Professional Documents
Culture Documents
25
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
26
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
27
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
28
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
فيـا مـن تـرّد د فـي وحـدة * * * بمغربـنا و اّد عـى ،و امترى
29
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
موضوع اإللياذة:
موضوع إلياذة الجزائر موضوع ملحمي ،1فهي من بدايتها إلى نهايتها تحكي قصة شعب
في نضاله ضد االحتالالت األجنبية وفي صراعه مـع الزمـن الذي يحمل إليه في كل
مرحلة من مراحله عدوا جديدا يناصبه العـداء بأسلـوب جديد ،وهي إلى جانب دورها في
التاريخ ،فإنها أروع وأجمل ديوان يحتل مكانة مرموقة في األدب الجزائري خصوصا
والعالمي عموما.
ومن هنا أقبل المتلقون على قراءتها وحفظها بل حولوها إلى منظومة يتغنون بها في
المواسم واألعياد ألنها "أحسن سجل لتاريخ الجزائـر حتى اليوم أي أحسن كتاب فيه وعنه
ولـه وحتى إذا ما كتب هذا التاريـخ يوما ما بصفـة كاملة شاملة فستبقى اإللياذة أروع تاريـخ
للجزائـر وأكثـره وقعا في
النفوس وأسهله على الحفظ والتذكر واالستشهاد في معرض االستشهاد واالحتجاج"2
والواضح أن صوت مفدي زكريا إلى جانب التركيب والداللة هو الذي أعطى اإللياذة هذا
الطعم اللذيذ وهذا اإلحساس الجميل وهذه الموسيقى الموحية المؤثرة لذلك يمكن القول:إن
إقبال القراء والباحثين على اإللياذة يعود إلى نسيجها المحكم الذي تمثل في شبكة العالقات
الصوتية والصرفية واللغوية.
وقد جاء موضوع اإللياذة موسوما بـ :القيم الجمالية،وتتجلى هذه القيم في التكرار الذي
وظفه مفدي زكرياء فني في رائعتها الدوافع نفسية وأخر فنية ،فأما األولى فإنها ذات
وظيفة مزدوجة تجمع الشاعر والملتقى وأما الثانية فتمثلت في تلك التلوينات اإليقاعية التي
جاءت عفوية تلقائية ال يقصدها الشاعر إال التالعب باأللفاظ وتكلف التزويق بالمحسنات ،
وهي بذلك تؤكد أن الصياغة عنده ال تطغى على العواطف فيوقت تساعد على التعبير عن
التجربة وعلى إثارة اإلحساس بالغيرة والنضال والشعور بالجودة والكرامة على
30
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
التأثير بذلك في الجماهير ،وحثها على التجاوب ،كما أن صخب اإليقاع في هذه الصياغة
الناضجة تداخل مع ضخامة الموضوع ليؤدي في النهاية وظيفته التعبيرية انطالقا من
معايشة واقع نابض بالحركة والحياة ومعاناة صادقة تتسم باالنسجام الحي مع مطامح األمة
،وظروف نهوضها المتوثب بما يحفز على تفجير طاقات الخلق في تشكيل معبر جميل ،
ويتحول المتقبل فيها من متقبل مجرد إلى طرف مشارك.وعلى هذا النمط ،نجد أنه ليس
من السهل أن تأتي صور ألف بيت شعري نسخة واحدة خاصة إذا كانت المشاهد متداخلة
والبطوالت متعددة ،واالنسجام بين األحداث قائما بذاته فالشاعر ال يستطيع مسايرة هذا
التدرج الذي يعيده مرغما إلى رسم بعض الصور التي يكون قد رسمها سابقا فالصور قد
تكون جافة إال أن مفدي زكريا يبدع داخلها ،يلغم المشهد فينفجر داخل الصور ،أو عمقها
لتتطاير شظايا اللوحة اإلبداعية بالكلمات ،ألن تشكيل المشاهد عنده ينطلق في أغلب
األحيان من صور حالمة تعكس وجها بعيدا لمرئي متشابك يتموضع في انسجام ورشاقة،
ومن العملية اإلبداعية ينتقل الشاعر إلى اختيار اللفظ الدال على الهدف السميائي المتدفق
وراء المعاني المختارة ،فصوت مفدي زكريا يجلجل بصحب عنيف ،وقوة تدفـق مشاعره
تصاحبها نبرة حادة متأججة فائضة بعدها ينسجم الشاعر مع الصور التي يوزعها في ثنايا
النص فهو ينفعل مع الحدث ويتمازج مع القضية حتى يصير جزءا منها أو تصبح هي
جزءا منه.
ولئن كان موضوع اإللياذة ما يحد حرية الشاعر في التعبير عن مشاعره التي تصاحبها
قوة
التخيل باعتباره يتناول موضوع تاريخ مجيد فإن اإللياذة على الرغم من ذلك ظلت تتصنع
األحداث في قالب شعري محض ،والسر في نجاح مفدي زكريا في تقديم هذا العمل
القدير يعود إلى حسن اختياره لهذا التقسيم المنهجي الذي يتنافى وطبيعة الشعر فتنوع
القوافي وأحرف الروي ،واستبدال المشاهد واختالف العواطف وتبدل االنسجام اللغوي
31
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
من الرقة إلى العنف ومن الليونة إلى الغلظة ،كل ذلك ساهم في بلوغ الشاعر هذه المرتبة
وربما يكون كل ذلك من باب الصنعة.
32
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
في كل اسم مضاف إليه " 5 ،كما أنها تسير في اتجاه واحد مختلفة في الداللة فالباء
معناها " اإللصاق كقولك :كتبت بالقلم ،أي :ألصقـت كتاباتي بالقلم " ،ومن هنا يتبين
لنا أن هذا الحرف ألصق بالنـار واألعمـاق واألسرار ليكشف لنا أسرار هذه األسماء
المرتبطة بحدث الوصف:
ومن الدواخل أيضا حرف النداء "يا " وهو" لكل منادي قريبا كان أو بعيدا أو
متوسطا 1لتنبيهه و دعاءه ليجيب ألن النـداء في حـد ذاته تنبيه المدعو ،ودعاؤه بحروف
مخصوصة ،وهي "يا" وأخواتها ليجب ويسمع ما تريد وخير المقطوعات التي حملت هذا
األسلوب المقطوعة األولى ،فقد استعمل تسع مرات ،وهذا دليل على قوة الشاعر وفطنته
في وصف بلده واستخدام هذه األداة هذا الشكل إعالن لحادثة عاشها الشاعر أو يريدنا أن
نعيشها معه فيقول:
32
جزائر يا مطلع المعجزات ويا حجة ااهلل في الكائنات
ويا بسمة الرب في أرضه ويا وجهه الضاحك القسمات
يكثر الشاعر استعمال أداة النداء ،فيذكرها في كال الشطرين ،والقارئ أو المستمـع يشعـر
-كأن المنادي في صرخة تامـة يطلب االستغاثة كما أنه ليس هذه األدوات وحدها عملت
على صدور الصوت وانفجاره بل أن هناك حروف أخرى مساعدة في هذه العملية ،ومنها
حروف اللين خاصة األلف ،وذلك في الكلمات اآلتية :جزائر ،المعجـزات ،الكائنات،
الضاحك ،القسمات ،هذا وقد ابتدأ الشاعر إلياذته بكلمة الجزائر ،وهي منادى علما أو
نكـرة مقصودة مبنية على الضم محلها النصـب ألداة محذوفـة والتقدير يـا جزائر ،والنداء
ههنا مقصود لإلقناع والتباهي بعظمة البالد ،ومفدي زكريا هذا التأويل ينادي بإيقاعه
الندائي هذا ليبلغ الناس ما فيقلبه من تأوهـات ،وهـو حين يعمد إلى اصطناع مثل هذه
1كتاب سيبويه ،تحقيق و شرح عبد السالم هارون ،ج ، 2دار الجيل بيروت ،ص 182
33
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
االمتدادات اإليقاعيـة المتتاليـة في كـل أبيات اإللياذة تقريبا ،إنما يجب أن يبتغي من وراء
اصطناعها أن يعبـر عن بركـان متأجج من اآلهات المنبعثة من صدر مهموم ،ليمتد هذا
الصوت إلى أقصى مدى ممكن من االندفاع و االنتشار حتى يصل إلى الحيز القابل
لالستقبال.وتواصل نداءات الشاعر مسيرتها في عالم اإللياذة إلى أن تصبح جزءا من
القافية لتفرض نفسها على بنية الخطاب الشعري ،ودليل ذلك قوله:
1
جزائر أنت عروس الدنا ومنك استمد الصباح السنــا
2
عرجنا تنافح باينام ضحا كأن اغتصبنا لها مان صرحـ ــا
إن هذه اإليقاعات المفتوحة التي كانت وقع في نهاية صدر وعجز هذه األبيات أفضت إلي
إفـراز معظم األصـوات على تماثل عجيب الدنا -السنا ،ضحا -صرحا فهذا اإليقاع لم
يكن وظيفة مجرد تجنيس الوحدة األولى ،وإ نما تعدى ذلك إلى ظهور وظيفة أخرى تتمثلت
في التأثير.
ومن هنا يمكن القول:
إن السمة الغالبة على الجملة الندائية في اإللياذة هي الطول ،وربما كان هذا منسجما مع
طبيعـة المنادى والموضـوع ،ألن الجزائـر -الوطن الغالي -والتاريخ بقدمه وحديثـه محاور
أساسية للنداء ،هذا وال ننسى ميل الناظم إلي تفضيل أداة يا ،التي شكلت نموذجا
أسلوبيا ،فوردت مع جميع الصور الندائية .فبها نادى القريب ،وهذا يفسر بأن الذي ينادي
عالي المرتبة وعظيم الشأن ،ولنا في نداء الجزائر دليل قاطـع ،فالعدول إذن ،بأداة النداء
يا من مناداة البعيد إلى مناداة القريب مبالغة في المدح والتعظيم وزيادة في إظهار عاطفة
جامحة.فكل هذه النداءات الواردة في اإللياذة سواء أكانت حروف للنداء أو امتدادات
صوتية متعالية في الهواء تعداد لألوجه مختلفة لقيمة واحـدة جسدها الشاعـر زكريا في
34
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
الجزائر ،وهذه القيمة تعني الجمال الخارق ،والتي تعني بالنسبة للشاعر نزوح داخلي كان
قد عجز عن تحقيقه في الماضي ولكنه حقق بعد فترة االستقالل ومن ههنا تتجلى لنا
موقعية التنغيم المبنية على المـدى اإليجابي المرهون بالعاطفة المثيرة وفي هذا الصدد
يقول تمام حسان "ويستعمل المدى اإليجابي في الكالم الذي تصحبه عاطفة مثيرة ولتحديـد
هذا تحديـدا أكثـر ضبطا نقول :إن الكالم هذا المدى تصحبه إثارة أقوى لألوتار الصوتية
بإخراج كمية أكبر من الهواء الرؤى باستعمال نشاط أشد في حركة الحجاب الحاجز.1
ومن الدواخل أيضا الفاء ،فلقد صور الشاعر طبيعة الجزائر ،ونقل لنا تاريخها القديم
والحديث،وكان هذا كافيا ألن ينقل لنا صورة حية عن الجزائر من القرن الثالث قبل
الميالد إلى العقد السابع من القرن العشرين .كل ذلك في ألف بيت وبيت ،وكان من نتائج
هذا االختصار ورود الفاء،حيث وصف وذكر األشياء واألحداث والتاريخ بجمل مركبة ،
تحمل شطرين متمثلين في سبب و نتيجة.وتعددت الفاء كما الحظنا ذلك من خالل سرد
األبيات ،فدلت على الترتيب والتعقيب،وارتبطت بجواب الطلب ،ومن أمثلتها في اإللياذة،
المقطوعة الحادي عشر ،فدلت على معنيين،دلت على السببية في قوله:
2
وغاضت به ثورات الهوى ففجرت العزم في الثائرين
و دلت على التعقيب في قوله:
وقد عاش دربا الحلو األماني فأصبح دربا يالقي المنونا
كما ارتبطت بجواب الشرط في قوله:
3
لئن حارب الدين خبث النفوس فلم يغمط الدين هذى النفوسا
ودلت على االستئناف في قوله:
35
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
1
ونظمت جيشا وسست بالد فكنت األمير الخبير الخطيرا
وجاءت زائدة للتوكيد في قوله:
2
وال بالهتافات عاش … ويحي فما حرر القول يوما عبيدا
ودلت على الترتيب في قوله:
3
و عسلـة يندبه طالب فيلحقه بعد مر السقام
لقد سكب الشاعر أفكاره في درر رصينة كل كلمة حملت طاقة مفعمة بالعمق
والتعبير،فاحتاج لربط كل ذلك إلى أدوات ربط بينت داللة االختصـار ،فال يمكن الجزم في
معاني الفاء وإ نما الذي يجب القطع فيه أن هذه الفاء جاءت للربط ،مهما تفرعت معانيها
الجزئية و الفرعية وورودها شيء طبيعي لموضوع شاسع وواسع.
2/السوابق :إن السوابق في اإللياذة شأن الدواخل ،تحمل في طياتـها معاني تعبـر عنها من
خالل السياق ،ومن هذه السوابق الواو ،فقد أتت في اإلليــاذة على شكل تجانس استهاللي،
يجدد تنفسه مع كـل بيت تقريبا ،وهذا ما نسميـه نحن باالستهالل األمامي لألبيات المتتابعة،
فهي في المقطوعة األولى تتماشى مع حرف النداء ،ما عدا البيتين األخيرين ،فجاءت
مصاحبة لفعلين .،وهي باإلضافة إلي دورها في الربط بين هذه الصور المتفرقة
والمتباعدة والمتباينة ،تستدعي الصــور التي تعيش في الذاكرة ،وال تستجلب إال بتداعي
المواقف والمشاعر ،وألن جمال الجزائر ماثل في كهذه الصور ،جاء تكــرار الواو لهدف
تكرار أوجه هذا الجمال ،و تعدد صوره ،و هي هذه الطريقة تتمدد في اإللياذة لتصبح
كالحلقة تعاد كل مرة مـع بيت أو مشهد جديد ،فالـواو إذن حر فهوائي ،و كونها كذلك،
فأنها تحلق بالقارئ أو السامع في فضـاء النص لتكشف له عن أسراره.ومن السوابق أيضا
حرف المضارعة ،يقول زكريا:
36
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
1
ويا لجـة يستحم فيها الجمـال ويسبح في موجها الكافـر
ولوال العقيدة تغمـر قلبي لما كنت أومن إال بشعبي
2
دعو ماسينيسا يردد صدنا دروه يخلـد زكي دمانا
نلمح من خالل هذه األبيات أن حرف المضارعة يلعب دورا دالليا بارزا وذلك بدخوله
على الصيغة الفعلية ،فالهمـزة في أومن تحمـل في طياتها المعنى الذي تحمله األفعال
المرتبطة بها وبسياقها وهي مجموعة تشير إلى العفو وطلب التوبة عن الذنب ،والعقيـدة
الخالصـة التي يغمرها إيمان صادق متدفق من قلب شاعر عاش لألحـداث والمواقـف في
حين ترتبط الياء باألفعال يستحم -يسبح -يردد -يخلد -تغمر وهـي في مجموعها
وصف لحالة الجزائر من خالل طبيعتها الصامتة و المتحركة ،والياء بدخولها على هذه
األفعال قد اكتسبت جزءا من الداللة بوجودها في السيــاق ،فهي باإلضافة إلى بيانها جهة
الزمن توحي بالتغير المفاجئ فمرة تفيد االستحمام و السياحة ،ومرة تتعلق بالعقيدة ،
ومرة بالتاريخ ،ومرة باالزدهار والرقي.ومن السوابق أيضا حروف االستفهام ،يقول
3
زكريا :
فكم بات يبكي به موجع ويسفح دمعا فيغمر سفحا
وكم من جريح الفؤاد اشتكى فأثخن باينام في الصب جرحا
وكم من صريع الغواني تداوى بأنسام باينام فازداد لفحا
القارئ أو المستمع الذي من المفروض أن يتوقع تكرار القوافي في أواخـر األعجاز صار
يتوقع تكرار غيرها في أوائل الصدور ،بفضل تكرار كلمة " وكـم " تكرارا متواليا في
جملة من األبيات ،وهو تكرار كما نرى ذو وظيفة إيقاعيـة مصفقة ،ذلك أن الكلمة
المتكررة هي عينها تأتي في مطلع كل بيت فتحدث نغما صوتيا لمرحلة معينة ثم تنقضي ،
37
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
وكأن الشاعر قد قصد بذلك إلى تنبيه الحـس وتحفيزه لمعرفـة عدد الباكيين وعدد الجرحى
والصرعى المبهم ،كـون هـذه األداة االستفهامية يستفهمها عن عدد مبهم يراد تعينه.ومن
1
صيغ االستفهام أيضا نجد هل يقول مفدي زكريا :
وهل فت فيليب في عزمنـا ؟ وحط القساوس من شأننا
وهل نابليون ومن وسمتـه يداه ،استهان بإصرارنا ؟
استطاع المروق بأطفالنا ؟ وهل ال فيجري وطول السنيين
من الواضح أن الذي قصد مفدي زكريا إلى تكراره قصدا هو حرف االستفهام هل فلم
يكتسب من جهة مفهومه كسوة الداللة على السـؤال فحسب ،بل لبس كسوة الداللة على
وحدة الشعور بالتمني والتشويق ،فالهاء حرف عميق صادر من الحلق ،يحمل في داخله
داللة التعبير عن آهات النفس ،وذوبانه مع الالم عبر عن تساؤالت تنتظر أجوبة بفارغ
الصبـر .فناسـب هذا االستفهام إيقـاع المقطوعة محدثا في ذلك تنغيما إيجابيا صاعـدا يقول
تمام حسان :أما إذا كان االستفهام هل أو الهمزة ،فإن النموذج المستعمل هو اإليجابي
2
الصاعد
ومن صيغ االستفهام نجد كيف ،يقول زكريا :
وكيف يسـوس البـالد غبي بليد أضاع الضمير فضـاع ؟؟
وكيــف يقــوم بنيانــه وتقويم أخالقه ،ما استطاعا؟؟
وكيف يصون األصالـة نشئ وقـد ساوموه عليها فباعـا ؟
وكيف ينير الطريــق شباب وقد طمس الرجس فيه الشعاعا ؟
وكيف يصارع مـوج الحياة وما استطاع في أصغريه الصراعا ؟
قصد زكريا ،كما هو واضح إلي تكرار أداة االستفهام كيـف الجارية في المقطوعة
مجرى الدم في العروق ليخلق بذلك النغمة الموسيقية األساسية التي تسيطر على جو
38
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
األبيات النغمي العام ،وهي هاهنا ترتبط بأفعال مضارعة تحـث على فعل السوس والقيام
والصيانة واإلنارة ،والدواء و الصراع لتسير في مسار واحد هو الوعد الذي قطعه
الشاعر على نفسه في تنشئة جيل عظيم ،وقد جـاء التنغيم في هذه ا لمقطوعة لتأكيد
االستفهام ،ويتناسب والمدى اإليجابي الهابـط يقول ت مام حسان " :و يستعمل أيضا في
تأكيد االستفهام بكيف وأين و متي وبقية األدوات فيما عدا هل والهمزة " ،ولكن ما الذي
حمل الشاعــر مفدي زكريا إلي اصطناع هـذه التساؤالت المتتالية و االستفهامات المتتابعة
في نصه هذا ؟ وهـل جاء ذلك ـرد حيـن التساؤل أم جاءه حقا يتساءل بشغف ولهفة عن
شيء ضائع وأمر مفقود ؟.
ويعني هذا التوزيع االستفهامي في اإللياذة أن هناك حقوال مختلفـة كانت تساور خيال
النص ،فإذا هو طورا يسأل عن عظمة بالده ،وجمالها ،وطورا يسأل عن تاريخها القديم
و حديثه ،وطورا آخر يسأل سؤال يتمثل في كيفية بناء مجتمع صالح؟.
3/اللواحق :يأتي تكرار اللواحق داال على معنى يؤكده الشاعر ،يقول زكريا:
تبارك واديك صومـام إنا حفظنا عهودك أيان ثرنا
1
أصومام باسمك صمم شعب سياسة ثورته ،فانطلقنا
إن ضمير المتكلمين انا تكـرر طوال المقطوعـة،2وبالتحديـد في القافية وتكرار الضمير
تأكيد لمؤتمـر الصومام ،مضيفا إليه المحافظــة على العهود واإلثارة واالنطالقة والتوحيد
واألهداف والسير واالنتصار ،وتمتد رقعـة هذه اإلضافة لتشتمل أشياء أخرى مما يعد
عناصر أساسية في طبيعة الحياة التي يصدر عنها الشاعـر كالشعب واألطفال والشريعـة
والحـرب والجهاد و النضال والسالح والوطن والسياسة..وألن الشاعر كان بصدد إثبات
الذات العربيـة في مواجهة أعدائها عن طريـق المؤتمر الذي ا نعقد بالصومام يـوم
1955فقـد جاء توظيفـه لهذا لضمير المتكلمين رمزا لهذه الحالة ،قادرا على 20أوت
39
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
إعطاء الداللة المزدوجـة بين المباشرة التي تعني الحفاظ على األرض والعرض والمال ،
وغير المباشرة التي توميء إلى الحياة في مقابل الموت ،وإ لى القوة في المواجهة العجز
وإ لى النصر في المواجهة الهزيمة.ومن بين اللواحق أيضا الضمير المتصل ،يقول مفدي
1
زكريا:
وقالمة تزهو بأحالمها يهدهد معسول أحالمها
يشيع البخار تباريحها ويشكو مواجع آالمها
إن هذه األصوات التي انتهتها القافية ليست مجرد أصوات طبلية فضفاضة تطير في
الهواء وتدوي في الفضاء بدون غاية تذكر ،بل أن الهاء حرف حلقي عميق ،يكاد يخرج
من أعماق ا لجهاز الصوتي وهو نتيجة لذلك يحمل في طياته داللة أخـرى هي التعبير عما
يكن في النفس من الحزن وألم وشقاء ومما زاد في عمق هذا الحرف هو تعلقه بألف المـد
التي كان لها الشأن كبيـر في أن تعكس لنا نفسية الشاعر الكئيبة،فلو كان األمر يتعلق مثاال
بحـرف آخر ممدود كالياء أو التاء أو الكاف لما كان لوروده داللة عميقة تذكر،ولكن لما
كان هاء فقد استطاع أن يعكس لنا صورة ا لحزن والقلق والفزع واأللم جميعا.فهذه الهاء
التي جاءت ضميرا غائبا يعود على قالمة خرجت من العمق وأصبحت تعترف بوجودها،
ونفت غيابا دالليا مما جعل هذا الضمير قائم في الذهن وثابت مجسد في مكان النفس.
4/تكرار الصوامت :ومنها الشديدة والرخوة والمائعة
أ/الصوامت الشديدة :وهي" التي يمنع الصوت أن يجري فيها وهي الهمزة والقاف
والكاف والجيم و الطاء والتاء ،والدال ،والباء."2
وقد بدت في اإللياذة من حيث الشيوع والتكرار من األصوات التي تحقق في جلها عنصر
االنطباق الداللي ،ومن أحسن الصوامت المعبرة عن هذه الظاهرة اللغوية األبيات اآلتية:
40
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
1
بها ذاب قلبي ،كذوب الرصاص فأوقد قلبي ،و شعبــي
2
وبلكور للمجد شق طريقــه وخط معالمها في السويقه
تردد في البيت األول الباء ست مرات ،والقاف ثالث مرات ،وكال من الهمزة والجيم مرة
واحدة ،وهي صوامت شديدة صورت حالة الذوبان ،وقد ساعدهم في ذلك صيغة أوقد
وجمرا ،وفي البيت الثاني تكرر القاف ثالث مرات في شق -طريقة-
السويقة ،وترددت الطاء مرتين في طريقة -خط ،ووجود الصوامت الشديدة :
الجيم ،والكاف والباء ،كل هذا قد صور تصويرا حسيا صوت الشق ،فانسجمت األصوات
مع المعاني مثيرة الداللة المطلوبة.
ب/الصوامت الرخوة :وهي الهاء و الحاء و الغين و الخاء و الشين و الصاد والضاد
والزاي و السين ،والضاء والثاء والفا ، ،وذلك إذا قلت رطس و انقض ،وأشباه ذلك
أجريت فيه الصوت إن شئت وتستخدم هذه الصوامت في اإللياذة استخداما رائعا فهي
بصفاUا الصوتية الخاصة تصور المعاني تصويرا حسيا ، ،وتضفي عليه جرسا موسيقيا
موحيا مؤثرا ،ومن األبيات الدالة على ذلك.
3
وأنت الحنان وأنت السماح وأنت الطماح وأنت الهنا
تردد في هذا البيت الحاء ثالث مرات ،وكل من السين و الهاء ،مرة واحدة اجتمع ههنا
لتصورا تصويرا حسبا صفات الجزائر محدثة في ذلك نوعا من االرتخاء ،فإذا علمنا أن
الرخاوة صفة من صفات هذه الحروف قلت في هذا المثل تكسر مبدأ االعتباط وتحقق بدله
مبأ االنسجام بين الدوال والمدلوالت.
ج/األصوات المائعة :
41
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
يقصد باألصوات المائعة الالم والميم والنون والراء ،وهي التي يسميها علماء العربية
1
باألصوات المتوسطة" .
1/األصوات المكررة :ويمثلها في العربية صوت الراء ،ومن أمثلته:
2
جزائر يا بدعة الفاطــر و يا روعة الصانع القــادر
3
أفي رؤية ااهلل فكرك حائر و تذهل عن وجهه في الجزائر
فتكرار الراء في البيت األول أربع مرات في الجزائر الجزائر -الفاطر -روعة -
القادر مرتبط بمعجزة ااهلل في صنعه ،وتكرارها في البيت الثاني كذلك أربع مرات في
رؤية -فكرك -حائر -الجزائر متصل اتصاال و ثيقا بمعنى الحيرة في التفكير
والرؤية.
وقد يدل الراء بصفته الجوهرية -وهي التكرار على معنى التتابع والتوالي أنظر قوله:
4
وعرق األصالة طهر طبيعي ونور الهداية أذهب رجسي
فترديد الراء في مثل هذا المثال أربع مرات وذلك عرق -طهر -نور -رجس
متصل بالحركة والتتابع واالنتقال المفاجئ من الحالـة االرتباك والقلق االستقرار واألمن.
2/الصوامت الجانبية :ويمثلها في العربية صوت الالم ،ومن أمثلته:
5
ويا لوحة في سجل الخلود تموج بها الصور الحالمات
اتصل الصامت المنحرف بمعنى االنحراف في البيت األول والذي يبـدو سخيا ،غيـر أنه
معنوي ألن األلـواح المسجلة في التاريـخ الخالد ال نستطيع تصورها دون تقليب صفحات
عبر الذاكرة ومما أدى إلى تقوية هذا الزعم وجود أصوات العين فهي بأقصى ما وصلت
2د .كمال محمد بشير ،علم اللغة العام ،القسم الثاني ،االصوات ،ص 168
42
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
إليه من تأثر بما جاورها حتى الغناء وإ لى عدها أصوات دالة على اإلنشادية فقد جسـدت
تجسيدا رائعا ظاهـرة تسجيـل العظماء على لوحات راقيـة بطريقة خفيـة عجيبة فانسجم
الصامت المنحرف مع المعاني ،وغـدا هذا التكـرار ضـربا من التفنن العجيب ،ألنه في هذا
لبيت " كمثل الموسيقى حين تتردد فيها أنغام بعينها في مواضيـع خاصة من اللحـن فيزيدها
1
هذا التردد جماال و حسنا " .
3/األصوات األنفية :وتمثلها في اللغة العربية الميم والنون وبيانها:
2
وإ ن خسفوا نجم هذا الشمال فالشعب حزب مضى مستمرا
جاء تكرار الميم خمس مرات والنـون ثالث مرات مرتبط بفعل الخسف واالستمرار.
األصوات السابقة وهي الراء والالم والميم والنون تشبه الحركات في أهم خاصة من
خواصها وهي"قوة الوضوح السمعي" 43 3،وقد أوضح البحث الصوتي بأن هذا النوع
كثير الشيوع ،وذلك من خالل استقرائنا بعض معاجم اللغة العربية والقرآن ،أما فيما
يتعلق بالمعاجم وهي :الصحاح ،واللسان ،التاج ،فقد تبين أن الراء وردت بأعلى نسبة في
المعاجم الثالث ،ثم النون في اللسان والتاج ،ثم الميم في اللسان والتاج ،أما النون فقد
وردت بأعلى نسبة في الصحاح وكان الالم آخرها وأما فيها يتعلق بالقرآن الكريم ،فقد
تبين أن الالم وردت " 022 33مرة " والنون " 26525مرة "،والميم " 26135مرة "،و
الراء " 11793مرة" 44 .
أما استقراؤنا -اإللياذة -فقد أسفر عن النتائج اآلتية :الالم 2994مرة ومع الالزمة "
3594 "،ثم النون " " 2006و مع الالزمة " 2606مرة " ،ثم الميم " 1884مرة " و مع
الالزمة " 2084مرة "،ثم الراء " 1613مرة " ومع الزاى " 2013مرة ".
ومن هنا يتضح لنا أن الدوافع الفنية للتكرار تكمن فيما يأتي:
43
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
1تحقيق النغمية والرمز األسلوب اإللياذة ،ففي النغمية هندسة الموسيقى التي تؤهل
العبارة وتغني المعنى.
2-بحث الشاعر عن صيانة المعادل اللغوي وذلك إلحساسه بتأزم نتيجة حياة المنفى.
3-توفير المرتكزات البنيانية لحصول القيمة اإلنشادية للقصيدة اإللياذية.
4-اجتماع دالالت التكرار على تمثيل الموقف الشعري الذي حاول الشاعر توضيحه من
خالل إلياذته.
5-ارتباط البنية التكرارية بالسمة الغنائية التي تنبني صدورها عن قناعات داخلية تتلون
في أنماط خاصة فهذا التكرار قد أقام البنية المعنوية والبصرية داخليا وخارجيا ،وهو في
ذلك يقترب من البنية العمودية في كونه يعطي رصانة شكلية لينة اإللياذة ،حيث أنه ورد
فيها موصوال بحال اإلنشاد والهجاء و الحماسة الخطابية والرثاء.
6-اختيار مفدي زكريا وانتقائه أللفاظ تحقق تكرارا في األصوات و المقاطع وفي
الوحدات
الصرفية ،والتراكيب النحوية.
7-خروج التجربة الفنية من لسان زكريا لتنطلق بقوى كامنة أقوى من انتباهه للتغير
واالنتخاب لكل هذه األنواع ،وال أحسب مفدي زكريا إال مدفوعا بهذه القوة حين سجل
إلياذته التي أدخلت أنماط التكرار ،وهو ذا يكون قد جمع في شعره هذا ،بين الموسيقى
الخارجية والداخلية.
-4-قراءة داللية إللياذة الجزائر
-4-1فضاء اإللياذة:
ملحمة مفدي زكرياء "الياذة الجزائر" هي محاولة إلعادة كتابة تاريخ الجزائر ،والتركيز
على أهم المحطات التاريخية قصد إجالء أهم داللتها ومن هنا فإن أهم بطل فيها ليس إالها
44
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
وثنيا أو بطال خرافيا أو أسطوريا جاء ليلخصها من كل محنة وجدت فيها ولكنها عبقرية
الشعب الجزائري ودأبه على وضع تاريخه بنفسه .وهذا ال ينفي طبعا الرجال التاريخيين
1
الذين صنعوا هذا التاريخ
أما زمن إلياذة الجزائر فإنه يمتد من فجر التاريخ البشري إلى نهاية سبعينات هذا القرن
وفضائها أيضا الرقعة الجغرافية " الجزائر " التي شهدت هذه األحداث .والفضاء بهذا
المفهوم ليس زمنا مطلقا أي معلقا في الفراغ .ولكنه سلسلة التحوالت الناجمة عن مجموع
األعمال التي قام بها أبطال هذا الشعب ومساهمتهم في العطاء الحضاري .وقد حدد مولود
قاسم " اإللياذة " بقوله ":فهي أي " إلياذة الجزائر " أجمل و أكمل صياغة لتاريخها بآالمها
"2
و آمالها ،بانتكاساتها و انتصاراتها كما هي وظيفة التاريخ ألي امة من األمم
-4-2بنية االلياذة:
االلياذة تتكون من مائة مقطع يتكون كل مقطع من عشرة ابيات ،عدا المقطع الثالث و
التسعون الذي يتكون من احد عشر بيتا ،و البيت الحادي عشر يعتبر بمثابة سجدة السهو
ليعبر عن قداسة ملتقى الفكر االسالمي الذي انعقد بالجزائر العاصمة و الذي يعتبر
المحرك لكتابة االلياذة و بذلك تبلغ االلياذة الف بيت و بيت ،و هذا الرقم في حد ذاته له
1عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،طبع على نفقة وزارة المجاهدين ،مؤسسة مفدي
زكرياء بدون تاريخ.
2عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 79
45
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
إن ما يشد االنتباه الى الياذة الجزائر هو المادة التاريخية الطاغية على بنيتها فهي ظاهريا
بنية تاريخية ،و نص االلياذة بناء ملحمي محكم يبين لنا وعي مفدي زكريا يالعمل الذي
أنجزه و صلته بالملحمة أكثر من أي جني شعري أخر وإ لياذة ترصد مجموعة من
االحداث تمتد على مساحة زمنية اوسع تبدأ من فجر التاريخ إلى يومنا هذا و تضيء
وهي بهذا المفهوم تعتبر ملحمة ،والرؤيا الداخلية لإللياذة تفصح عن عالقة االلياذة
فالملحمة غالبا ما تبذأ بمقدمة و هو عبارة على أبيات و سرد المجموعة من األوصاف
المتعلقة باألبطال لذين سيقومون برحلة الكشف و المغامرة -وقد حافظت اإللياذة على هذا
المقباس و ذلك في المقاطع األربة األولى ، -حيث يقدم مفدي زكريا بطله الذي هو
الجزائر بكل ما يليق بهذا البطل من سمات التقدير و شارات االجالل -حيث يقول
الشاعر:
46
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
1
فا هوى عـلى قدميها الطغاة و اهوى عـلى قدمـيها الزمان
2
وفي شعبهـا الهـادئ الثائـر و ياثورة حـار فيـها الزمـان
ويقول:
األسطورة المعجزة:
ال شك أن "إلياذة الجزائر" بصفتها عمال شعريا يتكئ على التاريخ ،فإنها ال يمكن لها أن
تتخذ من األسطورة بمفهومها الفج عنصرا من عناصر بنائها،و ما دام األمر كذلك فإن
األسطورة بمفهومها القديم فإنها تصير عند مفدي زكريا مقاربة لمفهوم المعجزة الذي
هو مفهوم ديني و نلمس ذلك في سياقات عديدة من نص اإللياذة ،و المعجزة واإلعجاز
1محمد عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكريا في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 80
2عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 81
47
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
إن الشاعر استعمل ألفاظ و تراكيب التي تدل على حدوث المعجزة بلغة دينية و ألفاظ
مأخوذة من القاموس الديني ،و أول سياق وردت فيه "المعجزة" بمفهومها االنقالبي أي
1
و يا وجهة الضاحك القسمات و يا بسمة الرب في أرضه
و السياق الذي وردت فيه كلمة معجزة هو مطلع اإللياذة و ذلك للتبشير بهذا العمل
االنقالبي ،و دعم هذه المكانة بتأكيده على هذا الفعل في بداية اإللياذة ،و هي بذلك تعتبر
مطلعا على مستوى الفعل و مطلعا على مستوى البناء ،و في تقديمه في هذه الصفة و
تأكيده على أهمية هذه الكلمة حسب المقاييس البالغية " وقيامنا بتبديل مواقع "الجزائر" و
متساوية الطرفين"
و المعجزة هنا فعل انقالبي "فعل عظيم" كان في مستوى ما قدمه الشعب الجزائري
إن أية قراءة لإللياذة -مهما كان المستوى الذي تتحرك فيه -فإنها ستمر حتمًا عن طريق
1عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 86
48
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
كثافة الرموز وتنوعها ،وخاصة المتعلق منها بتاريخ الجزائر وحضارتها في الدرجة
األولى ثم التراث العربي اإلسالمي فالتراث اإلنساني .وتوظيف التراث بهذه الصيغة تأكيد
1
على الهوية وإ صرار على االنتماء.
وتتشكل بنية اإللياذة وفق سلسلة من التحوالت التي تحدثها هذه الرموز وُتبنى حسب ثقافة
هذا الرمز وطرائق استعماله ،ونجد الّتناّص الذي هو عبارة عن حوار بين النصوص
وتداخل فيما بينها ،قصد إعطاء بنية نصية جديدة في شكل إحاالت إلى رموز ثقافية أو
تاريخية يفترض في قارئ "اإللياذة" معرفة الفضاء الثقافي الذي تشغله داخل الحيز
الحضاري الذي أوجدها :كإعطاء بعض عناوين الكتب أو األسماء التي لها حضور في
ثقافتنا ،وهذه اإلحاالت ال تشكل حوارًا حقيقيًا بين النصوص بقدر ما ترمز إلى ثقافة
2
الشاعر وتساعد على حصر مصادر ثقافته وتحديدها.
أما النوع الثاني من أنواع الّتناّص فهو توظيف نصوص أو أجزاء من نصوص داخل
فضاء اإللياذة ،وتحديد وظيفتها يتوقف على السياق الذي وردت فيه وغالبًا ما يكون لتشابه
2عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 91
49
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
نجد النوع األول من الرموز الثقافية متوزعًا على كافة أجزاء اإللياذة وهذه الرموز في
مجموعها تشكل البنية الثقافية وتساعد على تحديد العالقات الثقافية ،بين األشخاص في
1
سياق حضاري معين.
من هذه الرموز" :المثل السائر" ص 20فهو ظاهريًا عنوان كتاب البن األثير ولكن
المتأمل للبيت الذي ورد فيه يالحظ أنه يشبه النكتة البالغية ألن "المثل السائر" يعني
االنضواء تحت راية المألوف والمتعارف عليه ،ولكن الفعل الذي سبق هذا الرمز وهو
"يجل" أي يسمو ويرتفع ينقل المعنى إلى الطرف المناقض حيث تصير بدعة وروعة إلى
غير ذلك من أوصاف اإلعجاب ،وتطغى على المقطع صيغة النداء يا التي تكررت في
هذا المقطع عشر مرات وهذا للداللة على تأجج العاطفة والتلذذ بهذا النداء ويعني اإلصغاء
لصوت الجزائر ،وهذه الظاهرة نجد لها مقابًال في ص 22إذ يتوجه الشاعر مباشرة
2
للجزائر ويخاطبها بضمير أنت التي يكررها ست مرات.
المتنبي الشاعر العربي ورد ذكره في سياق الحديث عن اإللياذة التي نظمها الشاعر ص
21وقد ورد في سياق شعري محض ،وقد اتخذ منه الشاعر حجة ودليًال على عروبته
وفحولته ،والمقطع الشعري الذي يقول" :فآمن بي وبها المتنبي" دليل على أن المتنبي حجة
2عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 91
50
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
في الشعر وإ يمانه بمفدي زكرياء .هو دليل فحولة هذا األخير وشهادة اعتراف ألن شعره
وقد ذكر الشاعر عدة عناوين لكتب في مواضيع مختلفة من اإللياذة مثل قدس اللهيب ص
115الذي هو عنوان ديوان الشاعر "اللهب المقدس" ،ويمكن هنا استشفاف لغة المقدس
التي تنّم عن إيمانه بوطنه وقضاياه ،وهناك إشارة إلى مدّو نة ابن ترمرت "أعز ما يطلب"،
وقد آخى القديسين أوغسطيس وأبولوس بمساحة شعرية هامة تقديرًا للجهود التي قاما بها
و"االعترافات" التي يشير إليها هي عنوان أهم كتب القديس أوغسطيس والتي ترجمت من
كما خص مساحة ألبولوس الذي كان طبيبًا يدين له العلم بالعبقرية كما أدى واجب
51
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
االعتراف لكل من ابن خلدون وابن باديس وكل الرموز الثقافية التي بتراكمها وإ ضافاتها
صنعت هوية الجزائر الثقافية والتاريخية المتميزة- ،وتوظيف هذه الرموز الثقافية بكل
ثقلها وما تحمله من شحنة حضارية هو داللة على االعتزاز باالنتماء لهذه الرموز.
من جهة ثانية حاول الشاعر أن يجعل من نفسه رمزًا ثقافيًا يشكل مع مجموعة الرموز
األخرى الفضاء الحضاري الذي تكونت فيه الهوية الحضارية الجزائرية ،يقول:
المستوى األول :هو اإلحالة إلى ديوان الشاعر الموسوم "اللهب المقدس" أي أن الديوان
يعتبر إنتاجًا ثقافيًا ورمزًا من رموز الهوية الجزائرية ألنه يؤرخ لفترة محددة من تاريخ
هذا الشعب ،والمستوى الثاني هو شكل هذا الرمز ،فهو ليس رمزًا تشكيليًا ،أي بالستيكيًا،
أو أي شكل آخر من أشكال التعبير 1ولكنه تعبير أدبي بياني لغوي ،وقد أسبق الشاعر
هذين العنصرين /الرمز اللهب المقدس وطبيعة بياني بفعل الخلود وهذا ليصير إيمان
ولعل أهم ما يعطي اإللياذة هويتها العربية اإلسالمية ويجعلها مغايرة للمالحم اإلغريقية،
1عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 92
52
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
هذا االقتباس القرآني تجعل من شفا وهو جبل من جبال وسط الجزائر محط إعجاب
وإ ثارة للخشوع إذ لم يجد الشاعر طريقة يصف بها هذا الموقع غير التسبيح بحمد اهلل
وذكر عجائب مخلوقاته ،هذا االقتباس األول نصي ،أي أخذ النص القرآني كما هو دون
تحريف ،أما االقتباس الثاني فهو مضمر ويفيد المضمون دون الحفاظ على ترتيب
عناصره اللغوية أو إيرادها كما هي وهو ما نصادفه في البيت الثاني حيث يترجم قوله
تعالى:
"إن هذا لفي الصحف األولى ،صحف إبراهيم وموسى" 2ووظيفته هنا تشبيه جبال الشفا
أول هذين البيتين هو "وأخرجت األرض أثقالها" وقد جاء في البيت الشعري مخالفًا لداللته
53
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
في السياق القرآني التي تشير إلى هول الساعة حين تزلزل األرض زلزالها وتخرج
األرض ما بباطنها ،فإنها في السياق الشعري تدل على البعث االقتصادي حيث أخرجت
األرض الجزائرية كنوزها من محروقات ومعادن ،والتقابل هنا بين الموقفين جلي ،ألن
الزلزلة التي أحدثتها إرادة الشعب الجزائري تمثلت في إزاحة أكبر قوة استعمارية وبعث
أمجاد عريقة.
والقرينة النصية التي تدل على هذا البعث االقتصادي والرفاهية هي ما يصرح به الشطر
األخير للبيت الثاني حيث يقول ذلك مباشرة دون استعمال أية حيلة لغوية أو بالغية عندما
يقول:
1
"ويكفي الجزائر ...ذل السؤال".
ولتصوير عنف هذه الزلزلة استعمل الشاعر تعبيرًا قرآنيًا "كأعجاز نخل" لداللة على خور
عزيمة غالة المستدمرين الذين تهاوت إرادتهم كأعجاز نخل نخر جذورها الزمن وتوالي
ولتصوير إرادة الشعب الجزائري في زلزلة الكيان االستدماري فإن الشاعر وظف إحدى
المواقف البطولية ألحد رموز المقاومة الشعبية وهو الشيخ الحداد الذي أعلن في السوق
عقب صالة الجمعة حين قال" :سنرمي الفرنسيين إلى البحر كما رميت هذه العصا إلى
1عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 93
54
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
األرض" ص ،59هامش اإللياذة ،يترجم مفدي زكرياء هذه الفكرة شعريًا ويقول:
التناص في هذين البيتين يأخذ كل أبعاده النظرية والعملية ويأتي البيتان كمفصل شعري
يربط بين سياقين :السياق القرآني والسياق التاريخي ووظيفته هنا هي فتح الحوار بين
ففي السياق الديني نرى أن موسى عليه السالم قد تحدى سحرة قومه بأن ألقى عصاه فإذا
هي حية تسعى ،أي التحدي بوسيلة بسيطة وفي السياق التاريخي نجد نفس الموقف
التحدي والتمثيل بنفس األداة ،وهو تحد لآلليات العسكرية المتطورة ،ما يجمع أطراف
النصين القرآني والتاريخي هو التحدي ،أي الوضع أو الموقف ،بأسلحة غير متكافئة
ولكن اإلرادة واإليمان بالرسالة التاريخية هو الذي فرض هذا التحدي ،والشيء الثاني
الذي يجمع هذه األطراف هو األداة ،أي العصا في الموقفين الديني والتاريخي ،إن وظيفة
هذين البيتين هي محاورة السياقين وإ نتاج سياق شعري جديد يجمع بين السياق الديني
والسياق التاريخي ولهذا ضمن الحضارة العربية اإلسالمية ويعبران عن الهوية الحضارية
للشاعر وإللياذته.
إلى جانب استعمال مفدي للرموز الثقافية كمولدات للمعنى واالقتباس من القرآن الكريم
لربط الجزائر بأصولها العقيدية ،فإن الشاعر يستعمل شكًال آخر من أشكال التناص وهو
1عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 93
55
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
استعمال بعض الصور أو المواقف الشعرية التي أخذها من شعراء آخرين وهذا لربط
نص اإللياذة بمجموع الموروث الشعري العربي وأهم روائعه ،ويظهر من خالل قراءة
وبعد أن تعرض الشاعر إلى اآلباء واألجداد واألبطال التاريخيين للجزائر مستعمًال أسلوب
النشر ،فإنه يجمل -باستعمال أسلوب الطي -عندما يطلق صرخة االعتزاز واالفتخار
توظيف التاريخ توظيفا بعيدا عن التزييف معتمدا على ما شهده و عاشه في سجون -2
فرنسا و معتقالتها و بهذا يكون مفدي زكريا قد اعطى بعدا فنيا لواقعبة الملحمة.
1عيسى و موسى ،كلمات مفدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية ،ص 109
56
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
النفس الشعري الطويل و هنا يذكر المؤلف" ان الشعر ديوان أمة ال ديوان لها -3
غيره .أما النفس الشعري ،فسجية امتنعت عن الكثير من الشعراء ،بل وحتى بعض
2
الفحول".
حسن اختيار الصورة الفنية و حسن اختيار اللفظ الدال على الهدف السيمياني. -4
حسن اختيار الشاعر للتقسيم المنهجي و تنوع القوافي،أحرف الروي و استبدال -5
تصنيع مفدي زكريا الصورة اإلضافية ليمأل الفراغ و يذكر أن هذا التصنع لم يكن -6
يتوارد مع بعض المالحم نتيجة اطالعه على ملحمتي هوهيرست و على الياذة -7
فرجيل.
ظاهرة التكرار و التقليد و هذا نتيجة اتصاله بالشعر العربي و لكن تقليده لم يكن -8
تقليدا بليدا.
57
الفصل الثاني ................................................... :دراسة فنية في إلياذة الجزائر
58