You are on page 1of 64

‫املعهد العالي للتربية والتكوين املستمر بباردو‬ ‫جامعة تونس االفتراضية‬

‫اإلجازة في اللغة واآلداب‬


‫‪2022‬‬
‫وحدة املواد االختيارية‬
‫‪ARL 360‬‬

‫فلسفة التربية‬
‫مادة تحليلية نقدية وفق املقاربة البراغماتية الحديثة للتربية‪1‬‬

‫لطفي حجالوي‬
‫أستاذ محاضرفي فلسفة التربية‬

‫‪ 1‬لماذا البراغماتية ولماذا جون ديوي تحديدا؟ الجواب يكمن في أن الفلسفة ليست شيئا آخر عند جون ديوي غير التّربيــة ذاتها‪ ،‬والتّربيــة‬
‫ليست شيئا آخر غير الفلسفة ذاتها‪ .‬وهذا التداخل والتّـماهي العجيب بين التّربوي والفلسفي هو الميزة األكثر خصوصية وأصالة في فلسفة البراغماتيين‬
‫الرجل حتى أن الباحث تسوون ّ‬
‫شأن‪ Ou TSUIN _ ChEN‬يقول فيها "إن تقدير‬ ‫التربويين وخاصة جون ديوي‪ ،‬وهي خاصية جوهرية في فكر هذا ّ‬
‫ديوي كفيلسوف بيداغوجي على نحو أفالطون أو أرسطو أو القديس توما اإلكويني أو ديكارت أولوك أو روسو أو كانط أو حتى سبنسر سوف يكون‬
‫خطأ فادحا"(‪ (OU TSUIN-CHEN, la doctrine pédagogique de JOHN DEWEY, P 234-254‬وذلك لسببين رئيسين في اعتقاده؛ األول‬
‫أن هؤالء الفالسفة هم محترفون في الفلسفة‪ ،‬والتّربيــة هي فقط إحدى موضوعات نظرهم الثانوية‪ ،‬على خالف جون ديوي الذي تُشكل التّربيــة كل حدود‬
‫الســبب الثّــاني فهو أن جون ديوي ال ينطلق من مسلمات نظرّيـة ومقوالت نهائية يقوم بتطبيقها على التّربيــة‬
‫فلسفته‪ ،‬والقضايا األخرى هي العرضية‪ .‬ثم ّ‬
‫عمليــة اختبارها الميداني في التّربيــة‪.‬‬
‫بقدر ما ينطلق من فرضيات ترسخ أو تزول إثر ّ‬

‫‪1‬‬
‫التخطيط العام للدرس‬

‫تعريفات أساسية‪ :‬من الفلسفة بالعموم إلى فلسفة التربية بالخصوص‬ ‫‪-1‬‬
‫ما الفلسفة؟‬ ‫أ‪-‬‬
‫ما التربية؟‬ ‫ب‪-‬‬
‫ما فلسفة التربية؟‬ ‫ت‪-‬‬
‫‪ – 2‬غايات التربية وأهدافها؛ سجال الفكرالتربوي التطبيقي الحديث‬
‫جون جاك روسو‬ ‫أ‪-‬‬
‫بيستالوزي‬ ‫ب‪-‬‬
‫فروبل‬ ‫ت‪-‬‬
‫منتسوري‬ ‫ث‪-‬‬
‫جون ديوي‬ ‫ج‪-‬‬

‫مراجع الدرس‬

‫بالعربيّــة‬
‫أحمد فؤاد األهواني‪ :‬جون ديوي‪ ،‬دار المعارف بمصر ـ القاهرة ‪1959‬‬
‫مقدمة ترجمته لكتاب جون ديوي‪ّ :‬‬
‫الحريــة والثقافة‪ ،‬المكتبة األنجلو مصرية‪ ،‬القاهرة ‪1955‬‬ ‫أمين مرسي قنديل‪ّ :‬‬
‫طبعة األولى ـ المغرب ‪2002‬‬ ‫أوليفي روبول‪ " :‬لغة الّتربيــة "‪ ،‬إفريقيا للنشر‪ ،‬الدار البيضاء ال ّ‬
‫تشارلس موريس‪ :‬رواد الفلسفة األمريكية‪ ،‬ترجمة إبراهيم مصطفى إبراهيم‪ ،‬مؤسسة شباب الجامعة اإلسكندريّة ‪1996‬‬
‫محمد‪ :‬الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي‪ ،‬الدار العر ّبيــة للكتاب ومنشورات االختالف ومؤسسة‬ ‫جديدي ّ‬
‫طبعة األولى ‪2008‬‬‫أشد آل مكتوم‪ ،‬ال ّ‬
‫محمد بن ر ّ‬
‫النشر والتوزيع ـ بيروت لبنان ‪2004‬‬
‫الجامعية للدراسات و ّ‬
‫ّ‬ ‫محمد‪ :‬فلسفة الخبــرة جون ديوي ّ‬
‫نموذجا المؤسسة‬ ‫جديدي ّ‬
‫جيل دولوز وفيليكس غتّاري‪ :‬ما هي الفلسفة‪ ،‬ترجمة مطاع صفدي‪ ،‬مركز اإلنماء القومي والمركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪.1997 ،‬‬
‫سبينوزا‪ :‬علم األخالق‪ ،‬ترجمة األستاذ جالل الدين سعيّد‪ ،‬دار الجنوب للنشر‪1996،‬‬
‫‪2‬‬
‫صالح الحاجي‪ :‬من أعالم الفكر البيداغوجي‪،‬سيراس للنشر‪ ،‬تونس ‪2000‬‬
‫طلعت عبد الحميد‪ ،‬محسن خضر‪ ،‬عصام الدين هالل‪ ،‬محمد المنوفي‪ :‬ترب ّيــة العولمة وتحديث المجتمع‪ ،‬دار فرحة للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬القاهرة ‪2004‬‬

‫فتحي التريكي ـ كريستوف فولف ـ جاك بوالن‪ :‬التّربيــة والدّيمقراطية ‪ :‬أقطار عربية ومسلمة وأوربيّة تتحاور‪ ،‬دار‬
‫طبعة األولى ‪2010‬‬ ‫المتوسطيّة للنشر‪ ،‬بيروت تونس‪ ،‬ال ّ‬
‫فرنسوا جاكوب‪ :‬منطق الكائن الحي‪ ،‬ترجمة علي حرب‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬بيروت ‪1990‬‬
‫كارل بوبر‪ :‬أسطورة اإلطار‪ ،‬ترجمة يمنى طريف الخولي‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬ماي ‪2003‬‬
‫كانط ‪ :‬تأمالت في الّتربيــة تعريب األستاذ محمود بن جماعة‪ ،‬دار محمد على الحامي للنشر‪ ،‬صفاقس تونس‪1999‬‬
‫كليرمان غوتيه وآخرون‪ " :‬من أجل نظريّـة في البيداغوجيا "‬
‫ظــمة العربيّــة للتّربية والثقافية والعلوم والمركز العربي للتعريب والتّـرجمة والتأليف والنّشر‬‫ترجمة أ‪ .‬وجيه اسعد‪ ،‬المن ّ‬
‫بدمشق‪2002 ،‬‬
‫الراهــنة‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت ‪،2009‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلشكاليات‬ ‫ربيــة‬ ‫ّ‬ ‫ت‬‫ال‬ ‫فلسفة‬ ‫حجالوي‪:‬‬ ‫لطفي‬
‫سياسة‪ ،‬دار الطليعة ـ بيروت‪2000 ،‬‬ ‫صار‪ :‬في التّربيــة وال ّ‬‫ناصيف ن ّ‬
‫مح ّمد الفرحان‪ :‬الخ ّطاب الفلسفي التّربوي الغربي‪ ،‬الشركة العالمية للكتاب‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‬
‫محمد عبد الخالق مدبولي‪ :‬الّتربيــة تجدد نفسها تفكيك البنية‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية‪2008 ،‬‬
‫مصطفى محسن‪ :‬التّربيــة وتحوالت عصر العولمة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت ‪2005‬‬
‫موريس مارلوبونتي‪ :‬تقريظ الحكمة‪ ،‬ترجمة وتقديم األستاذ مح ّمد محجوب‪ ،‬دار أميّة للنشر‪ ،‬تونس ‪1995‬‬
‫موريس شربل ‪ :‬التيارات الفكرية للّتربية العصرية دار الفكر العربي‪ ،‬بيروت لبنان ‪2006‬‬
‫هربرت شنيدر‪ :‬تاريخ الفلسفة األمريكية ـ تعريب محمد فتحي الشنيطي‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية ولجنة البيان العربي ( دون‬
‫تاريخ)‬
‫وليام جيمس‪ :‬البراغماتيّة‪ ،‬ترجمة محمد على العريان‪ ،‬نشر مؤسسة فرانكلين للطباعة والنّشر‪ ،‬القاهرةـ نيويورك ‪1965‬‬
‫‪2006‬‬
‫ويل ديورنت‪ :‬قصة الفلسفة من أفالطون إلى جون ديوي‪ ،‬ترجمة فتح هللا محمد المشعشع‪ ،‬منشورات مكتبة المعارف‪،‬‬
‫طبعة السادسة‬ ‫بيروت‪ ،‬ال ّ‬

‫باإلنجليزية‬
‫‪Amy Sterling Casil “ John Dewey, The Founder of American Liberalism”, The Rosen‬‬
‫‪Publishing Group inc, 2006‬‬
‫‪AG Rud, Jim Garrison, Lynda Stone “ John Dewey at 150: Reflections For a New century”,‬‬
‫‪Purdue University, 2009‬‬
‫‪C. Darwin, Origin of Species, Popular Impression, London 1902‬‬
‫‪David Fott « John Dewey, American’s Philosopher of Democracy », Rowman Litteefield‬‬
‫‪publishers inc, 1998‬‬
‫‪Jay Martin “ The Education Of John Dewey: a biography”, Columbia University Press 2002‬‬
‫‪Jessica Ching-Sze Wang “ John Dewey in China : To teach To learn” State University of‬‬
‫‪New York, Albany 2007‬‬
‫‪Joseph Grange “ John Dewey, Confucius, and global Philosophy”, State University Of New‬‬
‫‪York, Albany, 2004‬‬
‫‪Militon Halsey Tomas and Herbert Wallace Schneider, A bibliography of John Dewey,‬‬
‫‪Columbia University Press, New York 1929‬‬
‫‪Raymond D.Boisvert “ John Dewey, Rethinking Our Time”, State University of New York‬‬
‫‪Press , 1998‬‬
‫‪Sidney Hook “ John Dewey, An Intellectual Portrait”, Cosmo inc 2008‬‬

‫‪3‬‬
Stephen M. fishman, Lucille Parkinson Mccarthy “ John Dewey and the philosophy and
practice of hope”, The Borad of Trusteer of the university of Illinois, 2007
Steven C. Rockefeller “ John Dewey : Religious faith and Democratic Humanism”, Columbia
University Press, 1994
Steven Fesmire “ John Dewey and Moral Imagination : Pragmatism in Ethics”, Indeana
University Press, 2003
Thomas Carlyle Dalton, “ Becoming John Dewey : Dilemmas of a Philosopher and
Naturalist” Indeana University Press 2002
W.B. Pillsbury , JOHN DEWEY, A Bibliography Memoir by W.B. Pillsbury, National
Academy Of Sciences, Washington D.C ,1957

‫بالفرنسية‬
ّ
Clermont Gauthier, Jean François Desbiens, Annie Malo, Stéphane Martineau, Denis
Simard« Pour une théorie de la Pédagogie » De Boeck & Larcier s .a Bruxelles 1999

Edgar Morin, La Tête bien Fête ; Repenser la Reforme Reformer la Pensée, Editions
du Seuil Paris , 1999
Gérard Deledalle, La philosophie Américaine, De Boeck université Paris Bruxelles, 1998
Gérard Deledalle, Histoire de la philosophie Américaine, Paris P.U.F 1954
Gille Gaston Granger, Méthodologie économique , P.U.F 1955
HERBART, J.F : Principales œuvres pédagogiques, paris , JOUVE et Cie EDITEURS , Paris
1944
Johan Heinrich Pestalozzi, Comment Gertrude instruit ses enfants, Traduit de l’Allemand
par Eugène Dain, Ch. Delagrave, 6éme édition, Paris

John Stuart Mill, L’utilitarisme, Traduit par Catherine et Patrick Thierry, P.U.F Paris 1998

J.J Rousseau, L’état de Guerre, Gallimard, Pléiade , Paris , Tome 3

John Dewey : Démocratie et Education, présentation et traduction en Français de Gérard


Deledalle, Armand Colin 1990
Kant, Critique de la raison pure, traduit par Alexendre J-L Delmare et Francois Marty,
Gallimard Paris 1990

Maria Montessori, L’enfant, Traduit de l’italien par Georgette J.J Bernard, Desclée de
Brouwer et Cie Paris 1936

Maria Montessori, Pédagogie scientifique, la découverte de l’enfant, Traduit par


Georgette J.J Bernard, Desclée de Brouwer , 2éme 2dition Paris 1953

Marcel Blanc, Les héritiers de Darwin L’évolution en mutation, seuil, Paris 1990

Martin Heidegger, Qu’est ce que la Philosophie?, Question II. Edition Gallimard

M. Merleau-Ponty, Eloge de la Philosophie, Gallimard, Paris, 1967

4
Morton G. White, La pensée sociale en Amérique, Traduction de M Mario Lévi, P.U.F Paris
1963

Ou Tsuin_ Chen : La doctrine pédagogique de JOHN DEWEY , Edition Varin ,Paris 1958

Paul Ricœur, Histoire et Vérité, Seuil, Paris 1955

Platon, Œuvres complètes, Textes établit et Traduit Par Auguste Dès, Les belle lettres,
Paris 1993 (Tome VIII 2éme Partie Théétète)

REUBEN WALLENROD, John Dewey éducateur , Thèse pour le doctorat de l’université de


paris , JOUVE et Cie EDITEURS , Paris 1932
Sous la direction de Françoise GAILLARD, Jacques POULAIN et Richard SHUSTERMAN,
La modernité En question ; De Richard RORTY à Jürgen HABERMAS, Les éditions du
CERF, Paris, 1998

‫األهداف العامة للدرس‬


:‫بعد نهاية هذه الوحدة ُينتظر من الطالب أن يكون قادرا على‬
‫ـ التعريف السليم لفلسفة التربية‬
‫ـ التحديد الدقيق للمجال اإلبستمولوجي لعمل فلسفة التربية‬
‫ـ القدرة على تحديد أهم القضايا التي تشتغل بها فلسفة التربية البراغماتية الحديثة‬
‫ـ تحديد أهم أعالم الفلسفة التربوية الروساوية الحديثة (التربية باعتبارها نموا) من روسو حتى جون ديوي‬
‫وتبين اهم نقاط التطور في طروحاتهم التربوية‬

5
‫القسم األول‬
‫تعريفات أساسية‪ :‬من الفلسفة بالعموم إلى فلسفة التربية بالخصوص‬
‫ما الفلسفة؟‬ ‫ث‪-‬‬
‫ما التربية؟‬ ‫ج‪-‬‬
‫ما فلسفة التربية؟‬ ‫ح‪-‬‬

‫أ‪-‬ما الفلسفة؟‬
‫لم يكن تحديد معنى الفلسفة عند كل فيلسوف‪ ،‬غاية في ذاته‪ ،‬بل كان في إطار عالقة بأطروحاته املركزية‬
‫ّ‬
‫والعلمي‪ .‬وقد‬ ‫ئيسيـة‪َ ،‬عنينا السؤال املعرفي واألخالقي ّ‬
‫والسياس ي واالجتماعي‬ ‫الر ّ‬‫ومباحث خطابه الفلسفي ّ‬
‫عرف‬ ‫كان من نتائج ذلك ّأن ُأ ُ‬
‫عت َبر "تعريف الفلسفة" وال زال‪ ،‬موضوعا خالفيا‪ ،‬شديد االنقسام‪ .2‬ألننا حين ُن ّ‬

‫حد الصدام والتناحر‪ ،‬مسألة مسّلم بها في تاريخ الفلسفة منذ المشهد الفلسفي األرسطي‪،‬‬
‫الفلسفيــة واختالفها ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ 2‬يمكن القول إن مسألة تعارض المذاهب‬
‫النظر في المسألة الواحدة قبل مباشرة نقدها وتجاوزها‪ ،‬وهو المنهج المعروف في‬‫الشـهيرة في عرضه للوجهات المختلفة من ّ‬‫حيث تشهد بذلك طريقته ّ‬
‫أدبيات النقد الفلسفي بطريقة بيان المعضالت‪ .‬كما يشهد على هذه الحقيقة المشهد الفلسفي الكانطي في العصر الحديث والذي جعل من تعارض‬
‫الفالسفة وتناقض آرائهم في المسألة عينها‪ ،‬مدخال لنقد الميتافيزيقا الدغمائية وتأسيس الميتافيزيقا العلم ّـيـة في كتابه نقد العقل المحض‪ .‬ويعود اختالف‬
‫الفلسفيــة حول نفس القضايا إلى عوامل متعددة منها العامل التاريخي والعامل االجتماعي كما ّنبه إلى ذلك سارتر في كتابه "مسائل في‬ ‫ّ‬ ‫المقاربات‬
‫حية في عصرها‪ .‬فلكل‬‫النـاحية التاريخية ال توجد الفلسفة بالمفرد بقدر ما توجد فلسفات بالجمع تكون واحدة منها فقط ّ‬
‫المنهج" حينما أشار إلى أنه من ّ‬
‫فلسفة منبتها الخاص الذي تنشأ ضمنه وتترعرع وتزدهر‪ .‬وقد ذهب جون ديوي في كتابه ّ‬
‫الديمقراطية والتّربيــة إلى تفسير ذلك بالّنظر إلى طبيعة‬
‫االجتماعيــة التي تتصدى لها الفلسفة في كل عصر‪ ،‬فإذا أقررنا بطبيعة االختالفات القائمة بين هذه المشكالت من عصر إلى آخر صار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المشكالت‬
‫من اليسير علينا أن نفهم ما يستتبع ذلك من اختالفات في مستوى مقاربات الفالسفة‪ .‬حتى أن بول ريكور في كتابه "التاريخ والحقيقة" ذهب إلى إقرار‬
‫أن فكرة الحقيقة في التاريخ هي مشروع ال يكتمل أبدا‪ ،‬ألن كل ما قيل فلسفيا في مجالها هو متنوع ومتناثر ومتعارض ومختلف عبر اّللحظات التاريخية‬
‫المتعددة‪ .‬وال يوجد نسق فلسفي احتكر الحقيقة‪ ،‬ولذلك فإن الحقيقة م تناثرة كتناثر أجزاء الجسم الواحد عبر المساحة الهائلة للتاريخ‪ ،‬ماضيا وحاض ار‬
‫ّ‬
‫ومستقبال‪ .‬فال ننتظر أو نأمل في إمساك الحقيقة مجتمعة‪ ،‬ألن ذلك فضال عن عدم إمكانه فهو غير مشروع نقديا‪ ....‬غير أن الفلسفة المعاصرة‬
‫حد تثمين هذا االختالف واعتباره شرط وجود الفلسفة ذاتها‪ ،‬ال إمكان ألن تقوم دونه‪ ،‬مما يقتضي‬
‫ذهبت إلى أكثر من إقرار االختالف الفلسفي‪ ،‬بل إلى ّ‬
‫عبرت الفلسفات المعاصرة عن فكرة معارضتها للوحدة ودفاعها عن التباين الفلسفي في صيغ‬ ‫مجرد االعتراف به‪ ،‬الدفاع عنه ببسالة‪ .‬ولقد ّ‬
‫فضال عن ّ‬
‫حريــة‬
‫مختلفة ومشاريع فلسفية ذات عناوين متنوعة كتحطيم الميتافيزيقا وتفجير الجوهر وتحطيم الكلي والدفاع عن الغيرية والقول بالكونية وإقرار ّ‬
‫االختالف‪ ،‬وتثمين منزلة اآلخر ومدح التّـنوع الثقافي والحضاري وهي مقاربات شكلت أهم مالمح الخ ّ‬
‫طاب الفلسفي ما بعد الحداثي‪.‬‬
‫وفي سياق تأكيد فكرة االختالف الفلسفي وحول داللة هذا المعنى العام‪ ،‬يقول أحد الباحثين المعاصرين وهو محمد الجديدي في مقدمة كتابه‪ ،‬فلسفة‬
‫النشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪" 2004 ،‬تُعرف الفلسفة بوصفها شكال من أشكال‬ ‫الخبــرة‪ ،‬جون ديوي ّ‬
‫نموذجا الصادر عن المؤسسة الجامعية للدراسات و ّ‬
‫تصور كل تيار أو مذهب فلسفي لها‪ .‬فمنذ بداية‬
‫التعبير اإلنساني‪ ،‬تأرجحا وتضاربا في اآلراء بخصوص ما ينبغي أن تؤديه من وظيفة‪ ،‬بحسب ّ‬
‫التفكير الفلسفي تعددت اآلراء واختلفت حول الدور المنوط بالفلسفة‪ ،‬هناك من يجعل دورها هو التفسير وهناك من يحصره في التغيير‪ ،‬والبعض يجعل‬

‫‪6‬‬
‫لتصوراتنا حول املعرفة والعقل والوجود واإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫الفلسفة‪ ،‬نقوم في اآلن نفسه بإعالن العناوين الكبرى‬
‫ّ ّ‬
‫والقيم واملجتمع والعالم‪ ،‬وكل هذه املسائل جوهريــة للنـظر الفلسفي‪ ،‬وهي نقاط جدال باستمرار‪.‬‬
‫اإلشكاليــة لسؤال ماهي ّـة الفلسفة؟ َع ّد ُه البعض متاهة يحسنُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وانطالقا من الوعي بهذه الطبيعة‬
‫ُ‬
‫وشب َه البعض العمل عليه‪ُ ،‬بمخاطرة الدخول في أرض لم ترسم معالم‬ ‫بالفيلسوف أال ُيقحم نفسه فيها‪ّ .‬‬
‫التـيه أقرب احتماال من الخروج بسالمة‪.3‬‬ ‫طرقاتها بعد‪ ،‬حيث يكون فيها ّ‬
‫وهنا يبدو طريفا أن نسائل‪ ،‬أحد أشهر أعالم الفلسفة البراغماتية األمريكية‪ ،‬وفيلسوف ترب ّيــة من‬
‫ّ‬
‫الطبقة األولى مثل جون ديوي ‪4 John Dewey‬حول تصوره ملاهي ـة الفلسفة‪ ،‬ألن ذلك سوف يطلعنا على‬
‫ّ‬
‫الكثير من العناوين األخرى املتعلقة بمواقفه في مباحث الفلسفة الكبرى‪ .‬فما الفلسفة بالعموم؟ وما‬
‫ّ‬
‫التربية؟ وما فلسفة التربيــة بالخصوص في تصور جون ديوي؟‬
‫يع ّده‬
‫نحول وجهتنا صوب كتابه الرئيس ي في هذا املجال‪ ،‬والذي ُ‬ ‫للجواب على هذه األسئلة‪ ،‬يجدر بنا أن ّ‬
‫البعض عمدة كتبه على اإلطالق وهو‪ :‬الديمقراطية والتربيــة ‪DEMOCRACY AND EDUCATION‬‬
‫ّ‬ ‫والحامل للعنوان الفرعي‪ّ :‬‬
‫مقدمة لفلسفة التربيــة ‪An introduction to the Philosophy of Education‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يخصص ديوي الفصل الرابع والعشرين لتعريف الفلسفة بالعموم‪ ،‬ثم تعريف فلسفة التربيــة‬ ‫حيث‬
‫ّ‬ ‫بالخصوص‪ .‬وقد حمل هذا الفصل عنوان‪ّ :‬‬
‫مقدمة في فلسفة التربيــة ‪An Introduction to the Philosophy‬‬
‫ننبه إلى احتياط منهجي‪ ،‬ضروري في‬ ‫‪ . of Education‬غير أنه يجب قبل متابعة تحليل ديوي لهذه املسألة أن ّ‬
‫نظرنا‪ ،‬ينبغي وضعه في االعتبار وال يمكن االستغناء عنه في فهم ما سيأتي من معان‪ ،‬وهو ّأن جون ديوي‬
‫محددة وخط فكري ملتزم نسبيا هو خط الفلسفة‬ ‫خلفية ثقافية ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتحرك في تصوره ملعنى الفلسفة من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتجسد مع رموزها‬ ‫ّ‬ ‫األمريكية" ّإبان ازدهارها‬
‫ّ‬ ‫اغماتية‪ .5‬وهو الخط الفكري الذي شكل "الفلسفة‬ ‫البر ّ‬

‫من مهمتها البحث عن الحقيقة أما البعض اآلخر فيعتبرها إحدى القنوات المساعدة على إيجاد أفضل الطرق الممكنة من أجل ّ‬
‫التقدم اإلنساني‪ ،‬وسط‬
‫هذه التّـصورات المتباينة وأخرى غيرها تطرح التساؤالت حول مدى فاعلية الفلسفة وقربها من مشاكل اإلنسان واتصالها بواقع"‬
‫‪3‬‬ ‫‪Martin Heidegger, qu’est-ce que la Philosophie?, Question II. Edition Gallimard‬‬
‫‪ 4‬ـ جون ديوي ‪1859John Dewey‬ـ ‪ 1952‬فيلسوف أمريكي معاصر أشتهر بتصوره الذي ال يفصل بين الفلسفة‬
‫والتّربيــة‪ ،‬بل يعتبرهما وجهان لعملة واحدة‪ .‬وتُعتبر أفكاره الفلسفيّــة إحدى أهم أجنحة المذهب البراغماتى األمريكي الحديث‬
‫الذي تش ّكـل مع شارلس بيرس‪ ،‬وويليام جيمس وجورج هاربرت ميد‪ .‬وم ّكنته حياته الطويلة نسبيا من تأليف الكثير من الكتب‬
‫واألبحاث والمقاالت‪ ،‬التي شبّهها بعض المؤرخين مجتمعة ‪ all works‬بالموسوعة البريطانية‪ ،‬لضخامتها‪ .‬وأهم كتبه على‬
‫اإلطالق في تصورنا هو الديمقراطية والتربية ‪ .Democracy and Education‬ال تزال أفكار هذا الفيلسوف معاصرة‬
‫وحية مع تالميذه مثل الفيلسوف ريتشارد رورتي ‪ ،Richard Rorty‬وبسبب أنها ال تزال صالحة في معالجة قضايا في‬
‫تعليم نا العربي المعاصر‪ .‬من أعظم العبارات التي قالها هذا المفكر وال تزال أيقونة لغوية تتم كتابتها على أسوار المدارس‪،‬‬
‫وواجهات الكتب‪ :‬ليست التربية إعدادا للحياة وإنما هي الحياة ذاتها‪Education is not preparation for life but ( .‬‬
‫)‪life itself‬‬

‫اغماتية هي اتّــجاه في التفكير يقوم على اعتبار إرجاع كل أنماط التفكير إلى نتائجها‪ .‬أي‬
‫‪ THE PRAGMTIC PHILOSOPHY SCHOOL‬البر ّ‬
‫‪5‬‬

‫التفاعل بين التّـجربة والذهن‪ .‬فالحياة مخبر كبير وما يرتسم في الذهن من أفكار هو عبارة عن خبرات تم االشتغال عليها أوفي طور البناء المستمر‪.‬‬
‫اغماتية يفسرها ديوي بالتأكيد‬
‫اغماتية هنا التجريبية في المعنى التّقليدي الذي ينفي عن الذهن كل فاعلية خالّقة‪ .‬إن قدرة الذهن في البر ّ‬
‫وال ترادف البر ّ‬
‫عمليــة ال تتقيد بالحدود الزمنية للتجربة أي بالماضي‪ .‬وعلى ذلك فالذهن خالّق بقدر التّـجربة‪.‬‬
‫على أن استشراف حلول مستقبلية لقضايا في الواقع هي ّ‬
‫اغماتية على هذا النحو حل لمشكلة الثنائية المعر ّفيـة التّقليدية بين العقل والواقع وبين الذات والموضوع وبين الفرد والمجتمع‪ .‬ويعتبر شارلس‬
‫إن البر ّ‬
‫الفلسفيــة في أمريكا‪ ،‬حيث كتب جيمس فيها مصنف بنفس العنوان فماذا كان يقصد بها؟‬ ‫ّ‬ ‫ساندرس بيرس وويليام جيمس آباء هذه النزعة‬

‫‪7‬‬
‫األساسين‪ :‬شارلس سندرس بيرس‪ ،‬وويليام جيمس‪ ،‬وجون ديوي‪ ،‬وهاربارت ميد‪ ،‬ويعود اآلن في صيغة‬
‫"البراغماتية الجديدة" مع فالسفة مثل يتشا د رو تي‪ ،‬وهو ّاتــجاه ُعرف بربطه بين الحقيقة وبين ّ‬
‫النتائج‪،‬‬ ‫ر ر ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫موضحا هذا املعنى لعالقة الحقيقة بالنـييجة‪" :‬نشير إلى حقيقة أن هذه األحكام التي‬ ‫ً‬ ‫حيث يقول عنه ديوي‬
‫ّ‬
‫نصدرها هي نفسها حقائق تترتب عنها نتائج وأن قيمتها تعتمد على نتائجها" ‪ 6‬وملزيد تأكيد هذا الترابط املنهجي‬
‫فضل أن نبدأ‬ ‫السياق الفكري الذي ينتمي إليه‪ُ ،‬ن ّ‬ ‫التعريف الذي يقترحه للفلسفة‪ ،‬وبين ّ‬ ‫والضروري بين ّ‬
‫قدمه للفلسفة‪ّ ،‬نتخذه منطلقا‪ ،‬ثم نسعى فيما يلي ذلك إلى تعميقه شيئا فشيئا‪.‬‬ ‫بمعنى أول ّي كان ديوي قد ّ‬
‫وهذا املعنى هو‪:‬‬
‫"قلنا الفلسفة ضرب من التفكيروإنها ككل تفكيرتنشأ عن وجود إبهام في مادة الخبــرة‪ ،‬ولهذا ترمي إلى‬
‫تعيين طبيعة الغموض والسـعي إلى إزالته بتكوين فرضيات يمكن امتحانها بالعمل‪ .‬ويمتاز التفكير‬
‫الفلسفي عن غيره بأن املبهمات التي يعالجها موجودة في الظروف واألهداف االجتماعيــة الواسعة‪،‬‬
‫وهذه قوامها تنازع املطالب التي تمليها املصالح الخاصة واملؤسسات االجتماعيــة املختلفة "‪7‬‬

‫غماتية‬
‫البر ّ‬‫متحدثا عن معنى وأصل ا‬
‫ّ‬ ‫الشـهيرة عن الفلسفة في الفصل األخير المخصص للفلسفة األمريكية بالقول‬
‫يجيب المؤرخ ويل ديورنت في قصته ّ‬
‫لدى ويليام جيمس " ووجد (جيمس) ما يريده في عام ‪ 1878‬في مقال مشهور للفيلسوف األمريكي تشارلس بيرس‪ ،‬بعنوان " كيف نوضح أفكارنا" قال‬
‫النـاجمة عن هذه الفكرة‪ .‬إذ بدون هذا فإن النزاع حول معنى الفكرة ال ينتهي وال يؤدي إلى‬
‫العمليــة ّ‬
‫ّ‬ ‫النتائج‬
‫فيه‪ ،‬لكي نجد معنى للفكرة ينبغي أن نفحص ّ‬
‫أحب أن يسير في طريقه‪ ،‬وراح يفحص الميتافيزيقا القديمة على هذا األساس وتوصل إلى تعريف‬
‫فائدة‪ .‬لقد وجد جيمس في قول بيرس بداية حسنة‪ ،‬و ّ‬
‫مقدماتها‪ ،‬فإن‬
‫استمدت أو ما هي ّ‬
‫ّ‬ ‫جديد للحقيقة‪ .‬فالحقيقة هي القيمة الفورّية للفكر‪ ،‬فعوضا أن نتساءل عن مصدر الفكرة ومن أين جاءت أو‬
‫البراغماتيزم تفحص نتائجها‪ ...‬وبذلك تحول وجه الفكر إلى العمل والمستقبل" ويل ديورنت‪ ،‬قصة الفلسفة‪ ،‬ترجمة فتح هللا محمد المشعشع‪ ،‬منشورات‬
‫طبعة السادسة‬
‫مكتبة المعارف بيروت‪ ،‬ص ‪ ،618‬ال ّ‬
‫النشر‪ ،‬بيروت‬
‫نموذجا الصادر في ‪ 2004‬عن المؤسسة الجامعية للدراسات و ّ‬ ‫محمد الجديدي في كتابه‪ :‬فلسفة الخبــرة جون ديوي ّ‬
‫ويقول األستاذ ّ‬
‫اغماتية فيما يأتي‬
‫لبنان‪ ،‬في الصفحة ‪ " 25‬يمكن أن نلخص بعضا من الخصائص التي اتسمت بها الفلسفة البر ّ‬
‫‪1‬ـ اعتماد المعرفة على الخب ـرة ‪2‬ـ الخب ـرة معيار التحّقق ‪3‬ـ رفض وجود الشيء في ذاته ‪ 4‬ـ قبول مبدأ "بيرس" من أن تصورنا لموضوع ما‪ ،‬هو فيما‬
‫مهم في معارفنا ‪7‬ـ التأكيد على الطابع االجتماعي‬
‫الغائية ‪6‬ـ لالعتقاد دور ّ‬
‫ّ‬ ‫محددة مما ينفي عنها صفة‬‫طبيعة غير ّ‬ ‫عمليــة ‪5‬ـ ال ّ‬
‫ينتج عنه من أثار ّ‬
‫التطورّية مع تحفظ بيرس تجاه "‬
‫ّ‬ ‫بالتقدم داخل النظام االجتماعي‪9 ...‬ـ اعتماد العادة كقاعدة لألخالق والمعرفة ‪10‬ـ القول بالنزعة‬
‫ّ‬ ‫لذواتنا ‪8‬ـ اإليمان‬
‫لتكيف الكائن اإلنساني مع المحيط "‬
‫الداروينية" ‪11‬ـ ضرورة التفاعل ّ‬
‫ّ‬
‫وسيلية‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫عة‬‫بالنز‬ ‫يسمى‬ ‫فيما‬ ‫االختالف‬ ‫هذا‬ ‫ويتحدد‬ ‫وميد‪.‬‬ ‫وجيمس‬ ‫بيرس‬ ‫من‬ ‫كل‬ ‫ة‬ ‫اغماتي‬
‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫عن‬ ‫مختلفة‬ ‫ديوي‬ ‫جون‬ ‫ة‬‫اغماتي‬
‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫أن‬ ‫إلى‬ ‫نشير‬ ‫أن‬ ‫وينبغي‬
‫الوسيلية كما ذكرنا هو اعتبار التفكير عموما والتفكير الفلسفي خصوصا وسيلة لحل معضلة التّـناقضات‬
‫ّ‬ ‫التي طبع بها ديوي براغماتيته‪ .‬ومعنى‬

‫التكيف مع شروط المستقبل‪ .‬وقد ربط ديوي نجاح ّهذا ّ‬


‫التكيف بمبدأ ال ّذكاء الموجود عند األفراد‪ .‬غير أن هذا النجاح‬ ‫النــاس على ّ‬
‫االجتماعيــة ومساعدة ّ‬
‫ّ‬
‫العمليــة‪ .‬إن الفلسفة ليست غاية في ذاتها بل هي مشروع في الحياة يقود إلى حل‬
‫ّ‬ ‫النــاس في الحياة‬ ‫لن يكون للفلسفة ما لم تقترن أهدافها ّ‬
‫بحل مشاكل ّ‬
‫النمو والسعادة‪ .‬وهكذا يبدو أن التّـرجمة المالئمة لقصد‬
‫االجتماعيــة فيتيح لألفراد تحقيق تكيفهم على النحو المطلوب لتحقيق ّ‬
‫ّ‬ ‫الصـعوبات في البيئة‬
‫ّ‬
‫ألنه ال يري في التفكير سوى وسيلة أو‬
‫اغماتية هو الوسي ّلية أو الوسائلية " ‪ Instrumentalist Philosophy‬وقد أسماها ديوي كذلك " ّ‬
‫ديوي بالبر ّ‬
‫الخاصة‪ .‬فهم ال يتعلمون العلم حبا في اختزان المعارف في رؤوسهم فحسب‪.‬‬
‫االجتماعيــة و ّ‬
‫ّ‬ ‫النــاس التي يواجهونها في حياتهم‬
‫أداة‪ ،‬أو آلة لحل مشكالت ّ‬
‫فكل معرفة ال تؤدي في النهاية إلى عمل فيه خير للفرد أو للجماعة‪ ،‬ليست بشيء" أمين مرسي قنديل من مقدمة ترجمته لكتاب ديوي ّ‬
‫الحريــة والثقافة‪،‬‬
‫مكتبة األنجلومصرية‪ ،‬القاهرة ‪1955‬‬

‫النشر القاهرة ‪ 1963‬ص ‪44‬‬ ‫السلوك اإلنساني‪ ،‬ترجمة محمد نجيب النجيحي‪ ،‬مؤسسة فرانكلين للطباعة و ّ‬
‫البشريـة و ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ 6‬جون ديوي‪ :‬ال ّ‬
‫طبيعة‬
‫‪7‬جون ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة ‪ Democracy and Education‬ترجمة منى عفراوي وزكريا ميخائيل‪ ،‬مطبعة لجنة التأليف والتّـرجمة‬
‫والنّشر‪ّ ،‬‬
‫الطبعة الثّــانية‪ ،‬القاهرة ‪ 1954‬ص ‪343‬‬
‫‪« Philosophy was stated to be a form of thinking, which like all thinking , finds its origin in what is uncertain‬‬
‫‪in the subject matter of experience, which aims to locate the nature of the perplexity and to frame‬‬

‫‪8‬‬
‫ومهمتها‪ ،‬فإن ديوي يؤكد في سياقات متنوعة أنه لن‬ ‫ومع وضوح هذا اإلقرار حول طبيعة الفلسفة ّ‬
‫يحددها باعتبار ما يمكن استقراؤه من‬ ‫يقدم جديدا في تعريفه للفلسفة‪ ،‬طاملا أنه سوف يحاول أن ّ‬ ‫ّ‬
‫ئيسيـة لخطابها في الواقع‪ ،‬وانطالقا مما دأبت عليه تقاليد الفالسفة خالل التاريخ الطويل‪.‬‬ ‫الر ّ‬‫الخصوصيات ّ‬
‫وعلى هذا األساس يهتدي ديوي إلى ّأن هنالك مالمح ثالثة ثابتة في سريان نهر الخطاب الفلسفي‪ ،‬عبر تاريخه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والنهائية‬ ‫والعمومية‪/‬الشمولية ‪Generality‬‬ ‫املمتد من اإلغريق إلى أيامنا‪ .‬وهذه الثوابت هي‪ :‬الكلية ‪Totality‬‬
‫والعمومية‪/‬الشمولية والنهائية؟ وكيف ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تسبغ هذه املفاهيم الثالث على‬ ‫‪ .Ultimatnesse‬لكن ماذا تعنى الكلية‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الخطاب الفلسفي فرادة ت ّميزه عن سائر الخطابات األخرى؟‬
‫الكلية‬
‫جوابا عن هذا األمر‪ ،‬يستفيض ديوي فيما يلي من الفصل الرابع والعشرين من كتابه ‪Democracy‬‬
‫ّ‬ ‫‪ ،and Education‬في بيان ما يقصده بالثوابت الثالث في الخطاب الفلسفي ّ‬
‫السالفة الذكر‪ .‬فمن حيث‬
‫ّ‬
‫فان الفلسفة هي‪" :‬محاولة اإلحاطة‪ ،‬أي الجمع بين شتات التفاصيل التي ّتتصل بالعالم والحياة في‬ ‫الكلية ّ‬
‫بقية ّ‬
‫النــاس‪ ،‬غير أن ما ُي ّميزه عن سائر‬ ‫كل واحد جامع" ‪ 8‬ومعنى ذلك ّأن الفيلسوف يعيش الحدث مثل ّ‬
‫ّ‬
‫األفراد هو أنه يعود على الحدث أو األحداث‪ ،‬من أجل أن يكشف املعنى الذي يستوطن الخبــرة الناتج عنها‪.‬‬
‫وكليا قدر مستطاعه لجميع العناصر‬ ‫موحدا ّ‬ ‫يحصله‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ويسعى الفيلسوف هنا أن يكون هذا املعنى الذي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املشيتة في ّ‬
‫العمليــة‪ .‬وملا كان الفيلسوف يطرح أسئلته فإنــه يطرحها بأسلوب كلى وجذري‪ ،‬ويترتــب‬ ‫التـجربة‬
‫عن ذلك ّ‬
‫بالضـرورة‪ ،‬إجابات ّ‬
‫كلية وجذرية‪.‬‬
‫والطريف في تصور ديوي هنا‪ ،‬أن الفيلسوف ال يختلق املعاني خياليا وإنما يصطادها اصطيادا من‬
‫ّ‬
‫وقائع الحياة‪ ،‬ومن الخبرات الناتجة عنها‪ .‬ومثل هذا التضايف الحميم بين كلية املعنى الفلسفي من ناحية‪،‬‬
‫عمليــة من ناحية ثانية‪ ،‬هو أمر في نظر ديوي على غاية من األصالة والوفاء للمعنى األعمق‬ ‫ووقائع الحياة ال ّ‬
‫األصليــة " للفلسفة كحب للحكمة" ‪ Philo /Sophie‬في نقائها الذي‬ ‫ّ‬ ‫للفلسفة‪ ،‬باعتباره استحضارا للداللة‬
‫تأسست به عند اإلغريق‪ .‬فالحكمة ّ‬
‫عمليــة أكثر منها نظر تأملي‪ .‬إنها في وجهها العملي‪ :‬نمط مختار في الوجود‬
‫ّ‬
‫املتقدمين كانت‬ ‫السلوك‪ .‬والدليل على ذلك في نظر ديوي ّأن أغلب مذاهب الفالسفة‬ ‫وطريقة مبنية في ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ ّ‬
‫مذاهب في الحياة‪ ،‬فكانت تعلم " الحكمة التي ت ِّؤث ُر في سير الحياة" غير أنه ال يمكن لهذه الحكمة أن تكون‬
‫ّ‬
‫أفكارا ومعاني جزئية‪ ،‬إنها باألحرى كليات جامعة لخبرات متراكمة من املاض ي ومنفتحة في اآلن نفسه على ما‬
‫سوف تحمله خبرات املستقبل‪.‬‬

‫‪hypotheses for its clearing up to be tested in action. Philosophic thinking has for its differentia the fact that‬‬
‫‪the uncertainties with which it deals are found in widespread social condition and aims, consisting in a‬‬
‫”‪conflict of organized interests and institutional claims‬‬
‫ّ‬
‫الطبعة الثّــانية‪ ،‬مطبعة لجنة التأليف والتّـرجمة والنّشر‪ ،‬القاهرة ‪ ،1954‬ص ‪334‬‬

‫‪ 8‬جون ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪ 335‬ـ ‪336‬‬

‫‪9‬‬
‫نتبيــن طبيعة الفارق األساس ي بين الخطاب‬ ‫والتــوجيه العملي في الحياة‪ّ ،‬‬ ‫الصلة بين الفلسفة ّ‬ ‫ومن هذه ّ‬
‫مهمة العلوم املتخصصة وإن كانت تزويدنا‬ ‫العلمي من ناحية ثانية‪ .‬ذلك أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفلسفي من ناحية‪ ،‬والخطاب‬
‫ّ‬
‫الفيزيائيــة‪ ،‬أوفي مجال التــواصل‬ ‫ّ‬ ‫الدقـيقـة في مجال التعامل مع املادة‪ ،‬كشأن العلوم‬ ‫بالقواعد اإل شادية ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫فإنــها تقف عند هذا الحد دون تخطيه‪ .‬ذلك أنها ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي كشأن علوم ّ‬
‫تقدم لنا‬ ‫النــفس واالجتماع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السلوك ومذهبا متكامال في الحياة‪ .‬وإذا حاولت العلوم تقديم ّ‬ ‫موقفا عاما من ّ‬
‫التصرف‬ ‫نظريـة عامة وكلية في‬
‫ّ‬
‫فهي حينئذ سوف تكف عن أن تكون علوما‪ ،‬وسوف تدخل بالتأكيد‪ ،‬مجال الفلسفة‪.‬‬
‫التــحليل األخير أن إنتاج الكلي هو فقط حكر على الفلسفة‬ ‫لكن في املقابل هل علينا أن نفهم من هذا ّ‬
‫نموذج‬ ‫دون سائر الخطابات األخرى؟ أال توجد في حقائق العلم مثال قوانين ّكلية تشبه كليات الفلسفة على ّ‬
‫بالنهائية والش ّ‬
‫مولية؟‬ ‫ّ‬ ‫الكالسيكية مثال‪ ،‬والتي فوق طابعها الكلي ّتتصف‬ ‫ّ‬ ‫قوانين الحركة في الفيزياء‬
‫يقوم العلماء للحصول على القوانين الكلية للظاهرة‪ ،‬قيد الدراسة‪ ،‬باالنطالق من تشيت املعطى‪ ،‬ثم‬
‫سلم التعقيد في عناصرها ّ‬ ‫ّ‬
‫تعمقا‪ ،‬حتى الوصول إلى سلسلة األسباب‪ ،‬حيث‬ ‫وعلى نحو متدرج ومتتابع يرتقون‬
‫تتجلي من ورائها وحدة القانون الكلي‪ ،‬الذي يعطيها جميعا معنى تنتظم به‪ .‬وهي طريقة عامة ومعروفة في‬
‫ّ‬
‫التجريبية‪.‬‬ ‫أغلب العلوم التي تشتغل على ظواهر املادة‬
‫ّ‬
‫لكن في املقابل‪ ،‬ال يعني قيام الفلسفة على مطلب الكلية أن الفيلسوف مطالب بجمع الخبرات الجزئية‬
‫ّ‬
‫والتأليف بينها من أجل الحصول على الكلي بضرب من االستقراء للعام من الخاص‪ ،‬كما هو مشاهد في‬
‫الكمي الذي تعتمده العلوم عادة‪ ،‬ال يستطيع أن يخدمنا في مجال الفلسفة‪.‬‬ ‫الخبرية‪ .‬إن هذا األسلوب ّ‬ ‫ّ‬ ‫العلوم‬
‫ّ‬
‫الفلسفيــة‬ ‫ذلك أن هذه الطريقة لن تنجح في تقديم املعنى الحقيقي عن الحياة والعالم‪ .‬فضال عن أن املادة‬
‫ّ‬
‫العلمي‪.‬‬ ‫النهائية مقارنة بنتائج الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫الكلية أو‬‫بالشمولية أو ّ‬
‫ّ‬ ‫املمكنة التي تنتج عن ذلك ال يمكن أن ّتتصف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويقينية أكثر من الخطاب الفلسفي‪ ،‬وذلك ملا في‬ ‫إن العلوم منظورا إلى نتائجها‪ ،‬بإمكانها تقديم حقائق صلبة‬
‫ّ‬ ‫املنهجيــة من أدوات اإلثبات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وقوة الحجـة وصدق‬ ‫املرجعية التي تسيند إليها من دقة‪ ،‬وملا تتوفر عليه تقنياتها‬
‫البرهان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والعمومية‪ ،‬إذا ما طلبناها في مادة املعرفة‪ ،‬كانت‬ ‫والنهائية‪،‬‬ ‫غير أن هذا ال يعنى أن صفات الكلية‪،‬‬
‫العلمي‪ ،‬من أن تكون خصائص للخطاب الفلسفي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أقرب إلى خصائص للخطاب‬
‫مادتها فحسب‪ .‬ومن أجل‬ ‫السياق‪" :‬ليس في اإلمكان تعريف الفلسفة من ناحية ّ‬ ‫يقول ديوي في هذا ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫والنهائية‪ ،‬هو أن ن ْن َحى نحو املوقف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العمومية والكلية‬ ‫وصل إلى تعريف أفكار‪:‬‬ ‫ذلك فأيسر سبيل نسلكه في الت ّ‬
‫الذي ترشدنا إليه هذه األفكار إزاء العالم‪ .‬فهذه املصطلحات ال تنطبق على مادة املعرفة بأي معنى حرفي أو‬
‫متبدلة تحظر‬ ‫مستمرة ّ‬‫ّ‬ ‫عمليــة‬ ‫والنهائية مستحيالن‪ .‬كما أن طبيعة الخبــرة من حيث هي ّ‬ ‫ّ‬ ‫كمي‪ ،‬ألن الكمال‬‫ّ‬
‫ذلك‪ .‬على أن هذه املصطلحات إذا أخذت من دون تشديد ملعناها تنطبق على العلم أكثر من الفلسفة" ‪9‬‬

‫‪9‬ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪336‬‬


‫‪“Hence philosophy cannot be defined simply from the side of subject matter. For this reason, the definition‬‬
‫‪of such conceptions as generality, totality, and intimateness is most readily reached from the side of the‬‬
‫‪disposition. In any literal and quantitative sense, these terms do not apply to the subject matter of‬‬

‫‪10‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشمولية‬ ‫والعمومية ‪/‬‬ ‫ماذا يعنى أن نترك مادة الفلسفة من أجل أن نلتقي بخصائصها الثالث‪ :‬الكلية‬
‫ّ‬
‫والنهائية؟‬
‫نميز في الثقافة عموما‬ ‫إننا ال نطلب في الغالب مادة الفلسفة لنعرفها‪ .‬ومعناه في منظومة ديوي أن ّ‬
‫بين مسألتين جوهريتين هما‪ :‬املعرفة من ناحية والتفكير من ناحية ثانية‪ .‬فاملعرفة هي جسم مكتمل من‬
‫بالتـالي من إطار املمكن واملحتمل‪ ،‬لتدخل في مجال‬ ‫اليقينات أو الحقائق التي تمت البرهنة عليها‪ ،‬وخرجت ّ‬
‫ّ‬
‫يتعلق باملمكنات املفتوحة وباملستقبل املُ َ‬
‫شر ِّع على ما ال نهاية له من‬ ‫اليقيني‪ .‬أما التفكير فهو على العكس‬
‫االحتماالت‪ .‬واسينادا إلى هذا ّ‬
‫التــمييز أين يمكن أن نضع الفلسفة؟‬
‫الجواب واضح‪ ،‬فهي كيان متحرك لم يكتمل ولن يكتمل‪ .‬إنها حركة من السيالن املستمر من‬
‫التفكير‪ .‬إن الفلسفة تدرك ذاتها في هذه الحركة عينها وليس في جسم املعارف التي تنتهي إليها‪.‬‬
‫والنهائية في حركة التفكير الذي هو التفلسف ذاته؟‬ ‫ّ‬ ‫أين تبدو إذن خاصيات ّ‬
‫الكلية والشمولية‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫قصد مركزي‪ ،‬وهو أن يكشف عن املعنى الكلي الكامن في تنوع‬ ‫بداية يوجد في التفكير الفلسفي‬
‫ّ‬
‫العمليــة‪ .‬وهذا املعنى ال يمكنه أن يكون كامال بل يبقى رغم كل مجهود التوحيد‬ ‫ّ‬ ‫الخبرات املعطاة في التجارب‬
‫الذي يبذله الفيلسوف‪ ،‬قابال للتعديل والتبديل‪ .‬إن هذا املعنى هو الذي يساعدنا على الفهم أوال ملا يحدث‪،‬‬
‫تكيف أكثر مالءمة مع البيئة‪.‬‬ ‫صرف في املستقبل من أجل ّ‬ ‫للت ّ‬ ‫ثم يساعدنا ثانيا على ابتكار أفضل الحلول ّ‬
‫ّ‬ ‫وانطالقا من هذه الحقيقة‪ ،‬فان أهم خصائص الفيلسوف أنه تلميذ ّ‬
‫جيد للحياة‪ .‬تلميذ يتعلم دونما شك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ولكنه يبنى املمكنات للمستقبل أيضا‪.‬‬
‫تتجسم في هذا االمتداد والترابط بين معاني الخبرات املاضية وبين ممكنات املستقبل‪،‬‬ ‫إن صفة الكلية ّ‬
‫كنا عليه وبين ما نريد أن نكون عليه‪ .‬إن الفيلسوف ّ‬ ‫ّ‬
‫الخط املتواصل‪ ،‬والواصل‪ ،‬بين ما ّ‬
‫يقدم معنى‬ ‫أي في هذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّيتصف بالكلية‪ ،‬ألنه يجمع ما مض ى بما سوف يأتي‪ .‬يقول ديوي شارحا هذا األمر‪" :‬إن معنى الكلية‪ ،‬من وجهة‬
‫ُ‬ ‫النظر هذه‪ ،‬ثبات أسلوب االستجابة ووحدته غم ّ‬ ‫ّ‬
‫تعدد الحوادث الواقعية‪...‬أي املض ي في عادة سابقة‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫تكيف حتى تبقى نامية ّ‬‫تعودناها في العمل مع إحداث ما تقتضيه من ّ‬ ‫ّ‬
‫حية‪ .‬أي أن معناها ليس وجود خطة‬
‫معدة كاملة للعمل بل حفظ التوازن بين عدد كبير من األعمال املتنوعة بحيث يقتبس كل عمل ما عند غيره‬ ‫ّ‬
‫الحساسية للمدركات الجديدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الرجل واسع العقل‪ ،‬شديد‬‫من املعاني ويمنحه ما عنده‪ ،‬فعلى قدر ما يكون ّ‬
‫ّ‬
‫فلسفية"‪10‬‬ ‫مهتما بها‪ ،‬شاعرا بمسؤوليته عن ربطها بعضها ببعض‪ ،‬يكون ذا نزعة‬ ‫ّ‬

‫‪knowledge, for completeness and finality are out of the question. The very nature of experience as an‬‬
‫”‪ongoing, changing process forbids. In a less rigid sense, they apply to science rather than to philosophy‬‬
‫‪ 10‬ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪337‬‬
‫‪“From this point of view, “totality” does not mean the hopeless task of a quantitative summation. It means‬‬
‫‪rather consistency of mode of response in reference to the plurality of events which occur…totality means‬‬
‫‪continuity- the carrying on of a former habit of action with the readaptation necessary to keep it alive and‬‬
‫‪growing. Instead of signifying a ready-made complete scheme of action, it means keeping the balance in a‬‬
‫‪multitude of diverse actions, so that each borrows and gives significance to every other. Any person who is‬‬
‫‪open-minded and sensitive to new perceptions, and who has concentration and responsibility in connecting‬‬
‫”‪them has, in so far a philosophic disposition‬‬

‫‪11‬‬
‫ّ‬
‫الكلي‪ .‬كلي املعنى ّ‬
‫والداللة والقصد‪ ،‬للخبرة‪،‬‬ ‫إن الفلسفة وفق ما سبق عرضه هي وليدة الحاجة إلى‬
‫ّ‬
‫الفعليـة‪ .‬بمعنى استجابة التفكير إلى حاجاتنا املتمثلة في معرفة‪ :‬كيف ينبغي علينا‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫داخل الحياة‬
‫نتكيف على نحو أفضل في املستقبل؟‬ ‫أن نسلك من أجل أن ّ‬
‫عين لنا الفلسفة حسب ديوي‪" :‬ما ينبغي لنا عمله‪ ،‬أي ما ينبغي لنا تجربته وامتحانه" ثم يضيف‬ ‫وهنا ُت ّ‬
‫تقدمه إلينا من حلول (التي ال نتوصل إليها إال بالعمل( بل في تعينها‬ ‫السياق‪" :‬وليست قيمتها فيما ّ‬ ‫في نفس ّ‬
‫ّ‬
‫للمصاعب واقتراحها أساليب معالجتها"‪ 11‬وهنا بالذات نفهم ملاذا اعتبر ديوي الفلسفة تفكيرا وليست‬
‫معرفة‪.‬‬
‫من ناحية ثانية إلى جانب الكلية تتحدد الفلسفة بما هي قول ّيتصف بالعمومية (الشمولية)‬
‫الثــاني والثالث نرى النص مختصرا فيهما‪ ،‬شحيحا في ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتعلق األمر باملل َ‬
‫تقصد‬ ‫محين‬ ‫والنهائية‪ .‬لكن حينما‬
‫ّ‬
‫والنهائية أنه قال‪ ":‬ومثل هذا التفسير[ ويقصد‬ ‫معانيهما‪ .‬وكل ما أنفقه ديوي في خصوص معنيي العمومية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ونهائية‪ .‬فإذا أخذنا املصطلحين على معناهما الحرفي كان‬ ‫عمومية‬ ‫الكلية] ينطبق على ما في الفلسفة من‬
‫تدل إال على الجنون‪ .‬على أن النهائية ليس معناها أن الخبــرة تنتهي وتنفد‪،‬‬ ‫ذلك محض ادعاءات سخيفة ال ّ‬
‫التعمق في املعنى والنفاذ إلى ما وراء السطحيات ابتغاء التماس ما‪ ،‬ألي حادث‪ ،‬أو‬ ‫بل إنها تدل على النزوع إلى ّ‬
‫تقبل‬ ‫ّ‬
‫الفلسفيــة عموما بمعنى أنها تكره ُّ‬ ‫النظر‬‫ش يء من عالقات‪ ،‬ثم املض ي في ذلك دوما‪ .‬وكذلك تكون وجهة ّ‬
‫األشياء معزولة‪ ،‬وتحاول وضع كل عمل في قرينته التي يتألف منها معناه"‪12‬‬ ‫ّ‬
‫خالصة‬
‫نصل من التحليل السابق إلى الظفر باملالمح الثالث للخطاب الفلسفي حسب ديوي‪ .‬الكلية‬
‫والعمومية‪/‬الشمولية والنهائية‪ ،‬جميعها صفات متداخلة في موضوع واحد هو موضوع الخطاب‬
‫الفلسفي‪ .‬على أن التناول الفلسفي أو التفكيرفي حركة ممارسته ال ينفصالن عن املوضوع املفكرفيه‪.‬‬
‫وبالتأكيد فإن أول موضوعات الفلسفة على اإلطالق هو موضوع الخبــرة املترسبة من وقائع الحياة‬
‫وما يترتــب على ذلك من إنتاج للمعنى املتعلق باملستقبل والذي ينجزه الفيلسوف حتى يتيح للمجتمع‬
‫اختبارمدى جدواه في مساعدته على التكيف مع الشروط املستجدة للبيئة أو للتطوراالجتماعي‪ ،‬وهو‬
‫ما جعل ديوي يجمع كل هذا املعنى في قوله‪" :‬الفلسفة هي التفكير العليم بنفسه أي التفكير الذي عمم‬
‫مكانته ووظيفته وقيمته في الخبــرة"‪13‬‬

‫‪ 11‬ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪338‬‬


‫‪« Its value lies not in furnishing solutions ( which can be achieved only in action) but in defining‬‬
‫”‪difficulties and suggesting methods for dealing with them‬‬
‫‪ 12‬ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪337‬‬
‫‪“An analogous interpretation applies to the generality and ultimateness of philosophy. Taken literally, they‬‬
‫‪are absurd pretentions; they indicate insanity. Finality does not mean, however, that experience in ended‬‬
‫‪and exhausted, but means the disposition to penetrate to deeper levels of meaning – to go below the surface‬‬
‫‪and find out the connections of any event or object. And to keep at it. In like manner the philosophic attitude‬‬
‫– ‪is general in the sense that it is averse to taking anything as isolated. It tries to place an act in its context‬‬
‫”‪which constitutes its significance‬‬
‫‪ 13‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة ص ‪338‬‬

‫‪12‬‬
‫من هو الفيلسوف؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هل يعنى اإلقرار ّ‬
‫السابق في خصوص ماهي ـة التفكير الفلسفي ومهماته‪ ،‬أن كل فرد منا هو فيلسوف‬
‫لذاته‪ ،‬طاملا أننا في وقائع وجودنا اليومي نواجه خبرات تستحثنا على إدراك معناها‪ ،‬وتوظيف ذلك املعنى في‬
‫للتحكم باملحيط والتأقلم مع اشتراطاته؟‬ ‫بناء خطط جديدة ّ‬
‫ّ‬
‫الخاصة‬ ‫الخاصة‪ .‬ولكن مثل هذه الفلسفات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفرديــة‬ ‫يجيب جون ديوي بأن لكل واحد منا فلسفته‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفرديــة‬ ‫ال يمكن لها إال أن تكون محدودة اآلفاق وغير منتجة للنـظريات‪ .‬فعلى اعتبار تقوقع هذه االجتهادات‬
‫ّ‬
‫حول مشاغل أصحابها فان آفاق خصوبتها محدودة بأصحابها فحسب‪ .‬وما يميز هذه املحاوالت املتفكرة‬
‫اعيــة ّ‬
‫العامــة‪.‬‬ ‫الحقيقية هو أن األخيرة تنشغل بالقضايا االجتم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الذاتيــة عن الفلسفة‬
‫ومعنى ذلك أن ما يحدث للكثرة من تناقضات وما يشغلهم هو موضوع االهتمام األول للفيلسوف‪.‬‬
‫السياق‪ ":‬وكثيرا‬ ‫النظر الفلسفي‪ .‬يقول ديوي في هذا ّ‬ ‫االجتماعيــة هو هان ّ‬
‫ّ‬ ‫التـناقضات‬‫واقتراح إمكانيات لحل ّ‬
‫ر‬
‫يؤلف بين ضروب ّ‬ ‫ّ‬
‫التنافر هذا لنفسه‪ ،‬بسبب ضيق املجال الذي تينافر فيه األهداف‪،‬‬ ‫ما يستطيع الفرد أن‬
‫ّ‬
‫حقيقية‬ ‫تقريبية تالئمه‪ِّ .‬مثل هذه الفلسفات التي ينسجها الفرد لنفسه هي فلسفات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فيتوصل بهذا إلى حلول‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فلسفية‪ ،‬ألن هذه إنما تنشأ حين يؤثر اختالف املثل العليا‬ ‫وكافية في أكثر األحيان‪ .‬ولكن ال ينجم عنها مذاهب‬
‫عامة"‪ 14‬وقد كنا رأينا قبل ذلك‪ ،‬كيف يتوصل‬ ‫ّ‬ ‫تكيف جديد ّ‬ ‫للسلوك في الجماعة بأسرها وتصبح الحاجة إلى ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة إلى إنتاج املعنى واقتراح ما يمكن اعتماده اجتماعيا في‬ ‫ّ‬ ‫الفيلسوف حينما يشتغل على الخبرات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املستقبل‪ .‬وهكذا فالفيلسوف عند ديوي هو ّ‬
‫بالضـرورة عالم اجتماعي واستراتيجي ومخطط‪ .‬ولعلنا في ظفرنا‬
‫ّ‬ ‫بهذه املعاني قد بدأنا نقترب تدر ّ‬
‫يجيـا من عالقة الفلسفة بالتربيــة‪.‬‬
‫حاجتنا إلى الفلسفة‬
‫تختلف املجتمعات عن بعضها البعض‪ .‬وهذا األمر في عالقة مباشرة بتعريف الفلسفة أو على األقل‬
‫فضل في كثير من األحيان فك‬ ‫والنمو وال ُي ّ‬
‫ّ‬ ‫هماتها‪ .‬فمن املجتمعات من كان بطيء الحركة‬ ‫في عالقة بتحديد ُم ّ‬
‫النــاس على‬ ‫اال تباط مع املاض ي وفلسفاته‪ .‬ومثل هذه املجتمعات ال تكون فيها الفلسفة طريقا ملساعدة ّ‬
‫ر‬
‫متحركة‬ ‫النــاس‪ .‬وعلى خالف هذا األمر‪ ،‬أي في مجتمعات ّ‬ ‫الوثوب إلى األمام‪ ،‬ألن ذلك ليس من حاجات أولئك ّ‬
‫ودينامكية‪ ،‬مثل املجتمع األمريكي الحديث‪ ،‬أو املجتمع التونس ي في أيامنا‪ ،‬فإن للناس مشاغل ومطالب من‬
‫الفلسفة‪ ،‬مختلفة تماما عن مطالب املجتمعات الراكدة‪ .‬وعلى هذا األساس يرصد جون ديوي حدثين بارزين‬
‫في تاريخ املجتمع األمريكي يعتبرهما األسباب في خلق روح "املجتمع الصاعد باستمرار" وهما‪ :‬الثورة‬
‫ّ‬
‫متحركة دوما إلى األمام‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اجتماعيــة‬ ‫هامان جعال أمريكا أرضا‬ ‫والديمقراطية الحديثة‪ .‬حدثان ّ‬ ‫الصناعية ّ‬

‫‪“ Philosophy might almost be described as thinking which has become conscious of itself which has‬‬
‫”‪generalized its place, function, and value in experience‬‬
‫‪ 14‬ديوي المصدر السابق‪،‬ص ‪338‬‬
‫‪“Often these clashes may be settled by an individual for himself, the area of the struggle of aims is limited‬‬
‫‪and a person works out his own rough accommodations. Such homespun philosophies are genuine and‬‬
‫‪often adequate. But they do not result in systems of philosophy. These arise when the discrepant claims of‬‬
‫”‪different ideals of conduct affect the community as a whole, and the need for readjustment is general‬‬

‫‪13‬‬
‫الديمقراطي هنا بالفلسفة وحاجته إليها تختلف بعمق عن عالقة الفلسفة بأنظمة‬ ‫إن عالقة املجتمع ّ‬
‫يلمح إلى رفضه لبعض الفلسفات القا ّرية املحافظة‪ .‬كما أنه ّ‬ ‫ّ‬
‫بالذات ّ‬ ‫املجتمعات األخرى‪ّ .‬‬
‫يلمح‬ ‫ولعل ديوي هنا‬
‫اغماتية هي الفلسفة األمريكية بامتياز لتالؤمها مع خصوصيات املجتمع األمريكي‬ ‫ّ‬ ‫إلى ما ّ‬
‫يبرر القول بأن البر‬
‫ّ‬
‫املتجدد ومقتضياته‪.‬‬
‫ألح في الفصل الرابع والعشرين من "الديمقراطية والتربيــة" على أن‬ ‫مع العلم أن جون ديوي كان قد ّ‬
‫ويحدد أهدافها الوظيفية‬ ‫ّ‬ ‫كل فلسفة غير منخرطة في سياق اجتماعي وتا يخي‪ ،‬يعطيها موضوعا ّ‬
‫للتــأمل‬ ‫ر‬
‫بدقة‪ ،‬هي ّ‬ ‫ّ‬
‫مجرد كالم ذاتي مغلق وال يتجاوز حدود صاحبه‪ ،‬فيقول‪" :‬من يطلب الفلسفة للفلسفة عرضة‬
‫دائما للخطر الذي ينشأ عن اعتبارها رياضة بارعة وشديدة الفكر‪ ،‬واعتبارها شيئا ال ينطق به سوي‬
‫الفالسفة وال يعود إال عليهم وحدهم" ‪15‬‬

‫السياق العام للمجتمع وتعاني قضاياه‬ ‫الحقيقية هي التي تقيم داخل ّ‬


‫ّ‬ ‫وعلى العكس فإن الفلسفة‬
‫ّ‬
‫تقريبية لها‪ ،‬بعبارة ديوي نفسه‪ .‬وإذا ما تأملنا معنى القضايا‬ ‫ثم تسعى إلى "اقتراح" حلول‬ ‫وهمومه وتتأملها‪ّ ،‬‬
‫والتـناقض في املصالح واملسائل ّ‬
‫العامة الكبرى‪.‬‬ ‫والتـعا ض ّ‬
‫االجتماعيــة ألفيناه مختصرا في ظواهر التنازع ّ‬
‫ّ‬
‫ر‬
‫فيكون من أوكد واجبات الفلسفة أن تساعد على التوافق واالنسجام والتأليف‪ .‬وهذا يتم عبر تقديم معان‬
‫التـناقضات وال تنفيها‪ .‬ثم إن هذه املعاني والحلول يتم اقتراحها ملساعدة املجتمع على التق ّدم‬ ‫ّكلية تحوي ّ‬
‫ّ‬
‫ومتزعمتها األولى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫خطوة جديدة في سيره الحثيث إلى األمام‪ .‬فتكون الفلسفة بذلك رائدة التحوالت‬
‫مهمة الفلسفة في املستقبل ستكون العمل‬ ‫يقول جون ديوي في هذا املقام في كتابه تجديد الفلسفة‪" :‬إن ّ‬
‫النــاس‪ ،‬وتبصيرهم بشأن ما يدور فعال في عصرهم الذي يعيشون فيه من ضروب‬ ‫على توضيح أفكار ّ‬
‫الص ـراع] األخالقي واالجتماعي‪ ،‬فغرض الفلسفة أن تصبح ‪-‬بقدر ما هو مستطاع لإلنسان‪-‬‬ ‫االصطراع [ ّ‬
‫ّ‬ ‫الص ـراع وذلك ّ‬
‫وسيلة ملعالجة ضروب هذا ّ‬
‫التـعارض"‪ 16‬لكن أنى للخطاب الفلسفية أن ينفذ إلى الواقع‬
‫وي ّ‬
‫غيره؟‬

‫خ ـ ــالصـة‬
‫أقحمنا مطلب السـعي إلى تعريف الفلسفة عند ديوي‪ ،‬في هذه املسارب الفكرية والتشعبات‬
‫املفهومية والنظريـة الضيقة‪ .‬فعرفنا من ذلك أن السؤال عن الفلسفة فيم تتعين به وتتحدد‪ ،‬هو من‬
‫الصعوبة واإلشكالية بمكان‪ .‬كما عرفنا أن مطلبا كهذا يتناقض وبداهة الوعي الشائع الذي يختزل‬
‫الفلسفة في نمط من الخطاب النظري الخالص‪ ،‬ذو الخلفية امليتافيزيقية‪ .‬وأدركنا أن سعي الفالسفة‬
‫إلى تعريف الفلسفة لم يكن مطلبا لحد ذاته‪ ،‬بل هو في تقاطع مع موقعها االجتماعي ودورها التاريخي‬

‫‪ 15‬ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪340‬‬


‫‪“ The students of philosophy “in itself’ is always in danger of taking it as so much nimble severe intellectual‬‬
‫”‪exercise as something said by philosophers and concerning them alone‬‬
‫‪ 16‬ديوي‪ :‬تجديد في الفلسفة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪ 89‬ـ ‪90‬‬

‫‪14‬‬
‫اللذين تصبغهما عليها الثقافة السائدة‪ .‬وهو موقع وهو دور‪ ،‬يختلف من مجتمع إلى آخر‪ ،‬ومن حركة‬
‫نمو نسق حضاري إلى آخر‪ ،‬ومن مثال اجتماعي منشود إلى أخر‪.‬‬
‫وحينما واجه جون ديوي السؤال عن ماهية الفلسفة‪ ،‬فإنه فصل بين الفكرواملعرفة في لحظة‬
‫أولى‪ ،‬حتى يستطيع أن يخص جسم الفلسفة بصفة الفكر‪ ،‬والخطاب العلمي بصفة املعرفة‪ .‬ثم تقدم‬
‫خطوة أخرى فأضاف إلى ذلك التخصيص صفة التحول والجريان والتاريخية لألفكار الفلسفية‪ .‬ثم‬
‫تقدم حتى ربط حركة الفلسفة بالنموذج االجتماعي الذي يحكمها‪ .‬ثم سعى بعد كل ذلك إلى مالحظة‬
‫هذا التاريخ الفلسفي على تنوعه وزخمه‪ ،‬عله يستطيع اإلمساك باملشترك وسط كل الحركة املستمرة‬
‫لنهر الفلسفة في التاريخ وبين املجتمعات‪ .‬فتمكن أخيرا من استنتاج ثالث خصائص ثابتة أقام عليها‬
‫تمييزه للفلسفة وهي‪ :‬الكلية والعمومية والنهائية‪.‬‬
‫وقد فصل ديوي القول توضيحا في كل معنى من املعاني املذكورة‪ .‬بيد أنه حينما انتقل إلى‬
‫فلسفته هو‪ ،‬حدد لها تعريفا أدق‪ ،‬فهي خطاب عقالني خاص‪ ،‬تبعث به إلى الوجود التناقضات في‬
‫ميدان الخبرات االجتماعية األمريكية‪ ،‬فيرصدها ويعالجها‪ ،‬ومن ثمة يقترح لها حلوال‪ .‬ومن هنا أقر‬
‫ديوي أن كل فلسفة تسيرفي خط سيريواكب حركة سيرمجتمعها‪ ،‬والعالقة بينهما هي عالقة تفاعلية‪.‬‬
‫ذلك أن الفكر الفلسفي يتغذى باستمرار على املادة التي تفرزها مفارقات وصراعات الحياة‬
‫االجتماعية‪ .‬وباملقابل فإن الحياة االجتماعية تحتاج إلى حلول هي عبارة عن عالمات هادية للطريق‬
‫إلى املستقبل‪ ،‬وهو دورالفلسفة‪.‬‬
‫غير أن تلك الحلول التي تقترحها الفلسفة ألزمة التناقضات االجتماعية الحادة‪ ،‬تظل مجرد‬
‫شعارات نظرية ما دامت لم ترنفسها بعد في مرآة التطبيق االجتماعي‪ .‬ومن هنا كان مدخل التربية إلى‬
‫املسألة الفلسفية‪ ،‬فهي تجتمع بالخطاب الفلسفي من جهتين‪ :‬جهة االختبار والتقييم لألفكار‬
‫الفلسفية النظرية‪ ،‬وجهة التعديل لتلك األفكار‪ .‬وهو األمر الذي جعل ديوي يعتبر أن العالقة بين‬
‫الفلسفة والتربية هي كعالقة وجهي العملة الواحدة‪ ،‬ال يمكن فصل أحدهما عن اآلخر‪ ،‬وكالهما يعبر‬
‫عن نفس الش يء‪.‬‬
‫بل إننا نرى أن اجتماع الوجهين في األفكار الفلسفية‪ ،‬بين التربية كوجه تطبيقي والفلسفة‬
‫كوجه نظري لنفس األفكار‪ ،‬قد تجسم تاريخيا في نموذج ديوي نفسه‪ ،‬باعتباره فيلسوفا مربيا‪ ،‬ورائد‬
‫أعظم نظرية فلسفية في التربية في العصر القريب‪ ،‬غيرت كثيرا من مالمح عالم التربية املعاصر‪ .‬فما‬
‫هي أبرزمالمح ومقومات هذه النظرية التربوية؟‬

‫ب ـ ما التربية؟ وما النظرية التربوية؟‬

‫‪15‬‬
‫ليست التربيــة إعدادا للحياة بل هي الحياة ذاتها" جون ديوي‪17‬‬

‫النظرية‪ ،‬في األصل إلى عبارة النظري‪ .‬والنظري بدوره يعود إلى النظر‪ .‬والنظر في املعنى‬ ‫ّ‬ ‫يعود مصطلح‬
‫االصطالحي الشائع عند جمهور العرب القدماء‪ ،18‬هو إعمال العقل في املسألة الواحدة‪ ،‬واسييفاء البحث‬
‫فيها‪ ،‬وتقليبها على جميع وجوهها‪ ،‬والتدرج في تناول عناصرها حتى بلوغ اإلحاطة الجامعة بمحتوياتها ما ظهر‬
‫منها وما بطن‪ 19‬والتمكن فيها من أسبابها وعللها الضرورّية أو قوانينها‪ .‬وبعد االنتهاء من الفحص يأتي دور‬
‫ّ‬
‫باألدلة الكافية هو ّ‬ ‫التعبير عن نتائج ذلك النظر في بناء ّ‬
‫النظرية‪.‬‬ ‫منسق ومنظم مدعوم‬
‫ّ‬
‫والشمولية‪ .‬تركيب جملة من األفكار أو املعطيات‬ ‫التـركيب‬‫النظرية بفعل ّ‬ ‫وفي املعنى الحديث‪ ،‬تقترن ّ‬
‫على نظام خاص له قواعده الواضحة‪ ،‬واالنتقال في داخل ذلك النظام عبر سلسلة من الحركات الواضحة‬
‫ّ‬
‫والصارمة والدقيقة‪ ،‬وفي إطار العالقات بين عناصر بنية تلك النظرية‪ ،‬نحو ما يترتب عن تلك املنطلقات‬
‫من نتائج باتة ونهائية‪ .‬وهنا نشير إلى أن الدراسات االبستمولوجية املعاصرة والبنائية تحديدا‪ ،‬تشترط في‬
‫مرت أو انتقلت من طور االفتراض أو االقتراح‬ ‫عدة مقومات منها أن تكون أفكارها األساسية ّ‬ ‫النظرية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫تعريف‬
‫تفسيرية عالية‪ ،‬وأن تشمل أكثر من نموذج تفسيري واحد وأن تثبت نوعا‬ ‫ّ‬ ‫إلى طور اإلثبات‪ ،‬وأن تتمتع بقدرة‬
‫للدحض‪.20‬‬ ‫الديمومة املؤقتة‪ ،‬وأن تكون في النهاية قابلة ّ‬ ‫من االستقرار أو ّ‬
‫ُوين ِّت ُج الفكر اإلنساني النظريات في جميع املسائل التي يعالجها‪ ،‬فهي أدواته الرئيسية في الفهم‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬
‫النظرية عموما في املستويين‬ ‫اإلنسانية في إنتاج املعنى وتبادله‪ .‬وتكمن ّ‬
‫أهمية‬ ‫ّ‬ ‫التعبير عن القد ة ّ‬
‫النوعية‬ ‫ر‬
‫ّ‬
‫الفكري والعملي من حياة الناس باليساوي‪ .‬وفي املجال التربوي تحديدا تبدو أهميتها أكثر جالء‪ .‬إذ ال تربية‬
‫مسلمة في فكر ديوي‪ .‬ولكن قبل االستمرار في تبين داللة ّ‬ ‫ّ‬
‫النظرية التربوية‪،‬‬ ‫بدون نظرية في التربية‪ .‬وهي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتوجب علينا تحديد املقصود بالتربية؟‬
‫واعيـة بذاتها‪ .‬وال ُت ُ‬
‫التربيــة فعل إنساني‪ ،‬نوعي‪ ،‬وحركة نشطة ّ‬ ‫ّ‬
‫نجز إال في إطار املجتمع وبواسطته‪،‬‬
‫التــواصل ونييجته‪ ،‬إن كل اتصال ُيربي سواء كانت ّ‬
‫تربيــة‬ ‫وتبدأ منذ حلول الفرد به وليدا صغيرا‪ .‬فهي ديف ّ‬
‫ر‬
‫سلبيــة في مقياس آخر‪ .‬إن كل فرد ينقل خبرته آلخر يمارس ّ‬
‫عمليــة تربوية باعتبار‬ ‫ايجابية في مقياس ما‪ ،‬أو ّ‬
‫ّ‬
‫أنه يساهم في تطوير خبراته وتنميتها وهي أهداف التربيــة بالعموم‪.‬‬
‫مجرد ّ‬ ‫اللغوي‪ ،‬وجدنا أن معناها ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقول ديوي‪" :‬إذا رجعنا إلى أصل كلمة ّ‬
‫عمليــة‬ ‫تربيــة ( ‪)Education‬‬
‫عمليــة ال ّتربيــة من ناحية نتائجها‪ ،‬فال ّبد لنا أن نقول إنها ّ‬
‫عمليــة صوغ‬ ‫القيادة والتنشئة‪ .‬أما إذا فكرنا في ّ‬

‫‪ 17‬من مقدمة المترجمين لكتاب الدّيمقراطية والت ّربيــة (المصدر السابق)‬


‫‪ 18‬ابن منظور‪" :‬وإِذا قلت نظ ْرتُ إِليه لم يكن إِال بالعين‪ ،‬وإِذا قلت نظرت في األمر احتمل أن يكون تف ُّكرا فيه وتدبرا بالقلب‪ ...‬من مادة نظر‪ ،‬لسان‬
‫العرب‪.‬‬
‫‪ 19‬معنى نجده صريحا في العبارة الش هيرة عند ابن خلدون " التاريخ في ظاهره ال يزيد عن اإلخبار وفي باطنه نظر وتحقيق" المقدّمة‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫الدكتور علي عبد الواحد وافي‪ ،‬القاهرة ‪1968‬‬
‫‪ 20‬كارل بوبر‪ :‬أسطورة اإلطار‪ ،‬ترجمة يمنى طريف الخولي‪ ،‬الفصل الثامن‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬ماي ‪2003‬‬

‫‪16‬‬
‫وتكوين لفعالية األفراد‪ ،‬ثم صب لها في قوالب معينة ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدي الجماعة "‬
‫فالتربيــة إذن ّ‬
‫عمليــة رعاية وتهذيب وتثقيف"‪21‬‬ ‫ّ‬
‫ثم يضيف "‬
‫ّ‬
‫ومما يجعل اإلنسان الكائن الوحيد القابل للتربية باملعنى العميق والكامل للمفهوم هو قيام طبيعته‬
‫ّ‬ ‫للنمو ينشأ عليها الفرد وتشكل استعداداته ّ‬
‫الفطرية بتزويده بثالثة مصادر ّ‬
‫النــوعية التي تجعله يقبل التربيــة‬
‫ّ‬
‫وييشكل بها وهي ‪ ) 1:‬البنية الفطرية ألعضائنا الجسمية واألعمال التي تقوم بها كوظائف لها ‪ )2‬وجوه‬
‫استخدام فعاليات هذه األعضاء بتأثير اآلخرين ‪ )3‬التفاعل املباشر بينها وبين البيئة‪ 22.‬ووجود هذه‬
‫ّ‬
‫الخاصيات أو االستعدادات الثالث للتربية يمكن ترجمته بالطابع االجتماعي األصلي لإلنسان‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومن ثمة يدخل كل اتصال اجتماعي يييح تناقل للخبرات في نشاط التربيــة‪ .‬وهو يفترض تخ ّيال ضروريا‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫لآلخر ولقد ته على الفهم‪ .‬وهو لذلك ضرب من ّ‬
‫لعمليــة التربيــة‪ .‬وهكذا فإن التربيــة هي‬ ‫التــنظيم االجتماعي‬ ‫ر‬
‫باملعنى العام كل تفاعل اجتماعي من شأنه أن يسمح بنقل معاني الخبرات املكيسبة فرديا أو جماعيا وتبادلها‪.‬‬
‫كما يسمح بالحفاظ على معنى الخبرات املتجمعة بفعل عمليات الهضم والحفاظ على كل ما تراكم تاريخيا‬
‫ّ‬
‫لدى األجيال املتعاقبة‪ .‬وألن فعل التربيــة فعل قصدي في قسم منه‪ ،‬وغير قصدي في القسم اآلخر‪ ،‬فإن من‬
‫الواعيــة‪ ،‬تشكيل مستمر لقوى األفراد وتنمية مشاعرهم وإثارة إحساسهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الواعيــة وغير‬ ‫أهدافه ونتائجه‬
‫ّ ّ‬
‫وانفعاالتهم وتكوين لعاداتهم وتهذيب آلرائهم ومبادئهم‪ .‬أما الغاية القصوى الرمزيــة للتربية فهي جعل الفرد‬
‫مشاركا بالتدرج في الكنوز والذخائر العقلية والخلقية التي نجح املجتمع في جمعها‪ .‬األمر الذي يخول‬
‫ّ‬
‫للفرد أخيرا أن يكون وريث للمدنية اإلنسانية كلها‪ .‬ويقترن فعل التربيــة بفعل التكوين وإعادة التكوين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫ومعنى ذلك أن التربيــة ليست إيجاد ما ليس موجودا على نحو إنشاء خارجي خالص بتأثير البيئة‬
‫ّ‬
‫فحسب‪ ،‬كما أنها ليست انكشافا داخليا خالصا للقدرات الطبيعيــة لألفراد‪ ،‬وإنما هي هذا الوسط التفاعلي‬
‫بين القدرات والبيئة‪23.‬‬

‫‪ 21‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪11‬‬


‫‪“Etymologically, the word education means just a process of leading or bringing up. When we have the‬‬
‫‪outcome of the process in mind, we speak of education as shaping, forming, molding, activity that is , a‬‬
‫‪shaping into the standard form of social activity”…” education is thus a fostering, a nurturing, a cultivating,‬‬
‫”‪process‬‬
‫المقدمة‪ ،‬ببنية ثالثية من المهام هي " الرعاية واالنضباط والتكوين"‬
‫ونجد كانط ُيعرف التّربيــة في كتابه‪ :‬تأمالت في ال ّتربيــة‪ ،‬منذ ّ‬
‫محمد على الحامي للنشر‪ ،‬صفاقس ‪2006‬‬
‫كانط‪ ،‬تأمالت في ال ّتربيــة‪ ،‬ترجمة محمود بن جماعة‪ ،‬نشر دار ّ‬
‫‪ 22‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة ص ‪118‬‬
‫‪ 23‬التّربيــة غاية في ذاتها‬

‫نالحظ في نصوص ديوي على كثرتها تواتر خاصيتي النقد والتأسيس‪ .‬وفي إطار البحث في معنى التّربيــة فإن ديوي ينطلق من مجموعة من حمالت‬
‫يوجــهها إلى ثالثة اتّــجاهات رئيسية في التّربيــة‪ .‬األول االتّــجاه الذي يعتبر التّربيــة إعداد للمستقبل‪ .‬وهو االتّــجاه الذي يمكن وصفه بالوظيفي‪.‬‬
‫النقد ّ‬
‫ولنا في تاريخ األفكار التّربويــة مجموعة كبيرة من ممثلين هذه المدرسة ولكن على رأسهم نجد األفالطونية بكل امتياز‪ .‬وتقوم الفكرة الجوهرّيــة لهذا‬
‫المذهب التّربوي على اعتبار أن هناك غاية أخرى تعمل عليها التّربيــة غير ذاتها غاية نهائية تتمثّــل في إعداد المتعّلـمين لها‪ .‬وال يخفي هنا الطابع‬

‫التضحوي في هذه النظرّيـة بأمرين على األقل‪ :‬األول‪ ،‬الطالب نفسه‪ ،‬حيث ليست تنمية شخصيته هو ذاته إال غاية ثانية أو ّ‬
‫مجرد وسيلة لتحقيق أهليته‬
‫للغد أو للمجتمع في المستقبل‪ .‬والثّــاني‪ ،‬بالحاضر لحساب المستقبل‪ .‬وعلى هذا األساس يرفض ديوي اعتبار التّربيــة مشروعا يهدف إلى إعداد األفراد‬
‫إلى مهمة بعيدة في المستقبل‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫التربوي‪ .‬يقول جون ديوي ّ‬ ‫ّ‬
‫موضحا‬ ‫ومن هنا كان معنى التكوين وإعادة التكوين هو جوهر الفعل‬
‫عمليــة مستمرة من ّ‬
‫التربيــة هي ّ‬ ‫ّ‬
‫التــنظيم أو التكوين الجديد للخبرة‪ ،‬فلها في كل حين هدف فوري‪ ،‬وعلى قدر‬ ‫"‬
‫ما يكون للفعالية من أثر تربوي تراها تصل إلى ذلك الهدف وهو التحوير املباشر ألثر الخبــرة‪ ...‬بمعنى أن ما‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫نتعلمه ً‬
‫فني للتربية‪:‬‬ ‫حقا في أي دور من أدوار الخبــرة هو الذي يعطي للخبرة قيمتها‪ ....‬نخرج من هذا بتعريف‬
‫وهو أن التربيــة هي ذلك التكوين أو التــنظيم الجديد للخبرة‪ ،‬الذي يزيد في معناها وفي املقدرة على توجيه‬
‫ّ‬ ‫مجرى الخبــرة التالية" ‪ 24‬ثم يضيف بعد ذلك مبر ا خصوصية نظريته عن باقي ّ‬
‫التـصورات التربويــة األخرى‪،‬‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫نظريـة التربيــة التي نبسطها في فصولنا هذه تتلخص في فكرة تكوين الخبــرة تكوينا جديدا مطردا‪،‬‬ ‫فيقول ‪" :‬‬
‫ّ‬ ‫وهي فكرة ّ‬
‫متميزة عن التربيــة من حيث هي إعداد ملستقبل بعيد أو انكشاف‪ ،‬أو تكوين خارجي‪ ،‬أو إعادة‬
‫للماض ي"‪25‬‬

‫نمو نحو هدف نهائي وكلي ومن أنصار‬ ‫أما االتّــجاه الثّــاني الذي ينقده ديوي في هذا المستوى فهو االتّــجاه الذي يقول باالنكشاف أي يعتبر التّربيــة ّ‬
‫مو التّربوي‬
‫هذا االتّــجاه الفيلسوفين هيقل وفروبل‪ ،‬وهو اتّــجاه ساد ولكنه ال يخلو من ضعف في نظر ديوي ويتمثل وجه قصوره في كونه ال يعتبر الن ّ‬
‫مجرد وسيلة تنتهي بان تنفي ذاتها في األخير‪ .‬ويميل هذا االتّــجاه بالتّربيــة إلى جعلها تعّلق آمالنا بمستقبل وبمثال أعلى‬
‫غاية في حد ذاته بل يعتبره ّ‬
‫خارج ذواتنا هو نوع من الكمال اإلنساني الذي ليس لنا ّأية ضمانة لبلوغه‪ .‬وعلى هذا األساس فإن ديوي يرفض هذا االتّــجاه الغائي‪.‬‬

‫التربيــة صقل للقدرات والقوي الفطرية‪ .‬ومن أنصار هذا االتّــجاه الفيلسوف لوك‪ ،‬حيث يري أن اإلنسان يولد مزود‬
‫أما االتّــجاه الثالث فهو الذي يعتبر ّ‬
‫ئيسيـة التي من واجب التّربيــة أن تطورها عبر التركيز على تدريبها المستمر حتى تصل بها في النهاية إلى درجة من االكتمال‪.‬‬
‫الر ّ‬‫بمجموعة من القوي ّ‬
‫ألنه يعتقد في وجود قوي يمكن عبر ترويضها والتركيز عليها أن نحققها كاملة‪ ،‬والواقع أن هذه النظرّيـة األخيرة‬
‫وخطأ هذا المذهب حسب ديوي واضح ّ‬
‫حد ذاتها بل كمال القوى الموجودة على نحو قبلي هو الغاية األولى‪.‬‬
‫ال تجعل من التّربيــة غاية في ّ‬

‫الفلسفيــة يناقش ديوي بعض االتّــجاهات العلم ّـيـة مثل نظرّيـة هاربرت ثم اتّــجاه معين في نظرّيـة التّــطور وترّكـز نظرّيـة‬
‫ّ‬ ‫ثم وفضال على هذه االتّــجاهات‬
‫ّ‬
‫ألنه ال يتكون سوى من األفكار أو العمليات المكتسبة ذاتها والتي تتكون في البداية‬ ‫ّ‬ ‫األصل‪،‬‬ ‫في‬ ‫له‬ ‫وجود‬ ‫ال‬ ‫العقل‬ ‫أن‬ ‫ة‬
‫ر‬ ‫فك‬ ‫لى‬ ‫ع‬ ‫ها‬
‫جوهر‬ ‫في‬ ‫ت‬‫بر‬‫ر‬ ‫ها‬
‫فتتحول إلى فكرة تنشا عنها سالسل أخرى من اإلدراكات‪ .‬وبهذا المعنى‬
‫ّ‬ ‫تحت سطح الوعي ثم تستدعيها التجارب المستجدة للدخول إلى سطح الشعور‬
‫مهمة التّربيــة األولى تكمن في إيجاد المسبار الذي يتيح لنا الدخول إلى العالم الذاتي للطفل أو للطالب ومساعدته على تحويل أفكاره إلى إدراكات‬
‫فإن ّ‬
‫وينمو‪ .‬وإذا كان واضحا أن نظرّيـة هاربرت هذه ترّكـز على البعد الداخلي للتعلم فإن خطا نظرّيـة التّــطور يكمن في الترّكـز‬
‫ّ‬ ‫حقيقية يتكون منها عقله‬
‫ّ‬
‫الص ـراع‪ .‬وعلى‬
‫على النقيض من ذلك على الجانب الخارجي البحت في التكوين سواء كان فيما يتعلق بتأثير الماضي أو المحيط الفيزيائي وتجارب ّ‬
‫العكس من جميع هذه االتّــجاهات يذهب ديوي إلى القول بأن التّربيــة ليست وسيلة بأي حال ألي هدف آخر إذ ال وجود ّ‬
‫لغائي ــة في التّربيــة باعتبار‬
‫مو قدرات الفرد وذكائه‬ ‫ألنه ما من هدف من التّربيــة أكبر وأعظم من التّربيــة ذاتها‪ ،‬والتي تعني ن ّ‬ ‫أنها هي غاية نفسها‪ ،‬إنها غاية بدون ّ‬
‫غائي ــة؛ وذلك ّ‬
‫ألهمية هذا التّــمييز يقول ديوي عن خصوصية تصوره‬ ‫عبر تأقلمه المستمر مع البيئة وتأثيره فيها على نحو يجعل من الحياة سعيدة غنية مزدهرة‪ .‬و ّ‬
‫متميزة عن التّربيــة من حيث هي إعداد لمستقبل‬
‫الديمقراطية والتّربيــة‪ :‬نظرّيـة التّربيــة التي نبسطها في فصولنا هذه‪ ...‬هي فكرة ّ‬
‫للتّربية ما يلي في كتابه ّ‬
‫بعيد أو انكشاف‪ ،‬أو تكوين خارجي‪ ،‬أو إعادة للماضي"‬

‫‪ 24‬جون ديوي‪ّ :‬‬


‫الديمقراطية وال ّتربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪79‬‬
‫‪“…we thus reach a technical definition of education: it is that reconstruction or reorganization of experience,‬‬
‫”‪and which increases ability to direct the course of subsequent experience‬‬
‫‪ 25‬جون ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪83‬‬
‫‪“ The idea of education advanced in these chapters is formally summed up in the idea of continuous‬‬
‫‪reconstruction of experience, an idea which is marked off from education as preparation for a remote future,‬‬
‫”‪as unfolding, as external formation, and as recapitulation of the past‬‬

‫‪18‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية‪ .‬بمعنى أن التربيــة هي شراكة وليست‬ ‫على أن التربيــة هي في النهاية جنس من أجناس العالقة‬
‫ذاتيــة خالصة إال في ّ‬ ‫عمليــة ّ‬ ‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬
‫سن متأخرة وتتويجا للمراحل‬ ‫انجازا ذاتيا بين املرء ونفسه‪ .‬وال تصير‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعية‪.‬‬ ‫األوليــة من التربيــة‬
‫التربيــة لدي جون ديوي يتوجب علينا متابعة طريقته في ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫النظر إلى هذا املوضوع‪.‬‬ ‫ولفهم عناصر نظريـة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن تعاطي ديوي مع موضوع التربيــة يشبه إلى حد كبير املرء الذي يريد إحاطة النظر بموضوع له شكل‬
‫املكعب‪ ،‬فهو مضطر إلى اعتماد خطة الدوران حوله‬ ‫مكعب‪ .‬فلكي يحيط ببصره بكل أجزاء ذلك املوضوع ّ‬
‫ّ‬ ‫قدمه ديوي من فصول في كتابه‪ّ :‬‬ ‫ملالحظته وجها تلو وجه‪ .‬واملُر ُ‬
‫اجع ملا ّ‬
‫الديمقراطية والتربيــة‪ ،‬يالحظ بوضوح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اجتماعيــة ثم التربيــة كوسيلة‬ ‫سيادة هذا املنهج‪ .‬فهو يبدأ بالتربيــة كضرورة بيولوجية ثم التربيــة كوظيفة‬
‫التقليدية والحديثة أو ّ‬ ‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬ ‫التربيــة كعامل ّ‬ ‫ّ‬
‫التــطورية‬ ‫نمو‪ ...‬لينتقل بعدها إلى معالجة املقارنة بين‬ ‫توجيه ثم‬
‫‪Education as a Necessity of life‬‬ ‫أ ـ التربيــة ضرورة بيولوجية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫في الفصل األول من كتابه ّ‬
‫الديمقراطية والتربيــة‪ ،‬يتحدث ديوي عن التربيــة كضرورة بيولوجية‪ ،‬وفيه‬
‫النمو أو علم الحياة‪ .‬فمفهوم ّ‬ ‫التربيــة من زاوية علم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التــطور العضوي في البيولوجيا للكائن‬ ‫يبرر ضرورة فعل‬
‫والتــواصل بين الكائن الحي وبين بيئته‪ .‬وحينما ينقطع التفاعل‬ ‫واملرادف ملعنى الحياة‪ ،‬يقتض ي االستمرا ية ّ‬
‫ر‬
‫والتــواصل مع البيئة‪26‬‬ ‫يترتــب عنه أن التفاعل ّ‬ ‫ّ‬
‫بين العضوية الحية وبين محيطها فذلك عنوان موتها‪ .‬مما‬
‫ليس نافلة في حياة الكائنات الحية بقدر ما هو ضرورة حيوية تضمن التجدد املستمر للحياة‪ .‬إن الحياة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التربيــة‪27‬‬ ‫عمليــة والدة مستمرة وتفاعل ينتج عنه تجدد دائم وهي الحقيقة األولى التي تحتم ضرورة‬
‫وفي املجتمع اإلنساني فإن هناك ما يشبه كثيرا العضوية الحية‪ ،‬بل إن املجتمع هو جسم خلوي كبير‪،‬‬
‫النمو واالنقسام واملوت التي تتعرض لها الخاليا الحية‪.‬‬ ‫معرض لجميع أشكال ّ‬ ‫حي‪ ،‬وهو ّ‬ ‫شبيه بنسيج خلوي ّ‬
‫حيث على طرفي هذا الوجود االجتماعي نجد املواليد الجدد من ناحية وهم الدفق األساس ي أو ّ‬
‫الدماء‬
‫النـاحية املقابلة فنجد الشيوخ والعجزة الذين يغادرون الحياة بأثر َ‬
‫الهرم‬ ‫املتجددة للقلب االجتماعي‪ ،‬أما من ّ‬
‫واملوت‪ .‬وال يمكن للكيان االجتماعي أن يحافظ على وجوده وتوازنه في االستمرار في البقاء إال بنقل معاني‬
‫ودالالت الخبرات املتجمعة لدي األجيال املكتهلة‪ ،‬املغادرة‪ ،‬إلى األجيال الصغيرة‪ ،‬الوافدة‪ ،‬ليساعدها على‬
‫حسن التكيف مع محيطها‪ ،‬وإال فإن فرص استمرار تلك األجيال الجديدة ضعيفة‪ .‬من هنا نفهم ملاذا كانت‬
‫التربيــة ضرورة بيولوجية‪ .‬ليس هذا األمر بنفس الحتمية على جميع األنواع ّ‬ ‫ّ‬
‫الحية ولكنه ضرورة مطلقة‬
‫ّ‬
‫األصليــة التي يلد عليها الوليد‬ ‫ّ‬
‫األساسيــة أو‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية‬ ‫بالنسبة للنوع اإلنساني على نحو خاص‪ .‬ألن الوضعية‬
‫ّ‬
‫الحيوانية‬ ‫اإلنساني على درجة من الفقر وعدم الجاهزية لالستمرار في البقاء‪ ،‬مقارنة بأدنى أنواع الحياة‬
‫األخرى‪.‬‬
‫تربيــة يهلك‪ .‬ومن هنا نفهم ملاذا كان الكائن اإلنساني األكثر تفوقا في‬ ‫إن الوليد اإلنساني دون ّ‬
‫استعداده للتواصل وتطويره لوسائله فيه‪ .‬وذلك على خالف جميع أشكال الحياة التي تختلف فيها مراتب‬
‫‪26‬‬‫‪Environment‬‬
‫‪27‬‬‫‪Dewey: “The primary ineluctable facts of the birth and the death of each one of the constituent members‬‬
‫‪in a social group determine the necessity of Education.” Democracy and education , Chap.1‬‬

‫‪19‬‬
‫النمو الجسمي ّ‬ ‫الطبيعيــة للبقاء ولوسائلها لهذا البقاء‪ .‬يقول ديوي مؤكدا " وليس ّ‬ ‫ّ‬
‫والسيطرة‬ ‫االستعدادات‬
‫على الضرورات التي تضمن الوجود املادي بكافيين وحدهما لضمان بقاء حياة الجماعة‪ ،28‬بل هناك حاجة‬
‫ّ‬
‫إلى بذل مجهود قصدي وإلى تكلف الكثير من العناء والتفكير في سبيل ذلك‪ ،‬فإن األطفال يولدون وهم ال‬
‫بصرهم وتثير‬‫يحيطون ُخ ًبرا بأهداف الجماعة وعاداتها‪ ،‬بل هم ال يعبأون بها أبدا‪ .‬وما على الجماعة إال أن ُت ّ‬
‫ّ‬
‫بالتربيــة‪29 ".‬‬ ‫ّ‬ ‫اهتمامهم الحي بها‪ ،‬وما من طريق إلى ذلك‪ ،‬أي إلى تقريب ّ‬
‫الشقة بين الطفل والجماعة‪ ،‬إال‬
‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬
‫بالنظر إلى واقع البداية األولى الضعيفة والفقيرة التي يبدأ منها الوجود‬ ‫تتحدد أولى غايات‬
‫ّ‬
‫اإلنساني عند املواليد الجدد‪ .‬ثم من هناك تكون التربيــة هي الوسيلة الضامنة ّ‬
‫لنمو نوع جديد من الحبل‬
‫السري الذي بإمكانه الربط بينهم وبين العناصر األكبر سنا وخبرة‪ .‬وهي أداة ووسيلة لضمان والستمرار‬ ‫ّ‬
‫البقاء‪.‬‬
‫ّ‬
‫بمجرد التــواصل والنقل‪ ،‬وإنما يمكننا‬ ‫ّ‬ ‫وفي نفس هذا املعنى يقول ديوي " ال يستمر املجتمع في بقائه‬
‫التــواصل وفي النقل‪ .‬إن الرابط الذي يجمع عبارات‪ :‬مشترك‬ ‫القول ونحن محقون‪ ،‬بأن املجتمع يوجد في‪ّ 30‬‬
‫مجرد رابط لغوي‪ .‬إن‬ ‫والتــواصل ‪ Communication‬ليس ّ‬ ‫‪ Common‬والجماعة ‪ Community‬واالتصال ّ‬
‫والتــواصل هو الوسيلة التي تييح لهم بلوغ‬ ‫األفراد يعيشون في مجموعات بفضل أشياء يشتركون فيها ّ‬
‫ّ‬
‫االشتراك في تلك األشياء‪ .‬فلكي تتكون مجموعة أو مجتمع‪ ،‬يجب أن يتم وجود األهداف نفسها بينهم‪،‬‬
‫واملعتقدات واألحالم واملعرفة ـ الفهم الجماعي ـ نوع من التوجه الجماعي للتفكير بعبارة السوسيولوجيين"‪31‬‬
‫ّ‬
‫وهكذا فإن التربيــة ضرورة بيولوجية الستمرار الحياة الجماعية‪ ،‬تحتمها طبيعة الوجود اإلنساني‬
‫تربيــة جيل واحد قد يؤدي بكامل‬ ‫نفسه‪ ،‬الذي ال يمكنه االستمرار أو الحفاظ على ذاته دونها‪ .‬وعدم ّ‬
‫حد عبارة جون ديوي‪32.‬‬ ‫املجموعة إلى اال تداد إلى البربرية ومن ثمة التوحش على ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التــطور االجتماعي يحكي في اآلن نفسه ّ‬ ‫إن تا يخ ّ‬
‫اإلنسانية‪ .‬إن‬ ‫قصة تاريخ التربيــة في املجتمعات‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان البدائي لم يكن ّ‬
‫يخصص للتربية فضاء خاصا بها‪ .‬بل لعلـه سوف يستهجن بشدة فكرة تخصيص‬
‫ّ‬
‫مكانا خاص بها‪ .‬لقد كانت تتم في كل مكان وبطريقة مباشرة وهي أن يعايش الطفل الوضعيات التي يعيشها‬
‫ّ‬
‫الكبار فيتعلم ويشحن نفسه باملشاعر واألحكام ذاتها التي تولدها تلك الوضعيات لدى الكبار‪ .‬وإذا استثنينا‬
‫التعليم لدي األطفال في املجتمعات‬ ‫التقليدي بدخول اإلنسان البدائي مرحلة الرجولة فإن باقي ّ‬ ‫االحتفال ّ‬
‫القديمة يتم في ارتباطهم املباشر بالناضجين ومحاكاتهم لهم فعليا أوفي ألعابهم‪.‬‬

‫‪28‬‬ ‫‪Community‬‬
‫‪ 29‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬ترجمة متى عفراوي وزكريا ميخائيل‪ ،‬مطبعة لجنة التأليف والتّـرجمة والنّشر‪ ،‬القاهرة ‪ ،1954‬ص ‪3‬‬
‫‪“Mere physical growing up, mere mastery of the bare necessities of subsistence will note suffice to‬‬
‫‪reproduce the life of the group. Deliberate effort and the taking of thoughtful pains are required. Beings who‬‬
‫‪are born not only unaware of, but quite indifferent to, the aims and habits of the social group have to be‬‬
‫”‪rendered cognizant of them and actively interested. Education, and education alone, spans the gap‬‬
‫‪ 30‬تضخيم مقصود من المؤلّف‬
‫‪31 John Dewey: Démocratie et Education, Présentation et traduction en Français de Gérard Deledalle,‬‬

‫‪Armand Colin 1990 P 38 39‬‬


‫‪ 32‬المصدر السابق‪ ،‬التّـرجمة الفرنسيّة‪ ،‬ص ‪4‬‬

‫‪20‬‬
‫التــطور الحضاري للبشرية خلق مسافة ال تزال تزيد وتتعمق بين استعدادات الصبيان وبين‬ ‫غير أن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اهتمامات الكبار وانشغالهم‪ .‬إن ّ‬
‫البشريـة وانتقالها في املكان جعل التربيــة املباشرة البدائية‬ ‫تعقد األعمال‬
‫غير ممكنة تدرجيا‪ ،‬حتى صار متعذرا على األطفال مشاركة الكبار املباشرة فيها‪ ،‬ولذلك كان ال بد من‬
‫للتعليم بها‪ ،‬فكانت املدرسة‪.‬‬ ‫املهمة‪ ،‬وتحديد مواد ّ‬ ‫تخصيص مكان وتعيين رجال لهذه ّ‬
‫ّ‬ ‫بيد أنه كان لهذا ّ‬
‫التــطور ثمنه وأحيانا أخطاره‪ .‬فاملعارف التي كانت تلقن في "التربيــة املباشرة" كانت‬
‫نج ُز لالستخدام املادي الحقيقي في تحسين الحياة مباشرة‪ .‬وإذا جاز القول‬ ‫عمليــة حية ونابضة بالفعل ُوت َ‬ ‫ّ‬
‫فإن الحقيقة أو الخبــرة التي كان من املتوجب الحصول عليها آنذاك كانت حقيقة حية وحيوية‪ .‬أما في ّ‬
‫التعليم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬أن هذه املعارف‬ ‫أو التربيــة املؤسسية فإن ما حصل بعد تطور الحضارة والعلوم والفنون واآلداب‬
‫مجردة وخالية من الحياة وسطحية مقارنة‬ ‫النظريـة حتى صارت ّ‬ ‫ّ‬ ‫يجيـا نحو‬‫التي ينبغي تعليمها بدأت تنحوا تدر ّ‬
‫مهنية‪ .‬ألن الواقع دائما ما هو عملي ويري‬ ‫بما ينفع الحياة فعليا أي مقارنة بما يقتضيه الواقع من خبرات ّ‬
‫مجرد مادة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للتعليم في املدارس‬ ‫املنظــمة وهو أن تكون ّ‬ ‫ديوي هنا ّأن‪ :‬هناك دائما خطر ماثل في مضمون التربيــة‬
‫معرضة باستمرار لسوء الرؤية‪ّ .‬‬
‫تثمن‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة ّ‬ ‫الحية للتجربة‪ .‬إن االهتمامات‬ ‫منفصلة تماما عن املادة ّ‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬بل تلك التي تيبع ميدان املعلومة التقنية‪33‬‬ ‫ّ‬ ‫املدرسة االهتمامات التي لم تدخل بعد في البنية‬
‫الخط من ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التــطور بلغنا حسب ديوي الفكرة املبتذلة القائمة اليوم عن‬ ‫الرمزيــة ‪ 34‬وفي سياق هذا‬ ‫وتعبيراتها‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة في التربيــة وتماهيها مع جميع النشاطات الوجدانية للحياة‬ ‫التربيــة والتي تجهل وجه الضـرورة‬
‫الواعيــة والتي حكمت بان يكون هناك تعليم مؤسس ي يتم فيه توفير معلومات عن مواضيع ّ‬
‫مجردة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية‬
‫ونقل للمعارف بواسطة رموز لغوية‪ :‬اكيساب مهارتي القراءة والكتابة‪.‬‬
‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫إن هذا التعقيد والتجريد الذي صار عليه ّ‬
‫الحية القديمة‪،‬‬ ‫التعليم املعاصر وانفصاله عن‬
‫ّ‬
‫يجعل من أوكد مهمات فلسفة التربيــة حسب ديوي‪ ،‬إيجاد أفضل املناهج‪ ،‬التي تسمح بجني أحسن ثمرات‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كل من التربيــة املباشرة غير املنظــمة والتربيــة املؤسسة أو املهيكلة‪ ،‬بمعنى أفضل املناهج التي تق ّرب املسافة‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بين مضمون ّ‬
‫االجتماعية‪ .‬ألنه إذا لم‬ ‫التعليم في املدرسة وبين جسم الخبرات التي يكيسبها الطفل في الحياة‬
‫فإنــها تكون ّ‬ ‫ّ‬
‫مجرد معرفة‬ ‫تحمل املعلومات امللقنة في املدرسة أثارا في الحياة وعلى معنى الخبرات الجديدة‬
‫فاسدة وال يحملها سوى أخصائيون أنانيون‪.‬‬
‫حصلها األفراد انطالقا من‬ ‫ينبغي حسب ديوي تجنب االنكسار والشرخ‪ ،‬بين املعرفة أو الخبــرة التي ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫املجهود الذي بذلوه في تحصيلها الواعي واملهيكل‪ ،‬وبين املعرفة أو الخبــرة التي تعلموها أو عرفوها بطريقة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫غير ّ‬
‫وعفوية‪ ،‬أثناء تشكل شخصياتهم في إطار عالقتهم باآلخر وعالقتهم باملجتمع ككل‪ .‬ينبغي الحرص‬ ‫واعيـة‬
‫ّ‬ ‫لشديد على ّ‬ ‫ّ‬
‫النظريـة أو العلم ّـيـة‪ .‬وهي‬ ‫ّ‬
‫الشخصيـة والخبــرة‬ ‫التــواصل بين نمطي املعرفة هذه‪ ،‬الخبــرة الحية‬ ‫ا‬
‫موضحا ذلك " وكلما ازدادت الجماعات‬ ‫للتعليم اليوم‪ ،‬يقول ديوي ّ‬ ‫املهمة التي تبدو أكثر صعوبة بالنسبة ّ‬
‫ّ‬ ‫تعقدا في تركيبها وتنوعا في مرافقها‪ ،‬ا دادت الحاجة إلى ّ‬
‫التعليم والتعلم املقصودين‪ .‬فإذا نما سلطانهما‬ ‫ز‬

‫‪33‬‬ ‫‪Technical‬‬
‫‪ 34‬المصدر السابق‪ ،‬التّـرجمة الفرنسيّة ص ‪43‬‬

‫‪21‬‬
‫فنا للخطر وهو التباعد املكروه بين الخبــرة التي ُتكيسب باالتصال املباشر بين ّ‬
‫النــاس‪ ،‬وبين ما‬ ‫أس ُتهد َ‬ ‫ّ‬
‫وامتد‪ْ ،‬‬
‫ِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نحصله في املدرسة‪ .‬وهذا الخطر لم يكن في يوم ما أعظم منه اليوم‪ ،‬وذلك للتطور السريع الذي طرأ على‬
‫صنوف املعرفة ووسائل الحذق ّ‬
‫الفني في القرون األخيرة" ‪35‬‬

‫‪Education as Social Function‬‬ ‫ب ـ التربيــة وظيفة اجتماعيــة‬


‫لكل مجموعة إنسانية شكل وجود يميزها‪ ،‬يتجسد في نظامها وبنية عالقاتها وفي رموزها الثقافية مثل‬
‫قيمها ومفاهيمها عن الخير والشر وعن الجميل والقبيح‪ ...‬وتسعى كل واحدة من هذه املجموعات إلى ضمان‬
‫ّ‬
‫استمرارها وضمان استقرار شكلها عبر إعادة تشكيل مستمر لذاتها‪ .‬وتعتبر التربيــة هنا وسيلة تشكيل‬
‫النمط االجتماعي املطلوب‪ .‬وملالحظة هذا التأثير االجتماعي على األفراد ّ‬
‫ينبهنا ديوي إلى‬ ‫لألفراد حتى يأخذوا ّ‬
‫نموهم منذ حلولهم أعضاء جدد في التركيبة‬ ‫مالحظة التأثير الحاصل في طباع وميول وقدرات األطفال أثناء ّ‬
‫همنا األول مع األطفال أن ّنيسر لهم سبل االشتراك في الحياة ّ‬
‫العامــة‪ ،‬فال‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة وهنا يقول‪ " :‬إذا كان ّ‬
‫يسعنا إال أن نيساءل هل‪ :‬ننمي فيهم القوى التي تكفل لهم الحصول على هذه املقدرة أوال؟ فإذا كنا نرى‬
‫اإلنسانية اليوم قد أمعنت في درس هذه الحقيقة وإدراكها‪ ،‬وهي أن القيمة النهائية لكل مؤسسة إنما تكون‬ ‫ّ‬
‫القصدية‪ ،‬فقد يصح لنا االعتقاد بأن فضل هذا‬ ‫ّ‬ ‫بأثرها اإلنساني الصريح‪ ،‬أي بأثرها في اختبارات البشر‬
‫الدرس يعود في األكثر إلى اتصالنا باألطفال وتعاملنا معهم" ‪36‬‬

‫لكن تشكيل األفراد يختلف كليا عن اليشكيل املادي لألشياء‪ .‬ولذلك فإن الصناعة أو التقنية بإمكانها‬
‫الخاصة ليشكيل ما تريد‪ ،‬أما املجتمع فإن له وسائل أخرى يخترعها ليحدث بها هذا اليشكيل‬ ‫ّ‬ ‫اعتماد وسائلها‬
‫الفريد الذي ال يشبه اليشكيل الفيزيائي أو التقني للعالم الخارجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واألساسيــة هي البيئة‪ .‬ولكن كيف تحدث البيئة هذه التربيــة املطلوبة؟‬ ‫إن الوسيلة األولى‬
‫اجتماعيــة ما تحيط به ينفعل بها في جميع مستويات‬ ‫ّ‬ ‫يجيب ديوي بان الفرد الذي يعيش داخل بيئة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعية‪.‬‬ ‫اجتماعيــة ومواقف وانفعاالت بموجب تلك التربيــة‬ ‫إدراكه وإحساسه‪ ،‬فتيشكل لديه أحكام‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فحيث يعيش الفرد في تفاعل مع األخر فإنــه يدرك تدر ّ‬
‫يجيـا املفضل واملبجل اجتماعيا‪ ،‬كما يدرك املنبوذ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والدوني‪ .‬إنه يتعلم نوعية املثل العليا التي يسير على نهجها الجميع ويتعلم كيف يتماثل معها‪ .‬يقول ديوي‬

‫‪ 35‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪10‬‬


‫‪“As societies become more complex in structure and resources, the need of formal or intentional teaching‬‬
‫‪and learning increases. As formal teaching and training grow in extent, there is the danger of creating an‬‬
‫‪undesirable split between the experience gained in more direct associations and what is acquired in school.‬‬
‫‪This danger was never greater than at the present time, on account of the rapid growth in the last few‬‬
‫”‪centuries of knowledge and technical modes of skill‬‬
‫‪ 36‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪7‬‬
‫‪“Since our chief business with them is to enable them to share in a common life we cannot help considering‬‬
‫‪whether or no we are forming the powers which will secure this ability. If humanity has made some‬‬
‫‪headway in realizing that the ultimate value of every institution is its distinctively human effect. Its effect‬‬
‫‪upon conscious experience, we may well believe that this lesson has been learned largely through with this‬‬
‫”‪young‬‬

‫‪22‬‬
‫يكون الوسط فيه نظاما خاصا من ّ‬
‫السلوك وميال معينا إلى العمل"‪ 37‬وهنا فإن البيئة‪38‬‬ ‫مستنتجا " وبذلك ّ‬
‫ليست إطارا مستقال ومحايدا يوجد بداخله األفراد‪ ،‬وإنما هي إطار فاعل في تشكيل شخصيات هؤالء األفراد‬
‫وتنميطهم على النحو الذي يحفظ للمجتمع درجة أساسية من االستقرار‪ .‬غير أن التفاعل اإلنساني مع‬
‫البيئة يختلف كليا عن التفاعل الحيواني معها‪ .‬فإذا كان القصد من عبارة البيئة املماثلة بين البيئتين‬
‫ّ ‪ّ 39‬‬
‫فإنــها ّ‬ ‫ّ‬
‫مجرد مماثلة مجازية؛ ألن معنى كليهما مختلف بشدة عن األخر‪ .‬حيث ال‬ ‫اإلنسانية والحيوانية ‪،‬‬
‫الحيوانية جملة الظروف التي تسمح لحياتها باالستمرار‪ ،‬في حين تعني بالنسبة لإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫يتجاوز معنى البيئة‬
‫اإلنسانية هي ما يدخل في تفاعل مع اإلنسان‪ ،‬وليس ّ‬
‫بالضـرورة أن تكون هذه البيئة‬ ‫ّ‬ ‫شيئا آخر تماما‪ ،‬فالبيئة‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية أبعاد مادية‬ ‫هي املحيط الفيزيائي القريب منه‪ ،‬مثل املاء بالنسبة إلى السمك‪ ،‬وإنما يدخل في البيئة‬
‫ذاتيــة جدا‪ .‬فقد يحدث أن يتفاعل اإلنسان مع أشياء بعيدة عنه في الزمان‬ ‫مزيــة متغيرة وأحيانا ّ‬ ‫وأخرى ر ّ‬
‫واملكان‪ .‬إن الفلكي الذي يراقب مسارات النجوم وحركاتها يعتبر مخبره بيئته األ ّ‬
‫ساسيــة‪ ،‬كما أن مؤرخ‬
‫العصور الجيولوجية األولى يعتبر وثائقه وأعماله التاريخية بيئته التي يتفاعل بها ومعها‪ ،‬يقول ديوي ملخصا‬
‫ّ‬
‫الخاصة بالكائن الحي‬ ‫" وقصارى القول أن البيئة تتألف من تلك الظروف التي تكون سببا في تقوية األعمال‬
‫ّ‬ ‫وإثارتها أو إضعافها‪...‬وإذا كان املقصود بالحياة ليس ّ‬
‫مجرد عديم النشاط (لو فرضنا إمكان ذلك) بل أسلوبا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫من العمل‪ ،‬فإن معنى البيئة أو الوسط هو كل األوضاع التي تؤثر في هذا النشاط بحيث تديمه وتقويه أو‬
‫تعترض سبيله وتحبطه" ‪40‬‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية يتعلم الفرد وفق‬ ‫ّ‬
‫خاصــة‪ .‬ففي املجموعة‬ ‫وفي املحيط االجتماعي تسير األمور بطريقة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫طريقتين رئيسيتين مختلفتين‪ .‬األولى طريقة التربيــة عبر النــاس والثــانية التربيــة عبر املدرسة‪ .‬ولكل واحدة‬
‫ّ‬
‫االجتماعيــة فإن املثير الذي‬ ‫من هذه الطرق وسائل عملها وتقنيات تأثيرها‪ .‬فللحصول على نفس املشاعر‬
‫بالضـرورة مثير مباشر؛ ولنأخذ مثاال على ذلك‪ :‬يقول ديوي لنضرب مثال هو مثل‬ ‫النـييجة ليس ّ‬ ‫يقود إلى تلك ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصبي في قبيلة من املحاربين القدامى يولد فيري الجميع يعظمون ّ‬
‫والفتوة ويجلون السالح وال ينفكون‬ ‫القوة‬
‫عن التد ّرب وإتيان األعمال العسكرية في جميع مظاهر حياتهم‪ .‬إن طفال في مثل هذه القبيلة يبدأ بقبول‬
‫ويتجلـى ذلك بداية في العابة‪ ،‬حتى إذا ما كبر وبلغ ّ‬ ‫ّ‬
‫أشده كان في‬ ‫التأثير الذي تسلطه عليه مثل هذه البيئة‬
‫وضع حاسم أمام أفراد قبيلته‪ ،‬فهو إن حارب معهم صار مبجال وإن رفض الحرب صار محتقرا‪ .‬ولذلك لن‬
‫ّ‬
‫االجتماعيــة ملجموعته إذا ما شاء أن يحتل منزال‬ ‫التـماهي واكيساب العادات وامليوالت‬ ‫يجد هذا الفرد بدا من ّ‬
‫في سلم احترامها االجتماعي وذلك بان يقبل ويتقولب‪ ،‬ليكون محاربا منسجما مع نماذجها‪ .‬إن البيئة هي التي‬
‫جعلت منه محاربا‪ .‬ومنذ ذلك الحين يصير له نفس الهدف ونفس املثال الذي ملجموعته كما يصير لديه‬
‫‪ 37‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة ص ‪12‬‬
‫”‪“ Thus it gradually produces in him a certain system of behavior, a certain disposition of action‬‬
‫‪38 Environment‬‬
‫‪39 Social and Animal Environment‬‬

‫‪ 40‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪12‬‬


‫‪“ In brief, the environment consists of those conditions that promote or hinder, stimulate or inhibit, the‬‬
‫‪characteristic activities of a living being… just because life signifies not bare passive existence ( supposing‬‬
‫‪there is such a thing) but a way of acting, environment or medium signifies what enters into this activity as‬‬
‫”‪a sustaining or frustrating condition‬‬

‫‪23‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نفس املشاعر التي لديها‪ ،‬ونفس طريقة التفكير وتقنيات النشاط وردود الفعل والذكاء‪ ..‬إنه جزء منها صنعته‬
‫البيئة املحيطة به‪.‬‬
‫موسيقية‪ ،‬البد أن تتحرك فيه ميوله نحو‬ ‫ّ‬ ‫الصبي الذي ينشأ داخل أسرة‬ ‫ومثال آخر‪ ،‬هو مثال ّ‬
‫طبيعيــة أخري تفعل فيها بيئة مختلفة‪ .‬فمثل ذلك الصبي إذا صار ماهرا في هذا‬ ‫ّ‬ ‫املوسيقي أكثر من أي ميول‬
‫الفن صار املحيطون به يقدرونه ويعظمون من شأنه‪ ،‬أما إذا عزف عن هذا الفن صار املحيط يحط من‬
‫اإليجابيــة فيما هو ممكن‪ .‬إن الفرد دائما يبحث عن ذاته في‬ ‫ّ‬ ‫قدره‪ .‬وهو أمر يجعله حتما يبحث عن صورته‬
‫ّ‬
‫عيون اآلخرين‪ .‬وصورة الذات ال يمكن أن تكتمل إال إذا تمكنت من تمثل ما هو مطلوب منها بالضبط‬
‫ّ‬
‫وقدمته‪ .‬إن هذا التأثير االجتماعي هو الجنس األول من التربيــة وهو الجنس غير مباشر‪ .‬وال يمكن إلى حد‬
‫ّ‬ ‫هذا املستوى من ّ‬
‫التــحليل القول بأن املجتمع ُ"يعلم" بقدر ما يصح أنه بطريقته غير املباشرة ُ"ي ّربي"‪ .‬ومع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذا يظل لدينا كما يقول ديوي تميز أساس ي بين ّ‬
‫التعليم وبين التربيــة‪ ،‬وذلك ملا في التربيــة من جوانب غير‬
‫التعليم بداللته االصطناعية املوجهة‬ ‫مباشرة وأخرى ذات تأثير متداخل املصادر‪ ،‬تختلف فيها عن ّ‬
‫ّ‬ ‫عل ُم فقط بل وبدرجة أولى ّ‬ ‫ُ ّ‬
‫يربي ال شعوريا‪ ،‬حتى أن تأثيره التربوي غير‬ ‫ِّ‬ ‫واملؤسسة‪ .‬إن املحيط االجتماعي ال ي‬
‫التربيــة هو ميدان الحياة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرسمية ّ‬ ‫أشد بكثير من املؤسسة ّ‬ ‫املباشر ّ‬
‫العامــة‪ ،‬أما‬ ‫للتعليم‪ .‬وهكذا فإن ميدان‬
‫العامــة‪ ،‬إال أن املدرسة احتكرته بشكل‬ ‫التعليم باملعنى التقني للعبارة وإن كان أيضا يوجد في الحياة ّ‬ ‫ميدان ّ‬
‫أساس ي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫القصدية‪ .‬لكن البيئة‬ ‫تعليمية مصطنعة وهي تحاول تقديم التربيــة‬ ‫إن املدرسة بيئة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للحياة اليومية هي بيئة أصلية للحياة املشتركة‪ ،‬وتأثيرها التربوي غير مباشر وال قصدي‪ ،‬مع انه أشد تأثيرا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫القصدية‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫حص ي ديوي أربع تمظهرات أساسية لهذه التربيــة غير‬ ‫من أنجح املدارس بناء وهيكلة‪ .‬وي ِّ‬
‫ّ‬ ‫أوال‪ ،‬تكوين العادات اللغوية‪ ،‬إذ مصد ها اجتماعي‪ ،‬وكما يقول ّ‬
‫النــاس (والعبارة لديوي) فإن الطفل‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة أو تطورها لكن ال يمكنها أن تعوضها أو حتى أن تلغيها‪.‬‬ ‫يتعلم لغة ّأمه‪ .‬إن املدرسة تهذب اللــغة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬تذك َر حال األفراد حينما ينفعلون‬ ‫ويكفي حسب ديوي لتقدير حجم تجذر العادات اللغوية‬
‫األصليــة وسط ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النــاس‪ ،‬متناسين عن عمد أساليب‬ ‫االجتماعيــة اليومية‪ ،‬لغة حياتهم‬ ‫فيرتد سلوكهم إلى اللــغة‬
‫الحديث الرفيعة التي تعلموها‪.‬‬
‫أشد تأثيرا من النصيحة‪ .‬ومن هنا فإن‬ ‫االجتماعيــة‪ ،‬إذ ّأن القدوة كما نعلم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثانيا‪ ،‬تكوين العادات‬
‫التعليمية‪ .‬إن العادات‬ ‫االجتماعيــة تغرس في األفراد تعاليمها‪ ،‬على نحو أقوي من جميع الطرق ّ‬ ‫ّ‬ ‫املمارسة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة هي األخالق مصغرة حسب عبارة ديوي‪.‬‬
‫ثالثا‪ ،‬مجال الذوق وتقدير الجمال‪ ،‬وهنا يبدو تأثير الجماعة وأساليبها في تذوق الجمال الفني أو‬
‫ّ‬
‫الطبيعي في األفراد جليا‪ .‬فاملجتمع يخلق ما يشبه معيارا للذوق‪ ،‬ينيشر بين األفراد ويحافظ على استقرار‬
‫ّ‬
‫نسبي حتى يحين تغييره‪ .‬أما ما يتعلمه الفرد في املدرسة فهو عبارة عن أحكام غيره وليست أحكامه هو‪،‬‬
‫ولذلك يظل الفرق شاسعا بين ما نتعلمه عن نظريات الحكم الجمالي وبين ما نمارسه بأنفسنا من تذوق‬
‫حقيقي لجمال العمل ّ‬
‫الفني‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ل ّ‬ ‫ّ‬
‫األشياء من منظور‬ ‫رابعا‪ ،‬ما يتعلق بأحكام القيمة‪ ،‬إذ ّأن إنتاج أحكام قيمة تعمل على تقييم مناز‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬هو ما تنجزه املجموعة وتربي أفرادها عليه‪ .‬إن ما ال نفكر فيه عادة أي أن "‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واألهمية‬ ‫القيمة‬
‫ّ‬
‫تعين تفكيرنا الشعوري وتقرر النتائج التي نتوصل إليها‪ .‬وما‬ ‫املسلمات التي ال نناقشها وال نفكر فيها هي التي ّ‬
‫تكونت في أثناء تعاملنا الدائم مع ّ‬
‫النــاس‬ ‫هذه العادات التي تقع تحت مستوى التفكير إال العادات التي ّ‬
‫وعالقتنا بهم"‪41‬‬
‫الحقيقية هي التي ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تكون عبر تطوير‬ ‫وقصارى القول‪ ،‬إن النقل الجاف للمعلومات يعل ُم لكن التربيــة‬
‫ّ‬
‫وصقل العادات في تفاعلها مع املثيرات املوجودة في البيئة‪ .‬وعلى املدرسة لكي تصير ميدانا حقيقيا للتربية أن‬
‫ّ‬
‫االجتماعيــة فيهم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حقيقية للتأثير على األفراد بججم تأثير البيئة‬ ‫تطور ذاتها حتى تصير بيئة‬
‫التعليم التي يعهد بها إليها‪ّ .‬‬
‫ويعرف‬ ‫إن املجتمع الحديث يتوسل املد سة‪ ،‬على نحو مركزي ألداء وظيفة ّ‬
‫ر‬
‫ديوي هذه املؤسسة بالقول أنها "أسلوب خاص لالتصال االجتماعي"‪ 42‬فما هي مهام املدرسة من حيث هي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اجتماعيــة؟ وما مدي تأثيرها مقارنة بالتربيــة الغير مباشرة؟‬ ‫مؤسسة‬
‫السياق على املدرسة أن تضطلع بها‪ ،‬أوال أن تكون‬ ‫يعتبر ديوي أن هناك أربع مهام واضحة في هذا ّ‬
‫تبسط املعارف حتى يسهل فهمها ونقلها وتناقلها‪ ،‬واختيار ما هو مناسب لكل مرحلة تعليمية ثم ثانيا‬ ‫بيئة ّ‬
‫تحرر التالميذ من جميع مما هو غير مستحب اجتماعيا أي أن تكون صافية حتى ّ‬
‫تحقق‬ ‫نقية ّ‬ ‫أن تكون بيئة ّ‬
‫االجتماعيــة وفق املطلوب ايجابيا بمعنى أن تنتقي املدرسة من تراث املجتمعات ومنتجاتها‪ ،‬فقط ما‬ ‫ّ‬ ‫أهدافها‬
‫موضحا‪" :‬فكل مجتمع تثقله ترهات‬ ‫يؤثر في عادات و ميوالت األفراد على نحو ينمو بالحياة‪ .‬يقول هنا ديوي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املاض ي و متججراته الصريحة‪ ،‬وواجب املدرسة أن تجتث هذه األشياء من البيئة التي تخلقها‪ ،‬وبهذا تعمل‬
‫االجتماعيــة االعتيادية"‪ .43‬ثم ثالثا‪ ،‬إن مهمتها أن تكون بيئة تحمل‬ ‫ّ‬ ‫جهدها على معاكسة أثرها في البيئة‬
‫الطالب إلى آفاق إنسانية أوسع مما هو " جماعوي"‪ 44‬محدود‪ .‬ورابعا‪ ،‬إن مهمة املدرسة ردم ذلك التمزق‬
‫املمكن حصوله في نفسية الفرد بين تجاذبات البيئات املختلفة‪ :‬الشارع واألسرة والطائفة ّ‬
‫الد ّ‬
‫ينيـة واملصنع‪..‬‬
‫النـ ّ‬
‫ـفسية‪.‬‬ ‫الشخصيـة ّ‬
‫ّ‬ ‫وضمان وحدة‬
‫ّ‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬بمعنى أننا حينما نريد‬ ‫ومهما يكن الحال فإن املدرسة هي البيئة املصطنعة داخل البيئة‬
‫ّ‬
‫أن نربي علينا بداية تحضير البيئة التي تتكفل بتحقق أهداف التربيــة التي نريد بلوغها وهو ما يعبر عنه هذا‬

‫‪ 41‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪20‬‬


‫‪“ That the things which we take for granted without inquiry or reflection are just the things which determine‬‬
‫‪our conscious thinking and decide our conclusions. And these habitudes which lie below the level of‬‬
‫”‪reflection are just those which have been formed in the constant give and take of relationship with others‬‬
‫‪ 42‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة ص ‪21‬‬
‫”‪“ Special mode of social intercourse‬‬
‫‪ 43‬ديوي‪ :‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة ص ‪ 21‬ـ ‪22‬‬
‫‪« Every society gets encumbered with what is trivial , with dead wood from the past, and with what is‬‬
‫‪positively perverse. The school has the duty of omitting such things from the environment which it supplies,‬‬
‫‪and thereby doing what it can to counteract their influence in the ordinary social environment” John Dewey,‬‬
‫‪Democracy and Education, Chapter Two‬‬
‫‪ 44‬بمعنى مفرط في االنغالق حول مجموعته وحدودها الثقافيّة الضيّقة‪ .‬وعبارة جماعوي ‪ communautaire‬تعنى التمذهب في آراء وثقافة‬
‫المجموعة التي تكون جزء من هوية الفرد الثقافية‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصــة تقوم على أساس اختيار املواد‬ ‫املعنى لديوي «التربيــة املقصودة (املدرسة) ليست إال انتقاء بيئة‬
‫فإنــه في تصور ديوي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واألساليب التي تعمل بوجه خاص على تطور ّ‬
‫نمو الفرد في االتــجاه املطلوب"‪ 45‬وهكذا‬
‫ّ‬ ‫ال وجود ّ‬
‫لتربيــة خارج بيئة معينة‪ ،‬وإنما تكون التربيــة بالتفاعل مع عناصر البيئة‪ .‬وفي هذا اإلطار يقول " إننا‬
‫جدا بين أن ندع‬ ‫تربيــة غير مباشرة باللجوء إلى البيئة‪ .‬والفرق عظيم ّ‬ ‫تربيــة مباشرة أبدا‪ ،‬بل نربي ّ‬‫ال نربي ّ‬
‫بتربيــة النشء‪ ،‬وبين أن نصوغ نحن البيئات التي نريدها لتهذيبهم‪...‬فالبيت املثقف‬ ‫للبيئات املصادفة أن تقوم ّ‬
‫يمتاز عن البيت الجاهل بأن عادات الحياة والتعامل الشائعة فيه تكون متخيرة أو على األقل مصطبغة‬
‫نموذج البيئات التي ّ‬ ‫ّ‬
‫بالطبع ّ‬ ‫بفكرة أن لهذه العادات تأثيرا في ّ‬
‫تعدها‬ ‫نمو األطفال‪ .‬على أن املدارس مازالت‬
‫ّ‬
‫والخلقية"‪46‬‬ ‫الجماعة ّ‬
‫خاصــة‪ ،‬للتأثير في ميول أفرادها العقلية‬
‫ج ـ التربيــة بما هي نمو ‪Education as Growth‬‬
‫ّ‬
‫نظرا إلى طبيعتها التعاقدية الجامعة ألطراف مختلفين فان من أبرز شروط نجاح التربيــة املؤسسة‬
‫ّ‬ ‫الطفل‪ .‬فاملعطيات ّ‬ ‫ّ‬ ‫أو املدر ّ‬
‫األوليــة من انفعاالت فطرية‬ ‫النــفسية‬ ‫سيـة فهم طبيعة املستهدف منها وبها؛‬
‫طبيعيــة هي في الواقع ما يشكل مجموع ما يدخل‬ ‫ّ‬ ‫وميوالت وجدانية بدائية‪ 47‬واهتمامات عفوية ّ‬
‫وتحفزات‬
‫ألنها الخامات ّ‬ ‫ّ‬
‫الطبيعة ّ‬ ‫ّ‬
‫األوليــة التي ينبغي‬ ‫تحت مفهوم طبيعة الطفل‪ .‬وعلى البيئة التربويــة أال تتجاهل هذه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عليها أن تشكل منها اإلنسان املطلوب‪ .‬ومن هنا تأخذ التربيــة داللة تشكيل الطبيعة الفطرية للفرد‪ .‬ويأخذ‬
‫ّ‬ ‫املربي دور ّ‬
‫الفنان أو املبدع‪ .‬إن الطبيعة الفطرية للطفل ال يمكن أن تترك لحال سبيلها تيشكل كما شاءت‬
‫ّ‬ ‫وخاصــة في املجتمعات الحديثة التي لم تعد تعطي ّ‬ ‫ّ‬
‫أهمية للتربية غير‬ ‫بتأثير من صدفة األحداث وعوارضها‬

‫‪ 45‬ديوي‪ :‬الت ّربيــة والدّيمقراطية ‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة ص ‪40‬‬


‫‪“ Intentional education signifies, as we have already seen, a specially selected environment, the selection‬‬
‫”‪being made on the basis of materials and method specifically promoting growth in the desired direction‬‬
‫‪John Dewey, Democracy and Education, Chapter Three‬‬
‫‪ 46‬ديوي‪ :‬الت ّربيــة والدّيمقراطية ‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة ص ‪20‬‬
‫‪“We never educate directly, but indirectly by means of the environment. Whether we permit chance‬‬
‫‪environments to do the work, or whether we design environments for the purpose makes a great‬‬
‫‪difference…An intelligent home differs from an intelligent one chiefly in that the habits of life and‬‬
‫‪intercourse which prevail are chosen, or at least colored, by the thought of their bearing upon the‬‬
‫‪development of children. But schools remain, of course, the typical instance of environments framed with‬‬
‫‪express reference to influencing the mental and moral disposition of their members” John Dewey,‬‬
‫‪Democracy and Education, Chapter Two‬‬
‫طفل‪ ،‬والتي ينبغي على كل تر ّبيــة‬
‫األوليــة لدي ال ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ 47‬في الفصل الثّــاني من كتابه " المدرسة والمجتمع" يشتغل ديوي بعمق على أصناف االهتمامات‬
‫مدرسية أن تأخذها بعين االعتبار‪ .‬وينتهي ديوي من بحثه القائم على مالحظة سلوك األطفال ميدانيا‪ ،‬إلى استنتاج قائمة من أربعة أصناف من‬
‫االهتمامات لدي جميع األطفال‪ ،‬ينبغي محاولة االستفادة منها بيداغوجيا‪ ،‬يقول عنها ديوي‪:‬‬
‫‪« If we roughly classify the impulses which are available in the school, we may group them under four heads.‬‬
‫‪There is the social instinct of the children…then there is the instinct of making- the constructive‬‬
‫‪impulse…and so the expressive impulsive of the children , the art instinct grows also out of the‬‬
‫‪communicating and constructive instincts…Now, keeping in mind these fourfold interests- the interest in‬‬
‫‪conversation, or communication; and in artistic expression – we may say they are the natural resources, the‬‬
‫”…‪uninvested capital, upon the exercise of which depends the active growth of the child‬‬
‫‪John Dewey, The school and Society and the child and the curriculum, The university of Chicago Press,‬‬
‫‪Chicago& London, 2000, P 43,48‬‬
‫طفل أربعة‪ ،‬هي‪ 1 :‬الميل االجتماعي أي إلى المؤانسة والتعبير اللغوي ‪ 2‬االنتباه إلى األمور والسؤال عنها‬ ‫ئيسيـة أو الغريزّيـة‪ ،‬لدى ال ّ‬
‫الر ّ‬‫وهكذا فالميول ّ‬
‫الفنية والتعبير عنها في االبتكا ارت‪.‬‬
‫‪ 3‬الميل إلى اإلنشاء والتركيب ‪ 4‬النزوع إلى إظهار األفكار ّ‬

‫‪26‬‬
‫الطفل كالشجرة الصغيرة إذا تركت لذاتها في ّ‬ ‫ّ‬
‫البرية نمت أغصانها دون توجيه فتنحرف في جميع‬ ‫املباشرة‪ .‬إن‬
‫االتــجاهات وتتخذ أكثر الوضعيات شذوذا فيكون ذلك مضرا بالنبتة ّ‬ ‫ّ‬
‫بحد ذاتها‪ ،‬بدرجة أولى‪ ،‬وبجيرانها الذين‬
‫يقاسمونها نفس الفضاء الحيوي‪ ،‬بدرجة ثانية‪ .‬يقول ديوي لتأكيد هذا اليشبيه بين املربي والفنان‪" :‬فإذا ما‬
‫ّ‬ ‫ُ ْ ّ‬
‫سرت التربيــة هكذا فإنــها تكون بذلك قد وصلت إلى أكمل ما عرفه البشر من امتزاج واتحاد بين العلم‬ ‫ف‬
‫والفن"‪48‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن املربي كالبستاني يزرع ويهذب باستمرار آخذا بعين االعتبار معطيات أساسية هي كالعالمات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املحددة والهادية له في عمله‪ .‬ويمكن اختزال هذه املعطيات ّ‬ ‫ّ‬
‫للنمو في نظر ديوي في‬ ‫املحددة للتربية كعامل‬
‫النقاط التالية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫‪ /1‬إن عمليــة التربيــة وأغراضها ش يء واحد وأنه إذا حددنا غرضا خارجيا عن التربيــة نكون قد نزعنا‬
‫عنها كثيرا من معناها‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ /2‬إن التربيــة هي مشاركة للفرد في الشعور االجتماعي للجنس البشري‪.‬‬
‫‪ /3‬إن الفرد هو مجموعة من القوى ال يمكن فهم هذه القوى من أجل تربيتها إال في إطار اجتماعي أي‬
‫بمعرفة الغا ية منها والفائدة الحاصلة اجتماعيا من تنميتها‪ .‬وهكذا تييح لنا هذه املعرفة أن نطلق العنان‬
‫تكيفه وانسجامه مع البيئة‪.‬‬ ‫قوة في إطارها املناسب فنييح للفرد فرصة استخدامها على نحو يساعد ّ‬ ‫لكل ّ‬
‫الحية إلى ّ‬ ‫ينمو ويسعى ككل الكائنات ّ‬ ‫الطفل كائن حي ّ‬ ‫ّ‬
‫التكييف مع محيطه وكلما استخدمت‬ ‫‪ /4‬إن‬
‫أدوات محيطه االجتماعي في إثارة ميوله وتطوير حوافزه للعمل كلما كان ذلك في صالحه وصالح املجتمع‬
‫ككل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وخاصــة علم ّ‬
‫ّ‬
‫شخصيـة الطفل واختيار‬ ‫النــفس وعلم االجتماع يعيناننا في فهم‬ ‫‪ /5‬إن العلوم املعاصرة‬
‫التربيــة الصالحة واملناسبة ّ‬ ‫ّ‬
‫لنموه‪ .‬يقول ديوي في هذا املقام مؤكدا‪ " :‬يمكن أن تستغل املوارد ألغراض‬
‫ّ‬ ‫النــفس التي تزيد في علمنا بتكوين الفرد‪ ،‬وقوانين ّ‬ ‫بتقدم معا ف علم ّ‬ ‫التربيــة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وبتقدم علم االجتماع‬ ‫النمو‪،‬‬ ‫ر‬
‫التــنظيم االجتماعي الصحيح لألفراد"‪49‬‬ ‫وإضافته إلى معلوماتنا ما نجهله من ّ‬
‫ّ‬
‫تربوية ألن أقص ى مستطاعها‬ ‫التربيــة وال يمكنها أن تبني نظريات ّ‬ ‫غير أن هذه العلوم بح ّد ذاتها ليست‬
‫ّ‬ ‫هو أن ّ‬
‫تقدم لنا نصائح تربوية‪ ،‬نبني عليها مشاريعنا واستراتيجياتنا التربويــة‪ .‬ولذلك ليس من املشروع لنا أن‬
‫ّ‬ ‫والســبب بسيط ّ‬ ‫ننتظر منها‪ ،‬وضع برامج أو سياسات تربوية ّ‬
‫جدا وهو أن التربيــة ليست غرضا أوال في‬
‫اهتمامات هذه العلوم‪ ،‬بل غرضا ثانيا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويترتــب عن هذه املعطيات والشروط ّ‬
‫السابقة‪50‬أن التربيــة املدر ّ‬ ‫ّ‬
‫سيـة الحديثة تختلف بعمق عن‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫حي في أذهاننا مظهرين أساسين لها‪ ،‬هما‪ :‬أن مصدر‬ ‫التربيــة املدرسيـة التقليدية‪ .‬إن معنى التربيــة التقليدية ي ِّ‬
‫‪48‬ديوي‪ :‬الت ّربيــة في العصر الحديث‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪26‬‬
‫‪ 49‬ديوي‪ :‬ال ّتربيــة في العصر الحديث‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪26‬‬
‫محمد الجديدي أن مفهوم التّربيــة الحديثة عند ديوي وهو المرادف أيضا للتّربية ّ‬
‫التقدمية أو المتدرجة‪ ،‬يمكن أن ُيلخص في جملة من‬ ‫يري األستاذ ّ‬
‫‪50‬‬

‫محمد الجديدي في كتابه‬


‫األساسيــة‪ ،‬يقول ّ‬
‫ّ‬ ‫تقدم لنا النظرّيـة التّربويــة في خطوطها‬
‫العامة‪ ،‬ومن المهم أن نظفر بمثل هذه الخصائص التي ّ‬
‫الخصائص ّ‬
‫فلسفة الخبــرة‪ ،‬جون ديوي ّ‬
‫نموذجا‪ ،‬في الصفحة ‪ " 265‬بوجه عام‪ ،‬إذا أردنا تلخيص أهم أفكار ديوي التّربوية‪ ،‬فإننا نجدها تتمثّــل فيما يأتي‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫ّ‬
‫املعلومة الوحيد ومركزها هو املعلم وأن التلميذ كالوعاء الفارغ الذي يوجد في منحنى منخفض مقارنة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سلس ملضمون‬ ‫ٍ‬ ‫انسكاب‬
‫ٍ‬ ‫لضمان‬ ‫الطريق‬ ‫توفير‬ ‫هي‬ ‫حينئذ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫رب‬ ‫الت‬ ‫ن‬‫وتكو‬ ‫املربي‪،‬‬ ‫ـله‬ ‫ـ‬ ‫يمث‬ ‫بالوعاء املمتلئ الذي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الوعاء األول في الوعاء الثــاني‪ ،‬دون عوائق‪ .‬ويشترط هذا املبدأ األول مبدأ ثانيا‪ ،‬تعتبره التربيــة التقليدية أثيرا‬
‫ّ‬
‫عليها‪ ،‬وهو أن يحرص املعلم على نقاء معلوماته ودقتها وثرائها وموسوعيتها أكثر من حرصه بطرق نقلها أو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فالتربيــة ّ‬
‫التقليدية تجعل الطفل في الترتيب‬ ‫حتى فهم طبيعة اإلناء الذي عليه استقبال تلك املعارف‪ .‬وهكذا‬
‫التربيــة الحديثة أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نظريـة ديوي إلى الدرجة األولى‪.‬‬ ‫الثــاني من حيث أولوياتها‪ .‬في حين ترفعه‬
‫ّ‬ ‫التربيــة ّ‬‫ّ‬ ‫إن كل التبرير الذي ّ‬
‫التقليدية فلسفتها هو أن التربيــة هي في جوهرها ومبدأ وجودها‬ ‫تسوغ به‬
‫الطفل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتقدم إليها‬ ‫عمليــة إعداد الطفل للمستقبل وللحياة‪ .‬إن الحياة ليست لعبا ولهوا أو ترفا حتى نترك‬
‫يتزود به‪ .‬وهي ترى في هذا التبرير كفاية لتعتني بالتلقين وطرقه والعلم ومنابته واملعارف وشروحها‬ ‫دون زاد ّ‬
‫ّ‬
‫دون االهتمام بالطفل ذاته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لقد اعتبر ديوي من ناحيته أن التربيــة الحديثة هي أيضا ضرب من اإلعداد‪ .‬إعداد الطفل للمستقبل‪.‬‬
‫ّ‬
‫على شرط أن يفهم من ذلك ما يلي " ليس معنى إعداد الطفل للمستقبل سوى جعله قادرا على ضبط نفسه‬
‫وحتى تصبح جميع حواسه‬ ‫والسيطرة عليها‪ ،‬وتكوينه حتى يتمكن من استخدام جميع مواهبه وقواه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫مطاوعة له يستخدمها كما يشاء‪ ،‬وحتى يصبح حكمه سليما صحيحا قادرا على إدراك الظروف التي يعيش‬
‫التنفيذية العاملة مد ّربة بحيث تعمل باقتصاد ومهارة تامة‪ .‬وال يمكن الوصول إلى‬ ‫ّ‬ ‫ويعمل فيها‪ ،‬وتصبح قواه‬
‫النــوع من التوافق واالنسجام إال إذا عنينا بقوى الفرد وميوله وأذواقه‪ .‬أو بمعنى آخر يجب أن نسير‬ ‫هذا ّ‬
‫بالتربيــة دائما وفقا لحياة الفرد نفسه" ‪51‬‬ ‫ّ‬
‫مجرد تأويل جديد ملعنى سابق‪ ،‬كما جرت العادة في‬ ‫إن هذا املعنى الجديد لإلعداد للمستقبل ليس ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كثير من الحاالت في تاريخ األفكار‪ .‬وإنما هنا بالذات وفي هذا املعنى الجديد لوظيفة التربيــة يكمن عمق الثورة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التي حققها ديوي في مجال فلسفة التربيــة‪ .‬وال نعنى بذلك أنه قطع نهائيا مع كل ما هو تقليدي‪ .‬بل ألنه أعاد‬
‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬ ‫التقليدي واسيثمره ووضعه في ّاتــجاهه السليم‪ .‬لقد ّ‬ ‫فهم ّ‬
‫بحد ذاته‪ ،‬فتغيرت أهدافها‬ ‫غير معنى‬
‫الطفل غاية نصل إليها ثم صار منطلقا ننطلق منه‪ .‬وكان الفرد ُيف ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هم معزوال‬ ‫وتغيرت طرقها ووسائلها‪ .‬لقد كان‬
‫ّ‬
‫ولذاته فصار التعامل معه كعنصر في بنية ال يفهم إال في إطارها‪ ،‬وهنا بالذات يقول ديوي مفسرا عمق هذا‬
‫املعنى‪" :‬وقصارى القول أعتقد أن الفرد الذي يراد تربيته هو فرد اجتماعي‪ ،‬وأن املجتمع هو وحدة منظمة‬
‫ّ‬
‫من األفراد‪ .‬فإذا ما نزعنا العنصر االجتماعي من الطفل لم يبقى منه سوى مجموعة من الغرائز وامليول‬
‫النــاس وأفكار‬ ‫املجردة‪ ،‬وإذا نزعنا العامل الفردي من املجتمع لم يبقى به سوى مجموعة من ّ‬ ‫ّ‬
‫املعنوية ّ‬ ‫والقوى‬

‫االجتماعيــة‬
‫ّ‬ ‫‪ 1‬التّربيــة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبيئة‬

‫حياتية‪ ،‬قبل أن تكون ّ‬


‫عمليــة إعداد للمستقبل‬ ‫ّ‬ ‫عمليــة‬
‫‪ 2‬التّربيــة ّ‬
‫الفعالية‬
‫ّ‬ ‫‪ 3‬التّربيــة على صلة وثيقة بالعمل وبالجانب المهني وبمبدأ‬
‫الديمقراطية‬
‫‪ 4‬التّربيــة تتالزم مع ّ‬
‫النشر والتوزيع ـ بيروت لبنان ‪2004‬‬
‫الجامعية للدراسات و ّ‬
‫ّ‬ ‫محمد الجديدي‪ ،‬فلسفة الخبــرة جون ديوي ّ‬
‫نموذجا‪ ،‬المؤسسة‬ ‫د‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫‪ 51‬ديوي‪ :‬الت ّربيــة في العصر الحديث‪ ،‬التـرجمة العربيّــة‪ ،‬الجزء األول ص ‪18‬‬

‫‪28‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وقوانين ال حياة فيها‪ .‬فالتربيــة يجب أن تبدأ بدراسة نفسية‪ ،‬وفهم للطفل وقواه الطبيعيــة وميوله وعاداته‪.‬‬
‫جيدا وأن يكشف عنها للمربي كشفا صحيحا‪،‬‬ ‫وهذه القوى وامليول والعادات يجب أن يفهم كنهها فهما نفسيا ّ‬
‫ّ‬
‫االجتماعيــة "‪52‬‬ ‫كما يجب أن تدرك مراميها وتوضح أهدافها وما يمكنها تأديته من الخدمات‬
‫ّ‬
‫التربويــة عند ّ‬ ‫ّ‬
‫عدة مفاهيم سيكولوجية وفلسفية مركزية مثل‬ ‫يتوقــف ديوي في معرض شرحه لنظريته‬
‫ّ‬ ‫والنمو ّ‬ ‫ّ‬
‫والرغبــات واألهواء‪ .‬ويشترط من أجل إنجاز مشروع التربيــة الحديثة ضرورة الوعي‬ ‫امليل واالنفعاالت‬
‫ّ‬
‫بدالالت هذه املفاهيم بدقة‪ .‬وعلى هذا األساس نجده يعرض في مستويات سياقية متنوعة تعريفه لها‪ .‬فامليل‬
‫ّ‬
‫يمثــل التعبير ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياق ّ‬ ‫في ّ‬
‫األولى عن‬ ‫النــفس ي التربوي هو أعراض وعالمات للقوى النامية عند الطفل‪ .‬كما أنه‬
‫ويترتــب على مثل هذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التعريف اشتراط ضروري في مهنة املربي‬ ‫شخصيـة الطفل‪.‬‬ ‫القدرات اآلخذة بالظهور في‬
‫ّ‬ ‫وهو ضرو ة الوعي بهذا ّ‬
‫التعريف والعمل على مالحظته سلوكيا بدقة وتوجيهه وتنميته على النحو املفيد‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫والجيد ُ‬ ‫ّ‬
‫والحر للطفل‪ .‬والتربيــة الحديثة ال تكبت امليول وإنما توجهها وتسيثمرها يقول ديوي هنا‪ ":‬فإذا أنت‬
‫بالطفل إنسانا بالغا"‪53‬‬ ‫ّ‬
‫كبت امليل فكأنك أبدلت‬
‫ّ‬
‫العمليــة‪.‬‬ ‫يتعرض له في حياته‬ ‫داخلية ملا يفعله املرء أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫نفسية وانعكاسات‬ ‫ّ‬ ‫أما االنفعاالت فهي أصداء‬
‫جية الضرورّية‪ .‬واملربي الذي ال يأخذ‬ ‫وبالنـييجة فإن محاولة إثارة االنفعاالت تشترط إحداث املثيرات الخار ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حقيقية بقدر ما سينجح في إثارة أوهام انفعاالت‬ ‫بالجدية املطلوبة فإنــه لن ينجح في إثارة انفعاالت‬ ‫هذا األمر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حقيقية من املتعلم‪.‬‬ ‫في تالميذه‪ .‬وال يقوم الفعل التربوي الناجح والناجع إال عبر انفعاالت‬
‫ّ‬ ‫النمو فهو سلسلة من اللحظات املتتالية التي ّ‬ ‫وبالنسبة إلى ّ‬
‫يعرج عليها الطفل في سلوكه نحو النضج‪.‬‬
‫إنه حلقات تؤدي الواحدة منها إلى األخرى‪ ،‬ولكل منها أماراتها‪ .‬وينبغي على املربي أن يكون شديد الفراسة‬
‫النمو وال يقلبها أو يعكسها‬ ‫الدالة عليها في حينها‪ .‬فال يخلط بين مراحل ّ‬ ‫املحددة عبر املعطيات ّ‬ ‫فيعرف املرحلة ّ‬
‫وإنما يجاريها ويساعدها عل التفتح واالكتمال االيجابي‪.‬‬
‫النمو املختلفة وتوظيف التجارب املالئمة إلثارة االنفعاالت املطلوبة‬ ‫ّ‬ ‫إن احترام امليوالت في مراحل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التربيــة من بلوغ غايتها وفي اآلن نفسه ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫الشخصيـة وهي سيطرة‬ ‫األشد فتكا بتوازن‬ ‫يجنب األفراد املضار‬ ‫يمكن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الرغبــات املتقلبة واألهواء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يترتــب عن كل ما ّ‬ ‫ّ‬
‫تقدم ذكره أن التربيــة مناسبة للفرد كي يمارس فيها الحياة الحق‪ .‬وعليه فان مفهوم‬
‫ُ‬ ‫االجتماعيــة ّ‬
‫ّ‬
‫السـعيدة التي نريد أن نبلغ األفراد إليها عن طريق تربيتهم‪ ،‬تبدأ فعليا من األسرة أي الخلية‬ ‫الحياة‬
‫ّ‬
‫التربويــة األولى‪ .‬ولكنها ال تيبلور أو تمارس فعليا إال في املدرسة‪ .‬وهي باملناسبة عبارة عن مجتمع صغير‪ .‬أي أن‬
‫الديمقراطي الفعلي في نظر ديوي‪ .‬فليست املدرسة فضاء منقطعا عن‬ ‫نموذج صغير للمجتمع ّ‬ ‫املدرسة هي ّ‬
‫بيئته وإطاره االجتماعي كما يعتقد البعض‪ ،‬بل على العكس تماما‪ ،‬هي امتداد للعالم الخارجي‪ .‬وهنا نجد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنفسنا من جديد أمام ّ‬
‫التقليدية والتربيــة الحديثة فيما يتعلق بتصور كل منهما ملاهي ـة‬ ‫التـناقض بين‬
‫ّ‬ ‫فالتربيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫حقيقية مع الحياة الخارجية أو هكذا ينبغي‬ ‫التقليدية ترى أن املدرسة في قطيعة‬ ‫ووظيفة املدرسة‪.‬‬

‫‪ 52‬ديوي‪ :‬الت ّربيــة في العصر الحديث‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪18‬‬
‫‪ 53‬ديوي‪ :‬الت ّربيــة في العصر الحديث‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪24‬‬

‫‪29‬‬
‫الطفل بوسائل التفوق ّ‬ ‫ّ‬
‫والسيطرة على العالم الخارجي‪ .‬وفلسفتها هنا تكمن‬ ‫لها أن تكون‪ .‬على األقل لتزويد‬
‫في فكرتها القائلة بأنه للتفوق في العالم الخارجي ال بد من امتالك السيادة على العالم املعرفي الخاص الذي‬
‫الدنيـا حتى ندرك الحقيقة صافية‪ .‬ينبغي في لحظة‬ ‫تزودنا به املد سة‪ .‬فهي كلحظة هد أو مفا قة لعالم ّ‬ ‫ّ‬
‫ر‬ ‫ز‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واألساسيــة أن نقطع مع عالم املجتمع ألن املدرسة غرض لذاته وليس غرضا اجتماعيا في املرتبة‬ ‫التعلم األولى‬
‫األولى‪ .‬كما لو أن شرط القطيعة عن املجتمع هو بحد ذاته الطريق إلى التحكم به‪ .‬يعتبر ديوي واصفا هذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النموذج ّ‬
‫ّ‬
‫التقليدي للتربية‪ :‬بأن إخفاق كثير من التربيــة في الوقت الحاضر راجع إلى إهمالها املبدأ األساس ي‬
‫التقليدية ترى أن املدرسة مكان يلقن فيه التالميذ‬ ‫فالنظريـة ّ‬
‫ّ‬ ‫السابق‪ ،‬مبدأ جعل املدرسة مجتمعا صغيرا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫خاصــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫معلومات ّ‬
‫خاصــة‪ .‬وقيمة هذه املعلومات وهذه‬ ‫ويكونون فيه عادات‬ ‫معينة‪ ،‬ويتعلمون به دروسا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدروس وهذه العادات هي في أن التالميذ سينتفعون بها في املستقبل البعيد‪ ،‬فعلى الطفل إذا أن يتعلم هذه‬
‫العلوم ويؤدي هذه األعمال ال لذاتها‪ ،‬بل لش يء آخر سيعمله بعد‪ .‬فحياة املدرسة بهذا الوضع إنما هي لإلعداد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الواقعية‪ .‬وشرط قيام هذه التربيــة بواجباتها في اإلعداد‪،‬‬ ‫فحسب وليست جزءا من تجارب الطفل وحياته‬
‫كما الحظنا سابقا‪ ،‬هو اعتماد القطيعة أي االنكسار بين املعيش وبين املعرفي‪.‬‬
‫للتعليم أن تسمى ّ‬
‫تربيــة باملعنى‬ ‫التقليدية ّ‬
‫بحد ذاتها ال يمكن للمما سة ّ‬ ‫غير أنه لهذه االعتبا ات ّ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ّ‬
‫الصحيح‪ .54‬ذلك ألنه ينبغي على املدرسة حسب ديوي أن تكون قبل كل ش يء آخر‪ ،‬امتدادا للحياة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة الحق في مجتمع‬ ‫األساسيــة للمدرسة هي أن تربي الطفل على الحياة‬ ‫فاملهمة‬ ‫الفعليـة‪.‬‬ ‫االجتماعيــة‬
‫ّ‬
‫ديمقراطي‪ .‬وهي ال تبلغ مطالبها وتحقق رهاناتها إال حينما تكون في تواصل مع التربيــة العائلية ومع ما يحدث‬
‫فعليا في العالم االجتماعي خارج أسورها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫التقليدية وبين التربيــة الحديثة التي يتزعمها ديوي‪ ،‬يمكن‬ ‫من هذا املنطلق فإن الفرق بين‬
‫التقليدية إلى مزيد بناء أسوار املدرسة وتحصينها‪ ،‬حماية لها من‬ ‫تلخيصه في العبا ة التالية وهي‪ :‬بينما تدعو ّ‬
‫ر‬
‫الحياة الخارجية‪ ،‬تدعو التوجهات الحديثة إلى العكس تماما‪ ،‬أي إلى تقويض تلك األسوار وفتح جميع نوافذ‬
‫الحقيقية‪ .‬إن فلسفة التيار التجديدي الذي يتزعمه ديوي تكمن في هذه الفكرة وهي أن‬ ‫ّ‬ ‫املدرسة على الحياة‬
‫التربيــة من حيث تمكين األفراد من الحياة ّ‬ ‫ّ‬
‫السـعيدة في مجتمع ديمقراطي ال يتحقق إال حينما‬ ‫بلوغ أهداف‬
‫يمارس األطفال تلك الحياة ذاتها في املدرسة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليست حقيقة ّ‬
‫اإلنسانية في كونها ماهي ـة ثابتة‪ .‬فهذه الفكرة‬ ‫الشخصيـة‬ ‫النــفس أو الفرد أو الطفل أو‬
‫ّ‬
‫للشخصيـة‪ .‬ومعنى ذلك‬ ‫املثالية االختزالية يرفضها ديوي‪ .‬ويسيبدلها في املقابل بفكرة عن الطابع " البنائي"‬
‫ّ‬
‫أنه ال توجد طبيعة قبلية ثابتة في األفراد تعمل التربيــة على الحفاظ عليها أو على إزالتها وتعويضها بأخرى‪ .‬بل‬
‫تصب فيه‪ .‬إن ديوي يتحرك في‬ ‫ّ‬ ‫توجد استعدادات وقدرات كامنة قابلة ألن تيشكل بأي شكل للقالب الذي‬
‫اإلنسانية هي في مجموع الصفات‬ ‫ّ‬ ‫النــفس‬ ‫هذا املوضوع من خلفية تطورية واضحة تقض ي بان حقيقة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والطبائع واملواقف واألفكار التي تتكون وتتخلق بها في اإلطار االجتماعي أي في البيئة التي تحيطها‪.‬‬

‫‪ 54‬جون ديوي‪ :‬الت ّربيــة في العصر الحديث‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪19‬‬

‫‪30‬‬
‫النــفس يقول أمين مرس ي قنديل " ويري ديوي أن العقل نفسه قد نشأ‬ ‫النظريـة في ّ‬
‫ّ‬ ‫وفي إطار شرح هذه‬
‫وتطور في أثناء جهاد اإلنسان الطويل في سبيل املالءمة بينه وبين البيئة التي يعيش فيها أي أنه تطور في ميدان‬
‫نمو مستمر‪ ،‬وليس في نظره‪ ،‬سوى عضو من أعضاء اإلنسان‪ ،‬شأنه‬ ‫عمليــة ّ‬ ‫املحافظة على البقاء‪ .‬فالعقل ّ‬
‫والتـ ّ‬ ‫ّ‬
‫الطبيعة املفتوحة ّ‬ ‫ّ‬ ‫في ذلك شأن أي عضو آخر مثل اليد أو ّ‬
‫ـطورية‬ ‫الساق أو اللسان"‪ 55‬ونظرا إلى هذه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للنفس أو العقل فإن دور ووظيفة التربيــة تكمن في حمل الطفل على تطوير قدراته في اتــجاه اكيساب أفضل‬
‫السـعيدة‪ .‬يقول وليام‪.‬و‪.‬‬ ‫االجتماعيــة ّ‬
‫ّ‬ ‫تكيفا مع ما تقتضيه الحياة‬ ‫الصفات واألخالق واملالمح األكثر ّ‬
‫الر ّ‬
‫نلخص بها أفكار ديوي ّ‬ ‫ّ‬
‫ئيسيـة وفلسفته‪ ،‬هي أن نسيشهد‬ ‫بريكمان‪ "56‬ومن الطرق التي نستطيع أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بعقيدته التربوية ومذهبه الذي نادي به في عام ‪ 1894‬حين قال ‪ " :‬إنني أعتقد – أخيرا‪ -‬أن التربيــة ينبغي أن‬
‫عمليــة إعادة بناء الخبرات من جديد‪ ،‬بصفة دائمة مستمرة‪ ،‬وأن‬ ‫النــاس هو أنها ّ‬ ‫يكون مفهومها في أذهان ّ‬
‫التربيــة وهدفها التي تنشد تحقيقه‪ ،‬إنما هما في الحقيقة ش يء واحد"‪57‬‬ ‫ّ ّ‬
‫عمليــة‬
‫ّ‬ ‫التربيــة بهذا الفعل تحقق ّ‬ ‫ّ‬
‫الفرديــة باعتبارها تساعد قوى الفرد على التوجه الصحيح‬ ‫السعادة‬ ‫إن‬
‫تكون أفرادا متكيفين منسجمين‬ ‫حتى أقص ي درجة كمالها‪ ،‬وهي في اآلن نفسه تحقق الخير االجتماعي حينما ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مع ذواتهم ومع مجتمعهم ّ‬
‫املتحرك‪ .‬فالتربيــة بهذا املعنى سالح اجتماعي وسياس ي للخالص‪ .‬ولكن‬ ‫الديمقراطي‬
‫ينبغي أن نفهم من ذلك أنها ليست ترويضا قسريا للفرد من الخارج‪ ،‬بل هي فهم حقيقي لحاجاته وميوالته‬
‫الداخلية والعمل على احترامها ومساعدتها‪ .‬ومثل هذا التوجه في فكر ديوي يجعله في الوسط بين التلقائية‬
‫ّ‬
‫األفالطونية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫الالتوجيهية الروساوية وبين الوظيفية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العمليــة مثل أحجار ّ‬ ‫ّ‬ ‫تبدو ّ‬
‫النظريـة الحديثة في حين ال تحفل التربيــة‬ ‫الزاويــة في‬ ‫التـجربة والخبــرة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التقليدية بهما كثيرا وال ّ‬ ‫ّ‬
‫تقدر أدوارهما في الفعل التربوي حق قدره‪ .‬كما يبدو املجتمع والفرد في لوحة التربيــة‬
‫التقليدي من انفصالهما‬ ‫الحديثة هذه‪ ،‬متحدين متكاملين‪ ،‬تترابط مصالحهما وتنصهر على خالف االعتقاد ّ‬
‫والسياسة حقالن متماسان يقول ديوي هنا ّ‬ ‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫موضحا‪ ":‬إن‬ ‫وتعارض الطرق في خدمة كل منهما‪ .‬إن‬
‫ّ‬
‫التربيــة معناها إيجاد العقل املميز وخلقه‪ ،‬العقل الذي ال يقبل أن يخدع نفسه أو أن يخدعه اآلخرون‪( .‬بل‬
‫والرغبة في إقامة الدليل‪ ،‬والرجوع إلى املالحظة أكثر من‬ ‫الذي يمتلك) التريث في الحكم والشك في األمور‪ّ ،‬‬
‫والتحيز‪ ،‬وحب البحث واالستقصاء أكثر من‬ ‫ّ‬ ‫الرجوع إلى العاطفة واملناقشة‪ ،‬واإلقناع أكثر من املحاباة‬
‫العليا‪ .‬وإذا ما حدث ذلك فستصبح املدارس الحصون الخار ّ‬ ‫ّ‬
‫جية التي تدفع‬ ‫تمجيد التقاليد وجعلها املثل‬
‫ّ‬ ‫اإلنسانية‪ .‬نعم ستصبح كذلك‪ ،‬ولكنها ستصبح في غاية ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخطر عن ّ‬ ‫ّ‬
‫األهمية إذ بذلك تصبح التربيــة‬ ‫املدنية‬
‫والسياسة ش يء واحد"‪.58‬‬ ‫ّ‬

‫مقدمة ترجمته لكتاب جون ديوي‪ّ :‬‬


‫الحريــة والثقافة‪ ،‬المكتبة األنجلومصرية‪ ،‬القاهرة ‪1955‬‬ ‫أمين مرسي قنديل‪ّ :‬‬
‫‪55‬‬

‫أستاذ تاريخ التّربيــة‪ ،‬والتّربيــة المقارنة بجامعة بنسلفانيا‬ ‫‪56‬‬

‫ويليام ‪ .‬و‪ .‬بريكمان "جون ديوي حياته عمله وأثره في ميدان ال ّتربيــة وال ّتعليم" مقدمة لكتاب " مدارس المستقبل" لجون ديوي وإلفين ديوي‪،‬‬ ‫‪57‬‬

‫ترجمة عبد الفتّاح المنياوي‪ ،‬مكتبة النهضة المصرّية (دون تاريخ) ص ‪39‬‬
‫‪ 58‬جون ديوي‪ :‬التربة في العصر الحديث‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪161‬‬

‫‪31‬‬
‫وينشأ عن ذلك حينئذ أن يصير الفرد واملجتمع وجهين لعملة واحدة وتصير املعرفة والواقع طرفين‬
‫في جهاز واحد‪ ،‬والخبــرة والفكرة مادة واحدة إذا قلبتها بان لك وجهها األول وإذا أعدت تقليبها بان لك الوجه‬
‫ّ‬
‫الثــاني‪.‬‬

‫د ـ التربيــة بما هي كفاية ذاتيــة واجتماعيــة ‪Education as self and social‬‬


‫‪competence‬‬
‫إن املجتمع الحديث كما ينظر إليه ديوي‪ ،‬وكما هو مجسم تاريخيا في املجتمع األمريكي في بداية القرن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫متحرك ودينامكي ومتوثب إلى األمام باستمرار‪ .59‬وواجب التربيــة أن تييح للفرد أكبر‬ ‫العشرين‪ ،‬هو مجتمع‬
‫ّ‬
‫الخاصة‬ ‫حظ من التكيف مع هذه التحوالت بل واملساهمة الفاعلة فيها‪ .‬وهكذا فإن تنمية القدرات‬
‫ّ‬ ‫يمكن املجموعة في النهاية من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والتقدم هو واجب‬ ‫النمو إلى األمام‬ ‫بشخصية كل فرد داخل املجتمع على نحو‬
‫ّ‬
‫املجتمع‪ ،‬كل املجتمع‪ .‬ولن يأتي املجتمع واجبه ويوفيه حقه إال بالتربيــة‪.‬‬
‫الديمقراطي الحديث حقيقة أساسية‪ ،‬مفادها أنه‬ ‫لقد أفرزت التحوالت العميقة والسريعة للمجتمع ّ‬
‫الديمقراطي التي سوف‬ ‫ال يمكننا أن نعرف بدقة متناهية الوضع االجتماعي ود جة املعا ف والعلوم والنضج ّ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫يصير عليها املستقبل االجتماعي‪ .‬إذ ال أحد بإمكانه في ظل مجتمعات مفتوحة سائرة إلى األمام دون توقف‬
‫الدقــة يمكن أن نبني عليها نظاما تربويا ثابتا وصالحا للحاضر واملستقبل‪ .‬وقد‬ ‫يزودنا بمعلومات غاية في ّ‬‫أن ّ‬
‫الديمقراطية‪ ،‬والظروف الصناعية الحديثة‪ ،‬ال يمكن أن نتنبأ بما‬ ‫كتب ديوي في ‪ 1897‬يقول إنه «بظهور ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املدنية بعد عشرين سنة‪ .‬وعلى هذا فمن املستحيل إعداد الطفل لحياة وظروف وأحوال‬ ‫ستكون عليه‬
‫ليست معروفة على وجه التدقيق" ‪60‬‬

‫وإذا كان من املستحيل في جميع األحوال تمكين الفرد من وسائل ثابتة تنفعه باستمرار في ظل مجتمع‬
‫تعد‪ ،‬وأن ّ‬ ‫تكون‪ ،‬وأن ّ‬ ‫ّ‬
‫التربيــة األولى أن ّ‬
‫تجهز األفراد للقبول بهذا التحول‬ ‫متغير على الدوام فان من مهام‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والحل الذي تعمد إليه التربيــة الحديثة من أجل بلوغ هذا الهدف هو في أن تستهدف‬ ‫والتكيف معه‪.‬‬ ‫املستمر‬
‫في طموحها األقص ى تمكين األطفال من الكفايات األساسيــة للحياة‪ ،‬وليس املواد الجاهزة واملعلومات‬
‫ّ‬
‫النهائية‪ .‬والفرق بين الكفاية واملادة الجاهزة هو كالفرق بين طرق اإلنتاج واإلنتاج ذاته‪ .‬ولعلـه سوف يكون‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫األساسيــة أن نبرهن في األخير على أن جون ديوي هو األب الشرعي األول لفكرة الكفاية في‬ ‫من ثمرات بحثنا‬
‫التعليم والتكوين‪ ،‬الحديثين‪ ،‬وهما املفهومان األكثر استهالكا في البحوث‬ ‫البيداغوجيا و"طريقة املشروع" في ّ‬
‫ّ‬
‫البيداغوجيـة ّ‬
‫الراهــنة واألكثر التباسا في اآلن نفسه‪.‬‬

‫مر خالل بدايات القرن العشرين بأزمات سياسية واقتصادية مرتبطة بحاالت من‬
‫االجتماعيــة –التاريخية‪ ،‬فإن المجتمع األمريكي كان قد ّ‬
‫ّ‬ ‫الزاويــة‬
‫‪ 59‬من ّ‬
‫الفساد اإلداري والسياسي‪ .‬وقد دفع استفحال هذا األمر إلى ظهور حركة إصالحية ذات طابع سياسي خالص‪ ،‬تسمى نفسها ّ‬
‫التقدمية‪ .‬تهدف إلى إعادة‬
‫بالضـرورة انصهار ديوي ضمن هذا التيار السياسي‬
‫بناء اجتماعي جديد‪ .‬غير أن تطابق اسم هذه الحركة مع عنوان مشروع ديوي التّربوي‪ ،‬ال يعنى ّ‬
‫اإلصالحي‪ .‬ولكن يهمنا أن نعرف أن المجتمع األمريكي كان في تلك الفترة في حاجة إلى إعادة تنظيم ودفع جديد يعيد إليه مستوى االزدهار العالي‬
‫األهلية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وخاصــة بعد الحرب‬
‫ّ‬ ‫الذي عرفه خالل نهاية القرن التاسع عشر‬
‫‪ 60‬جوزيف راتنر‪ :‬مقدمة كتاب‪ :‬ال ّتربيــة في العصر الحديث‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬ص ‪12‬‬

‫‪32‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التربيــة في عالقة مباشرة ّ‬‫ّ‬
‫األساسيــة‪ .‬فحياة املجتمع‬ ‫االجتماعية‪ .‬بل ولعلـها ضمانتها‬ ‫بالديمقراطية‬ ‫إن‬
‫للسلوك والتعامل‪ ،‬تتجلى فيما نطلق عليه بصفة‬ ‫الديمقراطي تنتظم حول جملة من املواثيق والقواعد ّ‬ ‫ّ‬
‫عامة النظام االجتماعي بعاداته وتقاليده‪ .‬ومن هنا فان ضمان استمرار ذلك النظام وتنميته يكون عبر تعويد‬
‫ّ‬
‫املنجرة على عدم‬ ‫تذوق حالوة ثمراته وحثهم على الوعي باآلالم‬ ‫النــاس عليه منذ الطفولة وتمكينهم من ّ‬ ‫ّ‬
‫فالتربيــة تختلف من مجتمع إلى آخر بحسب النظام ّ‬ ‫ّ‬
‫السياس ي‬ ‫الحرص على حمايته وتطويره باستمرار‪.‬‬
‫الديمقراطية واالسيبدادية‪ ،‬ليكشف أن‬ ‫واالجتماعي السائد بها‪ُ .‬ويسهب ديوي في املقا نة بين املجتمعات ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هذا التباين ينعكس في النظام التربوي وفي غاياته ومضامينه‪ .‬وهكذا يبدو أن التربيــة في تصور ديوي ليست‬
‫والسياس ي فحسب وإنما هي من يوجد ذلك النظام في األصل‪ .‬يقول ديوي هنا مؤكدا‪:‬‬ ‫نييجة النظام االجتماعي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫" إن مشكلة ّ‬
‫الفرديــة التي تجعل صاحبها‬ ‫الديمقراطية التي لم تحل بعد إنما هي إيجاد نوع من التربيــة ينش ئ‬
‫االجتماعيــة املشتركة‪ ،‬ومخلصا وعامال على صيانتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫النــاس في حياتهم‬‫عا فا ومتنبها للروابط التي تربط ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فالتربيــة كما نفهمها ال تستدعي أي تعارض بين ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة عليه‪ ،‬والتربيــة التي نريدها هي‬ ‫نمو الفرد والرقابة‬
‫ّ‬
‫االجتماعيــة ونظمها‪ ،‬عن فهم‬ ‫الديمقراطية‬ ‫التي تساعد على كشف وتكوين األفراد الذين يتقبلون أفكار ّ‬
‫وتقدير‪ ،‬وينقلونها إلى من هم بعدهم من األجيال"‪61‬‬

‫التربية طريق الفيلسوف لتحقيق أفكاره‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفلسفيــة‪ .‬ولكن فوق هذا هي ميدان‬ ‫يعتبر جون ديوي أن التربيــة هي الطريق إلى تطبيق األفكار‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اختبا ها وفضاء تعديلها املستمر‪ .‬بل إن جون ديوي يأخذنا إلى ّ‬
‫الفلسفيــة‬ ‫حد اإلقرار بأن التربيــة هي األفكار‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حاج ُج هنا بأن الفعل التربوي هو فعل اجتماعي باألساس يهدف إلى خلق التــطور والتالؤم املطلوب‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ذاتها‪ .‬وي ِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التحقق‪ .‬يقول جون ديوي في‬ ‫ويترتــب عن ذلك بداهة أن تكون التربيــة هي مادة الفلسفة عينها وطريقتها في‬
‫ّ‬
‫تؤدي إلى تبديل في العمل التربوي ال ّبد أن تكون‬ ‫نظريـة فلسفية ال ّ‬ ‫السياق‪" :‬وفي الحق فإن كل ّ‬ ‫هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفلسفيــة عبر التاريخ وبين تأملنا للقضايا‬ ‫مصطنعة"‪ 62‬واألهم من ذلك يربط ديوي بين فهمنا للنـظريات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفلسفيــة‬ ‫واملشاغل التربويــة التي كانت سائدة حينها‪ .‬فهذه األخيرة تشير إلى األولى‪ .‬ذلك أن ظهور األفكار‬
‫التربيــة تؤشر على األفكار الفلس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فيــة وطبيعتها‪.‬‬ ‫ونموها وامتحانها وقبولها أو رفضها ال يكون إال في التربيــة‪ .‬إن‬
‫التربيــة هي التي تدفع إلى خلق أفكار فلسفية جديدة‪ ،‬بعد أن تكون قد امتحنت األفكار ّ‬ ‫ّ‬
‫السابقة‪،‬‬ ‫كما أن‬
‫فتنتخب ما كان أجدر للصالح االجتماعي وتلقى ما لم يكن كذلك‪.‬‬
‫إن هذا الترابط والتداخل بين التربوي والفلسفي دفع بجون ديوي إلى حد اإلعالن عن تماهيهما التام‪،‬‬
‫حيث يقول مفسرا ‪" :‬وإذا رضينا بفهم التربيــة على أنها عمليــة تكوين النزعات األساسيــة الفكرية‬
‫والعاطفية في اإلنسان تجاه الطبيعة وأخيه اإلنسان‪ ،‬لم نخش ى حينئذ من تعريف الفلسفة بأنها‬
‫النظريـة العامــة للتربية" ‪ 63‬ثم يضيف مؤكدا ‪" :‬وإذن فأشد التعاريف نفاذا إلى معنى الفلسفة هو أنها‬

‫‪ 61‬جون ديوي‪ :‬الت ّربيــة في العصر الحديث‪ ،‬التّـرجمة العربيّــة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪142‬‬
‫‪ 62‬ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪340‬‬
‫”‪“ If a theory makes no difference in educational endeavor, it must be artificial‬‬
‫‪ 63‬ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪{ 340‬التسطير من الفيلسوف}‬

‫‪33‬‬
‫نظريـة للتربية من حيث نواحيها وخططها العامة" ثم يختم مستنتجا في آخرجملة من الفصل الرابع‬
‫والعشرين‪ ":‬وملا كانت التربيــة هي العمليــة التي بها يتم إحداث هذا التغييراملنشود بحيث ال يبقى مجرد‬
‫نظريـة ملا نرغب فيه ونبتغيه‪ ،‬فإن ذلك يسوغ ما قلناه من قبل من أن الفلسفة هي نظريـة للتربية من‬
‫حيث هي عمليــة مقصودة"‬

‫ّ‬
‫االجتماعيــة فحسب‪ ،‬بقدر ما‬ ‫مجرد تحليل للظواهر‬ ‫يبدو جليا إذن‪ ،‬أن الفلسفة عند ديوي ليست ّ‬
‫ّ‬
‫هي تشريع للقيم ولخط املسار االجتماعي عبر التربية ‪ .Education‬وعلى هذا األساس فإنــها في خدمة املجتمع‬
‫شأنها شأن العلوم الحديثة‪ .‬إنهما صناعة حديثة‪ ،‬فالفلسفة الحديثة والعلوم الحديثة‪ ،‬هما تلبية ملطالب‬
‫املجتمع الحديث‪.64‬‬
‫قصة ّ‬ ‫والتربيــة يستعيد جون ديوي ّ‬ ‫ّ‬
‫الصـورة الذي‬ ‫وللبرهنة على هذا الترابط الوثيق بين الفلسفة‬
‫ّ‬
‫ظهرت بها الفلسفة ّأول أمرها‪ ،‬واملواضيع التي تعلقت بها بادئ األمر لدى اإلغريق‪ .‬فيؤكد أن البداية كانت‬
‫ّ‬ ‫تكون األشياء ّ‬
‫الطبيعة أي حول أصل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وتغيرها وكان ذلك مع الفالسفة الطبيعيين‪.‬‬ ‫حينما طـرح السؤال حول‬
‫والثورية آنذاك السفسطائيين‪ ،‬فحاولوا تقليدهم بتطبيق طرق‬ ‫ّ‬ ‫ثم ألهمت طرق بحثهم وأساليبهم العقالن ّيــة‬
‫وسع‬‫السلوك اإلنساني كموضوع الفضيلة أو أنظمة الحكم‪ .‬ثم ّ‬ ‫تفلسفهم ونتائجها على مجال ّ‬
‫السـعي إلى تعليم فلسفتهم في أوروبا‪ .‬وهكذا كان تعليم هذه القضايا‬‫السفسطائيون من عملهم عبر محاولة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البيداغوجية فكان اهتمام السفسطائيين بالتربيــة مبررا منذ أول أمره ومميزا‪.‬‬ ‫يقتض ي اهتماما بالوسيلة‬

‫‪“if we are willing to conceive education as the process of forming fundamental dispositions, intellectual and‬‬
‫‪emotional, toward nature and fellow men. Philosophy may even be defined as the general theory of‬‬
‫”‪education‬‬
‫يائيــة والتقنية بلغت‬
‫على أنه ينبغي أن نفهم‪ ،‬أن هذا التحايث التاريخي‪ ،‬ال يعنى بأي حال بلوغهما نفس الدرجة من التّــطور‪ .‬فالعلوم الفيز ّ‬
‫‪64‬‬

‫التقدم في ميدان تخصصاتها‪ ،‬ال تضاهيها أية معرفة إنسانية أخرى‪ .‬وقد ترك هذا األمر عينه للفلسفة مهمة عظيمة‪ ،‬ينبغي أن تنجزها‪.‬‬ ‫درجة من ّ‬
‫ويتمثل دور الفلسفة أساسا في نقد القيم والعادات والمثل ماقبل العلم ّـيـة والمتحكمة بنمط تصورنا عن الحياة والسعادة والخير النهائي‪ .‬إن اإلنسان‬
‫النــاس ال يزالون في درجة وعيهم‬
‫الرهــن أن أغلب ّ‬
‫الحديث بحاجة إلى فلسفة قيم وأخالق تناسب عصر العلوم الحديثة‪ .‬ولكن المالحظ في الوقت ّا‬
‫النقدية‪ ،‬مساعدة الوعي األخالقي المعاصر على نقد مفاهيمه القديمة‬
‫ّ‬ ‫األخالقي‪ ،‬يعيشون ثقافة وفلسفة ما قبل العلم‪ .‬ومهمة الفلسفة بفضل أداتها‬
‫المهمة هي التي يسميها ديوي "بالتّجديد الفلسفي"‪ .‬تجديد تصل بمقتضاه الفلسفة إلى نفس درجة‬
‫ّ‬ ‫وتبديلها بما يتناسب والوضع العلمي الحديث‪ .‬وهذه‬
‫ّ‬
‫وظيفية ‪ fonctionnalité‬العلم‪ ،‬في الحياة الحديثة‪.‬‬
‫ّ‬
‫طاب الفلسفي أن يكون في‬ ‫العلمي في المجتمع الحديث‪ ،‬فإن هذا الوضع حكم على الخ ّ‬ ‫السير المتوازي للخطابين الفلسفي و‬
‫وبناء على هذا ّ‬
‫ّ‬
‫المتخصصة ذات المعنى الوضعي‬‫ّ‬ ‫طاب العلمي‪ :‬يحاوره نقديا وفي اآلن نفسه ُيثري نفسه من عالقته به‪ .‬فلما كانت العلوم‬
‫عالقة جوار وتفاعل مع الخ ّ‬
‫ّ‬
‫تقدمها العلوم‬ ‫فإنــه يكون من أوكد ّ‬
‫مهمات الفلسفة حينها القيام بأمرين‪ ،‬األول‪ :‬نقد القيم التي ّ‬ ‫قد ُوجدت في األصل لتحقيق أهداف المجتمع الحديث‪ّ ،‬‬
‫المعاصرة وتمييز تلك التي صارت منها بالية وكشف ما كان من تلك القيم غير قابل للتحقيق‪ .‬ال ّثــاني هو‪ :‬تفسير وبيان أثار نتائج العلوم المتخصصة‬
‫السلوك االجتماعي في المستقبل‪.‬‬
‫على ّ‬
‫المبدئية ال يمكن للفلسفة أن تضطلع بها كما هو مطلوب منها إال في إطار عالقتها بالتّربيــة‪ .‬فالفالسفة ال يتوفرون‬
‫ّ‬ ‫المهمات‬
‫ّ‬ ‫غير أن هذه‬
‫مجسما في القيم جاهزا‪ .‬يقول جون ديوي‪" :‬فإذا كانت العلوم في الفنون‬ ‫على مصباح عالء الدين السحري لتطبيق نظرياتهم ِ‬
‫‪64‬‬
‫وليجدوا ما أنشأوه بالفكر ّ‬
‫َ‬
‫معينة‪ ،‬فكذلك الفلسفة في فنون التّربيــة تستطيع استنباط الوسائل الستخدام قوى‬
‫األشياء ابتغاء استخدام قواها ألهداف ّ‬ ‫اآللية عبارة عن أساليب إلدارة ّ‬
‫ّ‬
‫‪64‬‬
‫الفلسفيــة وتُمتحن"‬
‫ّ‬ ‫األفكار‬ ‫عنه‬ ‫تتجسم‬ ‫الذي‬ ‫المختبر‬ ‫هي‬ ‫حينئذ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬‫ب‬‫ر‬‫ّ‬‫الت‬
‫و‬ ‫الحياة‪.‬‬ ‫حول‬ ‫األفكار‬ ‫من‬ ‫ي‬ ‫الجد‬
‫ّ‬ ‫التفكير‬ ‫به‬ ‫يوحي‬ ‫لما‬ ‫وفقا‬ ‫البشر‬

‫‪34‬‬
‫السياسة وإدارة املدينة‬ ‫في البداية كانت مناهجهم مقترنة برغبة تعليم نظرياتهم في الفضيلة وفنون ّ‬
‫ّ‬
‫املحورية األولى التي‬ ‫والبيت‪ .‬ثم بدأت دائرة القضايا تيسع باستمرار‪ .‬ويمكن أن نتصور كيف انبثقت األسئلة‬
‫ّ‬ ‫تفرعت عنها جميع األسئلة األخرى ّ‬ ‫ّ‬
‫فكأن سؤال‪ :‬هل يمكن تعلم الفضيلة؟ قد قاد ضرورة إلى سؤال‪ :‬ولكن‬
‫ّ‬
‫ما التعلم قبل ذلك؟‬
‫ثم كان الجواب إنه ش يء مرتبط باملعرفة‪ .‬ولكن ما هي املعرفة؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟ هل‬
‫بالحواس نبلغها أم بلزوم الشيخ في كل فن؟ أم على العكس تكون املعرفة بالعقل الذي سبق تدريبه باملنطق؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ثم ملا كان التعل م يعنى امتالك املعرفة كان ذلك يعنى االنتقال من الجهل إلى املعرفة كما كان يعنى‬
‫ُ‬
‫االنتقال من الحرمان إلى االمتالء‪ ،‬ومن النقص إلى الكمال ومن العدم إلى الوجود‪ .‬وفي هذا املستوى طرح‬
‫التغير والحركة ممكنان؟‬ ‫سؤال جديد هو‪ :‬كيف يمكن ضمان هذا االنتقال؟ وهل التفكير ممكن إذا لم يكن ّ‬
‫ثم ما عالقة املعرفة بالكمال أو بالفضيلة؟‬
‫ّ‬
‫اليونانية ولدت مشكلة العالقة بين ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن هذا ّ‬
‫النظر‬ ‫النــوع األخير من األسئلة التي شغلت الفلسفة‬
‫والفعل أو بين العقل والعمل‪ .‬وتمت صياغتها على النحو التالي‪ :‬إذا كانت الفضيلة ّ‬
‫عمليــة فما هي عالقتها‬
‫يترتــب على ذلك أن يكون نشاطه‪ ،‬وهو نشاط ّ‬ ‫ّ‬
‫التــأمل‬ ‫بالعقل؟ وإذا كان العقل أسمى شيئا في اإلنسان أال‬
‫النظري الخالص‪ ،‬أشرف األعمال وأسماها؟‬ ‫ّ‬
‫التــأمل ويسمو‬ ‫النظر الفلسفي فيها أسئلة أعمق من قبيل‪ :‬هل يرقى ّ‬ ‫اإلشكاليــة‪ ،‬حتى بلغ ّ‬
‫ّ‬ ‫ثم نمت هذه‬
‫التــأمل‬ ‫السياسية مثل املواطنة أو حسن الجوار؟ أم على العكس إن ّ‬ ‫عيــة أو ّ‬
‫على بعض الفضائل االجتما ّ‬
‫النظري الخالص مفسدة ألخالق املرء؟‬ ‫ّ‬
‫اإلغريقية األولى‪ ،‬وجود ارتباط دائم بين موضوعات التفكير وطرق‬ ‫ّ‬ ‫حد هذه االنشغاالت‬ ‫ونالحظ إلى ّ‬
‫التفكير‪ .‬أو بين موضوعات الفلسفة وبين بيداغوجيا تعليمها‪.‬‬
‫ّ‬
‫الفلسفيــة بأصلها التربوي ّ‬
‫ّ‬
‫ويفسره جون ديوي‬ ‫ثم حدث أمر بعد ذلك قطع صلة هذه املوضوعات‬
‫ّ‬ ‫بأن هذه املوضوعات صارت ُتبحث لذاتها وليس في إطار إمكانية تعليمها أو ّ‬
‫كيفيته‪ .‬فاتخذت الفلسفة منحى‬
‫ّ‬
‫نظريا أكثر فأكثر‪ ،‬حتى ُنس َي في مجرى تطورها أنها قبل كل ش يء هي تفكير في التربيــة‪ .‬وهو ما يسوقه جون‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ديوي في املعنى التالي‪ :‬كون التفكير الفلسفي األوروبي في مبدأ نشأته ّ‬
‫نظريـة للعمل التربوي هو بذاته أبلغ‬
‫ّ‬
‫شاهد على ما بين الفلسفة والتربيــة من عالقة وثيقة‪.‬‬
‫امتدت ّ‬ ‫التربيــة هي بذ ة شجرة الفلسفة‪ ،‬التي ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫وتفرعت عنها جميع ألوان‬ ‫ر‬ ‫هكذا رأينا كيف كانت قضية‬
‫ّ‬
‫الخطاب الفلسفي األخرى‪ .‬وصارت فروعها كثيرة‪ ،‬منها ما يتعلق ّ‬ ‫ّ‬
‫بالسياسة وأخرى باملنطق وأخرى‬ ‫وقضايا‬
‫ّ‬ ‫باالقتصاد وأخرى بالجمال وأخرى باألخالق حتى بات من الضروري اليوم اليساؤل ّ‬
‫عما يميز فلسفة التربيــة‬
‫ّ‬
‫حصريا؟‬
‫ت ‪ -‬ما فلسفة التربية؟‬
‫ّ‬ ‫يجيب جون ديوي عن هذه ّ‬
‫املسألة راسما حدود خريطة فلسفة التربيــة بالقول‪ ":‬ليست "فلسفة‬
‫ّ‬
‫التربيــة" تطبيقا خارجيا ألفكار جاهزة‪ ،‬على نظام عملي ذي أهداف وأصول مختلفة عنها تمام االختالف‪،‬‬
‫‪35‬‬
‫ّ‬
‫والخلقية املثلى‪ ،‬من وجهة‬ ‫ّ‬
‫العقلية‬ ‫ولكنها صوغ صريح للمشاكل التي تعرض لنا حينما نريد تكوين العادات‬ ‫ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫نظريـة للتربية من‬ ‫فأشد التعاريف نفاذا إلى معنى الفلسفة هو أنها‬ ‫ما في الحياة املعاصرة من صعاب‪ .‬وإذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العامة"‪ 65‬وفي سياق آخر يقول جون ديوي‪" :‬إن فلسفة التربيــة كأي ّ‬ ‫حيث نواحيها وخططها ّ‬
‫نظريـة البد أن‬
‫ّ‬
‫تصاغ في كلمات‪ ،‬أي في رموز‪ .‬ولكنها مادامت أكثر من أن تكون ألفاظا‪ ،‬فهي خطة لتوجيه التربيــة‪ .‬وهذه‪ ،‬كأية‬
‫عمل والطريقة التي يجب أن ُيعمل بها"‪66‬‬ ‫شك َل بشكل يتفق مع ما يجب أن ُي َ‬ ‫ّ ُ ّ‬ ‫ّ‬
‫خطة‪ ،‬البد أن ت‬
‫ّ‬
‫لكن أين تكمن حاجة املجتمع الحديث إلى فلسفة جديدة للتربية تحديدا؟‬
‫ّ‬
‫يؤكد ديوي أن الحاجة إلى تطوير التربيــة وإصالحها يسير جنبا إلى جنب مع الحاجة املتزايدة إلى تطوير‬
‫ويبرر ديوي هذا األمر بالتأكيد أن ما شهده املجتمع الحديث من‬ ‫التقليدية‪ّ .‬‬‫الفلسفة والقطع مع األفكار ّ‬
‫التحوالت‬ ‫التقليدي‪ .‬وهذه ّ‬ ‫تحوالت كان ئيسيا وفا قا‪ .‬حتى أن هذه األحداث جعلته يختلف كليا عن املجتمع ّ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫الصناعية من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العميقة يمكن تلخيصها في أمرين أساسين هما‪ :‬الديمقراطية من ناحية والثورة‬
‫لقد كانت هذه األحداث من العمق األمر الذي دفعها إلى جعل هذا املجتمع الحديث يختلف في حركة‬
‫ّ‬ ‫ئيسيـة‪ ،‬عن املجتمع ّ‬
‫التقليدي‪ .‬فترتـب على ذلك والدة خبرات جديدة في عالقة ا ّلنــاس‬ ‫الر ّ‬
‫سيره‪ ،‬وفي قضاياه ّ‬
‫والفيزيائيــة‪ ،‬مختلفة تماما عن خبرات املاض ي وفلسفاته‪ .‬ومثل هذا الوضع املستجد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫بالبيئتين‬
‫حد سواء‪ .‬فلإلنصات ّ‬ ‫ّ‬
‫نوعية في الفلسفة والتربيــة على ّ‬ ‫تاريخيا يفرض تحوالت ّ‬
‫جيدا إلى مشاغل املجتمع‬
‫الحديث يقتض ي األمر فلسفة جديدة تفكر ولكن بأساليب وتقنيات جديدة مستفيدة من ثورة العلوم‬
‫الوضعية‪ ،‬ثم في مرحلة ثانية ولتحقيق تلك الفلسفة ينبغي أوال البدء بإصالح تربوي ال يقل عمقا عن‬
‫ّ‬
‫اإلصالح الفلسفي ذاته‪ .‬وهكذا تترابط الحلقتان جدليا‪ :‬إصالح فلسفي ال يقوم دون إصالح تربوي وإصالح‬
‫موضحا‪" :‬ومثل هذه التحوالت ال يمكن‬ ‫السياق ّ‬ ‫تربوي ال يقوم دون إصالح فلسفي‪ .‬يقول جون ديوي في هذا ّ‬
‫ّ‬
‫أن تحدث دون أن تتطلب إصالحا تربويا يرافقها‪ ،‬ومن دون أن تدفع الرجال إلى اليساؤل عن األفكار واملثل‬
‫املوروثة عن الثقافات القديمة املخالفة لثقافتنا الحاضرة" ‪67‬‬

‫‪65‬ديوي‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪“342‬‬


‫‪“ philosophy of education” is not an external application of ready-made ideas to a system of practice having‬‬
‫‪a radically different origin and purpose: its only an explicit formulation of the problems of the formation of‬‬
‫‪right mental and more habitudes in respect to the difficulties of contemporary social life. The most‬‬
‫‪penetrating definition of philosophy which can be given is, then, that it is the theory of education in its most‬‬
‫”‪general phases‬‬
‫‪ 66‬جون ديوي‪ ،‬الخبــرة والت ّربيــة‪ ،‬ترجمة محمد بسيوني ويوسف الح ّمادي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر ‪ 1954‬ص ‪24‬‬
‫‪“ A philosophy of education, like any theory, has to be stated in words, in symbols. But so far as it more than‬‬
‫‪verbal it is a plan for conducting education. Like any plan, it must be framed with reference to what is to be‬‬
‫‪done and how it is to be done” ( John Dewey, Experience and education, Touchstone Book ,First Touchstone‬‬
‫)‪Edition, New York 1997, P 28‬‬
‫‪ 67‬ديوي‪ :‬المصدر السابق ص ‪343‬‬
‫‪« Such practical changes cannot take place without demanding an educational reformation to meet them,‬‬
‫‪and without leading men to ask what ideas and ideals are implicit in these social changes, and what revisions‬‬
‫”‪they require of the ideas and ideals which are inherited from older and unlike cultures‬‬

‫‪36‬‬
‫القسم الثاني‬

‫غايات التربية وأهدافها؛ سجال الفكرالتربوي التطبيقي الحديث‬


‫أ‪ -‬جون جاك روسو‬
‫ب‪ -‬بيستالوزي‬
‫ت‪ -‬فروبل‬
‫ث‪ -‬منتسوري‬
‫ج‪ -‬جون ديوي‬

‫ّ‬
‫التربيــة بمعزل عن ّ‬ ‫ال توجد ّ‬
‫السياقات التاريخية سواء تلك التي عاصرتها‪ ،‬أو‬ ‫نظريـة في الفلسفة أو في‬
‫ّ‬
‫تلك التي حاورتها‪ .‬وليس أدل على هذا الكالم من رأي ديوي نفسه الذي يذهب فيه إلى التأكيد على أنه ال بد‬
‫لفلسفته أن يكون فيها ش يء مما تؤ ِّث ُره من زمانها‪ ،‬وهو أمر يجري على كل فلسفة في التاريخ حسب رأيه‪ .‬ويبدو‬
‫السياق يرمي إلى ضرب من "التبرير األيديولوجي‪ ،"68‬عندما يمتدح جزءا من حياة مجتمعه‬ ‫ّأن ديوي في هذا ّ‬
‫في زمانه ويوافقها‪.‬‬
‫تقصيه في هذا املستوى من البحث ليس ما صادف هوى ديوي من زمانه‪ ،‬فوافق عليه‪.‬‬ ‫غير ّأن ما نريد ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫التقدمية"‪،‬‬ ‫بنظريـة التربيــة كما عرضها أي "التربيــة‬ ‫وإنما قصدنا أن نحيط باإلطار العام الذي حف‬
‫ّ‬ ‫وتطبيقاتها في "املد سة املخبر" من جهة عالقتها ّ‬
‫بالنظريات األخرى التطبيقية‪ ،‬في ميدان التربيــة‬ ‫ر‬
‫ّ‬
‫والبيداغوجيا‪ ،‬أخذا وتجاوزا‪ .‬وهو األمر الذي يعنى البحث في جهات االتصال واالنفصال في عالقة ديوي‬
‫التحديد يضعنا أمام قائمة‬ ‫باملنظرين الذين ّأث ُـروا فيه عن بعد أو عن قرب‪ ،‬محدثين ومعاصرين‪ .‬و ّ‬
‫لعل هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫من مفكــري التربيــة الحديثة واملعاصرة تبدأ بـروسو وتنتهي بمنتسوري (التي تنيشر اليوم في العالم مدارسها‬
‫‪ Montessori Schools‬على نحو عظيم جدا) مرورا ببيستالوتزي وهيربرت وفروبل وتولستوي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ليس تأثير هؤالء األعالم في ميدان التربيــة الحديثة بأقل في فكر ديوي من فالسفة محترفين من أمثال‬
‫ّ‬
‫أفالطون ولوك وكانط وهيقل وغيرهم من شيوخ الفالسفة‪ .‬ولكن آثرنا أن نركز في هذا املستوى من البحث‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫على الفريق األول لسببين منهجيين‪ :‬األول‪ ،‬واملتمثل في ّ‬
‫تخصص هذه الفئة من املفكــرين في التربيــة باعتبارها‬
‫يبرر اقتراب ديوي منهم أكثر ّملا يكون‬ ‫بيداغوجيا ّ‬
‫عمليــة‪ ،‬واحترافهم لها على نحو مباشر ال عرض ي‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفلسفيــة‬ ‫غرضه تحليل القضايا التربويــة باملعنى التقني‪ ،‬ويبتعد عنهم كلما ضرب أكثر في عالم املفاهيم‬

‫‪ 68‬إذا فهمنا من عبارة اإليديولوجيا الدّاللة الشائعة لها‪ ،‬ف هي منظومة مغلقة من األفكار‪ ،‬تهدف إلى تبرير الواقع أو تزيفه‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ولعل مجمل املشروع الفكري البراغماتي في التربية‪ ،‬املمتد أمامنا بنصوصه كلها‪ ،‬يمكن تأويله من‬ ‫ّ‬
‫النظريـة‪ّ .‬‬
‫السياق سياقهم‪ ،‬ونحو‬ ‫"املربين البيداغوجيين" ملّا يكون ّ‬
‫النـاحية كشهادة تؤيد هذا االنزياح نحو ّ‬ ‫هذه ّ‬
‫ّ‬
‫املنظرين" ملا يكون ّ‬
‫السياق سياقهم‪.‬‬ ‫"الفالسفة‬
‫ّ‬
‫الثــاني‪ ،‬في عزمنا هذا‪ ،‬فهو ألننا ّ‬ ‫أما ّ‬
‫تعرضنا كثيرا أو قليال إلى األفكار الفلسفية التربوية‬ ‫الســبب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النظرية الخالصة‪ ،‬ويجدر بنا اآلن أن ّ‬
‫نوجه عنايينا إلى هذه الفئة من املفكــرين التربويين التي تركت في ديوي‬
‫ّ‬
‫أثارا بججم ما تركه الفالسفة املنظرون أنفسهم‪ ،‬أو أعظم منه قدرا‪ .‬فكيف كانت قراءة ديوي لكل من‬
‫"إميل" روسو و"مدرسة" بيستالوتزي و"رياض ومحاضن" فروبل و"مشروع إعادة التأهيل" ملونتيسوري؟‬
‫وأين يتقاطع معهم وأين يفارقهم خاصة في املفهوم الجوهري ألطروحاتهم وهو الحرية التربوية؟‬

‫أ ـ روسو‬
‫ّ‬
‫"نبي التربيــة الحديثة"‪ 69‬هي العبارة التي كان يحدد بها ديوي‪ ،70‬من وجهة نظره‪ ،‬منزلة روسو الفكرية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البشريـة والخارقة‪ ،‬والتي تتجلى‬ ‫في التربيــة الحديثة‪ .‬على أن عبارة "نبي"‪ 71‬املشحونة بدالالت القدرة ما فوق‬
‫يبررها من وجهة نظر ديوي‪ .‬حيث كان‬ ‫خاص في "حمل سالة و ّ‬
‫التنبيه إليها"‪ ،‬لها في الحقيقة ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫على نحو‬
‫ر‬
‫النــفس املعاصر‪ ،‬حتى ّأن‬
‫ـيكولوجية التي سبق فيها علم ّ‬
‫ّ‬ ‫متقدما على عصره في كثير من املعطيات ّ‬
‫الس‬ ‫روسو ّ‬
‫جزءا عظيما من تحليالته لم يتأكد علميا إال في بدايات القرن العشرين‪ .‬ومن هنا يبدو أن روسو كان نبيا‬
‫ّ‬
‫تربويا مبشرا سابقا على عصره‪ ،‬كما هي عادة األنبياء‪ ،‬فكان سببا في والدة هذه الصفة‪.‬‬

‫العالقة بين الحواس والمعرفة‪ .‬إن األفكار‬


‫ونتبيــن نحن هذه الحقيقة من مفهومه عن ّ‬
‫سيكولوجية عصره‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 69‬يقول جون ديوي " كان روسو بعيدا عن‬
‫الســائدة (ومنها فكرة ال تزال لها الغلبة والسيادة حتى في وقتنا الحاضر) كانت تنادي بان الحواس نوع من األبواب والطرق تدخل منها انطباعاتنا‬
‫ّ‬
‫وتسير‪ ،‬لكي تبني صو ار للمعرفة عن هذا العالم‪ .‬وكان من رأي روسو أن الحواس جزء من جهاز الحركة‪ ،‬نستطيع نحن به أن نكيف أنفسنا لبيئتنا‪،‬‬
‫وأنه بدال من أن تكون هذه الحواس أجهزة استقبال سالبة‪ّ ،‬‬
‫فإنــها تتصل مباشرة بألوان النشاط الحركي – باستخدام األيدي واألرجل ـ وفي هذا المجال‬

‫بال ّذات‪ ،‬نرى أن روسو كان تقدميا أكثر من بعض أتباعه الذين كانوا يؤكدون ّ‬
‫أهمية اتصال الحواس باألشياء‪ ،‬ذلك ألن هذه الفكرة األخيرة عن الحواس‬

‫تزودنا بالمعلومات عن األشياء‪ ،‬بدال من أن تكون أدوات وظيفتها تحقيق ّ‬


‫التكيف الالزم بين اإلنسان والعالم من حوله" مدارس‬ ‫مجرد آالت ّ‬
‫تعتبرها ّ‬
‫المستقبل‪ ،‬ص ‪65‬‬

‫‪70‬‬‫‪John Dewey, Les écoles de demain, P 13, in Reuben Wallenrod, John Dewey éducateur, 147‬‬
‫‪« L’esprit de l’ « Emile » pénètre toutes les œuvres de John Dewey. Dewey l’avoue: « il (Rousseau) a laissé‬‬
‫‪sur l’éducation des enfants des pensées d’une vérité immortelle. Ni Pestalozzi ni Fröbel n’auraient, sans lui,‬‬
‫‪pu réaliser leur œuvre » Il va même jusqu’a l’appeler « Le prophète de l’éducation nouvelle » ».‬‬
‫همزه‪ .‬قال وإن أخذ‬
‫رك ُ‬‫النبي هو من أنبأ عن هللا‪ ،‬فتُ َ‬
‫عز وجل‪ ،.‬وهو فعيل بمعنى فاعل‪ُّ ..‬‬
‫‪ 71‬يقول ابن منظور في مادة نبي " النبي المخبر عن هللا ّ‬
‫النبوة والنباوة وهي االرتفاع عن األرض‪ ،‬أي إنه أشرف على سائر الخلق فأصله غير الهمز‪...‬واشتقاقه من نبأ و أنبأ أي أخبر‪ ...‬وقيل‪ :‬النبي‬ ‫من ّ‬
‫نباء وإن لفالن نبأٌ أي‬ ‫ٍ‬
‫يلمة ُن ْبيَئ َة َس ْؤء‪ .‬والنبأ أي الخبر‪ ،‬والجمع أ ٌ‬
‫بيئ ُة ُم ْس َ‬
‫مشتق من النباوة‪ ،‬وهي الشيء المرتفع‪ .‬وتقول العرب في التصغير‪ :‬كانت ُن َ‬
‫الع ِظيمِ" قيل عن القرآن‪ ،‬وقيل عن البعث وقيل عن أمر النبي صلى هللا عليه وسّلم‪ ...‬واستنبأ النبأَ‪:‬‬ ‫ساءلون عن النََّبِإ َ‬
‫َ‬ ‫عم يتَ‬
‫خبرا‪ .‬وقوله عز وجل‪َّ :‬‬
‫ٌ‬
‫السياقية الحضارية بين العبارة في‬
‫بحث عنه‪ "...‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬المجّلد اّلسادس‪ ،‬ص ‪ 123‬مع أننا نحتفظ ألنفسنا باالختالفات ّ‬
‫أصلها اإلنقليزي‪ Prophet or The Messenger‬وبين ّ‬
‫السياق الداللي لعبارة النبي في اللسان العربي‪ .‬غير أننا نالحظ مع ذلك وجود تناسب‬

‫كبير بين معاني النبي العربي وبين مقاصد ديوي من هذا النعت الذي ّ‬
‫عبر به عن السبق العظيم للفكر الروسوي‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ّ‬
‫ّإن جوهر فلسفة روسو في التربيــة يكمن في تصوره ملاهيتها والتي يختزلها في هذه العبارة " التربيــة هي‬
‫ّ‬
‫النمو الطبيعي للميول واالتــجاهات والقوى (عند الطفل)"‪ 72‬ويعنى ذلك في اآلن نفسه هجوما على التربيــة‬
‫القائمة القديمة ‪ ،‬واتهامها بالجهل والفساد‪ ،‬ودعوة في املقابل إلى تكوين معرفة دقيقة بطبيعة الطفولة‬
‫تربيــة ّ‬
‫خاصــة بالكبار‪ ،‬وأقرب إلى أفكار ّ‬ ‫التربيــة القائمة هي في كونها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الراشدين‬ ‫الحقيقية‪ .‬فمشكلة‬ ‫وقدراتها‬
‫ّ‬
‫منها إلى غيرهم‪ .‬فهذه التربيــة ال تعرف شيئا عن رغبات األطفال الحقيقة واحتياجاتهم‪ ،‬إنها تجهل الطفولة‬
‫ّ‬ ‫ولعل روسو كان أول من أدرك أن ّ‬ ‫تربيها‪ .‬يقول ديوي‪ّ " :‬‬ ‫في الوقت نفسه الذي ّتدعي فيها أنها ّ‬
‫عمليــة التعلم إن‬
‫النمو وحفظ الذات‪ .‬فإذا أردنا – إذن‪-‬أن ندرك كيف‬ ‫عمليــة ّ‬ ‫عمليــة أخرى‪ ،‬هي ّ‬ ‫هي إال ضرورة‪ ،‬وأنها جزء من ّ‬
‫ّ‬ ‫العمليــة ّ‬
‫التعليمية التربوية بنجاح كامل‪ ،‬وجب علينا أن نتجه إلى خبرات األطفال حيث تكون عمل ّيــة‬ ‫ّ‬ ‫تتم‬
‫ّ‬ ‫التعلم ضرو ة‪ ،‬ال أن نتجه إلى خبرات املد سة وتجا بها التي هي خا ف إلى ّ‬ ‫ّ‬
‫شكلية‬ ‫حد بعيد‪ ،‬ومسائل‬ ‫ز ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫يرحب بها األطفال وال يتقبلونها بقبول حسن"‪73‬‬ ‫عمليــة "فرض" ال ّ‬ ‫ّ‬
‫سطحية‪ ،‬بل لعلـها ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليس ّ‬
‫التعليم‪/‬التربية في تصور روسو هو الغاية‪ ،‬بل الطفل وطفولته هما الهدف النهائي للتربية‪ .‬وليس‬
‫الراشد الكهل‪ ،‬العالم والعا ف‪ ،‬والذي يريد أن ّ‬ ‫املعلم الحقيقي هو ذاك ّ‬ ‫ّ‬
‫يلقن األطفال "حكمة الحياة" التي‬ ‫ر‬
‫ّ‬
‫ال يعرفها سواه‪ ،‬فرضا وقسرا‪ ،‬بل إن " معلمينا الحقيقيين هم عبارة عن خبرة وعاطفة"‪ 74‬وعلى ذلك فليس‬
‫الطفل برجل‪ ،‬وال يعنيه أن يكون شبيها بكهل في الوقت ّ‬ ‫ّ‬
‫الراهــن من طفولته‪ ،‬إنه يريد أن يكون كما هو في‬
‫للتربية إن لم تساعده على ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التمتع بتلك الطفولة‪ ،‬بل وأن‬ ‫صورته الطبيعيــة أي طفال في ثوب طفل‪ .‬وال معنى‬
‫ّ‬
‫تنميها بداخله‪ .‬ونحن غالبا ما نؤ ّول األشياء على أنحاء خاطئة تماما‪ ،‬إذ أننا مثال نرى في معارضة األطفال‬ ‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫التقليدية‪ ،‬شهادة على نفور طبيعي أو فطري للعقل واعراضه عن املعرفة‪ .‬في حين أن األمر‬ ‫لطرق‬
‫على العكس تماما‪ ،‬إذ حينما نقول ذلك نكون كمثل من يقول إن املعدة وهي آلة الهضم تكره طبيعيا تناول‬
‫التقليدية شهادة بعجز هيكلي فيها أي طرق التلقين‪،‬‬ ‫الطعام‪ .‬والحقيقة هي ّأن نفور الطفولة من الطرق ّ‬
‫ّ‬
‫الحال بها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫التعسف والظلم‬ ‫واستجداء للحكماء حتى ينتبهوا جيدا إلى مطالبها ورفع‬
‫ينصح روسو بمعرفة الطفولة‪ ،‬بقدر ما ينصح باحترامها ومعاملتها على النحو الذي يخدمها وليس‬
‫عمليــة ّ‬
‫نمو‪ ،‬وتنتهي ّ‬ ‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬
‫النمو إلى نضج حقيقي في مرحلة‬ ‫على النحو الذي ينفيها‪ .‬فبهذا املنهج فقط تكون‬
‫وكلنا نتذكر كيف تابع روسو "إميله" )‪ )Emile‬في مراحل ّ‬ ‫ّ‬
‫سنه املختلفة يصاحبه مساعدا وحاميا وال‬ ‫الرشد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يتدخل إال متى اقتضت سالمته ذلك‪ ،‬ويرعاه بتوفير أكبر قدر من ّ‬ ‫ّ‬
‫الحريــة للطبيعة‪ ،‬حتى يييح لهذه الطبيعة‬
‫متعرفا ومختبرا ما يعترضه‬ ‫نفسها أن تفعل فعلها دون تشويه‪ ،‬فينمو في عامله هو‪ ،‬مسيندا إلى ذاته هو‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ويستفزه ويثيره في عالم األشياء والحيوان‪ ،‬فيبنى ما ينبغي له بناؤه حول املحيط‪ .‬وفي أثناء تلك الخب ـرة بالعالم‬
‫التعرف الصحيح السليم‪ّ ،‬‬ ‫الطفل على نفسه وجسده وأحاسيسه ومشاعره وقدراته‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويقدرها حق‬ ‫يتعرف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قدرها‪ .‬حتى إذا ما تجاوز متدرجا سلم الطفولة األولى‪ ،‬فالثــانية‪ ،‬فالثالثة‪ ،‬بتلقائية ونجاح‪ ،‬وبلغ سن املراهقة‬

‫جون ديوي وإفلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪59‬‬ ‫‪72‬‬

‫‪ 73‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪56‬‬


‫روسو‪ ،‬إميل أو في ال ّتربيــة‪ ،‬أورده ديوي في مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪57‬‬ ‫‪74‬‬

‫‪39‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كان له املعلم ناصحا ورفيقا ال آمرا وقائدا‪ُ ،‬يع ُينه على تقلبات مشاعره وتدفقها وهيجانها املندفع‪ ،‬ويساعده‬
‫الفرديــة أحيانا ومهذبا فيه‬ ‫ّ‬ ‫مخففا من نزعته املطلقة نحو‬ ‫الضار والعدواني‪ّ ،‬‬
‫الخير منها وتجنب ّ‬ ‫على انتقاء ّ‬
‫والرومانسية إلى الواقعية‬ ‫سن املثاليات ّ‬ ‫مشاعر الحب والغيرة والصداقة أحيانا أخرى‪ .‬وهكذا حتى يتجاوز ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والرشد الفعلي‪ ،‬فيترك له قيادة نفسه‪ ،‬ويتخلى عنه رويدا‪ ،‬ويختفي من طريقه بعد ذلك بالجملة‪ .‬فإذا بذاك‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الراشد "إميل"‪ ،‬وقد وجد توا نه الكامل‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وتحققت فيه الطبيعة بأقص ى الدرجات‪ ،‬وتهذبت مشاعره على‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحقيقية التي تنفعه فعال في حياته‪ُ .‬فيهيئه ذلك كله‪ ،‬إلى أن يلعب دوره‬ ‫ألطف نحو‪ ،‬امتلك املعرفة والحكمة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومسؤولية‪ .‬تلك هي قصة‬ ‫في سلسلة الحفاظ على النسل القادم‪ ،‬فيدخل في مرحلة بناء أسرته بكل اقتدار‬
‫‪ّ ّ 75‬‬
‫التربيــة التي ّ‬ ‫ّ‬
‫غيرت مصير " إميل" من طفل‬ ‫التربيــة التي " تستطيع كل ش يء" كما في عبارة هيلفيتوس ‪ .‬قصة‬
‫والسوء واإلجرام التي‬‫يييم في بداية النص الروسوي‪ ،‬كان يمكن أن ينتهي به قدره إلى كل أشكال االنحراف ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نتخيلها‪ ،‬لوال مشروع التربيــة الذي انتهى به إلى أن يكون إنسانا فاضال سعيدا‪ .‬على أنه يمكننا أن نجمل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العناصر ّ‬
‫العامــة لهذا البرنامج التربوي الروسوي وفق قراءة ديوي له‪ ،‬في الخطوط التالية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫النمو‪ّ ،‬‬‫التربيــة هي ّ‬ ‫ّ‬
‫وبالتـالي فليس من غاية أخرى للتربية غير ذاتها‬ ‫ـ‬
‫ـ ضرورة املعرفة بالطفولة حتى نستطيع فهمها وتقديرها واحترامها في شكل تقديم ّ‬
‫تربيــة تناسبها‬
‫مادة ومنهجا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـ ال ينبغي التدخل التعسفي‪ ،‬والحلول مكان الطبيعة‪ .‬بل علينا فسح املجال دائما للدور التربوي‬
‫كمل‪.‬‬ ‫بمجرد املراقبة‪ ،‬ثم بعد ذلك نتدخل‪ ،‬فقط ُلن ّ‬ ‫للطبيعة واالكتفاء في أحيان كثيرة ّ‬
‫والنمو الجسمي‪ ،‬منسجمان مرتبطان‪ ،‬وال أولوية ألحدهما على اآلخر‪ ،‬حيث يقول‬ ‫ّ‬ ‫ـ ّ‬
‫النمو العقلي‬
‫بالرعاية‪ ،‬يجب عليك أن ترعى ّ‬ ‫بالذات " عندما ترعى ذكاء تلميذك وتتعهده ّ‬ ‫ّ‬
‫القوة‬ ‫روسو في هذه النقطة‬
‫الذكاء ويتحكم فيها ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي ّ‬
‫ويوجــهها‪ ،‬عليك أن تعطي جسمه تدريبا وتمرينا مستمرا‪ ،‬عليك أن‬ ‫يتكفل بها‬
‫تجعل من هذا الجسم جسما قويا‪ ،‬حتى يصبح تلميذك صالحا صحيحا عاقال‪ ،‬دع تلميذك يعمل‪ ،‬دعه‬
‫يصنع أشياء مختلفة‪ ،‬دعه يجري ويصيح ويصرخ‪ ،‬دعه يسير في طريقه‪76"...‬‬
‫ّ ّ‬
‫العمليــة التربويــة على الكيف ال الكم‪ ،‬أي بحسب نوعية املعرفة املكيسبة ال‬ ‫ـ يقوم تقييم نجاح‬
‫بحسب حجمها‪.‬‬
‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـ علينا أال ننس ى أن املادة الجاهزة في الكتب‪ ،‬واملادة العلم ّـيـة املنظــمة والدروس املقررة‪ ،‬تمثل دائما‬
‫تفكير اآلخرين‪ .‬ولذلك فهناك فرق شاسع بين من يدرس خريطة جاهزة‪ ،‬وبين من يضع هذه الخريطة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويتمثلها كجزء من خبرته‪ .‬وذلك حين يدرك كنهها ببصره وسمعه وإحساسه ملا يشق بنفسه الغابات‬
‫ويصعد الهضاب وينزل الوهاد ويعبر الوديان ويعلو الجبال ويسبح في ّ‬
‫األنهار والبحار‪.‬‬

‫وخاصــة لدى غالتهم مثل هيلفيتوس‬


‫ّ‬ ‫الحسين‬
‫سبقت اإلشارة إلى ذلك حين حديثنا على مسالة الخب ـرة عند ّ‬
‫‪75‬‬

‫‪ 76‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪62‬‬

‫‪40‬‬
‫عنا إعجاب ديوي الصريح بأفكار روسو‪ ،‬فهو يعزو إليه الكثير من رياح التأثير التي‬ ‫ال يمكن أن يغرب ّ‬
‫عمليــة ّ‬ ‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نمو طبيعي‪،‬‬ ‫هبت على التربيــة الحديثة إذ يقول‪ " :‬لقد كان للرأي الذي نادى به روسو من أن‬
‫التربيــة منذ عهده إلى يومنا هذا"‪ّ 77‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أثر بالغ من ّ‬
‫ولعل أبرز ما أخذه ديوي من روسو‬ ‫النظريـة على‬ ‫النـاحية‬
‫نمو طبيعي‪ .‬وهي فكرة رئيسية ّ‬ ‫التربيــة بما هي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ثورية‪ ،‬وليست بالحجم الوجيز الذي تعرضها‬ ‫وأهمه هو فكرة‬
‫فيه العبارة‪.‬‬
‫النظريـة " التي وصف بها ديوي تأثير أفكار روسو‪ ،‬ذات داللة ّ‬
‫خاصــة‪ ،‬على‬ ‫ّ‬ ‫النـاحية‬ ‫غير أن عبا ة " ّ‬
‫ر‬
‫األقل من ناحية كونها منطلقا للنقد‪ ،‬الذي سوف يكيله جون ديوي له‪ّ ،‬‬
‫ومبررا في األخير الفتراقه عنه‪ .‬ففي‬
‫جوهريتين‪ .‬األولى أنه أهمل الجانب االجتماعي في أهداف‬ ‫ّ‬ ‫نظر ديوي كان روسو بعيدا عن الحق في مسألتين‬
‫الذاتيــة‪ ،‬فاعتبر أن كمال ّ‬
‫النمو هو في‬ ‫ّ‬ ‫النمو‪ .‬فكان من نييجة ذلك أن اختزل ّ‬
‫النمو في قدرات الفرد لذاته أو‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫الصـواب‪ ،‬ألن كل ميوالتنا وقدراتنا ّ‬ ‫كمال الفرد لنفسه فحسب‪ .‬وهو هنا يجانب ّ‬
‫تنمو في اتــجاه وظائفها‬
‫االجتماعية‪ .‬ودون أن تصل هذه القوى إلى التعبير عن نفسها في ميدان االتصال االجتماعي‪ ،‬فهي تظل دون‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫املسألة الثــانية فهي ّأن روسو لم يعط برنامجا محددا تفصيليا يمكن اعتماده في‬ ‫الكمال املطلوب‪ .‬أما ّ‬
‫العامــة‪ .‬كما كانت عناية روسو في إميل‬ ‫ّ‬
‫النظريـة واألطر ّ‬ ‫املدارس العمومية‪ ،‬بقدر ما اكتفى بتقديم النصائح‬
‫باملجاز أكثر من عنايته بالواقع‪ .‬وبنى نظامه على حالة فردية وليس على حالة جماعية‪ .‬األمر الذي جعل‬
‫السياق‪" :‬ولو أن روسو‬ ‫جدا‪ .‬يقول ديوي في هذا ّ‬ ‫العمليــة من أفكار روسو تظل على قيمتها محدودة ّ‬ ‫ّ‬ ‫االستفادة‬
‫محدد له إطار ثابت‪.‬‬‫الضروري أن يبلور أفكا ه وآ اءه في برنامج ّ‬
‫قد حاول أن يربي أطفاال حقيقيين‪ ،‬لوجد من ّ‬
‫ر ر‬
‫نظرياته‪ ،‬وكان قلقه هذا سببا في تحول‬ ‫لقد كان روسو قلقا يريد تحقيق مثله األعلى الذي رسمه لنفسه في ّ‬
‫ّ‬
‫اهتمامه األكيد وانتقاله ال شعوريا إلى الطرائق التي تمكن عن طريقها من تحقيق هذا املثل األعلى في الطفل‬
‫الفرد"‪78‬‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫النظريـة ألفكار روسو هي التي جعلت أبرز املتأثرين بها مثل "بستالوتزي" و"فروبل"‬ ‫ولعل الطبيعة‬
‫ّ ّ‬
‫النمو الطبيعي إلى قوانين وبرامج وقواعد يستخدمها‬ ‫يجدون صعوبة بالغة‪ ،‬حسب ديوي‪ ،‬في تحويل فكرة‬
‫املعلمون كل يوم‪ .‬وفي حين كان بستالوتزي قد ذهب يبحث عن تطبيق أفكار روسو في ّ‬ ‫ّ‬
‫التعليم االبتدائي فقد‬
‫مرة ما ُيعرف برياض األطفال‪.‬‬‫ّاتجه فروبل نحو سن أصغر‪ ،‬سن ما قبل املدرسة‪ ،‬فأنشأ ألول ّ‬
‫ب ‪-‬بيستالوزي‪79‬‬

‫‪ 77‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪71‬‬


‫‪ 78‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪111‬‬
‫‪79 Johann Heinrich Pestalozzi‬جوهان هنريش بيستالوزي ‪ 12‬جانفي ‪ 1746‬ـــ ‪ 17‬فيفري ‪ 1827‬مف ّكــر ورجل تر ّبيــة سويسري من‬
‫أصل إيطالي‪ ،‬يعتبره البعض األب الفعلي للتّربية الحديثة‪ .‬ق أر إميل روسو وأعجب به‪ ،‬كما تأثر بكتاب " في العقد االجتماعي"‪ .‬اشتُهر بمحاولته تطبيق‬
‫نمو طبيعي‪ .‬أثر في‬
‫عمليــة تستمد روحها وتوجهاتها وأهدافها من فكرة روسو الجوهرّيــة‪ :‬التّربيــة بما هي ّ‬
‫ّ‬ ‫أفكار روسو في الواقع‪ ،‬عبر إيجاد برامج‬
‫الحريــة المتعالية‪ .‬من جوهر أفكاره أن التّربيــة هي البحث في قوى الفرد ومساعدتها على‬
‫الفيلسوف فيخته الذي حاول إدماج البيداغوجيا في فلسفة ّ‬
‫قوة المؤهالت (‬
‫القوة اإلدراكية المعر ّفيـة (الكفاية في تعلم الّلــغة والفهم) ّ‬ ‫النمو قدر اإلمكان‪ .‬وخالصة بحثه مؤداها أن للفرد ثالث قوى ر ّ‬
‫ئيسية هي‪ّ :‬‬ ‫ّ‬
‫األساسيــة الثالثة ما يمكن أن‬
‫ّ‬ ‫القوى‬ ‫هذه‬ ‫وتمثل‬ ‫‪.‬‬ ‫األخالقي)‬ ‫و‬ ‫االجتماعي‬ ‫لوك‬‫الس‬
‫ّ‬ ‫(‬ ‫االعتقادية‬ ‫أو‬ ‫ـة‬ ‫األخالقي‬
‫ّ‬ ‫ة‬
‫القو‬
‫ّ‬ ‫و‬ ‫اليدوية)‬ ‫الفاعلية‬
‫و‬ ‫بالجسد‬ ‫التحكم‬
‫تنمو إال بموجب تدخل خارجي‪ .‬وهنا بال ّذات مدخل التّربيــة‪.‬‬
‫األساسيــة التي ال يمكن لها أن ّ‬
‫ّ‬ ‫طبيعة البشرّيـة" وهي القوى‬
‫نطلق عليه " ال ّ‬

‫‪41‬‬
‫مشردين واخذ بتربيتهم على إتقان الحرف‬ ‫قام بستالوتزي بإنشاء مؤسسة فالحية خصصها ألغراضه التّربويــة‪ ،‬أنجز فيها تجربته ّ‬
‫الشـهيرة لما جمع أطفاال ّ‬
‫واألعمال اليدوية‪ ...‬حتى أن زائ ار ازره يوما فلما رأى تلك المدرسة الصغيرة عّلق قائال " إنها بيت وليست مدرسة" فكان ذلك في نظر بيستالوتزي إطراء‬
‫ُس ّر لسماعه‪ ،‬ويذكر ديوي هذه الحادثة في كتابه مدارس المستقبل‪ ،‬في الفصل الذي يتعرض فيه ألفكار بيستالوتزي‪ ...‬لكن مزرعته سرعان ما أفلست‪،‬‬
‫عدة مؤسسات أخرى لأليتام في ستونس ‪Stanz‬وبيرغدورف ‪ Brgdorf‬إلى أن أسس مدرسته التي القت شهرة عظيمة في إفيردون ليبان‬ ‫فقام بإدارة ّ‬
‫‪ Yverdon_les-Bains‬وبلغ صيتها أوربا كّلها‪ ،‬وانضمت إليها أعداد كبيرة من الطلبة وكانت تدرس جميع المستويات من االبتدائي إلى الجامعي‪...‬‬
‫يلخص البعض أهم أفكاره التّربويــة في‪:‬‬
‫ـ االنطالق من األشياء في اتّــجاه األفكار‬
‫ـ التّدريس بواسطة وسائل من البيئة القريبة قبل الذهاب بعيدا‬
‫ـ البداية بالتمارين األبسط في اتّــجاه األعقد‬
‫التدرج والتريث في التّربيــة‬
‫ـ ّ‬
‫بلغت شهرته اآلفاق‪ ،‬فقد كانت مدرسته تستقبل الكثير من األطفال من مختلف الديانات واألعراق من سن السادسة حتى السادسة عشر دون أدنى‬
‫الشعب‬
‫يائيــة وغيرها‪ ،‬وبعد ذلك يقرر ما ينبغي في أمره‪ .‬كان يسمى بمعّلم ّ‬
‫لمدة شهرين لتحديد كفاءاته الذهنية والفيز ّ‬
‫طفل ّ‬
‫تمييز‪ .‬وكان يقوم بمراقبة ال ّ‬
‫المشردين‪ .‬أنشأ مدرسته فرعان واحد للفتيات وآخر للبنين‪ .‬كان يسمح لجميع المعلمين المباشرين معه‬
‫الهتمامه باألطفال المنحدرين من أوساط فقيرة‪ ،‬و ّ‬
‫حريــة مدحا وذما‪ .‬غلبت على وسائله التّربويــة المواد الفالحية‪ ،‬أما دروسه فكانت ترّكـز على التكوين المهني وعلى‬
‫والمتربصين بإبداء آرائهم بكل ّ‬
‫الفعل التعاوني‪ ،‬والتدريب اليدوي والتعلم من العمل‪ ،‬واالطالع المباشر على األشياء في بيئاتها‪ .‬شهرته وتأثيره البالغ في التّربيــة الحديثة‪ ،‬جعلت اسمه‬
‫األصليــة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يطلق على عديد األماكن الرمزّيــة في العالم‪ .‬ففي باريس مثال أطلق اسمه على شارع بيستالوتزي في الحي الالتيني‪ ،‬حي الجامعات والكليات‬
‫كما أطلق اسمه على قرية األطفال في تروجان ‪ Trogen‬وسميت المكتبة الوطنية السويسرية باسمه‪ .‬لم يكتب بيستالوزي كثيرا‪ ،‬فقد كان رجل عمل‬

‫كما يقول عنه جون ديوي‪ ،‬ولكنه اشتهر ببعض النصوص‪ ،‬منها ّ‬
‫خاصــة انه أول من كتب لألمهات في العناية واللعب مع أبنائهم‪ .‬كما اشتهر بروايته‬
‫التي عرض فيها أفكاره التّربويــة ومثله اإلنسانية )‪ )Lienhard und Gertrud 1781_1787‬من أبرز مؤلفاته‪:‬‬

‫‪‬‬ ‫)‪Lienhard und gertrud (Léonard et Gertrude) (1781-1787‬‬


‫‪‬‬ ‫‪M eine Nachforschungen Uber den Gang Der Natur in Der Entwicklung des Menschegeschlechts (Mes‬‬
‫)‪recherches sur la marche de la nature dans le développement du genre humain) (1797‬‬
‫‪‬‬ ‫)‪Wie Gertrud Iher kinder Lehrt (Comment Gertrude instruisit ses enfants) (1801‬‬

‫مصادر التّـرجمة‪Encyclopaedia Britannica ( :‬مادة‪ PESTALOZZI‬ص ‪324- 323‬‬

‫‪WIKIPEDIA ,L’encyclopédie libre‬‬

‫‪GRAND LAROUSSE UNIVERSEL‬‬

‫‪LE PETIT ROBERT des noms propres‬‬

‫‪42‬‬
‫التقدير‪ ،‬واالعتراف باآلثار العظيمة‪ ،‬التي تركها في مستوى‬ ‫يتحدث ديوي عن بيستالوزي بكثير من ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬ ‫التربويــة الحديثة في كثير من مدارس أوربا‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫ولعل كثير من أفكاره كما يقول ديوي تمارس اآلن‪ ،‬ولكن‬ ‫املمارسة‬
‫ّ‬ ‫ن ُ‬
‫دو أن تذكر نسبتها إليه باالسم‪ .‬فقد كان ممارسا أكثر مما كان مفك ـرا‪ .‬وتنقسم خبرة بيستالوزي إلى‬
‫مرحلتين األولى مارس فيها تجربة تربوية في منزله حينما جمع ما يقرب من العشرين طفال من ّ‬
‫املهمشين‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملشردين‪ ،‬وأخذ في تطبيق تصوراته التربويــة عليهم‪ .‬وهي املرحلة التي عنت في مستوى أفكاره التربويــة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الثــانية وهي التي كانت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مهنية حيث صار فيها معلما‬ ‫التربيــة عن طريق "ممارسة األشياء مباشرة"‪ .‬ثم املرحلة‬
‫ومسؤوال تربويا عن أطفال قرية في بلده سويسرا‪ ،‬خرج جميع رجالها لقتال جيش نابليون‪ .‬وهي املرحلة التي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التربويــة‪ّ :‬‬
‫التدريس عبر "عرض األشياء"‪ ،‬في صفاتها وأسمائها وأعدادها‪ .‬ويعتبر ديوي أن‬ ‫عنت في أفكاره‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جوهر مشروع بستالوزي هو فكرة روسو عن التربيــة باعتبارها ّ‬
‫نموا طبيعيا‪ ،‬لقدرات الطفل جميعها‪ ،‬حتى‬
‫ينفذ عمليا مشروع روسو‪ ،‬في مضامين مو ّاده‬ ‫أكمل ما فيها‪ .‬بل إن فضل بستالوزي هو في كونه حاول أن ّ‬

‫الحرة) ونرى فيها بعض مظاهر التّدريس‪ ،‬ال ّنظري والعملي‪.‬‬


‫ّ‬ ‫جوهان وأنّا بيستالوزي في مدرستهما ( المصدر موسوعة وكيبديا‬

‫‪43‬‬
‫ّ‬ ‫الد اسية من ناحية‪ ،‬وفي منهج تعليمها من ناحية ثانية‪ .‬ومن هنا نفهم ملاذا ُس ّم ْ‬
‫يت طريقة بستالوزي بالتعلم‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عن طريق العمل‪ .‬والتي سارت شعارا داال على االتــجاه الرئيس ي للتربية الحديثة‪.‬‬
‫غير ّأن الفرق األساس ي بين بيستالوزي وروسو كما ُي ّبين ديوي يتمثل في الطريق الذي ينبغي أن تسير‬
‫النمو‪ .‬فإذا كان روسو اختار "إلميله" طريقا فردية ضيقة‪ ،‬مثل القنال توجه تدفق هذا ّ‬
‫النمو‬ ‫عمليــة ّ‬ ‫فيه ّ‬
‫وتقوده إلى أهدافه‪ ،‬فإن بيستالوزي اختار على نقيضه أي القنال االجتماعي الذي يجعل من ّ‬
‫النمو يتدفق‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعية‪ .‬ولعله بهذه الفكرة األخيرة بالذات‪ ،‬سوف يدين ديوي صراحة لبيستالوزي في‬ ‫في اتــجاه وظائفه‬
‫الكثير من أفكاره التربوية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يركـز ديوي في عرضه ألفكار بستالوزي‪ ،‬على أن سبب اختالف روسو وبيستالوزي في اتــجاه قنال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النمو‪ ،‬يعود إلى ما بين طباع ّ‬ ‫ّ‬
‫الفرديــة املثالية لدى‬ ‫الرجلين من اختالف‪ ،‬تجلى في نزعة كل واحد منهما‪ ،‬نحو‬
‫الش ّ‬ ‫ّ‬ ‫التــواصلية لدى بستالوزي‪ ،‬فيقول‪" :‬أما من ّ‬ ‫اعيــة ّ‬ ‫روسو واالجتم ّ‬
‫خصية فقد كان بستالوزي‬ ‫النـاحية‬
‫بطال في حياته‪ ،‬وكان روسو على نقيضه‪ .‬وكان بيستالوزي أليفا مخلصا للناس‪ ،‬بينما كان روسو أنانيا من‬
‫الســبب بعينه‪ ،‬هو الذي جعله يقبض بيد من حديد على حقيقة لم يدركها‬ ‫ولعل هذا ّ‬ ‫الشعورية‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫النـاحية‬ ‫ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫ألن اتصاالت الفرد‬ ‫النمو االجتماعي‪ ،‬ذلك‬ ‫النمو الطبيعي معناه‬ ‫روسو أبدا‪ .‬فلقد أدرك بيستالوزي أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالنــاس اآلخرين‪ ،‬بل لعلـها أوثق من عالقاته بالطبيعة ذاتها"‪80‬‬ ‫الحيوية هي عالقته ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية من تأمله للطبيعة‬ ‫ولقد استقى بيستالوزي أفكاره عن الطابع االجتماعي للحياة‬
‫التفوق على كثير من الفالسفة في فهم‬ ‫نفسها‪ .‬ويبدو من الغريب حقا أن عمق االنيباه الذي قاد روسو إلى ّ‬
‫البشريـة وأطوا ها ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الدقـيقـة‪ ،‬هو نفسه العمق الذي حجب عنه الحقيقة األساس ّيــة وهي‬ ‫ر‬ ‫تفصيالت الطبيعة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫في نظر بيستالوزي االتــجاه االجتماعي لكل مظاهر حياة ووجود األفراد " فلقد علمت – يقول بيستالوزي‪-‬‬
‫ّ‬ ‫االجتماعيــة‪ ،‬ووسيلتها في هذا ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطبيعة اإلنسان‪ ،‬والهدف من هذا ّ‬ ‫ّ‬
‫التعليم هي العالقات‬ ‫التعليم هو العالقات‬
‫ّ‬ ‫االجتماعيــة أيضا‪ .‬وترجع ّ‬ ‫ّ‬
‫أهمية األشياء في تعليم اإلنسان بقدر ما تتركه من أثر في سبيل توثيق هذه‬
‫االجتماعيــة التي يدخل هذا اإلنسان طرفا فيها"‪81‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العالقات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫اجتماعيــة‪ .‬فالكرس ي أو الطاولة‬ ‫تعتبر جميع األشياء التي تحيط بنا‪ ،‬في نظر بيستالوزي‪ ،‬ذات قيمة‬
‫ّ‬
‫أو الشجرة أو البستان أو الحجارة أو الغرفة أو البيت أو أي وسيلة عمل وإنتاج‪ ،‬هي أشياء لها معان‬
‫العامــة‪ .‬وقيمتها ّ‬
‫النــاس ّ‬ ‫وتؤثر في تصرفات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تتحدد بطريقة‬ ‫اجتماعيــة ثابتة‪ .‬إنها تستخدم بطريقة جماعية‬
‫متقاربة عند الجميع‪ ،‬باعتبارها مصادر للنفع والحفاظ على البقاء‪ .‬وفي مثل هذا الوسط الذي ُينظر فيه‬
‫التربيــة باعتبارها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نموا عقليا وأخالقيا‪ ،‬تدريبا مباشرا على‬ ‫االجتماعيــة‪ ،‬تصبح‬ ‫لألشياء من زاوية وظائفها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األشياء‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫والسيطرة عليها‪ .‬والحكمة تقض ي بأنه كي نسيطر على ما في البيئة البعيدة عنا‪ ،‬ينبغي‬ ‫معرفة هذه‬
‫ّ‬ ‫السيطرة على البيئة القريبة ّ‬ ‫ّ‬
‫أن نبدأ أوال بتعلم ّ‬
‫منا‪ ،‬فإذا أحكمنا أمر هذه األخيرة تمكنا من اكيساب خبرة‬

‫‪ 80‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪113-112‬‬


‫‪81‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪113‬‬

‫‪44‬‬
‫السيطرة على البيئة في الوضعيات املستحدثة‪ .‬ويتكون "العقل" اإلنساني بالتدريب العملي على‬ ‫أو "كفاية" ّ‬
‫ُ‬
‫عنيت العائلة‪ .‬ومن هنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فأن"املعرفة"‬ ‫االجتماعيــة‪،‬‬ ‫األشياء‪ .‬ويبدأ إحساسه "بالحقيقة" ضمن أصغر األطر‬
‫َ‬
‫تتكون عبر املجهود العملي‪ ،‬الذي يؤ ِّ ّدى بالعقل إلى قدحها قدحا من‬ ‫الحقيق ّية الجديرة بعبارة املعرفة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األشياء‪ .‬ولكن بشرط أن تتم عمليات ّ‬ ‫ّ‬
‫الفعليـة‪ ،‬وحيث يساهم الفرد نفسه‬ ‫االجتماعيــة‬ ‫التعرف هذه في أطرها‬
‫ّ‬
‫التوجهات التربويــة‪ ،‬يعتبر ديوي ّأن هذا "هو نصيب بيستالوزي اإليجابي‬ ‫ّ‬ ‫فيها‪ .‬وتقييما لهذا التجديد في‬
‫ّ‬ ‫الش ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫خصية‪ ،‬ذلك ألنه‬ ‫عمليــة التربيــة‪ ،‬إنه يمثــل بصيرة اكيسبها هو عن طريق خبرته‬ ‫العظيم الذي أسهم به في‬
‫يتعد حدود ما ذهب إليه روسو فحسب‪،‬‬ ‫قاصر من ناحية تفكيره املعنوي‪ .‬وهذا الذي نادى به بيستالوزي لم ّ‬
‫بل ّإنه وضع كل حقائق روسو على أساس سليم "‪82‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولعلـه في عبارة " قاصر من ناحية تفكيره املعنوي" تمهيد من ديوي‪ ،‬للكف عمليا عن اإلعجاب‬
‫بإسهامات بيستالوزي‪ ،‬ليتحول من االصطفاف خلفه إلى الجهة املقابلة له‪ ،‬أي إلى ناحية النقد والتجاوز‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولكن قبل الخوض في أسباب افتراق ديوي عن بستالوزي‪ ،‬يجدر بنا أن نجمل مبادئ هذا األخير التربويــة‬
‫ّ‬
‫العامــة في العناصر التالية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـ يتم ّ‬
‫شخصية‬ ‫العمليــة ممارسة‬ ‫التعليم السليم عن طريق ممارسة ألوان النشاط‬
‫ـ ينبغي توظيف العلوم في بناء بيداغوجيا سليمة‬
‫ُ ّ‬ ‫ـ من ّ‬
‫عرض األشياء التي نرغب بتعليمها أمام الحواس قبل عرض أفكارنا عنها‪.‬‬ ‫األهمية بمكان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫(أبجدية) كل مادة أو موضوع‪ ،‬أي االنتقال من البسيط في اتــجاه‬ ‫ـ البداية بتدريس أ ـ ب ـ ج ـ د‬
‫ّ‬
‫املركب‪83‬‬

‫‪ 82‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪114‬‬


‫طبيعة‪ .‬فبلغت به مالحظاته إلى أن نظام تكون‬
‫‪ 83‬لقد انطلق بيستالوتزي في إيجاد بيداغوجيا علم ّـيـة مناسبة للتدريس من مالحظة نظام األشياء في ال ّ‬
‫يجيـا‪ .‬وهي ظاهر أو قانون عام في جميع أشياء ال ّ‬
‫طبيعة‪.‬‬ ‫النمو قائم على البداية بعناصر أولية تأخذ باالكتمال تدر ّ‬
‫الحياة بعمومها يخضع إلى خط من ّ‬
‫فسمى هذا النظام بقانون االنتقال من البسيط في اتّــجاه المرّكب‪ .‬ثم حاول أن يستفيد من هذه المالحظات بيداغوجيا فأقترح " سيكولوجيا للتدريس"‬
‫ظواهر‪ .‬فأكد على ضرورة االنطالق من البسيط أو من العناصر‬ ‫حسب عبارته هو‪ ،‬قائمة على تصور تركيبي للعقل يماثل النظام التركيبي في ال ّ‬
‫طبيعة نفسها فقال " في عالم‬
‫األساسيــة المكونة للموضوع الدراسي في اتّــجاه أشكاله األكثر تركيبا‪ .‬وقد برر هذا األمر بالعودة إلى نظام األشياء في ال ّ‬
‫ّ‬
‫نمو نبات هذه البذرة‪ .‬ويصدق هذا‬‫ّ‬ ‫في‬ ‫ر‬‫ا‬ ‫وقصو‬ ‫ز‬
‫ا‬ ‫عج‬ ‫يسبب‬ ‫ة‬
‫ر‬ ‫البذ‬ ‫في‬ ‫نقص‬ ‫وكل‬ ‫النضج‪.‬‬ ‫و‬ ‫النمو‬
‫ّ‬ ‫اكتمال‬ ‫عدم‬ ‫معناه‬ ‫عم‬‫البر‬ ‫في‬ ‫النقص‬ ‫أن‬ ‫ى‬‫نر‬ ‫طبيعة‬
‫ال ّ‬
‫نمو العقل وعلى ما يتركب منه من أجزاء‪ .‬فينبغي علينا والحالة هذه – إذا أردنا أن‬
‫نمو تفاحة‪ ،‬يصدق على ّ‬ ‫نمو العقل كما يصدق على ّ‬ ‫تماما على ّ‬
‫الصحة والسالمة‬
‫ّ‬ ‫عليمية التّربوية – أن تكون أولى انطباعاتنا عن األشياء بطريقة أقرب ما تكون إلى‬
‫العمليــة التّ ّ‬
‫ّ‬ ‫سطحية في‬
‫ّ‬ ‫نتحاشى أي تضارب أو ّأية‬
‫طفل في مهده‪ ،‬وأن ننتزع تدريب الجنس البشري من بين يدي ال ّ‬
‫طبيعة اللعوب المرحة العمياء‪ ،‬وأن نضعها تحت سيطرة‬ ‫والكمال‪ .‬ينبغي أن نبدأ بال ّ‬
‫طبيعة ذاتها" جون ديوي‬
‫عمليات ال ّ‬
‫ّ‬ ‫تلك القوى التي عّلمتنا إياها خبرات القرون العديدة من الزمان‪ ،‬هذه الخبرات التي تعّلمنا كيف نستخلصها من‬
‫وإيفلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪118‬‬
‫أمد المعّلمين بعصا بيداغوجية واضحة يمكن االتكاء‬ ‫ويمكن القول‪ ،‬كما وضح ديوي‪ ،‬إن فضل بيستالوتزي في هذه النقطة بال ّذات يتمثل في كونه ّ‬
‫عمليــة تدريس الّلــغة‪ ،‬حيث ينصحنا بيستالوتزي بالبداية‬
‫عليها من اجل ممارسة الدرس فعليا داخل الفصول‪ .‬ويمكننا مثال أن نتمثل هذه الطريقة في ّ‬
‫الخشبية أو الكارتونية أو‬
‫ّ‬ ‫طفل أكثر ما يمكن‪ .‬ومعنى ذلك رسم الحروف وتلوينها وتشكيلها بالمواد‬
‫حسية أمام مدارك ال ّ‬
‫بتعليم الحروف‪ ،‬وجعلها ّ‬
‫طفل الممكنة‪ .‬وحين تمكنه من الحروف نمر به المركب األول وهو الكلمات فنبين له‬ ‫البالستكية أو غيرها‪ ،‬فالمهم أن تصل إلى أقصى حواس ال ّ‬
‫ّ‬
‫الجمل‪ ،‬من أبسط الجمل‬
‫قواعدها ونظام تكوينها وهيئتها‪ ،‬في عالقة عالم السماء بعالم األشياء‪ .‬وحتى إذا ما تمكن من الكلمات ممرنا به إلى تكوين ُ‬
‫إلى أكثرها تركيبا‪ ،‬وهكذا حتى نصل إلى أكثر التراكيب بالغة وتعقيدا واستعارة وتورية ومجازا‪ .‬وهذه الطريقة النامية باستمرار يمكن تطبيقها في درس‬

‫‪45‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫سر طريقة توظيفها‪.‬‬
‫ـ توظيف عناصر البيئة القريبة من الطفل لسهولة تأثيرها على فهمه وي ِّ‬

‫ّ‬ ‫الخطوط ّ‬ ‫ّ‬


‫العامــة لغايات وأهداف التربية حسب تصور بيستالوزي التربوي وإسهاماته من‬ ‫هذه هي‬
‫ّ‬
‫منظور جون ديوي‪ .‬غير أنه مثل وفرة مزاياه‪ ،‬فإن الحدود التي يقف عندها‪ ،‬كثيرة ومتعددة‪ .‬ومن أبرز هذه‬
‫الحدود التي يكشفها ديوي‪ ،‬ذلك االرتداد الذي قبض عليه في مسيرة بيستالوزي الفكرية‪ .‬فحين كان في‬
‫ّ‬
‫تجربته األولى كان معنى تدريسه لألشياء‪ ،‬يتمثل في ترك الطفل "يمارس الش يء" ويتصل به و"يعانيه" حينما‬
‫التربيــة معنى التد يب العملي الحقيقي‪ .‬وهو املعنى األصلي لفكرته عن ّ‬ ‫ّ‬
‫التدريس عبر‬ ‫ر‬ ‫يعاينه‪ .‬فأخذت لديه‬
‫التعليم‪ ،‬نكص عن تلك‬ ‫العمل‪ .‬وهي الطريقة التي يثمنها ديوي لديه‪ .‬لكنه ملّا صار مد ّ سا محترفا‪ ،‬أي امتهن ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫الطريقة‪ ،‬وعاد يكتفي "باستعراض األشياء" أمام بصر األطفال استعراضا فحسب‪ .‬حتى صارت طريقة‬
‫ّ‬ ‫"التعلم عبر العمل" لديه‪ ،‬تعنى ّ‬
‫مجرد استعراض األشياء بمناسبة تسميتها أو تدريسها‪ .‬وهو األمر الذي‬
‫األشياء دون أن ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يستقبحه ديوي‪ّ ،‬‬
‫يتبيــن‬ ‫ويذمه عنده‪ .‬ذلك ألن الطفل حينما يتعلم أو يستعرض صفات‬
‫شران‪ :‬األول‪ ،‬هو أنه ال يزيد لديه من العلم‬ ‫حية‪ ،‬يحصل له ّ‬ ‫وجوه استعمالها ويوظفها بنفسه في كيفيات ّ‬
‫ّ‬ ‫نظريـة ّ‬
‫تتكدس على املعارف القديمة‪ .‬وهو أمر ُيعيدنا إلى نقطة البداية أي إلى عيب التربي ـة‬ ‫سوى معارف ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التقليدية‪ ،‬والتي عمل بيستالوزي جاهدا على تجاوزها‪ .‬والثــاني‪ ،‬هو ّأن هذه الطريقة ال تصل إلى إثارة‬
‫الطفل نحو موضوعات ّ‬
‫املادة الدر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اسية‪ ،‬األمر الذي يفقده االنيباه‪ ،‬فيكون من‬ ‫الحقيقية لدى‬ ‫االهتمامات‬
‫نييجة ذلك أن املعلومة تختفي من ذاكرته بأسرع مما حصلت فيها‪.‬‬
‫ّ‬
‫لقد كان هاجس بيستالوزي هو أن يجعل املدارس تبتعد عن تدريس املعاني التي ال صلة لها باألشياء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وكان له الفضل الكبير أن جعل لعبا ة "طريقة ّ‬
‫التدريس" معنى واضحا ودقيقا‪ ،‬لدى كثير من املعلمين‪ .‬ولكنه‬ ‫ر‬
‫ّ‬
‫االجتماعية‪ .‬فقد نجح في ربط الصلة‬ ‫في مقابل ذلك جعل "أشياء" املادة الدراسية غريبة عن وجوه استعمالها‬
‫بالذات آب فراق ديوي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعية‪ .‬وهنا‬ ‫بين الكلمات واألشياء‪ ،‬ولكنه لم ينجح في ربط األشياء بوظائفها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عنه‪ .‬حيث يقول‪" :‬نالحظ أن هذا الذي يتعلم الكلمات دون ربطها باألشياء‪ ،‬وذاك الذي يتعلمها عن طريق‬
‫النمو الحقيقي‪ ،‬كالهما بعيد عن " املعرفة الثابتة‪ّ ،‬‬
‫الحساسة‪ ،‬األكيدة التي‬ ‫هذا الربط سواء في بعدهما عن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ال شك فيها"‪ 84‬وهي املعرفة التي نحصل عليها إذا استحضرنا األشياء ألغراض وأهداف‪ ،‬وهذا هو االتــجاه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الذي يجتذب الطفل‪ .‬إن األشياء التي يستخدمها الطفل في بيته – وفي املهن التي يمارسها هناك‪-‬سواء أكانت‬
‫ّ‬
‫بسينة أم عناية بالحيوان أو يستخدمها في ألعابه املختلفة‪ ،‬كلها ذات معان بسيطة كاملة في نظره‪ّ .‬أما‬

‫الســبب الرئيسي وراء شهرتها في‬


‫ولعل وضوح هذه البيداغوجيا ويسر اعتمادها هو ما كان ّ‬
‫العمليــة‪ّ .‬‬
‫الفنية و ّ‬
‫الحساب والعلوم والتاريخ والجغرافيا والمواد ّ‬
‫أغلب مدارس أوربا وأمريكا في ذلك العهد وما تاله خالل القرن التاسع عشر‪ .‬غير أن النقد يدخل إلى هذه البيداغوجيا من مداخل عديدة‪ ،‬طرقها ديوي‬
‫وخاصــة أولئك القائلين بالمنهج العكسي في الفهم‪ ،‬أي بان الفهم البشري تحليلي وليس تركيبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كما طرقها آخرون غيره‪.‬‬
‫‪ 84‬العبارة لبيستالوزي‬

‫‪46‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العمليات واملقادير‬ ‫الهندسية‪ ،‬أو‬ ‫تتضمنها معاني الخط املستقيم أو الزوايا‬ ‫البساطة والسهولة التي‬
‫ّ‬
‫معنوية وعمليات ميكانيكية آلية"‪85‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحسابيــة التي توضع أمامه ويطلب إليه أن يتعلمها‪ ،‬فإنــها تبدو له أشياء‬
‫ّ‬
‫الثــانية أو ّ‬
‫املهنية‪ ،‬ناجحة رغم صدق نواياه‪ .‬وهو األمر الذي جعل املعلمين‬ ‫لم تكن طريقة بيستالوزي‬
‫ّ‬
‫املمارسين أنفسهم رغم تأثرهم الكبير به‪ ،‬يعودون إلى اعتماد طريقة بيستالوزي األول‪ .‬وهو املعنى الذي‬
‫عبر عنه ديوي في الجملة التالية‪" :‬وفي املدارس الحديثة التي تلت مدارس بيستالوزي‪ ،‬نالحظ ّأنها قد عادت‬ ‫ّ‬
‫الحيوية البالغة ّ‬
‫األهمية وهي تعليم األطفال عن طريق‬ ‫ّ‬ ‫بطريقة واضحة إلى فكرته القديمة األولى‪ .‬إلى فكرته‬
‫ّ‬
‫اليومية‪...‬وينبغي أن نؤكد هنا أن‬ ‫إسهامهم بنصيب في تلك املهن والحرف التي تشبه املهن والحرف في الحياة‬
‫ّ‬
‫عمليــة مستقلة تمام االستقالل عن ّأية إشارة إلى بيستالوزي‬ ‫تطبيق هذه املدارس ملبادئ بيستالوزي‪ ،‬كانت ّ‬
‫ومبادئه"‪86‬‬
‫ّ‬
‫العملي ـة‪ ،‬أكثر مما لقيته أفكار بيستالوزي‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫الشـهرة من ّ‬
‫ولعل‬ ‫النـاحية‬ ‫لم تلق أفكار تربوية حديثة من‬
‫االجتماعيــة " لقنال ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النمو‪ ،‬جعلته يصفه بكونه‬ ‫تأثر ديوي به في فكرتي "التعلم عن طريق األشياء" و"الوجهة‬
‫الرجل الذي‬‫خاصــة"‪ .‬بيد ّأن هذا الحوار بين ديوي وبستالوزي لم يكن بمعزل عن فروبل‪ّ ،‬‬ ‫رجال "ذا بصيرة ّ‬
‫ّ‬
‫أسهم القدر نفسه في توجيه رياح التربيــة الحديثة‪.‬‬

‫ت ـ فروبل‪87‬‬

‫‪ 85‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪119-118‬‬


‫‪ 86‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪12-119‬‬

‫‪ ،87 Friedrich Wilhem August Fröbel‬فريدريك فيلهايم أوقيست فروبل ‪21‬أفريل ‪ 21 – 1782‬جوان ‪ 1852‬بيداغوجي ألماني‪ ،‬اشتهر بفكرته‬
‫رف بابتكاره لعديد الوسائل التّعليمية المناسبة من ألعاب وغيرها‪ ،‬الموجهة‬
‫المدرسيـة‪ .‬كما ُع َ‬
‫ّ‬ ‫أهمية التّربيــة ما قبل‬
‫الخالّقة عن "رياض األطفال" وعن ّ‬
‫تحدث بنفسه عن " سنوات صغره الحالكة "‪ .‬تلّقى بعض العناصر من التّعليم‬ ‫سنه األولى‪ ،‬وقد ّ‬ ‫للطفولة من ‪ 3‬إلى ‪ 6‬سنوات‪ .‬عاش يتيم األم منذ ّ‬
‫الديني‪ ،‬ولكنه سرعان ما ُعني بتعليم نفسه بنفسه‪ ،‬فنشأ عصامي التكوين في البداية‪ ،‬ثم التحق بالتّعليم النظامي‪ .‬كان مياال إلى التّــأمل والتفكير‬
‫َ‬
‫طبيعة وغلبة‬
‫طبيعة وتستحثّه على التفكير في قوانين وأنظمة الموجودات‪ .‬تميز شباب فروبل بغياب األم وحب ال ّ‬ ‫الباطني‪ ،‬رومانسي الهوى‪ ،‬تستهويه ال ّ‬
‫المقدس‬ ‫العقيدة المسيحية‪ .‬كان يقول بان هللا عبارة عن قانون يوجد في كل شيء فيقوده ّ‬
‫لنموه الكامل‪ .‬أما اإلنسان فعليه أن يدرك هذا الحضور اإللهي ّ‬
‫بداخله‪ .‬ومن هنا فإن التّربيــة هي في مساعدة هذا القانون اإللهي على التحقق األقصى‪ .‬وذلك بالكشف عن اتّــجاهات ّ‬
‫النمو وبتوفير وسائله وضماناته‬
‫طبيعة‬‫المؤسسات‪ ،‬وعن ال ّ‬
‫ّ‬ ‫وظروفه المناسبة‪ .‬وكان في فكرته عن رياض األطفال يركز على ضرورة التّ ـواصل المباشر بين الكبار والصغار في هذه‬
‫المعدة للهو واالستمتاع‪ .‬انقطع عن تعليمه الجامعي‪ ،‬والتحق بعمل في حراسة الغابات‪ ،‬ثم سعى إلى أن يكون معماريا فقضى سنتين‬
‫ّ‬ ‫البيداغوجية للمواد‬
‫ّ‬
‫النموذجية‪ ،‬والتي كانت تطبق‬
‫طلب لوظيفة التّدريس في المدرسة ّ‬ ‫في تعّلمها‪ ،‬وحين أراد أن يمارسها فشل فشال ذريعا‪ .‬ثم في جوان من سنة ‪ُ 1805‬‬
‫مبادئ بيستالوتزي ‪ ،‬فأعجبه هذا العمل ووجد كيانه في ممارسته‪ ،‬حتى أنه كتب لشقيقه كريستوف يقول له " أقولها لك بصراحة‪ ،‬إنه فعال ألمر مدهش‪،‬‬
‫مدرسا وكما لو أنني خلقت لهذه المهنة‪ ،‬حيث يبدو لي أنني لم أرغب‬
‫أن اشعر بكل هذا االرتياح في عملي الجديد هذا‪ ..‬إنه كما لو أنني كنت دائما ّ‬
‫قط في أي شيء آخر أكثر منها"‬

‫‪« Je te le dis franchement, c’est étonnant à quel point je me sens bien dans mon nouveau travail… C’est‬‬
‫‪comme si j’étais depuis longtemps enseignant et que je sois né pour cette profession ; il me semble que je‬‬
‫» ‪n’ai jamais souhaité faire autre chose‬‬

‫‪47‬‬
‫سافر إلى سويسرا‪ ،‬وتحديدا إلى ايقيدرون ‪ Yvedron‬مدينة مدرسة بيستالوزي ّ‬
‫الشـهيرة‪ ،‬وكان يريد تعّلم طرقه ومشاهدة تطبيقاته‪ .‬وفي األثناء كّلف‬
‫بالعناية بثالث أوالد‪ ،‬كانت عائلتهم قد تكفلت بمصاريف زيارته العلم ّـيـة إلى سويسرا‪ .‬حاول مستغال نفوذ شقيقه الراهب‪ ،‬أن ُيدخل أنظمة بيستالوزي‬
‫في مدارس مقاطعته بألمانيا لكنه لم يستطع تحقيق هدفه‪ .‬استغل وجوده في سويس ار بقرب بيستالوتزي فكتب أول نصوصه وهو بعنوان‬
‫» )‪« Kurze Darstellung Pestalozzis Grundsätze der Erziehung und des Unterrichtes. (Nach Pestalozzi selbst‬‬
‫" عرض مختصر في مبادئ بيستالوتزي في التّربيــة والتكوين‪( ،‬بالعودة إلى بيستالوتزي نفسه) "‬
‫ولما نشر بيستالوتزي في سنة ‪ 1805‬كتابه " كتاب األمهات" وأشار فيه جزئيا إلى دور األمهات بأغانيها وهدهداتها وعموم سلوكها مع أطفالهم‪ ،‬في‬
‫طفل‪ ،‬جذب إليه انتباه فروبل أكثر من غيره‪ ،‬وألهمه أفكار تربوية جديدة‪ ،‬حتى أن المؤرخين يذكرون أن روح‬
‫األوليــة في ال ّ‬
‫ّ‬ ‫األساسيــة و‬
‫ّ‬ ‫إيقاظ القوى‬
‫تأثير كتب بيستالوتزي سوف تظهر واضحة في كتاب فروبل سنة ‪ 1844‬بعنوان » ‪ " « Mutter und Koselieder‬أغاني األم" الذي يوسع فيه‬
‫وخاصــة منه الريفي‪ ،‬المشابه للبيئة التي عنى بيستالوتزي كثي ار باالشتغال‬
‫ّ‬ ‫فكرة تأثير األم في " إيقاظ مشاعر ابنها اإلنسانية األولى" وتأثير المحيط‪،‬‬
‫أهمية بعد‪ ،‬تر ّبيــة اإلنسان‪ .‬وفي أغاني األم يتعرض فروبل إلى السن األولى للطفل‪،‬‬
‫عليها‪ .‬ويعتبر البعض أن هذا الكتاب هو ثاني أعظم كتب فروبل ّ‬
‫وخاصــة ألعاب‬
‫ّ‬ ‫أهمية ذلك في تكون أولى مشاعر هذا الــ" أنا" القادم الجديد إلى العالم‪.‬‬
‫وإلى الدور التّربوي لحنان األم وألعابها العفوية مع ابنها‪ ،‬و ّ‬
‫األصابع التي تأتيها األم وحركات الذهاب والعودة إلى حضنها ومشاهد المحيط الذي تزوره األم وغير ذلك من التفاصيل‪.‬‬
‫عاد بعد سويس ار إلى ألمانيا وزار برلين وحضر دروسا في علوم المادة ودروسا في الفلسفة لفيخته‪ .‬ولما اندلعت الحرب ضد جيوش نابليون في ‪1813‬‬
‫انخرط فروبل في فصيل الرماية حتى سنة ‪ 1814‬بعدها انتقل إلى التّدريس في الجامعة في برلين مساعدا لألستاذ ويس ‪ Weiss‬في معهد علم‬
‫وكرس جهوده للعناية بأبناء شقيقه كريستوف المتوفى‪ ،‬ثم أنشأ مدرسة للتّعليم الحر‬
‫المعادن في جامعة برلين‪ .‬ثم في سنة ‪ 1816‬استقال من وظيفته ّ‬
‫سماها " المعهد األلماني العام للتّربية" في قرية كيلهو ‪Keilhau‬‬

‫إلهيــة‪ ،‬فاهلل موجود في شكل قانون في كل شيء‪ .‬ويتمظهر هذا القانون في ّ‬


‫النمو‪ .‬والبيئة هي الجامع لكل‬ ‫يتكون العالم في فلسفة فروبل من وحدة ّ‬
‫طبيعي‪ .‬بل إن‬
‫المجرد أي الروحي والمادي أي ال ّ‬
‫ّ‬ ‫الموجودات المختلفة‪ .‬لكن في داخل كل هذا التعدد هناك وحدة‪ .‬إنها وحدة القانون‪ .‬وهي وحدة بين‬
‫الحية األخرى والجماد تخضع‬
‫هذه الوحدة هي أيضا بين الفضاء أو البيئة والكائن الموجود بها‪ .‬اتحاد بين "الخارج" و"الداخل"‪ .‬وإذا كانت الكائنات ّ‬
‫جميعها للقانون العام لبيئة‪ ،‬فإن اإلنسان هو الوحيد المؤهل إلدراك القانون الذي يخضع له‪ ،‬بل والقادر على أن يذهب به إلى ّ‬
‫حد كماله األقصى‪.‬‬
‫النمو‬
‫كتب فروبل كتابه الرئيسي الذي عرض فيه فلسفته في التّربيــة سنة ‪ 1826‬وهو بعنوان " في تر ّبيــة اإلنسان" وقد عرض فيه أهم نقاط فلسفته في ّ‬
‫والبيئة والداخلي والخارجي والوحدة والتعدد والتجانس وحدد فيه برنامج التّعليم من سن الثالثة إلى الستة سنوات وتر ّبيــة المرحلة التي تليها فالتي تليها‪،‬‬
‫الموجهة‪ ...‬في المعهد األلماني العام للتّربية‪ ،‬مدرسة فروبل‪ ،‬كان التّعليم يقوم على التدخل‬
‫ّ‬ ‫وأكد على أن برنامج المرحلة األولى يتكون فقط من األلعاب‬
‫الحر من التالميذ في اختيار مادة الدراسة‪ .‬كما كان كل فرد محاط بإطار اجتماعي يعمل وفقه‪ ،‬سواء كان هذا اإلطار من زمالئه التالميذ أو من‬
‫"عائلة المدرسة" أو األولياء المشاركين في بعض حصص التدريب واأللعاب‪ .‬وكان البرنامج الدراسي يتكون من مواد علم ّـيـة وأدبية وتقنية و ّفنية‪ ،‬فهو‬

‫على غاية من الشمول‪ .‬ولم يكن هدف التّعليم هنا هو فقط إيقاظ القوي الذهنية والمؤهالت الجسدية فحسب‪ ،‬بل يهدف إلى تقوية الروابط االج ّ‬
‫تماعيــة‬
‫يخصص جزءا من وقت التالميذ للعمل في المزرعة الصغيرة الملحقة بالمدرسة والتي كان هدف إنتاجها تغطية الحجات الّدنيـا‬
‫باألساس‪ .‬وكان فروبل ّ‬
‫من استهالك المدرسة‪.‬‬
‫المتقدمة للتّربية‪ .‬والمعرفة العلمـّيـة بقوانين األشياء ضرورية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الكشافة‬
‫يتكامل العلم والتّربيــة وال يتداخالن‪ .‬ومن هنا فإن العلم هو موجه التّربيــة أو الجنود ّ‬
‫ينيـة‪ .‬إنهما يسيران إلى جنب‪ .‬والتّعليم هو الذي يضمن حصولهما في الذات معا‪ .‬في سنة ‪ 1835‬عين فروبل‬‫الد ّ‬
‫خالقيـة و ّ‬
‫لكنها ال تعوض التّربيــة األ ّ‬
‫مدي ار لميتم ومدرسة بيردورف ‪ Burgdorf‬ولم تستمر التّـجربة طويال رغم الطموح الذي عّلقه فروبل عليها‪.‬‬
‫نموه‪ .‬وهذه العناية بدور العائلة هي‬ ‫خاصــة لدور العائلة المركزي في إيقاظ قوى ال ّ‬
‫طفل وتوفير القنال األولى التي يتدفق فيها ّ‬ ‫أهمية ّ‬
‫في فلسفة فروبل ّ‬
‫جيـة‬
‫التي أنجبت لديه فكرة " رياض األطفال" وما استتبعها من متخصصين في هدا المجال‪ .‬وكان من أجل رياض األطفال يخترع األلعاب البيداغو ّ‬
‫المختلفة‪ ،‬واليه تعود فكرة اختراع المكعبات الملونة واألذرع الخشبية واالسطوانات واألقراص‪ ...‬ذات األهداف التّربويــة‪ .‬بل يتحدث البعض عن ّأنه أنشأ‬
‫ورشة صناعية تعنى بتوفير هذه المستلزمات‪ .‬وقد نشر فروبل ثالث مجالّت األولى في ‪ 1826‬والثّــانية في ‪ 1843‬والثالثة في ‪ 1850‬وكان‬
‫البيداغوجيـة إلى األطفال‪ .‬أما فكرته التي اشتهر بها عالميا وهي " رياض األطفال" وربيبتها " التّعليم عبر‬
‫ّ‬ ‫يخصصها لعرض أفكاره التّربويــة و"هداياه"‬
‫ّ‬
‫استتباع لتصوره عن الدور‬ ‫سوى‬ ‫ن‬
‫اللعب" فهي لم تكن بشكل مباشر إال في سنوات األربعين من القر التاسع عشر‪ .‬ولم تكن فكرة رياض األطفال‬
‫الشعبية أللمانيا‪ .‬من هنا‬
‫األساسيــة األولى للتّربية ّ‬
‫ّ‬ ‫إن رياض األطفال هي في تعبير فروبل النواة‬
‫السـعيدة‪ّ .‬‬
‫األساسي الذي رغب في إعطائه للعائلة ّ‬
‫تصبح الطفولة األولى مرحلة لها معناها الخاص‪ ،‬والمستقل سيكولوجيا‪ .‬وهو فضل فروبل األول في التنبيه إلى هذه األمور‪.‬‬

‫احتّلت األشياء موقعا كبي ار في رياض فروبل وكانت تتكون من الخشب والورق المقوى والمعدن والصوف وغيرها‪ .‬وكانت في األشكال الهندسية ا ّلر ّ‬
‫ئيسيـة‬
‫مكعبات فروبل‪ ،‬ذات القطع المختلفة والعناصر المفككة القابلة‬
‫المعروفة‪ :‬الدائرة والمربع والمستطيل واالسطوانة وعيرها‪ ،‬غير أن المشهور منها هو ّ‬

‫‪48‬‬
‫الحقيقية عبر هذه الوسائط‪ ،‬لذلك كان يسميها‬
‫ّ‬ ‫طفل حدسيا وحسيا إلى االقتراب من موجودات العالم‬
‫للتركيب والتفكيك‪ .‬وكان هدف فروبل أن يصل ال ّ‬
‫" أشكال الحياة"‪.‬‬

‫كانت أفكار فروبل حول تر ّبيــة السن األولى للطفل ومساعدته على إيقاظ قوى ّ‬
‫نموه في االتّــجاه االجتماعي‪ ،‬ثورّية حقا‪ .‬ولكنها لم تحض في بداية‬
‫البروسية رسميا هذا مشروع رياض األطفال‪ .‬ومع ذلك فإن نشر أفكاره بعده وانتقالها إلى باقي‬
‫ّ‬ ‫أمرها بالقبول في بروسيا‪ ،‬فإثر وفاته منعت الحكومة‬
‫الدول األوربية يعود فيه الفضل األساسي إلى بيرتا فون مارنهولتز بولوف )‪Bertha von Marenholtz-Bülov (1810-1893‬وقد كان من‬ ‫ّ‬
‫نتيجة ذلك أن ظهرت الجمعية البريطانية ألنصار فروبل‪ ،‬ثم انتقلت أفكاره سريعا إلى كامل دول أوربا وروسيا وأمريكا الشمالية‪ .‬واآلن رغم بداهة فكرة‬
‫النــفس التّربوي ال يزال يستمد من فروبل بعض األساسيات في إيقاظ قوى ال ّ‬
‫طفل األولى وتوجيهها نحو غاياتها‬ ‫رياض األطفال في أذهاننا فإن علم ّ‬
‫االجتماعيــة‪ .‬والدور الحيوي للعب عند ال ّ‬
‫طفل‪.‬‬ ‫ّ‬

‫الحرة)‬
‫ّ‬ ‫مبنى مدرسة فروبل الحرة اليوم في ألمانيا (المصدر موسوعة وكيبديا‬

‫‪Allgemeine Deutsche Erziehungsanstalt á Keilhau,‬‬

‫مصادر التّـرجمة‪:‬‬

‫‪GRAND LAROUSSE UNIVERSEL‬‬

‫‪LE PETIT ROBERT des noms propres‬‬

‫‪Revue trimestrielle d’éducation comparée (Paris, UNESCO: Bureau international d’éducation), vol. XXIII, n° 3-‬‬
‫‪4, septembre-décembre 1993, p. 481-499.‬‬

‫‪WIKIPEDIA ,L’encyclopédie libre‬‬

‫‪49‬‬
‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫نمو‪ ،‬بمعنى‬ ‫ملا كان هدف رجال التربيــة من الخط الروسوي هو قبل كل ش يء‪ ،‬ترسيخ فكرة أن‬
‫حيا سعيدا يمتاز بالخلق‬ ‫النمو حتى يصبح ّ‬ ‫قوة له على ّ‬ ‫مساعدة هذا‪" :‬الحيوان الصغير الذي ال حول وال ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫العمليــة ّ‬ ‫ّ‬
‫عليمية التربوية‬ ‫الت‬ ‫ّ‬ ‫السليم والكفاية في القدرات‪ ،‬وجب أن تكون هناك خطة ثابتة تسير على ُهداها‬
‫ّ‬ ‫حريــة كافية تييح لهذا ّ‬ ‫الطفل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫النمو أن يرقى وأن يتطور في طريقه املرسوم"‪ 88‬وهذا بالفعل ما مثل‬ ‫عطي‬‫وت ِّ‬
‫ّ ّ‬ ‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫للنمو الطبيعي‪ ،‬ولكنه اشترط أن تكون‬ ‫عمليــة مساعدة‬ ‫هاجس فروبل األول‪ .‬فلقد كان فروبل يعتبر‬
‫منظمة بواسطة معرفة دقيقة "بقوانين" ّ‬ ‫ّ‬
‫النمو‪.‬‬ ‫هذه املساعدة‬
‫ّ‬ ‫ومدفوعا للبحث عن هذا "القانون" ذهب فروبل إلى ّ‬
‫حد القول بوجود قانون داخلي يسكن الطفل‪،‬‬
‫كونية‪ .‬ومن هنا سعى إلى تحديده بالعودة إلى نظام‬ ‫للنمو‪ ،‬فهو ظاهرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫نموه‪ .‬وهو باعتباره قانونا‬ ‫ويحدد ّ‬
‫جية‪ .‬فعثر على أن هناك تشابها بين نظام ّ‬ ‫الفيزيائيــة الخار ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نمو العقل اإلنساني ونظام سير األمور في‬ ‫الطبيعة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الطبيعة‪ .‬وهو أمر من الط ـرافة بمكان‪ ،‬ويعلق عليه ديوي بالقول‪" :‬وكان فروبل يؤمن أيضا بأن هنالك عالقة‬
‫الحرة الطليقة‪ ،‬ألن كل منهما‬ ‫جية‪ ،‬وبين سمات العقل ّ‬ ‫العامة لألشياء الخار ّ‬
‫ومطابقة كاملة بين الخصائص ّ‬
‫ّ‬ ‫العالقات ّ‬ ‫ّ‬
‫العامــة بين أشياء الطبيعة‬ ‫كان مظهرا لحقيقة حرة منطلقة واحدة"‪ .89‬وهكذا اعتبر فروبل أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للنمو‪ .‬وهو تقريبا النظام الهندس ي‬ ‫الحسابيــة‪ ،‬هي املظهر األساس ي لذلك املبدإ الكوني‬ ‫وخاصــة العالقات‬
‫الرياض ي للطبيعة نفسه الذي تحدث عنه علماء وفيزيائيون سابقون كغاليلي‪ ،‬فسعى إلى بحث داللته‬
‫الطبيعة ونظام عمل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نمو الذهن‬ ‫التربويــة‪ .‬وكان فروبل قد عبر عن جوهر "فكرة الوحدة" بين نظام عمل‬
‫اإلنساني‪ ،‬في مذهبه املسمى بـ"فلسفة الفضاء الدائري أو الكروي"‪ 90‬وهي التي عرضها في كتابه ّ‬
‫"تربيــة‬
‫اإلنسان"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لقد أمسك فروبل في اعتقاده بمراده‪ ،‬أي بالقانون العام ّ‬
‫للنمو‪ .‬وينبغي بعدئذ تنظيم وجود الطفل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للنمو‪ .‬قانون العالقات الطبيعيــة بين األشياء والعالقات‬ ‫وألعابه ونشاطه وفق هذا القانون الكوني‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحسابيــة‪ .‬ومن هنا امتلك فروبل األساس الفلسفي لنظريته التربويــة‪ ،‬وفي هذا املعنى يقول ديوي‪" :‬قد كان‬
‫تربوية‪ ،‬ال بسبب كنهها وطبيعتها وما هي عليه‪ ،‬بطريقة مباشرة في ّ‬ ‫ّ‬
‫حد‬ ‫التلقائية ألعاب ّ‬
‫ّ‬ ‫يظن ّأن ألعاب الطفل‬
‫معين‪ ،‬كائن في الوجود‪ .‬فاألطفال مثال ينبغي أن يجتمعوا ببعضهم بعضا في‬ ‫ألنها رمز لقانون عاملي ّ‬ ‫ذاتها‪ ،‬بل ّ‬
‫والعمليــة‪ .‬بل ألن الدائرة رمز للنهاية‪ ،‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫دائرة‪ ،‬ال ألن هذا االجتماع الدائري مريح لألغراض‬
‫ّ‬
‫بالالنهائية‪ ،‬وهو شعور كامن في روح الطفل وفي نفسه "‪91‬‬ ‫الرمز كفيل بإثارة هذا الشعور ّ‬
‫النمو يجب أن تمدنا بطرق تربوية نطبقها على جميع‬ ‫ّ‬ ‫من هنا كان فروبل يعتقد أن مسألة قانون‬
‫األطفال دون استثناء‪ ،‬حيث أن العقل عند كل األطفال األسوياء ميشابه القوى واالستعدادات‪ّ ،‬‬
‫وبالتـالي‬

‫‪ 88‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪183 - 182‬‬


‫‪ 89‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪152‬‬

‫‪90‬‬
‫‪"La Philosophie Sphérique" In Revue trimestrielle d’éducation comparée (Paris, UNESCO: Bureau‬‬
‫‪international d’éducation), vol. XXIII, n° 3-4, septembre-décembre 1993, p. 481-499.‬‬

‫‪ 91‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪153‬‬

‫‪50‬‬
‫ّ‬ ‫سير ّ‬ ‫سوف ُي ّ‬
‫النمو بوسائل ميشابهة لديهم جميعا‪ .‬ومن هنا كانت إبداعية فروبل في توفير الوسائل التربويــة‪،‬‬
‫ولعل أبرز ما ينبغي تثمينه في مشروع فروبل حسب ديوي‪ ،‬هو تأكيده على الخاصية‬ ‫وخاصــة األلعاب‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫التربوية لأللعاب‪ .‬فلقد ّ‬ ‫ّ‬
‫وسع فروبل الكالم‪ ،‬وأفاض في شرح قيمة ودور التمثيليات واألغاني واألناشيد‬
‫تتضمن استخداما للمادة استخداما وظيفيا ّبن ًاء لدورها‪ .‬كما أنه كان دائم التأكيد‬ ‫ّ‬ ‫وحكاية القصص التي‬
‫ّ‬
‫على الطابع والهدف االجتماعيين لهذه األلعاب‪ .‬يقول فروبل معبرا عن فكرته حول ارتباط التعلم بالتدريب‬
‫العملي‪ّ " :‬إن الدروس التي يتلقاها األطفال بالعمل وعن طريق العمل‪ ،‬من الحياة وعن طريق الحياة‪ ،‬هي أكثر‬
‫الدروس التي تترك انطباعا في أنفسهم‪ ،‬وهي أقرب الدروس إلى أفهامهم وعقولهم‪ ،‬وهي أعظم الدروس‬
‫ّ‬ ‫وتقدما‪ ،‬في ّ‬ ‫استمرا ا ّ‬
‫حد ذاتها‪ ،‬من ناحية األثر الذي تتركه في املتعلمين"‪ 92‬وبتأثير من هذه القناعة حول‬ ‫ر‬
‫يكرس كل شخص شابا أو صبيا أو شيخا‪ ،‬على األقل بين الساعة‬ ‫العمليــة ينصح فروبل بأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫جدوى الدروس‬
‫والساعتين يوميا إلنتاج ش يء ما مادي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويدعي فروبل أنه حينما يدافع عن هذه األفكار التربويــة‪ ،‬هو في الحقيقة ال يفعل سوى اإلنصات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحيوية الصادقة لدى "صغار البشر" في اإلسهام في املهن‪ ،‬والنشاطات ذات الطابع والغاية‬ ‫جيدا للرغبة‬
‫عما يرغبون فيه على الحقيقة‪.‬‬ ‫االجتماعيين‪ .‬إن االنيباه إلى ما يأتيه األطفال خارج أسوار املدرسة يكشف ّ‬
‫وتزودنا مالحظة األطفال‬ ‫ّإنهم ينغمسون في ألعابهم انغماسا حتى يفقدهم ذلك االنغماس الشعور بالوقت‪ّ .‬‬
‫الرغبة واالهتمام لديهم‪ .‬ومن املهم أن نالحظ ّأنه يمكن توظيف األمور‬ ‫هذه‪ ،‬بمعرفة دقيقة حول ّاتــجاهات ّ‬
‫التي تستقطب اهتمامهم ومتعتهم وفرحهم توظيفا تربويا‪ .‬هنا كان امتياز فروبل في تنبيه العالم إلى إمكانية‬
‫اللعب من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عدو تربوي مرغوب عنه‪ ،‬إلى وسيلة تربوية خالقة‬ ‫الجمع بين اللعب والتربيــة‪ ،‬أو باألحرى تحويل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مرغوب فيها‪ .‬وتكمن قيمة اللعب أو مساهمته التربويــة في كونه كما يقول جون ديوي‪" :‬يعلم األطفال‬
‫ويبصرهم بالعالم الذي يعيشون فيه"‪93‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫الخطوط ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫العامــة ألفكار فروبل في التربيــة في املالحظات التالية‪:‬‬ ‫ويمكننا عموما‪ ،‬أن نجمل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬
‫اجتماعيــة‬ ‫نمو‪ ،‬نحو أهداف‬ ‫ـ‬
‫ّ‬ ‫ـ يخضع ّ‬
‫النمو إلى قوانين ثابتة يمكن مالحظتها في اليشابه بين العقل اإلنساني ونظام الطبيعة‬
‫ـ تمثل األلعاب كنه حياة الطفولة األولى وينبغي توظيفها تربويا‬
‫النظري والعملي‪.‬‬ ‫العامــة على املوا نة بين ّ‬‫التعليم في املدارس ّ‬ ‫ـ ينبغي أن يقوم ّ‬
‫ز‬
‫بالنمو‪ ،‬ومواصلته في رياض األطفال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واألساسيــة‬ ‫ـ ينبغي أن تبدأ العائلة باالهتمام والعناية األولى‬

‫‪ 92‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪154‬‬


‫‪ 93‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪155‬‬

‫‪51‬‬
‫خصص ديوي فصال كامال لعرض مبادئ فروبل ومن ّثمة مناقشتها‪.94‬‬ ‫وفي كتابه املدرسة واملجتمع‪ّ ،‬‬
‫تضمنه هذا الفصل‪ ،‬نجد ديوي يبدأ بإجمال مبادئ التجديد الذي أنجزه فروبل في العناصر‬ ‫ّ‬ ‫وبتيبعنا ملا‬
‫التالية‪:‬‬
‫األوليــة‪ ،‬في ّ‬
‫تربيــة األطفال على الحياة املشتركة وذلك بالتعاون في العمل وتبادل‬ ‫أوال‪ :‬تتمثل وظيفة املدرسة ّ‬
‫ّ‬
‫الفعليـة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫هذا التعاون وإخراجه من حيز االستعداد ّ‬
‫النــفس ي إلى ساحة الحياة‬
‫ّ‬ ‫ثانيا‪ :‬أن األصل في كل ّ‬
‫تربيــة‪ ،‬هو االنطالق من دوافع الطفل ذاته‪ ،‬وهي التي تأخذ مكانة أعظم من جميع‬
‫الحوافز الخارجية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اجتماعيــة أساسية‪ .‬وعليه ينبغي البحث في غايات تلك‬ ‫ثالثا‪ :‬لجميع تلك الدوافع الطبيعيــة أهداف‬
‫ّ‬
‫االجتماعية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫البيداغوجية‪ ،‬على تحقيق غاياتها‬ ‫الدوافع ومساعدتها بجميع الوسائل‬
‫ّ‬ ‫رابعا‪ :‬يعتقد فروبل أن هذه املبادئ ينبغي احترامها سواء في ّ‬
‫تربيــة أطفال "الثــانية عشرة" من العمر أو من‬
‫ّ‬
‫هم في الرابعة على السواء‪ .‬فهي عبارة عن مبادئ عامة للتربية بإطالق‪.‬‬

‫النمو بحرصه على توجيه هذا الن ّ‬ ‫التربيــة عبر ّ‬‫ّ‬


‫مو وجهة‬ ‫لم يتفوق فروبل على روسو في تدعيمه لفكرة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اجتماعيــة‪ ،‬فحسب‪ ،‬وإنما تفوق على بيستالوزي أيضا حينما حافظ على أولوية التدريب العملي في التربيــة‬
‫ّ ّ‬ ‫التد يس ّ‬ ‫ّ‬
‫اجتماعيــة التربيــة من ناحية وعلى‬ ‫النظري‪ .‬وهكذا كان تأثيره في ديوي مزدوجا‪ ،‬التأكيد على‬ ‫على ر‬
‫ولعل من الطريف اإلشارة إلى أن فروبل كان يعتبر أن مصير أفكاره‬ ‫ارتباطها بالتدريب العملي من ناحية ثانية‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫الشيوع والتطبيق ال محالة‪ .‬وهو األمر الذي جعل ديوي يعتبر اعتماد رياض األطفال على تقنيات اللعب‬
‫أساسيا‪ ،‬وتوظيفه توظيفا تربويا في عديد املدا س ذات التوجه التقدمي‪ ،‬هو َت ّ‬
‫حق ٌق " لنبوة" فروبل‪.95‬‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العمليــة في مجال التربيــة‪ .‬وكان أفضل ما‬ ‫وباملحصلة‪ ،‬لقد كان فروبل رجال جمع بين املعرفة والخبــرة‬
‫التربوي في تطوير ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قدمه هو ما بقي منه إلى ّ‬ ‫ّ‬
‫النمو‪ ،‬وتدعيم فكرة‬ ‫حد اآلن‪ ،‬التعلم عبر العمل‪ ،‬ودور اللعب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االتــجاه االجتماعي للتربية‪.‬‬
‫وج ُه‬
‫النمو الذي ُي َّ‬‫السياق هو أن شذوذ أي طفل عن قانون ّ‬ ‫غير أن أخطر ما في أفكار فروبل في هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ذلك الطفل في إطاره‪ ،‬ليس مرجعه فساد في القانون نفسه‪ ،‬وإنما فساد في طبيعة الطفل ينبغي إصالحه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولعلـه هنا بالذات سوف ينتهي طريق ديوي باالفتراق عن فروبل‪.‬‬
‫ّ‬
‫لقد كان فروبل يحمل في داخله رجل العلم‪ ،‬ولم يستطع أن يتخلى عن ذلك أبدا‪ .‬وهو األمر الذي‬
‫للتعليم تناسب جميع األطفال من ّ‬ ‫ّ‬
‫الشديدة في إيجاد قواعد وقوانين ثابتة ّ‬
‫السن‬ ‫يمكن أن يشرح لنا رغبته‬
‫األساسيــة املطلوبة‪ ،‬والتي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نفسها‪ .‬إن انحراف ّ‬
‫يحددها‬ ‫نمو طفل ما‪ ،‬وخروجه عن مسار الغايات التربويــة‬
‫ّ‬
‫نظام التقييم التربوي‪ ،‬ال ُيرجع‪ ،‬إلى فساد في الطرق نفسها‪ ،‬وإنما إلى فساد في طبع التلميذ‪ .‬وهي فكرة‬
‫‪94‬‬ ‫‪John Dewey, The school and Society and The Child and The Curriculum, University of Chicago Press, U.S.A‬‬
‫)‪2000, Chapter V ( Frobel’s Educational Principals‬‬
‫قدم ديوي نصا مختص ار لفروبل) يبين لنا فروبل أنه كان نبيا ومبش ار بكل ما حققه‬
‫يقول ديوي " ‪ ...‬وفي الجملة األخيرة من هذا النص (وكان قد ّ‬
‫‪95‬‬

‫نتحدث عنها في هذا الكتاب" (مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪)155-154‬‬ ‫المربون في بعض المدارس ّ‬
‫التقدمية كتلك التي ّ‬

‫‪52‬‬
‫ّ‬
‫يستهجنها ديوي ويستقبحها‪ ،‬في نظام األفكار التربويــة الخالقة لفروبل‪ .‬هذا فضال عن ّأن االتكال األعمى‬
‫ّ‬
‫على فكرة " الطابع التربوي لأللعاب" قد يؤدي إلى نتائج عكسية‪ ،‬أي ال تربوية‪ .‬إن اغلب األطفال يعيدون في‬
‫ألعابهم إنتاج نمط شبيه بنمط سلوك الكبار‪ .‬فآلية التقليد أو ّ‬
‫الرغبة في املحاكاة كبيرة في سلوكهم أثناء‬
‫ألعابهم‪ ،‬وقد تؤدي لعبة " تمثيلية العائلة" التي يقبل عليها أغلب األطفال‪ ،‬إلى تكريس بعض العادات السيئة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫في بعض األسر فاسدة العادات‪ .‬كما ّأن العيب الثــاني يتمثل في أن اللعب للعب‪ ،‬ال ينتهي إلى تكوين طبائع‬
‫ّ‬ ‫النــفس التي تنشأ مطلقة الهوى‪ ،‬تألف ّ‬ ‫ألن ّ‬
‫الطفل‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫السلبيــة‪ ،‬فتنشأ‬ ‫الحريــة‬ ‫تربوية ذات سمة أخالقية في‬
‫ّ‬ ‫فإن فكرة " ُ‬‫وبالنـييجة ّ‬
‫عديمة االنضباط واملسؤولية‪ّ .‬‬
‫البعد التربوي لأللعاب" في حاجة إلى كثير من التحديد‬
‫والتوضيح‪ ،‬حتى تصير فعال تربوية‪ .‬وهو ما سوف يكون ميزة تيسم بها بيداغوجيا ماريا مونتيسوري‪.‬‬
‫ج‪ -‬مونتيسوري‪96‬‬

‫المختصـين في‬
‫ّ‬ ‫‪ 96‬ماريا مونتيسوري ‪ 13Maria Montessori‬أوت ‪ 6 – 1870‬ماي ‪ 1952‬طبيبة بيداغوجية إيطالية معاصرة‪ .‬من أشهر‬
‫ميدان التعّلميات المعاصرة‪ .‬حتى أن طريقة في البيداغوجيا أو في العناية باألطفال وتربيتهم‪ ،‬تحمل إلي اليوم اسم هذه العالمة مونتيسوري‪ .‬وتقوم‬
‫شخصيـة‪ .‬تحصلت‬
‫ّ‬ ‫تفرده في ال‬
‫الفرديــة للطفل في تعلم القراء والكتابة وغيرها مما يتيح له أن يمتلك كل مالمح ّ‬
‫ّ‬ ‫طريقتها على االعتقاد في وجود القدرة‬
‫في سنة ‪ 1894‬على دبلوم الطب وكانت أول امرأة إيطالية تتحصل على دبلوم في هذا التخصص العلمي‪ ،‬بل وأول طبيبة إيطالية تمارس هذه المهنة‪.‬‬
‫ّ‬
‫النــفسية‪ .‬واستوقفتها بشكل خاص‬‫العصبية و ّ‬
‫ّ‬ ‫النــفسية بجامعة روما‪ .‬وهناك اهتمت باألمراض ذات األعراض‬ ‫التحقت كطبيب متمرن بقسم األمراض ّ‬
‫بعدة بحوث ودراسات في هذا الميدان فانتهت إلى أن كثير من حاالت هؤالء األطفال‬
‫ظاهرة األطفال من أصحاب أمراض القصور الذهني‪ .‬فقامت ّ‬
‫يمكن معالجتها بقليل من العناية والمساعدة التّربويــة الموجهة‪ .‬أدارت بين سنة ‪ 1899‬و‪ 1901‬معهد إلعادة التأهيل الصحي بروما ‪Director of‬‬
‫‪The State Orthephrenic School Of Rome‬حيث القت فيه أفكارها شهرة عظيمة‪ .‬من هنا انطلق اهتمام مونتيسوري بالبيداغوجيا‪ ،‬فحضرت‬
‫العالجية للتّربية الموجهة‪ .‬وكان ذلك مدخل شهرتها في هذا‬
‫مؤتم ار بهذا الغرض في مدينة تورينو في ‪ 1899‬وشاركت بوجهة نظرها عن الوظيفة ّ‬
‫المشردين وأصحاب الحاالت‬
‫ّ‬ ‫الميدان‪ ،‬حيث استدعاها وزير التّربيــة وطلب منها تقديم محاضرات في مسائل البيداغوجيا‪ .‬أسست ميتما استقبلت فيه‬
‫الخاصة من صغار األطفال‪ .‬وكانت تشرف بنفسها على تعليم هؤالء األطفال وامتحانهم ومراقبة تطورهم الذهني والحركي الحسي‪ ،‬حتى يصلون إلى‬
‫ّ‬
‫نفس قدرات األطفال األسوياء‪.‬‬
‫النــفس في مطلع القرن العشرين‪ .‬ثم حولت اهتمامها إلى األطفال األسوياء‪ ،‬وأشرفت على دار للطفولة‬
‫قامت مونتيسوري بدراسات في الفلسفة وعلم ّ‬
‫البيداغوجيـة ومخب ار للتأكد من نتائجها‪ .‬وبداية‬
‫ّ‬ ‫‪ Casa dei bambini‬في سان لورنزو‪ San Lorenzo‬بروما‪ ،‬فكانت مادة رئيسية لتطبيق نظرياتها‬
‫الدول في إقامة " دور لألطفال" على غرار‬ ‫من ‪ 1913‬صارت ماريا مونتيسوري تتنقل في داخل البلدان األوروبية تعرض محاضراتها‪ .‬فرغبت عديد ّ‬
‫الصـورة المصاحبة دار لألطفال سميت باسم مونتيسوري في هولندا في سنة ‪ .1915‬زارت مونتيسوري الواليات المتّــحدة ومكثت‬ ‫دار مونتيسوري‪ّ .‬‬
‫وتبيــن ّ‬
‫الدولية للتّربية الجديدة ‪la ligue‬‬
‫ما يقرب الخمس سنوات وأدارت هناك معهد للمعلمين‪ .‬انخرطت منذ عام ‪ 1921‬إلى سنة ‪ 1931‬في الجامعة ّ‬
‫‪ internationale pour l'éducation nouvelle‬حيث تبادلت األفكار مع نخبة االتّــجاه التجديدي في التّربيــة مثل جون ديوي وأدولف‬
‫فريار‪ Adolphe Ferrière‬ورجي كوسيني‪ Roger Cousinet‬ويبدو أنه في هذا اإلطار التقى ديوي عمليا مونتسوري‪ .‬ثم في سنة ‪ 1929‬أسست‬
‫جمعية مونتسوري العالمية ‪ l'Association Montessori Internationale‬من أجل نشر أفكارها ومبادئها على أوسع نطاق عالمي ممكن‪.‬‬
‫المؤسسات التي لها صلة بأفكارها‪ .‬غادرت إيطاليا إلى اسبانيا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حينما تولى الفاشيون السلطة في إيطاليا حاكموا أفكار مونتسوري وإبطالها‪ ،‬وأغلقوا كل‬
‫غال أن قيام نظام فرانكو الفاشي اجبرها على الهجرة من جديد واإلقامة في هولندا‪ .‬وحتى تبتعد عن أتون الحرب العالمية الثّــانية استقرت في الهند‬
‫حتى سنت ‪ 1946‬حيث أنشأت بها عديد المدارس التي حملت اسمها وأفكارها‪.‬‬
‫عادت بعد الحرب لتستقر في هولندا‪ ،‬ثم توفيت عن سن يناهز ‪ 82‬في ‪ .1952‬ويقدر عدد المدارس التي تحمل اسمها اليوم في جميع أرجاء المعمورة‬
‫بثمانية آالف مؤسسة ومدرسة‪.‬‬
‫البيداغوجيـة المسماة بالبيداغوجيا المفتوحة حول هذه النقاط‪:‬‬
‫ّ‬ ‫تدور أهم أفكارها‬
‫االجتماعيــة ومن هنا ينبغي إعداده جيدا وإيالئه ما يستحقه من اهتمام اجتماعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫طفل مستقبل الحياة‬‫ـ اعتبار ال ّ‬
‫ـ جزء عظيم من صعوبات أو أمراض اإلعاقات الذهنية لألطفال (المتخلفين) يمكن مواجهتها بيداغوجيا وحل صعوباتها‬
‫النمو السليم في بيئة سليمة ومناسبة الزدهار الحياة‬
‫ـ من حق جميع األطفال الحصول على التّربيــة المناسبة التي تمكنهم من ّ‬

‫‪53‬‬
‫لقد كان ديوي يعرف شخصيا ماريا مونتيسوري‪ ،‬فلقد التقاها‪ .‬وهذه حقيقة تاريخية على األقل‬
‫ّ‬ ‫بسبب انضمامهما إلى نفس الرابطة أو الجامعة ّ‬
‫الدولية للتربية الجديدة‪ ،‬في العشرية الثالثة من القرن‬
‫العشرين‪ .‬ومن هنا يمكننا القول إن ديوي كان على إطالع مباشر وعلى تماس حقيقي بأفكار مونتيسوري‪،‬‬
‫خاصــة أن أفكار مونتيسوري كانت قد سبقتها إلى أمريكا‪ ،‬حينما زارتها‬‫ولم يكتف بما يمكن أن يبلغه عنها‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫في نهاية العشرية الثــانية من القرن العشرين وأشرفت على معهد خاص لتخريج املعلمين‪ ،‬حاولت من خالله‬
‫ُ‬ ‫ترويج أفكارها بين ّ‬
‫املربين األمريكيين‪ .‬بل ّ‬
‫صلحة" سوف يدفع بديوي إلى اإلشادة بها في كتابه‬‫لعل تأثير هذه "امل ِّ‬

‫ـ دور الخب ـرة في بناء األفكار الصحيحة عن الطفولة‬


‫مدرسية‬
‫ّ‬ ‫ـ حساسية وخطورة المرحلة ماقبل ال‬

‫الحرة)‬
‫ّ‬ ‫الحريــة في الحركة والتنقل في الفصل (المصدر موسوعة وكيبديا‬
‫ّ‬ ‫إحدى مدارس مونتسوري في ‪ 1915‬بهولندا ونرى فيها‬

‫مصادر التّـرجمة‬
‫‪ ( Encyclopaediea Britannica‬مادة ‪ ) Montessori‬ص ‪285‬‬

‫‪GRAND LAROUSSE UNIVERSEL‬‬

‫‪LE PETIT ROBERT des noms propres‬‬

‫‪WIKIPEDIA ,L’encyclopédie libre‬‬

‫‪54‬‬
‫املتــحدة‬‫"مدا س املستقبل" الصادر في ‪ 1915‬والذي ظهر قبل فترة تواجد مونتيسوري في الواليات ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫األمريكية‪.‬‬
‫ولعل هذا ّ‬ ‫التربيــة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫السـعي‬ ‫تقوم " طريقة مونتيسوري "على أساس علمي وتجريبي في استنباط مبادئ‬
‫إلى جعل البيداغوجيا ذات أساس علمي‪ ،‬هو أبرز العناصر التي ساهمت في تقدير دورها في التجديد‪ .‬وعن‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أستعملها هي‬ ‫ِّ‬ ‫البيداغوجيـة تقول مونتيسوري‪ ..." :‬إن الطريقة التي‬ ‫العلمي التجريبي لطريقتها‬ ‫هذا األساس‬
‫ّ‬
‫أنني أقوم بإجراء تجربة بيداغوجية لها هدف تعليمي‪ ...‬ثم أنتظر ر ّد الفعل التلقائي من جانب الطفل‪ ...‬ومع‬
‫عليمية التي‬ ‫الت ّ‬ ‫نتدرج إلى عمل املحاوالت والتجا ب‪ ،‬كما ينبغي أن نختار املواد ّ‬ ‫األطفال الصغار ينبغي أن ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫يظهر األطفال اهتمامهم بها‪ ...‬وأنا أعتقد – على ّأية حال – أنني قد ّ‬
‫توصلت إلى اختيار مجموعة من األشياء‬
‫تربيــة ّ‬
‫عمليــة" ‪97‬‬ ‫تربيــة الحواس ّ‬‫عمليــة ّ‬
‫التي تمثل الحد األدنى الذي تتطلبه ّ‬
‫ّ‬
‫يبدو أن مونتيسوري حرصت على احترام املبدأ التربوي األثير على روسو‪ ،‬حيث كان ينصح امل ّربي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اليسرع واملبالغة في الحرص على استغالل الوقت‪ .‬بل كان يؤكد أنه ينبغي أن نترك للنشاطات التربويــة‬ ‫بعدم‬
‫الوقت الكافي لتفعل فعلها الكامل‪ .‬فالحرص على عدم خسارة الوقت هو الخسارة عينها‪ ،‬بما يؤدي إليه من‬
‫النمو‪ ،‬يجعل من ّ‬ ‫تقدم ّ‬ ‫الطبيعة في حركة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تسرع واضطهاد ّ‬ ‫ّ‬
‫نمو‬ ‫لحريــة الطفل‪ .‬وفي املقابل فإن احترام ساعة‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫الطفل ّ‬ ‫ّ‬
‫هم الطفل األول اللعب‪ ،‬وهو يراه من وجهة‬ ‫نموا سليما‪ ،‬كما ينبغي أن يكون‪ ،‬ودون تشويه‪ .98‬إن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫نظره أهم األعمال التي عليه القيام بها في العالم‪ .‬ومن هنا كان ينبغي أن تنصت التربيــة الحديثة إلى هذه‬
‫ّ‬
‫التربيــة‪ّ .‬‬ ‫األساسيــة‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫ولعل مونتيسوري كانت من أبرز اإلصالحيين الذين‬ ‫لتجنب البعد القهري في‬ ‫املالحظات‬
‫الحريــة في ّ‬
‫تربيــة‬ ‫العلمي عن فكرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجسدوها في دفاعهم‬ ‫دعموا فكرة روسو هذه‪ ،‬بل وأعطوها أساسا علميا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الطفولة األولى‪ .‬فدع الطفل يلعب‪ ،‬دعه يكيشف‪ ،‬دعه يتحرك كما يريد وبقدر ما يستطيع‪ ،‬وفي جمع‬
‫االتــجاهات دعه يستعمل كل الوسائل ّ‬ ‫ّ‬
‫املاديــة املتاحة بين يديه‪ ،‬والحظه وتابع حركاته‪ ،‬وساعده على عدم‬
‫الرغبة والطاقة ووجههما صوب طرق ومسالك‬ ‫إذاية نفسه فحسب‪ ،‬وفي أقص ى الحاالت استغل تلك ّ‬
‫الخاصة‪ ،‬وإلى اختالفه عن‬ ‫ّ‬ ‫يتعرف إلى ذاته‪ ،‬واكيشاف قدراته‬ ‫الحري ـة سوف تم ّكنه من أن ّ‬ ‫إيجابية‪ .‬كل تلك ّ‬
‫فينمي في ذاته ملكاته ّ‬ ‫ّ‬
‫واألشياء‪ّ ،‬‬
‫الحسية والذهنية والتعبيرية واليشكيلية‪ .‬هذه هي باختصار جوهر‬ ‫العالم‬
‫ّ‬ ‫التربيــة‪ .‬مزيد من ّ‬ ‫ّ‬
‫الحريــة‪ ،‬ومزيد من استعمال األشياء‪ ،‬ومزيد من املالحظات‬ ‫دعوة مونتيسوري الجديدة في‬
‫العلم ّـيـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األشياء وعالم من ّ‬ ‫ّ‬
‫النــاس‪ ،‬وهو كله إثارة واندفاع طبيعيين باتــجاههما‪.‬‬ ‫إن الطفل محاط بعالم من‬
‫إنه حيوان صغير أو صندوق مليء بامليوالت والدوافع واملثيرات‪ ،‬التي يستجيب لها فطريا وعفويا وبكل طاقته‪.‬‬
‫السن‪.‬‬‫نموه‪ ،‬في هذه ّ‬ ‫فمن املهم أن يأخذ كامل وقته الالزم في الذهاب إلى أقص ى حدود ما ينبغي أن يذهب إليه ّ‬
‫والنــفس ي‬ ‫للنمو والتوازن الذهني ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكل تدخل قسري من الخارج‪ ،‬يحرمه جزءا من هذا املمكن الضروري‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الالحق‪ ،‬هو جريمة في ّ‬
‫حقه حسب مونتيسوري‪ .‬يقول ديوي ُمعلقا على هذه األفكار‪" :‬تعتبر مدارس مدام‬

‫‪ 97‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪192‬‬


‫‪98‬‬ ‫‪John Dewey, Man’s Supreme Inheritance, By F. MATTHIAS ALEXANDER, Chaterson LTD. (w.d) P XIV‬‬

‫‪55‬‬
‫املتــحدة (‪ )..‬أشهر مدارس في الوقت الحاضر‪،‬‬ ‫ما يا مونتيسوري في إيطاليا‪ ،‬ومدا س تالمذتها في الواليات ّ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫الحريــة واالستقالل ضرورة الزمة لعمل األطفال"‪99‬‬ ‫تعتبر ّ‬
‫الحريــة التي تؤكد مونتيسوري على أولويتها ليست بالبداهة التي قد يعتقدها الرأي‬ ‫غير أن هذه ّ‬
‫ّ‬ ‫السطحي‪ .‬ألن ّ‬
‫الحريــة ليست في أن يفعل الطفل كل ما يرغب فيه في غياب لكل حدود نتصورها‪ .‬بل على‬
‫ّ ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫ئيسيـة واتــجاه‬ ‫العلمي لقدرات وقوى األطفال ومواضيع شغفهم الر‬ ‫العكس تماما‪ ،‬إذ املقصود هو الفهم‬
‫ّ‬
‫اجتماعيــة‪ ،‬على‬ ‫صبها في أنشطة تربوية ذات أهداف‬ ‫اهتماماتهم‪ ،‬ومن ّثمة العمل على توظيفها بذكاء‪ .‬أي ّ‬
‫ّ‬ ‫تكسر أو اضطراب أو ّ‬ ‫نحو يجعل من تلك القوى تواصل حركة اندفاعها‪ ،‬دون أن يحصل لها ّ‬
‫سد أو تعطل‪.‬‬
‫أهمية‪" :‬البيداغوجيا العلم ّـيـة" التي تدافع عنها مونتيسوري‪ .‬البيداغوجيا القائمة على مالحظة‬ ‫وهنا تأتي ّ‬
‫دقيقة أللعاب األطفال ثم توجيهها والتحكم الذكي فيها‪ ،‬عبر الوسائل ّ‬
‫املاديــة املبتكرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتكمن قيمة "املالحظة التربويــة" التي توص ي بها مونتيسوري طلبتها واملتعاونين في مدرستها‪ ،‬في كونها‬
‫ّ‬ ‫التربيــة الحديثة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫"الحريــة"‪.‬‬ ‫ولعل أبرز هذه املبادئ‬ ‫تمثل القاعدة التي يتم االسيناد إليها في بناء مبادئ نظام‬
‫الجسمية ومحاصرته وإلزامه بوضع قسري واحد ومتماثل‪ ،‬ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطفل من ّ‬ ‫ّ‬
‫يرسخ في الحقيقة‬ ‫النـاحية‬ ‫فكبت‬
‫ورث اإلحساس‬ ‫فعليا فهو ُي ّ‬ ‫والجدية وااللتزام‪ ،‬إال ظاهريا‪ .‬أما ّ‬ ‫ّ‬ ‫األخالقيـة من تعويد على النظام‬ ‫ّ‬ ‫الغايات‬
‫ّ‬
‫القهري الذي ُيولد ردود أفعال تتراوح بين الالمباالة حينا والعنف أحيانا‪ .‬ويقول ديوي ُم ّثمنا هذه األفكار‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫"وتقول مدام مونتيسوري في كتابها " طريقة مونتيسوري" "إن ّ‬
‫الحريــة هي النشاط" والنشاط أساس الحياة‪،‬‬
‫ومن ثم فإن تدريب األطفال على الحركة والعمل‪ ،‬إنما هو تدريب لهم على الحياة‪ ،‬وهذا اللون األخير من‬
‫ّ‬
‫الحقيقية "‪100‬‬ ‫التدريب هو وظيفة الفصل‬
‫التربوي الحديث‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫للحريــة‪ ،‬تتغير داللة مفهوم "النظام" في ّ‬ ‫وانطالقا من هذا املعنى األخير ّ‬
‫تغيرا‬ ‫السياق‬
‫الشكلي بالقواعد ّ‬ ‫ّ‬
‫العامــة واملفروضة‪ .‬كما لم يعد يعني النظام‬ ‫جوهريا‪ .‬حيث لم يعد النظام يعني االلتزام‬
‫ّ‬
‫مجرد تماثل جميع التالميذ في الحركة ووضع الجلوس‪ .‬بل إنه لم يعد حتى‪ ،‬يعني في "فلسفة‬ ‫كذلك ّ‬
‫العلمي الجديد في أفق مونتيسوري البيداغوجي‬ ‫ّ‬ ‫الدراسية‪ .‬إن النظام باملعنى‬ ‫مونتيسوري"‪ ،‬التماثل في املادة ّ‬
‫حريــة واستقالل تامين‪ .‬وفي هذا اإلطار تقول مونتيسوري‪" :‬إن ُ‬ ‫األشياء في ّ‬ ‫ّ‬
‫الحجرة‬ ‫هو قدرة األطفال على عمل‬
‫تنقال ذكيا‪ ،‬ووفق مشيئتهم‪ ،‬دون أن يرتكبوا عمال خاطئا‬ ‫تنقال مفيدا هادفا‪ّ ،‬‬ ‫التي ينتقل األطفال بين أ جائها ّ‬
‫ر‬
‫يتميز بنظامه البديع"‪101‬‬ ‫فظا‪ ،‬تبدو لي فصال ّ‬ ‫ّ‬
‫أو‬
‫التــحليلي‪ ،‬تبدو‬ ‫حد هذا املستوى من العرض ّ‬ ‫لكن‪ ،‬قد ُيعترض على أفكار مونتيسوري بأن األمور إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫نظريـة ّ‬‫مجرد إنشائيات ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصــة باللــغة األدبية‪ ،‬وبعيدة كليا عن الواقع‪ .‬ذلك ألننا في الغالب نواجه طباعا في‬
‫متحمسة للتعاون اإليجابي‪ .‬فمنها ما يميل إلى إيثار نفسه في األلعاب‬ ‫األطفال مختلفة‪ ،‬حيث ال تكون جميعها ّ‬
‫سيـة‪ ،‬أو‬ ‫أو إذاية رفاقه أو حتى االنصراف عن قاعة الدرس كليا‪ .‬ولنا أن نتخيل الفصول األولى‪ ،‬قبل املدر ّ‬
‫نتمثل حجم الجهد الذي يبذله "املعلمون" في ترسيخ معاني مثل النظام‪ ،‬وجدوى‬ ‫ّ‬
‫حتى من االبتدائي‪ ،‬كي‬

‫‪ 99‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪187‬‬


‫‪ 100‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪188‬‬
‫‪ 101‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪188‬‬

‫‪56‬‬
‫والنشاط في اإلطار التعاقدي‪ .‬أفال يلزم وجود مثل هذا ّ‬ ‫ّ‬
‫النمط من النظام‬ ‫العمل الجماعي‪ ،‬واحترام اآلخر‪،‬‬
‫والردع واجبة؟ لتعويد األطفال على تحمل‬ ‫حد أدنى من اإلكراه؟ أليست درجة ما من العقاب ّ‬ ‫الضروري‪ّ ،‬‬
‫مسؤولية نتائج سلوكهم؟‬
‫نعم تقبل منتسوري بذلك‪ ،‬ولكن تعتبر أن العقاب ينبغي أن يكون نوعيا وليس غاية في ذاته‪ .‬ومعنى‬
‫هذا أن تكون حركة العقاب قائمة ال على اإليالم الجسدي والتعذيب وإنما على د س في ّ‬
‫التــوجيه األخالقي‬ ‫ر‬
‫السلوك‪ .‬وهي تقترح طريقة وحيدة ناجعة تتمثل في عزل املشاغب في ركن من‬ ‫واإلقناع الحقيقي بسوء ّ‬
‫الحجرة وتهدئ ته وعرضه إذا لزم األمر على الطبيب‪ ،‬وتوفير جميع ألوان األلعاب التي يرغب فيها‪ ،‬وجعله‬
‫يشاهد من بعيد العمل الجماعي لرفاقه‪ ،‬بعد أن ُحرم هو من املشاركة فيه‪ .‬وهو لون من العقاب يعتمد على‬
‫الرغبة في مشاركة املجموعة نشاطها‪ ،‬اسيثمارا تربويا‪.102‬‬ ‫فكرة اسيثمار ّ‬
‫ّ‬
‫ومن جوهر "طريقة مونتيسوري" أن يتعلم األطفال في الفصول‪ ،‬التد ّرب على الحياة نفسها‪ .‬أي أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتكيفوا مع البيئة ّ‬
‫ّ‬
‫متصنعا‪ .‬وحتى يحصل لهم هذا عن طريق التربيــة‪ ،‬تشترط مونتيسوري أن‬ ‫تكيفا فعليا ال‬
‫ّ‬ ‫يتعلم التالميذ تدر ّ‬‫ّ‬
‫يجيـا "االكتفاء الذاتي"‪ .‬ولذلك ينبغي مثال إلى جانب حصص األلعاب والنشاطات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجماعية األخرى‪ ،‬الحرص على أن ُي ِّرت َب األطفال مقاعدهم بأنفسهم‪ ،‬وأن ينظ ّفوا مكان عملهم وطاوالتهم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بأنفسهم‪ ،‬وأن يرتبوا أدواتهم ترتيبا يحفظها في أماكنها بكل عناية‪ .‬وعليهم أال يتركوا فضالت طعامهم في‬
‫املخصصة لذلك‪ .‬ولكن دون أن يصل األمر إلى حد دعوتهم إلى الطبخ بأنفسهم في املدارس املتوفرة‬ ‫ّ‬ ‫األماكن‬
‫ّ‬
‫على مطابخ‪ .‬وأن يعتنوا بترتيب اآلالت واملواد التي تتوفر عليها فصولهم أو ورشات التدريب امللحقة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بمدارسهم‪ .‬وال يحمل في نظرها‪ ،‬هذا الضرب من النشاط أي مجهود شاق إضافي إلى مواد التربيــة‪ ،‬كما قد‬
‫يكمل املواد ذات الهدف الحس ي واملواد ذات الهدف الذهني‪.‬‬ ‫يبدو للوهلة األولى‪ ،‬بقدر ما هو جزء أساس ي ّ‬
‫تكيف يحفظ للكائن اإلنساني الصغير توازنه‬ ‫تربوية رئيسية عند مونتيسوري‪ ،‬وهو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فالتكيف غاية‬
‫والعمليــة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي ّ‬
‫جيدا‪ .‬وانطالقا من واجب‬ ‫النظريـة‬ ‫والنــفس ي مع البيئة التي أدركها بواسطة التربيــة‬
‫شج ُع مونتيسوري كثيرا على أن تتضمن املدارس مساحات‬ ‫العناية باملحيط املادي للطفل بنفسه‪ُ ،‬ت ّ‬
‫ِّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫خضراء‪ ،‬أو حدائق‪ ،‬يشرف عليها األطفال أنفسهم‪ .‬ويفضل أن تحتوي هذه الحدائق بعض الحيوانات‬
‫خاصــة بها‪ ،‬عبارة عن تقنيات‬‫ّ‬ ‫والطيور األليفة‪ .‬ولقد اخترعت مونتيسوري شأن فروبل وسائط تعليمية‬

‫النمط الوحيد من العقاب الموجود في مدارس تسير على نمط بيداغوجيا مونتيسوري‪ .‬فال ّ‬
‫طفل المشاغب أو العدواني أو مفرط‬ ‫في الحقيقة هذا هو ّ‬
‫‪102‬‬

‫الحركة‪ ،‬يتم استدعاؤه ووضعه في ركن مريح من القاعة وعلى كرسي يسمح له باالسترخاء‪ ،‬ثم ُيمنح كل أدوات اللعب التي يرغب فيها دون أن ُيسمح‬
‫له في المشاركة مع اآلخرين‪ ،‬أو ُيسمح لآلخرين مشاركته‪ .‬إنه ٌيحرم فقط من البعد الجماعي في النشاط‪ .‬وحينها‪ ،‬تعتقد مونتيسوري‪ ،‬أن شيئا ما في‬
‫طفل سوف يدفعه إلى إدراك خطأه والندم على ما أتاه من فعل عوقب عليه‪ .‬كما سوف يدرك أن النشاط الجماعي هو ميزة ينبغي الحفاظ عليها‪،‬‬
‫نفس ال ّ‬
‫وذلك عبر احترام العقد القائم بين الجميع في داخل تلك الحجرة من رفاقه إلى معلميه إلى أثاث الفصل‪ .‬وقد يبدو هذا األمر الذي يعود إلى فكرة عن‬
‫لعل الواقع الذي تَّدعي مونتيسوري‬
‫حد ما‪ .‬ولكن هل تسير األمور دائما على هذا النحو‪ّ .‬‬ ‫سلطة سيكولوجيا الحياة الجماعية على الفرد‪ ،‬عمليا‪ ،‬إلى ّ‬
‫وخاصــة إذا كان زعيما لمجموعته‪ ،‬لن يحوله العزل إلى‬
‫ّ‬ ‫أنها تنطلق منه لبناء مبادئها التّربوية يقول العكس‪ .‬حيث كثي ار ما ُنشاهد أن بعض األطفال‬
‫طفل في وضعية مريحة أثناء العزل قد تدفعه إلى التعود على هذه اللذة فيعود يطلبها بارتكاب‬ ‫نادم بقدر ما يحوله إلى مثال ُيحتذي به‪ ،‬كما أن وضع ال ّ‬
‫الرغبة في االقتراب من المجموعة‪ ،‬بل إلى مزيد من النقمة‬
‫لعل العزل بتلك الظروف قد يؤدي ال إلى خلق مزيد من شعور ّ‬
‫مزيد من االعتداءات‪ .‬ثم ّ‬
‫طفل‪.‬‬
‫تتحول أداة العقاب إلى موضوع نقمة مستمرة لدى ال ّ‬
‫النــفور منها‪ ،‬إذ غالبا ما ّ‬
‫وّ‬

‫‪57‬‬
‫التعليمي‪.‬‬ ‫النمو‪ُ ،‬تييح تحقيق تمرينات تجمع بين البعد الترفيهي والبعد ّ‬ ‫بيداغوجية مناسبة لكل مرحلة من ّ‬
‫ولعل خصوصية مونتيسوري تكمن في كونها تعاملت أوال مع األطفال من "املتخلفين ذهنيا أو حركيا" فأتاح‬ ‫ّ‬
‫لها ذلك القدرة على تدبير كثير من الوسائل وتجريبها‪ ،‬وهي حينما نقلت انيباهها إلى "األصحاء" بعد ذلك‪ ،‬لم‬
‫الخاصة" (محدودي الحركة‬ ‫ّ‬ ‫تجد عسرا في تطبيق نفس الوسائل الناجحة مع فئة "ذات ّ‬
‫الصـعوبات‬
‫ّ‬
‫الخاصة"‬ ‫ّ‬
‫الذهنية‬ ‫العضوية والذهنية) إلى العاديين‪ .‬غير أن الفرق الوحيد بين التلميذ من فئة "االحتياجات‬
‫العسر‬ ‫النــوع األول يجتهد في استعمال التقنيات واالستفادة منها‪ ،‬على نحو ال يخلو من ُ‬ ‫وفئة األسوياء‪ ،‬هو ّأن ّ‬
‫الثــاني يسيرة االستعمال‪ ،‬فيكونون أكثر ّ‬ ‫ّ‬ ‫جية‪ ،‬في حين يجدها ّ‬ ‫واملساعدة الخار ّ‬
‫حريــة في توظيفها‪ ،‬أو قد‬ ‫النــوع‬
‫ال تستهويهم أصال‪.‬‬
‫السن‪ .‬فالطفولة األولى لها ما يناسبها من التمرينات‬ ‫بتدرج ّ‬ ‫التعليم حسب مونتيسوري ّ‬ ‫ويتدرج ّ‬
‫السن الذي يليه‪ .‬غير أن العنصر أو‬ ‫البسيطة‪ .‬ثم تأخذ هذه التمرينات طابعا أكثر تعقيدا حينما ٌنم ّر إلى ّ‬
‫التدريس عبر الحواس‪ .‬ولهذا تم اختراع جميع الوسائل‬ ‫املبدأ الثابت في جميع مستويات الطفولة‪ ،‬هو أولوية ّ‬
‫من جميع املواد "النظيفة" (خشب‪ ،‬ورق‪ ،‬قماش‪ ،‬قطن‪ ،‬صلصال‪ )...‬على نحو يسمح ملستعملها بأن يدرك‬
‫ّ‬
‫معنى تربويا ما‪ ،‬مثل‪ :‬فكرة التميز‪ ،‬وفكرة االختالف‪ ،‬وفكرة اللون وفكرة الحجم وفكرة املربع وفكرة‬
‫املستطيل وفكرة الدائرة وفكرة املستقيم واملساحة واملسافة‪...‬الخ‪ ،‬حتى الوصول إلى أكثر املعاني تجريدا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫الحسية في "طريقة مونتيسوري" فهي تظل رفيقة التربيــة‬ ‫ومن املهم أن نالحظ الطابع األساس ي لهذه‬
‫سيـة وحتى الفصول األولى في املدرسة حتى ّأن‪" :‬طريقة تدريس القراءة‬ ‫في جميع املستويات مما قبل املدر ّ‬
‫اللمس لتثبيت ّ‬ ‫ّ‬
‫الدرس الذي يأخذه التلميذ عن طريق العين واألذن‪ُ ،‬ويعطى‬ ‫والكتابة‪ ،‬تستخدم‪ ،‬حاسة‬
‫(الطفل) كل حروف الهجاء مصنوعة من ورق الصنفرة وكل حرف منها يلصق على قطعة ّ‬ ‫ّ‬
‫مربعة من ورق‬
‫ّ‬
‫الكرتون‪ .‬والطفل يمر بإصبعه على هذه الحروف كما لو كان يكتب‪ ،‬وفي نفس الوقت ينطق الحرف الذي‬
‫ّ‬
‫يكتبه‪ ...‬والكتابة تسبق القراءة عادة إذا تعلم األطفال بهذه الطريقة‪ ،‬فإذا أمسكوا بالقلم الرصاص أو‬
‫الطباشير‪ ،‬أمكنهم أن يتيبعوا أشكال الحروف دون أية صعوبة كبيرة‪ ،‬ذلك ألن العضالت قد اعتادت على‬
‫هذه األشكال كالعين سواء بسواء"‪103‬‬

‫مجرد مساعد‪ ،‬يقوم دوره على تقديم العون للطفل حتى ُي ّ‬ ‫يمثــل املعلم في "طريقة مونتيسوري" ّ‬ ‫ّ‬
‫حرك‬
‫نموها الصحيح‪ .‬وعلى عاتق املعلم تقع مسؤولية اختيار‬ ‫وتنمو ّ‬
‫ّ‬ ‫الحسية والفكرية ّ‬
‫ويحررها من منابتها‪،‬‬ ‫قواه ّ‬
‫تقدم الدروس‪ .‬ومن هنا لم يكن من املمكن أن‬ ‫املادة ومنهج تد يسها بحسب ما يراه مالئما‪ ،‬وبحسب نسق ّ‬
‫ر‬
‫الدقـيقـة بمساحة تدخله‬ ‫يصبح كائنا من كان مربيا‪ .‬إن املربي عالم‪ .‬وعلمه يتمثل بد جة أساسية في معرفته ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬
‫ومضمونه وحدودهما بدقة‪ .‬فلنتمثل أن تلميذا ما أخطأ في تسمية أشياء معينة أو في استحضار معنى لش يء‬
‫ّ‬
‫ما‪ ،‬فليس دور املعلم تخطئته مباشرة‪ ،‬بل عليه وفق "طريقة مونتيسوري" التوقف عن الدرس وتأجيله ألن‬
‫السابقة‬ ‫هناك إخفاق في ربط معنى ما بوظيفته أو بشكله الحس ي‪ ،‬وينبغي عليه في املقابل مراجعة املرحلة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التي لم تيهئ كما يجب إلى اللحظة الجديدة‪ .‬وحينما يفشل الطفل ‪-‬يقول ديوي على لسان مونتيسوري –‬

‫‪ 103‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪195‬‬

‫‪58‬‬
‫تقبل تلك الجرعة من االرتباطات التي أردنا أن‬ ‫ينبغي أن نعرف أنه لم يكن في تلك اللحظة على استعداد ل ّ‬
‫نثيرها فيه‪ ،‬ومن ثم ينبغي علينا أن نختار لحظة أخرى‪ .‬فإذا أردنا أن نصحح خطأ للطفل‪ ،‬فقلنا له مثال‪" :‬ال‬
‫لقد أخطأت! " فإن كل هذه الكلمات التي نقولها في شكل تأنيب وتعنيف‪ ،‬سوف تصدمه صدمات أكثر مما‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫عمليــة تعلم الطفل لهذه األسماء‪.‬‬ ‫يصدمه أي ش يء آخر‪ ،‬وسوف تبقى في عقل الطفل دوما وال تنمحي‪ ،‬وتؤخر‬
‫ّ‬
‫وعلى العكس من ذلك‪ ،‬نالحظ أن السكون الذي يلي الخطأ يترك مجال الشعور والوعي صافيا رائقا‪ ،‬وقد‬
‫محققا نجاحا" ‪104‬‬ ‫يأتي الد س التالي في إثر الد س األول‪ّ ،‬‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫املربي سوى التأني والصبر واختيار التوقيت املناسب لتقديم الجرعات املناسبة‪ .‬وكل جرعة‬ ‫ليس أمام ّ‬
‫ِّ‬
‫في غير وقتها‪ ،‬أو أزيد من املعدل املناسب‪ ،‬تجازف بأن تعطي مفعوال عكسيا تماما‪ .‬كما يفترض في املربي‪،‬‬
‫ّ‬
‫عالوة على الحنكة واملران‪ُ ،‬بعد البصيرة‪ ،‬فهو يبني ُويعد لآلتي‪ ،‬لذلك يجب أن تكون األهداف التربويــة‬
‫ُ‬
‫واضحة تماما في ذهنه بمثل وضوح املادة نفسها وطريقة توصيلها‪ .‬وأخيرا ينبغي أن يكون امل ّربي شديد‬
‫الحساسية لتأويل سلوك األطفال‪ ،‬تأويال يستطيع بموجبه فك شفرات الرسائل التي ّ‬
‫تعبر عنها ردود األفعال‬
‫تحدد إيقاع سير الدرس ومضامينه ونجاح طريقته من عدمها‪.‬‬ ‫ألنها ّ‬
‫لدى األطفال‪ .‬وهي أساسية ّ‬
‫وعموما يمكننا أن نحدد مالمح طريقة مونتيسوري في الخطوط ّ‬
‫العامــة التالية‪:‬‬
‫املرجعية العلم ّـيـة في تحديد مبادئ البيداغوجيا‬
‫ّ‬ ‫ـ اعتماد‬
‫نظن أنها إعاقات ذهنية هي نييجة صعوبات تربوية‬ ‫ـ اكيشاف أن كثيرا من الحاالت التي ّ‬
‫الحريــة للطفل في التنقل واختيار ما يفعله في الفصل‬ ‫جدا من ّ‬‫ـ إعطاء هامش كبير ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـ االسيناد إلى سيكولوجيا في العقاب وإصالح الخطأ ال تأثم الطفل‬
‫التربيــة ّ‬‫ّ‬
‫الحسية وتوفير الوسائل التقنية لذلك‬ ‫ـ التركيز على‬
‫ّ‬
‫ـ الهدف االجتماعي للتربية‬
‫ّ‬ ‫ـ التدرج والترابط بين مستويات ّ‬
‫النمو في التربيــة‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولسنا بحاجة إلى تقدير التأثير الذي حملته هذه األفكار في مجال التربيــة إلى العالم الغربي أوال والكوني‬
‫ّ‬
‫ثانيا‪ .‬إذ يكفي القول إنه يوجد اآلن في الزوايا األربعة للمعمورة‪ ،‬ما يقارب الثمانية آالف مؤسسة بين رياض‬
‫ّ‬
‫األطفال واملدارس االبتدائية والجامعات وكليات التربيــة ومراكز البحث األكاديمي‪ ،‬التي تحمل اسم‬
‫طيعة وجاهزة لتطبيق أفكار مونتيسوري‪،‬‬ ‫املتــحدة بشكل خاص أرض ّ‬ ‫مونتيسوري‪ .‬ولقد كانت الواليات ّ‬
‫ّ‬
‫بحكم الطابع اللبرالي املفتوح لثقافتها من ناحية‪ ،‬وتناسب هذه األفكار مع حركة اإلصالح االجتماعي الواسعة‬
‫التي عرفتها أمريكا في بداية القرن العشرين‪ .‬ومع كل ذلك فإن لديوي وجهة نظر ّ‬
‫نقدية بارزة ألفكار‬
‫مونتيسوري‪.‬‬
‫ّ‬
‫تركـزت نقاط النقاش التي أثارها ديوي في وجه أفكار مونتيسوري‪ ،‬حول قضيتين رئيسيتين‪:‬‬

‫‪ 104‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪198‬‬

‫‪59‬‬
‫التربوي ّ‬ ‫ّ‬
‫للحريــة املطلقة املمنوحة للطفل‪ ،‬وما إذا كانت فعال تربوية أم على العكس تقود‬ ‫ـ مسألة الدور‬
‫إلى نقيض املأمول منها؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفعليـة‪ .‬وما إذا‬ ‫االجتماعيــة‬ ‫املتصنعة للمادة التربويــة وابتعادها عن خبرة الحياة‬ ‫ـ مسألة الطبيعة‬
‫فعلية؟‬ ‫كانت بعد ذلك تحمل وظيفة تربوية ّ‬
‫وضحنا أن الفرق بين طريقة مونتيسوري وآراء‬ ‫املسألة األولى يقول ديوي‪" :‬ولقد سبق لنا أن ّ‬ ‫ففي ّ‬
‫الحريــة فحسب‪ ،‬بل إن‬ ‫املصلحين األمريكان‪ ،‬ال ينحصر فيما بين الطرفين من اختالف في الرأي حول قيمة ّ‬
‫فيه عامل آخر‪ ،‬هو أن لكل طرف منهما مفهوما يختلف عن مفهوم اآلخر بشأن خير السبل التي يمكن اإلفادة‬
‫الحريــة الجسمية أكبر من‬‫الحريــة‪ .‬فتالميذ أي فصل من فصول مونتيسوري يتمتعون بقدر من ّ‬ ‫من هذه ّ‬
‫ذلك املقدار الذي يتمتع به تالميذ فصول معظم كبار املربين األمريكان‪ ،‬أولئك الذين يعالج هذا الكتاب‪105‬‬

‫النـاحية العقلية فإن أطفال مدارس مونتيسوري ال يتمتعون بمثل ّ‬


‫الحريــة العقلية‬ ‫وجهات نظرهم‪ ،‬أما من ّ‬
‫التي يتمتع بها أطفال مدارس املربين األمريكان" ‪106‬‬

‫بالحريــة العقلية تمكين التالميذ أكثر من التد ّرب على الوسائل القائمة‪ ،‬التي يقترحها‬ ‫ّ‬ ‫ويقصد ديوي‬
‫املختصون في البيداغوجيا‪ ،‬أي تمكين األطفال من اختيار املادة نفسها أي املشروع الذي ينجزونه في الفصل‪.‬‬
‫منفذون ماهرون‪ ،‬فإن تالميذ مشروع ديوي قادرون على االختيار وتنفيذ‬ ‫ففي حين أن تالميذ مونتيسوري ّ‬
‫ما يختارونه‪ .‬وهنا في هذه النقطة يعلن ديوي طالقه من أفكار مونتيسوري التي ما انفك يعبر عن تثمينها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أما في خصوص ّ‬
‫املسألة الثــانية فإن ديوي يقول‪" :‬ويعتقد معظم املربين األمريكان أن تدريب الطفل‬
‫على اكيساب عادات التفكير السليم والحكم الصحيح‪ ،‬يمكن تحقيقه بأفضل وسيلة ممكنة إذا استخدم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حقيقية‪ ،‬كما يعتقدون أن مقياس الحقيقة نستطيع أن نجده في تلك‬ ‫الطفل مادة تعرض أمامه مشكالت‬
‫الطفل خارج جدران املدرسة"‪107‬‬ ‫ّ‬
‫الخبرات‪ ،‬خبرات الحياة التي يمارسها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومعنى هذا النقد هو أن يتعلم الطفل ما وراء الهيئات الخارجية لألشياء وما يرتبط بها من معاني‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وخاصــة إلى العالقات القائمة بين تلك األشياء ووظائفها‪.‬‬ ‫سطحية‪ ،‬واالنيباه إلى عمقها االجتماعي الحقيقي‪،‬‬
‫السياق النقدي ألفكار مونتيسوري‪" :‬حتى أن أساليب رياض األطفال وأساليب‬ ‫يقول ديوي في نفس ّ‬
‫التــمييز الفكري من غير "إضاعة وقت" تميل إلى إغفال ـ أو تقليل‬ ‫مونتيسوري ذاتها‪ ،‬إذ تتلهف إلى بلوغ د جة ّ‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫شأن ـ االشتغال العملي املباشر بمواد الخبــرة املتعا ف عليها‪ّ ،‬‬
‫فتقدم إلى الطالب فورا املواد التي ّ‬
‫تعبر عن‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التــمييز الفكري الذي بلغه الكبار‪ .‬بيد أن الخطوة األولى في احتكاكنا بأي مادة جديدة مهما كانت درجة‬
‫ّ‬
‫والخطأ"‪108‬‬ ‫نضجنا ال ّبد لها أن تكون من نوع املحاولة‬

‫‪105‬‬ ‫‪Schools of Tomorrwo‬‬


‫جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪201-200‬‬ ‫‪106‬‬

‫‪ 107‬جون ديوي وافلين ديوي‪ ،‬مدارس المستقبل‪ ،‬ص ‪2001‬‬


‫‪ 108‬جون ديوي‪ ،‬الدّيمقراطية والت ّربيــة‪ ،‬ص ‪160‬‬
‫‪"Even the kindergarten and Montessori techniques are so anxious to get at intellectual distinctions, without‬‬
‫‪"waste of time," that they tend to ignore -- or reduce -- the immediate crude handling of the familiar material‬‬
‫‪of experience, and to introduce pupils at once to material which expresses the intellectual distinctions which‬‬

‫‪60‬‬
‫ّ‬
‫وخاصــة في تحديده ملقياس‬ ‫التوجه البراغماتي لديوي عن البروز بوضوح الفت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وال يكف هنا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫"الحقيقي" الذي ينبغي أن يتعلمه األطفال وتقوم كامل املادة التربيــة على أدائه‪ .‬فــ"الحقيقي" ال يحدده املربي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أو مختص ّ‬
‫التــوجيه التربوي أو املساعد التربوي أو ما شئنا من األسماء التي نعطيها "للمعلمين"‪ ،‬بل البيئة‬
‫املترتـبة عنه في الواقع وفق الرؤية البراغماتية‪ .‬لكنه على درجة عالية من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األهمية‪.‬‬ ‫االجتماعيــة ودرجة النفعية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وهنا بالذات أي فيما يتعلق بمنطلقات وغايات التربيــة يفارق ديوي مونتيسوري نهائيا‪ ،‬ليبدو لنا كل إعجابه‬
‫الخاصة‪ ،‬وليس إعجابا بمبادئ الطريقة في‬ ‫ّ‬ ‫يتعدى اإلعجاب ببعض العناصر الجزئية أو ّ‬
‫النتائج‬ ‫بها ال ّ‬
‫عمومها‪.‬‬
‫ح‪ -‬جون ديوي (املفكرالذي لم يفارقنا)‬
‫كان جون ديوي فيلسوفا عامال‪ ،‬ينطبق على فكره وصف جورج كينغالم‪ ،‬الذي ينعت فيه الفلسفة‬
‫ّ‬
‫التربي ـة ليعود إليها‪ .‬ينطلق من تجربة " ّ‬
‫التدريس"‬ ‫بأنها "حظيرة"‪ 109‬وليست " معبدا"‪ .110‬وكان عمله ينطلق من‬
‫ّ‬
‫ومن املالحظات امليدانية لعالم الفصل الدراس ي‪ ،‬ليعود إليها مزودا بمبادئ وأفكار تربوية خالقة‪ .‬غير أنه‬
‫ّ‬
‫االجتماعيــة‪ ،‬بل‬ ‫ككل فيلسوف ال يكتفي بما تظهر عليه املشكالت من جزئية ومباشرية‪ ،‬في وقائع الحياة‬
‫ّ‬ ‫ُيعنى أوال وأخيرا بجذر تلك املشكالت في العقل وفي الطبيعة البشرية‪ .‬األمر الذي ّ‬
‫يفسر الطبيعة الجدالية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لعالقته باملنظرين املشهورين في التربيــة في عصره‪.‬‬
‫ّ‬
‫لقد عالج جون ديوي التربيــة باعتبارها مشكال نظريا‪ ،‬بنفس القدر الذي تظهر به كممارسة ذات‬
‫السياق أن نالحظ أن ديوي يعطي من جديد صورة عن معنى وقوام‬ ‫طبيعة ملتبسة‪ .‬ومن املهم في هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫"فلسفة التربيــة" في أكثر أبعادها أساسية‪ .‬إذ تقتض ي فلسفة التربيــة‪ ،‬إلى جانب االطالع العميق على تراث‬
‫االطالع كذلك على مدونات البيداغوجيين ومحاورتهم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫والسـعي‪ ،‬فضال عن ذلك‪،‬‬ ‫الفكر الفلسفي املختص‪،‬‬
‫ظريات في " مخبر تربوي" ‪111 educational laboratory‬يكون املحك األخير‬ ‫الن ّ‬‫إلى تجريب ما بدا صالحا من ّ‬
‫ّ‬ ‫لها‪ .‬فبهذه ّ‬
‫الصـورة وحدها يكون فيلسوف التربيــة "عامال" باملعنى الحقيقي لعبارة العمل‪ ،‬وتكون فلسفة‬
‫ّ‬
‫التربيــة وفية للمبدأ األثير على ديوي‪ ،‬وهو مبدأ " الحقيقة" في معناها البراغماتي الذي يظل الواقع العملي‬
‫ميدان اختبارها وتقييمها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد كشفت تجربة ديوي "امل ّ‬
‫النقدية ألفكار‬ ‫خبري ِّة" في التربيــة بنفس القدر الذي كشفت به قراءته‬ ‫ِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫غيره من املنظرين‪ ،‬أن وراء كل ممارسة تربوية خلفية نظريـة بعيدة الغور في مستواها اإلشكالي‪ ،‬سواء كانت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واعيـة بذلك أم لم تكن‪ .‬وليست العودة إلى أفكار ّ‬ ‫تلك املمارسة ّ‬
‫السابقين من مفكــري التربيــة‪ ،‬تدفعنا إليها‬

‫‪adults have made. But the first stage of contact with any new material, at whatever age of maturity, must‬‬
‫‪inevitably be of the trial and error sort” John Dewey, Democracy and Education, Chapter XII‬‬
‫‪109 Chantier‬‬
‫‪110 Temple‬‬

‫ـ جورج كانقيالم " ليست الفلسفة معبدا وإنما هي حظيرة" كتاب الفلسفة للثالثة علوم‪ ،‬التمهيد‪ ،‬نشر المركز الوطني البيداغوجي‪ ،‬تونس ‪2010‬‬
‫‪ 111‬أسس ديوي مدرسة تجريبية أطلق عليها "المدرسة المخبر" وقد كانت ملحقة بقسم علم النفس في جامعة شكاغو امتدت من نهايات القرن التاسع‬
‫عشر حتى بدايات القرن العشرين‪ ،‬حيث طبّق فيها ديوي أفكاره وكان مديرها والمشرف على كل كبيرة وصغيرة بها ابتداء من البرامج ونهاية‬
‫بالزمن المدرسي وأنظمة التقييم والعالقة باألولياء وغيرها‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫ّ‬ ‫الراهــنة لديهم‪ ،‬وإنما ّ‬ ‫دائما الحاجة إلى إيجاد حلول ملشاكلنا ّ‬
‫للتعرف على طرقهم في إبداعهم لتلك الحلول‬
‫الخاصة بزمانهم‪ ،‬ولتقدير حجم ما بذلوه ونوعيته في فهمهم ملسألة ّ‬
‫"تربيــة اإلنسان"‪ .‬فهكذا ينبغي علينا أن‬
‫مكنه من االنيباه إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫نقرأ اليوم أفكار روسو‪ّ ،‬‬
‫أهمية الطفولة ومراحلها‪ ،‬ودور‬ ‫فنثمن لديه مجهوده الذي‬
‫التربويــة‪ .‬كما نعود كذلك اليوم إلى بيستالوزي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ونثمن لديه‬ ‫والحريــة في املنهج واملادة‬ ‫الطبيعة التربوي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مكنه من االنيباه إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للنمو‪ ،‬وهو ما ينبغي أن تعمل من‬ ‫أهمية االتــجاه االجتماعي‬ ‫مجهوده الخالق‪ ،‬الذي‬
‫ّ‬
‫لنثمن لديه قدرته العلم ّـيـة الفائقة التي مكنته من اكيشاف‬ ‫التربيــة‪ .‬ونعود إلى فروبل بنفس االهتمام ّ‬ ‫أجله‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫الوظيفة البيداغوجيـة للعب‪ ،‬ولدور التعلم عبر األشياء‪ .‬ونعود إلى مونتيسوري لنثمن عندها أفكارها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التربيــة ّ‬ ‫ّ‬
‫والحريــة في التربيــة‪.‬‬ ‫الحسية‬ ‫الخالقة عن‬
‫يخصنا‪ .‬هكذا على‬‫تمكنا من نسج منوالنا الذي ّ‬ ‫تبيــن إسهامات كل هؤالء وحدودها‪ّ ،‬‬ ‫فإذا ما فرغنا من ّ‬
‫ّ‬ ‫لعلـه إذا ما ّ‬‫ّ‬
‫تأملنا تصوره هو‪ ،‬الخاص‪ ،‬للتربية سوف نجد فيه‬ ‫ما يبدو كان تفكير ديوي يتعامل مع األمور‪ .‬و‬
‫ش يء من روسو وش يء من بيستالوزي وش يء من فروبل وش يء من مونتيسوري‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ولكن مع كثير منه‬
‫هو‪ ،‬من جون ديوي‪ .‬ففي املادة األولى من كتاب "عقيدتي البيداغوجيـة" لديوي نعثر على كل التأييد الالزم‬
‫ّ‬
‫لهذه املالحظة األخيرة‪ .‬نعثر من ناحية على ما ّثمنه ديوي في أفكار غيره من كبار التربويين‪ ،‬ولكن كذلك نجد‬
‫ّ‬ ‫ديوي في خصوصيته الكاملة أيضا‪ .‬إذ نقرأ في هذه املادة األولى حيث ّ‬
‫يعرف ديوي التربيــة‪:‬‬

‫ّ‬
‫ـ التربيــة هي مشاركة للفرد في الوعي االجتماعي للجنس البشري‬
‫ّ‬
‫ـ تبدأ التربيــة منذ الوالدة‪ ،‬بطريقة ال شعورية أوال‪ ،‬ثم تستمر عبر تشكيل قوى الفرد‪ 112‬بتغذية‬
‫شعوره‪ 113‬وتكوين عاداته‪ 114‬وتهذيب أفكاره‪ 115‬وتنبيه مشاعره وانفعاالته‪ .116‬حتى يصل الفرد تدر ّ‬
‫يجيـا إلى‬
‫املشاركة في التراث الروحي والفكري لإلنسانية‪ ،‬بل ويصير وريثها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخاصة‬ ‫ـ تعمل التربيــة على تنبيه الطفل إلى العمل كعضو في وحدة والتحرر من االنحصار في دائرته‬
‫بالسلوك والوجدان‪ ،‬حتى يصل إلى أن ينظر إلى نفسه من جهة صالح الجماعة التي ينتمي إليها‪ .‬ومن هنا‬ ‫ّ‬
‫الف َر ِّقي"‪ 117‬دائما‪.‬‬
‫ينبغي عليها إيجاد البيداغوجيا املناسبة لهذا الغرض‪ ،‬وهي بيداغوجيا "العمل ِّ‬
‫ّ‬
‫ـ وللتربية جانبان نفس ي واجتماعي‪ ،‬وال يمكن أن نغفل جهة منهما‪ ،‬أو نعتني بواحدة على حساب‬
‫ّ‬
‫يترتــب على ذلك نتائج ّ‬
‫سيئة‪.‬‬ ‫األخرى‪ ،‬دون أن‬
‫التعرف على غرائزه وقواه على نحو يمكننا من توجيهها‬ ‫ـ إن د اسة الجانب ّ‬
‫النــفس ي للطفل تييح لنا ّ‬ ‫ر‬
‫تربيــة ليست استجابة‪ ،‬على نحو ما‪ ،‬إلى‬ ‫االجتماعية‪ .‬ذلك ألن كل ّ‬
‫ّ‬ ‫تربويا على النحو الذي يخدم األهداف‬
‫ّ‬
‫حاجات الطفل وغرائزه‪ ،‬هي تسلط قهري من الخارج‪ ،‬فضال عن كونها تصير عشوائية ودون أساس علمي‪.‬‬

‫‪112‬‬ ‫‪Chaping the individual’s powers‬‬


‫‪113‬‬ ‫‪Saturating his consciousness‬‬
‫‪114 Forming his habits‬‬
‫‪115 Training his ideas‬‬
‫‪116 Arousing his feelings and emotions‬‬
‫‪117 Working in Pairs‬‬

‫‪62‬‬
‫ّ‬
‫ولذلك يقول ديوي " إن اتفقت مصادفة مع نشاط الطفل أصابت نجاحا‪ ،‬وان اختلفت ترتب على ذلك‬
‫الطفل‪ ،‬أو تفككت شخصيته‪ ،‬أو قهر طبيعته"‪118‬‬ ‫ّ ّ‬
‫تمرد‬
‫ّ‬
‫ـ غير أن دراسة الطفل نفسيا ال تسمح بمفردها ببناء مقررات تربوية كاملة ّ‬
‫ونمو ّ‬
‫ذجية‪ ،‬إال إذا‬
‫الراهــنة‪ ،‬من أجل القدرة على معرفة األهداف‬ ‫ّ‬
‫االجتماعيــة للحضارة ّ‬ ‫صاحبتها معرفة دقيقة بالوضعية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعيــة لقوى ّ‬
‫ّ‬
‫االجتماعيــة‬ ‫النمو لدي األفراد بدقة‪ .‬وهي التي تسمح لنا بإمكانية التنبؤ بطبيعة الهيئة‬
‫في املستقبل‪ ،‬وما سوف تكون عليه األمور‪.‬‬
‫بالطفل تعطينا معرفة بطبيعة قواه ّ‬
‫النــفسية‪ ،‬واملعرفة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـ إن املعرفة ّ‬
‫السوسيولوجية‬ ‫ـيكولوجية‬ ‫الس‬
‫تسمح لنا بمعرفة طرق استخدام تلك القوي‪.‬‬
‫الديمقراطية وانيشار الظروف الصناعية الحديثة‪ ،‬أصبح التنبؤ بما ستكون عليه‬ ‫ـ بعد ظهور ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحضارة بعد عشرين عاما مستحيال‪ ،‬مما يعني أن املطلب التربوي الوجيه اليوم‪ ،‬ليس إعداد الطفل ملا‬
‫سوف يكون عليه الحال مستقبال‪ ،‬وإنما إعداده لقيادة نفسه‪ ،‬بتدريبه على استخدامه كل قواه‪،‬‬
‫استخداما كامال في اقتصاد وكفاءة‪.‬‬
‫ّ ّ‬ ‫ـ تكمن القاعدة ّ‬
‫العامــة التي ينبغي االنطالق منها دائما في استنباط كل عناصر النظريـة التربوية‪،‬‬
‫ّ‬
‫الطفل بقينا أمام ش يء ّ‬ ‫ّ‬
‫مجرد‪،‬‬ ‫الجوهريــة‪ ":‬إذا نحن أغفلنا العامل االجتماعي من حساب‬ ‫من هذه الحقيقة‬
‫‪ّ 119‬‬
‫وإذا أسقطنا العامل الفردي من املجتمع لم يبق إال جمهور بغير حركة أو حياة" ويترتــب على ذلك أن‬
‫التربيــة املطلوبة في تصور ديوي ينبغي لها أن تسيند إلى تصورات علم ّـيـة سيكولوجية وسوس ّ‬ ‫ّ‬
‫يولجية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخاصة عن نمط اإلنسان الذي نريده أن يكون‪ .‬إنسان الكفايات‪ ،‬والذكاء‬ ‫دقيقة‪ ،‬ثم تكون لها فلسفتها‬
‫الكامل‪ ،‬والقدرة على التكيف غير املحدودة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التربويــة أن ّ‬ ‫ولقد استطاع ديوي بهذه ّ‬
‫يغير الكثير من املمارسات التربويــة في أمريكا أوال وفي‬ ‫التـصورات‬
‫ّ‬
‫التربويــة وفي مستوى طرق ّ‬
‫التدريس وتغيرات أخرى كثيرة ذات‬ ‫العالم ثانيا‪ .‬تغيرات في مستوى مضمون املادة‬
‫ّ‬
‫تأثير شامل على مفهوم النظام التربوي ذاته‪ .120‬وهي تغييرات ال تزال تشتغل إلى اليوم‪.‬‬

‫‪118‬‬ ‫‪John Dewey, My Pedagogic Creed, Article One « If the chances to coincide with the child’s activity it will‬‬
‫”‪get a leverage; if it does not, it will result in friction, or arrest of the child-nature‬‬
‫‪119 John Dewey, My Pedagogic Creed, Article One « If we eliminate the social factor from the child we are left‬‬

‫‪only with an abstraction ; if we eliminate the individual factor from society we are left only with an inert‬‬
‫» ‪and lifeless mass‬‬
‫‪120 OU TSUIN-CHEN, la doctrine pédagogique de JOHN DEWEY, P 234-254‬‬

‫‪63‬‬
64

You might also like