You are on page 1of 122

İbrahim ELDİBO

Veysi ÜNVERDİ
‫اإللحاد المعاصر‬

)‫( أسبابه وشبهاته وطرق عالجه‬

İbrahim ELDİBO
Veysi ÜNVERDİ

Editör
Mustafa ÜNVERDİ

DOI: https://dx.doi.org/10.5281/zenodo.10309538
Copyright © 2023 by iksad publishing house
All rights reserved. No part of this publication may be reproduced, distributed or
transmitted in any form or by any means, including photocopying, recording or other
electronic or mechanical methods, without the prior written permission of the
publisher, except in the case of brief quotations embodied in critical reviews and
certain other noncommercial uses permitted by copyright law.
Institution of Economic Development and Social Researches Publications®
(The Licence Number of Publicator: 2014/31220)
TURKEY TR: +90 342 606 06 75
USA: +1 631 685 0 853
E mail: iksadyayinevi@gmail.com
www.iksadyayinevi.com

It is responsibility of the author to abide by the publishing ethics rules. The first
degree responsibility of the works in the book belongs to the authors.
Iksad Publications – 2023©

ISBN: 978-625-367-458-8
Cover Design: İbrahim KAYA
December / 2023
Ankara / Türkiye
Size: 16x24cm
‫فهرس المحتويات‬

‫فهرس المحتويات‪1...........................................................‬‬

‫المقدمة‪5 ......................................................................‬‬

‫المبحث األول‪ :‬دراسة تحليلية في أسباب اإللحاد وأنواعه وطرق‬

‫عالجه‪11.....................................................................‬‬

‫أوالً‪ :‬أنواع اإللحاد‪13...........................................................‬‬

‫ثانياً‪ :‬أسباب اإللحاد وعوامل انتشاره‪15.........................................‬‬

‫ثالثاً‪ :‬اإللحاد المطلق‪17........................................................‬‬

‫رابعاً‪ :‬اإللحاد بين القديم والحاضر‪20...........................................‬‬

‫خامساً‪ :‬اإللحاد مشكلة نفسية‪23................................................‬‬

‫سادساً‪ :‬طرق عالج اإللحاد والوقاية منه‪27.....................................‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬شبهات الملحدين والرد عليها‪35........................‬‬


‫‪1‬‬
‫المطلب األول‪ :‬نظرية التطور ودليل االرتقاء‪36..........................‬‬

‫‪-1‬نظرية التطور بين المؤمن والملحد‪36........................................‬‬

‫‪ -2‬حقائق على إبطال نظرية التطور‪40.........................................‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬شبهة وجود الشرور‪47...................................‬‬

‫أوالً‪ :‬حقيقة شبهة الشر‪47.......................................................‬‬

‫ثانياً‪ :‬الهروب من الدين إلى الطبيعة واإللحاد‪50..................................‬‬

‫ثالثاً‪ :‬عالقة الشبهة بوجود الخالق‪53............................................‬‬

‫رابعاً‪ :‬أين حل مشكلة الشر في الفكر اإللحادي‪54................................‬‬

‫خامساً‪ :‬تفكيك الشبهة والبعد األخروي‪57........................................‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬الشبهة العلمية في اإللحاد المعاصر(دراسة تحليلية‬

‫نقدية)‪63..............................................................‬‬

‫المطلب األول‪ :‬حقيقة اإللحاد وظروف انتشاره‪63.....................‬‬

‫‪2‬‬
‫أوالً‪ :‬مفهوم اإللحاد‪ ،‬ومراحل تطوره‪63..........................................‬‬

‫ثانياً‪ :‬ظهور الفكر اإللحادي المعاصر‪72.......................................‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الثورة العلمية ومبررات اإللحاد في الغرب‪82.........‬‬

‫أوالً‪ :‬التقدم العلمي في وجه عصر الظلمات‪82 ...............................‬‬

‫الثقافة‬ ‫في‬ ‫السائدة‬ ‫األفكار‬ ‫مواجهة‬ ‫في‬ ‫المعاصر‬ ‫اإللحاد‬ ‫ثانياً‪:‬‬

‫المسيحية‪84..................................................................‬‬

‫ثالثاً‪ :‬اإللحاد بين العلمية والذاتية‪87............................................‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬نقض الشبهة العلمية للفكر اإللحاد‪92...……..…….‬‬

‫البرهان‬ ‫وليس‬ ‫المادي‬ ‫الفكر‬ ‫على‬ ‫يقوم‬ ‫اإللحادي‬ ‫الفكر‬ ‫أوالً‪:‬‬

‫العلمي‪93.....................................................................‬‬

‫ثانياً‪ :‬حقيقة الملكات غير المادية‪100..........................................‬‬

‫ثالثاً‪ :‬إجابات العلم‪105.........................................................‬‬

‫‪3‬‬
‫الخاتمة ‪111...........................................................‬‬

‫المصادر والمراجع‪115 ...............................................‬‬

‫‪4‬‬
‫مقدمة‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬واهب الحياة‪ ،‬ومسبب األسباب‪ ،‬وخالق‬

‫اإلنسان في أتم صورة وأكمل تقويم‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا محمد‬

‫المبعوث رحمة للعالمين‪ ،‬والهادي إلى صراط هللا وطريقه القويم‪ ،‬وعلى‬

‫آله وصحبه أجمعين وبعد‪:‬‬

‫عبر التاريخ القديم والفكر المعاصر استندت إلى‬ ‫َّ‬


‫إن نزعة اإللحاد َ‬

‫شبهات عقلية ومبررات فكرية تخفي وراءها كوامن نفسية وظروًفا‬

‫اجتماعية‪ ،‬وبواعث ذاتية تعاند الفطرة والعلم‪ ،‬إال َّ‬


‫أن أخطر ما تبناه‬

‫اإللحاد المعاصر محاولة ترويج الفكر اإللحادي مصحوباً بشعارات‬

‫العلم والتطور والتقدم في المجاالت العلمية واالكتشافات على مستوى‬

‫الحياة المادية واالقتصادية‪ ،‬إلى غير ذلك من شعارات ومزاعم يصعب‬

‫حصرها ومناقشة زيفها وضعف محتواها في بحث كتاب‪ ،‬لذلك اخترت‬


‫‪5‬‬
‫أهم ما يتعلق بهذا الموضوع‪ ،‬من دراسة ألسباب اإللحاد وأنواعه‪،‬‬

‫وطرق عالجه‪ ،‬ومناقشة أبرز الشبهات التي يروجها الفكر اإللحادي‪،‬‬

‫وسم ْيت الكتاب (اإللحاد المعاصر‪ -‬أسبابه‪ ،‬وشبهاته‪ ،‬وطرق‬


‫َّ‬

‫عالجه)‬

‫ومع أن شبهات اإللحاد كثيرة ومتناقضة؛ بل إنها تصادم الفطرة‬

‫وأصول اإليمان‪ ،‬إال أنها تحظى باهتمام وترويج من الملحدين عبر‬

‫وسائلهم اإلعالمية وكتبهم وندواتهم التي يغررون بها الشباب‪ ،‬لذلك‬

‫خصصت الجزء األكبر من الكتاب لمناقشة ثالث شبهات أساسية‬

‫وهي‪ :‬نظرية التطور والنشوء‪ ،‬ووجود الشر والمصائب واآلالم‪ ،‬والشبهة‬

‫المتعلقة بالعلم وزعمهم أن العلم المادي وقوانين الفيزياء تؤيد ضاللهم‬

‫وتسند إلحادهم‪.‬‬

‫والشبهة األخيرة هي أبرز ما يهتم به الفكر اإللحادي‪ ،‬ذلك أنهم‬

‫يعتمدون على ما أنتجته التطورات المادية والبحوث التجريبية على‬

‫‪6‬‬
‫مستوى الحياة والمجتمع واإلنسان ووسائل الصناعة والرفاهية‪ ،‬ويعدون‬

‫أساسا للفكر اإللحادي‬


‫كل ذلك ً‬

‫فالكتاب في سائر موضوعاته يهدف إلى الكشف عن الخلط‬

‫المقصود‪ -‬عند الملحدين‪ -‬بين ما أنتجته البحوث العلمية في جانبها‬

‫التطبيقي‪ ،‬وبين استغالل تلك اإلنجازات إلنكار الجانب الغيبي‪،‬‬

‫والخالق المدبر‪ ،‬كما يهدف الكتاب إلى تأكيد الجانب المشرق في‬

‫الدراسات العلمية التي تؤكد على َّ‬


‫أن اإليمان باهلل تعالى وصفاته من‬

‫أهم العقائد‪ ،‬بل هي أصلها وأساسها‪ ،‬وأن كبريات قضايا اإليمان‬

‫أسانيدها عقلية علمية‪.‬‬

‫وقد أرشدنا القرآن الكريم في كثير من اآليات لمنهج الرد على‬

‫المخالفين من خالل األسس الصحيحة التي تقوم على العلم والعقل‬

‫س َل َك‬
‫ف َما َل ْي َ‬
‫{والَ َت ْق ُ‬
‫والفطرة في اإلثبات والرد والمناقشة‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬

‫ان َعْن ُه َم ْس ُؤوال‬ ‫ِ‬ ‫ِب ِه ِعْل ٌم ِإ َّن َّ‬


‫الس ْم َع َواْلَب َصَر َواْل ُف َؤ َاد ُك ُّل أُولـئ َك َك َ‬

‫‪7‬‬
‫اتوا ُبْرَهاَن ُك ْم ِإن ُك ُ‬
‫نت ْم‬ ‫}[اإلسراء‪ ]36:‬وقال تعالى‪ُ { :‬ق ْل َه ُ‬

‫َص ِاد ِقين}[النمل‪]64:‬‬

‫فالرد على شبهات اإللحاد المعاصر‪ ،‬هو مستوحى من منهجية‬

‫القرآن في الرد على الضالل وأصحابه‪ ،‬وعلى أهل الكفر والشرك‬

‫واألديان المحرفة والدهريين‪.‬‬

‫كما أن الكتاب يركز في رده على شبهات اإللحاد على الجانب‬

‫المغري‪ ،‬وهو ألفاظ العلم والتطور والفلسفة‪ ،‬التي تستر النوازع الذاتية‬

‫والظروف االجتماعية واالقتصادية أو ظروف األسرة التي تشكل عند‬

‫بعض الشباب حوافز للتمرد على كل ما هو مألوف أو مقدس‪ ،‬ولو‬

‫كان الذات اإللهية وقضايا اإليمان والفطرة والعقل‪.‬‬

‫ويؤكد الكتاب على أن كل شبهة يستند إليها اإللحاد المعاصر‬

‫بشعار العلم والتطور‪َّ ،‬‬


‫فإن العلم ومناهج البحث المعاصرة تهدمها‬

‫وتكشف ضعف محتواها‪ ،‬بل تناقضها أشد المناقضة‪.‬‬


‫‪8‬‬
‫ولم تكن فكرة الكتاب مبنية على سؤال واحد‪ ،‬بل عدة أسئلة‪ ،‬من‬

‫أهمها‪ :‬هل منجزات العلم والبحث العلمي تشهد للفكر اإللحادي أم َّأنها‬

‫تهدم أسسه‪ ،‬وتعري مزاعمه‪ ،‬وهل الفكر اإللحادي التزم بنتائج البحوث‬

‫العلمية والتطور في مجاالت العلوم التجريبية‪ ،‬أم أنه استسلم للفلسفات‬

‫حكما على العلم وموازينه الدقيقة‪ ،‬وهل يمكن للعلم‬


‫ً‬ ‫المادية وجعلها‬

‫الحديث أن يكتفي بالمناهج التجريبية في إثبات الحقائق‪ ،‬أم أن‬

‫الحقائق العلمية لها طرق ومناهج علمية تتناسب مع موضوعها؟‬

‫وقد اعتمدت في الكتاب على َّ‬


‫عدة مناهج في عرض األفكار‬

‫الرئيسة ومناقشتها‪ ،‬منها‪ :‬المنهج الوصفي في عرض الشبهة والقائلين‬

‫بها ‪ ،‬وأهم ما تستند إليه‪ ،‬والمنهج التحليلي في الكشف عن األخطاء‬

‫والتناقضات‪ ،‬والمنهج النقدي في رد تلك المزاعم وإبطال أسسها‪،‬‬

‫بمنهجية علمية تستند على البراهين العقلية‪ ،‬والدراسات العلمية التي‬

‫‪9‬‬
‫التزم أصحابها بالضوابط المنهجية‪ ،‬وما نتنج عنها من نتائج ومنجزات‬

‫في الفكر والعلم وإثبات الحقائق واإليمان بها‪.‬‬

‫وهللاَ نسأل أن يكون في ذلك النفع‪ ،‬ونسأله تعالى التوفيق والسداد‬

‫‪10‬‬
‫المبحث األول‬

‫دراسة تحليلية في أسباب اإللحاد وأنواعه وطرق‬

‫عالجه‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫ال ينكر َّ‬


‫أن اإللحاد هو نهاية خطوات وشبهات فكرية أو نفسية‬

‫منحرفة تشكل لدى أصحابها قناعات بعدم الحاجة لإليمان أو‬

‫كثير من تلك الحاالت مردها‬


‫االستغناء عن الوحي اإللهي‪ ،‬وإن كانت ًا‬

‫ألسباب نفسية وظروف اجتماعية أو سياسية أو تربوية‪ ،‬والحياة‬

‫المعاصرة شهدت هزات عنيفة أسهمت في الترويج لإللحاد عبر وسائل‬

‫وقنوات إعالمية‪ ،‬كما زاد االهتمام بموضوعات اإللحاد وطرق عالجه‬

‫في بالدنا العربية بعد أن انطلقت ثورات الربيع العربي مما جعل‬

‫السياسة مسؤولة مسئولية مباشرة عن انتشار ظاهرة اإللحاد‪ ،‬حيث‬

‫‪11‬‬
‫أصبحت البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي أكثر األماكن التي‬

‫أصيبت بظاهرة اإللحاد‪ ،‬خاصة في ظل تعثر تلك الثورات ومحاولة‬

‫وسياسيا بواسطة قوى يمينية أو يسارية أو‬


‫ً‬ ‫دينيا‬
‫إجهاضها واختطافها ً‬

‫نظم قريبة فاسدة مما جعل الشباب يكفرون بقيم الحرية والكرامة‬

‫واإلنسان‪ ،‬فقد قاموا بالثورات وقدموا الشهداء ثم ضاعت جهودهم دون‬

‫أن يروا ثمرات جهودهم فكفروا بكل شيء وتمردوا على اإلله والدين‬

‫والعلماء وكل المقدسات(‪.)1‬‬

‫وجهودا كثيرة في‬


‫ً‬ ‫كل ذلك يحمل الدعاة والعلماء مسؤولية كبيرة‬

‫دراسة أنواع اإللحاد وأسبابه والشبهات التي يتمسك بها الملحدون أو‬

‫التي يروجها اإلعالم لتزيين الفكر اإللحادي‪ ،‬ومن ثم الرد عليها‬

‫وكشف ضعفها وزيف محتواها العلمي ومعارضتها للفطرة وموازين‬

‫(‪ )1‬راجع‪ :‬األستاذ الدكتور أحمد عكاشة‪ ،‬مقدمة كتاب اإللحاد مشكلة نفسية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬نيو بوك للنشر والتوزيع ص ‪-11‬‬
‫‪.12‬‬
‫‪12‬‬
‫الفكر العلمية والمنطقية والفطرية‪ ،‬ومعالجة ظاهرة اإللحاد وتحصين‬

‫الشباب ضد أي انحراف أو ضالل‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬أنواع اإللحاد‪:‬‬

‫مسمى اإللحاد عشرات األنواع وهي تختلف فيما‬


‫قد يندرج تحت َّ‬

‫بينها حول أسباب اإللحاد ودوافعه ودرجة اإللحاد وموقف الملحدين من‬

‫عموما‪ ،‬ونذكر أشهر تلك األنواع(‪:)2‬‬


‫ً‬ ‫قضايا األلوهية خاصة أو األديان‬

‫‪-‬اإللحاد المطلق‪ :‬وهو إنكار األلوهية والوحي وما يتفرع عنهما‬

‫عموما‬
‫ً‬ ‫من الرسل والرساالت واألديان‬

‫‪-‬اإللحاد الجزئي‪ :‬وهو االعتراف بوجود خالق مع إنكار تصرفه‬

‫وسيطرته على شؤون البشر‬

‫(‪ )2‬راجع‪ :‬األستاذ الدكتور أحمد عكاشة‪ ،‬مقدمة كتاب اإللحاد مشكلة نفسية للدكتور عمرو شريف‪ ،‬ص ‪; Ayrıca bkz. 10‬‬
‫‪Kenan Sevinç, “Ateizmin Boyutları ve Tipleri”, İslami İlimler Dergisi, 12/3, 2017,‬‬
‫‪101-132.‬‬

‫‪13‬‬
‫‪-‬الالقدرية والعدمية‪ :‬وهي اليأس من عدالة األرض والسماء‬

‫والشعور بالالجدوى‪ ،‬والنفور من أي عقيدة دينية أو شعيرة إيمانية‬

‫‪-‬اإللحاد العابر‪ :‬ويظهر في مرحلة من مراحل العمر وخاصة‬

‫في مرحلة المراهقة لدى الشباب‪ ،‬وهو أقرب ما يكون إلى تيار جارف‬

‫ينساق معه بعض الشباب بدوافع نفسية أو ميول شخصية تعبي ار عن‬

‫الذات أو طبيعة الشباب المتحمس لخوض أي تجربة ترضي حماسه‬

‫واندفاعه غير العقالني‬

‫‪ -‬اإللحاد االنتقامي‪ :‬وغالبا يتوجه إلى االنتقام من رمز أو رموز‬

‫أو ممارسات دينية مكروهة أو مرفوضة‪ ،‬ويظهر بصور مختلفة قد‬

‫تصل إلى االنتقام من كل عقيدة دينية أو التزام أخالقي‬

‫‪-‬اإللحاد التمردي‪ :‬وصاحبه يتمرد على السلطة أياً كان نوعها‪،‬‬

‫وقد يصل به الحال إلى التعبير عن قوته بالتمرد على اإلله والتعاليم‬

‫الدينية نفسها‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ثانياً‪ :‬أسباب اإللحاد وعوامل انتشاره‪:‬‬

‫تختلف أسباب اإللحاد الختالف الطبيعة البشرية ودوافع الملحدين‬

‫وقناعاتهم الفكرية أو ميولهم النفسية‪ ،‬إال أننا يمكن أن نجمل تلك‬

‫األسباب في اآلتي‪:‬‬

‫الغرور المعرفي والثقافي‪ :‬وهو أساس يمهد‬ ‫‪-‬‬

‫طريق االنحراف الفكري‪ ،‬وقد يصل بصاحبه إلى اإللحاد‬

‫والكفر باإلله واألديان عموما‬

‫عدم وجود المربي أو األب‪ ،‬أو وجود أب قاسي‬ ‫‪-‬‬

‫أو ضعيف‪.‬‬

‫التشدد الديني‪ :‬حيث يكون الفرد شديد الخوف‬ ‫‪-‬‬

‫من هللا في الوقت الذي يكون متعطشا الرتكاب المعاصي‪،‬‬

‫ولكي يعصي هللا دون تأنيب ضمير يقنع نفسه بأنه ليس‬

‫هناك إله وأن اإليمان بالغيب نوع من أنواع الخرافات‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫اإلحساس بالنقص في تكوينه الشخصي ونواقص‬ ‫‪-‬‬

‫نفسية أخرى(‪ :)3‬وهو دافع نفسي يجعل الملحد يكره نفسه‬

‫بسبب وجود عيب في خلقته‪ ،‬فيكون إلحاده ثورة ضد خالقه‬

‫اضا على وجوده بهذا النقص‬


‫واعتر ً‬

‫االضطهاد ضد المرأة‪ :‬وهو غالبا ينعلق بإلحاد‬ ‫‪-‬‬

‫نوعا من االضطهاد باسم الدين مما‬


‫المرأة التي قد تعاني ً‬

‫يجعلها تترك الدين وتشك في عدالة هللا‪ ،‬أو تتبنى أفكا ار‬

‫متطرفة ضد الدين والشريعة‬

‫وغالبا ال يكون‬
‫ً‬ ‫سطوة الشهوات والميول المنحرفة‬ ‫‪-‬‬

‫سببا مستقال ؛ ولكنه بمنزلة المحفز للجوء إلى اإللحاد كي‬


‫ً‬

‫يهرب من وخزة الضمير‬

‫(‪ )3‬د‪.‬بول س ي فيتز‪ :‬نفسية اإللحاد ‪ ،‬ترجمة مركز دالئل‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2003‬دار وقف دالئل النشر الرياض‪ ،‬ص ‪Bkz. 24‬‬
‫‪Mustafa Ünverdi, "Ateizmin Nedenleri", 2. Uluslararası Mersin; Sempozyumu,‬‬
‫‪Mersin, 2019, 228-242; Fatma Aygün, “Ateizme Yol Açan Faktörler”, e-Makalat,‬‬
‫‪10/2, 2017, 531-562.‬‬

‫‪16‬‬
‫أنظار‬ ‫للفت‬ ‫ووسيلة‬ ‫فكرية‪،‬‬ ‫مراهقة‬ ‫‪-‬‬

‫اآلخرين(موضة) واستعراض العضالت وهذا يظهر لدى‬

‫األشخاص محبي الظهور‬

‫الخطاب الديني المتشدد ‪ ،‬مع ارتفاع نسبة‬ ‫‪-‬‬

‫الجهل‬

‫التخلف االقتصادي والسياسي والتنموي‬ ‫‪-‬‬

‫اقتران القوة المادية باإللحاد‪ :‬حيث يرى بعض‬ ‫‪-‬‬

‫الملحدين أن اإللحاد سبب للقوة والعلم ويعتبر الدين مظه ار‬

‫(‪)4‬‬
‫من مظاهر التخلف والجهل‬

‫إلحادا‬
‫ً‬ ‫ثالثاً‪ :‬اإللحاد المطلق‪ :‬اإللحاد في غالب حاالته ليس‬

‫مطلًقا وإن تظاهر صاحبه بذلك‪ ،‬بل قد يكون ً‬


‫لونا من ألوان التمرد‬

‫(‪ )4‬راجع‪ :‬األستاذ الدكتور أحمد عكاشة‪ ،‬مقدمة كتاب اإللحاد مشكلة نفسية للدكتور عمرو شريف‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬نيو بوك‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪17‬‬
‫والجحود‪ ،‬أو التعبير عن موقف نفسي من مظاهر التدين والمعتقدات‬

‫الدينية‪.‬‬

‫فاإللحاد بمعناه المطلق هو إنكار اإلله الخالق‪ ،‬جاء في‬

‫الموسوعة الفلسفية‪ :‬اإللحاد‪ :‬مذهب َمن ينكرون األلوهية‪ ،‬والملحد غير‬

‫مؤله(‪ ،)5‬وفي موسوعة الالند الفلسفية‪ :‬اإللحاد عقيدة قوامها إنكار‬

‫وجود هللا (‪ ،)6‬وقد أطلق على من ينكر اإلله الصانع اسم الدهرية‪ ،‬وقد‬

‫وت َوَن ْحَيا‬


‫الدْنَيا َن ُم ُ‬ ‫أشار إليهم القرآن بقوله‪( :‬و َقاُلوا َما ِه َي ِإَّال َحَي ُ‬
‫اتَنا ُّ‬

‫َو َما ُي ْهلِ ُكَنا ِإَّال َّ‬


‫الد ْهُر ) (الجاثية‪ )24:‬وهي طائفة قليلة عبر التاريخ‪،‬‬

‫حقيقيا وإنما هي‬


‫ً‬ ‫إلحادا‬
‫ً‬ ‫وهذا يدل على أن أكثر حاالت اإللحاد ليست‬

‫انحراف وميول‪ ،‬أو تمرد وومراهقة فكرية أو انتقام من اإلله أو الرموز‬

‫الدينية‬

‫(‪ )5‬مجمع اللغة العربية في القاهرة‪ :‬املوسوعة الفلسفية‪ ،‬الهيئة العامة لشؤون املطابع األميرية بمصر‪1983 ،‬م‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫(‪ )6‬أندريه الالند‪ :‬موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬تعريب‪ :‬خليل أحمد خليل‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬ط‪1996 ،1‬م‪.107/1 ،‬‬
‫‪18‬‬
‫وقد جرى نقاش حول وجود إلحاد حقيقي في صالون بارون دي‬

‫فكان ديفيد هيوم (ت‪1776‬م) فيلسوف‬ ‫هولباخ (ت‪1789‬م)‪،‬‬

‫يتساءل عما إذا كان الملحدون موجودين بشكل فعلي‪ ،‬فأجابه‬ ‫الشك‬

‫دي هولباخ أن هيوم كان يجلس على طاولة تضم سبعة عشر‬

‫ملحدا(‪.)7‬‬
‫ً‬

‫واضح من االسؤال أوالً وإلجابة ثانياً َّ‬


‫أن هناك من ينكر وجود‬

‫إلحاد حقيقي‪ ،‬وهذا يؤكد على َّ‬


‫أن مفهوم اإللحاد أوسع من كونه إنكا اًر‬

‫ألن الذين يحضرون في صالون دي هولباخ لم يكن أكثرهم‬


‫لوجود هللا‪َّ ،‬‬

‫من الشكاك والمتمردين‬ ‫بل كانوا‬ ‫منك ار لوجود اإلله الصانع‪،‬‬

‫والربوبيين‪.‬‬

‫(‪ )7‬راجع‪ :‬ول ديورانت‪ ،‬قصة الحضارة عصر فولتير‪ ،‬ص‪.696‬‬


‫‪https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%86_%D8‬‬
‫‪%AF%D9%8A_%D9%87%D9%88%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%AE‬‬
‫‪19‬‬
‫إلحادا مطلقا بمعنى إنكار الصانع‬
‫ً‬ ‫فاإللحاد في غالب حاالته ليس‬

‫وإنما هو إلحاد انتقامي أو تعبير عن موقف من اإلله وصفاته أو تمرد‬

‫على الشريعة والتشريعات اإللهية‬

‫رابعاً‪ :‬اإللحاد بين القديم والحاضر‪:‬‬

‫منذ العصور األولى للحضارة اإلسالمية ظهرت بوادر إلحاد‬

‫خفي‪ ،‬يتجه إلى نقد النص الديني ونقد النبوة‪ ،‬وهي ظاهرة روح اإللحاد‬

‫العربي حيث اتجه إلى فكرة النبوة واألنبياء دون األلوهية‪ ،‬بينما نجد‬

‫اإللحاد في الحضارات األخرى كان يتجه مباشرة إلى فكرة األلوهية وال‬

‫فارق في النتيجة النهائية بين الموقفين ألن كليهما سيؤدي في النهاية‬

‫إلى إنكار الدين‪ ،‬فإنكار اإلله عند اليوناني ينفي الدين‪ ،‬وإنكار اإلله‬

‫الالنهائي عند الغربي ينفي الدين‪ ،‬وبإنكار النبوة واألنبياء عند العربي‬

‫يزول الدين‪ ،‬لذلك قلنا َّ‬


‫بأن اإللحاد عند العربي خفي‪ ،‬فهناك معنى‬

‫متستر وراء نقد النبوة واألنبياء؛ ألنه مادامت النبوة هي السبيل الوحيد‬

‫‪20‬‬
‫الذي تعرفه هذه الروح العربية للوصول إلى األلوهية فإنها بقطعها إياه‬

‫تكون قد قطعت في الوقت نفسه كل سبيل إلى األلوهية(‪.)8‬‬

‫ولكن اإللحاد المعاصر في البالد العربية واإلسالمية بدأ يتأثر‬

‫بالفلسفات الغربية وعلماء الطبيعة الغربيين الذين أشاعوا فكرة اإللحاد‬

‫ودافعوا عنها وفق معطيات مادية تنكر عالم الغيب والدين‪ ،‬وبذلك‬

‫أصبح اإللحاد يرتبط بمسائل أخرى غير النبوة‪ ،‬مثل إنكار الخالق أو‬

‫التمرد على الفعل اإللهي وإنكار صلة اإلله بالحياة واإلنسان‪.‬‬

‫ف بدأ اإللحاد المعاصر مع فئة من علماء الطبيعة والفالسفة‬

‫الماديين‪ ،‬ثم انتقلت بعض فلسفاتهم إلى بالدنا العربية واإلسالمية‪،‬‬

‫للتمرد ضد الثوابت والقيم والمبادئ اإلسالمية‪،‬‬ ‫وشكل ذلك حاف از‬

‫مستندا‬
‫ً‬ ‫وأصبح من السهل للشباب أن يعبر عن تمرده في إعالم مفتوح‬

‫في ذلك إلى مظاهر تقدم مادي وحضاري للعالم الغربي ويقابله تخلف‬

‫(‪ )8‬راجع‪ :‬د‪.‬عبد الرحمن بدوي‪ :‬من تاريخ اإللحاد في اإلسالم ‪ ،‬سينا للنشر‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1993‬م‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪21‬‬
‫حضاري في البالد العربية واإلسالمية ؛ فشكل ذلك حالة احتقان وتمرد‬

‫ورفض لكل مظاهر التدين أو المقدسات‪ ،‬وحتى للدين نفسه‪ ،‬وبذلك‬

‫وقع بعض الشباب في براثن اإللحاد والهزيمة النفسية أمام سطوة العالم‬

‫المادي ومنجزاته وإغراءاته‪ ،‬واألفكار التي يروجها الملحد عن الدين‬

‫وعن اإلله وعن القيود التي يفرضها التدين على العقل والحياة‪ ،‬وأنه‬

‫يجب تنحية الدين عن الحياة وإدارة شؤونها‪ ،‬وكأن الدين هو عدو‬

‫العقل والحياة‪ ،‬وحجرة أمام أي تقدم حضاري‬

‫كل ذلك يجعلنا نقول بأن اإللحاد المعاصر في أبرز مظاهره‬

‫|أزمة نفسية‪ ،‬وعجز حضاري وهروب من واقع ديني ‪ ،‬وقد عبر عن‬

‫ذلك عبد الرحمن بدوي فقال بأنه نتيجة الزمة لحال النفس التي‬

‫استنفدت كل إمكانياتها الدينية‪ ،‬فلم يعد في وسعها بعد أن تؤمن(‪.)9‬‬

‫(‪ )9‬راجع‪ :‬د‪.‬عبد الرحمن بدوي‪ :‬من تاريخ اإللحاد في اإلسالم ‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪22‬‬
‫لذلك شهد العالم العربي واإلسالمي مع منتصف القرن التاسع‬

‫عشر بذور التمرد على النص المقدس والدعوة إلى التحرر من األحكام‬

‫الشرعية متأثرين بالفكر الغربي المادي الذي ثار على الكنيسة وانتصر‬

‫لمنجزات العلم والحضارة ودعا إلى تنحية الكنيسة ورجال الدين عن‬

‫شؤون الحياة‪ ،‬إال َّ‬


‫أن هذه الدعوات التغريبية كانت غريبة عن البيئة‬

‫اإلسالمية والمصادر اإلسالمية‪.‬‬

‫فظهر ‪-‬في بالدنا العربية واإلسالمية‪ -‬من يجاهر باإللحاد‬

‫متلبسا بمزاعم فلسفية وإشكاالت علمية‪ ،‬وحقيقة األمر َّ‬


‫أن تلك األسئلة‬ ‫ً‬

‫الفلسفية والعلمية لم تكن إال ستا ار لدوافع اجتماعية ونفسية وسياسية‪،‬‬

‫خاصا بظاهرة اإللحاد في العالم‬


‫ً‬ ‫طابعا‬
‫ً‬ ‫وهذه الدوافع المتعددة ليست‬

‫العربي وإنما هي طبيعة الظاهرة اإللحادية بشكل عام‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬اإللحاد مشكلة نفسية‪ :‬أكثر علماء النفس لم يتعرضوا لدراسة‬

‫نفسية الملحد؛ َّ‬


‫ألن الكثيرين منهم كانوا ملحدين‪ ،‬إال أن هناك العديد‬

‫‪23‬‬
‫من الدراسات واإلحصائيات التي تؤكد على وجود خلفية نفسية تربوية‬

‫لإللحاد ويأتي على رأس هذا التيار بروفيسور أمريكي في الطب‬

‫النفسي هو (د‪.‬بول سي فيتز) الذي نشر ورقة في (علم نفس الشواذ )‬

‫كثير من علماء النفس يتبنون ً‬


‫موقفا معارضا للدين ولذلك‬ ‫قال فيها‪ :‬إن ًا‬

‫كانوا يعارضون أية محاولة لتسليط الضوء حول سيكيولوجية اإللحاد‬

‫َّ‬
‫الحاد ينتج بدرجة رئيسة من‬ ‫وقال أيضاً‪َّ :‬‬
‫فإن اإللحاد القوي أو‬ ‫(‪،)10‬‬

‫الحاجات النفسية الغريبة ألنصارها(‪ .)11‬وأكد ‪ -‬في رده على الدراسات‬

‫الحياة الدينية‬ ‫الغربية والغريبة في تحليل الحياة الدينية‪ -‬على أن‬

‫مرتبطة بمزيد من الصحة البدنية والسعادة النفسية(‪.)12‬‬

‫وفي كتابه "اإللحاد مشكلة نفسية" يشير الدكتور عمرو شريف‪-‬‬

‫متأثر بـ بول فيتز‪ -‬من خالل دراسة استقرائية تحليلية لحياة وفلسفات‬
‫ًا‬

‫(‪ )10‬راجع‪ :‬األستاذ الدكتور أحمد عكاشة‪ ،‬مقدمة كتاب اإللحاد مشكلة نفسية للدكتور عمرو شريف‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬نيو بوك‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫(‪ )11‬د‪.‬بول س ي فيتز‪ :‬نفسية اإللحاد ‪ ،‬ترجمة مركز دالئل‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2003‬دار وقف دالئل النشر الرياض‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫(‪ )12‬راجع‪ :‬د‪.‬بول س ي فيتز‪ :‬نفسية اإللحاد ‪ ، ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪24‬‬
‫أشهر الملحدين الغربيين َّ‬
‫أن دوافع اإللحاد عندهم ليست عقالنية أو‬

‫فلسفية وإنما هي دوافع نفسية‪ ،‬كما عرض عدة نظريات تفسر الظاهرة‬

‫اإللحادية عبر مقاربات علم النفس‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬ثمة دراسة‬

‫ملحدا من الذكور‬
‫ً‬ ‫بعنوان "النمط النفسي للملحد" شملت ‪320‬‬

‫األميركيين‪ ،‬كشفت الدراسة َّ‬


‫أن نصف من تبنوا اإللحاد كخيار فقدوا‬

‫كثير في‬
‫كبير منهم عانى ًا‬
‫عددا ًا‬
‫أحد والديهم قبل سن العشرين‪ ،‬وأن ً‬

‫طفولته وصباه‪ ،‬ما دفع أحد الباحثين المشاركين في الدراسة إلى‬

‫التوصية بضرورة دراسة ظروف نشأة وتربية الملحدين عند رصد‬

‫ظاهرة اإللحاد‪ .‬والملفت أنه يمكن تطبيق تلك التوصية على مالحدة أو‬

‫ال أدريين أو حتى ربوبيين كبار مثل‪ :‬فولتير(ت‪1778‬م)‪ ،‬وبارون دي‬

‫آرثر شوبنهاور(ت ‪1860‬م)‪ ،‬وبيرتراند راسل‬ ‫هولباخ(ت‪1789‬م)‪،‬‬

‫جميعا من‬
‫ً‬ ‫(ت‪1970‬م)‪ ،‬وجان بول سارتر(ت‪1980‬م)‪ ،‬الذين عانوا‬

‫ظروف أسرية صعبة اختل فيها التوازن األسري بشكل كبير فارتد ذلك‬

‫‪25‬‬
‫عند هؤالء ال إلى صورة األسرة فحسب؛ وإنما إلى مفهوم اإلله كذلك‬

‫(‪)13‬‬

‫قال بول سي فيتز‪ :‬أفترض أن العوائق الرئيسة لإليمان باإلله‬

‫(‪)14‬‬
‫ليست عقالنية ويمكن أن يطلق عليها المعنى العام أنها نفسية‪.‬‬

‫وعندما تكلم عن فولتير قال بأن رفض اإلله عنده معتقد ال يليق بعقل‬

‫ناضج(‪ )15‬وكشف عن الدوافع النفسية لإللحاد عند الملحد األشهر في‬

‫العالم (فريدريك نيتشة ت ‪1900‬م) ‪ ،‬وعند ملحدين آخرين وقال عن‬

‫(جاك ملييه ‪1729‬م)‪ :‬مهما كانت دوافعه الداخلية فال يمكن اعتبارها‬

‫نفسيا وليس‬
‫ً‬ ‫إلحادا‬
‫ً‬ ‫عقالنية‪ ،‬وبمعنى آخر كان الدافع إللحاده‬

‫فلسفياً(‪.)16‬‬

‫(‪ )13‬راجع‪ :‬اد‪.‬عمرو شريف‪ :‬اإللحاد مشكلة نفسية ‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬نيو بوك للنشر والتوزيع‪ ،‬ص ‪ 119‬وما بعدها‪ .‬وقد سبقه لتلك‬
‫الدراسة االستقرائية بول فيتز في كتابه نفسية اإللحاد‪ ،‬ودرس حياة أشهر امللحدين وأعتاهم‬
‫(‪ )14‬د‪.‬بول س ي فيتز‪ :‬نفسية اإللحاد ‪ ،‬ترجمة مركز دالئل‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2003‬دار وقف دالئل النشر الرياض‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫(‪ )15‬د‪.‬بول س ي فيتز‪ :‬نفسية اإللحاد ‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫(‪ )16‬د‪.‬بول س ي فيتز‪ :‬نفسية اإللحاد ‪ ،‬ص‪.85 ،63‬‬
‫‪26‬‬
‫وواقع اإللحاد والظروف التي رافقت حياة الملحدين تؤكد َّ‬
‫أن‬

‫مشكالت شخصية أو ظروف اجتماعية ونفسية كانت وراء تبني كثير‬

‫من المواقف اإللحادية‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬طرق عالج اإللحاد والوقاية منه‬

‫طرق العالج والوقاية من اإللحاد لها أساليب مختلفة وجوانب‬

‫متنوعة‪ ،‬وال يمكن أن يؤتي العالج ثمراته بشكل كبير ما لم يتم التكامل‬

‫بين تلك المستويات‪ ،‬ومراعاة حال أصحاب الشبهات‪ ،‬ويمكن أن‬

‫نلخص أهم طرق الوقاية والعالج‪:‬‬

‫‪ -1‬التحصين العلمي واإليماني‪:‬‬

‫وذلك با لتمسك باالعتدال والوسطية‪ ،‬وانتهاج التفكير اإليجابي‪،‬‬

‫وتعزيز روح الحوار في األسرة‪ ،‬ومعالجة المشكالت التي تمس هذه‬

‫القضية‪ ،‬وأخذ العلم من مصادره الصحيحة‪ ،‬وننوه هنا إلى قضية‬

‫‪27‬‬
‫أن اإلسالم حينما عالج هذه القضية راعى الفرق بين‬
‫مهمة‪ ،‬وهي َّ‬

‫نوعين مختلفين مما يرد على األذهان‪:‬‬

‫النوع األول ‪ :‬الوساوس والخواطر العارضة‬

‫والنوع الثاني ‪ :‬التساؤالت النابعة من شبهات ومقدمات فكرية‪.‬‬

‫ِما‬
‫فعالج الوساوس باإلعراض عنها واالستعاذة منها‪َ { ،‬وإ َّ‬

‫يع‬ ‫ِ‬ ‫ِإَّن ُه‬ ‫ِب ِ‬ ‫اس َت ِع ْذ‬ ‫ط ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِم َن‬ ‫نز َغَّن َك‬
‫َسم ٌ‬ ‫اّلل‬
‫ه‬ ‫َف ْ‬ ‫غ‬
‫َن ْز ٌ‬ ‫ان‬ ‫الش ْي َ‬ ‫َي َ‬

‫ط ِائ ٌ‬
‫ف ِهم َن‬ ‫ِ‬
‫ط ِ‬
‫ان‬ ‫َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َعلِيم}[األعراف‪ِ{ ]200:‬إ َّن َّالذ َ‬
‫ين َّاتَقوْا ِإ َذا َم َّس ُه ْم َ‬

‫َت َذ َّكُروْا َفِإ َذا ُهم ُّم ْب ِصُرون}[األعراف‪ ]201:‬وفي الحديث الصحيح عن‬

‫طان‬ ‫أبي ه َرْي َرةَ‪َ ،‬قال‪َ :‬قال َرسول هللا صَّلى هللا َعَل ْيه وسَّلم‪َ " :‬يأْتي َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬

‫َّك؟ َفإ َذا‬


‫ول َله‪َ :‬م ْن َخَل َق َرب َ‬ ‫َّ‬
‫ول‪َ :‬م ْن َخَل َق َك َذا َوَك َذا؟ َحتى َيق َ‬
‫َح َدك ْم َف َيق َ‬
‫أَ‬
‫(‪)17‬‬
‫َبَل َغ َذل َك‪َ ،‬فْلَي ْستَع ْذ باهلل َوْل َي ْنتَه "‬

‫(‪ )17‬أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ميسورا‪ ،‬ألنه ال يكاد يسَلم أحد من‬
‫ً‬ ‫اقعيا‬
‫إيمانيا و ً‬
‫ً‬ ‫عالجا‬
‫ً‬ ‫فكان‬

‫الوساوس في حين من األحيان‪ ،‬وهي إذا وردت وعولجت هذا العالج‬

‫لم تستقر في القلوب‪.‬‬

‫وعالج النوع الثاني بالعلم والحجة والبرهان‪َ ،‬ف َج َع َل لكل نوع ما‬

‫مبنيا على إزالة الشبهة بالدليل والبرهان‪،‬‬


‫علميا ً‬
‫ً‬ ‫عالجا‬
‫ً‬ ‫يناسبه‪ ،‬فكان‬

‫ومن خلط بين النوعين جاءه اإلشكال‪ ،‬فقد يظن أن اإلسالم ينهى عن‬

‫معالجة الشبهات حول التساؤالت الكبرى‪ ،‬ويقتصر على االستعاذة‬

‫واالنتهاء‪ ،‬أو قد يظن في المقابل َّ‬


‫أن األسلوب األمثل هو االسترسال‬

‫مع كل ما يخطر في الذهن من وساوس حول مسائل الدين أو غيرها‪،‬‬

‫حتى يقع في الوساوس القهرية واالضطرابات النفسية وما هو أبعد من‬

‫ذلك‪.‬‬

‫‪ -2‬التذكير باآليات القرآنية والحجج اإليمانية فيه‪َّ :‬‬


‫إن القرآن‬

‫الكريم أعظم كتاب يعالج به اإللحاد‪ ،‬وهو مليء بأقوى الحجج والبراهين‬

‫‪29‬‬
‫العقلية والعلمية والفطرية التي تدحض شبهات الملحدين‪ ،‬ومخطئ من‬

‫أن القرآن مجرد ٍ‬


‫آيات تؤخذ باإليمان األعمى والتصديق المجرد‪،‬‬ ‫ظن َّ‬

‫وما من ملحد مهما بلغ في إلحاده يفتح عقله ساعة ويتجرد من‬

‫التعصب برهة ويطلب الحق بإنصاف وتجرد ويتدبر في آيات القرآن‬

‫البليغة التي تخاطب العقول والقلوب إال وينصاع لصوت الحق الدامغ‬

‫إن من مواضع النقص والعجز في إقناع الشباب أن يكون الكالم‬

‫طا ال يرتقي إلى درجة‬


‫ساذجا بسي ً‬
‫ً‬ ‫بعيدا عن العقل أو‬
‫عاطفيا ً‬
‫ً‬ ‫كالما‬
‫ً‬

‫عقليا جا ًفا مقطوع الصلة‬


‫اإلقناع وال يتناسب مع حجم الشبهة‪ ،‬أو ً‬

‫بالفطرة والوجدان‪ ،‬فينبغي أن نتأسى بالمنهج القرآني وهو يتحدث‬

‫خطابا ينفذ‬
‫ً‬ ‫عن األلوهية ومواضيع اإليمان‪ ،‬فتجده يخاطب المنكرين‬

‫َرَْي ُت ْم َما َت ْد ُعو َن ِم ْن‬


‫إلى أعماق القلب و العقل‪ ،‬قال سبحانه‪ُ { :‬ق ْل أَأ‬

‫السماو ِ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫دو ِن َّ ِ‬
‫َّللا أَُروِني ما َذا َخَلُقوا ِم َن ْاألَْر ِ‬
‫ض أ َْم َل ُه ْم شْر ٌك في َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫اب ِم ْن َقْب ِل َه َذا أ َْو أَ َث َارٍة ِم ْن ِعْل ٍم ِإ ْن ُكْن ُت ْم‬


‫ْائ ُتوِني ِب ِك َت ٍ‬

‫‪30‬‬
‫ين}(األحقاف‪ )4 :‬فأسلوب القرآن يملك على اإلنسان أقطار‬ ‫ِِ‬
‫َصادق َ‬

‫نفسه ويقودها إلى الحق‪ ،‬وبمثل هذه الطريقة القرآنية التي تخاطب‬

‫يكا في البحث عن الحقيقة‪،‬‬


‫قاضيا على نفسه وشر ً‬
‫ً‬ ‫اإلنسان وتجعل منه‬

‫يبدو نور الحق لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‪.‬‬

‫‪ -3‬الحكمة والحرص في معالجة اإللحاد‪:‬‬

‫قد تكون بعض األساليب والطرق غير الحكيمة ً‬


‫سببا من أسباب‬

‫النظر إلى‬ ‫شيوع اإللحاد لذلك كان أهم طرق الوقاية من اإللحاد‬

‫الشباب الحائر نظرة شفقة ورحمة بهم‪ ،‬فهم يحملون أفكا اًر تؤرقهم‪،‬‬

‫ومن ثَم يحتاجون إلى من يناقشهم ويساعدهم في الخالص من قلقهم‬

‫وألمهم‪ ،‬ال من يتهمهم بالكفر واإللحاد؛ ويرسخ فيه نفوسهم العناد‪ ،‬وال‬

‫يبالي بحياتهم وال يهتم بسعادتهم‪ ،‬وقد كان النبي – صلى هللا عليه‬

‫وسلم – يتعامل مع من ارتكب كبيرة بمنتهى الشفقة لدرجة أنه بدا‬

‫األسى عليه – صلى هللا عليه وسلم – عند تطبيق حد السرقة ألول‬

‫‪31‬‬
‫ال‪َ :‬و َما‬ ‫ول هللا‪َ ،‬كأََّن َك َكرْه َت َق ْ‬
‫ط َعه ؟ َق َ‬ ‫مرة حتى قال الصحابة‪َ" :‬يا َرس َ‬

‫طان َعَلى أَخيك ْم" (‪ ،)18‬هذا الشعور النبيل‬ ‫َيم َنعني‪َ ،‬ال تَكونوا َعوًنا ل َّ‬
‫لش ْي َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫ينبغي أن يغمرنا عندما نرى ًا‬


‫حائر أو من ينساق وراء شبهات اإللحاد‪،‬‬

‫وينبغي أن نضع نصب أعيننا ونحن نتعامل مع المخطئين “ال تكونوا‬

‫عونا للشيطان على أخيكم”‬


‫ً‬

‫‪ -4‬االعتدال والوسطية في الخطاب الديني‪:‬‬

‫وذلك بالتزام الخطاب المعتدل‪ ،‬وتعزيز ركائز اإليمان والعقيدة‬

‫السليمة‪ ،‬وإبراز محاسن اإلسالم وكماله‪ ،‬والتصدي لمظاهر تشويهه من‬

‫قبل المتطرفين والغالة‪ ،‬وفك أي ارتباط يرمي إلى ربط الدين بأي‬

‫ممارسة خاطئة أو سلوك شائن أوفكر منحرف‪ ،‬وتصحيح المفاهيم‬

‫المغلوطة حول العالقة بين الدين والعلوم الطبيعية وغيرها‪ ،‬والتصدي‬

‫للشبهات بالحجة والتصور السليم‪ ،‬وبناء الجسور مع األجيال الناشئة‪،‬‬

‫(‪ )18‬أخرجه أحمد في مسنده‪ ،‬وابن حبان في صحيحه‪.‬‬


‫‪32‬‬
‫وتجديد لغة الخطاب‪ ،‬وتقديم المادة العلمية والوعظية بأسلوب متميز‬

‫ووفق معايير تراعي المعاصرة وتواكب التحديات‪.‬‬

‫كما يتم االهتمام بالخطاب الوسطي عبر المحاضرات والندوات‬

‫والمواعظ وغيرها‪ ،‬واالستفادة من اإلعالم التقليدي والحديث‪ ،‬وتأهيل‬

‫الدعاة لحسن خوض هذا المضمار‪ ،‬وعمل الدراسات والبحوث‬

‫والمؤلفات التي تخدم هذا الباب‪ ،‬ووضع االستراتيجيات المثلى لمواجهة‬

‫اإللحاد‪.‬‬

‫‪ -5‬اهتمام الجامعات واإلعالم والدعاة بدراسة أسباب اإللحاد‬

‫والرد على الشبهات‬

‫وذلك بتأهيل طلبة العلم الشرعي لمواجهة هذه المشكلة بالطرق‬

‫السديدة‪ ،‬ووضع برامج ألطروحات الماجستير والدكتوراه تعنى بجوانب‬

‫هذا الموضوع من كافة أبعاده‪ ،‬وتواكب ما يستجد حوله؛ إلثراء المكتبة‬

‫القراء بالتصانيف المتميزة‪.‬‬


‫العربية واإلسالمية وتزويد َّ‬
‫‪33‬‬
‫وأن تكون هناك توعية إعالمية تركز على خطورة هذه المشكلة‪،‬‬

‫وبيان مفاسدها‪ ،‬وعمل البرامج والمبادرات التي تعنى بهذا األمر‪،‬‬

‫واالستعانة بالمتخصصين فيه‪ ،‬والتزام الثقافة اإليجابية‪ ،‬واإلعالم‬

‫الهادف‪ ،‬والعمل على نشر ثقافة التنمية واالزدهار ومكافحة الفقر‬

‫والتخلف‪ ،‬وسن القوانين التي تكافح اإللحاد‪ ،‬وتدعم الخطاب الديني‬

‫المعتدل‪.‬‬

‫‪ -6‬التعاون بين علماء الشريعة والمتخصصين في العلوم‬

‫األخرى‪:‬‬

‫البد من التعاون بين علماء الشريعة وعلماء التخصصات‬


‫َّ‬

‫األخرى‪ ،‬وهذا يوحد الجهود وينظمها في الرد على اإلشكاالت التي‬

‫تنطلق من أصول فلسفية أو متصلة بالعلوم الطبيعية‪.‬‬

‫وسأتناول في المبحث الثاني بعض تلك الشبهات والرد عليها‬

‫‪34‬‬
‫الرد عليها‬
‫المبحث الثاني‪ :‬شبهات الملحدين و ه‬

‫الرد على الشبهات اإللحادية من أهم طرق تحصين الشباب‬

‫ووقايتهم من االنحرافات الفكرية‪ ،‬ويسعى الملحد عبر وسائل إعالمية‬

‫أو كتابات وحوارات إلى تزيين الفكر اإللحادي وتسويقه وربطه‬

‫بالمظاهر الحضارية أو العلمية أو النظريات المادية‪ ،‬لذلك كان ال بد‬

‫من التصدي لتلك الشبهات بشكل تفصيلي وبيان زيفها وأساليب‬

‫ترويجها‪ ،‬وفضح أسسها الواهية‪ ،‬وقد وجدت أن هناك شبهات أساسية‬

‫يعتمد عليها الملحد منها نظرية التطور‪ ،‬ووجود الشر‪ ،‬والتطورات‬

‫العلمية والحضارية وربطها بالمادة‪ ،‬وسأتناول تلك الشبهات بكشف‬

‫حقيقتها وبيان وجوه الضعف والزيف في محتواها وطريقة االستفادة‬

‫منها‪.‬‬

‫‪-‬نظرية التطور ودليل االرتقاء‬

‫‪ -‬وجود الشرور‬
‫‪35‬‬
‫المطلب األول‪ :‬نظرية التطور ودليل االرتقاء‬

‫‪-1‬نظرية التطور بين المؤمن والملحد‪:‬‬

‫تعد نظرية التطور التي قال بها (تشارلز داروين) من أبرز‬

‫المستندات التي يتمسك بها الملحدون المعاصرون‪ ،‬ويحاولون تفسير‬

‫استبعادا لفكرة وجود إله مصمم‬


‫ً‬ ‫كل مظاهر التطور من خاللها‪ ،‬وذلك‬

‫للكون وخالق لإلنسان‪ ،‬قال ريتشارد دوكنز بأسلوب مرتاب‪ " :‬تصميم‬

‫الحياة يمكن تفسيره بطريقة أكثر أناقة واقتصادية‪ ،‬بكثير بناء على‬

‫نظرية االنتخاب الطبيعي لداروين" (‪ ،)19‬ومع أنه كان يعد فكرة‬

‫التصميم من أقوى الحجج لدى المؤمنين‪ ،‬إال أنه يرد عليها من خالل‬

‫(‪)20‬‬
‫فكرة التطور‪ ،‬ويرى أنه جواب على كل مظاهر التصميم‬

‫(‪ )19‬ريتشارد دوكنز‪ :‬وهم اإلله‪ ،2009 ،‬ص ‪Mustafa Ünverdi, “Din Karşıtı Yayınlar ve; 41 ،4‬‬
‫‪Gençlerde Ateistik Eğilimlerin Nedenleri”, İlahiyat Akademi Dergisi, 2020/12, 147.‬‬
‫(‪ )20‬ريتشارد دوكنز‪ :‬وهم اإلله‪ ،‬ص ‪.58- 56‬‬
‫‪36‬‬
‫هذه من أبرز الحجج التي يتكئ عليها الملحد مع َّ‬
‫أن داروين‬

‫نفسه قال بأن هناك فراغات في نظريته ال يستطيع اإلجابة عنها‪،‬‬

‫واعترف بوجود اعتراضات خطيرة وكثيرة‪ ،‬فقال في كتابه (أصل‬

‫األنواع)‪" :‬وأنا ال أنكر َّ‬


‫أن هناك اعتراضات خطيرة وكثيرة" (‪ ،)21‬وانتهت‬

‫تلك االعتراضات إلى نسف تلك النظرية وعدم اعتمادها في المجاالت‬

‫العلمية‪ ،‬ففي عام ‪ 1972‬منعت و ازرة التعليم األمريكية تدريس نظرية‬

‫داروين في العلوم والبيلوجيا كحقيقة علمية‪ ،‬وبدأت تدرس في علم‬

‫(‪)22‬‬
‫الفلسفة واآلداب كنظرية‬

‫غم وضوح فكرتها األساسية في الداللة على‬


‫ونظرية التطور ر َ‬

‫وجود هللا تعالى وقدرته ومشيئته ورحمته بخلقه؛ إال أن الملحدين نظروا‬

‫إليها من جانب آخر بعيد عن اإليمان والفهم السليم‪ ،‬فزعموا أن أنواع‬

‫الحياة قد وجدت نتيجة لعمل مادي في النشوء واالرتقاء؛ وقالوا َّ‬


‫بأن‬

‫(‪ ) 21‬راجع ‪ :‬تشارلز داروين ‪ :‬أصل األنواع‪ ،‬ترجمة إسماعيل مظهر‪ ،‬مؤسسة هنداوي‪2018 ،‬م‪669 ،‬‬
‫(‪ )22‬راجع ‪ :‬أصل األنواع‪ ،‬ص ‪ ،669 ، 119‬وراجع‪ :‬لقاء مع الشيخ أبي زيد اإلدريسي ‪:‬‬
‫‪/https://m.facebook.com/Abouzaid.Elmokrie.Elidrissi/videos/2116187802005471‬‬
‫‪37‬‬
‫المخلوقات طورت نفسها بفعل المادة‪ ،‬وأنها تولدت عن بعضها للتشابه‬

‫بينها‪ ،‬وأن بقاءها يعود إلى قدرتها على التكيف مع الظروف التي‬

‫تحيط بها‪.‬‬

‫والواقع أنه ما من مؤمن باهلل عز وجل‪ ،‬وصاحب فهم سليم‪ ،‬إال‬

‫وهو يعلم أن وجود الخلق على هذه الحالة إنما يعود إلى مشيئة هللا‬

‫يال )‬ ‫سنة واحدة ‪( ،‬وَلن َت ِجد لِسَّن ِة َّ ِ‬


‫َّللا َت ْب ِد ً‬ ‫وقدرته؛ ولتنظيم الحياة على َّ‬
‫َ ْ َ ُ‬

‫(األحزاب‪ )62 :‬و َّ‬


‫أن ما يزعمونه من تطور المخلوقات بنفسها بفعل‬

‫المادة إن هو إال خرافات سخيفة وأوهام مريحة في فكر الملحد‪ ،‬ولو‬

‫تصبح الذرة جمالً أو فيالً‬


‫َ‬ ‫أن‬ ‫صحيحا َّ‬
‫ألدى التطور إلى ْ‬ ‫ً‬ ‫كان ذلك‬

‫ضخما فما الذي يمنعها وقانون التطور يجيز ذلك حسب زعمهم!‬
‫ً‬

‫مرت ماليين السنين وال تزال الذرة هي الذرة‪ ،‬والجمل هو‬


‫وقد َّ‬

‫الجمل‪ ،‬واإلنسان هو اإلنسان‪ ،‬لم يتطور من قرد إلى إنسان إال عند‬

‫‪38‬‬
‫محل سخرية العقالء من الناس‬
‫َّ‬ ‫"داروين" الذي أصبحت نظرياته‬

‫وضحكهم منها‪.‬‬

‫أن اإلنسان والحيوان يكون في أوله‬


‫وإذا كان االرتقاء بمعنى َّ‬

‫فشيئا إلى أن يكتمل‪ -‬كما يقول أهل اإليمان‪-‬‬


‫ً‬ ‫شيئا‬
‫صغير ثم يكبر ً‬
‫ًا‬

‫فهذا أمر حقيقي مشاهد وهو يدل على قدرة عظيمة تربيه وتهتم به إلى‬

‫أن يصل إلى درجة االكتمال‪ ،‬وهو صريح قوله تعالى‪َ (:‬وَق ْد َخَلَق ُك ْم‬

‫أَ ْط َو ًا‬
‫ار) ( نوح‪)14 :‬‬

‫وإلى جانب هذه اآلية هناك آيات كثيرة تدل على التطور‬

‫واالرتقاء في حياة اإلنسان والحيوان والنبات‪ ،‬بل إن سنة التطور هذه‬

‫تغمرها األلطاف اإللهية والح َكم الباهرة‪ ،‬فلو كان للطفل المولود أسنان‬

‫شابا لما‬
‫حادة من أول يوم لما استطاعت أمه أن ترضعه‪ ،‬ولو أنه ولد ً‬

‫وجد ذلك الحنان بينه وبين أمه وأبيه وأهله‪ ،‬ولو كانت الشمس تسطع‬

‫ح اررة منذ بزوغها لما وجد لها هذا الحب في استقبالها وفي غروبها كل‬

‫‪39‬‬
‫اضحا على قدرة‬
‫يوم؛ ولكن المالحدة قلبوا األمر فجعلوا ما كان دليالً و ً‬

‫هللا تعالى ووجوده دليالً على إنكار وجوده ومظاهر لطفه‪َّ ،‬‬
‫ألن عقولهم‬

‫غلف‪ ،‬وقلوبهم طبع عليها‪ ،‬فال يرون ضوء الشمس رغم شدة وضوحه‪،‬‬

‫وينكرون الحقائق مع تمام ظهورها‪.‬‬

‫‪ -2‬حقائق على إبطال نظرية التطور‪:‬‬

‫استنادا إلى نظرية االرتقاء‪َّ -‬‬


‫أن الكائنات الحية‬ ‫يزعم الملحد ‪ً -‬‬

‫نشأت عن التولد‪ ،‬وأن تكيفها مع الظروف هو الذي أبقاها‪ ،‬وهو‬

‫صريح في إنكار القدرة اإللهية‪ ،‬بل هناك حقائق َّ‬


‫مسلمة يؤكدها الدين‬

‫والعقل بداللتها على الخالق العظيم‪ ،‬ويبطل نظرية التطور وما ينبني‬

‫عليها من إلحاد‪ ،‬ونشير لبعض من تلك الحقائق‪:‬‬

‫‪ -‬الكائنات األدنى كالنبات وجدت قبل الكائنات األرقى كما‬

‫يذكر الباحثون‪ ،‬فاإلنسان هو أرقى الكائنات الحية ومع ذلك وجد‬

‫متأخر‪ ،‬بينما سبقته النباتات بالظهور‪ ،‬فاهلل عز وجل خلق السموات‬


‫ًا‬
‫‪40‬‬
‫واألرض‪ ،‬وخلق األرض قبل البشر وقدر فيها أقواتها وما يحتاج إليه‬

‫البشر حين يوجدون عليها‪.‬‬

‫‪ -‬يوجد كثير من أوجه الشبه بين الكائنات الحية‪ ،‬كاإلنسان‬

‫يتحول‬
‫والقرد؛ ومع ذلك بقي كل كائن كما هو على طول المدى لم َّ‬

‫القرد إلى إنسان وال اإلنسان إلى قرد‪ ،‬وال النبات إلى إنسان‪ ،‬وال الجمل‬

‫إلى بشر‪ ،‬وال البشر إلى مالئكة‪ ،‬فهناك عوالم مختلفة منذ نشأتها‬

‫األولى‪ ،‬كانت وما زالت على خلقتها األصلية‪ ،‬وال وجود ألي أثر من‬

‫نظرية التطور الداروينية‪ ،‬أو األفكار اإللحادية التي تبنت نظرية‬

‫االرتقاء والنشوء‬

‫‪ -‬الكائنات الحية تملك قدرة على التكيف مع الظروف ‪ ،‬مثال‬

‫ذلك‪":‬ظهور المناعة لمقاومة األمراض‪ ،‬تغير لون الجلد لمقاومة الح اررة‬

‫وأشعة الشمس‪ ،‬تهيئة ظروف الحمل والوالدة في بطن األم" كل ذلك ال‬

‫عالقة له بقانون التطور المادي‪ ،‬بل هو تدبير إلهي وقصد رباني‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫كل هذه الثوابت اإليمانية المتعلقة بخلق هللا تعالى‬
‫‪ -‬إن َّ‬

‫لإلنسان‪ ،‬وتدبير شؤون الحياة بحكمة وقدرة ‪ ،‬ال يعارضها العلم أو‬

‫العقل‪ ،‬وهي من أوضح األمور على قدرة هللا تعالى وكمال علمه‬

‫وعظيم حكمته‪.‬‬

‫كل كائن تولد‬ ‫‪ -‬وجود التشابه بين الكائنات الحية‪ ،‬ال يعني َّ‬
‫أن َّ‬

‫عن شبهه‪ ،‬بل َّ‬


‫إن العلم والدين كالهما يثبتان أن التشابه بين الكائنات‬

‫الحية مع بعضها البعض‪ ،‬أو مع بعضها وأخرى ليست من جنسها إنما‬

‫َّللا‬
‫هو دليل قاطع على أن مصدر اإليجاد واحد‪ ،‬وهو هللا تعالى ( َّ ُ‬

‫ق ُك ِهل َشي ٍء)(الرعد‪ )16 :‬ولو أن الكائنات كلها تولد بعضها عن‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َخال ُ‬

‫بعض لما كان هناك فرق‪ ،‬في مفاهيم العقالء بين أن تقول إلنسان‬

‫أنت قرد أو كلب أو شجرة‪ ،‬وبين أن تقول له أنت إنسان أو قمر أو‬

‫وردة ؛ لحصول التولد الذي زعمه المالحدة بنظرياتهم السخيفة إذ ما‬

‫‪42‬‬
‫دامت الكائنات كلها تولدت عن بعضها البعض فال يبقى بينهم أي‬

‫فارق حقيقي‪.‬‬

‫‪َّ -‬‬
‫إن صاحب نظرية التطور واالنتقاء الطبيعي (تشارلز داروين‬

‫متشككا وغير متأكد من نظريته‪ ،‬دليل ذلك ما‬


‫ً‬ ‫‪1882‬م) كان نفسه‬

‫كتبه في كتابه (أصل األنواع) بعد أن سطر نتيجة بحوثه وانتهى إلى‬

‫قانونا يحكم وجود األشياء وهو قانون التطور‪ ،‬فقال‬


‫ً‬ ‫الزعم بأن هناك‬

‫متشككا فيما انتهى إليه‪ " :‬ومع ذلك فإن هذه النتيجة‪ ،‬إن أبدتها‬

‫البراهين القيمة‪ ،‬فال جرم تلبث غير كافية إلقامة الدليل القطعي التام‪،‬‬

‫تحولت صفات األنواع التي تأهل بها األرض‪،‬‬


‫ما لم يبني الباحث كيف َّ‬

‫على إيغالها في الكثرة‪ ،‬حتى أحرزت كمال تكوينها وتكيفها الطبيعي‪،‬‬

‫(‪ ،)23‬فليس هناك أساس علمي تستند عليه نظرية التطور التي اعتمدها‬

‫(‪ )23‬أصل األنواع‪ :‬تشارلز داروين‪ ،‬ترجمة إسماعيل مظهر‪ ،‬مؤسسة هنداوي‪2018 ،‬م‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪43‬‬
‫بعيدا عن قدرة‬
‫ماديا ً‬
‫تفسير فيزيائيا ً‬
‫ًا‬ ‫الفكر اإللحادي ليفسر بها التطور‬

‫اإلله الخالق العظيم‬

‫‪ -‬إن دعوى التطور والنشوء الذاتي بين الكائنات المختلفة تخالف‬

‫أهم القوانين البايلوجية‪ ،‬ألن علم الجينات والكرموزونات لم يكن مكتشفا‬

‫أثناء كتابة داروين نظريته عن أصل األنواع‪ ،‬فجاء علم الجينات‬

‫والمايكروبولوجي والكيمياء الحيوية فهدمت كل أسس الفكر التطوري‬

‫عند داروين(‪ ،)24‬لقد حطم (غريغور مندل ت ‪1884‬م) مؤسس علم‬

‫الوراثة الحديث أسس نظرية التطور الداروينية‪ ،‬وأثبت من خالل علم‬

‫الوراثة أ َّن الصفات المكتسبة ال تورث الى األجيال التالية؛ بل الصفات‬

‫الثابتة في الجينات فقط‪ ،‬وبذلك أثبت علم الوراثة خطأ نظرية التطور‬

‫(‪)25‬‬
‫واالنتخاب الطبيعي لداروين‬

‫(‪ ) 24‬راجع مقال صباح إبراهيم‪ ،‬علم الوراثة يدحض نظرية التطور‪ ،‬الحوار المتمدن‪-‬العدد‪/ 2014 - 4438 :‬‬
‫‪https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=412606. 29 / 4‬‬
‫(‪ ) 25‬راجع‪ :‬مقال صباح إبراهيم‪ ،‬علم الوراثة يدحض نظرية التطور‪ ،‬الحوار المتمدن‪-‬العدد‪/ 2014 - 4438 :‬‬
‫‪29 / 4‬‬
‫‪44‬‬
‫‪ -‬إن وجود القدرة للكائنات الحية على التكيف مع الظروف التي‬

‫تحيط بها؛ يرجع إلى قوة مدبرة رحيمة هي قوة هللا تعالى وقدرته‬

‫ورحمته‪َّ ،‬‬
‫فإن تلك القدرة على التكيف إنما هي رحمة من هللا تعالى‬

‫منتفعا بذلك التكيف على مقاومة انقراضه إلى‬


‫ً‬ ‫حيا‬
‫لبقاء ذلك الكائن ً‬

‫الوقت الذي يشاء له موجد تلك القدرة‪ ،‬فأي دليل للمالحدة في هذا على‬

‫عدم وجود هللا تعالى الخالق لهذه الكائنات والموجد لها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫وب َي ْع ِقُلو َن ِب َها أ َْو آ َذ ٌ‬


‫ان‬ ‫(أَ َفَل ْم َي ِس ُيروا ِفي األَْر ِ‬
‫ض َف َت ُكو َن َل ُه ْم ُقُل ٌ‬

‫وب َّال ِتي ِفي‬ ‫ِ‬


‫َي ْس َم ُعو َن ِب َها َفِإَّن َها ال َت ْع َمى األ َْب َص ُار َوَلكن َت ْع َمى اْلُقُل ُ‬

‫الص ُدور) (الحـج‪ )46 :‬فمن الحماقة والتناقض في الرأي أن يسلم‬


‫ُّ‬

‫اإلنسان بفكرة التطور‪ ،‬ويرفض أن يسلم بحقيقة وجود الخالق الذي‬

‫(‪)26‬‬
‫أوجد هذا التطور‬

‫(‪ ) 26‬راجع‪ :‬هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬نخبة من العلماء األمريكيين ‪ ،‬ص‪.36‬‬
‫‪45‬‬
‫فالعمليات والظواهر التي تهتم العلوم بدراستها ليست إال مظاهر‬

‫وآيات بينات على وجود الخالق المبدع لهذا الكون ‪ ،‬وليس التطور إال‬

‫(‪)27‬‬
‫مرحلة من مراحل الخلق‬

‫‪-‬نظرية التطور كانت من األسس الواهية التي تبناها الفكر اإللحادي‬

‫هروبا من‬
‫ً‬ ‫مع أنها غير ثابتة علمياً‪ ،‬وطوعها لخدمة إنكار الخالق‬

‫أوضح الحقائق وهي اإليمان باهلل الخالق العظيم‪ ،‬وقد اعترف بذلك‬

‫علميا‬
‫ً‬ ‫(سير آرثر كيث) فقال‪ " :‬وإن نظرية النشوء واالرتقاء غير ثابتة‬

‫وال سبيل إلى إثباتها بالبرهان‪ ،‬ونحن ال نؤمن بها إال َّ‬
‫ألن الخيار‬

‫الوحيد بعد ذلك هو اإليمان بالخلق الخاص المباشر وهذا ما ال يمكن‬

‫‪.‬‬ ‫حتى التفكير به"‬


‫(‪)28‬‬

‫(‪ )27‬راجع‪ :‬السابق ‪ ،‬ص‪.36‬‬


‫(‪ )28‬وحيد الدين خان‪ :‬اإلسالم يتحدى‪ ،‬ص ‪ ،36‬صراع مع المالحدة حتى العظم‪ ،‬ص‪.114-113‬‬
‫‪46‬‬
‫فنظرية االرتقاء كما يعترف أنصارها هي بديل عن اإليمان‪،‬‬

‫علميا عند المدافعين‬


‫ً‬ ‫وهروب من الحقيقة العلمية‪ ،)29( ،‬فليست ثابتة‬

‫عنها أيضا‪ ،‬إال أن عدم استنادهم إليها يؤدي إلى التسليم باإليمان‬

‫بالخالق العظيم‪ ،‬وهو األمر الذي ال يقر به الملحد بل يعاند الحقائق‬

‫العلمية ‪ ،‬والثوابت اإليمانية‪.‬‬

‫وهذا يؤكد فساد استدالل الملحد بنظرية التطور وتهاوي أي مستند‬

‫إلنكار الخالق الحكيم‬

‫المطلب الثاني‪ :‬شبهة وجود الشرور‬

‫أوالً‪ :‬حقيقة شبهة الشر‪:‬‬

‫تعد هذه الشبهة من أكثر الشبهات إثارة عند الملحدين‪ ،‬وهي مادة‬

‫االعتراض األولى في السجاالت بين المؤلهين وغيرهم‪ ،‬وقد صرح‬

‫الفيلسوف األمريكي (ميكل تولي ‪ )Michael tooley‬أن الحجة‬

‫(‪ )29‬راجع‪ :‬وحيد الدين خان‪ ،‬اإلسالم يتحدى ‪ ،‬ص ‪.45‬‬


‫‪47‬‬
‫المركزية لإللحاد هي حجة الشر‪ ،‬وقال (مايكل روس‪Michael ruse‬‬

‫( أنه ال يرفض اإليمان إال لسبب واحد وهو مشكلة الشر‪ ،‬لذلك أطلق‬

‫عليها وصف صخرة اإللحاد‪ ،‬والسؤال اإللحادي األول(‪.)30‬‬

‫وتقوم على افتراض تعارض بين صفتي القدرة والرحمة‪ ،‬فاإلله إما‬

‫َّأنه قادر وفاعل؛ ومعنى ذلك أنه يرضى بوقوع الشرور واآلالم ‪ ،‬وبذلك‬

‫تنتفي عنه صفة الرحمة‪ ،‬وإما أنه يتصف بالرحمة فال يرضى بوقوع‬

‫الشر واأللم؛ وبذلك تنتفي عنه صفة القدرة على منع تلك الشرور‬

‫وقد روجها‬ ‫(‪، )31‬‬


‫وإزالتها عن البشر‪ ،‬وهذه الشبهة تسمى معضلة أبيقور‬

‫نادر وكثير‬
‫المالحدة وال تكاد تتناولها الدراسات اإلسالمية الخالصة إال ًا‬

‫من المروجين لها أو المفتونين بها قد استجلبوها من المكتبة الغربية‬

‫(‪ )30‬راجع‪ :‬د‪.‬سامي عامري‪ :‬مشكلة الشر ووجود هللا ‪ ،‬تكوين للدراسات واألبحاث‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2016‬ص‬
‫‪.18‬‬
‫(‪ )31‬فيلسوف يوناني‪340 ( ،‬ق‪.‬م ـ ‪ 270‬ق‪.‬م) ازدهر أبيقور بعد فترةٍ طويل ٍة من وفاة الفيلسوف أرسطو‪ ،‬حيث‬
‫أسس مدرسةً فلسفية في منزله وحديقته في أثينا‪ ،‬وكرس نفسه لتحقيق السعادة من خالل المنطق والمبادئ‬
‫العقالنية‪ ،‬فهو يؤمن أنّ المتعة جيدة واأللم غير جيد‪ ،‬كما يرى أن المتعة واأللم من المقاييس النهائية والمهمة‬
‫للخير والشر‪ ،‬وكثيرا ً ما تعرض لسوء الفهم وأنّه يدعو إلى المتعة المفرطة ّإّل أنّه حذر كثيرا ً من تجاوز الحدّ‬
‫واإلفراط في ذلك؛ ألنّ اإلفراط في غالبية األوقات يؤدي إلى الشعور باأللم‬
‫‪48‬‬
‫وروجوا لها على أنها نهاية الفكر الفلسفي الغربي‪ ،‬مع أن الفكر الغربي‬

‫نفسه قاومها وأصابها في مقتل(‪.)32‬‬

‫وعدم القدرة على الجمع بين القدرة والرحمة في صفات اإلله دفع‬

‫الملحد إلنكار وجوده‪ ،‬واعتبر الملحد أن اإلنسان يستطيع أن يكون‬

‫سعيدا بدون إيمان بإله‪ ،‬قال ريتشارد دوكنز‪" :‬إن االلحاد هو تطلع‬
‫ً‬

‫سعيدا ‪ ,‬متوازًنا‬
‫ً‬ ‫ملحدا‬
‫ً‬ ‫واقعي وشجاع ورائع‪ .‬من الممكن أن تكون‬

‫(‪)33‬‬
‫ومعنويا بشكل كامل"‬
‫ً‬ ‫ومقتنعاً فكرًيا‬

‫(‪ )32‬راجع‪ :‬د‪.‬سامي عامري‪ :‬مشكلة الشر ووجود هللا ‪Bkz. Mustafa Ünverdi, ; 3249 ،‬‬
‫‪“Mu’tezile’de Kötülük Problemi”, 1. Uluslararası Mersin Sempozyumu, Mersin 2018,‬‬
‫‪380.‬‬

‫(‪ )33‬ريتشارد دوكنز‪ :‬وهم اإلله‪ ، 2009 ،‬نسخة تجريبية‪ ،‬وكتب مع العنوان‪ :‬الكتاب الذي غير حياة الماليين‬
‫من البشر وسيغير حياتك إلى األبد‪ ،‬ص ‪.4‬‬
‫‪49‬‬
‫قال أنتوني فلو‪ :‬إن موضوع وجود الشرور في العالم من أسباب‬

‫وقال ‪" :‬مشكلة الشر كانت بالنسبة لي‬ ‫(‪)34‬‬


‫تحولي المبكر لإللحاد‬

‫حاسما لوجود إله كامل الخير وكامل القدرة" (‪.)35‬‬


‫ً‬ ‫دحضا‬
‫ً‬

‫فوجود الشر‪-‬حسب الشبهة‪ -‬يتنافى مع أن يكون هذا الرب عليما‬

‫ألن علمه يقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود‪ ،‬ويتنافى مع أنه‬

‫رحيم؛ ألن رحمته تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود‪ ،‬ويتنافى مع‬

‫أنه قدير؛ ألن قدرته تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود‪ ،‬لذلك فإن‬

‫(‪)36‬‬
‫وجود الشر ينفي وجود اإلله‬

‫ثانياً‪ :‬الهروب من الدين إلى الطبيعة واإللحاد‪ :‬حقيقة شبهة‬

‫الشر هي هروب من عالم اإليمان إلى عالم اإللحاد‪ ،‬ألن الدين‬

‫(‪ ) 34‬أنتوني فلو‪ :‬هناك إله‪ ،‬ترجمة الدكتور صالح الفضلي‪ ،‬مراجعة وتعليق الدكتور الشيخ مرتضى فرج‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪1438‬م‪ ،‬ص ‪.22-19‬‬
‫(‪ )35‬أنتوني فلو‪ :‬هناك إله‪.59 ،‬‬
‫(‪ )36‬د‪.‬سامي عامري‪ :‬مشكلة الشر ووجود هللا ‪ ،‬تكوين للدراسات واألبحاث‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2016‬ص‪-21‬‬
‫‪.22‬‬
‫‪50‬‬
‫بزعمهم هو مصدر الشر والحروب‪ ،‬لذلك نرى (دوكنز) أحد أعالم‬

‫المالحدة المعاصرين يدعو إلى إلى تخيل عالم بال دين‪ ،‬ونسب كل‬

‫الشرور إلى الدين ‪ -‬مع أنه اعترف بداية كالمه بأنه ال شيء هو‬

‫عالما بدون دين ال انتحاريين‬


‫ً‬ ‫أصل كل شيء آخر‪ ،‬فقال‪ :‬تخيل‬

‫الحمالت صليبية‪ ،‬ال مؤامرة بارود‪ ،‬التقسيم للهند‪ ،‬ال حرب فلسطينية‬

‫إسرائيلية‪ ،‬ال مذابح صرب‪ -‬كروات‪ -‬إسالم‪ ،‬ال اضطهاد لليهود كونهم‬

‫”قتلة المسيح" ‪ ،‬المشاكل في شمال إيرلندا‪” ،‬ال جرائم شرف”‪ ،‬ال‬

‫إنجيلي بهندام المع على التلفزيون األمريكي يجز أموال السذج‪ ،‬تخيل‬

‫أنه الوجود لطالبان ليفجروا تماثيل أثرية ‪ ،‬ال قطع للرؤوس بشكل‬

‫علني وال سوط على جلد أنثى ألن أحدا رأى بوصة منه(‪.)37‬‬

‫ومن هنا يزين الملحد صورة اإللحاد بأنه هروب من وجه هذا‬

‫اإلله المتصف بتلك الصفات إلى إله آخر له كل صفات اإلله األول‪،‬‬

‫(‪ )37‬ريتشارد دوكنز‪ :‬وهم اإلله‪ ،2009 ،‬نسخة تجريبية‪ ،‬ص ‪.4‬‬

‫‪51‬‬
‫إال أنه ال يعترف بالكنيسة وال يبارك ظلم طغاتها وال يلزم الناس تجاهه‬

‫بأي التزام وعباده أحرار فيما يصنعون بأنفسهم ال سلطان ألحد عليهم‬

‫إال الهوى والشهوات‪ ،‬لقد استراح من أراد الهرب من إله الكنيسة إلى‬

‫اإلله الجديد المسمى " الطبيعة " مادام بينهما هذا الفارق الكبير في‬

‫السلوك وتفنن بعد ذلك هؤالء الهاربون في إضفاء الصفات على هذا‬

‫اإلله الذي تخيلوه وأحبوه وسموه الطبيعة‪.‬‬

‫ولكنهم يعلمون في ق اررة أنفسهم أنه إله وهمي متخيل ال حقيقة له‬

‫إال من خالل أنه مالذ وجداني أرحم من إله الكنيسة‪ ،‬حتى وإن كان‬

‫غيبيا وكانوا كلما وقفوا على شيء يدل على اإلله العظيم رب العالمين‬

‫سارعوا إلى تفسيره لصالح هذا اإلله المتخيل مخافة أن يقعوا مرة أخرى‬

‫في قبضة رجال الكنيسة‪ ،‬أو اإلله الشرير حسب زعمهم‪ ،‬وصدق‬

‫(و َج َح ُدوا ِب َها َو ْ‬


‫اس َت ْيَقَن ْت َها أَن ُف ُس ُه ْم ظُْل ًما َو ُعُل ًّوا‬ ‫عليهم قول هللا تعالى ‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َعاقَب ُة اْل ُم ْف ِسد َ‬
‫ين) ( النمل‪)14:‬‬ ‫ف َك َ‬
‫َفانظُْر َك ْي َ‬

‫‪52‬‬
‫إن المالحدة هربوا عن اسم هللا واالعتراف به إلى اسم آخر‬

‫أعطوه القدرة نفسها وصفات اإلله الحقيقي دون أي مبرر إال الهرب‬

‫من إله الكنيسة دون أن يرجعوا إلى عقولهم وإلى سؤال أنفسهم‬

‫بصراحة وصدق هل هذا اإلله الذي جعلته الكنيسة ستا ار لطغيانها هو‬

‫فعال اإلله الحقيقي أم أنه إله مخترع وورقة رابحة في أيدي الطغاة‪،‬‬

‫إنهم لو طلبوا الحقيقة سيجدونها واضحة صريحة وسيجدونها في مكان‬

‫ال تقل كراهتهم له عن كراهيتهم للكنيسة إنه اإلسالم الذي سيبين لهم‪،‬‬

‫لو أرادوا‪ ،‬الحق الصحيح اإلله الحقيقي الرحيم العادل بين عباده‬

‫ثالثاً‪ :‬عالقة الشبهة بوجود الخالق‬

‫هذه الشبهة من الشبهات التي يثيرها المالحدة رغم أنه ال عالقة‬

‫مباشرة لها باإللحاد الذي يقوم على إنكار وجود الخالق‪ ،‬فإذا أثبتنا‬

‫وجود الخالق باألدلة العقلية والعلمية والفطرية‪ ،‬فكيف يمكن للملحد أن‬

‫ينفي هذه األدلة لمجرد شبهة تدور حول صفات الخالق نفسه؟ بل إن‬

‫‪53‬‬
‫الشبهة تقوم أصال على افتراض وجود الخالق‪ ،‬إذ ال يمكن مناقشة‬

‫الصفات دون افتراض وجود الذات الموصوفة‪ ،‬وعلى ذلك فإن توظيف‬

‫الملحد لهذه الشبهة يهدف أصال إلى الطعن بعقيدة المؤمنين والتشكيك‬

‫بصفات اإلله‪ ،‬وزعزعة يقينه‪ ،‬فهي ليست إلثبات صحة اإللحاد‪ ،‬بل‬

‫للتشكيك في اإليمان‪ ،‬ويغلب االستشهاد بهذه الشبهة عند أولئك‬

‫نفسيا‪ ،‬فهي شبهة تحرك المشاعر أكثر مما تجول في‬


‫إلحادا ً‬
‫ً‬ ‫الملحدين‬

‫العقول‪.‬‬

‫حل مشكلة هِ‬


‫الشر في الفكر اإللحادي‪:‬‬ ‫رابعاً‪ :‬أين ُّ‬

‫من باب الحوار واإللزام بعجز الملحد عن تقديم بديل عن اإليمان‬

‫وإجابات المؤمنين حول الشر والحروب والمصائب أن نسأل الملحد‪،‬‬

‫هل وجد حالً لهذه المشكلة بعد أن صار ملحدا؟‬

‫ولتوضيح السؤال نذكر مثاالً عن القائد الشيوعي(ستالين) الذي‬

‫قتل ماليين البشر ثم مات(‪1953‬م) ولم ينل عقابه‪ ،‬فهل يوجد في‬
‫‪54‬‬
‫اإللحاد حل لهذه المشكلة؟ هل هناك حل في اإللحاد لمشكلة قتل‬

‫الرجال والنساء واألطفال والشيوخ في سوريا وفلسطين واليمن وغيرها‬

‫من بالد العالم ؟ فما هو الحل الذي وجده الملحد في اإللحاد لهذه‬

‫المعضلة ما دام يرد الدين ألجلها! فإن كان يرد الدين؛ ألنه لم يعرف‬

‫جواب الدين عنها ثم يجدها في اإللحاد أعظم كثي ار؛ فإن األجدر به أن‬

‫يتهم اإللحاد قبل أن يتهم الدين‪.‬‬

‫المفارقة هنا هي أن معضلة الشر قائمة عند الملحد بصورة‬

‫ملحدا‪ ،‬بينما هي غير موجودة عند‬


‫ً‬ ‫حقيقية‪ ،‬ولن يجد لها حال ما دام‬

‫المسلم إطال ًقا كما سنرى‪ ،‬ومع هذا فالملحد هو الذي يوجه هذه الشبهة‬

‫للمسلم‪ ،‬رغم أن العكس هو المفروض‬

‫إن من مآسي اإلنسان الغربي المعاصر اختزاله غاية الحياة في‬

‫تحقيق السعادة اآلنية وليس مع هذه الغاية أو وراءها غاية أخرى‪،‬‬

‫ولذلك فالحياة من أجل السعادة بمعناها األرضي البشري تضج من كل‬

‫‪55‬‬
‫مرض أو وجع أو ألم‪ ،‬فليس للشر والمعاناة معنى في سياق هذه الحياة‬

‫غير التنغيص على سير اإلنسان حثيثًا نحو متعة صافية من الكدر‪،‬‬

‫ولذلك فالشر ليس إال عنو ًانا لهدم حقيقة الحياة‪ ،‬ولما كان الشر من‬

‫أقدار الدنيا التي ال فكاك عنها وال مهرب منها‪ ،‬كانت الحياة عبئا ال‬

‫معنى يحتضنه؛ ولذلك يمثل الدين الذي يبشر ضمن منظومته بدار‬

‫الجزاء وسيلة إلكساب الحياة حلة من المعاني التي تعين على تحمل‬

‫آالم الوجود وأثقاله وترتفع بأشواق اإلنسان إلى سوامق مدهشة(‪.)38‬‬

‫ال يمكن للملحد أن يستدل بالشر الموجود في العالم لنفي وجود‬

‫هللا حتى يقر بوجود الخير والشر‪ ،‬وال سبيل لإلقرار بوجود قيمتي‬

‫الخير والشر حتى يقر الملحد بوجود المعيار الموضوعي ووجود‬

‫المعيار الموضوعي األخالقي غير ممكن دون وجود مشرع أخالقي‬

‫غير مادي‪ ،‬وهذا المشرع هو هللا الذي تسعى الحجة األخالقية‬

‫(‪ )38‬د‪.‬سامي عامري‪ :‬مشكلة الشر ووجود هللا ‪ ،‬ص‪.30‬‬


‫‪56‬‬
‫المعتمدة على الشر لنفيه‪ ،‬فال سبيل العتماد حجة الشر إلثبات‬

‫اإللحاد حتى ينقض اإللحاد بإثبات وجود هللا‪ ،‬فغاية الملحد ووسيلته‬

‫(‪)39‬‬
‫تتنافيان‬

‫خامساً‪ :‬تفكيك الشبهة والبعد األخروي‬

‫تقوم الشبهة في أساسها على َّ‬


‫أن وجود الشر ينافي صفة العدل‬

‫اإللهي‪ ،‬وهذا هو الطرح الحقيقي للشبهة‪ ،‬فعدم وجود الرحمة ال ينفي‬

‫وجود العدل‪ ،‬ولكن وجود الظلم ينفي صفة الرحمة‪ ،‬وال تكتمل الرحمة‬

‫إال بتحقق العدل‪.‬‬

‫وهذه الشبهة ال تقوم إطالقا مع التصور اإلسالمي‪ ،‬وإذا انتفى‬

‫التناقض بين صفتي العدل والقدرة في التصور اإلسالمي فقد انتفت‬

‫الشبهة تماما‪ ،‬وسوف أضرب مثاال لذلك‪:‬‬

‫(‪ )39‬راجع‪ :‬السابق ‪ ،‬ص‪.63-62‬‬


‫‪57‬‬
‫طفل صغير يصاب بالسرطان فيتعذب ويتألم ثم يموت‪ ،‬بينما‬

‫صحيحا معافى في أسرة غنية ويعيش حياته طوالً‬


‫ً‬ ‫طفل آخر يولد‬

‫كثير من أمراض األطفال يكون‬


‫أن ًا‬‫وعرضا يتقلب في النعيم‪ ،‬ورغم َّ‬
‫ً‬

‫سببها إهمال األم في صحتها وصحة جنينها‪ ،‬ولكن أال يبدو في هذا‬

‫شيء من الظلم للطفل الذي مرض وتعذب ومات؟‬

‫بعيدا عن التصور‬
‫ً‬ ‫هذا ما يبدو بالفعل إذا تناولنا الشبهة‬

‫اإلسالمي‪ ،‬ولكن إذا أراد الملحد أن يطرح هذه الشبهة أمام المسلمين‬

‫َّ‬
‫فإن عليه أن يحاكمهم إلى دينهم وعقيدتهم وتصورهم وليس إلى معياره‬

‫هو‪ ،‬وسوف نرى النتيجة عندما ننظر إلى هذه الشبهة في ضوء عقيدة‬

‫المسلم‪.‬‬

‫فأصول اإليمان في اإلسالم ستة‪ :‬أن تؤمن باهلل ومالئكته وكتبه‬

‫ورسله وباليوم اآلخر وبالقدر خيره وشره‪ .‬فال يصح اإلسالم دون‬

‫اإليمان باليوم اآلخر‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫وعندما نتحدث عن المعامالت الدنيوية بين الناس فإن الظلم يقع‪،‬‬

‫ولكنه ظلم بين البشر‪ ،‬ينتهي القصاص منه في المحاكم حين يقتص‬

‫للمظلوم من الظالم‪ ،‬فالبشر مجال عملهم ومعامالتهم هو هذه الدنيا‪.‬‬

‫ولكن عندما نتحدث عن الظلم الدائم من الناحية الوجودية فهو غير‬

‫موجود‪ ،‬وإذا لم يقتص المظلوم من الظالم في هذه الحياة فإن هللا جعل‬

‫اآلخرة هي دار الحساب الذي يتحقق فيه العدل المطلق وينتهي فيه‬

‫الظلم‪.‬‬

‫قدر دون أن‬


‫أما من ناحية المصائب والبالء الذي ينزل بالمسلم ًا‬

‫ظلما‪ ،‬وقد أشارت النصوص إلى ذلك‬


‫تدخل فيه إرادة البشر فهو ليس ً‬
‫بوضوح‪ ،‬فإما أن تكون عاقبته ثو ًابا من عند هللا‪ِ( :‬إ ْن َت ُكوُنوا َت ْأَل ُمو َن‬

‫َفِإَّنهم ي ْأَلمو َن َكما َت ْأَلمو َن وَترجو َن ِمن َّ ِ‬


‫َّللا َما ال َيْر ُجو َن) (النساء‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َُْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ ُ‬

‫‪ ،)104‬وإما أن يكون رفعة في الدرجات للصابرين المحتسبين‪ِ( :‬إَّن َما‬

‫َجَرُه ْم ِب َغ ْي ِر ِح َس ٍ‬
‫اب) (الزمر‪ ،)10 :‬وإما أن يكون‬ ‫ُي َوَّفى َّ‬
‫الصا ِبُرو َن أ ْ‬

‫‪59‬‬
‫تكفي ار للذنوب‪" :‬ما من مسلم يصيبه أذى‪ ،‬شوكة فما فوقها‪ ،‬إال كفر هللا‬

‫(‪)40‬‬
‫بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها"‬

‫فكل ما يسلب من المسلم الراضي في هذه الدنيا من النعم المؤقتة‬

‫الفانية يأتيه العوض عنه في الدار الباقية‪ ،‬وقد وصف هللا تعالى يوم‬

‫الحساب بقوله (ال ظلم اليوم) (غافر ‪ ،)17‬وهذا العدل بالطبع شامل‬

‫لكل المخلوقات‪.‬‬

‫وتعذب‬
‫َ‬ ‫الطفل الذي أصيب بالمرض المميت‬
‫َ‬ ‫وعلى ذلك َّ‬
‫فإن‬

‫عوضا عن ذلك بنعيم ال يقاس بشيء‪،‬‬


‫ً‬ ‫خمس سنوات ثم مات سينعم‬

‫وإنما هي حياة نعيم ال نهاية لها وال حصر لملذاتها‪.‬‬

‫ولكي تكون الصورة أوضح‪ ،‬لنتأمل هذا الحديث الذي ورد في‬

‫صحيح مسلم‪" :‬يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة‪،‬‬

‫فيصبغ في النار صبغ ًة‪ ،‬ثم يقال‪ :‬يا ابن آدم هل رأيت خي اًر قط؟ هل‬

‫(‪( )40‬رواه البخاري‪(.‬‬


‫‪60‬‬
‫مر بك نعيم قط؟ فيقول‪ :‬ال وهللا يا رب‪ ،‬ويؤتى بأشد الناس بؤساً في‬

‫الدنيا من أهل الجنة‪ ،‬فيصبغ صبغ ًة في الجنة‪ ،‬فيقال له‪ :‬يا ابن آدم‬

‫هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول‪ :‬ال‪ ،‬وهللا ما مر بي‬

‫وفي حديث آخر يقول صلى هللا‬ ‫(‪)41‬‬


‫بؤس قط‪ ،‬وال رأيت شدةً قط‪".‬‬

‫اب‬ ‫َّ‬
‫الب َالء الث َو َ‬
‫طى أَهل َ‬
‫ين يع َ‬
‫امة ح َ‬
‫وم القَي َ‬
‫العافَية َي َ‬
‫عليه وسلم‪"َ :‬ي َود أَهل َ‬

‫ولهذا فإن‬ ‫(‪)42‬‬


‫المَقاريض‪".‬‬
‫ضت في الد ْنَيا ب َ‬
‫ودهم َك َانت قر َ‬ ‫َلو أ َّ‬
‫َن جل َ‬

‫المسلم ال إشكال عنده من هذا الجانب الذي يقوم على تحقق العدل‬

‫المطلق‪.‬‬

‫فاألمر هنا يتجاوز العدل المطلق إلى الرحمة المطلقة وإن بدت‬

‫للملحد الذي ال يؤمن بالحساب وكأنها نوع من الظلم‪ .‬وعلى ذلك قس‬

‫كل ما تراه من مظاهر اآلالم والكوارث والمصائب في هذه الحياة‬

‫الدنيا‪.‬‬

‫(‪ )41‬رواه مسلم في باب الزهد‪ ،‬من حديث أنس‪.‬‬


‫(‪ )42‬سنن الترمذي‪ ،‬رقم الحديث ‪.2402‬‬
‫‪61‬‬
‫وهذا التصور يتردد كثي ار في النصوص الشرعية حتى ال يقع‬

‫َّللا‬
‫اس َمن َي ْع ُب ُد َّ َ‬ ‫المسلم تحت طائلة الشك‪ ،‬فيقول هللا تعالى‪َ ( :‬و ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬

‫َص َاب ْت ُه ِف ْتَن ٌة َ‬ ‫ف َفِإن أَصابه َخير ا ْطمأ َّ ِ‬


‫انقَل َب َعَلى‬ ‫َن ِبه َوإ ْ‬
‫ِن أ َ‬ ‫َ‬ ‫َعَلى َحْر ٍ ْ َ َ ُ ْ ٌ‬

‫اآلخَرَة َذلِ َك ُه َو اْل ُخ ْسَر ُ‬


‫ان اْل ُم ِب ُ‬ ‫الدْنيا و ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين) (الحج‪(11 :‬‬ ‫َو ْج ِهه َخسَر ُّ َ َ‬

‫بل إن الخير الدنيوي الذي نراه خي ار قد يكون في حقيقته فتنة‬

‫وشرا‪ ،‬وهذا يتوافق مع التصور اإلسالمي للحياة الدنيا وعدم كمالها‪..‬‬


‫ً‬

‫فقد ينعم هللا على امرئ فيفسق ويبطر ويتجبر وال يشكر المنعم‪ ،‬ويكون‬

‫س َذ ِائَق ُة اْل َم ْو ِت َوَنْبُل ُ‬


‫وكم‬ ‫هذا الخير الظاهري فتنة‪ ،‬قال تعالى‪ُ :‬‬
‫(ك ُّل َن ْف ٍ‬

‫الشهِر َواْل َخ ْي ِر ِف ْتَن ًة َوِإَل ْيَنا ُتْر َج ُعو َن) (األنبياء ‪)35‬‬
‫ِب َّ‬

‫وهكذا نرى َّ‬


‫أن الموقف واضح تماما أمام المسلم‪ ..‬فإذا كان من‬

‫صفات الخالق العدل المطلق والرحمة المطلقة‪ ،‬وإذا كان العدل المطلق‬

‫متحقق يوم الحساب‪ ،‬ويوم الحساب لم يأت بعد‪ ،‬فإن إثبات الظلم‬

‫‪62‬‬
‫ٍ‬
‫منتف تماما‪ ،‬ويصبح من العبث ما يقوم به الملحد من إثارة هذه‬

‫الشبهة‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬الشبهة العلمية في اإللحاد المعاصر‬

‫(‪)43‬‬
‫دراسة تحليلية نقدية‬

‫المطلب األول‪ :‬حقيقة اإللحاد وظروف انتشاره‬

‫أوالً‪ :‬مفهوم اإللحاد‪ ،‬ومراحل تطوره‪:‬‬

‫َّ‬
‫إن كلم َة إلحاد لها دالالت لغوية كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬االنحراف والميل‪،‬‬

‫جاء في تاج العروس‪ :‬وأصل اإللحاد الميل والعدول عن الشيء(‪،)44‬‬

‫إال َّ‬
‫أن هذه الكلمة اشتهرت في المجال العقدي والفلسفي الحديث‬

‫تعبير‬
‫ًا‬ ‫كمقابل عربي لتلك اللفظة األجنبية( ‪ )Atheism‬لتكون‬

‫(‪ )43‬هذا القسم من البحث نشر في مجلة ريحان‪ ،‬بعنوان ( الشبهة العلمية في اإللحاد المعاصر‬
‫دراسة تحليلية نقدية) في العدد ‪ ،39‬من ص ‪ 218‬إلى ‪ ،245‬تاريخ ‪.2023/0/28‬‬
‫(‪ )44‬تاج العروس ‪ ،‬مرتضى‪َّ ،‬‬
‫الزبيدي ‪ ،‬تحقيق‪ :‬مجموعة من المحققين‪ ،‬دار الهداية ‪ ،‬باب لحد‪.135/9 ،‬‬
‫‪63‬‬
‫اصطالحيا عن فكرة إنكار وجود هللا تعالى‪ ،‬وليكون هذا المعنى هو‬
‫ً‬

‫تعبير‬
‫الذي يتبادر بمجرد لفظ الكلمة‪ ،‬وبذلك يتراجع استعمال اللفظ ‪ً -‬ا‬

‫عن االنحرافات العقدية األخرى التي كان يشملها‪ -‬وتخرج من‬

‫عباءته(‪ ،)45‬جاء في الموسوعة الفلسفية‪ :‬اإللحاد‪ :‬مذهب َمن ينكرون‬

‫األلوهية‪ ،‬والملحد غير مؤله(‪ ،)46‬وفي موسوعة الالند الفلسفية‪ :‬اإللحاد‬

‫عقيدة قوامها إنكار وجود هللا (‪.)47‬‬

‫وقد عرف أهل اإللحاد قديماً بـالدهرية أو القائلين بتعطيل العالم‬

‫عن الصانع‪ ،‬وهي المقالة التي نسبها الشهرستاني لشرذمة قليلة فقال‪:‬‬

‫أما تعطيل العاَلم عن الصانع العالم القادر الحكيم فلست أراها مقالة‬

‫ألحد‪ ،‬وال أعرف عليه صاحب مقالة إ َّال ما نقل عن شرذمة قليلة من‬

‫(‪ )45‬مليشيا اإللحاد‪ :‬عبد هللا بن صالح العجيري‪ ،‬تكوين للدراسات واألبحاث‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة األولى ‪2014‬‬
‫‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫(‪ )46‬مجمع اللغة العربية في القاهرة‪ :‬الموسوعة الفلسفية‪ ،‬الهيئة العامة لشؤون المطابع األميرية بمصر‪،‬‬
‫‪1983‬م‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫(‪ ) 47‬أندريه الالند‪ :‬موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬تعريب‪ :‬خليل أحمد خليل‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬ط‪1996 ،1‬م‪،‬‬
‫‪.107/1‬‬
‫‪64‬‬
‫الدهرية ‪ ...‬فما عددت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها‬

‫الفطر السليمة اإلنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبدهية‬


‫َ‬ ‫برهان‪َّ ،‬‬
‫فإن‬

‫" (‪)48‬‬
‫فكرتها على صانع حكيم عالم قدير‪..‬‬

‫وأكد ابن تيمية أنه ال تعرف طائفة بذلك القول وهو إنكار‬

‫الصانع‪َّ ،‬‬
‫ألن إنكار الصانع هو إنكار للعلوم الضرورية‪ ،‬ومن أظهر‬

‫الناس متفقون على إ ْثبات وجود و ٍ‬


‫اجب‪،‬‬ ‫امتناعا‪ ،‬فقال‪" :‬بل َّ‬
‫ً‬ ‫األمور‬
‫َ‬

‫الله َّم إ َّال َما ي ْح َكى َع ْن َب ْعض َّ‬


‫الناس‪ ،‬قال‪ :‬إ َّن َه َذا العالم َح َد َث بَنْفسه‪،‬‬

‫الناس َيقولون‪ :‬إ َّن َه َذا َل ْم تَقله طائفة معروفة‪َ ،‬وإَّن َما يَق َّدر‬
‫َوكثير م َن َّ‬

‫تقدي ار َك َما تَق َّدر الشَبه السوفسطائية لي ْب َح َث عنها" ثم قال‪ ...":‬فإن‬

‫َن يحتاج إلى دليل‪ ،‬إ ْذ حدوث اْل َح َوادث ب َال‬


‫ظهور فساده أ َْبَين من أ ْ‬

‫(‪ ) 48‬الشهرستاني‪ :‬نهاية اإلقدام‪ ،‬طبعة ألفرد جيوم‪ ،‬الناشر مكتبة المتنبي القاهرة – مصر‪ ،‬ص ‪- 123‬‬
‫‪.124‬‬
‫‪65‬‬
‫اعا‪ ،‬والعلم بذلك م ْن أ َْبَين العلوم‬
‫امتَن ً‬
‫م ْحدث م ْن أَظهر ْاألمور ْ‬

‫الضرورية"(‪.)49‬‬

‫فما َّ‬
‫تقدم ال ينفي وجود طائفة أو أشخاص من الملحدين المنكرين‬

‫لوجود الصانع؛ بل يشير إلى ضآلة الفكر اإللحادي وعدم انتشاره أو‬

‫تطور‬
‫ظهوره في طوائف معروفة تدافع عنه وتتبنى مزاعمه‪ ،‬لكن األمر َّ‬

‫خطير في مراحل تاريخية متأخرة حتى أصبح له ‪-‬في تاريخنا‬


‫ًا‬ ‫تطور‬
‫ًا‬

‫اهتم أنصاره‬
‫المعاصر‪ -‬آراء وجماعات ومراكز ومنتديات تدافع عنه‪ ،‬و َّ‬

‫بنشره من خالل الكتب واإلعالم‪ ،‬ومواقع التواصل االجتماعي‬

‫أما عن نسبة وجود الملحدين فليس هناك إحصائية دقيقة متفق‬

‫عليها؛ الختالف ظروف انتشاره وتداخل معانيه مع فرق ومذاهب‬

‫لجماعات من المشككين أو الالدينيين‪ ،‬وتفاوت انتشاره بين بلد وآخر‪،‬‬

‫أن بعض مراكز اإلحصاء تؤكد َّ‬


‫أن نسبة الملحدين‬ ‫وفترة وغيرها‪ ،‬غير َّ‬

‫(‪ ) 49‬ابن تيمية‪ :‬منهاج السنة النبوية‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد رشاد سالم‪ ،‬الناشر‪ :‬جامعة اإلمام محمد بن سعود‬
‫اإلسالمية‪ ،‬الطبعة األولى‪ 1406 ،‬هـ ‪ 1986 -‬م‪.296/3 ،‬‬
‫‪66‬‬
‫تتفاوت بين ‪ %2‬إلى ‪ %5‬في العالم‪ ،‬بينما ترتفع في بعض البالد‬

‫تم تقديرها‬
‫الغربية واألوربية لتصل إلى أكثر من ‪ ، %20‬وفي أمريكا َّ‬

‫في عام ‪ 2010‬بـ ‪.)50( %9‬‬

‫فاإللحاد –إذن‪ -‬لم يعد الحالة االستثنائية أو الخفية التي تقبع‬

‫في زوايا المجتمع‪ ،‬أو تقتنع بأفكارها وقناعاتها دون تصديرها للناس‪،‬‬

‫وبث الشكوك؛ بل ارتفع صوته وله أنصار من الفالسفة والعلماء‬

‫الغربيين‪ ،‬وهناك فلسفات مادية ووضعية تبنت الفكر اإللحادي زاعمة‬

‫بات المالحدة يعرفون أنفسهم بأنهم‬


‫أنه صديق العلم والحضارة‪ ،‬كما َ‬

‫الذين يتبنون المفاهيم العلمية ويرفضون المفاهيم الغيبية (‪)51‬؛‬

‫(‪ )50‬مليشيا اإللحاد‪ :‬عبد هللا بن صالح العجيري‪ ،‬تكوين للدراسات واألبحاث‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة األولى ‪، 2014‬‬
‫ص‪.11‬‬
‫(‪ )51‬الدكتور عمرو شريف‪ :‬اإللحاد مشكلة نفسية‪ ،‬ص‪.45‬‬
‫‪67‬‬
‫ويتفاخرون بأن نسبتهم تزيد بين النخب المثقفة كما عبر عن ذلك‬

‫(‪)52‬‬
‫(ريتشارد دوكنز)‬

‫يجعل منه ظاهرة تفرض‬


‫َ‬ ‫وخطورة األمر َّ‬
‫أن هناك من يحاول أن‬

‫نفسها على المجتمعات؛ مع أنه لم يكن عبر التاريخ القديم والمعاصر‬

‫ظاهرة حقيقية‪ ،‬ولم يكن ارتفاع صوته‪-‬في التاريخ المعاصر‪ -‬لقوة‬

‫حجته أو ظهور مؤيدات علمية لفكره؛ بل هو ظاهرة صوتية أسهمت‬

‫أسباب كثيرة في طرحه والترويج له أو تزيينه‪ ،‬ويشترك في ذلك‬

‫اإلعالم وبعض المؤسسات والشخصيات والمراكز والمنتديات اإللحادية‬

‫التي تبنت الفكر اإللحادي‪ ،‬وأرادت التشويش على المؤمنين وبثت‬

‫الشكوك والضوضاء بينهم بعد أن عجزت عن فرضه كظاهرة في‬

‫المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬وقد عبر عن تلك الخيبة بأسلوب ساخر(ريتشارد‬

‫دوكنز) كبير المالحدة الجدد‪ ،‬فقال في كتابه(وهم اإلله)‪" :‬وبرغم أننا ال‬

‫(‪ )52‬ريتشارد دوكنز‪ :‬وهم اإلله‪ ،2009 ،‬نسخة تجريبية‪ ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪68‬‬
‫نستطيع تنظيم قطيع من القطط‪ ،‬ولكن وجود عدد كاف منهم سيؤدي‬

‫فمنهج الملحد منهج‬ ‫(‪)53‬‬


‫لضجة كافية ولن يكون من الممكن إهمالهم"‬

‫الصراخ والضوضاء في مواجهة المؤمنين باهلل تعالى‬

‫ظ باهتمام كبير‪ ،‬ولم يشكل نسبة‬


‫عبر التاريخ لم يح َ‬
‫واإللحاد َ‬

‫كبيرة‪ -‬مع التأكيد على خطورته‪ -‬وذلك لمخالفته للضرورات العقلية‪،‬‬

‫ومباينا للمناهج العلمية‪ ،‬وشأنه كشأن‬


‫ً‬ ‫مصادما للفطرة البشرية‪،‬‬
‫ً‬ ‫وكونه‬

‫غيره من المذاهب التي اندثرت أو األفكار الشاذة التي يعلو صوت‬

‫أصحابها في المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬ثم ما تلبث أن تخبو وتزول أمام‬

‫البراهين العلمية والمناقشات الفكرية التي تنتهي ببيان ضعفها ومخالفتها‬

‫للعقل والفكر فضالً عن الوحي اإللهي وما جاء به األنبياء‪ ،‬وخاتم‬

‫األنبياء محمد صلى هللا عليه وسلم‬

‫(‪ )53‬ريتشارد دوكنز‪ :‬وهم اإلله‪ ،‬ص ‪.6‬‬


‫‪69‬‬
‫فمن دواعي تحصين المسلم‪ ،‬والهداية للمشككين‪ ،‬والدعوة‬

‫والمجادلة بالتي هي أحسن مع المخالفين‪ ،‬أن يتم رد كل زيف أو‬

‫انحراف‪ ،‬وإبطال كل ما يستند إليه الفكر اإللحادي‪ ،‬والتنبيه على اآلراء‬

‫الشاذة التي تتنشر في المجتمعات‪ ،‬وكشف كل تزييف للحقائق‬

‫اإليمانية الكبرى‪ ،‬أو تزيين للفكر اإللحادي‪ ،‬سواء تبنى ذلك االنحراف‬

‫شخص أو فرقة أو مؤسسة أو مراكز علمية‪ ،‬وهذا منهج قرآني في‬

‫عرض شبهات المخالفين من أهل األديان والمذاهب الباطلة‪ ،‬والرد‬

‫عليها‪ ،‬بل إن القرآن الكريم لم يتهيب التحدث عن اإللحاد‬

‫والملحدين(الدهرية) مع َّ‬
‫أن القائلين به عدد قليل‪ ،‬فضالً عن شبهات‬

‫أهل الكفر والشرك والضالل‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬وَقاُلوا َما ِه َي ِإالَّ َحَي ُ‬
‫اتَنا‬

‫وت َوَن ْحَيا َو َما ُي ْهلِ ُكَنا ِإالَّ َّ‬


‫الد ْهُر }[الجاثية‪ ، ]24:‬وهذا يحفز‬ ‫ُّ‬
‫الدْنَيا َن ُم ُ‬

‫دفاعا عن اإليمان والفطرة السليمة‪،‬‬


‫ً‬ ‫الدعاة والعلماء للقيام بدورهم‬

‫وتقدير للعلم ومناهجه وأدلته التي تقدم كل يوم شواهد وبراهين على‬
‫ًا‬

‫صدق عقيدة اإليمان باهلل تعالى وكمال صفاته وعظيم تدبيره‪.‬‬


‫‪70‬‬
‫فمواجهة الفكر اإللحادي ‪ -‬الذي يمتد في فراغ انشغالنا عن‬

‫نوعا من أنواع الجهاد العلمي‪ ،‬وانتصا اًر ألصل‬


‫شبهاته ومزاعمه– يعد ً‬

‫الحقائق اإليمانية وهي اإليمان باهلل تعالى‪ ،‬فاإليمان باهلل تعالى‬

‫وصفاته هي من أهم العقائد؛ بل هي أصلها وأساسها‪ ،‬و"كبريات قضايا‬

‫اإليمان أسانيدها عقلية علمية و َّ‬


‫أن طريقة القرآن الكريم في إثباتها‬

‫تعتمد على لفت نظر الناس إلى هذه األسانيد واألدلة العقلية العلمية‪،‬‬

‫وعلى تكليف الرسل وأهل العلم من المؤمنين مناقشة المخالفين‬

‫ومناظرتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن على هذا األساس العقلي‬

‫(‪)54‬‬
‫العلمي‪ ،‬ال على إيراد نصوص منزلة ال يؤمن المخاطبون بها"‬

‫(‪ ) 54‬الدكتور عبد الرحمن حبنكه‪ ،‬براهين وأدلة إيمانية ‪ ،‬دار القلم‪ -‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ، 1987‬ص ‪-12‬‬
‫‪.13‬‬
‫‪71‬‬
‫ثانياً‪ :‬ظهور الفكر اإللحادي المعاصر‪:‬‬

‫عارما كالذي شهده في ظل‬


‫ً‬ ‫إلحاديا‬
‫ً‬ ‫مدا‬
‫لم يشهد تاريخ البشرية ً‬

‫تعرف بالدنا اإللحاد بشكل صريح‬


‫ْ‬ ‫الحضارة المادية المعاصرة‪ ،‬كما لم‬

‫إلحاديا‬
‫ً‬ ‫مدا‬
‫إال في العقود األخيرة‪ ،‬وقد شهدت البالد العربية واإلسالمية ً‬

‫وتشكيكياً بعد ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي‪ ،‬باإلضافة إلى ما‬

‫تشهده البالد العربية واإلسالمية من ظروف واضطرابات سياسية‬

‫واقتصادية واجتماعية (‪.)55‬‬

‫وهذا يتطلب أن تكو َن هناك دراسات تكشف أسباب هذا االنتشار‪،‬‬

‫وتعري الشبهات التي يقوم عليها في مقابلة الفطرة والعقل والعلم‪،‬‬

‫فالمصاولة مع اإللحاد تقوم على تحميل أصحاب العقول مسؤولية‬

‫جميعا على وجوده‪ ،‬ومسؤولية تحكيم‬


‫ً‬ ‫استخدام العقل الذي نتفق‬

‫(‪ )55‬الدكتور عمرو شريف‪ :‬خرافة اإللحاد‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية ‪-‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2014‬ص ‪.9‬‬
‫‪72‬‬
‫الموازين العلمية في اإليمان بالحقائق الكبرى‪ ،‬التي على رأسها وفي‬

‫مقدمتها اإليمان بالوجود اإللهي‪.‬‬

‫كثير من مزاعم اإللحاد المعاصر تتفاخر بالعلم واإلنجازات‬


‫إن ًا‬‫َّ‬

‫َّ‬
‫وكأن الفكر اإللحادي منطقي علمي في مواجهة اإليمان‬ ‫الحضارية؛‬

‫والفطرة والغيب‪ ،‬وهذه أخطر شبهة معاصرة يحاول أن يتبناها‬

‫الملحدون ولها جذور مرتبطة بعالقة الكتاب المقدس بالعلم واإلنجازات‬

‫شيئا من التفصيل‬
‫العلمية‪ ،‬ويحتاج توضيح ذلك ً‬

‫المصدر األساس‬
‫َ‬ ‫لو عدنا إلى خمسمائة سنة مضت نلحظ َّ‬
‫أن‬

‫للمعرفة في أوربا هو الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد‪ ،‬كما َّ‬


‫تبنى‬

‫رجال الكنيسة الكاثوليكية آراء أرسطو وبطليموس العلمية حول الكون‬

‫وكوكب األرض والفيزياء والكيمياء والتاريخ الطبيعي وألحقوها‬

‫‪73‬‬
‫بمفاهيمهم المقدسة(‪ ،)56‬وبناء على هذه المصادر كون إنسان العصور‬

‫الوسطى في أوربا صورة عن العالم والحياة‪ ،‬يمكن أن نضع أبرز‬

‫معالمها‪:‬‬

‫‪ -‬خلق اإلله العالم سنة ‪ 4004‬ق‪.‬م واستنتج الكهنة هذا التاريخ‬

‫من جمع أعمار األجيال المتتابعة من أبناء آدم كما جاءت في سفر‬

‫التكوين‬

‫‪ -‬سوف تكون نهاية العالم في تاريخ ليس ببعيد‪ ،‬عام ‪ 4004‬م‬

‫؛ وذلك لكي تتوسط حياة المسيح تاريخ العالم‬

‫‪ -‬تقف األرض ثابتة في مركز الكون وتدور الشمس والقمر وبقية‬

‫الكواكب حولها في دوائر‬

‫ص ‪ ،118‬رافي زكراياس‪:‬‬ ‫(‪ ) 56‬راجع‪ :‬روبرت م‪ .‬أغروس‪ ،‬جورج ن‪ .‬ستانسيو‪ :‬العلم في منظوره الجديد‪،‬‬
‫الوجه الحقيقي لإللحاد ‪ ،‬ترجمة ماريانا كتكوت‪ ،‬رؤية للطباعة‪ ،‬ص ‪ 24‬وبطليموس‪ :‬رياضي وعالم فلك يوناني‬
‫أن األرض ثابتة و َّ‬
‫أن الكواكب تدور حولها‪..‬على عكس ما أثبته‬ ‫توفي حوالي ‪ 170‬م‪ ،‬كان يرى مثل أرسطو َّ‬
‫العلم بعد ذلك‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫تماما كما يبني‬
‫العالم في لحظة ما في الماضي ً‬
‫َ‬ ‫خلق اإلله‬
‫‪َ -‬‬

‫البشر المنازل‪ ،‬والفرق الوحيد هو َّ‬


‫أن الناس تصنع ما تصنع من مواد‬

‫موجودة‬

‫‪ -‬األشياء المقززة كالحشرات والثعابين والقاذورات هي عقاب‬

‫لإلنسان على خطيئته األصلية حين عصى آدم ربَّه وأكل من الشجرة‬

‫أخالقيا‪ ،‬فالقيم األخالقية مطلقة يحددها‬


‫ً‬ ‫نظاما‬
‫ً‬ ‫‪ -‬يمثل العالم‬

‫اإلله وليست نسبية تعتمد على رغبات البشر ومصالحهم ومشاعرهم‪،‬‬

‫ويقف وراء كل ذلك إله خالق له أفكار وتصورات وانفعاالت وعواطف‬

‫‪.‬‬

‫‪ -‬رجال الكنيسة هم الواسطة بين اإلله وبين الناس في قبول‬

‫التوبة والحصول على الغفران‬

‫‪75‬‬
‫هذه أهم األفكار واالعتقادات السائدة لقرون طويلة‪ ،‬حتى باتت‬

‫مسلم ًة ال يمكن ألحد أن ينتقدها أو يقلل من قدسيتها أو يشكك في‬

‫صدقها‪.‬‬

‫يبق على ذلك بعد أن ظهر كتاب( في دوران‬ ‫إال َّ‬


‫أن األمر لم َ‬

‫األفالك) لكوبرنيكوس (ت‪1543‬م) (‪ ،)57‬فكان عالمة على بداية‬

‫العصر الحديث ونهاية العصور الوسطى‪ ،‬وعد ذلك طامة كبرى من‬

‫وجهة نظر الكنيسة؛ حيث أعلن كوبرنيكوس بحساباته الرياضية‪ ،‬ومن‬

‫أن األرض ليست مركز الكون(‪ ،)58‬بل هي‬


‫بعده جاليلو بتلسكوبه َّ‬

‫غاليا لشجاعتهما؛ إذ‬


‫ثمنا ً‬
‫مجرد كوكب تابع يدور حول الشمس‪ ،‬فدفعا ً‬

‫(‪ ) 57‬كوبرنيكوس نيقوالس‪ :‬فلكي بولندي يعتبر مؤسس علم الفلك الحديث‪ ،‬طرح في كتابه المسمى‪ :‬في دوران‬
‫األجرام السماوية‪ ،‬نظرية جديدة تقول إن األرض والكواكب السيارة األخرى تدور حول الشمس وحول نفسها‪،‬‬
‫فخالف بذلك النظريات والمفاهيم الفلكية المتوارثة منذ عصر بطليموس والقائلة بأن األرض هي مركز الكون‬
‫الثابت‪ ،‬وقد أدانت الكنيسة الكاثوليكية نظرية كوبرنيكوس باعتبارها مخالفة لنصوص الكتاب المقدس‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫عددا من‬
‫( ) غاليلو غاليلي فلكي ورياضي وفيزيائي إيطالي‪ ،‬يعتبر واضع أسس العلم الحديث‪ ،‬أحرز ً‬
‫االكتشافات الهامة وكان أول من صنع تلسكوب فلكي‪ ،‬وقد أيد نظام كوبرنيكوس بدال من نظام بطليموس مما‬
‫أثار حفيظة الكنيسة فحاكمته واضطرته إلى التراجع عن رأيه وقد أمضى بقية حياته معتقال في منزله لتفادي‬
‫عمليات التعذيب (ت ‪ 1642‬م)راجع ‪ :‬د‪ .‬زينب عبد العزيز‪ :‬اإللحاد وأسبابه(الصفحة السوداء للكنيسة)‪ ،‬دار‬
‫الكتاب العربي‪ ،‬دمشق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى ‪2004‬م‪ ،‬ص ‪. 103‬‬
‫‪76‬‬
‫تبنت الكنيسة حملة شعواء الضطهاد العلماء وتعذيبهم باعتبارهم من‬

‫وتم حرق (جيوردانو برونو) ً‬


‫حيا‬ ‫السحرة والمشعوذين وأهل الهرطقة(‪َّ ،)59‬‬

‫تجر ووصف الكون بأنه ال‬


‫أ‬ ‫عام ‪ 1600‬م‪ ،‬بتهمة الهرطقة؛ ألنه‬

‫نهائي‪ ،‬و َّ‬


‫أن هناك أشكاالً من الحياة خارج الكرة األرضية وهو يمثل‬

‫تم‬ ‫الكفر في رأي الكنيسة التي أصرت على َّ‬


‫أن األرض منبسطة‪ ،‬كما َّ‬

‫حيا سنة‬
‫قطع لسان الفيلسوف اإليطالي(لوتشيلو فانيني)‪ ،‬ومن ثم حرقه ً‬

‫‪1619‬م (‪ ،)60‬وتم إنشاء محاكم ومحارق لمالحقة كل من يتبنى رًأيا‬

‫علميا يخالف اعتقادات الكنيسة‪ ،‬وكثير من العلماء والفالسفة قتلوا أو‬


‫ً‬

‫حرقوا أو سجنوا وعذبوا‪.،‬‬

‫كذلك كان اكتشاف الميكروسكوب عام ‪1595‬م صدمة كبيرة؛ إذ‬

‫مكن العلماء ألول مرٍة من رؤية الجراثيم التي ثبت أنها المسؤولة عن‬
‫َّ‬

‫(‪ )59‬ديفيد بيرلنسكي‪ :‬وهم الشيطان‪ ،‬اإللحاد ومزاعمه العلمية‪ ،‬ترجمة عبد هللا الشهري‪ ،‬مركز دالئل‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪1437‬هـ‪ ،‬ص ‪.253‬‬
‫(‪ ) 60‬راجع ‪ :‬د‪ .‬زينب عبد العزيز‪ :‬اإللحاد وأسبابه‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬دمشق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‬
‫‪2004‬م‪ ،‬ص ‪ ،102- 97‬الدكتور عمرو شريف‪ :‬خرافة اإللحاد‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية ‪-‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى ‪ ،2014‬ص ‪.21‬‬
‫‪77‬‬
‫كثير من األمراض‪َّ ،‬‬
‫وقدم العلم تفسيرات علمية ألسباب الزالزل‬

‫والبراكين والحوادث الكونية‪ ،‬وبذلك لم تعد فائدة لصلوات رجال الدين‬

‫مدفوعة األجر في شفاء األمراض بعد أن اكتشفت الجراثيم وطرق‬

‫عالجها‪ ،‬كما استغنوا عن تفسير أسباب الزالزل والبراكين والمصائب‬

‫بأمور غيبية وعلل ميتافيزيقية‪.‬‬

‫ثم بلغت الجهود العلمية ذروتها بفضل إسحاق نيوتن(ت‬

‫أسس العلم الحديث‪ ،‬فأسهمت إنجازاته في‬


‫الذي أرسى َ‬
‫(‪)61‬‬
‫‪1727‬م)‬

‫تقويض أركان اإليمان الديني المسيحي في الغرب‪.‬‬

‫فكل ذلك أسس لموقف جديد من العلم المادي وإنجازاته في‬

‫بعيدا عن الكتاب المقدس وآراء‬


‫تفسير كثير من القوانين وفهمها‪ً -‬‬

‫الكنيسة‪ -‬فسيطرت‪-‬عند طائفة من العلماء‪ -‬فكرة آلية العالم وقوانينه‬

‫الفيزيائية‪ ،‬بديالً عن اإليمان بالغيب والتفسيرات الكنسية‪ ،‬حتى َّ‬


‫إن‬

‫(‪ )61‬إسحاق نيوتن رياضي وفيزيائي إنكليزي ‪ ،‬كان أستاذ الرياضيات بجامعة كيمبرج‪ ،‬اكتشف قانون الجاذبية ‪،‬‬
‫واكتشف ألوان الطيف السبعة‪ ،‬وله كثير من االكتشافات(ت ‪1727‬م)‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫(توماس هوبز ت ‪1679‬م) فيلسوف اإللحاد البريطاني الشهير شبَّه‬

‫أجهزة جسم اإلنسان بمجموعة من اآلالت التي تحكمها القوانين‬

‫متحمسا إلى فهم اإلنسان باالستناد إلى العلم التجريبي‬


‫ً‬ ‫الفيزيائية‪ ،‬وكان‬

‫مفترضا أن ال‬
‫ً‬ ‫والمادة فحسب(‪ ،)62‬وجاء من بعده (فرويد ت ‪1939‬م )‬

‫وجود إال للمادة‪ ،‬ورأى أنه النهج الوحيد في دراسة النفس البشرية‪،‬‬

‫(‪)63‬‬
‫وتبنى نموذج اإلنسان الميكانيكي الذي قال به هوبز‬

‫وبذلك ظهر اإللحاد بشكل صريح في وجه النفوذ الكنسي الذي‬

‫كان يتبنى اآلراء المخالفة للعلم ولالكتشافات العلمية‪ ،‬ويفرض سيطرته‬

‫وتحكمه في حرية الشعوب باسم الرب واآلراء المقدسة(‪ ،)64‬وشجع ذلك‬

‫علماء الفيزياء والطبيعة في االعتماد على التفسيرات المادية في فهم‬

‫بعيدا عن الفهم الكنسي‬


‫ً‬ ‫الكون والغرائز واالنفعاالت اإلنسانية‬

‫(‪ )62‬فيلسوف إنكليزي صاحب فلسفة مادية شديدة التشاؤم‪ ،‬كان يرى أن الحكم الملكي المطلق أفضل أشكال‬
‫الحكم‪ ،‬وأن الخوف من الموت العنيف هو الدافع األساسي الذي يحمل الناس على إقامة الدولة(ت ‪1679‬م)‪.‬‬
‫ص ‪ ،75-74‬الدكتور عمرو‬ ‫(‪ ) 63‬انظر‪ :‬روبرت م‪ .‬أغروس‪ ،‬جورج ن‪ .‬ستانسيو‪ :‬العلم في منظوره الجديد‪،‬‬
‫شريف‪ :‬خرافة اإللحاد‪ ،‬ص ‪.22‬‬
‫(‪ ) 64‬راجع‪ :‬د‪ .‬زينب عبد العزيز‪ :‬اإللحاد وأسبابه(الصفحة السوداء للكنيسة)‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪79‬‬
‫شعور بالنشوة النتصار‬
‫ًا‬ ‫والتفسيرات الغريبة‪َّ ،‬‬
‫وشكل ذلك عند بعضهم‬

‫العلم‪ ،‬وتبنوا المنهج المادي التجريبي الذي ينكر ما وراء المادة من‬

‫العلم عدو للدين‪.‬‬


‫أسباب وعلل‪ ،‬فانتهى بهم األمر إلى ادعاء أن َ‬

‫اإللحاد المعاصر بدأ بشكل كبير لدى فالسفة وعلماء‬


‫َ‬ ‫ومع أن‬

‫طبيعة ماديين في الغرب؛ إال أن أفكارهم تسربت إلى بالدنا العربية‬

‫واإلسالمية‪ ،‬وظهر ذلك في مظاهر عدة‪:‬‬

‫‪ -‬التعبير عن التمرد على الدين في عالم إعالمي مفتوح استناداً‬

‫إلى مظاهر تقدم مادي وحضاري للعالم الغربي ويقابله تخلف في‬

‫البالد العربية واإلسالمية‪.‬‬

‫‪ -‬حالة احتقان ورفض لكل مظاهر التدين أو المقدسات‪ ،‬وحتى‬

‫للدين نفسه‬

‫‪ -‬الوقوع في براثن اإللحاد والهزيمة النفسية أمام سطوة العالم‬

‫المادي ومنجزاته وإغراءاته‪ ،‬واألفكار التي يروجها الملحد عن الدين‬


‫‪80‬‬
‫وعن اإلله وعن القيود التي يفرضها التدين على العقل والحياة‪ ،‬والدعوة‬

‫إلى تنحية الدين عن الحياة‪ ،‬والزعم بأنه عدو العقل والحياة‪ ،‬وحجرة‬

‫أمام أي تقدم حضاري‪ ،‬وكان تأثير تلك المواقف خطي ار على اإلنسان‬

‫وعلى العلم نفسه أيضاً‪ ،‬ويمكن أن نجملها في اآلتي‪:‬‬

‫دمرت‬
‫العلم وقوانين الحياة أكثر مما َّ‬
‫َ‬ ‫دمرت‬
‫‪ -‬الرؤية الجديدة َّ‬

‫الالهوت واإليمان (‪ ،)65‬ألَّ َّن الملحدين انطلقوا من فكرة مركزية تعتمد‬

‫النظرة المادية‪ ،‬وتحاول تبني اآلراء وإثبات كل الحقائق على أسس‬

‫وخصوصا بعد أن قامت الثورة العلمية في الغرب‬


‫ً‬ ‫مادية فيزيائية ‪-‬‬

‫بنسف األسس العلمية للمقدسات الدينية‪.‬‬

‫ماديا‪ ،‬مع َّ‬


‫أن‬ ‫كائنا ً‬
‫‪-‬هذه الرؤية اختزلت مفهوم اإلنسان‪ ،‬وجعلته ً‬

‫ماديا فحسب(‪.)66‬‬
‫كائنا ً‬
‫اإلنسان كائن اجتماعي وجمالي وليس ً‬
‫َ‬

‫(‪ )65‬رافي زكراياس‪ :‬الوجه الحقيقي لإللحاد ‪ ،‬ترجمة ماريانا كتكوت‪ ،‬رؤية للطباعة‪ ،‬ص ‪.44‬‬
‫(‪ )66‬راجع‪ :‬رافي زكراياس‪ :‬الوجه الحقيقي لإللحاد ‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪81‬‬
‫‪ -‬ضيقت من مفهوم الحقيقة العلمية‪ ،‬إلى أن أصبحت قاصرة‬

‫على ما يحكم به القانون الفيزيائي فقط‪ ،‬والمقاييس المادية‪.‬‬

‫خروجا عن بدهيات العقل ومقتضيات اإليمان‪،‬‬


‫ً‬ ‫وكل ذلك يعد‬

‫وقوانين العلم‪ ،‬فقضية اإليمان بالغيب وما وراء المادة قضية عقلية‬

‫علمية يختلف منهج التصديق بها‪ ،‬واإليمان بمقتضياتها عن منهج‬

‫البحث في موضوعات تجريبية حسية‪ ،‬لذلك كان اإللحاد الذي يعتز‬

‫باإلنجازات العلمية في مجال الفيزياء والطبيعة‪ ،‬يهدم األسس العلمية‬

‫والمنهجية في إثبات الحقائق‪ ،‬ومن أهمها اإليمان باهلل تعالى‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الثورة العلمية ومبررات اإللحاد في الغرب‬

‫أوالً‪ :‬التقدم العلمي في وجه عصر الظلمات‬

‫ال ينكر أن الثورة العلمية في الغرب كان لها أثر مدمر للمسيحية‬

‫في أوربا إذ أعقبها نزعة شكية إلحادية كبرى جعلت من القرن الثامن‬

‫أكبر عصر للشك في التاريخ الحديث حتى َّ‬


‫إن ملك إنجلت ار كان‬ ‫عشر َ‬
‫‪82‬‬
‫أن نصف أساقفة كنيسته مالحدة(‪ ،)67‬إال َّ‬
‫أن موجة الشك التي‬ ‫يشكو َّ‬

‫امنا مع ثورة علمية وتكنولوجية كبيرة؛ لم يكن َّ‬


‫ألن‬ ‫أعقبها اإللحاد متز ً‬

‫العلم َّ‬
‫قدم أدلة جديدة ومبررات علمية للفكر اإللحادي؛ بل من أهم‬

‫أسبابها َّ‬
‫أن العلماء اكتشفوا التناقضات العجيبة بين ما أنجزه العلم وما‬

‫تضمنه الكتاب المقدس من األساطير والخرافات المنسوبة للدين‪،‬‬

‫مليئا بأخطاء علمية في مجاالت‬ ‫باإلضافة إلى َّ‬


‫أن الكتاب المقدس كان ً‬

‫عدوا للعلم واإلنسانية والتقدم الحضاري‪ ،‬يقول الكاتب‬


‫كثيرة‪ ،‬جعلته ً‬

‫والفيلسوف األمريكي (روبير ج إنجرصول ت ‪ )1899‬في بحثه‬

‫(لننتهي من الكتاب المقدس)‪َّ ":‬‬


‫إن مؤلفي الكتاب المقدس قد أخطأوا‬

‫فيما يتعلق بالخليقة وبعلم الفلك وعلم الجيولوجيا‪ ،‬وبكافة الظواهر‬

‫الطبيعية" (‪ .)68‬ثم يقول‪ " :‬هذا الكتاب قد اضطهد حتَّى الموت أفضل‬

‫(‪ )67‬الدكتور عمرو شريف‪ :‬اإللحاد مشكلة نفسية‪ ،‬نيو بوك‪-‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2016‬ص‪.33‬‬
‫(‪ ) 68‬راجع ‪ :‬د‪ .‬زينب عبد العزيز‪ :‬اإللحاد وأسبابه(الصفحة السوداء للكنيسة) ص ‪. 139‬‬
‫‪83‬‬
‫وسمم منابع المعرفة ‪..‬‬
‫َّ‬ ‫وأحكم األشخاص‪....‬قد أوقف تقدم البشرية‬

‫(‪)69‬‬
‫عدو للحرية اإلنسانية ويمثل أكبر عقبة في طريق التقدم اإلنساني"‬

‫ثانياً‪ :‬اإللحاد المعاصر في مواجهة األفكار السائدة في الثقافة‬

‫المسيحية‪:‬‬

‫باإلضافة إلى األخطاء العلمية التي ارتبطت بالكتاب المقدس‪،‬‬

‫سادت في أوربا حالة من االستياء العام من الكنيسة ورجال الكنيسة‬


‫ْ‬

‫وما ارتبط بتاريخهم من قمع للحريات والفكر‪ ،‬وفرضهم طوًقا من‬

‫التعتيم والظلمات على عقول العلماء والمفكرين‪ ،‬وبرز فكر الشك‬

‫واإللحاد كردة فعل على تعاليم الكنيسة وقوانينها الجائرة التي تصدرها‬

‫والممارسات القمعية بحق َمن يخالفها أو يشكك‬ ‫باسم الرب ‪،‬‬

‫لبثت تلك التعاليم والقوانين أن صبغت الحياة‬


‫ْ‬ ‫بقدسيتها‪ ،‬ثم ما‬

‫االجتماعية في الغرب بصبغتها‪ ،‬تحت تأثير عوامل كثيرة‪.‬‬

‫(‪ ) 69‬د‪ .‬زينب عبد العزيز‪ :‬اإللحاد وأسبابه‪ ،‬ص ‪.145 -137‬‬
‫‪84‬‬
‫وقد وصف (فيكتور هيجو) حال العالم الغربي الذي مهد لظهور‬

‫اإللحاد‪ ،‬فقال‪" :‬ورجال الكليروس يتدخلون في كل شيء حتى في‬

‫البوليس‪ ،‬ورجال المال ال يقدمون حساباتهم إال لرجال الرب‪ ،‬وقد‬

‫أصبح هناك نظامان من الرقابة‪ :‬الرقابة البوليسية‪ ،‬والرقابة الكنسية‪،‬‬

‫واحدة تنهش حرية الرأي‪ ،‬واألخرى تنهش حرية الضمير على أي حال‬

‫(‪)70‬‬
‫لقد أعيدت محاكم التفتيش"‬

‫مهد النفجار أعتى موجة إلحادية لم يشهدها العالم‬


‫كل ذلك َّ‬

‫الغربي من قبل‪ ،‬وكان وقود تلك الموجة اإللحادية وشعارها رفض‬

‫المفاهيم المقدسة في المسيحية التي تتعارض مع المنطق والعلم‬

‫الحديث (‪ ،)71‬وذلك يعد –عند الملحدين‪ -‬من أبرز مبررات اإللحاد‪،‬‬

‫فالكتاب المقدس في كثير من موضوعاته المتعلقة بالعلم مجابه للعلوم‬

‫والنظريات الحديثة‪ ،‬وهذا من أوضح وجوه االختالف بين ظروف العالم‬

‫(‪ ) 70‬راجع ‪ :‬د‪ .‬زينب عبد العزيز‪ :‬اإللحاد وأسبابه(الصفحة السوداء للكنيسة) ص ‪. 109‬‬
‫(‪ )71‬الدكتور عمرو شريف‪ :‬اإللحاد مشكلة نفسية‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪85‬‬
‫الغربي الذي شهد موجة اإللحاد المعاصر‪ ،‬وبين العالم العربي‬

‫واإلسالمي الذي لم يعرف ذلك الصراع بين العلم والدين وبين القرآن‬

‫ومنجزات العلوم‪ ،‬فال شيء من ذلك مصادم للعلم‪ ،‬وال يمكن أن نجد‬

‫وجوها من التناقضات مثل التي كشفتها البحوث العلمية‬


‫ً‬ ‫في القرآن‬

‫الحديثة في مضمون الكتاب المقدس واآلراء التي تبنتها الكنيسة‬

‫والحقت العلماء وعذبتهم من أجلها‪ ،‬بل َّ‬


‫إن الموضوعات القرآنية ذات‬

‫صرح بذلك‬
‫السمة العلمية تتفق مع النظريات العلمية الحديثة‪ ،‬وقد َّ‬

‫موريس بوكاي بعد دراسته للموضوعات ذات السمة العلمية الواردة في‬

‫خاليا من‬ ‫التوراة وإلنجيل والقرآن(‪ ،)72‬وقال َّ‬


‫بأن الوحي القرآني ليس ً‬

‫التناقض فقط؛ بل يظهر لمن يمارس اختباره وتحليله بموضوعية كاملة‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)73‬‬
‫في ضوء العلم‪" :‬االتفاق التام مع النظريات العلمية الحديثة"‬

‫(‪ )72‬موريس بوكاي‪ :‬التوراة واإلنجيل والقرآن والعلم‪ ،‬ترجمة الشيخ حسن خالد‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪-‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة ‪1993‬م‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫(‪ )73‬موريس بوكاي‪ :‬التوراة واإلنجيل والقرآن والعلم‪ ،‬ص ‪.293‬‬
‫‪86‬‬
‫ثالثاً‪ :‬اإللحاد بين العلمية والذاتية‬

‫تقدم القول َّ‬


‫بأن المبرر الذي تبناه اإللحاد المعاصر يتعلق بتطور‬

‫العلوم ومعارضتها للدين والنصوص المقدسة‪ ،‬إال َّ‬


‫أن ذلك في حقيقته‬

‫أسبابا أخرى ودوافع ذاتية ونفسية وظروًفا‬


‫ً‬ ‫شعار براقاً يخفي‬
‫ًا‬ ‫لم يكن إال‬

‫بأن‬ ‫ٍ‬
‫تعليل منطقي أو منهجي يمكن أن يقنعنا َّ‬ ‫اجتماعية‪ ،‬وإال فأي‬

‫التناقضات العلمية أو تطور العلوم ينفي بداية الكون‪ ،‬ووجود خالق له‬

‫ومدبر لشؤونه‪ ،‬وفق قوانين ثابتة وسنن محكمة‪ ،‬وقد كشف (ستيفن‬

‫هوكينغ) في سيرته الذاتية عن األسباب الذاتية في رفض بعض‬

‫العلماء القول بوجود بداية للكون‪ ،‬فقال‪" :‬اتخذ العديد من العلماء‬

‫مناهضا لفكرة وجود بداية ما للكون‬


‫ً‬ ‫مدفوعين على نحو غريزي ً‬
‫موقفا‬

‫وانسحب بالتالي موقفهم المناهض هذا على نظرية االنفجار العظيم‬

‫أن اإليمان بخلق الكون في زمن ما‬


‫ذاتها؛ وذلك بدافع من اعتقادهم َّ‬

‫سيوفر حجة تعمل على تقويض العلم؛ إذ ربما سيجنح الكثيرون حينئذ‬

‫‪87‬‬
‫بأن يد هللا هي من خلقت الكون من‬
‫نحو المواضعات الدينية القائلة َّ‬

‫(‪)74‬‬
‫العدم"‬

‫فـ(ستيفن هوكينغ)‪-‬رغم إلحاده‪ -‬يفضح منهج الماديين والملحدين‬

‫ويشير إلى الدوافع الغريزية والنفسية في تبني أي فرضية علمية تنتهي‬

‫إلى القول بإنكار وجود هللا تعالى‪ ،‬ويقابل ذلك رفض أي فكرة علمية‬

‫منهجية ترسخ اإليمان بوجود هللا تعالى‪ ،‬فعقول الماديين موصدة ضد‬

‫أي كالم علمي عن اإلله والدين؛ وذلك راجع لتعصبهم المقيت ومعاندة‬

‫العلم والحقائق العلمية عندما تتصل بالدين‪ ،‬ولقد عبر عن ذلك‬

‫تعصبا يرجح‬
‫ً‬ ‫الموقف عالم بريطاني فقال‪َّ " :‬‬
‫إن في عقولنا الجديدة‬

‫التفسير المادي للحقائق" (‪ ،)75‬ومثال ذلك ما ذكره (ويتكر شامبرز) في‬

‫كتابه الشهادة عن حادث ‪-‬كان من الممكن أن يصبح نقطة تحول في‬

‫حياته‪ -‬فقال بأنه بينما كان ينظر إلى ابنته الصغيرة استلفتت أذناها‬

‫(‪ )74‬ستيفن هوكينغ ‪ :‬موجز تاريخ حياتي‪ ، :‬ترجمة لطفية الدليمي ‪ ،‬دار بانتام ‪ ،2013‬ص‪; Mustafa 10‬‬
‫‪Ünverdi, “Din Karşıtı Akımların Gençlik Yayınlarındaki İzdüşümü”, VIII Dini‬‬
‫‪Yayınlar Kongresi, 2019, İstanbul, Diyanet İşleri Başkanlığı Yay., Ankara, 2019, 266.‬‬
‫(‪ )75‬راجع‪ :‬وحيد الدين خان‪ :‬اإلسالم يتحدى ص ‪.35‬‬
‫‪88‬‬
‫نظره‪ ،‬فأخذ يفكر في أنه من المستحيل أن يوجد شيء معقد ودقيق‬

‫كهذه األذن بمحض اتفاق؛ بل ال َّبد أنه وجد نتيجة إرادة مدبرة؛ لكنه‬

‫منطقيا بالذات‬
‫ً‬ ‫طرد تلك الوسوسة عن قلبه حتى ال يضطر أن يؤمن‬
‫َ‬

‫التي أرادت فدبَّرت؛ َّ‬


‫ألن ذهنه لم يكن على استعداد لتقبل هذه الفكرة‬

‫األخيرة(‪.)76‬‬

‫وقد أكد صاحب كتاب اإللحاد ومزاعمه العلمية أن " التقريرات‬

‫الواثقة التي يسر بها العلماء في غرفهم الخاصة ويزعمون فيها أنهم قد‬

‫أقل‬
‫برهنوا على عدم وجود هللا‪ ،‬ال عالقة لها بالعلم فضالً عن كونها َّ‬

‫من أن تتعلق بقضية وجود هللا ذاتها"(‪ ،)77‬وإن كان العلم الطبيعي قد‬

‫(‪ )76‬وحيد الدين خان‪ :‬اإلسالم يتحدى ص ‪.35‬‬


‫(‪ )77‬ديفيد بيرلنسكي‪ :‬وهم الشيطان‪ ،‬اإللحاد ومزاعمه العلمية‪ ،‬ترجمة عبد هللا الشهري‪ ،‬مركز دالئل‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪1437‬هـ‪ ،‬ص ‪ ، 20‬والكاتب هو عالم فلسفة ورياضيات يهودي علماني أمريكي‪ ،‬ألف كتابه للرد‬
‫على مزاعم المالحدة بأن العلم يهدم اإليمان‪ ،‬كما أنه قدم األدلة على أن مزاعمهم ال عالقة لها بالعلم‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫برهن على شيء فهو وجود حدود لما يمكننا معرفته‪ ،‬ما يمكننا تمنيه‪،‬‬

‫ما يمكننا الحصول عليه(‪.)78‬‬

‫أي دليل على مزاعمه‪ ،‬وبات مقتنعاً‬


‫فالملحد لم يستطع أن يقدم َّ‬

‫بأن البحث في أدلة علمية على وجود هللا تعالى يصطدم مع مسلماته‬

‫الذاتية وآرائه الشخصية وجملة أفكاره التي تتعصب لكل ما هو من‬

‫فبات ‪ -‬بكل عناد وتحيز ضد العلوم‬


‫َ‬ ‫منجزات العلوم التجريبية‪،‬‬

‫مبرر ذلك بأنه لم يشهد‬


‫منكر وجود هللا تعالى‪ً ،‬ا‬
‫والمناهج العلمية ‪ً -‬ا‬

‫نقضا لقانون العلم‬


‫اإلله بميزانه الحسي وقانونه الفيزيائي‪ ،‬وهذا يعد ً‬

‫الذي يزعم أنه يتمسك به‪.‬‬

‫ولذلك يمكن القول بأن هذه النزعة الشكية اإللحادية الكبرى‬

‫وإنكار أساسيات النظرة الدينية لم تكن مشكلة علمية على اإلطالق أو‬

‫مشكلة موضوعية‪ ،‬بل كانت مشكلة ذاتية‪ ،‬فقضية اإللحاد في المقام‬

‫(‪ ) 78‬راجع‪ :‬ديفيد بيرلنسكي‪ :‬وهم الشيطان‪ ،‬اإللحاد ومزاعمه العلمية‪ ،‬ـ‪ ،‬ص ‪.261‬‬
‫‪90‬‬
‫األول واألخير نفسية تحتاج إلى حلول نفسية قبل كونها بحاجة إلى‬

‫حشد حجج وأدلة أو سياقات معرفية عقلية(‪.)79‬‬

‫وإال فكيف نفهم أن الثورة العلمية أدت إلى زلزلة النظرة الدينية‬

‫للعالم بالرغم من أنه سواء كانت األرض هي مركز الكون أو كانت‬

‫فإن ذلك في قانون العلم‬


‫مجرد تابع صغير يدور في فلك الشمس‪َّ ،‬‬

‫وهذا ما أكده‬ ‫(‪)80‬‬


‫ومناهجه ال يمنع من وجود إله خالق لكل شيء‬

‫بشكل صريح موريس بوكاي في نقده لمحاولة الربط بين اإللحاد‬

‫واإلنجازات العلمية‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬


‫إن وجود هذه التضادات واالستحاالت‬

‫والتناقضات ال تخدش اإليمان باهلل مطلًقا‪ ،‬ولكنها تثير موضوع‬

‫(‪ )79‬د‪.‬أحمد عكاشة‪ ،‬مقدمة كتاب اإللحاد مشكلة نفسية‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫(‪ )80‬الدكتور عمرو شريف‪ :‬خرافة اإللحاد‪ ،2016 ،‬ص‪ ،24‬اإللحاد مشكلة نفسية‪ ،‬نيو بوك‪-‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى ‪ ،2016‬ص‪.34‬‬
‫‪91‬‬
‫بعيدا عن‬
‫مسؤولية البشر في نقل النصوص المقدسة والمحافظة عليها ً‬
‫(‪)81‬‬
‫الهوى أو التغيير والتصرف فيها‬

‫فهناك خلل علمي ومنطقي في البناء اإللحادي وأصل نظرته‬

‫للعلوم ومناهجها‪....‬فال يوجد أي معنى مقبول يمكن االستناد إليه في‬

‫استشهاده بتطور البحوث العلمية وتنامي اإلنجازات البشرية‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬نقض الشبهة العلمية للفكر اإللحادي‪:‬‬

‫َّ‬
‫إن أسس الفكر اإللحادي تقوم على تناقضات ومزاعم كثيرة من‬

‫أهمها‪ ،‬اختزاله للمنهج العلمي في جانبه المادي‪ ،‬وإنكار الملكات غير‬

‫المادية أو فهمها وفق القوانين الفيزيائية‪ ،‬وزعمه َّ‬


‫أن العلم أجاب عن‬

‫األسئلة الوجودية وغيرها‪ ،‬وهذا ما سأناقشه في هذا المبحث‪ ،‬وأبين‬

‫تناقضه ومزاعمه الباطلة‬

‫(‪ )81‬موريس بوكاي‪ :‬التوراة واإلنجيل والقرآن والعلم‪ ،‬ترجمة الشيخ حسن خالد‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪-‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة ‪1993‬م‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪92‬‬
‫أوالً‪ :‬الفكر اإللحادي يقوم على الفكر المادي وليس البرهان‬

‫العلمي‪:‬‬

‫إن جذور الفلسفة المادية التي تبناها اإللحاد المعاصر تمتد إلى‬

‫(أوغست كونت) الفيلسوف الفرنسي رائد الفلسفة الوضعية‪ ،‬وفلسفته‬

‫تنكر كل ما ال يمكن رصده‪ ،‬رافضة كل تفكير في الغيبيات وعلى‬

‫رأسها اإلله‪.‬‬

‫ولكن عصر الفلسفة الوضعية ينتهي عندما يعلن منظرها‬

‫األكبر(سير ألفريدآير) أن هذه الفلسفة مليئة بالتناقض‪ ،‬وأنه ال يمكننا‬

‫تطبيق قواعد البحث في العلوم التجريبية التي تعتمد على الحواس‬

‫كالكيمياء والفيزياء على العلوم اإلنسانية كالفلسفة والمنطق واألخالق‪،‬‬

‫وال يمكن دراسة المفاهيم الدينية بمقاييس المفاهيم العلمية‪ ،‬فال ينبغي‬

‫إن هللا موجود‪ ،‬وخالق للكون‪ ،‬ومدبر لشؤون‬


‫مثالً فهم مقولة‪َّ :‬‬

‫‪93‬‬
‫المخلوقات‪ ،‬بمفاهيم المكان في فيزياء (نيوتن) أو فيزياء (أينشتين)؛‬

‫(‪)82‬‬
‫وبذلك قام إعالن موت الفلسفة الوضعية المنطقية ودفنها‬

‫فاألب الحقيقي لإللحاد المعاصر هو الفكر المادي الذي أعاد‬

‫إحياء الفلسفة الوضعية المنطقية بعد موتها‪ ،‬تلك الفلسفة التي تطلب‬

‫مباشرا‪ ،‬وقد‬
‫ً‬ ‫منطقيا‬
‫ً‬ ‫ياضيا أو‬
‫يبيا أو ر ً‬
‫هانا تجر ً‬
‫لكل افتراض أو مسألة بر ً‬

‫عبر عن ذلك الموقف كبار الفالسفة الماديين‪ ،‬وأشهر الملحدين‪،‬‬


‫َّ‬

‫ومنهم‪:‬‬

‫(أنتوني فلو) الذي أعلن مقولته الشهيرة التي تمثل اإللحاد‬

‫ملحدا حتى‬
‫ً‬ ‫المعاصر‪-‬قبل أن يترك اإللحاد‪َّ -‬‬
‫إن على المرء أن يبقى‬

‫أقر في كتابه‬
‫يجد الدليل التجريبي على وجود هللا‪ ،‬ولكنه بعد ذلك َّ‬
‫َ‬

‫(‪ )82‬الدكتور عمرو شريف‪ :‬اإللحاد مشكلة نفسية‪ ،‬ص‪ ، 39-38‬آينشتاين ألبرت‪ :‬فيزيائي ألماني من عباقرة‬
‫عددا من النظريات في الفيزياء أدخلت مفاهيم جديدة للزمان والمكان والحركة والضوء والجاذبية‪.‬‬
‫العلماء‪ ،‬وضع ً‬
‫‪94‬‬
‫جدا إلى نتيجة عدم‬
‫(هناك إله) بأنه وصل بصورة متعجلة وسطحية ً‬
‫(‪)83‬‬
‫جدا‬
‫أسبابا خاطئة ً‬
‫ً‬ ‫وجود إله‪ ،‬ثم تبين له بعد ذلك أنها كانت‬

‫وأيضا ( ديفيد هيوم ) بقوله‪ :‬إننا قد رأينا الساعات وهي تصنع‬

‫في المصانع ولكننا لم نر الكون وهو يصنع‪ ،‬فكيف نسلم َّ‬


‫بأن له‬

‫صانعا(‪.)84‬‬

‫كما حاول مؤلف كتاب (هللا الفرضية الفاشلة) أن يقحم علم‬

‫الفيزياء وعلوم الطبيعة في قضية وجود هللا تعالى‪ ،‬واالعتماد على‬

‫نتائج العلوم التجريبية‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬


‫"إن العلم قد أحدث ثورة في كل مجال‬

‫من الحياة البشرية ووضح بشكل كبير فهمنا للعالم فقد نشأت بشكل ما‬

‫(‪ ) 83‬أنتوني فلو‪ :‬هناك إله‪ ،‬ترجمة الدكتور صالح الفضلي‪ ،‬مراجعة وتعليق الدكتور الشيخ مرتضى فرج‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪1438‬م‪ ،‬ص ‪ ،19‬وانظر‪ :‬الدكتور صالح فضلي‪ :‬مقدمة كتاب أنتوني فلو‪ :‬هناك إله‪ ،‬ص ‪3‬‬
‫‪ ،‬في عام ‪ 2004‬وبعد خمسين سنة من اإللحاد والدفاع عنه‪ ،‬أعلن أنتوني فلو عن تحوله إلى اإليمان وتخليه‬
‫كتابا نسخ كل كتبه السابقة وسماه(هناك إله) وقال في مقدمة‬
‫عن اإللحاد بعد أن كان أبرز منظريه ‪ ،‬وكتب ً‬
‫كتابه‪ :‬أما اآلن فقد انتهيت إلى القناعة بان أعرض فيه ما يمكن تسميته وصيتي وشهادتي األخيرة باختصار‪،‬‬
‫إلها ( ص ‪.)5‬‬
‫وكما يدل عنوان الكتاب أنا أعتقد اآلن بأن هناك ً‬
‫وحيد الدين خان‪ :‬اإلسالم يتحدى‪ ،‬تعريب‪ :‬دكتور ظفر اإلسالم خان‪ ،‬مراجعة وتحقيق الدكتور عبد‬ ‫(‪)84‬‬
‫الصبور شاهين‪ ،‬مكتبة الرسالة‪ ،‬ص ‪12‬‬
‫‪95‬‬
‫فكرة أنه ال يملك ما يقوله حول كائن أسمى يعبده معظم البشرية‬

‫موجودا "ال بد أن‬


‫ً‬ ‫كمصدر لكل الحقيقة" (‪ ،،)85‬ثم زعم َّ‬
‫بأن هللا لو كان‬

‫(‪)86‬‬
‫يظهر في مكان ما ضمن فراغات أو أخطاء النماذج العلمية"‬

‫وبذلك وقع األخير في خلل علمي ومنطقي؛ ألنه يريد أن يجعل من‬

‫عدم وجود دليل حسي وفيزيائي على وجود هللا تعالى بطالن وجوده‪،‬‬

‫وقد َّألف كتابه لهذه الغاية وجعل منه شاهد زور على عدم وجود هللا‬

‫(‪ ،)87‬فالقاعدة التي استند إليها مع غيره من الملحدين َّ‬


‫أن انعدام الدليل‬

‫قد يكون دليالً على العدم‪ ،‬وأقاموا على ذلك بر ً‬


‫هانا سموه برهان غياب‬

‫سببا آخر لالعتقاد بكيان ما فيمكننا‬


‫األدلة‪ ،‬فحين ال نملك أدلة أو ً‬

‫التأكد َّ‬
‫أن هذا الكيان غير موجود(‪ ،)88‬وهي قاعدة مبتورة قد تصلح في‬

‫جانب واحد من جوانب الحقيقة العلمية وهو الوجود الحسي‪ ،‬إال أنها ال‬

‫(‪ )85‬فيكتور جون ستينجر‪ :‬هللا النظرية الفاشلة‪ ،‬ترجمة الدكتور كمال طاهر‪ ،2012 ،‬ص ‪.17‬‬
‫(‪ )86‬السابق‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫(‪ )87‬فيكتور جون ستينجر‪ :‬هللا النظرية الفاشلة ‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫(‪ )88‬السابق‪ ،‬ص‪.27-25‬‬
‫‪96‬‬
‫تصلح أن تكون قاعدة إلثبات جملة الحقائق المتعلقة بالعلوم الغيبية‬

‫وقضايا اإليمان واالعتقادات‬

‫طبيعيا لفلسفة تعتمد على االختبار الحسي والفرضيات‬


‫ً‬ ‫فكان‬

‫المستندة على العلم التجريبي أن ترفض جميع العلوم اإلنسانية والدينية‬

‫التي ال تقوم على البراهين الحسية‪ ،‬وهذا يؤكد لنا أن المالحدة الجدد لم‬

‫يدركوا نقاط الضعف الجذرية في بنية الفلسفة الوضعية المنطقية‬

‫البائدة التي يسعون إلحيائها‪ ،‬وأهم هذه النقاط تطبيق المنهج العلمي‬

‫التجريبي على العلوم اإلنسانية‪ ،‬كما أنهم لم يطلعوا على الكم الهائل‬

‫من الدراسات الفلسفية الجديدة وال على البراهين القوية وتوسع المناهج‬

‫العلمية في إثبات الحقائق التي قدمها العلم وصارت تخدم قضية‬

‫اإليمان‪.‬‬

‫ففي القرن العشرين تلتقي الفيزياء ومبحث األعصاب وعلم‬

‫النفس اإلنساني وعلوم الطبيعة على َّ‬


‫أن الحقائق اإليمانية والملكات‬

‫‪97‬‬
‫وجودا حقيقياً‪ ،‬ومن‬
‫ً‬ ‫الفكرية ليست جزًءا من الوجود المادي‪ ،‬وأن لها‬

‫أمثلة ذلك اعتماد المناهج العلمية الحديثة عدم قابلية إرجاع العقل إلى‬

‫مادة‪ ،‬ذلك َّ‬


‫أن المادية ال تعترف إال بنوعين من العلل‪ :‬الصدفة‬

‫والضرورة‪ ،‬ولكن ًأيا من هذين النوعين عاجز عن تفسير العمليات‬

‫العقلية‪ ،‬كما أنه عاجز عن تفسير الجمال المشاهد في الطبيعة‪،‬‬

‫فالنظرة القديمة حين يتعذر عليها تفسير الحقائق الروحية بلغة المادة‬

‫وحدها تفزع في الغالب إلى المستقبل مفترضة َّ‬


‫أن الجواب سيأتي بعد‬

‫قرن أو قرنين آخرين من البحوث‪ ،‬وهي وعود مسرفة وغير قابلة‬

‫لإلنجاز‪ ،‬أما النظرة الجديدة فهي على نقيض ذلك تأسست على ما هو‬

‫معروف اآلن ال على اكتشاف خيالي يأتي به المستقبل‪ ،‬والحلم العقيم‬

‫تفسير للعقل أو لحرية اإلرادة‬


‫ًا‬ ‫بأن يأتي يوم تستطيع فيه المادة أن تقدم‬

‫(‪)89‬‬
‫أو للجمال‬

‫(‪ ) 89‬راجع‪ :‬روبرت م‪ .‬أغروس‪ ،‬جورج ن‪ .‬ستانسيو‪ :‬العلم في منظوره الجديد‪ ،‬ص ‪ ،128-126‬الدكتور‬
‫عمرو شريف‪ :‬اإللحاد مشكلة نفسية‪ ،‬ص‪.46‬‬
‫‪98‬‬
‫وفي كتاب (هللا يتجلى في عصر العلم) ثالثون مقاالً لثالثين من‬

‫كبار العلماء األمريكيين في االختصاصات العلمية المختلفة من علوم‬

‫الكون السائدة في هذا العصر الحديث‪ ،‬وقد أثبت هؤالء العلماء في‬

‫مقاالتهم هذه وجود هللا جال وعال عن طريق ما وعوه من األدلة الكثيرة‬

‫المنبثة في مجاالت اختصاصاتهم العلمية (‪.)90‬‬

‫فالحقائق العلمية قد تثبت بالتجربة‪ ،‬وقد تثبت باالستنباط‪ ،‬وما يتم‬

‫التوصل إليها باالستنباط هي حقائق ثابتة‪ ،‬ال فرق بينها وبين ما‬

‫توصلنا إليه بالتجربة ‪ ،‬فالحقيقة هي الحقيقة مهما اختلفت وسائل‬

‫الوصول إليها‪ ،‬فحقائق الكون ال تدرك الحواس منها غير قليل‪ ،‬فكيف‬

‫شيئا عن الكثير اآلخر‪ ،‬فهناك االستنباط أو التعليل‪ ،‬وكالهما‬


‫نعرف ً‬

‫طريق فكري نبتدئ به بوساطة حقائق معلومة لنستنبط أشياء لم‬

‫(‪ )90‬راجع‪ :‬هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬نخبة من العلماء األمريكيين‪ ،‬تحرير‪ :‬جون كلوفرمونسيما‪ ،‬ترجمة الدكتور‬
‫الدمرداش عبد المجيد سرحان‪ ،‬راجعه وعلق عليه‪ :‬جمال الدين الفندي‪،‬دار القلم‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪ ، 10-8‬صراع‬
‫مع المالحدة حتى العظم ‪ ،‬ص‪.115‬‬
‫‪99‬‬
‫نشاهدها(‪.)91‬فاإلله الذي نسلم بوجوده ال ينتمي إلى عالم الماديات وال‬

‫تستطيع حواسنا المحدودة أن تدركه‪ ،‬فمن العبث أن نحاول إثباته‬

‫(‪)92‬‬
‫باستخدام العلوم الطبيعية والتجربة المباشرة‬

‫فالعقل الحديث ال يحصر دائرة العلم في وقائع يمكن تجربتها‬

‫أي قرينة منطقية تستند إلى تجارب‬


‫مباشرة وإنما يعتمد على أن َّ‬

‫ومشاهدات غير مباشرة يمكن أن تصبح حقيقة علمية بنفس درجة‬

‫(‪)93‬‬
‫الحقائق العلمية التي نتمكن من مشاهدتها مباشرة‬

‫ثانياً‪ :‬حقيقة الملكات غير المادية‪:‬‬

‫إن المناهج العلمية الحديثة تؤكد ما استقر عليه العلم وأثبتته‬

‫البراهين العقلية والمنطقية‪ ،‬من وجود جوانب غير فيزيائية ال تقل‬

‫(‪ )91‬راجع‪ :‬وحيد الدين خان‪ ،‬اإلسالم يتحدى ‪ ،‬ص ‪.42-41‬‬


‫هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬نخبة من العلماء األمريكيين‪ ،‬تحرير‪ :‬جون كلوفرمونسيما‪ ،‬ترجمة الدكتور‬ ‫(‪)92‬‬
‫الدمرداش عبد المجيد سرحان‪ ،‬راجعه وعلق عليه‪ :‬جمال الدين الفندي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.19‬‬

‫(‪ ) 93‬راجع‪ :‬وحيد الدين خان‪ :‬الدين في مواجهة العلم‪ ،‬ترجمة ظفر اإلسالم خان‪ ،‬دار النفائس‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة الرابعة ‪1987‬م‪ ،‬ص ‪.23 ،21‬‬
‫‪100‬‬
‫مكانتها والحاجة إليها عن الجوانب الفيزيائية‪ ،‬بل تتفوق عليها؛ فالنظرة‬

‫العلمية الجديدة تبين َّ‬


‫أن حياة اإلنسان الفكرية وحياته األخالقية وحياته‬

‫تماما مثل حياته البيولوجية‪ ،‬قال عالم‬


‫ً‬ ‫الروحية هي حقائق‬

‫النفس(أبراهام ماسلو ‪ )Abraham maslow‬في رده على الذين‬

‫يحصرون جميع األنشطة اإلنسانية في دائرة الدوافع والغرائز‪ :‬هناك‬

‫حاجات أسمى غير مادية‪ ،‬هي أيضاً أساسية؛ فإذا كان العقل ليس من‬

‫صنع المادة ‪ -‬كما هي نظرة العلم الجديدة‪ -‬فهذا يعني َّ‬


‫أن له حياة‬

‫خاصة به مستقلة عن المادة وعن الغرائز‪ ،‬فعلم النفس في نظرته‬

‫الجديدة يقر َّ‬


‫بأن العقل والعزيمة هما أسمى ملكات اإلنسان‪ ،‬وهذه‬

‫النظرة تعيد العقل إلى مكانته فوق المادة ال تحتها أو خارجها أو‬

‫جانبها‪ ،‬فالعقل واإلرادة ال يسيطران على الجسد فحسب؛ بل يسيطران‬

‫(‪)94‬‬
‫أيضا على االنفعاالت ويبطالنها عند الضرورة‬
‫ً‬

‫(‪ ) 94‬انظر‪ :‬روبرت م‪ .‬أغروس‪ ،‬جورج ن‪ .‬ستانسيو‪ :‬العلم في منظوره الجديد‪ ،‬ص ‪.86-83‬‬
‫‪101‬‬
‫فقدرتنا على التجربة والمالحظة ال تستطيع أن تمتد لكل الملكات‬

‫نسبيا من الحقيقة الكلية؛‬


‫اإلنسانية؛ بل إنها ال تمتد لغير جزء ضئيل ً‬

‫وكذلك شأن كل الحقائق التي نؤمن بها وال تنتمي لعالم الماديات‪،‬‬

‫فماذا عن الفلسفة واألدب والفن والموسيقى وعلم األخالق‪ ،‬كيف يحكم‬

‫العلم َّ‬
‫بأن قصيدة ما سيئة أو أنها إبداع كبير‪ ،‬هل يمكن ذلك عن‬

‫طريق إحصاء عدد الكلمات أو معرفة ترتيب الحروف‪ ،‬كيف يحكم‬

‫العلم َّ‬
‫أن لوحة ما تمثل قطعة ثمينة وليست مجرد تلويث للقماش‬

‫باأللوان‪ ،‬ال شك أن ذلك لن يكون بالتحليل الكيميائي لألصباغ‬


‫(‪)95‬‬

‫فاإلدراك الحسي حقيقة ؛ ولكنه ليس المادة وال هو من خواص‬

‫المادة‪ ،‬وليس في مقدور المادة أن تفسره‪ ،‬فليس عند المادية ما تقوله‬

‫في عمليات اإلبصار والشم والذوق والسمع واللمس‪ ،‬وكذلك العقل‪،‬‬

‫(‪ )95‬صراع مع المالحدة حتى العظم‪ ،‬ص‪.57‬‬


‫‪102‬‬
‫فالنظرة الجديدة تفترض وجود عنصرين جوهريين في اإلنسان‪ ،‬الجسم‬

‫والعقل(‪.)96‬‬

‫فالتفكير اإللحادي الذي يرتبط بحدود المادة ‪-‬التي لم يشهد العلم‬

‫حتى العصر الحاضر إال القليل منها‪ -‬يشبه موقف األعمى الذي ينكر‬

‫وجود األلوان؛ ألنه ال يراها أو األصم الذي ينكر وجود األصوات؛ ألنه‬

‫ال يسمعها‪ ،‬أو موقف الحمقاء حبيسة القصر التي ترى َّ‬
‫أن الوجود كله‬

‫هو هذا القصر الذي تعيش فيه؛ َّ‬


‫ألنها لم تشاهد في حياتها غيره‪ ،‬فما‬

‫حظ هؤالء من العلم واألمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع!‪ ،‬كذلك‬

‫الملحدون ال حظ لهم من العلم واألمانة العلمية ومطابقة الحقيقة‬

‫والواقع؛ إذ ينكرون الخالق جال وعال ويصرون على إنكاره وال يملكون‬

‫احدا على نفي وجوده(‪.)97‬‬


‫دليالً و ً‬

‫(‪ ) 96‬روبرت م‪ .‬أغروس‪ ،‬جورج ن‪ .‬ستانسيو‪ :‬العلم في منظوره الجديد‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫وحيد الدين خان‪ :‬اإلسالم يتحدى‪ ،‬تعريب‪ :‬دكتور ظفر اإلسالم خان‪ ،‬مراجعة وتحقيق الدكتور عبد‬ ‫(‪)97‬‬
‫الصبور شاهين‪ ،‬مكتبة الرسالة‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪103‬‬
‫كما َّ‬
‫أن توقع العثور على ملكة العقل في أحد أجزاء الدماغ أو‬

‫في الدماغ كله أشبه بتوقع كون المبرمج جزًءا من الحاسبة اإللكترونية‪،‬‬

‫والمصور جزًءا من الصورة‪ ،‬والرسام يقبع في زاوية من رسوماته‪ ،‬يقول‬

‫عالم األحياء(أدولف بورتمان)‪ :‬ما من كمية من البحث عن النسق‬

‫أبدا أن تقدم صورة كاملة للعمليات‬


‫الفيزيائي أو الكيميائي يمكنها ً‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)98‬‬
‫النفسية والروحية والفكرية"‬

‫وإن جراح األعصاب( ويلدر بنفيلد) صاحب كتاب( لغز العقل)‪،‬‬

‫العقل كما هي النظرة المادية‬


‫َ‬ ‫بدأ أبحاثه بهدف إثبات أن الدماغ يفسر‬

‫القديمة التي تبناها اإللحاد‪ ،‬غير َّ‬


‫أن األدلة حملته آخر األمر‪ -‬وبعد‬

‫إجراء عمليات جراحية على أدمغة ما يربو على ألف مريض‪ -‬على‬

‫اإلقرار بأن العقل البشري واإلرادة البشرية حقيقتان غير ماديتين‪،‬‬

‫(‪ ) 98‬روبرت م‪ .‬أغروس‪ ،‬جورج ن‪ .‬ستانسيو‪ :‬العلم في منظوره الجديد‪ ،‬ترجمة الدكتور كمال خاليلي‪ ،‬عالم‬
‫المعرفة‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪1989 ،‬م‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫‪104‬‬
‫وقال‪ " :‬يا له من ٍ‬
‫أمر مثير أن نكتشف َّ‬
‫أن العالم يستطيع بدوره أن‬

‫يؤمن عن حق بوجود الروح"(‪.)99‬‬

‫ثالثاً‪ :‬إجابات العلم‪:‬‬

‫َّ‬
‫إن منجزات العلم ووسائله تشهد بأنه أجاب عن الجزء الخاص‬

‫بوجود األشياء المادية دون اإلجابة عن حقيقتها وغايتها وسبب‬

‫وجودها‪ ،‬ومن وضعها ؟ وهي األسئلة التي يعترف الملحد بأنه لم يجب‬

‫عنها وأنه تجاوزها‪ ،‬بل أغمض عينيه عنها‪ ،‬ويعبر عن ذلك الموقف‬

‫ستيفن هوكينغ بقوله‪ :‬الدين ال مكان له؛ ألنه يطرح أسئلة من أين‬

‫وإلى أين ولماذا‪...‬؟ وقال‪ :‬إن العلم بإجابته عن كيف فقد عوضنا‬

‫معنيا باإلجابة عن لماذا(‪ .)100‬وهذا‬


‫باإلجابة عن لماذا‪ ،‬ثم قال‪ :‬لست ً‬

‫اعتراف منه وإقرار بأن الجانب المهم في الحقيقة لم يستطع العلم‬

‫(‪ ) 99‬روبرت م‪ .‬أغروس‪ ،‬جورج ن‪ .‬ستانسيو‪ :‬العلم في منظوره الجديد‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫(‪https://www.youtube.com/watch?v=vvjxMP6zH58. )100‬‬
‫‪105‬‬
‫وتسليما منه‬
‫ً‬ ‫معنيا به‪ ،‬عناداً‬
‫المادي أن يجيب عنه‪ ،‬وزعم بأنه ليس ً‬

‫بموقف المنكر لوجود اإلله وصانع العالم وقوانينه التي تسيره‪.‬‬

‫فالعلم الذي يستدل به الملحدون على إنكار اإلله والدين‪ ،‬لم‬

‫يستطع أن يجيب عن أهم أسئلة العلم وأخطر قضية تتعلق بالوجود‬

‫البشري والوجود الكوني‪ ،‬وهي حقيقة وجود األشياء وغاياتها ‪.‬‬

‫وقد أدرك رجال العلوم أن وسائلهم وإن كانت تستطيع أن تبين لنا‬

‫بشيء من الدقة والتفصيل كيف تحدث األشياء‪ -‬اإلجابة عن كيف‪-‬‬

‫كما هو الحال في الزلزال الذي وقع صباح السادس من شباط‬

‫‪2023‬م‪ ،‬وقتل عشرات اآلالف في جنوب تركيا وشمال سوريا(‪،)101‬‬

‫فإنها ال تزال عاجزة كل العجز عن أن تبين لنا لماذا تحدث األشياء‪-‬‬

‫(‪ )101‬وهو زلزال قهرمان مرعش أو زلزال تركيا وسوريا‪ ،‬وهم في الحقيقة عدة زالزل في يوم واحد‪ ،‬زلزاالن تجاو از‬
‫صباحا ‪ ،‬وبلغت قوته ‪ 7.8‬درجة على مقياس ريختر‪ ،‬والثاني في الساعة‬
‫ً‬ ‫درجة ‪ ،7‬وقع األول في الساعة ‪4:17‬‬
‫‪ 13.24‬ظهرا‪ ،‬بقوة ‪ 7.5‬على مقياس ريختر‪ ،‬ويعد هذا الزلزال من أقوى الزالزل في تاريخ تركيا وسوريا‪ ،‬وحسب‬
‫مصابا‪،‬‬
‫ً‬ ‫اإلحصائيات األولية فقد تجاوز عدد القتلى في تركيا وسوريا جراء الزلزال ‪ 50‬ألف قتيل و‪120000‬‬
‫ار مادية جسيمة في كال البلدين‪،‬‬
‫وخلفا أضرًا‬
‫‪https://ar.wikipedia.org/wiki/%D‬‬
‫‪106‬‬
‫اإلجابة عن لماذا‪ ،)102(-‬قال (ستيفن هوكينغ ) ‪َّ :‬‬
‫إن قوانين الطبيعة‬

‫تخبرنا بالكيفية التي يتصرف بها الكون؛ لكنها ال تجيب على أسئلة‬

‫هروبا من اإلجابة ‪" :‬من الممكن اإلجابة على تلك‬


‫ً‬ ‫لماذا‪ ،‬ثم قال‬

‫األسئلة بوضوح في مجال العلم من دون استحضار أي قوى غيبية"‬

‫(‪)103‬‬

‫أم أن‬ ‫فهل حًقا استطاع العلم اإلجابة عن تلك األسئلة ؟‬

‫اإلجابات اقتصرت على الجانب المادي الفيزيائي؟ جواب ذلك نجده‬

‫وكثير ما طلبت إلى‬


‫ًا‬ ‫عند أحد علماء الفيزياء األكاديميين‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ٍ‬
‫مادي مثل(الفكرة) وطلبت إليهم أن‬ ‫غير‬
‫شيئا َ‬
‫تالميذي أن يصفوا لي ً‬

‫يبينوا لي التركيب الكيماوي للفكرة وطولها بالسنتيمترات ووزنها‬

‫بالجرامات ولونها وضغطها وأن يصفوا لي شكلها وصورتها‪ ،‬وقد‬

‫وصار من الواضح أنه لكي نصف‬


‫َ‬ ‫جميعا عن تحقيق ذلك‪،‬‬
‫ً‬ ‫عجزوا‬

‫(‪ ) 102‬راجع‪ :‬هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬نخبة من العلماء األمريكيين ‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫(‪ )103‬ستيفن هوكينج ‪ :‬التصميم العظيم ‪ ،‬ص ‪.206‬‬
‫‪107‬‬
‫أمر غير مادي ال َّبد من استخدام مصطلحات وأوصاف أخرى تختلف‬
‫ًا‬

‫كثير عن المصطلحات التي نستخدمها في دائرة العلوم(‪.)104‬‬


‫اختال ًفا ًا‬

‫ملتمسا‬ ‫أن قوانين الطبيعة التي َّ‬


‫تكلم عنها ستيفن هوكينغ‬ ‫كما َّ‬
‫ً‬

‫هروبا من اإلقرار بوجود القوة اإللهية‪ ،‬ما تزال وستبقى‬


‫ً‬ ‫اإلجابات عندها‬

‫عاجزة عن معرفة البدايات بالمعنى األصيل للكلمة وعاجزة عن معرفة‬

‫حقيقة سؤال كيف‪ ،‬ناهيك عن سؤال لماذا (‪ ،)105‬فال يستطيع أي‬

‫قانون طبيعي أن يشرح أو يعلل األسباب التي وراء كل ما يحدث‪ ،‬فقد‬

‫أبان لنا العلم عن كثير من األشياء التي لم نكن على علم بها‪َّ ،‬‬
‫ولكنه‬

‫محل الدين الذي يجيب عن سؤال آخر‪ ،‬فلو أن‬


‫َّ‬ ‫لم يستطع أن يحل‬

‫الكشوف زادت مليو َن ضعف عنها اليوم فسوف تبقى اإلنسانية بحاجة‬
‫َ‬

‫إلى الدين‪ ،‬فما الكون على حاله هذه إال كمثل ما كينة تدور تحت‬

‫(‪ ) 104‬هو ميريت ستانلي كونجدن عضو الجمعية األمريكية الطبيعية‪ ،‬ومختص بالفيزياء وعلم النفس وفلسفة‬
‫العلوم‪ ،‬راجع‪ :‬هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬نخبة من العلماء األمريكيين‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫(‪ )105‬راجع‪ :‬رافي زكراياس‪ :‬الوجه الحقيقي لإللحاد ‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪108‬‬
‫غطائها‪ ،‬ال نعلم عنها إال أنها تدور‪ ،‬ولكنا لو فتحنا غطاءها فسوف‬

‫نشاهد كيف ترتبط هذه الماكينة بدوائر وتروس كثيرة يدور بعضها‬

‫ومنطقيا أن مشاهدتنا‬
‫ً‬ ‫ببعض ونشاهد حركاتها كلها‪... ،‬هل يفهم علمياً‬

‫هذه أثبتت َّ‬


‫أن الماكينة جاءت من تلقاء ذاتها وتقوم بدورها ذاتياً‪ ،‬فإذا‬

‫سلمنا بأن هذه االستدالل ليس علمياً وال منطقياً‪ ،‬فكذلك األمر في كل‬

‫مشاهدات وعمليات الكون التي ال يمكن للعلم الحسي أن يثبت أنها‬

‫(‪)106‬‬
‫ذاتيا‬
‫تلقائيا وتتحرك ً‬
‫ً‬ ‫تسير‬

‫أن العلم أوجد الكون من‬


‫ومثال آخر على ما زعمه الماديون من َّ‬

‫مادة‪ ،‬وأنه ال أثر للخالق فيه‪ ،‬وبالتالي فال حاجة مع وجود هذه العلوم‬

‫واالكتشافات إلى القول بالخالق‪ ،‬وقالوا متعالين‪ :‬لقد كان اإلنسان القديم‬

‫يعتقد أن خروج الكتكوت من البيضة إنما كان بقدرة إلهية‪ ،‬أما اليوم‬

‫يوما يظهر على منقاره قرن صغير‬ ‫فقد علمنا َّ‬


‫أن الكتكوت بعد ‪ً 21‬‬

‫(‪ )106‬وحيد الدين خان‪ :‬اإلسالم يتحدى‪ ،‬ص ‪.23-22‬‬


‫‪109‬‬
‫يستعمله في تكسير قشرة البيضة فيخرج منها ثم يزول هذا القرن بعد‬

‫(‪)107‬‬
‫بضعة أيام من خروجه من البيضة‪.‬‬

‫إنهم حين يقفون عند هذا الحد في خلق الكتكوت تفوتهم أمور‬

‫كثيرة ال يستطيعون الجواب عنها هي أشد من تكسير البيضة‪ ،‬إذ يقال‬

‫لهم‪ :‬كيف يظهر هذا القرن؟ إن السبب الحقيقي سوف يتجلى ألعيننا‬

‫حين نبحث عن العلة التي جاءت بهذا القرن‪ ،‬العلة التي كانت على‬

‫بأن الكتكوت يحتاج لهذا القرن ليخرج من البيضة‬


‫(‪)108‬‬
‫معرفة تامة َّ‬

‫فال يمكن للماكينة أن تعمل وحدها بشكل منتظم ودقة متناهية‬

‫بمجرد وجود الجسم المادي واألجزاء التي تتكون منها‪ ،‬وال يمكن تعليل‬

‫ظهور قرن صغير للكتكوت لكسر البيضة بمجرد معرفة المدة التي‬

‫يحتاج فيها إلى هذا القرن من أجل الخروج‪ ،‬كما ال يمكن لهذا الكون‬

‫بكل مكوناته المادية وتنظيمه وإحكامه أن يسير وفق قانون آلي‪ ،‬دون‬

‫(‪ )107‬راجع‪ :‬وحيد الدين خان‪ :‬الدين في مواجهة العلم‪ ،‬ص ‪.67‬‬
‫(‪ )108‬وحيد الدين خان‪ :‬اإلسالم يتحدى‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪110‬‬
‫أن يضطرنا ذلك لإليمان بوجود القوة اإللهية التي وراء كل ما نشاهده‬

‫من وجود النظام واإلحكام؛ فالتفكير العميق في كل تلك األمثلة‬

‫(‪)109‬‬
‫واألسئلة وحركات الكائنات سوف تضطرنا إلى اإليمان باهلل‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫بعد أن تناولت ‪-‬عرضاً ومناقشة ونقدا‪ -‬الشبهة العلمية التي‬

‫يتمسك بها الفكر اإللحادي المعاصر‪ ،‬أسجل أهم النتائج‪:‬‬

‫‪ -‬بدأ الفكر اإللحادي المعاصر باالعتماد على العلم المادي‬

‫بعيدا عن الكتاب‬
‫وإنجازاته في تفسير كثير من القوانين وفهمها‪ً -‬‬

‫المقدس وآراء الكنيسة‪ -‬فسيطرت فكرة آلية العالم وقوانينه الفيزيائية‪،‬‬

‫بديالً عن اإليمان بالغيب والتفسيرات الدينية التي تبناها رجال الكنيسة‬

‫(‪ )109‬هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬نخبة من العلماء األمريكيين‪ ،‬تحرير‪ :‬جون كلوفرمونسيما‪ ،‬ترجمة الدكتور‬
‫الدمرداش عبد المجيد سرحان‪ ،‬راجعه وعلق عليه‪ :‬جمال الدين الفندي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪111‬‬
‫‪ -‬لم يكن ارتفاع صوت اإللحاد لقوة حجته أو ظهور مؤيدات‬

‫علمية لفكره؛ بل هو ظاهرة صوتية أسهمت أسباب كثيرة في طرحه‬

‫والترويج له أو تزيينه‪ ،‬ويشترك في ذلك اإلعالم وبعض المؤسسات‬

‫والشخصيات والمراكز والمنتديات اإللحادية التي تبنت الفكر اإللحادي‬

‫‪ -‬إن االعتماد على العلم المادي في الوصول إلى الحقائق‬

‫الكبرى ومنها اإليمان باهلل تعالى ‪ ،‬يعد خروجاً عن حدود العقل‬

‫ومقتضيات اإليمان‪ ،‬وقوانين العلم نفسها‪ ،‬فقضية اإليمان بالغيب وما‬

‫وراء المادة قضية عقلية علمية يختلف منهج التصديق بها‪ ،‬واإليمان‬

‫بمقتضياتها عن منهج البحث في موضوعات تجريبية حسية‪.‬‬

‫‪ -‬الفكر اإللحادي الذي يعتز باإلنجازات العلمية في مجال‬

‫الفيزياء والطبيعة‪ ،‬يهدم األسس العلمية والمنهجية في إثبات الحقائق‪،‬‬

‫ومن أهمها اإليمان باهلل تعالى ‪ ،‬فالملحدون ليس لهم أدلة يمكن أن‬

‫جل وعال إال االرتباط بالمادة‬


‫يعتمدوا عليها في نفي وجود الخالق َّ‬

‫‪112‬‬
‫توصل إليها اإلنسان وهذا‬
‫المدركة بالحواس اإلنسانية أو باألجهزة التي َّ‬

‫ال يستطيع أن يقدم أي دليل على النفي‬

‫‪ -‬التقدم الصناعي والتكنولوجي لم يكن ولن يكون في الحقيقة‬

‫ملحدا باهلل‪ ،‬بدليل أن معظم أئمة التقدم الصناعي والتكنولوجي وأئمة‬


‫ً‬

‫العلوم الحديثة مؤمنون بأن لهذا الكون خالًقا يصرف أموره بعلمه‬

‫وقدرته وعنايته وحكمته‪ ،‬من هذا الذي يستطيع أن يثبت أن علوم‬

‫الفيزياء والكيمياء والطب وعلوم الرياضيات والفلك واألحياء والنباتات‬

‫وعلوم الذرة والصواريخ والمركبات الفضائية علوم قائمة على أسس‬

‫احدا من‬
‫ملحدا و ً‬
‫ً‬ ‫اإللحاد باهلل والكفر بقدرته وعلمه وعنايته‪ ،‬فإذا وجدنا‬

‫علماء هذه العلوم وجدنا مقابله عشرات المؤمنين باهلل من كبار هؤالء‬

‫العلماء أنفسهم‪ ،‬ونجد في أقوالهم الكثيرة ما يدعم قضية اإليمان‬

‫‪ -‬كشفت أضواء العلم الحديث عن حقائق الدين‪ ،‬ولم تنجح من‬

‫أية ناحية في اإلساءة إليه؛ بل إن جميع ما وصل أو سيصل إليه العلم‬

‫‪113‬‬
‫الحديث هو بمثابة تصديق لما أسماه اإلسالم "الحقيقة األخيرة" قبل‬

‫آي ِاتَنا ِفي اآل َف ِ‬


‫اق َوِفي أَن ُف ِس ِه ْم‬ ‫{سُن ِر ِ‬
‫يه ْم َ‬ ‫أربعة عشر قرًنا من الزمان‪َ ،‬‬

‫ِك أََّن ُه َعَلى ُك ِهل َشي ٍء‬ ‫ق أَوَلم ي ْك ِ‬


‫ف ِبَرهب َ‬
‫ْ‬ ‫َح َّتى َي َتَبَّي َن َل ُه ْم أََّن ُه اْل َح ُّ َ ْ َ‬

‫َش ِهيد}[فصلت‪]53:‬‬

‫‪114‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫‪Aygün, F. (2017), “Ateizme Yol Açan Faktörler” ,e-Makalat, 10/2,‬‬


‫‪531-562.‬‬

‫اإلسالم يتحدى ‪ :‬وحيد الدين خان‪ ،‬تعريب‪ :‬دكتور ظفر اإلسالم خان‪ ،‬مراجعة‬
‫وتحقيق الدكتور عبد الصبور شاهين‪ ،‬مكتبة الرسالة‪.‬‬

‫أصل األنواع‪ :‬تشارلز داروين‪ ،‬ترجمة إسماعيل مظهر‪ ،‬نشر مؤسسة هنداوي‪،‬‬
‫‪2018‬م‬

‫اإللحاد مشكلة نفسية ‪ :‬الدكتور عمرو شريف ‪ ،‬نيو بوك‪-‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‬
‫‪2016‬‬

‫اإللحاد وأسبابه‪ :‬د‪ .‬زينب عبد العزيز ‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬دمشق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪2004‬م‬

‫هللا النظرية الفاشلة‪ ،‬فيكتور جون ستينجر‪ ،‬ترجمة الدكتور كمال طاهر‪2012 ،‬‬

‫هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬نخبة من العلماء األمريكيين‪ ،‬تحرير‪ :‬جون‬


‫كلوفرمونسيما‪ ،‬ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان‪ ،‬راجعه وعلق عليه‪:‬‬
‫جمال الدين الفندي‪،‬دار القلم‪ ،‬بيروت‬

‫براهين وأدلة إيمانية‪ :‬الدكتور عبد الرحمن حبنكه‪ ،‬دار القلم‪ -‬دمشق‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‬

‫‪115‬‬
‫تاج العروس‪ :‬مرتضى‪َّ ،‬‬
‫الزبيدي ‪ ،‬تحقيق‪ :‬مجموعة من المحققين‪ ،‬دار الهداية‬

‫التصميم العظيم‪ :‬ستيفن هوكينج ‪ ،‬ترجمة ايمن أحمد عياد‪ ،‬دار التنوير للنشر‬
‫والطباعة‪ ،‬الطبعة األولى ‪2013‬م‬

‫ترجمة الشيخ حسن خالد‪،‬‬ ‫التوراة واإلنجيل والقرآن والعلم‪ :‬موريس بوكاي‪،‬‬
‫المكتب اإلسالمي‪-‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1993‬م‬

‫‪Ünverdi, M. (2019), "Ateizmin Nedenleri", 2. Uluslararası Mersin‬‬


‫‪Sempozyumu, Mersin.‬‬

‫حوار ساخن عن اإللحاد‪ :‬هادي المدرسي‪ ،‬مركز الفكر الرسالي للدراسات‬


‫واألبحاث‪ ،‬الطبعة األولى ‪2017‬م‬

‫خرافة اإللحاد‪ :‬الدكتور عمرو شريف‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية ‪-‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى ‪2014‬‬

‫الدين في مواجهة العلم‪ :‬وحيد الدين خان‪ :‬ترجمة ظفر اإلسالم خان‪ ،‬دار‬
‫النفائس‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1987‬م‬

‫صراع مع المالحدة حتى العظم‪ :‬د‪.‬عبد الرحمن حبنكه‪ ،‬صراع مع المالحدة حتى‬
‫العظم ‪ ،‬دار القلم‪-‬دمشق‪ ،‬الطبعة الخامسة ‪1992 ،‬م‬

‫‪116‬‬
‫العلم في منظوره الجديد ‪ :‬روبرت م‪ .‬أغروس‪ ،‬جورج ن‪ .‬ستانسيو ‪ ،‬ترجمة‬
‫الدكتور كمال خاليلي‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪،‬‬
‫الكويت‪1989 ،‬م‬

‫مليشيا اإللحاد‪ :‬عبد هللا بن صالح العجيري‪ ،‬تكوين للدراسات واألبحاث‪،‬‬


‫السعودية‪ ،‬الطبعة األولى ‪2014‬‬

‫‪Ünverdi, M. (2019), “Din Karşıtı Akımların Gençlik Yayınlarındaki‬‬


‫‪İzdüşümü”, VIII Dini Yayınlar Kongresi, İstanbul, Diyanet İşleri‬‬
‫‪Başkanlığı Yay.‬‬

‫منهاج السنة النبوية‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد رشاد سالم‪ ،‬الناشر‪ :‬جامعة اإلمام‬
‫محمد بن سعود اإلسالمية‪ ،‬الطبعة األولى‪ 1406 ،‬ه‬

‫موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬أندريه الالند‪ ،‬تعريب‪ :‬خليل أحمد خليل‪ ،‬منشورات‬
‫عويدات‪ ،‬ط‪1996 ،1‬م‬

‫موجز تاريخ حياتي‪ :‬ستيفن هوكينغ‪ ،‬ترجمة لطفية الدليمي ‪ ،‬دار بانتام ‪2013‬‬

‫نفسية اإللحاد‪ :‬د‪.‬بول سي فيتز‪ ،‬ترجمة مركز دالئل‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،‬دار وقف‬
‫دالئل النشر الرياض‪2003،‬‬

‫نهاية اإلقدام‪ :‬الشهرستاني‪ ،‬طبعة ألفرد جيوم‪ ،‬الناشر مكتبة المتنبي القاهرة –‬
‫مصر‬

‫‪117‬‬
‫ مراجعة وتعليق الدكتور‬،‫ ترجمة الدكتور صالح الفضلي‬،‫ أنتوني فلو‬:‫هناك إله‬
‫م‬1438 ‫ الطبعة الثانية‬،‫الشيخ مرتضى فرج‬

‫ رؤية للطباعة‬،‫ ترجمة ماريانا كتكوت‬،‫ رافي زكراياس‬:‫الوجه الحقيقي لإللحاد‬

‫ ترجمة عبد هللا‬،‫ ديفيد بيرلنسكي‬،‫ اإللحاد ومزاعمه العلمية‬:‫وهم الشيطان‬


‫هـ‬1437 ‫ الطبعة األولى‬،‫ الرياض‬،‫ مركز دالئل‬،‫الشهري‬

.‫م‬2009 ،‫ نسخة تجريبية‬،2009 ،‫ ريتشارد دوكنز‬:‫وهم اإلله‬

Sevinç, K. (2017), “Ateizmin Boyutları ve Tipleri”, İslami İlimler Dergisi,


12/3, 101-132.

Ünverdi, M. (2020), “Din Karşıtı Yayınlar ve Gençlerde Ateistik


Eğilimlerin Nedenleri”, İlahiyat Akademi Dergisi, sayı:12, 145-181.

Ünverdi, M. (2018), “Mu’tezile’de Kötülük Problemi”, 1. Uluslararası


Mersin Sempozyumu, Mersin.

https://www.youtube.com/watch?v=vvjxMP6zH58
https://www.youtube.com/watch?v=vvjxMP6zH5
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D
https://m.facebook.com/Abouzaid.Elmokrie.Elidrissi/videos/21161878
02005471
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=412606

118

ISBN: 978-625-367-458-8

You might also like