You are on page 1of 72

‫الفصل األول‬

‫الفكراالقتصادي في الحضارتين اليونانية والرومانية‬

‫ينتظر من الطالب بعد تناول هذا الفصل أن يصل إلى يتبين وفهم ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬أن ظهور األفكار االقتصادية قديم قدم املشكلة االقتصادية نفسها؛‬


‫‪ -‬أن الحضارات القديمة أنتجت أفكارا اقتصادية مختلفة‪ ،‬في ظل سعي مجتمعاتها لتنظيم الحياة‬
‫العامة وضمان استمرارها؛‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أن الحضارة اليونانية شكلت نقلة نوعية فيما يتعلق بالتطور االجتماعي والسياس ي وخاصة‬
‫الفكري‪ ،‬بما استطاعت أن تبلغه من إنتاج فلسفي لم يسبق له مثيل في املجتمعات اإلنسانية‬
‫السابقة؛‬
‫‪ -‬أن الحضارة الرومانية تميزت باهتمامها بالجانب الحقوقي وتركيزها على القوانين الحامية لذلك؛‬
‫‪ -‬أن األفكار االقتصادية التي كان يتم طرحها كانت تتناول في إطار واسع من االهتمامات الفكرية‬
‫العامة التي تشمل الجوانب السياسية واالجتماعية واألخالقية وغيرها‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫أوال‪ :‬الفكراالقتصادي في الحضارة اليونانية‬

‫‪ - 1‬تمهيد عن الحضارة اليونانية‬

‫سادت الحضارة اليونانية خالل الفترة التاريخية املمتدة من القرن الثامن حتى القرن الثالث قبل‬
‫امليالد‪ ،‬حيث شهدت بالد اإلغريق أثناء ذلك تطورا وازدهارا كبيرين شمال مختلف امليادين‪ ،‬االقتصادية‬
‫والتجارية والسياسية وخصوصا الفكرية‪.‬‬
‫مر املجتمع اليوناني خالل ترقيه الحضاري بتحوالت عميقة‪ ،‬على الصعيدين االقتصادي‬ ‫وقد ّ‬
‫واالجتماعي‪ ،‬أدت إلى ظهور فئة التجار كشريحة ّ‬
‫متميزة تسعى إلى ترسيخ مكانتها والحفاظ على مصالحها في‬
‫وجه كبار مالك األراض ي الذين كانوا ينفردون بالسلطة خالل املراحل األولى من تطور املجتمع‪ .‬وكان من‬
‫نتائج هذا الصراع أن انتقل النظام السياس ي للدولة من امللكية إلى األوليغارشية ثم إلى الديمقراطية‪.‬‬
‫وفي ظل املناخ االجتماعي املشحون بالصراع الشديد على السلطة‪ ،‬كان أفراد النخبة من املفكرين‬
‫يتناولون مختلف القضايا العامة بالنقاش الجاد املستند إلى املنطق وإلى التفكير الفلسفي الذي ساد في‬
‫ذلك املجتمع حتى صار ميزة من ميزاته الرئيسية‪ .‬وقد برع في هذا املناخ الفكري الفريد فالسفة عديدون‬
‫استمرت مساهماتهم الفكرية حتى أيامنا هذه‪ ،‬من أشهر هم ُيذكر على الخصوص‪ :‬سقراط‪ ،‬كسينيفون‪،‬‬
‫أفالطون وأرسطو‪ .‬وسنقتصر في تناولنا ملوضوع الفكر االقتصادي في الحضارة اليونانية على أهم ما جاء‬
‫به كل من كسينيفون‪ ،‬أفالطون وأرسطو ‪ ،‬وذلك لشمولية أفكار هم وأهمية مساهمتهم في الفلسفة‬
‫اليونانية بشكل عام‪.‬‬

‫‪ -2‬كسينوفون‪.‬‬
‫ينتمي كسينوفون‪ ،‬الذي عاش من ‪ 344-534‬ق م بالتقريب‪ ،‬إلى طبقة مالك األراض ي‪ .‬كان محاربا‬
‫شديدا وذا براعة خاصة في وضع اإلسترتيجيات الحربية‪ ،‬قبل أن ينسحب من تلك امليادين ليهتم باستغالل‬
‫ضيعة خاصة به‪ .‬كان أيضا مؤرخا وفيلسوفا‪ ،‬إذ أنه تتلمذ على يد سقراط وفالسفة آخرين‪ .‬ترك‬
‫كسينوفون عدة مؤلفات ضمنها تجاربه وأفكاره املختلفة‪ ،‬من أهمها‪" :‬االقتصادي" » ‪« L’Economique‬‬
‫» ‪.« Les revenus‬‬ ‫و"املداخيل"‬
‫ففي كتابه "االقتصادي" ‪ ،‬الذي ُ‬
‫اشت َّق عنوانه من كلمتي ‪ oikos‬التي تعني املنزل‪ ،‬بما يشمله من‬
‫نشاط يمتد إلى املزرعة العائلية‪ ،‬و ‪ nomos‬التي تعني اإلدارة أو التسيير‪ ،‬سعى كسينوفون إلى تحليل‬
‫األعمال والنشاطات واألهداف وكذلك املسؤوليات التي يقوم بها املشرف على املنزل‪ .‬وأشار إلى أنه يجب‬
‫على هذا األخير أن يقوم بتنظيم ومراقبة عمل العبيد والعمال‪ ،‬وأن عليه أن يتصرف كمقاول ومسير‬
‫‪2‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫للمنزل وأن يهتم باملحافظة على ممتلكاته‪ ،‬أي ممتكالت املنزل‪ ،‬وينميها‪ .‬وتعد كتابات هذا الفيلسوف من‬
‫أبرز املؤلفات التي عرفتها البشرية قديما في املجال اإلداري‪.‬‬
‫ومن أبرز األفكار التي أشار إليها كسينيفون في هذا املجال نذكر على الخصوص‪ :‬استهداف اإلدارة‬
‫زيادة حجم الفائض االقتصادي وتحسين جودة املنتج‪ ،‬األثر اإليجابي لتقسيم العمل‪ ،‬أهمية العنصر‬
‫البشري‪ ،‬واألثر اإليجابي للمصلحة الخاصة للفرد‪ ،‬وكذلك الدور القيادي والرؤية الواضحة التي يتوفر‬
‫عليها القائم بأعمال املنزل أو الوحدة اإلنتاجية العائلية‪ .‬هناك أيضا فكرة أخرى على قدر من األهمية‬
‫سبق بها كسينيفون كثيرا من املفكرين والتي تتمثل في أن املنفعة التي يحصل عليها الفرد من استهالك‬
‫منتج ما ال تزداد بالضرورة تبعا لزيادة كمية ذلك املنتج‪ ،‬ومعنى ذلك أنها تتجه نحو التناقص‪.‬‬

‫‪ -3‬أفالطون‬

‫عاش أفالطون من سنة ‪ 524‬ق م إلى سنة ‪ 353‬ق م‪،‬أي في املراحل األخيرة للحضارة اليونانية‪ .‬كان‬
‫تلميذا لسقراط وتتلمذ على يديه فيما بعد أرسطو‪ .‬ترك مؤلفات عديدة من أهمها "الجمهورية"‬
‫و"السياس ي"‪.‬‬

‫كان أفالطون‪ ،‬على غرار فالسفة عصره‪ ،‬يتناول موضوع النشاط االقتصادي في املجتمع اإلنساني‬
‫في إطار دراساته املتعلقة بالفلسفة واألخالق‪ ،‬ولم يكن يتناوله كميدان مستقل قائم بذاته‪ ،‬كما صار عليه‬
‫األمر بعد النهضة األوربية التي أدت إلى ظهور ما يعرف بعلم االقتصاد‪.‬‬

‫ومن أهم األفكار االقتصادية التي جاء به أفالطون‪ ،‬نورد هنا على الخصوص ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬يرى أفالطون أن الحياة االجتماعية يجب أن تكون مؤسسة على "مبدأ العدالة االجتماعية"‪ .‬وهو‬
‫يتحدث في هذا الشأن ّ‬
‫عما يجب أن يكون في ظل املدينة الفاضلة التي كان يحلم بها‪ ،‬وليس عن‬
‫ش يء واقعي موجود بمجتمعه الذي كان يعيش فيه‪ .‬ومن مقتضيات هذا املبدأ أن ال ُتحرز‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ووضعيات األشخاص االجتماعية بالتوارث وإنما بإثبات الجدارة عن طريق املسابقات‬ ‫املناصب‬
‫واالمتحانات؛ن وبذلك تتوفر لكل شخص إمكانية ممارسة املهنة التي تتوافق مع قدراته‬
‫ومؤهالته؛‬
‫قسم أفالطون املجتمع إلى ثالث طبقات هي‪ :‬طبقة الحكام وطبقة الجنود وطبقة املنتجين‪ ،‬وفقا ملا‬ ‫‪ّ -‬‬
‫كان عليه الوضع في املجتمع اليوناني في ذلك الوقت‪ .‬ويالحظ أن أفالطون لم ّ‬
‫يميز العبيد في مدينته‬

‫‪3‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفاضلة كطبقة من ضمن الطبقات وذلك بسبب فقدان هؤالء ملكانتهم االجتماعية املستقلة‬
‫بفقدهم لحريتهم الشخصية؛‬
‫‪ -‬دعا أفالطون إلى تقسيم العمل على مستوى املجتمع وإلى جعل الكفاءة واألهلية معيارا لذلك‪،‬‬
‫مبينا أن تقسيم العمل تترتب عنه آثار إيجابية على مستوى اإلنتاج من حيث الكمية ومن حيث‬
‫الجودة‪ .‬ويكون أفالطون قد توصل إلى هذه الفكرة من خالل مالحظته للواقع االجتماعي الذي كان‬
‫يعيش فيه‪ ،‬ولكنه أدرك أيضا أهميتها الكبيرة في رقي الحياة املجتمعية ّ‬
‫فشدد عليها ّ‬
‫ونبه إلى ضرورة‬
‫االستفادة منها‪ ،‬قبل أن يأتي مفكرون آخرون من بعده ويؤكدون عليها كابن خلدون وآدم سميث‬
‫وغيرهما؛‬
‫‪ -‬لم يقبل أفالطون بامللكية الخاصة لكل طبقات املجتمع‪ ،‬حيث جعلها مقصورة على طبقة‬
‫املنتجين فقط‪ .‬أما الحكام والجنود فيرى أنه يجب عليهم أن يتفرغوا لضمان السير الحسن‬
‫ٌ‬
‫ملكية خاصة وال ٌ‬
‫أسر شخصية‪ ،‬وأن يمارسوا عوضا عن ذلك‬ ‫للشؤون العامة وأن ال تكون لهم‬
‫حياة شيوعية؛‬
‫ّ‬
‫‪ -‬اعتبر أفالطون أن النقود تكتس ي أهمية كبيرة في االقتصاد القائم على التبادل‪ ،‬لكنه ركز في بيانه‬
‫لطبيعتها على خاصيتها كوسيط للتبادل وليس كمخزن للقيمة‪ ،‬حيث دعا إلى ضرورة نبذ امليل‬
‫االكتنازي لدى األفراد وترك سلوك البذخ والتبذير وضرورة التحلي بالسلوك القويم وباألخالق‬
‫الفاضلة‪ .‬وهو ال يرى بالتالي أي مبرر الستخدام املعادن الثمينة كنقود‪ ،‬بل يقترح بدال من ذلك‬
‫استخدام نوع من النقود ذي قيمة صورية مستقلة عن قيمتها الذاتية واالحتفاظ بالنقود ذات‬
‫القيمة الذاتية للمعامالت الخارجية فقط؛‬
‫‪ -‬وقف أفالطون موقفا صريحا من الربا فدعا إلى منعه واعتبر الفائدة كسبا غير طبيعي‪ ،‬وذلك‬
‫باستناده إلى االعتبارات األخالقية التي كان يركز عليها من جهة وباالستناد إلى كون مبرر وجود‬
‫النقود وخاصيتها األساسية تنحصر في اعتبارها وسيطا للتبادل من جهة أخرى‪ .‬فاستخدام النقود‬
‫لإلقراض بفائدة يشكل إخراجا لها عن طبيعتها األصلية حيث يعبر أفالطون عن ذلك بأن "النقود‬
‫ال تلد النقود"؛‬
‫‪ -‬نادى أفالطون بضرورة تدخل الدولة في الحياة العامة تدخال واسعا حيث أن ذلك البد منه‬
‫لتحقيق املصلحة العامة وتحقيق النظام وتجسيد العدالة االجتماعية؛‬
‫‪ -‬اهتم أفالطون أيضا بقضية السكان واقترح على الدولة أن تعمل من أجل اإلبقاء على قدر محدد‬
‫من السكان يتوافق مع اإلمكانيات التي تتوفر عليها البالد‪ .‬وللحد من التزايد السكاني الكبير لم‬
‫‪4‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫يتردد أفالطون في اقتراح نفي أعداد من السكان الزائدين عن الحد املطلوب إلى أماكن أخرى‬
‫للعيش‪ ،‬بل ولم يتردد في اقتراح حتى الحد من الزواج وإجهاض النساء الحوامل وما شابه ذلك من‬
‫التدابير التي تمكن من الحد من النمو السكاني‪.‬‬

‫‪ -4‬أرسطو ‪.‬‬

‫عاش أرسطو بين سنتي ‪ 345‬و ‪ 323‬ق م‪ .‬كان تلميذا ألفالطون وتأثر به كثيرا خصوصا فيما تعلق‬
‫بضرورة مراعاة الجانب األخالقي في حياة األفراد والحفاظ على سالمة الحياة االجتماعية‪ .‬كما تناول هو‬
‫اآلخر القضايا االقتصادية في إطار دراساته العامة ملواضيع السياسة واألخالق والفلسفة‪.‬‬
‫لكن أرسطو خالف أستاذه من جهة أخرى في العديد من املسائل والتي من أهمها نظرته املثالية لتنظيم‬
‫املجتمع ودعوته إلى عدم السماح للحكام والجنود بالحصول على ملكيات خاصة وعدم بناء أسر وتكون‬
‫عالقات عائلية‪ّ .‬‬
‫وتميز أرسطو إضافة إلى ذلك بمحاولته مراعاة الظروف املوضوعية التي تحكم الواقع‬
‫االجتماعي املعاش وإعطاء التفسيرات املمكنة للظواهر التي تسوده عبر مراحل التطور التي يمر بها‪.‬‬

‫ومن أهم األفكار التي جاء بها أرسطو في إطار تناوله للنشاطات االقتصادية ملجتمعه نورد هنا ما يلي‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أكد أرسطو كثيرا على ضرورة احترام امللكية الخاصة‪ ،‬ألن ذلك يتوافق حسب رأيه مع الطبيعة‬
‫البشرية‪ ،‬وهو يسمح للنفس اإلنسانية باالرتقاء بما يوفره لها من استقاللية وحرية‪ ،‬عالوة على ما‬
‫يوفره أيضا من تسهيالت مادية‪ .‬كما يرى باإلضافة إلى ذلك أن امللكية الخاصة بإمكانها أن تعود‬
‫باملنفعة على املجتمع ككل إذا خضعت للضوابط األخالقية واألحكام القانونية التي يجب االلتزام‬
‫بها‪ ،‬فامللكية الخاصة تكون لها في إطار هذه الشروط وظيفة اجتماعية ال يسع املجتمع اإلنساني‬
‫أن يتخلي عنها‪ .‬ويكون أرسطو بهذه النظرة للملكية الخاصة قد وفر املبررات الرئيسية للمدافعين‬
‫عن هذه امللكية خالل العصور الالحقة خصوصا في عصر النهضة األوربية‪ .‬أما امللكية املشاعية‬
‫فهو يرى أنها تجافي الطبيعة اإلنسانية في حب التملك‪ ،‬فضال عن أنها تؤدي إلى االحتكاك والنزاع‬
‫بين األفراد‪ ،‬وقد تتسبب في الندرة وانتشار البؤس ألن "الش يء الذي يعود للجميع ال يعود ألحد"‪.‬‬
‫‪ -‬يرى أرسطو أن تقدم املجتمع اإلنساني ّأدى إلى ظهور تقسيم العمل وإلى التبادل ثم إلى ظهور‬
‫النقود كأداة للتبادل‪ .‬وقد ّبين في معرض حديثه عن النقود أنها تلعب‪ ،‬باإلضافة إلى كونها وسيطا‬
‫للتبادل‪ ،‬دور مخزون للقيمة وكذلك مقياسا لقيم السلع املتبادلة‪ .‬غير أن وظيفتها الرئيسية تبقى‬

‫‪5‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫عنده بالتأكيد تلك املتعلقة بالوساطة في التبادل‪ .‬أما عن الطبيعة الذاتية للنقود‪ ،‬فإن أرسطو‬
‫خالف أستاذه أفالطون واعتبر أن النقود يجب أن تكون حاملة لقيمة ذاتية حقيقية تقابل ما‬
‫ترمز له من قيمة تبادلية؛‬
‫‪ -‬تناول أرسطو موضوع القيمة ّ‬
‫وميز في هذا اإلطار بين القيمة التبادلية والقيمة اإلستعمالية‪،‬‬
‫وأشار إلى وجود عالقة بينهما تتمثل في كون الثانية شرطا لألولى‪ .‬غير أنه لم يستطع إبراز األسباب‬
‫التي تؤدي باألشخاص إلى التبادل وغلبت عليه االعتبارات األخالقية بحيث راح يؤكد على ضرورة‬
‫مراعاة العدالة في التبادل‪ ،‬أي االلتزام بما أسماه "املبادلة املتكافئة"‪ .‬وحتى في أمر هذه املبادلة‬
‫ُ‬
‫املتكافئة لم يكن أرسطو واضحان ألنه لم يبين معايير محددة لتحقيق التكافؤ املشار إليه‪ ،‬وف ّسر‬
‫مراده من ذلك بضرورة االتفاق بين الطرفين وتحقق الرضا من قبلهما؛‬
‫‪ -‬وقف أرسطو ضد االحتكار ودعا إلى أن تكون األسعار عادلة‪ ،‬كنتيجة لفكرة املبادلة املتكافئة‪،‬‬
‫لكنه لم يستطع أن يبين الحالة التي تستقر عندها األسعار تحت الضغط املتبادل بين قوتي‬
‫ُ‬
‫العرض والطلب والتي تسمى بحالة التوازن‪ .‬وقد ف ّسر مقصود أرسطو باألسعار العادلة تلك‬
‫الحالة التي يختفي فيها االحتكار وتسود فيها املنافسة وبالتالي تكون السوق في حالة توازن واألسعار‬
‫ناتجة عن املنافسة؛‬
‫‪ -‬وافق أرسطو أستاذه أفالطون بشأن الربا والفائدة مؤكدا موقفه الرافض لهما‪ ،‬حيث يعتبر أن‬
‫النقود ال تلد النقود‪ ،‬وذلك ألنها وسيلة استحدثت باألساس من أجل تسهيل التبادل‪ ،‬فإذا‬
‫استخدمت في اإلقراض للحصول منها مباشرة على زيادة في الثروة تكون بالتالي قد استخدمت‬
‫استخداما يخالف طبيعتها؛‬
‫أقر أرسطو ّ‬
‫الرق الذي كان يمارس في مجتمعه واعتبر االستعباد ظاهرة طبيعية والعبيد طبقة دنيا‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫جعلتها الطبيعة في خدمة األسياد اليونانيين‪ ،‬لكن استعباد اليونانيين لم يكن يراه طبيعيا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الفكراالقتصادي في الحضارة الرومانية‪.‬‬

‫بسطت اإلمبراطورية الرومانية سيطرتها في العالم ما يقارب عشرة قرون من الزمن‪ ،‬امتدت من‬
‫القرن الخامس قبل امليالد إلى القرن الخامس بعد امليالد‪ .‬واستطاعت هذه اإلمبراطورية أن تخضع لسلطتها‬
‫كافة شعوب البلدان املحيطة بالبحر األبيض املتوسط على اختالف أعراقها وثقافاتها وتباعد أقاليمها‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫وقد كان لقوة الدولة املركزية الرومانية وشساعة أقاليمها أثر كبير في تركيز اهتمام حكامها على الجوانب‬
‫العملية للنشاط اإلداري بها‪ ،‬ولم يكن هناك اهتمام كبير بالفلسفة لدى الرومان كما كان عليه الحال في‬
‫الحضارة اليونانية‪.‬‬
‫غير أن ّ‬
‫تميز الحضارة الرومانية كان فيما تركته من إرث قانوني ثمين‪ ،‬والذي كان له أثر بالغ في‬
‫الفكر األوربي خالل عصر النهضة وما بعده‪ ،‬خصوصا ما تعلق من ذلك باملجاالت التالية‪:‬‬

‫‪ -‬فكرة القانون الطبيعي الذي كان معتمدا في اإلمبراطورية بالتوازي مع القانون املدني الذي كان‬
‫يخص الرومان‪ ،‬حيث كان هذا القانون يستند إلى اعتبارات عامة تتالءم مع الظروف الطبيعية‬
‫لشعوب األقاليم املختلفة في حين كان القانون املدني مرتبطا بالتطور الخاص بالحياة االجتماعية‬
‫للرومان أنفسهم؛‬
‫‪ -‬تأسيس إبرام العقود على حرية الطرفين املتعاقدين ورضاهما؛‬
‫‪ -‬التأكيد على الحق في امللكية الخاصة املطلقة‪ ،‬مهما اتسعت حدودها‪ ،‬بمجرد كونها مكتسبة‬
‫بصورة قانونية‪.‬‬
‫وكان من نتائج تأثير اإلرث الروماني في الفكر األوربي أن أدى ذلك إلى ُّ‬
‫تأصل املذهب الفردي والحرية‬
‫ا لشخصية ورسوخ حق التملك الخاص في املجتمعات الغربية وانتشار فكرة القانوني الطبيعي الذي يحكم‬
‫الحياة االجتماعية كما تحكم القوانين الفيزيائية والبيولوجية الظواهر املرتبطة بميادين عملها‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫الفكراالقتصادي األوربي في العصورالوسطى‬

‫سيكون بإمكان الطالب بعد تناوله لهذا الفصل أن يتبن ويفهم ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬ظهور فكر أوربي في املرحلة األخيرة من القرون الوسطى بعد فترة طويلة من الجمود تلت سقوط‬
‫الحضارة الرومانية؛‬
‫‪ -‬ارتباط الفكر األوربي الجديد بالكنيسة التي كانت تتكفل بمهمة التعليم في إطار مهمتها الدينية‬
‫تجاه املجتمع؛‬
‫‪ -‬ظهور فئة من املفكرين املنتمين للكنيسة سميت بـ ــ"املدرسيين"؛‬
‫ُ‬
‫‪ -‬اهتمام املدرسيين‪ ،‬وعلى رأسهم توماس األكويني‪ ،‬باإلجابة على التساؤالت التي كانت تثار بشأن‬
‫التطور الذي بدأت تشهده الحياة االقتصادية مع انتشار النشاط التجاري والتوسع في اإلقراض؛‬
‫‪ -‬محاوالت هؤالء املفكرين التوفيق بين التعاليم الدينية املسيحية ومقتضيات التوسع التجاري‬
‫باالعتماد على البراهين العقلية املستقاة أو املستلهمة من الفلسفة اليونانية‪.‬‬

‫‪8‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫ساد في أوربا خالل القرون الوسطى‪ ،‬التي امتدت من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر‬
‫َّ َ‬
‫ضيقا كثيرا من حرية األشخاص االجتماعية والفكرية في القرون‬ ‫امليالديين‪ ،‬نظام إقطاعي وتفكير كنس ي‬
‫األولى من هذه الحقبة‪ ،‬ثم بدأت األمور في التغير مع توسع النشاط التجاري في القرون األخيرة بحيث ّأدى‬
‫ذلك مع الوقت إلى زوال النظام اإلقطاعي نفسه وتراجع الفكر الكنس ي ثم انزوائه‪.‬‬

‫أوال تفكك املجتمع اإلقطاعي وسيطرة الرأسمالية التجارية‪.‬‬

‫استمر املجتمع اإلقطاعي األوربي في انغالقه مدة طويلة من الزمن امتدت من القرن الخامس‬
‫امليالدي إلى القرن الحادي عشر‪ .‬بعد ذلك بدأت الحياة النشيطة تدب في ذلك املجتمع شيئا فشيئا بفضل‬
‫التواصل الذي بدأ بينه وبين العالم اإلسالمي عبر األندلس في الغرب ومن خالل الحروب الصليبية في‬
‫الشرق‪.‬‬
‫ومع هذا االنفتاح التدريجي بدأ النشاط التجاري األوربي في االنتشار والتوسع على املستوى الدولي‬
‫ُ‬
‫بعيدا عن سيطرة األسياد اإلقطاعيين‪ ،‬حيث بدأت تظهر مع الوقت نقاط نشاط على أطراف اإلقطاعيات‬
‫تستقطب التجار والرحالة من أماكن وبلدان مختلفة‪ .‬وكان هذا إيذانا بتحول اجتماعي عميق يطال‬
‫ٌ‬
‫مجتمع جديد يستند فيه املركز االجتماعي القوي‬ ‫املجتمع اإلقطاعي في أساسه ُلي ْب َنى على أنقاضه‬
‫لألشخاص على الثروة املالية املحققة من التجارة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الفكرالكنس ي في املجتمع اإلقطاعي‪.‬‬


‫كان التعليم في أوربا خالل العصور الوسطى محدودا جدا ومنحصرا في دائرة الكنيسة التي كانت‬
‫تسيطر على الحياة الدينية للمجتمع‪ .‬ومن نتائج ذلك أن الفكر الذي ساد خالل هذه الحقبة كان فكرا‬
‫َ‬
‫دينيا كنسيا ُم َتق ِّّي َدا بالنصوص الدينية املسيحية وال يسمح ببروز أي فكر ال يستند إلى تلك املرجعية‪.‬‬
‫وفي خضم التحوالت التي بدأ يشهدها املجتمع اإلقطاعي في النصف الثاني من القرون الوسطى‬
‫بدأت تبرز في املجتمع تساؤالت كثيرة بشأن عديد من القضايا املستجدة خصوصا ما كان يتعلق منها‬
‫بالتوسع في النشاط التجاري وجمع الثروة واإلقراض وتعاطي الفائدة وغيرها‪ .‬وكان على رجال الكنيسة‬
‫يردوا على تلك التساؤالت بتقديم تفسيرات عقلية ُمق ِّنعة بخصوص األحكام الدينية‬‫ومفكريها أن ُّ‬

‫املعتمدة‪ ،‬واستعانوا في ذلك بما لديهم من اطالع على الفلسفة اليونانية وخاصة أفكار أرسطو التي‬
‫أخذوها عن املسلمين في األندلس‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫ثالثا‪ :‬الفكراالقتصادي عند املدرسيين‪.‬‬
‫املدرسيون هم فئة من رجال الدين املسيحي الذين ظهروا في أوربا في املرحلة األخيرة من القرون‬
‫الوسطى وكان من أشهرهم القديس توماس األكويني وأستاذه ألبرتوس ماغنوس‪ .‬وقد حاول هؤالء‬
‫املفكرون التوفيق بين األحكام الدينية واألفكار الفلسفية املستندة إلى االجتهادات العقلية التي انفتحت‬
‫تميزت دراستهم للقضايا االقتصادية‬ ‫عليها بعض الفئات من املجتمع األوربي اإلقطاعي آنذاك‪ .‬وقد ّ‬

‫باهتمامهم الرئيس ي بالجانب األخالقي الذي يضمن العدل في املعامالت بين األفراد وليس بهدف التفسير‬
‫املوضوعي للنشاط االقتصادي نفسه‪ ،‬ومن أهم املواضيع التي تناولوها بالدراسة نورد هنا بشكل خاص‪:‬‬
‫الثروة وامللكية الخاصة‪ ،‬القيمة والسعر العادل‪ ،‬الفائدة والنقود‪.‬‬

‫‪ -1‬الثروة وامللكية الخاصة‪.‬‬


‫على خالف رجال الكنيسة القدماء الذين عاشوا في القرون الوسطى األولى والذين كانوا يحذرون‬
‫من السعي واالنشغال بجمع الثروات املادية بحجة أن ذلك يؤدي باملؤمن حتما إلى االبتعاد عن طريق‬
‫اإليمان‪ ،‬فإن املدرسيين أبدوا ميال إلى التوفيق بين مطالب الحياة املادية ومطالبها الروحية مع التحذير من‬
‫التمادي والتوسع الكبير في جمع الثروات املادية حتى ال يصير ذلك هدفا في حد ذاته‪.‬‬
‫َ ً‬
‫أما امللكية الخاصة التي كان ُم ْعت َرفا بها بطبيعة الحال من ِّق َب ِّل رجال الكنيسة القدماء فقد امتدحها‬
‫املدرسيون على لسان توماس األكويني حيث اعتبرها هذا األخير حقا من الحقوق الشخصية لكل إنسان‬
‫وعامال محفزا لألفراد على العمل‪ .‬لكنه باملقابل دعا إلى أن يراعي صاحب امللكية والثروة واجبه األخالقي في‬
‫مساعدة الفقراء ومراعاة املصلحة العامة للمجتمع الذي يعيش فيه‪ ،‬متأثرا في ذلك بأفكار أرسطو التي‬
‫كان ينادي بها في هذا املجال‪.‬‬

‫‪ -2‬القيمة‪.‬‬
‫تناول ألبرتوس ماغنوس موضوع قيمة السلع املتبادلة في السوق واعتبر أن هذه األخيرة تتحدد‬
‫بأمرين‪ ،‬أحدهما طبيعي واآلخر اقتصادي‪ .‬وقد أشار إلى أن األمر الطبيعي يرتبط بالرغبات والنزوات‬
‫الشخصية لألفراد مما يسبب صعوبة كبيرة في تحديد تأثيره على القيمة‪ ،‬ولذلك لم ُي ِّع ْر ُه اهتماما في‬
‫دراسته‪ .‬أما العامل االقتصادي فيتمثل حسبه في التكاليف التي يتحملها منتج السلعة والتي تتكون أساسا‬
‫من العمل الالزم للنتا باإلضافة إلى املدخالت األخرى‪.‬‬

‫‪10‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫من جهته وافق توماس األكويني أستاذه ماغنوس بشأن نظريته املذكورة وحاول أن يدخل عليها شيئا‬
‫ّ‬
‫املحددة للقيمة بأنها ال تشتمل فقط على الرغبات والنزوات ولكن‬ ‫إضافيا بتوضيحه للعوامل الطبيعية‬
‫ِّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ت ِّّعبر أيضا عن الحاجات‪ ،‬وهو ما مكنه من تسجيل خطوة إيجابية باتجاه تقرير دور الطلب في تحديد‬
‫القيمة‪ .‬غير أنه لم يواصل تحليله في هذا االتجاه ليقف على تأثير عامل الطلب في هذا املجال‪ ،‬حيث غلبت‬
‫عليه خلفيته الدينية وراح يبين أهمية األخالق في تهذيب تصرفات األشخاص وترتيب الحاجات‪ ،‬كما‬
‫أضاف بشأن العوامل االقتصادية فكرة تتمثل في ضرورة التزام املن ِّت ِّج في حسابه لتكاليف اإلنتا بتقديره‬
‫لدخل يسمح له بالعيش وفقا لظروفه االجتماعية العادية وباالستمرار في نشاطه اإلنتاجي‪ .‬وال شك أن هذا‬
‫التصور يستند أساسا إلى اعتبارات أخالقية كان األكوني يؤكد على ضرورة االلتزام بها من قبل املنتجين وال‬
‫يمثل تفسيرا لعوامل موضوعية تتحكم في تحديد تكاليف اإلنتا ‪.‬‬

‫‪ -3‬السعرالعادل‪.‬‬
‫وفي سياق دراستهم ملوضوع القيمة تناول املدرسيون أيضا موضوع األسعار وشددوا بهذا الشأن على‬
‫ضرورة التزام املتعاملين الذين يقومون بالبيع والشراء بما أسموه "السعر العادل"‪ .‬لكن بيانهم لهذا السعر‬
‫لم يكن واضحا حيث جعلوه مرتبطا بعوامل مختلفة تتمثل في‪:‬‬

‫‪ -‬تكاليف اإلنتا العادلة‪ ،‬أي التكاليف التي ُيستند في تحديد مستوياتها إلى االعتبار األخالقي (وهي‬
‫تتحدد من قبل املنتجين)؛‬
‫‪ -‬التزام املتعاملين بالقواعد األخالقية في تحديدهم ألثمان السلع املتداولة ً‬
‫بيعا أو شر ًاء؛‬
‫‪ -‬السعر السائد الذي يحدده العرف بشكل عام‪.‬‬
‫لكن ومع ذلك فإن استناد السعر العادل إلى االعتبار األخالقي كان وجيها في ظل استقرار األسعار‬
‫وركود ظروف اإلنتا والتجارة وإمكانية جهل كثير من املشترين ملستويات سعر البيع العادية‬
‫لبعض املنتجات‪.‬‬

‫ثم أن توماس األكويني لم يجعل هذا السعر العادل ثابتا بل أباح تقلباته تبعا لظروف السوق‪ ،‬أي‬
‫اعتبر أنه يتغير تبعا لظروف اإلنتا وما ينجم عن ذلك من تغير في العرض‪ ،‬وذلك ملراعاة حقوق املنتجين‬
‫التي قد تتضرر في ظل تثبيت سعر البيع مع تغير ظروف السوق ‪.‬‬

‫كما أضاف كتاب آخرون من املدرسيين أنه باإلمكان الخرو عن السعر السائد‪ ،‬أي السعر الذي‬
‫ساد لوقت ما واعتبر سعرا عادال‪ ،‬بغرض تغطية تكاليف نقل البضائع إلى األسواق أو حتى لالحتياط من‬

‫‪11‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫سوء تقدير التكاليف‪ ،‬بحيث تطور األمر شيئا فشيئا باتجاه اإلقرار بأهمية مراعاة ظروف العرض‬
‫والطلب في تحديد أسعار السوق‪ ،‬وهو ما فتح الباب مستقبال لفكرة سعر التوازن الذي يتحقق في السوق‬
‫بفعل تالقي قوتي العرض والطلب‪.‬‬

‫‪ -4‬الفائدة‪.‬‬
‫التزم الفكر الكنس ي طويال بتحريم الربا تحريما قاطعا ولم يسمح باإلقراض بفائدة معتبرا ذلك ظلما‬
‫واستغالال لحاجات الفقراء‪ .‬وملا شاع اإلقراض في النشاط التجاري حاول املدرسيون تبرير موقف الكنيسة‬
‫الرافض للفائدة بجملة من الردود املنطقية منها على سبيل املثال‪:‬‬

‫‪ -‬أن النقود ال تلد النقود‪ ،‬وفقا ملقولة أرسطو؛‬


‫‪ -‬أن القول الذي يعتبر الفائدة مقابال للوقت املنتظر من طرف املقرض ال يمكن القبول به ألن‬
‫الوقت ملك هلل وحده؛‬
‫‪ -‬أن حجة فوات فرص عقد صفقات مربحة على املقرض ال يمكنها أن تقبل أيضا ألن النقود حتى‬
‫عندما تكون بحوزة صاحبها قد تزيد وقد تنقص؛‬
‫‪ -‬أن النقود‪ ،‬حسب توماس األكويني‪ ،‬من صنف السلع التي يؤدي التنازل عنها إلى فقدان ملكيتها‬
‫وبالتالي ال يمكن تأجيرها‪ ،‬مستندا في ذلك إلى فكرة السلع القابلة للتأجير والسلع غير القابلة‬
‫لذلك‪ ،‬كما جاء في القانون الروماني‪.‬‬

‫لكن وعلى الرغم من صراحة موقف الكنيسة ّ‬


‫املحرم للربا‪ ،‬فإن تقاض ي الفائدة عن القروض شاع‬
‫بشكل كبير في املجتمعات األوربية بالتوازي مع التوسع التجاري واالقتصادي حتى صارت السلطة الحاكمة‬
‫ال تهتم كثيرا بتحريم الفائدة وإنما بتنظيم تعاطيها فقط‪ .‬مما أدى إلى ميل الفكر الكنس ي إلى التراجع عن‬
‫تشدده السابق تدريجيا والتسليم ببعض االستثناءات في مسألة الفائدة والتي من أهمها مثال‪:‬‬
‫‪ -‬تعرض املقرض لخسارة بسبب اإلقراض‪ ،‬شريطة إثبات ذلك؛‬
‫‪ -‬تأخر سداد الدين أكثر من املدة املتفق عليها‪ ،‬وهو االستثناء الذي فتح الباب أمام املتعاملين‬
‫لتقص ير مدة اإلقراض التي ال تشترط فيها الفائدة بغرض التمكن بعد تلك املدة من أخذ الفائدة‬
‫وإعطائها بكل حرية؛‬
‫‪ -‬تسبب اإلقراض في فوات فرصة ربح على صاحب املال؛‬
‫‪ -‬تعرض املقرض لخطر خسارة ماله بسبب اإلقراض‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫ومع تعدد االستثناءات التي تفتح الباب للتعامل بالفائدة‪ ،‬تغلب أخيرا الرأي الذي يبيح تلك‬
‫املعامالت واكتفت الكنيسة بالدعوة في النهاية إلى ضرورة إبقاء الفائدة في حدود معتدلة‪.‬‬

‫‪ -5‬النقود‪.‬‬
‫كان أهم من تناول موضوع النقود من املدرسيين "نيكول أوريزم"‪ ،‬وقد تعرض هذا الكاتب في بداية‬
‫مقال له عن هذا املوضوع إلى ظروف ظهور النقود وإلى صفات السلع التي تتناسب بشكل أكبر مع دورها‬
‫ُ‬
‫القيام بذلك‪ .‬وقد شدد أوريزم على أن مهمة سك‬ ‫كوسيط للتبادل‪ ،‬ثم إلى مهمة سكها والجهة َّ‬
‫املخول لها‬
‫النقود تعود إلى الحاكم لكن ذلك يوجب على هذا األخير االلتزام بمراعاة الطبيعة الخاصة للنقود التي هي‬
‫عبارة عن أداة لتبادل ثروات األشخاص وتمثل جزءا مهما منها‪ .‬وعليه فإن السلطة املكلفة بإصدار النقود‬
‫يجب أن تكون محايدة في القيام بمسؤوليتها وهي ال تملك الحق في تخفيض قيمتها بالتالعب في وزنها أو‬
‫الغش في مادتها‪ .‬واعتبر أن الكسب الذي يتحقق من غش الحاكم في مادة النقود أسوأ من الربا وهو‬
‫ضريبة مستترة تضر كثيرا بالتجارة وتؤدي إلى تفش ي الفقر في الناس‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الفكر االقتصادي عند املسلمين‬

‫بعد تناول الطالب لهذا الفصل‪ ،‬يمكنه أن يقف على األفكار الرئيسية التالية ويفهمها‪:‬‬

‫‪ -‬املكانة األساسية للدين في ظهور األمة اإلسالمية وسيادة حضارتها؛‬


‫‪ -‬ارتباط الفكر االقتصادي عند املسلمين خالل العهود التي سادت فيها حضارتهم بالشريعة‬
‫اإلسالمية وبباقي مجاالت الفكر االجتماعي؛‬
‫‪ -‬املصادر األساسية للفكر االقتصادي اإلسالمي تتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة‬
‫والفقه اإلسالمي؛‬
‫‪ -‬النظام االقتصادي اإلسالمي يقوم على املبادئ التالية‪ :‬امللكية املزدوجة‪ ،‬الحرية االقتصادية‪،‬‬
‫العدل في توزيع الدخل والثروة‪ ،‬تحريم الربا وإقرار التمويل باملشاركة‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫تمهيد‪.‬‬
‫بزغ فجر الدين اإلسالمي في جزيرة العرب في مطلع القرن السادس امليالدي‪ .‬وبعد هذا الحدث‬
‫بحوالي ثالثين سنة فقط استطاع املسلمون أن يسقطوا دولة فارس في الشرق ويحجموا دولة الروم في‬
‫الغرب‪ ،‬وأن يقيموا على أنقاض هاتين اإلمبراطوريتين أمة جديدة انفردت بقيادة العالم حوالي عشرة قرون‬
‫من الزمن‪ .‬وخالل هذه املرحلة قام املسلمون بتشييد حضارة راقية أعطت مكانة سامية للعلم‪ ،‬فأحيت‬
‫ُ‬
‫بذلك التراث اإلنساني الفكري‪ ،‬الذي أهمل طويال بعد انحطاط الحضارات السابقة‪ ،‬وجادت على‬
‫اإلنسانية بإسهامات جليلة في مختلف امليادين‪ ،‬كالطب والفلك والرياضيات والكيمياء والجغرافيا وغيرها‪.‬‬
‫لكن أهم ش يء ّميز املسلمين وحضارتهم عن كثير من الحضارات السابقة هو دينهم الجديد الذي‬
‫كان سببا في ظهورهم‪ ،‬والذي بقي بعد ذلك نبراسا موجها ملسيرتهم‪ .‬وملكانة الدين اإلسالمي عند أهله‪ ،‬فقد‬
‫ّ‬
‫شكل دائما محور العلم الذي كانوا يسعون لكسبه وتحصيله‪ ،‬وحتى الفلسفة اليونانية التي أخرجها‬
‫املسلمون من غياهب القرون السابقة واجهوها بمنطق الدين اإلسالمي نفسه‪.‬‬
‫لذلك فإن علماء اإلسالم لم ْيف ِصلوا دراساتهم املتناولة لقضايا املجتمع اإلسالمي عن الدين‪ ،‬وكانوا‬
‫دائما يجعلون من الشريعة اإلسالمية اإلطار العام الذي ال يجوز الخروج عنه في بحوثهم‪ .‬فعلى غرار كافة‬
‫الشؤون االجتماعية فإن النشاط االقتصادي كان ُيتناول عندهم هو اآلخر من منظور الدين نفسه‪،‬‬
‫ُ‬
‫خصوصا وأن أحكاما شرعية قاطعة تتعلق بهذا امليدان كانت قد أقرت بآيات قرآنية محكمة وأحاديث‬
‫نبوية شريفة صحيحة‪.‬‬
‫وبحكم الطبيعة االجتماعية واإلنسانية للنشاط االقتصادي‪ ،‬فإن دراسة املسلمين لهذا املجال لم‬
‫تكن منفصلة عن دراستهم لبقية القضايا االجتماعية األخرى‪ ،‬وخاصة منها موضوع الحكم وما يتعلق به‬
‫من صراعات سياسية ومهام اجتماعية وغيرها‪.‬‬
‫مع ذلك فإن مفكرين مسلمين كتبوا‪ ،‬منذ القرون األولى من تاريخ األمة‪ ،‬في مواضيع اقتصادية‬
‫محددة وحاولوا أن يبينوا طبيعتها املوضوعية وأسبابها وكيفيات التصرف مع املشكالت املرتبطة بها‪ .‬ومن‬
‫بين تلك املواضيع يذكر على سبيل املثال مواضيع الكسب‪ ،‬الخراج‪ ،‬النقود‪ ،‬الفقر وغيرها‪ .‬أما ابن خلدون‬
‫فكتب من منظور أوسع وحاول أن يؤسس لعلم جديد يختص بدراسة موضوعية للمجتمع اإلنساني في‬
‫أسس قيامه وتنظيمه وكذلك سيره وتطوره‪ .‬وقد استطاع أن يأتي في إطار هذه الدراسة بأفكار اقتصادية‬
‫هامة سبق بها كثيرا من املفكرين االقتصاديين الغربيين الذي جاؤوا من بعده بقرون‪.‬‬
‫أما في عصرنا الحالي‪ ،‬وبعدما استقل علم االقتصاد بنفسه عن بقية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬
‫األخرى‪ ،‬على يد املفكرين الغربيين منذ آدم سميث‪ ،‬فإن املفكرين االقتصاديين املسلمين املتمسكين‬

‫‪15‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫باملرجعية الدينية بدأوا منذ منتصف القرن العشرين في الكتابة في هذا املجال وكان من ثمرات جهودهم‬
‫أن أنشأوا علما جديدا هو علم االقتصاد اإلسالمي‪.‬‬
‫وفي تناولنا ملوضوع الفكر االقتصادي عند املسلمين نتعرض في هذا الفصل باختصار إلى عنصريين‬
‫رئيسيين هما مصادر الفكر االقتصادي اإلسالمي واملبادئ األساسية للنظام االقتصادي اإلسالمي‪.‬‬

‫املبحث األول‪ :‬مصادرالفكراالقتصادي اإلسالمي‪.‬‬


‫تتمثل هذه املصادر في القرآن الكريم والسنة ّ‬
‫النبوية الشريفة وكذلك في الفقه اإلسالمي‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة‪.‬‬


‫يشكل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة املصدرين األساسيين للفكر االقتصادي اإلسالمي‪،‬‬
‫وذلك الن املفكر املسلم يؤمن باهلل ويعتقد بأن هذين املصدرين هما وحي جاء من عنده تبارك وتعالى‪ ،‬وهو‬
‫بهذا ال يمكن له أن يغفلهما أو يتجاوزهما في تحديد موقفه من مختلق القضايا املتعلقة بحياته الدنيوية‬
‫كفرد أو كمجتمع‪ .‬فاملعلوم الصحيح األول بالنسبة للمفكر املسلم هو إذن القرآن الكريم والسنة النبوية‬
‫الشريفة‪ ،‬وإن حدث واعتبر هذا املفكر أن املصدرين املشار إليهما غير صائبين في أي قضية من القضايا‬
‫ْ‬
‫فإنه ُيخ ِر ُج نفسه بشكل آلي من دائرة املفكرين املسلمين بفقده إلسالمه ذاته‪.‬‬
‫وقد اشتمل كل من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيما يتعلق بالنشاط االقتصادي على‬
‫أحكام وتوجيهات كثيرة تفرض على املسلمين االلتزام بها‪ ،‬نذكر منها هنا على سبيل املثال ما يلي‪:‬‬

‫خالفة اإلنسان هلل في األرض وتكليفه بعمارتها‪،‬‬ ‫‪-‬‬


‫« َوإ ْذ قَا َل َرب ُّ َك لِلْ َم ََلئِ َك ِة إ ِ يِن َجاعِ ٌل ِِف ْ َإْل ْر ِض‪ ،» ...‬إلبقرة (‪ ،)03‬و«‪ُ ...‬ه َو َأن ْشَ أَ ُ ْك ِيم َن ْ َإْل ْر ِض َو ْإس َت ْع َم َرُ ْك ِفيَا‪ » ...‬هود (‪)16‬؛‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحث على العمل لتحقيق الكسب‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫ون» إمجلعة (‪)10‬؛‬ ‫إَّلل َكثِ ًريإ لَ َعل َّ ُ ْك تُ ْف ِل ُح َ‬
‫إَّلل َو ْإذ ُك ُروإ َّ َ‬
‫ِشوإ ِِف إ أْل ْر ِض َوإبْ َت ُغوإ ِم ْن فَضْ ِل َّ ِ‬ ‫«فَا َذإ قُ ِضيَ ِت َّإلصَل ُة فَانْتَ ِ ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ِ‬
‫الحث على التجارة والتزام بالصدق فيها؛‬ ‫‪-‬‬
‫«‪...‬وأخرون يرضبون ِف إ أْلرض يبتغون من فضل هللا‪ »...‬إملزمل (‪،)00‬‬
‫إلص يِدي ِق َني َوإلشُّ هَدَ إ ِء »‪ ،‬حديث رشيف؛‬ ‫اجِر َّإلصدُ ُوق إ َْل ِم ُني َم َع إلنَّ ِب ِيي َني َو ي ِ‬
‫« إلتَّ ُ‬
‫‪ -‬الحث على اكتساب القوة للدولة ولألفراد‪،‬‬
‫« َو َأعِدُّ وإ لَه ُْم َما ْإس َت َط ْعُتُ ْ ِم ْن قُ َّو ٍة‪ ،»...‬إ أْلنفال (‪،)60‬‬
‫إملؤمن إلضَّ ِ‬
‫عيف وِف ٍي‬
‫ك خريٌ »‪ ،‬حديث رشيف؛‬ ‫هللا ِم َن ِ‬
‫حب إىل ِ‬
‫إلقوي خريٌ و أأ ُّ‬
‫إملؤمن ُّ‬
‫« ُ‬

‫‪16‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫‪ -‬النهي عن التطفيف في امليزان أو الكيل‪،‬‬
‫ون» إملطففني‪ ،‬إْلايت (‪)0( ،)1‬‬ ‫ُوُه ُ ُْي ِ ُ‬
‫ِس َ‬ ‫« َويْ ٌل لِلْ ُم َط ِفي ِف َني‪ِ َّ ،‬إَّل َين إ َذإ إ ْك َتالُوإ عَ ََل إلنَّ ِاس ي َْس تَ ْوفُ َ‬
‫ون‪َ ،‬وإ َذإ ََكلُ ُ ْ‬
‫وُه َأ ْو َو َزن ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫و(‪)3‬؛‬
‫النهي عن الغرر والغبن والتدليس في املعامالت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫« وال تأألكوإ أأموإلك بينك ابلباطل‪ ،»...‬إلبقرة إْلية (‪،)111‬‬
‫« َم ْن غَ َّش نَا فَلَي َْس ِمنَّا»‪ ،‬حديث رشيف؛‬
‫النهي عن االحتكار؛‬ ‫‪-‬‬
‫ون»‪ ،‬حديث رشيف؛‬ ‫«إلْ َجا ِل ُب َم ْر ُز ٌوق ‪َ ،‬وإلْ ُم ْح َتكِ ُر َملْ ُع ٌ‬
‫الربا؛‬ ‫تحريم ّ‬ ‫‪-‬‬
‫هللا َو َذ ُروإ َما بَ ِق َي ِم َن ي ِإلر َاب إ ْن ُك ْنُتُ ْ مُؤْ ِمنِ َني» إلبقرة‪ ،‬إْلية (‪)071‬؛‬ ‫« َاي َأُّيُّ َا َّ ِإَّل َين أ َمنُوإ إتَّ ُقوإ َ‬
‫ِ‬
‫تحريم االكتناز؛‬ ‫‪-‬‬
‫ِش ُُه بِ َع َذ ٍإب َأ ِل ٍي» إلتوبة‪ ،‬إْلية (‪)33‬‬ ‫ون إ ََّّله ََب َوإلْ ِفضَّ َة َو َال يُن ِف ُقوَنَ َا ِِف َسبِي ِل َّ ِ‬
‫إَّلل فَبَ ِ ي ْ‬ ‫«‪َ ،....‬و َّ ِإَّل َين يَ ْك ِ ُِن َ‬
‫النهي عن التبذير ؛‬ ‫‪-‬‬
‫ِ‬
‫إلش ْي َط ُان ِل َ ِرب يه َك ُفورإً»‪ ،‬إالرسإء‪ ،‬إْليتان (‪ )06‬و(‪)07‬؛‬ ‫إلش َيا ِطنيِ َو ََك َن َّ‬ ‫ْ‬
‫«‪َ ....‬و َال تُ َب يِذ ْر تَ ْب ِذ َيرإ‪ ،‬إ َّن إل ُم َب يِذ ِر َين ََكنُوإ إخ َْو َإن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فرض الزكاة باعتبارها عبادة فردية يسأل عنها كل مسلم في الدنيا وفي اآلخرة؛‬ ‫‪-‬‬
‫«خ ُْذ ِم ْن َأ ْم َوإ ِلهِ ْم َصدَ قَ ًة ت َُطهي ُِر ُ ُْه َوتُ َز ِكي ِيم ِبِ َا َو َص ِيل عَلَيْ ِ ْم ۖ إ َّن َص ََلت ََك َسكَ ٌن لَّهُ ْم ۗ َو َّ ُ‬
‫إَّلل َ ٌِعي ٌع عَ ِل ٌي» إلتوبة‪ ،‬إْلية (‪)103‬؛‬
‫ِ‬
‫ضمان الحقوق من خالل القضاء وفرض التوثيق بكتابة الديون‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫« َاي َأُّيُّ َا َّ ِإَّل َين أ َمنُوإ إ َذإ تَدَ إيَنُْتُ ْ بِدَ ْي ِن إ َىل َأ َج ٍل ُم َس ًمى فَا ْك ُت ُبو ُه‪ » .... ،‬إلبقرة‪ ،‬إْلية (‪)010‬؛‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باإلضافة إلى آيات وأحاديث أخرى كثيرة‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬الفقه اإلسالمي‪.‬‬


‫الفقيه في اإلسالم هو من فقه الدين بعد دراسته للقرآن والحديث واألحكام الشرعية وبلوغه‬
‫مستوى من العلم يجعله متمكنا منها وقادرا على اإلفتاء بها‪ .‬وتشكل االجتهادات التي يقوم بها فقهاء اإلسالم‬
‫أحكاما ملزمة للمسلمين في مختلف القضايا التي تشغلهم في حياتهم في إطار املذاهب الفقهية املوجودة‪.‬‬
‫ويتشكل الفقه اإلسالمي في ثالثة أرباعه من فقه املعامالت الذي يهتم ببيان األحكام الخاصة‬
‫بمختلف املعامالت التي تجري في املجتمع‪ ،‬ومنها املعامالت االقتصادية‪ .‬وفي ظل األحكام الفقهية املوجودة‬
‫أو التي يتم التوصل إليها باجتهادات جديدة يكون على املفكر االقتصادي اإلسالمي أن يلتزم في تحليله‬
‫للمشكالت والظواهر االقتصادية بما انتهى إليه الحكم الفقهي بشأن كل ما يتعلق بها من ِح ّل أو ُح َرمة‪،‬‬
‫وأن يعمل على بيان اآلثار الضارة للمعامالت املحرمة واآلثار النافعة للمعامالت الحالل‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬املبادئ األساسية لالقتصاد اإلسالمي‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫يلتزم املفكر االقتصادي املسلم في دراسته للظواهر واملشكالت االقتصادية التي تحدث في املجتمع‬
‫بجملة من املبادئ تم إقرارها بأحكام قاطعة على مستوى املصادر األساسية للفكر اإلسالمي‪ ،‬وهي تتمثل‬
‫على الخصوص في‪:‬‬

‫املطلب األول‪ :‬مبدأ امللكية املزدوجة‪.‬‬


‫تقر الشريعة اإلسالمية امللكية الخاصة وتصونها بحرمة شديدة‪ ،‬كما تقر أيضا امللكية العامة‪ .‬ومن‬
‫إَّلل ل َ ُ ْك ِقيَا ًما ‪» ....‬‬
‫النصوص الدالة على ذلك اآلية القرآنية من سورة النساء‪َ « ،‬و َال تُ ْؤتُوإ إ ُّلسفَه ََاء أَ ْم َوإل َ ُكُ إل َّ ِِت َج َع َل َّ ُ‬
‫إلنساء‪ ،‬إْلية (‪ ،)5‬والحديث النبوي الشريف «‪ ...‬ك إملسمل عَل إملسمل حرإم ‪ ،‬دمه وماهل وعرضه»‪.‬‬
‫وليس املقصود بمبدأ امللكية املزدوجة قيام النظام االقتصادي اإلسالمي على وجود قطاع خاص‬
‫وقطاع عمومي بأحجام متقاربة بغض النظر عن األحوال والظروف االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬وإنما‬
‫انفتاح الدولة على فكرة التدخل االقتصادي لتحقيق املصلحة العامة‪ ،‬كما في ظل ظروف التخلف‬
‫االقتصادي التي استدعت تدخال اقتصاديا واسعا للحكومة من أجل تحقيق التنمية‪ .‬ويختلف النظام‬
‫اإلسالمي بهذا عن النظام الرأسمالي الليبرالي الذي يغالي في التأكيد على امللكية الخاصة وال يتسامح بسهولة‬
‫تجاه االعتماد على امللكية العامة‪ .‬لكن‪ ،‬ومع ذلك فإنه يجب االنتباه إلى أن النظام اإلسالمي يراعي ضرورة‬
‫الحفاظ على املصلحة العامة‪ ،‬بإلزام املؤسسات العمومية واملصالح الحكومية املشرفة عليها باإلدارة‬
‫الرشيدة لنشاطاتها وعدم التغاض ي عن هدر املوارد الذي يسود عادة في مثل هذه املؤسسات‪ ،‬كما يفرض‬
‫النظام اإلسالمي على الحكومة أيضا ضرورة االلتزام بعدم اإلضرار بنشاطات الخواص من خالل املنافسة‬
‫"املدعمة" التي قد تفرضها املؤسسات العمومية عليهم‪ .‬وحيث أن الشريعة اإلسالمية تعلي كثيرا من شأن‬
‫مصلحة اإلنسان‪ ،‬فإن من مصلحة املجتمع أيضا أن تسود املنافسة بين املتعاملين االقتصاديين‪ ،‬ألنها هي‬
‫الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى زيادة الثروة وتحسين اإلنتاج‪.‬‬
‫وال شك أن انفتاح النظام اإلسالمي على امللكية العامة يختلف تماما عما هو موجود في النظام‬
‫االشتراكي‪ ،‬ألن هذا األخير يقوم على املنع املبدئي للملكية الخاصة‪ ،‬أي على مصادرة ش يء يعتبره اإلسالم‬
‫حقا أصيال ويؤكد على حرمته وصيانته بنصوص مقدسة‪.‬‬
‫من جهة أخرى فإن امللكية في اإلسالم سواء امللكية العامة أو الخاصة تعتبر ملكية استخالف‪ ،‬أي‬
‫أن اإلنسان مجرد مستخلف على ما تحت يده من أموال‪ ،‬ألن هذه األخيرة تعود في حقيقة األمر إلى هللا‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬وهي بذلك ليست مطلقة بل مقيدة بوجوب االلتزام بالواجبات الشرعية املختلفة ومراعاة‬
‫وهل َو َأن ِف ُقوإ ِم َّما َج َعل َ ُك ُّم ْس َت ْخلَ ِف َني ِفي ِه ۖ فَ َّ ِاَّل َين أ َمنُوإ ِم ُ ْ‬
‫نك َو َأن َف ُقوإ لَهُ ْم َأ ْج ٌر َكبِريٌ » إحلديد‪ ،‬إْلية‬ ‫املصلحة العامة‪« .‬أ ِمنُوإ ِاب َّ َِّلل َو َر ُس ِ ِ‬
‫(‪.)7‬‬
‫‪18‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬مبدأ الحرية االقتصادية‪.‬‬
‫في ظل صيانة اإلسالم للملكية الخاصة وحثه على التجارة والتنافس في الخير بشكل عام‪ ،‬استقر في‬
‫الشريعة اإلسالمية بشكل راسخ مبدأ حرية ممارسة النشاط االقتصادي والتجاري‪ ،‬وهو مبدأ ينجر عنه‬
‫بالضرورة انفتاح املجال أمام األفراد للمنافسة وقيام السوق كنظام حيادي تتالقى على مستواه قوى‬
‫العرض والطلب وتحدد فيه أسعار السلع والخدمات املختلفة‪.‬‬
‫ولذلك فإن االقتصاد اإلسالمي يقوم منذ بدايته األولى على السوق وهو يحارب االحتكار ويفتح‬
‫املجال للمنافسة النزيهة الخالية من الغش والتطفيف والتدليس وغيرها من التصرفات املحرمة‬
‫واملذمومة‪ .‬ومما ُيذكر بشأن املنافسة والدخول إلى السوق بحرية أن النبي صلى هللا عليه وسلم لم يفرض‬
‫َ‬
‫أي خراج على التجار ملا فتح سوقا خاصة باملسلمين في املدينة‪ ،‬وقال ملا وقف على املوضع الذي اختاره‬
‫لذلك السوق » هذإ سوقك‪ ،‬فَل ينقصن وال يرضبن عليه خرإج»‪ .‬كما أنه لم يقبل التدخل في السوق لفرض سعر‬
‫ُ‬
‫محدد لبعض السلع بسبب الغالء ملا ط ِل َب منه ذلك‪ ،‬وقال في رده‪» :‬إ َّن َ‬
‫هللا ه َُو إمل ُ َس ِيع ُر إلقَاب ُِض إل َب ِاسطُ إ َّلرإ ِز ُق‪َ ،‬وإ ِ يِن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْل ْر ُجو َأ ْن َألْ َقى َ‬
‫هللا َولَي َْس َأ َح ٌد ِمنْ ُ ْك يَ ْطلُ ُب ِِن ِب َم ْظلَ َم ٍة ِِف َد ٍم َو َال َمالٍ »‪.‬‬
‫ُويعتبر السوق القائم على حرية املنافسة ومنع االحتكار وااللتزام بالضوابط الشرعية واألخالقية في‬
‫املعامالت من أهم األسباب التي تؤدي إلى الرفع من كفاءة املتعاملين‪ ،‬منتجين وتجارا‪ ،‬ومن انتشار الثقة‬
‫بينهم‪ ،‬وفي املحصلة إلى زيادة الرخاء داخليا وتحسن مستوى التنافسية املحلية مقارنة بالخارج‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬مبدأ العدل في توزيع الدخل والثروة‪.‬‬


‫ال شك أن من أهم الوسائل التنظيمية التي تسمح بالتوزيع العادل للثروة وجود منافسة حرة وسوق‬
‫تحكمها ضوابط وقواعد عمل جيدة‪ ،‬وهذا الجانب كان من أهم الجوانب التي أسسها اإلسالم لتنظيم‬
‫الحياة االقتصادية للمجتمع‪ .‬فالدخول التي تتحقق في ظل هذا النظام تكون مستندة بالدرجة األولى إلى‬
‫مستوى كفاءة األشخاص وهو معيار مقبول في األعم األغلب من الحاالت‪.‬‬
‫لكن النظام اإلسالمي يراعي باإلضافة إلى ذلك ظروف األشخاص الضعفاء والعجزة وذوي الحاجة‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ويسدوا حاجاتها ويحفظوا‬ ‫وقد جعل من واجبات املسلمين أفرادا ومجتمعا أن يتكفلوا بهذه الفئات‬
‫كرامتها‪ .‬ومما أقره اإلسالم وفرضه في هذا الباب اإللزام بالنفقة على األقارب والحث عل الصدقات‬
‫واإلنفاق في أبواب الخير املختلفة‪ ،‬كما فرض أيضا الزكاة كعبادة فردية وجعل مسؤولية جمعها في عنق‬
‫الدولة وحدد مصارفها في آية قرآنية محكمة‪.‬‬
‫وعليه فإن توزيع الدخل والثروة في النظام اإلسالمي يقوم على السوق املنظمة بشكل جيد من جهة‬
‫وعلى التكافل االجتماعي من جهة أخرى‪.‬‬
‫‪19‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬تحريم الربا و إقرارالتمويل باملشاركة‪.‬‬
‫َ‬
‫حرم اإلسالم الربا وحث على الضرب في األرض وط ْر ِق أبواب الخير‪ .‬وقد أوردنا اآلية الدالة على ذلك‬
‫قطعي بنص صريح‪ ،‬وهو يشمل القرض االستهالكي والقرض اإلنتاجي معا‪ ،‬بناء‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تحريم‬ ‫أعاله‪ .‬فتحريمه إذن‬
‫على فتاوى جمهور علماء األمة‪.‬‬
‫ّ‬
‫باملقابل‪ ،‬أقر هؤالء العلماء التمويل التشاركي (أو الالربوي)‪ ،‬الذي شكل في االقتصاد اإلسالمي بديال‬
‫أكثر فعالية وانضباطا من نظام التمويل الربوي الرأسمالي‪ .‬وذلك ألن النظان األخير يفرض أجرة على‬
‫استخدام رأس املال النقدي تتمثل في الفائدة وال يخضع لضوابط أخالقية كافية من شأنها أن تضمن‬
‫املحافظة على حقوق املتعاملين املاليين بشكل دائم‪ .‬هذا باإلضافة إلى كون النظام أي التشاركي يفتح‬
‫املجال واسعا أمام الكفاءات والطاقات املالية واإلنتاجية والتجارية املختلفة لتنطلق وتنمو وتحقق‬
‫أهدافها التي تريد‪.‬‬

‫في الخالصة نقول أن النظام االقتصادي اإلسالمي يستند إلى أصول عقائدية وأخالقية دينية‬
‫واضحة ويقوم على جملة من املبادئ التي من شأنها أن تضمن له الفعالية والكفاءة في السير والعدالة في‬
‫توزيع الدخل والثروة باإلضافة إلى االستغالل الجيد للموارد‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫الفكراالقتصادي عند امليركانتيليين والفيزيوقراط‪.‬‬

‫يمكن للطالب بعد دراسته لهذا الفصل أن يصل إلى فهم ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬انتقال املجتمعات األوربية الغربية في نهاية القرون الوسطى وبداية العصر الحديث إلى مرحلة‬
‫جديدة عرفت بالرأسمالية التجارية التي راج فيها النشاط التجاري كثيرا وصارت الطبقة‬
‫البورجوازية هي األكثر تأثيرا في الشؤون العامة؛‬
‫‪ -‬انزواء الفكر الديني بعد انتصار الفكر العقالني الذي ُينعت باملوضوعي؛‬
‫‪ -‬ظهور كتابات لعديد من املؤلفين تدعم هذا التحول وتدعوا الدولة إلى قيادته خدمة ملصلحتها‬
‫وملصلحة التجار التي تصب في النهاية في مصلحة املجتمع؛‬
‫‪ -‬اهتمام الفكر امليركانتيلي باكتساب األمة للثروة عبر مراكمة املعادن النفيسة‪ ،‬بإعطائه األولوية‬
‫للتجارة الخارجية وتوجيه النشاط االقتصادي للتوسع في التصدير من أجل تحقيق تلك الغاية؛‬
‫ُ‬
‫‪ -‬تضرر بعض القطاعات االقتصادية من السياسات امليركانتيلية التي طبقت في بعض البلدان‬
‫وخاصة فرنسا‪ ،‬وما أدى إليه من ظهور لفكر جديد مناهض للفكر امليركانتيلي عرف بالفكر‬
‫الفيزيوقراطي؛‬
‫‪ -‬انتقاد الفيزيوقراط للمفهوم امليركانتيلي للثروة وللسياسات الحكومية التي تتدخل كثيرا في الشأن‬
‫االقتصادي‪ ،‬ودعوتهم للحرية االقتصادية واحترام النظام الطبيعي؛‬
‫‪ -‬مغاالة الفيزيوقراط في تفضيلهم للنشاط الزراعي ولإلنتاج الطبيعي‪ ،‬التي كانت سببا في انحسار‬
‫فكرهم االقتصادي رغم إسهاماتهم الثمينة في هذا املجال‪ ،‬والتي كان من أبرزها دعوتهم لتحرير‬
‫النشاط االقتصادي من تدخل الدولة‪.‬‬

‫املبحث األول‪ :‬الفكراالقتصادي عند امليركانتيليين‬

‫‪21‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫ظهر في أوربا الغربية خالل الفترة املمتدة من القرن الخامس عشر إلى غاية النصف األول من القرن‬
‫الثامن عشر فكر اقتصادي جديد أطلق عليه "الفكر امليركانتيلي" أو الفكر التجاري‪ .‬وقد تزامن ظهور هذا‬
‫الفكر مع تفكك املجتمع اإلقطاعي وازدياد نفوذ التجار وقوتهم في املجتمعات الغربية باإلضافة رسوخ‬
‫كيان السلطة املركزية وظهور الدولة القومية‪ .‬وبفضل مكانة التجار النافذة في املجتمع الجديد صار‬
‫َ‬
‫بإمكانهم أن ُيؤ ِّثروا في السياسة االقتصادية للدولة ويجعلوها في خدمة مصالحهم خصوصا بعد ما وجد‬
‫امللوك مصلحتهم في التحالف معهم ضد أسياد املقاطعات داخل ممالكهم‪ .‬وسنتعرض في تناولنا للفكر‬
‫االقتصادي عند امليركانتيليين في هذا املبحث إلى السمات العامة للفكر امليركانتيلي وإلى أهم األفكار التي‬
‫كان ينادي بها هؤالء قبل أن ننتهي إلى إعطاء تقييم عام للفكر امليركانتيلي من خالل إبراز أهم النقاط‬
‫اإليجابية التي سجلت له والنقاط السلبية التي سجلت عليه‪.‬‬
‫السمات التي ّ‬
‫تميزبها‪.‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬ظهورالفكرامليركانتيلي و أبرز ّ‬

‫في ظل التغيرات التي أشرنا إليها في املطلب السابق‪ ،‬بدأت تظهر في املجتمع األوربي‪ ،‬وبعد صراع طويل‬
‫مع الكنيسة التي كانت تتمسك باملرجعية الدينية في مختلف القضايا الفكرية‪ ،‬فئات من العلماء واملفكرين‬
‫والفالسفة يعتمدون في تناولهم ملختلف القضايا على العقل بالدرجة األولى‪ ،‬وال يقفون أبدا عند الحدود‬
‫التي تضعها النصوص واألحكام الدينية‪ .‬من بين هؤالء املفكرين ظهر كتاب عديدون ركزوا اهتمامهم على‬
‫إبراز أهمية التوسع في النشاط التجاري الخارجي وفائدته في زيادة ثروة الدولة وقوتها‪ ،‬متخذين من ذلك‬
‫هدفا أوليا ألفكارهم‪ .‬وقد أطلق آدم سميث فيما بعد على هؤالء الكتاب اسم"امليركانتيليين" أي املناصرين‬
‫ألولوية النشاط التجاري على بقية النشاطات االقتصادية األخرى‪.‬‬
‫من أهم السمات التي تميز بها الفكر امليركانتيلي نورد هنا ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬تخلي هذا الفكر عن املرجعية الدينية وتحرره منها بشكل كلي‪ ،‬حيث لم يعد مفكرو هذا التيار‬
‫ملتزمين في تفكيرهم باألحكام الدينية التي كانت سائدة في السابق‪ ،‬كما لم يعد تفكيرهم يدور حول‬
‫اهتمامات عقائدية أو أخالقية‪ ،‬وإنما يهتم أساسا باملصالح الدنيوية للمجتمع خاصة منها ما كان‬
‫يتعلق باملجالين التجاري‪ .‬وقد اعتبر البعض أن الفكر التجاري كان يعتمد على نفس املنطق الذي‬
‫كان يعتمد عليه ميكيافيلي في املجال السياس ي‪.‬‬
‫‪ -‬تركيز الفكر امليركانتيلي اهتمامه على هدف أساس ي هو تحقيق قوة الدولة ووحدتها وزيادة ثروتها‬
‫من خالل زيادة ثروة تجارها؛‬
‫‪ -‬اهتمامه الشديد بالثروة في صورتها املتمثلة في املعادن النفيسة وتركيزها بالتالي على مراكمتها؛‬

‫‪22‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫‪ -‬اهتمامه الكبير بالجوانب العملية للسياسة االقتصادية للدولة بغرض تحقيق األهداف املشار‬
‫إليها وجعل الدراسات التي يقوم بها للظواهر االقتصادية وسيلة لذلك‪ .‬فاملالح " أن مجموع‬
‫أفكار التجاريين كان وليد الحاجة العملية‪ ،‬بمعنى أنهم قدموا مجموعة من التوصيات العملية‬
‫املالئمة للظروف القائمة في ذلك الحين‪ ،‬ولم تكن هذه التوصيات في األغلب من األحوال نتيجة‬
‫بحث تحليلي نظري إال في حاالت قليلة"‪ ،‬الش يء الذي يفتقدون لصفة الريادة فيما يتعلق بنشأة‬
‫علم االقتصاد‪،‬‬
‫‪ -‬لم يشكل هذا التيار مدرسة فكرية قائمة بذاتها حيث لم يكن له أستاذ قائد وكتاب مرجع‬
‫باإلضافة إلى وجود تالميذ تا بعين‪ ،‬وذلك ألسباب متنوعة منها على الخصوص امتداده على فترة‬
‫طويلة من الزمن تجاوزت ثالثة قرون‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬أهم األفكاراالقتصادية التي جاء بها امليركانتيليون‪.‬‬

‫في إطار اهتمامهم الدائم بقضايا الثروة وقوة الدولة‪ ،‬كان املفكرون امليركانتيليون يركزون على جملة من‬
‫األفكار والقضايا أولوها أهمية خاصة ألثرها في تحقيق هدفهم املراد‪ .‬من تلك األفكار نورد هنا ما يلي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬الثروة واملعادن النفيسة‪.‬‬

‫يعتقد امليركانتيليون أن الثروة هي قوام الدولة القوية‪ ،‬ولذلك يجب على هذه األخيرة أن تسعى‬
‫باستمرار لتشجيع اإلكثار من جمعها ومراكمتها‪ .‬وبالنظر إلى أهمية الذهب والفضة خالل بداية مرحلة‬
‫التوسع التجاري األوربي‪ ،‬فإن امليركانتيليين‪ ،‬وخاصة األوائل منهم‪ ،‬كانوا يعتقدون أن الثروة تتمثل في‬
‫املعادن النفيسة‪ .‬ويفسر ذلك باعتبار أن امتالك الذهب والفضة كان ولقرون طويلة عالمة ومظهرا‬
‫المتالك الثروة عند األفراد‪ ،‬وكذلك على مستوى الدول‪ .‬فكتاب القرنين السادس عشر والسابع عشر كانوا‬
‫في عمومهم يعتبرون مراكمة الثروة النقدية املتمثلة في الذهب والفضة هدفا في حد ذاته‪ .‬على أن األمر‬
‫يظل مشوبا دائما ببعض الغموض في ظل قلة ضبط املصطلحات املستخدمة من طرف كتاب تلك‬
‫الحقبة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬إعطاء األولوية للتجارة الخارجية‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫بالنظر إلى االهتمامات الكبرى للميركانتيليين‪ ،‬فإن التجارة الخارجية تأتي في مقدمة األنشطة‬
‫االقتصادية التي كانوا ينادون بتشجيعها‪ ،‬وذلك لكونها مرتبطة مباشرة بإمكانيات تدفق املعادن النفيسة‬
‫إلى البالد بشكل مستمر‪ .‬فحرص الكتاب امليركانتيليين على ضرورة مراكمة الذهب والفضة على مستوى‬
‫البلد جعلهم يؤكدون على أولوية التجارة الخارجية‪ ،‬التي كانت تمثل الوسيلة األنسب للحصول على تلك‬
‫املعادن‪ .‬ثم تأتي الصناعة في الدرجة الثانية من األهمية وذلك بما تستطيع توفيره من منتجات قابلة‬
‫للتصدير والتصريف في أسواق مختلف البلدان األخرى‪ .‬أما الزراعة فتأتي في املرتبة األخيرة لقلة مساهمتها‬
‫في الصادرات وتدني قيمة منتجاتها على العموم‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬ضرورة تدخل الدولة في النشاط االقتصادي‪.‬‬


‫نادى امليركانتيليون بضرورة تدخل الدولة في النشاط االقتصادي لضمان ما كانوا يسمونه "بالحرية‬
‫االقتصادية" التي كانت تعني لديهم تحجيم الطبقة األرسطوقراطية‪ ،‬مطالبين في نفس الوقت بمنحهم‬
‫بعض االمتيازات واالحتكارات ومساعدتهم في تطوير وحماية نشاطاتهم‪ .‬فامليركانتيليون كانوا يرون أنه يجب‬
‫على الدولة أن تتولى اإلشراف على سير األنشطة االقتصادية وإيجاد الظروف املواتية للتجار ليقوموا‬
‫بجلب املعادن النفيسة إلى داخل البالد‪ ،‬بما تتبناه من إجراءات في مجاالت الضرائب والرسوم والقوانين‬
‫املتعلقة بالعمل وحتى بمعايير اإلنتاج‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬امليزان التجاري الرابح‪.‬‬


‫ُ‬
‫ظهرت فكرة "امليزان التجاري" على يد رجل املال االنكليزي توماس غريشام في كاتبه الذي نشر سنة‬
‫‪ .1851‬ومفادها أن زيادة ثروة البلد تقتض ي أن يكون ميزانها التجاري رابحا‪ ،‬أي أن تكون قيمة صادراته‬
‫املعبر عنها بالذهب تتجاوز قيمة وارداته‪ ،‬ألن هذا الفرق هو الذي يسمح بحدوث التدفق املراد من املعادن‬
‫النفيسة من الخارج إلى الداخل‪.‬‬
‫وبسبب اعتبارهم الثروة ممثلة في املعادن النفيسة واعتمادهم على التجارة الخارجية في جمعها‪ ،‬فإن‬
‫امليكانتيليين كانوا في التبادل على املستوى الدولي لعبة ذات مجموع صفري‪ ،‬بمعنى أن ما يربحه أحد‬
‫أطراف "اللعبة التجارية" يخسره حتما الطرف اآلخر‪ .‬فكميات الذهب في العالم محدودة وما أخذه أحد‬
‫البلدان منها يكون بالضرورة على حساب البقية‪.‬‬
‫وقد عرفت السياسة امليركانتيلية املعتمدة فيما يتعلق بامليزان التجاري ثالث مراحل تمثلت في‪:‬‬

‫‪24‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫‪ -‬املرحلة األولى‪ :‬حظر خروج الذهب حظرا مطلقا وضمان تحقيق ذلك من خالل املراقبة املباشرة‬
‫على عمليات االستيراد والتصدير؛‬
‫‪ -‬املرحلة الثانية‪ :‬التخلي عن الرقابة املباشرة على عمليات التصدير واالستيراد املنفردة واالكتفاء‬
‫بالرقابة غير املباشرة على مجموع العمليات مع كل دولة للتأكد من تحقيق فائض تجاري معها؛‬
‫َ‬
‫‪ -‬املرحلة الثالثة‪ :‬تبني املفهوم الحديث للميزان التجاري حيث لم تعد هناك حاجة لتحقيق فائض‬
‫تجاري مع كل دولة على انفراد بل يكفي أن تكون قيمة الصادرات اإلجمالية أكبر من الواردات‬
‫اإلجمالي‪.‬‬
‫ومن أجل تحقيق ميزان تجاري رابح اقترح التجاريون جملة من التدابير االقتصادية تتلخص أهمها في‪:‬‬
‫‪ -‬تشجيع الصادرات من املنتجات ذات القيمة املضافة املرتفعة كما يقال في عصرنا لزيادة عوائد‬
‫التصدير؛‬
‫‪ -‬منع تصدير املواد األولية أو املنتجات نصف املصنعة قدر اإلمكان من أجل تصنيعها محليا؛‬
‫‪ -‬الرفع من القدرة التنافسية للمنتجات املحلية على املستوى الدولي بتخفيض تكاليف اإلنتاج بما‬
‫فيها أجور العمال وبتحسين مستويات الجودة؛‬
‫‪ -‬اللجوء إلى الحماية الشديدة للمنتجات املحلية بفرض الرسوم الجمركية على الواردات أو تحديد‬
‫كميات بعضها أو منع بعضها اآلخر‪ ،‬وما إلى ذلك من اإلجراءات‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬النقود‪.‬‬
‫لم يمنع تركيز الكتاب امليركانتيليين على املعادن النفيسة‪ ،‬باعتبارها الش يء املجسد للثروة‪ ،‬بعضا‬
‫منهم من ربط ظاهرة ارتفاع األسعار في أوربا خالل القرن السادس عشر بزيادة كمية النقود املتداولة‪ .‬وقد‬
‫كان الفضل في ذلك للمفكر الفرنس ي "جان بودان" (‪ )1851-1851‬الذي أرجع سبب تلك الظاهرة بشكل‬
‫أساس ي إلى وفرة الذهب والفضة‪ ،‬فقدم بذلك صورة أولية للنظرية الكمية للنقود‪ .‬ثم جاء "جون لوك"‬
‫بعد ذلك وبين في سنوات ‪" 1151‬أن األسعار تتغير وفقا لعالقة دقيقة مع كمية النقود املتداولة"‪ .‬وبناء‬
‫على ذلك صار باإلمكان استشفاف عدم جدوى امليزان التجاري الرابح لفترة طويلة‪ ،‬ألن ارتفاع أسعار‬
‫املنتجات املحلية‪ ،‬بسبب تدفق املعادن النفيسة إلى الداخل‪ ،‬يؤدي في النهاية إلى تراجع الصادرات وزيادة‬
‫الواردات ومن ثمة إلى خروج تلك املعادن من أجل تسديد العجز الحاصل في امليزان التجاري‪.‬‬

‫‪25‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفرع الخامس‪ :‬السكان‪.‬‬
‫دعا امليركانتيليون إلى اتخاذ مختلف التدابير من أجل زيادة عدد السكان‪ ،‬بتشجيع الزواج املبكر وجلب‬
‫العمال املهرة من الخارج مثال‪ ،‬من أجل تعزيز اإلمكانيات اإلنتاجية للبالد من خالل زيادة عدد أفراد‬
‫الفئات املنتجة وكذلك من أجل زيادة القدرات العسكرية التي تمثل القوة الضاربة للدولة‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬األشكال الرئيسية للميركانتيلية التي اعتمدت في بعض البلدان األوربية‪.‬‬
‫ميز املؤرخون عدة أشكال من امليركانتيلية التي طبقت في البلدان األوربية يتمثل أهمها في الثالثة‬
‫التالية‪:‬‬
‫أوال‪ :‬امليركانتيلية املعدنية (اسبانيا)‬
‫تولي امليركانتيلية املعدنية اهتماما شديدا بمراكمة املعادن النفيسة باعتبارها ثروة في حد ذاتها‪ ،‬وقد‬
‫مثل هذا االتجاه اململكة االسبانية في تلك الفترة والتي حرصت بشدة على تحقيق دخول كميات كبيرة من‬
‫الذهب إلى البالد مستفيدة من مناجم الذهب الغنية املكتشفة في مستعمراتها في أمريكا الجنوبية‪ ،‬كما‬
‫قامت باملقابل بمنع خروجه بمختلف الوسائل بما فيها اللجوء إلى العقوبات القاسية‪.‬‬
‫غير أن تلك السياسة كانت لها عواقب وخيمة على اقتصاد البالد بسبب ما أدت إليه من ارتفاع كبير في‬
‫أسعار املنتجات املحلية وتراجع كبير في قدرتها على املنافسة الخارجية‪ ،‬وتسرب كبير للذهب في النهاية إلى‬
‫البلدان األوربية األخرى‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬امليركانتيلية الصناعية ( فرنسا )‪.‬‬


‫اختارت فرنسا بسبب الضعف النسبي لتجارتها الخارجية وعدم توفرها على مستمرات غنية‬
‫بمناجم الذهب اللجوء إلى رفع القدرات اإلنتاجية الصناعية املحلية بهدف توجيه منتجاتها إلى التصدير‬
‫ومن ثم الحصول على املعادن النفيسة‪ .‬وقد كان لهذا التدخل الحكومي أثر إيجابي كبير في نشأة وتطور‬
‫القطاع الصناعي في االقتصاد الفرنس ي‪ ،‬مع كل ما رافق ذلك من اتخاذ إلجراءات متنوعة كان الهدف منها‬
‫تشجيع التصدير وتخفيض تكاليف اإلنتاج والحد من االستيراد‪.‬‬

‫الفرع الثالث‪ :‬امليركانتيلية التجارية (انكلترا)‪.‬‬


‫ركز هذا الشكل من امليركانتيلية على التوسع الكبير في التجارة الخارجية‪ ،‬وقد أخذت بهذا االتجاه‬
‫انجلترا التي كانت تتوفر على أسطول تجاري كبير وتسيطر على مستعمرات واسعة‪ .‬وبفضل استفادتها من‬

‫‪26‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫األسواق الخارجية الكبيرة وسيطرتها على النقل البحري استطاعت انجلترا أن تحقق نموا صناعيا غير‬
‫مسبوق خصوصا بعد الثورة الصناعية التي كانت هي مهدها األول‪.‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬تقييم الفكرامليركانتيلي‪.‬‬


‫اشتمل الفكر امليركانتيلي على كثير من الجوانب اإليجابية ولكنه باملقابل لم يسلم من بعض‬
‫الجوانب السلبية‪.‬‬

‫أوال‪ :‬الجوانب اإليجابية‪.‬‬


‫‪ -‬اهتمام امليركانتيليين بدعم الدولة املركزية وتقويتها وما كان لذلك من أثر كبير في تكامل‬
‫اقتصاديات تلك الدول ونموها ونتوعها؛‬
‫‪ -‬اهتمامهم بالتوسع في األنشطة التجارية والصناعية وكل ما انجر عن ذلك من زيادة كبيرة في‬
‫استخدام النقود وظهور البنوك والبورصات وشركات التأمين وغيرها؛‬
‫‪ -‬إبرازهم لفكرة امليزان التجاري وألهمية العالقات االقتصادية بالخارج؛‬
‫‪ -‬إبرازهم للعالقة بين مستوى األسعار وكمية النقود؛‬
‫‪ -‬تبنيهم لسياسة اقتصادية تدخلية تلقي على الدولة مهمة اإلشراف على تنمية وتطوير االقتصاد‬
‫باستخدام كل الوسائل املتاحة لذلك في ظل احترام امللكية الخاصة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الجوانب السلبية‪.‬‬


‫‪ -‬حصر املفكرين التجاريين‪ ،‬وخاصة األوائل منهم‪ ،‬الثروة في املعادن النفيسة وتركيزهم الشديد على‬
‫مراكمتها؛‬
‫‪ -‬تسبب بعض سياساتهم االقتصادية في إحداث آثار سلبية على بعض الجوانب االقتصادية منها‬
‫على سبيل املثال االرتفاع الشديد في األسعار الذي حدث في اسبانيا وتردي أوضاع القطاع الزراعي‬
‫في فرنسا؛‬
‫‪ -‬إضرار السياسات امليركانتيلية باملستعمرات التي سيطرت عليها البلدان األوربية نتيجة لالنفتاح‬
‫التجاري اإلجباري الذي فرض عليها و سياسات االحتكار التي مورست ضد مصالحها‪.‬‬

‫‪27‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬الفكراالقتصادي الفيزيوقراطي‬

‫ظهرت املدرسة الفيزيوقراطية بفرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بقيادة الدكتور‬
‫فرانسوا كيناي‪ ،‬طبيب امللك لويس الخامس عشر‪ .‬وقد كان ذلك كرد فعل ملا سببته األفكار امليركانتيلية‬
‫من آثار سلبية على النشاط الزراعي بهذا البلد نتيجة إعطاء الحكومة األولوية للتجارة والصناعة‪ .‬لكن‬
‫ظهور املدرسة الجديدة جاء أيضا في سياق التطور الفكري والفلسفي الكبير الذي شهدته البلدان األوربية‬
‫خالل القرن الثامن عشر الذي أطلقوا عليه "عهد األنوار"‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬الفيزيوقراط وأهم األفكارالتي كانوا ينادون بها‪.‬‬


‫الفيزيوقراط هم فريق من املفكرين واملصلحين االجتماعيين الفرنسيين تحت قيادة "فرانسوا‬
‫كيناي" (‪ ،) 1771-1151‬طبيب امللك لويس الخامس‪ .‬وقد كان هؤالء مهتمين بإدخال إصالحات في فرنسا‪،‬‬
‫التي كانت تعاني من تدهور في الوضع االقتصادي واالجتماعي نجم عن أسباب مرتبطة أساسا بالنظام‬
‫اإلقطاعي وبالرأسمال التجاري‪ ،‬أي بالصراع الذي كان موجودا بين طبقة مالك األراض ي وطبقة التجار‪.‬‬

‫أوال‪ :‬النظام الطبيعي‪.‬‬


‫يعتقد الفيزيوقراط أن العالم محكوم بقوانين عامة وثابتة ال تتغير‪ ،‬وأن هذه القوانين ال تقتصر‬
‫على العالم الطبيعي وإنما تشمل أيضا العالم اإلنساني‪ ،‬كما أنها تسري من تلقاء نفسها دون أي حاجة‬
‫لتدخل اإلنسان‪ .‬وبناء عليه يكون على الدولة التي تقوم بإصدار القوانين املنظمة لشؤون املجتمع أن‬
‫تتوافق في ذلك مع القوانين الطبيعة السارية املفعول‪ ،‬إذ أن هذه القوانين الطبيعية يمكن اكتشافها‬
‫باالعتماد على البحث العلمي‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الحرية االقتصادية‪.‬‬


‫وفقا العتقاد الفيزيوقراط‪ ،‬فإن النظام الطبيعي يقوم على ضمان الحرية الشخصية لألفراد‬
‫وخاصة ما تعلق منها بالنشاط االقتصادي‪ .‬وهم يرون أن تدخل الحكومة كما كان ينادي به امليركانتيليون‬
‫يخل بالسير الطبيعي للحياة االقتصادية‪ ،‬ولذلك دعوا إلى ضرورة فتح املجال للحرية االقتصادية رافعين‬
‫شعارهم املشهور "دعه يعمل‪ ،‬دعه يمر"‪.‬‬
‫ومن مقتضيات هذه الحرية االقتصادية أن ال تقوم الدولة بفرض ضرائب عالية على األفراد وأن ال‬
‫تضع قيودا تعيق الحركة الطبيعية للنشاط االقتصادي‪ ،‬كما ال يكون لها أن تحدد األجور أو األسعار أو‬
‫معدالت الفائدة أو الربح‪ ،‬أو تمنح احتكارا ألنشطة تجارية إلى بعض رجال األعمال على حساب آخرين‪ .‬بل‬

‫‪28‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫يكون على الدولة أن تتفرغ لفرض احترام القانون وحف األمن والدفاع عن الحدود وتوفير الخدمات‬
‫العمومية التي ال يستطيع توفيره غيرها‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬الثروة واإلنتاج الصافي‪.‬‬


‫لم يعط الفيزيوقراط مكانة متميزة للمعادن النفيسة في تناولهم ملوضوع الثروة‪ ،‬حيث اعتبروا أن‬
‫ثروة األمة هي حصيلة العملية ا إنتاجية وليس التجارية‪ .‬واإلنتاج عند الفيزيوقراط هو "كل عمل من شأنه‬
‫أن يخلق ناتجا جديدا"‪ ،‬أي ناتجا صافيا يفوق ما بذل في إنتاجه من تكاليف‪ .‬وقد جر هذا التصور‬
‫الفيزيوقراط إلى اعتبار الزراعة النشاط الوحيد املنتج‪ ،‬واعتبار الصناعة والتجارة نشاطين عقيمين ألنها‬
‫تقتصران حسبهم على العمل التحويلي أو التداولي فقط‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الجدول االقتصادي‪.‬‬


‫يعتبر الكثير من االقتصاديين أن فرانسوا كيناي جاء بفكرة غير مسبوقة بتقديمه لتصور كلي‬
‫للنشاط االقتصادي في الدولة من خالل نموذج هو عبارة عن جدول يبزر املكونات الرئيسية لذلك‬
‫النشاط والتدفقات التي تحدث فيه‪ ،‬متأثرا في ذلك بخلفية تكوينه الطبي عن جسم اإلنسان وتدفق الدم‬
‫وعملية التداول التي تتم بين األعضاء من خالله‪ .‬حيث اعتبر كيناي أن املجتمع مكون من ثالث طبقات هي‪:‬‬
‫طبقة املزارعين وطبقة مالك األراض ي وطبقة الصناعيين والتجار‪ ،‬وأن الثروة املنتجة تتداول بين هذه‬
‫الطبقات الثالث على نحو حاول بيانه من خالل الجدول أو النموذج الذي قدمه‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬الضريبة الوحيدة‪.‬‬


‫نتيجة العتبار الفيزيوقراط أن األرض هي املصدر الوحيد املنتج للثروة‪ ،‬فإن هؤالء دعوا إلى اقتصار‬
‫الضريبة على الناتج الصافي وحده وإلغاء الضرائب املفروضة على الطبقات األخرى‪ .‬وقد اعتقدوا أن هذا‬
‫اإلجراء يقلل من نفقات الجباية ومن اآلثار السلبية للضرائب على النشاط االقتصادي‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬تقييم الفكرالفيزيوقراطي‪.‬‬


‫خطا الفكر االقتصادي بفضل جهود املفكرين الفيزيوقراط خطوات إيجابية جد هامة جعلت البعض‬
‫يرجع إليهم فضل ظهور علم االقتصاد نفسه‪ ،‬لكنها سجلت عليهم باملقابل مآخذ عديدة غير هينة‪.‬‬

‫أوال‪ :‬العناصراإليجابية في الفكرالفيزيوقراطي‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫‪ -‬نقدهم ملفهوم الثروة الذي كان يتبناه امليركانتيليون وإعطاؤهم األهمية األساسية في هذا الشأن‬
‫لإلنتاج؛‬
‫‪ -‬دعوتهم لتأسيس النظام االقتصادي على الحرية واحترام حقوق األشخاص خاصة ما يتعلق منها‬
‫بامللكية وإلى حصر تدخل الدولة في مجاالت معينة فقط؛‬
‫‪ -‬دعوتهم لتحرير النشاطات االقتصادية من االحتكارات التي سببتها االمتيازات املتنوعة املمنوحة‬
‫لبعض الشركات ورجال األعمال باستنادهم إلى فكرة القانون الطبيعي؛‬
‫‪ -‬ابتداعهم للجدول االقتصادي الذي فتح املجال الحقا الستخدام النماذج في التعبير عن كثير من‬
‫الجوانب املتعلقة بالظواهر االقتصادية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬املآخذ املسجلة على الفكرالفيزيوقراطي‪.‬‬


‫‪ -‬كانت فكرتهم عن اإلنتاج قاصرة وذات طابع مادي‪ ،‬بحيث جلب إليهم ذلك انتقادا شديدا‬
‫خصوصا بعدما أدت بهم تلك الفكرة إلى اعتبار النشاطات الصناعية والتجارية نشاطات عقيمة؛‬
‫‪ -‬اقتراحهم نظام الضريبة الوحيدة الذي ال يتفق مع مبدإ العدالة في توزيع األعباء الضريبية بين‬
‫مختلف فئات املجتمع؛‬
‫مخالفة اعتقاد الفيزيوقراط بشأن وجود قوانين طبيعية ثابتة ومطلقة تحكم الظواهر‬ ‫‪-‬‬

‫االقتصادية للواقع‪ ،‬ألن تلك الظواهر تتأثر في الحقيقة بالتطورات االجتماعية املختلفة‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫املـ ـ ـدرس ـ ـ ـ ـ ـ ـة الـ ـكالس ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـكـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـة‬

‫سيكون بإمكان الطالب بعد دراسته لهذا الفصل أن يتبين ويفهم ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬شهود البلدان الور ية الغر ية‪ ،‬منذ نهاية القرن الثامن عشر‪ ،‬ثورة صناعية لم يسبق لها مثيل‪،‬‬
‫كانت لها آثار كبيرة جدا على إنتاجية العمل بكافة قطاعات النشاط؛‬
‫‪ -‬اكتمال االقتصاديات الوطنية الور ية الغر ية‪ ،‬وخاصة‪ ،‬االقتصاد البريطاني‪ ،‬وما نجم عنه من‬
‫اعتياد على الضبط السوقي ملختلف النشاطات االقتصادية؛‬
‫‪ -‬صدور كتاب "ثروة المم" لألسكتلندي آدم سميث‪ ،‬الذي تميز بتناوله للنشاط االقتصادي‬
‫بمنظور أشمل مما كان عليه المر عند امليركانتيليين و الفيزيوقراط‪ُ ،‬م ِّركزا اهتمامه على الثروة‬
‫وسبل الزيادة في إنتاجها و يان السس واآلليات التي يقوم عليها النظام االقتصادي اجدديد؛‬
‫‪ -‬التحاق مفكرين آخرين بآدم سميث‪ ،‬بقبولهم لعموم ما جاء به‪ ،‬و تقديمهم ملساهمات فكرية‬
‫مهمة إضافية كان لها أثر كبير في تشكيل نظرية شاملة عن النشاط االقتصادي وآليات سيره؛‬
‫‪ -‬ظهور مدرسة اقتصادية سميت فيما بعد بالكالسيكية تقوم على جملة من املبادئ التي من أهمها‬
‫احترام امللكية اجخاصة‪ ،‬حرية املنافسة‪ ،‬االعتماد على آلية العرض والطلب‪ ،‬عدم تدخل الدولة في‬
‫النشاط االقتصادي وتركيز اهتمامها على القيام بمهمة الدفاع وضمان المن واجحفاظ على‬
‫اجحقوق عبر جهاز قضائي كفؤ وعادل‪ ،‬باإلضافة إلى تقديم اجخدمات العمومية التي ال تتالءم‬
‫بطبيعتها مع آلية السوق؛‬
‫‪ -‬تقديم مفكري املدرسة الكالسيكية لنظريات عديدة خصت مجاالت مختلفة حاول من خاللها‬
‫أصحابها أن يقدموا تفسيرات وافية لها ويدعموا جملة املبادئ التي توافقوا عليها‪.‬‬

‫‪31‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫لسمات والفكارالعامة للمدرسة الكالسيكية‪.‬‬
‫املبحث الو ‪ :‬ا ِّ‬

‫استطاعت املدرسة الكالسيكية أن تقدم تصورا كليا للنظام االقتصادي وتفسيرا آلليات سيره‪،‬‬
‫معتمدة على منهج موضوعي جعل منها مبدأ نشأة علم االقتصاد نفسه‪ .‬فمن أبرز ما ميز هذه املدرسة عدم‬
‫استنادها إلى االعتبارات الخالقية أو السياسية في تناولها للقضايا املتعلقة بالنشاط االقتصادي‪ ،‬إذ‬
‫استهدفت بشكل أساس ي دراسة الظواهر االقتصادية على ما هي عليه في الواقع‪ ،‬من أجل تقديم تفسيرات‬
‫"علمية" ملسبباتها وتطوراتها "الطبيعية"‪ ،‬أي تفسيرات منطقية موضوعية وحيادية للعوامل املكونة‬
‫للظواهر املدروسة في تفاعالتها البينية الذاتية بعيدا عن أي مؤثر خارجي‪ .‬وتكمن الفائدة من ذلك‪،‬‬
‫بطبيعة اجحال‪ ،‬في إتاحة فهم صحيح للنشاط االقتصادي ومن ثم فتح املدال للتعامل معه بأنسب‬
‫الوسائل والطرق‪ ،‬للوصول إلى تحقيق أعلى النتائج في جوانبه املختلفة‪.‬‬
‫وقد استندت املدرسة الكالسيكية في هذا اإلطار إلى فكرة "النظام الطبيعي"‪ ،‬باعتباره املحدد‬
‫الساس ي للتفاعالت اجحادثة بين مختلف عناصر النشاط االقتصادي‪ ،‬و كونه نظاما تحكمه قواعد دائمة‬
‫تتعلق بالطبيعة الذاتية لتلك العناصر‪ .‬وهي فكرة تعود في الصل إلى عهود سابقة وكانت بمثابة حدز‬
‫الزاوية في الفكر االقتصادي الفيزيوقراطي‪.‬‬
‫ومن أبرز القضايا أو املسائل التي اعتبرت من مكونات النظام الطبيعي عند االقتصاديين الكالسيك‬
‫وجود الدولة وكذلك إقرار امللكية اجخاصة‪ .‬أي أن التطور الذي شهده املدتمع اإلنساني‪ ،‬ونتج عنه ظهور‬
‫للدولة وإقرار اجتماعي بحق الفراد في اختصاصهم بحيازة أشياء أو أصول دون غيرهم‪ ،‬اعتبر في حد ذاته‬
‫طبيعيا‪ ،‬أي متوافقا مع الطبيعة البشرية في كال جانبيها النفس ي واالجتماعي‪ ،‬على الرغم من الصراع‬
‫االجتماعي الذي يحدث عادة خالل هذه التحوالت‪.‬‬
‫فوجود الدولة ضرورة ال بد منها في البناء االجتماعي الذي تبلغ فيه اجحياة البشرية مستوى معينا من‬
‫التطور‪ ،‬وقد اعتبر بعض االقتصاديين الكالسيك أن تأسيسها كان من أجل حماية ممتلكات الفئة املالكة‬
‫ضد تجاوزات الفئة غير املالكة‪ .‬وما يجب التأكيد عليه في هذا املدال هو أن دور الدولة يقتض ي املحافظة‬
‫على مختلف اجحقوق التي يقرها املدتمع ملختلف فئاته وأفراده‪ ،‬ومن بين تلك اجحقوق حماية امللكية‬
‫اجخاصة‪.‬‬
‫وامللكية اجخاصة‪ ،‬سواء لصول تستخدم لغراض شخصية‪ ،‬أو لصول تستخدم كرأسمال إنتاجي‬
‫ُ‬
‫ُيعتمد في تثميره على العمل املأجور لشخاص ال ملكية لهم‪ ،‬تبرر بما ُبذل في سبيل اجحصول عليها من عمل‬

‫‪32‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫سابق‪ ،‬بصفة مباشرة أو غير مباشرة‪ ،‬كما تبرر أيضا بما تسمح به من تحفيز على بذل املزيد من اجدهد من‬
‫طرف أصحابها وما ينتج عن ذلك من تطور اجتماعي وتحضر إنساني‪.‬‬
‫ُ‬
‫في نفس السياق َيعتبر كتاب املدرسة الكالسيكية أن املصلحة الشخصية هي املحرك الساس ي‬
‫لألفراد في مختلف معامالتهم مع غيرهم؛ بل يعتبرون‪َ ،‬ب ْع َد "بيرنار مانفيل" )‪ ،(Bernard Mandeville‬أن‬
‫النانية واجدشع واجحرص على جمع الثروة‪ ،‬التي اعتبرت سلوكات غير حميدة في النظام الخالقي الديني‬
‫املسيحي‪ ،‬من شأنها أن تساهم في بناء اقتصاد متين ومزدهر‪ .‬فهم يعتقدون أن "الفرد في سعيه لتحقيق‬
‫مصلحته الذاتية‪ ،‬فإنه يحقق في الوقت نفسه املصلحة العامة دون قصد منه أو دون أن يكون ذلك من‬
‫تدبيره"‪ ،‬وهو ما أشار إليه "آدم سميث" من خالل عبارته املشهورة ب ـ ــ"اليد اجخفية"‪.‬‬
‫و التوازي مع التحقق الذاتي للمصلحة العامة في ظل هذه الشروط‪ ،‬يتحقق أيضا‪ ،‬وفقا للفكر‬
‫الكالسيكي‪ ،‬التوازن االقتصادي الكلي واالستغالل الكامل للموارد‪ .‬وذلك بفضل آلية العرض والطلب التي‬
‫تؤدي من خالل عملها اجحر إلى استقرار السعار في مستويات توازنية تتقابل فيها إمكانيات العرض مع‬
‫قدرات الطلب في مختلف السواق‪ .‬فباإلضافة إلى العالقة العكسية بين العرض والطلب على مستوى‬
‫سوق كل سلعة على حدة‪ ،‬هناك أيضا حركات تعديل ذاتية يقوم بها رجال العمال من أجل توزيع‬
‫مشاريعهم على مختلف مجاالت االستثمار في بحث متواصل عن معدالت الر ح املدزية‪ ،‬مما يسمح‬
‫بانتشار النشاطات االقتصادية في مختلف املداالت التي توفر لهم مثل تلك املعدالت‪.‬‬
‫أما عن االستغالل الكامل للموارد‪ ،‬بما فيها من رأسمال وعمل‪ ،‬فإن ذلك يكون مضمونا في ظل حرية‬
‫املنافسة في مختلف السواق‪ .‬فالكالسيك يعتبرون أن السعار مرنة‪ ،‬أي قابلة بسهولة لالنخفاض‬
‫واالرتفاع تبعا لتغير مستويات العرض والطلب‪ ،‬ويعتقدون أن ذلك يؤدي بالضرورة إلى سهولة عودة‬
‫استقرار السوق في مستويات توازنية تمكن من استيعاب الكميات املعروضة سواء من املنتجات أو من‬
‫رؤوس الموال أو حتى من اليد العاملة‪.‬‬
‫وكلبنة متممة لهذا النظام الذي يسير بشكل آلي تتوج الفكر الكالسيكي أيضا بما عرف بـ ـ "قانون‬
‫ساي لألسواق"‪ ،‬الذي مفاده أن العرض الكلي للسلع واجخدمات يخلق طلبا كليا مكافئا له‪ ،‬بحيث ال يكون‬
‫هناك مجال لظهور أي فائض إنتاجي كلي ال يمكن تصريفه‪ .‬وذلك لن العملية اإلنتاجية‪ ،‬حسب "ساي"‪،‬‬
‫تنتج سلعا من جهة‪ ،‬ويترتب عنها دخول بقيمة تلك السلع‪ ،‬توزع على عوامل اإلنتاج املساهمة في إنتاجها‪،‬‬
‫من جهة أخرى‪ .‬فهناك دائما بالتالي قوة شرائية كافية لتصريف كل السلع املنتجة‪.‬‬
‫ويتوافق هذا التصور أيضا مع ما يعتقده الكالسيك بشأن النقود‪ ،‬إذ أنهم يعتبرونها حيادية وال تأثير‬
‫لها في النشاط االقتصادي عدا ما تقوم به كوسيط للتبادل‪ .‬فزيادة كمية النقود عندهم "ال ينجم عنها أي‬

‫‪33‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫تأثير في اجدانب اجحقيقي أو العيني لالقتصاد‪ ،‬بل سيقتصر تأثيرها في ارتفاع املستوى العام لألسعار‬
‫و النسبة ذاتها"‪ ،‬انسداما مع اعتقادهم بثبات سرعة تداول النقود في الجل القصير ومع اعتقادهم كذلك‬
‫بالتشغيل الكامل للموارد‪ .‬ومفاد ذلك أن السياسة النقدية عندهم "سياسة محايدة وال تؤثر بأي صورة‬
‫من الصور في مستوى التشغيل أو اإلنتاج أو حتى الجور اجحقيقية وأسعار الفائدة‪ ،‬ويقتصر دورها في‬
‫خلق النقود الالزمة إلجراء املعامالت"‪.‬‬
‫وفي ظل حيادية النقود‪ ،‬يرى الكالسيك أيضا أن تحرير املعامالت التجارية مع اجخارج تكون له آثار‬
‫إيجابية من حيث زيادة الثروة بالبلد املعني وكذلك بالبلدان املتعاملة معه‪ ،‬لن تلك املعامالت تفتح املدال‬
‫لتصريف املنتجات التي تفيض عن حاجة البلد محل االعتبار وحصوله على ما هو في حاجة إليه من‬
‫منتجات البلدان الخرى‪ ،‬سواء لنه ال يستطيع إنتاجها باملرة أو على القل ال يمكنه القيام بذلك بنفس‬
‫الكفاءة التي يتميز بها اآلخرون عليه‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬أبرزرواد الفكراالقتصادي الكالسيكي‪.‬‬

‫يأتي في مقدمة رواد الفكر االقتصادي الكالسيكي "آدم سميث" بما كان له من دوري تأسيس ي لهذا‬
‫التيار أو املدرسة‪ ،‬ثم يأتي بعده كل من "دافيد ريكاردو" و"رو يرت مالتس"‪ ،‬باإلضافة إلى كتاب آخرين‪.‬‬

‫املطلب الو ‪ :‬آدم سميث‪.‬‬


‫آدم سميث ( ‪ )3271 -3271‬هو مفكر اسكتلندي‪ ،‬تعلم في جامعتي كالسكو وأكسفورد‪ ،‬قبل أن‬
‫يصبح أستاذا للفلسفة والخالق بجامعته الولى كالسكو‪ .‬حصل على منحة من أحد الثرياء‪ ،‬من أجل‬
‫مرافقة وتكوين أحد أبنائه‪ ،‬أمض ى على إثرها سنتين في فرنسا‪ ،‬ثم تفرغ بعد ذلك للكتابة والتأليف‪ .‬اهتم‬
‫كثيرا بالدراسات االقتصادية وترك عدة مؤلفات من أشهرها كتاب "املشاعر الخالقية" وكتاب "ثروة‬
‫المم" الذين صدرا في ‪ 3277‬و ‪ 3221‬على الترتيب‪.‬‬
‫من أهم الفكار واملواضيع التي طرحها وتناولها "آدم سميث" في مجال الفكر االقتصادي نتعرض‬
‫هنا باختصار ملا يلي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬الساس النظري لفلسفة "آدم سميث"‪.‬‬


‫يستند "آدم سميث" في فكره االقتصادي إلى خلفية فلسفية تعتقد بوجود نظام طبيعي يحكم سير‬
‫النشاط االقتصادي‪ ،‬ويتميز بسالمته وأفضليته على أي نظام مصطنع آخر‪ .‬لكن مشاركته هذا االعتقاد‬
‫كثيرا من املفكرين الذين سبقوه تميزت‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬بتقديمه لنظرية خاصة باملشاعر الخالقية كان لها أثر‬

‫‪34‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫كبير في تبرير موقفه املطالب بترك قوى السوق تعدل بشكل ذاتي تدخالت املتعاملين‪ .‬ومفاد هذه النظرية‬
‫أن السلوك اإلنساني يخضع جدملة من البواعث النفسية من أبرزها حب الذات‪ ،‬التعلق باجحرية‪ ،‬والرغبة‬
‫ُ َ‬
‫أفضل َحكم على تقرير مصلحته اجخاصة‬ ‫في امللكية‪ ،‬وامليل إلى املبادلة؛ ليستخلص من ذلك أن الفرد هو‬
‫بنفسه‪ ،‬وليقرر بالتالي وجوب تركه حرا في سلوكه‪ ،‬أي من دون أي تدخل من أي جهة خارجية في اختياراته‬
‫االقتصادية بما فيها الدولة‪.‬‬
‫وانعكاس ذلك على املصلحة العامة يكون حسب سميث إيجابيا‪ ،‬لن الشخاص املدفوعين بالرغبة‬
‫في بلوغ مصاجحهم اجخاصة ال يصلون إلى تحقيق ذلك إال من خالل تقديمهم منتجات أو خدمات يستفيد‬
‫منها اآلخرون‪ ،‬وهو ما يعتبر تحقيقا ملصلحة عامة‪ .‬وقد اعتبر سميث أن الفراد يتصرفون بهذا املنطق‬
‫وكأنهم مساقون بـ ـ ـ ــ"يد خفية" تدفعهم دفعا لتقديم ما ينتظره ويستحسنه اآلخرون‪ .‬و ناء على ذلك فإن‬
‫"اقتصاد السوق ال يعدو أن يكون تنظيما اجتماعيا لضبط سلوك الفراد في ميدان اإلنتاج وإشباع‬
‫اجحاجات‪ ،‬حيث تتكفل املصاجح اجخاصة والدوافع الشخصية بتحقيق الصاجح العام"‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الثروة‪.‬‬
‫انتقد آدم سميث امليركانتيليين بخصوص حصرهم الثروة في املعادن النفيسة‪ ،‬واعتبر أن الثروة‬
‫ْ‬
‫عاملين هما عدد العاملين املنتجين ومستوى‬ ‫تكمن في اإلنتاج أو القدرة على اإلنتاج‪ ،‬وتتوقف كميتها على‬
‫إنتاجية هؤالء العاملين‪ ،‬أي مدى استخدام اآلالت وتقسيم العمل‪ .‬كما انتقد الفيزيوقراط الذين اعتبروا‬
‫أن الزراعة هي النشاط االقتصادي الوحيد املنتج و اقي النشاطات عقيمة‪ ،‬وأكد على املكانة اجحيوية‬
‫للصناعة في إنتاج الثروة‪ ،‬مشيرا إلى أن "المم الكثر ثراء هي المم التي تتفوق على نظيراتها من المم‬
‫الخرى في الصناعة ال في الزراعة"‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تقسيم العمل‪.‬‬


‫من أهم العوامل التي تؤثر إيجابيا في زيادة الثروة أكد سميث كثيرا على تقسيم العمل‪ .‬فهو يؤدي‬
‫حسبه إلى رفع مستويات إنتاجية العمل بشكل متزايد‪ ،‬خاصة إذا تعلق المر بالعملية اإلنتاجية املدزأة‬
‫التي تؤدي إلى تخصص العمال وإكسابهم املزيد من املهارة واجخبرة‪ ،‬باإلضافة إلى اختزال الوقات املرتبطة‬
‫باالنتقال من عملية لخرى في ظل انخفاض مستوى التخصص‪.‬‬
‫وما يميز سميث عن غيره من املفكرين الذين أبرزوا أهمية تقسيم العمل وأثره على اإلنتاج أنه ركز‬
‫على تقسيم العمل داخل الوحدات اإلنتاجية وخاصة بالورشات الصناعية‪ .‬هذا باإلضافة إلى إشارته إلى‬
‫أن هناك عالقة بين مستوى تقسيم العمل و ين حدم السوق‪ ،‬فكلما كان حدم السوق كبيرا كلما كان‬

‫‪35‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫تقسيم العمل شديدا‪ ،‬وكان هناك بالتالي زيادة في مستوى اإلنتاجية وفي حدم الثروة‪ .‬وهو ر ط مهم بين‬
‫توسيع آفاق البيع وزيادة حدم اإلنتاج‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الحرية االقتصادية و انسجام املصالح الخاصة والعامة‪.‬‬


‫يرى سميث كما أشرنا من قبل أن الدوافع املحركة للنشاطات االقتصادية في املدتمع تعود أساسا‬
‫إلى املصاجح الشخصية لألفراد ‪ .‬وفي ظل نظام اقتصادي مبني على احترام امللكية اجخاصة لألفراد وضمان‬
‫حرية املنافسة بينهم‪ ،‬فإن سعي كل فرد لتحقيق مصلحته الشخصية يؤدي في النهاية إلى تحقيق املصلحة‬
‫العامة املتمثلة في توفير مختلف املنتجات واجخدمات التي يحتاج إليها كل أفراد املدتمع‪ ،‬وهو ما يعرف‬
‫بانسدام املصاجح اجخاصة مع املصلحة العامة‪ .‬لذلك يؤكد سميث على ضرورة ضمان حقوق الفراد في‬
‫التملك وفي حرية العمل والنشاط بغرض كسب الثروة‪ ،‬وذلك بتولي الدولة نفسها حماية النظام‬
‫االقتصادي املقام بفرض احترام القانون وتوفير النظام القضائي العادل باإلضافة إلى حفظ المن‬
‫الداخلي والدفاع اجخارجي وتقديم اجخدمات العامة الضرورية‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬نظرية القيمة‪.‬‬


‫في إطار دراسته ملوضوع القيمة الحظ سميث أن كلمة "قيمة" لهل معنيان‪ ،‬فهي تستخدم أحيانا‬
‫للداللة على منفعة ش يء ما وأحيانا أخرى للداللة على القدرة الشرائية التي نستطيع اجحصول بموجبها على‬
‫امتالك ذلك الش يء‪ .‬وهو يعبر عن املعنى الول بالقيمة االستعمالية وعن املعنى الثاني بالقيمة التبادلية‪.‬‬
‫لكنه الحظ أن هناك أشياء لها قيمة استعمالية كبيرة في حين أن قيمتها التبادلية تبدو متدنية‪ ،‬بينما‬
‫توجد هناك أشياء أخرى تتوفر على قيمة استعمالية ال تكاد تذكر في حين أن قيمتها التبادلية تبدو جد‬
‫مرتفعة‪ ،‬وهو ما أسماه بلغز القيمة‪ ،‬وضرب مثاال عن ذلك باملاء والملاس‪ .‬وقد أدى هذا التناقض بآدم‬
‫سميث إلى استبعاد عامل املنفعة في تحديد القيمة التبادلية‪.‬‬
‫وفي بيانه للعوامل املحددة للقيمة التبادلية فإن سميث استند في البداية على عامل العمل وحده‪،‬‬
‫َُ‬
‫حيث يرى أن السلع تتبادل على أساس كميات العمل املتساوية التي تختزنها‪ ،‬وهو ما يتوافق‪ ،‬حسبه‪ ،‬مع‬
‫وضع املدتمعات البدائية التي تكون فيها العملية اإلنتاجية معتمدة على العمل البشري وحده‪ .‬أما في‬
‫املدتمعات املتطورة‪ ،‬التي تتميز باالستخدام الكبير لآلالت ووسائل اإلنتاج الرأسمالية‪ ،‬فإن القيمة‬
‫بالنسبة لـ ـ سميث ال تتحدد فقط بالعمل البشري ولكن أيضا بعناصر اإلنتاج الخرى املتمثلة في الرض‬
‫ورأس املال‪ ،‬أي أنها تتحدد بالتكاليف التي تدخل في إنتاجها‪ .‬فتكون "القيمة اجخاصة بمنتج ما مساوية‬
‫ملدموع التعويضات العادية التي تعود إلى العوامل املستخدمة في إنتاجه؛ و التالي فإن "السعر الطبيعي"‬

‫‪36‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫لش يء ما‪ ،‬في الواقع‪ ،‬يتحدد بالتكاليف النقدية لإلنتاج‪ ،‬املكونة من الجور‪ ،‬والريع‪ ،‬والر اح‪ ،‬التي تمثل على‬
‫الترتيب "السعار الطبيعية" للعمل‪ ،‬ولألرض‪ ،‬ولرأس املال"‪ .‬لكن سميث لم يقدم مع ذلك أي تفسير عن‬
‫طبيعة الريع أو الر ح‪ ،‬الش يء الذي أدى إلى اعتبار نظريته في القيمة بدون معنى‪ ،‬وأنها ال تعدو أن تكون‬
‫سوى تفسير لألسعار بالسعار‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬نظرية التوزيع‪.‬‬


‫في موضوع توزيع الدخل املتحقق في ظل العمليات اإلنتاجية املختلفة‪ ،‬نجد أن سميث يحدد ثالثة‬
‫أنصبة تتمثل في الجور والريع والر ح‪.‬‬
‫فالجور بالنسبة له هي عبارة عن التكلفة املرتبطة بعنصر العمل املستخدم في العملية اإلنتاجية‪،‬‬
‫وهي تتحدد بالظروف املعيشية لفئة العمال أنفسهم‪ ،‬وتميل إلى أن تكون في مستوى حد الكفاف الذي‬
‫يغطي اجحاجات الضرورية الالزمة لبقاء العمال على قيد اجحياة واستمرار قدرتهم على العمل‪ .‬أما الريع‬
‫املحددة للقيمة‪ ،‬على أساس أن سميث كان‬
‫فيعود إلى مالك الرض باعتباره عنصرا من عناصر التكاليف ِّ‬
‫يعتبر أن الرض تساهم أيضا في اإلنتاج بما تحتويه من قدرات طبيعية خاصة‪ .‬غير أن سميث لم يكن‬
‫واضحا تماما في مسألة الريع لنه اعتبره أيضا في بعض فقرات كتابه "ثروة المم" "بقية من العائد من‬
‫السعار بعد خصم ما يدفع من أجور وأر اح‪ ،‬ثم يمض ي (‪ )...‬إلى ر ط هذه البقية بجودة الرض"‪ ،‬باعتبار‬
‫أن السعار تتأثر بالوضع االحتكاري لألراض ي في ظل تفوق الطلب على العرض على الراض ي الزراعية‪.‬‬
‫أما الر ح فيمثل نصيب رأس املال املستخدم في اإلنتاج وهو يتأثر بكمية رأس املال من جهة‬
‫و املنافسة املوجودة بين املنتجين من جهة أخرى‪ ،‬كما يتأثر سلبا بزيادة الجور‪.‬‬

‫سابعا‪ :‬نظرية التجارة الخارجية‪.‬‬


‫نظرا القتناعه بأهمية تقسيم العمل في رفع إنتاجية العمل وزيادة الثروة‪ ،‬و أن تقسيم العمل يزداد‬
‫شدة كلما ازداد حدم السوق الذي يوجه له اإلنتاج‪ ،‬فإن سميث يرى أن تحرير التجارة اجخارجية يعود‬
‫بالفائدة على البلدان التي تفتح مجال التعامل التجاري اجحر فيما بينها‪ ،‬لن ذلك سيؤدي حسبه إلى‬
‫تخصص كل بلد في إنتاج السلع التي تكون تكاليفها متدنية لديه و التالي إلى مستويات أعلى من الكفاءة‬
‫والرفاهية‪ .‬وهو يستند في تحديده لتكاليف اإلنتاج في مجال التجارة اجخارجية إلى القيم املطلقة فيقارن‬
‫بين مستويات التك اليف املسدلة في كل بلد بشكل مباشر‪ ،‬ويضرب مثاال عن ذلك باختالف كميات العمل‬
‫املستخدمة في إنتاج السلع بين البلدان‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬دافيد ريكاردو‪.‬‬


‫‪37‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫دافيد ريكاردو (‪ )3271-3227‬نشأ في عائلة يهودية هولندية من أصول برتغالية‪ ،‬عمل سمسارا في‬
‫سوق لندن لألوراق املالية‪ ،‬مثلما كان يفعل أبوه من قبل‪ .‬نال شهرة واسعة بعد نشره لكتاب حمل عنوان‬
‫"مبادئ االقتصاد السياس ي والضرائب"‪ ،‬الذي صدر سنة ‪.3232‬‬
‫وقد تميز ريكاردو في تناوله ملوضوع علم االقتصاد بتركيزه على توزيع الدخل املتحقق من العملية‬
‫اإلنتاجية‪ ،‬وليس على زيادة الثروة كما كان يفعل "آدم سميث" قبله‪ ،‬وذلك الختالف الظروف التي كان‬
‫يعيش في ظلها كل من الكاتبين‪ .‬وعلى الرغم من املواقف املتميزة لـ ـ ــ"ريكاردو"‪ ،‬فإن ها الخير يعتبر من أكبر‬
‫مفكري املدرسة الكالسيكية‪ ،‬إذ أنه كان متوافقا مع "سميث" بشأن أغلب الفكار االقتصادية الساسية‬
‫التي كان ينادي بها‪ ،‬كما كانت له مساهمات بارزة في الفكر االقتصادي‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بنظريات‬
‫القيمة والريع والتجارة اجخارجية‪.‬‬

‫أوال‪ :‬نظرية القيمة‪.‬‬


‫في تناوله ملوضوع القيمة حاول "ريكاردو" أن يخلص النظرية التي طرحها "سميث" من قبل في هذا‬
‫املدال من العيوب التي كانت تشوبها‪ ،‬فقدم في البداية تفسيرا ملا عرف بـ ـ ـ "لغز القيمة" الذي أشرنا إليه‬
‫أعاله‪ ،‬حيث أكد على "أن التباين بين القيمة االستعمالية والقيمة التبادلية إنما يرجع إلى ندرة السلع‬
‫املختلفة‪ .‬بعض السلع قد يكون لها قيمة استعمالية مرتفعة ومع ذلك تنخفض قيمتها التبادلية لوجودها‬
‫بوفرة‪ )...( ،‬وبعض السلع الخرى التي تصور "آدم سميث" أن قيمتها االستعمالية منخفضة للغاية نجد أن‬
‫قيمتها التبادلية مرتفعة جدا وذلك لندرتها الشديدة"‪.‬‬
‫أما التفسير الدائري لألسعار بالسعار الذي وقع فيه "آدم سميث"‪ ،‬فإن "ريكاردو" حاول التخلص‬
‫منه من خالل اتخاذه لساس وحيد لقياس القيمة تمثل في "العمل" َو ْح َد ُه‪ .‬إذ اعتبر أن اإلنتاج يتعمد فعال‬
‫على العمل املأجور وعلى رأس املال املتمثل في اآلالت وما إليها‪ ،‬كما هو اجحال في القطاع الصناعي؛ لكن‬
‫يعرف رأس املال بأنه "العمل‬
‫ذلك ال يتعارض في رأيه مع اتخاذ العمل كأساس وحيد لقياس القيمة‪" ،‬لنه ِّ‬
‫املختزن"‪ ،‬فأي آلة من اآلالت تمثل عمال سبق بذله في املاض ي وتبلور في شكل هذه اآللة"‪.‬‬
‫و ناء على ذلك يصل "ريكاردو" إلى تقرير أن عمل الجراء الذي ينعته باملباشر يحصل على أجر نظير‬
‫مساهمته في العملية اإلنتاجية‪ ،‬بينما يحصل العمل املختزن على الر ح‪ .‬وعليه تكون قيمة املنتج مساوية‬
‫ملدموع الجر املباشر مضافا إليه أجر العمل غير املباشر الذي بذل في املاض ي‪ .‬أما سعر املنتج فيتكون من‬
‫أجر العمل املباشر مضافا إليه أجر العمل غير املباشر باإلضافة أيضا إلى القيمة الفائضة التي تشمل‬

‫‪38‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫فائض الر ح‪ ،‬الذي يحصل عليه أصحاب رأس املال نتيجة لندرة العنصر الذي يمتلكونه‪ ،‬وهو يشبه الذي‬
‫يحصل عليه أصحاب الراض ي نتيجة تملكهم عنصرا إنتاجيا نادرا بطبيعته‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬نظرية الريع وقانون تناقص العوائد (أو تناقص الغلة)‪.‬‬


‫يرى "ريكاردو" أن الريع عائد احتكاري يأتي من ملكية الرض‪ ،‬حيث بين أن منشأه يعود إلى زيادة‬
‫الضغط السكاني على مصادر العيش التي تؤدي إلى توسيع الرقعة الزراعية لتشمل أراض ي زراعية أقل‬
‫خصو ة من الراض ي التي كانت تزرع في مرحلة سابقة‪ ،‬وهو ما يؤدي بدوره إلى حصول أصحاب الراض ي‬
‫اجخصبة على مردودية أعلى لراضيهم مقارنة بالراض ي اجدديدة‪ ،‬حيث أن أسعار املنتجات في السوق تكون‬
‫هي َ‬
‫نفسها في ظروف التوازن‪ .‬فالريع بالنسبة لريكاردو هو الفائض الذي يفوق تكاليف اإلنتاج املعتادة‬
‫بسبب خصو ة الرض مقارنة بغيرها‪ ،‬وهو يتجه إلى االرتفاع مع استمرار التزايد السكاني وزيادة التوسع في‬
‫الزراعة باللدوء إلى استغالل أراض ي أقل خصو ة‪.‬‬
‫في نقس السياق‪ ،‬يذكر أيضا أن "ريكاردو" قام "بتطوير فكرة تناقص العوائد ( في النشاط الزراعي‪،‬‬
‫بحيث أنه) عند إضافة وحدات إضافية من العمل ورأس املال إلى قطعة معينة من الرض‪ ،‬مع ثبات حالة‬
‫التكنولوجيا‪ ،‬فإن كل وحدة إضافية من االستثمار سوف تضيف وحدات أقل من اإلنتاج باملقارنة مع‬
‫الوحدات السابقة"‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬نظرية الجور‪.‬‬


‫باإلضافة إلى اعتقاده بخضوع الجور إلى آلية العرض والطلب‪ ،‬كان "ريكاردو" معدبا أيضا بنظرية‬
‫"توماس رو رت مالتس" عن السكان‪ ،‬التي استلهم منها نظريته اجخاصة بالجور‪ .‬ومفاد هذه النظرية أن كل‬
‫زيادة في الجور تؤدي‪ ،‬في الجل الطويل‪ ،‬إلى زيادة في عدد العاملين‪ ،‬بفضل قدرة هؤالء على اجحصول على‬
‫الكميات الغذائية الضرورية ملعيشتهم‪ .‬فينجم عن ذلك‪ ،‬بعد جيل واحد‪ ،‬منافسة شديدة بين العاملين‬
‫بسبب زيادة عرض العمل مقابل طلب يفترض أنه باق على حاله‪ .‬و النتيجة يكون مستوى الجور مائال‬
‫ً‬
‫دائما إلى االنخفاض‪ .‬غير أن هذا االنخفاض ال يمكنه أن يتجاوز حدا طبيعيا أدنى يتمثل في مستوى الجر‬
‫الذي يسمح للعمال بمجرد البقاء على قيد اجحياة‪ ،‬لن انخفاضا في الجور إلى ما دون املستوى املشار إليه‬
‫يؤدي إلى انخفاض عدد السكان الذي يتسبب بدوره في تدني مستوى املنافسة بين العاملين و التالي إلى‬
‫عودة اتجاه مستوى الجور إلى االرتفاع‪ .‬وقد أدت ب ـ ـ "ريكاردو" فكرته هذه التي اعتبرها قانونا يحكم العالقة‬
‫بين مستوى الجور وزيادة السكان‪ ،‬أدت به إلى معارضة أي تدخل للحكومة يهدف إلى تقديم املساعدات‬
‫للفقراء‪ ،‬لن ذلك سيؤدي حسبه إلى زيادة أعدادهم ولن يغير في نهاية المر شيئا من وضعيتهم‪.‬‬

‫‪39‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫رابعا‪ :‬نظرية التجارة الخارجية‪.‬‬
‫يتفق "ريكاردو" مع "سميث" في أن تحرير التجارة اجخارجية بين البلدان‪ ،‬برفع اجحواجز املعيقة‬
‫للتبادل بينها‪ ،‬يعود على تلك البلدان بمزيد من الكفاءة في استخدام املوارد‪ ،‬بفعل زيادة التخصص‪،‬‬
‫و مزيد من الرفاهية للدميع‪ .‬لكنه خالف "سميث" في كون اختالف التكاليف املطلقة لإلنتاج بين البلدان‬
‫هو السبب في قيام تجارة مر حة بينها‪ ،‬وأشار إلى أنه حتى في حالة وجود بلدين يكون أحدهما متوفرا على‬
‫تكاليف إنتاجية مطلقة جدميع منتجاته أقل من التكاليف املطلقة لإلنتاج في البلد اآلخر فإن إمكانيات‬
‫التبادل املر ح تبقى قائمة بينهما‪ ،‬وذلك بسب اختالف تكاليف اإلنتاج النسبية بينهما وليس تكاليف اإلنتاج‬
‫املطلقة‪.‬‬
‫وقد لقيت نظرية "ريكاردو" في تفسير قيام التجارة اجخارجية بين الدول على أساس اختالف‬
‫التكاليف النسبية قبوال واسعا بين االقتصاديين حيث أنها كانت على درجة كبيرة من املنطقية‪ ،‬على الرغم‬
‫من خلو بعض افتراضاتها من الواقعية في بعض اجدوانب‪.‬‬
‫ويتلخص مضمون هذه النظرية في أنه‪:‬‬
‫ْ‬
‫متجانسين في كال البلدين‪ ،‬وفي ظل حرية املنافسة‬ ‫ْ‬
‫منتجين‬ ‫‪ -‬بافتراض وجود ْ‬
‫بلدين‪ ،‬ووجود‬
‫والتبادل‪ ،‬وعدم وجود مصاريف نقل‪ ،‬وعدم وجود أي حواجز جمركية‪ ،‬وفي ظل حيادية النقود‬
‫واتخاذ العمل كمقياس للقيمة‪...،‬‬
‫‪ -‬فإنه إذا كانت نسبة تكلفة إنتاج السلعة "أ" إلى تكلفة إنتاج السلعة "ب" في البلد الول تختلف عن‬
‫نسبة تكلفة إنتاج السلعة "أ" إلى تكلفة إنتاج السلعة "ب" في البلد الثاني‪ ،‬فإن مصلحة البلدين في‬
‫التبادل والتخصص تظل قائمة‪.‬‬
‫ْ‬
‫منتجين‪ ،‬هما النبيذ والقماش‪ ،‬في‬ ‫ويمكن بيان ذلك من خالل مثال أورده ريكاردو نفسه عن وجود‬
‫بلدين هما انكلترا والبرتغال‪ ،‬وفي ظل االفتراضات املشار إليها أعاله‪ ،‬والتكاليف املعبر عنها بساعات العمل‬
‫في كل بلد كما هو مبين في اجددول التالي‪.‬‬

‫مثا عن تكاليف إنتاج سلعتي النبيذ والقماش بانكلترا والبرتغا كما قدمه ريكاردو‪.‬‬
‫تكلفة املنتج بساعات العمل‬
‫وحدة من القماش‬ ‫وحدة من النبيذ‬
‫‪ 311‬سا‬ ‫‪ 371‬سا‬ ‫انكلترا‬
‫‪ 71‬سا‬ ‫‪ 21‬سا‬ ‫البرتغال‬

‫‪40‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫تعطي املالحظة الولية لرقام اجددول أن التكاليف املطلقة لإلنتاج في البرتغال منخفضة بالنسبة‬
‫لكل من السلعتين عما هي عليه في انك لترا‪ ،‬ويوحي ذلك ابتداء بأنه ال يمكن أن توجد مصلحة مشتركة في‬
‫التبادل في هذه اجحالة‪ .‬غير أن املقارنة بين التكاليف النسبية لإلنتاج في البلدين تبين عكس ذلك وتكشف‬
‫عن وجود مصلحة في التبادل بالنسبة لكال البلدين‪.‬‬
‫ففي انكلترا تكون النسبة بين تكلفتي املنتجين تساوي‪:‬‬
‫‪ 120‬سا‬
‫= ‪. 1,2‬‬ ‫تكلفة وحدة من النبيذ =‬
‫‪ 100‬سا‬
‫تكلفة وحدة من القماش‬

‫ويعني ذلك أن وحدة من النبيذ = ‪ 1,2‬وحدة من القماش‪)3(.....................‬‬

‫وحدة من القماش = ‪ 0,83‬وحدة من النبيذ ‪.)7(......................‬‬ ‫أو أن‬

‫أما في البرتغال فتكون النسبة بين تكلفتي املنتجين تساوي‪:‬‬


‫‪ 80‬سا‬
‫= ‪.0,88‬‬ ‫=‬ ‫تكلفة وحدة من النبيذ‬
‫‪ 90‬سا‬
‫‪.‬‬ ‫تكلفة وحدة من القماش‬

‫ويعني ذلك أن وحدة من النبيذ = ‪ 0,88‬وحدة من القماش‪)1(.....................‬‬

‫أو أن وحدة من القماش = ‪ 1,12‬وحدة من النبيذ ‪.)4(.......................‬‬

‫ومن خالل املقارنة بين املساواتين (‪ ) 3‬و (‪ ،)1‬يتضح أن من مصلحة ُمن ِّتج النبيذ في البرتغال أن‬
‫يوجه إنتاجه أو مبيعاته إلى السوق اإلنكليزية لنه يحصل مقابل كل وحدة نبيذ يبادلها على ‪ 1,2‬وحدة من‬
‫القماش عوضا عن ‪ 0,88‬وحدة قماش التي يحصل عليها من السوق البرتغالية‪ .‬و ذلك يجد املنتجون‬
‫البرتغاليون مصلحتهم في التخصص في إنتاج النبيذ ومبادلته بالقماش اإلنكليزي‪.‬‬
‫باملقابل و مقارنة املساواتين (‪ )7‬و(‪ ،)4‬يتبين أنه من مصلحة ُمن ِّتج القماش اإلنكليزي أن يوجه‬
‫إنتاجه إلى السوق البرتغالية لنه يحصل مقابل كل وحدة قماش يبادلها على ‪ 1,12‬وحدة من النبيذ عوض‬
‫‪ 0,83‬التي كان يحصل عليها من السوق اإلنكليزية‪ .‬و ذلك يتجه املنتجون اإلنكليز إلى التخصص في إنتاج‬
‫القماش‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫فإذا استمرت عملية تحول املنتجين عن نشاطاتهم في كال البلدين إلى غاية تخصص البلد الول كليا‬
‫في إنتاج القماش والبلد الثاني كليا في إنتاج النبيذ‪ ،‬فإن إنتاجهما اإلجمالي سيرتفع‪ ،‬في ظل نفس اجحدم‬
‫الساعي للعمل‪ ،‬إلى ‪ 2,2‬وحدة قماش و ‪ 2,125‬وحدة من النبيذ‪ ،‬بعدما كان قبل التخصص ال يزيد عن‬
‫وحدتين من كال السلعتين‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬توماس روبرت مالتوس‪.‬‬


‫توماس رو رت مالتوس ( ‪ ،)3214 -3211‬ولد في مدينة "روكري" بالقرب من لندن‪ ،‬نشأ نشأة دينية‪،‬‬
‫ً‬
‫درس الالهوت والتاريخ وكذلك الفسلفة في جامعة "كامبريدج"‪ ،‬ليصير بعد ذلك قسا ويعمل كمدرس‬
‫للدين وللفلسفة بجامعة "كامبريدج" نفسها‪ ،‬ثم كأستاذ لالقتصاد السياس ي في كلية "هليبري" التي أنشأتها‬
‫شركة الهند الشرقية لتدريس العاملين بها‪.‬‬
‫كان "مالتوس" صديقا حميما ل ـ ــ"ريكاردو"؛ كان يتبادل معه الفكار في مختلف املسائل الفكرية‬
‫املطروحة في عصرهما‪ ،‬خصوصا في املدال االقتصادي‪ .‬إال أن مواقفهما كانت بالرغم من ذلك مختلفة في‬
‫كثير من القضايا‪.‬‬
‫كان ملالتوس بعض املساهمات املتميزة في الفكر االقتصادي‪ ،‬لكن أبرز مساهماته في هذا املدال‬
‫كانت نظريته املشهورة عن النمو السكاني وأثر ذلك على التوازن بين املوارد الغذائية املتوفرة وحاجات‬
‫السكان‪.‬‬

‫أوال‪ :‬بعض الفكاراالقتصادية املتميزة ل ـ ــ"مالتوس"‪.‬‬


‫ُيدرج "مالتوس" ضمن مفكري املدرسة الكالسي كية‪ ،‬وكان متأثرا كثيرا بفلسفة "دايفد هيوم" و فكر‬
‫"آدم سميث"‪ .‬لكن ومع ذلك فقد تميز ببعض املوافق اجخاصة من بعض القضايا أبرزها طبيعة العالقة‬
‫بين الطبقات االجتماعية ونظرية القيمة والتوازن الذاتي بين العرض والطلب الكليين‪.‬‬
‫كان "مالتوس" يميل إلى تفضيل "التبادل" على "اإلنتاج" في دراسته للنشاط االقتصادي‪ ،‬مما أدى‬
‫به إلى التغاض ي عن تعارض املصاجح بين طبقتي الرأسماليين والعمال الذي يبرز أثناء عملية اإلنتاج‪،‬‬
‫والتركيز على توافق املصاجح بين مختلف الطبقات الذي يسود أثناء عملية التبادل‪ .‬فإذا كانت قوانين‬
‫ُ‬
‫امللكية والتبادل سارية بشكل طبيعي‪ ،‬فإن كل عملية تبادل يمكن أن ترى على أنها مر حة لكال الطرفين‬
‫املكونة للمجتمع‬
‫املعنيين‪ .‬وهو ما انتهت إليه نظرة املدرسة النيو‪-‬كالسيكية للعالقات بين الطبقات ِّ‬
‫الرأسمالي الحقا‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫أما عن موضوع القيمة فإن "مالتوس" لم يتفق مع "ريكاردو" في أن هذه الخيرة تستند إلى العمل‬
‫بشقيه املباشر وغير املباشر‪ ،‬وأخذ عوضا عن ذلك برأي "سميث" الذي يرجع القيمة إلى التكاليف‬
‫اإلنتاجية‪ ،‬معتبرا في نفس الوقت أن كال من رأس املال والعمل وكذلك الريع ضرورية بنفس الدرجة‬
‫للعملية اإلنتاجية‪ .‬الش يء الذي يجعل فكرة "مالتوس" في هذا املدال تقترب كثيرا من نظرية القيمة‪-‬‬
‫املنفعة التي سادت فيما بعد‪.‬‬
‫وأما عن التوازن الذاتي بين العرض والطلب الكليين‪ ،‬فإن "مالتوس" لم يتفق مع "جون باتيست‬
‫ساي" بشأن قانونه "الذي ينص على أن العرض يخلق الطلب املساوي له‪ ،‬والذي تترتب عليه فكرة التوازن‬
‫التلقائي بين عرض الموال املدخرة واالستثمارات‪( ،‬حيث) أشار "مالتوس" إلى أن هناك احتماال جحدوث‬
‫إفراط في املدخرات‪ ،‬ومن ثم قصور في الطلب الفعال واتجاه الدخل لالنخفاض"‪ .‬وهو ما يتوافق مع ما كان‬
‫يشهده االقتصاد الرأسمالي من أزمات كساد دورية كانت أشدها أزمة سنه ‪ ،3777‬وقد ألهم موقف‬
‫"مالتوس" هذا "جون مينارد كينز" عند تأليفه لـ ــ"نظريته العامة" التي حاول من خاللها تقديم تفسيرات‬
‫وحلول لتلك الزمات‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬نظرية "مالتوس" في النمو السكاني‪.‬‬


‫تتلخص هذه النظرية في أن قدرة اجدنس البشري على التزايد العددي تفوق قدرة النشاط‬
‫االقتصادي على التوسع في توفير املنتجات الغذائية‪ ،‬حيث قدر أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية‪ ،‬في‬
‫حين أن اإلنتاج يتزايد بمتوالية حسابية‪ .‬وعليه فإن ترك النمو السكاني بدون أية ضوابط سيؤدي إلى‬
‫اتساع كبير في فجوة احتياجات السكان من الغذاء وإلى تدهور في ظروف معيشتهم تدهورا يصل إلى حد‬
‫التأثير على عددهم بفعل املداعات والمراض التي تؤدي إلى تناقصهم والنزول بعددهم إلى مستوى التوازن‬
‫بين حدم املوارد وحدم االحتياجات من جديد‪.‬‬
‫وقد ذكر مالتوس أن المراض والو ئة واملداعات وكذلك اجحروب تشكل عوامل معيقة للنمو‬
‫السكاني وصنفها كمعيقات إيجابية تقف في وجه ظاهرة النمو السكاني الكبير‪ .‬كما أشار إلى أن اإلجراءات‬
‫التي يمكن اتخاذها إراديا لتخفيض معدالت الوالدة‪ ،‬كاللدوء إلى التعفف وتأخير الزواج وتنظيم النسل‪،‬‬
‫والتي صنفها كمعيقات وقائية‪ ،‬بإمكانها أن تحد أيضا من الظاهرة‪ .‬وأشار في هذا السياق أيضا إلى أن‬
‫املدتمعات الغنية تكون أقدر على استخدام الضوابط أو املعيقات الوقائية‪ ،‬في حين أن املدتمعات‬
‫الفقيرة تبقى بعيدة عن االنضباط فتقع بالتالي تحت طائلة املعيقات اإليجابية‪.‬‬

‫‪43‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫غير أن التطور التاريخي للبلدان املتقدمة لم يؤيد "مالتوس" في تشاؤمه الذي أبداه في نظريته‬
‫السكانية‪ ،‬حيث ُسدل ارتفاع كبير في مستوى املعيشة في تلك البلدان نتيجة للتقدم التكنولوجي الهائل‬
‫الذي حققته وما نجم عن ذلك من زيادة كبيرة في اإلنتاج الغذائي‪ ،‬كما انخفضت نسبة الوفيات بفعل‬
‫التحسن الكبير الذي تحقق في الظروف املعيشية والصحية‪ .‬ثم أن ذلك أدى من جهة أخرى‪ ،‬وعلى عكس‬
‫ما كان يتوقعه "مالتوس"‪ ،‬إلى تراجع نسبة النمو السكاني بسبب انخفاض معدالت الوالدة‪ ،‬مما جعل‬
‫بعض تلك املدتمعات تعاني من ظاهرة جديدة وهي ظاهرة التناقص العددي للسكان‪.‬‬
‫إال أنه من املفيد أن نشير مع ذلك إلى أن نظرية "مالتس" في السكان تتوافق في بعض جوانبها مع‬
‫الظروف السائدة في بعض الدول النامية التي تشهد تزايدا كبيرا في السكان مقابل فشل مزمن في عملية‬
‫التنمية‪ ،‬وهو حال عدد من البلدان اإلفريقية وحتى العر ية التي باتت تنعت بالفاشلة في كثير من الحيان‪.‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬تقييم الفكرالكالسيكي‪.‬‬


‫يحسب للمدرسة الكالسيكية إسهامات إيجابية كثيرة في الفكر االقتصادي‪ ،‬لكنه سدل عليها أيضا‬
‫عديد من االنتقادات يكون من املفيد االنتباه إليها‪.‬‬

‫املطلب الو ‪ :‬أهم اإلسهامات اإليجابية للمدرسة الكالسيكية في الفكراالقتصادي‪.‬‬


‫من أهم هذه اإلسهامات نذكر ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬إرساء علم االقتصاد كعلم مستقل عن العلوم الخرى على أسس منطقية واضحة؛‬
‫‪ -‬صياغة عديد من النظريات التي ساهمت في زيادة املعرفة اإلنسانية بطبيعة وظروف النشاط‬
‫االقتصادي في املدتمع اإلنساني؛‬
‫‪ -‬كان لهذه املدرسة أثر كبير في ترسيخ اجحرية االقتصادية بالبلدان الغر ية الرأسمالية وفي ضبط‬
‫دور الدولة بها‪ ،‬مما أدى إلى حدوث انعكاسات إيجابية كبيرة على النمو االقتصادي بتلك البلدان‬
‫وتحقيقها ملستويات عالية جدا من الرخاء والثراء‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬أبرزاالنتقادات التي وجهت للمدرسة الكالسيكية‪.‬‬


‫سدلت على املدرسة الكالسيكية جملة من االنتقادات يمكن تلخيصها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬مبالغتها في االعتقاد بأن الظواهر االقتصادية تحكمها قوانين عامة شاملة ومطلقة تسري في كل‬
‫زمان ومكان‪ ،‬في حين أن تلك القوانين تظل نسبية وقابلة للتغيير؛‬

‫‪44‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫‪ -‬إغفال مفكريها في عمومهم لدور الطلب و التالي املنفعة في تحديد القيمة واستنادهم الكلي في ذلك‬
‫على العرض‪ ،‬أي تكاليف اإلنتاج؛‬
‫‪ -‬اعتبارهم أن النقود حيادية‪ ،‬أي أنها مجرد وسيلة للتبادل‪ ،‬وإهمالهم لدورها كمستودع للقيمة؛‬
‫‪ -‬اهتمامهم بالجل الطويل وإهمالهم لألجل القصير الذي تحدث فيه اختالالت كثيرا ما تكون لها‬
‫آثار سلبية على املستويين االقتصادي واالجتماعي‪ ،‬كما يحدث خالل الزمات الدورية التي تتكرر في‬
‫االقتصاد الرأسمالي؛‬
‫‪ -‬عدم اتسام التحليل الكالسيكي بالواقعية عندما يفترض أن السعار والجور وسعر الفائدة تتمتع‬
‫باملرونة التامة ويبني على ذلك حالة التوازن الدائم لالقتصاد في ظل التشغيل الكامل للموارد‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفصل السادس‬
‫النظرية املاركسية‪.‬‬

‫يكون بإمكان الطالب بعد دراسته لهذا الفصل أن يتبن ويفهم ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬قسوة األوضاع االجتماعية التي كانت تتواجد بها طبقة العمال في البلدان الرأسمالية بعد الثورة‬
‫الصناعية‪ ،‬خصوصا في معامل اإلنتاج التي كان مالكوها يهتمون كثيرا بزيادة اإلنتاج ومراكمة‬
‫األرباح وال يهتمون بظروف عمل مستخدميهم؛‬
‫‪ -‬ظهور "االشتراكية العلمية" التي سعت إلى القيام بالنقد املوضوعي للنظام الرأسمالي من خالل‬
‫تحليل مبادئه وآليات سيره وبيان املآل الحتمي الذي ينتظره‪ .‬فوفقا لتحليل هذه املدرسة فإن‬
‫النظام املذكور يقوم على تناقضات ستؤدي به ال محالة إلى االنهيار وسينشأ بعده نظام آخر تكون‬
‫السلطة فيه بيد الطبقة العاملة التي تسميها ب ــ"البروليتاريا"‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫يصف كارل كاركس "نظريته في االشتراكية بأنها نظرية علمية‪( ،‬ألنها) تقوم على تحليل علمي"‪ ،‬أي‬
‫على دراسة موضوعية وتفسير منطقي ألسس وآليات سير النظام االقتصادي الرأسمالي‪ .‬وكان من نتائج‬
‫ذلك "التحليل العلمي" أن "ماركس" ّبين التطور املستقبلي "الحتمي" للنظام املذكور باتجاه نظام جديد يتم‬
‫فيه إلغاء كافة التناقضات التي كانت سببا في الصراعات السابقة‪ .‬فاالشتراكية املاركسية أو العلمية تأتي‬
‫إذن من خالل تجاوز املجتمع للتناقضات الجوهرية التي كانت تطبع النظام الرأسمالي‪ ،‬وليست جملة‬
‫إصالحات تهدف إلى التخفيف من قسوة ظروف العمل واملعيشة التي كانت تعيشها الطبقة العاملة‪ ،‬كما‬
‫كان ينادي بذلك بعض املفكرين الذين وصفهم ماركس باالشتراكيين الخياليين‪.‬‬

‫املبحث األول‪" :‬كارل ماركس" والخلفية الفلسفية الشتراكيته العلمية‪.‬‬

‫"كارل ماركس" (‪،)8111-8181‬هو فيلسوف أملاني‪ ،‬من أصل يهودي‪ .‬كان أبوه محاميا يتمتع‬
‫بوضعية اجتماعية مرموقة‪ ،‬الش يء الذي ّ‬
‫مكنه من االلتحاق بأحسن املدارس واالتصال بأرقى العائالت‪،‬‬
‫منها عائلة "فون ويستفالن" التي تزوج من ابنتها "جيني" فيما بعد‪.‬‬
‫درس "ماركس" القانون والفلسفة‪ ،‬وبعد تخرجه عمل في الصحافة‪ ،‬ثم راح يتردد على األوساط‬
‫االشتراكية وعلى الفالسفة من فريق "الشباب الهيغيلي"‪ .‬نشر في ‪" 8181‬بيان الحزب الشيوعي" الذي كان‬
‫الهدف منه تأسيس "الشيوعية الدولية"‪ .‬لجأ إلى لندن بعد ذلك على إثر مطاردته من الشرطة األملانية‪،‬‬
‫ض َّم َنه َ‬
‫نقد النظام الرأسمالي‪ ،‬تحت عنوان "رأس املال"‪ ،‬الذي‬ ‫وأقام هناك حتى آخر أيام حياته‪ .‬ترك كتابا َ‬
‫َّ‬
‫اشتمل على إسهام كبير من طرف صديقه املقرب "فريدريك أنجلز"‪ ،‬حيث قام هذا األخير بإتمام املؤلف‬
‫بعد وفاة صاحبه‪.‬‬
‫أما الخلفية الفلسفية للفكر املاركس ي فقد تميزت باستنادها إلى عاملين رئيسيين هما‪ :‬الدياليكتيك‬
‫أو الجدلية‪ ،‬والتفسير املادي أو االقتصادي للتاريخ‪ .‬فبالنسبة لعامل الدياليكتيك‪ ،‬فإن ماركس أخذه عن‬
‫الفيلسوف األملاني الشهير "هيغل" الذي تأثر به كثيرا‪ ،‬ومفاده أن "عملية التقدم (أو التطور) ال تتم‬
‫بهدوء‪ ،‬وإنما تتحقق نتيجة تصادم قوة معينة مع قوة أخرى معارضة لها‪ ،‬وتنتهي عملية التصادم عندما‬
‫تنشأ قوة ثالثة تختلف خواصها عن القوتين السابقتين املتعارضتين"‪ .‬أي أن "التطور يلغي أي عائق من‬
‫ً‬
‫أمامه‪ ،‬إذ ال مبرر لوجوده‪ ،‬فينتفي النظام القديم ليحل محله نظام جديد أكثر تطورا ورقيا"‪.‬‬
‫وقد طبق "ماركس" التحليل الدياليكتيكي على النظم االجتماعية‪ ،‬ليبرز من خالل ذلك أن "في كل‬
‫نظام اجتماعي تتولد قوى تعمل حتى تقض ي عليه في النهاية‪ ،‬ويأتي محله نظام جديد‪ ،)...( ،‬وبذلك ينتقل‬
‫التاريخ من نظام اجتماعي إلى آخر نتيجة لعوامل التطور‪ )...(.‬ثم يقرر ماركس أن النظام الرأسمالي نفسه‬

‫‪47‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫يخضع للقانون نفسه‪ ،‬إذ تتولد بداخله القوى التي تؤدي إلى فنائه وزواله عن طريق الصراع الطبقي‬
‫املوجود فيه"‪.‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬وخالفا ألستاذه "هيغل"‪ ،‬الذي يعتبر أن الفكر اإلنساني هو الذي يتسبب في التغير‬
‫أو التطور االجتماعي‪ ،‬فإن "ماركس" يؤكد على "أن العوامل االقتصادية هي التي تبلور الفكر اإلنساني‬
‫وليس العكس‪ ،‬وانتهى من ذلك إلى ما أسماه بالتفسير املادي أو االقتصادي للتاريخ"‪ .‬أي أن التطورات التي‬
‫تحدث في أي مجتمع إنساني تعود باألساس إلى التغيرات املادية التي تحدث على مستوى اإلنتاج وتنعكس‬
‫في شكل نظام اجتماعي بمؤسساته السياسية واالجتماعية واالقتصادية املختلفة‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬التحليل املاركس ي للنظام الرأسمالي ‪.‬‬


‫في سعيه إلبراز تناقضات النظام الرأسمالي و"صيرورته الحتمية" إلى االنهيار‪ ،‬عمل "ماركس" على‬
‫تحليل أسس النظام املذكور باالعتماد على كتابات املفكرين واالقتصاديين الذين سبقوه‪ ،‬خصوصا‬
‫االقتصاديين الكالسيك كـ ـ ـ "آدم سميث" و"ريكاردو" وغيرهما‪ .‬وقد بدأ تحليله منطلقا من مفهوم‬
‫"البضاعة" الذي يقوم عليه النشاط التجاري‪ ،‬لينتقل بعد ذلك إلى مفهوم "القيمة" الذي جعله حجز‬
‫الزاوية في بنائه الفكري الذي قاده إلى إبراز عوامل االستغالل الرأسمالي وبيان آليات تطوره‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬البااةة‪.‬‬


‫َيعتبر "ماركس" أن الثروة في النظام الرأسمالي ترتبط أساسا بما يعرف ب ـ "البضاعة"‪ ،‬وذلك ألن‬
‫الرأسماليين يقومون بإنتاج املنتجات وبيعها كبضائع من أجل الحصول على الربح الذي يشكل مصدر‬
‫ثرواتهم‪ .‬ولبيان ذلك قام "ماركس" بتوضيح عملية التبادل العادية التي يراد بها تلبية الحاجات الخاصة‬
‫‪ ، M‬بحيث تكون قيم التبادل متساوية ويستفيد كل طرف من قيمة‬ ‫‪A‬‬ ‫باألفراد كالتالي‪M' :‬‬
‫االستعمال التي يريد الحصول عليها (واملقصود ب ـ ‪ M‬أو ’‪ M‬هنا البضاعة‪ ،‬وب ـ ‪ A‬أو ’‪ A‬في الصيغة التالية‬
‫النقود)‪ .‬غير أن املنطق الرأسمالي في عملية التبادل يختلف اختالفا جوهريا عن منطق التبادل العادي‪،‬‬
‫‪ ،A‬بحيث يكون ‪ . A' > A‬وهو القلب الذي‬ ‫‪M‬‬ ‫وذلك بقلبه للعملية وفقا للشكل التالي‪A' :‬‬
‫يؤدي إلى ظهور فائض في عملية التبادل لفائدة الرأسماليين‪.‬‬
‫ولبيان مصدر هذا الفائض الذي نتج من عملية التبادل التي كان من املفروض أن تكون القيم‬
‫املتبادلة فيها متساوية‪ ،‬اعتمد ماركس على نظرية القيمة – العمل التي استخرج منها ما يعرف بـ "فائض‬
‫القيمة"‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬القيمة‪.‬‬


‫‪48‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫في تناوله ملفهوم القيمة أوضح "ماركس" منذ البداية أن القيمة التبادلية ترتبط بالبضائع التي لها‬
‫قيمة استعمالية‪ ،‬إال أنه استبعد على الرغم من ذلك هذه األخيرة في تفسيره لألسعار‪ .‬وفي تفسيره للقيمة‬
‫التبادلية اعتمد "ماركس" على نظرية القيمة‪ -‬العمل التي جاء بها دافيد ريكارو من قبل‪ ،‬والتي تفيد بأن‬
‫مصدر القيمة التبادلية للمنتج هو العمل‪ ،‬مع التمييز بين العمل الحي الذي يقدمه العمال مباشرة في‬
‫ورشات اإلنتاج والعمل امليت‪ ،‬أو غير املباشر‪ ،‬الذي يتجسد في اآلالت واملدخالت اإلنتاجية األخرى التي هي‬
‫ملك للرأسمالي؛ مع اإلشارة إلى أن "قيمة البضاعة ال تقاس بالعمل الفردي‪ ،‬ألن العمال ال يتمتعون بنفس‬
‫القدرات وال يتوفرون دائما على نفس الوسائل‪ ،‬بل تقاس بوقت العمل املتوسط في املجتمع‪ )...( .‬فالقيمة‬
‫التبادلية لبضاعة ما تعبر عن الكمية املتوسطة أو االجتماعية من العمل العام الضروري إلنتاجها"‪.‬‬
‫ل كن "ماركس" تميز في شرحه للقيمة ببيانه ملفهوم جديد تمثل في "قوة العمل"‪ ،‬التي تتمثل في‬
‫الطاقة العضلية والذهنية التي تنفق من طرف املنتج أو املنتجين‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬فائض القيمة‪.‬‬


‫ّ‬
‫حسب كارل ماركس‪ ،‬فإن الرأسمالي الذي يشغل العامل يقوم في الحقيقة بتأجير "قوة عمله" من‬
‫أجل استخدامها في اإلنتاج مقابل أجر محدد‪ ،‬في ظل الظروف االجتماعية واالقتصادية السائدة‪ ،‬حيث‬
‫يكون ذلك األجر مساويا لقيمة املنتجات املختلفة الالزمة للحفاظ على حياته وتجديد قوة عمله‪ .‬لكن إذا‬
‫كانت قيمة تلك املنتجات املقابلة ألجر العامل مساوية مثال لست ساعات من العمل يوميا‪ ،‬فإن الرأسمالي‬
‫يقوم باستخدام قوة العمل املؤجرة ملدة تزيد عن ذلك بحيث تصل مثال إلى عشر ساعات‪ .‬وتكون نتيجة‬
‫ذلك أن الرأسمالي يحصل على أربع ساعات من العمل اليومي فائضة عن أجر العامل وهو ما يسميه ب ـ "‬
‫فائض القيمة"‪.‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬التراكم الرأسمالي وتركزرؤوس األموال‪.‬‬


‫يرى ماركس أن الرأسماليين الذين يجدون أنفسهم مجبرين على مواجهة املنافسة التي يفرضها‬
‫السوق وزيادة فائض القيمة الذي هو مصدر ربحهم يسعون باستمرار إلى مراكمة رؤوس األموال املادية‬
‫من اآلالت واألجهزة‪ ،‬ألن ذلك يزيد من إنتاجية العمال ويخفض بالتالي من تكاليف املعيشة‪ ،‬الش يء الذي‬
‫يؤدي بدوره إلى انخفاض قيمة األجور الحقيقية وبالتالي إلى املحافظة على مستويات مرتفعة من فائض‬
‫القيمة‪.‬‬
‫غير أن هذا التنافس على مراكمة رؤوس األموال يؤدي في النهاية إلى زيادة التركز في ملكيتها بحيث‬
‫يتناقص عدد أفراد طبقة الرأسماليين ويتزايد باملقابل عدد أفراد طبقة العمال‪ ،‬وهو ما يؤدي بدوره إلى‬

‫‪49‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫زيادة حدة املنافسة في عرض العمل وإلى تدني مستويات األجر الحقيقية ثم إلى تزايد البطالة وتشكل ما‬
‫يسميه ماركس ب ـ " الجيش االحتياطي للعمل"‪.‬‬

‫املطلب الخامس‪ :‬أزمة النظام الرأسمالي وانهياره من وجهة نظرماركس‪.‬‬


‫يرى ماركس أنه مع زيادة تراكم رأس املال يتجه معدل فائض القيمة إلى االنخفاض تبعا النخفاض‬
‫نسبة مساهمة العمل في العملية اإلنتاجية‪ ،‬مما يؤدي مع الوقت إلى تراجع التراكم الرأسمالي نفسه‪ .‬فتزداد‬
‫البطالة بشكل أكبر وينخفض الطلب جراء انخفاض األجور‪ ،‬فتزداد البطالة أكثر فأكثر‪ ،‬فينتشر الفقر‬
‫والبؤس‪ ،‬ويؤدي إلى أزمات عنيفة تنتهي حتما بدفع املجتمع إلى الثورة للتخلص من النظام الرأسمالي‬
‫وإحالل النظا م االشتراكي بدال عنه‪" .‬فالثورة االشتراكية تنشأ لوجود التناقض بين طريقة اإلنتاج التي‬
‫تجعل القوة العاملة تمثل املجتمع كله تقريبا‪ ،‬وبين ملكية وسائل اإلنتاج التي تتركز بين أيدي فئة قليلة من‬
‫األفراد"‪.‬‬
‫وعلى إثر الثورة التي تقوم بها الطبقة العمالية‪ ،‬أو "البروليتاريا"‪ ،‬كما يسميها صاحب كتاب "رأس‬
‫املال"‪ ،‬تصير الدولة تحت سلطة هذه األخيرة‪ ،‬وتنتهي امللكية الخاصة لوسائل اإلنتاج لتحل محلها امللكية‬
‫العمومية‪ ،‬ويكون للدولة دور أكبر في التحكم في سير النشاط االقتصادي في ظل غياب السوق‪ ،‬عبر شكل‬
‫من أشكال التخطيط االقتصادي التي لم يوضحها "ماركس"‪.‬‬
‫ثم يبشر "ماركس" باإلضافة إلى ذلك بالتطور التدريجي للمجتمع االشتراكي الجديد إلى ٍ‬
‫شكل أرقى من‬
‫النظم االجتماعية يتمثل في املجتمع الشيوعي‪ ،‬حيث تتحقق زيادة كبيرة في اإلنتاجية‪ ،‬ويتمكن املجتمع من‬
‫تجسيد الشعار الشيوعي املشهور ٍ‬
‫"لكل حسب حاجته"‪.‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬تقييم ةام لألفكاراالقتصادية املاركسية‪.‬‬


‫كغيرها من النظريات التي قدمها بقية االقتصاديين‪ ،‬اشتملت النظرية املاركسية على بعض النقاط‬
‫اإليجابية وكذلك على بعض النقاط السلبية‪.‬‬
‫فمن النقاط اإليجابية التي تحسب لهذه النظرية أنها أعادت التأكيد على ضعف املوقف التفاوض ي‬
‫للعمال أمام الرأسماليين كما كان قد أثاره من قبل آدم سميث نفسه‪ ،‬وأنها رفضت أن يكون مصير العمال‬
‫متروكا بالكلية لتقلبات السوق‪ .‬كما يحسب لها أيضا اتخاذها لطريقة التحليل املوضوعية بهدف تقديم‬
‫تفسير لسير النظام الرأسمالي وبالتالي انتقاده‪ ،‬وقد استطاعت من خالل ذلك أن تبرز بعض عيوب النظام‬
‫املذكور‪ ،‬مما سمح ملناصريه بالعمل على إصالحها بقدر إمكانهم‪.‬‬
‫أما النقاط السلبية فتتعلق على الخصوص ب ــ‪:‬‬

‫‪50‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫‪ -‬مبالغة املنهج املاركس ي في التأكيد على العامل االقتصادي‪ ،‬وإهمالها للدوافع األخرى املؤثرة في‬
‫السلوك اإلنساني كعامل مستقل ومهم في التطور االجتماعي؛‬
‫‪ -‬اعتماد ماركس في تحليله على نظرية القيمة‪ -‬العمل‪ ،‬وهي نظرية تهمل تأثير الطلب في تحديد‬
‫القيمة إهماال كليا‪ ،‬على الرغم من اشتراطها توفر القيمة االستعمالية لوجود القيمة التبادلية‪ .‬وال‬
‫شك أن هذا اإلهمال ال يتوافق مع املعطيات الواقعية لعمليات اإلنتاج والتبادل التي تجري في‬
‫إطار النشاط االقتصادي؛‬
‫‪ -‬بعد النجاح الكبير الذي حققه االقتصاديون النيو‪-‬كالسيك بفضل نظرية املنفعة القائمة على‬
‫التحليل الحدي لم يعد لنظرية القيمة‪-‬العمل أي رصيد يعتد به حقيقة في علم االقتصاد‪ .‬وبانهيار‬
‫نظرية القيمة‪ -‬العمل تنهار معها في املحصلة نظرية فائض القيمة وفكرة اعتماد الربح الذي‬
‫يحصل عليه الرأسمالي على استغالله للعمال؛‬
‫‪ّ -‬‬
‫تنبأ ماركس ً‬
‫بناء على تحليله االقتصادي بأن الثورة االجتماعية على النظام الرأسمالي حتمية ال‬
‫مفر منها‪ ،‬خصوصا في البلدان األكثر تطورا كإنكلترا وأملانيا‪ .‬لكن تطور الواقع االجتماعي في تلك‬
‫البلدان جاء مخالفا ملا كان متوقعا‪ ،‬ولم تقم فيها أي ثورة لتغيير النظام‪ ،‬بل قامت الثورات في‬
‫البلدان األخرى التي أرادت االنتقال مباشرة إلى النظام االشتراكي قبل اكتمال تطورها االقتصادي‬
‫واالجتماعي الرأسمالي؛‬
‫‪ -‬أدى إلغاء امللكية الخاصة وآلية السوق بالبلدان التي أخذت بالنظام االشتراكي إلى تدهور تام‬
‫للحياة االقتصادية بهذه األخيرة‪ ،‬وكان من أبرز اآلثار التي ترتبت عن ذلك خفوت الحافز الفردي‬
‫في العمل واستحالة القيام بالحساب االقتصادي كما أكد على ذلك اقتصاديو املدرسة‬
‫النمساوية‪.‬‬
‫‪ -‬أن بعض تلك البلدان االشتراكية التي استطاعت أن تعدل من مسارها وتحقق نتائج اقتصادية‬
‫إيجابية لم تنل ذلك إال بالعودة إلى مراعاة مبدإ الحافز الفردي ونظام اقتصاد السوق‪.‬‬

‫‪51‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفصل السابع‬

‫امل ـ ـ ـ ـدرس ـ ـ ـ ـ ـة الـ ـ ـ ـحـ ـ ـ ـ ـدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬

‫ينتظر من الطالب بعد دراسته لهذا الفصل أن يتبين ويفهم ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬صعوبة موقف املدرسة الكالسيكية أمام التحليل الذي قدمته النظرية املاركسية للنظام‬
‫الرأسمالي معتمدة على نظرية القيمة‪-‬العمل لريكاردو؛‬
‫‪ -‬ظهور فكرة التحليل الحدي التي استطاع أصحابها أن يقدموا من خاللها حال للغز القيمة وأن‬
‫يؤكدوا على املكانة األولية للطلب على العرض في تحديد القيمة التبادلية؛‬
‫‪ -‬استطاعة التحليل الحدي تقديم نظريات لتفسير سلوك املستهلك وسلوك املنتج وللتوزيع؛‬
‫‪ -‬رفض التحليل الحدي التام لنظرية القيمة‪-‬العمل وتقديمه لبديل جاد في تفسير القيمة يعتمد‬
‫على التقدير الذاتي للمستهلك أو للمنتج الذي يقوم بالطلب؛‬
‫‪ -‬درء خطر الفكر املاركس ي على النظام الرأسمالي وفتح آفاق التطور أمام هذا األخير باعتباره‬
‫أنسب نظام اجتماعي واقتصادي لإلنسان بما يوفره له من حقوق وخاصة الحق في الحرية‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫تمهيد‪.‬‬

‫شهد الفكر االقتصادي الرأسمالي انتعاشا كبيرا بعد سنة ‪1781‬على إثر ظهور التحليل الحدي‬
‫أدوات تحليل مبتكرة استطاعت أن تخرج‬ ‫وجد‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫الذي استطاع أن يعطي صياغة جديدة لعلم االقتصاد وي ِ‬
‫الفكر االقتصادي الكالسيكي من املأزق الذي وصل إليه‪ ،‬نتيجة التحدي الذي فرضه الفكر االشتراكي‬
‫وخصوصا املاركس ي‪ .‬وفي تناولنا لهذا املوضوع سنتعرض بداية إلى ظروف ظهور التحليل الحدي‪ ،‬ثم إلى‬
‫بتقييم‬
‫ٍ‬ ‫أهم إسهامات أصحاب هذا التحليل في الفكر االقتصادي وكذلك إلى أبرز رواده‪ ،‬لننتهي في األخير‬
‫عام لهذا الفكر الجديد الذي عرف فيما بعد باملدرسة النيوكالسيكية ‪.‬‬
‫ٍ‬

‫املبحث األول‪ :‬ظروف ظهوراملدرسة الحدية وأهم إسهاماتها في الفكراالقتصادي‪.‬‬


‫ّ‬
‫شكل النقد املاركس ي للنظام الرأسمالي خلخلة كبيرة للنظام الفكري الذي أجهدت املدرسة‬
‫الكالسيكية نفسها كثيرا في صياغته‪ ،‬خصوصا وأن كارل ماركس كان مستندا في تحليله إلى نظرية القيمة ‪-‬‬
‫العمل التي بناها دافيد ريكاردو نفسه‪ .‬وكان لألفكار املاركسية أثر كبير في تطور الحركات العمالية في‬
‫نضالها من أجل تحسين واقع العمال أو التحضير لتغيير جذري في النظام القائم لدى بعضها‪.‬‬
‫وفي سنة ‪ 1781‬ظهر في كل من النمسا وسويسرا وانكلترا اتجاه فكري اقتصادي جديد على يد ثالثة‬
‫اقتصاديين بارزين هم‪ :‬كارل مانجر وليون فالراس وستانلي جيفنز‪ ،‬يبني تحليله على أساس أن القيمة‬
‫يحددها الطلب وحده من خالل املنفعة الحدية أو اإلنتاجية الحدية‪ .‬وكانت تلك بداية ظهور املدرسة‬
‫الحدية التي كان لها أثر كبير جدا في تطور الفكر االقتصادي بما أحدثته من ثورة في التحليل االقتصادي‬
‫الذي جعلته مبنيا على التقييم "الحدي"‪ .‬لكن هذه املدرسة بقيت مستندة من جهة أخرى إلى األسس‬
‫الكبرى للنظام الرأسمالي كما حددها االقتصاديون الكالسيك من قبل‪ ،‬واملتمثلة أساسا في الحق في‬
‫امللكية الخاصة وحرية املنافسة‪ ،‬الش يء الذي جعلها تلقب أيضا باملدرسة النيو‪-‬كالسيكية‪.‬‬
‫وقد كان أبرز إسهام للمدرسة الحدية في الفكر االقتصادي نجاحها في حل "لغز القيمة" الذي عجز‬
‫آدم سميث عن حله عند تناوله للعالقة بين القيمة التبادلية والقيمة االستعمالية‪ .‬واستطاعت أن تبني‬
‫بنجاح كبير تحليالتها الخاصة بالتوزيع واالستهالك وكذلك اإلنتاج على مبدإ املنفعة الحدية أو اإلنتاجية‬
‫الحدية‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬نظرية القيمة‪.‬‬

‫‪53‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫في دراستها ملوضوع القيمة استبعدت املدرسة الحدية ربط القيمة التبادلية للسلع املتبادلة في‬
‫السوق بالعمل أو بتكلفة اإلنتاج‪ ،‬واعتبرت أن العامل املسبب لتلك القيمة في الحقيقة ليس سوى املنفعة‬
‫التي تمنحها السلعة ملستهلكها أو للذي يحوزها‪ ،‬أما تحديد مستواها فيعود إلى املنفعة الحدية أو‬
‫اإلنتاجية الحدية‪.‬‬
‫واملنفعة الحدية املقصودة عندما يتعلق األمر باستهالك سلعة ما هي املنفعة التي يحصل عليها‬
‫املستهلك جراء استهالكه للوحدة األخيرة منها والتي يحقق عندها توازنه‪ .‬وهي منفعة تتأثر بدرجة ندرة‬
‫السلعة من جهة وتتميز بتناقصها التدريجي تبعا لتزايد استهالك وحدات السلعة من قبل املستهلك من جهة‬
‫أخرى‪ .‬ومعنى ذلك أن قيمة أي سلعة استهالكية‪ ،‬في مفهوم املدرسة الحدية‪،‬ال تنتج عن ش يء موضوعي‬
‫يرتبط بالسلعة ذاتها‪ ،‬وإنما تنتج عن التقدير الذاتي الصادر عن املستهلك نفسه بشأن تلك السلعة‪.‬‬
‫ومنفعة الوحدة األخيرة التي يجد عندها املستهلك توازنه هي التي تحدد قيمة جميع الوحدات األخرى‬
‫املستهلكة قبلها‪ ،‬وذلك بسبب توفر العرض وإمكانية اإلحالل فيما بين الوحدات املعروضة من طرف‬
‫املستهلك‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬نظرية املستهلك‪.‬‬


‫تفيد نظرية املستهلك التي يطرحها الفكر االقتصادي الحدي بأن أي شخص‪ ،‬باعتباره "إنسانا‬
‫اقتصاديا"‪ ،‬يسعى إلى تعظيم منفعته التي يحصل عليها من العملية االستهالكية‪ ،‬وهو يستمر في زيادة طلبه‬
‫االستهالكي من سلعة ما إلى غاية تساوي املنفعة الحدية املتأتية من تلك السلعة واملنفعة التي يستطيع‬
‫تحقيقها بفضل إنفاقه لسعر تلك الوحدة على السلع األخرى‪ .‬فإذا انخفض سعر الوحدة األخيرة من‬
‫السلعة فإن املستهلك يقوم بزيادة استهالك وحدات أخرى منها حتى يستعيد توازنه‪ ،‬أما إذا ارتفع سعر‬
‫الوحدة األخيرة فإن املستهلك يقوم بتخفيض استهالكه إلى مستوى يستعيد فيه توازنه من جديد‪ُ .‬ويستدل‬
‫متناقصة متغيرها املستقل هو‬
‫ٍ‬ ‫لدالة‬
‫ٍ‬ ‫بيان‬
‫بهذا التصرف لتوضيح طلب املستهلك الذي يبدو على شكل ٍ‬
‫سعر السلعة ومتغيرها التابع هو الكمية املطلوبة منها‪.‬‬
‫أما عن توازن املستهلك في إنفاقه على مختلف السلع التي يحتاج إليها‪ ،‬فإن املدرسة الحدية تبين أن‬
‫هذا األخير يقوم بإنفاق الجزء املخصص من دخله لالستهالك ويوزعه على مختلف السلع التي يجد منفعة‬
‫في استهالكها في حدود إمكانياته املالية‪ ،‬والتي يعبر عنها بـ"قيد امليزانية"‪ .‬ويكون توزيعه إلنفاقه على مختلف‬
‫السلع بحيث يحصل منها جميعا على أعظم إشباع ممكن وتتحقق له املساواة بين نسب املنافع الحدية‬
‫لجميع السلع املستهلكة إلى أسعارها‪ ،‬وفقا ملا يلي‪:‬‬

‫‪54‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫املنفعة الحدية للسلعة𝐴‬ ‫املنفعة الحدية للسلعة 𝐵‬ ‫املنفعة الحدية للسلعة 𝐶‬ ‫املنفعة الحدية للسلعة 𝑁‬
‫=‬ ‫=‬ ‫=⋯=‬
‫سعر السلعة𝐴‬ ‫سعر السلعة 𝐵‬ ‫سعر السلعة𝐶‬ ‫سعر السلعة𝑁‬

‫ومعنى هذه املساواة املتعدية بين كافة املنافع الحدية للسلع املطلوبة منسوبة إلى أسعارها أن املنافع‬
‫التي تحققها كل وحدة نقدية متساوية في حالة كل سلعة من السلع‪ .‬فإن اختلت هذه املساواة اختل توازن‬
‫إنفاق املستهلك على السلع املطلوبة ويصبح عليه أن يبحث من أجل استعادة توازنه مرة أخرى‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬نظرية املنتج‪.‬‬


‫ُ‬
‫يعتمد التحليل الحدي في حالة املن ِتج نفس الطريقة التي يعتمدها في تناوله لحالة املستهلك‪ ،‬مع‬
‫ّ‬
‫املحصلة واملنفعة‬ ‫لكل من املنفعة الحدية‬
‫اتخاذ مفهومي "اإلنتاجية الحدية" و"التكلفة الحدية" كنظيرين ٍ‬
‫املضحى بها كمقابل لها‪ .‬فاملنتج وفقا لهذا التحليل يقوم باستخدام عوامل اإلنتاج بكميات متزايدة إلى أن‬
‫يصل إلى مستوى التوازن الذي ال يستطيع بعده أن يزيد منها‪ .‬فلو أخذنا مثال عنصر العمل‪ ،‬فإن املن ِتج‬
‫يزيد من عدد العمال املستخدمين لديه ما دام كل عامل إضافي يحقق له إنتاجا إضافيا‪ ،‬أو إنتاجية حدية‬
‫األجر اإلضافي أو الحدي الذي يجب عليه دفعه‪ ،‬ولن يتوقف عن ذلك حتى يصل إلى تحقيق‬ ‫تفوق ُ‬
‫قيمتها َ‬
‫املساواة بين املقدارين املذكورين‪ .‬ألنه إن توقف قبل ذلك فإنه يكون قد أضاع مبلغا من الربح يساوي‬
‫الفرق اإليجابي بين كل من اإلنتاجية الحدية واألجر الحدي‪ ،‬أما إذا استمر بعد تحقق املساواة فإنه‬
‫سيجلب لنفسه خسارة تساوي الفرق السلبي بين نفس ا ّ‬
‫ملتغيرين‪.‬‬
‫وبنفس املنطق أيضا استطاع أصحاب التحليل الحدي أن ّ‬
‫يفسروا توازن املنتج من خالل طريقة‬
‫توزيعه للدخل أو لقيمة الناتج الذي يحققه على مختلف عوامل اإلنتاج املساهمة في العملية اإلنتاجية‪،‬‬
‫حيث أوضحوا أن املنتج يصل إلى التوازن عندما تصبح اإلنتاجية الحدية لكل عامل إنتاجي من العوامل‬
‫املستخدمة من طرفه مساوية لتكلفة الوحدة األخيرة املستخدمة منه‪.‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬نظرية التوزيع‪.‬‬


‫وفقا ملا جاء في نظرية توازن املنتج‪ ،‬فإن ما يحصل عليه كل عنصر من عناصر اإلنتاج يتوقف على‬
‫إنتاجيته الحدية‪ .‬فأجر العامل يتحدد بإنتاجية آخر عامل تتم إضافته إلى مجموعة العمال املوجودين‬
‫وكذلك األمر أيضا بالنسبة لرأس املال‪ .‬وبناء على ذلك فإن املدرسة الحدية تعتبر أن األشخاص في ظل‬
‫النظام الرأسمالي أحرار ومتساوون أمام القانون‪ ،‬بصرف النظر عن مكانتهم االجتماعية كرأسماليين أو‬
‫كعمال‪ .‬فالحرية الشخصية عند هذه املدرسة أمر ال بد منه‪ ،‬وذلك حتى يتمكن األفراد من التصرف‬
‫بطريقة رشيدة تمكنهم من تعظيم منافعهم‪ .‬وينجم عن ذلك أن الطبقات االجتماعية ال ُينظر إليها على أنها‬

‫‪55‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫تتصارع على الدوام من أجل زيادة الحصة من الدخل العائدة لكل منها‪ ،‬بل ينظر على أنها تتعامل مع‬
‫بعضها البعض وفقا لروح يطبعها التوافق االجتماعي‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬أبرزرواد التحليل الحدي‪.‬‬


‫ظهر التحليل الحدي على يد ثالثة ّ‬
‫كتاب بارزين في الفكر االقتصادي‪ ،‬في زمن واحد تقريبا في بداية‬
‫عشرية الثمانينات من القرن التاسع عشر‪ ،‬هم"كارل منجر"‪" ،‬ستانلي جيفوز"‪ ،‬و"ليون فالراس"‪.‬‬
‫والعجيب في األمر أن هؤالء الثالثة كانوا قد توصلوا إلى نفس املبادئ التي يقوم عليها التحليل الجديد دون‬
‫أن يكون بينهم أي تعاون أو اتصال‪ ،‬إضافة إلى تباعد أماكن تواجدهم حيث كان األول متواجدا في فيينا‪،‬‬
‫والثاني في لندن والثالث في لوزان بسويسرا‪.‬‬

‫املطلب األول‪" :‬كارل منجر"‪.‬‬


‫ولد ونشأ كارل منجر (‪ )1911-1781‬في النمسا‪ .‬درس بجامعة "براغ"‪ ،‬واهتم بالفكر االقتصادي‬
‫بعدما عمل في املجال الصحفي حيث كان يقوم بتغطية أخبار أسعار األوراق املالية في إحدى الجرائد‪.‬‬
‫وع ِّين على إثر ذلك كأستاذ لالقتصاد‬
‫أصدر كتابه "مبادئ االقتصاد"‪ ،‬الذي نال به شهرة كبيرة‪ ،‬في ‪ُ ،1781‬‬

‫السياس ي في جامعة فيينا‪.‬‬


‫خاص ملفهوم‬
‫ٍ‬ ‫تحديد‬
‫ٍ‬ ‫أما أفكاره في االقتصاد "فإنها تدور حول فكرة املنفعة والحاجة"‪ ،‬منطلقا من‬
‫السلعة‪ ،‬حيث اعتبر أنه "حتى يكون لش يء وصف السلعة‪ ،‬ال بد أن يكون قادرا على إشباع حاجة إنسانية‪،‬‬
‫أي أن تكون له منفعة"‪ ،‬وأن "ما يحدد القيمة ليس الش يء النافع أو السلعة ذاتها بل عالقة الفرد بها"‪.‬‬
‫وهو يرى أن "بدايات االقتصاد البشري توافقت مع ظهور السلع االقتصادية‪(...،‬التي هي سلع) يقل عرضها‬
‫املتاح عن االحتياجات املطلوبة منها‪(...،‬بخالف السلع غير االقتصادية مثل املاء والهواء التي) تقل‬
‫االحتياجات الكلية منها عن ما هو متاح في الطبيعة"‪.‬‬
‫وقد كانت أبرز مساهمة لـ ــ"منجر" في موضوع القيمة‪" ،‬تقديره بأن املنفعة الناتجة من استهالك‬
‫السلعة تتناقص مع زيادة الوحدات املستهلكة"‪ ،‬واستطاع أن يعرض مثاال افترض من خالله أن املستهلك‬
‫بإمكانه أن يقوم بتقديرات رقمية للمنافع املحصلة من استهالكه للسلع املختلفة وتوصل بموجب ذلك إلى‬
‫"أن الفرد سوف يستطيع أن يحقق أكبر إشباع ممكن‪ ...‬في حدود مورده االقتصادي‪ ...‬حينما يوزع وحدات‬
‫هذا املورد بالطريقة التي تكفل لكل وحدة أن تعطي إشباعا حديا متساويا في جميع االتجاهات"‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ " :‬وليام ستانلي جيفونز"‪.‬‬

‫‪56‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫"وليام ستاني جيفونز'' (‪ ،)1771-1781‬اقتصادي بريطاني‪ ،‬كان أحد أبرز مؤسس ي املدرسة النيو‪-‬‬
‫تميز بانتقاده الشديد للفكر االقتصادي الكالسيكي بسبب ضعفه‬ ‫كالسيكية ورواد "الثورة الحدية"‪ّ .‬‬

‫البادي في مواجهة أفكار املدارس التاريخية واالشتراكية‪ .‬بنى دراسته لالقتصاد على أساس تجريدي وقام في‬
‫سبيل ذلك باستخدام "التحليل الرياض ي‪ ،‬وخاصة التفاضل والتكامل"‪.‬‬
‫في موضوع القيمة ّ‬
‫توصل "جيفونز" إلى أن "قيمة السلعة تعتمد على املنفعة الحدية لتلك اللسعة‪،‬‬
‫(وأنه في حالة قيام املستهلك بطلب مجموعة من السلع‪ ،‬فإن توازنه يتحقق عندما تكون) نسبة املنفعة‬
‫الحدية للسلعة ‪ A‬إلى سعرها تساوي املنفعة الحدية للسلعة ‪ B‬إلى سعرها (وهكذا)"‪.‬‬
‫وقد رفض "جيفونز" أن يكون "العمل هو الخالق الوحيد واألساس للقيمة"‪ ،‬لكنه اعترف مع ذلك‬
‫بأن "العمل يؤثر في العرض وأن عرض السلعة يؤثر في درجة املنفعة‪ ،‬وهذه األخيرة تؤثر في قيمة السلعة"‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪" :‬ليون فالراس"‪.‬‬


‫"ليون فالراس" (‪ ،)1911-1788‬هو اقتصادي فرنس ي‪ ،‬استقر في سويسرا للتدريس في جامعة لوزان‪.‬‬
‫تأثر في صغره كثيرا بأفكار والده الفيلسوف "أوغست فالراس" وبأفكار صديق والده االقتصادي "كورنو"‬
‫وخاصة بأسلوبه الرياض ي املبتكر في التحليل االقتصادي‪.‬‬
‫ّ ً‬
‫مبينا أن هناك‬ ‫انطلق "فالراس" في تحليله االقتصادي من عملية التبادل فتناول موضوع القيمة‪،‬‬
‫"تداخال واضحا بين ظاهرتين هما الندرة واملنفعة‪ ( ...‬اللتين تؤثران) على عملية التبادل في األسواق‬
‫‪(...‬وتلعبان دورا أساسيا) في تحديد قيمة األشياء"‪ .‬وقد توصل في دراسته لهذا املوضوع إلى أنه "كلما حصل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفرد على وحدة إضافية من السلعة قلت ندرتها‪ ،‬وقلت اإلضافة في اإلشباع التي يحصل عليها من هذه‬
‫ّ‬
‫السلعة‪-‬أي قلت منفعتها الحدية‪( .‬كما شرح) كيف أن وضع التوازن ‪...‬يستلزم أن تكون األسعار النسبية ‪...‬‬
‫متناسبة ‪...‬مع معدالت الندرة النسبية" وهو ما يكافئ في حالة مجموعة من السلع تساوي النسب بين‬
‫املنافع الحدية ملختلف السلع وأسعارها‪ ،‬وهو نفس ما توصل إليه "جيفونز" كما أشرنا من قبل‪.‬‬
‫وقد ّ‬
‫تميز "فالراس" في تحليله االقتصادي باستخدامه للمنفعة الحدية في اشتقاق منحنى الطلب‪،‬‬
‫وتأكيده الكبير على املنافسة‪ ،‬باإلضافة إلى اهتمامه بالتوازن العام‪ ،‬حيث كان يرى "أن املحيط‬
‫االقتصادي عبارة عن سوق كبيرة يتوسطه أو يسيره املنظمون الذين يشترون خدمات اإلنتاج‪...‬ومن خالل‬
‫هذا التعامل العفوي أو التلقائي لهذا النشاط يحدث التوازن العام‪ ،‬من خالل تدخل محددات السوق‬
‫املتمثلة في العرض والطلب"‪ ،‬معتبرا "أن أسعار خدمات عناصر اإلنتاج متغيرة بطبيعتها وتعتمد على قيمة‬
‫السلعة التي تستخدم في إنتاجها‪".‬‬

‫‪57‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬تقييم الفكراالقتصادي الحدي‪.‬‬

‫لقد أحدث التحليل الحدي ثورة حقيقية في الفكر االقتصادي بما كان له من إسهامات إيجابية‬
‫ّ‬
‫كبيرة في هذا املجال‪ ،‬لكنه لم يسلم مع كل ذلك من عدة انتقادات ركز جلها على املبالغة في إخضاع‬
‫اإلنسان للرشادة االقتصادية وما ينجم عنها من تقديرات كمية‪.‬‬
‫فمن أهم اإلسهامات اإليجابية للتحليل الحدي يذكر على الخصوص‪:‬‬
‫َ‬
‫املجال واسعا‬ ‫وفتحه بالتالي‬ ‫ُ‬
‫إيجاده لحل منطقي للغز القيمة الذي واجهه آدم سميث من قبل‪ُ ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫للتأكيد على عامل املنفعة في تحديد القيمة التبادلية؛‬
‫‪ -‬بيان هذا التحليل بأن القيمة التبادلية تتحدد باملنفعة أفقد النظرية التي تعتبر العمل هو املصدر‬
‫ّ‬
‫الوحيد للقيمة مصداقيتها‪ ،‬ومكن من تخليص الفكر الكالسيكي من العجز الواضح في نظريتي‬
‫التكاليف اإلنتاجية والعمل في تفسير القيمة؛‬
‫‪ -‬أدى ظهور التحليل الحدي إلى إحداث ثغرة كبيرة في التحليل املاركس ي‪ ،‬إذ أن هذا األخير اتخذ من‬
‫نظرية القيمة– العمل أساسا له‪ ،‬وبهذا النقد الجدي للنظرية املذكورة تكون األفكار املاركسية‬
‫املتولدة عنها‪ ،‬من فائض للقيمة ورأسمال متغير وثابت‪ ،‬واستغالل عمالي‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬تكون تلك‬
‫األفكار مجانبة للحقيقة في نسبة كبيرة منها؛‬
‫‪ -‬فتحه املجال لالستخدام الواسع لألدوات الرياضية في دراسة الظواهر االقتصادية‪ ،‬حيث دشن‬
‫هذا التحليل عهدا جديدا استخدمت فيه تلك األدوات بشكل كبير في دراسة سلوك الوحدات‬
‫االقتصادية على املستوى الجزئي في مختلف األسواق‪.‬‬

‫أما االنتقادات التي وجهت له فتتلخص على العموم في‪:‬‬


‫‪ -‬اعتماد التحليل الحدي الكلي على فكرة "اإلنسان االقتصادي" الذي يسعى دائما لتعظيم‬
‫منافعه‪ ،‬في حين أن هذه الفكرة ال تتوافق في كل األحوال مع الواقع‪ ،‬ألن اإلنسان الحقيقي ال‬
‫يخضع في سلوكه إلى الدوافع االقتصادية وحدها بل تحكمه دوافع أخرى أيضا ال يجب إهمالها؛‬
‫‪ -‬مبالغتها في الثقة بالسوق وإمكانية أن يصل كل فرد إلى تعظيم منفعته في ظل املنافسة الحرة‪ ،‬في‬
‫حين أن الواقع لم يكن يخلو من معاناة شديدة كانت تعيشها فئات واسعة من الطبقة الفقيرة؛‬
‫الو َح ِد َّية‪ ،‬أي الجزئية‪ ،‬حيث اهتم‬
‫‪ -‬اهتم التحليل الحدي بشكل أساس ي بالكيانات االقتصادية َ‬
‫بالفرد كمستهلك أو كمنتج‪ ،‬وأهمل إهماال تاما الكيان االقتصادي الكلي و ما يتعلق به من‬
‫متغيرات أو مقادير كالدخل الوطني‪ ،‬واالستهالك الوطني‪ ،‬واالدخار الوطني‪ ،‬مفترضا أن املقادير‬

‫‪58‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الكلية (لالستهالك أو لغيره) ليست سوى تجميع للمقادير الجزئية املتعددة‪ ،‬وهو افتراض غير‬
‫صحيح بطبيعة الحال‪.‬‬

‫‪59‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫امل ـ ـ ـ ـ ـ ــدرسة ال ـ ـك ـي ـ ـ ـ ـ ــنزي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫يكون بمقدور الطالب بعد تناوله لهذا الفصل أن يتبين ويفهم ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬تعرض النظام الرأسمالي ألمات دورية كان أعنفها أزمة ‪9191‬؛‬


‫‪ -‬عجز النظرية الكالسيكية في تفسير األزمات الدورية العنيفة للنظام الرأسمالي وقديم الحلول‬
‫املناسبة لذلك؛‬
‫‪ -‬ظهور كتاب النظرية العامة لالقتصادي االنكليزي جون مينارد كينز الذي قدم من خالله تصورا‬
‫مغايرا لسير النظام الرأسمالي يختلف كليا عما كانت تقدمه املدرسة الكالسيكية؛‬
‫‪ -‬رفض كينز لقانون "ساي" لألسواق وتقديمه للطلب على العرض في تفسيره آللية السوق؛‬
‫‪ -‬إرجاع كينز سبب األزمات املتكررة إلى قصور الطلب الكلي الفعال‪ ،‬واعتباره أن النظام الرأسمالي‬
‫يميل إلى التوازن في مستوى ال يكون فيه استغالل كامل للموارد وخاصة من اليد العاملة؛‬
‫‪ -‬دعوة كينز الحكومة للتدخل في الشأن االقتصادي ملواجهة األزمات املتكررة بالعمل على معالجة‬
‫انخفاض الطلب الكلي بزيادة اإلنفاق العمومي باعتماد سياسات مالية مناسبة‪.‬‬

‫‪60‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫تعود بداية ظهور املدرسة الكينزية إلى ثالثينيات القرن املاض ي‪ ،‬وكانت لها هي األخرى مساهمات جد‬
‫مهمة في الفكر االقتصادي من خالل ما قدمته من انتقاد للنظريات التي سبقتها وما جاءت به من حلول‬
‫ملواجهة التقلبات واألزمات التي يمر بها النظام الرأسمالي‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪" :‬جون مينارد كينز" و أبرزاالنتقادات التي وجهها للنظرية الكالسيكية‪.‬‬

‫تنسب املدرسة الكينزية إلى االقتصادي االنجليزي "جون مينارد كينز" الذي كان أستاذا لالقتصاد‬
‫بجامعة كامبرج‪ ،‬وذاع صيته بعد إصداره لكتابه املشهور املعنون ب ـ "النظرية العامة في التشغيل والفائدة‬
‫َّ ُ‬ ‫ّ‬
‫والنقود" سنة ‪ .9191‬وقد شكل املؤلف املذكور انعطافا بارزا في الفكر االقتصادي الرأسمالي بما جاء به‬
‫من نقد شامل للنظريتين الكالسيكية والنيو‪-‬كالسيكية اللتين بدتا عاجزتين عن تقديم تفسير واضح ألزمة‬
‫‪ 9191‬التي هزت اقتصاديات البلدان الغربية‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬جون مينارد كينز‪.‬‬


‫''جون مينارد كينز" (‪ ،)9191-9889‬هو اقتصادي انكليزي‪ ،‬من أسرة بورجوازية أقرب إلى‬
‫األريسطوقراطية‪ ،‬كان والده أستاذا جامعيا وأمه شخصية عامة شغلت منصب عمدة "كامبرج" لبعض‬
‫الوقت‪ .‬التحق بجامعة "كامبرج" حيث اختار دراسة الرياضيات وكتب بحثا في "نظرية االحتماالت"‪ ،‬ثم‬
‫اتجه بعد ذلك إلى دراسة االقتصاد‪ .‬عمل كمدرس في جامعة "كامبرج" كما عمل أيضا في اإلدارة الحكومية‬
‫ّ‬
‫بوزارة الخزانة‪ ،‬حيث كلف بتولي مهام كبيرة من أبرزها مشاركته كمندوب للخزينة البريطانية في مفاوضات‬
‫السالم في مؤتمر "فيرساي" سنة ‪ 9191‬التي جرت بعد انتهاء الحرب العاملية األولى‪ .‬كما ترأس وفد بالده في‬
‫عي َد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬بهدف وضع أسس نظام نقدي دولي جديد‬ ‫مؤتمر "بريتن وودز"‪ ،‬الذي انعقد ُب ْ‬
‫تجسد من خالل هيئة دولية تمثلت في صندوق النقد الدولي‪.‬‬
‫وأمام امتداد أزمة ‪ ، 9191‬وعجز النظرية االقتصادية الكالسيكية عن تقديم تفسيرات لها‪ ،‬بحكم‬
‫أن افتراضاتها األساسية تفيد بأن النظام الرأسمالي ال يمكنه أن يعرف اختالال ممتدا بين قوى العرض‬
‫والطلب‪ ،‬كان لكينز الفضل الكبير في تقديم تفسير مغاير لسير النظام املذكور الذي اعتبره قابال للتوازن‬
‫في مستويات أدنى من مستوى التشغيل الكامل‪ ،‬ومن ثم استطاع أن يقدم اقتراحات من أجل تصحيح تلك‬
‫االختالالت وتفادي األزمات الدورية‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬انتقادات كينزللنظرية الكالسيكية‪.‬‬


‫من أبرز االنتقادات التي وجهها كينز للنظرية الكالسيكية يمكن أن نورد ما يلي‪:‬‬

‫‪61‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫أوال‪ -‬رفضه لفكرة التوازن االقتصادي عند مستوى التشغيل الكامل للموارد‪.‬‬
‫فقد كان كينز يرى أن "االقتصاد الرأسمالي مجبول على عدم التوازن واالضطراب‪ ،‬لعدم قدرة‬
‫آليات السوق من ضبط التدفقات االقتصادية‪ ،‬مفترضا أن االقتصاد ال يجد بالضرورة توازنه في العمالة‬
‫الكاملة (‪ ،)...‬بل يستطيع االقتصاد من الوصول إلى التوازن عند مستوى أقل من االستخدام الكامل‪ ،‬أي‬
‫بوجود بطالة"‪ .‬ويعتبر هذا التصور رفضا لقانون ساي الشهير لألسواق الذي يفيد بأن العرض يخلق‬
‫الطلب‪ .‬ولم يعر كينز اهتماما كبيرا إلى كون القانون املذكور يتعلق أكثر باألجل الطويل‪ ،‬فعلق متهكما "أننا‬
‫سنموت كلنا في األجل الطويل"‪ .‬وقد عاد كينز في هذه املسالة إلى فرضية "مالتوس" بخصوص الطلب‪،‬‬
‫معتبرا أن األزمة تنجم عن انهيار "الطلب الفعلي"‪ ،‬أو الطلب الكلي املوجه للمؤسسات‪ ،‬مما يؤدي إلى ظهور‬
‫بطالة غير إرادية مرتبطة بعدم كفاية الطلب‪ ،‬وليس بطالة إرادية تعود إلى مطالبات بأجور أكثر ارتفاعا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬نقده للنظرية الكالسيكية في التشغيل‪.‬‬


‫انتقد كينز النظرية الكالسيكية في التشغيل على إثر موجات البطالة الكبيرة التي شهدتها‬
‫املجتمعات الغربية بسبب أزمة ‪ .9191‬فهذه النظرية تقوم كما هو معروف على افتراض وجود مرونة في‬
‫األسعار‪ ،‬أي أن األسعار تعتبر قابلة للتغير بسهولة‪ .‬وقد كان من نتائج ذلك االفتراض أن املدرسة‬
‫الكالسيكية كانت تعتقد بأن االقتصاد يميل في سيره إلى توفير االستخدام الكامل للموارد املوجودة بما في‬
‫ذلك اليد العاملة‪ .‬فظهور البطالة الذي قد ينتج عن زيادة في عرض العمل ( من قبل العمال) من املفترض‬
‫حسب االقتصاديين الكالسيك أن يؤدي إلى انخفاض في األجور وهو ما يؤدي منطقيا إلى زيادة في الطلب‬
‫على العمل من قبل الرأسماليين ويؤدي ذلك بالتالي إلى امتصاص الفائض من اليد العاملة وإلى استعادة‬
‫التوازن من جديد‪ .‬لكن البطالة التي نجمت عن أزمة ‪ 9191‬لم يتراجع مستواها على الرغم من انخفاض‬
‫مستوى األجور‪ ،‬وهو ما جعل كينز يرفض إمكانية استعادة سوق العمل توازنه بانخفاض األجور‪ ،‬بل‬
‫ويحذر من أن انخفاض األجور قد يؤدي إلى تفاقم أكبر في مشكلة البطالة لعد أسباب أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬أن أجور العمال تمثل نسبة هامة من الدخل الوطني‪ ،‬وبالتالي فإن انخفاضها سيؤدي إلى‬
‫انخفاض الطلب على السلع املعروضة‪ ،‬الش يء الذي يؤدي إلى تخفيض اإلنتاج ومنه إلى تخفيض‬
‫تشغيل العمال بل وإلى تسريح أعداد منهم؛‬
‫‪ -‬أن احتمال انخفاض مستوى األجور في ظل األزمة يجعل رجال األعمال يميلون إلى تأجيل‬
‫مشاريعهم اإلنتاجية في انتظار انخفاض أشد لألجور‪ ،‬وهو ما يؤدي إلى ازدياد مستوى البطالة‪.‬‬

‫‪62‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫ثالثا‪ :‬نقده لفكرة حيادية النقود‪.‬‬
‫فالنقود بالنسبة للفكر الكالسيكي ليست سوى وسيط للتبادل‪ ،‬أي أنها وسيلة تقنية للتخلص من‬
‫َُ‬
‫الصعوبات املرتبطة باملقايضة‪ ،‬أو حجاب يغطي الحقيقة املتمثلة في كون املنتجات تتبادل مقابل‬
‫املنتجات‪ ،‬وفقا لتعبير جون باتيست ساي‪ .‬إال أن كينز عارض هذا التصور‪ ،‬إذ اعتبر أن النقود لها تأثير‬
‫َ‬
‫نفس ي كبير في عال ٍم يطغى عليه عدم التأكد بشأن املستقبل‪ ،‬أو التخوف من املجهول الذي تخبئه األيام‪.‬‬
‫وينشأ عن هذا التخوف حسبه سلوك لدى األشخاص يميل إلى تفضيل السيولة‪ ،‬أي االحتفاظ بأصول‬
‫سهلة التحويل إلى نقود‪ .‬ويستنتج بناء على ذلك أن النقود تطلب لذاتها على خالف ما كان يفترضه‬
‫االقتصاديون الكالسيك‪.‬‬
‫وبسبب تفضيل األفراد للسيولة يكون هناك طلب متذبذب على النقود تبعا لدرجة عدم التأكد إزاء‬
‫املستقبل‪ ،‬ويؤدي ذلك في نفس الوقت إلى أن اإلنفاق لن يكون نتيجة للحصول على الدخل النقدي‪ ،‬ولن‬
‫يكون بالتالي نتيجة لعملية اإلنتاج التي يتولد عنها ذلك الدخل‪ ،‬كما كان يفكر جون باتيست ساي‪ ،‬بل على‬
‫العكس من ذلك يكون على اإلنتاج أن يتكيف مع إنفاق الدخل‪ .‬ومعنى ذلك أن العنصر الدافع للعملية‬
‫االقتصادية يتمثل في الطلب حسب كينز وليس اإلنتاج كما كان يعتقد الكالسيك‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬العناصرالرئيسية للنظرية الكينزية‪.‬‬

‫تتلخص العناصر الرئيسية للنظرية العامة التي جاء بها جون مينارد كينز في ما يلي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬الطلب الكلي‪.‬‬


‫يرى كينز أن الطلب الكلي الفعال هو الذي يحدد كمية اإلنتاج املستهدفة من قبل الرأسماليين‬
‫وكذلك َ‬
‫عد َد العمال املشغلين‪ .‬لكن هذا املتغير (الطلب الكلي الفعال) يتميز بميله في الغالب إلى أن يكون‬
‫أدنى من العرض الكلي‪ ،‬وهو ما يؤدي إلى تراجع وتيرة النشاط االقتصادي ألنه يؤدي إلى انخفاض اإلنتاج‪.‬‬
‫ولتوضيح سبب ميل الطلب الكلي إلى االنخفاض يميز كينز بين الطلب االستهالكي والطلب االستثماري‪.‬‬
‫فبالنسبة للطلب االستهالكي‪ ،‬فإن كينز يرى أن زيادة الدخل في املجتمع تؤدي إلى زيادة االستهالك‬
‫ولكن بنسبة أقل من نسبة الزيادة في الدخل‪ ،‬وذلك ألن الناس في أغلب األحيان يميلون إلى زيادة‬
‫استهالكهم كلما ازداد دخلهم‪ ،‬ولكن ليس بقدر الزيادة التي تحدث في الدخل‪ .‬ويعبر كينز عن ذلك‬
‫بانخفاض "امليل الحدي لالستهالك" الذي يعرفه بنسبة الزيادة في االستهالك إلى الزيادة في الدخل‪ ،‬والتي‬
‫يرمز لها ب ـ ‪ .dC/dR‬وبما أن الجزء املكمل للشق االستهالكي من الدخل هو ما يمثل الجزء املخصص‬
‫لالدخار‪ ،‬فإن كينز يشير إلى ما يعرفه بـ ـ "امليل الحدي لالدخار" الذي يرمز له بـ ـ ‪ ،dE/dR‬حيث ‪ R‬تمثل‬
‫‪63‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫كل من الدخل‪ ،‬االستهالك‬
‫الدخل‪ ،‬و ‪ C‬االستهالك‪ ،‬و‪ E‬االدخار‪ .‬أما ‪ dR‬و‪ dC‬و ‪ ،dE‬فهي تمثل التغير في ٍ‬
‫واالدخار‪ ،‬على الترتيب‪.‬‬
‫أما بالنسبة لالستثمار فإن كينز يرى أن رجال األعمال يربطون طلبهم االستثماري بمستوى الربح‬
‫املنتظر من املشاريع التي ينوون إقامتها‪ ،‬لكن هذا الطلب االستثماري غالبا ما يكون أقل من املستوى‬
‫املطلوب في البلدان الرأسمالية املتقدمة وذلك بسبب التراكم الكبير املحقق في املراحل السابقة والذي‬
‫يؤدي إلى انخفاض الكفاءة الحدية لرأس املال قياسا بسعر الفائدة‪ ،‬فيتراجع حجم االستثمار وينخفض‬
‫إلى ما دون مستوى االدخار املحقق‪ ،‬مما يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي وبالتالي إلى ميل االقتصاد إلى‬
‫التوازن دون املستوى الضامن للتشغيل الكامل‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مضاعف االستثمار‪.‬‬


‫في تناوله ملوضوع االستثمار أورد كينز فكرة جديدة تمثلت في أن مقدرا إضافيا من اإلنفاق‬
‫االستثماري يؤدي إلى زيادة في الدخل الكلي تفوق ذلك املقدار األولي بعدة أضعاف‪ ،‬حيث تقدر الزيادة‬
‫املضاعف‪ ،‬الذي يساوي مقلوب‬
‫ِ‬ ‫النهائية في الدخل بحاصل ضرب املبلغ االستثماري اإلضافي ٍ‬
‫بعدد يسمى‬
‫امليل الحدي لالدخار‪ .‬فإذا كان امليل الحدي لالدخار يساوي ‪ % 92‬فإن اإلنفاق االستثماري اإلضافي املقدر‬
‫(‪02 = ) 0,2/ 9‬‬ ‫‪x‬‬ ‫مثال ب ـ ‪ 92‬مليار دينار يؤدي إلى إحداث زيادة في الدخل الكلي تقدر ب ـ ‪ 92‬مليار دينار‬
‫مليار دينار‪.‬‬
‫وحيث أن الزيادة املضاعفة في الدخل تصاحب أيضا بزيادة مضاعفة في التشغيل‪ ،‬فإن فكرة‬
‫املضاعف هذه دعمت بشكل كبير االعتقاد بفائدة السياسات الحكومية الهادفة إلى رفع مستوى‬
‫االستثمار‪ .‬لكنه مع ذلك يجب أن يالحظ أن آلية املضاعف تعمل أيضا في االتجاه العكس ي‪ ،‬وهو ما يعني‬
‫بمقدار ما يؤدي كذلك إلى تراجع مضاعف في الدخل وفي التشغيل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أن تراجعا في االستثمار‬

‫ثالثا‪ :‬الفائدة والنقود‬


‫خالف كينز في موضوع الفائدة أيضا االقتصاديين النيو‪-‬كالسيك‪ ،‬الذين اعتبروا أن معدل الفائدة‬
‫يمثل عائدا مقابل االمتناع عن االستهالك الحاضر يحصل عليه األفراد بتأجيلهم استهالك جزء من دخلهم‬
‫إلى فترة الحقة في املستقبل‪ .‬فهو يؤكد على وجود ميل طبيعي لدى األفراد لالحتفاظ بالنقود على شكل‬
‫سيولة مدفوعين بثالثة أسباب رئيسية تتعلق بالسعي لعقد الصفقات‪ ،‬والتفكير في االحتياط وكذلك‬
‫االهتمام باملضاربة‪ .‬ويؤدي هذا امليل لالحتفاظ بالنقود في شكل سيولة إلى انخفاض مستوى االدخار‬

‫‪64‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫(بالبنوك) وبالتالي انخفاض مستوى االستثمار والذي يؤدي بدوره إلى انخفاض مستوى الطلب الكلي‪.‬‬
‫فمعدل الفائدة ال يمثل عند كينز عائدا مقابل االمتناع ولكن عائدا يقابل التخلي عن السيولة‪ ،‬ولذلك ال‬
‫يمكن االعتماد كثيرا على زيادة معدل الفائدة لزيادة االدخار‪ ،‬ألن امليل لالحتفاظ بالسيولة يجعل دائما‬
‫جزءا من الدخل موجها إلى االكتناز وال يتحول إلى ادخار‪.‬‬
‫من جهة أخرى فإن كينز يعتبر أن انخفاض سعر الفائدة ال يكفي لدفع رجال األعمال إلى االستثمار‬
‫كما كان يعتقد الكالسيك‪ ،‬وذلك ألن ما يدفع هؤالء إلى االستثمار بالفعل هو في الحقيقة معدل الربح‬
‫وليس الفائدة املنخفضة‪ ،‬فرجال األعمال يبقون مترددين ومتوجسين أمام سعر الفائدة املعطى في الوقت‬
‫الحالي وأمام معدل الربح املستقبلي الذي ال ُيعرف في الواقع إلى بعد مدة من الزمن‪.‬‬
‫في نفس السياق يؤكد كينز كثيرا على دور النقود في جانبه املتعلق بخاصيتها كمخزن للقيمة‪ ،‬على‬
‫عكس االقتصاديين الكالسيك الذين أهملوا هذه الخاصية في النقود وركزوا على خاصيتها كوسيط‬
‫للتبادل‪ .‬فخاصية النقود كمخزن للقيمة هي التي تدفع املتعاملين االقتصاديين إلى االحتفاظ بالنقود‪ ،‬وهو‬
‫السلوك الذي يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي وقد ُ"يبقي أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة‪ ...‬وملا كان‬
‫سعر الفائدة مع الكفاية الحدية لرأس املال ُيح ِّد َدان القرار االستثماري‪ ،‬فإن اتجاهات التراجع في االندفاع‬
‫نحو االستثمار‪ ،‬وبالتالي حدوث نقص في الطلب الكلي‪ ،‬قد توافرت مبررات حدوثهما‪".‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬دورالدولة في االقتصاد‪.‬‬


‫يرى كينز‪ ،‬في ظل ميل الطلب الكلي إلى االنخفاض قياسا بالعرض الكلي‪ ،‬أن على الدولة أن تتدخل‬
‫في الحياة االقتصادية بهدف الرفع من مستوى الطلب‪ ،‬وذلك للحفاظ على التوازن والسماح باستمرار‬
‫وتيرة النشاط االقتصادي‪ .‬ويكون تدخل الدولة في االقتصاد حسب كينز من خالل سياستها املتعلقة‬
‫باإلنفاق العمومي والضرائب‪ ،‬حيث تستطيع بفضل توسعها في اإلنفاق أن تدعم الطلب الكلي وتشغل‬
‫اليد العاملة العاطلة في مجاالت األشغال العمومية واألمن واإلدارة والتسلح‪ ،‬مما يؤدي إلى تنشيط‬
‫االستثمار الخاص‪ .‬كما يكون للدولة أن تقوم بتخفيض معدالت الضريبة وتقديم الدعم للمنتجين من‬
‫أجل ضمان استمرارهم في أنشطتهم اإلنتاجية ومشاريعهم االستثمارية‪.‬‬

‫املبحث الثالث ‪ :‬تقييم النظرية الكينزية‪.‬‬

‫كغيرها من النظريات التي سبقتها كان للنظرية الكينزية مساهمات إيجابية في الفكر االقتصادي‪ ،‬ولكنها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫انتقدت أيضا في بعض جوانبها خصوصا بعد ما طبقت بالبلدان الرأسمالية لفترة طويلة نسبيا‪.‬‬

‫‪65‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫املطلب األول‪ :‬املساهمات اإليجابية ل ـ ــلنظرية‪.‬‬
‫‪ -‬كشف بعض جوانب القصور في الفكر االقتصادي الكالسيكي وخاصة ما تعلق من ذلك بقانون‬
‫ساي لألسواق وبحالة التوازن الدائم والتشغيل الكامل للموارد؛‬
‫‪ -‬تقديم كينز تفسيرا ألسباب الدورات االقتصادية واقتراحه لحلول لألزمات املتكررة ال تقتض ي‬
‫اللجوء إلى تخفيض األجور ملا لذلك من آثار سلبية على الطلب وعلى التشغيل؛‬
‫‪ -‬اتخاذ األفكار الكينزية كأساس لصياغة السياسات املالية والنقدية املضادة للدورات االقتصادية‬
‫في مختلف الدول الرأسمالية بعد الحرب العاملية الثانية‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬االنتقادات التي وجهت للنظرية‪.‬‬


‫‪ -‬عج ز النظرية الكينزية عن تقديم تفسير لظاهرة الركود التضخمي التي اجتاحت االقتصاديات‬
‫الرأسمالية بعد ثالثة عقود من النمو املستمر منذ انتهاء الحرب العاملية الثانية؛‬
‫‪ -‬تسبب السياسات الكينزية في زيادات كبيرة في اإلنفاق العام وفي ظهور العجز في امليزانية العامة‬
‫لجوء إلى اإلصدار النقدي؛‬
‫وما أدى إليه ذلك من زيادة في الضرائب ومن ٍ‬
‫‪ -‬تسبب التدخل الحكومي الواسع في اختالل السير الحسن للسوق وما نجم عن ذلك من تفاقم في‬
‫مشاكل النظام االقتصادي وانخفاض فعالية سيره‪.‬‬
‫‪ -‬تركيز انتقادات كينز لالقتصاديين الكالسيك على األجل القصير في حين أن ذلك ال ُي ِنقص من‬
‫صحة عديد من األفكار االقتصادية لهؤالء والتي كانت ترتبط باألجل الطويل‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫امل ـ ـ ــدرس ـ ـ ـ ـ ـ ــة الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــقدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫بإمكان الطالب بعد تناوله لهذا الفصل أن يتبين ويفهم ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬تحقيق البلدان الغربية بتنفيذها ألفكار جون مينارد كينز لنمو اقتصادي كبير دام حوالي ثالثين سنة بعد‬
‫الحرب العاملية الثانية‪ .‬لكن هذه املسيرة املجيدة‪ ،‬كما يسمونها‪ ،‬انتهت في األخير بتراجع معدالت النمو‬
‫وارتفاع معدالت البطالة بالتزامن مع وجود توترات تضخمية‪ ،‬في ظاهرة جديدة سميت ب ـ "الركود‬
‫التضخمي"؛‬
‫‪ -‬عجز السياسة الكينزية عن مواجهة األوضاع االقتصادية الجديدة؛‬
‫‪ -‬ظهور أفكار اقتصادية جديدة كانت معارضة للنظرية الكينزية من قبل تمثلت في أفكار اقتصادي شهير‬
‫آخر هو ميلتون فريدمان الذي تولى قيادة مدرسة جديدة هي املدرسة النقدية؛‬
‫‪ -‬رفض املدرسة النقدية ألفكار كينز وخاصة ما يتعلق منها بتفسيره ألزمات النظام وبالسياسات التي يقدمها‬
‫كحل لها؛‬
‫‪ -‬إرجاع املدرسة النقدية سبب األزمات إلى أخطاء في السياسة النقدية ترتكبها الهيئة املكلفة بتسيير الكتلة‬
‫النقدية؛‬
‫‪ -‬حل األزمة وفقا لتصور املدرسة النقدية يكمن في معالجة االختالل املحتمل للتوازن بين العرض الكلي‬
‫والطلب الكلي في زيادة الكتلة النقدية أو تقليصها وقفا للحاجة‪ ،‬واالبتعاد عن السياسة املالية التي تقحم‬
‫املصالح الحكومية في التدخل في النشاط االقتصادي وهو أمر ال تحسن القيام به؛‬

‫‪67‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫املبحث األول‪ :‬عجزالسياسة الكينزية في مواجهة ظاهرة الركود التضخمي‪.‬‬
‫لقد أعطى التطبيق املثمر للنظرية الكينزية باالقتصاديات الغربية‪ ،‬بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬انطباعا‬
‫واسعا بأن النظام الرأسمالي لم يعد مهددا باألزمات التي كانت تهزه بشكل دوري فتخلخل توازنه االقتصادي‬
‫واالجتماعي‪ .‬فالبلدان الغربية شهدت بالفعل خالل تلك الفترة نموا اقتصاديا جيدا ومتواصال استمر لثالثين سنة‪،‬‬
‫تحقق من جرائه تراكم لم يسبق له مثيل للثروة‪ ،‬بحيث ارتقت مجتمعات تلك البلدان من مجتمعات إنتاجية‬
‫بالدرجة األولى إلى مجتمعات أصبح االستهالك فيها ظاهرة عامة‪ ،‬في ظل التشغيل الكامل واالرتفاع الكبير ملستويات‬
‫املعيشة وتحسن األوضاع الصحية وارتفاع مستويات التعليم وزيادة وتنوع إمكانيات االختيار أمام األفراد في‬
‫مختلف املجاالت‪.‬‬
‫لكن التطورات التي بدأت تعيشها البلدان املذكورة منذ السنوات األولى لعشرية السبعينات أدت إلى تزايد‬
‫الشكوك بشأن استمرار صالحية السياسات االقتصادية املستندة إلى النظرية الكينزية‪ .‬إذ حدث تراجع كبير في‬
‫معدالت النمو خالل هذه الفترة ودخلت اقتصاديات تلك البلدان في حالة من الركود أدت إلى ارتفاع معدالت‬
‫ّ‬
‫البطالة‪ .‬وما زاد الطين بلة أن هذه األوضاع كانت مصحوبة أيضا بمعدالت تضخم مرتفعة‪ ،‬وهي ظاهرة لم تكن‬
‫مألوفة من قبل وقد أطلق عليها اسم "الركود التضخمي" )‪ .( Stagflation‬ولم يكن من السهل التعامل مع هذه‬
‫الظاهرة‪ ،‬ألن التوسع في اإلنفاق الحكومي كما تشير به النظرية الكينزية لتجاوز الوضع الركودي وزيادة التشغيل‬
‫كان يتعارض مع معدالت التضخم املرتفعة التي كانت تقتض ي تخفيض الطلب بتقليص اإلنفاق‪.‬‬
‫قدم تفسيرات تختلف عن‬ ‫ففتحت هذه الظروف غير املألوفة املجال لظهور أفكار اقتصادية جديدة ُت ّ‬
‫ِّ‬
‫التفسير الكينزي ألسباب األزمات املتكررة للنظام الرأسمالي‪ ،‬وتصيغ من خاللها حلوال بديلة معتقدة في قدرتها على‬
‫تصحيح وضع النظام املذكور وضمان استمرار سيره‪ .‬ومن أبرز املفكرين الذين كانوا يشككون في النظرية الكينزية‪،‬‬
‫وأتيحت لهم الفرصة لتسمع آراؤهم بعد هذه التطورات الجديدة‪ ،‬االقتصادي األمريكي الشهير ميلتون فريدمان‬
‫الذي صار يتزعم ما عرف باملدرسة النقدية‪ .‬كما برز مفكرون آخرون قدموا طروحات جديدة تعدت إطار املدرسة‬
‫َ‬
‫النقدية إما بتعميقها للبحث في بعض املواضيع التي كانت تتناول من قبل أو ِّبط ْر ِّق َها ملواضيع جديدة كتلك التي‬
‫ترتبط باملجال املؤسس ي على سبيل املثال‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬األفكارالجديدة التي جاءت بها املدرسة النقدية بقيادة فريدمان‪.‬‬

‫كان انتقاد املدرسة النقدية‪ ،‬التي ظهرت في جامعة شيكاغو األمريكية بزعامة ميلتون فيردمان‪ ،‬للنظرية‬
‫الكينزية ُمركزا على االعتماد الكبير لهذه األخيرة على توسع الدولة في اإلنفاق من أجل إعادة التوازن الناتج عن‬

‫‪68‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫األزمات‪ .‬وهي أن الحل يكمن في العودة إلى األسس األولى للمدرسة الكالسيكية التي تقلص من دور الدولة‪ ،‬وتطرح‬
‫تفسيرا لسبب األزمات الدورية يتصل بتسيير عرض النقود‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬املبادئ األساسية للمدرسة النقدية‪.‬‬


‫وتتلخص املبادئ التي تقوم عليها املدرسة النقدية‪ ،‬حسب ‪ ،Stanley L. Brue‬في ما يلي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬دورالنقود‪.‬‬
‫يرى النقديون أن الزيادة في عرض النقود تؤدي إلى رفع مستوى الطلب الكلي‪ ،‬ألنها تؤدي إلى زيادة إنفاق‬
‫املؤسسات اإلنتاجية وكذلك العائالت‪ .‬وتسمح هذه الوسيلة حسبهم بإعادة التوازن لالقتصاد دونما حاجة إلى‬
‫التوسع في اإلنفاق الحكومي‪ .‬ويكون سبب األزمات بهذا املنظار عائدا أساسا إلى االنخفاض الذي قد يحدث في‬
‫عرض النقود‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬رفض النظرية الكينزية‪.‬‬


‫يرفض النقديون النظرية الكينزية تماما ألنهم يختلفون معها في تحديد السبب الرئيس ي لألزمة وكذلك في‬
‫الحلول املقترحة لها‪ .‬وبما أنهم يرجعون األزمة إلى السياسات النقدية غير املالئمة فإنهم يرون أن السياسة املالية ال‬
‫تكون فعالة إال إذا صاحبتها تغيرات في عرض النقود‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬محدودية التدخل الحكومي‪.‬‬
‫يعتبر النقديون أن الحكومة ال تتمتع بالكفاءة الالزمة لتحقيق األهداف التي بإمكان املجتمع تحقيقها من‬
‫خالل التبادل بين األفراد‪ .‬ألن املسؤولين الحكوميين لهم أهدافهم الخاصة التي يسعون إلى تحقيقها وكثيرا ما يكون‬
‫ذلك عبر التضحية بقدر من املصلحة العامة‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬أمثلية السلوك االقتصادي لألفراد‪.‬‬


‫إذ تعتبر هذه املدرسة أن الناس يقومون بخيارات عقالنية‪ ،‬ويستجيبون‪ ،‬كعمال أو مستهلكين أو منشآت‪،‬‬
‫للمحفزات املالية اإليجابية وكذلك السلبية‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬مقاربة األسعارواألجورملثيالتها التنافسية‪.‬‬


‫فهي تميل بشكل عام إلى أن تكون مقاربة ملثيالتها التنافسية في األمد الطويل‪ ،‬وتعكس بالتالي تكاليف‬
‫الفرصة للمجتمع في الجانب الحدي‪ .‬وهو ما يعني أن التدخل الحكومي لن يكون مجديا أكثر من السوق في مثل‬
‫ذلك األجل‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬السياسة املالئمة ملواجهة االختالالت االقتصادية حسب النقديين‪.‬‬

‫‪69‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫يرى النقديون أن التغير في عرض النقود يؤثر في مستوى الطلب الكلي‪ ،‬ويؤثر بالتالي في حجم اإلنتاج وكذلك‬
‫في األسعار‪ .‬لكن ذلك التأثير يختلف تبعا لألجل املأخوذ في االعتبار‪ .‬ففي األجل الطويل يكون تأثير تغير عرض‬
‫النقود منحصرا في املستوى العام لألسعار فقط‪ ،‬ويتوافق هذا املوقف تماما مع ما كانت تنادي به املدرسة‬
‫الكالسيكية‪ .‬أما في األجل القصير‪ ،‬فإن التأثير يكون تبعا لحالة االقتصاد من حيث مستوى التشغيل السائد‬
‫للموارد‪ .‬فإذا كان االقتصاد في حالة أدنى من مستوى التشغيل الكامل للموارد‪ ،‬فإن زيادة العرض النقدي تؤدي إلى‬
‫زيادة اإلنتاج والتشغيل‪ .‬أما إذا كان االقتصاد في حالة التشغيل الكامل للموارد‪ ،‬فإن زيادة العرض النقدي تؤدي‬
‫فقط إلى ارتفاع املستوى العام لألسعار‪.‬‬
‫من جهة أخرى فإن تخفيض العرض النقدي يؤدي إلى تقليص كمية النقود عند الجمهور‪ ،‬ومن ثم إلى‬
‫انخفاض اإلنفاق على السلع والخدمات‪ ،‬وبالتالي إلى تدني مستوى الدخل الوطني‪ .‬ويستمر ذلك إلى غاية النقطة‬
‫ُ‬
‫التي تستعاد فيها النسبة األصلية بين هذا األخير وبين العرض النقدي‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فإن البديل الذي قدمته املدرسة النقدية من أجل مواجهة االختالالت املتكررة للنظام‬
‫ّ‬
‫الرأسمالي‪ ،‬عوضا عن الحل الكينزي‪ ،‬يرك ُز باألساس على دعوة الحكومة من أجل االكتفاء بالتغيير في العرض‬
‫النقدي إلى غاية استرجاع التوازن االقتصادي من جديد‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬ميلتون فريدمان و أبرزمساهماته في الفكراالقتصادي‪.‬‬


‫ُ ّ‬
‫ميلتون فيردمان (‪ ،)1002-9191‬هو اقتصادي أمريكي‪ ،‬درس بجامعة شيكاغو ثم عاد بعد سنوات لي ِّ‬
‫درس‬
‫بها‪ .‬كان له تأثير كبير بتلك الجامعة بحيث صار ذكرها مرتبطا باألفكار التي كان ينادي بها هو وتالميذه‪ .‬عمل أيضا‬
‫كمستشار لشخصيات سياسية بارزة منها الرئيسين نيكسون في السبعينات ورونالد ريغن في الثمانينات‪ .‬له عدة‬
‫مؤلفات من أهمها "التاريخ النقدي للواليات املتحدة" (‪" ،)9192‬األسعار والنظرية االقتصادية" (‪،)9121‬‬
‫و"التضخم واألنظمة النقدية" (‪ .)9121‬وحصل على جائزة نوبل سنة ‪.9192‬‬
‫من أهم مساهماته النظرية في االقتصاد طرحة لتفسير مختلف لسبب أزمة الكساد العظيم‪ .‬فالتفسير‬
‫ّ‬
‫الذي كان متداوال من قبل كان يعزي سبب األزمة إلى اختالل في سير السوق‪ ،‬لكن فريدمان أكد‪ ،‬بعد دراسته‬
‫للتاريخ النقدي للواليات املتحدة‪ ،‬على أن السبب كان يعود أساسا إلى القرارات الخاطئة التي اتخذت من طرف‬
‫البنك املركزي األمريكي‪ ،‬والتي أدت إلى تخفيض الكتلة النقدية بين ‪ 9111‬و‪ 9111‬بحوالي الثلث‪.‬‬
‫قدم فريمان أيضا نظرية أخرى لالستهالك ال تتوافق مع النظرية الكينزية‪ ،‬إذ أنها تعتمد على الدخل الدائم‬
‫وليس على الدخل الجاري‪ .‬ويفيد ذلك في بيان أن امليل الحدي لالستهالك الذي اعتمد عليه كينز في تفسيره‬
‫النخفاض الطلب ليس في الواقع ذا تأثير كبير‪ ،‬وبالتالي فإن رد االختالالت االقتصادية إلى ذلك السبب مبالغ فيه‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬عاد فريدمان إلى النظرية الكمية للنقود وأعطاها دفعا قويا‪ ،‬من خالل الجهود التي قام بها‬
‫بدراساته لكل الفترات التاريخية التي سجلت بها تغيرات في الكتلة النقدية أدت فيما يبدو إلى تغير في األسعار‪.‬‬
‫فانتهى بناء على تلك الدراسات ليؤكد بأن الترابط املنتظم بين املتغيرين ال يماثله أي ترابط آخر‪ ،‬وأن الحاالت‬
‫التاريخية التي سجلت بها تغيرات متزامنة بين كمية النقود واألسعار حدثت بالفعل في فترات تاريخية مختلفة وفي‬
‫كل البلدان‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولذلك كان فريدمان ينادي بسياسة نقدية تحترم فيها بصرامة شديدة نسبة نمو مستقرة للكتلة النقدية‬
‫تتوافق مع النمو االقتصادي املصحوب بالتشغيل الكامل وباستقرار األسعار‪ .‬فالسياسة النقدية بالنسبة إليه‬
‫تمثل الوسيلة األساسية ملكافحة التضخم‪ ،‬لكنها تبقى دون أي تأثير في األمد الطويل على النشاط االقتصادي‪.‬‬
‫يرى فريدمان أن السمة األساسية القتصاد السوق تكمن في حرية االختيار وفي املسؤولية الفردية‪ ،‬ويعارض‬
‫في نفس الوقت الذين ال يرون في الرأسمالية سوى طغيان حب املال وكذلك الذين يميلون إلى اتخاذ مواقف‬
‫محافظة فيجعلون بعض القيم الروح ية والوطنية تعلو على الحرية الفردية‪ .‬فالرأسمالية والحرية الفردية‬
‫مترابطان ترابطا وثيقا‪.‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬تقييم املدرسة النقدية‪.‬‬


‫يحسب للمدرسة النقدية أنها استطاعت أن تعيد للفكر االقتصادي حيوية كبيرة بعد عقود من سيطرة‬
‫النظرية الكينزية وسياساتها التطبيقية‪ ،‬خصوصا في ظل الظواهر االقتصادية الجديدة التي صارت تعيشها‬
‫االقتصاديات الرأسمالية الغربية خالل عشرية السبعينات‪ .‬ومن أهم نقاطها اإليجابية في هذا املجال نشير إلى ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ -‬تأكيدها على ضرورة العودة الحترام آلية السوق وتضييق دور الدولة التي توسعت كثيرا في تدخلها‬
‫االقتصادي؛‬
‫‪ -‬إبرازها ألثر السياسة النقدية على األسعار وعلى اإلنتاج من خالل أثرها على الطلب الكلي‪ ،‬فقدمت بذلك‬
‫بديال عن التفسير الكينزي لسبب األزمات املتكررة‪ ،‬مؤكدة على أنه "إذا كانت السياسة النقدية غير‬
‫موجهة بشكل جيد فإنها ستلحق أضرارا باالقتصادي تتمثل في عدم االستقرار‪".‬‬
‫‪ -‬إعادة إحيائها للنظرية الكمية للنقود وتأكيدها على االرتباط الشديد بين العرض النقدي ومستوى‬
‫األسعار‪ ،‬بحيث جعلت االختالل الذي يعتري عملية تسيير العرض النقدي السبب الرئيس ي لظاهرة‬
‫التضخم‪.‬‬
‫لكن باملقابل سجل على هذه املدرسة أيضا عدة انتقادات منها ما يلي‪:‬‬

‫‪71‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬
‫‪ -‬أنها اعتمد على معادلة فيشر ومارشال‪ ،‬في حين أن هذه املعادلة يصعب تطبيقها على أرض الواقع وفي‬
‫املجال العلمي‪ ،‬فهي مجرد نموذج تحليلي؛‬
‫‪ -‬إذ أن هناك صعوبة كبيرة في تحديد معدل نمو الكتلة النقدية املناسب لضمان استقرار النمو‬
‫االقتصادي وفق ما يقترحه النقديون‪ ،‬وصعوبة أيضا في التحديد الدقيق للعناصر املكونة لكمية النقود‬
‫نفسها؛‬
‫‪ -‬أن تطبيق أفكار املدرسة النقدية خالل عشرية الثمانينات من قبل إدارة الرئيس األمريكي رونالد ريغن لم‬
‫تنتج عنه نتائج إيجابية باملستوى املأمول‪ ،‬إذ أن "التخفيض الكبير في معدل نمو عرض النقد قد دفع‬
‫االقتصاد نحو الركود‪ ،‬ورفع معدالت البطالة إلى أعلى مستوى لها خالل فترة ما بعد الحرب العاملية‬
‫الثانية‪( .‬لكن تلك السياسة ساعدت باملقابل على تخفيض معدل التضخم الذي انتقل) من ‪ 9139‬باملئة في‬
‫‪ 9110‬إلى ‪ 131‬باملئة‪.‬‬

‫‪72‬‬

‫‪www.etudpdf.com‬‬

You might also like