‫الحق وإقامة العدل‪.‬‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ومع كل ذلك كان ال بُد من إحقاق‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إن األمر لم يكن مجرد تبرئة رجل وإدانة آخر‪( ،‬إنما كان أمر تربية هذه‬
‫الجماعة الجديدة؛ لتنهض بتكاليفها في خالفة األرض وفي قيادة البشرية‪ ،‬وهي‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫منهج فريد‬ ‫ال تقوم بالخالفة في األرض‪ ،‬وال تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها‬
‫ِّ ٌ‬
‫متفوق على كل ما تعرف البشرية‪ ،‬وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية‪،‬‬
‫ض عنه ُّ‬ ‫شديدا‪ ،‬وتُنْ َف َ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وحتى ي ُ َم َّح َ‬
‫كل خبيئة من ضعف البشر‪،‬‬ ‫تمحيصا‬ ‫ص كيانها‬
‫ُ‬
‫ومن رواسب الجاهلية‪ ،‬وحتى يقام فيها ميزان العدل ـ لتحكم به بين الناس ـ‬

‫((( كرشي وعيبتي‪ :‬أي بطانتي وخاصتي‪ .‬انظر‪ :‬ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪ ،121/7‬وصحيح‬
‫البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3799‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪193 Z‬‬
‫ّ‬

‫ً‬
‫مجردا من جميع االعتبارات األرضية‪ ،‬والمصالح القريبة الظاهرة‪ ،‬والمالبسات‬
‫التي يراها الناس شيئًا ً‬
‫كبيرا ال يقدرون على تجاهله!)(‪.)1‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫قائد‬
‫فهل هناك مثل هذه المواقف في تاريخ أمة غير أمة اإلسالم؟ هل بلغ أي ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫من َّ‬
‫التجرد للحق‪ ،‬وإظهار العدل وتطبيقه‪ ،‬ومن‬ ‫قواد األرض مثلما بلغ رسولنا من‬
‫السماحة واألمانة في التعامل مع غير أتباع دينه؟!‬
‫ومن الجدير بالذكر في القصة السابقة أن نذكر أن هذا المسلم الذي قام بالسرقة‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ـ واتهم بها اليهودي ـ كان من المنافقين الذين ظهر نفاقهم وتأكد بعد هذه الحادثة‪.‬‬
‫بيت‬
‫ٍ‬ ‫وهذا واضح فيما رواه الترمذي عن قتادة بن النعمان‪ ،‬قال‪ :‬كان أهل‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫منا يقال لهم بنو أبيرق‪ٌ :‬‬
‫بشير رجاًل منافقا‪ ،‬يقول الشعر‬ ‫ومبشر‪ ،‬وكان‬ ‫وبشير‬ ‫بشر‬
‫يهجو به أصحاب رسول اهلل‪ ،‬ثم ينحله بعض العرب‪ ،‬ثم يقول‪ :‬قال فالن كذا‬
‫وكذا‪ ،‬قال فالن كذا وكذا‪.‬‬
‫فإذا سمع أصحاب رسول اهلل ذلك الشعر قالوا‪ :‬واهلل ما يقول هذا الشعر إال هذا‬
‫الخبيث ـ أو كما قال الرجل ـ وقالوا‪ :‬ابن األبيرق قالها‪.‬‬
‫َّ‬
‫قال‪ :‬وكان أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية واإلسالم‪ ،‬وكان الناس إنما‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والشعير‪ ،‬وكان الرجل إذا كان له يسار‪ ،‬فقدمت ضافطة‬ ‫التمر‬ ‫طعامهم بالمدينة‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫من الشام من الدرمك(‪ )2‬ابتاع الرجل منها‪ ،‬فخص بها نفسه‪ ،‬وأما العيال فإنما‬
‫طعامهم التمر والشعير ‪.‬‬

‫((( سيد قطب‪ :‬في ظالل القرآن ‪.753/2‬‬


‫شخصيته ‪Z‬‬

‫كاري‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ََ َ‬ ‫والض َّفاط‪ :‬الذي ي َ ْج ُ‬


‫َّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫ض ِافطة من الد ْر َمك‪:‬‬
‫الطعام والمتاع إلى المدن‪ .‬والم ِ‬
‫َ ْ ُ‬
‫لب‬ ‫الض ِافط‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫(((‬
‫َّ‬ ‫الذي يُكري األح َمال‪ ،‬وكانوا يومئذ ً‬
‫قوما من األنباط يح ِملون إلى المدينة الدقيق والزيت‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬

‫ِ‬
‫والدرمك‪ :‬هو الدقيق األبيض‪.‬‬ ‫ ‬
‫نظرة على‬

‫والمقصود‪ :‬بضاعة من الشام فيها هذا النوع من الدقيق‪ .‬ابن األثير‪ :‬النهاية في غريب‬ ‫ ‬
‫الحديث واألثر ‪.201/3‬‬
‫‪194‬‬

‫زيد حماًل من الدرمك فجعله‬ ‫ِّ‬


‫فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن ٍ‬
‫درع وسيف‪ُ ،‬‬‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫فعدي عليه من تحت البيت‬ ‫في َمشربة(‪ )1‬له‪ ،‬وفي المشربة سالح‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فنقبت المشربة‪ ،‬وأخذ الطعام والسالح‪.‬‬
‫عمي رفاعة‪ ،‬فقال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬إنه قد عُدي علينا في ليلتنا‬‫فلما أصبح أتاني ّ‬‫َّ‬
‫ُ‬
‫هذه‪ ،‬ونقبت مشربتنا‪ ،‬فذهب بطعامنا وسالحنا‪.‬‬
‫فتحسسنا في الدار وسألنا‪ ،‬فقيل لنا‪ :‬قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه‬
‫نرى إال على بعض طعامكم‪ .‬قال‪ :‬وكان بنو أبيرق قالوا‬ ‫نرى فيما ٰ‬ ‫الليلة‪ ،‬وال ٰ‬
‫َ‬
‫سهل ـ رجاًل منَّا‬ ‫ٍ‬ ‫بن‬ ‫لبيد‬ ‫نرى صاحبكم إال‬ ‫ـ ونحن نسأل في الدار ـ‪ :‬واهلل ما ٰ‬
‫فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال‪ :‬أنا أسرق؟! فواهلل ليخالطنكم‬ ‫له صالح وإسالم ـ َّ‬
‫ّ‬ ‫ُ َّ‬
‫هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة‪ .‬قالوا‪ :‬إليك عنا أيَّها الرجل‪ ،‬فما أنت بصاحبها‪.‬‬
‫عمي‪ :‬يا ابن أخي‪،‬‬ ‫نشك أنَّهم أصحابها‪ ،‬فقال لي ّ‬ ‫َّ‬
‫حتى لم‬ ‫فسألنا في الدار ٰ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫لو أتيت رسول اهلل فذكرت ذلك له‪ .‬قال قتادة‪ :‬فأتيت رسول اهلل‪ ،‬فقلت‪ :‬إن أهل‬
‫ً‬ ‫أهل جفاء‪ ،‬عمدوا إلى ّ‬ ‫َ‬
‫عمي رفاعة بن زيد‪ ،‬فنقبوا مشربة له وأخذوا‬ ‫بيت منَّا‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سالحه وطعامه‪ ،‬فليردوا علينا سالحنا‪ ،‬فأما الطعام فال حاجة لنا فيه‪ .‬فقال النبي‪:‬‬
‫آم ُر ِفي ذ ِلك<‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫>س ُ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجاًل منهم يقال له‪ :‬أسير بن عروة فكلموه في ذلك؛‬
‫إن قتادة بن النعمان َّ‬ ‫َّ‬
‫وعمه‬ ‫فاجتمع في ذلك ناس من أهل الدار‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪،‬‬
‫بينة وال ثبت‪.‬‬ ‫وصالح يرمونهم بالسرقة من غير ٍ‬ ‫عمدوا إلى أهل بيت منَّا أهل إسالم‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ت ذ ِك َر ِمن ُه ْم‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬
‫قال قتادة‪ :‬فأتيت رسول اهلل َفكلمته‪ ،‬فقال‪> :‬عمدت ِإلى أهلِ بي ٍ‬
‫َ‬ ‫السر َقة عَلى َغ ْير ثَ ْ‬
‫اَلح تَ ْرميه ْم ب َّ‬ ‫ْ ٌ َ َ ٌ‬
‫ت َوال بَيِّنَ ٍة<‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإساَلم وص‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ُ‬
‫أكلم رسول اهلل‬ ‫ولوددت أني خرجت من بعض مالي‪ ،‬ولم‬ ‫قال‪ :‬فرجعت‬

‫((( مشربة‪ :‬الغرفة والعلية‪ .‬المباركفوري‪ :‬تحفة األحوذي ‪.314/8‬‬


‫‪195‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫في ذلك‪ ،‬فأتاني ّ‬


‫عمي رفاعة فقال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي‬
‫رسول اهلل‪ ،‬فقال‪ :‬اهلل المستعان‪.‬‬
‫َّ ٓ َ َ نۡ َ ٓ يَ ۡ َ ۡ َ‬
‫فلم يلبث أن نزل القرآن ﴿إِنا أنزلا إِلك ٱلكِتب بِٱل ِق لتِ حكم ب ٱ ِ‬
‫َٓ‬ ‫نلَّ‬ ‫َ‬ ‫حۡ َ ّ َ ۡ ُ َ َينۡ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬
‫اس بِما‬
‫َ َ ٰ َ هَّ ُ َ اَ َ ُ ّ ۡ َ‬
‫يما﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪.]105 :‬‬ ‫خآئن َ‬
‫ِني َخص ٗ‬
‫ِ‬ ‫أرىك ٱللۚ ول تكن ل ِل ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫فلما نزل القرآن ٰ‬
‫أتى رسول اهلل بالسالح‪ ،‬فرده إلى رفاعة‪ ،‬فقال قتادة‪ :‬لما‬
‫شيخا قد عَم َي أو عشي في الجاهلية‪ ،‬وكنت ٰ‬ ‫ً‬ ‫أتيت ّ‬
‫أرى إسالمه‬ ‫ِ‬ ‫عمي بالسالح وكان‬
‫ُ‬
‫مدخواًل‪ ،‬فلما أتيته بالسالح قال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬هو في سبيل اهلل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ ّ‬
‫بشير بالمشركين‪ ،‬فنزل‬ ‫ٌ‬ ‫فعرفت أن إسالمه كان صحيحا‪ ،‬فلما نزل القرآن ل ِح َق‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سعد بن سمية فأنزل اهلل‪َ ﴿:‬و َمن يُشاق ِِق‬ ‫على سالفة بنت‬
‫َ ينَّ هَ‬ ‫َّ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ٱلر ُسول ِم ۢن َب ۡع ِد َما تبَ َ ُل‬
‫َّ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ ٓ َ ۡ‬ ‫َ ىَّ ُ‬ ‫ُۡ ۡ َ ُ ّ‬ ‫ٱل ۡ ُه َد ٰ‬
‫ى َو َي َّتب ۡع َغ رۡ َ‬
‫ريا ‪ ١١٥‬إِن‬ ‫ت َم ِص ً‬ ‫ِني ن َو هِلِۦ َما ت َو ٰل َون ۡصلِهِۦ جهنمۖ وساء‬ ‫يل ٱلمؤ ِمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ي َ‬
‫س‬ ‫ِ‬
‫َ َ ۡ ُ َ ُ َ َ ٰ َ َ َ َ ٓ ُ َ َ ُ رۡ ۡ هَّ َ َ ۡ َ َّ َ َ ٰ َ اۢ‬ ‫شَ‬‫َ‬ ‫هَّ َ اَ َ ۡ ُ َ ُ رۡ‬
‫شك بِٱللِ فقد ضل ضلل‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬‫و‬ ‫ۚ‬ ‫ء‬ ‫ا‬‫ش‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫ِم‬ ‫ل‬ ‫ِك‬ ‫ل‬‫ذ‬ ‫ون‬ ‫د‬ ‫ا‬‫م‬ ‫ر‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫غ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫ٱلل ل يغ ِفر أن ي‬
‫يدا﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪.]116-115 :‬‬ ‫بَع ً‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فلما نزل على سالفة رماها حسان بن ثابت ‪ K‬بأبياتٍ من شعره‪ ،‬فأخذت‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫األبطح ثم قالت‪ :‬أهديت‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫به‬ ‫فرمت‬ ‫به‬ ‫خرجت‬ ‫ثم‬ ‫رأسها‪،‬‬ ‫على‬ ‫فوضعته‬ ‫ه‬ ‫رحل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫شعر حسان؟! ما كنت تأتيني بخير(‪ ،)1‬بل إنه ـ في بعض الروايات ـ هرب‬ ‫لي‬
‫ًّ‬
‫إلى مكة مرتدا‪ ،‬ومات بها(‪.)2‬‬
‫حق اليهودي على حساب مسلم‬ ‫وإذا كان هذا الحكم العادل قد جاء في ِّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍّ‬
‫ضعيف اإليمان مذبذب ِالعقيدة‪ ،‬فإن هذا الحكم لم يصدر لشك في إيمان المسلم‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وعقيدته‪ ،‬بل كان سيصدر مهما كان المخطئ؛ ألن الشريعة ال تحابي أحدا‪،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫والرسول ال يجامل أصحابَه ومعارفه‪.‬‬


‫ّ‬

‫((( الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3036‬قال األلباني‪ < :‬حسن >‪.‬‬


‫نظرة على‬

‫((( ابن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم ‪.407 ،406/2‬‬


‫‪196‬‬

‫قصة جابر بن عبد‪ ‬اهلل واليهودي‪:‬‬


‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬
‫أعمق‪ ،‬نراجع هذه القصة العجيبة‬ ‫بصورة‬
‫ٍ‬ ‫المعنى أكثر‪ ،‬وتأكيده‬ ‫وإليضاح هذا‬
‫ًّ‬ ‫ٍّ‬
‫يهودي‪ ،‬وأحد الصحابة المقربين جدا إلى قلب رسول اهلل‪،‬‬ ‫التي حدثت بين‬
‫وهو جابر بن عبد‪ ‬اهلل بن حرام ‪ ،)1( R‬وهو من الصحابة الكرام الذين حضروا‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫بيعة العقبة الثانية في طفولته مع أبيه >عبد اهلل بن حرام< ‪ ،K‬وشهد المشاهد كلها‬
‫ُُ‬
‫ابتداءً من أح ٍد والتي بعدها‪.‬‬
‫يهودي‪ ،‬وكان يُسلفني‬ ‫ٌّ‬ ‫يروي جابر بن عبد‪ ‬اهلل ‪ R‬فيقول‪> :‬كان بالمدينة‬
‫ُ‬
‫لجابر األرض التي بطريق رومة ـ فجلست‪،‬‬ ‫وكانت‬ ‫ـ‬ ‫داد‬ ‫الج‬ ‫إلى‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫في تَ ْ‬
‫م‬
‫ِ‬
‫(‪)2‬‬

‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫الجداد‪ ،‬ولم أجد منها شيئا‪ ،‬فجعلت أستنظره‬ ‫عند‬ ‫ُّ‬
‫اليهودي‬ ‫فجاءني‬ ‫ا‪،‬‬ ‫فخال ً‬
‫عام‬
‫ّ ِ‬
‫ْ ُ َ َْْ ْ َ‬
‫بي !‪ ،‬فقال ألصحابه‪> :‬امشوا نستن ِظر ِلج ِاب ٍر‬ ‫فيأبى‪ ،‬فأُخبر بذلك الن ّ‬ ‫ٰ‬ ‫(‪)3‬‬
‫إلى قابل‬
‫ي<‪.‬‬ ‫َ َُْ‬
‫ود ِّ‬‫ِمن اليه ِ‬
‫ُْ‬ ‫ّ ُّ ِّ‬
‫اليهودي‪ ،‬فيقول‪ :‬أبا القاسم‪ ،‬ال أن ِظ ُر ُه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫بي يُكلم‬ ‫فجاءوني في نخلي‪ ،‬فجعل الن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫بي قام فطاف في النخل‪َّ ،‬‬ ‫رأى الن ّ ّ‬ ‫فلما ٰ‬ ‫َّ‬
‫فأبى‪ ،‬فقمت فجئت بقليل‬ ‫ثم جاءه فكلمه ٰ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫النبي‪ ،‬فأكل َّ‬ ‫يدي ّ‬ ‫ّ‬
‫ثم قال‪> :‬أيْ َن عَ ِريشك (‪ )4‬يَا َج ِاب ُر؟< فأخبرته‪،‬‬ ‫رطب فوضعته بين‬
‫ُ‬
‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َََ ُْ‬ ‫ٍ ْ‬
‫بقبضة أخرى‪ ،‬فأكل‬ ‫ٍ‬ ‫يه<‪ .‬ففرشته‪ ،‬فدخل فرقد ثم استيقظ‪ ،‬فجئته‬ ‫فقال‪> :‬افرش ِلي ِف ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫منها َّ‬
‫اليهودي ٰ‬
‫فأبى عليه‪.‬‬ ‫ثم قام فكلم‬
‫ض<‪ .‬فوقف‬
‫َ َ ُ ُ َ ْ‬
‫اق‬ ‫و‬ ‫ثم قال !‪> :‬يا جابر‪ ،‬ج َّ‬
‫د‬ ‫الرطاب في النَّخل الثَّانية‪َّ ،‬‬ ‫فقام في ِّ‬
‫جئت الن ّ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بي !‬ ‫في الجداد فجددت منها ما قضيته‪ ،‬وفضل منه‪ ،‬فخرجت حتى‬

‫((( الرازي‪ :‬مفاتيح الغيب ‪.369/5‬‬


‫((( الجداد‪ :‬زمن قطع النخل‪ .‬ابن حجر العسقالني‪ :‬فتح الباري ‪.567/9‬‬
‫ثان‪ .‬ابن حجر العسقالني‪ :‬فتح الباري ‪.568/9‬‬‫((( أستنظره إلى قابل‪ :‬أي أستمهله إلى عام ٍ‬
‫َّ‬
‫((( عريشك‪ :‬أي المكان الذي اتخذته في البستان‪ ،‬لتستظل به وتقيل فيه‪ .‬ابن حجر العسقالني‪:‬‬
‫فتح الباري ‪.568/9‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪197 Z‬‬
‫ّ‬

‫َ ْ َ ُ َ ِّ َ ُ ُ‬ ‫َّ‬
‫هلل(‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ول‬‫فبشرته‪ ،‬فقال‪> :‬أشهد أني رس‬
‫فهذه قصة المعجزة العجيبة يستدين فيها جابر بن عبد‪ ‬اهلل ‪ R‬من يهودي‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫فيأتي ميعاد سداد الدين‪ ،‬وليس مع جابر بن عبد‪ ‬اهلل ‪ R‬ما يقضي به دينه‪ ،‬فجعل‬
‫يستطيع السداد ـ وكان جابر بن عبد‪ ‬اهلل ‪R‬‬ ‫َ‬ ‫عاما حتى‬ ‫يؤخره ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يطلب من اليهودي أن‬
‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫وأصر على أن يأخذ دينه في موعده ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫اليهودي أبَ ٰى‬ ‫من الفقراء المدينين ـ لكن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فأخبر جابر بن عبد‪ ‬اهلل ‪ R‬رسول اهلل ! باألمر‪ ،‬وطلب منه أن يتوسط بينه‬
‫بعضا من أصحابه‪ ،‬وذهب‬ ‫وبين اليهودي‪ ،‬وقام رسول اهلل ! بالفعل‪ ،‬بل أخذ معه ً‬
‫لجابر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يستشفع‬ ‫إلى اليهودي‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫كثر في الكالم‬ ‫اليهودي‪ .‬أي أنه أ َ‬ ‫فيقول جابر ‪ :K‬فجعل رسول اهلل يكلم‬
‫مصرا على قوله‪:‬‬ ‫ًّ‬ ‫واالستشفاعِ عنده‪ ،‬لكن اليهودي رفض بكل وسيلة‪ ،‬وكان‬
‫أبا القاسم‪ ،‬ال أنظره ‪..‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫قلب من يحكم المدينة المنورة‬ ‫ِ‬ ‫إلى‬ ‫المقربين‬ ‫األصدقاء‬ ‫أحد‬ ‫هذا موقف يقع فيه‬
‫ُ‬
‫بكاملها‪ ،‬في أزمة‪ ،‬مع أحد رعايا هذه المدينة‪ ،‬وهو اليهودي‪ ،‬إنه يريد تأجيل سداد‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بنفسه يستشفع له‪ ،‬ولكن‬ ‫الدين‪ ،‬وليس المماطلة فيه‪ ،‬أو التغاضي عنه‪ ،‬والرسول ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫زعيم األمة اإلسالمية وقائد المسلمين ورسول‬ ‫اليهودي يرفض‪ ،‬ومع ذلك لم يجبر‬
‫قبول استشفاعه!‬ ‫على‬ ‫اليهودي أو ي ُ ْكر ْه ُ‬
‫ه‬ ‫َّ‬ ‫رب العالمين ذاك‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫لم ينظر رسول اهلل ! هنا إلى صورته التي قد يستضعفها المراقبون والمحللون‬
‫ُ‬
‫للموقف‪ ،‬ولم ينظر إلى حبِّه لجابر بن عبد‪ ‬اهلل وق ْر ِب ِه من قلبه‪ ،‬ولم ينظر إلى تاريخ‬
‫اليهود العدائي مع المسلمين؛ لم ينظر إلى كل هذه االعتبارات وال إلى غيرها‪،‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫أسمى صوره‪.‬‬ ‫ٰ‬ ‫إنما نظر فقط إلى إقامة العدل في‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ّ‬

‫مرفوض من صاحب‬ ‫ٌ‬ ‫واجب‪ ،‬واالستشفاع‬ ‫إن الحق مع اليهودي‪ ،‬والسداد‬


‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5443‬‬


‫‪198‬‬

‫الحق‪ ،‬فليكن السداد‪ ،‬وليكن اإلنصاف لليهودي غير المسلم‪ ،‬ولو كان من‬
‫جليل‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫صحابي‬ ‫صحابي جليل وابن‬
‫ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫تجماًل منه‪ ،‬إنما كان التطبيق الطبيعي‬ ‫إن هذا لم يكن تكلفا من الرسول‪ ،‬وال‬
‫َ‬ ‫لقواعد الدين؛ إن الشفقة على جابر لفقره لم تكن ً‬
‫ور على اليهودي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫للج‬ ‫مبررا‬
‫عد ُله ! مع املسيئني‪:‬‬
‫ُ‬
‫من صور عدل الرسول الباهرة أنه كان ال يتجاوز في العقاب مهما كان الجرم‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫عظيما‪.‬‬ ‫وحق المسلمين‬ ‫شنيعا‪ ،‬ومهما كان تجاوز اآلخرين في حقه‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ ُّ‬
‫حد أصيب(‪ )1‬من األنصار أربعة‬ ‫يروي أبي بن كعب ‪ :K‬أنه لما كان يوم أ ٍُ‬
‫َ َّ‬ ‫ٌ‬
‫وستون رجاًل‪ ،‬ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة‪ ،‬ف َمثلوا بهم؛ فقالت األنصار‪ :‬لئن‬
‫َ ُ َّ‬ ‫أصبنا منهم ً‬
‫يوما مثل هذا لن ْر ِب َين(‪ )2‬عليهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫فلما كان يوم فتح مكة أنزل اهلل‪ِ﴿ :‬إَون اَعق ۡب ُت ۡم ف َعاق ُِبوا ب ِ ِمث ِل َما ُعوق ِۡب ُتم بِهِۖۦ َولئِن‬
‫َ‬ ‫ْ ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬

‫ين﴾ [ا �لن�����ح�ل‪ .]126 :‬فقال رجل‪ :‬ال قريش بعد اليوم‪ .‬فقال‬ ‫ِلصٰب َ‬ ‫َ رَ ۡ ُ ۡ َ ُ َ َ رۡ ‪َّ ّ ٞ‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫رسول اهلل‪ُ :‬ك ُّفوا عَ‬
‫صبتم لهو خي ل‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ِرِ‬
‫ن الق ْو ِم ِإال أ ْربَ َعة(‪.)3‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫فمع شدة مصاب يوم أحد‪ ،‬ومع شدة ألمِ رسول اهلل‪ ،‬إال أنه يطبِّق شرع اهلل؛‬
‫بتعد‪ ،‬وال يتمناه‪.‬‬ ‫فال يسمح بتجاوز‪ ،‬وال يقبل ٍّ‬

‫موقفه ! مع رسو َلي مسيلِم َة الكذاب‪:‬‬


‫ليندفع إلى ظلم حتى مع شدة كراهيته‬ ‫َ‬ ‫أيضا أنه لم يكن‬ ‫ومن صور عدله الرائعة ً‬
‫ً‬
‫أحيانا لشخص ما‪ ،‬وهو بذلك يُطبِّق اآلية الكريمة الجامعة‪َ ﴿ :‬ول ي ِر َم َّنك ۡم ش َن ٔان‬
‫ُ َ َ ُ‬ ‫اَ جَ ۡ‬
‫َ ۡ ٰٓلَىَ َ اَّ َ ۡ ُ ۚ ْ ا � ئ �ة‬
‫قو ٍم ع أل تعدِلوا﴾ [ ل���م�ا ��د ‪.]8 :‬‬

‫((( أي‪ :‬لنزيدن في القتل عن هذا العدد‪.‬‬ ‫ ‬


‫((( أي‪ :‬استشهد‪.‬‬
‫((( الترمذي عن أبي بن كعب‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3129‬وابن حبان‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)487‬وحسنه الترمذي‪.‬‬
‫‪199‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫رسول ْ‬
‫مسيلمة الكذاب‪ ،‬فهذان‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ومن هذا ما رأيناه منه وهو يتحدث مع‬
‫الرسوالن جهرا بأنهما يؤمنان بمسيلمة الكذاب‪ ،‬ويتبعانه في دينه‪ ،‬وهذا يعني‬
‫ِّ‬
‫أنهما من المرتدين الذين تحل دماؤهم‪ ..‬وقد قال‪> :‬ال ي َ ِحلُّ دم ْام ِرئ ُم ْس ِلم يَش َهد‬
‫ْ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ْ َ ٍ‬ ‫َ ْ َ َ َ َّ ُ َ َ ِّ َ ُ ُ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫س ِبالنَّفسِ والث ِّيب الزَّ ِاني‪،‬‬ ‫ول اهلل إال َّ بإ ْح َدى ثَالَث‪ :‬النَّ ْف ُ‬ ‫أن ال ِإله ِإال اهلل وأني رس‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ْ َ ُ ْ‬
‫َوال َّت ِارك ِل ِد ِين ِه ال ُمف ِارق ِللج َماعَ ِة<(‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فهذا حكم الذي ارتد عن دينه وترك الجماعة‪ ..‬وهذان لم يرتدا فقط‪ ،‬ولم‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫والدعوة إلى اتباعِ مسيلمة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بفتنة الناس‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يكتفيا بترك الجماعة‪ ،‬ولكنهما يقومان‬
‫ُ‬
‫النبوة أو تداولها‪ ،‬فلو سار اإلنسان‬ ‫ِ‬ ‫بل جاءا يساومان رسول اهلل على اقتسام‬
‫ً‬ ‫مع هواه‪ ،‬دون مراعاة للشرع‪ ،‬وال لمطلق العدل‪ ،‬لكان قتلهما ً‬
‫أمرا واردا‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫لكن رسول اهلل في هذا الموقف العجيب حقن دماءَهما؛ ألنهما من الرسل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ً‬
‫العرف ويؤكده‪ ..‬لقد قال رسول اهلل‬ ‫َ‬ ‫يقر ذلك‬ ‫والشرع ُّ‬ ‫والرسل ـ عُ ْرفا ـ ال تقتل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫مخاطبا الرسولين المرتديْن‪> :‬أ‬ ‫ً‬
‫ُ َ َ َُْ ُ َ َ َْ ُ َ َْ َ ُ‬ ‫َْ ََ‬ ‫َ‬
‫‪.‬‬ ‫َ (‪)2‬‬
‫ا<‬‫م‬ ‫ك‬ ‫اق‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫ض‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ت‬‫ق‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫الر‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫أ‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫!‬ ‫اهلل‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫و‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫م‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫وكفرهما وخطورة أمرهما لم تدفعه إلى ظلمهما‬ ‫إن ِردة هذين الرسولين‪،‬‬
‫ِّ ً‬
‫وتعامل معهما بمنتهى الرقي‪ ،‬وعاش مؤكدا‬ ‫َ‬ ‫أمنَ ُه َما‬‫أو إلى التعدي عليهما‪ ،‬بل َّ‬
‫على هذا المنهج القويم حتى مع مخالفيه وأعدائه ‪.‬‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫حبيب بن‬ ‫ظف َر بأحد رسل المسلمين‪ ،‬وهو‬ ‫بل إن مسيلمة الكذاب نفسه لما ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫حبيب ربَّ ُه شهيدا؛ لتظهر الصورة‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫عضوا‪ ،‬حتى لقي‬ ‫ً‬
‫عضوا‬ ‫زيد ‪ K‬أمر بتقطيعه‬ ‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫اإلسالمي والمناهج‬ ‫أكثر وضوحا‪ ،‬وليعرف الجميع الفرق الشاسع بين المنهج‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ُ َّ‬ ‫َ‬
‫قانون السماء وقوانين‬ ‫بين‬ ‫الهائلة‬ ‫ٰ‬
‫ِ‬ ‫لع المسافاتِ‬ ‫ٍ‬ ‫ط‬ ‫م‬ ‫كل‬ ‫وليدرك‬ ‫‪،‬‬ ‫األخرى‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫األرض‪.‬‬
‫ِ‬
‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6878‬‬


‫نظرة على‬

‫((( الحاكم ‪ ،143/2‬وقال‪< :‬صحيح على شرط مسلم ولم ِّ‬


‫يخرجاه>‪.‬‬
‫‪200‬‬

‫عدله ! مع املتآمرين على اغتيا ِله‪:‬‬


‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫المهم من فصول سيرة الرسول مع غير المسلمين‪،‬‬ ‫حديثنا‬
‫ِ‬ ‫ختام‬ ‫في‬ ‫ـ‬ ‫بنا‬ ‫ر‬‫ويجد‬
‫ومنهجه العادل في التعامل معهم ـ أن نعرض لموقف أخير‪ ،‬لعله ـ بال مبالغة ـ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫أعجب ِمن كل ما سبق!!‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫أال وهو موقفه من اليهود الذين دسوا له الس َّم؛ ليقتلوه بعد فتح خيبر‪ ،‬يروي‬
‫للنبي شاة فيها ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سمٌّ‪ ،‬فقال النبي‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫هديَت‬ ‫ِ‬ ‫أبو هريرة ‪ K‬فيقول‪> :‬لما فتحت خيبر أ‬
‫ُُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫اج َم ُعوا لي َمن كان َها هنَا ِمن ي َ ُهود‪ .‬فجمعوا له‪ ،‬فقال‪ِ :‬إنِّي َس ِائلك ْم عَن ش ْي ٍء ف َهل‬
‫ْ َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ْ َ ُ‬
‫النبي‪َ :‬من أبُوك ْم؟ قالوا‪ :‬فالن‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اد ِق َّي عَن ُه؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال لهم‬
‫ْ‬ ‫أَنْتُ ْم َ‬
‫ص‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فقال‪ :‬كذبتم‪ ،‬بل أبوكم فالن‪ .‬قالوا‪ :‬صدقت‪ .‬قال‪ :‬فهل أنتَم ص َ ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ََ ْ ُْ َ‬ ‫ُْ ْ َ ْ ُ ْ ُ ٌَ‬
‫اد ِق َّي عَن ش ْي ٍء‬
‫َْ‬ ‫َْ َ‬
‫عرفت ك ِذبَنَا ك َما عَ َرفت ُه في‬
‫ْ َْ ُ ْ‬
‫ِإن َسألت عَن ُه؟ فقالوا‪ :‬نعم يا أبا القاسم‪ ،‬وإن كذبنا‬
‫يسيرا ثم تخلفونا فيها‪ .‬فقال النبي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أبينا‪ .‬فقال لهم‪َ :‬من أهل النَّ ِار؟ قالوا‪ :‬نكون فيها‬
‫ْ َْ ُ‬
‫َ ً‬ ‫ََ ُُُْ‬
‫اهلل ال نخلفك ْم ِف َيها أبَدا‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َُ‬
‫اخسئوا ِفيها! و ِ‬
‫ْ َْ ُ ُ‬ ‫ثم قال‪َ :‬ه ْل أَنْتُ ْم َ‬
‫اد ِق َّي عَن ش ْيء ِإن َسألتك ْم عَن ُه؟‪ .‬فقالوا‪ :‬نعم يا أبا القاسم‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ص‬
‫َ َ َ َ ُ ْ ََ َ َ‬ ‫ُْ‬
‫قال‪َ :‬هل َج َعلت ْم ِفي َه ِذهِ ال َّش ِاة س ًّما؟ قالوا‪ :‬نعم!! قال‪ :‬ما حملكم على ذ ِلك؟‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ًّ‬
‫يضرك<(‪.)1‬‬ ‫َّ‬ ‫قالوا‪ :‬أردنا إن كنت كاذبًا نستريح‪ ،‬وإن كنت نبيا لم‬
‫َ‬
‫بتحقيق هادئ غير منفعل مع اليهود الذين دبَّروا مؤامرة‬ ‫ٍ‬ ‫لقد قام رسول اهلل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ‬
‫اغتياله‪ ،‬وأقام عليهم الحجة حتى اعترفوا بألسنتهم بأنهم دبَّروا محاولة القتل‪،‬‬
‫َ ُّ‬
‫لتضع الس َّم‬ ‫واكتشف أن هذه اجملموعة من اليهود قد أمرت إحدى نساء اليهود‬
‫ُ‬
‫بنفسها في الشاة‪ ،‬ثم تقدمها إلى رسول اهلل‪ ..‬فالرجال هم الذين أمروا‪ ،‬والتي‬
‫ُ‬
‫نفذت األمر‪ ،‬وباشرت الفعل هي المرأة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫غيره من الزعماء‬ ‫ِ ِ‬ ‫واقع‬ ‫مع‬ ‫ٍ‬ ‫لحظات‬ ‫توقف‬ ‫المؤامرة‬ ‫لهذه‬ ‫فعله‬ ‫رد‬ ‫وقبل أن تعرف‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3168‬‬


‫‪201‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫وردود أفعالهم لمن دبَّر مؤامراتٍ الغتيالهم‪ !!..‬إن أبسط‬ ‫ِ‬ ‫والرؤساء والملوك‪،‬‬
‫ُ َ‬ ‫ُّ ُ‬
‫أمر به‪،‬‬ ‫قتل الذي باشر الفعل‪ ،‬والذي َ‬ ‫ما يمكن تخيل ُه في هذه اللحظات أن ي‬
‫ُ‬
‫والذي عَ ِلم به‪ ،‬والذي رضي به‪ ..‬وقد يؤخذ عموم أهلِ البلدة أو المدينة بفعل هذا‬
‫الجاني‪ ..‬هذا هو الواقع فعاًل دون مبالغة‪.‬‬
‫ُ‬
‫فماذا كان حال رسولنا؟! لقد قال الصحابة ‪ J‬لرسولنا‪ :‬أال تقتلها؟! فرفض‪،‬‬
‫قال الحافظ البيهقي‪ ..< :‬أجاب السهيلي‪ ..:‬إنما تركها‪ ،‬ألنه كان ال ينتقم لنفسه > (‪،)1‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ففي صحيح البخاري >ما انتقم رسول اهلل ! لنفسه‪ ،‬إال أن تنتهك حرمة اهلل‪،‬‬
‫فينتقم هلل بها<(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ ً‬ ‫َ َ ُ َّ‬
‫لقد ق ِبل حجتهم مع أن أحدا منهم لم يؤمن؛ مما يوضح أنهم لم يفعلوا ذلك أماًل‬
‫غضا لرسول اهلل‪.‬‬ ‫في ظهور الحقيقة‪ ،‬ولكن فعلوا ذلك َح َس ًدا من عند أنفسهم‪ ،‬وبُ ً‬
‫ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫بن معرور‬ ‫ومع كل ذلك‪ ،‬لم يعاقبهم غير أن أحد الصحابة‪ ،‬وهو بشر بن البراء ِ‬
‫بس ِّم َها‪ ،‬فهنا أمر‬ ‫‪ R‬كان قد أكل مع رسول اهلل من الشاة المسمومة‪ ،‬فمات مقتواًل ُ‬
‫ٌ‬ ‫َْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫قصاصا‪ ،‬ولم يُقتل معها أحد من أهل خيبر‪.‬‬ ‫رسول اهلل بقتل المرأة‬
‫َّ‬
‫يقول القاضي عياض ـ رحمه اهلل ـ‪ < :‬لم يقتلها رسول اهلل أواًل حين اطلع‬
‫َّ‬ ‫ُْ‬ ‫على ُ‬
‫س ِّم َها‪ ،‬وقيل له‪ :‬اقتلها‪ ،‬فقال‪ :‬ال‪ ،‬فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلمها‬
‫فق َتلوها ق َ‬
‫ص ً‬ ‫َ‬
‫اصا > (‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ألوليائه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ت َر ٰى ماذا كان عليه تعامل ق َّواد العالم في التاريخ‪ ،‬وماذا يكون تعاملهم في‬
‫رد فعل هؤالء الزعماء‬ ‫الواقع مع َم ْن يدبِّرون مؤامرات لقتلهم؟! وماذا سيكون ُّ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عند مقتلِ أصحابهم وأحبابهم؟!!عند القياس سيزول االلتباس!!وعند المقارنة‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ُ‬
‫ستتضح المفارقة!! ولنا في التاريخ ِع َبر‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3560‬‬


‫نظرة على‬

‫((( النووي‪ :‬شرح مسلم ‪.179/14‬‬ ‫ ‬


‫((( دالئل النبوة ‪.548/2‬‬
‫‪202‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫أحد‬
‫ٍ‬ ‫إنه ال ينبغي ألحد من أهل األرض ـ كائنًا من كان ـ أن يقارن أخالق‬
‫آخر ً‬ ‫ُ‬
‫وأخالق النبوة شيءٌ ُ‬ ‫ُ‬
‫فأخالق عموم البشر شيءٌ‬
‫تماما‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بأخالق الرسول !؛‬
‫ليهودي على مسلم بيمينه فقط‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫القضا ُء‬
‫ُ‬
‫من أوضح صور عدل الرسول ! عدله في تعامله مع غير المسلمين؛ حيث‬
‫قريبا منه‪..‬‬ ‫الم َّدعي ً‬ ‫إنه لم يكن يحكم على أحدهم إال ببينة‪ ،‬مهما كان ُ‬
‫ِ‬
‫ف‬ ‫>م ْن َح َل َ‬ ‫فقد روى عبد‪ ‬اهلل بن مسعود ‪ K‬قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪َ :‬‬
‫ُ َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫عَ َلى ي َ‬
‫اج ٌر ِل َيقت ِط َع ِب َها َمال ْام ِرئ ُم ْس ِلم‪ ،‬ل ِق َي اهللَ َوه َو عَل ْي ِه غض َبان<‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ َ َ‬
‫ف‬ ‫ا‬‫يه‬ ‫ف‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ين‬ ‫م‬
‫َ ْ‬ ‫َ َ َ ٍَ َ ٍ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫ٍ َ َْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ود‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ل ِمن اليه ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ج‬
‫ْ‬
‫ر‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬‫و‬ ‫ي‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ان‬ ‫ك‬ ‫‪،‬‬ ‫ك‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫ان‬ ‫ك‬ ‫هلل‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫قيس‪:‬‬ ‫بن‬ ‫ث‬ ‫ع‬ ‫ش‬‫األ‬ ‫فقال‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ٌ َ َ َ‬
‫َ‬
‫هلل‪ :‬ألك بَيِّنَة؟ قلت‪ :‬ال‪ .‬فقال‬ ‫أرض فجحد ِني‪ ،‬فقدمته ِإلى الن ِب ِّي‪ ،‬فقال ِلي رسول ا ِ‬
‫ب ب َمالي‪ .‬فَأَنْ َز َل اهللُ‬ ‫ف َوي َ ْذ َه َ‬ ‫ول اهلل‪ ،‬إ ًذا ي َ ْحل َ‬ ‫ْ َ ُ ِّ ْ ْ َ َ ُ ْ ُ َ َ ُ َ‬
‫َِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ودي‪ :‬اح ِلف‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رس‬ ‫ِللي َه ِ‬
‫آخ ِر اآليَة(‪.)1‬‬
‫آ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫تعالى‪﴿ :‬إِن ٱلِين يشتون بِعه ِد ٱللِ وأيمٰن ِ ِهم ثمنا قل ِيل﴾ [ � لع�مرا �‪ِ ]77 :‬إلى ِ‬
‫� ن‬ ‫َ َ ۡ رَ ُ َ َ ۡ هَّ َ ۡ َ ۡ َ َ ٗ َ‬ ‫ذَّ‬ ‫َّ‬

‫إنه اختصام بين رجلين‪ :‬أحدهما من صحابة الرسول واآلخر يهودي‪..‬‬


‫أمامه إال أن يطبِّ َق الشرع فيهما‬ ‫ليحكم بينهما‪ ،‬فال يجد َ‬ ‫َ‬ ‫فيأتيان إلى رسول اهلل‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫دون محاباة وال تحيز‪ ،‬والشرع يُلزم المد ِعي ـ وهو األشعث بن قيس ‪ K‬ـ‬
‫َّ‬
‫بالبينة أو الدليل‪ ،‬فإن فشل في اإلتيان بالدليل فيكفي أن يحلف المدعَى عليه‬
‫ُ َ َّ ُ‬ ‫َّ‬
‫صدق في ذلك؛ وذلك‬ ‫المدعي‪ ،‬في‬ ‫ِ‬ ‫ـ وهو اليهودي ـ على أنه لم يفعل ما يتهمه به‬
‫ْ َْ َ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫ْ ُ َ ْ‬ ‫ً‬
‫مصداقا لقول رسول اهلل‪> :‬ال َب ِّينَة عَلى ال ُم َّد ِعي َوال َي ِمين عَلى َمن أنكر<(‪.)2‬‬
‫ويفعل رسول اهلل ! ذلك مع علمه أن اليهود ال يتورعون عن الكذب؛‬
‫فهم ال يكذبون على الخلق فقط‪ ،‬ولكن يفترون الكذب على اهلل‪ ..‬يقول تعالى‪:‬‬
‫َ َ آ‬
‫ِب َو ُه ۡم َي ۡعل ُمون﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]75 :‬‬ ‫﴿ويقولون ع ٱللِ ٱل‬
‫َ َ ُ ُ َ لَىَ هَّ ۡ َ‬
‫كذ َ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2416‬‬


‫((( رواه مالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني ‪ ،844‬وأصله في الترمذي‪ ،‬حديث‬
‫رقم (‪.)1341‬‬
‫‪203‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫الموقف عندما يتبيَّن أن الصحابي ليس معه بيِّنة‪ ،‬ويصبح األمر كله رهنًا‬
‫ُ‬ ‫ويتأزم‬
‫ُ‬
‫سيحلف‬ ‫َّ‬
‫اليهودي‬ ‫بحلف اليهودي‪ ،‬ويشعر الصحابي بخيبة األمل؛ ألنه يعلم أن‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫كذبًا دون تردد‪ ،‬فال يملك له رسول اهلل شيئا‪ ،‬وال يجد أمامه إال أن يترك اجملال‬
‫لليهودي!!‬
‫َ ً‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫المطلق الذي ال يتوقع أحد من البشر أن يكون ُمطبَّقا‬
‫َ‬ ‫أليس هذا هو العدل‬
‫في واقع الناس؟ إنه اإلسالم‪ ..‬دين اهلل‪ ،‬يحكم حياة الناس في األرض‪ .‬وإنه رسولنا‪..‬‬
‫ًُُ‬
‫أعظم الخلق خلقا وأدبًا!!‬
‫ُ‬
‫رفضه ! دعوى مسلم على يهودي لعدم البينة‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫لم تكن هذه هي المرة الوحيدة في حياته التي يرفض فيها دعوى مسلم ضد‬
‫ُ‬
‫قطعة من األرض‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يهودي لغياب البينة‪ ،‬فقد حدث ما هو أشد من االختصام على‬
‫ً‬ ‫أصعب من ظروف هذه القصة‪ ،‬وكان ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫رد فعله واحدا‬ ‫ظروف‬ ‫وحدث ما البسته‬
‫َّ‬ ‫ُُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫تتجزأ‪..‬‬ ‫في القصتين؛ ألن مرجعيته ثابتة‪ ،‬والدين والخلق والعدل عنده قضايا ال‬
‫ََ َ ُ‬ ‫َْ َ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َّ َ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ‬
‫روى سهل بن أبي حث َمة ‪ K‬أن >نف ًرا ِمن ق ْو ِم ِه انطلقوا ِإلى خيبر‪ ،‬فتف َّرقوا‬
‫َ ُ‬
‫اح َبنَا‪ .‬قالوا‪:‬‬ ‫ص‬ ‫ف َيها‪َ ،‬و َو َج ُدوا أ َ َح َد ُه ْم َقتياًل‪َ ،‬و َق ُالوا ل َّلذي ُوج َد فيه ْم‪َ :‬ق ْد َق َت ْلتُ ْم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ََْ َ َ َ ْ َ َ ً‬
‫ما قتلنا وال ع ِلمنا ق ِاتال‪.‬‬
‫َ َْ ََ ََ‬ ‫َْ َْ َ َ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َ َْ َ ُ َ‬
‫هلل‪ ،‬انطلقنَا ِإلى خ ْي َب َر ف َو َجدنا أحدنا‬ ‫فانطلقوا ِإلى الن ِب ِّي‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول ا ِ‬
‫َّ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ َََ َ ُ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫َ ً ََ َ ْ ُ ْ ُ‬
‫ق ِتيال‪ .‬فقال‪ :‬الك ْب َر الك ْبر(‪ .)1‬فقال ل ُه ْم‪ :‬تأتون ِبال َب ِّينَ ِة عَلى َمن قتل ُه؟ قالوا‪َ :‬ما لنَا بَيِّنَة!!‬
‫َ‬ ‫َُْ َ ْ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ََ َ َ ُ ُ‬ ‫ضى بأَيْ َمان ْال َي ُ‬ ‫ون‪َ .‬ق ُالوا‪ :‬ال نَ ْر َ‬ ‫َ َ ََ ْ ُ َ‬
‫هلل أن ي ُ ْب ِطل د َم ُه‪ ،‬ف َود ُاه‬ ‫ود‪ .‬فك ِره رسول ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال‪ :‬فيح ِلف‬
‫َّ َ َ‬ ‫ًَ ْ‬
‫ِمائة ِمن ِإ ِبلِ الصدق ِة<‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫لقد حدثت هذه القصة في زمن الصلح مع اليهود‪ ،‬وذلك كما جاء في رواية‬
‫ّ‬

‫ِّ‬
‫((( الكبر الكبر‪ :‬أي قدموا في الكالم أكبركم‪ .‬انظر‪ :‬ابن حجر العسقالني‪ :‬فتح الباري‬
‫نظرة على‬

‫‪.234 ،233/12‬‬
‫‪204‬‬

‫َ‬ ‫ّ‬
‫اليهود في خيبر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫مسلم >وهي يومئذ صلح<‪ ،‬وهذا يعني أن القصة تمت بعد هزيمة‬
‫َ‬ ‫ُّ َ‬
‫موقف ضعف‪ ،‬والمسلمين‬‫ِ‬ ‫وقبولهم الصلح مع رسول اهلل؛ أي أن اليهود كانوا في‬
‫ْ‬
‫في موضعِ قوة‪ ،‬ويستطيع المسلمون أن يفرضوا رأيَهم بالقوة إن أرادوا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫خزرجي ُ‬
‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ُ‬
‫اسمه عبد‪ ‬اهلل بن سهل ‪ ،K‬كما‬ ‫أنصاري‬ ‫وفي هذه الظروف قتل‬
‫ُ‬
‫األكبر واألعظم‬ ‫في رواية مسلم‪ ،‬وتم هذا القتل في أرض اليهود‪ ،‬واالحتمال‬
‫ُ‬
‫أن يكون القاتل من اليهود‪ .‬ومع ذلك فليس هناك بينة على هذا الظن‪ ،‬واألمر‬
‫في مجال الشك والظن‪ ،‬وهذا ال يُفلح في الدعوى؛ ولذلك لم يعاقب رسول‬
‫بأي صورة من َ‬ ‫اليهود ِّ‬‫َ‬
‫صو ِر العقاب‪ ،‬بل عرض فقط أن يحلفوا على أنهم لم‬ ‫اهلل‬
‫يفعلوا!‬
‫ُ‬
‫كاذب‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بحلف‬ ‫يبالون‬ ‫ال‬ ‫اليهود‬ ‫أن‬ ‫يعلمون‬ ‫فهم‬ ‫األنصار؛‬ ‫يد‬ ‫في‬ ‫سقط‬ ‫وقد أ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫حكمه بحزن األنصار‪ ،‬وال‬ ‫يتأثر‬ ‫وعلموا أن حقهم سيضيع‪ ،‬لكن الرسول لم‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫رغبتهم غير المؤيَّدة بدليل‪ ،‬فرفض أن ِّ‬
‫يغرم اليهود ديَة‪ ،‬أو أن يقتل منهم أحدا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ْ َِ‬
‫ُ‬
‫أو أن يُن ِزل عليهم أي صورة من صور العقاب‪ ،‬فشعر األنصار بالغبن؛ لكونهم لم‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫ي ُ َع َّوضوا عن قتيلهم‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الدية من أموال‬‫ِ‬ ‫وهنا يقوم الرسول ! بما ال يتخيله أحد‪ ،‬فيتولى بنفسه دف َع‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫المسلمين؛ لكي يهدئ من روع األنصار‪ ،‬ودون أن يظلم اليهود‪ ..‬فليتحمل بيت‬
‫ُ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫مال المسلمين الديَة في سبيل أال يُطبَّ َق حدٌّ فيه ش ْب َهة على يهودي!!‬
‫ً‬
‫يقول العالمة اإلمام النووي تعليقا على هذا الحدث‪ < :‬إنما وداه رسول اهلل (أي‬
‫وإصالحا لذات البين > (‪ .)1‬إنه يريد أن يُغلق الباب ً‬ ‫ً‬ ‫دفع ديته)؛ ً‬
‫تماما؛‬ ‫قطعا للنزاع‪،‬‬
‫اليهود من أي ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تعد عليهم؛‬ ‫ويأمن‬ ‫األنصار هذه القضية بعد أخذ الدية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فيُنسي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫وأعجبه!!‬ ‫الموقف‬ ‫انتقاما للقتيل‪ ،‬أال ما أروع هذا‬

‫((( النووي‪ :‬المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ‪.147/11‬‬


‫‪205‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫الكذاب مع علمه خبطورته على املسلمني‪:‬‬


‫ِ‬ ‫عد ُله ! مع مسيل ِم َة‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الحنفي‪،‬‬ ‫وأعظم من هذا الموقف وأروع ما كان من رسول اهلل مع مسيلمة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وهو الذي عُر َ‬
‫الكذاب‪ ..‬عندما جاء مع وفد بني حنيفة‬ ‫ِ‬ ‫ف بعد ذلك بمسيلمة‬ ‫ِ‬
‫إلى المدينة المنورة في العام التاسع من الهجرة ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫هلل‬ ‫اب عَ َلى عَ ْهد َر ُ‬ ‫ال‪َ :‬قد َم ُم َس ْيل َم ُة ْال َك َّذ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ول ا ِ‬ ‫َِ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فقد روى ابن عباس ‪ R‬ق‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ ُ ْ‬
‫فج َعل يَقول‪ِ :‬إن َج َعل ِلي ُمح َّمد األ ْم َر ِمن بَ ْع ِدهِ ت ِب ْعت ُه‪َ .‬وق ِد َم َها ِفي بَش ٍر ك ِث ٍير‬
‫ش َّماس‪َ ،‬وفي يَد َر ُ‬ ‫َ َ َ ُ َ ُ ْ ُ َْ ْ َ‬ ‫َ َْ َ َ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫م ْن َق ْ‬
‫هلل‬
‫ول ا ِ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫اب‬ ‫ث‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫هلل‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ول‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫‪.‬‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫و‬
‫َ ْ َ ِ َ َِ َ َ ٍْ َ َ ْ َ َ ْ ِ ْ َ َ‬ ‫َِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َِّ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ ُ ِ‬
‫ْ‬
‫يد‪ ،‬حتى وقف على مسي ِلمة ِفي أصح ِاب ِه فقال‪> :‬لو سألت ِني ه ِذهِ ال ِقطعة‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِقط َعة ج ِر‬
‫َ َ َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ ُْ َ َ َ َ ْ َْ ُ َ َْ‬
‫ألراك ال ِذي‬ ‫هلل ِفيك‪َ ،‬ول ِئن أدبَ ْرت َلي ْع ِق َرنك اهللُ‪َ ،‬و ِإني‬ ‫ما أعطيتكها‪ ،‬ولن تعدو أم َر ا ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫أ ِريت ِفيك َما َرأيْت<‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ َ ُ َ‬ ‫ََ ْ‬
‫فأخ َب َر ِني أبو هريرة أن ر‬
‫َ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫هلل قال‪> :‬بَ ْينَ َما أنا ن ِائ ٌم َرأيْت ِفي يَد‬ ‫سول ا‬
‫َ‬
‫ي ِس َو َاريْن‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ُْ‬ ‫َ ُْ ْ‬ ‫شأْن ُ ُه َما‪ ،‬فَأُوح َي إ َلي في ْال َمنَ‬ ‫َ‬ ‫م ْن َذ َهب‪ ،‬فَأ َ َ‬
‫ام‪ :‬أ ِن انفخ ُه َما‪ ،‬فنَفخت ُه َما‪،‬‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬‫َّ‬ ‫ه‬ ‫ٍ‬
‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ َ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ ِ َّ َ ْ َ ُْ‬
‫ان بع ِدي‪ .‬أحدهما العنسي‪ ،‬واآلخر مسيلمة الكذاب‬ ‫ن يخرج ِ‬ ‫فطارا‪ ،‬فأ َّولتهما كذابي‬
‫ِ‬
‫صاحب اليمامة<(‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫إن رسول اهلل يرى إنسانا يرفض مبايعته على اإلسالم إال بشرط‪ ،‬وقد بايع‬
‫حق ـ أن‬ ‫قومه أجمعون‪ ،‬ثم إن رسول اهلل كان قد رأى رؤيا ـ ورؤيا األنبياء ٌّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫هذا الرجل سيد ِعي النبوة من بعده‪ ،‬وهو يعلم خطورة هذا األمر‪ ،‬ومدى الفتنة‬
‫َّ‬ ‫َ ُ َ‬
‫صيته ‪.‬‬ ‫التي من الممكن أن تحدث من جراء انتشار دعوته‪ ،‬وذيوعِ ِ‬
‫ِّ‬
‫قوة الرسول ! والمسلمين‬ ‫وبرغم كل هذه األحداث الخطيرة‪ ،‬وبرغم ِ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫َ‬
‫وضعف بني حنيفة والعرب بصفة عامة‪ ،‬برغم كل هذه المالبسات‬ ‫ِ‬ ‫في ذلك الوقت‪،‬‬
‫ّ‬

‫((( ابن كثير‪ :‬البداية والنهاية ‪.48/5‬‬


‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4375-4373‬‬


‫‪206‬‬

‫َ‬ ‫َّ‬
‫ضده َّ‬ ‫َّ‬
‫ردعي‪ ،‬ولم يقيِّد حريته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أي إجراء عقابي أو‬ ‫إال أن رسول اهلل لم يتخذ‬
‫َّ‬
‫ولم يحد من حركته‪.‬‬
‫حكما نتيجة رؤيا أو وحي؛ ألن‬ ‫ً‬ ‫وقد كان ذلك؛ ألنه ال يريد أن يُصدر عليه‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫مسيلمة ال يؤمن بالوحي أصاًل‪ ،‬وهو ما زال على شركه‪ ،‬ومن ث َّم ال يصدر ضده‬
‫ودليل يراه مسيلمة يثبت أن هذا سيحدث في المستقبل‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫حكم إال ببينة مادية‪،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫سالما‪،‬‬ ‫وألن هذا الدليل غير موجود بهذه الصفة‪ ،‬فقد ترك رسول اهلل مسيلمة‬
‫مع علمه ويقينه بالفتنة التي ستحدث بعد ذلك‪.‬‬
‫إنه العدل في أرقى صوره‪ ،‬بل إنه ال مجال للمقارنة بينه وبين صور العدل‬
‫األخرى الموجودة على سطح األرض‪.‬‬
‫‪207‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫المبحث‬
‫شهادة‬ ‫الثــامن‬
‫غير المسلمين بفضله ‪Z‬‬
‫لم يشهد بصدق الرسول ! أحبابُه وال المؤمنون به فقط‪ ،‬بل شهد له َمن حاربه‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫ومن حولها من األعراب‬ ‫فقلوب هؤالء الزعماء الكفرة في مكة‬ ‫سنواتٍ طوااًل‪،‬‬
‫غير كذوب؛ فقد عايشوه أربعين عاماً‬ ‫ٌ‬
‫موقنة بأن محمدا رسول اهلل صادق ُ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫كانت‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫قبل الرسالة‪ ،‬فلم يعهدوا عليه ك ِذبًا‪ ،‬أو خيانة‪ ،‬أو سوءًا في الخلق أو المعاملة‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫خاصة عندهم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ولكنهم لم يؤمنوا به؛ لمصالح‬
‫َّ‬
‫وعندما َمن اهلل على رسوله !‪ ،‬واصطفاه للقيام بأمر الدعوة إليه سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫والعلن؛ فإذا بالقوم ينقلبون على أعقابهم؛ فكذبُوا رسالته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫السر‬ ‫َ‬
‫الناس في ِّ‬ ‫فقام يدعو‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وعَ َّذبوا أصحابَه‪ ،‬حتى أخر َج من مكة ُمك َر ً‬
‫قتله‪.‬‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫تآمروا‬ ‫بعدما‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫أوال‪ :‬شهادات املشركني للرسول !‪:‬‬
‫‪P P‬شهادة أبي سفيان بن حرب‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ت والمشقة والتعذيب والتنكيل إال أن أعداءَه قد شهدوا‬ ‫ومع كل هذا العن ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وخير شاهد على ذلك حديث أبي سفيان بن حرب‬ ‫كثيرة؛‬
‫ٍ‬ ‫مواطن‬ ‫بصدق دعوته في‬
‫َ‬
‫ـ الذي كان معاديًا لرسول اهلل ! في أول األمر ـ مع هرقل عظيمِ الروم ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫فقد روى عبد‪ ‬اهلل بن عباس أن أبا سفيان بن حرب قد أخبره‪> :‬أن هرقل أرسل‬
‫َّ‬ ‫ُ َّ‬
‫ركب من قريش‪ ،‬وكانوا تج ًارا بالشام في المدة(‪ )1‬التي كان رسول اهلل‬ ‫ٍ‬ ‫إليه في‬
‫ّ‬ ‫نظرة على‬

‫((( المدة‪ :‬يعني مدة الصلح بالحديبية‪ ،‬وكانت في سنة ست من الهجرة‪ ،‬وكانت مدتها عشر‬
‫سنين‪ .‬انظر‪ :‬ابن حجر العسقالني‪ :‬فتح الباري ‪.34/1‬‬
‫‪208‬‬

‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َّ‬


‫وكفار قريش‪ ،‬فأت ْو ُه وهم بإيلياء‪ ،‬فدعاهم في مجلسه‪ ،‬وحوله‬ ‫َ‬ ‫ماد(‪ )1‬فيها أبا سفيان‬
‫ٍ‬
‫عظماء ُ الروم ‪.‬‬
‫نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه‬ ‫ثم دعاهم ودعا بترجمانه‪ ،‬فقال‪ :‬أيُّ ُك ْم أقرب ً‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫نسبا‪ .‬فقال‪ :‬أدنوه منِّي‪ ،‬وق ِّربُوا أصحابه‬
‫فقلت‪ :‬أنا أقربهم ً‬ ‫نبي؟ فقال أبو سفيان‪:‬‬
‫فاجعلوهم عند ظهره‪.‬‬
‫َ ِّ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُْ‬
‫سائل عن هذا الرجل‪ ،‬فإن كذبَ ِني فكذبوه‪.‬‬ ‫ثم قال لترجمانه‪ :‬قل لهم‪ :‬إني‬
‫ََ َ ُ‬ ‫ْ‬
‫علي كذبًا لكذ ْبت عنه(‪.)2‬‬ ‫فواهلل! لوال الحياء ُ من أن يَأث ُروا َّ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ثم كان َّ‬
‫أول ما سألني عنه أن قال‪ :‬كيف نسبُه فيكم؟ قلت‪ :‬هو فينا ذو نسب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫قال‪ :‬فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فهل كان من آبائه‬
‫ُ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫ك؟ قلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فأشراف الناس يَت ِب ُعون ُه أم ضعفاؤهم؟ فقلت‪ :‬بل‬ ‫َ‬
‫ِمن م ِل ٍ‬
‫ُ‬
‫ضعفاؤهم‪ .‬قال‪ :‬أيزيدون أم ينقصون؟ قلت‪ :‬بل يزيدون‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َْ ً‬ ‫ُّ ٌ‬
‫قال‪ :‬فهل يرتد أحد منهم َسخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فهل‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫كنتم تت ِه ُمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فهل يَغ ِدر؟ قلت‪ :‬ال‪،‬‬
‫ٌ ُْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫فاعل فيها‪ .‬قال‪ :‬ولم ت ْم ِكنِّي كلمة أد ِخل فيها‬ ‫ونحن منه في مدة ال ندري ما هو‬
‫ً‬
‫شيئا غير هذه الكلمة‪.‬‬
‫ُ‬
‫الحرب‬
‫ُ‬
‫وه؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فكيف كان قتالكم إيَّاه؟ قلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قال‪ :‬فهل َقاتَ ْلتُ ُم ُ‬
‫ُ‬ ‫بيننا وبينه س ٌ‬
‫قلت‪ :‬يقول‪ :‬اعبدوا اهللَ‬ ‫جال؛ ينال ِمنَّا وننال منه‪ .‬قال‪ :‬ماذا يأمركم؟‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫((( ماد فيها أبا سفيان‪ :‬أي جعل بينه وبينه مدة صلح‪ .‬انظر‪ :‬ابن حجر العسقالني‪ :‬فتح الباري‬
‫‪ 35/1‬ط دار المعرفة بيروت ‪1397‬‬
‫علي كذبًا أي‪ :‬ينقلوا َّ‬
‫علي الكذب لكذبت عليه‪ ...‬وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون‬ ‫((( يأثروا َّ‬
‫الكذب؛ َّ‬
‫إما باألخذ عن الشرع السابق‪ ،‬أو بالعرف‪ .‬انظر‪ :‬ابن حجر العسقالني‪ :‬فتح‬
‫الباري ‪.35/1‬‬
‫‪209‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬


‫والصدق‬
‫ِ‬ ‫بالصالة‬
‫ِ‬ ‫ويأمرنا‬ ‫آباؤكم‪،‬‬ ‫يقول‬ ‫ما‬ ‫واتركوا‬ ‫ا‪،‬‬ ‫شيئ‬ ‫به‬ ‫شركوا‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫ه‪،‬‬ ‫وحد‬
‫والصلة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫والعفاف‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫فقال للترجمان‪ :‬قل له‪ :‬سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب‪ ،‬فكذلك‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫الرسل ت ْب َعث في نسب من قومها‪ ،‬وسألتك‪ :‬هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت‬
‫ٌ ََ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫رجل يَتأ َّسى بقول قيل قبله‪،‬‬ ‫أن ال‪ ،‬فقلت‪ :‬لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫وسألتك‪ :‬هل كان من آبائه من َم ِلك؟ فذكرت أن ال‪ ،‬قلت‪ :‬فلو كان من آبائه ِمن‬
‫ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ك قلت‪ :‬رجل يطلب ُملك أبيه‪.‬‬ ‫م ِل ٍ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ َ‬
‫وسألتك‪ :‬هل كنتم تت ِه ُمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن ال؛ فقد‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف أنه لم يكن َ‬ ‫أعر ُ‬
‫أشراف‬ ‫ويكذب على اهلل‪ .‬وسألتك‪:‬‬ ‫الكذب على الناس‬ ‫ليذر‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه‪ ،‬وهم أتباع الرسل‪،‬‬
‫َ‬
‫وسألتك‪ :‬أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون‪ ،‬وكذلك أمر اإليمان حتى‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ َ َ َ ُّ‬
‫يتم‪ ،‬وسألتك‪ :‬أي َ ْرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن ال‪ ،‬وكذلك‬ ‫َّ‬
‫ُ َ‬
‫اإليمان حين تخ ِالط بشاشته القلوب ‪.‬‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫الرسل ال تغدر‪ ،‬وسألتك‪ :‬بما‬ ‫فذكرت أن ال‪ ،‬وكذلك ُّ‬ ‫وسألتك‪ :‬هل يَغ ِدر؟‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا اهلل وال تشركوا به شيئا‪ ،‬وينهاكم عن عبادة‬
‫ًّ‬
‫األوثان‪ ،‬ويأمركم بالصالة والصدق والعفاف‪ ،‬فإن كان ما تقول حقا فسيملك‬
‫ِّ‬ ‫موضع َق َد َم َّي هاتين‪ ،‬وقد كنت أعلم أنه خارج‪ ،‬لم أكن ُّ‬ ‫َ‬
‫أظن أنه منكم‪ ،‬فلو أني‬
‫َ ْ ُ ْ ََ‬ ‫َ َ َ َّ ُ‬ ‫أعلم أَنِّي أ َ ْخ ُل ُ‬
‫ص إليه لتجش ْمت لقاءه‪ ،‬ولو كنت عنده لغ َسلت عَن قد ِم ِه‪.)1(<...‬‬
‫فكل ما أخبر به أبو سفيان‬ ‫واضح على صدق نُبُ َّوة الرسول !‪ُّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وفي هذا ٌ‬
‫دليل‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ٌ‬
‫واقع قد رآه بعينه وعايشه بعقله وجوارحه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نظرة على‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)7‬‬


‫‪210‬‬

‫‪P P‬شهادة أبي جهل لعنه اهلل للرسول !‪:‬‬


‫ُ‬ ‫َ‬
‫ولم تكن شهادة أبي سفيان بن حرب الشهادة الوحيدة من عَدوٍّ عاصر رسول‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اهلل ! فأنصفه‪ ،‬وال ِمن هرقل الذي يتزعم دولة كبيرة حاربت المسلمين ردحا‬
‫ً‬ ‫ُّ َ‬ ‫ٌ‬
‫من الزمن‪ ،‬بل كانت هناك شهادات من أعداء آخرين ال ي َ ِقلون عداوة لرسول اهلل‬
‫َ ً‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫وسعيا لقتله‬ ‫ً‬ ‫عنهما‪ ،‬بل ي ُ َعدون من أكثر أعداء رسول اهلل ك ْر ًها له‪ ،‬وحنَقا عليه‪،‬‬
‫ومحوه من بين ظهرانيهم‪..‬‬
‫ص َّر‬ ‫الذروة؛ فهو الذي أ َ َ‬ ‫َ‬
‫إنه أبو جهل الذي بلغت عداوته لرسول اهلل‬
‫على إشعال نيران الحرب بين الكافرين والمسلمين في غزوة بدر‪َ ،‬و َج َّره ِك ْب ُره‬
‫ُ‬
‫ومصرعه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لحتفه‬
‫ِ‬ ‫وجبروته‬
‫َ‬ ‫ُّ ُ َّ‬ ‫ُ ُّ‬
‫الم ْس َو ُر بن مخرمة‬ ‫َ لقد شهد هذا العدو لرسول اهلل بالصدق والنبوة؛ فقد سأل ِ‬
‫ً‬ ‫َ َّ‬
‫خاله أبا جهل عن حقيقة محمد‪ ،‬إذ قال‪ :‬يا خالي‪ ،‬هل كنتم تت ِه ُمون محمدا‬
‫بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال‪ :‬يابن أختي‪ ،‬واهلل! لقد كان محمد فينا وهو‬
‫َ َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌّ ْ‬
‫شاب يُدعَى األمين‪ ،‬فما َج َّر ْبنَا عليه كذبًا قط‪ .‬قال‪ :‬يا خال‪ ،‬فما لكم ال تت ِب ُعونه؟‬
‫ََ‬ ‫َْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬
‫وسق ْوا‬ ‫الشرف‪ ،‬فأط َع ُموا وأط َع ْمنَا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قال‪ :‬يابن أختي‪ ،‬تنازعنا نحن وبنو هاشم‬
‫ُ َّ َ َ‬ ‫ُّ َ‬ ‫َ ٍ‬ ‫وس َق ْينَ‬
‫َ (‪)2‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ان ‪،‬‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫الر‬ ‫على‬ ‫(‪)1‬‬
‫ينا‬ ‫تجاث‬ ‫إذا‬ ‫حتى‬ ‫وأجرنا‪،‬‬ ‫وأجاروا‬ ‫ا‪،‬‬
‫ُْ ُ‬
‫قالوا‪ِ :‬منَّا نبي‪ .‬فمتى ند ِرك مثل هذه؟!‬
‫َ ْ‬ ‫شريق َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يوم بدر ألبي جهل‪ :‬يا أبا الحكم‪ ،‬أخ ِب ْر ِني‬ ‫األخنس بن‬ ‫وقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وغيرك‬ ‫عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري‬

‫((( تجاثينا‪ :‬أي جلسنا على ُّ‬


‫الركب للخصومة‪ .‬وفي الروض األنف‪ :‬تجاذينا على الركب‪:‬‬
‫وقع في الجمهرة الجاذي‪ :‬المقعي على قدميه‪ .‬قال‪ :‬وربما جعلوا الجاذي والجاثي سواء‪.‬‬
‫انظر‪ :‬السهيلي‪ :‬الروض األنف ‪ ،110/3‬وانظر‪ :‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة جثا‬
‫‪ ،131/14‬ومادة جذا ‪.136/14‬‬
‫ان‪ :‬يُضرب للمتساويين في الفضل‪ ،‬وقيل‪ :‬للمتناصبين‪ .‬انظر‪ :‬الضبي‪ :‬األمثال ‪.11/1‬‬‫ه‬‫((( َك َف َر َس ْي ر َ‬
‫ِ ٍ‬
‫‪211‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬


‫كالمنا‪ .‬فقال أبو جهل‪ :‬ويحك! واهلل إن محمدا لصادق‪ ،‬وما كذب محمد‬ ‫يسمع‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫قط‪ ،‬ولكن إذا ذهبت بنو ق َ‬ ‫ُّ‬
‫ص ٍّي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة‪ ،‬فماذا يكون‬
‫لسائر قريش؟(‪.)1‬‬
‫ُ ُّ َّ ُ‬
‫األول للدعوة اإلسالمية ـ‬ ‫السابقين ألبي جهل ـ وهو العدو‬ ‫إن االعترافَين َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نازع محمدا ! اعتقادا منه‬ ‫لدليل واضح على صدق نُبُ َّوة محمد؛ فأبو جهل ال ي ُ‬‫ٌ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫االعتراف بمحمد !‬ ‫بأنه كاذب أو ُمد ٍع‪ ،‬بل يُنازعه ألجل عصبية زائفة‪ ،‬تجعل‬
‫َّ‬ ‫ُ ُ‬
‫االعتراف بنبُ َّوته سيجعل كفة بني هاشم‬
‫َ‬
‫أمرا بالغ الصعوبة والتعقيد؛ إذ‬ ‫ونُبُ َّوته ً‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً ً‬
‫راجحة قوية على سائر بطون قريش‪ ،‬وهو األمر الذي يرفضه أبو جهل رفضا قاطعا‪.‬‬
‫‪P P‬شهادة قريش للرسول !‪:‬‬
‫ِّ‬
‫ألي‬ ‫قريش بسائر بطونها بأنه صادق أمين‪ ،‬وهل يستقيم‬ ‫ٌ‬ ‫بل وقد اعترفت‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأمانته‪ ،‬رغم االختالفاتِ‬ ‫ِ‬ ‫صدقه‬
‫ِ‬ ‫تجتمع القبيلة بكاملها على‬ ‫أحد من الناس أن‬
‫االجتماعية والنفسية بين أفرادها الكثيرين ‪.‬‬
‫َّ َ‬ ‫َّ‬
‫ص َباح ُاه<‬ ‫الصفا‪ ،‬فهتف‪> :‬يا‬ ‫ففي يوم من األيام خرج رسول اهلل حتى صعد‬
‫َ َ َ‬
‫َ َْْ ُ ُ ْ َ َْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ‬ ‫ٍ‬
‫ح‬ ‫ف‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫اًل‬ ‫ي‬ ‫خ‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ت‬‫ر‬ ‫ب‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫إن‬ ‫فقالوا من هذا؟ فاجتمعوا إليه قال‪> :‬أ َ َرأَيْتُ ْ‬
‫م‬
‫صدِّ ِق َّي؟< قالوا‪ :‬ما َج َّربنا عليك كذبًا‪ .‬قال‪> :‬ف ِإنِّي ن ِذير لكم بين‬
‫َِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ٌ َِ ُ‬ ‫َ‬ ‫َه َذا ْال َج َبل أ َ ُكنْتُ ْم ُم َ‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬
‫لهب‪ :‬تبًّا لك! َما َج َم ْعتنَا ِإال ِل َهذا؟‪.)2(..‬‬
‫ََ ْ َ َ ِ َ‬
‫ٍ‬ ‫أبو‬ ‫فقال‬ ‫<‪.‬‬ ‫يد‬
‫اب ِ ٍ‬
‫د‬ ‫ش‬ ‫يدي عذ ٍ‬
‫كلها قد شهدت واعترفت بصدق محمد !‪َّ ،‬‬ ‫ً َّ‬
‫فلما أخبرهم بحقيقة‬ ‫إن قريشا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دعوته ورسالته‪ ،‬نك ُ‬
‫صوا على أعقابهم(‪)3‬؛ تقليدا آلبائهم‪ ،‬وخوفا على مناصبهم‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫((( ابن القيم‪ :‬هداية الحيارى ص‪.51 ،50‬‬


‫ّ‬

‫((( صحيح البخاري عن ابن عباس‪ ،‬حديث رقم (‪.)4971‬‬


‫َّ‬
‫ص على عقبيه‪ :‬رجع عما كان عليه من الخير‪ ،‬وال يقال ذلك إال في الرجوع عن الخير‬ ‫((( نَ َك َ‬
‫نظرة على‬

‫خاصة‪ .‬انظر‪ :‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة نكص ‪.101/7‬‬‫َّ‬


‫‪212‬‬

‫الكثيرة بين رسول‬ ‫المواقف‬ ‫ُ‬


‫وغيره من‬ ‫وتجارتهم وأموالهم‪ ،‬فكان هذا الموقف ـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ ْ‬ ‫ً‬ ‫اهلل وبين كفار قريش ـ دلياًل‪ ،‬يحمل في َطيَّ‬
‫صدق‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ث‬ ‫ن‬ ‫وم‬
‫ِ‬ ‫بصدقه‪،‬‬ ‫منهم‬ ‫ا‬ ‫اعتراف‬ ‫اته‬ ‫ُ ِ‬
‫ٍ‬
‫دعوته ونبُ َّو ِت ِه‪.‬‬
‫‪P P‬شهادة زعماء بعض يهود بصدق نبوة حممد ! سرًا‪:‬‬
‫تقصه ُّ‬ ‫ُّ‬
‫أم المؤمنين‬ ‫كما اعترف زعماء اليهود بصدق نبوة محمد !‪ ،‬وهذا ما‬
‫ولد أبي‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ت ُح َي ّي ْبن أ َ ْخ َط َ‬‫ُ ْ ُ‬
‫فتقول‪> :‬كنت أحب ِ‬ ‫ب زعيم يهود بني قريظة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫صفية ِبن‬
‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ِّ‬
‫ولد لهما إال أخذاني دونه‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫إليه‪ ،‬وإلى عمي أبي ياسر‪ ،‬لم ألقهما قط مع ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عوف‪ ،‬غدا عليه أبي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فلما ق ِد َم رسول اهلل المدينة‪ ،‬ونزل ق َباء‪ ،‬في بني عمرو بن‬
‫ن(‪.)1‬‬ ‫وعمي أبو ياسر بن أخطب‪ُ ،‬م َغ ّل َس ْ‬
‫ي‬ ‫أخطب‪ِّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُّ ُ‬
‫بن‬ ‫حيي‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫قالت‪ :‬فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس‪ .‬قالت‪ :‬فأتيا كالين كسالنين‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ساقطين يمشيان الهوينى‪ .‬قالت‪ :‬ف َه ِششت إليهما كما كنت أصنع‪ ،‬فواهلل ما التفت‬
‫الغم‪ .‬قالت‪ :‬وسمعت ِّ‬ ‫واحد منهما‪ ،‬مع ما بهما من ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫عمي أبا ياسر‪ ،‬وهو يقول‬ ‫إلي‬
‫ََ ُ ُْ ُ‬
‫أخطب‪ :‬أهو هو(‪)2‬؟ قال‪ :‬نعم واهلل! قال‪ :‬أت ْع ِرف ُه َوتث ِبت ُه؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ألبي ِّ‬
‫حيي بن‬
‫ُ‬
‫قال‪ :‬فما في نفسك منه؟ قال‪ :‬عداوته واهلل ما بقيت<(‪.)3‬‬

‫ََ‬
‫((( الغلس‪ :‬ظالم آخر الليل‪ .‬انظر‪ :‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة غلس ‪.156/6‬‬
‫((( يقصد بذلك رسول اهلل‪.‬‬
‫((( ابن هشام‪ :‬السيرة النبوية ‪.517/1‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪213 Z‬‬
‫ّ‬

‫ثانيا‪ :‬شهادة النصارى بنبوة الرسول !‪:‬‬


‫‪P P‬اعرتاف نصارى جنران ضمنا بنبوته !‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫نختم مقالنا هذا باعتراف نصارى نجران بنبوة محمد !‪ ،‬عندما‬ ‫وما أجمل أن‬
‫َ‬
‫رفضوا مباهلة(‪ )1‬رسول اهلل الذي امتثل لقوله تعالى‪﴿ :‬ف َم ۡن َحا َّجك فِيهِ ِم ۢن َب ۡع ِد َما‬
‫ٓ َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ٓ ُ َ ُ‬ ‫ٓ َ‬ ‫ۡ ۡ َُۡ َ َ َْ ُ َ ٓ َ َ ٓ ُ‬ ‫ٓ‬
‫َجا َء َك م َِن ٱل ِعل ِم فقل ت َعال ۡوا ن ۡدع أ ۡب َنا َءنا َوأ ۡب َنا َءك ۡم َون َِسا َءنا َون َِسا َءك ۡم َوأنف َس َنا َوأنف َسك ۡم‬
‫َ آ‬
‫ني﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]77 :‬‬
‫ُ َّ َ ۡ َ ۡ َ َ ۡ َ َّ ۡ َ َ هَّ لَىَ ۡ َ‬
‫ت ٱللِ ع ٱلكٰذ ِِب‬ ‫ثم نبت ِهل فنجعل لعن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فخرج إليهم رسول اهلل ومعه ٌّ‬
‫علي والحسن والحسين وفاطمة‪ ،‬ودعاهم للمباهلة‬
‫َ ْ‬
‫فقالوا‪ :‬يا أبا القاسم‪ ،‬دعنَا ننظر في أمرنا‪ ،‬ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫فانصرفوا عنه‪ ،‬ثم خل ْوا بالعاقب‪ ،‬وكان ذا رأيهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا عبد‪ ‬المسيح‪،‬‬
‫ً‬
‫محمدا ٌّ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ماذا ٰ‬
‫لنبي مرسل‪ ،‬ولقد‬ ‫عرفتم أن‬ ‫معشر النصارى لقد‬ ‫ترى؟ فقال‪ :‬واهلل يا‬
‫ٌ ًّ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بالف ْ‬
‫قوم نبيا قط فبقي‬ ‫صل من خ َبر صاحبكم(‪ ،)2‬ولقد علمتم أنه ما العَن‬ ‫جاءكم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ص ُ‬ ‫َ َ‬
‫ت َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫غيرهم‪ ،‬وإنه لالستئصال منكم إن فعلتم‪ ،‬فإن كنتم قد أبيتم‬ ‫كبيرهم‪ ،‬وال نب‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فوادعُوا الرجل‬‫دينكم‪ ،‬واإلقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم‪ِ ،‬‬
‫َ‬
‫إال ْإلف ِ‬
‫َ ُ‬
‫ص ِرفوا إلى بالدكم(‪.)3‬‬ ‫ثم ان‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫إن أول جملة قالها الراهب النصراني الشهير >بحيرا< حين رأى محمدا !‬
‫في رحلته األولى إلى الشام مع أبي طالب‪> :‬هذا سيد العالمين! هذا رسول رب‬
‫العالمين ! هذا يبعثه اهلل رحمة للعالمين!<(‪.)4‬‬

‫ً َ‬ ‫َْ‬
‫باهلت فالنا أي العنته‪ .‬ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا‬ ‫((( المباهلة‪ :‬المالعنة‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫ُ‬
‫اختلفوا في شيء فيقولوا‪ :‬لعنة اهلل على الظالم منا‪ .‬انظر‪ :‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة‬
‫ّ‬

‫بهل ‪.71/11‬‬
‫((( ابن هشام‪ :‬السيرة النبوية ‪.584/1‬‬ ‫ ‬
‫((( يقصد عيسى عليه السالم‪.‬‬
‫نظرة على‬

‫((( انظر الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3620‬والحاكم‪ :‬المستدرك على الصحيحين ‪.615 /2‬‬
‫‪214‬‬

‫وإن في ذلك لداللة بينة على ما كان يتدارسه الرهبان والقساوسة في األناجيل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫الكتب السماوية السابقة في محمد !‪.‬‬ ‫حيث صفة الرحمة التي سجلتها‬
‫ثالثا‪ :‬إنصاف بعض علماء الغرب للرسول !‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫اإلنصاف ناتجا عن دراسة‬ ‫لقد أنصف كثير من الغربيين محمدا!‪ ،‬وكان هذا‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫عناصر‬ ‫موضوعية مستفيضة لسيرة وحياة رسول اهلل‪ ،‬وقد اكتملت في هذه الدراسة‬
‫المنهج العلمي الحديث القائم على المالحظة والتجربة واالستقصاء‪ ،‬وجاءت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫النتائج إيجابية تجاه رسول اهلل‪ ،‬وأصبحت شهاداتهم برهانا يهتدي به الباحثون‬
‫عن الحقيقة في الغرب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫الفرنسي المارتين؛ حيث يقول‪ < :‬أترون‬ ‫فممن أنصف رسول اهلل الشاعر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫وكذب؟! كاّل‪ ،‬بعدما‬ ‫ٍ‬ ‫باطل‬
‫ٍ‬ ‫وصاحب‬ ‫‪،‬‬ ‫وتدليس‬
‫ٍ‬ ‫خداع‬ ‫صاحب‬ ‫كان‬ ‫ا‬ ‫محمد‬ ‫أن‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وعينا تاريخه‪ ،‬ودرسنا حياته‪ ،‬فإن الخداع والتدليس والباطل واإلفك‪ ..‬كل تلك‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ‬
‫وصف محمدا بها >(‪.)1‬‬ ‫بمن‬ ‫الصفات هي ألصق‬
‫قط رجاًل كاذبًا متصن ِّ ًعا‪َّ ،‬‬ ‫ً ُّ‬ ‫ُّ‬
‫يتذرع بالحيل‬ ‫يقول توماس كارليل‪ < :‬لسنا نعد محمدا‬
‫ُْ‬ ‫ُ‬
‫غير ذلك من الحقائر‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫سلطان‪،‬‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬ ‫ك‬
‫ٍ‬ ‫ل‬‫غية‪ ،‬أو يطمع إلى درجة م‬ ‫والوسائل إلى ب ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ َّ‬ ‫ٌّ َ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬
‫صادر‬ ‫صراح‪ ،‬وما ك ِل َمته إال صوت صادق‬ ‫والصغائر‪ ،‬وما الرسالة التي أداها إال حق‬
‫ِّ‬
‫من العالم اجملهول‪ ،‬كال‪ ،‬ما محمد بالكاذب وال الملف ِق‪ ،‬وإنما هو قطعة من الحياة‬
‫َ‬
‫أجمع > (‪.)2‬‬ ‫قلب الطبيعة‪ ،‬فإذا هي شهاب قد أضاء العالم‬ ‫قد تَ َف َّطر عنها ُ‬
‫ْ َ‬
‫عالم االجتماع غوستاف لوبون‪ < :‬إنني ال أدعو إلى بدعة ُمحدثة‪ ،‬وال‬ ‫ُ‬ ‫ويقول‬
‫ً‬ ‫َِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫إلى ضاللة مستهجنة‪ ،‬بل إلى دين عربي قد أوحاه اهلل إلى ن ِبيه محمد‪ ،‬فكان أمينا على‬
‫َّ َ ْ ُ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫واألصنام‪ ،‬وتلذذت بت َّر َهات الجاهلية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األحجار‬
‫ِ‬ ‫بعبادة‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫تله‬ ‫‪،‬‬ ‫قبائل‬ ‫بين‬ ‫دعوته‬ ‫بث‬

‫((( المارتين‪ :‬السفر إلى الشرق ص‪.84‬‬


‫((( توماس كارليل‪ :‬األبطال ص‪.60-58‬‬
‫‪215‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ِّ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬


‫متفرقة‪َ ،‬و َو َّج َه‬ ‫فجمع صفوفهم بعد أن كانت مبعثرة‪ ،‬ووحد كلمتهم بعد أن كانت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ونسبا وزعامة َونبُ َّوة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أنظارهم لعبادة الخالق‪ ،‬فكان خير البرية على اإلطالق حبًّا‬
‫ٌ‬
‫هذا هو محمد الذي اعتنق شريعته أربعمائة مليون مسلم‪ ،‬منتشرين في أنحاء‬
‫ًّ‬ ‫ِّ ُ َ ً‬
‫المعمورة‪ ،‬ي ُ َرتلون قرآنا عربيا مبينًا > (‪.)1‬‬
‫ٌ ِّ‬
‫جدير بات َباع رسالته‪،‬‬ ‫آخر‪ < :‬فرسول كهذا‬ ‫ويقول غوستاف لوبون في موضع َ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ ٌ‬
‫اعتناق دعوته؛ إذ إنها دعوة شريفة‪ِ ،‬قوامها معرفة الخالق‪ ،‬والحض‬ ‫ِ‬ ‫والمبادرة إلى‬
‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫على الخير‪ ،‬والردع عن المنكر‪ ،‬بل كل ما جاء فيها يرمي إلى الصالح واإلصالح‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫جميع النصارى>(‪.)2‬‬ ‫والصالح أنشودة المؤمن‪ ،‬وهو الذي أدعو إليه‬
‫ً‬ ‫َ َ ُّ‬ ‫ِّ‬
‫وال يُخفي المفكر البريطاني لين بول تأث َره بمحمد‪ ،‬فيقول‪ < :‬إن محمدا كان‬
‫ف بكثير من الصفات؛ كاللطف والشجاعة وكرم األخالق‪ ،‬حتى إن اإلنسان‬ ‫ي َ َّتص ُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬
‫ال يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات في نفسه‪ ،‬ودون‬
‫هو ٰى‪ ،‬كيف ال؟! وقد احتمل محمد‬ ‫صادرا عن غير َميل أو ً‬ ‫ً‬ ‫أن يكون هذا الحكم‬
‫ََ ٍ‬
‫عداء أهله وعشيرته سنوات بصبر وجلد عظيمين ‪.‬‬
‫يد مصافحه حتى لو كان‬ ‫من‬ ‫ه‬
‫ُ َ‬
‫يد‬ ‫يسحب‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫أنه‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ومع ذلك فقد بَ َلغ من ن ُ ْ‬
‫ب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫طفال! وأنه لم َّ‬‫ً‬
‫يمر بجماعة يوما من األيام ـ رجااًل كانوا أم أطفااًل دون‬ ‫يصافح‬
‫َ‬ ‫ٌ ُ‬ ‫ِّ‬
‫وبنغمة جميلة كانت تكفي وحدها‬ ‫ٍ‬ ‫أن ي ُ َسل َم عليهم‪ ،‬وعلى شفتيه ابتسامة حلوة‪،‬‬
‫القلوب إلى صاحبها جذبًا!<(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وتجذب‬ ‫َ‬
‫لتسحر سامعيها‪،‬‬

‫((( هذا التعداد الذي ذكره غوستاف لوبون كان وقت إصداره لكتابه (حضارة العرب)‪ ،‬عام‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫‪1884‬م‪ ،‬أما اآلن عام ‪2008‬م فقد تجاوز عدد المسلمين في العالم ‪ 1.3‬مليار نسمة‪.‬‬
‫انظر‪ :‬جريدة الشرق األوسط‪ ،‬على الرابط‪.‬‬
‫ّ‬

‫((( غوستاف لوبون‪ :‬حضارة العرب ص‪.67‬‬


‫نظرة على‬

‫((( لين بول‪ :‬رسالة في تاريخ العرب‪ ،‬نقاًل عن‪ :‬عفيف عبد‪ ‬الفتاح طبارة‪ :‬روح الدين اإلسالمي‬
‫ص‪.438‬‬
‫‪216‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬


‫ويتحدث األديب اإلنجليزي جورج برنارد شو قائال‪ < :‬لقد درست محمدا‬
‫َ‬ ‫بعيدا عن مخاصمة المسيح‪ ،‬بل يجب أن ي ُ ْدعَ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منقذ‬‫ِ‬ ‫ى‬ ‫باعتباره رجاًل مدهشا‪ ،‬فرأيته‬
‫َ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وأوربا في العصر الراهن بدأت تعشق عقيدة التوحيد‪ ،‬وربما ذهبت‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫إلى أبعد من ذلك؛ فتعرف بقدرة هذه العقيدة على حل مشكالتها‪ ،‬فبهذه الروح‬
‫يجب أن تفهموا نبوءتي> (‪.)1‬‬
‫ويقول المستشرق اإلنجليزي الكبير وليم موير‪ < :‬امتاز محمد بوضوح كالمه‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫األلباب‪ ،‬لم يشهد التاريخ مصلحا‬ ‫َ‬
‫أدهش‬ ‫تم من األعمال ما‬ ‫ويسر دينه‪ ،‬وأنه أ َ َّ‬
‫ْ‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫النفوس‪ ،‬وأحيا األخالق الحسنة‪ ،‬ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير‬ ‫أيقظ‬
‫كما فعل محمد> (‪..)2‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬
‫الواصف‪،‬‬ ‫ينتهي إليه‬ ‫أسمى من أن‬ ‫أمر‪ ،‬فإن محمدا‬ ‫< ومهما ْيكن هناك من ٍ‬
‫ً‬
‫وخبير به َمن أمعن النظر في تاريخه اجمليد‪ ،‬وذلك التاريخ الذي ترك محمدا‬ ‫ٌ‬
‫في طليعة الرسل ومفكري العالم > (‪.)3‬‬
‫ويقول المستشرق األمريكي الكبير واشنجتون إرفنج‪ < :‬كانت تصرفات الرسول‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫تدل على أنه ٌّ‬ ‫ُّ‬
‫نبي مرسل‪ ،‬ال على أنه قائد مظفر؛ فقد أبدى‬ ‫في أعقاب فتح مكة‬
‫َ‬ ‫ََّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رحمة وشفقة على مواطنيه‪ ،‬برغم أنه أصبح في مركز قوي‪ ،‬ولكنه توج نجاحه‬
‫والعفو > (‪.)4‬‬ ‫بالرحمة‬ ‫َ‬
‫وانتصاره‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬
‫كمؤسسي‬ ‫ويقول رئيس الوزراء الهندي األسبق جواهر الل نهرو‪ < :‬كان محمد‬
‫األخرى‪ً ،‬‬
‫ناقما على كثير من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في عصره‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫األديان‬

‫((( حسين حسيني معدي‪ :‬الرسول في عيون غربية منصفة ص‪.70‬‬


‫((( وليم موير‪ :‬حياة محمد ص‪.31‬‬
‫((( المصدر السابق ص‪.20‬‬
‫((( واشنجتون إيرفنج‪ :‬حياة محمد ص‪.72‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪217 Z‬‬
‫ّ‬

‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫تجاوب لدى‬ ‫وكان للدين الذي بَشر به ـ بما فيه من سهولة وصراحة وإخاء ومساواة ـ‬
‫يد الملوك األوتوقراطيين‪،‬‬ ‫َ‬
‫الناس في البلدان اجملاورة؛ ألنهم ذاقوا الظلم على ِ‬
‫والقساوسة المستبدين ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لقد تع َ‬
‫الناس من النظام القديم‪ ،‬وتاقوا إلى نظام جديد‪ ،‬فكان اإلسالم‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الكثير من أحوالهم‪ ،‬ورفع عنهم كابوس الضيم‬ ‫فرصتهم الذهبية؛ ألنه أصلح‬
‫والظلم >‪.‬‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫البلجيكي جورج سارتون(‪ < :)1‬وخالصة القول‪ ...‬إنه لم يُتح لنبي‬
‫ُّ‬ ‫ويقول المؤرخ‬
‫انتصارا ًّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تاما كانتصار محمد > (‪.)2‬‬ ‫من قبل وال من بعد أن ينتصر‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫يقول المستشرق آرثر جيلمان‪ < :‬لقد اتفق المؤرخون على أن محمدا ‏! كان‬
‫ً‬
‫وحسن‬
‫ًِ‬ ‫‪،‬‬ ‫والكرم‬
‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫واألمانة‬
‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫الحديث‬
‫ِ‬ ‫صدق‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫جميلة؛‬ ‫بأخالق‬ ‫قومه‬ ‫بين‬ ‫ا‬‫ممتاز‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يحضر لألوثان عيدا‬ ‫الشمائلِ‪ ،‬والتواضعِ‪ ..‬وكان ال يشرب األشربة المسكرة‪ ،‬وال‬
‫ً‬
‫وال احتفاال > (‪.)3‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بعيد؛ فعندما‬
‫ٍ‬ ‫أو‬ ‫قريب‬
‫ٍ‬ ‫من‬ ‫شائبة‬ ‫ويقول كارل بروكلمان‪ < :‬لم ت ِش ْب محمدا !‬
‫ُ‬
‫جنسه‬
‫ِ‬ ‫بني‬ ‫من‬ ‫أقرانه‬ ‫ها‬ ‫يعيش‬ ‫صبيا وشابًا عاش فوق مستوى الشبهات التي كان‬ ‫كان ً‬
‫وقومه > (‪.)4‬‬
‫ِ‬

‫((( جورج سارتون ‪1956 -1884( George Sarton‬م)‪ :‬بلجيكي األصل‪ ،‬متخصص‬
‫في العلوم الطبيعية والرياضية‪ ،‬درس العربية في الجامعة األمريكية في بيروت ‪-1931‬‬
‫‪1932‬م‪ ،‬وألقى محاضرات حول فضل العرب على الفكر اإلنساني‪ .‬أبرز إنتاجه (المدخل‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫إلى تاريخ العلم)‪ .‬انظر‪ :‬نجيب العقيقي‪ :‬المستشرقون ‪.148 ،147/3‬‬


‫((( سارتون‪ :‬الثقافة الغربية في رعاية الشرق األوسط ص‪.30-28‬‬
‫ّ‬

‫((( آرثر جيلمان‪:‬الشرق‪ ،‬ص‪.117‬‬


‫نظرة على‬

‫((( نقاًل عن محمد عثمان عثمان‪ :‬في كتابه (محمد في اآلداب العالمية المنصفة) ص‪.110‬‬
‫‪218‬‬

‫ويتحدث توماس كارليل عن نبينا محمد ! قائاًل‪ < :‬لوحظ على محمد !‬


‫َ‬ ‫َ‬ ‫مفكرا‪ ،‬وقد ّ‬
‫الصدق والوفا ِء ـ‬
‫ِ‬ ‫األمين ـ رجل‬ ‫سماه رفقاؤه‬ ‫ً‬ ‫منذ (صباه) أنه كان شابًا‬
‫الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره‪ .‬وقد الحظوا أنه ما من كلمة تخرج من فيه إال‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وفيها حكمة بليغة‪..‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وإني ألعرف عنه ! أنه كان َ‬
‫موجب للكالم‪،‬‬ ‫كثير الصمت‪ ،‬يسكت حيث ال‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫فإذا نطق فما شئت من ّ‬
‫صارم‬ ‫لب ! وقد رأيناه ! طول حياته رجاًل راسخ المبدأ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تقيا فاضاًل ً‬ ‫كريما بَ ًّرا رؤوفًا ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫مخلصا‪،‬‬ ‫حرا‪ ،‬رجاًل شديد الجد‬ ‫العزم‪ ،‬بعيد الهم‪،‬‬
‫حميد العشرة‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ن العريكة‪ُّ ،‬‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ‬
‫حلو‬ ‫جم ِالبشر والطالقة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وهو مع ذلك سهل الجانب لي‬
‫اإليناس‪ ،‬بل ربما مازح وداعب ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فؤاد صادق‪ ..‬وكان َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ذكي‬ ‫ٍ‬ ‫وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من ٍ‬
‫معلم‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫غني‬ ‫عظيما بفطرته‪ ،‬لم تثقفه مدرسة‪ ،‬وال هذبه‬ ‫الفؤاد‪..‬‬
‫ِ‬ ‫شهم‬ ‫اللب‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عن ذلك‪ ..‬فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء > (‪.)1‬‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫< شب‬ ‫البلجيكي ألفرد الفانز عن أخالق محمد ! فيقول‪:‬‬ ‫ويتحدث الباحث‬
‫وحلما وأمانة‪ ،‬وأحسنَهم جوابًا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أعظم الناس مروءة‬ ‫َ‬ ‫محمد ! حتى بلغ‪ ،‬فكان‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وأصدقهم حديثا‪ ،‬وأبعدهم عن الفحش‪ ،‬حتى عُرف في قومه باألمين ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المرض َية خديجة بنت خويلد القرشية‪ ،‬وكانت ذات‬
‫ِ‬ ‫وبلغت أمانته وأخالقه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غالمها ميسرة‪ ،‬فخرج‬ ‫مال‪ ،‬فعرضت عليه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وربح ً‬
‫كثيرا‪ ،‬وعاد إلى مكة وأخبرها ميسرة بكراماته‪ ،‬فعرضت نفسها عليه وهي‬
‫ْ ً‬ ‫ً‬
‫عشرين ِبك َرة‪ ،‬وتزوجها وله خمس وعشرون‬
‫ِ‬ ‫فأصدقها‬ ‫‪،‬‬ ‫سنة‬ ‫أي ِّ ٌم‪ ،‬ولها أربعون‬
‫ً‬
‫سنة‪ ،‬ثم بقيت معه حتى ماتت > (‪.)2‬‬

‫((( توماس كارليل‪ :‬األبطال‪ ،‬ص‪.51 ،50‬‬


‫((( انظر‪ :‬محمد شريف الشيباني‪ :‬الرسول في الدراسات اإلستشراقية المنصفة‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪219‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫الروسي آرلونوف‪ ،‬عن نبي الرحمة‪ ،‬ويقول‪ < :‬اشتهر !‬ ‫ُّ‬ ‫ويتحدث الباحث‬
‫وحسن المعاملة مع الناس‪.‬‬
‫ِ‬ ‫العريكة‪ ،‬والتواضعِِ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ولين‬
‫ِ‬ ‫بدماثة األخالق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٰ‬
‫جميع أقاربه‬ ‫قضى محمد ! أربعين سنة مع الناس بسالم وطمأنينة‪ ،‬وكان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫حبا ً‬
‫يحبونه ً‬
‫عظيما‪ ،‬لما عليه من المبادئ‬ ‫احتراما‬ ‫جما‪ ،‬وأهل مدينته يحترمونه‬
‫والنزاهة > (‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫وشرف النفسِ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الكريمة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫واألخالق‬
‫ِ‬ ‫القويمة‪،‬‬
‫يقول الكاتب األمريكي واشنجتون إيرفنج (‪1859-1783‬م)‪ < :‬كان محمد‬
‫َ‬
‫َ‬
‫الناس إلى عبادة اهلل > (‪.)2‬‬ ‫وأعظم الرسل الذين بعثهم اهللُ؛ ليدعوا‬
‫َ‬ ‫! خاتم النبيين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫بأسلوب عقالني وعلمي‪ ،‬بكلماتٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ويثبت >مارسيل بوازار< نبوة محمد !‪،‬‬
‫حياته جزءًا ال ينفصل‬ ‫ُ‬ ‫بي محمد ! في المدينة‪ ،‬غدت‬
‫ٌ‬ ‫بليغة فيقول‪ < :‬منذ استقر الن ّ ّ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تفاصيلها‪ ..‬ولما‬
‫ِ‬ ‫من التاريخ اإلسالمي‪ .‬فقد نقلت إلينا أفعاله وتصرفاته في أدق‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كان ُم ً‬
‫نظما شديد الحيوية‪ ،‬فقد أثبت نضاله في الدفاع عن اجملتمع اإلسالمي‬
‫الجنيني‪ ،‬وفي بث الدعوة‪..‬‬
‫ومنافحته‪ ،‬فقد كان يعفو عند المقدرة‪ ،‬لكنه لم يكن‬ ‫ِ‬ ‫وعلى الرغم من قتاليّ ِته‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين أو يتسامح مع أعداء الدين‪ .‬ويبدو أن مزايا الن ّ ّ‬ ‫َ ُ‬
‫بي الثالث‪ ،‬الورع والقتالية‬ ‫ي ِل‬
‫وجسدت‬ ‫ّ‬ ‫ان قيامه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫والعفو عند المقدرة‪ ،‬قد طبعت اجملتمع اإلسالمي في إب ِ‬ ‫َ‬
‫المناخ الروحي لإلسالم‪.)3( > ..‬‬
‫عظيما مأل َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫قائال‪< :‬وكما ي ُ ُ‬ ‫ً‬
‫قلبه‬ ‫ظهر التاريخ محمدا ! قائدا‬ ‫ويضيف‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫دولة‪ ،‬صريحا قوي الشكيمة‪ ،‬له سياسته الحكيمة‬ ‫ٍ‬ ‫رجل‬ ‫كذلك‬ ‫يصوره‬ ‫‪،‬‬ ‫الرأفة‬
‫ٍّ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬
‫صاحب حق حقه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫التي تتعامل مع الجميع على قد ِم المساواة‪ ،‬وتعطي كل‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬

‫((( آرلونوف‪ :‬مقالة >النبي محمد<‪ ،‬مجلة الثقافة الروسية‪ ،‬ج ‪ ،7‬عدد ‪.9‬‬
‫((( واشنجتون إيرفنج‪ :‬حياة محمد‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫نظرة على‬

‫((( مارسيل بوازار‪ :‬إنسانية اإلسالم‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫‪220‬‬

‫َ‬
‫ولقد استطاع بدبلوماسيته ونزاهته أن ينتزع االعتراف بالجماعة اإلسالمية‪،‬‬
‫ُ‬
‫عن طريق المعاهدات‪ ،‬في الوقت الذي كان النصر العسكري قد بدأ يحالفه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أخيرا على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يتمتع‬ ‫وإذا تذكرنا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫العرب‪ ،‬والفضائل التي كان أفراد اجملتمع يطالبونه بالتحلي‬
‫ِ‬ ‫زعيم من زعماء‬ ‫به‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫نستخلص‪ :‬أنه ال بد أن يكون محمد ! الذي عرف كيف ينتزع‬ ‫بها‪ ،‬استطعنا أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رضا أوسع الجماهير به‪ ،‬إنسانا فوق مستوى البشر حقا‪ ،‬وأنه ال بد أن يكون ً‬
‫نبيا‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫حقيقيا من أنبياء اهلل > (‪.)1‬‬
‫َ‬
‫إبراهيم بن‬ ‫حادث وفاة‬ ‫أما إميل درمنغم‪ ،‬فيدلل على نبوة محمد !‪ ،‬من خالل‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫إبراهيم‪ ،‬فمات‬ ‫القبطية) ابنه‬
‫ِ‬ ‫مارية‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬فيقول‪ .. < :‬ولد لمحمد !‪(،‬من‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً َ َ‬
‫كسوف الشمس‪،‬‬ ‫كثيرا ولحده بيده وبكاه‪ ،‬ووافق موته‬ ‫طفاًل‪ ،‬فحزن عليه !‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫فقال المسلمون‪ :‬إنها انكسفت لموته‪ ،‬ولكن محمدا ! كان من سمو النفس‬
‫ّ‬
‫والقمر آيتان من آيات اهلل‪ ،‬ال يخسفان‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الشمس‬ ‫ما رأى به رد ذلك؛ فقال‪> :‬إن‬
‫لموت أحد‪ .<..‬فقول مثل هذا مما ال يصدر عن كاذب دجال‪.)2( > ..‬‬
‫يقول اليتنر‪ < :‬بقدر ما أعرف من ِدينَ ْي اليهود والنصارى أقول‪ :‬بأن ما علمه‬
‫اقتباسا‪ ،‬بل قد أوحي إليه به‪ ،‬وال َ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫ريب بذلك‪ ،‬طالما نؤمن بأنه‬ ‫محمد ! ليس‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫عزيز عليم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫لد‬ ‫وحي من‬ ‫قد جاءنا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وإني بكل احترام وخشوع أقول‪ :‬إذا كان تضحية الصالح الذاتي‪ ،‬وأمانة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الخطيئة‬
‫ِ‬ ‫الثاقب بدقائق وخفايا‬ ‫والنظر الصادق‬ ‫المقصد‪ ،‬وإيمان القلب الثابت‪،‬‬
‫ِ‬
‫الدالة‬
‫ِ‬ ‫والضالل‪ ،‬واستعمال أحسن الوسائط إلزالتها‪ ،‬فذلك من العالمات الظاهرة‬
‫على نبوة محمد !‪ ،‬وأنه قد أوحي إليه > (‪.)3‬‬

‫((( مارسيل بوازار‪ :‬إنسانية اإلسالم‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫((( اليتنر‪ :‬دين اإلسالم‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫ ‬
‫ص‪.318‬‬ ‫((( إميل درمنغم‪:‬حياة محمد‪،‬‬
‫‪221‬‬ ‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫الفصل الثاني نظرة على‬

‫ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫أقوى أعداء اإلسالم‪،‬‬ ‫أما الكاتبة اإليطالية لورافيشيا فاغليري‪ ،‬فتقول‪ < :‬حاول‬
‫الحقد‪ ،‬أن يرموا َّ‬ ‫ُ‬
‫نبي اهلل ! ببعض التهم المفتراة‪ .‬لقد نسوا‬ ‫وقد أعماهم‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫أن محمدا ! كان قبل أن يستهل رسالته‪ ،‬موضع اإلجالل العظيم من مواطنيه؛‬
‫بسبب أمانته وطهارة حياته‪.‬‬
‫أنفسهم عناءَ التساؤل؛ كيف جاز أن‬ ‫ومن العجب أن هؤالء الناس ال يجشمون َ‬
‫ٌ‬
‫يقوى محمد ! على تهديد الكاذبين والمرائين‪ ،‬في بعض آيات القرآن الالسعة‬
‫جرؤ على التبشير‪،‬‬ ‫بنار الجحيم األبدية‪ ،‬لو كان هو قبل ذلك رجاًل كاذبًا؟ كيف ُ‬
‫ُّ‬
‫على الرغم من إهانات مواطنيه‪ ،‬إذا لم يكن ثمة قوى داخلية تحثه ـ وهو الرجل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ذو الفطرة البسيطة ـ حثا موصوال؟ كيف استطاع أن يستهل صراعًا كان يبدو‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِّ‬
‫يائسا؟ كيف وف َق إلى أن يواصل هذا الصراع أكثر من عشر سنوات‪ ،‬في مكة‪،‬‬ ‫ً‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫في نجاح قليل جدا‪ ،‬وفي أحزان ال تحصى‪ ،‬إذا لم يكن مؤمنًا إيمانا عميقا بصدق‬
‫رسالته؟‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الكبير من المسلمين النبالء واألذكياء‪ ،‬وأن‬ ‫كيف جاز أن يؤمن به هذا العدد‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ف‬ ‫ٍ‬ ‫مؤل‬ ‫مجتمع‬
‫ٍ‬ ‫يؤازروه‪ ،‬ويدخلوا في الدين الجديد‪ ،‬ويشدوا أنفسهم بالتالي إلى‬
‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َ ّ‬
‫والعتقاء‪ ،‬والفقراء المعدمين‪ ،‬إذا لم يلمسوا في كلمته حرارة‬ ‫في كثرته من األ ِرقاء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الصدق؟ ولسنا في حاجة إلى أن نقول أكثر من ذلك‪ ،‬فحتى بين الغربيين يكاد‬ ‫ِ‬
‫ً (‪)1‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫محمد ! كان عميقا وأكيدا >  ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ينعقد اإلجماع على أن صدق‬
‫زيف المكذبين لنبوة محمد ! بقوله‪:‬‬ ‫المفكر البريطاني روم الندو َ‬ ‫ُ‬ ‫ويكشف‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫دوافع‬ ‫< كانت مهمة محمد ! هائلة ! كانت مهمة ليست في ميسور دجال تحدوه‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫بعض الكتاب الغربيين المبكرين محمدا العربي‬ ‫أنانية‪ ،‬وهو الوصف الذي رمى به‬ ‫ٍ‬
‫!‪...‬‬
‫ّ‬ ‫نظرة على‬

‫((( لورافيشيا فاغليري‪ :‬دفاع عن اإلسالم‪ ،‬ص‪.38 ،37‬‬


‫‪222‬‬

‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫إن اإلخالص الذي تكشف عنه محمد ! في أداء رسالته‪ ،‬وما كان ألتباعه‬
‫ُ‬
‫من إيمان كامل في ما أنزل عليه من وحي‪ ،‬واختبار األجيال والقرون‪ ،‬كل أولئك‬
‫بأي ضرب من الخداع المتعمد‪.‬‬ ‫يجعل من غير المعقول اتهام محمد ! ّ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫قط َّ‬ ‫ُ ُّ‬
‫يعمر طويال‪ .‬واإلسالم‬ ‫متعم ٍد استطاع أن‬ ‫تلفيق ديني‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫ولم يعرف التاريخ‬
‫ب‪ ،‬بل إنه ال يزال‬ ‫ْ‬
‫وحس ُ‬ ‫يعم ْر حتى اآلن ما ينوف على ألف وثالثمائة سنة‬ ‫لم َّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫وصفحات التاريخ ال تقدم إلينا مثاًل واحدا‬ ‫يكتسب‪ ،‬في كل عام أتباعًا جددا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫َْ‬ ‫ُ‬
‫ق إمبراطورية من إمبراطوريات العالم‪،‬‬ ‫على محتال كان لرسالته الفضل في خ ِ‬
‫ل‬
‫وحضارة من أكثر الحضارات نباًل ! > (‪.)1‬‬ ‫ٍ‬
‫خلق الرحمة في الن ّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ويقول العالمة اإلنجليزي ُد ّ‬ ‫ُ‬
‫بي !‪:‬‬ ‫ٌ ِ‬ ‫إلى‬ ‫ا‬ ‫مشير‬ ‫‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫اني‬ ‫ر‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫مسلم جديد واحد‪ ،‬ال يحمل في نفسه‬ ‫< أستطيع أن أقول بكل قوة‪ :‬إنه ال يوجد‬
‫َ‬
‫العرفان بالجميل لسيدنا محمد !؛ لما غمره به من حب وعون وهداية وإلهام‪..‬‬
‫وحبا بنا‪ ،‬حتى نقتفي َ‬ ‫رحمة لنا‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫القدوة الطيبة التي أرسلها اهللُ‬ ‫ُ‬
‫أثره ! ! > (‪.)3‬‬ ‫فهو‬
‫ُ‬
‫يقول الدكتور جان ليك في كتابه (العرب)‪ < :‬وحياة محمد ! التاريخية ال يمكن‬
‫بي محمد !‬ ‫سبب بعث الن ّ ّ‬‫بأحسن مما وصفها اهلل‪ ..‬بألفاظ قليلة‪ ،‬بيّن بها َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫توصف‬ ‫أن‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫نأ‬ ‫َ‬
‫أعظم‬ ‫ني﴾ [ال� �ب�ي��ا ء‪ ،]107 :‬وقد برهن بنفسه على أن لديه‬ ‫﴿وما أرسلنٰ ِ‬
‫َ‬
‫حة ل ِل َعٰلم َ‬‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫مۡ‬
‫ك إل َر َ‬ ‫اَّ‬ ‫ۡ‬
‫ََ َۡ َ َ‬ ‫ٓ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬
‫محتاج إلى المساعدة ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ولكل‬ ‫الرحمات لكل ضعيف‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫وابن السبيل‪ ،‬والمنكوبين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والفقراء‪،‬‬ ‫لليتامى‪،‬‬ ‫حقيقة‬ ‫رحمة‬ ‫!‬ ‫محمد‬ ‫كان‬

‫((( انظر‪ :‬أرنولد توينبي‪ :‬اإلسالم والعرب والمستقبل‪،‬ص‪.34 ،33‬‬


‫ُ‬
‫ً‬
‫نصرانيا في فترة مبكرة من‬ ‫((( الدكتور م‪ .‬ج‪ .‬د ّراني‪ :‬سليل أسرة مسلمة منذ القدم‪ ،‬أصبح‬
‫ً‬
‫حياته وتحت تأثير إحدى المدارس التبشيرية المسيحية‪ ،‬وقضى ردحا من حياته في كنيسة‬
‫ً‬
‫قسيسا منذ عام ‪ 1939‬وحتى عام ‪ 1963‬حيث عاد إلى اإلسالم‪.‬‬ ‫إنكلترا‪ ،‬حيث عمل‬
‫((( انظر‪ :‬عرفات كامل العشي‪ :‬رجال ونساء أسلموا‪.28 - 27 / 4 ،‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪223 Z‬‬
‫ّ‬

‫ِّ‬ ‫َ ِّ‬
‫وأصحاب الكد والعناء‪ ،‬وإني بلهفة وشوق‪ ..‬أصلي عليه‬ ‫ِ‬ ‫والضعفاء‪ ،‬والعمال‪،‬‬
‫وعلى أتباعه!<(‪.)1‬‬
‫مشيرا‬ ‫ً‬ ‫بي !‪،‬‬ ‫ويتحدث جيمس متشنر عن بعض صور الرحمة في شخص الن ّ ّ‬
‫ً‬
‫وحزمه‪ ،‬فيقول متشنر‪ < :‬إن محمدا !‬ ‫ونبله‪،‬‬ ‫إلى بساطة الن ّ ّ‬
‫ِ‬ ‫وإنسانيته‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫بي !‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫هذا الرجل الملهم‪ ،‬الذي أقام اإلسالم‪ ،‬ولد في قبيلة عربية تعبد األصنام‪ ،‬ولد‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫يتيما ً‬ ‫ً‬
‫محبا للفقراء والمحتاجين واألرامل واليتامى واألرقاء والمستضعفين‪.‬‬
‫ً‬
‫الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وقد أحدث محمد ! بشخصيته‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وفى الشرق كله‪ ،‬فقد حطم األصنام بيديه‪ ،‬وأقام دينًا يدعو إلى اهلل وحده‪ ،‬ورفع‬
‫َ‬
‫عن المرأة قيد العبودية التي فرضتها تقاليد الصحراء‪ ،‬ونادى بالعدالة االجتماعية‪،‬‬
‫ّ‬
‫أصر‬ ‫قديسا‪ ،‬ولكنه‬ ‫ً‬ ‫حاكما بأمره‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫وقد عُرض عليه في آخر أيامه أن يكون‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وبشيرا > (‪.)2‬‬ ‫منذرا‬ ‫على أنه ليس إال عبدا من عباد اهلل‪ ،‬أرسله إلى العالم‬
‫عظمة الرسول محمد‪ ،‬التي ي ُ ِق ُّر‬ ‫بعضا من جوانب‬ ‫ً‬ ‫لقد أبرزت هذه الشهادات‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫بها ُّ‬
‫وتكمن هذه العظمة في أنه كان حامل‬ ‫كل من يعايشه‪ ،‬أو يقرأ قسطا من حياته‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حياة البشرية عامة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أساسا إلى إصالح‬ ‫رسالة سماوية شمولية‪ ،‬تهدف‬
‫ولعله يجدر التنبيه في هذا المقام إلى دوافع المستشرقين الذين عُنوا بدراسة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫السيرة النبوية‪ ،‬مهما تعددت مناهجهم أو تفاوتت مواقفهم ـ لكونها في حقيقة‬
‫وتشويهه‪،‬‬ ‫تسعى إلى تحطيم األنموذج األعلى لإلسالم‪ ،‬وهو (محمد !)‬ ‫ٰ‬ ‫األمر‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫مصداقية كونه خاتم األنبياء والمرسلين‬ ‫ِ‬ ‫وضرب‬
‫ِ‬ ‫إثارة الشكوك حوله‪،‬‬ ‫أو على األقل ِ‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫الناس‬ ‫وإزالة الوثاقة عن أعماله وتصرفاته‪ ،‬ليصدوا بذلك‬ ‫ِ‬ ‫الذي يجب اتباعُه‪،‬‬
‫ِّ‬
‫شخصيته ‪Z‬‬

‫عن اتباعه واالكتفاء باإلعجاب بشخصيته ‪.‬‬


‫ّ‬

‫((( جان ليك >العرب<‪ ،‬ص ‪.43‬‬


‫نظرة على‬

‫((( انظر‪ :‬حسين الشيخ خضر الظالمي‪ :‬قالوا في االسالم ص ‪.50‬‬


‫‪224‬‬

‫ُ‬
‫وحتى من وصفوا من المستشرقين بأنهم منصفون‪ ،‬كبعض المستشرقين‬
‫َ‬
‫تقديرهم‬ ‫المعاصرين‪ ،‬أمثال منتغمري وات وأمثاله‪ ،‬تجدهم ـ عندما يُبدون‬
‫لشخصية الرسول ! إذعانًا للحقائق التاريخية الدامغة التي ال َّ‬
‫مفر منها ـ إنما‬
‫يقدمونه كشخصية بشرية عبقرية فذة‪ ،‬متعددة المواهب والقدرات‪ ،‬حققت‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عالقة لذلك بالوحي‬
‫ٍ‬ ‫أدنى‬ ‫تاريخيا‪ ،‬يستحق المدح واإلشادة‪ ،‬دون‬ ‫نجاحا‬
‫والرسالة‪.‬‬
‫ُ‬
‫الكثير من قرائهم‪ :‬أنهم عندما‬ ‫ومن أساليبهم الخفية التي قد ال يتفطن لها‬
‫مفعما بعبارات اإلطراء واإلشادة والتبجيل والتقدير لشخصية الرسول‬ ‫ً‬ ‫يشيعون ً‬
‫جوا‬
‫!‪ ،‬في الوقت نفسه يشوشون على قرائهم‪ ،‬ويصرفونهم عن اإليمان به‪،‬‬
‫محمد !‪،‬‬ ‫خصائص‬ ‫َّ‬
‫أخص‬ ‫أو االقتداء به‪ ،‬عندما ينكرون ـ أو على أقل تقدير ـ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ً ِّ ُ‬ ‫َ‬
‫ٰ‬
‫يوحى إليه من ربه ‪.‬‬ ‫وهو كونه رسول اهلل للعالمين كافة‪ ،‬يُبلغ ما‬
‫َ أۡ َ‬ ‫ُ ۡ َ َ ُّ َ نلَّ ُ ّ َ ُ ُ هَّ يَ ۡ ُ ۡ مَ ً ذَّ‬
‫ۡرض‬
‫ۖ‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫و‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫ٱلس َمٰوَ‬
‫َّ‬ ‫هَ ُ ُ ۡ ُ‬
‫ك‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ۥ‬‫ل‬ ‫ِي‬ ‫ٱل‬ ‫يأيها ٱ اس إ ِ يِن رسول ٱللِ إِلكم جِيعا‬ ‫﴿قل ٰٓ‬
‫هَّ لَ‬ ‫ۡ‬ ‫ذَّ‬ ‫ُ‬ ‫أۡ‬ ‫هَّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫يت فَ ٔام ُ‬ ‫اَلٓ إ َل ٰ َه إ اَّل ُه َو يُ يۡحۦ َو ُي ِم ُ‬
‫م ٱلِي يُؤم ُِن بِٱللِ َوك َِمٰتِهِۦ‬ ‫ب ٱل ّيِ ِّ‬ ‫ولِ ٱنلَّ ّ‬
‫يِ ِ‬ ‫هِ‬ ‫ٱللِ َو َر ُ‬
‫س‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ِن‬ ‫ۖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫أ‬
‫ك ۡم ت ۡه َت ُدون﴾ [ال� �عرا �ف�‪. ]158 :‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫َ َّ ُ ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫وٱتبِعوه لعل‬
‫ّ‬ ‫ٰ‬
‫وأنه ال ينطق عن الهوى‪ ،‬وأنه ال نجاة إال في اتباع دينه ﴿ومن يبتغِ غي ِ‬
‫َ َ َ ۡ َ َ رۡ َ إۡ َ‬
‫ٱل ۡسل ٰ ِم‬
‫َ آ‬
‫ين﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]85 :‬‬ ‫ۡ َ‬ ‫ٗ ََ ۡ َ ُۡ ُ‬
‫دِينا فلن ُيق َبل مِنه َوه َو يِف ٱٓأۡلخ َِرة ِ م َِن ٱلخٰ ِرِ‬
‫س‬
‫﴿قل إِن كنتم تِب‬
‫ٱلل َغ ُفور‪ٞ‬‬ ‫ك ۡم َو هَّ ُ‬ ‫حُ ۡ ۡ ُ هَّ ُ َ َ ۡ ۡ َ ُ ۡ ُ ُ َ ُ‬ ‫ٱلل فَٱتَّب ُ‬ ‫ون هَّ َ‬ ‫ُ ُ ۡ حُ ُّ َ‬ ‫ُۡ‬
‫ون يبِبك ُم ٱلل ويغفِر لكم ذنوب ۚ‬ ‫يِ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬
‫َّ ‪ ٞ‬آ‬
‫ِيم﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]31 :‬‬ ‫رح‬
‫َّ‬
‫وال شك أن دراسة السيرة النبوية بالمنهج االستشراقي‪ ،‬يؤدي في الجملة‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫عكسية لدى شريحة واسعة من القراء‪ ،‬إزاء الرسول !‪ ،‬أقلها أن‬ ‫ٍ‬ ‫نتائج‬ ‫إلى‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫األمر بهم عند حد االنبهار بشخصية الرسول !‪ ،‬وتقدير ما حققه من‬ ‫يتوقف‬
‫ٰ‬
‫أقصى تقدير‪ ،‬ـ هذا بالنسبة لغير‬ ‫نجاحات‪ ،‬دون محاولة اإليمان به ومتابعته على‬
‫المسلمين ـ ‪.‬‬
‫الفصل الثاني نظرة على شخصيته ‪225 Z‬‬
‫ّ‬

‫تلقى سيرته ! من كتاباتِ أمثال هؤالء المستشرقين من المسلمين‪،‬‬ ‫أما من ٰ‬


‫َ‬ ‫فذلك يؤدي بهم إلى افتقاد الدافع إلى االقتداء به‪ ،‬واالهتداء بهديه‪ ،‬وهو ٌ‬
‫أمر مالحظ‬
‫ٰ‬
‫لدى كثير من المثقفين المسلمين الذين أعجبوا بكتابات المستشرقين وتأثروا بها‪.‬‬
‫شخصيته ‪Z‬‬
‫ّ‬ ‫نظرة على‬
‫الفصل الثالث‬

‫الرسول والقائد‬ ‫م مدح‬


‫‪229‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫المبحث‬
‫الله ‪Z‬‬
‫كبار مساعدي رسول ّ ٰ‬
‫األول‬
‫في إدارة الدولة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الملقاة على عاتقه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫المهمة‬
‫ِ‬ ‫بدأ الرسول ! منذ دخوله المدينة يسعى إلى إنجاز‬
‫الدولة‬ ‫ُ‬
‫تستهدف بناءَ‬ ‫المرحلة الجديدة من الدعوة اإلسالمية‪ ،‬والتي‬ ‫في مطلع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كافة الشروط والمتطلبات لتحقيق األهداف ‪.‬‬
‫وتهيئة ِ‬
‫ِ‬ ‫اإلسالمية على أسس واضحة‪،‬‬
‫ِ‬
‫ترجع األسس العامة إلدارة البلدان إلى ما بعد فتح مكة (سنة ‪ 8‬هـ)؛ إذ امتدت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ًّ‬
‫الحجاز‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بالد‬ ‫ثم‬ ‫مكة‬ ‫شملت‬ ‫دولة اإلسالم تدريجيا إلى المناطق اجملاورة‪ ،‬إلى أن‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫والجزيرة العربية كافة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كانت للرسول ! الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا‪ ،‬وسلطاته اإلدارية‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫العامة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السياسات‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ور‬ ‫‪،‬‬ ‫األهداف‬
‫ِ‬ ‫بتحديد‬ ‫يتعلق‬ ‫فيما‬ ‫كلها‪،‬‬ ‫الدولة‬ ‫تشمل‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫لقد شارك الرسول ! في إدارة الدولة مجموعة من خيرة الصحابة الذين‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يُشهد لهم بالعقل والفضل والبصيرة‪ ،‬واختير هؤالء الرجال من أولئك السابقين‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫إلى اإلسالم‪ ،‬والذين لهم نفوذ وقوة في أقوامهم‪ ،‬وجاء في مقدمة هؤالء العاملين‬
‫َُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫في الميدان اإلداري سبعة من المهاجرين‪ ،‬وسبعة من األنصار(‪ ،)1‬ويالحظ أن‬
‫ُ‬ ‫أطلقت عليهم َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫بعض المحدثين‬ ‫اسم النقباء‪ ،‬في حين أطلق عليهم‬ ‫بعض المصادر‬
‫َ‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫اسم >مجلس الشورى< أو >مجلس النقباء<(‪ ،)2‬ويبدو أن إطالق هذا المصطلح جاء‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫مجلس ثابت له قواعد ومواعيد محددة ‪.‬‬ ‫متأخرا‪ .‬فلم يكن هناك‬

‫((( أحمد‪ ،‬المسند‪ ،‬حديث رقم (‪.)665‬‬


‫((( عبد‪ ‬القادر مصطفى‪ ،‬الوظيفة العامة في النظام اإلسالمي (ص ‪.)25‬‬
‫‪230‬‬

‫فيأخذ به‪ ،‬وإن كان يخال ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫فكان الن ّ ّ‬


‫ف‬ ‫ِ‬ ‫بي ! يستشير الواحد بالرأي فيراه صوابًا‬
‫القتال في بدر(‪ ،)1‬وكما‬ ‫ِ‬ ‫الحباب بن المنذر‪ ،‬في اختيار موقع‬ ‫ِ‬ ‫رأيه‪ ،‬كما حصل مع‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الفارسي على رسول اهلل ! بحفر الخندق حول المدينة‪ ،‬فأخذ برأيه‬ ‫أشار سلمان‬
‫بالحفر(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫وأمر‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫والثالثة‪ ،‬فكان ً‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫وعمر بن‬ ‫غالبا ما يستشير أبا بكر‪،‬‬ ‫بي ! يستشير االثنين‬
‫وسعد َ‬ ‫َ‬ ‫سعد َ‬ ‫َ‬
‫بن‬ ‫معاذ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بن‬ ‫الخطاب‪ ،‬وكما فعل في غزوة األحزاب(‪ ،)3‬إذ استشار‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وعلي بن أبي طالب في فراق أهله ‪.‬‬ ‫عبادة‪ ،‬واستشار أسامة بن زيد‪،‬‬
‫بي ! قال‬ ‫ابن إسحاق أن الن ّ ّ‬ ‫ُ‬
‫بي ! يستشير الحاضرين‪ ،‬فيروي‬ ‫وكذلك كان الن ّ ُّ‬
‫بدر‪> :‬أشيروا علي أيها الناس‪. )4(<..‬‬ ‫لجيشه َ‬
‫يوم‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وذكرت المصادر أن الن ّ‬
‫جمهور الناس عن طريق ممثلين عنهم‪،‬‬ ‫بي ! استشار‬
‫مسلما‪ ،‬فطلب الن ّ ُّ‬ ‫َ‬
‫هوازن إلى الن ّ ّ‬ ‫ُ‬
‫بي‬ ‫ً‬ ‫بي !‬ ‫قد َم وفد‬ ‫كما حدث بعد غزوة حنين‪ ،‬إذ ِ‬
‫غنموها‪ ،‬فاختلف الناس(‪،)5‬‬ ‫ِ‬ ‫! من الناس أن يعطوا رأيَهم في رد المغانم التي‬
‫ْ‬ ‫ّ ّ‬
‫فقال النبي ! لهم‪> :‬إنا ال ندري من ِ‬
‫يأذن‪ ،‬فارجعوا حتى َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫يرفع‬ ‫أذن منكم ممن لم‬
‫الناس‪ ،‬فكلمهم عرفاؤهم‪ ،‬ثم رجعوا إلى رسول اهلل‬ ‫ُ‬ ‫أمركم< فرجع‬ ‫إلينا عرفاؤكم َ‬
‫! فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا(‪.)6‬‬
‫بي ! كما أشارت اآليات الكريمة في قوله‬ ‫فكانت الشورى قاعدة حكم الن ّ ّ‬
‫ى بَ ۡي َن ُه ۡم﴾‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬و َشاو ۡر ُه ۡم ف أۡٱلَ ۡمر﴾ [�آ ل �ع�م ا ن ‪ ،]159 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬وأَ ۡم ُر ُه ۡم ُش َ‬
‫ور ٰ‬ ‫ٰ‬
‫ر�‬ ‫ِۖ‬ ‫يِ‬ ‫ِ‬
‫[ا � شل���ور �ى‪.]38 :‬‬

‫((( الطبري‪ ،‬تاريخ (ج ‪ ،2‬ص ‪.)615‬‬ ‫ ‬


‫‪.)620‬‬ ‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،1‬ص‬
‫((( البالذري‪ ،‬أنساب (ج ‪ ،1‬ص ‪.)293‬‬ ‫ ‪.)69‬‬
‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،1‬ص ‪.)615‬‬ ‫ ‬
‫‪.)489‬‬ ‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص‬
‫‪231‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫بي ! بشكل كبير‬ ‫بعض المصادر على أولئك الذين استشارهم الن ّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫وقد أطلقت‬
‫َ‬ ‫اسم >الوزراء<‪ ،‬فقال الحاكم‪ < :‬كان أبو بكر الصديق من الن ّ ّ‬
‫بي ! مكان الوزير‬
‫فكان يشاوره في جميع أموره > (‪.)1‬‬
‫رواية أخرى عند الترمذي‪ ،‬تقول‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬ما من ٍّ‬ ‫ً‬
‫نبي إال له‬ ‫ونجد‬
‫وزيران من أهل السماء‪ ،‬ووزيران من أهل األرض‪ ،‬فأما وزيراي من أهل السماء‬
‫وعمر<(‪. )2‬‬
‫ُ‬ ‫بكر‬
‫فجبريل وميكائيل‪ ،‬وأما وزيراي من أهل األرض فأبو ٍ‬
‫ً‬
‫وقد يتبادر إلى الذهن أن الوزارة كوظيفة إدارية كانت معروفة في زمن الرسول‬
‫َ ُ َ‬
‫!‪ ،‬ولكن يبدو أن ما ورد من روايات في ذلك لم ت ْعد كونها معاني عامة لكلمة‬
‫ّ‬
‫ٱج َعل يِل‬
‫وزير المعروفة قديما‪ ،‬والتي وردت على لسان موسى عليه ّ‬
‫السالم‪َ ﴿ :‬و ۡ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ ٗ ّ ۡ َۡ‬
‫‪.‬‬‫(‪)3‬‬
‫‪]30-29‬‬ ‫�ه‪:‬‬
‫ط‬ ‫[‬ ‫﴾‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫ون‬ ‫ُ‬
‫ر‬ ‫ٰ‬ ‫ه‬ ‫‪٢٩‬‬ ‫ل‬
‫وزِيرا مِن أ يِ‬
‫ه‬
‫أما الوزارة كوظيفة إدارية ثابتة فنشأت فيما بعد‪ ،‬وتبلورت في زمن العباسيين‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ولذا قال الحاكم عبارته الدقيقة‪ < :‬كان أبو بكر‪ ..‬مكان الوزير > (‪ )4‬فهو يعمل عمل‬
‫الوزير دون أن يسمى وزيرا‪.‬‬
‫ُ‬
‫قال ابن خلدون‪ < :‬كان يشاور أصحابَه‪ ،‬ويفاوضهم في مهماته العامة‬
‫أخرى‪ ،‬حتى كان العرب الذين عرفوا‬ ‫ٰ‬ ‫والخاصة‪ ،‬ويخص أبا بكر بخصوصيات‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وزيره‪ ،‬ولم يكن لفظ‬ ‫ِّ‬
‫والنجاشي يسمون أبا بكر‬ ‫وقيصر‬ ‫الدول وأحوالها من كسرى‬
‫عرف بين المسلمين؛ لذهاب الملك بسذاجة اإلسالم >‪.‬‬ ‫الوزير ي ُ ُ‬

‫بي ! في بعض القضايا‪ ،‬فقد‬ ‫ض عن الن ّ ّ‬ ‫المعنى كان أبو بكر ي ُ َّ‬
‫فو ُ‬ ‫ٰ‬ ‫وبهذا‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( السيوطي‪ ،‬تاريخ الخلفاء (ص ‪.)60‬‬


‫((( الترمذي‪ ،‬الصحيح‪ ،‬حديث رقم (‪ )3680‬وحسنه‪.‬‬
‫((( الخزاعي‪ ،‬تخريج الدالالت السمعية (ص ‪.)40‬‬
‫((( الحاكم‪ ،‬المستدرك (ج ‪ ،3‬ص ‪.)63‬‬
‫‪232‬‬

‫تعود‪ ،‬فقال لها الن ّ ّ‬


‫َ‬ ‫ٌ‬
‫امرأة الن ّ َّ‬
‫بي !‪> :‬إن لم تجديني فأتي‬ ‫بي !‪ ،‬وطلبت أن‬ ‫أتت‬
‫بي !‪ ،‬في تصريف‬ ‫ض من ِق َبل الن ّ ِّ‬ ‫يفو ُ‬
‫أبا بكر<(‪ ..)1‬ويفيد النص أن أبا بكر كان َّ‬
‫ِ‬
‫شؤون الدولة‪ ،‬وتلبية حاجاتِ المواطنين‪.‬‬
‫الوظائف اإلدارية املرتبطة برئيس الدولة‪:‬‬
‫المصادر إلى مجموعة من الوظائف اإلدارية المرتبطة برئيس‬‫ُ‬ ‫لقد أشارت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫حاجبا لرسول اهلل‪ ،‬فكان يقوم هؤالء‬ ‫بعض المسلمين كان يعمل‬ ‫الدولة منها‪ :‬أن‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫باإلذن عليه في بعض األوقات‪ ،‬وهناك إشارات تبين أن سفينة‪ ،‬ورباحا األسود‬
‫َ‬
‫وأنس بن مالك قاموا بهذه المهمة بتكليف من الرسول ! (‪.)2‬‬ ‫من موالي رسول اهلل‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وأعراف أو أنظمة معقدة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مراسيم‬ ‫ولكن يالحظ أن >الحجابة< هذه لم تكن لها‬
‫بل كان هؤالء يتطوعون في اإلذن على رسول اهلل‪ ،‬في األوقات التي كان يحب‬
‫أن يخلو فيها بنفسه في المسجد‪ ،‬أو في حجرة من حجرات أزواجه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وقد وجدت هناك وظيفة >أمين السر<‪ ،‬وارتبطت بشكل كبير باإلدارة العليا‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫للدولة‪ ،‬ممثلة برسول اهلل !‪ ،‬وتشير روايات المصادر أن هذه الوظيفة كانت‬
‫َ‬
‫فترة‪ ،‬الرسالة لحذيفة بن اليمان فيروي الترمذي‪> :‬أن حذيفة بن اليمان كان‬ ‫طيلة ِ‬
‫َ‬
‫صاحب ِس ِّر رسول اهلل !؛ لقربه منه‪ ،‬وثقته به‪ ،‬وعلو منزلته عنده<(‪.)3‬‬
‫حذيفة في معرفة كثير من األسرار التي لم يعلمها ُ‬ ‫ُ‬
‫غيره‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ومن هنا فقد انفرد‬
‫ومعرفة أخبار الفتن التي تقع بين‬‫ِ‬ ‫وأخبارهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫معرفة أسماء المنافقين‬
‫ِ‬ ‫خاصة‬
‫المسلمين(‪.)4‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3659‬‬


‫((( الخزاعي‪ ،‬تخريج الدالالت السمعية (ج ‪ ،1‬ص ‪.)51‬‬
‫َ ُ‬
‫((( قال األصفهاني‪ < :‬الوزير من الوزر وهو الملجأ الذي يُلتجأ إليه‪ ،‬والوزير‪ :‬المتحمل ثقل‬
‫أميره وشغله >‪ ،‬انظر‪ :‬األصفهاني‪ ،‬المفردات (ص ‪.)521‬‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪.)223‬‬
‫‪233‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬


‫وظائف إدارية ذات طبيعة إعالمية‪ ،‬وهي وظيفة >الشعراء‬ ‫وكانت هناك‬
‫ُ‬
‫والخطباء<‪ :‬فكان هؤالء يذودون عن رسول اهلل ! بألسنتهم‪ ،‬ويَعيبون على قريش‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫عبادتهم لألصنام‪ ،‬ويردون على شعراء المشركين وخطبائهم‪ ،‬وبذلك كانوا يمثلون‬
‫بشعرهم حربًا إعالمية شديدة التأثير‪ ،‬في بيئة َقبلية‪ ،‬احتل الشعراء ُ والبلغاء ُ فيها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مكانة خاصة‪.‬‬
‫بي ! يشجعه‪ ،‬لما يشعر به‬ ‫وكان من أشهر هؤالء حسان بن ثابت‪ .‬وكان الن ّ ّ‬
‫والذود عن حرماته‪ ،‬فيروي البخاري‬
‫ِ‬ ‫اإلسالم‪،‬‬
‫ُِ‬ ‫من أهمية دوره في إبراز محاسن‬
‫القدس معك<(‪.)1‬‬ ‫وروح‬
‫ُ ُ‬
‫هج ُه ْ‬
‫م‬ ‫>أ‬ ‫لحسان‪:‬‬ ‫قال‬ ‫!‬ ‫أن الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫ِ‬
‫اإلدارة العسكرية‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫كان على المقاتل ابتداءً أن يعد نفسه للجهاد‪ ،‬فيشتري جمله أو حصانه‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ويشتري سالحه‪ ،‬ويحمل معه إذا خرج للقتال زاده ومتاعَه‪ ،‬وفي غزوة بدر أمر‬
‫ً‬ ‫الرسول ! من كان ُ‬‫ُ‬
‫حاضرا بالخروج معه(‪. )2‬‬ ‫ظهره‬
‫ّ‬ ‫ُ ُ‬
‫بن العاص قال‪ :‬إنه بعث ّ‬
‫النبي ! فقال‪> :‬خذ عليك ثيابَك‬ ‫إلي‬ ‫ِ‬ ‫وذكر عمرو‬
‫ويغنمك<‬ ‫وسالحك ثم ائتني<‪ ،‬فقال‪> :‬إني أريد أن أبعثك على جيش‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فيسلمك اهلل‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫بي ! يأمر أهله أن يجهزوه عندما يخرج للجهاد ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬


‫بعض السرايا تخرج على األقدام‪،‬‬ ‫لقد كانت قلة إمكانات المسلمين تجعل‬
‫ومن ذلك ما ورد في قول سعد بن أبي وقاص عن سرية الخرار‪> :‬فخرجنا‬
‫ُ‬
‫البعير يتعاقبه‬ ‫على أقدامنا<‪ ،‬وهذا ما حصل في غزوة ذي العشيرة (‪2‬هـ) إذ كان‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫الرجالن والثالثة(‪ ،)4‬وكان المقاتل يستعير ـ أحيانا ـ سالحه من أحد الموسرين‬‫ِ‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( ابن خلدون‪ ،‬المقدمة (ص ‪.)237‬‬


‫((( مسلم‪ ،‬الصحيح (ج ‪ ،3‬ص ‪ .)1510‬ابن كثير‪ ،‬البداية والنهاية (ج ‪ ،3‬ص ‪.)277‬‬
‫((( الطبري‪ ،‬تاريخ (ج ‪ ،3‬ص ‪( ،)101‬ابن إسحاق)‪.‬‬
‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص ‪ .)10 ،9‬وانظر‪ :‬ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،1‬ص ‪.)599‬‬
‫‪234‬‬

‫النصف من الغنيمة‪ ،‬وكان الن ّ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬


‫بي ! يأمر لمن ال يجد ما يتجهز‬ ‫على أن يكون له‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫به أن يأخذ جهاز من ال يخرج إلى الجهاد؛ بسبب مرض أو غيره ‪.‬‬
‫َ‬
‫فذكر أن فتى من األنصار قال‪ :‬يارسول اهلل‪ ،‬إني أريد الجهاد وليس لي مال‬
‫ض‪ ،‬فقل‪ :‬إن رسول‬ ‫ومر َ‬ ‫أتجهز به‪ ،‬قال‪> :‬اذهب إلى فالن األنصاري فإنه قد تجهز َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫إلي ما تجهزت به<‪ ،‬فقال له ذلك فقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫اهلل يقرئك السالم‪ ،‬ويقول لك‪ :‬ادفع ّ‬
‫ً‬
‫حبست عنه‬
‫ِ‬ ‫يا فالنة ادفعي إليه ما جهزتني به‪ ،‬وال تحبسي عنه شيئا‪ ،‬فإنك واهلل إن‬
‫ً‬
‫لك فيه‪ ،‬قال عفان‪> :‬أن فتى من أسلم<(‪.)1‬‬ ‫شيئا‪ ،‬ال يبارك اهلل ِ‬
‫تجهيز غيرهم من الفقراء‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫على‬ ‫الموسرين‬ ‫يحض‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫ّ ِ‬ ‫!‬
‫>من جهَّ ز غازيًا في سبيل اهلل فقد غزا‪ ،‬ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا<‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فاستجاب المسلمون لذلك‪ ،‬ففي تبوك تصدق عثمان بألف دينار‪ ،‬وقدم ثالثمائة‬
‫بي !‪> :‬ما ض َّر عثمان ما فعل بعد ذلك<(‪. )2‬‬
‫َ‬ ‫بعير بأحالسها وأقتابها‪ ،‬فقال الن ّ ّ‬
‫ٍ‬
‫وكان يامين بن عمير بن كعب النضري صحابي زود اثنين من البكائين بناضح‬
‫له في تبوك‪ .‬وكذلك حمل العباس منهم رجلين وحمل عثمان ثالثة‪ ،‬وتبرع‬
‫عبد‪ ‬الرحمن بن عوف بأربعة آالف دينار وهي نصف ماله‪ ،‬وتبرع أبو بكر بماله‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫مختلفة‬
‫ٍ‬ ‫ماله‪ ،‬وتبرع طلحة في غزوات‬ ‫بنصف ِ‬ ‫ِ‬ ‫آالف درهم‪ ،‬وجاء عمر‬ ‫ِ‬ ‫البالغ أربعة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الكثير‪.‬‬ ‫وغير ذلك‬ ‫(‪)3‬‬
‫الخير‬
‫ِ‬ ‫طلحة‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬‫الجود‬
‫ِ‬ ‫طلحة‬ ‫!‬ ‫الرسول‬ ‫حتى سماه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بعض المسلمين أموالهم في سبيل اهلل‪ ،‬وصاروا يوقفون الخيل وغيرها‬ ‫وأوقف‬
‫تبني‬‫ور المسلمين ـ عند الحاجة ـ إلى ّ‬ ‫من الدواب في سبيل اهلل‪ ،‬وقد تحول َد ُ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫وتجهيزه‪ ،‬وكان النساء ُ في غزوة تبوك‬ ‫ِ‬ ‫تحملِ أعباء النفقة على الجيش‬ ‫مسؤولية‬
‫َّ‬
‫تبرعن بحليهن‪ ،‬حتى كن ينزعنها ويقدمنها تطوعًا في سبيل اهلل ‪.‬‬

‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،4‬ص ‪ .)47‬وانظر‪ :‬عواد‪ ،‬الجيش والقتال (ص ‪.)101‬‬
‫((( الواقدي‪ ،‬المغازي (ج ‪ ،3‬ص ‪ .)991‬ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪.)518‬‬
‫((( اليعقوبي‪ ،‬تاريخ (ج ‪ ،2‬ص ‪ .)67‬وانظر‪ :‬عواد الجيش والقتال (ص ‪.)101‬‬
‫‪235‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫فقد قالت ُّ‬


‫سنان األسلمية‪ :‬لقد رأيت ثوبًا مبسوطا بين يدي رسول اهلل !‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أم‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وخواتيم‪ ،‬وقد ملئ بما‬ ‫في بيت عائشة‪ ،‬فيه مسك ومعاضد وخالخل وأقرطة‬
‫ُ ُ َّ‬
‫جهازهم(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫في‬ ‫ن‬ ‫بعثت به النساء‪ ،‬لي ِع‬
‫ًّ‬
‫وإمدادهم بالسالح وغيره‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الغنائم جزءًا رئيسيا في تجهيز المقاتلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وشكلت‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ظهرا‪،‬‬ ‫يركب إاّل وجد‬ ‫وكان المسلمون في بدر‪ ،‬ما رجع أحدهم يريد أن‬
‫بعضهم على البعير والبعيرين‪ ،‬وأُلبس َم ْن كان عاريًا‪ ،‬وأصابوا طعاماً‬ ‫ٌ‬ ‫حتى حصل‬
‫ٰ َّ‬ ‫ٰ‬ ‫من أزوادهم‪ ،‬وأصابوا فداءَ‬
‫أغنى كل عائل ‪.‬‬ ‫األسرى الذي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫مررت بأمية بن خلف‬ ‫وقال عبد‪ ‬الرحمن بن عوف‪> :‬حتى إذا كان يوم بدر‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫واقفا‪ ،‬ومعه ابنُه عَ ٌّ‬ ‫ً‬
‫لي آخذ بيده‪ ،‬ومعي أدراع قد استلبتها<(‪. )2‬‬
‫كثيرا من بني قينقاع‪ ،‬وفي بني النضير وجد من الحلقة‬ ‫سالحا ً‬ ‫ً‬
‫بي !‬ ‫وأخذ الن ّ ّ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫خمسين درعًا‪ ،‬وخمسين ً‬
‫وثالثمائة وأربعين سيفا‪ ،‬وفي بني قريظة غ ِن َم‬ ‫ٍ‬ ‫بيضة‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مائة درع‪ ،‬وألفي رمح‪ ،‬وخمسمائة ترس‬ ‫ِ‬ ‫سيف‪ ،‬وثالث‬
‫ٍ‬ ‫وخمسمائة‬
‫ِ‬ ‫المسلمون ألفا‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ َ‬
‫وسائر السالح(‪.)3‬‬ ‫َ‬ ‫خيبر على أن له الحلقة‬ ‫َ‬ ‫وجحفة‪ .‬وصالح أهل‬
‫ِ‬
‫القيادة‪:‬‬
‫َ ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫كان الن ّ ّ‬
‫المقاتلة بنفسه‪ ،‬أو يولي واحدا من أصحابه‪ ،‬وت ِرد‬
‫ِ‬ ‫بي ! يتولى قيادة‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫المهمة َ‬ ‫ٌ‬
‫ب عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن‬‫لقب >أمير<‪ ،‬فقد لق‬ ‫إشارات أنه كان يُطلق على من يتولى هذه‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫جحش في سرية نخلة بأمير المؤمنين(‪ ،)4‬وحصل زيد‪ ‬بن حارثة على لقب أمير في‬
‫سريته إلى القردة‪ ،‬وكانوا يسمون قواد البعوث باسم األمير‪....‬‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( المقريزي‪ ،‬إمتاع األسماع (ج ‪ ،1‬ص ‪.)447‬‬


‫((( األصفهاني‪ ،‬حلية األولياء (ج ‪ ،8‬ص ‪.)375‬‬
‫((( البالذري‪ ،‬فتوح البلدان (ص ‪ .)34‬الطبري‪ ،‬تاريخ الطبري (ج ‪ ،2‬ص ‪.)110‬‬
‫((( الواقدي‪ ،‬المغازي (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)19‬ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص ‪.)11‬‬
‫‪236‬‬

‫بي ! أمير مكة وأمير الحجاز‪ .‬وكان الصحابة‬ ‫وقد كانوا في الجاهلية يدعون الن ّ ّ‬
‫يدعون سعد‪ ‬بن أبي وقاص أمير المؤمنين إلمارته على جيش القادسية(‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫ويالحظ أن الن ّ ّ‬
‫بي ! قد تجاوز عن بعض الصفات التي كانت مطلوبة‬
‫ُ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫في القائد عند القبيلة العربية قبل اإلسالم‪ ،‬فلم ت ُعد القيادة وقفا على شيوخ القبائل‪،‬‬
‫ً‬
‫بل صارت مفتوحة للجميع حسب القدرة والكفاءة ‪.‬‬
‫َ‬ ‫وكذلك تجاوز الن ّ ُّ‬
‫زيد‪ ،‬وهو ابن‬ ‫ٍ‬ ‫‪ ‬بن‬ ‫أسامة‬ ‫الس ِّن‪ ،‬فقد استعمل‬ ‫بي ! عن ِّ‬
‫وعمر(‪ .)2‬وكان هناك من طعن‬ ‫ُ‬ ‫سرية كان فيها أبو بكر‬ ‫ثماني عشرة سنة على‬
‫ٍ‬
‫في إمارة أسامة؛ وذلك لصغر سنه‪ ،‬وكونه من الموالي‪ ،‬فقال النبي !‪> :‬إن‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫لخليق لإلمارة وكان أبوه‬ ‫إمارة أبيه من قبل‪ ،‬وإنه‬ ‫ِ‬ ‫تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في‬
‫َُ ّ‬
‫خليقا لها<(‪ )3‬وقال‪> :‬إني ألؤ ِم ُر‬
‫ُ‬ ‫الرجل على القوم فيهم من هو ٌ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫خير منه؛ ألنه أيقظ‬
‫وأبصر بالحرب<(‪.)4‬‬ ‫ُ‬ ‫عينًا‬
‫ُ‬ ‫وأبقى الن ّ ُّ‬
‫بي ! على المؤهالت القيادية األخرى كالشجاعة‪ ،‬ويتضح ذلك من‬ ‫ٰ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الوطيس‬ ‫وصف علي‪ ‬بن أبي طالب شجاعة الرسول ! في بدر بقوله‪> :‬كنا إذا حمي‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫أقرب إلى العدو منه< (‪.)5‬‬ ‫واحمرت الحدق اتقينا برسول اهلل !‪ ،‬فما يكون أحد‬
‫َ‬
‫ويفترض في األمير أن يكون من أهل الصبر والتحمل‪ ،‬فيذكر سعد‪ ‬بن‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫أبي وقاص أن الن ّ ّ‬
‫أصبركم على الجوع‬ ‫بي ! قال يوم نخلة‪> :‬ألبعثن عليكم رجاًل‬
‫َ‬
‫والعطش< فبعث علينا عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن جحش‪ ،‬فكان أول أمير في اإلسالم(‪.)6‬‬

‫((( ابن خلدون‪ ،‬المقدمة (ص ‪.)227‬‬ ‫ ‬


‫ص‪.112‬‬ ‫((( السيوطي تاريخ الخلفاء‪،‬‬
‫((( الواقدي‪ ،‬المغازي (ج ‪ ،1‬ص ‪)19‬؛ ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص ‪.)11‬‬
‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص ‪.)191 ،190‬‬
‫((( الطبري‪ ،‬تاريخ الطبري (ج ‪ ،2‬ص ‪ )270‬وهذا يدل على أن الرسول ! كان يترك عريشة‬
‫القيادة ويباشر القتال بنفسه‪.‬‬
‫((( ابن كثير‪ ،‬البداية والنهاية (ج ‪ ،3‬ص ‪)248‬؛ ابن حجر‪ ،‬اإلصابة (ج ‪ ،2‬ص ‪.)287‬‬
‫‪237‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ويشترط في األمير كذلك الكفاءة والخبرة بشؤون الحرب‪ ،‬وقد طبق الرسول‬
‫>وأمر الن ّ ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عمر َ‬‫فأمر َ‬ ‫َ ّ‬
‫بي‬ ‫وعمر(‪،)1‬‬ ‫بكر‬
‫ٍ‬ ‫أبو‬ ‫فيها‬ ‫سرية‬ ‫على‬ ‫العاص‬ ‫و‪ ‬بن‬ ‫! هذا المبدأ‬
‫عمرو‪ ‬بن العاص في غزوة ذاتِ السالسلِ استعطافا ألقاربه الذين بعثه إليهم‬ ‫! مرة َ‬
‫ُ‬
‫على من هم أفضل منه ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأمر أسامة‪ ‬بن زيد ألجل ثأر أبيه؛ ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة‪،‬‬
‫ُ‬
‫مع أنه قد يكون مع األمير َمن هو أفضل منه في العلم واإليمان‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وهكذا أبو بكر خليفة رسول اهلل ! ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل‬
‫ٌ‬
‫الردة‪ ،‬وفي فتوح العراق والشام‪ ،‬وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل‪ ،‬وقد‬
‫ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى‪ ،‬فلم يعزله من أجلها‪ ،‬بل عاتبه عليها؛ لرجحان‬
‫مقامه؛ ألن المتولي‬ ‫َ‬ ‫المصلحة على المفسدة في بقائه‪ ،‬وأن غيره لم يكن يقوم‬
‫ُ‬ ‫ُُ‬
‫الكبير إذا كان خلقه يميل إلى اللين؛ فينبغي أن يكون خل ُق نائبه يميل إلى الشدة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة؛ فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل‬
‫َ‬
‫خالد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫استنابة‬ ‫األمر‪ ،‬ولهذا كان أبو بكر الصديق ‪ K‬يؤثر‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬
‫عمر‪ ‬بن الخطاب يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة‪ ‬بن الجراح ‪J‬؛‬ ‫وكان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ألن خالدا كان شديدا كعمر‪ ‬بن الخطاب‪ ،‬وأبا عبيدة كان لينًا كأبي بكر‪.‬‬
‫َ‬ ‫األصلح لكل منهما أن يولي َم ْن واله ليكون ُ‬ ‫ُ‬
‫أمره معتدال ويكون بذلك‬ ‫وكان‬
‫ّ ّ‬
‫نبي الرحمة‪،‬‬ ‫من خلفاء رسول اهلل ! الذي هو معتدل حتى قال َالنبي !‪> :‬أنا ُّ‬
‫تعالى فيهم‪﴿ :‬أشِدا ُء ع ٱلكفارِ ُرحا ُء بين ُه ۡمۖ‬
‫مَ َ ٓ َ ۡ َ‬ ‫َّ ٓ لَىَ ۡ ُ َّ‬ ‫ٰ‬ ‫نبي الملحمة< وأمته وسط‪ ،‬قال اهلل‬ ‫أنا ُّ‬
‫ٱللِ َورِض َوٰناۖ﴾ [ا �ل��ف� ت����ح‪.)2(<]29 :‬‬
‫ۡ ٗ‬ ‫اٗ‬ ‫َّ‬
‫َ َ ٰ ُ ۡ ُ ٗ ُ َّ ٗ َ ۡ َ ُ َ َ ۡ ّ َ هَّ‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫ترىهم ركعا سجدا يبتغون فضل مِن‬


‫ُ‬ ‫َ‬
‫والسبق إلى اإلسالم‪ ،‬فترد‬ ‫ولقد أضاف اإلسالم إلى مؤهالت اإلمارة التقوى‪،‬‬

‫((( اليعقوبي‪ ،‬تاريخ اليعقوبي (ج ‪ ،2‬ص ‪)64‬؛ النويري‪ ،‬نهاية األرب (ج ‪ ،6‬ص ‪.)152‬‬
‫((( ابن تيمية‪ ،‬السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية‪( ،‬ص ‪.)16 ،15‬‬
‫‪238‬‬

‫أمر ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬


‫اإلشارة إلى أن الن ّ ّ‬
‫أميرا على سرية أوصاه في خاصته بتقوى اهلل‪،‬‬ ‫بي ! كان إذا‬
‫وبمن معه من المسلمين ً‬
‫خيرا‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرئيس األعلى للجماعة اإلسالمية ـ‬ ‫وعند ظهور اإلسالم كان الرسول ! ـ‬
‫ِّ ُ‬ ‫َ‬ ‫يخرج إلى القتال بنفسه‪ ،‬أو ِّ‬
‫ويزودهم بتوجيهاته‪.‬‬ ‫يؤمر أحد أصحابه‬
‫بي !‬ ‫أمر الن ّ ّ‬
‫ومن ذلك ما كتبه لعبد اهلل‪ ‬بن جحش في سرية نخلة‪ ،‬وقد َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أسامة َ‬
‫تخوم البلقاء‪ ،‬والداروم‬ ‫‪ ‬بن زيد‪ ،‬حين بعثه إلى الشام‪> :‬أن يوطئ الخيل‬
‫من أرض فلسطين‪.)1(< ..‬‬
‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫ٰ‬ ‫ُ‬
‫>العرافة<‪ ،‬وقد وردت أول إشارة لها‬ ‫وكانت الوحدة الصغرى في القيادة ِ‬
‫الناس في حنين عرافاتٍ‪ :‬على كل عشرة‬ ‫َ‬ ‫في غزوة حنين‪ ،‬حيث جعل الرسول !‬
‫حق‪ ،‬وال بد للناس‬ ‫بي ! إلى أهمية العرفاء فقال‪> :‬إن العرافة ُّ‬
‫َ‬ ‫عريفا‪ .‬وأشار الن ّ ُّ‬
‫األمير(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫تجاه‬ ‫شؤون عرافته‬ ‫ُ‬
‫العريف مسؤواًل عن‬ ‫من العرفاء‪ ،<..‬وكان‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وكانت رتبة >النقيب< من الرتب التي ظهرت في هذه الفترة‪ ،‬وكان القرآن قد‬
‫بي‬‫طلب الن ّ ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أشار إليها في معرض حديثه عن بني إسرائيل‪ ،‬وفي بيعة العقبة الثانية‬
‫َ‬ ‫! ممن اجتمع لديه أن يخرجوا اثني عشر ً‬
‫البيعة‬
‫ِ‬ ‫نقيبا‪ ،‬كي يتحملوا مسؤولية‬
‫والدعوة في المدينة(‪.)3‬‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫وظهرت رتبة قيادية أخرى‪ ،‬هي رتبة >أمير التعبئة<‪ ،‬ففي غزوة الفتح جعل‬
‫عدة أقسام‪ ،‬ثم وضع على كل قسم منهم ً‬ ‫َ‬
‫أميرا‪ ،‬كان يتلقى‬ ‫الرسول ! من جيشه‬
‫تعليماته من رسول اهلل !‪.‬‬

‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪)278‬؛ الطبري‪ ،‬تاريخ (ج ‪ ،3‬ص ‪.)184‬‬
‫((( الواقدي‪ ،‬المغازي (ج ‪ ،3‬ص ‪ .)952‬وانظر‪ :‬الشافعي‪ ،‬األم (ج ‪ ،4‬ص ‪.)158‬‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،1‬ص ‪ .)443‬ابن كثير‪ ،‬السيرة (ج ‪ ،2‬ص ‪.)198‬‬
‫‪239‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫الزبير على فرقة‪ ،‬وأمره أن يدخل مكة من كداء‪ ،‬ووضع سعد‪ ‬بن عبادة‬ ‫وضع‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫على فرقة‪ ،‬وأمره أن يدخل من كدي‪ ،‬ووضع خالدا على فرقة‪ ،‬وأمره أن يدخل‬
‫من أسفل مكة‪ ،‬وكذلك أبو عبيدة دخل من أعلى مكة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويالحظ أن الن ّ ّ‬
‫بي ! ولى هؤالء على جيشه وزودهم بالتعليمات األولية‪ ،‬إال‬
‫َ‬
‫الحركة في إدارة المعركة‪ ،‬ومواجهة المواقف‪ ،‬واتخاذ القرارات‬
‫ِ‬ ‫أنه ترك لهم حرية‬
‫لة‪.‬‬
‫للمقات ِ‬
‫ِ‬ ‫المالئمة لواقع الحال‪ ،‬دون الرجوع إلى القائد األعلى‬
‫والرفق بهم في المسير‪ ،‬وعدم‬ ‫ِ‬ ‫بالعناية بجنده‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وكان على األمير أن يقوم‬
‫ً‬
‫المقاتلة يتقدم مرة ويتأخر‬ ‫ِ‬ ‫طاقتهم‪ ،‬فكان الرسول ! في أثناء سير‬ ‫ِ‬ ‫تكليفهم فوق‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬
‫ويعفي الضعيف‪،‬‬ ‫المتأخر ويردف الراجل‬ ‫لينظر في أمورهم‪ ،‬فيساعد‬ ‫أخرى؛‬ ‫مرة‬
‫الجند‪ ،‬كما‬ ‫الحرب وحال‬ ‫أيضا أن يشرف على عدة القتال وآالت‬ ‫وكان عليه ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بي ! في بدر‪ ،‬وأحد‪،‬‬ ‫يستشيرهم في المواقف الحرجة‪ ،‬كما فعل الن ّ ّ‬ ‫َ‬ ‫عليه أن‬
‫وغيرها من المعارك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والخندق‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتشجيعهم على القتال‪ ،‬وترد في ذلك إشارة‬ ‫ِ‬ ‫جنده‬
‫ِ‬ ‫األمير بإثارة حماس‬ ‫ويقوم‬
‫أ‬
‫ٰ‬
‫َ‬
‫ِني ع ٱلقِتا ِل ۚ﴾ [ال� ن���ف� �ا ل‪]65 :‬‬ ‫تعالى‪ٰٓ َ ﴿ :‬‬ ‫في القران‪ ،‬حيث قال اهلل‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫لَىَ‬ ‫ۡ‬
‫ب َح ّر ِض ٱل ُم ۡؤ ِمن َ‬ ‫يأ ُّي َها ٱنلَّ ُّ‬
‫وقد قام الن ّ ّ‬
‫ِ‬ ‫يِ‬
‫بي ! بتحريض أصحابه على القتال في بدر(‪ ،)1‬وقام أمراؤه بنفس‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الدور‪ ،‬فقد حرض عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن رواحة جنده في مؤتة‪ ،‬فقال‪> :‬واهلل يا قوم إن الذي‬
‫تكرهون لهو الذي خرجتم تطلبون‪ ..‬الشهادة<(‪.)2‬‬
‫َ ُ‬ ‫لقد كان لألمير مجموعة من الحقوق‪ ،‬منها‪ُّ :‬‬
‫حق الطاعة على جنده‪ ،‬حيث ت ِرد‬
‫ِنك ۡم﴾‬ ‫ُ‬ ‫أۡ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ٱلر ُسول َوأ ْول ٱل ۡمر م‬ ‫ِيعوا ْ َّ‬ ‫ٱلل َوأَط ُ‬‫ِيعوا ْ هَّ َ‬‫ِين َء َام ُن ٓوا ْ أَط ُ‬ ‫َ َ‬
‫اآليات بذلك‪ٰٓ ﴿ :‬‬
‫يأ ُّي َها ذَّٱل َ‬ ‫ُ‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫ۖ‬ ‫ِ‬ ‫يِ‬


‫[ا �ل�ن���س�ا ء‪.]59 :‬‬

‫((( الواقدي‪ ،‬المغازي (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)58‬الطبري‪ ،‬تاريخ الطبري(ج ‪ ،2‬ص ‪.)281‬‬


‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪.)375‬‬
‫‪240‬‬

‫ويتضح ذلك من قول الرسول !‪:‬‬


‫َ ْ‬
‫>من أطاعني فقد أطاع اهلل‪ ،‬ومن عصاني‬
‫فقد عصى اهلل‪ ،‬ومن أطاع أميري فقد أطاعني‪ ،‬ومن عصى أميري فقد عصاني<(‪.)1‬‬
‫َ‬
‫وحدد الرسول ! هذه الطاعة بقوله‪> :‬على المرء المسلم السمع والطاعة‬
‫َ‬
‫َ‬
‫مر بمعصية‪ ،‬فال سمع وال طاعة<(‪.)2‬‬ ‫يؤمر بمعصية‪ ،‬فإن أ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫حب وكره‪ ،‬إال أن‬ ‫فيما أ َّ‬
‫َ‬ ‫قصة األمير الذي بعثه الن ّ ُّ‬ ‫ُ‬
‫وأمرهم‬ ‫سرية‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫على‬ ‫!‬ ‫بي‬ ‫وترد في هذا الباب‬
‫أنفسهم‬ ‫َ‬ ‫حطبا ويوقدوا نارا فيُلقوا‬
‫ً‬ ‫أن يطيعوه‪ ،‬فغضب منهم‪ ،‬فأمرهم أن يجمعوا‬
‫فيها فرفضوا األمر(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫ويالحظ أن ْ‬ ‫َ‬
‫الحطب وإشعال النار من المباحات فأطاعوه في ذلك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫جم َع‬
‫ُ‬
‫يوضح‬ ‫ِ‬ ‫أما إهالك النفسِ بإلقائها في النار فمن المحرمات‪ ،‬فلم يطيعوه‪ ،‬وهذا‬
‫َ‬
‫الطاعة وأصولها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫حدود‬
‫بي !‬ ‫عقد اللواء والراية من عالمات تعيّن األمير(‪)4‬؛ فقد دفع الن ّ ُّ‬ ‫ُ‬
‫وكان‬
‫ً‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫أخرى‬‫ٰ‬ ‫في بدر لواءَه لعلي ابن أبي طالب‪ ،‬ودفع رايته إلى الحباب‪ ‬بن المنذر‪ ،‬وراية‬
‫اإلشارات إلى عقد الرايات إلى جانب اللواء في أحد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إلى سعد‪ ‬بن عبادة(‪ ،)5‬وترد‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫قبيلة رايتها(‪.)6‬‬ ‫ٍ‬ ‫وفتح مكة‪ ،‬حيث أفرد لكل‬ ‫ِ‬ ‫وخيبر‪،‬‬
‫إحدى الوقائع أخذ الن ّ ّ‬ ‫ٰ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫بي‬ ‫الناس عقيدة وتجربة‪ ،‬ففي‬ ‫ُِ‬ ‫لخيرة‬
‫ِ‬ ‫دفع‬ ‫وكانت الراية ت‬
‫َ ّ‬
‫>امض< ثم‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫أنا‪،‬‬ ‫رجل‪:‬‬ ‫فقال‬ ‫بحقها؟<‬ ‫ها‬ ‫يأخذ‬ ‫>من‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ثم‬ ‫ها‬ ‫فهز‬ ‫! الراية‬

‫((( أحمد‪ ،‬المسند (ج ‪ ،2‬ص ‪.)270 ،253 ،252 ،93‬‬


‫((( مسلم‪ ،‬الصحيح (ج ‪ ،3‬ص ‪ ،)1469‬وصحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2955‬‬
‫((( الشيباني‪ ،‬شرح كتاب السير (ج ‪ ،1‬ص ‪.)166‬‬
‫((( انظر‪ :‬الصنعاني‪ ،‬المصنف (ج ‪ ،5‬ص ‪.)289‬‬
‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص ‪.)106‬‬
‫((( ابن حجر‪ ،‬الفتح (ج ‪ ،6‬ص ‪.)126‬‬
‫‪241‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫لحامل‬ ‫رجل فقال‪> :‬امض‪ ،)1(<..‬وفي هذا داللة على دقة اختيار الن ّ ّ‬
‫بي‬ ‫ٌ‬ ‫جاء‬
‫ِ‬ ‫!‬ ‫ِ‬
‫الراية ‪.‬‬
‫َ ً‬ ‫َّ‬ ‫بي ! قال َ‬ ‫المصادر إلى أن الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫رجل‬
‫ٍ‬ ‫إلى‬ ‫ا‬ ‫غد‬ ‫الراية‬ ‫>ألدفعن‬ ‫خيبر‪:‬‬ ‫يوم‬ ‫وتشير‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يحب اهلل ورسول ُه ويحبه اهلل ورسوله< فدفعها إلى علي‪ ‬بن أبى طالب‪ ،‬فانطلق‬
‫بها(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫بي ! إذا بعث قائدا يعقد له اللواءَ‪ ،‬ويسلمه له‬ ‫وفي مرحلة متأخرة كان الن ّ ّ‬
‫أمام المسجد‪ ،‬أو أمام بيته؛ ليجتمع عنده‬ ‫بعد تسمية اهلل‪ ،‬ثم ينصح له‪ ،‬فيركزه َ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫الخارجون للغزو بمتاعهم استعدادا للرحيل‪ .‬فلما بعث أسامة إلى البلقاء استدعاه‬
‫ف خارج المدينة‪ ،‬وعسكر‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ ّ‬
‫النبي ! وعقد له اللواء رمزا للقيادة‪ ،‬فركزه بالجر ِ‬
‫الناس حوله‪.‬‬‫ُ‬
‫أسامة باللواء‪ ،‬وركزه أمام بيت الن ّ ّ‬ ‫ُ‬
‫بي !‪ ،‬وظل‬ ‫ِ‬ ‫فلما توفي الرسول ! عاد‬
‫َ‬
‫ليمضي‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هكذا حتى بويع ألبي بكر بالخالفة‪ ،‬فأمر أن يُركز اللواء ُ أمام بيت أسامة‬
‫به(‪.)3‬‬
‫يستعرض أصحابَه قبل الخروج إلى المعركة‪ ،‬أو في أثناء السير‬ ‫ُ‬ ‫بي !‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫َ‬
‫صغار‬ ‫بي جنده في بدر وأحد(‪،)4‬فيرد‬
‫َ‬ ‫إلى الجهة التي يقصدها‪ ،‬فقد استعرض الن ّ ّ‬
‫َ‬
‫بي ! يوم أحد زيد‪ ‬بن ثابت وعبد اهلل‪ ‬بن عمرو‪ ‬بن‬
‫َ‬ ‫رد الن ّ ّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫والضعاف‪ .‬وقد‬ ‫السن‬
‫َ‬
‫وغيرهم(‪.)5‬‬ ‫العاص‬

‫((( انظر مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )11122‬بإسناد ضعيف؛ ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪.)334‬‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2975‬‬


‫((( ابن حجر‪ ،‬اإلصابة (ج ‪ ،2‬ص ‪.)79 ،78‬‬
‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص ‪.)12‬‬
‫((( ابن حبان‪ ،‬الثقات (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)224‬ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪.)566‬‬
‫‪242‬‬

‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ُ‬


‫رية‪ ،‬وعُرض‬
‫وذ ِك َر أن >النبي ! كان يعرض غلمان األنصار في كل عام قم ٍ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫غالما‬ ‫عليه سمرة‪ ‬بن جندب فرده‪ ،‬قال سمرة‪ :‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل لقد أجزت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ورددتني‪ ،‬ولو صارعني لصرعته‪ ،‬قال‪ :‬فدونك فصارعه‪ ،‬قال‪ :‬فصارعته فصرعته‪،‬‬
‫فأجازني في البعث<‪.‬‬
‫إدارة العالقات اخلارجية اإلسالمية‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫كانت كلمة (سفارة)(‪)1‬معروفة في مكة قبل اإلسالم‪ ،‬وكانت هذه الوظيفة‬
‫عمر‪ ‬بن الخطاب(‪ ،)2‬أما كلمة >دبلوماسية< فلم تعرف‬ ‫ُ‬ ‫لبني عدي‪ ،‬وتوالها منهم‬
‫في صدر اإلسالم‪ ،‬ويبدو أنها دخلت في معاجم اللغة في فترة متأخرة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫استخدمت كلمات معينة في عصر الرسالة‪ ،‬وهي >السفارة‪ ،‬الرسول‪ ،‬البريد<‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫العالقات التي أقامها الرسول ! قاصرة ابتداءً على اللقاءات الشخصية‪،‬‬ ‫وكانت‬
‫الكتب‪ ،‬وإيفاد البعثات إلى القبائل وإلى الملوك للتعريف باإلسالم‬ ‫ِ‬ ‫وإرسال‬
‫ِ‬
‫والدعوة إليه ‪.‬‬
‫َ‬
‫اإلدارية الهامة‬
‫ِ‬ ‫الوظائف‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫كانت‬ ‫(السفارة)‬ ‫البريد‬ ‫وظيفة‬ ‫ومن هنا فإن‬
‫َ‬
‫ومواثيق‬ ‫كتب‬ ‫كبيرا من جانب الدولة‪ ،‬وكان ما وصلنا من‬ ‫ً‬ ‫التي القت اهتماما‬
‫ٍ‬
‫بي ! تتجاوز المئتين وخمسين كتابًا(‪.)3‬‬ ‫ومعاهدات قام بإبرامها الن ّ ُّ‬
‫ٍ‬
‫بي ! والقبائل‪،‬‬ ‫وعقود صلح بين الن ّ ّ‬
‫َ‬
‫وشملت معاهداتٍ مع اليهود والنصارى‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وكتُ َ‬
‫وأمان‪ ،‬ورسائل دعوة إلى رؤساء القبائل والملوك واألمراء‪ ،‬مما‬ ‫ٍ‬ ‫إقطاع‬
‫ٍ‬ ‫ب‬

‫((( عرفت السفارات في الجاهلية‪ ،‬ومن أشهرها سفارة عبد‪ ‬المطلب‪ ‬بن هاشم إلى أبرهة وهو‬
‫في طريقه إلى مكة‪ ،‬ليفاوض على رد اإلبل التي استولت عليها طالئع جيشه‪ .‬انظر‪ :‬ابن‬
‫هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،1‬ص ‪.)48‬‬
‫((( ابن الجوزي‪ ،‬سيرة عمر (ص ‪.)6‬‬
‫((( انظر هذه الوثائق في‪ :‬مجموعة الوثائق السياسية (ص ‪ )300 - 1‬حميد اهلل‪.‬‬
‫‪243‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫وكتبه كانت عماًل بديعا من أعمال‬ ‫َ‬ ‫يجعلنا نؤكد على أن سفاراتِ الرسول !‬
‫الدبلوماسية والعالقات الدولية(‪.)1‬‬
‫بي ! إلى الملوك‪،‬‬‫وقد ذكرت المصادر أسماءَ هؤالء الرسل الذين بعثهم الن ّ ُّ‬
‫وأرسل معهم ً‬
‫كتبا يدعوهم فيها إلى اإلسالم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك الروم(‪.)2‬‬ ‫مل‬
‫ِ ِ‬ ‫قيصر‬ ‫إلى‬ ‫الكلبي‬ ‫خليفة‬ ‫‪ ‬بن‬‫دحية‬ ‫فبعث‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫فارس(‪.)3‬‬ ‫كسرى ملك‬ ‫وعبد اهلل‪ ‬بن حذافة السهمي إلى‬
‫ملك الحبشة(‪.)4‬‬ ‫َ‬
‫وعمرو‪ ‬بن أمية الضمري إلى النجاشي‬
‫ِ‬
‫وحاطب‪ ‬بن أبى بلتعة إلى المقوقس ملك مصر(‪.)5‬‬
‫وعمرو‪ ‬بن العاص إلى جيفر وعبد‪ ‬بن الجلندي ملكي عمان(‪.)6‬‬
‫َ‬
‫وهوذة‪ ‬بن ٍّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫علي ملكي اليمامة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫أثال‬
‫ِ ٍ‬ ‫‪ ‬بن‬‫ثمامة‬ ‫وسليط‪ ‬بن عمرو إلى‬

‫((( يزعم بعض المستشرقين أن هذه الكتب مزورة‪ ،‬ومن هؤالء مرجليوث حيث يقول‪ < :‬إن‬
‫بي عن مقتل كسرى ليس وحيا‪ ،‬إنما هو من عيونه التي كانت تأتيه باألخبار‬ ‫إخبار الن ّ ّ‬
‫ّ‬
‫بسرعة > ويقول‪ < :‬إن رسالة محمد إلى كسرى لم تسلم إليه قط >‪ .‬ويقول وات‪ < :‬إن إرسال‬
‫الرسول للرسل (‪6‬هـ) ال يمكننا أن نقبل هذه القضية كما هي؛ ألن محمدا كان رجل دولة‬
‫حكيما بعيد النظر ولم يفقد عقله بعد النجاح الذي حققه في الحديبية ودعوته هؤالء في‬
‫هذا الوقت يسيء إليه أكثر مما يفيده >‪ .‬نقال عن وات‪ ،‬محمد في المدينة‪( ،‬ص ‪.)62‬‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪ .)607‬ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،1‬ص ‪.)176‬‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( مسلم بشرح النووي (ج ‪ 12‬ص ‪.)103‬‬


‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،1‬ص ‪.)27‬‬
‫((( البالذري‪ ،‬أنساب (ج ‪ ،1‬ص ‪.)531‬‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪ .)607‬خليفة‪ ،‬تاريخ خليفة (ج ‪ ،1‬ص ‪.)63‬‬
‫‪244‬‬

‫ملك البحرين(‪.)1‬‬ ‫المنذر‪ ‬بن ساوى‬ ‫إلى‬ ‫الحضرمي‬ ‫والعالءَ َ‬


‫‪ ‬بن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وشجاع َ‬
‫األسدي إلى الحارث‪ ‬بن عبد‪ ‬كالل الحميري ملك تخوم‬ ‫وهب‬
‫ٍ‬ ‫‪ ‬بن‬
‫الشام(‪ )2‬بعد صلح الحديبية(‪.)3‬‬
‫ً‬ ‫المكسب األكبر الذي حققه الن ّ ّ‬ ‫ً‬
‫بي ! من مكاتباته تلك أنها جاءت حملة‬ ‫وكان‬
‫ً‬
‫إعالمية على النطاق الدولي إلظهار أن اإلسالم للناس كافة(‪.)4‬‬
‫أمرا ال يخرج عن المألوف والعرف الجاري‬ ‫بي ! في اختيار رسله ً‬ ‫وقد نهج الن ّ ّ‬
‫ْ‬ ‫ٰ‬
‫قة‪،‬‬
‫الخ ِ‬
‫ل‬ ‫وجمال ِ‬
‫ِ‬ ‫ومراعاة األناقة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫تبادل السفراء‪،‬‬
‫ِ‬ ‫لدى الدبلوماسية الحديثة‪ ،‬من‬
‫والكفاءاتِ الممتازة بصفتهم ممثلين ألمتهم‪.‬‬
‫َ‬
‫قيصر‪ ،‬ويشير إلى ذلك‬ ‫بي ! بعث دحية‪ ‬بن خليفة الكلبي إلى‬ ‫ولذلك فإن الن ّ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ابن قتيبة بقوله‪> :‬إن جبريل كان يجيء على صورة دحية الكلبي؛ ألن دحية كان من‬
‫ً‬
‫أجمل أهل زمانه‪ ،‬وأحسنهم صورة<(‪ ،)5‬وهذا يصدق على بقية رسله ‪.‬‬
‫فكان معاذ‪ ‬بن جبل‪ ،‬وأبو موسى األشعري‪ ،‬وعبد اهلل‪ ‬بن حذافة‪ ،‬وعمرو‪ ‬بن‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وأطلقهم‬
‫ِ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫حديث‬ ‫وأحسنهم‬
‫ِ‬ ‫وأجملهم صورة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وغيرهم من أعقل الصحابة‬ ‫العاص‬
‫ً‬
‫لسانا وقوة حجة‪ ،‬وكان هؤالء الرسل من أولئك المشهورين في اجملتمع اإلسالمي‬
‫الذين نبهوا في العلم أو الكتابة أو اإلدارة ‪.‬‬
‫قواعد الدبلوماسية هذه أن قال‪> :‬إن أبردتم‬ ‫بي ! على‬ ‫وقد بلغ من حرص الن ّ ّ‬
‫ِ‬
‫إلي بريدا‪ ،‬فابعثوه حسن الوجه‪ ،‬حسن االسم<(‪.)6‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪ .)607‬ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،1‬ص ‪.)276‬‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪ .)607‬ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،1‬ص ‪.)276‬‬
‫((( ابن حجر‪ ،‬اإلصابة (ج ‪ ،1‬ص ‪.)473‬‬
‫((( ابن قتيبة‪ ،‬المعارف (ص ‪.)329‬‬ ‫ ‬
‫‪.)293‬‬ ‫((( عماد خليل‪ ،‬دراسة في السيرة (ص‬
‫((( األلباني‪ ،‬سلسلة األحاديث الصحيحة (‪.)182/3‬‬
‫‪245‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫وعبر العرب عن هذه القواعد في أشعارهم وأقوالهم‪ ،‬فقال أحدهم‪:‬‬

‫توص ِه‬ ‫ً‬


‫حكيما وال‬ ‫فأرس��ل‬ ‫إذا كن��ت ف��ي حاجة مرس�لاً‬
‫ِ‬
‫(‪)1‬‬

‫وقال آخر‪:‬‬

‫أديب��ا‬ ‫فأفهم��ه وأرس��له‬ ‫إذا أرس��لت ف��ي أمر رس��واًل‬


‫(‪)2‬‬
‫على أن لم يك��ن عَ ِل َم الغيوبا‬ ‫ف��إن ضيّع��ت ذاك ف�لا تلم��ه‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫بعض الحقوق‪ ،‬فهو يملك حقا‬ ‫وقد ضمنت األعراف الدبلوماسية للسفراء‬
‫ُ‬
‫يسمى >األمان<‪ ،‬وهو اليوم يسمى الحصانة‪ ،‬وبذلك يكون آمنا هو وزوجه وأوالده‪،‬‬
‫وأتباعه الدبلوماسيون‪ ،‬وتشير المصادر إلى ذلك في قصة الرسل الذين بعثهم مسيلمة‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫إلى رسول اهلل !‪ ،‬فقالوا‪ :‬نشهد أن مسيلمة رسول اهلل‪ ،‬فقال الرسول !‪> :‬لوال أن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرسل ال تقتل لضربت أعناقكما<(‪.)3‬‬
‫ٌّ‬
‫وهذا الحق ضروري‪ ،‬لتهيئة أفضل الظروف والضمانات ألعضاء البعثاتِ‬
‫ً َ‬
‫تقديرا لدورهم الجليل‬ ‫الدبلوماسية‪ ،‬والتيسير عليهم في ممارسة وظائفهم‪،‬‬
‫في إنشاء العالقات السياسية الدولية ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دار اإلسالم‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫في‬ ‫الحربي‬ ‫جد‬
‫ٍ‬ ‫و‬ ‫>إذا‬ ‫السرخسي‪:‬‬ ‫قول‬ ‫من‬ ‫هذا‬ ‫ويتضح‬
‫ِّ ِ َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫رسول‪ ،‬فإن أَخرج كتابا عُر َ‬
‫ٌ‬
‫ملكهم كان آمنا حتى يبلغ رسالته ويرجع؛‬ ‫ِ‬ ‫كتاب‬ ‫أنه‬ ‫ف‬ ‫ً ِ‬ ‫أنا‬
‫أمر القتال أو الصلح‬ ‫ألن الرسل لم تزل آمنة في الجاهلية واإلسالم؛ وهذا ألن َ‬
‫َ‬
‫المقصود<(‪.)4‬‬
‫ِ‬ ‫ال يتم إال بالرسل؛ فال بد من أمان الرسل ليتوصل إلى‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( جواهر األدب ‪.26/2‬‬


‫((( صالح الدين المنجد‪ ،‬النظم الدبلوماسية في اإلسالم‪( ،‬ص‪.)28‬‬
‫((( أحمد‪ ،‬المسند (‪.)15989‬‬
‫((( ابن القيم‪ ،‬زاد المعاد (ج ‪ ،3‬ص ‪.)139 ،138‬‬
‫‪246‬‬

‫ُ‬
‫تذكر‬ ‫وكان من حقوقهم أيضا أال يحبسوا أو يمنعوا من الرجوع إلى قومهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫المصادر‪ :‬أن قريشا بعثت أبا رافع رسوال إلى رسول اهلل !‪ ،‬فوقع في نفسه‬
‫بي !‪> :‬إني‬ ‫يعود إلى مكة‪ ،‬فقال له الن ّ ّ‬‫َ‬
‫اإلسالم؛ فأراد أن يبقى في المدينة وال‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أحبس البُ ُرد‪ ،‬ارجع إليهم‪ ،‬فإن كان الذي في قلبك الذي‬ ‫أخيس بالعهد‪ ،‬وال‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فيه اآلن فارجع<‪ ،‬وهذا ما جعل ابن القيم يقول‪ < :‬قوله‪ :‬ال أ ُ‬
‫ٌ‬
‫إشعار بأن‬ ‫حبس البُ ُرد‪،‬‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫حكم‪ ،‬يختص بالرسل مطلقا > (‪.)1‬‬ ‫هذا‬
‫ُ‬
‫ومما يدخل في إطار الحصانات الدبلوماسية ضمان حرية العبادة‪ ،‬للذين‬
‫بي ! يأمر أصحابَه أال يتعرضوا إليهم‪،‬‬ ‫يأتون إلى الدولة من المبعوثين‪ ،‬فكان الن ّ ّ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫تقدير من الجهات المرسلة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫على‬ ‫ا‬‫باعث‬ ‫هذا‬ ‫وكان‬ ‫‪،‬‬‫(‪)2‬‬
‫الدينية‬ ‫هم‬ ‫واجبات‬
‫ِ‬ ‫ون‬ ‫يؤد‬ ‫وهم‬
‫ُ‬
‫عباداتهم‬
‫ِ‬ ‫ويتضح هذا الحق من خالل قصة وفد نصارى نجران‪ ،‬إذ كانوا يؤدون‬
‫في مسجد رسول اهلل !‪.‬‬
‫بي ! أن يتزي َّ َن عند استقباله للوفود‪ ،‬فيذكر البخاري أن‬ ‫وقد كان من عادة الن ّ ّ‬
‫رجال أهدى للنبي حلة‪ ،‬فقال له‪> :‬لتتجمل بها يا رسول اهلل للوفود<(‪.)3‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وكان الن ّ ّ‬
‫بي ! يكرم الوفود ويبسط رداءَه لبعضهم‪ ،‬ويشركهم في الجلوس‬
‫إمعانًا في إزالة الدهشة‪ ،‬وإدخال المسرة‪ ،‬ذكر ابن ماجه‪ ،‬أنه لما وفد على الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫ُ‬
‫(‪)4‬‬
‫كريم قوم فأكرموه<‬
‫ُ‬ ‫! زيد الخيل بسط له رداءَه‪ ،‬وأجلسه عليه وقال‪> :‬إذا أتاكم‬
‫ومنزلتهم ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وفي هذا إشارة إلى أن التكريم كان على حسب درجاتِ القوم‬

‫((( ابن القيم‪ ،‬زاد المعاد (ج ‪ ،3‬ص ‪.)139‬‬


‫((( مصطفى التازي‪ ،‬الحصانة الدبلوماسية في اإلسالم‪ ،‬مؤتمر السيرة الثالث‪( ،‬م ‪،)6‬‬
‫(ص ‪.)657‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)948‬‬
‫((( ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)3712‬‬
‫‪247‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫ً‬ ‫ابن سعد أن الن ّ َّ‬ ‫ُ‬


‫رسول اهلل !‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بي ! خصص مكانا ينزل فيه ضيوف‬ ‫ويذكر‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫النجارية مكانا معدا الستقبال الوفود‪ ،‬وأطلق عليها‬ ‫ِ‬ ‫بنت الحارث‬ ‫وكانت دار رملة ِ‬
‫اسم >دار الضيفان<(‪ .)1‬‬ ‫بعضهم َ‬
‫ُ ّ‬
‫>الجوائز< حقا آخر يتمتع به السفراء ُ عند استقبالهم ووداعهم‪ ،‬ويتضح‬ ‫وكانت‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫هذا من قول ابن خلدون‪> :‬كان الن ُّ‬
‫بي ! يحسن وفادة الوفود ويحسن جوائزهم‪،‬‬
‫وهذا كان شأنه مع الوفود‪ ،‬ينزلهم إذا قدموا‪ ،‬ويجهزهم إذا رحلوا<(‪.)2‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويشير ابن سعد إلى هذا التكريم بقوله‪> :‬إن وفد بني حنيفة أنزلوا في دار‬
‫مرة ً‬‫ً‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫خبزا‬ ‫رملة بنت الحارث‪ ،‬وأجريت عليهم ضيافة‪ ،‬فكانوا يُؤتون بغدا ٍء وعشا ٍء‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خبزا وسمنًا<(‪.)3‬‬‫ومرة ً‬ ‫خبزا ولبنًا‪،‬‬
‫ومرة ً‬ ‫ً‬
‫ولحما‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وعند ما جاء وفد ثقيف إلى رسول اهلل !‪ ،‬كان خالد‪ ‬بن سعيد يمشي بينهم‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫طعاما يأتيهم‪ ،‬حتى يأكل منه خالد(‪.)4‬‬ ‫وبين رسول اهلل !‪ ،‬وكانوا ال يأكلون‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويذكر ابن إسحاق‪> :‬أن بالال كان يأتيهم بفطرهم وسحورهم في األيام التي‬
‫صاموها مع رسول اهلل !<(‪.)5‬‬

‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،1‬ص ‪.)316‬‬


‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( ابن خلدون‪ ،‬تاريخ (ج ‪ ،2‬ص ‪.)52 ،2‬‬


‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،1‬ص ‪.)316‬‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪.)540‬‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪.)541 ،540‬‬
‫‪248‬‬

‫المبحث‬
‫الثاني‬
‫تنظيم شؤون الدولة‬

‫تنظيم االقتصاد‪:‬‬
‫كبيرا للناحية االقتصادية؛ الرتباطها بالكيان السياسي‪،‬‬ ‫ً‬
‫اهتماما ً‬ ‫بي !‬ ‫أولى الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عصب االقتصاد‬ ‫تحتكر التجارة واألسواق‪ ،‬وبيدهم‬ ‫وقد كانت قبائل اليهود‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫في المدينة‪ ،‬ومثل هذا الوضع يجعلهم دولة داخل دولة‪ ،‬وكان هناك عدة أسواق(‪،)1‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرئيسي للمدينة‪ ،‬وكان‬ ‫أشهرها‪ :‬سوق بني قينقاع‪ ،‬وكان هذا السوق هو السوق‬
‫العرب (األنصار) يتعاملون فيه ً‬
‫بيعا وشراء‪.‬‬
‫بي ! إلى خطورة هذه السيطرة اليهودية‪ ،‬فكان ال بد من إجرا ٍء‬ ‫لقد تنبه الن ّ ّ‬
‫السيطرة لألمة الجديدة‪ ،‬فيُروى أن الن ّ ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫بي ! ذهب‬ ‫يحول هذه‬ ‫إداري سريع‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إلى أكبر سوق لليهود‪ ،‬فألقى عليه نظرة فاحصة‪ ،‬ثم بحث عن مكان آخر‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫في المدينة‪ ،‬يعدل هذا السوق أو يفوقه في المساحة والمركز والنظام(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫موضعا‬ ‫بي ! فقال‪ :‬إني رأيت‬ ‫فقد روى ابن ماجه‪> :‬أن رجال جاء إلى الن ّ ّ‬
‫موضع السوق‪ ،‬فلما رآه‬ ‫َ‬ ‫للسوق أفال تنظر إليه؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬فقام معه حتى جاء‬

‫((( منها سوق بزباله‪ ،‬وسوق بالجسر‪ ،‬وسوق بالصفاصف بالقصبة‪ ،‬وسوق في منطقة تسمى‬
‫مزاحم‪ ،‬وهذه أسماء أماكن في المدينة المنورة‪ .‬انظر‪ :‬السمهودي‪ ،‬وفاء الوفا‪( ،‬ج‪،1‬‬
‫ص‪.)539‬‬
‫((( أحمد محمد‪ ،‬الجانب السياسي في حياة الرسول (ط ‪ )1‬الكويت‪ ،‬دار القلم‪1402( ،‬هـ)‪،‬‬
‫(ص ‪.)69‬‬
‫‪249‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫وركض برجليه‪ ،‬وقال‪ :‬نعم سوقكم هذا‪ ،‬فال ينتقض وال يضربن عليكم‬ ‫َ‬ ‫أعجبه‬
‫خراج(‪.)1‬‬
‫ذكر أن الن ّ ّ‬
‫بي ! ذهب ابتداء إلى سوق النبيط‪ ،‬فنظر إليه فقال‪ :‬ليس لكم‬ ‫وي ُ ُ‬
‫هذا بسوق‪ ،‬ثم رجع إلى هذه السوق فطاف به ثم قال‪ :‬هذا سوقكم<(‪.)2‬‬
‫بعض الصحابة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بي ! كان يراقب األسواق بنفسه‪ ،‬وقد طلب‬ ‫ويالحظ أن الن ّ ّ‬
‫بي !‬ ‫مر الن ّ ّ‬ ‫من الرسول ! أن ِّ‬
‫يسع َر للناس‪ ،‬ولكن الرسول امتنع من ذلك‪ ،‬فقد َّ‬
‫طعاما في السوق بسعر أرفع(‪ )3‬من سعر السوق‪ ،‬فقال‪> :‬تبيع في سوقنا‬ ‫ً‬ ‫برجل يبيع‬
‫أرفع من سعرنا؟!< قال‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪> :‬صبرا واحتسابا؟<‬ ‫ُ‬ ‫بسعر‪ ،‬هو‬
‫قال‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪> :‬أبشروا فإن الجالب إلى سوقنا كاجملاهد في سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬وإن المحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب اهلل<(‪.)4‬‬
‫يحولوا الناس من سوق اليهود‬ ‫ّ‬ ‫واستطاع المسلمون بحسن تعاملهم أن‬
‫سوق المسلمين‬ ‫األشرف اليهودي يدخل إلى‬ ‫كعب َ‬
‫‪ ‬بن‬ ‫َ‬ ‫إلى سوقهم‪ ،‬مما جعل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ويقطع أطنابها(‪ ،)5‬فقال رسول اهلل !‪> :‬ال جرم ألنقلنها إلى موضع هو أغيظ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫له من هذا<‪ ،‬فنقلها من موضع بقيع الزبير إلى سوق المدينة(‪.)6‬‬
‫ُ‬
‫كعب‪ ‬بن األشرف كان‬ ‫َ‬
‫الصارم الذي اتبعه‬ ‫مي‬ ‫ُّ‬
‫التهج َّ‬ ‫َ‬
‫األسلوب‬ ‫ولعل هذا‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ويالحظ ً‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫أيضا‪ :‬أن‬ ‫قوي‪،‬‬ ‫لليهود نفوذ‬
‫ِ‬ ‫الهجرة‪ ،‬حيث ال يزال‬
‫ِ‬ ‫أشهر‬
‫ِ‬ ‫في أوائل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كعب‪ ‬بن األشرف شعر أن مصالح اليهود االقتصادية قد أصبحت في خطر‪ ،‬نتيجة‬
‫الجديد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫السوق‬
‫ِ‬ ‫منافسة‬
‫ِ‬

‫((( الكتاني‪ ،‬التراتيب اإلدارية (ج ‪ ،2‬ص ‪.)163‬‬


‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( أرفع‪ :‬أي أقل من سعر السوق‪.‬‬ ‫((( ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)2233‬‬
‫ ‬
‫((( السمهودي‪ ،‬وفاء الوفا (ج ‪ ،1‬ص ‪.)546‬‬
‫((( حميد اهلل‪ ،‬مجموعة الوثائق السياسية‪ ،‬الفقرات (‪( ،)27 - 24‬ص ‪.)61‬‬
‫((( العمري‪ ،‬اجملتمع المدني‪> ،‬خصائصه وتنظيماته األولى<‪( ،‬ص ‪.)129‬‬
‫‪250‬‬

‫تنظيم األموال العامة‪:‬‬


‫ً‬
‫كانت األموال التي ترد إلى بيت المال في عصر الرسول ! إما نقدية (ذهب‪،‬‬
‫ً‬
‫فضة‪ ،‬دينار‪ ،‬درهم)‪ ،‬وإما عينية (مزروعات‪ ،‬ثمار‪ ،‬حيوانات)‪ .‬ولكل صنف‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫من هذه األصناف مكان خاص تحفظ فيه‪.‬‬
‫حفظ في بيت الن ّ ّ‬ ‫ُ ُ‬
‫بي !‪ ،‬أو بيوتِ أصحابه‪،‬‬ ‫فأما >األصول النقدية< فكانت ت‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حفظ هذه األموال وكتابتها‪ ،‬فقد كان الزبير‪ ‬بن‬ ‫ِ‬ ‫وظيفة‬ ‫بعض الصحابة‬ ‫وتولى‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وجهيم‪ ‬بن الصلت كانا يكتبان أموال الصدقات(‪.)1‬‬ ‫العوام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫والكتابة في األموال الخاصة‬ ‫ِ‬ ‫حض اإلسالم بشكل كبير على التوثيق‪،‬‬ ‫وقد‬
‫ً‬ ‫>كالدين<(‪ ،)2‬وهذا ينطبق بشكل َ‬ ‫َّ‬
‫أكثر أهمية على أموال الدولة العامة ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫كاتب رسول اهلل ! يقوم بحفظ وتسجيل ما يرد‬ ‫فقد كان حنظلة‪ ‬بن الربيع‬
‫بيت المال في مدة‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫المال من وارداتٍ‪ ،‬ثم يرفع تقريره عن محتوياتِ‬ ‫ُ‬
‫إلى بيت‬
‫بي ! بتوزيعها >فال يبيت وعنده شيء منه<(‪. )3‬‬ ‫أقصاها ثالثة أيام‪ ،‬فيقوم الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كما أن الن ّ ّ‬
‫بي ! صلى العصر ثم أسرع فدخل بيته‪ ،‬فلما سئل عن سبب ذلك‬
‫قال‪> :‬ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته<(‪.)4‬‬
‫ً‬

‫وجهه لما رأى ما بهم من الفاقة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فتم ّعر‬‫بي ! َ‬ ‫مضر أتوا الن ّ َّ‬ ‫َ‬ ‫كما أن ً‬
‫قوما من‬
‫َ ِّ‬ ‫َ‬
‫حاجتهم(‪.)5‬‬
‫ِ‬ ‫فدخل بيته فلم يجد شيئا‪ ،‬ثم خطب الناس فطلب منهم التبرع لسد‬

‫((( المسعودي‪ ،‬التنبيه واإلشراف (ص ‪.)246 ،245‬‬


‫َّ‬
‫((( راجع آية الدين سورة البقرة (آية‪.)282 :‬‬
‫ّ‬
‫((( الجهشياري‪ ،‬الوزراء الكتاب (ص ‪.)13 ،12‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)851‬‬
‫ّ‬
‫((( الجهشياري‪ ،‬الوزراء الكتاب (ص ‪.)13 ،12‬‬
‫‪251‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫يتم بواسطة سجل تكتب فيه أسماء من يأخذون العطاء‬ ‫ُ‬


‫التوزيع ُّ‬ ‫وكان‬
‫في المدينة‪ ،‬فقد ذكر الجاحظ‪ < :‬أن حكيم‪ ‬بن حزام محا نفسه من الديوان بعد وفاة‬
‫ُّ‬
‫األشجعي‪> :‬أنه كان‬ ‫رسول اهلل ! > (‪ ،)1‬ويتضح ذلك من خالل ما ذكره ابن مالك‬
‫أيام رسول اهلل !<(‪.)2‬‬ ‫يدعى إلى العطاء من قبل عمار‪ ‬بن ياسر َ‬
‫ٍ‬
‫>األموال العينية< فكانت تجمع في مكان خاص تحت إشراف الرسول !‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أما‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كبيت للمال‪ ،‬يجمع فيه‬
‫ٍ‬ ‫بنت الحارث‬
‫فقد ورد >أن النبي ! كان يستعمل دار رملة ِ‬
‫بي ! وكنا أربعين‬ ‫دكين‪ ‬بن سعيد المازني‪> :‬أتينا الن ّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫والغنائم<(‪ ،)3‬ويقول‬ ‫األسرى‬
‫عمر‪ :‬يا رسول‬ ‫لعمر‪ :‬اذهب فأعطهم‪ ،‬فقال ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأربعمائة‪ ،‬نسأله الطعام؛ فقال‬ ‫ً‬
‫راكبا‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫سمعا‬ ‫آصع من تمر ما أرى أن يقضي‪ ،‬قال‪ :‬اذهب فأعطهم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫اهلل‪ ،‬ما بقي إاّل ُ‬
‫َ‬
‫فارتقى بنا إلى عليّ ٍة فأخذ المفتاح من حجزته‪ ،‬ففتح<(‪.)4‬‬ ‫ٰ‬ ‫وطاعة‪،‬‬
‫فائض المواد الغذائية كانت تحفظ في علية للرسول‪ .‬وكانت‬ ‫َ‬ ‫ويفيد النص أن‬
‫هذه العلية غرفة فوق مسجد وبيوت الرسول !‪ ،‬وكان يخلو فيها أحيانا‪ ،‬وتشعر‬
‫الرواية أن عمر كان يقوم بحفظ هذا الجزء من محتويات بيت المال‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وكان بالل‪ ‬بن رباح هو خازن رسول اهلل ! (‪ ،)5‬وكان يجيز الوفود بأمر رسول‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وعينية(‪.)6‬‬
‫ٍ‬ ‫نقدية‬
‫ٍ‬ ‫بجوائز‬ ‫اهلل !‪ ،‬ويزودهم‬
‫ُ‬
‫وقد قال عطاءُ‪ ‬بن السائب إنه‪> :‬لما بويع أبو بكر بالخالفة أصبح غاديًا‬
‫ٌ َّ‬
‫عمر‪ ‬بن الخطاب‪ ،‬فقال‪ :‬كيف تصنع‬ ‫ُ‬ ‫أثواب َيت ِج ُر بها‪ ،‬فلقيه‬ ‫إلى السوق‪ ،‬ومعه‬

‫((( البيهقي‪ ،‬السنن ‪.195/4‬‬ ‫ ‬


‫((( الجاحظ‪ ،‬العثمانية (ص ‪.)223‬‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص ‪.)161‬‬


‫((( أحمد‪ ،‬المسند (‪ )17576‬و(‪.)17577‬‬
‫((( انظر‪ :‬التراتيب اإلدارية الكتاني ‪.442/1‬‬
‫((( ابن حجر‪ ،‬اإلصابة (ج ‪ ،1‬ص ‪.)165‬‬
‫‪252‬‬

‫أمر المسلمين؟‪ ،‬قال‪ :‬فمن أين أُطعم عيالي؟‪ ،‬قال‪ :‬انطلق ي َ ُ‬


‫فرض‬
‫َ‬
‫وليت َ‬ ‫هذا وقد‬
‫ُ‬
‫عامر‪ ‬بن الجراح‪.)1(<..‬‬ ‫لك أبو عبيدة‬
‫ويمكن القول من خالل مجموعة من النصوص السابقة‪ :‬إنه لم يكن هناك وظيفة‬
‫ثابتة تسمى >أمين بيت المال< لشخص معين‪ ،‬وإن كان توالها بشكل كبير بتكليف‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫بي ! ٌّ‬ ‫من الن ّ ّ‬
‫وعمر‪ ‬بن الخطاب‪ ،‬وأبي عبيدة‪ ‬بن الجراح ‪.‬‬ ‫كل من بالل‪ ‬بن رباح‪،‬‬
‫وكيل على أموال خيبر يحافظ عليها‪ ،‬ويعطي فيها بأمر‬ ‫ٌ‬ ‫وقد كان للنبي !‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫>أردت الخروج‬ ‫الرسول ما يحقق مصالح الدولة‪ ،‬ويقول جابر‪ ‬بن عبد‪ ‬الله‪:‬‬
‫َ‬
‫عشر‬
‫َ‬
‫خيبر‪ ،‬فأتيت رسول اهلل ! فقال‪> :‬إذا أتيت وكيلي‪ ،‬فخذ منه خمسة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫إلى‬
‫ً‬
‫ترقوته<(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫ِ‬ ‫وسقا‪ ،‬فإن ابتغى منك آية‪ ،‬فضع يدك على‬
‫وهذا يفيد بوجود عالقة خفية بين رسول ! وبين وكيله‪ ،‬مما يدل على الدقة‬
‫المتبعة في إدارة المال والمحافظة عليه‪ ،‬وتوثيق المصروفات التي يقوم بها الوكيل‬
‫ً‬
‫بأمر الرسول ! وكانت >األنعام< تشكل جزءًا من اإليرادات العينية‪ ،‬تؤخذ صدقة‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أو فيئا أو خ ُم ًسا‪ ،‬فكانت تجمع في مكان خاص‪ ،‬ويقوم الرسول ! بإحصائها‬
‫للصدقة منها؛ لتمييزه عن غيره‪ ،‬يتضح هذا من قول أنس‪ ‬بن مالك‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ووسم ما‬
‫َ‬
‫الصدقة<(‪.)3‬‬
‫ِ‬ ‫الميسم ي َ ِس ُم إبل‬
‫َ‬ ‫>غدوت إلى رسول اهلل ! ‪ ....‬فوافيته في يده‬
‫معينة قبل قسمتها‪ ،‬وهذا يتطلب أن َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يهيئ لها‬ ‫ِ‬ ‫فترة‬ ‫وكانت هذا األنعام تمكث‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫>بالح َم ٰى<‪ ،‬فح َمى‬
‫ِ‬ ‫يسمى‬ ‫ما‬ ‫لذلك‬ ‫نتيجة‬ ‫فظهر‬ ‫ورعيها‪،‬‬ ‫لمعيشتها‬ ‫واسعة‬ ‫مساحاتٍ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الن ّ ُّ‬
‫أرض النقيع‪ ،‬فكانت ترعى فيه اإلبل والخيل المعدة للغزو في سبيل اهلل(‪.)4‬‬ ‫بي !‬

‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،1‬ص ‪.)256 ،347 ،333 ،323 ،299‬‬
‫((( أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪.)3632‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ )1502‬نحوه‪.‬‬
‫((( أبو عبيد‪ ،‬األموال (ص ‪.)417‬‬
‫‪253‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫التضييق على إبل المسلمين‬


‫ِ‬
‫َ‬
‫يؤدي إلى‬ ‫>الح َمى< أال‬
‫ِ‬ ‫لقد راعت الدولة في‬
‫ومواشيهم(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والعمال أو المساجد‬
‫ِ‬ ‫الوالة‬
‫ِ‬ ‫بيوت‬ ‫حفظ المال في األمصار فقد تكون‬
‫ِ‬ ‫تنظيم‬ ‫أما‬
‫ّ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫َ‬
‫األمر في عاصمة الدولة؛ ذلك بأن‬ ‫ِ‬ ‫هي األماكن المعدة لحفظ المال‪ ،‬كما كان‬
‫ُ‬
‫وتوزيعها‪ ،‬وكذلك‬ ‫جمعها‬ ‫ُ‬ ‫كثيرا من هذه األموال تحتاج إلى وقت طويل حتى َّ‬
‫يتم‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫ُ َ َ‬
‫ال ت ْستح ُّق الصدقة عليها في وقت واحد الختالف أنواعها ومواسمها‪.‬‬
‫تنظيم الزراعة والري‪:‬‬
‫ً‬
‫اهتماما ً‬
‫كبيرا؛ فأمر باستغالل األراضي‬ ‫بي ! بتنظيم أمور الزراعة‬‫لقد اهتم الن ّ ّ‬
‫ُ‬
‫الزراعية‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ً‬ ‫َ ْ‬
‫أرضا ميتة فله أجر‪ ،‬وما أكلت العافية منها فله منها‬ ‫>من أحيا‬
‫صدقة<(‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫وكر َه الن ّ ُّ‬
‫أرضا دون استغاللها‪ ،‬فقال‪> :‬من كانت له‬ ‫بي ! أن يمسك أحد‬ ‫ِ‬
‫أرضه<(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫أرض فليزرعها‪ ،‬أو ليمنحها أخاه‪ ،‬فإن أبى فليمسك‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫حوافز كبيرة الستغالل األراضي وإصالحها‪ ،‬ووضعت‬ ‫لقد وضعت اإلدارة النبوية‬
‫أرضا مواتًا فهي له<(‪ )4‬قالت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫أم‬ ‫ً‬ ‫قواعد شرعية سارت عليها األمة‪ ،‬فقال‪> :‬من أحيا‬
‫أرضا ليست ألحد فهو أح ُّق<(‪.)5‬‬ ‫أعمر ً‬
‫َ‬ ‫المؤمنين عائشة ‪ :I‬قال الن ّ ّ‬
‫بي !‪> :‬من‬
‫بي ! بالزراعة؛ حتى‬ ‫اهتمام الن ّ ّ‬
‫ُ‬
‫تفحص كتب الحديث المعتمدة‬ ‫ويالح ُظ من خالل ُّ‬
‫َ‬
‫سماه‪> :‬باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه< ‪.‬‬ ‫إن البخاري أفرد بابًا في صحيحه‪ّ ،‬‬

‫((( الشافعي‪ ،‬األم (ج ‪ ،4‬ص ‪.)47‬‬


‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( سنن الدارمي‪( ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪ .)267‬العافية‪ :‬هي الطير وغيرها ممن له روح‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2341‬‬
‫ً‬
‫((( صحيح البخاري تعليقا (‪.)18/5‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2335‬‬
‫‪254‬‬

‫غرسا أو يزرع زرعًا فيأكل منه ٌ‬


‫طير‬ ‫ً‬ ‫وقد أورد قوله‪> :‬ما من مسلم يغرس‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫!‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫<‬
‫ٌ‬
‫وب َي ِد‬
‫ِ‬ ‫الساعة‬ ‫قامت‬ ‫>إن‬ ‫(‪)1‬‬
‫صدقة‬ ‫به‬ ‫له‬ ‫كان‬ ‫إال‬ ‫بهيمة‬ ‫أو‬ ‫إنسان‬ ‫أو‬
‫ٌ‬
‫يغرسها فليفعل<(‪.)2‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أحدكم فسيلة‪ ،‬فإن استطاع أال يقوم حتى‬‫ِ‬
‫كانت هناك مجموعات من الناس تعمل في الزراعة‪ ،‬ففي المدينة كان األوس‬
‫َ‬
‫والخزرج يعملون بالزراعة بأنفسهم وباالستعانة بغيرهم‪ ،‬ويبدو أن قبائل المدينة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تأنف الزراعة‪ ،‬كما كانت تأنفها القبائل العربية األخرى(‪.)3‬‬ ‫لم تكن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أصحاب مزارع ونخيل‪ ،‬وكان لديهم من الخبرة ما يجعلهم‬ ‫أما اليهود فكانوا‬
‫َ‬
‫خيبر‪،‬‬ ‫بي ! ترك في أيديهم‬ ‫يتفوقون على غيرهم في الزراعة(‪ ،)4‬حتى إن الن ّ ّ‬
‫ِ َ‬
‫ووادي القرى‪ ،‬وفدك يزرعونها على الشطر فيما يخرج منها ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬

‫يعمل بالزراعة‪ ،‬ولهذا فإن الن ّ ّ‬


‫ُ‬ ‫ْ‬
‫بي ! لما حاصر‬ ‫وكان هناك من الموالي َمن‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫الطائف‪ ،‬وأعلن عَت َق من ينزل إليه من الموالي‪ ،‬نزل إليه ثالثة وعشرون عبدا‬ ‫َ‬
‫من موالي الطائف‪ ،‬وكانت هناك مجموعات من األحباش‪ ،‬تعمل في حقول‬
‫ً‬
‫المدينة‪ ،‬وقد خرج هؤالء ولعبوا بحرابهم فرحا بقدوم رسول اهلل ! إلى المدينة(‪.)6‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ ِّ‬
‫كبيرا‪ ،‬فقد زرع النخيل‬ ‫تنظيما‬ ‫مت الزراعة في عهد الرسول !‬ ‫ِ‬ ‫ظ‬ ‫لقد ن‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الحوائط‪،‬‬
‫ِ‬ ‫المصادر عددا من أسماء هذه‬ ‫بساتين سميت بالحوائط‪ ،‬وأوردت‬ ‫في‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫يريق السبعة‪ ،‬وحائط أبي الدحداح الذي تصدق به على المسلمين<‪.‬‬‫منها‪ :‬حوائط مخ ٍ‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2320‬‬


‫((( أحمد‪ ،‬المسند (ج ‪ ،3‬ص ‪.)191‬‬
‫((( عبد‪ ‬العزيز العمري‪ ،‬الحرف والصناعات في الحجاز في عصر الرسول !‪( ،‬ص ‪.)114‬‬
‫((( أبو عبيد‪ ،‬األموال (ص ‪ .)581‬البالذري‪ ،‬فتوح البلدان (ص ‪.)37‬‬
‫((( أبو يوسف‪ ،‬الخراج (ص ‪.)51 ،50‬‬
‫((( الصالحي الشامي‪ ،‬سبل الهدى والرشاد (ج ‪ ،3‬ص ‪.)386‬‬
‫‪255‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫دقيقا للري‪ ،‬إذ ت ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫حفر في وسطها اآلبار‬ ‫نظاما‬ ‫وكانت هذه الحوائط تحوي‬
‫ُ‬
‫وضع عليها السواقي‪ ،‬فتقوم السواقي بإخراج الماء؛ فتصبُّه في القنوات‬ ‫ُ‬ ‫الخاصة‪ ،‬وت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بأسوار‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫األشجار فتسقيها‪ ،‬وكانت هذه البساتين محاطة‬ ‫التي تتخلل النخيل أو‬
‫ُ‬
‫دخول الناس أو البهائم‪ ،‬ولهذا أطلق عليها َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫>الحوائط<(‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫اسم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تمنع‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫قام األنصار بإدارة هذه البساتين بالتعاون مع بعض األ ِرقاء واألج َراء‪ ،‬فكانوا‬
‫َ‬
‫البساتين‬ ‫يؤج ُر هذه‬ ‫يقومون بحراثتها وزراعتها واستغاللها‪ ،‬وكان البعض اآلخر ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بطريق المزارعة؛ وذلك لعدم قدرتهم على زراعتها ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ُ‬
‫الزراعة‪ ،‬وذلك بتنظيمِ المعامالتِ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫شؤون‬
‫ِ‬ ‫تنظيم‬ ‫في‬ ‫الدولة‬ ‫لقد تدخلت‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫األرض أنفسهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أصحاب‬ ‫بين‬ ‫الزراعية‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العالقات‬ ‫على‬ ‫المترتبة‬ ‫المشكالت‬ ‫وحل‬
‫أو بينهم وبين المستأجرين ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫أعناب‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫ثقيف من‬ ‫لثقيف ما نصه‪> :‬وما سقت‬ ‫فقد ورد في كتاب رسول اهلل !‬
‫ُّ‬
‫البخاري قول‬ ‫لمن سقاها<(‪ ،)3‬وذكر‬
‫َ ْ‬
‫ثمرها ـ‬ ‫ر‬‫شط َ‬ ‫ْ‬
‫شطرها ـ أي‬ ‫َ‬ ‫قريش فإن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫عهد رسول اهلل !‪ ،‬وكانوا‬ ‫ِ‬ ‫أراضين على‬ ‫لرجال فضول‬ ‫ٍ‬ ‫جابر‪ ‬بن عبد‪ ‬اهلل‪> :‬كانت‬
‫ُ‬ ‫الثلث والربُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫ٌ‬
‫أرض‬ ‫والنصف‪ ،‬فقال الرسول !‪> :‬من كانت له‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫على‬ ‫رونها‬ ‫يؤج‬
‫َ ْ‬
‫أرضه<(‪.)4‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫مسك‬ ‫ِ‬ ‫فلي‬ ‫أبى‬ ‫فإن‬ ‫أخاه‪،‬‬ ‫ها‬ ‫يمنح‬ ‫أو‬ ‫ها‬ ‫ع‬ ‫فليزر‬
‫الري وسقي المزروعاتِ‪،‬‬ ‫بي ! للمشكالت المتعلقة بأمور ّ‬ ‫ض الن ّ ّ‬ ‫تعر َ‬‫كما َّ‬
‫ِ‬
‫وتوزيعِ المياه على المزارعين‪ ،‬كما هو واضح من قصة الزبير‪ ‬بن العوام‪،‬‬
‫هزور‬ ‫واألنصاري عندما تنازعَا في الشرب(‪ ،)5‬وقضى بمثل ذلك في مياه سيل َم ُ‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( العمري‪ ،‬الحرف والصناعات (ص ‪.)120 ،119‬‬


‫((( أبو يوسف‪ ،‬الخراج (ص ‪.)51 ،50‬‬
‫((( أبو يوسف‪ ،‬الخراج (ص ‪ .)89‬أبو عبيد‪ ،‬األموال (ص ‪.)277‬‬
‫((( انظر صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2359‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‬
‫ ‬
‫(‪.)2341‬‬
‫‪256‬‬

‫َ‬
‫يب وبُطحان ـ وهي من السيول التي كانت تسقي المدينة ـ فقضى ألهل‬ ‫َ ُ َْ‬
‫ومذي ِن ٍ‬
‫َ‬
‫النخل حصتهم من الماء‪ :‬أن يبلغ الماء إلى العقبين‪ ،‬وقضى ألهل الزرع أن يبلغ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ َ‬
‫الماء ُ إلى الش َراكين‪ ،‬ثم يرسلون الماءَ إلى َمن هو أسفل منهم(‪.)1‬‬
‫تنظيم شؤون التجارة‪:‬‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حمل المسلمون المهاجرون إلى المدينة معهم نزعة قريش التجارية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فعبد الرحمن‪ ‬بن عوف ‪ K‬ما كاد يصل إلى المدينة حتى سأل عن السوق‪،‬‬
‫َ‬ ‫وبدأ ُ‬
‫يبيع ويشتري حتى جمع مااًل فتزوج(‪ ،)2‬وكان عمر‪ ‬بن الخطاب ممن يتاجر‬
‫ُ‬
‫الصفق باألسواق<(‪.)3‬‬ ‫بالسوق‪ ،‬حتى قال‪> :‬ألهاني‬
‫تجارية للمسلمين‪،‬‬ ‫سوق‬ ‫إنشاء‬ ‫بضرورة‬ ‫مبكر‬ ‫وقت‬ ‫في‬ ‫بي‬‫لقد شعر الن ّ ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫!‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وجشعهم ‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ِ‬ ‫اليهود‬
‫ِ‬ ‫سيطرة‬ ‫من‬ ‫المدني‬ ‫االقتصاد‬ ‫ص‬ ‫يخل‬ ‫يستطيع من خاللها أن‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ً‬
‫منتوجات المدينة والبوادي اجملاورة‪،‬‬ ‫وكانت هذه السوق مكشوفة‪ ،‬وتباع فيها‬
‫وما يأتي إليها من الخارج‪ ،‬وذلك في إطار إجراءات شرعية تنظيمية كان‬
‫ُ‬
‫على التجار االلتزام بها‪.‬‬
‫والخنزير)‪ ،‬ومنعت‬ ‫الخمرة‪،‬‬ ‫بيع السلع المحرمة (مثل‬ ‫فقد منعت الدولة َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫بي ! عن بيع التصريَة فقال !‪َ :‬‬ ‫جميع أنواع الربا‪ .‬ونهى الن ّ ُّ‬ ‫َ‬
‫>من اشترى شاة مصراة‬ ‫ِ ِ‬
‫ً‬
‫أو لقحة مصراة فهو بالخيار ثالثة أيام‪ ،)5(<...‬ونهى عن االحتكار‪ ،‬فقال‪> :‬ال‬
‫ً‬

‫يحتكر إال خاطئ<(‪ )6‬أي آثم‪.‬‬

‫((( أبو يوسف‪ ،‬الخراج (ص ‪.)90‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2062‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‬
‫ ‬
‫(‪.)2048‬‬
‫((( عمر‪ ‬بن شبة‪ ،‬تاريخ المدينة (ج ‪ ،1‬ص ‪.)304‬‬
‫((( انظر صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1524‬‬
‫((( الصنعاني‪ ،‬المصنف (ج ‪ ،8‬ص ‪ .)202‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1605‬‬
‫‪257‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬


‫النجش‪ ،‬وتلقي الركبان قبل‬ ‫َِ‬ ‫لباد‪ ،‬ونهى عن‬ ‫كما نهى عن أن يبيع حاضر ٍ‬
‫َ‬
‫وصولهم إلى السوق‪ ،‬وعن بيعِ المالمسة‪ ،‬والمنابَذ ِة‪ ،‬والمزابَن ِة‪ ،‬ونهى عن الخداع‪،‬‬
‫َ َّ ْ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬ ‫البيع‬ ‫ِ‬ ‫عمليات‬ ‫مت‬ ‫والحلف(‪ ،)1‬إلى غير ذلك من التشريعات التي نظ‬ ‫ِ‬ ‫والغش‪،‬‬
‫والشراء في سوق المدينة‪.‬‬
‫بي ! تقضي بضرورة التسامح بين المتبايعين‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫توجيهات الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫وكانت‬
‫>رحم اهلل عبدا سمحا إذا باع‪ ،‬سمحا إذا اشترى‪ ،‬سمحا إذا اقتضى<(‪ ،)2‬وتشير‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬

‫سة ٖۚ﴾‬‫سة ٖ َف َن ِظ َرةٌ إ ىَ ٰل َم ۡي رَ َ‬


‫ِ‬
‫اآلية الكريمة إلى هذا الخلق‪ ،‬فقال تعالى‪ِ﴿ :‬إَون اَك َن ُذو ُع رۡ َ‬

‫[ا �لب���ر�‪ .]280 :‬وقال !‪ِّ :‬‬


‫ق ة‬
‫>البيعان بالخيار ما لم يتفرقا‪ ،‬فإن صدقا َوب َّينَا بورك لهما في‬
‫ُ‬
‫بيعهما<(‪.)3‬‬
‫ُ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫بركة‬ ‫ت‬ ‫بيعهما‪ ،‬وإن كذبا وكتما م ِحق‬
‫َ‬
‫بعض الصحابة أن يحدد‬ ‫ُ‬ ‫السوق بنفسه‪ ،‬وطلب منه‬ ‫شؤون‬ ‫يراقب‬ ‫كان الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫!‬
‫ُّ‬ ‫َّ ّ‬
‫تسعيرة المواد المعروضة في السوق‪ ،‬ورد النبي ! على هؤالء بقوله‪> :‬إن اهلل هو‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الم َس ِ ّع ُر‪ ،‬وإني أرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم‬ ‫الرازق ُ‬ ‫القابض الباسط‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الخالق‬
‫ُ‬ ‫يطلبني َ‬
‫مال<(‪. )4‬‬
‫بدم وال ٍ‬ ‫ظلمة ظلمتها إيَّاه‬ ‫ٍ‬ ‫بم‬
‫ٍ‬
‫عمر‪ ‬بن الخطاب ْ‬
‫أم َ‬ ‫ولى َ‬ ‫ّ‬ ‫إشارة إلى أن الن ّ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ‬
‫السوق‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫الحقة‬
‫ٍ‬ ‫بي ! في فترة‬ ‫وت ِرد‬
‫‪ ‬بن العاص َ‬ ‫سعيد َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫أمر السوق في مكة‪.‬‬ ‫في المدينة‪ ،‬في حين ولى‬
‫ولقد قامت الدولة بتنظيم شؤون التجارة‪ ،‬فكان ال بد من كتابة الديون كنوع‬
‫من التوثيق من أجل حفظ حقوق اآلخرين‪ ،‬وتشير اآلية الكريمة إلى ذلك‪ ،‬فقال‬
‫ىَ َ‬ ‫َ َ‬
‫نتم ب ِ َديۡ ٍن إ ِ ٰٓل أ َج ٖل ُّم َس ّم فٱك ُت ُبوهُۚ﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪.]282 :‬‬ ‫تعالى‪ٰٓ ﴿ :‬‬
‫يأ ُّي َها ذَّٱل َ‬
‫ِين َء َام ُن ٓوا ْ إ َذا تَ َدايَ ُ‬
‫ىٗ َ ۡ‬
‫ِ‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( صحيح البخاري (‪.)2207 - 2181 - 2158‬‬


‫((( ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم ( ‪ )2203‬وأصله في صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2076‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2079‬‬
‫((( الدارمي‪( ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.)249‬‬
‫‪258‬‬

‫نص هذا الكتاب‪،‬‬ ‫البخاري َّ‬‫ُّ‬ ‫بي ! يكتب ما يبيعه وما يشتريه‪ ،‬فيذكر‬ ‫وكان الن ّ ُّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫‪ ‬بن هوذة‬ ‫َِ‬ ‫خالد‬
‫ِ‬ ‫‪ ‬بن‬
‫ِ‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫العد‬ ‫حيث جاء فيه‪> :‬هذا ما اشترى محمد رسول اهلل ! من‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫من محمد رسول اهلل !‪ ،‬اشترى عبدا أو أمة (شك الراوي)‪ ،‬ال داءَ وال غائلة وال‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫خبثة‪ُ ،‬‬
‫بيع المسلم للمسلم<(‪ )1‬أي‪ :‬أنه ليس من شأن المسلم الخديعة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وكانت المرونة والحرية واالنفتاح سمة من سمات الدولة في فترة الرسالة‪،‬‬
‫َ‬
‫حيث سمح للمسلمين بالتعامل التجاري بحري ّ ٍة‪ ،‬حتى مع الكفار‪ ،‬وقد اشترى‬
‫واقترض منهم‪ ،‬فقد اشترى الن ّ ُّ‬ ‫َ‬ ‫شاة من مشرك(‪ ،)2‬وتَباي َ‬ ‫ً‬
‫بي‬ ‫اليهود‪،‬‬
‫ِ‬ ‫مع‬ ‫ع‬ ‫ٍ‬ ‫النبي!‬
‫حديد(‪.)3‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫يهودي إلى أجل‪ ،‬ورهنه درعا من‬ ‫ٍّ‬ ‫! طعاما من‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫َُ‬
‫أما >النقود المتداولة< في فترة الرسالة‪ ،‬فكانت تتمثل في >الدينار<‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫ًْ‬ ‫َ‬
‫عملة مضروبة في بيزنطة من الذهب الخالص‪ ،‬وكان الناس يتعاملون به وزنا إذا‬
‫أقر الرسول ! التعامل مع هذه الدنانير على ما كانت‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وعدا إذا َق َّل‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ًّ‬
‫كثر‪،‬‬
‫ُ‬

‫مضروب‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬


‫الناس‪ ،‬وهو‬ ‫>الدرهم< من النقود التي تعامل بها‬ ‫ُ‬ ‫عليه في الجاهلية‪ ،‬وكان‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والحجم اختالفا‬ ‫الدراهم تختلف من حيث الوزن‬ ‫في بالد فارس‪ ،‬وكانت هذه‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫الناس بها وزنا ال عدا(‪.)4‬‬ ‫كبيرا مما أدى إلى أن يتعامل‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫بعض الصحابة مهنة >الصيرفة<‪ ،‬اتضح ذلك من قول بعض الصحابة‪:‬‬ ‫لقد امتهن‬
‫تاج َرين على عهد رسول اهلل ! فسألناه عن الصرف‪ ،‬فقال‪> :‬إن كان يدا بيد‪،‬‬ ‫كنا ِ‬
‫ً‬

‫فال بأس‪ ،‬وإن كان نسيئا فال يصلح<(‪.)5‬‬


‫ً‬

‫ً‬
‫((( صحيح البخاري مع الفتح (‪ )309/4‬تعليقا‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2216‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2068‬‬
‫((( سمير شما‪ ،‬النقود المتداولة في عصر الرسول وعصر الخلفاء الراشدين‪( ،‬ص ‪.)6 ،5‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2060‬‬
‫‪259‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫ُ‬
‫السوق اليومي في الصيرفة‪ ،‬قال ابن عمر‪:‬‬ ‫َ‬
‫سعر‬ ‫اعتمد‬ ‫ويذكر أن الن ّ َّ‬
‫بي‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫!‬
‫الدراهم‪ ،‬وأبيعُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫>قلت‪ :‬يا رسول اهلل إنى ُ‬
‫أبيع اإلبل بالنقيعِ‪ ،‬فأبيع بالدنانير وآخذ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الدنانير‪ ،‬آخذ هذه من هذه‪ ،‬وأعطي هذه من هذه‪ ،‬فقال رسول اهلل‬ ‫الدراهم وآخذ‬
‫َ‬
‫!‪> :‬ال بأس أن تأخذ بسعر يومها‪ ،‬ما لم تفترقا وبينكما شيء<(‪ ،)1‬وهذا يوضح‬
‫انتشار هذه المهنة في زمن الرسول !‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫مدى‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أما >األوزان والمكاييل< المستعملة في هذه الفترة‪ ،‬فهي ذاتها التي عُرفت قبل‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫صاحب‬ ‫اإلسالم‪ ،‬ولكنها أصبحت مراقبة ومحددة‪ ،‬وفقا للمعيار الذي يفرضه‬
‫السوق ‪.‬‬
‫َ‬
‫فعرفت في مكة >األوزان<؛ ألن طبيعة التعامل يقوم على التجارة‪ ،‬في حين‬
‫المكاييل في المدينة؛ ألنها ُ‬ ‫ُ‬
‫ذات طابع زراعي‪ ،‬وقد جاء في الحديث‪:‬‬ ‫عرفت‬
‫>الوزن وزن أهل مكة‪ ،‬والمكيال مكيال أهل المدينة<(‪.)2‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ُ‬
‫والقفير‪،‬‬
‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫والجريب‬
‫ِ‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫والو‬ ‫والصاع‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫د‬ ‫الم‬ ‫بين‬ ‫ما‬ ‫ِ‬ ‫الكيل‬ ‫وحدات‬ ‫واندرجت‬
‫الذي يستخدم أيضا ـ شأنه شأن الجرايب ـ كمقياس أرضي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫وحدات الوزن متفاوتة بين الدرهم‪ ،‬والمثقال‪ ،‬والقيراط‪ ،‬واألوقية‪،‬‬ ‫وكذلك‬
‫َ‬
‫والرطل‪ ،‬والقنطار‪ ،‬والتي اعتبرت الوحداتِ األساسية للوزن في العهد األول(‪.)3‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الروايات إلى أنه كان يقوم باألسواق من ي َ ِزن للناس‪ ،‬وكانت هذه وظيفة‬ ‫وتشير‬
‫ّ‬
‫بعضهم مقابل األجر‪ ،‬فقد مر الن ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بي ! بالسوق‪ ،‬وكان ألهل‬ ‫خاصة‪ ،‬يقوم بها‬
‫وأرجح<(‪.)4‬‬
‫ْ‬
‫!‪:‬‬ ‫ان يَز ْن‪ ،‬فقال الن ّ‬
‫بي‬
‫ّ‬ ‫َّ ٌ‬
‫السوق وز ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫>ز‬
‫ِ‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪)3354‬؛ والنسائي‪ ،‬حديث رقم (‪.)4582‬‬
‫((( أبو داود‪ ،‬السنن‪ ،‬حديث رقم (‪.)3340‬‬
‫((( بيضون‪ ،‬تجارة المدينة (ص ‪.)22 ،21‬‬
‫((( الدارمي‪ ،‬السنن (‪ )260/2‬وأبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪.)3336‬‬
‫‪260‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬
‫ووجدت هذه الوظيفة في سوق مكة‪ ،‬ومما يشعر بوجود هذه الوظيفة‬
‫ُ‬ ‫البخاري وضع بابًا ّ‬
‫َّ‬
‫سماه >الكيل على البائع والمعطي<(‪،)1‬‬ ‫في زمن الرسول !‪ ،‬أن‬
‫ُ‬
‫وقد علق عليه ابن حجر بقوله‪ < :‬أي مؤنة الكيل على المعطي‪ً ،‬‬
‫بائعا كان أو موفي‬
‫ُ َ ُ‬ ‫ِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َدين‪ ،‬أو َ‬
‫ويلتحق بالكيل في ذلك الوزن فيما يوزن >  ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫غير ذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫لقد كانت هذه التنظيمات تتناسب مع أهداف اإلسالم العامة‪ ،‬في تحقيق معنى‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والتعاون‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫واإلخا‬ ‫والحب‬ ‫الرحمة‬
‫ِ‬ ‫على‬ ‫أساسه‬ ‫يقوم‬ ‫فاضل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مجتمع‬
‫ٍ‬ ‫العدالة‪ ،‬وبنا ِء‬
‫تنظيم شؤو ِن الصناعة‪:‬‬
‫ُ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫يثرب قبل اإلسالم بزراعتها وصناعتها‪ ،‬وبعد الهجرة قامت حركة‬ ‫اشتهرت‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ْ‬
‫اهتم بها المسلمون (صناعة‬ ‫أمور الصناعة التي‬ ‫ِ‬ ‫عمرانية واسعة‪ ،‬ولعل ِمن أولى‬
‫بي‬ ‫فخ َّط لهم الن ّ ّ‬
‫َ‬
‫مساكن يسكنونها في المدينة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫البناء)‪ ،‬إذ احتاج المهاجرون إلى‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫األماكن التي يبنون عليها(‪.)3‬‬ ‫! الخطط‪ ،‬وحدد لهم‬
‫ٌ‬
‫لقد كان للنبي ! مجموعة من التوجيهات التنظيمية في البناء‪ ،‬استفاد‬
‫َ‬ ‫الصحابة‪ ،‬كما أخذ عنها الفقهاء ُ‬ ‫ُ‬
‫بعض األحكام الفقهية‪ ،‬مثل‪ :‬تقديم من يجيد‬ ‫منها‬
‫كل منهم ‪.‬‬‫العمل على من ال يجيده‪ ،‬بصرف النظر عن تقوى ٍّ‬
‫ََْ‬ ‫ُ‬ ‫رجل م ْن بني حنيفة إلى الن ّ ّ‬ ‫ٌ‬
‫بي ! وكان الرجل ممن يحسنون خلط‬ ‫ِ‬ ‫فقد وفد‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الطين‪ .‬وكان الن ُّ‬
‫الحنفي فإنه‬ ‫المسجد‪ ،‬فقال‪> :‬دعوا‬
‫ِ‬ ‫بي ! يعمل مع الصحابة في‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫ينظر‬ ‫الم ْسحاة‪ ،‬وأخذ يعالج الطين ويخلطه‪ ،‬والرسول‬ ‫أضبطكم للطين<‪ ،‬فأخذ ِ‬
‫طين<(‪.)4‬‬ ‫ُ‬
‫لصاحب‬ ‫َّ‬
‫الحنفي‬ ‫إليه ويقول‪> :‬إن هذا‬
‫ٍ‬

‫((( البخاري مع الفتح ‪.343/4‬‬


‫((( فتح الباري (ج ‪ ،9‬ص ‪.)200‬‬
‫((( البالذري‪ ،‬أنساب (ج ‪ ،1‬ص ‪.)270‬‬
‫((( الغزالي‪ ،‬فقه السيرة (ط ‪ )7‬القاهرة‪ ،‬دار الكتب الحديثة‪1976( ،‬م)‪( ،‬ص ‪.)190‬‬
‫‪261‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫مجموعة من اآلالت‪ ،‬من َ‬ ‫ً‬ ‫وقد استعمل الن ّ ّ‬


‫الم َساحي‬ ‫بي ! في الحفر‬
‫ض إنجاز عملية الحفر في الوقت‬ ‫بعضها من بني قريظة‪َ ،‬‬
‫بغر‬ ‫َ‬ ‫والمكاتل‪ ،‬استعار‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المحدد الذي كان ستة أيام فقط ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫صناعة >النجارة< فقد اشتهرت في زمن الن ّ ّ‬ ‫ُ‬


‫بي !‪ ،‬وكان النجارون يخدمون‬ ‫أما‬
‫األغراض العسكرية؛ وذلك باشتراكهم في صنعِ بعض األسلحة‪.‬‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫الدبابة والمنجنيق تعتمد في الدرجة األولى على النجارين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فصناعة‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫كما أن صناعة الرماح تدخل ضمنًا في النجارة(‪.)2‬‬
‫َ‬
‫ويالحظ من خالل الرواياتِ أن معظم من كانوا يجيدون النجارة هم في الغالب‬
‫ََ َ‬ ‫من الموالى؛ ً‬
‫واحتقارهم للصناعاتِ وأنف ِتهم منها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫نظرا لنفور العرب‬
‫ُ‬
‫لقد اعتبرت صناعة األسلحة من أهم الصناعاتِ في زمن الرسول !‪ ،‬وكانت‬
‫َ َ ْ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫خاصا بهذه الصناعة‪ ،‬إذ إن الجهاد ونش َر اإلسالم‬ ‫اهتماما‬ ‫اإلدارة النبوية قد اهتمت‬
‫بي ! بالسالح وإعداده‪.‬‬ ‫خاصا من الن ّ ّ‬ ‫ًّ‬ ‫يحتاج إلى القوة والسالح؛ لذا نجد اهتماما‬
‫َّ‬ ‫كانت توجيهات الن ّ ّ‬
‫إتقان‬
‫ِ‬ ‫بي ! للمسلمين لصناعة األسلحة تقوم على حثهم على‬
‫َ‬
‫صانعه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بي !‪> :‬إن اهلل يدخل الثالثة بالسهم الواحد الجنة‪،‬‬ ‫هذه الصناعة‪ ،‬فقال الن ّ ّ‬
‫والرامي به< (‪.)3‬‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫والممد به‪،‬‬ ‫يحتسب في صنعه الخير‪،‬‬
‫َْ‬
‫إلي من أن تركبوا<(‪ .)4‬وقال‪> :‬من ترك‬ ‫َّ‬ ‫أحب‬
‫ُّ‬ ‫ترموا‬ ‫ن‬ ‫وقال‪> :‬ارموا واركبوا‪ ،‬وأَل‬

‫((( ياقوت الحموي‪ ،‬معجم (ج ‪ ،3‬ص ‪.)327 ،236‬‬


‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( العمري‪ ،‬الحرف والصناعات (ص ‪.)231‬‬


‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪)2513‬؛ وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)17300‬وغيرهم‪ ،‬وقال مخرجوه‪:‬‬
‫< حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده >‪.‬‬
‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ )2513‬وفيه هذه الزيادة ثم أخرجه (‪ )2514‬بلفظ >أال إن القوة‬
‫الرمي‪ ،<...‬قال األلباني‪ < :‬صحيح >‪.‬‬
‫‪262‬‬

‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫الرمي بعدما عُل َمه رغبة عنه‪ ،‬فإنها نعمة تركها ـ أو ـ قال‪ :‬كف َرها<(‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫القوس‬ ‫>بهذا‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫الرماح‪،‬‬ ‫صناعة‬ ‫على‬ ‫وحفزهم‬ ‫المسلمين‬ ‫!‬ ‫وقد وجه الن ّ ُّ‬
‫بي‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫وينصركم على عدوكم< وقال‪> :‬ما سبقها‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وبرماح القنا‪ ،‬يمكن اهلل لكم في البالد‪،‬‬
‫ّ‬
‫ـ أي الرماح ـ سالح إلى خير قط<‪ ،‬وقد حث الرسول ! على المحافظة عليه‪،‬‬
‫وإجادته‪ ،‬حتى في غير أوقات الحرب فقال‪> :‬ستفتح لكم األرض وتكفوا المؤونة‪،‬‬
‫ُ‬

‫بأسه ِمه<(‪.)2‬‬‫ُ‬ ‫أحدكم أن َ‬ ‫ُ‬


‫يلهو‬ ‫فال يعجز‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والخناجر‪ ،‬وكان الصحابة يشحذون سيوفهم‬ ‫السيوف‬ ‫صناعة‬ ‫واشتهرت‬
‫ِ َ‬ ‫ّ‬
‫بالحجارة(‪ ،)3‬في حين استعمل الن ُّ‬
‫بي ! الدبابة في الهجوم‪ ،‬وأرسل اثنين من الصحابة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫إلى جرش؛ لكي يتعلموا صناعة الدباباتِ ‪ ،‬وبالفعل استطاع هؤالء صناعة ِ‬
‫أول‬ ‫(‪)4‬‬

‫الطائف(‪.)5‬‬ ‫حصار‬ ‫في‬ ‫بي‬‫دبابة؛ فاستعملها الن ّ ُّ‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫!‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫>الحدادة<‪ ،‬فقد‬ ‫ِ‬ ‫ومن الصناعات المشهورة في زمن الرسول ! صناعة‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كثرة الحدادين‬
‫ِ‬ ‫خباب‪ ‬بن األرت يعمل حدادا في مكة(‪ ،)6‬ومما يدل على‬ ‫كان‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫في هذه الفترة أن الن ّ‬
‫خيبر أحضر معه منها ثالثين حدادا‪ ،‬وكان‬ ‫بي ! لما فتح‬
‫هؤالء يقومون بصناعة ما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية(‪.)7‬‬

‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪)2513‬؛ وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ )1919‬بلفظ >فليس منا‪ ،‬أو قد‬
‫عصى)‪.‬‬
‫((( السخاوي‪ ،‬القول التام‪ ،‬ورقة (‪.)16‬‬
‫((( الصالحي الشامي‪ ،‬سبل الهدى والرشاد (ج ‪ ،4‬ص ‪.)286‬‬
‫((( هما عروة‪ ‬بن مسعود وغيالن‪ ‬بن سلمة‪ ،‬هما من أشراف ثقيف‪ .‬انظر‪ :‬ابن حجر‪ ،‬اإلصابة‬
‫(ج ‪ ،2‬ص ‪( ،)476‬ج ‪ ،3‬ص ‪.)189‬‬
‫((( الطبري‪ ،‬تاريخ (ج ‪ ،3‬ص ‪.)132‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2091‬‬
‫((( السهيلي‪ ،‬الروض األنف (ج ‪ ،3‬ص ‪.)197‬‬
‫‪263‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬
‫مناجم المعادن الموجودة‬ ‫ِ‬ ‫بعض‬ ‫استغالل‬ ‫الرسالة‬ ‫فترة‬ ‫في‬ ‫الدولة‬ ‫حاولت‬
‫َ‬ ‫بالل َ‬ ‫َ‬ ‫في الجزيرة العربية‪ ،‬فقد أقطع الن ّ ُّ‬
‫‪ ‬بن الحارث المزني معادن القبيلة‪،‬‬ ‫بي !‬
‫ٌ‬
‫وهي من أعمال الفرع بالمدينة‪ ،‬وكتب له بذلك كتابا(‪ ،)1‬وهناك إشارة توضح‬
‫َ‬ ‫معدن >األحسن< َ‬ ‫َ‬ ‫أن الن ّ ّ‬
‫قرب المدينة‪ ،‬و>بحران< بعض القبائل من أجل‬ ‫بي ! أقطع‬
‫استغاللها وإفادة الدولة منها(‪.)2‬‬
‫ُ‬
‫واشتهرت أيضا في المدينة صناعة >الخواصة<‪ ،‬وهي‪ :‬نسج بعض األدوات‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫واألثاث من خوص النخيل‪ ،‬وقد تعل َم سلمان هذه المهنة‪ ،‬واتخذها حرفة يأكل‬
‫منها(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫اجملتمع اإلسالمي بدأ يتجه‬ ‫وظهرت مهنة >الخياطة< بشكل كبير‪ ،‬ذلك بأن‬
‫ٌ‬
‫إلى االستقرار الحضري‪ ،‬وهذه مرتبطة بشكل كبير بأهلِ الحضر‪ ،‬يتضح هذا‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫من قول ابن خلدون‪ < :‬وهذه الصناعة مختصة بالعمران الحضري؛ ألن أهل البدو‬
‫ُ‬
‫وتقديرها‪،‬‬ ‫األثواب اشتمااًل‪ ،‬وإنما تفصيل الثياب‬ ‫َ‬ ‫يستغنون عنها‪ ،‬وإنما يشتملون‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫وفنونها > (‪.)4‬‬
‫ِ‬ ‫الحضارة‬
‫ِ‬ ‫مذاهب‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫باس‬ ‫ل‬ ‫وإلحامها بالخياطة ِل‬
‫البخاري وضع بابًا‬
‫َّ‬ ‫يشير إلى وجود هذه المهنة في زمن الرسول ! أن‬ ‫ُ‬ ‫ومما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في صحيحه سماه >باب الخياط<(‪ ،)5‬وذكر حديثا جاء فيه‪ :‬أن خياطا دعا الرسول‬
‫! لطعام صنعه‪ ،‬فقال أنس‪ ‬بن مالك‪ :‬فذهبت مع رسول اهلل إلى ذلك الطعام(‪.)6‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫استجابة الن ّ ّ‬
‫المهنة‬
‫ِ‬ ‫االحتقار لمثل هذه‬
‫ِ‬ ‫إلزالة‬ ‫ضرورية‬ ‫كانت‬ ‫!‬ ‫بي‬ ‫ويبدو أن‬
‫العرب المسلمين‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫في نفوس‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( أبو عبيد‪ ،‬األموال (ص ‪.)398‬‬


‫((( ياقوت‪ ،‬معجم (ج ‪ ،1‬ص ‪.)341 ،112‬‬
‫‪ ،2‬ص ‪ ((( .)635‬ابن خلدون‪ ،‬المقدمة (ص ‪.)411‬‬
‫ ‬
‫((( ابن عبد‪ ‬البر‪ ،‬االستيعاب (ج‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2092‬‬ ‫ ‬
‫(‪.)380/4‬‬ ‫((( صحيح البخاري مع الفتح‬
‫‪264‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫وتتطور ـ ال سيما األسلحة ـ بتوجيه من اإلدارة‬ ‫الصناعات‬ ‫لقد كانت تقوم هذه‬
‫بي ! من خالل توجيهاته‬ ‫الهدف الذي أراده الن ّ ُّ‬
‫ُ‬ ‫النبوية وإشرافها المباشر‪ ،‬وكان‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وتشجيعه للصناعة‪ ،‬أن تصل األمة إلى درجة من االكتفاء الذاتي‪ ،‬ال سيما‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كاألسلحة‬
‫ِ‬ ‫في الصناعاتِ االستراتيجية للدولة‪،‬‬
‫ويمكن القول‪ :‬إن التنظيماتِ في اجملاالت االقتصادية تطورت‪ ،‬بحيث أصبحت‬
‫ُ ِّ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫فرتبت‬ ‫بعض المخالفات والجرائمِ والعالقاتِ االجتماعية تعالج بطريقة اقتصادية‪،‬‬
‫ُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الم ُ‬
‫هور على الزواج(‪ ،)1‬وجعل ألهل القتيل ِديَة في حالة القتل الخطأ(‪ ،)2‬وج ِعل‬
‫حق التعويض عن الضرر الذي أصابه‪ ،‬إلى غير‬ ‫للمتضرر في جسمه وأعضائه ُّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ذلك من التوجيهات التي تنظم عالقاتِ الناس وحياتهم‪.‬‬
‫الرتغيب يف العمل ومكافحة البطالة‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫لقد رسخ سيدنا محمد ! في اجملتمع بتعاليمه المتنوعة ِق َي ًما اجتماعية‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬
‫جليلة‪ ،‬كاإلنتاجية والعمل‪ ،‬وبُ‬ ‫ً‬
‫ب‬
‫ِ‬ ‫التكس‬ ‫وحب‬ ‫‪،‬‬ ‫والبطالة‬
‫ِ‬ ‫العطالة‬
‫ِ‬ ‫غض‬
‫ُ ِ‬ ‫وتنموية‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫من عرق الجبين‪ ،‬فكان رسول اهلل ! يمقت أن يرى الرجل ال شغل له‪ ،‬وقد فضل‬
‫َّ‬
‫العاكف في المسجد‪ ،‬بل عَد‬ ‫ِ‬ ‫العابد‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ثواب العامل من أجل لقمة العيش على‬ ‫!‬
‫وبطون أهله من الحالل‪ ،‬كالخارج في سبيل اهلل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫إطعام بطنه‬
‫ِ‬ ‫الساعي على‬
‫وجهه من سؤال‬ ‫أكثر من موضع يحبذ لكل مسلم فقير أن يحفظ ماءَ‬
‫ونراه في َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫يتكسب من ِّ‬ ‫َ‬
‫أي وسيلة مشروعة‪،‬‬ ‫الناس‪ ،‬ويرشده إلى أن األفضل له أن يخرج‬
‫ولو في جمع الحطب‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬
‫منفرا من البطالة ـ ‪> :‬أَلن يأخذ أحدكم أحبُله‪،‬‬ ‫ً‬
‫مشجعا على العمل ً‬ ‫فقال ! ـ‬

‫((( قال تعالى‪َ { :‬و َءاتُوا ٱلن ِ َسا َء َص ُدقٰت ِ ِه َّن نحِلة ۚ} [النساء‪.]4 :‬‬
‫ۡ َٗ‬ ‫َ‬ ‫ْ ّ ٓ‬
‫َ‬
‫((( قال تعالى‪َ { :‬و َما كن ل ُِم ۡؤم ٍِن أن َيق ُتل ُم ۡؤم ًِنا} [النساء‪ .]92 :‬وانظر‪ :‬الشافعي‪ ،‬األم (ج ‪،6‬‬
‫ۡ َ‬ ‫اَ َ‬

‫ص ‪.)105‬‬
‫‪265‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫َ‬ ‫وجهه؛ ٌ‬ ‫فيكف اهللُ بها َ‬ ‫فيأتي بحزمة الحطب على ظهره؛ َ‬ ‫َ‬
‫خير له من أن يسأل‬ ‫َّ‬ ‫فيبيعها‬
‫منعوه<(‪.)1‬‬
‫أعطوه أم ُ‬ ‫َ‬
‫الناس‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فبيّ َن الحديث أن مهنة االحتطاب على ما فيها من مشقة‪ ،‬وما يحوطها‬
‫ّ‬ ‫رج ٰى منها من ربح ضئيل‪ٌ ،‬‬ ‫من نظرات االزدراء‪ ،‬وما ي ُ َ‬
‫الناس(‪.)2‬‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫وتكف‬ ‫البطالة‬ ‫من‬ ‫خير‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬
‫َ‬ ‫ٍّ‬
‫عمل‪،‬‬
‫ٍُ‬ ‫فرصة‬ ‫فقير؛ بحيث يوفر له !‬ ‫ٍ‬ ‫لشاب‬ ‫كما نجده ! يفكر ويخطط‬
‫ّ‬
‫ب منها‪ ،‬فعن أنس‪ ‬بن مالك‪ :‬أن رجاًل من األنصار أتى الن َّ‬ ‫ّ‬
‫يتكس ُ‬
‫بي ! يسأله‬
‫بعضه ونبسط‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫نلبس‬ ‫س‬‫(الصدقة)‪ ،‬فقال‪> :‬أما في بيتك شيء؟< قال‪ :‬بلى‪ ،‬ح ْل ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫نشرب فيه من الماء‪.‬‬‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وقعب‬ ‫بعضه‪،‬‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫قال‪> :‬ائتني بهما<‪ ،‬قال‪ :‬فأتاه بهما‪ ،‬فأخذهما رسول اهلل ! بيده‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫آخذهما بد ْر َهم‪ .‬قال‪َ :‬‬ ‫ُ‬
‫>من يزيد على درهم؟<‬ ‫>من يشتري هذين؟< قال‪ :‬رجل أنا‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مرتين أو ثالثا‪ .‬قال رجل‪> :‬أنا آخذهما بدرهمين<‪ .‬فأعطاهما إياه‪ ،‬وأخذ الدرهمين‬
‫فأعطاهما األنصاري‪.‬‬
‫وما فأتني به<‬ ‫وقال‪> :‬اشتر بأحدهما‬
‫قد ً‬ ‫َ ّ‬ ‫ً‬
‫طعاما فانبذه إلى أهلك‪ ،‬واشتر باآلخ ِر‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وب ْع‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فاحتطب‪،‬‬ ‫>اذهب‬ ‫له‪:‬‬ ‫قال‬ ‫ثم‬ ‫بيده‪،‬‬ ‫ا‬ ‫عود‬ ‫!‬ ‫اهلل‬ ‫رسول‬ ‫فأتاه به‪ .‬فشد فيه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يوما<‪.‬‬
‫عشر ً‬ ‫َ‬ ‫وال أ َريَنَّك خمسة‬
‫َ‬
‫دراهم‪ ،‬فاشترى ببعضها‬ ‫فذهب الرجل يحتطب ويبيع‪ ،‬فجاء وقد أصاب عشرة‬
‫طعاما‪ .‬فقال رسول اهلل !‪> :‬هذا خير لك من أن تجيء المسألة‬ ‫ً‬ ‫ثوبًا‪ ،‬وببعضها‬
‫ً‬
‫دقع (الفقر‬
‫ٍ‬ ‫م‬ ‫ٍ‬
‫نكتة في وجهك َ‬
‫يوم القيامة‪ .‬إن المسألة ال تصلح إال لثالثة‪ :‬لذي فقر ُ‬
‫ِ‬
‫موجع<(‪.)3‬‬ ‫الشديد)‪،‬‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫ٍ‬ ‫دم‬ ‫لذي‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬ ‫مفظع‬


‫ٍ‬ ‫غرم‬ ‫لذي‬ ‫أو‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)1471‬‬


‫((( يوسف القرضاوي‪ :‬مشكلة الفقر وكيف عالجها اإلسالم‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫ّ‬
‫وضعفه األلباني‪.‬‬ ‫((( رواه أبو داود‪ ،‬برقم ‪،1641‬‬
‫‪266‬‬

‫ف أَ ۡم َوٰلِه ۡم َح ّ ‪ٞ‬ق َّم ۡعلُوم‪ٞ‬‬ ‫والعاطل عن العمل له حق الكفاية من مال الزكاة ﴿ َو ذَّٱل َ‬
‫ِين يِ ٓ‬
‫ِ‬
‫وم﴾ [ا �ل���م�ع�ا ر ج�‪ ]25-24 :‬قال القرطبي‪ < :‬المحروم الذي حرم المال‪،‬‬
‫ۡ‬ ‫ّ َّ ٓ‬
‫ِلسائ ِ ِل َوٱل َم ۡح ُر ِ‬ ‫‪ ٢٤‬ل‬
‫واختلف في تعيينه‪.‬‬
‫ف الذي ليس‬ ‫المحار ُ‬
‫َ‬ ‫فقال ابن عباس وسعيد‪ ‬بن المسيب وغيرهما‪ ،‬المحروم‪:‬‬
‫له في اإلسالم سهم‪.‬‬
‫حار ُ‬ ‫ُ‬
‫ف الذي ال يتيسر له مكسبُ ُه > (‪ )1‬أي العاطل‬ ‫المحروم ُ‬
‫الم َ‬ ‫وقالت عائشة ‪:I‬‬
‫عن العمل‪.‬‬
‫َّ‬
‫واإلخفاق عن التكسب‪،‬‬‫ِ‬ ‫البطالة‪،‬‬ ‫مظاهر‬ ‫كل‬ ‫هذا‪ ،‬ولقد حارب سيدنا محمد !‬
‫بي !‬ ‫كل باب أمام انتشار الفقر في اجملتمع‪ ،‬فلقد حرم الن ّ ّ‬ ‫َّ َّ‬
‫بشتى الطرق‪ ،‬ليسد‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫والحاجة إلى الكسب لقوته وقوت َمن يعوله‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫البطالة مع القدرة على العمل‪،‬‬
‫ّ‬
‫تقسي‬
‫ُ‬
‫بي !‪> :‬إن اهلل يكره الرجل البطال<‪> ،‬والبطالة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وفي هذا يقول الن ّ ّ‬
‫القلب<(‪.)2‬‬
‫َ‬

‫ُ‬
‫التمريض وعالج املرضى‪:‬‬
‫َ‬
‫فهي من الخدمات المساعدة الضرورية في المعارك‪ ،‬وقد قامت المرأة بدور‬
‫كبير في هذا اجملال‪ ،‬وذلك بسقاية الجرحى وإعانتهم وتمريضهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الواقدي أن فاطمة ّ‬
‫ُّ‬
‫ضمدت جراح الرسول ! في أح ٍد(‪ ،)3‬وعندما سار‬ ‫يذكر‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫األسلمية بالخروج معه لتكون من جملة واجباتها مداواة‬
‫ِ‬ ‫سنان‬
‫ٍ‬ ‫خيبر أذن ألم‬ ‫إلى‬
‫الجرحى(‪ ،)4‬وقد ضربت لها خيمة لهذا الغرض ‪.‬‬‫ٰ‬

‫((( الجامع ألحكام القرآن ‪.38/17‬‬


‫((( رواه القضاعي‪ ،‬في مسند الشهاب من حديث عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن عمرو‪ ،‬برقم ‪.278‬‬
‫((( الواقدي‪ ،‬المغازي (ج ‪ ،1‬ص ‪.)249‬‬
‫((( ابن سعد‪ ،‬الطبقات (ج ‪ ،2‬ص ‪.)292‬‬
‫‪267‬‬ ‫الرسول والقائد‬ ‫الفصل الثالث محمد ‪Z‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نسوة من بني غفار‪،‬‬‫ٍ‬ ‫وفي الغزوة ذاتها جاءت أمية بنت قيس الغفارية في‬
‫َ‬
‫فقالت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا نداوي الجرحى‪،‬‬
‫ونعين المسلمين ما استطعنا‪ ،‬فقال لها‪> :‬على بركة اهلل<(‪.)1‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫األسلمية خيمة في مسجد رسول اهلل تداوي‬‫ِ‬ ‫وفي غزوة الخندق كان لرفيدة‬
‫الجرحى‪ ،‬فلما جرح سعد قال الرسول !‪> :‬اجعلوه في خيمة رفيدة<(‪. )2‬‬
‫ُ‬
‫الربيع بنت‬ ‫َ‬
‫لتقوم بعملية التمريض(‪ ،)3‬وذكرت‬ ‫وفي غزوة حنين خرجت النساء‬
‫ُ‬
‫معوذ‪ :‬أن من األعمال التي قامت بها النساء عند خروجهن مع رسول اهلل مداواة‬
‫الجرحى(‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وذكر الشيباني‪ :‬أن َّ‬
‫لتقوم على المرضى‬ ‫أم عطية كانت تغزو مع الرسول !‬
‫وتداوي الجرحى(‪.)5‬‬
‫ُ ُ‬
‫أنس‪ ‬بن مالك‪ :‬أن الرسول ! كان يغزو بأم سلمة ونسوة من األنصار‬ ‫وذكر‬
‫معه إذا غزا يسقين الماءَ ويداوين الجرحى(‪.)6‬‬

‫((( محمد عزة دروزة‪ ،‬الجهاد في سبيل اهلل في القران‪( ،‬ص ‪.)101‬‬
‫((( ابن هشام‪ ،‬السيرة (م ‪ ،2‬ص ‪.)239‬‬
‫محمد ‪ Z‬الرسول والقائد‬

‫((( الكاندهلوي‪ ،‬حياة الصحابة (ج ‪ ،1‬ص ‪.)579‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2882‬‬
‫((( أبو داود (‪ ،)2531‬وانظر صحيح البخاري (‪ )2883-2882‬حديث الربيع بنت معوذ‬
‫ً‬
‫في ذلك أيضا‪.‬‬
‫((( الطبري‪ ،‬تاريخ (ج ‪ ،2‬ص ‪.)577‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫وفن القيادة‬ ‫الرسول‬


‫‪271‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫المبحث‬
‫الخصائص القيادية‬ ‫األول‬
‫للرسول ‪Z‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫الدولة‬
‫ِ‬ ‫ال بد أننا نجزم ونؤكد على أن رسولنا الكريم محمدا ! هو رجل‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫سياسيا وعسكريًا‪ .‬وفي كل مرة كان في القمة التي ال يرقى إليها أحد‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫األول‪:‬‬
‫ً‬
‫المبدإ‬
‫ِ‬ ‫ربانية‬ ‫هنا‬ ‫المسألة‬ ‫أن‬ ‫على‬ ‫يدل‬ ‫مما‬ ‫كتابة‪،‬‬ ‫وال‬ ‫قراءة‬ ‫األمي الذي ال يعرف‬
‫والنهاية ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫والطريق‬
‫ِ‬
‫ولنجاح القيادة السياسية ال بد من مؤهالت وسألخصها فيما يلي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫استيعاب هذه القيادة لدعوتها‪ ،‬وثقتها بها وبأحقيتها‪ ،‬وثقتها بانتصارها‪،‬‬ ‫‪PP‬‬
‫ُ‬
‫تناقض سلوك هذه القيادة مع ما تدعو إليه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وعدم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫‪P P‬قدرة القيادة على االستمرار بالدعوة تبليغا وإقناعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وتسييرا وضبطا‪.‬‬ ‫وتنظيما‬ ‫‪P P‬قدرة القيادة في استيعاب المستجيبين للدعوة تربية‬
‫ُ‬
‫‪P P‬وجود الثقة الكاملة بين القيادة وأتباعها‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تستطيع االستفادة‬ ‫‪P P‬قدرة القيادة على التعرف على إمكانية األتباع‪ ،‬وأن‬
‫كل إمكاناتهم العقلية والجسمية أثناءَ‬ ‫ِّ‬
‫الحركة ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫َْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫‪P P‬قدرة القيادة على حل المشكالت الطارئة‪ ،‬بأقل قد ٍر ممكن من التكاليف‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫النظر‪ ،‬مستوعبة للواقع‪.‬‬‫ِ‬ ‫بعيدة‬ ‫القيادة‬ ‫هذه‬ ‫تكون‬ ‫‪P P‬أن‬


‫‪ُ PP‬‬
‫واالستفادة منه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫النصر‪،‬‬ ‫تحقيق‬ ‫على‬ ‫القيادة‬ ‫هذه‬ ‫قدرة‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫قدرة هذه القيادة أن تُحك َم َ‬ ‫‪ُ PP‬‬
‫أمر بناء دولتها إحكاما‪ ،‬يجعلها قادرة‬ ‫ِ‬
‫والنمو على المدى البعيد ‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫على الصمود‬
‫‪272‬‬

‫ً ُ َ‬ ‫ُ‬
‫كمل في هذه الجوانب كلها إلى أعلى درجات الكمال‬ ‫وما عرف التاريخ إنسانا‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫جانب من جوانب كماالته المتعددة‬ ‫كماالته هنا‬
‫ِ‬ ‫أن‬ ‫مالحظة‬
‫ِ‬ ‫غير محمد !‪ ،‬مع‬
‫خالقها‪.‬‬ ‫التي ال يحيط بها ُ‬
‫غير‬
‫ِ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬تلك الجوانب العملية‪ ،‬لنرى براهين ذلك‪:‬‬ ‫سيرة‬ ‫َ‬
‫جوانب‬ ‫ْ‬
‫ولنستعرض‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بنصر اهلل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫‪ 1.1‬ثبا ُته ! على دعوته وثق ُته‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫واضحا ً‬ ‫ُ‬
‫الحقيقي‬ ‫الحاكم‬ ‫تماما‪ ،‬في منطلق دعوته وهو أن‬ ‫لقد كان الرسول !‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يكون َ‬‫َ‬
‫غير اهلل‪ .‬وأن خضوع البشر لغير سلطان اهلل شرك‪ ،‬وأن‬ ‫للبشر ال يجوز أن‬
‫ُ‬ ‫التغيير األساسي الذي ينبغي أن َّ‬ ‫َ‬
‫يتم في العالم هو نقل البشر من خضوعِ بعضهم‬
‫ِّ‬
‫األحد ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الواحد‬
‫ِ‬ ‫لبعض إلى خضوعِ الكل هلل‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫اختار لكم منها‪:‬‬ ‫واألمثلة كثيرة‪ ،‬ولكني سوف‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل ! َ‬
‫أكثر من مرة أن يطرد المستضعفين من المسلمين‬ ‫طالب المشركون‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫موقف رسول اهلل !‬ ‫حتى يجلسوا إليه‪ ،‬وفي كل مرة كان يتنزل قرآن‪ ،‬ويكون‬
‫ُ‬ ‫الرفض‪ ،‬ومن ذلك ما أخرجه أبو نعيم عن ابن مسعود‪ ،‬قال‪َّ :‬‬ ‫َ‬
‫مر المأل من قريش‬
‫وغيرهم من ضعفاء‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وخباب‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وعمار‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وبالل‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫صهيب‪،‬‬ ‫برسول اهلل !‪ ،‬وعنده‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫المسلمين‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا محمد‪ ،‬أرضيت بهؤالء من قومك؟ أهؤالء الذين َمن اهللُ‬
‫َ‬ ‫عليهم من بيننا؟ أنحن نصير ً‬
‫تبعا لهؤالء؟ اطردهم عنك‪ ،‬فلعلك إن طردتهم أن‬
‫َ‬
‫نتبعك! فنزلت هذه اآلية‪﴿ :‬ول تطردِ ٱلِين يدعون ربهم بِٱلغدوة ِ وٱلع يِ ِ‬
‫َۡ َ ٰ َ َۡ ّ ُ ُ َ‬
‫يدون‬ ‫ش ي ِر‬ ‫َ اَ َ ۡ ُ ذَّ َ َ ۡ ُ َ َ َّ ُ‬
‫َ ُ َ ُ َ‬ ‫ّ يَ ۡ َ َ ۡ َ َ َ َ ۡ ّ يَ ۡ َ‬ ‫َ َ‬
‫شءٖ ف َت ۡط ُرده ۡم ف َتكون‬ ‫َو ۡج َه ُه ۖۥ َما َعل ۡيك م ِۡن ح َِساب ِ ِهم مِن شءٖ وما مِن حِسابِك علي ِهم مِن‬
‫أ‬
‫ني﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.)1(]52 :‬‬
‫َ َّ‬
‫ٱلظٰلِم َ‬
‫ِ‬ ‫مِن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ‬
‫الناس يعتبرون العمل السياسي اإلسالمي عماًل‬ ‫تعلم أن‬ ‫وبذلك يكفيك أن‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مثاليا ال يستطيعه ُّ‬
‫ً‬
‫إنسان‪ ،‬فإذا ما عرفنا بعد ذلك‪ ،‬أن الرسول ! استطاع‬
‫ٍ‬ ‫أي‬

‫((( عمدة التفسير (‪.)776/1‬‬


‫‪273‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫َ‬ ‫ض فيه َ‬‫ناق َ‬‫ً َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫نفسه‪ ،‬أو مبادئ‬ ‫أن يقود الناس بهذا اإلسالم ـ دون أن نجد له موقفا‬
‫َ‬ ‫دعوته قواًل أو عماًل‪ ،‬وهو ما ال يسلم منه ُّ‬
‫أي زعيم سياسي ـ أدركت مدى الكمال‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬
‫في القيادة المحمدية ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫أخص إذا عرفت أنه لم يستطع أن يرتفع من حكام األمة اإلسالمية‬ ‫وبشكل‬
‫ٌ‬
‫إلى القيادة باإلسالم الكامل بحق‪ ،‬إال أفراد‪ ،‬منهم‪ :‬الخلفاء ُ الراشدون األربعة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫باإلسالم إلى مستوى‬
‫ِ‬ ‫ينزل‬ ‫ولم‬ ‫باإلسالم‪،‬‬ ‫الناس‬ ‫ساس‬ ‫فقد‬ ‫اهلل‬ ‫رسول‬ ‫أما‬
‫َ‬
‫!‬
‫واحد‪ ،‬في الفكر‬ ‫سق‬ ‫َ‬ ‫الناس‪ ،‬بل َ‬
‫ٍ‬ ‫واحدة‪ ،‬ون ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وتيرة‬
‫ٍ‬ ‫الناس إلى مستواه‪ ،‬على‬ ‫رفع‬ ‫ِ‬
‫والعمل‪.‬‬
‫واحلرص على التبليغ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫‪ 2.2‬اإلصرا ُر على الدعو ِة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ودعوة‬
‫ِ‬ ‫لقد استفرغ رسول ! جهده في هذا المرحلة في تبليغ ما أنزل إليه‪،‬‬
‫ُ‬
‫الناس إلى دين اهلل‪ ،‬وقد تميزت هذه المرحلة بأمرين‪:‬‬
‫الحرص على استمرار الدعوة والتبليغ ومحاولة اإلقناع بالحجة‬ ‫أ‬
‫والبرهان‪.‬‬
‫التصرف الحكيم المتبصر إزاء الخصوم‪.‬‬ ‫ب‬
‫استمرار التبليغ واإلقناع‪،‬‬ ‫عملية‬ ‫َ‬
‫تأمين‬ ‫أي دعوة من الدعوات‪ ،‬إذا لم تستطع‬ ‫إن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الموقف‬ ‫دعوة من الدعوات‪ ،‬ال تتخذ‬ ‫ٍ‬ ‫وأي‬ ‫‪.‬‬ ‫تموت‬ ‫ثم‬ ‫تضمحل‬ ‫ثم‬ ‫تجمد‬ ‫فإنها‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ضرب ضربة ساحقة ثم تزول ‪.‬‬ ‫المناسب من الخصم ت‬
‫عندما ندرس هذين الجانبين في العمل‪ ،‬عند رسول اهلل !‪ ،‬نجد أنه !‬
‫ّ‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫ب الجزيرة العربية كلها عليه‪ ،‬ورغم العداء العنيف الذي‬ ‫ِ‬ ‫تأل‬ ‫قد نجح فيهما‪ .‬فرغم‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ُْ‬
‫وو ِج َه به‪ ،‬ورغم كل شئ فإن عملية التبليغ لم تنقطع لحظة من اللحظاتِ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يصبر‬ ‫مواقفه تجاه العدو‪ ،‬فهو في مكة‬ ‫ِ‬ ‫حكمة‬ ‫أما لألمر الثاني‪ ،‬فأنت تالحظ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ويأمر أتباعَه بالصبر‪ ،‬ولم يأمر بقتالهم‪ ،‬ولو فعل ذلك لخ ِس َر أتباعَه قتاًل‪ ،‬ولش ِغل‬
‫ُ‬
‫‪274‬‬

‫َ‬
‫يتابع عملية التبليغ‪ .‬فكسب بهذه الخطة ً‬
‫كثيرا‬ ‫بذلك في قضايا الثأر‪ ،‬ولما أمكنَه أن‬
‫من القلوب‪.‬‬
‫مواقفه على حسب الظروف الجديدة‪:‬‬
‫ِ‬ ‫فإذا ما انتقل إلى المدينة‪ ،‬رأيت تجدد‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫من معاهدة‪ ،‬إلى سالم‪ ،‬إلى حرب‪ ،‬إلى ضربة هنا ووثبة هناك‪ .‬ولكن هذا كله‬
‫ً‬
‫لم يؤثر بتاتا على عملية تبليغ الحق‪ ،‬وإقناع الناس به على كل مستوى‪ ،‬وبكل‬
‫وسيلة مالئمة(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫وخالصة القول‪ :‬ال توجد حركة سياسية تقوم على أساس عقدي‪ ،‬نجحت كما‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫نجحت دعوة رسول اهلل ! وفي فترة قصيرة‪ ،‬وهذا يدلنا على أن األمر لن يتحقق‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫اإللهي ـ لهذا الرسول األعظم الفذ على مدى التاريخ بين الرجال‪.‬‬ ‫التوفيق‬ ‫ـ لوال‬
‫ريا ورعاية‪:‬‬
‫وتنظيما وتسي ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تربية‬ ‫‪3 .3‬قدرته ! على استيعاب أتباعه‪،‬‬
‫إن الدعوة إلى اهلل قد يعاني أتباعُها‪ ،‬بسبب القائمين عليها‪ ،‬من نواح ثالث‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الناس قدوة حسنة‬ ‫العجز عن تربية أتباعها تربية نموذجية‪ ،‬بحيث يراهم‬
‫ِ‬ ‫أ‬
‫ً‬
‫عنها‪ ،‬مما يؤدي إلى نفور الناس منها‪ ،‬تبعا لنفورهم من أصحابها‪،‬‬
‫ً‬
‫فيكون التابع حجة على الدعوة‪ ،‬بداًل من أن يكون حجة لها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫الناس‬ ‫وعلى العكسِ من ذلك إذا ما ُربِّي أفرادها تربية نموذجية حية‪ ،‬فإن‬
‫ينجذبون إليهم قبل إيمانهم بدعوتهم‪ ،‬ويحبونهم قبل أن يعرفوا ما يَدينون به‪ ،‬وكم‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫رجال تضررت دعوتهم بسلوكهم‪ ،‬مع أنهم يحملون دعوة عظيمة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫طاقاتهم‬
‫ِ‬
‫سخ َ‬
‫ر‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫الدعوة‬ ‫هذه‬ ‫تستطيع‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫أن يٌقبل على الدعوة م‬ ‫ب‬
‫ُ‬
‫الدعوة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫في سبيلها‪ .‬وأمثال هؤالء يكونون في وضع العطالة‪ ،‬فهم مع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫ومع ذلك ال يقدمون شيئا لها‪ ،‬بل يصبحون عبئا عليها‪.‬‬

‫((( البوطي‪:‬السيرة (‪.)221‬‬


‫‪275‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ْ ُ‬ ‫ُّ‬
‫يحس األتباع بالرعاية واالهتمام‪ ،‬وعندما ال يوضعون‬ ‫عندما ال‬ ‫جـ‬
‫ُّ‬
‫في المكان المناسب‪ ،‬أو عندما يحسون بأنهم منسيِّون‪ ،‬أو حين‬
‫كل ذلك ُ‬ ‫َ‬
‫مهمته‪ُّ ،‬‬ ‫َ ُ‬
‫نفسية األتباع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫يؤثر على‬ ‫يهمل اإلنسان أوال يعرف‬
‫ويولد عندهم ً‬
‫فتورا عن الدعوة(‪.)1‬‬

‫الجوانب الثالث ال بد من تالفيها ألي دعوة تقوم على أساس مبدإ معين‪،‬‬‫ُ‬ ‫هذه‬
‫ير الدعوة ويقتلها‪.‬‬ ‫وعدم تالفيها يعطل َس َ‬

‫بي ! نجد أنه يتجنبها‪ ،‬وتجد ما يقابلها بشكل ال مثيل‬‫ومن دراستنا لحياة الن ّ ّ‬
‫ُ‬
‫له‪ ،‬بحيث ال تستغرب بعد كيف انتصرت هذه الدعوة‪ ،‬وهذه الجماعة‪ ،‬وكيف‬
‫توسعت على ِّ‬
‫مر األيام‪.‬‬
‫فنجدها استوعبت‪:‬‬
‫َ‬
‫‪P P‬في الجانب األول‪ :‬تربية الرسول !‪ ،‬والتي شملت األمة اإلسالمية في وقته‪.‬‬
‫ِّ‬
‫للدين‪ ،‬واإلقبال عليه ً‬ ‫َ‬
‫علما وعماًل‪.‬‬ ‫‪P P‬في الجانب الثاني‪ :‬استجابة أتباعه‬
‫حرص الرسول ! على رعاية أتباعه‪ ،‬والعناية بهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫‪P P‬في الجانب الثالث‪:‬‬
‫ُّ‬
‫أحق بالتمثيل‪:‬‬ ‫والسهر على شؤونهم بما ال نظير له‪ ،‬ولعل هذا الجانب‬
‫َ‬
‫إسحاق عن ِّ‬
‫أم سلمة أنها قالت‪ :‬لما ضاقت مكة وأوذي أصحاب‬ ‫أخرج ابن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل‪ ،‬وفتنوا‪ ،‬ورأوا ما يصيبُهم من البالء والفتنة في دينهم‪ ،‬وأن رسول اهلل‬
‫عمه‪،‬‬ ‫! ال يستطيع دفع ذلك عنهم‪ ،‬وكان رسول اهلل في منعة من قومه ومن ّ‬
‫ٍ‬
‫شئ مما يكره‪ ،‬ومما ينال أصحابه‪ ،‬فقال لهم رسول اهلل !‪> :‬إن‬ ‫ال يصل إليه ٌ‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬


‫ملكا ال يُظلم أحد عنده‪ ،‬فالحقوا ببالده‪ ،‬حتى يجعل اهلل لكم فرجا‬ ‫بأرض الحبشة ِ‬
‫مما أنتم فيه<(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫ومخرجا ّ‬

‫((( عماد الدين خليل‪ ،‬دراسة في السيرة (ص‪.)231‬‬


‫((( السلسلة الصحيحة (‪.)3190‬‬
‫‪276‬‬

‫َّ ً‬ ‫َّ ً‬ ‫وجههم َّ‬ ‫وقد َّ‬


‫ومرة في السنة‬ ‫مرة في السنة الخامسة‪،‬‬ ‫مرتين إلى الحبشة‪:‬‬
‫مرحلة‬ ‫قدمين على أعظم مراحلِ االضطهاد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫السابعة؛ حيث كان المسلمون م ِ‬
‫المقاطعة الشاملة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫واألمثلة كثيرة‪ ،‬وفيها داللة على مبلغ دقة الرسول ! في توجيه أصحابه‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫أنفسهم ويأمنون‪ ،‬وكيف أنه ال يَنسى أحدا منهم‪،‬‬ ‫بالشكل الذي يحمون فيه‬
‫ِّ ُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُّ‬ ‫ً‬
‫المناسبة‪ ،‬وكيف يسير كل‬‫ِ‬ ‫جميعا برعايته‪ ،‬وكيف ي ِعدهم للحظة‬ ‫بل يستوعبهم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ناسب وضعه ‪.‬‬ ‫بحكمة ت‬
‫ٍ‬ ‫واحد منهم‬
‫ٍ‬
‫‪4.4‬ثقة أتباعه به !‪:‬‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫وقائدهم أهمية عظيمة جدا‪ ،‬عند أصحاب الفكر السياسي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الناس‬
‫ِ‬ ‫للثقة بين‬
‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫أنظمة الحكم الديمقراطية أن الحكومة تبقى حاكمة ما دامت متمتعة‬ ‫ِ‬ ‫لذلك ترى في‬
‫ُ‬
‫بحكوماتهم‬
‫ِ‬ ‫بثقة شعبها التي تعرفها ببعض الوسائل‪ ،‬وهذا حال الناس الذين يثقون‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫النواقص‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫ويتعاونون معها‪ ،‬فإنهم يستطيعون بالتالي أن يكملوا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫وتضعف روحها‬ ‫أما إذا فقدت األمة ثقتها في قائدها فقد تتالشى قوتها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫المعنوية‪ ،‬وي ُ‬
‫ضرب اقتصادها‪ ،‬وبالتالي يهوي هذا الحال بها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لذلك كان من ِّ‬
‫القائد السياسي لألمة ثقة األمة به ومحبتها له‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أهم عواملِ قوة‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ َ ِّ ُ َّ‬ ‫ّ‬
‫صلح الخلل‪ ،‬فإذا ما وضح‬ ‫ِ‬ ‫وي‬ ‫‪،‬‬ ‫النقص‬ ‫ويسد‬ ‫النواقص‬ ‫كل‬ ‫ض‬ ‫يعو‬ ‫د‬ ‫ج‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫إذا‬ ‫هذا‬ ‫فإن‬
‫ً‬
‫هذا بشكل عام‪ ،‬نقول‪ :‬إن تاريخ العالم كله ال يعرف مثاًل واحدا يشبه ما كانت‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫عليه ثقة أتباع الرسول ! به‪ .‬إن ثقة الناس بالقائد الرسول كانت ثقة غير متناهية‪،‬‬
‫بعضا من مواقف الصحابة‪ ،‬في أدق وأصعب وأحرج‬ ‫ً‬ ‫يكفي إلدراكها‪ ،‬أن ترى‬
‫األحوال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قال أبو الهيثم‪ ‬بن التيهان‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬وإن بيننا وبين الناس حبااًل (أي‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ترجع إلى قومك وقد ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وحاربنا‬ ‫قطعنا الحبال‬ ‫أحالفا وعهودا) فلعلنا نقطعها‪ ،‬ثم‬
‫الهدم<‪،‬‬
‫َ َ ُ َ َ ُ‬
‫الناس‪ .‬فضحك رسول اهلل ! من قوله‪ ،‬وقال‪> :‬الدم الدم‪ ،‬الهدم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪277‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫وفي رواية‪> :‬بل الدم الدم والهدم الهدم‪ .‬أنا منكم وأنتم مني‪ ،‬أحارب من حاربتم‬
‫َ ُ ًُ‬ ‫ُ ُ‬
‫ُ‬
‫وأسالم من سالمتم<‪.‬‬
‫ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ثم أقبل أبو الهيثم على قومه فقال‪ :‬يا قوم‪ ،‬هذا رسول اهلل ! أشهد إنه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫وعشيرته‪ ،‬فاعلموا‬ ‫ِ‬ ‫قومه‬
‫ِ‬ ‫ظهري‬ ‫وأمنه‪ ،‬وبين‬
‫ِ‬ ‫اليوم في حرم اهلل‬ ‫لصادق‪ ،‬وإنكم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العرب عن قوس واحدة‪ ،‬فإن كانت طابت أنفسكم بالقتال‬ ‫أنه إن تخرجوه رمتكم‬
‫ٍ‬
‫في سبيل اهلل‪ ،‬وذهاب األموال واألوالد‪ ،‬فادعوه إلى أرضكم‪ ،‬فإنه رسول اهلل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حقا‪ ،‬وإن خفتم خذالنا فمن اآلن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫أنفسنا‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫أعطينا‬ ‫وقد‬ ‫يانا‪،‬‬ ‫أعط‬ ‫فقالوا عند ذلك‪ :‬قبلنا عن اهلل وعن رسوله ما‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫الذي سألتنا يا رسول اهلل‪ ،‬فخل بيننا يا أبا الهيثم وبين رسول اهلل فلنبايعه‪ ،‬فقال‬
‫أبو الهيثم‪ :‬أنا أول من بايع(‪.)1‬‬
‫ُّ ُ‬
‫األمثلة كثيرة‪ ،‬وكلها تشعر اإلنسان بمقدار الثقة التي كانت تمأل قلوب هذا‬
‫مخيفة‪.‬‬ ‫آثار‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫الرعيل األول‪ ،‬مع معرفتهم بما سيترتب على هذه البيعة من ٍ‬
‫فاذ ـ بحيث ال‬ ‫والحقيقة‪ :‬إن شخصية الرسول ! كانت ـ من األ َ ْسر والقوة والن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يذوب فيها‪ ،‬إال إذا لم يكن سويًا‪ ،‬ولعل في قصة زيد‪ ‬بن‬ ‫يملك من يخالطها إال أن‬
‫حارثة مولى رسول اهلل ! ما يؤكد هذا المعنى‪.‬‬
‫حرا‪ ،‬خيَّ َره رسول‬ ‫وأعمامه ليشتروه‪ ،‬ويرجعوا به إلى أهله ًّ‬ ‫ُ‬ ‫فعندما جاء أبو زيد‬
‫َ‬
‫اهلل !‪ ،‬فاختار صحبة محمد ! مع العبودية والغربة‪ ،‬على فراقه‪ ،‬وإن كان‬
‫فيه الحرية ولقاء األهل‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫صغير السن‪ ،‬بل كان‬ ‫وهذه ظاهرة عجيبة‪ :‬أن يصارح زيد أهله بهذا‪ ،‬وهو ليس‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫حرره وتبنَّاه(‪.)2‬‬ ‫محمد ! (كان ذلك قبل النبوة) أن َّ‬ ‫ناضج الفكر‪ ،‬فكافأه‬ ‫وقتذاك‬

‫((( ابن هشام‪:‬السيرة (‪.)332/1‬‬


‫((( الرسول القائد (‪.)7/1‬‬
‫‪278‬‬

‫وحسن توظيفها‬
‫ِ‬ ‫واجلسمية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫العقلية‬
‫ِ‬ ‫‪5.5‬االستفاد ُة من إمكانات األتباع‬
‫يف ِّ‬
‫حملها‪:‬‬
‫تظهر في شيء ظهورها في معرفة الرجال‪ ،‬ووضع ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كل‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫القيادة‬
‫ِ‬ ‫عبقرية‬ ‫إن‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫في محله‪ ،‬واستخراج طاقات العقول بالشورى‪ ،‬واستخالص الرأي الصحيح‪.‬‬
‫َ‬ ‫وفي ٍّ‬
‫كل من هذين كان الرسول ! األسوة العليا للبشر‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ ُ‬ ‫إن الشورى في ِّ‬
‫طاقات العقول كلها؛‬ ‫فن السياسة عملية تستجمع فيها‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ويتحم ُل فيها ُّ‬
‫َّ‬
‫ويقتنع‬ ‫كل فرد مسؤولية القرار النهائي‪،‬‬ ‫الستخالص الرأي الصالح‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كل فرد بالنتيجة‪ .‬فيندفع نحو المراد بقوة‪ ،‬وترتفع بها ملك ُ‬ ‫فيها ُّ‬
‫ات الفرد وروح‬
‫اإلنسان فيها على صلة بمشاكل أمته وجماعته‪ ،‬ولذلك جعل اهللُ‬ ‫ُ‬
‫الجماعة‪ .‬ويبقى‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فرد من المسلمين المسؤولية كاملة‬ ‫أمر المسلمين شورى بينهم‪ ،‬حتى يتحمل كل ٍ‬
‫ٌ َ ً‬
‫مهمال‪.‬‬ ‫وال يبقى مسلم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وحرصه‬ ‫والظاهرة التي نراها في حياة الرسول ! كقائد‪ :‬حبُّه للشورى‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫النهاية‪:‬‬
‫ِ‬ ‫األخير في‬ ‫الرأي‬ ‫واستخالصه‬ ‫توسيع دائرتها‪،‬‬ ‫عليها‪ ،‬ومحاولته‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يكتف ثم استشار الناس‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الناس‪ ،‬فأشار المهاجرون‪ ،‬فلم‬ ‫غزوة بدر استشار‬ ‫ِ‬ ‫قبيل‬
‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أحد‪.‬‬
‫فأشار الخزرج واألوس‪ ،‬ثم اتخذ قراره األخير‪ ،‬حتى يمنع أي تردد من ٍ‬
‫ُُ‬ ‫َ‬
‫وقبيل يوم أح ٍد استشار الناس وأخذ برأي األكثرية‪.‬‬
‫ويوم األحزاب أخذ برأي سلمان الفارسي‪.‬‬ ‫َ‬
‫ويوم الحديبية أشارت عليه ُّ‬
‫أم سلمة زوجته فأخذ برأيها‪.‬‬
‫إنها القيادة التي ال تستكبر أن تنزل على رأي مسلم كائنًا َمن كان‪ ،‬ما دام الرأي‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫سليما صحيحا‪ .‬والقيادة الصالحة هي التي تعمم الشورى حتى ال يبقى مع أحد‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫يكون فيه ٌ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫غرم‪.‬‬ ‫رأي إال قاله‪ ،‬وخاصة فيما‬
‫‪279‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ووضع ٍّ‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بالمهم ِة‬ ‫المناسب له‪ ،‬وتكليفه‬
‫ِ‬ ‫كل في محله‬ ‫أما معرفة الرجال‪،‬‬
‫ٌ‬
‫التي يصلح لها‪ ،‬فكذلك ال يلحق برسول اهلل ! أحد فيها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫بالوزيرين له‪،‬‬ ‫وعمر كانا في زمن رسول اهلل ! يلقبهما الصحابة‬ ‫إن أبا بكر‬
‫َ‬
‫يصلي‬ ‫وكان يسمر معهما في قضايا المسلمين‪ ،‬ولما مرض ! أمر أبا بكر أن‬
‫بالناس‪ ،‬وهذا الذي جعل المسلمين يختارونه بعده خليفة ‪.‬‬
‫والناس يعرفون ماذا فعل أبو بكر وعمر يوم‬ ‫ُ‬ ‫عمر الخليفة الثاني‪،‬‬‫ُ‬ ‫ثم كان‬
‫ٌ‬ ‫ُّ‬
‫حكما الناس‪ ،‬فهل يشك أحد أن تركيز الرسول ! على هاتين الشخصيتين كان‬
‫محله‪ ،‬وأنهما من الكفاءة في المحل األعلى‪ ،‬وأن َ‬ ‫ِّ‬
‫رسول اهلل ! فيهما‬ ‫ِ‬ ‫رأي‬ ‫في‬
‫ُ‬
‫في محله‪ .‬وهذان مثالن فقط‪ ،‬وإال فما اختار رسول اهلل ! رجاًل إال ورأيت‬
‫َ‬
‫الحكمة في هذا االختيار(‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫رجال‪ ،‬وكان رسول اهلل ! َ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬ ‫الرجل‬ ‫اختيار‬ ‫في‬ ‫‪،‬‬ ‫فراسة‬ ‫أكثر الخلق‬ ‫لكل مقام‬
‫للمقام المناسب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫المناسب‬
‫الظروف الطارئة‪:‬‬
‫ِ‬ ‫التصرف يف مواجهة‬
‫ِ‬ ‫‪6.6‬قدرته ! على‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كان رسول اهلل ! يتخذ القراراتِ المناسبة عندما يواجه ظروفا طارئة‪ ،‬وكان‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ويرص صفوفه‪ ،‬ويجعله‬ ‫اجملتمع المسلم من االنقسام‬ ‫من شأن ذلك أن يحفظ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مواقفه‬ ‫أقوى ما يكون‪ ،‬واألمثلة على ذلك يطول اجملال بذكرها‪ ،‬ومنها‪ ،‬مثاًل‪:‬‬
‫َ ُ‬
‫حد والخندق‪.‬‬
‫! في حادثة اإلفك‪ ،‬وفي غزوتي أ ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫المشاكل حاًل َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ّ‬
‫مشروع‪ ،‬فتستعمل‬‫ٍ‬ ‫غير‬ ‫تحل‬ ‫القيادات‬ ‫بعض‬ ‫أن‬ ‫وقد يحدث‬
‫فتبيد المعارضين أو تسجنُهم‪ ،‬كما نرى ً‬‫ُ‬
‫كثيرا من هذا في عصرنا‬ ‫القوة مع أتباعها‪،‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫الحاضر‪.‬‬

‫((( ابن هشام‪:‬السيرة (‪.)333/1‬‬


‫‪280‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫إال أن الظاهرة التي ال مثيل لها في تاريخ القيادات العالمية‪ ،‬أنك تجد عند‬
‫بكل ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬
‫يس ٍر‪ ،‬هذا مع سلوك‬ ‫رسول اهلل ! قدرة ال مثيل لها على حل المشاكل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫كثب يدرك كفاءة هذه القيادة‬ ‫ٍ‬ ‫العرب عن‬ ‫الطريق األلطف مع األتباع‪ .‬والذي عرف‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫قدر ممكن من المتاعب‪.‬‬ ‫التي استطاعت أن تشق الطريق بأقل ٍ‬
‫أمة في العالم ُ‬ ‫ٌ‬
‫أكثر مشكالتٍ من األمة العربية‪ ،‬فالعوامل النفسية‬ ‫إنه ال توجد‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫كرامة قد يؤدي‬ ‫ٍ‬ ‫التي تثير المشاكل كثيرة جدا‪ ،‬فكلمة قد تثير حربًا‪ ،‬وجرح‬
‫وقسوة وصالبة‪ ،‬وعدم‬ ‫ٍ‬ ‫وجرأة نادرة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وعصبية عارمة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إلى ويالت‪ ،‬وثارات‪،‬‬
‫منقطعة‬ ‫واحدة من هذه المشكالت تحتاج إلى قيادة‪ ،‬تتمتع بكفاءة‬ ‫ُّ‬
‫وكل‬ ‫انضباط‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يدير َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫القوي‬
‫ِ‬ ‫أمر هذا الشعب‬ ‫النظير‪ ،‬وكان رسول اهلل ! القائد الذي استطاع أن‬
‫ِّ‬ ‫َّ َّ‬
‫مشاكله بكل سهولة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫المراس‪ ،‬ويحل كل‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫وأبرز األمثلة حله لمشكلة وضعِ الحجر األسود قبل النبوة‪ ،‬حين هدمت‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫قريش الكعبة وأعادت بناءَها‪.‬‬
‫َ‬
‫الحجارة لبنائها‪ُّ :‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫كل‬ ‫في رواية ابن إسحاق للحادث قال‪ :‬ثم إن القبائل جمعت‬
‫كل‬ ‫موضع الركن‪ ،‬فاختصموا فيه‪ُّ :‬‬ ‫َ‬ ‫قبيلة تجمع على حدة‪ ،‬ثم بنَوها حتى بلغ البناء ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون األخرى‪ ،‬حتى تحاوزوا وتحالفوا وأعدوا‬ ‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫للقتال‪َّ ،‬‬
‫عدي‪ ‬بن‬ ‫فقربت بنو عبد‪ ‬الدار جفنة مملوءة دما‪ ،‬ثم تعاقدوا هم وبنو‬
‫الدم في تلك الجفنة‪ ،‬فسموا‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬
‫كعب‪ ‬بن لؤي على الموت‪ ،‬وأدخلوا أيديهم في ذلك ِ‬ ‫ِ‬
‫لعقة الدم‪.‬‬
‫خمسا‪ ،‬ثم إنهم اجتمعوا في المسجد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أربع ليال أو‬ ‫فمكثت قريش على ذلك َ‬
‫ُ‬
‫بعض أهل الرواية‪ :‬أن أبا أمية‪ ‬بن المغيرة بن‬ ‫(‪)1‬‬
‫وتشاوروا وتناصفوا‪ ،‬فزعم‬
‫َّ‬
‫عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن عمرو‪ ‬بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلها‪ ،‬قال‪ :‬يا معشر قريش‪،‬‬

‫((( إذ يروي أن المشير على قريش مهشم‪ ‬بن المغيرة‪ ،‬ويكنى أبا حذيفة‪.‬‬
‫‪281‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫َ‬
‫اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه‪ ،‬أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم‬
‫ُ‬
‫فيه‪ ،‬ففعلوا‪ .‬فكان أول داخل عليهم رسول اهلل !‪ ،‬فلما رأوه قالوا‪ :‬هذا األمين‪،‬‬
‫رضينا‪ ،‬هذا محمد‪.‬‬
‫إلي ثوبًا<‪ ،‬فأتي به‪ ،‬فأخذ‬ ‫ّ‬
‫>هلم ّ‬ ‫فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر‪ ،‬قال !‪:‬‬
‫ْ‬
‫الركن فوضعه فيه بيده‪ ،‬ثم قال‪> :‬لتأخذ كلُّ قبيلة بناحية من الثوب‪ ،‬ثم ارفعوا‬
‫جميعا<‪ ،‬ففعلوا‪ .‬حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ثم بني عليه(‪.)1‬‬
‫ً‬
‫ُّ‬
‫والنماذج كثيرة‪ ،‬كلها تبين كيف كان رسول اهلل ! يحل المشكالتِ اليومية‬
‫بسرعة عجيبة فال يبقى لها أي أثر‪ .‬هذه اإلمكانية العجيبة في حل المشكالت جعلت‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫العالم إلى رجل‬ ‫رجاًل كبرناردشو األديب اإلنكليزي المشهور يقول‪ < :‬ما أحوج‬
‫ً‬
‫كمحمد يحل مشاكله‪ ،‬وهو يشرب فنجانا من القهوة > (أي ببساطة)!‪.‬‬
‫ومن قرأ كتب الحديث رأى كثرة المشكالت اليومية والفردية والجماعية التي‬
‫ً‬ ‫كانت تعترض رسول اهلل !‪ ،‬وهو يسوس ً‬
‫شعبا من أعصى شعوب العالم انقيادا‬
‫ً‬
‫وطاعة وسياسة‪ ،‬ومع هذا فما عُرف أن مشكلة مرت عليه إال وحلها بسهولة كاملة‬
‫صور الواقعية‬
‫ِ‬ ‫واستقامة‪ ،‬مع منهج الحق الذي يدعو إليه‪ ،‬والذي يمثل أرقى‬
‫والمثالية بآن واحد‪ ،‬وما كان ذلك ليكون لوال توفيق اهلل ورعايته‪.‬‬
‫نظره ! يف اختاذ القرارات السياسة َّ‬
‫املوفقة‪:‬‬ ‫‪ُ 7.7‬بع ُد ِ‬
‫عد النظر‪ .‬فمثاًل‬ ‫ُ‬
‫إن الدارس لتصرفات رسول اهلل ! يجدها في غاية الحكمة وب ِ‬
‫يرسل كسرى إلى عامله على اليمن (باذان) أن يهيج رسول اهلل‪ ،‬وأن يقبض على‬
‫رسول اهلل ليرسله إلى كسرى‪ ،‬فيرسل باذان رجلين ليقبضا على رسول اهلل‪ ،‬ويأتيا‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫به إلى كسرى‪ ،‬ويأمر باذان أحد الرجلين أن يدرس أحوال رسول اهلل ‪.‬‬
‫يوما دون َر ٍّد عليهم‪،‬‬
‫فلما وصل الرجالن أبقاهم الرسول عنده خمسة عشر ً‬

‫((( أسد الغابة (‪.)10/1‬‬


‫‪282‬‬

‫ُ‬
‫وقتل كسرى في اليوم الخامس عشر فأنبأهم ! بقتل كسرى يوم مقتله وأهدى أحد‬
‫الرجلين منطقة فيها ذهب وفضة وأرسل إلى باذان رسالة مضمونها أنه إن أسلم‬
‫ُ‬
‫أعطاه ما تحت يده‪ ،‬وكان من آثار هذا كله أن خلع باذان والءَه لكسرى وأسلم‬
‫معلنًا والءه لمحمد ! ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫األفق العالي الذي كان ينظر منه‬ ‫إن األمثلة كثيرة جدا‪ ،‬ولكن يبقى أن تدرك‬
‫ً‬ ‫!‪ ،‬وتدرك أن قيادته جزء من صلته باهلل المحيط ً‬
‫علما بكل شيء‪ ،‬فكان مسددا‬
‫ً‬
‫راشدا مهديًا ‪.‬‬
‫‪8.8‬حتقيق النصر واحملافظة على املكاسب‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الهدف في عمل الرسول !‪ ،‬بل كان يتبعه‬ ‫الوصول إلى النصر لم يكن وحده‬
‫دائما تطبيق ما كان العمل من أجله بعد النصر وإحكام البناء‪ ،‬بحيث يكون ً‬
‫قادرا‬ ‫ً‬
‫على الصمود في المستقبل ووضع أسس النمو الدائب المتطور‪ ،‬بحيث تحتفظ‬
‫الدعوة بإمكانية السير عبر العصور‪:‬‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫عشر قرنا‪ ،‬وال زال اإلسالم في انتشار‪،‬‬ ‫لقد مضى على ظهور اإلسالم أربعة‬
‫َ‬
‫أصحاب‬ ‫وال زال يتوسع‪ ،‬رغم كل ما تبذله الدعايات الكافرة من أعدائه‪ ،‬سواء كانوا‬
‫َ‬
‫اإلسالم‪،‬‬ ‫وغير منظمة‪ ،‬فال زال اإلسالم هو‬ ‫دين أو ممن ال دين لهم‪ ،‬بطرق منظمة‬
‫ِ‬
‫األرض‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وال زال ينتشر في بقاع‬
‫َ‬
‫ورغم المالبسات التاريخية التي أوقعت العالم اإلسالمي في قبضة أعدائه‪،‬‬
‫ّ‬
‫ورغم سيطرة األعداء فاإلسالم باق‪ .‬ورغم أن الكافرين استطاعوا أن يهيؤوا ويسخروا‬
‫لعمالئهم من أعداء اإلسالم وسائل الغلبة واالنتصار داخل العالم اإلسالمي فإنهم لم‬
‫يفلحوا فاإلسالم شامخ يتحدى ويقهر‪.‬‬
‫ٌ‬
‫دول‬ ‫دول تحكم باسم اإلسالم‪ ،‬وقامت‬ ‫ٌ‬ ‫وخالل هذا التاريخ الطويل سقطت‬
‫تحمل اإلسالم‪ ،‬واستوعب اإلسالم الجميع‪ .‬وفي كل مرة كان اإلسالم محمواًل‬
‫‪283‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ّ‬ ‫َّ‬
‫حق الحمل كان أصحابه هم الغالبين‪ ،‬وحضارته أرقى الحضارات‪ ،‬وما ذل‬
‫المسلمون إال من تقصيرهم وتفريطهم وجهلهم باإلسالم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كانت القرون الوسطى عند األوروبيين قمة التأخر‪ ،‬والقرون الوسطى عندنا‬
‫َ‬
‫قمة التقدم‪ ،‬وكانوا يومها متمسكين بدينهم‪ ،‬وكنا ال زلنا متمسكين بديننا ومن‬
‫هنا مفرق الطريق‪ ،‬فحيث كان اإلسالم حمل أتباعَه على التقدم‪ ،‬وحيث كان َ‬
‫غير‬
‫ً‬
‫اإلسالم دينًا كان تأخرا‪.‬‬
‫ً‬
‫شرقا وغربًا ً‬
‫فكرا‬ ‫أجل ! هذا هو اإلسالم يصارع اآلن على كل مستوى‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وسلوكا‪ ،‬وهو في كل حال أبدا غالب‪ ،‬وإن اضطهد المسلمون فذلك لقوة فكرهم‬
‫ال لشيء آخر(‪.)1‬‬
‫وما أحد يجهل أن روح الجهاد في قلوب المسلمين هي التي حررت العالم‬
‫اإلسالمي من قبضة مستعمريه في عصرنا هذا‪ .‬لقد استطاع اإلسالم أن يفعل هذا‪،‬‬
‫خالل ثالثة وعشرين ً‬ ‫َ‬
‫عاما‪ ،‬كان من القوة‬ ‫ٍ‬ ‫ألن األساس الذي بناه رسول اهلل ! له‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بحيث يناسب كل العصور‪ ،‬ويسع كل العصور‪.‬‬
‫َ‬
‫عشر سنوات فقط‪،‬‬‫ِ‬ ‫خالل‬ ‫إن الظاهرة التي نراها في حياة رسول اهلل !‪ ،‬أنه‬
‫قائما يمشي على األرض على أكمل ما يكون التطبيق‪،‬‬ ‫كل جزء من أجزاء دعوته ً‬
‫كان ُّ‬
‫وكل جزء من أجزاء دعوته قاباًل للتطبيق خالل كل عصر‪ ،‬وما مر عصر إال ورأيت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلسالم مطبقا بشكل من األشكال‪ .‬فإذا ما علمت بأن دعوة سياسية فكرية‪ ،‬تحتاج‬
‫إلى عشرات السنين حتى تنتشر وتنتصر وقد تطبَّ ُق وقد ال تطبَّ ُق‪ ،‬أدركت أن العملية‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫تحس وراءَه يد اهلل‪ .‬وتحس‬ ‫هنا ليست عملية عادية‪ ،‬وإنما هي شيءٌ خارق للعادة‬
‫ً‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫بالتالي أن الدين دين اهلل‪ ،‬وأن محمدا عبده ورسوله(‪.)2‬‬

‫((( الرسول القائد (‪.)12/1‬‬


‫((( المرجع السابق (‪.)13/1‬‬
‫‪284‬‬

‫المبحث‬
‫الثاني‬
‫وفاة الرسول ‪Z‬‬
‫وداع الرسول ! ألمته‪:‬‬
‫‪P P‬خطبة حجة الوداع‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫وأيام التشريق‪،‬‬ ‫ويوم الحج األكبر‪،‬‬ ‫لقد خطب ! خطبة في موقف عرفة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫أرسى فيها قواعد اإلسالم‪ ،‬وهدم مبادئ الجاهلية‪ ،‬وعَظ َم حرماتِ المسلمين‪،‬‬
‫وكمل الدين وتمت النعمة ورضي اهلل‬ ‫خطب الناس وودعهم بعد أن استقر التشريع ُ‬
‫أحد دينًا سواه ‪.‬‬ ‫َ ً‬
‫هذا اإلسالم دينا للناس كلهم‪ ،‬ال يقبل من ٍ‬
‫ت‬‫ك ۡم َو َأ ۡت َم ۡم ُ‬
‫يۡ َ ۡ َ َ ۡ َ ۡ ُ َ ُ ۡ َ ُ‬
‫يقول سبحانه وتعالى في هذا اليوم‪﴿ :‬ٱلوم أكملت لكم دِين‬
‫ّ‬
‫ٱل ۡسل ٰ َم د ِٗينا ۚ﴾ [ا �ل���م�ا ئ��د �ة‪ ،]3 :‬وقال ـ جل من قائل ـ‪:‬‬
‫ُ َ ُ ُ إۡ َ‬ ‫ََ ُ ۡ‬
‫ضيت لكم ِ‬ ‫عل ۡيك ۡم ن ِع َم يِت َو َر ِ‬
‫َ آ‬
‫ين﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]85 :‬‬ ‫﴿ومن يبتغِ غي ِ‬
‫ۡ َ‬ ‫ٗ ََ ۡ َ ُۡ ُ‬ ‫َ َ َ ۡ َ َ رۡ َ إۡ ۡ َ‬
‫ٱلسل ٰ ِم دِينا فلن ُيق َبل مِنه َوه َو يِف ٱٓأۡلخ َِرة ِ م َِن ٱلخٰ ِرِ‬
‫س‬
‫ً‬
‫ألقى الرسول ! في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعة موجزة‪ ،‬تحكي المبادئ‬
‫َ‬
‫تجار كالم‪ ،‬وإنما‬ ‫الكبرى لهذا الدين‪ ،‬وأنبياء ُ اهلل حين يبلغون رساالت اهلل ليسوا‬
‫حق وشفاءٌ لما في الصدور ودواءٌ لما في القلوب‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كالمهم ٌّ‬
‫َ‬ ‫في حجة الوداع هذه ثبّت الن ّ ّ‬
‫بي ! في نفوس المسلمين أصول الديانة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وقواعد الشريعة‪ ،‬ونبّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى‪ ،‬ولقد‬
‫َ‬
‫الناس فيها على‬ ‫كانت عبارات توديعية بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها‪ ،‬أشهد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وإخالصا ورأفة بالناس‪،‬‬ ‫البالغ‪ ،‬كان من خالل تبليغه كلماتٍ يمتلئ حبًّا ونصحا‬
‫َ َ َّ َ َ ٰ ‪ َ َ َ ۡ َّ ٞ‬اَّ َ ُ‬ ‫ّ‬
‫ِني﴾ [ا � شل����عرا ء‪.]3 :‬‬
‫كونُوا ْ ُم ۡؤ ِمن َ‬ ‫خع نفسك أل ي‬ ‫يقول اهلل جل في عاله‪﴿ :‬لعلك ب ِ‬
‫‪285‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ضيق‬
‫لقد عانى وكابد من أجلِ إخراج الناس من الظلماتِ ًإلى النور‪ ،‬ومن ِ‬
‫َ‬
‫أهداف‬
‫ٍ‬ ‫الدنيا إلى سعة اآلخرة‪ ،‬حتى صنع منهم ـ بإذن ربه ـ أمة جديدة ذات‬
‫َ‬
‫سامية‪ ،‬هداهم من ضالل‪ ،‬وجمعهم بعد فرقة‪ ،‬وعلمهم بعد‬ ‫ٍ‬ ‫واضحة ومبادئ‬
‫ٌ‬
‫جهل‪ .‬وهذه وقفات مع بعض هذه األسس اإلسالمية‪ ،‬والقواعد النبوية‪ ،‬واألصول‬
‫المحمدية‪.‬‬
‫إن أول شيء أكد عليه هو النهي عن أمر الجاهلية وخاصة الشرك باهلل؛ فلقد‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫جاء بكلمة التوحيد‪> :‬ال إله إال اهلل< التي هي شعار اإلسالم وعَل ُم الملة‪ ،‬كلمة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جميع اآللهة الباطلة‪ ،‬ويثبت بها استحقاق اهلل وحده للعبادة‪ ،‬فاهلل هو‬ ‫تخلع بها‬
‫الخالق وما سواه مخلوق‪ ،‬وهو الرازق وما سواه مرزوق‪ ،‬وهو القاهر وما سواه‬
‫مقهور‪ ،‬هذا هو دليل التوحيد وطريقه ‪.‬‬
‫يقول اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬‬
‫َ َ َ ُ ۡ ُ َّ َ َ َ ُ ۡ ُ َّ ُ ُ ُ ُ‬ ‫هَّ ُ ذَّ‬
‫يتك ۡم ث َّم‬ ‫ٱلل ٱلِي خلقكم ثم رزقكم ثم ي ِم‬
‫شكون﴾‬
‫َ ٰ ُ ّ يَ ۡ ُ ۡ َ ٰ َ ُ َ َ َ ٰ ىَ ٰ َ َّ ُ رۡ ُ َ‬ ‫رُ َ اَ ٓ ُ َّ َ ۡ َ ُ‬ ‫حُ ۡ ُ ۡ َ ۡ‬
‫ييِيكمۖ هل مِن شكئِكم من يفعل مِن ذل ِكم مِن شءٖ ۚ سبحنهۥ وتعل عما ي ِ‬
‫ضرا‪،‬‬ ‫نفعا وال ً‬ ‫[ا �ل �م‪ ،]40 :‬األموات قد أفضوا إلى ما قدموا‪ ،‬ال يملكون ألنفسهم ً‬
‫رو‬
‫يقول سبحانه‪﴿ :‬إِن تدعوهم ل يسمعوا دعءكم ولو س ِمعوا ما ٱستجابوا ل ۖ‬
‫ك ۡم َو َي ۡومَ‬‫َ ۡ ُ ُ ۡ اَ َ ۡ َ ُ ْ ُ اَ ٓ َ ُ ۡ َ َ ۡ َ ُ ْ َ ۡ َ َ ُ ْ َ ُ‬

‫ري﴾ [ ف��ا طر‪.]14 :‬‬ ‫ۡ َ ٰ َ َ ۡ ُ ُ َ ۡ ُ ۡ َ اَ ُ َ ّ ُ َ ۡ ُ َ‬


‫ٱلقِيمةِ يكفرون ب ِ رِشكِك ۚم ول ينبِئك مِثل ِ ٖ‬
‫ب‬‫خ‬
‫ً‬
‫ومن القضايا التي جاء التأكيد عليها‪ :‬أن الناس متساوون في التكاليف حقوقا‬
‫َ‬
‫نسب وال‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫تفاضل‬ ‫وواجبات‪ ،‬ال فرق بين عربي وال أعجمي إال بالتقوى‪ ،‬ال‬
‫والدجلِ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ضرب من اإلفك‬ ‫ٌ‬ ‫والنعرات الوطنية‬ ‫َ‬ ‫لون‪ ،‬فالنزاعات العنصرية‬ ‫َ‬
‫تمايز في ٍ‬
‫توصف حضارة اليوم بحضارة العنصريات‬ ‫َ‬ ‫ومن الواقع الرديء في عصرنا أن‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫احتقارا ألبناء القارات‬ ‫ً‬ ‫والقوميات‪ ،‬والشعوب الموصوفة بالتقدم تضمر في نفسها‬
‫األخرى‪ ،‬ولم تفلح في الحد منها المواثيق وال المعاهدات الدولية ‪.‬‬
‫ّ‬
‫بقوة من خالل اجملاالت السياسية واالقتصادية‬ ‫فإنك ترى هذا التمييز يتنفس ٍ‬
‫ٌ‬
‫واالجتماعية‪ ،‬ويأتي نبينا محمد لينبّه منذ مئات السنين على ضالل هذا المسلك‪،‬‬
‫‪286‬‬

‫وي ُ ْع ِل َن في ذلك المشهد العظيم بقوله !‪> :‬أيها الناس‪ :‬أال إن ربكم واحد‪ ،‬وإن‬
‫أباكم واحد‪ ،‬أال ال فضل لعربي على عجمي وال عجمي على عربي إال بالتقوى<(‪.)1‬‬
‫ّ‬
‫رواية عند الطبراني عن العداء‪ ‬بن خالد قال‪ :‬قعدت تحت منبر الرسول‬ ‫ٍ‬ ‫وفي‬
‫يوم حجة الوداع‪ ،‬فصعد المنبر‪ ،‬فحمد اهلل وأثنى عليه ثم قال‪> :‬إن اهلل عز وجل‬
‫َ َ ُّ َ َّ ُ َّ َ َ ۡ َ ُ ّ َ َ َ ُ ىَ َ َ َ ۡ َ ُ ۡ ُ ُ ٗ َ َ َ ٓ َ َ َ َ ُ ٓ ْ‬
‫نث وجعلنٰكم شعوبا وقبائِل لتِ عارف ۚوا‬ ‫يأيها ٱنلاس إِنا خلقنٰكم مِن ذكر وأ ٰ‬ ‫يقول‪ٰٓ ﴿ :‬‬
‫ٖ‬
‫ٍّ‬
‫َ‬ ‫َّ َ ۡ َ َ ُ‬
‫لعربي‬ ‫ِيم َخبِري‪[ ﴾ٞ‬ا �ل�ح�� ج�را ت�‪ ،]13 :‬فليس‬
‫ٱلل َعل ٌ‬
‫ۚ ِ‬
‫َ هَّ ۡ َ ٰ ُ‬
‫ك ۡم إ َّن هَّ َ‬ ‫ى‬ ‫ق‬‫ت‬ ‫أ‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫ِند‬
‫ع‬ ‫كۡ‬
‫م‬ ‫إِن أكرم‬
‫ألسود على أبيض‪ ،‬وال‬ ‫عربي فضل‪ ،‬وال‬ ‫ٍّ‬ ‫لعجمي على‬ ‫ٍّ‬ ‫عجمي فضل‪ ،‬وال‬ ‫ٍّ‬ ‫على‬
‫ٍ‬
‫ألبيض على أسود‪ ،‬فضل إال بالتقوى‪ .‬يا معشر قريش‪ :‬ال تجيئوني بالدنيا تحملونها‬ ‫ٍ‬
‫ً (‪)2‬‬
‫على أعناقكم‪ ،‬وتجيء الناس باآلخرة‪ ،‬فإني ال أغني عنكم من اهلل شيئا< ‪.‬‬
‫اهلل أكبر اهلل أكبر‪ ،‬ال إله إال اهلل‪ ،‬واهلل أكبر اهلل أكبر‪ ،‬وهلل الحمد‪.‬‬
‫ُ ْ‬
‫وصيانة الدماء من القضايا الخطيرة التي أثارها خطاب‬ ‫ِ‬ ‫ظ النفوس‬ ‫قضية ِحف ِ‬
‫الرسول ! إلى األمة في كلماته التوديعية‪ ،‬ذلكم حكم القصاص في النفس‬
‫َ‬
‫والجراحات‪ ،‬كان من ِحك ِمه التشريعية زجر اجملرمين عن العدوان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫توقف سيل الجرائم‬ ‫وقد عجزت األمم المعاصرة بتقدمها وتقنية وسائلها أن‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وإزهاق النفوس‪ ،‬وزاد سوؤها وانكشفت سوأتها حين ألغت عقوبة االقتصاص‬ ‫ِ‬
‫من اجملرمين‪ ،‬واكتفت بعقوباتٍ هزيلة؛ بزعم استصالح اجملرمين‪ ،‬وما زاد‬
‫بالقصاص‬ ‫ٌ‬
‫محسوم‬ ‫محمد‬ ‫شرع‬ ‫في‬ ‫ولكنه‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫في‬ ‫ا‬ ‫ً‬
‫واستكبار‬ ‫اجملرمين إال ً‬
‫عتوا‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك ۡم ت َّتقون﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪.]179 :‬‬ ‫العادل‪َ ﴿ ،‬ولك ۡم يِف ٱل ِق َص ِ‬
‫َ َ ٰ ‪ ْ ٰٓ َ ٞ‬أۡ ۡ َ ٰ َ َ َّ ُ َ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ‬
‫ب لعل‬
‫اص حيوة يأو يِل ٱللب ِ‬
‫يكف من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫يهم بالجريمة عن اإلجرام‪ ،‬وفي القصاص‬ ‫إن في القصاص حياة حين‬
‫حياة حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي ال يقف عند ٍّ‬ ‫ً‬
‫حد‪ ،‬ال في القديم‬

‫((( أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )23489‬قال مخرجوه‪< :‬إسناده صحيح>‪.‬‬


‫((( رواه الطبراني (‪.)13/18‬‬
‫‪287‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫مثير لألحقاد العائلية والعصبيات القبلية‪ ،‬يتوارثه األجيال‬ ‫ثأر ٌ‬ ‫وال في الحديث‪ٌ ،‬‬
‫ّ‬
‫جياًل بعد جيل‪ ،‬ال تكف معه الدماء عن المسيل ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وتأتي شريعة محمد في هذا الموقف العظيم‪ ،‬وفي إلغاء حكم جاهلي‪ ،‬هو‬
‫ُ‬
‫الثأر‪ ،‬فاستمع إليه وهو يقول‪> :‬أال كل شي ٍء من أمر الجاهلية تحت قدمي‬ ‫مسألة‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫الجاهلية موضوعة< ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫موضوع‪ ،‬ودماء‬
‫أمر حاسم بشكل جازم قائال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫يقف الرسول في خطبة الوداع‪ ،‬منبها أمته على ٍ‬
‫>وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به‪ :‬كتاب اهلل(‪ ،)2‬ال ترجعوا‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫رقاب بعض(‪ ،)3‬أال إن الشيطان قد يئس أن يعبُد ُه‬ ‫َ‬ ‫بعضكم‬ ‫كفارا يضرب‬ ‫ً‬ ‫بعدي‬
‫التحريش بينهم<(‪.)4‬‬ ‫المصلون‪ ،‬ولكن في‬
‫ٌ ّ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫تحذير مبكر من الرؤوف الرحيم للمؤمنين‪ ،‬من فنا ٍء ذريع‪ ،‬إذا استسلمت‬ ‫إنه‬
‫الغفلة عن سنن اهلل‪ ،‬والجهل بما يحيكه الشيطان‬ ‫ِ‬ ‫األمة للخالف واسترسلت في‬
‫َ‬
‫ضمائر الناس‪.‬‬ ‫وإخوان الشيطان من مؤامرات‪ ،‬إنها وصايا أودعها الن ّ ُّ‬
‫بي‬
‫دفن النعرات الجاهلية والعصبيات‬ ‫بي ! قد َ‬ ‫وإذا كان اإلسالم في عهد الن ّ ّ‬
‫ُّ َ‬ ‫ُ‬
‫الدموية‪ ،‬والشيطان قد يئس أن ي ُ ْع َبد في ذلك العهد‪ ،‬لكننا نخشى تجدد آماله‬
‫ّ‬
‫في هذه العصور المتأخرة‪ ،‬نعم يمكن أن تتجدد آماله في الفرقة والتمزيق‪ ،‬فالعالم‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫اإلسالمي اليوم تتوزعه عشرات القوميات‪ ،‬وتمشي جماهيره تحت عشرات‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫والصغار‬ ‫الرايات‪ ،‬وهي قوميات ذات توجهاتٍ هدامة‪ ،‬ما جلبت ألهلها إال الذل‬
‫َ‬
‫والفرقة والتمزق‪.‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( انظر‪ :‬شرح النووي (‪.)447/4‬‬


‫((( مسلم‪ ،‬حديث رقم (ص ‪.)889‬‬
‫((( مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)82/1‬‬
‫((( مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2166/4‬‬
‫‪288‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫تتكرر‬ ‫ما أحوج األمة إلى مثل هذه الدروس التي يعرضها لنا رسولنا !‪ ،‬وأن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الروح التي سادت حجة الوداع لكي تتشبع هذه الكثرة العددية بين المسلمين‬
‫َ‬
‫منافع لهم‬ ‫بكثافة نوعية وطاقاتٍ روحية؟! أما يحج المسلمون ليشهدوا‬ ‫اليوم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫فرقتهم‪ ،‬وت ُ ّ‬ ‫َ‬
‫وترد مهابتهم؟!‪.‬‬ ‫سوي صفوفهم‪،‬‬ ‫تمحو‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وأحقر‪ ،‬فيغيظ‬ ‫أصغر‬ ‫إن الحج العظيم في معناه الكبير يكون فيه الشيطان وأعوانه‬
‫أعداء اهلل‪ ،‬ويرجعون خاسئين ناكصين على أعقابهم مذمومين مدحورين‪ ،‬يغيظ‬
‫الكفار حين يرون جموع هذه األمة وقد استسلمت لربها وأطاعت نبيها واجتمعت‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫كلمتها‪ .‬فيا أيها الناس‪ :‬اعبدوا ربكم كما أوصى نبيكم‪ ،‬وأقيموا خ ْم َسكم‪ ،‬وصوموا‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫أمركم‪ ،‬تدخلوا جنة ربكم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والة‬ ‫وأطيعوا‬ ‫أموالكم‪،‬‬ ‫زكاة‬ ‫وا‬ ‫وأد‬ ‫شهركم‪،‬‬
‫املصاب اجللل (وفاة ال ّن ّ‬
‫يب !)‪:‬‬
‫بي !‪ ،‬وأنه‬ ‫لقد جاءت بعض اآليات القرآنية مؤكدة على حقيقة بشرية الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سكراته‪ ،‬كما ذاقه من قبل إخوانه‬‫ِ‬ ‫كغيره من البشر سوف يذوق الموت ويعاني‬
‫أجله‪ ،‬وقد أشار ! في طائفة‬ ‫َ‬
‫من األنبياء‪ ،‬ولقد فهم ! من بعض اآليات اقتراب ِ‬
‫من األحاديث الصحيحة إلى اقتراب وفاته‪ ،‬منها ما هو صريح الداللة على الوفاة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ومنها ما ليس كذلك‪ ،‬حيث لم يشعر بذلك منها إال اآلحاد من كبار الصحابة‬
‫األجاّلء‪ ،‬كأبي بكر والعباس ومعاذ ‪.)1(J‬‬
‫اآليات واألحاديث اليت أشارت إىل وفاته !‪:‬‬
‫أوال‪ :‬اآليات التي أشارت إلى وفاته !‪:‬‬
‫ٱلر ُس ُل أَفَإيْن َّم َ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وما ممد إِل رس‬
‫َ َ حُ َ َّ ٌ اَّ َ ُ ‪ٞ‬‬
‫ول قَ ۡد َخلَ ۡ‬
‫ت مِن َق ۡبلِهِ ُّ‬
‫ات‬ ‫ۚ ِ‬ ‫أ‬
‫َ ۡ ُ َ َ َ ۡ ُ ۡ لَىَ ٰٓ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ َ َ َ َ ۡ لَىَ ٰ َ َ ۡ َ َ َ رَُّ هَّ َ َ ۡٗ‬
‫أو قتِل ٱنقلبتم ع أعقبِك ۚم ومن ينقل ِب ع عقِبيهِ فلن يض ٱلل شي ٔاۗ‬
‫َ آ‬
‫ين﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]144 :‬‬ ‫ٱلل َّ ٰ‬
‫ٱلشك ِِر‬ ‫َو َس َي ۡجزي هَّ ُ‬
‫ِ‬

‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬


‫بي ووفاته‪ ،‬خالد أبو صالح‪( ،‬ص‪.)33‬‬
‫‪289‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫قال القرطبي في تفسيره لهذه اآلية‪ < :‬فأعلم اهلل تعالى في هذه اآلية أن الرسل‬
‫ليست بباقية في قومها أبدا‪ ،‬وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل‪ ،‬وإن فقد‬
‫الرسل بموت أو قتل > (‪.)1‬‬

‫ت ِإَون ُهم َّم ّي ِ ُتون﴾ [ا �ل�ز �مر‪ .]30 :‬قال ابن كثير‪:‬‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬إِن‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫ك َم ّي ‪ٞ‬‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫<هذه اآلية من اآليات التي استشهد بها الصديق ‪ K‬عند موت‬
‫الرسول ! حتى تحقق الناس موته>(‪.)2‬‬
‫خۡ دۡ َ َ‬
‫ِت ف ُه ُم ٱل َخٰ دِ ُلون﴾‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما َج َعل َنا ل ِبَش ّمِن ق ۡبل َِك ُ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ل ۖأفإيْن ّم َّ‬ ‫َ‬ ‫رَ‬ ‫ۡ‬
‫ِ‬
‫ٱل َ‬
‫ٖ‬ ‫جـ‬
‫أ‬
‫[ال� ن�ب�ي��ا ء‪ ]34 :‬ثم أعقب ذلك ببيان أن الموت حتم الزم وقدر سابق‪،‬‬
‫فقال عز وجل‪﴿ :‬ك نف ٖس ذائِقة ٱلمو ِ ۗ‬
‫ٗ‬
‫ي ف ِۡت َنة ۖ‬ ‫وكم ب رَّ ّ َ خۡ َ رۡ‬ ‫َٓ َ ُ َۡ ۡ َ َۡ ُ ُ‬ ‫لُ ُّ َ ۡ‬
‫ٱلش وٱل ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت ونبل‬
‫أ‬
‫ِإَول َنا تُ ۡر َج ُعون﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪ ]35 :‬فهذه اآليات صريحة‪ ،‬ونصت على‬ ‫يَ ۡ‬
‫َ‬

‫وفاته !‪ ،‬وهناك بعض اآليات أشارت إلى ذلك‪ ،‬وإن لم تصرح‪،‬‬


‫منها‪:‬‬
‫أۡ ُ ىَ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ولٓأۡلخِرة خي ل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ رۡ ‪َ َّ ٞ‬‬
‫ول ‪َ ٤‬ول َس ۡوف ُي ۡع ِطيك َر ُّبك‬ ‫ك م َِن ٱل ٰ‬ ‫د‬
‫ض﴾ [ا � ضل�������حى‪.]5-4 :‬‬
‫ت ىَ ٰٓ‬‫َف رَ ۡ‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬ك من عليها ف ٖ‬


‫جۡ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ان ‪َ ٢٦‬و َي ۡب ىَ ٰ‬ ‫لُ ُّ َ ۡ َ َ ۡ َ َ‬
‫ٱلل ٰ ِل‬ ‫ق َو ۡج ُه َر ّبِك ذو‬ ‫هـ‬
‫ٱلك َر ِام﴾ [ا �لرح�م� ن�‪.]27-26 :‬‬
‫َ إۡ ۡ‬
‫و ِ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ول تدع مع ٱللِ إِلها ءاخر ل إِله إِل هوۚ ك‬
‫َ اَ َ ۡ ُ َ َ هَّ َ ٰ ً َ َ َ ۘ اَ ٓ َ ٰ َ اَّ ُ َ لُ ُّ يَ ۡ َ‬
‫ش ٍء هال ٌِك‬ ‫و‬
‫ِإَولهِ تُ ۡر َج ُعون﴾ [ا �ل��ق�����ص���ص‪.]88 :‬‬
‫َ‬ ‫اَّ َ ۡ َ ُ هَ ُ حۡ ُ ۡ‬
‫ك ُم يَ ۡ‬ ‫إِل وجهه ۚۥ ل ٱل‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫فهذه اآليات تبين أن جميع أهل األرض ستمضي فيهم سنة اهلل في موت خلقه‬
‫ٌ ً‬
‫لن يتخلف منهم أحد أبدا‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير القرطبي‪.)222/4( ،‬‬


‫((( انظر‪ :‬تفسير ابن كثير (‪.)53/4‬‬
‫‪290‬‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬ٱلوم يئِس ٱل‬


‫ُ َ اَ خَ ۡ َ ُ‬ ‫يۡ َ ۡ َ َ َ ذَّ َ َ َ ْ‬
‫ِين كف ُروا مِن دِين ِك ۡم فل تش ۡوه ۡم‬
‫َ‬
‫ز‬
‫ُ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َ ۡ يۡ َ ۡ َ َ ۡ َ ۡ ُ َ ُ ۡ َ ُ‬
‫ك ۡم َوأ ۡت َم ۡم ُ َ‬
‫يت‬ ‫ض ُ‬ ‫ت عل ۡيك ۡم ن ِع َم يِت َو َر ِ‬ ‫وٱخشو ِ ۚن ٱلوم أكملت لكم دِين‬
‫ٱل ۡسل ٰ َم د ِٗينا ۚ﴾ [ا �ل���م�ا ئ��د �ة‪.]3:‬‬
‫َ ُ ُ إۡ َ‬
‫لكم ِ‬
‫وقد بكى عمر‪ ‬بن الخطاب حين نزلت اآلية‪ ،‬فقيل‪ :‬ما يبكيك؟ فقال‪ :‬إنه ليس‬
‫بعد الكمال إال النقصان‪ .‬وكأنه استشعر وفاة الن ّ ّ‬
‫بي ! (‪.)1‬‬
‫ُ ُ َ‬
‫اس يَ ۡدخلون يِف‬ ‫ٱللِ َو ۡٱل َف ۡت ُح ‪َ ١‬و َر َأيۡ َ‬
‫ت ٱنلَّ َ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬إِذا جاء نص‬
‫َ َ ٓ َ َ رۡ ُ هَّ‬
‫ح‬
‫هَّ َ ۡ‬
‫ِين ٱللِ أفواجا ‪ ٢‬فسبِح حِبم ِد ربِك وٱستغفِرهۚ إِنهۥ كن توابا﴾‬
‫ۢ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫اَ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ّ ۡ َ ۡ َ ّ َ َ ۡ َ ۡ ۡ ُ َّ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬
‫د ِ‬
‫[ا �لن����صر‪.]3-1 :‬‬
‫فقد سأل عمر ‪ K‬ابن عباس عن هذه اآلية‪﴿ :‬إِذا جاء ن‬
‫َ َ ٓ َ َ رۡ ُ هَّ ۡ َ‬
‫ص ٱللِ َوٱلف ۡت ُح ‪١‬‬
‫ٱللِ أَ ۡف َو ٗ‬
‫اجا﴾ ‪.‬‬ ‫هَّ‬
‫ِين‬ ‫د‬ ‫ف‬
‫َ َ َ ۡ َ َّ َ َ ۡ ُ ُ َ‬
‫ون‬ ‫ورأيت ٱنلاس يدخل‬
‫ِ‬ ‫يِ‬
‫فقال‪ :‬أجل رسول اهلل ! أعلمه إياه‪ ،‬فقال‪ :‬ما أعلم منها إال ما تعلم(‪ ،)2‬وفي‬
‫رواية الطبراني قال ابن عباس‪ :‬نعيت إلى رسول اهلل ! نفسه حين نزلت‪ ،‬فأخذ‬
‫بأشد ما كان قط اجتهادا في أمر اآلخرة(‪.)3‬‬
‫ثانيا‪ :‬األحاديث التي أشارت إلى وفاته !‪:‬‬

‫قالت عائشة ‪> :I‬اجتمع نساء رسول اهلل ! عنده‪ ،‬لم يغادر منهن‬ ‫أ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫امرأة‪ ،‬فجاءت فاطمة تمشي ال تخطئ مشيتها مشية أبيها‪ ،‬فقال‪ :‬مرحبا‬
‫َ‬
‫سارها فضحكت‪،‬‬ ‫سارها فبكت‪ ،‬ثم َّ‬‫شماله‪ ،‬ثم َّ‬ ‫يا بنيتي فأقعدها يمينَه أو‬
‫خصك رسول اهلل ِّ‬
‫بالس َر ِار وأنت تبكين؟ فلما أن قامت قلت‬ ‫فقلت لها‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫سر الرسول !‪.‬‬ ‫سارك؟ فقالت‪ :‬ما كنت ألفشي َّ‬ ‫لها أخبريني ما َّ‬

‫((( انظر‪ :‬البداية والنهاية (‪.)189/5‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3627‬‬
‫((( رواه الطبراني في الكبير‪ ،‬حديث رقم (‪ )11903‬واألوسط وأحد أسانيده رجاله ثقات قاله الهيثمي‪.‬‬
‫‪291‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫فلما توفي قلت لها‪ :‬أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتني‪ ،‬قالت‪ :‬أما‬
‫اآلن فنعم‪ ،‬قالت‪ّ :‬‬
‫سارني في األول‪ ،‬قال لي‪ :‬إن جبريل كان يعارضني في القرآن‬
‫كلَّ سنة مرة‪ ،‬وقد عارضني في هذا العام مرتين‪ ،‬وال أرى ذلك إال اقتراب أجلي‪،‬‬
‫ُ‬
‫فبكيت‪ ،‬ثم ّ‬
‫سارني فقال‪ :‬أما ترضين أن‬ ‫السلف أنا لك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فاتقي اهلل واصبري‪ ،‬فنعم‬
‫ُ‬
‫تكوني سيدة نساء المؤمنين‪ ،‬أو سيدة نساء هذه األمة؟ فضحكت<(‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫وفي هذا الحديث دليل قاطع وإشارة واضحة إلى اقتراب أجل رسول اهلل !‪،‬‬
‫َ‬ ‫وأن ساعة الفراق قد باتت قريبة‪ ،‬إال أن الن ّ ّ‬
‫بي ! قد اختص ابنته فاطمة ‪ I‬بعلم‬
‫ذلك‪ ،‬ولم يعلم به المسلمون إال بعد وفاة رسول اهلل !(‪.)2‬‬
‫بي ! يرمي على راحلته َ‬
‫يوم النحر ويقول‪:‬‬ ‫ب قال جابر‪ :‬رأيت الن ّ َّ‬
‫ّ‬
‫أحج بعد حجتي‬‫ُّ‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫لعل‬ ‫>لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني ال أدري‬
‫هذه<(‪.)3‬‬
‫ِّ‬
‫قال النووي‪ < :‬فيه إشارة إلى توديعهم وإعالمهم بقرب وفاته !‪ ،‬وحثهم‬
‫على االعتناء باألخذ عنه‪ ،‬وانتهاز الفرصة من مالزمته‪ ،‬وتعلمِ أمور الدين‪ ،‬وبهذا‬
‫َ‬
‫سميت حجة الوداعِ > (‪.)4‬‬
‫عرض باقتراب أجله في آخر عمره‪ ،‬فإنه لما‬ ‫وقال ابن رجب‪ < :‬وما زال ! ي ُ ِّ‬
‫خطب في حجة الوداع قال للناس‪ :‬خذوا عني مناسككم‪ ،‬فلعلي ال ألقاكم بعد‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الناس فقالوا‪ :‬هذه حجة الوداع > (‪.)5‬‬ ‫عامي هذا‪ ،‬فطفق يودع‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6286 ،6285‬‬


‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫بي ! ووفاته‪( ،‬ص‪.)35‬‬ ‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬

‫((( مسلم‪ ،‬كتاب الحج‪ ،‬حديث رقم (‪.)1297‬‬


‫((( انظر‪ :‬شرح النووي على صحيح مسلم (‪.)45/9‬‬
‫((( انظر‪ :‬لطائف المعارف‪( ،‬ص‪.)105‬‬
‫‪292‬‬

‫جـ قال أبو سعيد الخدري‪ :‬خطب الرسول ! الناس وقال‪> :‬إن اهلل‬
‫خ َّير عبدا بين الدنيا وبين ما عند اهلل‪ ،‬فاختار ذلك العبد ما عند اهلل<‬
‫ً‬

‫قال‪ :‬فبكى أبو بكر‪ ،‬فعجبنا لبكائه أن يخبر الرسول ! عن عبد‬


‫َ‬ ‫ُ‬
‫أعلمنا(‪.)1‬‬ ‫خيِّر‪ ،‬فكان الرسول ! هو المخيَّر‪ ،‬وكان أبو بكر‬
‫بي !‬ ‫قال الحافظ ابن حجر‪ < :‬وكأن أبا بكر فَه َم الرمز الذي أشار به الن ّ ّ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫من قرينة ذكره ذلك في مرض موته‪ ،‬فاستشعر منه أنه أراد نفسه؛ فلذلك بكى >  ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫قال العباس‪ ‬بن عبد‪ ‬المطلب‪ :‬رأيت في المنام كأن األرض تنزع‬ ‫د‬


‫بي ! فقال‪:‬‬ ‫إلى السماء(‪ .)3‬بأشطان(‪ )4‬ش َداد‪ ،‬فقصصت ذلك على الن ّ ّ‬
‫ِ ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫>ذاك وفاة ابن أخيك<(‪ ،)5‬وفي هذا الحديث إخبار النبي ! بقرب‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫وفاته‪ ،‬وفيه صدق رؤيا المؤمن‪ ،‬واستشعار بعض الصحابة وفاته ! ‪.‬‬
‫(‪)6‬‬

‫بي ! لما بعثه إلى اليمن خرج راكبا والنبي !‬ ‫وعن معاذ أن الن ّ ّ‬ ‫هـ‬
‫يمشي تحت راحلته فقال‪ :‬يا معاذ‪ ،‬عسى أال تلقاني بعد عامي‬
‫هذا‪ ،‬فتمر بقبري ومسجدي فبكى معاذ لفراقه !‪ ،‬فقال‪ :‬ال تبك‬
‫بي !‬ ‫يا معاذ؛ فإن البكاء من الشيطان(‪ )7‬وفي الحديث إخبار الن ّ ّ‬
‫معاذ‪ ‬بن جبل باقتراب أجله‪ ،‬وأنه يمكن أال يلقاه بعد عامه هذا‪،‬‬
‫وفيه شدة محبة الصحابة للنبي !‪ ،‬وبكاؤهم إذا ذكروا فراقه(‪.)8‬‬

‫((( فتح الباري (‪.)12/7‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3654‬‬
‫ ‬
‫((( تنزع إلى السماء‪ :‬أي تجذب‪ ،‬وأصل النزع‪ :‬الجذب والقلع‪.‬‬
‫((( بأشطان شداد‪ :‬األشطان جمع شطن وهو الحبل‪..‬‬
‫((( البزار (‪ ،)397/1‬كشف األستار (رقم ‪ ،)844‬مجمع الزوائد (‪ )24/9‬رجاله ثقات‪.‬‬
‫بي ووفاته‪( ،‬ص‪.)37‬‬‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬

‫((( مجمع الزوائد (‪ )22/9‬صححه األلباني في السلسلة الصحيحة (رقم ‪.)2497‬‬


‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬
‫بي ووفاته‪( ،‬ص‪.)38‬‬
‫‪293‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ّ‬ ‫َ‬ ‫و وقد نبَّه الن ّ ّ‬


‫بي ! إلى ِعظمِ هذه المصيبة التي حلت بالمسلمين‬
‫أحد من الناس أو من المؤمنين أ ُ َ‬
‫صيب‬
‫ٌ‬
‫فقال‪> :‬يا أيها الناس أيّما‬
‫فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري‪ ،‬فإن‬ ‫َ‬ ‫بمصيبة‪،‬‬
‫أشد عليه من مصيبتي<(‪،)1‬‬ ‫أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي َّ‬ ‫ً‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫قال السندي‪> < :‬فليتعز< ويخفف على نفسه مؤونة تلك المصيبة‬
‫ّ‬ ‫بتذكر هذه المصيبة العظيمة‪ ،‬إذ ّ‬ ‫ّ‬
‫الصغيرة تضمحل في جنب الكبيرة‬
‫بالصغيرة >‪.‬‬‫ّ‬ ‫فحيث صبر على الكبيرة ال ينبغي أن يبالي‬

‫بي !‪ ،‬فقيل لها تبكين؟!‬ ‫ز وها هي أم أيمن ‪ I‬بكت حين مات الن ّ ّ‬
‫فقالت‪> :‬إني ـ واهلل ـ قد علمت أن رسول اهلل ! سيموت‪ ،‬ولكن‬
‫إنما أبكي على الوحي الذي انقطع عنا من السماء<(‪.)2‬‬
‫ٌ‬
‫حـ وعن أبي بردة ‪ K‬قال‪ :‬قال الرسول !‪> :‬النجوم أمنة للسماء‪،‬‬
‫َ ٌ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫أمنَة ألصحابي‪ ،‬فإذا‬ ‫فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد‪ ،‬وأنا‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون‪ ،‬وأصحابي أمنة ألمتي‪ ،‬فإذا ذهب‬
‫أصحابي أتى أمتي ما يوعدون<(‪.)3‬‬
‫ُ‬
‫قال النووي‪> < :‬وأنا أمنة ألصحابي‪ ،‬فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون< أي‪:‬‬
‫ّ‬
‫من الفتن والحروب‪ ،‬وارتداد من ارتد من األعراب‪ ،‬واختالف القلوب‪ ،‬ونحو‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ذلك ّ‬
‫مما أنذر به صريحا‪ ،‬وقد وقع كل ذلك > (‪.)4‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)1599‬‬


‫((( الدارمي في المقدمة باب ‪.14‬‬
‫((( مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2531‬‬
‫((( شرح النووي (‪.)83/18‬‬
‫‪294‬‬

‫قال أبو العتاهية(‪:)1‬‬


‫َّ‬ ‫َّ‬
‫واعل��م ب��أن المرء غي��ر مخلد‬ ‫اصب��ر ل��كل مصيب��ة وتجل��د‬
‫ه��ذا قبي��ل لس��ت في��ه بأوحد‬ ‫صب ممن ترى بمصيبة‬ ‫من لم ي ُ َ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وت��رى المني��ة للعب��اد بمرصد‬ ‫المصائب جمة‬ ‫أو م��ا ت��رى أن‬
‫َ‬
‫فاذك��ر ُمصابك بالنب��ي محمد‬ ‫ف��إذا أتت��ك مصيبة تش��جى بها‬

‫اقرتاب أجله‪:‬‬
‫َ‬ ‫استشعاره !‬
‫بي ! باقتراب أجله في آيات عدة في القرآن الكريم‪ ،‬منها قوله تعالى‪:‬‬ ‫أخبر الن ّ ّ‬
‫ت ِإَون ُهم َّم ّي ِ ُتون﴾ [ا �ل�ز �مر‪ ،]30 :‬وقوله سبحانه‪َ ﴿ :‬و َما َج َعل َنا ل ِبَ ٖش ّمِن ق ۡبل ِك‬ ‫﴿إِنك َ مي ِ‬
‫َ َ‬ ‫رَ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ ّ ‪َّ ٞ‬‬
‫أ‬
‫لون﴾[ال� ن�ب�ي��ا ء‪ ،]34 :‬وقوله‪﴿ :‬وما‬
‫َ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫اَّ‬
‫م َّم ٌد إل َر ُسول قَ ۡد َخل ۡ‬ ‫َ َ حُ َ‬ ‫خۡ ُ دۡ َ َ ْ ّ َّ َ ُ ُ َ ٰ ُ َ‬
‫ۡ‬
‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل ۖ أفإِين مِت فهم ٱلخ دِ‬
‫ع َعقِ َب ۡيهِ فَلَن يَ رَُّ‬ ‫ُّ ُ ُ َ َ ْ َّ َ َ ۡ ُ َ َ َ ۡ ُ ۡ لَىَ ٰٓ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ َ َ َ َ‬
‫نقل ِۡب لَىَ ٰ‬ ‫َ‬
‫ض‬ ‫مِن ق ۡبلِهِ ٱلرسل ۚ أفإِين مات أو قتِل ٱنقلبتم ع أعقبِك ۚم ومن ي‬
‫َ آ‬
‫ين﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]144 :‬‬ ‫ٱلشك ِِر‬ ‫ٱلل َش ٗۡي ٔاۗ َو َس َي ۡجزي هَّ ُ‬
‫ٱلل َّ ٰ‬ ‫ِ‬
‫هَّ َ‬

‫اجا ‪٢‬‬ ‫ٱللِ أَ ۡف َو ٗ‬


‫هَّ‬
‫ِين‬ ‫د‬ ‫ف‬
‫َ َ َ ۡ َ َّ َ َ ۡ ُ ُ َ‬
‫ون‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫اس‬ ‫ٱنل‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫أ‬‫ر‬ ‫و‬ ‫‪١‬‬ ‫ح‬ ‫ٱللِ َو ۡٱل َف ۡت ُ‬ ‫وقوله‪﴿ :‬إِذا جاء نص‬
‫َ َ ٓ َ َ رۡ ُ هَّ‬
‫ِ‬ ‫يِ‬
‫ٱس َتغفِ ۡرهُۚ إِن ُهۥ كن ت َّوابَۢا﴾ [ا �لن����صر‪.]3-1 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ّۡ َۡ َّ َ َ ۡ ۡ‬
‫فسبِح حِبم ِد ربِك و‬
‫ٱللِ َوٱلف ۡت ُح ﴾‬ ‫عن ابن عمر ‪ K‬ما قال‪ :‬أنزلت هذه السورة‪﴿ :‬إِذا جاء نص‬
‫َ َ ٓ َ َ رۡ ُ هَّ ۡ َ‬

‫على رسول اهلل ! في وسط أيام التشريق‪ ،‬وعرف أنه الوداع(‪.)2‬‬


‫وعن ابن عباس ‪ K‬ما أن عمر ‪ K‬سألهم عن قوله تعالى‪﴿ :‬إِذا جاء ن‬
‫َ َ ٓ َ َ رۡ ُ هَّ‬
‫ص ٱللِ‬
‫>أجلٌ‬‫َو ۡٱل َف ۡت ُح ﴾ قالوا‪ :‬فتح المدائن والقصور‪ ،‬قال‪ :‬ما تقول يا ابن عباس؟ قال‪َ :‬‬
‫َ ُ‬
‫أو َمث ٌل ضرب لمحمد ! نعيت له نفسه<(‪.)3‬‬

‫((( بهجة اجملالس وأنس اجملالس‪ ،‬ابن عبد‪ ‬البر‪ ،‬فقيه محروس الخولي (ص ‪ )348‬القسم الثاني‪.‬‬
‫((( سنن البيهقي (‪.)152/5‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4969‬‬
‫‪295‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫وقال اهلل تعالى‪﴿ :‬ٱلوم يئِس ٱل‬


‫يۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُ َ اَ خَ ۡ َ ُ‬ ‫يۡ َ ۡ َ َ َ ذَّ َ َ َ ْ‬
‫ِين كف ُروا مِن دِين ِك ۡم فل تش ۡوه ۡم َوٱخش ۡو ِ ۚن ٱلَ ۡو َم‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ٱلسل ٰ َم دِينا ۚ ف َم ِن ٱض ُط َّر يِف‬
‫إۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ض ُ‬
‫يت لك ُ‬
‫م‬ ‫ِ‬ ‫ت َعلَ ۡيك ۡم ن ِع َمت َو َ‬
‫ر‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ك ۡم َو َأ ۡت َم ۡم ُ‬‫َ ۡ َۡ ُ َ ُ ۡ َ ُ‬
‫أكملت لكم دِين‬
‫ِ‬ ‫يِ‬
‫ِيم﴾ [ا �ل���م�ا ئ��د �ة‪ .]3 :‬قال ابن العربي‪ < :‬وما من‬
‫َ‬
‫ٱلل غ ُفور‪َّ ٞ‬رح ‪ٞ‬‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬
‫ي ُم َت َجان ِف إِلثم فإ َّن هَّ َ‬ ‫م َم َصة َغ رۡ َ‬
‫خَ ۡ‬
‫ٖ ِ ٖ ِ‬ ‫ٍ‬
‫شيء في الدنيا يكمل إال وجاءه النقصان ليكون الكمال الذي يراد به وجه اهلل > (‪.)1‬‬
‫أكثر من موطن بقرب أجله وانتقاله إلى جوار‬ ‫بي ! أصحابه في َ‬ ‫وقد أشعر الن ّ ّ‬
‫ربه‪ ،‬فعن معاذ‪ ‬بن جبل قال لما بعثه رسول اهلل ! إلى اليمن خرج معه رسول اهلل‬
‫! يوصيه‪ ،‬ومعاذ راكب ورسول اهلل ! يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال‪> :‬يا‬
‫معاذ‪ ،‬إنك عسى أن ال تلقاني بعد عامي هذا< ـ أو قال‪ :‬ـ >لعلك أن تمر بمسجدي‬
‫ٌ‬
‫هذا أو قبري<‪ ،‬فبكى معاذ جزعًا لفراق رسول اهلل !‪ ،‬ثم التفت فأقبل بوجهه نحو‬
‫المدينة فقال‪> :‬إن أولى الناس بي المتقون‪ ،‬من كانوا وحيث كانوا<(‪.)2‬‬
‫مشي الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بي !‪،‬‬ ‫وعن عائشة ‪ I‬قالت‪> :‬أقبلت فاطمة تمشي‪ ،‬كأن مشيتها‬
‫مرحبا بابنتي‪ ،‬ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله‪ ،‬ثم َّ‬
‫أسر إليها‬ ‫ً‬ ‫بي !‪:‬‬‫فقال الن ّ ّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫أسر إليها حديثا فضحكت‪ ،‬فقلت‪:‬‬ ‫حديثا فبكت‪ ،‬فقلت لها‪ :‬لم تبكين؟ ثم‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أقرب من حزن‪ ،‬فسألتها عما قال‪ ،‬فقالت‪ :‬ما كنت ألفشي‬ ‫ما رأيت كاليوم فرحا‬
‫إلي‪ :‬إن جبريل‬ ‫بي ! فسألتها‪ ،‬فقالت‪َّ :‬‬
‫أسر َّ‬ ‫سر رسول اهلل !‪ ،‬حتى قبض الن ّ ّ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫العام مرتين‪ ،‬وال أراه إال حضر‬ ‫يعود يعارضني القرآن كل سنة مرة‪ ،‬وإنه عارضني‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وإنك أول أهل بيتي لحاقا بي فبكيت‪ ،‬فقال‪ :‬أما ترضين أن تكوني سيدة‬ ‫ِ‬ ‫أجلي‪،‬‬
‫ُ‬
‫نساء أهل الجنة أو نسا ِء المؤمنين‪ ،‬فضحكت لذلك<(‪.)3‬‬
‫بي ! أمرهم أن يرموا بمثل حصى الحذف‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫وعن جابر ‪ K‬أن الن ّ ّ‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫>لعلِّي ال أراكم بعد عامي هذا<(‪.)4‬‬

‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)22052‬‬ ‫ ‬


‫‪.)59‬‬ ‫((( العواصم من القواصم (ص‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3623‬مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2450‬‬
‫((( سنن الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪.)886‬‬
‫‪296‬‬

‫بداية املرض بالنيب ! وسببه‪:‬‬


‫بي ! إلى تأثره بالسم الذي دسته له اليهودية في الشاة‬ ‫يعود سبب مرض الن ّ ّ‬
‫ِّ‬
‫بالسم فقال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫أحس‬ ‫المشوية التي دعته إليها‪ ،‬ولما أكل رسول اهلل ! وأصحابه منها‬
‫>ارفعوا أيديَكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة<‪ ،‬ثم قال في وجعه الذي مات فيه‪:‬‬
‫أبهري<(‪.)1‬‬
‫ْ‬
‫قطعت َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بخيبر‪ ،‬فهذا أوان‬ ‫>مازلت أجد من األكلة التي أكلت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قال في النهاية‪ < :‬األبهر عرق في الظهر وهما أبهران‪ ،‬وقيل‪ :‬هما األكحالن‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اللذان في الذراعين‪ ،‬وقيل‪ :‬هو عرق مستبطن القلب‪ ،‬فإذا انقطع لم تبق معه‬
‫ٌ‬
‫حياة > (‪.)2‬‬
‫ِّ‬
‫وفي الحديث أن أم مبشر ‪ I‬دخلت على رسول اهلل ! في وجعه الذي قبض‬
‫َّ‬
‫فيه‪ ،‬فقالت‪ :‬بأبي وأمي يا رسول اهلل‪ ،‬ما تت ِه ُم بنفسك؟ فإني ال أتهم إال الطعام‬
‫بي !‪ ،‬قال‪ > :‬أنا ال أتهم َ‬ ‫بخيبر‪ ،‬وكان ابنُها مات قبل الن ّ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫غيره‪،‬‬ ‫الذي أكل معك‬
‫هذا أوان قطع أبهري<(‪ .)3‬فجمع اهلل لنبيه ! بين الشهادة على يد قتلة األنبياء‬
‫والحمى وفيهما ما فيهما من رفع‬ ‫َّ‬ ‫من اليهود وهي أكرم الميتات‪ ،‬وبين المرض‬
‫الدرجات‪.‬‬
‫بد ُء الشكوى‪:‬‬
‫رجع رسول اهلل ! من حجة الوداع في ذي الحجة‪ ،‬فأقام بالمدينة بقيته‬
‫َ‬
‫وصف ًرا‪ ،‬من العام العاشر‪ ،‬فبدأ بتجهيز جيش أسامة‪َّ ،‬‬ ‫َ‬
‫وأمر عليهم‬ ‫ِ‬ ‫والمحرم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أسامة َ‬
‫‪ ‬بن زيد‪ ‬بن حارثة‪ ،‬وأمره أن يتوجه نحو البلقاء وفلسطين‪ ،‬فتجهز الناس‬
‫وفيهم المهاجرون واألنصار‪ ،‬وكان منهم أبو بكر وعمر‪ ،‬وكان أسامة‪ ‬بن زيد َ‬
‫ابن‬

‫((( سنن أبي داود‪ ،‬حديث رقم (‪.)4513‬‬


‫((( انظر‪ :‬عون المعبود في شرح سنن أبي داود ( ‪.)233/12‬‬
‫((( أبو داوود‪ ،‬السنن‪ ،‬حديث رقم (‪.)4513‬‬
‫‪297‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ّ‬ ‫َ ً‬
‫ثماني عشرة سنة‪ ،‬وتكلم البعض في تأميره وهو مولى وصغير السن على كبار‬
‫المهاجرين واألنصار ‪.‬‬
‫فلم يقبل الرسول ! طعنهم في إمارة أسامة(‪ ،)1‬فقال !‪> :‬إن يطعنوا‬
‫ً‬
‫في إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه‪َ ،‬وايْ ُم اهلل إن كان لخليقا لإلمارة‪ ،‬وإن كان‬
‫إلي بعده<(‪ ،)2‬وبينما الناس‬
‫إلي‪ ،‬وإن ابنه هذا لمن أحب الناس َّ‬ ‫من أحب الناس َّ‬
‫ّ‬
‫يستعدون للجهاد في جيش أسامة‪ ،‬ابتدأ رسول اهلل ! شكواه الذي قبضه اهلل فيه‪،‬‬
‫ُ‬
‫وقد حدثت حوادث ما بين مرضه ووفاته منها‪:‬‬
‫‪P P‬صالته ! على قتلى أحد‪ ،‬واستغفاره ألهل البقيع‪:‬‬
‫ومن حديث عقبة‪ ‬بن عامر الجهني قال‪ :‬إن رسول اهلل ! صلى على قتلى‬
‫ِّ‬
‫أحد بعد ثماني سنين‪ ،‬كالمودع لألحياء واألموات‪ ،‬ثم طلع المنبر فقال‪> :‬إني بين‬
‫ُ‬
‫الحوض‪ ،‬وإني ألنظر إليه وأنا في‬ ‫فرط‪ ،‬وأنا عليكم شهيد‪ ،‬وإن موعدكم‬ ‫أيديكم َ‬
‫مقامي هذا‪ ،‬وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا‪ ،‬ولكن أخشى عليكم الدنيا أن‬
‫آخر نظرة نظرتها إلى رسول اهلل !(‪.)3‬‬‫تنافسوها<‪ ،‬فقال عقبة‪ :‬فكانت َ‬
‫َ‬
‫وعن أبي مويهبة مولى رسول اهلل ! قال‪> :‬بعثني رسول اهلل ! من جوف‬
‫الليل فقال‪ :‬يا أبا مويهبة‪ ،‬إني قد أمرت أن أستغفر ألهل البقيع‪ ،‬فانطلق معي‪،‬‬
‫أظه ِرهم قال‪ :‬السالم عليكم يا أهل المقابر‪ ،‬ليهنأ‬ ‫فانطلقت معه‪ ،‬فلما وقف بين ُ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫كقطعِ الليل المظلم‪ ،‬يتبع‬ ‫ِ‬ ‫الفتن‬ ‫ت‬‫بل‬ ‫لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه‪ ،‬أق‬
‫علي فقال‪ :‬يا أبا مويهبة‪ ،‬إني قد‬‫أولها‪ ،‬اآلخرة(‪ )4‬شر من األولى‪ ،‬ثم أقبل َّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫آخرها‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( انظر‪ :‬السيرة النبوية الصحيحة (‪.)552/2‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3730‬‬
‫((( البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4042‬ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2296‬‬
‫((( أي الفتن اآلخرة‪.‬‬
‫‪298‬‬

‫َ‬
‫أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها‪ ،‬ثم الجنة‪ ،‬فخيرت بين ذلك وبين لقاء‬
‫ربي والجنة‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها‬
‫ثم الجنة‪ ،‬قال‪ :‬ال واهلل يا أبا مويهبة‪ ،‬لقد اخترت لقاء ربي والجنة‪ ،‬ثم استغفر‬
‫ألهل البقيع‪ ،‬ثم انصرف‪ ،‬فبدأ برسول اهلل ! وجعه الذي قبضه اهلل فيه< (‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫ومن الدروس المستفادة هنا استحباب زيارة قبور الشهداء بأح ٍد‪ ،‬وقبور أهل‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫البدعِ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫إحداث‬ ‫وعدم‬ ‫الرحال‪،‬‬ ‫شد‬ ‫البقيع‪ ،‬والدعاء لهم بشرط عدم‬
‫‪P P‬استئذانه ! أن مُي َّ‬
‫َرض يف بيت عائشة وشدة املرض الذي نزل به‪:‬‬
‫وجعه‪ ،‬استأذن أزواجه‬ ‫ُ‬ ‫قالت عائشة ‪> :I‬لما ثقل رسول اهلل ! واشتد‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فأذن له‪ ،‬فخرج وهو بين رجلين‪ ،‬تخط رجاله في‬ ‫في أن يمرض في بيتي‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫وجعه‪ ،‬قال‪ :‬أهريقوا‬ ‫األرض‪ ،‬بين عباس ورجل آخر(‪ ،)2‬ولما دخل بيتي اشتد‬
‫أعهد إلى الناس‪ ،‬فأجلسناه‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫علي من سبع قرب لم تحلل أوكِيتهن‪ ،‬لعلي‬ ‫َّ‬
‫ب‪ ،‬حتى طفق يشير إلينا‬ ‫في مخضب(‪ )3‬لحفصة‪ ،‬ثم طفقنا نصب عليه من تلك َ‬
‫القر ِ‬ ‫ِ‬
‫بيده أن قد فعلتن‪ ،‬ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم< ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫َّ‬
‫(‪)5‬‬
‫وقالت عائشة ‪> :I‬ما رأيت رجاًل أشد عليه الوجع من رسول اهلل !‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وقال عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن مسعود ‪> :K‬دخلت على رسول اهلل ! وهو يوعَك فمسسته‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ‬
‫بيدي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إنك لتوعَك وعكا شديدا‪ ،‬فقال رسول اهلل !‪:‬‬
‫أجرين‪،‬‬‫أجل‪ :‬إني أوعك كما يُوعَ ُك رجالن منكم‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬ذلك أن لك َ‬

‫((( الحاكم في المستدرك (‪ ،)56 ،55/3‬صحيح على شرط مسلم ّ‬


‫وأقره الذهبي‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4442‬‬
‫((( مخضب‪ :‬بكسر الميم وهي اإلجانة التي تغسل فيها الثياب‪.‬‬
‫((( قال ابن عباس‪ :‬الرجل اآلخر هو علي‪ ‬بن أبي طالب‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬صحيح السيرة النبوية (ص ‪.)695‬‬
‫‪299‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫فقال رسول اهلل !‪ :‬أجل‪ ،‬ثم قال رسول اهلل !‪ :‬ما من مسلم يصيبه أذى‬
‫تحط الشجرة ورقها<(‪.)1‬‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫سيئاته‪ ،‬كما ُّ‬
‫ِ‬ ‫من مرض فما سواه إال ح َّط اهلل به‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ود المرض إليه !‪ ،‬فكان بعد رجوعه من دفن أحد أصحابه‪،‬‬ ‫وأما أول معالم ع ِ‬
‫إلي رسول اهلل ! ذات يوم من جنازة بالبقيع‪ ،‬وأنا أجد‬ ‫قالت عائشة ‪ :I‬رجع َّ‬
‫صداعًا في رأسي‪ ،‬وأنا أقول‪ :‬وارأساه‪ ،‬قال‪> :‬بل أنا وا رأساه<‪ ،‬قال‪> :‬ما ض َّر ِك‬
‫مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك<‪ ،‬قلت‪ :‬لكني ـ أو لكأني ـ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لو ِّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بك واهلل لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫فتبسم رسول اهلل !‪ ،‬ثم بُدئ بوجعه الذي مات فيه(‪.)2‬‬
‫زوجاته‬
‫ِ‬ ‫ومن الدروس المستفادة من هذا الموضوع جواز استئذان الرجل‬
‫َّ‬ ‫مرض في بيت إحداهن‪ ،‬إذا كان االنتقال ُّ‬
‫أن ي ُ َّ‬
‫يشق عليه‪ ،‬وإذا لم يأذن فحينئذ يقرع‬
‫بينهن‪.‬‬
‫‪P P‬ختيري ال ّن ّ‬
‫يب ! بني الدنيا وبني ما عند اهلل‪:‬‬
‫عن أبي سعيد الخدري ‪ K‬قال‪ :‬خطب رسول اهلل ! الناس‪ ،‬وقال‪> :‬إن اهلل‬
‫ٰ‬
‫فبكى‬ ‫خ َّير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده‪ ،‬فاختار ذلك العبد ما عند اهلل<‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫أبو بكر‪ ،‬فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول اهلل ! عن عبد‪ ‬خيِّر‪ ،‬فكان رسول اهلل !‬
‫هو المخيَّر‪ ،‬وكان أبو بكر أعلمنا(‪.)3‬‬
‫وتقول عائشة ‪> :I‬كان رسول اهلل ! وهو صحيح يقول‪ :‬إنه لم يقبض ٌّ‬
‫نبي‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬
‫القبض‬ ‫قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخيَّر‪ ،‬فلما اشتكى وحضره‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫سقف البيت‬
‫ِ‬ ‫بصره نحو‬ ‫ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه‪ ،‬فلما أفاق شخص‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( البخاري‪ ،‬كتاب المرض‪ ،‬باب شدة المرض‪ ،‬حديث رقم (‪.)5660‬‬
‫((( أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)25980‬وابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)1465‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3654‬مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2382‬‬
‫‪300‬‬

‫ُ‬ ‫ً‬
‫ثم قال‪ :‬اللهم في الرفيق األعلى‪ ،‬فقلت‪ :‬إذا ال يجاورنا‪ ،‬فعرفت أنه حديثه الذي‬
‫كان يحدثنا وهو صحيح<(‪.)1‬‬
‫نبي يمرض إال‬ ‫وعن عائشة ‪ I‬قالت‪> :‬سمعت رسول اهلل ! يقول‪ :‬ما من ٍّ‬
‫ٌ‬ ‫َّ ٌ‬
‫خ ِّير بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته‬
‫ُ‬
‫َ َ ذَّ َ َ ۡ َ َ هَّ ُ َ َ ۡ ّ َ َّ ّ نۧ َ َ ّ ّ َ َ ُّ َ َ ٓ َ َّ‬
‫نيۚ َو َح ُس َن‬ ‫يقول‪﴿ :‬مع ٱلِين أنعم ٱلل علي ِهم مِن ٱنلب ِ ِي و ِ‬
‫ٱلصٰلِح َ‬ ‫ٱلصدِيقِني وٱلشهداءِ و‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫أ ْو ٰٓلئ ِ َك َرفِيقا﴾ [ا �ل��ن��س�ا ء‪ ،]69 :‬فعلمت أنه خيِّ َر<(‪.)2‬‬
‫ٗ‬ ‫ُ َ‬

‫واختلف العلماء في مراده ! بالرفيق األعلى على أقوال‪ ،‬فقيل‪ :‬اهلل عز وجل‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬مالئكته‪ ،‬وقيل‪ :‬أنبياؤه‪ ،‬وقيل‪ :‬الجنة‪ ،‬ولكل منها دليل‪.‬‬
‫ّ‬
‫الرفيق األعلى الجنة‪ ،‬ويؤيّده ما وقع عند‬ ‫ُّ‬
‫الجوهري‪ّ :‬‬ ‫قال ابن حجر‪ < :‬قال‬
‫ّ‬
‫الرفيق األعلى الجنة‪ ،‬وقيل‪ :‬بل ّ‬ ‫أبي إسحاق‪ّ :‬‬
‫الرفيق هنا اسم جنس يشمل‬
‫الواحد وما فوقه‪ ،‬والمراد األنبياء ومن ذكر في اآلية‪ ،‬وقد ختمت بقوله‪:‬‬
‫﴿ َو َح ُس َن أُ ْو َ ٰٓلئ َك َرف ِٗيقا﴾‪ ...‬وزعم بعض المغاربة أنّه يحتمل أن يراد ّ‬
‫بالرفيق األعلى‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫اهلل عز وجل ألنه من أسمائه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫يحب‬ ‫كما أخرج أبو داود من حديث عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن مغفل رفعه‪> :‬إن اهلل رفيق‬
‫فق<‪ ،‬كذا اقتصر عليه‪ ،‬والحديث عند مسلم عن عائشة فعزوه إليه أولى‪.‬‬ ‫الر َ‬‫ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫والرفيق يحتمل أن يكون صفة ذاتٍ كالحكيم‪ ،‬أو صفة فعل‪ .‬قال‪:‬‬ ‫قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ويحتمل أن يراد به حضرة القدس‪ ،‬ويحتمل أن يراد به الجماعة المذكورون في‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ببعض‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بعضهم‬ ‫وارتفاق‬ ‫اهلل‪،‬‬ ‫طاعة‬ ‫على‬ ‫تعاونهم‬ ‫ا‪:‬‬ ‫رفيق‬ ‫كونهم‬ ‫ومعنى‬ ‫ساء‪،‬‬ ‫آية الن‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫وهذا الثالث هو المعتمد‪ ،‬وعليه اقتصر أكثر الش َّراح > (‪.)3‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4437‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4586‬ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2444‬‬
‫((( فتح الباري (‪.)137/8‬‬
‫‪301‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫مدة مرضه !‪:‬‬


‫َ‬ ‫َ‬ ‫قال ابن حجر‪ < :‬اختُلف ً‬
‫عشر‬ ‫أيضا في مدة مرضه !‪ ،‬فاألكثر على أنها ثالثة‬
‫ً‬
‫يوما‪ ،‬وقيل بزيادة يوم وقيل بنقصه‪ ...‬وقيل‪ :‬عشرة أيام‪ ،‬وبه جزم سليمان التيمي‬
‫في مغازيه‪ ،‬وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح > (‪.)1‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( فتح الباري (‪.)729/7‬‬


‫‪302‬‬

‫المبحث‬
‫بي ‪Z‬‬ ‫وصايا ّ‬
‫الن ّ‬ ‫الثـــالث‬
‫في مرض وفاته‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ ّ‬ ‫َ‬
‫والعظ ِة‪ ،‬لكنه ! اختص أمته‬
‫ال ريب أن أقوال النبي ! جميعا موضع للعبرة ِ‬
‫ببعض النصائح‪ ،‬وهو في مرض موته‪ ،‬وهو مقبل على اآلخرة مدبر عن الدنيا‪،‬‬
‫فما هي آخر وصاياه !؟‪.‬‬
‫‪1.1‬إخراج املشركني من جزيرة العرب وإجازة الوفد‪:‬‬
‫عن عائشة ‪> :I‬عن الن ّ ّ‬
‫بي ! أنه قال في مرضه الذي مات فيه‪ :‬لعن اهلل اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا‪ ،‬قالت‪ :‬ولوال ذلك ألبرزوا قبره‪ ،‬غير‬
‫ً‬
‫ً‬
‫أني أخشى أن يتخذ مسجدا<(‪.)1‬‬
‫وكان ابن عباس ‪ R‬يقول‪> :‬يوم الخميس‪ ،‬وما يوم الخميس!‪ ،‬ثم بكى حتى‬
‫بل ُ‬‫ّ‬
‫دمعه الحصى‪ ،‬قلت‪ :‬يا أبا عباس‪ ،‬ما يوم الخميس؟ قال‪ :‬اشتد برسول اهلل !‬
‫ُ‬
‫وجعه فقال‪ :‬ائتوني بكتف أكتب لكم كتابًا ال تضلوا بعده أبدا‪ ،‬فتنازعوا وال ينبغي‬
‫ً‬
‫ٌ‬
‫عند نبي تنازع ‪ ...‬فقال‪ :‬دعوني‪ ،‬فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه‪ ،‬فأوصاهم‬
‫بثالث‪ ،‬قال‪ :‬أخرجوا المشركين من جزيرة العرب‪ ،‬وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أجيزهم‪ ،‬والثالثة خير‪ ،‬إما أن سكت عنها‪ ،‬وإما أن قالها فنسيتها<(‪.)2‬‬
‫ومن الدروس المستفادة هنا هي وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب؛‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1330‬مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)531‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3053‬مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1637‬‬
‫‪303‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫بي ! أوصى بذلك عند موته‪ ،‬وقد أخرجهم عمر ‪ K‬في بداية خالفته‪،‬‬ ‫ألن الن ّ ّ‬
‫أما أبو بكر فقد انشغل بحروب الردة‪.‬‬
‫‪2.2‬وصيته ! باألنصار ‪:J‬‬
‫وعن ابن عباس ‪ R‬قال‪> :‬خرج رسول اهلل ! في مرضه الذي مات فيه‬
‫ب بعصابة دسماء حتى جلس على المنبر‪ ،‬فحمد اهلل وأثنى عليه‪،‬‬ ‫بملحفة‪ ،‬قد عُص َ‬
‫ِ‬
‫ثم قال‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإن الناس يكثرون ويقلُّ األنصار‪ ،‬حتى يكونوا في الناس بمنزلة‬
‫ُ‬
‫َْ‬ ‫الملح في الطعام‪ ،‬فمن ولي منكم شيئًا‪ ،‬يضر فيه ً‬
‫فليقبل ِمن‬ ‫قوما وينفع فيه آخرين‪،‬‬
‫آخر مجلس جلس به الن ّ ّ‬
‫بي !<(‪.)1‬‬ ‫ُمحسنهم‪ ،‬ويتجاوز عن مسيئهم‪ ،‬فكان َ‬
‫ِ‬
‫‪3 .3‬الرؤيا من مبشرات النبوة‪:‬‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫خلف‬ ‫صفوف‬ ‫وعن ابن عباس ‪ R‬قال‪ :‬كشف رسول اهلل ! الستارة والناس‬
‫أبي بكر فقال‪> :‬أيها الناس‪ ،‬إنه لم يبق من مبشرات النبوة إال الرؤيا الصالحة‪ ،‬يراها‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫راكعا أو ساجدا‪ ،‬فأما الركوع‬ ‫المسلم أو ترى له‪ ،‬أال وإني نهيت أن أقرأ القرآن‬
‫َ ٌ‬
‫فعظموا فيه الرب عز وجل‪ ،‬وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء‪ ،‬فق ِمن أن يُستجاب‬
‫لكم<(‪.)2‬‬
‫‪4.4‬الوصية بالصالة وما ملكت أميانكم‪:‬‬
‫وعن أم سلمة ‪> I‬أن رسول اهلل ! كان يقول في مرضه الذي توفي فيه‪:‬‬
‫يفيض بها لسانه<(‪.)3‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الصالة وما ملكت أيمانكم‪ ،‬فما زال يقولها حتى ما‬
‫ّ‬
‫واهتموا بشأنها وال تغفلوا عنها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫>الصالة< أي‪ :‬الزموها‬ ‫قال السندي‪ < :‬قوله‪:‬‬
‫ّ‬
‫>وما ملكت أيمانكم< من األموال أي‪ :‬أدوا زكاتها وال تسامحوا فيها‪ ...‬ويحتمل‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3628‬‬


‫ً‬
‫مختصرا‪ ،‬وأخرجه أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )1900‬بهذا اللفظ‪.‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)6990‬‬
‫((( ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)1625‬‬
‫‪304‬‬

‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬


‫وحسن ملكتهم‪ ،‬فإن المتبادر من لفظ‪:‬‬ ‫أن يكون وصيّة بالعبيد واإلماء أي‪ :‬أدوا حقوقهم‬
‫ّ‬
‫ما ملكت األيمان في عرف القرآن هم العبيد واإلماء‪ ،‬قوله‪> :‬حتى ما يفيض‬
‫بها لسانه< أي‪ :‬ما يجري وال يسيل بهذه الكلمة لسانه‪ ،‬من فاض الماء إذا سال‬
‫ّ‬
‫وجرى حتى لم يقدر على اإلفصاح بهذه الكلمة > (‪.)1‬‬
‫وعن أنس‪ ‬بن مالك ‪ K‬قال‪ :‬كانت عامة وصية رسول اهلل ! حين حضرته‬
‫ُ‬
‫الوفاة وهو يغرغر بنفسه‪> :‬الصالة وما ملكت أيمانكم<(‪.)2‬‬
‫َ‬

‫أهمية الصالة؛ ألنها أعظم أركان اإلسالم بعد الشهادتين؛ ولهذا أوصى بها‬
‫الن ّ ّ‬
‫بي ! عند موته‪ ،‬أثناء الغرغرة‪.‬‬
‫‪5.5‬القيام حبقوق املماليك واخلدم ومن كان حتت الوالية‪:‬‬
‫ألن الن ّ ّ‬
‫بي ! أوصى بذلك فقال‪> :‬الصالة الصالة وما ملكت أيمانكم<‪.‬‬
‫‪6.6‬إحسان الظن باهلل‪:‬‬
‫قال جابر ‪ :K‬سمعت رسول اهلل ! يقول قبل موته بثالث‪> :‬أحسنوا الظن‬
‫باهلل عز وجل<(‪.)3‬‬
‫اليوم األخري من حياته !‪:‬‬
‫بي ! الذي‬ ‫عن أنس‪ ‬بن مالك األنصاري أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع الن ّ ّ‬
‫بي ! ستر‬ ‫توفي فيه‪ ،‬حتى إذا كان يوم االثنين وهم صفوف في الصالة‪ ،‬فكشف الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫الحجرة ينظر إلينا‪ ،‬وهو قائم كأن َ‬
‫وجهه ورقة مصحف‪ ،‬ثم تبسم يضحك‪ ،‬فهممنا أن‬
‫الصف‪ ،‬وظن أن‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫صل‬ ‫ّ ّ‬
‫نفتتن من الفرح برؤية النبي !‪ ،‬فنكص أبو بكر على عقبيه ِلي ِ‬

‫((( حاشية السندي على ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)1625‬‬


‫((( ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)2697‬‬
‫((( دالئل النبوة للبيهقي ‪.204/7‬‬
‫‪305‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫بي ! أن أتموا صالتكم وأرخى الستر‪،‬‬ ‫بي ! خارج إلى الصالة‪ ،‬فأشار إلينا الن ّ ّ‬
‫الن ّ ّ‬
‫فتوفي من يومه(‪ ،)1‬وفي رواية أخرى‪ :‬وتوفي من آخر ذلك اليوم(‪.)2‬‬
‫قال ابن كثير‪ < :‬وهذا الحديث في الصحيح‪ ،‬وهو يدل على أن الوفاة وقعت‬
‫بعد الزوال‪ ،‬وذهب النووي وابن رجب إلى أنه توفي ضحى ذلك اليوم > (‪،)3‬‬
‫علي أن رسول اهلل ! توفي في بيتي‬ ‫وكانت عائشة ‪ I‬تقول‪> :‬إن من نعم اهلل َّ‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫وفي يومي وبين َسحري ونحري‪ ،‬وأن اهلل جمع بين ريقي وريقه عند موته‪ ،‬دخل‬
‫َ‬ ‫ٌَ‬ ‫َّ‬
‫مسندة رسول اهلل !‪ ،‬فرأيته ينظر إليه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫علي عبد‪ ‬الرحمن وبيده السواك‪ ،‬وأنا‬
‫ْ‬
‫وعرفت أنه يحب السواك‪ ،‬فقلت‪ :‬آخذه لك‪ ،‬فأشار برأسه أن نعم‪ ،‬فتناولته‪،‬‬
‫أن نعم‪ ،‬فليَّنتُه َ‬‫ْ‬
‫فأم َّره وبين يديه ركوة‬ ‫فاشتد عليه‪ ،‬وقلت‪ :‬ألينه لك‪ ،‬فأشار برأسه‬
‫أو علبة ـ يشك عمر ـ فيها ماء‪ ،‬فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه‪،‬‬
‫يقول‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬إن للموت سكرات‪ ،‬ثم نصب يده فجعل يقول‪ :‬في الرفيق‬
‫ُ‬
‫ض ومالت يده > (‪.)4‬‬ ‫األعلى‪ ،‬حتى ُقب َ‬
‫ِ‬
‫وعن أنس‪ ‬بن مالك ‪ K‬أن اهلل عز وجل تابع الوحي على رسول اهلل ! قبل‬
‫وأكثر ما كان الوحي َ‬
‫يوم توفي رسول اهلل ! (‪.)5‬‬ ‫ُ‬ ‫وفاته حتى توفي‪،‬‬
‫َ‬
‫وعن عائشة ‪ I‬أنها سمعت رسول اهلل ! يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى‬
‫صدرها وأصغت إليه وهو يقول‪> :‬اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق<(‪.)6‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)680‬؛ مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)419‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)754‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( البداية (‪ )223/5‬وانظر‪ :‬تهذيب األسماء واللغات للنووي (ص ‪ ،)23‬لطائف المعارف‬


‫(ص ‪.)113‬‬
‫((( البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4449‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)4982‬؛ صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)3016‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)4440‬؛ صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2444‬‬
‫‪306‬‬

‫ُ‬
‫قالت‪ :‬فلما نزل به ورأسه على فخذي غ ِش َي عليه‪ ،‬ثم أفاق فأشخص بصره‬
‫إلى سقف البيت‪ ،‬ثم قال‪> :‬اللهم الرفيق األعلى<‪ ،‬قالت‪ :‬فكانت آخر كلمة تكلم‬
‫بها >اللهم الرفيق األعلى<(‪.)1‬‬
‫قال ابن حجر‪ < :‬وكانت وفاته َ‬
‫يوم االثنين بال خالف من ربيع األول‪ ،‬وكاد يكون‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫عشر منه‪ ،‬وعند موسى‪ ‬بن‬ ‫إجماعا‪ ...‬ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني‬
‫عقبة والليث والخوارزمي وابن زبر مات لهالل ربيع األول‪ ،‬وعند أبي مخنف‬
‫يه ورجحه السهيلي >‪ ،‬وهذا األخير هو الذي اعتمده الحافظ(‪.)2‬‬ ‫ثان ِ‬
‫والكلبي في ِ‬
‫ومن الدروس المستفادة من هذا لموضوع‪ ،‬والتي انتفعت بها األمة فيما بعد ما يلي‪:‬‬
‫َ َُ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫قرأ الحاضرين‪.‬‬ ‫يسيرا ينتظر‪ ،‬فإذا شق االنتظار صلى أ‬ ‫‪P P‬إذا تأخر اإلمام تأخ ًرا‬
‫ُ‬
‫‪P P‬فضل أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة ‪ ،J‬واإلشارة إلى أنه أحق‬
‫بالخالفة من غيره؛ ألن الصالة بالناس للخليفة؛ وألن الصحابة ‪ J‬قالوا‪:‬‬
‫< رضينا لدنيانا من رضيه رسول اهلل ! ِل ِديننا >‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫‪P P‬إذا عَ َر َ‬
‫عارض‪ ،‬أو شغل بأمر ال بد منه منعه من حضور الجماعة؛‬ ‫ض لإلمام‬
‫فإنه يستخلف من يصلي بهم ويكون أفضلهم‪.‬‬
‫ُع ْمر ال ّن ّ‬
‫يب ! حني وفاته‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عشر من ربيع األول من السنة الحادية عشرة‬ ‫وكانت وفاته يوم االثنين الثاني‬
‫َّ‬
‫بي ! توفي وهو ابن ثالث وستين(‪ .)3‬وصح‬ ‫من هجرته !‪ .‬فعن عائشة ‪ I‬أن الن ّ ّ‬
‫مثله عن ابن عباس ‪.)4(R‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)6348‬؛ صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2444‬‬
‫((( فتح الباري (‪.)130/8‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)4466‬؛ مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2349‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪.)3903‬‬
‫‪307‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫وفي رواية أخرى عن ابن عباس‪ :‬توفي رسول اهلل ! وهو ابن خمس وستين(‪.)1‬‬
‫وصح عن أنس ‪ K‬أنها ستون سنة(‪.)2‬‬
‫وجمع النووي بين األقوال‪ ،‬فقال‪ < :‬توفي ! وله ثالث وستون سنة‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫خمس وستون سنة‪ ،‬وقيل‪ :‬ستون سنة‪ ،‬واألول أصح وأشهر‪ ،‬وقد جاءت األقوال‬
‫الثالثة في الصحيح‪.‬‬
‫َّ‬
‫قال العلماء‪ :‬الجمع بين الروايات أن من روى ستين لم يعد معها الكسور‪،‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫خمسا وستين عد سنتي المولد والوفاة‪ ،‬ومن روى ثالثا وستين لم‬ ‫ومن روى‬
‫يعدهما‪ ،‬والصحيح ثالث وستون > (‪.)3‬‬
‫هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها‪:‬‬
‫ُ‬
‫قال ابن رجب‪ < :‬ولما توفي اضطرب المسلمون‪ ،‬فمنهم من دهش فخولط‪،‬‬
‫ق الكالم‪ ،‬ومنهم‬ ‫ط‬ ‫ومنهم من أُقعد فلم يطق القيام‪ ،‬ومنهم من اعتُقل لسانه فلم ي ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫من أنكر موته بالكلية >  ‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫قال القرطبي مبينا عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور‪:‬‬
‫< من أعظم المصائب المصيبة في الدين‪ ..‬قال رسول اهلل !‪> :‬إذا أصاب‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي‪ ،‬فإنها أعظم المصائب<(‪ ،)5‬وصدق رسول اهلل‬
‫!‪ ،‬ألن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫َ‬
‫انقطع الوحي‪ ،‬وماتت النبوة‪ ،‬وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب‪ ،‬وغير ذلك‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه > (‪.)6‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5900‬‬ ‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2353‬‬
‫ ‬
‫((( لطائف المعارف (ص‪.)114‬‬ ‫ ‬
‫(ص‪.)23‬‬ ‫((( تهذيب األسماء واللغات للنووي‬
‫((( انظر‪ :‬السلسلة الصحيحة لأللباني‪ ،‬رقم (‪.)1106‬‬
‫((( انظر‪ :‬تفسير القرطبي (‪.)176/2‬‬
‫‪308‬‬

‫عمر ‪K‬؛ فصار يتوعّد وينذر من يزعم أن الن ّ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬


‫بي مات‪،‬‬ ‫الوفاة‬
‫ِ‬ ‫لقد أذهل نبأ‬
‫ُ‬
‫ويقول‪ :‬ما مات‪ ،‬ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى‪ ‬بن عمران‪ ،‬فقد غاب‬
‫رجع موسى‪،‬‬ ‫عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم‪ ،‬واهلل ليرجعن رسول اهلل كما َ‬
‫فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات(‪.)7‬‬
‫ولما سمع أبو بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح‪ ،‬حتى نزل‪،‬‬
‫َ‬
‫فدخل المسجد‪ ،‬فلم يكلم الناس‪ ،‬حتى دخل على عائشة فتيمم رسول اهلل !‬
‫مغشى بثوب حبرة‪ ،‬فكشف عن وجهه‪ ،‬ثم َّ‬ ‫ّ‬
‫أكب عليه فقبَّله وبكى‪ ،‬ثم‬ ‫وهو‬
‫قال‪ :‬بأبي أنت وأمي! واهلل ال يجمع اهلل عليك موتتين‪ ،‬أما الموتة التي عليك‬
‫َّ‬
‫ماض‬
‫ٍ‬ ‫فقد ِمتها(‪ ،)8‬وخرج أبو بكر وعمر يتكلم‪ ،‬فقال‪ :‬اجلس يا عمر‪ ،‬وهو‬
‫خطيبا بعد أن حمد اهلل وأثنى‬ ‫ً‬ ‫في كالمه‪ ،‬وفي ثورة غضبه‪ ،‬فقام أبو بكر في الناس‬
‫عليه فقال‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أما بعد‪ :‬فإن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد اهلل‬
‫فإن اهلل حي ال يموت‪ ،‬ثم تال هذه اآلية‪﴿ :‬وما ممد إِل رس‬
‫َ‬ ‫َ َ حُ َ َّ ٌ اَّ َ ُ ‪ٞ‬‬
‫ول قَ ۡد َخلَ ۡ‬
‫ت مِن ق ۡبلِهِ‬
‫ُّ ُ ُ َ َ ْ َّ َ َ ۡ ُ َ َ َ ۡ ُ ۡ لَىَ ٰٓ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ َ َ َ َ ۡ لَىَ ٰ َ َ ۡ َ َ َ رَُّ هَّ َ َ ٗ‬
‫ٱلل ش ۡي ٔاۗ‬ ‫ٱلرسل ۚ أفإِين مات أو قتِل ٱنقلبتم ع أعقبِك ۚم ومن ينقل ِب ع عقِبيهِ فلن يض‬
‫َ آ‬
‫ين﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]144 :‬‬ ‫ٱلل َّ ٰ‬
‫ٱلشك ِِر‬ ‫َو َس َي ۡجزي هَّ ُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫قال عمر‪ :‬فواهلل ما إن سمعت أبا بكر تالها؛ فهويت إلى األرض ما تحملني‬
‫قدماي‪ ،‬وعلمت أن رسول اهلل ! قد مات‪.‬‬
‫ُّ‬
‫قال القرطبي‪ < :‬هذه اآلية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته‪ ،‬فإن‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫أعظم‬ ‫ثبوت القلب عند حلول المصائب‪ ،‬وال مصيبة‬ ‫الشجاعة والجراءة حدهما‬
‫ُ‬
‫وعلمه‪ ،‬قال الناس‪ :‬لم يمت رسول اهلل !‬
‫ُ‬
‫بي !‪ ،‬فظهرت شجاعته‬ ‫من موت الن ّ ّ‬

‫((( انظر‪ :‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)594/2‬‬


‫((( صحيح البخاري‪،‬كتاب المغازي‪ ،‬حديث رقم (‪.)4452‬‬
‫‪309‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ومنهم عمر‪ ،‬وخرس عثمان‪ ،‬واستخفى علي‪ ،‬واضطرب األمر‪ ،‬فكشفه الصديق‬
‫قدومه من مسكنه بالسنح > (‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫بهذه اآلية حين‬
‫َ َ‬
‫درأها عن األمة! وكم من فتنة كان‬ ‫َ‬
‫األكبر‪ ،‬كم من مصيبة‬ ‫فرحم اهلل الصديق‬
‫المخرج فيها على يديه! وكم من مشكلة ومعضلة كشفها بشهب األدلة من القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬التي خفيت على مثل عمر ‪ !K‬فاعرفوا للصديق حقه‪ ،‬واقدروا له قدره‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وبغضه نفاق(‪.)2‬‬ ‫وأحبوا حبيب رسول اهلل !‪ ،‬فحبُّه إيمان‬
‫وعن أنس أن فاطمة بكت على رسول اهلل ! حين مات فقالت‪> :‬يا أبتاه‪ ،‬من ربه‬
‫ُ‬ ‫َ َْ‬
‫ما أدناه‪ ،‬يا أبتاه‪ ،‬إلى جبريل ننعاه‪ ،‬يا أبتاه‪ ،‬جنة الفردوس مأواه<(‪.)3‬‬
‫ّ‬
‫ويقول أنس ‪> :K‬قل ليلة تأتي علي إال وأنا أرى فيها خليلي !< ويقول ذلك‬
‫وتدمع عيناه(‪.)4‬‬
‫بي ! بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه‪،‬‬ ‫وعن عائشة ‪ I‬أن أبا بكر دخل على الن ّ ّ‬
‫ووضع يديه على صدغيه‪ ،‬وقال‪> :‬وا نبياه‪ ،‬وا خلياله‪ ،‬وا صفيّاه<(‪.)5‬‬
‫أنفسكم أن تحثوا على‬ ‫ُ‬ ‫أنس‪ ،‬أطابت‬ ‫ولما دفن قالت فاطمة عليها السالم‪> :‬يا ُ‬
‫َ‬
‫التراب؟!<(‪.)6‬‬ ‫رسول اهلل !‬
‫أنور وال أحسن من يوم دخل رسول اهلل !‬ ‫وقال أنس‪> :‬فما رأيت يوما قط َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً ُّ‬
‫أظلم وال أقبح من اليوم الذي‬ ‫يوما قط‬ ‫وأبو بكر المدينة‪ ،‬وشهدت وفاته فما رأيت‬
‫توفي رسول اهلل ! فيه<(‪.)7‬‬

‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬


‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫بي ووفاته‪ ،‬ص‪.24‬‬ ‫ ‬


‫(‪.)222/4‬‬ ‫((( انظر‪ :‬تفسير القرطبي‬
‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)13267‬‬ ‫((( النسائي‪ ،‬حديث رقم (‪.)1844‬‬
‫ ‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)4462‬‬ ‫ ‬
‫(‪.)24029‬‬ ‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم‬

‫((( أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)12234‬‬


‫‪310‬‬

‫قال أبو ذؤيب الهذلي‪> :‬قدمت المدينة وألهلها ضجيج بالبكاء كضجيج‬
‫جميعا باإلحرام‪ ،‬فقلت‪ :‬مه؟! فقالوا‪ُ :‬قب َ‬
‫ً‬ ‫َ َ ُّ‬
‫ض رسول اهلل !<(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫الحجيج أهل‬
‫وقال عثمان‪ :‬توفي رسول اهلل ! فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان‬
‫ُُ‬
‫بعضهم يوسوس‪ ،‬فكنت ممن حزن عليه‪ ،‬فبينما أنا جالس في أطم من آطام‬
‫ٍ‬
‫المدينة ـ وقد بويع أبو بكر ‪ K‬ـ إذ مر بي عمر فسلم َّ‬
‫علي‪ ،‬فلم أشعر به لما بي‬
‫من الحزن(‪.)2‬‬
‫لكن حزن الصحابة وعظيم المصاب لم يخرجهم عن الصبر والتصبر‬
‫إلى النواح والجزع‪ ،‬قال قيس‪ ‬بن عاصم‪> :‬ال تنوحوا علي‪ ،‬فإن رسول اهلل ! لم‬
‫يُنَح عليه<(‪.)3‬‬
‫الدروس والفوائد والعبر المستفادة من هذا المبحث كثيرة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫بي ! أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون‪.‬‬ ‫‪P P‬موت الن ّ ّ‬
‫َ‬ ‫‪P P‬إنكار الصحابة قلوبَهم بعد موت الن ّ ّ‬
‫وانقطاعه‬
‫ِ‬ ‫بي !؛ لفراقهم نزول الوحي‬
‫من السماء‪.‬‬
‫أحب إلى المسلمين من النفس‪ ،‬والولد‪ ،‬والوالد‪ ،‬والناس‬ ‫ُّ‬ ‫بي !‬ ‫‪P P‬الن ّ ّ‬
‫أجمعين‪ ،‬وقد ظهر ذلك عند موته بين القريب والبعيد من أصحاب الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫!‪ ،‬بل وجميع المسلمين‪.‬‬
‫‪P P‬حرص الصحابة على االقتداء والتأسي برسول اهلل !‪ ،‬في كل شيء‬
‫من أمور الدين‪ ،‬حتى في زيارة النساء كبار السن‪ ،‬كما فعل أبو بكر وعمر‬
‫تأسيا به ! فقد كان يزورها‪.‬‬ ‫َ‬
‫أيمن ً‬ ‫‪ R‬من زيارة أم‬

‫((( انظر‪ :‬اإلصابة ‪.226/12‬‬


‫((( الطبقات الكبرى (‪.) 84/2‬‬
‫((( النسائي (‪.)1851‬‬
‫‪311‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫بيعة أبي بكر باخلالفة‪:‬‬


‫َ‬
‫وبايع المسلمون أبا بكر بالخالفة‪ ،‬في سقيفة بني ساعدة‪ ،‬حتى ال يجد الشيطان‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تلعب األهواء بقلوبهم‪ ،‬وليفارق‬ ‫سبياًل إلى تفريق كلمتهم‪ ،‬وتمزيق شملهم‪ ،‬وال‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫منتظ ٌم‪ ،‬وعليهم أمير‬
‫ِ‬ ‫هم‬ ‫وشمل‬ ‫واحدة‪،‬‬ ‫المسلمين‬ ‫وكلمة‬ ‫رسول اهلل ! هذه الدنيا‬
‫يتولى أمورهم‪ ،‬ومنها تجهيز رسول اهلل ! ودفنه(‪ ،)1‬والحديث عن بيعة أبي بكر‬
‫سنتكلم عنه بالتفصيل عند الدخول في عصر الخلفاء الراشدين‪ ،‬إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬
‫غسل ال ّن ّ‬
‫يب ! وتكفينه ودفنه‪:‬‬
‫َُ َ ُ‬ ‫قالت عائشة ‪> :I‬لما أرادوا غسل الن ّ ّ‬
‫بي ! قالوا‪ :‬واهلل‪ ،‬ما ندري أنج ِّرد رسول‬
‫ِّ ُ‬
‫نجرد موتانا‪ ،‬أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى اهلل عليهم‬ ‫اهلل ! من ثيابه كما‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫النوم حتى ما منهم رجل إال وذقنه في صدره‪ ،‬ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت ال‬
‫بي ! وعليه ثيابُه‪ ،‬فقاموا إلى رسول اهلل ! َّ‬
‫فغسلوه‬ ‫يدرون من هو أن اغسلوا الن ّ ّ‬
‫قميصه‪ ،‬يصبون الماء فوق القميص‪ ،‬ويدلكونه بالقميص دون أيديهم‪ ،‬وكانت‬ ‫ُ‬ ‫وعليه‬
‫عائشة تقول‪ :‬لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إال نساؤه<(‪.)2‬‬
‫َ ْ َّ‬
‫كفنتُم الن ّ َّ‬ ‫ُ‬
‫بي !؟‬ ‫وعنها ‪ I‬قالت‪> :‬دخلت على أبي بكر ‪ K‬فقال‪ :‬في كم‬
‫سحولية‪ ،‬ليس فيها قميص وال عمامة‪ ،‬وقال لها‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫يض‬
‫ٍ‬ ‫قالت‪ :‬في ثالثة أثواب ِب‬
‫(فأي يوم هذا؟) قالت‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫في أي يوم توفي رسول اهلل !؟ قالت‪َ :‬‬
‫يوم االثنين‪ ،‬قال‪:‬‬
‫يمرض‬ ‫يوم االثنين‪ ،‬قال‪( :‬أرجو فيما بيني وبين الليل)‪ ،‬فنظر إلى ثوب عليه كان َّ‬
‫فيه‪ ،‬به ردع من زعفران‪ ،‬فقال‪( :‬اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين‪ ،‬فكفنوني‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫أحق بالجديد من الميت‪ ،‬إنما هو‬ ‫َّ‬
‫الحي‬ ‫فيها)‪ ،‬قلت‪ :‬إن هذا خ ِل ٌق‪ ،‬قال‪( :‬إن‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫وف حتى أمسى من ليلة الثالثاء‪ ،‬ودفن قبل أن يصبح<(‪.)3‬‬ ‫للمهلة)‪ ،‬فلم ي ُ َت َّ‬

‫((( انظر‪ :‬السيرة النبوية للندوي‪ ،‬ص‪.406‬‬ ‫((( النسائي‪ ،‬حديث رقم (‪.)1851‬‬
‫ ‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)1387‬‬
‫‪312‬‬

‫قال ابن كثير‪ < :‬والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه ! توفي يوم االثنين‬
‫َ‬
‫ودفن ليلة األربعاء > (‪.)1‬‬
‫ُ ِّ‬
‫صلي عليه؟ قال‪:‬‬ ‫سئل أبو عسيب وقد شهد الصالة على رسول اهلل‪ :‬كيف‬
‫>فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه ثم يخرجون من الباب اآلخر<(‪.)2‬‬
‫وعن سعيد‪ ‬بن المسيب قال‪> :‬لما توفي رسول اهلل وضع على سريره‪ ،‬فكان‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الناس يدخلون ز َم ًرا ز َم ًرا يصلون عليه ويخرجون ولم يؤمهم أحد<(‪.)3‬‬
‫ُ‬
‫قال ابن كثير‪ < :‬وهذا الصنيع ـ وهو صالتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه ـ‬
‫أمر مجمع عليه ال خالف فيه > (‪.)4‬‬
‫اختلف المسلمون في موقع دفنه؛ فقال بعضهم‪ :‬يدفن عند المنبر‪ ،‬وقال‬
‫آخرون‪ :‬بالبقيع‪ ،‬وقال قائل‪ :‬في مصاله(‪ ،)5‬فجاء أبو بكر الصديق فحسم مادة هذا‬
‫الخالف أيضا بما سمعه من رسول اهلل !‪.‬‬
‫قالت عائشة وابن عباس‪ :‬لما قبض رسول اهلل ! وغسل اختلفوا في دفنه‪،‬‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬ما نسيت ما سمعت من رسول اهلل ! يقول‪> :‬ما َق َ‬
‫بض اهللُ ً‬
‫نبيا إال في‬
‫دفن فيه<‪ ،‬ادفنوه في موضع فراشه(‪.)6‬‬ ‫الموضع الذي يجب أن ي ُ َ‬
‫ْ‬
‫دف َن الن ّ ّ‬ ‫َ ً‬
‫بي ! في موضعه‬ ‫وهذا الحديث وإن كان مختلفا في صحته إال أن‬
‫الذي توفي فيه ٌ‬
‫أمر مجمع عليه(‪.)7‬‬
‫وقال ابن كثير‪ < :‬قد علم بالتواتر أنه ! دفن في حجرة عائشة التي كانت‬

‫((( انظر مجمع الزوائد ‪.40/9‬‬ ‫ ‬


‫((( البداية (‪.)237/5‬‬
‫((( البداية (‪.)232/5‬‬ ‫ ‬
‫(‪.)430/7‬‬ ‫((( مصنف ابن أبي شيبة‬
‫((( انظر‪ :‬صحيح السيرة النبوية‪ ،‬ص‪.727‬‬ ‫ ‬ ‫((( ابن سعد (‪.)293/2‬‬
‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬
‫بي ووفاته‪ ،‬ص‪.160‬‬
‫‪313‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫َّ‬
‫شرقي مسجده‪ ،‬في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة‪ ،‬ثم دفن فيها‬ ‫تختص بها‪،‬‬
‫أبو بكر‪ ،‬ثم عمر‪.)1( > R ،‬‬
‫َّ (‪)2‬‬ ‫َّ َ‬ ‫وقد ُلح َد ُ‬
‫قبر رسول اهلل !‪ ،‬وقد أجمع العلماء على أن اللحد والشق‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ ْ ُ‬
‫جائزان‪ ،‬لكن إذا كانت األرض صلبة‪ ،‬ال ينهار ترابها؛ فاللحد أفضل‪ ،‬وإن كانت‬
‫ِّ‬
‫رخوة تنهار فالش ُّق أفضل(‪.)3‬‬
‫وقد قال األلباني ـ رحمه اهلل ـ‪ < :‬ويجوز في القبر اللحد والشق لجريان العمل‬
‫بي !‪ ،‬ولكن األول أفضل(‪)4‬؛ ألن اهلل تعالى ال يختار لنبيه إال‬ ‫عليهما في عهد الن ّ ّ‬
‫األفضل > ‪.‬‬
‫مرتفعا‪ ،‬وذهب جمهور العلماء إلى أن‬ ‫ً‬ ‫وأما صفة قبره فقد كان مسن َّ ًما(‪ )5‬أي‪:‬‬
‫المستحب في بناء القبور هو التسنيم وأنه أفضل من التسطيح(‪ ،)6‬وفي المسألة‬
‫خالف طويل ليس هذا محله ‪.‬‬
‫وقد قرب ابن القيم رحمه اهلل بين المذهبين فقال‪ < :‬وكانت قبور أصحابه ال‬
‫ْ ًَ‬
‫ُمش ِرفة‪ ،‬وال الطئة‪ ،‬وهكذا كان قبره الكريم‪ ،‬وقبرا صاحبيه‪ ،‬فقبره ! مسن َّ ٌم‬
‫صة الحمراء‪ ،‬ال مبني وال مطين‪ ،‬وهكذا قبرا صاحبيه(‪ )7‬وقد‬ ‫مبطوح ببطحاء َ‬
‫العر ِ‬
‫ً‬
‫مرتفعا قلياًل عن سطح األرض >‪.‬‬ ‫كان قبره !‬

‫((( اللحد‪ :‬الشق الذي يعمل في جانب القبر لوضع الميت‪.‬‬


‫((( والشق‪ :‬أي يحفر في وسط األرض‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬أحكام الجنائز‪( ،‬ص‪.)144‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬


‫بي ووفاته‪( ،‬ص‪ )160‬وقد استفدت من هذا الكتاب فائدة كبرى في مبحث‬
‫مرض ووفاة الرسول‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬زاد المعاد (‪.)524/1‬‬ ‫ ‬ ‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬
‫بي ووفاته‪( ،‬ص‪.)164‬‬
‫((( انظر‪ :‬تهذيب السنن البن القيم (‪.)338/4‬‬
‫‪314‬‬

‫أما الذين باشروا دفنه ! فقال ابن إسحاق‪ :‬وكان الذين نزلوا في قبر رسول‬
‫َُ‬
‫اهلل ! علي‪ ‬بن أبي طالب‪ ،‬والفضل‪ ‬بن عباس‪ ،‬وقث ُم‪ ‬بن عباس‪ ،‬وشقران مولى‬
‫َ‬
‫العباس‪ ،‬قال النووي‪ :‬ويقال كان‬ ‫(‪)3‬‬ ‫ُّ‬
‫النووي(‪ )2‬والمقدسي‬ ‫رسول اهلل(‪ ،! )1‬وزاد‬
‫أسامة‪ ‬بن زيد وأوس‪ ‬بن خولي(‪ )4‬معهم‪ .‬ودفن في اللحد‪ ،‬وبُ ِن َي عليه ! في لحده‬
‫َ‬ ‫َّ ْ‬
‫َ‬
‫التراب(‪.)5‬‬ ‫الل ِبن‪ ،‬يقال إنها تسع ل ِبنَات‪ ،‬ثم أهالوا‬
‫َ‬
‫وأما وقت دفنه‪ :‬فقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه دفن ليلة األربعاء‪ ،‬قال ابن‬
‫كثير‪ < :‬والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه ! توفي َ‬
‫يوم اإلثنين‪ ،‬ودفن ليلة‬
‫األربعاء > (‪. )6‬‬
‫لقد كان لوفاة الرسول ! أثر على الصحابة الكرام‪ ،‬فقد قال أنس ‪> : K‬وما‬
‫نفضنا عن الن ّ ّ‬
‫بي ! األيدي ـ إنا لفي دفنه ـ حتى أنكرنا قلوبَنا<(‪.)7‬‬
‫مرياثــــه !‪:‬‬
‫عن عمرو‪ ‬بن الحارث ‪ K‬قال‪> :‬ما ترك الرسول ! عند موته‪ :‬د ْر ً‬
‫هما‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ًَ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أمة‪ ،‬وال شيئا‪ ،‬إال بغلته البيضاءَ (التي كان يركبها)‬ ‫دينارا‪ ،‬وال عبدا‪ ،‬وال‬ ‫وال‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫وسالحه‪( ،‬وأرضا بخيبر) جعلها (البن السبيل) صدقة<(‪.)8‬‬

‫((( انظر‪ :‬تهذيب األسماء‪( ،‬ص‪.)23‬‬


‫((( انظر‪ :‬مختصر السيرة‪( ،‬ص‪.)35‬‬
‫((( انظر‪ :‬مرض الن ّ ّ‬
‫بي ووفاته‪( ،‬ص‪.)173‬‬
‫((( انظر‪ :‬تهذيب األسماء للنووي‪( ،‬ص‪.)23‬‬
‫((( انظر‪ :‬البداية والنهاية (‪)237/5‬؛ صحيح السيرة النبوية‪( ،‬ص‪.)728‬‬
‫((( انظر‪ :‬صحيح السيرة النبوية‪( ،‬ص‪.)729‬‬
‫((( انظر‪ :‬مختصر السيرة‪( ،‬ص‪.)35‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2739‬‬
‫‪315‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ً‬
‫درهما‪ ،‬وال شاة‪ ،‬وال‬ ‫وعن عائشة ‪ I‬قالت‪> :‬ما ترك الرسول ! ً‬
‫دينارا‪ ،‬وال‬
‫بعيرا‪ ،‬وال أوصى بشيء<(‪.)1‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫جابيا‬ ‫وقال !‪> :‬ال نورث‪ ،‬ما تركنا فهو صدقة<(‪ )2‬وذلك ألنه لم يبعث !‬
‫ً‬
‫ً‬
‫وداعيا إلى اهلل بإذنه‪،‬‬ ‫ً‬
‫ونذيرا‪،‬‬ ‫ً‬
‫ومبشرا‪،‬‬ ‫لألموال والخازنا‪ ،‬إنما بعث هاديًا‪،‬‬
‫ً‬
‫وسراجا ً‬
‫منيرا‪ ،‬وهذا هو شأن أنبياء اهلل ورسله عليهم الصالة والسالم؛ ولهذا قال‬
‫!‪> :‬إن العلماء ورثة األنبياء‪ ،‬إن األنبياء لم ِّ‬
‫ورثوا‬ ‫ً‬
‫درهما‪ ،‬إنما َّ‬ ‫ً‬
‫دينارا وال‬ ‫يورثوا‬
‫العلم‪ ،‬فمن أخذه أخذ بحظ وافر<(‪.)3‬‬
‫ٍّ‬

‫وقد فهم الصحابة ‪ J‬ذلك‪ ،‬فعن سليمان‪ ‬بن مهران‪ :‬بينما ابن مسعود ‪K‬‬
‫يوما معه نفر من أصحابه إذ ّ‬
‫مر أعرابي فقال‪ :‬على ما اجتمع هؤالء؟ قال ابن مسعود‬ ‫ً‬
‫‪> :K‬على ميراث محمد ! ّ‬
‫يقسمونه<(‪.)4‬‬
‫بي ! هو الكتاب والسنة والعلم وهديُه !؛ ولهذا توفي !‬ ‫فميراث الن ّ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أمة‪ ،‬وال ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعيرا‪ ،‬وال شاة‪ ،‬وال شيئا‪،‬‬ ‫دينارا‪ ،‬وال عبدا‪ ،‬وال‬ ‫درهما‪ ،‬وال‬ ‫ولم يترك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وأرضا جعلها صدقة البن السبيل‪.‬‬ ‫إال بغلته‬
‫ٌ‬ ‫وعن عائشة ‪ I‬قالت‪> :‬توفي الن ّ ّ‬
‫بي ! ودرعُه مرهونة عند يهودي بثالثين‬
‫صاعًا من شعير<(‪.)5‬‬

‫((( مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1635‬أي‪ :‬لم يوص بثلث ماله وال غيره‪ ،‬إذ لم يكن له مال‪ ،‬أما أمور‬
‫الدين فقد تقدم أنه أوصى بكتاب اهلل وسنه نبيه‪ ،‬وأهل بيته‪ ،‬وإخراج المشركين من جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬وبإجازة الوفد‪ ،‬والصالة‪ ،‬وملك اليمين‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬انظر‪ :‬شرح النووي (‪.)97/11‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( البخاري في عدة مواضع من حديث عائشة‪ ،‬ومالك‪ ‬بن أوس‪ ،‬وأبي بكر ‪ ،J‬برقم‬
‫(‪.)4036 ،3712 ،3093‬‬
‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3641‬والترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2682‬وابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)223‬‬
‫((( أخرجه الخطيب البغدادي بسنده في شرف أصحاب الحديث (ص ‪.)45‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)2068‬؛ ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1603‬‬
‫‪316‬‬

‫بي ! كان يتقلل من الدنيا‪ ،‬ويستغني عن الناس؛ ولهذا‬ ‫وهذا يبين أن الن ّ ّ‬
‫َ‬
‫لم يسأل الصحابة أموالهم أو يقترض منهم؛ ألن الصحابة ال يقبلون رهنه‬
‫وربما ال يقبضون منه الثمن‪ ،‬فعدل إلى معاملة اليهودي؛ لئاّل يضيِّ َق على أحد‬
‫من أصحابه ! (‪.)1‬‬
‫وقد كان ! يصيبه الجوع وهو حي؛ وقد يمر الشهر والشهران وما أوقدت في‬
‫أبيات رسول اهلل ! نار‪ ،‬قال عروة لعائشة رضي اهلل عن الجميع‪ :‬ما كان يقيتكم؟‬
‫قالت‪> :‬األسودان‪ :‬التمر والماء‪.)2(<...‬‬
‫ومع هذا كان يقول !‪> :‬مالي وللدنيا‪ ،‬إنما َمثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬

‫في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها<(‪.)3‬‬


‫وخالصة القول‪ :‬إن من أهم الدروس والفوائد والعبر في هذا الموضوع‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫‪P P‬الرسول ! لم يبعث لجمع األموال‪ ،‬وإنما بعث لهداية الناس وإخراجهم‬
‫ورث‬ ‫ً‬
‫درهما‪ ،‬وإنما َّ‬ ‫ً‬
‫دينارا وال‬ ‫يو ِّرث‬
‫من الظلمات إلى النور؛ لهذا لم َ‬
‫العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر‪.‬‬
‫وحطامها الفاني؛ وإنما هو كالراكب الذي استظل‬ ‫بي ! في الدنيا‬ ‫‪P P‬زهد الن ّ ّ‬
‫ِ‬
‫تحت شجرة ثم راح وتركها‪.‬‬
‫َ‬
‫يكلف‬ ‫بي ! عن سؤال الناس فهو يقترض ويرهن حتى ال‬ ‫‪P P‬استغناء الن ّ ّ‬
‫َ‬
‫ثالثين صاعًا‬ ‫أصحابه؛ ولهذا مات ودرعُه مرهونة عند يهودي في‬
‫من شعير‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬شرح النووي ‪.40/11‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2567‬‬
‫((( أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )4208‬وقال مخرجوه‪< :‬صحيح>‪.‬‬
‫‪317‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫‪ّ PP‬‬
‫شدة الحال وقلة ذات اليد عند الن ّ ّ‬
‫بي !؛ ولهذا يمضي الشهر والشهران‬
‫ولم توقد في أبياته نار‪ ،‬وإنما كان يقيتهم األسودان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫والنهار‪ ،‬وأسأل اهلل العلي العظيم‬ ‫فصلوات اهلل وسالمه عليه ما تعاقب الليل‬
‫أن يجعلنا من أتباعه المخلصين‪ ،‬وأن يحشرنا في زمرته َ‬
‫يوم الدين‪.‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬
‫‪318‬‬

‫المبحث‬
‫حقوق الرسول ‪Z‬‬ ‫الرابـــــع‬
‫على أمته‬
‫ُ‬
‫للنبي الكريم ! حقوق على أمته وهي كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬اإليمان الصادق به !‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ووجوب طاعته والحذر من معصيته‬ ‫قواًل‪ ،‬وفعاًل وتصديقه في كل ما جاء به !‪،‬‬
‫منزلته ! بال ُغ ٍّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لو وال تفريط‪،‬‬ ‫والتحاكم إليه والرضى بحكمه‪ ،‬وإنزاله‬ ‫!‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫واتِّباعُ‬
‫ِ‬ ‫واألهل‬ ‫النفس‪،‬‬ ‫من‬ ‫أكثر‬ ‫ه‬ ‫ومحبت‬ ‫األمور‪،‬‬ ‫جميع‬ ‫في‬ ‫وأسوة‬ ‫قدوة‬ ‫واتخاذه‬ ‫ه‬
‫واحترامه وتوقيره ونصر دينه والذب عن سنته !‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫جميعا‪،‬‬ ‫والمال والولد والناس‬
‫والصالة عليه ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لقوله !‪> :‬إن من أفضل أيامكم َ‬
‫يوم الجمعة‪ ،‬فيه‪ :‬خلق آدم‪ ،‬وفيه النفخة‪،‬‬
‫ُ‬
‫علي< فقال‬‫صالتكم معروضة َّ‬ ‫علي من الصالة فيه‪ ،‬فإن‬ ‫وفيه الصعقة‪ ،‬فأكثروا‬
‫َ َ‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫رجل‪ :‬يا رسول اهلل! كيف تعرض صالتنا عليك وقد أ ِر ْمت؟ يعني بَ ِليت‪ .‬قال‪:‬‬
‫>إن اهلل ح َّرم على األرض أن تأكل أجساد األنبياء<(‪ )1‬ومن األدلة على هذه الحقوق‬
‫ما يلي‪:‬‬

‫اإلميان الصادق به ! وتصديقه فيما أتى به‪:‬‬ ‫‪1‬‬


‫ٱلل ب ِ َما ت ۡع َملون َخبِري‪﴾ٞ‬‬ ‫ِي أَ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬فامِنوا ب ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫نزلنۡ َا ۚ َو هَّ ُ‬ ‫ولِۦ َوٱنلُّور ذَّٱل ٓ‬ ‫ََ ٔ ُ ْ هَّ‬
‫ٱللِ َو َر ُ‬
‫ِ‬ ‫هِ‬ ‫س‬
‫[ا �لت��غ��ا � نب�‪.]8 :‬‬

‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1047‬وابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1058‬والنسائي (‪،)91/3‬‬
‫وصححه األلباني في صحيح النسائي (‪ ،)197/1‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)16162‬‬
‫‪319‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫َّ أۡ ُ ّ ّ ذَّ‬
‫وقال‪﴿ :‬فامِنوا ب ِ‬
‫كمۡ‬‫َ َّ ُ ُ َ َ َّ ُ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ُ ۡ ُ هَّ َ لَ‬ ‫ولِ ٱنل ّ‬ ‫ََ ٔ ُ ْ هَّ‬
‫ٱللِ َو َر ُ‬
‫م ٱلِي يؤمِن بِٱللِ وك ِمتِهِۦ وٱتبِعوه لعل‬ ‫ب ٱل يِ ِ‬ ‫يِ ِ‬ ‫هِ‬ ‫س‬
‫أ‬
‫ت ۡه َت ُدون﴾ [ال� �عرا �ف�‪.]158 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫ُ ۡ ُ ۡ ۡ َينۡ‬
‫ل‬ ‫ِف‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ِك‬ ‫ت‬ ‫ؤ‬ ‫ي‬ ‫ِۦ‬ ‫هِ‬
‫ول‬ ‫ٱلل َو َءام ُِنوا ْ ب َر ُ‬
‫س‬ ‫ِين َء َام ُنوا ْ َّٱت ُقوا ْ هَّ َ‬ ‫يأ ُّي َها ذَّٱل َ‬
‫َ َ‬
‫أيضا‪ٰٓ ﴿ :‬‬ ‫ً‬ ‫وقال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِيم﴾ [ا �ل�ح�د ي��د‪.]28 :‬‬ ‫ٱلل غ ُفور‪َّ ٞ‬رح ‪ٞ‬‬ ‫َ‬ ‫ك ۡم َو هَّ ُ‬ ‫َ‬
‫ََ ۡ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ ۡ ُ ٗ َۡ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ ۡ َ‬ ‫َّ مۡ َ‬
‫مِن رحتِهِۦ ويجعل لكم نورا تمشون بِهِۦ ويغ ِفر ل ۚ‬
‫َ َّ ٓ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ‬
‫ين َس ِعريٗ ا﴾ [ا �ل��ف����ت��ح‪.]13 :‬‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬و َمن ل ۡم يُؤ ِم ۢن بِٱللِ َو َر ُس هِ‬
‫ك ٰ ِفر َ‬ ‫هَّ‬ ‫َّ ۡ‬
‫ِ‬ ‫ولِۦ فإِنا أعتدنا ل ِل‬
‫َ‬ ‫وقال !‪> :‬أ ُ ُ‬
‫مرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ال إله إال اهلل ويؤمنوا‬
‫بي وبما جئت به<(‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫واإليمان به ! هو التصديق بنبوته‪ ،‬وأن اهلل أرسله للجن واإلنس‪ ،‬وتصديقه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫في جميع ما جاء به وقاله‪ ،‬ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان‪ ،‬بأنه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والنطقق بالشهادة باللسان‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫تم اإليمان‬ ‫التصديق به بالقلب‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬فإذا اجتمع‬
‫ُ‬
‫والتصديق له ! (‪.)2‬‬ ‫به‬

‫وجوب طاعته ! واحلذُر من معصيته‪ ،‬فإذا وجب اإلميان به وتصديقه‬ ‫‪2‬‬


‫فيما جاء به وجبت طاعته؛ ألن ذلك مما أتى به‪:‬‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ ذَّ َ َ َ ُ ٓ ْ َ ُ ْ هَّ َ َ َ ُ هَ ُ َ اَ َ َ َّ ۡ ْ َ ۡ ُ َ َ ُ ۡ َ ۡ َ ُ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬يأيها ٱلِين ءامنوا أطِيعوا ٱلل ورسولۥ ول تولوا عنه وأنتم تسمعون﴾‬
‫أ‬
‫[ال� ن���ف���ا ل‪.]20 :‬‬
‫ح���ر‪. ]7:‬‬
‫ٱنت ُه ۚوا﴾ [ا �ل‬ ‫وقال‪﴿ :‬وما ءاتى‬
‫�ش‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك ۡم َع ۡن ُه ف َ‬
‫ُ ََ َ ٰ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َٰ ُ‬‫ُ َ ُ ُ‬ ‫ٓ‬
‫ٱلر ُسول فخذوه وما نهى‬
‫ك ُم َّ‬
‫َ‬ ‫ُۡ َ‬
‫ٱلر ُسول ۖ﴾ [ا �لن�ور‪.]54 :‬‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬قل أط ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِيعوا هَّ َ‬
‫ٱلل َوأط ُ‬
‫ِيعوا َّ‬ ‫ْ‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫يب ُه ۡم ف ِۡت َن ٌة أَ ۡو يُ ِص َ‬
‫يب ُه ۡم َع َذ ٌ‬
‫اب‬ ‫ون َع ۡن أَ ۡمره ِۦٓ أَن تُ ِص َ‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬فليحذرِ ٱلِين يال ِف‬
‫َ ۡ َ ۡ َ ذَّ َ خُ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫أ يِل ٌم﴾ [ا �لن�ور‪.]63 :‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)21‬‬


‫((( انظر‪ :‬الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ! للقاضي عياض ‪.539/2‬‬
‫‪320‬‬

‫أ‬
‫يما﴾ [ال� �ح�ز ا ب�‪.]71 :‬‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬و َمن يُ ِطعِ هَّ َ‬
‫از ف ۡو ًزا َع ِظ ً‬ ‫َ‬
‫ولۥ فق ۡد ف َ‬‫َ‬ ‫ََ‬
‫ٱلل َو َر ُس ُ‬ ‫هَ‬
‫أ‬
‫ولۥ فق ۡد َضل َضلٰل ُّمب ِ ٗينا﴾ [ال� �ح�ز ا ب�‪.]36 :‬‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َمن َي ۡع ِص هَّ َ‬
‫َ اٗ‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬
‫ٱلل َو َر ُس ُ‬ ‫هَ‬

‫تت ِ َها أۡٱلَنۡ َه ٰ ُر َخ ٰ دِل َ‬


‫وقال‪﴿ :‬ومن ي ِطعِ ٱلل ورسولۥ يدخِله جن ٖ‬
‫ِين ف َ‬ ‫حَ ۡ‬ ‫هَّ َ َ َ ُ هَ ُ ُ ۡ ۡ ُ َ َّ ٰ جَ ۡ‬ ‫ََ ُ‬
‫ِيها ۚ‬ ‫ت ت ِري مِن‬
‫ودهُۥ يُ ۡدخ ِۡل ُه نَ ً‬
‫ارا َخ ٰ دِٗلا ف َ‬ ‫هَّ َ َ َ ُ هَ ُ َ َ َ َ َّ ُ ُ َ‬ ‫َو َذٰل َِك ۡٱل َف ۡو ُز ۡٱل َع ِظ ُ‬
‫ِيها‬ ‫يم ‪َ ١٣‬و َمن َي ۡع ِص ٱلل ورسولۥ ويتعد حد‬
‫ني﴾ [ا �ل��ن��س�ا ء‪.]14-13 :‬‬ ‫اب ُّمه ‪ٞ‬‬
‫ِ‬
‫َو هَ ُلۥ َع َذ ‪ٞ‬‬

‫وعن أبي هريرة ‪ K‬قال‪ :‬قال الرسول !‪> :‬من أطاعني فقد أطاع اهلل‬
‫ومن عصاني فقد عصى اهلل<(‪ ،)1‬وعنه ‪ K‬قال‪ :‬قال الرسول !‪> :‬كل أمتي‬
‫يدخلون الجنة إال من أبى‪ ،‬قالوا يا رسول اهلل‪ ،‬ومن يأبى؟ قال‪ :‬من أطاعني دخل‬
‫الجنة ومن عصاني فقد أبى<(‪.)2‬‬
‫وعن ابن عمر ‪ K‬قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬بُعثت بين يدي الساعة بالسيف‪،‬‬
‫ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ََ‬
‫ُّ‬
‫الذل‬ ‫ظل رمحي‪ ،‬وج ِعل‬‫عبد اهللُ وحده ال شريك له‪ ،‬وج ِعل رزقي تحت ِّ‬ ‫حتى ي‬
‫غار على من خالف أمري‪ ،‬ومن تشبه بقوم فهو منهم<(‪.)3‬‬ ‫والص ُ‬
‫َّ‬

‫اتباعه ! واختاذه قدوة يف مجيع األمور واالقتداء بهديه‪:‬‬ ‫‪3‬‬


‫قال تعالى‪﴿ :‬قل إِن كنتم تِبون ٱلل فٱتبِع يِ‬
‫حُ ۡ ۡ ُ ُ هَّ ُ َ َ ۡ ۡ َ ُ ۡ ُ ُ َ ُ‬
‫وبك ۡ ۚم‬ ‫ون يبِبكم ٱلل ويغ ِفر لكم ذن‬ ‫ُ ُ ۡ حُ ُّ َ هَّ َ َ َّ ُ‬ ‫ُۡ‬
‫َ هَّ ُ َ ُ ‪ ٞ َّ ٞ‬آ‬
‫ِيم﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]31 :‬‬ ‫وٱلل غفور رح‬
‫هَّ ُ ۡ َ ٌ َ َ َ ‪ َ ّ ٞ‬اَ َ َ ۡ ُ ْ هَّ َ يۡ‬
‫ٱلل َوٱلَ ۡو َم‬ ‫أيضا‪﴿ :‬لق ۡد كن لك ۡم يِف َر ُسو ِل ٱللِ أسوة حسنة ل ِمن كن يرجوا‬
‫َّ َ اَ َ َ ُ‬ ‫وقال ً‬
‫أ‬
‫ٱلل كثِريٗ ا﴾ [ال� �ح�ز ا ب�‪.]21 :‬‬
‫َ َ َ َ َ هَّ َ َ‬
‫ٱٓأۡلخِر وذكر‬
‫أ‬
‫ك ۡم ت ۡه َت ُدون﴾ [ال� �عرا �ف�‪. ]158 :‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬وٱتبِعوه لعل‬
‫َ‬ ‫َ َّ ُ ُ َ َ َّ ُ َ‬

‫(‪ ((( .)7137‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)7280‬‬


‫ ‬‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‬
‫ً‬
‫((( أحمد في المسند‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5115‬والبخاري مع الفتح معلقا (‪ ،)98/6‬وحسنه‬
‫العالمة ابن باز‪ ،‬وانظر‪ :‬صحيح الجامع (‪.)8/3‬‬
‫‪321‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته‪ ،‬قال !‪> :‬فمن‬
‫رغب عن سنتي فليس مني<(‪.)1‬‬

‫أكثر من األهل والولد والوالد والناس أمجعني‪:‬‬


‫َ‬ ‫حمبته !‬ ‫‪4‬‬
‫اَ َ َ َ ٓ ُ ُ ۡ َ َ ۡ َ ٓ ُ ُ ۡ ۡ َ ٰ ُ ُ ۡ َ َ ۡ َ ٰ ُ ُ ۡ َ َ َ ُ ُ‬
‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬قل إِن كن ءاباؤكم وأبناؤكم ِإَوخونكم وأزوجكم وعشِ ريت‬
‫كمۡ‬ ‫ُۡ‬
‫هَّ‬ ‫َ َ ۡ َ ٰ ٌ ۡ رَ َ ۡ ُ ُ َ َ َ ٰ َ ‪ ٞ‬خَ ۡ َ ۡ َ َ َ َ َ َ َ َ ٰ ُ َ ۡ َ ۡ َ َ ٓ َ َ َّ يَ ۡ ُ‬
‫لكم ّم َِن ٱللِ‬ ‫كن ترضونها أحب إ ِ‬ ‫وأمول ٱقتفتموها وت ِجرة تشون كسادها ومس ِ‬
‫هَّ ُ َ‬ ‫َ رَ َّ ُ ْ َ ىَّ َ ۡ‬
‫ت يأ يِت ٱلل بِأم ِرهِۗۦ وٱلل ل يهدِي ٱلقوم ٱلف ِسقِني﴾‬
‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ََۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫ُ‬ ‫َ هَّ‬ ‫ۡ‬ ‫ولِۦ َوج َهادٖ ف َسبيلِهِۦ ف َ‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫تبصوا ح ٰ‬ ‫يِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َر ُس هِ‬
‫[ ا �لت�و�ب��ة‪.]24 :‬‬
‫وعن أنس ‪ K‬قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬ال يؤمن أحدكم حتى أكون‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أحب‬
‫َّ‬
‫إليه من والده وولده والناس أجمعين<(‪.)2‬‬
‫وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته االجتماع معه في الجنة‪ ،‬وذلك‬
‫عندما سأله رجل عن الساعة فقال‪> :‬ما أعددت لها؟< قال‪ :‬ال شيء إال أني أحب‬
‫اهلل ورسوله‪ .‬فقال‪> :‬أنت مع من أحببت<‪ ،‬قال أنس‪ :‬فأنا أحب الن ّ ّ‬
‫بي فما فرحنا‬
‫بي !‪ ،‬وأبا‬‫بي !‪> :‬أنت مع من أحببت<‪ ،‬قال أنس‪ :‬الن ّ ّ‬ ‫بشيء فرحنا بقول الن ّ ّ‬
‫بكر‪ ،‬وعمر‪ .‬وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم(‪.)3‬‬
‫ولما قال عمر‪ ‬بن الخطاب ‪ :K‬يا رسول اهلل أَلنت أحب َّ‬
‫إلي من كل شيء‬
‫أحب إليك‬
‫َّ‬ ‫بي !‪> :‬ال والذي نفسي بيده حتى أكون‬
‫َ‬ ‫إال من نفسي‪ ،‬فقال الن ّ ّ‬
‫إلي من نفسي‪ ،‬فقال !‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫أحب َّ‬ ‫من نفسك<‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬فإنه اآلن واهلل ألنت‬
‫>اآلن يا عمر<(‪.)4‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5063‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)15‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3688‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6632‬‬
‫‪322‬‬

‫وعن ابن مسعود ‪ K‬قال‪ :‬جاء رجل إلى رسول اهلل ! فقال‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫ْ‬
‫يلحق بهم؟ فقال رسول اهلل !‪> :‬المرء مع‬ ‫كيف تقول في رجل أ َ َح َّب ً‬
‫قوما ولم‬
‫ََ‬
‫ب<(‪.)1‬‬
‫َمن أح َّ‬
‫َ‬
‫طعم‬ ‫وعن العباس‪ ‬بن عبد‪ ‬المطلب ‪ K‬أنه سمع الرسول ! يقول‪> :‬ذاق‬
‫اإليمان َمن رضي باهلل ر ًّبا‪ ،‬وباإلسالم دينًا‪ ،‬وبمحمد رسوال<(‪.)2‬‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫ورسوله‬ ‫وقال !‪> :‬ثالث من ك َّن فيه وجد َّ‬
‫بهن حالوة اإليمان‪ :‬من كان اهللُ‬
‫يحب المرء ال يحبه إال هلل‪ ،‬وأن يكره أن يعود‬ ‫َّ‬ ‫أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن‬ ‫َّ‬
‫في الكفر بعد أن أنقذه اهلل منه كما يكره أن يقذف في النار<(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وال شك أن َمن وفقه اهلل تعالى لذلك ذاق طعم اإليمان ووجد حالوته‪،‬‬
‫ضى اهلل عز وجل ورسوله !‪ ،‬وال يسلك‬ ‫فيستلذُّ بالطاعة ويتحمل المشقة في ر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ضي به رسواًل‪ ،‬وأحبه‪ ،‬ومن أحبه من قلبه‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫ألنه‬ ‫!؛‬ ‫محمد‬ ‫شريعة‬ ‫إال ما يوافق‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫صدقا أطاعه !‪.‬‬
‫وامتثال أوامره‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وعالمات محبته ! تظهر في االقتداء به !‪ ،‬واتباع سنته‪،‬‬
‫واجتناب نواهيه‪ ،‬والتأدب بآدابه‪ ،‬في الشدة والرخاء‪ ،‬وفي العسر واليسر‪ ،‬وال شك‬
‫ّ‬
‫مد ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫عيا(‪.)4‬‬ ‫أن من أحب شيئا آثره‪ ،‬وآثر موافقته‪ ،‬وإال لم يكن صادقا في حبه ويكون‬
‫وال شك أن من عالمات محبته‪ :‬النصيحة له؛ لقوله !‪> :‬الدين النصيحة< قلنا‬
‫لمن؟ قال‪> :‬هلل‪ ،‬ولكتابه‪ ،‬ولرسوله‪ ،‬وألئمة المسلمين وعامتهم<(‪.)5‬‬

‫((( البخاري مع الفتح‪ ،‬حديث رقم (‪.)6169‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)34‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)43‬‬
‫((( انظر‪ :‬الشفاء بتعريف حقوق المصطفى! (‪.)582- 571/2‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)55‬‬
‫‪323‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ُ‬ ‫والنصيحة لرسوله !‪ :‬التصديق ّ‬


‫بنبوته‪ ،‬وطاعته فيما أمر به‪ ،‬واجتناب ما نهى‬
‫ً‬ ‫عنه‪ُ ،‬‬
‫ومؤازرته‪ ،‬ونصرته وحمايته ً‬
‫حيا وميتا‪ ،‬وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها‪،‬‬
‫ُّ‬
‫والذب عنها‪ ،‬ونشرها‪ ،‬والتخلق بأخالقه الكريمة‪ ،‬وآدابه الجميلة(‪.)1‬‬ ‫وتعليمها‬

‫احرتامه وتوقريه ونصرته‪:‬‬ ‫‪5‬‬


‫َ‬
‫صيل﴾‬ ‫كما قال تعالى‪ ﴿ :‬تِلُؤم ُِنوا بِٱللِ َو َر ُس هِ‬
‫ٗ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هَّ‬ ‫ۡ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ولِۦ َوتع ّ ِز ُروهُ َوت َوق ُِروهُۚ َوت َس ّبِحوهُ بُك َرة َوأ ِ‬
‫[��سور�ة ا �ل��ف����ت��ح‪.]9 :‬‬
‫َ َ ُّ َ ذَّ‬
‫ٱلل إ َّن هَّ َ‬
‫ٱلل‬ ‫ۚ ِ‬
‫ولِۦ َو َّٱت ُقوا ْ هَّ َ‬
‫ۖ‬ ‫هِ‬ ‫س‬
‫هَّ‬
‫ٱللِ َو َر ُ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ِين َء َام ُنوا ْ اَل ُت َق ّد ُِموا ْ َبينۡ َ يَ َ‬
‫د‬ ‫َ‬ ‫ٱل‬ ‫يأيها‬‫وقال‪ٰٓ ﴿ :‬‬
‫ِيم﴾ [��سور�ة ا �ل�ح�� ج�را ت�‪.]1 :‬‬ ‫يع َعل ‪ٞ‬‬
‫َس ِم ٌ‬
‫كم َب ۡع ٗضا ۚ قَ ۡد َي ۡعلَ ُم هَّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ۡ َ ُ َ ُ اَ ٓ ۡ‬ ‫ت َعلُوا ْ ُد اَع ٓ َء َّ‬ ‫أيضا‪﴿ :‬ل‬
‫اَّ جَ ۡ‬ ‫وقال ً‬
‫ٱلل‬ ‫ض‬‫ٱلر ُسو ِل بينك ۡم كدع ِء َبع ِ‬
‫يب ُه ۡم ف ِۡت َن ٌة أَ ۡو يُ ِص َ‬
‫يب ُه ۡم‬ ‫ون َع ۡن أَ ۡمره ِۦٓ أَن تُ ِص َ‬ ‫ُ ۡ َ ٗ َ ۡ َ ۡ َ ذَّ َ خُ َ ُ َ‬
‫ِين يَت َسللون مِنكم ل ِواذاۚ فليحذرِ ٱلِين يال ِف‬
‫ذَّ َ َ َّ ُ َ‬
‫ٱل‬
‫ِ‬ ‫َ َ ٌ َ‬
‫عذاب أ يِل ٌم﴾ [ا �لن�ور‪.]63 :‬‬
‫ُ‬
‫وتوقيره الزم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه‪،‬‬ ‫وحرمة الن ّ ّ‬
‫بي ! بعد موته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وسن ِته‪ ،‬وسماعِ اسمه وسيرته‪ ،‬وتعلم سن ِته‪ ،‬والدعوة إليها‪ ،‬ونصرتها(‪.)2‬‬

‫الصالة عليه ! ‪:‬‬ ‫‪6‬‬


‫َّ هَّ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ ُّ َ لَىَ َّ ّ َ َ ُّ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ َ ُّ ْ‬
‫يأيها ٱلِين ءامنوا صلوا‬ ‫لئِكتهۥ يصلون ع ٱنلبۚ ٰٓ‬
‫يِ ِ‬ ‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬إِن ٱلل وم ٰٓ‬
‫أ‬
‫ِيما﴾ [ال� �ح�ز ا ب�‪.]56 :‬‬
‫َعلَ ۡيهِ َو َس ّل ُِموا ْ ت َ ۡسل ً‬

‫علي صالة صلى اهلل عليه بها عشرا<(‪.)3‬‬


‫وقال !‪ ..> :‬من صلى ّ‬
‫ً‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ! للقاضي عياض ‪.584- 582/2‬‬


‫((( الشفاء (‪ 595/2‬و‪.)612‬‬
‫((( أخرجه مسلم عن عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن عمرو ‪ ،R‬حديث رقم (‪.)384‬‬
‫‪324‬‬

‫ً‬
‫عيدا‪ ،‬وصلوا ّ‬
‫علي فإن‬ ‫وقال !‪> :‬ال تجعلوا بيوتكم ً‬
‫قبورا‪ ،‬وال تجعلوا قبري‬
‫صالتكم تبلغني حيث كنتم<(‪.)1‬‬
‫علي<(‪.)2‬‬
‫يصل ّ‬ ‫ِّ‬ ‫وقال !‪> :‬البخيل من ذكرت عنده فلم‬
‫ّ‬
‫مجلسا لم يذكروا اهلل فيه‪ ،‬ولم يصلوا على نبيّهم إال‬ ‫ً‬ ‫وقال !‪> :‬ما جلس قوم‬
‫كان عليهم ِت َرة‪ ،‬فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم<(‪.)3‬‬
‫ً‬
‫ً‬
‫السالم<(‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫وقال !‪> :‬إن هلل مالئكة سياحين في األرض يب ِّلغوني من أمتي‬
‫ُ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫عبد‪ ‬ـ أو بَ ُعد ـ ذ ِكرت عنده فلم‬ ‫وقال جبريل عليه السالم للنبي !‪> :‬ر ِغم أنف ٍ‬
‫ّ‬
‫يصل عليك< فقال !‪> :‬آمين<(‪. )5‬‬
‫ّ‬
‫وعن أبي هريرة ‪ K‬قال‪ :‬قال !‪> :‬ما من أحد‬
‫ّ‬
‫علي روحي‬ ‫َّ‬ ‫اهلل‬ ‫رد‬ ‫إال‬ ‫علي‬
‫َّ‬ ‫م‬ ‫يسل‬
‫حتى أرد عليه السالم<(‪. )6‬‬
‫ّ‬

‫كر منها اإلمام ابن القيم رحمه هلل تعالى‬ ‫بي ! مواطن كثيرة‪َ ،‬ذ َ‬ ‫وللصالة على الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫واحدا وأربعين موطنًا‪ ،‬منها على سبيل المثال‪ :‬الصالة عليه ! عند دخول المسجد‪،‬‬
‫وعند الخروج منه‪ ،‬وبعد إجابة المؤذن‪ ،‬وعند اإلقامة‪ ،‬وعند الدعاء‪ ،‬وفي التشهد‬
‫في الصالة‪ ،‬وفي صالة الجنازة‪ ،‬وفي الصباح والمساء‪ ،‬وفي يوم الجمعة‪ ،‬وعند‬
‫اجتماع القوم قبل تفرقهم ‪.‬‬

‫((( أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2042‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)8804‬وانظر‪ :‬صحيح أبي داود (‪.)383/1‬‬
‫((( الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3546‬وغيره‪ ،‬وانظر‪ :‬صحيح الترمذي (‪.)177/3‬‬
‫((( الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3380‬وانظر‪ :‬صحيح الترمذي (‪.)140/3‬‬
‫((( سنن النسائي (‪ )43/3‬وصححه األلباني في صحيح النسائي (‪.)274/1‬‬
‫((( ابن خزينة (‪ )192/3‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)7451‬وصححه األرنؤوط‪.‬‬
‫((( أخرجه أبو داود (‪ )218/2‬برقم (‪ ،)2041‬وحسنه األلباني في صحيح أبي داود (‪.)283/1‬‬
‫‪325‬‬ ‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬ ‫الفصل الرابع‬

‫ُ‬ ‫َُ‬
‫ب‪ :‬كخطبتي صالة الجمعة‪ ،‬وعند كتابة اسمه‪ ،‬وفي أثناء صالة العيدين‬
‫وفي الخط ِ‬
‫بين التكبيرات‪ ،‬وآخر دعاء القنوت‪ ،‬وعلى الصفا والمروة‪ ،‬وعند الوقوف على قبره‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫وعند َ‬
‫وعقب الذنب إذا أراد أن يكف َر عنه‪ ،‬وغير ذلك‬ ‫اله ِّم والشدائد وطلب المغفرة‪،‬‬
‫من المواطن التي ذكرها رحمه اهلل في كتابه(‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫بي ! إال حديث أنس ‪ K‬لكفى‪ :‬وهو‬ ‫ولو لم يَر ْد في فضل الصالة على الن ّ ّ‬
‫ِ‬
‫علي صالة واحدة صلى اهلل عليه عشر صلوات ‪( .‬كتب اهلل‬ ‫قوله !‪> :‬من صلى َّ‬
‫ٰ‬ ‫َّ‬
‫(‪)2‬‬

‫له بها عشر حسنات)(‪ )3‬وحط عنه بها عشر سيئات‪ ،‬ورفعه بها عشر درجات<(‪.)4‬‬

‫وجوب التحاكم إليه والرضى حبكمه !‪:‬‬ ‫‪7‬‬


‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬فإِن ت َنٰ َزع ُت ۡم يِف شءٖ فردوه إِل‬
‫َ هَّ‬ ‫ُ ُ ُۡ‬ ‫يَ ۡ َ ُ ُّ ُ ىَ هَّ‬ ‫َ َ ۡ‬
‫نت ۡم تؤم ُِنون بِٱللِ‬ ‫ٱلر ُسو ِل إِن ك‬
‫ٱللِ َو َّ‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫َوٱلَ ۡو ِم ٱٓأۡلخ ِِرۚ ذٰل َِك َخ رۡي‪َ ٞ‬وأ ۡح َس ُن تَأوِيل﴾ [ا �ل��ن��س�ا ء‪.]59 :‬‬
‫َ‬ ‫يۡ‬

‫ً‬
‫وقال أيضا‪﴿ :‬فل وربِك ل يؤمِنون حت يكِموك فِيما شجر بينهم ثم ل ِ‬
‫ي ُدوا ْ يِ ٓ‬‫َ اَ َ َ ّ َ اَ ُ ۡ ُ َ َ ىَّ ٰ حُ َ ّ ُ َ َ َ َ َ َ ۡ َ ُ ۡ ُ َّ اَ جَ‬
‫ف‬
‫َ ُ ۡ َ َ ٗ ّ َّ َ َ ۡ َ َ ُ َ ّ ُ ْ َ‬
‫أنف ِس ِهم حرجا مِما قضيت ويسل ِموا تسل ِيما﴾ [ ل ��س�ا ء‪ ،]65 :‬ويكون التحاكم إلى سنته‬
‫ا ���ن‬ ‫ٗ‬ ‫ۡ‬

‫وشريعته بعده !‪.‬‬


‫َ‬
‫مكانته ! بال ٍّ‬
‫غلو وال تقصري فهو عبد‪ ‬هلل ورسوله‪:‬‬ ‫ُ‬
‫إنزاله‬ ‫‪8‬‬
‫وهو أفضل األنبياء والمرسلين‪ ،‬وهو سيد األولين واآلخرين‪ ،‬وهو صاحب‬

‫((( راجع كتاب جالء األفهام في الصالة والسالم على خير األنام ! لإلمام ابن القيم رحمه هلل تعالى‪.‬‬
‫((( السياق يقتضي<و>‪.‬‬
‫الرسول ‪ Z‬وفن القيادة‬

‫((( هذه الزيادة من حديث طلحة في مسند أحمد (‪ )16352‬قال مخرجوه‪ < :‬إسناده ضعيف >‬
‫ً‬
‫لكنه أخرجه برقم (‪ )16363‬بلفظ >إال صليت عليه عشرا<‪ ،‬قال مخرجوه‪ < :‬حسن لغيره >‪.‬‬
‫((( أحمد (‪ ،)261/3‬وابن حبان الرقم (‪( )2390‬موارد)‪ ،‬والحاكم (‪ ،)550/1‬وصححه‬
‫األرناؤوط في تحقيقه لجالء األفهام (ص ‪.)65‬‬
‫‪326‬‬

‫المقام المحمود والحوض المورود‪ ،‬ولكنه مع ذلك بشر ال يملك لنفسه وال لغيره‬
‫ضرا وال ً‬
‫نفعا إال ما شاء اهلل‪.‬‬ ‫ً‬
‫َ َ ٓ ُ هَّ َ اَ ٓ َ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ اَ ٓ َ ُ ُ‬ ‫ُ اَّ ٓ َ ُ ُ َ ُ‬
‫كما قال تعالى‪﴿ :‬قل ل أقول لكم عِندِي خزائِن ٱللِ ول أعلم ٱلغيب ول أقول‬
‫ۡ‬
‫أۡ َ ۡ ىَ ٰ َ بۡ َ ُ َ َ اَ َ َ َّ َ‬ ‫َ‬
‫ريۚ أفل ت َتفك ُرون﴾‬
‫ُۡ َۡ‬ ‫اَّ‬ ‫ك ۡم إ ّن َملَ ٌ‬
‫َ ُ‬
‫ك ۖ إ ِ ۡن أتَّب ِ ُع إِل َما يُ ىَ ٰٓ‬
‫وح إ ِ يََّل ۚ قل هل ي َ ۡس َتوِي ٱلعم وٱل ِص‬ ‫ِ يِ‬ ‫ل‬
‫أ‬
‫[ال� ن��ع�ا �م‪.]50 :‬‬
‫ب‬‫نت أَ ۡعلَ ُم ۡٱل َغ ۡي َ‬‫ٱلل َول َ ۡو ُك ُ‬ ‫ضا إ اَّل َما َشا ٓ َء هَّ ُ‬
‫ًّ‬ ‫َ ۡ ٗ َ اَ رَ‬ ‫ُ اَّ ٓ َ ۡ ُ َ ۡ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬قل ل أمل ِك لنِ ف يِس نفعا ول‬
‫ۚ‬ ‫ِ‬
‫أ‬ ‫ٱلس ٓو ُء إ ۡن َأنَا ۠ إ اَّل نَذ ‪ٞ‬‬
‫ِير َوبَشِ ري‪ ٞ‬ل ِق ۡو ٖم يُؤم ُِنون﴾ [ال� �عرا �ف�‪.]188 :‬‬ ‫ث ُت م َِن خۡ َ‬
‫ٱَل ۡس َت ۡك رَ ۡ‬
‫ۡ َ‬ ‫َّ‬ ‫ن ُّ‬ ‫ي َو َما َم َّس يِ َ‬ ‫ٱل رۡ‬
‫ِ‬ ‫ِۚ‬ ‫ِ‬
‫هَّ‬
‫ري يِن م َِن ٱللِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ضا َول َر َش ٗدا ‪ ٢١‬قُ ۡل إن لن جُي َ‬ ‫اَ‬ ‫ك ۡم رَ ّٗ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أيضا‪﴿ :‬قل إ ِ يِن ل أ ۡمل ِك ل‬
‫ٓ‬ ‫اَ‬ ‫ّ‬ ‫ُۡ‬ ‫وقال ً‬
‫ِ‬ ‫ِ يِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫أ َح ‪ٞ‬د َول ۡن أ ِج َد مِن ُدونِهِۦ ُمل َت َح ًدا﴾ [ا ��جل�� ن�‪.]22-21 :‬‬
‫ۡ‬

‫باق إلى يوم القيامة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬‫وقد مات ! كغيره من األنبياء‪ ،‬ولكن دينه ٍ‬
‫ت ِإَون ُهم َّم ّي ِ ُتون﴾ [ا �ل�ز �مر‪.]30:‬‬‫﴿إِنك مي ِ‬
‫َ‬ ‫َّ َ َ ّ ‪َّ ٞ‬‬
‫لُ ُّ‬
‫لون ‪ ٣٤‬ك‬
‫َ َ َ َ ۡ َ َ رَ ّ َ ۡ َ خۡ ُ دۡ َ َ َ ْ ّ َّ َ ُ ُ ۡ َ ٰ ُ َ‬
‫أيضا‪﴿ :‬وما جعلنا ل ِبش مِن قبل ِك ٱلل ۖ أفإين مِت فهم ٱلخ دِ‬ ‫وقال ً‬
‫ِ‬ ‫ٖ‬
‫أ‬
‫ِإَول َنا تُ ۡر َج ُعون﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪.]35-34 :‬‬ ‫وكم ب رَّ ّ َ خۡ َ‬
‫َ‬ ‫ٱل رۡي ف ِۡت َن ٗة ۖ يَ ۡ‬ ‫َٓ َ ُ َۡ ۡ َ َۡ ُ ُ‬ ‫َۡ‬
‫ٱلش و ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت ونبل‬
‫نف ٖس ذائِقة ٱلمو ِ ۗ‬
‫وبهذا يعلم أنه ال يستحق العبادة إال اهلل وحده ال شريك له‪.‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬قل إِن َصل يِت َون ُس يِك و‬
‫اَ رَ َ‬ ‫اي َو َم َمات للِهَّ ِ َر ّ ۡ َ َ َ‬ ‫َ حَ ۡ‬
‫م َي َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ۡ َّ اَ‬
‫ب ٱلعٰل ِمني ‪ ١٦٢‬ل ِ‬
‫شيك‬ ‫ِ‬ ‫يِ‬
‫َ ال أ ن‬ ‫هَ ُ َ َ َ ُ ۡ ُ َ َ َ ۠ َ َّ ُ ۡ‬
‫ل ۖۥ وبِذٰل ِك أمِرت وأنا أول ٱلمسل ِ ِمني﴾ [ � ��ع�ا �م‪.]163-162 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫الفصل الخامس‬

‫شـم‬ ‫ف‬‫ص‬
‫ط‬ ‫لم‬
‫و ائله‬ ‫ئ‬
‫خصا ص ا ى‬
‫‪329‬‬

‫تمهيد‬
‫ت خ ل� ظ‬ ‫ف�� ف�ت ة ��م� �ف‬
‫ة‬ ‫�‬‫�‬
‫ل‬ ‫�‬
‫م‬
‫�‬ ‫�‬ ‫�‬
‫�‬‫�‬ ‫ت‬ ‫ت‬
‫ر � ن���� ار� ا �ل� ا� ر ي� ا �م�� ‪...‬‬ ‫�� ��� �‬
‫ي‬
‫التي سادها الجهل‪ ،‬وأطبق عليها الظلم والطغيان‪ ،‬وتمادى اإلنسان في استعباد‬
‫أخيه اإلنسان‪ ،‬وانتشر الشرك باهلل عزوجل وحرفت الديانات القديمة‪ ،‬ودخلها‬
‫كثير من مظاهر الشرك والوثنية‪ ،‬وذلك لم يكن خاصا ببلد دون بلد‪ ،‬وال بأمة دون‬
‫عمت األرض‪ ،‬وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت‬ ‫أمة‪ ،‬ولكنها كانت فتنة ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫أيدي الناس‪ ،‬ومقت اهلل أهل األرض‪ ،‬إال قلة قليلة ممن كانت تعبد اهلل على ملة‬
‫إبراهيم ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫كما صح ذلك عن الن ّ ّ‬
‫بي ! في حديث عياض‪ ‬بن حمار‪> :‬أاَل ِإ َّن َر ِّبى أ َم َر ِنى‬
‫ََْ ُ‬
‫اَلل َو ِإنِّى خلقت‬ ‫أ َ ْن أُعَلِّ َم ُك ْم َما َجه ْلتُ ْم مما عَلَّ َمني ي َ ْومي َه َذا‪ُ ،‬ك َمال نَ َح ْلتُ ُه عَ ْب ًدا َح ٌ‬
‫لُّ َ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ َّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ين فاج َتالت ُه ْم عَن دينه ْم‪َ ،‬و َحر َمت عَل ْيهمْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ َ ُ َّ ُ ِ ْ َ َّ ُ ْ َ ُ ُ َّ َ ُ‬
‫ْ‬
‫َ ََّ َ َ ْ ِ‬ ‫َُْ ًِ ِِ‬ ‫اط‬
‫ِ‬ ‫ادى حنفاء كلهم‪ ،‬و ِإنهم أتتهم الشي‬ ‫ِ‬ ‫ِع َب‬
‫َ ُْ ْ‬ ‫َ ْ َْ ْ ُ‬ ‫َ ْ َْ ُ َ‬
‫َما أحللت ل ُه ْم‪َ ،‬وأ َم َرت ُه ْم أن يُش ِركوا ِبى َما ل ْم أن ِزل ِب ِه سلطانا‪َ ،‬و ِإ َّن اهللَ نظ َر ِإلى أهل‬
‫ِ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ُ ْ َّ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ‬ ‫األ َْ‬
‫اب‪.)1(<...‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ت‬‫ك‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫اي‬ ‫ق‬ ‫ب‬ ‫ال‬‫إ‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫م‬‫ه‬ ‫ت‬ ‫ق‬ ‫م‬ ‫ف‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫ر‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)7386‬‬


‫‪330‬‬

‫ولكن رحمة اهلل بعباده فتحت لهم طريق الهداية‪ ،‬وأعادت اإلنسان إلى إنسانيته‬
‫الحقيقية‪ ،‬وقد كان ذلك بإرسال محمد ! برسالة اإلسالم التي ولدت بمولدها‬
‫ُ‬ ‫البشرية من جديد‪ ،‬فأعادت اإلنسان إلى اهلل‪َّ ،‬‬
‫وعم العدل وانتشر نور اإليمان‪.‬‬
‫ًّ‬
‫ورضي ـ من اعتنق اإلسالم ـ باهلل َربًّا وباإلسالم دينًا‪ ،‬وبمحمد ! نبيا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ورسواًل‪ّ ،‬‬
‫األرض‪ ،‬والعدل بين بني البشر‪ ،‬وعرف اإلنسان كرامة‬ ‫وعمت الرحمة‬
‫ّ‬
‫اإلنسان‪ ،‬بل وتعداه إلى كرامة الحيوان(‪ )1‬والنبات(‪ ،)2‬وتكامل البناء الحضاري‬
‫َ‬
‫ألمة اإلسالم‪ ،‬وانطلقت هذه األمة لكي تخرج الناس من عبودية العباد والحيوان‬
‫عدل اإلسالم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والجماد إلى عبودية الرحيم الرحمن‪ ،‬ومن َجور األديان إلى‬
‫َّ‬
‫االجتماعي‪.‬‬ ‫َّ‬
‫النفسي واألمن‬ ‫سعتها في العيش‪ ،‬وتحقق لها األمن‬
‫ومن ضيق الدنيا إلى ِ‬
‫ُ‬
‫وأقيمت قواعد البناء الحضاري‪ ،‬وانطلق المسلمون في كل مناطق األرض‪،‬‬
‫ينشرون هذا الدين بعقيدته النقية الصافية السليمة من الشك والشرك‪ ،‬وأقاموا‬
‫المساجد لعبادة اهلل‪ ،‬وصدع المؤذنون بكلمة التوحيد (أشهد أال إله إال اهلل وأشهد‬
‫أن محمدا رسول اهلل)‪ ،‬وعمرت بحلقات العلم بكل أنواعه ‪.‬‬
‫فهذا يعلم القرآن‪ ،‬وذلك يروي السنة‪ ،‬وآخر يفهم الناس أصول الفقه‬
‫وفروعه‪ ،‬وآخر يفتيهم بما يعرض لهم من نوازل‪ ،‬وتجد فيهم من يدرس علم‬
‫الفلك والرياضيات‪ ،‬وعلوم الطب‪ ،‬في حلقات مفتوحة يحضرها الرجال والنساء‪،‬‬
‫وعاش اإلنسان مسلما كان أو معاهدا في أمن وأمان‪ ،‬وفي أعلى درجات كرامة‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫((( معجزة الجمل الذي شكى للنبي ! كثرة العمل وقلة القوت؛ فأمرهم أن يحسنوا إليه‪.‬‬
‫أخرجه أحمد (‪)173‬؛ وانظره في‪ :‬نظم المتناثر من الحديث المتواتر رقم (‪)271‬؛ (قال‬
‫المنذري‪ :‬وإسناده جيد)‪.‬‬
‫((( قال !‪> :‬إن قامت على أحدكم القيامة‪ ،‬وفي يده فسيلة‪ ،‬فليغرسها< أخرجه أحمد‬
‫(‪ )184/3‬قال مخرجوه‪ :‬إسناده صحيح على شرط مسلم‪.‬‬
‫‪331‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫َ‬
‫وإليك أخي القارئ ط َرفا من خصائص المصطفى ! وشمائله‪ ،‬ال يتجاوز‬
‫عددها المائة‪ ،‬عرضتها عرضا موجزا‪ ،‬ومن يريد االستزادة والتفصيل واالستقصاء‬
‫ّ‬
‫فليرجع إليها في مظانها من كتب الخصائص والفضائل ‪ .‬كالشمائل المحمدية‬
‫للترمذي‪ ،‬والشفاء للقاضي عياض‪ ،‬والخصائص الكبرى للسيوطي‪ ،‬والخصائص‬
‫البن طولون وغيرها من المصادر‪.‬‬
‫مائة خصيصة من خصائص املصطفى ! ومشائله‪:‬‬
‫عناية اهلل بمحمد ! حيث صنعه اهلل على عينه ورعاه منذ والدته ألنه‬ ‫‪1‬‬
‫كان يهيؤه ألمر عظيم‪ :‬قال اإلمام السيوطي(‪< :)1‬أخرج أبو نعيم وابن‬
‫عساكر عن علي قال‪ :‬قيل للنبي !‪ :‬هل عبدت وثنًا قط؟ قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫خمرا قط؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬وما زلت أعرف أن الذي هم‬ ‫ً‬ ‫قالوا‪ :‬فهل شربت‬
‫عليه كفر‪ .‬وما كنت أدري ما الكتاب وما اإليمان>‪.‬‬
‫ثم قال السيوطي‪ < :‬وأخرج أبو نعيم وابن عساكر من طريق عطاء‪ ‬بن أبي رباح‬
‫بي ! قام مع بني عمه عند إساف‪ .‬فرفع رسول اهلل ! بصره‬ ‫عن ابن عباس‪ ،‬أن الن ّ ّ‬
‫إلى ظهر الكعبة ثم انصرف؛ فقال له بنو عمه‪ :‬مالك يا محمد‪ ،‬قال‪ :‬نهيت أن أقوم‬
‫عند هذا الصنم >‪.‬‬
‫ً‬
‫كما أورد أنه ! قال‪> :‬قلت ليلة لبعض فتيان مكة‪ ،‬ونحن في رعاية عن أهلنا‪،‬‬
‫ُ‬
‫وأسم َر بها كما يسمر الفتيان‪،‬‬ ‫فقلت لصاحبي‪ :‬أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫َ‬
‫فقال‪ :‬بلى‪ .‬فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة‪ ،‬سمعت عزفا بالغرابيل‬
‫والمزامير‪ .‬قلت‪ :‬ما هذا؟ فقيل‪ :‬تزوج فالن فالنة‪ ،‬فجلست أنظر وضرب اهلل‬
‫مس الشمس‪ ،‬فرجعت إلى صاحبي‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫أذني‪ ،‬فواهلل ما أيقظني إال ّ‬ ‫ّ‬ ‫على‬
‫ما فعلت؟ قلت‪ :‬ما فعلت شيئا‪ ،‬ثم أخبرته بالذي رأيت‪ ،‬ثم قلت له ليلة أخرى‪:‬‬

‫((( الخصائص الكبرى (‪.)89-88/1‬‬


‫‪332‬‬

‫أبصر لي غنمي حتى ُ‬


‫أسم َر بمكة‪ ،‬ففعل‪ ،‬فدخلت‪ ،‬فلما جئت مكة سمعت مثل‬
‫الذي سمعت تلك الليلة‪ ،‬فجلست أنظر وضرب اهلل على ّ‬
‫أذني‪ ،‬فواهلل ما أيقظني‬
‫مس الشمس‪ ،‬فرجعت إلى صاحبي‪ ،‬فقال‪ :‬ما فعلت؟ قلت‪ :‬ال شيء‪ ،‬ثم‬ ‫إال ّ‬
‫أخبرته بالخبر‪ ،‬فواهلل ما هممت وال عدت بعدهما الشيء من ذلك حتى أكرمني‬
‫اهلل بنبوته<(‪.)1‬‬
‫ومن هنا فقد عدد الشيخ أسعد صاغرجي من مظاهر هذه الرعاية اإللهية‬
‫له ما يلي‪:‬‬
‫‪P P‬عصمته عن كشف عورته في طفولته‪.‬‬
‫‪P P‬عصمته من االستماع إلى آالت اللهو وحضور مجالسها‪.‬‬
‫‪P P‬عصمته من مس األصنام‪.‬‬
‫‪P P‬عصمته من عبادة األوثان‪.‬‬
‫ً َّ‬
‫‪P P‬عصمته من أكل ما أ ِهل به لغير اهلل‪ ،‬وحفظ جوفه من الطعام الحرام‪.‬‬
‫‪P P‬عصمته من الكذب‪.‬‬
‫‪P P‬عصمته من الحلف بالالت والعزى‪.‬‬
‫‪P P‬عصمته من شرب الخمر‪ ،‬وساق أدلة على ذلك(‪.)2‬‬

‫السامية في حفظ رسول اهلل من هذه األمور أن تكون إرهاصاتٍ‬ ‫ً‬


‫ومن الحكم‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫لنبوته وعالماتٍ دالة على كماالته‪ ،‬ومشيرة إلى تأهيله لما أراد اهلل من حمل‬
‫أ‬ ‫َ ۡ َ ُ َ ۡ ُ جَ ۡ ُ‬
‫ي َعل رِ َسالَ ُه ۗۥ﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]124:‬‬ ‫الرسالة واهلل أعلم؛ حيث قال تعالى‪﴿ :‬أعلم حيث‬
‫تَ‬

‫((( قال ابن حجر‪ :‬إسناده متصل ورجاله ثقات‪ ،‬وانظر‪ :‬الخصائص للسيوطي (‪.)89/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬سيدنا محمد األسوة الحسنة ـ للشيخ أسعد صاغرجي (ص ‪.)133-130‬‬
‫‪333‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫َ‬
‫بركاته التي استفاد منها كلُّ َمن حوله‪ ،‬وتم َّثل ذلك في قوة األتان‬ ‫‪2‬‬
‫وإدرار اللبن له‪ ،‬بل استفاد منها اإلنس والجن‬ ‫بقها‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫التي حملته وس ِ‬
‫والنبات والجماد ‪.‬‬
‫ولهذا فقد ذكر القرطبي عند تفسيره لآلية (‪ )107‬من سورة األنبياء‪﴿ :‬وما‬
‫ََٓ‬
‫َۡ َ ۡ َٰ َ‬
‫ني﴾ ما يلي‪( :‬عن ابن عباس قال‪ :‬كان محمد رحمة لجميع‬ ‫ك إ اَّل َر مۡ َ‬
‫ح ٗة ّل ِۡل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬ ‫أرسلن ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫األمم من‬ ‫الناس؛ فمن آمن به وصدق به َس ِعد‪ .‬ومن لم يؤمن به َس ِل َم مما لحق‬
‫الخسف والغرق)(‪. )1‬‬
‫ولذلك قال المنصورفري في كتابه رحمة للعالمين‪ < :‬إن ـ رحمة للعالمين ـ‬
‫ليس خصيصة للنبي ! فحسب؛ بل إنه اسم وعلم أيضا‪ ،‬ولم يقترحه أحد وال‬
‫سماه به أبوه أو أمه‪ ،‬وال تخيله شاعر وال نطق به فدائي في شدة الحب‪ ،‬بل إنه‬
‫حقيقة كشف عنها اهلل تعالى > (‪.)2‬‬
‫ولذلك قال عليه الصالة والسالم فيما يرويه الحاكم وغيره عن أبي هريرة‪:‬‬
‫>إنما أنا رحمة مهداة<(‪.)3‬‬
‫ومن مظاهر بركاته التي رحم اهلل بها عباده‪ :‬ما ترويه حليمة السعدية‬
‫التي أرضعته فتقول‪> :‬فذهبت فأخذته‪ ،‬فواهلل ما أخذته إال أني لم أجد غيره‪،‬‬
‫ُ‬
‫فما هو إال أن أخذته فجئت به رحلي‪ ،‬فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن‪ ،‬فشرب‬
‫حتى روي‪ ،‬وشرب أخوه حتى روي‪ ،‬وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫لحافل فحلب ما شرب وشربت حتى روينا‪ ،‬فبتنا بخير ليلة‪ ،‬فقال صاحبي حين‬
‫أصبحنا‪ :‬يا حليمة‪ ،‬واهلل إني ألراك قد أخذت نسمة مباركة‪ ،‬ألم تري ما بتنا‬

‫((( الجامع ألحكام القرآن (‪.)302/14‬‬


‫((( رحمة للعالمين (‪.)125/3‬‬
‫((( غاية المرام (‪.)1‬‬
‫‪334‬‬

‫ْ‬ ‫َ‬
‫به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه‪ ،‬ثم ذكرت من أمر األتان والغنم والمرعى‬
‫ُ‬
‫وغير ذلك‪ ،‬إلى أن تقول فلم يزل اهلل يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين‪ ،‬فكان‬
‫ُّ‬
‫يشب شبابا ال تشبه الغلمان<(‪.)1‬‬

‫أنه خاتم النبيين وإمام المتقين‪ ،‬وسيد العالمين‪:‬‬ ‫‪3‬‬


‫ٍّ‬
‫بست‪:‬‬ ‫في الصحيحين من حديث أبي هريرة ‪ K‬قال‪> :‬فضلت على األنبياء‬
‫أعطيت جوامع الكلم‪ ،‬ونصرت بالرعب‪ ،‬وأحلت لي الغنائم‪ ،‬وجعلت لي األرض‬
‫طهورا ومسجدا‪ ،‬وأرسلت إلى الخلق كافة‪ ،‬وختم بي النبيون<(‪.)2‬‬
‫اَ َ حُ َ َ ٓ َ‬
‫ويورد القاسمي في تفسيره لقوله تعالى ﴿ َّما كن م َّم ٌد أبَا أ َح ٖد ّمِن ّرِ َجال ِك ۡم‬
‫ُ‬
‫أ‬
‫ي ۗ‪[ ﴾...‬ال� �ح�ز ا ب�‪ < :]40:‬أي‪ :‬فهذا نعته وهذه صفته‬
‫َّ ُ َ هَّ َ َ َ‬
‫ات َم ٱنلَّب ّ نۧ َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬ ‫كن رسول ٱللِ وخ‬‫َول ٰ ِ‬
‫فليس في حكم األب الحقيقي‪ ،‬وإنما ختمت النبوة به؛ ألنه شرع له من الشرائع‬
‫ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان وفي كل مكان؛ ألن القرآن الكريم‬
‫أما من أمهات المصالح إال جالها‪ ،‬وال مكرمة من أصول الفضائل‬ ‫لم يدع ًّ‬
‫إال أحياها‪ ،‬فتمت الرساالت برسالته إلى الناس أجمعين>(‪.)3‬‬

‫هو رسول اهلل إلى الثقلين الجن واإلنس ورحمة للعالمين‪:‬‬ ‫‪4‬‬
‫ٓ َ‬
‫اس﴾‬ ‫قال ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى‪﴿ :‬وما أرسلنٰ ِ‬
‫َ َّ ٗ ّ‬ ‫اَّ‬
‫ََ َۡ َ َ‬
‫ك إل كٓافة ل َّ‬ ‫ۡ‬
‫ِلن ِ‬
‫أ‬
‫[����سب��� ‪ < :]28:‬فأرسله اهلل تعالى إلى الجن واإلنس >‪ .‬قال ابن كثير‪  :‬وهذا الذي قاله‬
‫ابن عباس ‪ R‬قد ثبت في الصحيحين‪ ،‬رفعه عن جابر ‪ K‬الذي سبق ذكره‪ ،‬وفي‬
‫أيضا أن رسول اهلل ! قال‪> :‬بعثت إلى األحمر واألسود<(‪ .)4‬قال مجاهد‪:‬‬‫الحديث ً‬
‫يعني الجن واإلنس‪ .‬وقال غيره‪ :‬يعني العرب والعجم ا‪.‬هـ ‪.‬‬

‫((( البداية والنهاية (‪.)254/2‬‬


‫((( تفسير القاسمي (‪.)33/14‬‬ ‫ ‬
‫(‪.)523‬‬ ‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‬

‫((( انظر‪ :‬كنز العمال (‪ )445/11‬مرساًل‪ ،‬وانظر‪ :‬مسند أحمد (‪.)165/22‬‬


‫‪335‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته هو مجيئه بشرع‪ ،‬ينطبق‬


‫على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا‪ ،‬وأي زمان وجدوا ما لم يتفق في شرع‬
‫قبله قط(‪.)1‬‬

‫هو من أنزل عليه القرآن الكريم الذي أذعن إلعجازه اإلنس والجن‪:‬‬ ‫‪5‬‬
‫قال السيوطي(‪ < :)2‬اختصاصه ! بأن كتابه معجز ومحفوظ من التبديل والتحريف‬
‫على مر الدهور‪ ،‬وجامع لكل شيء ومستغن عن غيره ومشتمل على ما اشتملت‬
‫َّ‬
‫وميس ٌر للحفظ ونزل ُمنَجما ونزل على سبعة أحرف‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عليه جميع الكتب وزيادة‪،‬‬
‫ۡ َ َ َ إۡ ُ َ جۡ ُّ لَىَ ٰٓ َ َ ۡ ُ ْ‬
‫ومن سبعة أبواب وبكل لغة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قل لئ ِ ِن ٱجتمع ِ‬
‫ُ َّ‬
‫ٱلن ع أن يأتوا‬ ‫ٱلنس و ِ‬
‫ت ِ‬
‫ۡ َ ٰ َ ۡ ُ ۡ َ اَ ۡ َ ۡ‬
‫ان ل يَأتُون ب ِ ِمثلِهِۦ َول ۡو كن َب ۡع ُض ُه ۡم لبِ َ ۡع ٖض ظ ِهريٗ ا﴾ [الإ� ��سرا ء‪ ]88:‬وقال‬
‫َ‬ ‫َ اَ َ‬
‫ب ِ ِمث ِل هذا ٱلقرء ِ‬
‫ن ُن نز َا ٱذلِك َر ِإَونا ُلۥ ل َحٰفِ ُظون﴾ [ا �ل�ح�� ج�ر‪..]9:‬‬ ‫تعالى‪﴿ :‬إِنا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫هَ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫َّلنۡ‬ ‫َّ حَ ۡ َ‬

‫وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬ما من األنبياء نبي إال‬
‫أعطي من اآليات ما مثله أومن‪ ،‬أو آمن‪ ،‬عليه البشر‪ ،‬وإنما كان الذي أوتيته وحيا‬
‫أوحاه اهلل إلي‪ ،‬فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة< >(‪.)3‬‬
‫َُ‬
‫العل ٰى‬ ‫‪ 6‬إنه العظيم الذي أسري به إلى بيت المقدس‪ ،‬وعرج به إلى السموات‬
‫أدنى حتى سمع صريف األقالم‪:‬‬ ‫المنتهى‪ ،‬فكان قاب قوسين أو ٰ‬
‫ٰ‬ ‫وإلى سدرة‬
‫ُ ۡ َ َ ذَّ ٓ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬سبحٰن ٱلِي أسى بِعب ِده ِۦ لل مِن ٱلمس ِ‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫حۡ َ َ ىَ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫يَ ۡ اٗ ّ َ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫رۡ‬
‫ج ِد‬ ‫ِ‬
‫ج ِد ٱلرام إِل ٱلمس ِ‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫ري ﴾ [الإ� ��سرا ء‪. ]1:‬‬


‫يع بۡٱلَ ِص ُ‬ ‫أۡٱلَ ۡق َصا ذَّٱلِي َب ٰ َر ۡك َنا َح ۡو هَ ُلۥ ل رُِن َي ُهۥ م ِۡن َء َايٰت ِ َنا ٓۚ إنَّ ُهۥ ُه َو َّ‬
‫ٱلس ِم ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬
‫قال القرطبي‪ < :‬ثبت اإلسراء في جميع مصنفات الحديث‪ ،‬وروي عن الصحابة‬

‫((( محاسن التأويل للقاسمي (‪.)34/14‬‬


‫((( الخصائص الكبرى (‪.)185/1‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪. )7274‬‬
‫‪336‬‬

‫صحابيا‪ ،‬روي في صحيح‬ ‫ً‬ ‫في كل أقطار اإلسالم‪ ،‬فهو من المتواتر رواه عشرين‬
‫ُ‬
‫مسلم عن أنس‪ ‬بن مالك أن رسول اهلل ! قال‪> :‬أتيت بالبراق< وهو دابة أبيض‬
‫طويل فوق الحمار ودون البغل‪ .‬يضع حافره عند منتهى طرفه‪ ،‬قال‪> :‬فركبته‬
‫حتى أتيت بيت المقدس<‪ .‬قال‪> :‬فربطته بالحلقة التي يربط به األنبياء<‪ .‬قال‪> :‬ثم‬
‫دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين‪ .‬ثم خرجت‪ .‬فجاءني جبريل عليه السالم‪...‬‬
‫ثم عرج بنا إلى السماء‪ )1(< ...‬وذكر الحديث (‪. )2‬‬
‫وقال الشيخ أسعد صاغرجي‪ < :‬من اآليات الكبرى التي رآها عليه الصالة والسالم‬
‫ٌ‬
‫ليلة اإلسراء والمعراج‪ :‬جبريل عليه السالم على صورته‪ ،‬الجنة‪ ،‬النار‪ ،‬مالك خازن‬
‫النار‪ ،‬رضوان خازن الجنة‪ ،‬البيت المعمور‪ ،‬سدرة المنتهى‪ ،‬الدجال > (‪.)3‬‬
‫صاحب المقام المحمود َ‬
‫ُ‬
‫والحوض المورود‪.‬‬
‫ِ‬ ‫القيامة‬ ‫يوم‬ ‫ِ‬ ‫هو‬ ‫‪7‬‬
‫ومما خص به !‪ :‬أن اهلل تعالى سيبعثه مقاما محمودا‪ ،‬يحمده عليه جميع‬
‫الخالئق‪.‬‬
‫َ َ ٗ َّ َ َ ىَ ٰٓ َ َ ۡ َ َ َ َ ُّ َ‬
‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ومِن‬
‫ك َم َق ٗ‬ ‫َ َ يَّ ۡ َ‬
‫اما‬ ‫ٱل ِل ف َت َه َّج ۡد بِهِۦ ناف ِلة لك عس أن يبعثك رب‬
‫ودا﴾ [الإ� ��سرا ء‪. ]79:‬‬
‫حَّ ۡ ُ ٗ‬
‫مم‬
‫وعن كعب‪ ‬بن مالك ‪ K‬أن رسول اهلل ! قال‪> :‬يحشر الناس يوم القيامة‪،‬‬
‫ُ ً‬ ‫فأكون أنا وأمتي على ٍّ‬
‫تل‪ ،‬فيكسوني ربي حلَّة خضراءَ‪ ،‬ثم يؤذن لي‪ ،‬فأقول ما شاء‬
‫اهلل أن أقول‪ ،‬فذلك المقام المحمود<(‪.)4‬‬

‫((( الجامع ألحكام القرآن (‪.)206/10‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)163‬‬
‫((( كتاب سيدنا محمد (‪.)220/1‬‬
‫((( تفسير الطبري (‪)180/1/9‬‬
‫‪337‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫ثم قال بعد ذلك‪ < :‬وكذلك فإن اهلل تعالى قد اختص نبيه ! بالكوثر وهو نهر‬
‫يصب في حوضه آنيته بعدد نجوم السماء > (‪.)1‬‬
‫بي !‪> :‬حوضي مسيرة شهر‪ ،‬ماءُه أبيض من اللبن‪،‬‬ ‫وفي الصحيحين‪ :‬قال الن ّ ّ‬
‫وريحه أطيب من المسك‪ ،‬وكيزانه كنجوم السماء‪ ،‬من شرب منها فال يظمأ أبدا<(‪.)2‬‬
‫ً‬

‫يم﴾ [ا �ل��ق����ل ‪:]4 :‬‬ ‫ك لَ َع ىَ ٰ ُ ُ َ‬


‫ل خل ٍق ع ِظ ٖ‬
‫َّ َ‬
‫ز َّك ٰى اهلل أخالقه فقال‪ِ﴿ :‬إَون‬ ‫‪8‬‬
‫م‬
‫ذكر الشيخ أبو الحسن الندوي(‪ )3‬أنه بعد أن أورد هذه اآلية ـ الرابعة‬
‫من سورة القلم ـ ما يلي‪ < :‬وسئلت عائشة ‪ I‬عن خلقه ! فقالت‪> :‬كان‬
‫خلقه القرآن< (‪ )4‬ولذلك دعا اهلل إلى اتباعه واتخاذه أسوة دائمة كاملة فقال‪:‬‬
‫ٱلل‬ ‫ٱللِ أُ ۡس َوةٌ َح َس َنة‪ ٞ‬ل ّ َِمن اَك َن يَ ۡر ُجوا ْ هَّ َ‬
‫ٱلل َو يۡٱلَ ۡو َم ٱٓأۡلخ َِر َو َذ َك َر هَّ َ‬ ‫هَّ‬
‫﴿لق ۡد كن لك ۡم يِف َر ُسو ِل‬
‫َّ َ اَ َ َ ُ‬
‫أ‬
‫كثِريٗ ا﴾ [ال� �ح�ز ا ب�‪. ]21:‬‬
‫َ‬

‫وقال‪﴿ :‬قل إِن كنتم تِبون ٱلل فٱتبِع يِ‬


‫حُ ۡ ۡ ُ هَّ ُ َ َ ۡ ۡ َ ُ ۡ ُ ُ َ ُ‬
‫ك ۡم َو هَّ ُ‬ ‫ُ ُ ۡ حُ ُّ َ هَّ َ َ َّ ُ‬ ‫ُۡ‬
‫ٱلل‬ ‫ون يبِبك ُم ٱلل ويغفِر لكم ذنوب ۚ‬
‫َ ُ ‪ ٞ َّ ٞ‬آ‬
‫ِيم﴾ [ � ل�ع�م ا ن ‪. ]31:‬‬
‫غفور رح‬ ‫ر�‬

‫وكانت هذه الحكمة والتزكية من أعظم ثمرات الصحبة النبوية ومجالسته‬


‫وعشرته فنشأ في أحضانه جيل تحلى بأفضل األخالق وأكرم الصفات > (‪.)5‬‬
‫ومن هنا كان الكمال المحمدي ضربين‪:‬‬
‫‪P P‬ضربًا‪ :‬لم تشرع األسوة فيه لعجز المرء عن كسب مثله‪ ،‬وذلك كشرف‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫األصل‪ ،‬وجمال الذات‪ ،‬وعلو القدر‪ ،‬واالصطفاء للرسالة‪ ،‬وتلقي الوحي‬


‫اإللهي‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬كتاب مائة خصلة من خصال الرسول ! (ص‪.)64-63‬‬


‫(‪ ((( . )6579‬مقدمة لكتاب تهذيب األخالق‪.‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‬
‫ ‬
‫((( تهذيب األخالق لعبدالحي الندوي‪( ،‬ص‪.)12‬‬ ‫((( صحيح الجامع‪ ،‬حديث رقم‬
‫ ‬
‫(‪.)4811‬‬
‫‪338‬‬

‫ً‬
‫مأمورا باالقتداء به‪ ،‬فيه والمنافسة في تحصيل أكبر قدر منه‪،‬‬ ‫‪P P‬وضربًا‪:‬‬
‫والمسابقة إليه والجد في الطلب للظفر به والحصول عليه‪ ،‬ثم ذكر قبسا‬
‫من تلك الفضائل في الكماالت المحمدية(‪.)1‬‬
‫ى ‪ ٣‬إ ِ ۡن ُه َو إ ِ اَّل َو يۡ ‪ٞ‬‬
‫ح يُ ىَ ٰ‬
‫وح﴾‬ ‫وز َّك ٰى لسانه‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َما يَن ِط ُق َعن ٱل ۡ َه َو ٰٓ‬ ‫‪9‬‬
‫ِ‬
‫[ا �ل��ن�� ج����م‪:]4-3 :‬‬

‫قال الشوكاني‪ < :‬أي ما يصدر نطقه عن الهوى ال بالقرآن وال بغيره‪ ،‬فعن‬
‫على بابها‪ .‬وقال أبو عبيدة‪ :‬إن عن بمعنى الباء‪ :‬أي بالهوى‪ ،‬قال قتادة‪ :‬أي ما ينطق‬
‫بالقراءة عن هواه‪.‬‬
‫وح﴾ [ا �ل��ن�� ج����م‪ ،]4 :‬أي‪ :‬ما هذا الذي ينطق به إال وحي من اهلل‬ ‫﴿إِن ُه َو إِل َو ‪ٞ‬‬ ‫يۡ‬ ‫اَّ‬ ‫ۡ‬
‫ح يُ ىَ ٰ‬
‫يوحيه إليه(‪.)2‬‬
‫وإذا كان كل ما يقوله ! إنما هو وحي يوحى إليه به‪ ،‬دل على أن السنة النبوية‬
‫هي وحي‪ ،‬واهلل تعالى أعلم > (‪.)3‬‬
‫َ بۡ‬
‫غ﴾ [ا �ل��ن�� ج����م‪:]17:‬‬
‫ص َو َما َط ىَ ٰ‬
‫وز َّك ٰى نظره‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬ما َزاغ ٱلَ رَ ُ‬ ‫‪10‬‬
‫بي ! عما رآه وما طغى أي ما جاوز ما‬ ‫يقول الشوكاني‪ < :‬أي‪ :‬ما مال بصر الن ّ ّ‬
‫بي ! في ذلك المقام؛ حيث لم يلتفت‪ ،‬ولم يمل‬ ‫رأى‪ .‬وفي هذا وصف أدب الن ّ ّ‬
‫َّ‬
‫بصره‪ ،‬ولم يمده إلى غير ما رأى >(‪.)4‬‬
‫ً‬
‫تعليما‬ ‫ويقول اللواء المهندس أحمد عبدالوهاب‪ < :‬وكان اإلسراء والمعراج‬
‫للرسول وإطالعًا له على الملكوت حتى ينبئ عن عوالم الغيب بحديث اليقين ‪.‬‬

‫((( فتح القدير‪.)131/5( ،‬‬ ‫ ‬


‫((( انظر‪ :‬هذا الحبيب يا محب‪( ،‬ص‪.)523‬‬
‫((( فتح القدير للشوكاني‪.)133/5( ،‬‬ ‫ ‬
‫((( مختصر السنة النبوية (ص‪.)32‬‬
‫‪339‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫فالقاعدة التي درج الناس عليها أن يكون مستوى المعلم أرقى من مستوى‬
‫تالميذه‪ ،‬وكذلك األنبياء جاءوا معلمين للبشرية‪ ،‬فال شك أن مستواهم يجب‬
‫ً‬
‫جميعا > (‪.)1‬‬ ‫أن يكون ـ وإنه كذلك ـ أكبر وأرقى من مستوى الناس‬
‫َ َ َ ُّ َ َ‬
‫ِين﴾ [ا � شل����عرا ء‪:]219:‬‬
‫ٱلسجد َ‬‫َّ‬
‫وز َّك ٰى نسبه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬وتقلبك يِف ٰ ِ‬ ‫‪11‬‬
‫ً‬
‫قال ابن عباس‪ :‬أي في أصالب اآلباء‪> :‬آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا<(‪.)2‬‬
‫ويقول الدكتور مصطفى السباعي‪ < :‬إنه ولد في أشرف بيت من بيوت العرب‬
‫فهو من أشرف فروع قريش‪ ،‬وهم بنو هاشم‪ ،‬وقريش أشرف قبيلة في العرب‪،‬‬
‫وأزكاها نسبا‪ ،‬وأعالها مكانة‪.‬‬
‫وقد روي عن العباس ‪ K‬عن رسول اهلل ! أنه قال‪> :‬إن اهلل خلق الخلق‬
‫فجعلني من خيرهم‪ ،‬من خير فرقهم وخير الفريقين‪ ،‬ثم تخيّر القبائل فجعلني‬
‫من خير قبيلة‪ ،‬ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم‪ ،‬فأنا خيرهم نفسا وبيتا<‬
‫ً‬

‫رواه الترمذي بسند صحيح >‪ ،‬وقال السباعي بعد إيراده هذا الحديث‪ < :‬ولمكانة‬
‫بي ! التضاح نسبه‬ ‫هذا النسب الكريم في قريش لم نجدها فيما طعنت به على الن ّ ّ‬
‫بينهم‪ ،‬ولقد طعنت فيه بأشياء كثيرة مفتراة إال هذا األمر> (‪.)3‬‬

‫‪ 12‬هو أكرم الكرماء‪:‬‬


‫فكان يعطي عطاءَ َمن ال يخشى الفقر‪ ،‬فكان أجود الناس‪ ،‬ومات ودرعه‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫مرهونة عند تاجر يهودي في ثالثين صاعًا من شعير‪.‬‬

‫((( النبوة واألنبياء للمهندس اللواء أحمد عبدالوهاب‪( ،‬ص‪.)211‬‬


‫((( الجامع ألحكام القرآن (‪.)85/16‬‬
‫((( دروس وعبر في السيرة النبوية (ص‪.)36-35‬‬
‫‪340‬‬

‫بي ! ال يوازى وال يبارى فيه‪.‬‬ ‫ذكر الشيخ أسعد صاغرجي‪ < :‬أن كرم الن ّ ّ‬
‫وقد وصفه بذلك كل من عرفه واشتهر حتى بلغ مبلغ التواتر >‪.‬‬
‫بي كان أجود الناس<(‪. )1‬‬ ‫روى البخاري وغيره عن ابن عباس ‪> :K‬أن الن ّ ّ‬

‫وروى مسلم عن أنس ‪> :K‬ما سئل رسول اهلل ! شيئا إال أعطاه‪ ،‬فجاءه‬
‫رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه وقال‪ :‬يا قوم أسلموا فإن محمدا‬
‫يعطي عطاء من ال يخشى الفاقة<(‪.)2‬‬
‫وذكر حادثة البردة المنسوجة التي جاءته هدية من امرأة نسجتها له بيدها‬
‫فاستوهبها منه أعرابي فأعطاه إياها‪ ،‬قد ذكرها البخاري‪ ،‬ومن ثم قال األعرابي عنه‬
‫! بأنه‪> :‬ال يرد سائال<(‪ ،)3‬فكان جوده كله هلل في ابتغاء مرضاته‪ ،‬فتارة كان يبذل‬
‫ُ‬
‫المال لفقير أو محتاج‪ ،‬وتارة يتألف به على اإلسالم من يقوى اإلسالم بإسالمهم‪،‬‬
‫وتارة يؤثِر على نفسه وأوالده‪...‬‬
‫عهد من غيره‪ :‬ما روى الترمذي (‪ )4‬عن عمر‪ ‬بن‬ ‫ومن كرمه َو ُجوده الذي لم ي ُ َ‬
‫الخطاب ‪ :K‬أن رجال جاء إلى رسول اهلل يسأله أن يعطيه فقال‪> :‬ما عندي شيء‪،‬‬
‫ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه< فقال له عمر‪ :‬ما كلفك اهلل ما ال تقدر‪ .‬فكره الن ّ ّ‬
‫بي‬ ‫ْ‬
‫َّ‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2307‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪)2312‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)5810( ،)2093‬‬
‫((( الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل (‪ )191-190‬وأبو الشيخ في‪ :‬أخالق الن ّ ّ‬
‫بي !‬
‫(ص‪ )54‬والبزار مطواًل‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3662‬كشف األستار من حديث عمر‪ ،‬وأخرجه‬
‫من حديث أبي هريرة الطبراني في الكبير‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1024‬وأبو يعلى‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪ )1040‬وغيرهم‪ ،‬قال مخرجوه‪< :‬إسناده جيد> مسند الموصلي (‪ )430/10‬بالهامش‪،‬‬
‫وانظر‪ :‬كتاب الزهد‪ ،‬لوكيع‪ ‬بن الجراح (‪ )666/2‬قال مخرجه‪ < :‬صحيح بمجموع الطرق‬
‫والشواهد>‪.‬‬
‫‪341‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫قول عمر‪ ،‬فقال رجل من األنصار حين رأى كراهة الن ّ ّ‬


‫بي للمنع‪ :‬يا رسول اهلل أنفق وال‬
‫تخش من ذي العرش إقالال‪ ،‬فتبسم وعرف البشر في وجهه وقال‪> :‬بهذا أمرت<(‪.)1‬‬

‫‪ 13‬عرف بالشجاعة‪ :‬فكانوا إذا حمي الوطيس يحتمون به‪ ،‬كما أخبر ابن‬
‫عمه علي‪ ‬بن أبي طالب ‪. K‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫أربعين رجال؛ بل له من القوة ما تعجز عنه‬ ‫أعطي قوة‬ ‫أشجع الناس وقد‬ ‫كان‬
‫القوى البشرية‪ ،‬وهو عليه الصالة والسالم لم يهزم قط‪...‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الوطيس استقبلنا‬ ‫وروى مسلم عن البراء أيضا قال‪ :‬كنا إذا اشتد البأس وح ِم َي‬
‫الناس بوجه رسول اهلل !‪ .‬وفي رواية‪ :‬كنا إذا احمر البأس أي اشتد اتقينا برسول‬
‫اهلل ! وإن الشجاع منا الذي يحاذيه(‪.)2‬‬

‫عرف بالصبر على العبادة‪ ،‬وعلى الجوع‪ ،‬وعلى اإليذاء في سبيل اهلل‪.‬‬ ‫‪14‬‬
‫أورد العالمة اللحجي(‪ )3‬رواية البخاري ومسلم وغيرهما عن المغيرة‪ ‬بن شعبة‬
‫بي ! صلى حتى انتفخت قدماه؛ فقيل له‪ :‬أتتكلف هذا وقد‬ ‫وأبي هريرة ‪ :R‬أن الن ّ ّ‬
‫غفر اهلل لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال‪> :‬أفال أكون عبدا شكورا< (‪.)4‬‬
‫وأصحاب السنن عن حذيفة بين اليمان‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ثم إنه أورد بعد ذلك رواية مسلم‬
‫َ‬
‫والتي يذكر فيها صالته مع رسول اهلل ! والتي فيها قراءته سورة البقرة وآل عمران‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫والنساء واألنعام أو المائدة في أربع ركعات‪ ،‬وجعله الركوع قريبا من القيام‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫والسجود ً‬
‫نحوا من ذلك إلى آخر صالته ! (‪.)5‬‬

‫((( انظر كتاب سيدنا محمد األسوة الحسنة‪( ،‬ص‪ )431‬وما بعدها‪.‬‬
‫((( انظر كتاب سيدنا محمد األسوة الحسنة‪( ،‬ص‪.)430-429‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2819‬‬ ‫ ‬
‫((( منتهى السول (‪.)10-9/3‬‬
‫((( وانظر من منتهى السول‪.40-37 /3 ،‬‬
‫‪342‬‬

‫َ‬
‫وأورد في الجزء الثاني رواية البخاري ومسلم قول السيدة عائشة ‪ I‬لعروة‪ ‬بن‬
‫َ‬
‫الهالل‪ ،‬ثالثة‬
‫ِ‬ ‫الهالل ثم‬
‫ِ‬ ‫الزبير ‪> :K‬واهلل يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهالل ثم‬
‫أهلة في شهرين‪ ،‬وما أوقدت في أبيات رسول اهلل نار‪ .‬فقلت‪ :‬يا خالة‪ ،‬فما كان‬
‫ُ ُ‬
‫يُعيشكم؟ قالت‪ :‬األسودان‪ :‬التمر والماء<(‪.)1‬‬
‫وأورد رواية الترمذي عن أبي طلحة ‪ K‬والتي يقول فيها‪> :‬شكونا إلى رسول‬
‫اهلل ! الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر‪ ،‬فرفع رسول اهلل عن بطنه عن‬
‫حجرين<(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫وأما صبره على اإليذاء فيذكر الشيخ سعيد حوى نماذج عدة‪ ،‬نذكر منها مثاال‬
‫واحدا‪ ،‬وهو الذي حصل لرسول اهلل في مكة المكرمة‪ ،‬حيث كان المشركون‬
‫ْ‬
‫الحج ِر‪> .‬فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول اهلل ! فوثبوا إليه‬
‫مجتمعين في ِ‬
‫وثبة رجل واحد‪ ،‬فأطافوا به يقولون‪ :‬أنت الذي تقول كذا وكذا؟ ِل َما كان يبلغهم‬
‫من عيب آلهتهم ودينهم‪ .‬قال‪ :‬نعم أنا الذي أقول ذلك‪ ،‬قال‪ :‬فلقد رأيت رجال‬
‫َ‬
‫منهم أخذ بج ْمعِ ردائه‪ ،‬وقام أبو بكر ‪ K‬دونه يقول وهو يبكي‪ :‬أتقتلون رجال أن‬
‫يقول ربي اهلل؟ ثم انصرفوا عنه<‪.‬‬
‫ُ‬
‫وذكر بعد ذلك حادثة أخرى‪ ،‬مفادها‪> :‬فقال أبو جهل‪ :‬أيّكم يأتي جزور بني‬
‫فالن‪ ،‬فيأتينا بفرثها فنكفأه على محمد‪ ،‬فانطلق أشقاهم عقبة‪ ‬بن أبي معيط‪ ،‬فأتى‬
‫ٌ‬
‫به فألقاه على كتفيه‪ ،‬ورسول اهلل ساجد‪ ،‬قال ابن مسعود‪ :‬وأنا قائم ال أستطيع‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫أن أتكلم ليس عندي منعة تمنعني‪ .‬فأنا أذهب إذ سمعت فاطمة بنت رسول اهلل‬
‫ُّ‬
‫!‪ ،‬فأقبلت حتى ألقت عن عاتقه‪ ،‬ثم استقبلت قريشا تسبهم‪ ،‬فلم يُرجعوا إليها‬
‫شيئا‪ ،‬ورفع رسول اهلل ! رأسه كما كان يرفعه عند تمام السجود‪.)3(<...‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2567‬‬


‫((( الترمذي (‪ ،)2371‬قال ابن الملقن‪< :‬إسناده صحيح> اإلعالم (‪.)324/5‬‬
‫((( كتاب الرسول لسعيد حوى‪( ،‬ص‪.)81‬‬
‫‪343‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫ّ‬ ‫َ َ ُ‬
‫بالطعان وال‬ ‫المنطق‪ ،‬فلم يكن‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫‪ 15‬أجمع أهل زمانه على أنه حس‬
‫ّ‬
‫اب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بالصخ‬

‫أعظم وأعدل الناس وأعفهم وأصدقهم لهجة‪ ،‬ولقد اعترف بذلك‬ ‫َ‬ ‫كان !‬
‫َ‬
‫األمين ‪.‬‬ ‫أعداؤه‪ ،‬وكان يسمى قبل البعثة‪:‬‬
‫روى الترمذي عن علي ‪ K‬أن أبا جهل قال للنبي !‪ :‬إنا ال نكذبك لثبوت‬
‫صدقك ولكن نكذب بما جئت به(‪.)1‬‬
‫عن عائشة ‪ I‬ـ كما في األدب المفرد للبخاري ـ أنها قالت‪> :‬لم يكن فاحشا‬
‫وال متفاحشا وال صخابا في األسواق<(‪.)2‬‬

‫‪ 16‬عرف بالرحمة‪:‬‬
‫ً‬
‫رحيما‪ ،‬بل شملت رحمته اإلنسان والحيوان‪ ،‬بل أعلن ميثاق‬ ‫فكان بالمؤمنين‬
‫الرحمة والمحبة‪ ،‬وكانت حياته قائمة على هذا المنهج‪ ،‬حتى مع أعدائه يحب‬
‫َ َ ٓ َۡ َ ۡ َٰ َ‬ ‫ُ‬
‫ني ‪،}١٠٧‬‬ ‫العفو ويصفح عن الجناة إذا تابوا وأنابوا {وما أرسلن ِ‬
‫ك إ اَّل َر مۡ َ‬
‫ح ٗة ّل ِۡل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫دخل مكة فاتحا‪ ،‬ولما سمع من بعض أصحابه من قال‪ :‬هذا يوم غضب‪ ،‬قال‪> :‬بل‬
‫يوم رحمة<‪ ،‬وقال لمن آذوه وأخرجوه باألمس‪> :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء<‪.‬‬
‫يقول الدكتور مصطفى السباعي‪ < :‬أما فتح مكة ففيها من الدروس والعظات‬
‫ما تضيق عن شرحه هذه الصفحات القالئل‪ .‬ففيها نجد طبيعة الرسول ! الذي‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ال يجد الحقد على مقاوميه إلى نفسه سبيال‪ .‬فقد َمن عليهم بعد كفاح‪ ،‬استمر‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫بينه وبينهم إحدى وعشرين سنة‪ ،‬لم يتركوا فيها طريقا للقضاء عليه‪ ،‬وعلى أتباعه‬

‫((( كتاب سيدنا محمد ! األسوة الحسنة (‪ ،)433/2‬وأخرجه الترمذي في العلل الكبير‬
‫(ص‪ )354‬وقال (صحيح مرسل)‪.‬‬
‫((( األدب المفرد (‪ ،)246‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )25417‬قال مخرجوه‪ < :‬حديث صحيح >‬
‫ً‬
‫وانظر تخريجه فيه مفصال‬
‫‪344‬‬

‫وعلى دعوته‪ ،‬إال سلكوها‪ ،‬فلما تم له النصر عليهم‪ ،‬وفتح عاصمة وثنيتهم لم يزد‬
‫على أن استغفر لهم وأطلق حريتهم‪.‬‬
‫وما يفعل مثل هذا وال فعله في التاريخ أحد‪ ،‬ولكنما يفعله رسول كريم‪ ،‬لم يرد‬
‫بدعوته ملكا وال سيطرة‪ ،‬وإنما أراد له اهلل أن يكون هاديا وفاتحا للقلوب والعقول‪،‬‬
‫ولهذا دخل مكة خاشعا شاكرا هلل‪ ،‬ال يزهو كما يفعل عظماء الفاتحين > (‪.)1‬‬
‫وحول شمول رحمته للعالمين يقول محمد فتح اهلل كولن(‪:)2‬‬
‫< وكون الرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم في الدنيا واآلخرة يعد رحمة‪،‬‬
‫وناحية الرحمة هذه مستمرة إلى األبد‪ .‬كان رحمة للمنافقين أيضا‪ ،‬فبسبب هذه‬
‫الرحمة الواسعة لم ير المنافقون العذاب في الحياة الدنيا فقد حضروا إلى المسجد‬
‫واختلطوا بالمسلمين‪ ،‬واستفادوا من كل الحقوق التي يتمتع بها المسلمون‪،‬‬
‫ولم يقم رسول اهلل بفضحهم وإفشاء أسرار نفاقهم أبدا مع أنه كان يعرف دخائل‬
‫نفوسهم ونفاقهم‪...‬‬
‫كما استفاد الكفار من رحمة رسول اهلل؛ ألن اهلل تعالى كان يهلك من قبل‬
‫األمم الكافرة بسبب كفرها وعصيانها هالكا جماعيا‪...‬‬
‫ُ‬
‫حتى جبريل قد استفاد من النور الذي جاء به الرسول‪ .‬فقد سأله رسول اهلل‬
‫يوما وهو يشير إلى القرآن‪> :‬هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬كنت‬
‫ت لثناء اهلل َّ‬ ‫ْ ُ‬
‫علي بقوله‪﴿ :‬ذِي قو ٍة عِند ذِي ٱلعر ِش مك ٖ‬ ‫فأمن‬‫أخشى العاقبة ِ‬
‫ِني ‪ُّ ٢٠‬م َطاعٖ‬ ‫َۡۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ‬
‫َ َّ َ‬
‫ِني﴾< [��سور�ة ا �لت� ك�و�ير ‪. ]21 ،20‬‬
‫ثم أ ٖ‬
‫م‬
‫ّ‬
‫ويقول الرسول في حديث آخر‪> :‬أنا محمد وأحمد والمقف ٰى‪ ،‬وأنا الحاشر‬
‫ونبي التوبة ونبي الرحمة<> (‪.)3‬‬

‫((( النور الخالد محمد ‪.‬‬ ‫ ‬


‫((( كتاب السيرة النبوية للسباعي (ص‪.)149‬‬
‫((( المرجع نفسه (‪.)322/1‬‬
‫‪345‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫أما عن رحمته بالحيوان‪ ،‬فقد ورد في صحيح مسلم قوله !‪> :‬إن اهلل كتب‬
‫اإلحسان على كل شيء‪ ،‬فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‪،‬‬
‫فليرح ذبيحته< (‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫شفرته‪،‬‬ ‫كم‬ ‫أحد‬ ‫َّ‬
‫وليحد‬
‫ِ‬
‫عرف بين قومه بالصادق‪ ،‬وباألمين‪ ،‬وكان هذا هو وصفه بين قومه‬ ‫‪17‬‬
‫بإجماع قريش كلها والعرب قاطبة‪.‬‬

‫عرف عليه الصالة والسالم في شبابه بين قومه بالصادق األمين‪ ،‬واشتهر بينهم‬
‫َّ‬
‫بحسن المعاملة‪ ،‬والوفاء بالوعد‪ ،‬واستقامة السيرة‪ ،‬وحسن السمعة‪ ،‬مما رغب‬
‫ِّ‬
‫خديجة في أن تعرض عليه االتجار بمالها في القافلة التي تذهب إلى مدينة (بصرى)‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫تعطيه ضعف ما تعطي رجال من قومها ‪.‬‬ ‫كل عام‪ ،‬على أن‬
‫غالمها ميسرة بما كان من أمانته وإخالصه‪ ،‬ورأت‬‫ُ‬ ‫فلما عاد إلى مكة وأخبرها‬
‫َ‬
‫الربح الكثير في تلك الرحلة‪ ،‬أضعفت له من األجر ضعف ما كانت أسمت له‪،‬‬
‫ََ َ‬
‫ثم حملها ذلك على أن ترغب في الزواج منه‪ ،‬فق ِبل أن يتزوجها وهو أصغر منها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عشر عاما‪ ،‬وأفضل شهادة له بحسن خلقه قبل النبوة قول خديجة له بعد أن‬ ‫بخمسة‬
‫جاءه الوحي في غار حراء وعاد مرتعدا‪ :‬كال واهلل ال يخزيك اهلل أبدا‪ ،‬إنك لتصل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الك َّل (الضعيف)‪ ،‬وتكس ُ‬
‫الضيف‪ ،‬وتعين‬ ‫قري‬‫ِ‬ ‫وت‬ ‫‪،‬‬ ‫المعدوم‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫الرحم‪ ،‬وتحمل‬
‫على نوائب الحق (‪.)2‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫‪ 18‬بعث في زمان كان الجهل والظلم والتعسف قد أطبق على أهل األرض‪،‬‬
‫فأنار البشرية‪.‬‬

‫بي ! قد وصلت‬ ‫كانت حالة الناس في الجزيرة العربية وغيرها قبل مبعث الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الناس‬ ‫في الفساد إلى النهاية‪ ،‬وبلغت البشرية الدرك األسفل من االنحطاط‪ ،‬وغيَّ َر‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1955‬‬


‫((( انظر السيرة النبوية‪ ،‬دروس وعبر (ص‪.)39-38‬‬
‫‪346‬‬

‫ُ‬
‫وبدلوا وحرفوا ما أنزل اهلل على رسله من الكتب السماوية‪ ،‬وتفرق أهل كل دين‬
‫َ‬
‫مذاهب شتى‪ ،‬وعبدوا من دون اهلل آلهة شتى ‪.‬‬
‫فالبوذيون يعبدون بوذا‪ ،‬والهندوس يعبدون البقر‪ ،‬واجملوس يعبدون النار‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وأمم تعبد أرواح‬ ‫وأمم تعبد المالئكة والجن‪ ،‬وأمم يعبدون الصور والتماثيل‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫الموتى وآثارهم‪ ،‬ومنهم من يعبد الشمس والقمر‪ ،‬ومنهم من يعبد األنهار‪ ،‬ومنهم‬
‫من يعبد الحجارة‪ ،‬وسادت الخرافات واألوهام‪ ،‬وشاعت اإلباحية والفوضى‬
‫ُ‬
‫وارت ِك َبت الفواحش‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وكانت العرب أسوأ الناس حااًل وأشدهم إمعانا في الجهالة والضاللة‪ ،‬فقد‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ودب من األصنام واألوثان‬ ‫أشركوا باهلل ما لم ينزل به سلطانا‪ ،‬وعبدوا كل ما هب‬
‫واألنصاب والتماثيل واألشجار وكثبان الرمال‪ ،‬وعبدوا المالئكة والجن‪ ،‬واعتقدوا‬
‫أن الهواء والشمس والقمر والنجوم والحجارة تتصرف في أمورهم ومستقبلِ‬
‫حياتهم‪ .‬وبالغوا في عبادة الحجارة حتى ملؤوا بها فناء الكعبة ـ البيت الحرام ـ‬
‫َ‬
‫ثالثمائة وستين صنما(‪.)1‬‬
‫ٍ‬ ‫فنصبوا فيه‬

‫‪ 19‬دعا الناس إلى عبادة اهلل عز وجل وتوحيده وتعظيمه واالستعانة به‬
‫والتوكل عليه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫كانت مهمة محمد ! هي دعوة الناس إلى الدين وتربيتهم وتهذيبهم‪ .‬وبناء‬
‫ً‬ ‫َ َ‬
‫وج ْعله عبدا هلل عز وجل‪ ،‬بإخراجه من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد‪،‬‬ ‫اإلنسان‪،‬‬
‫السوي الذي ساد الدنيا ّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وعمر‬ ‫ومن ضيق الدنيا إلى عدل اإلسالم‪ ،‬فأنشأ به اإلنسان‬
‫الدنيا بالدين‪.‬‬

‫((( سيدنا محمد رسول اهلل األسوة الحسنة (‪.)144/1‬‬


‫‪347‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫قضى على الشرك والوثنية والذلة لغير اهلل عز وجل‪ ،‬وأخرج الناس‬ ‫‪20‬‬
‫من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد‪.‬‬
‫ذكر األستاذ الدكتور صالح رضا ما ورد في التوراة عن وصف رسول اهلل‪،‬‬
‫بي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا لألميين‪.‬‬ ‫وأنه جاء فيها‪ < :‬يا أيها الن ّ ّ‬
‫أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل‪ ،‬ليس بفظ وال غليظ وال سخاب‬
‫َ‬
‫في األسواق‪ ،‬وال يدفع بالسيئة السيئة‪ ،‬ولكن يعفو ويغفر‪ .‬ولن يقبضه اهلل‬
‫َ‬ ‫حتى َ‬
‫يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا ال إله إال اهلل‪ ،‬ويفتح بها أعينا عميا‪ ،‬وآذانا‬
‫صما‪ ،‬وقلوبا غلفا > (‪.)1‬‬
‫وذكر السيوطي (‪ )2‬شهادة أبي سفيان في دعوة محمد ! لدى إجابته لهرقل عنه‪،‬‬
‫عند سؤاله عما يدعو إليه‪ ،‬فقال‪ < :‬يقول‪ :‬اعبدوا اهلل وحده‪ ،‬ال تشركوا به شيئا‪،‬‬
‫واتركوا ما يقول آباؤكم‪ ،‬ويأمرنا بالصالة‪ ،‬والصدق‪ ،‬والعفاف‪ ،‬والصلة > (‪.)3‬‬

‫‪ 21‬أطلق عقولهم لكي تتأمل في ملكوت اهلل عز وجل ألن اهلل سخر لإلنسان‬
‫كل ما في هذا الكون‪.‬‬
‫ُّ‬
‫< تفكر ساعة ٌ‬
‫خير من قيام ليلة > (‪ )4‬أي‪:‬‬ ‫جاء في األثر عن الحسن البصري‪:‬‬
‫< إنك ال تجد طاقة من طاقات اإلنسان إال وقد أطلقها رسول اهلل في طريقها‬
‫َ‬
‫العجب؛ في تكامل شخصياتهم‪ :‬عبّادا‪،‬‬‫َ‬ ‫الصحيح‪ ،‬فأصبحت ترى من أصحابه‬
‫وزهادا‪ ،‬شجعانا محاربين‪ ،‬عادلين‪ ،‬رحماء‪ ،‬إداريين‪ ،‬سياسيين‪ ،‬حكماء‪ ،‬مربين‪.‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫كل واحد منهم أمة‪ ،‬وما أسهل أن يقود أمة‪.‬‬

‫((( إنها النبوة (ص ‪.)640‬‬


‫((( انظر الخصائص للسيوطي‪.)3/2( ،‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)7‬‬
‫((( المصنف البن أبي شيبة (‪.)190/7‬‬
‫‪348‬‬

‫ْ َ َ‬
‫وال أدل على ذلك‪ :‬أنه من النادر أن ف ِشل واحد منهم فيما تولى من قيادات‪....‬‬
‫ُ‬
‫لفت القرآن نظرهم إلى الكون؛ ليتعرفوا فيه على اهلل وقدرته‪ ،‬حتى أوصلهم‬
‫إلى رؤية إحياء البلد الميت بالمطر والنبات‪ ،‬يكون ميتا فينزل عليه المطر فيحيا > (‪.)1‬‬
‫ثم يقول‪ < :‬أول سورة من سور القرآن هي الفاتحة‪ ،‬ويالحظ أنها أوجزت‬
‫معاني القرآن كله‪ .‬فمعاني القرآن كلها تدور حول العقائد والعبادات ومناهج‬
‫الحياة‪.‬‬
‫َ‬
‫ٱلرحِي ِم ‪ ٣‬مٰل ِ‬
‫ِك‬ ‫ٱلرِنَٰمۡح َّ‬
‫ني ‪َّ ٢‬‬ ‫ٱل ۡم ُد للِهَّ ِ َر ّب ۡٱل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬ ‫والسورة بدأت بالعقيدة ﴿ حۡ َ‬
‫ِ‬
‫ِين ﴾ ‪.‬‬ ‫َۡ ّ‬
‫يو ِم ٱدل ِ‬
‫ني﴾ ‪.‬‬ ‫اك ن َ ۡس َتع ُ‬
‫ِ‬
‫وثنت بالعبادات ﴿إيَّ َ‬
‫اك َن ۡع ُب ُد ِإَويَّ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ِين أن َع ۡم َت َعل ۡي ِه ۡم﴾ ‪.‬‬ ‫وثلثت بمناهج الحياة ﴿ٱهدِنا ِ‬
‫َ‬ ‫َ ٰ َ ذَّ َ ۡ‬ ‫ٱلص َر ٰ َط ٱل ۡ ُم ۡس َتقِ َ‬
‫ۡ َ ّ‬
‫صرط ٱل‬ ‫يم ‪ِ ٦‬‬
‫ِني﴾ (‪.)2‬‬ ‫وبينت أخيرا أن منهاج المسلمين متميز ﴿غ ِ‬
‫َ َ ۡ ۡ َ اَ َّ ّ‬
‫ٓال َ‬ ‫َ رۡ ۡ َ ۡ ُ‬
‫وب علي ِهم ول ٱلض‬ ‫ي ٱلمغض ِ‬
‫َ‬
‫يتم َم مكارم األخالق‪ ،‬وليواصل رسالة األنبياء الذين قبله‪،‬‬
‫‪ 22‬جاء كي ِّ‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫وآمن بهم‬
‫بي محمد ! أن يستقر في قلوب صحابته وأذهانهم‪ :‬أنه ما بعث‬ ‫حرص الن ّ ّ‬
‫ِّ‬
‫إال ليكمل ما بدأه إخوانه من األنبياء والمرسلين الذين سبقوه‪ ،‬وأنه لم يأت محقرا‬
‫من شأنهم وال مقلال من مجهودهم وأثرهم‪ ،‬وأنه جاء يكمل هذا البناء العظيم‪.‬‬
‫وقد بين مكانه فيهم أنه إنما هو لبنة مكملة لهم‪ ،‬فهم بناء شامخ كبير رائع‪،‬‬
‫وهو بمنزلة لبنة في هذا الجدار ‪.‬‬
‫ولهذا قال !‪> :‬مثلي ومثل األنبياء من قبلي كمثل رجل ْابتنى بيتا فأحسنه‬
‫ً‬ ‫َ‬

‫((( الرسول لسعيد حوا‪( ،‬ص‪.)156‬‬


‫((( الرسول لسعيد حوا‪( ،‬ص‪.)236-235‬‬
‫‪349‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫َ‬
‫وأجمله وأكمله إال موضع ل ِبنَ ٍة في زاوية من زواياه‪ .‬فجعل الناس يطوفون ويعجبهم‬
‫وضعت هاهنا لبنة فيتم بنيانك! فقال محمد !‪ :‬فكنت أنا‬
‫َ َ‬
‫البنيان فيقولون‪ :‬أال‬
‫ألتمم مكارم األخالق< (‪. )1‬‬
‫َ‬ ‫اللبنة< وقال !‪> :‬إنما بعثت‬‫ِ‬

‫‪ 23‬لم تستطع ِ‬
‫َّ‬
‫تصده عن بالغ رسالة اهلل إلى البشرية‪،‬‬ ‫مغريات قريش أن‬
‫بعد أن عرضوا عليه الملك والمال والجمال فرفض كل ذلك اإلغراء‪.‬‬
‫ً‬
‫مستعرضا هذا الموقف الرائع من رسول‬ ‫يحكي لنا الشيخ أبو بكر الجزائري‬
‫اهلل !‪ ،‬تجاه تلك المغريات من قريش‪ ،‬فيقول‪ < :‬ها هو ذا أبو الوليد عتبة‪ ‬بن‬
‫بعث من ِق َبل المشركين؛ ليعرض على رسول اهلل ما رأوه حال للمشكلة‬ ‫ربيعة ي ُ َ‬
‫في نظرهم‪ ،‬فيقول‪ :‬يا ابن أخي إنك من حيث قد علمت من السلطة في العشيرة‬
‫َّ‬ ‫َّ َ‬
‫فرقت به جماعتهم‪ ،‬وسفهت‬ ‫والمكان في النسب‪ ،‬وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم‬
‫َّ َ‬
‫وكفرت به من مضى من آبائهم‪ ،‬فاسمع‬ ‫وعبت به آلهتهم ودينهم‪،‬‬
‫به أحالمهم‪ِ ،‬‬
‫مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها‪ ،‬لعلك تقبل منها بعضها‪ ،‬فقال له الرسول !‪:‬‬
‫أسمع<‪.‬‬
‫ْ‬ ‫>قل يا أبا الوليد‬
‫قال‪ :‬يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به هذا األمر مااًل جمعنا لك‬
‫أكثرنا ماال‪ ،‬وإن كنت تريد به شرفا ّ‬
‫سودناك علينا‪ ،‬حتى ال‬ ‫من أموالنا حتى تكون َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫نقطع أمرا دونك‪ .‬وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا‪ .‬وإن كان هذا الذي يأتيك‬
‫ْ‬
‫ِرئيا تراه ال تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب‪ ،‬وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك‬
‫َ‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫ُ‬
‫التابع على الرجل حتى يُداوى منه ‪.‬‬ ‫غل َ‬
‫ب‬ ‫منه‪ .‬فإنه ربما‬
‫وفرغ عتبة من كالمه ورسول اهلل يستمع إليه فقال‪> :‬أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال‪:‬‬
‫ٱلرحِي ِم﴾ [����ص�ل� ت�‪]2-1:‬‬ ‫نعم‪ .‬قال‪ :‬فاسمع‪ .‬قال‪ :‬أفعل‪ .‬فقال !‪﴿ :‬حم ‪ ١‬ت ِ‬
‫ف‬ ‫ٓ َ ‪ٞ‬‬
‫يل ّم َِن َّ‬
‫ٱلرِنَٰمۡح َّ‬ ‫زن‬

‫((( السلسلة الصحيحة (‪ ،)45‬وأخرجه البخاري في األدب المفرد (‪ )207‬بلفظ (صالح‬


‫األخالق) قال األلباني‪< :‬صحيح>‪.‬‬
‫‪350‬‬

‫ومضى رسول اهلل يقرأ وقد ألقى عتبة يديه وراء ظهره معتمدا عليهما حتى انتهى‬
‫رسول اهلل إلى السجدة فسجد ثم قال‪ :‬قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت‪ .‬فأنت‬
‫وذاك<(‪....)1‬‬
‫َ‬
‫الموقف الشامخ الذي ال يدانيه‬ ‫ولقد سجل الكون لسيدنا رسول اهلل ذلك‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫القلوب‪ ،‬لدى‬ ‫شموخ الش ِّم الراسياتِ‪ ،‬عندما أطلق عبارته التي تهتز لعظمتها‬
‫يكف عن دعوته‪ ،‬فأجابه بقوله‪ < :‬واهلل‬‫َّ‬ ‫توسل المشركين بعمه أبي طالب في أن‬
‫يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا األمر ما‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تركته حتى يظهره اهلل أو أهلك دونه > (‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الدين في عقيدته وشريعته وآدابه وأخالقه وتعظيمه لشؤون‬ ‫‪ 24‬بلغ عن اهلل هذا‬
‫ّ‬
‫الحياة‪ ،‬ولم يمت حتى بلغ الرسالة ونصح لألمة وجاهد في اهلل حقَّ جهاده‪.‬‬
‫إن الذي يدقق النظر في سيرة رسول اهلل محمد ! يدرك أنه قام بالتبليغ‬
‫َّ‬
‫عن اهلل كل ما أمره بتبليغه؛ فلم يدع وقتا إال استثمره في أداء هذا الواجب‪،‬‬
‫ولم يترك مجاال وال حاال إال وبادر الغتنامه؛ ألجل إيصال أحكام اهلل إلى عباد‬
‫اهلل‪ ،‬ولم يترك وسيلة إال واستخدمها في أداء واجب التبليغ لشريعة اهلل‪ ،‬مما يتعلق‬
‫بالعقيدة والعبادة واألحكام العملية واألخالق وكل األحكام التي تنظم عالقات‬
‫الناس وأحوالهم؛ حتى لو اقتضى ذلك أن يسافر شرقا وغربا‪.‬‬
‫َ‬
‫تعرض‬ ‫لقد قام بدعوة أقاربه وعشيرته ثم قام بدعوة القبائل العربية‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫للوافدين إلى مكة في المواسم‪ ،‬ومن ث ّم صار يرسل أصحابه إلى اآلفاق دعاة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫كتاب اهلل وشرعته وسنة نبيه‪ ،‬وتوج ذلك بالبالغ العالمي الذي ألقاه‬ ‫إلى اهلل مبلغين‬
‫في حجة الوداع‪.‬‬

‫((( هذا الحبيب يا محب (ص ‪.)109-102‬‬


‫((( إنها النبوة للدكتور صالح رضا (ص‪.)123‬‬
‫‪351‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫ولنتأمل هذه األسطر من األستاذ الدكتور صالح رضا (‪ )1‬حيث يقول‪ < :‬يوضح‬
‫الرسول الكريم بقوله ـ هل بلغت ـ وتكراره له‪ :‬أن الدعوة إلى دين اهلل تعالى‬
‫هي وظيفته األساسية التي جاء من أجلها‪ ...‬كان رسول اهلل يقول بعد كل فقرة‬
‫من فقرات خطابه‪> :‬أال هل بلغت اللهم‪ ،‬فاشهد< ‪.‬‬
‫إنها الحقيقة التي يجب أن تكون مستقرة في نفس كل مسلم‪ .‬أال وهي‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مبلغ عن ٍّ‬
‫منشئا لألحكام‪ .‬فكل ما يقول إنما هو‬
‫ِ‬ ‫وليس‬ ‫‪.‬‬ ‫رب‬ ‫أن رسول اهلل !‬
‫من عند اهلل تعالى‪ ،‬وليس له من األمر شيء‪.‬‬
‫والحقيقة الثانية‪ :‬أنه قام بهذه المهمة على الوجه األتم‪ .‬فقد بلغ رسالة ربه > (‪.)2‬‬
‫َ‬
‫ونحن نشهد ونقول‪ :‬لقد بلغت يا رسول اهلل‪ ،‬وأديت األمانة‪ ،‬ونصحت لألمة‪،‬‬
‫فصالة اهلل وسالمه عليك وعلى آلك وصحبك أجمعين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫أعلى من كرامة اإلنسان‪ ،‬فقال‪> :‬لزوال الدنيا وما عليها أهون عند اهلل‬ ‫ٰ‬ ‫‪25‬‬
‫ً‬
‫من قتل رجل مسلم< (‪ ،)3‬وقال‪> :‬من قتل معاهدا لم ي َ َرح رائحة الجنة< (‪.)4‬‬
‫ُ‬
‫اآلداب العامة والرحمة‬ ‫يقول األستاذ حسن أحمد عابدين ما يلي‪ < :‬لقد كانت‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الدعائم القوية للمجتمع المسلم‪ ،‬وكان لها أبلغ األثر في إرساء‬ ‫وحسن الخلق هي‬
‫حقوق اإلنسان والمحافظة عليها من الضياع واألذى >(‪.)5‬‬
‫وهكذا الشيخ أبو بكر الجزائري يعتبر من عبر ونتائج الفترة األخيرة من حياة‬
‫رسول اهلل في المدينة المنورة وخاصة بعد أدائه لحجة الوداع ما يلي‪< :‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫ض‪.‬‬ ‫ْ‬
‫والعر ِ‬
‫‪P P‬اإلعالن عن حقوق المسلم‪ ،‬وأنه محرم الدم والمال ِ‬

‫((( انظر كتاب إنها النبوة (ص‪.)603‬‬ ‫ ‬


‫((( كتاب إنها النبوة (ص‪.)603‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3166‬‬ ‫((( صحيح النسائي‪ ،‬حديث رقم‬
‫ ‬
‫(‪.)3998‬‬
‫((( انظر (ص‪ )202‬من كتاب حقوق اإلنسان لألستاذ حسن عابدين وهو الكتاب رقم ‪9‬‬
‫من سلسلة دعوة الحق‪.‬‬
‫‪352‬‬

‫‪P P‬اإلعالن عن تحريم الظلم والربا وكل عادات الجاهلية‪.‬‬


‫‪P P‬اإلعالن عن حقوق النساء > (‪.)1‬‬

‫بلغ رسالته إلى ملوك األرض وسالطينها‪ ،‬فأرسل دعوته إلى ملوك فارس‬ ‫‪26‬‬
‫وغيرهم من ملوك األرض‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وقياصرة الروم وملوك مصر والحبشة‬
‫نعم‪ ،‬لقد قام رسول اهلل ! بإبالغ الدعوة كما أمره اهلل ـ جل وعال ـ فبلغ‬
‫ّ‬
‫رسالته لخواص معارفه‪ ،‬مثلِ أبي بكر وأمثاله‪ ،‬ثم بلغ دعوته ألقربائه‪ ،‬ثم توسع‬
‫ْ‬
‫بدعوة َمن هم باآلفاق‪،‬‬
‫ِ‬ ‫في عمله الدعوي فصار يتعرض لمن جاء إلى مكة وقام‬
‫ّ‬
‫عن طريق التعرض لهم في المواسم التجارية (عكاظ وذو اجملنة وغيرها)‪،‬‬
‫أو المواسم الدينية (الحج وغيره)‪.‬‬
‫َ‬
‫وهكذا تابع جهاده الدعوي بكل الوسائل‪ ،‬وفي كل اجملاالت ولمختلف‬
‫األجناس‪ ،‬ولذلك نراه يرسل كتبا إلى ملوك وسالطين وأمراء المناذرة والغساسنة‬
‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫ط‪ ،‬وكان من جملة َمن أرسلهم بكتله الدعوية‬ ‫والقب ِ‬
‫َ‬
‫والروم وفارس ِ‬
‫ِ‬ ‫دة‬ ‫وكن‬
‫وحمير ِ‬
‫إلى مختلف أولئك الحكام‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪1 .1‬دحية الكلبي‪ ،‬وقد أرسله إلى قيصر ملك الروم‪.‬‬
‫‪2 .2‬حاطب‪ ‬بن أبي بلتعة‪ ،‬أرسله إلى المقوقس ملك مصر‪.‬‬
‫‪3 .3‬عبداهلل‪ ‬بن حذافة‪ ،‬وأرسله إلى كسرى ملك الفرس‪.‬‬
‫‪4 .4‬عمرو‪ ‬بن أمية الضمري‪ ،‬وأرسله إلى النجاشي ملك الحبشة‪.‬‬
‫‪5 .5‬شجاع‪ ‬بن وهب‪ ،‬وأرسله إلى المنذر‪ ‬بن الحارث الغساني صاحب دمشق‪.‬‬
‫‪6 .6‬سليط‪ ‬بن عامر العامري‪ ،‬وأرسله إلى هوذة‪ ‬بن علي صاحب اليمامة‪.‬‬
‫‪7 .7‬العالء‪ ‬بن الحضرمي‪ ،‬وأرسله إلى المنذر‪ ‬بن ساوى صاحب البحرين‪.‬‬

‫((( انظر (ص‪ )469‬من كتاب >هذا الحبيب يا محب< للشيخ أبي بكر الجزائري‪.‬‬
‫‪353‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫‪8 .8‬عمرو‪ ‬بن العاص‪ ،‬وأرسله إلى جيفر‪ ‬بن الجلندي ملك عمان (‪.)1‬‬

‫علَّم اإلنسانية صلة األرحام وإطعام الطعام وإفشاء السالم‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫َ‬
‫اهتمامه‬ ‫لقد كانت هذه الكماالت مما أوالها الرسول عليه الصالة والسالم‬
‫البالغ إرشادا وتربية ألصحابه عليها‪ ،‬ودعوة وتعليما ألمته على اكتسابها‪ ،‬والحرص‬
‫َ‬
‫عليها والتنفير من التهاون بشأنها‪ ،‬وقبل ذلك ضربُه المثل الرائع في التزامها‪.‬‬
‫ولقد كان هذا شأنه من بداية دعوته عليه الصالة والسالم؛ حيث يروي اإلمام‬
‫بي ! بمكة ـ يعني في أول‬‫مسلم عن عمرو‪ ‬بن عتبة ‪ K‬قال‪> :‬دخلت على الن ّ ّ‬
‫النبوة ـ فقلت له‪ :‬ما أنت؟ قال‪ :‬نبي‪ .‬فقلت‪ :‬وما نبي؟ قال‪ :‬أرسلني بصلة األرحام‪،‬‬
‫يوحد اهلل ال يشرك به شيئا<(‪.)2‬‬
‫َّ َ‬
‫وكسر األوثان‪ ،‬وأن‬
‫< وقد روى ابن ماجه عن عبداهلل‪ ‬بن سالم قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ! يقول‪:‬‬
‫>يأيها الناس أفشوا السالم وأطعموا الطعام‪ ،‬وصلوا األرحام وصلوا بالليل والناس‬
‫نيام تدخلوا الجنة بسالم<(‪. )3‬‬
‫َ‬
‫األدب اإلسالمي بشكل عملي > (‪. )4‬‬ ‫وكان الرسول ! يعلم أصحابه هذا‬
‫ُ‬
‫طريق‬ ‫وفي موضوع السالم يقول الدكتور الشدي‪ < :‬وكان يرى أن السالم هو‬
‫المحبة والوداد والوئام؛ وكان يقول‪> :‬أوال أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟‬
‫أفشوا السالم بينكم< > (‪.)5‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫((( انظر‪ :‬هذا الحبيب يا محب‪ ،‬للجزائري‪ ،‬وانظر‪ :‬إنها النبوة‪ ،‬لصالح رضا وغير ذلك‪.‬‬
‫((( انظر تهذيب األخالق للكاندهلوي الحسيني‪( ،‬ص‪ .)126‬انظر صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪.)832‬‬
‫((( صحيح ابن ماجه لأللباني‪ ،‬حديث رقم (‪.)2648‬‬
‫((( انظر األخالق اإلسالمية لعبدالرحمن حبنكة الميداني‪.)450/2( ،‬‬
‫((( انظر‪( :‬ص‪ )27‬من كتاب الشدي >محمد !<‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)54‬‬
‫‪354‬‬

‫ويحكي لنا سيدنا عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن عمرو‪ ‬بن العاص فيما يرويه البخاري في هذا‬
‫بي !‪ :‬أي اإلسالم خير؟ قال‪ :‬تطعم الطعام‪ ،‬وتقرأ‬‫اجملال بأن‪> :‬رجاًل سأل الن ّ ّ‬
‫السالم‪ ،‬على من عرفت‪ ،‬وعلى من لم تعرف<(‪.)1‬‬

‫دينه قائم على التوازن البديع بين الروح والبدن والجماعة والفرد‪،‬‬ ‫‪28‬‬
‫والدنيا واآلخرة‪ ...‬اإلسالم بمفهومه الواسع كحضارة ورسالة تنظم‬
‫أمر الدين بمعناه التعبدي المحدود وتحكم أمر الدنيا بأساليب نظمها‬
‫في تنسيق التشريع واآلداب العامة والنظام العام‪.‬‬
‫وفهم ركنا من أركان اإلسالم‬‫فقه شطرا من دينه‪ِ ،‬‬ ‫وهذا ما يحدو بكل من ِ‬
‫َ‬
‫أساليب يستسيغها أبناء ُ العصر‪.‬‬ ‫في تشريعه وآدابه وعباداته أن يصب ما فهم في‬
‫َ‬ ‫وعليه أن َ‬
‫يلبسه ثوبا محببا إلى عقلية القرن العشرين؛ ليحقق اإلسالم فينا معجزته‬
‫التي أثبتها في سفر التاريخ‪ ،‬فخلدت بأسطر من نور مشرقة في سجل أجدادنا‬
‫الميامين الذين خدموا دينهم فأبرزوا للناس أجمل مظاهر مرونة اإلسالم ويسره‪،‬‬
‫ٌ‬
‫رءوف‬ ‫أحكام القرآن لقلوب الناس كافة‪ ،‬ذلك ألن اإلسالم في جوهره‬ ‫َّ‬
‫وأحب‬
‫ِ‬
‫بمصالح البشر ضامن لسعادة اإلنسانية (‪. )2‬‬
‫وينقل الشيخ محمد النبهان الخباز عن برنارد شو أنه قال‪ < :‬وإني ألعتقد بأن‬
‫دين محمد سيكون مقبوال لدى أوروبا غدا‪ .‬ولقد درسته باعتباره رجال مدهشا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ومن الواجب أن يُدعى منقذ اإلنسانية‪ .‬وإني أعتقد أنه لو تولى رجل مثله قيادة‬
‫َ‬
‫السالم والسعادة‬ ‫العالم الحديث لنجح في حل مكشالته‪ ،‬بطريقة تجلب إلى العالم‬
‫اللذين هو في أشد الحاجة إليهما > (‪ )3‬أجل! إن اإلنسانية بحاجة لهذه الرسالة‬
‫المحمدية القائمة على الكمال والشمول والتوازن‪.‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6236‬‬


‫((( انظر كتاب هذا هو اإلسالم للدكتور مصطفى السباعي‪ ،‬اجملموعة الثانية‪.‬‬
‫((( االصطفا في سيرة المصطفى للشيخ الخباز (‪.)8/1‬‬
‫‪355‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫دينه دين الوسطية واالعتدال‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫أبرز ما يتمثل االعتدال لدى محمد ! في الشريعة التي جاء بها ودعا إليها‪...‬‬
‫في كل مجال من مجاالت الحياة‪.‬‬
‫ُ ٗ‬
‫ك ۡم أ َّمة َو َسطا﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪. ]143:‬‬ ‫ولذلك قال تعالى‪﴿ :‬وكذل ِك جعلن‬
‫ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬
‫َ ٰ َ َ َ َٰ ُ‬

‫وهكذا نجد رسول اهلل ! يقول‪> :‬إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق‬
‫قطع وال ظهرا أبقى<(‪. )1‬‬ ‫ً‬
‫أرضا َ‬ ‫إن ُ‬
‫الم َنب َّ‬
‫ت ال‬
‫وفي هذا السياق يذكر الكاندهلوي الحسيني حديث البخاري ومسلم عن أنس‬
‫ُ‬
‫ثالثة رهط إلى بيوت أزواج الن ّ ّ‬
‫بي !‪ ،‬يسألون عن عبادة النبي !‪،‬‬ ‫أنه قال‪> :‬جاء‬
‫بي !‪ ،‬قد غفر له ما تقدم‬ ‫فلما أُخبروا كأنهم تقالوها‪ ،‬وقالوا‪ :‬أين نحن من الن ّ‬
‫ّ‬ ‫ٌّ‬
‫ً‬
‫من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم‪ :‬أما أنا فأصلي الليل أبدا‪ ،‬وقال اآلخر‪ :‬وأنا أصوم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الدهر أبدا وال أفطر‪ ،‬وقال اآلخر‪ :‬وأنا أعتزل النساء فال أتزوج أبدا‪.‬‬
‫فجاء رسول اهلل ! إليهم فقال‪ :‬أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما واهلل‬
‫َ‬
‫إني ألخشاكم هلل وأتقاكم له‪ ،‬لكني أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج النساء‪،‬‬
‫فمن رغب عن سنتي فليس مني<(‪.)2‬‬
‫ّ‬

‫بي ! قال‪> :‬إن الدين‬ ‫ثم ذكر حديث البخاري عن أبي هريرة ‪ K‬عن الن ّ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫وأبشروا‪ ،‬واستعينوا بالغدوة‬
‫وقاربوا ِ‬‫ِ‬ ‫دوا‬ ‫فسد‬ ‫غلبه‪،‬‬ ‫إال‬ ‫أحد‬ ‫الدين‬ ‫يشاد‬ ‫يسر‪ ،‬ولن‬
‫ُّ‬
‫والروحة وشيء من الدلجة<(‪.)3‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫((( السنن الكبرى للبيهقي (‪.)18/3‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5063‬‬
‫((( انظر كتاب تهذيب األخالق (ص‪.)221-217‬‬
‫‪356‬‬

‫‪ 30‬سد اهلل كل طريق توصل إليه وفتح طريقا واحدا فقط هو طريق‬
‫محمد !‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قال الشيخ المال علي القاري(‪( < :)1‬وأما وجوب اتباعه) أي‪ :‬متابعته (وامتثال‬
‫َ َ‬ ‫ََ ْ َ َ‬ ‫ّ‬
‫سنته) أي‪ :‬طريقته (واالقتداء بهديه) أي‪َ :‬س ْم ِته وحالته وسيرته‪ ،‬فقد قال اهلل ت َعالى‪:‬‬
‫ٱلل﴾ أي‪ :‬تدعون محبته وتريدون مودته ﴿فٱتب ِ ُعون﴾ أي‪:‬‬ ‫﴿قل إِن كنتم تِب‬
‫َ َّ‬ ‫ُ ُ ۡ حُ ُّ َ‬
‫ون هَّ َ‬ ‫ُۡ‬

‫ٱلل﴾ جواب األمر‪ ،‬وهو‬ ‫ك ُم هَّ ُ‬ ‫فيما يظهر مني من شريعته وطريقته وحقيقته ﴿يبِب‬
‫حُ ۡ ۡ ُ‬

‫ك ۡ ۚم﴾‬ ‫جواب الشرط‪ ،‬أي‪ :‬يرض عنكم ويكشف حجب قلوبكم ﴿ويغفِر لكم ذنوب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ََ ۡ ُ ۡ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫آ‬
‫[ � ل�ع�مرا ن�‪ ]31 :‬أي‪ :‬جميع عيوبكم‪.‬‬
‫أ‬ ‫أۡ ُ‬
‫م﴾ [ال� �عرا �ف�‪ ،]158 :‬وفي وصفه‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬فامِنوا ب ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬‫هَّ‬ ‫ََ‬ ‫ٔ ُ‬
‫ب ٱل يِ ِّ‬ ‫ٱللِ َو َر ُس هِ َّ ّ‬
‫ولِ ٱنل يِ ِ‬
‫ٱللِ َوك َِمٰتِهِۦ﴾‪ ،‬أي‪ :‬بكتبه‬‫به تلويح إلى أن كمال علمه من معجزاته ﴿ٱلِي يؤمِن ب ِ‬
‫ُ ۡ ُ هَّ لَ‬ ‫ذَّ‬
‫أ ف‬
‫وآياته ﴿ َوٱتب ِ ُعوهُ﴾ أي‪ :‬في أوامره وزواجره ﴿لعلك ۡم تهت ُدون﴾ [ال� �عرا ��‪]158 :‬‬
‫َ َ َّ ُ َ ۡ َ َ‬ ‫َّ‬

‫ببركات ظواهره وسرائره > (‪.)2‬‬


‫ولذلك فإن السيوطي في كتابه ـ الخصائص الكبرى ـ قد جعل بابا موضوعه‪:‬‬
‫وآخرهم بعثا‪ ،‬وبأن شرعه مؤبد إلى يوم القيامة‬ ‫ُ‬ ‫< اختصاصه ! بأنه خاتم النبيين‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وناسخ لجميع الشرائع قبله‪ ،‬وأنه لو أدركه األنبياء لوجب عليهم اتباعه > (‪.)3‬‬

‫‪ 31‬أقام دينه على أمتن القواعد وأسمى األصول وهي‪ :‬شهادة أن ال إله إال‬
‫اهلل وأن محمد رسول اهلل‪.‬‬
‫ِّ‬
‫لقد < خلق اهلل الناس موحدين ال يشركون به شيئا‪ .‬وظلوا يعبدونه قرونا‬
‫طويلة‪ .‬فلما طال عليهم األمد وتفرقوا في البلد‪ ،‬نسوا عهده وضلوا عن صراطه‬

‫((( شرح الشفا للقاضي عياض (‪.)15 ،14/2‬‬


‫((( شرح الشفا لمال علي القاري‪.)15-14/2( ،‬‬
‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪.)187/2( ،‬‬
‫‪357‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫المستقيم وعبدوا من دونه آلهة أخرى‪ ،‬فأرسل إليهم الرسل يذكرونهم به ويدلونهم‬
‫على صراطه المستقيم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫السوي أرسل إليهم نبيا آخر إلى أن خ ِتمت‬ ‫فكان كلما ابتعدت أمة عن النهج‬
‫الرساالت بمحمد ! وبرسالته الخاتمة اإلسالم‪...‬‬
‫فبعث اهلل محمدا ! هاديا للناس ورحمة للعالمين‪ ،‬ورسوال إلى البشرية‬
‫كلها‪ ،‬يدعوهم إلى اهلل سبحانه وإلى توحيد عبادتهم له وحده‪.‬‬
‫جاء محمد بمنهج التوحيد الذي كان أصيال في ذاته قديما؛ إذ كانت رسالة كل‬
‫األنبياء الذين سبقوه‪ .‬فقد جاء نوح ـ عليه السالم ـ برسالة التوحيد‪ ،‬وجاء بالرسالة‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫نفسها هود عليه السالم‪ ،‬وكذلك صالح عليه السالم‪ ،‬وأيضا شعيب عليه السالم‪،‬‬
‫وبالرسالة نفسها وغايتها جاء محمد ! فأمره ربه أن يبلغ الناس‪...‬‬
‫إن العقيدة اإلسالمية في اإلله الخالق للكون وتوحيده قد بُ ِن َيت على معطيات‬
‫وفروض صحيحة ومقنعة ومتجذرة‪ ،‬يقبلها العقل البشري السليم‪ ،‬وت ُ ُّ‬
‫قر‬
‫بها النفوس المستقيمة الباحثة عن الحقيقة‪...‬‬
‫لقد دعا محمد الناس إلى إلههم وربهم جل وعال‪ ،‬وطالبهم بإعمال عقولهم‬
‫وعدم تعطيلها‪ ،‬ونهاهم عن تقليد اآلباء في أمور العقيدة‪ ،‬معتمدا على ما أنزله اهلل‬
‫تعالى إليه من القرآن وما فيه من اآليات والحكم والقصص‪...‬‬
‫ما جاء محمد ! إال بكلمة واحدة‪ ،‬وما طلب من الناس إال كلمة واحدة‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫فقط‪ ،‬عليها قامت السموات واألرض‪ ...‬وبشر من كانت تلك الكلمة آخر كالمه‪،‬‬
‫فعن معاذ‪ ‬بن جبل قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬من كان آخر كالمه ال إله إال اهلل دخل‬
‫الجنة< > (‪.)1‬‬

‫((( كتاب >أصول الدعوة< للدكتور عبدالكريم زيدان (ص‪.)9-8‬‬


‫‪358‬‬

‫بنى دينه على أصول خمسة هي‪ :‬شهادة التوحيد‪ ،‬والصالة‪ ،‬والصيام‪،‬‬ ‫‪32‬‬
‫والزكاة‪ ،‬والحج‪.‬‬
‫الدين اإلسالمي الذي يعبر عنه باإلسالم هو دين اهلل الذي ارتضاه للعالمين‪ ،‬حيث‬
‫قال‪> :‬ورضيت لكم اإلسالم دينا<‪ ،‬وهو يعني (الخضوع واالستسالم واالنقياد هلل رب‬
‫ُ‬
‫العالمين‪ ...‬ثم خص لفظ اإلسالم بالدين الذي جاء به محمد ! من ربه وباالنقياد‬
‫التام له بال قيد وال شرط‪ .‬وبهذا االنقياد يظهر خضوع اإلنسان هلل رب العالمين) (‪.)1‬‬
‫والتعريف الذي ورد في حديث رسول اهلل !‪> :‬اإلسالم هو أن تشهد أن ال‬
‫إله إال اهلل وأن محمدا رسول اهلل‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪،‬‬
‫وتحج البيت إن استطعت إليه سبيال< ‪.‬‬
‫والدكتور زيدان يقول في هذا السياق ما يلي‪ < :‬وعلى هذا‪ ،‬فأركان اإلسالم‬
‫في ضوء هذا الحديث الشريف ثالثة‪:‬‬
‫‪P P‬شهادة أن ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫‪P P‬شهادة أن محمدا رسول اهلل‪.‬‬
‫‪P P‬العمل الصالح وفي ذروته الصالة والزكاة والصوم والحج‪.‬‬
‫وإنما ذكرت هذه األربعة؛ ألهميتها وللتنبيه إلى ضرورة العمل الصالح‬
‫للمسلم‪ ،‬وأنه ال يكفي التلفظ بالشهادتين بل ال بد من العمل بمضمونهما > (‪.)2‬‬

‫بُني اإليمان على أصول ستة هي‪ :‬اإليمان باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪،‬‬ ‫‪33‬‬
‫ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وبالقدر‪.‬‬
‫عن عمر بن الخطاب ‪ K‬قال‪> :‬بينما نحن جلوس عند رسول اهلل ! ذات‬

‫((( المرجع السابق‪.‬‬


‫((( كتاب >أصول الدعوة< للدكتور عبدالكريم زيدان (ص‪.)9-8‬‬
‫‪359‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫يوم‪ ...‬قال فأخبرني عن اإليمان؟ قال‪ :‬أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم‬
‫اآلخر وتؤمن بالقدر خيره وشره‪. )1(<...‬‬
‫ويذكر اإلمام ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم‪ ،‬بعد إيراده‬
‫بي ! في هذا الحديث باالعتقادات‬ ‫هذا الحديث‪ < :‬أما اإليمان فقد فسره الن ّ ّ‬
‫الباطنة‪ ،‬فقال‪> :‬أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن‬
‫بالقدر خيره وشره<‪.‬‬
‫وقد ذكر اهلل في القرآن الكريم اإليمان بهذه األصول الخمسة في أكثر من موضع‬
‫َ َ َ َّ ُ ُ َ ٓ ُ َ يَ‬
‫اآلية‪.‬‬ ‫‪]285:‬‬ ‫ب���ر‬ ‫[‬ ‫﴾‬
‫َّ ّ َ ۡ ُ ۡ ُ َ ا �ل ق �ة‬
‫ون‬
‫ۚ‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ٱل‬‫و‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ۡ‬
‫نزل إ ِ ِ‬
‫ه‬ ‫ل‬ ‫كقوله تعالى‪﴿ :‬ءامن ٱلرسول بِما أ ِ‬
‫ب﴾‪،‬‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬ول ِ‬
‫َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫يۡ‬ ‫ۡ‬
‫َ ٰ َّ رَِّ َ ۡ َ َ َ هَّ‬ ‫َ‬
‫ٱللِ َوٱلَ ۡو ِم ٱٓأۡلخ ِِر َوٱل َم ٰٓ‬
‫لئِكةِ وٱلكِتٰ ِ‬ ‫كن ٱلب من ءامن ب ِ‬
‫اآلية [ا �لب�ق��ر�ة‪.]177:‬‬
‫أ‬
‫ٱلصل ٰوةَ َوم َِّما َر َزق َنٰ ُه ۡم يُنفِقون﴾ [ال� ن���ف���ا ل‪.]3:‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬ٱل َ‬
‫ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يمون َّ‬ ‫ذَّ‬
‫ِين يُقِ ُ‬

‫واإليمان بالرسل يُلزم صفة اإليمان بجميع ما أخبروا به‪ :‬من المالئكة‬
‫واألنبياء والكتاب والبعث والقدر وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من صفات اهلل وصفات اليوم اآلخر‪ ،‬كالصراط والميزان والجنة والنار > (‪.)2‬‬

‫أقام البناء االجتماعي المثالي الفاضل على الضروريات الست‬ ‫‪34‬‬


‫التي يجب الحفاظ عليها‪ ،‬وهي الدين والنفس والمال والعقل والعرض‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫الق َيم األخالقية واألحكام الشرعية‪.‬‬


‫والنسب‪ ،‬وحماها بسياج من ِ‬
‫إن الدين اإلسالمي الذي جعله اهلل منهجا للبشرية‪ ،‬كي تتحقق ـ في حال‬
‫تقيدها به ـ السعادة في الدنيا‪ ،‬بما تشمله من حرية وعدالة ومساواة واستقرار‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1‬‬


‫((( انظر كتاب >جامع العلوم والحكم< البن رجب (ص‪.)24‬‬
‫‪360‬‬

‫وكفاية وانضباط وعزة وكرامة‪ ،‬قد جعل اهلل في أحكامه من القواعد واألصول‬
‫والمعالم ما يحقق تلك المطالب كلها‪.‬‬
‫َ‬
‫ومستح ٍّ‬
‫ب مرغوب فيه‪،‬‬ ‫ولذلك فإن أحكامه تتفاوت ما بين واجب مفروض‪،‬‬
‫وجائز ال تثريب على من فعله‪ ،‬ومكروه ينبغي تحاشيه‪ ،‬وحرام يحرم الوقوع فيه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫هذه األحكام عندما نتأمل فيها نجد أنها عندما تتعلق باألحكام العملية‬
‫التي شرعها اهلل؛ لتنظيم العالقات بين أفراد الشعوب‪ ،‬فإنها تتفاوت في الحكم‬
‫عليها على حسب تعلقها بالمقاصد األساسية الضرورية في التشريع‪ ،‬أو ابتعادها‬
‫عن التأثير فيها‪.‬‬
‫هذه المقاصد هي‪:‬‬
‫حفظ النفس‪ :‬فقد حرم اهلل العدوان عليها ‪.‬‬
‫والدين‪ :‬حيث ال يجوز المساس به‪.‬‬
‫والعقل‪ :‬حيث من الفروض األساسية المحافظة عليه‪ ،‬وتحاشي ما يفسده‪.‬‬
‫والعرض‪ :‬والذي أوجب اهلل صيانته مما يخدشه‪.‬‬
‫والنسل‪ :‬الذي يجب المحافظة على أصالته والتوقي من االنزالق فيما يعود‬
‫باإلفساد لألنساب ‪.‬‬
‫والمال‪ :‬الذي هو عصب الحياة‪.‬‬
‫ولقد جاءت النصوص في القرآن والسنة الداعية إلى فضائل األخالق‪،‬‬
‫والتحذير من سيِّئ العادات واألفعال لتجعل تلك األحكام الحافظة للمصالح بمثابة‬
‫السياج الواقي من األذى والضرر والبغي والعدوان ‪.‬‬
‫ومن هنا جاء تقرير أحكام ذلك في خطبة الوداع‪ ،‬مقترنا بإقرار حرمة التعدي‬
‫َ‬
‫َ‬
‫وأعراضكم‬ ‫على شيء منها‪ ،‬حيث قال عليه الصالة والسالم‪> :‬فإن دماءكم وأموالكم‬
‫‪361‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫حرام< (‪ )1‬فنظام األخالق إذا ما استقر عاش أبناء اجملتمع في أمان واطمئنان‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عليكم‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫ومظاهر العدوان‪.‬‬
‫ِ‬ ‫األذى‬ ‫صنوف‬ ‫مختلف‬ ‫اجملتمع‬ ‫في‬ ‫ت‬ ‫ش‬ ‫وإال ف‬
‫َ‬
‫قلوب من يدعوهم‪ ،‬وأنهم ثالث فئات‪:‬‬ ‫‪ 35‬كشف اهلل له‬
‫ِّ‬
‫منهم من ينفع معه الرفق واللين‪.‬‬
‫ومنهم العقالني الذي ال بد له من الحجة والبرهان ‪.‬‬
‫ُ‬
‫والقسم الثالث من يحتاج قبل دعوته إلى كشف شبهة باجملادلة بالتي هي أحسن‪.‬‬
‫األصل الذي كان من طريقة رسول اهلل ! هو التزام منهج الرفق والحكمة‬
‫والتذكير بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬لقوله تعالى‪﴿ :‬ٱد ِ‬
‫حۡ ۡ‬ ‫َ‬ ‫ع إ ىَ ٰل َ‬
‫ۡ ُ‬
‫يل َر ّبِك بِٱل ِك َمةِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬
‫ٱل َس َنةِۖ﴾ [ا �ل��ن���ح�ل‪. ]125 :‬‬
‫َوٱل ۡ َم ۡوع َِظةِ حۡ َ‬

‫ولكن هناك فريق من الناس ال يقنعون ألول وهلة بما يعرض عليهم من الحق‪،‬‬
‫بل يريدون مزيدا من الحجج؛ ولذلك يعرضون شكوكهم وأوهامهم مما يستلزم‬
‫مجادلتهم بالحكمة‪ ،‬ومن لم يقتنع منهم‪ ،‬وأمعن في الجدال والمكابرة؛ فإنه‬
‫َ ُ‬
‫يقارع بالحجج الواضحة والبراهين الساطعة‪ ،‬لرد ما لديهم من شبهات كما قال‬
‫َ ُ َّ ُ ۡ ٓ َ ُ‬
‫ف أنف ِس ِه ۡم ق ۡول بَل ِيغا﴾ [ا �ل��ن��س�ا ء‪.]63:‬‬‫تعالى‪﴿ :‬وقل لهم يِ‬
‫ٗ‬ ‫َ َ اۢ‬

‫ومن هنا نالحظ أن رسول اهلل قد تنوعت أساليبه في حوار اآلخرين‪ :‬فمن إجابة‬
‫على أسئلة‪ ،‬كما حصل كثيرا في مكة مع المشركين‪ ،‬وفي المدينة مع بعض أحبار‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫يهود وغيرهم‪ ،‬أو مجادلة بالتي هي أحسن كما فعل رسول اهلل ! مع نصارى‬
‫نجران ومع ثلة من أحبار يهود وفريق من كبراء قريش إلى مفاصلة في جدال قوي‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بطارك ِة نجران وغيرهم‪.‬‬
‫أفضى إلى طلب المباهلة‪ ،‬كما حصل مع ِ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬إ ِ َّن َم َث َل ع ىَ ٰ‬
‫ُ َ َ هَ‬ ‫َ هَّ َ َ َ َ َ‬
‫اد َم ۖ َخلَ َق ُهۥ مِن تُ َ‬
‫اب ث َّم قال ُلۥ‬
‫ٖ‬ ‫ر‬ ‫ِيس عِند ٱللِ كمث ِل ء‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1679‬‬


‫‪362‬‬

‫ٓ َ‬ ‫َ‬
‫ين ‪ ٦٠‬ف َم ۡن َحا َّجك فِيهِ ِم ۢن‬ ‫كن ّم َِن ٱل ۡ ُم ۡم رَت َ‬ ‫َّ ّ َ َ اَ َ ُ‬ ‫ون ‪ ٥٩‬حۡ َ‬
‫ٱل ُّق مِن ربِك فل ت‬
‫ُ ََ ُ ُ‬
‫كن فيك‬
‫ِ‬
‫َ ۡ َ َ َٓ َ َ ۡ ۡ َ ُ ۡ َ َ َْۡ َ ۡ ُ ََۡ ََٓ َََۡ َٓ ُ ۡ َ َ ََٓ َ َ َٓ ُ ۡ ََ ُ‬
‫نف َسناَ‬‫بع ِد ما جاءك مِن ٱلعِل ِم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ون ِساءنا ون ِساءكم وأ‬
‫�آ �ع ا ن‬ ‫َ َ ُ َ ُ ۡ ُ َّ َ ۡ َ ۡ َ َ ۡ َ َّ ۡ َ َ هَّ لَىَ ۡ َ‬
‫وأنفسكم ثم نبت ِهل فنجعل لعنت ٱللِ ع ٱلكذِبِني﴾ [ ل �مر �‪.]61-59:‬‬
‫َ‬ ‫ٰ‬

‫‪ 36‬محمد ! هو دعوة إبراهيم‪ ،‬وبشارة عيسى‪ ،‬ورؤيا أمه‪ ،‬إذ أنها رأت‬
‫عند والدته نورا أضاء قسما كبيرا من األرض‪.‬‬
‫قال السيوطي في الخصائص‪ < :‬أخرج ْابن جرير ِفي تفسيره عن أبي العالية قال‬
‫َ‬
‫لما قال إبراهيم عَل ْي ِه السالم‪َ ﴿ :‬ر َّب َنا َو ۡٱب َعث فِي ِه ۡم َر ُسول ّم ِۡن ُه ۡم﴾ اآلية [ا �لب�ق��ر�ة‪ : ]129:‬قيل‬
‫اٗ‬ ‫ۡ‬

‫له‪ :‬قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان‪.‬‬


‫والبيهقي عن العرباض‪ ‬بن سارية قال‪ :‬قال رسول اهلل‬ ‫ِ‬ ‫وأخرج أحمد والحاكم‬
‫َ‬
‫الساَلم< ‪.‬‬ ‫!‪> :‬أنا دعوة أبي ِإبر ِ‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َْ‬
‫يسى عَل ْي ِه َما َّ‬
‫بش َارة ع َ‬
‫ِ‬ ‫اهيم‪ ،‬و‬
‫وأخرج ابن عساكر عن عبادة‪ ‬بن الصامت قال‪ :‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل أخبرنا عَن‬
‫َ َ َ‬
‫نفسك‪ ،‬قال‪> :‬نعم أنا دع َوة أبي إبراهيم وك‬
‫َ ْ‬
‫يسى‪ ‬بن َم ْريَم‬ ‫ان آخر من بشر بي ع َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َ‬
‫الساَلم< ‪.‬‬ ‫َ‬
‫عَل ْي ِه َما َّ‬
‫الصاَلة و َّ‬
‫َ‬
‫بي ! قال‪> :‬أنا دعوة‬ ‫واخرج ابن سعد من طريق جويبر عن الضحاك أن الن ّ ّ‬
‫ٍِ‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫ۡ َ ُ اٗ‬
‫أبي إبراهيم‪ ،‬قال َوهو يرفع القواعد‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ول ّم ۡ‬ ‫َ َّ َ َ ۡ َ ۡ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ِن‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِي‬ ‫ف‬ ‫ث‬ ‫ع‬ ‫ٱب‬‫و‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫البيت‬ ‫من‬
‫[ا �لب�ق��ر�ة‪ ]129:‬حتى أتم اهلل<(‪.)1‬‬
‫وبخصوص ما حصل ليلة مولده ! فقد أخرج البيهقي والطبراني وأبو نعيم‬
‫وابن عساكر عن عثمان‪ ‬بن أبي العاص‪ ،‬قال‪> :‬حدثتني أمي أنها شهدت والدة آمنة‬
‫أم رسول اهلل ! ليلة ولدته‪ ،‬قالت‪ :‬فما شيء أنظر إليه في البيت إال نور‪ ،‬وإني‬
‫علي فلما وضعت خرج منها نور‬ ‫ألنظر إلى النجوم تدنو‪ ،‬حتى إني ألقول ليقعن َّ‬
‫َ‬
‫أضاء له البيت والدار حتى جعلت ال أرى إال نورا<‪ ،‬وأخرج ابن سعد وابن عساكر‬

‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪.)9/1( ،‬‬


‫‪363‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫عن ابن عباس >أن آمنة قالت‪ :‬لقد علقت به فما وجدت له مشقة‪ ،‬حتى وضعته‬
‫فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب<(‪.)1‬‬

‫صاحب الشفاعة الكبرى حتى يقضي اهلل بين الخالئق‪ ،‬وهو الشافع لمن‬ ‫‪37‬‬
‫أذن اهلل له أن يشفع له من أمته‪.‬‬
‫ومن األحاديث التي ذكرت في ذلك حديث طويل ألحمد عن أبي هريرة‬
‫وفيه قول عيسى‪> :‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا إلى محمد‪ ،‬فيأتون‪ ،‬فيقولون‪:‬‬
‫يا محمد‪ ،‬أنت رسول اهلل‪ ،‬وخاتم النبيين‪ ،‬غفر اهلل لك ما تقدم من ذنبك‬
‫وما تأخر‪ ،‬فاشفع لنا إلى ربك‪ ،‬أال ترى ما قد بلغنا‪ ،‬أال ترى ما نحن فيه‪ ،‬فأقوم‬
‫فآتي تحت العرش‪ ،‬فأقع ساجدا لربي يفتح اهلل تعالى علي‪ ،‬ويلهمني من محامده‬
‫وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي‪ ،‬فيقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬ارفع رأسك سل‬
‫تعطه‪ ،‬اشفع تشفع‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬يا رب أمتي أمتي‪ ،‬يا رب أمتي أمتي‪ ،‬يا رب أمتي أمتي‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫يا محمد‪ ،‬أدخل من أمتك من ال حساب عليه من الباب األيمن من أبواب الجنة‬
‫وهم شركاء الناس فيما سواه من األبواب‪ ،‬ثم قال‪ :‬والذي نفس محمد بيده لما‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بين مصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر‪ ،‬أو كما بين مكة وبصرى<‪.‬‬
‫بي ! >‪ ...‬فأقوم أنا أمشي بين ِسماطين‬ ‫وأخرج الشيخان عن أنس أن الن ّ ّ‬
‫َ‬
‫من المؤمنين حتى أستأذن على ربي‪ ،‬فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعُني‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫ما شاء اهلل أن يدعَني ثم يقال‪ :‬ارفع محمد رأسك‪ ،‬قل تسمع‪ ،‬واشفع تشفع‪،‬‬
‫وسل تعطه‪ ،‬فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه‪ ،‬ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم‬
‫الجنة ‪.‬‬
‫ثم أعود إليه الثانية ‪ ...‬ثم أعود إليه الثالثة‪ ...‬ثم أعود الرابعة‪ ،‬فأقول‪ :‬رب‬
‫ما بقي إال من حبسه القرآن‪ ،‬قال الن ّ ّ‬
‫بي !‪ :‬فيخرج من النار من قال ال إله إال اهلل‪،‬‬

‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪.)46/1( ،‬‬


‫‪364‬‬

‫وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة‪ ،‬ثم يخرج من النار من قال ال إله إال اهلل وكان‬
‫في قلبه من الخير ما يزن برة‪ ،‬ثم يخرج من النار من قال ال إله إال اهلل وكان في قلبه‬
‫من الخير ما يزن ذرة<(‪.)1‬‬
‫وأخرج الطبراني في األوسط والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس‬
‫ُ‬
‫منابر من ذهب‪ ،‬فيجلسون عليها ويبقى منبري‬ ‫قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬لألنبياء‬
‫َ‬
‫ال أجلس عليه‪ ،‬قائما بين يدي ربي منتصبا مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى‬
‫أمتي بعدي‪ ،‬فأقول يا رب أمتي أمتي‪ ،‬فيقول اهلل يا محمد‪ ،‬وما تريد أن أصنع‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫بأمتك‪ ،‬فأقول يا رب عجِّ ل حسابَهم‪ ،‬فما أزال أشفع حتى أعطى ِصكاكا برجال قد‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫بعث بهم إلى النار‪ ،‬وحتى إن مالكا خازن النار يقول‪ :‬يا محمد‪ ،‬ما تركت لغضب‬
‫ربك في أمتك من بقية<(‪.)2‬‬

‫هو أول الخلق دخوال الجنة‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫يروي لنا السيوطي في الخصائص الكبرى نصوصا عدة منها‪:‬‬
‫< وأخرج أبو نعيم وابن عساكر عن حذيفة‪ ‬بن اليمان قال‪ :‬قال أصحاب النبي‬
‫!‪ :‬إبراهيم خليل اهلل‪ ،‬وعيسى كلمته وروحه‪ ،‬وموسى كلمه اهلل تكليما‪ ،‬فماذا‬
‫ُ‬ ‫أعطيت يا رسول اهلل؟ قال‪> :‬ولد َ‬
‫آدم كلُّهم تحت رايتي يوم القيامة‪ ،‬وأنا أول‬
‫من تفتح له أبواب الجنة< > (‪.)3‬‬
‫ُ‬

‫وأخرج مسلم عن أنس قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬أنا أول من يَقرع باب‬
‫ُ‬

‫الجنة<(‪.)4‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)7410‬مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)193‬‬


‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪.)332/2( ،‬‬
‫((( معجم الشيوخ (‪.)280/1‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)196‬‬
‫‪365‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫باب الجنة َ‬
‫يوم القيامة‬ ‫وأخرج مسلم عن أنس قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬آتي َ‬
‫ُ‬
‫فأستفتح فيقول الخازن َمن أنت‪ ،‬فأقول‪ :‬محمد‪ .‬فيقول‪ :‬بك أمرت ال أفتح ألحد‬
‫قبلك<(‪.)1‬‬
‫وأخرج البيهقي وأبو نعيم عن أنس قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬أنا أول من تنشق‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فخر‪ .‬وأنا‬ ‫فخر‪ .‬وأعطى لواء الحمد وال‬ ‫األرض عن جمجمتي يوم القيامة وال‬
‫فخر‪ ،‬وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة وال فخر<(‪.)2‬‬
‫ُ‬ ‫سيد الناس يوم القيامة وال َ‬

‫بسند حسن‪ ،‬عن عمر‪ ‬بن الخطاب أن رسول‬


‫ٍ‬ ‫وأخرج الطبراني في األوسط‬
‫َ‬
‫اهلل ! قال‪> :‬الجنة حرمت على األنبياء حتى أدخلها‪ .‬وحرمت على األمم‬
‫َ‬
‫حتى تدخلها أمتي<(‪.)3‬‬

‫‪ 39‬هو صاحب منزلة الوسيلة والفضيلة‪ ،‬وهي منزلة ال ينالها أحد من خلق‬
‫اهلل عند اهلل في الجنة إال هو !‪:‬‬
‫فقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال‪> :‬أن الناس يصيرون يوم القيامة جثاءً‪،‬‬
‫ُ‬
‫كلُّ أمة تتبع نبيها‪ ،‬يقولون يا فالن اشفع لنا يا فالن اشفع لنا حتى تنتهي الشفاعة‬
‫مقاما محمودا<(‪.)4‬‬
‫يوم يبعثُه ً‬ ‫إلى الن ّ ّ‬
‫ً‬ ‫بي ! فذلك َ‬

‫وأخرج البخاري أيضا عن ابن عمر‪ ،‬سمعت رسول اهلل ! يقول‪> :‬إن الشمس‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫تدنو يوم القيامة‪ ،‬حتى يبلغ العرق نصف األذن‪ ،‬فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم‪ ،‬ثم‬
‫بموسى‪ ،‬ثم بمحمد !<‪ .‬وزاد عبد‪ ‬اهلل‪ :‬حدثني الليث‪ :‬حدثني ابن أبي جعفر‪:‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫>فيشفع ليقضي بين الخلق‪ ،‬فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب‪ ،‬فيومئذ يبعثه اهلل مقاما‬
‫محمودا‪ ،‬يحمده أهل الجمع كلُّهم<(‪.)5‬‬

‫((( السلسلة الصحيحة لأللباني (‪.)100/4‬‬ ‫ ‬


‫(‪.)197‬‬ ‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‬

‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪.)225 ،224/2( ،‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)1474‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‬
‫ ‬
‫(‪.)4718‬‬
‫‪366‬‬

‫وأخرج مسلم عن ابن عمر أن الن ّ ّ‬


‫بي ! قال‪> :‬إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل‬
‫علي‪ ،‬ثم سلوا اهلل لي الوسيلة‪ ،‬فإنها منزلة في الجنة‬ ‫َّ‬ ‫ما يقول‪ ،‬ثم صلوا‬
‫َ ّ‬
‫ال تنبغي لعبد من عباد اهلل‪ ،‬وأرجو أن أكون أنا هو‪ ،‬فمن سأل لي الوسيلة حلت‬
‫ُ‬
‫عليه الشفاعة<(‪.)1‬‬
‫وأخرج عثمان‪ ‬بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية عن عبادة‪ ‬بن‬
‫الصامت أن الن ّ ّ‬
‫بي ! قال‪> :‬إن اهلل رفعني يوم القيامة في أعلى غرفة من جنات‬
‫النعيم‪ ،‬ليس فوقي إال حملة العرش<‪.‬‬
‫وأخرج البيهقي عن أم سلمة قالت‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬قوائم منبري رواتب‬
‫في الجنة<(‪.)2‬‬

‫هو أول من يبعث من خلق اهلل يوم البعث‪.‬‬ ‫‪40‬‬


‫أخرج مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اهلل !‪> :‬أنا سيد ولد آدم يوم‬
‫َّ‬
‫القيامة‪ ،‬وأول من ينشق عنه القبر‪ ،‬وأول شافع وأول مشف ٍع<(‪.)3‬‬
‫وأخرج الدارمي والترمذي وأبو يعلى والبيهقي وأبو نعيم عن أنس قال‪ :‬قال‬
‫رسول اهلل !‪> :‬أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا‪ ،‬وأنا قائدهم إذا وفدوا‪ ،‬وأنا‬
‫ً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شافعهم إذا حبسوا‪ ،‬وأنا مبشرهم إذا أبلسوا‪ ،‬لواء الكرم‬ ‫خطيبهم إذا أنصتوا‪ ،‬وأنا‬
‫بيدي‪ ،‬ومفاتيح الجنة بيدي‪ ،‬ولواء الحمد بيدي‪ ،‬وأنا أكرم ولد آدم على ربي وال‬
‫فخر‪ ،‬يطوف علي ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون<(‪.)4‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)384‬‬


‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪.)226-220/2( ،‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2278‬‬
‫((( معجم أبي يعلى الموصلي (ص‪ ،)147‬حديث رقم (‪)160‬؛ مسند البزار = البحر الزخار‬
‫(‪ ،)131 /13‬حديث رقم (‪.)6523‬‬
‫‪367‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫وأخرج أحمد وأبو يعلى عن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬إنه لم يكن‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫اختبأت دعوتي شفاعة ألمتي‪ ،‬وأنا‬ ‫نبي إال له دعوة قد َّ‬
‫تنجزها في الدنيا‪ ،‬وإني قد‬
‫سيد ولد آدم يوم القيامة وال فخر‪ ،‬وأنا أول من تنشق عنه األرض وال فخر‪ ،‬وبيدي‬
‫َ‬
‫لواء الحمد وال فخر‪ ،‬آدم ف َمن دونه تحت لوائي وال فخر<(‪.)1‬‬
‫ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ 41‬هو إمام األنبياء وسيد المرسلين عندما أمَّهم جميعا في بيت المقدس ليلة‬
‫اإلسراء والمعراج‪ ،‬ليربط بذلك بين الرسل واألنبياء‪ ،‬وبين بيوت العبادة‪:‬‬
‫الكعبة وبيت المقدس‪ ،‬وفي ذلك من البشارة بنشر دينه ما ال يخفى‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬إن رسول اهلل هو إمام األنبياء والمرسلين‪ ،‬وكما يقول الدكتور خليل مال‬
‫خاطر‪ < :‬مما يدل على تقدمه وفضله وعلو مقامه ورفعة قدره !؛ صالته باألنبياء‬
‫َ‬
‫ليلة أسري به ً‬
‫إماما في بيت المقدس؛ إذ ال يؤم القوم‬ ‫عليه وعليهم الصالة والسالم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫إال األخ َير واألفضل واألعلم واألكمل‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة ‪ K‬قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬لقد رأيتني في ِ‬
‫ْ‬
‫الحج ِر وقريش‬
‫تسألني عن مسراي‪ <...‬الحديث‪ ،‬وفيه >وقد رأيتني في جماعة من األنبياء‪...‬‬
‫ٌ‬
‫فحانت الصالة فأممتهم‪ .‬فلما فرغت من الصالة قال قائل‪ :‬يا محمد‪ ،‬هذا مالك‬
‫صاحب النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسالم<(‪.)2‬‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫بدابة فوق الحمار ودون‬
‫ٍ‬ ‫تيت‬ ‫وعن أنس ‪ K‬أن رسول اهلل ! قال‪> :‬أ‬
‫البغل‪ <...‬الحديث‪ ،‬وفيه >ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي األنبياء عليهم‬
‫َ‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫السالم فقدمني جبريل حتى أممتهم‪ )3(<...‬الحديث‪ ،‬واألحاديث كثيرة‪ .‬واألمر‬


‫ُ‬

‫مشهور بين أهل العلم > (‪.)4‬‬

‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪ ،)220-217/2( ،‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )2546‬مطوال‪،‬‬
‫قال مخرجوه‪< :‬حسن لغيره>‪.‬‬
‫((( صحيح النسائي‪ ،‬حديث رقم (‪.)447‬‬ ‫ ‬
‫(‪.)172‬‬ ‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‬

‫((( كتاب مائة خصلة من خصال الرسول ! (ص‪.)46-45‬‬


‫‪368‬‬

‫هو من أعطاه اهلل الكوثر‪ ،‬وهو نهر من أنهار الجنة في يوم القيامة من‬ ‫‪42‬‬
‫شرب منه ال يظمأ أبدا‪.‬‬
‫َّ ٓ َ ۡ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬إِنا أع َط ۡي َنٰ َك ٱلك ۡوث َر﴾ [ا �ل ك�وث�ر‪.]1:‬‬
‫ۡ َ َ‬

‫أخرج أبو نعيم عن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬أوتيت خصااًل‬
‫فخرا‪ :‬غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر‪ ،‬وجعل أمتي خير األمم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال أقولهن‬
‫وأوتيت جوامع الكلم‪ ،‬ونصرت بالرعب‪ ،‬وجعلت لي األرض مسجدا وطهورا‪،‬‬
‫وأوتيت الكوثر آنيته عدد نجوم السماء<‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫وأخرج مسلم عن حذيفة قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬إن حوضي أَلبعد من أيلة‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫من عدن‪ .‬والذي نفسي بيده ! إني ألذود عنه الرجال كما يذود الرجل اإلبل الغريبة‬
‫عن حوضه‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل ! وتعرفنا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬تردون علي غرا محجلين‬
‫من آثار الوضوء‪ .‬ليست ألحد غيركم<(‪.)2( )1‬‬
‫َّ‬
‫أيده اهلل بالمعجزات الدالة على صدقه‪ ،‬وأن دينه هو دين اهلل الذي‬ ‫‪43‬‬
‫ارتضاه للعالمين‪.‬‬
‫أجل! وتلك سنة من سنن اهلل في الرساالت؛ وتأكيدا لهذه الحقيقة نالحظ‬
‫حديث رسول اهلل ! الذي يروي الشيخان عن أبي هريرة‪ ،‬وهو قوله !‪> :‬ما من‬
‫األنبياء من نبي إال قد أعطي من اآليات ما مثله آمن عليه البشر‪ ،‬وإنما كان الذي‬
‫تابعا يوم القيامة<(‪.)3‬‬ ‫أوتيت َو ْح ًيا أوحاه اهلل إلي فأرجو أن أكون َ‬
‫أكثرهم ً‬
‫َ َ ُ ْ َ ۡ اَ ٓ ُ َ َ َ‬
‫نزل عل ۡيهِ‬
‫َ‬ ‫الكريم‪ .‬قال تعالى‪﴿َ :‬وقالوا لول أ َ ِ‬ ‫َ‬
‫فكانت معجزته عقلية‪ ،‬وهي القرآن‬
‫لنۡ‬ ‫ٓ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ِير ُّمب ٌ‬ ‫َ‬ ‫۠‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َّ‬ ‫َ هَّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ۡ َّ‬ ‫َء َاي ٰ ‪ٞ‬‬
‫نز َا‬ ‫ني ‪ ٥٠‬أ َو ل ۡم يَكفِه ۡم أنا أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٱللِ ِإَون َما أنا نذ ‪ٞ‬‬ ‫ٱٓأۡلي ٰ ُ‬
‫ت عِند‬ ‫ت ّمِن َّر ّبِهِۚۦ قل إِن َما‬
‫ى ل ِق ۡو ٖم يُؤم ُِنون﴾ [ا �ل�ع��ن��ك�بو ت�‪.]51-50:‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ٰ َ َ َ مۡ َ ٗ َ ۡ َ ٰ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ۡ َ ۡ َ َ ُ ۡ ىَ َ‬
‫ل َعل ۡي ِه ۡ ۚم إِن يِف ذل ِك لرحة وذِكر‬ ‫عليك ٱلكِتٰب يت ٰ‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)248‬‬


‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪ ،‬ج‪ 2‬ص‪.225‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4981‬ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)217‬‬
‫‪369‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫وهنا نالحظ أن اهلل تعالى ذكر المعجزة األقوى واألهم‪ ،‬والتي لها صفة‬
‫االستمرار‪ ،‬في أثرها على القلوب واألفكار والنفوس إلى يوم القيامة‪ ،‬والمتمثل‬
‫بالقرآن الكريم‪ .‬والذي اشتمل إعجازه على مظاهر عدة منها البالغي والتأثيري‬
‫والتاريخي والتشريعي والعلمي‪.‬‬
‫ومع كل ذلك فإن اهلل قد أيده بمعجزات حسية مرئية ومتعددة‪ ،‬كنطق الجماد‪،‬‬
‫َ‬
‫وكالم الحيوانات‪ ،‬ون ْبعِ الماء من أصابعه وتكثير الطعام القليل بحيث يكفي‬
‫األعداد الكثيرة‪ ،‬وغير ذلك من المعجزات الثابتة في السنة المتواتر‪ ،‬وأخبار‬
‫ً‬
‫اآلحاد الصحيحة ـ كما سيأتي الحقا‪.‬‬
‫ً‬
‫فالقرآن الكريم بشتى مظاهر إعجازه يبقى حجة ساطعة مدى األزمان‪ ،‬ولذلك‬
‫فإن أتباع رسول اهلل ! في تزايد ـ وهلل الحمد ـ ألنهم أصحاب حق‪ ،‬ولديهم‬
‫األدلة الدامغة التي تجعل لهم الغلبة في كل حال‪ ،‬وصدق اهلل العظيم القائل‪:‬‬
‫أ‬
‫ٱل َّجة ٱل َبٰل ِغة ۖ﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]149:‬‬ ‫﴿قل فل ِلهِ‬
‫ُ ۡ َ َّ حۡ ُ ُ ۡ َ ُ‬

‫ً‬ ‫ُ‬
‫معجزات األنبياء قبله معجزاتٍ مادية‪ ،‬وأما ما أيده اهلل به من‬ ‫‪ 44‬كانت‬
‫ً‬
‫المعجزات فكانت متنوعة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ألن المعجزات المادية ينقضي ُ‬
‫وإبصار وإحساس لدى‬‫ٍ‬ ‫لمس‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫أثرها المادي ِم‬
‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫متقيدة‬
‫ٍ‬ ‫غير‬ ‫دائمة‬ ‫انقضاء الزمن الذي حصلت فيه‪ ،‬ورسالة محمد عليه الصالة والسالم‬
‫بزمن‪ ،‬وال هي حكر على جماعة‪ ،‬وال هي مخصوصة ببقعة واحدة من األرض‪،‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫بل هي لكل شعوب األرض‪ ،‬ولسائر األزمنة التي تتعاقب إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫ومن هنا اقتضت حكمة اهلل أن يؤيده ـ مع ما آتاه اهلل من معجزات مادية ـ‬
‫ً‬
‫معبرا عن‬ ‫در الشاعر أحمد شوقي‪ ،‬عندما قال‬‫بمعجزة القرآن الكريم الدائمة‪ ،‬وهلل ُّ‬
‫ديمومة معجزة القرآن الكريم (‪:)1‬‬

‫((( انظر ديوان أحمد شوقي (‪.)197/1‬‬


‫‪370‬‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫جاء النبيّ‬


‫منصرم‬
‫ِ‬ ‫غي��ر‬ ‫بجدي��د‬
‫ٍ‬ ‫ن��ا‬ ‫وجئت‬ ‫فانصرمت‬ ‫باآليات‬ ‫��ون‬
‫ُ‬ ‫ٌ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫والقدم‬
‫ِ‬ ‫العت��ق‬
‫ِ‬ ‫ج�لال‬ ‫ه��ن‬ ‫ين‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫جدد‬ ‫الم��دى‬ ‫طال‬ ‫كلم��ا‬ ‫ه‬ ‫آيات‬

‫ولذلك فإن رسول اهلل مع ما حصل على يديه من معجزات مادية شاهدها‬
‫بمجملها األلوف في عصره‪ ،‬فإن مظاهر اإلعجاز القرآني على تنوعه اللغوي‬
‫والتشريعي والعلمي يراه الماليين بعد الماليين‪ ،‬إلى أن يقوم الناس لرب العالمين‪،‬‬
‫وهو ما سنقف عليه في هذا المؤلف‪.‬‬

‫‪ 45‬اإلعجاز في دينه‪ :‬إعجاز لغوي ومادي وتشريعي وغيبي‪ ،‬وإعجاز‬


‫هداية‪ ،‬وإعجاز علمي‪ ،‬وهو شامل ألنواع كثيرة من العلوم‪ ،‬أهمها‪:‬‬
‫اإلعجاز العلمي التجريبي والتشريعي؛ لتبقى األبواب مشرعة أمام‬
‫أي وقت‪.‬‬‫ما يكشفه اهلل لخلقه في ِّ‬
‫َ‬
‫أمز َجة الناس متباينة‪ ،‬وقناعاتهم شتى‪ ،‬وما يستهوي فئة قد ال يروق‬ ‫أجل! فإن ِ‬
‫ألخرى‪ .‬كما أن مستويات الناس الفكرية متعددة وأساليب فهمهم متنوعة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َ‬
‫ومن هنا فإن تعدد أنواع اإلعجاز‪ ،‬وتنوع مظاهره يعتبر موئل كفاية‪ ،‬ومن‬
‫َ‬
‫طرائق مقنعة تلبي توجهاتهم‬ ‫يرغب في الناس من‬ ‫َ‬ ‫مقتضيات استجابة الدعوة لما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتناسب مستوياتهم‪ ،‬وتتنوع على حسب مشاربهم؛ لتحصل الغاية في هذا اجملال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فمهما تقدم الزمن‪ ،‬ومهما تباينت ألوان الفكر اإلنساني كان لنا في ذخيرة اإلعجاز وفي‬
‫بأخصر طريق‪ ،‬وهلل الحمد‬ ‫الغايات‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫وتوصل‬ ‫الحاجات‪،‬‬ ‫ي‬ ‫طرائق تلبّ‬
‫ُ‬ ‫تنوع مظاهره‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫والمنة‪ ،‬الذي يسر القرآن للذكر‪ ،‬وهو المرتجى أن يجعلنا من المهتدين‪ ...‬آمين‪.‬‬

‫هو أكثر األنبياء تابعا يوم القيامة‪.‬‬ ‫‪46‬‬


‫< لقد أخبر ! أنه ُ‬
‫أكثر األنبياء أتباعا يوم القيامة‪ ،‬ألنه أعطي وحيا أوحاه اهلل إليه‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ولم يعط أحد من األنبياء ذلك‪ ،‬فقال ! كما في حديث أبي هريرة ‪> :K‬ما من‬
‫األنبياء نبي إال أعطي من اآليات ما مثله آمن عليه البشر‪ ،‬وإنما كان الذي أوتيته وحيا‬
‫‪371‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫يوم القيامة<(‪.)1‬‬
‫أكثرهم تابعا َ‬ ‫أوحاه اهلل ّ‬
‫إلي‪ ،‬فأرجو أن أكون َ‬
‫وعن أنس‪ ‬بن مالك ‪ K‬قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬أنا أكثر األنبياء ً‬
‫تبعا يوم‬
‫أيضا‪ :‬قال !‪> :‬لم يصدق نبي من األنبياء ما صدقت‪.‬‬ ‫القيامة<(‪ .)2‬وفي رواية عنه ً‬
‫وإن من األنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إال رجل واحد<(‪ .)3‬وحديث عرض األنبياء عليه‬
‫بأممهم‪ ،‬وكذا عدد من يدخل الجنة من أمته‪ ،‬كل ذلك يدل على كثرة أتباعه ! > (‪.)4‬‬

‫ومربيا‪ ،‬يضرب المثل المناسب‪ ،‬ويحاور ويقنع‪ .‬مما جعل‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫معلما‬ ‫‪ 47‬كان‬
‫الناس يحبونه‪ ،‬فهذا معاوية‪ ‬بن الحكم يعبر عن ذلك فيقول‪ :‬بأبي هو‬
‫َ‬
‫أحسن منه‪.‬‬ ‫وأمي‪ ،‬واهلل ما نهرني وال كهرني‪ ،‬ما رأيت معلما‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫لقد كان رسول اهلل مرشد المربين وسيد الحكماء الناصحين‪ ،‬حيث يروى عن‬
‫جابر ‪ K‬قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬إن اهلل تعالى لم يبعثني متعنِّتا‪ ،‬ولكن بعثني‬
‫ً‬

‫معلما وميسرا<(‪.)5‬‬
‫وفي مجال توجيه المخطئين نالحظ ما قد روي عن أبي هريرة ‪> K‬أن أعرابيا‬
‫دخل المسجد ورسول اهلل ! جالس‪ ،‬فصلى‪ ،‬قال ابن عبدة‪ :‬ركعتين‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫بي !‪ :‬لقد تحجرت‬ ‫اللهم ارحمني ومحمدا‪ ،‬وال ترحم معنا أحدا‪ ،‬فقال الن ّ ّ‬
‫بي !‬ ‫واسعا‪ ،‬ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد؛ فأسرع الناس إليه فنهاهم الن ّ ّ‬
‫صبوا عليه َسجاًل من ماء أو قال‪:‬‬ ‫وقال‪ :‬إنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين‪ُ ،‬‬
‫ْ‬

‫ذنوبا من ماء<(‪.)6‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫((( متفق عليه واللفظ للبخاري وسبق تخريجه قبل قليل‪.‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)196‬‬ ‫ ‬
‫(‪.)196‬‬ ‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‬

‫((( انظر (ص‪ )67‬من كتاب >مائة خصلة من خصال الرسول عليه الصالة والسالم< للدكتور‬
‫خليل مال خاطر‪.‬‬
‫ م (‪ ((( .)29‬صحيح أبي داود لأللباني‪ ،‬حديث رقم (‪.)380‬‬
‫((( رواه مسلم في الطالق‪ ،‬حديث رق‬
‫‪372‬‬

‫وعن معاوية‪ ‬بن الحكم السلمي ‪ K‬قال‪> :‬بينا أنا مع رسول اهلل في الصالة‪،‬‬
‫إذ عطس رجل من القوم‪ ،‬فقلت‪ :‬يرحمك اهلل‪ .‬فحدقني القوم بأبصارهم‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫َ َ ُ‬
‫واثكل أ ِّمياه‪ ،‬ما لكم تنظرون إلي؟ قال‪ :‬فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم‪،‬‬
‫فلما رأيتهم يسكتوني‪ ،‬لكني سكت‪ .‬فلما انصرف رسول اهلل‪ ،‬دعاني بأبي وأمي‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تعليما‬ ‫أحسن‬ ‫هو‪ ،‬ما ضربني وال كهرني‪ ،‬وال سبني‪ ،‬ما رأيت معلما قبله وال بعده‬
‫منه‪ ،‬قال‪ :‬إن صالتنا هذه‪ ،‬ال يصلح فيها شيءٌ من كالم الناس‪ ،‬إنما هو التسبيح‪،‬‬
‫والتكبير‪ ،‬وتالوة القرآن<(‪. )1‬‬
‫وفي مجال محاورته للصحابة‪ :‬في مجال اإلرشاد‪ ،‬وبيان الحق والنهي‬
‫َ‬
‫عن المنكر‪ ،‬وما ال يليق‪ ،‬نالحظ ما روي عن أبي أمامة ‪ K‬قال‪ :‬أتى رسول اهلل‬
‫ٌ‬
‫غالم شاب‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ائذن لي في الزنى‪ .‬فصاح الناس وقالوا‪ :‬مه‪.‬‬ ‫!‬
‫فقال رسول اهلل‪ :‬أتحبه ألمك‪ .‬فقال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬وكذلك الناس ال يحبونه ألمهاتهم‪.‬‬
‫أتحبه ألختك؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬وكذلك الناس ال يحبونه ألخواتهم‪ .‬قال‪ :‬أتحبه‬
‫لعمتك؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬وكذلك الناس ال يحبونه لعماتهم‪ .‬فاكره لهم ما تكره‬
‫لنفسك‪ .‬وأحب لهم ما تحب لنفسك (‪.)2‬‬

‫‪ 48‬مستجاب الدعاء‪:‬‬
‫يوما ـ حين هلكت المواشي وانقطعت السبل ـ وما في السماء قزعة؛‬ ‫استسقى ً‬
‫فحمد اهلل وأثنى عليه وقال فيما قال‪> :‬اللهم اسقنا غيثا مريعا غدقا طبقا‪ <...‬فقال‬
‫الرواي‪ :‬فما رد رسول اهلل ! يديه حتى التقت السماء‪.‬‬
‫ويروي السيوطي في الخصائص الكبرى وتحت عنوان ـ باب دعائه في االستسقاء(‪ )3‬ـ‬

‫((( صحيح النسائي‪ ،‬حديث رقم (‪.)1217‬‬


‫((( رواه اإلمام أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)22211‬قال مخرجوه‪( :‬إسناده صحيح)‪.‬‬
‫((( انظر الخصائص الكبرى للسيوطي‪.)163-162/2( ،‬‬
‫‪373‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫أنه‪ :‬أخرج البخاري عن أنس قال‪> :‬أصابت الناس َسنَة على عهد رسول اهلل !‬
‫فبينما رسول اهلل ! يخطب على المنبر يوم الجمعة‪ ،‬قام أعرابي فقال‪ :‬يا رسول‬
‫اهلل‪ ،‬هلك المال‪ ،‬وجاع العيال‪ ،‬فادع اهلل لنا أن يسقينا‪ .‬قال‪ :‬فرفع رسول اهلل !‬
‫يديه‪ ،‬وما في السماء قزعة‪ ،‬قال‪ :‬فثار سحاب أمثال الجبال‪ ،‬ثم لم ينزل عن منبره‬
‫حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال‪ :‬فمطرنا يومنا ذلك‪ ،‬وفي الغد‪ ،‬ومن بعد‬
‫الغد‪ ،‬والذي يليه إلى الجمعة األخرى‪.)1(<...‬‬
‫وأخرج البيهقي وابن عساكر من طريق مسلم المالتي قال‪> :‬جاء أعرابي‬
‫إلى النبي‪ ...‬فقام رسول اهلل ! حتى صعد المنبر ثم رفع يديه إلى السماء فقال‬
‫طبقا عاجال غير رائث ً‬ ‫ً‬
‫نافعا غير ضار‪ ،‬تمأل‬ ‫اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا غدقا‬
‫به الضرع وتنبت به الزرع‪ ،‬وتحيي به األرض بعد موتها‪ ،‬وكذلك تخرجون‪،‬‬
‫فواهلل ما رد يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأردافها وجاء أهل الوطابة يضجون‬
‫يا رسول اهلل الغرق الغرق‪.)2(<...‬‬
‫ُُُ‬
‫‪ 49‬القرآن الكريم خلقه‪ ،‬يقف عند أوامره ونواهيه وآدابه‪ ،‬فكأنه قرآن يمشي‬
‫على األرض‪.‬‬
‫يم﴾ [ا �ل��ق����ل ‪ ،]4:‬وعن‬ ‫قال تعالى في حق رسول اهلل !‪ِ﴿ :‬إَونك لع‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ىَ‬
‫َ َ ٰ ُ‬ ‫َّ‬
‫ل خل ٍق ع ِظ ٖ‬
‫م‬
‫عائشة ‪ I‬أنها سئلت عن خلق رسول اهلل ! فقالت‪ :‬كان أحسن الناس خلقا‪ .‬كان‬
‫خلقه القرآن‪ ،‬يرضى لرضاه‪ ،‬ويغضب لغضبه‪ ،‬لم يكن فاحشا وال متفحشا‪ ،‬وال‬
‫سخابا في األسواق‪ ،‬وال يجزي السيئة بالسيئة‪ ،‬وكان يعفو ويصفح ثم قالت‪ :‬اقرأ‪:‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫َ ََۡ ۡ ۡ‬ ‫َ ََۡ ۡ ۡ‬
‫﴿ق ۡد أفل َح ٱل ُمؤم ُِنون﴾ [ا �ل���م�ؤ�م��نو ن�‪ ]1:‬إلى العشر فقرأ السائل‪﴿ :‬ق ۡد أفل َح ٱل ُمؤم ُِنون﴾‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫فقالت هكذا كان خلق رسول اهلل !‪ .‬وقد ورد عن أنس أنه قال‪> :‬كان رسول‬
‫اهلل ! من أحسن الناس خلقا<(‪ .)3‬ويقول الشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني‬

‫((( دالئل النبوة‪،‬البيهقي (‪.)141/6‬‬ ‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم‬


‫ ‬
‫(‪.)1033‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2310‬‬
‫‪374‬‬

‫يم﴾‪ < :‬فهذا النص القرآني يثبت أن‬ ‫بخصوص النص القرآني‪ِ﴿ :‬إَونك لع‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ َ ٰ ُ‬ ‫َ ىَ‬ ‫َّ‬
‫ل خل ٍق ع ِظ ٖ‬
‫ٌ‬
‫قابض‬ ‫محمدا ! على خلق عظيم‪ ،‬أي‪ :‬فهو متمكن من أخالقه العظيمة المثلى‪،‬‬
‫على ناصيتها‪ ،‬وقد دل على هذا المعنى االستعالء الذي دل عليه حرف (على)‬
‫يم﴾ وهذا النص يدفعنا بطريقة غير مباشرة إلى دراسة‬ ‫في‪ِ﴿ :‬إَون‬
‫ك لَ َع ىَ ٰ ُ ُ َ‬‫َّ َ‬
‫ُ‬
‫ل خل ٍق ع ِظ ٖ‬
‫شخصية الرسول ! بوصفه المثل اإلنساني الكامل‪ ،‬الكتشاف صفاته الخلقية‬
‫التي يتحلى بها‪ ،‬واعتبارها كتابا في مكارم األخالق مجسدا في صورة إنسان‪.‬‬
‫َ‬
‫مكارم األخالق‬ ‫وبدراسة شمائل الرسول صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬تَ ُ‬
‫عرف‬
‫معرفة تطبيقية عملية‪ ،‬ثم تكون لدى العقالء الحكماء أمثلة لالقتداء بها واتباع‬
‫خطواتها > (‪.)1‬‬

‫كان يكرم الناس وينزلهم منازلهم‪:‬‬ ‫‪50‬‬


‫يقول ألم هانئ‪> :‬مرحبا بأم هانئ‪ ،‬قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ<‪ ،‬ويكني‬
‫الطفل ممازحا ويسأله عما يحب‪> :‬يا أبا عمير‪ ،‬ما فعل النُّغير<(‪.)2‬‬
‫َ‬
‫َ‬
‫هناك شواهد تستفيض بهذا المعنى حتى توصلنا إلى حقيقة راسخة‪ ،‬بأن رسول‬
‫َ‬
‫اهلل ! كان األسوة المنفردة بهذه المعاني الرائعة واإلشراقات الساطعة فمن ذلك (‪:)3‬‬
‫‪P P‬روى البخاري ومسلم عن سهل‪ ‬بن سعد الساعدي ‪ :K‬أن رسول اهلل‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫غالم وعن يساره األشياخ‪ ،‬فقال‬ ‫! أتي بشراب‪ ،‬فشرب منه وعن يمينه‬
‫للغالم‪> :‬أتأذن لي أن أعطي هؤالء؟<‪ ،‬فقال الغالم‪ :‬ال واهلل يا رسول اهلل‪،‬‬
‫َّ‬
‫ال أوثر بنصيبي منك أحدا‪ ،‬قال‪ :‬فتله رسول اهلل ! في يده (‪.)4‬‬

‫((( األخالق اإلسالمية‪ ،‬الشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني‪ ،‬ج‪ 1‬ص‪.396‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6129‬‬
‫((( انظر األخالق اإلسالمية لعبدالرحمن حبنكة الميداني‪.)641-693/2( ،‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)5620‬؛ ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2030‬‬
‫‪375‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫ّ‬
‫قوله‪( :‬فتله رسول اهلل !) أي‪ :‬دفعه بقوة وعنف‪ ،‬كالكاره لفعله(‪.)1‬‬
‫‪P P‬روى البخاري ومسلم أن عبد الرحمن‪ ‬بن سهل ذهب يتكلم وفي القوم‬
‫من هو أكبر منه فقال له الرسول !‪> :‬ك ِّبر ك ِّبر<(‪.)2‬‬

‫‪P P‬وهو القائل فيما يرويه مسلم عن عقبة‪ ‬بن عمرو البدري‪ِ :‬‬
‫>ل َي ِليني منكم أولو‬
‫األحالم والنهى<(‪.)3‬‬
‫‪P P‬وهو المرشد لنا بأن نختار لإلمامة َمن هو أهل لها‪ ،‬فيقول عليه الصالة‬
‫والسالم‪> :‬يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اهلل فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم‬
‫بالسنة‪.)4(<...‬‬
‫‪P P‬وهو القائل فيما يرويه مسلم كذلك عن عقبة‪ ‬بن عمرو البدري‪> :‬ال يَؤم ََّّن‬
‫ُ‬
‫ْ‬
‫الرجل الرجل في سلطانه وال يقعد في بيته على تك ِر َم ِته إال بإذنه<(‪.)5‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ُْ‬
‫وهكذا سنَنقل اآلن بصدد إكرام اآلخرين والتلطف بهم والتواضع لهم وإكرامهم‬
‫شواهد تؤكد هذه‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫‪P P‬روى الترمذي وأبو داود عن أم هانئ‪ ،‬أنها أجارت رجال فقال لها رسول‬
‫اهلل !‪> :‬قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‪ ،‬وأ َّمنَّا من أمَّنت<(‪.)6‬‬

‫((( انظر‪ :‬فيض الباري على صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)607 /3‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)3173‬؛ ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1669‬‬
‫((( صحيح ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪.)803‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)673‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)673‬‬
‫((( انظر الفتح الكبير في ضم الزيادات للجامع الصغير للسيوطي والفتح من صنيع الشيخ‬
‫يوسف النبهاني‪ ،‬ج‪ 2‬ص‪131‬‬
‫‪376‬‬

‫‪P P‬روى اإلمام أحمد والبخاري والترمذي والشاطبي وابن ماجه عن أنس أن‬
‫رسول اهلل رأى طفال يبكي على فقده لطائر صغير كان يلهو به فطار منه‪،‬‬
‫ُّ َ‬
‫لذلك داعبه رسول اهلل والطفه بقوله‪> :‬يا أبا عمير ما فعل النغير‪ .‬يا أبا عمير‬
‫ُّ َ‬
‫ما فعل النغير‪.)1(<...‬‬
‫‪P P‬يروي ابن كثير في كتابه ـ شمائل الرسول ـ الحديث المتفق عليه والذي‬
‫مفاده أن رسول اهلل ! مر على صبيان يلعبون فسلم عليهم (‪ .)2‬فهو يهتم‬
‫بدعوته حتى في الصبيان‪.‬‬

‫ضع القواعد لبناء أمة يسودها العدل واإلنصاف كالمؤاخاة‪ ،‬وأقام‬ ‫َو َ‬ ‫‪51‬‬
‫المعاهدات مع اليهود والقبائل المحيطة بالمدينة‪.‬‬
‫َ‬
‫إذهاب الوحشة والغربة التي أصابت المهاجرين‬ ‫وكان الهدف من هذه المؤاخاة‬
‫َّ‬
‫فلما عَز اإلسالم واجتمع الشمل وذهبت الوحشة‪،‬‬ ‫بمفارقتهم لألهل والعشيرة‪ّ ،‬‬
‫وعرفوا أسباب اكتساب الرزق‪ ،‬أبطل اهلل التوارث بين المتآخيين من المهاجرين‬
‫َ ُ ْ ُ ْ أۡ َ ۡ َ ِ ُ‬
‫ام َب ۡعض ُه ۡم‬ ‫واألنصار‪ ،‬وبقيت األخوة في اهلل‪ ،‬وذلك بنزول قوله تعالى‪﴿ :‬وأولوا ٱلرح‬
‫أ‬ ‫َ ۡ ىَ‬
‫ب ٱللِۚ إِن ٱلل بِك ِل ش ٍء عل ِيم﴾ [ � ������ا ل‪.]75 :‬‬
‫ف‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هَّ َّ هَّ َ ُ ّ يَ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ال‬ ‫ۢ‬ ‫ۡ‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬
‫أول بِبع ٖض يِف كِت ِ‬
‫وأما الهدف من إقامة المعاهدات مع اليهود والقبائل المحيطة بالمدينة فهو‬
‫تأمين الدولة اإلسالمية الناشئة من المخاطر الداخلية‪ ،‬وتأمينها من المخاطر‬
‫الخارجية‪ ،‬بتحييد المحيط القريب منها فتأمن شره‪.‬‬

‫((( انظر الفتح الكبير في ضم الزيادات للجامع الصغير للسيوطي والفتح من صنيع الشيخ‬
‫يوسف النبهاني‪.)600/2( ،‬‬
‫((( انظر شمائل الرسول للترمذي‪( ،‬ص‪.)81‬‬
‫‪377‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫َو َ‬
‫ضع قواعد الشورى في الحكم‪ ،‬فأنهى الطريق إلى االستبداد‪ ،‬وكان يقبل‬ ‫‪52‬‬
‫نتيجة الشورى ولو خالفت رأيه‪ ،‬كما فعل يوم بدر حين نزل على رأي‬
‫ُ‬
‫الحباب‪ ،‬ويوم أحد في الخروج من المدينة‪ ،‬ويوم الحديبية حين أشارت‬
‫عليه أم المؤمنين أم سلمه بالحلق حتى يحلق الناس‪ ،‬مع أن المعصوم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫العظيم‪.‬‬ ‫ليعلمهم هذا المبدأ‬ ‫الذي ال يخطىء ال يطلب منه الشورى‪ ،‬ولكن‬
‫َّ ً‬
‫فجاءت النصوص من كتاب اهلل‪ ،‬وسنة نبيه ! دالة على أهمية الشورى‪ ،‬فمن‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ت ل ُه ۡمۖ َول ۡو‬
‫هَّ‬
‫ح ٖة ّم َِن ٱللِ لنِ‬ ‫ِ‬ ‫تلك النصوص قوله تعالى ً‬
‫آمرا رسوله ! بتطبيقها‪﴿ :‬فَب َما َر مۡ َ‬
‫أۡ َ ۡ‬ ‫ِيظ ۡٱل َق ۡل ٱَ َ ُّ ْ ۡ َ ۡ َ َ ۡ ُ َ ۡ ُ ۡ َ ۡ َ ۡ ۡ َ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ۡ‬ ‫ُ َ َ ًّ َ َ‬
‫ب لنفضوا مِن حول ِك ۖ فٱعف عنهم وٱستغفِر لهم وشاوِرهم يِف ٱلم ِرۖ‬ ‫ِ‬ ‫كنت فظا غل‬
‫آ‬
‫ٱلل ي ُِّب ٱل ُم َت َو لِك َِني﴾ [ � ل �ع�مرا ن�‪ ]159 :‬فانظر إلى موقع‬
‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫حُ‬ ‫ٱللِ إ َّن هَّ َ‬
‫هَّ‬ ‫لَىَ‬ ‫ۡ‬ ‫لَّ‬ ‫َ َ ََۡ َ ََ‬
‫َ‬
‫فإِذا عزمت فتوك ع ۚ ِ‬
‫األمر بها هنا فقد ربط برحمة من اهلل‪ ،‬وربط بأخالق الرسول !‪.‬‬

‫ومنها قوله تعالى‪﴿ :‬وٱلِين يت َنِبون كبئِر ِ‬


‫ْ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََۡ َ‬ ‫َ ذَّ َ جَ ۡ َ ُ َ َ َ ٰٓ َ إۡ ۡ‬
‫ض ُبوا ه ۡم‬ ‫ٱلث ِم َوٱلفوٰحِش ِإَوذا ما غ ِ‬
‫َ‬
‫ۡ‬
‫ى بَ ۡي َن ُه ۡم َوم َِّما َر َزق َنٰ ُه ۡم‬
‫ور ٰ‬ ‫ُ‬ ‫اموا ْ َّ‬
‫ٱلصلَ ٰوةَ َوأ ۡم ُر ُه ۡم ش َ‬ ‫جابُوا ْ ل َِر ّبه ۡم َوأقَ ُ‬
‫ٱس َت َ‬ ‫ون ‪َ ٣٧‬و ذَّٱل َ‬
‫ِين ۡ‬ ‫َۡ ُ َ‬
‫يغ ِفر‬
‫ِِ‬
‫يُنفِقون﴾ [ا � شل���ور �ى‪.]38 :‬‬
‫ُ َ‬

‫فانظر ـ أخي الكريم ـ كيف جاء الحديث عن الشورى ضمن الحديث عن‬
‫صفات المؤمنين‪ ،‬وكيف ذكرت الشورى بين الصالة واإلنفاق المتضمن للزكاة‪،‬‬
‫والصالة والزكاة ركنان من أركان اإلسالم‪ ،‬وانظر إلى كون الحديث عن الشورى جاء‬
‫ّ‬
‫في سياق جملة اسمية‪ ،‬والجملة االسمية تدل على الثبات‪ ،‬وذلك يدل على أهمية مبدإ‬
‫بي ! مؤيَّد بالوحي‪ ،‬ليس بحاجة للشورى‪ ،‬ولكن‬ ‫الشورى في اإلسالم‪ ،‬مع أن الن ّ ّ‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫الناس هذا المبدأ العظيم في حياتهم‪ .‬ولم تبق هذه النصوص نصوصا نظرية‪ ،‬بل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ليعلم‬
‫َ‬
‫أحسن‬ ‫حولها رسول اهلل ! إلى تطبيق عملي‪ ،‬وقام بها الخلفاء الراشدون من بعده‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫قيام‪ .‬وبذلك عالج اإلسالم مبدأ االستبداد الذي مارسه الجبابرة من قبل‪ ،‬فقد قال‬
‫َ ََۡ‬ ‫أۡ َ‬ ‫ِّ‬
‫تعالى عن حامل لواء المستبدين‪﴿ :‬إِن ف ِۡر َع ۡون َعل يِف ٱل ِ‬
‫ۡ ُ‬ ‫َ اَ‬ ‫َّ‬
‫ۡرض َو َج َعل أهل َها ش َِي ٗعا ي َ ۡس َتضعِف‬
‫َطآئ َف ٗة ّم ِۡن ُه ۡم يُ َذبّ ُح َأ ۡب َنا ٓ َء ُه ۡم َوي َ ۡس َت يۡحۦ ن َِسا ٓ َء ُه ۡم إنَّ ُهۥ اَك َن م َِن ٱل ۡ ُم ۡف ِسد َ‬
‫ِين﴾ [ا �ل��ق�����ص���ص‪.]4 :‬‬ ‫ۚ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪378‬‬

‫ْ‬
‫‪ 53‬كشف اهلل له من حجب الغيب فعلمه اهلل من ِعلمِ ما كان في الزمن‬
‫ٌ‬
‫الماضي وما هو كائن في زمنه‪ ،‬وما سيكون إلى يوم القيامة‪:‬‬
‫َ َ ُّ ْ ُ َّ َ َ‬ ‫َ َّ َ َ ُ ُ‬ ‫َْ َ ّ َ َ‬ ‫فعن أبي َزيْ‬
‫ص ِعد‬ ‫ح ثم‬ ‫ب‬‫الص‬ ‫اَلة‬ ‫ص‬ ‫اهلل‬ ‫ول‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫>ص‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫ار‬ ‫ص‬
‫َ َّ َ ِ‬ ‫ن‬ ‫األ‬ ‫د‬
‫ٍ‬
‫ُّ ْ َ ُ َّ َ َ ْ ْ ِ َ َ َ‬ ‫ُّ ْ ُ ُ َّ َ َ ِ َ َ َ َّ‬ ‫ْ َْ َ َ َ‬
‫!‬
‫ص ِعد ال ِمن َب َر فخط َبنَا‬ ‫صلى الظهر‪ ،‬ثم‬ ‫ض َرت الظهر‪ ،‬ثم نزل ف‬ ‫خ َط َبنَا حتى ح َ‬ ‫ال ِمنبر ف‬
‫الش ْم ُ‬ ‫ْ‬
‫َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ ْ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ص ُر ث َّم ن َز َل فَ َ‬ ‫ْ‬
‫ض َر ْت ال َع ْ‬
‫َح َّتى َح َ‬
‫س‬ ‫صلى العصر فص ِعد ال ِمنبر فخطبنا حتى غابت‬
‫ُ َ ٌ ََ َْ َ ْ َُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َّ َ‬
‫فحدثنَا ِب َما كان َو َما ه َوك ِائن فأعل ُمنَا أحفظنَا<(‪.)1‬‬

‫‪ 54‬ب َّش َر هذه األمة بأنها األمة الباقية التي ال تموت‪ ،‬وأنها ستبقى حية قائمة‬
‫إلى أن يرث اهلل األرض ومن عليها‪.‬‬
‫فقد قال !‪> :‬ال تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق‪ ،‬ال يضرهم‬
‫يأتي أمر اهلل وهم كذلك<(‪.)2‬‬
‫َم ْن خذلهم‪ ،‬حتى َ‬
‫ۡ َ‬ ‫َّ َ َّ ۡ َ‬ ‫‪55‬‬
‫الكريم وفيه علم كل شيء ﴿ما فرطنا يِف ٱلكِتٰ ِ‬
‫ب مِن‬ ‫أنزل اهلل عليه القرآن‬
‫َ اَ َ ۡ َ ُ َ ۡ َ ََ‬ ‫أ‬
‫شءٖ ۚ﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪﴿ ،]38 :‬أل يعلم من خلق﴾ [ا �ل���م�ل�ك‪.]14 :‬‬
‫يَ ۡ‬

‫فذكر فيه من أصول العلوم الشرعية والكونية وغيرهما‪ ،‬فتضمن من العبادات‬


‫ما ينظم العالقة بين العبد وربه‪ ،‬ومن المعامالت ما ينظم العالقة بين اجملتمع‪،‬‬
‫في مجال قوانين األحوال الشخصية والقوانين المدنية‪ ،‬وذكر ما ينظم العالقة بين‬
‫الحاكم والمحكوم‪ ،‬مما أصبح يسمى بالقوانين الدستورية‪ ،‬وجاء بالعقوبات التي‬
‫تردع اجملرم مما يصلح بجدارة أن يكون قانونا جنائيا لنشر األمن بين الناس‪،‬‬
‫ونظم العالقة بين الدولة اإلسالمية وغيرها من الدول مما يعتبر تأسيسا للقانون‬
‫ٌ‬
‫أساس لهذه‬ ‫الدولي‪ ،‬وذكر من علم الفلك وعلم الحساب وغيرهما‪ ،‬مما هو‬
‫َ‬
‫العلوم‪ ،‬ليكون منطلقا لالستزادة من هذه العلوم والتوسع فيها‪ .‬ولمعرفة المزيد‬

‫((( رواه مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2892‬‬


‫((( رواه مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1920‬‬
‫‪379‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫حول هذا الموضوع‪ ،‬راجع أضواء البيان عند قول اهلل‪﴿ :‬ونز ا علي‬
‫َ َ َّلنۡ َ َ َ ۡ َ‬
‫ك ۡٱلك َِتٰ َ‬
‫ب ت ِۡب َيٰ ٗنا‬
‫شءٖ﴾ [ا �ل��ن���ح�ل‪.]89:‬‬
‫ّ لُ ّ‬
‫ِك يَ ۡ‬
‫ل ِ‬
‫ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ال يزيغ عنها إال هالك‪.‬‬ ‫‪56‬‬
‫يحكمها كتاب اهلل الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل‬
‫عامه‪ ،‬وتقيِّد‬ ‫من حكيم حميد‪ ،‬وسنة رسوله التي هي بيان لكتابه‪ ،‬تخصص َّ‬
‫طلقه وتبين ُم َ‬ ‫ُ َ‬
‫جمله‪ ،‬وقد تنفرد عنه ببعض األحكام والقصص وغيرهما‪ ،‬وتهتدي‬ ‫م‬
‫بما يستنبطه العلماء الربانيون منهما‪ ،‬وقد رسم هذا الكتاب وهذه السنة لهذه األمة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تقصير‪.‬‬ ‫منهجا وسطا ال تفريط فيه وال إفراط‪ ،‬وال مغاالة فيه وال‬
‫ٌ‬
‫‪ 57‬ميراثه العلم‪ ،‬فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر‪ ،‬وهو ميراث ُمتاح لمن‬
‫رغب في االغتراف من ينبوعه الطاهر‪:‬‬
‫ْ‬ ‫يقا ي َ ْط ُل ُ‬ ‫َ ْ ََ َ َ ً‬
‫فقد قال !‪> :‬من سلك ط ِر‬
‫َ ً‬
‫يه ِعل ًما سلك اهلل عز وجل به ط ِريقا‬ ‫ف‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ً َ‬ ‫َ‬
‫ض ُع أ ْجن َح َت َ‬ ‫م ْن ُط ُرق ْال َجنَّة‪َ ،‬وإ َّن ْال َمالَئ َك َة َل َت َ‬
‫ب ال ِعلمِ‪َ ،‬و ِإ َّن ال َع ِال َم ل َي ْستغ ِف ُر‬ ‫ال‬ ‫ط‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫ض‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ ْ َِ ُ ِ ِ َ ْ ِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َِ‬
‫ضل َْالع ِالمِ‬ ‫ف الما ِء‪ ،‬و ِإ َّن ف‬ ‫ض َ‪ ،‬وال ِحيت ْان َ ِفى جو ِ‬ ‫ِ‬ ‫السمواتِ ومن ِفى األر‬ ‫له من ِفى َّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ضل ال َق َمر ل ْيلة ال َب ْدر عَلى َسائر الك َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ‬ ‫عَ َلى ْال َ‬
‫ِب‪َ ،‬و ِإ َّن ال ُعل َماءَ َو َرثة األن ِب َيا ِء‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫د‬ ‫اب‬ ‫ع‬
‫ِ َ ً َ َ ْ ِ َ ً َ ُ ِ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َ ُ َ َ َ َ ٍّ‬ ‫َ َّ َْ َ ِ ِ َ َ ْ ُ َ ِ ُ‬
‫و ِإن األن ِبياء لم يو ِّرثوا ِدينارا وال ِدرهما‪ ،‬و َّرثوا ال ِعلم فمن أخذه أخذ ِبحظ و ِاف ٍر< ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫َ‬

‫‪ 58‬تك َّفل اهلل بحفظ منهجه القائم على كتاب اهلل وسنة رسوله !‪ ،‬وهو‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫ُ‬
‫الطريق الواصل إلى رضوان اهلل وسعادة الدنيا واآلخرة‪ .‬فقال سبحانه‪:‬‬
‫َ‬ ‫َّ هَ َ‬ ‫َّ حَ ۡ َ َّلنۡ ّ ۡ‬
‫ن ُن نز َا ٱذلِك َر ِإَونا ُلۥ ل َحٰفِ ُظون﴾ [ا �ل�ح�� ج�ر‪.]9 :‬‬ ‫﴿إِنا‬
‫ُ‬
‫وقد ظهر ـ على مدار التاريخ ـ مصداق هذا الحفظ‪ ،‬على رغم تكالب األمم‬

‫((( رواه أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3641‬وصححه األلباني في صحيح الجامع الصحيح‪ ،‬حديث‬
‫رقم (‪.)6297‬‬
‫‪380‬‬

‫ُ‬
‫على هذه األمة‪ ،‬وتدبير المكايد لها على مستوى العالم‪ ،‬فبقي كتابُها وسنة نبيِّها‬
‫َ‬
‫شامخين راسخين ال يصابان بأذى‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ 59‬دينه هو الصراط المستقيم الموصل للتي هي أقوم في كل شأن‬
‫طريق الخالص من المآزق‪.‬‬ ‫َ‬ ‫مشكالتها وينير لها‬ ‫من شؤون الحياة‪ ،‬يحل‬
‫ِ‬
‫فهو الطريق األقوم لكل شؤون الحياة‪ ،‬فقد قال تعالى‪﴿ :‬إِن هٰذا ٱلق ۡر َءان َي ۡهدِي‬
‫َّ َ َ ۡ ُ َ‬
‫ت أَ َّن ل َ ُه ۡم أَ ۡج ٗرا َكبريٗ ا ‪َ ٩‬وأَ َّن ذَّٱل َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ َ ۡ َ ُ َ ُ َ ّ ُ ۡ ُ ۡ َ ذَّ َ َ ۡ َ ُ َ َّ‬
‫ٱلصٰل َ‬ ‫َّ‬
‫ِين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِح‬ ‫ل ِل يِت يِه أقوم ويب رِش ٱلمؤ ِمن ِني ٱلِين يعملون‬
‫َ َ‬ ‫َ ۡ َ َ‬
‫ل يُؤم ُِنون بِٱٓأۡلخ َِرة ِ أع َت ۡدنا ل ُه ۡم َعذابًا أ يِل ٗما﴾ [ الإ� ��سرا ء‪� 9 :‬ـ ‪.]10‬‬
‫َ‬ ‫اَ ۡ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫َ‬
‫جميع ما في القرآن‬ ‫قال الشنقيطي‪ < :‬وهذه اآلية الكريمة أجمل اهللُ جل وعال فيها‬
‫من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها‪ ،‬فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال؛‬
‫ألتينا على جميع القرآن العظيم‪ .‬لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى َ‬
‫خيري الدنيا‬
‫واآلخرة > (‪ . )1‬فهو يهدي للتي هي أقوم في العقائد والعبادات واألخالق واآلداب‪،‬‬
‫والمعامالت‪ ،‬وفي االقتصاد‪ ،‬ونظام الحكم وغير ذلك من اجملاالت‪.‬‬
‫دينه الحل الكامل لألزمات التي أصابت اإلنسان في األنفس واألموال‬ ‫‪60‬‬
‫والحياة االجتماعية والنفسية‪.‬‬
‫فما فيه من تزكية للنفوس بتحليتها بالفضائل‪ ،‬وتخليتها عن الرذائل‪ ،‬ووقاية‬
‫وعالج من األمراض النفسية المستعصية‪ ،‬وما فيه من نظام اقتصادي قائم على‬
‫ٌ‬
‫كفيل بإبعاد العالم عن األزمات المالية التي تعصف‬ ‫منع الربا واالحتكار والغش‬
‫ٌ‬
‫كفيل بإقامة حياة‬ ‫وق َيم‬ ‫به من حين آلخر‪ ،‬وما فيه من عدالة اجتماعية وأخالق‬
‫ِ ٍ‬
‫اجتماعية‪ ،‬ملؤها الترابط والتعاون والتعاضد‪ ،‬بعيدا عن التفكك والتخاذل‬
‫والتناحر‪.‬‬

‫((( أضواء البيان (‪.)17/3‬‬


‫‪381‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫دينه قائم على الحوار بالحجة والبرهان‪ ،‬وليس على الصراع والقهر‬ ‫‪61‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فحاور المشركين وأهل الكتاب والمسلمين‪ .‬فالناظر‬ ‫والغلبة‪،‬‬
‫إلى توارد النصوص من كتاب اهلل وسنة نبيّه ! الداعية إلى الحوار‬
‫رشدة إليه‪ ،‬يتبين له ما للحوار من أهمية في اإلسالم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أو الم ِ‬
‫ومن أمثلة ذلك قوله سبحانه‪﴿ :‬ٱد ِ‬
‫ٱل ِۡك َمةِ َوٱل ۡ َم ۡوع َِظةِ حۡ َ َ‬ ‫حۡ‬ ‫َ‬
‫يل َر ّبِك ب‬ ‫ع إ ىَ ٰل َ‬‫ۡ ُ‬
‫ٱل َسنةِۖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬
‫ك ُه َو أَ ۡعلَ ُم ب َمن َض َّل َعن َسبيلِهِۦ َو ُه َو أَ ۡعلَ ُم بٱل ۡ ُم ۡه َتد َ‬
‫ِين﴾‬ ‫َ َ ۡ َ ُ َّ َ َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ۡ‬
‫جٰدِل ُهم بِٱل يِت يِه أحسنۚ إِن رب‬ ‫و‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[ا �ل��ن���ح�ل‪.]125 :‬‬
‫ه أَ ۡح َس ُن إ اَّل ذَّٱل َ َ َ ْ ۡ‬ ‫َ اَ ُ َ ٰ ُ ٓ ْ َ ۡ َ ۡ َ‬
‫وقوله‪۞﴿ :‬ول تجدِلوا أهل ٱلك‬
‫اَّ َّ‬
‫ِين ظل ُموا مِن ُه ۡمۖ‬ ‫ِ‬ ‫ٱلت يِ َ‬
‫يِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫ِت‬
‫َ ُ ُ ٓ ْ َ َ َّ ذَّ ٓ ُ َ يَ ۡ َ َ ُ َ يَ ۡ ُ ۡ َ ٰ ُ َ َ ٰ ُ ُ ۡ َ ٰ ‪ َ ٞ‬حَ ۡ ُ هَ ُ ُ ۡ ُ َ‬
‫نزل إِلكم ِإَولهنا ِإَولهكم وحِد ونن لۥ مسل ِمون﴾‬ ‫نزل إِلنا وأ ِ‬ ‫وقولوا ءامنا بِٱلِي أ ِ‬
‫[ا �ل�ع��ن��ك�بو ت�‪.]46 :‬‬
‫أ‬ ‫َّ ٓ َ ۡ َّ ُ ۡ َ َ ىَ ُ ً َ‬
‫ني﴾ [����سب��� ‪.]24:‬‬ ‫وقال تعالى‪ِ﴿ :‬إَونا أو إِياكم لع ٰ‬
‫ُّ‬ ‫ٰ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ‬
‫ل هدى أو يِف ضل ٖل مب ِ ٖ‬
‫وقوله تعالى‪﴿ :‬قد س ِمع ٱلل قول ٱل يِت تجٰدِلك يِف زو ِ‬
‫َ ۡ َ َ َ ۡ َ ٓ ىَ هَّ‬
‫ٱللِ َو هَّ ُ‬ ‫َ ۡ َ َ هَّ ُ َ ۡ َ َّ ُ َ ُ َ‬
‫ٱلل ي َ ۡس َم ُع‬ ‫جها وتشت يِك إِل‬
‫ري﴾ [ا �ل���م�� ج��ا د �ل��ة‪.]1 :‬‬
‫يع ۢ بَ ِص ٌ‬
‫ٱلل َس ِم ُ‬
‫ِ‬
‫حَتَ ُ‬
‫او َر ُك َما ٓۚ إ َّن هَّ َ‬

‫وعن أبي أمامة‪> :‬أن غالما شابا أتى رسول اهلل ! فقال‪ :‬يا رسول اهلل ائذن‬
‫َ‬
‫لي بالزنا‪ ،‬فصاح الناس‪ ،‬فقال‪ :‬مه‪ ،‬فقال رسول اهلل !‪ :‬أ ِق ُّروه ادن‪ ،‬فدنا‬
‫ْ ُ‬

‫حتى جلس بين يدي رسول اهلل !‪ ،‬فقال له رسول اهلل !‪ :‬أتحبه ألمك؟ قال‪:‬‬
‫ال‪ ،‬قال‪ :‬وكذلك الناس ال يحبونه ألمهاتم‪ ،‬أتحبه البنتك؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬وكذلك‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫الناس ال يحبونه لبناتهم‪ ،‬أتحبه ألختك؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬وكذلك الناس ال يحبونه‬
‫ألخواتهم‪ ،‬أتحبه لعمتك؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬وكذلك الناس ال يحبونه لعماتهم‪ ،‬أتحبه‬
‫لخالتك؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬وكذلك الناس ال يحبونه لخاالتهم‪ ،‬فوضع رسول اهلل !‬
‫وحصن فرجه<(‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫يده على صدره وقال‪ :‬اللهم كفر ذنبه وطهر قلبه‬

‫((( رواه أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)22211‬وصححه األلباني في السلسلة الصحيحة (‪.) 370‬‬
‫‪382‬‬

‫َ ۡ َ َ َّ اَ ٓ َ‬
‫علم أمته أن العلم هو طريق اإليمان والعمل الصالح {فٱعل ۡم أن ُهۥ ل إِل ٰ َه‬ ‫‪62‬‬
‫اَّ هَّ ُ َ ۡ ۡ‬
‫ٱس َتغفِ ۡر ذِلۢنب ِ َك}[ حم��م�د‪.]47 :‬‬
‫َ‬
‫إِل ٱلل و‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫العلم والعلماء‪ ،‬فمن ذلك‬ ‫ولذلك تضافرت نصوص الكتاب والسنة مادحة‬
‫َ َ هَّ ُ َ َّ ُ اَ ٓ َ ٰ َ اَّ ُ َ َ ۡ َ َ َ ُ َ ُ ْ ُ ْ ۡ ۡ َ ٓ َ ۢ ۡ ۡ اَ ٓ َ‬
‫ط ل إِل ٰ َه‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬ش ِهد ٱلل أنهۥ ل إِله إِل هو وٱلم ٰٓ‬
‫لئِكة وأولوا ٱلعِل ِم قائِما بِٱلقِس ِ ۚ‬
‫اَّ ُ َ ۡ َ ُ حۡ َ ُ آ‬
‫ِيم﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪. ]18 :‬‬
‫إِل هو ٱلعزِيز ٱلك‬
‫َ َ َ ذَّ َ ُ ُ ْ ۡ ۡ َ َ ۡ َ ُ ۡ َ َ ُ هَّ َ ّ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬وقال ٱلِين أوتوا ٱل ِعلم ويلكم ثو‬
‫َ‬
‫اب ٱللِ خ رۡي‪ ٞ‬ل َِم ۡن َء َام َن َو َع ِمل‬
‫بون﴾ [ا �ل��ق�����ص���ص‪.]80 :‬‬
‫َّ ٰ ُ َ‬ ‫َ ٗ َ اَ ُ َ َّ َ ٓ اَّ‬
‫صٰل ِحا ۚ ول يلقىٰها إِل ٱلص رِ‬
‫َ ۡ َ أۡ َ ۡ َ ٰ ُ َ رۡ‬
‫اسۖ َو َما َي ۡعقِل َها إِل ٱل َعٰل ُِمون﴾ [ا �ل�ع��ن��ك�بو ت�‪.]43 :‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬وت ِلك ٱلمثل ن ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ٓ اَّ ۡ‬
‫ض ُب َها ل َِّلن ِ‬
‫ور﴾ [ ف��ا طر‪.]28 :‬‬ ‫يز َغ ُف ٌ‬ ‫م ُ ۗؤا ْ إ َّن هَّ َ‬ ‫ٱلل م ِۡن ع َِبادِه ِ ۡٱل ُعلَ َ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬إِنما‬
‫ٱلل َعز ٌ‬ ‫ٰٓ‬ ‫ي ىَش هَّ َ‬ ‫َّ َ خَ ۡ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وقل َّر ّ ِب زِد يِن عِل ٗما﴾ [ط�ه‪.]114 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ْ ْ َ َ َْ‬
‫ب البخاري رحمه اهلل في صحيحه فقال‪ < :‬بَاب ال ِعل ُم ق ْبل الق ْو ِل‬ ‫بو َ‬
‫ومن ثم َّ‬
‫َ ۡ َ ۡ َ َّ ُ اَ ٓ َ َ اَّ هَّ ُ َ َ َ ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َو ْال َع َمل ل َق ْ‬
‫ٱلل﴾ ف َبدأ ِبال ِعلمِ > (‪.)1‬‬ ‫ل اهلل ت َعالى﴿فٱعلم أنهۥ ل إِلٰه إِل‬ ‫و‬
‫ِ ِ ِ‬
‫جعل العمل عبادة لسد حاجات األمة‪ ،‬وجعله من فروض الكفاية‬
‫ُ‬
‫‪63‬‬
‫ْ‬
‫التي ال بد من تحقيقها وإال أثِ َمت األمة كلُّها‪:‬‬
‫وتعريف فروض الكفاية عند الفقهاء ـ كما ذكر السيوطي ـ ‪ :‬مصالح عامة دينية‬
‫أو دنيوية ال ينتظم أمر األمة إال بها‪ ،‬فطلب الشرع تحصيلها‪ ،‬وفروض الكفاية‬
‫كثيرة‪ ،‬ومنها إقامة الحرف والصناعة‪ ،‬والزراعة‪ ،‬وتعلم علوم الحياة كالطب‬
‫ً‬
‫والحساب وغيرها‪ .‬ومنها أيضا‪ :‬كفاية فقراء األمة مسلمين أو غير مسلمين (‪.)2‬‬

‫((( صحيح البخاري (‪ ،)159/1‬دار المعرفة ‪.1400‬‬


‫((( انظر‪ :‬األشباه والنظائر‪( ..‬ص‪ ،)415-410‬ط‪ ،1.‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪383‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫َ‬
‫وإذا لم يقم بعض األمة بفروض الكفاية هذه‪ ،‬أثِ َم الجميع‪ ،‬إال أن العالمة‬
‫الشاطبي يرى‪ :‬أن القيام بها يكون عن طريق التخطيط التربوي والتعليمي لتربية‬
‫وتعليم أبناء األمة‪ ،‬فقال‪ < :‬أن يتربى لكل فعل قوم > (‪.)1‬‬

‫كان يصلي من الليل واقفا حتى تتفطر قدماه من طول القيام ويقول لمن‬ ‫‪64‬‬
‫أشفق عليه لطول قيامه وكثرة بكائه‪ :‬أفال أكون عبدا شكورا‪.‬‬
‫َّ َ َّ َ َ ۡ َ َ َّ َ َ ُ ُ َ‬
‫وم أ ۡد ىَ ٰ‬
‫ن‬ ‫وقد شهد له ربه بطول قيام الليل‪ ،‬فقال‪۞﴿ :‬إِن ربك يعل ُم أنك تق‬
‫ِين َم َع َكۚ‪ [ ﴾ ...‬ا �ل���م�ز �م�ل‪.]20 :‬‬
‫ٱلل َون ِۡص َف ُهۥ َوثُلُ َث ُهۥ َو َطآئ َفة‪ّ ٞ‬م َِن ذَّٱل َ‬
‫ِ‬
‫مِن ثُلُ يَ يَّ ۡ‬
‫ث ِ‬ ‫ِ‬
‫وشهد له المقربون منه‪ ،‬مثل عائشة‪ ،‬وشهد له أصحابه بذلك فهذا عبد‪ ‬اهلل بن‬
‫رواحة قال فيه‪:‬‬
‫ّ‬
‫انش��ق معروف من الفجر ساطع‬ ‫وفين��ا رس��ول اهلل يتل��و كتاب��ه إذا‬
‫أران��ا اله��دى بع��د العم��ى فقلوبنا ب��ه موقن��ات أن م��ا ق��ال واق��ع‬
‫(‪)2‬‬
‫يبي��ت يجاف��ي جنب��ه ع��ن فراش��ه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع‬

‫كان يخاطب الناس على قدر عقولهم وينزل الناس منازلهم‪.‬‬ ‫‪65‬‬
‫وهذه صفة المربي الناجح‪ ،‬فما كان ! يعمد إلى مستوحش األلفاظ‪ ،‬وال‬
‫ّ‬
‫موجزا‪ ،‬لو عده‬ ‫ً‬ ‫إلى غريب المعاني ليتفاصح بذلك‪ ،‬بل كان كالمه بَيِّنًا فصاًل‬
‫ث َحد ًيثا َل ْو عَ َّد ُه ْال َع ُّ‬
‫اد‬
‫َ َ ُ َ ِّ ُ‬
‫د‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ان‬‫ك‬ ‫َّ‬
‫ى‬ ‫ب‬ ‫ش َة ‪> I‬أ َ َّن الن َّ‬
‫َ َ‬
‫ائ‬ ‫ع‬ ‫فعن‬ ‫ألحصاه‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫العاد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫ِ‬
‫أل َ ْح َ‬
‫!‬
‫ص ُ‬
‫اه<(‪.)3‬‬

‫((( الموافقات في أصول الشريعة (‪ ،)181-179‬ط ‪ 2‬المكتبة التجارية‪.‬‬


‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)1155‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)3567‬؛ ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2493‬‬
‫‪384‬‬

‫‪ 66‬عنايته بكل مفيد سواء أكان لدى المتقدمين أم المتأخرين من ذلك‬


‫عنايته باإلحصاء‪ ،‬وحفر الخندق‪ ،‬واتخاذ الخاتم ونحو ذلك‪.‬‬
‫اإلسالم<(‪.)1‬‬
‫َ‬
‫ففي صحيح مسلم يقول !‪> :‬أحصوا لي كم ي ِ‬
‫لفظ‬‫َ‬

‫وأخذ بتجربة الفرس في حفر الخندق حول المدينة بناءً على نصيحة سلمان‬
‫الفارسي‪.‬‬
‫خاتما من فضة‪ .‬ونقش فيه ـ محمد‬‫ً‬ ‫بي ! اتخذ‬‫وفي صحيح مسلم >أن الن ّ ّ‬
‫رسول اهلل ـ وقال للناس‪ :‬إني اتخذت خاتما من فضة ونقشت فيه‪ :‬محمد رسول‬
‫اهلل ـ فال ينقش أحد على نقشه<(‪.)2‬‬

‫‪ 67‬تكريمه لإلنسان؛ لكونه إنسانا‪ ،‬ولذا قام لجنازة يهودي لكونها جنازة‬
‫إنسان‪.‬‬
‫ففي صحيح البخاري‪> :‬أن الن ّ ّ‬
‫بي ! مرت به جنازة فقام‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنها جنازة‬
‫يهودي‪ ،‬فقال‪ :‬أليست نفسا<(‪.)3‬‬
‫ً‬

‫ولم ال يكرمه؟ وآيات كتاب اهلل حافلة بتكريمه‪ ،‬فقد قال ربه سبحانه‪﴿ :‬‬
‫َََ‬
‫۞ولق ۡد‬
‫َ َ َّ ۡ َ ُ ۡ لَىَ ٰ َ‬ ‫ب َو بۡٱلَ ۡحر َو َر َز ۡق َنٰ ُهم ّم َِن َّ‬ ‫ح ۡل َنٰ ُه ۡم ف ٱل ۡ رَ ّ‬ ‫َ َّ ۡ َ َ ٓ َ َ‬
‫اد َم َو مَ َ‬
‫ري ّم َِّم ۡن‬
‫ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ث‬ ‫ك‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ٰ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ف‬‫و‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫ٱلط ّي َ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يِ‬ ‫كرمنا ب يِن ء‬
‫َخلق َنا تف ِضيل﴾ [الإ� ��سرا ء‪.]70 :‬‬
‫َۡ َۡ‬
‫‪68‬‬
‫تكريمه للمرأة وحثه على إنصافها والوصية بها خيرا‪.‬‬

‫فقد أوصى بها في أكثر من مناسبة‪ ،‬وأوصى بها في آخر مؤتمر عام (حجة الوداع)‪،‬‬
‫ف وتسعون يوما‪ ،‬فعن سليمان‪ ‬بن عمرو‪ ‬بن األحوص‬ ‫ال يفصله عن وفاته ! إال نيِّ ٌ‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)149‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2091‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)1312‬‬
‫‪385‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫قال حدثني أبي‪> :‬أنه شهد حجة الوداع مع رسول اهلل !‪ ،‬فحمد اهلل وأثنى‬
‫عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة‪ ،‬فقال‪ :‬أال واستوصوا بالنساء خيرا‪ ،‬فإنما‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫هن عَوان عندكم‪ ،‬ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك‪ ،‬إال أن يأتين بفاحشة مبينة‪،‬‬
‫فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح‪ ،‬فإن أطعنكم فال‬
‫تبغوا عليهن سبيال‪ ،‬أال إن لكم على نسائكم حقا‪ ،‬ولنسائكم عليكم حقا‪ ،‬فأما‬
‫حقكم على نسائكم فال يوطئن فراشكم من تكرهون‪ ،‬وال يأذن في بيوتكم لمن‬
‫تكرهون‪ ،‬أال وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن<(‪.)1‬‬

‫مداومته لذكر اهلل‪ ،‬وقراءة القرآن‪ ،‬والتأمل في ملكوت اهلل‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫َ َ ُّ َ ذَّ َ َ َ ُ ْ ۡ ُ ُ ْ هَّ َ ۡ‬
‫ٱلل ذِك ٗرا‬ ‫يأيها ٱلِين ءامنوا ٱذكروا‬ ‫امتثاال ألمر اهلل بذلك‪ ،‬فقد قال تعالى‪ٰٓ ﴿ :‬‬
‫أ‬ ‫ۡ ٗ َ‬
‫صيل﴾ [ال� �ح�ز ا ب�‪.]42-41 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كثِريٗ ا ‪َ ٤١‬و َس ّبِحوهُ بُك َرة َوأ ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ ُ َ ٓ ُ يِ َ يَ ۡ َ َ ۡ َ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬ٱتل ما َأوح إِلك مِن ٱلك ِ‬
‫َّ َ ٰ َ َّ َّ َ‬
‫ه َع ِن‬ ‫ٱلصل ٰوةَ َت ۡن ىَ ٰ‬ ‫ب َوأق ِ ِم ٱلصلوة ۖ إِن‬ ‫ٰ‬ ‫ِت‬
‫ٱلل َي ۡعل ُم َما تَ ۡص َن ُعون﴾ [ا �ل�ع��ن��ك�بو ت�‪.]45 :‬‬ ‫ۡ َ َ ٓ ۡ َ ذَ ۡ هَّ‬
‫َ‬ ‫ۡ رَ ُ َ هَّ ُ َ‬
‫ٱلف ۡحشاءِ َوٱل ُمنك ِرۗ َولِك ُر ٱللِ أكب ۗ و‬
‫َ َ اَ َ ُ ُ َ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬أفل ينظر ِ ِ ِ َ ِ‬
‫ت‬ ‫ٱلس َمآءِ َك ۡي َف ُرف َِع ۡ‬ ‫ِإَول َّ‬‫ىَ‬
‫ت ‪١٧‬‬ ‫ون إ ىَل إۡٱلبل َك ۡي َف ُخل َِق ۡ‬

‫ۡرض ك ۡيف ُس ِط َح ۡت﴾ [ ا � �غل��ا ش������ي��ة‪.]20-17 :‬‬


‫َ‬ ‫َ‬ ‫ىَ أۡ‬ ‫ىَ جۡ‬
‫ٱل َبال َك ۡي َف نُص َب ۡ‬
‫ت ‪ِ ١٩‬إَول ٱل ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ِ ١٨‬إَول ِ ِ‬

‫تعظيمه لشعائر اهلل‪.‬‬ ‫‪70‬‬


‫فقد أخبر اهلل أن تعظيمها من تقوى القلوب‪ ،‬فقد قال سبحانه‪﴿ :‬ذٰل ِك ۖ َو َمن‬
‫َ َ‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫وب﴾ [ا �ل�ح���ج ‪ ،]32 :‬وأي قلب أتقى من قلبه !؟‪.‬‬


‫َۡ َ ُۡ ُ‬ ‫ُي َع ّ ِظ ۡم َش َ ٰٓ َ هَّ َ َّ َ‬
‫عئِر ٱللِ فإِنها مِن تقوى ٱلقل ِ‬
‫تقديره لجلسائه‪:‬‬ ‫‪71‬‬
‫فكان إذا استقبله الرجل فصافحه ال ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع‪،‬‬
‫وال يصرف وجهه عن وجهه حتى يصرف الرجل وجهه‪ ،‬ولذا ال يحسب جليسه‬

‫((( رواه الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ )1163‬وقال األلباني‪ :‬حديث حسن‪.‬‬


‫‪386‬‬

‫بي ! إذا استقبله الرجل‬ ‫أن أحدا أكرم عليه منه‪ .‬فعن أنس ‪ K‬قال‪> :‬كان الن ّ ّ‬
‫فصافحه ال ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده<(‪.)1‬‬

‫كان يجلس حيث ينتهي به اجمللس‪:‬‬ ‫‪72‬‬


‫فطبق أصحابه هذا الهدي‪ ،‬فعن جابر‪ ‬بن سمرة قال‪> :‬كنا إذا أتينا رسول اهلل !‬
‫جلسنا حيث ننتهي<(‪ ،)2‬وصار ذلك هدي أهل التواضع‪ ،‬يؤدبون به غيرهم‪ ،‬فقد أقبل‬
‫يزيد‪ ‬بن عبدالملك‪ ‬بن مروان الى مكحول وأصحابه‪ ،‬فلما رأيناه هممنا بالتوسعة‬
‫َ‬
‫له‪ ،‬فقال مكحول‪> :‬مكانكم‪ ،‬دعوه يجلس حيث أدرك‪ ،‬يتعلم التواضع<(‪.)3‬‬
‫‪ 73‬كان كثير الصمت طويل الفكر وإذا نطق نطق بجوامع الكلم‪:‬‬
‫َ ُ ََ َُْ َ ُ َ ُ َ ُ َ‬ ‫َ َ َ ُْ ُ َ‬
‫سول‬ ‫اك قال‪ :‬قلت ِلج ِاب ِر‪ ‬بن سمرة‪> :‬أكنت تج ِالس ر‬ ‫عن ِسم ٍ‬ ‫في مسند أحمد‬
‫َ َ َ َ ْ َ ُُ َْ ُُ َ‬ ‫يل َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الص ْ‬
‫يل َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال‪ :‬نَ َع ْ‬‫َ َ‬
‫ك‪ ،‬وكان أصحابه يذكرون‬ ‫ِ ِ‬ ‫ح‬ ‫الض‬ ‫ل‬ ‫ق‬
‫ُِ ِ‬ ‫ت‬‫م‬ ‫و‬ ‫ط‬
‫ْ ُ ِ‬‫ان‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬‫م‬ ‫اهلل !‪ ،‬ق‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الش ْع َر وأش َياءَ من أ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ َ ُ ِّ‬
‫ور ِه ْم ف َيضحكون و ُربَّ َما ت َب َّس َم<(‪ ،)4‬وقال !‪> :‬أوتيت‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ِعنده‬
‫جوامع الكلم<(‪.)5‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وكان إذا دخل بيته ّ‬
‫وقسم‬ ‫وقسم ألهله‪،‬‬ ‫قسم هلل‪،‬‬ ‫قسم وقته أثالثا‪:‬‬ ‫‪74‬‬
‫لنفسه وكلُّها هلل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ألن للنفس ولألهل حقوقا‪ ،‬والتوازن يقتضي أن يعطى لكل ذي حق حقه‪،‬‬
‫ََ‬
‫عبد‪ ‬اهلل أل ْم‬
‫َ ُ ُ‬
‫سول اهلل !‪ :‬يَا‬
‫َ َ‬
‫اص ‪ R‬قال‪> :‬قال ِلي ر‬ ‫ع‬‫فعن عَ ْبد اهلل‪ ‬بن عَ ْمرو‪ ‬بن ْال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫((( رواه الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ )2490‬وصحح هذا القدر من الحديث األلباني في صحيح‬
‫الجامع الصحيح‪ ،‬حديث رقم (‪.)4780‬‬
‫((( رواه البيهقي في السنن الكبرى (‪.)231/3‬‬
‫((( حلية األولياء (‪.)184/5‬‬
‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)20844‬قال مخرجوه‪( :‬إسناده حسن)‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)523‬‬
‫‪387‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫َ َ َ َْ ْ‬ ‫ُ ْ َ ْ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ َ ُ ُ َّ ْ َ َ ُ ْ ُ َ َ َ َ ُ َ‬
‫سول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬فاَل تف َعل‪،‬‬ ‫أخبر أنك تصوم ال َّنهار وتقوم الليل‪ ،‬فقلت‪ :‬بلى يا ر‬
‫ُ ْ َ َ ْ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ‬
‫صم وأف ِطر وقم ونم‪ ،‬ف ِإن ِلجس ِدك عليك ح ًّقا و ِإن ِلعي ِنك عليك ح ًّقا و ِإن ِلزو ِجك‬
‫ْ َ َ َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫عَل ْيك ح ًّقا‪َ ،‬و ِإ َّن ِل َزو ِرك عَل ْيك ح ًّقا‪.)1(<...‬‬
‫َ‬
‫كان يُح ِّسن الحسن ويقويه‪ ،‬ويقبح القبيح ويستنكره‪.‬‬ ‫‪75‬‬
‫ۡ‬
‫س ِن﴾ [ا �ل��ن���ح�ل‪ ]90:‬واإلحسان‪ :‬أي‬ ‫قال اهلل تعالى‪۞﴿ :‬إِن ٱلل يأمر بِٱلعد ِل و ِ‬
‫إۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬
‫ٱل ۡح َ ٰ‬ ‫هَّ َ َ ُ ُ َ ۡ َ‬
‫كل شيء حسن‪ ،‬وأخرج أحمد عن عبداهلل‪ ‬بن مسعود قال‪ ...>:‬فما رأى المسلمون‬
‫حسنًا فهو عند اهلل حسن‪ ،‬وما رأوه سيئًا‪ ،‬فهو عند اهلل ِّ‬
‫سيء<(‪.)2‬‬

‫فوجه ُه‬‫َ‬ ‫‪ 76‬كان ال يرد صاحب حاجة إال بها‪ ،‬وإذا سئل ما ليس عنده حزن‬
‫َّ ُ ۡ َ َّ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ٓ َ َ مۡ َ ّ َّ ّ َ َ ۡ ُ َ َ ُ َّ ُ ۡ َ ۡ اٗ‬
‫ربُّه بقوله‪ِ﴿ :‬إَوما تع ِرضن عنهم ٱبتِغاء رحةٖ مِن ربِك ترجوها فقل لهم قول‬
‫ورا﴾ [الإ� ��سرا ء‪.]28:‬‬ ‫َّم ۡي ُس ٗ‬
‫ْ َ َ ً‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ُ َ َ ُ ُ‬ ‫ََ‬ ‫فع ْن ُم َ‬
‫اإلسال ِم ش ْيئا‬ ‫ِ‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ـ‬ ‫اهلل‬ ‫ول‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ئ‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫ا‬‫>م‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫يه‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫س‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ى‪ ‬بن‬ ‫وس‬ ‫َ‬
‫ََ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ال‪ :‬فَ َجاءَ ُه َر ُج ٌل فَأ َ ْع َط ُ‬
‫اه َغنَ ًما بَ ْي َن َج َب َل ْ‬ ‫َّ َ ْ َ ُ َ َ‬
‫!‬
‫ن‪ ،‬ف َر َج َع ِإلى ق ْو ِم ِه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ي‬
‫َْ َ ِ‬ ‫ِإال أعطاه ـ ق‬
‫َ‬ ‫َ ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫يَا ق ْو ِم أس ِل ُموا ف ِإن ُمح َّمدا ي ُ ْع ِطي عَطاءً ما يخشى الفاقة<(‪.)3‬‬

‫‪ 77‬يتفاضل الناس عنده بالتقوى والعمل الصالح‪.‬‬


‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تواضع‬ ‫ألن ربه علمه أن معيار التفاضل الصحيح هو التقوى‪ ،‬ال المعايير التي‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ ُ َّ‬
‫ب وجاهٍ ومال‪ ،‬فقد قال تعالى‪﴿ :‬يأيها ٱنلاس إِنا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الناس على اعتبارها من نس ٍ‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫َ هَّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ۡ َ ٰ ُ ّ َ َ َ ُ ىَ ٰ َ َ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ ُ ُ ٗ َ َ َ ٓ َ َ َ َ ُ ْ َّ َ ۡ‬
‫ِند ٱللِ‬‫ارف ۚ ٓوا إِن أك َر َمك ۡم ع‬‫خلقنكم مِن ذك ٖر وأنث وجعلنكم شعوبا وقبائِل لتِ ع‬
‫َ ۡ َ ٰ ُ ۡ َّ هَّ َ َ ٌ َ‬
‫أتقىك ۚم إِن ٱلل عل ِيم خبِري﴾ [ ح�� ج ر �‪.]13 :‬‬
‫ت‬ ‫ا‬ ‫�‬ ‫�‬
‫ل‬
‫�‬ ‫ا‬ ‫‪ٞ‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪.)1975‬‬


‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3600‬قال مخرجوه‪( :‬حسن)‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2312‬‬
‫‪388‬‬

‫ّ ً‬ ‫ّ ً‬ ‫ْ‬
‫البش ِر سهل الخلق ال فحاشا وال عيّابًا وال مداحا‪.‬‬ ‫‪ 78‬كان دائم ِ‬
‫ُ‬
‫البشر وسهولة الخلق فتح اهلل له قلوبا عُ ْم ًيا‪ ،‬فدخلت في دينه واجتمعت‬ ‫وبهذا ِ‬
‫عليه‪ .‬فقد قال تعالى‪﴿ :‬فبِما رحةٖ مِن ٱللِ لنِ ت لهمۖ ولو كنت فظا غل ِيظ ٱلقل ِ‬
‫َ َ ُ ۡ َ َ ۡ ُ َ َ ًّ َ َ ۡ َ ۡ ٱَ َ ُّ ْ‬ ‫َ َ َ مۡ َ ّ َ هَّ‬
‫ب لنفضوا‬
‫أۡ َ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َ لَّ ۡ لَىَ هَّ َّ هَّ‬ ‫َ ُ‬ ‫ۡ َۡ َ َ ۡ ُ َُۡ ۡ َ ۡ ۡ َ‬
‫ٱللَ‬ ‫ٱس َتغفِ ۡر ل ُه ۡم َوشاوِ ۡره ۡم يِف ٱلم ِرۖ فإِذا عزمت فتوك ع ٱللِۚ إِن‬‫مِن حول ِك ۖ فٱعف عنهم و‬
‫�آ �ع ا ن‬
‫ي ُِّب ٱل ُم َت َو لِك َِني﴾ [ �م ‪.]159 :‬‬
‫ۡ ّ‬ ‫حُ‬
‫ل ر�‬

‫وعن عطاء ‪ K‬قال‪> :‬قلت لعبد اهلل‪ ‬بن عمرو‪ :‬أخبرني عن صفة رسول اهلل‬
‫َ ُّ‬
‫! في التوراة‪ ،‬قال‪ :‬أجل‪ ،‬واهلل إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يَا أي َها‬
‫ً‬ ‫َّ ُّ َّ َ ْ َ ْ َ َ َ ً َ ُ َ ِّ‬
‫ش ًرا َونَذ ً‬
‫يرا‪ ،‬وحرزا لألميين‪ ،‬أنت عبدي ورسولي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫اهدا ومب‬ ‫الن ِبي ِإنا أرسلناك ش ِ‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬
‫سميتك المتوكل‪ ،‬ال فظ وال غليظ وال َسخ ٌ‬ ‫ّ‬
‫اب في األسواق‪ ،‬وال يدفع بالسيئة‬
‫َ‬
‫السيئة‪ ،‬ولكن يعفو ويغفر‪ ،‬ولن يقبضه اهلل حتى يقيم به الملة العوجاء‪ ،‬بأن يقولوا‬
‫ُ ً‬ ‫ُ‬ ‫ميا‪ ،‬وآذانًا ُ‬
‫ص ًّما‪ ،‬وقلوبًا غلفا<(‪.)1‬‬ ‫ال إله إال اهلل‪ ،‬ويفتح بها أعيُنًا عُ ً‬

‫ََ‬
‫‪ 79‬ال يتكلم في أحد وال ي ُ َع ِّيره وال يطلب عورته وز َّلته‪.‬‬

‫النكير على من يغتاب‬ ‫َ‬ ‫بل يغضي عن الزالت‪ ،‬ويعفو عن العثرات‪ ،‬وقد شدد‬
‫عوراتهم‪ ،‬وما كان له أن يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه‪ ،‬فقد قال‬ ‫ِ‬ ‫المسلمين ويتتبع‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يمان قل َب ُه ال تَغ َتابُوا ال ُم ْسلم َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫!‪> :‬يَا َم ْع َش َر َمن َآم َن بل َسانه َول ْم يَدخل اإل َ‬
‫ْ‬
‫ين َوال ت َّت ِب ُعوا‬ ‫ْ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫عَ ْو َر ِات ِه ْم ف ِإنَّ ُه َمن ا َّت َب َع عَ ْو َر ِات ِه ْم ي َ َّت ِبعِ اهلل عو َرته ومن ي َ َّت ِبعِ اهلل عو َرته يَفضحه ِفى بَي ِته<(‪. )2‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫‪ 80‬قالت عائشة‪ :‬كان ألين الناس وأكرم الناس وكان ضحاكا ّ‬
‫بساما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫المتابع له عن قرب‪ ،‬وقد كانت عائشة ‪ I‬بحكم‬ ‫وخير من يصف اإلنسان هو‬

‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2125‬‬


‫((( رواه أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4882‬وقال األلباني عنه في صحيح الترغيب والترهيب‬
‫(‪ :)2340‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪389‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫ًَ‬ ‫ُ‬
‫مصطنعة لكشف قربُها‬ ‫عالقتها الزوجية به على قرب منه‪ ،‬فلو كانت أخالقه هذه‬
‫منه اصطناعَها‪ ،‬لكنها كانت أخالقا راسخة ال تتزحزح‪.‬‬
‫ُ‬
‫آخرهم شربًا‪.‬‬ ‫‪ 81‬كان يقدم أصحابه ويقول‪ :‬ساقي القوم ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ ََ َ ْ ْ‬ ‫َ َْ َ َ َ ُ‬
‫هلل‪ ‬بن أ ِبي أوفى قال‪> :‬كنَّا ِفي َسف ٍر فل ْم ن ِجد ال َماءَ‪ ،‬قال‪ :‬ث َّم َهج ْمنَا‬ ‫فعن عبد‪ ‬ا ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫سول اهلل !‪ ،‬فكل َما أت ْو ُ‬ ‫َ‬ ‫عَ َلى ْال َماء بَ ْع ُد‪ ،‬قال‪ :‬فج َعلوا ي َ ْسقون َر ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اب قال‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫الش‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫آخ ُره ْم ثاَلث م َّراتٍ حتى ش ِربوا كله ْم<(‪.)1‬‬
‫ْ‬
‫رسول اهلل !‪ :‬س ِاقي القو ِم ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫حريصا على الوفاق‪ ،‬لم يقتل المنافقين حتى ال يقال إنه يقتل‬ ‫ً‬ ‫‪ 82‬كان‬
‫أصحابه‪.‬‬
‫َ َ‬
‫جابر‪ ‬بن عبد‪ ‬اهلل ‪ R‬قال‪ :‬كنا في غزاة‪ ،‬فكسع رجل من المهاجرين‬ ‫فعن ِ‬
‫رجال من األنصار‪ ،‬فقال األنصاري‪ :‬يا لألنصار‪ ،‬وقال المهاجري‪ :‬يا للمهاجرين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫رجل من المهاجرين رجاًل‬ ‫فسم َعها اهللُ رسوله !‪ ،‬قال‪> :‬ما هذا<‪ ،‬فقالوا‪ :‬كسع‬ ‫َّ‬
‫من األنصار‪ ،‬فقال األنصاري‪ :‬يا لألنصار‪ ،‬وقال المهاجري‪ :‬يا للمهاجرين‪ ،‬فقال‬
‫بي !‪> :‬دعوها فإنها منتنة<‪.‬‬ ‫الن ّ ّ‬

‫بي ! أكثر‪ ،‬ثم كثر المهاجرون بعد‪.‬‬ ‫قال جابر‪ :‬وكانت األنصار حين قدم الن ّ ّ‬
‫َ َّ‬ ‫فقال عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن أبي‪َ :‬‬
‫ليخرجن األعز منها‬ ‫أو قد فعلوا‪ ،‬واهلل لئن رجعنا إلى المدينة‬
‫َّ‬
‫األذل‪ ،‬فقال عمر‪ ‬بن الخطاب ‪ :K‬دعني يا رسول اهلل أضرب عنق هذا المنافق‪،‬‬
‫قال الن ّ ّ‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫بي !‪> :‬دعه‪ ،‬ال يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابَه<(‪.)2‬‬


‫ُ‬

‫((( رواه اإلمام أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ) 19121‬بهذا االختصار‪ ،‬وقوله !‪> :‬إن ساقي القوم‬
‫ً‬
‫آخرهم شربا< قد صح عند مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ )681‬من حديث أبي قتادة الطويل‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪) 4907‬؛ ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2584‬‬
‫‪390‬‬

‫‪ 83‬كان يسمع اإلنشاد ويستزيد منه ويكرم الشعراء ويجيزهم‪.‬‬


‫َ‬
‫بي ! قال‪> :‬إن اهلل عز وجل ليُؤيد حسان بروح القدس‪،‬‬
‫َ‬ ‫ش َة ‪ I‬أن الن ّ ّ‬
‫ْ َ َ‬
‫فعن ع ِائ‬
‫ينافح عن رسوله !<(‪.)1‬‬
‫بي ! فقال لي‪> :‬هل معك‬ ‫وعن عمرو‪ ‬بن الشريد عن أبيه قال كنت ردف الن ّ ّ‬
‫من شعر أمية‪ ‬بن أبي الصلت شيء؟< قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪> :‬هيه<‪ ،‬فأنشدته بيتا‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ً‬
‫قال‪> :‬هيه< فأنشدته بيتا‪ ،‬فلم يزل يقول هيه وأنشده حتى أنشدته مئة بيت(‪.)2‬‬

‫كان يقبل الهدية ويثيب عليها وال يأخذ الصدقة‪.‬‬ ‫‪84‬‬


‫فعن أبي هريرة قال‪> :‬كان رسول اهلل ! يقبل الهدية وال يأكل الصدقة<(‪،)3‬‬
‫َ ْ َ ُ ْ َ َّ َ َ ُ ُ َ‬ ‫َ َ َ ُ ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ََ‬
‫يب عَل ْي َها<(‪.)4‬‬ ‫سول اهلل ! يقبل اله ِدية وي ِث‬ ‫وعن عَ ِائشة ‪ I‬قالت‪> :‬كان ر‬
‫آخى بين المهاجرين واألنصار‪.‬‬ ‫‪85‬‬
‫فآخى بين المهاجرين من جهة‪ ،‬وبينهم وبين األنصار من جهة أخرى‪.‬‬
‫إذهاب الوحشة والغربة التي أصابت المهاجرين‬ ‫َ‬ ‫وكان الهدف من هذه المؤاخاة‬
‫َ‬ ‫وتأمين معيشتهم‪ ،‬وقد ّ‬ ‫َ‬
‫شرع التوارث بينهم‪ ،‬فاجتمع‬ ‫بمفارقتهم لألهل والعشيرة‪،‬‬
‫ُ‬
‫الشمل وذهبت الوحشة‪ ،‬فلما عرفوا أسباب اكتساب الرزق‪ ،‬أبطل اهلل التوارث‪،‬‬
‫َ ُ ْ ُ ْ أۡ َ ۡ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ ىَ‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬
‫ام بعضهم أول بِبع ٖض‬ ‫وبقيت األخوة في اهلل‪ ،‬وذلك بنزول قوله تعالى‪﴿ :‬وأولوا ٱلرح ِ‬
‫أ‬
‫ِيم ۢ﴾ [ال� ن���ف���ا ل‪.]75 :‬‬ ‫ك ّل يَ ۡ‬
‫ش ٍء َعل ُ‬ ‫هَّ َّ هَّ َ ُ‬ ‫َ‬
‫يِف كِتٰ ِ‬
‫ب ٱللِۚ إِن ٱلل ب ِ ِ‬

‫((( رواه اإلمام أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )24437‬وصححه شعيب األرنؤوط‪.‬‬


‫((( رواه مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2255‬‬
‫((( رواه أبو داود‪ ،‬حديث رقم (‪ )4512‬وقال عنه األلباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود‪،‬‬
‫حديث رقم (‪ :)4512‬حسن صحيح‪.‬‬
‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2585‬‬
‫‪391‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫كتابة أول وثيقة سياسية تضمن حقوق المواطنة والجوار‪.‬‬ ‫‪86‬‬


‫وهذه الوثيقة هي بمثابة دستور في عصرنا الحاضر‪ ،‬فقد تضمنت حقوق‬
‫المواطنة بين مختلف مكونات الدولة من مسلمين ويهود وغيرهم‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من مكونات الدولة‪ ،‬وما لها من حقوق وعليها من واجبات‪ ،‬مما مهد السبيل‬
‫لميالد فقه السياسة الشرعية الذي تناوله العلماء ُ بالتفصيل والتوضيح ـ على مدار‬
‫التاريخ اإلسالمي ـ ‪.‬‬

‫اهتم بإقامة المسجد أكثر من اهتمامه ببيوت نسائه‪ ،‬وجعله مكانا للعبادة‬ ‫‪87‬‬
‫بمفهومها الشامل‪.‬‬
‫وكان ذلك في أيامه األولى بالمدينة‪ ،‬وقد أسس المسجد ليكون مكانا إلقامة‬
‫ً‬
‫شعيرة الصالة‪ ،‬الركن الثاني من أركان اإلسالم‪ ،‬وليكون جامعة علمية‪ ،‬ينهل‬
‫منها طالب العلم‪ ،‬ومعقدا أللوية الجهاد‪ ،‬ومحضنا لتخريج الدعاة‪ ،‬وملجأ للفقراء‬
‫ّ‬
‫الذين ال سكن لهم‪ ،‬ومؤتمرا يأتمر فيه المؤمنون‪ ،‬لبحث مشاكلهم والتوصل إلى حلها‪.‬‬

‫أشد حياءً من العذراء في خدرها‪ ،‬وقال‪:‬‬


‫َّ‬ ‫ف بالحياء‪ ،‬حتى كان‬‫عُر َ‬ ‫‪88‬‬
‫ِ‬
‫>الحياء كله خير< ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫فنال ثمرة الحياء الكريمة‪ ،‬فكان ال يراه مواله حيث ينهاه‪ ،‬وال يفقده حيث يأمره‪،‬‬
‫ولم يكن يمنعه الحياء من قول الحق‪ ،‬وال تعليم الناس ما يحتاجونه في دينهم‪.‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫كان يالطف الناس جميعا رجاال ونساء وأطفاال‪ ،‬ويمازحهم وال يقول‬ ‫‪89‬‬
‫إال حقا‪.‬‬
‫فعن أنس‪ ‬بن مالك أن رجال من أهل البادية يقال له زاهر‪ ‬بن حرام‪ ،‬كان يهدي‬
‫َ‬ ‫إلى الن ّ ّ‬
‫بي ! الهدية فيجهزه رسول اهلل ! إذا أراد أن يخرج‪ ،‬فقال رسول اهلل !‪:‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)37‬‬


‫‪392‬‬

‫بي ! وهو يبيع متاعه‪ ،‬فاحتضنه‬ ‫>إن زاهرا بادينا ونحن حاضروه<‪ ،‬قال‪ :‬فأتاه الن ّ ّ‬
‫من خلفه والرجل ال يبصره فقال‪ :‬أرسلني من هذا؟ فالتفت إليه‪ ،‬فلما عرف أنه‬
‫بي ! جعل يلزق ظهره بصدره‪ ،‬فقال !‪> :‬من يشتري هذا العبد؟< فقال زاهر‪:‬‬ ‫الن ّ ّ‬
‫ً‬
‫تجدني يا رسول اهلل كاسدا‪ ،‬قال‪> :‬لكنك عند اهلل لست بكاسد<‪ ،‬أو قال !‪> :‬بل‬
‫ّ‬

‫أنت عند اهلل غال<(‪.)1‬‬


‫ْ َ َ‬
‫>إن كان الن َّ ِب ُّي !‬ ‫‪:‬‬
‫َُ ُ‬
‫ول‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫س‪ ‬بن َ‬
‫م‬ ‫ت أَنَ َ‬
‫َّ َّ َ َ َ ْ ُ‬
‫ع‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫اح‬ ‫ي‬ ‫الت‬ ‫بي‬
‫َ‬
‫وعن أ‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ َ ُ َ َ َّ َ َ‬
‫ُ‬
‫‪K‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ص ِغ ٍير‪ :‬يَا أبَا عُ َم ْي ٍر َما ف َعل النُّغ ْي ُر<(‪.)2‬‬ ‫ول أِلخ لي َ‬ ‫ليخ ِالطنا حتى يق‬
‫ٍ ِ‬
‫قط‪ ،‬وما‬ ‫أف ُّ‬ ‫‪ 90‬قال أنس‪ :‬خدمت رسول اهلل ! عشر سنين‪ ،‬فما قال لي ٍّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قال لشيء صنعته‪ :‬لم صنعته؟ وال لشيء تركته‪ِ :‬ل َم تركته؟ (‪.)3‬‬
‫فعن عائشة ‪ I‬قالت‪> :‬ما ضرب رسول اهلل ! خادما له وال امرأة وال ضرب‬
‫بيده شيئا قط‪ ،‬إال أن يجاهد في سبيل اهلل<(‪.)4‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ‬
‫وقال !‪> :‬اللَّ ُه َّم َمن َو ِل َى ِمن أ ْم ِر أم َِّتى ش ْيئا فشقَّ عَل ْي ِه ْم فاشق ْق عَل ْي ِه‪،‬‬
‫َ ُْ‬ ‫َ ً َ َ‬ ‫ْ‬
‫ْ َ ُ‬
‫َو َمن َو ِل َى ِمن أ ْم ِر أم َِّتى ش ْيئا ف َرف َق ِب ِه ْم ف ْارف ْق ِبه<(‪.)5‬‬
‫َ ُ‬ ‫َ ً َ َ‬ ‫ْ‬

‫((( رواه ابن حبان في صحيحه‪ ،‬حديث رقم (‪ )5790‬وقال عنه شعيب األرنؤوط‪ :‬إسناده صحيح‬
‫على شرط الشيخين ‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6129‬‬
‫((( صحيح الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪.)2015‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2328‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1828‬‬
‫‪393‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫ب شاته‪،‬‬ ‫‪ 91‬كان متواضعا‪ ،‬يأكل كما يأكل العبد‪ ،‬وكان يرقع ثوبَه‪ ،‬ويحل ُ‬
‫ِ‬
‫ويركب الحمار‪ ،‬ويكون في مهنة أهله‪ ،‬فإذا حانت الصالة وثب سريعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ٍّ‬
‫وحج على رحل رث ومع ذلك كان يقول‪> :‬اللهم حجا ال رياء فيه وال‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫سمعة<(‪.)1‬‬
‫ْ َ َ ْ ََ ُ ْ َ َْ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ا‬‫م‬ ‫إ‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫األ‬ ‫ت‬ ‫ان‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫>إ‬
‫ِ‬ ‫‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ومن مظاهر تواضعه ! ما رواه أنس ‪ K‬ق‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َََْ‬ ‫ْ َ َ ََْ ُ‬
‫خ ُذ ب َيد َر ُ‬
‫ول اهلل ! فتنط ِل ُق ِب ِه ح ْيث شاءَت<(‪. )2‬‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫الم ِدين ِة‪ ،‬لتأ ِ ِ‬
‫بي ! برجل ترعد فرائصه‪،‬‬ ‫ومنه ما رواه جرير‪ ‬بن عبد‪ ‬اهلل ‪ K‬قال‪ :‬أُتي الن ّ ّ‬
‫قال‪ :‬فقال له‪> :‬هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش‪ ،‬كانت تأكل القديد في هذه‬
‫َ‬

‫ان‬‫ء‬ ‫البطحاء< قال‪ :‬ثم تال جرير‪ ‬بن عبد‪ ‬اهلل البجلي‪َ ﴿ :‬و َما ٓ أَ َ‬
‫نت َعلَ ۡيهم جِبَ َّبار فَ َذ ّك ِۡر ب ۡٱل ُق ۡر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٖۖ‬ ‫ِ‬
‫َمن ياف َوعِي ِد﴾ [ ق�‪.)3(]50:‬‬
‫خَ َ ُ‬

‫وعن عائشة ‪ I‬قالت‪> :‬كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال‬
‫في بيوتهم<(‪. )4‬‬
‫ومن ذلك نهيه ! أن يطرى بالمدح‪ ،‬فقد قال‪> :‬ال تطروني كما أطرت‬
‫ُ‬
‫النصارى ابن مريم‪ ،‬إنما أنا عبد‪ ‬فقولوا عبد‪ ‬اهلل ورسوله<(‪.)5‬‬

‫((( راجع فتح الباري (‪ ،)163 ،162/1‬والبهيقي (‪ ،)283/7‬وابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪)2890‬‬
‫ً‬
‫ومنتخبا من هذه الكتب‪.‬‬ ‫ً‬
‫وملخصا‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫((( أخرجه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6072‬‬


‫((( أخرجه الحاكم في المستدرك (‪ ،)48 ،47/3‬وصححه األلباني في السلسلة الصحيحة‪،‬‬
‫حديث رقم (‪.)1876‬‬
‫((( رواه أحمد (‪ )25341‬والبخاري في األدب المفرد‪ ،‬حديث رقم (‪ .)539‬وصححه األلباني‬
‫في صحيح الجامع‪ ،‬حديث رقم (‪.)4937‬‬
‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3445‬‬
‫‪394‬‬

‫كان يمضي عليه الشهران‪ ،‬وال توقد في بيته نار‪ ،‬وإنما غالب قوت أهله‬ ‫‪92‬‬
‫التمر والماء‪.‬‬
‫هذا على رغم أن اهلل خيره بأن يعطيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده‪ ،‬فاختار ما‬
‫عند اهلل‪ ،‬فقد قال عن نفسه‪ ،‬وهو الصادق المصدوق‪> :‬إن عبدا خيّره اهلل بين أن‬
‫يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده<(‪.)1‬‬

‫عدله وإنصافه‪ :‬ومنه إعطاؤه مفتاح الكعبة لبني شيبة يوم الفتح‪ ،‬وكان‬ ‫‪93‬‬
‫عمه العباس طلبه منه فلم يقبل‪.‬‬‫عندهم في الجاهلية‪ ،‬مع أن َّ‬
‫ولم يكن يحابي قرابته بحقوق ال يستحقونها‪ ،‬وال بدفع عقوبة استحقوها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َ ْ ََ ُ‬
‫وميَّ ِة ال ِتي َس َرقت فقالوا‪َ :‬و َمن‬
‫َّ‬ ‫شأْ ُن ْال َم ْرأَة ْال َم ْخ ُ‬
‫ز‬
‫َ َّ ُ َ ْ ً َ َ َّ ُ ْ َ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫أ‬
‫َ ْ َ ََ‬
‫ة‬ ‫فعن ع ِائش‬
‫َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ي ُ َك ِّل ُم ف َيها َرسول اهلل !؟ فقالوا‪ :‬ومن يَجترئ عليه إال أسامة‪ ‬بن زيد ح ُّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪I‬‬
‫ُ‬ ‫ب َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ول‬
‫ُ ِ‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ َ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ول اهلل !‪> :‬أتَ ْش َف ُع في َح ٍّد م ْن ُح ُدود اهلل<‪ ،‬ثمَّ‬ ‫َ َ َّ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ َ َ ُ ُ‬
‫اهلل !‪ ،‬فكلمه أسامة‪ ،‬فقال رس‬
‫َ َ َ ْ َ َ َ ُ َّ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َق ْب َل ُك ْم أَنَّ ُه ْم َكانُوا إ َذا َس َر َق فيه ُم ال َّشريفُ‬ ‫ال‪> :‬إنَّ َما أ َ ْه َل َك ا َّلذ َ‬ ‫قام فاختطب‪ ،‬ثم ق‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫اط َمة ِبنت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وه‪َ ،‬وإ َذا َس َر َق ف ُ‬ ‫تَ َر ُك ُ‬
‫يهم الضَّ ِعيف أقاموا علي ِه الح َّد‪ ،‬وايم اهلل لو أ َّن ف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ََِ ْ َ‬
‫ُمح َّم ٍد سرقت لقطعت يدها< ‪.‬‬
‫َ َ ْ ُ َ َ َ (‪)2‬‬ ‫َ‬
‫ض ُع ربَانَا‪ ،‬ربَا عَ‬ ‫وع‪ ،‬وأ َ َّو ُل ربًا أ َ َ‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫ْوقال !‪> :‬و ِربا ال ِ ُِ ِ‬
‫َْ ُ ٌ‬
‫اس‪ ‬بن‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫ل‬‫اه‬ ‫ج‬
‫ب‪ ،‬ف ِإنَّ ُه َم ْوضوع كلُّ ُه<(‪.)3‬‬
‫ُ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫عبد‪ ‬الم َّط ِل ِ‬
‫منورة بنور‬ ‫‪ 94‬لما قدم المدينة المنورة أضاء منها كلُّ شيء‪ ،‬فهي لذلك َّ‬
‫اهلل‪ ،‬فصلى اهلل عليه وعلى آله وسلم‪ ،‬وجزاه عن أمته خير الجزاء‪.‬‬
‫ْ َ ََ َ َ ْ‬ ‫َ ْ ََ َ َ َ َ َ ْ ُ‬
‫س قال‪> :‬ل َّما كان ال َي ْوم ا َّل ِذي ق ِد َم ِف‬ ‫عن أن‬
‫َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ضاءَ ِمن َها‬ ‫سول اهلل ! الم ِدينة أ‬ ‫يه ر‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫َ َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫يه‪ ،‬أظل َم ِمن َها كلُّ ش ْي ٍء‪َ ،‬وقال‪َ :‬ما نفضنَا‬ ‫ف‬
‫ِ ِ‬ ‫ات‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ذ‬‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬‫ي‬ ‫ال‬ ‫ان‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫َّ‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ش ٍْ‬
‫ء‬ ‫ي‬ ‫كلُّ‬

‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪. )3475‬‬ ‫ ‬


‫(‪.)3904‬‬ ‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم‬

‫((( رواه مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1218‬‬


‫‪395‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫َ َْ َ َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ول اهلل ! األيْ ِدي ح َّتى أنك ْرنا قلوبَنَا<(‪.)1‬‬ ‫َ ْ َ ُ‬
‫عن رس ِ‬
‫ً‬
‫انتهاجه مبدأ التدرج في األحكام‪ ،‬مراعاة للظروف واألحوال‪ ،‬من ذلك‬
‫َ ُ‬
‫‪95‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫األصنام المقامة حول الكعبة‪ ،‬وعدم إزالتها حتى فتحت مكة‬ ‫ت ْركه‬
‫المكرمة‪.‬‬
‫وبذلك أرسى قاعدة عظيمة من قواعد تغيير المنكر‪ ،‬حيث يشترط الشرع‬
‫ُ‬
‫أعظم منه‪ ،‬فإن ترتب عليه منكر أعظم منه‪،‬‬ ‫لتغييره أن ال يترتب عليه منكر‬
‫كان تغييره منكرا‪ ،‬وهي قاعدة لو أخذ بها المستعجلون لقضت على كثير‬
‫من مظاهر التطرف والغلو‪.‬‬

‫‪ 96‬اشتغاله ببعض المهن لكسب قوته كرعيِ الغنم والتجارة‪.‬‬


‫ُّ‬
‫ن‪ ،‬فإن بعض الناس يرى أن ثمت‬ ‫فقطع بذلك السبيل على الفهم السقيم للتدي ِ‬
‫تناقضا بين العمل للحياة الدنيا‪ ،‬والعمل لآلخرة‪ ،‬يلخص هذين المبدأين في قوله‬
‫َ َ اَ َ َ َ َ َ َ ُّ ۡ َ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬و ۡٱب َتغِ فِيما ءاتى‬
‫َ َٓ‬ ‫ك هَّ ُ‬‫َٓ َ َٰ َ‬
‫ٱدلن َياۖ َوأ ۡحسِن كما‬ ‫ٱلل َّ‬
‫ٱدل َار ٱٓأۡلخ َِرة ۖ ول تنس ن ِصيبك مِن‬
‫أۡ َ‬ ‫َ ۡ َ َ هَّ ُ يَ ۡ َ َ اَ َ ۡ ۡ َ َ َ‬
‫ِين﴾ [ا �ل��ق�����ص���ص‪.]77 :‬‬
‫َّ هَّ َ اَ حُ ُّ ۡ ۡ‬
‫سد َ‬ ‫ِب ٱل ُمف ِ‬ ‫لك ۖ ول تبغِ ٱلفساد يِف ٱل ِ ۖ‬
‫ۡرض إِن ٱلل ل ي‬ ‫أحسن ٱلل إ ِ‬

‫حكمته في الدعوة ومراعاة أحوال المدعوين حسب القوة والضعف‪،‬‬ ‫‪97‬‬


‫اليد‬
‫ِ‬ ‫كف‬
‫ِّ‬ ‫والتدرج من الدعوة السرية إلى الدعوة الجهرية‪ ،‬مع‬
‫عن القتال‪ ،‬ثم الدعوة جهرا مع قتال من قاتل‪ ،‬ثم الدعوة ً‬
‫جهرا مع قتال‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫كل من يقف في وجه الدعوة‪.‬‬


‫وبذلك حصن دعوته من التهور‪ ،‬والفوضوية‪ ،‬باعتماد التخطيط والتدرج‪،‬‬
‫مما قطع السبيل على أصحاب االستعجال الذين يريدون َق ْط َ‬
‫ف الثمرة قبل نضجها‪،‬‬

‫((( رواه أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )13830‬وعلق شعيب األرنؤوط‪ < :‬إسناده قوي على شرط مسلم‬
‫رجاله ثقات رجال الشيخين غير جعفر‪ ‬بن سليمان ‪ -‬وهو الضبعي ‪ -‬فمن رجال مسلم >‪.‬‬
‫‪396‬‬

‫وحري بالدعاة إلى اهلل أن يُخضعوا دعوتهم‬


‫ٌّ‬ ‫َ‬
‫وتحقيق التمكين بين عشية وضحاها‪،‬‬
‫الصراط المستقيم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لهذا المنهج القويم‪ ،‬وهذا‬
‫َ‬
‫‪ 98‬ثقته المطلقة بنجاح دعوته‪ ،‬حتى وهو في أصعب الظروف وأحل ِكها‪،‬‬
‫بس َو َاري كسرى‪ ،‬وهو من كان يسعى للقبض عليه‬ ‫فقد وعد سراقة ِ‬
‫وتسليمه للمشركين‪ ،‬ووعد الصحابة بفتح مدائن فارس‪ ،‬وهم‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫محاصرون في معركة الخندق ‪.‬‬
‫فقد قال تعالى‪ِ﴿ :‬إَوذ يقول ٱلمنٰ ِفقون وٱل‬
‫ٱلل َو َر ُس هُ ُ‬
‫ض َّما َو َع َدنَا هَّ ُ‬
‫َّ َ ‪ٞ‬‬ ‫ۡ َ ُ ُ ۡ ُ َ ُ َ َ ذَّ َ ُ ُ‬
‫ول ٓۥ‬ ‫ِين يِف قلوب ِ ِهم مر‬
‫أ‬
‫ورا﴾ [ال� �ح�ز ا �‪.]12:‬‬
‫ب‬
‫إ اَّل ُغ ُر ٗ‬
‫ِ‬
‫وعن البراء‪ ‬بن عازب قال‪> :‬لما كان حين أمرنا رسول اهلل ! بحفر الخندق‬
‫عرضت لنا في بعض الخندق صخرة ال تأخذ فيها المعاول‪ ،‬فاشتكينا ذلك‬
‫ُُ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫إلى الن ّ ّ‬
‫الم ْع َول‪ ،‬فقال‪ :‬بسم اهلل‪ ،‬فضرب ضربة فك َسر ثلث‬‫فأخذ ِ‬ ‫بي !‪ ،‬فجاء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫الحج ِر‪ ،‬وقال‪ :‬اهلل أكبر أ ِ‬
‫ُ‬
‫عطيت مفاتيح الشام‪ ،‬واهلل إني ألبصر قصورها الحمر‬
‫َ‬
‫الساعة‪ ،‬ثم ضرب الثانية‪ ،‬فقطع الثلث اآلخ َر‪ ،‬فقال‪ :‬اهلل أكبر‪ ،‬أعطيت مفاتيح‬
‫أبيض‪ ،‬ثم ضرب الثالثة‪ ،‬وقال‪ :‬بسم اهلل‪،‬‬‫َ‬ ‫َ‬
‫قصر المدائن‬ ‫فارس‪ ،‬واهلل إني ألبصر‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫أبواب‬ ‫فقطع بقية الحجر فقال‪ :‬اهلل أكبر أعطيت مفاتيح اليمن‪ ،‬واهلل إني ألبصر‬
‫صنعاءَ من مكاني هذا<(‪ .)1‬‬
‫‪ 99‬كان شديد الوفاء بالعهد‪ ،‬ظل في مكان ينتظر أعرابيا يوما‪ ،‬وبقي َ‬
‫أكثر‬
‫من ذلك حتى جاءه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُْ‬
‫ف الوعد‪ ،‬وجعله عالمة من عالمات النفاق‪،‬‬ ‫ولم ال؟ وهو الذي حذر من خ ِ‬
‫ل‬
‫فقد قال !‪> :‬أربع خالل من َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حدث كذب‪ ،‬وإذا‬ ‫خالصا‪ :‬إذا َّ‬ ‫كن فيه كان منافقا‬
‫وعد أخلف‪ ،‬وإذا عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر‪ ،‬ومن كان فيه خصلة منهن كانت‬

‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)18694‬‬


‫‪397‬‬ ‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬ ‫الفصل الخامس‬

‫فيه خصلة من النفاق حتى يدعها<(‪.)1‬‬


‫َ‬
‫أمر نهى عنه ‪.‬‬
‫فما كان له ! أن يخالف إلى ٍ‬
‫ََٓ ُ ُ َۡ‬
‫يد أن‬ ‫على لسان أخيه شعيب عليه السالم‪﴿ :‬وما أرِ‬ ‫وهو الذي يقرأ قول اهلل‬
‫هَّ َ َۡ‬ ‫اَّ‬
‫ٓ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ۡ َٰ َ ۡ ََ ۡ ُ ََ َ‬ ‫إۡ‬ ‫اَّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َ ُ ۡ ىَ ٰ َ ٓ َ ۡ َ ٰ ُ ۡ َ ۡ ُ ۡ‬
‫ِيق إِل بِٱللِۚ عليهِ‬‫ت وما توف يِ‬
‫ٱلصلح ما ٱستطع ۚ‬‫ل ما أنهىكم عن ۚه إِن أرِيد إِل ِ‬ ‫أخال ِفكم إ ِ‬
‫ُ‬
‫ِيب﴾ [�هود‪.]80 :‬‬ ‫تَ َو لَّكۡ ُ‬
‫ت يَ ۡ‬
‫ِإَولهِ أن ُ‬

‫‪ 100‬وكان يعمل مع أصحابه كواحد منهم‪ ،‬كما فعل في بناء المسجد(‪،)2‬‬


‫علي‬
‫وفي بعض أسفاره ذبحوا شاة وأمر بإصالحها‪ ،‬فقال أحدهم‪َّ :‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫علي‬
‫علي طبخها‪ ،‬فقال !‪َّ :‬‬‫علي سلخها‪ ،‬وقال اآلخر‪َّ :‬‬ ‫ذبحها‪ ،‬وقال اآلخر‪َّ :‬‬
‫َج ْم ُع الحطب‪ ،‬فقالوا‪ :‬نكفيك‪ ،‬فقال‪ :‬قد علمت أنكم تكفوني‪ ،‬ولكني أكره أن‬
‫أتميز عليكم‪ ..‬وقام وجمع الحطب(‪.)3‬‬
‫ُ‬
‫فأين هذا الخلق العظيم من سلوك بعض الناس إذا كانت له مسؤولية أو منصب‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫يبذل جهده إلحاطة نفسه باألبَّهة‪ ،‬ويبتعد كل البعد عن مساعدة َمن تولى عليهم‬
‫بل ربما يكلفهم ما ال يطيقون‪.‬‬
‫خصائص المصطفى ‪ Z‬وشمائله‬

‫((( رواه البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪)3878‬؛ ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)58‬‬
‫((( انظر صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)428‬‬
‫ً‬
‫صحابيا للدكتور راتب النابلسي‪.‬‬ ‫((( انظر‪ :‬سيرة خمسين‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪463‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الطب وعلوم الحياة‬


‫‪1‬‬
‫اإلميان نزوع فطري‬

‫ََ ۡ َ ۡ َ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬فأق ِم وجه‬
‫َ اَ َ َ‬ ‫ٱللِ َّٱلت َف َط َر ٱنلَّ َ‬ ‫َ ٗ ۡ َ َ هَّ‬
‫اس َعل ۡي َها ۚ ل ت ۡبدِيل‬ ‫يِ‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫ِط‬ ‫ف‬ ‫ۚ‬ ‫ا‬ ‫ِيف‬ ‫ن‬ ‫ح‬ ‫ِين‬
‫َِ‬
‫كل ّ‬
‫ِدل‬
‫اس ل َي ۡعل ُمون﴾ [ا �لرو�م‪.]30 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫ك َ‬‫رَ‬ ‫َ ۡ هَّ َ ٰ َ ّ ُ ۡ َ ّ ُ َ ٰ َّ ۡ‬
‫َ‬
‫ث ٱنلَّ ِ‬ ‫كن أ‬ ‫خِلل ِق ٱللِۚ ذل ِك ٱدلِين ٱلقيِم ول ِ‬
‫َ‬
‫وب‬
‫ۡ هَّ‬
‫ٱللِ َت ۡط َمئ ُّن ۡٱل ُقلُ ُ‬ ‫ۡ هَّ اَ‬
‫وب ُهم بِذِك ِر ٱللِۗ أل بِذِك ِر‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬ذَّٱل َ‬
‫ِين َء َام ُنوا ْ َو َت ۡط َمئ ُّن قُلُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب﴾ [ا �لرع�د‪.]29-28 :‬‬ ‫ٔ‬ ‫ذَّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َّ ٰ َ ٰ ُ ىَ َ ُ ۡ َ ُ ۡ ُ ََ‬
‫وب لهم وحسن ٖ‬
‫م‬ ‫تط ٰ‬ ‫‪ ٢٨‬ٱلِين ءامنوا وع ِملوا ٱلصل ِح ِ‬
‫َ ََۡ ۡ ۡ‬
‫ون ‪َ ٢‬و ذَّٱل َ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬ق ۡد أفل َح ٱل ُمؤم ُِنون ‪ ١‬ٱل‬
‫َ اَ ۡ َ ٰ ُ َ‬ ‫ذَّ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ِين‬ ‫ِين ه ۡم يِف صلت ِ ِهم خشِ ع‬
‫ِين ُه ۡم ل ِف ُرو ِج ِه ۡم َحٰفِ ُظون﴾‬ ‫ون ‪َ ٤‬و ذَّٱل َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ذَّ َ ُ ۡ َّ َ ٰ َ ٰ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ ۡ‬ ‫ُ‬
‫ه ۡم َع ِن ٱللغوِ ُم ۡعرِضون ‪ ٣‬وٱلِين هم ل ِلزكوة ِ فعِل‬
‫[ا �ل���م�ؤ�م��نو ن�‪� 1 :‬ـ ‪.]5‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫مقارنة بني نشاط املخ قبل الصالة وأثناءها‬


‫‪464‬‬

‫الداللة الشرعية‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫والنفس البشرية مفطورة‬ ‫اإلسالم دين الفطرة‪،‬‬ ‫تشير اآليات الكريمة إلى أن‬
‫َ‬
‫القلوب تركن إلى جانب اهلل‪ ،‬وتسكن عند ذكره‪ ،‬وأن الذين‬ ‫على اإليمان‪ ،‬وأن‬
‫آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب‪ ،‬كما جاء في اآلية ‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫لقد أصبح االستغراق في العبادة مجاال للدراسات العلمية‪ ،‬ولم يعد اإليمان‬
‫باهلل تعالى في الدراسات العلمية ضربا من الفلسفات والتصورات الشخصية‪،‬‬
‫كما كان يعتقد البعض سابقا‪ ،‬وقد أكدت البحوث العلمية مؤخرا‪ :‬أن اإليمان باهلل‬
‫ٌ‬
‫تعالى نزوع فطري‪ ،‬وال يمكن تجاه نداء الفطرة‪ ،‬وأن في أداء العبادات على وجهها‬
‫الصحيح شفاءٌ الضطراب النفس البشرية‪.‬‬
‫وخالصة األبحاث التي أجريت على المخ بتقنية جديدة ألشعة إكس‪ ،‬ونشرت‬
‫فريق علمي‪ ،‬على رأسه البروفيسور أندرو نيوبيرج‬‫ٌ‬ ‫في أبريل عام ‪ ،2001‬وقام بها‬
‫‪ ،Andrew Newberg‬أستاذ علم األشعة ‪ Radiology‬بكلية الطب بجامعة‬
‫بنسلفانيا‪ ،‬في فيالدلفيا بالواليات المتحدة األمريكية هي أن اإليمان باهلل مقصد‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫التخلص‬ ‫مصمم داخليا ‪ Built-in Design‬في مخ البشر؛ بحيث ال يمكن ألحد‬
‫تعام ًيا‪.‬‬
‫منه إال ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫صوره هو استعداد‬ ‫ووفق ما أعلنه البروفيسور نيوبيرج‪ :‬أن التدين مهما اختلفت‬
‫فطري‪ ،‬مركوز داخل المخ الذي يمكن وصفه طبقا لما أثبتته التجارب‪ ،‬بأنه مهيأ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫تخبرنا كيف أعد‬ ‫بالقوة للتدين ‪ ،Hard-wired for Religion‬والتجربة العملية‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اهلل تعالى اإلنسان لكي يعرفه‪ ،‬وت ْع ِل ُمنَا أن الدين مطلب طبيعي لإلنسان‪ ،‬يماثل‬
‫الطعام والشراب ‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪465‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬
‫وبهذا نزداد يقينا في وجود اهلل تعالى وقدرته؛ وإال فال فائدة من الملكات‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الخشوع أداءَ‬ ‫صاحب‬ ‫الممنوحة لإلنسان‪ ،‬والتي ميَّزته عن العجماوات‪ ،‬وإذا‬
‫َ‬
‫العبادات فستصبح ذات تأثير فعال نافع للبدن والنفس‪ ،‬يمكن قياس تأثيره معمليا‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق يقول نيوبيرج‪ < :‬لقد اكتشفت الدراسات النفسية الدينية ثراءَ‬
‫الدين بأرقى األساليب العلمية لبلوغ التوازن النفسي >‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقال البروفيسور لورنس ميكيني عميد المؤسسة األمريكية لعالج االضطرابات‬
‫الذهنية‪ < :‬إن ممارسة التأمل العميق؛ باعتباره صورة من صور الخشوع‪ ،‬قد يساعد‬
‫َ‬
‫في حد ذاته على التغلب على الشعور باأللم النفسي واإلحباط‪ ،‬ويعيد التوازن‬
‫في توزيع النشاط في مراكز المخ‪ ،‬ويفرغ شحناتِ الشعور بالتعاسة واأللم وفقدان‬
‫األمل؛ حتى عند غير المؤمنين >‪.‬‬
‫وقد بدأت الدراسات النفسية الدينية في الستينيات من القرن الماضي‪ ،‬وفي‬
‫عام ‪ 1980‬أطلق ميكيني ومساعدوه على تلك الدراسات مصطلح الدراسات‬
‫النفسية الدينية ‪ ،Neuro-theology‬وأخرج عام ‪1994‬م كتابَه بنفس االسم‪،‬‬
‫ويقدم هذا العلم تأييده التام للحقيقة الجوهرية في الدين وهي اإليمان باهلل تعالى‪.‬‬
‫ً‬
‫قال ميكيني‪ < :‬ويكفي أننا قد أوجدنا طرقا عملية لقياس األنشطة الفكرية‪،‬‬
‫ً‬
‫نشاطا فكريًا َ‬ ‫ُ‬
‫غير قابل‬ ‫ولم يعد اإليمان باهلل تعالى والمشاعر الدينية خالل العبادة‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ‬
‫التصوير بالرنين المغناطيسي ‪MRI‬‬ ‫للتجربة واإلثبات‪ ،‬ومن تلك التقنيات الجديدة‬
‫‪ ،Magnetic Resonance Imaging‬التي أكدت نتائج نيوبيرج بالفعل >‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقال البروفيسور بليتريني من جامعة بيزا في إيطاليا‪ < :‬إن كل شيء نفعله‬
‫أو نستشعره ـ سواء كان يسيرا كحركة إصبع أو معقدا‪ ،‬كاالنفعاالت العاطفية‪،‬‬
‫الظاهرة منها أوالكامنة في أغوار النفس ـ صار باإلمكان رسمه على شكل خريطة‪،‬‬
‫ُ‬
‫تظهر األماكن المتأثرة بالمخ‪ ،‬ويصاحب كل شعور نموذج محدد‪ ،‬يمكن تسجيله‬
‫وتحليله‪ ،‬كالتحاليل الطبية العضوية تماما‪.‬‬
‫‪466‬‬

‫َ‬
‫عواطف‬ ‫وهذا اجملال الجديد الستطالع أغوار اإلنسان‪ ،‬وما في باطنه من‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ساحر حقا‪ ،‬ويدخل فيه الباحثون‬ ‫وأفكار‪ ،‬ومدى تأثره باالعتقاد الديني‬
‫ٍ‬ ‫ومشاعر‬
‫اليوم بحذر شديد‪ ،‬حريصين على المنهج العلمي في البحث والتحليل‪ ،‬كبقية‬
‫مجاالت العلوم التجريبية > ‪.‬‬
‫وقال البروفيسور مايكل ماكلوف من جامعة داالس بالواليات المتحدة األمريكية‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫< يتأثر الوجدان النفسي بالعالم الخارجي‪ ،‬ويؤثر في الجسد العضوي‪ ،‬ويمثل اإليمان‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أمان لتلك التأثيرات الطبيعية >‪ ،‬وقد أفضت دراسته إلى أن الطبيعة‬
‫صمام ٍ‬ ‫والعبادات‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫االضطراب ‪.‬‬ ‫العبادات في توازن تام وتقيها‬ ‫البشرية مصممة بحيث تحفظها‬
‫ً‬
‫وفي تحليل شمل ‪ 42‬دراسة ميدانية واسعة‪ ،‬وجد البروفيسور ماكلوف‪:‬‬
‫أن معدل الوفيات يقل باالستغراق في الصلوات وبقية العبادات‪ ،‬وهذا التأثير‬
‫َ‬
‫مستقل عن عوامل أخرى مضرة بالصحة‪ ،‬كتناول الخمور والتدخين ‪.‬‬
‫ُ ْ‬
‫ولم يَفت البروفيسور نيوبيرج أن يعلق على تلك النتيجة بقوله‪ < :‬نحن ال ندري‬
‫حتى اآلن على وجه اليقين كيف يؤدي اإليمان العميق واالستغراق في العبادة‬
‫ومكافحة المرض‪ ،‬وتعطيل‬ ‫ِ‬ ‫وصحة البدن‪،‬‬
‫ِ‬ ‫إلى الحفاظ على سالمة النفس‪،‬‬
‫اإلسراع في عمل اآلليات الداخلية للموت‪ ،‬ولكن معرفتنا آلليات عمل الجسم؛‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تؤهلنا ّ‬ ‫ً‬
‫بحياد وجود‬
‫ٍ‬ ‫ما‬ ‫يوما‬ ‫لنثبت‬ ‫البحث؛‬ ‫من‬ ‫جديدة‬ ‫آفاق‬
‫ٍ‬ ‫س‬ ‫لتلم‬ ‫المخ‪،‬‬ ‫خاصة‬
‫عدد ضربات القلب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تأثيراتٍ عضوية لإليمان والعبادة‪ ،‬وندرك منها اليوم نقص‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫العصبي لتحقيق حالة‬ ‫كما ونوعًا‪ ،‬والميل‬
‫وتغير الهورمونات ًّ‬
‫َ‬ ‫وضغط الدم‪،‬‬
‫ِ‬
‫من الهدوء؛ نتيجة الخشوعِ واالستغراق‪ ،‬وقد تؤدي تلك العوامل وغيرها إلى‬
‫تنشيط جهاز المناعة >‪.‬‬
‫النتيجة‪:‬‬
‫ُ‬
‫يكتشف َ‬ ‫َ‬
‫آثار اإليمان بهذا الدين‬ ‫إن البحث العلمي اجملرد المحايد سيظل‬
‫العظيم‪ ،‬والعمل بمقتضاه على صحة اإلنسان النفسية والجسدية‪ ،‬وتزداد كلما‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪467‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫رسخت ُ‬
‫قدمه في العمل بهذا الدين‪ ،‬وصدق اهللُ القائل‪:‬‬
‫هَّ َ اَ‬
‫وب﴾‬ ‫‪ ﴿P P‬ذَّٱل َ‬
‫ٱللِ َت ۡط َمئ ُّن ۡٱل ُقلُ ُ‬
‫هَّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ِين َء َام ُنوا ْ َو َت ۡط َمئ ُّن قُلُ ُ‬
‫وب ُ‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِك‬
‫ِ ِ‬ ‫ذ‬‫ب‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ۗ‬‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫ر‬ ‫ِك‬
‫ِ ِ‬ ‫ذ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫[ا �لرع�د‪.]28 :‬‬
‫ۡ‬
‫‪﴿P P‬قال ِ‬
‫ُٗ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪َ ٞ‬‬ ‫ُ ُ‬ ‫ٱهب َطا م ِۡن َها مَج َ‬ ‫َ َ ۡ‬
‫ِيعۢا ۖ َب ۡعضك ۡم لبِ َ ۡع ٍض َع ُد ّو ۖ فإ ِ َّما يَأت َِي َّنكم ّم ّيِِن هدى ف َم ِن‬
‫َ ٗ َ اٗ‬ ‫َ َّ هَ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ۡ َ‬ ‫اَ‬
‫ض ُّل َول ي َ ۡش ىَ ٰ‬ ‫َّٱت َب َع ُه َد َ َ اَ َ‬
‫ق ‪َ ١٢٣‬و َم ۡن أع َرض َعن ذِك ِري فإِن ُلۥ َمعِيشة ضنك‬ ‫اي فل ي ِ‬
‫َ‬
‫م﴾ [ط�ه‪� 123 :‬ـ ‪.]124‬‬ ‫َ حَ ۡ‬
‫ۡ‬
‫شهُۥ يَ ۡو َم ٱلقِ َيٰ َمةِ أ ۡع ىَ ٰ‬
‫ن رُ ُ‬ ‫و‬

‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬


‫نشرت دراسات علمية عدة مفادها‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫طريق‬ ‫مغروس داخل النفس البشرية‪ ،‬وأن توظيفه‬ ‫أن اإليمان باهلل تعالى‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫إلى الصحة والسعادة؛ منها كتاب‪:‬‬


‫>اإليمان باهلل مغروس بقوة داخل جيناتنا< لديان همر‪ ،‬وكتاب >اإليمان‬
‫والصحة< لجيف ليفن والري دوسي‪ ،‬و>اإليمان صحة وفالح< ألندرو بريمان‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪469‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫النحـــــل‬
‫َ َ ۡ ىَ َ ُّ َ ىَ َّ ۡ َ خَّ‬
‫ج ِر َوم َِّما‬
‫َ جۡ َ ُ ُ ٗ َ َ َّ‬
‫ٱلش َ‬ ‫ٱلبا ِل بيوتا ومِن‬ ‫ِ‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ِي‬‫ذ‬ ‫ح ربك إِل ٱنلح ِل أ ِن ِ‬
‫ٱت‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وأو ٰ‬
‫ش ‪ٞ‬‬ ‫ي ُر ُج ِم ۢن ُب ُطون َِها رَ َ‬ ‫اٗ‬
‫ُ ُ َ َ ّ ُ ُ خَ ۡ‬ ‫لُ ّ َّ َ َ َ ۡ ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َۡ ُ َ‬
‫اب‬ ‫ك ذلل ۚ‬ ‫ت فٱسل يِك سبل رب ِ ِ‬ ‫ك ٱثلمر ٰ ِ‬ ‫يع ِرشون َ ‪ ٦٨‬ثم لُيِك مِن ِ‬
‫اس إِن يِف ذٰل َِك ٓأَليَة ل ِق ۡو ٖم َي َتفك ُرون﴾ [ا �ل��ن���ح�ل‪. ]69-68 :‬‬ ‫خُّ ۡ َ ٌ ۡ َ ُ ُ‬
‫َ َّ َ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٓ ‪َّ ّ ٞ‬‬
‫متل ِف ألوٰنهۥ فِيهِ شِفاء ل ِلن ِ ۚ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫لقد بيّن القرآن الكريم سيرة النحل في كلماتٍ معدوداتٍ‪ ،‬فباإليحاء من المدبّر‬
‫ُ ً‬
‫الحكيم اتخذ النحل بيوتا من الجبال‪ ،‬ثم انحدر منها إلى األشجار‪ ،‬ثم إلى الخاليا‬
‫ُ‬
‫نعرفه اليوم‪.‬‬ ‫الناس على نحو ما‬ ‫ُ‬ ‫التي صنعها له‬
‫الدراسات العلمية المستفيضة لمملكة النحل‪ :‬أن إلهام اهلل تعالى‬ ‫ُ‬ ‫وتدل‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫آالف األمتار‪ ،‬ثم ترجع‬ ‫لها يجعلها تطير بحثا عن الغذاء‪ ،‬فتبتعد عن خليتها‬
‫ً‬
‫إليها ثانية دون أن تخطئها بالذهاب إلى خلية أخرى غيرها‪ ،‬علما بأن الخاليا‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعضها إلى جوار بعض‪ ،‬وذلك؛ ألن اهلل‬ ‫في المناحل تكون متشابهة ومرصوصة‬
‫ّ‬
‫تعالى قد ذلل لها الطريق ومنحها من قدرات التكيف الوظيفي والسلوكي ما يعينها‬
‫ْ‬
‫على استكشاف الغذاء وجن ِيه ثم العودة إلى الخلية‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫‪470‬‬

‫احلقائق العلمية‪:‬‬
‫َ‬
‫وبضع مئات من الذكور‪ ،‬وعشراتِ األلوف‬ ‫كة واحدة‪،‬‬‫مل ٍ‬
‫تضم خلية النحل ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫من الشغاالت‪ ،‬تبحث النحالت الشغالة عن الغذاء‪ ،‬فإذا وجدته إحداها عينت‬
‫مكانه وقامت بإخطار رفيقاتها بمصدر الغذاء‪ ،‬عن طريق حركات معينة؛ فيسعى‬
‫النحل إليه مباشرة ويجمع ما يكفيه منه‪.‬‬
‫ولجمع مائة جرام من العسل‪ ،‬تحتاج الشغاالت إلى امتصاص رحيق‬
‫نحو مليون زهرة‪.‬‬
‫آخر من الشغاالت‬ ‫ٌ‬
‫فريق ُ‬ ‫بعد إفراز العسل وإفراغه في العيون السداسية يقوم‬
‫بتخليصه من الرطوبة بواسطة تحريك أجنحتها‪ ،‬ثم يقوم فريق ُ‬
‫آخر بختم العيون‬
‫َّ‬
‫السداسية التي تحتوي على العسل‪ ،‬بطبقة رقيقة من الشمع حتى يظل نظيفا؛‬
‫ُ‬
‫ليستهلك منه ما يحتاجه في الشتاء حينما تخلو الحقول من األزهار‪.‬‬
‫وقد ثبت أن لون العسل يتأثر بما يرعاه النحل‪ ،‬فالعسل الناتج من رحيق أزهار‬
‫َ‬ ‫القطن مثاًل يكون ً‬
‫قاتما‪ ،‬بخالف عسل أزهار البرسيم يكون فاتح اللون‪ ،‬وعسل‬
‫شجر التفاح يميل إلى اللون األصفر الباهت‪ ،‬وعسل التوت األسود يغلب عليه‬
‫ُ‬
‫اللون األبيض الشفاف‪ ،‬وعسل أزهار النعناع العطري لونه عنبري‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫حواس قوية‪ِّ ،‬‬
‫تيسر لها الوصول إلى غذائها؛ فحاسة‬ ‫وقد جعل اهلل للنحلة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫الشم الموجودة في قرني االستشعار لديها يمكنانها من تذوق رحيق األزهار‪،‬‬
‫ومعرفة مقدار حالوته‪.‬‬
‫ُ‬
‫وعيونها تمتاز على عيون البشر برؤية األشعة فوق البنفسجية التي ال يراها‬
‫البشر إال بأجهزة رؤية خاصة‪.‬‬
‫َّ‬
‫تعتمد النحلة على حاستي النظر والشم معا‪ ،‬للعودة إلى بيوتها‪ ،‬فتتعرف على‬
‫ّ‬
‫الخلية برائحتها المميزة‪ ،‬وتذكرها حاسة اإلبصار بمعالم الطريق الذي حددته عند‬
‫انطالقها من الخلية‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪471‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وللنحل لغة يتفاهم بها‪،‬عبارة عن حركات راقصة من خاللها يستطيع تحديد‬


‫ً‬
‫مكان الرحيق وبُ ْعده عن الخلية تحديدا دقيقا‪ ،‬وذلك حسب عدد الحركات الراقصة‬
‫واتجاهها وزاويتها بالنسبة للشمس ‪.‬‬
‫وقد شرح هذه الحركات الراقصة عالم ألماني ضمن كتابه المسمى >حياة‬
‫النحل الراقص< بعد دراسات استمرت نحوا من عام‪ ،‬وقد نال بهذا الكتاب جائزة‬
‫نوبل عام ‪1973‬م‪.‬‬
‫َ َ ۡ ىَ َ ُّ َ ىَ َّ ۡ َ خَّ‬
‫وفي قول اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬وأو ٰ‬
‫ٗ‬ ‫َ جۡ‬
‫ٱل َبا ِل ُب ُيوتا‬
‫ِ‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ِي‬‫ذ‬ ‫ِ‬ ‫ٱت‬ ‫ح ربك إِل ٱنلح ِل أ ِن‬
‫ُ ُ َ َ ّ ُ ُ اٗ خَ ۡ‬ ‫لُ ّ َّ َ َ َ ۡ ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ َ َّ َ َ َّ َ ۡ ُ َ‬
‫ك ذلل ۚ ي ُر ُج‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ت فٱسل يِك سبل رب ِ ِ‬ ‫ك ٱثلمر ٰ ِ‬ ‫ومِن ٱلشج ِر ومِما يع ِرشون َ ‪ ٦٨‬ثم لُيِك مِن ِ‬
‫اس إِن يِف ذٰل َِك ٓأَليَة ل ِق ۡو ٖم َي َتفك ُرون﴾‬ ‫ُ ُ َ رَ َ ‪ ٞ‬خُّ ۡ َ ٌ ۡ َ ُ ُ‬
‫َ َّ َ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٓ ‪َّ ّ ٞ‬‬
‫ِم ۢن بطون ِها شاب متل ِف ألوٰنهۥ فِيهِ شِفاء ل ِلن ِ ۚ‬
‫[ا �ل��ن���ح�ل‪.]69-68 :‬‬
‫َ‬
‫وفي ذلك تنبيه إلى إلهام المدبِّر الحكيم النحل بأن تتخذ من الجبال والشجر‬
‫بيوتا تأوي إليها‪ ،‬ومما يبني لها الناس مأوى وبيوتا‪ ،‬ثم إلهامها أن تأكل من كل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الثمرات واتباع طرق ربها في طلب المرعى الذي سخره لها؛ ليخرج من بطونها‬
‫عسل مختلف ألوانه فيه شفاء للناس من األوجاع واألسقام‪.‬‬
‫والعرب تطلق اإليحاء‪ :‬على اإلعالم بالشيء خفية‪.‬‬
‫‪472‬‬

‫يقول ابن عاشور في (التحرير والتنوير‪:)205 /14 :‬‬


‫< وأطلق الوحي هنا على التكوين الخفي الذي أودعه اهلل في طبيعة النحل‪،‬‬
‫ُ‬
‫عمل منظم مرتب بعضه على بعض‪ ،‬ال يختلف فيه آحادها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بحيث تنساق إلى‬
‫تشبيها لإللهام بكالم خفي يتضمن ذلك الترتيب الشبيه بعمل المتعلم بتعليم‬
‫المؤتمر بإرشاد اآلمر‪ ،‬الذي تلقاه سرا >‪.‬‬
‫ِ‬ ‫المعلم‪ ،‬أو‬
‫وأماكن غذائه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وبذلك اإللهام من الحكيم الخبير يهتدى النحل إلى مساكنه‬
‫تدبير شؤونه‪ ،‬وتنظيم حياته داخل الخلية بسالسة ويسر‪ ،‬وبناءَ الخاليا‬
‫َ‬ ‫ويستطيع‬
‫َ‬
‫الشمعية‪ ،‬وصناعة العسل‪ ،‬وتربية صغاره‪ ،‬وحماية الخلية والدفاع عنها‪.‬‬
‫ويحسن التنبيه إلى أن ياء الخطاب التي تكررت في اآلية‪( :‬اتخذي‪ ،‬كلي‪،‬‬
‫فاسلكي) هي ياء خطاب الجنس الذي يشمل المذكر والمؤنث‪ .‬وليست ياء التأنيث‪،‬‬
‫أ‬ ‫َ َ ُ َ ّ َ َ ُ َ َّ رۡ َ َ‬
‫ِيد﴾ [����سب��� ‪ ،]10 :‬وقول‬ ‫ي ۖ َوألنََّا هَ ُل حۡ َ‬
‫ٱلد َ‬
‫ونظير ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬ي ٰ ِ‬
‫جبال أوِ يِب معهۥ وٱلط‬
‫َ‬
‫القائل‪( :‬ياخيل اهلل اركبي) ‪.‬‬
‫ولكل مهمته واختصاصه؛ فالملكة‬ ‫ٍّ‬ ‫ومجتمع النحل منظم ومتعاون ومتضامن‪،‬‬
‫تضع البيض‪ ،‬والذكور مهمتها التسابق لتلقيح الملكة فقط‪ .‬أما الشغالة فهي أنثى‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫عقيمة‪ ،‬وأجزاء ف ِم َها مهيأة لجمع الرحيق‪ ،‬وأرجلها الخلفية معدة لجمع حبوب‬
‫اللقاح‪ ،‬وهي مزودة بالغدد تحت البلعومية؛ إلفراز الغذاء الملكي مع غدد إفراز‬
‫الشمع وغدة الرائحة‪ ،‬والشغاالت الكشافة هي التي تخرج للبحث عن مصادر‬
‫الغذاء‪ ،‬ثم تعود وتخبررفيقاتها بالمعلومات الالزمة عن الغذاء الذي تجده ‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز العلمي‪:‬‬
‫إن داللة النص القرآني ـ ودقة تعبيره عن سلوك النحل وما ينتجه من عسل‪،‬‬
‫فيه شفاء للناس ـ تتطابق مع ما كشفته األبحاث العلمية الحديثة من حقائق‪ ،‬علما‬
‫بأن الناس في عصر التنزيل كانوا يجهلون معظم تلك الحقائق‪ ،‬مما يثبت بأن‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪473‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ما جاء به النص القرآني نوع من اإلعجاز‪ ،‬يدخل ضمن ما اصطلح عليه اليوم‬
‫باإلعجاز العلمي‪.‬‬
‫وسأذكر بعض وجوه اإلعجاز العلمي في اآليتين في النقط التالية‪:‬‬
‫(كلي) في قوله سبحانه وتعالى ﴿ ُث َّم ك مِن لُ ّ َّ‬ ‫ُ‬
‫ك ٱثل َم َر ٰ ِ‬
‫ت‬ ‫ِ‬ ‫لُيِ‬ ‫ِ‬ ‫ويشير لفظ‬ ‫‪1‬‬
‫َ‬ ‫ُ ُ َ َ ّ ُ ُ اٗ خَ ۡ ُ ُ ۢ ُ ُ َ رَ َ ‪ ٞ‬خُّ ۡ‬
‫م َتل ٌِف أ ۡل َوٰنُ ُهۥ فِيهِ ش َِفآء‪ٞ‬‬ ‫َ ۡ ُ‬
‫ك ذلل ۚ يرج ِمن بطون ِها شاب‬ ‫فٱسل يِك سبل رب ِ ِ‬
‫اس إِن يِف ذٰل َِك ٓأَليَة ل ِق ۡو ٖم َي َتفك ُرون﴾ [ا �ل��ن���ح�ل‪ .]69:‬إلى تغذيتها‬
‫َ َّ َ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ّ َّ‬
‫ل ِلن ِ ۚ‬
‫على رحيق األزهار‪ ،‬وحبوب اللقاح‪ ،‬وهي تحتوى على بروتينات‬
‫ودهون وسكريات وأمالح معدنية وفيتامينات‪.‬‬
‫وحبوب اللقاح التي هي مصدر البروتين الوحيد للنحلة‪.‬‬
‫حبوب اللقاح في جيوب توجد على أرجلها الخلفية‬ ‫َ‬ ‫وتضع الشغاالت‬
‫ٌ‬
‫ويساعدها فى ذلك شعيرات كثيفة يلتصق بها عدد كبير من حبوب اللقاح‪ ،‬يتراوح‬
‫ما بين ربع مليون و‪ 6‬ماليين حبة لقاح‪ ،‬وتصنع العامالت غذاء خاصا يسمى خبز‬
‫النحل؛ إلطعام صغارها يتكون من العسل وحبوب اللقاح‪.‬‬
‫ويحسن التنبيه إلى أن لفظ الثمرات في اآلية المراد به ما في األزهار من رحيق‬
‫وحبوب لقاح قبل أن تصبح ثمرة(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ‬
‫(ش َر ٌ‬
‫اب) على ما يخرج من بطون النحل في قول اهلل‬ ‫إن التعبير بلفظة‬ ‫‪2‬‬
‫َّ‬ ‫َٓ‪ّ ٞ‬‬ ‫ُ‬ ‫خَ ۡ ُ ُ ۢ ُ ُ َ رَ َ ‪ ٞ‬خُّ ۡ َ ٌ َ ۡ َ ٰ ُ‬
‫سبحانه وتعالى ﴿يرج ِمن بطون ِها شاب متل ِف ألونهۥ فِيهِ شِفاء ل ِلن ِ ۚ‬
‫اس‬
‫إِن يِف ذٰل َِك ٓأَليَة ل ِق ۡو ٖم َي َتفك ُرون﴾ [ا �ل��ن���ح�ل‪.]69 :‬تعبير عن حقيقة قائمة؛‬
‫َ َّ َ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫اكتشفها العلماء والباحثون مفادها‪ :‬أن ما تفرزه النحلة هو شراب‪ ،‬وال‬


‫ُ‬
‫النحالت المختصة‬ ‫يتحول إلى عسل إال عبر عمليات متتالية‪ ،‬تقوم بها‬
‫وتتلخص فيما‪:‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير ابن عاشور (‪. )207/14‬‬


‫‪474‬‬

‫‪P P‬تحويل ما فيه من سكر ثنائي (سكروز) إلى سكر أحادي (جلوكوز‪،‬‬
‫وفركتوز)‪ ،‬بإضافة إنزيم االنفرتيز الذي يُفرز من الغدد اللعابية للنحلة‪.‬‬
‫‪P P‬خفض محتواه المائي بواسطة التهوية‪ ،‬حتى اليزيد مستوى الرطوبة‬
‫ُ‬
‫فيه بحيث تتراوح نسبتها ما بين‪14 :‬و ‪ %18‬تقريبا‪.‬‬
‫‪P P‬إنضاج العسل بإضافة إنزيمات أخرى‪ ،‬ويستغرق ذلك ما بين يومين‬
‫معه ‪.‬‬ ‫َ‬
‫إلى خمسة أيام من ج ِ‬
‫‪P P‬يختم على العسل في البيوت السداسية بغطاء شمعي رقيق للمحافظة‬
‫عليه‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪475‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اخلنزير مصدر لألمراض واألوبئة‬


‫اَّ ٓ َ‬ ‫ُ اَّ ٓ َ ُ َ ٓ ُ َ يََّ حُ َ‬
‫م َّر ًما لَىَ ٰ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬قل ل أ ِ‬
‫ً‬ ‫ُ َ‬
‫ع َطاع ِٖم َي ۡط َع ُم ُه ٓۥ إِل أن يَكون َم ۡي َتة‬ ‫وح إِل‬ ‫جد يِف ما أ يِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َ ٗ َّ ۡ ُ ً َ‬
‫ي بَاغٖ‬ ‫ٱض ُط َّر َغ رۡ َ‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ُ ۡ ٌ ۡ ۡ ً َّ َ رۡ هَّ‬
‫ي ٱللِ بِهِۚۦ ف َم ِن‬ ‫ِغ‬ ‫ل‬ ‫ِل‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫ِس‬ ‫ف‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫س‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ۥ‬‫ه‬‫ن‬ ‫إ‬‫ف‬ ‫ير‬ ‫ِزن‬
‫خ‬ ‫لَ‬
‫م‬ ‫وحا أ ۡو حَ ۡ‬ ‫أو دما مسف‬
‫ِ‬ ‫ِ ٖ ِ ِ‬
‫نأ‬
‫ِيم﴾ [ال� ��ع�ا �م‪.]145 :‬‬ ‫َ اَ اَ َ َّ َ َّ َ‬
‫ك غ ُفور‪َّ ٞ‬رح ‪ٞ‬‬‫َ‬
‫ول ع ٖد فإِن رب‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫داللة النص الشريف‪:‬‬


‫وقد ورد النهي عن أكل لحم الخنزير وتناول شيء منه كطعام في ثالث مواضع‬
‫ي‬ ‫ٱلِزنير َو َما ٓ أُه َِّل بهِۦ ل َِغ رۡ‬ ‫أخر هي‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬إِنما حرم عليكم ٱلميتة وٱدلم ولم‬
‫َّ َ َ َّ َ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ َ َ َّ َ َ حَ ۡ َ خۡ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ِيم﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪.]173 :‬‬ ‫ي بَاغٖ َو اَل اَعد فَ اَلٓ إ ۡث َم َعلَ ۡيهِ إ َّن هَّ َ‬
‫ٱلل َغ ُفور‪َّ ٞ‬رح ٌ‬ ‫ٱض ُط َّر َغ رۡ َ‬
‫هَّ َ َ ۡ‬
‫ۚ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٖ‬ ‫ٱللِۖ فم ِن‬
‫َ َ ٓ ُ َّ َ رۡ هَّ‬
‫وقوله تعالى‪﴿ :‬إِنما حرم عليكم ٱلميتة وٱدلم ولم‬
‫َّ َ َ َّ َ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ َ َ َّ َ َ حَ ۡ َ خۡ‬
‫ي ٱللِ بِهِۖۦ‬‫ِ‬ ‫ِغ‬ ‫ل‬ ‫ِل‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫م‬‫و‬ ‫ير‬
‫ِ ِ‬ ‫ِزن‬ ‫ٱل‬
‫ِيم﴾ [ا �ل��ن���ح�ل‪.]115 :‬‬ ‫ي بَاغٖ َو اَل اَعد فَإ َّن هَّ َ‬
‫ٱلل َغ ُفور‪َّ ٞ‬رح ‪ٞ‬‬ ‫ٱض ُط َّر َغ رۡ َ‬
‫ََ ۡ‬
‫ٖ ِ‬ ‫فم ِن‬
‫‪476‬‬

‫َ َ ٓ ُ َّ َ رۡ هَّ‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬ح ِرمت عليكم ٱلميتة وٱدل َم ولم ٱلِزنِ ِ‬
‫ُ ّ َ ۡ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ ُ َ حَ ۡ ُ خۡ‬
‫ي ٱللِ‬ ‫ير وما أهِل ل ِغ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫اَّ‬ ‫ك َل َّ‬‫َ ۡ ُ ۡ َ َ ُ َ ۡ َ ۡ ُ َ ُ َ ۡ ُ رَ َ ّ َ ُ َ َّ َ ُ َ َ ٓ َ‬
‫ٱلس ُب ُع إِل َما ذك ۡي ُت ۡم َو َما ذب ِ َح‬ ‫بِهِۦ وٱلمنخن ِقة وٱلموقوذة وٱلمتدِية وٱنل ِطيحة وما أ‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ ۡ َ ۡ ُ ْ أۡ َ ۡ َ ٰ َ ٰ ُ‬
‫ب وأن تستقسِموا بِٱلزل ِ ۚم ذل ِكم ف ِسق ۗ} [ ل���م�ا ��د ‪ ،]3 :‬ويعم التحريم كل‬
‫ا � ئ �ة‬ ‫ٌ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫لَىَ ُّ ُ‬
‫ع ٱنلص ِ‬
‫ما يؤكل فيشمل الشحم‪ ،‬ألن تحريم اللحم يستلزم تحريم الشحم‪ ،‬حتى لو استعمل‬
‫كعلف لحيوان يأكله اإلنسان‪.‬‬
‫لقد وصف القرآن الكريم الخنزير بلفظ (رجس)‪ ،‬والرجس‪ :‬الخبث القذر‬
‫المكروه‪ ،‬ألنه يلوث األبدان ويؤذيهاإذا اقتربت منه ‪.‬‬
‫حال هذا الحيوان الذي هو محل القذارة واألذى ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وهو واقع‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫بعض مسببات األمراض التي يحملها‬‫َ‬ ‫كشف البحث العلمي في هذا العصر‬
‫دخل شيئا منه‬ ‫ُ‬
‫جسم الخنزير‪ ،‬وتنتقل عن طريقه إلى من يأكل لحمه‪ ،‬أو ي ِ‬
‫في مكونات طعامه‪ ،‬والعجب أنه مع كل ما أصبح يدركه العالم من مخاطر يسببها‬
‫ُ‬
‫أكل لحم الخنزير أومشتقاته إاّل أن استهالك لحم الخنزير لم يتراجع‪ ،‬بل ال تكاد‬
‫تجد اهتماما يذكر بهذا األمر في أجهزة اإلعالم‪ ،‬التي طالما رفعت أصواتها‬
‫بضرورة المحافظة على الصحة العامة !!‬

‫بكرتيا وفريوسات تعيش يف حلم اخلنزير‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪477‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وال يسع المسلمين إال أن يحمدوا اهلل تعالى الذي نهاهم عن أكل األرجاس‬
‫وتعاطي الخبائث‪ ،‬فحماهم بذلك عن كل ما يسبب لهم األذى‪ ،‬ويلحق بهم‬
‫الضرر قبل قرون من اكتشاف مسببات األمراض بواسطة اجملاهر ‪.‬‬
‫والخنزير مأوى للطفيليات والبكتريا والفيروسات‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫‪P P‬طفيلي الزحار البلنتيدي ‪.Balantidium Dysentery‬‬
‫‪P P‬والشعرينيات الحلزونية ‪.Trchinella Spirali‬‬
‫‪P P‬وشريطية الخنزير ‪.Taenia Tolium‬‬
‫‪P P‬والديدان المثانية ‪.Cysticercosis‬‬
‫وبعضها يصنف ضمن أمراض كثيرة مشتركة بين اإلنسان والحيوان‬
‫‪ ZoonoTeT‬منها‪:‬‬
‫‪ P P‬سالالت من األنفلونزا ‪.Influenza‬‬
‫‪P P‬وطفيل الفاشيوال في الصين ‪.Fasciolop Buski‬‬
‫‪P P‬وثعبان البطن ‪.Ascaris‬‬
‫ويكثر وجود مرض الزحار البلنتيدي ‪ Balantidia‬عند رعاة الخنازير‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ومخال ِطيهم‪ ،‬وقد ينتشر بصورة وبائية‪ ،‬كما حدث في إحدى جزر المحيط‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫إعصار نشر روث الخنازير‪ ،‬ويوجد المرض حيث يوجد الخنزير‬ ‫ٍ‬ ‫الهادي‪ ،‬بعد‬
‫في بلدان متقدمة صناعيا‪ ،‬خاصة في ألمانيا وفرنسا والفلبين وفنزويال‪ ،‬معارضا‬
‫االدعاء بإمكان التغلب على قذارته بوسائل تقنية حديثة‪ ،‬تجعل تحريم أكل لحمه‬
‫بال مستند‪ ،‬ولكن الحقيقة الدامغة أبطلت ذلك االدعاء ‪.‬‬
‫وتحدث اإلصابة بمرض الشعرينيات الحلزونية ‪ Trichinellosis‬نتيجة أكل‬
‫لحم عضالت خنزير مصابة‪ ،‬حيث تنخر األنثى جدار األمعاء لتضع اليرقات‬
‫‪478‬‬

‫التي تصل إلى حوالي ‪ 10.000‬يرقة‪ ،‬وتنتقل اليرقات خالل الدم إلى العضالت؛‬
‫لتتحول إلى حويصالت معدية‪.‬‬
‫وأما اإلصابة بشريطية الخنزير‪ :‬فتنجم بعد تناول عضالت خنزير مصابة‪ ،‬وتنمو‬
‫ُ‬
‫الدودة في أمعاء اإلنسان‪ ،‬وقد يبلغ طولها سبعة أمتار‪ ،‬ولها رأس ذو أشواك؛‬
‫تسبب تهتكا في جدار األمعاء وفقر دم شديد‪ ،‬ولها أربعة ممصات وعنق يولد‬
‫أسالت خنثى‪ ،‬كأنها حيوانات مستقلة‪ ،‬قد تبلغ األلف‪ ،‬وفي كل منها تتولد أكثر‬
‫من ألف بيضة ‪.‬‬
‫وتحدث اإلصابة بالديدان المثانية ‪ Cysticercosis‬إذا تناول اإلنسان طعاما‬
‫ملوثا بالبيض‪ ،‬لتخرج اليرقات وتنتقل في الدم ألي عضو بالجسم‪ ،‬وتقدر الخطورة‬
‫تبعا ألهمية العضو‪ ،‬وال يحدث هذا المرض مطلقا نتيجة اإلصابة بشريطية البقر‬
‫َّ‬
‫‪ Teania Saginata‬اجملردة من األشواك‪ ،‬وهي أقل ضررا‪ ،‬والخنزير جالل‪،‬‬
‫سيّئ الطباع‪ ،‬وهو محرم عند أهل الكتاب وإن خالفوه‪.‬‬
‫َ ٌ َ ُ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫س لك ْم >‪.‬‬ ‫< وال ِخن ِزير‪ ..‬ن ِج‬ ‫ففي سفر الالويين ‪:7 :11‬‬
‫ُ ََ‬ ‫َ َْ ُُ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫َ ٌ َ ُ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫س لك ْم‪ ،‬ف ِمن لح ِم َها ال تأكلوا َوجثث َها‬ ‫< وال ِخن ِزير‪ ..‬ن ِج‬ ‫وفي سفر التثنية ‪:8 :14‬‬
‫ال تَ ْلم ُ‬
‫سوا >‪.‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫وقد علل القرآن الكريم النهي عن أكل لحمه في قوله تعالى‪{ :‬فإِن ُهۥ رِ ۡج ٌس}؛‬
‫َ َّ‬

‫والرجس ‪ Filth‬كلمة جامعة تعني أنه قذر ودنس ونجس‪ ،‬يحمل األذى والضرر‪،‬‬
‫بعلم العليم الحكيم!‪.‬‬
‫ِيل ‪٦٦‬‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ ۡ ُ َ َ ُ َ حۡ َ ُّ ُ َّ ۡ ُ َ َ ۡ ُ‬
‫كم ب َ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ق‬‫ٱل‬ ‫و‬ ‫ه‬‫و‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫يقول العلي القدير‪َ ﴿ :‬و َك َّذ َ‬
‫ب‬
‫ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ۚ‬ ‫ِ‬
‫أ‬
‫ِك ن َبإ ٖ ُّم ۡس َتق ّر ۚ َو َس ۡوف ت ۡعل ُمون﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]67-66 :‬‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َ ‪ٞ‬‬ ‫ّ لُ ّ َ‬
‫ل ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪479‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ُ‬
‫جسم الخنزير من مسببات متنوعة‬ ‫لقد كشف العلم الحديث عما يحمله‬
‫َ‬
‫لألمراض‪ ،‬كان القرآن الكريم قد أكدها سلفا قبل ما يزيد عن أربعة عشر قرنا‪،‬‬
‫في اآليات التي وصفت الخنزير بأنه رجس‪ ،‬أي‪ :‬خبث وقذر ومكروه‪ ،‬ولهذا ّ‬
‫حرم‬
‫َْ‬
‫اهلل أكله‪ ،‬وذلك إعجاز علمي‪ ،‬وبرهان على صدق رسالته !‪.‬‬
‫فإلى متى يتعامى المناوئون عن الحقائق الساطعة وينساقون وراء أهوائهم‬
‫الجامحة ‪.‬‬
‫ِيل‬ ‫ك‬‫و‬
‫َ ۡ ُ َ َ ُ َ حۡ َ ُّ ُ َّ ۡ ُ َ َ ۡ ُ‬
‫كم ب َ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫ق‬ ‫ق‬‫ٱل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ب‬‫صدق اهلل العظيم القائل‪َ ﴿ :‬و َك َّذ َ‬
‫ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ۚ‬ ‫ِ‬
‫أ‬
‫ِك ن َبإ ٖ ُّم ۡس َتق ّر ۚ َو َس ۡوف ت ۡعل ُمون﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]67-66 :‬‬
‫َ َ َ َ‬ ‫َ ‪ٞ‬‬ ‫ّ لُ ّ َ‬
‫‪ ٦٦‬ل ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪483‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َُ‬
‫وتتلخص مراحل تك ّون اللبن فيما يلي‪:‬‬
‫اهلضم (‪:)Digestion‬‬ ‫‪1‬‬
‫ُ‬
‫الهضم (الحركي)‪ ،‬والهضم الكيماوي‪،‬‬ ‫يتم الهضم على عدة أشكال‪ :‬فمنه‬
‫والهضم الميكروبي بواسطة (خمائر) الميكروبات الموجودة في كرش األنعام ‪.‬‬
‫تبدأ عملية الهضم في الفم بنوعيها‪ :‬الهضم (الحركي) و(الخمائر)‪ ،‬حيث يتم تقطيع‬
‫مواد العلف بالمضغ‪ ،‬وخلطها باللعاب الذي يحتوي على أنزيم (األميليز) الذي يقوم‬
‫بهضم مبدئي‪ ،‬ثم في المعدة المركبة‪ ،‬حيث يتم هضم ميكانيكي وميكروبي وكيماوي‪.‬‬
‫ُ‬
‫ثم يتم اجترار الكتلة الغذائية من الكرش إلى الفم ليعاد مضغها وخلطها باللعاب‪،‬‬
‫َ‬
‫بلعها لتعمل عليها بكتريا الكرش فتحلل (السكريات) و(البروتينات)‪،‬‬ ‫ثم إعادة ِ‬
‫ثم يحدث الهضم (الخمائري) في المعدة الحقيقية (بالببسين والرنين)‪.‬‬
‫ث‪ .‬وبانتقال الفرث إلى األمعاء‬ ‫َْ‬
‫وبعمليات الهضم هذه يتحول العلف إلى فر ٍ‬
‫الدقيقة تستمر عملية الهضم؛ فيتعرض الفرث لإلنزيمات الهاضمة في األمعاء‬
‫والبنكرياس والعصارة الصفراء في الكبد‪.‬‬
‫ً‬
‫وبهذا يتم تحليل األطعمة المحتوية على الجزيئات المعقدة جدا إلى جزيئات‬
‫بسيطة‪ ،‬فالنشا والسكريات المعقدة تتحول إلى سكريات بسيطة‪ ،‬والدهون تتحول‬
‫إلى أحماض دهنية‪ ،‬والبروتينات تتحول إلى أحماض أمينية وببتيدات‪ ،‬أما‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ‬
‫الفيتامينات واألمالح والماء فال تحتاج إلى هضم قبل امتصاصها‪ ،‬ويتحول الفرث‬
‫الصلب بعد هضمه في األمعاء إلى فرث رائق‪.‬‬
‫استخالص اللنب من بني الفرث‪:‬‬ ‫‪2‬‬
‫تقوم الخمالت في األمعاء الدقيقة بامتصاص المواد الغذائية المحللة بعدة‬
‫طرق‪ ،‬وتصل هذه المواد إلى داخل األوعية الدموية الصغيرة الواقعة تحت النسيج‬
‫الطالئي‪ ،‬ومنها إلى األوعية الدموية األكبر فتدخل في تيار الدورة الدموية‪.‬‬
‫‪484‬‬

‫استخالص اللنب من بني الدم‪:‬‬ ‫‪3‬‬


‫ثم يقوم الدم بنقل هذه المواد الغذائية إلى جميع خاليا الجسم‪ ،‬والتي منها‬
‫ُ‬
‫امتصاص مكوناتِ اللبن ِمن بين الدم‪.‬‬ ‫خاليا الضروع التي يتم فيها‬
‫تصنيع اللنب يف الضرع‪:‬‬ ‫‪4‬‬
‫صناعي؛ فهو يتكون من فصوص‪ ،‬وكل فص يتكون‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬
‫أشبه بجهاز‬ ‫والضرع‬
‫من عدد من الفصيصات‪ ،‬وكل فصيص يحتوي ما بين ‪ 220-150‬حويصلة‬
‫يس حيث يصنع اللبن‬ ‫مجهرية‪ ،‬والحويصلة اجملهرية عبارة عن تركيب يشبه الك َ‬
‫ِ‬
‫ويفرز‪ .‬وكل حويصلة تعد وحدة صناعية مستقلة متكونة من تجويف لجمع اللبن‬
‫محاط بطبقة واحدة من الخاليا الطالئية (الظهارية)‪ ،‬وكل خلية في هذه الوحدة‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫جوفها من مواد أولية قادمة‬
‫الصناعية وحدة متكاملة قائمة بذاتها‪ ،‬تحول ما بداخل ِ‬
‫من الدم إلى قطيرة لبن‪ ،‬تفرز في ذلك التجويف‪.‬‬

‫‪Ì◊íËÁu‬‬

‫‪ì ‬‬
‫�‬
‫‪ÎÁ⁄Å<·^ËÜç‬‬ ‫‪›^ï<sÈäfi‬‬
‫‪<ÎÁj†<l^íÈí ‬‬
‫¬◊‪l¯íËÁu<Ó‬‬
‫}◊‪<ÌÈÒ¯õ<ÌÈ‬‬
‫‪ÌËÁfi^m<Ï^flŒ‬‬
‫‪DÌËÖ^„æE‬‬ ‫‪‹¬]Å<sÈäfi‬‬
‫‪ÃËÁü‬‬ ‫]÷‪ÌÈäÈÒÜ÷]<Ï^flœ‬‬
‫}¯‪<^Ë‬‬
‫∆‪Dÿ⁄<PLLE<Ì√⁄^q<ÏÇ‬‬
‫¬‪ÌÈ◊ñ‬‬
‫‪Dÿ⁄<PL<IOLE<Ì√⁄^q<Ì€◊u‬‬
‫‪ÎÁ⁄Å<ÇËÖÊ‬‬ ‫‪Ï^flŒ‬‬ ‫¬‪ÏÜë^¬<Ì◊ñ‬‬
‫‪gÈ◊£]<Ï^flŒ‬‬

‫رسم توضيحي لضرع‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪485‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫إن الخلية الطالئية (الظهارية) اللبنية هي المختصة بعملية تصنيع اللبن بمكوناته‬
‫المختلفة‪ ،‬فتصل المكونات األساسية للبن إلى الغشاء القاعدي للخلية اللبنية‪،‬‬
‫فيأخذ كل مكون طريقه عبرها ليصل إلى القسم المناسب داخل الخلية‪ ،‬حيث تجري‬
‫السر وأخفى سبحانه‪ ،‬فيخرج من الجهة العليا‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫عالم‬ ‫عليه العمليات التي قدرها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للخلية مادة جديدة تشكل مع المواد األخرى الناتجة لبنا سائغا للشاربين‪ .‬فتعال معنا‬
‫ِّ‬
‫نتتبع مسار كل مادة وردت من الدم وما يحصل لها في رحلتها عبر الخلية اللبنية‪.‬‬

‫قطريات‬
‫حليب‬

‫ألياف داعمة‬

‫خلية لبنية‬
‫شعريات دموية‬

‫قطريات‬
‫ألياف داعمة‬ ‫دهنية‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫عصب‬

‫شعريات دموية‬ ‫بروتينات‬

‫يوضح الشكل كيف تنتقل مكونات اللنب من الشعريات الدموية‬


‫عرب اخللية اللبنية إىل احلويصلة ‪.‬‬
‫‪486‬‬

‫‪1.1‬األحماض األمينية‪:‬‬
‫تنطلق األحماض األمينية التي جاءت من الدم‪ ،‬وتتوجه إلى القسم المناسب‬
‫من المصنع‪ ،‬وهو الرايبوسومات المتعددة المنتشرة على الشبكة اإلندوبالزمية‬
‫تصب في تجويف الحويصلة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫الخشنة‪ ،‬وهناك ترتبط معا لتكوين البروتينات‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬
‫مكونات اللبن من البروتينات‪.‬‬ ‫وهكذا توفرت‬
‫‪2.2‬سكر اللبن (الالكتوز)‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫سكر الجلوكوز القادم من الدم الخلية؛ فيتحول بعضه إلى جاالكتوز‪،‬‬ ‫يدخل‬
‫ً‬
‫ويدخالن معا جهاز جولجي؛ ليتعرضا لتفاعالت تؤدي إلى تكوين (سكر اللبن)‬
‫ـ الالكتوز ـ وهو مادة مهمة من مكونات اللبن(‪.)1‬‬
‫وينضم سكر اللبن والماء إلى البروتينات بانتظار مكونات أخرى مهمة ومنها‬
‫الدهون‪.‬‬
‫‪3.3‬الدهون‪:‬‬
‫تستقبل الخاليا الطالئية األحماض الدهنية الجاهزة والجليسيرول‪ ،‬القادمة من‬
‫الدم‪ ،‬لتشكل مادة دهنية في الشبكة األندوبالزمية التي يخرج منها الدهن عندئذ‬
‫ً‬
‫في صورة قطيرات دهنية صغيرة‪ ،‬تتجمع لتشكل قطيرة يتزايد حجمها‪ ،‬تتجه نحو‬
‫الغشاء العلوي للخلية‪ ،‬حتى إذا ما وصلته هداها ربُّها لالندفاع بقوة‪ ،‬لاللتحاق‬
‫بمكونات اللبن السابقة‪.‬‬
‫‪4.4‬األجسام المضادة‪:‬‬
‫ُ‬
‫تأتي األجسام المضادة من الدم عبر الغشاء القاعدي الجانبي للخلية اللبنية‪،‬‬
‫ثم تحملها حويصالت النقل (ناقالت) عبر الخلية‪ ،‬لتصل إلى السطح الداخلي‬

‫((( الحظ أن جهاز جولجي يسهم في معالجة بروتينات اللبن وصناعة الالكتوز والسحب‬
‫األسموزي للماء ويفرز سكر اللبن ومعظم الماء عبر حويصالت اإلفراز مع بروتينات اللبن‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪487‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫للغشاء العلوي للخلية‪ ،‬فتطرح هذه األجسام المضادة المناعية في تجويف الحويصلة‬
‫َ‬
‫تتعرض هذه األجسام لشيء مما تعرضت له المكونات األخرى من معالجة‬ ‫دون أن‬
‫وتغيير‪.‬‬
‫‪5.5‬مكونات أخرى‪:‬‬
‫مثل الماء‪ ،‬وكريات الدم البيضاء‪ ،‬وبعض األيونات واألمالح‪ ،‬حيث تشق‬
‫َ‬
‫ضيقة بين الخاليا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫طريقها إلى تجويف الحويصلة عبر مسالك‬
‫الغدد الثديية التي تقوم باستخالص اللبن من مكونات الفرث الذي صب‬
‫في الدم‪ ،‬ومن مكونات الدم األخرى الثابتة فيه كبروتينات المناعة‪ ،‬وبعض اإلنزيمات‬
‫والمركبات الكيميائية التي تتألف في الدم‪ ،‬ثم تقوم بتجهيزه وإضافة بعض المواد‬
‫إليه؛ كسكر اللبن‪ .‬وهكذا تنتهي الرحلة المقدرة بأمر اهلل إلى تكوين اللبن‪.‬‬

‫‪ÃËÁü‬‬
‫“‪ÌÈfl‚Å<ÏÜ‬‬
‫‪Æ◊÷]<Ü”â‬‬
‫‪Æ÷<ÏÜ�Œ‬‬

‫‪∞iÊÜe‬‬

‫‪l^Èf∆á‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫‪ÌËÁ◊}<l¯ëÁ⁄‬‬

‫‪^ËÖÇfl“ÁjÈ⁄‬‬
‫‪ÏÜu<l^⁄ÁâÁfË]Ö‬‬
‫]÷‪Ï]Áfl‬‬ ‫]÷‪<Ì”fé‬‬
‫]˜‪<ÌÈ⁄á¯eÊÇfi‬‬
‫]§‪Ìflé‬‬

‫}◊‪ÌËÖ^„æ<ÌÈ◊ñ¬<ÌÈ‬‬ ‫‪ºe]Ü÷]<‹ä¢]<–ç‬‬
‫]÷«‪ÎǬ^œ÷]<^é‬‬
‫‪488‬‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ٌ‬
‫ما كان أحد يعلم قبل اكتشاف أجهزة التشريح في القرنين الماضيين أسرار‬
‫ما يجري في الجهاز الهضمي عند الحيوان واإلنسان‪ ،‬ووظائف ذلك الجهاز‬
‫َ‬
‫وعالقته بالدورة الدموية‪ ،‬ومراحل ّ‬
‫تكون اللبن في بطون األنعام‪.‬‬ ‫المعقد‪،‬‬
‫فلما تكاملت صناعة األجهزة والتجارب العلمية عبر قرون عرف اإلنسان أن‬
‫تستخلص بعد هضم الطعام‪ ،‬من بين الفرث‪ ،‬وتجري في مجرى‬ ‫ُ‬ ‫مكونات اللبن‬
‫الدم‪ ،‬لتصل إلى الغدد اللبنية في ضروع اإلناث التي تقوم باستخالص مكونات‬
‫ُ‬
‫ث أو دم‪ ،‬ثم تضاف إليه في حويصالت‬ ‫َْ‬
‫اللبن من بين الدم‪ ،‬دون أدنى شائبة من فر ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫اللبن مادة سكر اللبن التي تجعله سائغا للشاربين‪.‬‬
‫ً‬
‫هذه األسرار كانت مجهولة للناس‪ ،‬فلم يكتشفوها إال بعد رحلة طويلة‬
‫من التجارب والبحوث العلمية‪ ،‬بعد اختراع وسائلِ البحث التي لم تكن معروفة قبل‬
‫ذلك‪ .‬ولكن القرآن الكريم كشفها بأجمل عبارة‪ ،‬وأوجز لفظ قبل ألف وأربعمائة عام‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫أسرار الجهاز الهضمي‪،‬‬ ‫فمن علم محمدا ! من بين سائر البشر في ذلك الزمن‬
‫السر في األرض‬ ‫َّ‬ ‫والجهاز الدوري‪ ،‬ودقائق ما يجري في غدد اللبن إال الذي يعلم‬
‫أسرار ما خلق من الكائنات؟‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويعلم‬ ‫والسماء‪،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫فيكون ذلك شاهدا على أن القرآن نزل بعلم اهلل‪ ،‬وأن محمدا رسول اهلل‪ .‬قال‬
‫هَّ ُ َ ۡ َ ُ َ ٓ َ َ َ يَ ۡ َ َ َ هَ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ل ٰ ِ‬
‫َ ۡ َ َ ٰٓ َ ُ َ ۡ َ ُ َ َ َ ىَ ٰ هَّ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬
‫ف بِٱللِ‬ ‫نز ُلۥ بِعِل ِمهِۖۦ وٱلملئِكة يشهد ۚ‬
‫ون وك‬ ‫ك ِن ٱلل يشهد بِما أنزل إِلك ۖ أ‬
‫يدا﴾ [ا �ل��ن��س�ا ء‪.]166 :‬‬
‫َشه ً‬
‫ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪489‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫عواقب اإلباحية‬

‫ن ۖ إِن ُهۥ كن ف ٰ ِحشة َو َسا َء َسبِيل﴾ [الإ� ��سرا ء‪ ،]32 :‬وقال‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ول تقربوا ِ‬
‫ٓ‬ ‫َ ٗ‬ ‫اَ َ َ‬ ‫ىَ َّ‬
‫َُ ّ‬
‫ٱلز ٰٓ‬ ‫ْ‬ ‫اَ َ ۡ‬
‫َ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ول تقربوا ٱلفوٰحِش ما ظهر مِنها وما بطنۖ ول تقتلوا ٱنلفس ٱل يِت حرم‬
‫َ اَ َ ۡ َ ُ ْ ۡ َ َ َ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َ َ َ َ اَ َ ۡ ُ ُ ْ َّ ۡ َ َّ َ َّ َ هَّ ُ اَّ‬
‫ٱلل إِل‬
‫أ‬
‫ك ۡم ت ۡعقِلون﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]151 :‬‬ ‫حۡ َ ّ َ ُ‬
‫َ َ َّ ُ َ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ق ذٰل ِك ۡم َو َّصىٰكم بِهِۦ لعل‬ ‫بِٱل ِ ۚ‬
‫َ ْ َْ َ َ َ ُ‬
‫عبداهلل‪ ‬بن عمر‪ُ ..>َ :‬لم تظه ِر الف ِ‬ ‫وقال رسول اهلل ! في رواية‬
‫َ َ‬
‫احشة ِفي ق ْوم ق ُّط‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫ض ْت في أ ْساَلفه ُم ا َّلذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫ين‬ ‫اع ا َّلتي ل ْم تَك ْن َم َ‬
‫ُ َ ْ َ ُ‬
‫ج‬ ‫و‬ ‫األ‬‫و‬ ‫ون‬ ‫اع‬ ‫الط‬
‫َّ‬ ‫م‬ ‫يه‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ش‬ ‫ف‬ ‫ال‬‫إ‬ ‫ا‬‫ه‬‫َح َّتى ي ُ ْعلنُوا ب َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ْوا‪ ،)1(<..‬وقال أيضا‪..> :‬وال فشا الزنا في قوم قط إال كثر فيهم الموت< ‪.‬‬
‫ُ (‪)2‬‬ ‫ُ‬ ‫َم َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫جنسيا‬
‫ًّ‬ ‫فريوس اإليدز الذي يصيب ِّ‬
‫الشاذين‬

‫((( ابن ماجة‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ) 4019‬قال األلباني‪ ( :‬حسن صحيح )‪.‬‬
‫((( ابن مالك في الموطأ‪ ،‬جهاد‪ ،‬حديث رقم (‪.)26‬‬
‫‪490‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫جاء النهي عن الزنا خاصة والفواحش عامة بصيغة ﴿ َول تق َر ُبوا﴾؛ وفيها النهي‬
‫ْ‬ ‫اَ َ ۡ‬
‫ً‬
‫حتى عن االقتراب تشديدا وبيانا للعواقب الوخيمة التي تحصل َج َّراءَ تعاطيها‬
‫َ‬
‫من عدة نواح ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وقوله‪﴿ :‬وساء سبِيل﴾ أي‪ :‬بئس طريقا طريقه‪ ،‬فإنه غصب األبضاعِ المؤدي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ٓ‬

‫جان الفتن(‪.)1‬‬ ‫إلى اختالل أ َ ْمر األنساب َ‬


‫وهي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومن آثار انتشار الزنا والفاحشة تلك األمراض الفتاكة التي تنتهي غالبا بالموت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مرض نقصان المناعة (اإليدز)‪ ،‬التي أشارت إليها أحاديث نبينا‬ ‫وفي مقدمتها‬
‫الصادق المصدوق‪ ،‬نبينا محمد !‪.‬‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫أصناف من الكائنات الدقيقة المسببة لألمراض‬
‫ٍ‬ ‫كشف البحث العلمي عن‬
‫(بكتريا وفطريات وفيروسات)‪ ،‬ال تنتقل لإلنسان إال عن طريق ممارسة الفاحشة‪،‬‬
‫ًّ‬
‫أيا كان نوعها ‪.‬‬
‫انتشار األمراض واستعصت‬ ‫ُ‬ ‫وكلما اتسعت دائرة هذه العالقات ازداد‬
‫َّ‬
‫خواصها باستمرار‪ ،‬وبالتالي‬ ‫عن العالج؛ ألن تلك الكائنات المسببة لألمراض تغيِّر‬
‫ُ‬
‫الجسم عن مقاومتها ‪.‬‬ ‫يعجز‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫تتكرر في أي مجتمع‪،‬‬ ‫النبوي إلى سنة اجتماعية عامة‪ ،‬يمكن أن‬ ‫وأشار الحديث‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫اجملتمع نتائجها‪.‬‬ ‫فإذا حدثت مقدماتها حصد‬
‫ُ‬
‫فالمقدمات‪ :‬شيوع العالقات المحرمة كالزنا‪ ،‬والعالقات الشاذة في اجملتمع‪،‬‬
‫وعدم تجريمها والرضا بها وإظهارها والترويج لها؛ على نحو ما يُعرف اليوم‬

‫((( تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (‪.)170 /5‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪491‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫باإلباحية الجنسية ( ‪ ،)Porno‬وهو ما حذر منه رسول اهلل! في حديثه السابق‬


‫>لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها<‪.‬‬
‫وأما النتائج المترتبة على ذلك‪ :‬فهي شيوع األمراض الجنسية وانتشارها بصورة‬
‫بصور جديدة في األجيال التالية‪ ،‬التي حذر منها رسول‬ ‫ُ‬
‫وظهورها‬ ‫وبائية مدمرة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫! في حديثه‪> :‬إال فشا فيهم الطاعون واألوجاع التي لم تكن مضت في أسالفهم‬
‫الذين مضوا<‪.‬‬
‫هذا وقد تحقق ظهور هذه السنة الجارية في كثير من اجملتمعات الغربية اليوم‪،‬‬
‫ً‬
‫وكانت نتيجة محتومة النتشار العالقات المحرمة والشاذة‪ ،‬وإظهارها واالعتراف‬
‫ُ‬
‫بها سلوكا اجتماعيا‪ ،‬ت َر ِّوج له وسائل اإلعالم ‪.‬‬
‫يقول الدكتور شوفيلد في كتابه >األمراض الجنسية<‪ < :‬لقد انتشر تساهل‬
‫أي إحساس بالخجل من الزنا‬ ‫اجملتمع تجاه كافة الممارسات الجنسية‪ ،‬وال يوجد ُّ‬
‫والعالقات المثلية‪ ،..‬بل إن وسائل اإلعالم جعلت من العار على الفتى والفتاة‬
‫حصنًا >‪.‬‬
‫أن يكون ُم َ‬
‫ُ‬
‫وهكذا صارت العفة في اجملتمعات الغربية مما يندى له جبين المرء‪ ،‬فوسائل‬
‫اإلعالم تدعو وتحث على اإلباحية باعتبارها من دواعي الحرية مهما كان الضرر‪،‬‬
‫ِّ‬
‫تقول دائرة المعارف البريطانية‪ < :‬إن الشاذين قد خرجوا من دائرتهم السرية‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫إلى الدائرة العلنية‪ ،‬وقد أصبح لهم نواديهم الخاصة وحدائقهم وسواحلهم‬
‫ُ‬
‫ومسابحهم >‪.‬‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫لقد أصبح تمجيد البغاء فنا يدرس‪ ،‬والعالقات الشاذة حرية؛ بل قد أباحت‬
‫الرجلِ على الرجل‬
‫َّ ُ‬
‫ان‬ ‫ُ َ‬
‫كثير من الكنائس الغربية الزنا والمثلية‪ ،‬فيتم عقد ِقر ِ‬
‫على يد القسيس في بعض كنائس الدول الغربية‪ ،‬وتكونت آالف الجمعيات والنوادي‬
‫التي ترعى شؤون الشاذين‪ ،‬وهكذا بحدوث المقدمات تحققت النتائج‪.‬‬
‫‪492‬‬

‫حالة إصابة مبرض السفلس‬ ‫حالة إيدز متأخرة‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد ظهرت عواقب اإلباحية في صورة وبائية؛ فأوقعت الكثير من الضحايا‪،‬‬
‫ً‬
‫فقد شهد العالم موجات كاسحة من انتشار وباء الزهري ‪ Syphilis‬على فترات‪،‬‬
‫منذ أن ظهر ألول مرة عام ‪ ،1494‬فقضى على مئات الماليين من األشخاص‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ماليين أخرى‪ ،‬وما زالت جرثومة‬ ‫في القرون الخمسة الماضية‪ ،‬وحطم حياة‬
‫المرض تغيّر من خواصها وتهاجم اإلنسان من حين آلخر‪.‬‬
‫َ‬
‫وتصدر مرض السيالن ‪ Gonorrhea‬قائمة األمراض المعدية؛ فهو أكثر‬
‫األمراض الجنسية شيوعا في العالم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫فيروسه جهاز المناعة في‬ ‫وأخيرا عام ‪ 1983‬ظهر مرض اإليدز ‪ Aids‬الذي يدمر‬
‫اإلنسان؛ ومن ثم يستطيع أي كائن دقيق أن يهاجمه‪ ،‬وإذا لم ينته به إلى الموت فإنه‬
‫يذيقه من اآلالم واألوجاع ما يجعله عبرة لمن يعتبر‪ ،‬وآية على صدق النبوة الخاتمة‪.‬‬
‫وخالصة القول‪:‬‬
‫إن ما حذر منه الصادق المصدوق ! في عصر الرسالة من أمراض وأوجاع‪،‬‬
‫ُ‬
‫لم تعرفها البشرية في أجيالها السابقة تحقق تباعا‪ ،‬حتى طفح بها الكيل في عصرنا‬
‫الحاضر ‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
493 ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وبذلك يكون ما أخبر به ! في هذا الخصوص ـ في وقت لم تعرف فيه وسائل‬


ٌ
. ‫ يدخل ضمن اإلعجاز العلمي‬،‫البحث العلمي الحديثة ـ نوع من اإلعجاز‬

<^é∆<ƒ⁄ <HIV<åÊ4 <t^⁄Çfi]
ÌÀÈñπ]<ÌÈ◊§]
ÌÀÈñ⁄<ÌÈ◊} ÌÀÈñ⁄<ÌÈ◊}
ÎÁ◊§]<sÈäfl÷]<∞iÊÜe

HIV<åÊ4 <g÷

Ǭ^ä⁄<ÿfœjä⁄ HIV<<åÊ4À÷]<<RNA Ï]Á{{{{fl÷]


CXCR4z<CCR5
sï^fi<HIV<åÊ4  HIV<<åÊ4À÷] <<DNA
CD4<ÿfœjä⁄

<HIV<åÊ4À÷]<›Ár‚
ÌÀÈñπ]<ÌÈ◊§]<Ó◊¬ ÌÀÈñπ]<ÌÈ◊§]<^é∆

ÌÈ◊§]<x�â<Á©<‰qÁj÷]
ÍâÊ4 <‹¬2i
<ÌÈâÊ4 <l^flÈiÊÜe
ÏÇËÇq <DNA<t^⁄Çfi]
<ƒ⁄ <HIV<<åÊ4À÷]
ÌÀÈñπ]<ÌÈ◊§] <DNA

åÊ4À÷]<·�Á”i <RNA
ÏÇËÇq<ÌÈâÊ4  <RNA <<DNA<
<ÌÈ◊§]
ÌÀÈñπ]
<RNA
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

)HIV( ‫دورة حياة فريوس اإليدز‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪509‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الناصية املدانة بالكذب واخلطيئة‬

‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪﴿:‬ك لئِن ل ۡم يَنتهِ لنسفعۢا بِٱنلَّ ِ‬


‫َ‬
‫اص َي ٖة كٰذِبَ ٍة‬
‫َ‬ ‫لَاَّ َ َّ َ َ َ ۡ َ َ‬
‫اص َيةِ ‪ ١٥‬ن ِ‬
‫َخاط َِئةٖ﴾ [ا �ل�ع�ل ق�‪.]16-15:‬‬
‫أۡ َ ۡ‬
‫ِيم ٰ ُه ۡم ف ُيؤ َخذ بِٱنلَّ َو ٰ يِص َوٱلق َد ِام﴾‬ ‫وقال سبحانه وتعالى‪﴿:‬يعرف ٱلمج ِرم‬
‫َ ۡ ُ‬ ‫ون بس َ‬ ‫ُ ۡ َ ُ ُۡ ۡ ُ َ‬
‫ِ‬
‫[ا �لرح�م� ن�‪.]41 :‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫منطقة الناصية يف الدماغ‬


‫الداللة النصية‪:‬‬
‫لقد ربط القرآن الكريم المؤاخذة على الكذب وسو ِء السلوك والنزوع‬
‫َ‬ ‫َ َ َّ‬
‫الضالل وارتكاب الخطايا بناصية اإلنسان‪ ،‬ومن ث َّمة رتب عليها العقوبة‬
‫ِ‬ ‫إلى‬
‫األخروية‪.‬‬
‫أۡ َ ۡ‬
‫قوله‪﴿ :‬ف ُيؤ َخذ بِٱنلَّ َو ٰ يِص َوٱلق َد ِام﴾ النواصي‪ :‬جمع ناصية‪ ،‬وهى مقدم الرأس‪،‬‬
‫َ ۡ ُ‬
‫ش ُ‬ ‫َ‬
‫عرها ‪.‬‬ ‫والمراد هنا‬
‫‪510‬‬

‫والمعنى‪ :‬تأخذ المالئكة بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار‪،‬‬


‫وتجرهم على وجوههم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أو تسحبهم المالئكة إلى النار‪ ،‬تارة تأخذ بالنواصي‬
‫أو يجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم(‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫قوله﴿لن ۡسف َعۢا﴾ لنأخذن بناصيته‪ ،‬وهو عند العرب أبلغ شيء في اإلذالل‬
‫ََ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫والهوان‪ .‬ومعناها‪ :‬تسويد وجهه وتشويه خل ِقه‪ ،‬والسفعة‪ :‬السواد‪ ،‬من سفعته النار‬
‫َ‬
‫وجهه وشوهته(‪.)2‬‬ ‫والشمس إذا غيّرت‬
‫والناصية من الناحية التشريحية‪ :‬توجد في مقدمة الدماغ في الفص األمامي‬
‫من المخ‪ ،‬وتحتوي على األجزاء المسؤولة عن الكالم والسلوك في المخ‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫يحتوي دماغ اإلنسان على فصوص أربعة هي‪ :‬الفص األمامي ‪Frontal‬‬
‫‪ ،Lobe‬والفص الخلفي ‪ ،Occipital Lobe‬والفص الصدغي ‪Temporal‬‬
‫‪ ،Lobe‬والفص الجداري ‪ ،Parietal Lobe‬ولكل فص دور وظيفي ينفرد به عن‬
‫اآلخر‪ ،‬وفي الوقت نفسه تتكامل وظائف الفصوص مع بعضها البعض‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬روح البيان للشنقيطي (‪.)303 /9‬‬


‫((( انظر‪ :‬تفسير العز‪ ‬بن عبد‪ ‬السالم (‪. )471 /3‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪511‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫والفص األمامي‪ :‬يتميّز عن نظيره في الحيوان‪ ،‬بأن المناطق المسئولة‬


‫ٌ‬
‫عن السلوك وعن الكالم متطورة وبارزة من الناحية التشريحية والوظيفية‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬
‫الموقع والوظيفة‬ ‫َ‬
‫مراكز عصبية‪ ،‬تختلف فيما بينها من حيث‬ ‫يحتوي على عدة‬
‫وهي‪:‬‬
‫‪P P‬القشرة األمامية الجبهية ‪ :PreFrontal Cortex‬وتقع مباشرة خلف‬
‫ُ‬
‫الجبهة‪ ،‬وهي تمثل الجزء األكبر من الفص األمامي للمخ‪ ،‬وترتبط وظيفتها‬
‫بتكوين شخصية الفرد‪ ،‬ولها ً‬
‫أيضا تأثير في تحديد المبادرة ‪Initiative‬‬
‫والتمييز ‪. Judgment‬‬
‫‪P P‬ثم مركز بروكا لحركات النطق ‪ :Motor peech Area of Broca‬ويقوم‬
‫بتنسيق الحركة بين األعضاء التي تشترك في عملية الكالم‪ ،‬كالحنجرة‬
‫واللسان والوجه ‪.‬‬
‫‪P P‬ثم مناطق الحركة وتشمل الحقل العيني الجبهي ‪:Frontal EyeField‬‬
‫ويقوم بالتحريك المتوافق للعينين إلى الجهة المقابلة ‪.‬‬
‫‪P P‬ومركز حركة العضالت األولي والثانوي ‪Primary & Secondary‬‬
‫‪ :Motor Area‬وكالهما مسئوالن عن حركة العضالت اإلرادية‪.‬‬
‫ِّ‬
‫الموجهة‬ ‫وهكذا ثبت أن مقدمة الفص األمامي القابعة في عمق الناصية هي‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ‬
‫للسلوك‪ ،‬والمميزة للشخصية‪ ،‬وقد تؤدي إصابتها إلى هبوط في المعايير األخالقية‬
‫ودرجة التذكر والقدرة على حل المشكالت العقلية‪ ،‬وهذه الحقيقة لم تتضح‬
‫كيفيتها إال حديثا في عصر العلم‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز العلمي‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وص َ‬
‫ف القرآن الكريم الناصية بكونها كاذبة وخاطئة دون بقية األعضاء‪،‬‬ ‫إن‬
‫ُّ َ‬
‫وتوعدها بالعقوبة باعتبارها مسؤولة مباشرة عما يصدر عن اإلنسان من كذب‬
‫‪512‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫خالق‬ ‫وخطيئة‪ ،‬فيه داللة على دقة تعبير القرآن الكريم‪ ،‬وأنه كالم رب العالمين‪،‬‬
‫كل شيء‪ ،‬العليم الحكيم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫العضو المسؤول عن الكذب‬ ‫وفي اآلية إعجاز علمي واضح‪ ،‬فقد حددت بدقة‬
‫والخطأ ـ وهوالناصية ـ في زمن لم يكن يعرف فيه اختصاصات أجزاء الدماغ‬
‫ووظائفها‪ ،‬ولم يدرك ذلك إال في عصرنا الحاضر بعد أن تطور علم وظائف‬
‫األعضاء‪.‬‬

‫صورة بالرنني املغنطيسي تبني مكان الكذب يف الفص اجلبهي‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪513‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫بصمات األصابع‬
‫َ ىَ َ ٰ َ لَىَ ٰٓ َ ُّ‬ ‫َ حَ ۡ َ ُ إۡ َ ٰ ُ َ َّ جَّ ۡ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬أيسب ِ‬
‫ع أن ن َس ّوِ َي‬ ‫ل قدِرِين‬ ‫ن َم َع ع َِظ َ‬
‫ام ُهۥ ‪ ٣‬ب ٰ‬ ‫ٱلنسن ألن‬
‫َب َنان ُهۥ﴾ [ا �ل��ق����ي�ا �م��ة‪.]4-3:‬‬
‫َ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫َّ ً‬
‫مقومة متقنة‪ ،‬فالتسوية كناية‬ ‫قوله‪( :‬نسوي)‪ :‬المراد بالتسوية‪ :‬إعادة خلق البنان‬
‫ْ‬
‫الخلق؛ ألنها تستلزمه‪ ،‬فإنه ما ّ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫سوي إال وقد أعيد خلقه‪.‬‬ ‫عن‬


‫قوله‪( :‬بنانه) البنان‪ :‬أصابع اليدين والرجلين‪ ،‬أو أطراف تلك األصابع‪ ،‬وهو‬
‫جمع بنانه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أصغر األعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية‬ ‫وإذ كانت هي‬
‫َ‬
‫عن تسوية جميع الجسد‪ ،‬لظهور أن تسوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها(‪. )1‬‬

‫((( انظر‪ :‬التحرير والتنوير (‪.)341 /29‬‬


‫‪514‬‬

‫وقد ثبت أن البنان يحتوي على ما يعرف بالبصمة التي يتميز بها اإلنسان‬
‫عن سواه من الناس ‪.‬‬
‫َ‬
‫البعث َ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬وذلك لظنهم أن العظام‬ ‫وفي اآلية رد ٌّ على إنكار كفار قريش‬
‫واختالط تلك األجزاء بغيرها‪ ،‬وبعد ما نسفتها الرياح‬ ‫وصيرورتها ترابا‪،‬‬ ‫بعد ُّ‬
‫تفر ِقها‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫جمعها مرة أخرى؛ فقال تعالى في جوابه‪:‬‬ ‫وطيَّرتها في أباعد األرض ال يمكن‬
‫بلى‪ ،‬فكأنه قيل‪ :‬بل يجمعها‪ ،‬وفي قوله‪( :‬قادرين على أن نسوي بنانه)‪ :‬تنبيه‬
‫إلى أن اهلل سبحانه وتعالى قادر على تأليفها جميعها‪ ،‬وإعادتها إلى التركيب األول‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬رد عليهم رب العزة والجالل بأنه ليس ً‬
‫قادرا على جمع العظام البالية‬
‫فحسب؛ بل حتى على خلق وتسوية بنانه‪ ،‬هذا الجزء الدقيق الذي ّ‬
‫يعرف‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫عن صاحبه‪ ،‬والذي يميّز كل إنسان عن اآلخر مهما حصل له من الحوادث ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫َ‬
‫في عام ‪ 1823‬اكتشف عالم التشريح التشيكي >بركنجي< (‪ )Purkinje‬حقيقة‬
‫البصمات‪ ،‬ووجد أن الخطوط الدقيقة الموجودة في رؤوس األصابع َ‬
‫(البنان)‬
‫تختلف من شخص آلخر‪ ،‬ووجد ثالثة أنواع من هذه الخطوط‪ :‬أقواس أو دوائر‬
‫أو عقد‪ ،‬أو على شكل رابع يدعى المركبات‪ ،‬لتركيبها من أشكال متعددة‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1858‬أي بعد ‪ً 35‬‬
‫عاما‪ ،‬أشار العالم اإلنكليزي >وليم هرشل<‬
‫(‪ )William Herschel‬إلى اختالف البصمات باختالف أصحابها‪ ،‬مما جعلها‬
‫دلياًل مميِّ ًزا لكل شخص‪.‬‬
‫َ‬
‫وفي عام ‪ 1877‬اخترع الدكتور >هنري فولدز< (‪ )Henry Faulds‬طريقة‬
‫وضع البصمة على الورق باستخدام حبر المطابع‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)722 /30‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪515‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وفي عام ‪ 1892‬أثبت الدكتور >فرانسيس غالتون< (‪ )Francis Galton‬أن‬


‫صورة البصمة ألي إصبع تعيش مع صاحبها طوال حياته‪ ،‬فال تتغير رغم كل‬
‫ّ‬
‫الطوارىء التي قد تصيبه‪ ،‬وقد وجد العلماء أن إحدى المومياء المصرية المحنطة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫احتفظت ببصماتها واضحة جليّة‪ .‬وأثبت جالتون أنه ال يوجد شخصان في العالم‬
‫ّ‬
‫التعرجات تظهر على أصابع‬ ‫كله لهما نفس التعرجات الدقيقة‪ ،‬وقد أكد أن هذه‬
‫ً‬
‫الجنين وهو في بطن أمه‪ ،‬عندما يكون عمره بين ‪ 100‬و‪ 120‬يوما‪.‬‬
‫مفوض اسكتلند يارد‪> ،‬إدوارد هنري< (‪Edward‬‬ ‫وفي عام ‪ 1893‬أسس ّ‬
‫نظاما سهاًل لتصنيف وتجميع البصمات‪ ،‬لقد اعتبر أن بصمة أي إصبع‬ ‫ً‬ ‫‪)Henry‬‬
‫ُ‬
‫يمكن تصنيفها إلى واحدة من ثمانية أنواع رئيسية‪ ،‬واعتبر أن أصابع اليدين العشرة‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫هي وحدة كاملة في تصنيف هوية الشخص‪.‬‬


‫وأدخلت في نفس العام البصمات كدليل قوي في دوائر الشرطة في اسكتلند‬
‫يارد‪ .‬كما جاء في الموسوعة البريطانية‪ .‬ثم أخذ العلماء منذ اكتشاف البصمات‬
‫بإجراء دراسات على أعداد كبيرة من الناس من مختلف األجناس‪ ،‬فلم يعثر على‬
‫ً‬
‫مجموعتين متطابقتين أبدا‪ ،‬ويتم تكوين بصمات البنان عند الجنين في الشهر‬
‫ُّ ً‬
‫وتظل ثابتة ومميَّزة طوال حياته ‪.‬‬ ‫الرابع‪،‬‬
‫‪516‬‬

‫ْ‬ ‫ّ‬
‫للتعرجات التي تنشأ من ال ِتحام طبقة األدمة مع البشرة‪،‬‬ ‫والبصمات هي تسجيل‬
‫ً‬
‫وتختلف هذه التعرجات من شخص آلخر‪ ،‬فال تتطابق أبدا بين شخصين‪ ،‬ولذلك‬
‫أصبحت بصمات األصابع دوليا هي الوسيلة المثلى لتحديد هوية األشخاص‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫كان السبق القرآني في اآلية الكريمة في سورة القيامة واضحا‪ ،‬عندما أشارت‬
‫إلى تميّز كل إنسان ببصمة خاصة به‪ ،‬مطبوعة على جلد كل أنملة من أنامل‬
‫أصابعه‪ ،‬قبل أن يعرف الناس ذلك في القرن التاسع عشر الميالدي عندما عرفت‬
‫خصائصها واستخدمت لتحديد هوية األشخاص‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ويالحظ أن اآلية الكريمة ذكرت قدرة اهلل سبحانه وتعالى على إعادة خلق‬
‫ْ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وتسوية أصابعه‪ْ ،‬‬
‫وبع ِثه بعد أن تفرقت أعضاؤه في األرض وفنيت‬
‫أجزاؤه‪ ،‬وفي ذلك أصدق دليل على إعجاز القرآن الكريم ‪.‬‬

‫صورة خلطوط بصمة اإلصبع باجملهر‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪517‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اجللد واإلحساس باألمل‬

‫ُ ً‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ ٗ لُ َّ َ َ َ ۡ ُ ُ ُ‬
‫ت ُجلودهم بَ َّدل َنٰ ُه ۡم ُجلودا‬ ‫َ ُ ۡ‬ ‫﴿إ َّن ذَّٱل َ َ َ ْ َ َ َ‬
‫ضج‬‫ِين كف ُروا ب ِٔايٰتِنا َس ۡوف نصل ِي ِهم نارا كما ن ِ‬ ‫ِ‬
‫يزا حكِيما﴾ [ ل����س�ا ء‪.]56 :‬‬
‫ا �ن‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ي َها يِلَذوقوا ٱلعذاب إن ٱلل كن عز ً‬
‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َغ رۡ َ‬
‫ِ‬ ‫ۗ ِ‬
‫¬‪Ü√é÷]<ÌÀœ⁄<Ì◊ñ‬‬
‫∆‪ÌÈfl‚Å<ÏÇ‬‬

‫‪<ÌÈfí¬<ÌË^„fi‬‬
‫‪ã€◊÷<ÌÈäu‬‬
‫]÷‪ÏÜéf‬‬
‫‪ÏÜ√é÷]<—^â‬‬

‫]˘‪Ì⁄Å‬‬
‫∆‪ÌȌܬ<ÏÇ‬‬

‫]÷◊‪Ì€v‬‬
‫‪Ü√ç<Ì◊Èíe‬‬

‫‪;Èéi^e<‹Èäq‬‬
‫_‪ÌËÁ⁄Å<ÌȬÊ‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫÷‪9í¬<ÃÈ‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َّ‬
‫ود ُهم﴾ أي‪ :‬كلما احترقت جلودهم بَدلهم‬ ‫قوله سبحانه وتعالى ﴿ن ِ‬
‫َ َ ۡ ُ ُ ُ‬
‫ضجت جل‬
‫اهلل جلودا غيرها‪ ،‬أي‪ :‬أعطاهم مكان كل جلد محترق جلدا آخر غير محترق‪،‬‬
‫ُ‬
‫فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص‪ ،‬ألن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي‬
‫لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحترق(‪.)1‬‬

‫((( انظر‪ :‬فتح القدير للشوكاني (‪.)554 /1‬‬


‫‪518‬‬

‫والجلد نعمة من نعم اهلل‪ ،‬ومن فوائد الجلد للجسم‪:‬‬


‫‪P P‬تغطية األعضاء الداخلية‪ ،‬وإعطاء الجسم شكله الخارجي ‪.‬‬
‫‪P P‬حماية الجسم من المؤثرات الخارجية وصد الجراثيم عن دخول الجسم‬
‫بإفراز مواد دهنية تقتل الميكروبات ‪.‬‬
‫‪P P‬إفراز العرق الذي يحافظ على درجة حرارة الجسم‪.‬‬
‫‪P P‬نقل اإلحساس؛ فاألعصاب الحسية في الجلد تنقل اإلشارات الحسية إلى‬
‫مراكز اإلحساس بالمخ‪.‬‬
‫وقد اكتشف العلم الحديث أن اإلنسان يفقد إحساسه باأللم عندما تتلف‬
‫ُ‬
‫النهايات العصبية‬ ‫أعصاب الجلد الحسية‪ ،‬وعندما يحترق الجلد بالكامل تتلف معه‬
‫َ‬
‫المسؤولة عن نقل اإلحساس‪ ،‬وال سبيل حينئذ السترداد اإلحساس إال بجلد بديل‬
‫عن الجلد المحترق‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫كان االعتقاد السائد قبل عصر الكشوف العلمية أن الجسم كله حساس لآلالم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ولم يكن واضحا ألحد أن هناك نهاياتٍ عصبية متخصصة في الجلد لنقل األحاسيس‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫واأللم حتى كشف حديثا دور النهايات العصبية‪ ،‬وتبين أن الجلد هو العضو األهم‬
‫الحتوائه على العدد األكبر منها ‪.‬‬
‫وقد قام الدكتور هيد ‪ Head‬بتقسيم اإلحساس الجلدي إلى مجموعتين‪:‬‬
‫‪P P‬إحساس أساسي ‪ :Protopathic‬ويختص باأللم‪ ،‬ودرجة الحرارة‬
‫الشديدة ‪.‬‬
‫‪P P‬وإحساس دقيق ‪ :Epicritic‬ويختص بتمييز اللمس الخفيف‪ ،‬والفرق‬
‫البسيط في درجة الحرارة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪519‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وكل إحساس منهما‪ :‬يعمل بنوع مختلف من الوحدات العصبية‪ ،‬ومع تجدد‬ ‫ُّ‬
‫ً‬
‫سريعا‪ ،‬بعد حوالي شهر ونصف‪،‬‬ ‫األعصاب في الجروح يعود اإلحساس األساسي‬
‫أما اإلحساس الدقيق‪ :‬فقد يتأخر إلى عامين وقد ال يعود‪.‬‬
‫والنهايات العصبية في الجلد تخصصية؛ كل منها مخصص بإحساس‬
‫محدد‪ ،‬مثل‪ :‬اللمس والضغط والحرارة والبرودة واأللم‪ ،‬وتبعا لمن اكتشفها‬
‫أو قام بدراستها تسمى النهايات العصبية في الجلد بمسميات مختلفة مثل جسيمات‬
‫مايسنر ‪ ،Meissner‬وجسيمات ميركل ‪ ،Merkel‬وبصيالت كروز ‪،Krause‬‬
‫واسطوانات روفيني ‪ ،Ruffini‬وقد أثبت التشريح النسيجي لألعصاب أن األلياف‬
‫العصبية الخاصة باأللم والحرارة متقاربة وإذا اشتدت الحرارة يتحول اإلحساس‬
‫بالحرارة إلى ألم‪.‬‬
‫]‚‪l]á]àj‬‬
‫‪Ÿ^¬<º«ï‬‬
‫‪ÃÈÀ}<ãπ‬‬
‫≥‪Ç◊¢]<ÅÇ‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫‪<l^€Èäq‬‬ ‫‪<l^€Èäq <l^€Èäq <l^€Èäq‬‬


‫‪ÜfläË^⁄‬‬ ‫‪áÊÜ“ ÿ“4⁄ ;È ÊÖ‬‬

‫وفي حالة الحروق تدمر تكوينات الجلد‪ ،‬وعلى حسب إصابة الطبقات‬
‫الثالث تقسم الحروق إلى درجات ثالث‪ :‬سطحي وجزئي وعميق‪ ،‬وفي الدرجة‬
‫الثانية تصل اإلصابة لألدمة ويعاني المصاب من فرط إحساس وآالم شديدة نتيجة‬
‫إلثارة النهايات العصبية المكشوفة‪ ،‬وفي الدرجة الثالثة تحترق كل الطبقات ويشعر‬
‫‪520‬‬

‫َ‬
‫المصاب بخدر نتيجة تحطم النهايات العصبية وال سبيل إلعادة اإلحساس إال‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يعرف هذه الحقيقة‬ ‫بتبديل الجلد بغيره‪ ،‬وما كان بوسع بش ٍر قبل اختراع اجملهر أن‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫عشر قرنا مضت‪.‬‬ ‫التي أشار إليها القرآن الكريم منذ أربعة‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬

‫عندما نزل قوله تعالى ﴿إِن ٱلِين كفروا ب ِ‬


‫ارا لُكَّ َما نَض َ‬
‫ج ۡ‬ ‫َّ ذَّ َ َ َ ُ ْ َ ٔ َ‬
‫ايٰت ِ َنا َس ۡو َف نُ ۡصل ِيه ۡم نَ ٗ‬
‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِيما﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪.]56 :‬‬ ‫ُ ُ ُ ُ َ َّ ۡ َ ُ ۡ ُ ُ ً َ رۡ َ َ ُ ُ ْ ۡ َ َ َ‬
‫يزا َحك ٗ‬ ‫اَ‬
‫ٱلل ك َن َعز ً‬ ‫اب إ َّن هَّ َ‬
‫ِ‬ ‫جلودهم بدلنٰهم جلودا غيها يِلَذوقوا ٱلعذ ۗ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الناس ذلك إال بعد تقدم‬ ‫يدرك‬
‫ِ‬ ‫ولم‬ ‫باإلحساس‪،‬‬ ‫الجسم‬ ‫عالقة‬ ‫لم تكن تعرف‬
‫علم التشريح وعلم وظائف األعضاء‪ ،‬في العصور المتأخرة‪.‬‬
‫َ‬
‫حقائق في هذا اجملال‪ ،‬عند معرض حديثه لحال‬ ‫وما ذكره القرآن الكريم من‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫الكفار وهم يعذبون‪ ،‬هو إعجاز يدل على صدق صاحب الرسالة محمد !‪.‬‬

‫صورة باجملهر اإللكرتوني لطبقات اجللد‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪521‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫أمل األمعاء‬

‫ي‬ ‫ِيها ٓ َأنۡ َه ٰ ‪ٞ‬ر ّمِن َّمآء َغ رۡ‬ ‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬مثل ٱلنةِ ٱل يِت وعِد ٱلمتق‬
‫َّ َ ُ جۡ َ َّ َّ ُ َ ۡ ُ َّ ُ َ‬
‫ونۖ ف َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ َ ۡ َ ‪ َّ ّ ٞ‬نَ َّ ۡ َ َ َ رَّ ۡ َ ۡ ُ ُ َ َ ۡ َ ‪ ۡ ّ ٞ‬مَ ۡ ذَّ َّ ّ َّ ٰ َ َ َ ۡ َ ‪ّ َ ُّ َ َ ۡ ّ ٞ‬ىٗ‬ ‫َ‬
‫ب لم يتغي طعمهۥ وأنهٰر مِن خ ٖر لة ٖ ل ِلش ِربِني وأنهٰر مِن عس ٖل مصفۖ‬ ‫ءاس ِٖن وأنهٰر مِن ل ٖ‬
‫َّ َ ُ ُ ْ َ ٓ ً مَ ٗ َ َ‬ ‫ت َو َم ۡغ ِف َرة ‪ّ ٞ‬مِن َّر ّبه ۡم َك َم ۡن ُه َو َخ ٰ دِ ‪ٞ‬‬ ‫َول َ ُه ۡم ف َ‬
‫ِيها مِن لُ ّ َّ‬
‫ِيما فق َّط َع‬ ‫ل يِف ٱنلارِ وسقوا ماء ح‬ ‫ِِ ۖ‬ ‫ك ٱثل َم َر ٰ ِ‬‫ِ‬
‫َ ٓ‬
‫أ ۡم َعا َء ُه ۡم﴾ [ حم��م�د‪.]15:‬‬

‫]‪ÏÇ{{{{{√π‬‬
‫]˜‪Üé¬<^flm‬‬

‫]˘‪<^√⁄‬‬
‫]÷‪‹Ò^í‬‬
‫]÷‪̜ȌÇ‬‬
‫]˘‪<ÌøÈ◊«÷]<^√⁄‬‬
‫]÷◊‪ÍÀÒ^À‬‬

‫]÷‪ÌËÅÊÇ÷]<ÏÇÒ]à‬‬

‫]‪‹Èœjäπ‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ‬ ‫ِيما َف َق َّط َع أَ ۡم َعا ٓ َء ُه ۡم﴾ أي‪ّ :‬‬
‫حارا شديد الغليان‪،‬‬ ‫قوله سبحانه وتعالى ﴿ َو ُس ُقوا ْ َما ٓ ًء مَح ٗ‬
‫َ َّ‬
‫إذا دنا منهم شوى وجوههم‪ ،‬ووقعت فروة رؤوسهم‪ ،‬فإذا شربوه قط َع أمعاءهم‬
‫عي‪ ،‬والتثنية معيّان‪ ،‬وهو جميع ما في البطن‬ ‫وأخرجها من دبورهم‪ .‬واألمعاء‪ :‬جمع َم ّ‬
‫من الحوايا (‪. )1‬‬

‫((( تفسير القرطبي (‪.)237 /16‬‬


‫‪522‬‬

‫ويالحظ دقة التعبير القرآني ومناسبته للحال عند تعبيره بلفظ (التقطيع) عند‬
‫ألما‬ ‫ُ‬
‫يقطع أمعاءَهم؛ فيحدث لهم ً‬ ‫وصف عذاب الكفار وهم يتجرعون ماء حميما‬
‫ال يُحتمل؛ إذ ال ينتج ذلك إال بتقطيع األمعاء دون سواه كالحرق وغيره‪.‬‬
‫وفي ذلك إشارة إلى أن األمعاء ال تشعر بالحرارة إال عندما تتقطع ويتخللها‬
‫الحميم ‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫كشف ُ‬
‫يتكون من طبقات‪:‬‬ ‫علم التشريح النسيجي حديثا‪ :‬أن جدار األمعاء‬
‫الطبقة الداخلية وتسمى بالطبقة المخاطية‪ ،‬والطبقة العضلية الوسطى‪ ،‬والطبقة‬
‫الخارجية المحاطة بطبقة الصفاق أو الغشاء البريتوني ‪ ،Peritoneum‬وبينهما‬
‫منطقة غنية باألعصاب تسمى بالمساريقا ‪.Mesentery‬‬
‫‪<<ÏÅÖÊ_Ê<∞Ë]Üç‬‬
‫]‪^œËÖ^äπ‬‬ ‫‪Ì{{{{Èõ‬‬
‫]§^‪ÌÈqÖ‬‬
‫]÷�‪<Ìœf‬‬
‫]‪^œËÖ^äπ‬‬ ‫‪Ì{{{{Èõ‬‬ ‫]÷‪ÌÈ◊}]Ç‬‬ ‫]‪ÌÈõ^~π‬‬
‫_‚‪h]Ç‬‬
‫∆‪ÌÈõ^ß<ÅÇ‬‬
‫∆‪ÌÈõ^ß<k†<ÅÇ‬‬

‫‪Íõ^ß<Í◊ñ¬<sÈäfi‬‬

‫‪ÎÊ^Àπ<^¬Ê‬‬
‫]÷«‪<^é‬‬
‫]‪Íõ^~π‬‬ ‫_‪ÌËÁ⁄Å<ÌȬÊ‬‬
‫‪<k†<Ìœfõ‬‬
‫]÷«‪<^é‬‬
‫]‪Íõ^~π‬‬ ‫]÷‪ÌÈõ^~π]<ÌËÁ√π]<Ï4Àø‬‬
‫]÷�‪<Ìœf‬‬
‫]÷√‪ÌÈ◊ñ‬‬ ‫‪ÌËÜÒ]Å<ÌÈ◊ñ¬<Ìœfõ‬‬

‫‪<Ìœfõ‬‬ ‫]÷‪ÌÈ◊ñ√÷]<ÌËÁ√π]<Ï4Àø‬‬
‫]÷‪<—^Àí‬‬ ‫‪ÌÈ÷Áõ<ÌÈ◊ñ¬<Ìœfõ‬‬
‫]÷‪ÍfiÁjË2‬‬

‫ونجد أن هذا اإلبداع في التكوين جعل األمعاء من الداخل في حماية‬


‫من المؤثرات التي يمكن أن تسبِّب األلم‪ ،‬وإذا تقطعت األمعاء وبلغت المؤثرات‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫منطقة المساريقا شعر اإلنسان بغاية األلم‪ ،‬فتأمل لماذا استخدم القرآن في حالة‬
‫َ ٓ‬
‫األمعاء وفي مقام بيان غاية اإليالم هذا التعبير المعجز‪﴿ :‬فق َّط َع أ ۡم َعا َء ُه ۡم﴾‪ ،‬وهذا‬
‫ََ‬

‫يتوافق مع كون األمعاء خالية من األعصاب الحسية ‪.‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪523‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫فإذا أدخلنا منظارا داخل الجهاز الهضمي ال يشعر اإلنسان ِّ‬


‫بأي ألم إال في منطقة‬
‫ٍ‬
‫البلعوم‪ ،‬أثناء دخول المنظار‪ ،‬ولكن المريض يشعر باأللم عند وجود ثقوب‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫قرحة أو اهتراء ونحوها؛ألن باطن األمعاء خالية من اإلحساس؛‬
‫ٍ‬ ‫في األمعاء‪ ،‬نتيجة‬
‫حيث ال توجد األعصاب الحسية إال في الغشاء البريتوني‪ ،‬ولذلك يعاني المريض‬
‫الذي يُصاب بثقب في األمعاء من ألم شديد‪ ،‬يستلزم إجراء جراحة طارئة ‪.‬‬
‫ونعلم حاليا أن اإلنسان عندما يتعرض أللم شديد قد يفقد الوعي كوسيلة‬
‫َ‬
‫للدفاع عن النفس‪ ،‬لكن التعبير في القرآن قد احتاط وقطع علىهم هذه األمنية‬
‫في قوله تعالى‪﴿ :‬وٱلِين كفروا لهم نار جهنم ل يق ٰ‬
‫َ ُ ْ اَ خُ َ َّ ُ‬ ‫َ ذَّ َ َ َ ُ ْ َ ُ ۡ َ ُ َ َ َّ َ اَ ُ ۡ ىَ َ َ‬
‫ض عل ۡي ِه ۡم ف َي ُموتوا َول يفف‬
‫نزِي ك كفورٖ﴾ [ ف��ا طر‪ ]36:‬فيبقوا في حالة عذاب مستمر؛‬ ‫َ ۡ ُ ّ ۡ َ َ َ َ َ ٰ َ جَ ۡ‬
‫لُ َّ َ ُ‬
‫ً‬
‫عنهم مِن عذابِها ۚ كذل ِك‬
‫ُ‬
‫ال هم باألحياء وال هم باألموات‪ ،‬مبالغة في اإليالم‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لم يعرف اإلنسان عدم إحساس باطن األمعاء واستجابتها للمؤثرات الخارجية‬
‫ُّ‬
‫من حرارة شديدة أو برودة وسواها إال بعد تقد ِم علم التشريح‪ ،‬والتعرف على وظائف‬
‫وخصائصها في القرون األخيرة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫األعضاء‬
‫وما جاء في القرآن الكريم حول تعذيب الكفار في قوله سبحانه وتعالى ﴿وسقوا‬
‫َُ ُ ْ‬
‫ُ‬
‫العلم‬
‫َ ٓ‬
‫ِيما فق َّط َع أ ۡم َعا َء ُه ۡم﴾ يشير إلى هذه الحقيق‪،‬ة ويتوافق مع ما وصل إليه‬
‫َ ٓ ً مَ ٗ َ َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ماء ح‬
‫في هذا الخصوص ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫والتعبير القرآني الكريم كان غاية في الدقة‪ ،‬عندما استعمل لفظة (فقطع) التي‬
‫ّ‬
‫تشير إلى أن األلم ال يحدث للكفار إال بتقطع أمعاءهم؛ مما يؤدي إلى مالمسة‬
‫الماء الحار لألعصاب الحسية‪ ،‬فيشعرون عندها بأشد األلم‪ ،‬وما كان بوسع أحد‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يعرف هذه الحقائق‪ ،‬مما يؤكد أن القرآن الكريم هو كالم‬ ‫وقت نزول القرآن أن‬
‫الخاّلق العليم‪ ،‬وما جاء به معجز للبشر جميعهم‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪525‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ُّ‬
‫الذباب‬

‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ ُ رُ َ َ َ ‪ ْ ُ َ ۡ َ ٞ‬هَ ُ ٓ َّ ذَّ َ َ ۡ ُ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬يأيها ٱنلاس ِ‬
‫هَّ‬ ‫ُ‬
‫ٱلل‬
‫ِ ِ‬ ‫ون‬ ‫د‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ون‬ ‫ضب مثل فٱست ِمعوا ل ۚۥ إِن ٱلِين تدع‬
‫اَّ‬ ‫ٗ‬
‫اب َش ۡي ٔا ل ي َ ۡستَنقِ ُذوهُ م ِۡن ُه َض ُع َف َّ‬ ‫َ ۡ ُ ۡ ُ ُ ُّ‬ ‫ْ هَ‬ ‫يلُ ُقوا ْ ُذبَ ٗ‬
‫ابا َولَو ۡ‬ ‫َ خَ ۡ‬
‫ٱلطال ُِب‬ ‫ۚ‬ ‫ٱذلبَ ُ‬ ‫ٱج َت َم ُعوا ُل ۖۥ ِإَون يسلبهم‬ ‫ِ‬ ‫لن‬
‫يز﴾ [ا �ل�ح��ج�‪.]74-73 :‬‬ ‫َوٱل ۡ َم ۡطل ُ‬
‫َ‬
‫ٱلل لقو ٌّي َعز ٌ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ٱلل َح َّق ق ۡدره ِۦٓ إ َّن هَّ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وب ‪َ ٧٣‬ما ق َد ُروا هَّ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِۚ ِ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫لقد ضرب اهلل مثال للكفار بالذباب‪ ،‬وتحداهم بأن ما يعبدونهم ويتجهون‬
‫ابا﴾ وهو أصغر المخلوقات وأحقرها ﴿ولوِ ٱجتمعوا‬ ‫إليهم من دون اهلل ﴿لن‬
‫ََ ََُۡ ْ‬ ‫يلُ ُقوا ْ ُذبَ ٗ‬
‫َ خَ ۡ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تضافر ْت جهودهم‪ ،‬واجتمع ُ‬ ‫َ‬
‫جميعا ال واحدا واحدا‪.‬‬ ‫أمرهم‬ ‫ُل ۖۥ﴾ يعني‪:‬‬
‫هَ‬

‫وقوله تعالى‪﴿ :‬لن يلقوا ذبَ ٗابا﴾ جاءت بنفي المستقبل‪.‬‬


‫خَ ۡ ُ ُ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫َْ‬
‫اب ش ۡي ٔا ل ي َ ۡستنقِذوهُ م ِۡن ُ ۚه﴾ لما كانت عملية الخلق‬ ‫وقوله تعالى‪ِ﴿:‬إَون يسلبهم ٱذلب‬
‫َ ُ‬ ‫َ ۡ ُ ۡ ُ ُ ُّ َ ُ َ ٗ اَّ‬
‫َْ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫صعبة ال يُتحدى بها‪ ،‬تحداهم بما هو أسهل من الخلق ﴿ِإَون يسلبهم ٱذلباب شي ٔا ل‬
‫َ ۡ ُ ۡ ُ ُ ُّ َ ُ َ ٗۡ اَّ‬

‫ي َ ۡستنقِذوهُ م ِۡن ُ ۚه﴾‪.‬‬


‫َ ُ‬

‫وهل يستطيع أحد أن يُعيد ما أخذه الذباب من طعامه على جناحيه أو أرجله‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َْ‬
‫أو خرطومه؟ وهذه مسألة أسهل من مسألة الخلق‪.‬‬
‫وب﴾ يعني‪ :‬كالهما ضعيف‪،‬‬ ‫لذلك يقول تعالى بعدها‪َ ﴿ :‬ض ُعف َّ‬
‫ُ‬
‫ٱلطال ُِب َوٱل َم ۡطل ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫فالذباب في ذاته ضعيف‪َ ،‬وه ْم كذلك ضعفاء‪ ،‬بدليل أنهم لن يقدروا على استنقاذ‬
‫ٌ َّ‬
‫وضعيف قوته في أنه ُم ِق ٌّر‬
‫ٌ‬ ‫ضعيف يدعي القوة‪،‬‬ ‫ما سلبهم الذباب منهم‪ ،‬لكن هناك‬
‫بضعفه‪.‬‬
‫‪526‬‬

‫ٱلل َح َّق ق ۡدرِهۚ ِۦٓ‪ ﴾..‬يعني‪ :‬هؤالء الكفار الذين عبدوا‬


‫وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ما ق َد ُروا هَّ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ْ َّ‬
‫من دون اهلل آلهة ال تستطيع أن تخلق ذبابًا‪ ،‬والتستطيع حتى أن ترد من الذباب ما‬
‫َْ‬
‫أخذه‪ ،‬هؤالء ما عرفوا هلل قدره‪ ،‬ولو عرفوا قد َر اهلل ما عبدوا غيره‪.‬‬
‫َْ‬
‫والقدر‪ :‬يعني مقدار الشيء‪،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ُ‬
‫المقدار في حقه تعالى عظمته في صفات الكمال فيه أي‪ :‬ما عظموه ح َّق‬
‫َْ‬ ‫َْ‬
‫التعظيم الذي ينبغي له‪ ،‬وما عرفوا قدره‪ ،‬ولو عرفوا قدره ما عبدوا غيره‪ ،‬وال‬
‫ً‬
‫عبدوا أحدا معه من هذه اآللهة التي ال تخلق ذبابًا‪ ،‬وال حتى تسترد ما أخذه منهم‬
‫َ َّ َ َ َّ‬ ‫ُ َ‬
‫هلل تعالى‬
‫الذباب‪ ،‬فكيف يسوون هؤالء باهلل ويقارنونهم به عز وجل؟ إنهم لو عرفوا ِ‬
‫َْ‬
‫َ‬
‫الستحيوا من ذلك كله(‪.)1‬‬ ‫قد َره‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫طعامه خارج جهازه الهضمي عن طريق إفراز إنزيمات‬ ‫إن الذباب يهضم‬
‫ُّ‬
‫هاضمة على طعامه ثم يمتصه بخرطومه على شكل سائل‪ ،‬يدخل إلى جهازه‬
‫الهضمي‪ ،‬ثم يسير عبر الدورة الدموية إلى خالياه‪ ،‬ويتحول جزءٌ من طعامه‬
‫ّ‬
‫إلى طاقة تمكنه من الطيران‪ ،‬وبعضه يتحول إلى بناء خاليا وأنسجة‪ ،‬وما تبقى‬
‫يطرح على شكل فضالت‪ ،‬فأين تكون قطعة الطعام التي استلبها منهم‪ ،‬وما السبيل‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫إلى استرجاعها‪َ ،‬‬
‫يجمع األجزاء التي استهلكت في طاقة طيران‬ ‫يستطيع إذن أن‬ ‫ومن‬
‫أنسجة!‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الذباب واألجزاء التي تحولت إلى‬
‫وتكوين الذباب تشريحيا ووظيفيا على درجة كبيرة من التعقيد والتكيف مع‬
‫َ‬
‫بيئتها؛ مما ينفي الصدفة العمياء في تكوينها وإعدادها كآية على بديع صنع الخالق‬
‫وقدرته‪.‬‬
‫ففي البداية تقوم الذبابة بمعاينة الغذاء عن طريق جملة عيون مركبة‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الشعراوي (‪.)9936- 9933 /16‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪527‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ومستشعرات كيماوية تستشعر بها موضع الغذاء‪ ،‬وتهيئة األعضاء التي ستستخدمها‬
‫ّ‬
‫ب للطيران‪ ،‬وذلك بتعديل وضع أعضاء التوازن‬ ‫ِ‬ ‫التأه‬ ‫في الطيران‪ ،‬ثم تأخذ وضعية‬
‫الموجودة في الجهة األمامية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وأخيرا تقوم بحساب زاوية اإلقالع معتمدة على اتجاه الريح التي تحددها‬
‫ً‬ ‫بواسطة ّ‬
‫مرفرفة بأجنحتها‬
‫ِ‬ ‫حساسات موجودة على قرون االستشعار‪ ،‬ثم تطير‬
‫وب الغذاء‪ ،‬وهي قادرة على زيادة سرعتها حتى تصل إلى ‪10‬كم ‪/‬في الساعة‬ ‫َ‬
‫ص َ‬
‫إذا تَ َط ّلب األمر‪ ،‬إال أن كل هذه العمليات ال تستغرق َ‬
‫أكثر من ‪ 100/1‬من الثانية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متعسرا‬ ‫مسارا متعرجا في الهواء‪ ،‬بطريقة تجعل اصطيادها‬ ‫وهي تسلك أثناء طيرانها‬
‫على مفترسات الحشرات ‪.‬‬
‫]÷‪å_Ü‬‬ ‫]÷‪ÖÇí‬‬ ‫]÷‪‡�f‬‬
‫ﻗﺎﻋﺪﺓ ﺍﳉﻨﺎﺡ‬

‫ﺻﻔﻴﺤﺔ‬ ‫ﺻﻔﻴﺤﺔ‬

‫ﻋﻴﻮﻥ ﻣﺮﻛﺒﺔ‬ ‫ﺟﻨﺎﺡ‬

‫ﺻﻔﻴﺤﺔ ﺑﻄﻨﻴﺔ‬

‫ﻗﺮﻭﻥ ﺍﺳﺘﺸﻌﺎﺭ‬ ‫ﺩﺑﻮﺱ ﺗﻮﺍﺯﻥ‬

‫ﺻﻔﻴﺤﺔ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ﻗﺮﻥ ﺍﺳﺘﺸﻌﺎﺭ‬
‫ﺍﻟﻔﺨﺬ‬
‫ﻣﻠﻤﺲ‬ ‫ﺍﻟﺴﺎﻕ‬
‫ﻣﺨﻠﺐ‬

‫ﺷﻔﺔ‬ ‫ﺭﺳﻎ ﺍﻟﻘﺪﻡ‬


‫ﺍﻟﻔﻢ‬

‫ُ‬
‫فهي تستحق الوصف بسيدة الطيران البهلواني‪ ،‬كما يمكنها اإلقالع عموديًا‬
‫ﺷﻔﺔ‬

‫َ‬
‫بغ ِّ‬ ‫ّ‬
‫ض النظر‬ ‫من المكان الذي تقف فيه‪ ،‬وأن تحط بنجاح على أي سطح‪،‬‬
‫ٌ‬
‫مهيأة للتثبت بقوة َ‬ ‫ً‬
‫أكبر من وزنها‪.‬‬ ‫عن انحداره حتى لو كان سقفا؛ ألن أقدامها‬
‫‪528‬‬

‫َ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬


‫األسقف‪،‬‬ ‫وتوجد على رؤوس أقدامها وسادات تفرز سائاًل لزجا عندما تالمس‬
‫ِّ‬
‫ُ‬
‫تقترب منه‪ ،‬وما إن تشعر بمالمسته‬ ‫وتقوم الذبابة ِب َمد سيقانها باتجاه السقف‪ ،‬عندما‬
‫حتى تستدير وتمسك بسطحه ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وتحمل ذبابة المنزل جناحين رقيقين‪ ،‬يتحركان عند الطيران إلى األمام‬
‫ُ‬
‫والخلف‪ ،‬على محور واحد في ذات الوقت‪ ،‬ومع ذلك يمكنها استعمال أحدهما‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بمعدل َ‬
‫أكبر من اآلخر‪ ،‬مما يمكنها من الطيران المتعرج وتجنب االفتراس ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ُّ‬
‫وتستمد الذبابة مهارتها الفائقة في الطيران من التصميم المثالي لألجنحة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وتغطي النهاياتِ السطحية واألوردة الموجودة على األجنحة شعيرات حساسة‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫جدا؛ مما يسهل على هذه الحشرة تحديد اتجاه الهواء والضغوط الميكانيكية عند‬
‫اإلقالع واالنبساط عند الهبوط ‪.‬‬
‫وتقوم الحساسات الموجودة تحت األجنحة والرأس بنقل معلومات الطيران‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫إلى الدماغ‪ ،‬فإذا صادفت الحشرة ً‬
‫هوائيا جديدا أثناء طيرانها تقوم هذه‬ ‫تيارا‬
‫الحساسات بنقل المعلومات الجديدة في الحال إلى الدماغ‪ ،‬وعلى أساسها تبدأ‬
‫العضالت بتوجيه األجنحة باالتجاه الجديد ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبهذه الطريقة تتمكن الذبابة من اكتشاف تغيّرات محيطها أثناء الطيران‪،‬‬
‫أي تيار هوائي إضافي‪ ،‬والهرب إلى مكان آمن في الوقت المناسب ‪.‬‬ ‫باستشعار ِّ‬

‫وتتكون عين الذبابة من ‪ 6000‬بنية عينية سداسية‪ ،‬يطلق عليها اسم >العيينات<‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منحى مختلفا‪ ،‬بحيث تتمكن من معاينة كل الجهات؛‬ ‫تأخذ كل من هذه العوينات‬
‫أي أن حقل رؤيتها لما حولها تتسع زاويته ‪°360‬؛ مما يمكنها من تحديد موضع‬
‫الغذاء بدقة‪ ،‬والهروب سريعا في االتجاه المعاكس لمصدر الخطر‪.‬‬
‫وتتصل ثمانية أعصاب مستقبلة للضوء بكل واحدة من هذه العوينات؛‬
‫مما يجعلها في غاية الكفاءة والسرعة في االستشعار‪ ،‬بحيث تعالج حوالي ‪100‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪529‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫صورة في الثانية الواحدة‪ ،‬فمن الذي حسب كل هذه الحسابات بدقة بالغة‪ ،‬وهيّأها‬
‫على تلك الصورة المذهلة تشريحيا ووظيفيا!‪.‬‬

‫العيينات لدى الذبابة‬


‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫البيض داخل الثمرة خاصة الجوافة‪ ،‬لتتغذى يرقاتها عليها‬ ‫وتضع ذبابة الفاكهة‬
‫بعد الفقس‪ ،‬وغالبا تسقط الثمرة لتكمل العذارى دورتها في التربة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫تشابه كبير بين جينات ذباب الفاكهة وجينات اإلنسان‪ ،‬مما يعني أن‬ ‫وقد وجد‬
‫دراستها تفتح مجاال واسعا لخدمة اإلنسان في عالج األمراض خاصة السرطان ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وتوماس هانت مورجان هو أول من اكتشف أهمية الذباب في أبحاث الوراثة‬
‫والتخليق في بدايات القرن العشرين‪ ،‬ويستخدم ذباب الفاكهة منذ مائة عام‬
‫المورثات لعدة أسباب؛ منها اشتراكه مع البشر في أكثر من ‪ 20‬جينا‬ ‫ّ‬ ‫في دراسة‬
‫وراثيا خاصا بحرق الدهون‪ ،‬ولذا عملية استخالص الطاقة من الدهون لدى الذبابة‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫حد مذهل تلك التي يقوم بها الجسم البشري؛ مما يعطي األمل لعالج‬ ‫تشبه إلى ٍّ‬
‫مرض البول السكري وأمراض الكبد‪.‬‬
‫وتحتوي خاليا بعض أنواع ذبابة الفاكهة على ثالثة أزواج فقط من المورثات‬
‫الضخمة الواضحة مجهريا في مقابل ‪ 23‬زوجا عند اإلنسان‪ ،‬ومن أسباب استخدام‬
‫ذبابة الفاكهة إذن ألبحاث الوراثة والتخليق ما يلي‪:‬‬
‫‪P P‬كونها صغيرة الحجم‪ ،‬قصيرة العمر‪ ،‬بحيث تسهل دراسة أجيال عدة‬
‫في فترة وجيزة ‪.‬‬
‫‪530‬‬

‫ّ‬
‫‪P P‬تتكاثر بسرعة؛ ألن دورة حياتها ال تتعدى أسبوعين‪ ،‬مع سهولة التربية‬
‫ً‬
‫أمراضا ‪.‬‬ ‫وقلة التكاليف‪ ،‬وال تنقل لإلنسان‬
‫ٌ‬ ‫‪ّ PP‬‬
‫مورثاتها ضخمة بسيطة سهلة الدراسة‪.‬‬
‫‪P P‬التشابه الجيني بينها وبين اإلنسان‪ ،‬ويمكن تبدل صفات الجنسين بتبديل‬
‫الجين المسؤول‪ ،‬مما يعني إمكان تغيير الصفات‪ ،‬وقد اكتشفت مورثة‬
‫عند الذباب تماثل مورثة عند اإلنسان‪ ،‬وقد أمكن عزل بروتين ضروري‬
‫لنمو األجنة في ذبابة الفاكهة‪ ،‬يساعد الثديّات في التئام الجروح مما يعني‬
‫ّ‬
‫إمكانية االستفادة منها في استحداث آليات اللتئام الجروح عند البشر‪.‬‬

‫التشابه اجليين بني اإلنسان وذبابة الفاكهة‬


‫وذبابة الفاكهة قد تساعد على إيجاد طريقة للعثور على مركبات‪ ،‬تزيد نشاط‬
‫عالج للسرطان‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الجسم في مكافحة المواد السامة؛ األمر الذي قد يساعد في إيجاد‬
‫تخليق صور جديدة من الحياة ‪.‬‬ ‫ب في أبحاث الوراثة‪ ،‬ومحاولة‬ ‫األنس ُ‬
‫َ‬ ‫فالذبابة إذن هي‬
‫ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪531‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وقد أجريت تجارب على ذبابة الفاكهة لسنوات طويلة وتم إجراء تغييراتٍ‬
‫جينية‪ ،‬وإنتاج طفرات؛ فنتج أكثر من (‪ )400‬نوع‪ ،‬ولكن كلها مشوهة أو عقيمة‬
‫ال تنتج نسال‪.‬‬
‫َ‬
‫وقبل أن ينشأ علم الوراثة وتصبح الدراسات في محاوالت تخليق ونقل‬
‫َ‬
‫البشر أن يجتمعوا ويخلقوا‬ ‫الصفات الوراثية واقعا ملموسا تحدى القرآن الكريم‬
‫ذبابا ‪.‬‬
‫وقد فشلت كل المحاوالت لخلق خلية حيّة واحدة من جسم ذبابة؛ فكيف‬
‫َّ‬
‫بجسم الذباب البالغ التعقيد والتنظيم والكفاءة الوظيفية‪ ،‬بل تحداهم بأقل من ذلك‪،‬‬
‫َ‬
‫وهو استنقاذ ما يسلبهم من طعام‪ ،‬فعجزوا وأثبت العلم استحالة ذلك عليهم ‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ُ‬
‫الذباب إلطعام‬ ‫عدم إمكانية استرجاع ما يأخذه‬‫َ‬ ‫لقد أكدت البحوث العلمية‬
‫نفسه‪ ،‬وذلك بسبب التحوالت التي تحدث على الطعام كما سبق بيانه‪ ،‬وقد كان‬
‫للنص القرآني السبق في اإلشارة إلى هذه الحقيقة‪ ،‬وذلك في قوله سبحانه وتعالى‬
‫ً‬
‫اب ش ۡي ٔا ل ي َ ۡستنقِذوهُ م ِۡن ُ ۚه﴾ وكان ذلك قبل أربعة عشر قرنا‪ ،‬حيث‬ ‫﴿ِإَون يسلبهم ٱذلب‬
‫َ ُ‬ ‫َ ۡ ُ ۡ ُ ُ ُّ َ ُ َ ٗ اَّ‬
‫كان يستحيل على البشر إدارك تلك الحقيقة‪ ،‬فكان في ذلك مثااًل ً‬
‫رائعا من أمثلة‬
‫اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪533‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫البعوضة‬

‫وض ٗة َف َما فَ ۡو َق َها ۚ فَأَ َّما ذَّٱل َ‬ ‫َّ هَّ َ اَ َ ۡ َ يۡ ٓ َ َ رۡ َ َ َ اٗ َّ َ ُ َ‬


‫ِين‬ ‫ضب مثل ما بع‬ ‫حۦ أن ي ِ‬‫قال تعالى‪﴿ َ :‬إِن ٱلل ل يست ِ‬
‫َّ ّ ۡ َ َ َّ ذَّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ُ َ َ َ ٓ َ َ َ هَّ ُ َ َ َ َ اٗ‬ ‫ون أنَّ ُه حۡ َ‬
‫َ َُ ْ َََُۡ َ‬
‫ٱل ُّق مِن رب ِ ِهمۖ وأما ٱلِين كفروا فيقولون ماذا أراد ٱلل بِهٰذا مثل ۘ‬ ‫ءامنوا فيعلم‬
‫يُ ِضل بِهِۦ كثِريا َويهدِي بِهِۦ كثِري ۚا وما ي ِضل بِهِۦ إِل ٱلف ِسقِني﴾ [ ب���ر ‪.]26 :‬‬
‫َ ا ��ل ق �ة‬ ‫َ ٗ َ َ ُ ُّ ٓ اَّ ۡ َٰ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ ْ‬
‫حۦٓ﴾ فيه تنبيه من الخالق أنه اَل ي َ ْستح ِيي أن يضرب األمثال‬
‫قوله‪﴿ :‬ل يست ِ‬
‫اَ َ ۡ َ يۡ‬

‫بأي من مخلوقاته؛ إذ ليس مما يستحى منه‪ ،‬وألن المخلوقات متساوية‬


‫ُ‬
‫ذكر االستحيا ِء‬ ‫في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها‪ ،‬وقد يكون‬
‫مجاراة لقولهم‪ :‬أما يستحي ُّ‬ ‫ً‬
‫رب محمد ! أن يضرب مثال بالذباب‬ ‫هنا‬
‫والعنكبوت‪.‬‬
‫والمعنى أن يضرب البعوضة مثال فيضرب ما فوقها أي ما هو أحقر من البعوضة‪،‬‬
‫مثل‪ّ :‬‬
‫الذرة وأكبر منها مثل العنكبوت والحمار‪.‬‬
‫ني﴾ بيان أن للفسق تأثيرا في زيادة الضالل؛‬ ‫وقوله‪َ ﴿ :‬وما ي ِ‬
‫سق َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫اَّ‬ ‫ُّ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ضل بِهِۦٓ إِل ٱلفٰ ِ ِ‬


‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫النفوس ظلمة؛ فتتساقط في الضالل المرة‬ ‫ألن الفسق ي َ ِرين على القلوب‪ ،‬ويُكسب‬
‫بعد األخرى‪ .‬وهو يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫في هذا النص إشارة إلى ما يمكن أن تسببه البعوضة من أمراض‪ ،‬واإلعالن قبل‬
‫اكتشاف اجملهر في القرن السابع عشر‪ ،‬والمعرفة بالكائنات الدقيقة كالميكروبات‬

‫((( انظر‪ :‬التحرير والتنوير (‪.)367- 360 /1‬‬


‫‪534‬‬

‫والفطريات والفيروسات‪ ،‬حيث لم يرد في أي كتاب آخر يُنسب للوحي سوى‬


‫القرآن الكريم ‪.‬‬
‫وهذا مثل صارخ لتسامي القرآن الكريم عن النظرة النسبية في الحكم‬
‫ّ‬
‫على األشياء‪ ،‬وتنز ِهه عن التصورات المغلوطة الشائعة‪ ،‬وفي بيئة التنزيل لم يعرف‬
‫َ‬
‫ستحيى من ذكره‬ ‫غير ذات شأن‪ ،‬بل هي من جملة ما ي ُ‬ ‫عن البعوضة سوى أنها ُ‬
‫في المسائل العظام‪ ،‬فال يسوغ أن تَلقى َّ‬
‫أي عناية أو اهتمام ‪.‬‬
‫َ‬
‫ثم إن اعتبارها غاية المثل في الضآلة واالستحقار قد انتهى عندما كشف القرآن‬
‫جهر والمعرفة باألمراض الخطيرة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الكريم خطر البعوضة‪ ،‬وذلك قبل اكتشاف الم ِ‬
‫التي تسببها البعوضة وعوالم الكائنات الحية األدق وغير المرئية ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫األفق األعلى لمعارف المخاطبين لعدة قرون‪ ،‬ورفع أستار‬ ‫لقد تجاوز القرآن‬
‫اجملهول جملة واحدة‪ ،‬قال الرازي (رحمه اهلل تعالى)‪ < :‬في قوله سبحانه وتعالى‬
‫﴿ف َما ف ۡوق َها ۚ﴾ وجهان‪:‬‬
‫َ َ َ‬
‫ّ‬
‫أحدهما‪ :‬أن يكون المراد فما هو أعظم منها في الجثة‪ ،‬كالذباب والعنكبوت‬
‫والحمار والكلب‪ ،‬فإن القوم أنكروا تمثيل اهلل تعالى بكل هذه األشياء‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أراد بما فوقها في الصغر‪ ،‬أي‪ :‬بما هو أصغر منها‪ ،‬والمحققون مالوا‬
‫إلى هذا القول؛ ألن‪ :‬الغرض هاهنا بيان أن اهلل تعالى ال يمتنع من التمثيل بالشيء‬
‫الحقير ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫المذكور ً‬
‫ثانيا أشد حقارة من األول‪،..‬‬ ‫وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أصعب‪ ،‬فإذا كان في نهاية‬ ‫والشيء كلما كان أصغر‪ ،‬كان االطالع على أسراره‬
‫علم اهلل تعالى‪ ،‬فكان التمثيل به أقوى في الداللة على كمال‬ ‫الصغر لم يحط به إال ُ‬
‫الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير > (‪.)1‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)364 /2‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪535‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ِّ َ‬
‫الصغر‪ ،‬ألن الغرض المقصود‬ ‫وقال الماوردي‪( < :‬فما فوقها) أي‪ :‬فما فوقها في‬
‫هو الصغر > (‪.)1‬‬
‫وقال األلوسي‪ < :‬والزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه هو الصغر والحقارة‪،‬‬
‫ّ‬
‫فهو تنزل من الحقير لألحقر >‪.‬‬
‫وقال السعدي‪ < :‬المعنى الذي ضربت فيه مثاًل هو القلة والحقارة‪ ،..‬وال يقال‬
‫كيف يضرب المثل بما دون البعوضة؛ وهي النهاية في الصغر؟‪ ،‬ألن التعقيب‬
‫َ َ َّ ذَّ َ َ ُ ْ َ َ ۡ َ ُ َ َ‬
‫ٱل ُّق مِن َّر ّب ِ ِه ۡمۖ﴾‪ ..‬يجعلهم يتفكرون فيها‪،‬‬
‫ون أنَّ ُه حۡ َ‬‫على اآلية‪﴿ :‬فأما ٱلِين َءامنوا فيعلم‬
‫ُ‬ ‫فإن علموا ما اشتملت علىه على وجه التفصيل ازداد بذلك ُ‬
‫علمهم وإيمانهم‪ ،‬وإال‬
‫ْ‬ ‫ٌّ‬
‫لعلمهم‬ ‫علموا أنها حق وما اشتملت علىه حق؛ وإن خفي علىهم وجه الحق فيها ِ‬
‫ً‬
‫بأن اهلل لم يضربها عبثا بل لحكمة بالغة > ‪.‬‬
‫ويقرر نوري الجاوي في تفسيره >مراح لبيد< أن نبأ ما دون البعوضة‪ < :‬ال يسوغ‬
‫ً‬
‫إنكاره ألنه ليس عبثا؛ بل هو مشتمل على أسرار > ‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫_‪öÁ√f÷]<Ónfi‬‬ ‫‪öÁ√f÷]<Ü“É‬‬

‫ٌ‬
‫وأنثى البعوض حشرة مصاصة للدماء‪ ،‬وربما في ذكر اهلل سبحانه للبعوض‬
‫ً‬ ‫ُّ ً‬
‫بصيغة التأنيث إشارة إلى أن األنثى هي أشد قوة وفتكا‪ ،‬وهي التي تنشر األمراض‪.‬‬
‫ً‬
‫فاألنثى ال تمتص الدم لكي تتغذى عليه ألن غذاء البعوض عامة هو خالصة‬
‫الزهور‪ ،‬ولكن فقط لتغذية الصغار‪ ،‬وسبب االختالف بين الذكر واألنثى (التي‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير النكت والعيون للماوردي (‪.)88 /1‬‬


‫‪536‬‬

‫تمتص الدم) هو أن أنثى البعوض تحمل بيوضا‪ ،‬وهذه البيوض تحتاج إلى البروتين‬
‫لتكبر ونستطيع أن نقول بمعنى آخر أنها تحافظ على دوام نسلها بهذه الطريقة أي‪:‬‬
‫بامتصاص الدم إلطعامهم ‪.‬‬
‫ولم يعرف دور البعوضة في نقل طفيل المالريا مثال إال قبيل بداية القرن‬
‫َّ‬
‫العشرين‪ ،‬عندما تمكن الفونس الفيران من معرفة الطفيل المسبب للمالريا عام‬
‫‪.1880‬‬
‫ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻷﻣﺎﻣﻴﺔ‬
‫ﺭﺳﻎ‬

‫ﺍﻟﺴﺎﻕ‬
‫ﺍﻟﺮﺃﺱ‬ ‫ﺧﺮﻃﻮﻡ‬ ‫ﺍﻟﻔﺨﺬ‬
‫ﺍﳉﻨﺎﺡ‬
‫ﺷﻌﻴﺮﺍﺕ‬ ‫ﻋﺮﻭﻕ ﻃﻮﻟﻴﺔ‪:‬‬
‫ﻗﺮﻥ ﺍﺳﺘﺸﻌﺎﺭ‬
‫ﺍﻟﻌﺮﻕ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ‬
‫ﻣﻼﻣﺲ‬
‫ﺍﻟﻌﺮﻕ ﺍﻟﺜﺎﻧﻮﻱ‬
‫ﻋﻴﻮﻥ ﻣﺮﻛﺒﺔ‬
‫ﺍﻟﻌﺮﻕ ﺍﻟﻘﻄﺮﻱ‬
‫ﻣﺆﺧﺮﺓ ﺍﻟﺮﺃﺱ‬
‫ﺍﻟﻌﺮﻕ ﺍﻟﻮﺳﻄﻲ‬

‫ﺍﻟﻌﺮﻕ ﺍﳌﺴﺘﻌﺮﺽ‬
‫ﺍﻟﺮﻗﺒﺔ‬ ‫ﺍﻟﺮﻗﺒﺔ‬
‫ﺍﻟﻌﺮﻕ ﺍﳋﻠﻔﻲ‬
‫ﺻﻔﻴﺤﺔ‬

‫ﺍﻟﺼﻔﻴﺤﺔ ﺍﳋﻠﻔﻴﺔ‬

‫ﺍﻟﺒﻄﻦ‬ ‫ﻋﺮﻭﻕ ﻋﺮﺿﻴﺔ ‪:‬‬

‫ﺍﻟﻘﻄﺮﻱ ﺍﻷﻭﺳﻂ‬

‫ﺍﳌﺮﻓﻘﻲ ﺍﻷﻭﺳﻂ‬
‫ﺍﳊﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟﺒﻄﻨﻴﺔ ‪٧-١‬‬
‫ﺍﻟﻌﻀﺪﻱ‬

‫ﺍﻟﺸﺮﺝ‬

‫ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﻮﺳﻄﻰ‬

‫ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﳋﻠﻔﻴﺔ‬

‫وفي عام ‪ 1897‬اكتشف سير رونالدز روز انتقال الطفيل عن طريق البعوضة‪.‬‬
‫َّ‬
‫وفي عام ‪ 1898‬تمكن فريق من الباحثين من تأكيد دور البعوضة في نقل‬
‫المرض‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪537‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وكلمة >مالريا< إيطالية األصل وتعني الهواء الفاسد‪ ،‬وقد بقيت مستخدمة‬
‫حاليا كمصطلح تاريخي يعكس االعتقاد الخطأ بأن المرض ينتقل إلى اإلنسان‬
‫عن طريق الهواء الفاسد؛ وذلك قبل أن يُعرف ُ‬
‫دور البعوضة في نقل الطفيليات‬
‫اجملهرية التي تسببه ‪.‬‬
‫ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الحمى الصفراء لم يكن معروفا قبيل بداية القرن العشرين‪.‬‬ ‫وسبب وباء‬
‫وفي عام ‪ 1881‬افترض كارلوس فينالي أن الناقل هو البعوض‪ ،‬وهو ما أكده‬
‫ميجور والتر عام ‪ ،1900‬وأثبته ويليام جورجاس في القرن العشرين‪ ،‬وبالتخلص‬
‫من البعوض أثناء شق قناة بنما تراجع المرض ‪.‬‬
‫وفي نفس الفترة اكتشف باتريك مانسون طفيل الفالريا الذي يسبب داء الفيل‪،‬‬
‫وعرف أن الناقل له هو البعوض‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫وض ُ‬
‫رب‬ ‫ذات حجم صغير وشأن حقير‪َ ،‬‬ ‫لقد ضرب اهلل مثاًل بالبعوضة رغم أنها ُ‬
‫ٍ‬
‫المثل بالبعوضة هو من جملة ا لمتحدى به مما يحمل ً‬
‫علما ال يدرك أغواره أحد‬
‫زمن تنزيل القرآن الكريم‪ ،‬وفيه إشارة إلى أنها ُ‬
‫ذات أثر خطير في حياة المخاطبين‪،‬‬
‫ُ‬
‫الكشوف العلمية في هذا اجملال مطابقة لما دل عليه النص القرآني‬ ‫ولقد جاءت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫علميا باهرا‪.‬‬ ‫فكان ذلك إعجازا‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪539‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اإلبــل‬

‫َ َ اَ َ ُ ُ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬أفل ينظر ِ َِ ِ ِ‬
‫ٱلس َمآءِ َك ۡي َف ُرف َِع ۡ‬
‫ت ‪١٨‬‬
‫ىَ‬
‫ِإَول َّ‬ ‫ت ‪١٧‬‬ ‫ون إ ىَل إۡٱلبل َك ۡي َف ُخل َِق ۡ‬

‫ۡرض ك ۡيف ُس ِط َح ۡت﴾ [ا � �غل��ا ش������ي��ة‪.]20-17:‬‬


‫َ‬ ‫َ‬ ‫ىَ أۡ‬ ‫ىَ جۡ‬
‫ٱل َبال َك ۡي َف نُص َب ۡ‬
‫ت ‪ِ ١٩‬إَول ٱل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإَول ِ ِ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ ْ‬
‫الل األنعام كلها‬ ‫خ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫الجتماع‬ ‫؛‬ ‫ر‬
‫لقد خص اهلل سبحانه وتعالى اإلبل بالذ ِ‬
‫ك‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فيها‪ ،‬فهي حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة‪ ،‬فكان اإلنعام بها َّ‬
‫وظهور القدرة‬ ‫أعم‪،‬‬
‫فيها َّ‬
‫أتم(‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫قال ابن الخطيب‪ < :‬اإلبل لها خواص‪ ،‬منها‪ :‬أنه ـ تعالى ـ جعل الحيوان الذي‬
‫حمل الناس‬ ‫لحمه‪ ،‬وتارة ليُشرب لبنُه‪ ،‬وتارة َ‬
‫لي‬ ‫قتنى ليؤكل ُ‬ ‫قتنى أنواعًا‪ ،‬فتارة ي ُ ٰ‬
‫يُ ٰ‬
‫ِ‬
‫للزينة والجمال‪ ،‬وهذه‬ ‫في األسفار‪ ،‬وتارة لنقل المتاع من بلد إلى بلد‪ ،‬وتارة ِّ‬
‫ٌ‬
‫المنافع بأسرها حاصلة في اإلبل‪.‬‬
‫كل خصلة من هذه الخصال َ‬ ‫ِّ‬
‫غيرها من الحيوان المختص‬ ‫ثم إنها فاقت في‬
‫ببعضها‪ ،‬مع صبرها على العطش‪ ،‬وقطعِ المفاوز باألحمال الثقيلة‪ ،‬وقناعتها‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الب ِّر‪ ،‬ولقد ضللنا الطريق في مفازة‪ ،‬فقدموا جماًل واتبعوه‪،‬‬ ‫في العلف بنبات َ‬
‫فهداهم للطريق بعد زمان طويل‪ ،‬مع كثرة المعاطف والتلول‪ ،‬فانظر كيف ثبت‬
‫َُ‬ ‫ْ‬
‫واهتدى على ما عجزت عنه ذوو العقول‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنها في غاية القوة والصبر على العمل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫منقادة َّ‬
‫للصبي الصغير‪.‬‬ ‫ومنها‪ :‬أنها مع كونها كذلك‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير العز‪ ‬بن عبد‪ ‬السالم (‪.)447 /3‬‬


‫‪540‬‬

‫ومنها‪ :‬أنها تحمل وهي باركة‪ ،‬ثم تقوم بحملها‪ ،‬وهذه الصفات توجب على‬
‫َْ‬
‫َ‬
‫ينظر في خلقها وتركيبها‪ ،‬ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم‬ ‫العاقل أن‬
‫ُ‬ ‫ّ ْ‬
‫َجلت قدرته(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تعتبر اإلبل نموذجا فريدا في إعجاز الخلق‪ ،‬ففي عامي ‪ 1984‬و‪،1985‬‬
‫كل القبائل‬ ‫حين أصيبت أفريقيا بالجفاف‪ ،‬هلكت أو كادت تهلك في كينيا ُّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫معظمها‪ ،‬بينما‬ ‫التي كانت تعيش على األبقار التي كفت عن إفراز اللبن‪ ،‬ثم مات‬
‫ُّ َ‬ ‫ُ‬
‫نجت القبائل التي كانت تعيش على اإلبل‪ ،‬ألن النوق استمرت في الجود بألبانها‬
‫في موسم الجفاف‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ومن هنا أصبح لالهتمام باإلبل ً‬
‫دوافع اقتصادية ومستقبلية مهمة‪ ،‬وفي هذه‬ ‫أيضا‬
‫اآلية الكريمة يدعونا الحكيم العليم إلى التدبر في آيات الخلق‪ ،‬وبيّنات تنزيل‬
‫ّ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وبصدد بعض المظاهر في خلق اإلبل التي يستوي في تفهم تلك‬
‫اليوم باعتبارها‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫البدوي بفطرته السليمة في صدر اإلسالم‪ ،‬وعلماء ُ األحياء‬ ‫اآليات‬
‫ِّ ٌ ّ ٌ‬
‫بينة دالة على عظمة الخالق سبحانه وتعالى وكمال قدرته وعظيم تدبيره ‪.‬‬
‫ً‬
‫وما كشفه العلم حديثا عن بعض الحقائق المذهلة في خلق اإلبل يفسر لنا‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫خص اهلل جل وعال هذا المخلوق العجيب من بين‬ ‫ولو من بعض الوجوه‪ :‬لماذا‬
‫ما ال يُحصى من مخلوقاته بالذكر! ولتفصيل ذلك نالحظ ما يأتي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫اإلبل نوعان‪ :‬ذوات َّ‬
‫السنام الواحد؛ وهي اإلبل العربية التي تنتشر في شبه‬
‫الجزيرة العربية‪ ،‬وفي مناطق تمتد شرقا إلى الهند‪ ،‬وغربًا إلى البالد المتاخمة‬
‫للصحراء الكبرى في إفريقيا ‪.‬‬
‫أما النوع الثاني‪ :‬فهي اإلبل الفوالج ذات َّ‬
‫السنامين‪ ،‬التي تستوطن أواسط آسيا‪.‬‬

‫((( اللباب في علوم الكتاب‪ ،‬عمر‪ ‬بن علي‪ ‬بن عادل الحنبلي (‪.)300 /20‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪541‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫مجل ذو سنامني‬
‫ُ‬
‫وتفيد اإلحصائيات إلى وجود نحو ‪ 190‬مليون رأس من اإلبل في العالم‪،‬‬
‫ُ‬
‫أكثرها عربية من ذات السنام الواحد ‪.‬‬
‫الفريدة‪ُ ،‬‬
‫ذات اللطائف التي تأخذ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫خصائصها‬ ‫وأول ما يلفت األنظار في اإلبل‬
‫ُ ِّ‬
‫باأللباب؛ لما فيها من تأهيل مسبق يمكنها من العيش بكفاءة في الظروف الصحراوية‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫القاسية؛ مما يدفع الصدفة وكل محاوالت المالحدة في طمسِ حقيقة وجود‬
‫التقدير في الخلق والعناية اإللهية بهذا المخلوق ‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ َ‬ ‫ِّ‬
‫فالعينان محاطتان بطبقتين من األهداب الطوال ت ِقيانهما القذى والرمال‪.‬‬
‫أما األُذنان فصغيرتان قليلتا البروز‪ ،‬والشعر يكتنفها من كل جانب َ‬
‫ليقيها الرمال‬
‫ً‬
‫التي تذروها الرياح‪ ،‬ولهما القدرة عن االنثناء خلفا وااللتصاق بالرأس إذا ما هبت‬
‫العواصف الرملية ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ين ضيِّقين محاطين بالشعر‪ ،‬ويستطيع الجمل‬ ‫كذلك يتخذ المنخران شكل ِش ِ‬
‫ق‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تحمله الرياح إلى رئتيه من حبيبات الرمال‪.‬‬ ‫أن يغلقهما ليدفع ما قد ِ‬
‫‪542‬‬

‫رو في ذلك؛ ألن الذي خلقها‬ ‫وشكل أقدام اإلبل هو األنسب لبيئتها‪ ،‬وال ُغ َ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ّ‬
‫سوخ‬ ‫وركبها هو العليم الخبير والمدبر الحكيم‪ ،‬فأقدام اإلبل كبيرة جدا حتى ال ت‬
‫َ َ‬
‫في الرمال‪ ،‬فزيادة مساحة الخف يساعدها على المشي على الرمل دون أن تسيخ‬
‫فيه‪ ،‬وأما جلد أسفل باطن القدم فثخين جدا؛ ليقيها من الرمال الحارة أثناء القيظ ‪.‬‬
‫ش ً‬ ‫َ‬
‫عرا يحمى األجزاء الخلفية من حبات‬ ‫وذيول اإلبل تحمل كذلك على جانبيها‬
‫يات كأنها وابل من الرصاص ‪.‬‬ ‫الرمل التي تُثيرها الرياح الساف ُ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫أما قوائمها فهي طويلة لترفع جسمها عما يثور تحته من غبار‪ ،‬كما أنها تساعده‬
‫ً‬
‫على اتساع الخطوات‪ ،‬وخفة الحركة فيقطع مسافة كبيرة بخطوات محدودة‬
‫نسبها للركوب خاصة في الرحالت الطويلة‬ ‫مقارنة بغيره من الدواب؛ مما يجعله أ َ َ‬ ‫ً‬

‫في الصحراء ‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫خ ٍّ‬‫ُ‬
‫ف يغلفها جلد قوي غليظ‪ ،‬يضم وسادة عريضة‬ ‫وتتحصن أقدام الجمل ِب‬
‫لينة تتسع عندما يدوس الجمل بها فوق األرض؛ ومن ثم يستطيع السير فوق أكثر‬
‫جديرا بلقب سفينة‬‫ً‬ ‫الرمل نعومة‪ ،‬وهو ما يصعب على أية دابة سواه‪ ،‬ويجعله‬
‫الصحراء ‪.‬‬
‫َ‬
‫الوسيلة ُ‬ ‫ُ‬
‫المثلى الرتياد الصحارى‪،‬‬ ‫وما زالت اإلبل في كثير من المناطق القاحلة‬
‫نحوا من خمسين أو ستين كيلومترا‬ ‫وقد تقطع قافلة اإلبل بما عليها من زاد ومتاع ً‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫السيارات منافسة اإلبل في ارتياد المناطق الصحراوية‬ ‫في اليوم الواحد‪ ،‬ولم تستطع‬
‫الوعرة غير المعبدة ‪.‬‬
‫َ ُ‬
‫وارتفاع قوائم الجمل يناسب طول عُن ِقه حتى يتمكن من تناول طعامه‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫من نباتات األرض‪ ،‬كما أنه يستطيع قضمِ أوراق األشجار المرتفعة حين يصادفها ‪.‬‬
‫هذا فضاًل عن أن هذا العنق الطويل يزيد الرأس ارتفاعًا عن التيارات الرملية‬
‫السطحية ‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪543‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫جسمه الثقيل‬ ‫وحين يبرك الجمل للراحة‪ ،‬أو يُناخ ليعد للرحيل يعتمد‬
‫َ‬
‫على وسائد من جلد قوي سميك على مفاصلِ أرجله‪ ،‬ويرتكز بمعظم ثقله‬
‫َْ َ‬
‫على كلك ِله‪ ،‬ولو جثم به فوق حيوان أو إنسان لكسر عظامه‪ ،‬وهذه الوسائد إحدى‬
‫معجزات الخالق التي أنعم بها سبحانه وتعالى على هذا الحيوان العجيب؛ حيث‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫يبرك فوق الرمال الخشنة الشديدة الحرارة‪ ،‬التي ً‬
‫كثيرا ما ال يجد سواها‬ ‫تهيِّئه أِلن‬
‫ً‬
‫مفترشا فال يبالي بها‪ ،‬وال يصيبه منها أذى ‪.‬‬

‫خف مجل‬
‫والحيوان الوليد يخرج من بطن أمه مزودا بهذه الوسائد‪ ،‬فهي شيء ثابت‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫موروث‪ ،‬وليست من قبيل ما يظهر بأقدام الناس من الحفاء‪ ،‬أو ْلبسِ األحذية‬
‫الضيقة؛ مما يخجل القائلين بالصدفة ‪.‬‬
‫ُ‬
‫منافع أخرى غير االنتقال وحمل األثقال‪ ،‬فهم ينالون من‬ ‫وللناس في اإلبل‬
‫ألبانها ولحومها وينسجون الكساء من أوبارها‪ ،‬ويصنع البدوي ِخباءه من جلودها‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتدفع بها الديات في حوادث القتل‪ ،‬ومهر العرائس‪ ،‬ويكفي أن نتأمل األدب‬
‫الراقي في النهي حتى عن سب الحيوان ‪.‬‬
‫‪544‬‬

‫خير ما يُهدى إلى بيته المحرم‪ ،‬وجعلها‬ ‫وحسب اإلبل فضاًل أن اهلل جعلها َ‬
‫من شعائره‪﴿ :‬وٱلدن جعلنها ل‬
‫هَّ‬ ‫ٱذ ُك ُروا ْ ۡ‬
‫هَّ َ ُ ۡ َ َ رۡ ‪ۡ َ ٞ‬‬ ‫َ بۡ ُ ۡ َ َ َ ۡ َ ٰ َ َ ُ‬
‫كم ّمِن َش َ ٰٓ‬
‫ٱس َم ٱللِ‬ ‫عئ ِ ِر ٱللِ لكم فِيها خي ۖ ف‬
‫َ َ ۡ َ َ َ ٓ َّ َ َ َ َ َ ۡ ُ ُ ُ َ َ لُ ُ ْ ۡ َ َ َ ۡ ُ ْ ۡ َ َ َ ۡ ُ ۡ رَ َّ َ َ َ َّ َ َ ُ‬
‫تۚ كذٰل ِك َسخ ۡرنٰ َها لك ۡم‬ ‫عليها صواف ۖ فإِذا وجبت جنوبها فكوا مِنها وأطعِموا ٱلقان ِع وٱلمع‬
‫ك ۡم تشك ُرون﴾ [ا �ل�ح�� ‪.]36 :‬‬
‫َ َ َّ ُ َ ۡ ُ َ‬
‫ج�‬
‫لعل‬
‫هذه بعض أوجه الحكمة في خلق اإلبل من ناحية الشكل والبنيان الخارجي‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المتأملِ منذ الوهلة‬ ‫وهي خصائص يمكن إدراكها بالمشاهدة‪ ،‬وال يخفى على‬
‫األولى ما في اإلبل من روعة الخلق وبديع الصنع الذي يدل على قدرة الخالق‬
‫سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته ‪.‬‬
‫أسرار تهز القلب‪ ،‬وتأخذ‬ ‫ُ‬
‫خصائص اإلبل الوظيفية‪ :‬ففيها ما فيها من‬ ‫وأما‬
‫ٍ‬
‫باللب‪ ،‬فيقوى يقينُه باهلل‪ ،‬ففي بيئة الصحراء التي ُّ‬
‫يقل فيها الزرع والماء ال يكتب‬ ‫ِّ‬
‫العيش إال لحيوان خلق اهلل تعالى جسمه وهيّأه ليستغل ما توفر له من ماء وغذاء‬
‫أحسن استغالل ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ولإلبل في هذا أساليب معجزة َ‬
‫الخالق عليها تدعو للعجب وتدفع كل‬ ‫فطرها‬
‫َ َ َ ُّ َ ذَّ ٓ َ ۡ َ لُ َّ‬
‫ظ لتسبيح الخالق‪﴿ :‬قال ربنا ٱلِي أعط ٰى‬ ‫ٍّ‬
‫ى﴾‬ ‫يق ٍ‬
‫ذي ِحس ِ‬
‫ش ٍء َخ ۡل َق ُهۥ ُث َّم َه َد ٰ‬
‫ك يَ ۡ‬
‫[ط�ه‪. ]50 :‬‬
‫أي شي ٍء تجده إذا‬ ‫قوى بحيث تستطيع أن تهضم َّ‬ ‫ٌّ‬ ‫فالجهاز الهضمي لإلبل‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تعذرت األعشاب‪ ،‬وهي ال تتنفس من الفم وال تلهث أبدا مهما اشتد الحر أو استبد‬
‫بها العطش‪ ،‬وهي بذلك تتجنب تبخر الماء من هذا السبيل‪.‬‬
‫مقدارا ضئياًل من العرق عند الضرورة القصوى‬ ‫ً‬ ‫وتمتاز اإلبل بكونها ال تفرز إال‬
‫بسبب قدرة أجسامها على التكيف مع المعيشة في ظروف الصحراء التي تتغير فيها‬
‫درجة الحرارة بين الليل والنهار ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ويمنعها من بلوغ‬ ‫وأجسام اإلبل مغطاة بشعر كثيف‪ ،‬يقوم بعزل الحرارة‬
‫ما تحت الجلد‪ ،‬ويستطيع جهاز ضبط الحرارة في الجسم أن يجعل مدى تفاوت‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪545‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الحرارة نحو سبع درجات كاملة دون ضرر‪ ،‬أي بين ‪34‬م و‪ 41‬م‪ ،‬وال يضطر‬
‫الحيوان إلى العرق إال إذا تجاوزت حرارة جسمه ‪41‬م؛ ويكون هذا في فترة قصيرة‬
‫من النهار‪ ،‬أما في المساء فإنه يتخلص من الحرارة التي اختزنها عن طريق اإلشعاع‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫واحدة‪ ،‬وهذه اآللية وحدها توفر‬
‫ٍ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ما‬ ‫قطرة‬ ‫إلى هواء الليل البارد‪ ،‬دون أن يفقد‬
‫للحيوان خمسة لترات كاملة من الماء ‪.‬‬
‫وتستطيع اإلبل أن تتحمل درجة حرارة تصل إلى ‪ 70‬درجة فوق الصفر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫تتحمل البرودة حتى ‪ 52‬درجة تحت الصفر‪ ،‬ولذا‬ ‫واإلبل ذات السنامين تستطيع أن‬
‫ُ‬
‫يستطيع هذا النوع أن يعيش في ارتفاعاتٍ تصل إلى ‪ 4000‬متر فوق سطح البحر‪.‬‬
‫وإنتاج الغذاء والماء من الشحوم الموجودة في السنام بطريقة كيماوية‪ ،‬يعجز‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫اإلنسان عن مضاهاتها‪ّ ،‬‬
‫تحمل الجوع والعطش لفترات‬ ‫يفس ُر قدرة اإلبل على‬
‫يشح الغذاء‬ ‫ُّ‬ ‫طويلة‪ ،‬ومعظم الدهن الذي يختزنه الحيوان في َسنامه يلجأ إليه حين‬
‫يوما بعد آخر‬ ‫أو ينعدم فيحرقه شيئًا فشيئًا بال علم منه وال اختيار؛ فيذوى السنام ً‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫كيسا متهداًل خاويا إذا طال الجوع والعطش بالجمل‬ ‫ً‬ ‫يميل على جنبه ثم يصبح ً‬ ‫حتى‬
‫المسافر الضامر‪.‬‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وأذِن يِف ٱنلَّ ِ‬
‫حۡ‬
‫وك ر َج اٗال َو لَىَ ٰ‬
‫ع‬ ‫ٱل ّج يَأتُ َ‬
‫اس ب ِ َ ِ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫يق﴾ [ا �ل�ح��ج�‪ ]27 :‬إشارة إلى أن السنام فيه مخزون الماء‬ ‫م‬ ‫ك فَ ّج َ‬
‫ع‬
‫لُ ّ‬
‫ِن‬
‫م‬ ‫ك َضامِر يَأۡت َ‬
‫ِني‬
‫لُ ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ٖ‬ ‫ٖ‬
‫والغذاء ولذا يؤدي السفر الطويل إلى ضمور مخزون اإلبل مع قطع مسافات طويلة‬
‫على السطح المنحني لألرض نحو األسفل في كل اتجاه كالمناكب بالنسبة للرأس‪.‬‬
‫أي نوع وجد من الماء‪ ،‬حتى وإن‬ ‫يطفئ ظمأَه من ِّ‬
‫َ‬ ‫والحيوان الظمآن يستطيع أن‬
‫استعداد‬
‫ٍ‬ ‫كان ماء البحر أو ماء في مستنقع شديد الملوحة أو المرارة‪ ،‬وذلك بفضل‬
‫ََ‬ ‫ٍّ‬
‫بول شديد التركيز‪ ،‬بعد أن تستعيد‬
‫خاص في كليتيه إلخراج تلك األمالح‪ ،‬في ٍ‬
‫معظم ما فيه من ماء لترده إلى الدم ‪.‬‬
‫‪546‬‬

‫احتياطي الدهون في اإلبل ً‬


‫كبيرا‬ ‫َّ‬ ‫ومن حكمة خلق اهلل تعالى في اإلبل أن جعل‬
‫أي حيوان آخر‪ ،‬ويكفي دليال على ذلك أن نقارن بينه وبين‬ ‫للغاية‪ ،‬بحيث يفوق َّ‬
‫ْ‬
‫الخروف المشهور ِبإل َي ِته الضخمة المملوءة بالشحم‪ ،‬فعلى حين نجد الخروف‬
‫يختزن زهاء ‪11‬كجم من الدهن في إليته نجد أن الجمل يختزن ما يفوق ذلك‬
‫بأكثر من عشرة أضعاف؛ أي نحو ‪ 120‬كجم ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫المقدار‬
‫ً‬
‫يقضي فتراتٍ طويلة بدون ماء يشربُه‪ .‬ولكن آثار‬ ‫َ‬ ‫ولهذا يستطيع الجمل أن‬
‫العطش الشديد تصيبه بالهزال وتفقده الكثير من وزنه‪ ،‬وبالرغم من هذا‪ ،‬فإنه يبقى‬
‫َّ‬
‫فيعب منه عبًّا ‪ .‬كما‬ ‫تخور قواه إلى أن يجد الماء العذب أو المالح‬ ‫ُ‬ ‫صلبا صابرا‪ ،‬ال‬
‫ش َب ٱل ِهي ِم﴾ [ا �لوا �ق��ع��ة‪.]55 :‬‬ ‫جاء وصفها في قوله تعالى‪﴿ :‬فشرِب‬
‫ۡ‬ ‫ون رُ ۡ‬
‫َٰ ُ َ‬ ‫َ‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وجه اإلعجاز‪ ،‬لكون أن في خلق اإلبل‬ ‫ال يخفى على متأمل اآليات السابقة‬
‫الخ ْلق ولطف التدبير ما ُ‬
‫يبهر المتأملين على مر العصور‪ .‬وجاء العلم‬
‫َ‬
‫من إحكام‬
‫ِ‬
‫الكثير من خفاياها؛ مما يدل على تطابق ما عرفه العلم يقينًا مع ما دلت‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ليكشف‬
‫عليه النصوص القرآنية‪ . .‬وباهلل التوفيق‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪547‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الطاعون واحلجر الصحي‬


‫ُ‬
‫في الصحيحين‪> :‬الطاعون بقية ُرج ٍز أو عذاب‪ ،‬أرسل على طائفة من بني‬
‫ْ‬

‫إسرائيل‪ ،‬فإذا وقع بأرض وأنتم بها فال تخرجوا منها فرارا منه‪ ،‬وإذا وقع بأرض‬
‫ولستم بها فال تهبطوا عليها<(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وفي رواية أخرى‪> :‬إذا سمعتم بالطاعون في أرض فال تدخلوها‪ ،‬وإذا وقع‬
‫بأرض وأنتم فيها فال تخرجوا منها<(‪.)2‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3473‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2218‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5730-5728‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪،)2218‬‬
‫وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)1536‬‬
‫‪548‬‬

‫وفي رواية البخاري‪> :‬الطاعون كان عذابا يبعثه اهلل على من يشاء‪ ،‬وإن اهلل جعله‬
‫رحمة للمؤمنين‪ ،‬فليس من أحد ُ‬ ‫ً‬
‫يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا‪،‬‬
‫يعلم أنه ال يصيبه إال ما كتب اهلل له‪ ،‬إال كان له مثل أجر شهيد<(‪.)1‬‬
‫ُ‬

‫كالفار من الزحف‪ ،‬ومن صبر‬


‫ِّ‬ ‫وفي رواية لإلمام أحمد‪> :‬الفا ُّر من الطاعون‬
‫شهيد<(‪.)2‬‬
‫ٍ‬
‫فيه كان له ُ‬
‫أجر‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله‪> :‬الطاعون<‪ ،‬هو المرض العام‪ ،‬والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد‬
‫به األمزجة واألبدان‪ ،‬وقيل‪ :‬الطاعون هو الوجع الغالب الذي تنطفي به الروح(‪.)3‬‬
‫وإنما سمي طاعونا لعموم مصابه وسرعة فتكه‪ ،‬فيدخل فيه مثله مما يصلح‬
‫اللفظ له(‪.)4‬‬
‫قوله‪> :‬إذا سمعتم بالطاعون في أرض فال تدخلوها‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم‬
‫فيها فال تخرجوا منها<‪.‬‬
‫ُ‬
‫القدوم لدفع َ‬
‫المة النفس‪ ،‬وعن الخروج لإليمان‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫قال ابن عبد‪ ‬البر‪  :‬النهي عن‬
‫َ‬
‫بالقدر‪.‬‬
‫واألكثر‪ :‬أن النهي عن الفرار منه للتحريم‪ ،‬وقيل‪ :‬للتنزيه‪ ،‬ويجوز لشغل‬
‫عرض غير الفرار اتفاقا‪ ،‬قاله التاج السبكي‪.‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5734‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)25212‬‬


‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )14478‬قال مخرجوه‪ < :‬حسن لغيره‪ ،‬وهذا إسناد ضعيف‪...‬‬
‫ويشهد له حديث عائشة‪ )145/6( ...‬وإسناده جيد‪ ،‬وفي باب أن المطعون شهيد‪ ،‬انظر‬
‫حديث أبي هريرة السالف رقم (‪ ،)8092‬وذكرت شواهده كثيرة>‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬عمدة القاري شرح صحيح البخاري (‪.)129 - 128/14‬‬
‫((( انظر‪ :‬شرح الزرقاني على الموطأ (‪.)379 /4‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪549‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫قال الحافظ‪ :‬وال شك أن الصور ثالث‪ :‬من خرج لقصد الفرار محضا فهذا‬
‫يتناوله النهي ال محالة‪.‬‬
‫ومن خرج لحاجة متمحضة ال لقصد الفرار أصال‪ ،‬ويصور ذلك فيمن تهيأ‬
‫للرحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته مثال‪ ،‬ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعُه‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الفرار أصال‪ ،‬فال يدخل في النهي‪.‬‬ ‫يقصد‬
‫ِ‬ ‫في أثناء تجهيزه فهذا لم‬
‫الثالث‪ :‬من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها‪ ،‬وانضم إلى ذلك أنه قصد‬
‫َ‬
‫الراحة من اإلقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع‪ ،‬كأن تكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫األرض التي وقع بها َو ِخ َمة‪ ،‬واألرض التي يتوجه إليها صحيحة‪ ،‬فيتوجه بهذا‬ ‫ُ‬
‫القصد إليها‪ ،‬فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة‪ ،‬ومن أجاز نظر إلى أنه‬
‫لم يتمحض القصد للفرار‪ ،‬وإنما هو لقصد التأويل انتهى‪.‬‬
‫أحد من الطاعون َ‬‫َّ ٌ‬
‫فس ِل َم من الموت‪ ،‬ولم يبلغني‬ ‫قال ابن عبد‪ ‬البر‪ :‬يقال‪ :‬ما فر‬
‫ُّ‬
‫المدايني‪ :‬أن علي‪ ‬بن زيد‪ ‬بن‬ ‫عن أحد من حملة العلم أنه فر منه‪ ،‬إال ما ذكر‬
‫السبالة‪ ،‬فكان يجمع كل جمعة ويرجع‪ ،‬فإذا رجع صاحوا‬ ‫ِ‬ ‫جدعان هرب منه إلى‬
‫فر من الطاعون فطعن فمات بالسبالة انتهى‪.‬‬ ‫به ّ‬
‫َ‬
‫لكن نقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج من األرض التي وقع بها الطاعون‬
‫عن جماعة من الصحابة منهم علي والمغيرة‪ ‬بن شعبة‪ ،‬ومن التابعين األسود‪ ‬بن‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫هالل ومسروق وأنهما كانا ّ‬


‫يفران منه‪.‬‬
‫ونقل ابن جرير‪ :‬أن أبا موسى األشعري كان يبعث بنيه إلى األعراب من الطاعون‪.‬‬
‫جز في الشعاب واألودية‬ ‫وعن عمرو‪ ‬بن العاص أنه قال‪ :‬تفرقوا من هذا ّ‬
‫الر‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ورءوس الجبال ح ْماًل للنهي على التنزيه‪ ،‬والجمهور أنه للتحريم حتى قال ابن‬
‫خزيمة‪ :‬إنّه من الكبائر التي يعاقب اهلل عليها إن لم ُ‬
‫يعف(‪.)1‬‬

‫((( انظر‪ :‬شرح الزرقاني على الموطأ (‪.)380 /4‬‬


‫‪550‬‬

‫والمراد بالطاعون هنا‪ :‬ما يعم األمراض الوبائية المعدية المماثلة في خطورتها‬
‫لمرض الطاعون ‪ Plague‬المعروف طبيا‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ونهي‬ ‫وفي األحاديث النبوية السالفة ٌ‬
‫نهي عن دخول البالد المصابة بالطاعون‪،‬‬
‫َ ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫عن خروج َمن هم فيها؛ حتى يبقى الوباء ُ محصورا بين من أصيبوا به وال ينتشر‬
‫إلى غيرهم‪ ،‬وهذا الوضع هو ما بات يعرف اليوم بالحجر الصحي‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫‪P P‬الطاعون والوقاية منه‪:‬‬
‫في الثامنة عشرة من الهجرة ـ في النصف األول من القرن السابع الميالدي ـ‬
‫وخلف عددا ً‬ ‫ّ‬
‫كبيرا‬ ‫ظهر الطاعون في قرية عمواس بفلسطين‪ ،‬ثم انتشر في الشام‬
‫من الضحايا‪ ،‬ومن قادة الجيوش اإلسالمية الذي هلك بسبب الطاعون أبو عبيدة‬
‫عامر‪ ‬بن الجراح‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫موجات الطاعون أوربا في القرن الخامس عشر الميالدي‪ ،‬فقضت‬ ‫وقد ضربت‬
‫على ربع سكانها‪ ،‬وحينما وصلت إلى حدود العالم اإلسالمي توقفت‪.‬‬
‫وقد توالت موجات الطاعون دون أن ت ُ َ‬
‫عرف أسبابُها‪ ،‬وحار فيها الناس فنسبوها‬
‫إلى األرواح الشريرة أو تأثير النجوم أو الهواء الفاسد‪.‬‬
‫َ‬
‫العوالم الخفية للكائنات الدقيقة‪ ،‬وطرق‬ ‫بعد أن تقدمت العلوم واكتشفت‬
‫تكاثرها وانتشارها‪ ،‬وكيفية تسببها في إحداث األمراض واألوبئة‪ ،‬عرف أن المسبب‬
‫للطاعون هو جرثومة تسمى اليرسينية ‪ ،Yersinia‬تنتقل عن طريق عضة حيوان‬
‫مصاب‪ ،‬مثل‪ :‬الفئران أو البراغيث ـ التي تعيش على أجسام حيوانات مصابة‬
‫كالفئران والقطط والكالب المستأنسة والسناجب واألرانب والجمال والخرفان ـ‬
‫ويطلق على الحيوان المصاب مسمى‪ :‬العائل للمرض‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪551‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫جرثومة الريسينية ‪ Yersinia‬املسببة ملرض الطاعون‬


‫ُ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫أما الناقل للمرض فيسمى الوسيط‪ ،‬وهو في العادة البراغيث والق ْمل والقراد‪.‬‬
‫كما يمكن انتقال العدوى عن طريق استنشاق رذاذ األشخاص المصابين بالطاعون‬
‫الملوث بالميكروب‪.‬‬‫ّ‬ ‫استنشاق الهواء‬ ‫الرئوي أثناء السعال‪ ،‬أو‬
‫ِ‬
‫يوما‪ ،‬في الطاعون الذي يصيب‬ ‫وتتراوح فترة حضانة الطاعون ما بين ‪ 15‬ـ ‪ً 67‬‬
‫ّ‬
‫التسممي‪ ،‬وما بين ‪ 2‬ـ ‪ 4‬أيام في الطاعون الرئوي‪.‬‬ ‫الغدد الليمفاوية والنوع‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫‪P P‬الوقاية من الطاعون‪:‬‬


‫وتتلخص الوقاية من الطاعون في اآلتي‪:‬‬
‫‪P P‬تجنب أماكن تواجد الحيوانات العائلة للمرض‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وأهمها البراغيث‪.‬‬ ‫‪P P‬التخلص من الفئران والحشرات الناقلة‪،‬‬
‫َ‬
‫أماكن خاصة في المستشفيات حتى َّ‬ ‫ُ‬
‫يتم‬ ‫‪P P‬العزل اإلجباري للمريض في‬
‫الشفاء التام‪.‬‬
‫‪552‬‬

‫‪P P‬تطهير مخلفات المريض ومتعلقاته‪ ،‬والتخلص منها بالحرق ‪.‬‬


‫‪P P‬مراقبة وتدقيق المخالطين للمرضى‪ ،‬وعند ظهور أي أعراض عليهم مثل‬
‫ارتفاع الحرارة أو تورم الغدد الليمفاوية‪ ،‬يتم إعطاؤهم مضادات حيوية‬
‫مناسبة‪ ،‬كإجراء وقائي‪.‬‬

‫إحدى طرق إصابة اإلنسان بالطاعون‬


‫احلجر الصحي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫أعراض المرض في مكان الوباء‬ ‫تبين أن األصحاء الذين ال تبدو عليهم‬
‫مصدر الخطر الحقيقي في نقل الوباء‬ ‫َ‬ ‫قد يكونون حاملين للمرض‪ ،‬فيشكلون‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أماكن أخرى‪ ،‬إذا انتقلوا إليها‪ ،‬ومن هنا جاء نظام الحجر الصحي المعروف‬ ‫إلى‬
‫عالميا اآلن‪ ،‬والذي يمنع فيه جميع سكان المدينة التي يظهر فيها وباء من الخروج‬ ‫ً‬
‫منها كما يمنع دخول ِّ‬
‫أي قادم إليها ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دخول األصحاء‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫اهلل‬ ‫رسول‬ ‫نهى‬ ‫فقد‬ ‫الكريم‪،‬‬ ‫النبوي‬ ‫التوجيه‬ ‫عين‬ ‫وهذا‬
‫ْ ُ‬
‫!‬
‫َ‬
‫الصابر على البقاء في أرض‬ ‫إلى أرض الوباء‪ ،‬ومنع خروج َمن هم فيها‪ ،‬ووعَد‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫الفار‬ ‫المرض بأجر الشهداء‪ ،‬وشدد في النهي عن الفرار من أرض الوباء‪ ،‬وشبه‬
‫منها بالهارب من المعركة‪ ،‬وهو من أكبر الكبائر‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪553‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ويعتبر الحجر الصحي حاليا من أهم وسائل مقاومة انتشار األمراض الوبائية‪،‬‬
‫ومبدأ الحجر الصحي طبيا لم يُعرف على نطاق واسع إال في األزمنة المتأخرة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ويرتكز أساسا على منعِ السليم من دخول أرض الوباء ومنعِ األصحاء من الخروج‬
‫منها‪.‬‬
‫وقد أثبت الطب الحديث أن الشخص السليم في منطقة الوباء قد يكون حامال‬
‫للميكروب دون أن تظهر عليه أعراض المرض؛ ألن المرض يمر بفترة حضانة‪،‬‬
‫وهي الفترة الزمنية التي تبدأ من دخول الميكروب إلى الجسم وتكاثره وانتشاره‬
‫ْ‬
‫إلى أن تظهر أعراض المرض؛ ومن هنا كان في منع خروج َمن لم تظهر عليه‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫ُ‬
‫وحصره في منطقة اإلصابة حماية لألصحاء‬ ‫أعراض المرض من ٌع النتشار المرض‬
‫ُ‬
‫من الخطر ‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫يعتبر نهيُه ! عن الخروج من األرض المصابة بالطاعون‪ ،‬والدخول إليها‬
‫ً‬
‫وسيلة فعالة للوقاية من انتشار الوباء‪ ،‬وحصره في المنطقة المصابة به فحسب‪،‬‬
‫وهو مبدأ الحجر الصحي نفسه الذي لم يعرف إال بعد تطور العلم واكتشاف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تقر َر العمل بالحجر الصحي‪ ،‬وبذلك تطابقت الداللة‬
‫مسببات الطاعون؛ حيث َّ‬
‫النصية مع الحقيقة العلمية المستقرة؛ مما يدل‪ :‬أن النصوص السابقة تضمنت‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫إعجازا علميا واضحا‪.‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪555‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الشيخوخة‬
‫خۡ ۡ َ َ اَ‬
‫ٱلل ِ ۚق أفل َي ۡع ِقلون﴾ ي[���س‪.]68 :‬‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َمن ن َع ّم ۡرهُ ن َنك ِۡس ُه ف َ‬
‫ُ َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُّ‬
‫يِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َّ ُ ُّ ىَ َ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬وٱلل خلقكم ثم يتوفى‬
‫ۡ‬ ‫َ هَّ ُ َ َ َ ُ ۡ ُ َّ َ َ َ َّ ٰ ُ‬
‫ل أ ۡر َذ ِل ٱل ُع ُم ِر ل يَ ۡ‬
‫ِك‬ ‫ك ۡ ۚم َومِنكم من ي َرد إ ِ ٰٓ‬
‫ِير﴾ [ا �لن�����ح�ل‪.]70 :‬‬ ‫ِيم قَد ‪ٞ‬‬ ‫ٱلل َعل ‪ٞ‬‬ ‫اَل َي ۡعلَ َم َب ۡع َد ع ِۡلم َش ۡيً ٔا ۚ إ َّن هَّ َ‬
‫ِ‬ ‫ٖ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬‬
‫َ‬ ‫ُ ٗ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫هَّ ُ ذَّ‬
‫ٱلل ٱلِي خلقكم ّمِن ض ۡع ٖف ث َّم َج َعل ِم ۢن َب ۡع ِد ض ۡع ٖف ق َّوة ث َّم َج َعل‬
‫ِير﴾ [ا �لرو�م‪.]54 :‬‬
‫َ‬
‫ِيم ٱلقد ُ‬‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫خَ‬ ‫ٗ‬
‫ِم ۢن َب ۡع ِد قُ َّوة ٖ َض ۡع ٗفا َوش ۡي َبة ۚ يل ُق َما يَشا ُء ۚ َو ُه َو ٱل َعل ُ‬
‫َ‬

‫وقال تعالى‪﴿ :‬ه َو ٱلِي خلقكم مِن تر‬


‫ُ‬ ‫َ َ ُ خُ ۡ‬ ‫ُّ َ ُ‬ ‫َ ََ ُ ّ َُ ُ‬ ‫ُ ذَّ‬
‫اب ث َّم مِن ن ۡطفةٖ ث َّم م ِۡن َعلقةٖ ث َّم ي ِر ُجك ۡم‬ ‫ٖ‬
‫ُ ُ ْ َ اٗ‬ ‫ُ ُ ْ ُ ٗ‬ ‫ُُ ْ َُ‬ ‫ۡ اٗ ُ‬
‫ف مِن ق ۡبل ۖ َولتِ َ ۡبلغ ٓوا أ َجل‬
‫َ ُ‬ ‫ِنكم َّمن ُي َت َو ىَّ ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫طِفل ث َّم لتِ َ ۡبلغ ٓوا أش َّدك ۡم ث َّم لتِ َكونوا ش ُيوخا ۚ َوم‬
‫ك ۡم ت ۡعقِلون﴾ غ[��ا ف�ر‪.]67 :‬‬
‫ُّ َ ىّٗ َ َ َ َّ ُ َ ُ َ‬
‫مسم ولعل‬
‫اب‬ ‫كم ّمِن تُ َ‬
‫ر‬
‫ُ ُ ۡ َ ۡ ّ َ بۡ َ ۡ َ َّ َ َ ۡ َ ٰ ُ‬
‫ن‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫إ‬ ‫ف‬ ‫ث‬ ‫ع‬ ‫ٱل‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫نت‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫اس‬ ‫ي َأ ُّي َها ٱنلَّ ُ‬ ‫وقال تعالى‪ٰٓ َ ﴿ :‬‬
‫َ ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٖ‬ ‫يِ‬ ‫ِ‬
‫أۡ‬ ‫ُّ ۡ َ خُّ َ َّ َ َ َ رۡ خُ َ َّ َ ّ ُ َ ّ َ َ ُ‬ ‫ُّ ۡ َ ُ َّ ۡ َ َ َ ُ َّ‬ ‫ُ َّ‬
‫ام‬‫ك ۡ ۚم َونُقِ ُّر يِف ٱل ۡر َح ِ‬ ‫ي ملقةٖ نِلب نِي ل‬ ‫ثم مِن نطف َةٖ ثم مِن علقةٖ ثم مِن مضغةٖ ملقةٖ وغ َِ‬
‫ُ‬ ‫ِنكم َّمن ُي َت َو ىَّ ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُُ ْ ُ‬ ‫ُ ۡ اٗ ُ‬ ‫ىٗ ُ خُ ۡ‬ ‫ىَ‬
‫َما ن َ َشا ٓ ُء إ ِ ٰٓ‬
‫ف َومِنكم‬ ‫ل أ َج ٖل ُّم َس ّم ث َّم ن ِر ُجك ۡم طِفل ث َّم لتِ َ ۡبلغ ٓوا أش َّدك ۡمۖ َوم‬
‫ۡرض َهام َِد ٗة فَإ َذا ٓ أَ َ‬ ‫أۡ َ َ‬ ‫َّ ُ َ ُّ ىَ َ ۡ َ ۡ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫نزلنۡ اَ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ ٗۡ ٔ َ َ‬


‫ل أرذ ِل ٱلعم ِر ل ِكيل يعلم ِمن بع ِد عِل ٖم شيا ۚ وترى ٱل‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۢ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ اَ َ ۡ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫من يرد إ ِ ٰٓ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫يج﴾ [ا �ل�ح��ج�‪.]5 :‬‬ ‫ت مِن لُ ّ َ ۡ َ‬
‫ك زوِۢج ب ِه ٖ‬ ‫ِ‬
‫ۢنب َت ۡ‬
‫ت َوأ َ‬ ‫ت َو َر َب ۡ‬ ‫َ َ ۡ َ ۡ َ ٓ َ ۡ زَ َّ ۡ‬
‫عليها ٱلماء ٱهت‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ُ‬
‫ٱلل ِ ۚق﴾ أي نقلبه‬ ‫قوله‪َ ﴿:‬و َمن ن َع ّ ِم ۡرهُ﴾ أي نطل عمره قوله‪﴿:‬ن َنك ِۡس ُه يِف‬
‫خۡ َ ۡ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُّ‬
‫ُ َّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فيه ونخلقه على عكس ما خلقناه َّ‬
‫قوته‬ ‫أواًل‪ ،‬فال يزال يتزايد ضعفه وتتناقص‬
‫َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شبيهة بحال الصبيِّ‬
‫ٍ‬ ‫حالة‬
‫ٍ‬ ‫وتنتقص بنيته ويتغير شكله وصورته حتى يعود إلى‬
‫‪556‬‬

‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫واإلدراك‪ ،‬وقرىء ننك ْسه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الفهم‬ ‫عن‬ ‫ِّ‬
‫والخلو‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫العقل‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫وقل‬ ‫الجسد‪،‬‬
‫ِ‬ ‫في ضعف‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫اإلنكاس(‪.)1‬‬ ‫من‬ ‫سه‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ون‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫اجملر‬ ‫ِّ‬
‫الثي‬ ‫من الث‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫خ ِّسه‪ ،‬يعني‪َ :‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫والخرف‪،‬‬ ‫الهرم‬ ‫ِنكم َّمن يُ َر ُّد إ ِ ٰٓل أ ۡرذ ِل ٱل ُع ُمرِ﴾ أي‪ :‬أ‬ ‫قوله‪َ ﴿ :‬وم‬
‫ىَ َ ۡ‬ ‫ُ‬

‫الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل‪ .‬وقيل‪ :‬هو خمس وتسعون سنة‪،‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫وقيل‪ :‬خمس وسبعون سنة‪ ،‬والتحقيق‪ :‬أن ذلك ال ينضبط بسن‪ِ .‬لك ْي ال ي َ ْعل َم‬
‫َ ْ َ ً‬
‫بَ ْعد ِعلم ش ْيئا‪ ،‬ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية‪ ،‬في نقصان العقل والنسيان‬
‫ٍ‬
‫وسوء الفهم‪ .‬وليس المراد نفي العلم بالكلية‪ ،‬بل عبارة عن قلة العلم لغلبة النسيان‪.‬‬
‫ً‬
‫وقيل‪ :‬المعنى‪ :‬لئال يعلم زيادة على علمه شيئا(‪.)2‬‬
‫وفي أرذل العمري ُ َر ُّد اإلنسان بعد القوة والشباب‪ ،‬بعد المهابة والمكان‪ ،‬بعد‬
‫ُ ْ ً‬
‫تاال‪ ،‬ي ُ َر ُّد إلى َّ‬ ‫ْ‬
‫الض ْعف في كل شيء‪،‬‬ ‫أن كان يأمر وينهى ويسير على األرض مخ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫حتى في أ َ ْ‬
‫والحفظ وقوة الذاكرة يعود‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫الع‬
‫ِ‬ ‫فبعد‬ ‫فكره‪،‬‬ ‫في‬ ‫تكوينه‪،‬‬ ‫في‬ ‫شيء‬ ‫يز‬‫م‬
‫ً‬
‫كالطفل الصغير‪ ،‬ال يذكر شيئا‪ ،‬وال يقدر على شيء ‪.‬‬
‫ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك‪ ،‬بل موهوبة لك من خالقك سبحانه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ولتعلم أنه سبحانه حينما يقضي علينا بالموت فهذا رحمة بنا وستر لنا من الضعف‬
‫ُ‬
‫والشيخوخة‪ ،‬قبل أن نحتاج لمن يساعدنا ويُعيننا على أبسط أمور الحياة‪ ،‬ويأمر‬
‫ْ ُّ‬
‫فينا َمن كنا نأمره ‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومن هنا كان التوفي نعمة من ِن َعم اهلل علينا‪ ،‬ولكي تتأكد من هذه الحقيقة‬
‫ْ ّ‬
‫انظر إلى َمن أمد اهلل في أعمارهم حتى بلغوا ما سماه القرآن >أرذل العمر<‬
‫َ‬
‫وما يعانونه من ضعف وما يعانيه ذووهم في خدمتهم حتى يتمنى له الوفاة أقرب الناس‬
‫إليه ‪.‬‬

‫((( تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (‪.)177 /7‬‬
‫((( البحر المديد في تفسير القرآن اجمليد البن عجيبة (‪.)145 /3‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪557‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ً‬ ‫ّ‬
‫الوفاة إذن نعمة‪ ،‬خاصة عند المؤمن الذي قدم صالحا يرجو جزاءه من اهلل‪،‬‬
‫عمر آخرته فهو يُحب القدوم عليها‪ ،‬على عكس‬ ‫فتراه ُم ْستبشراً بالموت؛ ألنه َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ ّ ُ ّ‬
‫العدة لهذا اليوم‪ ،‬فتراه خائفا َج ِزعا لعلمه بما هو‬ ‫المسرف على نفسه الذي لم ي ِعد‬
‫قادم عليه ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫وأرذل العمر‪ :‬أردؤه وأقله وأخسه؛ ذلك أن اهلل سبحانه وتعالى أخرج اإلنسان‬
‫ُ‬ ‫َ هَّ ُ َ ۡ َ َ ُ‬ ‫ً‬
‫من بطن أمه ال يعلم شيئا‪ ،‬فقال‪﴿ :‬وٱلل أخرج‬
‫ُ اَ َ َ َ‬
‫ون أ َّم َهٰتِك ۡم ل ت ۡعل ُمون‬‫ِ‬
‫كم ّ ِم ۢن ُب ُ‬
‫ط‬
‫َ ٗۡ ٔ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ ۡ َ َ أۡ َ ۡ َ ٰ َر َو أۡٱلَ ۡف ٔ َِدةَ‬
‫‪ [ ﴾ . . .‬ل����ح�ل‪. ] 78 :‬‬
‫�‬ ‫ن‬ ‫�‬ ‫ا‬ ‫شيا وجعل لكم ٱلسمع وٱلبص‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وهذه هي وسائل العلم في اإلنسان‪ ،‬فإذا ُرد إلى أرذل العمر فقدت هذه‬
‫ً‬ ‫وض ُع َ‬‫الحواس قدرتَها‪َ ،‬‬
‫ّ‬
‫ف عملها‪ ،‬وعاد اإلنسان كما بدأ ال يعلم شيئا بعد ما أصابه‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫من الخرف والهرم‪ ،‬فقد توقفت آالت المعرفة‪ ،‬وبدأ اإلنسان ينسى‪ ،‬وتضعف‬
‫ُ‬
‫ذاكرته عن استرجاع ما كان يعلمه ‪.‬‬
‫ِك ل َي ۡعل َم َب ۡع َد عِل ٖم ش ۡي ٔا ۚ‪ [ ﴾ . .‬ا �لن�����ح�ل‪. ] 70 :‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ل ۡ‬
‫َ ً‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫يَ اَ‬

‫سمون هذه الحواس الوارث ‪.‬‬ ‫لذلك ي ُ ُّ‬

‫ويُنهي الحق سبحانه اآلية بقوله‪﴿ :‬ل ۡ‬


‫ِك ل َي ۡعل َم َب ۡع َد عِل ٖم ش ۡي ٔا ۚ﴾ [ ا �ل ن�����‬
‫َ ً‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫يَ اَ‬
‫ح�ل‪] 70 :‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫والمرجع‪ ،‬وهذا‬ ‫ألنه سبحانه بيده الخلق من بدايته‪ ،‬وبيده سبحانه الوفاة‬
‫ْ ً‬ ‫َّ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ اَ ۡ َ‬
‫يتطلب ِعلما‪ ،‬كما قال سبحانه‪﴿ :‬أل َيعل ُم َم ۡن خل َق ‪ [ ﴾ . .‬ا �ل���م�ل�ك‪] 14 :‬‬
‫َ َ‬

‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬


‫يعرف ما يُصلحها وما‬ ‫صنعة ال بُد أن‬ ‫فال بُد من ِعلم‪ ،‬ألن الذي يصنع‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫فسدها‪ ،‬وذلك يتطلب قدرة لإلدراك‪ ،‬فالعلم وحده ال يكفي(‪.)1‬‬ ‫ي ِ‬
‫قوله‪﴿ :‬‬
‫َ‬ ‫ُ ٗ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫هَّ ُ ذَّ‬
‫ٱلل ٱلِي خلقكم ّمِن ض ۡع ٖف ث َّم َج َعل ِم ۢن َب ۡع ِد ض ۡع ٖف ق َّوة ث َّم َج َعل ِم ۢن َب ۡع ِد‬
‫ِير ﴾‪.‬‬
‫َ‬
‫ِيم ٱلقد ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫خَ‬ ‫ٗ‬
‫قُ َّوة ٖ َض ۡع ٗفا َو َشيبة ۚ يلق ما يشا ُء ۚ َوه َو ٱلعل ُ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الشعراوي (‪.)4963-4964 /12‬‬


‫‪558‬‬

‫لما أعاد من الدالئل التي مضت دليال من دالئل اآلفاق وهو قوله‪﴿ :‬‬
‫هَّ ُ ذَّ‬
‫ٱلل ٱلِي‬
‫ري َس َح ٗابا﴾[ا �لرو�م‪ ]48 :‬وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره‪ ،‬أعاد‬
‫ٱلر َي ٰ َح َف ُتث ِ ُ‬
‫يُ ۡرس ُِل ّ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫دليال من دالئل األنفس وهو خل ُق‬
‫ِ‬
‫وذكر أحواله‪ ،‬فقال‪ :‬خلقكم من ضعف‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫اآلدمي‬
‫أ‬
‫ج ٖلۚ﴾[ال� ن�ب�ي��ا ء‪]37 :‬‬ ‫أي مبناكم على الضعف‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬خل ِق ِ‬
‫ُ َ إۡ‬
‫ٱل َ ٰ‬
‫نس ُن م ِۡن َع َ‬

‫ومن هاهنا كما تكون في قول القائل فالن زين فالنا من فقره وجعله غنيا أي‬
‫من حالة فقره‪ ،‬ثم قال تعالى‪ :‬ثم جعل من بعد ضعف قوة‪ ،‬فقوله‪ :‬من ضعف‪،‬‬
‫إشارة إلى حالة كان فيها جنينا وطفال مولودا ورضيعا ومفطوما‪ ،‬فهذه أحوال غاية‬
‫الضعف‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬ث َّم َج َعل ِم ۢن َب ۡع ِد َض ۡع ٖف ق َّو ٗة ﴾ إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫وشبابه واكتهاله‪.‬‬
‫ِير﴾ إشارة‬ ‫قوله‪﴿ :‬ث َّم َج َعل ِم ۢن َب ۡع ِد ق َّوة ٖ َض ۡعفا َوش ۡي َبة ۚ يل ُق َما يَشا ُء ۚ َو ُه َو ٱل َعل ُ‬
‫َۡ‬
‫ِيم ٱلقد ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ٓ‬ ‫ٗ خَ ۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫ٗ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َّ‬
‫إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف‪ ،‬ثم بين‬
‫بقوله‪ :‬يخلق ما يشاء أن هذا ليس طبعا‪ ،‬بل هو بمشيئة اهلل تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ٱلس َماءِ ك ۡيف يَشا ُء﴾[ا �لرو�م‪. )1( ]48 :‬‬ ‫في دالئل اآلفاق‪﴿ :‬ف َي ۡب ُس ُط ُهۥ يِف‬
‫َّ ٓ َ َ َ ٓ‬ ‫َ‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫أول من تنبّه لظاهرة الشيخوخة‪ ،‬كحالة تدهور بدني وقصور في الكفاءة‬
‫الوظيفية كتأثير مستقل يتعلق بالعمر هو الطبيب الفرنسي شاركوت ‪Charcot‬‬
‫عام ‪1881‬م‪ ،‬ولم يتبعه أغلب الباحثين إال في القرن العشرين‪ ،‬ولذا نعجب أن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يولي القرآن موضوع الشيخوخة عنايته‪ ،‬قبل ذلك بأكثر من عشرة قرون‪ ،‬وال تجد‬
‫ْ‬
‫نظيرا في أي كتاب آخر ينسب اليوم ِلل َوحي غير القرآن الكريم‪ ،‬وإن إدراك‬
‫ً‬ ‫لهذا‬
‫خفايا الشيخوخة في عصرنا حيث توفرت التقنيات إنما هو شهادة للقرآن بأنه وحي‬
‫من اهلل‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)111 /25‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪559‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫إن الشيخوخة ‪ Tenescence‬حالة متدرجة ال َّ‬


‫مفر منها من التدهور واالنهيار‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫تصيب كافة األجهزة واألعضاء واألنسجة والخاليا؛ فتضعف قدرتها على التكيف‬
‫والحفاظ على التوازن عند التعرض للضغوط‪ ،‬ويمر بها كل كائن حي عند َ‬
‫الهرم‬
‫ً‬
‫‪ Aging‬وفقا لنوعه في طول األجل ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫يظهر الفرق الواضح بني اخلاليا يف احلالة العادية رقم (‪ )1‬ويف حال الشيخوخة رقم (‪)2‬‬

‫ولذا فالنظرة الحديثة‪ :‬أنها حالة تدمير ذاتي مبرمج ‪ ،Phenoptosis‬يفسح‬


‫اجملال ألجيال جديدة‪ ،‬وأنماط تحافظ على استمرار الحياة وتنوعها‪ ،‬والشيخوخة‬
‫إذن ليست حالة مرضية وإنما هي مرحلة تكثر فيها األمراض‪ ،‬وحينئذ تصبح‬
‫ً‬
‫شيخوخة َم َرضية ‪. Senility‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ‬
‫وتفاصيل ذلك يعتني بها علم جديد اسمه علم الشيخوخة ‪،Gerontology‬‬
‫ً‬
‫أساسا‬ ‫ويرى أكثر المختصين‪ :‬أن الشيخوخة ظاهرة في غاية التنظيم‪ ،‬وترجع‬
‫إلى برنامج وراثي موحد لكل نوع من األحياء‪ ،‬تنفذه المورثات (الجينات ‪،)Gene‬‬
‫ومن الجائز وجود عوامل داخلية أو بيئية تدفع المورثات إلحداث التغيير‪ ،‬وقد‬
‫تقوم بعض العوامل بتعجيل ظهور العوارض‪ ،‬كاألمراض المزمنة مثل مرض البول‬
‫السكري أو ارتفاع ضغط الدم‪.‬‬
‫‪560‬‬

‫ويرى البعض أن الشيخوخة حصيلة عوامل تخريبية‪ ،‬تصيب الجسم مع‬


‫الزمن‪ ،‬كاإلشعاعات ووقوع الطفرات ‪ Mutation‬وتراكم المواد المؤكسدة‬
‫‪ Oxidizing agent‬الناتجة عن الطعام وغيره‪ ،‬ويرى آخرون أنها نتيجة الستهالك‬
‫األعضاء‪ ،‬مثلما تبلى وتتمزق المالبس باالستخدام ‪.Wear & Tear‬‬
‫وتشارك الغدة النخامية الواقعة تحت سيطرة منطقة تحت المهاد ‪Hypothalamu‬‬
‫في المخ بإنقاص إفراز هورمون النمو والهورمونات الجنسية‪ ،‬وأما التغيرات‬
‫اإلنزيمية والمناعية والترسبات داخل الخاليا فاألغلب أنها نتيجة وليست ً‬
‫سببا‪.‬‬
‫رئيس‪ ،‬حيث‬
‫ٍ‬ ‫كسبب‬
‫ٍ‬ ‫الدراسات اإلحصائية إلى تأييد الجانب الوراثي‬
‫وتميل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫التوائم المتماثلة ذات البرنامج الوراثي الموحد تميل للتماثل كذلك‬ ‫وجد أن‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫عمرا أطول من أبناء‬ ‫في طول العمر‪ ،‬ويميل أبناء الوالدين طويلي العمر للعيش‬
‫الوالدين ذوي العمر األقصر‪ ،‬وكذلك يتميز ُّ‬
‫كل نوع من الكائنات الحية بحد مقرر‬
‫ثابت لطول األجل‪.‬‬
‫نظائر عديدة تتعلق بوصف مراحل‬‫َ‬ ‫وينسجم هذا الوصف المطابق للواقع مع‬
‫َ‬
‫العمر عامة‪ ،‬أو مرحلة الشيخوخة خاصة‪ ،‬وهنا نالحظ قول ابن منظور‪ < :‬النكس‪:‬‬
‫قلب الشيء على رأسه > (‪ ،)1‬والمقام يتعلق بوصف حالة اإلنسان وكفاءته في أواخر‬
‫العمر‪ ،‬بعد بلوغ غاية الكفاءة في مرحلة الشباب‪ ،‬ولذا التعبير بفعل (النكس) في‬
‫َْ‬
‫اآلية الكريمة يعني انقالب الحال في الخلق ‪.‬‬
‫قال أبو السعود‪ < :‬فال يزال يتزايد ضعفه وتتناقص قوته وتنتقص بنيته ويتغير‬
‫َ‬
‫حالة شبيهة بحال الصبي في ضعف الجسد وقلة‬ ‫ٍ‬ ‫شكله وصورته حتى يعود إلى‬
‫ِّ‬
‫والخلو عن الفهم واإلدراك > (‪.)2‬‬ ‫العقل‬

‫((( لسان العرب (‪.)241 /6‬‬


‫((( تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (‪.)177 /7‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪561‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ولفظ (الخلق) هنا تعبير عن البنية والجوارح أو الخلقة‪ ،‬قال ابن تيمية‪:‬‬
‫< وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر فيسمى‬
‫َ ً‬
‫ٱللِ﴾‪ ،‬وقال ابن كثير‪ < :‬هو الضعف‬ ‫المخلوق خلقا > (‪)1‬؛ لقوله تعالى‪﴿ :‬هذا خلق‬
‫َ ٰ َ َ ۡ ُ هَّ‬

‫في الخلقة >‪( ..‬ألن) < الخلق يستعمل بمعنى المخلوق >‪.‬‬


‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد كان التعبير القرآني الكريم في غاية الدقة عند وصفه لحالة الشيخوخة بأنها‬
‫تنكيس في الخلق‪ ،،‬وأنها ضعف وشيبة وأنها أرذل العمر فهي عبارة عن تدهور‬
‫شامل في الظاهر وفي الباطن وفي الشكل والمضمون ‪.‬‬
‫وقد أثبت العلم الحديث بالفعل أن الشيخوخة تصيب كافة األعضاء بالجسم‬
‫َ‬
‫وظائف الجسم‪،‬‬ ‫من خاليا الجلد الخارجية إلى الغدد وإفرازاتها‪ ،‬وهي تعرقل‬
‫َ‬
‫المتقدم في العمر‪.‬‬ ‫بأمراض عديدة‪ ،‬تالزم‬ ‫وتمهد لإلصابة‬
‫ٍ‬
‫ْ‬
‫وبذلك يكشف القرآن الكريم عن خفايا التكوين التي لم يعرفها اإلنسان‬
‫تخصصا‪ ،‬وظهر علم جديد‬‫ّ‬ ‫إال بعد أن تقدم علم وظائف األعضاء‪ ،‬وأصبح َ‬
‫أكثر‬
‫يسمى علم الشيخوخة‪.‬‬
‫ّ‬
‫لخ َ‬
‫ص مجمل أعراض الشيخوخة في بيان موجز‬ ‫والعجيب أن القرآن الكريم‬
‫يدل على إعجاز القرآن الكريم في هذا الخصوص ‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫((( دقائق التفسير (‪.)325 /1‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪563‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫املوت املربمج‬

‫ِني﴾ [ا �لوا ق���ع��ة‪. ]60 :‬‬ ‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬نن قدرنا بينكم ٱلموت وما‬
‫حَ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ۡ ُ َّ ۡ َ ۡ َ ُ ُ َ ۡ َ َ َ ۡ‬
‫ن ُن ب َم ۡس ُبوق َ‬ ‫حَ‬
‫ِ‬
‫َ َ َ ۡ َ ۡ َ َ حۡ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ُّ ُ َ‬
‫ك ۡم أ ۡح َس ُن َع َم اٗل ۚ َو ُه َو ۡٱل َعز ُ‬
‫يز‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬ذَّٱلِي خلق ٱلموت و َ‬
‫ٱلي ٰوة يِلَبل َوكم أي‬
‫ِ‬
‫ور﴾ [ا �ل���م�ل�ك‪.]2 :‬‬
‫ۡٱل َغ ُف ُ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ‬
‫رف‪ ،‬وإنما هو انقطاع تعلق‬
‫ِ ٍ‬ ‫ص‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫نا‬ ‫قال العلماء‪ :‬الموت ليس بعدم محض وال ف‬
‫الروح بالبدن ومفارقته‪ ،‬وحيلولة بينهما‪ ،‬وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار(‪.)1‬‬
‫ك ُم ٱل َم ۡو َت﴾ بيان بأن الموت مقدر منذ نشأة‬ ‫في قوله تعالى‪﴿ :‬نن قدرنا بين‬
‫ۡ‬
‫ۡ ُ َّ ۡ َ ۡ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫حَ‬
‫الفرد وفق أجل مبرمج يخص النوع اإلنساني؛ إذا لم تعاجل المشيئة َ‬
‫الع ِليَّة األجل‬
‫بحدث يُنهي حياة الفرد‪ ،‬وعليه يمكن حمل قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ٱلِي خل َق‬
‫َ َ‬ ‫ذَّ‬

‫ٱل َي ٰوةَ﴾ على إيجاد أسباب الموت والحياة عند نشأة كل كائن حي‪،‬‬ ‫ت َو حۡ َ‬
‫ٱل ۡ َم ۡو َ‬
‫ّ‬
‫وتقديم (الموت) يستقيم مع كونه حتمي الوقوع‪ ،‬والحياة احتمال‪ ،‬وقدم الموت‬
‫ّ‬
‫على الحياة ألنه إلى القهر أقرب(‪.)2‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ات َوأ ۡح َيا﴾ [ا �لن�����ج����م‪]44 :‬؛ قال‬
‫وبالمثل في تفسير قول اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬وأنَّ ُهۥ ُه َو أ َم َ‬
‫ً‬ ‫َ َ َ َّ َ َ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َ َّ َ ْ ُ َ ُ َ ْ ْ َ ُ‬
‫ضح ِع ْب َرة > (‪.)3‬‬ ‫اإْلمات ِة أِلنها أو‬
‫محمد الطاهر‪ ‬بن عاشور‪ < :‬ولعل المقصود هو ال ِعبر ِ ِ‬
‫ب‬ ‫ة‬
‫ِني﴾‪.‬‬ ‫ن ُن ب َم ۡس ُبوق َ‬
‫ِ‬ ‫وفي قوله تعالى‪﴿ :‬نن قدرنا بينكم ٱلموت وما‬
‫حَ ۡ ُ َ َّ ۡ َ َ ۡ َ ُ ُ ۡ َ ۡ َ َ َ حَ ۡ‬

‫((( تفسير القرطبي = أحكام القرآن (‪.)206 /18‬‬


‫((( تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (‪.)355 /9‬‬
‫((( التحرير والتنوير (‪.)144 /27‬‬
‫‪564‬‬

‫استدالل بإماتة األحياء على أنها مقدورة هلل تعالى ضرورة أنهم موقنون بها‬
‫تأخيرها‪ ،‬فإن الذي قدر على خلق الموت بعد‬ ‫َ‬ ‫ووادون َ‬
‫دفعها أو‬ ‫ُّ‬ ‫ومشاهدونها‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الحياة قادر على اإلحياء بعد الموت‪ ،‬إذ القدرة على حصول شيء تقتضي القدرة‬
‫على ضده‪ ،‬فال جرم أن القادر على خلق حي مما ليس فيه حياة‪ ،‬وعلى إماتته‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫قدير على التصرف في حالتي إحيائه وإماتته‪ ،‬وما اإلحياء بعد اإلماتة‬ ‫بعد الحياة‬
‫إال حالة من تينك الحقيقتين‪ ،‬فوضح دليل إمكان البعث‪ ،‬وهذا مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫َ ُ َ ذَّ ٓ َ ۡ َ ُ ۡ ُ َّ ُ ُ ُ ۡ ُ َّ حُ ۡ ُ ۡ َّ إۡ َ ٰ َ َ ُ‬
‫نس َن لكفور‪[﴾ٞ‬ا �ل�ح��ج�‪. ]66 :‬‬ ‫﴿وهو ٱلِي أحياكم ثم ي ِميتكم ثم ييِيكمۗ إِن ِ‬
‫ٱل‬
‫هذا أصل المفاد من قوله‪ :‬نحن قدرنا بينكم الموت‪ ،‬ثم هو مع ذلك تنبيه على‬
‫َ‬
‫أن الموت جعله اهللُ طورا من أطوار اإلنسان لحكمة االنتقال به إلى الحياة األبدية‬
‫أسباب الكمال المؤهلة لتلك الحياة‪ ،‬لتتم المناسبة‬ ‫ُ‬ ‫بعد إعداده لها بما تهيئه له‬
‫ُ‬
‫بين ذلك العالم وبين عامريه‪ .‬وقد مضى الكالم على ذلك عند تفسير قوله تعالى‪:‬‬
‫َ َ َ ۡ ُ ۡ َ َّ َ َ َ ۡ َ ُ ۡ َ َ ٗ َ َ َّ ُ يَ اَ‬
‫ك ۡم إ ِ ۡل َنا ل تُ ۡر َج ُعون﴾[ا �ل���م�ؤ�من��ي�� ن�‪. ]115:‬‬ ‫﴿أفحسِبتم أنما خلقنٰكم عبثا وأن‬
‫َ‬

‫فهذا وجه التعبير بـ >قدرنا بينكم الموت< دون‪ :‬نحن نميتكم‪ ،‬أي أن الموت‬
‫مجعول على تقدير معلوم مراد‪ ،‬مع ما في مادة قدرنا من التذكير بالعلم والقدرة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫دقائق وهي كثيرة‪ ،‬وخاصة‬ ‫واإلرادة‪ ،‬لتتوجه أنظار العقول إلى ما في ط ِّي ذلك من‬
‫في تقدير موت اإلنسان الذي هو سبيل إلى الحياة الكاملة إن أخذ لها أسبابها‪.‬‬
‫وفي كلمة >بينكم< معنى آخر‪ ،‬وهو أن الموت يأتي على آحادهم تداوال‬
‫وتناوبا‪ ،‬فال يفلت واحد منهم وال يتعين لحلوله صنف وال عمر فآذن ظرف >بين<‬
‫بأن الموت كالشيء الموضوع للتوزيع ال يدري أحد متى يصيبه قسطه منه‪ ،‬فالناس‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫كمن دعوا إلى قسمة مال أو ثمر أو نعم‪ ،‬ال يدري أحد متى يُنادى عليه ليأخذ‬
‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫قسمه‪ ،‬أو متى يطير إليه ِقطه‪ ،‬ولكنه يوقن بأنه نائله ال محالة‪.‬‬
‫وبهذا كان في قوله‪> :‬بينكم الموت< استعارة مكنية إذ شبه الموت بمقسوم‪،‬‬
‫مز إلى المشبه به بكلمة بينكم الشائع استعمالها في القسمة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬‫ور َ‬
‫َ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪565‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ َّ ۡ َ ٓ‬
‫﴿أن ٱلماء ق ِسمُۢة بينهمۖ﴾ [ ل�������مر‪ . ]28 :‬وفي هذه االستعارة كناية عن كون الموت‬
‫ق‬ ‫�‬ ‫ا‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫فائدة ومصلحة للناس أما في الدنيا لئال تضيق بهم األرض واألرزاق وأما‬
‫في اآلخرة فللجزاء الوفاق(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫يمكن حاليا تقديم األدلة على أن أسباب الموت على المستوى الخلوي قد‬
‫خلقت مع أسباب الحياة‪ ،‬منذ نشأة أول خلية في كل كائن حي‪ ،‬فكما توجد‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫تكوينات داخل الخلية تمدها بأسباب الحياة‪ ،‬مثل‪ :‬حبيبات اليخضور في النبات‬
‫التي تصنع الغذاء والتكوينات التي تصنع البروتين في الحيوان؛ توجد تكوينات‬
‫تختزن إنزيم ليزوزوم (‪ )lytotome‬يحلل الخلية ويهضمها عند إصابتها‪.‬‬
‫وعلى مستوى النوع يمكن إثبات أن الشيخوخة حالة مقدرة ‪Predetermined‬‬
‫ُ‬
‫اكتشاف‬ ‫وفق برنامج موروث يعكس العلم والحكمة في الخلق‪ ،‬ومن تلك األدلة‬
‫حد لعدد انقسامات الخلية (حد هايفليك ‪ ،)Hayflick' limit‬وتؤيد األبحاث‬ ‫ٍّ‬
‫المبرمج للجسم‪،‬‬‫َ‬ ‫ً‬
‫وجها من الموت‬ ‫العلمية الحديثة أن الشيخوخة ليست إال‬
‫المبرمج للعضيات الخلوية الدقيقة والموت المبرمج‬ ‫َ‬ ‫وأما اكتشاف الموت‬
‫ً‬
‫للميتوكوندريا داخل الخلية‪ ،‬فقد أضافا مزيدا من األدلة على أن األحداث الحيوية‬
‫مقدرة بحكمة‪ ،‬حيث تذوي العضيات الخلوية الدقيقة أو الميتوكوندريا عندما‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تصبح ّ‬
‫ضارة أو َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫المبرمج للخلية‪.‬‬ ‫اكتشاف ظاهرة الموت‬ ‫غير ذاتِ فائدة‪ ،‬ومثله‬


‫ًّ‬
‫فقد كان االعتقاد السائد أن الخاليا الحية المستنبتة معمليا قادرة على االنقسام‬
‫مؤخرا أن قدرتها على االنقسام محدودة‪ ،‬أي أنه بعد عدد‬ ‫ً‬ ‫بال حدود‪ ،‬ولكن تبين‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫االفتراض‬ ‫محدود من االنقسامات تشيخ المزرعة الخلوية وتموت‪ ،‬ومن هنا ظهر‬
‫َ‬
‫بوجود آلية داخل الخلية معنيّ ٍة بالتحكم في العمر‪ ،‬عن طريق توقيف االنقسام‬
‫ُ‬
‫وإفساح اجملال لعمليات الهدم لتميت الخلية‪.‬‬

‫((( التحرير والتنوير (‪.)315 -314 /27‬‬


‫‪566‬‬

‫َ‬
‫َ‬
‫المفترضة‪ ،‬ومنذ سنوات‬ ‫ومن ث َّم عكف الباحثون على اكتشاف هذه اآللية‬
‫يسيرة اكتشف أن الجزء األخير ‪ Telomere‬عند نهايتي كل فتيلة وراثية (كروموزوم‬
‫ُ‬
‫‪ )Chromosome‬ينقص طوله مع كل انقسام‪ ،‬وتضعف منظومة صانع البروتين‬
‫(الحمض النووي ‪. )DNA‬‬

‫]‪^˯§]<›^äœfi‬‬ ‫]÷”‪l^⁄ÊáÁ⁄ÊÜ‬‬
‫}◊‪ÌÈ‬‬
‫‪l^⁄ÊáÁ⁄ÊÜ”÷]<l^Ë^„fi‬‬
‫‪Telomere‬‬

‫‪<Telomere<l^Ë^„fi‬‬
‫‪ÏÖÁíœ⁄‬‬

‫}¯‪D›^äœfi˜]<ÃŒÁiE<Ì⁄Ü‚<^Ë‬‬ ‫‪ÏÖÁíœ⁄<Telomere<l^Ë^„fi‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وتبيّن أنه يعمل كساعة أو عداد يحسب عدد االنقسامات‪ ،‬ويقوم كذلك عند‬
‫االنقسام بحفظ المادة الوراثية من التبعثر واالندماج الخطأ‪ ،‬ويسمى الغطاء الطرفي‬
‫َ‬ ‫‪ ،End cap‬أو عداد التضاعف ‪ ،Replico-meter‬ويمكن ً‬
‫أيضا أن يسمى عداد‬
‫األجلِ ‪Longevity-meter‬؛ ألن طوله إذا وصل إلى حد حرج يقف االنقسام‬ ‫َ‬
‫وتموت الخلية‪ ،‬وال ينقص طول الغطاء الطرفي في الخاليا الجينية األم ‪،Sem cells‬‬
‫وخاليا السرطان ‪Cancer‬؛ ألن اإلنزيم الباني يعوض ما ينقص منه‪ ،‬وكلما تقدم‬
‫العمر ينقص طوله في الخاليا الجسدية لغياب اإلنزيم‪ ،‬وفي الشيخوخة يكون بالغ‬
‫الق َ‬
‫ص ِر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪567‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬


‫وتتبدى الشيخوخة في وقت محدد نتيجة آلليات خلوية معقدة‪ ،‬تعمل متزامنة‬
‫في تناسق عجيب‪ ،‬والخلية الحية محدودة األجل خاصة في األنسجة سريعة‬
‫ُ‬
‫التجدد‪ ،‬وتقف وظائفها عند حد معين وتذبل وتموت ‪.‬‬
‫وفي بداية الستينيات من القرن الماضي أطلق ويشمان ‪ Weishmann‬وكاريل‬
‫تعبير شيخوخة الخلية ‪،Cell Senescence‬‬ ‫َ‬ ‫‪ Carrel‬على توقف تلك الوظائف‬
‫ً‬
‫مؤخرا‪،‬‬ ‫ولم تدرك العالقة بين شيخوخة الخلية وتناقص طول الغطاء الطرفي إال‬
‫خاصة بعد اكتشاف جريدر ‪ Greider‬وبالكبورن ‪ Blackburn‬اإلنزيم الباني‬
‫للغطاء الطرفي ‪ Telomerae‬عام ‪1985‬م ‪.‬‬
‫َْ‬
‫وكان أول من ربط بين شيخوخة الخلية وفق ِد جزء من طول الغطاء الطرفي‬
‫هوارد كوك ‪ Howard Cooke‬عام ‪1986‬م‪ ،‬فقد وجد أن الخاليا المستنبتة‬
‫ُ‬
‫أكبر‬ ‫ذات أغطية طرفية أطول‪ ،‬وأن مراتِ انقسامها‬‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫السن‬ ‫المأخوذة من صغار‬
‫من الخاليا المأخوذة من كبار السن ‪.‬‬
‫وفي عام ‪1989‬م اكتشف مورين ‪ Morin‬أن نشاط اإلنزيم الباني زائد‬
‫ً‬
‫في الخاليا السرطانية‪ ،‬وهو ما أيد فرضية أولوفنيكوف ‪ Olovnikov‬سابقا عام‬
‫‪1971‬م‪ ،‬من وجوب وجود آلية تخرج انقسام الخاليا السرطانية عن السيطرة‪،‬‬
‫وزيادة اإلنزيم الباني في الخاليا السرطانية دون الخاليا الطبيعية تعوض ما يفقد‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫من طول الغطاء الطرفي باالنقسام فال يتناقص طوله وبالتالي تنقسم الخاليا‬
‫توقف ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫السرطانية بال‬
‫ُ‬
‫وزيادة اإلنزيم في الخاليا السرطانية قد أيدتها األبحاث المتوالية منذ عام‬
‫‪1994‬م إلى اليوم‪ ،‬وهذا معناه إمكانية القضاء على مرض السرطان بوقف نشاط‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اإلنزيم الباني‪ ،‬عن طريق عقار مضاد يوقف عمله أو عمل المورث (الجين)‬
‫ث‬ ‫ِّ‬
‫المولد له‪ ،‬وإمكانية تأخير الشيخوخة بتعاطيه كعقار أو التداوي بالمور ِ‬
‫ِّ‬
‫المولد له‪.‬‬
‫‪568‬‬

‫ً‬ ‫َ‬
‫وجدت قصيرة ابتداء‬ ‫والالفت للنظر أن األغطية الطرفية للفتائل الوراثية قد ِ‬
‫َ‬
‫وجدت طويلة ابتداء‬ ‫في حالة اإلصابة بمرض الشيخوخة المبكر ‪ ،Progeria‬بينما‬
‫ِ ً‬
‫في حالة الخاليا الجنينية األم ‪ Stem cell‬التي تتولد عنها الحقا كافة أنسجة‬
‫الجسم‪.‬‬
‫وهذا يعطي األمل للباحثين في استخدامها في عمليات استبدال األنسجة‬
‫التالفة‪ ،‬كما في حاالت تلف خاليا البنكرياس في مرض البول السكري‪ ،‬وتلف‬
‫خاليا المخ في مرض الذهان ‪.‬‬
‫وأحدث االكتشافات حتى اآلن هو التعرف على زوج من الجينات البشرية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ُم ِه َّمتهما تثبيط إنتاج اإلنزيم الباني والتمهيد للشيخوخة‪ ،‬ومحاولة الستخدام‬
‫ً‬
‫مبكرا‪.‬‬ ‫مؤشرا ‪ Marker‬الكتشاف السرطان‬‫ً‬ ‫اإلنزيم‬
‫وفي عام ‪1998‬م أعلن بودنار ‪ Bodnar‬عن نجاحه في تأجيل شيخوخة مزرعة‬
‫َ ِّ‬
‫بمدها باإلنزيم الباني‪.‬‬ ‫خلوية بشرية‬
‫وفي عام ‪ 2001‬حاول شاي ‪ Shay‬فتح باب استخدام مثبطات اإلنزيم الباني‬
‫للغطاء الطرفي لوقف النشاط السرطاني‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن هذه األبحاث التي تؤكد بأن موت الخاليا مبرمج‪ ،‬وبالتالي فالموت للكائن‬
‫الحي والمبرمج داخل خالياه هو حتم ومقدر من ِق َبل خالقه العظيم القائل‪﴿ :‬ن ُن‬
‫حَ ۡ‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫ك ُم ٱل َم ۡو َت﴾‪ ،‬وبذلك يكون هذا الكشف العلمي متطابقا مع داللة تلك‬
‫َ َّ ۡ َ َ ۡ َ ُ ۡ‬
‫قدرنا بين‬
‫اآليات القرآنية مما يدل على أن مصدرها الخالق جل وعال‪ ،‬وأن مبلغها رسول‬
‫َ ُ ْ‬
‫من لدن حكيم عليم‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪569‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلبة السوداء شفاء من كل داء‬

‫عن أبي هريرة ‪ K‬أن رسول اهلل ! قال‪> :‬عليكم بهذه الحبة السوداء‪ ،‬فإن‬
‫فيها شفاءً من كل داء إال السام< (‪ )1‬والسام‪ :‬الموت‪ .‬كما روى البخاري عن عائشة‬
‫َ‬
‫بي ! يقول‪> :‬إن هذه الحبة السوداء شفاءٌ من كل داء إال من‬‫‪ I‬أنها سمعت الن ّ ّ‬
‫السام<‪ .‬قلت وما السام؟ قال‪> :‬الموت< (‪.)2‬‬
‫وفي رواية لمسلم‪> :‬ما من داء إال في الحبة السوداء منه شفاء<‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫((( الحديث صحيح‪ ،‬انظر السلسلة الصحيحة لأللباني‪ ،‬حديث رقم (‪.)863‬‬
‫((( البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5687‬‬
‫‪570‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫لقد تلقى المسلمون أحاديث الحبة السوداء بالقبول‪ ،‬واختلف العلماء‬
‫فمن قائل بأن عموم الشفاء لكل األمراض الذي يفهم من األحاديث‬ ‫في شرحها؛ ِ‬
‫ليس مرادا‪ ،‬وإنما المراد أن فيها شفاء لبعض األمراض؛ فهو من العام الذي يراد‬
‫منه الخصوص‪ ،‬ومن قائل إن األصل حمل العام على عمومه ما لم تكن هناك قرينة‬
‫قوية صارفة‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫لقد استعملت الحبة السوداء في كثير من دول المشرقين ـ األوسط واألقصى ـ‬
‫ُ‬
‫استخالص مركب النيجيللون من زيت‬ ‫عالجا طبيعيا منذ َ‬
‫أكثر من ألفي عام‪ ،‬وتم‬
‫الحبة السوداء عام ‪1959‬م على يد الدخاخني وزمالئه‪ ،‬وتحتوي بذور الحبة‬
‫السوداء على ‪ %40‬من وزنها زيتا ثابتا‪ ،‬و‪ %1 ،4‬زيوتا طيارة‪ ،‬وتحتوي على‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عشر حمضا أمينيا‪ ،‬وبروتين وكالسيوم وحديد وصوديوم وبوتاسيوم‪،‬‬ ‫خمسة‬
‫وأهم مركباتها الفعالة هي‪ :‬الثيموكينون‪ ،‬والدايثيموكينون‪ ،‬والثيموهيدروكينون‪،‬‬
‫والثيمول‪.‬‬
‫‪P P‬وقد نشرت عشرات الدراسات العلمية في اجملالت العالمية الموثقة‬
‫خالل األعوام الخمسة الماضية عن فوائد الحبة السوداء‪،‬ورغم أن معظمها‬
‫َ‬
‫أجري على الحيوانات إال أن هذا الك َّم من الدراسات المنشورة من الشرق‬
‫َ‬
‫العجيب ٌ‬ ‫َ‬
‫أمر مثير لالهتمام‪ .‬فهناك دراسات تشير إلى فائدة‬ ‫والغرب والتنوع‬
‫الحبة السوداء في عالج الربو القصبي والتهاب القصبات‪.‬‬
‫‪P P‬ودراسات أخرى أظهرت أن خالصة الحبة السوداء استطاعت تثبيط‬
‫نمو خاليا بعض أنواع السرطان كسرطان الثدي وسرطان البروستات‪،‬‬
‫وفي الوقاية من سرطان الكبد وسرطان القولون وفي الوقاية من االعتالل‬
‫الكلوي‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪571‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫تأثيرا على مرضى السكري‪ ،‬حيث أدت إلى‬ ‫ً‬ ‫‪P P‬كما ثبت أن للحبة السوداء‬
‫خفض معدل سكر الدم‪ ،‬كما كان لها أثر على األمراض التحسسية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫التهاب األنف التحسسي‪ ،‬الربو القصبي‪ ،‬األكزيما التحسسية‪.‬‬
‫ً‬
‫وقائيا على القلب والشرايين‪ ،‬ووجد‬ ‫‪P P‬كما ثبت أن للحبة السوداء ً‬
‫أثرا‬
‫في مركباتها مضادات لألكسدة‪ ،‬وأظهرت البحوث أن لزيت الحبة‬
‫ً‬
‫تأثيرا خافضا للكولستيرول‪ ،‬والكولسترول الضار‪ ،‬والدهون‬ ‫السوداء‬
‫الثالثية‪.‬‬
‫‪P P‬وساعدت الحبة السوداء في عالج ارتفاع ضغط الدم‪ ،‬كما أظهرت‬
‫ً‬
‫الدراسات استجابة بعض أنواع الجراثيم لخالصة الحبة السوداء‪.‬‬
‫‪P P‬لكن األهم من كل ذلك كان أثر الحبة السوداء على جهاز المناعة وقضائها‬
‫يتضح ُ‬‫ْ‬ ‫ْ‬
‫دور الحبة السوداء على جهاز المناعة‬ ‫على الميكروبات‪ ،‬لكن لم‬
‫حتى عام ‪1986‬م‪ ،‬إال باألبحاث التي أجراها الدكتور أحمد القاضي‬
‫وزمالؤه في الواليات المتحدة األمريكية‪ .‬ثم توالت بعد ذلك األبحاث‬
‫ّ‬
‫في شتى األقطار‪ ،‬وفي مجاالت عديدة حول هذا النبات‪.‬‬
‫ُ‬
‫أثرا مقويًا لوظائف المناعة النوعية‪:‬‬
‫األبحاث أن للحبة السوداء ً‬ ‫‪P P‬وقد أثبتت‬
‫ُ‬
‫حيث ازدادت نسبة الخاليا اللمفاوية التائية المساعدة إلى الخاليا التائية‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الكابحة إلى ‪ % 72‬في المتوسط‪ .‬وحدث تحسن في نشاط خاليا القاتل‬


‫الطبيعي بنسبة ‪ % 74‬في المتوسط‪.‬‬
‫وقد ثبت أن جهاز المناعة هو النظام الوحيد والفريد الذي يمتلك السالح‬
‫المتخصص للقضاء على كل داء‪ ،‬بما يحويه من نظام المناعة النوعية التي تمتلك‬
‫إنشاء األجسام المضادة المتخصصة لكل كائن مسبب للمرض‪ ،‬وتكوين سالح‬
‫الخاليا القاتلة المتخصصة‪.‬‬
‫‪572‬‬

‫َ‬
‫الغازية‪ ،‬وهضمها بعرض قطع‬ ‫ِ‬ ‫إذ تقوم الخاليا البلعمية بعد التهام الجراثيم‬
‫البكتريا المتحللة على سطحها‪ ،‬ثم تلتصق بالخاليا اللمفاوية التائية المساعدة؛‬
‫لتعريفها على التركيب الدقيق للميكروب‪.‬‬
‫وتعتبر هذه الخاليا هي القائد العام لجهاز المناعة‪ ،‬حيث تقوم بتنشيط نوع آخر‬
‫من الخاليا الليمفاوية تسمى الخاليا البائية‪ .‬إلنتاج األجسام المضادة‪ ،‬أو تكوين‬
‫خاليا أخرى تسمى الخاليا التائية المتخصصة والخاصة بمركبات هذا الميكروب‬
‫الذي حفز إنتاجها‪.‬‬
‫ً‬
‫اتحادا ً‬
‫تاما مع سطح‬ ‫وتتحد األجسام المضادة والخاليا التائية المتخصصة‬
‫الميكروب فتبطل عمله أو تدمره‪ ،‬وبالتالي فهذه المناعة هي مناعة متخصصة لكل‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫كائن غريب يوجد داخل الجسم فلكل دا ٍء دواؤه الدقيق‪.‬‬

‫‪Å^ñπ]<Ó◊¬<ÕÜ√j÷]<IM‬‬
‫‪TCR MHCII‬‬
‫}◊‪<ÌÈÒ^i<ÌÈ‬‬
‫}^‪Ì◊⁄‬‬

‫‪l]Å^ñ⁄<Ç÷Á⁄‬‬
‫‪t^jfi]<IN‬‬

‫}¯‪Ìø ^u<^Ë‬‬ ‫}¯‪Ì�éfi<^Ë‬‬
‫‪ÿi^Œ<›Ár‚<IN‬‬

‫]§◊‪<Ì Ç„jäπ]<ÌÈ‬‬
‫‪ÌjÈ⁄‬‬
‫¬‪·^õÜâ<KÔÊÇ‬‬
‫]§◊‪Ì Ç„jäπ]<ÌÈ‬‬
‫طريقة عمل وتنشيط اخلاليا التائية‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪573‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫بناء على‪ ،‬ذلك يمكننا القول‪ :‬بأن جهاز المناعة هو الجهاز الوحيد الذي يملك‬
‫تقديم شفاء من كل داء ـ على وجه الحقيقة ـ بما يحويه من نظام المناعة النوعية‬
‫أو المكتسبة التي تمتلك إنشاء األجسام المضادة المتخصصة لكل كائن مسبب‬
‫للمرض‪ ،‬وتكوين سالح الخاليا القاتلة والمحللة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ ِّ ُ‬
‫وبما أنه قد ثبت من خالل األبحاث التطبيقية‪ :‬أن الحبة السوداء تنشط المناعة‬
‫النوعية؛ فقد رفعت نسبة الخاليا المساعدة والخاليا الكابحة وخاليا القاتل‬
‫ب من ‪ %75‬في‬ ‫الطبيعي‪-‬وكلها خاليا ليمفاوية في غاية التخصص والدقة ـ لما ي َ ْق ُر ُ‬
‫بحث للدكتور أحمد القاضي‪.‬‬
‫َ‬
‫وأكدت األبحاث المنشورة في الدوريات العلمية هذه الحقيقة؛ حيث‬
‫تحسنت الخاليا الليمفاوية المساعدة وخاليا البلعمة‪ ،‬وازداد مركب اإلنترفيرون‪،‬‬
‫واإلنترلوكين ‪1‬و‪ 2‬وتحسنت المناعة الخلوية‪ ،‬وانعكس ذلك التحسن في جهاز‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫المدم ِر لمستخلص الحبة السوداء على الخاليا السرطانية وبعض‬ ‫المناعة على التأثير‬
‫الفيروسات‪ ،‬وتحسن آثار اإلصابة بديدان البلهارسيا‪.‬‬
‫ُ ُ‬
‫صلح‬‫وعليه يمكن أن نقرر أن في الحبة السوداء شفاء من كل داء؛ ألنها ت ِ‬
‫َ‬
‫وتقوي جهاز المناعة‪ ،‬وهو الجهاز الذي فيه شفاء من كل داء‪ ،‬ويتعامل مع كل‬
‫بعضه لكل األمراض‪.‬‬ ‫مسببات األمراض‪ ،‬ويملك تقديم الشفاء الكامل أو َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫عندما أخبر الن ّ ّ‬
‫بي !‪> :‬أن في الحبة السوداء شفاءً من كل داء<‪ ،‬لم يكن أحد‬
‫َ‬
‫خصائص طبية عجيبة‪ ،‬لم تثبت علميا إال في السنوات األخيرة‪،‬‬ ‫يعرف ما فيها من‬
‫مما يدل على أن كالمه ! يتضمن في هذا اجملال معجزا علميا‪.‬‬
‫وأن رسول اهلل ! ما ينطق عن هوى ﴿ َو َما يَن ِط ُق َعن ٱل ۡ َه َو ٰٓ‬
‫ى ‪ ٣‬إ ِ ۡن ُه َو إ ِ اَّل َو يۡ ‪ٞ‬‬
‫ح‬ ‫ِ‬
‫وح﴾ [ا �لن�����ج����م‪.]4-3 :‬‬
‫يُ ىَ ٰ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪575‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫العنكبوت‬
‫هَّ َ ۡ َ ٓ َ َ َ َ ۡ َ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬مثل ٱلِين ٱتذوا مِن د ِ‬
‫خَّ َ َ ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ ذَّ َ خَّ َ ُ ْ‬
‫وت ٱتذت بَ ۡي ٗتاۖ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ب‬ ‫نك‬ ‫ون ٱللِ أو يِلاء كمث ِل ٱلع‬
‫وت ل ۡو كنوا َي ۡعل ُمون﴾ [ا �ل�عن�� ��ك� ت�‪.]41 :‬‬
‫َ اَ ُ ْ َ َ‬ ‫ِإَون أَ ۡو َه َن بۡٱلُ ُي ِ بَ ۡ ُ ۡ َ َ ُ‬
‫َّ‬
‫بو‬ ‫وت لَيت ٱلعنكب ِ ۚ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َّ‬
‫ضل سعيُه؛ فاتخذ من دون اهلل ً‬ ‫ََ‬
‫وليا‬ ‫ل ضربه اهلل لمن‬
‫هذه اآلية ًاشتملت على م ٍ‬
‫ث‬
‫َ‬
‫من الخبر ضمنا ـ والعياذ باهلل ـ بقصد نفح يناله منه أو خبر يدفعه عنه فخاب وخ ِسئ‬
‫وضياع‪ ،‬وكان في ذلك الحسرات‪،‬‬ ‫ووهم َ‬ ‫ضعف َ‬ ‫في ذلك كله؛ ألنه أوى إلى َ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫وتلك الخيبة‪ ،‬كمثل العناكب التي تجهد في صنع بيوتها‪ ،‬ولكن تلك البيوت‬
‫ُ‬
‫ال تغني عنها شيئا؛ فال تدفع عنها الشدائد واألخطار لوهنها وضعفها المتناهي‬
‫الذي ال يدفع عنها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫قال الشوكاني‪ < :‬فإن بيتها ال يغني عنها شيئا ال في حر وال ق ٍّر وال مطر‪ ،‬كذلك‬
‫وليا من دون اهلل‪ ،‬فإنه الينفعهم بوجه من وجوه النفع‪ ،‬وال يغني عنهم‬ ‫ما اتخذوه ً‬
‫ً‬
‫شيئا > (‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ُ ُّ‬ ‫َ‬
‫مادة بيولوجية عرفها‬
‫ٍ‬ ‫كشف العلم الحديث أن خيوط العنكبوت تعد أقوى‬
‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬
‫نسيج العنكبوت أقوى‬ ‫الخصالت الحريرية التي تك ِّون‬ ‫اإلنسان حتى اآلن‪ ،‬وتعتبر‬
‫ً‬
‫من الفوالذ‪ ،‬وال يفوقها قوة سوى الكوارتز المصهور‪ ،‬ويتمدد الخيط الرفيع منه‬
‫إلى خمسة أضعاف طوله قبل أن ينقطع‪.‬‬

‫((( فتح القدير )‪.)204/4‬‬


‫‪576‬‬

‫ولذلك أطلق العلماء عليه اسم >الفوالذ الحيوي< أو >الفوالذ البيولوجي<‪،‬‬


‫ً‬
‫وهو أقوى من الفوالذ المعدني العادي بعشرين مرة‪ ،‬وتبلغ قوة احتماله ‪ 300‬ألف‬
‫حبل سميك بحجم إصبع اإلبهام مكون من خيوط‬ ‫رطل للبوصة المربعة‪ ،‬فلو ُوج َد ٌ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫العنكبوت فسيم ِكنه حمل طائرة جامبو بكل سهولة‪.‬‬
‫َ‬
‫وقد أنتجت مادة تشبه في تركيبها خيط العنكبوت تسمى بالكافلر‪ ،‬ويستعملوها‬
‫في صنع القمصان الواقية من الرصاص‪ ،‬فخيط العنكبوت يصنع بالطريقة نفسها‬
‫ُ‬
‫الصالبة؛ حيث يتكون الخيط المفرد من عدة خيوط‬
‫ِ‬ ‫التي تصنع بها الكوابل شديدة‬
‫متناهية في الصغر ملتف بعضها على البعض‪ ،‬وقد يبلغ سمك الخيط الواحد منها‬
‫‪ 1‬من مليون من البوصة‪.‬‬
‫معا؛ لتكوين‬‫وتقوم العنكبوت بجمع الخيوط الناتجة من المغازل الثالثة ً‬
‫َ‬
‫خصلة قوية ومتينة‪ ،‬وتغزل العناكب التي تعيش خارج المنزل نسيجا معروفا باسم‬
‫ََ‬
‫ك؛ نسبة إلى شكله الدائري‪ ،‬وهو قطعة هندسية رائعة من الخطوط المتناسقة‬ ‫الفل ِ‬
‫التي تتألأل بشكل بَ ِه ٍّي تحت أشعة الضوء‪.‬‬
‫ولقد توصل العلم الحديث إلى وصف أكثر من ‪ 35‬ألف نوع من العناكب‬
‫المختلفة األحجام واألشكال واأللوان والطبائع‪ ،‬ومن دراسة حياة العناكب‬
‫شكل هندسي مميز‪ ،‬ويقام في مكان‬‫ٌ‬ ‫الحظ المختصون أن بيت العنكبوت له‬
‫ُ‬
‫أركان له وزوايا‪ ،‬مثل‪ :‬البيت الذي يبنيه‬
‫ٍ‬ ‫عمل‬ ‫مختار بعناية‪ ،‬بحيث يتوفر‬
‫ٌ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وقد لوحظ أن كل خيط من الخيوط األساسية في البيت مكون من أربعة‬
‫َّ‬
‫خيوط أدق منه‪ ،‬ويخرج كل خيط من الخيوط األربعة من قناة خاصة في جسم‬
‫العنكبوت‪.‬‬
‫ً‬
‫وخيوط العنكبوت حريرية رفيعة جدا؛ حتى أن سمك شعرة واحدة من رأس‬
‫اإلنسان يزيد عن سمك خيط نسيج العنكبوت بحوالي ‪ 400‬مرة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪577‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫صورتان باجملهر االلكرتوني‪ :‬اليمني‪ :‬الغدد الفارزة للخيوط لدى العنكبوت‪ ،‬اليسار‪ :‬مقارنة‬
‫مسك خيوط العنكبوت بالنسبة لشعرة‪.‬‬
‫َ‬
‫ن والمعيشة‪ ،‬بل هو في الوقت‬
‫ِ‬ ‫للسك‬ ‫وال يقتصر بيت العنكبوت على كونه مأوى‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المارة‪ ،‬مثل‪ :‬الذباب والبعوض؛‬ ‫الحشرات‬ ‫نفسه ِشراك صيد تقع في حبائلها‬
‫فتكون فريسة يتغذى عليها العنكبوت‪.‬‬
‫ونسيج بيت العنكبوت يزيد من كمية األشعة الفوق البنفسجية المنعكسة ّ‬
‫جراءَ‬
‫ً‬ ‫َ ُّ‬
‫ض النسيج ألشعة الشمس؛ فيصبح مرئيا بوضوح مما يجعله فريسة سهلة‬ ‫تعر ِ‬
‫ألعدائه من الطيور وغيرها(‪.)1‬‬
‫وقد تبين وجه آخر من وجوه الوهن في بيت العنكبوت‪ :‬حيث ال يستمر البيت‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ً‬
‫علميا أن العنكبوت تأكل بيتها‬ ‫يذهب إلى بطن العنكبوت‪ ،‬وقد ثبت‬‫َ‬ ‫طوياًل حتى‬
‫بشكل شبه يومي‪.‬‬
‫ُ‬
‫ذات النسيج الدائري‬ ‫يوضح لوين هذا الموضع بقوله‪ < :‬تميل العناكب‬
‫َ‬
‫إلى أكلِ نسيجها القديم قبل بناء نسيج جديد‪ .‬وتقوم بتدوير ‪ 92‬إلى ‪ 96‬بالمائة‬
‫من بروتينات النسيج >‪ ،‬ثم يبين الفوارق بين بعض أنواع غازالت النسيج من العناكب‬

‫((( انظر‪ :‬العنكبوت وخيوطها في القرآن الكريم‪ ،‬الدكتور عبد‪ ‬اهلل الشاوي ف ص (‪)182‬‬
‫‪578‬‬

‫إلى أن يصل إلى أحد هذه األنواع التي يقول عنها‪ < :‬يظهر أنها تأكل النسيج بكامله‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قبل أن تبني نسيجا جديدا >‪.‬‬
‫ُ‬
‫وذكر بأن المواد التي تشكل النسيج القديم يتم أكلها من ِق َبلِ بعض أنواع‬
‫العناكب ذات النسيج الدائري‪ ،‬والعديد من المراجع العلمية تورد هذا األمر‬
‫َّ‬
‫على أنه أمر ُم َسل ٌم به‪.‬‬
‫وهومما يؤكد وهن بيت العنكبوت(‪.)1‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ّ‬
‫لقد أكدت الحقيقة العلمية وهن بيت العنكبوت فهو في واقع األمر ال يكن‬
‫حر وال يحمي من عدو‪ ،‬كما أنه في نهاية األمر ٌ‬
‫آيل‬ ‫من مطر وال يقي من برد وال ّ‬
‫للهدم واألكل من ِق َبلِ العنكبوت نفسه‪.‬‬
‫ْ‬
‫وص َ‬
‫أوهن البيوت‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫فهو بذلك يستحق‬
‫وقد كان للنص القرآني الكريم السبق في إطالق هذا الوصف قبل أن يثبت‬
‫علميا مما يدل على إعجاز النص القرآني‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬العنكبوت وخيوطها في القرآن الكريم‪ ،‬الدكتور عبد‪ ‬اهلل الشاوي ف ص (‪)184‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪579‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫السواك‬

‫َ ُ‬
‫بي ! قال‪> :‬لوال أن أ قَّ‬
‫ش‬ ‫عن أبي هريرة رضي اهلل تعالى عنه أن الن ّ ّ‬
‫على أمتي ألمرتهم بالسواك مع كل صالة< رواه الشيخان(‪ ،)1‬ـ وفي رواية ـ >عند‬
‫كل وضوء<(‪ ،)2‬وروى النسائي عن عائشة بلفظ‪> :‬السواك مطهرة للفم مرضاة‬
‫للرب<(‪   )3‬ورواه ابن ماجة عن أبي أمامة ‪.K‬‬
‫ِّ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ُ َ َّ ُ‬
‫سوك به‪.‬‬ ‫السواك‪ :‬يطلق على الفعل وعلى العود الذي يت‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)887‬ومسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)252‬‬


‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ )9928‬قال مخرجوه‪( :‬إسناده صحيح على شرط الشيخين)‪،‬‬
‫وانظر تخريجه فيه مفصاًل‪.‬‬
‫((( سنن النسائي‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 5‬قال األلباني‪ ( :‬صحيح )‪ ،‬والبيهقي (‪ (34/1‬من طرق‬
‫عن عائشة‪.‬‬
‫‪580‬‬

‫وهو في اصطالح العلماء استعمال عود أو نحوه في األسنان لتذهب الصفرة‬


‫وغيرها عنها‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫الصالة‪ ،‬وال في‬
‫ِ‬ ‫بواجب في حال من األحوال‪ ،‬ال في‬
‫ٍ‬ ‫والسواك سنة‪ ،‬ليس‬
‫غيرها(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫وأصلح ما اتخذ السواك من خشب األراك ونحوه‪ ،‬وال ينبغي أن يؤخذ من‬
‫ُ‬ ‫شجرة مجهولة‪ ،‬فربما كانت ُ‬
‫س ًّما‪ ،‬وينبغي القصد في استعماله‪ ،‬فإن بالغ فيه‪،‬‬
‫المتصاعدة من‬
‫ِ‬ ‫فربما أذهب طالوة األسنان وصقالتها‪ ،‬وهيأها لقبول األبخرة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫األسنان‪ّ ،‬‬
‫وقوى العمود‪ ،‬وأطلق‬ ‫المعدة واألوساخ‪ ،‬ومتى استعمل باعتدال‪ ،‬جال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحفر‪ ،‬وطيّب النكهة‪ ،‬ونقى الدماغ‪ ،‬وشهى الطعام‪.‬‬
‫َ‬ ‫اللسان‪ ،‬ومنع‬

‫شجرة األراك‬
‫ُ‬
‫وأجود ما استعمل مبلوال بماء الورد‪ ،‬ومن أنفعه أصول الجوز‪ .‬قال صاحب‬
‫ُ َّ‬
‫>التيسير<‪ :‬زعموا أنه إذا استاك به المستاك كل خامس من األيام‪ ،‬نقى الرأس‪،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الذهن‪.‬‬ ‫وصفى الحواس‪ ،‬وأحد‬

‫((( انظر‪ :‬شرح النووي على مسلم (‪.)142 /3‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪581‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ِّ َ‬
‫وفي السواك عدة منافع‪ :‬يطيِّب الفم‪ ،‬ويشد اللثة‪ ،‬ويقطع البلغم‪ ،‬ويجلو‬
‫بالحفر‪ ،‬ويصح المعدة‪ ،‬ويصفي الصوت‪ ،‬وي ُ ِعين على هضم‬ ‫ِ‬ ‫البصر‪ ،‬ويُذهب‬
‫ِّ‬ ‫الطعام‪ ،‬وي ُ ِّ‬
‫سهل مجاري الكالم‪ ،‬وينشط للقراءة‪ ،‬والذكر والصالة‪ ،‬ويَطرد النوم‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويُرضي الرب‪ ،‬ويُعجب المالئكة‪ ،‬ويُكثر الحسناتِ‪.‬‬
‫َّ‬
‫ويستحب كل وقت‪ ،‬ويتأكد عند الصالة والوضوء‪ ،‬واالنتباه من النوم‪،‬‬
‫وتغيير رائحة الفم‪ ،‬ويستحب للمفطر والصائم في كل وقت لعموم األحاديث‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫فيه‪ ،‬ولحاجة الصائم إليه‪ ،‬وألنه مرضاة للرب‪ ،‬ومرضاته مطلوبة في الصوم أشد‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫من طلبها في الفطر‪ ،‬وألنه َمطهرة للفم‪ ،‬والطهور للصائم من أفضل أعماله(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫َ ُ‬
‫الف ُم بحكمِ موقعه كمدخل للطعام والشراب وباتصاله بالعالم الخارجي يصبح‬
‫مأوى لكثير من الجراثيم؛ والتي تسمى >الزمرة الجرثومية الفمية<‪ ،‬وهي تضم‬
‫أنواعًا عديدة تصنف تبعا ألشكالها مثل المكورات والعصيات والملتويات‪ ،‬وهذه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الجراثيم تكون عند الشخص السليم متعايشة معه‪ ،‬ولكنها تنقلب ُم ْم ِرضة مؤذية‬
‫إذا بقيت لفترة طويلة تتكاثر في الفم‪ ،‬فهي تتغذى على فضالت الطعام‪ ،‬وتعمل‬
‫ُ‬
‫على تفسخها وتخمرها فتنشأ عنها روائح كريهة‪.‬‬
‫َ‬
‫وهذه المواد تؤذي األسنان وتحدث فيها النخ َر‪ ،‬ومع تراكم األمالح حول‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُّ‬ ‫ََ ُ‬
‫األسنان يحدث فيها القلح‪ ،‬وقد تؤدي إلى التهاب اللثة وتقي ِحها‪ ،‬كما يمكن لهذه‬
‫الجراثيم مع ضعف مقاومة الجسم‪ ،‬مثل حاالت ضعف جهاز المناعة أن تنتقل‬
‫ً‬
‫بعيدا في أرجاء البدن‪ ،‬محدثة التهابات مختلفة‪ ،‬كالتهاب المعدة أو الجيوب‬
‫األنفية أو الشعب الهوائية‪ ،‬وهنا يأتي دور السواك في تطهير الفم‪.‬‬

‫((( الطب النبوي البن القيم (ص‪.)243 :‬‬


‫‪582‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اجمللة األلمانية الشرقية في عددها الرابع سنة ‪ 1961‬مقااًل‬ ‫ِ‬ ‫وقد أوردت مجلة‬
‫للدكتور رودات‪ ،‬مدير معهد الجراثيم في جامعة روستوك‪ ،‬يقول فيه‪ < :‬قرأت‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫الة زار بالدهم‪،..‬‬
‫عن السواك الذي يستعمله العرب كفرشاة لألسنان في كتاب لرح ٍ‬
‫ٌ‬
‫وفكرت لماذا ال يكون وراء هذه القطعة الخشبية حقيقة علمية؟‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫زميل لي من العاملين في حقل الجراثيم‬ ‫وجاءت الفرصة سانحة عندما أحضر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بدأت أبحاثي عليها‪ ،‬فسحقتها‬ ‫وفورا‬ ‫في السودان عددا من تلك األعواد الخشبية؛‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وبللتها ووضعت المسحوق المبلل على مزارع الجراثيم‪ ،‬فظهرت على المزارع‬
‫آثار كتلك التي يقوم بها البنسلين (كمطهر للجراثيم) >‪.‬‬
‫َ‬
‫وتؤكد األبحاث المخبرية الحديثة‪ :‬أن المسواك المخضر من عود األراك‬
‫يحتوي على العفص بنسبة كبيرة‪ ،‬وهو مادة قابضة مطهرة مضادة للعفونة‪ ،‬وهي‬
‫تعمل على قطع نزيف اللثة وتقويتها‪ ،‬كما تؤكد وجود مادة خردلية هي السنجرين‬
‫‪ Sinnigrin‬ذات رائحة حادة وطعم حراق تساعد على الفتك بالجراثيم‪ ،‬وتقوم‬
‫ََ‬
‫ح‬
‫الكيماوية إلى تنظيف األسنان وإزالة الق ِ‬
‫ل‬ ‫ألياف السواك باإلضافة لبعض المواد‬
‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫َ‬
‫بياض األسنان وتعمل‬ ‫مواد تزيد‬ ‫عنها‪ ،‬وقد أكدت بعض الدراسات وجود‬
‫على حمايتها من التسوس‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ُ‬
‫لقد أثبتت األبحاث العلمية المستفيضة في السنوات األخيرة‪ :‬أن األراك يحتوي‬
‫ِّ‬
‫على مواد كثيرة معقمة وواقية من مختلف أنواع الجراثيم‪ ،‬وغيرها من مسببات‬
‫َْ ٌ‬ ‫ّ‬
‫>مط َه َرة للفم<‪،‬‬ ‫والتسوس‪ ،‬وهذا يتطابق مع وصفه ! للسواك بكونه‬ ‫االلتهاب‬
‫جهالة بهذه الحقيقة العلمية عندما أخبر بذلك رسول اهلل‬ ‫ُ‬
‫البشر على‬ ‫في حين كان‬
‫ٍ‬
‫!؛ مما يدل على أنه قوله في هذا الصدد يتضمن إعجازا علميا‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪583‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫املاء أساس احلياة‬

‫أۡ َ َ اَ َ‬ ‫ك َف ُر ٓوا ْ أَ َّن َّ‬


‫َ َ َ ۡ َ َ ذَّ َ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬أو لم ير ٱلِين‬
‫ۡٗ َ َ ۡ‬
‫ت َوٱلۡرض كن َتا َرتقا فف َتق َنٰ ُه َماۖ‬ ‫ٱلس َم ٰ َو ِٰ‬
‫نأ‬ ‫َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ ٓ لُ َّ يَ ۡ يَ ّ َ َ اَ ۡ‬
‫حۚ أفل يُؤم ُِنون﴾ [ال� �ب�ي��ا ء‪.]30 :‬‬
‫َ‬
‫وجعلنا مِن ٱلماءِ ك ش ٍء ٍ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َّ‬
‫حۚ﴾أي‪ :‬خلقنا من الماء كل حيوان‪،‬‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬وجعلنا مِن ٱلماءِ‬
‫ك يَ ۡ‬
‫ش ٍء يَ ّ‬ ‫َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ ٓ لُ َّ‬
‫ٍ‬
‫كقوله‪﴿ :‬وٱلل خلق‬
‫ۡ‬ ‫لَىَ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ هَّ ُ َ َ َ لُ َّ‬
‫ك َدٓابَّةٖ ّمِن َّماءٖۖ ف ِمن ُهم َّمن َي ۡم يِش ٰ‬
‫ع َب ۡطنِهِۦ َومِن ُهم َّمن َي ۡم يِش‬
‫َ‬
‫ِير﴾‬
‫شءٖ قَد ‪ٞ‬‬ ‫عك ۡ‬‫يَ‬ ‫ّ‬ ‫لُ‬ ‫لَىَ‬ ‫ٓ‬ ‫لَىَ‬
‫ع ر ۡجلَ نۡي َوم ِۡن ُهم َّمن َي ۡم يِش ٰٓ ۡ َ خَ ۡ ُ هَّ ُ َ َ َ ُ َّ هَّ َ‬
‫ُ‬ ‫لَىَ‬
‫ع أرب ٖ ۚع يلق ٱلل ما يشاء ۚ إِن ٱلل ٰ ِ‬ ‫ٰ ِ ِ‬
‫ّ‬
‫[ا ��لن�ور‪ ]45 :‬وذلك‪ ،‬ألنه من أعظم مواده‪ ،‬أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به‪ ،‬أو صيرنا‬
‫َّ‬
‫كل شيء حي من الماء‪ ،‬أي‪ :‬بسبب منه ال بد له من ذلك(‪.)1‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (‪.)65 /6‬‬
‫‪584‬‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ذرتي هيدروجين ّ‬ ‫مكو ٌن من ّ‬
‫ب كيميائي َّ‬ ‫َّ‬
‫مرك ٌ‬
‫وذر ٍة من األكسجين‪ .‬ينتشر‬ ‫الماء‬
‫الماء على األرض بحاالته المختلفة‪ ،‬السائلة والصلبة الغازية‪ .‬وفي الحالة السائلة‬
‫ً‬
‫مغطى‬ ‫يكون شفافا بال لون‪ ،‬وبال طعم‪ ،‬أو رائحة‪ .‬كما أن ‪ %70‬من سطح األرض‬
‫بالماء‪ ،‬ويعتبر العلماء الماء أساس الحياة على أي كوكب‪ .‬ويسمى الماء علميا‬
‫بأكسيد الهيدروجين‪:‬‬
‫اللون‬ ‫َ‬
‫أبيض‬ ‫‪P P‬الحالة الصلبة‪ : ‬يكون فيها الماء على شكل جليد أو ثلج‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫ناصع‪ ،‬يوجد على هذه الحالة عندما تكون درجة حرارة الماء أقل من الصفر‬
‫ٍ‬
‫المئوي‪.‬‬
‫‪P P‬الحالة السائلة‪ :‬يكون فيها الماء سائال بال لون‪ ،‬وهي الحالة األكثر شيوعا‬
‫للماء‪ .‬ويوجد الماء على صورته السائلة في درجات الحرارة ما بين الصفر‬
‫المئوي‪ ،‬ودرجة الغليان‪ ،‬وهي ‪ 100‬درجة مئوية في الشروط القياسية‪.‬‬
‫‪P P‬الحالة الغازية‪ :‬يكون فيها الماء على شكل بخار‪ ،‬ويكون الماء بالحالة‬
‫الغازية بدرجات حرارة مختلفة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫عشر بليون كيلومتر مكعب‪ ،‬ويوجد‬ ‫وتقدر كمية الماء على األرض بستة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫عشر بليون كيلومتر مكعب تحت‬ ‫القسم األكبر من هذه الكمية‪ ،‬والذي يقدر بثالثة‬
‫َ َ َ لنۡ َ َ َّ ٓ ٓ َ َ َ َ َّ‬ ‫ً‬
‫ٱلس َماءِ َما َء ۢ بِق َدرٖ فأ ۡسكنٰ ُه‬ ‫القشرة األرضية‪ ،‬وهذا مصداقا لقوله تعالى‪﴿ :‬وأنز ا مِن‬
‫أۡ َ‬
‫اب بِهِۦ لقٰد ُِرون﴾ [ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪.]18 :‬‬ ‫َّ لَىَ ٰ َ َ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫ِۢ‬ ‫ه‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫ِإَون‬ ‫ِ‬
‫ۡرض‬
‫يِف ٱل ۖ‬
‫ّ‬
‫أما الكمية المتبقية والتي تقدر بثالثة باليين كيلومتر مكعب‪ ،‬فإن نصفها‬
‫يدخل في تركيب الصخور والمعادن الموجودة في القشرة األرضية‪ ،‬بينما يوجد‬
‫النصف اآلخر في المحيطات والبحار واألنهار‪ ،‬وفي المناطق الجليدية على شكل‬ ‫ُ‬
‫جليد‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪585‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ويعتقد العلماءُ‪ :‬أن الماء الموجود على سطح األرض قد خرج من باطنها‪،‬‬
‫َ ۡ‬ ‫أۡ َ َ‬
‫وهو ظاهر قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وٱلۡرض َب ۡع َد ذٰل َِك َد َحى ٰ َها ‪ ٣٠‬أخ َر َج م ِۡن َها َما َء َها َو َم ۡر َعى ٰ َها﴾‬
‫ٓ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬

‫[ا ��لن��ا �زع�ا ت�‪.]31-30 :‬‬


‫‪ %3‬مياه عذبﺔ‬

‫‪%11‬‬
‫أنهار‬
‫‪%68‬‬ ‫‪%11‬‬
‫مستنقعات‬
‫جبال‬
‫‪%30‬‬ ‫وأنهار‬ ‫‪%87‬‬
‫بح�ات‬
‫جليديﺔ جوفيﺔ‬

‫‪%1‬‬
‫‪ %97‬مياه مالحﺔ‬ ‫سطحيﺔ‬ ‫‪ %1‬ا�ياه السطحيﺔ‬

‫توزيع مياه الكرة األرضية‬

‫ولقد كان هذا الماء عند أول نشأة األرض على شكل بخار يمأل جو األرض‬
‫بسبب ارتفاع درجة حرارة سطح األرض‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ويرى علماء الجيولوجيا‪ :‬أن المحيطاتِ الحالية كانت محيطا واحدا‪ ،‬ثم انقسم‬
‫ُ‬
‫سبعة أبح ٍر كبيرة مع انقسام القارة األم إلى سبع قارات‪ ،‬وتقدر كمية الماء التي‬
‫ِ‬ ‫إلى‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫تسقط على اليابسة بهيئة أمطار بتسعين ألف كيلومتر مكعب‪ ،‬تعود في النهاية إلى‬
‫ألف كيلومتر مكعب منها بواسطة األنهار‪،‬‬ ‫المحيطات والبحار؛ حيث يعود ثالثون َ‬
‫بينما تعود الستون َ‬
‫ألف المتبقية من خالل عملية التبخر‪.‬‬
‫وللماء خصائص فريدة تختلف عن خواص مواد مشابهة في التركيب؛ ّ‬
‫مما‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أغرب مادة في الكون‬ ‫حدا بعالم الكيمياء الروسي إيغور بتريانوف بأن يصفه بأنه‬
‫في كتابه‪> :‬الماء تلك المادة العجيبة<‪.‬‬
‫‪586‬‬

‫ً‬ ‫َ‬
‫فهو السائل الوحيد الذي يصلح ألن يكون وسطا لحدوث التفاعالت الكيميائية‬
‫بين األيونات الموجبة والسالبة‪ ،‬ويعمل كمذيب في أجسام الكائنات الحية‪ ،‬وله‬
‫القدرة على االنتشار وااللتصاق مما يسهل عمله‪ ،‬ويتميز عن سواه كسائل بفارق‬
‫كبير بين درجة ّ‬
‫تجمده ودرجة غليانه‪.‬‬
‫والالفت للنظر أن التفاوت في درجة حرارة معظم مناطق سطح األرض يقع‬
‫ُ‬
‫ضمن المدى الذي يكفل بقاءَ الماء بهيئة سائل‪.‬‬
‫أخف منه في حالته السائلة‪ ،‬على عكس جميع السوائل‬ ‫ُّ‬ ‫والماء ُ في حالته الصلبة‬
‫ُ ِّ‬
‫األخرى‪ ،‬وبغير هذه الخاصية يتحول ِس ْمك كل المحيطات في المناطق القطبية إلى‬
‫جليد‪ ،‬وتموت األحياء ُ البحرية‪.‬‬
‫َ ُ‬ ‫فإذا ّ‬
‫تجمد سطح المحيط يشكل طبقة عازلة تحول دون تجمد ما دونها‪ ،‬ومياه‬
‫المحيطات التي تغطي سبعين بالمائة من مساحة سطح األرض تقوم بامتصاص‬
‫كبيرة من الطاقة الشمسية خالل النهار‪ ،‬وتبثها كحرارة في الليل‪ ،‬فتحافظ‬
‫ٍ‬ ‫كمياتٍ‬
‫على منع التغيرات الكبيرة في درجة الحرارة‪ ،‬بما يناسب أحياء البر والبحر‪ ،‬وهو‬
‫شبه شفاف يسمح بمرور الضوء إلى مدى يصل إلى ألف متر في عمق المحيطات‪،‬‬
‫أساس سلسلة الغذاء في البحر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫فيسمح بتكاثر الطحالب‬
‫َ‬
‫مناطق عطشى؛‬ ‫السحب‪ ،‬لتنقله إلى‬ ‫ويتميز بسهولة تبخره‪ ،‬فيساعد على ّ‬
‫تكون‬
‫ِ‬
‫ما كان لها أن ترتوي بغير تقدير المبدع القدير‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لم يكن البشر يعرفون شيئا عن خصائص الماء الفيزيائية والكيميائية وأثره‬
‫َ‬
‫الكبير في حياة الكائنات‪ ،‬ولما يسر اهلل بفضله للبشر في عصرنا إدارك بعض‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الحقائق عن الماء‪ ،‬ظهرت لهم روعة النص القرآني الكريم‪ ،‬ودقته وإيجازه في‬
‫ظهر من مظاهر‬‫وصفه الماءَ‪ :‬بأنه مادة كل شيء حي في الحياة‪ ،‬فكان في ذلك َم ٌ‬
‫اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪587‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اإلسراف يف الطعام‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬يب يِن ءادم خذوا زِينت‬


‫َ لُ ُ ْ َ رۡ َ ُ ْ َ اَ ُ رۡ ُ ٓ ْ‬ ‫ِند لُ ّ َ ۡ‬ ‫ك ۡم ع َ‬ ‫ََٰ ٓ َ َ َ ُ ُ ْ ََ ُ‬
‫سف ۚوا‬‫ج ٖد وكوا وٱشبوا ول ت ِ‬ ‫ك مس ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ت أ ۡخ َر َج لِع َبادِه ِۦ َو َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ۡ َ ۡ َ َّ َ َ َ هَّ‬ ‫ِب ٱل ۡ ُم رۡسف َ‬ ‫إنَّ ُهۥ اَل حُي ُّ‬
‫ت م َِن‬ ‫ٱلط ّيِبٰ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٱللِ ٱل يِ ٓ‬ ‫ِني ‪ ٣١‬قل من حرم زِينة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ٗ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫حۡ‬ ‫ْ‬
‫ِين َء َام ُنوا يِف َ‬ ‫ذَّ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ٱلر ۡز ِ ۚق قل يِ َ‬
‫ت ل ِقو ٖم‬‫ٱدلن َيا خال ِصة يَ ۡوم ٱل ِقيٰ َمةِۗ كذٰل ِك نف ِصل ٱٓأۡلي ٰ ِ‬ ‫ٱل َي ٰوة ِ ُّ‬ ‫ه ل ِل َ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫أ‬
‫َي ۡعل ُمون﴾ [ال� �عرا �ف�‪.]32-31 :‬‬
‫َ َ‬

‫وفي الحديث الشريف‪> :‬ما مأل‬


‫َ‬
‫ب ابن آدم‬
‫ِ‬ ‫شرا من بطنه‪ِ ،‬بح ْس‬
‫آدمي وعاءً ً‬
‫ٌّ‬
‫ِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ ُ ْ َ ُْ‬ ‫َُ‬
‫بد فاعاًل‪ ،‬فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث‬ ‫صل َبه‪ ،‬فإن كان ال َّ‬ ‫لقيمات ي ِقمن‬
‫لنَفسه< رواه اإلمام أحمد والترمذي(‪.)1‬‬
‫َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫((( سنن الترمذي‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 2380‬قال األلباني‪( :‬صحيح)‪ ،‬ومسند أحمد‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪ ،)17186‬قال مخرجوه‪( :‬رجاله ثقات‪ ،‬غير يحيى‪ ‬بن جابر تكلموا في سماعه من‬
‫المقدم‪ ) ...‬وانظر تخريجه فيه مفصاًل‪.‬‬
‫‪588‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫سف ۚ ٓوا﴾‪.‬‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ول ت ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫اَ ُ‬
‫َ رۡ‬

‫المتعارف في الشيء أي‪ :‬وال تسرفوا في األكل‬ ‫َ‬ ‫اإلسراف‪ :‬هو تجاوز الحد‬
‫ٌ‬
‫أمراض‬ ‫بكثرة أكل اللحوم والدسم؛ ألن ذلك يعود بأضرار على البدن‪ ،‬وتنشأ منه‬
‫معضلة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫حفظ الصحة من جانب الغذاء‪ ،‬فالنهي‬ ‫ِ‬ ‫وقد قيل إن هذه اآلية َجمعت أصول‬
‫نهي تحريم‪ ،‬بقرينة اإلباحة الالحقة في قوله‪﴿ :‬قل َم ۡن‬
‫ُۡ‬ ‫نهي إرشاد ال ُ‬ ‫عن السرف ُ‬
‫أ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ٱلر ۡز ِ ۚق﴾ [ال� �عرا �ف�‪.]32 :‬‬ ‫حرم زِينة ٱللِ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿و ِ‬
‫ٱلط ّي َبٰ ِ َ ّ‬
‫ت مِن ِ‬
‫َ َّ‬ ‫َ َّ َ َ َ هَّ‬
‫َ ُ‬
‫وألن مقدار اإلسراف ال ينضبط‪ ،‬فال يتعلق به التكليف‪ ،‬ولكن يُوكل إلى‬
‫َ‬
‫تدبير الناس مصالحهم‪ ،‬وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقا‪﴿ :‬قل‬
‫ُۡ‬
‫أ‬ ‫َ‬
‫ط﴾ [ال� �عرا �ف�‪ ]29 :‬فإن ترك السرف من معنى العدل(‪.)1‬‬
‫ّ ۡ‬
‫أ َم َر َر يِب بِٱلقِ ۡس ِ ۖ‬

‫ب ابن آدم لقيمات ي ُ ِق ْم َن صلبه<‬ ‫قوله !‪> :‬ما مأل ٌّ‬


‫ٌ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً ً‬
‫آدمي وعاء شرا من بطنه‪ ،‬بحس ِ‬
‫شرا لما فيه من المفاسد الظاهرة‪ ،‬دينية‪ ،‬ودنيوية‪ ،‬فالشبع‬ ‫وإنما كان ملء ُ البطن ً‬
‫ُ‬ ‫الذهن عن التفكير الصحيح‪ ،‬وهو ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أيضا َمدعاة الكسلِ‪،‬‬ ‫يورث البالء‪ ،‬ويَعوق‬
‫َََ‬
‫رأس ماله‬ ‫ُ‬ ‫كثيرا ضيّع وقته‪ ،‬وقتله‪ ،‬وهو‬ ‫كثيرا‪ ،‬ومن نام ً‬ ‫كثيرا نام ً‬ ‫والنوم‪ ،‬فمن أكل ً‬
‫ِ‬
‫كثيرا من مصالحه الدينية‪ ،‬والدنيوية‪.‬‬ ‫في الحياة العملية‪ ،‬فيخسر ً‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫لقمان البنه‪ :‬يا بُ‬
‫وخرست‬ ‫ِ‬ ‫‪،‬‬ ‫الفكرة‬ ‫نامت‬ ‫المعدة؛‬ ‫امتألت‬ ‫إذا‬ ‫ني!‬ ‫ومن وصايا‬
‫ُ‬
‫الحكمة‪ ،‬وقعدت األعضاء ُ عن العبادة‪ .‬هذا حال الشبع‪.‬‬
‫َّ ُ‬
‫وأما حال اإلقالل من الطعام والشراب‪ :‬فالقلب يصفو‪ ،‬والقريحة تت ِقد‪،‬‬
‫ْ‬
‫والنف ُ‬
‫س مقهورة على أمرها‪.‬‬ ‫والبصيرة تنفذ‪ ،‬والشهوة مغلوبة‪،‬‬

‫((( انظر‪:‬التحرير والتنوير (‪.)95 / 8‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪589‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫صاحب الرسالة عليه أفضل الصالة والتسليم إلى المقدار المناسب‬ ‫وقد أرشدنا‬
‫ِّ‬
‫في الطعام‪ ،‬وهو ما يقيم الحياة‪ ،‬ويحفظ الصحة‪ ،‬ويُمكن اإلنسان من القيام‬
‫ُ َُ‬ ‫ً‬
‫مكثرا منه يجعل ثلثي المعدة للطعام‬ ‫بواجبه الشخصي‪ ،‬والمشترك‪ ،‬وإن كان ال بد‬
‫ََ‬ ‫والشراب‪ ،‬ويترك ُثل َثها الباقي ً‬
‫خاليا حتى يتمكن من النفس بسهولة‪.‬‬
‫وذلك أن البطن إذا امتألت ضغطت على الحجاب الحاجز‪ ،‬فضغطت على‬
‫الدم الفاسد‪ ،‬وتحويله‬ ‫ٌّ‬
‫الرئتين‪ ،‬فضاقت مجاري التنفس الذي هو ضروري إلصالح ِ‬
‫إلى دم صالح تقوم به حياة اإلنسان‪ ،‬وتحفظ صحته‪ ،‬ولذلك جاء الترغيب في‬
‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫بنفسه؛ ألن َ‬
‫أكبر مهذب لإلنسان هو الصوم؛ لتقليل‬ ‫الصوم‪ ،‬وأن اهلل يجزي به ِ‬
‫الطعام فيه‪ ،‬واهلل أعلم(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫لقد أثبتت الدراسات المتوالية في مجال الغذاء وأثره على صحة اإلنسان‪:‬‬
‫ٌ‬
‫وخيمة بل ُ‬ ‫أن عواقب َ‬
‫هلكة؛ ألنها تؤثر بشكل خطير‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫النهمِ في الطعام والشراب‬

‫((( اإلتحافات السنية باألحاديث القدسية‪ ،‬ومعه النفحات السلفية بشرح األحاديث القدسية‪،‬‬
‫المناوي (ص‪.)156 :‬‬
‫‪590‬‬

‫على جهاز الهضم‪ :‬ابتداءً بالتخمة وعسر الهضم‪ ،‬وانتهاء بتوسع المعدة وظهور‬
‫التقرحات المعدية‪ ،‬وغير ذلك من اآلفات‪.‬‬
‫ِّ ٌ‬ ‫َ‬
‫ومن هنا فإن تناول الوجبة الكبيرة مقدمة للشعور بألم الذبحة الصدرية عند‬
‫المصابين بأمراض األوعية القلبية؛ بسبب نقص تروية القلب بالدماء‪ ،‬وتوجيهها‬
‫نحو األمعاء عقب الوجبات‪.‬‬
‫كما أن تناول الدهون بكثرة يعرض لإلصابة بتصلب الشرايين‪ ،‬وكذلك‬
‫فإن تناول اللحوم بكثرة يعرض ذوي االستعداد الوراثي لإلصابة بداء الملوك‬
‫أو النقرس‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وهكذا فإن السمنة تحد من نشاط الفرد وتقلل من إنتاجه‪ ،‬وهي مقدمة‬
‫لإلصابة بجملة أمراض؛ منها داء البول السكري وارتفاع ضغط الدم‪ ،‬والسمنة‬
‫ً‬
‫واضطراب الغدد الصماء؛ نتيجة‬
‫ِ‬ ‫أو البدانة تؤدي إلى خلل في التمثيل الغذائي‬
‫لتراكم الشحوم‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫عواقب وخيمة على جسم اإلنسان وصحته‪،‬‬ ‫ولم يعد مجهوال أن للبدانة‬
‫ً‬ ‫حتى إن إحدى شركات التأمين األمريكية ّ‬
‫تقرر وفقا لإلحصائيات‪ :‬أنه كلما طال‬
‫حزام البطن كلما كان العمر قصيرا؛ نتيجة اإلصابة باألمراض‪.‬‬
‫ومنها مرض البول السكري حيث إنه يصيب الشخص البدين أكثر من العادي‪،‬‬
‫َّ‬
‫ونتيجة للبدانة تحل الدهون محل بعض خاليا عضلة القلب؛ مما يؤثر بصورة‬
‫مباشرة على وظيفته‪ ،‬وقد يتجه البعض الستخدام العقاقير إلنقاص الوزن لكنها قد‬
‫تسبب ً‬
‫آثارا جانبية مضرة‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ُ‬
‫السبق في التنبيه إلى خطورة اإلسراف‬ ‫لقد كان للنص القرآني والنص الحديثي‬
‫في األكل‪ ،‬وألجل ذلك ورد النهي عنه والتحذير منه‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪591‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وقد أكد البحث العلمي في مجال التغذية وعالقتها بصحة اإلنسان‪ :‬أن‬
‫ُ‬ ‫اإلسراف في تناول الطعام والشراب َ‬
‫مفسدة‪ ،‬وأنه يتعين على اإلنسان االبتعاد عنه‬
‫ً‬
‫حماية لصحته البدنية وسالمته الذهنية‪.‬‬
‫وهذا السبق الزماني للنصوص الشرعية دليل على إعجازها‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪593‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وسائل املواصالت‬

‫َۡ ُ ُ َ‬ ‫َ أۡ َ ۡ َ ٰ َ َ َ َ َ َ ُ ۡ َ ۡ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬وٱلنعم خلقهاۖ لكم ف‬
‫َ ُ‬
‫ِيها دِفء‪َ ٞ‬و َم َنٰ ِف ُع َوم ِۡن َها تأكلون ‪َ ٥‬ولك ۡم‬
‫َ حَ ۡ ُ َ ۡ َ َ ُ ۡ ىَ ٰ َ دَ َّ ۡ َ ُ ُ َْ‬ ‫َ ُ ُ َ َ َ َ رۡ َ ُ َ‬ ‫َ مَ َ ٌ‬
‫ل لم تكونوا بٰلِغِيهِ‬ ‫سحون ‪ ٦‬وت ِمل أثقالكم إِل ب ٖ‬ ‫جال حِني ت ِريحون وحِني ت‬ ‫فِيها‬
‫َ خۡ َ ۡ َ َ بۡ َ َ َ حۡ َ َ رَ ۡ َ ُ َ َ َ ٗ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫َ‬
‫ك ۡم ل َر ُءوف َّرح ‪ٞ‬‬ ‫َّ َ َّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أۡ‬ ‫ّ‬ ‫اَّ‬
‫ِيم ‪ ٧‬وٱليل وٱلِغال وٱل ِمري ل ِتكبوها وزِينة ۚ‬ ‫س إِن رب‬ ‫إِل بِشِ ِق ٱلنف ِ ۚ‬
‫ني﴾‬ ‫جع َ‬ ‫ۡ َ ٓ َ َ ٓ َ َ ُ َ مۡ َ‬ ‫َ لَىَ هَّ‬
‫ٱللِ قَ ۡص ُد َّ‬ ‫َ َ ۡ ُ ُ َ اَ َ ۡ َ ُ َ‬
‫يل َومِن َها جائ ِ ‪ٞ‬ر ۚ َول ۡو شا َء ل َهدىٰك ۡم أ ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ٱلس‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫‪٨‬‬ ‫ون‬ ‫ويخلق ما ل تعلم‬
‫[ا �لن�����ح�ل‪.]9-5:‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫وها َوزِ َينة ۚ َو َيخل ُق َما ل ت ۡعل ُمون﴾‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫َ‬ ‫اَ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ٗ‬ ‫َ َ َ ۡ ُ َ‬‫رَ َ‬ ‫حۡ‬ ‫بۡ َ َ‬ ‫خۡ َ‬
‫ٱل ۡيل َوٱلِغال وٱل ِمري ل ِتكب‬
‫َّ‬ ‫لما كانت األنعام َ‬
‫أكثر أموالهم‪ ،‬مع أن منافعها أكثر‪ ،‬بدأ بها‪ ،‬ثم ثنى بما هو‬
‫ٱل ۡيل﴾ أي‪ :‬الصاهلة‬ ‫مرتبا له على األشرف فاألشرف‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬و‬
‫َ خۡ َ َ‬ ‫دونها‪ً ،‬‬
‫ري﴾ أي‪ :‬الناهقة‪َ ﴿.‬وزِ َينة ۚ﴾‪.‬‬ ‫﴿ َو بۡٱل َغ َال﴾ أي‪ :‬المتولدة بينها وبين الحمر ﴿ َو حۡ َ‬
‫ٗ‬ ‫ٱل ِم َ‬
‫ِ‬
‫ولما دل على قدرته بما ذكر في سياق االمتنان‪ ،‬دل على أنها ال تتناهى‬
‫ّ‬ ‫في ذلك السياق‪ ،‬فنبّه على أنه خلق لهم ً‬
‫أمورا لو عدها لهم لم يفهموا المراد على‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫سبيل التجديد واالستمرار في الدنيا واآلخرة‪.‬‬


‫ً‬ ‫ُ ً‬
‫وجدا َ‬
‫مدبرا سواه‪.‬‬ ‫غيره وال‬ ‫قوله‪َ ﴿ :‬ما ل ت ۡعل ُمون﴾ فال تعلمون له م‬
‫اَ َ َ َ‬

‫يل﴾ أي‪ :‬بيان الطريق العدل‪ ،‬وعلى اهلل بيان الطريق الجائر‬ ‫قوله‪﴿ :‬قصد ٱلسب ِ ِ‬
‫ۡ ُ َّ‬ ‫َ‬
‫َ َّ‬
‫حتى ال يُشك في شيء منهما‪ ،‬فإن الطريق المعنوية كالحسية‪ ،‬منها مستقيم‪:‬‬
‫َّ‬
‫َمن سلكه اهتدى‪َ ﴿ ،‬وم ِۡن َها َجائ ِ ‪ٞ‬ر ۚ﴾‪َ :‬من سلكه ضل عن الوصول فهلك(‪.)1‬‬
‫ٓ‬

‫((( انظر‪ :‬نظم الدرر في تناسب اآليات والسور‪ ،‬البقاعي (‪.)111-110/11‬‬


‫‪594‬‬

‫قال المراغي‪َ ﴿ :‬و َيخل ُق َما ل ت ۡعل ُمون﴾‪ :‬مما يهدي إليه العلم وتستنبطه‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫اَ‬ ‫ۡ ُ‬
‫َ‬ ‫ُُ‬
‫العقول‪ ،‬كالقطر البرية والبحرية والطائرات التي تحمل أمتعتكم‪ ،‬وتركبونها من بلد‬
‫إلى آخر ومن قطر إلى قطر‪ ،‬والمناطيد الهوائية التي تسير في الجو‪ ،‬والغواصات‬
‫التي تجري تحت الماء؛ إلى نحو أولئك مما تعجبون منه‪ ،‬ويقوم مقام الخيل‬
‫والبغال والحمير في الركوب والزينة(‪.)1‬‬
‫َ‬
‫وقال ابن عاشور‪ < :‬الذي يظهر لي أن هذه اآلية من معجزات القرآن الغيبية‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫مراكب هي أجدى لهم‬ ‫َ‬
‫البشر اختراع‬ ‫العلمية‪ ،‬وأنها إيماء إلى أن اهلل سيُل ِه ُم‬
‫ّ‬
‫ويحركها‬ ‫من الخيل والبغال والحمير‪ ،‬وتلك العجالت التي يركبها الواحد‬
‫برجليه‪ ،..‬وأرتال السكك الحديدية والسيارات‪ ،..‬ثم الطائرات التي تسير بالنفط‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫يعلمها َمن‬ ‫المصفى‪ ،..‬فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة‪ ،‬لم يكن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫الناس الختراعها هو ملحق بخلق اهلل‪،‬‬ ‫كانوا قبل عصر وجود كل منها‪ ،‬وإلهام اهلل‬
‫فاهلل هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم‪ ،‬وبما‬
‫ّ‬
‫تدرجوا في سلم الحضارة واقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها‪ ،‬فهي بذلك‬
‫ّ‬
‫مخلوقة هلل تعالى ألن الكل من نعمته >‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقال الشنقيطي‪ < :‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َيخل ُق َما ل ت ۡعل ُمون﴾؛ ذكر َجل وعال‬
‫اَ َ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫في هذه اآلية الكريمة‪ :‬أنه يخلق ما ال يعلم المخاطبون وقت نزولها‪ ،‬وأبهم ذلك‬
‫الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول‪ ،‬ولم يصرح هنا بشيء منه‪ ،‬ولكن قرينة ذكر‬
‫ذلك في معرض االمتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات‪ ،‬وقد‬
‫َ‬
‫شوهد ذلك في إنعام اهلل على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول اآلية‬
‫كالطائرات والقطارات والسيارات‪.‬‬
‫ُ‬
‫إشارة الن ّ ّ‬
‫بي ! إلى ذلك‪ ،‬في الحديث الصحيح‪ ،‬روى اإلمام‬ ‫ويؤيد ذلك‬
‫مسلم‪ ‬بن الحجاج رحمه اهلل‪ ..‬بسنده عن أبي هريرة ‪ K‬أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل‬

‫((( تفسير المراغي (‪.)57 /14‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪595‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫!‪> :‬واهلل لينزل َّن ابن مريم حك ًما عادال فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وليضع َّن‬
‫َ ُْ َ‬
‫الجزية ولتت َرك َّن القالص فال يسعى عليها<‪ ..‬الحديث‪.‬‬
‫تركن الق ُ‬
‫اَلص فال يسعى‬ ‫ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح قوله‪( :‬ولتُ َ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫ُ َ ٌ‬
‫شاهد‬
‫ُ‬
‫بي ! أنه ستترك اإلبل فال يسعى عليها‪ ،‬وهذا م‬ ‫عليها)؛ فإنه َق َس ٌم من الن ّ ّ‬
‫اآلن لالستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة‪ ،‬وفي هذا الحديث معجزة عظمى‬
‫تدل على صحة نبوته !؛ وإن كانت معجزاته صلوات اهلل عليه وسالمه َ‬
‫أكثر‬
‫من أن تحصر >‪.‬‬
‫وقال األلوسي‪ < :‬والعدول إلى صيغة االستقبال للداللة على االستمرار‬
‫والتجدد‪َ ﴿ ..‬و َيخل ُق َما ل ت ۡعل ُمون﴾ على ظاهره > ‪.‬‬
‫اَ َ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬

‫ري﴾ فإنك تبدأ‬ ‫وقال الزركشي‪ < :‬أما الموصوفات‪َ ﴿ ..‬و َ‬


‫حۡ‬
‫ٱل ِم َ‬ ‫بۡ َ َ‬ ‫خۡ َ‬
‫ٱل ۡيل َوٱلغال َو َ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫باألفضل فتقول قام األمير ونائبه وكاتبه‪ ،..‬فقدم الخيل ألنها أحمد وأفضل‬
‫ّ‬
‫من البغال وقدم البغال على الحمير لذلك أيضا > (‪.)1‬‬
‫َْ‬
‫ق األنعام‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫على‬ ‫بها‬ ‫يعقب‬ ‫‪..‬‬ ‫﴾‬ ‫قال سيد قطب‪َ ﴿ < :‬و َيخل ُق َما ل ت ۡعل ُمون‬
‫اَ َ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة‪ ..‬ليظل‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫وخ‬ ‫مال‪،‬‬ ‫والج‬ ‫لألكل والحمل‬
‫ً‬
‫اجملال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫والركوب والزينة‪ ،‬فال يغلق تصورهم خارج حدود البيئة‪ ،‬وخارج حدود الزمان‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُّ‬
‫الذي ي ُ ِظلهم‪.‬‬
‫صور أخرى‪ ،‬يريد اهلل للناس أن يتوقعوها‬ ‫ٌ‬ ‫فوراءَ الموجود في كل مكان وزمان‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫تصورهم وإدراكهم‪ ،‬ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف‬ ‫فيتسع‬
‫فال يعادوها وال يجمدوا دون استخدامها واالنتفاع بها‪.‬‬

‫((( البرهان في علوم القرآن للزركشي )‪.)406/3‬‬


‫‪596‬‬

‫َ‬
‫األنعام والخيل والبغال والحمير فال نستخدم‬ ‫وال يقولوا‪ :‬إنما استخدم آباؤنا‬
‫سواها‪ .‬وإنما نص القرآن على هذه األصناف فال نستخدم ما عداها!‪.‬‬
‫ِّ‬
‫إن اإلسالم عقيدة مفتوحة مرنة قابلة الستقبال طاقات الحياة كلها‪ ،‬ومقدرات‬
‫ّ‬
‫الحياة كلها ومن ثم يهيِّئ القرآن األذهان والقلوب الستقبال كل ما تتمخض‬
‫عنه القدرة‪ ،‬ويتمخض عنه العلم‪ ،‬ويتمخض عنه المستقبل‪ .‬استقباله بالوجدان‬
‫ِّ‬
‫الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة‪.‬‬
‫َّ ْ‬
‫ُ‬
‫يعلمها أهل‬ ‫ولقد َجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة‪ ،‬لم يكن‬
‫ذلك الزمان‪ .‬وستجد وسائل في أزمنة أخرى ال يعلمها أهل هذا الزمان‪ .‬والقرآن‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫القلوب واألذهان‪ ،‬بال جمود وال تحجر ﴿ َو َيخل ُق َما ل ت ۡعل ُمون﴾ ‪..‬‬ ‫يهيِّئ لها‬
‫اَ َ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬

‫والسير لبلوغ غايات محسوسة في عالم‬ ‫َّ‬ ‫وفي معرض النقل والحمل والركوب‬
‫ً‬
‫وس َيرا معنويًا وطرقا معنوية‪ .‬فثمة الطريق‬ ‫األرض‪ ،‬يدخل السياق غاياتٍ معنوية ِ‬
‫إلى اهلل‪ .‬وهو طريق قاصد مستقيم ال يلتوي وال يتجاوز الغاية‪ .‬وثمة طرق أخرى‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ال توصل وال تهدي‪ .‬فأما الطريق إلى اهلل فقد كتب على نفسه كشفها وبيانها بآياته‬
‫في الكون وبرسله إلى الناس > (‪.)1‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫عندما كان القرآن يتنزل تحدث عما امتن به اهلل سبحانه وتعالى على عباده‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫مراكب في البر والبحر‪ ،‬وذيَّله بقوله ﴿ َو َيخل ُق َما ل ت ۡعل ُمون﴾‪.‬‬ ‫وسخره لهم من‬
‫اَ َ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬

‫ُ‬
‫وقد مرت قرون طويلة حتى تحقق ما أخبر اهلل به؛ فظهرت وسائل النقل‬
‫وبواخر وطائراتٍ ومركبات فضائية‪ ،‬فدل ذلك على إعجاز‬ ‫َ‬ ‫المتطورة من سيارات‬
‫ُ‬ ‫ِّ َ‬ ‫ُ‬
‫خالق هذا الكون‪ ،‬وأن المبلغ عنه هو رسول‬ ‫النص القرآني‪ ،‬وأن المتكلم به هو‬
‫اهلل !‪.‬‬

‫((( في ظالل القرآن لسيد قطب (‪.)2162- 2161 /4‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪597‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫أطوار خلق اجلنني يف القرآن الكريم‬

‫ۡ ُ َٗ‬ ‫ُ‬
‫ِني ‪ ١٢‬ث َّم َج َعل َنٰ ُه ن ۡطفة‬ ‫ُ َ َ ّ‬ ‫قال اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َق ۡد َخلَ ۡق َنا إۡٱل َ ٰ َ‬
‫نسن مِن سلٰل ٖة مِن ط ٖ‬ ‫ِ‬
‫ُ َّ َ َ ۡ َ ُّ ۡ َ َ َ َ َ ٗ َ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ُ ۡ َ ٗ َ َ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِني ‪ ١٣‬ثم خلقنا ٱنلطفة علقة فخلقنا ٱلعلقة مضغة فخلقنا ٱلمضغة‬ ‫ٖ‬ ‫يِف ق َرارٖ َّمك‬
‫َ ٰ ٗ َ َ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ حَ ۡ ٗ ُ َّ َ َ ۡ َ ٰ ُ َ ۡ ً َ َ َ َ َ َ َ َ هَّ ُ َ ۡ َ ُ ۡ َ‬
‫ني﴾‬ ‫خٰلِق َ‬
‫ِ‬ ‫عِظما فكسونا ٱل ِعظم لما ثم أنشأنه خلقا ءاخر ۚ فتبارك ٱلل أحسن ٱل‬
‫[ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪ ،]14-12 :‬فهذه اآلية داللة واضحة على أن اإلنسان يخلق في أطوار‪.‬‬
‫َ‬
‫ك ۡم أ ۡط َو ًارا﴾ [ن�وح‪.]14 :‬‬ ‫ويؤكد ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وق ۡد خلق‬
‫ََ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ث﴾‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬يلقكم يِف بط ِ‬
‫ََ‬ ‫ُ‬
‫ُ َ‬ ‫ۡ‬‫ّ َۡ َ‬ ‫ۡٗ‬
‫َّ َ ُ ۡ َ‬ ‫ُ ۡ ُُ‬ ‫خَ ۡ ُ ُ‬
‫ت ثل ٰ ٖ ۚ‬
‫ون أمهٰتِكم خلقا ِم ۢن بع ِد خل ٖق يِف ظلم ٰ ٖ‬
‫[ا �ل�ز �مر‪.]6 :‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫أطوار خلق اجلنني‬


‫‪598‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫الداللة في آية سورة المؤمنون‪ :‬أن خلق اإلنسان في بطن أمه يمر بأطوار‬
‫ََۡ َ ََ ُ َ‬
‫ك ۡم أ ۡط َو ًارا﴾ تصبح تلك‬ ‫عدة‪ ،‬ومع تدبرنا اآلية (‪ )14‬من سورة نوح ﴿وقد خلق‬
‫ّ‬
‫الداللة مؤكدة خاصة بعد انضمام ما ذكره اهلل لنا في آية ثالثة‪ ،‬وهي قوله تعالى‪:‬‬
‫ُ َّ َ ُ ۡ َ ۡ ٗ ّ َ ۡ َ ۡ‬
‫ث﴾ [ا �ل�ز �مر‪.]6 :‬‬ ‫﴿ يلقكم يِف بط ِ‬
‫ُ ُ َٰ ََ‬ ‫خَ ۡ ُ ُ ُ ۡ ُ ُ‬
‫ت ثل ٰ ٖ ۚ‬
‫ون أمهٰتِكم خلقا ِم ۢن بع ِد خل ٖق يِف ظلم ٖ‬
‫ومن هذه األطوار التي وردت في سورة المؤمنون ـ صريحة‪َ :‬ط ُ‬
‫ور النطفة‪،‬‬
‫وطور العلقة‪ ،‬وطور المضغة‪ ،‬وطور خلق العظام‪ ،‬ثم طور خلق اللحم وهكذا‬
‫النشأة المتميزة‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫اتفقت المصادر العلمية على أن خلق اإلنسان على مستوى الجينات مقدر‬
‫مرسوم‪ ،‬وأنه على مستوى الخاليا واألنسجة متطور عبر أطوار متعددة‪ ،‬حددها‬
‫بعضهم‪ :‬بطور النطفة األمشاج (المشيج) ‪ ،Fertilized ovum‬ثم طور الحميل‬
‫طور الجنين ‪( Fetus‬وهذا هو تقسيم ليزلي أرى وجان النجمان)‪.‬‬
‫‪ ،Fmbryo‬ثم ِ‬
‫وقسمها هاميلتن وبويد وموسمان إلى مرحلة النطفة ‪ ،Fertilized ovum‬ثم‬
‫مرحلة العلوق ‪ ،Implantation‬ثم مرحلة الحميل ذي الكتل البدنية (المضغة)‪،‬‬
‫ثم بعد ذلك مرحلة التخلق أو مرحلة تكوين األعضاء ‪ ،Organo genesis‬ثم‬
‫ف بعد ذاك بنهاية األسبوع الثامن إلى مرحلة الجنين ‪ Fetus‬حيث يكون الجنين‬ ‫تَ ْدل ُ‬
‫ِ‬
‫ُ ِّ‬
‫قد شكل بشكله اإلنساني وتكونت معظم األعضاء واألجهزة بصورتها الشبيهه بما‬
‫هي عليه عند المولود‪.‬‬
‫وال يبقى في مرحلة الجنين ‪ Fetus‬وهي من نهاية األسبوع الثامن إلى الوالدة‬
‫إال نمو األجهزة وتكاملها في شكلها النهائي‪ .‬وهي في الواقع مرحلة ٍّ‬
‫نمو أكثر منها‬
‫مرحلة خلق جديدة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪599‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ً‬ ‫ٌ‬
‫تخليق محدود جدا‪،‬‬ ‫وال شك أن التخليق يستمر حتى بعد الوالدة‪ ،‬ولكنه‬
‫ٌ ً‬
‫وكذلك التخليق في مرحلة الجنين ‪ Fetus‬محدود جدا‪.‬‬
‫َ‬
‫وأهم ما يميز هذه المرحلة هو النمو والتكامل لألجهزة واألعضاء‪ ..‬بينما كانت‬
‫المرحلة السابقة‪ ،‬والتي تنتهي بنهاية األسبوع الثامن‪ ،‬وتبدأ من نهاية األسبوع‬
‫ُ‬
‫وتكوين الهيكل العظمي والعضالت‪،‬‬
‫ِ‬ ‫واألجهزة‪،‬‬ ‫األعضاء‬ ‫تكوين‬
‫ِ‬ ‫مرحلة‬ ‫الرابع هي‬
‫َ‬
‫وتكوين واللحم والجلد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وتصوير الوجه وش ِّق السمع والبصر‪،‬‬
‫ِ‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫بأكثر من عشرة قرون‪ ،‬يعتقدون أن‬ ‫َ‬ ‫بينما كان الناس في زمن النبوة وبعده‬
‫َ‬
‫اإلنسان يُخلق كقزم كامل من دم الحيض‪ ،‬أو داخل البويضة‪ ،‬أو في رأس الحيوان‬
‫ٍ‬
‫المنوي بعد اكتشافهما في القرن السابع عشر والثامن عشر‪ ،‬حيث ثبت بطالن تلك‬
‫األوهام على يد العالم سباال نزالى عام ‪1775‬م‪ ،‬الذي أثبت أن اإلنسان يخلق من‬
‫ِّ‬
‫كل من الحيوان المنوي والبويضة‪.‬‬
‫بي ! في الحديث الذي رواه أنس‪ ،‬قال‪ :‬سمع‬ ‫عين ما أشار إليه الن ّ ّ‬‫ُ‬
‫وهو‬
‫ّ‬
‫ف‪ ،‬فأتى الن َّ‬ ‫عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن سالم‪ ،‬بقدوم رسول اهلل !‪ ،‬وهو في أرض يَختر ُ‬ ‫ُ‬
‫بي !‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فقال‪ :‬إني سائلك عن ثالث ال يعلمهن إال نبي‪ :‬فما أول أشراط الساعة؟‪ ،‬وما أول‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫طعام أهل الجنة؟‪ ،‬وما ي َ ِنزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال‪> :‬أخبرني بهن جبريل‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫آنفا< قال‪ :‬جبريل؟‪ :‬قال‪> :‬نعم<‪ ،‬قال‪ :‬ذاك عدو اليهود من المالئكة‪ ،‬فقرأ هذه‬
‫ٱللِ﴾ [ا ��لب�ق��ر�ة‪.]97 :‬‬ ‫اآلية‪﴿ :‬من كن عدوا ل ِـ ِ‬
‫َ اَ َ َ ُ ّٗ ّ رۡ َ َ َّ ُ َ َّ هَ ُ لَىَ ٰ َ ۡ َ ۡ هَّ‬
‫بيل فإِنهۥ نزلۥ ع قلبِك بِإِذ ِن‬ ‫ج ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أول أشراط الساعة ٌ‬ ‫ُ‬
‫الناس من المشرق إلى المغرب‪ ،‬وأما‬ ‫تحشر‬ ‫فنار‬ ‫>أما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوتٍ‪ ،‬وإذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع‬
‫الولد‪ ،‬وإذا سبق ماءُ المرأة نزعت<‪ ،‬قال‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأشهد أنك‬
‫َ‬

‫رسول اهلل‪ ،‬يا رسول اهلل‪.‬‬


‫‪600‬‬

‫َ‬ ‫ْ ٌ‬
‫إن اليهود قوم بُهت‪ ،‬وإنهم إن يعلموا بإسالمي قبل أن تسألهم يبهتوني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫خيرنا وابن‬ ‫بي !‪> :‬أي رجل عبد‪ ‬اهلل فيكم<‪ .‬قالوا‪:‬‬ ‫فجاءت اليهود‪ ،‬فقال الن ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سيدنا‪ ،‬قال‪> :‬أرأيتم إن أسلم عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن سالم<‪ .‬فقالوا‪:‬‬ ‫خيرنا‪ ،‬وسيدنا وابن‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫أعاذه اهلل من ذلك‪ ،‬فخرج عبد‪ ‬اهلل فقال‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن محمدا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وابن ِّ‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬فقالوا‪ُّ :‬‬
‫أخاف‬ ‫شرنا‪ ،‬وانتقصوه‪ ،‬قال‪ :‬فهذا الذي كنت‬ ‫شرنا‬
‫يا رسول اهلل(‪. )1‬‬
‫ومن هنا يقول البروفيسور جولي سمسون‪ < :‬أعتقد أنه ال يوجد خالف بين‬
‫َ‬
‫أساليب الكشف العلمية‬ ‫المعرفة العلمية‪ ،‬وبين الوحي‪ ،‬بل إن الوحي ليدعم‬
‫ً‬
‫التقليدية المعروفة حينئذ‪ ،‬وجاء القرآن الكريم قبل عدة قرون مؤيدا لما تطرقنا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المعجز >‪.‬‬ ‫إليه؛ مما يدل على أن القرآن الكريم هو كالم اهلل‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم )‪.)19 /6( )4480‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪601‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫طور النطفة‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ِني ‪ ١٢‬ث َّم َج َعل َنٰ ُه‬ ‫ُ َ َ ّ‬ ‫قال سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َق ۡد َخلَ ۡق َنا إۡٱل َ ٰ َ‬
‫نسن مِن سلٰل ٖة مِن ط ٖ‬ ‫ِ‬
‫ِني﴾ [ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪� 12 :‬ـ ‪.]13‬‬ ‫ُ ۡ َ ٗ َ َ َّ‬
‫نطفة يِف قرارٖ مك ٖ‬

‫بويضة يف طور النطفة‬


‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله‪﴿ :‬ث َّم َج َعل َنٰ ُه ن ۡطفة﴾ في هذا الضمير قوالن‪:‬‬
‫ُ َٗ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬

‫ُ‬
‫خلقه‬ ‫آدم فواضح‪ ،‬ويكون‬ ‫غير َ‬
‫أحدهما‪ :‬أنه يعود لإلنسان‪ ،‬فإن أريد ُ‬
‫أصله‪ ،‬وهو آدم (فيكون على حذف مضاف‪ ،‬وإن كان‬ ‫َ‬
‫خلق‬ ‫من ساللة الطين‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫المراد به آدم‪ ،‬فيكون الضمير عائدا على نسله‪ ،‬أي‪ :‬جعلنا نسله)‪ ،‬فهو على حذف‬
‫َ َ َ َ َ ۡ َ إۡ َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫مضاف أيضا‪ ،‬ويؤيده قوله‪﴿ :‬وبدأ خلق ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َّ َ َ َ َ ۡ َ‬ ‫ٰ‬
‫ِني ‪ ٧‬ثم جعل نسلهۥ مِن‬ ‫ٱلنس ِن مِن ط ٖ‬
‫ني﴾ [ا �ل��س���ج��د �ة‪� 7 :‬ـ ‪.]8‬‬ ‫ُ َ َ ّ َّ ٓ َّ‬
‫سلٰلةٖ مِن ماءٖ م ِه ٖ‬
‫‪602‬‬

‫أو عاد الضمير على اإلنسان الالئق به ذلك‪ ،‬وهو نسل آدم‪ ،‬فلفظ اإلنسان من‬
‫حيث هو صالح لألصل والفرع‪ ،‬ويعود كل شيء لما يليق به‪.‬‬
‫َ‬
‫بالج ْ‬ ‫ْ‬ ‫قوله‪> :‬في َق َ‬
‫بمحذوف على أنه صفة‬
‫ٍ‬ ‫يتعلق‬ ‫وأن‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫يتعلق‬ ‫أن‬ ‫يجوز‬ ‫<‬ ‫ار‬
‫ٍ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫ُْ َ‬
‫لـ >نطفة<‪.‬‬
‫ُ َ ْ‬ ‫َ ُّ‬
‫صفت‬ ‫والقرار‪ :‬المستقر‪ُ ،‬وهو موضع االستقرار‪ ،‬والمراد بها الرحم‪ ،‬وو ِ‬
‫إما على اجملاز كطريق‬ ‫بالمكانة‪ ،‬التي هي صفة المستق ِّر فيها؛ ألحد معنيين‪َّ :‬‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وإما لمكانتها في نفسها؛ ألنها تمكنت بحيث هي‬ ‫سائر‪ ،‬وإنما السائر من فيه‪ِ ،‬‬
‫وأحرزت‪.‬‬
‫ََ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫جوهره‬ ‫جوهر اإلنسان أواًل طينًا‪ ،‬ثم َج َعل‬
‫َ‬ ‫ومعنى َجعل اإلنسان نطفة‪ :‬أنه خلق‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫رحم المرأة‪ ،‬فصار‬ ‫ً ِ‬ ‫إلى‬ ‫بالجماع‬ ‫الصلب‬ ‫فقذفه‬ ‫اآلباء‪،‬‬ ‫أصالب‬ ‫في‬ ‫نطفة‬ ‫بعد ذلك‬
‫َ‬
‫تصير إنسانا(‪.)1‬‬ ‫قرارا مكينًا لهذه النطفة‪ ،‬تتخلق فيه إلى أن‬ ‫الرح ُم ً‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫الط ُ‬
‫ور األول للحمل‪ ،‬وي َ ِت ُّم في أرحام األمهات‪ ،‬بعدما يلقح‬ ‫وطور النطفة هو‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الحوين المنوي للرجل بويضة المرأة‪.‬‬
‫وذلك ألن كلمة نطفة تطلق في اللغة على الماء القليل ولو قطرة‪،‬‬
‫رأسه ماءً< رواه مسلم(‪ ،)2‬وقد أطلقها الشارع‬
‫ينطف ُ‬‫ُ‬ ‫وفي الحديث‪> :‬وقد اغتسل‬
‫ّ‬
‫ومني المرأة‪.‬‬ ‫على المرحلة األولى من تشكل الجنين‪ ،‬بعد التقاء ّ‬
‫مني الرجل‬
‫أم سليم‬‫وقد وردت اإلشارة إلى ماء المرأة في حديث أم سلمة أنها قالت‪ :‬جاءت ُّ‬
‫ُ‬
‫امرأة أبي طلحة إلى رسول اهلل ! فقالت يا رسول اهلل‪ :‬إن اهلل ال يستحيي من الحق‪ ،‬هل‬
‫على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول اهلل !‪> :‬نعم إذا رأت الماء< (‪.)3‬‬

‫((( انظر‪ :‬اللباب في علوم الكتاب‪ ،‬عمر‪ ‬بن علي النعماني(‪.)178 /14‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)605‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)282‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)313‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪603‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ِّ‬
‫المني‬ ‫قال األلوسي‪ :‬والحق أن النطفة كما يعبر بها عن ِّ‬
‫مني الرجل يعبر بها عن‬
‫مطلقا(‪.)1‬‬
‫كما أطلقها الشارع أيضا على امتزاج نطفتي الرجل والمرأة‪،‬وسماها النطفة‬
‫نس َن مِن ُّن ۡط َفة أَ ۡم َشاج نَّ ۡب َتل ِيهِ فَ َ‬
‫األمشاج في قوله تعالى‪﴿ :‬إِنا خلقنا ِ‬
‫ج َع ۡل َنٰ ُه َسم َ‬ ‫َّ َ َ ۡ َ إۡ‬
‫يعۢا‬ ‫ٱل َ ٰ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ٖ‬ ‫ٍ‬
‫ن‬
‫ريا﴾ [الإ� ���س�ا ن�‪ ،]2 :‬وقد عرف المفسرون النطفة األمشاج‪ ،‬بأنها النطفة المختلطة‬ ‫بَ ِص ً‬

‫شاج‪:‬أخالط‪،‬‬ ‫التي اختلط وامتزج فيها ماء ُ الرجل بماء المرأة‪ .‬قال ابن قتيبة‪ :‬أ َ ْ‬
‫م‬
‫ٍ‬
‫يقال‪ :‬مشجته فهو مشيج‪ .‬يريد‪ :‬اختالط ماء الرجل بماء المرأة(‪.)2‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫في مرحلة النطفة ينثر الح َوين المنوي الجيناتِ الوراثية بنظام كامل‪ ،‬فتتشكل‬
‫جزيئات الحمض النووي ( (‪ DNA‬والبروتينات والصبغيات السينية والصبغات‬
‫الصادية (المذكرة والمؤنثة) وبقية مفردات الخارطة الوراثية(‪.)3‬‬
‫ويذكر الدكتور كارم السيد غنيم في كتابه >االستنساخ واإلنجاب بين تجريب‬
‫ُ‬
‫العلماء وتشريع السماء<(‪ :)4‬أن هذه المرحلة يرافقها الظواهر األربعة التالية‪:‬‬
‫َ‬
‫دخول ِّ‬ ‫َّ‬
‫أي حيوان منوي آخر‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ إفراز البويضة مواد تمنع‬
‫‪ 2‬ـ انطالق طاقة جهدية كامنة في البويضة‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫‪ 3‬ـ تدفق أيونات الكالسيوم‪.‬‬


‫‪ 4‬ـ انقسام البويضة عدة مرات‪.‬‬

‫((( روح المعانى ‪ -‬نسخة محققة (‪.)112 /9‬‬


‫((( غريب القرآن البن قتيبة (ص‪.)429 :‬‬
‫((( انظر‪ :‬أسرار كينونة الجنين‪ ،‬ماجد طيفور (ص‪.(54 :‬‬
‫((( )ص‪.(204 :‬‬
‫‪604‬‬

‫في هذه المرحلة تتميز البويضة الملقحة بتطوراتها العديدة‪ ،‬والتي ال تزال‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫تماما‪،‬‬ ‫تأخذ شكل قطرة الماء‪ ،‬ولها خاصية الحركة االنسيابية كقطرات الماء‬
‫الكيسة األريمية ببطانة الرحم في نهاية األسبوع األول‬
‫وينتهي هذا الطور بتعلق ِ‬
‫من التلقيح‪ ،‬وهي الصورة األخيرة للنطفة األمشاج‪ ،‬والتي مازالت تحافظ على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شكل قطرة الماء‪ ،‬بالرغم من تضاعف خالياها أضعافا مضاعفة‪ ،‬وحينما يفقد هذا‬
‫َ‬
‫الطور حركته االنسيابية‪ ،‬ويتعلق ببطانة الرحم‪ ،‬يتحول إلى طور جديد هو طور‬
‫العلقة‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ّ‬
‫إن إخبار اآلية الكريمة بأن اإلنسان يتخلق من النطفة جاء في زمن لم يكن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يخطر على بال أي إنسان بأن اإلنسان يتشكل من ماءَي الرجل والمرأة‪ ،‬وأن النتيجة‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫ذلك اللقاء تشكل إنسان بكل صفاته‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬إِنا خلقنا ِ‬ ‫من‬
‫َّ َ َ ۡ َ إۡ‬
‫نس َن مِن‬ ‫ٱل َ ٰ‬
‫َ‬
‫اج ن ۡب َتل ِيهِ﴾‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُّ ۡ َ ۡ َ‬
‫نطف ٍة أمش ٖ‬
‫ُ‬
‫وجاء العلم الحديث‪ ،‬ومن خالل اكتشاف الخارطة الوراثية‪ ،‬والتي تتشكل‬
‫نص اآلية الكريمة‪ ،‬التي نزلت على محمد !‬ ‫ليطابق ما ورد في ِّ‬ ‫َ‬ ‫في مرحلة النطفة‬
‫بي األمي‪ ،‬فكان في ذلك إعجاز علمي مبهر‪ ،‬وصدق اهلل سبحانه وتعالى القائل‪:‬‬ ‫الن ّ ّ‬
‫َ َ َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ ٓ َ ُ ۡ َ ىَّ َ َ َ نَّ َ َ ُ ۡ َ َّ ُ حۡ َ َ َ‬ ‫﴿ َس رُ ۡ َ َ َ‬
‫ٱل ُّق ۗأ َو ل ۡم يَك ِف ب ِ َر ّبِك أن ُهۥ‬ ‫ت يتبي لهم أنه‬ ‫س ِهم ح ٰ‬
‫اق و يِف أنف ِ‬‫ني ِهم ءايٰتِنا يِف ٱٓأۡلف ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ش ٖء ش ِهيد﴾ [����ص�ل��‪.]53 :‬‬
‫ت‬ ‫لَىَ ٰ لُ ّ يَ ۡ َ ٌ ف‬
‫ع ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪605‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫طور العلقة‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬ث َّم خلق َنا ٱنلُّ ۡطفة َعلقة فخلق َنا ٱل َعلقة ُمضغة فخلق َنا ٱل ُمضغة عِظٰ ٗما‬
‫َ َ ََٗ َ َ َۡ ۡ ََ َ ۡ َٗ َ َ َۡ ۡ ۡ ََ َ‬ ‫ُ َ َۡ‬
‫َ َ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ حَ ۡ ٗ ُ َّ َ َ ۡ َ ٰ ُ َ ۡ ً َ َ َ َ َ َ َ َ هَّ ُ َ ۡ َ ُ ۡ َ‬
‫ني﴾ [ا �ل���م�ؤ�من�� ن ‪.]14 :‬‬
‫و�‬
‫خٰلِق َ‬
‫ِ‬ ‫فكسونا ٱلعِظم لما ثم أنشأنه خلقا ءاخر ۚ فتبارك ٱلل أحسن ٱل‬
‫نس َن م ِۡن َعل ٍق﴾ [ا �ل�ع�ل ق�‪.]2 :‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬خلق ِ‬
‫َ‬ ‫إۡ‬ ‫َ‬
‫ٱل َ ٰ‬ ‫َ َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫العلقة تتعلق جبدار الرحم‬


‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ ْ‬
‫س ِّم َيت علقة ألنها تعلق بجدار الرحم‪ ،‬والعلماء يسمونها‬ ‫قال العلماء‬
‫(الزيجوت) وهي عبارة عن بويضة ُم َّ‬
‫خصبة‪ ،‬وتبدأ في أخذ غذائها منه(‪.)1‬‬
‫َ َُ‬
‫شديد الحمرة‪ ،‬وعلى الدم الجامد‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الدم‬ ‫وعلى‬ ‫عامة‪،‬‬ ‫الدم‬ ‫على‬ ‫ة‬ ‫ق‬‫وتطلق العل‬

‫((( انظر‪ :‬تفسيرالشعراوي (‪.)9979 /16‬‬


‫‪606‬‬

‫َ َُ‬
‫كما تطلق العلقة على نوع من الديدان يعيش في المياه‪ ،‬ويتغذى على دماء الحيوانات‬
‫التي يلتصق بها‪ ،‬كاألبقار واألغنام وغيرها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أعجب من خلق النطفة‪ ،‬إذ قد‬ ‫خلق النطفة علقة‬ ‫قال ابن عاشور‪ < :‬إذ كان‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫صيَّ َر الماءَ السائل دما جامدا‪ ،‬فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عوامل أودعها اهلل‬
‫في الرحم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫بديع‬ ‫وضع‬ ‫ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلقة‪ ،‬فإنه‬
‫ُ‬
‫لهذا االسم‪ ،‬إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة‬
‫بعروق في الرحم‪،‬‬‫ٍ‬ ‫هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم األم؛ بسبب التصاقه‬
‫عاقد > (‪.)1‬‬
‫تدفع إليه قوة الدم‪ ،‬والعلقة‪ :‬قطعة من دم ِ‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫تلتصق النطفة التامة التكوين والتي تسمى في هذه المرحلة‪ :‬المتكيسة‬
‫الجرثومية‪ ،‬بجدار الرحم في اليوم السادس‪ ،‬في بداية طور الحرث (اإلنغراس)‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أكثر من أسبوع حتى تلتصق النطفة‬ ‫تماما‪ ،‬وتستغرق هذه العملية‬ ‫حتى تنزرع‬
‫بالمشيمة البدائية بواسطة ساق موصلة تصبح فيما بعد الحبل السري‪.‬‬
‫وفي أثناء عملية الحرث تفقد النطفة شكلها لتتهيأ ألخذ شكل جديد هو‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلقة‪ ،‬الذي يبدأ بتعلق الجنين بالمشيمة‪ ،‬ووصف القرآن الكريم هذا التعل َق‬
‫بالعلقة‪ ،‬وهذا يتفق مع معنى (التعلق بالشيء) الذي يعتبر أحد مدلوالت (كلمة‬
‫علق)‪.‬‬
‫أما على معنى أنها (دودة عالقة)‪ ،‬فإننا نجد أن الجنين يفقد شكله المستدير‪،‬‬
‫ويستطيل حتى يأخذ شكل الدودة‪ ،‬ثم يبدأ في التغذية من دماء األم‪ ،‬مثلما تفعل‬
‫الدودة العالقة‪ .‬إذ تتغذى من دماء الكائنات األخرى‪ ،‬ويحاط الجنين بغشاء مخاطي‬

‫((( التحرير والتنوير (‪.)24-23 /18‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪607‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ً‬
‫تماما‪ .‬مثلما تحاط الدودة بالماء‪ ،‬ويبين اللفظ القرآني (علقة) هذا المعنى بوضوح‬
‫ً‬
‫طبقا لمظهر ومالمح الجنين في هذه المرحلة‪.‬‬
‫اليوم ‪2‬‬ ‫اليوم ‪4-3‬‬ ‫اليوم ‪4‬‬

‫اليوم ‪5‬‬
‫‪<Ì◊uÜ⁄‬‬ ‫‪<Ì◊uÜ⁄‬‬ ‫‪<ÎÁ◊}<ÿj”i‬‬
‫اليوم ‪1‬‬ ‫]˜‪<›^äœfi‬‬ ‫‪<Ì◊uÜ⁄‬‬ ‫‪<Ì◊uÜ⁄‬‬ ‫‪Í◊}]Å‬‬
‫]˘‪ŸÊ‬‬ ‫]§◊‪∞jÈ‬‬ ‫‪^˯}<P‬‬ ‫‪ÌõÁ«ñ⁄<4∆<^˯}<T‬‬ ‫‪ÌõÁ«ñ⁄<^˯}<T‬‬

‫‪Ü”f⁄<ãÈ”i‬‬

‫‪ÌÀ�fi‬‬ ‫اليوم ‪7-6‬‬


‫]‪<Ìœ�flπ‬‬
‫]÷‪Ì ^Àé‬‬

‫]‪òÈfπ‬‬
‫‪xÈœ◊i‬‬ ‫‪͵Ö_<ãÈ”i‬‬
‫اليوم ‪0‬‬ ‫‪Ìï^ec‬‬ ‫اليوم ‪9-8‬‬
‫¬◊‪Ìœ‬‬
‫‪ÌñËÁe‬‬

‫تطورات البويضة امللقحة‬

‫وعلى معنى أنها (دم جامد أو غليظ) للفظ العلقة‪ ،‬نجد أن المظهر الخارجي‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وكيس‬ ‫وأكياسه يتشابه مع الدم المتخثر الجامد الغليظ؛ ألن القلب األولي‬
‫ِ‬ ‫للجنين‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وتكون الدماء‬ ‫المشيمة‪ ،‬ومجموعة األوعية الدموية القلبية تظهر في هذه المرحلة‪،‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫المحبوسة في األوعية الدموية حتى وإن كان سائاًل‪ ،‬وال يبدأ الدم في الدوران‬
‫نهاية األسبوع الثالث وبهذا يأخذ الجنين مظهر الدم الجامد أو الغليظ مع كونه‬
‫ِ‬ ‫حتى‬
‫ً‬ ‫دما ً‬ ‫ً‬
‫رطبا‪ .‬وتندرج المالمح المذكورة سابقا تحت المعنيين المذكورين للعلقة (دم‬
‫جامد) أو (دم رطب)‪.‬‬
‫أما الفترة الزمنية التي يستغرقها التحول من نطفة إلى علقة‪ :‬فإن الجنين خالل‬
‫مرحلة االنغراس أو الحرث يتحول من مرحلة النطفة ببطء‪ ،‬إذ يستغرق نحو أسبوع‬
‫ّ‬
‫منذ بداية الحرث (اليوم السادس) إلى مرحلة العلقة‪ ،‬حتى يبدأ في التعلق (اليوم‬
‫‪608‬‬

‫الرابع عشر أو الخامس عشر)‪.‬‬


‫نمو الحبل الظهري حوالي عشرة أيام (اليوم السادس عشر)‬ ‫ويستغرق بدء ُ ِّ‬
‫حتى يتخذ الجنين مظهر العلقة‪ ،‬والدالالت الواردة في اآليات المذكورة فيما‬
‫يتعلق بالفترة التي تتحول فيها النطفة إلى علقة تأتي من حرف العطف (ثم) الذي‬
‫ُ‬
‫يدل على انقضاء فترة زمنية حتى يتحقق التحول إلى الطور الجديد‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهكذا فإن التعبير القرآني (علقة) يعتبر وصفا متكاماًل دقيقا عن الطور األول‬
‫من المرحلة الثانية لنمو الجنين‪ ،‬ويشتمل على المالمح األساسية الخارجية‬
‫َ‬
‫وصف الهيئة العامة للجنين كدودة عالقة‪،‬‬ ‫والداخلية‪ ،‬ويتسع اسم (علقة) فيشمل‬
‫ََ َ‬
‫كما يشمل التحوالت الداخلية كتك ّون الدماء واألوعية المقفلة‪.‬‬
‫كما يدل لفظ علقة على تعلق الجنين بالمشيمة‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلك فقد عبّر‬
‫القرآن الكريم عن هذا التحول البطيء من النطفة إلى العلقة بحرف العطف (ثم)(‪.)1‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن الجنين في نهاية هذا الطور كما يقول المفسرون‪ :‬يكون على شكل علقة‬
‫ُ‬
‫مستطيلة‪ ،‬لونها شديد الحمرة لما فيها من دم متجمد‪ ،‬وهذا يتوافق مع الشكل‬
‫األخير لهذا الطور؛ حيث يأخذ الجنين شكل الدودة التي تمتص الدماء وتعيش‬
‫في الماء (شكل ‪.)3‬‬
‫ويشترك الجنين معها في قوة تعلقه بعائله للحصول على غذائه من امتصاص‬
‫دمائه‪ ،‬والمدة الزمنية لهذا الطور هي من بداية األسبوع الثاني‪ ،‬وحتى نهاية األسبوع‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وصف الجنين بتلك الصفة التي ورد بها النص القرآني‬ ‫الثالث من التلقيح‪ ،‬وإن‬
‫لم يكن معروفا للبشر آنذاك‪ ،‬وفي ذلك إعجاز قرآني يدل بيقين أن المتكلم به هو‬
‫ِّ َ‬
‫الخالق العظيم‪ ،‬وأن المبلغ عنه هو رسول رب العالمين‪.‬‬

‫((( مجلة اإلعجاز العلمي‪ ،‬العدد الثالث من (ص‪ )17 - 15 :‬بتصرف‪.‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪609‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫طور املضغة‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬ولقد خلقنا‬


‫نس َن مِن ُس َلٰلَ ٖة ّمِن طِني ‪ُ ١٢‬ث َّم َج َع ۡل َنٰ ُه ُن ۡط َف ٗة يِف قَ َ‬ ‫َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ إۡ‬
‫ار‬ ‫ر‬ ‫ٖ‬ ‫ٱل َ ٰ‬
‫ِ‬
‫ٖ‬
‫َ َ َ‬ ‫ۡ ََ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ َ ۡ َٗ َ َ َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ ََٗ َ َ َۡ‬ ‫ُ َ َۡ‬
‫ِني ‪ ١٣‬ث َّم خلق َنا ٱنلُّ ۡطفة َعلقة فخلق َنا ٱل َعلقة ُمضغة فخلق َنا ٱل ُمضغة عِظٰ ٗما فك َس ۡونا‬ ‫ٖ‬ ‫َّمك‬
‫ۡ َ ٰ َ حَ ۡ ٗ ُ َّ َ َ ۡ َ ٰ ُ َ ۡ ً َ َ َ َ َ َ َ َ هَّ ُ َ ۡ َ ُ ۡ َ‬
‫ني﴾ [ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪.]14-12 :‬‬ ‫خٰلِق َ‬
‫ِ‬ ‫ٱل ِعظم لما ثم أنشأنه خلقا ءاخر ۚ فتبارك ٱلل أحسن ٱل‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫الشاهد هنا إطالق لفظ المضغة على مرحلة من أطوار خلق الجنين في بطن‬
‫أمه‪ ،‬يقول ابن كثير(‪:)1‬‬

‫((( تفسير ابن كثير (‪.)466 /5‬‬


‫‪610‬‬

‫وهي قطعة كالبضعة من اللحم‪ ،‬ال شكل فيها وال تخطيط‪ ،‬على قدر‬
‫حجم الجنين في أول هذا الطور‪ ،‬ما بين حجم حبة‬ ‫ُ‬ ‫ما يمضغ الماضغ‪ ،‬ويتراوح‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫قمح إلى حجم حبة فول (‪ 5-3‬مم) وهو القدر الذي يمكن مضغه‪ ،‬ويبدو سطحه‬
‫ُ‬
‫نتوءات شكلِ الرأس والصدر والبطن‪ ،‬ومعظمِ براعم‬ ‫من الخارج‪ ،‬وقد ظهرت فيه‬
‫ّ‬ ‫ُ َ َّ‬
‫أعضائه الداخلية‪ ،،‬ويصدق عليه أنه مخلق وغير مخلق‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ُ‬ ‫لقد أوضح ُ‬
‫علم األجنة الحديث مدى الدقة في اختيار تسمية >مضغة< بهذا‬
‫المعنى‪ :‬إذ وجد أنه بعد تخلق الجنين والمشيمة في هذه المرحلة يتلقى الجنين‬
‫غذاءه وطاقته‪ ،‬وتتزايد بذلك عملية النمو بسرعة‪ ،‬ويبدأ ظهور الكتل البدنية‬
‫المسماه فلقات‪ ،‬التي تتكون منها العظام والعضالت‪.‬‬
‫مضغة‬ ‫بأثر‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ويبدو الجنين في هذه المرحلة على شكل مادة ممضوغة أشبه ِ‬
‫أسنان‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ويمكن إدراك تطابق مصطلح >مضغة< لوصف التحوالت في هذا الطور‬
‫في النقاط التالية‪:‬‬
‫أثر األسنان في المادة الممضوغة‪ ،‬وتبدو‬ ‫ُ‬
‫مظهرها َ‬ ‫‪P P‬ظهور الفلقات التي يشبه‬
‫أنها تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار األسنان في المادة الممضوغة‪ ،‬وتبدو‬
‫أنها تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار طبع األسنان في شكل مادة تمضغ‬
‫َ‬
‫حين لوكها ـ وذلك للتغيّر السريع في شكل الجنين ـ ولكن آثار الطبع‬
‫أو المضغ تستمر مالزمة‪ ،‬فالجنين يتغير شكله الكلي‪ ،‬ولكن التركيبات‬
‫المتكونة من الفلقات تبقى‪.‬‬
‫وكما أن المادة التي تلوكها األسنان يحدث بها تعضن وانتفاخات وتثنيات‪،‬‬
‫فإن ذلك يحدث للجنين ً‬
‫تماما في هذه المرحلة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪611‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫‪P P‬تتغير أوضاع الجنين نتيجة تحوالت في مركز ثقله مع تكون أنسجة جديدة‪،‬‬
‫ويشبه ذلك تغير وضع وشكل المادة حينما تلوكها األسنان‪.‬‬
‫‪P P‬وكما تستدير المادة الممضوغة قبل أن تبلع‪ ،‬فإن ظهر الجنين ينحني‬
‫ً‬
‫مقوسا شبه مستدير مثل حرف (‪ )C‬باالنجليزية‪.‬‬ ‫ويصبح‬
‫ٌ‬
‫مطابق‬ ‫‪P P‬ويكون طول الجنين حوالي (‪1‬سم) في نهاية هذه المرحلة‪ ،‬وذلك‬
‫للوجه الثاني من معاني كلمة مضغة‪ ،‬وهو (الشيء الصغير من المادة )‪،‬‬
‫وهذا المعنى ينطبق على حجم الجنين الصغير؛ ألن جميع أجهزة اإلنسان‬
‫تتخلق في مرحلة المضغة ولكن في صورة بُرعُم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بعض المفسرين للمضغة (في حجم ما يمكن‬ ‫ُ‬ ‫وأما المعنى الثالث الذي ذكره‬
‫ْ ُ‬
‫َمضغه) فإنه ينطبق ثانية على حجم الجنين‪ ،‬ففي نهاية هذا الطور يكون طول‬
‫ً‬
‫تقريبا أصغر حجم لمادة يمكن أن تلوكها األسنان‪.‬‬ ‫الجنين (‪1‬سم)‪ ،‬وهذا‬
‫ُ‬
‫صغيرا ال يتيسر َمضغه إذ يبلغ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الحجم‬ ‫وأما طور العلقة السابق‪ ،‬فقد كان‬
‫(‪3.5‬ملم) طواًل‪ ،‬وال تتمايز الفلقات في البداية‪ ،‬ولكنها سرعان ما تتمايز‬
‫إلى خاليا‪ ،‬تتطور إلى أعضاء مختلفة‪ ،‬وبعض هذه األعضاء واألجهزة تتكون‬
‫الحقة(‪.)1‬‬
‫في مرحلة المضغة والبعض اآلخر في مراحل ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ُ‬
‫حقائق علم األجنة‪ :‬بأن التخليق يبدأ من أول األسبوع الرابع‪،‬‬ ‫إن ما أكدته‬
‫وبالتحديد في اليوم الثاني والعشرين‪ ،‬وينتهي هذا الطور قبيل نهاية األسبوع‬
‫السادس حيث يبدأ الطور التالي في التخليق وهو طور العظام‪.‬‬
‫ي ملقةٖ﴾‬ ‫يتوافق تماما مع داللة النص القرآني ﴿ثم مِن مضغةٖ ملقةٖ وغ ِ‬
‫ُّ ۡ َ خُّ َ َّ َ َ َ رۡ خُ َ َّ َ‬ ‫ُ َّ‬
‫معجز علميا‪.‬‬
‫[ا �ح��ج�‪ ]5 :‬الذي يدل على نص ِ‬
‫�ل‬

‫((( علم األجنة في ضوء القرآن والسنة (ص‪.)67 :‬‬


‫جنني عمره سبعة أسابيع‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪613‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫طور العظام واللحم‬

‫َ َ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ َ ٰ ٗ َ َ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ حَ ۡ ٗ ُ َ َ ۡ َ ُ َ ۡ ً‬
‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬فخلقنا ٱلمضغة عِظما فكسونا ٱلعِظم‬
‫َ‬
‫لما ث َّم أنشأنٰه خلقا َءاخ َر ۚ‬
‫َ َ َ َ َ هَّ ُ َ ۡ َ ُ ۡ َ‬
‫ني﴾ [ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪.]14 :‬‬
‫خٰلِق َ‬
‫ِ‬ ‫فتبارك ٱلل أحسن ٱل‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫آخر من األطوار التي يمر بها خلق الجنين‬ ‫النص الشريف يدل على طور َ‬
‫ٍ‬
‫في بطن أمه‪ ،‬والذي يتمثل بتكون العظام واللحم‪ ،‬وذلك بعد طور المضغة‪ ،‬وقد‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫قول رسول اهلل !‪> :‬إذا ّ‬
‫مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة‪ ،‬بعث اهلل‬ ‫أكد هذا المعنى‬
‫ّ‬ ‫ًَ‬
‫إليها ملكا‪ ،‬فصورها‪ ،‬وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫رب أذك ٌر أم أنثى؟ فيقضي ربُّك ما شاء‪ ،‬ويكتب الملك‪ ،‬ثم يقول‪ :‬يا ِّ‬
‫رب‬ ‫يا ِّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أجله‪ ،‬فيقول ربك ما شاء‪ ،‬ويكتب الملك‪ ،‬ثم يقول‪ :‬يا رب رزقه‪ ،‬فيقضي ربك‬
‫الملك بالصحيفة في يده‪ ،‬فال يزيد على ما َ‬ ‫َ‬
‫أمر‬ ‫ما شاء‪ ،‬ويكتب الملك‪ ،‬ثم يخرج‬
‫وال يَنقص<(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫َ ُّ‬
‫يذكر العلماء المتخصصون في علم األجنة‪ :‬أن تكوين األعضاء وتشكل الهيكل‬
‫العظمي بصورة ظاهرة يتم في اليوم الخامس واألربعين‪ ،‬أي‪ :‬بعد طور المضغة‪،‬‬
‫ُ‬
‫حيث يأخذ الجنين الشكل اإلنساني الذي يتمير به عن أشكال أجنة الحيوانات‪،‬‬
‫التي كانت متشابهة معه في األطوار الثالثة السابقة‪ ،‬وهي طور النطفة والعلقة‬
‫والمضغة‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2645‬‬


‫‪614‬‬

‫تشبه أجنة اإلنسان بأجنة بعض احليوانات يف املراحل األوىل‬


‫ّ‬
‫ففي اليوم الثاني واألربعين يبتدئ تشكل الهيكل العظمي الغضروفي الذي‬
‫يعطي الجنين شكله اآلدمي الخاص به‪ ،‬فيستقيم جذعه‪ ،‬ويتكون له رأس‬
‫كبيرمستدير‪ ،‬وتتحرك العينان إلى األمام في محلهما في الوجه‪ ،‬كما أن األذنين‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الخارجية والداخلية تتكونان بعد اليوم الثاني واألربعين ويتم ذلك بالنسبة لألنف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أما األذرع فتظهر فتصبح َ‬
‫أصابع واضحة‪ ،‬وهكذا مؤخرة العمود‬ ‫وتظهر‬ ‫أكثر طواًل‪،‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫تاركة ً‬
‫أثرا اليكاد يالحظ(‪.)1‬‬ ‫الفقري‪ ،‬فتتراجع وتعتدل‬

‫((( انظر الصفحات )‪ )136-133‬من كتاب علم األجنة‪ ،‬من اصدارات هيئة اإلعجاز العلمي‬
‫في القرآن والسنة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪615‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫رعم في كل جانب‪،‬‬ ‫ويزيد الدكتور الشقفة هذا األمر بيانًا بقوله‪ < :‬يظهر بُ ٌ‬
‫َّ‬
‫في مكان الطرف العلوي في أول طور العلقة ثم ينمو‪ ،‬وهو مؤلف من ميزانشيم‬
‫(‪ ،)Mesenchyme‬محاط بطبقة أكتودرمية‪ ،‬ثم تتشكل نهاية البرعم على شكل‬
‫ف في الميزانشيم ال يلبث أن‬ ‫كف وأصابع‪ ،‬وبنفس الوقت يكون قد ظهر تكثّ ٌ‬
‫َ‬
‫العظام > (‪.)1‬‬
‫ِ‬ ‫طليعة‬ ‫يتغضرف ليكون‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫بأوجز عبارة وأوضحها‬
‫ِ‬ ‫وصف القرآن الكريم األطوار التي يتخلق فيها الجنين‬
‫ـ بما في ذلك طور العظام وكسوتها باللحم ـ وجاء ذلك الوصف موافقا لواقع‬
‫حقائق في علم األجنة‪ ،‬مما يجعله مثاال باهرا من‬‫َ‬ ‫األمر‪ ،‬ومطابقا لما تقرر من‬
‫أمثلة اإلعجاز العلمي؛ حيث لم تعرف البشرية األطوار التي تمر بها األجنة إال بعد‬
‫منتصف القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫((( انظر القرار المكين للدكتور مأمون شقفة (ص‪ (242 :‬وما بعدها بتصرف‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪617‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫مرحلة اكتمال اخللقة‬


‫َ‬ ‫ُ َ َ َۡ‬
‫ني﴾ [ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪.]14 :‬‬ ‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ث َّم أنشأنٰ ُه خلقا ء‬
‫ۡ‬
‫ٱلل أ ۡح َس ُن ٱل َخٰلِق َ‬ ‫َ‬
‫ار َك هَّ ُ‬ ‫ًۡ‬ ‫َ َ‬
‫اخ َر ۚ ف َت َب َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ُ َ َ َۡ‬
‫اخ َر ۚ﴾ ما نصه‪ < :‬أي‪:‬‬‫يقول الزمخشري في بيان قوله تعالى‪﴿ :‬ث َّم أنشأنٰ ُه خلقا ء‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ًۡ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خلقا مباينًا للخلق األول مباينة ما أبعدها‪ ،‬حيث جعله حيوانا وكان جمادا‪ ،‬وناطقا‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وبصيرا وكان أكمه‪ ،‬وأودع باطنه وظاهره بل كل‬ ‫وسميعا وكان أصم‪،‬‬ ‫وكان أبكم‪،‬‬
‫َّ‬
‫عضو من أعضائه‪ ،‬وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة‪ ،‬ال تدرك‬
‫بوصف الواصف > (‪.)1‬‬
‫بشرا سويًا بعد أن كان نطفة‬ ‫ولذلك قال الشنقيطي في أضواء البيان‪ < :‬صار ً‬
‫ً‬
‫وعظاما كما هو واضح > (‪.)2‬‬ ‫ومضغة وعلقة‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ورد في كتاب علم األجنة ـ من إصدارات الهيئة العالمية لإلعجاز العلمي‬
‫ً‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫في القرآن والسنة ـ تحت عنوان‪> :‬النشأة خلقا آخر< ما يلي‪ < :‬يبدأ هذا الطور‬
‫في األسبوع التاسع ويستمر حتى األسبوع الثاني والعشرين‪ ،‬وتتضح في الجنين‬
‫الصفات التالية‪:‬‬
‫أ ـ النمو السريع‪ :‬والتطور الذي يتطابق مع معنى >النشأة< الذي تقدم‪ ،‬فالجنين‬

‫((( الكشاف للزمخشري (‪.(174/3‬‬


‫((( علم األجنة في ضوء القرآن والسنة‪ ،‬مجموعة من الباحثين‪ ،‬من إصدارات هيئة اإلعجاز‬
‫العلمي (ص‪.(102 - 100 :‬‬
‫‪618‬‬

‫َ‬
‫ينمو ببطء بعد طور اللحم (األسبوع التاسع) مباشرة‪ ،‬وحتى األسبوع الثاني عشر‪،‬‬
‫ً‬
‫ثم يتسارع النمو جدا‪.‬‬
‫تغير طبيعة الجنين وتطور أعضائه‪ :‬فالهيكل العظمي يتطور من العظام‬
‫الغضروفية اللينة إلى عظام صلبة متكلسة‪ ،‬وفي األسبوع الثاني عشر من الحمل‬
‫تظهر مراكز التعظم في غالب العظام وتتمايز األطراف‪.‬‬
‫ُ‬
‫ومن الممكن رؤية األظافر على األصابع‪ ،‬وتتوازن أحجام الرأس والجسم‬
‫واألطراف‪ ،‬وال سيما بين األسبوعين التاسع والثاني عشر‪ ،‬ويظهر الشعر الزغبي‬
‫على الجلد الذي يتمايز في هذه المرحلة إلى بشرة وأدمة‪ ،‬ويزداد حجم الجنين‬
‫بسرعة بصورة عامة‪ ،‬ويتم التمييز بين األعضاء التناسلية الخارجية بصورة واضحة‬
‫في األسبوع الثاني عشر‪.‬‬
‫ُ‬
‫وغير اإلرادية‪ ،‬ويظهر الجنين في هذه المرحلة‬ ‫وتتطور العضالت اإلرادية‬
‫ّ‬
‫بعض الحركات العادية الذاتية‪ ،‬وبعض التقلصات العضلية االنعكاسية إذا مانبهت‬
‫بمنبه خارجي‪.‬‬
‫وبصورة عامة فإن التطور الوظيفي للجهاز العصبي يوازي ُّ‬
‫تطو َر الدماغ‪،‬‬
‫والقبض بعد ذلك‬ ‫ِّ‬
‫كالمص‬ ‫والحبل الشوكي‪ ،‬وتظهر الحركات البدائية والغريزية‬
‫ِ‬
‫بفترة طويلة‪.‬‬
‫مهمة للجنين> (‪.)1‬‬
‫ٍ‬ ‫انتقال‬
‫ٍ‬ ‫ومع ذلك فإن هذا التطور من مراحل التخلق يمثل مرحلة‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن التطورات الكثيرة والدقيقة في هذه المرحلة من أطوار الجنين في بطن أمه‬
‫ُ َّ َ َ ۡ َ ٰ ُ َ ۡ ً‬ ‫ً‬
‫تماما مع ما ذكره ربنا جل وعال في كتابه العزيز بقوله‪﴿ :‬ثم أنشأنه خلقا‬ ‫تتطابق‬

‫((( علم األجنة في ضوء القرآن والسنة‪ ،‬مجموعة من الباحثين‪ ،‬من إصدارات هيئة اإلعجاز‬
‫العلمي (ص‪.(102 - 100 :‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪619‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫بي األمي محمد‬‫اخ َر ۚ﴾‪ ،‬فإذا ما الحظنا أن الذي ّبلغنا هذا القرآن العظيم هو الن ّ ّ‬
‫َ َ‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫ء‬
‫! ـ وأن ذلك البالغ كان منذ أربعة عشر قرنا‪ ،‬حيث كانت البشرية على جهالة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫خالق الكون‪ ،‬ومبدع األجنة أحسن‬ ‫المتكلم هو‬ ‫تامة بهذه الحقائق ـ أدركنا أن‬
‫ٌ‬
‫مثال آخر من أمثلة اإلعجاز العلمي الباهرة‪.‬‬ ‫الخالقين‪ ،‬وذلك‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪621‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫القرار املكني‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬ولقد خلقنا‬


‫نس َن مِن ُس َلٰلَ ٖة ّمِن طِني ‪ُ ١٢‬ث َّم َج َع ۡل َنٰ ُه ُن ۡط َف ٗة يِف قَ َ‬ ‫َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ إۡ‬
‫ار‬ ‫ر‬ ‫ٖ‬ ‫ٱل َ ٰ‬
‫ِ‬
‫ٖ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ِني﴾ [ا �ل���م�ؤ�م ن��و ن�‪ ،]13-12 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬ألم نل‬
‫ۡ‬ ‫قكم ّمِن َّمآء َّمهني ‪ ٢٠‬فَ َ‬ ‫ۡ ُ ُّ‬ ‫خَ‬ ‫َ‬
‫ج َعل َنٰ ُه‬ ‫ٖ ِ ٖ‬ ‫مك ٖ‬
‫َّ‬

‫ِني﴾ [ا �ل���مر��س�لا ت�‪.]21-20 :‬‬ ‫َ َ َّ‬


‫يِف قرارٖ مك ٍ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ َ خَ ۡ ُ‬
‫ني﴾ يعني‪ :‬أيها الناس ألم‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ألم نلقكم﴾ ﴿مِن ماءٖ م ِه ٖ‬
‫ّ َّ َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ۡ‬‫ٓ‬

‫نخلقكم من نطفة ضعيفة‪.‬‬


‫َ َ خَ ۡ ُ‬
‫فعن ابن عباس‪ ،‬قوله‪﴿ :‬ألم نلقكم مِن ماءٖ م ِه ٖ‬
‫ني﴾ يعنى بالمهين‪ :‬الضعيف‪.‬‬ ‫ُّ ّ َّ َّ‬ ‫ٓ‬ ‫ۡ‬
‫وقوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬فَ َج َع ۡل َنٰ ُه ف قَ َرار﴾ أي‪ :‬فجعلنا الماء َ‬
‫الم ِهين في رحم‬
‫ٍ‬ ‫ٖ‬ ‫يِ‬
‫ّ‬
‫استقر فيها فتمكن(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫المعلوم تشريحيا اليوم أن الرحم يقع في الحوض تحميه عظامه‪ ،‬وهي عظام‬
‫الع ُجز ُ‬
‫والع ُ‬ ‫سميكة تتألف من َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ص في الخلف وعظمة الحرقفة في كل جانب؛‬ ‫ِ‬ ‫صع‬ ‫ِ‬


‫وهما يشكالن من األمام عظمة العانة‪ ،‬وهذا الحزام العظمي وما يتصل به من‬
‫الرضوض من كل جهة‪ ،‬والرحم أيضا يقع‬ ‫عضالت سميكة يوفر للجنين حماية من ُّ‬
‫بين المثانة والمستقيم من األمام والخلف‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أربطة تربطه بجدار البطن وعظام الحوض‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫جملة‬ ‫الرحم في موضعه‬ ‫وتثبت‬
‫الرح ِمية ‪ ،Uterine Ligaments‬وهي ترفع الرحم وتحافظ‬ ‫ِ‬ ‫وتسمى األربطة‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (‪.)132 /24‬‬


‫‪622‬‬

‫على وضعية خاصة مناسبة للحمل ‪ ،Pregnancy‬والوالدة ‪ ،labor‬كهرم مقلوب‬


‫قاعدته ألعلى كقبة‪ ،‬ومع تنامي الحمل يزداد حجمه تدريجيا بما يتواءم مع نمو‬
‫الجنين إلى أن يبلغ أعلى تجويف البطن في نهاية الشهر الثامن‪ ،‬ومع إفراز الهرمون‬
‫الموسع لمنطقة االتصال‪ ‬بن عظمي العانة ‪ Relaxin‬بالجهتين يهبط أكثر في‬
‫الحوض استعدادا للوضع‪.‬‬
‫ومن الناحية الهرمونية يوجد نظام بالغ الدقة واالتزان يمنع تقلص الرحم؛‬
‫فيحمي الجنين من اإلجهاض ‪ ،Abortion‬بارتفاع عتبة أو حد التقلص أللياف‬
‫العضلة الرحمية؛ بسبب ارتفاع نسبة هرمون البروجسترون ‪.Progesterone‬‬
‫وفي الشهر الثالث يبدأ الجسم األصفر في المبيض في الضمور‪ ،‬بعد أن تتسلم‬
‫المشيمة الدور في الحفاظ على المد الهرموني إلى نهاية الحمل‪ ،‬وبهذا يضمن‬
‫َ ِّ‬ ‫َّ‬
‫وتوفير كل متطلباته على طول الحمل هذا‪ ،‬زيادة على الحماية‬ ‫الجنين كل الرعاية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫في ِح ْر ٍز حصين ُم َعد مسبقا بتقدير وتصميم‪ ،‬ومهيأ ألداء وظيفته على أكمل وجه‪،‬‬
‫ومثبت بقوة ومرفوع رغم الثقل المحمول‪ ،‬والجنين آمن برعاية اهلل تعالى وحمايته‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد ثبت لعلماء التشريح والمتخصصين في علم األجنة أن الرحم بما يتمتع به‬
‫ُ‬
‫من نسيج قوي وأربطة محكمة‪ ،‬وما يكتنفه من أعضاء تقدم له الوقاية والحماية‪،‬‬
‫مع المكان الذي يحتله ضمن منطقة الحوض‪ ،‬مما يزيده حماية وأمنًا‪ ،‬ال يوجد‬
‫وصف يمكن التعبير به عن حاله بدقة‪.‬‬
‫ِني﴾ [ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪.]13 :‬‬
‫كما ورد في قوله تعالى‪﴿ :‬ثم جعلنٰه نطفة يِف قرارٖ مك ٖ‬
‫َ‬
‫َ َّ‬ ‫ُ َٗ‬ ‫ۡ‬
‫َّ َ َ َ ُ ۡ‬ ‫ُ‬

‫ج َعلنٰ ُه ف ق َرار مكِني﴾ [ا �ل���م ��س�لا ت‬


‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫َّ ٓ َّ‬ ‫ُّ ّ‬ ‫َ َ خَ ۡ ُ‬
‫وقوله تعالى‪﴿ :‬أل ۡم نلقكم مِن ماء مهني ‪ ٢٠‬ف َ‬
‫�‪:‬‬ ‫ر‬ ‫ٍ‬ ‫ٖ‬ ‫يِ‬ ‫ٖ ِ ٖ‬
‫‪ ]21-20‬حيث وصف الرحم بالقرار المكين فتطابقت داللة النص القرآني مع حقائق‬
‫العلم‪ ،‬فكان في ذلك مثاال ً‬
‫باهرا لإلعجاز العلمي القرآني‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪623‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الصلب والرتائب‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬فلي ِ ِ‬


‫َ نۡ‬ ‫خَ ۡ ُ ُ‬ ‫َّ ٓ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫نظر إۡٱل َ ٰ ُ َّ ُ َ‬ ‫ََۡ ُ‬
‫نسن مِم خل ِق ‪ ٥‬خل ِق مِن ما ٖء داف ِٖق ‪ ٦‬يرج ِم ۢن ب ِ‬
‫ي‬
‫اَ‬ ‫ُ‬ ‫َ هَ‬ ‫َ ۡ َ ُ ۡ ىَ رَّ َ ٓ‬
‫ٱلسائ ِ ُر ‪ ٩‬ف َما ُلۥ مِن ق َّوة ٖ َول‬
‫ََ‬
‫ع َر ۡجعِهِۦ لقادِر‪ ٨ ٞ‬يوم تبل‬‫ب ‪ ٧‬إِنَّ ُهۥ لَىَ ٰ‬ ‫ُّ ۡ َ رَّ َ ٓ‬
‫ب وٱلتا ِ ِ‬
‫ئ‬ ‫ٱلصل ِ‬
‫ر�‪.]10-5 :‬‬ ‫� ق‬
‫اص﴾ [ا ل��ط�ا‬
‫َ‬
‫ن رِ ٖ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله‪َّ ﴿ :‬ماءٖ َداف ِٖق﴾‪.‬‬
‫ٓ‬

‫الماء‪ :‬هو المني‪ ،‬والدفق‪ :‬الصب‪،‬‬


‫ُ‬
‫يقال‪ :‬دفقت الماءَ‪ ،‬أي‪ :‬صببته‪،‬‬
‫يقال‪ :‬ماء دافق‪ ،‬أي‪ :‬مدفوق‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫عيشة راضية أي‪ :‬مرضية‪ .‬قال الفراء‬
‫واألخفش‪ :‬ماء دافق‪ .‬أي مصبوب‬
‫في الرحم‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫قال الفراء‪ :‬وأهل الحجاز يجعلون‬


‫الفاعل بمعنى المفعول في كثير من‬
‫كالمهم‪ ،‬كقولهم‪ِ :‬س ُّر كاتم‪ ،‬أي‪:‬‬
‫منطقة ما بني الصلب والرتائب‬

‫مكتوم‪ ،‬وأراد سبحانه ماء الرجل والمرأة؛ ألن اإلنسان مخلوق منهما‪ ،‬لكن‬
‫جعلهما ماء واحدا المتزاجهما‪ ،‬ثم وصف هذا الماء فقال‪ :‬يخرج من بين الصلب‬
‫والترائب‪ ،‬أي‪ :‬صلب الرجل‪ ،‬وترائب المرأة‪.‬‬
‫‪624‬‬

‫َ‬
‫والترائب‪ :‬جمع تريبة‪ ،‬وهي موضع القالدة من الصدر‪ ،‬والولد ال يكون‬
‫إال من الماءين‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الترائب‪ :‬ما بين الثديين‪ .‬وقال الضحاك‪ :‬ترائب المرأة‪ :‬اليدين والرجلين‬
‫والعينين‪.‬‬
‫وقال سعيد‪ ‬بن جبير‪ :‬هي الجيد‪ .‬وقال مجاهد‪ :‬هي ما بين المنكبين والصدر‪.‬‬
‫وروي عنه أيضا أنه قال‪:‬‬
‫هي الصدر‪ ،‬وروي عنه أيضا أنه قال‪ :‬هي التراقي‪ .‬وحكى الزجاج‪ :‬أن الترائب‬
‫عصارة القلب‪ ،‬ومنه يكون الولد‪ ،‬والمشهور في اللغة أنها عظام الصدر والنحر‪.‬‬
‫قال في الصحاح‪ :‬التريبة‪ :‬واحدة الترائب‪ ،‬وهي عظام الصدر‪ .‬قال أبو عبيدة‪:‬‬
‫جمع التريبة تريب‪.‬‬
‫قال قتادة والحسن‪ :‬المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫معنى من بين الصلب‪ ،‬ومن الصلب‪ ،‬وقيل‪ :‬إن ماء الرجل ينزل من الدماغ‪،‬‬
‫وال يخالف هذا ما في اآلية ألنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫إذا رجعنا إلى علم األجنة وجدنا في منشإ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر‬
‫لنا هذه اآليات التي حيرت األلباب‪ ..‬فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما‬
‫َ‬
‫الكلى‪ ،‬ويقع بين الصلب والترائب‪ ،‬أي‪ :‬ما بين منتصف العمود الفقري‬ ‫يجاور ِ‬
‫تقريبا ومقابل أسفل الضلوع‪..‬‬
‫فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتهما‪ ،‬وفي إمدادهما بالدم الشرياني‪،‬‬
‫ِّ‬
‫وفي ضبط شئونهما باألعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬فتح القدير للشوكاني (‪.)510 -508/5‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪625‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫عشر قرنا‬ ‫يقع بين الصلب والترائب‪ ،‬وهذا كله لم يكشفه العلم إال حديثا بعد ثالثة‬
‫من نزول ذلك الكتاب‪.‬‬
‫وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ في الهبوط إلى مكانه‬ ‫ٌّ‬ ‫هذا‬
‫المعروف‪ ،‬فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن‪ ،‬ويهبط المبيض‬
‫حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم‪ ،‬وقد يحدث في بعض األحيان‬
‫َّ َ‬
‫الصفن فتحتاج‬ ‫أال تتم عملية الهبوط هذه فتقف الخصية في طريقها وال تنزل إلى‬
‫إلى عملية جراحية‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫عملية هبوط اخلصية إىل مكانها الطبيعي يف الصفن‬


‫ُ‬
‫أشبه ما يكون بما ٍء عديد النطف‪،‬‬ ‫والخالصة هي‪ :‬أن السائل المنوي‬
‫ٌ‬
‫وال يقوم بتخصيب البويضة مجهريا إال حيوان منوي واحد‪ ،‬يماثل في عالم‬
‫المرئيات بالعين اجملردة نطفة (قطرة) من ماء من بين ماليين الحوينات‪ ،‬وتجتمع‬
‫‪626‬‬

‫األصول الخلوية للخصية في الذكر أو المبيض في األنثى في ظهر األبوين‪ ،‬خالل‬


‫نشأتهما الجنينية في عضو تناسل مشترك ‪ ،Gonad‬ثم يخرج كل منهما من منطقة‬
‫ُ‬
‫المبيض‬ ‫َ‬
‫ليهاجر‬ ‫بين بدايات العمود الفقري (الصلب)‪ ،‬وبدايات الضلوع (الترائب)‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الخصية إلى كيس الصفن حيث الحرارة ُّ‬ ‫َ‬ ‫إلى الحوض‪َ ،‬‬
‫أقل‪،‬‬ ‫وتهاجر‬ ‫قرب الرحم‬
‫وإال فشلت عند البلوغ في إنتاج الحيوانات المنوية‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫حاليا أن خلق اإلنسان يتم باتحاد حوين منوي واحد‬ ‫ً‬ ‫لقد أصبح من المعلوم‬
‫مع بويضة؛ لتتكون النطفة األمشاج وفق تعبير القرآن الكريم‪ ،‬أي ذات األخالط‬
‫الوراثية من الزوجين من حيث التركيب‪ ،‬ونجد الداللة على ذلك واضحة‬
‫ُّ ۡ َ َ ۡ َ‬
‫نس َن مِن نطف ٍة أم ٖ ﴾ وهو تعبير رائع؛ ألنه أرجع‬ ‫في قوله تعالى‪﴿ :‬إِنا خلقنا ِ‬
‫َّ َ َ ۡ َ إۡ‬
‫اج‬ ‫ش‬ ‫ٱل َ ٰ‬
‫خلق اإلنسان إلى نطفة أو ما يماثل قطرة ماء واحدة‪.‬‬
‫وبذلك يحصل تطابق باهر بين حقيقة علمية استقرت في هذا الزمن‪،‬‬
‫مع ما ورد في كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬وهذا هو جوهر اإلعجاز العلمي‪ ،‬وصدق‬
‫َ‬ ‫َ َ ٓ َ ُ‬ ‫اهلل العظيم القائل‪َ ﴿ :‬س رُ ۡ َ َ َ‬
‫ٱل ُّق ۗ﴾‬
‫ي ل َ ُه ۡم أنَّ ُه حۡ َ‬
‫ت يَتَ َب نَّ َ‬
‫س ِه ۡم َح ىَّ ٰ‬
‫ف أنف ِ‬ ‫ني ِهم ءايٰتِنا يِف ٱٓأۡلف ِ‬
‫اق و يِ‬ ‫ِ‬
‫[ ف����ص�ل� ت�‪.]53 :‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪627‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫غيض األرحام‬

‫هَّ ُ َ ۡ َ ُ َ حَ ۡ ُ لُ ُّ ُ ىَ ٰ َ َ َ ُ أۡ َ ۡ َ ُ َ َ َ ۡ َ ُ‬
‫اد ۚ َو لُ ُّك يَ ۡ‬
‫ش ٍء‬ ‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ٱلل يعلم ما ت ِمل ك أنث وما ت ِغيض ٱلرحام وما تزد‬
‫ري ٱل ُم َت َعا ِل﴾ [ا �لرع�د‪.]9-8 :‬‬
‫َ ٰ ُ ۡ َ ۡ َ َّ َ َ ۡ َ ُ ۡ‬ ‫َُ ۡ َ‬
‫ب وٱلشهٰدة ِ ٱلكب ِ‬
‫ار ‪ ٨‬عل ِم ٱلغي ِ‬
‫عِندهۥ ب ِ ِمقد ٍ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫يطلق الغيض في اللغة على‪ :‬النقص‪ ،‬والغ ْو ِر‪ ،‬والذهاب‪ ،‬والنضوب (غاض‬
‫َّ‬
‫الماء غيضا ومغاضا)‪ :‬قل ونقص‪ .‬أو غار فذهب‪ .‬أو قل ونضب‪ .‬أو نزل في األرض‬
‫َ‬
‫(وغيض الماء ـ وما تغيض‬ ‫وغاب فيها ‪ .‬وفى المفردات في غريب القرآن‪ِ :‬‬
‫(‪)1‬‬

‫األرحام) أي تفسده األرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه األرض(‪ .)2‬وقد ورد ذكر‬
‫الغيض في آيتين من القرآن الكريم‪ :‬األولى‪ :‬هي النص السابق في سورة الرعد‪،‬‬
‫َ ٓ َۡ‬ ‫َ َ َ ٰٓ َ ُ‬
‫والثانية‪ :‬قوله جل في عاله‪﴿ :‬وقِيل‬
‫َ ۡ ٓ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬
‫يأۡرض ٱبۡل يِع َما َءكِ َوي ٰ َس َما ُء أقل يِِع َوغِيض ٱل َما ُء‬
‫َ ُ َ أۡ َ ۡ ُ َ ۡ َ َ ۡ لَىَ جۡ ُ ّ َ َ ُ ۡ ٗ َ ۡ ِ َّ‬
‫ني﴾ [�هود‪.]44:‬‬ ‫ٱلظٰلِم َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫وق يِض ٱلمر وٱستوت ع ٱلود ِِيۖ وقِيل بعدا ل ِلقوم‬
‫ووفق قواعد التفسير القاضية بتفسير القرآن بالقرآن؛ فإن معنى الغيض في آية‬
‫َ‬ ‫سورة الرعد َّ‬
‫يفس ُر بالغيض الوارد في آية سورة هود‪ .‬ومعنى الغيض فيها‪ :‬الغياب‪،‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُّ‬
‫والذهاب والنضوب‪ ،‬يقول ابن عاشور‪ :‬وتغيض‪ :‬تنقص‪ ،‬والظاهر أنه كناية‬
‫عن العلوق؛ ألن غيض الرحم انحباس دم الحيض عنها‪ ،‬وازديادها‪ :‬فيضان‬
‫الحيض منها‪ .‬ويجوز أن يكون الغيض مستعارا لعدم التعدد‪.‬‬
‫واالزدياد‪ :‬التعدد أي ما يكون في األرحام من جنين واحد أو عدة أجنة وذلك‬
‫في اإلنسان والحيوان‪.‬‬

‫((( المفردات في غريب القرآن (ص‪.)3 :‬‬ ‫ ‬


‫((( المعجم الوسيط (‪.)668/2‬‬
‫‪628‬‬

‫َ ۡ َ ُ َ حَ ۡ ُ لُ ُّ ُ ىَ‬
‫ِندهُۥ ب ِ ِمق َد ٍار﴾ معطوفة على جملة ﴿ يعلم ما ت ِمل ك أنث﴾‪.‬‬ ‫وجملة ﴿ َوك ۡ ٍ‬
‫ۡ‬ ‫شء ع َ‬ ‫لُ ُّ يَ‬
‫ٰ‬

‫فالمراد بالشيء‪ :‬الشيء من المعلومات‪ .‬والمقدار‪ :‬مصدر ميمي بقرينة الباء‪،‬‬


‫كل شيء علما مفصال‪،‬‬ ‫أي بتقدير‪ ،‬ومعناه‪ :‬التحديد والضبط‪ .‬والمعنى أنه يعلم ُّ‬
‫َ‬
‫ال شيوع فيه وال إبهام‪.‬‬
‫ّ‬
‫غير المسلمين‪ ،‬القائلين‪ :‬أن واجب الوجود يعلم‬‫وفي هذا رد على الفالسفة ِ‬
‫الكليات وال يعلم الجزئيات‪ ،‬فرارا من تعلق العلم بالحوادث‪.‬‬
‫َ‬
‫مذهبهم علماء ُ الكالم بما ليس فوقه مرام‪ .‬وهذه قضية كلية أثبتت‬ ‫وقد أبطل‬
‫عموم علمه تعالى‪ ،‬بعد أن وقع إثبات العموم بطريقة التمثيل بعلمه بالجزئيات‬ ‫َ‬
‫أۡ َ‬ ‫حَ ُ لُ ُّ ُ ىَ‬
‫ام َو َما تَ ۡز َد ُاد ۚ}(‪.)1‬‬ ‫الخفية في قوله‪{ :‬‬
‫ٰ ََ َ ُ‬
‫يض ٱل ۡر َح ُ‬ ‫َ‬
‫هَّ ُ ۡ َ ۡ‬
‫ٱلل َيعل ُم ما ت ِمل ك أنث وما تغِ‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ َ‬
‫أول خلية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫تخل‬ ‫بيل‬ ‫بكيفية الستقبال ماء التخصيب‪ ،‬ق‬ ‫ٍ‬ ‫إن األرحام تتهيأ‬
‫وظهور البرنامج الوراثي لإلنسان المقبل‪.‬‬
‫ْ َ‬ ‫وفعل (تَغ ُ‬
‫(األرحام)‪ ،‬وهو يفيد‬ ‫يض) منسوب ابتداء في اآلية الكريمة إلى‬ ‫ِ‬
‫الغور والنقصان؛ خاصة في مقابل االزدياد‪ ،‬في لسان العرب‪> :‬غاض الماء يغيض‬
‫َ ٓ َۡ‬ ‫َ َ َ ٰٓ َ ُ‬
‫غيضا‪ ..‬نقص أو غار<‪ ،‬ويقول تعالى‪﴿ :‬وقِيل‬
‫ٓ‬ ‫َ‬
‫يأۡرض ٱبۡل يِع َما َءكِ َوي ٰ َس َما ُء أقل يِِع‬
‫ِيض ٱل َما ُء﴾ [�هود‪، ]44 :‬وغرها من اآليات الكريمة‪.‬‬
‫َ َ ۡ ٓ‬
‫وغ‬
‫لم يعرف أحد بإمكان غيض األرحام وانقباضها ونقصانها عند التزاوج حتى‬
‫أعلنت عنها الدراسات العلمية عام ‪ ،1966‬حيث تميزت استجابة األنثى إلى أربعة‬
‫مراحل يغور فيها الرحم وينقبض‪ ،‬استعدادا الستقبال ماء اإلخصاب ومعاونته‬
‫َّ ْ‬
‫ط‪.‬‬
‫لبلوغ البويضة بآلية الش ِ‬
‫ف‬

‫((( انظر‪ :‬التحرير والتنوير (‪.)98 /13‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪629‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬
‫يعرف صفاتِ الجنين المقبل‪.‬‬ ‫وفي مرحلة الغيض يستحيل على إنسان أن‬
‫فمع اندفاع المني في اجملاري التناسلية للمرأة ينقبض الرحم فعال ويغور‬
‫للداخل بالفعل؛ بسبب مادة موجودة في السائل المنوي تسمى بروستاجالندين‬
‫‪Prostaglandinn‬؛ ويعينها تقلص ال إرادي يقع للمرأة أثناء مرحلة النشوة �‪Or‬‬
‫‪ ،gasm‬وبهذا يعمل الرحم عمل المضخة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وبالمثلِ‪ :‬ينبسط الرحم الحقا‪ ،‬فيُ ِعين الحيواناتِ المنوية على بلوغ البويضة‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫قرب نهاية قناة الرحم‪ ،‬ولذا ال يقل دور الرحم هذا أهمية في معاونة الحيوانات‬
‫تخصيب البويضة عن دوره في حفظ الحمل على طول مراحله‪ ،‬حيث‬ ‫َ‬ ‫المنوية‬
‫يزداد حجما بما يتناسب ومتطلباتِ الجنين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وبتلقيحها تتضاعف الفتائل الوراثية‪ ،‬وباالنقسام تتزايد الخاليا‪ ،‬وتحمل‬
‫َ‬
‫النصف‬ ‫البويضة نصف عدد الفتائل الوراثية (الكروموزومات)‪ ،‬ويحمل الحوين‬
‫اآلخر‪ ،‬وتتسابق الحيوانات المنوية وتعلو في اجملاري التناسلية للمرأة ليحقق‬
‫الفوز في بلوغ البويضة وإخصابها‪ :‬إما حيوان يحمل شارة الذكورة (كروموزوم‬
‫ذكرا بإذن اهلل تعالى؛ وإما حيوان يحمل شارة‬‫بهيئة‪ ،)Y‬فيكون الجنين المرتقب ً‬
‫األنوثة (كروموزوم بهيئة‪ ) X‬فيكون الجنين أنثى بإذن اهلل تعالى‪.‬‬
‫وبنمو الجنين يزداد الرحم‪ ،‬ولذا يعتبر الحمل كله وجوها من االزدياد(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ‬
‫وقد أثبتت األبحاث العلمية أن بعض األجنة تسقط من غير أن تشعر المرأة‬
‫َ‬
‫بذلك‪ ،‬وبعض األجنة تختفي وتزول من داخل الرحم خالل األسابيع الستة األولى‬
‫ً‬
‫من تلقيح البويضة‪ ،‬وأخذت هذه الظواهر مسمياتٍ علمية عديدة‪ ،‬كاإلجهاض‬
‫ُّ‬
‫المخفي‪ ،‬وكيس الحمل الفارغ‪ ،‬والتوائم المتالشية‪ ،‬وكلها تؤدي إلى نقصان‬
‫الرحم بغور األجنة فيه ونضوبها وذهابها واختفائها بالكلية‪.‬‬

‫((( راجع بحث الدكتور محمد دودح حول األرحام‪.‬‬


‫‪630‬‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن في داللة عبارة غيض األرحام على اإلسقاط التلقائي المبكر بصورتيه‪ :‬غور‬
‫ك السوائل والدماء المحيطة‬ ‫َ‬
‫األجنة وإسقاطها‪ ،‬وما يصاحبه من نقصان ونضوب ِل ِبر ِ‬
‫ٌ‬
‫باألجنة‪ ،‬لهو إعجاز علمي واضح‪ ،‬سبق به القرآن الكريم علم األجنة بقرون‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬
‫اتضح بيقين ـ في هذا الزمان ـ بعد تقدم علم األجنة الوصفي والتجريبي دقة لفظ‬
‫الغيض‪ ،‬في داللته الشاملة لكل األحداث التي تمر بها األجنة الهالكة‪.‬‬
‫وهكذا أثبت العلم بيقين دقة هذا التعبير وشموليته؛ وبهذا يتحقق السبق القرآني‬
‫علمية دقيقة‪ ،‬لم يكتشف معظمها إال في النصف الثاني من‬ ‫َ‬
‫حقائق‬ ‫في اإلشارة إلى‬
‫َ تَ َ ۡ َ ُ َّ َ َ َُ‬ ‫ٍ‬
‫ني ‪ ٨٧‬ولعلمن نبأهۥ‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬تحقيقا لقول اهلل تعالى‪﴿ :‬إن ُه َو إل ذِك ‪ٞ‬ر ل ِل َعٰلم َ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫اَّ‬ ‫ۡ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َب ۡع َد حِيِۢن﴾‪.‬‬
‫علميا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫باهرا‪.‬‬ ‫أجل! إن ذكر القرآن الكريم لظواهر غيض األرحام يعتبر إعجازا‬

‫مقطع طولي يف الرحم جبهاز املوجات فوق‬ ‫صورة باملوجات فوق الصوتية حلمل‬
‫الصوتية يبني وجود كيسي محل لتوأم‪.‬‬ ‫يف أسبوعه السابع‪ ،‬حيث يوجد كيس‬
‫محل به قطع عائمة من التجويف السليب‪ ،‬أحدهم به جنني واآلخر كيس محل فارغ‬
‫اختفى منه اجلنني الثاني ثم اليلبث أن‬ ‫وال يوجد به جنني وهي تشخيص حلالة‬
‫خيتفي ويغور هذا الكيس‬ ‫إجهاض خمفي‪.‬‬
‫الفارغ ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪631‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وليس الذكر كاألنثى‬

‫ۡ َ َ ُ ۡ َٰ َ َ ّ ّ َ َ ۡ ُ َ َ‬
‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬إِذ قال ِ‬
‫ۡ َ َ‬
‫ت لك َما يِف َب ۡط يِن‬ ‫ب إ ِ يِن نذر‬ ‫ِ‬ ‫ت ٱمرأت عِمرن ر‬
‫نث‬
‫ٓ ُ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ ۡ َ َ َ ۡ َ ّ ّ‬
‫ب إ ِ يِن َو َض ۡع ُت َها أ ىَ ٰ‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ع‬‫ض‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫‪٣٥‬‬ ‫يع ۡٱل َعل ُ‬
‫ِيم‬ ‫نت َّ‬
‫ٱلس ِم ُ‬ ‫ك أَ َ‬ ‫حُ َ َّ ٗ َ َ َ َّ ۡ ّ ٓ َّ َ‬
‫مررا فتقبل م يِِنۖ إِن‬
‫ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ِإَون أعِيذها بِك َوذ ّرِ َّي َت َها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ِإَون َس َّم ۡي ُت َها َم ۡر َي َم يِ ٓ‬ ‫ٰ‬
‫نث‬
‫ىَ‬ ‫ُ‬ ‫أۡ‬
‫ٱل‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ر‬
‫َ‬
‫ك‬
‫َّ‬
‫ٱذل‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ٱلل أَ ۡعلَ ُم ب َما َو َض َع ۡ‬
‫ت َول ۡي َ‬ ‫َو هَّ ُ‬
‫ۖ يِ‬ ‫ِ‬
‫آ‬
‫ٱلر ِجي ِم﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪� 35 :‬ـ ‪.]36‬‬ ‫ٱلش ۡي َطٰن َّ‬‫َ َّ‬
‫ِ‬ ‫مِن‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ أۡ ُ ىَ‬
‫نثۖ﴾‪.‬‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬ول ۡي َس ٱذلك ُر كٱل ٰ‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬

‫فيه قوالن‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪P P‬األول‪ :‬أن ُمرادها تفضيل الولد الذكر على األنثى‪ ،‬وسبب هذا التفضيل‬
‫من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن شرعهم ال يجوز تحرير الذكور دون اإلناث‪.‬‬
‫َّ‬
‫يستمر على خدمة موضع العبادة‪ ،‬وال يصح‬ ‫والثاني‪ :‬أن الذكر يصح أن‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ذلك في األنثى؛ لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان‪.‬‬


‫والثالث‪ :‬الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون األنثى‪ ،‬فإنها ضعيفة‬
‫ال تقوى على الخدمة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عيب في الخدمة واالختالط بالناس‪ ،‬وليس‬ ‫والرابع‪ :‬أن الذكر ال يلحقه‬
‫كذلك األنثى‪.‬‬
‫والخامس‪ :‬أن الذكر ال يلحقه من التهمة عند االختالط ما يلحق األنثى‬
‫فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على األنثى في هذا المعنى‪.‬‬
‫‪632‬‬

‫‪P P‬والقول الثاني‪ :‬أن المقصود من هذا الكالم ترجيح هذه األنثى‬
‫على الذكر‪ ،‬كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه األنثى موهوبة اهلل تعالى‪ ،‬وليس‬
‫الذكر الذي يكون مطلوبي كاألنثى التي هي موهوبة من اهلل‪ ،‬وهذا الكالم‬
‫ً‬
‫يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جالل اهلل‪ ،‬عالمة بأن‬
‫ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫في النص القرآني إشارة إلى واقع عضوي ونفسي مفاده‪ :‬أن تكوين الذكر ليس‬
‫َّ‬
‫والجلي من األعضاء‪،‬‬ ‫مساويا لتكوين األنثى‪ ،‬وأن هذا التغاير بينهما يشمل الظاهر‬
‫والمستتر الخفي منها‪ ،‬والوظائف ومختلف المكونات كالخاليا والنسيج‪.‬‬
‫وحسب بحث د‪ .‬عنايات عزت(‪ )2‬ـ المشفوع بمشاهدات سريرية‪ ،‬واستبيانات‬
‫ً‬
‫علميا ما يلي‪:‬‬ ‫ميدانية‪ ،‬وتجارب معملية ـ فقد ثبت لديها‬
‫ً‬ ‫‪P P‬التركيبة المختلفة ٍّ‬
‫لكل من الذكر واألنثى تكون مختلفة على مستوى كل‬
‫الخاليا الجسدية؛ وذلك ألن كل الخاليا الذكر تحمل ‪ ،xy + 44‬وكل‬
‫خاليا المرأة تحمل ‪ ،xx + 44‬فيما عدا الحيوان المنوي والبويضة‪.‬‬
‫‪P P‬نمو قناتي (موليريان ولفيان) لدى األجنة يمثل تمايزا بين الجنين الذكر‬
‫والجنين األنثى‪.‬‬
‫‪P P‬في فترة الرضاعة والنمو والبلوغ خلصت الباحثة إلى أن نمو الذكر يختلف‬
‫ّ‬
‫عن األنثى‪ ،‬وما يتبع ذلك من تبدالت جسدية ونفسية ووظائف األعضاء‬
‫َ‬
‫مظاهر عديدة‬ ‫المتعلقة‪ ،‬وثبت وجود فروق بين الذكر واألنثى‪ ،‬وفي‬
‫كذلك‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)204 /8‬‬
‫((( كتاب المؤتمر العالمي الثامن لإلعجاز العلمي بدولة الكويت (أبحاث الطب)‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪633‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ُ‬
‫أضخم من مخ المرأة بما يقارب‬ ‫‪P P‬أما في المخ‪ ،‬فيالحظ أن مخ الرجل‬
‫‪ %10‬من الوزن‪ ،‬كما أن األنثى تستعمل َّ‬
‫فصي المخ أثناء الكالم‪.‬‬
‫‪P P‬القلب‪ :‬يتميز قلب المرأة بسرعة نبضاته َ‬
‫أكثر من الذكر‪.‬‬
‫‪P P‬الرئة‪ :‬وزن الرئة عند األنثى أقل منه عند الذكر‪ ،‬وبالتالي فهي أصغر‬
‫حجما‪.‬‬
‫‪P P‬العضالت‪ :‬قدرة شغل العضالت عند األنثى أقل منه عند الذكر‪.‬‬
‫‪P P‬العظام‪ :‬يالحظ عند الذكر زيادة في وزن العظام عما هي عند األنثى‪،‬‬
‫وهكذا نالحظ ارتفاع نسبة اإلصابة بهشاشة العظام عند اإلناث منها عند‬
‫الذكور‪.‬‬
‫‪P P‬الجهاز المناعي‪ :‬تزداد كفاءة جسم الذكر المناعية عن مستواها عند األنثى‪.‬‬
‫‪P P‬اإلحساس باأللم‪ :‬تتميز األنثى بارتفاع نسبة الشعور باأللم لديها بشكل‬
‫عام‪.‬‬
‫‪P P‬الدم‪ :‬بشكل عام فإن نسبة الهيموغلوبين وعدد كريات الدم الحمراء‬
‫وحجمها يتميز عند الرجل عما هو عند األنثى‪.‬‬
‫‪P P‬الكبد‪ :‬هناك اختالف جهاز السيتوكروم ب ‪ )cyp( 450‬عند الذكر عما‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫هو عند األنثى‪ ،‬وكذلك الشأن في البول‪ :‬نالحظ اختالفا بين الجنسين‬
‫سواء في األمالح والمعادن واإلفرازات الهرمونية كذلك مما يثبت الحقيقة‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫ثمة فروقا في مختلف النواحي في كافة‬ ‫بأن الذكر ليس كاألنثى‪ ،‬وأن‬
‫المستويات بين الجنسين‪.‬‬
‫َ أۡ ُ ىَ‬
‫وصدق اهلل العظيم القائل‪َ ﴿ :‬ول ۡي َس ٱذلك ُر كٱل ٰ‬
‫نثۖ﴾‪.‬‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬
‫‪634‬‬

‫االختالف الواضح يف منطقة عظام احلوض بني اجلنسني‬

‫دماغ الرجل ودماغ املرأة‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪635‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫األطعمة احملرمة‬

‫َ َ ٓ ُ َّ َ رۡ هَّ‬
‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ح ِرمت عليكم ٱلميت َة وٱدلم ولم ٱل ِ‬
‫ُ ّ َ ۡ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ُ َ َّ ُ َ حَ ۡ ُ خۡ‬
‫ي ٱللِ بِهِۦ‬‫ير وما أهِل ل ِغ ِ‬ ‫ِزن ِ‬
‫ٱلس ُب ُع إِل َما ذك ۡي ُت ۡم﴾ [ا �ل���م�ا ئ��د �ة‪.]3 :‬‬
‫َ َّ‬ ‫اَّ‬ ‫ك َل َّ‬‫َ ۡ ُ ۡ َ َ ُ َ ۡ َ ۡ ُ َ ُ َ ۡ ُ رَ َ ّ َ ُ َ َّ َ ُ َ َ ٓ َ‬
‫وٱلمنخن ِقة وٱلموقوذة وٱلمتدِية وٱنل ِطيحة وما أ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ك ُم﴾‪ ...‬بيان لما ليس بحالل األكل‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ح ِرمت علي‬
‫ُ َّ ۡ َ ۡ ُ‬ ‫َ‬

‫من األنعام‪ ،‬وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع األنعام وهو الخنزير‪،‬‬
‫الستيعاب محرمات الحيوان‪ .‬وهذا االستيعاب دليل إلباحة ما سوى ذلك‪ ،‬إال‬
‫ُ‬
‫الحمر األهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من‬ ‫ما ورد في السنة من تحريم‬
‫الطير‪..‬‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ٱل َم ۡي َتة﴾ هي الحيوان الذي زالت منه الحياة‪ ،‬وعلة‬
‫ُ‬ ‫ۡ‬

‫تحريمها أن الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرا بسبب العدوى‪.‬‬


‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫ٱدل ُم﴾ والدم هنا هو الدم المهراق‪ ،‬أي المسفوح‪،‬‬
‫وهو الذي يمكن سيالنه‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫والظاهر أن علة تحريمه القذارة‪ :‬ألنه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواء‪،‬‬
‫ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه‪.‬‬
‫َ ُ‬
‫المحرم أكل لحمه‪.‬‬ ‫ل ُم ٱلِزنير﴾ لإليماء إلى أن‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬و‬
‫َ حَ ۡ خۡ‬
‫ِ ِ‬
‫مضرة‪ ،‬ال تقتلها حرارة‬ ‫َ‬
‫جراثيم‬ ‫وعلة تحريم الخنزير‪ :‬أن لحمه يشتمل على‬
‫ٍ‬
‫النار عند الطبخ‪ ،‬فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضرارا عظيمة‪،‬‬
‫منها مرض الديدان التي في المعدة‪.‬‬
‫‪636‬‬

‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ٓ ُ َّ َ رۡ هَّ‬


‫ي ٱللِ بِهِۦ﴾ هو ما سمي عليه عند الذبح‬‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬وما أهِل ل ِغ ِ‬
‫غير اهلل‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اسم ِ‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وٱل ُم ۡنخن ِقة﴾ هي التي عرض لها ما يخنقها‪ .‬وحكمة‬
‫َ َُ‬ ‫ۡ‬

‫تحريم المنخنقة‪ :‬أن الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض‬
‫ً‬
‫الفحمية الكائنة فيه؛ فتصير أجزاء ُ اللحم المشتملِ على الدم مضرة آلكله‪.‬‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وٱل َم ۡوقوذةُ﴾ المضروبة بحجر أو عصا ضربا تموت‬
‫ۡ ُ َ‬

‫به دون إهراق الدم‪.‬‬


‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وٱل ُم َ‬
‫ت ّدِيَة﴾ هي التي سقطت من جبل أو سقطت في بئر‬
‫ُ‬ ‫ۡ رَ‬

‫ترديا تموت به‪ ،‬والحكمة واحدة‪.‬‬


‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وٱنلَّط َ‬
‫يحة﴾ بمعنى منطوحة‪ .‬والمراد التي نطحتها بهيمة‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫أخرى فماتت‪.‬‬
‫ٓ َ‬
‫ٱلس ُب ُع﴾‪ :‬أي‪ :‬بهيمة أكلها السبع‪ ،‬والسبع كل‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬و َما أ‬
‫َ‬
‫كل َّ‬ ‫َ‬
‫َّ‬
‫حيوان يفترس الحيوان كاألسد والنمر والضبع والذئب والثعلب‪ ،‬فحرم على الناس كل‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫السبع‪ ،‬ألن أ ِكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالبا‪ ،‬بل بالضرب على المقاتل‪.‬‬ ‫ما قتله‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬إِل َما ذك ۡي ُت ۡم﴾ استثناء من جميع المذكور قبله من قوله‪:‬‬
‫َ َّ‬ ‫اَّ‬

‫حرمت عليكم الميتة ألن االستثناء الواقع بعد أشياء يصلح ألن يكون هو بعضها‪،‬‬
‫ُ‬
‫يرجع إلى جميعها عند الجمهور‪ ،‬فتعين أن المقصود باالستثناء‪ :‬المنخنقة‪،‬‬
‫والموقوذة‪ ،‬والمتردية‪ ،‬والنطيحة‪ ،‬وما أكل السبع‪ ،‬مسفوحا‪.‬‬
‫ً ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ٱللِ بِهِۚۦ﴾‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬أو لم خ ِ‬
‫َ‬
‫رۡ هَّ‬ ‫ُ ۡ ٌ ۡ ۡ‬ ‫َ َّ‬ ‫ۡ َۡ‬ ‫حَ‬
‫ي‬
‫ير فإِنهۥ رِجس أو ف ِسقا أهِل ل ِغ ِ‬
‫ِزن ٖ‬ ‫أ‬
‫[ال� ن��ع�ا �م‪ .]145 :‬فذكر أربعة ال تعمل الذكاة فيها شيئا‪ ،‬ولم يذكر المنخنقة والموقوذة‬
‫ّ‬
‫وما عطف عليها هنا؛ ألنها تحرم في حال اتصال الموت بالسبب ال مطلقا‪ .‬فعضوا‬
‫على هذا بالنواجذ‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪637‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ب﴾ هو ما كانوا يذبحونه من القرابين‬


‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬وما ذبِح ع ٱنلص ِ‬
‫ُّ ُ‬ ‫َ‬ ‫لَىَ‬
‫ََ‬ ‫ُ‬

‫والنشرات فوق األنصاب‪ .‬والنصب ـ بضمتين ـ الحجر المنصوب‪.‬‬


‫ْ أۡ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِك ۡم ف ِۡس ٌق ۗ﴾‪.‬‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وأن ت ۡس َتقس ُِموا بِٱلزل ِ ۚم ذل‬
‫َ‬
‫ۡ ٰ ٰ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬

‫النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه باألزالم‪ ،‬وهو لحم جزور الميسر‬
‫ألنه حاصل بالمقامرة(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫لقد أثبت العلم أن أكل لحوم الحيوانات التي حرمها اهلل ولحم الميتة والدم‬
‫فيه أخطار جسيمة؛ لكونها مأوى لكائناتٍ دقيقة‪ ،‬تسبب أمراضا لإلنسان وفيما يلي‬
‫أذكر طرفا من هذه األضرار‪:‬‬
‫‪P P‬أخطار أكل حلم امليتة‪:‬‬
‫لقد تحقق ضرر لحوم الميتة علميا‪ ،‬وظهر خطرها على حياة اإلنسان‪ ،‬وذلك‬
‫ييسر للجراثيم التي تعيش‬‫ألن احتباس دم الميتة في عروقها المتشعبة إلى أنسجتها ّ‬
‫متطفلة على الحيوان في الفتحات الطبيعية واألمعاء والجلد أن تنتشر بسرعة وسط‬
‫اللحم‪ ،‬من خالل السائل الزاللي في األوعية والعروق‪ ،‬وتتكاثر وينتج عنها‬
‫مركبات كريهة الرائحة سامة التأثير‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫كما قد يموت الحيوان بسبب مرض معيّن فتنتقل جرثومة المرض إلى اإلنسان‬
‫فتؤذيه وقد تهلكه‪ ،‬كما في مرض السل والجمرة الخبيثة وجراثيم السلمونيال وداء‬
‫الرض‪ ،‬سواء‬ ‫الكلب‪ ،‬وقد حرم اهلل سبحانه ً‬
‫أيضا الميتة بسبب االختناق‪ ،‬أو بسبب ّ‬
‫ّ‬
‫عال‪ ،‬أو بواسطة النطح من حيوان‬ ‫ٍ‬ ‫مكان‬ ‫من‬ ‫ي‬ ‫الترد‬ ‫كان ذلك الرض بالوقذ‪ ،‬أو‬
‫آخر وكذلك ما أكل السبع‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬التحرير والتنوير (‪.)97-88 /6‬‬


‫‪638‬‬

‫ألن تلك األنواع إضافة إلى أن دماءها محتبسة في أنسجتها‪ ،‬وما ينتج عن ذلك‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫من األخطار المذكورة في الميتة‪ ،‬إال أن االختناق يزيد من سرعة تعفن الجثة‪،‬‬
‫انتشارا للدم تحت الجلد وداخل اللحم واألنسجة في األماكن‬‫ً‬ ‫والرض يسبب‬
‫َ‬
‫المرضوضة‪ ،‬وقد تكون به خدوش وجروح تسهل دخول الجراثيم المنتشرة في‬
‫الهواء إلى داخل األنسجة فتعجل بتحللها وفسادها‪ ،‬وما تحمله السباع من جراثيم‬
‫ّ‬
‫وكائنات دقيقة فتاكة بين أنيابها تؤدي نفس النتيجة بأنسجة الحيوان ولحمه؛ مما‬
‫تجعله يشكل خطرا داهما على حياة اإلنسان حينما يؤكل لحمه‪.‬‬
‫‪P P‬أخطار أكل الدم املسفوح‪:‬‬
‫يعتبر الدم وسطا مناسبا لنمو شتى الجراثيم وانتشارها‪ ،‬وعندما يُسفح الدم‬
‫كرياته البيضاءَ تفقد قدرتها على‬
‫ِ‬ ‫بالذبح أو الفصد‪ ،‬ويخرج من األوعية الدموية فإن‬
‫التهام الجراثيم وتموت خالياه المناعية‪ ،‬وتنهدم آلياته الدفاعية‪ ،‬وبالتالي تتكاثر‬
‫َّ‬
‫فيه الجراثيم بسرعة كبيرة‪ ،‬وتفرز سمومها (‪ )Toxins‬الفتاكة وتكون أشد مقاومة‬
‫لحرارة الطبخ من الجراثيم ذاتها‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪639‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اجل َّاللة‪:‬‬
‫‪P P‬أخطار أكل َ‬
‫وشرب ألبانها‪ ،‬وأكلِ الحمر األهلية‪.‬‬ ‫بي ! عن أكل لحم الجاّللة‪،‬‬ ‫كما نهى الن ّ ّ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫روى البيهقي والبزار عن أبي هريرة ‪ K‬قال‪ :‬نهى رسول اهلل ! عن الجاّللة‬
‫وشرب ألبانها وأكلها وركوبها‪.‬‬
‫ً‬ ‫والجاللة‪ :‬هي كل دابة تأكل األقذار‪ ،‬وخصوصا َ‬
‫الع ِذرة التي تعتبر بيئة خصبة‬
‫لنمو وتكاثر الديدان‪ ،‬والطفيليات والجراثيم الضارة؛ إذ تحتوي على عدد هائل‬
‫منها؛ يزيد على المائه بليون جرثومة في الجرام الواحد‪ .‬لذلك فالعذرة تشكل‬
‫مخزنا ومصدرا رئيسيا للخطر‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫كما أثبتت األبحاث العلمية أن األقذار تحتوي على نسبة عالية ومتنوعة‬
‫ٌ‬
‫من السموم الخطرة على صحة اإلنسان‪ ،‬فإذا تناولها حيوان أو طير انتشرت هذه‬
‫ْ‬
‫الجراثيم في دمه ولحمه‪ ،‬وترسبت هذه السموم في أنسجته‪ ،‬وعندما يتناول‬
‫ُ‬
‫يصاب بالعلل واألمراض‪.‬‬ ‫لحم هذا الحيوان أو لبنَه‬
‫اإلنسان َ‬
‫‪640‬‬

‫‪P P‬أخطار أكل احليوانات املفرتسة والطيور اجلارحة‪:‬‬


‫َ‬ ‫ُ‬
‫حرم رسول اهلل ! أكل بعض الحيوانات لخطر يحيق باإلنسان أو ضرر يصيبه؛‬
‫فحرم كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير‪ .‬وعن ابن عباس ‪ R‬قال‪ :‬نهى‬
‫رسول اهلل ! عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير(‪.)1‬‬
‫وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪ :‬كل ذي ناب‬
‫من السباع فأكله حرام(‪.)2‬‬
‫بي ! بقتل الحيوانات التي تلحق الضرر بالناس‪.‬‬ ‫وقد أمر الن ّ ّ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫والحدأة والكلب‬
‫ِ‬ ‫فعن رسول اهلل ! أنه أ َمر أو أ ِمر أن يقتل الفأرة والعقرب‬
‫العقور والغراب(‪.)3‬‬
‫وقد ثبت علميا أن طفيل (الشعرنية ناتيفا) يعيش بين الدببة والثعالب القطبية‪،‬‬
‫ويصاب اإلنسان بها فور تناول لحوم هذه الحيوانات‪ ،‬أو الحيوانات الحاضنة لهذا‬
‫الطفيل بصورة ثانوية كالقط‪ ،‬كما ينتشر طفيل (تريخينال نلسوني) في الضباع‪،‬‬
‫وبنات آوي‪ ،‬والنمور‪ ،‬واألسود‪ ،‬وبعض الحيوانات المفترسة األخرى‪ ،‬وتقع‬
‫معظم اإلصابات البشرية في أفريقيا بتناول لحم الخنزير الداجن والوحشي؛ وهما‬
‫حاضنان ثانويان لهذا الطفيل ألنهما يتغذيان على الجيف‪.‬‬
‫كما تنتشر الطفيليات التي تعرف بالشعرينات شبه الحلزونية (تريخنيليا سود‬
‫وسيبرا ليس) في الطيور الجوارح (ذات المخلب)‪ ،‬ويصاب اإلنسان بالعدوى‬
‫إذا تناول لحم الجوارح من الطيور كالنسور والعقبان والصقور وغيرها‪ ،‬وإصابة‬
‫اإلنسان بهذه الطفيليات والكائنات الدقيقة الخطيرة؛ تؤدي بحياة اإلنسان‬
‫إلى األمراض والهالك‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.(3573‬‬ ‫ ‬


‫(‪.(3574‬‬ ‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.(2075‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪641‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫طفيليات على خمالب الطيور اجلارحة‬


‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫َْ‬
‫مما سبق بيانه حول هذه المحظورات من أطعمة وغير ذلك ندرك أن نه َي اهلل‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ونهي رسوله ! عن كل ما ورد معناه جاء مطابقا لما توصلت إليه قناعة‬ ‫عز وجل‪،‬‬
‫األطباء وعلماء التغذية؛ نتيجة تجاربهم ومشاهداتهم في هذا اجملال‪.‬‬
‫وبذلك ثبت يقينًا أن هذا الكالم هو وحي من الخالق جل وعال‪ ،‬وأن الذي‬
‫بلغنا ذلك هو رسول حق وصدق‪ ..‬وباهلل التوفيق‪..‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪643‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫أخطار خمالطة الكالب‬

‫في الصحيحين عن أبي طلحة ‪ K‬أن رسول اهلل ! قال‪> :‬المالئكة ال تدخل‬
‫بيتا فيه كلب<(‪.)1‬‬
‫صيد‬ ‫َ‬
‫كلب ماشية أو‬ ‫أيضا عليه الصالة والسالم‪> :‬من اتخذ كلبا إال‬‫وقال ً‬
‫ٍ‬
‫زرع انتقص من أجره كلَّ يوم قيراط<‪.‬‬
‫أو ٍ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله‪( :‬قيراط) القيراط مقدار معلوم عند اهلل تعالى ـ والمراد نقص جزء‬
‫من عمله‪ .‬وقد اختلف العلماء في سبب نقصان األجر باقتناء الكلب على أقوال‪:‬‬
‫ِّ‬
‫المارين من األذى من ترويع الكلب لهم وقصده‬ ‫أحدها‪ :‬أن ذلك لما يلحق‬
‫إياهم‪ ،‬روي ذلك عن الحسن البصري وغيره‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬قال ابن عبد‪ ‬البر‪ :‬هذا محمول عندي ـ واهلل أعلم ـ على أن المعاني‬
‫المتعبد بها في الكالب من غسل اإلناء سبعا‪ ،‬إذا ولغت فيه ال يكاد يقام به‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫يسلم من ولوغها في إنائه‪ ،‬وال يكاد يؤدي‬ ‫وال يكاد يتحفظ منه؛ ألن متخذها ال‬
‫حق اهلل في عبادته في الغسالت من ذلك الولوغ‪ ،‬ويدخل عليه اإلثم والعصيان؛‬
‫فيكون ذلك نقصا في أجره‪ ،‬يدخل السيئات عليه‪.‬‬
‫ثالثها‪ :‬ثم قال ابن عبد‪ ‬البر‪ :‬وقد يكون ذلك من أجل أن المالئكة ال تدخل بيتا‬
‫فيه كلب‪ ،‬وذكره غيره على سبيل الجزم‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ )2106‬وصحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)3225‬‬
‫‪644‬‬

‫(رابعها)‪ :‬ثم قال ابن عبد‪ ‬البر‪ :‬وقد يكون ذلك بذهاب أجره في إحسانه إلى‬
‫الكلب؛ ألن في اإلحسان إلى كل ذي كبد رطبة ً‬
‫أجرا‪ ،‬لكن اإلحسان إلى الكلب‬
‫ينقص األجر فيه أو يتلفه‪ ،‬ما يلحق مقتنيه من السيئات بترك أدائه لتلك العبادات‬
‫في التحفظ من ولوغه والتهاون بالغسالت منه‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مثل‪ :‬ترويع المسلم‬
‫وشبهه انتهى‪.‬‬
‫وهو قريب من الثاني إال أنه عيّن أن الذي يبطل أجره من عمله هو اإلحسان‬
‫إلى الكلب دون بقية حسناته واهلل أعلم‪.‬‬
‫ُ‬
‫(خامسها)‪ :‬أن ذلك عقوبة له؛ التخاذه ما نهي عن اتخاذه‪ ،‬وعصيانه بذلك‪.‬‬
‫طرح التثريب في شرح التقريب (‪ 29/6‬ـ ‪.)1()30‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫الكالب‪ :‬سباع مدجنة‪ ،‬تحمل في أبدانها الكثيرمن الطفيليات والجراثيم‪،‬‬
‫التي تسبب لإلنسان أضرارا محققة‪ ،‬منها على سبيل المثال‪:‬‬
‫‪ -1‬كثير من األمراض الطفيلية وأخطرها مرض (عداري)‪ ،‬والتي تسببه الدودة‬
‫الشريطية (أكنوكاوكاس جرانيولوساس) (الشكل‪ )1 :‬والتي توجد في كل‬
‫مناطق العالم التي تعيش فيها الكالب‪ ،‬على مقربة من الحيوانات الداجنة‬
‫آكلة األعشاب‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ احتواء أمعاء الكلب على أعداد كبيرة من الديدان الشريطية‪ ،‬والتي تنتقل‬
‫إلى اإلنسان عن طريق ابتالع بيضها الموجود في الطعام أو الماء الملوث‬
‫ببراز الكالب‪.‬‬
‫ََ‬
‫ب المعروف وبعض أنواع ديدان الليشمانيات‪.‬‬‫‪ 3‬ـ داء الك ِ‬
‫ل‬

‫((( صحيح مسلم (‪ ،)232 /8‬حديث رقم (‪. (2948‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪645‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫‪ 4‬ـ مرض الكيسة المائية الكلبية‪ ،‬والتي تكون الكالب فيها هي السبب الغالب‬
‫ف؛ ذلك‬ ‫َ‬
‫الجي ِ‬
‫في إصابة اإلنسان وحيواناته األليفة التي تتغذى على ِ‬
‫َْ‬
‫ألن الكلب ينظف استه بلسانه؛ فينقل بيوض ديدان (الشريطية المكورة‬
‫المشوكة)‪ ،‬والتي تعيش في أمعائه إلى اإلنسان عن طريق الطعام أو الماء‬
‫الملوث بها؛ وتسبب له (داء الكيسات المائية الخطير) (شكل ‪.)2‬‬

‫شكل‪ :2‬دودة الكلب الشريطية املسببة‬ ‫شكل (‪)1‬‬


‫للكيسة املائية‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫عندما نهى رسول ! عن اقتناء الكالب إال لضرورة‪ ،‬لم يخطر ببال أحد‬
‫َ‬
‫جراثيم وطفيلياتٍ‪ ،‬تسبب الضرر لمن يخالطها‪ ،‬والتي لم‬ ‫ما تحمله الكالب من‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫يعرفها العلماء إال بعد تطور علم الطب في القرون المتأخرة؛ مما يدل على أن‬
‫بي ! بهذا الخصوص معجز‪.‬‬ ‫كالم الن ّ ّ‬

‫كما ندرك السر في قوله !‪ :‬طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله‬
‫سبع مرات أوالهن بالتراب(‪.)1‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)279‬حديث رقم (‪ ،)280‬وسنن أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪.)71‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪647‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫التمر غذاء وشفاء‬

‫إن التمر من أنفع األغذية لإلنسان وفي بعض أنواعه شفاء‪.‬‬


‫فعن عائشة أن رسول اهلل ! قال‪> :‬إن في عجوة العالية شفاء‪ ،‬أو إنها ترياق‬
‫أول البكرة<(‪.)1‬‬
‫وعن سعد‪ ‬بن أبي وقاص‪ ،‬سمعت رسول اهلل ! يقول‪> :‬من َ‬
‫تص َّبح بسبع‬
‫س ٌم وال ِسحر<(‪.)2‬‬
‫ْ‬ ‫تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم ُ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله‪( :‬العالية) هي ما كان من الحوائط والقرى والعمارات من جهة المدينة‬
‫العليا مما يلى نجد‪ ،‬أو السافلة من الجهة األخرى مما يلي تهامة‪ ،‬قال القاضي‪:‬‬
‫وأدنى العالية ثالثة أميال‪ ،‬وأبعدها ثمانية من المدينة‪.‬‬
‫والعجوة نوع جيد من التمر‪ ،‬وفي هذه األحاديث فضيلة تمر المدينة وعجوتها‪،‬‬
‫وفضيلة التصبّح بسبع تمرات منه‪ ،‬وتخصيص عجوة المدينة دون غيرها‪ ،‬وعدد‬
‫السبع من األمور التى علمها الشارع‪ ،‬والنعلم نحن حكمتها‪ ،‬فيجب اإليمان بها‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫واعتقاد فضلها والحكمة فيها‪ ،‬وهذا كأعداد الصلوات ون ُ ُ‬


‫صب الزكاة(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫َََ‬ ‫قوله‪( :‬من تَ َ‬
‫صبَّح)‪ :‬أكلهن وقت الصباح قبل أن يأكل شيئا‪ .‬والعجوة‪ :‬نوع من‬
‫التمر يكون بالمدينة‪ .‬والعالية‪ :‬مكان قريب من المدينة‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم )‪.)3815‬‬


‫((( متفق عليه‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،(5445‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.(3814‬‬
‫((( شرح النووي على مسلم (‪.)3/14‬‬
‫‪648‬‬

‫قال أبو سليمان الخطابي‪ < :‬وكونها عوذة من السم والسحر إنما هو من طريق‬
‫التبرك لدعوة من الرسول سبقت فيها‪ ،‬ال ألن من طبع التمر أن يصنع شيئا‬
‫من ذلك> (‪.)1‬‬
‫وهي أجود تمر المدينة ويسمونه‪ :‬لينة‪ ،‬وقيل‪ :‬هي أكبر من الصيحاني يضرب‬
‫إلى السواد(‪.)2‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫يتعرض الجسم البشري ً‬
‫يوميا لعدة أنواع من السموم منها‪:‬‬
‫‪P P‬السموم الخارجية‪ :‬والتي يمكن أن تتمثل في‪:‬‬
‫( أ ) لدغ العقارب والحيات والهوام‪.‬‬
‫(ب) التسمم بالمواد السامة عن طريق الفم أو األنف أو الجلد‪.‬‬
‫( ج) التسمم الناتج عن بعض العقاقير واألدوية‪.‬‬
‫كما يتعرض لعدة أنواع من السموم التي تنتج داخل الجسم‪.‬‬
‫‪P P‬السموم الداخلية ومنها‪:‬‬
‫ُ‬
‫( أ ) سموم مفرزة من كائنات حية دقيقة‪ ،‬مثل‪ :‬السموم التي تفرز من أنواع‬
‫كثيرة من الجراثيم‪ ،‬كما في مرض التيفود والخناق وجراثيم التسممات‬
‫الغذائية‪.‬‬
‫(ب) السموم الناتجة من عمليات التمثيل الغذائي‪ ،‬وما ينتج عنها‬
‫من تفاعالت كيماوية معقدة داخل بعض أجهزة الجسم‪ ،‬كما في الكبد‬
‫والكليتين‪.‬‬

‫((( كشف المشكل من حديث الصحيحين البن الجوزي (‪.)235/1‬‬


‫((( عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني (‪.)71/21‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪649‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫‪P P‬مكونات التمر‪:‬‬


‫تحتوي التمور على نسبة عالية من السكريات‪ ،‬تزيد عن ‪ %85‬من وزنها‬
‫الجاف‪ ،‬فالجلوكوز يكون ‪ ،%38‬والفركتوز يكون ‪. %35‬‬
‫والجلكوز والفركتوز‪ :‬سكريات تولد الطاقة التي تستخدم في تسيير كثير‬
‫من التفاعالت الحيوية التي تجري داخل الخاليا‪ ،‬والفركتوز يتميز بعدم احتياجه‬
‫ِّ‬
‫إلى أنسولين عند استخدامه في إنتاج الطاقة‪ ،‬وبالتالي ال يُمثل عبئا على مرضى‬
‫السكر‪ ،‬كما يحتوي على البروتينات‪ ،%2،2‬والدهون حوالي ‪ ،%.4‬كما تحتوي‬
‫التمور على حوالي‪ %7‬من وزنها ألياف ولها دورها في منع أمراض سوء الهضم‬
‫واإلمساك‪ ،‬وأمراض القولون‪ ،‬كما أن لها تأثيرا جيدا على تقليل نسبة الكوليسترول‬
‫في الدم‪ ،‬وتحمي من تصلب الشرايين‪.‬‬
‫كما تحتوي التمور على كميات من األمالح المعدنية والعناصر النادرة‪ ،‬حيث‬
‫ْ َ‬
‫أطلق عليها لقب َمنجم‪ ،‬لغناها بالمعادن‪.‬‬
‫فتناول ‪100‬جم من التمر يمد جسم اإلنسان بكامل احتياجاته‪ ،‬من كل‬
‫من المغنيسيوم والمنجنيز والنحاس والكبريت‪ ،‬وبنصف احتياجاته من الحديد‪،‬‬
‫وربع احتياجاته من كل من الكالسيوم والبوتاسيوم‪.‬‬
‫أكبر من كمية النحاس والزنك‪ .‬واحتواء‬‫ويحتوي التمر على كمية من الحديد َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫التمر على العناصر المعدنية الصغرى بكميات مناسبة‪ ،‬باإلضافة الحتوائه على نسبة‬
‫عالية من البوتاسيوم والصوديوم يعكس أهميته الغذائية للبشر‪ .‬فالعناصر المعدنية‪:‬‬
‫خاصة (البوتاسيوم) يساعد في القدرة على التفكير‪.‬‬
‫و(الفوسفور) يساعد على انتظام نبضات القلب ونقل اإلشارات العصبية‪.‬‬
‫و(الحديد) الذي يدخل في تكوين هيموجلين الدم‪( .‬والكالسيوم) الذي يدخل‬
‫في تكوين العظام واألسنان‪ ،‬وله دور مهم في مقاومة التسمم بالرصاص‪.‬‬
‫‪650‬‬

‫كما تحتوى ثمار البلح على عنصر (اليود) الذي ينشط الغدة الدرقية والهرمون‬
‫الخاص بها‪ .‬كما يوجد في التمر مجموعة من الفيتامينات نذكر منها‪:‬‬
‫فيتامين أ‪ :‬وهو فيتامين ضروري لإلبصار‪ ،‬ونقصه يؤدي إلى مرض >العشى‬
‫الليلي<‪ ،‬وهو مهم لسالمة وصحة الجلد‪ ،‬يدخل في عمليات التمثيل الغذائي‬
‫َ‬
‫داخل الخاليا‪.‬‬
‫فيتامين د‪ :‬مضاد لمرض الكساح‪ ،‬يحافظ على تركيز الكالسيوم في الدم‪،‬‬
‫له دور في حركة العضالت والفعل الحيوي للغدد‪.‬‬
‫فيتامين ب‪( :1‬الثيامين)‪ :‬ضروري للمحافظة على سالمة األعصاب‪ ،‬نقصه‬
‫يؤدي إلى فقدان الشهية واإلصابة بمرض البري بري‪.‬‬
‫فيتامين ب‪( :2‬الريبو فالفين)‪ :‬يدخل في تركيب كثير من األنزيمات‪ ،‬ليشترك‬
‫في عمليات األكسدة الحيوية‪ ،‬نقصه يؤدي إلى تشققات في زوايا الفم‪.‬‬
‫فيتامين ب‪( :3‬حمض النيكوتينيك أو النياسين)‪ :‬يقي من مرض البالجرا‪،‬‬
‫نقصه يؤدي الى اضطراب األعصاب والصداع وضعف الذاكرة‪.‬‬
‫حمص البانثوثينييك‪ :‬فيتامين مضاد لإلجهاد‪ ،‬ويساعد في عمليات التمثيل‬
‫الغذائي‪ ،‬نقصه يؤدي الى اضطراب في عمليات التمثيل الغذائي‪ ،‬وتساقط شعر‬
‫الرأس‪.‬‬
‫حمص الفوليك‪ :‬وهو العامل المضاد لألنيميا الحادة‪ ،‬يلعب دورا هاما‬
‫في تخليق األحماض النووية‪ ،‬يقي من مرض تصلب الشرايين‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد أثبتت التجارب أن للعجوة ً‬
‫أثرا فعااًل في منع آثار السم والسحر؛‬
‫مما يتطابق مع خبر الرسول ! الذي الينطق عن الهوى‪ ،‬فكان في ذلك شاهدا‬
‫من شواهد اإلعجاز العلمي في السنة الشريفة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪651‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اخلمر داء وليست بدواء‬

‫ُ‬
‫عن علقمة‪ ‬بن وائل عن أبيه وائل الحضرمي أن طارق‪ ‬بن سويد الجعفي‪ :‬سأل‬
‫بي ! عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها؛ فقال إنما أصنعها للدواء؛ فقال‪:‬‬ ‫الن ّ ّ‬
‫>إنه ليس بدواء ولكنه داء<(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫عن طارق‪ ‬بن سويد الحضرمي قال قلت‪ :‬يا رسول اهلل إن بأرضنا أعنابا نعصرها‬
‫أفنشرب منها؟ قال‪> :‬ال<‪ ،‬فراجعته فقال‪> :‬ال<‪ ،‬ثم راجعته فقال‪> :‬ال<‪ ،‬فقلت‪ :‬إنا‬
‫نستشفي بها للمريض‪ ،‬قال‪> :‬إنه ليس بشفاء ولكنه داء<(‪ .)2‬قال شعيب األرنؤوط‪:‬‬
‫حديث صحيح‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم )‪.)3670‬‬


‫((( مسند أحمد‪ ‬بن حنبل‪ ،‬حديث رقم )‪.)22555‬‬
‫‪652‬‬

‫بي !‪ :‬عن الخمر يجعل في الدواء‪ ،‬فقال‬ ‫سويد الخضري الن ّ َّ‬
‫ٌ‬
‫سأل طارق‪ ‬بن‬
‫!‪> :‬إنه ليس بدواء ولكنه داء< أخرجه مسلم(‪.)1‬‬
‫وفي رواية أخرى لطارق‪ ‬بن سويد قال‪ :‬يا رسول اهلل إن بأرضنا أعنابا نعصرها‬
‫فنشرب منها قال‪> :‬ال<‪ ،‬فعاودته‪ ،‬فقال‪> :‬ال<‪ ،‬إنا نستشفي بها للمريض‪ .‬قال‪> :‬إن‬
‫ذلك ليس بشفاء ولكنه داء< أخرجه أحمد وابن حبان(‪.)2‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله‪( :‬سأل الن ّ ّ‬
‫بي ! عن الخمر) أي‪ :‬عن شربها أو صنعها‪.‬‬
‫قوله‪( :‬فنهاه) أي‪ :‬عنها‪.‬‬
‫قوله‪( :‬فقال‪ :‬إنما أصنعها) أي‪ :‬أشتغلها أو أستعملها للدواء‪.‬‬
‫قوله‪( :‬فقال‪ :‬إنه) أي‪ :‬الخمر ليس بدواء‪ ،‬لكنه داء(‪.)3‬‬
‫قال النووي‪ < :‬هذا دليل لتحريم اتخاذ الخمر وتخليلها‪ ،‬وفيه التصريح بأنها‬
‫ليست بدواء فيحرم التداوي بها؛ ألنها ليست بدواء‪ ،‬فكأنه يتناولها بال سبب‪،‬‬
‫وهذا هو الصحيح عند أصحابنا أنه يحرم التداوي بها‪ ،‬وكذا يحرم شربها للعطش‪،‬‬
‫خمرا؛ فيلزمه اإلساغة بها؛ ألن‬‫ً‬ ‫وأما إذا غص بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إال‬
‫حصول الشفاء بها حينئذ مقطوع به بخالف التداوي > (‪ .)4‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1984‬‬


‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)18787‬قال مخرجوه‪( :‬حديث صحيح)‪ ،‬وانظر تخريجه فيه‬
‫مفصاًل‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للقاري (‪.)2385 /6‬‬
‫((( شرح النووي على صحيح مسلم (‪.)483 /6‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪653‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫يقول تقرير منظمة الصحة العالمية رقم ‪ 650‬لعام ‪ 1980‬عن الكحول‬
‫َ َ ُ‬
‫ومشاكلها‪ < :‬إن شرب الخمور يؤثر على الصحة‪ ،‬ويؤدي إلى مشاكل تفوق‬
‫المشاكل الناتجة عن األفيون ومشتقاته‪ ،‬واألضرار الصحية واالجتماعية لتعاطي‬
‫الكحول تفوق الحصر >‪.‬‬
‫يقول الدكتور برنت في كتاب مواضيع في العالج‪ ،‬إصدار الكلية الملكية‬
‫لألطباء بلندن‪ < :‬لم يكتشف اإلنسان شيئا شبيها بالخمور‪ ،‬في كونها باعثة‬
‫على السرور الوقتي‪ ،‬وفي نفس الوقت ليس لها نظير في تحطيم حياته وصحته‪..‬‬
‫ً‬
‫خطيرا > ‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫وسما ناقعا وشرا اجتماعيا‬ ‫وال يوجد لها مثيل في كونها مادة لإلدمان‬
‫يقول كتاب ألف باء الكحول‪ ،‬إصدار اجمللة الطبية البريطانية عام ‪:1988‬‬
‫ُُ‬ ‫ُ ُ‬
‫ث جميع الحاالت التي أدخلت إلى األقسام الباطنية‬ ‫ < إن ما بين خمسِ وث ِ‬
‫ل‬
‫في بريطانيا كانت بسبب الكحول‪ .‬وفي انجلترا وحدها يدخل إلى األقسام الباطنية‬
‫ما بين ثالثمائة ألف شخص ونصف مليون سنويا؛ بسبب تعاطي الخمور‪.‬‬
‫وفي السويد أثبتت دراسة أن ‪ %29‬من جميع أيام دخول المستشفيات كانت بسبب‬
‫تعاطي الخمور >‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫‪P P‬اخلمر واجلرائم‪:‬‬


‫ً‬
‫قطرا‪ :‬أن ‪% 86‬‬ ‫يذكر تقرير الصحة العالمية عن جرائم العنف في ‪30‬‬
‫من جرائم القتل‪ ،‬و‪ % 50‬من جرائم االغتصاب تتم تحت تأثير الخمور (الديلي‬
‫ميل ‪ 26‬يونيه ‪ ،)1980‬وتذكر دائرة المعارف البريطانية (الطبعة ‪ :)15‬أن معظم‬
‫حاالت االعتداء على األطفال ونكاح المحارم كان تحت تأثير الكحول‪.‬‬
‫أما الوفيات الناتجة عن الخمور والمخدرات فحدث عنها وال حرج‬
‫في اجملتمعات الغربية‪.‬‬
‫‪654‬‬

‫‪P P‬اخلمر واهلضم‪:‬‬


‫تؤدي الخمر إلى زيادة حدوث سرطان المرئ كما تسبب نزفا في المرئ‬
‫ودوالي في أسفله والتهابا مزمنا فيه‪ .‬وتكثر اإلسهاالت عند شاربي الخمور‪ ،‬كما‬
‫قد يحدث التهابا حادا في البنكرياس الذي قد يكون مميتا‪.‬‬
‫لقد دلت الدراسات التي أجريت على طالب كلية الطب‪ :‬أن تناول‬
‫‪ 180‬جراما من الكحول يوميا كاف لتسبيب دهنية الكبد‪ .‬ويعتبر تليف الكبد‬
‫السبب الثالث للوفاة لدى البالغين الذكور في الواليات المتحدة والرابع لدى‬
‫اإلناث‪.‬‬

‫مرض تليف الكبد‬


‫‪P P‬اخلمر والقلب‪:‬‬
‫ض على حدوث نوبة الذبحة‬‫تحر ُ‬
‫أثبتت الدراسات العديدة أن شرب الخمور ِّ‬
‫الصدرية‪ ،‬وأن معظم حاالت موت الفجأة‪ ،‬واضطراب نظمية القلب كانت بسبب‬
‫شرب الخمور‪.‬‬
‫وقد أوضحت دراسة شملت أكثر من ألفي شخص توفوا فجأة‪ :‬أن نصفهم‬
‫ماتوا بعد انغماس في شرب الخمر‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪655‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وأظهرت دراسة أخرى‪ :‬أن شرب الخمر قد أدى إلى رجفان (ذبذبة) أذيني‬
‫لدى ‪ 63‬بالمئه من المرضى دون الخامسة والستين‪ ،‬وأن شرب ما يعادل ستة‬
‫كاسات من البيرة تؤدي إلى مضاعفة حدوث اضطراب نظم القلب‪.‬‬
‫وتقول مجلة الالنست الطبية المقال االفتتاحي (العدد الثاني لعام ‪:)1987‬‬
‫< إن على األطباء تبليغ رسالة واحدة للناس وهي‪ :‬أن الخمر ضار بالصحة‪ ،‬وتؤدي‬
‫إلى حدوث الذبحات الصدرية وجلطات القلب واضطراب نظمية القلب وموت‬
‫الفجأة >‪.‬‬
‫‪P P‬اخلمر واجلنس‪:‬‬
‫وما أصدق رسولنا الكريم ! وهو يقول‪> :‬ال يزني الزاني حين يزني وهو‬
‫مؤمن‪ ،‬وال يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن<(‪ ،)1‬أخرجه البخاري ومسلم‪،‬‬
‫ويقول !‪> :‬الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر‪ .‬ومن شرب الخمر ترك الصالة‪،‬‬
‫ووقع على أمه وخالته وعمته<(‪ .)2‬قال الهيثمي‪ :‬رواه الطبراني‪ .‬وعتاب لم أعرفه‪،‬‬
‫وابن لهيعة حديثه حسن وفيه ضعف(‪.)3‬‬
‫تقول منظمة الصحة العالمية ودائرة المعارف البريطانية‪ < :‬إن ‪ 50‬بالمئة‬
‫من جميع جرائم االغتصاب‪ ،‬ومعظم حاالت االعتداء على المحارم كانت تحت‬
‫تأثير الخمر >‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫‪P P‬املرأة واخلمر‪:‬‬


‫ *اضطراب الدورة‪ ،‬وكثرة اإلجهاض‪ ،‬ووالدة أجنة ناقصة‪.‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2475‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)57‬‬
‫((( أخرجه الطبراني‪ ،‬المعجم الكبير للطبراني (‪ ،)62 /13‬حديث رقم )‪.)154‬‬
‫((( مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪.)68 /5‬‬
‫‪656‬‬

‫ *متالزمة الكحول لألجنة‪ :‬صغر الدماغ والفكين والتخلف العقلي‬


‫والبدني‪ ،‬وصغر حجم العينين مع عيوب خلقية في الخلق‪ .‬كما أن‬
‫جسم المرأة ال يحتمل نصف الكمية التي يتعاطاها الرجل من الكحول‪.‬‬
‫‪P P‬اخلمر واجلهاز البولي‪:‬‬
‫ *تدر البول‪ .‬ولكنها تؤدي إلى تدمير حليمات الكلية‪ ،‬وهو مرض خطير‬
‫يؤدي إلى الفشل الكلوي المزمن‪.‬‬
‫ *احتقان البروستاتا وتضخمها‪.‬‬
‫‪P P‬حاالت التسمم احلاد‪:‬‬
‫ *تشوش الذهن‪ ،‬تلعثم الكالم‪ ،‬تخلج المشي‪ ،‬الرأرأة لمقلة العين‪،‬‬
‫حوادث السيارات‪ ،‬وجرائم العنف‪ ،‬نوبات الصرع‪ ،‬وفقدان الوعي‪.‬‬
‫ *آثار التوقف الفجائي (سحب العقار للمدمن) الهذيان االرتعاشي‬
‫‪.Delerium Tremens‬‬
‫ *الهلوسات السمعية والبصرية‪.‬‬
‫ *اإلنتانات والحمى‪.‬‬
‫ *وفاة ‪ 25‬بالمائة من الحاالت‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد أبان العلم عن ألوان من األضرار يسببها تعاطي الخمر لم يكن يعرفها‬
‫َ‬
‫تحريم الشريعة اإلسالمية‬ ‫أحد‪ ،‬وهذا اليدع مجاال للشك لدى كل عاقل منصف أن‬
‫َ‬
‫لشرب الخمر وتعاطيها هو الحق الذي ال ِمرية فيه‪ ،‬وهي أن اهلل شرع تحريمها‬
‫لمصلحة عباده‪ ،‬ليجلب لهم المنافع ويدفع عنهم المفاسد‪ .‬ويأتي العلم اليوم‬
‫ليؤكد تلك الحقيقة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪657‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الزيتون وزيته والطب احلديث‬

‫شجرة الزيتون شجرة مباركة‪ ،‬أقسم اهلل تبارك وتعالى بها حين قال‪﴿ :‬وٱتل ِ‬
‫ِني‬ ‫َ ّ‬
‫َ َ َ بۡ دَ أۡ َ‬
‫ِني﴾ [ا ��لت�ي�� ن�‪.]3-1 :‬‬
‫ل ٱل ِ‬
‫م‬ ‫ِني ‪ ٢‬وهٰذا ٱلَ ِ‬ ‫ٱلز ۡي ُتون ‪َ ١‬و ُطور سِين َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َّ‬

‫فوائد تلك الشجرة بقوله‪﴿ :‬وش‬ ‫كما أشار اهلل تبارك وتعالى إلى‬
‫َ َ َ ٗ خَ ۡ‬
‫ج َرة ت ُر ُج مِن‬ ‫ِ‬
‫ِني﴾ [ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪ :]20 :‬جاء في تفسير الخازن >تنبت‬ ‫ٱدل ۡهن َوص ۡبغ ّل ِٓأۡلكلِ َ‬
‫ِ ِ ٖ‬
‫ت ب ُّ‬ ‫َ ََۡٓ َ ُ ُ‬
‫طورِ سيناء تۢنب ِ‬
‫ُ‬

‫بالدهن< أي‪ :‬تنبت وفيها الدهن‪ ،‬وقيل تنبت بثمرة الدهن وهو الزيت‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قال رسول اهلل !‪> :‬كلوا الزيت<‪ :‬أي‪ :‬مع الخبز واجعلوه إداما‪ ،‬فال يرد أن‬
‫الزيت مائع فال يكون تناوله أكال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫>وادهنوا به<‪ٌ ،‬‬
‫أمر من االدهان بتشديد الدال‪ ،‬وهو استعمال الدهن‪،‬‬ ‫قوله‪:‬‬
‫ّ‬

‫فنزل منزلة الالزم‪.‬‬


‫‪658‬‬

‫ويقال ادهن رأسه على افتعل أي طاله بالدهن‪.‬‬


‫وال يخفى أنه ال يختص بالرأس‪ ،‬وال يشترط التولي بالنفس‪ ،‬واألمرهنا‬
‫لالستحباب لمن قدر عليه‪ ،‬ويؤيده تعليله ـ ! ـ بقوله‪( :‬فإنه) أي‪ :‬الزيت يحصل‬
‫(من شجرة مباركة)‪ .‬يعني‪﴿ :‬زيتونةٖ ل شقِيةٖ ول غربِيةٖ يكاد زيتها ي يِ‬
‫َ ۡ ُ َ اَّ رَ ۡ َّ َ اَ َ ۡ َّ َ َ ُ َ ۡ ُ َ ُ ٓ َ َ‬
‫ض ُء َول ۡو ل ۡم‬
‫ع نورٖۚ﴾ [ا ��لن�ور‪.]35 :‬‬
‫َ ۡ َ ۡ ُ َ ‪ ٌ ُّ ٞ‬لَىَ ٰ ُ‬
‫تمسسه نار ۚ نور‬
‫ثم وصفها بالبركة لكثرة منافعها وانتفاع أهل الشام بها كذا قيل‪ ،‬واألظهر‬
‫لكونها تنبت في األرض التي بارك اهلل فيها للعالمين‪ ،‬قيل بارك فيها سبعون نبيا‬
‫منهم‪ :‬إبراهيم ـ عليه السالم ـ وغيرهم‪ ،‬ويلزم من بركة هذه الشجرة بركة ثمرتها‪،‬‬
‫وهي الزيتون‪ ،‬وبركة ما يخرج منها وهو الزيت‪ ،‬وكيف ال وفيه التأدم والتدهن‪،‬‬
‫َ‬
‫وهما نعمتان عظيمتان‪ ،‬وفيه تسريج القناديل في المساجد الثالثة‪ ،‬فما أبركها زمانا‬
‫ومكانا(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫يعتبر زيت الزيتون أفضل مادة دهنية لمعالجة أمراض القلب وتصلب الشرايين‪،‬‬
‫وله أثر فعال في الوقاية من الحموضة وقرحة المعدة‪ ،‬وله تأثير إيجابي على مرضى‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الجسم‬ ‫السكر‪ ،‬وعالج للذين يعانون من السمنة المفرطة‪ ،‬ويساعد زيت الزيتون‬
‫َّ‬ ‫على ّ‬
‫تحمل الضغوط النفسية واإلرهاق‪ ،‬ويزيد من مناعة الجسم ضد األمراض‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫ف ومليّن ومدرٌّ للصفراء ومفتت‬‫ملط ٌ‬ ‫ويقوي الشرايين واألوعية الدموية‪ .‬وهو‬
‫للحصى‪ ،‬ومفيد لمرضى السكري ‪.‬‬
‫‪P P‬زيت الزيتون والكولسرتول‪:‬‬
‫يحتوي زيت الزيتون على فيتامين هـ (‪ )E‬المعروف بدوره المضاد لألكسدة‪.‬‬
‫وترجع الفوائد الصحية لزيت الزيتون إلى غناه بمضادات األكسدة‪ ،‬وباألحماض‬

‫((( انظر‪ :‬مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للقاري (‪.)2720 /7‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪659‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الدهنية الالمشبعة الوحيدة‪ ،‬وقد بينت نتائج األبحاث‪ :‬أن زيت الزيتون يخفض‬
‫ّ‬
‫مستوى الكولسترول الكلي‪ ،‬والكولسترول الضار‪ ،‬دون أن يؤثر سلبا على‬
‫الكولسترول المفيد‪ ،‬وبالتالي يمكنه أن َ‬
‫يقي من حدوث تصلب الشرايين‪.‬‬
‫‪P P‬زيت الزيتون والسرطان‪:‬‬
‫أظهرت العديد من الدراسات‪ :‬أن هناك تناسبا عكسيا بين تناول زيت الزيتون‬
‫وبين حدوث عدد من األورام السرطانية‪ ،‬حيث وجد أن هناك عالقة وثيقة بين‬
‫تناول زيت الزيتون وانخفاض معدل حدوث سرطان الثدي والمعدة‪ .‬وأن تناول‬
‫الزيت يقي من عدد كبير من السرطانات‪.‬‬
‫وتشير اإلحصاءات‪ :‬أن استعمال زيت الزيتون في الغذاء يخفض اإلصابة‬
‫َّ‬
‫بسرطان الثدي ‪ .% 35‬وتعتبر أسبانيا أقل البالد في إصابة سرطان الثدي لدى‬
‫النساء‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫سرطان الثدي‬
‫‪660‬‬

‫وأثبتت دراسات أخرى‪ :‬بأن تناول زيت الزيتون والفواكه والخضراوات يمكن‬
‫أن يقي من بعض أنواع السرطان‪ ،‬كسرطان القولون‪ ،‬وسرطان الرحم‪ ،‬وسرطان‬
‫المبيض‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫َ ًّ‬
‫جمة‬ ‫لقد أثبتت األبحاث الطبية والكيميائية الحيوية في السنوات األخيرة فوائد‬
‫وقت قريب‪ :‬أن زيت الزيتون‬‫ِ‬ ‫لزيت الزيتون‪ ،‬بينما كان اعتقاد األطباء وغيرهم حتى‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫ال يختلف عن كثير من الزيوت من حيث الفوائد والمضار‪ ،‬وتلك الفوائد تشمل‬
‫النواحي الغذائية والعالجية‪.‬‬
‫ونحن نالحظ كل يوم اكتشاف المزيد من تلك الفوائد الوقائية والعالجية لهذا‬
‫آخر‬ ‫أخبرنا به رسول اهلل !‪ ،‬فكان في ذلك ٌ‬
‫مثال ُ‬ ‫َ‬ ‫الزيت المبارك‪ ،‬مما يتطابق مع ما‬
‫من أمثلة اإلعجاز العلمي‪ ..‬واهلل أعلم‪..‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪661‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الصيام الشرعي سهل ميسور‬


‫َ ۡ ُ َ َ َ َ ذَّ ٓ ُ َ‬
‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬شهر رمضان ٱلِي أ ِ‬
‫ُۡ َۡ ُ‬
‫ان ُه ٗدى ّل َّ‬
‫اس‬ ‫ِلن ِ‬ ‫نزل فِيهِ ٱلقرء‬
‫ُ ُ َّ ۡ َ َ ۡ َ ُ ۡ ُ َ َ اَ َ َ ً َ ۡ ٰلَىَ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َٰ ّ َ ُۡ َ ٰ َ ُۡ ۡ َ َ‬
‫ان ف َمن ش ِه َد مِنكم ٱلشهر فليصمهۖ ومن كن م ِريضا أو ع‬ ‫ت مِن ٱلهدى وٱلفرق ِ ۚ‬ ‫وبيِن ٖ‬
‫ۡ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬
‫س َو ُكملوا ٱلع َّدةَ‬ ‫ُ رۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫اَ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ ُ هَّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ َّ ‪َّ ۡ ّ ٞ‬‬
‫ُ ُ‬
‫س َول ي ِريد بِك ُم ٱلع َ لتِ ِ‬ ‫ك ُم ٱل ُي رۡ َ‬
‫ِ‬ ‫سف ٖر ف ِعدة مِن أيا ٍم أخر ۗ ي ِريد ٱلل ب ِ‬
‫ك ۡم تشك ُرون﴾ [ا ��لب�ق��ر�ة‪.]185 :‬‬
‫َ ُ َ ّ ُ ْ هَّ َ لَىَ ٰ َ َ َ ٰ ُ ۡ َ َ َ َّ ُ َ ۡ ُ َ‬
‫ولتِ ك رِبوا ٱلل ع ما هدىكم ولعل‬
‫لقد أوجب اهلل سبحانه وتعالى الصوم على سبيل السهولة واليسر‪ ،‬فإنه ما‬
‫أوجبه إال في مدة قليلة من السنة‪ ،‬ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض وال على‬
‫المسافر وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الصيام يقوي املناعة ضد األمراض‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)258 /5‬‬
‫‪662‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫س﴾‪.‬‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬يرِيد ٱلل ب ِ‬
‫ۡ‬ ‫ُ ُ هَّ ُ ُ‬
‫ك ُم ٱل ُي رۡ َ‬
‫َّ‬
‫والسعة‪ :‬اليسار‪ ،‬ألنه يسهل‬ ‫للغنَى‬
‫اليسر في اللغة‪ :‬معناه السهولة‪ ،‬ومنه يقال ِ‬
‫به األمور‪ ،‬واليد اليسرى قيل تلي الفعال باليسر‪ ،‬وقيل إنه يتسهل األمر بمعونتها اليمنى‪.‬‬
‫واليسر عمل ال يجهد النفس وال يثقل الجسم‪ ،‬والعسر ما يجهد النفس ويضر‬
‫الجسم‪ .‬وفيه إعالم برفق اهلل باألجسام التي يسر عليها بالفطر(‪.)1‬‬
‫س﴾ فلم يجعل الصيام عزيمة على الكل‪ ،‬ولم يزد‬ ‫قوله‪﴿ :‬ول ي ِريد ب ِ‬
‫ۡ‬‫َ ُ ُ ُ‬
‫ك ُم ٱل ُع رۡ َ‬ ‫اَ‬

‫على شهر‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫المفطر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫فط‬ ‫في‬ ‫العسر‬ ‫وأن‬ ‫وفيه إشعار ألهل القوة بأن اليسر في صومهم‪،‬‬
‫ولما كانت علة التيسير المؤكد بنفي التعسير اإلطاقة فكان التقدير‪ :‬لتطيقوا‬
‫ما أمركم به ويخف عليكم ُ‬
‫أمره(‪.)2‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫تشير الدراسات العلمية المحققة في مجال وظائف أعضاء الجسم أثناءَ مراحل‬
‫التجويع‪ ،‬إلى يسر الصيام اإلسالمي وسهولته‪ ،‬فالصيام اإلسالمي صيام سهل ميسور‬
‫مشقة فيه على النفس‪ ،‬وال ضرر يلحق الجسم من ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫جرائه‪،‬‬ ‫لألصحاء المقيمين‪ ،‬ال‬
‫وذلك على وجه القطع واليقين‪ .‬وتتمثل مظاهر يسر الصيام في النقاط التالية‪:‬‬
‫ً‬
‫‪P P‬يعتبر الصيام اإلسالمي تمثيال غذائيا فريدا؛ إذ يشتمل على مرحلتي البناء‬
‫والهدم‪ ،‬فبعد وجبتي اإلفطار والسحور‪ ،‬يبدأ البناء للمركبات الهامة‬

‫((( تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪ ،)258 /5‬وانظر‪ :‬نظم الدرر في تناسب‬
‫اآليات والسور للبقاعي (‪.)63 -62/3‬‬
‫((( انظر‪ :‬نظم الدرر في تناسب اآليات والسور للبقاعي (‪.)63 -62/3‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪663‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫في الخاليا‪ ،‬وتجديد المواد المختزنة‪ ،‬والتي استهلكت في إنتاج الطاقة‪،‬‬


‫وبعد فترة امتصاص وجبة السحور‪ ،‬يبدأ الهدم‪ ،‬فيتحلل المخزون الغذائي‬
‫من الجليكوجين والدهون‪ ،‬ليمد الجسم بالطاقة الالزمة‪ ،‬أثناء الحركة‬
‫والنشاط في نهار الصيام‪.‬‬
‫‪P P‬يتراوح الصيام اإلسالمي من ‪ 8‬ـ ‪ 13‬ساعة‪ ،‬وهذه الفترة تقع على وجه‬
‫القطع في الفترة التي سماها العلماء فترة ما بعد االمتصاص‪ ،‬والتي‬
‫تتراوح من ‪ 6‬ـ ‪ 12‬ساعة‪ ،‬وقد تمتد إلى ‪ 40‬ساعة‪ ،‬ويعتبر العلماء هذه‬
‫الفترة أمانا كامال‪ ،‬وال يحصل منها أي ضرر على اإلطالق للجسم‪ ،‬بل‬
‫على العكس يستفيد الجسم منها فوائد عديدة‪.‬‬
‫بي !‪ ،‬على ضرورة تناول وجبة السحور‪ ،‬إلمداد‬ ‫لذلك كان تأكيد‪ ،‬الن ّ ّ‬
‫الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة ‪ 4‬ساعات‪ ،‬محسوبة من زمن االنقطاع عن الطعام‪،‬‬
‫وبهذا أيضا يمكن تقليص فترة ما بعد االمتصاص إلى أقل زمن ممكن‪.‬‬
‫بي !‪ ،‬على تعجيل الفطر‪ ،‬وتأخير السحور‪ ،‬بتقليص فترة الصيام‬ ‫كما حث الن ّ ّ‬
‫أيضا إلى أقل حد ممكن‪ ،‬حتى ال يتجاوز فترة ما بعد االمتصاص بوقت طويل‪،‬‬
‫وبالتالي فإن الصيام اإلسالمي ال يسبب شدة‪ ،‬وال يشكل ضعفا نفسيا ً‬
‫ضارا على‬
‫الجسم البشري‪ ،‬بحال من األحوال‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫بي !‪ ،‬قال‪> :‬تسحروا فإن في السحور بركة< متفق‬ ‫عن أنس ‪ ،K‬أن الن ّ ّ‬
‫عليه(‪ )1‬وعن سهل‪ ‬بن سعد ‪ ،K‬أن رسول اهلل ! قال‪> :‬ال يزال الناس بخير ما‬
‫عجلوا الفطر< متفق عليه(‪.)2‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 1923‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪.) 1095‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪  .) 1098‬‬
‫‪664‬‬

‫‪P P‬يوجد مخزون من الطاقة في الجسم البشري يكفي اإلنسان حينما يمتنع‬
‫عن تناول الطعام امتناعا تاما لمدة شهر إلى ثالثة شهور‪ ،‬ال يتناول فيها‬
‫َّ‬
‫أي طعام قط‪.‬‬
‫وبناء على هذه الحقيقة يمكننا أن نؤكد‪ :‬أن ما يتوقف أثناء الصيام‪ ،‬هي عمليات‬
‫الهضم واالمتصاص‪ ،‬وليست عملية التغذية‪ ،‬فخاليا الجسم تعمل بصورة طبيعية‬
‫ُّ‬
‫وتحصل على جميع احتياجاتها الالزمة لها‪ ،‬من هذا المخزون بعد تحل ِله‪.‬‬
‫ولكن مع كل هذه اإلمكانية الهائلة التي هيأها اهلل سبحانه للجسم اإلنساني‬
‫لحفظ حياته عند انقطاعه التام عن تناول الطعام‪ ،‬فقد فرض علينا سبحانه وتعالى‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫نصف يوم‪،‬‬ ‫صياما ال ننقطع فيه عن الطعام إال فترة زمنية ال تتعدى ـ في الغالب ـ‬
‫َّ‬ ‫الصائم َّ‬
‫ُ‬
‫أشق األعمال وأشدها من غير‬ ‫فكم هي سهلة ميسورة يمكن أن يمارس فيها‬
‫ضرر يلحق به‪ ،‬أو حتى شدة ّ‬
‫يتعرض لها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ِّ‬
‫المحركة متوفرة وبكثرة‪ ،‬وبناء الخاليا وتجديد التالف منها لن يتأثر‬ ‫فالطاقة‬
‫مطلقا‪ ،‬كما أن تناول الطعام في الفطور والسحور يجدد مخزون الطاقة‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫الجسم باحتياجاته من األحماض األمينية والدهنية‬ ‫التي استهلكت في العمل‪ ،‬ويمد‬
‫َ‬
‫تصنيعها بداخله‪ ،‬ويمده أيضا باحتياجاته‬ ‫األساسية‪ ،‬والتي ال يستطيع الجسم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اليومية من الفيتامينات والمعادن‪ .‬وتأتي ضرورة الصيام لإلنسان وقاية وعالجا‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫لمنافع وفوائد شتى‪.‬‬ ‫وتحقيقا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫فمن أخبر محمدا !‪ ،‬أن في الصيام وقاية لإلنسان من أضرار نفسية وجسدية؟‬
‫َ‬
‫وفوائد يجنيها األصحاء‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫ومن أخبره ! بأن الصيام أمر‬ ‫منافع‬ ‫ومن أخبره أن فيه‬
‫َ ْ َ‬
‫سهل ميسور ال يضر بالجسم وال يجهد النفس؟ ومن أطلعه على أن كثرة الصوم‬
‫تثبط الرغبة الجنسية وتخفف من حدتها وثورتها‪ ،‬خصوصا عند الشباب؟! فيصير‬
‫َّ‬
‫ومحصنا ضد االنحرافات‬ ‫الشاب بالصيام آمنا من االضطرابات الغريزية النفسية‪،‬‬
‫السلوكية!! إنه اهلل جل في عاله‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪665‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫‪P P‬الصيام وقاية من العلل واألمراض‪:‬‬


‫وهناك بعض الفوائد الوقائية للصيام من كثير من األمراض والعلل الجسمية‬
‫والنفسية ثبتت باألبحاث العلمية‪ ،‬منها على سبيل المثال ال الحصر‪:‬‬
‫َ‬
‫ *يقوي الصيام جهاز المناعة؛ فيقي الجسم من أمراض كثيرة‪ ،‬حيث‬
‫يتحسن المؤشر الوظيفي للخاليا اللمفاوية عشرة أضعاف‪ ،‬كما تزداد‬
‫نسبة الخاليا المسؤولة عن المناعة النوعية ‪ T.Lymphocytes‬زيادة‬
‫كبيرة‪ ،‬كما ترتفع بعض أنواع األجسام المضادة في الجسم‪ ،‬وتنشط‬
‫الردود المناعية نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة‪.‬‬
‫ *الوقاية من مرض السمنة وأخطارها‪ ،‬حيث إنه من المعتقد أن السمنة‬
‫كما قد تنتج عن خلل في تمثيل الغذاء‪ ،‬فقد تتسبب عن ضغوط بيئية‬
‫أو نفسية أو اجتماعية‪ ،‬وقد تتضافر هذه العوامل جميعها في إحداث‬
‫السمنة‪ ،‬وقد يؤدي االضطراب النفسي إلى الخلل في التمثيل الغذائي‪.‬‬
‫وكل هذه العوامل التي يمكن أن تنجم عنها السمنة‪ ،‬يمكن الوقاية منها بالصوم‪،‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫النفسي والعقلي‪ ،‬الذي يجنيه الصائم نتيجة للجو‬ ‫االستقرار‬ ‫فهو يحقق اآلتي‪:‬‬
‫َ‬
‫وتوجيه الطاقات‬ ‫وقراءة القرآن‪،‬‬ ‫وكثرة العبادة بالذكر‪،‬‬ ‫اإليماني الذي يحيط به‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النفسية والجسمية توجيها إيجابيا نافعا‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫هذا فضال عن تأثير الصيام المثالي في استهالك الدهون المختزنة‪ ،‬ووقاية‬


‫الجسم من أخطار أمراض السمنة‪ ،‬كاألمراض القلبية الوعائية‪ ،‬مثل قصور القلب‪،‬‬
‫والسكتة القلبية‪ ،‬وانسداد الشرايين المحيطة بالقلب‪ ،‬ومرض تصلب الشرايين‪.‬‬
‫َ‬
‫الكلى‪ ،‬إذ يرفع معدل الصوديوم‬ ‫ *يقي الصيام الجسم من تكون حصيات ِ‬
‫في الدم‪ ،‬فيمنع تبلور أمالح الكالسيوم‪ .‬كما أن زيادة مادة البولينا‬
‫ِّ ُ‬
‫تكون حصيات‬ ‫في البول‪ ،‬تساعد في عدم ترسب أمالح البول‪ ،‬التي‬
‫المسالك البولية‪.‬‬
‫‪666‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬
‫الجسم من أخطار السموم المتراكمة في خالياه‪ ،‬وبين‬ ‫ *يقي الصيام‬
‫جراء تناول األطعمة‪ ،‬خصوصا المحفوظة والمصنعة‬ ‫أنسجته‪ ،‬من ّ‬
‫منها‪ ،‬وتناول األدوية‪ ،‬واستنشاق الهواء الملوث بهذه السموم‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫خصوصا عند الشباب‪،‬‬ ‫ *الصيام يخفف ويهدئ ثورة الغريزة الجنسية‪،‬‬
‫َ‬
‫وبذلك يقي الجسم من االضطرابات النفسية والجسمية‪ ،‬واالنحرافاتِ‬
‫السلوكية‪ .‬واإلكثار من الصوم مع االعتدال في الطعام والشراب‪ ،‬وبذل‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫الشاب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر‪.‬‬ ‫الجهد المعتاد‪ ،‬يجني‬
‫‪P P‬منافع وفوائد الصيام‪:‬‬
‫خيرا لألصحاء‪ ،‬رخص للمرضى‬ ‫ً‬ ‫أخبرنا اهلل جل في عاله أن في الصيام‬
‫َ‬ ‫والمسافرين‪ ،‬وكبار السن َ‬
‫ومن في حكمهم بالفطر في رمضان‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬أيَّ ٗ‬
‫اما‬
‫ُ َ‬ ‫ُ َّ ً َ ۡ لَىَ ٰ َ َ َ َّ ‪ َ َ َ ُ َّ َ ۡ ّ ٞ‬لَىَ‬
‫ع ذَّٱل َ‬ ‫اَ َ‬ ‫َّ ۡ ُ َ ٰ َ‬
‫ِين يُ ِطيقون ُهۥ‬ ‫ت ف َمن كن مِنكم م ِريضا أو ع سف ٖر فعِدة مِن أيا ٍم أخر ۚ و‬ ‫معدود ٖ ۚ‬
‫ِنيۖ﴾ [ا ��لب�ق��ر�ة‪.]184 :‬‬ ‫َۡ‪ۡ ُ َ َ ٞ‬‬
‫ف ِدية طعام مِسك ٖ‬
‫َ‬
‫ومع ذلك لم يحجب عن عباده فوائد الصيام‪ ،‬حتى مع المشقة‪ ،‬وفي عالج‬
‫يا َف ُه َو َخ رۡي‪ ٞ‬هَّ ُلۥ َوأَن تَ ُص ُ‬
‫وموا ْ َخ رۡي‪ٞ‬‬ ‫العديد من األمراض‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬فمن تطو‬
‫َ َ َ َ َّ َ‬
‫ع َخ رۡ ٗ‬
‫ۚ‬
‫نت ۡم ت ۡعل ُمون﴾ [ا ��لب�ق��ر�ة‪ ..]184 :‬أي تعلمون فضيلة الصوم وفوائده‪.‬‬ ‫َّ ُ‬
‫ُ ُ َ َ َ‬
‫لك ۡم إِن ك‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد أشارت اآلية السابقة إلى فوائد الصوم ومنافعه‪ ،‬وتجلت هذه المنافع‬
‫سريرية‪،‬‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ميدانية ومشاهداتٍ‬
‫ٍ‬ ‫بتجارب‬ ‫والفوائد في زماننا هذا للعلماء‪ ،‬بعد قيامهم‬
‫التي سبق ذكر نتائجها‪ ،‬مما يعني تطابق داللة النص الشرعي مع تلك الحقائق‬
‫العلمية المستقرة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪667‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫التغريات احليوية والفسيولوجية‬


‫خالل الصيام‪ ،‬وحكمة النهي عن وصال الصيام‬

‫ُ َّ َ ُ ۡ يَ ۡ َ َ ّ َ ِ َّ َ ُ ىَ ٰ َ ٓ ُ‬
‫قال اهلل سبحانه وتعالى ﴿أحِل لكم للة ِ‬
‫ك ۡم ُه َّن لبِ َ ‪ٞ‬‬
‫اس‬ ‫ٱلصيام ٱلرفث إِل ن ِسائ ِ ۚ‬
‫ََ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ك ۡم َف َت َ‬ ‫َّ ُ ۡ َ َ ُ ۡ َ ‪ َ َ َّ ُ َّ ٞ‬هَّ ُ َ َّ ُ ۡ ُ ُ ۡ خَ ۡ َ ُ َ ُ َ ُ‬
‫َ‬
‫اب َعل ۡيك ۡم َوعفا‬ ‫لكم وأنتم لبِ اس لهنۗ عل ِم ٱلل أنكم كنتم تتانون أنفس‬
‫َ ُ ۡ َ ۡ َ َ ٰ ُ ُ َّ َ ۡ َ ُ ْ َ َ َ َ هَّ ُ َ ُ ۡ َ لُ ُ ْ َ رۡ َ ُ ْ َ ىَّ ٰ َ َ َ نَّ َ َ ُُ‬
‫عنكمۖ فٱلَٰٔـن ب رِشوهن وٱبتغوا ما كتب ٱلل لك ۚم وكوا وٱشبوا حت يتبي لكم‬
‫خۡ َ ۡ ُ أۡ َ ۡ َ ُ َ خۡ َ ۡ أۡ َ ۡ َ ِ َ ۡ َ ۡ ُ َّ َ ُّ ْ ّ َ َ ىَ يَّ ۡ َ اَ ُ َ ٰ ُ ُ‬
‫وه َّن َوأَ ُ‬
‫نت ۡم‬ ‫ٱلصيام إِل ٱل ِلۚ ول تب رِش‬ ‫ٱليط ٱلبيض مِن ٱلي ِط ٱلسود مِن ٱلفج ِرۖ ثم أت ِموا ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫اس ل َعل ُه ۡم‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬
‫ي ُ‬
‫ٱلل َءايٰتِهِۦ ل ِلن ِ‬ ‫نِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ ُ ُ ُ هَّ َ اَ َ ۡ َ ُ َ‬
‫وهاۗ َك َذٰل ِك يُبَ ُ‬ ‫ج ِدۗ ت ِلك حدود ٱللِ فل تقرب‬ ‫ون يِف ٱل ۡ َم َ ٰ‬
‫س ِ‬
‫َٰ ُ َ‬
‫عكِف‬
‫َي َّتقون﴾ [ا ��لب�ق��ر�ة‪ ،]187 :‬في هذه اآلية يظهر لنا التوجيه الرباني لهذه البشرية ورحمة‬
‫ُ َ‬
‫ُ‬
‫وصحتهم‪ ،‬حيث يشير إلى عدم‬
‫ِ‬ ‫أجسامهم‬
‫ِ‬ ‫اهلل بعباده فيوجههم لما فيه سالمة‬
‫الوصال في الصيام‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫‪668‬‬

‫ثم يأتي النهي من متلقي الوحي الذي ال ينطق عن الهوى‪ ،‬فعن أبي هريرة قال‪:‬‬
‫>نهى رسول اهلل ! عن الوصال<‪ ،‬قالوا‪ :‬فإنك تواصل‪ ،‬قال‪> :‬أيُّكم ِمثلي‪ ،‬إني‬
‫ْ‬

‫أ ِبيت يطعمني ربي ويسقين<‪ ،‬فلما أبَوا أن ينتهوا‪ ،‬واصل بهم يوما‪ ،‬ثم يوما‪ ،‬ثم‬
‫َ ُ‬
‫رأوا الهالل فقال‪> :‬لو تأخر لزدتكم كالمنَ ِّكل لهم< متفق عليه(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫بي !‪ ،‬يقول‪> :‬ال تواصلوا‪ ،‬فأيكم إذا أراد‬ ‫وعن أبي سعيد ‪ ،K‬أنه سمع الن ّ ّ‬
‫أن يواصل‪ ،‬فليواصل حتى السحر<‪ ،‬قالوا‪ :‬فإنك تواصل يا رسول اهلل قال‪> :‬إني‬
‫وساق يسقين<(‪.)2‬‬
‫ٍ‬ ‫مطع ٌم يطعمني‪،‬‬ ‫لست كهيئتكم‪ ،‬إني أبيت لي ِ‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫النصوص السابقة من الكتاب والسنة تنهى عن الوصال في الصيام‪،‬‬
‫حيث يترافق الصيام في رمضان مع تغيرات هرمونية في جسم الصائم‪ ،‬تهدف‬
‫إلى المحافظة على تزويد خاليا الجسم بحاجتها من الطاقة الحيوية الالزمة؛ للقيام‬
‫بالوظائف الحيوية والفسيولوجية المختلفة‪.‬‬
‫إذ يقل منسوب هرمون األنسولين بعد ساعات من تناول وجبة السحور‪ ،‬ويبدأ‬
‫بعدها هرمون الجلوكاجون باالرتفاع‪ ،‬ليضمن المحافظة على منسوب سكر الدم‬
‫>الجلكوز<‪ ،‬ضمن مستوياته الطبيعية‪ ،‬من خالل القيام بعمليات تحلل الجليكوجين‬
‫حين يبدأ الجسم بالتحول إلى االعتماد على أكسدة األحماض الدهنية الموجودة‬
‫في األنسجة الدهنية إلنتاج الطاقة الغذائية‪.‬‬
‫لذا يزداد اعتماد الجسم على أكسدة األحماض‪ ،‬وإنتاج األجسام الكيتونية‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتراكمها في الجسم‬ ‫لمصدر الطاقة‪ ،‬والتي يؤدي ارتفاع منسوبها في الدم‬
‫إلى حصول تغيرات سلبية على صحة الجسم وحيويته‪.‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)7242‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)1846‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)1963‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪669‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ظهر لنا من خالل النصوص الشرعية من الكتاب والسنة‪ ،‬أن الحقيقة العلمية‬
‫اتفقت مع الداللة الشرعية إذ إن الداللة الشرعية نصت على عدم الوصال‬
‫ً‬
‫في الصيام إذ كان النهي واضحا من خالل قوله !‪> :‬ال تواصلوا‪ ،‬فأيكم أراد‬
‫الوصال فليواصل حتى السحر<‪.‬‬
‫ُ‬
‫وجاءت الحقيقة تبين‪ :‬أن مرحلة الصيام >الطويل< تؤول إلى تطور األعراض‬
‫السلبية‪ ،‬والمتمثلة في زيادة تركيز األجسام الكيتونية وزيادة حموضة الدم‪ ،‬كما‬
‫أنها تؤول إلى لجوء الجسم إلى استخدام العضالت كمصدر لألحماض األمينية‬
‫المنتجة للجلكوز من خالل عملية تصنيع الجلكوز من غير مصادرة السكرية‪،‬‬
‫التي تؤدي إلى حصول الهزال‪ ،‬وضمور العضالت‪ ،‬وضعف الجسم العام‪.‬‬
‫فظهر التطابق بين الحقيقة العلمية والنصوص الشرعية في أجمل صور اإلعجاز‬
‫المبهرة‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪671‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫العسل والطب احلديث‬


‫َ َ ۡ ىَ َ ُّ َ ىَ َّ ۡ َ خَّ‬
‫قال اهلل تعالى في كتابه العزيز‪﴿ :‬وأو ٰ‬
‫ٗ‬ ‫َ جۡ‬
‫ٱل َبا ِل ُب ُيوتا‬ ‫ح ربك إِل ٱنلح ِل أ ِن ٱتِذِي مِن ِ‬
‫لُ ّ َّ َ َ ٰ َ ۡ ُ ُ ُ َ َ ّ ُ ُ اٗ خَ ۡ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ َ َّ َ َ َّ َ ۡ ُ َ‬
‫ك ذلل ۚ ي ُر ُج ِم ۢن‬ ‫ت فٱسل يِك سبل رب ِ ِ‬ ‫ك ٱثلمر ِ‬ ‫ومِن ٱلشج ِر ومِما يع ِرشَون ‪ ٦٨‬ثم لُيِك مِن ِ‬
‫اس إِن يِف ذٰل َِك ٓأَليَة ل ِق ۡو ٖم َي َتفك ُرون﴾ [ا �ل ن�����‬ ‫ُ ُ َ رَ َ ‪ ٞ‬خُّ ۡ َ ٌ ۡ َ ُ ُ‬
‫َ َّ َ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٓ ‪َّ ّ ٞ‬‬
‫ح�ل‪:‬‬ ‫بطون ِها شاب متل ِف ألوٰنهۥ فِيهِ شِفاء ل ِلن ِ ۚ‬
‫‪.]69-68‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫اس إِن يِف ذٰل َِك ٓأَليَة ل ِق ۡو ٖم َي َتفك ُرون﴾‬
‫في قوله سبحانه وتعالى‪ ...﴿ :‬شِفاء ل ِلن ِ ۚ‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َٓ ّ‬
‫‪َّ ٞ‬‬

‫[ا �لن�����ح�ل‪.]69 :‬‬


‫تنبيه على الخصائص العالجية للعسل المعروفة وغير المعروفة التي ال زال‬
‫العلماء والباحثون يكتشفونها‪.‬‬
‫وأقف هنا أمام دقة التعبير القرآني فهو دال على أن العسل وإن كان فيه خواص‬
‫َّ‬
‫عالجية كثيرة إال أنه ليس شفاءً لجميع األدواء‪ ،‬وال يالئم كل الحاالت وذلك ثابت‬
‫علميا‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ولفظة ( شفاء ) نكرة في سياق اإلثبات‪ ،‬فهي ال تقتضي العموم‪ ،‬ويبقى لفظ‬
‫>الناس< على عمومه‪ ،‬مع وجود األحوال العارضة؛ ألنه لوال العارض لكانت‬
‫األمزجة كلها صالحة لالستشفاء بالعسل‪.‬‬
‫ْ‬
‫وعلى هذا االعتبار يُح َمل ماجاء في الحديث الذي في الصحيحين‪ ،‬عن أبي‬
‫سعيد الخدري‪ :‬أن رجال جاء إلى رسول اهلل ! فقال‪ :‬إن أخي استطلق بطنه‪،‬‬
‫ُ‬
‫فقال‪> :‬اسقه عسال<‪ .‬فذهب فسقاه عسال‪ .‬ثم جاء‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ :‬سقيته عسال‬
‫‪672‬‬

‫فما زاده إال استطالقا قال‪> :‬اذهب فاسقه عسال<‪ ،‬فذهب فسقاه عسال ثم جاء‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل ما زاده إال استطالقا‪ .‬فقال رسول اهلل‪> :‬صدق اهلل وكذب بطن‬
‫أخيك< فذهب فسقاه عسال فبرىء ‪.‬‬
‫إذ المعنى أن الشفاء الذي أخبر اهلل عنه بوجوده في العسل ثابت‪ ،‬وأن مزاج‬
‫أخي السائل لم يحصل فيه معارض ذلك‪ ،‬كما دل عليه أمر الن ّ ّ‬
‫بي ! إياه أن يسقيه‬
‫العسل‪ ،‬فإن خبره يتضمن أن العسل بالنسبة إليه باق على ما جعل اهلل فيه من‬
‫الشفاء(‪.)1‬‬
‫ومما يدل أيضا على أن في العسل شفاءً ما رواه جابر‪ ‬بن عبد‪ ‬اهلل ‪ ،R‬قال‪:‬‬
‫بي ! يقول‪> :‬إن كان في شيء من أدويتكم ـ أو‪ :‬يكون في شيء من‬ ‫سمعت الن ّ ّ‬
‫أدويتكم ـ خير‪ ،‬ففي شرط ِة م‬
‫ََْ َ َ‬
‫لذعة بنار توافق الداء‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أو‬ ‫عسل‪،‬‬ ‫شربة‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬‫م‬ ‫حج‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫أكتوي<‪.‬‬
‫َ‬ ‫ب أن‬ ‫وما أ ِح ُّ‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫َ‬
‫لقد أكدت الدراسات المخبرية والسريرية‪ :‬أن العسل ف ّعال تجاه عدد واسع‬
‫من الجراثيم‪ ،‬وي ُ ِّ‬
‫ؤمن تنظيفا ذاتيا سريعا للجرح‪ ،‬ويزيل الرائحة منه‪ ،‬ويحفز نمو‬
‫األنسجة التي تلتئم بها الجروح‪.‬‬
‫وإن خصائص العسل المضادة لاللتهاب تخفف آالم الجروح بسرعة‪ ،‬كما‬
‫تخفف من الوذمة المحيطة بالجرح‪ ،‬ومن خروج السوائل منه‪ ،‬وتقلل من ظهور‬
‫الندبات بعد شفاء الجروح‪.‬‬
‫يقول البروفيسور موالن‪> :‬إن كل أنواع العسل تعمل في قتل الجراثيم‪ ،‬رغم‬
‫أن بعضها قد يكون أكثر فعالية من غيرها‪ ،‬وأن العسل يمنع نمو الجراثيم‪ ،‬ويقضي‬
‫على تلك الجراثيم الموجودة في الجروح‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير ابن عاشور (‪.)209/14‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪673‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وأشارت األبحاث العلمية إلى أن خواص العسل الفيزيائية والكيميائية (مثل‬


‫درجة الحموضة والتأثيرات اإلسموزية) لها دور كبير في فعاليته القاتلة للجراثيم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫كما يمتلك العسل خواصا مضادة لاللتهابات‪ ،‬ويحفز االستجابات المناعية داخل‬
‫الجرح‪ ،‬والنتيجة النهائية هي أن العسل يقاوم اإلنتان الجرثومي‪ ،‬ويحفز االلتئام‬
‫في الجروح والحروق والقروح‪..‬‬
‫‪P P‬تأثري العسل على اجلهاز اهلضمي‪:‬‬
‫َ َ َ َّ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫روى البخاري بسنده عن الن ّ ّ‬
‫بي !‪ :‬جاء َرج ٌل ِإلى الن َّ ِب ِّي ! فقال‪ِ :‬إن أ ِخي‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ َ ِّ‬ ‫َ ََ ُ ُ‬ ‫ْ َْ َ َ َْ ُُ َ َ َ َ ُ ُ‬
‫اه ث َّم َجاءَ ُه فقال‪ِ :‬إني َسق ْيت ُه‬ ‫سول اهلل !‪> :‬اس ِق ِه عَ َسال< فسق‬ ‫استطلق بطنه فقال ر‬
‫ْ‬
‫ُ َّ َ َ َّ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬
‫عَ َسال فل ْم ي َ ِزد ُه ِإال اس ِتطالقا‪ ،‬فقال له ثالث م َّراتٍ‪ ،‬ثم جاء الر ِابعة‪ ،‬فقال‪> :‬اس ِق ِه‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ ُ َّ ْ ْ ً َ َ َ َ ُ ُ‬
‫سول اهلل !‪:‬‬ ‫عَ َساًل<‪ ،‬فقال‪ :‬لقد سقيته فلم ي ِزده ِإال اس ِتطالقا‪ ،‬فقال ر‬
‫َ َ َ‬
‫>صدق اهلل‬
‫َ َ َ َ َْ ُ َ َ َ َ َ ُ َ َ‬
‫اه ف َب َرأ(‪.)1‬‬ ‫وكذب بطن أ ِخيك< فسق‬
‫وقد نشرت اجمللة الطبية البريطانية ‪ BMJ‬الشهيرة‪ ،‬عام ‪ 1985‬دراسة‬
‫على (‪ )169‬طفال‪ ،‬قد أصيبوا بالتهاب المعدة واألمعاء‪ ،‬وأعطي (‪ )80‬طفال‬
‫منهم المحلول العادي مضافا إليه (‪ )50‬مل من العسل‪ ،‬بدال من سكر العنب‬
‫(الجلوكوز)‪ .‬فوجد الباحثون أن اإلسهال الناجم عن التهاب المعدة واألمعاء استمر‬
‫(‪ )93‬ساعة عند الذين لم يعطوا العسل‪ ،‬في حين شفي الذين أعطوا العسل في‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وقت أقصر (‪ 58‬ساعة)‪.‬‬


‫دورا في عالج التهاب القولون‪ ،‬كما أفاد العسل في عالج‬‫كما ثبت أن للعسل ً‬
‫سرطان الثدي‪:‬‬
‫لقد حبا اهلل سبحانه عسل النحل بكميات وافرة من مضادات األكسدة التي‬
‫تحمي الجسم من أخطار الذرات الحرة‪ ،‬وللعسل تأثير قاتل للجراثيم‪ ،‬ومضاد‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ )2217‬بلفظه‪ ،‬وصحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5684‬‬
‫‪674‬‬

‫للفطريات‪ ،‬ومضاد لألكسدة‪ ،‬ويتمتع بقيمة غذائية عالية‪ ،‬لذلك يستفيد منه ُّ‬
‫كل‬
‫الناس وقاية وعالجا وورود كلمة شفاء نكرة غير معرفة باأللف والالم تفيد بوضوح‬
‫ً‬
‫أن في العسل نسبة من الشفاء‪ ،‬تزيد وتنقص‪ ،‬حسب طبيعة كل مرض وكل مريض‪.‬‬
‫وهذا عين ما أثبتته األبحاث العلمية الحديثة؛ لذلك ال بد من إعمال العقل‬
‫والفكر في مخرجات النحل من العسل بأنواعه العديدة وألوانه المختلفة‪ ،‬وما‬
‫فيه من مركبات دقيقة مفيدة‪ ،‬وكذلك كل ما يخرج من بطون النحل وأثره‬
‫على تحقيق هذه النسبة من الشفاء في األمراض العديدة؛ لذلك ختمت اآلية‬
‫الكريمة بقوله تعالى‪﴿ :‬إِن يِف ذٰل َِك ٓأَليَة ل ِق ۡو ٖم َي َتفك ُرون﴾‪.‬‬
‫َ َّ َ‬ ‫ٗ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن األسرار العلمية والحقائق التي كشفها لنا العلم الحديث عن العسل وأهميته‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عشر‬ ‫بأكثر من أربعة‬ ‫الغذائية والعالجية قد أشار إليها القرآن الكريم قبل اكتشافها‬
‫قرنا‪ .‬أال يدل ذلك على أنه وحي السماء الخاتم!!‪.‬‬
‫أيها المرضى اليائسين ال تجزعوا والتحزنوا‪ ،‬فالحل في كتاب ربكم‪ّ ،‬‬
‫هلموا‬
‫بي ! قال‪:‬‬ ‫إلى صيدلية السماء‪ ،‬ففيها واهلل الشفاء‪ ،‬فعن أبي هريرة ‪ ،K‬عن الن ّ ّ‬
‫>ما أنزل اهلل داء إال أنزل له شفاء<(‪.)1‬‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)5678‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪675‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الغضب وآثاره اخلطرية‬

‫رَّ َّ ٓ َ رَّ َّ ٓ َ ۡ َ ٰ َ ۡ َ َ‬
‫ني ٱلغ ۡيظ‬
‫ُ َ‬ ‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪ ﴿ :‬ذَّٱل َ‬
‫ِين يُن ِفقون يِف ٱلساءِ وٱلضاءِ وٱلك ِظ ِم‬
‫َ آ‬
‫ني﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]134 :‬‬ ‫ٱلل حُي ُّ ۡ ۡ‬
‫ِب ٱل ُمح ِ‬
‫سن ِ‬ ‫اس َو هَّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َۡ َ َ‬
‫وٱلعافِني ع ِن ٱنل ِ ۗ‬
‫عن أبي هريرة ‪ ،K‬أن رجال قال للنبي !‪ :‬أوصني‪ ،‬قال‪> :‬ال تغضب< فردد‬
‫مرارا‪ ،‬قال‪> :‬ال تغضب< رواه البخاري(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫أسباب الغضب‪ ،‬وال تتعرض‬‫َ‬ ‫قال الخطابي معنى قوله ال تغضب‪ :‬اجتنب‬
‫ُ‬
‫النهي عنه؛ ألنه أمر طبيعي ال يزول‬
‫ّ‬ ‫لما يجلبه‪ ،‬وأما ْنف ُ‬
‫س الغضب‪ ،‬فال يتأتى‬
‫ّ‬
‫الجبلة‪.‬‬
‫من ِ‬
‫وقال غيره‪ :‬ما كان من قبيل الطبع الحيواني ال يمكن دفعه‪ ،‬فال يدخل‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)6116‬‬


‫‪676‬‬

‫في النهي؛ ألنه من تكليف المحال‪ ،‬وما كان من قبيل ما ي ُ َ‬


‫كتس ُ‬
‫ب بالرياضة‪ ،‬فهو‬
‫المراد‪.‬‬
‫وقيل معناه ال تغضب‪ ،‬ألن أعظم ما ينشأ عنه الغضب الكبر‪ ،‬لكونه يقع‬
‫َ‬
‫يذهب‬ ‫عند مخالفة أمر يريده؛ فيحمله الكبر على الغضب‪ ،‬فالذي يتواضع حتى‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫عنه عزة النفس يَسل ُم من شر الغضب‪.‬‬
‫ُ‬
‫الغضب‪.‬‬ ‫وقيل معناه ال تفعل ما يأمرك به‬
‫ُّ‬
‫وقال ابن بطال‪ :‬إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو؛ ألنه ! جعل‬
‫الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة‪.‬‬
‫وقال غيره لعل السائل كان غضوبا‪ ،‬وكان الن ّ ّ‬
‫بي ! يأمر كل أحد بما هو أولى‬
‫به؛ فلهذا اقتصر في وصيته له على ترك الغضب‪.‬‬
‫وقال ابن التين‪ :‬جمع ! في قوله ال تغضب َ‬
‫خير الدنيا واآلخرة؛ ألن الغضب‬
‫َ‬
‫المغضوب عليه فينتقص‬ ‫َ‬
‫يؤذي‬ ‫يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق‪ ،‬وربما آل إلى أن‬
‫ذلك من الدين‪.‬‬
‫وقال البيضاوي‪ :‬لعله لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض لإلنسان إنما‬
‫هي من شهوته ومن غضبه‪ ،‬وكانت شهوة السائل مكسورة‪ ،‬فلما سأل عما يحترز‬
‫به عن القبائح نهاه عن الغضب الذي هو أعظم ضررا من غيره‪ ،‬وأنه إذا ملك نفسه‬
‫عند حصوله كان قد قهر أقوى أعدائه انتهى‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون من باب التنبيه باألعلى على األدنى ألن أعدى عدو للشخص‬
‫شيطانه ونفسه‪ ،‬والغضب إنما ينشأ عنهما‪ ،‬فمن جاهدهما حتى َ‬
‫يغلبهما‪ ،‬مع ما في ذلك‬
‫من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى‪.‬‬
‫وقال ابن حبان‪ :‬ال تعمل بعد الغضب شيئا مما نهيت عنه‪ ،‬ألنه نهاه عن شيء‬
‫ُ َ‬
‫ج ِبل عليه‪ ،‬وال حيلة له في دفعه‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪677‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ويترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن‪ ،‬كتغير اللون والرعدة في األطراف‪،‬‬
‫وخروج األفعال عن غير ترتيب‪ ،‬واستحالة الخلقة‪ ،‬حتى لو رأى الغضبان َ‬
‫نفسه‬
‫في حال غضبه لكان غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته‪.‬‬
‫َ‬
‫هذا كله في الظاهر‪ ،‬وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر؛ ألنه يولد الحقد‬
‫في القلب والحسد وإضمار السوء على اختالف أنواعه‪ ،‬بل أولى شيء يقبح‬
‫منه باطنه وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه وهذا كله أثره في الجسد‪ ،‬وأما أثره‬
‫في اللسان‪ :‬فانطالقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل‪ ،‬ويندم قائله عند‬
‫سكون الغضب‪ ،‬ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل وإن فات‬
‫ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوب نفسه ويلطم خده‪ ،‬وربما‬
‫سقط صريعا‪ ،‬وربما أغمي عليه‪ ،‬وربما كسر اآلنية وضرب من ليس له في ذلك‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة‬ ‫جريمة‪ ،‬ومن تأمل هذه المفاسد عرف‬
‫من قوله !‪ :‬ال تغضب‪ ،‬من الحكمة واستجالب المصلحة في المفسدة(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫أبدت دراسة حديثة نشرت في مجلة الطب الباطني ‪Archive of Internal‬‬
‫‪ Medicine‬أن الرجال سريعي التوتر والغضب أكثر عرضة من نظرائهم األكثر‬
‫ٌ‬
‫هدوءا لإلصابة بأزمة قلبية بحوالي ثالث مرات‪ ،‬وحتى وإن لم يكن لديهم تاريخ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫عائلي لجلطة في القلب‪.‬‬


‫فقد قام الباحثون بتحليل معلومات مسجلة عن ‪ 1300‬طالب من جامعة جونز‬
‫هوبكنز في الفترة ما بين ‪ 1948‬ـ ‪ ،1964‬وتابعوا ‪ 1055‬رجال‪ .‬وتبين للباحثين‬
‫ً‬ ‫أن ذوي المزاج العصبي‪ ،‬والذين يغضبون بسرعة كانوا َ‬
‫أكثر عرضة لإلصابة بمرض‬
‫شرايين القلب التاجية‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬فتح الباري البن حجر (‪.)521-520 /10‬‬


‫‪678‬‬

‫وكانت الدراسات السابقة قد أظهرت‪ :‬أن أصحاب الشخصيات العدوانية كانوا‬


‫َّ‬
‫أشد تعرضا لإلصابة بأمراض شرايين القلب والسكتات الدماغية‪.‬‬

‫ويعتقد الباحثون أن لذلك عالقة باالنطالق المفرط لهرمون األدرينالين والنور‬


‫أدرينالين‪ ،‬وهي الهرمونات التي تنطلق في الدم استجابة للشدة والضغوط أو‬
‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫وتسرع القلب وتحفزه على العمل بصورة‬ ‫الصدمة‪ ،‬فتقبض األوعية الدموية‪،‬‬
‫أقوى لتزويد الجسم بالدم‪.‬‬

‫والغاضبون أكثر عرضة لإلصابة بارتفاع ضغط الدم‪ ،‬فقد أظهرت دراسة حديثة‬
‫نشرت في مجلة ‪ JAMA‬في ‪ 22‬أكتوبر ‪ :2003‬أن الغاضبين والذين يتصفون‬
‫بالعدوانية هم أكثر عرضة لإلصابة بارتفاع ضغط الدم بنسبة الضعفين‪.‬‬

‫ويقول رسول اهلل !‪> :‬إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب‬
‫ُ‬

‫عنه الغضب وإال فليضطجع<‪ .‬رواه أبو داود في سننه(‪.)1‬‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫يقول رسول اهلل !‪> :‬إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه‬
‫الغضب وإال فليضطجع< (‪.)2‬‬
‫إن هذا الحديث لم يكن أحد يدرك مغزاه من الناحية العلمية أو الطبية‪.‬‬
‫وقد أكدت الدراسات العلمية‪ :‬أن هرمون األدرينالين والنور أدرينالين يتضاعف‬
‫مستواهما في الدم عندما يكون اإلنسان في وضعية الوقوف‪ ،‬ويزداد مستواهما أكثر‬
‫عندما يكون اإلنسان في حالة الغضب أو االنفعال‪ .‬وهذان الهرمونان مسؤوالن عن‬

‫((( سنن أبي داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4782‬قال األلباني‪( :‬صحيح)‪ ،‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪ ،)21348‬قال مخرجوه‪( :‬رجاله ثقات‪ ،‬رجال الصحيح)‪.‬‬
‫((( رواه أبو داود في سننه‪ ،‬المصدر نفسه ‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪679‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الفرار أو المواجهة ‪ ،Fight or Flight‬حيث يزيدان من عدد ضربات القلب‪،‬‬


‫ويرفعان ضغط الدم‪ ،‬ويهيئان الجسم لوضعية المواجهة أو الهروب‪.‬‬
‫وهكذا فعند تغيير وضعية اإلنسان من الوقوف إلى االضطجاع يخف مستوى‬
‫ْ ُ‬
‫صداق ما جاء به رسول اهلل‬‫إفراز هذين الهرمونين‪ ،‬وتخف حدة الغضب‪ .‬وهذا ِم‬
‫ً‬ ‫! قبل َ‬
‫أكثر من ‪ 14‬قرنا من الزمان‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫من آيات اهلل سبحانه تعاقب الليل والنهار‪...‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪681‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الليل سكن‬

‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬فال ِق ِ‬


‫َۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ يَّ ۡ َ‬ ‫َ ُ إۡ‬
‫ٱلل َسك ٗنا َوٱلش ۡم َس َوٱلق َم َر‬ ‫اح وجعل‬ ‫ٱل ۡص َب ِ‬
‫أن‬
‫ِير ٱل َعزِيزِ ٱل َعل ِي ِم﴾ [ال� ��ع�ا �م‪.]96 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ُ ۡ َ ٗ َٰ َ َ ۡ ُ ۡ‬
‫حسبانا ۚ ذل ِك تقد‬
‫وقال اهلل تعالى‪﴿ :‬ه َو ٱلِي َج َعل ل‬
‫َ َ‬ ‫َ َّ َ َ ُ ۡ ً َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫يَّ‬
‫ك ُم ۡ َ َ ۡ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذَّ‬ ‫ُ‬
‫صاۚ إِن يِف ذٰل ِك‬ ‫ٱلل ل ِتسكنوا فِيهِ وٱنلهار مب رِ‬
‫ن‬
‫ت ل ِق ۡو ٖم يس َم ُعون﴾ [�يو��� ‪.]67 :‬‬
‫َ‬ ‫ٓأَلي ٰ ّ َ َ ۡ‬‫َ‬
‫س‬ ‫ٖ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه استئناسا به واسترواحا إليه من زوج‬
‫سموها المؤنسة‪.‬‬‫أو حبيب‪ ،‬ومنه قيل‪ :‬للنار سكن؛ ألنه يُستأنس بها‪ ،‬أال تراهم َّ‬
‫أتعب نفسه بالنهار‪ ،‬واحتاج إلى زمان يستريح‬‫َ‬ ‫ثم إن الليل يطمئن إليه اإلنسان ألنه‬
‫فيه وذلك هو الليل(‪.)1‬‬
‫َّ‬
‫وفيه تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة الشاملة‪ ،‬ليدلهم على‬
‫توحده سبحانه باستحقاق العبادة‪ ،‬وتقرير لما سلف من كون جميع الموجودات‬
‫الممكنة تحت قدرته وملكته‪ ،‬المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه‪ ،‬والجعل‬
‫ٌ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫حال‪ ،‬وإال فـ (لكم) مفعوله الثاني‪ ،‬أو‬ ‫ً‬


‫(مبصرا)‬ ‫إن كان بمعنى اإلبداع والخلق فـ‬
‫ُّ‬
‫هو حال كما في الوجه األول والمفعول الثاني (لتسكنوا فيه)‪ ،‬أو هو محذوف يدل‬
‫عليه المفعول الثاني من الجملة الثانية‪ ،‬كما أن العلة الغائية منها محذوفة‪ ،‬اعتمادا‬
‫َ‬
‫والنهار‬ ‫على ما في األولى‪ ،‬والتقدير هو الذى جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه‪،‬‬
‫مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم(‪.)2‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)78 /13‬‬
‫((( تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (‪.)162 /4‬‬
‫‪682‬‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫أكد باحثون من جامعة أريزونا األمريكية في بحث علمي نشر في مجلة‬
‫َ‬ ‫ِّ ُ‬
‫ويحسن نشاط‬ ‫العلوم ‪ Science‬عام ‪ :2002‬أن النوم في الظالم مفيد للصحة‪،‬‬
‫جهاز المناعة بصورة كبيرة‪ .‬وذكر الباحثون أن الجسم يفرز في الظالم هرمون‬
‫الميالتونين‪ ،‬الذي قد يلعب دورا هاما في الوقاية من األمراض الخبيثة‪ ،‬كسرطان‬
‫الثدي والبروستاتا‪.‬‬
‫وتشير الدراسات‪ :‬إلى أن إنتاج هرمون الميالتونين ـ الذي يعيق نمو الخاليا‬
‫السرطانية ـ قد يتعطل مع وجود الضوء في غرفة النوم‪ .‬ويرى الباحثون أن هذه‬
‫العملية الطبيعية التي أوجدها اهلل تعالى تساعد في االستفادة من الليل المظلم‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫للوقاية من أنواع معينة من السرطان‪ .‬وكما يُنَشط الليل المظلم إفراز هرمونات معينة‬
‫ّ‬
‫في الجسم‪ ،‬فإن ضوء النهار ينشط هرمونات أخرى تقوي جهاز المناعة‪ ،‬وتقي‬
‫َ‬
‫الجسم من عدد من األمراض‪.‬‬
‫َ‬
‫وننام في هدوء وظالم‪،‬‬ ‫أليس في هذا إشارة لنا أن نخفت األنوار في الليل‬
‫ال أن نقضي الليل في سهر طويل على أضواء متأللئة وأصوات صاخبة‪ ،‬ثم إذا‬
‫الح الصباح قمنا إلى صالة الفجر‪ ،‬ومن ثم نهضنا إلى أعمالنا متكاسلين ومشتتي‬
‫ْ ُ‬
‫ونهاره ليال‪ ،‬فيُح َرم من نعم‬
‫َ‬ ‫الزهن؟ أليس في هذا موعظة لمن يقلب ليله نهارا‬
‫ُ‬
‫ويسير مخالفا لنواميس الكون التي وضعها اهلل تعالى رب‬ ‫الباري تعالى وآالئه‪،‬‬
‫العالمين؟!‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن اإلشارة الواردة في النص الكريم‪ ،‬قد جاءت الكشوفات العلمية في عصرنا‬
‫عديدة ومشاهدات‬ ‫َ‬
‫تجارب‬ ‫هذا تدل على صحة هذا اإلرشاد العظيم‪ ،‬وذلك بعد‬
‫ٍ‬
‫َ ُ‬
‫وئل‬
‫متكاثرة‪ ،‬استنبط منها األطباء‪ :‬أن مخالفة تلك السنة الكونية‪ ،‬في كون الليل م ِ‬
‫ب لألزمات واألمراض المتنوعة‪ ،‬ومن ذلك زيادة‬ ‫راحة ونوم وسكون‪ ،‬فيه تسبّ ٌ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪683‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫نوبات الصداع والشعور باإلرهاق والتوتر والقلق‪ ،‬وارتفاع ضغط الدم‪ ،‬وتثبيط‬
‫ُ‬
‫ضارا؛ مما يُثبت لنا أن هذا هو كالم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تأثيرا‬ ‫جهاز المناعة‪ ،‬بل ويؤثر على الجلد‬
‫ّ‬
‫الخالق جل وعال‪ ،‬وأن َمن بلغنا إياه هو رسول رب العالمين‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪685‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وجه اإلعجاز العلمي يف قيام الليل‬

‫َ َ ٗ َّ َ َ ىَ ٰٓ َ َ ۡ َ َ َ َ ُّ َ‬
‫قال سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ومِن‬
‫ك َم َق ٗ‬ ‫َ َ يَّ ۡ َ‬
‫اما‬ ‫ٱل ِل ف َت َه َّج ۡد بِهِۦ ناف ِلة لك عس أن يبعثك رب‬
‫ودا﴾ [الإ� ��سرا ء‪.]79 :‬‬
‫حَّ ۡ ُ ٗ‬
‫مم‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ٱل ِل ف َت َه َّج ۡد بِهِۦ﴾ أي‪ :‬قم بعد نومك‪ ،‬والتهجد ال يكون إال‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وم َِن ۡ‬
‫َ‬ ‫يَّ‬

‫بعد النوم‪ ،‬يقال‪:‬‬


‫َّ َ‬
‫تهجد إذا قام بعد ما نام‪ ،‬وهجد إذا نام‪ ،‬والمراد من اآلية‪ :‬قيام الليل للصالة‪،‬‬
‫بي ! في االبتداء‪ ،‬وعلى األمة‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬ ‫وكانت صالة الليل فريضة على الن ّ ّ‬
‫ٱلل إِل قل ِيل﴾ [ا �ل���م�ز �م�ل‪ ،]2 :‬ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق‬ ‫﴿ق ِم‬
‫ُ يَّ ۡ َ اَّ َ‬
‫األمة بالصلوات الخمس‪ ،‬وبقي االستحباب‪ :‬قال اهلل تعالى‪﴿ :‬فَٱق َر ُءوا َما تَ َي رَّ َ‬
‫س‬
‫ْ‬ ‫ۡ‬

‫بي !‪.‬‬‫م ِۡن ُ ۚه﴾ [ا �ل���م�ز �م� ‪ ،]20 :‬وبقي الوجوب في حق الن ّ ّ‬
‫ل‬
‫قوله عز وجل‪ ﴿ :‬ناف ِلة ل َك﴾ أي‪ :‬زيادة لك‪ ،‬يريد فريضة زائدة‪ ،‬على سائر‬
‫َ َ ٗ َّ‬

‫الفرائض‪ ،‬فرضها اهلل عليك‪ .‬وذهب قوم إلى أن الوجوب صار منسوخا في حقه‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫كما في حق األمة‪ ،‬فصارت نافلة‪ ،‬وهو قول مجاهد وقتادة‪ ،‬ألن اهلل تعالى قال‪:‬‬
‫نافلة لك ولم يقل عليك‪ ،‬فإن قيل‪ :‬فما معنى التخصيص‪ ،‬وهي زيادة في حق‬
‫ٌ‬
‫كافة المسلمين كما في حقه ! قيل‪ :‬التخصيص من حيث إن نوافل العباد كفارة‬
‫ُ‬
‫لذنوبهم‪ ،‬والنبي ! قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪ ،‬فكانت نوافله ال تعمل‬
‫في كفارة الذنوب‪ ،‬فتبقى له زيادة في رفع الدرجات‪.‬‬
‫‪686‬‬

‫َ ىَ ٰٓ َ َ ۡ َ َ َ َ ُّ َ َ َ ٗ حَّ ۡ ُ ٗ‬
‫قوله عز وجل‪﴿ :‬عس أن يبعثك ربك مقاما ممودا﴾‪ ،‬عسى من اهلل تعالى‬
‫َ‬
‫واجب؛ ألنه ال يدع أن يعطي عباده أو يفعل بهم ما أطمعهم فيه‪ ،‬والمقام المحمود‪:‬‬
‫هو مقام الشفاعة ألمته؛ ألنه يحمده فيه األولون واآلخرون(‪.)1‬‬
‫عن أبي أمامة‪ ،‬عن رسول اهلل ! أنه قال‪> :‬عليكم بقيام الليل فإنه دأب‬
‫الصالحين قبلكم‪ ،‬وهو قربة إلى ربكم‪ ،‬ومكفرة للسيئات‪ ،‬ومنهاة عن اإلثم<‪ .‬وهذا‬
‫أصح من حديث أبي إدريس عن بالل(‪.)2‬‬
‫احلقائق العلمية‪:‬‬
‫ً‬
‫إن معظم النوم من النوع غير الحالم‪ ،‬وإن النوم الطبيعي يكون أكثر عمقا في‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫الثلث األول من الليل‪ ،‬وأقل عمقا في الثلث األخير‪ ،‬وإن معظم النوم الحالم يأتي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في الثلث األخير من الليل‪ ،‬ويتميز هذا النوم بأنه يشبه إنسانا ذا مخ نشط جدا‪،‬‬
‫بجسم فاقد الحركة‪.‬‬
‫هناك تغيرات فسيولوجية تطرأ على النائم لمصلحة الجسد في ثلثي الليل‬
‫األول‪ ،‬وليست في مصلحته في الثلث األخير في حالة ما إذا ظل ً‬
‫نائما‪.‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫يكون النوم الحالم عند الثلث األخير من الليل أقل عمقا‪ ،‬ويزداد عدد مرات‬
‫التنفس وبدون انتظام‪ ،‬وينقص مستوى األوكسجين بالدم‪ ،‬ويزداد ضغط الدم‪،‬‬
‫المعدي‪ ،‬وتزداد فرصة األزمات‬‫وال تنتظم ضربات القلب‪ ،‬ويزداد إفراز الحمض ِ‬
‫الصدرية والقلبية والدماغية‪.‬‬
‫وهناك بعض االضطرابات التي تحدث في مرحلة النوم الحالم منها‪ :‬الكوابيس‬
‫الليلية‪ ،‬وشلل النوم‪ ،‬واالضطرابات السلوكية المصاحبة‪ ،‬والهلوسة السويقية‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير البغوي ‪ -‬إحياء التراث (‪.)152-149 /3‬‬


‫((( سنن الترمذي ت شاكر (‪ ،)553 /5‬حديث رقم (‪- )3549‬وقال األلباني‪( :‬حسن ‪)...‬‬
‫المشكاة‪ ،‬حديث رقم (‪.)1227‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪687‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫والصداع النصفي‪ ،‬والربو الليلي‪ ،‬كما يحصل فيه انقطاع التنفس االنسدادي‬
‫والمركزي‪ ،‬ويمكن أن يسبب التهابًا في الجيوب األنفية‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن قيام الليل (وفي الثلث األخير منه) يؤدي إلى‪:‬‬
‫‪P P‬الحماية من ارتفاع ضغط الدم والجلطات القلبية والسكتة الدماغية والموت‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫مريضا بهذه األمراض فيكون أقل عرضة للمضاعفات‪.‬‬ ‫الفجائي‪ ،‬وإذا كان‬
‫‪P P‬الوقاية من األزمات الصدرية‪ ،‬وأمراض الختان‪ ،‬والجيوب األنفية‪ ،‬كما‬
‫يحمي من متالزمة انقطاع التنفس االنسدادي أثناء النوم‪.‬‬
‫‪P P‬حماية الجهاز الهضمي من فرصة زيادة إفراز الحامض المعدي والقرحة‬
‫واالرتجاع المريئي‪.‬‬
‫‪P P‬يحسن جهاز المناعة‪ ،‬حيث إنه يزيل التوتر‪ ،‬فيقل الكورتيزون المثبط‬
‫للمناعة‪ ،‬والكاتوكيالين فتحسن المناعة‪.‬‬
‫فقيام الليل وقاية وشفاء‪ :‬فمن أخبر الحبيب المصطفى ! بهذه الوقاية‪ ،‬وبأن‬
‫وح﴾ [ا �لن�����ج����م‪.]4-3 :‬‬ ‫فيها شفاء‪َ ﴿ ،‬و َما يَن ِط ُق َعن ٱل ۡ َه َو ٰٓ‬
‫ى ‪ ٣‬إ ِ ۡن ُه َو إ ِ اَّل َو يۡ ‪ٞ‬‬
‫ح يُ ىَ ٰ‬
‫ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪689‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫املخاطر الصحية يف وطء الزوجة احلائض‬


‫ُ ۡ ُ َ َ ٗ َ ۡ زَ ُ ْ ّ َ ٓ‬
‫قال اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬وي ٔسلونك ع ِن ٱل َم ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ َۡ ُ َ َ َ ۡ‬
‫يض‬‫ِ ِ‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ف‬‫تلوا ٱلنِسا يِ‬
‫ء‬ ‫يض قل هو أذ َى فٱع ِ‬ ‫ح ِۖ‬
‫ٱتل َّوٰب َ‬
‫ِب َّ‬ ‫ٱلل حُي ُّ‬
‫ٱلل إ َّن هَّ َ‬ ‫َ اَ َ ۡ َ ُ ُ َّ َ ىَّ ٰ َ ۡ ُ ۡ َ َ َ َ َ َّ ۡ َ َ ۡ ُ ُ َّ ۡ َ ۡ ُ‬
‫ث أ َم َر ُك ُم هَّ ُ‬
‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ۚ‬ ‫ول تقربوهن حت يطهرنۖ فإِذا تطهرن فأتوهن مِن حي‬
‫ين﴾ [ا ��لب�ق��ر�ة‪.]222 :‬‬
‫ب ٱل ۡ ُم َت َط ّهر َ‬
‫ِ ِ‬
‫َو ُيح ُّ‬
‫ِ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫يض﴾ أي‪ :‬فاجتنبوهن في زمان الحيض والمراد‬ ‫قوله‪﴿ :‬فٱع ِ‬
‫ۡ‬ ‫َ ۡ زَ ُ ْ ّ ٓ‬
‫ح ِ‬‫تلوا ٱلن ِ َسا َء يِف ٱل َم ِ‬
‫من هذا االعتزال‪ :‬ترك اجملامعة‪ ،‬ال ترك اجملالسة أو المالمسة‪ ،‬فإن ذلك جائز‪،‬‬
‫بل يجوز االستمتاع منها بما عدا الفرج‪ ،‬أو بما دون اإلزار‪.‬‬
‫وذهب الجمهور‪ :‬إلى أن الحائض ال يحل لزوجها أن يطأها حتى تتطهر بالماء‪.‬‬
‫الطبري قراءة التشديد‪ .‬واألولى أن يقال‪ :‬إن اهلل سبحانه جعل للحل غايتين كما‬
‫تقتضيه القراءتان‪ :‬إحداهما انقطاع الدم‪ ،‬واألخرى التطهر منه‪ ،‬والغاية األخرى‬
‫مشتملة على زيادة على الغاية األولى‪ ،‬فيجب المصير إليها‪ .‬وقد دل أن الغاية‬
‫األخرى هي المعتبرة‪ .‬قوله تعالى بعد ذلك‪ :‬فإذا تطهرن‪ ،‬فإن ذلك يفيد أن المعتبر‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫التطهر‪ ،‬ال مجرد انقطاع الدم‪.‬‬


‫وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة اآليتين‪ ،‬فكما أنه يجب الجمع بين اآليتين‪،‬‬
‫المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة‪ ،‬كذلك يجب الجمع بين‬
‫القراءتين‪ .‬قوله‪ :‬فأتوهن من حيث أمركم اهلل أي‪ :‬فجامعوهن‪ ،‬وكنى عنه باإلتيان‪.‬‬
‫والمراد‪ :‬أنهم يجامعونهن في المأتى الذي أباحه اهلل‪ ،‬وهو القبل‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫و(من حيث) بمعنى‪ :‬في حيث‪ ،‬كما في قوله تعالى‪﴿ :‬إِذا نودِي ل‬
‫َ ُ َ َّ َ‬
‫ِلصل ٰوة ِ مِن يَ ۡو ِم‬
‫َ َ َ َ ُ ْ َ أۡ َ‬
‫ۡرض﴾ أي‪ :‬في األرض‪.‬‬ ‫ٱل ُم َعةِ﴾ أي‪ :‬في يوم الجمعة‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬ماذا خلقوا مِن ٱل ِ‬
‫جۡ ُ‬
‫‪690‬‬

‫وقيل‪ :‬إن المعنى‪ :‬من الوجه الذي أذن اهلل لكم فيه‪ ،‬أي‪ :‬من غير صوم وإحرام‬
‫واعتكاف‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن المعنى‪ :‬من قبل الطهر‪ ،‬ال من قبل الحيض‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬من قبل الحالل‪ ،‬ال من قبل الزنا‪.‬‬
‫قوله‪ :‬إن اهلل يحب التوابين ويحب المتطهرين قيل‪ :‬المراد‪ :‬التوابون‬
‫من الذنوب‪ ،‬والمتطهرون من الجنابة واألحداث(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫‪P P‬أوال‪ :‬أثبتت األبحاث أن هناك كائنا دقيقا طفيليا يسمى الترايكومونس‪،‬‬
‫َ‬
‫يتضاعف في وقت الحيض أربعة أضعاف ما كان عليه قبله‪ ،‬وأنه يتسلق إلى‬
‫الجيوب المهبلية في أعلى المهبل‪ ،‬بدال من مكانه في أسفله‪ ،‬متحيّنًا فرصته‪،‬‬
‫ومترقبا صيده‪ ،‬ومعروف أنه يسبب التهابات في الجهاز البولي والتناسلي‬
‫للرجل‪ ،‬ومعروف أيضا أن انتقاله إليه ال يكون إال عن طريق المباشرة الزوجية‪،‬‬
‫واحتمال اإلصابة به قائم في ذلك الوقت إذا ما حدثت المباشرة‪.‬‬

‫طفيليات الرتايكومونس (‪)trichomonas‬‬

‫((( انظر‪ :‬فتح القدير للشوكاني (‪.)259 /1‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪691‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ثانيا‪ :‬يوجد في المهبل جراثيم نافعة تسمى عصويات (دودرلين)‪ ،‬تحمي‬‫‪ً PP‬‬
‫المكان من غزو الجراثيم الضارة‪ ،‬فهي وسيلة دفاع ضدها من أن تدخل‬
‫الرحم وقنواته‪ ،‬وهذه الجراثيم النافعة تتغذى على السكر المخزون‬
‫في خاليا جدار المهبل‪ ،‬وتقع هذه الخاليا تحت تأثير هرمونات المبيض‬
‫من ناحيتين‪:‬‬
‫ *نسبة تخزين وتركيز السكر بها‪.‬‬
‫ *وانفصالها من جدار المهبل‪.‬‬

‫عصويات دودرلني (‪)Doderlein‬‬


‫ُ‬
‫حيث وجد أن أعلى نسبة تركيز للسكر داخل تلك الخاليا‪ :‬تكون في منتصف‬
‫الدورة الشهرية‪ ،‬وتقل تدريجيا مع انخفاض نسبة الهرمونات المبيضية حتى تتالشى‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫تماما قبل الحيض بساعات وأثنائه‪.‬‬


‫كما أن هذه الخاليا تنفصل من جدار المهبل‪ ،‬كجزء من عملية التجديد‬
‫الدائم‪ ،‬وقد وجد أن أعلى معدل النفصال هذه الخاليا يحدث في منتصف الدورة‬
‫الشهرية‪ ،‬ثم تقل تدريجيا حتى تصل إلى الدرجة الدنيا قبل الحيض بساعات‬
‫وأثناءه‪.‬‬
‫وعلى ذلك‪ ،‬فإن أعلى نسبة لتركيز السكر في المهبل تحدث في منتصف‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الدورة‪ ،‬وأقل نسبة هي قبل الحيض مباشرة‪ ،‬وأقل منها إلى درجة العدم تكون أثناء‬
‫‪692‬‬

‫الحيض‪ .‬وبالتالي فإن عصويات دودرلين النافعة تصل إلى قمة تكاثرها ونشاطها‬
‫في منتصف الدورة‪ ،‬ثم تقل وتضعف قبل الحيض مباشرة‪.‬‬
‫ونزول الدم‪ ،‬فإن درجة التأين الحمضي للمهبل‬ ‫ِ‬ ‫وعند حدوث الحيض‬
‫تتغير من الحامضية إلى القلوية‪ ،‬فتموت تلك العصويات ويأخذها تيار الدم معه‬
‫كل الظروف تماما في وقت الحيض لنمو وتكاثر‬‫إلى خارج المهبل‪ ،‬وعندئذ تتهيأ ُّ‬
‫الجراثيم الضارة‪ ،‬ذلك ألن عصويات دودرلين وقت وجودها كان لها فائدتان‪:‬‬
‫‪P P‬األولى‪ :‬تحول السكر إلى حمض اللبنيك‪ ،‬وهو قاتل للجراثيم الضارة‪.‬‬
‫‪P P‬والثانية‪ :‬كانت تكبل نمو الجراثيم الضارة‪ ،‬وتقف دون نشاطها‪ ،‬بطريقة‬
‫مازال يكتنفها شيء من الغموض‪.‬‬
‫وفي غياب تلك العصويات‪ ،‬وتبدل التأين الحمضي إلى القلوية‪ ،‬وفي وجود‬
‫الدم الذي يعتبر الغذاء الشهي للجراثيم الضارة؛ فإنها تجد المرتع الخصيب للنمو‬
‫والتكاثر والنشاط وتتداعى جراثيم الشرج وجراثيم مجرى البول لتهاجم هذا المكان‬
‫الذي غاب عنه حراسه‪.‬‬
‫وقد وجد أن هذه الجراثيم الضارة تزداد في أعدادها وأنواعها وقت الحيض‪،‬‬
‫وال يمنع دخولها إلى جدار الرحم المتهتك في هذا الوقت بالذات‪ ،‬وال نفاذها‬
‫َ‬
‫اقتحامها األنسجة الرخوة والبالغة الطراوة‬ ‫إلى داخل فراغ البطن‪ ،‬وال إلى‬
‫في تلك اآلونة الحرجة‪ ،‬سوى شي ٍء واحد فحسب‪ ،‬ذلك هو تيار الدم اآلتي المضاد‬
‫من أعلى إلى أسفل‪.‬‬
‫‪P P‬ثالثا‪ :‬يصيب المرأة أذى آخر في صورة آالم تعاني منها أثناء الجماع‪،‬‬
‫وذلك الرتفاع مستوى مادة البرستجالندين عند بطانة الرحم‪ ،‬والتي تؤدي‬
‫إلى زيادة جريان الدم‪ ،‬مما يتولد منه احتقان الحيض وآالمه‪ ،‬وهذه المادة‬
‫متواجدة في بطانة الرحم بكثرة أثناء الحيض‪ ،‬وهي المسؤولة عن اآلالم‬
‫واالضطرابات النسائية خالل هذه الفترة والسائل المنوي غني بها‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪693‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫لذلك فالجماع أثناء الحيض يسبب ألما وأذى مباشرا للمرأة‪ ،‬كما يسبب‬
‫أذى للرجل‪ ،‬فقد أثبتت العديد من الدراسات الحديثة االرتباط بين الجماع أثناء‬
‫الحيض والتهابات المسالك البولية في الذكور واإلناث على السواء‪ ،‬وتحدث‬
‫اإلصابة عادة خالل (‪ )24‬ساعة بعد الجماع‪ ،‬وقد تحدث اإلصابة بالعقم؛ بسبب‬
‫التهابات متكررة نتيجة الجماع أثناء الحيض‪.‬‬
‫‪P P‬رابعا‪ :‬وجدت عالقة بين إتيان النساء في المحيض وسرطان عنق الرحم‪،‬‬
‫وذكرت اإلحصاءات فارقا كبيرا بين النساء المسلمات وغيرهن من النصارى‬
‫أو الهنود‪ ،‬حيث تصل النسبة إلى أقل من (‪ )%16‬في المملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬بينما تصل إلى (‪ )%40‬عند غيرهن‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫سرطان الرحم‬
‫ُ َ‬
‫ي على النساء المسلمات في يوغسالفيا‪ ،‬و ِجد أن نسبة‬ ‫وفي بحث آخر أُجر َ‬
‫ِ‬
‫إتيان النساء في المحيض هي واحد من كل (‪ )400‬امرأة‪ ،‬بينما عند غيرهن واحد‬
‫إلى (‪ ،)90‬وعزي ذلك إلى الختان‪ ،‬واالمتناع عن العالقة الجنسية أثناء الحيض‪،‬‬
‫‪694‬‬

‫والغسل والطهارة بعد الجماع‪ ،‬وإزالة شعر العانة‪ ،‬وإلى العفة وعدم ممارسة‬
‫الجنس خارج نطاق الزوجية‪.‬‬
‫كما دلت اإلحصاءات أيضا أن سرطان عنق الرحم يكثر بين البغايا ونزيالت‬
‫ً‬
‫السجون‪ ،‬ونشرت مجلة النست الطبية سنة ‪1981‬م دراسة‪ ،‬أوضحت فيها‪ :‬أن‬
‫ٌ‬
‫المرأة التي يمارس زوجها الجنس مع أكثر من امرأة هي عرضة لإلصابة بسرطان‬
‫الرحم َ‬
‫أكثر من تلك التي أنعم اهلل عليها بزوج عفيف‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد جاء نهي القرآن الكريم عن إتيان النساء في المحيض في زمن لم يعرف‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫مخاطر تلك الممارسة‪ ،‬وأقصى ما كانوا يعرفونه أنه أمر مستقذر تعافه‬ ‫فيه الناس‬
‫األذواق السليمة‪ .‬وبعد أن تطور الطب عرف الناس األخطار المحدقة بمن يأتي‬
‫النساء في المحيض؛ مما يؤكد أن ما جاء في النص القرآني السابق ينتظم وجها‬
‫من وجوه اإلعجاز العلمي‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪695‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلكمة الباهرة يف تشريع قاعدة النظافة‬


‫ُ ۡ ُ َ َ ٗ َ ۡ زَ ُ ْ ّ ٓ‬
‫يقول اهلل سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وي ٔسلونك ع ِن ٱل َم ِ‬
‫َ َۡ ُ َ َ َ ۡ‬
‫تلوا ٱلن ِ َسا َء‬ ‫يض قل هو أذ َى فٱع ِ‬ ‫ح ِۖ‬ ‫ۡ‬ ‫َ اَ َ ۡ َ ُ ُ‬ ‫ۡ‬
‫وه َّن َح ىَّ ٰ َ ۡ ُ ۡ َ َ َ َ َ َّ ۡ َ َ ُ ُ َّ ۡ َ ۡ ُ َ ُ ُ هَّ ُ‬
‫ٱلل إ َّن هَّ َ‬ ‫يِف ٱل َم ِ‬
‫ٱلل‬ ‫ت يطهرنۖ فإِذا تطهرن فأتوهن مِن حيث أم َركم ۚ ِ‬ ‫يض ول تقرب‬ ‫ح ِ‬
‫ين﴾ [ا ��لب�ق��ر�ة‪.]222 :‬‬ ‫ب ٱل ۡ ُم َت َط ّهر َ‬
‫ِ ِ‬
‫ٱتل َّوٰب َ‬
‫ني َو ُيح ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِب َّ‬ ‫حُي ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ٗ َّ َ ۡ ٌ ُ ّ َ لَىَ‬
‫ويقول تعالى‪﴿ :‬ل تقم فِيهِ أبداۚ لمس ِ‬
‫ٱتل ۡق َو ٰ‬
‫ى م ِۡن أ َّو ِل يَ ۡو ٍم أ َح ُّق أن‬ ‫ع َّ‬ ‫جد أسِس‬ ‫اَ َ ُ ۡ‬
‫ين﴾ [ا ��لت�و�ب��ة‪.]108 :‬‬ ‫ِب ٱل ۡ ُم َّط ّهر َ‬ ‫ون أَن َي َت َط َّه ُر ۚوا ْ َو هَّ ُ‬
‫ٱلل حُي ُّ‬ ‫َ ‪ ٞ‬حُ ُّ َ‬
‫وم فِي ۚهِ فِيهِ رِجال يِب‬ ‫َت ُق َ‬
‫ِ ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ َ‬
‫قوله‪﴿ :‬فِيهِ رِ َجال ي ُِّبون أن َي َت َط َّه ُر ۚوا﴾ كانوا يستنجون بالماء‪ ،‬ويجمعون بين‬
‫ْ‬ ‫‪ ٞ‬حُ‬
‫والحجر‪ ،‬أو يتطهرون من المعاصي والخصال المذمومة‪ً ،‬‬ ‫َ‬
‫طلبا لمرضاة اهلل‬ ‫ِ‬ ‫الماء‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب ال ُمط ِّه ِرين يرضى عنهم‪،‬‬
‫تعالى‪ ،‬أو من الجنابة‪ ،‬فال ينامون عليها‪ ،‬واهللُ يُح ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪696‬‬

‫ْ‬
‫ويُدنيهم من جنابه إدناء المحب لحبيبه(‪.)1‬‬
‫النصوص الواردة في كتاب اهلل وسنة رسولة ! كثيرة‪ ،‬وكلها تهدف إلى‬
‫تأسيس مبدأ النظام‪ ،‬في حياة المسلمين‪ ،‬والتنزه عن الوساخة والقذارة وتعاطي‬
‫ذرائع االستطياب والنزاهة‪ ،‬وهذان النصان يدالن على أن اهلل سبحانه وتعالى يحب‬
‫من عباده َمن كان ملتزما بمبدأ التنظف والتنزه عن األدران‪ ،‬ويؤكد ذلك حديث‬
‫َ‬
‫سبب ثناء اهلل عليهم في كتابه؛ فأخبروه بما‬
‫ِ‬ ‫رسول اهلل ! حين سأل أهل قباء عن‬
‫َ‬
‫حرصهم على مزيد التطهر والتنزه‪.‬‬ ‫يفيد‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫تقول المراجع الطبية الحديثة‪ :‬إن الجلد يعتبر مخزنا لنسبة عالية من البكتيريا‬
‫والفطريات‪ ،‬وتوجد معظم هذه الكائنات الدقيقة بكثرة على الوجه‪ ،‬وعلى البشرة‪،‬‬
‫وعلى جذور الشعر‪ ،‬وفي الغدد الدهنية‪ ،‬ويتراوح عددها من عشرة آالف إلى مائة‬
‫ألف جرثومة على كل واحد سنتيمتر مربع من الجلد‪ ،‬وفي المناطق المكشوفة‬
‫من الجلد يتراوح العدد من مليون إلى خمسة ماليين جرثومة ‪/‬سم ‪.2‬‬
‫وترتفع هذه النسبة في األماكن المخفية الرطبة‪ ،‬مثل المنطقة اإلربية‪ ،‬وتحت‬
‫اإلبطين إلى عشرة ماليين جرثومة ‪/‬سم‪ .2‬ونسبة الكائنات الدقيقة على الشعر‬
‫كنسبتها على الجلد‪ .‬فالغسل منظف لجميع جلد اإلنسان‪ ،‬والوضوء ينظف األجزاءَ‬
‫ُ‬
‫استعمال الماء ً‬ ‫ُ‬
‫أمرا هاما‪ ،‬ألن‬ ‫األكثر تلوثا بالجراثيم‪ ،‬لذا كان‬ ‫المكشوفة منه‪ ،‬وهي‬
‫هذه الجراثيم في تكاثر مستمر‪ ،‬والوضوء والغسل خير مزيل لها‪.‬‬
‫َ‬
‫مناطق الجسم التي يشملها الوضوء‪ ،‬لتبين لنا أحد وجوه الحكمة‬ ‫ولو استعرضنا‬
‫العظيمة منه‪ :‬فالفم واألنف هما المدخالن الرئيسان ألعضاء الجسم الداخلية‪،‬‬
‫َ‬
‫فنظافتهما من الجراثيم تعني حماية األجهزة الداخلية من المرض والعطب‪ .‬وذلك‬

‫((( البحر المديد في تفسير القرآن اجمليد البن عجيبة (‪.)429 /2‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪697‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫بالمضمضة والسواك‪ ،‬وغسل تجويف األنف باالستنشاق واالستنثار‪.‬‬


‫‪P P‬املضمضة والوقاية من األمراض‪:‬‬
‫توجد في الفم تجمعات كبيرة من الكائنات الدقيقة‪ ،‬وبأنواع مختلفة تزيد‬
‫على ثالثمائة مستعمرة‪ ،‬ويحتوي اللعاب على حوالي‪100‬مليون جرثومة‪/‬مم‪،‬‬
‫بعض الفطريات والطفيليات األولية في عدد من األشخاص‪ ،‬وتشكل‬ ‫ُ‬ ‫وقد توجد‬
‫أنواع الميكروبات السبحية من ‪ %60-30‬من البكتيريا المتطفلة‪ ،‬وهي التي تسبب‬
‫التهاب اللوزتين والحلق‪.‬‬
‫وللقضاء على هذه األعداد الهائلة من الجراثيم‪ ،‬ومنعِ آثارها الضارة حرصت‬
‫الشريعة اإلسالمية على أمرين‪:‬‬
‫ *األول‪ :‬المضمضة‪ ،‬وهي تكرار غسل الفم بالماء عدة مرات في اليوم‪.‬‬
‫ *والثاني‪ :‬الحث على استعمال السواك‪.‬‬
‫وكذلك حرصت على نظافة األنف من الجراثيم ْ‬
‫المم ِرضة‪ ،‬باستنشاق واستنثار‬
‫الماء في األنف‪ ،‬ألن ذلك له فوائد طبية كثيرة‪ ،‬أهمها‪ :‬أنه يزيل الكائنات الدقيقة‬
‫التي تعلق في جوف األنف وتستقر به‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولقد أثبتت الدراسات والبحوث التي أجريت بغرض معرفة تأثير الوضوء على صحة‬
‫ُ َّ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫صلون تعيش بها مستعمرات جرثومية عديدة‪ ،‬وبكميات‬ ‫األنف‪ ،‬أن أنوف من ال ي‬
‫كبيرة‪ ،‬وأن أنوف المتوضئين ليس بها أية مستعمرات من الجراثيم‪ ،‬وفي عدد قليل‬
‫ْ‬
‫منهم‪ ،‬وجد قد ٌر ضئيل من الجراثيم ما لبثت أن اختفت بعد تعلمهم االستنشاق‬
‫بي !‪ ،‬بالمبالغة في االستنشاق وتكراره‬ ‫الصحيح‪ .‬وبهذا ندرك ع َظ َم وصية الن ّ ّ‬
‫ِ‬
‫ثالثا(‪.)1‬‬

‫((( انظر‪ :‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ )237‬و(‪ ،)238‬ولفظه‪ ...> :‬فليستنثر ثالث مرات<‪،‬‬
‫وصحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)161‬‬
‫‪698‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫وشعر الرأس‪ ،‬والقدمين‪ ،‬وأسفل‬ ‫وهكذا فإن اليدين‪ ،‬والذراعين‪ ،‬والوجه‪،‬‬
‫الساقين‪ ،‬هي أجزاء مكشوفة من البدن‪ ،‬فغسلها بالماء ينقيها من الكائنات الدقيقة‬
‫ٌ‬
‫ويزيلها عنها‪ ،‬وبما أنه يختبئ عدد كبير من هذه الكائنات في األخاديد بين األصابع‬
‫بي !‪ ،‬بتخليل أصابع اليدين والقدمين وغسل عقدها(‪،)1‬‬ ‫وعلى عقدها‪ .‬لذلك أمر الن ّ ّ‬
‫ُ‬
‫المخابئ من الجراثيم والفطريات الضارة‪.‬‬ ‫تعقبا لما يمكن أن تحويَه هذه‬‫وذلك ً‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫كما أوصى الن ّ ّ‬
‫وحض على غسلهما عدة مرات‬ ‫بي ! بنظافة اليدين خاصة‪،‬‬
‫في اليوم‪ :‬قبل الطعام وبعده‪ ،‬وبعد االستيقاظ من النوم‪ ،‬وبعد الخالء‪ ،‬وبعد‬
‫كل تلوث‪ ،‬وذلك لما لليدين من خطورة في نقل األمراض‪ ،‬وانتشار األوبئة‬
‫عن طريق مس الطعام أو الشراب أو المصافحة‪ .‬ومن أجل ذلك كان الوضوء‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ف لهذا المخزن الخطير‪.‬‬ ‫المستمر والغسل‪ ،‬خير مزيل لهذه الكائنات‪ ،‬ومجف ٍ‬
‫‪P P‬الغسل وأثره الوقائي‪:‬‬
‫ْ َ‬ ‫لقد َ‬
‫غسل جميعِ بدنه بالماء‪ ،‬على وجه اإللزام‪،‬‬ ‫شرع اإلسالم على المسلم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مواطن معينة‪ ،‬كغسل الجنابة والحيض والنفاس وندب إليه في أكثر من سبعة‬ ‫في‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫كر ُه‬
‫فترة زمنية‪ ،‬ي ُ َ‬ ‫عشر موطنا أخرى؛ كغسل الجمعة واإلحرام‪ ،‬بل قد حدد‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫تجاوزها بغير غسل‪ ،‬فقال !‪> :‬حق اهلل على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة‬
‫أيام ً‬
‫يوما يغسل فيه رأسه وجسده<(‪.)2‬‬
‫َ‬
‫إن غسل جميع البدن بالماء وجوبًا أو استحبابًا يحقق غاية الكمال من نظافة‬
‫ََ‬ ‫ُ‬
‫وتنقيته من الضرر والخبث‪ ،‬ويزيل العدد الهائل من الكائنات الدقيقة‬
‫ِ‬ ‫الجسم كله‪،‬‬
‫التي تعيش على جلد اإلنسان‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)142‬وفيه‪> :‬أسبغ الوضوء‪ ،‬وخلل بين األصابع‪ ،<...‬قال‬
‫األلباني‪( :‬صحيح)‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪ )897‬و( ‪ ،) 898‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪.)8503‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪699‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وقد أثبتت عدة دراسات‪ ،‬قام بها علماء ُ متخصصون‪ :‬أن االستحمام يزيل‬
‫عن جلد اإلنسان ‪ %90‬من هذه الكائنات في المرة الواحدة‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ُ‬
‫إن َمن يعلم فوائد النظافة التي أرشدنا اهلل ورسوله إلى التزامها وما أرشدنا‬
‫إليه ديننا الحنيف من الوضوء والغسل وغير ذلك من مظاهر النزاهة والطهارة‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫وخصوصا من الحقائق‬ ‫والنظافة‪ ،‬ويقارن فوائد ذلك مع ما ثبت للعلماء واألطباء‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫خالدة وباهرة في‬
‫ٍ‬ ‫قواعد‬ ‫تقرير‬ ‫إلى‬ ‫سبق‬ ‫قد‬ ‫اإلسالمي‬ ‫الدين‬ ‫أن‬ ‫اليقينية‪ ،‬يدرك‬
‫هذا الميدان‪ ،‬مع جهل الناس في زمن التنزيل بآثاره‪ ،‬وفوائد تلك القواعد التي‬
‫َ‬
‫مجتمع النظافة والطهارة‪ ،‬فدل ذلك على ربانية هذه‬ ‫تجعل من اجملتمع اإلسالمي‬
‫ّ‬
‫النصوص‪ ،‬وصدق رسالة الذي بلغنا إياها عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫بكترييا الكولريا‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪701‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫التوجيهات النبوية يف وقاية اجملتمع‬


‫من األوبئة ومنع انتشارها‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ‬
‫عن أبي هريرة ‪ K‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ! يقول‪> :‬ال يبول َّن أحدكم‬
‫ُ‬

‫في الماء الدائم الذي ال يجري ثم يغتسل فيه<‪ .‬رواه مسلم(‪.)1‬‬


‫ُ‬

‫قال رسول اهلل !‪> :‬إذا استيقظ أحدكم من نومه فال‬


‫ْ َ‬
‫يغمس يده في اإلناء‬
‫َ‬
‫حتى يغسلها ثالثا‪ ،‬فإنه ال يدري أين باتت يده< رواه مسلم(‪.)2‬‬
‫ُ‬

‫عن جابر‪ ‬بن عبد‪ ‬اهلل‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل !‪ ،‬يقول‪> :‬غطوا اإلناء‪،‬‬
‫وأوكوا ال ِّسقاء‪ ،‬فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء‪ ،‬ال يمر بإناء ليس عليه غطاء‪،‬‬
‫أو سقاء ليس عليه وكاء‪ ،‬إال نزل فيه من ذلك الوباء<(‪.)3‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫مالئما للكائنات الدقيقة‪ ،‬ومن ذلك ُّ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫نمو الكثير‬ ‫يعتبر الماء الراكد وسطا‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫من البكتريا المسببة لألمراض‪،‬كالكوليرا والسالمونيال‪ ،‬والشيجال‪ ،‬وغير ذلك‪،‬‬


‫كما تحتاج كثير من الديدان كالزحار األميبي‪ ،‬والديدان المستديرة‪ ،‬والبلهارسيا‬
‫َ‬
‫إلى الماء إلكمال دورة حياتها خارج جسم اإلنسان‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ‪.)2014( - 99‬‬


‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ‪.)278( - 87‬‬
‫((( صحيح اإلمام البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪.)2206‬‬
‫‪702‬‬

‫ويساعد التبول والتبرز على نمو هذه الديدان‪ ،‬وسرعة تكاثرها‪ ،‬وانتشارها؛‬
‫َ‬
‫لذلك نهي رسول اهلل ! عن التبول في الماء الراكد الذي ال يجري‪ ،‬نوع وقاية‬
‫من التلوث‪ ،‬ألنها تحمي اإلنسان من اإلصابة بهذه الكائنات الممرضة‪ .‬عن أبي هريرة‬
‫َ‬
‫‪ K‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ! يقول‪> :‬ال يبول َّن أحدكم في الماء الدائم الذي‬ ‫ ‬
‫ال يجري ثم يغتسل فيه<‪.‬‬

‫دودة البلهارسيا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وقد وردت في هذا اجملال عدة نصوص‪ ،‬ترشد إلى حماية اإلنسان‬
‫من أسباب السقم والضرر واألذى‪ ،‬فمن ذلك لوقاية الماء من التلوث أيضا نهى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الن ّ ّ‬
‫بي ! عن إدخال المستيقظ من النوم يده في اإلناء قبل أن يغسلها ويطهرها‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫فلعله َّ‬
‫مريضا متقرحا من جسمه وهو نائم‪ .‬قال‬ ‫عضوا‬ ‫مس أو حك بها سوأته أو‬
‫َ‬
‫رسول اهلل !‪> :‬إذا استيقظ أحدكم من نومه‪ ،‬فال يغمس يده في اإلناء حتى يغسلها‬
‫ثالثا‪ ،‬فإنه ال يدري أين باتت يده<‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪703‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫بي !‪ ،‬عن الشرب من فم السقاء‪ .‬روى‬ ‫أيضا نهى الن ّ ّ‬


‫ولحفظ الماء من التلوث ً‬
‫البخاري بسنده عن ابن عباس ‪> :R‬نهى الن ّ ّ‬
‫بي ! الشرب من في السقاء<‪.‬‬
‫إن اإلرشاد إلى تغطية آنية الطعام‪ ،‬وربط قرب الماء منعا لتلوثها بالجراثيم‬
‫ً‬
‫المحمولة عبر الرياح‪ ،‬والتي قد تنتقل من أماكن بعيدة‪ ،‬فتسبب انفجاراتٍ وبائية‬
‫مدمرة‪ ،‬بما تفضي إليه من تشكل بؤر النتشار األوبئة‪ ،‬فقال !‪> :‬غطوا اإلناء‬
‫وأوكوا السقاء؛ فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء‪ ،‬ال يمر بإناء ليس عليه غطاء‪،‬‬
‫أو سقاء ليس علىه وكاء إال نزل فيه من ذلك الوباء< رواه اإلمام مسلم(‪ .)1‬نتيجة‬
‫تنوع العوامل الجوية العديدة التي قد تؤثر في تكاثرها وحركتها وانتشارها‪.‬‬
‫وسط مالئم النتشار األوبئة‬‫ٌ‬ ‫ويقرر الحديث أيضا‪ :‬أن األطعمة واألشربة‬
‫ُ‬
‫من خاللها‪ ،‬وأنه يمكن الوقاية منها بتغطية اآلنية واألسقية‪ .‬وقد أثبت العلم‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الحديث أن هناك أوقاتا معينة في فصول السنة يصعب تحديدها أو التنبؤ بها‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫تحمل الرياح فيها أعدادا هائلة من الجراثيم المتحوصلة‪ ،‬ومن أماكن‬ ‫يمكن أن ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وبائيا لبعض األمراض‪.‬‬ ‫انفجارا‬ ‫بعيدة جدا إلى أماكن معينة‪ ،‬فتسبب‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن إهمال التوجيهات واإلرشادات الصحية ـ التي سبق الحديث عن بعضها‬
‫ـ قد يتسبب في انتشار أوبئة‪ ،‬تقضي على آالف من بني البشر‪ ،‬ومن هنا ندرك‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ‬
‫قيمة اإلرشادات النبوية في تقرير القواعد الوقائية‪ ،‬التي تحفظ صحة بني اإلنسان‪،‬‬
‫بي ! بهذه الحقائق‬ ‫أخبر الن ّ َّ‬
‫َ‬ ‫في زمن كان ُّ‬
‫كل الناس على جهالة تامة بها‪ ،‬فمن‬ ‫ٍ‬
‫الدقيقة؟ إنه اهلل جل في عاله القائل‪﴿ :‬وما ين ِطق ع ِن ٱلهوى ‪ ٣‬إِن هو إِل وح يوح﴾‬
‫ۡ ُ َ اَّ َ يۡ ‪ ُ ٞ‬ىَ‬ ‫ٰٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ُ َ ۡ‬
‫ٰ‬
‫[ا �لن�����ج����م‪.]4-3 :‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ‪.)2012( - 96‬‬


‫قمل العانة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪705‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫سنن الفطرة وأثرها الوقائي‬

‫روى اإلمام مسلم أن رسول اهلل ! قال‪> :‬عشر من الفطرة‪ :‬قص الشارب‪،‬‬
‫وإعفاء اللحية‪ ،‬والسواك‪ ،‬واستنشاق الماء‪ ،‬وقص األظفار‪ ،‬وغسل البراجم (عقل‬
‫األصابع)‪ ،‬ونتف اإلبط‪ ،‬وحلق العانة‪ ،‬وانتقاص الماء االستنجاء<(‪ .)1‬قال الراوي‪:‬‬
‫ونسيت العاشرة‪ ،‬إال أن تكون المضمضة‪.‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫فسر ُ‬‫قوله !‪ :‬عشر من الفطرة‪ّ :‬‬
‫أكثر العلماء الفطرة في هذا الحديث بالسنة‪،‬‬
‫وتأويله‪ :‬أن هذه الخصال من سنن األنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم لقوله سبحانه‪:‬‬
‫أ‬
‫﴿فب ِ ُه َدى ٰ ُه ُم ٱق َتد ِۡه ۗ﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]90 :‬‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وأول من أمر بها إبراهيم صلوات اهلل عليه‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪ِ﴿ :‬إَوذِ ۡٱب َت ٰٓ‬
‫ىَ‬
‫ل‬
‫َ َٰ ََ َ‬
‫ت فأت َّم ُه َّنۖ﴾ [ا ��لب�ق��ر�ة‪ .]124 :‬قال ابن عباس‪ :‬أمره بعشر خصال ثم‬ ‫ۡ َ َ َ ُّ ُ‬
‫إِبر ٰ ۧهِم ربهۥ بِكل ِم ٖ‬
‫ُ‬
‫عددهن‪ ،‬فلما فعلهن قال‪ :‬إني جاعلك للناس إماما‪ ،‬أي‪ :‬ليقتدي بك ويستن‬
‫بسنتك‪ ،‬وقد أمرت هذه األمة بمتابعته خصوصا‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫حن ِيفاۖ﴾ [ا �ل ن�����‬ ‫وبيان ذلك في قوله تعالى‪﴿ :‬ثم أوحينا إِل‬
‫ٗ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫ٓ يَ‬
‫َّ ۡ َ ۡ َ ۡ َ‬
‫ك أن ٱتب ۡع مِلة إبۡ َرٰه َ‬
‫ِيم َ‬
‫ح�ل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ً‬
‫فرضا وهن لنا سنة(‪.)2‬‬ ‫‪ ]123‬ويقال إنها كانت عليه‬
‫َ‬
‫و>الفطرة< هي الخلقة التي خلق اهلل عباده عليها‪ ،‬وجعلهم مفطورين عليها‪:‬‬
‫وكراهة الشر ودفعه‪ ،‬وفطرهم حنفاء مستعدين‪ ،‬لقبول‬
‫ِ‬ ‫على محبة الخير وإيثاره‪،‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)261‬‬


‫((( معالم السنن للخطابي(‪.)31 /1‬‬
‫‪706‬‬

‫َ‬
‫شرائع الفطرة نوعين‪:‬‬ ‫الخير واإلخالص هلل‪ ،‬والتقرب إليه‪ ،‬وجعل تعالى‬
‫‪P P‬أحدهما‪ :‬يطهر القلب والروح‪ ،‬وهو اإليمان باهلل وتوابعه‪ :‬من خوفه‬
‫ََ ۡ َ ۡ َ َ‬
‫ورجائه‪ ،‬ومحبته واإلنابة إليه‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬فأق ِم وجه‬
‫ك ل ِّدلِين َحن ِٗيفا ف ِۡط َرتَ‬
‫ۚ‬ ‫ِ‬
‫هَّ َّ َ َ َ َّ َ َ َ ۡ َ اَ َ ۡ َ َ ۡ هَّ َ ٰ َ ّ ُ ۡ َ ّ ُ َ َ ٰ َّ َ ۡ‬
‫ك رَ َ‬
‫ث‬ ‫كن أ‬‫ٱللِ ٱل يِت فطر ٱنلاس عليها ۚ ل تبدِيل خِلل ِق ٱللِۚ ذل ِك ٱدلِين ٱلقيِم ول ِ‬
‫ْ‬
‫كونُوا مِنَ‬ ‫َ يَ ۡ َ َّ ُ ُ َ َ ُ ْ َّ َ ٰ َ َ اَ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫اَ‬
‫۞من ِيبِني إِلهِ وٱتقوه وأقِيموا ٱلصلوة ول ت‬ ‫ُ‬ ‫اس ل َي ۡعل ُمون ‪٣٠‬‬ ‫ٱنلَّ ِ‬
‫ِني﴾ [ا �لرو�م‪� 30 :‬ـ ‪ ]31‬فهذه تزكي النفس‪ ،‬وتطهر القلب وتنميه‪،‬‬ ‫ٱل ۡ ُم رۡشك َ‬
‫ِ‬
‫وتذهب عنه اآلفات الرذيلة‪ ،‬وتحليه باألخالق الجميلة‪ ،‬وهي كلها ترجع‬
‫إلى أصول اإليمان وأعمال القلوب‪.‬‬
‫‪P P‬والنوع الثاني‪ :‬ما يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته‪ ،‬ودفعِ األوساخ واألقذار عنه‪،‬‬
‫وهي هذه العشرة‪ ،‬وهي من محاسن الدين اإلسالمي؛ إذ هي كلها تنظيف‬
‫لألعضاء‪ ،‬وتكميل لها‪ ،‬لتتم صحتها وتكون مستعدة لكل ما يراد منها(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫لقد كشفت البحوث الطبية األهمية الصحية البالغة لتطبيق هذه الخصال‪،‬‬
‫َ ٌ‬ ‫ََ ُ‬
‫وما يترتب على إهمالها من أضرار‪ ،‬فت ْرك األظفار َمجلبة للمرض‪ ،‬حيث تتجمع‬
‫بعض الديدان‪ ،‬وبعض الطفيليات األولية‬ ‫ُ‬
‫وبيض‬ ‫تحتها ماليين الجراثيم المختلفة‪،‬‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫خصوصا لألطفال‪.‬‬ ‫التي يمكن أن تسبب أضرارا بالغة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وترك شعر العانة هو المسؤول عن مرض >قمل العانة< المنتشر في أوربا‪،‬‬
‫والذي يؤدي إلى تقرحات والتهابات في هذه المنطقة‪ ،‬وقد حمى اهلل بالد المسلمين‬
‫من هذا الوباء‪.‬‬
‫وأما الختان‪ :‬فقد بينت الدراسات العلمية التي بدأت تظهر نتائجها في أمريكا‬
‫قبل أكثر من عشر سنوات أن األطفال المختونين هم أقل عرضة لإلصابة بالتهاب‬

‫((( بهجة قلوب األبرار وقرة عيون األخيار (ص‪ )51 :‬عبد‪ ‬الرحمن‪ ‬بن ناصر آل سعدي‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪707‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اجملاري البولية‪ ،‬وأن غير المختونين أكثر عرضة لإلصابة بهذا االلتهاب بـ (‪)39‬‬
‫ً‬
‫ضعفا منه عند المختونين‪.‬‬
‫واستنتج الباحثون أن ختان المولودين له دور هام في الوقاية من التهاب‬
‫اجملاري البولية‪ ،‬وخاصة في األشهر الثالثة األولى من العمر‪ ،‬والتي يكون فيها‬
‫أكثر عرضة لحدوث التهاب شديد في مجاري البول‪.‬‬ ‫ُ‬
‫غير المختونين َ‬

‫توصياتها‬
‫ِ‬ ‫ولهذا‪ ،‬فقد أصدرت المنظمات الصحية لطب األطفال في أمريكا‬
‫عام ‪ ،1999‬تدعو إلى ختان األطفال‪ ،‬بعد أن قررت أن خطر حدوث التهاب‬
‫َ‬
‫اجملاري البولية‪ ،‬في السنة األولى من العمر‪ ،‬عند غير المختونين‪ ،‬يبلغ تسعة‬
‫أضعاف ما هو عليه الحال عند األطفال المختونين على األقل‪ .‬وأن سرطان‬
‫القضيب ُ‬
‫نادر الحدوث جدا عند المختونين‪ ،‬في حين يشاهد عند غير المختونين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫وغسل البراجم (عُقل األصابع‪ ،‬أي مفاصلها) يزيل المستعمرات الجرثومية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ونتف اإلبط‬ ‫التي تتخذ من ثنيات الجلد في هذه األماكن كهوفا وأخاديد لها‪،‬‬
‫ينظف هذا المكان المختبئ من الجلد‪ ،‬والتي تتجمع فيه األوساخ‪ ،‬وتنمو عليها‬
‫َ‬
‫العيش على مادة‬ ‫ً‬
‫وخصوصا الفطرية منها‪ ،‬كما أن بعض الجراثيم تهوى‬ ‫الجراثيم‪،‬‬
‫الشعر نفسها‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ‬
‫التدابير الحكيمة ـ التي تحقق نظافة‬ ‫عندما قرر رسول اهلل ! الن ّ ّ‬
‫بي األمي تلك‬
‫َ‬
‫ومالبسه وأماكن جلوسه ونومه‪-‬فإنه أرسى للمسلمين‬ ‫جسم اإلنسان بشكل عام‪،‬‬
‫َ‬
‫قواعد الوقاية من أخطار الكائنات الدقيقة الضارة‪ ،‬التي يمكن أن تكون سببا في‬
‫مرضه أو هالكه‪.‬‬
‫وتعتبر توجيهات الرسول ! بهذا الخصوص ـ والتي وردت في عصر كان‬
‫ً‬
‫مظهرا من مظاهر‬ ‫ً‬
‫خلوا من المعارف الصحية التي كشفها اهلل للبشر في زمننا ـ‬
‫اإلعجاز العلمي في السنة المطهرة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪709‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫فذروه يف سنبله‬
‫ۡ ُ ُ‬ ‫ِيق أَ ۡفت ِ َنا ف َس ۡبعِ َب َق َرٰت س َ‬ ‫ٱلص ّد ُ‬ ‫وس ُف َأ ُّي َها ّ‬ ‫يقول اهلل تبارك وتعالى‪﴿ :‬يُ ُ‬
‫ان يَأكل ُه َّن‬‫ٖ‬ ‫ِم‬ ‫ٖ‬ ‫يِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ىَ‬ ‫ُ رۡ َ ُ َ َ َ َّ َ ّ َ‬
‫اس ل َعل ُه ۡم َي ۡعل ُمون ‪ ٤٦‬قال‬ ‫ج ُع إِل ٱنلَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل أ ۡر‬ ‫ت لع يِ ٓ‬ ‫س ٖ‬ ‫ۢنب َل ٰ ٍت خض وأخ َر ياب ِ ٰ‬ ‫اف َو َس ۡبعِ ُس ُ‬‫ٌَۡ َ ‪ٞ‬‬
‫سبع عِج‬
‫ُ َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ٖ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫َ ُ َ‬ ‫اٗ‬ ‫َ‬ ‫اَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫ني َدأ ٗبا ف َما َح َصدت ۡم فذ ُروهُ ف ُس ُ‬ ‫َ‬ ‫َۡ َ ُ َ‬
‫ۢنبلِهِۦٓ إِل قل ِيل ّم َِّما تأكلون ‪ ٤٧‬ث َّم يأ يِت‬ ‫يِ‬
‫ون َس ۡب َع ِسن َ‬
‫ِ‬ ‫تزرع‬
‫ۡ‬
‫ت ِص ُنون﴾ [�يو��س ف�‪.]48-46 :‬‬
‫َ‬ ‫حُ‬
‫ّ َّ ۡ‬ ‫اٗ‬ ‫َ‬ ‫اَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫َ َ‬
‫ِم ۢن َب ۡع ِد ذٰل ِك َس ۡب ‪ٞ‬ع ش َِداد يَأكل َن َما ق َّد ۡم ُت ۡم ل ُه َّن إِل قل ِيل مِما‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ۡ‬
‫كلون﴾‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ف َما َح َصدت ۡم فذ ُروهُ ف ُس ُ‬
‫ُ َ‬
‫ّ َّ َ ُ‬ ‫اَّ َ اٗ‬ ‫ََ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ۢنبلِهِۦٓ إِل قل ِيل مِما تأ‬ ‫يِ‬
‫[�يو��س ف�‪. ]47 :‬‬
‫ْ‬
‫بج ٍّد واجتهاد؛ فلكم أن تأكلوا القليل منه‪،‬‬ ‫تحصدونه نتيجة الزرع ِ‬ ‫أي‪ :‬ما‬
‫ً‬
‫وتتركوا بقيته محفوظا في سنَابله‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ِّ‬
‫والحفظ في السنابل يُعلمنا قدر القرآن‪ ،‬وقدرة َمن أنزل القرآن سبحانه‪،‬‬
‫وما آتاه اهلل جل عاله ليوسف عليه السالم من علم في كل نواحي الحياة‪،‬‬
‫من اقتصاد ومقومات التخزين‪ ،‬وغير ذلك من عطاءات اهلل‪ ،‬فقد أثبت العلم‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ‬
‫الحديث أن القمح إذا خ ِّزن في سنابله؛ فتلك حماية ووقاية له من السوس‪.‬‬
‫وبعض العلماء قال في تفسير هذه اآلية؛ إن المقصود هو تخزين القمح‬
‫في سنابله وعيدانه‪.‬‬
‫َ‬
‫وأقول‪ :‬إن المقصود هو ت ْرك القمح في سنابله فقط؛ ألن العيدان هي طعام‬
‫الحيوانات‪.‬‬
‫‪710‬‬

‫ونحن نعلم أن حبة القمح لها وعاءان؛ وعاء يحميها؛ وهو ينفصل عن القمحة‬
‫نفصاًل عن حبوب القمح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ ْ‬
‫أثناء عملية >الدرس<؛ ثم يطير أثناء عملية >التذرية< م ِ‬
‫ولحبة القمح وعاء مالزم لها‪ ،‬وهو القشرة التي تنفصل عن الحبة حين نطحن‬
‫القمح‪ ،‬ونسميها >الردة< وهي نوعان‪> :‬ردة خشنة< و>ردة ناعمة<‪.‬‬
‫فصلوا الدقيق النقي عن >الردة<‪.‬‬‫َ‬
‫ومن عادة البعض أن ي ِ‬
‫وهؤالء يتجاهلون أو ال يعرفون الحقيقة العلمية التي أكدت أن تناول الخبز‬
‫المصنوع من الدقيق األبيض الخالي من >الردة< يصيب المعدة بالتلبُّك‪.‬‬
‫فهذه القشرة المالزمة لحبة القمح ليست لحماية الحبة فقط؛ بل تحتوي‬
‫على قيمة غذائية كبيرة‪.‬‬
‫وكان أغنياء الريف في مصر يقومون بتنقية الدقيق المطحون من >الردة<‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬
‫ويسمونه >الدقيقة العالمة<؛ الذي إن وضعت ملعقة منه في فمك؛ تشعر بالتلبُّك؛‬
‫أما إذا وضعت ملعقة من الدقيق الطبيعي الممتزج بما تحتويه الحبة من >ردة<؛‬
‫فلن تشعر بهذا التلبُّك‪.‬‬
‫ٱلر ۡي َحان﴾‬
‫ُ‬ ‫ب ُذو ۡٱل َع ۡص ِف َو َّ‬
‫ٱل ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ويمتن اهلل على عباده بذلك في قوله الحق‪َ ﴿ :‬و حۡ َ‬
‫[ا �لرح�م� ن�‪.]12 :‬‬
‫َ ْ‬
‫وقد اهتدى علماء هذا العصر إلى القيمة الفاعلة في طحن القمح‪ ،‬مع الحفاظ‬
‫ْ‬
‫على ما فيه من قشر القمح‪ ،‬وثبت لهم أن َمن يتناول الخبز المصنوع من الدقيق‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫لجئه إلى تناول خبز مصنوع من ِقشر‬ ‫النقي للغاية؛ يعاني من ارتباك غذائي ي ِ‬
‫السن<؛ ليعوض في غذائه ما فقده من قيمة‬ ‫القمح فقط‪ ،‬وهو ما يسمى >الخبز ِّ‬
‫غذائية(‪.)1‬‬

‫((( تفسير الشعراوي (‪.)6978-6977 /11‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪711‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫يعد مفهوم تخزين البذور في السنابل نظاما أساسيا للحفاظ على اإلنتاج‬
‫في ظروف بيئية قاسية‪ .‬وهذا ما يجمع بين الزراعة وتقنيات التخزين والحفاظ على‬
‫المنتج‪ ،‬وهو ما يسمى بتدبير اإلنتاج‪.‬‬
‫وقد أجري بحث تجريبي حول بذور قمح تركت في سنابلها لمدة تصل‬
‫إلى سنتين مقارنة مع بذور مجردة من سنابلها‪ ،‬وأظهرت النتائج األولية أن السنابل‬
‫لم يطرأ عليها أي تغيير صحي وبقيت حالتها سليمة ‪ .%100‬مع العلم أن مكان‬
‫َ‬
‫التخزين كان عاديا‪ ،‬ولم يراع فيه أي شروط للحرارة أو الرطوبة أو غير ذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ ْ‬
‫وفي هذا اإلطار تبين أن البذور التي تركت في سنابلها فقدت كمية مهمة‬
‫من الماء‪ ،‬وأصبحت جافة مع مرور الوقت‪ ،‬بالمقارنة مع البذور المعزولة‬
‫من سنابلها‪ ،‬وهذا يعني أن نسبة ‪ %20.3‬من وزن القمح اجملرد من سنبله‬
‫سلبا على مقدرة هذه البذور من ناحية زرعها ونموها‪،‬‬ ‫مكون من الماء؛ مما يؤثر ً‬
‫ومن ناحية قدرتها الغذائية ألن وجود الماء يسهل من تعفنه وترديه الصحي‪.‬‬
‫ثم قام الباحثون بمقارنة مميزات النمو (طول الجذور وطول الجذوع) بين‬
‫بذور بقيت في سنبلها‪ ،‬وأخرى مجردة منها لمدة تصل إلى سنتين؛ فتبين أن البذور‬
‫في السنابل هي أحسن ً‬
‫نموا بنسبة ‪ %20‬بالنسبة لطول الجذور و‪ %32‬بالنسبة لطول‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الجذوع‪.‬‬
‫ثم قام الباحثون بتقدير البروتينات والسكريات العامة التي تبقى بدون تغيير‬
‫أو نقصان‪ ،‬ففي البذور التي عزلت من السنابل انخفضت كمية البروتينات فيها‬
‫بنسبة ‪ %32‬بعد سنتين من التخزين‪ ،‬وبنسبة ‪ %20‬بعد سنة واحدة‪ .‬بينما لم تتغيرهذه‬
‫المركبات في البذور المحفوظه في سنابلها‪.‬‬
‫‪712‬‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ال شك أن طريقة حفظ الحبوب بتركها في سنبلها حماية لها من التغير أو الفساد‬
‫َ‬
‫القدم‪ ،‬وخاصة عند المصريين القدامى‪،‬‬ ‫هي طريقة مبتكرة‪ ،‬لم تكن معروفة في ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ويعتبر ماجاء به النص القرآني في هذا الصدد‪ ،‬في زمن لم تكن تعرف فيه طريقة‬
‫َ َ‬
‫الحفظ هذه‪،‬إعجاز علمي‪ ،‬يؤكد عظمة القرآن‪ ،‬ودقة ما ورد فيه من علم‪ ،‬وأنه‬
‫وحي من اهلل‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪713‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اإلعجاز الطيب يف القرآن والسنة‬

‫لنبسط الكالم عن اإلعجاز الطبي من خالل حديثنا عن نصوص عديدة‬


‫ُ‬
‫اشتملت على نماذج من اإلعجاز في القرآن والسنة‪ ،‬حيث ورد فيها اإلرشاد‬
‫ُ‬
‫إلى تناول العسل لالستشفاء به‪ ،‬وكذلك الحبة السوداء‪ ،‬وغير ذلك مما قامت‬
‫به شواهد باهرة‪ ،‬وسأذكر هنا ما يوضح اإلعجاز الطبي‪ ،‬معتبرا أن ما شهد له العلم‬
‫ً‬
‫الحديث بكونه حقيقة علمية مستقرة في مجال الطب‪ ،‬ويتطابق مع ما أرشد إليه‬
‫جوهر اإلعجاز العلمي؛ ألن ذلك ورد منذ‬ ‫ُ‬ ‫القرآن الكريم والسنة المطهرة‪ ،‬فهو‬
‫َ‬ ‫َ ً‬ ‫َ‬
‫المشار إليها في القرآن‬ ‫عشر قرنا‪ ،‬عندما كان البشر يجهلون تلك الحقيقة‬ ‫أربعة‬
‫الكريم‪ ،‬أو السنة المطهرة ومن هذه الحقائق الطبية ما يلي‪:‬‬
‫ُ‬
‫بي ! قواعد عالجية‪ ،‬تعتبر أصاًل من أصول‬
‫َ‬ ‫‪P P‬األصل األول‪ :‬وضع الن ّ ّ‬
‫العالج السليم‪ ،‬سبق به اإلسالم كل القواعد العالجية الحديثة‪ ،‬فمن ذلك‬
‫ما أرشد إليه نبي الرحمة ! في العالج‪ :‬هو األمر بالتداوي والحث عليه‪.‬‬
‫بي !‪ :‬أعلينا حرج‬ ‫األعراب يسألون الن ّ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫شهدت‬ ‫عن أسامة‪ ‬بن شريك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫في كذا؟‪ ....‬أعلينا حرج في كذا؟ فقال لهم‪> :‬عباد اهلل‪ ،‬وضع اهلل الحرج‪ ،‬إال من‬
‫اقترض من عرض أخيه شيئا‪ ،‬فذاك الذي ح ِرج< فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هل علينا‬
‫َ َ‬

‫جناح أن ال نتداوى؟ قال‪> :‬تداووا عباد اهلل‪ ،‬فإن اهلل‪ ،‬سبحانه‪ ،‬لم يضع داء‪ ،‬إال‬
‫وضع معه شفاء‪ ،‬إال الهرم<‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ما خير ما أعطي العبد؟ قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫>خل ٌق حسن<(‪.)1‬‬

‫((( سنن ابن ماجه‪ ،‬حديث رقم (‪. )3436‬‬


‫‪714‬‬

‫وقال الشيخ األلباني(‪:)1‬‬


‫وقوله !‪> :‬أن لكل داء دواء< يدل على أنه ال توجد أمراض ليس لها عالج‬
‫َّ‬
‫في المفهوم اإلسالمي‪ ،‬فعلى الطبيب أن يبحث ويجد في البحث حتى يصل‬
‫للدواء‪ .‬وهو ما أكده حديث الن ّ ّ‬
‫بي !‪> :‬لكل داء دواء‪ ،‬فإذا أصيب دواء الداء‪ ،‬برأ‬
‫بإذن اهلل<(‪ .)2‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪P P‬األصل الثاني‪ :‬تحصيل العلم بالطب لممارسة التطبيب‪ ،‬وجعل ذلك‬
‫ً‬
‫شرطا لعالج الناس بأي وسيلة عالجية‪ ،‬وفيما ورد عن عمرو‪ ‬بن شعيب‬
‫عن أبيه عن جده أن رسول اهلل ! قال‪> :‬ومن تطبب وال يعلم منه طب‬
‫فهو ضامن<‪ .‬رواه أبو داود(‪.)3‬‬

‫((( صحيح ‪ -‬انظر غاية المرام‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)292‬صحيح أبي داود‪ ،‬حديث رقم (‪،)1759‬‬
‫المشكاة‪ ،‬حديث رقم (‪.)4532‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2204‬‬
‫((( أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4586‬والنسائي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)4830‬وابن ماجة‪ ،‬حديث رقم‬
‫(‪ ،)3466‬قال األلباني‪(:‬حسن)‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪715‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وعن عبد‪ ‬العزيز‪ ‬بن عمر‪ ‬بن عبد‪ ‬العزيز حدثني بعض الوفد الذين قدموا‬


‫على أبي قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬أيما طبيب تطبب على قوم‪ ،‬ال يعرف له تطبب‬
‫قبل ذلك؛ فأعنت فهو ضامن<‪.‬‬
‫‪P P‬األصل الثالث‪ :‬إرشاده لطلب العالج من الذين هم مظنة الخبرة والفطنة‪،‬‬
‫ً‬
‫وذلك ألنه يوجد تنوع في الوسائل العالجية لألمراض‪ ،‬وأحيانا للمرض‬
‫الواحد‪ ،‬وال يعلمها إال متخصص دقيق؛ لذا يجب أن يتحلى المعالج‬
‫باألمانة العلمية‪ ،‬فالحاالت التي ال يعرف عالجا لها‪ ،‬أو يعرف أن غيره‬
‫أعرف منه بطرق المعالجة‪ ،‬يجب عليه أن يُح َيلها لمن هو ُ‬
‫أقدر منه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫بي ! إلى أبي ً‬ ‫عن جابر قال‪> :‬بعث الن ّ ّ‬
‫طبيبا‪ ،‬فقطع منه عرقا‪ ،‬ثم كواه<(‪ .)1‬ومن هذا‬
‫ََ ََ‬ ‫َ َ‬
‫القبيل أمره ألحد الصحابة بأن يأتي الح ِارث‪ ‬بن كلدة لكونه كان خبيرا بالطب‪.‬‬
‫‪P P‬األصل الرابع‪ :‬إرشاده لمبدأ الوقاية من أسباب المرض‪ ،‬حيث إن األمراض‬
‫لها مسببات‪ ،‬قد تكون مادية في صورة كائنات دقيقة‪ ،‬أو جزيئات‬
‫سمية أو مسببات نفسية في صورة اضطرابات انفعالية‪ ،‬ينتج عنها خلل‬
‫في المنظومة الهرمونية والجهاز المناعي‪ .‬لذلك أمر نبي اإلسالم بالتوقي‬
‫منها في أحاديث عديدة‪.‬‬
‫ومن ذلك نهيُه عن الهروب من الطاعون‪ ،‬ونهيه عن القدوم إلى األرض‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ ِّ‬
‫صح على الممرض‪ ،‬وفي كل تلك األمثلة‬ ‫الموبوءة‪ ،‬وكذلك نهيه عن إيراد الم ِ‬
‫ـ نجد أنه ـ ! قد أرسى مبدأ الحجر الصحي‪ ،‬كما وأرسى أصول العالج‪،‬‬
‫ً‬
‫فأعطى كل وسيلة عالجية وصفا دقيقا لدورها في العالج‪.‬‬
‫فوصف الحجامة في مجموع األحاديث المنقولة عنه عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫بأن فيها شفاء‪ ،‬كما في حديث البخاري‪> :‬إن كان في شيء من أدويتكم خير‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)2207‬‬


‫‪716‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫ففي ش ْرطة محجم‪ ،‬أو شربة عسل‪ ،‬أو لذعة بنار توافق الداء‪ ،‬وما أ ِح ُّ‬
‫ب أن‬
‫أكتوي<(‪ ،)1‬وفي رواية‪> :‬وأنهى أمتي عن الكي<(‪.)2‬‬
‫وأخبر عليه الصالة والسالم في قوله‪> :‬إن أفضل ما تداويتم به الحجامة‪،‬‬
‫أو هو من أمثل دوائكم<(‪> ،)3‬وذكر أن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إال‬
‫السام<(‪ )4‬وذكر اهلل سبحانه في القرآن أن في العسل ﴿فِيهِ شِفاء ل ِلن ِ ۚ‬
‫اس﴾‬ ‫َ ٓ ‪َّ ّ ٞ‬‬

‫[ا �لن�����ح�ل‪.]69 :‬‬

‫احلجامة‬

‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5683‬وهذا لفظه‪ ،‬وصحيح مسلم‪.)71/2205( :‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5681‬قال الحافظ‪ ‬ابن حجر‪( :‬وصفه الن ّ ّ‬
‫بي ! ثم نهى‬
‫بي ! سعد‪ ‬بن‬‫عنه‪ ،‬وإنما كرهه لما فيه من األلم الشديد والخطير العظيم‪ ...‬وقد كوى الن ّ ّ‬
‫معاذ وغيره)‪ ،‬فتح الباري (‪.)138/10‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 5696‬وصحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 1577‬واللفظ له‪.‬‬
‫((( صحيح‪ ،‬حديث رقم البخاري (‪.)5687‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪717‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫بي ! الحصر في الثالثة فإن الشفاء‬ ‫قال ابن حجر العسقالني‪ < :‬ولم يرد الن ّ ّ‬
‫قد يكون في غيرها وإنما نبه بها على أصول العالج > (‪ .)1‬وقد ثبت هذا الشفاء‬
‫باألبحاث‪ ،‬وبإنشاء المراكز الطبية التي تعالج بالحجامة والعسل والحبة السوداء‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫األصل الخامس‪ :‬التحذير من تعاطي أنواع من المواد التي تسبب مضاعفاتٍ‬


‫‪PP‬‬
‫ً‬
‫وأخطارا في وقت كان ينظر إلى تلك المواد بأنها مفيدة وشافية خطأ!‪.‬‬
‫ويذكر الدكتور علي البار في كتابه هل هناك طب نبوي في سياق ذكر الرد‬
‫على كتاب كوبلي >أسرار الطب العربي القديم والحديث<‪ ،‬والذي يدعو فيه‬
‫إلى استخدام السبرتو ودهن الخنزير ولحم الهر لمعالجة كثير من األمراض‪..‬‬
‫ولألسف‪ ،‬فإن كوبلي هذا لم يكن سوى خوري في كنيسة صغيرة في لبنان‪،‬‬
‫ولم يدرس الطب في حياته‪ ،‬ومع هذا فقد عمل كطبيب وقتل مئات األشخاص‬
‫بوصفاته الطبية الرهيبة‪.‬‬
‫صل نبي اإلسالم هذه الخيارات‪ ،‬ووضع هذه األسس والقواعد العالجية‬ ‫أ َ َّ‬
‫في زمن كان االعتقاد السائد فيه‪ :‬أن األمراض تسببها األرواح الشريرة والشياطين‬
‫َ‬
‫والنجوم‪ ،‬وكانوا يطلبون لها العالج بالشعوذة والخرافات‪.‬‬
‫ومنع نبي اإلسالم كل الممارسات العالجية المبنية على هذه االعتقادات‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الخاطئة‪ ،‬فنهى رسول اهلل ! عن التطير والتمائم والسحر والخرافة‪ ،‬فقال‬


‫الرقى والتمائم والتولة شرك< رواه أبو داود(‪.)2‬‬
‫عليه الصالة والسالم‪> :‬إن ّ‬

‫أيضا‪> :‬من أتى كاهنًا أو عرافا فصدقه بما يقول‪ ،‬فقد كفر بما أنزل‬
‫ً‬ ‫وقال ً‬
‫على محمد<(‪ .)3‬قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ـ رواه البزار ورجاله رجال‬

‫((( رواه أحمد في مسنده‪ ،‬حديث رقم (‪.)9532‬‬ ‫ ‬


‫((( فتح الباري (‪.)138/10‬‬
‫((( أبو داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3883‬قال األلباني‪( :‬صحيح)‪.‬‬
‫‪718‬‬

‫الصحيح‪ ،‬خال عقبة‪ ‬بن سنان‪ ،‬وهو ثقة(‪ .)1‬وقال شعيب األرنؤوط‪ :‬حسن‪ ،‬رجاله‬
‫ثقات‪ ،‬رجال الصحيح‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد تحقق كثير من مضامين تلك األحاديث الشريفة التي انتظمت توجيهات‪،‬‬
‫تتعلق باالستشفاء وحفظ الصحة العامة‪ ،‬والوقاية من األمراض‪.‬‬
‫بي ! هو من الوحي اإللهي‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما يَن ِط ُق‬ ‫مما يؤكد أن ما نطق به الن ّ ُّ‬
‫وح﴾ [��سور�ة ا �لن�����ج����م‪.]4-3 :‬‬
‫ح يُ ىَ ٰ‬ ‫ى ‪ ٣‬إ ِ ۡن ُه َو إ ِ اَّل َو يۡ ‪ٞ‬‬
‫َعن ٱل ۡ َه َو ٰٓ‬
‫ِ‬

‫((( الحديث (‪.)8482‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪719‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫نظافة البيئة وأثرها على صحة اجملتمع‬


‫ّ‬
‫لقد حث اإلسالم على نظافة المحيط‪ ،‬كالطرقات وأماكن الجلوس وتجمع‬
‫الناس وموارد المياه وغيرها‪ ،‬ونهى عن كل ما يخل بها‪:‬‬
‫بي ! إلى إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬وعدم التخلي‬ ‫ومن ذلك إرشاد الن ّ ّ‬
‫في طريق الناس وظلهم‪ ،‬فقال !‪> :‬عرضت َّ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫علي أعمال أمتي ح َسنها وسيئها؛ فوجدت‬
‫في محاسن أعمالها األذى يماط عن الطريق‪ ،‬ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة‬
‫تكون في المسجد ال تدفن<(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)553‬‬


‫‪720‬‬

‫وقال ً‬
‫أيضا‪> :! ،‬البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها<(‪.)1‬‬
‫وأوصى ! بإزالة كل أذى من طرق الناس فقال‪> :‬أمط األذى عن الطريق فإنه‬
‫لك صدقة< (‪.)2‬‬
‫ّ َ‬
‫اللعانين<‪ ،‬قالوا‪ :‬وما اللعانان يا رسول اهلل؟ قال‪> :‬الذي‬ ‫وقال !‪> :‬اتقوا‬
‫يتخلى في طريق الناس وفي ظلهم<(‪.)3‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ّ ْ‬
‫لقد حضت هذه النصوص على العناية بنظافة البيئة‪ ،‬حيث ورد فيها التوجيهات‬
‫الهامة‪ ،‬والتحذير من التسبب في إفساد الموارد الطبيعية‪ ،‬من هواء وماء وتراب‪،‬‬
‫وغير ذلك من ذرائع ووسائل نقل الكائنات الممرضة واألوبئة في سبق علمي مبهر‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫َ‬
‫الطعام والماء والهواء هي وسائل نقل األوبئة بشكل رئيسي‪ .‬ويعتبر تناول‬ ‫إن‬
‫األطعمة الملوثة من أهم وسائل انتقال األمراض‪ ،‬كالتيفود والزحار وشلل األطفال‬
‫والتهاب الكبد الفيروسي‪ ،‬حيث تنتقل جراثيم المرض من براز المريض أو حامل‬
‫المرض إلى اإلنسان‪ ،‬وذلك عن طريق اليد أو اآلنية‪.‬‬
‫ونسبة حدوث ذلك تعتمد اعتمادا كبيرا على مستوى نظافة الفرد والبيئة‬
‫ً‬
‫مالئما لنمو أغلب‬ ‫وذات الظل‪ ،‬تُعتبر ً‬
‫جوا‬
‫َ‬
‫وتطورها‪ ،‬وإن المناطق الباردة الرطبة‬
‫ّ‬
‫أنواع البكتيريا وبويضات الديدان‪ ،‬وذلك لخلوها من تأثير األشعة فوق البنفسجية‬
‫القاتلة للجراثيم والبويضات‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)552‬‬


‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)19795‬قال مخرجوه‪( :‬إسناده حسن)‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)269‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪721‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬
‫وبما أن البول والبراز يعتبران من مصادر هذه الجراثيم والديدان والبويضات‪،‬‬
‫حيث يحتوي الجرام الواحد من البراز على أكثر من مائة ألف مليون جرثومة‪ ،‬وبعض‬
‫الديدان منها تضع عدة آالف من البويضات‪ ،‬لذلك نصح رسول اهلل !‪ ،‬بعدم التبول‬
‫والتبرز في الظل‪ ،‬كما ذكرنا في حديث الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫وزفره يؤدي إلى انتقال كثير من األمراض المعدية‪،‬‬ ‫الرذاذ‬
‫ِ‬ ‫خ‬ ‫كما أن نف‬
‫كاألنفلونزا‪ ،‬وشلل األطفال‪ ،‬والنكاف‪ ،‬والحصبة األلمانية‪ ،‬والرشح والتهاب‬
‫ً‬
‫والجدري والسل‪ ،‬وغيرها من األمراض وخاصة الفيروسية‪ ،‬لذلك وجه‬ ‫ِ‬ ‫الحلق‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل !‪ ،‬أتباعه بعدم النفخ والتنفس في آنية األكل والشرب‪ :‬عن عبد‪ ‬اهلل‪ ‬بن‬
‫َ‬
‫تنفس في اإلناء أو يُنفخ فيه< أبو داود(‪.)1‬‬
‫عباس ‪ R‬قال‪> :‬نهى رسول اهلل ! أن ي ُ َ‬

‫بي ! أتباعه‬ ‫منعا النتشار األمراض المعدية‪ ،‬ومن هنا فقد وصى الن ّ ّ‬ ‫وذلك ً‬
‫بتغطية وجوههم أثناء العطاس‪.‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ K‬أن رسول اهلل ! >كان إذا عطس غطى وجهه بيديه أو‬
‫بثوبه‪ ،‬وغض بها صوته< رواه الترمذي(‪.)2‬‬
‫وعن أبي سعيد الخدري ‪ K‬قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬إذا تثاءب أحدكم‬
‫ُ‬

‫فليضع يده على فيه<(‪.)3‬‬


‫َ‬

‫إن اإلنسان حينما يعطس بغير حائل‪ ،‬ينتشر الرذاذ من فمه وأنفه لمسافة تتراوح‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ً‬
‫حوالي ثالثة ميترات‪ ،‬ويظل الرذاذ الدقيق معلقا في الهواء‪ ،‬وهو مليء بعدد هائل‬

‫((( سنن أبي داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)3728‬وسنن الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)1888‬قال األلباني‪:‬‬
‫(صحيح)‪.‬‬
‫((( سنن أبي داوود‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)5029‬وسنن الترمذي‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2745‬قال األلباني‪:‬‬
‫(حسن صحيح)‪.‬‬
‫((( مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)11889‬قال مخرجوه‪( :‬إسناده صحيح على شرط مسلم)‪.‬‬
‫‪722‬‬

‫من الكائنات الدقيقة تصل إلى ثالثة مليون جرثومة في السنتيمتر المربع من الرذاذ‬
‫المعلق‪.‬‬
‫ُ‬
‫اآلثار الضارة والمدمرة لهذا السلوك المشين ؟!‪.‬‬ ‫فلنتخيل كم هي‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد وردت هذه النصوص التي تحض على العناية بالبيئة‪ ،‬واالمتناع عما‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫عشر قرنا‪ ،‬حيث كان البشر على جهالة تامة بعلم الميكروبات‬ ‫يفسدها‪ ،‬منذ أربعة‬
‫والكائنات الدقيقة‪ ،‬التي تتسبب في حصول األوبئة واألمراض الفتاكة‪ ،‬التي‬
‫اكتشفت في عصرنا هذا‪ ،‬من خالل االستعانة بوسائل التقنية الحديثة‪.‬‬
‫بي األمي محمد ! إنما تكلم بوحي من خالق الكون‪،‬‬ ‫مما يدل على أن الن ّ ّ‬
‫فكان ذلك التطابق بين داللة نص الحديث النبوي الشريف‪ ،‬والحقيقة العلمية‬
‫الثابتة والمستقرة‪ ،‬مثااًل لإلعجاز العلمي‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪723‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫سبق التقدير يف اخللق‬


‫َ ّ ۡ َ َ ّ َ أۡ َ لۡىَ‬
‫ى﴾‬
‫ى ‪َ ٢‬و ذَّٱلِي قَ َّد َر َف َه َد ٰ‬
‫ع ‪ ١‬ذَّٱلِي َخلَ َق فَ َس َّو ٰ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬سبِحِ ٱسم ربِك ٱل‬
‫أ‬
‫[ال� ع��لى‪.]3-1 :‬‬
‫َ ۡ‬
‫ى﴾ [ط�ه‪.]50 :‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬قال َر ُّب َنا ٱل ٓ‬
‫ُ‬ ‫َۡ‬
‫ش ٍء َخلق ُهۥ ث َّم َه َد ٰ‬ ‫لُ َّ يَ‬
‫ِي أع َط ٰى ك ۡ‬ ‫ذَّ‬ ‫َ َ‬

‫َ َ َ ۡ َ َ ۡ ْ َ ۡ َ ُ ۡ ُ هَّ ُ خۡ َ ۡ َ ُ َّ ُ ُ ُ ٓ َّ َ ٰ َ لَىَ هَّ‬


‫ٱللِ يَسِري‪ٞ‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬أو لم يروا كيف يبدِئ ٱلل ٱللق ثم يعِيده ۚۥ إِن ذل ِك ع‬
‫َ َ َّ هَّ َ ٰلَىَ‬ ‫َ ُ ْ َ ۡ َ َ َ َ خۡ َ ۡ َ ُ َّ هَّ ُ ُ ُ َّ ۡ َ‬ ‫ُ ْ أۡ َ‬ ‫ُۡ‬
‫ئ ٱلنشأةَ ٱٓأۡلخِرة ۚ إِن ٱلل ع‬ ‫ۡرض فٱنظ ُروا كيف بدأ ٱللق ۚ ثم ٱلل ينشِ‬ ‫ِريوا يِف ٱل ِ‬‫‪ ١٩‬قل س‬
‫ِير﴾ [ا �ل�عن�� ��ك�بو ت�‪.]20-19 :‬‬ ‫ك يَ ۡ‬
‫شءٖ قَد ‪ٞ‬‬ ‫لُ ّ‬
‫ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ ّ ۡ َ َ ّ َ أۡ َ لۡىَ‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬سبِحِ ٱسم ربِك ٱل‬
‫ذَّ‬ ‫ع ‪ ١‬ذَّٱلِي َخلَ َق فَ َس َّو ٰ‬
‫ى ‪َ ٢‬وٱلِي‬
‫أ‬
‫ى﴾ [ال� ع��لى‪ ]3-1 :‬داللة صريحة على أن كل كائن في الوجود مخلوق‬ ‫قَ َّد َر َف َه َد ٰ‬
‫موروثة للوجهة الصحيحة‬ ‫َ‬
‫غرائز‬ ‫بقصد وفق‬ ‫ومهيأ‪ ،‬بال علم منه وال إدراك‪ ،‬وموجه‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫‪724‬‬

‫ّ‬
‫ابتداء‪ ،‬كي يؤدي وظائفه‪ ،‬متأقلما مع بيئته بطرق غاية في اإلحكام واإلتقان‪ ،‬تمكنه‬
‫من الحفاظ على ذاته وعلى نوعه‪.‬‬
‫َ َ َ ُّ َ ذَّ ٓ َ ۡ َ ٰ لُ َّ يَ ۡ َ ۡ َ ُ ُ َّ َ‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬قال ربنا ٱلِي أعطى ك ش ٍء خلقهۥ ثم هدى﴾ [ط�ه‪.]50 :‬‬
‫ٰ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬
‫أي‪ :‬هو ربنا الذي أعطى كل شيء من األشياء خلقه أي‪ :‬صورته‪ ،‬وشكله‬
‫َّ‬
‫الالئق‪ ،‬بما نيط به من الخواص والمنافع‪ ،‬أو أعطى مخلوقاته كل شيء تحتاج هي‬
‫َّ‬
‫إليه وترتفق به‪ ،‬وتقديم المفعول الثاني لالهتمام به‪ ،‬أو أعطى كل حيوان نظيره‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫والبعير بالناقة‪ ،‬والرجل‬ ‫في الخلق والصورة؛ حيث زوج الحصان بالفرس‪،‬‬
‫ْ‬
‫بالمرأة‪ ،‬ولم يزوج شيئا من ذلك بخالف جنسه‪.‬‬
‫َََ‬ ‫ُ‬
‫وقرئ خلقه على صيغة الماضي‪ :‬على أن الجملة صفة للمضاف أو المضاف‬
‫إليه‪ ،‬وحذف المفعول الثاني‪:‬‬
‫َ‬
‫خل َقه اهللُ‬
‫يحر ْمه من عطائه‬
‫ِ‬ ‫لم‬ ‫تعالى‪،‬‬ ‫إما لالقتصار على األول‪ ،‬أي‪ :‬كل شيء‬
‫وإنعامه‪.‬‬
‫أو لالختصار من كونه منويا مدلوال عليه بقرينة الحال‪.‬‬
‫َ‬
‫ى﴾‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫كل شيء خل َقه اهلل تعالى ما يحتاج إليه ﴿ ُث َّم َه َد ٰ‬ ‫َّ‬
‫أي‪ :‬أعطى‬
‫وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه‬ ‫ّ‬ ‫إلى طريق االنتفاع واالتفاق بما أعطاه‪،‬‬
‫وكماله ‪.‬‬
‫ولما كان الخلق الذي هو عبارة عن تركيب األجزاء‪ ،‬وتسوية األجسام‪،‬‬
‫متقدما على الهداية التي هي عبارة عن إبداع القوى المحركة‪ ،‬والمدركة في تلك‬
‫ّ‬
‫األجسام‪ ،‬وسط بينهما كلمة التراخي‪.‬‬
‫ولقد ساق عليه الصالة والسالم جوابه على نمط رائق‪ ،‬وأسلوب الئق‪ ،‬حيث‬
‫ٌ‬
‫منعم عليها بجميع ما يليق‬ ‫بيّن أنه تعالى عالم قادر بالذات‪ ،‬خالق لجميع األشياء‪،‬‬
‫ّ‬
‫وضمنه‪ :‬أن إرساله تعالى إلى الطاغية من جملة هداياته تعالى‬ ‫بها بطريق التفضل‪،‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪725‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬ ‫ّ‬
‫إياه‪ ،‬بعد أن هداه إلى الحق بالهدايات التكوينية‪ ،‬حيث ركب فيه العقل وسائر‬
‫المشاعر‪ ،‬واآلالتِ الظاهرة والباطنة(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫انتهت العلوم الطبيعية جميعا‪ ،‬مثل الفلك والفيزياء وعلم األحياء إلى نفي‬
‫الصدفة العمياء‪ ،‬ووجود تقدير مسبق في الخلق‪ ،‬وترابط وانسجام تام على كافة‬
‫المستويات ونظم ثابتة‪ ،‬وإال ما كانت العلوم الطبيعية جميعا لتكشف القوانين‬
‫الثابتة‪.‬‬
‫قال الفيزيائي هاوكنج ‪ < :Hawking‬ليس كل تاريخ العلم إال التحقق‬
‫التدريجي من أن األحداث لم تقع بطريقة اعتباطية؛ وإنما هي انعكاس لترتيب‬
‫ونظام ضمني أكيد >‪.‬‬
‫وقال‪ < :‬طالما أن للكون بداية (واحدة أكيدة) فحتما ال بد له من خالق (واحد) >‪.‬‬
‫والخلية الحية مثال أكثر تعقيدا وروعة في أداء وظائف الحياة مما كان يظن‬
‫دعاة الصدفة في القرن التاسع عشر؛ فهي تحتوي على محطات لتوليد الطاقة‪،‬‬
‫مدهشة إلنتاج اإلنزيمات‪ ،‬وأنواع من الهرمون عديدة كلها الزمة للحياة‪،‬‬ ‫َ‬
‫ومصانع‬
‫ٍ‬
‫ِّ‬
‫وال يوجد في الخلية وظيفة تؤدى عبثا بال فائدة‪.‬‬
‫ُ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫نقل وخطوط أنابيب لنقل المواد الخام‪ ،‬والمنتجات ومختبرات‬ ‫وفيها نظم ٍ‬
‫بارعة‪ ،‬ومحطات تكرير تحلل المواد الخام إلى أجزائها األبسط‪ ،‬وبروتينات‬
‫حراسة متخصصة تغلف أغشية الخلية لمراقبة المواد الداخلة والخارجة‪ ،‬وبرنامج‬
‫بالمعلومات الضرورية لتنسيق األعمال لتقع في وقتها المناسب المقدر وراثيا سلفا‬
‫داخل جيناتها‪.‬‬

‫((( تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (‪.)20 /6‬‬
‫‪726‬‬

‫وقد رأى البعض بحساب االحتماالت أنه أيسر لقرد يعبث بمفاتيح آلة كاتبة أن يصنع‬
‫قصيدة صدفة من صنع بروتين واحد صدفة؛ فما بالك بالنظام والتخطيط والتصميم‬
‫البديع الذي نراه في كل الكائنات الحية‪ ،‬وجميع التكوينات في الكون أجمع‪.‬‬

‫خلية حية ويظهر مدى التصميم البديع فيها‬

‫ونشأة خلية واحدة من ذاتها يعد احتماال مستحيال مثل احتمال قيام القرد بكتابة‬
‫تاريخ البشرية كله على آلة كاتبة بال أخطاء‪.‬‬
‫وقد بين السير ِف ِِرد هويل ‪ Sir Fred Hoyle‬في مقالة نشرت عام ‪ 1981‬أن‬
‫احتمال ظهور أشكال الحياة صدفة يقارن بفرصة قيام سيل يمر بساحة خردة بتجميع‬
‫طائرة بوينج ‪ 747‬صالحة للطيران‪ ،‬والنتيجة التي يقود إليها العلم والمنطق؛ وليس‬
‫اإليمان فحسب‪ ،‬هي أن كل الكائنات في الوجود قد جاءت بتقدير وقصد‪.‬‬
‫ومن يظل معتقدا في عصرنا بالفلسفة المادية‪ ،‬بعدما دحضها العلم في مجاالت‬
‫نفسه من المحققين‪ ،‬قال ماكس بالنك‪> :‬ينبغي‬ ‫علمية شتى‪ ،‬عليه أال يحسب َ‬
‫على كل من يدرس العلم بجدية أن يقرأ العبارة اآلتية على باب محراب العلم‪:‬‬
‫َ َّ‬
‫(تحلى باإليمان)<‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪727‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وقال الدكتور مايكل بيهي‪ < :‬على مدى األربعين سنة الماضية اكتشف علم‬
‫الكيمياء الحيوية‪ ..‬أسرار الخلية‪ ،‬وقد استلزم ذلك تضافر جهود عشرات اآلالف‬
‫من األشخاص الذين قضوا زهرة حياتهم في البحث العلمي ‪..‬‬
‫وقد تجسدت نتيجة كل هذه الجهود المتراكمة‪ ..‬لدراسة الخلية‪ ..‬في صرخة‬
‫عالية مدوية تقول‪ :‬التصميم المبدع؛ والتصميم المبدع يؤدي ً‬
‫حتما إلى التسليم‬
‫بوجود الخالق >‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن تجدد الخلق في األحياء لتحمل نفس سمات وسلوك األسالف‪ ،‬والوظائف‬
‫المحددة لكل خلية وعضو‪ ،‬وتكيف كل كائن مع بيئته بما يحفظ حياته وبقاء نوعه‪،‬‬
‫وانسجام كل عضو في الجسم مع مثيله‪ ،‬وتناسب كل زوج مع جنسه ونظيره؛ هو‬
‫عند النابهين دليل أكيد على سبق التقدير وحسن التدبير‪ ،‬ناطقا بجالل المبدع‬
‫القدير‪ ،‬وهذا ما يُعلنه القرآن الكريم‪ ،‬وال يصعب إدراكه حتى على البسطاء‪:‬‬
‫أ‬ ‫َ ّ ۡ َ َ ّ َ أۡ َ لۡىَ‬
‫ى﴾ [ال� ع��لى‪.]3-1 :‬‬
‫ى ‪َ ٢‬و ذَّٱلِي قَ َّد َر َف َه َد ٰ‬
‫ع ‪ ١‬ذَّٱلِي َخلَ َق فَ َس َّو ٰ‬ ‫﴿سبِحِ ٱسم ربِك ٱل‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪729‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اإلعجاز العلمي يف عجب الذنب‬

‫عن أبي هريرة ‪ K‬أن رسول اهلل ! قال >كل ابن آدم يأكله التراب إال عجب‬
‫ُ‬
‫الذنب‪ ،‬منه خلق وفيه يركب<(‪ )1‬أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وابن‬
‫ماجه وأحمد في المسند ومالك في الموطأ‪.‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫عجب الذنب هو بفتح العين المهملة وإسكان الجيم وآخره باء موحدة‪ ،‬ويقال‬
‫له عجم الذنب بالميم أيضا‪ :‬وهو العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب‪ ،‬وأعلى‬
‫ما بين األليتين‪ ،‬وهو رأس العصعص‪ ،‬وهو مكان رأس الذنب من ذوات األربع‬
‫من الحيوان‪.‬‬
‫قوله‪> :‬يأكله التراب< يحتمل أن تعدم‬
‫أجزاؤه بالكلية‪ ،‬ويحتمل أنها باقية لكن‬
‫زالت أعراضها المعهودة‪ ،‬أنه لهذا أضيف‬
‫إلى الذنب طرح وفيه أن عجب الذنب‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫العصعص‬ ‫ال يبلى وال تأكله األرض‪ ،‬بل يبقى على‬


‫حاله‪ ،‬وإن بلي جميع جسد الميت‪ ،‬وبهذا‬
‫قال جمهور العلماء من السلف والخلف(‪.)2‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)142/2955‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)8283‬واللفظ له‪ ،‬وصحيح‬
‫البخاري‪ ،‬حديث رقم (‪ )4814‬بنحوه‪ ،‬وانظر تخريجه مفصال ً في مسند أحمد (‪.)38/14‬‬
‫((( طرح التثريب في شرح التقريب (‪.) 308 -307 /3‬‬
‫‪730‬‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫اكتشف علماء األجنة أن اإلنسان في مراحل تخليقه األولية تخلق جميع أعضائه‬
‫من جزء واحد‪ ،‬يظهر هذا الجزء قبل أن يتكون أي‪ :‬عضو ويسمى الشريط األولي‪.‬‬
‫ومنه تتخلق جميع أعضائه وأنسجته‪ ،‬ثم يستقر بعد ذلك في منطقة العصعص آخر‬
‫فقرة أسفل العمود الفقري‪ ،‬ولبيان ذلك‪:‬‬
‫تبدأ حياة ابن آدم عندما يقوم الحيوان المنوي بتلقيح البويضة لتتكون أول‬
‫خلية‪ ،‬والتي تسمى الزيجوت‪ ،‬هذه الخلية تبدأ في التكاثر؛ فتنقسم إلى خليتين‪ ،‬ثم‬
‫إلى أربع‪ ،‬ثم إلى ثمان‪ ،‬وهكذا حتى تصبح كتلة كروية من الخاليا‪ ،‬تسمى‬
‫الموريوال‪ ،‬ثم تنتظم خاليا الموريوال على شكل طبقتين؛ ليتحول الجنين إلى قرص‬
‫جنيني مكون من طبقتين الطبقة الظهرية االبيبالست والطبقة الداخلية الهيبوبالست‪.‬‬
‫في اليوم الخامس عشر من عمر الجنين يظهر الشريط األولي على طبقة‬
‫ً‬
‫االبيبالست‪ ،‬وتكون نهايته الرأسية مدببة‪ ،‬تسمى العقدة األولية‪.‬‬
‫بمجرد ظهور هذا الشريط‪ ،‬تقوم خاليا طبقة االبيبالست بالهجرة إليه‪ ،‬ومن ثم‬
‫تتكاثر بداخله وتنمو تجمعاتها‪ ،‬وبعد ذلك تأخذ التعليمات من الشريط األولي‪،‬‬
‫وتدخل إلى تجويف القرص الجنيني مكونة طبقة الميزودرم‪ ،‬وطبقة االندودرم‪،‬‬
‫والحبل الظهري‪.‬‬
‫يتكون من طبقة الميزودرم العظام‪ ،‬والعضالت‪ ،‬والجهاز الدوري‪ ،‬والكليتان؛‬
‫ويتكون من االندودرم الجهاز الهضمي‪ ،‬والتنفسي‪ ،‬والبولي‪ ،‬عدا الكليتين؛‬
‫ويتكون من الحبل الظهري الجهاز العصبي المركزي الذي يتكون من المخ والحبل‬
‫الشوكي‪ .‬إذن من الشريط األولي تكونت جميع أعضاء الجنين‪.‬‬
‫بعد أن يؤدي الشريط األولي دوره في تخليق طبقات وأعضاء الجنين يصغر‬
‫حجمه ويستقر في آخر فقرة أسفل العمود الفقري‪ ،‬ليكون عجب الذنب الذي‬
‫َ‬
‫أخبرنا عنه نبينا ورسولنا محمد !‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪731‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫أخبرنا نبينا محمد !‪ :‬أن ابن آدم يتم تخليقه من جزء واحد‪ ،‬يقع في أسفل‬
‫العمود الفقري‪ ،‬يسمى عجب الذنب‪ ،‬ومنه يُعاد تركيب اإلنسان يوم القيامة‪ ،‬وهو‬
‫يقاوم عوامل البلى‪ ،‬وجاء العلم الحديث‪ ،‬فاكتشف علماء األجنة هذا الجزء‪،‬‬
‫وأنه يتم تخليق أعضاء الجنين منه‪ ،‬ثم يستقر في آخر فقرة أسفل العمود الفقري‪.‬‬
‫ليدل على صدق ما جاء به نبينا محمد‪ ‬بن عبد‪ ‬اهلل ! وأنه رسول من عند اهلل‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪733‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫نوم القيلولة‬

‫>قيلوا‪ ..‬فإن الشياطين ال تقيل< (‪.)1‬‬


‫عن أنس قال رسول اهلل !‪ِ :‬‬
‫قال األلباني‪ < :‬حسن > رواه الطبراني في األوسط وأبو نعيم في الطب عن أنس(‪.)2‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله‪( :‬قيلوا)‪ :‬أمر من القيلولة‪ ،‬قال الجوهري‪ :‬وهي النوم في الظهيرة‪،‬‬
‫وقال األزهري‪ :‬القيلولة والقيل عند العرب االستراحة نصف النهار‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫َ‬
‫معه نوم بدليل قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأ ۡح َس ُن َمقِيل﴾ [ا �ل��ف��رق��ا ن�‪ ]24 :‬والجنة ال نوم فيها‪،‬‬
‫وعمل السلف والخلف على أن القيلولة مطلوبة إلعانتها على قيام الليل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫(فإن الشياطين ال تقيل)‪ :‬ومخالفتهم مرادة هلل تعالى‪ ،‬والحديث ظاهر في أن‬
‫اإلسالم‪ :‬إنما تطلب القيلولة لمن يقوم‬ ‫الحث عليها لمخالفة الشياطين‪ ،‬وقال حجة ِ‬
‫بالليل‪ ،‬ويسهر في الخير‪ ،‬فإن فيها معونة على التهجد‪ ،‬كما أن في السحور معونة‬
‫على صيام النهار‪ ،‬فالقيلولة من غير قيام بالليل كالتسحر من غير صيام النهار(‪.)3‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫وقد أتى العلم الحديث ليؤكد فوائد نوم القيلولة في زيادة إنتاجية الفرد‪،‬‬
‫وتحسين قدرته على متابعة نشاطه اليومي‪.‬‬

‫((( صحيح الجامع الصغير وزيادته (‪ ،)815 /2‬حديث رقم (‪.)4431‬‬


‫((( الصحيحة (‪.)1647‬‬
‫((( التنوير شرح الجامع الصغير (‪ )99 /8‬محمد‪ ‬بن إسماعيل الصنعاني‪ ،‬المعروف باألمير ‪.‬‬
‫‪734‬‬

‫وأكد الباحثون في دراسة نشرت في مجلة >العلوم النفسية< عام ‪ :2002‬أن‬


‫القيلولة لمدة ‪ 10‬ـ ‪ 40‬دقيقة (وليس أكثر) تكسب الجسم راحة كافية‪ ،‬وتخفف‬
‫من مستوى هرمونات التوتر المرتفعة في الدم‪ ،‬نتيجة النشاط البدني والذهني الذي‬
‫بذله اإلنسان في بداية اليوم‪.‬‬
‫ويرى العلماء أن النوم لفترة قصيرة في النهار يريح ذهن اإلنسان وعضالته‪،‬‬
‫َ‬
‫وحماسه للعمل‪.‬‬ ‫ويعيد شحن قدراته على التفكير والتركيز‪ ،‬ويزيد إنتاجيته‬
‫وأكد الباحثون أن نوم القيلولة في النهار لمدة ال تتجاوز ‪ 40‬دقيقة ال تؤثر على فترة‬
‫َ‬
‫النوم في الليل‪ ،‬أما إذا امتدت ألكثر من ذلك‪ ،‬فقد تسبب األرق وصعوبة النوم‪.‬‬
‫وتقول الدراسة التي تمت تحت إشراف الباحث األسباني د‪ .‬إيسكاالنتي‪ < :‬إن‬
‫القيلولة تعزز الذاكرة والتركيز‪ ،‬وتفسح اجملال أمام دورات جديدة من النشاط‬
‫الدماغي في نمط أكثر ارتياحا >‪.‬‬
‫كما شدد الباحثون على عدم اإلطالة في القيلولة‪ ،‬ألن الراحة المفرطة قد تؤثر‬
‫على نمط النوم العادي‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫درج القيلولة‬
‫وأشار الدكتور >إيسكاالنتي< إلى أن الدول الغربية بدأت ت ِ‬
‫في أنظمتها اليومية‪ ،‬وأوصى بقيلولة تتراوح بين ‪ 10‬ـ ‪ 40‬دقيقة‪.‬‬
‫ولقد ثبت ارتفاع تأثيرات هرمون األدرينالين في هذا الوقت لوجود تغيرات‬
‫دورية لها عالقة بذلك االرتفاع‪ ،‬ولذلك فإن الجسم وخاصة العضو الحيوي فيه‪،‬‬
‫ضه‬ ‫تعر َ‬
‫وهو القلب‪ ،‬يمر بمجهود مرتفع في هذه الفترة‪ ،‬لذلك من األحسن أن ال ّ‬
‫ً‬
‫إلى التوتر ومسببات اإلجهاد اإلضافي‪ ،‬حيث يفرض على القلب عماًل زائدا‬
‫عن عمله الفسيولوجي المرتفع أصاًل في هذه الفترة‪.‬‬
‫والقيلولة تسحب اإلنسان لفترة ما من خ َ‬
‫ض ِّم حياته اليومية‪ ،‬وما فيها‬ ‫ِ‬
‫من مسببات التوتر الحاد‪ ،‬ولذلك فإنها وسيلة وقائية من الوقوع في األزمات القلبية‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪735‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وغيرها‪ ،‬حيث إن االسترخاء والراحة يزيح ذلك اجملهود‪ ،‬ويمنع من تجاوز خط‬
‫اإلجهاد األحمر الذي يحدث فيه ما ال تحمد عقباه‪.‬‬
‫وخالصة القول‪ :‬إن األدرينالين يرتفع بعد الزوال إلى حد الذروة‪ ،‬مع ما يتبع‬
‫َ‬
‫ذلك من كثافة في عمل القلب؛ فتأتي القيلولة لتوفر له الهدوءَ واالسترخاء‪ ،‬وتبعده‬
‫َ‬
‫المفرز في هذا الوقت‪.‬‬ ‫عن اإلثارة‪ ،‬وبالتالي تخفض من كمية األدرينالين‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ً‬
‫وغالبا‬ ‫يرشدنا الرسول ! إلى النوم‪ ،‬ولو لفترة وجيزة في منتصف النهار‪،‬‬
‫تكون هذه الفترة مناسبة بين الظهر والعصر‪ ،‬وهي التي تسمى بفترة القيلولة‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬
‫جاء الكشف العلمي الحديث بحقيقة مفادها‪ :‬أن في الركون إلى الراحة خالل‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫هذه الفترة وقاية لإلنسان من األزمات القلبية‪ ،‬ووقاية من اإلجهاد النفسي‪ ،‬فكان‬
‫آخر من شواهد اإلعجاز العلمي؛ ألن الناس في زمن‬ ‫في ذلك التطابق شاهد ُ‬
‫التنزيل لم يكونوا على دراية بتلك الحقيقة‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪737‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫تكوين احلبوب من املادة اخلضراء‬

‫َ َ َ لُ ّ يَ ۡ َ َ ۡ‬
‫ش ٖء فأخ َر ۡج َنا‬ ‫ك‬ ‫ات‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ٱلس َمآءِ َما ٓ ٗء فَأَ ۡخ َر ۡج َ‬
‫ن‬ ‫ِي أَ َ‬
‫نز َل م َِن َّ‬ ‫قال اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬و ُه َو ذَّٱل ٓ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‬ ‫ان َدان َِية‪َ ٞ‬و َج َّنٰت ّم ِۡن أَ ۡع َ‬
‫ن‬
‫َ ۡ َ َۡ ‪ٞ‬‬
‫و‬ ‫ِن‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ط‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫ۡ ُ َ ٗ خُّ ۡ ُ ۡ ُ َ ّٗ ُّ رَ َ ٗ َ َ َّ ۡ‬
‫ٖ‬ ‫ٖ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ضا ن ِرج مِنه حبا متاكِبا ومِن ٱنل ِ‬
‫خ‬ ‫مِنه خ رِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ىَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َّ ۡ ُ َ َ ُّ َّ َ‬
‫ُ‬
‫شب ِ ٍهۗ ٱنظ ُر ٓوا إ ِ ٰل ث َم ِره ِۦٓ إِذا أث َم َر َو َي ۡن ِعهِۚۦٓ إِن يِف ذٰل ِك ۡم‬
‫ُ‬ ‫ي ُمتَ َ ٰ‬‫ان ُمشتَب ٗها َوغ رۡ َ‬
‫ِ‬ ‫وٱلزيتون وٱلرم‬
‫نأ‬
‫ت ل ِق ۡو ٖم يُؤم ُِنون﴾ [ال� ��ع�ا �م‪.]99 :‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َٰ ّ َ‬
‫ٓأَلي ٖ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ََ ۡ‬
‫ضا﴾‪ :‬أي من النبات‪.‬‬‫﴿فأخ َر ۡج َنا م ِۡن ُه َخ رِ ٗ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غضا أخضر ﴿ن ِر ُج م ِۡن ُه ﴾‪ :‬أي من الخضر ﴿ َح ّبا‬ ‫ضا ﴾‪ :‬أي شيئا‬ ‫﴿ َخ رِ ٗ‬
‫ٗ‬ ‫خُّ ۡ‬

‫تاك ِٗبا﴾‪ :‬أي بعضه على بعض‪.‬‬ ‫ُّم رَ َ‬

‫حب منضود‬ ‫﴿ َوم َِن ٱنلَّ ۡخل مِن َط ۡلعِ َها﴾‪ :‬الطلع‪ :‬غالف يشبه الكوز ينفتح عن ّ‬
‫ِ‬
‫فيه مادة إخصاب النخلة‪.‬‬
‫﴿ ق ِۡن َوان﴾‪ :‬جمع قنو وهو العذق الذي هو عنقود النخل‪.‬‬
‫‪ٞ‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫َ ۡ‬
‫اب﴾‪ :‬أي وأخرجنا جنات من أعناب‪.‬‬ ‫﴿ َو َج َّنٰ ّ ۡ َ‬
‫ت مِن أعن ٖ‬ ‫ٖ‬
‫ً‬
‫مختلفا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ثمرها‪ ،‬وقيل‬ ‫مشتبها ورقها‬ ‫شب ِ ٍهۗ﴾‪:‬‬ ‫ان ُم ۡشتَب ٗها َو َغ رۡ َ‬ ‫﴿وٱلزيتون وٱلرم‬
‫ي ُمتَ َ ٰ‬ ‫َ َّ ۡ ُ َ َ ُّ َّ َ‬
‫ِ‬
‫مختلف في المطعم‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫متشابه في المنظر‪،‬‬‫ٌ‬

‫أصل في تكوين كل المواد‬ ‫ٌ‬ ‫ويقر القرآن الكريم أن المادة الخضراء هي‬
‫التي تنتج منها األزهار والثمار‪ ،‬وتنمو بها الزروع واألشجار‪ ،‬وبالتالي فإن ما يتفق‬
‫به اإلنسان من مختلف الغراس والمزروعات ترجع في أصل األنعام بها إلى ذلك‬
‫اليخضور‪.‬‬
‫‪738‬‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫هذه المصانع الخضراء تخرج من النبات عند بدء نموه‪ ،‬والنبات يخرجه الماء‬
‫من بذوره وأصوله‪ .‬ويخرج من النبات هذه األوراق أو المصانع الخضراء التي‬
‫ُ‬
‫وسائر أجزاء‬ ‫منها تخرج المواد الغذائية التي تتكون منها الحبوب والثمار‪ ،‬بل‬
‫النبات‪.‬‬

‫وهذه الحقيقة جهلتها البشرية‪ ،‬ولم تعرفها إال بعد بحث استغرق ثالثمائة‬
‫ً‬
‫عام‪ ،‬بداية من عام ‪1600‬م‪ ،‬حيث أجرى علماء فسيولوجيا النبات أبحاثا وتجارب‬
‫كثيرة؛ لمعرفة عملية البناء الضوئي‪.‬‬
‫ففي عام ‪1804‬م قال دي سواسير‪ < :‬إن هناك نوعين من التبادل الغازي‪،‬‬
‫أحدهما‪ :‬يحدث في الضوء‪ ،‬واآلخر في الظالم‪ ،‬وإن األجزاء الخضراء هي التي‬
‫تمتص ثاني أكسيد الكربون‪ ،‬وتطلق األوكسجين في الضوء >‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪739‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫واستمرت االكتشافات المتواصلة في هذا اجملال‪ ،‬وفي عام ‪1942‬م قال‬


‫ماير‪ < :‬إن المصدر النهائي للطاقة المستخدمة في كل من النبات والحيوان هي‬
‫ُ‬
‫الشمس‪ ،‬وإن الطاقة الضوئية عندما تمتص في النباتات تتحول إلى طاقة كيماوية‪،‬‬
‫عن طريق التمثيل الضوئي >‪.‬‬
‫وقال جالس ‪1961‬م‪ :‬إن المركبات األكثر أهمية في تحويل الطاقة الضوئية إلى‬
‫َ‬
‫طاقة كيميائية في النبات‪ ،‬هي الصبغات التي توجد داخل البالستيدات الخضراء‬
‫>أو حامالت الصبغات<‪ .‬ينتج عنها بناء خامات الجدار الخلوي واألحماض النووية‬
‫والبروتينات والدهون والهرمونات النباتية والصبغات‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫من عظمة القرآن الكريم أن يذكر الحقيقة‪ ،‬وأن يأخذ بأيدي الناس للوقوف‬
‫على أول الطريق‪ ،‬لمن أراد معرفة السر‪ ،‬فيقول‪> :‬انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه<‪،‬‬
‫فهو يوجه النظر إلى بداية تكون الثمرة وعالقتها باإليناع‪ ،‬الذي يتوقف عنده إنتاج‬
‫تلك الثمار؛ بسبب اصفرار أوراق بعض النباتات وموت خالياها‪.‬‬
‫ً‬
‫فمن أخبر محمدا ! بهذه الحقيقة؟ إن اشتمال القرآن على هذه المعلومات‬
‫هَّ ُ َ ۡ َ ُ َ ٓ َ َ َ يَ ۡ َ َ َ هَ‬
‫النباتية الدقيقة يشهد أنه من عند اهلل القائل‪﴿ :‬ل ٰ ِ‬
‫َّ‬
‫نز ُلۥ‬ ‫ك ِن ٱلل يشهد بِما أنزل إِلك ۖ أ‬
‫يدا﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪.]166 :‬‬ ‫َ ۡ َ َ ٰٓ َ ُ َ ۡ َ ُ َ َ َ ىَ ٰ هَّ‬
‫ٱللِ َشه ً‬ ‫ۡ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ِ‬ ‫ون وكف ب ِ‬‫بِعِل ِمهِۖۦ وٱلملئِكة يشهد ۚ‬


‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ ٓ َ ُ ۡ َ ىَّ َ َ َ نَّ َ َ ُ ۡ َ َّ ُ حۡ َ َ َ‬ ‫﴿ َس رُ ۡ َ َ َ‬
‫ٱل ُّق ۗأ َو ل ۡم يَك ِف ب ِ َر ّبِك‬ ‫ت يتبي لهم أنه‬ ‫س ِهم ح ٰ‬ ‫ني ِهم ءايٰتِنا يِف ٱٓأۡلف ِ‬
‫اق و يِف أنف ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ ُ لَىَ ٰ لُ ّ‬
‫شءٖ ش ِهيد﴾ [����ص�ل� ت�‪.]53 :‬‬
‫ف‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫يَ‬
‫ك ۡ‬
‫أنهۥ ع ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪741‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫األرض وعلوم البحار‬


‫‪2‬‬
‫أخفض منطقة على وجه البسيطة‬
‫َ ۡ ىَ أۡ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ال ٓم ‪ ١‬غل َِب ِ‬
‫ۡ َ‬ ‫ََ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٓ‬
‫ۡرض َوهم ّ ِم ۢن َب ۡع ِد غلب ِ ِه ۡم َس َيغل ُِبون‬ ‫ف أدن ٱل ِ‬ ‫وم ‪ ٢‬يِ ٓ‬ ‫ٱلر ُ‬
‫ت ُّ‬
‫َ‬
‫نص‬
‫َ رۡ هَّ‬
‫ٱللِۚ يَ رُ ُ‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫‪٤‬‬
‫َُۡ َ ۢ َۡ ُ َََۡ َۡ َ ُ ُۡ ۡ ُ َ‬
‫ون‬ ‫ِن‬‫م‬‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫ذ‬
‫ٖ‬ ‫ئ‬ ‫م‬‫و‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫د‬
‫ۚ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ر‬‫ني ۗ للِهَّ ِ أۡٱل ۡم ُ‬
‫‪ ٣‬ف ب ۡضعِ ِسن َ‬
‫ِ‬
‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يِ ِ‬
‫اَ‬ ‫رَ‬ ‫ۡ‬
‫ك َّن أك َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫هَّ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫خُ‬
‫ِيم ‪َ ٥‬وع َد ٱللِ ل يل ِف ُ َ‬ ‫اَ‬ ‫هَّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ‬
‫َمن ي َ َشا ُء ۖ َوه َو ٱل َعز ُ‬
‫ُ‬
‫اس ل‬ ‫ث ٱنلَّ ِ‬ ‫ٱلل َوعدهُۥ َول ٰ ِ‬ ‫ۖ‬ ‫ٱلرح ُ‬ ‫يز َّ‬
‫ِ‬
‫َي ۡعل ُمون﴾ [ا �لرو�م‪.]6-1 :‬‬
‫َ َ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ ۡ ىَ أۡ َ‬
‫ف أدن ٱلۡرض﴾ ففيه قوالن‪:‬‬
‫ِ‬ ‫قال الماوردي‪ :‬فأما قوله تعالى‪ ﴿ :‬يِ ٓ‬

‫أحدهما‪ :‬في أدنى أرض فارس؛ حكاه النقاش‪.‬‬


‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الثاني‪ :‬في أدنى أرض الروم‪ ،‬وهو قول الجمهور وفي أدنى أرض الروم أربعة‬
‫أقاويل‪:‬‬
‫ *أحدها‪ :‬أطراف الشام‪ ،‬قاله ابن عباس‪.‬‬
‫ *الثاني‪ :‬الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى فارس‪ ،‬قاله مجاهد‪.‬‬
‫ *الثالث‪ :‬األردن وفلسطين‪ ،‬قاله السدي‪.‬‬
‫‪742‬‬

‫ *الرابع‪ :‬أذرعات الشام وكانت بها الوقعة(‪.)1‬‬


‫َۡ‬
‫قال الشعراوي‪ :‬قوله ﴿أدن‪[ ﴾ . . .‬ا �لرو�م‪ ]3 :‬يعني‪ :‬أقرب ألرض العرب‪ ،‬كما في‬
‫ُ ْ‬ ‫أ‬ ‫ۡ َ ُ ۡ ُ ۡ َ ُّ ۡ َ َ ُ ۡ‬
‫فالعدوة الدنيا أي‪ :‬القريبة‬ ‫ى﴾ [ ال� ن���ف���ا ل‪:]42 :‬‬
‫ٱل ُع ۡد َوة ِ ۡٱل ُق ۡص َو ٰ‬‫﴿إِذ أنتم بِٱلعدوة ِ ٱدلنيا وهم ب ِ‬
‫َ ۡ ىَ أۡ َ‬ ‫ُ‬
‫والق ْ‬
‫ۡرض‪ [ ﴾ . . .‬ا �لرو�م‪] 3 :‬‬
‫ف أدن ٱل ِ‬ ‫صوى البعيدة عنها‪ .‬فالمعنى ﴿ يِ ٓ‬ ‫من المدينة‪،‬‬
‫أقرب أرض للجزيرة العربية‪.‬‬
‫وفي قوله سبحانه‪َ ﴿ :‬و ُهم ّ ِم ۢن َب ۡع ِد غلب ِ ِه ۡم َس َيغل ُِبون﴾ [ ا �لرو�م‪ ]3 :‬بشرى للمسلمين‪،‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ‬

‫فالفرس قوم كانوا يعبدون النار‪ ،‬أما الروم فأهل كتاب‪ ،‬إذن‪ :‬فالخالف بيننا وبين‬
‫َ‬
‫أما الخالف بيننا وبين الروم ففي القمة الرسالية‪ ،‬ف ُهم‬ ‫الفرس في القمة اإللهية‪َّ ،‬‬
‫ْ‬
‫أقرب إلينا؛ ألنهم يؤمنون بإلهنا‪ ،‬وإن كانوا اليؤمنون برسولنا‪.‬‬
‫أقرب إلى نفوسنا من الذي‬ ‫ُ‬ ‫وهذا من عظمة اإلسالم‪ ،‬فالذي يؤمن باإلله‬
‫ُ‬
‫ال يؤمن باإلله؛ ألنه على األقل موصول بالسماء؛ لذلك لما غ ِلبت الروم فرح‬
‫كفار قريش وحزن المؤمنون‪ ،‬وفرح كفار قريش ألن في هزيمة الروم دلياًل على‬
‫ً‬
‫أن محمدا وأصحابه سينهزمون كأصحابهم(‪.)2‬‬
‫َ ۡ ىَ أۡ َ‬
‫ۡرض﴾‪ :‬أي أدنى بالد الروم إلى بالد العرب‪.‬‬
‫ف أدن ٱل ِ‬ ‫قال ابن عاشور‪ :‬قوله‪ ﴿ :‬يِ ٓ‬

‫فالتعريف في األرض للعهد‪ ،‬أي‪ :‬أرض الروم المتحدث عنهم‪ ،‬أو الالم‬
‫عوض عن المضاف إليه‪ ،‬أي‪ :‬في أدنى أرضهم‪ ،‬أو أدنى أرض اهلل‪ .‬وحذف متعلق‬
‫أدنى لظهور أن تقديره‪ :‬من أرضكم‪ ،‬أي‪ :‬أقرب بالد الروم من أرض العرب‪ ،‬فإن‬
‫بالد الشام تابعة يومئذ للروم‪ ،‬وهي أقرب مملكة للروم من بالد العرب‪ .‬وكانت‬
‫هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم(‪.)3‬‬

‫((( تفسير الماوردي = النكت والعيون (‪.)298 /4‬‬


‫((( تفسير الشعراوي (ص‪.)7081 :‬‬
‫((( التحرير والتنوير (‪.)43 /21‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪743‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫توضح المصورات الجغرافية مستوى المنخفضات األرضية في العالم‪ ،‬فنرى‬
‫أن أخفض منطقة على سطح األرض هي تلك المنطقة التي بقرب البحر الميت في‬
‫فلسطين‪ ،‬حيث تنخفض عن سطح البحر بعمق حوالي ‪ً )395( 400‬‬
‫مترا‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬
‫وقياسات األقمار االصطناعية‪.‬‬ ‫ُ‬
‫صور‬ ‫أكدت ذلك‬
‫َ‬
‫وهذا مثال مدهش عما يكشفه القرآن الكريم عن المستقبل‪ ،‬يمكننا أن نجده‬
‫في تلك اآليات األولى من سورة الروم‪ ،‬التي تشير إلى اإلمبراطورية البيزنطية؛‬
‫وهي الجزء الشرقي من اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬إذ تذكر هذه اآلية أن اإلمبراطورية‬
‫البيزنطية هزمت هزيمة نكراء‪ ،‬ولكنها سوف تنتصر بعد ذلك بوقت قصير‪.‬‬
‫واآلية التي تتحدث عن هذا الموضوع نزلت بعد هزيمة اإلمبراطورية على يد‬
‫الفرس الوثنيين‪ ،‬وقد أشارت اآلية إلى أن الروم البيزنطيين سوف يحرزون النصر‬
‫في معركة أخرى قريبة‪.‬‬
‫خسائر جسيمة‪ ،‬جعلت ْ‬ ‫ُ‬
‫أم َر‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫وبالفعل فقد عانى الروم البيزنطيون حينها من‬
‫بقا ِء إمبراطوريتهم على المحك‪ ،‬ولذلك كان من المستبعد انتصارها مرة أخرى‪،‬‬
‫الخطر الوحيد الداهم‪ ،‬بل كان معهم ً‬
‫أيضا العفاريون‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الفرس فقط هم‬ ‫فلم يكن‬
‫والسالف‪ ،‬واللومبارديون‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫فقد وصل العفاريون إلى أسوار القسطنطينية‪ ،‬فأمر إمبراطور البيزنطيين آنذاك‬
‫هرقل أن يصهروا الذهب والفضة الموجودة في الكنائس‪ ،‬ويحولوها إلى أموال‬
‫ً ُ‬
‫كافيا‪ ،‬أذيبت حتى التماثيل البرونزية‬ ‫تغطي نفقات الجيش‪ ،‬وعندما لم يكن ذلك‬
‫ب الكثير من الوالة ضد هرقل‪ ،‬ووصلت اإلمبراطورية‬ ‫وح ِّولت إلى أموال‪ ،‬مما ّأل َ‬
‫ُ‬
‫ًّ‬
‫في عهده إلى مشارف االنهيار‪ .‬فقد غزا الفرس الوثنيون كال من وادي الرافدين‬
‫وسوريا وفلسطين ومصر التي كانت من قبل تحت الحكم البيزنطي‪.‬‬
‫‪744‬‬

‫وباختصار فإن الجميع كانوا يتوقعون أن تدمر اإلمبراطورية البيزنطية‪،‬‬


‫وفي تلك الظروف نزلت اآليات األولى من سورة الروم بغير المتوقع من الجميع‪،‬‬
‫النصر في غضون بضع سنوات‬ ‫َ‬ ‫لتعلن أن اإلمبراطورية البيزنطية سوف تحرز‬
‫من هزيمتها‪.‬‬
‫وهذا النصر بدا مستحياًل في أعين العرب المشركين‪ ،‬إلى درجة دفعت بهم‬
‫إلى السخرية من هذه اآليات القرآنية‪ ،‬وظنوا أن هذا النصر الموعود في القرآن‬
‫لن يتحقق‪.‬‬
‫وبعد ما يقارب السبع سنوات من نزول اآليات من سورة الروم‪ ،‬في شهر‬
‫ديسمبر من عام ‪627‬م وقعت معركة حاسمة بين البيزنطيين وإمبراطورية الفرس‬
‫َ‬
‫الفرس‪.‬‬ ‫بمنطقة ناي نيفا ‪ ،Nineveh‬وهذه المرة ولدهشة الكل هزم البيزنطيون‬
‫وبعد أشهر قليلة لجأ الفرس إلى إبرام اتفاقية مع بيزنطة‪ ،‬تجبرهم على إعادة‬
‫ُ‬
‫المناطق التي أخذوها من البيزنطيين‪ ،‬وبذلك تحققت معجزة القرآن الكريم عندما‬
‫أخبر مسبقا بانتصار الروم‪.‬‬
‫وهناك وجه إعجازي آخر في هذه اآليات‪ ،‬وهي أنها تقرر حقيقة جغرافية‪ ،‬لم‬
‫تكن معروفة عند أحد في ذلك الوقت‪ ،‬فاآلية تخبرنا‪ :‬أن الروم كانوا قد خسروا‬
‫المعركة في أدنى منطقة من األرض‪.‬‬
‫وتعبير >أدنى األرض< في العربية يعني حسب التفاسير مكانًا ً‬
‫قريبا‪ ،‬ولكن‬
‫هذا التفسير غير حصري‪ ،‬ألن كلمة أدنى لم تأت في هذه اآلية بهذا المعنى فقط‪،‬‬
‫فكلمة أدنى في اللغة العربية مشتقة من الدنو أو الدناءة‪ ،‬ولذا معناها إما االقتراب‬
‫أو التسفل واالنخفاض في الحالة‪ ،‬وفق ما يمليه السياق وتشهد به القرائن‪.‬‬
‫ً‬
‫انخفاضا‬ ‫ولذلك فإن تعبير أدنى األرض بمعنى البسيطة يفيد هنا َ‬
‫أكثر األمكنة‬
‫في العالم‪ ،‬وأما معنى القرب وإن كان صحيحا فهو نسبي وليس فيه تحديد وتقييد‪،‬‬
‫فكل ما جاور مكة أو الجزيرة قريب‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪745‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬
‫والمثير لالهتمام أن شهادة الواقع تقول‪ :‬إن أهم مراحل الحرب التي وقعت‬
‫بين الروم والفرس وأسفرت عن هزيمة الروم وخسارتهم للقدس‪ ،‬حصلت‬
‫انخفاضا‪ ،‬في حوض البحر الميت‪ ،‬الذي يقع في منطقة‬‫ً‬ ‫في أكثر مناطق العالم‬
‫تتقاطع فيها كل من سوريا واألردن وفلسطين‪ ،‬ويبلغ مستوى سطح األرض هنا‬
‫ما يقارب ‪ً 400‬‬
‫مترا تحت سطح البحر‪ ،‬مما يجعل هذه المنطقة فعاًل أدنى منطقة‬
‫في األرض‪.‬‬
‫وأهم ما في األمر أن ارتفاع بحر الميت لم يكن ليقاس في غياب تقنيات القياس‬
‫الحديثة‪ ،‬ولذلك كان من المستحيل أن يعرف أي شخص في ذلك الوقت أن هذه‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫انخفاضا في العالم‪ ،‬ومع ذلك فإن هذه الحقيقة ذكرت‬ ‫أكثر المناطق‬ ‫المنطقة‬
‫ٌ‬
‫وحي من عند اهلل تعالى‪.‬‬ ‫في القرآن‪ ،‬وهذا يؤكد مرة أخرى على أن القرآن هو‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ينخفض مستوى سطح البحر امليت عن مستوى سطح البحر االبيض املتوسط حوالي ‪ 400‬مرت‬

‫ولقد وقعت هزيمة الروم على يد مملكة فارس عام ‪619‬م في منطقة بين‬
‫أذرعات وبصرى قرب البحر الميت‪ ،‬وأصاب المسلمين الحزن نتيجة النهزام‬
‫الروم؛ ألنهم أهل كتاب‪ ،‬يدعو في األصل إلى التوحيد‪ ،‬بينما الفرس مجوس‬
‫‪746‬‬

‫ُ‬
‫وعبّاد للنار‪ ،‬فوعد اهلل تعالى المسلمين بأن الفرس ستغلب في المعركة الثانية‬
‫بعد بضع سنوات‪ ،‬وأن نصر الروم سيتزامن مع نصر المسلمين على المشركين‪،‬‬
‫وبضع سنوات هو رقم بين الخمسة والسبعة أو بين الواحد والتسعة كما يقول علماء‬
‫اللغة‪.‬‬
‫وقد تحقق ما وعد به القرآن الكريم بعد سبع سنوات‪ ،‬أي ضمن المدة التي‬
‫ٌ‬
‫حددها من قبل‪ ،‬حيث وقعت معركة أخرى بين الفرس والروم سنة ‪626‬م‪ ،‬وانتصر‬
‫فيها الروم‪ ،‬وتزامن ذلك مع انتصار المسلمين على مشركي قريش‪ ،‬في غزوة بدر‬
‫الكبرى‪.‬‬
‫وقد ذكرت الموسوعة البريطانية ما ترجمته‪ < :‬البحر الميت بقعة مائية مالحة‪،‬‬
‫مغلقة‪ ،‬بين (إسرائيل) واألردن‪ ،‬وأخفض جسم مائي على األرض‪ ،‬فانخفاضه‬
‫يصل إلى نحو ‪ 1312‬قدم (حوالي ‪ 400‬متر) من سطح البحر‪ ،‬القسم الشمالي منه‬
‫مقسم بين األردن وإسرائيل‪ ،‬ولكن بعد الحرب‬ ‫يقع في األردن‪ ،‬وقسمه الجنوبي ّ‬
‫العربية اإلسرائيلية عام ‪ 1967‬ظل الجيش اإلسرائيلي في كل الضفة الغربية‪ ،‬ويقع‬
‫ً‬ ‫ُ َ‬
‫البحر الميت بين تالل جديّة غربًا وهضاب األردن شرقا >‪.‬‬
‫َ ۡ ىَ أۡ َ‬
‫ۡرض﴾ حيث تعني كلمة أدنى في‬‫ويتجلى وجه اإلعجاز في قوله تعالى‪﴿ :‬أدن ٱل ِ‬
‫اللغة‪ :‬أقرب وأخفض‪ ،‬فأخفض منطقة هي منطقة أغوار البحر الميت بفلسطين؛‬
‫َ ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫عشر قرنا‪.‬‬ ‫تماما كما سجلته األقمار االصطناعية بعد أربعة‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن المتأمل في اآلية القرآنية يالحظ أنها قد وصفت ميدان المعركة األولى بين‬
‫الفرس والروم بأنه أدنى األرض‪ ،‬وكلمة أدنى عند العرب تأتي بمعنيين‪ :‬أقرب‬
‫وأخفض‪.‬‬
‫ُ‬
‫أقرب منطقة لشبه الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫جهة‪:‬‬
‫فهي من ٍ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪747‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ومن جهة أخرى‪ :‬هي أخفض منطقة على سطح األرض‪ ،‬إذ إنها تنخفض‬
‫عن مستوى سطح البحر بحوالي ‪ 400‬متر‪ ،‬وهي أخفض نقطة سجلتها األقمار‬
‫االصطناعية على اليابسة‪ ،‬كما ذكرت ذلك الموسوعة البريطانية‪.‬‬

‫القائل‪﴿ :‬س ِ‬ ‫وهذا تصديق لآلية القرآنية الكريمة‪ ،‬فسبحان اهلل‬


‫َ‬ ‫َ رُ‬
‫ني ِه ۡم َءايٰت ِ َنا يِف‬
‫َ‬ ‫َ َ ٓ َ ُ ۡ َ ىَّ ٰ َ َ َ نَّ َ َ ُ ۡ َ َّ ُ حۡ َ ُّ َ َ َ ۡ َ ۡ‬
‫ك شءٖ ش ِهيد﴾‬
‫ٌ‬ ‫ۡ َ‬ ‫يَ‬ ‫ّ‬ ‫لُ‬ ‫ٰ‬ ‫لَىَ‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ َ َّ‬
‫س ِهم حت يتبي لهم أنه ٱلق ۗأو لم يك ِف بِربِك أنهۥ ع ِ‬ ‫اق و يِف أنف ِ‬
‫ٱٓأۡلف ِ‬
‫[ ف����ص�ل� ت�‪.]53 :‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪749‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ظلمات البحار العميقة‬

‫اب‬‫ح ‪ٞ‬‬ ‫ج ّمِن فَ ۡوقِهِۦ َس َ‬ ‫ج ّمِن فَ ۡوقهِۦ َم ۡو ‪ٞ‬‬


‫ِ‬
‫ج َي ۡغ َشى ٰ ُه َم ۡو ‪ٞ‬‬
‫ّ‬ ‫بر ُّل ّ‬
‫حَ ۡ‬
‫ف‬ ‫ت‬ ‫ٰ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬أَ ۡو َك ُظلُ َ‬
‫م‬
‫ۚ‬ ‫ٖ يِ ٖ‬ ‫ٖ يِ‬
‫ٱلل هَ ُلۥ نُوراٗ‬
‫ي َعل هَّ ُ‬ ‫َ ٓ َ ۡ َ َ َ َ ُ َ ۡ َ َ ۡ َ َ ٰ َ َ َ َّ ۡ جَ ۡ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫ُظلُ َم ٰ ُ ۢ‬
‫ِ‬ ‫ت َب ۡعض َها ف ۡوق َب ۡع ٍض إِذا أخرج يدهۥ لم يكد يرىهاۗ ومن لم‬
‫ور﴾ [ا ��لن�ور‪.]40 :‬‬ ‫َف َما هَ ُ‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ۥ‬ ‫ل‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ِّ‬
‫اللج ُّي يعني‪ :‬العميق‪ ،‬قال الشوكاني (ج‪4‬ص‪> :)58‬الذي ال ي ُ َ‬
‫درك‬ ‫البحر‬
‫لعمقه<‪ ،‬وفيه تمثيل ألحوال المكابر النفسية من ظلمات واضطراب بأحوال حسية‬
‫للبحر المحيط‪ ،‬وبهذا يتضمن التعبير بيانا ألحوال خفية للمحيطات العميقة ‪Deep‬‬
‫‪:Ocean‬‬
‫ *(أوال) تشتد الظلمة مع العمق‪.‬‬
‫ *(ثانيا) تتميز المحيطات بكثرة السحب التي تمتص وتعكس بعض ضوء‬
‫الشمس‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ *(ثالثا) تعكس األمواج السطحية بعض ضوء الشمس‪.‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫داخليا‪ ،‬يعكس المزيد‬ ‫ *(رابعا) تيارات محيطية عميقة‪ ،‬تولد موجا‬
‫من الضوء‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫لقد آمن األقدمون بخرافات عديدة عن البحار والمحيطات‪ ،‬واعتقدوا بوجود‬
‫حيوانات وحشية غريبة الخلقة‪ ،‬تعيش في أعماقها‪ ،‬ولم تتوفر حتى للبحارة‬
‫آنذاك معرفة حقيقية عن األحوال السائدة في أعماق البحار‪ ،‬وكانت المعلومات‬
‫‪750‬‬

‫ً‬
‫عن التيارات البحرية نادرة‪ ،‬ولم تتوفر أية معلومات عن األمواج الداخلية في‬
‫العصور الماضية‪.‬‬
‫وسيطرت الخرافات فيما يتعلق بالمياه الراكدة التي ال يمكن أن تعبرها البواخر‪،‬‬
‫واعتقد الرومان القدماء بوجود أسماك مصاصة‪ ،‬لها تأثيرات سحرية على إيقاف‬
‫حركة السفن‪ ،‬وبالرغم من أن القدماء عرفوا أن الرياح تؤثر على األمواج والتيارات‬
‫ً‬
‫السطحية‪ ،‬إال أنه كان من الصعب عليهم أن يعرفوا شيئا عن الحركات الداخلية‬
‫في المياه‪.‬‬
‫ولم تبدأ الدراسة المتصلة بعلوم البحار وأعماقها على وجه التحديد إال‬
‫في بداية القرن الثامن عشر؛ عندما توفرت األجهزة الضرورية لمثل هذه الدراسات‬
‫المفصلة‪ ،‬ومعرفة كل تلك الظواهر التي أشارت إليها اآلية الكريمة في أعماق‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫المحيطات التي كانت مجهولة وقت نزول القرآن الكريم‪.‬‬
‫وأبسط جهاز علمي لقياس عمق نفاذ الضوء في مياه المحيط هو قرص سيتشي‬
‫‪ ،The Secchi Disk‬ويتم إنزاله إلى الماء ليسجل العمق‪ ،‬وقد وصفه ألول مرة‬
‫سيالدي وسيتشي ‪ Ciladi and Secchi‬عام ‪.1865‬‬
‫وبالرغم من استعماله على نطاق واسع؛ إال أن قياس هذا االختراق في ماء‬
‫البحر‪ ،‬بصورة أدق‪ ،‬لم يتحقق إال باستخدام الوسائل التصويرية في نهاية القرن‬
‫الماضي‪ ،‬باستخدام الخاليا الكهروضوئية‪ ،‬خالل الثالثينيات فقط‪.‬‬
‫وينخفض مستوى اإلضاءة في مياه المحيط المكشوفة إلى نسبة ‪%10‬‬
‫من مستواه عند السطح عند عمق ‪35‬م‪ ،‬وإلى ‪ %1‬عند عمق ‪85‬م‪ ،‬وإلى ‪%0.1‬‬
‫عند عمق ‪135‬م‪ ،‬وإلى ‪ %0.01‬عند عمق ‪190‬م‪.‬‬
‫واألسماك التي تعيش في أعماق البحار قد تتمكن أن ترى أفضل من ذلك؛‬
‫نتيجة لتكيف العين‪ ،‬لتستقبل أكبر كمية ممكنة من الضوء‪ ،‬إذا لم تكن مهيأة‬
‫لالستفادة من النور الحيوي المتولد كيميائيا إلضاءة المحيط حولها‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪751‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وأما ظاهرة األمواج الداخلية فيعود الفضل في تفسيرها للدكتور ايكمان‪ ،‬عام‬
‫‪1904‬م؛ حيث فسر بها ما يعرف بظاهرة المياه الراكدة‪ ،‬التي توجد في الخلجان‬
‫النرويجية‪ ،‬فالسفن التي تبحر في هذه الخلجان تفقد فجأة قدرتها على التقدم؛‬
‫فتقف ساكنة‪.‬‬

‫مضيق جبل طارق‬

‫ورأى ايكمان‪ :‬أنها تنجم عن األمواج الداخلية‪ ،‬التي تتولد على السطح‬
‫الفاصل بين مياه السطح والمياه التي تحتها‪ ،‬ويتراوح طول األمواج الداخلية‬
‫ً‬
‫محسوسا‬ ‫من عشرات إلى مئات من الكيلومترات‪ ،‬ومرور األمواج الداخلية يكون‬
‫بصورة أقوى من قبل الغواصات‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫واألمواج الداخلية ظاهرة أصبحت معلومة في مضيق جبل طارق‪ ،‬وقد‬


‫يتسبب التدفق الداخلي للتيار السطحي القوي‪ ،‬والتدفق الخارجي للتيار السفلي‪،‬‬
‫في دخول األمواج الداخلية من المحيط األطلنطي إلى المضيق‪ ،‬كأنها أمواج‬
‫ُ َ‬
‫زبدة على الشاطئ؛ مما يتسبب في تولد قدر كبير‬‫متكسرة‪ ،‬مثل‪ :‬األمواج الم ِ‬
‫من االضطرابات الداخلية‪.‬‬
‫‪752‬‬

‫َّ‬
‫وقد جمعت اآلية الكريمة كل تلك المعارف الحديثة ودلت بإيجاز على ما يلي‪:‬‬
‫‪P P‬أن الظالم ينتشر في أعماق المحيطات‪.‬‬
‫‪P P‬أن مياه المحيطات تحوي األمواج الداخلية‪.‬‬
‫‪P P‬أن هناك فوق األمواج الداخلية طبقة مائية أخرى هي الطبقة السطحية‬
‫التي تحوي األمواج السطحية‪.‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫طبقات‬ ‫تعلوها‬ ‫التي‬ ‫الغيوم‬ ‫إلى‬ ‫باإلضافة‬ ‫د‬ ‫تول‬ ‫‪P P‬أن هذه الطبقات المائية‬
‫من الظالم التدريجي‪.‬‬
‫‪P P‬أن شدة الظالم تتالزم مع األمواج الداخلية في المياه العميقة‪.‬‬
‫‪P P‬أن األحياء البحرية في أعماق المحيطات مزودة بنور يتولد ذاتيا إلضاءة‬
‫المحيط حولها‪.‬‬

‫بعض الكائنات البحرية تعيش يف األعماق املظلمة وبعضها متتلك إنارة ذاتية تنري ما حوهلا‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪753‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد تحدث القرآن الكريم عن ظلمات بعضها فوق بعض في أعماق البحار‪،‬‬
‫ً‬
‫وعن أمواج سطحية وداخلية‪ ،‬منذ ‪ 14‬قرنا‪ ،‬واصفا لها وصفا دقيقا ومصورا لها‬
‫تصويرا رائعا‪ ،‬يتفاعل معه الوجدان‪ ،‬وكأنه يراها رأي العين‪ ،‬في وقت لم تكن فيه‬
‫َ َّ‬ ‫ٌ‬
‫والغواصات وال ُ‬ ‫ٌ‬
‫غيرها؛ مما توفر لإلنسان في العصور‬ ‫أجهزة لقياس األعماق‪،‬‬
‫َۡ َ ُ ُ‬
‫بر ُّل ّيِ ّ‬ ‫المتأخرة؛ مما يدل على أن في قوله تعالى‪﴿ :‬أو كظلم ٖ‬
‫ج َي ۡغ َشى ٰ ُه َم ۡوج‪ٞ‬‬ ‫حَ ۡ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫ت يِف ٖ ٖ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َٓ َ ۡ‬ ‫َ َ ‪َ َ ُ ُۢ ٰ َ ُ ُ ٞ‬‬ ‫َۡ ‪َۡ ّ ٞ‬‬ ‫ّ َۡ‬
‫ت َب ۡعض َها ف ۡوق َب ۡع ٍض إِذا أخ َر َج يَ َدهُۥ ل ۡم يَك ۡد يَ َرى ٰ َهاۗ‬ ‫ِمن فوقِهِۦ موج ِمن فوقِهِۦ سح ۚ‬
‫اب ظلم‬
‫ور﴾ [ا �لن�ور‪ .]40 :‬إعجاز علمي باهر‪.‬‬ ‫ورا َف َما هَ ُ‬
‫ٱلل هَ ُلۥ نُ ٗ‬ ‫َ َ َّ ۡ جَ ۡ‬
‫ُّ‬ ‫ي َعل هَّ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ۥ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ومن لم‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪755‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫البحر املسجور‬

‫يقول تعالى‪﴿ :‬وٱلطورِ ‪ ١‬وك ِتٰ ٖ‬


‫نشور ‪َ ٣‬و بۡٱلَ ۡي ِ ۡ َ ۡ ُ‬ ‫َ ّ َّ ُ‬
‫ب َّم ۡس ُطورٖ ‪ ٢‬يِف ر ٖق م‬
‫َ َ‬ ‫َ ُّ‬
‫ت ٱلمعمورِ‬ ‫ٖ‬
‫اب َر ّب ِ َك ل َوٰق ‪ِٞ‬ع﴾ [ا �ل��طور‪.]7-1 :‬‬ ‫وع ‪َ ٥‬و بۡٱلَ ۡحر ٱل ۡ َم ۡس ُ‬
‫َ‬ ‫جور ‪ ٦‬إ َّن َع َذ َ‬ ‫َۡ ُۡ‬ ‫َ َّ ۡ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٱلسق ِف ٱلمرف‬ ‫‪ ٤‬و‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله‪ :‬والبحر المسجور فيه وجهان من التفسير للعلماء ‪.‬‬
‫‪P P‬أحدهما‪ :‬أن المسجور هو الموقد نارا‪ ،‬قالوا‪ :‬وسيضطرم البحر يوم القيامة‬
‫ٱل ِمي ِم ث َّم يِف ٱنلَّارِ ي ُ ۡس َج ُرون﴾ [ غ��ا ف�ر‪.]72:‬‬
‫نارا‪ ،‬من هذا المعنى قوله تعالى‪ ﴿ :‬يِف حۡ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬

‫‪P P‬الوجه الثاني‪ :‬هو أن المسجور بمعنى المملوء‪ ،‬ألنه مملوء ماء‪ ،‬ومن‬
‫إطالق المسجور على المملوء قول لبيد‪ ‬بن ربيعة في معلقته‪:‬‬
‫متج��اورا ُق ُ‬
‫اّلمها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫ي وصدعا مس��جورة‬ ‫ُ ْ َ َّ‬
‫السر ِّ‬
‫فتوسطا عرض ِ‬
‫فقوله‪ :‬مسجورة‪ ،‬أي‪ :‬عينا مملوءة ماء‪ ،‬وقول الن َّ ِمر‪ ‬بن تولب العكلي‪:‬‬
‫َّ ْ‬ ‫ً‬
‫مس��جورة تَرى حولها ْ‬ ‫َ‬
‫والسأ َس��ما‬ ‫النب َع‬ ‫طال َ‬
‫��ع‬ ‫إذا ش��اء‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وهذان الوجهان المذكوران في معنى المسجور هما أيضا في قوله‪ِ﴿ :‬إَوذا‬


‫َ‬

‫ار ُس ِّج َر ۡت﴾[ا �لت� ك�و�ير‪.]6 :‬‬


‫ح ُ‬‫ٱل َ‬
‫بِۡ‬
‫وأما اآلية العامة التي أقسم فيها تعالى بما يشمل جميع هذه األقسام وغيرها‪،‬‬
‫َ اَ ٓ ُ ۡ ُ َ ُ ۡ ُ َ‬
‫صون﴾[ا �ل�ح�ا ق���ة‪� 38 :‬ـ ‪ ،]39‬ألن‬ ‫فهي قوله تعالى‪﴿ :‬فل أقسِم بِما تب رِ‬
‫َ َ اَ ُ ۡ ُ َ‬
‫صون ‪ ٣٨‬وما ل تب رِ‬
‫اإلقسام في هذه اآلية عام في كل شيء(‪.)1‬‬

‫((( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (‪.)452 /7‬‬


‫‪756‬‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ٌ‬
‫اكتشف علماء الجيولوجيا أن قيعان جميع المحيطات متوقدة نارا‪ ،‬في مناطق‬
‫الوديان العميقة‪ ،‬في منتصف المحيطات ‪ ،Mid-Ocean Rifts‬ويوجد الشق األعظم‬
‫ُ‬
‫مناطق اللقاء بين األلواح القارية‪ ،‬وتحيط بها‬ ‫َ‬
‫منتصف المحيط األطلسي‪ ،‬وتبين أنها‬
‫ّ‬
‫لكن َ‬ ‫ٌ‬
‫قممها دون سطح المحيط‪.‬‬ ‫من الجانبين ارتفاعات جبلية شاهقة في قاع المحيط‪،‬‬

‫الشق العظيم يف احمليط األطلسي‬


‫َ‬
‫األلف درجة مئوية‪،‬‬ ‫وتفوق درجة الحرارة في تلك المناطق البركانية النشطة‬
‫ومع اندفاع الصهارة ‪ Magma‬على طول منتصف المحيط‪ ،‬تتكون سلسلة الجبال‬
‫تلك‪ ،‬ويتسع المحيط في كال الجانبين‪ ،‬والذي يُعرف بظاهرة امتداد قاع المحيط‬
‫‪.Spreading Sea-Floor‬‬
‫ُ‬
‫الصهارة الصخرية‪ ،‬فال الماء ُ‬ ‫وتندفع من هذه الصدوع في قيعان المحيطات‬
‫ُ‬
‫على كثرته يستطيع أن يطفىء جذوة الحرارة الملتهبة‪ ،‬وال هذه الصهارة على ارتفاع‬
‫ٌ‬
‫درجة حرارتها (أكثر من ألف درجة مئوية) قادرة أن تبخر هذا الماء‪ ،‬وهذه الظاهرة‬
‫ً‬
‫إبهارا للعلماء‪.‬‬ ‫من أكثر ظواهر األرض‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪757‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وقد قام الباحثون أناتول سجابفتيش‪ ،‬ويوري بجدانوف‪ ،‬ورونا كلنت‪،‬‬


‫بالغوص على بعد ‪1750‬كم من شاطئ ميامي‪ ،‬وعلى عمق يزيد عن ‪ 3‬كم‬
‫من السطح‪ ،‬على متن الغواصة الحديثة ميرا؛ فشاهدوا ِح َم َم القاعِ‪ ،‬وسجلوا درجة‬
‫حرارة خارج الكوة ‪ 231‬درجة مئوية‪ ،‬وكانت تتفجر من تحتهم الينابيع الملتهبة‪.‬‬

‫صورة تبني تدفق احلمم يف أعماق احمليط‬


‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وقد تبين أن البراكين الممتدة في قيعان المحيطات ُ‬


‫وأعنف نشاطا‬ ‫أكثر عددا‬
‫من البراكين على سطح اليابسة‪ ،‬وال يمكن للمتأمل لسطح البحر المحيط بالعين أن‬
‫ٌ‬
‫ملتهب يتأجج بالنيران‪ ،‬فالمعلوم أن الماء يطفئ النار‪.‬‬ ‫َ‬
‫يتصور أن قاعه‬
‫ولم يتوصل العلم الحديث إلى هذه الحقيقة المدهشة إال في أواخر ستينيات‪،‬‬
‫وأوائل سبعينيات القرن العشرين‪ ،‬ولذا فإن سبق القرآن العظيم لهذه الحقيقة‬
‫لخير دليل على صدق وحفظ هذا الكتاب‬‫ُ‬ ‫المدهشة المدفونة في قيعان المحيطات‬
‫الكريم‪.‬‬
‫‪758‬‬

‫علميا بعد بحوث متعددة ومشاهدات ميدانية‪ :‬بأن أعماق المحيطات‬ ‫ً‬ ‫لقد ثبت‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ ً‬
‫وأعنف نشاطا من البراكين على سطح اليابسة‪،‬‬ ‫أكثر عددا‬ ‫فيها براكين ملتهبة‪ ،‬وهي‬
‫ً‬
‫ولذلك فقيعان تلك البحار تبقى ملتهبة متأججة بالنيران رغم وجود الماء‪.‬‬
‫وهذه الحقيقة المدهشة لم يتوصل إليها العلماء إال في الستينات وأوائل‬
‫لذكر هذه الحقيقة‬ ‫العظيم‬ ‫القرآن‬ ‫السبعينات من القرن العشرين الماضي‪ ،‬فَ َس ْب ُ‬
‫ق‬
‫ِ‬
‫دليل على ربانية القرآن‪ ،‬وصدق الرسول !‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪759‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الصدوع بني الصفائح القارية‬


‫َ أۡ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬و‬
‫َّ َ َ ‪ٞ َ ٞ‬‬ ‫ۡرض َذات َّ‬ ‫َ َّ ٓ َ‬
‫ٱلص ۡد ِع ‪ ١٢‬إِن ُهۥ لق ۡول ف ۡصل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٱلر ۡجعِ ‪ ١١‬وٱل‬ ‫ٱلس َماءِ ذ ِ‬
‫ات َّ‬
‫ر�‪.]14-11 :‬‬ ‫� ق‬
‫‪َ ١٣‬و َما ه َو بِٱل َه ۡز ِل﴾ [ا ل��ط�ا‬
‫ُ ۡ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫أۡ َ‬
‫ٱلص ۡد ِع﴾‪.‬‬ ‫قوله‪َ ﴿ :‬وٱل ِ‬
‫ۡرض ذات َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َّ ْ‬ ‫َّ ْ‬
‫الرج ِع‬ ‫الصدعِ‪ :‬النبات‪ ،‬ألن األرض تتصدع عنه‪ ،‬وهذا قول من قال‪ :‬إن‬
‫َّ ْ‬
‫الصدعِ‪ :‬ما في األرض من شعاب‪ ،‬ولصاب‪ ،‬وخندق‪،‬‬ ‫المطر‪ ،‬وقال مجاهد‪:‬‬
‫وتشقق بحرث وغيره‪ ،‬وهي أمور فيها معتبر‪ ،‬وهذا قول يناسب القول الثاني‬
‫َّ ْ‬
‫الرجعِ(‪.)1‬‬ ‫في‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫لقد قام العلماء برحالت عديدة‪ ،‬رصدوا فيها وجود قشور عميقة‪ ،‬تفصل‬
‫بين أجزاء القشرة األرضية‪ ،‬فأطلقوا اسم >األلواح القارية< على تلك‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫األقسام‪ ،‬وتسمى تلك الشقوق بالصدوع‪ ،‬وترجع أصول تلك الصدوع‬


‫إلى صدع أصلي واحد يسمى اليوم >بالصدع األعظم<‪ ،‬يقبع في منتصف المحيط‬
‫األطلسي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تتسم قشرة األرض بصدوع عميقة‪ ،‬تقسمها إلى ألواح قارية‪ ،‬وتقع الصدوع‬ ‫إذ‬
‫الكبيرة غالبا في منتصف المحيطات‪.‬‬

‫((( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز البن عطية (‪.)467-466 /5‬‬
‫‪760‬‬

‫ولكن لم يُعرف إال مع الثورة العلمية في القرون الثالثة األخيرة أن أرضنا‬


‫محاطة بشبكة هائلة من تلك الصدوع العمالقة‪ ،‬التي تحيط بكامل القشرة األرضية‬
‫إحاطة كاملة‏‪.‬‬
‫وتمتد هذه الصدوع العمالقة آلالف الكيلومترات‪ ،‬في جميع االتجاهات‪،‬‬
‫ِّ‬
‫بأعماق تتراوح بين‏‪65‬‏ و‏‪70‬‏ كيلو مترا تحت قيعان كل محيطات األرض‪ ،‬وقيعان‬
‫عدد من بحارها‏ ‏‪ ،‬وبين ‏‪ 150‬إلى ‪100‬‏ كيلو مترا تحت القارات‏؛‏ ممزقة الغالف‬
‫ٍ‬
‫الصخري لألرض بالكامل إلى عدد من األلواح التي تعرف باسم ألواح الغالف‬
‫الصخري لألرض‪.‬‬

‫تقسم القشرة األرضية إىل عدد من القطع املتجاورات تسمى بالصفائح القارية‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫منصهر‪ ،‬عالي الكثافة‬
‫‏‏‬ ‫شبه‬
‫ِ‬ ‫‏‬
‫ن‬
‫وتطفو هذه األلواح الصخرية فوق نطاق ِ ٍ‬
‫د‬ ‫ل‬
‫واللزوجة‪ ،‬وتنطلق فيه تيارات الحمل من أسفل إلى أعلى‪ ،‬حيث تبرد وتعاود‬
‫ً‬
‫النزول إلى أسفل‪ ،‬فتدفع معها ألواح الغالف الصخري لألرض‪ ،‬متباعدا بعضها‬
‫عن بعض في إحدي حوافها‪ ،‬ومصطدما بعضها مع بعض عند الحواف المقابل ‏ة‪،‬‏‬
‫ّ‬
‫ومنزلقا بعضها عبر بعض عند بقية الحواف‏‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪761‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ٌ‬
‫وينتج عن هذه الحركات أللواح الغالف الصخري لألرض عدد من الظواهر‬
‫األرضية المهمة‪ ،‬التي منها‪ :‬اتساع قيعان البحار والمحيطات‪،‬‏‏ وتجدد صخورها‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫وتكون أواسط المحيطات سالسل من الجبال‪،‬‬ ‫باستمرار عند حواف التباعد‏‪،‬‏‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتكون أيضا السالسل الجبلية عند‬ ‫لتكون الجزر البركانية‏ ‏‪،‬‬ ‫قد تظهر على السطح‬
‫حواف التصادم‪.‬‬

‫حركة ألواح الغالف الصخري لألرض‬


‫وتصاحب الهزات األرضية اإلزاحة بين لوحين‪ ،‬وقد تؤدي إلى تكوين الطفوح‬
‫البركانية‪ ،‬ويبلغ طول جبال أواسط المحيطات أكثر من‏‪ 4‬‏‪ 6‬كيلومتر‪ ،‬وهي تتكون‬
‫أساسا من الصخور البركانية المختلطة بقليل من الرواسب البحرية‏‪،‬‏ وهي تحيط‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫بالصدوع العمالقة‏‪.‬‬
‫ومع تجدد صعود الطفوح البركانية‏ عبر الصدوع العمالقة في وسط سلسلة‬
‫الجبال البحرية‪ ،‬يتجدد قاع المحيط بأحزمة حديثة من الصخور البازلتية المتوازية‬
‫على جانبي الصدوع‪ ،‬وبذلك تكون أحدث صخور قاع المحيط في وسطه‪.‬‬
‫سببا في زحف القارات‪،‬‏‏‬‫وهذه الحركة أللواح الغالف الصخري لألرض كانت ً‬
‫وتجمعها‏ وتفتتها بصورة دورية‪،‬‏‏ فيما يعرف باسم دورة القارات والمحيطات‏‪.‬‬
‫‪762‬‬

‫ٌ‬
‫وفيها قد تنقسم قارة ببحر طولي مثلِ البحر األحمر إلى كتلتين أرضيتين‪،‬‬
‫تتباعدان باتساع قاع البحر الفاصل بينهما‪ ،‬حتى يتحول إلى محيط‏‪.‬‬
‫كما قد يستهلك قاع محيط بالكامل تحت إحدى القارات بدفع كتلة أرضية‬
‫له تحت تلك القارة‪ ،‬حتى تصطدما‪ ،‬مكونتين أعلى سالسل جبلية على سطح‬
‫ّ‬
‫وتكون سلسلة جبال‬ ‫اآلسيوية‬
‫‏‏‬ ‫األرض‪ ،‬كما حدث في اصطدام الهند بالقارة‬
‫الهمااليا‏ التي بها قمة إفرست أعلى قمة جبلية على سطح األرض‏‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهذه الصدوع العمالقة هي مراكز تتحرك عبرها ألواح الغالف الصخري‬
‫لألرض متباعدة أو مصطدمة‏‪ ،‬وهي تعمل على تسريب الحرارة المختزنة‬
‫في الباطن؛ نتيجة لتحلل العناصر المشعة؛ وإال انفجرت األرض‏‪.‬‬
‫وعبر هذه الصدوع العمالقة تندفع ماليين األطنان من الصهارة الصخرية‬
‫على هيئة طفوح بركانية‪ ،‬تثري سطح األرض بالعديد من الصخور والمعادن‬
‫النافعة‪،‬‏‏ وتجدد شباب التربة الزراعية‪،‬‏ وتكون مراكز مهمة الستغالل حرارة الباطن‪.‬‬
‫ُ‬
‫الغازات‬ ‫وعبر هذه الصدوع العمالقة وما صاحبها من فوهات البراكين انطلقت‬
‫واألبخرة التي كونت غالفي األرض المائي والغازي‏‪.‬‬
‫وتشير الكثير من الشواهد إلى أن الغالف الصخري األول لألرض كان‬
‫مكونا من صخور أولية نتيجة الندفاع الصهارة‪ ،‬وأن األرض كانت مغطاة بالمياه‬
‫على هيئة محيط غامر واحد‏‪،‬‏ وبواسطة النشاط البركاني فوق قاع هذا المحيط‬
‫الغامر تكونت أولى المرتفعات‪ ،‬فوق قاعه‪ ،‬على هيئة عدد من السالسل الجبلية‬
‫في وسطه‪،‬‏‏ ارتفعت قممها لتكون عددا من الجزر البركانية‏‪.‬‬
‫لتكون نوى عدد‬‫ّ‬ ‫ومع تحرك تلك الجزر البركانية تصادم بعضها مع بعض‬
‫من القارات التي نمت بتصادمها مع بعضها‪ ،‬لتكون قارة واحدة عرفت باسم القارة‬
‫األم ‪ ،Pangaea‬التي ما لبثت أن تفتتت بفعل ديناميكية األرض وصدوعها العمالقة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪763‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫إلى القارات السبع الحالية‪ ،‬التي ظلت يتباعد بعضها عن بعض حتى وصلت‬
‫إلى مواقعها الحالية‏‪.‬‬
‫ولم تصل البشرية إلى شيء من تلك الحقائق إال في أواخر الستينات‪ ،‬وأوائل‬
‫السبعينات من القرن العشرين‏‪،‬‏ ومن هنا كان القسم القرآني باألرض ذات الصدع‬
‫َ‬
‫من قبل ألف وأربعمائة سنة‪،‬‏ دليال حاسما‪ ،‬على أنه ال مصدر لهذا الوصف‬
‫إال الوحي‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫محم منصهرة تتدفق من الطبقة الثالثة من خالل الصدوع‬


‫‪764‬‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد توصلت البشرية في أواخر القرن الماضي (العشرين) إلى الحقائق‬
‫التي سبق ذكرها‪ ،‬والمتمثلة بأن هذه األرض التي نحيا عليها منقسمة إلى كتل‬
‫كل منها يسمى‬‫هائلة‪ ،‬تسمى >األلواح القارية<‪ ،‬وتفصل بينها شقوق عميقة‪ٌّ ،‬‬
‫الصدع‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولقد كانت هذه الحقيقة مما يستحيل معرفتها على البشر وقت التنزيل‪،‬‬
‫ً‬
‫باهرا من أمثلة اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم‪..‬‬ ‫فكان ذكر القرآن لها مثااًل‬
‫واهلل أعلم‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪765‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الربزخ واحلاجز بني حبرين‬

‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وه َو ٱلذَِّي َم َر َج ٱلَ ۡح َر ۡي ِن هٰذا عذب ف َرات َوهٰذا مِل ٌح‬
‫َ َ َ ۡ ‪ۡ َ َ ٞ ُ ٞ‬‬ ‫بۡ‬ ‫ُ‬
‫َ َ َ َ ۡ َ ٓ َ رَ ٗ َ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ‪ ٗ ۡ َ ٗ َ ۡ َ َ ُ َ ۡ َ َ َ َ َ ٞ‬حَّ ۡ‬
‫ج َعل ُهۥ ن َس ٗبا‬ ‫ورا ‪َ ٥٣‬وه َو ٱلذَِّي خلق ِمن ٱلماءِ بشا ف‬ ‫ج ٗ‬ ‫م ُ‬ ‫حجرا‬‫أجاج وجعل بينهما برزخا و ِ‬
‫اَ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫اَ‬
‫َ ُ ُ ۡ َ َ رُ ُّ ُ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫هَّ‬ ‫ُ‬ ‫ََُُۡ َ‬ ‫َو ِ ۡ ٗ َ اَ َ َ ُّ َ َ ٗ‬
‫ضه ۡمۗ َوكن ٱلكف ُِر‬ ‫ون ٱللِ َما ل ينفعهم ول ي‬ ‫صهراۗ وكن ربك قدِيرا ‪ ٥٤‬ويعبدون مِن د ِ‬
‫ريا﴾ [ا �ل��ف��ر�ق�ا ن�‪.]55-53 :‬‬
‫ع َر ّبهِۦ َظه ٗ‬
‫ٰ‬ ‫لَىَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان﴾ [ا �لرح�م� ن�‪.]20-19 :‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬مرج ٱلَحري ِن يلتقِي ِ‬
‫اَّ‬
‫ََُۡ َ َۡ َ ‪َ َۡ ٞ‬‬ ‫ۡ‬
‫ۡ َۡ َ َ َ‬ ‫بۡ‬ ‫ََ َ‬
‫ان ‪ ١٩‬بينهما برزخ ل يبغِي ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ ُ‬ ‫ّ‬
‫قول الحق جل جالله‪َ ﴿ :‬و ُه َو ٱلذَِّي َم َر َج ٱلَ ۡح َر ۡي ِن﴾ أي‪ :‬أرسلهما‪ ،‬وخاله َما‬
‫بۡ‬
‫َْ ٌ ُ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب فرات أي‪ :‬شديد العذوبة‪ ،‬قامع‬ ‫متمازج ْين‪ .‬هذا عذ‬ ‫متجاوريْن متالصق ْين غير‬
‫َ‬
‫‪766‬‬

‫ْ ٌ ُ ٌ‬
‫للعطش لعذوبته‪ ،‬أي‪ :‬برودته‪َ ،‬وهذا ِملح أجاج‪ :‬بليغ الملوحة‪ ،‬أو‪ :‬هذا عذب‬
‫ال ملوحة فيه‪ ،‬وهذا ملح ال عذوبة فيه‪ ،‬مع اتحاد جنسهما‪.‬‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫َو َج َعل بَ ْينَ ُهما بَ ْرزخا حائاًل بقدرته‪ ،‬يفصل بينهما ويمنعهما التمازج لئال يختلطا‪.‬‬
‫وسترا ممنوعًا عن األعين‪ ،‬كقوله‪ :‬حجابًا َم ْستُ ً‬
‫ورا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ورا‪ ،‬أي‪:‬‬‫َوح ْج ًرا َم ْح ُج ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أي‪ :‬جعل بينهما حاجزا ً‬
‫خفيا؛ لئال يغلب أحدهما اآلخر‪ ،‬أو‪ :‬سدا ممنوعا يمنعهما‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫العذب‪ ،‬ولو خلى اهلل تعالى البحر الملح‪ ،‬ولم يلجمه‬ ‫فال يبغيان‪ ،‬وال يفسد الملح‬
‫بقدرته‪ ،‬لفاض على الدنيا‪ ،‬واختلط مع العذب وأفسده(‪.)1‬‬
‫ان﴾‪.‬‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬مرج ٱلَحري ِن يلتقِي ِ‬
‫َۡ َ‬ ‫‪ ٞ‬اَّ‬
‫ََُۡ َ َۡ َ‬ ‫ۡ‬
‫ۡ َۡ َ َ َ‬ ‫بۡ‬
‫ََ َ‬
‫ان ‪ ١٩‬بينهما برزخ ل يبغِي ِ‬
‫مرج البحرين‪ ،‬أي‪ :‬أرسل بعضهما في بعض‪ ،‬وهما عند اإلرسال بحيث‬
‫يلتقيان‪ ،‬أو من شأنهما االختالط وااللتقاء‪ ،‬ولكن اهلل تعالى منعهما عما‬
‫في طبعهما‪ ،‬وعلى هذا يلتقيان حال من البحرين‪ ،‬ويحتمل أن يقال‪ :‬من محذوف‬
‫تقديره تركهما فهما يلتقيان إلى اآلن وال يمتزجان‪.‬‬
‫وعلى األول‪ :‬فالفائدة إظهار القدرة في النفع‪ ،‬فإنه إذا أرسل الماءين بعضهما‬
‫على بعض‪ ،‬وفي طبعهما بخلق اهلل وعادته السيالن وااللتقاء‪ ،‬ويمنعهما البرزخ‬
‫َّ‬
‫الذي هو قدرة اهلل أو بقدرة اهلل‪ ،‬يكون أدل على القدرة مما إذا لم يكونا على حال‬
‫يلتقيان‪ ،‬وفيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي‪:‬‬
‫أن الحكماء اتفقوا على أن الماء له حيز واحد‪ ،‬بعضه ينجذب إلى بعض‪،‬‬
‫كأجزاء الزئبق‪ ،‬غير أن عند الحكماء المحققين يكون بإجراء اهلل تعالى ذلك‬
‫عليه‪ ،‬وعند من يدعي الحكمة ولم يوفقه اهلل من الطبيعيين يقول‪ :‬ذلك له بطبعه‪،‬‬
‫فقوله‪ :‬يلتقيان أي من شأنهما أن يكون مكانهما واحدا‪ ،‬ثم إنهما بقيا في مكان‬
‫متميزين فذلك برهان القدرة واالختيار‪.‬‬

‫((( البحر المديد في تفسير القرآن اجمليد البن عجيبة (‪.)109 /4‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪767‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وعلى الوجه الثاني‪ :‬الفائدة في بيان القدرة أيضا على المنع من االختالط‪ ،‬فإن‬
‫الماءين إذا تالقيا ال يمتزجان في الحال‪ ،‬بل يبقيان زمانا يسيرا كالماء المسخن‪ ،‬إذا‬
‫غمس إناء مملوء منه في ماء بارد‪ ،‬إن لم يمكث فيه زمانا ال يمتزج بالبارد‪ ،‬لكن‬
‫إذا دام مجاورتهما‪ ،‬فال بد من االمتزاج‪ ،‬فقال تعالى‪ :‬مرج البحرين خاّلهما ذهابا‬
‫إلى أن يلتقيان وال يمتزجان فذلك بقدرة اهلل تعالى‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪﴿ :‬بينهما برزخ ل يبغِي ِ‬
‫ان﴾ إشارة إلى ما ذكرنا من منعه إياهما‬ ‫َۡ َ‬ ‫‪ ٞ‬اَّ‬
‫ََُۡ َ َۡ َ‬

‫من الجريان على عادتهما‪ ،‬والبرزخ الحاجز وهو قدرة اهلل تعالى في البعض وبقدرة‬
‫اهلل في الباقي‪ ،‬فإن البحرين قد يكون بينهما حاجز أرضي محسوس وقد ال يكون‪،‬‬
‫وقوله‪ :‬ال يبغيان فيه وجهان‪ :‬أحدهما‪ :‬من البغي أي ال يظلم أحدهما على اآلخر(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫بقياس كل من درجات الحرارة‪ ،‬ونسبة الملوحة في كتل الماء التي تمأل البحار‬
‫والمحيطات المختلفة‏‪،‬‏ والتي تغطي حوالي‏‪%71‬‏ من مساحة سطح األرض المقدرة‬
‫بخمسمائة وعشرة ماليين من الكيلومترات المربعة‏ ‏‪ ،‬اتضح تباينها تباينا ملحوظا‬
‫من بحر إلى آخر‏‪،‬‏ وحتى في البحر الواحد‏ نجد التمايز ً‬
‫قائما أفقيا ورأسيا‏‏‏‪.‬‬
‫ُ‬
‫وكل كتلة مائية منها تمثل بيئة حيوية‪ ،‬لها تجمعاتها الخاصة بها‪ ،‬من األحياء‬
‫البحرية من بعض األنواع‏ ‏‪ ،‬والتباين في كل من درجات الحرارة ونسبة تركيز‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫األمالح في ماء البحار والمحيطات‪ ،‬وهذا يؤدي إلى تباين في كثافتها‏ ‏‪ ،‬مما يعين‬
‫على تحديد تلك الكتل المائية المتباينة‪ ،‬على الرغم من محاولة األمواج والتيارات‬
‫البحرية خلطهما مع بعضها البعض‏‪.‬‬
‫وتتحرك كتل الماء السطحية بين مساحات كبيرة شماال وجنوبا‪ ،‬فتتغير صفاتها‬
‫بتغير الظروف البيئية التي تنتقل إليها‏‪،‬‏ وعندما تتغير كثافة الكتلة المائية السطحية؛‬

‫((( تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)351 /29‬‬


‫‪768‬‬

‫ً‬ ‫َّ‬
‫فإنها تغوص في وسط ما ٍء أقل كثافة‪ ،‬حاملة معها بعض صفات ماء المنطقة‬
‫السطحية‪ ،‬التي كانت فيها‪ ،‬إلى أعماق المحيط‪ ،‬إن لم تحمل تلك الصفات كلها‬
‫فتؤدي إلى تغيير كبير في صفات الماء بتلك األعماق‏‪.‬‬
‫كما تعين على تحديد المصادر التي جاءت منها‪ ،‬مهما تباعدت مسافات تلك‬
‫المصادر إلى آالف الكيلومترات‏‪،‬‏ ومع اختالط الماء من مصادر مختلفة‪ ،‬تتغير‬
‫صفات الكتل المائية باستمرار؛ في المحيط الواحد‪ ،‬وفي البحر الواحد‪ ،‬وبين‬
‫البحار والمحيطات المختلفة‪.‬‏‬
‫وينقسم الماء السطحي في المحيطات على أساس من التباين في درجات‬
‫الحرارة ونسبة الملوحة إلى كتل متباينة‪ ،‬وعلى سبيل المثال فإن الماء السطحي‬
‫في الجزء الشمالي من المحيط األطلسي يعتبر أكثر أجزاء المحيطات ملوحة‏‪،‬‏ بينما‬
‫يعتبر الماء السطحي في شمال المحيط الهادي أقلها ملوحة‏‪.‬‬

‫متتد تيارات املاء متميزة الصفات يف احمليطات وختتلف كل منطقة عن اليت جتاورها‬
‫يف درجة امللوحة وعدد من الصفات بال امتزاج‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪769‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وتتباين كذلك كتل ماء متوسط العمق في المحيطات‪،‬‏ وأوضح نموذج لكتل‬
‫الماء العميق في البحار والمحيطات يقع في الجزء الشمالي الغربي من المحيط‬
‫األطلسي‏‪.‬‬
‫وأما الماء شديد العمق فقد عرف حديثا أن المحيط القطبي الجنوبي يحوي‬
‫فوق قاعه كتلة من الماء‪ ،‬تعتبر أعلى ماء األرض كثافة‏ ‏‪ ،‬وهكذا تتنوع كتل‬
‫ماء البحار جميعا في الصفات‪ ،‬وتبقى كل كتلة منها محتفظة بصفاتها؛ تماما‬
‫كما وصفها القرآن الكريم‪.‬‬
‫‏وترتبط جزيئات الماء بعضها مع بعض بتجاذب الشحنات الكهربية‪ ،‬وتعرف‬
‫هذه الخاصية باسم اللزوجة الجزيئية‏‪،‬‏ وهي من أهم الصفات المؤثرة في ماء البحار‬
‫والمحيطات‪ ،‬التي تجعله يختلط وال يمتزج امتزاجا كامال أبدا‏‪.‬‏‬
‫وشدة تماسك وتالصق جزيئات الماء هي التي أعطته بتدبير من اهلل‏ تعال ‏‬
‫ى‬
‫العديد من صفاته المميزة‪ ،‬مثل شدة توتره السطحي‏‪،‬‏ وميله إلى التكور على ذاته‬
‫على هيئة قطرات‪ ،‬بدال من االنتشار األفقي على السطح الذي يسكب عليه‏‪.‬‬
‫وفي تكوين ذلك الحاجز غير المرئي بين كل ماءين مختلفين في صفاتهما‪،‬‬
‫من مثل الماء العذب والمالح‏‪،‬‏ والماءين الملحيين المتباينين‏‪،‬‏ فيجعل كل بحرين‬
‫ج من الحركة ذهابا وإيابا‪،‬‬
‫متجاورين معزولين؛ رغم فعل التيارات البحرية واألموا ‏‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ولكن بغير اختالط‪.‬‬


‫في القرن الثامن عشر‪ ،‬ظهر الكتاب األول عن علم البحار‪ ،‬على أساس‬
‫ً‬
‫بدائيا‬ ‫تجريبي‪ ،‬ودراسات ميدانية‪ ،‬متحررا من التصور الفلسفي‪ ،‬وقد كان‬
‫في معلوماته العلمية مقارنة بالمعرفة الحالية‪.‬‬
‫ثم بدأ علم المحيطات يأخذ مكانه بين العلوم الحديثة‪ ،‬عندما قامت السفينة‬
‫البريطانية تشالنجر برحلتها حول العالم من عام ‪ 1872‬حتى عام ‪1876‬م‪،‬‬
‫‪770‬‬

‫ثم توالت الرحالت العلمية الكتشاف البحار‪ ،‬وفي نهاية القرن العشرين تزايد‬
‫األمل في فهم المحيطات‪ ،‬عن طريق األقمار الصناعية والتصوير عن بعد‪.‬‬
‫والمعلوم حاليا‪ ،‬أنه في ظل زيادة سرعة التدفق في مجرى النهر‪ ،‬وعمق‬
‫الحوض البحري الذي يصب فيه‪،‬‏‏ وتدني الفارق في كثافة الكتلتين الملتقيين‪،‬‬
‫يسود القصور الذاتي‪ ،‬فيندفع ماء النهر إلى البحر بشدة‪ ،‬على هيئة نفاثات دوارة‪،‬‬
‫تعزل ماء النهر عن ماء البحر‪ ،‬وتؤخر اختالطهما وامتزاجهما حتي تضعف معدالت‬
‫تدفق الماء فيبدأ االمتزاج على حواف كتلة الماء العذب مكونا ماء قليل الملوحة‬
‫يفصل ماء النهر عن ماء البحر‪.‬‬
‫وفي كثير من األنهار يؤدي نقل كميات كبيرة‪ ،‬من نواتج عمليات التعرية‪،‬‬
‫على هيئة الرسوبيات المحمولة مع ماء النهر إلى ترسيبها في منطقة مصبه؛ مما‬
‫يرفع منسوب قاع منطقة المصب‪ ،‬ويجعل سمك الماء فيها قليال؛ مما قد يؤدي‬
‫إلى جعلها أعلى من منسوب قاع مجرى النهر‏‪.‬‬

‫حتمل األنهار رسوبيات هائلة‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪771‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وتضييق اجملرى يجعل تيار ماء النهر بعد المصب َ‬


‫أكثر اندفاعا‪ ،‬ويجعل كتلة‬
‫وأكثر ثراءً باألحياء‪ ،‬وليس مصدر التيارات‬
‫َ‬ ‫الماء العذب في المحيط َ‬
‫أكبر حجما‪،‬‬
‫العذبة في المحيطات مقصورا على األنهار فحسب‪ ،‬فقد تصدر من المياه الجوفية‬
‫وتتدفق من شقوق عميقة في جدران المحيط‪.‬‬
‫وهكذا يبقى كل من الماء العذب والماء المالح‪ ،‬له من صفاته الطبيعية‬
‫والكيميائية ما يمكنه من البقاء منفصال انفصاال كامال عن اآلخر‪ ،‬على الرغم‬
‫من التقاء حدودهما‪ ،‬ولكل بيئة أنواع خاصة من أنواع األحياء المائية المحدودة‬
‫بحدود بيئتها‏‪،‬‏ وبذلك تكون أنواع الحياة في الماء القليل الملوحة مقصورة على‬
‫تلك البيئة‏‏ ومحجورة فيها‪،‬‏‏ أي‪ :‬ال تستطيع الخروج منها وإال هلكت‏‪.‬‬
‫كما أن كل مجموعة من أنواع الحياة في البيئتين العذبة والمالحة ال تستطيع‬
‫دخول الماء القليل الملوحة وإال هلكت‏ ‏‪ ،‬فيما عدا أعداد قليلة تستطيع العبور دون‬
‫بقاء طويل‏ ‏‪ ،‬ومن هنا كان هذا الماء القليل الملوحة حجرا على الحياة الخاصة‬
‫به‏ ومحجورا على الحياة من حوله‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن ظاهرة تشكل البرزخ الفاصل بين بحرين‪ ،‬أو بين بحر ونهر‪ ،‬يتصف بصفات‬
‫مغايرة لكلتا الكتلتين المائيتين‪ ،‬وبالتالي عدم امتزاج تلك الكتلتين أصبحت حقيقة‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫في عصرنا هذا‪ ،‬بعد قيام العلماء المتخصصين في هذا الميدان برحالت بحرية‪،‬‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫ومشاهدات وتجارب؛ مما كان بمجموعه مجهواًل عند البشر‬
‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬وال شك أن‬ ‫وإلى وقت قريب‪ ،‬كان هذا األمر مجهواًل عند البشر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مظهرا من مظاهر اإلعجاز العلمي‬ ‫ذكره في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا يعتبر‬
‫في القرآن الكريم‪.‬‬
‫ويؤكد أن القرآن الكريم هو كالم اهلل الذي اليأتيه الباطل من بين يديه وال‬
‫من خلفه تنزيل من حكيم حميد‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪773‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫مروجا وأنها ًرا‬


‫ستعود أرض العرب ً‬

‫قال !‪> :‬ال تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا< رواه مسلم(‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫ً‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قال النووي‪> < :‬حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا< معناه واهلل أعلم أنهم‬
‫يتركونها ويعرضون عنها؛ فتبقى مهملة ال تزرع وال تسقى من مياهها‪ ،‬وذلك لقلة‬
‫الرجال‪ ،‬وكثرة الحروب‪ ،‬وتراكم الفتن‪ ،‬وقرب الساعة‪ ،‬وقلة اآلمال‪ ،‬وعدم‬
‫الفراغ لذلك واالهتمام به > (‪. )2‬‬
‫قال المال القاري‪> < :‬وحتى تعود أرض العرب< أي‪ :‬تصير أو ترجع (مروجا)‪:‬‬
‫بالضم أي‪ :‬رياضا كما كانت بنباتاتها وأشجارها وأثمارها‪( ،‬وأنهارا) أي‪ :‬مياها‬
‫كثيرة جارية في أنهارها‪.‬‬
‫وفي النهاية‪ :‬المرج‪ :‬األرض الواسعة‪ ،‬ذات نبات كثير‪ ،‬تمرج فيه الدواب‪،‬‬
‫أي‪ :‬تخلى تسرح مختلطة كيف شاءت اه(‪.)3‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 1012‬من حديث أبي موسى والحاكم (‪ (477/4‬واللفظ‬
‫له‪ ،‬وأحمد‪ ،‬حديث رقم ( ‪ ،) 8833‬من حديث أبي هريرة‪ ،‬بزيادة‪( :‬وحتى يسير الراكب بين‬
‫العراق ومكة ال يخاف إال ضالل الطريق‪ ،‬وحتى يكثر الهرج‪ :...‬القتل)‪ ،‬قال مخرجوه‪:‬‬
‫(اسناده صحيح على شرط مسلم )‪.‬‬
‫((( شرح النووي على مسلم (‪.)97 /7‬‬
‫((( مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (‪.)3430 /8‬‬
‫‪774‬‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫في منتصف القرن العشرين بدأ العلماء يدرسون ما يسمونه دورة الطقس‬
‫أو دورة المناخ‪ ،‬ووجدوا أن هنالك دورات يمر بها طقس األرض‪ ،‬ووجدت‬
‫كذلك شواهد على مرور األرض دوريا بعدد من العصور الجليدية‪.‬‬
‫فقد توصل المختصون مثال إلى أن قارة أوروبا كانت مغطاة بطبقات‬
‫من الجليد‪ ،‬يبلغ سمكها مئات األمتار‪ ،‬منذ أكثر من عشرة آالف سنة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وقد وجدت شواهد كثيرة على أن الحزام الذي يشمل الصحراء العربية كان‬
‫غنيا بالمطر‪ ،‬وتغطيه المروج الخضراء‪ ،‬وأيد المسح باألقمار‬ ‫بالفعل يوما ما ً‬
‫الصناعية لمنطقة الربع الخالي هذا النبأ العجيب الذي مفاده مايلي‪:‬‬
‫قال الدكتور ماكلور ‪ McClure‬في أطروحته للدكتوراه عام ‪ 1984‬في لندن‪:‬‬
‫< إن منطقة الربع الخالي تشكلت قبل حوالي مليوني سنة‪ ،‬ولكن هذه الصحراء‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جيولوجيا مدهشا‪ .‬حيث نالحظ أن األنهار‬ ‫نظاما‬ ‫ال تبقى على حالها‪ ،‬بل تتبع‬
‫والغابات تغطي هذه المنطقة كل فترة من الزمن >‪.‬‬
‫ً‬
‫وقال‪ < :‬قبل ‪ 37‬ألف وحتى ‪ 17‬ألف سنة كانت مغطاة بالمروج واألنهار العذبة‪،‬‬
‫ثم بعد ذلك حدث تغير في المناخ‪ ،‬وتشكلت الصحراء من جديد‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫ُ‬
‫أي قبل حوالي ‪ 10‬آالف إلى ‪ 5‬آالف سنة عادت وغطيت بالمروج‪ ،‬والغابات‪،‬‬
‫والبحيرات‪ ،‬واألنهار‪ ،‬وهكذا وفق دورة عجيبة!‪ ،‬وقد عثرنا في منطقة الربع‬
‫الخالي على أسنان لفرس النهر‪ ،‬وكانت بحالة جيدة‪ ،‬وعثرنا على آثار لمخلوقات‬
‫نهرية عديدة وحيوانات مثل الجمال والخراف والغزالن كانت ترعى ذات يوم > !‪.‬‬
‫وتساءل قائال‪ < :‬هل يمكن لألمطار أن تعود بغزارة إلى منطقة الربع الخالي‬
‫فتعود البحيرات والمروج واألنهار من جديد؟ >‪ ،‬وهو كمتخصص يرجح أن تعود‬
‫األمطار وتعود البحيرات والمروج إلى هذه المنطقة في وقت ما في المستقبل‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪775‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫صورة بالقمر الصناعي تظهر أنهار الربع اخلالي‬

‫ووجد الدكتور فاروق الباز‪ ،‬مدير مركز االستشعار عن بعد في جامعة بوسطن‬
‫األمريكية‪ ،‬أن ً‬
‫نهرا كان يمتد لمسافة طويلة‪ ،‬قد دفنته رمال الصحراء في الربع‬
‫ً‬
‫الخالي‪ ،‬وهذا النهر كان موجودا قبل ستة آالف سنة ويبلغ طوله ‪ 800‬كلم‪ ،‬وكان‬
‫هذا النهر ينبع من جبال الحجاز‪ ،‬ويمتد ويتفرع إلى دلتا تغطي أجزاء كبيرة من‬
‫الجزيرة‪ ،‬حتى يصب في البحر‪.‬‬
‫‪776‬‬

‫وقد قال الدكتور بلوم ‪ Ron Bloom‬من وكالة ناسا‪ :‬إن أول مرة في التاريخ‬
‫يعلم فيها الناس أن الجزيرة العربية كانت ذات يوم مغطاة باألنهار كان في عام‬
‫‪ ،1972‬من خالل الصور الملتقطة بواسطة القمر الصناعي الندسات ‪،Landsat‬‬
‫حيث مكنتنا هذه التقنية الحديثة من رؤية ما لم يره أحد من قبل‪ ،‬ثم التقطت‬
‫في عام ‪ 1981‬بعض الصور للمنطقة‪ ،‬أكدت وجود آثار جملاري أنهار‬
‫في الصحراء‪ ،‬وفي عام ‪ 1994‬تأكدت هذه الحقيقة أكثر‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن البحوث الجيولوجية الدقيقة المتعلقة بتاريخ أرض الجزيرة العربية‬
‫أثبتت أنها كانت تجري فيها أنهار كبيرة‪ ،‬وتغطيها جنات وارفة‪ ،‬تسكنها قطعان‬
‫من حيوانات متنوعة‪.‬‬
‫كما أكدت البحوث االستشرافية المستفيضة في علوم الطقس والدورات‬
‫المناخية‪ :‬أن أرض العرب ستعود بإذن اهلل إلى ما كانت عليه‪ ،‬وهذا يتطابق تماما‬
‫مع منطوق الحديث النبوي الشريف‪ ،‬الذي قال فيه رسول اهلل !(ال تقوم الساعة‬
‫وأنهارا)‪ ،‬مما يؤكد ً‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫قطعا أنه ! إنما يخبرنا بوحي‬ ‫حتى تعود أرض العرب مروجا‬
‫من اهلل‪ ،‬وأن ما أخبر به في هذا الخصوص هو إعجاز علمي‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪777‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫قبلة مسجد صنعاء نبوءة نبوية‬

‫روى الطبراني في المعجم األوسط أن وبر‪ ‬بن يحنس الخزاعي قال‪ :‬قال لي‬
‫رسول اهلل‪> :‬إذا بنيت مسجد صنعاء فاجعله عن يمين جبل‪ ،‬يقال له ضين<‪ ،‬قال‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫الهيثمي‪ :‬رواه الطبراني في األوسط وإسناده حسن‪ ،‬وقد رواه ابن السكن‪ ،‬وابن‬
‫مندة كما نقله الحافظ في اإلصابة‪.‬‬
‫وقال الحافظ الرازي في كتابه >تاريخ صنعاء<‪ :‬إن رسول اهلل ! أمر وبر‪ ‬بن‬
‫يُحنس األنصاري حين أرسله إلى صنعاء ً‬
‫واليا عليها فقال‪> :‬ادعهم إلى اإليمان فإن‬
‫اطاعوا لك به فاشرع الصالة فإذا أطاعوا لك بها ُ‬
‫فم ْر ببناء المسجد لهم في بستان‬
‫باذان؛ من الصخرة التي في أصل غمدان‪ ،‬واستقبل به الجبل الذي يقال له ضين<‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫اجلامع الكبري بصنعاء‬


‫‪778‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫أمر رسول اهلل ! وبر‪ ‬بن يحنس الخزاعي الذي وجهه إلى صنعاء أن يبني‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫َ‬
‫أوصاف المسجد‪ ،‬فحدد‬ ‫لهم مسجدا‪ ،‬عُرف بمسجد صنعاء‪ ،‬وحدد الرسول !‬
‫َ‬
‫موضعه في صنعاء‪ ،‬وحدد لهم القبلة بجبل ضين‪ ،‬الذي يبعد عن صنعاء حوالي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫صور األقمار الصناعية دقة اتجاه قبلة مسجد صنعاء نحو‬ ‫‪ 30‬كم‪ ،‬وقد أكدت‬
‫الكعبة المشرفة ‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫أمر اهلل المسلمين أن يتجهوا في صالتهم إلى قبلة واحدة هي الكعبة المشرفة؛‬
‫َ َ‬ ‫َ ّ‬ ‫َّ ٓ َ َ ّ َ َ ٗ َ َ‬
‫ٱلس َماءِۖ فل ُن َو يِلَ َّنك ق ِۡبلة ت ۡرضى ٰ َها ۚ ف َو ِل َو ۡج َهك ش ۡط َر‬
‫َ‬
‫ب َو ۡج ِهك يِف‬ ‫فقال تعالى‪﴿ :‬قَ ۡد نَ َر ٰ‬
‫ى َت َق ُّل َ‬
‫َ ُ ُ ْ ۡ َ ٰ َ يَ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫حۡ َ َ َ َ ۡ ُ َ ُ ُ َ ُّ ْ‬ ‫ٱل ۡ َم ۡ‬
‫ب لَ ۡعل ُمون‬ ‫نت ۡم ف َولوا ُو ُجوهك ۡم ش ۡط َرهُ ۗۥ ِإَون ٱلذَِّين أوتوا ٱلكِت‬ ‫ج ِد ٱلر ِامۚ وحيث ما ك‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫َ َّ حۡ‬
‫أن ُه ٱلق مِن رب ِ ِهمۗ وما ٱلل بِغ ِف ٍل عما يعملون﴾ [ ب���ر ‪]144 :‬؛ أي في اتجاهه‪.‬‬
‫َ َّ َ ۡ َ ُ َ ا �ل ق �ة‬ ‫َّ ّ ۡ َ َ هَّ ُ َٰ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫وعندما دخل اليمنيون في دين اهلل أفواجا أرسل إليهم معلمين يعلمونهم الدين‪،‬‬
‫كان منهم‪ :‬على‪ ‬بن أبي طالب‪ ،‬ومعاذ‪ ‬بن جبل‪ ،‬وأبو موسى األشعري‪ ،‬ووبر‪ ‬بن‬
‫يحنس وغيرهم ‪ J‬أجمعين‪.‬‬

‫ﻣﻜﺔ ﺍﳌﻜﺮﻣﺔ‬

‫ﺟﺒﻞ ﺿﲔ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪779‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫المسافة بين صنعاء ومكة المكرمة حوالي ‪815‬كم‪ ،‬وإذا أردنا رسم خط مستقيم‬
‫بين مكة وصنعاء يستلزم وجود خريطة تعتمد على الصور الحقيقية لسطح األرض‪،‬‬
‫وال بد من معرفة خطوط الطول وخطوط العرض على سطح الكرة األرضية‪،‬‬
‫والخريطة المسطحة لألرض ال تمثل الحقيقة؛ ألن األرض كروية وليست‬
‫مسطحة‪.‬‬
‫ولم يتمكن اإلنسان من وضع الخرائط الدقيقة لألرض وتحديد خطوط الطول‬
‫والعرض إال في القرن العشرين‪ ،‬ثم زادت دقة هذا التحديد بعد استخدام األقمار‬
‫ً‬
‫الصناعية‪ ،‬ولم تكن هذه المعارف العلمية متوفرة في زمن الرسول !؛ وال حتى‬
‫َ‬
‫بعده بعدة قرون‪.‬‬
‫فأول خريطة لألرض وضعها اإلدريسي عام ‪1154‬م بعد الهجرة النبوية بحوالي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫خمسة قرون ونصف‪ ،‬مع كونها تفتقد الدقة‪ ،‬حيث إن موقع اليمن‪ ،‬جنوب شرق‬
‫الجزيرة‪ ،‬وموقع عُمان شمال شرق الجزيرة‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫خريطة اإلدريسي‬
‫وفي عام ‪1452‬م وضع جيوفاني لردو خريطة أخرى‪ ،‬ولكنها لم تكن دقيقة‪،‬‬
‫وجاء منتصف القرن العشرين‪ ،‬ليبدأ معه عصر األقمار الصناعية‪ ،‬وكان أول قمر‬
‫‪780‬‬

‫صناعي دار في الفضاء هو (سبوتنك) الذي أطلقته روسيا عام ‪1957‬م‪ ،‬وتاله‬
‫المستكشف عام ‪1958‬م‪.‬‬
‫بي ! دقة‬ ‫عشر قرنًا من بعثة الن ّ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقد أثبتت صور األقمار الصناعية بعد أربعة‬
‫اتجاه قبلة مسجد صنعاء المذكور نحو الكعبة المشرفة‪ .‬مما يدل على أن قول الن ّ ّ‬
‫بي‬
‫! هو علم أعالم النبوة‪.‬‬

‫ِ‬ ‫فقول الرسول !‪> :‬فاجعله عن يمين جبل يقال له ضين< يحدد زاوية َم ْيل‬
‫المسجد الدقيقة نحو الكعبة‪ ،‬وقول الرسول !‪> :‬فمر ببناء المسجد لهم في بستان‬
‫بي ! إلى وبر >بأن‬‫باذان من الصخرة التي في أصل غمدان<‪ ،‬وما جاء في كتاب الن ّ ّ‬
‫ً‬
‫يبني حائط باذان مسجدا ويجعله من الصخرة إلى موضع جدره< هو تحديد دقيق‬
‫لموضع المسجد ومكانه‪.‬‬
‫وقول الرسول !‪> :‬واستقبل به الجبل الذي يقال له ضين<‪ ،‬وقوله ً‬
‫أيضا‪:‬‬
‫ُ‬
‫وموقعه اليوم بين‬ ‫>واستقبل به ضينًا< هو تحديد دقيق لجهة قبلة مسجد صنعاء‪،‬‬
‫ساريتين من سواري المسجد‪ ،‬تسمى أحدهما (المسمورة)‪ ،‬واألخرى (المنقورة)‪،‬‬
‫َ‬
‫اليمين من‬ ‫وبعض أهل اليمن كانوا يغالون في تعظيم مسجد صنعاء‪ ،‬فال يقبلون‬
‫الخصم عند التنازع الشديد إال عند المسمورة والمنقورة؛ أي في المسجد الذي‬
‫ُ‬
‫وصفه رسول اهلل ! وبيّن حدوده‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫صو َر األقمار الصناعية‪،‬‬
‫لو رسمنا اليوم من مسجد صنعاء خطا مستقيما‪ ،‬متتبعين َ‬
‫مباشرة إلى الكعبة المشرفة في مكة المكرمة‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫علما‬ ‫وفق هذه اإلحداثيات‪ ،‬لقادنا‬
‫بأن رسول اهلل ! لم يزر صنعاء‪ ،‬وال رأى جبل ضين‪ ،‬وال شاهد بستان باذان‪،‬‬
‫وال الصخرة‪ ،‬بل إن الناس في زمنه لم يكن لهم من الوسائل ما يمكنهم من معرفة‬
‫االتجاه الدقيق نحو مكة المكرمة‪ ،‬مما يثبت أن ما قاله رسول اهلل ! إنما هو وحي‬
‫وح﴾ [ا �لن���� ج����م‪.]4-3 :‬‬ ‫ى ‪ ٣‬إ ِ ۡن ُه َو إ ِ اَّل َو يۡ ‪ٞ‬‬
‫ح يُ ىَ ٰ‬ ‫من اهلل ﴿ َو َما يَن ِط ُق َعن ٱل ۡ َه َو ٰٓ‬
‫ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪781‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اجلبـال الرواسي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َج َع َل فِ َ‬
‫ِيها ٓ أ ۡق َو ٰ َت َها يِ ٓ‬
‫ف أ ۡر َب َعةِ أيَّا ٖم‬ ‫س ِمن فوقِها وب ٰ َرك فِيها وقدر ف‬ ‫يها َر َو ٰ يِ َ‬
‫ِني﴾ [ ف����ص�ل� ت�‪.]10:‬‬ ‫َس َوا ٓ ٗء ّل َّ‬
‫ِلسآئل َ‬
‫ِ‬
‫َ َ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َۡ‬ ‫أۡ َ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬وجعلنا يِف ٱل ِ‬
‫َ َ ٗ ُ ُ اٗ‬ ‫َ َ َ َۡ‬
‫ۡرض رو ٰ يِس أن ت ِميد ب ِ ِهم وجعلنا فِيها ف ِجاجا سبل‬
‫أ‬
‫ل َعل ُه ۡم َي ۡه َت ُدون﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪.]31:‬‬
‫َ‬ ‫َّ َّ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫اٗ َّ َّ ُ‬ ‫ُ َۡ‬ ‫س أَن تَم َ‬ ‫أۡ َ‬ ‫َۡ‬


‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وأل ىَ ٰ‬
‫يد بِك ۡم َوأن َه ٰ ٗرا َو ُس ُبل ل َعلك ۡم‬ ‫ِ‬ ‫ۡرض َر َو ٰ يِ َ‬ ‫ق يِف ٱل ِ‬
‫ت ۡه َت ُدون﴾ [ا �لن�����ح�ل‪.]15:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫نأ‬ ‫َ َ َ َۡ َ ٗ‬ ‫َ َ ۡ جَ ۡ َ أۡ َ َ‬
‫ٱلبال أوتادا﴾ [ا ل����ب� ‪.]7-6:‬‬
‫�‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬ألم نع ِل ٱلۡرض مِهدا ‪ ٦‬و جِۡ‬
‫ٗ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫َ َ اَ َ ُ ُ َ ىَ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬أفل ينظرون إِل إِۡ‬
‫ٱلس َمآءِ َك ۡي َف ُرف ِ َعتۡ‬
‫ِإَول َّ‬ ‫ىَ‬ ‫ۡ‬ ‫ََۡ ُ َ‬
‫ٱلب ِ ِل كيف خل ِقت ‪١٧‬‬
‫َ‬
‫ۡرض ك ۡيف ُس ِطحت﴾ [ا �ل غ���ا ش�����ي����‪.]20-17 :‬‬
‫ة‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أۡ‬ ‫ىَ‬ ‫ِإَول ٱل َبال َك ۡي َف نُص َب ۡ‬ ‫ىَ‬
‫ت ‪ِ ١٩‬إَول ٱل ِ‬ ‫ِ‬ ‫جِۡ ِ‬ ‫‪١٨‬‬
‫‪782‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫يمكن الفهم من النصوص الكريمة أن الجبال التي نراها اليوم كعالمات ثوابت‬
‫على القارات ليست أبدية الوجود؛ وإنما لها عمر ‪ -‬وإن طال‪ -‬محدود‪ ،‬ويمكن‬
‫حمل لفظ >األرض< طبقا للسياق على الطبقة الصلبة تحت أقدامنا‪ ،‬والتي تحمينا‬
‫من خطر الباطن الملتهب‪ ،‬والتي يصطلح عليها المختصون بالطبقة الصخرية‬
‫أو قشرة األرض؛ خاصة مع تشبيهها بمهاد الصبي الذي يحميه من خطر مما هو‬
‫دونه‪ ،‬وخاصة مع تشبيه الجبال بالرواسي التي كانت كتال صخرية تمتد تحت‬
‫السفن الشراعية بحبال لتثقلها وتمنعها أن تميد فوق تيارات المحيط‪ ،‬والداللة‬
‫إذن أن األلواح القارية كانت تميد وتضطرب في أول عهدها حتى نشأت الجبال‪،‬‬
‫وامتدت عميقا لتقوم بتثبيتها حتى ال تميد وتضطرب تماما كرواسي السفن‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫قد تنشأ جبال وتنصب من َج ّراء تصادم قارة بأخرى مجاورة‪ ،‬ومن األمثلة‬
‫ً‬
‫الجيولوجية المعروفة نشأة جبال الهيمااليا‪ ،‬فقد كانت الهند واقعة على الحافة‬
‫ِّ ُ‬
‫الجنوبية لبحر قديم‪ ،‬ال وجود له اليوم‪ ،‬بينما كانت الت ْبت تقع عند الحافة الشمالية‬
‫لذلك البحر العظيم‪ ،‬كان ذلك منذ قرابة المائة مليون سنة‪.‬‬
‫وقطعت الهند مسافة حوالي ‪ 1500‬كم أثناء زحزحتها شماال باتجاه قارة آسيا‪،‬‬
‫إلى أن أتى وقت اختفى فيه البحر وجاءت لحظة التصادم المحتومة‪ ،‬فارتفعت‬
‫أرض الهند‪ ،‬وحينئذ نصبت أعلى جبال في األرض‪ ،‬وهي جبال الهيمااليا‪.‬‬
‫وتعلو قمة جبال الهيمااليا ثمانية كيلو مترات ونيِّف عن سطح البحر‪ ،‬وقد‬
‫أثبت المسح الجيولوجي أن جبال الهيمااليا تمتد عميقا لمسافة قد تزيد عن ‪65‬‬
‫كيلو متر‪ ،‬وهكذا يكون الجزء المختفي من الجبال تحت السطح يعادل أضعاف‬
‫الجزء البارز فوق السطح‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪783‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫نشأة جبال اهليمااليا‬


‫وهذا االمتداد في األرض المماثل المتداد الوتد لم يعرفه بشر عند نزول القرآن‬
‫بتثبيت‬
‫ِ‬ ‫الكريم بالقطع‪ ،‬ناهيك عن التماثل في الوظيفة كذلك‪ ،‬ألن الوتد يقوم‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ُ‬
‫جذور الجبل بحفظ ثبات الكتلة الطافية فوق طبقة الدثار‬ ‫الخيمة‪ ،‬وكذلك تقوم‬
‫الملتهب لألرض‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مدهش‬ ‫وهذا التوازن ‪ Isostasy‬الذي أبدعه الخالق سبحانه وتعالى في األرض‬
‫حقا؛ حيث جعل الغالف الصخري يطفو ‪-‬وفق قانون الطفو في البواخر ‪-‬فوق‬
‫ُ‬
‫غالفه اللدن الملتهب‪ ،‬وترسو أو تطفو القارات‪ ،‬وقيعان البحار على وشاح‬
‫األرض‪ ،‬كما يطفو جبل الجليد فوق الماء‪ ،‬وتضرب القارات بجذورها في وشاح‬
‫األرض‪.‬‬
‫‪784‬‬

‫أكثر عمقا من الجذور تحت المناطق‬‫ُ‬ ‫ويالحظ أن الجذور أسفل الجبال‬


‫المستوية‪ ،‬وتطفو األلواح القارية المثقلة بالجبال المشبهة بالرواسي فوق تيارات‬
‫باطن األرض الملتهب تماما‪ ،‬كما تطفو السفن وتثبت فوق تيارات المحيط‪،‬‬
‫هذا ما اكتشفه العلم حديثا؛ ولكن القرآن قد سجل ذلك قبل أكثر من ألف سنة‬
‫بأسلوب فريد‪.‬‬
‫تتطابق فيه المعلومة القرآنية عن تكوين الجبال مع الحقيقة العلمية؛ مما يؤكد‬
‫أن ما جاء به القرآن هو وحي من عند اهلل العليم الخبير‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ً‬
‫إن هذا الوصف الذي وصف اهلل به الجبال من كونها رواسي لم يكن معروفا‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫االكتشافات العلمية المعاصرة فأثبتته وفق ما ورد‬ ‫وقت التنزيل‪ ،‬حتى جاءت‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ّْ‬ ‫ً‬
‫في القرآن الكريم‪ ،‬ليكون شاهدا على أن هذا القرآن ُمن َّز ٌل من لدن حكيم خبير‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪785‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اخلشوع والتصدع يف اجلبال‬

‫النص الشرعي‪:‬‬
‫َّ َ‬ ‫َ ۡ َ َ لنۡ َ َ ٰ َ ۡ ُ ۡ َ َ‬
‫ان لَىَ ٰ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬لو أنز ا هذا ٱلقرء‬
‫هَّ‬ ‫َ ۡ‬ ‫َ‬
‫ع َج َب ٖل ل َرأ ۡي َت ُهۥ خٰشِ ٗعا ُّم َت َص ّد اِٗع ّم ِۡن خش َيةِ ٱللِۚ‬
‫َ ۡ َ أۡ َ ۡ َ ٰ ُ َ‬
‫ح���ر‪.]21 :‬‬ ‫ون﴾ [ا �ل‬
‫�ش‬ ‫َ َ َّ ُ ۡ َ َ َ ُ َ‬
‫َّ‬
‫اس لعلهم يتفكر‬ ‫ض ُب َها ل َِّلن ِ‬
‫وت ِلك ٱلمثل ن رِۡ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َّ َ‬ ‫َ ۡ َ َ لنۡ َ َ ٰ َ ۡ ُ ۡ َ َ‬
‫ان لَىَ ٰ‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬لو أنز ا هذا ٱلقرء‬
‫َ‬
‫ع َج َب ٖل ل َرأ ۡي َت ُهۥ خٰشِ ٗعا ُّم َت َص ّ ِد اٗع ّ ِم ۡن‬
‫َ ۡ َ هَّ َ ۡ َ أۡ َ ۡ َ ٰ ُ َ‬
‫اس لعلهم يتفكرون﴾‪.‬‬
‫َ َ َّ ُ ۡ َ َ َ ُ َ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ضبها ل ِلن ِ‬ ‫خشيةِ ٱللِۚ وت ِلك ٱلمثل ن رِۡ‬
‫‪786‬‬

‫المعنى أنه لو جعل اهلل تعالى في الجبل عقاًل كما جعل فيكم‪ ،‬ثم أنزل‬
‫َ‬
‫عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية اهلل‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬وتلك األمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون‪ ،‬أي الغرض من ذكر‬
‫هذا الكالم‪ :‬التنبيه على قساوة قلوب هؤالء الكفار‪ ،‬وغلظ طباعهم‪ ،‬ونظير قوله‪:‬‬
‫َ َ ِ َ ۡ َ َ ُّ َ ۡ َ ٗ ا �ل ق �ة‬
‫ه كٱلحِۡجارة أو أشد قسوة ۚ} [ ب���ر ‪ ]74 :‬تفسير ‪.‬‬ ‫{ثم قست قلوبكم ِم ۢن بع ِد ذل ِك ف يِ‬
‫(‪)1‬‬
‫ُ َّ َ َ ۡ ُ ُ ُ ُ ّ َ ۡ َ ٰ َ َ َ َ‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫مقاومة أنواعِ الصخور‪،‬‬ ‫لدراسة‬ ‫ً‬
‫علميا بنتيجة التجارب المخبرية‬ ‫ثبت‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واستجاباتها المختلفة‪ ،‬لمختلف قوى الضغط التي تمارس عليها‪ ،‬أن الصخور‬
‫َّ‬
‫بأنواعها المختلفة تستجيب عند تعرضها لقوى الضغط بالط ِّي وااللتواء‪ ،‬واالنشطار‪.‬‬
‫فالصخور الخاضعة لقوة ضغط متزايدة تتعرض لتشوه متزايد‪ ،‬فتتقلص‬
‫في حالة االنضغاط‪ ،‬وتتمدد في حالتي الجر أو البسط قبل أن تتعرض للكسر‪.‬‬
‫وبدراسة آثار الرفع التدريجي للضغط والحرارة على الصخور المنضغطة‪،‬‬
‫َ‬
‫تظهر آليات التشوه المختلفة التي تعمل بنفس اآللية داخل القشرة األرضية‪.‬‬
‫حيث إنها في حالة االنضغاط‪ ،‬تتعرض للصدع تحت ظروف الضغط والحرارة‬
‫السائدة ً‬
‫قريبا من سطح األرض‪ ،‬وتتحول الصخور إلى الحالة اللدنة في حالة رفع‬
‫الضغط والحرارة‪ ،‬وتتعرض للطي وااللتواء قبل أن تصل هذه الصخور إلى نقطة‬
‫االنصهار؛ فتصير كالسوائل المائعة‪ ،‬وتحدث هذه التفاعالت المختلفة بشكل‬
‫مباشر‪.‬‬
‫ويظهر التشوه على شكل فوالق في حالة تعرض الصخور للتصدع فتخلو‬
‫من الطيات‪ ،‬وتمتلئ بالصدوع؛ بسبب زيادة القص كآلية رئيسة للتشوه‪ ،‬وتتعرض‬
‫َ‬
‫الصخور لاللتواء والطي عندما يتم التشوه دون كسر أو صدع بفعل آليَّتي الثني والبطح‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪ )512 /29‬للرازي‪.‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪787‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وفي مرحلة أخيرة في األعماق التي تتعرض فيها الصخور لدرجات حرارة‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫التشوه السائدة هي‬ ‫وضغط أعلى من تلك التي تميز نقطة االنصهار تكون آلية‬
‫َ‬
‫التسيّل‪ ،‬ومن ث َّم فإن الصخور تسيل على طريقة السوائل‪ ،‬وتشكل طيات تختلف‬
‫عن تلك المتواجدة في مستويات أعلى‪ ،‬بحيث يحدث االلتواء دون تقلص‬
‫في المسافة األصلية للطبقات الصخرية‪.‬‬
‫ً‬
‫علميا بأن الصخور تستجيب لقوى االنضغاط باالنكماش أواًل‪،‬‬ ‫وهكذا ثبت‬
‫ثم تتعرض للتكسر والتفتت في نهاية المطاف‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫توضح الحقائق العلمية السابقة بجالء أن صخور الجبال تتميز بخاصيتين اثنتين‬
‫هما خاصية الطي أو االلتواء وخاصية التصدع‪ ،‬وقد وردت اإلشارة إلى هذه‬
‫ً‬ ‫َ َ‬
‫أكثر من أربعة عش َر قرنا في قوله تعالى‪﴿ :‬لو أ‬ ‫الحقيقة العلمية منذ َ‬
‫َ ۡ َ َ لنۡ َ َ ۡ ُ َ‬
‫نز َا هٰذا ٱلق ۡر َءان‬
‫لَىَ ٰ َ َ َّ َ َ ۡ َ ُ َ ٰ ٗ ُّ َ َ ّ اٗ ّ ۡ َ ۡ َ هَّ‬
‫ٱللِۚ‪.﴾ ..‬‬ ‫ع جب ٖل لرأيتهۥ خشِ عا متصدِع مِن خشيةِ‬
‫حيث يفهم من اآلية أن خشية الجبال هلل تتجلى من خالل التواء الصخور وطيّها‬
‫(وهو الخشوع)‪ ،‬ومن خالل تكسرها وتفلقها (وهو التصدع)‪.‬‬
‫كما أن تقديم الخشوع عن التصدع إشارة إلى حقيقة علمية أخرى‪ ،‬وهي أن‬
‫الصخور تستجيب لقوى االنضغاط بالتقلص وهو (الخشوع) أواًل‪ ،‬ثم تتعرض‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫للكسر وهو (التصدع) في نهاية المطاف‪ ،‬وصدق اهلل العظيم القائل‪َ ﴿ :‬وقُل حۡ َ‬
‫ٱل ۡم ُد‬ ‫ِ‬
‫يك ۡم َء َايٰتِهِۦ ف َت ۡع ِرفون َها ۚ﴾‪.‬‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫هَّ َ‬
‫للِ ِ سيرُِ‬
‫جبل أرارات ـ تركيا‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪789‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الطـــوفـــان العـظــيـــم‬

‫َ َ أۡ َ َ ُ ٗ َ تۡ ىَ‬ ‫َ َ َ ۡ َ ٓ َ ۡ َ َ َّ ٓ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ففتحنا أبوٰب‬
‫ٓ‬
‫ٱلس َماءِ ب ِ َماءٖ ُّم ۡن َه ِم ٖر ‪َ ١١‬وف َّج ۡرنا ٱلۡرض ع ُيونا فٱلَق‬
‫َ‬ ‫اَ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫جَ‬ ‫رُ‬ ‫َٰ ٖ َ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لَىَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ مَ َ ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ ٓ ُ لَىَ ٰٓ َ ۡ َ ۡ ُ‬
‫َ‬
‫س ‪ ١٣‬ترِي بِأعينِنا جزاء ل ِمن كن‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬
‫ات ألوح ود ٖ‬ ‫ٱلماء ع أم ٖر قد ق ِدر ‪ ١٢‬وحلنه ع ذ ِ‬
‫كفِ َر ‪َ ١٤‬ولقد ت َرك َنٰ َها َءايَة ف َهل مِن ُّم َّدك ِٖر﴾ [ا �ل��ق�����مر‪.]15-11 :‬‬
‫َ َ َّ ۡ ٓ ٗ َ ۡ‬ ‫ُ‬

‫ني﴾ [ا �ل�عن����ك�بو ت�‪.]15 :‬‬ ‫ينةِ َو َج َع ۡل َنٰ َها ٓ َءايَ ٗة ّل ِ ۡل َعٰلَم َ‬


‫ٱلسف َ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬فَأَجنَ ۡي َنٰ ُه َوأَ ۡص َ‬
‫ِ‬ ‫ب َّ ِ‬ ‫حٰ َ‬
‫أۡ َ‬ ‫َ ٓ َۡ‬ ‫َ َ َ َ ُ َۡ‬
‫ض ٱل ۡم ُر‬ ‫يض ٱل ۡ َما ٓ ُء َوقُ يِ َ‬ ‫َ َ‬
‫يأۡرض ٱبل يِع َما َءكِ َوي ٰ َس َما ُء أقل ِ يِع و ِ‬
‫غ‬
‫ٓ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬وقِيل ٰٓ‬
‫ني﴾ [�هود‪.]44 :‬‬ ‫ٱلظٰلِم َ‬ ‫َ ۡ َ َ ۡ لَىَ جۡ ُ ّ َ َ ُ ۡ ٗ ّ ۡ َ ۡ ِ َّ‬
‫ِ‬ ‫وٱستوت ع ٱلود ِِيۖ وقِيل بعدا ل ِلقوم‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫جبل اجلودي‬
‫‪790‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ َ َ ۡ َ ُ َ َ ۡ َ ٰ َ َّ َ َ َ َ ۡ َ َ ٓ َ َ ٗ ّ ۡ َ ٰ َ‬
‫في قوله تعالى‪﴿ :‬فأجنينٰه وأصحب ٱلسفِينةِ وجعلنٰها ءاية ل ِلعل ِمني﴾‪ ،‬وقوله‬
‫َ‬

‫تعالى‪َ ﴿ :‬ولقد ت َرك َنٰ َها َءايَة ف َهل مِن ُّم َّدك ِٖر﴾ [ا �ل��ق�����مر‪ ،]15 :‬قال الشيخ محمد الطاهر‬
‫َ َ َّ ۡ ٓ ٗ َ ۡ‬

‫بن عاشور المتوفى عام ‪1393‬هـ (رحمه اهلل تعالى)‪> :‬ضمير المؤنث في (تركناها)‬
‫عائد إلى (ذات ألواح ودسر) أي السفينة‪ ..‬أي أبقينا سفينة نوح محفوظة‪..‬؛ لتكون‬
‫آية تشهدها األمم<‪.‬‬
‫ٱلود ِِّيۖ﴾ تحديد السم الجبل‪ ،‬وفيه معنى‬ ‫وفي قوله تعالى‪﴿ :‬وٱستو‬
‫تع ُ‬ ‫َ ۡ ََ ۡ‬ ‫جۡ‬ ‫لَىَ‬

‫مياَلن‪ ،‬قد يؤذي َمن فيها‪.‬‬


‫االستقرار باستواء بال َ‬
‫َۡ‬‫وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫س﴾ تحديد لتكوين السفينة من ألواح‬ ‫ع ذ ِ َ َ ُ رُ‬ ‫حل َنٰ ُه ٰ‬ ‫لَىَ َ‬ ‫مَ ۡ‬
‫ات ألو ٰ ٖح ود ٖ‬
‫خشبية تربطها براشيم أو مسامير معدنية‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫في مايو عام ‪1948‬م كشفت الزالزل واألمطار عن آثار سفينة كبيرة متحجرة‬
‫مطمورة في الرواسب الطينية‪ ،‬على سفح جبل الجودي تحديدا في جنوب شرق‬
‫تركيا‪ ،‬بالقرب من حدودها مع سوريا والعراق؛ اكتشفها راعي غنم اسمه رشيد‬
‫سرحان من قرية أوزنجيلي ‪ Uzengili‬الكردية‪ ،‬القريبة من موقع السفينة‪.‬‬
‫وفي أكتوبر عام ‪ 1959‬في إحدى طلعات طيران الجيش التركي عاين الطيار‬
‫ُ‬
‫‪ Durupinar‬السفينة المطمورة وفي العام التالي ‪ ،1960‬أرسلت أول بعثة لمنطقة‬
‫األكراد الجبلية الوعرة في شرق تركيا لمعاينة السفينة على سفح جبل الجودي‪ ،‬وال‬
‫يعقل أن توجد سفينـة على جبل على ارتفاع حوالي ‪ 2000‬متر من سطح البحر‪،‬‬
‫إال أن يرفعها شيء‪ ،‬وليس في األخبار واألسفار والقرآن سوى الطوفان‪.‬‬
‫أثار الخبر دهشة كبيرة؛ ألن قصة السفينة عند المالحدة أسطورة‪ ،‬واألسفار‬
‫القانونية المعتمدة في الكنائس قالت >أرارات<‪ ،‬وقال القرآن (واستوت على‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪791‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الجودي)‪ ،‬وصدق‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫جميع‬ ‫وفي سفر التكوين‪ < :‬وتعاظمت المياه كثيرا جدا على األرض‪ ،‬فتغطت‬
‫ُْ ُ‬
‫الجبال الشامخة التي تحت كل السماء >‪ < ،‬واستقر الفلك في الشهر السابع في‬
‫اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط > إصحاح ‪ 7‬فقرة ‪ ،19‬وإصحاح‬
‫‪ 8‬فقرة ‪.4‬‬
‫وتقع جبال أرارات شرق تركيا‪ ،‬بالقرب من حدود أرمينيا وإيران‪ ،‬بينما يقع‬
‫الجودي جنوب شرق على حدود العراق وسوريا‪.‬‬
‫وأرارات سلسلة بركانية متصلة ذات قمتين المسافة بينهما حوالي ‪ 11‬كم‪،‬‬
‫أدناهما ترتفع حوالي ‪ 4000‬متر‪ ،‬وأعالهما تكسوها الثلوج وترتفع حوالي ‪5000‬‬
‫َ َ‬
‫متر فوق سطح البحر‪ ،‬وهي أعلى قمـة في تركيا‪ ،‬وحتى لو خان التعبير كت َبة‬
‫األسفار‪ ،‬فقالوا (جبال أرارات) بدال عن منطقة بالجوار؛ فمن أين إذن استمد‬
‫َ‬
‫المعجز!‪.‬‬
‫ِ‬ ‫القرآن هذا التحديد‬
‫ولم يبدأ االهتمام الفعلي بالبحث عن السفينة إال عام ‪ ،1985‬واستخدمت‬
‫البعثات العلمية حتى مايو ‪ 2007‬تقنيات حديثة فأكدت الدراسة نبأ القرآن الكريم‪،‬‬
‫تركيب السفينة من الداخل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأظهر التصوير بالرادار‪ ،‬واستشعار المواد المعدنية‬
‫بهيئة تكوينات طولية منتظمة‪ ،‬كطبعة ألواح‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ً‬ ‫َ‬
‫وقد َو َجد الباحثون حفرياتٍ متحجرة حول السفينة لقواقع مياه عذبة‪ ،‬ومياه‬
‫مالحة‪ ،‬ومرجان على ارتفاع ال توجد فيه بحار‪ ،‬واكتشفت بعض مسامير ربط‬
‫األلواح الخشبية ‪ ،Rivets‬وهي عادة تطرق من الجهتين لمنع االنفالت وتسمى‬
‫ُ‬
‫>د ُ‬
‫سر< كاشفا وحده تركيب السفينة‬ ‫اليوم براشيم ‪ Rivets‬وسماها القرآن الكريم‬
‫َ مَ َ ۡ َ ُ لَىَ ٰ َ َ َۡ‬
‫قبل أن يعرف أحد شيئا عن تلك المسامير قال تعالى‪﴿ :‬وحلنٰه ع ذ ِ‬
‫ات ألو ٰ ٖح‬
‫س﴾ [ا �ل��ق�����مر‪.]13 :‬‬ ‫َ ُ رُ‬
‫ود ٖ‬
‫‪792‬‬

‫وأوجز الشيخ مناع خليل القطان رحمه اهلل (ت ‪ 1420‬هـ) تفسير جمهور‬
‫ً‬
‫المفسرين بما يكاد يكون إجماعا بقوله‪ < :‬أي‪ :‬وحملنا نوحا ومن معه على سفينة‬
‫مصنوعة من الخشب والمسامير >‪.‬‬
‫حجرية‪ ،‬تربط من أسفل السفينة بحبل؛‬‫ٍ‬ ‫وقد اعتاد القدماء استخدام َم َراس‬
‫ٍ‬
‫لتستقر ويعرفوا العمق‪ ،‬وسفينة نوح من الضخامة بحيث تماثل حوالي نصف سفينة‬
‫التيتانك الغارقة‪ ،‬وليست بقليلة إلى جوار حاملة طائرات‪ ،‬فال بد أن مراسيها كبيرة‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1989‬اكتشف فاسولد ‪ Fasold‬مرساة عند قرية قريبة من موقع السفينة‪،‬‬
‫تدعى كازان ‪ ،Kazan‬وقد يصل طول المرساة ‪ 5.2‬متر‪ ،‬وتزيد الواحدة عن ‪4‬‬
‫طن‪ ،‬وتسمى بعدة لغات أنجر وأنقر‪ ،‬وباليونانية أنقرة وهو نفس اسم المدينة التركية‪.‬‬
‫َ‬
‫وبديهي أن تلقي السفينة مراسيها قبيل وصولها اآلمن إلى مشارف سفح جبل‬
‫ُ‬
‫الجودي‪ ،‬وشيئا فشيئا اكتشفت المراسي تباعا لترسم خط السير‪ ،‬وقد اكتشف‬
‫حتى اآلن ‪ 13‬مرساة كانت تعمل كأثقال لتثبيت السفينة‪ ،‬وهي اليوم ترشد لخط‬
‫السير نحو المناطق الجبلية الشرقية لتستقر السفينة قرب مدينة قديمة كانت تسمى‬
‫ناكسوان ‪ Naxuan‬وتعني باإلغريقية مدينة نوح‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫قد أدت األبحاث الجيولوجية في مناطق بالد ما بين النهرين إلى اكتشاف طبقة‬
‫طمي‪ ،‬تفصل بين آثار حضارات قديمة؛ مما يؤكد حدوث >الطوفان العظيم<‪،‬‬
‫ويبرهن على دقة وصف القرآن الكريم‪ ،‬لذلك الحديث الكبير‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ُ ََ‬
‫روايات كت َب ِة األسفار قط عن نبإ حفظ السفينة آية للعالمين‪ ،‬قال‬ ‫ولم تخبرنا‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫تعالى‪﴿ :‬فأجنينه وأصحب ٱلسفِينةِ وجعلنها ءاية ل ِلعل ِمني﴾ [ا �بو�‪.]15 :‬‬
‫ت‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫�ك‬
‫�‬ ‫��‬ ‫ع‬
‫�‬ ‫�‬
‫ل‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬
‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ولقد ت َرك َنٰ َها َءايَة ف َهل مِن ُّم َّدك ِٖر﴾ [ا �ل��ق�����مر‪.]15 :‬‬
‫ٗ َ ۡ‬ ‫ٓ‬ ‫َّ ۡ‬ ‫ََ‬
‫ََُۡۡ ْ َ‬ ‫َ ۡ َ ُ ُ َ َ َ َّ هَ ُ َ اَّ ُ ۡ ُ َ‬
‫وبعد؛ يقول العلي القدير‪﴿ :‬أم يقولون تقول ۚۥ بل ل يؤمِنون ‪ ٣٣‬فليأتوا حِبد ٖ‬
‫ِيث‬
‫ِني﴾ [ا �ل��طور‪.]34-33 :‬‬
‫ّم ِۡثلِهِۦٓ إن اَكنُوا ْ َص ٰ ِدق َ‬
‫ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪793‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫السراب‬
‫َ‬
‫ك َف ُر ٓوا ْ أ ۡع َمٰلُ ُه ۡم َك رَ َ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وٱلذَِّين‬
‫َ حَ ۡ َ ُ ُ َّ َۡ ٔ ُ َ ٓ ً َ ىَّ ٰٓ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ت إِذا‬ ‫اب ب ِ ِقيع ٖة يسبه ٱلظمان ماء ح‬ ‫ِۢ‬ ‫س‬
‫اب﴾ [ا �لن�ور‪.]39 :‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ٱلحِۡس‬ ‫ٱلل س ُ‬
‫يع‬ ‫رَِ‬
‫ِندهُۥ فَ َو َّفى ٰ ُه ح َِسابَ ُه ۗۥ َو هَّ ُ‬
‫ٱلل ع َ‬‫َجا ٓ َءهُۥ ل َ ۡم ي ۡدهُ َش ٗۡي ٔا َو َو َج َد هَّ َ‬
‫جَِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫والسراب‪ :‬رطوبة كثيفة تصعد على األرض‪ ،‬وال تعلو في الجو‪ ،‬تنشأ من بين‬
‫َ‬
‫رطوبة األرض وحرارة الجو‪ ،‬في المناطق الحارة الرملية‪ ،‬فيُلوح من بعيد كأنه ماء‪.‬‬
‫وسبب حدوث السراب‪ :‬اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية‪ ،‬فتشتد حرارة‬
‫ً َّ‬ ‫ُ َ‬
‫حرا أقل من حرارة‬ ‫طبقة الهواء المالصقة للرمل‪ ،‬وتح ُّر الطبقة الهوائية التي فوقها‬
‫الطبقة المالصقة‪ .‬وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة‬
‫التي دونها‪.‬‬
‫‪794‬‬

‫وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة االرتفاع عن سطح األرض‪ .‬وبحرارة الطبقة‬
‫السفلى التي تلي األرض تحدث فيها حركات ّ‬
‫تموجية؛ فيصعد جزء منها إلى ما‬
‫فوقها من الطبقات وهكذا‪..‬‬
‫َ‬
‫أكثف من التي تحتها‪ .‬فإذا انعكس على تلك األشعة نور الجو‬ ‫فتكون كل طبقة‬
‫من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيفت تلك األشعة بلون الماء‪ .‬ففي أول‬
‫ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر‪ ،‬وكلما اشتد الضياء ظهر‬
‫ٌ‬
‫في السراب ترقرق كأنه ماء جار‪.‬‬
‫ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة‬
‫إلى العصر‪.‬‬
‫وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم اآلل ثم سراب‪ .‬وعلى هذا قول‬
‫أكثر أهل اللغة‪ ،‬والعرب يتسامحون في إطالق أحد اللفظين مكان اآلخر‪ ،‬وقد‬
‫شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له‪:‬‬
‫أم العرائس من جهات توزر‪ ،‬وأنا في قطار السكة الحديدية‪ ،‬فخلت في أول النظر‬
‫أنا أشرفنا على بحر‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬بقيعة الباء بمعنى في‪ .‬و (قيعة) أرض‪ ،‬والجار واجملرور وصف‬
‫لسراب وهو وصف كاشف؛ ألن السراب ال يتكون إال في قيعة‪ .‬وهذا كقولهم‬
‫في المثل للذليل >هو فقع في قرقر< فإن الفقع ال ينبت إال في قرقر‪ .‬والقيعة‪:‬‬
‫األرض المنبسطة ليس فيها ربى ويرادفها القاعة‪ .‬وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة‬
‫جمع جار‪ ،‬ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬يحسبه الظمآن ماء‪ :‬يفيد وجه الشبه‪ ،‬ويتضمن أحد أركان التمثيل‪،‬‬
‫وهو الرجل العطشان‪ ،‬وهو مشابه الكافر صاحب العمل‪.‬‬
‫وحتى ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع‪ .‬ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل‬
‫بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله‪ ،‬كأن يحدده بشجرة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪795‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫أو صخرة‪ .‬فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما الح‬
‫له سراب‪.‬‬
‫فهذا معنى قوله‪ :‬حتى إذا جاءه‪ ،‬أي إذا جاء الموضع الذي تخيل أنه إن وصل‬
‫إليه يجد ماء‪ .‬وإال فإن السراب ال يزال يلوح له على بعد كلما تقدم السائر في سيره‪.‬‬
‫فضرب ذلك مثال لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده‬
‫أو في وقت الحشر‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬لم يجده شيئا أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئا‪.‬‬
‫والشيء‪ :‬هو الموجود وجودا معلوما للناس‪ ،‬والسراب موجود ومرئي‪ ،‬فقوله‪:‬‬
‫شيئا أي شيئا من ماء بقرينة المقام‪ .‬وهذا التمثيل كقوله تعالى‪﴿ :‬وق ِدمنا إِل ما ع ِملوا‬
‫َ َ ۡ َ ٓ ىَ ٰ َ َ ُ ْ‬

‫ورا﴾ [ا �ل��ف��رق��ا ن�‪. ]23 :‬‬ ‫ۡ َ َ َ َ َ ۡ َ ٰ ُ َ َ ٓ ٗ َّ ُ‬


‫نث ً‬ ‫مِن عم ٖل فجعلنه هباء م‬
‫و(إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية‪ .‬والمعنى‪ :‬زمن مجيئه إلى السراب‪ ،‬أي‬
‫وصوله إلى الموضع‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ووجد اهلل عنده هو من تمام التمثيل‪ ،‬أي لم يجد الماء ووجد‬
‫في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد من إن أخذ بناصيته لم يفلته‪ ،‬أي هو عند ظنه‬
‫الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب‪ ،‬وهو معنى قوله‪ :‬فوفاه حسابه أي أعطاه‬
‫جزاء كفره وافيا‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫فمعنى فوفاه أنه ال تخفيف فيه‪ ،‬فهو قد تعب ونصب في العمل‪ ،‬فلم يجد‬
‫جزاء إال العذاب‪ ،‬بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده ترة فأخذه(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫القيعة هي السطح المستوي الذي يعمل عمل المرآة‪ ،‬وبالفعل هنا فإن علم‬
‫الفيزياء يؤكد حديثا شرط استواء السطح لوقوع السراب‪.‬‬

‫((( التحرير والتنوير (‪.)253-253 /18‬‬


‫‪796‬‬

‫ُ َ‬
‫ففي البحار قد تشاهد المراكب البعيدة في مستوى أعلى؛ نتيجة وجود هواء‬
‫أكثف‪ ،‬يعلو سطح البحر‪ ،‬يكسر األشعة‪ ،‬وفي الصحاري الحارة قد تشاهد صورة‬
‫سفلية معكوسة لألجسام البعيدة؛ نتيجة تخلخل الهواء فوق األرض‪ ،‬فيرتفع الهواء‬
‫األكثف ويكسر األشعة‪.‬‬

‫سراب يف البحر‬

‫وال يحدث السراب ‪ Mirage‬إال بتخلخل الهواء األسفل في جو حار‪ ،‬ويلزم‬


‫وجود أرض مستوية ومنبسطة‪ ،‬تعكس األشعة كالمرآة‪ ،‬وفي أرض مستوية تعمل‬
‫كمرآة تبدو صورة السحب بهيئة ماء‪.‬‬
‫ً‬
‫فالسراب إذا‪ :‬ما يرى نصف النهار عند اشتداد الحر‪ ،..‬وال يكون إال في البرية‬
‫والحر‪ ،‬فيغتر به العطشان"‪.‬‬
‫َ ٌ‬
‫ُ‬
‫السراب‪،‬‬ ‫والقاع‪ :‬ما انبسط من األرض واتسع‪ ،‬ولم يكن فيه ن ْبت‪ ،‬وفيه يكون‬
‫وأصل القاع‪ :‬الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء ُ وجمعه ِقيعان‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪797‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫صحيح أن السراب كظاهرة طبيعية كان مما عهده الناس منذ القدم‪ ،‬ولكن لم‬
‫يكونوا على دراية بحقيقته‪ ،‬وأنه يشترط لحصوله‪ :‬انبساط السطح المرئي‪ ،‬ووجود‬
‫َ‬
‫الح ّر الذي يُخلخل طبقات الجو‪ ،‬مما أشارت إليه اآلن بلفظ >قيعة< و >يحسبه‬
‫َ‬
‫الظمآن< والقيعة‪ :‬هو المنبسط من األرض‪ ،‬والظمأ يكون حالة الحر‪.‬‬
‫وجاءت الكشوف الفيزيائية في الوقت الحاضر؛ لتثبت أن هذه الظاهرة يشترط‬
‫ُ‬
‫طبقات‬ ‫لها‪ :‬األض المستوية المتسعة المنبسطة‪ ،‬ووجود الحر‪ ،‬بحيث تتخلل‬
‫الجو فتحدث انكسارات تنتهي بانعكاس األشعة المرئية‪ ،‬وما يرافقها من صور‬
‫َ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫عشر قرنا‪.‬‬ ‫معكوسة‪ ،‬وهو حقيقة السراب الذي ذكرته اآلية‪ ،‬منذ أربعة‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪799‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلاجز املائي بني حبرين‬

‫َ‬ ‫ات َو َهٰ َذا م ۡل ٌح أُ َج ‪ٞ‬‬‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وه َو ٱلذَِّي مرج ٱلحري ِن هذا عذب فر‬
‫َ َ َ بۡ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ َ ۡ ‪ٞ َ ُ ٞ‬‬ ‫ُ‬
‫اج َو َج َعل‬ ‫ِ‬
‫ورا﴾ [ا �ل��ف�� �ق�ا ن ‪.]53 :‬‬
‫ج ٗ‬ ‫َ ۡ َ ُ َ َ ۡ َ ٗ َ ۡ ٗ حَّ ۡ‬
‫م ُ‬
‫ر �‬ ‫بينهما برزخا وحِجرا‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ُه َو ٱلذَِّي َم َر َج ٱلَ ۡح َر ۡي ِن﴾ [ا �ل��ف��ر�ق�ا ن�‪. ]53 :‬‬
‫بۡ‬

‫الم ْرج‪ :‬المرعى المباح‪ ،‬أو الكأل العام الذي يسوم فيه الراعي ماشيته تمرح‬ ‫َ‬
‫كيف تشاء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫العذب والمالح يسيران‪ ،‬ك ٌّل‬ ‫فمعنى ﴿ َم َر َج ٱلَ ۡح َر ۡين﴾ [ا �ل��ف�� ق��ا ن ‪ ]53 :‬أي‪ :‬جعل‬
‫بۡ‬
‫ر �‬ ‫ِ‬
‫كما يشاء‪ ،‬لذلك تجد البحار والمحيطات المالحة التي تمثل ثالثة أرباع الياسبة‬
‫ليس لها شكل هندسي منتظم‪ ،‬بل تجده تعاريج والتواءات‪ ،‬وانظر مثاًل إلى خليج‬
‫المكسيك أو خليج العقبة‪ ،‬وكأن الماء يسير على (هواه)‪ ،‬ودون نظام‪ ،‬فال يشكل‬
‫مستطياًل أو ً‬
‫مربعا أو دائرة‪.‬‬
‫ْ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وكذلك األنهار التي تولدت من األمطار على أعلى الجبال‪ ،‬فتراها حين تتجمع‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫ملتوية ُ‬
‫وم ِّ‬ ‫ُ‬
‫يشق مجراه في األماكن‬ ‫تعرجة؛ ألن الماء‬ ‫تسير كما تشاء‪،‬‬ ‫وتسير‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫السلهة‪ ،‬فإن صادفته عقبة بسيطة ينحرف هنا أو هناك‪ ،‬ليكمل مساره‪ ،‬وانظر إلى‬
‫التواء النيل مثاًل عند (قنا) ‪.‬‬
‫ب أو مالح يسير على هواه‪ ،‬وليست المسألة (ميكانيكا)‪،‬‬ ‫إذن‪ :‬الماء عَ ْذ ٌ‬
‫ُّ‬
‫وليست منتظمة‪ ،‬كالتي يشقها اإلنسان‪ ،‬فتأتي مستقيمة‪.‬‬
‫‪800‬‬

‫َ‬
‫ونلحظ هذه الظاهرة مثاًل حينما يقضي اإلنسان حاجته في الخالء‪ ،‬فينزل البول‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مجرى في المكان الذي ال يعوقه‪ ،‬فإن صادفته حصاة مثاًل انحرف عنها‬ ‫يشق له‬
‫كأنه يختار مساره على هواه‪.‬‬
‫والبحر يقال عادة للمالح وللعذب على سبيل التغليب‪ ،‬كما نقول الشمسان‬
‫للشمس والقمر‪.‬‬
‫ومرج البحرين‪ :‬آية كونية تدل على قدرة اهلل‪ ،‬فالماء مع ما عُرف عنه من‬
‫ْ‬
‫خاصية االستطراق‪ ،‬يعني‪ :‬يسير إلى المناطق المنخفضة‪ ،‬يسير المالح والعذب‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً‬ ‫ََ‬ ‫ً‬
‫العذب إن‬ ‫جميعا؛ ألن‬ ‫معا دون أن يختلط أحدهما باآلخر‪ ،‬ولو اختلطا لفسدا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫خالطه المالح أصبح ْ‬
‫العذب فسد المالح‪،‬‬ ‫غي َر صالح للشرب‪ ،‬وإن خالط المالح‬
‫ُ‬
‫وقد خلقه اهلل على درجة معينة من الملوحة‪ ،‬بحيث تصلحه فال يفسد‪ ،‬وتحفظه‬
‫أن يكون آسنًا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫فالماء العذب حين تحصره في المكان يأسن ويتغير‪ ،‬أما البحر فقد أعده اهلل‬
‫َ ْ‬
‫البخر الذي تتكون منه األنهار؛ لذلك‬ ‫ليكون مخزن الماء في الكون‪ ،‬ومصدر‬
‫ْ‬
‫تعايشا سل ً‬ ‫ً‬
‫ميا‪ ،‬ال يبغي أحدهما على اآلخر‬ ‫ِ‬ ‫حفظه‪ ،‬وجعل بينه وبين الماء العذب‬
‫رغم تجاورهما‪.‬‬
‫فرط في العذوبة مستساغ‪،‬‬ ‫ات﴾ [ا �ل��ف�� ق��ا ن ‪ ]53 :‬أي‪ُ :‬‬
‫م‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬هذا عذب فر‬
‫َٰ َ َ ۡ ‪ٞ َ ُ ٞ‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫�‬ ‫ر‬
‫ومن هذه الكلمة َس َّم ْوا نهر الفرات لعذوبة مائه‪ ،‬فليس المراد بالفرات أن الماء كماء‬
‫س ِّم َي بها النهر‪ ،‬ذلك ألن القرآن هو‬ ‫نهر الفرات؛ ألن الكلمة ُوضعت أواًل‪ ،‬ثم ُ‬
‫ِ‬
‫كالم اهلل األزلي‪.‬‬
‫ُ‬
‫اج﴾ [ا �ل��ف��ر�ق�ا ن�‪ ]53 :‬أي‪ :‬شديد الملوحة‪ ،‬ومع ذلك تعيش فيه‬ ‫﴿‬
‫ۡ‬ ‫َ َ‬
‫َوهٰذا مِل ٌح أ َج ‪ٞ‬‬
‫َ ْ‬
‫األسماك والحيوانات المائية‪ ،‬وتتغذى عليه كما تتغذى على الماء العذب‪ ،‬كما‬
‫َ لُ ّ َ ۡ ُ ُ َ حَ ۡ ٗ َ ّٗ َ َ ۡ َ ۡ ُ َ ۡ ٗ ۡ‬
‫حل َية تَلبَ ُسون َهاۖ﴾ [ ف��ا طر‪. ]12 :‬‬ ‫قال سبحانه‪﴿ :‬ومِن ٖ‬
‫َ‬
‫ك تأكلون لما ط ِريا وتستخ ِرجون ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪801‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ثم يقول سبحانه‪َ ﴿ :‬و َج َعل بَ ۡي َن ُه َما بَ ۡر َزخا﴾ [ا �ل��ف��ر�ق�ا ن�‪ ]53 :‬البرزخ‪ :‬شيء بين شيئين‪،‬‬
‫ٗ‬ ‫َ‬

‫وأصل كلمة برزخ‪ :‬اليابسة التي تفصل بين ماءين‪ ،‬فإن كان الماء بين يابستين فهو‬
‫خليج‪.‬‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫العذب والمالح‬ ‫الحجر‪ :‬هو المانع الذي يمنع‬ ‫﴿وحِجرا مجورا﴾ [ا �ل����ر��ا �‪ِ ]53 :‬‬
‫ف ق ن‬ ‫َ ۡ ٗ حَّ ۡ ُ ٗ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫والحجر نفسه محجور‪ ،‬مبالغة في المنع من اختالط الماءيْن‪ ،‬كما جاء‬ ‫ِ‬ ‫يختلطا‪،‬‬ ‫أن‬
‫َ َ َ ۡ َ ۡ ُ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ ۡ َ َ َ َينۡ‬
‫في قوله تعالى‪ِ﴿ :‬إَوذا قرأت ٱلقرءان جعلنا بينك وب ٱلذَِّين ل يؤمِن ِ‬
‫ِجاباٗ‬ ‫َ اَ ُ ۡ ُ َ‬
‫ون بٱٓأۡلخ َِرة ِ ح َ‬ ‫َ‬

‫ورا﴾(‪[ )1‬الإ� ��سرا ء‪. ]45 :‬‬


‫َّم ۡس ُت ٗ‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫في القرن الثامن عشر ظهر الكتاب األول عن علم البحار‪ ،‬على أساس تجريبي‬
‫ً‬
‫بدائيا في معلوماته‬ ‫ودراسات ميدانية‪ ،‬متحررا من التصور الفلسفي‪ ،‬وقد كان‬
‫ً‬
‫العلمية مقارنة بالمعرفة الحالية‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ثم بدأ علم المحيطات يأخذ مكانه بين العلوم الحديثة‪ ،‬عندما قامت السفينة‬
‫البريطانية تشالنجر برحلتها حول العالم من عام ‪ 1872‬حتى عام ‪1876‬م ثم توالت‬

‫((( الشعراوي (‪. )10470-10468 /17‬‬


‫‪802‬‬

‫الرحالت العلمية الكتشاف البحار‪ ،‬وفي نهاية القرن العشرين تزايد األمل في فهم‬
‫المحيطات عن طريق األقمار الصناعية والتصوير عن بعد‪.‬‬
‫والمعلوم حاليا‪ ،‬أنه في ظل زيادة سرعة التدفق في مجرى النهر‪ ،‬وعمق‬
‫ّ‬
‫الحوض البحري الذي يصب فيه‪،‬‏‏ وتدني الفارق في كثافة الكتلتين الملتقيين‪ ،‬يسود‬
‫القصور الذاتي فيندفع ماء النهر إلى البحر بشدة على هيئة نفاثات دوارة‪ ،‬تعزل ماء‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫معدالت تدفق‬ ‫تضعف‬ ‫النهر عن ماء البحر‪ ،‬وتؤخر اختالطهما وامتزاجهما حتى‬
‫الماء؛ فيبدأ االمتزاج على حواف كتلة الماء العذب‪ ،‬مكونا ماء قليل الملوحة‪،‬‬
‫يفصل ماء النهر عن ماء البحر‪.‬‬
‫وفي كثير من األنهار يؤدي نقل كميات كبيرة من نواتج عمليات التعرية‬
‫على هيئة الرسوبيات المحمولة مع ماء النهر إلى ترسيبها في منطقة مصبه؛ مما‬
‫يرفع منسوب قاع منطقة المصب‪ ،‬ويجعل سمك الماء فيها قليال؛ مما قد يؤدي‬
‫إلى جعلها أعلى من منسوب قاع مجرى النهر‏‪.‬‬
‫وتضييق اجملرى يجعل تيار ماء النهر بعد المصب أكثر اندفاعا‪ ،‬ويجعل كتلة‬
‫الماء العذب في المحيط أكبر حجما وأكثر ثراء باألحياء‪ ،‬وليس مصدر التيارات‬
‫العذبة في المحيطات مقصورا على األنهار فحسب‪ ،‬فقد تصدر من المياه الجوفية‬
‫وتتدفق من شقوق عميقة في جدران المحيط‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهكذا يبقى ك ٌّل من الماء العذب والماء المالح‪ ،‬له من صفاته الطبيعية‬
‫ّ‬
‫والكيميائية ما يمكنه من البقاء منفصال انفصاال كامال عن اآلخر‪ ،‬على الرغم من‬
‫التقاء حدودهما‪ ،‬ولكل بيئة أنواع خاصة من أنواع األحياء المائية المحدودة بحدود‬
‫بيئتها‏‪.‬‬
‫وبذلك تكون أنواع الحياة في الماء القليل الملوحة مقصورة على تلك ‏‏‬
‫البيئة‬
‫فيها أي‪ :‬ال تستطيع الخروج منها وإال هلكت‏‪،‬‏ كما أن كل مجموعة‬ ‫ومحجورة ‏‏‬
‫من أنواع الحياة في البيئتين العذبة والمالحة ال تستطيع دخول الماء القليل الملوحة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪803‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وإال هلكت‏‪،‬‏ فيما عدا أعداد قليلة تستطيع العبور دون بقاء طويل‏‪،‬‏ ومن هنا كان‬
‫هذا الماء القليل الملوحة حجرا على الحياة الخاصة به‏‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز العلمي‪:‬‬
‫إن وجود حاجز بين البحرين الذي تحدث عنه القرآن الكريم لم يدركه اإلنسان‬
‫إال في العقـود المتأخرة من القرن العشرين‏‪،‬‏ والشك أن ورود تلك الحقائق في‬
‫ُ‬
‫كتاب اهلل تعالى الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة‏‏ يقطع بأن القرآن الكريم هو‬
‫كالم اهلل الخالق‏‏ ويجزم بنبوة هذا النبي الخات ‏م !‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الحق‏ في بيان مبهرمعجز‪:‬‏ ﴿ َوه َو ٱلذَِّي َم َر َج ٱلَ ۡح َر ۡين‬ ‫فسبحان الذي أنزل قوله‬
‫بۡ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ۡ ُ‬
‫ورا﴾ [ا �ل��ف��رق��ا ن�‪.]53 :‬‬
‫حَّ ۡ‬
‫ج ٗ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬
‫اج َو َج َعل بَ ۡي َن ُه َما بَ ۡر َزخا َوح ۡ‬
‫ِج ٗرا م ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬
‫ٰ َ ‪ٞ َ ٞ‬‬
‫ات َوهٰذا مِل ٌح أ َج ‪ٞ‬‬‫هذا عذب فر‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪805‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الـمــيــاه اجلوفـــيــة‬
‫أۡ َ‬ ‫َ َ َ لنۡ َ َ َّ َ ٓ َ ٓ َ ۢ َ َ َ َ ۡ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬وأنز ا ِمن ٱلسماءِ ماء بِقدرٖ فأس‬
‫َّ لَىَ ٰ َ َ‬ ‫ك َّنٰ ُ‬
‫اب‬
‫ِۢ‬ ‫ه‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫ِإَون‬ ‫ِ‬
‫ۡرض‬
‫ۖ‬ ‫ٱل‬ ‫ف‬‫يِ‬ ‫ه‬
‫بِهِۦ لقٰد ُِرون﴾ [ا �ل���م�ؤ�من��و ن�‪.]18 :‬‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫أۡ َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ َ َّ هَّ َ َ َ َ َ َّ َ ٓ َ ٓ ٗ َ َ َ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ألم تر أن ٱلل أنزل مِن ٱلسماءِ ماء فسل‬
‫ُ خُ ۡ‬ ‫ك ُهۥ يَ َنٰب َ‬
‫ۡرض ث َّم ي ِر ُج‬ ‫يع يِف ٱل ِ‬ ‫ِ‬
‫خُّ ۡ ً َ ۡ ُ‬
‫بِهِۦ َز ۡر اٗع م َتل ِفا أل َوٰن ُهۥ﴾ [ا �ل�ز �مر‪.]21 :‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ لنۡ‬
‫ٱلس َماءِ َما َء ۢ بِق َدرٖ﴾ اعلم أن الماء في نفسه نعمة‪ ،‬وأنه مع ذلك‬ ‫قوله‪َ َ﴿ :‬وأ َ‬
‫َ‬
‫نز َا م َِن َّ‬ ‫ٓ‬ ‫ٓ‬

‫سبب لحصول النعم‪ ،‬فال جرم ذكره اهلل تعالى أوال‪ ،‬ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانيا‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫َ َ َ لنۡ َ َ َّ َ ٓ َ ٓ َ ۢ َ‬
‫أما قوله تعالى‪﴿ :‬وأنز ا مِن ٱلسماءِ ماء بِقدرٖ﴾فقد اختلفوا في السماء‪ ،‬فقال‬
‫َ‬

‫األكثرون من المفسرين‪ :‬إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء‪ ،‬وهو الظاهر‬
‫ذ‬
‫وع ُدون﴾[ا �ل�� ا ري�ا ت�‪.]22 :‬‬ ‫من اللفظ‪ ،‬ويؤكده قوله‪َ ﴿ :‬و يِف ٱلسماءِ رِزقكم وما ت‬
‫َّ َ ٓ ۡ ُ ُ ۡ َ َ ُ َ َ‬

‫لعلوه‪ ،‬والمعنى‪ :‬أن اهلل تعالى‬ ‫ّ‬ ‫وقال بعضهم‪ :‬المراد السحاب وسماه سماء‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫أصعد األجزاء المائية من قعر األرض إلى البحار‪ ،‬ومن البحار إلى السماء‪،‬‬
‫ً‬
‫حتى صارت عذبة صافية؛ بسبب ذلك التصعيد‪ ،‬ثم إن تلك الذرات تأتلف‬
‫وتتكون‪ ،‬ثم ينزله اهلل تعالى على قدر الحاجة إليه‪.‬‬
‫ولوال ذلك لم ينتفع بتلك المياه ّ‬
‫لتفرقها في قعر األرض‪ ،‬وال بماء البحار‬
‫لملوحته‪ ،‬وألنه ال حيلة في إجراء مياه البحار على وجه األرض؛ ألن البحار هي‬
‫ُ‬
‫الغاية في العمق‪ ،‬واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار‪،‬‬
‫فأما من ّ‬
‫أقر به فال حاجة به إلى شيء منها‪.‬‬
‫‪806‬‬

‫َ ُ‬
‫صلون‬ ‫أما قوله تعالى‪َ﴿ :‬بِقدرٖ﴾ فمعناه بتقدير‪ ،‬يسلمون معه من المضرة‪ ،‬وي ِ‬
‫َ َ‬

‫إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب‪ ،‬أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم‬


‫ومصالحهم(‪.)1‬‬
‫َ‬
‫ورا﴾ فإذا أنزل الماء من السماء ك َمن‬ ‫قوله‪َ ﴿ :‬وأَ َ‬
‫نزلنۡ َا م َِن َّ‬
‫ٱلس َمآءِ َما ٓ ٗء َط ُه ٗ‬
‫ْ‬
‫يصرفه تعالى في أجزاء األرض كما يشاء‪ ،‬ويَن ِب ُعه عيونا ما بين صغار‬ ‫في األرض‪ ،‬ثم ّ‬
‫َ َ َ َ ُ َ َ َ أۡ َ‬
‫ۡرض﴾‪.‬‬ ‫يع يِف ٱل ِ‬‫وكبار‪ ،‬بحسب الحاجة إليها‪ ،‬ولهذا قال تبارك وتعالى‪﴿ :‬فسلكهۥ ينٰب ِ‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬ليس في األرض ماء إال نزل من السماء‪ ،‬ولكن عروق‬
‫أۡ َ‬
‫ۡرض﴾ فمن سره أن يعود‬ ‫األرض تغيره‪ ،‬فذلك قوله تعالى‪﴿ :‬فسل‬
‫َ َ َ َ‬
‫ك ُهۥ يَ َنٰب َ‬
‫يع يِف ٱل ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫الملح عذبا فليصعده (رواه ابن أبي حاتم‪ ،‬وهكذا قال الشعبي‪ ،‬وسعيد بن جبير‪:‬‬
‫أن كل ماء في األرض فأصله من السماء)‪.‬‬
‫وقال سعيد بن جبير‪ :‬أصله من الثلج‪ ،‬يعني‪ :‬أن الثلج يتراكم على الجبال‪،‬‬
‫فيسكن في قرارها‪ ،‬فتنبع العيون من أسافلها‪.‬‬
‫خُّ ۡ ً َ ۡ ُ‬
‫وقوله تعالى‪﴿ :‬ث َّم ي ِر ُج بِهِۦ َز ۡر اٗع م َتلِفا أل َوٰن ُهۥ﴾‪ ،‬أي‪ :‬ثم يخرج بالماء النازل‬
‫خُ ۡ‬ ‫ُ‬
‫خُّ ۡ ً َ ۡ ُ‬
‫من السماء‪ ،‬والنابع من األرض ﴿ َز ۡر اٗع م َتلِفا أل َوٰن ُهۥ﴾ أي‪ :‬أشكاله وطعومه‪،‬‬
‫وروائحه ومنافعه‪.‬‬
‫﴿ث َّم يَه ُ‬
‫يج﴾ أي‪ :‬بعد نضارته وشبابه يكتهل‪ ،‬فنراه مصفرا قد خالطه اليبس‪.‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ي َعل ُهۥ ُح َطٰ ًما ۚ﴾ أي‪ :‬ثم يعود يابسا يتحطم‪.‬‬ ‫﴿ثم‬
‫َّ ۡ‬ ‫جَ ُ‬ ‫ُ‬
‫أۡ َ ۡ‬ ‫ُ‬
‫ب﴾ أي‪ :‬الذين يتذكرون بهذا‪ ،‬فيعتبرون إلى أن‬ ‫﴿إِن يِف ذل ِ‬
‫َ‬ ‫ٰ َ‬
‫ك لذَِك َر ٰ ْ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ى أِلو يِل ٱللبٰ ِ‬
‫َ ً‬
‫ض َرة ناضرة حسناء‪ ،‬ثم تعود عجوزا شوهاء‪ ،‬والشاب يعود شيخا‬ ‫الدنيا هكذا تكون خ ِ‬
‫ْ‬
‫هرما‪ ،‬كبيرا ضعيفا‪ ،‬وبعد ذلك كله الموت‪ ،‬فالسعيد َمن كان حاله بعده إلى خير(‪.)2‬‬

‫((( تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)268 /23‬‬


‫(((انظر‪ :‬مختصر تفسير ابن كثير (اختصار وتحقيق) محمد علي الصابوني (‪.)217 /2‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪807‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الداللة العلمية‪:‬‬
‫حينما يسقط المطر على األرض ينساب جزء كبير منه إلى باطن األرض ليسكن‬
‫تحت الثرى في خزانات جوفية‪ ،‬والستخراج المياه الجوفية يحفر اإلنسان اآلبار‬
‫كما هو مشاهد في األراضي القاحلة التي يقل فيها تساقط األمطار‪.‬‬

‫ويوجد في باطن األرض صخور مسامية ونفاذية تختزن في داخلها الماء‬


‫وتسمح له بالنفوذ عبرها‪ ،‬ولوال خاصية المسامية والنفاذية في هذه الصخور‬
‫لما أمكنها من خزن المياه‪ ،‬فالماء الذي يصب على األرض ال يمكن تخزينه إال في وجود‬
‫شقوق‪ ،‬ونتيجة للضغط األسموزي يكون الماء الجوفي تحت ضغط كبير بحيث‬
‫إذا ظهر في منخفض من األرض يتفجر‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ً‬
‫مرجعا لقياس‬ ‫والماء في البحار له مستوى يسمى مستوى سطح البحر‪ ،‬ويتخذ‬
‫االرتفاع فوقه أو االنخفاض تحته‪ ،‬والماء الذي يجري في األنهار والبحيرات‬
‫له مستوى يختلف من مكان إلى آخر‪ ،‬والماء المخزن في باطن األرض له أيضا‬
‫مستوى يسمى مستوى الماء الجوفي‪ ،‬ويختلف ذلك المستوى أيضا من مكان‬
‫إلى مكان آخر‪.‬‬
‫‪808‬‬

‫فإذا ما غار الماء في النهر أو البحيرة أو خزان المياه الجوفية‪ ،‬فإنه من الصعب‬
‫على اإلنسان الوصول إليه ‪ ،‬وفي حاالت كثيرة يستحيل الحصول عليه ‪ ،‬وغور‬
‫الماء ظاهرة معروفة في البحار أو األنهار أو الماء الجوفي‪.‬‬
‫وقد تكرر ارتفاع وانخفاض مستوى البحر عبر تاريخ كوكب األرض‪ ،‬وتوالى‬
‫طغيان البحر وانحساره عن اليابسة خالل العصور الجيولوجية المختلفة‪ ،‬وحينما‬
‫ينخفض مستوى سطح البحر يغور معه أيضا مستوى الماء الجوفي نتيجة تسرب‬
‫الماء‪.‬‬
‫ومن رحمة اهلل تعالى بخلقه‪ ،‬أن يخزن المياه في جوف األرض بكميات تبلغ‬
‫أكثر من ثالثين ضعف مياه األنهار وبحيرات العالم مجتمعة‪ ،‬ومن بديع صنع اهلل‬
‫تضاريس سطح األرض‪ ،‬يعلو مع المرتفعات‪،‬‬‫َ‬ ‫أن مستوى المياه الجوفية يتبع‬
‫وينخفض مع المناطق المنخفضة؛ فيستفيد منه ساكنو الجبال كما يستفيد منه‬
‫ساكنو السهول والصحاري‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫دلت اآليات السابقة على وجود مكامن للمياه ‪ ،‬وخزانات في أعماق األرض‪.‬‬
‫ولم يتح للناس معرفة حقيقة تكون المياه الجوفية التي أشار إليها القرآن الكريم إال‬
‫بعد تقدم العلوم‪.‬‬
‫وقد أمكن في وقتنا الحاضر ‪ -‬عن طريق االستشعار عن بعد‪ ،‬باستخدام‬
‫األقمار الصناعية ‪-‬تحديد أماكن تجمع المياه الجوفية في باطن األرض؛ مما يؤكد‬
‫أن النصوص التي أشارت إلى ذلك تحمل بين طياتها إعجازا علميا باهرا‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪809‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫اهتزاز الرتبة ورُبوّها‬

‫ُّ ۡ َ‬ ‫ُ‬ ‫كم ّ ِمن تُ َ‬ ‫َ ۡ ّ َ بۡ َ ۡ َ َّ َ َ ۡ َ ٰ ُ‬ ‫اس إن ُك ُ‬


‫نت ۡ‬ ‫ي َأ ُّي َها ٱنلَّ ُ‬
‫﴿ َ ٰٓ‬
‫اب ث َّم ِمن نطفةٖ‬ ‫َٖ‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬‫ف‬ ‫ث‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ٱل‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ب‬ ‫ٖ‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫يِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫ََ ٓ‬ ‫أۡ‬ ‫ُّ ۡ َ خُّ َ َّ َ َ َ خُ َ َّ َ ّ ُ َ ّ َ َ ُ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫ُ‬
‫ام َما نشا ُء‬ ‫ك ۡ ۚم َونُقِ ُّر يِف ٱل ۡر َح ِ‬ ‫ث َّم م ِۡن علقةٖ ث َّم مِن مضغةٖ ملقةٖ وغيرِۡ ملقةٖ نِلب نِي ل‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ِنكم َّمن ُي َت َو ىَّ ٰ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُُ َُْ‬ ‫ۡ اٗ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ىٗ ُ خُ ۡ‬ ‫ىَ َ‬
‫ف َومِنكم َّمن يُ َرد‬ ‫ل أ َج ٖل ُّم َس ّم ث َّم ن ِر ُجك ۡم طِفل ث َّم لتِ َ ۡبلغ ٓوا أش َّدك ۡمۖ َوم‬ ‫إ ِ ٰٓ‬
‫ۡ ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ ٗۡ َ َ َ أۡ َ َ َ ٗ َ َ ٓ َ لنۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ اَ‬ ‫ىَ َ ۡ‬ ‫َ‬
‫نز َا َعل ۡي َها ٱل َما َء‬ ‫ل أ ۡرذ ِل ٱل ُع ُمرِ ل ِك ۡيل َي ۡعل َم ِم ۢن َب ۡع ِد عِل ٖم شي ٔا ۚ وترى ٱلۡرض ها ِمدة فإِذا أ‬ ‫إ ِ ٰٓ‬
‫َ‬
‫يج﴾ [ا �ل�ح��ج�‪.]5 :‬‬ ‫ت مِن لُ ّ َ ۡ َ‬
‫ك زوِۢج ب ِه ٖ‬ ‫ِ‬
‫ۢنب َت ۡ‬
‫ت َوأ َ‬ ‫ت َو َر َب ۡ‬ ‫ۡ زََّ ۡ‬
‫ٱهت‬
‫َ ۡ َ َ ٰ ٓ َ َّ َ َ َ أۡ َ َ َ ٰ َ ٗ َ َ ٓ َ َ لنۡ َ َ َ ۡ َ ۡ َ ٓ َ ۡ زََّ ۡ‬
‫تت‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ومِن ءايتِهِۦ أنك ترى ٱلۡرض خشِ عة فإِذا أنز ا عليها ٱلماء ٱه‬
‫ٓ َ َۡ َ‬
‫ِير﴾ [ ف����ص�ل� ت�‪.]39 :‬‬ ‫ش ٖء قَد ٌ‬ ‫ك يَ ۡ‬ ‫ۡ َ ۡ ىَ ٰٓ َّ ُ لَىَ ٰ لُ ّ‬ ‫اها ل َ ُ‬ ‫َ َ َ ۡ َّ‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ۥ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ِۚ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ح‬‫يِۡ‬ ‫م‬ ‫ت إِن ٱلذَِّي أحي‬ ‫ورب ۚ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫أرض جافة بفعل نقص املطر‬


‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ت َوأَ َ‬
‫ۢنب َت ۡ‬
‫ت‬
‫َ َ َ أۡ َ َ َ َ ٗ َ َ ٓ َ َ لنۡ َ َ َ ۡ َ ۡ َ ٓ َ ۡ زََّ ۡ‬
‫ت َو َر َب ۡ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬وترى ٱلۡرض هامِدة فإِذا أنز ا عليها ٱلماء ٱهت‬
‫يج﴾ [ا �ل‬
‫لُ ّ‬
‫�‬
‫ح��ج ‪]5 :‬‬ ‫ٖ‬ ‫ك َز ۡوِۢج بَ ِه‬ ‫مِن‬
‫�‬ ‫ِ‬
‫‪810‬‬

‫َْ‬
‫أي‪ :‬كما كان خلق اإلنسان من تراب‪ ،‬ثم من نطفة‪ ،‬ثم من علقة‪ ،‬ثم من‬
‫ْ‬ ‫َ ُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫ُمضغة ُمخلقة وغير ُمخلقة‪ ،‬ثم أخرجه طفاًل‪ ،‬وبلغ أشد ُه‪ ،‬ومنهم َمن مات‪ ،‬ومنهم‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َمن ي ُ َر ُّد إلى أرذل العمر‪ ،‬كذلك الحال في األرض‪َ ﴿ :‬وتَ َرى ٱلۡرض َهام َِد ٗة‪﴾. .‬‬
‫أۡ َ َ‬

‫[ا �ل�ح��ج�‪. )1( ]5 :‬‬


‫هامدة‪ :‬ساكنة‪ ،‬ومنه قولنا للولد كثير الحركة‪ :‬اهمد ﴿فَإ َذا ٓ أَ َ‬
‫نزلنۡ َا َعلَ ۡي َها ٱل ۡ َمآءَ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ت ۡت‪[ ﴾. .‬ا �ل�ح��ج ‪ ]5 :‬أي‪ :‬تحركت ذراتها بالنبات بعد سكونها‪.‬‬
‫ۡ‬
‫ٱه زََّ‬
‫�‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫واالهتزاز‪ُّ :‬‬
‫تحرك ما كنت تظنه ثابتا‪ ،‬وليس ما كان ثابتا في الواقع؛ ألن لكل‬
‫كائن حركة في ذاته‪ ،‬حتى قطعة الحديد الجامدة لها حركة بين ذراتها‪ ،‬لكن ليس‬
‫لديْك من وسائل اإلدراك ما تدرك به هذه الحركة‪.‬‬
‫ُ ِّ‬ ‫َ‬
‫ولو تأملت المغناطيس؛ ألدركت هذه الحركة بين ذراته‪ ،‬فحين تدلك القضيب‬
‫مرره على قضيب آخر غير ُممغنط في اتجاه واحد‪ ،‬فإنه يكتسب منه‬ ‫الممغنط وت ُ ِّ‬
‫المغناطيسية‪ ،‬وتمرير المغناطيس في اتجاه واحد معناه تعديل للذرات لتحمل‬
‫الد ْلك فإن الذرات ً‬
‫أيضا تختلف‪.‬‬
‫َّ‬
‫شحنة واحدة سالبة أو موجبة‪ ،‬فإن اختلف اتجاه‬
‫ْ ُ‬
‫إذن‪ :‬في الحديد ‪ -‬رمز الصالبة والجمود ‪ -‬حركة وحياة تناسبه‪ ،‬وإن خيِّل‬
‫أصم جامد في ظاهرة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫إليك أنه‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫لذلك نقول ﴿ َهام َِد ٗة‪[ ﴾. .‬ا �ل�ح��ج�‪ ]5 :‬يعني‪ :‬ساكنة في َرأي العلم‪ ،‬حيث ال نبات‬
‫ْ‬ ‫ْ َ ْ‬
‫وربَت وتحركت إلخراج النبات‪ ،‬إنما‬ ‫ت ۡت‪[ ﴾. .‬ا �ل�ح��ج�‪ ]5 :‬يعني‪ :‬زادت‬ ‫فيها ثم ﴿‬
‫ۡ‬
‫ٱه زََّ‬
‫ُْ ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫هي في الحقيقة لم تكن ساكنة مطلقا؛ ألن فيها حركة ذاتية بين ذراتها‪.‬‬
‫ومعنى‪َ ﴿ :‬و َر َب ۡت‪[ ﴾. .‬ا �ل�ح��ج�‪ ]5 :‬أي‪ :‬زادت عن حجمها‪ ،‬كما تزيد حبة الفول‬
‫وضع في الماء‪ ،‬وتأخذ حظها من الرطوبة‪ ،‬وكذلك في جميع البقول‪،‬‬ ‫مثاًل حين ت ُ َ‬
‫وهذه الزيادة في حجم الحبة هي التي تفلقها إلى فلقتين في عملية اإلنبات‪ ،‬ويخرج‬

‫((( تفسير الشعراوي (‪.)9710 /16‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪811‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫منها زبان يتجه إلى أعلى فيكون الساق الذي يبحث عن الهواء‪ ،‬وإلى أسفل فيكون‬
‫الجذر الذي يبحث عن الماء‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫تمتص غذاءها‬ ‫مصدر غذا ٍء للنبتة حتى تقوى‪ ،‬وتستطيع أن‬ ‫وتظل هاتان الفلقتان‬
‫َّ َ‬ ‫َّ ْ‬
‫من التربة‪ ،‬فإذا أدت هاتان الفلقتان مهمتهما في تغذية النبتة تحولتا إلى ورقتين‪،‬‬
‫وهما أول ورقتين في تكوين النبتة‪.‬‬
‫ُ َّ‬
‫كذلك‪ ،‬نالحظ في تغذية النبات أنه ال يأخذ كل غذائه من التربة‪ ،‬إنما يتغذى‬
‫بنسبة ربما ‪ 90‬بالمائة من غذائه من الهواء‪ ،‬وتستطيع أن تالحظ هذه الظاهرة إذا‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫نظرت إلى إصيص به زرع‪ ،‬فسوف تجد ما نقص من التربة كمية ال تذكر بالنسبة‬
‫لحجم النبات الذي خرج منها‪.‬‬
‫وحين تتأمل جذر النبات تجد فيه آية من آيات اهلل‪ ،‬فالجذر يمتد إلى أن يصل‬
‫َّ‬
‫إلى الرطوبة أو الماء‪ ،‬حتى إذا وصل إلى مصدر غذائه توقف‪ ،‬ولك أن تنظر مثاًل‬
‫إلى (كوز الحلبة) فسوف تجد الجذور غير متساوية في الطول‪ ،‬بحسب بُعد الحبة‬
‫عن مصدر الرطوبة‪.‬‬
‫ْ‬
‫﴿ َو َر َب ۡت‪[ ﴾. .‬ا �ل�ح��ج�‪ ]5 :‬أي‪ :‬زادت وانتفشت‪ ،‬كما يحدث في العجين حين تضع‬
‫يج﴾ [ا �ل�ح��ج�‪. ]5 :‬‬ ‫ت مِن لُ ّ َ ۡ َ‬ ‫فيه الخميرة ﴿ َوأَ َ‬
‫ۢنب َت ۡ‬
‫ك زوِۢج ب ِه ٖ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جميعا عيانا‪ :‬األرض تكون جرداء ساكنة‪،‬‬ ‫هذه صورة حيَّة واقعية نالحظها‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬


‫ال حركة فيها‪ ،‬فإذا ما نزل عليها الماء تغيرت وتحركت ذراتها وتشققت عن‬
‫النبات‪ ،‬ولو حتى بالمطر الصناعي‪ ،‬كما نرى في عرفة مثاًل ينزل عليها المطر‬
‫فيخضر الوادي‪ ،‬لكن حينما ينقطع الماء يعود كما كان لعدم مواالة الماء‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الصناعي‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ولو واليت عليها بالماء لصارت غابات وأحراشا وبساتين كالتي نراها في أوروبا‪.‬‬
‫سوى له األرض؛ ألنه ْ‬ ‫ْ‬
‫أن ت ُ َّ‬
‫يس ِقي المرتفع والمنخفض‬ ‫والمطر ال يحتاج‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫على السواء‪ ،‬على خالف األرض التي تسقيها أنت ال بُد أن ت ِّ‬
‫سويها للماء‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫حتى يصل إليها‬
‫‪812‬‬

‫فإذا أنزل اهلل تعالى المطر على األرض الجدباء الجرداء تراها تتفتق بالنبات‪،‬‬
‫ص ْبها العطب‪ ،‬وهي في األرض طوال هذه‬ ‫ُ‬
‫فمن أين جاءت هذه البذور؟ وكيف لم ي ِ‬
‫الفترات؟ األرض هي التي تحفظها من العطب إلى أن تجد البيئة المناسبة لإلنبات‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ُّ‬
‫(عذي)‪.‬‬‫وهذا النبات الذي يخرج من األرض دون تدخل اإلنسان يسمونه ِ‬
‫َْ‬
‫أما عن نقل هذه البذور في الصحراء وفي الوديان‪ ،‬فهي تنتقل بواسطة الريح‪،‬‬
‫ْ‬
‫أو في َروث الحيوانات(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫إن أول من وصف حركة األرض عند نزول الماء عليها‪ ،‬واهتزاز جزئيات‬
‫التربة فيها هو عالم النبات روبرت براون ‪ Robert Brown‬عام ‪ 1827‬وسميت‬
‫باسمه‪ :‬الحركة البراونية ‪.Brownian Motion‬‬
‫ويرجع انتفاش التربة إلى خاصية تعلق الماء بجزيئات التربة ويسمى االدمصاص‬
‫‪Adsorption‬؛ وإلى خاصية انتشار الجزيئات في الماء‪ ،‬وتسمى االمتصاص‬
‫ت ۡت َو َر َب ۡت﴾ يكشفان عمليات‬ ‫‪ ،Adsorption‬فالوصفان الجامعان ﴿‬
‫ۡ‬
‫ٱه زََّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫على المستوى الجزيئي اجملهري‪ ،‬ال يدركها أحد زمن التنزيل إال بوحي‪.‬‬
‫َّ‬
‫عند جفاف التربة تأخذ الحبيبات وجزيئاتها أقل حيز؛ ومع الماء تنتفش التربة‬
‫وتزداد في الحجم وتفتح طريقا المتداد جذور النبات لخصائص خفية‪ ،‬تميز تفاعل‬
‫التربة مع الماء‪ ،‬ويمتد الوصف ليشمل المكونات الحية الكامنة كالبذور والكائنات‬
‫الحية الدقيقة المتحوصلة‪ ،‬حيث ينعشها الماء ويحثها على التنامي والتكاثر‪،‬‬
‫وكأنها كانت كالموتى بسكونها فطالها وصف مكونات تربة األرض ذاتها بالحياة‬
‫ٓ َ َۡ َ‬
‫ِير﴾‪.‬‬ ‫في قوله تعالى‪﴿ :‬إِن ٱلذَِّي أحي‬
‫ك يَ ۡ‬
‫شءٖ قَد ٌ‬ ‫ۡ َ ۡ ىَ ٰٓ َّ ُ لَىَ ٰ لُ ّ‬ ‫اها ل َ ُ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ۥ‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ۚ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫م‬‫ٱل‬ ‫ح‬
‫يِۡ‬ ‫م‬

‫((( تفسير الشعراوي (‪.)9712 - 9709/16‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪813‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ُ‬
‫حجمها‬ ‫وتتشرب مكونات التربة الماء‪ ،‬ويعلق بها فتنتفخ وتتباعد أجزاؤها‪ ،‬ويزداد‬
‫نتيجة لخاصتي التشرب والتعلق‪ ،‬ومع وجود الماء تتفكك المكونات‪ ،‬وتتحول إلى‬
‫جزيئات مشحونة خالل عملية التأين ‪ Ionization‬فتعمل على اهتزاز التربة‪.‬‬

‫االدمصاص‬
‫وتفقس البيضات‪ ،‬وتنشط الديدان والحشرات والجذور والسيقان‪ ،‬ويزداد معدل‬
‫امتصاص التربة للماء‪ ،‬فيزداد اهتزازها‪ ،‬وتبدأ الكائنات الدقيقة في النمو والتكاثر‬
‫واالزدياد‪ ،‬وتبدأ الديدان والحشرات نشاطها في صناعة األنفاق فتزيد انتفاش التربة‪.‬‬
‫وهكذا تربو التربة‪ ،‬وتموج بأشكال ال تراها العين اجملردة لتشهد بقدرة اهلل‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫تعالى‪ ،‬والمعجز أن يوجز العليم الخبير كل هذه العمليات الكيميائية والبيولوجية‬


‫ت﴾‪.‬‬‫اجملهرية في كلمتين اثنتين‪﴿ :‬ٱهتت َو َرب ۚ‬
‫ۡ زََّ ۡ َ ۡ‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ً‬
‫إن اإلشارة إلى هذه الحركة البراونية منذ أربعة عشر قرنا‪ ،‬حيث كان الناس‬
‫على جهالة تامة بحقيقة ما يجري لدى نزول المطر على األرض دليل واضح على‬
‫ً‬
‫أن الذي ذكر هذا االهتزاز والربو في التراب إنما هو خالق الكون‪ ،‬وأن محمدا !‬
‫هو رسول اهلل حقا وصدقا‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪815‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫نـــزول احلـديـــد‬

‫َ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ ُ ُ َ َ بۡ َ ّ َ ٰ َ َ َ لنۡ َ َ َ ُ ُ ۡ َ ٰ َ َ ۡ َ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬لقد أرسلنا رسلنا بِٱليِن ِ‬
‫اس‬ ‫وم ٱنلَّ ُ‬‫ان يِلَ ُق َ‬‫ت وأنز ا معهم ٱلكِتب وٱل ِمزي‬
‫ۡ‬
‫َ‬
‫نصهُۥ َو ُر ُسل ُهۥ‬ ‫اس َو يِلَ ۡعلَ َم هَّ ُ‬
‫ٱلل َمن يَ رُ ُ‬ ‫َ ‪ٞ‬‬
‫ِيد فِيهِ بَأ ‪ٞ‬س شدِيد َو َم َنٰفِ ُع ل َِّلن ِ‬ ‫ٱلد َ‬ ‫ط َوأَ َ‬
‫نزلنۡ َا حۡ َ‬ ‫ۡ‬
‫بِٱلقِ ۡس ِ ۖ‬
‫يز﴾ [ا �ل�ح�د ي��د‪.]25 :‬‬
‫ٱلل قَو ٌّي َعز ‪ٞ‬‬
‫ٱل َغ ۡيب إ َّن هَّ َ‬ ‫ۡ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِۚ ِ‬ ‫بِ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ذكروا في‪ :‬إنزال الميزان وإنزال الحديد‪ ،‬قولين‪:‬‬
‫‪P P‬األول‪ :‬أن اهلل تعالى أنزلهما من السماء‪.‬‬
‫روي أن جبريل عليه السالم نزل بالميزان فدفعه إلى نوح‪ ،‬وقال‪ :‬مر قومك‬
‫يزنوا به‪.‬‬
‫ُ‬
‫وعن ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد‪ ،‬السندان‬
‫والكلبتان‪ ،‬والمقمعة‪ ،‬والمطرقة‪ ،‬واإلبرة‪ ،‬والمقمعة ما يحدد به‪ ،‬ويدل على‬
‫صحة هذا ما روى ابن عمر أنه عليه الصالة والسالم قال‪> :‬إن اهلل تعالى أنزل أربع‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫بركات من السماء إلى األرض‪ :‬أنزل الحديد والنار والماء والملح<‪.‬‬


‫ََ ََ‬
‫نزل‬ ‫‪P P‬والقول الثاني‪ :‬أن معنى هذا اإلنزال اإلنشاء والتهيئة‪ ،‬كقوله تعالى‪﴿ :‬وأ‬
‫كم ّ ِم َن أۡٱلَنۡ َعٰم ثَ َمٰن َي َة أَ ۡز َوٰج﴾ [ا �ل�ز �م ‪ ]6 :‬قال قطرب‪﴿ :‬أَ َ ۡ َ‬
‫نزلنٰ َها﴾ [ا �لن�ور‪]1 :‬‬
‫َ ُ‬
‫ر‬ ‫ٖۚ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ل‬
‫أي‪ :‬هيأناها من النزل‪ ،‬يقال‪ :‬أنزل األمير على فالن نزال حسنا‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال هذا من جنس قوله‪ :‬علفتها تبنا وماء باردا‪ ،‬وأكلت خبزا ولبنا‪.‬‬
‫ذكر في منافع الميزان أن يقوم الناس بالقسط‪ ،‬والقسط واإلقساط هو اإلنصاف‪،‬‬
‫وهو أن تعطي قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك‪ ،‬والعادل مقسط‪ ،‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫‪816‬‬

‫ني﴾[ا �ل�ح�� ج�را ت�‪.]9 :‬‬ ‫﴿إن هَّ َ ُّ‬


‫سط َ‬‫ۡ ۡ‬ ‫َّ‬
‫ٱلل يحُِب ٱل ُمق ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ل َه َّن َم َح َط ٗبا﴾[ا ��جل�� ن�‪،]15 :‬‬ ‫والقاسط الجائر قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأما ٱلقٰ ِ‬
‫َ َ اَ ُ ْ‬ ‫َۡ‬
‫س ُطون فكنوا جِ َ‬ ‫َّ‬

‫وأما الحديد ففيه البأس الشديد‪ ،‬فإن آالت الحروب متخذة منه‪ ،‬وفيه أيضا منافع‬
‫أ‬
‫ك ۡم﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪.)1( ]80 :‬‬ ‫كثيرة منها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وعل ۡمنٰه صنعة لُ ٖ‬
‫َّ ُ‬ ‫َ َّ َ ُ َ ۡ َ َ بَ‬
‫وس ل‬

‫‪P P‬التوافق مع العلوم احلديثة‪:‬‬


‫تباين داللة اللفظ تبعا للسياق من خصائص لغات التخاطب؛ وهي أجلى‬
‫ما تكون في القرآن الكريم‪ ،‬والدالالت المعجمية ال يتحدد إحداها إال من خالل‬
‫السياق‪.‬‬
‫َ َ َ ‪ ٞ‬اَّ َ ُ ‪ ُ ُ ٞ‬أۡ َ َ َ اَ َ‬
‫ففي قوله تعالى‪﴿ :‬بقرة ل ذلول تثِري ٱلۡرض ول تس يِق ٱلرث﴾ [ ب���ر ‪]71:‬؛‬
‫ا �ل ق �ة‬ ‫حۡ َ ۡ َ‬ ‫ۡ‬

‫ال يستقيم حمل لفظ (األرض) على الكوكب؛ ألن المقام يتعلق بمشهد معلوم‪،‬‬
‫وهو إثارة بقرة للغبار مما يستقيم معه حمل لفظ (األرض) على تربة الحقل‪.‬‬

‫((( تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)471 -470/29‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪817‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ اَ َ َ ُ ُّ َ َّ َ رُ َ ُ هَّ‬
‫وفي قوله تعالى‪﴿ :‬من كن يظن أن لن ينصه ٱلل يِف ٱدلنيا وٱٓأۡل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََۡۡ ُ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ۡ‬ ‫ُ‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫خرة فليمدد بِسب ٍ‬
‫ب ك ۡي ُدهُۥ َما يَغِيظ﴾ [ا �ل�ح��ج�‪]15 :‬؛ ال يستقيم كذلك‬
‫ُ‬ ‫ىَ َّ َ ٓ ُ َّ يۡ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ ُ ۡ نََّ َ‬
‫إِل ٱلسماءِ ثم لقطع فلينظر هل يذهِ‬
‫حمل لفظ (السماء) على الكون كله وإنما سقف البيت؛ ألن المقام يتعلق بمشهد‬
‫معلوم وهو مشنوق مربوط إلى ما يعلوه وهو السقف عادة‪.‬‬
‫ومدار لفظ (أنزلنا) في القرآن الكريم؛ سواء كان اإلنزال حسيا أو معنويا على‬
‫ُ‬
‫التعبير بالتعظيم‪.‬‬ ‫تحقيق أمر جلل يستوجب الشكر كنعمة‪ ،‬أو االعتبار كنقمة لذا َ‬
‫ناس َبه‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ ُ َ ۡ َ ٓ َ ُ ُ ۡ َ ٰ ‪ َ َ َ ۡ ُ ّ َّ ّ ٞ‬لنۡ َ ٓ يَ ۡ ُ‬
‫ك ۡم نُ ٗ‬
‫ورا‬ ‫وفي قوله تعالى‪﴿ :‬يأيها ٱنلاس قد جاءكم برهن ِمن ربِكم وأنز ا إِل‬
‫ُّمب ِ ٗينا﴾ [ا �ل�ن���س�ا ء‪]174 :‬؛ يتعلق المقام بوصف القرآن كنعمة تستوجب االمتنان؛ لما‬
‫فيه من رحمة للبشرية فناسبه تعبير (اإلنزال)‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫أۡ َ ۡ‬ ‫َ َ َ‬
‫ج﴾ [ا �ل�ز �مر‪]6 :‬؛ وأجناسها‬ ‫وهو كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأ َ‬
‫َۡ‬ ‫َ‬
‫َ َ‬ ‫ُ ّ‬
‫نزل لكم ِم َن ٱلنع ٰ ِم ثمٰن َِية أزو ٰ ٖ ۚ‬
‫على النحو التالي‪ :‬الضأن‪ ،‬والمعز‪ ،‬واإلبل‪ ،‬والبقر‪ ،‬وتمثل لحومها وألبانها أهم‬
‫مصادر الغذاء للسكان في البوادي‪ ،‬وتعبير (اإلنزال) إذن يكشف مدى الرحمة‬
‫واإلنعام في إيجاد تلك المواشي المعبر عنها بلفظ (األنعام)‪.‬‬
‫ولبيان هذا اإلنعام في إيجاد اللباس‪ ،‬لستر العورات‪ ،‬والحماية من تقلبات‬
‫الجو ناسب التعبير عن هذا اإليجاد بلفظ (اإلنزال) في قوله تعالى‪﴿ :‬يب يِ‬
‫ََٰ ٓ َ َ‬
‫ن َءاد َم ق ۡد‬
‫َ‬ ‫ُ ۡ َ ٗ َ َ ُ تلَّ ۡ َ ٰ َ َ َيرۡ َ َ‬ ‫َ َ لنۡ َ َ َ ۡ ُ‬
‫ى ذٰلِك خ ‪ ۚٞ‬ذٰلِك ِم ۡن َءاي ٰ ِ‬‫اسا يُ َوٰرِي َس ۡوَٰءتِكم ورِيشاۖ ولبِ اس ٱ قو‬
‫ك ۡم لبِ َ ٗ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ت‬ ‫أنز ا علي‬


‫أ � �ف‬
‫ٱللِ لعلهم يذكرون﴾ [ال� ع ا ‪ ،]26 :‬ولذا قد أصاب األعالم في حمل داللة لفظ‬
‫َ‬ ‫هَّ َ َ َّ ُ ۡ َ َّ َُّ‬
‫ر�‬
‫معان كاإليجاد والخلق والجعل واإلنعام‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫(اإلنزال) في هذا المقام إلى‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫اس﴾ [ا �ل�ح�د ي��د‪]25 :‬؛‬ ‫َ ‪ٞ‬‬
‫ِيد فِيهِ بَأ ‪ٞ‬س شدِيد َو َم َنٰفِ ُع ل َِّلن ِ‬
‫ٱلد َ‬ ‫أما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأ َ‬
‫نزلنۡ َا حۡ َ‬
‫فالداللة الحسية على نزول الحديد من جسم األرض نحو اللب ال تنفي الداللة‬
‫المعنوية في اإلنعام على الناس جميعا بهذا اإلنزال‪ ،‬لبأسه الشديد في الدفاع‬
‫عنهم من مخاطر لم يكن يعلم بها إنسان‪ ،‬حتى اكتشفت حديثا أحزمة فان ألن‬
‫المغناطيسية التي تدفع عنهم مخاطر الرياح الشمسية بال إدراك منهم‪.‬‬
‫‪818‬‬

‫وقد جاء بيان إنزال الحديد على مستوى الكوكب باعتباره من أثقل مكونات‬
‫أۡ َ َ‬
‫األرض في مقابل بيان إخراج المواد األخف نحو السطح في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وٱلۡرض‬
‫َ َّ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ك َد َحى ٰ َها ٓ ‪ ٣٠‬أَ ۡخ َر َج ِم ۡن َها َما ٓ َء َها َو َم ۡر َعى ٰ َها ‪َ ٣١‬‬‫َ ۡ َ َٰ َ‬
‫ٱل َبال أ ۡر َسى ٰ َها ‪َ ٣٢‬متٰ ٗعا لك ۡم َو‬
‫جِۡ‬ ‫و‬ ‫بعد ذل ِ‬
‫َۡ َٰ ُ‬
‫ك ۡم﴾ [ا �لن��ا �زع�ا ت�‪.]33-30 :‬‬ ‫أِلنع ِم‬
‫وهذا ما يتفق تماما مع المعرفة الحديثة بخروج كل ما أدى في النهاية إلى‬
‫(م ْرعَ َ‬
‫اها)‪،‬‬ ‫وجود مظاهر الحياة‪ ،‬من نبات وحيوان‪ ،‬المعبر عنها باللفظ الجامع َ‬
‫بعد التهيئة بتكثف أبخرة الماء‪ ،‬وانقشاع دخان البراكين األولية‪.‬‬
‫والسائد حاليا في علوم األرض هو هبوط أثقل المواد ممثلة بالحديد نحو‬
‫اللب الذي يتكون معظمه بالفعل من الحديد‪ ,‬وناسب اقتصار نزول الحديد على‬
‫ما دون الجو‪ ،‬الخلو من اإلضافة (من السماء) التي الزمت في مواضع عديدة بيان‬
‫َ َ َ َ َ ُ ّ َ َّ ٓ ٓ‬
‫ٱلس َماءِ َما ٗء﴾‬ ‫نزول الماء من السحب في الجو نحو قوله تعالى‪﴿ :‬وأنزل لكم مِن‬
‫[ا �لن�����م�ل‪.]60 :‬‬
‫ويتفق هذا مع تكون األرض من طبقات يعلو بعضها بعضا أخفها األعلى‬
‫وأثقلها هو ما في باطنها المتكون غالبا من الحديد‪.‬‬
‫ً‬
‫وتتفق تلك الداللة مع وصف ما في باطن األرض صريحا باألثقال في قوله‬
‫أۡ َ ُ َ ۡ َ َ‬ ‫َ ۡ َ‬
‫ت ٱلۡرض أثقال َها﴾ [ا �ل�ز �ل�ز �ل��ة‪ ،]2 :‬فالوصف متعلق بالكرة األرضية ألن‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وأخ َرج ِ‬
‫ضمير (أثقالها) عائد عليها‪.‬‬
‫والمعلوم حاليا بالفعل‪ :‬أن الكثافة تزداد مع العمق حتى تبلغ أقصاها في اللب‪،‬‬
‫ۡ َ ‪ٞ‬‬
‫اس﴾ يتسع لمعان أشمل‪ ،‬ويمكن حمل بأسه‬ ‫والتعبير ﴿فِيهِ بَأ ‪ٞ‬س شدِيد َو َم َنٰفِ ُع ل َِّلن ِ‬
‫ومنافعه على المستوى الجزيئي‪.‬‬
‫فذرة الحديد تتميز بقوة ترابط شديدة‪ ،‬وهي تدخل في تركيبات مهمة بالنسبة‬
‫لألحياء‪ ،‬مثل‪ :‬هيموجلوبين الدم‪ ,‬وحركة الحديد في لب األرض أغلفة مغناطيسية‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪819‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫تحيط بالكوكب وتحمي كافة أحياء الكوكب من خطر الرياح الشمسية المتأينة‪،‬‬
‫ٱلد َ‬
‫ِيد فِيهِ‬ ‫وكل تلك الحقائق العلمية المكتشفة حديثا يُجملها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ َ‬
‫نزلنۡ َا حۡ َ‬
‫ۡ َ ‪ٞ‬‬
‫اس﴾‪.‬‬ ‫بَأ ‪ٞ‬س شدِيد َو َم َنٰفِ ُع ل َِّلن ِ‬

‫تتزايد الكثافة كما تعمقنا حنو لب األرض‬


‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪821‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫كروية األرض‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬يكوِر ٱلل ع ٱنلهارِ ويكوِر ٱنلهار‬


‫َۡ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ ّ ُ يَّ ۡ َ لَىَ َّ َ َ ُ َ ّ ُ َّ َ َ لَىَ‬
‫ع يَّ ۡ‬
‫ٱل ِلۖ َو َسخ َر ٱلش ۡم َس َوٱلق َم َر ۖ‬
‫َ‬ ‫لُ ّ ‪ ٞ‬جَ ۡ‬
‫ي ِري أِل َج ٖل ُّم َس ىًّمۗ﴾ [ا �ل�ز �مر‪.]5 :‬‬ ‫ك‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ٱل ِلۖ﴾ عبّر بالفعل‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬يكوِر ٱلل ع ٱنلهارِ وي ِ‬
‫ار ع ۡ‬ ‫يَّ‬ ‫لَىَ‬ ‫َّ َ َ ُ َ‬
‫ك ّو ُر ٱنلَّ َه َ‬ ‫ُ َ ُّ ۡ‬ ‫لَىَ‬ ‫يَّ َ‬

‫المضارع في هذه الجملة للداللة على تجدد ذلك وتكرره‪ ،‬أو الستحضار حالة‬
‫َ‬
‫الليل على النهار َ‬
‫غير مشاهدة‪،‬‬ ‫التكوير تبعا الستحضار آثارها‪ ،‬فإن حالة تكوير اهلل‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫المشاهد ُ‬
‫أثرها‪ ،‬وتجدد األثر يدل على تجدد التأثير‪.‬‬ ‫وإنما‬
‫ّ‬
‫والتكوير حقيقته‪ :‬اللف واللي‪ ،‬يقال‪ :‬كور العمامة على رأسه إذا لواها ولفها‪،‬‬
‫ومثلت به هنا هيئة غشيان الليل على النهار في جزء من سطح األرض‪ ،‬وعكس‬
‫ذلك على التعاقب بهيئة كور العمامة‪ ،‬إذ تغشى اللية اللية التي قبلها‪.‬‬
‫وهو تمثيل بديع قابل للتجزئة بأن تشبه األرض بالرأس‪ ،‬ويشبه تعاور الليل‬
‫والنهار عليها بلف طيات العمامة‪ ،‬ومما يزيده إبداعا إيثار مادة التكوير الذي هو‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫معجزة علمية من معجزات القرآن المشار إليها في المقدمة الرابعة والموضحة في‬
‫المقدمة العاشرة‪.‬‬
‫فإن مادة التكوير جائية من اسم الكرة‪ ،‬وهي الجسم المستدير من جميع‬
‫ُ‬
‫العرب‬ ‫جهاته على التساوي‪ ،‬واألرض كروية الشكل في الواقع‪ ،‬وذلك كان يجهله‬
‫ُ‬
‫وجمهور البشر يومئذ‪ ،‬فأومأ القرآن إليه بوصف العرضين اللذين يعتريان األرض‬
‫على التعاقب‪ ،‬وهما النور والظلمة‪ ،‬أو الليل والنهار‪ ،‬إذ جعل تعاورهما تكويرا؛‬
‫‪822‬‬

‫ألن عرض الكرة يكون كرويا تبعا لذاتها‪ ،‬فلما كان سياق هذه اآلية لالستدالل‬
‫على اإللهية الحق بإنشاء السماوات واألرض اختير لالستدالل على ما يتبع ذلك‬
‫اإلنشاء من خلق العرضين العظيمين لألرض مادة التكوير دون غيرها من نحو‬
‫أ‬
‫ار﴾ [ ف�ي� ��سور�ة ال� �عرا �ف�‪.]54 :‬‬ ‫الغشيان الذي عبر به في قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ي ۡغ يِش يَّ ۡ‬
‫ٱل َل ٱنلَّ َه َ‬

‫ألن تلك اآلية مسوقة للداللة على سعة التصرف في المخلوقات ألن أولها ﴿إِن‬
‫َّ‬
‫أ ف‬ ‫ۡرض ف س َِّتةِ َأيَّام ُث َّم ۡ‬
‫َ َ َ َّ َ ٰ َ ٰ َ أۡ َ َ‬
‫ى ع ٱلع ۡر ِشۖ﴾[ال� �عرا ��‪:‬‬
‫ٱس َت َو ٰ لَىَ ۡ َ‬ ‫ت وٱل‬ ‫ك ُم هَّ ُ‬
‫َ َّ ُ‬
‫ٖ‬ ‫يِ‬ ‫ٱلل ٱلذَِّي خلق ٱلسمو ِ‬ ‫رب‬
‫‪ ]54‬فكان تصوير ذلك بإغشاء الليل والنهار خاصة؛ ألنه دل على قوة التمكن من‬
‫تغييره أعراض مخلوقاته‪.‬‬
‫ولذلك اقتصر على تغيير أعظم عرض وهو النور‪ ،‬بتسليط الظلمة عليه‪ ،‬لتكون‬
‫هاته اآلية لمن يأتي من المسلمين الذين يطلعون على علم الهيئة فتكون معجزة‬
‫عندهم‪.‬‬
‫وعطف جملة ويكور النهار على الليل هو من عطف الجزء المقصود من الخبر‬
‫َّ َٰ ََۡ َ‬
‫ك ٗارا﴾[ا �ل��ت��ح�ر�يم‪. ]5 :‬‬ ‫كقوله‪﴿ :‬ثيِب ٖ‬
‫ت وأب‬
‫وتسخير الشمس والقمر هو تذليلهما للعمل على ما جعل اهلل لهما من نظام‬
‫السير سير المتبوع والتابع‪ ،‬وقد تقدم في سورة األعراف وغيرها‪.‬‬
‫وعطفت جملة وسخر الشمس والقمر على جملة يكور الليل على النهار؛ ألن‬
‫ذلك التسخير مناسب لتكوير الليل على النهار وعكسه‪ ،‬فإن ذلك التكوير من آثار ذلك‬
‫التسخير فتلك المناسبة اقتضت عطف الجملة التي تضمنته على الجملة التي قبلها‪.‬‬
‫وجملة كل يجري ألجل مسمى في موقع بدل اشتمال من جملة سخر الشمس‬
‫والقمر‪ ،‬وذلك أوضح أحوال التسخير‪ .‬وتنوين كل للعوض‪ ،‬أي‪ :‬كل واحد‪.‬‬
‫والجري‪ :‬السير السريع‪ .‬والالم للعلة(‪.)1‬‬

‫((( انظر‪ :‬التحرير والتنوير (‪.)329-328 /23‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪823‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫كانت الفكرة السائدة حتى بعد عصر نزول القرآن الكريم بقرون أن األرض‬
‫مسطحة‪ ،‬ترتكز السماء على أطرافها كقبة‪ ،‬وبالتدريج تبلورت الفكرة بكروية‬
‫األرض‪ ،‬ومن الدالئل الحسية على كروية األرض أن أول ما يظهر من السفينة‬
‫القادمة نحو الشاطيء صاري السفينة الذي يحمل الشراع ثم يظهر بدن السفينة‬
‫تدريجيا كلما اقتربت من الشاطيء‪.‬‬
‫وتعتبر رحلة ماجالن هي أول رحلة بحرية تدور حول األرض في الفترة ما بين‬
‫عام ‪ 1519‬وعام ‪ ،1522‬وفي عصر الفضاء ظهرت صور األرض على شكل كرة‪،‬‬
‫فلو كانت األرض منبسطة لوجب أن يكون على سطحها شروق واحد وغروب‬
‫واحد؛ فتنير الشمس كامل سطحها حين تشرق‪ ،‬ويحتجب النور عن كامل سطحها‬
‫حين تغرب‪..‬‬

‫‪Magellan's voyage around the world‬‬

‫‪Spain‬‬

‫‪Atlantic Ocean‬‬ ‫‪Magellan died here‬‬


‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫‪April ۱٥۲۱ ,۲۷‬‬

‫‪Philippine Islands‬‬

‫‪Pacific Ocean‬‬

‫‪Strait of Magellan‬‬

‫رحلة ماجالن‬
‫وبما أن األرض كروية فإن الشمس حينما تشرق عليها تنير الجهة الشرقية منها‬
‫فقط‪ ،‬وتظل الجهة الغربية محجوبة عن النور في حالة ظلمة‪.‬‬
‫‪824‬‬

‫ويجري العكس حينما تشرق الشمس على الجهة الغربية منها‪ ..‬وهذا األمر‬
‫ال يتأتى إال من كون األرض كروية الشكل‪ ،‬حيث إن التكوير عادة ال يحدث‬
‫وال يتم إال حول جسم كروي(‪.)1‬‬
‫إنك لوجئت بشيء ولففته حول كرة فتقول إنك كورت هذا الشيء‪،‬‬
‫ً‬
‫وحيث إن الغالف الجوي لألرض يحيط باألرض مشدودا إليها بقوة الجاذبية‬
‫من جميع الجهات فإن هذا الغالف يأخذ شكل األرض‪.‬‬
‫وحيث إن ضوء النهار ينشأ بالتشتيت على ذرات وجسيمات الغالف الجوي‬
‫فإن النهار والليل متكوران على األرض‪ ،‬وبهذا فإن اآلية الكريمة تشير إلى كروية‬
‫األرض بدليل كروية غالفها الجوي بنهاره أو ليله(‪.)2‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ً‬
‫لقد أشار النص القرآني السابق إلى كروية األرض منذ أربعة عشر قرنا‪،‬‬
‫حينما كانت الفكرة السائدة آنذاك هي أن األرض مسطحة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبعد قرون أكدت الكشوف العلمية الحديثة ‪-‬ابتداء من رحلة ماجالن‪ -‬كروية‬
‫األرض مما يدل على إعجاز النص القرآني الكريم السابق الذكر‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫((( اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم‪ :‬عبد الرحيم مارديني ص (‪. )90 ،89‬‬
‫((( انظر‪ :‬الكون واإلعجاز العلمي للقرآن د‪ /‬منصور حسب النبي‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪825‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫أوتاد األرض‬
‫أ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ۡ جَ ۡ َ أۡ َ َ‬
‫ٱل َبال أ ۡوتَ ٗادا﴾ [ا �لن����ب� ‪.]7-6 :‬‬
‫جِۡ‬
‫ۡرض م َِه ٰ ٗدا ‪َ ٦‬‬
‫و‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ألم نع ِل ٱل‬
‫أۡ َ َ‬
‫اجا﴾‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و هَّ ُ‬
‫ج ٗ‬ ‫اٗ‬ ‫َّ ُ ُ ْ‬ ‫ٗ‬ ‫ُ‬
‫ك ُم ٱلۡرض ب َساطا ‪ ١٩‬لِت ۡسلكوا ِم ۡن َها ُس ُبل ف ِ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ٱلل َج َعل ل‬
‫[ن�وح‪.]20-19 :‬‬

‫جبال اهليمااليا مشال اهلند‬


‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫أۡ َ َ‬ ‫َ َ جَ‬
‫ن َع ِل ٱلۡرض م َِه ٰ ٗدا﴾‪.‬‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬ألم‬
‫ۡ ۡ‬

‫اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم إنكار البعث والحشر‪ ،‬وأراد إقامة الداللة على‬
‫صحة الحشر‪ ،‬قدم لذلك مقدمة في بيان كونه تعالى قادرا على جميع الممكنات‪،‬‬
‫عالما بجميع المعلومات‪ ،‬وذلك ألنه مهما ثبت هذان األصالن ثبت القول بصحة‬
‫َّ‬
‫البعث‪ ،‬وإنما أثبت هذين األصلين بأن عدد أنواعا من مخلوقاته الواقعة على وجه‬
‫اإلحكام واإلتقان‪.‬‬
‫‪826‬‬

‫فإن تلك األشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة‪ ،‬ومن جهة إحكامها وإتقانها‬
‫تدل على العلم‪ ،‬ومتى ثبت هذان األصالن‪ ،‬وثبت أن األجسام متساوية في قبول‬
‫الصفات واألعراض‪ ،‬ثبت ال محالة كونه تعالى قادرا على تخريب الدنيا بسماواتها‬
‫وكواكبها وأرضها‪ ،‬وعلى إيجاد عالم اآلخرة‪ ،‬فهذا هو اإلشارة إلى كيفية النظم‪.‬‬
‫واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا من عجائب مخلوقاته أمورا فأولها‪ :‬قوله‪ :‬ألم نجعل‬
‫األرض مهادا والمهاد مصدر‪ ،‬ثم هاهنا احتماالت‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬المراد منه هاهنا الممهود‪ ،‬أي‪ :‬ألم نجعل األرض ممهودة‪ /‬وهذا من‬
‫باب تسمية المفعول بالمصدر‪ ،‬كقولك هذا ضرب األمير‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬أن تكون األرض وصفت بهذا المصدر‪ ،‬كما تقول‪ :‬زيد جود وكرم‬
‫وفضل‪ ،‬كأنه لكماله في تلك الصفة صار عين تلك الصفة‪.‬‬
‫وثالثها‪ :‬أن تكون بمعنى ذات مهاد‪ ،‬وقرئ مهدا‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن األرض للخلق‬
‫كالمهد للصبي‪ ،‬وهو الذي مهد له فينوم عليه‪.‬‬
‫أۡ َ َ‬
‫ك ُم ٱلۡرض ف ِ َرٰشا﴾‬ ‫واعلم أنا ذكرنا في تفسير سورة البقرة عند قوله‪َ ﴿ :‬ج َعل ل‬
‫ٗ‬ ‫َ َ‬
‫ُ‬

‫[ا �لب�ق��ر�ة‪ ]22 :‬كل ما يتعلق من الحقائق بهذه اآلية‪ .‬وثانيها‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وٱل َبال‬
‫جِۡ َ‬
‫َ‬
‫أ ۡوتَ ٗادا﴾ أي‪ :‬لألرض [كي] ال تميد بأهلها‪ ،‬فيكمل كون األرض مهادا بسبب‬
‫ذلك(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫حاليا أن لكل جبل ً‬
‫جذرا ‪ Root‬يمتد نحو الباطن أكثر من ارتفاعه ‏؛‬ ‫من الثابت ً‬
‫ً‬
‫وكلما زاد االرتفاع زاد امتداد الجذر عمقا‪ ،‬ولم يكن أحد قبل القرن التاسع عشر‬
‫يعرف شيئا عن تلك الحقيقة‪.‬‬

‫((( تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)8 /31‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪827‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ففي عام ‪1749‬م الحظ بيير بوجير أن قوة الجذب المقيسة بميل البندول في‬
‫جبال اإلنديز أقل من المتوقع قياسا على الكتلة المقدرة فوق مستوى سطح البحر‬
‫مما يدفع لالفتراض بوجود كتلة أكبر في األسفل‪.‬‬
‫وأكدت القياسات التي أجرتها بعثة إنجليزية بقيادة جورج إفرست في جبال‬
‫الهيماليا في بداية القرن التاسع عشر بالهند نفس النتيجة؛ حيث دلت القياسات‬
‫على وجود قوة جذب أكبر من المفترض بحوالي الثلثين لم يعرف سببها على وجه‬
‫القطع؛ ولذا سميت الظاهرة لغز الهند ‪.Puzzle of India‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ّ‬
‫وفي عام ‪1855‬م قدم أيري ‪ Airy‬األساس للتفسير الحالي‪ ،‬حيث استبعد‬
‫أن تكون الجبال مثبتة على قشرة صلبة تحتها؛ وإنما تطفو كالسفن في بحر‬
‫من الصخور اللينة الحارة‪ ،‬األعلى كثافة‪ ،‬ولذا فهي تتبع قانون الكثافة‪ ،‬حيث تمتد‬
‫عميقا في باطن الغالف الصخري حتى تستقر‪ ،‬الدور الرئيس الذي تؤديه الجبال‬
‫‪828‬‬

‫إذن هو تثبيت ألواح الغالف الصخري ال كوكب األرض؛ وهو ما أشار إليه القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫ُ‬
‫والمعلوم أن لفظ األرض في العربية وغيرها يأتي بدالالت متباينة‪ ،‬يحددها‬
‫السياق‪ ،‬كالكوكب والتربة والقطر‪ ،‬وقد يعني السطح الصخري المميز بالجبال؛‬
‫وهو المعنى الوحيد الذي يستقيم مع جعل الجبال أوتادا تثبت األرض بمعنى‬
‫السطح تحتنا ال الكوكب‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫والداللة في حديث القرآن عن الظواهر الكونية ال ترد شاردة فيسهل للطاعن‬
‫حملها على معنى يتعارض مع العلم؛ ولكنها تردد ضمن منظومة متكاملة مترابطة‬
‫األجزاء يفسر بعضها ً‬
‫بعضا تؤكد القصد في التعبير‪.‬‬
‫أۡ َ َ‬ ‫ٓ َ‬ ‫َ‬‫وفي قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ءأم ُ‬
‫ور﴾‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫خَ ۡ َ‬ ‫ِنتم َّمن ف َّ‬
‫ه ت ُم ُ‬
‫ك ُم ٱلۡرض فإذا يِ َ‬
‫ِ‬ ‫ٱلس َماءِ أن ي ِ‬
‫سف ب ِ‬ ‫يِ‬
‫[ا �ل���م�ل�ك‪]16 :‬؛ داللة تستقيم مع المعلوم حاليا بأن القشرة الصلبة المعبر عنها بلفظ‬
‫(األرض) دونها دوامات وتيارات عاتية ملتهبة إلى حد إسالة الصخور‪.‬‬
‫وأمام تلك الروائع في كشف اجملهول في تكامل بال تعارض‪ ،‬قبل أن ترددها‬
‫الكشوف العلمية اليوم على المسامع‪ ،‬ال يملك ُ‬
‫المنصف إال اإلقرار بالوحي للقرآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪829‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الفلك وعلوم الفضاء‬


‫‪3‬‬
‫حبـك السماء‬
‫َْ‬
‫ك﴾ الخلق الحسن(‪.)1‬‬ ‫ات حۡ ُ‬ ‫﴿و‬
‫َ َّ ٓ َ‬
‫ٱل ُب ِ‬ ‫ٱلس َماءِ ذ ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ْ ُ‬
‫حب ُ‬
‫ك الطرائق‪ ،‬مثل حبك الرمل والماء‪ :‬إذا ضربته الريح‪ ،‬وكذلك حبك‬ ‫ِ‬ ‫ال‬
‫الشعر‪ :‬آثار تثنيه وتكسره‪ .‬قال زهير‪:‬‬
‫ُ‬
‫ُ (‪)2‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫مكل ٌ‬
‫خريق لضاحي مائه حبك‬ ‫بأصول النجمِ تنس��جه ريح‬
‫ِ‬ ‫��ل‬

‫((( الوجيز للواحدي (ص‪.)1027 :‬‬


‫((( تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)395 /4‬‬
‫‪830‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫مطرق طرائق‪ .‬ويقال‪ :‬إن خلقة السماء كذلك‪.‬‬ ‫والدرع محبوكة‪ :‬ألن حلقها‬
‫وعن الحسن‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نجومها‪ .‬والمعنى‪ :‬أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي‪.‬‬ ‫حبُكها‬
‫وقيل‪ :‬حبكها صفاقتها وإحكامها‪ ،‬من قولهم‪ :‬فرس محبوك المعاقم‪ ،‬أى‪ :‬محكمها‪.‬‬
‫وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا‪ :‬ما أحسن حبكه‪ ،‬وهو جمع حباك‪ ،‬كمثال ومثل‪ .‬أو‬
‫َ‬
‫حبيكة‪ ،‬كطريقة وطرق‪ .‬وقرئ‪ :‬الحبك‪ ،‬بوزن القفل‪ .‬والحبك‪ ،‬بوزن السلك‪ .‬والح َبك‪،‬‬
‫بوزن الجبل‪ .‬والحبك بوزن البرق‪ .‬والحبك بوزن النعم‪ .‬والحبك بوزن اإلبل(‪.)1‬‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ َّ َ ْ‬
‫ضحت هذه اآلية الرائعة لوضع النجوم والكواكب في هذا الفضاء‪ ،‬حيث‬ ‫و‬
‫ذكرت أنها في اإلتساق واألحكام مع المنظر الجميل لها بمثابة الشيء المحبوك‬
‫في البناء‪ ،‬والتجانس في المنظر‪ ،‬والروعة في الظهور‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫مؤخرا برسم مخطط ثالثي األبعاد للكون باستخدام الكمبيوتر‬‫ً‬ ‫قام العلماء‬
‫العمالق المسمى بالسوبر كمبيوتر‪ ،‬وقد تضمنت البيانات التي تمت معالجتها‬
‫معلومات تفصيلية عن عدد ضخم من اجملرات‪ ،‬والغبار الكوني‪ ،‬والغاز بين‬
‫النجوم‪ ،‬ومعادالت الفيزياء الخاصة بتوسع الكون‪ ،‬وأبعاد اجملرات‪ ،‬ومواضعها‪،‬‬
‫وحركتها‪ ،‬والمسافات التي تفصلنا عنها وغير ذلك‪.‬‬
‫ّ‬
‫المهمة أظهر صورة الكون وكأننا نراه من الخارج‪،‬‬ ‫وبعد تنفيذ الكمبيوتر لهذه‬
‫وكان يشبه إلى حد كبير نسيج العنكبوت‪ ،‬فسارع العلماء في إطالق مصطلح‬
‫ً ّ َ ُ‬ ‫ً‬
‫تم ح ْبك خيوطِه‬ ‫(النسيج الكوني ‪ )Cosmic Web‬ألنهم رأوا نسيجا حقيقيا‬
‫بإتقان وقوة‪.‬‬

‫((( تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)395 /4‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪831‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ً‬
‫وقد استخدم مكتشفو هذا النسيج في أبحاثهم الصادرة حديثا كلمة (‪)weave‬‬
‫ّ‬ ‫َ َ‬
‫والتي تعني (ح َبك)‪ ،‬وكلمة (‪ )Filaments‬والتي تعني(خيوط)‪ .‬وهذا يدل‬
‫على أن القرآن الكريم قد سبق علماء الغرب في اإلشارة إلى وجود بنية نسيجية‬
‫في السماء!!‬
‫وتصوير رائع لترتيب النجوم وتشكيلها في بروج وتحديد أفالكها بمنتهى الدقة‬
‫مع االستمرار على ذلك الحال ماليين السنين دون أن يعتريها خلل أو تهافت‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫بعد أن اتسعت أبحاث الفلك وتطورت أساليب معرفة موجودات الفضاء‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأجهزة المراقبة والرصد‪ ،‬وقع العلماء على صورة أخاذة في بهائها واتساقها‪،‬‬
‫مما يتطابق مع ما ورد في صريح اآلية في استعمال كلمة الحبك‪ ،‬وهذا التطابق بيّن‬
‫ً‬
‫علميا ً‬ ‫ً‬
‫باهرا‪.‬‬ ‫داللة النص الشريف وما أثبته العلم يعني إعجازا‬
‫ً‬
‫وهذا يعتبر دلياًل دامغا على أن القرآن الكريم هو كتاب اهلل‪ ،‬وأنه معجز‬
‫من الناحية الكونية‪ ،‬ودليل على صدق قول الحق تبارك وتعالى‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫النسيج الكوني كما وجده العلماء حديثاً‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪833‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ظــلـمـــة الـفـضـــاء‬

‫َ ۡ َ‬ ‫َ َ ُ ۡ َ َ ُّ َ ۡ ً َ ِ َّ ٓ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ءأنتم أشد خلقا أم‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ٱلس َما ُء ۚ بَنى ٰ َها ‪َ ٢٧‬رف َع َس ۡمك َها ف َس َّوى ٰ َها ‪َ ٢٨‬وأغ َطش‬
‫يَ َ َ ۡ‬
‫ۡلل َها َوأخ َر َج ُض َحى ٰ َها﴾ [ا �لن��ا �زع�ا ت�‪.]29-27 :‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬و‬
‫َ َّ‬ ‫َ ََ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َّ‬
‫ٱلش ۡمس َو ُض َ‬
‫حى ٰ َها ‪َ ١‬وٱلق َم ِر إِذا تلى ٰ َها ‪َ ٢‬وٱنلَّ َهارِ إِذا َجلى ٰ َها ‪٣‬‬ ‫ِ‬
‫ٱل ِل إِذا َيغشى ٰ َها﴾ [ا � شل������م��س‪.]4-1 :‬‬
‫َ يَّ ۡ َ ۡ َ‬
‫و‬
‫ار فإِذا ُهم ُّمظل ُِمون﴾ ي[���س‪.]37 :‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬وءاية لهم ٱلل نسلخ مِنه ٱنله‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ َ ‪ ُ ُ َّ ٞ‬يَّ ۡ ُ َ ۡ َ ُ ۡ ُ َّ َ َ َ َ‬

‫وقال تعالى‪﴿ :‬ولو فتحنا علي ِهم بابا مِن‬


‫ََ ُْٓ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ ۡ َ َ َ ۡ َ ٗ ّ َ َّ ٓ َ َ ُّ ْ‬
‫ٱلس َماءِ فظلوا فِيهِ َي ۡع ُر ُجون ‪ ١٤‬لقالوا‬
‫َّ َ ُ ّ َ ۡ َ ۡ َ ٰ ُ َ َ ۡ حَ ۡ ُ َ ۡ ‪َ ُ ُ ۡ َّ ٞ‬‬
‫ورون﴾ [ا �ل�ح�� ج�ر‪.]15-14 :‬‬ ‫إِنما سكِرت أبصرنا بل نن قوم مسح‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ َ ۡ َ َ يَ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ ُ‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬وأغطش للها وأخرج ضحىها﴾وفيه مسائل‪:‬‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫‪P P‬المسألة األولى‪ :‬أغطش قد يجيء الزما‪ ،‬يقال‪ :‬أغطش الليل إذا صار‬
‫مظلما‪ ،‬ويجيء متعديا يقال‪ :‬أغطشه اهللُ إذا جعله مظلما‪ ،‬والغطش‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الظلمة‪ ،‬واألغطش شبه األعمش‪.‬‬


‫ثم هاهنا سؤال‪ :‬وهو أن الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة؛ بسبب غروب‬
‫الشمس‪ ،‬فقوله‪ :‬وأغطش ليلها يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلما‪ ،‬وهو‬
‫بعيد‪ ،‬والجواب‪ :‬معناه أن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان إنما حصلت بتدبير اهلل‬
‫وتقديره‪ :‬وحينئذ ال يبقى اإلشكال‪.‬‬
‫‪834‬‬

‫‪P P‬المسألة الثانية‪ :‬قوله‪ :‬وأخرج ضحاها أي أخرج نهارها‪ ،‬وإنما عبر‬
‫عن النهار بالضحى‪ ،‬ألن الضحى أكمل أجزاء النهار في النور والضوء‪.‬‬
‫‪P P‬المسألة الثالثة‪ :‬إنما أضاف الليل والنهار إلى السماء‪ ،‬ألن الليل والنهار‬
‫إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها‪ ،‬ثم غروبها وطلوعها إنما‬
‫يحصالن بسبب حركة الفلك‪ ،‬فلهذا السبب أضاف الليل والنهار إلى‬
‫السماء(‪.)1‬‬
‫‪P P‬التوافق مع العلوم احلديثة‪:‬‬
‫إن ضوء الشمس غير المباشر ال يمكن رؤيته إال مع تشتته أو انعكاسه‬
‫على األجسام‪ ،‬وبسبب وجود جزئيات الهواء والماء والغبار العالق يتشتت ضوء‬
‫الشمس فتظهر القبة الزرقاء؛ وهي ليست سوى ظاهرة ضوئية تتعلق بجو األرض‪.‬‬
‫َ‬
‫وبسبب االنعدام لتلك الجزئيات في الفضاء خارج غالف األرض‪ ،‬رغم توفر‬
‫ً‬
‫ضوء الشمس تظهر السماء ُ لرواد الفضاء مظلمة كليل دائم حالك السواد‪.‬‬
‫َ‬
‫ومن المدهش أن يَسبق القرآن الكريم‪ ،‬ويجعل للسماء لياًل دائما حالك‬
‫َ َ ُ ۡ َ َ ُّ َ ۡ ً َ ِ َّ ٓ َ‬
‫السواد‪ ،‬يقول العلي القدير‪﴿ :‬ءأنتم أشد خلقا أم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ٱلس َما ُء ۚ بَنى ٰ َها ‪َ ٢٧‬رف َع َس ۡمك َها‬
‫َ ۡ َ يَ َ َ ۡ‬
‫ف َس َّوى ٰ َها ‪َ ٢٨‬وأغ َطش ۡلل َها َوأخ َر َج ُض َحى ٰ َها﴾‪ ،‬والضمير في (ليلها) عائد على السماء‪،‬‬
‫َ‬

‫وتمييزه عن ليل األرض الذي يعقب النهار‪ ،‬يجعله صفة للكون بجامع الظالم‪.‬‬
‫ً‬
‫مظلما أسود‬
‫َ ۡ َ يَ َ‬
‫قال ابن كثير‪< :‬وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأغ َطش ۡلل َها﴾ أي‪ :‬جعل ليلها‬
‫ً‬
‫حالكا>‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى‪﴿ :‬و‬
‫َ َّ‬ ‫َ ََ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َّ‬
‫ٱلش ۡمس َو ُض َ‬
‫حى ٰ َها ‪َ ١‬وٱلق َم ِر إِذا تلى ٰ َها ‪َ ٢‬وٱنلَّ َهارِ إِذا َجلى ٰ َها‬ ‫ِ‬
‫ٱل ِل إِذا َيغشى ٰ َها﴾؛ الضمائر كلها عائدة على الشمس‪.‬‬
‫َ يَّ ۡ َ ۡ َ‬
‫‪ ٣‬و‬

‫((( تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)46-45 /31‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪835‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫والمدهش بصريح التعبير أن تكون الشمس بازغة ويغشيها ليل السماء بظلمته‬
‫والزمه شدة الظالم كما يغشى كافة األجرام‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الحالكة على الدوام رغم سيادة الليل‪،‬‬

‫والمنطقة من الجو التي ينتشر فيها ضوء النهار ال تزيد عن ‪200‬كم‪،‬‬


‫فهي بالنسبة للفضاء البالغ االتساع كجلد ذبيحة رقيق إذا سلخ يظهر خلفه الظالم‬
‫الدامس يعم كامل البدن‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وهو نفس التمثيل في قوله تعالى‪﴿ :‬وءاية لهم ٱلل نسلخ مِنه ٱنله‬
‫َ َ َ ‪ ُ ُ َّ ٞ‬يَّ ۡ ُ َ ۡ َ ُ ۡ ُ َّ َ َ َ َ ُ‬
‫ار فإِذا هم‬
‫ُّمظل ُِمون﴾‪.‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬

‫وفي قوله تعالى‪﴿ :‬ولو فتحنا علي ِهم بابا مِن‬


‫ََ ُْٓ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ ۡ َ َ َ ۡ َ ٗ ّ َ َّ ٓ َ َ ُّ ْ‬
‫ٱلس َماءِ فظلوا فِيهِ َي ۡع ُر ُجون ‪ ١٤‬لقالوا‬
‫َّ َ ُ ّ َ ۡ َ ۡ َ ٰ ُ َ َ ۡ حَ ۡ ُ َ ۡ ‪َ ُ ُ ۡ َّ ٞ‬‬
‫ورون﴾؛ نفي إغالق األعين مع إثبات الظلمة‬ ‫كرت أبصرنا بل نن قوم مسح‬ ‫إِنما س ِ‬
‫كمن سكرت عيناه تأكيد للنبأ المعجز‪.‬‬
‫‪836‬‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫َ َ ۡ َ َ يَ ۡ َ‬
‫في قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬وأغطش للها﴾ إشارة إلى ظلمة الفضاء؛ ألن‬
‫َ‬

‫ٱلس َما ُء ۚ﴾ فيعني أن الكون شديد الظالم‪ ،‬ولفظ (الليل)‬‫الضمير عائد على لفظ ﴿‬
‫َّ ٓ‬

‫الزم الظالم‪ ،‬وهو يغشي الشمس كما يغشى كل األجرام‪.‬‬


‫ٱل ِل إِذا َيغشى ٰ َها﴾ الضمير في ﴿ َيغشى ٰ َها﴾ عائد على‬
‫وفي قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ۡ‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫يَّ‬

‫الشمس‪ ،‬وال يمثل نهار األرض بالنسبة للقاطن عليها سوى طبقة رقيقة مثل سلخة‬
‫جلد ذبيحة تخفي خلفها ظالم كامل البدن‪.‬‬
‫وبالتمثيل نفسه عبر عن ليل السماء في قوله تعالى‪﴿ :‬وءاية لهم‬
‫َ َ َ ‪ ُ ُ َّ ٞ‬يَّ ۡ ُ َ َ ُ‬
‫ٱلل ن ۡسلخ ِم ۡن ُه‬
‫ار فإِذا ُهم ُّمظل ُِمون﴾‪.‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ َ َ َ َ‬
‫ٱنله‬
‫وفي قوله تعالى‪﴿ :‬ولو فتحنا علي ِهم بابا مِن‬
‫ََ ُْٓ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ ۡ َ َ َ ۡ َ ٗ ّ َ َّ ٓ َ َ ُّ ْ‬
‫ٱلس َماءِ فظلوا فِيهِ َي ۡع ُر ُجون ‪ ١٤‬لقالوا‬
‫َّ َ ُ ّ َ ۡ َ ۡ َ ٰ ُ َ َ ۡ حَ ۡ ُ َ ۡ ‪َ ُ ُ ۡ َّ ٞ‬‬
‫ورون﴾؛ تمثيل لمن يفاجئه ظالم الفضاء بمن‬
‫ّ‬
‫كرت أبصرنا بل نن قوم مسح‬ ‫إِنما س ِ‬
‫سكرت عيناه فال يرى سوى الظالم‪.‬‬
‫وظلمة الفضاء المشار إليها في النص القرآني لم تعرف إال بعد أن صعد أول‬
‫إنسان (يوري قاقارين) إلى الفضاء الخارجي عام ‪1961‬م‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪837‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الـضغط اجلوي‬
‫ۡ َ ٰ َ َ ُ ۡ َ ُ َّ‬ ‫هَّ ُ َ َ ۡ َ ُ َ رۡ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ف َمن يُ ِردِ ٱلل أن يهدِيهۥ ي‬
‫ش ۡح َص ۡ‬ ‫َ‬
‫ضل ُهۥ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫د‬‫ر‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬‫و‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫إِۡ ِۖ‬‫ل‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ۥ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫ر‬‫َ‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫َ َ َّ‬
‫ٱلس َماءِ ۚ﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]125 :‬‬
‫َّ ٓ‬ ‫َ ً‬ ‫جَ ۡ ۡ‬
‫ي َعل َص ۡد َرهُۥ ض ّيِقا َح َر ٗجا كأن َما يَ َّص َّع ُد يِف‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫يتقلص حجم الرئتني أثناء الصعود يف السماء‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله سبحانه وتعالى ‪َ ﴿:‬و َمن يُ ِرد﴾ أي‪ :‬اهلل‪ ،‬ولم يظهر هنا إشارة إلى أن الضالل‬
‫ۡ‬
‫َ ُ َّ‬
‫ضل ُهۥ﴾ أي‪ :‬يخلق الضالل ويديمه في قلبه‪﴿ ،‬ي َعل‬ ‫على مقتضى الطبع‪ ﴿ ،‬أن ي ِ‬
‫جَ ۡ ۡ‬

‫َص ۡد َرهُۥ﴾ أي‪ :‬الذي هو مسكن قلبه الذي هو معدن األنوار‪َ ﴿ ،‬ض ّيِقا َح َر ٗجا﴾ أي‪:‬‬
‫ً‬

‫مرتجسا أي‪ :‬مضطربًا‪.‬‬


‫ً‬ ‫شديد الضيق فيكون‬
‫‪838‬‬

‫ً‬
‫أعرابيا من كنانة من بني مدلج فقال له‪:‬‬ ‫روي أن عمر رضي اهلل عنه أحضر‬
‫ما الحرجة؟ فقال‪ :‬شجرة ال تصل إليها وحشية وال راعية‪ ،‬فقال عمر ‪ :K‬كذلك‬
‫قلب الكافر ال يصل إليه شيء من اإليمان والخير‪.‬‬
‫ولما كان صاحب هذا الصدر ال تكاد الهداية تصل إليه‪ ،‬وإن وصل إليه شيء‬
‫ً‬
‫منها على لسان واعظ‪ ،‬ومن طريق مرشد ناصح لم تجد مسلكا فنكصت‪ ،‬وهكذا‬
‫َ َ َّ‬ ‫ً‬
‫ال تزال في اضطراب وتردد أبدا؛ كانت ترجمته قوله‪﴿ :‬كأن َما يَ َّص َّع ُد﴾ أي‪ :‬يتكلف‬
‫ٱلس َماءِ ۚ﴾ في خفاء‪ ،‬حياءً من مزاولة ما‬ ‫هذا الشخص في قبول الهداية الصعود ﴿ يِف‬
‫َّ ٓ‬

‫ال يمكن‪ ،‬بما أشار إليه قراءة من أدغم التاء في الصاد‪.‬‬


‫فكلما أصعدته حركته االختيارية أهبطته حركته الطبيعية القسرية‪ ،‬كما نرى‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫بعض الحشرات يحمل شيئا ثقياًل‪ ،‬ويصعد به في جدار أملس‪ ،‬فيصير يتكلف ذلك‬
‫أيضا‪ ،‬فربما وصل إلى مكانه األول وسقط‪ ،‬وربما سقط‬ ‫فيقع‪ ،‬ثم يتكلف الصعود ً‬
‫مرتجسا أي‪ :‬مضطربًا‪ ،‬ومجامع االضطراب‬ ‫ً‬ ‫دونه‪ ،‬فهو مما يمتنع عادة‪ ،‬فال يزال‬
‫عقبه بما بعده كما يأتي‪.‬‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫الرجس في األصل لما‬ ‫صدر الضال مما يُنَفر منه‪ ،‬وكان‬
‫ُ‬ ‫صف به‬ ‫ولما كان ما و َ ِ‬
‫يُستقذر‪ ،‬والمستقذ ُر يُنفر منه‪ ،‬وكان هذا الكالم ربما أثار سؤااًل‪ ،‬وهو أن يقال‪:‬‬
‫هل هذا ‪ -‬وهو جعل الضال على هذه الصفة ‪ -‬خاص بأهل هذا الزمان‪ ،‬أجيب بما‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الرجس على من أراد ضالله من أهل‬ ‫حاصله‪ :‬ال‪﴿ ،‬كذٰل َِك﴾ أي‪ :‬مثل ما جعل اهلل‬
‫َ َ‬

‫هذا الزمان ﴿يعل ٱلل﴾ أي‪ :‬بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة ﴿ ِ‬
‫ٱلر ۡج َس﴾‬
‫ّ‬ ‫جَ ۡ َ ُ هَّ ُ‬

‫أي‪ :‬االضطراب والقذر ﴿ع ٱل‬


‫ذَِّين ل يُؤم ُِنون﴾ من أهل كل زمان‪ ،‬إلرادته سبحانه‬
‫َ‬ ‫َ اَ ۡ‬ ‫لَىَ‬
‫َ‬
‫دوام ضاللهم(‪.)1‬‬

‫((( انظر‪ :‬نظم الدرر في تناسب اآليات والسور (‪.)263-259/7‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪839‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫َّ‬
‫كلما ارتفع اإلنسان في السماء انخفض الضغط الجوي وقلت كمية األكسجين؛‬
‫وتزايد في معدله؛‬
‫ٍ‬ ‫وصعوبة في التنفس‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مما يتسبب في حدوث ضيق في الصدر‪،‬‬
‫نتيجة الحاجة إلى األكسجين ‪ ،Oxygen Starvation‬فإذا لم يتوفر الهواء‬
‫وتزايد طلب خاليا الجسم له لتقوم بوظائفها يصاب اإلنسان بفشل الجهاز التنفسي‬
‫ويهلك‪.‬‬

‫ً‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ولكن المعرفة بتركيب الجو كانت خافية‪ ،‬إلى أن أثبت باسكال ‪ Pascal‬عام‬
‫‪ 1648‬أن ضغط الهواء يقل مع االرتفاع عن مستوى سطح البحر‪.‬‬
‫وتبيّن الحقا‪ :‬أن الهواء ُ‬
‫أكثر تركيزا في الطبقات القريبة من سطح األرض‪،‬‬
‫فتتجمع ‪ %50‬من كتلة الهواء مـا بين سطح األرض وارتفـاع ‪ 20‬ألف قدم فوق‬
‫مستوى سطح البحر‪ ،‬ولذلك تتناقص الكثافة مع االرتفاع‪ ،‬إلى أن يبلغ تخلخل‬
‫الهواء أقصاه في الطبقات العليا‪ ،‬قبل أن ينعدم في الفضاء‪ .‬ووجود اإلنسان‬
‫على ارتفاع دون ‪ 10‬آالف قدم فوق مستوى سطح البحر ال يسبب له مشكلة‬
‫‪840‬‬

‫جدية‪ ،‬حيث يستطيع الجهـاز التنفسي أن يتأقلم على ارتفاع ما بين ‪ 10‬آالف ‪25‬‬
‫ألف قـدم‪ ،‬ولكن على ارتفاع أعلـى يصاب بحالة الحرج الذي يضطرب فيها‬
‫تنفسه بسبب الجوع لألوكسجين‪.‬‬

‫بدون التزود باألكسجني واملالبس احملافظة على الضغط ال ميكن للرواد البقاء يف الفضاء‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تأثير انخفاض الضغط‪ ،‬وقلة‬ ‫في عهد تنزل القرآن لم يكن اإلنسان يعرف‬
‫األكسجين على اإلنسان‪ ،‬عندما يكون اإلنسان عرضة لهما‪ ،‬كلما ارتفع في‬
‫الفضاء‪ ،‬وقد أشارت اآلية السابقة إلى تلك الحقيقة‪ ،‬وعبّرت عنها بضيق صدر‬
‫اإلنسان إذا صعد في السماء‪ ،‬وبذلك يتأكد تطابق الحقائق العلمية مع دالالت‬
‫النص القرآني الكريم؛ مما يدل على أن النص القرآني معجز‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪841‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫مراحل تكون السحاب االنبساطي‬


‫َّ ٓ َ َ َ ٓ‬
‫ٱلس َماءِ ك ۡيف يَشا ُء‬
‫ُ ۡ ُ ّ َٰ َ َ ُ ُ َ َ ٗ َ‬
‫ابا ف َي ۡب ُس ُط ُهۥ يِف‬ ‫ٱلريح فتثِري سح‬ ‫ٱلل ٱلذَِّي يرسِل‬ ‫قال تعالى‪ ﴿ :‬هَّ ُ‬
‫ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ ٓ‬
‫اب بِهِۦ َمن يَشا ُء م ِۡن ع َِبادِه ِۦٓ إِذا ه ۡم‬ ‫ي ُر ُج م ِۡن خ َِلٰلِهِۦ فَإ َذا ٓ أَ َص َ‬
‫َ ٗ َ رَ َ ۡ َ ۡ َ خَ ۡ‬ ‫ُ‬
‫َو َي ۡج َعل ُهۥ كِسفا فتى ٱلودق‬
‫ِ‬ ‫ۖ‬
‫شون﴾ [ا �لرو�م‪.]48 :‬‬
‫َۡ َۡ ُ َ‬
‫يستب رِ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫يبين اهلل تعالى في هذه اآلية كيفية خلق السحاب الذي ينزل منه الماء‪ ،‬وذلك‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وفق نظام حركة الرياح في الجو‪ ،‬والتي ينشأ عنها تكثف بخار الماء ونزول المطر‬
‫ً‬
‫مما يصاحبه ظواهر البرق والرعد وتشكل البرد أحيانا‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ينتشر هذا النوع أفقيا في صفحة السماء على هيئة انبساطية‪ ،‬تمتد إلى عشرات‬
‫ك ال يتجاوز عدة مئات‬ ‫ْ‬
‫وب ِسم ٍ‬
‫الكيلو مترات المربعة في المستوى األفقي‪،‬‏ ِ‬
‫من األمتار‪،‬‏‏ ولذا تعرف باسم السحب االنبساطية ‪.Stratiform clouds‬‬
‫‪842‬‬

‫ويحدث التكثف لبخار الماء الصاعد من البحار وغيرها تحت تأثير حرارة‬
‫الشمس؛ نتيجة ارتفاعه وتبرده في األعالي في وجود أنوية التكاثف‪ ،‬ومع التكثف‬
‫يتضح السحاب للعيان‪ ،‬وتدفعه الرياح في االتجاه األفقي‪ ،‬فتزوده بمزيد من بخار‬
‫الماء‏‪.‬‬
‫ُ‬
‫السحاب االنبساطي ال يكون عاليا وال‬ ‫ولكن نظرا الختالف درجات الحرارة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يصاحب َ‬
‫مطره غالبا برد وال برق ورعد وصواعق في داخل هذه السحب واختالف‬
‫نسبة الرطوبة تبدو كقطع متوزعة في السماء‏ ‏‪ ،‬ونتيجة لالتساع الكبير تتباين كذلك‬
‫َ‬
‫درجات قوى الرفع داخلها من منطقة إلى أخرى فتؤدي إلى تمزيقها إلى عدد كبير‬
‫من القطع المتجاورة‏‪.‬‬
‫وال تحدث في هذا النوع ظواهر البرد والبرق والرعد نتيجة لقلة السمك ولكن‬
‫َ‬ ‫ّ َُ‬
‫مناطق منها دون األخرى‪،‬‬ ‫نمو القطيرات في‬ ‫ينزل منه المطر مباشرة عندما يكتمل‬
‫إلى الحد الذي يسمح بنزولها على هيئة زخات متفاوتة الشدة من منطقة ألخرى‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ّ‬
‫عندما تحدث القرآن الكريم عن تشكل السحب على اختالفها في السماء كان‬
‫َ‬
‫الناس على جهل تام بذلك‪ ،‬وبعد قرون جاء علم األرصاد ليؤكد ما أشار إليه‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬عن تشكل السحب‪ ،‬وتساقط األمطار فدل ذلك على إعجاز القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪843‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫مراحل تكون السحاب الطبقي‬

‫تى‬
‫َ َ ٗ ُ َّ ُ َ ّ ُ َ ۡ َ ُ ُ َّ جَ ۡ‬
‫ي َعلُ ُهۥ ُر اَك ٗما َف رَ َ‬ ‫ٱلل يُ ۡز يِج سحابا ثم يؤلِف بينهۥ ثم‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬أل َ ۡم تَ َر أَ َّن هَّ َ‬
‫َ ٓ‬ ‫ن ُل ِم َن َّ‬
‫ٱلس َمآءِ ِمن ج َبال فِ َ‬
‫يها ِم ۢن بَ َر ٖد َف ُي ِص ُ‬ ‫خ َلٰلِهِۦ َو ُي زَ ّ‬ ‫ۡ َ ۡ َ خَ ۡ‬
‫يب بِهِۦ َمن يَشا ُء‬ ‫َٖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي ُر ُج ِم ۡ‬
‫ن‬ ‫ٱلودق‬
‫اد َس َنا بَ ۡرقِهِۦ يَذ َه ُب بِٱلبۡ َص ٰ ِر﴾ [ا �لن�ور‪.]43 :‬‬
‫أۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ َ َّ َ ُ َ َ ُ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫صفهۥ عن من يشاء ۖ يك‬ ‫وي رِۡ‬

‫قوله‪﴿ :‬يُ ۡزج﴾ يسوق‪ .‬يقال‪ :‬أزجى اإلبل إزجاء‪.‬‬


‫وأطلق اإلزجاء على دنو بعض السحاب من بعض‪ ،‬بتقدير اهلل تعالى الشبيه‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫بالسوق حتى يصير سحابا كثيفا‪ ،‬فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف‬
‫بين أجزائه بقوله تعالى‪ :‬ثم يؤلف بينه إلخ‪.‬‬

‫وتقدم الكالم على السحاب في سورة البقرة [‪ ]164‬في قوله‪﴿ :‬وٱلسح ِ‬


‫اب‬ ‫َ َّ َ‬

‫ٱل ُم َسخ ِر﴾ وفي أول سورة الرعد [‪. ]12‬‬


‫ۡ َّ‬

‫ودخلت (بين) على ضمير السحاب ألن السحاب ذو أجزاء كقول امرئ القيس‪:‬‬
‫َ‬ ‫َّ ُ‬
‫بين الدخول فحومل‪ ،‬أي‪ :‬يؤلف بين السحابات منه‪.‬‬
‫‪844‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والركام‪ :‬مشتق من الركم‪ .‬والركم‪ :‬الجمع والضم‪ .‬ووزن فعال وفعالة يدل‬
‫على معنى المفعول‪ .‬فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى‪ِ﴿ :‬إَون يروا‬
‫ََ ْۡ‬

‫اب َّم ۡركوم‪ ﴾ٞ‬في سورة الطور [‪.]44‬‬ ‫ٱلس َمآءِ َساق ِٗطا َي ُقولُوا ْ َس َ‬
‫ُ‬ ‫ح ‪ٞ‬‬ ‫ك ِۡس ٗفا ّم َِن َّ‬

‫فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث‬
‫الجو بالسيال الكهربائي‪ ،‬وهو البرق‪ .‬فقال بعض المفسرين‪ :‬هو الودق‪ .‬وأكثر‬
‫المفسرين على أن الودق هو المطر‪ ،‬وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة‪،‬‬
‫والمطر يخرج من خالل السحاب‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫والخالل‪ :‬الفتوق‪ ،‬جمع خلل كجبل وجبال‪ .‬وتقدم خالل الديار في سورة‬
‫اإلسراء [‪.]5‬‬
‫ومعنى ينزل من السماء‪ :‬يسقط من علو إلى سفل‪ ،‬أي‪ :‬ينزل من جو السماء‬
‫إلى األرض‪ .‬والسماء‪ :‬الجو الذي فوق جهة من األرض‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬من جبال بدل من السماء بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه‪،‬‬
‫وهو بدل بعض؛ ألن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال‪.‬‬
‫وإطالق الجبال في تشبيه الكثرة معروف‪ .‬يقال‪ :‬فالن جبل علم‪ ،‬وطود علم(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫تتكون السحب الركامية ‪ Cloud Cumulatiform‬من ثالث طبقات‪:‬‬
‫ *الطبقة العليا‪ :‬وتتكون من بلورات الثلج والبرد‪.‬‬
‫ *والطبقة الوسطى‪ :‬وتتكون من خليط من نقط الماء البارد وبلورات‬
‫الثلج‪.‬‬
‫ *والطبقة السفلى‪ :‬وتتكون من قطيرات الماء النامية‪.‬‬

‫((( انظر‪:‬التحرير والتنوير (‪.)261-260/18‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪845‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وتتكون السحب الركامية بالنمو الرأسي بسمك يتراوح من ‪ 20- 15‬كم‪ ،‬وقد‬
‫يصل حجم قطع َ‬
‫الب َر ِد النازل من السحاب الركامي في بعض األحيان إلى حجم‬
‫قبضة اليد‪ ،‬ويتميز هذا النوع بوجود رطوبة زائدة‪ ،‬ولوفرة مكونات السحب تنمو‬
‫ُ‬
‫السحابة رأسيا وتسقط مطرا غزيرا‪ ،‬ويصاحبها الرعد والبرق؛ الختالف شحنة‬
‫القمة عن القاع‪ ،‬ومع االرتفاع البالغ يتكون البرد‪.‬‬

‫أنواع السحب‬
‫ّ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وحينما يتكثف بخار الماء المحمول تزداد سرعة التيارات الهوائية الصاعدة؛‬
‫فيزداد تدفق بخار الماء‪ ،‬وتخترق التيارات الهوائية السحب ليتكثف بخار الماء‬
‫على هيئة طبقات من أسفل إلى أعلى‪.‬‬
‫وتشتمل السحب الركامية على بلورات الثلج فى قممها‪ ،‬وعلى خليط من‬
‫البرد وقطرات من ماء شديدة البرودة فى وسطها‪ ،‬وعلى قطرات الماء البارد‬
‫فى قاعدتها؛ وتصاحبها ظواهر البرق والرعد وهطول المطر وسقوط حبات البرد‬
‫وبلورات الثلج‪.‬‬
‫‪846‬‬

‫وعندما تضعف قوة الرياح الصاعدة أو عندما تزيد حمولة التراكم على قدرة‬
‫الحمل تتوقف وتبدأ المكونات فى الهبوط نحو سطح األرض‪ ،‬وأول ما ينزل‬
‫منها الماء وقد يصاحبه نزول َ‬
‫الب َرد‪.‬‬
‫ويتكثف بخار الماء فى قمم السحاب الركامي وتنمو قطرات الماء إلى أحجام‬
‫كبيرة نسبيا‪ ،‬وتتجمد على هيئة بلورات‪ ،‬وفى وسط السحابة الركامية يتحول بخار‬
‫الماء إلى خليط من البرد والماء الشديد البرودة‪ ،‬وحينما تسقط بلورات الثلج‬
‫من قمم السحب الركامية إلى أواسطها تتجمد قطرات الماء المتواجدة في وسط‬
‫السحاب وتتكون جبال البرد‪.‬‬
‫ويتولد فرق جهد كهربائى أثناء تجمد محلول مائي (ظاهرة وركمان ورينولدز)‪،‬‬
‫وكذلك تتولد شحنات كهربائية أثناء ذوبان الجليد (دينجر وجون وآخرون)؛ ولذا‬
‫يرجع البرق وما يالزمه من صوت الرعد إلى التفريغ الكهربائي الناجم أساسا عن‬
‫البرد‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن وصف هذه اآلية الكريمة لمراحل تكون السحاب الطبقي من إزجاء السحاب‬
‫وبسطه‪ ،‬ثم اجتماع قطعه المتفرقة‪ ،‬وتراكمه نتيجة الكتل الهوائية الصاعدة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ثم نزول المطر أو البرد وحدوث البرق والرعد‪ُّ ،‬‬
‫كل ذلك وصفه القرآن الكريم‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫بأسلوب شيِّق واضح الداللة‪ ،‬علما بأن تلك الحقائق كانت مجهولة وقت نزول‬
‫ِّ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وال عجب في ذلك؛ ألن المتكلم هو اهلل الخاّلق العليم‪ ،‬والمبلغ‬
‫معجزا فيما أخبر به‪.‬‬
‫هو رسول اهلل !‪ ،‬فكيف ال يكون القرآن ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪847‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫تكوّن املطر‬

‫ك ُموهُ َو َما ٓ أَ ُ‬
‫َ َ ۡ َ ۡ َ ّ َ ٰ َ َ َ َ َ َ َ لنۡ َ َ َّ َ ٓ َ ٓ ٗ َ َ ۡ َ ۡ َ ٰ ُ‬
‫نت ۡم‬ ‫ٱلريح لوٰقِح فأنز ا ِمن ٱلسماءِ ماء فأسقين‬ ‫قال اهلل تعالى‪﴿ :‬وأرسلنا ِ‬
‫ِني﴾ [ا �ل�ح�� ج�ر‪.]22 :‬‬
‫خٰزن َ‬‫هَ ُ َ‬
‫لۥ ب ِ ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫َ‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬وأ ۡر َسل َنا﴾ اإلرسال‪ :‬مجاز في نقل الشيء من مكان‬
‫ۡ‬

‫إلى مكان‪ .‬وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية‪ .‬وهي تظهر‬
‫في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا ‪...‬‬
‫‪848‬‬

‫ولواقح حال من الرياح‪ .‬وقع هذا الحال إدماجا إلفادة معنيين‪ ،‬كما سيأتي‬
‫عن مالك ـ رحمه اهلل ـ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولواقح‪ :‬صالح ألن يكون جمع القح‪ ،‬وهي الناقة الحبلى‪ .‬واستعمل هنا‬
‫استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سببا في نزول المطر‪ ،‬كما‬
‫َ‬
‫استعمل في ضدها العقيم ضد الالقح في قوله تعالى‪ ﴿ :‬إ ۡذ أ ۡر َس ۡل َنا َعلَ ۡيه ُم ّ‬
‫ٱلر َ‬
‫يح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذ‬
‫يم﴾ [��سور�ة ا �ل�� ا ري�ا ت�‪.]41 :‬‬
‫ۡٱل َع ِق َ‬

‫وصالح ألن يكون جمع ملقح وهو الذي يجعل غيره القحا‪ ،‬أي‪ :‬الفحل إذا‬
‫ألقح الناقة‪ ،‬فإن فواعل يجيء جمع مفعل مذكر‪ ،‬ومعنى اإللقاح‪ :‬أن الرياح تلقح‬
‫السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي‬
‫يصير ماء في الجو ثم ينزل مطرا على األرض‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وأنها تلقح الشجر ذا الثمرة‪ ،‬بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نور الشجر‬
‫َّ‬
‫الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت‪ ،‬وبدون ذلك ال تثبت أو ال تصلح‪.‬‬
‫اإلبار‪ .‬وبعضه ال يحصل إال بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة‪.‬‬
‫وهذا هو ِ‬
‫وبعضه يكتفى منه بغرس شجرة ذكر في خالل شجر الثمر‪.‬‬
‫ومن بالغة اآلية إيراد هذا الوصف إلفادة كال العملين اللذين تعملهما الرياح‪،‬‬
‫وقد فسرت اآلية بهما‪ .‬واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر‪.‬‬
‫وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال‪ :‬قال اهلل تعالى‪ :‬وأرسلنا الرياح‬
‫لواقح‪ ،‬فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل‪ ،‬وال أريد ما ييبس في أكمامه‪،‬‬
‫ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا ال خير فيه‪ .‬ولقاح الشجر‬
‫كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت‪.‬‬
‫وفرع قوله فأنزلنا من السماء ماء على قوله وأرسلنا الرياح‪.‬‬
‫وقرأ حمزة وأرسلنا الريح لواقح بإفراد >الريح< وجمع >لواقح< على إرادة‬
‫الجنس والجنس له عدة أفراد‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪849‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬
‫وفأسقيناكموه بمعنى جعلناه لكم سقيا‪ ،‬فالهمزة فيه للجعل‪ .‬وكثر إطالق‬
‫أسقى بمعنى سقى‪.‬‬
‫واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفا ﴿ِإَون مِن‬
‫ََ‬ ‫ّ يَ ۡ اَّ‬
‫ِندنا‬‫ش ٍء إِل ع‬
‫َخ َزائ ِ ُن ُهۥ﴾ [��سور�ة ا �ل�ح�� ج�ر‪ ]21 :‬أي‪ :‬وما أنتم له بحافظين ومنشئين عندما تريدون(‪.)1‬‬
‫ٓ‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫لقد أوجزت اآلية السابقة قصة تكوين المطر ونزوله وتخزينه على شكل مياه‬
‫َ‬
‫جوفية في باطن األرض وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأ ۡر َس ۡل َنا ّ‬
‫ٱلر َي ٰ َح ل َوٰق َِح﴾ ذكر في مقام بيان‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫كيفية تكوين حبات المطر‪ ،‬فالرياح تمد السحب بذرات من غبار َ‬
‫البر وأمالح البحر‬
‫تجعلها تثقل وتجود بالمطر؛ وهي ما تسمى علميا بأنوية المطر‪ ،‬فوصف الرياح‬
‫بأنها لواقح يعم النبات ‪-‬بنقل حبوب اللقاح إليه ‪ -‬والسحاب أيضا‪.‬‬
‫وتعبير (لواقح) عام لم يذكر مفعوله فيستقيم حمله على الشجر والسحاب؛‬
‫إال أن السياق قد جعل مفعوله من باب أولى هو السحاب‪ ،‬وكما يتم تلقيح‬
‫النخل فيثمر التمر؛ فكذلك يبشر لفظ (لواقح) بالخير والبركة والنماء واخضرار‬
‫الزرع‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وقد جاء في مختار الصحاح في مادة (لقح)‪ < :‬ألقح الفحل الناقة‪ ،‬والريح‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫السحاب‪ ،‬ورياح لواقح‪ ..‬أنشأت السحاب >‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وقال ابن عباس‪ :‬لواقح للشجر والسحاب‪ ،‬وهو قول الحسن وقتادة والضحاك‬
‫من التابعين‪ .‬وذكر هذا ً‬
‫أيضا الطبري والقرطبي‪.‬‬
‫ومن الثابت علميا اآلن أن التلقيح بالريح ضروري في عملية اإلخصاب؛‬
‫خاصة للنباتات ذات األزهار الفاقدة لجذب الحشرات‪ ،‬وقد أصبح من المقرر عند‬
‫علماء النبات‪ :‬أن التلقيح عملية أساسية لإلخصاب وتكوين البذور‪ ،‬حيث تنتقل‬

‫((( التحرير والتنوير (‪.)39 37-/14‬‬


‫‪850‬‬

‫حبيبات اللقاح ‪ Pollen Grain‬من العناصر الذكرية للزهرة ‪ Anther‬إلى العناصر‬


‫األنثوية فيها ‪Stigma‬؛ حيث يتم اإلخصاب‪.‬‬
‫والتلقيح ‪ :inoculation‬قد يكون بين العناصر الذكرية واألنثوية لزهرة‬
‫واحدة أو نبتة واحدة‪ ،‬ويسمى عندئذ بالتلقيح الذاتي ‪،Self Pollination‬‬
‫وقد يكون بين نبتتين منفصلتين ذكر وأنثى؛ ويسمى حينئذ بالتلقيح المختلط‬
‫‪.Cross Pollination‬‬
‫وتختلف طرق انتقال حبيبات اللقاح باختالف نوع النبات‪ ،‬فباإلضافة للتلقيح‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫بواسطة اإلنسان كما في تأبير النخل توجد طرق أخرى مثل التلقيح بواسطة المياه‪ ،‬أو‬
‫بواسطة الحيوانات كالحشرات والطيور‪ ،‬والتلقيح بواسطة الرياح ‪.Anemophily‬‬
‫دورا ً‬
‫هاما في عملية نقل اللقاح في النباتات‬ ‫وتذكر الموسوعة العالمية للرياح ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫والرحيق واأللوان الجاذبة للحشرات؛ حيث‬ ‫التي تفتقد األزهار ذات الرائحة‪،‬‬
‫تقوم الرياح بنشر اللقاح على مسافات واسعة‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪ :‬تنشر الرياح لقاح الصنوبر ‪ Pine‬على مسافة قد تصل إلى‬
‫‪ 800‬كيلومتر قبل أن يلتقي اللقاح بالعناصر األنثوية ويتم التلقيح‪.‬‬
‫وبالمثل حينما يصعد بخار الماء ويتكاثف تكون السحب وفق آلية أشبه‬
‫دقائق يسمى ٌّ‬
‫كل منها نواة تكاثف‬ ‫َ‬ ‫ما تكون بتلقيح النبات‪ ،‬حيث تقوم الرياح بدفع‬
‫‪Condenation Nucleu‬؛ ولذا يصدق وصف الريح بأنها لواقح على النبات؛‬
‫ومن باب أولى السحاب‪ ،‬فالمعلوم أن تكوين السحاب يلزمه أن يكون الهواء‬
‫ً‬
‫مشبعا ببخار الماء وأن يكون محتويا على أنوية التكاثف تلك‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد صرحت اآلية الكريمة بأن الرياح لواقح‪ ،‬وربطتها بنزول المطر عقبها‬
‫َ َ َ لنۡ َ َ َّ َ ٓ َ ٓ ٗ َ َ ۡ َ ۡ َ ٰ ُ‬
‫﴿فأنز ا مِن ٱلسماءِ ماء فأسقينكموه﴾ فأشارت بذلك إلى حقيقة علمية لم تكتشف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪851‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫إال في األزمنة المتأخرة‪ ،‬وقد تضمنها قوله سبحانه وتعالى >لواقح<‪.‬‬


‫َ‬
‫فبينما كان يُظ ُّن أن التلقيح قاصر على النبات‪ ،‬تبين للعلماء أن الرياح هي‬
‫ُ‬
‫لواقح للسحب‪ ،‬وبالتالي نزول المطر هو نتيجة لتلك الظاهرة؛ مما يدل على أن‬
‫هذا الكالم هو كالم خالق الكون ومرسل الرياح ومنزل المطر‪ ،‬وأن الذي بلغنا هو‬
‫رسول رب العالمين !‪.‬‬

‫متد العواصف الرياح بالعوالق الرتابية لتكوين أنوية تكاثف يف السحاب‬


‫فيتكون املطر بغزارة‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪853‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫إفساد البيئة‬
‫ۡ رَ ّ َ بۡ ۡ َ َ َ َ ۡ َ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ظهر ٱلفساد يِف ٱل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َۡ َ ُ‬
‫اس يِلُذِيق ُهم َب ۡعض‬
‫ت أيۡدِي ٱنلَّ ِ‬ ‫ب وٱلَح ِر بِما كسب‬
‫ٱلذَِّي َع ِملوا ل َعل ُه ۡم يَ ۡر ِج ُعون﴾ [ا �لرو�م‪.]41 :‬‬
‫َ‬ ‫ُ ْ َ َّ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫اد ‪ [ ﴾ . . .‬ا �لرو�م ‪ :] 41 :‬غلب الصالح وعال‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ظ َه َر ٱلفس‬
‫َ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫َ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫عليه‪ ،‬والكون خلقه اهلل تعالى على هيئة الصالح‪ ،‬وأعده الستقبال اإلنسان إعدادا‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫رائعا‪ ،‬وللتأكد من صدق هذه المسألة انظر في الكون وأجناسه وأفالكه وأجوائه‪،‬‬
‫ً‬
‫فلن ترى فسادا إال فيما تتناوله يد اإلنسان‪.‬‬
‫منسجم األجناس‬ ‫َ‬ ‫أما ما ال تتناوله يد اإلنسان‪ ،‬فال ترى فيه خلاًل؛ ألن اهلل خلقه‬
‫َ‬
‫َّ ۡ ُ َ َ َ َ ٓ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ َ َ اَ يَّ ۡ ُ َ ُ َّ َ َ لُ ّ ‪ٞ‬‬
‫منسجم التكوين‪﴿ :‬ل ٱلشمس يۢنب يِغ لها أن تدرك ٱلقمر ول ٱلل سابِق ٱنلهار ۚ وك‬
‫اَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ي َ ۡس َب ُحون﴾ [ ي���س ‪.] 40 :‬‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫يِف فل ٖ‬
‫ُ‬
‫دخل يدك في شيء‪ ،‬وأنت تطرح قانون اهلل في افعل‬ ‫فالفساد يأتي حين ت ِ‬
‫ْ‬
‫وال تفعل ‪ ،‬أما الصالح فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد ‪ ،‬فإن عال تيار الفساد‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وظهر على الصالح وغلبه بان للناس ‪.‬‬


‫ْ‬
‫وعندها يُنبِّهنا الحق سبحانه باألحداث تطرقنا وتقول لنا‪ :‬انظروا إلى َمن خالف‬
‫عشقا هلل‪ً ،‬‬‫ً‬
‫وحبا لطاعته‪.‬‬ ‫منهج اهلل ماذا حدث له؛ لذلك في أعقاب األحداث نزداد‬
‫ُ‬
‫فظواهر الكون أشياء وقضايا لكل العامة‪ ،‬ومن الحكمة أاّل تنالها يد اإلنسان؛‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ألن اهلل تعالى يريد للكون البقاء إلى أمد يعلمه‪ ،‬ولم يأتِ أوان انتهائه‪ ،‬لذلك الحق‬
‫سبحانه يجعل فينا مناعة تجعلنا نقبل الفساد إلى حين‪ ،‬إلى أن يصل إلى درجة‬
‫التشبُّع‪ ،‬فتتفجر األوضاع‪.‬‬
‫‪854‬‬

‫َ َ َ َ ۡ َ‬
‫اس ‪﴾ . . .‬‬
‫ثم يوضح الحق سبحانه سبب هذا الفساد‪﴿ :‬بِما كسبت أيدِي ٱنل ِ‬
‫َّ‬ ‫ۡ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫يذكر الرحمة ال يذكر ِعلتها‪ ،‬لكن‬ ‫ِ‬ ‫[ ا �لرو�م ‪ ] 41 :‬فتلحظ هنا‪ :‬أن الحق سبحانه لما‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫وأخيرا تفضل‪ ،‬أما األخذ‬ ‫يذكر ِعلة الفساد؛ ألن الرحمة من اهلل سبحانه أواًل‬
‫َّ‬
‫والعذاب ِفب َعدله تعالى؛ لذلك يُبِّين لك أنك فعلت كذا‪ ،‬وتستحق كذا‪ ،‬فالعلة‬
‫واضحة‪.‬‬
‫َّ‬
‫إذن‪ :‬إن رأيت الفساد فاعلم أنه نتيجة إهمال وغفلة فاقت كل الحدود‪ ،‬وما دام‬
‫ّ‬
‫اس ‪ [ ﴾ . . .‬ا �لرو�م ‪ ] 41 :‬فال بُد أن الفساد‬
‫َ َ َ َ ۡ َ‬
‫ت أيۡدِي ٱنلَّ ِ‬ ‫الحق سبحانه قال‪﴿ :‬بِما كسب‬
‫جاء من ناحيتهم‪ ،‬وباهلل‪ ،‬هل اشتكينا أزمة في الهواء مثاًل؟ لكن نشتكي تلوث‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫الهواء بما كسبت أيدي الناس‪ ،‬أما حين نذهب إلى الخالء حيث ال يوجد اإلنسان‪،‬‬
‫نجد الهواء ً‬
‫نقيا كما خلقه اهلل‪.‬‬
‫َ َ َّ َ َ ٓ َ ۡ َ‬ ‫َّ‬
‫يها أق َوٰت َها ‪���� [ ﴾ . . .‬ص�ل� ت� ‪] 10 :‬‬‫الحق سبحانه تكفل لنا بالغذاء فقال‪﴿ :‬وقدر فِ‬
‫ف‬

‫لكنا نشتكي أزمة طعام‪ ،‬لماذا؟ ألن الطعام يحتاج إلى عمل‪ ،‬ونحن تكاسلنا‪،‬‬
‫التصرف في الكون‪ ،‬إما بالكسل والخمول عن استخراج خيرات األرض‬ ‫ُّ‬ ‫وأسأنا‬
‫يضن الواجد على غير الواجد‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫وأقواتها‪ ،‬وإما باألنانية حيث‬
‫وقد قرأنا مثاًل أن أمريكا تسكب اللبن في البحر‪ ،‬وتعدم الكثير‬
‫ُ‬
‫من المحصوالت‪ ،‬وفي العالم أناس يموتون جوعًا(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ابتكر أرينيوس مصطلح االحتباس الحراري ‪ Global Warning‬عام‬
‫‪1896‬م‪ ،‬وتوقع أن الوقود الحفري المحترق سيزيد من كميات ثاني أكسيد الكربون‬
‫في الغالف الجوي‪ ،‬وأنه سيؤدي إلى زيادة درجات حرارة األرض؛ مثلما يُعرف‬
‫بتأثير دفيئة النبات ‪.Greenhoue effect‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الشعراوي ‪.)7179-7177 / 1( -‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪855‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ّ‬
‫فإن أشعة الشمس تتغلغل وتسخن الداخل‪ ،‬إال أن الزجاج يمنعها من الرجوع‬
‫إلى الهواء المعتدل البرودة في الخارج‪ ،‬واستنتج‪ :‬أنه في حالة تضاعف تركيز ثاني‬
‫أكسيد الكربون في الغالف الجوي فإننا سنشهد ارتفاعا بمعدل ‪ 4‬إلى ‪ 5‬درجات‬
‫مئوية في درجة حرارة الكرة األرضية‪.‬‬
‫ويقترب ذلك من توقعات اليوم‪ ،‬وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية‬
‫العشرين‪ ،‬ظهر اختالل في مكونات الغالف الجوي؛ نتيجة النشاطات اإلنسانية‬
‫وتقدم الصناعة‪ ،‬ونتيجة لزيادة معدالت العوادم الصناعية ظهرت ظاهرة الدفيئة‬
‫وتغير المناخ‪.‬‬
‫فتركيز ثاني أكسيد الكربون في الغالف الجوي أصبح أعلى بحوالي ‪%32‬‬
‫عما كان عليه تركيزه قبل الثورة الصناعية‪ ،‬وحسب تقرير اللجنة الدولية لمراقبة‬
‫التغيرات المناخية قد ارتفعت درجة الحرارة ما بين ‪ْ 0.8 - 0.4‬م خالل القرن‬
‫الماضي‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫‪856‬‬

‫وقد كشفت دراسة حديثة أن عدد األعاصير المدمرة مثل كاترينا وأندرو‬
‫قد تزايد خالل العقود القليلة الماضية‪ ،‬وعزت سبب هذا التزايد إلى ظاهرة‬
‫االحتباس الحراري‏‪ ،‬كما بينت أن عدد األعاصير الشديدة قد ارتفع من ‪ 11‬إعصارا‬
‫سنويا إبان السبعينيات إلى ‪ 19‬إعصارا منذ العام ‪.1990‬‬

‫كثرة األعاصري والفياضانات املدمرة أحد أثار ظاهرة االحتباس احلراري‬

‫واستنادا للمبدأ القائل بأن المحيطات هي سبب التغيرات المناخية التي تحدث‬
‫على اليابسة‪ ،‬قال بيتر وبستر من معهد جورجيا للتكنولوجيا‪ :‬إن بخار الماء الناتج‬
‫من ارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات هو بمثابة الوقود الذي يعجل من سرعة‬
‫األعاصير‪ ،‬وأعلن أن معدل درجة حرارة مياه أسطح البحار قد ارتفعت درجة مئوية‬
‫بين العامين ‪ 1970‬و‪.2004‬‬
‫وحذر غريغ هوالند من المركز القومي ألبحاث المناخ‪ ،‬بأن من المحتمل أن‬
‫تشهد السنوات المقبلة تزايدا في أعاصير تشبه في خطورتها وقوتها اإلعصار كاترينا‬
‫واإلعصار أندرو‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪857‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وأجمع الباحثون على أن ارتفاع درجات الحرارة على أسطح البحار سببه‬
‫الرئيس هو االحتباس الحراري‪.‬‬
‫وإذا ارتفعت درجة حرارة الكوكب؛ نتيجة لتراكم مخلفات المصانع‪ ،‬خاصة‬
‫في البلدان المتقدمة تلك‪ ،‬فمن المحتمل أن تزداد حرارة سطح المحيطات في‬
‫المناطق االستوائية‪ ،‬فتتضاعف األعاصير وتزداد عنفا وضراوة‪ ،‬ويذوب جليد‬
‫القطبين‪ ،‬ويرتفع مستوى سطح البحر ليدمر مدن الشواطئ‪.‬‬
‫ً‬
‫سنتمترا بحلول عام‬ ‫ويتوقع الخبراء‪ :‬أن يزداد ارتفاع سطح البحر إلى ‪88‬‬
‫‪ 2100‬األمر الذي يهدد حياة ‪ 100‬مليون إنسان يعيشون على أراض منخفضة‪،‬‬
‫ناهيك عن تزايد اإلصابة باألمراض؛ نتيجة لتزايد البعوض في الجو الحار‪.‬‬
‫وقد نبهت هذه التحذيرات الدول للتداعي إلى االجتماع في محاولة لتجنب‬
‫الخطر من خالل اتفاقيات ملزمة‪ ،‬كان أبرزها معاهدة كيوتو ‪Kyoto Protocol‬‬
‫التي وافقت عليها كل الدول الصناعية الكبرى إال الواليات المتحدة األمريكية ذات‬
‫المسئولية العظمى في تخريب المناخ‪.‬‬
‫ولكن مع توالي األعاصير‪ ،‬وتزايد عنفها يوما بعد آخر يدفع سكانها األبرياء‬
‫ُ‬
‫الثمن‪ ،‬وكل ذي حس إنساني تؤلمه المشاهد المروعة‪ ،‬ويتطلع إلى تكاتف البشر‬
‫كلهم للعيش بسالم‪ ،‬ويأمل االستجابة لتحذيرات الخبراء‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫زمن التنزيل يتصور أن اإلنسان يستطيع إفساد النظام البيئي‬‫َ‬ ‫لم يكن أحد‬
‫العالمي‪ ،‬في البر والبحر والجو‪ ،‬وأن سوء صنيع الناس سوف يلحق ضررا عاما‬
‫على نحو ما يظهر اليوم‪ ،‬على شكل احتباس حراري‪ ،‬وتلوث في الماء والهواء‬
‫والتربة‪ ،‬مما يثبت على أن ما حذر منه القرآن الكريم في اآليات السابقة قد تحقق‬
‫على نطاق واسع لم تعرفه األزمنة الغابرة‪.‬‬
‫وهذا يؤكد أن النص القرآني معجز علميا‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪859‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫السقف احملفوظ‬
‫أ‬
‫ٱلس َما َء َسقفا مفوظاۖ َو ُه ۡم َع ۡن َء َايٰت ِ َها ُم ۡع ِر ُضون﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪.]32 :‬‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َج َعل َنا َّ‬
‫َ‬ ‫ۡ ٗ حَّ ۡ ُ ٗ‬ ‫ٓ‬ ‫ۡ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ٱلس َما َء َسقفا مفوظاۖ َو ُه ۡم َع ۡن َء َايٰت ِ َها ُم ۡع ِر ُضون﴾ وفيه مسائل‪:‬‬
‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َج َعل َنا َّ‬
‫َ‬ ‫ۡ ٗ حَّ ۡ ُ ٗ‬ ‫ٓ‬ ‫ۡ‬

‫‪P P‬المسألة األولى‪ :‬سمى السماء سقفا ألنها لألرض كالسقف للبيت‪.‬‬
‫‪P P‬المسألة الثانية‪ :‬في المحفوظ قوالن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه محفوظ من الوقوع والسقوط اللذين يجري مثلهما على سائر‬
‫َ ُ ۡ ُ َّ َ ٓ َ َ َ َ لَىَ أۡ َ‬
‫ۡرض إِل بِإِذنِهِۚۦ﴾ [ ح��ج�‪.]65 :‬‬
‫السقوف كقوله‪﴿ :‬ويمسِك ٱلسما َء أن تقع ع ٱل ِ‬
‫�‬
‫ل‬
‫اَّ ۡ‬
‫�‬ ‫ا‬ ‫ٓ‬
‫َ‬ ‫أۡ َ ُ‬ ‫َ َُ‬
‫ٱلس َما ُء َوٱلۡرض بِأ ۡم ِرهۚ ِۦ﴾ [ا �لرو�م‪.]25 :‬‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬وم ِۡن َء َايٰتهِۦٓ أن تق َ‬
‫ٓ‬
‫وم َّ‬ ‫ِ‬
‫أۡ َ َ َ َ اَ‬
‫ت َوٱلۡرض أن ت ُزول ۚ﴾ [��ا طر‪.]41 :‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬إِن ٱلل يمس‬
‫ف‬ ‫َّ هَّ َ ُ ۡ ُ‬
‫ِك َّ َ َ‬
‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫ودهُۥ حِف ُظ ُه َما ۚ} [ا �لب�ق��ر�ة‪.]255 :‬‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬ول ي‬
‫َ َٔ ُ‬‫ۡ‬ ‫اَ ُ‬

‫ٌ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫القول الثاني‪ :‬محفوظ من الشياطين‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وحفِظنٰها مِن ِ‬


‫لُ ّ َ‬ ‫َ َ ۡ َ َ‬
‫ك ش ۡي َطٰ ٖن‬
‫يم﴾ [ا �ل�ح�� ج�ر‪ ]17 :‬ثم هاهنا قوالن‪:‬‬
‫ج ٍ‬
‫َّ‬
‫ر ِ‬
‫أحدهما‪ :‬أنه محفوظ بالمالئكة من الشياطين‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أنه محفوظ بالنجوم من الشياطين‪ ،‬والقول األول أقوى؛ ألن حمل‬
‫اآليات عليه مما يزيد هذه النعمة عظما؛ ألنه سبحانه كالمتكفل بحفظه وسقوطه‬
‫على المكلفين‪ ،‬بخالف القول الثاني؛ ألنه ال يخاف على السماء من استراق سمع‬
‫الجن‪.‬‬
‫‪860‬‬

‫‪P P‬المسألة الثالثة‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ُه ۡم َع ۡن َء َايٰت ِ َها ُم ۡعرِ ُضون﴾ معناه‪ :‬عما وضع‬
‫َ‬

‫اهلل تعالى فيها من األدلة والعبر في حركاتها‪ ،‬وكيفية حركاتها‪ ،‬وجهات‬


‫حركاتها‪ ،‬ومطالعها‪ ،‬ومغاربها‪ ،‬واتصاالت بعضها ببعض‪ ،‬وانفصاالتها‬
‫على الحساب القويم‪ ،‬والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة‬
‫والقدرة الباهرة‪.‬‬
‫‪P P‬المسألة الرابعة‪ :‬قرئ عن آيتها على التوحيد‪ ،‬والمراد الجنس‪ ،‬أي‪ :‬هم‬
‫متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كاالستضاءة بقمرها‬
‫ُ‬
‫واالهتداء بكواكبها‪ ،‬وحياة األرض بأمطارها‪ ،‬وه ْم عن كونها آية بينة على‬
‫وجود الخالق ووحدانيته معرضون(‪.)1‬‬
‫الداللة العلمية‪:‬‬
‫الغالف الجوي لألرض‪ ،‬والذي يمكن تمييزه إلى طبقات بحسب صفات كل‬
‫طبقة من النواحي الفيزيائية وغير ذلك‪ ،‬يشكل بمجموع مايشتمل عليه درعًا ً‬
‫واقيا‬
‫ُ‬
‫لألرض؛ حيث إن الكشوف العلمية أثبتت لنا أن الغالف الجوي يتكون من نطق‬
‫على النحو التالي‪:‬‬
‫‪P P‬نطاق التغيرات الجوية أو الطبقة المناخية ‪:Troposphere‬‬
‫يتراوح سمكه من ‪ 6‬إلى ‪ 18‬كم (‪ 5‬ميل عند القطبين و‪ 11‬ميل عند خط‬
‫االستواء)‪ ،‬ويبلغ متوسط ارتفاعه ‪ 11‬كم فوق مستوى سطح البحر‪ ،‬وتنخفض‬
‫درجة حرارته بمعدل حوالي ‪ 6‬درجات مئوية لكل ارتفاع ألف متر‪ ،‬وتصل درجة‬
‫الحرارة إلى ستين درجة مئوية تحت الصفر في قمة النطاق‪.‬‬
‫ويقل ضغط الهواء كلما ارتفعنا ألعلى‪ ،‬ويحوي ‪ % 85‬من كتلة الغالف الجوي‪،‬‬
‫ويتركب من النتروجين (‪ )% 78‬واألكسجين (‪ )% 21‬واألرجون (‪ )%0.93‬وثاني‬

‫((( انظر‪:‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)140-141 /22‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪861‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫أكسيد الكربون (‪ )% 0.03‬وبخار الماء وغيره من الغازات بنسب ضئيلة‪ ،‬وتنشأ‬


‫فيه الظروف الجوية المختلفة من رياح وسحاب ومطر ورعد وبرق‪.‬‬
‫‪P P‬طبقة األستراتوسفير ‪:Stratosphere‬‬
‫يرتفع فوق طبقة التغيرات الجوية‪ ،‬ولذلك توصف بأنها الطبقة فوق المناخية‪،‬‬
‫وبها طبقة األوزون‪ ،‬وهي تمتد إلى ارتفاع ‪ 50‬كم فوق مستوى سطح البحر‪،‬‬
‫وتحوي ما بين ارتفاع ‪ 20‬و ‪ 30‬كم فوق مستوى سطح البحر طبقة األوزون‪.‬‬
‫ولوال طبقة األوزون ألصبحت الحياة مستحيلة على األرض‪ ،‬وتخترق الشهب‬
‫والنيازك هذا النطاق‪ ،‬وترتفع درجة الحرارة ألعلى؛ نتيجة امتصاص طبقة األوزون‬
‫لألشعة فوق البنفسجية‪ ،‬وينخفض الضغط الجوي حتى يصل إلى ‪ 0.01‬ضغط‬
‫جوي عند قمة النطاق‪.‬‬
‫‪P P‬النطاق المتوسط ‪:Metosphere‬‬
‫يعلو إلى حوالي ‪ 85‬كم فوق مستوى سطح البحر (‪ 85-50‬كم)‪ ،‬وتخترقه‬
‫الشهب والنيازك‪ ،‬وهو أقل طبقات الجو فى درجة الحرارة‪ ،‬وتنخفض درجة‬
‫الحرارة كلما اتجهنا نحو األعلى حتى تصل إلى حوالى ْ‪ 90‬درجة مئوية تحت‬
‫الصفر‪ ،‬وينخفض الضغط الجوي إلى أن يصل على ‪ 4‬من مليون من الضغط‬
‫الجوي‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫‪P P‬النطاق الحراري ‪:Thermosphere‬‬


‫يرتفع فوق النطاق المتوسط بحوالي ‪ 600‬كم (من ‪ 700-85‬كم) فوق مستوى‬
‫سطح البحر‪ ،‬وترتفع درجة الحرارة إلى ‪ 500‬درجة مئوية عند ارتفاع ‪120‬كم‪،‬‬
‫ويوجد به نطاق التأين ‪ Ionosphere‬عند ارتفاع ‪400‬كم فوق مستوى سطح‬
‫البحر‪ ،‬ويحمي األرض من األشعة الكونية والرياح الشمسية ويعكس موجات‬
‫الراديو‪ ،‬ولذا يلعب دورا هاما في االتصاالت الالسلكية‪.‬‬
‫‪862‬‬

‫‪P P‬النطاق الخارجي ‪:Exophere‬‬


‫أعلى طبقة في الجو‪ ،‬ويمتد من‪ 700‬إلى ‪ 35000‬كم فوق مستوى سطح‬
‫البحر‪ ،‬ويتكون الهواء غالبا من الغازات الخفيفة‪ ،‬مثل‪ :‬الهيدروجين والهيليوم‬
‫والكثافة في غاية الضآلة‪.‬‬
‫‪P P‬نطاق الماجنيتوسفير ‪:Magnetophere‬‬
‫يمتد لمسافة ‪ 50000‬كم‪ ،‬ويوجد به زوج من األحزمة المغناطيسية‪ ،‬ولذلك‬
‫يطلق على هذا النطاق اسم ‪ -‬الغالف المغناطيسي ‪ -‬وهذه األحزمة يزداد سمكها‬
‫عند خط االستواء ويقل عند القطبين‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪863‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ويقع الحزام اإلشعاعي الداخلي على ارتفاع ‪ 2000‬كم فوق مستوى سطح‬
‫البحر‪ ،‬وهو يمثل مصيدة للجسيمات الذرية عالية الطاقة‪ ،‬القادمة من الفضاء‪،‬‬
‫ولواله لبادت الحياة على األرض‪.‬‬
‫وتتفق داللة التعبير التصويري <السقف المحفوظ> مع الغالف الجوى‪،‬‬
‫فهو بالفعل يماثل سقفا فوقنا‪ ،‬يمنع أخطارا غير منظورة أن تصل إلينا إال أن يشاء‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬وهو أيضا اليوم محفوظ من التبدد بخالف ما عانى في بداية التكوين‪،‬‬
‫وكما هو الحال في القمر حيث تبدد كله فأصبح القمر بال سقف يحميه‪.‬‬
‫ويلفت اهلل سبحانه وتعالى في القرآن انتباهنا إلى بعض خصائص الجو‬
‫أ‬
‫ٱلس َما َء َسقفا مفوظاۖ َو ُه ۡم َع ۡن َء َايٰت ِ َها ُم ۡع ِر ُضون﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪،]32 :‬‬ ‫في قوله تعالى‪﴿ :‬وجعلنا‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ۡ َ َّ ٓ ۡ ٗ حَّ ۡ ُ ٗ‬

‫ويتضمن دفع المخاطر وامتناع التبدد‪.‬‬


‫وهذه الخصائص قد أثبتتها األبحاث العلمية التي أجريت في القرن العشرين‪،‬‬
‫َ‬
‫وظائف ضرورية الستمرارية الحياة‬ ‫فالغالف الجوي الذي يحيط باألرض يؤدي‬
‫معظمها من السقوط على سطح‬‫َ‬ ‫على األرض‪ ،‬ويدمر الكثير من النيازك‪ ،‬ويمنع‬
‫األرض‪ ،‬وإيذاء الكائنات الحية‪.‬‬
‫والالفت للنظر‪ ،‬أن الغالف الجوي ال يسمح بالمرور إال لإلشعاعات غير‬
‫َ‬
‫الضارة‪ ،‬مثل‪ :‬أشعة الضوء‪ ،‬ويكفي أنه يحمي أهل األرض من برد الفضاء الذي‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫يصل إلى ‪ 270‬درجة مئوية تحت الصفر‪.‬‬


‫واألحزمة المغناطيسية بمثابة درع يقي من خطر الرياح الشمسية التي تهدد‬
‫األحياء على الكوكب‪ ،‬ولوال أن هيأ اهلل تعالى الغالف الجوي لسقطت ماليين‬
‫النيازك على األرض‪ ،‬وقضت على الحياة في األرض‪.‬‬
‫َ‬
‫ومن الجائز أن حادثة الديناصورات التي بادت منذ حوالي ‪ 65‬مليون سنة‪،‬‬
‫قد ترجع إلى الدخان الذي لف األرض عقب سقوط نيزكي كبير‪ ،‬حجب ضوء‬
‫الشمس‪ ،‬وقضى على معظم األحياء على البسيطة‪ ،‬وفي البحار‪.‬‬
‫‪864‬‬

‫نظاما متكاماًل‪ ،‬يعمل فوق األرض‪ ،‬وال نشاهده‪ ،‬يحمينا‬‫وباختصار فإن هناك ً‬
‫ً‬
‫مؤخرا‪.‬‬ ‫من التهديدات الخارجية بفضل اهلل تعالى‪ ،‬والعلماء لم يعلموا بوجوده إال‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن اكتشاف العلماء في العصور المتأخرة لوجود تلك الحشود الهائلة من‬
‫ُ ِّ‬
‫الرجوم الفضائية واألشعة الكونية المتنوعة؛ مما لو قد َر لها أن تصل إلى األرض‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ألحدثت ً‬
‫دمارا وهالكا محققا‪.‬‬
‫يدلنا بشكل باهر‪ :‬أن ما ورد في اآلية الكريمة‪ ،‬من وقاية السماء لهذه األرض‪،‬‬
‫ُ‬
‫وما عليها من الهالك‪ ،‬فيه الدليل الباهر على أن هذا القرآن الكريم هو كالم خالق‬
‫هذا الكون؛ ألنه نزل في زمن كان البشر على جهل تام بهذه القضايا‪ ،‬خاصة وأن‬
‫الرسول الذي يبلغنا هذا القرآن هو أمي اليقرأ وال يكتب‪ ،‬وهو مضمون اإلعجاز‬
‫العلمي‪.‬‬

‫لو ُقدِّر لنيزك حبجم ملعب كرة يعج الفضاء بالكثري من األحجار‬
‫أن يضرب األرض فيتوقع أن يسبب النيزكية ويتخلص الغالف‬
‫دمارا واسعا بسبب املوجة الصادمة اجلوي لألرض من معظمها‬
‫على األرض وموجة التسونامي يف‬
‫البحار‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪865‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الشمس سراج والقمر نور‬

‫ن‬
‫ورا﴾ [�يو���س‪.]5 :‬‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ه َو ٱلذَِّي جعل ٱلش ۡم َس ِ‬
‫ُ‬ ‫َۡ‬
‫ض َيا ٗء َوٱلق َم َر ن ٗ‬ ‫ٓ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬‫َ‬

‫ِيها س َِر ٰ ٗجا َوق َم ٗرا ُّمن ِٗريا﴾‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬ت َب َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬
‫ار َك ٱلذَِّي َج َعل ف َّ‬
‫ٱلس َماءِ بُ ُر ٗ‬
‫وجا َو َج َعل ف َ‬ ‫َ‬
‫يِ‬
‫[ا �ل��ف��رق��ا ن�‪.]61 :‬‬
‫َ َۡ‬ ‫ٗ‬
‫ت ِط َباقا ‪َ ١٥‬و َج َعل ٱلق َم َر فِي ِه َّن‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬أل َ ۡم تَ َر ۡوا ْ َك ۡي َف َخلَ َق هَّ ُ‬
‫ٱلل َس ۡب َع َس َم ٰ َو ٰٖ‬
‫اجا﴾ [ن�وح‪.]16-15 :‬‬ ‫س ٗ‬ ‫ُ ٗ َ َ َ َ َّ‬
‫ٱلش ۡم َس رِ َ‬ ‫نورا وجعل‬
‫أ‬
‫اجا﴾ [ا �لن����ب� ‪.]13-12 :‬‬ ‫اجا َو َّه ٗ‬ ‫ك ۡم َس ۡب ٗعا ِش َد ٗادا ‪َ ١٢‬و َج َع ۡل َنا رِ َ‬
‫س ٗ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬وبنينا فوق‬
‫ََََۡ ََۡ ُ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫القمر جسم بارد يعكس ضوء الشمس‬ ‫الشمس املتوهجة‬


‫داللة هذه النصوص الشريفة‪:‬‬
‫تصف هذه النصوص الشمس بأنها سراج وضياء‪ ،‬كما تنعت القمر بكونه ً‬
‫نورا‬
‫يعكس ضياء الشمس‪ ،‬أي‪ :‬أن الشمس مضيئة بذاتها لكونها متوهجة‪ ،‬وأما القمر‬
‫فال يتوهج؛ وإنما يعكس ضوء الشمس فحسب‪.‬‬
‫‪866‬‬

‫الداللة العلمية‪:‬‬
‫بعد بحوث مضنية ومتواصلة توصل علماء الكون إلى حقيقة مفادها‪ :‬التفريق‬
‫بين النجم والكوكب؛ وهو ما لم يتوصل إليه علماء الفلك الحديث‪ ،‬إال بعد‬
‫اكتشاف المناظير‪ ،‬وإجراء الدراسات الضوئية (الفوتومتريه) والطيفية على النجوم‬
‫وعلى الكواكب خالل القرون القليلة الماضية‪.‬‬
‫جسم سماوي متأللئ‪ ،‬يشع الطاقة ً‬
‫ذاتيا‪ ،‬بينما الكوكب‬ ‫ٌ‬ ‫فالنجم‪ :‬ما هو إال‬
‫جسم سماوي ثابت اإلضاءة‪ ،‬يعكس األشعة التي يتلقاها من النجوم والشموس‪،‬‬
‫وينطبق هذا على التوابع الطبيعية للكواكب؛ أي‪ :‬األقمار‪.‬‬
‫وقد ذكر الحق تبارك وتعالى ذلك فقال‪﴿ :‬ه َو ٱلذَِّي جعل ٱلش ۡم َس ِ‬
‫ٓ َۡ‬ ‫َ َ َ َّ‬ ‫ُ‬
‫ض َيا ٗء َوٱلق َم َر‬
‫اجا﴾‪ ،‬فلم يعدل عن وصف ما‬ ‫ورا﴾ [ � �ن�� ‪ ،]5 :‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َج َع ۡل َنا َس ٗ‬
‫اجا َو َّه ٗ‬ ‫نُ ٗ‬
‫رِ‬ ‫يو س‬
‫يصدر عن القمر بلفظ النور؛ أي‪ :‬الخالي من التوهج‪ ،‬والذي يصدر عن جسم‬
‫ذاتي اإلضاءة كالشمس‪ ،‬ووصف الشمس بالتوهج وإصدار الضياء ذاتيا كالسراج‪.‬‬
‫علم فيزياء الشمس هو أحد فروع علم الفلك‪ ،‬وهو يدرس كل ما يتعلق‬
‫بها‪ ،‬وهنالك العديد من المراكز العلمية لدراستها؛ فضال عن عشرات األقمار‬
‫الصناعية‪ ،‬وآالف المراصد األرضية لرصد وتتبع ظواهر هذا النجم العمالق‪،‬‬
‫ً‬
‫الذي يتوسط كواكب مجموعتنا الشمسية‪ ،‬وقد جاءت النتائج لتؤكد أوصافا أوردها‬
‫القرآن بلغة تصويرية ال يعسر فهمها حتى على العوام‪.‬‬
‫وتنتج الشمس طاقتها اإلشعاعية باستخدام مكونها األساسي‪ ،‬وهو الهيدروجين‬
‫كوقود ذري بتحويله إلى هليوم‪ ،‬وإنتاج طاقة هائلة في باطنها ال تكاد تنفد‪ ،‬وتبلغ‬
‫درجة الحرارة في باطن الشمس‪ ،‬نتيجة للضغط الهائل حوالي ‪ 15‬مليون درجة‪،‬‬
‫وقد تزيد في نجوم أخرى‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪867‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وتؤدي تلك الحرارة إلى حدوث تفاعل نووي‪ ،‬باندماج أربع ذرات هيدروجين‬
‫إلعطاء ذرة هليوم‪ ،‬ويصدر فارق الكتلة بهيئة إشعاع‪ ،‬وهذا يعنى أن الشمس‬
‫تستمد طاقتها من باطنها‪ ،‬كوقود نتيجة اندماج نووي في ظروف عاليه الضغط‬
‫والكثافة والحرارة‪ ،‬وكأن الشمس مفاعل نووي عمالق‪ ،‬قد سخره الحق تبارك‬
‫وتعالى ليمد مخلوقاته الحية في األرض بالنور والدفء والطاقة‪.‬‬
‫اجا﴾؛ كان كافيا للداللة على أن الشمس‬‫اجا َو َّه ٗ‬
‫س ٗ‬‫وفي قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َج َعل َنا رِ َ‬
‫ۡ‬

‫تصدر الضياء ذاتيا أن يمثلها القرآن الكريم بالسراج الذي يحوي فتيلته في باطنه‪،‬‬
‫ولكنه أضاف صفة التوهج للسطح أيضا كأدق وصف للطبقة الخارجية المضيئة‬
‫للشمس‪ ،‬والمتأججة بألسنة النيران التي تمتد عاليا في كل اتجاه حولها حتى إنها‬
‫تسمى علميا الطبقة المضيئة ‪.Photosphere‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫لسان هلب مشسي‬

‫وتبلغ درجة حرارة سطح الشمس حوالي ستة آالف درجة مئوية‪ ،‬وهي نفس‬
‫درجة حرارة باطن األرض‪ ،‬ويحمل التوهج معنى التردد؛ وبالفعل تتردد قوة‬
‫االنبعاثات الشمسية دوريا‪ ،‬كما لو كانت رئة تتنفس كل حوالي ‪ 11‬سنة‪.‬‬
‫‪868‬‬

‫ولالنفجارات الشمسية تلك تأثير كبير على كوكب األرض‪ ،‬فهي تؤثر مثال‬
‫على االتصاالت الالسلكية؛ وحتى السلكية‪ ،‬وعلى مسارات األقمار الصناعية‪،‬‬
‫وعلى محطات الكهرباء األرضية‪ ،‬وتحدث تغييرات مرئية للوهج القطبي‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد اتخذ تأثير نشاط الشمس على مناخ األرض أهمية كبيرة مع نهاية‬
‫القرن العشرين‪ ،‬بعد ثبوت تغير ثابت اإلشعاع الشمسي‪ ،‬مع دورة النشاط فى‬
‫الشمس‪ ،‬عن طريق رصد اإلشعاع الشمسي باألقمار الصناعية خارج الغالف‬
‫الجوي لألرض‪ ،‬بداية من عام ‪1978‬؛ وذلك عن طريق القمر األمريكي المسمى‬
‫(الهالة ‪ ،Nimbut7 )7‬وما تاله من أقمار صناعية عديدة حتى اآلن‪.‬‬
‫وأما الرياح الشمسية‪ :‬فهي سيل عارم من الجسيمات المتأينة‪ ،‬تنطلق‬
‫من اإلكليل الشمسي بسرعة حوالي‪ 450 :‬كم‪/‬ث‪ ،‬ويؤكد علماء المناخ‪ :‬أن ً‬
‫تغيرا‬
‫ً‬
‫طفيفا فى قيمة اإلشعاع الشمسي‪ ،‬قد يؤدي إلى تغيرات مناخية كبيرة على كوكب‬
‫األرض‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫فرقت اآليات السابقة بين الشمس‪ :‬باعتبارها نجما مضيئا يمكن وصفه‬ ‫لقد ّ‬
‫بأنه سراج وهاج‪ ،‬وبين القمر‪ :‬باعتباره كوكبا منيرا؛ يعكس نور غيره‪ ،‬فطابقت‬
‫داللة اآليات ما توصل إليه علم الفلك الحديث؛ مما يدل على وجه من اإلعجاز‬
‫العلمي تضمنته تلك اآليات‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪869‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫السماء ذات الرجع‬

‫ر�‪.]11 :‬‬
‫� ق‬
‫ٱلرجعِ ﴾ [ا ل��ط�ا‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫ٓ َ‬
‫ٱلس َماءِ ذات َّ ۡ‬
‫ِ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫أۡ َ‬
‫ٱلص ۡد ِع﴾ قيل‪ :‬رجع السماء‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬و‬
‫ۡرض َذات َّ‬ ‫َ َّ ٓ َ‬
‫ِ‬ ‫ٱلر ۡجعِ ‪َ ١١‬وٱل ِ‬ ‫ٱلس َماءِ ذ ِ‬
‫ات َّ‬
‫إعادة ضوء النجوم والشمس والقمر‪.‬‬
‫وقيل‪> :‬الرجع<‪ :‬المالئكة ترجع بأعمال العباد‪.‬‬
‫وقيل‪> :‬الرجع<‪ :‬المطر وأرزاق العباد‪> .‬واألرض ذات الصدع< قيل‪ :‬تنشق‬
‫عن الخالئق يوم البعث‪ .‬وقيل‪ :‬تنشق بالنبات‪.‬‬
‫والذي يشهد له القرآن‪ :‬أن الرجع والصدع متقابالن من السماء واألرض‪:‬‬
‫َ َّ‬
‫تعالى‪﴿ :‬فلينظ ِر إِۡ‬ ‫بالمطر والنبات‪ .‬كما في قوله‬
‫ۡ ٓ‬ ‫ىَ‬ ‫ََۡ ُ‬
‫ٱل َ ٰ‬
‫نس ُن إ ِ ٰل َط َعا ِمهِۦٓ ‪ ٢٤‬أنا َص َب ۡب َنا ٱل َما َء‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ ۡ أۡ َ َ َ ّٗ‬
‫ح ّبا ‪َ ٢٧‬وعِن ٗبا َوقض ٗبا﴾ [ع� ب���س‪]28 - 24 :‬‬
‫َ َ ۡ‬ ‫َ ََۡ َ َٗ‬ ‫ٗ‬
‫َص ّبا ‪ ٢٥‬ث َّم شقق َنا ٱلۡرض شقا ‪ ٢٦‬فأۢنبتنا فِيها‬
‫‪ .‬واهلل تعالى أعلم(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫كلمة الرجع ‪ Return‬تأتي بمعنى اإلعادة إلى ما كان منه البدء‪ ،‬فمعناها‬
‫إرجاع الشيء في اتجاه مصدره مثل صدى الصوت ‪ ،SoundEcho‬والسماء هنا‬
‫مانعة من العبور إلى ما خلفها فيقتصر مدلولها على جو األرض‪ ،‬والتعبير يفيد‬
‫ّ‬
‫وجود غالف يحيط بها‪ ،‬يرد إليها كل نافع ويرد عنها كل ضار فأجمل ما كشفه‬
‫العلم الحديث من خصائص الجو‪.‬‬

‫((( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (‪.)495 /8‬‬


‫‪870‬‬

‫من الحقائق العلمية الثابتة اليوم‪:‬‬


‫‪P P‬يقوم الغالف الجوي بإرجاع الماء المتبخر بهيئة أمطار‪.‬‬
‫‪P P‬يرجع الغالف الجوي لألرض ً‬
‫كثيرا من النيازك‪ ،‬ويردها للفضاء الخارجي‪.‬‬
‫‪P P‬يرد الغالف المغناطيسي الرياح الشمسية‪ ،‬ويدفعها بعيدا عن األرض وهي‬
‫إشعاعات قاتلة لألحياء‪.‬‬
‫‪P P‬يعكس الغالف الجوي موجات الراديو القصيرة والمتوسطة إلى‬
‫أشبه بمرآة عاكسة لألشعة والموجات‬ ‫َ‬ ‫األرض‪ ،‬ولذا يمكن اعتبار الجو‬
‫الكهرومغناطيسية‪ ،‬فهو يعكس أو يرجع ما يبث إليها من األمواج الالسلكية‬
‫والتلفزيونية التي ترتد إذا أرسلت إليها بعد انعكاسها على الطبقات العليا‬
‫األيونية (األيونوسفير)‪ ،‬وهذا هو أساس عمل أجهزة البث اإلذاعي‬
‫والتلفزيوني عبر أرجاء الكرة األرضية‪.‬‬
‫‪P P‬الغالف الجوي‪ :‬أشبه بمرآة عاكسة للحرارة‪ ،‬فيعمل كدرع واقية من حرارة‬
‫الشمس أثناء النهار‪،‬‏‏ كما يعمل كغطاء بالليل يمسك بحرارة األرض من‬
‫التشتت‪ ،‬ولو اختل هذا التوازن الستحالت الحياة على األرض‪ ،‬إما من‬
‫شدة الحرارة نهارا‪ ،‬أو شدة البرودة ليال‪.‬‬
‫الغالف الجوي إذن يرد إلى األرض كل نافع لإلنسان ويرد عنها كل ضار‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد رأينا في استعرض الداللة العلمية ما استقر من حقائق في هذا اجملال‪،‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬أن الطبقات العلوية المحيطة باألرض مما يشمله أصل إطالق لفظ‬
‫السماء‪ ،‬وأن تلك الطبقات تقوم بالحفاظ على الحرارة‪ ،‬ونسب الغازات المناسبة‬
‫للحياة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪871‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫كما أنها ترجع الماء المتبخر‪ ،‬وتدفع عن أهل األرض الرجوم الفضائية من‬
‫نيازك وغيرها‪ ،‬وكذلك األشعة الكونية مما ينتظمه لفظ الرجع‪ ،‬وهو يتفق إذن مع‬
‫ً‬
‫علميا من‬ ‫إطالق لفظ اآلية‪ ،‬وهذا التطابق بين عمومات داللة النص‪ ،‬مع ما استقر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫علميا‪..‬‬ ‫خصائص تلك الطبقات العليا يعتبر إعجازا‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪873‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫أنواع الرياح‬

‫ِك‬
‫ّ َ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ َ لَىَ ٰ َ ۡ ٓ َّ َ ٰ َ َ ٰ ّ لُ ّ‬
‫ل‬ ‫ت‬ ‫ٓأَلي‬ ‫ِك‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬‫ر‬ ‫ه‬ ‫ظ‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ظ‬ ‫ي‬‫ف‬ ‫يح‬ ‫ٱلر‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬إن ي َ َشأۡ ي ُ ۡ‬
‫س‬
‫ٖ ِ‬ ‫ِ ۚ ِ يِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ور﴾ [ا � شل���ور �ى‪.]33 :‬‬
‫َ َّ َ ُ‬
‫صبارٖ شك ٍ‬
‫اب﴾ [�ص‪.]36 :‬‬ ‫ث أَ َص َ‬ ‫َ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬فسخرنا ل ِ‬
‫ُ َ ًٓ َۡ ُ‬ ‫َ َ َّ ۡ َ هَ ُ ّ َ جَ ۡ‬
‫يح ت ِري بِأ ۡم ِره ِۦ رخاء حي‬ ‫ٱلر‬
‫ب َو بۡٱلَ ۡحر َح ىَّ ٰٓ َ ُ ُ‬ ‫ك ۡم ف ٱل ۡ رَ ّ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬ه َو ٱلذَِّي يس رِي‬
‫ُۡ ۡ‬ ‫َُ ُّ ُ‬ ‫ُ‬
‫ك َو َج َر ۡي َن ب ِ ِهم‬ ‫ت إِذا كنت ۡم يِف ٱلفل ِ‬ ‫ِۖ‬ ‫ِ‬ ‫يِ‬
‫ن‬
‫يح َط ّي ِ َب ٖة﴾ [�يو���س‪.]22 :‬‬‫ب ِ ِر ٖ‬
‫َ‬
‫ٱلر َي ٰ َح ل َوٰق َِح﴾ [ا �ل�ح�� ج�ر‪.]22:‬‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وأ ۡر َس ۡل َنا ّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ومِن ءايٰتِهِۦ أن يرسِل ِ‬ ‫وقال‬
‫كم ّمِن َّر مۡ َ‬ ‫ُ ۡ َ ّ َ َ ُ َ ّ َٰ َ ُ َ ُ‬ ‫َ ۡ َ َ ٓ‬
‫حتِهِۦ‬ ‫ت و يِلذِيق‬ ‫شر ٖ‬ ‫ٱلرياح مب ِ‬
‫َ‬
‫ك ۡم تشك ُرون﴾ [ا �لرو�م‪.]46 :‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ َ ُ ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫َولتِ َ ۡج ِر َي ٱلفلك بِأ ۡم ِره ِۦ َولتِ َ ۡب َتغوا مِن فضلِهِۦ ولعل‬
‫َ َ َ ُ ْ َ ّ ۡ َ ۡ َُٰ ُ ۡ َ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬مثل ٱلذَِّين كفروا بِرب ِ ِهمۖ أعملهم كرما ٍد ٱشتد ِ ِ يِ‬
‫يح ف يَومۡ‬ ‫ٱلر ُ‬
‫ت به ِ ّ‬ ‫ۡ َ َّ ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ‬
‫ٍ‬
‫ص ٖفۖ﴾ [ا ب�را �هي�����م‪.]18:‬‬ ‫ع ِ‬
‫اَ‬

‫ٱلريحِ ﴾ [الإ� ��سرا ء‪.]69 :‬‬ ‫ك ۡم قَ ِ ٗ ّ َ ّ‬


‫اصفا مِن ِ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬ف سِل علي‬
‫َ يرُ ۡ َ َ َ ۡ ُ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ن‬
‫ك َمك ٖن﴾ [�يو���س‪.]22 :‬‬ ‫يح اَعص ‪ٞ‬ف َو َجا ٓ َء ُه ُم ٱل ۡ َم ۡو ُ‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬جا ٓ َء ۡت َها ر ٌ‬
‫لُ ّ اَ‬
‫ِ‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص اَعت َِيةٖ﴾ [ا �ل�ح�ا �ق��ة‪.]6 :‬‬ ‫ص رَ‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ َّما اَعد‪ ٞ‬فَأ ۡهل ِكوا بريح رَ ۡ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِِ ٖ‬
‫ََ َ َ ٓ ۡ‬
‫تق ۡتۗ﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪.]266 :‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬فأص‬
‫َ ‪ ۡ َ ٞ‬رَ َ َ‬
‫اب َها إِع َصار‪ ٞ‬فِيهِ نار فٱح‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫في هذه اآليات الكريمة ورد ذكرأسماء عدة للهواء في حالته المتحركة بحسب قوة‬
‫جريانه‪ :‬مابين رياح لطيفة طيبة‪ ،‬وريح عاصفة وقاصفة‪ ،‬وبين هذه وتلك أنواع أخر‪.‬‬
‫‪874‬‬

‫ومن هذا القبيل نالحظ كالم ابن جزي الكلبي في كتابه التسهيل ‪ -‬حول قوله تعالى‪:‬‬
‫ت َع ۡصفا ‪ ﴾ ..‬حيث يقول‪ < :‬إنها الرياح‪:‬‬ ‫﴿وٱلمرسل ِ‬
‫ٗ‬ ‫َ َۡ َ‬ ‫َ ۡ ُ ۡ َ َٰ ُ ٗ‬
‫ت ع ۡرفا ‪ ١‬فٱلع ٰ ِصفٰ ِ‬
‫سماها المرسالت‪ :‬لقوله‪ :‬اهلل الذي يرسل الرياح‪.‬‬
‫وسماها العاصفات‪ :‬عن قوله‪ :‬ريح عاصف‪ ،‬أي‪ :‬شديدة‪.‬‬
‫وسماها الناشرات‪ :‬ألنها تنشر السحاب في الجو‪ ،‬ومن قوله‪ :‬يرسل الرياح‬
‫فتثير سحابا‪.‬‬
‫ً‬
‫وسماها الفارقات‪ :‬ألنها تفرق بين السحاب‪ ،‬ومنه قوله‪ :‬فيجعله كسفا‪.‬‬
‫وأما الملقيات ذكرا فهم المالئكة‪ ،‬ألنهم يلقون الذكر لألنبياء عليهم السالم‪.‬‬
‫واألظهر من المرسالت والعاصفات أنها الرياح؛ ألن وصف الريح بالعصف‬
‫حقيقة‪ ،‬واألظهر في الناشرات والفارقات أنها المالئكة >‪.‬‬
‫الداللة العلمية‪:‬‬
‫ً‬
‫لقد استطاع علماء األرصاد وغيرهم أن يكتشفوا حديثا ما يسمى بالرياح‬
‫النفاثة‪ ...‬على ارتفاعات عالية في الجو‪ ،‬وهي متموجة الشكل‪ ،‬وعندما تتكون‬
‫تلك التيارات فإن العاصفة تتبعها عند التقاء كتل هوائية بارده‪ ،‬وأخرى ساخنة‪،‬‬
‫وتكون قوية بحيث يصدق عليها الوصف بأنها عواصف‪.‬‬
‫ولقد قام العلماء حديثا بتصنيف الرياح وفق شدتها وآثارها‪ ،‬وقاسوا ّ‬
‫قوتها وفق‬
‫ما يعرف بمقياس بيفورت‪ ،‬وقسمت على النحو التالي‪:‬‬
‫‪P P‬الريح الساكنة وقوتها صفر‪.‬‬
‫‪P P‬النسيم الخفيف وقوته ‪.1‬‬
‫‪P P‬النسيم اللطيف وقوته ‪.2‬‬
‫‪P P‬النسيم المعتدل وقوته ‪.3‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪875‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫‪P P‬النسيم النشيط وقوته ‪.4‬‬


‫‪P P‬النسيم القوي الشديد وقوته ‪.5‬‬
‫‪P P‬العاصفة المعتدلة وقوتها ‪.6‬‬
‫‪P P‬العاصفة الناهضة وقوتها ‪.7‬‬
‫‪P P‬العاصفة الشديدة وقوتها ‪.8‬‬
‫‪P P‬العاصفة الهوجاء وقوتها ‪.9‬‬
‫‪P P‬الزوبعة وقوتها ‪.10‬‬
‫‪P P‬وأخيرا اإلعصار وقوته ‪.11‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫والمدهش أن القرآن الكريم قد استوعب تصنيف الرياح وذكر كافة األنواع‬


‫التي صنفت علميا حديثا‪:‬‬
‫ّ َ َ ۡ َۡ‬
‫يح ف َيظلل َن َر َواك َِد‬‫ٱلر‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫‪P P‬الريح الساكنة‪ :‬قال تعالى‪﴿ :‬إن ي َ َشأۡ ي ُ ۡ‬
‫س‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ع ظ ۡه ِرهۚ ِۦٓ﴾ [ا � شل���ور �ى‪ ،]33 :‬وتقابل في التقسيم المعاصر الريح الساكنة وقوتها‬
‫لَىَ ٰ َ‬

‫وفق مقياس بيفورت صفر‪ ،‬وسرعتها صفر‪ ،‬وكذلك ضغطها على سطح‬
‫البحر صفر‪ ،‬وعندها يتصاعد الدخان عموديا ويبدو سطح البحر كالمرآة‪.‬‬
‫‪876‬‬

‫ُ َٓ َۡ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ترِي بِأمرِه ِۦ رخاء حيث أصاب﴾‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ۡ‬
‫‪P P‬الريح الرخاء‪ :‬قال تعالى‪﴿ :‬فسخرنا ل ِ‬
‫َ َ َّ ۡ َ هَ ُ ّ َ جَ ۡ‬
‫ٱلريح‬
‫[�ص‪ ،]36 :‬وتقابل النسيم الخفيف وقوتها ‪ ،1‬حيث يشعر اإلنسان بحركة‬
‫الريح في وجهه‪ ،‬ويتحرك سطح البحر في مويجات صغيرة تحت ضغط‬
‫حوالي ‪ 0.6 - 0.2‬كجم‪/‬متر‪.2‬‬
‫ن‬
‫يح َط ّي ِ َبةٖ﴾ [�يو���س‪،]22 :‬‬ ‫‪P P‬الريح الطيبة‪﴿ :‬ح ٰٓ ِ‬
‫ُۡ ۡ‬ ‫َ ُ‬
‫نت ۡم ف ٱلفل َ َ ۡ‬
‫ت إذا ك ُ‬ ‫َ ىَّ‬
‫ك وج َري َن ب ِ ِهم ب ِ ِر ٖ‬
‫ِ‬ ‫يِ‬
‫وتقابل نوعين‪:‬‬
‫ *األول‪ :‬النسيم اللطيف‪ :‬وقوته ‪ ،2‬حيث تتحرك أوراق األشجار‬
‫واألعالم الصغيرة‪ ،‬ويتحرك سطح البحر في مويجات كبيرة تحت‬
‫ضغط حوالي ‪ 1‬كجم‪/‬متر‪ ،2‬وتكون سرعتها ‪ 4.4‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫ *والثاني‪ :‬النسيم المعتدل‪ :‬وقوته ‪ ،3‬حيث يثار الغبار وترفرف األعالم‬
‫وتكبر األمواج الصغيرة‪ ،‬وحينئذ يكون الضغط عند سطح البحر‬
‫‪ 4‬كجم‪/‬متر‪ ،2‬وتكون سرعتها ‪ 6.7‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫َ‬
‫ٱلر َي ٰ َح ل َوٰق َِح﴾ [ا �ل�ح�� ج�ر‪،]22 :‬‬
‫‪P P‬الرياح المبشرات اللواقح‪َ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬وأرسلنا ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َۡ َ ّ‬
‫حتِهِۦ﴾‬
‫كم ّمِن َّر مۡ َ‬ ‫ت و يِلذِيق‬ ‫شر ٖ‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬و ِمن ءايتِهِۦ أن ير ِسل ِ‬
‫َ ۡ َ َٰ ٓ ُ ۡ َ ّ َ َ ُ َ ّ َٰ َ ُ َ ُ‬
‫ٱلرياح مب ِ‬
‫[ا �لرو�م‪ ،]46 :‬وهذا النوع من الرياح تقابل النسيم النشيط وقوتها ‪ ،4‬حيث‬
‫تهتز األشجار الصغيرة وتكبر األمواج المعتدلة‪ ،‬وحينئذ يكون الضغط‬
‫على سطح البحر ‪ 5‬كجم‪/‬متر‪ ،2‬وتكون سرعتها ‪ 9.3‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫ف﴾‬ ‫‪P P‬الريح الشديدة‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬كرما ٍد ٱشتدت بِهِ ِ‬
‫اَ‬ ‫َ َّ ۡ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫يح يِف يَ ۡو ٍم ع ِ‬
‫ص ٖۖ‬
‫ٱلر ُ‬
‫ّ‬
‫[ا ب�را �هي�����م‪ ،]18 :‬وتقابل النسيم القوي الشديد‪ ،‬وقوتها تبلغ ‪ ،5‬حيث‬
‫تتحرك أغصان األشجار‪ ،‬وتتشكل األمواج الكبيرة‪ ،‬وحينئذ يكون الضغط‬
‫على سطح البحر ‪ 9‬كجم‪/‬متر ‪ ،2‬وتكون سرعتها ‪ 12.4‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫ٱلريحِ ﴾ [الإ� ��سرا ء‪.]69 :‬‬ ‫‪P P‬الريح القاصف‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬فيرُ ۡسِل علي‬
‫ٗ‬ ‫َ‬‫َ ۡ ُ‬
‫ك ۡم ق ِ ّ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اصفا مِن ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪877‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وتقابل الريح القاصف نوعين‪:‬‬ ‫ ‬


‫ *األول‪ :‬العاصفة المعتدلة‪ :‬وقوتها ‪ ،6‬حيث تهتز األشجار بأكملها‬
‫ويعلو الموج‪ ،‬وحينئذ يكون الضغط على سطح البحر ‪ 14‬كجم‪/‬متر‪،2‬‬
‫وتكون سرعتها ‪ 15.5‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫ *والثاني‪ :‬العاصفة الناهضة‪ :‬وقوتها ‪ ،7‬حيث تتكسر األغصان الصغيرة‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫وتعلو األمواج أكثر‪ ،‬وحينئذ يكون الضغط على سطح البحر ‪ 20‬كجم‪/‬متر‬
‫وتكون سرعتها ‪ 18.9‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫ك‬
‫لُ ّ‬
‫ِن‬
‫م‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫‪P P‬الريح العاصف‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬جا ٓ َء ۡت َها ر ٌ‬
‫يح اَعص ‪ٞ‬ف َو َجا ٓ َء ُه ُم ٱل ۡ َم ۡو ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ن‬
‫َمك ٖن﴾ [�يو���س‪ ،]22 :‬وتقابل نوعين كذلك‪:‬‬
‫اَ‬

‫ *األول‪ :‬العاصفة الشديدة‪ :‬وقوتها ‪ ،8‬حيث تتلف بعض المنشآت‪،‬‬


‫وتتكون أمواج عالية‪ ،‬وقد يؤثر رذاذ البحر الناجم عنها على مدى‬
‫الرؤية‪ ،‬وحينئذ يكون الضغط على سطح البحر ‪ 27‬كجم‪/‬متر‪،2‬‬
‫وتكون سرعتها ‪ 22.6‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫ *والثاني‪ :‬العاصفة الهوجاء‪ :‬وقوتها ‪ ،9‬حيث تهدم المباني‪ ،‬وتتقوس‬
‫أعالي األمواج‪ ،‬فتؤثر أكثر على مدى الرؤية في البحر‪ ،‬وحينئذ يكون‬
‫الضغط على سطح البحر ‪ 40‬كجم‪/‬متر‪ ،2‬وتكون سرعتها ‪ 26.4‬متر‪/‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ثانية‪.‬‬
‫َُۡ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ص اَعت َِيةٖ﴾‬ ‫‪P P‬الريح الصرصر العاتية‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأ َّما اَعد‪ ٞ‬فأهل ِكوا بر رَ ۡ رَ‬
‫يح ص ٍ‬ ‫ِِ ٖ‬
‫[ا �ل�ح�ا �ق��ة‪ ،]6 :‬وتقابل الزوبعة‪ ،‬وقوتها ‪ ،10‬حيث تتلف مساحات شاسعة‪،‬‬
‫علوا‪ ،‬قد تخفي السفن الصغيرة عن النظر األفقي؛ نتيجة‬ ‫وتتكون أمواج أكثر ً‬
‫للزبد الشديد‪ ،‬وحينئذ يكون الضغط على سطح البحر ‪ 50‬كجم‪/‬متر‪،2‬‬
‫وتكون سرعتها ‪ 30.5‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫‪878‬‬

‫ََ َ ََٓ ۡ‬
‫‪P P‬اإلعصار‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬فأصابها إِعصار فِيهِ نار فٱحتقتۗ﴾ [ ب���ر ‪،]266 :‬‬
‫ا �ل ق �ة‬ ‫ۡ‬ ‫َ ‪ ۡ َ ٞ‬رَ َ َ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫َ‬

‫وتقابل اإلعصار‪ :‬وقوته ‪ ،11‬حسب تقسيم بيفورت‪ ،‬حيث يكون هياج‬


‫البحر على أشده‪ ،‬وحينئذ يكون الضغط على سطح البحر ‪ 60‬كجم‪/‬متر‪،2‬‬
‫وتكون سرعته ‪ 34.8‬متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫وهكذا ذكرت كلمة ريح في القرآن ثمان عشرة مرة متضمنة مصطلحات‪:‬‬
‫ريح طيبة‪ ،‬ريح رخاء‪ ،‬ريح جارية‪ ،‬ريح فيها صر‪ ،‬ريح صرصر‪ ،‬ريح عاصف‪،‬‬
‫قاصف من الريح‪ ،‬ريح ساكنة‪ ،‬ريح عقيم‪ ،‬ريح عاتية‪ ،‬ريح مصفرة‪.‬‬
‫أما كلمة الرياح فقد وردت عشر مرات‪ ،‬متضمنة الرياح المبشرات‪ ،‬تصريف‬
‫الرياح‪ ،‬الرياح المثيرة سحابا‪ ،‬الرياح اللواقح‪ ،‬الرياح الذارية‪.‬‬
‫ومن المدهش حقا‪ ،‬ذلك التوافق التام بين التقسيم المعاصر لقوى الرياح‪،‬‬
‫وبين أنواعها التي ذكرها القرآن الكريم باستيعاب تام ال يصدر إال عن وحي‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ً‬
‫إن ذكر أنواع الرياح في القرآن الكريم قد جاء مطابقا لما انتهى إليه علماء‬
‫األرصاد‪ ،‬من تقسيم الرياح إلى أنواع‪ ،‬حسب شدتها وآثارها‪ ،‬مع أن ما انتهو إليه‬
‫إنما كان في األزمنة المتأخرة‪ ،‬وبما أن البشر كانوا على جهالة تامة بذلك التقسيم‬
‫تبعا للتفاوت فيما بينهما‪ ،‬فإن حصول ذلك التطابق بين وصفها في القرآن الكريم‬ ‫ً‬
‫وتلك الحقائق فيه إعجاز علمي ظاهر‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪879‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫تنفس الصبح‬

‫ٱلص ۡبحِ إِذا ت َنف َس﴾ [ا �لت� ك�و�ير‪.]18-17 :‬‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬و ۡ ِ ِ‬
‫َ َ َّ‬ ‫ٱلل إ َذا َع ۡس َع َس ‪َ ١٧‬و ُّ‬‫َ يَّ‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ٱلص ۡبحِ إِذا ت َنف َس﴾؛ أي‪ :‬امتد ضوءه وتكامل‪ ،‬فقوله‪:‬‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬و ُّ‬
‫َ َ َّ‬

‫ٱل ِل إِذا َع ۡس َع َس﴾ [ا �لت� ك�و�ير‪ ]17 :‬إشارة إلى أول طلوع الصبح(‪.)1‬‬‫﴿و‬
‫َ يَّ ۡ َ‬

‫َٓ َ َ‬ ‫ۡ َۡ‬
‫ٱلص ۡبحِ إِذا أ ۡسف َر﴾ [ا �ل���م�د ث�ر‪ ]34-33 :‬وقوله‪:‬‬ ‫وهو مثل قوله‪﴿ :‬و ۡ ِ ِ‬
‫يَّ‬
‫ٱلل إذ أدبَ َر ‪َ ٣٣‬و ُّ‬ ‫َ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫والصبح إذا تنفس إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فال يكون فيه تكرار‪.‬‬
‫ٱلص ۡبحِ إِذا ت َنف َس﴾؛ أي‪ :‬إذا أسفر كقوله‪﴿ :‬وٱلصبحِ إِذا‬
‫وأما قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ُّ‬
‫َ ُّ ۡ َ ٓ‬ ‫َ َ َّ‬
‫َۡ َ‬
‫أسفر﴾ [ ل���م�د ر‪ ]34 :‬ثم في كيفية اجملاز قوالن‪:‬‬
‫ث‬
‫�‬ ‫�‬ ‫ا‬ ‫َ‬

‫أحدهما‪ :‬أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم‪ ،‬فجعل ذلك نفسا‬
‫له على اجملاز‪ ،‬وقيل تنفس الصبح‪.‬‬

‫((( تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)69 /31‬‬


‫‪880‬‬

‫والثاني‪ :‬أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث ال‬
‫يتحرك‪ ،‬واجتمع الحزن في قلبه‪ ،‬فإذا تنفس وجد راحة‪ .‬فههنا لما طلع الصبح‬
‫فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة(‪.)1‬‬
‫الداللة العلمية‪:‬‬
‫لقد شبهت اآلية الكريمة طلوع الصبح بمخلوق حي يتنفس‪ ،‬والتنفس في‬
‫اإلنسان وغيره من الثدييات يتكون من شقين‪:‬‬
‫ً‬
‫‪(P P‬أوال)‪ :‬الشهيق ‪ :Inpiration‬وهو يتطلب جهدا من جهاز التنفس؛‬
‫خاصة العضالت‪ ،‬إلدخال الهواء‪.‬‬
‫‪P P‬و(ثانيا)‪ :‬الزفير ‪ :Expiration‬وهو عملية تلقائية إلخراجه‪.‬‬
‫ولوال وجود هذا الغالف الغازي الرتفعت درجة حرارة سطح األرض خالل‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫النهار إلى أكثر من (‪93‬م)‪ ،‬والنخفضت أثناء الليل إلى ما دون (‪149‬م) تحت‬
‫الصفر‪ ،‬عالوة على أنه يحمي األرض وما عليها من كائنات حية من اإلشعاع‬
‫الشمسي أثناء النهار‪ ،‬ويبطئ من تسرب الحرارة وفقدانها أثناء الليل‪.‬‬
‫وعن طريق المناطيد والطائرات واألقمار الصناعية التي اخترعها اإلنسان‪،‬‬
‫عرف الكثير عن طبقات الغالف الجوي‪.‬‬
‫وكما هو معروف لدى المختصين‪ :‬أن حركة الهواء في الكرة األرضية تنقسم إلى‪:‬‬
‫ّ‬
‫حركات أفقية‪ ،‬وأخرى رأسية‪ ،‬وتنتقل الرياح نحو مناطق التخلخل؛ فتخفف من‬
‫ّ‬
‫برودة المناطق الباردة‪ ،‬وتقلل من حرارة المناطق الدافئة‪ ،‬وتحفظ التوازن الحراري‪.‬‬
‫وبسبب حركة األرض من الغرب نحو الشرق تنحرف الرياح إلى يمين اتجاهها‬
‫في نصف الكرة الشمالي‪ ،‬وتتجه إلى يسار اتجاهها في نصف الكرة الجنوبي‪،‬‬
‫تبعا للتغيرات الحرارية في الغالف الجوي‪.‬‬ ‫ً‬
‫أساسا ً‬ ‫وتتشكل حركات الهواء الرأسية‬

‫((( تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)68 /31‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪881‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وترجع حركة الهواء الرأسية إلى التيارات الهوائية الصاعدة‪ ،‬حيث يتكون ضغط‬
‫منخفض للهواء المالمس لسطح األرض؛ نتيجة ارتفاع حرارة سطح األرض عند‬
‫الصباح‪ ،‬تحت تأثير حرارة الشمس‪ ،‬فيتمدد الهواء ويرتفع رأسيا‪ ،‬بينما يحدث‬
‫العكس أثناء الليل كما لو أن إنسانا يتنفس‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن ورود ما يدل على ظاهرة التنفس في اآلية الكريمة (والصبح إذا تنفس) في‬
‫زمن لم يكن البشر على دراية بحصول الظواهر مع بدء النهار التي تماثل التنفس‪.‬‬
‫ومع تقدم الزمن وفي العصور األخيرة‪ ،‬وبعد مشاهدات متواصلة ورصد‬
‫دقيق‪ ،‬استقر لدى العلماء أن هناك ظاهرة تحصل على سطح األرض مع بداية‬
‫النهار تضارع ما يحصل لإلنسان عند تنفسه‪ ،‬فكان ذلك التطابق بين داللة النص‪،‬‬
‫وتلك الحقيقة‪ ،‬مثال إعجاز علمي باهر‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫حركة الرياح يف الكرة األرضية‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪883‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫تــيــارات الـريــح اجلـويــة النـفـاثــة‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬وٱلمرسل ِ‬


‫ت ن َ رۡ ٗ‬ ‫َّ‬ ‫َ ۡ ٗ‬ ‫َ َۡ َ‬ ‫َ ۡ ُ ۡ َ َٰ ُ ٗ‬
‫شا ‪٣‬‬ ‫ت عصفا ‪َ ٢‬وٱلنٰشِ َر ٰ ِ‬ ‫ت ع ۡرفا ‪ ١‬فٱلع ٰ ِصفٰ ِ‬
‫ت ذِك ًرا﴾ [ا �ل���مر��س�لا ت�‪.]5-1 :‬‬
‫ۡ‬ ‫َ ۡ ۡ َ‬ ‫َ ۡ َٰ َٰ َ ٗ‬
‫ت ف ۡرقا ‪ ٤‬فٱل ُملقِيٰ ِ‬
‫فٱلفرِق ِ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫في قوله تعالى‪﴿ :‬وٱلمرسل ِ‬
‫ت ن َ رۡ ٗ‬ ‫َّ‬ ‫َ ۡ َٰ َٰ َ ۡ ٗ‬ ‫َ ۡ ُ ۡ َ َٰ ُ ٗ‬
‫شا ‪٣‬‬ ‫ت عصفا ‪َ ٢‬وٱلنٰشِ َر ٰ ِ‬ ‫ت ع ۡرفا ‪ ١‬فٱلع ِصف ِ‬
‫ت ذِك ًرا﴾ [ا �ل���مر��س�لا ت�‪]5-1 :‬؛ قال ابن جزي المتوفى عام‬
‫ۡ‬ ‫َ ۡ ۡ َ‬ ‫َ ۡ َٰ َٰ َ ٗ‬
‫ت ف ۡرقا ‪ ٤‬فٱل ُملقِيٰ ِ‬
‫فٱلف ِرق ِ‬
‫‪741‬هـ (رحمه اهلل تعالى)(‪< )1‬على القول بأنها الرياح‪.‬‬

‫سماها (المرسالت) لقوله ﴿ٱلل ٱلذَِّي يرسِل ِ‬


‫ٱلر َي ٰ َح﴾‪.‬‬
‫ّ‬‫ُ‬ ‫ُۡ‬ ‫هَّ ُ‬

‫وسماها (العاصفات) من قوله (ريح عاصف)؛ أي‪ :‬شديدة‪.‬‬


‫وسماها (الناشرات) ألنها تنشر السحاب في الجو؛ ومنه قوله (يرسل الرياح‬
‫فتثير سحابا)‪.‬‬
‫وسماها (الفارقات) ألنها تفرق بين السحاب؛ ومنه قوله (فيجعله كسفا)‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وأما (الملقيات ذكرا) فهم المالئكة؛ ألنهم يلقون الذكر لألنبياء عليهم السالم‪.‬‬
‫واألظهر في (المرسالت) و(العاصفات) أنها الرياح؛ ألن وصف الريح‬
‫بالعصف حقيقة‪.‬‬
‫واألظهر في (الناشرات) و(الفارقات) أنها المالئكة؛ ألن الوصف بالفارقات‬
‫أليق بهم من الرياح وألن (الملقيات) المذكورة بعدها هي المالئكة‪ ،‬ولم يقل أحد‬

‫((( التسهيل (‪ - )267/3‬البن جزي الغرناطي األندلسي‪.‬‬


‫‪884‬‬

‫إنها الرياح‪ ،‬ولذلك عطف المتجانسين بالفاء؛ فقال (والمرسالت‪ ..‬فالعاصفات)‪،‬‬


‫ثم عطف ما ليس من جنسها بالواو؛ فقال (والناشرات) ثم عطف عليه المتجانسين‬
‫بالفاء (فالفارقات)>‪.‬‬
‫و(العرف) في وصف الرياح يعني التموج‪ ،‬تمثيال بعرف الفرس أو الديك‪،‬‬
‫والتمثيل يعني أيضا الشيء المرتفع ألن األعراف مرتفعة؛ ومنه (وعلى األعراف‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫رجال)‪ ،‬والق َس ُم بها‪ ،‬وتمي ُزها بالمصاحبة مع عواصف تتبعها‪ ،‬يعني‪ :‬أنها شديدة‬
‫وسريعة‪ ،‬فدل التعبير على تيار رياح خاصة قوية ومرتفعة في الجو ومتموجة‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ولم يكن يعلم أحد قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بوجود رياح تطابق الوصف‬
‫بالقوة واالرتفاع والتموج‪ ،‬حتى وجدت الطائرات المتجهة غربا إعاقة في مواجهة‬
‫تلك الرياح العاتية؛ ولم يكن سبيل إال بتغيير االرتفاع وتجنبها‪ ،‬وتستفيد المالحة‬
‫الجوية اليوم من تلك الظاهرة‪ ،‬بحيث تكون مدة الرحلة أقل للمتجه شرقا‪.‬‬
‫ُ‬
‫متحرك‪ ،‬وقد تهب الرياح بلطف أو قد تهب بسرعة وعُنف‬ ‫ّ‬ ‫فالرياح هي هواء‬
‫لدرجة تجعلها تدمر المباني وتقتلع األشجار الكبيرة من جذورها‪ ،‬والرياح القوية‬
‫يمكنها أن تضرب سطح المحيط وتولد أمواجا عاتية يمكن أن تحطم السفن وتغمر‬
‫األرض لتحطم المنشآت على الشاطئ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبإمكان الرياح كعامل مؤثر من عوامل التعرية أن تبلي الصخر‪ ،‬وتغير مالمح‬
‫األرض على المدى الطويل‪ ،‬والرياح جزء من الطقس؛ فاليوم الحار الرطب قد‬
‫ُ َ‬
‫المح َّملة‬ ‫يتحول فجأة إلى بارد‪ ،‬إذا ما هبّت الرياح من منطقة باردة‪ ،‬والسحب‬
‫بالمطر والبرق‪ ،‬قد تتكون حيث يلتقي الهواء البارد بالهواء الحار الرطب‪.‬‬
‫وتحدث الرياح نتيجة التسخين غير المتساوي للجو عن طريق الطاقة المنبعثة‬
‫من الشمس‪ ،‬فالهواء الذي يعلو المناطق الحارة يتمدد ويرتفع‪ ،‬ويحل محله هواء‬
‫من المناطق األبرد‪ ،‬وتسمى هذه العملية دورة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪885‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وتسمى الدورة فوق األرض بكاملها بالدورة العامة‪ ،‬بينما تسمى الدورات‬
‫النسبية الصغرى‪ ،‬والتي يمكن أن تتسبب في حدوث تغيرات في الرياح ً‬
‫يوما بعد‬
‫يوم بالدورات النسبية الشاملة للرياح‪ ،‬أما الرياح التي من الممكن أن تحدث في‬
‫بالرياح المحليَّة‪.‬‬ ‫مكان واحد فقط‪ ،‬فإنها ت ُ ّ‬
‫سمى ِّ‬

‫وتحدث الدورة العامة للرياح فوق قطاعات كبيرة من سطح األرض‪ ،‬وت ُ ّ‬
‫سمى‬
‫هذه الرياح‪ :‬الرياح السائدة‪ ،‬وتتنوع هذه الرياح باختالف خط العرض؛ فبالقرب‬
‫من خط االستواء يرتفع الهواء الساخن إلى ما يقرب من ‪ 18‬كم‪ ،‬فيتحرك الهواء‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫األبرد ليحل محل الهواء المرتفع في نطاقين من الرياح السائدة‪ ،‬ويقع هذان‬
‫وخطي عرض ‪ ْ 30‬شمااًل وجنوبًا‪ ،‬وت ُ ّ‬
‫سمى الرياح في‬ ‫ّ‬ ‫النطاقان بين خط االستواء‬
‫هذه المناطق بالرياح التجارية‪.‬‬
‫وسبب التسمية‪ :‬اعتماد التجار عليها قديما في إبحار السفن التجارية‪ ،‬وال تهب‬
‫الرياح التجارية في اتجاه عمودي تماما على خط االستواء؛ بسبب حركة األرض‬
‫حول نفسها نحو الشرق‪ ،‬ومعها الغالف الجوي‪ ،‬وتجر حركة األرض الجو معها‬
‫فيتأخر عنها‪ ،‬مما يدفع الهواء المتحرك غربا في كل من الشمال والجنوب‪.‬‬
‫‪886‬‬

‫ويعود بعض الهواء الذي ارتفع عند خط االستواء إلى سطح األرض بين خطي‬
‫عرض ‪ ْ 30‬شمااًل وجنوبًا من خط االستواء؛ فتضعف الرياح عند الحزامين؛ ألن‬
‫حركة الريح رأسية نحو األسفل‪ ،‬ويقال‪ :‬إن سبب تسمية تلك المناطق بعروض‬
‫َََ ْ‬ ‫ً‬
‫عددا ً‬
‫كبيرا من الخيول قد نفقت على ظهر السفن الشراعية‪ ،‬التي‬ ‫الخيل‪ :‬هو أن‬
‫توقفت عن الحركة فيها؛ بسبب توقف الرياح‪.‬‬
‫وقد صنف فرانسيس بوفورت ‪)1857-1774( Francit Beaufort‬‬
‫عام ‪ 1805‬الرياح تبعا لشدتها وتأثيرها على السفن الشراعية إلى درجات‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ثم عُدل الجدول الحقا؛ وفقا لسرعة الريح‪ ،‬والتأثيرات على اليابسة‪ ،‬ووفقا‬
‫َ‬
‫المعتمد لدى المنظمة العالمية‬ ‫لمقياس بيفورت المتدرج ‪،Beaufort' Scale‬‬
‫لألرصاد الجوية ‪ ،World Meteorological Organization‬وجد أنه يلتقي‬
‫مع تصنيفات الريح التي ذكرها القرآن على نحو مذهل‪.‬‬
‫فمثال درجة ‪ :7‬دون الهبوب ‪ Near gale‬السرعة‪ 63-52 :‬كم‪/‬ساعة‪ ،‬ويكاد‬
‫يجعل السير صعبا في مواجهته‪ ،‬ويقابله قوله تعالى‪﴿ :‬ف سِل عليكم ق ِ‬
‫َ يرُ ۡ َ َ َ ۡ ُ ۡ َ ٗ‬
‫اصفا ّم َِن‬
‫ٱلريحِ ﴾ [الإ� ��سرا ء‪.]69 :‬‬
‫ِ‬
‫ّ‬

‫ودرجة ‪ :8‬هبوب ‪ Gale‬سرعته ‪ 76-63‬كم‪/‬ساعة‪ ،‬ويصعب السير‬


‫في مواجهته‪.‬‬
‫ودرجة ‪ :9‬هبوب قوي ‪ Strong gale‬سرعته ‪ 89-76‬كم‪/‬ساعة‪ ،‬يجعل‬
‫األلواح الخشبية تتطاير‪ ،‬ويقابلهما قوله تعالى‪﴿ :‬جا َءت َها رِيح ع ِ‬
‫ٓ ُ ۡ‬ ‫ٌ اَ ‪ٞ‬‬ ‫َٓ ۡ‬
‫صف َو َجا َءه ُم ٱل َم ۡو ُج‬
‫ن‬
‫ك َمك ٖن﴾ [�يو���س‪.] 22 :‬‬
‫لُ ّ اَ‬
‫مِن ِ‬
‫ودرجة ‪ :10‬عاصفة ‪ Storm‬سرعتها ‪ 104-89‬كم‪/‬ساعة‪ ،‬تقتلع األشجار‬
‫وتتلف بعض المباني‪.‬‬
‫ودرجة ‪ :11‬عاصفة عنيفة ‪ Violent Storm‬سرعتها ‪ 119-104‬كم‪/‬ساعة‪،‬‬
‫َ َ َّ اَ ‪ُ ۡ ُ َ ٞ‬‬
‫ص‬
‫ٍ‬
‫كوا ْ بريح رَ ۡ‬
‫ص رَ‬
‫ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وتسبب تلف شديد للمباني‪ ،‬ويقابلهما قوله تعالى‪﴿ :‬وأما عد فأهل ِ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪887‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ع َك َأ َّن ُهمۡ‬
‫ص ىَ ٰ‬ ‫تى ۡٱل َق ۡو َم فِ َ‬
‫يها رَ ۡ‬ ‫اَعتِ َية ‪َ ٦‬س َّخ َر َها َعلَ ۡيه ۡم َس ۡب َع يَلَال َوثَ َمٰن َي َة َأيَّام ُح ُس ٗ‬
‫وماۖ َف رَ َ‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬ ‫ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ٖ‬
‫َ ۡ َ ُ خَ‬
‫أعجاز ن ٍل خاوِيةٖ﴾ [ا �لح�ا ���‪.]7-6 :‬‬
‫ة‬ ‫�ق‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬

‫ودرجة ‪ :12‬إعصار ‪ Hurricane‬سرعته تزيد عن ‪ 119‬كم‪ /‬ساعة‪ ،‬يسبب‬


‫دمار متباين الشدة تبعا لسرعته وربما حرائق‪ ،‬ويقابله قوله تعالى‪﴿ :‬فَأَ َص َ‬
‫اب َها ٓ إ ۡع َصار‪ٞ‬‬
‫ِ‬
‫تق ۡتۗ﴾ [ا �لب�ق��ر�ة‪.]266 :‬‬
‫َ ‪ ۡ َ ٞ‬رَ َ َ‬
‫فِيهِ نار فٱح‬
‫وال يصدر هذا التوافق العجيب بين التقسيم العلمي المعاصر للرياح‪ ،‬وبين‬
‫أنواعها التي ذكرها القرآن‪ ،‬إال عن علم‪ ،‬خاصة أن هذا التنويع مع بيان خصائص‬
‫كل نوع وفق شدته وآثاره ال تجده في أي كتاب آخر يُنسب للوحي غير هذا الكتاب‬
‫الكريم‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز ‪:‬‬
‫لقد اكتشف حديثا ما يسمى بالرياح النفاثة ‪ Jet Stream‬على ارتفاعات عالية‬
‫في الجو متموجة الشكل‪ ،‬وعندما تتكون تلك التيارات فإن العاصفة تتبعها عند‬
‫التقاء كتل هوائية باردة وأخرى ساخنة‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى‪﴿ :‬وٱلمرسل ِ‬
‫ت ن َ رۡ ٗ‬ ‫َّ‬ ‫َ ۡ َٰ َٰ َ ۡ ٗ‬ ‫َ ۡ ُ ۡ َ َٰ ُ ٗ‬
‫شا‬ ‫ت عصفا ‪َ ٢‬وٱلنٰشِ َر ٰ ِ‬ ‫ت ع ۡرفا ‪ ١‬فٱلع ِصف ِ‬
‫ت ف ۡرقا﴾ [ا �ل���مر��س�لا ت�‪]4-1 :‬؛ والعرف في األصل هو عرف الفرس أو‬
‫َ ۡ َٰ َٰ َ ٗ‬
‫‪ ٣‬فٱلف ِرق ِ‬
‫الديك‪ ،‬وهو متموج الشكل‪ ،‬ويسمى كل مرتفع عرفا‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫أ � �ف‬ ‫َ لَىَ أۡ َ‬
‫اف رِجال﴾ [ � عرا �‪.]46 :‬‬ ‫﴿وع ٱلعر ِ‬
‫َ ‪ٞ‬‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ال‬
‫َ‬
‫ترسل متتابعة‪ ،‬وأن‬ ‫وفي التفسير أن ﴿ َوٱل ُم ۡر َسلٰت ُع ۡرفا﴾ وصف لرياح‬
‫ٗ‬ ‫ۡ َ‬
‫ِ‬
‫ت َع ۡصفا﴾ وصف آخر للرياح يتبع األول‪ ،‬وهو وصف عجيب‪ ،‬وبيان‬ ‫﴿فٱلع ٰ ِصفٰ ِ‬
‫َ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ‬

‫مذهل‪ ،‬يلتقي من كل وجه مع المعرفة الحديثة بالرياح النفاثة؛ ألنها قوية‪ ،‬كما‬
‫يفيد تمييزها ومالزمتها للعواصف‪ ،‬وهي مرتفعة ومتموجة‪ ،‬ويلتقي مع تأثيرها في‬
‫نشأة األعاصير الدوارة‪.‬‬
‫‪888‬‬

‫فاألول‪ :‬وصف لشكلها المتموج وقوتها وسرعتها وموضعها‪.‬‬


‫والثاني‪ :‬بيان لتأثيرها في نشأة األعاصير؛ وهي رياح أقرب لسطح األرض‬
‫تجعلها الرياح النفاثة عواصف دوارة أو أعاصير‪ ،‬وتلك هي خالصة كشف علمي‬
‫لم يعرفه الباحثون إال حديثا جدا‪.‬‬
‫وال شك أن إشارة القرآن الكريم إلى الرياح النفاثة وغيرها من أنوع الرياح‬
‫األخرى التي سبقت اإلشارة إليها دليل أنه معجز علميا‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪889‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫احلركة الذاتية لألجرام السماوية‬


‫َ‬
‫ت بِأ ۡم ِرهۚ ِۦٓ﴾ [ا �لن�����ح�ل‪.]12 :‬‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وٱنلُّ ُ‬
‫وم ُم َسخ َر ٰ ُ ۢ‬
‫ج ُ‬ ‫َّ‬
‫أ‬ ‫َ‬
‫ت بِأ ۡم ِرهِۗۦٓ﴾ [ال� �عرا �ف�‪.]54 :‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬وٱلشمس وٱلقم َر وٱنلجوم مسخر ٰ ِۢ‬
‫َّ‬
‫َ ۡ َ َ َ َ ُّ ُ َ ُ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫لُ ّ ‪ ٞ‬جَ‬
‫م﴾ [ا �لرع�د‪ ،‬و ف��ا طر‪ ،‬وا �ل�ز �مر]‪.‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬وسخر ٱلشمس وٱلقمر ۖك ي ِري أِلج ٖل مس ۚ‬
‫ىٗ‬ ‫َ ُّ َ ّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ ََ‬ ‫ََ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ىَ َ‬
‫ي ِر ٓي إ ِ ٰٓل أ َج ٖل ُّم َسم﴾ [�ل��ق�����م�ا ن�‪.]29 :‬‬
‫لُ ّ ‪ ٞ‬جَ‬
‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َسخ َر ٱلش ۡم َس َوٱلق َم َر ۖ ك‬
‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أ‬ ‫لُ ّ ‪ٞ‬‬
‫ك ي َ ۡس َب ُحون﴾ [ال� ن�ب�ي��ا ء‪.]33 :‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬ك يِف فل ٖ‬
‫َ‬ ‫ََ‬

‫ك ي َ ۡس َب ُحون﴾ ي[���س‪.]40 :‬‬


‫وقال تعالى‪﴿ :‬وك يِف فل ٖ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫لُ ّ ‪ٞ‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫تدل هذه اآليات الكريمة على نظام فلكي أجراه اهلل في هذا الكون‪ ،‬ولذلك‬
‫فالنجوم ُمسيَّرات بتقديره‪ ،‬وكما قال ابن كثير‪ < :‬النجوم الثوابت والسيارات‬
‫‪890‬‬

‫في أرجاء السماوات‪ٌّ ..‬‬


‫كل منها يسير في فلكه الذي جعله اهلل تعالى فيه يسير بحركة‬
‫ُمقدرة ال يزيد عليها وال ينقص منها>‪.‬‬
‫الداللة العلمية‪:‬‬
‫وفق ظاهر الداللة التي ال تحتمل تأوياًل‪ :‬فكل األجرام السماوية تتحرك‬
‫في أفالكها حركة ذاتية مقدرة؛ كل له فلك يخصه ويقطعه في مدة محددة مقدرة؛‬
‫بخالف الوهم السائد إلى القرن السابع عشر‪ :‬أن النجوم ثوابت ال تتحرك بذاتها‪،‬‬
‫وإنما بحركة أفالك شفافة قد ثبتت عليها وتدور حول األرض المسطحة الثابتة‪.‬‬
‫اعتمد التصور السائد قديما مبدأ مركزية األرض وحركة الشمس حولها‪ ،‬وفق‬
‫الظاهر‪ ،‬وأن النجوم ثوابت على فلك شفاف كالزجاج‪ ،‬ال يُرى‪ ،‬تدور بدورانه‪،‬‬
‫وأن الكواكب بالمثل ال حركة ذاتية لها‪ ،‬وإنما تدور بدوران أفالكها‪.‬‬
‫ولكن القرآن قد عارض ذلك الوهم السائد‪ ،‬وقدم مفاهيم جديدة بإعالنه‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫طرائق‪ ،‬وكل األجرام تتحرك بذاتها‪ ،‬وتجري في مداراتها؛ كل له فلك‬ ‫أن الكون‬
‫‪ ،Orbit‬يخصه ويقطعه بسرعة محددة في فترة مقدرة‪.‬‬
‫وتجري الشمس بالمثل بحركة ذاتية في فلك أو مدار مقدر األجل؛ وكذلك‬
‫م﴾ [ا �لرع�د‪،2:‬‬ ‫يري أِلَ َجل ُّم َس ىّٗ‬ ‫َ َ َّ َ َّ ۡ َ َ ۡ َ َ َ لُ ّ ‪ ٞ‬جَ ۡ‬
‫ۚ‬
‫َ‬ ‫ٖ‬ ‫القمر‪ ،‬في قوله تعالى‪﴿ :‬وسخر ٱلشمس وٱلقمر ۖ ك ِ‬
‫ي ِر ٓي إ ِ ٰٓل أ َج ٖل ُّم َسم﴾‬ ‫و��ا طر‪ ،13:‬وا �ل�ز �مر‪ ،]5 :‬وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َسخ َر ٱلش ۡم َس َوٱلق َم َر ۖ ك‬
‫ىَ‬ ‫جَ ۡ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫لُ‬ ‫ّ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫ُ ّ‬
‫[�ل��ق�����م�ا ن�‪ ،]29 :‬ولفظ (كل) يفيد الجمع ويعمم النبأ‪ :‬بأن الشمس والقمر حركتيهما‬
‫مقدرة‪ ،‬ليشمل كل األجرام في الكون؛ وإن لم يُذكر سواهما‪.‬‬
‫أ‬ ‫لُ ّ ‪ٞ‬‬
‫ك ي َ ۡس َب ُحون﴾ [ال� ن�ب� ي��ا ء‪]33 :‬؛ يعني تعدد األفالك‪ ،‬وتعدد‬
‫وقوله تعالى‪﴿ :‬ك يِف فل ٖ‬
‫َ‬ ‫ََ‬

‫آجال قطعها مع وحدتها جميعا في فلك كوني واحد يضمها‪ ،‬وهذا أبلغ لبيان كمال‬
‫عظمة اهلل تعالى‪ ،‬وقدرته ووحدانيته‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪891‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن اآليات الكريمة التي تحدثت عن الكون صرحت بوجود أنظمة دقيقة وثابتة‬
‫ذكر هذه الحقيقة في اآليات الكريمة‪ ،‬ومع تقدم‬ ‫لموجوداته‪ ،‬وهنا نجد تكرار ِ‬
‫مسيرة العلم‪ ،‬واكتشاف أجهزة الرصد الفضائية وجد العلماء أنفسهم أمام تلك‬
‫الحقيقة الصارخة التي تشمل كل هذه العوالم الفلكية‪.‬‬
‫فالنظام ثابت والحركة دقيقة والعالقة بين تلك األجرام منسقة والنظام الذي‬
‫يشملها على أدق وجه‪ ،‬وهذا التطابق بين داللة النصوص‪ ،‬وما انتهى إليه العلم في‬
‫ُ‬
‫خالق الكون‪ ،‬وأن المبلغ هو رسول كريم ال‬ ‫َ‬
‫المتحكم هو‬ ‫هذا الميدان‪ ،‬يؤكد أن‬
‫ينطق عن الهوى‪( .‬إن هو إال وحي يوحى)‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وثيقة قدميـة تبني التصور السـائد من مركزية األرض املسطحة حييط بها حبر وتدور‬
‫حوهلـا الشمس والقمر والربوج املشكلة بهيئة حيتان وحيوانات وعمالقة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪893‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫مدار الـشمس‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬وءاية لهم ٱلل نسلخ مِنه ٱنله‬


‫جَ ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ‪ ُ ُ َّ ٞ‬يَّ ۡ ُ َ ۡ َ ُ ۡ ُ َّ َ َ َ َ ُ ۡ‬
‫ار فإِذا هم ُّمظل ِ ُمون ‪َ ٣٧‬وٱلش ۡم ُس ت ِري‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ ىَّ ٰ اَ َ‬ ‫َ‬ ‫َۡ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ِير ۡٱل َ‬
‫ل ُِم ۡس َت َق ّر ل َّ َها ۚ َذٰل َِك َت ۡقد ُ‬
‫ون‬ ‫ُۡ ُ‬
‫ت عد كٱلعرج ِ‬ ‫يز ٱل َعل ِي ِم ‪َ ٣٨‬وٱلق َم َر ق َّد ۡرنٰ ُه َم َنازِل ح‬‫ز‬‫ع‬
‫ََ‬ ‫اَ َّ ۡ ُ َ َ ِ ِ َ َ ٓ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ َ َ اَ يَّ ۡ ُ َ ُ َّ َ َ لُ ّ ‪ٞ‬‬ ‫ٖ‬
‫َۡ‬
‫ك‬‫ٱلقدِي ِم ‪ ٣٩‬ل ٱلشمس يۢنب يِغ لها أن تدرِك ٱلقمر ول ٱلل سابِق ٱنلهارِۚ وك يِف فل ٖ‬
‫ي َ ۡس َب ُحون﴾ [� ‪.]40-37 :‬‬
‫َ‬
‫ي��س‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫قوله سبحانه وتعالى (تجري) الجري حقيقته‪ :‬السير السريع وهو لذوات‬
‫األرجل‪ ،‬وأطلق مجازا على تنقل الجسم من مكان إلى مكان تنقال سريعا بالنسبة‬
‫لتنقل أمثال ذلك الجسم‪ ،‬وغلب هذا اإلطالق‪ ،‬فساوى الحقيقة‪ ،‬وأريد به السير‬
‫َّ‬
‫في مسافات متباعدة جد التباعد‪ ،‬فتقطعها في مدة قصيرة‪ ،‬بالنسبة لتباعد األرض‬
‫حول الشمس‪.‬‬
‫وهذا استدالل بآثار ذلك السير المعروفة للناس معرفة إجمالية بما يحسبون‬
‫من الوقت وامتداد الليل والنهار‪ ،‬وهي المعرفة ألهل المعرفة بمراقبة أحوالها‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫من خاصة الناس‪ ،‬وهم الذين يرقبون منازل تنقلها المسماة بالبروج االثني عشر‪،‬‬
‫والمعروفة ألهل العلم بالهيئة تفصيال واستدالال‪ ،‬وكل هؤالء مخاطبون باالعتبار‬
‫بما بلغه ُ‬
‫علمهم‪.‬‬
‫والمستقر‪ :‬مكان االستقرار‪ ،‬أي القرار أو زمانه‪ ،‬فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل‪:‬‬
‫استجاب بمعنى أجاب‪ .‬والالم في (لمستقر )‪ :‬يجوز أن تكون الم التعليل على ظاهرها‪،‬‬
‫أي تجري ألجل أن تستقر‪ ،‬أي ألجل أن ينتهي جريُها‪ ،‬كما ينتهي سير المسافر‬
‫‪894‬‬

‫إذا بلغ إلى مكانه فاستقر فيه‪ ،‬وهو متعلق بـ‪( :‬تجري) على أنه نهاية له؛ ألن سير‬
‫>لدوا‬
‫الشمس لما كانت نهايته انقطاعه نزل االنقطاع عنه منزلة العلة كما يقال‪ِ :‬‬
‫للموت وابنوا للخراب< ‪.‬‬
‫وتنزيل النهاية منزلة العلة مستعمل في الكالم‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪﴿ :‬فٱلَق َط ُه ٓۥ‬
‫َ تۡ َ‬

‫َءال ف ِ ۡر َع ۡون يِلَكون ل ُه ۡم َع ُد ّوا َو َح َزناۗ﴾ [ا �ل��ق�����ص���ص‪ .]8 :‬والمعنى‪ :‬أنها تسير سيرا دائبا‬
‫ً‬ ‫ٗ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫ُ‬

‫مشاهدا إلى أن تبلغ االحتجاب عن األنظار‪.‬‬


‫ويجوز أن تكون الالم بمعنى (إلى)‪ ،‬أي تجري إلى مكان استقرارها‪ ،‬وهو‬
‫مكان الغروب‪ ،‬شبه غروبها عن األبصار بالمستقر‪ ،‬والمأوى الذي يأوي إليه المرء‬
‫في آخر النهار بعد األعمال‪.‬‬
‫وقد ورد تقريب ذلك في حديث أبي ذر الهروي في صحيحي >البخاري<‬
‫و>مسلم< و>جامع الترمذي< بروايات مختلفة حاصل ترتيبها أنه قال‪> :‬كنت‬
‫مع رسول اهلل ! في المسجد عند غروب الشمس فسألته (أو فقال)‪ :‬إن هذه تجري‬
‫حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش‪ ،‬فتخر ساجدة‪ ،‬فال تزال كذلك حتى يقال‬
‫لها‪ :‬ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع‪ ،‬فتصبح طالعة من مطلعها‪ ،‬ثم تجري‬
‫حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة‪ ،‬وال تزال كذلك حتى يقال‬
‫لها‪ :‬ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع‪ ،‬فتصبح طالعة من مطلعها‪ ،‬ثم تجري‬
‫ال يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش‪ ،‬فيقال لها‪:‬‬
‫َ‬
‫صبحي طالعة من مغربك‪ ،‬فتصبح طالعة من مغربها فذلك مستقر لها‬ ‫ارتفعي أ ِ‬
‫ومستقرها تحت العرش‪ ،‬فذلك قوله تعالى‪﴿ :‬وٱلشمس ت ِري ل ِمستق ٖر لها ۚ﴾‪.‬‬
‫ُ ۡ َ َ ّ ََّ‬ ‫َ َّ ۡ ُ ۡجَ‬

‫وهذا تمثيل وتقريب لسير الشمس اليومي الذي يبتدىء بشروقها على بعض‬
‫الكرة األرضية‪ ،‬وينتهي بغروبها على بعض الكرة األرضية‪ ،‬في خطوط دقيقة‪،‬‬
‫وبتكرر طلوعها وغروبها تتكون السنة الشمسية‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪895‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وقد جعل الموضع الذي ينتهي إليه سيرها هو المعبّر عنه بتحت العرش‪،‬‬
‫وهو سمت معين ال قبل للناس بمعرفته‪ ،‬وهو منتهى مسافة سيرها اليومي‪ ،‬وعنده‬
‫ينقطع سيرها في إبان انقطاعه‪ ،‬وذلك حين تطلع من مغربها‪ ،‬أي حين ينقطع سير‬
‫األرض حول شعاعها ألن حركة األجرام التابعة لنظامها تنقطع تبعا النقطاع حركتها‬
‫هي‪ ،‬وذلك نهاية بقاء هذا العالم الدنيوي‪.‬‬
‫والالم في قوله لها الم االختصاص وهو صفة لمستقر‪ .‬وعدل عن إضافة مستقر‬
‫لضمير الشمس المغنية عن إظهار الالم إلى اإلتيان بالالم ليتأتى تنكير >مستقر<‬
‫تنكيرا مشعرا بتعظيم ذلك المستقر‪.‬‬
‫وكالم النبي ! هذا تمثيل لحال الغروب والشروق اليوميين‪ .‬وجعل سجود‬
‫الشمس تمثيال لتسخرها‪ ،‬لتسخير اهلل إياها‪ ،‬كما جعل القول تمثيال له في آية‬
‫ۡ َ َ ۡ اً َ ۡ َ ۡ ٗ َ تَ َ ٓ َ َ ۡ َ َ ٓ‬ ‫َ َ َ َ َ َ أۡ َ‬
‫ۡرض ٱئتِيا طوع أو كرها قالا أتينا طائِعِني﴾ [ ���ص�ل��‪.]11 :‬‬
‫ت‬ ‫ف‬
‫�‬ ‫َ‬ ‫﴿فقال لها ول ِل ِ‬
‫واعلم أن قوله‪﴿ :‬ل ُِم ۡس َتق ّ ٖر ل َها ۚ﴾ إدماج للتعليم في التذكير وليس من آية الشمس‬
‫َ َّ‬
‫أن‬ ‫ُ ۡ ىَ ٰٓ َ َ ‪ ُّ ٞ‬ىٗ‬
‫جل م َس ّمۖ﴾ [ال� ��ع�ا �م‪:‬‬ ‫للناس؛ ألن الناس ال يشعرون به فهو كقوله تعالى‪ ﴿ :‬يِلقض أ‬
‫كم ب يَّ ۡ‬ ‫‪ ]60‬عقب االمتنان بقوله‪َ ﴿ :‬وه َو ٱلذَِّي يتوفى‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َّ ٰ ُ‬ ‫ُ‬
‫ٱل ِل َو َي ۡعل ُم َما َج َر ۡح ُتم بِٱنلَّ َهارِ ث َّم‬ ‫ِ‬
‫أ‬ ‫ُ ۡ ىَ ٰٓ َ َ ‪ َ ُّ ٞ‬ىّٗ ُ َّ يَ ۡ َ ۡ ُ ُ‬
‫ك ۡم﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪.]60 :‬‬ ‫جع‬ ‫ََُۡ ُ ۡ‬
‫يبعثكم فِيهِ يِلقض أجل مسمۖ ثم إِلهِ مر ِ‬
‫يز ٱل َعل ِي ِم﴾ إلى المذكور‪ :‬إما من قوله‪َ ﴿ :‬وٱلش ۡم ُس‬
‫واإلشارة بـ ﴿ذٰل ِك تقدِير ٱلع ِز ِ‬
‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ َۡ ُ َۡ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ٱلل﴾ ي[���س‪ ]37 :‬أي ذلك‬ ‫ت ِري﴾ أي ذلك الجري‪ ،‬وإما منه ومن قوله‪﴿ :‬وءاية لهم‬
‫جَ ۡ‬
‫َ َ َ ‪ ُ ُ َّ ٞ‬يَّ ۡ ُ‬

‫المذكور من تعاقب الليل والنهار‪.‬‬


‫وذكر صفتي العزيز العليم لمناسبة معناهما للتعلق بنظام سير الكواكب‪،‬‬
‫فالعزة تناسب تسخير هذا الكوكب العظيم‪ ،‬والعلم يناسب النظام البديع الدقيق‪،‬‬
‫وجا﴾ في سورة‬‫ٱلس َمآءِ بُ ُر ٗ‬ ‫وتقدم تفصيله عند قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ت َب َ‬
‫ار َك ٱلذَِّي َج َع َل ف َّ‬
‫يِ‬
‫الفرقان [‪.)1( ]61‬‬

‫((( التحرير والتنوير (‪.)21-19/23‬‬


‫‪896‬‬

‫الداللة العلمية‪:‬‬
‫ّ‬
‫في القرن السابع عشر توصل كبلر ‪ Kepler‬إلى أن مدارات الكواكب غير‬
‫كاملة االستدارة (إهليلجية) ‪.Elliptical‬‬
‫وفي منتصف القرن التاسع عشر اكتشف كارينغتون ‪ Carrington‬أن الشمس‬
‫تدور حول نفسها من خالل تتبّعه للبقع السوداء على سطحها‪ ،‬وهكذا تقدمت‬
‫المعرفة شيئا فشيئا حتى تأكد اليوم أن األرض وجميع أجرام السماء في حركة دائبة‬
‫كل في مدار مقدر يقطعه في أجل محدد‪.‬‬
‫وتبين أن الشمس تقع في الثلث الخارجي جملرتنا التي تسمى َ‬
‫درب التبانة‪ ،‬أو‬
‫الطريق اللبني ‪ ،Milky Way‬وتقطع الشمس مدارها‪ ،‬ومعها جميع توابعها حول‬
‫مركز اجملرة في حوالي‪ 250 :‬مليون سنة‪.‬‬

‫صورة جملرتنا درب التبانة تظهر مكان الشمس ومدارها حول مركز اجملرة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪897‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫بينما قد أعلن القرآن قبل ذلك بحوالي عشرة قرون أن كل األجرام تجري‪ .‬أي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مدارا يقطعه كامال في نهاية دورته‪.‬‬ ‫أن لكل جرم فلكا يخصه أو‬
‫وهكذا ورد الوجه في التفسير بأن معنى (المستقر) هو نهاية أجلها في مدارها‪،‬‬
‫أو موضع بدء تحركها كمسافر ارتحل من دياره‪ ،‬ومر خالل سيره بمنازل قبائل‬
‫معلومة‪ ،‬كمعالم على الطريق إلى أن عاد إلى مستقره‪ ،‬وكأنه تمثيل لدورة تقطعها‬
‫الشمس بالنسبة جملموعات نجوم تبدو لبعدها الشديد ثوابت‪ ،‬ورغم الجري ال‬
‫تبلغ مستقرها هذا إال بعد أمد بعيد مقدر لها‪.‬‬
‫وينسجم هذا الوجه كذلك مع التعقيب‪ ،‬بأن للقمر منازل بالمثل؛ خاصة مع‬
‫التعميم‪﴿ :‬وك يِف فل ٖ‬
‫ك ي َ ۡس َب ُحون﴾‪ ،‬ومع البيان في اآلية الالحقة أن لكل منهما‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ لُ ّ ‪ٞ‬‬

‫سرعته وأن جهتي األرض (الليل والنهار) يتسابقان متحاذيان بيانا لحركة األرض‬
‫بالمثل‪.‬‬
‫وينسجم كذلك مع البيان بأن الحركة المدارية لكل من الشمس والقمر‪،‬‬
‫كنموذج لحركة كافة األجرام‪ ،‬مقدرة بحساب دقيق‪ ،‬ال تصنعه مصادفة في قوله‬
‫أ‬
‫يز ٱل َعل ِي ِم﴾ [ال� ن��ع�ا �م‪ ،]96 :‬وبخاصة‬ ‫تعالى‪﴿ :‬وٱلشمس وٱلقمر حسب‬
‫ۡ‬ ‫ِير ۡٱل َ‬ ‫َ َّ ۡ َ َ ۡ َ َ َ ُ ۡ َ ٗ‬
‫انا ۚ َذٰل َِك َت ۡقد ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ز‬‫ع‬
‫يز العل ِي ِم﴾‪.‬‬‫مع التعقيب نفسه في اآليتين‪﴿ :‬ذل ِك تقدِير الع ِز ِ‬
‫َْ‬ ‫َ َ َ ْ ُ َْ‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫إن تصريح القرآن في اآليات التي مرت معنا بجريان الشمس وحركتها‬
‫َ‬
‫الدؤوب‪ ،‬في مسار ثابت ومنضبط‪ ،‬وفق نظام دقيق كان مجهواًل وقت التنزيل‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تماما لداللة القرآن‪ ،‬قبل‬ ‫وقد جاء الكشف العلمي مبرزا هذه الحقيقة‪ ،‬ومطابقا‬
‫ُ‬ ‫َ ً‬ ‫َ‬
‫جلي الخفاءَ فيه‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز العلمي بشكل ٍّ‬ ‫عشر قرنا‪ ،‬فظهر‬ ‫أربعة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪899‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫آيتا الليل والنهار‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬وجعلنا ٱلل وٱنلهار ءايتينِۡ ۖ فمحونا ءاية ٱل ِل وجعلنا ءاية ٱنلهارِ مب رِ‬
‫َ َ َ ۡ َ يَّ ۡ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ ۡ َ ٓ َ َ َ يَّ ۡ َ َ َ ۡ َ ٓ َ َ َ َّ َ ُ ۡ َ ٗ‬
‫صة‬
‫شءٖ ف َّصل َنٰ ُه تف ِصيل﴾‬
‫ّ َ ۡ َ ُ ْ َ ۡ اٗ ّ َّ ّ ُ ۡ َ َ ۡ َ ُ ْ َ َ َ ّ َ َ َ َ َ لَُّ يَ ۡ َ ۡ َ ۡ‬
‫اب وك‬ ‫ٱلسنِني وٱلحِۡس ۚ‬ ‫تِلبتغوا فضل مِن ربِكم ولتِ علموا عدد ِ‬
‫[الإ� ��سرا ء‪.]12 :‬‬
‫الداللة العلمية‪:‬‬
‫ۡ ٓ َ‬ ‫ح ۡونَا ٓ َءايَ َة يَّ ۡ‬
‫ٱل ِل َو َج َعل َنا َءايَة‬ ‫ار َءايَتَ َف َم َ‬
‫ينِۡ ۖ‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬و َج َع ۡل َنا يَّ ۡ‬
‫ٱل َل َوٱنلَّ َه َ‬
‫َّ َ ُ ۡ َ ٗ ّ َ ۡ َ ُ ْ َ ۡ اٗ ّ َّ ّ ُ ۡ َ َ ۡ َ ُ ْ َ َ َ ّ َ َ َ َ َ لَُّ يَ ۡ َ ۡ‬
‫شءٖ ف َّصل َنٰ ُه‬ ‫اب وك‬ ‫ٱلسنِني وٱلحِۡس ۚ‬ ‫صة تِلبتغوا فضل مِن ربِكم ولتِ علموا عدد ِ‬ ‫ٱنلهارِ مب رِ‬
‫تف ِصيل﴾‪.‬‬
‫َۡ‬

‫فيه وجهان‪ ،‬أحدهما‪ :‬أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما‪ ،‬فتكون‬
‫اإلضافة في آية الليل‪ ،‬وآية النهار للتبيين‪ ،‬كإضافة العدد إلى المعدود‪ ،‬أي‪:‬‬
‫فمحونا اآلية التي هي الليل‪ ،‬وجعلنا اآلية التي هي النهار مبصرة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يراد‪ :‬وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين‪ ،‬يريد الشمس والقمر‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫مطموسه مظلما‪ ،‬ال يستبان‬ ‫ممحو الضوء‬ ‫فمحونا آية الليل‪ :‬أي جعلنا الليل‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ً‬
‫مبصرا أي‪ :‬تبصر‬ ‫ّ‬
‫الممحو‪ ،‬وجعلنا النهار‬ ‫فيه شيء كما ال يستبان ما في اللوح‬
‫فيه األشياء وتستبان‪.‬‬
‫أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعا كشعاع الشمس‪،‬‬
‫فترى به األشياء رؤية بينة‪ ،‬وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء‬
‫ْ ُ‬ ‫َ َُ َ ْ‬
‫ِلت ْبتغوا فضاًل ِمن َربِّك ْم لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف‬
‫في معايشكم‪.‬‬
‫‪900‬‬

‫ساب وما تحتاجون إليه‬ ‫ح‬


‫ْ‬
‫ال‬ ‫جنس‬ ‫و‬ ‫َول َت ْع َل ُموا باختالف الجديدين عَ َد َد ِّ‬
‫السن َ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ َّ َْ‬
‫منه‪ ،‬ولوال ذلك لما علم أحد حسبان األوقات‪ ،‬ولتعطلت األمور‪ ،‬وكل شي ٍء مما‬
‫ََ‬ ‫ص ْل ُ‬
‫ناه بيناه بيانا َ‬
‫غير ملتبس‪ ،‬فأزحنا عللكم‪ ،‬وما‬ ‫تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم‪ ،‬فَ َّ‬
‫تركنا لكم حجة علينا(‪.)1‬‬
‫ار َءايَتينِۡ ۖ﴾ قوالن‪:‬‬ ‫قال الرازي في قوله‪َ ﴿ :‬و َج َعل َنا ۡ‬
‫َ‬ ‫يَّ َ‬
‫ٱلل َوٱنلَّ َه َ‬ ‫ۡ‬

‫‪P P‬القول األول‪ :‬أن يكون المراد من اآليتين نفس الليل والنهار‪ .‬والمعنى‪ :‬أنه‬
‫تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا‪.‬‬
‫أما في الدين‪ :‬فألن كل واحد منهما مضاد لآلخر مغاير له‪ ،‬مع كونهما متعاقبين‬
‫على الدوام‪ ،‬من أقوى الدالئل على أنهما غير موجودين لذاتهما‪ ،‬بل ال بد لهما‬
‫من فاعل يدبر هما ويقدرهما بالمقادير المخصوصة‪.‬‬
‫وأما في الدنيا‪ :‬فألن مصالح الدنيا ال تتم إال بالليل والنهار‪ ،‬فلوال الليل لما‬
‫حصل السكون والراحة‪ ،‬ولوال النهار لما حصل الكسب والتصرف في وجوه‬
‫المعاش‪.‬‬
‫ٱل ِل﴾ وعلى هذا القول‪ :‬تكون اإلضافة في آية‬ ‫ثم قال تعالى‪﴿ :‬ف َم َ‬
‫َ يَّ‬
‫ح ۡونا َءايَة ۡ‬ ‫َٓ‬ ‫َ‬

‫الليل والنهار للتبيين‪ ،‬والتقدير‪ :‬فمحونا اآلية التي هي الليل‪ ،‬وجعلنا اآلية التي هي‬
‫نفس النهار مبصرة‪ ،‬ونظيره قولنا‪ :‬نفس الشيء وذاته‪ ،‬فكذلك آية الليل هي نفس‬
‫الليل‪ .‬ويقال أيضا‪ :‬دخلت بالد خراسان أي‪ :‬دخلت البالد التي هي خراسان‪،‬‬
‫فكذلك هاهنا‪.‬‬
‫‪P P‬القول الثاني‪ :‬أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين يريد الشمس‬
‫والقمر‪ ،‬فمحونا آية الليل وهي القمر‪ ،‬وفي تفسير محو القمر قوالن‪:‬‬
‫ *القول األول‪ :‬المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان‬

‫((( تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪.)652 /2‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪901‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫في النور‪ ،‬فيبدو في أول األمر في صورة الهالل‪ ،‬ثم ال يزال يتزايد‬
‫َ‬
‫يصير بدرا كامال‪ ،‬ثم يأخذ في االنتقاص قليال قليال‪ ،‬وذلك‬ ‫نوره حتى‬
‫هو المحو‪ ،‬إلى أن يعود إلى المحاق‪.‬‬
‫ *والقول الثاني‪ :‬المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه ‪.‬‬
‫يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء‪ ،‬فأرسل اهلل جبريل عليه‬
‫الصالة والسالم ّ‬
‫فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء‪.‬‬
‫ومعنى المحو في اللغة‪ :‬إذهاب األثر‪ ،‬تقول‪ :‬محوته أمحوه وانمحى وامتحى‬
‫إذا ذهب أثره‪ ،‬وأقول‪ :‬حمل المحو في هذه اآلية على الوجه األول أولى‪ ،‬وذلك‬
‫ألن الالم في قوله‪ :‬لتبتغوا فضال من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب متعلق‬
‫بما هو مذكور قبل‪ ،‬وهو محو آية الليل‪.‬‬
‫وجعل آية النهار مبصرة‪ ،‬ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل اهلل‪ ،‬إذا‬
‫حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه‪ ،‬ألن سبب حصول هذه الحالة يختلف‬
‫بأحوال نور القمر‪ ،‬وأهل التجارب بينوا أن اختالف أحوال القمر في مقادير النور‬
‫له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه‪.‬‬
‫مثل أحوال البحار في المد والجزر‪ ،‬ومثل أحوال التجربات على ما تذكره‬
‫األطباء في كتبهم‪ ،‬وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور‪ ،‬وبسبب‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية األهلة كما قال‪ :‬ولتعلموا‬
‫عدد السنين والحساب‪ ،‬فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى‪.‬‬
‫أما قوله‪ :‬وجعلنا آية النهار مبصرة ففيه وجهان‪:‬‬
‫ *األول‪ :‬أن معنى كونها مبصرة أي‪ :‬مضيئة‪ ،‬وذلك ألن اإلضاءة سبب‬
‫لحصول اإلبصار‪ ،‬فأطلق اسم اإلبصار على اإلضاءة إطالقا السم‬
‫المسبب على السبب‪.‬‬
‫‪902‬‬

‫ *والثاني‪ :‬قال أبو عبيدة يقال‪ :‬قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون‬
‫فيه‪ ،‬كقوله‪ :‬رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء‪ ،‬ورجل مضعف إذا‬
‫ن‬
‫صاۚ﴾ [�يو���س‪ ،]67 :‬أي‪:‬‬ ‫كانت ذراريه ضعافا‪ ،‬فكذا قوله‪َ ﴿ :‬وٱنلَّ َه َ‬
‫ار ُم ۡب رِ ً‬
‫أهله بصراء‪.‬‬
‫منافع الليل والنهار‪ ،‬قال‪﴿ :‬وجعلنا‬
‫َ َ َ ۡ َ يَّ ۡ َ‬
‫ٱلل‬ ‫َ‬ ‫واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة‬
‫أ‬
‫ار َم َعاشا﴾ [ا �لن����ب� ‪.]11 -10 :‬‬
‫اسا ‪َ ١٠‬و َج َع ۡل َنا ٱنلَّ َه َ‬
‫ٗ‬ ‫لبِ َ ٗ‬

‫ٱلل َوٱنلَّ َه َار لِت ۡسك ُنوا فِيهِ َولتِ َ ۡب َتغوا ِمن فضلِهِۦ﴾ [ا �ل�ق�����ص���ص‪. ]73 :‬‬ ‫وقال أيضا‪َ ﴿ :‬ج َعل ل‬
‫َ ۡ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫يَّ َ‬ ‫َ َ‬‫ُ‬
‫ك ُم ۡ‬

‫اب﴾(‪.)1‬‬ ‫ثم قال تعالى‪ ﴿ :‬تِلبتغوا فضل مِن رب ِ‬


‫َ ْ‬
‫ك ۡم َولتِ َ ۡعل ُموا َع َد َد ّ ِ َ َ َ َ‬
‫ّ َّ ّ ُ‬ ‫ََۡ‬ ‫ُ ْ َ ۡ اٗ‬ ‫ّ‬
‫ٱلسنِني وٱلحِۡس ۚ‬
‫وقال محمد بن كعب القرظي‪> :‬كانت شمس بالليل‪ ،‬وشمس بالنهار‪ ،‬فمحيت‬
‫شمس الليل<‪.‬‬
‫وقال ابن عباس‪> :‬كان في الزمان األول ال يعرف الليل من النهار‪ .‬فبعث اهلل‬
‫جبريل‪ ،‬فمسح جناحه بالقمر‪ ،‬فذهب ضوؤه‪ ،‬وبقي عالمة جناحه وهو السواد‬
‫ص ٗة﴾‬ ‫الذي في القمر<‪ ،‬فذلك تفسير قوله‪﴿ :‬فمحونا ءاية ِ‬
‫َ َ َ ۡ َ ٓ َ َ َ يَّ ۡ‬
‫ٱلل َو َج َع ۡل َنا ٓ َءايَ َة ٱنلَّ َهار ُم ۡب رِ َ‬
‫ِ‬
‫أي‪ :‬وتركنا عالمة النهار مضيئة مبينة‪.‬‬
‫ً‬
‫ك ۡم﴾ أي‪ :‬لتطلبوا رزقا من ربِّكم في النهار‪.‬‬ ‫﴿ تِلبتغوا فضل مِن رب‬
‫ّ َ ۡ َ ُ ْ َ ۡ اٗ ّ َّ ّ ُ‬
‫ِ‬
‫اب﴾ أي‪ :‬حساب الشهور واأليام‪.‬‬ ‫﴿ َولتِ َ ۡعل ُموا َع َد َد ّ ِ َ َ َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ٱلسنِني وٱلحِۡس ۚ‬
‫شءٖ ف َّصل َنٰ ُه تف ِصيل﴾ أي‪ :‬بيّناه في القرآن(‪.)2‬‬ ‫﴿وك‬
‫َ لَُّ يَ ۡ َ ۡ َ ۡ‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫اكتشف علماء الفلك بعد صعود اإلنسان إلى القمر‪ :‬أنه كان في الماضي نشيطا‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير(‪.)307-306/20‬‬


‫((( انظر‪ :‬تفسير السمرقندي = بحر العلوم (‪.)304-303/2‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪903‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ُ‬
‫بركانيا قبل أن تتصلد قشرته ويتضاءل نشاطه البركاني‪ ،‬فالمعلوم فلكيا أنها تشكلت‬
‫منذ حوالي ‪ 4.6‬مليون سنة‪ ،‬وخالل تشكلها تعرضت لضربات النيازك وسادها‬
‫نشاط بركاني واسع‪ ،‬فاض في مناطق الوهاد خاصة المعروفة بالبحار ‪.Maria‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫القمر؛‬ ‫وبفعل درجات الحرارة الهائلة‪ ،‬طغت الصهارة على سطحه‪ ،‬ثم برد‬
‫ّ‬
‫واستقر سطحه على ما هو عليه اليوم‪.‬‬ ‫فتوقف نشاطه البركاني‪ ،‬وانطفأت ِح َم ُمه‪،‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫فهم بعض الصحابة الكرام مع الحقيقة‬‫مما يدعو إلى العجب‪ :‬أن يتوافق ُ‬
‫َ‬
‫العلمية‪ ،‬اعتمادا على داللة اللغة فحسب‪ ،‬قبل أن يصل اإلنسان إلى القمر بقرون‪.‬‬
‫عن عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل تعالى عنهما) أنه قال‪< :‬كان القمر يضيء كما‬
‫َ ْ‬ ‫فمح َي؛ فالسواد الذي في القمر ُ‬ ‫ُ‬
‫المح ِو>‪،‬‬ ‫أثر ذلك‬ ‫تضيء الشمس‪ ،‬وهو آية الليل ِ‬
‫وهذا الفهم مبني على اعتبار أن آية الليل أي‪ :‬عالمته هي القمر‪ ،‬وأن المحو في‬
‫مقابل تأجج الشمس وإصدارها الضوء هو زوال االلتهاب وإن عُبِّر عنه بالضوء‪.‬‬
‫وعلى هذا فاآلية الكريمة تشير إلى حقيقة علمية‪ ،‬لم تظهر إال في القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وهي أن سطح القمر كانت تنشط فيه براكين هائلة‪ ،‬خاصة في مناطق‬
‫الوهاد‪ ،‬خاصة التي تبدو للناظر كبقع سوداء‪ ،‬والشك أن تفسير لفظ المحو بزوال‬
‫براكين القمر التي كانت متأججة قديما يدل على إعجاز علمي تضمنته اآلية‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪905‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫النجم الثاقب‬

‫ٓ َۡ‬
‫ٱلطارِق ‪ ٢‬ٱنلَّ ۡج ُم ٱثلَّاق ُِب﴾‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫ُ‬ ‫ََ َٰ َ‬
‫ك َما َّ‬ ‫ٓ‬
‫ٱلس َماءِ َو َّ‬
‫ٱلطارِ ِق ‪ ١‬وما أدرى‬
‫ر�‪.]3-1 :‬‬
‫� ق‬
‫[ا ل��ط�ا‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫ر�‪ ]1 :‬نجم‪ ،‬وقد بيّنه اهلل تعالى بقوله‪:‬‬
‫� ق‬
‫ٱلطارِ ِق﴾ [ا ل��ط�ا‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫ٱلس َمآءِ َو َّ‬
‫َ َ ٓ َ ۡ َ ٰ َ َ َّ ُ‬
‫ٱلطارِق ‪ ٢‬ٱنلَّ ۡج ُم ٱثلَّاق ُِب﴾ ومنه قول هند بنت عتبة‪:‬‬ ‫﴿وما أدرىك ما‬
‫ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫نمشي على النمارق‬ ‫طارق‬
‫ِ‬ ‫بنات‬ ‫ن‬ ‫نح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫افتخارا بشرفها‪ ،‬وإنما سمي النجم طارقا الختصاصه‬ ‫تقول‪ :‬نحن بنات النجم‬
‫ً‬
‫بالليل‪ ،‬والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقا‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫َّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫والصد‬ ‫النأي‬ ‫أال ط َرقت بالليلِ ما هجعوا هند وهند أتى ِمن‪ ،‬دونها‬
‫ً‬
‫وأصل الطرق الدق‪ ،‬ومنه سميت المطرقة‪ ،‬فسمي قاصد الليل طارقا الحتياجه‬
‫في الوصول إلى الدق‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وفي قوله ﴿ٱنلَّ ۡج ُم ٱثلَّاق ُِب﴾ ستة أوجه‪:‬‬


‫‪P P‬أحدها‪ :‬المضيء‪ ،‬قاله ابن عباس‪.‬‬
‫‪P P‬الثاني‪ :‬المتوهج‪ ،‬قاله مجاهد‪.‬‬
‫ّ‬
‫المنقص‪ ،‬قاله عكرمة‪.‬‬ ‫‪P P‬الثالث‪:‬‬
‫‪P P‬الرابع‪ :‬أن الثاقب الذي قد ارتفع على النجوم كلها‪ ،‬قاله الفراء‪.‬‬
‫‪906‬‬

‫‪P P‬الخامس‪ :‬الثاقب‪ :‬الشياطين حين ترمى‪ ،‬قاله السدي‪.‬‬


‫‪P P‬السادس‪ :‬الثاقب في مسيره ومجراه‪ ،‬قاله الضحاك‪ .‬وفي هذا النجم الثاقب‬
‫قوالن‪:‬‬
‫ *أحدهما‪ :‬أنه ُزحل‪ ،‬قاله ّ‬
‫علي‪.‬‬
‫ *الثاني‪ :‬الثريّا‪ ،‬قاله ابن زيد(‪.)1‬‬
‫‪P P‬التوافق مع العلوم احلديثة‪:‬‬
‫جاء القسم هنا بنجم سماوي متميز الصفات‏ مجهول زمن التنزيل‪ ،‬كما تفيد‬
‫َ َ ٓ َ ۡ َ ٰ َ َ َّ ُ‬
‫ٱلطارِق﴾ ‏‪ ،‬فقد جاء مقرونا بالسماء‪ ،‬وهو ثاقب‬ ‫العبارة الصريحة‪﴿ :‬وما أدرىك ما‬
‫وطارق‪ ،‬وال تنجلي تلك األوصاف إال بمعرفة دقيقة لطبيعة النجوم وأنواعها‬ ‫‏‏‬
‫ومراحل تكونها‏‪،‬‏ فمثل كل اإلشارات الكونية في القرآ ‏ن ال بد من توظيف المعارف‬
‫العلمية لفهم دالالتها‏ وفق اإلطار اللغوي زمن التنزيل‏‪ ،‬والنجوم أجرام سماوية‬
‫ملتهبة‏ومضيئة بذاتها‏‪،‬‏ وتنطلق منها كميات هائلة من الطاقة نتيجة االندماج النووي‬
‫على هيئة عدد من اإلشعاعات الكهرومغناطيسية كالضوء والحرارة‪.‬‬
‫ي ويدخل النجم في مرحلة‬ ‫وفي مراحل الحقة تتوقف عملية االندماج النوو ‏‬
‫االحتضار‪ ،‬وتتباين النهاية تبعا لكتلة النجم‪ ،‬فقد يتحول إلى عمالق أحمر‪ ،‬أو قزم‬
‫أبيض‪ ،‬أو مستعر أعظم‪ ،‬أو ثقب أسود‪.‬‬
‫فقد يبدأ النجم في االحتضار‏‏ بالتوهج الشديد على هيئة عمالق أحمر ‪Red‬‬
‫‪Giant‬؛ إذا كانت كتلته في حدود كتلة الشمس‪.‬‬
‫أو ينفجر بهيئة مستعر أعظم ‪Tupernova‬؛ إذا فاقت كتلته كتلة الشمس بعدة‬
‫مرات‏‪.‬‬

‫((( تفسير الماوردي = النكت والعيون (‪.)246 /6‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪907‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫أما النهاية في حالة النجوم فائقة الكتلة فهي الثقب األسود ‪.Black hole‬‬

‫جمرة يف وسطها ثقب أسود‬

‫والمستعر األعظم تعبير يدل على انفجار نجم تفوق كتلته ‪ 8‬مرات كتلة‬
‫الشمس‪ ،‬مع إصدار إشعاعات شديدة البريق سرعان ما تخبو في غضون أسابيع أو‬
‫أشهر‪ ،‬وقد تبلغ شدة إضاءة النجم أكثر من مليون مرة قدر إضاءة الشمس‏‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ومن أهم هذه المراحل المتأخرة في حياة النجوم ما يعرف باسم النجوم‬
‫النيوترونية النابضة‪ ،‬أو النوابض ‪ Pular‬‏‪ ،‬وهي نجوم شديدة التضاغط ترسل‬
‫بنبضات منتظمة من األشعة الراديوية المتسارعة في كل جزء من الثانية‏‪،‬‏ أو في كل‬
‫عدد قليل من الثواني‏‪،‬‏ وقد يصل عدد النبضات إلى ثالثين نبضة في الثانية‏‪،‬‏‬
‫ويعتمد عدد النبضات على سرعة دوران النجم حول محوره‏‪.‬‬
‫حيث إنه من المعتقد أن كل دورة كاملة للنجم حول محوره تصاحبها نبضة‬
‫من نبضات الموجات الراديوية التي تسجلها المقربات ‏(‏التليسكوبات‏)‏ الراديوية‬
‫‪908‬‬

‫بوضوح تام‪ ،‬وتندفع كميات هائلة أثناء االنفجار من األجسام الشبحية (النيوترينو‬
‫‪)neutrino‬‏ التي يمكنها اختراق األرض من جانب آلخر‪.‬‬
‫وقصة اكتشاف النجوم النابضة ترجع إلى عام ‪ 1968‬حينما التقطت طالبة‬
‫أمريكية إشارات السلكية من خارج األرض‪ ،‬بواسطة جهاز جديد يسمى التلسكوب‬
‫الالسلكي ‪Radiotelescope‬؛ تأتي في شكل نبضات السلكية منتظمة‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1987‬رصد الفلكيون انفجار نجم نابض بجوار مجرة المرأة‬
‫المسلسلة ‪ Andromeda‬األقرب جملرتنا في سحب ماجيالن الكبيرة ‪Large‬‬
‫‪.Magellan Cloud‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫إن وصف القرآن في اآليات السابقة يتطابق تماما مع النجوم النابض ة �‪Pu‬‬
‫‪lating Star‬؛ فهي نجوم ذات كثافة وجاذبية فائقة‪ ،‬وحجم صغير‪ ،‬وتدور‬
‫حول محورها بسرعات فائقة مطلقة كميات هائلة من اإلشعاعات‪ ،‬ولذا تعرف‬
‫باسم النوابض الراديوية ‪ ،Radio Pular‬ألنها ترسل نبضات منتظمة من األشعة‬
‫الراديوية‪ ،‬في كل جزء من الثانية‪ ،‬أو في كل عدد قليل من الثواني حسب حجمها‏‏‬
‫وسرعة دورانها حول محورها‏‪.‬‬
‫وقد يصل عدد نبضات تلك النجوم إلى ثالثين نبضة في الثانية الواحدة‏‪،‬‏‬
‫ويعتقد أن النابض الراديوي يطلق نبضة واحدة في كل دورة كاملة حول محوره‏‪.‬‬
‫وال شك أن ما ذكره القرآن الكريم وقت التنزيل بهذا الخصوص يدل على‬
‫إعجاز علمي تضمنته اآليات‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪909‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫‏مواقع النجوم‬

‫َ اَ ٓ ُ ۡ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬فل أ ِ ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ ُ َ َ َ ‪َ ُ َ ۡ َ ۡ َّ ٞ‬‬
‫ون َع ِظ ٌ‬ ‫س ُم ب َم َوٰقِعِ ٱنلُّ ُ‬
‫يم ‪ ٧٦‬إِن ُهۥ‬ ‫وم ‪ِ ٧٥‬إَونهۥ لقسم لو تعلم‬ ‫ج ِ‬ ‫ق‬
‫َ ‪ٞ‬‬
‫يل ّمِن َّر ّ‬ ‫ُ َ َّ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫اَّ‬ ‫اَّ‬
‫ك ُنون ‪ ٧٨‬ل َي َم ُّس ُه ٓ‬ ‫َّ ۡ‬ ‫َ‬ ‫ان َكر ‪ٞ‬‬‫َُ َۡ ‪ٞ‬‬
‫ب‬‫ِ‬ ‫زنِ‬ ‫ت‬ ‫‪٧٩‬‬ ‫ون‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫ط‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ۥ‬ ‫ٖ‬ ‫م‬ ‫ب‬‫ٖ‬ ‫ٰ‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫يِ‬ ‫‪٧٧‬‬ ‫يم‬ ‫ِ‬ ‫لقرء‬
‫ني﴾ [ا �لوا �ق���ع��ة‪.]80-75 :‬‬
‫ۡٱل َعٰلم َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫جمموعة الدب األكرب كما تظهر يف السماء‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫في معنى قوله سبحانه وتعالى (مواقع النجوم) وجوه‪.‬‬
‫‪P P‬األول‪ :‬المشارق والمغارب أو المغارب وحدها‪ ،‬فإن عندها سقوط‬
‫النجوم‪.‬‬
‫‪910‬‬

‫‪P P‬الثاني‪ :‬هي مواضعها في السماء في بروجها ومنازلها‪.‬‬


‫‪P P‬الثالث‪ :‬مواقعها في اتباع الشياطين عند المزاحمة‪.‬‬
‫‪P P‬الرابع‪ :‬مواقعها يوم القيامة حين تنتثر النجوم‪.‬‬
‫‪P P‬الخامس‪ :‬هل في اختصاص مواقع النجوم للقسم بها فائدة؟ قلنا‪ :‬نعم فائدة‬
‫جليلة‪ ،‬وبيانها أنا قد ذكرنا أن القسم بمواقعها كما هي قسم كذلك هي‬
‫من الدالئل‪ ،‬وقد بيناه في الذاريات‪ ،‬وفي الطور‪ ،‬وفي النجم‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫َْ‬
‫فنقول‪ :‬هي هنا أيضا كذلك‪ ،‬وذلك من حيث إن اهلل تعالى لما ذكر خل َق اآلدمي‬
‫المني وموته‪ ،‬بين بإشارته إلى إيجاد الضدين في األنفس قدرته واختياره‪ ،‬ثم‬ ‫ِّ‬ ‫من‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫واختياره‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫لما ذكر دليال من دالئل األنفس ذكر من دالئل اآلفاق أيضا قدرته‬
‫َََ َُۡ ُ َۡ ٓ‬ ‫َ َ َ َ ۡ ُ َّ حَ ۡ ُ ُ َ‬
‫إلى غير ذلك‪.‬‬ ‫‪]68‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ة‬
‫��‬
‫� ��ق‬
‫و ��ع‬‫ا‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫[‬ ‫﴾‬ ‫َ‬
‫أفرءيتم ٱلماء‬ ‫﴿‬ ‫‪]63‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ة‬
‫��‬
‫� ��ق‬
‫و ��ع‬‫ا‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫[‬ ‫﴾‬ ‫ون‬ ‫﴿أفرءيتم ما ترث‬
‫وذكر قدرته على زرعه وجعله حطاما‪ ،‬وخلقه الماء فراتا عذبا‪ ،‬وجعله أجاجا‪،‬‬
‫إشارة إلى أن القادر على الضدين مختار‪ ،‬ولم يكن ذكر من الدالئل السماوية‬
‫شيئا‪ ،‬فذكر الدليل السماوي في معرض القسم‪ ،‬وقال‪ :‬مواقع النجوم‪ ،‬فإنها أيضا‬
‫دليل االختيار‪ ،‬ألن كون كل واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع‬
‫مع استواء المواضع في الحقيقة دليل فاعل مختار‪.‬‬
‫فقال‪ :‬بمواقع النجوم ليس إلى البراهين النفسية واآلفاقية بالذكر كما قال تعالى‪:‬‬
‫أۡ َ‬ ‫َ َ ٓ َ ُ‬
‫ۡرض‬‫س ِه ۡم﴾ [ ف����ص�ل� ت�‪ ]53 :‬وهذا كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و يِف ٱل ِ‬ ‫ف أنف ِ‬ ‫يِ‬ ‫اق و‬ ‫ۡ َ َ َ‬
‫ني ِهم ءايٰتِنا يِف ٱٓأۡلف ِ‬
‫رُِ‬ ‫﴿ َس‬
‫ذ‬ ‫ُ ۡ َ َ اَ ُ ۡ ُ َ‬ ‫َ ٓ َ ُ‬
‫صون﴾ [ا �ل�� ا ري�ا ت�‪َ ﴿ ]21-20 :‬و يِف‬ ‫َ َ ‪ُّۡ ٞ‬‬
‫َّ ٓ‬ ‫َ‬
‫ٱلس َماءِ‬ ‫ف أنفسِك ۚم أفل تب رِ‬ ‫ءايٰت ل ِلموقِن ِني ‪ ٢٠‬و يِ‬
‫ذ‬
‫وع ُدون﴾ [ا �ل�� ا ري�ا ت�‪ ]22 :‬حيث ذكر األنواع الثالثة كذلك هنا(‪.)1‬‬
‫ُۡ ُ ۡ ََ ُ َ َ‬
‫رِزقكم وما ت‬
‫يقول ابن عاشور‪ :‬وبمواقع النجوم جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع‪،‬‬
‫أي‪ :‬محال وقوعها من ثوابت وسيارة‪ .‬والوقوع يطلق على السقوط‪ ،‬أي‪:‬‬

‫((( انظر‪ :‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)426 /29‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪911‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الهوي‪ ،‬فمواقع النجوم مواضع غروبها فيكون في معنى قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وٱنلَّ ۡج ِم إِذا‬
‫َ‬

‫ى﴾[ا �لن���� ج����م‪.]1 :‬‬


‫َه َو ٰ‬
‫َ اَ ٓ ُ ۡ‬
‫ش ِر ِق َوٱل َمغ ٰ ِر ِب﴾‬ ‫والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى‪﴿ :‬فل أ‬
‫ۡ َ‬ ‫ب ٱل ۡ َم َ ٰ‬‫س ُم ب َر ّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ق‬
‫[ا �ل���م�ع�ا ر�ج ‪ .]40 :‬وجعل بمواقع النجوم بهذا المعنى مقسما به؛ ألن تلك المساقط في‬
‫َّ‬
‫حال سقوط النجوم عندها تذكر بالنظام البديع‪ ،‬اجملعول لسير الكواكب كل ليلة‪،‬‬
‫ََ‬
‫بعظمة الكواكب‪ ،‬وبتداولها خلفة بعد أخرى‪ ،‬وذلك أمر‬ ‫ال يختل وال يتخلف‪،‬‬
‫عظيم يحق القسم به‪ ،‬الراجع إلى القسم بمبدعه‪.‬‬
‫ويطلق الوقوع على الحلول في المكان‪ ،‬يقال‪ :‬وقعت اإلبل‪ ،‬إذا بركت‪ ،‬ووقعت‬
‫ُّ‬
‫وقوعها‬
‫ِ‬ ‫الغنم في مرابضها‪ ،‬ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم‪ ،‬فالمواقع‪ :‬محال‬
‫وج﴾ [ا �ل��بر و�ج ‪.]1 :‬‬ ‫ات ٱل ۡ رُ ُ‬ ‫وخطوط سيرها فيكون قريبا من قوله‪﴿ :‬و‬
‫َ َّ ٓ َ‬
‫ب ِ‬ ‫ٱلس َماءِ ذ ِ‬
‫والمواقع هي‪ :‬أفالك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء‪ ،‬وكذلك بروجها‬
‫ومنازلها‪.‬‬
‫وذكر (مواقع النجوم) على كال المعنيين تنويه بها وتعظيم ألمرها لداللة أحوالها‬
‫على دقائق حكمة اهلل تعالى‪ ،‬في نظام سيرها وبدائع قدرته على تسخيرها‪ .‬وتذكر‬
‫ويجوز أن يكون (مواقع) جمع موقع المصدر الميمي للوقوع(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫كان من السائد منذ القدم وحتى القرن السابع عشر أن كل النجوم ثوابت‬
‫سموه أفق الثوابت‪ ،‬ومع تقدم الكشوفات الفلكية‬‫على بعد أو أفق قريب واحد‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫خاصة بعد اختراع المراصد االلكترونية‪ ،‬تبين أن للنجوم حركة دائبة وأماكن تجري‬
‫فيها بانتظام‪ ،‬وهي محتفظة بمواقعها المحددة‪.‬‬

‫((( () التحرير والتنوير (‪.)331-330/7‬‬


‫‪912‬‬

‫ومواقع النجوم هي األماكن التي تمر بها في جريها عبر السماء‪ ،‬وهي محتفظة‬
‫بعالقاتها المحددة مع غيرها من األجرام في اجملرة الواحدة‏‪،‬‏ وبسرعات جريها‬
‫ودورانها‏‪،‬‏ وباألبعاد الفاصلة بينها‏‪،‬‏ وبقوى الجاذبية الرابطة بينها‏ ‏‪ ،‬واللفظة (مواقع)‬
‫جمع (موقع)‪ ،‬هذه المسافات بين النجوم مذهلة للغاية لضخامة أبعادها‏‪،‬‏ وحركات‬
‫النجوم عديدة وخاطفة‏‪.‬‬

‫خارطة لألبراج واجملموعات الرئيسية للنجوم‬

‫ومع ذلك فهي متحركة غير ثابتة‪ ،‬بحيث ال ترى إال مواقعها التي كانت بها‬
‫عند صدور ضوئها وهذه األوصاف العظيمة أقسم بها اهلل‪ ،‬على إثبات أن القرآن‬
‫وحي من اهلل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تحكم الكتل الهائلة للنجوم‏‪،‬‏‬ ‫وكل ذلك منوط بالجاذبية‏ ‏‪ ،‬وهي قوة ال ترى‏‪،‬‏‬
‫َ‬
‫والمسافات الشاسعة التي تفصل بينها‏‪،‬‏ والحركات المتعددة التي تتحرك بها؛‬
‫وجري في مداراتها المتعددة‏‪،‬‏ وغير ذلك من العوامل‬
‫ٍ‬ ‫دوران حول محاورها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫من‬
‫التي لم نعلم منها بعد إال القليل‪.‬‬
‫َ‬
‫وهذا الق َس ُم القرآني بمواقع النجوم يشير إلى سبق القرآن باإلشارة إلى إحدى‬
‫نظرا لألبعاد الشاسعة التي تفصل بروج نجوم السماء‬ ‫حقائق الكون التي تقول‪ :‬إنه ً‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مواقع‬ ‫عن أرضنا‏‪،‬‏ فإن اإلنسان على هذه األرض ال يرى النجوم أبدا‏‪،‬‏ ولكنه يرى‬
‫مرت بها النجوم ثم غادرتها‏‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪913‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وعلى ذلك‪ ،‬فهذه المواقع كلها نسبية‏؛ وليست مطلقة‏‪،‬‏ ليس هذا فقط؛ بل إن‬
‫نجوما قديمة قد خبت أو تالشت منذ أزمنة‬‫ً‬ ‫الدراسات الفلكية الحديثة قد أثبتت أن‬
‫بعيدة ‏‪ ،‬والضوء الذي انبثق منها في عدد من المواقع التي مرت بها ال يزال يتألأل‬
‫في ظلمة السماء‪ ،‬في كل ليلة من ليالي األرض إلى اليوم الراهن‏‪.‬‬
‫نظرا النحناء الضوء في صفحة الكون ـ كما كشفت البحوث العلمية‬ ‫كما أنه ً‬
‫َ‬
‫مواقع ظاهرية‬ ‫حديثا حتى شاع وصف الكون باالنحناء ـ فإن النجوم تبدو لنا في‬
‫مواقعها الحقيقية‏‪،‬‏ ومن هنا جاء القسم القرآني العظيم بمواقع النجوم‏؛ وليس‬
‫ِ‬ ‫غير‬
‫بالنجوم ذاتها‪.‬‬
‫وأقرب كواكب اجملموعة الشمسية إلى الشمس‪ ،‬وهو كوكب عطارد‪ ،‬يبعد‬
‫عنها بحوالي‏‪58‬‏ مليون كيلو متر‏‪،‬‏ وأبعدها عن الشمس‪ ،‬وهو كوكب بلوتو‪ ،‬يبعد‬
‫عنها بحوالي ستة آالف مليون كيلومتر‏‪.‬‬
‫وإذا خرجنا عن نطاق اجملموعة الشمسية‪ ،‬فإن هذه المقاييس األرضية ال تفي‬
‫بقياس المسافات الشاسعة التي تفصل بقية النجوم عنا‏‪،‬‏ فاتفق العلماء على وحدة‬
‫قياس كونية‪ ،‬تعرف باسم السنة الضوئية‏‪،‬‏ وهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة‬
‫من سنينا بسرعته المقدرة بحوالي الثالثمائة ألف كيلو متر في الثانية‏‏‏الواحدة‪،‬‏ وهي‬
‫مسافة مهولة تقدر بحوالي‏‪9.5‬‏ مليون مليون كيلو متر‏‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وأقرب النجوم السماوية إلينا بعد الشمس هو نجم قنطورس القريب أو األقرب‬
‫القنطوري ‪ ،Alpha Centauri‬وهو يبعد عنا حوالي ‏‪ 4.3‬‏ سنة ضوئية‏‪،‬‏ بينما‬
‫يبعد عنا النجم القطبي بحوالي‏‪400‬‏ سنة ضوئية‏‪،‬‏ ومنكب الجوزاء ‏‪1600‬‏ سنة‬
‫ضوئية‏‪،‬‏ وأبعد ما تم رصده بالتلسكوبات الراديوية يسمى أشباه النجوم ‪Quastar‬‬
‫على أبعاد تزيد عن ‪ 10‬بليون سنة ضوئية‪.‬‬
‫‪914‬‬

‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫نظرا لما رأينا من خالل البيان العلمي لحقيقة وجود مدارات للنجوم‪ ،‬فقد‬‫ً‬
‫ً‬
‫مسيطرا على الناس‪ ،‬والذي مفاده أن النجوم ثابتة‬ ‫انهار الوهم السابق الذين كان‬
‫في مكانها‪ ،‬حيث استقرت الحقيقة‪ :‬بأنها متحركة‪ ،‬وبشكل منتظم‪ ،‬وضمن أفالك‬
‫محددة‪ ،‬وتنظمها عالقات منسقة‪ ،‬ويحكمها نظام دقيق‪ ،‬وهذا يتطابق مع داللة‬
‫النص‪ ،‬وبهذا التطابق بين هذه الحقيقة المستقرة مع داللة النص نكون أمام مثال‬
‫َ‬
‫أخر في اإلعجاز العلمي‪.‬‬

‫صورة توضح مواقع أقرب النجوم للمجموعة الشمسية واجتاه حركتها بالنسبة الجتاه‬
‫حركة الشمس‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪915‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫الربق والرعد‬

‫يك ُم ٱل ۡ رَ ۡ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ه َو ٱلذَِّي يُ ِر‬


‫َ َ‬ ‫ب َق َخ ۡو ٗفا َو َط َم ٗعا َو ُينشِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اب ٱثلّ ِقال ‪١٢‬‬ ‫ح َ‬ ‫ٱلس َ‬‫ئ َّ‬
‫َ ٓ ُ‬ ‫ٱلص َو ٰ ِع َق َف ُي ِص ُ‬
‫ِيفتهِۦ َو ُي ۡرس ُِل َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َ َ ٰٓ َ ُ‬ ‫َ ُ َ ّ ُ َّ ۡ‬
‫يب ب ِ َها َمن يَشا ُء َوه ۡم‬ ‫لئِكة م ِۡن خ ِ‬ ‫ٱلرع ُد حِبَ ۡم ِده ِۦ وٱلم‬ ‫ويسبِح‬
‫ِيد ٱل ِم َحا ِل﴾ [ا �لرع�د‪.]13-12 :‬‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ٱللِ َو ُه َو شد ُ‬ ‫هَّ‬ ‫ُ َ ُ َ‬
‫جٰدِلون يِف‬ ‫ي‬
‫تى‬
‫َ َ ٗ ُ َّ ُ َ ّ ُ َ ۡ َ ُ ُ َّ جَ ۡ‬
‫ي َعلُ ُهۥ ُر اَك ٗما َف رَ َ‬ ‫ٱلل يُ ۡز يِج سحابا ثم يؤلِف بينهۥ ثم‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬أل َ ۡم تَ َر أَ َّن هَّ َ‬
‫َ ٓ‬ ‫يها ِم ۢن بَ َر ٖد َف ُي ِص ُ‬ ‫ٱلس َمآءِ ِمن ج َبال فِ َ‬ ‫ن ُل ِم َن َّ‬ ‫خ َلٰلِهِۦ َو ُي زَ ّ‬ ‫ۡ َ ۡ َ خَ ۡ‬
‫يب بِهِۦ َمن يَشا ُء‬ ‫َٖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬‫ي ُر ُج ِم ۡ‬ ‫ٱلودق‬
‫اد َس َنا بَ ۡرقِهِۦ يَذ َه ُب بِٱلبۡ َص ٰ ِر﴾ [ا �لن�ور‪.]43 :‬‬
‫أۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ َ َّ َ ُ َ َ ُ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫صفهۥ عن من يشاء ۖ يك‬ ‫وي رِۡ‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ومضات برق كما تظهر بواسطة القمر الصناعي‬


‫‪916‬‬

‫الداللة النصية‪:‬‬
‫اب ٱثلّ ِقال﴾‪.‬‬ ‫قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬هو ٱلذَِّي يرِ‬
‫َ َ‬ ‫ٱلس َح َ‬
‫ئ َّ‬ ‫ٗ‬ ‫ۡ َ‬
‫بق َخ ۡوفا َو َط َم ٗعا َو ُينشِ ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫يك ُم ٱل رَ ۡ‬ ‫َُ‬

‫في كون رؤية البرق تبعث في اإلنسان الخوف والطمع‪.‬‬


‫الغيث‪.‬‬ ‫قيل‪ :‬يخاف منه نزول َّ‬
‫الصواعق‪ ،‬ويطمع في نزول‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫يخاف المطر من يتضرر به كالمسافر‪ ،‬ومن في جرابه التمر والزبيب‪،‬‬ ‫وقيل‪:‬‬
‫والحب‪ ،‬ويطمع فيه من له فيه ٌ‬
‫نفع‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬يخاف منه في غير مكانه‪ ،‬وأمانه‪ ،‬يطمع فيه إذا كان في مكانه وأمانه‪،‬‬
‫ومن البلدان إذا مطروا‪ ،‬قحطوا‪ ،‬وإذا لم يمطروا خصبوا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫مركب من أجزاء رطبة مائية‪ ،‬ومن أجزاء‬ ‫جسم‬ ‫قال ابن الخطيب‪ < :‬البرق‬
‫ٌ ٌ‬ ‫َّ‬
‫رطب‪ ،‬والنَّار‬
‫ٌ‬ ‫جسم بارد‬ ‫هوائية‪ ،‬وال شك أن الغالب عليه األجزاء المائية‪ ،‬والماء‬
‫ِّ‬ ‫فظ ُ‬ ‫ُ‬
‫خالف العقل‪ ،‬فال بد من صانع‬ ‫ِ‬ ‫هور الضد من الضد التام على‬ ‫جسم حار يابس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مختار يظهر الضد من الضد >‪.‬‬
‫ِّ َ‬ ‫ثم قال‪> < :‬ويُنْشىء ُ َّ‬
‫السحاب الثقال< بالمطر‪ ،‬ويقال‪ :‬أنشأ اهلل السحابة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫فنشأت‪ ،‬أي‪ :‬أبدأها فبدأت>‪.‬‬
‫حاب‪ :‬اسم جنس الواحدة سحابة‪ ،‬والثقال‪ :‬جمع ثقيلة؛‬ ‫< الس ُ‬ ‫َّ‬ ‫قال الزمخشري‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫وسحاب ثِقال‪ ،‬كما تقول‪ :‬امرأة كريمة‪ ،‬ونساءٌ ِكرام>‪.‬‬ ‫ألنك تقول‪ :‬سحابة ثقيلة‬
‫ح ٌ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ‬
‫ب‬ ‫< السحاب جمع‪ ،‬واحدتها‪ :‬سحابة‪ ،‬ويقال في الجمع‪ :‬س‬ ‫وقال البغوي‪:‬‬
‫علي‪ :‬السحاب غربال الما ِء >‪.‬‬ ‫أيضا‪ ،‬قال ٌّ‬ ‫ب ً‬ ‫وس َحائ ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫فصل‪:‬‬
‫َّ‬
‫قال ابن الخطيب‪ < :‬وهذا من دالئل القدرة والحكمة‪ ،‬وذلك ألن هذه األجزاء‬
‫إما أن يقال‪ :‬حدثت في جو الهوا ِء‪ ،‬أو تصاعدت من وجه األرض‪.‬‬‫المائية َّ‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪917‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫فإن كان َّ‬


‫األول‪ :‬وجب أن يكون [حدوثها] بإحداث محدث حكيم قادر‪ ،‬وهو‬
‫المطلوب‪.‬‬
‫وإن كان الثاني‪ :‬هو أن يقال‪ :‬تلك األجزاء تصاعدت من األرض‪َّ ،‬‬
‫فلما وصلت‬
‫إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت‪ ،‬فثقلت‪ ،‬فرجعت إلى األرض‪.‬‬
‫ٌ‬
‫باطل؛ ألن األمطار مختلفة‪ ،‬فتارة تكون القطرات كبيرة‪ ،‬وتارة‬ ‫فنقول‪ :‬هذا‬
‫تكون صغيرة‪ ،‬وتارة تكون متقاربة‪ ،‬وأخرى تكون متباعدة‪ ،‬وتارة تطول مدة نزول‬
‫المطر‪ ،‬وتارة تقصر‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫واختالف األمطار في هذه الصفات مع أن طبيعة األرض واحدة‪ ،‬وطبيعة‬
‫الشمس واحدة‪ ،‬فال بد أن يكون تخصيص الفاعل المختار‪.‬‬
‫ً‬ ‫والتضرع في نزول الغيث ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫عظيما‪،‬‬ ‫أثرا‬ ‫وأيضا فالتجربة دلت على أن للدعاء‬
‫َّ‬
‫كما في االستسقاء ومشروعيته‪ ،‬فعلمنا أن المؤثر فيه [قدرة] الفاعل ال الطبيعة‪،‬‬
‫والخاصية > (‪.)1‬‬
‫َ َ ٗ ُ َّ ُ َ ّ ُ َ ۡ َ ُ ُ َّ جَ ۡ َ ُ ُ ُ اَ ٗ َ رَ َ ۡ ۡ َ خَ ۡ‬
‫تى ٱل َودق ي ُر ُج م ِۡن‬ ‫ٱلل يُ ۡز يِج سحابا ثم يؤلِف بينهۥ ثم يعلهۥ ركما ف‬ ‫﴿ َأل َ ۡم تَ َر أَ َّن هَّ َ‬

‫صف ُهۥ َعن َّمن‬


‫َ ََ ُٓ ََ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َُ‬ ‫َ‬ ‫ن ُل م َِن َّ‬
‫ٱلس َمآءِ مِن َ‬ ‫َ ُ زَ ّ‬ ‫َ‬
‫جبا َ ٖل فِيها ِم ۢن بر ٖد في ِصيب بِهِۦ من يشاء وي رِۡ‬ ‫ِ‬ ‫خِلٰلِهِۦ وي ِ‬
‫اد َس َنا بَ ۡرقِهِۦ يَذ َه ُب بِٱلبۡ َص ٰ ِر﴾‪.‬‬
‫أۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ ُٓ َ َ ُ‬
‫يشاء ۖ يك‬
‫تحقيق لما دل عليه الكالم السابق‪ :‬من إعطائه الهدى للعجماوات في شؤونه‪،‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وحرمانه إياه فريقا من العقالء‪ ،‬فلو كان ذلك جاريا على حسب االستحقاق‪ ،‬لكان‬
‫هؤالء أهدى من الطير في شأنهم‪.‬‬
‫وتقديم المعمولين لالختصاص‪ ،‬أي‪ :‬أن التصرف في العوالم هلل ال لغيره‪.‬‬
‫وفي هذا انتقال إلى داللة أحوال الموجودات على تفرد اهلل تعالى بالخلق‪،‬‬
‫َ َ ٗ ُ َّ ُ َ ّ ُ َ ۡ َ ُ ُ َّ جَ ۡ‬
‫ي َعلُ ُهۥ ُر اَك ٗما َف رَ َ‬
‫تى‬ ‫ولذلك أعقب بقوله‪َ ﴿ :‬أل َ ۡم تَ َر أَ َّن هَّ َ‬
‫ٱلل يُ ۡز يِج سحابا ثم يؤلِف بينهۥ ثم‬

‫((( اللباب في علوم الكتاب (‪.)274-273 /11‬‬


‫‪918‬‬

‫َ ٓ‬ ‫ن ُل ِم َن َّ‬
‫ٱلس َمآءِ ِمن ج َبال فِ َ‬
‫يها ِم ۢن بَ َر ٖد َف ُي ِص ُ‬ ‫َ ُ زَ ّ‬ ‫ۡ َ ۡ َ خَ ۡ ُ ُ ۡ َ‬
‫يب بِهِۦ َمن يَشا ُء‬ ‫ِ َٖ‬ ‫خلٰلِهِۦ وي ِ‬ ‫ٱلودق يرج ِمن ِ‬
‫ة ن آ‬
‫صف ُهۥ عن من يشا ُء ۖ يكاد َسنا ب ۡرقِهِۦ يذهب بِٱلبص ٰ ِر﴾ [��سور� ا �ل�ور‪ � :‬ي��� ‪.]43‬‬
‫ة‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ۡ َ ُ أۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو َي ُ َ َّ‬
‫رِۡ‬
‫أعقب الداللة على إعطاء الهدى في قوانين اإللهام في العجماوات بالداللة‬
‫على خلق الخصائص في الجماد‪ ،‬بحيث تسير على السير الذي قدره اهلل لها سيرا‬
‫ال يتغير‪ ،‬فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس ال يهتدون‬
‫بها إلى معرفة اهلل تعالى‪ ،‬والنظر في أدلتها‪ ،‬وفي ذلك داللة على عظم القدرة‪،‬‬
‫وسعة العلم‪ ،‬ووحدانية التصرف‪.‬‬
‫وهذا استدالل بنظام بعض حوادث الجو‪ ،‬حتى آل إلى قوله فيصيب به من‬
‫يشاء ويصرفه عن من يشاء‪.‬‬
‫وقد حصل من هذا حسن التخلص لالنتقال إلى االستدالل على عظم القدرة‪،‬‬
‫وسمو الحكمة‪ ،‬وسعة العلم اإللهي‪.‬‬
‫ويزجي‪ :‬يسوق‪ .‬يقال‪ :‬أزجى اإلبل إزجاء‪.‬‬
‫وأطلق اإلزجاء على دنو بعض السحاب من بعض‪ ،‬بتقدير اهلل تعالى‪ ،‬الشبيه‬
‫بالسوق‪ ،‬حتى يصير سحابا كثيفا‪ ،‬فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه‬
‫بالتأليف بين أجزائه‪ ،‬بقوله تعالى‪ :‬ثم يؤلف بينه إلخ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والركام‪ :‬مشتق من الركم‪ .‬والركم‪ :‬الجمع والضم‪ .‬ووزن فعال وفعالة يدل‬
‫على معنى المفعول‪ .‬فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى‪ِ﴿ :‬إَون يروا‬
‫ََ ْۡ‬

‫اب َّم ۡركوم‪ ﴾ٞ‬في سورة الطور [‪.]44‬‬ ‫ٱلس َمآءِ َساق ِٗطا َي ُقولُوا ْ َس َ‬
‫ُ‬ ‫ح ‪ٞ‬‬ ‫ك ِۡس ٗفا ّم َِن َّ‬

‫بعضه على بعض‪ ،‬حدث فيه ما يسمى في علم حوادث‬ ‫ُ‬ ‫فإذا تراكم السحاب‬
‫الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق‪.‬‬
‫فقال بعض المفسرين‪ :‬هو الودق‪ .‬وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر‪،‬‬
‫وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة‪ ،‬والمطر يخرج من خالل السحاب‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪919‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬
‫وجبال‪ .‬وتقدم خالل الديار في سورة‬
‫ِ‬ ‫كجبل‬ ‫لل‬ ‫خ‬ ‫والخالل‪ :‬الفتوق‪ ،‬جمع‬
‫اإلسراء [‪.]5‬‬
‫ومعنى ينزل من السماء‪ :‬يسقط من علو إلى سفل‪ ،‬أي‪ :‬ينزل من جو السماء‬
‫إلى األرض‪ .‬والسماء‪ :‬الجو الذي فوق جهة من األرض‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬من جبال بدل من السماء بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه‪،‬‬
‫وهو بدل بعض؛ ألن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال‪.‬‬
‫وإطالق الجبال في تشبيه الكثرة معروف‪ .‬يقال‪ :‬فالن جبل علم‪ ،‬وطود علم‪.‬‬
‫وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل !‪> :‬لو كان‬
‫ُ‬
‫لي مثل أحد ذهبا لسرني أن ال تمر علي ثالث ليال‪ ،‬وعندي منه شيء إال شيئا‬
‫أرصده لدين<‪.‬‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫أي‪ :‬ما كان يسرني‪ ،‬فالكالم بمعنى النفي‪ ،‬أي‪ :‬لما سرني‪ .‬أو لما كان سرني إلخ‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬فيصيب به من يشاء جعل نزول البرد إصابة؛ ألن اإلصابة إذا أطلقت‬
‫في كالمهم دلت على أنها حلول مكروه‪ .‬ومن ذلك سميت المصيبة الحادثة المكروهة‪.‬‬
‫وأما قوله تعالى‪﴿ :‬إِن تُ ِص ۡب َك َح َس َنة ت ُسؤ ُه ۡمۖ﴾ [ا �لت�و�ب��ة‪]50 :‬؛ فألن قوله‪ :‬حسنة‬
‫‪ۡ َ ٞ‬‬

‫قرينة من إطالق اإلصابة على مطلق الحدوث إما مجازا مرسال وإما مشتركا لفظيا‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫أو مشتركا معنويا‪ ،‬فإن (أصاب) مشتق من الصوب وهو النزول‪ ،‬ومنه صوب‬
‫المطر‪ ،‬فجعل نزول البرد إصابة ألنه يفسد الزرع والثمرة‪ ،‬فضمير به للبرد‪.‬‬
‫وجملة‪ :‬يكاد سنا برقه يذهب باألبصار وصف لـ‪ :‬سحابا‪ .‬وضمير برقه عائد‬
‫إلى سحابا‪.‬‬
‫ُ‬
‫شعور‬ ‫وفائدة هذه الصفة‪ :‬تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات‪ ،‬إذ كان‬
‫َ‬
‫الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكون السحاب وتراكمه ونزول‬
‫المطر والبرد‪.‬‬
‫‪920‬‬

‫إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخالف اشتداد البرق‬
‫فإنه ال يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات‪ ،‬فإن أصحاب األبصار التي‬
‫حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة‪ .‬ولهذه النكتة‬
‫خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر‪.‬‬
‫والسنا مقصورا‪ :‬ضوء البرق وضوء النار‪ .‬وأما السناء الممدود فهو الرفعة(‪.)1‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫ً‬ ‫َ ْ ُ‬
‫صحب البرق ‪ Lightning‬عادة السحب الكثيفة المثقلة بالمطر‪ ،‬والممتدة‬ ‫ي‬
‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫عاليا كالجبال‪ ،‬والتي تسمى بسحب ُّ‬‫ً‬
‫صحب ظواهر‬ ‫الركام ‪ ،Cumulu‬وقد ي‬
‫أخرى كالعواصف الرعدية ‪ Thunder Storm‬والعواصف الترابية ‪Dust Storm‬‬
‫والثورات البركانية‪ ،‬ويصاحبه دوي أو دمدمة وقعقعة تسمى بالرعد ‪.Thunder‬‬
‫والبرق عبارة عن تفريغ شحنة كهربية‪ ،‬قد تقع داخل السحب‪ ،‬أو بين سحابة‬
‫وأخرى مشحونة بشحنة مخالفة‪ ،‬وقد تقع بين السحب المشحونة والهواء‪ ،‬وإذا‬
‫ً َّ‬
‫مدمرا كل ما‬ ‫بلغ البرق سطح األرض فهو ينتخب األجزاء المرتفعة إلفراغ شحنته‪،‬‬
‫يصادفه من أحياء أوجماد ؛ ولذا يسمى حينئذ صاعقة البرق ‪،Lightning bolt‬‬
‫أو ضربة الرعد ‪.Thunderbolt‬‬
‫ولم تكن طبيعة البرق معروفة حتى منتصف القرن الثامن عشر‪ ،‬وفي عام‬
‫‪ 1752‬أثبت األمريكي بنيامين فرانكلين ‪ Benjamin Franklin‬أنه عبارة‬
‫عن شحنة كهربية‪ ،‬حيث يمكنها توليد شرارة ‪ Spark‬إذا اقتربت من األرض‪.‬‬
‫والقصة الشائعة‪ :‬أنه استخدم طائرة ورقية‪ ،‬أثناء عاصفة رعدية‪ ،‬ربط فيها‬
‫مفتاحا معدنيا متصال بطرف قرب سطح األرض‪ ،‬أثناء طيرانها عاليا‪ ،‬فالحظ‬
‫تولد شرارة كهربية بين الطرف المعدني المتصل بالطائرة وبين األرض‪ ،‬أعاد غيره‬

‫((( التحرير والتنوير (‪.)262-260/18‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪921‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫التجربة مرات عديدة‪ ،‬وكان بعضها مأسويًا‪.‬‬

‫جتربة فرانكلني‬

‫ففي عام ‪ 1753‬قام الفيزيائي السويدي رتشمان ‪ Richman‬بتجربة مماثلة؛‬


‫ولكن الشحنة الكهربية صعقته‪.‬‬
‫والوسط الذي تتجمع فيه الغيوم يمتلئ بالشحنات الكهربية‪ ،‬واحتمال تالمس‬
‫الشحنات المتعاكسة كبير‪ ،‬ولذا فإن البرق الداخلي يمثل ثالثة أرباع ضربات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫البرق‪ ،‬وحينئذ يرى المراقب من سطح األرض توهجا خافتا‪ ،‬تحجبه طبقات‬
‫السحب الكثيفة‪.‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫وقد يحدث التفريغ الكهربي أعلى الغيمة‪ ،‬فتتكشف السحب للناظر بهيئة‬
‫ظلمات متباينة اإلعتام تحجب الوميض‪.‬‬
‫ويأخذ البرق أشكاال عديدة؛ بسبب انتشار الشرارة في كتل هوائية متباينة‬
‫الضغط‪ ،‬ودرجة الرطوبة؛ فقد يظهر بهيئة خط متعرج‪ ،‬أو بهيئة خطوط شبه‬
‫متوازية‪ ،‬وإذا وصلت ضربة البرق إلى سطح األرض فيعتمد خطرها على موضع‬
‫تفريغ الشحنة‪.‬‬
‫‪922‬‬

‫واألجسام المعدنية التي توضع فوق األبنية العالية‪ ،‬في المناطق التي تكثر‬
‫ُ‬
‫الصواعق‪ ،‬وتسمى بموانع الصواعق‪ ،‬وهي ال تمنعها في الحقيقة‪ ،‬وإنما تقوم‬ ‫فيها‬
‫بتسريب الشحنة الكهربائية خالل موصالت معدنية نحو األرض‪ ،‬فتحرف مسارها‬
‫وتدفع خطرها‪.‬‬
‫وتتكون العواصف الرعدية نتيجة سخونة سطح األرض‪ ،‬فيتم تسخين الهواء‬
‫المالمس له في الطبقة السفلى من الجو؛ فيرتفع عاليا بهيئة دوامات‪ ،‬حاماًل بخار‬
‫ويكون تجمعات من السحب الركامية‬ ‫ِّ‬ ‫الماء؛ ليتكاثف في المناطق العليا الباردة‪،‬‬
‫قد يصل ارتفاعها إلى ‪ 18‬كم‪.‬‬
‫ويوافق هذا التفسير كثرة العواصف الرعدية في المناطق االستوائية‪ ،‬وتتميز‬
‫سحب الركام بنزول المطر الغزير‪َ ،‬‬
‫والب َرد‪ ،‬وحدوث البرق والصواعق‪.‬‬
‫الب َرد حوالي ‪ 10‬سم‪ ،‬ومع ازدياد حجمها تصبح أكثر‬‫وقد يبلغ حجم حبة َ‬
‫أكبر للمنشآت والمحاصيل؛ نتيجة زيادة شدة االرتطام‪،‬‬ ‫تدميرا‪ ،‬وتسبب خسائر َ‬ ‫ً‬
‫نادرا ‪ 15‬سم في العرض؛ فتزداد قوة تدميرها‪ ،‬وت ُ ِّ‬
‫عرض حيواناتِ المزارعِ‪،‬‬ ‫وتبلغ ً‬
‫وحتى البشر للخطر‪.‬‬
‫ٌ‬
‫دراسة كافة العوامل المحتملة التأثير‪ ،‬في عملية ّ‬ ‫ً ٌ‬ ‫ُ‬
‫تكون‬ ‫تجريبيا بعد‬ ‫ولم تكتمل‬
‫الشحنات الكهربية في السحب‪ ،‬والتي تدفع لوقوع البرق عند بلوغ الحد الحرج‪،‬‬
‫فقد تدخل عدة عوامل مثل درجة التشبع بالماء واحتكاك القطرات بالهواء وشدة‬
‫تأثير ما‪ ،‬لكن ّ‬
‫تكون البرق‬ ‫الرياح؛ وربما يكون للرياح الشمسية المشحونة كهربيا ٌ‬
‫َ ْ‬ ‫ً‬
‫الب َرد ‪ Hail‬في أعلى السحب‪.‬‬ ‫أساسا إلى تكون‬ ‫يرجع‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وإن ومضاتِ البرق‪ ،‬ودمدمة الرعد رسائل ال يغيب مغزاها عن الفطين‪ ،‬تشهد‬
‫بتقدير ُمسبق وتدبير واحد‪ ،‬ال تصنعه إال علة وقدرة‪ ،‬إذا شاءت جعلت النعمة‬ ‫ٍ‬
‫نقمة‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪923‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫َ‬
‫َ‬
‫تفسيرها إال مؤخرا في عصر العلم‪،‬‬ ‫وهي ظاهرة ُمحيِّ َرة لم يعرف اإلنسان‬
‫ُ‬
‫وتعجب أن يكشف القرآن الكريم سترها من بين كل الكتب التي تنسب سواه‬
‫للوحي‪ ،‬فأتت موافقة للواقع‪ ،‬كدليل للنبوة الخاتمة‪.‬‬
‫فالبرق والرعد والصواعق ظواهر كونية‪ ،‬قد تناولها الكتاب الكريم؛ فورد‬
‫ونذيرا يشهد للفطين بوحدانية اهلل تعالى وقدرته وتقديره‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بشيرا بالمطر‪،‬‬ ‫البرق‬
‫وبديع صنعه‪ ،‬وحكيم تدبيره‪.‬‬
‫ً‬
‫شاهدا بعلمه ُم َت َح ِّديًا ُ‬
‫المكابر بدالئل النبوة‪ ،‬يقول العلي‬ ‫وجاء نظم الكتاب‬
‫َ َ َّ َ ۡ ۡ َ ۡ ُ ُ َ َ ٰ َ‬
‫القدير‪﴿ :‬بل كذبوا بِما لم ي‬
‫َ‬ ‫ك َك َّذ َب ٱل َ‬ ‫َ ۡ َ َّ ُ ْ َ َ ۡ ُ ْ ۡ‬
‫ذَِّين ِمن ق ۡبل ِ ِه ۡ ۖم‬ ‫حُِيطوا ب ِ ِعل ِمهِۦ ولما يأت ِ ِهم تأوِيله ۚۥ كذل ِ‬
‫ن‬
‫ني﴾ [ � ��� ‪.]39 :‬‬
‫َ ُ ۡ َ ۡ َ اَ َ َ ٰ َ ُ َّ‬
‫ٱلظٰلِم َ‬
‫يو س‬ ‫ِ‬ ‫فٱنظر كيف كن عقِبة‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫لقد تفرد القرآن الكريم من بين سائر الكتب‪ ،‬التي أنزلها اهلل تعالى بذكر‬
‫هذه الظواهر الكونية العظيمة‪ ،‬التي كان البشر على جهالة تامة بكنهها‪ ،‬ومعرفة‬
‫َ‬
‫أساطين اللغة وفرسان البيان بروائعه‬ ‫حقيقتها‪ ،‬وكما أذهل القرآن الكريم‬
‫من الفصاحة والبيان‪ ،‬فإنه يذهل العلماء الكونيين في عصرنا؛ لما اشتمل عليه‬
‫من دالالت على حقائق الكون‪ ،‬خاصة بعد وضوح التطابق بين تلك الدالالت‬
‫ُ‬ ‫ِّ َ‬
‫وهذه الحقائق‪ ،‬وهو مثال باهر‪ ،‬يدل على أن المتحدث هو اهلل‪ ،‬والمبلغ رسول‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫اهلل !‪ ،‬وهذا هو مضمون اإلعجاز العلمي‪.‬‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪925‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫حدوث الربق‬

‫يمر ويرجع في طرفة عين<(‪.)1‬‬


‫في صحيح مسلم‪> :‬ألم تروا إلى البرق كيف ُّ‬
‫الداللة النصية‪:‬‬
‫يخبرنا الرسول ! في هذا الحديث الشريف‪ ،‬عما يجري لدى رؤيتنا للبرق‪،‬‬
‫حيث يصرح في وصفه له بأنه يرجع في زمن‪ ،‬يعادل زمن مروره؛ فيثبت بذلك‬
‫طورين رئيسيين لومضة البرق هي‪ :‬المرور وطور الرجوع‪.‬‬
‫احلقيقة العلمية‪:‬‬
‫يحدث البرق في أجزاء من الثانية؛ نتيجة مرور شحنة سالبة‪ ،‬تنطلق من قاعدة‬
‫السحابة لتشحنها كل بشحنة سالبة‪ ،‬وبمرورها على األجسام المرتفعة عن األرض‬
‫كاألشجار واألعمدة تولد شحنة كهربية موجبة‪.‬‬
‫ويرجع البرق بهيئة شحنة موجبة نحو قاعدة السحابة‪ ،‬خالل الممر السالب‬
‫َ‬
‫وميض البرق‪ ،‬وتسخن‬ ‫الشحنة‪ ،‬فتحدث شرارة قوية نتيجة لقاء الشحنتين‪ ،‬تصدر‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الهواء المحيط إلى حد االنفجار؛ فتحدث الدمدمة أو هزيم الرعد عقب مشاهدة‬
‫الوميض؛ نتيجة سرعة الضوء األكبر من سرعة الصوت‪ ،‬بحيث يمكن تقدير بعد‬
‫السحاب‪.‬‬
‫وما كان بوسع بشر َ‬
‫زمن التنزيل أن يدرك قبل اكتشاف أدوات التصوير السريع‬ ‫ِ ٍ‬
‫أن البرق يمر من السحاب نحو األرض‪ ،‬ثم يرجع ُم ً‬
‫صدرا الوميض إال بوحي‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.449 /1 ،)288‬‬


‫‪926‬‬

‫َ ُ‬
‫الب َرد دوريا داخل السحابة‪ ،‬نحو األعلى‪ ،‬تحت تأثير تيارات الحمل‬ ‫يتحرك‬
‫ً‬
‫من الهواء الصاعد‪ ،‬ونحو األسفل‪ ،‬بزيادة وزنه نتيجة الكتساب حباته مزيدا من‬
‫طبقات الجليد في المنطقة العليا‪ ،‬حيث تتدنى درجة الحرارة‪.‬‬
‫الب َرد خالل حركته ألعلى إلكترونات سالبة‪ ،‬ويشحن أعلى‬‫وتكتسب حبات َ‬
‫َ‬
‫السحابة بشحنة موجبة‪ ،‬وخالل حركته نحو األسفل يشحن أسفل السحابة بشحنة‬
‫سالبة‪.‬‬
‫وعندما تجتمع الظروف المناسبة‪ ،‬وتنضج السحابة‪ ،‬تسعى الشحنة الكهربية‬
‫السالبة في قاعدة السحابة؛ لشحن الجو الرطب دونها بشحنة سالبة‪ ،‬وتتوجه‬
‫ُ‬
‫األرض‪ ،‬يقودها ما يسمى الشعاع القائد ‪ Leader‬لضربة البرق‪ ،‬وينتقل في‬ ‫ِ‬ ‫نحو‬
‫خطوات متدرجة كل منها قد يبلغ عشرات األمتار‪ ،‬وقد تبلغ سرعة الشعاع القائد‬
‫‪ 60‬ألف متر‪/‬ثانية‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪927‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫ً‬
‫وعلى بعد عشرات األمتار من سطح األرض تقابله الشحنة الموجبة‪ ،‬صاعدة‬
‫نحوه؛ نتيجة التجاذب بين الشحنتين‪ ،‬وتمتد نحو السحابة خالل نفس المسار‬
‫في الهواء الذي مهده الشعاع القائد بتأيين الهواء بالشحنة السالبة؛ ولذا تسمى‬
‫بالضربة المرتجعة ‪ ،Return Stroke‬وهي المسئول األساس (حوالي ‪ )%99‬عن‬
‫تفريغ الشحنة الكهربية‪ ،‬وتوليد الوميض الحاد أو لمح البرق ‪.Lightning flath‬‬
‫ونتيجة للشحنة الكهربية الهائلة التي تشق طريقها في الهواء‪ ،‬يسخن فجأة‬
‫في أجزاء قليلة من الثانية؛ لتبلغ درجة حرارته حوالي ‪ 20‬ألف إلى ‪ 30‬ألف درجة‬
‫مئوية؛ وهي درجة حرارة هائلة‪ ،‬تزيد عن حوالي ثالث إلى خمس مرات قدر‬
‫حرارة سطح الشمس (حوالي ‪ 6‬آالف درجة مئوية)‪.‬‬
‫والتسخين الفجائي للهواء لدرجة الحرارة الهائلة تلك يولد موجة صدمية‬
‫ُ‬
‫فوق صوتية ‪ ،Supersonic Thock wave‬تسمع كأصوات عاتية مرعبة متتابعة‬
‫بهيئة هزيم أو دمدمة أو قعقعة‪ ،‬تسمى بالرعد ‪Thunder‬؛ نتيجة دوي االنفجار‬
‫الهائل الذي تصاحبه موجة تمدد الهواء فجأة‪ ،‬والموجة االرتدادية‪ ،‬وترددهما‬
‫مع صدى الصوت المنعكس على معالم سطح األرض كالجبال والسحب في المنطقة‬
‫من الجو وما يجاورها‪.‬‬
‫وألن لمح البرق ينتقل في الجو بسرعة الضوء (حوالي ‪ 300‬ألف كم‪/‬ثانية)‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫بينما تنتقل موجات الرعد بسرعة الصوت (حوالي ‪ 343‬متر‪/‬ثانية عند مستوى‬
‫سطح البحر) يُمكن تقدير بُعد المصدر بمعرفة الفارق زمنيا بين الحدثين‪.‬‬
‫وقد يحدث البرق وال يسمع الرعد لبعد المصدر‪ ،‬وقد يُسمع الرعد‬
‫وال يشاهد البرق لوقوعه داخل غيمة السحب‪.‬‬
‫ً‬
‫خطرا يمكن تجاهله‪ ،‬حيث يحدث البرق حوالي‬ ‫وليست ضربات البرق‬
‫‪ 100‬مرة كل ثانية‪ ،‬وفي اللحظة الواحدة تحدث حوالي ‪ 2000‬عاصفة رعدية‪،‬‬
‫وفي العام حوالي ‪ 6‬مليون عاصفة برقية ‪.Lightning Storm‬‬
‫‪928‬‬

‫ويقوم البرق بتفريغ تيار يبلغ أكثر من مائة مليون فولت على األقل في كل مرة‪،‬‬
‫وقد يصل إلى ألف مليون فولت‪ ،‬فأنت إذن أمام قوة رهيبة‪ ،‬تدخل في صلب‬
‫العمليات المقدرة لتوزيع المطر على سطح الكوكب‪ ،‬وفي ذات الوقت قد تكون‬
‫ً‬
‫مصدرا لدمار ال يدفعه احتياط‪.‬‬ ‫تلك القوة الرهيبة‬
‫وفي أقل مــــن نصف ثانية تحــدث ‪ 4- 3‬ضربات برق نراها كلها في ومضة‬
‫برق واحدة‪ ،‬وال ندرك مرور ورجوع البرق‪ ،‬والحقيقة أن الشعاع الكهربي يرجع‬
‫فعال باتجاه الغيمة‪ ،‬لكن سرعة العملية تبدي لنا البرق وكأنه يتجه من الغيمة إلى‬
‫األرض فحسب‪.‬‬
‫وجه اإلعجاز‪:‬‬
‫ً‬
‫مثبتا َ‬
‫طوري المرور والرجوع‪ ،‬في زمن ما‬ ‫لقد جاء وصف النبي ! للبرق‬
‫ً‬
‫كان البشر يدرون شيئا من ذلك‪ ،‬وبعد تقدم علوم الفلك والفيزياء‪ ،‬وما اخترع‬
‫َ‬
‫من وسائل الرصد والقياس‪ ،‬عرف العلماء على وجه اليقين هذه الحقيقة‪ ،‬وأن‬
‫ذلك يحصل في زمن قياسي‪.‬‬
‫حيث يتم في أقل من نصف ثانية‪ ،‬وتحدث من ‪ 4-3‬ضربات برق نراها كلها‬
‫في ومضة برق واحدة‪ ،‬فتطابقت الحقيقة العلمية مع ما أخبر به رسول اهلل !‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫عشر‬ ‫ودل ذلك على أن ما حدث به رسول اهلل ! بهذا الخصوص‪ ،‬قبل أربعة‬
‫ً‬
‫قرنا‪ ،‬هو من قبيل اإلعجاز العلمي‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪929‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫كسوف الشمس‬

‫قال رسول اهلل !‪> :‬إن الشمس والقمر آيتان من آيات اهلل‪ ،‬يخوف اهلل بهما‬
‫عباده‪ ،‬وإنهما ال ينكسفان لموت أحد من الناس‪ ،‬فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا‬
‫وادعوا اهلل حتى ينكشف ما بكم< رواه مسلم(‪.)1‬‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫الكسوف الشامل للشمس كما يظهر من الفضاء‬


‫لقد شهد العالم في نهاية هذا القرن كسوفًا ً‬
‫كليا للشمس وقد رافقه الكثير من‬
‫ردود الفعل على جميع المستويات‪ ،‬والتي تخللها الكثير من الحذر والخوف‬
‫ُ‬ ‫ََ ْ‬
‫بعض الشوارع من الناس‪ ،‬واعتصم البعض‬ ‫والدهشة واالستغراب؛ لذا فقد خلت‬
‫ومنع األطفال من النزول إلى الشوارع‪ ،‬هذا ما حدث في بعض‬ ‫في البيوت‪ُ ،‬‬

‫((( صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪.)911‬‬


‫‪930‬‬

‫اجملتمعات‪ ،‬بينما البعض اآلخر لم يكترث لهذا واستمرت حياتهم العادية‬


‫كما هي‪.‬‬
‫وماذا يعني الكسوف؟ هو حجب القمر لضوء الشمس عنا‪ ،‬فإذا كان كليا فإن‬
‫االحتجاب يكون تاما‪ ،‬إذ يتحول أثناءه النهار إلى ليل‪ ،‬خالل دقائق معدودة‪،‬‬
‫ويحدث هذا في شريط محدود على سطح الكرة األرضية‪.‬‬
‫أما البلدان التي تقع شمال وجنوب هذا الشريط‪ ،‬فإنها تشاهد الكسوف جزئيا‬
‫ومقدار الجزء المكسوف من الشمس‪ ،‬يعتمد على البُعد عن هذا الشريط‪.‬‬
‫وال شك أن الحدث نفسه يدل على مدى ضآلة القدرة البشرية أمام ما يحدث‬
‫بين األجرام السماوية‪ ،‬وتختلف االنطباعات خالل هذا الحدث من شخص إلى‬
‫آخر‪ ،‬ومن عصر إلى آخر‪ ،‬حسب المستوى الثقافي والديني‪.‬‬

‫مراحل ظاهرة كسوف الشمس‬


‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪931‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وقد ورد في الحديث الشريف بأن الكسوف والخسوف من اآليات التي يخوف‬
‫اهلل بهما عباده‪ ،‬وكان لفظ الحديث يدل على االستمرارية لكل العصور‪.‬‬
‫ففيما مضى كان الناس يخافون الكسوف لحدوثه فجأة‪ ،‬وذلك قبل التوصل‬
‫عن طريق الحسابات الحديثة إلى إمكانية تحديد وقت حدوثه بدقة متناهية‪.‬‬
‫أما اليوم‪ ،‬وإن قل الخوف نتيجة توفر إمكانية تعيين وقت‪ ،‬ومكان الكسوف‬
‫والخسوف‪ ،‬إال أن الخوف منهما بقي أثره في أعماق النفس البشرية‪.‬‬
‫لذا نحاول معرفة بعض الظواهر الطبيعية الهائلة التي ال يمكن أن ت ُ َ‬
‫عرف إال عند‬
‫حدوث كسوف ّ‬
‫كلي للشمس‪.‬‬
‫سننطلق أوال مع فرع من فروع الفيزياء الشمسية‪ ،‬وهو ما يتعلق بالطبقة‬
‫الخارجية من األغلفة المحيطة بالشمس‪ ،‬والتي تدعى بالهالة الشمسية ‪،Corona‬‬
‫والمتميزة بالتدني الشديد في كثافتها الذي قد تعجز التقنية الحديثة عن عمل ما‬
‫يشابه هذا التفريغ في المعامل األرضية‪ ،‬لكن ما عالقة طبقة الكرونا بالكسوف؟‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫اهلالة الشمسية‬
‫‪932‬‬

‫ً‬
‫نظرا لكثافة الكرونا المتدنية؛ فإن شدة إضاءتها بالنسبة لقرص الشمس ذي‬
‫َّ‬
‫الل َمعان الشديد ضعيفة جدا؛ لذا فإنه ال يمكن رؤية هذه الطبقة المحيطة بقرص‬
‫الشمس إال عندما يغطى قرص الشمس المتوهج‪ ،‬وهذا ما يكون أثناء حدوث‬
‫الكسوف الكلي للشمس؛ مما يتيح رؤية طبقة الكرونا التي تحيط بالشمس‬
‫من جميع الجهات‪.‬‬
‫وبعد التمكن من مشاهدتها‪ ،‬ورصد أشعة الكرونا‪ ،‬أثبتت الدراسات الطيفية‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الكبير لدرجة حرارة الهالة (الكرونا)‪ ،‬والذي يصل إلى أكثر من مليون‬ ‫االرتفاع‬
‫ً‬
‫تقريبا‪.‬‬ ‫درجة‪ ،‬مع العلم بأن سطح الشمس اليتجاوز ستة آالف درجة‬
‫واليزال هذا األمر ً‬
‫لغزا لدى العلماء؛ ألن المنطقي‪ :‬هو أن تنخفض الحرارة‬
‫باالبتعاد عن سطح الشمس‪.‬‬
‫وقد أطلق القمر الصناعي سوهو عام ‪1995‬م خصيصا لدراسة طبقة الكرونا‪،‬‬
‫ومعرفة العوامل التي تسببت في ارتفاع درجة حرارتها‪.‬‬
‫والمنطق‪ :‬ال بد أن تنخفض باالبتعاد عن سطح الشمس‪ ،‬وهنا يكمن التساؤل‬
‫الذي يحظى باهتمام علماء الفيزياء الشمسية‪ ،‬األمر الذي الزال ً‬
‫لغزا بالنسبة لهم‪.‬‬
‫وفي محاولة للبحث والتوصل لمعرفة أسباب ارتفاع درجة الحرارة؛ فقد كان‬
‫من متطلبات القمر الصناعي سوهو الذي أطلق سنة ‪ ،1995‬والذي يدور حول‬
‫الشمس ‪ -‬دراسة طبقة الكرونا‪ ،‬ومعرفة العوامل التي تسببت في ارتفاع درجة‬
‫الحرارة‪.‬‬
‫والشاهد أنه لوال حدوث الكسوف الكلي؛ لما أمكن التوصل لرؤية ومعرفة‬
‫الكرونا‪ ،‬والتي تعتبر آية في ضآلة كثافتها‪ ،‬واالرتفاع الشديد في حرارتها‪.‬‬
‫أما الظاهرة األخرى التي تتعلق بالكسوف الكلي‪ ،‬فهي البدايات الرياضية‬
‫للنظرية النسبية‪ ،‬التي وضعها أينشتاين في أوائل هذا القرن الميالدي‪.‬‬
‫شــــواهد علميـــة معاصــرة‬
‫‪933‬‬ ‫على صدق الرسالة‬
‫الفصل الثاني‬

‫وهي عبارة عن معادالت رياضية بحتة‪ ،‬والتي يصعب تطبيقها على األرض؛‬
‫لحاجتها إلى جسم‪ ،‬ذي كتلة عظيمة‪ ،‬وجاذبية كبيرة جدا‪ ،‬وتتعلق هذه المعادالت‬
‫بإمكانية تأثر الضوء بالجاذبية الناتجة عن كتلة كبيرة جدا أثناء مروره بالقرب منها‪.‬‬
‫وتعتبر كتلة الشمس أكبر كتلة في اجملموعة الشمسية؛ لذا لم يكن أمام العلماء‬
‫للتحقق من صحة هذه المعادالت إال استخدام ظاهرة الكسوف الكلي للشمس‪،‬‬
‫واستنباط تأثير كتلة الشمس القوية‪ ،‬وجاذبيتها العظيمة على مواقع النجوم‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتحول النهار إلى ليل‪.‬‬ ‫التي تظهر بالقرب من الشمس‪ ،‬أثناءَ الكسوف الكلي‪،‬‬
‫وبالفعل تم تصوير هذه النجوم نهارا‪ ،‬أثناء الكسوف الكلي الذي حدث سنة‬
‫‪ 1919‬وتمت مقارنتها بصور نفس اجملموعة النجمية‪ ،‬وذلك أثناء ظهورها ليال‬
‫أي‪ :‬قبل حدوث الكسوف بعدة أشهر‪.‬‬
‫وقد أدت المقارنة إلى صحة العالقات الرياضية التي استنبطها أينشتاين‪ ،‬وكان‬
‫هذا الحدث السبب في شهرة أينشتاين‪.‬‬
‫ولم يقف األمر عند دراسة تأثر الضوء بجاذبية النجوم‪ ،‬بل تعداه إلى استغالل‬
‫ظاهرة الكسوف الكلي في دراسة اآلفاق السحيقة للكون‪ ،‬والمساعدة في البحث‬
‫عن المادة غير المرئية‪ ،‬ومنها الثقوب السوداء ويعتبر هذا من اجملاالت البحثية‬
‫الحديثة في مجال العلوم الفلكية الحديثة اليوم‪ ،‬والتي ترينا بعض آيات المولى‬
‫شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‬

‫ـ عز وجل ـ في الكون‪.‬‬
‫للتعرف على المزيد من دالئل قدرته‪ ،‬ولعل دراسة ظاهرتي الكسوف‬
‫والخسوف تكشفان في المستقبل الكثير من األسرار التي ال تزال البشرية عاجزة‬
‫عن معرفتها ألجيال قادمة‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫‪935‬‬

‫الخاتمة‬

‫ة‬ ‫ف�� ذ � خ ��ت‬


‫�� �ه��� �ه ا ل���ا� �م�� ‪...‬‬
‫ي‬
‫سوف أذكر أهم نتائج هذا البحث وتوصياته‪.‬‬

‫أول نتائج البحث‪:‬‬


‫وتتلخص أهم نتائج البحث في النقط التالية‪:‬‬
‫‪P P‬لقد أبرز البحث ما تميزت به حياة الرسول ! من شمول؛ فقد شملت‬
‫ُ‬
‫سيرته العطرة شتى جوانب حياته الشخصية‪ ،‬وعالقاته األسرية واالجتماعية‪،‬‬
‫وتعامالته االقتصادية‪ ،‬وعالقاته السياسية‪.‬‬
‫فقد عاش العالقات األسرية‪ :‬بشتى أشكالها‪ ،‬وتحمل تبعاتها زوجا وأبا‬
‫وصهرا وقريبا‪.‬‬
‫وكذلك الحال في اجملال االجتماعي‪ :‬كان جارا ورفيقا وصاحبا‪.‬‬
‫وفي الجانب االقتصادي‪ :‬اشترى وساوم ورهن‪.‬‬
‫‪936‬‬

‫وفي الجانب السياسي‪ :‬كان قائدا ألول دولة إسالمية‪ ،‬أدارت شؤون رعيتها‬
‫بمقتضى العدل والمساواة‪ ،‬وحفظت مصالحهم‪ ،‬ووفرت لمواطنيها األمن‬
‫َْ‬
‫وحمتهم من األعداء‪ ،‬ونظمت عالقاتها الداخلية والخارجية‪.‬‬ ‫واألمان‪،‬‬
‫ً‬
‫‪P P‬كان طابع التوازن واالعتدال عالمة واضحة في حياته ! وتصرفاته كلها‪،‬‬
‫َ ّ‬ ‫َّ‬
‫وفي شتى شؤونها؛ فقد أعطى كل شيء حقه ومستحقه‪ ،‬دون أن يطغى‬
‫جانب على جانب‪.‬‬
‫فمثال لم تصرفه عبادته لربه وتعلقه به‪ ،‬عن الوفاء بالتكاليف األسرية والحقوق‬
‫َ ُ‬
‫االجتماعية‪ ،‬ولم يمنعه ثِقل الدعوة‪ ،‬وأعباء البالغ‪ ،‬وأداء الرسالة الذي تنوء‬
‫بحملها الجبال الراسيات‪ ،‬من اتخاذ األسباب المادية‪ ،‬التي تتطلبها أمور المعاش‬
‫وما يتعلق بها‪.‬‬
‫كما لم تثنه قيادة الرجال في مواطن الجهاد ‪ -‬عن مالطفة الزوجات واألهل‬
‫واألصحاب‪ ،‬والكبار والصغار ومؤانستهم‪ ،‬وإدخال السرور عليهم‪.‬‬
‫‪P P‬كانت معاناته ! كبشر تزيد عن المعتاد لدى البشر؛ فقد عانى من المرض‬
‫ِّ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫>إني أوعك كما يُوعك رجالن منكم<‪ .‬متفق عليه‪.‬‬‫ضعف ما يعانيه غيره‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫وعانى من الجوع حتى ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع‪.‬‬
‫ولقد اهتم رسول اهلل ! أشد االهتمام بأمور الرسالة‪ ،‬وما تستتبعه من دعوة‬
‫الناس وتبليغهم آيات ربهم‪ ،‬وبلغ حرصه على هداية الناس حدا عاتبه معه ربه‬
‫َ ً‬
‫يث أ َسفا﴾ [ا ل‬ ‫قائال‪﴿ :‬فلعلك ب ِ‬
‫�� ف‬ ‫ع َء َاثٰرهِ ۡم إِن ل َّ ۡم يُ ۡؤ ِم ُنوا ْ ب َه ٰ َذا حۡ َ‬
‫ك لَىَ ٰٓ‬
‫َ َ َ َّ َ َ ٰ ‪َ َ ۡ َّ ٞ‬‬
‫��ك�ه���‪]6 :‬‬ ‫ٱل ِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫خع نفس‬
‫لم يتوان رسول اهلل ! في استفراغ وسعه في اتخاذ األسباب البشرية؛ بل بذل‬
‫كل جهده وطاقته في مواجهة ما يعترض طريقه من معضالت ومشكالت‪ ،‬ولم‬
‫يتواكل؛ بل عزم وتوكل على اهلل حق توكله‪ ،‬وكان في ذلك كله قدوة حسنة !‬
‫لمن بعده من خلفائه الراشدين وأصحابه‪ ،‬وسائر المسلمين أجمعين‪.‬‬
‫‪937‬‬ ‫الخاتمة‬

‫َ‬
‫‪P P‬لقد واجه رسول اهلل ! العنَت والشدة التي القاها من قريش عند معارضتها‬
‫الدعوة بالصبر الجميل والصفح الجميل‪ ،‬ولم يزده اضطهاد أتباعه من المشركين‬
‫َ‬
‫إال ثباتا على الحق‪ ،‬وكان يوصيهم بالصبر ويواسيهم بأخبار َمن قبلهم‪.‬‬
‫فعن خباب بن األرت‪ ،‬قال‪ :‬شكونا إلى رسول اهلل !‪ ،‬وهو متوسد بردة‬
‫له في ظل الكعبة فقلنا‪ :‬أال تستنصر لنا أال تدعو لنا؟ فقال‪> :‬قد كان من قبلكم‪،‬‬
‫يؤخذ الرجل فيحفر له في األرض‪ ،‬فيجعل فيها‪ ،‬فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه‬
‫فيجعل نصفين‪ ،‬ويمشط بأمشاط الحديد‪ ،‬ما دون لحمه وعظمه‪ ،‬فما يصده ذلك‬
‫ليتمن هذا األمر‪ ،‬حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت‪،‬‬ ‫عن دينه‪ ،‬واهلل َّ‬
‫ال يخاف إال اهلل‪ ،‬والذئب على غنمه‪ ،‬ولكنكم تستعجلون< رواه البخاري‪.‬‬
‫‪P P‬لقد كانت الهجرة المباركة إلى المدينة فتحا عظيما للمستضعفين‬
‫من المسلمين‪ ،‬ففيها وجدوا المالذ اآلمن عند إخوانهم األنصار‪ ،‬وفضال‬
‫عن ذلك آووهم ونصروهم وآثروهم بالغالي والنفيس‪.‬‬
‫‪P P‬لقد أدى تأسيس أول دولة إسالمية بالمدينة إلى نشوء عالقات بينية بين‬
‫مكونات اجملتمع المدني‪ ،‬وعقد معاهدات نظمت العالقات داخل المدينة‬
‫فيما بين المسلمين ومع غيرهم من أهل الكتاب والوثنيين‪ ،‬وخارجها‪،‬‬
‫كالقبائل التي تقطن قرب المدينة أو على أطرافها‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪P P‬لقد أعقب صلح الحديبية دخول الناس في دين اهلل أفواجا‪ ،‬تزايد معه‬
‫المسلمون‪ ،‬حتى اجتمعوا بأعداد غفيرة في حجة الوداع‪ ،‬على صعيد‬
‫واحد‪ ،‬في عرفات‪.‬‬
‫َ‬
‫‪P P‬لقد كانت وفاة رسول اهلل ! حدثا جلال ومصابا جسيما‪ ،‬أحزن المسلمين‬
‫حزنا شديدا‪ ،‬وأصابهم بالذهول‪ ،‬ولم يستفيقوا من هول الصدمة إال بعد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫أن ذكرهم أبو بكر الصديق قائاًل‪َ :‬من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد‬
‫الخاتمة‬

‫مات‪ ،‬ومن كان يعبد اهلل فإن اهلل حي ال يموت‪.‬‬


‫‪938‬‬

‫ً‬
‫‪P P‬لقد كان في اختيار أبي بكر الصديق خليفة لرسول ! َج ْم ٌع لكلمة‬
‫ْ‬
‫المسلمين‪ ،‬ورف ٌع لمعونياتهم‪ ،‬بعد الذهول الذي أصابهم؛ بفقد رسول‬
‫اهلل !‪ ،‬ولم يلبث أبوبكر حتى اقتفى بهم السيرة‪ ،‬وواصل المسيرة‪،‬‬
‫وثبت على ذلك حتى أتاه اليقين‪ ،‬وانتقل إلى رحمة اهلل راضيا مرضيا‪.‬‬
‫‪P P‬يستلزم من كونه ! خاتم األنبياء والمرسلين‪ .‬أن الناس جميعا منذ البعثة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ونحلهم‪ ،‬أي‪ :‬أمة الدعوة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لهم‬ ‫ل‬ ‫إلى يوم القيامة هم من أمته على اختالف ِم‬
‫َّ‬
‫فمن رضي بدعوته وات َبعها فإنه يرتقي ليكون في ِعداد أمة االستجابة التي‬
‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫نت ۡم خَيرۡ َ أُ َّمة أُ ۡخر َج ۡ‬
‫ت ل ِ َّ‬ ‫هي خير أمة أخرجت للناس‪ُ ﴿ ،‬ك ُ‬
‫اس تأ ُم ُرون‬
‫لن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ٱللِ َول َ ۡو َء َام َن أَ ۡه ُل ۡٱلك َِتٰب لَ اَك َن خَيرۡ اٗ‬
‫َ ۡ َ َ َ ۡ َ ُ ۡ ُ َ هَّ‬ ‫ۡ ۡ‬
‫ِ‬ ‫وف َوتنه ۡون ع ِن ٱل ُمنكرِ َوتؤ ِمنون ب ِ ۗ‬
‫بِٱل َمع ُر ِ‬
‫آ‬ ‫َّ ُ ّ ۡ ُ ُ ۡ ُ ۡ ُ َ َ َ ۡ‬
‫ث ُه ُم ٱلفٰسِقون﴾ [ � ل �ع�مرا ن�‪ ،]110 :‬ومن أعرض‬
‫َۡ ُ َ‬ ‫ك رَ ُ‬ ‫له ۚم مِنهم ٱلمؤمِنون وأ‬
‫عن اإلسالم فيبقى في ِعداد أمة الدعوة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫مصدر األسوة الحسنة والقدوة‬ ‫‪P P‬يتعين على المسلمين اتخاذ سنته وسيرته‬
‫الطيبة‪ ،‬وأن يتخذوا منها األنموذج األمثل لتطبيق الدين اإلسالمي‬
‫كله‪ :‬عقيدة وشريعة وأخالقا عمال بقوله تعالى‪﴿ :‬لق ۡد كن لك ۡم‬
‫َّ َ اَ َ َ ُ‬

‫ريا﴾‬‫ٱلل َكث ِ ٗ‬
‫خ َر َو َذ َك َر هَّ َ‬ ‫ٱللِ أُ ۡس َوةٌ َح َس َنة‪ ٞ‬ل ِّ َمن اَك َن يَ ۡر ُجوا ْ هَّ َ يۡ َ‬
‫هَّ‬
‫يِف َر ُسو ِل‬
‫ٱلل َوٱلَ ۡوم ٱٓأۡل ِ‬
‫أ‬
‫[ال� �ح�ز ا ب�‪.]21 :‬‬
‫‪P P‬وهو الدين الذي ارتضاه اهلل للناس ولن يقبل منهم سواه ﴿ َو َمن يَ ۡب َتغِ َغيرۡ َ‬
‫َ آ‬
‫ين﴾ [ � ل�ع�مرا ن�‪.]85 :‬‬ ‫س‬
‫رِِ‬ ‫ٰ‬ ‫َ َ ۡ َ‬
‫خ‬ ‫ٱل‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ِ‬ ‫ة‬‫ِر‬
‫خ‬ ‫ٱٓأۡل‬ ‫ف‬‫يِ‬
‫ٱل ۡس َل ٰ ِم د ِٗينا فَلَن ُي ۡق َب َل م ِۡن ُه َو ُه َ‬
‫و‬ ‫إِۡ‬
‫‪P P‬تعتبر سيرة الرسول ! مرجعا تربويا على المربّين أن يستلهموا‬
‫ّ‬
‫منها التوجيهات واإلرشادات التربوية القيِّمة‪ ،‬التي تنشئ األجيال‬
‫على اإليمان‪ ،‬ويأخذوا من دررها ما تزكو به النفوس‪ ،‬وتتهذب به الطباع‪،‬‬
‫وما يغرس في األجيال مكارم األخالق وجميل الخصال‪.‬‬
‫‪939‬‬ ‫الخاتمة‬

‫وفي السيرة يوجد أيضا من المواقف النبوية ما ي ُ ِعين على بناء الشخصية المسلمة‬
‫المتوازنة التي تتميز بالوسطية واالعتدال في سلوكها وتصرفاتها‪ ،‬وفي تقويمها‬
‫لألشخاص واألعمال‪ ،‬وفي نظرتها وتقديرها لألمور واألوضاع واألحوال‪.‬‬
‫‪P P‬في سيرة الحبيب ! ثقافة متكاملة للداعية‪ ،‬ومن ذلك الدعوة إلى اهلل‬
‫بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬والصبر على المدعوين‪ ،‬والترفق بهم‬
‫وتحمل آذاهم‪ ،‬والتدرج في دعوة الناس وما يقتضيه ذلك من البدء‬ ‫ُّ‬
‫باألهم فالمهم؛ والدعوة إلى األصول قبل الدعوة للفروع‪ ،‬ومخاطبة‬
‫الناس بما يفهمون‪ ،‬وتربية الناس على صغار العلم قبل كباره‪ ،‬وغير ذلك‬
‫وع َبر من سيرته الدعوية !‪.‬‬
‫مما يستخلص من دروس ِ‬
‫‪P P‬االستفادة من منهج اإلصالح النبوي‪ ،‬والذي أساسه تعريف الناس‬
‫بما ينفعهم وما يضرهم‪ ،‬وما يصلحهم وما يفسدهم‪ ،‬ثم دعوتهم‬
‫إلى فعل ما ينفعهم وترك ما يضرهم‪ ،‬وإرشادهم إلى استجالب ما يصلحهم‬
‫واستدفاع ما يفسدهم‪.‬‬
‫وتنبيههم عند تزاحم ‪ -‬المنافع والمضار‪ ،‬والمصالح والمفاسد‪ ،‬وتداخلها‬
‫وتعارضها ‪ -‬إلى تغليب جانب المنافع على المضار‪ ،‬وترجيح المصالح‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫تكثير المصالح‪ ،‬وتقليل المفاسد‬ ‫على المفاسد‪ ،‬والميل نحو كل ما من شأنه‬
‫ما أمكن‪.‬‬
‫‪P P‬التحذير من المنهج االستشراقي لدراسة السيرة النبوية‪ ،‬ونتائجه السيئة‪،‬‬
‫على الذين يتلقون السيرة عن المستشرقين؛ فهو يؤدي إلى نتائج عكسية‬
‫لدى القراء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫أقلها‪ :‬أن يتوقف األمر بهم عند حد االنبهار بشخصية الرسول !‪ ،‬وتقدير‬
‫ما حققه من نجاحات‪ ،‬دون محاولة اإليمان به‪ ،‬ومتابعته على أقصى تقدير‪ ،‬ـ هذا‬
‫الخاتمة‬

‫بالنسبة لغير المسلمين ـ‪.‬‬


‫‪940‬‬

‫أما من تلقى سيرته ! عن كتابات أمثال هؤالء المستشرقين من المسلمين‪،‬‬


‫يحمسهم إلى محاولة سلوك مسلك الرسول !‬ ‫فإنهم في الغالب ال يجدون ما ّ‬
‫َ‬
‫الدافع إلى االقتداء به !‪،‬‬ ‫إن لم يفقدهم ‪ّ -‬‬
‫دس المستشرقين وتزييفهم للحقائق ‪-‬‬
‫واالهتداء بهديه‪ ،‬وهو أمر معلوم ومشاهد‪.‬‬
‫‪P P‬السعي إلى ترسيخ محبة رسول اهلل ! في نفس القارئ الكريم من خالل‬
‫ما يطلع عليه من سيرة المصطفى !‪ ،‬وما يستتبع ذلك من توقير له !‬
‫ومهابة وإجالل وتقدير‪ ،‬وتأدب‪.‬‬
‫وما يستلزم ذلك من مداومة على الصالة عليه يقول اهلل سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫َّ ٓ َ ۡ َ ۡ َ ٰ َ َ‬
‫﴿إِنا أرس َلنك ِ‬
‫حوهُ‬ ‫ٱللِ َو َر ُسولهِِۦ َو ُت َع ّز ُروهُ َوتُ َو ّق ُِروهُ َوت ُ َس ّب ُ‬ ‫ّ ُ ۡ ُ ْ هَّ‬ ‫شا َونَذ ٗ‬‫شه ٗدا َو ُمبَ ّ رِ ٗ‬
‫ٰ‬
‫ِ‬ ‫ۚ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ؤ‬ ‫ل‬
‫تِ‬ ‫‪٨‬‬ ‫ا‬‫ِير‬
‫صيل﴾ [ا �ل��ف����ت��ح‪.]9-8 :‬‬ ‫ۡ ٗ‬
‫بُك َرة َوأ ِ‬
‫َ َ‬
‫ويقول‪﴿ :‬إِن ٱلل وم ٰٓ‬
‫ْ ُّ ْ َ َ‬ ‫َّ هَّ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ ُّ َ لَىَ‬
‫ذَِّين َء َام ُنوا َصلوا عل ۡيهِ‬ ‫يأ ُّي َها ٱل َ‬ ‫بۚ ٰٓ‬ ‫ع ٱنلَّ ّ‬
‫يِ ِ‬ ‫لئِكتهۥ يصلون‬
‫أ‬
‫ِيما﴾ [ال� �ح�ز ا ب�‪.]56 :‬‬ ‫َو َس ّل ُِموا ْ ت َ ۡسل ً‬

‫‪P P‬بيان االرتباط بين اإليمان ومحبة رسول اهلل ! واتباعه‪ ،‬وذلك؛ ألن‬
‫اإليمان ووجود حالوته منوطان بمحبة رسول اهلل !‪ ،‬قال رسول اهلل !‪:‬‬
‫أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين<‬
‫َ‬
‫َّ‬ ‫>ال يؤمن أحدكم حتى أكون‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫أحب‬
‫َّ‬ ‫وقال !‪> :‬ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليمان‪ :‬أن يكون اهلل ورسوله‬
‫َ‬
‫يكره أن يعود في الكفر كما‬ ‫إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ال يحبه إال هلل‪ ،‬وأن‬
‫يكره أن يقذف في النار< متفق عليه‪.‬‬
‫وما يتوجب تبعا لذلك على كل مسلم من التحلي بحسن األدب مع رسول اهلل‬
‫ت َعلُوا ْ ُد اَع ٓ َء َّ‬ ‫!‪ ،‬وأن يحذر من مخالفة أمره‪ ،‬قال اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ل‬
‫اَّ جَ ۡ‬
‫ٱلر ُسو ِل‬
‫نك ۡم ل ِ َو ٗاذاۚ فَ ۡل َي ۡح َذر ٱل َ‬
‫ُ‬ ‫َ َ َّ ُ َ‬
‫ذَِّين يَت َسللون ِم‬ ‫كم َب ۡع ٗضا ۚ قَ ۡد َي ۡعلَ ُم هَّ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ ۡ َ ُ َ ُ اَ ٓ ۡ‬
‫ذَِّين‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل ٱل‬ ‫بينك ۡم كدعءِ َبع ِ‬
‫ض‬
‫خُ َ ُ َ َ ۡ َ ۡ َ ُ َ ُ ۡ ۡ َ ٌ َ ۡ ُ َ ُ ۡ َ َ ٌ َ‬
‫اب أ يِل ٌم﴾ [ا �لن�ور‪.]63 :‬‬ ‫يال ِفون عن أم ِره ِۦٓ أن ت ِصيبهم ف ِتنة أو ي ِصيبهم عذ‬
‫‪941‬‬ ‫الخاتمة‬

‫َ َ‬
‫عز وجل‪ٰٓ ﴿ :‬‬ ‫ّ‬
‫َ َ َ ُ ْ اَ ُ َ ّ ُ ْ َينۡ‬
‫وقال‬
‫َ َّ ُ ْ هَّ َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫يأيها ٱلذَِّين ءامنوا ل تقدِموا ب يد ِي ٱللِ ورسولۖهِِۦ وٱتقوا ٱللۚ إِن‬
‫َّ ّ َ اَ جَ ۡ َ ُ ْ ُهَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اَ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هَّ َ‬
‫ب ول تهروا لۥ‬ ‫ذَِّين َءامنوا ل ت ۡرفع ٓوا أصوٰتك ۡم ف ۡوق ص ۡو ِ‬ ‫يأي َها ٱل َ‬ ‫يم ‪ٰٓ ١‬‬ ‫ٱلل َس ِم ٌ‬
‫يع عل ِ ‪ٞ‬‬
‫ت ٱنل يِ ِ‬
‫ُ ۡ َ ۡ َ حَ ۡ َ َ َ ۡ َ ٰ ُ ُ ۡ َ َ ُ ۡ اَ َ ۡ ُ ُ َ‬
‫ضكم لبِ ع ٍض أن تبط أعملكم وأنتم ل تشعرون﴾ [ ح�� ج ر �‪.]2 - 1 :‬‬
‫ت‬ ‫�‬ ‫ل‬‫�‬ ‫َ َ ۡ ۡ‬ ‫َۡ‬
‫ا‬ ‫�‬ ‫ا‬ ‫بِٱلق ۡو ِل كجهرِ َبع ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫‪P P‬لن يجد القارئ الكريم قدوة أفضل من صحابة رسول اهلل !‪ ،‬عندما‬
‫يتعلق األمر بمحبة رسول اهلل !‪ ،‬فقد كانوا مضرب األمثال في ذلك‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وفي سيرهم صور مشرقة‪ ،‬تعبّر عن عظيم حبهم لرسول اهلل !‪ ،‬ومهابته‪،‬‬
‫وتوقيره‪ ،‬وتقديره‪ ،‬والحياء منه وطاعته‪ ،‬والصالة عليه‪.‬‬
‫وللتنبيه على هذا األمر واالعتناء به أوردت في الكتاب من الخصائص النبوية‬
‫ّ‬
‫حوالي مائة خصيصة‪ ،‬تبعث كلها على محبته !‪ ،‬وتوقيره واحترامه‪ ،‬ولمن يريد‬
‫االستقصاء فليرجع إلى كتب الخصائص والفضائل والشمائل‪.‬‬
‫ككتاب الشمائل المحمدية للترمذي‪ ،‬والشفاء للقاضي عياض‪ ،‬والخصائص‬
‫الكبرى للسيوطي‪ ،‬والخصائص البن طولون‪ ،‬وغيرها من المصادر المختصة‪.‬‬
‫‪P P‬لقد بات واضحا ما يُلقيه أعداء ُ اإلسالم عبر وسائل اإلعالم من شبهات بين‬
‫يدي الشباب المسلم؛ لتشكيكهم في حقائق الدين اإلسالمي ويقينيّاته‪،‬‬
‫مما يجدر معه بالمسلمين في هذا العصر التسلح بالثقافة اإلسالمية‪،‬‬
‫وبخاصة ما يجعلهم على دراية بالبراهين واالستدالالت‪ ،‬والحجج‬
‫الدالة على صدق الرسالة؛ وعلى رأسها األدلة الدالة على الخالق سبحانه‬
‫وتعالى‪ .‬وفي الكتاب تعريف ببعض هذه البراهين‪.‬‬
‫‪P P‬يعتبر اإلعجاز العلمي نوعًا من أنواع اإلعجاز القرآني؛ ومداره حول إخبار‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫القرآن الكريم ببعض الحقائق العلمية لم تكن معروفة زمن تنزل الوحي‪،‬‬
‫َ َ ٓ َ ُ‬
‫قال اهلل سبحانه وتعالى‪﴿ :‬سنرُِي ِهم ءايٰتِنا يِف ٱٓأۡلف ِ‬
‫ت يَتَ َبينَّ َ‬
‫س ِه ۡم َح ىَّ ٰ‬
‫اق و يِف أنف ِ‬
‫ۡ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫َ ّ َ َ َّ ُ لَىَ ٰ لُ ّ‬ ‫َ ُ ۡ َ َّ ُ حۡ َ ُّ َ َ َ ۡ َ ۡ‬
‫يد﴾ أي‪ :‬سنظهر لهم‬ ‫شء َشه ٌ‬
‫ِ‬ ‫ٖ‬ ‫ك يَ ۡ‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ۥ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫ِ ِ‬‫ر‬‫ب‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ك‬ ‫لهم أنه ٱلق ۗ أو لم ي‬
‫الخاتمة‬
‫‪942‬‬

‫ً‬
‫دالالتنا وحججنا على كون القرآن حقا منزاًل من عند اهلل جل جالله‪،‬‬
‫على رسوله !‪ ،‬بدالئل خارجية (في اآلفاق)‪ ...‬ودالئل في أنفسهم‪.‬‬
‫‪P P‬إن الموضوعات العلمية المعاصرة‪ ،‬التي تضمن الكتاب ما يقرب‬
‫مائة موضوع متنوع منها‪ ،‬فيهامن الشواهد والدالئل واإلعجاز الباهر‬
‫ما يؤكد على صدق الرسالة‪ ،‬وما ينطق بأن اإلسالم هو دين اهلل الحق‪،‬‬
‫وأن القرآن هو كالم اهلل المعجز الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال‬
‫من خلفه‪ ،‬تنزيل من رب العالمين‪ ،‬لهداية الناس أجمعين إلى يوم الدين‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا التوصيات‪:‬‬
‫وأجملها فيما يلي‪:‬‬
‫‪P P‬أدعو المختصين بوضع المناهج الدراسية إلى االجتهاد في عرض السيرة‬
‫النبوية على شكل مواد دراسية‪ ،‬تركز على التطبيق العملي ألمور‬
‫الدين‪ ،‬بحيث يجد الطالب فيها المنهج األمثل لتطبيق اإلسالم‪ ،‬و يأخذ‬
‫منها الناشئة الكيفية الصحيحة لممارسة اإلسالم في واقع الحياة‪ ،‬وال يخفى‬
‫ما عانته األجيال من غياب هذا المنهج األمثل ‪.‬‬
‫‪P P‬أطالب أجهزة اإلعالم بإنتاج مواد إعالمية‪ ،‬وأفالم تجسد ـ بما تملكه‬
‫من مؤثرات فنية ـ حقائق السيرة النبوية‪ ،‬ومضامينها الجميلة‪ ،‬وقيمها‬
‫النبيلة؛ ليسهل على الناس فهمها واستيعابها‪.‬‬
‫‪P P‬يتعين على الباحثين في موضوعات السيرة النبوية أن اليقفوا عند حد‬
‫سرد أحداث السيرة ووقائعها؛ بل عليهم أن يولوا االهتمام باستخالص‬
‫ّ‬
‫الدوس والعبر من أحداث السيرة‪ ،‬وأن يبرزوا جوانب االقتداء والتأسي‬
‫بالمصطفى ! باعتبارها مطلبا شرعيا‪ ،‬ولكونها أيضا تسهم في بناء‬
‫الشخصية اإلسالمية المتوازنة‪.‬‬
‫‪943‬‬ ‫الخاتمة‬

‫‪P P‬إن وقاية اجملتمع من الغلو والتطرف‪ ،‬واإلفراط والتفريط‪ ،‬وحفظ الشباب‬
‫من االنحراف والجنوح‪ ،‬والحذر من وقوع الشباب ضحية لألفكار الضالة‬
‫واألوهام الباطلة‪ ،‬وكل ما يؤدي إلى اهتزاز الشخصية أو عدم توازنها‪،‬‬
‫يوجد له في السيرة النبوية الجواب الكافي والدواء الشافي‪.‬‬
‫جازما لكل من يعنيهم ما ذكرت بأنهم سوف يجدون في سيرة‬ ‫ً‬ ‫‪P P‬وأؤكد‬
‫يحصن اجملتمع من كل اآلفات التي أشرت‬ ‫ِّ‬ ‫المصطفى ! وشخصيته ما‬
‫إليها‪ ،‬وخاصة ما يتعلق بمشكالت تدين الشباب‪ ،‬وال يتطلب األمر سوى‬
‫صياغة منهج عملي ـ على ضوء السيرة النبوية ـ يتربى عليه الناس صغارا‬
‫وكبارا ‪.‬‬
‫الخاتمة‬
‫‪945‬‬

‫المصادر والمراجع العربية‬


‫(أبجد ًيا)‬

‫‪1 .1‬أبحاث في العدوى والطب الوقائي‪ ،‬من المؤتمر العالمي األول لإلعجاز العلمي‬
‫في القرآن والسنة ‪ 21-18‬أكتوبر ‪1987‬م‪ ،‬الهيئة العالمية لإلعجاز العلمي‬
‫في القرآن والسنة‪.‬‬
‫‪2 .2‬األبطال‪ ،‬توماس كارليل‪.‬‬
‫‪3 .3‬األحكام السلطانية‪ ،‬أبو يعلى‪.‬‬
‫‪4 .4‬أحكام القرآن‪ ،‬أبو بكر أحمد الجصاص‪.‬‬
‫‪5 .5‬أحكام القرآن‪ ،‬أبو بكر محمد بن عبداهلل ابن العربي‪.‬‬
‫‪6 .6‬إحياء علوم الدين‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار القلم والدار الشامية‪.1993 ،‬‬
‫‪7 .7‬األخالق اإلسالمية‪ ،‬عبدالرحمن حبنكة الميداني‪.‬‬
‫‪8 .8‬أدب الطبيب‪ ،‬ط ‪ ،1‬مركز الملك فيصل للبحوث‪1992 ،‬م‪ ،‬إسحاق بن علي‬
‫الرهاوي‪.‬‬
‫‪9 .9‬األدب المفرد‪ ،‬اإلمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري‪.‬‬
‫‪ 1010‬أذى المحيض ‪ -‬مجلة اإلعجاز العلمي العدد األول ‪ -‬محمد عبداللطيف‪.‬‬
‫‪ 1111‬اإلرهاب واإلرهاب المضاد ‪ -‬سهيل الفتالوي‪.‬‬
‫‪ 1212‬أسد الغابة‪ ،‬ابن األثير‪.‬‬
‫‪946‬‬

‫‪ 1313‬أسرار الكون في القرآن‪ ،‬دار الحرف العربي ‪ -‬مصر ‪ -‬داود سلمان السعدي‪.‬‬
‫‪ 1414‬اإلسالم والعرب والمستقبل‪ ،‬أرنولد توينبي‪.‬‬
‫‪ 1515‬األشباه والنظائر‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار الكتب العلمية‪1983 ،‬م‪ ،‬جالل الدين السيوطي‪.‬‬
‫‪ 1616‬اإلصابة في تمييز الصحابة‪ ،‬الحافظ ابن حجر العسقالني‪.‬‬
‫‪ 1717‬أصل األنواع‪ ،‬تشارلز داروين‪.‬‬
‫‪ 1818‬أصول الدعوة‪ ،‬د‪ .‬عبدالكريم زيدان‪.‬‬
‫‪ 1919‬أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن‪ ،‬دار الفكر‪1995 ،‬م‪ ،‬بيروت‪ ،‬محمد‬
‫األمين الشنقيطي‪.‬‬
‫‪ 2020‬أطوار الجنين ونفخ الروح‪ ،‬مجلة اإلعجاز العلمي العدد الثامن‪ ،‬عبدالجواد‬
‫الصاوي‪.‬‬
‫‪ 2121‬اإلعجاز الطبي في القرآن الكريم تأمالت طبية حول ‪ 10‬آيات قرآنية‪ ،‬مطبعة ابن‬
‫سينا‪ 1992 ،‬م‪ ،‬عبد الحميد عبدالعزيز‪.‬‬
‫‪ 2222‬اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬عبدالرحيم مارديني‪.‬‬
‫‪ 2323‬اإلعجاز العلمي في قيام الليل‪ ،‬بحث مقدم للمؤتمر العالمي الثامن لإلعجاز العلمي‬
‫في القرآن والسنة بالكويت (‪1427‬هـ‪2006-‬م)‪ ،‬د‪ .‬عطية البقري‪.‬‬
‫‪ 2424‬اإلعجاز العلمي للقرآن والسنة في داللة‪ :‬غيض األرحام‪-‬مجلة اإلعجاز العلمي‪-‬‬
‫العدد الخامس‪ ،‬د‪ .‬عبد الجواد محمد الصاوي‪.‬‬
‫‪ 2525‬إعجاز القرآن والسنة في الطب الوقائي والكائنات الدقيقة ‪ -‬مجلة اإلعجاز العلمي‬
‫العدد الثالث‪ ،‬والوقاية من انتشار األمراض واألوبئة ‪ -‬مجلة اإلعجاز العلمي العدد‬
‫الرابع‪ ،‬واألمراض الجنسية وباء اإلباحية ‪ -‬مجلة اإلعجاز العلمي العدد الثاني ‪-‬‬
‫عبدالجواد الصاوي‪.‬‬
‫‪ 2626‬إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ابن قيم الجوزية‪.‬‬
‫‪ 2727‬األم‪ ،‬اإلمام محمد بن إدريس الشافعي‪.‬‬
‫‪ 2828‬إمتاع األسماع‪ ،‬المقريزي‪.‬‬
‫‪947‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫‪ 2929‬األموال‪ ،‬أبو عبيد القاسم بن سالم‪.‬‬


‫‪ 3030‬إنسانية اإلسالم‪ ،‬مارسيل بوازار‪.‬‬
‫‪ 3131‬إنها النبوة‪ ،‬د‪ .‬صالح رضا‪.‬‬
‫‪ 3232‬أهمية الندى (الطل) كإمدادات مائية للزراعة إلظهار اإلعجاز العلمي في القرآن‬
‫‪ -‬بحث مقدم للمؤتمر العالمي العاشر لإلعجاز العلمي في القرآن والسنة بتركيا‬
‫(‪1432‬هـ‪2011-‬م)‪ ،‬د‪ .‬ملوك محمد الخزان‪.‬‬
‫‪ 3333‬إيثار الحق على الخلق‪ ،‬ط ‪ ،2‬دار الكتب العلمية‪1987 ،‬م‪ ،‬ابن الوزير‪.‬‬
‫‪ 3434‬إيجاد العالقة بين المطر والسيح السطحي باستخدام نظرية وحدة الهيدروغراف‪،‬‬
‫بحث مقدم للمؤتمر العالمي الثامن لإلعجاز العلمي في القرآن والسنة بالكويت‬
‫(‪1427‬هـ‪2006-‬م)‪ ،‬د‪ .‬أحمد عامر الدليمي‪.‬‬
‫‪ 3535‬بداية اجملتهد ونهاية المقتصد‪ ،‬ط ‪ ،4‬دار المعرفة‪1987 ،‬م‪.‬‬
‫‪ 3636‬البداية والنهاية‪ ،‬ابن كثير‪.‬‬
‫‪ 3737‬بهجة اجملالس وأنس اجملالس‪ ،‬ابن عبدالبر‪ ،‬فقيه محروس الخولي‪.‬‬
‫‪ 3838‬تاج العروس‪ ،‬الزبيدي‪.‬‬
‫‪ 3939‬تاريخ اإلسالم‪ ،‬حسن إبراهيم حسن‪.‬‬
‫‪ 4040‬تاريخ األمم والملوك‪ ،‬الطبري‪.‬‬
‫‪ 4141‬تاريخ الخلفاء‪ ،‬السيوطي‪.‬‬
‫‪ 4242‬تاريخ المدينة المنورة‪ ،‬عمر بن شبة‪.‬‬
‫‪ 4343‬تاريخ غزوات العرب‪ ،‬جوزيف رينو ‪.‬‬
‫‪ 4444‬تجارة المدينة‪ ،‬بيضون‪.‬‬
‫‪ 4545‬التحرير والتنوير‪ ،‬الطاهر بن عاشور‪.‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫‪ 4646‬تحفة األحوذي شرح جامع الترمذي ‪ -‬صفي الرحمن المباركفوري‬


‫‪ 4747‬تخريج الدالالت السمعية‪ ،‬الخزاعي‪.‬‬
‫‪ 4848‬التراتيب اإلدارية في نظام الحكومة النبوية‪ ،‬الكتاني‪.‬‬
‫‪948‬‬

‫‪ 4949‬التسهيل لعلوم التنزيل‪ ،‬ابن جزي‪.‬‬


‫‪ 5050‬تفسير السمعاني‪ ،‬أبو المظفر السمعاني‪.‬‬
‫‪ 5151‬تفسير القاسمي‪ ،‬جمال الدين القاسمي‪.‬‬
‫‪ 5252‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ابن كثير ‪.‬‬
‫‪ 5353‬التفسير الكبير‪ ،‬دار الباز‪ ،‬مكة المكرمة‪ ،‬الرازي‪.‬‬
‫‪ 5454‬تقرير الحالة االجتماعية الصادر عن األمم المتحدة‪.‬‬
‫‪ 5555‬التنبيه واإلشراف‪ ،‬المسعودي‪.‬‬
‫‪ 5656‬تهذيب األخالق‪ ،‬عبدالحي الندوي‪.‬‬
‫‪ 5757‬تهذيب األسماء واللغات‪ ،‬النووي‪.‬‬
‫‪ 5858‬تهذيب سيرة ابن هشام ‪ -‬ط ‪ - 6‬القاهرة ‪ -‬مط ‪ -‬السنة‪.‬‬
‫‪ 5959‬الثقات‪ ،‬ابن حبان‪.‬‬
‫‪ 6060‬جامع الترمذي‪ ،‬اإلمام الحافظ محمد بن عيسى الترمذي‪.‬‬
‫‪ 6161‬جامع العلوم والحكم‪ ،‬ابن رجب‪.‬‬
‫‪ 6262‬جامع العلوم والحكم‪ ،‬ابن رجب الحنبلي‪ ،‬تحقيق الدكتور‪ /‬يوسف البقاعي‬
‫‪1995‬م ط‪ 1‬المطبعة العصرية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ 6363‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬القرطبي‪.‬‬
‫‪ 6464‬الجانب السياسي في حياة الرسول‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار القلم‪1402 ،‬هـ‪ ،‬الكويت‪ ،‬أحمد‬
‫محمد‪.‬‬
‫‪ 6565‬الجهاد في سبيل اهلل في القرآن‪ ،‬محمد عزة دروزة‪.‬‬
‫‪ 6666‬الجيش والقتال‪ ،‬عواد‪.‬‬
‫‪ 6767‬الحبة السوداء ‪ -‬شفاء من كل داء ‪ -‬مجلة اإلعجاز العلمي العدد الرابع عشر ‪-‬‬
‫عبدالجواد الصاوي‪.‬‬
‫‪ 6868‬حديث القرآن عن غزوات الرسول‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي ‪ -‬بيروت‪ ،‬محمد‬
‫آل عابد‪.‬‬
‫‪949‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫‪ 6969‬الحرف والصناعات‪ ،‬العمري‪.‬‬


‫‪ 7070‬حركة األرض ودورانها‪ ،‬حقيقة علمية أثبتها القرآن‪ ،‬دار القلم‪ 1991 ،‬م‪ ،‬محمد‬
‫علي الصابوني‪.‬‬
‫‪ 7171‬الحصانة الدبلوماسية في اإلسالم‪ ،‬مصطفى التازي‪.‬‬
‫‪ 7272‬حضارة العرب‪ ،‬غوستاف لوبون‪.‬‬
‫‪ 7373‬حقوق اإلنسان‪ ،‬العدد (‪ )29‬من سلسلة دعوة الحق‪ ،‬حسن عابدين‪.‬‬
‫‪ 7474‬حلية األولياء‪ ،‬أبو نعيم األصبهاني‪.‬‬
‫‪ 7575‬حياة الصحابة‪ ،‬الكاندهلوي‪.‬‬
‫‪ 7676‬حياة محمد‪ ،‬إميل درمنغم‪.‬‬
‫‪ 7777‬حياة محمد‪ ،‬واشنجتون‪.‬‬
‫‪ 7878‬حياة محمد‪ ،‬وليام موير‪.‬‬
‫‪ 7979‬الخراج‪ ،‬أبو يوسف‪.‬‬
‫‪ 8080‬الخصائص الكبرى‪ ،‬جالل الدين السيوطي‪.‬‬
‫‪ 8181‬الخمر في الفقه اإلسالمي‪ ،‬ط ‪1977 ،1‬م‪ ،‬فكري عكار‪.‬‬
‫‪ 8282‬درء تعارض العقل والنقل‪ ،‬ابن تيمية‪.‬‬
‫‪ 8383‬دراسة السيرة‪ ،‬عماد الدين خليل‪.‬‬
‫‪ 8484‬دستور األخالق في القرآن‪ ،‬د‪ .‬دراز‪.‬‬
‫‪ 8585‬دفاع عن اإلسالم‪ ،‬لورافيشيا فاغليري‪.‬‬
‫‪ 8686‬دالئل النبوة‪ ،‬اإلمام البيهقي‪.‬‬
‫‪ 8787‬دين اإلسالم‪ ،‬اليتنر‪.‬‬
‫‪ 8888‬ديوان أحمد شوقي‪.‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫‪ 8989‬رجال ونساء أسلموا‪ ،‬عرفات كامل العشي‪.‬‬


‫‪ 9090‬الرحمة في القرآن‪ ،‬ط ‪ ،1‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪ ،‬موسى عبده عسيري‪.‬‬
‫‪ 9191‬رحمة للعالمين‪ ،‬د‪ .‬سعد القحطاني‪.‬‬
‫‪950‬‬

‫‪ 9292‬الرحيق المختوم‪ ،‬الشيخ صفي الرحمن المباركفوري‬


‫‪ 9393‬الرسول حياة محمد‪ ،‬ر‪.‬ف‪ .‬بودلي‪.‬‬
‫‪ 9494‬الرسول !‪ ،‬سعيد حوى‪.‬‬
‫‪ 9595‬الرسول في عيون الدراسات االستشراقية المنصفة‪ ،‬محمد شريف الشيباني‪.‬‬
‫‪ 9696‬الرسول في عيون غربية منصفة‪ ،‬الحسيني معدي‪.‬‬
‫‪ 9797‬روح الدين اإلسالمي‪ ،‬عفيف طبارة‪.‬‬
‫‪ 9898‬روح المعاني‪ ،‬األلوسي ‪.‬‬
‫‪ 9999‬الروض األنف‪ ،‬السهيلي‪.‬‬
‫‪10100‬زاد المعاد‪ ،‬ابن قيم الجوزية‪.‬‬
‫‪10101‬زيت الزيتون أسرار وإعجاز ‪ -‬مجلة اإلعجاز العلمي العدد الثامن‪ ،‬والعسل‬
‫أسرار وإعجاز ‪ -‬مجلة اإلعجاز العلمي العدد الخامس عشر‪ ،‬حسان شمسي باشا‪،‬‬
‫ومقالتين للدكتور رمضان هالل عن العسل وزيت الزيتون‪.‬‬
‫‪10102‬سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد‪ ،‬محمد الصالحي الشامي‪.‬‬
‫‪10103‬السراج المنير شرح الجامع الصغير‪ ،‬علي العزيزي‪.‬‬
‫‪10104‬السفر إلى الشرق‪ ،‬المارتين‪.‬‬
‫‪10105‬سلسلة األحاديث الصحيحة‪ ،‬محمد ناصر الدين األلباني‪.‬‬
‫‪10106‬سنن الدارمي‪ ،‬اإلمام عبداهلل بن عبدالرحمن الدرامي‪.‬‬
‫‪10107‬سنن ابن ماجة‪ ،‬الحافظ محمد بن يزيد القزويني‪.‬‬
‫‪10108‬سنن أبي داوود‪ ،‬اإلمام سليمان بن األشعث السجستاني‪.‬‬
‫‪10109‬سنن النسائي‪ ،‬الحافظ أحمد بن شعيب النسائي‪.‬‬
‫‪11110‬السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية‪ ،‬ابن تيمية‪.‬‬
‫‪11111‬سيدنا محمد رسول اهلل ! األسوة الحسنة‪ ،‬أسعد صاغرجي‪.‬‬
‫‪11112‬سيرة ابن إسحاق‪.‬‬
‫‪11113‬السيرة النبوية دروس وعبر‪ ،‬د‪ .‬مصطفى السباعي‪.‬‬
‫‪951‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫‪11114‬السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة‪ ،‬د‪.‬محمد أبو شهبة‪.‬‬


‫‪11115‬السيرة النبوية في ضوء المصادر األصلية‪ ،‬مهدي رزق اهلل‪.‬‬
‫‪11116‬السيرة النبوية‪ ،‬ابن هشام‪.‬‬
‫‪11117‬سيرة النبي محمد‪1998 ،‬م‪ ،‬كارين أرمسترونج‪.‬‬
‫ً‬
‫‪11118‬سيرة خمسين صحابيا‪ ،‬د‪ .‬راتب النابلسي‪.‬‬
‫‪11119‬شرح مسلم‪ ،‬النووي‪.‬‬
‫‪12120‬الشفاء بتعريف حقوق المصطفى !‪ ،‬القاضي عياض‪.‬‬
‫‪12121‬الشمائل المحمدية‪ ،‬اإلمام محمد بن عيسى الترمذي‪.‬‬
‫‪12122‬الشمس سراج والقمر نور ‪ -‬المؤتمر السابع لإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‬
‫بدبي ‪ -‬ياسين المليكي‪.‬‬
‫‪12123‬صحيح ابن حبان‪ ،‬البن حبان‪.‬‬
‫‪12124‬صحيح ابن ماجه‪ ،‬محمد ناصر الدين األلباني‪.‬‬
‫‪12125‬صحيح البخاري‪ ،‬اإلمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري‪.‬‬
‫‪12126‬صحيح الترغيب والترهيب‪ ،‬محمد ناصر الدين األلباني‪.‬‬
‫‪12127‬صحيح الترمذي‪ ،‬محمد ناصر الدين األلباني‪.‬‬
‫‪12128‬صحيح الجامع‪ ،‬محمد ناصر الدين األلباني‪.‬‬
‫‪12129‬صحيح سنن ابن ماجه‪ ،‬محمد ناصر الدين األلباني‪.‬‬
‫‪13130‬صحيح سنن النسائي‪ ،‬محمد ناصر الدين األلباني‪.‬‬
‫‪13131‬صحيح مسلم‪ ،‬اإلمام مسلم بن الحجاج القشيري‪.‬‬
‫‪13132‬صفوة التفاسير‪ ،‬محمد علي الصابوني‪.‬‬
‫‪13133‬الصيام معجزة علمية ‪ -‬ط‪ 2‬من إصدارات هيئة اإلعجاز العلمي‪ ،‬عبدالجواد الصاوي‪.‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫‪13134‬ضوابط البحث في اإلعجاز العلمي‪ ،‬د ‪ /‬عبداهلل بن عبدالعزيز المصلح‪.‬‬


‫‪13135‬عالم النبات اختالط الماء باألرض الهامدة ‪ -‬طهيئة اإلعجاز العلمي ‪ ،-‬قطب‬
‫عامر فرغلي‪.‬‬
‫‪952‬‬

‫‪13136‬عبقرية محمد‪ ،‬عباس محمود العقاد‪.‬‬


‫‪13137‬العثمانية‪ ،‬الجاحظ‪.‬‬
‫‪13138‬العرب‪ ،‬جان ليك‪.‬‬
‫‪13139‬العلل الكبير‪ ،‬اإلمام محمد بن عيسى الترمذي‪.‬‬
‫‪14140‬علم األجنة في ضوء القرآن والسنة ‪ -‬من إصدارات الهيئة العالمية لإلعجاز العلمي‬
‫في القرآن والسنة‪.‬‬
‫‪14141‬عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير‪ ،‬أحمد شاكر‪.‬‬
‫‪14142‬عمرو بن العاص‪ ،‬بسام العسلي‪.‬‬
‫‪14143‬العواصم من القواصم‪ ،‬أبو بكر بن العربي‪.‬‬
‫‪14144‬عودة جزيرة العرب مروجا ً وأنهارا ً‪ ،‬مجلة اإلعجاز العلمي العدد السادس‪،‬‬
‫جمال عبدالمنعم الكومي‪.‬‬
‫‪14145‬غاية المرام في تخريج أحاديث الحالل والحرام‪ ،‬محمد ناصر الدين األلباني‪.‬‬
‫‪14146‬غياث األمم في التياث الظلم‪ ،‬ط ‪ ،1‬مطابع الدوحة‪1400 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪14147‬الفتاوى الكبرى‪ ،‬شرح العقيدة األصبهانية‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار القلم‪ ،‬بيروت‪1407 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪14148‬فتح الباري في شرح صحيح البخاري‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬أحمد بن علي بن‬
‫حجر العسقالني‬
‫‪14149‬فتح القدير‪ ،‬الشوكاني‪.‬‬
‫‪15150‬الفتح الكبير في ضم الزيادات للجامع الصغير‪ ،‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬الشيخ‬
‫يوسف النبهاني‪.‬‬
‫‪15151‬فتوح البلدان‪ ،‬البالذري‪.‬‬
‫‪15152‬فقه الزكاة‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪.‬‬
‫‪15153‬فقه السيرة‪ ،‬الشيخ محمد الغزالي‪.‬‬
‫‪15154‬فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخالفة الراشدة‪ ،‬د‪ .‬محمد سعيد البوطي‪.‬‬
‫‪15155‬في ظالل القرآن‪ ،‬سيد قطب‪.‬‬
‫‪953‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫‪15156‬قالوا في اإلسالم‪ ،‬حسين الظالمي‪.‬‬


‫‪15157‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪15158‬القرار المكين‪ ،‬مأمون شقفة‪.‬‬
‫‪15159‬القرآن والكون من االنفجار العظيم إلى االنسحاق العظيم‪ ،‬ط ‪ ،1‬وزارة الثقافة‪،‬‬
‫صنعاء‪2004 ،‬م‪.‬‬
‫‪16160‬قواعد األحكام في مصالح األنام‪ ،‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪16161‬القول التام‪ ،‬السخاوي‪.‬‬
‫‪16162‬كتاب أبحاث المؤتمر العالمي الثامن لإلعجاز العلمي في القران والسنة بدولة‬
‫الكويت ‪1427‬هـ ‪ -‬الهيئة العالمية لإلعجاز العلمي في القران والسنة‪.‬‬
‫‪16163‬كتاب أبحاث المؤتمر العالمي العاشر لإلعجاز العلمي في القران والسنة بدولة‬
‫تركيا ‪1432‬هـ الهيئة العالمية في اإلعجاز العلمي في القران والسنة‪.‬‬
‫‪16164‬كتاب بينات الرسول ‪ -‬صنعاء ‪ -‬اليمن‪ ،‬عبداجمليد الزنداني‪.‬‬
‫‪16165‬الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫أبو البقاء أيوب بن موسى الكفوي‪.‬‬
‫‪16166‬كنز العمال في سنن األقوال واألفعال‪ ،‬المتقي الهندي‪.‬‬
‫‪16167‬لسان العرب‪ ،‬ابن منظور‪.‬‬
‫‪16168‬لماذا حرم اهلل هذه األشياء ؟ لحم الخنزير‪ ،‬الميتة‪ ،‬الدم ‪ -‬نظرة طبية في محرمات‬
‫القرآن‪ ،‬مكتبة القرآن‪ 1987 ،‬م‪ ،‬محمد كمال عبدالعزيز‪.‬‬
‫‪16169‬مائة خصلة من خصال الرسول !‪ ،‬د‪ .‬خليل مال خاطر‪.‬‬
‫‪17170‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين‪ ،‬أبو الحسن الندوي‪.‬‬
‫‪17171‬اجملتمع المدني في عهد النبوة‪ ،‬د‪ .‬أكرم العمري‪.‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫‪17172‬مجلة الثقافة الروسية ج ‪ ،7‬العدد التاسع (‪.)9‬‬


‫‪17173‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬الهيثمي‪.‬‬
‫‪17174‬اجملموع شرح المهذب‪ ،‬إدارة الطباعة المنيرية‪ ،‬اإلمام النووي‪.‬‬
‫‪954‬‬

‫‪17175‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية‪.‬‬


‫‪17176‬محاسن التأويل‪ ،‬دار الحديث ‪ -‬القاهرة‪2003 ،‬م‪ ،‬جمال الدين القاسمي‪.‬‬
‫‪17177‬محمد !‪ ،‬الدكتور عادل الشدي‪.‬‬
‫‪17178‬المرأة في العهد النبوي‪ ،‬ط ‪1993 ،1‬م‪ ،‬عصمة الدين كركر‪.‬‬
‫‪17179‬مرض النبي ووفاته‪ ،‬خالد أبو صالح‪.‬‬
‫‪18180‬المستدرك على الصحيحين‪ ،‬محمد بن عبداهلل الحاكم النيسابوري‪.‬‬
‫‪18181‬مسند أحمد‪ ،‬اإلمام أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫‪18182‬مشكلة الفقر وكيف عالجها اإلسالم‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‬
‫‪18183‬المصنف‪ ،‬عبدالرزاق الصنعاني‪.‬‬
‫‪18184‬معالم التنزيل في التفسير والتأويل‪ ،‬أبو محمد البغوي‪.‬‬
‫‪18185‬معجم البلدان‪ ،‬ياقوت الحموي‪.‬‬
‫‪18186‬معجم الشيوخ الكبير‪ ،‬الحافظ شمس الدين الذهبي‪.‬‬
‫‪18187‬المغازي‪ ،‬الواقدي‪.‬‬
‫‪18188‬مفاتيح الغيب‪ ،‬اإلمام فخر الدين الرازي‪.‬‬
‫‪18189‬مفتاح دار السعادة‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار الحديث‪ ،‬القاهرة‪1994 ،‬م‪ ،‬ابن قيم الجوزية‪.‬‬
‫‪19190‬مقارنة األديان‪ ،‬أحمد شلبي‪.‬‬
‫‪19191‬المقدمة‪ ،‬ابن خلدون‪.‬‬
‫‪19192‬من اإلعجاز العلمي في السنة‪ ،‬عودة األنهار إلى شبه الجزيرة العربية‪ ،‬مطبعة‬
‫المعرفة‪ ،‬جمال عبدالمنعم الكومي‪.‬‬
‫‪19193‬من أوجه اإلعجاز العلمي في عالم البحار‪ ،‬مكة المكرمة‪ ،‬هيئة اإلعجاز العلمي‬
‫في القرآن والسنة‪.‬‬
‫‪19194‬من قصص الشمائل‪ ،‬أحمد عز الدين‪.‬‬
‫‪19195‬مناهج األدلة في عقائد الملة‪ ،‬ابن رشيد الحفيد‪.‬‬
‫‪19196‬منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول !‪ ،‬عبداهلل بن سعيد اللحجي‪.‬‬
‫‪955‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫‪19197‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬أبو إسحاق الشاطبي‪.‬‬


‫‪19198‬المواقف في علم الكالم‪ ،‬عضد الدين الشيرازي‪.‬‬
‫‪19199‬الموطأ‪ ،‬اإلمام مالك بن أنس‪.‬‬
‫‪20200‬موقع الهيئة العالمية لإلعجاز العلمي في القرآن والسنة على الشبكة العنكبوتية‪:‬‬
‫‪www.eajaz.org‬‬
‫‪ 20201‬النبوة واألنبياء‪ ،‬المهندس اللواء ‪ /‬أحمد عبدالوهاب‪.‬‬
‫‪ 20202‬النظم الدبلوماسية في اإلسالم‪ ،‬صالح الدين المنجد‪.‬‬
‫‪ 20203‬نظم الدر والعقيان‪ ،‬محمد بن عبداهلل التنسي‪.‬‬
‫‪ 20204‬نظم المتناثر من الحديث المتواتر‪ ،‬الشيخ محمد بن جعفر الكتاني‪.‬‬
‫‪ 20205‬النقود المتداولة في عصر الرسول وعصر الخلفاء الراشدين‪ ،‬سمير شما‪.‬‬
‫‪20206‬النهاية في غريب الحديث‪ ،‬ابن األثير‪.‬‬
‫‪ 20207‬النور الخالد محمد ! مفخرة اإلنسانية‪ ،‬محمد فتح اهلل كولن‪.‬‬
‫‪ 20208‬هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى‪ ،‬ابن قيم الجوزية‪.‬‬
‫‪ 20209‬هذا الحبيب يا محب‪ ،‬الشيخ ‪ /‬أبو بكر الجزائري‪.‬‬
‫‪ 21210‬هذا هو اإلسالم‪ ،‬مصطفى السباعي‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ 21211‬الوزراء الكتاب‪ ،‬الجهشياري‪.‬‬
‫‪ 21212‬وصف التخلق البشري طور العلقة والمضغة ‪ -‬بحث مقدم للمؤتمر العالمي األول‬
‫لإلعجاز العلمي في القرآن والسنة (‪ 1408‬هـ ‪ 1987‬م ) من كتاب علم األجنة‬
‫في ضوء القرآن والسنة ‪ -‬ط أولى‪ ،‬مطابع رابطة العالم اإلسالمي‪ ،‬مكة المكرمة‪،‬‬
‫كيث مور‪ ،‬وعبداجمليد الزنداني ومصطفى أحمد‪.‬‬
‫‪ 21213‬وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى‪ ،‬السمهودي‪.‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫‪ 21214‬وقفات تربوية مع السيرة‪ ،‬أحمد فريد‪.‬‬


957

‫المصادر والمراجع األجنبية‬

1. «A Radio Pulsar with an 8.5-Second Period that Challenges Emission


Models». Nature 2010-04-03.
2. «Biotic Communities of the Colorado Plateau: C. Hart Merriam and the
Life Zones Concept». 30 January 2010.
3. «Distribution of land and water on the planet». UN Atlas of the Oceans.
4. «Hipparchus of Rhodes». School of Mathematics and Statistics, University
of St Andrews, Scotland. 2007-10-28.
5. «Lowest Elevation: Dead Sea». Extreme Science.
6. «Mosquito-Borne Diseases». The American Mosquito Control Associa-
tion. October 14, 2008.
7. «Mosquito›s Life Cycle». Westchester County Department of Health.
April 10, 2010.
8. «Ocean». The Columbia Encyclopedia. 2002. New York: Columbia Uni-
versity Press.
9. «Road Infrastructure Strategic Framework for South Africa». National
Department of Transport (South Africa). 24 March 2007.
10. «Salvadora persica». Food and Agriculture Organization of the United Na-
tions. 2009-02-16.
958

11. «Saudi Arabia». International Monetary Fund. Retrieved 2009-10-01.


12. «Solar system»». Merriam Webster Online Dictionary. 2008.
13. «Solar system»». Merriam Webster Online Dictionary. 2008.
14. «Sun». World Book at NASA. NASA. http://www.nasa.gov/worldbook/
sun_worldbook.html. 2010-03-22. «The sun is one of over 100 billion stars
in the Milky Way Galaxy. It is about 25,000 light-years from the center of
the galaxy, and it revolves around the galactic center once about every 250
million years.»
15. «Well-mixed Greenhouse Gases». Climate Change 2001: The Scientific
Basis. Intergovernmental Panel on Climate , Change. 2001.
16. «What is the difference between a road and a street?». Word FAQ. Lexico
Publishing Group. 2007.
17. «World Consumption of Primary Energy by Energy Type and Selected
Country Groups , 1980-2004» (XLS). Energy Information Administration.
July 31, 2006.
18. . JewishEncyclopedia.com. 2007-06-27.
19. a b c Preuss TM (1995). «Do rats have prefrontal cortex? The Rose-Wool-
sey-Akert program reconsidered.». The Journal of Cogntive Neuroscience
7 (1): 1 -24.
20. a b c Uylings HB, Groenewegen HJ, Kolb B (November 2003). «Do rats
have a prefrontal cortex?». Behavioural Brain Research 146 (1-2): 3 -17.
21. A primer from the CDC on quarantine and its uses against contagious dis-
ease spread. Nov. 27, 2009.
22. Aaboe, A. (1974). «Scientific Astronomy in Antiquity». Philosophical
Transactions of the Royal Society 276 (1257): 21 -42. 2010-03-09.
23. AB Watts (2001). Isostasy and Flexure of the Lithosphere. Cambridge
University Press. About Saufdi Arabia: Facts and figures, The Royal
Embassy of Saudi Arabia, Washington D.C.
24. Adams JP, Murphy PG (July 2000). «Obesity in anaesthesia and intensive
care». Br J Anaesth 85 (1): 91 -108.
959 ‫المصادر والمراجع‬

25. Adapted from Dewey M. Caron (1999). «House flies». University of


Rhode Island Danforth BN, Sipes S, Fang J, Brady SG (October 2006).
«The history of early bee diversification based on five genes plus morphol-
ogy». Proc. Natl. Acad. Sci. U.S.A. 103 (41): 15118 -23.
26. Adushkin, Vitaly (2008). Catastrophic events caused by cosmic objects.
Springer. ISBN 1402064519.
27. Alldredge, A. L. &Gotschalk, C. Limnol. Oceanogr. 33, 339-351 (1988).
28. Alldredge، A. L. &Gotschalk، C. Limnol. Oceanogr. 33, 339−351 (1988).
29. Allen, Clabon Walter; Cox, Arthur N. (2000). Allen›s Astrophysical Quan-
tities. Springer. p. 294.
30. Almas, Khalid (2002-08-15). «The Effect of Salvadora Persica Extract
(Miswak) and Chlorahexidine Gluconate on Human Dentin: A SEM
Study». Journal of Contemporary Dental Practice 3 (3): 27 -35. 2009-02-
16.
31. Al-Monaes, Walled A. (1991), «Muslim contributions to geography until
the end of the 12th century AD».
32. Amro, Soliman; Hatem E. Amin, Mohammed Batwa (May 2007). «Oral
hygiene and periodontal status associated with the use of miswak or tooth-
brush among Saudi adult population». Cairo Dental Journal 23 (2): 159
-166. 2009-02-16.
33. An Introduction to Mirages by Andy Young.
34. Ann Zabludoff (University of Arizona) (Spring 2003). «Lecture 13: The
Nebular Theory of the origin of the Solar System».
35. Anthony DeBartolo (June 5, 1986). «Buzz off! The housefly has made a
pest of himself for 25 million years». Chicago Tribune.
36. Apel, J. R., 1987, Principles of Ocean Physics, Academic Press, (ISBN
0-12-058866-8)
‫المصادر والمراجع‬

37. Arthur Wiebe, Project AIMS - Our Wonderful World, Environmental


Studies Book 7, Fresno Pacific College, AIMS Education Foundation,
1986.
960

38. Arthur Wiebe, Project AIMS - Our Wonderful World, Environmental


Studies Book 7, Fresno Pacific College, AIMS Education Foundation,
1986.
39. Arthur Wiebe, Project AIMS - Our Wonderful World, Environmental
Studies Book 7, Fresno Pacific College, AIMS Education Foundation,
1986.
40. Arthur Wiebe, Project AIMS - Our Wonderful World, Environmental
Studies Book 7, Fresno Pacific College, AIMS Education Foundation,
1986.
41. Arthur Wiebe, Project AIMS - Our Wonderful World, Environmental
Studies Book 7, Fresno Pacific College, AIMS Education Foundation,
1986.
42. Asper, V. L. Deep Sea Res. 34, 1−17 (1987).
43. Asper, V. L. Deep Sea Res. 34, 1−17 (1987).
44. Aubert G., Lansdorp P.M. (April 2008), «Telomeres and Aging», Physi-
ological Reviews 88 (2): 557 -579.
45. Autoimmunity (1994); 23, 74-165
46. AVISO, 1996: User handbook for merged TOPEX/Poseidon products.
AVI-NT-02-101-CN, Edition 3.0, 196 pp.
47. B. Windley: The Evolving Continents. Wiley Press, New York 1984
48. Babcock Institute site on internet .
49. Bassham S, Beam A, Shampay J (January 1998), «Telomere variation in
Xenopus laevis», Mol. Cell. Biol. 18 (1): 269 -75.
50. BBC. Weather Basics - Jet Streams. 2008-05-08.
51. Beech, M.; Steel, D. I. (September 1995). «On the Definition of the Term
Meteoroid». Quarterly Journal of the Royal Astronomical Society 36 (3):
281 -284.
52. Behling, Sophia, and Stefan Behling, in collaboration with Bruno
Schindler. Solar power: the evolution of sustainable architecture. New
York, Prestel, 2000. 240 p.
961 ‫المصادر والمراجع‬

53. Belton, MJS (2004). Mitigation of hazardous comets and asteroids. Cam-
bridge University Press. ISBN 0521827647.
54. Berger, Brian (September 14, 2005). «NASA to Unveil Plans to Send 4
Astronauts to Moon in 2018».
55. Blackburn, Susan. Maternal, Fetal, & Neonatal Physiology, p. 80 (Elsevier
Health Sciences 2007).
56. Bloom, J. S.; Kulkarni, S. R.; Djorgovski, S. G. (2002). «The Observed
Offset Distribution of Gamma-Ray Bursts from Their Host Galaxies: A
Robust Clue to the Nature of the Progenitors». The Astronomical Journal
123: 1111.
57. Blyth, S., Groombridge, B., Lysenko, I., Miles, L. & Newton, A. (2009-02-
17). «Mountain Watch». UNEP World Conservation Monitoring Centre,
Cambridge, UK.
58. Bolton, C. T. (1972). «Identification of Cygnus X-1 with HDE 226868».
Nature 235: 271 -273.
59. Bond, Peter (2009-03-11), «Obituary: Lt-Gen Kerim Kerimov», The Inde-
pendent (London).
60. Borsch Nelson (1994); Text book of pediatric. 15th Ed.
61. Braude, Peter. “Preimplantation Genetic Diagnosis and Embryo Research-
Human Developmental Biology in Clinical Practice,” International Journal
of Developmental Biology, volume 45, page 607 (2001).
62. Brown, Robert, «A brief account of microscopical observations made in
the months of June, July and August, 1827, on the particles contained in
the pollen of plants; and on the general existence of active molecules in
organic and inorganic bodies,» Phil, Mag, 4, 161 -173, 1828,
63. Brown, Robert, «A brief account of microscopical observations made in
the months of June, July and August, 1827, on the particles contained in
‫المصادر والمراجع‬

the pollen of plants; and on the general existence of active molecules in


organic and inorganic bodies,» Phil, Mag, 4, 161 -173, 1828,
64. Buchanan, B.; Collard, M.; Edinborough, K. (2008), «Paleoindian demog-
raphy and the extraterrestrial impact hypothesis».
962

65. Bulliet, Richard (1990-05-20) [1975]. The Camel and the Wheel. Morning-
side Book Series. Columbia University Press. p. 183.
66. Burt, Christopher C., (2004). Extreme Weather, A Guide & Record Book.
W. W. Norton & Company.
67. C. Klein, A. Flohn, Contribution to the Knowledge in the Fluctuations of
the Dead Sea Level. Theoretical and Applied Climatology, vol. 38, p. 151
-156, 1987
68. Cauna N. Morphological basis of sensation in hairy skin. Prog Brain Res.
1976;43:35 -45.
69. Cavalier-Smith T (2006). «Cell evolution and Earth history: stasis and
revolution». Philos Trans R Soc Lond B Biol Sci 361 (1470): 969 -1006.
70. Cecil, Russell (1988). Textbook of Medicine. Philadelphia: Saunders. pp.
1523, 1799.
71. CERSAT, 1995: Altimeter and microwave radiometer ERS products user
manual. C2-MUT-A-01-1F, Version 1.2, 128 pp.
72. Charles H. Lineweaver (2001). «An Estimate of the Age Distribution of
Terrestrial Planets in the Universe: Quantifying Metallicity as a Selection
Effect». Icarus 151: 307.
73. Christian, Eric; Samar, Safi-Harb. «How large is the Milky Way?». 2007-
11-28.
74. Clark R. Chapman & David Morrison (January 6, 1994), «Impacts on the
Earth by asteroids and comets: assessing the hazard», Nature 367: 33 -40.
75. Clark, P, (1976) ‹Atomism versus thermodynamics› in Method and ap-
praisal in the physical sciences, Colin Howson (Ed),Cambridge University
Press 1976,
76. Cohen, Ronald; Stixrude, Lars. «Crystal at the Center of the Earth». 2007-
02-05.
77. Cohn, Norman (1996). Noah›s Flood: The Genesis Story in Western
Thought. New Haven & London: Yale University Press.
78. Cong YS, Wright WE, Shay JW (September 2002), «Human telomerase
and its regulation», Microbiol. Mol. Biol. Rev. 66 (3): 407 -25.
963 ‫المصادر والمراجع‬

79. Courtland, Rachel. «Pulsar Detected by Gamma Waves Only.» New Scien-
tist, 17 October 2008.
80. Crittenden, M. D., Jr., 1963, Effective viscosity of the earth derived from
isostatic loading of Pleistocene Lake Bonneville: Journal of Geophysical
Research, v. 68, p. 5517-5530.
81. D. Kapogiannis, A. K. Barbey, M. Su, G. Zamboni, F. Krueger, and J.
Grafman, “Cognitive and Neural Foundations of Religious Belief,” Pro-
ceedings of the National Academy of Sciences USA 106, no. 12 (2009).
82. D.A. Bryant & N.-U. Frigaard (November 2006). «Prokaryotic photosyn-
thesis and phototrophy illuminated». Trends Microbiol 14 (11): 488.
83. Davey, G.C.L. (1994). «The “Disgusting” Spider: The Role of Disease and
Illness in the Perpetuation of Fear of Spiders». Society and Animals 2 (1):
17 -25.
84. David R. Cook Jet Stream Behavior. 2008-05-08.
85. David Whitehouse (2005). The Sun: A Biography. John Wiley and Sons.
86. Debbie Williams and Carol Hickson, Aerospace and the Environment,
DOT, FAA, U.S. Government Pringing Office, Washington, D.C., 1978.
87. Debbie Williams and Carol Hickson, Aerospace and the Environment,
DOT, FAA, U.S. Government Pringing Office, Washington, D.C., 1978.
88. Debbie Williams and Carol Hickson, Aerospace and the Environment,
DOT, FAA, U.S. Government Pringing Office, Washington, D.C., 1978.
89. Debbie Williams and Carol Hickson, Aerospace and the Environment,
DOT, FAA, U.S. Government Pringing Office, Washington, D.C., 1978.
90. Debbie Williams and Carol Hickson, Aerospace and the Environment,
DOT, FAA, U.S. Government Pringing Office, Washington, D.C., 1978.
91. Deuser, W. G. Deep Sea Res. 33, 225−246 (1986).
92. Deuser, W. G. Deep Sea Res. 33, 225−246 (1986).
‫المصادر والمراجع‬

93. Domestication of plants in the Old World (3 ed.). Oxford University Press.
2000. p. 206.
964

94. Donath S, Amir LH 2000, Rates of breastfeeding in Australia by State and


socio-economic status: Evidence from the 1995 National Health Survey. J
Paediatr Child Health 36: 164-168.
95. Dr. Kasem Ajram (1992). The Miracle of Islam Science (2nd ed.). Knowl-
edge House Publishers.
96. Durst and Bull (1956). Met. Mag. 85. pp. 237 -242.
97. Durst and Bull (1956). Met. Mag. 85. pp. 237 -242.
98. E Albert reece& others ( 1994 ) fundamental of Obsteric& gynecology Uit-
rasound international ED printice - Hall international lnc. U.S.A .
99. Edward S. Kennedy, Mathematical Geography, p. 193, in
(Rashed&Morelon 1996, pp. 185 -201).
100. Edwards GP, Zeng B, Saalfeld WK, Vaarzon-Morel P and McGregor M
(Eds). 2008. Managing the impacts of feral camels in Australia: a new way
of doing business. DKCRC Report 47.
101. Effect of Nigella Sativa on Isolated Guinea Pig Trachea.
102. Einstein, A, «Investigations on the Theory of Brownian Movement», New
York: Dover, 1956,
103. Einstein, A, «Investigations on the Theory of Brownian Movement», New
York: Dover, 1956,
104. Eisenacher W. II. Zur Morphologie der Papilla fungiformis einiger Naget-
iere. Adv Anat Embryol Cell Biol. 1975;50(6):59 -116.
105. Elsworth, Catherine (July 14, 2009). «US plans to be back on the Moon
by 2018». The Daily Telegraph (London).
106. Embryology - History of embryology as a science.» Science Encyclope-
dia. Web. 06 Nov. 2009.
107. Encyclopædia Britannica, 2008.
108. Encyclopædia Britannica. 2009. Encyclopædia Britannica Online. 06 Nov.
2009.
109. Engel, Michael S. (2001-02-13). «Monophyly and Extensive Extinction of
Advanced Eusocial Bees: Insights from an Unexpected Eocene Diversity».
PNAS (National Academy of Sciences) 98 (4): 1661 -1664.
965 ‫المصادر والمراجع‬

110. Engert, Gerald J. (1964) «International Corner» Identification News Vol


14(1).
111. Ewing, Rex A. Power with nature: alternative energy solutions for home-
owners. Updated 2nd ed. Masonville, CO, PixyJack Press, c2006. 287 p.
112. F. Gary Cunnigham PC . Mac Donald & others ( 1993 ) Williams Obster-
trics . 19th ED . printice hall lnt . lnc .
113. Farrand, W. R., 1962, Postglacial rebound in North America: American
Journal of Science, v. 260, p. 181-198.
114. Feeds and feedings book - auther :church .
115. Finger, Stanley (1994). Origins of neuroscience: a history of explorations
into brain function. Oxford [Oxfordshire]: Oxford University Pres.
116. Fitzwater, S. E., Knauer, G. A. & Martin, J. H. Limnol. Oceanogr. 27,
544−551 (1982).
117. Fleagle, RG and Businger, JA: An introduction to atmospheric physics,
2nd edition, 1980
118. Freeman Dyson (July 1979). «Time Without End: Physics and Biology in
an open universe». Reviews of Modern Physics 51 (3): 447.
119. Freeman Dyson (July 1979). «Time Without End: Physics and Biology in
an open universe». Reviews of Modern Physics 51 (3): 447.
120. Futuyma, Douglas J. (2005). Evolution. Sunderland, Massachusetts:
Sinauer Associates, Inc.
121. Gao F, Bailes E, Robertson DL, et al. (1999). «Origin of HIV-1 in the
Chimpanzee Pan troglodytes troglodytes». Nature 397 (6718): 436 -441.
122. Gavrilov LA, Gavrilova NS (December 2001). «The reliability theory of
aging and longevity». Journal of Theoretical Biology 213 (4): 527 -45.
123. Gerald Schubert, Donald L. Turcotte, Peter Olson. (2001). Mantle Con-
vection in the Earth and Planets. Cambridge: Cambridge University Press.
‫المصادر والمراجع‬

124. Gerrard, A. J. 1990. Mountain Environments.


125. Gerstein H.( 1994); Diabetes , Jan ,17, 1, 9-13
126. Giddings, Steven B. (2002). «High energy colliders as black hole facto-
ries: The end of short distance physics». Physical Review D 65: 056010.
966

127. Glossary of Meteorology (2009). «Ageostrophic wind». American Meteo-


rological Society.
128. Glossary of Meteorology (2009). «Geostrophic wind». American Meteo-
rological Society.
129. Glossary of Meteorology (2009). «Hail». American Meteorological Soci-
ety.
130. Glossary of Meteorology (2009). «Hailstorm». American Meteorological
Society.
131. Glossary of Meteorology (2009). «Thermal wind». American Meteoro-
logical Society.
132. Gnanadesikan, A., R. D. Slater, P. S. Swathi, and G. K. Vallis, 2005: The
energetics of ocean heat transport. Journal of Climate, 18, 2604-2616.
133. Google Earth Professional PC software.
134. Gural, Peter S. (1997): «An Operational Autonomous Meteor Detector:
Development Issues and Early Results» WGN Journal of the International
Meteor Organization 25-3, p.136.
135. H. G. Koenig, eds., Handbook of Religion and Mental Health (San Diego:
Academic Press, 1998).
136. Hansen, J., Climatic Change, 68, 269, 2005
137. Haslam DW, James WP (2005). «Obesity». Lancet 366 (9492): 1197
-209.
138. Hawkes, R.L. (1990): «Constructing a Video-Based Meteor Observatory»
WGN - Journal of the International Meteor Organization 18-4, p.145.
139. Hawking, S.W. (1974). «Black hole explosions?». Nature 248: 30 -31.
140. Hawking, Stephen; Penrose, R. (January 1970). «The Singularities of
Gravitational Collapse and Cosmology». Proceed ings of the Royal Society
A 314 (1519): 529 -548.
141. Helgason, Asgeir; Jan Adolfsson, Paul Dickman, Stefan Arver, Mats
Fredrikson, Marianne Göthberg and Gunnar Steineck (1996). «Sexual
Desire, Erection, Orgasm and Ejaculatory Functions and Their Importance
to Elderly Swedish Men: A Population-based Study». Age and Ageing
(Oxford University Press) 25 (4): 285 -291.
967 ‫المصادر والمراجع‬

142. Henry Smith, Amazing Air, Walker Books Ltd., Great Britian, 1982.
143. Henry Smith, Amazing Air, Walker Books Ltd., Great Britian, 1982.
144. Henry Smith, Amazing Air, Walker Books Ltd., Great Britian, 1982.
145. Henry Smith, Amazing Air, Walker Books Ltd., Great Britian, 1982.
146. Henry Smith, Amazing Air, Walker Books Ltd., Great Britian, 1982.
147. Hens, J.R. & Wysolmerski, J.J. Key stages of mammary gland develop-
ment: molecular mechanisms involved in the formation of the embryonic
mammary gland. Breast Cancer Res 7, 220-4 (2005).
148. Herndon, J. Marvin (1996) Substructure of the inner core of the Earth Vol.
93, Issue 2, 646-648, January 23, 1996.
149. Hicks, G. T. et al (1967): «Meteor Photography with an Image Orthicon
System» Symposium Meteor Orbits and Dust 1965, p.95.
150. Hillyard PD (1994). The book of the spider: from arachnophobia to the
love of spiders. New York: Random House.
151. Hinman, M.B., Jones J.A., and Lewis, R.W. (September 2000). «Synthetic
spider silk: a modular fiber» (PDF). Trends in Biotechnology 18 (9): 374
-9.
152. Hirsch, EG, Muss-Arnolt, W &Hirschfeld, H (2002). «Jewish Encyclope-
dia: The Flood». JewishEncyclopedia.com. 2007-06-27.
153. Honjo, S., Spencer, D. W. & Farrington، J. W. Science 216، 516−518
(1982).
154. Honjo، S., Manganini, S. J. & Cole, J. J. Deep Sea Res. 29, 609−625
(1982).
155. Horwood LJ, Darlow BA, Mogridge N 2001, Breast milk feeding and
cognitive ability at 7-8 years Arch Dis Fetal Neonatal 84: F23-F27.
156. http://www.extremescience.com/DeadSea.htm. Retrieved 2007-05-22.
‫المصادر والمراجع‬

157. Human embryology 4th edition، page 69.


158. Iggo, A. and Muir, A. R. (1969) «The structure and function of a slowly
adapting touch corpuscle in hairy skin». Journal of Physiology (London)
200:763-796.
968

159. Imaz I, Martínez-Cervell C, García-Alvarez EE, Sendra-Gutiérrez JM,


González-Enríquez J (July 2008). «Safety and effectiveness of the intra-
gastric balloon for obesity. A meta-analysis». Obes Surg 18 (7): 841 -6.
160. Inagaki S, Kito S. Peptides in the peripheral nervous system. Prog Brain
Res. 1986.
161. Intergovernmental Panel on Climate Change (1990). IPCC First Assess-
ment Report.1990. UK: Cambridge University Press. table 3.1
162. J. J. Rawal (1986). «Further Considerations on Contracting Solar Nebula»
(PDF). Earth, Moon, and Planets (Springer Netherlands) 34 (1): 93 -100.
163. J. Schopf: Earth’s Earliest Biosphere: Its Origin and Evolution. Princeton
University Press, Princeton, N.J., 1983
164. J.P Green hill & others ( 1989 ) Modern Practice of Obstetrics . 3rd ED.
W. B Saunders company . Philadelphia .
165. Jeff Paduan (( High - Resolution Ocean Circulation Modeling during
MUSE )) htt : // www.mbari.org .
166. JetStream (2008). «Origin of Wind». National Weather Service Southern
Region Headquarters.
167. Jickells, T. D., Church, T. M. &Deuser, W. G. Global biogeochem.
Cycles 1, 117−130 (1987).
168. John M. Hobson (2004), The Eastern Origins of Western Civilisation, pp.
29 -30, Cambridge University.
169. John M. Lewis. Ooishi›s Observation: Viewed in the Context of Jet
Stream Discovery. 2008-05-08.
170. John Mclahlan ( 1994 ) Medical Emberiology 1st E publishing Comp ..
Addeson - Wesly .
171. Kandel E.R., Schwartz, J.H., Jessell, T.M. (2000). Principles of Neural
Science, 4th ed., pp.433. McGraw-Hill, New York.
172. Keith L. moor ( 1985 ) Developing Human with Islamic Edittion 3rd ED.
Dar Qiblah Jeddah .
173. KEITH. L. Moore. The Developing Human، page 54.
969 ‫المصادر والمراجع‬

174. Kennedy, Edward S. (1962), «Review: The Observatory in Islam and Its
Place in the General History of the Observatory by Aydin Sayili».
175. Kiehl, J.T., and Trenberth, K. (1997). «Earth›s annual mean global energy
budget,» Bulletin of the American Meteorological Society ‹78› (2), 197
-208.
176. Kiessling, Ann. What is an Embryo?” Connecticut Law Review 36 (4):
1051 -93.
177. Kirkwood TB (November 1977). «Evolution of ageing». Nature 270
(5635): 301 -4.
178. Klossner, N. Jayne and Hatfield, Nancy. Introductory Maternity & Pediat-
ric Nursing, p. 107 (Lippincott Williams & Wilkins, 2006).
179. Knauss, J. A., 1996, Introduction to Physical Oceanography, Prentice Hall
(ISBN 0-13-238155-9)
180. Kottak, Conrad Phillip. Window on Humanity: A Concise Introduction to
Anthropology. New York: The McGraw -Hill Companies, Inc, 2005.
181. Kryza, Frank. T. The power of light: the epic story of man’s quest to har-
ness the sun. New York, London, McGraw-Hill, c2003. 298 p.
182. Kushner, Robert (April 5, 2009). Treatment of the Obese Patient (Con-
temporary Endocrinology). Totowa, NJ: Humana Press. pp. 158.
183. L. G. Jacchia, Revised Static Models of the Thermosphere and Exosphere
with Empirical Temperature Profiles, Smithson. Astrophys. Obs. Spec.
Rept. No. 332, 1971.
184. L. G. Jacchia, Static Diffusion Models of the Upper Atmosphere with Em-
pirical Temperature Profiles, Smithson. Astrophys. Obs. Spec. Rept. No.
170, Cambridge, Massachusetts, 1964.
185. L. G. Jacchia, Thermospheric Temperature, Density, and Composition:
New Models, Smithson. Astrophys. Obs. Spec. Rept. No. 375, 1977.
‫المصادر والمراجع‬

186. Laplace; see Israel, Werner (1987), «Dark stars: the evolution of an idea»,
in Hawking, Stephen W. & Israel, Werner, 300 Years of Gravitation, Cam-
bridge University Press.
970

187. Larraín, Patricia & Salas, Claudio (2008). «House fly (Musca domestica
L.) (Diptera: Muscidae) development in different types of manure [Desar-
rollo de la Mosca Doméstica (Musca domestica L.) (Díptera: Muscidae) en
Distintos Tipos de Estiércol]». Chilean Journal of Agricultural Research
68: 192 -197.
188. Lars Stixrude and R. E. Cohen, «High-Pressure Elasticity of Iron and
Anisotropy of Earth›s Inner Core», Science 31 March 1995: Vol. 267. no.
5206, pp. 1972 - 1975 DOI: 10.1126/science.267.5206.1972
189. Lay, Maxwell G (1992). Ways of the World: A History of the World›s
Roads and of the Vehicles that Used Them. Rutgers University Press.
190. Lazarus GS, Cooper DM، Knighton DR et al. Definitions and guide-
lines for assessment of wounds and evaluation of healing. Arch Derm
1994;130(4):489-493.
191. Lewis Wolpert. Principles of Development. Oxford University Press،
2006.
192. Lewis, John S. (1996), Rain of Iron and Ice, Helix Books (Addison-Wes-
ley), pp. 236.
193. Lohrenz, S. E. et al.Deep Sea Res. (in the press).
194. Lohrenz, S. E. et al.Deep Sea Res. (in the press).
195. Lutgens, Frederick K. and Edward J. Tarbuck (1995) The Atmosphere,
Prentice Hall, 6th ed., pp14-17.
196. M. M. Woolfson (1984). «Rotation in the Solar System». Philosophical
Transactions of the Royal Society of London 313: 5.
197. M. Minnaert; The Nature of Light and Colour in the Open Air; 1948.
198. M. Minnaert; The Nature of Light and Colour in the Open Air; 1948.
199. Martin A. Uman lightning Dover Publications lnc. New York 1984 .
200. Mason bee from Everything.About. 10 March 2009.
201. Masters, W. H., & Johnson, V. E. (1979). Homosexuality in perspective.
Boston: Little, Brown and Company.
971 ‫المصادر والمراجع‬

202. Matsakis, D. N.; Taylor, J. H.; Eubanks, T. M. (1997). «A Statistic for De-
scribing Pulsar and Clock Stabilities». Astronomy and Astrophysics 326:
924-928. 2010-04-03.
203. McClintock, Jeffrey E.; Remillard, Ronald A. (2006). «Black Hole Bi-
naries». in Lewin, Walter; van der Klis, Michiel.Compact Stellar X-ray
Sources. Cambridge University Press.
204. McKnight Tom (2004). Geographica: The complete illustrated Atlas of
the world. New York: Barnes and Noble Books.
205. Medawar PB (1946). «Old age and natural death». Modern Quarterly 1:
30 -56.
206. Menassa, R., Zhu, H., Karatzas, C.N., Lazaris, A., Richman, A., and Bran-
dle, J. (June 2004). «Spider dragline silk proteins in transgenic tobacco
leaves: accumulation and field production». Plant Biotechnology Journal 2
(5): 431 -8.
207. Merriam-Webster dictionary definition of contagious disease. Nov. 27,
2009.
208. Meteoritical Bull», by Wlotzka, F. published in «Meteoritics», 1994.
209. Micah Fink for PBS. «How Lightning Forms». Public Broadcasting Sys-
tem. September 21, 2007.
210. Micheau, Francoise, «The Scientific Institutions in the Medieval Near
East», pp. 992 -3.
211. Molavi, Afshin (June 12, 2003). «Africa›s Malaria Death Toll Still «Out-
rageously High»». National Geographic. July 27, 2007.
212. Morrow-Tlucak M, Haude RH, Ernhart CB. Breastfeeding and cognitive
development in the first 2 years of life. Soc Sci Med. 1988:26;635-639
213. Mulkay, Michael. The Embryo Research Debate, page 31 (Cambridge
University Press 1997).
‫المصادر والمراجع‬

214. National Center for Atmospheric Research (2008). «Hail». University


Corporation for Atmospheric Research.
215. National Weather Service (2007). «Lightning Safety». National Weather
Service. September 21, 2007.
972

216. National Weather Service Forecast Office, Columbia, South Carolina


(2009-01-27). «Hail...». National Weather Service Eastern Region Head-
quarters.
217. National Weather Service JetStream. The Jet Stream. 2008-05-08.
218. Nealson KH, Conrad PG (December 1999). «Life: past, present and fu-
ture». Philos. Trans. R. Soc. Lond., B, Biol. Sci. 354 (1392): 1923 -39.
219. Nelson, Edward, Dynamical Theories of Brownian Motion (1967),
220. Nelson, Edward, Dynamical Theories of Brownian Motion (1967),
221. Nemy, Enid. «AN AFTERNOON WITH: Masters and Johnson; Divorced,
Yes, But Not Split», The New York Times, 2008-12-03.
222. New_International_Encyclopedia.Newberg and B. Lee, “The Neurosci-
entific Study of Religious and Spiritual Phenomena: Or Why God Doesn’t
Use Biostatistics,” Zygon 40, (2005): 469-489.
223. Nigel Henbest (1991). «Birth of the planets: The Earth and its fellow plan-
ets may be survivors from a time when planets ricocheted around the Sun
like ball bearings on a pinball table». New Scientist.
224. Niinikoski J. Effect of oxygen supply on wound healing and formation of
experimental granulation tissue. Acta Physiol Scand 1969; 334:1-72.
225. O’Reilly, Deirdre. “Fetal development,” MedlinePlus Medical Encyclope-
dia (2007-10-19).
226. Ocean Surface Mixed : (( Modeling Estuarine / Coastal Circulations))
www.hpl.umces.edu/~lzhong/estuary_coastal/estuary
227. Olsen, Robert D., Sr. (1972) “The Chemical Composition of Palmar
Sweat”, Fingerprint and Identification Magazine Vol 53(10).
228. Oreskes, Naomi (ed) (2003). Plate Tectonics: An Insider›s History of the
Modern Theory of the Earth. Westview.
229. Oscar H. del Brutto, Brutto Et Al, Julio Sotelo, Gustavo C. Román (1998),
Neurocysticercosis, Taylor and Francis, p. 3.
230. Panos (2009-02-17). «High Stakes».
231. Pickering, Neil and Evans, Donald. Creating the Child, page 39 (Martinus
Nijhoff Publishers 1996).
973 ‫المصادر والمراجع‬

232. Pinnock, S.; M.D. Hurley, K.P. Shine, T.J. Wallington, and T.J. Smyth
(1995). «Radiative forcing of climate by hydrochlorofluorocarbons and
hydrofluorocarbons.». J. Geophys. Res. 100 (D11): 23277 -23238
233. Poinar GO, Danforth BN (October 2006). «A fossil bee from Early Creta-
ceous Burmese amber». Science 314 (5799): 614.
234. Pranab Ghosh, Rotation and accretion powered pulsars. World Scientific,
2007, p.2.
235. Primeau, F., 2005, Characterizing transport between the surface mixed
layer and the ocean interior with a forward and adjoint global ocean trans-
port model, Journal of Physical Oceanography,35, 545-564Lisitzin, E.
(1974) «Sea levelchanges». Elsevier Oceanography Series, 8.
236. R. Gomes, H. F. Levison, K. Tsiganis, A. Morbidelli (2005). «Origin of
the cataclysmic Late Heavy Bombardment period of the terrestrial planets»
(PDF). Nature 435 (7041):
237. R. Gomes, H. F. Levison, K. Tsiganis, A. Morbidelli (2005). «Origin of
the cataclysmic Late Heavy Bombardment period of the terrestrial planets»
(PDF). Nature 435 (7041):
238. R. R. Griffiths, W. A. Richards, U. McCann, and R. Jesse, “Psilocybin
Can Occasion Mystical-Type Experiences Having Substantial and Sus-
tained Personal Meaning and Spiritual Significance,” Psychopharmacology
187, (2006): 268 -283.
239. R.J.Oosterbaan, 1997, The energy balance of groundwater flow applied to
subsurface drainage in anisotropic soils by pipes or ditches with entrance
resistance.
240. R.J.Oosterbaan, 2000, Drainage and hydrology/salinity: water and salt
balances.
241. R.J.Oosterbaan, 2002, Subsurface drainage by (tube)wells, 9 pp.
‫المصادر والمراجع‬

242. Rabiela, M.T.,A. Rivas, and A.Flisser. 1989. Morphological types of Tae-
nia solium cysticerci. Parasitol. Today5:357-359.
243. Rakov, Vladimir A. (November 7, 2007). «Lightning Makes Glass». Uni-
versity of Florida, Gainesville.
974

244. Ralph Harbach (November 2, 2008). «Family Culicidae Meigen, 1818».


Mosquito Taxonomic Inventory.
245. Reinecke M, Weihe E, Forssmann WG. Substance P-immunoreactive
nerve fibers in the heart. Neurosci Lett. 1980 Dec;20(3):265 -269.
246. Richard Monastersky (March 1, 1997), The Call of Catastrophes, Science
News Online, http://www.sciencenews.org/pages/sn_arc97/75th/rm_essay.
htm, retrieved 2007-10-23.
247. Roach, John (July 14, 2009). «NASA Aims for Moon by 2018, Unveils
New Ship». National Geographic.
248. Rocky Geyer : « where the Rivers Meet the sea - The transition from salt
to fresh water is turbulent vulnerable and incredibly bountiful « WHOI
Oceans Magazine Volume 43 No. 2 http : // www.oceanusmag.whoi.edu
249. Role Of Nigella Sativa In Opioid Dependence.
250. Romer, Alfred Sherwood; Parsons, Thomas S. (1977). The Vertebrate
Body. Philadelphia, Pennsylvania: Holt-Saunders International. pp. 390
-39.
251. Ronald J. Boain,
252. Ronald J. Boain, The A-B-Cs of Sun Synchronous Orbit Design, Space
Flight Mechanics Conference, Feb. 2004.
253. Rose JE, Woolsey CN (1948). «The orbitofrontal cortex and its connec-
tions with the mediodorsal nucleus in rabbit, sheep and cat». Research
Publications - Association for Research in Nervous and Mental Disease 27
(1 vol.): 210 -32 Drogin, Bob (August 18, 2009). «Census of Marine Life
maps an ocean of species».
254. Saukkonen et al., (1998); Dialectologies. Jan., 4, 7, 8-72.
255. Scand J. Immanuel (1998، Feb); 47، 2، 5-131.
256. Scharringhausen, B.. «Curious About Astronomy: What is the difference
between astronomy and astrophysics?». 2007-06-20.
257. Schmidt, Gavin A. (2005-04-06). «Water vapour: feedback or forcing?».
RealClimate.
975 ‫المصادر والمراجع‬

258. Schödel, R.; Ott, T; Genzel, R; Hofmann, R; Lehnert, M; Eckart, A;


Mouawad, N; Alexander, T et al. (2002). «A star in a 15.2-year orbit
around the supermassive black hole at the centre of the Milky Way». Na-
ture 419 (6908): 694 -696.
259. Scott F. Gilbert. Developmental Biology. Sinauer، 2003.
260. Scott, Susan, and C. J. Duncan (2004-07-01). Return of the Black Death:
The World›s Greatest Serial Killer. England: John Wiley & Sons.
261. SDSU.edu, «Atmospheric Optics Glossary» by Andy Young
262. SDSU.edu, «Atmospheric Optics Glossary» by Andy Young
263. Sepkowitz KA (June 2001). «AIDS--the first 20 years». N. Engl. J. Med.
344 (23): 1764 -72.
264. Sheffield, P. Tissue oxygen tension. In: Davis JC, Hunt TK, eds. Problem
Wounds: The Role of Oxygen. New York: Elsevier, 1988:17-51.
265. Sheffield, PJ. Tissue oxygen measurements with respect to soft-tissue
wound healing with normobaric and hyperbaric oxygen. HBO Rev
1985;6:18-46.
266. Short practice of surgery page102
267. Shu, F. H. (1982). The Physical Universe. Mill Valley, California: Uni-
versity Science Books.
268. Simon Mitton (2005). «Origin of the Chemical Elements». Fred Hoyle: A
Life in Science. Aurum. pp. 197 -222.
269. Siutto, Edda. 2000. Taenia solium disease in humans and pigs: an ancient
parasitosis disease rooted in developing countries and emerging as a major
health problem of global dimensions. Microbes and Infection: 1875-1890.
270. Smith, A. L. (1997). Oxford dictionary of biochemistry and molecular
biology. Oxford University Press. pp. 508.
271. Spilhaus first=Athelstan F. Maps of the whole world ocean. 32 (3).
‫المصادر والمراجع‬

American Geographical Society). pp. 431 -5.


272. Staff (2008-09-23). «Useful Constants». International Earth Rotation and
Reference Systems Service (IERS).
976

273. Standish, E. Myles; Williams, James C. «Orbital Ephemerides of the Sun,


Moon, and Planets». International Astronomical Union Commission 4:
(Ephemerides). 2010-04-03.
274. Stanley Steven M (1999). Earth System History. W.H. Freeman. pp. 211
-228.
275. Steinbock, Bonnie. “Life Before Birth,” pages 50 and 214-215 (Oxford
University Press 1992).
276. Sternlicht, M.D. Key stages in mammary gland development: the cues
that regulate ductal branching morphogenesis. Breast Cancer Res 8, 201
(2006).
277. Sternlicht, M.D., Kouros-Mehr, H., Lu, P. & Werb, Z. Hormonal and
local control of mammary branching morphogen esis. Differentiation 74,
365-81 (2006).
278. Stuart M. Bennett (2003). «Housefly».
279. Sun-Synchronous Orbit dictionary entry, from U.S. Centennial of Flight
Commission.
280. T. H. Jordan, «Structural Geology of the Earth›s Interior», Proceedings of
the National Academy of Science, 1979, Sept., 76(9): 4192 -4200.
281. T.J. Chandler, The Air Around Us, Garden City, New York, 1963.
282. T.J. Chandler, The Air Around Us, Garden City, New York, 1963.
283. T.J. Chandler, The Air Around Us, Garden City, New York, 1963.
284. T.J. Chandler, The Air Around Us, Garden City, New York, 1963.
285. T.J. Chandler, The Air Around Us, Garden City, New York, 1963.
286. T.J. Chandler, The Air Around Us, Garden City, New York, 1963.
287. The Developing Human ( Prof. Keith Moor & Prof. T. Persaud) Edition
6 - 1998.
288. The Oxford Illustrated Dictionary. 1976. Second Edition. Oxford Univer-
sity Press. page 533.
289. Thierry Montmerle, Jean-Charles Augereau, Marc Chaussidon (2006).
«Solar System Formation and Early Evolution: the First 100 Million
Years». Earth, Moon, and Planets (Spinger) 98: 39 -95.
977 ‫المصادر والمراجع‬

290. Thierry Montmerle, Jean-Charles Augereau, Marc Chaussidon (2006).


«Solar System Formation and Early Evolution: the First 100 Million
Years». Earth, Moon, and Planets (Spinger) 98: 39 -95.
291. Thurston, H., Early Astronomy. Springer, 1994. p.2.
292. Tormenting thoughts and secret rituals by : IAN OSBORN M.D DATE :
1998 ISBN : 0-440-50847-9
293. Traditional herbal medicine kills pancreatic cancer cells, researchers
report»Salvadora persica». World Agroforestry Centre. 2009-02-16.
294. U.S. Standard Atmosphere, 1962, U.S. Government Printing Office,
Washington, D.C., 1962.
295. Uddman R, Ekblad E, Edvinsson L, Håkanson R, Sundler F. Neuropep-
tide Y-like immunoreactivity in perivascular nerve fibres of the guinea-pig.
Regul Pept. 1985.
296. Unsöld, Albrecht; Baschek, Bodo; Brewer, W.D. (translator) (2001). The
New Cosmos: An Introduction to Astronomy and Astrophysics. Berlin,
New York: Springer.
297. USGS (September 21, 2007). «Bench collapse sparks lightning, roiling
clouds». United States Geological Society.
298. Vannithone S, Davidson A (1999). «Camel». The Oxford companion to
food. Oxford Oxfordshire: Oxford University Press. p. 127.
299. Veizer in B. F. Windley (ed.), The Early History of the Earth, John Wiley
and Sons, London, p. 569., 1976
300. W. M. Irvine (1983). «The chemical composition of the pre-solar nebula».
in T. I. Gombosi (ed.). Cometary Exploration. pp. 3 -12.
301. W. Wayt Gibbs . Nanoantibodies. Scientific American Magazine . augu-
gust 2005 .
302. Wadia, NH, Singh, G. “Taenia Solium: A Historical Note” Taenia Solium
‫المصادر والمراجع‬

Cysticercosis: From Basic to Clinical Science CABI Publishing, 2002.


157-168.
303. Walsh T (2006). «Combinatorial genetic evolution of multiresistance».
Curr. Opin. Microbiol. 9 (5): 476 -82.
978

304. Watson, C.J. & Khaled, W.T. Mammary development in the embryo and
adult: a journey of morphogenesis and commitment. Development 135,
995-1003 (2008).
305. Webster, B.L; Murdin, P. (1972). «Cygnus X-1—a Spectroscopic Binary
with a Heavy Companion ?». Nature 235: 37 -38.
306. Weiss RA (May 1993). «How does HIV cause AIDS?». Science (journal)
260 (5112): 1273 -9.
307. Wharton J, Polak JM, Probert L, De Mey J, McGregor GP, Bryant MG,
Bloom SR. Peptide containing nerves in the ureter of the guinea-pig and
cat. Neuroscience. 1981.
308. What secrets lie within the camel›s hump?, Lund University, Sweden. 7
January 2008.
309. Williams, David R. (2007-03-17). «Earth Fact Sheet». NASA.
310. Williams, G.C. (1957). Pleiotropy, Natural Selection, and the Evolution of
Senescence. Evolution. 11: 398-411.
311. Willson, R. C., and A. V. Mordvinov (2003), Secular total solar irradiance
trend during solar cycles 21 -23, Geophys.
312. Winter, Lisa M.; Mushotzky, Richard F.; Reynolds, Christopher S.
(2006). «XMM-Newton Archival Study of the Ultraluminous X-Ray Popu-
lation in Nearby Galaxies». The Astrophysical Journal 649: 730.
313. Witzany, G (2008), «). The Viral Origins of Telomeres and Telomerases
and their Important Role in Eukaryogenesis and Genome Maintenance.»,
Biosemiotics” Contagious Disease Control, The Lazaretto». City of Phila-
delphia. 2007-11-21.
314. Wood, R.W. (1909) «Note on the Theory of the Greenhouse,» Philosophi-
cal Magazine, 17, pp 319 -320.
315. Xavier Romero-Frias, The Maldive Islanders, A Study of the Popular
Culture of an Ancient Ocean Kingdom. 1999.
316. Y. Wang, D. L. Lau and L. G. Hassebrook (2010) «Fit-sphere unwrapping
and performance analysis of 3D Fingerprints», Applied Optics, Vol. 49,
Issue 4, pp. 592-600, Feb. 2010.
979 ‫المصادر والمراجع‬

317. Y. Wang, Q. Hao, A. Fatehpuria, D. L. Lau and L. G. Hassebrook (2009)


«Data Acquisition and Quality Analysis of 3-Dimensional Fingerprints»
IEEE conference on Biometrics, Identity and Security, Florida.
318. Zetterstrom R 1999, Breastfeeding and infant -mother interaction. Acta
Paediatr S430: 1-6
‫المصادر والمراجع‬
‫‪981‬‬

‫فهرس الموضوعات‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع ‬

‫مقدمة الطبعة الثالثة ‪5....................................‬‬


‫القسم األول‪ :‬تأمالت في سيرة نبي الرحمة ! ‪19..................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬تأمالت في سيرة نبي الرحمة ! ‪21...........................‬‬
‫توطئة ‪23.......................................................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬نظرة على حياته ! ‪27.....................................‬‬
‫ٰ‬
‫وتعالى ‪32....................‬‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬جهاد الدعوة إلى اهلل سبحانه‬
‫بي ! إلى المدينة‪48.............................‬‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬هجرة الن ّ ّ‬
‫ُ‬
‫أبعاد التآخي بين المسلمين‪54.............................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬نظرة على شخصيَّته ! ‪63.......................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬صفاته ! ‪65...............................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أخالقه ! ‪72...............................................‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المبحث الثالث‪ :‬توازن شخصيَّ ِة الرسول ! واعتدالها ‪78..................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مظاهر رحمته ! ‪89.......................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬غزوات الرسول ! وسراياه‪116........................‬‬
‫‪982‬‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع ‬

‫المبحث السادس‪ :‬نظرة على عالقته ! بالمسلمين ‪147...................‬‬


‫ٌ‬
‫المبحث السابع‪ :‬نظرة على عالقاته ! بغير المسلمين ‪185................‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬شهادة غير المسلمين بفضله ! ‪207......................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬محمد ! الرسول والقائد‪227.................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬كبار مساعدي رسول اهلل ! في إدارة الدولة‪229.........‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬تنظيم شؤون الدولة ‪248....................................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬الرسول ! وفن القيادة‪269.....................................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬الخصائص القيادية للرسول ! ‪271.......................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬وفاة الرسول ! ‪284.......................................‬‬
‫بي ! في مرض وفاته ‪302.....................‬‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬وصايا الن ّ ّ‬
‫المبحث الرابع‪ :‬حقوق الرسول ! على أمته ‪318..........................‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬خصائص المصطفى ! وشمائله ‪327.......................‬‬
‫تمهيد‪329.....................................................................‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬براهين الرسالة المحمدية وحججها‪399................‬‬
‫تمهيد ‪401........................................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬براهين اإليمان وإقامة الحجة على البشرية‪409.................‬‬
‫المبحث األول‪ :‬برهان الفطرة ‪411..........................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬برهان العقل المتدبر في ملكوت اهلل ‪414..................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬برهان العناية (كل شي في الكون هادف فال بد‬
‫من فاعل قاصد حكيم) ‪422..................................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬برهان إرسال الرسل عليهم السالم‪ :‬يستلزم وجود‬
‫ُم ْر ِسل هو اهلل الرحمن الرحيم ‪431..........................................‬‬
‫‪983‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع ‬

‫المبحث الخامس‪ :‬برهان إنزال الكتب‪434..................................‬‬


‫المبحث السادس‪ :‬برهان تأييد الرسل بالمعجزات الباهرة ‪437.............‬‬
‫أنواع المعجزات التي أعطيت للنبي ! ‪441.............................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬شواهد علمية معاصرة على صدق الرسالة‪459.................‬‬
‫تمهيد‪461.....................................................................‬‬
‫الطب وعلوم الحياة‪463......................................................‬‬
‫اإليمان نزوع فطري ‪463..................................................‬‬
‫النحل ‪469.................................................................‬‬
‫الخنزير مصدر لألمراض واألوبئة ‪475...................................‬‬
‫َّ‬ ‫ََ‬
‫مراحل تك ُّون اللبن ‪481...................................................‬‬
‫عواقب اإلباحية‪489.......................................................‬‬
‫تمام الرضاعة عامين كاملين‪495..........................................‬‬
‫الرضاعة الطبيعية ‪499.....................................................‬‬
‫تداعي الجسد بالسهر والحمى‪505.......................................‬‬
‫الناصية المدانة بالكذب والخطيئة ‪509...................................‬‬
‫بصمات األصابع ‪513.....................................................‬‬
‫الجلد واإلحساس باأللم ‪517.............................................‬‬
‫ألم األمعاء ‪521............................................................‬‬
‫ُّ‬
‫الذباب ‪525................................................................‬‬
‫البعوضة‪533...............................................................‬‬
‫فهرس الموضوعات‬

‫اإلبل ‪539..................................................................‬‬
‫الطاعون والحجر الصحي‪547............................................‬‬
‫‪984‬‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع ‬

‫الشيخوخة ‪555............................................................‬‬
‫الموت المبرمج‪563.......................................................‬‬
‫الحبة السوداء شفاء من كل داء ‪569.......................................‬‬
‫العنكبوت ‪575.............................................................‬‬
‫السواك ‪579................................................................‬‬
‫الماء أساس الحياة‪583....................................................‬‬
‫اإلسراف في الطعام ‪587..................................................‬‬
‫وسائل المواصالت‪593...................................................‬‬
‫أطوار خلق الجنين في القرآن الكريم ‪597................................‬‬
‫طور النطفة‪601............................................................‬‬
‫طور العلقة‪605............................................................‬‬
‫طور المضغة‪609..........................................................‬‬
‫طور العظام واللحم ‪613..................................................‬‬
‫مرحلة اكتمال الخلقة‪617.................................................‬‬
‫القرار المكين ‪621.........................................................‬‬
‫الصلب والترائب ‪623.....................................................‬‬
‫غيض األرحام ‪627........................................................‬‬
‫وليس الذكر كاألنثى‪631..................................................‬‬
‫األطعمة المحرمة ‪635....................................................‬‬
‫أخطار مخالطة الكالب‪643...............................................‬‬
‫التمر غذاء وشفاء ‪647.....................................................‬‬
‫الخمر داء وليست بدواء‪651..............................................‬‬
‫‪985‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع ‬

‫الزيتون وزيته والطب الحديث ‪657.......................................‬‬


‫الصيام الشرعي سهل ميسور ‪661.........................................‬‬
‫التغيرات الحيوية والفسيولوجية خالل الصيام‪ ،‬وحكمة النهي‬
‫عن وصال الصيام ‪667....................................................‬‬
‫العسل والطب الحديث ‪671..............................................‬‬
‫الغضب وآثاره الخطيرة‪675...............................................‬‬
‫الليل سكن‪681............................................................‬‬
‫وجه اإلعجاز العلمي في قيام الليل‪685..................................‬‬
‫المخاطر الصحية في وطء الزوجة الحائض ‪689.........................‬‬
‫الحكمة الباهرة في تشريع قاعدة النظافة‪695.............................‬‬
‫التوجيهات النبوية في وقاية اجملتمع من األوبئة ومنع انتشارها ‪701....‬‬
‫سنن الفطرة وأثرها الوقائي‪705...........................................‬‬
‫فذروه في سنبله‪709.......................................................‬‬
‫اإلعجاز الطبي في القرآن والسنة‪713.....................................‬‬
‫نظافة البيئة وأثرها على صحة اجملتمع‪719..............................‬‬
‫سبق التقدير في الخلق ‪723...............................................‬‬
‫اإلعجاز العلمي في عجب الذنب ‪729...................................‬‬
‫نوم القيلولة ‪733...........................................................‬‬
‫تكوين الحبوب من المادة الخضراء‪737..................................‬‬
‫األرض وعلوم البحار‪741....................................................‬‬
‫فهرس الموضوعات‬

‫أخفض منطقة على وجه البسيطة‪741.....................................‬‬


‫ظلمات البحار العميقة ‪749...............................................‬‬
‫‪986‬‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع ‬

‫البحر المسجور‪755.......................................................‬‬
‫الصدوع بين الصفائح القارية‪759.........................................‬‬
‫البرزخ والحاجز بين بحرين ‪765..........................................‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأنهارا‪773..................................‬‬ ‫ستعود أرض العرب مروجا‬
‫قبلة مسجد صنعاء نبوءة نبوية ‪777........................................‬‬
‫الجبال الرواسي‪781.......................................................‬‬
‫الخشوع والتصدع في الجبال ‪785........................................‬‬
‫الطوفان العظيم ‪789.......................................................‬‬
‫السراب ‪793...............................................................‬‬
‫الحاجز المائي بين بحرين‪799............................................‬‬
‫المياه الجوفية‪805.........................................................‬‬
‫اهتزاز التربة وربُ ّوها ‪809..................................................‬‬
‫نزول الحديد‪815..........................................................‬‬
‫كروية األرض‪821.........................................................‬‬
‫أوتاد األرض‪825..........................................................‬‬
‫الفلك وعلوم الفضاء‪829.....................................................‬‬
‫حبك السماء ‪829..........................................................‬‬
‫ظلمة الفضاء ‪833..........................................................‬‬
‫الضغط الجوي‪837........................................................‬‬
‫مراحل تكون السحاب االنبساطي ‪841...................................‬‬
‫مراحل تكون السحاب الطبقي ‪843.......................................‬‬
‫تكون المطر‪847...........................................................‬‬ ‫ّ‬
‫‪987‬‬ ‫فهرس الموضوعات‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع ‬

‫إفساد البيئة‪853............................................................‬‬
‫السقف المحفوظ‪859.....................................................‬‬
‫الشمس سراج والقمر نور ‪865............................................‬‬
‫السماء ذات الرجع‪869....................................................‬‬
‫أنواع الرياح ‪873...........................................................‬‬
‫تنفس الصبح‪879..........................................................‬‬
‫تيارات الريح الجوية النفاثة ‪883..........................................‬‬
‫الحركة الذاتية لألجرام السماوية‪889.....................................‬‬
‫مدار الشمس‪893..........................................................‬‬
‫آيتا الليل والنهار ‪899......................................................‬‬
‫النجم الثاقب‪905..........................................................‬‬
‫‏مواقع النجوم ‪909.........................................................‬‬
‫البرق والرعد ‪915.........................................................‬‬
‫حدوث البرق ‪925.........................................................‬‬
‫كسوف الشمس‪929.......................................................‬‬
‫الخاتمة ‪935.........................................‬‬
‫المصادر والمراجع العربية (أبجديًا) ‪945........................‬‬
‫المصادر والمراجع األجنبية ‪957.............................‬‬
‫فهرس الموضوعات‪981..................................‬‬
‫فهرس الموضوعات‬
‫ت�� ���ح� ّٰ‬
‫ب �م�د ا �ل�ل�ه‬
‫م‬

You might also like