Professional Documents
Culture Documents
ضوابط وشروط تخطيط واختيار موقع المدينة اإلسالمية وتحصينها عند بعض المفكرين
المسلمين.
تقديم:
تع ّد املدين ة نت اج االجتم اع البش ري ومثرة الت دبري والفك ر اإلنس اين ال ذي ال ميكن أن ينض ب يف جتّد ده
وإبداعه؛ باعتبارها خالصة تاريخ احلياة احلضرية ،وهي النظرة إىل اآليت ،وهي التقليد احلضاري ،والكتابة
على األرض ،وإبق اء األث ر الش اهد على املاض ي واحلاض ر واملس تقبل مع ا ،وبالت ايل ش هادة الت اريخ ،فهي
أصدق تعبري النعكاس ثقافة الشعوب وتطور األمم وهي معول احلضارة وحاضنتها حيث نشأت يف كنفها
فنون االنسانية وآداهبا ،كما تعرب عن صورة كفاح اإلنسان وانتصاراته واهنزاماته.
وهناك من يرى أّن املدينة هي مركز جتمع بشري ،فهي للسّك ان وليست فقط للحّك ام ،كما هي أماكن
للسكن والعمل واحلركة والرتفيه ،وأن التقدم احلضاري فيها ال يقاس باألبنية الشاهقة والضخامة وتطورها
التق ين فحس ب؛ وإمنا من خالل قي اس درج ة النف ع والش مولية بالنس بة لس كان املدين ة .وهي أيض ا كي ان
م ادي وموض وعي واجتم اعي حيث جتذب وتس تقبل الس كان وتش بع حاجي اهتم بفض ل انتاجه ا وجتارهتا
وجتهيزاهتا ،فهي املكان الذي تتم فيه االتصاالت املتنوعة ،وبفضلها يتحقق الرتابط بني اجملال الذي تشغله
واجملال الواقع حتت سيطرته.
حقيقة أّن مالمح نشأة املدينة اإلسالمية العمرانية ومنهج ختطيطها وحتصينها بدأ أصال يف مدينة الّر سول
صلى اهلل عليه وسلم ،ويف عهده ،وأتبع هذا املنهج فيما اختط من مدن كانت أوائل مناذجها ما يطلق عليه
اص طالحا "م دن اهلج رة أو م دن األمص ار"؛ ال يت ك ان قوامه ا أه ل اهلج رة وال ذين ك انوا ب دوا يف الغ الب
ووجدوا يف هذا االجتاه سبيال حنو حياة أفضل ،ومحلوا لواء اجلهاد فريضة لنشر االسالم .وبعدما نشطت
الفتوحات االسالمية خاصة يف عهد عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه ،أصبحت احلاجة ملحة إلدارة األقاليم
املفتوح ة ،واختاذ قواع د متقدم ة تكف ل اس تمرار ق وة اجلي وش االس المية الفاحتة ،فأنش أت العدي د من املدن
لتك ون كمعس كرات حربي ة متقدم ة هلذه اجلي وش لتتح ول بع د ذل ك إىل ع وامل إداري ة لوالي ات الدول ة
االس المية ،أي أن ه ذه املدن ارتبطت وظيفته ا بنش أهتا وال يت ك ان الس بب فيه ا دواعي الفتح الع ريب
اإلس المي؛ هلذا جند أن بعض املؤخرين ينس بون انش اء وازده ار املدن اجلدي دة إىل الف رتة االس المية ومنهم
بيار جورج Pièrre Georgeالذي ذكر" :أن اإلسالم بناء للمدن ."un batisseur des villes
لقد كان إذن أول تطبيق هلا يف الواقع مع مدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،املدينة املنورة ،وقد سار
أصحابه عليه أفضل الصالة وأزكى السالم والفاحتون من بعدهم على ذلك النهج يف ختطيطهم وتأسيسهم
للمدن يف البالد املفتوحة.
والظاهر أّن مشاركة احلكام يف عمران املدن بداية باختيار املواضع الص احلة إلنشاء املدن ،مث اقطاع
العامة اخلطط لبدء االنشاء والتعمري ،مث مجع القبيلة يف مكان واحد مما يدفع القبيلة إىل بذل قدر طاقتها
إلعمار موضعها مبستوى يتناسب ومنزلتها وبالتايل إعمار املدينة كامال من جهة ومنافسة املدن األخرى
من جهة أخرى ،وما يشجع أيضا على اإلعمار سياسة االهتمام بإنشاء وجتهيز املرافق األساسية من ماء
عذب وأسواق ومساجد ودور قضاء وطرق ،وغري ذلك من املرافق يؤدي بدون شك إىل إعمار وتطوير
املدن.
وحبكم مكان ة ه ذا الص رح العم راين واالجتم اع اإلنس اين فق د وض ع الفقه اء واملفك رون املس لمون
ضوابط وأسس للعمارة والعمران ومنهم :القزويين الذي حدد معايري وشروط التخطيط والتحصني وتقاسم
األرض ،وابن خلدون الذي حتدث عن الغاية من إنشاء وتأسيس املدن ،وحّد د ثالثة شروط اختيار املوقع،
وابن األزرق الذي وضع شرطني أساسيني جيب مراعاهتما يف اختيار مواضع املدن واعترب العمارة ال ّر كن
اخلامس من أركان امللك ،أما ابن أيب الّر بيع فقد ح ّد د أربعة شروط الختيار املوضع إلنشاء مدينة ،كما
صور لنا الفرسطائي هيئة املنزل بأبوابه وشوارعه وزقاقه املؤدية إىل السوق واملرافق العامة األخرى .فما
هي معايري وأسس ختطيط املدينة اإلسالمية؟ ،وكيف كان يتّم حتصينها حلماية أهلها ونشر األمن بينهم؟
أوال -شروط اختيار الموقع:
أم ا خبص وص ختطي ط املدين ة وحتص ينها وعمراهنا فق د ح دد املفك رون كم ا ذكرن ا جمموع ة من
الش روط واملق اييس ال يت جيب مراعاهتا يف بن اء وتعم ري املدن وأوهلا يف اختي ار املوق ع واملك ان الالئ ق ،فليس
كل املواضع املعمورة صاحلة للتعمري واملسكن وال كل بقعة يف كل موقع تصلح لذلك ،1ومن بني الش روط
واملعايري اليت حددها وحتدث عنها مفّك رو اإلسالم نذكر:
-1بالنسبة للقزويني:
- 1حممد بن محو :العمران و العمارة عند بعض املفك رين املس لمني ،جمل ة القرط اس احلض اري للدراس ات احلض ارية والفكري ة،
نشر ابن خلدون ،تلمسان ،العدد ،1سنة ،2012ص.65
ق د حتدث عن تقاس م األرض وح ّد د أفض ل مك ان لس كنها وتأثريه ا على األب دان وأخالق اإلنس ان ،وأن منه ا
الش رق والغ رب واجلنوب والش مال ،وذك ر أن معظمه ا ال يص لح للس كن ،وأن م ا يص لح للس كن من األرض
قدر يسري وهو أواسط األقاليم الثالث والرابع واخلامس ،مث بنّي سلبيات املساكن احلارة واملساكن الباردة وكذا
الرطبة واليابسة واحلجرية ،وآخر ما ذكره املساكن اآلمجية والبحرية ،ومن خالل األوصاف اليت ذكرها فإن
املساكن الرطب ة واملس اكن اآلمجي ة والبحري ة هي األفض ل للس كن ألن ه واءهم معتدل ليس بشديد احلرارة وال
شديد الربودة ،كما أن سكاهنا موصوفون بالسحنة – أي احلالة اجليدة.1-
-2بالنسبة البن خلدون:
ممّا ذك ره ابن خلدون عن اهلدف والغاي ة من إنشاء املدن قوله" :إن الغاي ة من تأسيس وبناء املدن هي
إجياد املس اكن واملن ازل واملالجئ ،ومن الض روري نب ذ األش ياء الض ارة عن ه ذه املدن وأن ن وفر يف مجي ع ه ذه
املساكن وسائل الراحة واملنفعة العامة" ،وح ّد د ثالثة شروط جيب مراعاهتا يف اختيار املوقع وهي :دفع املضار،
وجلب املنافع وتسهيل املرافق فق ال" :أعلم أن املدن قرار تتخذه األمم عند حصول الغاية املطلوبة من الرتف
ودواعيه ،فتؤثر الدعة والسكون وتتوجه الختاذ املنازل للقرار ،وملا كان ذلك للقرار وللمأوى وجب أن يراعى
فيه دفع املضار باحلماية من طوارقها ،وجلب املنافع وتسهيل املرافق هلا".2
- 1القزويين :آثار البالد و أخبار العباد ،دار صادر ،بريوت ،لبنان ،1988 ،ص.8
- 2عبد الرمحن بن خلدون :املقدمة ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ،بريوت ،2007 ،ص ،73حممد سرباح ،عبد القادر
صاف :املدن اجلديدة من فك اخلناق على احلواضر يف اجلزائر حالة مدن الطوق األول ،حوليا التاريخ واجلغرافيا ،امللتقى الوطين
الث الث ،املدن اجلزائرية ع رب العص ور ،خمرب الت اريخ واحلض ارة واجلغرافي ا التطبيقي ة ،املدرسة العلي ا لألس اتذة ،بوزريع ة العدد ،5
جوان ،2012ص.274
ويف هذا املنحى يقول توفيق محد عبد اجلواد" :أي موقع املدينة اجلغرايف الطبوغرايف سيشكل عامال من
أهم العوامل لتكوين الشكل العمراين للمدينة لنموذجها الوظيفي ولتحديد شخصيتها املعمارية ،فاملدينة إما أن
تكون ساحلية وذلك ما هو نادر يف الرتاث اإلسالمي جلنوح املسؤول عادة عن الساحل لضرورات أمني ة ،1ومثة
بالطبع حاالت خاصة ،واختيار موقع كهذا يظهر حرص مؤسس املدينة على تأمني عامل األمان وغالبية املدن
بنيت على طرق التجارة 2ويف سفح جبل قرب واد خصب".3
-3بالنسبة البن األزرق:
ووضع ابن األزرق شرطني أساسيني جيب مراعاهتما يف اختيار مواضع املدن ومها :دفع املضار وجلب
املنافع ،4وهو يف احلقيقة كما قال حممد بن محو" :ينقل عن ابن خلدون حرفيا إال يف القليل النادر" ،5واعت رب ابن
األزرق العمارة الركن اخلامس من أركان امللك بعد نصب الوزير وإقامة الشريعة وإعداد اجلند وحفظ املال.6
-4بالنسبة البن أبي الربيع:
أما ابن أيب الربيع 7فقد حدد أربعة شروط الختيار املوضع إلنشاء مدينة وهي كاآليت:
-1س عة املي اه املس تعذبة وذل ك ب أن تك ون ق رب هنر أو هبا آب ار وعي ون حبيث يأخ ذ الن اس حاج اهتم من املاء عن
قرب.
- 1فقد بنيت القريوان على بعد ستة وثالثني ميال من البحر وحو ميل من تونس ،حس ن ال وزان :وص ف إفريقي ا ،ترمجة حمم د
حجي وحممد األخضر ،ط ،2دار الغرب االسالمي ،1983 ،ج ،2ص ،87وبرر عقبة بن نافع اختياره ذلك املوقع ألصحابه
ملا أرادوا هلا مكانا قرب البحر قال" :إين أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية ،وميلكها ،ولكن اجعلوا بينها وبني البحر ما
ال ي دركها مع ه ص احب البح ر" ،ابن ع ذارى املراكش ي :البي ان املغ رب يف أخب ار األن دلس واملغ رب ،حتقي ق ومراجع ة ج.س
كوالن وليفي بروفنسال ،ط ،2دار الثقافة ،بريوت ،لبنان ،1983،ج ،1ص ،19ابن األثري :الكامل يف التاريخ ،دار بريوت
للطباعة والنشر ،بريوت1380 ،هـ1965 /م ،ج ،3ص.456
- 2ي ذكر ب رودال ح ول املدن م ا يلي..." :نق اط جام دة ف وق اخلرائ ط ،فهي تتغ ذى من احلرك ة ،و م ا جتارهتا إال حرك ة"،
.F.Braudel, civilisation materielle et capitalisme, paris, 1967, p. p 372- 374
- 3توفيق محد عبد اجلواد :العمارة االسالمية فكر و حضارة ،املكتبة األجنلو مصرية ،1987 ،ص .301 -300
- 4ابن األزرق :ب دائع الس لك يف طب ائع املل ك ،حتقي ق حمم د عب د الك رمي ،ال دار العربي ة للكت اب،1988،ج،1ص -356
.357
- 5حممد بن محو :جملة القرطاس ،املرجع السابق ،ص.68
- 6ابن األزرق :بدائع السلك يف طبائع امللك ،حتقيق حممد عبد الكرمي ،الدار العربية للكتاب،1988،ج ،1ص.223
- 7ابن أيب الربي ع :س لوك املال ك يف ت دبري املمال ك ،دراس ة و حتقي ق ن اجي التكري يت ،منش ورات عوي دات ب ريوت ،ط،1
،1978ص ،136حممد بن محو :املرجع السابق ،ص.67
-2امكانية املرية املستمرة ،هي الطعام الذي مجع للسفر وحنوه فهو كل ما يصلح لالدخار و يكون بالكثرة حبيث
ال حيت اج أهله ا إىل جلب ه من مك ان آخ ر وه ذا م ا نستش فه من اآلي ة الكرميةَ﴿ :و َلَّم ا َفَتُح وا َم َت اَعُه ْم َو َج ُد وا
ِم ِإ ِغ ِذِه ِب ِإ ِه ِب
َض اَعَتُه ْم ُر َّدْت َلْي ْم َقاُلوا َيا َأَباَنا َم ا َنْب ي َه َض اَعُتَنا ُر َّدْت َلْيَنا َو َن يُر َأْه َلَنا َو َنْح َف ُظ َأَخ اَنا َو َنْز َداُد َك ْي َل
َبِعيٍر َذِلَك َك ْيٌل َيِس يٌر ﴾ ،1يف أن فلسطني غاب عنها هذا الشرط حيث توفر يف مصر ،مما اض طر أهل فلسطني
إىل اخلروج للبحث عن املرية.
-3اعتدال املكان وجودة اهلواء ،وهذا مهم حلياة الكائن احلي وسالمته من األمراض ،فهنا يذكر القزويين" :مث إن
املل وك من األمم املاض ية ملا أرادوا بن اء املدن أخ ذوا آراء احلكم اء يف ذل ك ،فاحلكم اء اخت اروا أفض ل ناحي ة يف
البالد وأفضل مكان يف الناحية وأعلى منزل يف املكان من السواحل واجلبال ومهب الشمال ،ألهنا تفيد صحة
أبدان أهلها وحسن أمزجتها ،واحرتزوا من اآلجام واجلزائر وأعماق األرض فإهنا تورث كربا و مها".2
وقد ذكر املسعودي خربا عن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه أنه بعد جناح الفتوحات االسالمية يف
العراق والشام ومصر وغريها ،كتب إىل أحد العلماء مستوصفا بقاع املعمورة" :إنا أناس عرب ،وقد فتح اهلل
علينا البالد ،ونريد أن نتبوأ األرض ونسكن البالد واألمصار ،فصف يل املدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره
الرتب واألهوية يف سكاهنا" فكانت وصفة ذلك احلكيم تتضمن مضار احلياة باملناطق الباردة واحلارة ،ومنافعها
باملناطق املعتدلة ،ورصد خصائص البيئة يف عدة بلدان مثل الشام ،ومصر واليمن واحلجاز واملغرب والعراق
وف ارس واهلند والص ني ،3ه ذا املوق ف ي ؤدي إىل اس تنتاج أن املس لمني األوائل ك انوا يتمتع ون بفك ر بيئي راق
ارتبط بعدة اعتبارات أمنية وصحية واقتصادية.4
-4القرب من املراعي واالحتطاب ،ألن العيش كان يعتمد على الدواب ،يأكلون من حلومها ويشربون من ألباهنا،
و يركب ون ظهوره ا (ممكن اآلي ة) ف وجب ت وفر املراعي هلا وأيض ا االحتط اب ،الس تعماله يف البن اء والطهي،
ابن األزرق
ابن خلدون
- 1ابن ماج ة :س نن ابن ماج ة ،كت اب التج ارات ،ب اب األس واق ودخوهلا ،رقم ،2233حمم د عب د الس تار عثم ان :املدين ة
االسالمية ،املرجع السابق ،ص ،113مفتاح سعيدة :املرجع السابق ،ص.35
- 2الطربي :املصدر السابق ،ج ،2ص ،280امساعيل العريب :املدن املغربية ،املؤسسة الوطنية للنشر و التوزي ع ،اجلزائ ر ،د.ت،
ص ،240 -239موسى لقبال :املغرب االسالمي ،ط ،2الشركة الوطنية للنشر و التوزيع اجلزائر ،1981 ،ص.29
- 3سعيدة مفتاح :املرجع السابق ،ص.37
- 4سعيدة مفتاح :املرجع السابق ،ص.39
فراغات (رحاب) بينها ملن أراد السكن فيما بعد ،أو إلمكانية اتساع املدينة ،مث يبىن السور الذي يضم كل
الس كان ،1وأدى التط ور العم راين إىل توس ع نط اق األس وار ووص لها ببعض ها عن طري ق أب واب ترب ط احلارات
واألحياء بقلب املدينة ومركزها ،حيث دعا تأمني املدينة إىل تقسيمها إىل دروب وأزقة تغلق عليها األبواب ليال
فتع زل ك ل ح ارة عن األخ رى ع زال تام ا ،وت ؤمن من خط ر اللص وص ومتكن احلراس من الس يطرة على احلال ة
األمنية ،2ومن املدن اليت تبلور فيها هذا النظام ،بغداد والقاهرة وقرطبة وفاس و تيهرت.3
-8أن ينق ل إليه ا من أه ل العلم والص نائع بق در احلاج ة إىل س كاهنا ،ح ىت يكتف وا هبم ويس تغنوا عن اخلروج إىل
غريها ،وهذا الشرط يعترب من املقاييس اليت متيز اجملتمع احلضري للمدينة مبا توفره من اخلدمات املتمثلة يف نشاط
أهل العلم والصنائع الذين يكفون املدينة حاجاهتا ،وأبرز األمثلة على ذلك ما فعله اخلليفة املهدي حيث كان
يسكن هو وأهله باملهدية ،وأسكن العامة يف زويلة ،وكانت دكاكينهم وأمواهلم باملهدية ،وزويلة مساكنهم،
وكانوا يدخلون بالنهار املهدية للعمل والكسب ،وخيرجون بالليل إىل أهاليهم فقيل للمهدي" :إن رعيتك يف
هذا يف عناء فقال :لكن أنا يف راحة ألين بالليل أفرق بينهم وبني أمواهلم ،وبالنهار أفرق بينهم وبني أهاليهم،
فآمن غائلتهم بالليل ،والنهار".4
لقد سامهت هذه الفئات يف تطور املدينة اإلسالمية فتقدمت الصناعات بأنواعها وازدهرت التجارة،
وارتقت اخلدمات ارتق اء واض حا يف إط ار النظم والق وانني ال يت تق وم على تنفي ذها املؤسس ات ال يت تس هر على
نظام املدينة االسالمية ورعاية شؤوهنا وتوجيه ختطيطها ،وحل مشاكلها ،ومنها السلطة االدارية ممثلة يف الوايل
وأعوانه ويف السلطة القضائية وأجهزة األمن واملراقبة كجهاز الشرطة واحملتسب.
ومن خالل هذه الشروط الثمانية تتضح لنا األسس والقوانني العامة اليت كانت حتكم ختطيط املدينة
اإلس المية ،بطريق ة تثبت أن التخطي ط العم راين ق ام على مع ايري تواف ق قيم ال دين اإلس المي وختض ع لألحك ام
الفقهية ،واليت كانت تعىن حباجات اجملتمع املادية والروحية ،الفردية واجلماعية ،مستفيدة وآخذة مما صلح من
القزويني
الفرسطائي
- 1سعيدة مفتاح :مآثر تشريع املخططات العمرانية ،جملة احلكمة ،املرجع السابق ،ص.31
- 2حممد عبد الستار عثمان :املدينة اإلسالمية ،جملة عامل املعرفة ،املرجع السابق ،ص .45 -44
- 3حممد عبد الستار عثمان :املرجع السابق ،ص.46
اإلسالمية جبانب الصفة األساسية األوىل وهي صفة رئيس الدولة اإلسالمية جبانب الصفة األساسية األوىل وهي
صفة النبوة ،ومن مت أصبحت مركزا سياسيا وإداريا فاكتسبت بذلك الصفة املدنية.1
وتوفرت للمنطقة اليت نزل هبا النيب صلى اهلل عليه وسلم ،وهي منازل أخواله من بين النجار ،مميزات
أمنية هامة لتقارب منازهلا ،وهي ميزات مل تكن تتوفر يف منازل األنصار األخرى ،ويف هذه املنطقة كانت بداية
العم ل اإلنش ائي للتكوين ات املعماري ة اجلدي دة ،وك ان نواهتا املس جد اجلامع ،ومن حول ه أنش ئت من ازل
للمهاجرين املوزعني يف أحياء األنصار ،2ويف هذا جتميع للمسلمني ليكونوا كلمة واحدة يف مواجهة األخطار
احملدقة هبم ،وهكذا مجع الرسول صلى اهلل عليه وسلم بني قوة ومنعة بين النجار ،وقوة ومنعة املهاجرين وبقية
األنص ار من حول ه يف ه ذا املرك ز العم راين الناش ئ ،وب دأت أعم ال االنش اء باملس جد اجلامع وجبواره من جه ة
الشرق بين منزل الرسول صلى اهلل عليه وسلم شارعا أبوابه على املسجد.3
وب نيت قبلت ه أوال يف اجتاه الش مال حنو بيت املق دس ،ويف الس نة الثاني ة للهج رة ع دلت القبل ة حنو مك ة
املكرم ة تلبي ة لألم ر اإلهلي يف اآلي ات التالي ةَ﴿ :ق ْد َنَر ى َتَق ُّلَب َو ْج ِه َك ِفي الَّس َم اِء َفَلُنَو ِّلَيَّن َك ِقْبَل ًة َتْر َض اَه ا
َف ِّل َو ْجَه َك َش ْط اْلَمْس ِج ِد اْلَح اِم َو َح ْيُث َم ا ُك ْنُتْم َف ُّل وا ُوُج وَه ُك ْم َش ْط ُه﴾َ﴿ ،و ِم ْن َح ْيُث َخ ْج َت َف ِّل
َو َر َر َو َر َر َو
َو ْجَه َك َش ْطَر اْلَمْس ِج ِد اْلَح َر اِم ﴾َ﴿ ،و ِم ْن َح ْيُث َخ َر ْج َت َفَو ِّل َو ْجَه َك َش ْطَر اْلَمْس ِج ِد اْلَح َر اِم َو َح ْيُث َم ا
ُك ْنُتْم َفَو ُّل وا ُوُج وَه ُك ْم َش ْطَر ُه﴾ ،4ومن ح ول املنزل اجلامع اختطت من ازل امله اجرين يف األرض ال يت وهبه ا
األنص ار للرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم ،وق د ج اء أك ثر اقطاع ات الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم يف أرض
املوات ،5فقد ذكر ابن سالم أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم حني ه اجر إىل املدينة جع ل له أهل املدينة "كل
أرض ال يبلغه ا املاء يصنع هبا ما يشاء" ،ويقول ياقوت احلموي" :فلما قدم الرسول إىل املدينة ،أقطع الدور
والرباع ،فخط لبين زهرة من ناحية مؤخرة املسجد".
- 1نفسه ،ص.47
- 2سعيدة مفتاح :جملة احلكمة ،املرجع السابق ،ص.32
- 3نفسه ،ص نفسها ،حممد عبد الستار عثمان :عامل املعرفة ،املرجع السابق ،ص.47
- 4سورة البقرة :اآليات ،150 -149 -144وقد اختلفوا يف حكمة هذا التك رار ثالث م رات ،فقي ل أن األم ر األول ملن
هو مشاهد الكعبة و الثاين ملن هو يف مكة غائب عنها والثالث ملن هو يف بقية البلدان ،ملزيد ينظر ،ابن كثري :املصدر السابق ،م
،1ص.189
- 5املوات :عند الشافعي هي كل ما مل يكن عامرا وال حرميا لعامر فهو موات وإن كان متصال بعامر ،وعند أيب حنيفة
ويش ري ه ذا النص إىل أن الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم قط ع القط ائع لألش خاص واجته إىل اجلم ع بني
ذوي القرىب يف موضع واحد ،ويؤكد ذلك ما ذكر عن املنازل اليت اقتطعت للمهاجرين من بين الليث بن بكر،
وبين عمرة ،وبين الذهيل ،ومزنة ،وجهين ة ،و يلى وغ ريهم ،1وه و م ا يوض ح أن املدينة يف عه د الرسول ص لى
اهلل علي ه وس لم تض منت خطط ا ع دة ،وك ل خط ة قطنه ا أف راد ينتم ون إىل قبيل ة أو عش رية ،2ومما جتدر إلي ه
اإلش ارة أن خط ط القبائ ل يف املدين ة على عه د الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم مل تكن قبلي ة خالص ة ،مبع ىن أن
اخلطة ال يسكنها إال القبيلة نفسها وال سيما أنه نزل خيطط كثري من املهاجرين.3
إن مسؤولية توزيع اخلطط كانت يف يد الرسول صلى اهلل عليه وسلم باعتباره احلاكم وأن منهجه يف
توزيع اخلطط هدف إىل جتميع كل قبيلة يف خطة خاصة هبا ،وتركت حرية تقسيم اخلطة للقبيلة وفقا لظروفها
وإمكاناهتا يف اإلنش اء والتعم ري ،وم دى احلاج ة إىل ذل ك ،والواض ح أن تقس يم املدين ة االس المية إىل خط ط
"حمالت س كنية" إمنا أراد به الرسول ص لى اهلل عليه وسلم التأكيد على صلة الرحم بني القبيلة الواحدة ومجع
القبائ ل يف خط ط متع ددة جتمعه ا مدين ة واح دة ذات كي ان م ادي متكام ل وإط ار اجتم اعي أمشل وأعم ،وه و
إطار التآخي لتذويب النزاعات القبلية وخلق جمتمع واحد موحد.4
إضافة إىل املسجد اجلامع ،توزعت املساجد على خطط املدينة يف عهد الرسول صلى اهلل عليه وسلم
حيث بلغ عددها تسعة يف خطط املهاجرين ،وكان املصلون يسمعون آذان بالل يف مسجد الرسول صلى اهلل
عليه وسلم "املسجد اجلامع" ،مما يدل على أن هذه املساجد كانت قريبة منه وأن املساجد كانت تليب حاجات
املصلني يف هذه اخلطط للصلوات اخلمس فقط ،أما الصلوات اجلامعة فكانت تقام يف مسجد الرسول صلى اهلل
عليه وسلم باعتباره املسجد اجلامع ،كما اشتملت املدينة على ساحة فناء تقام عليها صالة العيد عرفت "مبصلى
العي د" ،خيرج إلي ه أه ل املدين ة لص الة العي د ،5كم ا ك ان لك ل قبيل ة مق ربة خاص ة هبا ،حس ب التقلي د القبلي،
وب الرغم من أن البقي ع أص بحت س نة 10هـ631 /م أرض دفن جامع ة ،ف إن ك ل قبيل ة ع رفت هلا ج زءا من
أرضها استخدمته للدفن.6
- 1السمهودي :وفاء الوفاء بأخبار دار املصطفى ،حتقيق حممد حمي الدين ،بريوت ،1971 ،ج ،2ص -ص .765 -757
- 2عبد اهلل بن ادريس :جمتمع املدينة يف عهد الرس ول ص لى اهلل علي ه و س لم ،جامع ة املل ك س عود ،عم ادة ش ؤون املكتب ات،
السعودية ،1982 ،ص.170
- 3نفسه ،ص نفسها.
- 4حممد عبد الستار عثمان :املدينة االسالمية ،عامل املعرفة ،املرجع السابق ،ص.49
- 5نفسه ،ص.50
- 6السمهودي :املصدر السابق ،ج ،1ص ،326ج ،3ص -ص .892 -888
واس تكماال ملراف ق املدين ة العمراني ة اهتم الرس ول ص ّلى اهلل علي ه وس ّلم بإنش اء الس وق فجع ل للمدين ة
سوقا واحدة وقال" :هذا سوقكم فال يضيق وال يؤخذ فيه خراج" ،1ويبدو أن إنش اء س وق للمس لمني باملدين ة
كان ليكفيهم أذى اليهود الذين أخذوا يف االعتداء على املسلمني ومضايقتهم بأسواقهم.2
كم ا أق ر الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم نظ ام املراقب ة يف األس واق ،فك ان يس تمر بنفس ه يف الس وق
ويوضح األسس االسالمية يف التعامل ،واستعمل عمري رضي اهلل عنه على سوق املدينة ،وبعد فتح مكة سنة
8هـ ،استعمل سعد بن العاص على سوقها.3
وربطت الشوارع والطرقات باعتبارها شرايني االتصال بني هذه التكوينات املعمارية ،فقد خط باملدينة
شوارع رئيسية متتد من املسجد باعتباره نواة املدينة إىل مجيع أطرافها ،4وتف رعت منها شوارع فرعية تتوغل
داخل خطط األنصار واملهاجرين ،لتسهل التوصل إىل مسجد الرسول يف املركز وهكذا ربطت هذه الشوارع
خطط املدينة وحمالهتا املختلفة ربطا عفويا حوهلا من حمالت سكنية متناثرة إىل مدينة تتصل أطرافها بطرقات
رئيسية مبركز املدينة وبالذات املسجد اجلامع.
ومع اّتساع املدن و تعّد د أريافها تعّد دت املساجد اجلامعة ،وأصبح حتويل املساجد واملدارس واخلانقات
إىل مساجد جامعة أمرا ميسورا يتم بتعيني خطيب و إقامة منرب باملنشأة الدينية ،وخري مثال على ذلك ما حدث
يف القاهرة منذ أوائل العصر اململوكي.5
وي ذكر حمم د بن عب د الس تار عثم ان" :وس ن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم انش اء مق ار للعالج
والتط بيب ،فق رر بع د رجوع ه من غ زوة اخلن دق وض ع خيم ة يف املس جد للت داوي ،وتأس ى احلك ام وأه ل ال رب
- 1البيمارستانات :كلمة فارس ية مركب ة من "بيم ار" مبع ىن م ريض و"س تان" مبع ىن مك ان فهي إذن دار املرض ى ،مث اختص رت
فأصبحت مارستان ،عيسى بك أمحد :تاريخ البيمارستانات يف االسالم ،ط ،2دار الرائد العريب ،بريوت ،1981 ،ص.4
- 2الوق ف :ص دقة جاري ة من أم وال الواق ف يف حيات ه ،و يس تمر بقاؤه ا بع د ممات ه ،حي اة احلجي :الس لطان الناص ر حمم د بن
قالوون ونظام الوقف يف عهده ،مكتبة الفالح ،الكويت ،1982 ،ص ،45وهذا ما ينطبق مع حديث رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسّلم" :إذا مات ابن آدم انقطع عمله إال من ثالث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".
- 3حممد عبد الستار عثمان :املدينة اإلسالمية ،عامل املعرفة ،املرجع السابق ،ص.53
- 4السمهودي :املصدر السابق ،ج ،2ص .739
- 5حممد عبد الستار عثمان :املرجع السابق.53 ،
- 6السمهودي :املصدر السابق ،ج ،2ص.693
- 7نفسه ،ص -ص .732 -725
- 8السمهودي :املصدر السابق ،ص ..693
- 9باب إذا اختلفوا يف الطريق امليتاء (و هي الرحبة تكون بني الطريق مث يريد أهلها البناء ف رتك منه ا س بعة أذرع) رواه اإلم ام
وعن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :ال ضرر و ال ضرار للرجل أن يضع
خشبة في حائط جاره وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوها أذرعا" ،1أي حتديد أدىن اتس اع للش ارع ب 3.5
مرت إذا ما اختلف حوله حىت ال يضيق ،وهذا معقول يف تلك العصور.
وعلى هذا النحو حددت مواضع التكوينات العمرانية للمدينة اإلس المية؛ أي التوفيق بني حرية حق
التصرف يف امللكية مع عدم التسبب يف أذى اآلخرين ،وقد تكون احلرية وفق حدود منطلقة أساسا من السنة
مثلما رواه أبو مسلم يف كتابه "املسافات" عن أيب هريرة رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه قال" :ال يمنع
جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" أو "خشبه في حائطه".2
وعندما أحلت الضرورة واحلاجة إىل حفر اخلندق للدفاع عن املدينة وتأمينها من جهة الشمال ،أخذ
الرسول صلى اهلل عليه وسلم مبشورة سلمان الفارسي يف ضرورة حفره وباشر العمل بنفسه ،وقسم الصحابة
إىل جمموعات تتكون كل واحدة منها من عشرة أشخاص كلفوا حبفر أربعني ذراعا.3
حقيقة أن معامل املدينة اإلسالمية العمرانية ومناهج ختطيطها وحتصينها بدأت يف مدينة الرسول صلى اهلل
عليه وس لمّ ،مث سار وطبق الف احتون ه ذا النهج يف عم ارة وعمران املدن واحلواض ر اإلسالمية .ومن املدن اليت
أنشئت خالل الفرتة اإلسالمية ،أوهلا البصرة اليت أسست كمعسكر حريب سنة 14هـ634 /م ،أسسها عتبة بن
غ زوان ب أمر من اخلليف ة عم ر رض ي اهلل عن ه وب دأ بتخطي ط املس جد اجلامع ،وجبواره دار اإلم ارة ،مث أقطعت
القبائ ل خططه ا ح ول املس جد ،وخططت الش وارع ،ومراب ط اخلي ل واملق ربة ،وت ركت حري ة تقس يم اخلط ط
البخاري برقم ،2341ج ،2ص ،874و جاء يف موضع آخر "إذا اختلفتم يف الطريق جعل عرضه سبعة أذرع" زكي الدين
عبد العظيم :خمتصر صحيح مسلم حتقيق حممد ناصر الدين االلباين ،ط ،1دار بن عفان ،السعودية ،املكتبة االسالمية ،عمان،
قصر الكتاب البليدة1411 ،هـ ،ص.251
- 1ابن تيمي ة :املنتقى ،الرئاس ة العام ة إلدارات البح وث واالرش اد واالفت اء ،الس عودية ،ج ،2ص ،371ابن ماج ة :س نن ابن
ماجة ،حتقيق خليل مأمون شيحا ،دار املعرفة ،بريوت ،د.ت ،ج ،5ص.106
- 2أبو مسلم :كتاب املسافات ،ب اب غ رز اخلش ب يف اجلدار ،ب رقم ،1609اجلزء الث الث ،ص ،1230للمزي د أك ثر ينظ ر،
ابن ال رامي :االعالن بأحك ام البني ان ،حتقي ق و دراس ة فري د بن س ليمان :تق دمي ،عب د العزي ز ال دوالييت ،مرك ز النش ر اجلامعي
،1999ص -ص ،57 -46املرجي الثقفي :كتاب احليطان ،أحكام الطرق و السطوح و األبواب و مسيل املياه و احليطان
يف الفقه االسالمي ،حتقيق حممد خري رمضان يوسف ،دار الفكر املعاصر ،بريوت ،لبنان ،ط ،1994 ،1باب االتصال يف بناء
احلائط ،وباب يف السرت و اخلشب ،و باب يف عدد اخلشب ،ص -ص .63 -47
- 3للمزيد عن كيفية حفر اخلندق و فرتة اجنازه و عدد املشاركني يف حفره ،ينظر ،القربي :تاريخ الرسل و امللوك ،حتقي ق أيب
الفض ل اب راهيم ،الق اهرة ،1968 ،ج ،2ص ،518الس مهودي :املص در الس ابق ،ج ،4ص ،109ابن س يد الن اس :املص در
السابق ،ج ،2ص ،287حممد عبد الستار عثمان :املدينة اإلسالمية ،عامل املعرفة ،املرجع السابق ،ص .53 -52
للقبائل ال يت اختطت وب نيت منازهلا ،وذكر لنا البالذري 4العديد من الرواي ات عن بعض م ا قام به أبو موسى
األش عري ال ذي تواله ا س نة 19 -17هـ650 -630 /م) لتنظيم املدين ة كبن اء املس جد ودار اإلم ارة ب اللنب
والطني وتزويدها باملاء الصاحل للشرب ،وكيف ساهم أيضا عبد اهلل بن عامر (36 -25هـ657 -646 /م)
يف تطوير البصرة بتشجيعه للعمران والتوسيع يف تأسيس األسواق وال سيما أن سوق املربد مل تعد قادرة على
سد احلاجات اجلديدة للمدينة ،2كما جاءت رواي ات مفص لة عن كيفية بناء مدين ة الكوف ة 3اس تنادا إىل مع ايري
هندس ية معين ة تتعل ق بع رض الش وارع واختي ار موق ع املس جد اجلامع ،ودار اإلم ارة و ختطي ط على القبائ ل
للسكن.4
ويتضح مما سبق أن ختطيط الكوفة سار على املنهج نفسه الذي وضع يف املدينة املنورة مث يف البصرة.
وسار ختطيط الفسطاط على النمط نفسه واليت تعد أول مدينة جديدة عربية أنشئت يف مشال إفريقيا أسسها
عمرو بن العاص عند فتح مصر سنة 21هـ641 /م ،5ويكشف لنا املقريزي تأثر ختطيط املدين ة بظ روف نشأهتا
احلربي ة يف تل ك الف رتة املبك رة من ت اريخ ختطي ط املدين ة اإلس المية ،حيث يش ري إىل ت رتيب احملالت الس كنية
(اخلطط) يتبع يف الغالب برتتيب قطاعات اجليش ،6مما يسهل إدارة املدينة واستنفار اجليوش.
- 1القريوان :اسم معرب و هو بالفارسية يعين كروان و هو طائر يشبه احلجل و القريوان تعين حمط ة اب دال أو جتم ع عس كري
للدفاع عن املدينة ،ابن منظور :املص در الس ابق ،ص ،77م وريس بومب ار :اإلس الم يف جمده األول (ق 11 -8م5 -2 /هـ)،
املؤسسة الوطنية للكتاب ،ط ،1اجلزائر ،1984ص.103
- 2ابن عذارى املراكشي :البيان املغ رب يف أخب ار األن دلس و املغ رب ،حقق ه و راجع ه ج.س ك والن و ليفي بروفنس ال ،دار
الثقافة ،ط2بريوت ،لبنان ،1982 ،ج ،1ص ،20موسى لقبال :املغرب االسالمي منذ بناء معسكر القرن حىت انتهاء ثورات
اخلوارج سياسته ونظمه ،الشركة الوطنية للنشر و التوزيع ،ط ،1اجلزائر ،ص.29
- 3حبشل :تاريخ واسط ،حتقيق كوركيس عواد ،عامل الكتب ،بريوت ،ط ،1986 ،1ص .39 -38
- 4حبشل :نفسه ،ص.39
- 5يروى عن اخلليفة العباسي أيب جعفر املنصور أنه خ رج بنفس ه إىل املوق ع ال ذي عين ه ل ه أص حابه وب ات في ه ليخت رب مناخ ه،
فوجده ميتاز عن غريه من األراضي الواقعة على دجلة خبلوه من الوباء الذي ينقله البعوض ،وطيب لياليه ،وصفائه حىت يف أشد
الص يف ح رارة ،فض ال عن وف رة املي اه وخص وبة الرتب ة ،وق د أش رف املنص ور ع ل ختطي ط املدين ة و وض ع حج ر األس اس س نة
145هـ762 /م ،وتشري الدراسات إىل أن البناء املدور يكون عادة أكثر تعرضا للشمس واهلواء من أي بناء آخر و هذا ينطبق
على الشكل الدائري لبغداد لتكون مدينة صحية ،السيد عبد العزيز سامل :دراسات يف تاريخ املغرب ،العصر العباسي األول،
مؤسسة شباب اجلامعة االسكندرية ،1993 ،ج ،3ص -ص .354 -349
وطواحينها ومنازهلا ومساجدها ومدارسها ،وما اشتملت عليه من مراف ق ت دل على مس توى حض اري متق دم،1
وقد اندهش الرحالة األجانب التساع مدينة القاهرة اليت تأسست 969م ،وامتداد عمراهنا.2
إن نشأة وتطور عمران املدن اإلسالمية أو احنساره ارتبط بتغيري اخلريطة السياسية للعامل اإلسالمي يف
فرتات خمتلفة توحدا حتت راية خالفة اسالمية واحدة ،مث انقساما إىل ثالث خالفات ،مث تفتتا إىل دول مشرقية
ومغربية ،وما ص احب ذلك من هجمات الص ليبيني مث التتار مث هجم ات املسيحيني على األندلس اليت انتهت
بفقدها وضياع أرضها.3
ومل يقتصر العرب الفاحتون على إنشاء املدن اجلديدة يف وطنهم من اخلليج إىل احمليط بل كانوا رواد املدينة يف
جزء من أوروبا حيث فتحوا األندلس عام 711م وأنشأوا العديد من املدن كغرناطة وقرطبة واشبيلية وغريها
كثري.
خاتمة:
نس تنتج من خالل م ا س بق أّن املدين ة كم ا تعرفه ا املع اجم العربي ة والق واميس اللغوي ة م أخوذة من م دن
باملكان أي أقام به ،كما أهنا يف التعريف االصطالحي احلديث ،حقيقة مادية مرئية يف املظهر ،من حيث الكثافة
السكانية ،والكتلة البنائية و البعد التارخيي ،فاملدنية تارخييا تعد وحدة تشكيلية قدمية خربها اجملتمع االنساين منذ
زمن بعيد ،وهي أعظم إجناز حضاري حققه االنسان ،وعليه ليست املدنية خبربة جديدة من التفكري االنساين
أهنا جاءت كما يعتقد بعضهم نتيجة الثورة العلمية اليت نبتت بذورها منذ أكثر من قرن فقط ،بل هي خربة
- 1لي ون اإلف ريقي :وص ف افريقي ا ،ترمجة حمم د حجي ،حمم د األخض ر ،دار الغ رب االس المي ،ب ريوت ،1983ص -ص
.321 -249
- 2حمم د عب د الس تار عثم ان :املدين ة االس المية ،ع امل املعرف ة ،املرج ع الس ابق ،ص،70
Lamara Mohamed Karmi, critère d’implantation, des villes nouvelle en algérie,
.école polytechniques d’architevture, el harach, année 2003, p3
- 3حممد عبد الستار :املرجع السابق ،ص.76
قدمية عرفتها حضارات الشرق القدمي من سومرية وفرعونية ،كما عرفتها احلضارات اليونانية والرومانية ،ومن
مث ميكننا القول أن العامل القدمي كان عامل مدن وإن كانت كل مدينة تعد يف حذ ذاهتا علما قائما بذاته.
ويف العصور الوسطى ويف ظل احلضارة العربية اإلسالمية نشأت العديد من املدن كان لبعضها الطابع
العسكري مثل البصرة والكوفة واملوصل والفسطاط والقريوان ،وبعضها هلا الطابع االداري كواسط ،وبعض
منها هلا الصفة السياسية كبغداد والقاهرة ،وبعض آخر هلا الطابع الديين كالنجف وكربالء وتيهرت ،فازدهرت
ه ذه املدن يف ظ ل احلض ارة االس المية وص ارت مض ربا لألمث ال يف مظاهره ا العمراني ة وأمناطه ا االجتماعي ة
ومعاملها الثقافية والفنية ،من ذلك ما وصلت إليه البصرة والكوفة يف عهد األمويني والعباسيني والقاهرة يف عهد
الفاطميني ،القريوان يف عهد األغالبة وتيهرت يف عهد الرستميني ،فاملدينة على حد تعبري "البالش" كالشجرة
تربتها اجلغرافيا وملؤها التاريخ.
لقد أشار معظم املفكرين إىل أن االجتماع اإلنساين ضرورة ال بد منه بسبب أن اإلنسان ال ميكنه أن
حيصل على الغذاء مبفرده خاصة ذلك الغذاء الذي يتطلب اجلهد الكبري لالنتفاع به كالزرع ،كما أنه حباجة إىل
اللب اس واملس كن والعالج وال دفاع عن نفس ه ،ض ف إىل ذل ك الغري زة البش رية وميل ه إىل األنس ،ل ذلك وجب
عليه االجتماع ،مث أن هذا االجتماع إمنا يكون يف منطقة تص لح للسكن ،هلذا حدد املفكرون شروطا وبينوا
سلبية املناطق اليت مل خترت بعناية ،كما وصفوا ضوابط وأسس االستقرار والتعمري كتوفر املاء واتساع الطرق
وتعددها ووجود املسجد اجلامع ومساجد األحياء مع ضرورة وجود السوق وإحاطة املدينة بسور ،وأن ينقل
إليها أهل العلم والصنائع الذين يسامهون يف تطوير وازدهار املدينة حضاريا.
-حممد سرباح ،عبد القادر صاف :املدن اجلديدة من فك اخلناق على احلواضر يف اجلزائر حالة مدن الطوق األول ،حوليات
التاريخ واجلغرافيا ،امللتقى الوطين الثالث ،املدن اجلزائرية عرب العصور ،خمرب التاريخ واحلضارة واجلغرافيا التطبيقية ،املدرسة العليا
لألساتذة ،بوزريعة العدد ،5جوان 2012م.
-موسى لقبال :املغرب اإلسالمي منذ بناء معسكر القرن حىت انتهاء ثورات اخلوارج سياسته ونظمه ،الشركة الوطنية للنشر
والتوزيع ،ط ،1اجلزائر ،دون تاريخ نشر.
-ابن أيب الربيع :سلوك املالك يف تدبري املمالك ،دراسة وحتقيق ناجي التكرييت ،منشورات عويدات ،بريوت ،ط1978 ،1م.
-ابن األزرق :بدائع السلك يف طبائع امللك ،حتقيق حممد عبد الكرمي ،الدار العربية للكتاب،1988،ج.1
ابن ال رامي :اإلعالن بأحك ام البني ان ،حتقي ق ودراس ة فري د بن س ليمان :تق دمي ،عب د العزي ز ال دوالييت ،مرك ز النش ر اجلامعي
- .1999املرجي الثقفي :كت اب احليط ان ،أحك ام الط رق والس طوح واألب واب ومس يل املي اه واحليط ان يف الفق ه اإلس المي،
حتقيق حممد خري رمضان يوسف ،دار الفكر املعاصر ،بريوت ،لبنان ،ط ،1994 ،1باب االتصال يف بناء احلائط ،وباب يف
السرت و اخلشب ،وباب يف عدد اخلشب.
-ابن تيمية :املنتقى ،الرئاسة العامة إلدارات البحوث واالرشاد واالفتاء ،السعودية ،ج.2
-ابن سيد الناس :عيون األثر يف فنون املغازي والسري ،حتقيق خنبة حفظ الرتاث ،بريوت ،1980 ،ج.1
-ابن ع ذارى املراكش ي :البي ان املغ رب يف أخب ار األن دلس واملغ رب ،حقق ه و راجع ه ج.س ك والن و ليفي بروفنس ال ،دار
الثقافة ،ط2بريوت ،لبنان ،1982 ،ج.1
-ابن ماجة :سنن ابن ماجة ،حتقيق خليل مأمون شيحا ،دار املعرفة ،بريوت ،د.ت ،ج.5
-أبو مسلم :كتاب املسافات ،باب غرز اخلشب يف اجلدار ،برقم ،1609اجلزء الثالث.
-امساعيل العريب :املدن املغربية ،املؤسسة الوطنية للنشر والتوزيع ،اجلزائر ،د.ت.
-القزويين :آثار البالد و أخبار العباد ،دار صادر ،بريوت ،لبنان.1988 ،
-حبشل :تاريخ واسط ،حتقيق كوركيس عواد ،عامل الكتب ،بريوت ،ط.1986 ،1
-توفيق محد عبد اجلواد :العمارة اإلسالمية فكر وحضارة ،املكتبة األجنلو مصرية.1987 ،
-حسان علي احلالق :االدارة احمللية االسالمية ،احملتسب ،الدار اجلامعية ،بريوت.1980 ،
-حياة احلجي :السلطان الناصر حممد بن قالوون ونظام الوقف يف عهده ،مكتبة الفالح ،الكويت.1982 ،
-زكي ال دين عب د العظيم :خمتص ر ص حيح مس لم حتقي ق حمم د ناص ر ال دين االلب اين ،ط ،1دار بن عف ان ،الس عودية ،املكتب ة
اإلسالمية ،عمان ،قصر الكتاب البليدة1411 ،هـ.
-س عيدة مفت اح :م آثر تش ريع املخطط ات العمراني ة للمدين ة العربي ة االس المية ،جمل ة احلكم ة ،مؤسس ة كن وز احلكم ة للنش ر
والتوزيع ،اجلزائر ،العدد ،2السداسي األول .2013
-السمهودي :وفاء الوفاء بأخبار دار املصطفى ،حتقيق حممد حمي الدين ،بريوت ،1971 ،ج.2
-سيد عبد العزيز سامل :دراسات يف تاريخ املغرب ،العصر العباسي األول ،مؤسسة شباب اجلامعة االسكندرية ،1993 ،ج.3
-الطربي :تاريخ الرسل و امللوك ،حتقيق أيب الفضل ابراهيم ،القاهرة ،1968 ،ج.2
-عبد الرمحن بن خلدون :املقدمة ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ،بريوت2007 ،م.
-عب د اهلل بن ادريس :جمتم ع املدين ة يف عه د الرس ول ص لى اهلل علي ه و س لم ،جامع ة املل ك س عود ،عم ادة ش ؤون املكتب ات،
السعودية1982. ،م.
-عيسى بك أمحد :تاريخ البيمارستانات يف اإلسالم ،ط ،2دار الرائد العريب ،بريوت1981 ،م.
-الفرسطائي :القسمة وأصول األرضني ،حتقيق و تقدمي ،بكري بن حممد الشيخ بلحاج ،حممد صاحل الناصر ،املطبعة العربية،
مجعية الرتاث القرارة ،ط ،2غرداية1997 ،م.
-كمال صيفوري :الفكر البيئي يف احلضارة اإلسالمية ،جملة كان التارخيية ،دار ناشري األرشيف العاملي ،العدد ،20السنة
السادسة ،جوان ،2013رجب1434ه.
-ليون اإلفريقي :وصف إفريقيا ،ترمجة حممد حجي ،حممد األخضر ،دار الغرب االسالمي ،بريوت .1983
-حممد بن محو :العمران و العمارة عند بعض املفكرين املسلمني ،جملة القرطاس احلضاري للدراسات احلضارية والفكرية ،نشر
ابن خلدون ،تلمسان ،العدد ،1سنة2012م.
-حممد عبد الستار عثمان :املدينة اإلسالمية ،جملة عامل املعرفة ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت1988 ،م.
-حممد عبد الستار عثمان :نظرية الوظيفية بالعمائل الدينية اململوكية بالقاهرة ،دكتوراه ،جامعة أسيوط ،مصر 1980م.
-املسعودي :مروج الذهب و معادن اجلوهر ،تقدمي حممد السويدي ،سلسلة األنيس ،موفم ،اجلزائر ،1919 ،ج.2
-موريس بومبار :اإلسالم يف جمده األول (ق 11 -8م5 -2 /هـ) ،املؤسسة الوطنية للكتاب ،ط ،1اجلزائر .1984
-موسى لقبال :املغرب اإلسالمي ،ط ،2الشركة الوطنية للنشر والتوزيع اجلزائر1981 ،م.
-Lamara Mohamed Karmi, critère d’implantation, des villes nouvelle en algérie,
école polytechniques d’architevture, el harach, année 2003.
-F.Braudel, civilisation materielle et capitalisme, paris, 1967