‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫عبد القادر خليفي‬

‫جامعة وهران‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫التنصري هو عملية حتويل املسلمني إىل الديانة املسيحية‪ ,‬أما كلمة‬

‫التبشري املتعارف عليها فهي موجهة إىل األقوام الوثنية اليت ال دين‬
‫مساوي لديها‪ ,‬أي أن هذه األخرية ال تنطبق على الديانتني اليهودية‬
‫واإلسالمية‪ .‬وقد صحبت هذه العملية موجة االستعمار اليت‬
‫اكتسحت العامل األفرو ‪-‬أسيوي خالل القرن التاسع عشر‪ ,‬بعد‬
‫االنتهاء من العامل اجلديد يف أمريكا وأسرتاليا‪.‬‬

‫‪-‬الصراع املسيحي اإلسالمي‬ ‫‪1‬‬

‫لقد اصطدم أتباع الديانتني اإلسالمية واملسيحية يف عدة نقاط من‬

‫سطح هذه األرض‪ ,‬وقد ابتدأ الصراع منذ ظهور اإلسالم وخباصة‬
‫بعد فتح بالد الشام وبالد املغرب املسيحيتني وتواصل النزاع وما‬
‫يزال‪.‬‬
‫لقد اغتاظ األوربيون املسيحيون من سرعة انتشار اإلسالم‬
‫بني األقوام اليت كانت تسكن بالد املشرق واملغرب‪ ,‬الذين ختلوا‬
‫عن املسيحية اليت كانت منتشرة قبل الوجود اإلسالمي يف القرن‬
‫السابع امليالدي‪ ,‬رغم أن املسلمني مل يكونوا جيربون أحدا بقوة‬
‫السالح على الدخول يف دينهم‪ ,‬والدليل على ذلك بقاء الكثري من‬
‫الطوائف املسيحية على دينها يف بلدان املشرق العربي‪ .‬لذلك رأى‬
‫هؤالء املسيحيون األوربيون أن الفتوحات اإلسالمية جناية عظمى ال‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫تغتفر وخاصة يف البالد اإلفريقية‪ ,‬ألن اإلسالم قطع الصلة بني أوربا‬
‫وإفريقيا املسيحيتني‪ .‬وهكذا ناصب األوربيون املسلمني العداء‬
‫ووقفوا جتاههم موقف املدافع أول األمر‪ ,‬لكنهم سرعان ما انتقلوا‬
‫إىل اهلجوم‪ ,‬فكانت احلروب الصليبية اليت شنوها على بلدان‬
‫املشرق العربي بتنظيمهم حلمالت عسكرية حتت قيادة زعماء‬
‫وملوك أوربا املسيحية منذ القرن احلادي عشر(‪1291-1095‬م)‪ .‬وما‬
‫كادت احلروب الصليبية تنتهي يف املشرق حتى قام اإلسبان بالدور‬
‫نفسه يف املغرب‪ ,‬متبنني هذه احلروب بقيادة فرديناند وإيزابيال‪.‬‬
‫وبعد أن قضوا على آخر مملكة إسالمية بغرناطة سنة‬
‫‪1492‬م نقلوا احلرب إىل الضفة اجلنوبية للبحر املتوسط مهددين دول‬
‫املغرب العربي منذ بداية القرن السادس عشر‪ .‬وهكذا مت احتالل‬
‫أهم املوانئ يف املغرب واجلزائر وتونس وطرابلس آنذاك‪.‬‬
‫وقد قاوم املسلمون سكان الشمال اإلفريقي هذه احلمالت‬
‫الصليبية بكل قوة‪ ,‬ومل ميَكنوا اإلسبان من حتقيق كل أهدافهم‪,‬‬
‫وكان للعثمانيني دور إجيابي يف مساعدة مسلمي هذه املنطقة على‬
‫رد الغزو الصلييب وتهديده يف عقر داره مرات عديدة‪ .‬واستمر التوتر‬
‫واالضطراب بني الطرفني‪ :‬اجلانب املسيحي الذي كانت تتزعمه‬
‫فرنسا وإسبانيا والربتغال‪ ,‬واجلانب اإلسالمي الذي كانت تتصدره‬
‫الدول املواجهة للبحر املتوسط جنوبا وهي املغرب واجلزائر وتونس‬
‫وطرابلس‪ ,‬إىل أن كانت احلملة الفرنسية على اجلزائر سنة ‪,1830‬‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫على إثر حادثة املروحة الشهري‪.‬‬

‫اهلدف الديين لالحتالل‬
‫مل تأت فرنسا إىل اجلزائر بغرض االنتقام لكرامتها‪,‬‬
‫كما يقال‪ ,‬بل هناك أسباب عديدة كانت وراء محلتها‬
‫العسكرية‪ ,‬من بينها السبب الديين‪ .‬إن تصرحيات‬
‫القادة الفرنسيني من مدنيني وعسكريني تثبت ذلك‬
‫وتؤكده‪ .‬فامللك شارل العاشر يصرح‪ ,‬يف خطاب‬
‫العرش املعتاد‪ ,‬يف الثاني من شهر مارس سنة ‪ ,1830‬أي‬
‫قبل أربعة أشهر من االحتالل الفعلي‪ ,‬قائال‪" :‬إن العمل‬
‫الذي سأقوم به ترضية للشرف الفرنسي سيكون‬
‫بعون العلي القدير لفائدة املسيحية كلها‪ )1(".‬أما‬
‫"بولينياك" رئيس حكومته فيشرح نوايا بلده جتاه‬
‫اجلزائر ويربر قرار احلملة الفرنسية بأنه يدخل يف‬
‫إطار الدفاع عن "شرف فرنسا والدين املسيحي دون أية‬
‫نوايا استعمارية‪ )2(".‬أما اجلنرال "دي بورمون" قائد‬
‫احلملة العسكرية فقد اصطحب معه ستة عشر‬
‫قسيسًا‪ ,‬وعندما سقطت بيده مدينة اجلزائر خاطبهم‬
‫بقوله‪" :‬إنكم أعدمت معنا فتح الباب للمسيحية يف‬
‫إفريقيا‪ ,‬ولنأمل أن تيْنَعَ قريبا احلضارة اليت انطفأت‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫(‪)3‬‬
‫يف هذه الربوع‪".‬‬
‫لقد أعاد الفرنسيون‪ ,‬بزعامة ساستهم وضباطهم‪ ,‬الروح‬
‫الصليبية احلاقدة برفعهم راية املسيح ضد اإلسالم‪,‬‬
‫معتربين احتالهلم للجزائر اسرتدادًا لبالد كانت تدين‬
‫يوما باملسيحية قبل ظهور اإلسالم‪" .‬فلكي يربر‬
‫االستعمار عمله يضع نفسه حتت سلطة الصليب‬
‫املعنوية‪ ,‬ويعطي للمستعمر صبغة املبشر الذي يريد أن‬
‫(‪)4‬‬
‫يضمن سعادة قريبة من بين البشر‪"...‬‬
‫فالنزعة الصليبية كانت أحد أسباب االحتالل الفرنسي‬
‫للجزائر‪ ,‬أي أن احتالل فرنسا للجزائر مل يكن إال‬
‫امتدادًا للنزاع املسيحي اإلسالمي‪ ,‬الذي ابتدأ يف‬
‫املشرق ليستأنف يف املغرب‪ .‬هلذا استخدمت فرنسا‬
‫كل الوسائل لتحطيم الدين اإلسالمي‪ ,‬فقد جاءت‬
‫إىل اجلزائر "بالراهب االستعماري لتفسد به على‬
‫املسلمني دينهم وتفتنهم به عن عقائدهم وتشككهم‬
‫بتثليثه يف توحيدهم‪ ..‬ذلك كله بعدما أمدته بالعون‬
‫(‪)5‬‬
‫وضمنت له احلرية‪"..‬‬
‫االستيالء على املؤسسات الدينية‪:‬‬
‫إن ما قام به الفرنسيون يف اجلزائر يناقض االتفاقية‬
‫‪1830‬‬ ‫املربمة بني الداي حسني حاكم اجلزائر عام‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫واجلنرال "دي بورمون" قائد احلملة الفرنسية على‬

‫اجلزائر آنذاك‪ ,‬حيث جاء يف الفصل اخلامس من‬
‫االتفاقية ما يلي‪" :‬إقامة الشعائر احملمدية تكون حرة‬
‫وال يقع املساس حبرية السكان من خمتلف الطبقات‬
‫وال بدينهم وال بأمالكهم وال بتجارتهم وصناعتهم‪,‬‬
‫وحترم نساؤهم‪ ,‬والقائد العام يتعهد بذلك عهد‬
‫الشرف‪".‬لقد مت اخرتاق مضمون هذه املادة‪ ,‬وأصبح‬
‫التعهد حربا على ورق‪ ,‬فقد حولت املساجد إىل كنائس‬
‫أو مستشفيات أو مالجئ‪ ,‬وهاهو محدان خوجة أحد‬
‫رجاالت اجلزائر وشاهد عيان يفضح كل ذلك حني‬
‫يذكر مثال أن اجلنرال كلوزيل (‪" )1831-1830‬أوجب‬
‫على املفيت أن يسلم املساجد الواقعة أمام األبواب اليت‬
‫يدخلها البدو"‪ .‬ويضيف‪" :‬لقد طَلب هذه املساجد‬
‫ليجعل منها مستشفيات جليوشه وتعهد أنه لن‬
‫يستعملها أكثر من شهرين‪ ,"...‬ويواصل محدان خوجة‬
‫قوله‪" :‬وعندما كنت عضوا يف جملس البلدية يف عهد‬
‫بورمون‪ ,‬طَلب منا شيخ البلدية أن نسمح له بتحويل عدد‬
‫من املساجد إىل مستشفيات للجيش‪...‬ورُفضت‬
‫(‪)6‬‬
‫مالحظاتنا ووقع االستيالء ظلما على املساجد‪".‬‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫ويضيف يف مكان آخر‪":‬وإذن فإن احلكومة الفرنسية‬

‫قد استولت على تلك املعابد ووضعتها حتت تصرف‬
‫إدارة أمالك الدولة‪ ,‬كما أنها اكرتت بعضها لعدد من‬
‫التجار‪ ,‬فبمقتضى أي قانون تستولي تلك اإلدارة على‬
‫(‪)7‬‬
‫تلك البنايات؟‪".‬‬
‫إن هذه الشهادة الصادرة من أحد مثقفي اجلزائر وأعيانها‬
‫الذين عاشوا السنوات األوىل لالحتالل هي إدانة‬
‫صرحية لتلك األعمال الالإنسانية‪ ,‬فأي حقد وأي‬
‫جتاوز للقوانني واألعراف! ذلك الذي قامت به سلطات‬
‫االحتالل ضد مقدسات املسلمني‪.‬‬
‫ولقد أثبت املؤرخون الفرنسيون املعاصرون مثل هذه‬
‫األعمال استنادا إىل وثائق أسالفهم‪ ,‬بعدم احرتام‬
‫شعائر اجلزائريني ومقدساتهم باستغالل املنشآت‬
‫الكربى من قصور ومنازل كبرية ومساجد وزوايا من‬
‫أجل خدمة املصاحل الفرنسية‪ .‬لقد قام اجلنود‬
‫الفرنسيون الذين عسكروا يف ضواحي مدينة اجلزائر‬
‫حبرق أشجار الفواكه وتدمري الغالل وفتح جماري‬
‫املياه املعدة للري وكسر الرخام واملرمر يف كل‬
‫مكان‪ ,‬ومل مينعهم رؤساؤهم من ذلك‪ ,‬بل تركت هلم‬
‫كل احلرية‪ .‬أما عندما انتشرت بينهم األمراض يف‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫تلك املناطق فقد قام رؤساؤهم بنقلهم إىل املدن‬

‫وخباصة مدينة اجلزائر‪" ,‬وإلسكانهم مت إخالء‬
‫سكان املنازل اجملاورة للسور ويف القصبة عند باب‬
‫عزون ‪-‬دون تعويض ‪ -‬ومت حتويل عدة مساجد إىل‬
‫ثكنات عسكرية‪ .‬أما الضباط فسكنوا القصور‬
‫واملنازل اخلاصة ووضعوا مصاحلهم اإلدارية يف الزوايا‬
‫وأماكن العبادة‪ ...‬وهكذا مت اخلروج على التعهدات‬
‫املعلنة من قبل بورمون باحرتام املمتلكات وأماكن‬
‫(‪)8‬‬
‫العبادة‪ ,‬وهذا قبل أن يغادر اجلزائر‪".‬‬
‫ومل تتوقف التجاوزات عند هذا احلد‪ ,‬لقد مت تدنيس‬
‫األموات وانتهاك حرماتهم‪ ,‬ففي عهد كلوزيل –‬
‫مثال ‪" -‬نهب األموات يف مدافنهم‪ ,‬ومسح باالجتار‬
‫‪9‬‬
‫بالعظام البشرية وبيعت حجارة املقابر‪"..‬‬
‫هذه بعض أوجه االستعمار احلاقد الذي ال يثنيه عن‬
‫أطماعه رادع وال وازع‪ .‬ورغم ما عرف عن محدان‬
‫خوجة من اعتدال يف مطالبه واستعماله أسلوب اللني‬
‫والدبلوماسية فإنه مل يُخْفِ رفضه لألعمال اليت‬
‫كانت تقوم بها سلطات االحتالل‪ ,‬وحاول مبا استطاع‬
‫أن يوقف هذه األعمال الشنيعة دون نتيجة‪ .‬وقد أعاد‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫أسباب تلك التجاوزات إىل حقد فرنسا على ديننا‪.‬‬

‫لقد استولت السلطات االستعمارية على األوقاف بقرار من‬
‫وزير احلربية بتاريخ ‪ 23‬مارس ‪ 1843‬الذي ينص على أن‬
‫مصاريف ومداخل املؤسسات الدينية تضم إىل ميزانية‬
‫االستعمار‪ .‬وبذلك توقف الدور الذي كانت تقوم به‬
‫هذه املؤسسات من أعمال خريية وخدمة املساجد‬
‫واملدارس القرآنية‪ ,‬وأصبحت مداخيلها بيد سلطات‬
‫االحتالل تتصرف فيها كما تشاء‪ .‬وبعد حوالي أربعني‬
‫سنة من االحتالل صدر قانون كرمييو (اخلاص‬
‫بتجنيس اليهود) فتم احتضان اليهودية ومحاية أهلها‬
‫ومت إشراكهم يف السيادة وحماربة اجلزائريني‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫‪1905‬‬ ‫و عندما صدر قانون فصل الدين عن الدولة سنة‬
‫والذي طبق على اجلزائر سنة ‪ 1907‬مشل الديانتني‬
‫املسيحية واليهودية ورُفض تطبيقه على الدين‬
‫اإلسالمي الذي بقيت شؤونه بيد احلاكم العام‬
‫الفرنسي باجلزائر‪ .‬وبهذا كشفت السلطات‬
‫االستعمارية عن نواياها احلقيقية‪ ,‬وهي استعمار‬
‫الشعب اجلزائري يف كل امليادين‪ ,‬ورفض كل نوع من‬
‫احلرية‪ ,‬ليتم التسلط على اجلانبني الروحي واملادي‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫للشعب املغلوب على أمره‪.‬‬

‫ففرنسا أصبحت تتعامل مع الشعب اجلزائري "األهلي"‬
‫عكس ما تتعامل به مع شعبها هناك ومع املستوطنني‬
‫األوربيني هنا‪ ,‬فهي حتمي حقوق اإلنسان وتسمح حبرية‬
‫األديان‪ ,‬ولكنها عندما تتعامل مع من تسميهم‬
‫باألهالي يف اجلزائر فهو اإلرهاب والعبودية‪ .‬فالدين‬
‫اإلسالمي ملك للسلطات الفرنسية حتتكر مساجده‬
‫وقضاءه وتتصرف يف رجاله وأوقافه حسب مصاحلها‪,‬‬
‫ومن جهة أخرى فهي اليت تعني الراهب يف اجلزائر‬
‫وتدعمه بكل الوسائل‪.‬‬
‫اجملد الغـابر‪:‬‬
‫لقد جاء الفرنسيون –كما يقولون ‪ -‬الستعادة جمد‬
‫املسيحية الضائع‪ ,‬وأصبح هذا دَيْدَنُ كل واحد منهم‪.‬‬
‫ويف هذا اجملال يُذكر أنه عندما قام أحد الرحالة‬
‫الفرنسيني بزيارة إىل اجلــزائر سنــة ‪ 1844‬واملســمى‬
‫بُوجُوال(‪)Poujoulat‬كتب مذكراته اليت يتجلى فيها‬
‫تأييده لالحتالل الذي يعتربه خدمة للمسيحية‪ ,‬ويتضح‬
‫رأيه أكثر يف هذه الصيحة الواردة يف مذكراته‬
‫"أحييك يا كنيسة إفريقيا اجلديدة‪ ,‬يا بنت القديس‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫سيربيان و أوغستان‪ .‬لقد بُعثت من القرب بفضل عبقرية‬

‫بالدي و إميان أبنائها‪ .‬وأنا فخور أن أراك انتعشت‬
‫حتت راية فرنسا‪ 10".‬إنه يستعيد ذكريات أعالم‬
‫املسيحية يف العصور القدمية الذين أجنبتهم إفريقيا‪,‬‬
‫وكان هلم دور مهم يف ذلك احلني مثل الراهب‬
‫تريتيليان (‪ )Tertulien‬املتوفى عام ‪258‬م‪ ,‬والراهب "سانت‬
‫أوغستان" الذي عاش خالل القرن الرابع امليالدي‪ ,‬حني‬
‫كانت كنيسة قرطاج تشرف على ست أسقفيات‬
‫تشمل سبع مائة راهب‪ .‬إنهم يعتربون اإلسالم عدوهم‬
‫األكرب ألنه قضى على املسيحية يف هذه الربوع حني‬
‫كان الروم أسياد البحر املتوسط‪ ,‬ولكن غرور‬
‫الرومان وتسلط سيوفهم على رقاب الناس بعيدًا عن‬
‫روحانية الديانة‪ ,‬أفقد سكان البالد ثقتهم يف هؤالء‪.‬‬
‫لقد جاء اإلسالم إىل هذه البالد وإىل غريها بروح مسحة‪,‬‬
‫وكان اتصال الفاحتني بالناس اتصال خري وعدل‬
‫وإحسان‪ ,‬كما أنه أبقى على العقائد واملعابد‪ ,‬بل‬
‫محاها وحافظ عليها‪ .‬لقد وجد الناس يف الدين‬
‫اإلسالمي مبتغاهم فدخلوا فيه أفواجًا‪ .‬كان الرومان‬
‫رجال تسلط وتكرب‪ ,‬مل يقدروا شأن الناس ومل‬
‫خيالطوهم يف شيء عكس ما فعله املسلمون‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫الفاحتون‪ ,‬إذن فال جمال للحرية والتعجب من سرعة‬

‫انتشار اإلسالم يف مشالي إفريقيا‪.‬‬
‫أما األسقف "الفيجري" فقد اعترب اإلسالم دين التعصب‬
‫والوحشية واعترب معتنقيه عبيد اللذات والشهوات‪,‬‬
‫‪1867‬‬ ‫وذلك يف خطاب تنصيبه أسقفا للجزائر سنة‬
‫والذي قال فيه متسائالً‪" :‬ما هو تاريخ إفريقيا‬
‫الشمالية؟ اسألوا عنه اآلثار اليت متأل أرضكم‬
‫جتدونها آثار ثالث دول وأجناس‪ ,‬وهي بقايا حضارات‬
‫ماجدة خمتلفة"‪ ,‬وبعد أن عدد بعض املدن القدمية‬
‫والشخصيات املسيحية الرببرية آنذاك‪ ,‬أجاب عن‬
‫سؤاله بقوله‪" :‬أما حنن املسيحيني فإن التاريخ الذي‬
‫يهمنا من إفريقيا هو تاريخ الكنيسة اإلفريقية ذات‬
‫السبعمائة قسيس وكنائسهم املنتشرة طول البالد‬
‫وعرضها‪ ,‬ودورهم وأضرحتهم وعلمائهم؛ حيث كانت‬
‫أرضها تتبخر بدماء ضحايا العقيدة‪ ".‬وبعد أن يشري إىل‬
‫ما القته البالد من ختريب على يد الوندال‪ ,‬يواصل‬
‫كالمه قائالً‪" :‬ومل مير على كارثته (الوندال) قرن‬
‫واحد حتى اكتسحت إفريقيا فرق املتعصبني‬
‫املتوحشني من جزيرة العرب أصحاب دين احلسية‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫‪11‬‬
‫عبيد الشهوات واللذات‪"..‬‬
‫هكذا إذن يعتبِر "الفيجري" املسلمني متوحشني ال همَّ هلم‬
‫سوى قضاء مآربهم وشهواتهم‪ ,‬أما الفرنسيون فقد‬
‫جاؤوا هلداية السكان وإخراجهم من الوحشية إىل‬
‫احلضارة والتقدم!!‬
‫فمن هو الفيجري؟ وما دوره؟‬
‫عُيّن " الفيجري" أسقفا للجزائر سنة ‪ 1867‬خلفا لألسقف‬
‫بايف )‪ .(Pavé‬وقد متيز الفيجري عن سابقيه بالذكاء‬
‫والنشاط‪ .‬لقـد كان الساعد األمين للبابا قْريقْوَار‬
‫الثامن يف روما‪ ,‬أرسله يف بعثة إىل الشام على إثر‬
‫األحداث الدموية لسنة ‪ .1860‬و بعد أن عني أسقفًا‬
‫باجلزائر أسس مجعية اآلباء البيض سنة ‪ 1868‬واليت‬
‫انتشرت يف إفريقيا الشمالية مبؤسساتها‪ .‬وقـد صادف‬
‫تعيني الفيجري أسقفًا باجلزائر سنة ‪ 1867‬وقوع جماعة‬
‫خطرية استغلها األسقف مبساعدة السلطات الفرنسية‬
‫جلمع اليتامى واملشردين من األطفال‪ ,‬وأقام هلم قرى‪,‬‬
‫وأنشأ هلم مدارس يتعلمون فيها اإلجنيل واملبادئ‬
‫األولية للقراءة‪ ,‬وزوّج اليتامى واليتيمات وكوّن منهم‬
‫أسرًا وزّع عليها األراضي الفالحية خلدمتها‪ .‬وكان‬
‫هدفه جعل هؤالء األطفال مسيحيني أصدقاء لفرنسا‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫يساعدونها يف البقاء بدل أن حيملوا السالح ضدها‬

‫يومًا‪.‬‬
‫لقد كان الكاردينال الفيجري رجالً متعصبًا للدين‬
‫املسيحي يعمل املستحيل لنشره بني اجلزائريني أو‬
‫طردهم إىل القفار‪ ,‬هذا ما صرح به حني قال‪" :‬يتعني‬
‫على فرنسا أن تفسح لنا اجملال لنقدم له (الشعب‬
‫اجلزائري) اإلجنيل أو يُطرد هذا الشعب إىل الصحراء‬
‫‪12‬‬
‫بعيدًا عن العامل املتمدن‪".‬‬
‫لقد عارض املعمرون سياسة الفيجري التنصريية وإقامته‬
‫لقرى مسيحية يقيم فيها العرب املنصَّرون من يتامى‬
‫احلروب ومآسي اجلزائر‪ ,‬وذلك خوفًا على مستقبلهم‬
‫من املنافسني اجلدد‪ .‬و عندما كرب هؤالء األطفال‬
‫وأصبح منهم الراهب والقسيس قاطعهم املعمرون ال‬
‫لشيء إال ألنهم من األهالي‪.‬‬
‫أما السلطات العسكرية فقد ساعدت الفيجري يف‬
‫مشاريعه‪ ,‬وخباصة يف عهد احلاكم العام "دي قيدون"‬
‫منذ سنة ‪ ,1871‬الذي لقبه املعمرون باألمريال‬
‫كاردينال‪ ,‬واستمر الفيجري يف عمله التنصريي‬
‫متنقالً بني أجزاء الوطن اجلزائري والبالد التونسية‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫إىل أن تويف مبدينة اجلزائر سنة ‪.1892‬‬

‫لقد كان الكاردينال الفيجري فأالً سيئًا على‬
‫اجلزائريني حيث كان شديد التحمس لتحويلهم عن‬
‫دينهم إىل الدين املسيحي أو طردهم إىل جماهل‬
‫الصحراء إلفنائهم‪ ,‬كان هذا هو اخليار الذي ال خري‬
‫فيه‪.‬‬
‫وقد بدأ الفيجري باهلجوم‪ ,‬ورَبَط قضيته باالستعمار‬
‫وطالب حبرية اإلرساليات‪ ,‬وبث نداءاته إىل أساقِفة‬
‫فرنسا والدول املسيحية جلمع املال بهدف متويل‬
‫مشروعه القاضي جبمع األطفال األيتام وتنصريهم‪.‬‬
‫وقد رفضت الكنيسة إعادة األطفال إىل ذويهم الذين‬
‫طالبوا باستعادتهم‪ ,‬وصرح الفيجري ردًا على تلك‬
‫الطلبات بقوله‪" :‬إنهم لي‪ ,‬ألن حياتهم اليت يعيشون بها‬
‫أنا الذي حفظتها هلم‪ .‬إنها إذن القوة وحدها اليت‬
‫‪13‬‬
‫تنزعهم من ملجئهم‪".‬‬
‫أساليب التنصري‪:‬‬
‫انتشر املبشرون –كما يسمون أنفسهم ‪ -‬يف خمتلف‬
‫نواحي القطر اجلزائري بغرض التنصري‪ ,‬متسرتين وراء‬
‫األعمال اخلريية كمساعدة املعوزين واليتامى‬
‫واملشردين والعجزة ومعاجلة املرضى وفتح املدارس‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫لألطفال "بالتعليم ذي الربنامج التمسيحي الصريح أو‬

‫برنامج هلدم العقيدة واألخالق اإلسالمية وبث‬
‫التقديس لألمة الفاحتة وحضارتها وثقافتها‪ 14".‬و قـد‬
‫اشرتك يف هذه األعمال مدارس املبشرين واملدارس‬
‫العمومية األخرى على السواء‪ ,‬لتفكيك متاسك األسرة‬
‫اجلزائرية عن طريق تربية األطفال تربية دينية ختالف‬
‫تعاليم أسرهم املتوارثة‪.‬‬
‫و لـم ينس املبشرون القسم اجلنوبي من اجلزائر‪ ,‬بل أقاموا‬
‫فيه بدوره مؤسساتهم‪ .‬وهكذا "دخل هؤالء الرهبان يف‬
‫األوساط اجلزائرية فنزلوا ومتركزوا مبدينة معسكر‬
‫والبيض واألغواط وبسكرة ومتليلي‪ 15"..‬بل ويف كل‬
‫مكان تتواجد به حياة بشرية‪ .‬وهكذا استقر الراهب‬
‫"شارل دي فوكو" عام ‪ 1905‬مبنطقة اهلقار بعد أن‬
‫(‪-1882‬‬ ‫جال بالد املغرب األقصى بني عامي‬
‫‪16)1884‬يسجل املالحظات والتقوميات لتخطيط طرق‬
‫الصحراء ومراكزها اهلامة متنكرا يف زي يهودي‪,‬‬
‫وقد أفادت كتاباته كثريًا يف اخرتاق الصحراء وغزو‬
‫املغرب األقصى سنة ‪.1911‬‬
‫لقد اعترب الكثري من مسؤولي السلطات الفرنسية يف‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫اجلزائر أن اإلسالم هو املوجه لكل االنتفاضات‬

‫املقاومة لالحتالل‪ ,‬لذلك عملوا على التضييق على‬
‫العلماء ومعلمي العربية‪ ,‬ووصل األمر بهم إىل منع‬
‫اجلزائريني من احلج حتى ال يتصلوا بغريهم‪ ,‬وهذا ما‬
‫قام به احلاكم العام األمريال دي قيدون يف مايو عام‬
‫‪ 1873‬و‪ 1874‬و‪ 1877‬ومن سنة ‪ 1881‬إىل ‪ 1886‬بسبب‬
‫حركة بوعمامة‪ ,‬لكن حتت ستار الوباء‪ ,‬مربرًا ذلك‬
‫‪17‬‬
‫املنع بقوله‪" :‬إنهم يعودون أقل طاعةً لنا‪".‬‬
‫وقـد اشتهر عنه أنه من الذين شجعوا سياسة حتويل‬
‫اجلزائريني إىل كاثوليك‪ ,‬ودعم أعمال الفيجري‪,‬‬
‫كما ذكرنا ذلك سابقا‪ .‬و مما قاله يف هذا اجملال‪:‬‬
‫"إن الوقت قد حان لضم هذا الشعب املغلوب على أمره‬
‫‪18‬‬
‫شيئًا فشيئًا إلينا وإىل احلضارة املسيحية‪".‬‬
‫هكذا إذن تدعم موقف اآلباء البيض واألخوات‬
‫مبؤسساتهم املنتشرة عرب مدن وقرى اجلزائر‪ ,‬بدعم من‬
‫السلطات العسكرية‪ .‬فاآلباء البيض يفتحون املدارس‬
‫لتعليم أبناء اجلزائر‪ ,‬بينما تقوم األخوات باإلشراف‬
‫على بعض مراكز التكوين املهين والتطبيب وخباصة‬
‫للبنات أمهات املستقبل‪ ,‬والتعليم والتكوين أحسن‬
‫وسيلة لغزو القلوب وكسب األفكار‪.‬‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫مل يلق هؤالء املبشرون النجاح الكامل ملشاريعهم سواء‬

‫يف اجلزائر أو يف غريها من البالد اإلسالمية لتنصري‬
‫املسلمني باستغالل ظروفهم املأساوية‪ ,‬لذا اكتفوا آخر‬
‫األمر بزرع أفكار تشتت عقائد املسلمني وتنشر الفراغ‬
‫الديين يف نفوسهم بل وتشككهم يف دينهم‪ ,‬فكانوا‬
‫خيتارون البسطاء من الناس لغزو أفكارهم وتصوير‬
‫املدنية املسيحية بأمجل الصفات كي خيلقوا جيال من‬
‫الالدينيني‪ .‬لقد أوصى بعضهم بعضا بأن يتقربوا من‬
‫املسلمني ليعرفوا عاداتهم وتقاليدهم فيحرتموها‪ ,‬حتى‬
‫يطمئن إليهم الناس فيسهل عليهم نشر أفكارهم‬
‫اهلدامة ليفقد املسلمون ثقتهم بأنفسهم و بأصالتهم‪.‬‬
‫جاء يف أحد الكتب املوجهة إىل رجال التنصري املسيحي‬
‫حتت عنوان‪( :‬طرق العمل التبشريي بني املسلمني)‪:‬‬
‫"لنجعل هؤالء القوم املسلمني يقتنعون يف الدرجة األوىل‬
‫بأننا حنبهم‪ ,‬فنكون قد تعلمنا أن نصل إىل قلوبهم‪,‬‬
‫وجيب على املبشر أن حيرتم يف الظاهر مجيع العادات‬
‫الشرقية واإلسالمية حتى يستطيع أن يتوصل إىل بث‬
‫آرائه بني من يصغي إليها‪ ,‬وعليه مثال أن يتحاشى أن‬
‫يقول عن املسيح إنه ابن اهلل حتى ال ينفر منه الذين ال‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫يؤمنون هذا اإلميان‪ ,‬فيستطيع أن يقاربهم حينئذ مبا‬

‫‪19‬‬
‫يريد أن يدعوهم إليه‪.‬‬
‫لـقد انتشر املبشرون يف اجلزائر فرادى ومجاعات يف‬
‫الشمال واجلنوب‪ ,‬ففي منطقة األبيض سيد الشيخ –‬
‫مثال ‪َ -‬مَلكَ اآلباء البيض اخليام وقطعان املاشية‬
‫وسلكوا سلوك اجلزائريني كالرتحال والضيافة‬
‫وتبادل الزيارات‪ ,‬وهم حيثما كانوا خيتلطون‬
‫باجلزائريني فيشاركون يف امللتقيات واملهرجانات‬
‫الثقافية احمللية و اجلهوية ويؤسسون اجلمعيات أو‬
‫ينضمون إليها‪ ,‬ويدعمون عمل بعضها أو يتعاقدون مع‬
‫بعض املصاحل اإلدارية لتكوين الشباب مهنيا وخاصة‬
‫من قبل األخوات‪ .‬فهم إذن ليسوا منعزلني‪ ,‬بل إنهم‬
‫يعقدون الصداقة مع األفراد واألسر وبعض‬
‫الشخصيات ذات النفوذ والسلطة هنا وهناك‪ ,‬مستغلني‬
‫ذلك للتحرك والنشاط املتعدد األشكال‪ ,‬وهم ال‬
‫يتوانون عن تقديم املساعدة عندما جيدون القبول‬
‫واالستحسان من اآلخر‪.‬‬
‫وهم يستغلون األزمات االجتماعية واالقتصادية اليت يقع‬
‫فيها الشباب املهمش األكثر عرضة لعذاب الزمن‬
‫وتقلبات األيام‪ ,‬فيتقربون منهم ويفتحون هلم أبواب‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫األمل وحياولون أن خيففوا عنهم ثقل اهلموم وعذاب‬

‫الفقر واملشاكل‪ ,‬ويقدمون هلم العون واملساعدة (العهد‬
‫االستعماري ‪ -‬أزمة اجلزائر يف التسعينيات ‪ -‬أزمة‬
‫القبائل)‪ ,‬وآنذاك يكشفون عن سرهم ويعرضون‬
‫عليهم املسيحية كدين خملّص من هذه املشاكل‪ ,‬بل‬
‫ويفتحون للبعض أبواب التعليم يف فرنسا نفسها‬
‫مبساعدة املصاحل الدينية هناك‪.‬‬
‫وتعمل بعض اإلذاعات املوجهة إىل بالد املغرب العربي على‬
‫التعريف باملسيح وبتعاليمه –املتعارف عليها اليوم ‪-‬‬
‫وتقوم هذه املؤسسات بإرسال كتيبات عن األفكار‬
‫املسيحية باللغة العربية واألمازيغية ومعها بطاقات‬
‫أسئلة جييب عنها الطالب ويعيدها إىل املؤسسة‬
‫اإلذاعية فتبعث له بأخرى‪ ,‬وهكذا دواليك‪ .‬إنها‬
‫سلسلة من الدروس واألسئلة يؤدي تداوهلا املستمر إىل‬
‫رسوخ أفكارها ونبذ غريها‪ ,‬أي نبذ األفكار‬
‫اإلسالمية شيئا فشيئا‪.‬‬
‫وعموما فإن املبشر املسيحي قد برهن على التضحية‬
‫باحلياة الراغدة اهلنيئة‪ ,‬واستبدهلا حبياة اخلشونة يف‬
‫سبيل نشر أفكاره يف القرى البعيدة والصحاري‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫املرتامية‪ ,‬والعمل بكل إخالص يف إطار مجاعي أو‬

‫فردي متحمال كل عوائق الطبيعة وخماطر الزمن‪.‬‬
‫هذه هي سياسة التبشري والتنصري اليت اقرتنت منذ عام‬
‫‪ 1830‬باالستعمار الفرنسي يف اجلزائر‪ ,‬وهي تتلون‬
‫حسب الظروف واألحوال‪ ,‬قاومها الشعب اجلزائري‬
‫طيلة قرن وربع وما يزال‪.‬‬
‫ولقد كان لإلبداع الشعيب رأي يف سياسة التبشري‬
‫والتنصري كغريه من املواضيع‪ .‬وهاهو الراوي‬
‫(بوشيخي اجلياللي)‪ 20‬حتضره مقطوعة ورثها عن‬
‫أسالفه يقول فيها‪:‬‬
‫خرِيبْ‬
‫ْيخَرَّبْكـُمْ تَـ ْ‬ ‫قـال يْجـِيكمْ رَهيبْ‬
‫فـي الدّيـنْ يْبـَدّلْ‬ ‫فـي قَـوْلهْ كَـذِيبْ‬
‫اشـْمَتْهُـمْ شَميـتْ‬ ‫مـَ ْن ُذرّيَـة املَسِيحْ‬
‫بـَاليـسْ املَنْـتَـلْ‪.‬‬
‫خصوصية االستعمار الفرنسي‪:‬‬
‫لقد بلغ التعصب الفرنسي الديين مداه مثلما بلغ الظلم واإلرهاب‬
‫مداه لدى االستعمار الفرنسي جتاه اجلزائريني‪ ,‬فسياسة األرض‬
‫احملروقة بإبادة السكان وهدم كل معامل احلياة لديهم‪,‬‬
‫كانت الشغل الشاغل لكل فرنسي وأوربي باجلزائر "وإذا‬
‫كنا نتفق على أن االستعمار الفرنسي هو أسوء وأغلظ وأعنف‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫أنواع االستدمار‪ ,‬فإن التنصري الفرنسي كان كذلك أخبث‬

‫‪21‬‬
‫إن الدولة الفرنسية كان يقال هلا "ابنة‬ ‫أنواع التنصري‪".‬‬
‫الكاثوليكية البكر"‪ ,‬هي اليت تزعمت محالت التنصري‬
‫واحلرب يف املشرق‪ ,‬وهي السباقة إىل غزو املغرب العربي‬
‫واحتالل اجلزائر عام ‪ .1830‬لقد قارن أحدهم بني االستعمار‬
‫الفرنسي واإلنكليزي‪ ,‬فشبه البلد املستعمَر (بفتح امليم الثانية)‬
‫بشجرة طويلة مثمرة يأتيها االستعمار اإلنكليزي فيقطع‬
‫مثارها‪ ,‬أما االستعمار الفرنسي فيقطع الشجرة من جذعها‪.‬‬
‫فإذا كانت بعض الدول االستعمارية تكتفي جبين مثار البلد‬
‫املستعمر‪ ,‬أي احلصول على ثرواته املختلفة واستغالهلا وتسخري‬
‫السكان خلدمة ذلك‪ ,‬فإن االستعمار الفرنسي يتجاوز ذلك‬
‫فيعمل على القضاء على املقومات الشخصية للشعوب‪ ,‬وحياول‬
‫أن يفرض لغته ودينه وأفكاره بدال من موروثات سكان تلك‬
‫البالد املستعمَرة‪ .‬و يوضح البشري اإلبراهيمي ذلك سنة ‪ 1949‬يف‬
‫قوله‪" :‬قرأنا سري اإلنكليز يف اهلند فوجدناهم بالغوا يف إعطاء‬
‫احلرية لألديان‪ ,‬حتى بلغوا حد السخافة‪ ,‬وسووا يف تلك احلرية‬
‫بني قراء البقرة –باحلق ‪ -‬وبني عباد البقرة –بالباطل ‪-‬‬
‫‪22‬‬
‫أما‬ ‫ويسروا سبيل احلج حتى اتسع معنى االستطاعة‪"..‬‬
‫االستعمار الفرنسي فيذكر اإلبراهيمي أنه يعمل على قتل‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫املعنويات وختدير االحساسات الروحية‪ ,‬وأنه يباشر وسائله‬

‫باحلقد ويشربها معاني االنتقام‪ ...‬أي أن هناك فرقا بني‬
‫استعمار واستعمار‪ ,‬فبينما يباشر أحدهم وسائله بالتشديد‬
‫والتضييق واحلقد واالنتقام‪ ,‬فإن اآلخر يباشر تسلطه بنوع من‬
‫التسامح واللني للحصول على مبتغاه‪ ,‬واالستعمار الفرنسي من‬
‫النوع األول إال أن كال منهما بغيض كريه ألن هدفهما‬
‫استعباد العباد وختريب البالد‪.‬‬
‫لـقد كانت اجلزائر أفضل منوذج لبلد مستعمَر‪ ,‬جعلها الفرنسيون‬
‫حقالً لتجارب اإلبادة واملسخ أكثر من جارتيها املغرب وتونس‬
‫اللتني وُضعتا حتت احلماية‪ ,‬يف حني كانت اجلزائر حتت‬
‫احلكم الفرنسي املباشر ال حق ألهلها يف املشاركة يف السلطة‬
‫إال كخدام يسهلون سرقاتهم رغمًا عنهم‪ .‬لـقد مهّد االستعمار‬
‫الطريق للمبشرين حينًا‪ ,‬ومهّد املبشرون الطريق لالستعمار حينا‬
‫آخر‪ .‬وكالهما يعمل يف سبيل واحدٍ و بشكل متكامل‪.‬‬
‫واالستعمار عندما ميهد للمبشرين فإنه يدمر ويقتل ويفقر‬
‫وجييع ويُمَكّن للجهل واملرض‪ ,‬فيتهيأ األمر للمبشرين وتذلل‬
‫هلم وسائل التنصري‪ .‬أما املبشرون فهم يسبقون االستعمار جبلب‬
‫النفوس وكسب البسطاء والفقراء عن طريق الرغيف والدواء‬
‫فيسهل تغلغل االستعمار‪" .‬إن االستعمار أقبح باطل وأشنع ظلم‬
‫على وجه األرض‪ ,‬فهل يعد من أتباع املسيح وورثة هَدْ ِيهِ من‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫‪23‬‬
‫يَنْصُر االستعمار؟"‬
‫وضعت الكنيسة كل إمكانياتها يف خدمة االستعمار مثلما سهل‬
‫هلا هو كل السبل تنكرا ملبدئه يف الغرب بفصل الدين عن‬
‫الدولة‪" .‬ويندهش الباحث عندما يرى كبار رجال الكنائس‬
‫يتناسون املسيحية ومبادئها األصيلة السمحة‪ ,‬وجيندون أنفسهم‬
‫خلدمة االستعمار‪ ,‬وهم يتخذون الدين املسيحي وسيلة للضغط‬
‫على الشعوب ليظل كالم الكنيسة سيفًا مسلطا على‬
‫‪24‬‬
‫الرقاب‪"...‬‬
‫لقد اتفقت مصاحل احلاكم الظامل ورجال الدين املسيحيني يف كثري‬
‫من األحيان‪ ,‬فهاهو القس فرانكلني غراهام الواعظ الديين‬
‫‪1991‬‬ ‫املسيحي يف البنتاغون‪ ,‬يبعث يف حرب اخلليج الثانية عام‬
‫بثالثني ألف نسخة من اإلجنيل باللغة العربية إىل اجلنود‬
‫األمريكيني لتوزيعها على املسلمني يف العراق‪ , ,‬وهو يصف اإلسالم‬
‫بعد أحداث ‪ 11‬سبتمرب ‪ ,2001‬بأنه دين شر وإيذاء‪ .‬و بعد العدوان‬
‫األمريكي على العراق يف مارس ‪ ,2003‬يتزعم خطَطَ منظمة اإلغاثة‬
‫إلرسال رجاهلا إىل العراق‪ ,‬باعتبار أنها جهود إنسانية‪ ,‬وهي يف‬
‫حقيقتها غطاء لعمليات التنصري‪ .25‬وهو يف عمله هذا ال خيتلف عما‬
‫فعله اجلنرال دو بورمون‪ ,‬قائد احلملة الفرنسية على اجلزائر سنة‬
‫‪ ,1830‬حني استقدم معه عددا هاما من القساوسة‪ ,‬وصرح يف العديد‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫من املرات أن محلته هذه هي خلدمة املسيحية‪ ,‬وهذا ما باح به امللك‬

‫الفرنسي شارل العاشر نفسه آنذاك ومعه بولينياك رئيس حكومته‪.‬‬
‫هكذا إذن تعرضت اجلزائر حلملة شرسة من قبل رجال‬
‫الدين املسيحيني املدعمني من السلطات الفرنسية يف اجلزائر‪ ,‬هدفها‬
‫تنصري اجلزائريني واستغالل الظروف املأساوية الطارئة للتغلغل بني‬
‫السكان حتت غطاء املساعدة واخلدمات اإلنسانية‪.‬‬

‫الهوامش‬
‫‪- 1‬أمحد توفيق املدني‪ ,‬كتاب اجلزائر‪ ,‬دار الكتاب‪ ,‬ط‪ ,2:‬البليدة‪ ,1963 ,‬ص‪.46:‬‬
‫‪- Beschamps, Les méthodes et doctrines coloniales de la France, Hubert- 2‬‬
‫‪P.99 ,Paris 1953‬انظر‪.:‬‬
‫‪- 3‬عبد اجلليل التميمي‪ ,‬مالمح التفكري التبشريي عند املسؤولني الفرنسيني‪ ,‬حماضرة يف ملتقى‬
‫‪-‬‬
‫التعرف على الفكر اإلسالمي‪ ,‬تيزي وزو‪1973 ,‬‬
‫‪ - 4‬فرحات عباس‪ ,‬الثورة اجلزائرية أو ليل االستعمار‪ ,‬ترمجة وليم خوري‪ ,‬مطبعة االعتدال‪ ,‬دمشق‬
‫‪ ,1964‬ص‪.110:‬‬
‫‪ - 5‬آثار حممد البشري اإلبراهيمي‪ ,‬اجلزء‪ ,2:‬املؤسسة الوطنية للكتاب‪ ,‬اجلزائر ‪ ,1987‬ص‪.83:‬‬

‫‪- 6‬محدان بن عثمان خوجة‪ ,‬املرآة‪ ,‬تقديم وتعريب وحتقيق حممد العربي الزبريي‪ ,‬ش و ن ت‪ ,‬اجلزائر‬
‫‪ ,1982‬ص‪.280:‬‬
 ‫سياسة التنصري يف اجلزائر‬

‫‪ - 7‬املرجع نفسه‪ ,‬ص‪.288:‬‬

‫‪André Julien, Histoire de l'Algérie contemporaine, Charles- :‬‬ ‫‪ - 8‬انظر‬
‫‪universitaires de France, Paris 1964, P.65, Tome 1 Presses‬‬
‫‪- 9‬محدان بن عثمان خوجة‪ ,‬ص‪.288:‬‬
‫‪ –10‬مصطفى األشرف‪ ,‬اجلزائر‪ :‬األمة واجملتمع‪ ,‬ترمجة حنفي بن عيسى‪ ,‬املؤسسة الوطنية للكتاب‪,‬‬
‫اجلزائر‪ ,1983 ,‬ص‪.53:‬‬
‫‪ - 11‬املهدي البوعبدلي‪ ,‬آثار التبشري املسيحي يف اجلزائر‪ ,‬حماضرة يف ملتقى التعرف على الفكر‬
‫اإلسالمي‪ ,‬تيزي وزو‪.1973 ,‬‬
‫‪ - 12‬بوعمران الشيخ‪ ,‬األسقف الفيجيي ونشاطه التبشريي (‪ ,)1892- 1867‬مقال بصحيفة‬
‫الشروق العربي األسبوعية‪ ,‬العدد‪ 26 ,44 :‬ماي ‪1994‬‬

‫‪Charles André Julien, Ibid, P.441.‬‬ ‫‪- 13‬انظر‪:‬‬

‫‪ - 14‬عالل الفاسي‪ ,‬نشاط التبشري ودوره االستعماري‪ ,‬حماضرة يف ملتقى التعرف على الفكر‬
‫اإلسالمي‪ ,‬تيزي وزو‪.1973 ,‬‬
‫‪ - 15‬عبد الرمحن اجلياللي‪ ,‬تاريخ اجلزار العام‪ ,‬اجلزء‪ ,4:‬دار الثقافة‪ ,‬ط‪ ,4:‬بريوت ‪,1980‬‬
‫ص‪.293:‬‬
‫‪ - 16‬علي مراد‪ ,‬شارل دي فوكو يف نظر اإلسالم‪ ,‬ترمجة علي مقلد‪ ,‬املطبعة البوليسية‪,1980 ,‬‬
‫ص‪.63:‬‬
‫‪Robert Ageron, Les Algériens musulmans et la Charles-‬‬ ‫‪ - 17‬انظر‪:‬‬
‫‪de France, Paris 1968, p.:301 France, Presses Universitaires‬‬
‫‪Idem .p:302.‬‬ ‫‪- 18‬‬
‫‪ - 19‬مصطفى خالد وعمر فروخ‪ ,‬التبشري واالستعمار يف البالد العربية‪ ,‬املكتبة العلمية ومطبعتها‪,‬‬
‫بريوت ‪ ,1953‬ص‪.46:‬‬
‫‪ - 20‬بوشيخي اجلياللي بن عبد القادر‪ 58 ,‬سنة‪ ,‬شيخ زاوية ببلدة ابن باديس‪ ,‬والية سيدي‬
‫بلعباس‪ ,‬املقابلة يف جويلية ‪.1995‬‬
‫‪- 21‬تعقيب أمحد الشرباصي على حماضرة احلبيب اجلنحاني حول حركة التبشري‪ ,‬ملتقى‬
‫التعرف على الفكر اإلسالمي‪ ,‬تيزي وزو‪.1973 ,‬‬
‫‪- 22‬آثار حممد البشري اإلبراهيمي‪ ,‬املرجع السابق‪ ,‬ص‪.93:‬‬
‫‪ - 23‬املرجع نفسه‪ ,‬ص‪.85 :‬‬
 ‫املصادر العدد ‪9‬‬

‫‪ - 24‬أمحد شليب‪ ,‬مقارنة األديان (املسيحية)‪ ,‬مكتبة النهضة املصرية‪ ,‬القاهرة‪ ,1967 ,‬ص‪.156:‬‬
‫‪ - 25‬جريدة الرأي‪ ,‬العدد‪ ,1520 :‬ليوم ‪ 20‬أبريل ‪ ,2003‬ص‪.13:‬‬