Professional Documents
Culture Documents
كما تشكل إحدى اآلليات التي استعان بها المشرع المغربي من خالل دستور ،2011
وبالخصوص الباب الثاني عشر منه الذي خصصه للحكامة الجيدة،
إذ عمل المشرع على دسترة العديد من المؤسسات والهيئات التي تدخل في خانة محاربة
الفساد والتكريس لتدبير عمومي ناجع ،شفاف ومعقلن ،فظواهر من قبيل الزبونية
والمحسوبية ،أصبحت متجاوزة في ظل دستور ،2011الذي أعتبر أثناء إقراره بأنه نقلة
نوعية في مسلسل تكريس الديمقراطية ومنح الحريات والحقوق األساسية ،وربط
المسؤولية بالمحاسبة ،والتأسيس لدولة القانون والمؤسسات.
فالحكامة الجيدة من األساليب الحديثة لمعرفة أسلوب وكيفية ممارسة السلطة ،وهي آلية
تمكن من ضبط العمل العمومي ،عبر آليات ووسائل تتبعها الدولة ،وعبر مؤسسات
دستورية ذات طابع تقريري ،من أجل ممارسة أدوارها ،وتحقيق أهدافها الرامية إلى مزاولة
نوع من الرقابة على العمل العمومي ،سواء أكان وطنيا أو ترابيا.
لهذا ،فالحكامة الجيدة تعتبر مؤسسة في حد ذاتها ،تعمل على توجيه التدبير العمومي
ووضعه على السكة الصحيحة ،من أجل تحقيق غاياته وأهدافه واستراتيجياته ،والتي تعد
التنمية إحدى أولوياتها ،فال يمكن الحديث عن الحكامة الجيدة في ظل غياب أدوات ووسائل
ناجعة ومعقولة تستعملها الدولة من أجل ضبط وتقويم مؤسساتها وتجويد أعمالها ،وال
يمكن الحديث عن حكامة جيدة بدون الحديث أيضا عن الدور الهام والمحوري لمنظمات
المجتمع المدني في هذه العملية ،فبدون وسائل وآليات ال يمكن له القيام بأدواره الطالئعية
المسطرة له ،فالدولة تعد مراقبا من األعلى ،والمجتمع المدني يعد مراقبا من األسفل .فما
هي إذن الحكامة الجيدة في التدبير العمومي؟ وما هي اآلليات والمؤسسات التي نص عليها
دستور 2011في باب الحكامة الجيدة؟ وكيف يمكن لهذه اآلليات والمؤسسات لعب دورها
في مجال ربط المسؤولية بالمحاسبة؟
فالحكامة الجيدة في التدبير العمومي ،تشكل مدخال من المداخل الكبرى لفهم وتأطير
وتحصين وتجويد العمل العمومي ببالدنا من كافة الظواهر الشاذة التي أصبحت تؤثر ال
محالة على العملية التنموية ،وعلى مكانة المغرب ومركزه في التقارير الدولية والعالمية
المخصصة لظواهر من قبيل الفساد والرشوة .وفي هذا اإلطار ،فقد عملت بالدنا على القطع
مع كل األشكال التي تسيء إلى سمعة البالد وعلى صورتها على الصعيد الدولي ،وذلك من
خالل تبني العديد من اآلليات ،من بينها ما جاء به دستور 2011من وسائل وآليات تأسس
لمرحلة جديدة قوامها الشفافية والجودة في التدبير العمومي ،وركيزتها ربط المسؤولية
بالمحاسبة .وحتى ال ننسى في هذا السياق ،ونحن نعيش مرحلة تفعيل الجهوية المتقدمة
التي بوأها الدستور مركز الصدارة عن باقي الوحدات الترابية األخرى ،وركيزة أساسية في
التنظيم الترابي الجديد ،وذلك من خالل ما نصت عليه الفقرة األخيرة من الفصل األول من
الدستور بكون “التنظيم الترابي للمملكة ،تنظيم ال مركزي ،يقوم على الجهوية المتقدمة”،
الشيء الذي يستدعي أكثر من أي وقت مضى العمل على التكريس لتدبير ترابي “محوكم”
من أجل تنمية هذه الوحدات الترابية .باإلضافة إلى آليات أخرى كالمفتشية العامة لإلدارة
الترابية ،التابعة لوزارة الداخلية ،التي تشكل آلية للمراقبة والتحقق من نجاعة وفعالية
العمل العمومي والترابي على وجه الخصوص ،باإلضافة إلى مساعدة الجماعات الترابية
على تجاوز المشاكل التي تعتريها في ميادين التعمير ،وصرف النفقات ،والجبايات المحلية،
بحيث تهدف المفتشية باألساس إلى الرفع من جودة التدبير الترابي بالوحدات الترابية
للمملكة ،والتي تشكل إحدى األدوات التي تساهم مع الدولة في العملية التنموية.
فالمفتشية العامة لإلدارة الترابية إلى جانب مؤسسات أخرى كالمجلس الجهوي للحسابات،
أدوات تدخل في نطاق الحكامة الجيدة ،إذ تشكل الخيط الناظم الذي سيعمل على منح التدبير
الترابي في ظل الجهوية المتقدمة ،منحى جديد في اتجاه تخليق العمل الترابي حتى يصبح
أداة تساهم في خلق الثروة ،وأداة تساعد على خلق وتحرير الطاقات الشابة وإدماجهم في
العملية الحكماتية التي تعرفها البالد ،الشيء الذي سيشكل طفرة تساعد على التأسيس
الصحيح لمفهوم دولة الحق والقانون ،ودولة المؤسسات.
الحكامة الجيدة في دستور 2011كأداة لربط المسؤولية بالمحاسبة
لقد خص دستور 2011الحكامة الجيدة بباب كامل هو الباب الثاني عشر منه ،الذي أسس
من خالله لمجموعة من المؤسسات والهيئات التي تشكل قفزة نوعية في مجال التكريس
لمنطق الديمقراطية ،والشفافية ،والجودة ،والمسؤولية في العمل العمومي .هذه المؤسسات
بعضها كان منصوص عليه قبل دستور ،2011لكنها اليوم اكتسبت استقالليتها وانتقلت من
مجرد هيئات استشارية إلى هيئات تقريرية ضبطية ،تساهم في تجويد التدبير العمومي،
وتعطي عنوانا جديدا للمرفق العام ،وللعالقة ين المرتفق واإلدارة ،ولفعل التدبير العمومي،
قوامه الشفافية والمناصفة والجودة في التدبير.
لقد عمل دستور 2011على دسترة مجموعة من الهيئات والمؤسسات ،نذكر منها الهيئة
العليا لالتصال السمعي البصري ،التي تكمن أهدافها في السهر على احترام التعبير التعددي
لتيارات الرأي والفكر ،والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري ،وذلك في إطار
احترام القيم الحضارية األساسية وقوانين المملكة (الفصل 165من الدستور) .وكذلك
دسترة مجلس المنافسة ،الذي يعتبر إحدى الوسائل التي تعمل على تخليق الحياة االقتصادية
من كافة األعمال الضارة بالعملية االقتصادية ،وضمان الشفافية واإلنصاف في العالقات
االقتصادية ،خاصة من خالل تحليل وضبط وضعية المنافسة في األسواق ،ومراقبة
الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز االقتصادي
واالحتكار (الفصل 166من الدستور).
كذلك ،من بين الهيئات التي نص عليها الدستور ،الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من
الرشوة ومحاربتها ،والتي تشكل النواة المحورية من أجل تخليق الحياة العامة ،والتي
خصها المشرع بمهام المبادرة والتنسيق واإلشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة
الفساد ،وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال ،والمساهمة في تخليق الحياة العامة،
وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة ،وثقافة المرفق العام ،وقيم المواطنة المسؤولة (الفصل
167من الدستور).
وفي باب تمكين المواطنات والمواطنين والشباب ومنظمات المجتمع المدني من المشاركة
في عملية الحكامة المؤسساتية ،فقد خصصت كل من الفصول ،15 ،14 ،13 ،12و139
من الدستور لآلليات المنوحة لهذه الفئة من أجل المساهمة في عملية تخليق الحياة العامة،
وأيضا في إطار الديمقراطية التشاركية المساهمة في إعداد قرارات ومشاريع لدى
المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية ،والمشاركة في إعداد السياسات العمومية
وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها ،وتقديم ملتمسات في مجال التشريع ،وتقديم عرائض ،الهدف
منها مطالبة مجلس الجهة جماعة ترابية ،بإدراج نقطة تدخل ضمن جدول أعماله.
وفي هذا الصدد ،وسيرا على نفس المنوال ،فقد خصص الفصل 33و 170من الدستور
للمجلس االستشاري للشباب والعمل الجمعوي ،وذلك من أجل تيسير ومساعدة الشباب على
االندماج في الحياة النشيطة والجمعوية ،وتقديم المساعدة ألولئك الذين تعترضهم صعوبة
في التكيف المدرسي أو االجتماعي أو المهني ،وتيسير ولوجهم للثقافة والعلم والتكنولوجيا،
والفن والرياضة والألنشطة الترفيهية ،مع توفير الظروف المواتية لتفتق طاقاتهم الخالقة
واإلبداعية في كل هذه المجاالت ،وتحفيزهم على االنخراط في الحياة الوطنية بروح
المواطنة المسؤولة ،وتسهيل عمل الجمعيات للعب أدوارها الطالئعية في العملية التنموية،
وفي مراقبة الشأن الوطني والترابي ،من أجل المساهمة في حكامة جيدة للتدبير العمومي.
من هذا كله ،فالحكامة الجيدة ال يمكنها أن تعطي ثمارها ومفعولها في التدبير العمومي ،وأن
تتبلور على أرض الواقع ،بدون تفعيل حقيقي ،جدي ،ومسؤول ،لمختلف الهيئات
والمؤسسات التي نص على إحداثها دستور ،2011فال يكفي التنصيص عليها فقط ووضعها
كسطور على ورق ،وإنما يجب إخراجها للوجود وتفعليها بشكل ملموس حتى تلعب دورها
المطلوب منها الكامن في تجويد التدبير الترابي وعقلنته ،وربطه بمبادئ الشفافية والنزاهة
والمسؤولية والمحاسبة ،كل هذا في اتجاه الرقي بعمل مؤسساتنا العمومية ،ومنح الوحدات
الترابية المرتبة التي تستحق ،فال يكفي أن تبقى فقط عبئا على الدولة من ناحية تمويلها
وتنميتها ،ولكن يجب أن يتغير هذا الدور إلى إدماج الوحدات الترابية كشريك مع الدولة في
العملية التنموية ،كهدف رئيسي من أهداف الجهوية المتقدمة.
فالحكامة الجيدة ال يمكن لها أن تتحقق بدون مشاركة الجميع ،بمواطنة إيجابية ومسؤولة
من طرف المواطنات والمواطنين ،وكذا اإلعالم ،ومنظمات المجتمع المدني ،وذلك في إطار
مقاربة تشاركية يكون هدفها األساسي هو إعطاء وإنتاج نوع جديد من التدبير العمومي،
خصوصا وأن دستور 2011منح وسائل وآليات من أجل ذلك ،وال يبقى إال تفعليها من أجل
التكريس لمنطق ومفهوم دولة القانون والمؤسسات ،فاألشخاص يموتون وتبقى
المؤسسات.