Professional Documents
Culture Documents
الحسد
الحسد
قام بتنسيق الِّر سالة ونشرها :ل اُن َع ِد الَق اِد ِر أ َز ٍد
ُبْو ْي َس َم ْبُن ْب
َغَف َر الَّلـُه َلُه ،وِلَو الَد ْيِه ،وِلَم َش ايِخ ِه ،ولَج ِم ْيِع الُمْس ِلِم ْيَن .
الحمد هلل تعالى على ما أنعم ،وله الشكر على ما وفق له وألهم ،نحمده سبحانه على ما تفضل به
وتكرم ،هو ربي ال إله إال هو ،وهو اإلله الواحد المعظم ،أرسل نبيه محمًد ا ـ َص َّلى الَّلـُه َع َلْي ِه َو َس َّلَم ـ
فهدى اهلل به من هذه األمة من أراد به خيًر ا من جميع األمم ،وحرم الهداية أهل الغي والحسد وحيل
بينهم وبين هذا الفضل والكرم.
وبعد:
فهذه رسالة كتبُتها في الحسد وآثاره وأضراره وما وقع بسببه من المصائب والشرور والفتن،
وسردت بعض األدلة التي نقلتها عن مؤلفات أهل العلم ،كـ(اآلداب الكبرى) البن مفلح ،و(تفسير
الرازي الكبير ومختصره) للقمي و(الترغيب والترهيب) للمنذري ونحوها ،رجاء أن يستفيد منه
من قرأه بإنصاف وتمعن ،حتى يخف أثر هذا الداء العضال الذي فشا وتمكن حتى في طلبة العلم
وحملته ،فإن الحسود ال يسود وال يناله من حسده إال الهم والغم والنكد والكبد ،فمن عرف أن اهلل
تعالى هو المنعم على عباده بما فيه خيرهم وصالحهم ،أو فيه اختبارهم وابتالؤهم ،فال يجوز له أن
يحسدهم على ما أعطاهم اهلل تعالى وإ نما عليه أن يغبطهم إذا أدوا حقوق اهلل تعالى وعملوا بما
يرضيه ،ويحرص على أن يحصل على مثل ما حصلوا عليه ،فأما السعي في إزالة النعمة
وتنغيصها على أهلها فهو من الكبائر ،واهلل المتفضل على عباده ،وله الحمد والشكر وصلى اهلل
على محمد وآله وصحبه وسلم.
الحسد لغًة :قال في لسان العرب :الحسد معروف ،حسده َيْح ِس ُد ه وَيْح ُس ُد ه حسًد ا وحَّسده إذا تمنى
أن تتحول إليه نعمته وفضيلته أو يسلبهما هو ،وقال :الحسد أن يرى الرجل ألخيه نعمة فيتمنى أن
تزول عنه وتكون له دونه.
( )
والَغْب ُط :أن يتمنى أن يكون له مثلها و ال يتمنى زوالها عنه . 1
واصطالًح ا :هو تمني زوال نعمة المحسود وإ ن لم َيِص ْر للحاسد مثلها .أو تمني عدم حصول النعمة
للغير.
حقيقة الحسد :
وحقيقة الحسد أنه ناتج عن الحقد الذي هو من نتائج الغضب.
تصديقهم له حسًد ا له لكونه من العرب ،روى الطبراني عن ابن عباس في قوله َ ﴿ :أْم َيْح ُس ُد وَن
الَّناَس ﴾ قال :نحن الناس دون الناس .يعني :إننا معشر العرب -أو معشر قريش -نحن الناس
المذكورون في هذه اآلية ،وال شك أن هذا ذم لهم على هذه الخصلة ،وهي الحسد الذي حملهم على
إعمال الحيلة في صد الناس عن الحق المبين.
وقال تعالى َ ﴿ :و ِم ْن َش ِّر َح اِس ٍد ِإَذ ا َح َس َد ﴾ (الفلق )5 :فالحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن
أخيه المحسود ،وال بد أنه سوف يبذل جهده في إزالتها إن قدر ،فهو ذو شر وضرر بمحاولته
وسعيه في إيصال الضرر ،ومنع الخير.
وقد حكى اهلل تعالى أمثلة من الحسد كقصة ابني آدم فإن أحدهما قتل أخاه حسًد ا لما تقبل قربانه،
فأوقعه الحسد في قتل أخيه بغير حق ،و كقصة إخوة يوسف في قولهمَ ﴿ :لُيوُس ُف َو َأُخ وُه َأَح ُّب ِإَلى
َأِب يَنا ِم َّنا ﴾ (يوسف )8 :ثم عملوا على التفريق بينه وبين أبيه بما فعلوا.
وكقصة المنافقين في قوله تعالىِ ﴿ :إْن َتْم َسْس ُك ْم َح َس َنٌة َتُس ْؤ ُهْم ﴾ (آل عمران )120 :وذلك مما
يحملهم على إعمال الحيل في إبعاد المؤمنين عن الخيرات.
وقد قال تعالىَ ﴿ :و اَل َتَتَم َّنْو ا َم ا َفَّض َل الَّلُه ِب ِه َبْع َض ُك ْم َع َلى َبْع ٍض ﴾ ( النساء ) 32 :فهذا التمني
المنهي عنه قد يكون الدافع له الحسد من المفضول للفاضل ،مع أن الفضل بيد اهلل ،يؤتيه من يشاء،
واهلل ذو الفضل العظيم ،فعلى المفضول أن يطلب الفضل من اهلل تعالى ،وال ينافس أخاه ويضايقه
فيما أعطاه اهلل وتفضل به عليه.
وعن الزبير رضي اهلل عنه أن رسول اهلل ـ َص َّلى الَّلـُه َع َلْي ِه َو َس َّلَم ـ قال « :دب إليكم داء األمم
قبلكم؛ الحسد والبغضاء ،والبغضاء هي الحالقة ،ال أقول تحلق الشعر ،ولكن تحلق الدين » رواه
البزار والبيهقي بإسناد جيد.
وعن أنس قال :قال لي النبي ـ َص َّلى الَّلـُه َع َلْي ِه َو َس َّلَم ـ « :يا بني ،إن قدرت على أن تصبح
وتمسي وليس في قلبك غش ألحد فافعل » رواه الترمذي وحسنه
وعن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قال « :قيل :يا رسول اهلل ،أي الناس أفضل؟ قال :كل
مخموم القلب ،صدوق اللسان ،قيل :فما المخموم؟ قال :هو التقي النقي ال إثم فيه وال بغي ،وال
غل وال » رواه ابن ماجه بإسناد صحيح .
وروي أنه ـ َص َّلى الَّلـُه َع َلْي ِه َو َس َّلَم ـ قال « :إن لنعم اهلل أعداء ،الذين يحسدون الناس على ما آتاهم
اهلل من فضله .وفي حديث مرفوع « :ستة يدخلون النار قبل الحساب » ...،ذكر منهم « :
العلماء بالحسد » .
وقال ابن الزبير ما حسدت أحًد ا على شيء من أمر الدنيا ،إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على
الدنيا وهي حقيرة في الجنة ؟! وإ ن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى
النار؟!
وروي عن األصمعي أنه قال :الحسد داء منصف ،يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود.
يعني :أن الحاسد إذا رأى أخاه في نعمة وصحة ورفاهية حسده وقام بقلبه حقد وبغض له ،فهو كلما
رآه في هذه النعمة اغتاظ لذلك ،فيبقى دائًم ا مهموم القلب حزيًنا ،يتمنى ما ال يقدر عليه من إزالة
تلك النعم ،فهو يتقلب على فراشه من الغيظ ،مع أن المحسود ال يشعر بألم ،بل هو قرير العين
مسرور لم يصل إليه في الغالب شيء من الضرر الذي في قلب الحاسد ،وإ ن وصل إليه فإنه ال
يتأثر به إال قليال ،واهلل أعلم.
العين هي :النظر إلى الشيء على وجه اإلعجاب واإلضرار به ،وإ نما تأثيرها بواسطة النفس
الخبيثة ،وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت ،فإنها تتكيف بكيفية
الغضب والخبث ،فتحدث فيها تلك الكيفية السم ،فتؤثر في الملسوع ،وربما قويت تلك الكيفية
واتقدت في نوع منها ،حتى تؤثر بمجرد نظرة ،فتطمس البصر ،وتسقط الحَب ل ،فإذا كان هذا في
عبد الَّلـِه بن عبد الَّرْح َم ن بن ِجبرين 6 « الَحَس ُد »
الحيات ،فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة ،إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية ،وتوجهت
إلى المحسود ،فكم من قتيل! وكم من معافى عاد مضني البدن على فراشه! يتحير فيه األطباء
الذين ال يعرفون إال أمراض الطبائع ،فإن هذا المرض من علم األرواح ،فال نسبة لعالم األجسام
إلى عالم األرواح ،بل هو أعظم وأوسع وعجائبه أبهر ،وآياته أعجب ،فإن هذا الهيكل اإلنساني إذا
فارقته الروح أصبح كالخشبة ،أو القطعة من اللحم ،فالعين هي هذه الروح التي هي من أمر اهلل
تعالى ،وال يدرك كيفية اتصالها بالمعين ،وتأثيرها فيه إال رب العالمين.
وأما الحسد :فهو خلق ذميم ،ومعناه تمني زوال النعمة عن المحسود ،والسعي في إضراره حسب
اإلمكان وهو الخلق الذي ذم اهلل به اليهود بقوله تعالىَ ﴿ :و َّد َك ِث يٌر ِم ْن َأْه ِل اْلِك َتاِب َلْو َيُر ُّدوَنُك ْم ِم ْن
َبْع ِد ِإيَم اِن ُك ْم ُك َّفاًر ا َح َس ًد ا ِم ْن ِع ْن ِد َأْن ُفِس ِه ْم ﴾ ( البقرة )109 :أي أنهم يسعون في التشكيك وإ يقاع
الريب ،وإ لقاء الشبهات حتى يحصلوا على ما يريدونه من صد المسلمين عن اإلسالم ،وال شك أن
الحسد داء دفين في النفس ،وتأثيره على الحاسد أبلغ من تأثيره على المحسود ،حيث إن الحاسد
دائًم ا معذب القلب ،كلما رأى المحسود وما هو فيه من النعمة والرفاهية تألم لها ،فلذلك يقال :
اصبر على كْي د الحسود فـإن صبـرك قاتله * * النار تأكل نفسه ــا إن لم تجد مـا تأكله
وقال بعض السلف :الحسد داء منصف ،يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود.
وكذب ،وافتراء عليه ،ويؤلب عليه من له سلطة أو والية ،حتى تزول تلك النعمة التي يتمتع بها
أخوه ،وليس هناك دافع له على إزالتها سوى الحقد والبغض ،فال يقر قراره حتى يتلف المال ،أو
يفتقر الرجل ،أو يمرض ،أو ُيحرم من حرفته أو عمله.
أما العائن فهو :إنسان قد تكيفت نفسه بالخبث والشر ،فأصبحت تمتد إلى ما يلفت النظر ،و ترسل
إليها ما يحطمها ويغيرها ،فيسقط الطائر من الهواء ،ويعطب الوحش البري ،بمجرد كلمته ونظرته
السامة ،فقد ذكر ابن القيم رحمه اهلل أن منهم من تمر به الناقة أو البقرة السمينة فيعينها ،ثم يقول
لخادمه :خذ المكتل والدرهم ،وآتنا بشيء من لحمها ،فما تبرح حتى تقع فتنحر.
وقال الكلبي كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثالثة ،ال يأكل ثم يرفع جانب خبائه فتمر به
اإلبل فيقول :لم أر كاليوم إبال وال غنًم ا أحسن من هذه .فما تذهب إال قليال حتى يسقط منها طائفة.
وقد حكى بعض اإلخوان أن منهم من يريد السفر على الطائرة أو الحافلة فيعينها ،فتتوقف حتى
يتفرغ فيأتي ويتكلم بما يبطل ما بها فتصلح مع بذل العمال ما يستطيعون في إصالحها ،والحكايات
عن أهل العين كثيرة مشهورة.
ومع ذلك قد أنكرها بعض المشايخ الكبار بسبب أنهم ال يعلمون لها سبًبا مباشًر ا ،وذلك لجهلهم
بتأثير األرواح وما تختلف به عن األجساد ،كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه اهلل تعالى في
(البدائع) وغيره.
الثالثة :الرغبة في زوال النعمة عن المحسود سواء انتقلت إليه أو إلى غيره:
أن يجد من نفسه الرغبة في زوال النعمة عن المحسود ،سواء انتقلت إليه أو إلى غيره ،ولكنه ال
يعمل شيًئا في إزالتها إال أنه في جهاد مع نفسه ،وكفها عما يؤذي أخاه ،خوًفا من اهلل تعالى،
وكراهة لظلم عباد اهلل ،فهذا قد كفي شر غائلة الحسد ،ودفع عن نفسه العقوبة األخروية ،ولكن
ينبغي له أن يعالج نفسه عن هذا الوباء الذي هو بغض النعمة ،ومحبة زوالها عن أخيه المسلم.
الرابعة :أن يتمنى زوال النعمة عن غيره بغًض ا لذلك الشخص ،لسبب شرعي ،كأن يكون ظالًم ا
يستعين على ظلمه بذلك المنصب ،أو ذلك الجاه والمال ،فيتمنى زوالها ليريح الناس من شره،
وكالفاسق الذي يستعين بالمال أو المنصب على فسقه وفجوره ،فتمني زوال ذلك والسعي فيه ال إثم
فيه ،بل قد يكون مثاًبا إذا عمل على إراحة المسلمين من الشر والعسف ،والظلم والتجبر الذي
يتسلط به ذلك الظالم بسبب منصبه أو جاهه.
الخامسة :أن يتمنى لنفسه مثلها ،وال يحب زوالها عن أخيه ،وال يسعى في ذلك ،سواء كانت تلك
النعمة من مباح متاع الدنيا كالمال والجاه ،أو من النعم الدينية كالعلم الشرعي ،والعبادة الدينية،
وقد ثبت في الصحيح قوله ـ َص َّلى الَّلـُه َع َلْي ِه َو َس َّلَم ـ « :ال حسد إال في اثنتين :رجل أتاه اهلل ماال
فسلطه على هلكته في الحق ،ورجل آتاه اهلل الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» وهذا ال يسمى حسدا
إال من حيث الظاهر ،وإ ال فهو غبطة ومنافسة ،ومحبة للحصول على الخير الدنيوي ،واألجر
األخروي ،فهو يحب أن يكون مثل أخيه ،ويغبطه بذلك ،وله مثل أجره على حسن نيته وقصده.
أن يتشفى منه الزمان ،قال تعالىِ ﴿ :إْن َتْم َسْس ُك ْم َح َس َنٌة َتُس ْؤ ُهْم َو ِإْن ُتِص ْب ُك ْم َس ِّيَئٌة َيْفَر ُح وا ِبَه ا ﴾
(آل عمران )120:وربما أفضى هذا الحسد إلى التقاتل والتنازع.
ثانيها :التعزز فإَّن واحًد ا من أمثاله إذا نال منصًبا عالًيا ،يترفع به عليه ،وهو ال يمكنه تحمل
ذلك ،أراد زوال ذلك المنصب عنه ،وليس غرضه التكبر ،بل يريد أن يدفع كبره ،فإنه قد رضي
بمساواته.
ثالثها :أن يكون من طبعه أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ،ليقدر على ذلك
الغرض ،ليكون تابًع ا له ،ومنه قوله تعالى عن المشركينَ ﴿ :و َقاُلوا َلْو اَل ُنِّز َل َه َذ ا اْلُقْر آُن َع َلى
َر ُج ٍل ِم َن اْلَقْر َيَتْي ِن َع ِظ يٍم ﴾ (الزخرف )31:يعني أنهم يتكبرون عن أن يكونوا تابعين ،بدل ما
كانوا متبوعين ،وقال تعالىَ ﴿ :أَه ُؤ اَل ِء َم َّن الَّلُه َع َلْي ِه ْم ِم ْن َبْي ِن َنا ﴾ (األنعام )53:كأنهم احتقروا
المسلمين الذين كانوا أتباًع ا فاستقلوا عنهم.
ورابعها :التعجب من أن يفضلهم رجل من أمثالهم كما في قوله تعالى َ ﴿ :أَو َع ْب ُتْم َأْن َج اَء ُك ْم
ِج
ِذ ْك ٌر ِم ْن َر ِّبُك ْم َع َلى َر ُج ٍل ِم ْنُك م ﴾ (األعراف )63:فكأنهم عجبوا من رجل مماثل لهم ،ينزل عليه
الوحي دونهم ،فلذلك حسدوه.
وخامسها :الخوف من فوات المقاصد وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد كتحاسد
الضرائر على مقاصد الزوجية ،وتحاسد اإلخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند األبوين ،وتحاسد
الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة؛ وفي ذلك قال الشاعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه * * * فالقوم أعداء له وخصـوم
كغرائر الحسناء قلن لوجههـا * * * حسـًد ا وبغًيـا إنه لدميـم
وسادسها :حب الرئاسة كمن يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون ،فإنه لو سمع بنظير له
في أقصى العالم ساءه ذلك ،وأحب موته ،فإن الكمال محبوب لذاته وهذا المحبوب مكروه ،ومن
أنواع الكمال التفرد به ،لكن هذا ممتنع إال هلل تعالى ،ومن طمع في المحال خاب وخسر.
وسابعها :شح النفس بالخير على عباد اهلل فإنك تجد من ال يشتغل برئاسة وال تكبر ،وال طلب مال
إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد اهلل شق عليه ذلك ،وإ ذا وصف اضطراب الناس وإ دبارهم
عبد الَّلـِه بن عبد الَّرْح َم ن بن ِجبرين 10 « الَحَس ُد »
فرح به ،فهو أبًد ا يحب اإلدبار لغيره ،ويبخل بنعمة اهلل على عباده ،كأنهم يأخذون ذلك من ملكه
وخزائنه ،وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس ،كما قيل :البخيل من بخل بمال غيره.
لقد أمر اهلل تعالى باالستعاذة من شر الحاسد ،في قولهَ ﴿ :و ِم ْن َش ِّر َح اِس ٍد ِإَذ ا َح َس َد ﴾(الفلق)5:
وهذا دليل على أن له شر وفيه ضرر ،وال يتحصن منه إال باالستعاذة باهلل تعالى ،حيث إن الحسد
من أعظم األمراض الفتاكة بالمجتمع ،فهو يجبر صاحبه على أصعب األمور ،ويبعده عن التقوى،
فيضيق صدر الحسود ،ويتفطر قلبه إذا رأى نعمة اهلل على أخيه المسلم
ولقد كثر الحسد بين األقران واإلخوان والجيران ،وكان من آثار ذلك التقاطع والتهاجر ،والبغضاء
والعداوة ،فأصبح كل من األخوين أو المتجاورين يتتبع العثرات ،ويفشي أسرار أخيه ،ويحرص
على اإلضرار به ،والوشاية به عند من يضره أو يكيد له ،وال شك أن ذلك من أعظم المفاسد في
المجتمعات اإلسالمية ،فإن الواجب على المسلمين أن يتحابوا ويتقاربوا ويتعاونوا على الخير والبر
والتقوى ،وأن يكونوا يًد ا واحدة على أعدائهم من الكفار والمنافقين ،فمتى أوقع الشيطان بينهم
العداوة والبغضاء ،وتمكنت من قلوبهم األحقاد والضغائن ،حصل التفرق والتقاطع ،وصار كل فرد
يلتمس من أخيه عثرة أو زلة فيفشيها ،ويعيبه بها ،ويكتم ما فيه من الخير ،ويسيء سمعته ،ويجعل
من الحبة قبة ،ويقوم الثاني بمثل ذلك ،وكل منهما يوهم أن الصواب معه ،وأن صاحبه بعيد عن
الصواب.
ثم إن كال منهما يحرص على اإلضرار باآلخر ويعمل على حرمانه من الخير ،فيصرف عنه
المنفعة العاجلة ،ويحول بينه وبين المصالح المطلوبة من فائدة مالية ،أو حرفة أو أرباح أو
معامالت مفيدة ،ونحو ذلك ،وال شك أن هذا يضر المجتمعات ويقضي على المصالح ،ويتمكن
األعداء من المنافع ومن استغالل الفوائد ،وبتمكنهم يضعف المسلمون المخلصون ،وال ينالون
مطلوبهم من والية أو رئاسة ،أو شرف أو منفعة ،وسبب ذلك هذه المنافسات التي تمكنت من
النفوس ،حتى حرموا إخوانهم وأنفسهم من الخير ،وسلطوا عليهم أعداءهم.
أفال يرعوي المؤمن ،ويعرف مصلحته ويحب الخير إلخوانه ،ويوصل إليهم ما يستطيع ،حتى يعم
األمن ويصلح أمر الدين والدنيا واآلخرة ،واهلل المستعان ،وعليه التكالن ،وال حول وال قوة إال باهلل
وصلى اهلل على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الَّلـِه بن عبد الَّرْح َم ن بن ِجبرين 11 « الَحَس ُد »
وأما العمل :فهو أن يأتي باألفعال المضادة لمقتضيات الحسد فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف
لسانه المدح له ،وإ ن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له ،وإ ن حمله على قطع أسباب
الخير سعى في إيصال الخير إليه ،حتى يصير المحسود محبوًبا محًّبا له ،على حد قوله تعالى﴿ :
اْد َفْع ِب اَّلِت ي ِه َي َأْح َس ُن َفِإ َذ ا اَّلِذ ي َبْي َنَك َو َبْي َنُه َع َد اَو ٌة َك َأَّنُه َو ِلٌّي َح ِم يٌم ﴾ (فصلت )34:فذلك التكلف
يصير في النهاية طبًع ا .
عبد الَّلـِه بن عبد الَّرْح َم ن بن ِجبرين 12 « الَحَس ُد »
واهلل تعالى أعلم وأحكم وصلى اهلل تعالى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .