You are on page 1of 598

‫رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن‬

‫الكريم من كلمات الشيخ األكبر‬


‫محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي‬

‫الجزء األول‬

‫جمع وتأليف‬
‫أ‪ .‬محمود محمود الغراب‬

‫وعلى هامشه إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‬


‫للشيخ األكبر‬
‫محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي‬

‫ص‪1:‬‬
‫‪.‬‬

‫ص‪2:‬‬
‫الجزء األول‬
‫ّللا الرحمن الرحيم‬
‫بسم ه‬
‫وبه نستعين‬
‫المقدمة‬
‫الحمد هّلل الذي علهم القرآن من حضرة اسمه الرحمن ‪ ،‬وخلق اإلنسان علمه البيان ‪ ،‬وأبان ما في‬
‫وشرف العلماء بمكنون تأويله ‪ ،‬فأعربوا عنه بأفصح لسان ‪ ،‬لكل قاص ودان ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫محكم تنزيله ‪،‬‬
‫والصالة والسالم على من كان خلقه القرآن ‪ ،‬سيدنا محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ذو الخلق‬
‫العظيم ‪ ،‬والنور المبين ‪ ،‬الركن المكين ‪ ،‬بحر المعاني ‪ ،‬وصاحب السبع المثاني ‪ ،‬الذي أوتي‬
‫علم األولين واآلخرين ‪ ،‬وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى لمن اقتدى ‪ ،‬وعلى تابعيهم بإحسان‬
‫من الورثة الكرام ‪ ،‬والعلماء األعالم ‪.‬‬
‫أما بعد فقد ترجم عن هذا القرآن العظيم ‪ ،‬جماعة من أئمة الدين ‪ ،‬كل قد اجتهد الغوص في‬
‫ّللا تعالى عن اإلسالم والمسلمين ما هو أهله ‪.‬‬ ‫معانيه ‪ ،‬واإلعراب عن إعجاز مبانيه ‪ ،‬فجزاهم ه‬
‫ومن هؤالء العلماء ورثة األنبياء الشيخ األكبر محيي الدين ابن العربي ‪ ،‬فإن له على القطع‬
‫تفسيرين على األقل ‪ ،‬هما‪:‬‬
‫كتاب الجمع والتفصيل في معرفة معاني التنزيل‪.‬‬
‫والثاني هو إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ‪.‬‬
‫فيقول عن األول في الفتوحات المكية ‪ ،‬الجزء األول ص ‪59‬عند الكالم على حروف المعجم‬
‫في أوائل سور القرآن ‪ « :‬ذكرناه في كتاب الجمع والتفصيل في معرفة معاني التنزيل » ‪.‬‬
‫اخلَ ْع‬
‫ويقول في ص ‪ « : 63‬وقد أشبعنا القول في هذا الفصل عندما تكلمنا على قوله تعالى‪":‬فَ ْ‬
‫نَ ْعلَ ْي َك " في كتاب "الجمع والتفصيل " ‪.‬‬
‫ويقول في نفس الصفحة عند كالمه على مراتب الحروف ‪ " :‬هذه كلها أسرار تتبعناها في‬
‫كتاب المبادي والغايات وفي كتاب الجمع والتفصيل " ‪.‬‬
‫ويقول في ص ‪ 77‬عند كالمه على حروف المعجم ‪ « :‬من أراد التشفي منها فليطالع تفسير‬
‫ّللا في كتاب‬ ‫القرآن الذي سميناه الجمع والتفصيل ‪ ،‬وسنوفي الغرض من هذه الحروف إن شاء ه‬
‫المبادي والغايات لنا ‪ ،‬وهو بين أيدينا "‪.‬‬
‫أما عن التفسير الثاني « إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن » فيقول في الجزء الثالث‬

‫ص‪3‬‬

‫ص‪3:‬‬
‫من الفتوحات المكية ص ‪ 64‬عن علم اإلصرار وبما يتعلق ‪ « :‬قد بيناه في كتاب إيجاز البيان‬
‫على ما فَعَلُوا " فانظره‬ ‫في الترجمة عن القرآن في قوله تعالى في آل عمران" َولَ ْم يُ ِ‬
‫ص ُّروا َ‬
‫هناك "‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬وال نعلم هل اإلشارة بقوله " التفسير " أو‬ ‫هذا يؤكد وجود التفسيرين للشيخ رضي ه‬
‫" التفسير الكبير " أيشير بذلك إلى أحد هذين التفسيرين أو إلى كليهما ‪.‬‬
‫أم أن هناك تفسيرين آخرين له ‪ ،‬حيث يقول عند كالمه عن الذكر في الفتوحات المكية الجزء‬
‫الرابع ص ‪ « 194‬اعلم أن كل ذكر ينتج خالف المفهوم األول منه فإنه يدل ما ينتجه على‬
‫حال الذاكر ‪ ،‬كما شرطناه في التفسير الكبير لنا » ‪.‬‬
‫ويقول في الفتوحات المكية الجزء األول ص ‪ 86‬عندما يتكلم عن الذات والحدث والرابطة‬
‫وأنه يدخل تحت كل منها أنواع كثيرة ‪ ،‬يقول « وقد اتسع القول في هذه األنواع في تفسير‬
‫القرآن لنا »‪.‬‬
‫ويقول في نفس الجزء ص ‪ 114‬عند شرحه لقوله تعالى ‪َ «:‬ربه ِ ْالعالَ ِمينَ » يقول ‪ « :‬وقد‬
‫ذكرناه أيضا في تفسير القرآن لنا » ‪.‬‬
‫ويقول في الجزء الثالث من الفتوحات المكية ص ‪ 64‬عند كالمه على علم الجزاء الدنياوي‬
‫واألخراوي ‪ « :‬وقد بيناه في التفسير لنا في فاتحة الكتاب في قوله تعالى( ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫ِين )»‬
‫فأشار الشيخ إلى بعض كتبه بكلمة « التفسير » تارة ‪ ،‬وبكلمة « التفسير الكبير » تارة أخرى‬
‫‪.‬‬
‫ولقد فقدت المكتبة اإلسالمية لألسف الشديد هذا التراث العظيم ضمن ما فقدته ‪ ،‬فإنه ال يوجد‬
‫أثر لهذه التفاسير المشار إليها إال تفسير فاتحة الكتاب وجزءين من سورة البقرة من تفسير‬
‫[ إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ] ‪.‬‬
‫أما التفسير األكبر وهو [ الجمع والتفصيل في معرفة معاني التنزيل ] فإنه لم يبق منه أثر ‪،‬‬
‫ومما يدل على احتمال إكمال تفسير « إيجاز البيان » أن الشيخ يشير فيه إلى أنه سيأتي على‬
‫تفسير آيات في مواضعها من سورة النساء والمائدة واألعراف ‪ ،‬وسورة محمد وطه وفصلت‬
‫وص ‪ ،‬كما نص في الفتوحات المكية وأحال إلى الرجوع إلى سورة آل عمران من هذا التفسير‬
‫‪ ،‬كما سبق أن أوضحنا ‪.‬‬
‫أما تفسير القرآن المطبوع باسمه والذي يتداول بين أيدي الناس في مجلدين ‪ ،‬فقد سبق أن‬
‫أشرنا إلى أن هذا التفسير ليس للشيخ األكبر محيي الدين ابن العربي ‪ ،‬وال صلة له به ‪.‬‬
‫وإنما هو لعبد الرزاق الكاشاني المتوفى عام ‪ 730‬هـ أي بعد وفاة الشيخ األكبر بحوالي مائة‬
‫عام ‪ ،‬والنسخة الخطية لهذا التفسير موجودة بالمكتبة السليمانية بتركيا تحت رقم ‪18 - 17‬‬
‫وتحمل خاتم المؤلف عبد الرزاق الكاشاني ‪.‬‬
‫ص‪4‬‬

‫ص‪4:‬‬
‫ّللا عنه في تفسيره‬‫وسيرى القارئ والباحث عن الحقيقة الفرق الكبير بين أسلوب الشيخ رضي ه‬
‫« إيجاز البيان » وفي التفسير الذي قمت بجمعه من كالمه وبين هذا التفسير المزور‬
‫والمنسوب إليه ‪ ،‬كما يقف القارئ على الفرق بين المعاني الجميلة واإلشارات اللطيفة في كالم‬
‫الشيخ وبين الكالم في تفسير الكاشاني الذي ال يكاد يفهم منه شيء ‪ ،‬ألنه ينحو إلى الفكر‬
‫واالتجاه الباطني الذي يرمي القارئ في متاهات الحيرة فال يعرف الخروج منها ‪.‬‬
‫ّللا عنه للقرآن الكريم ‪ ،‬قمت‬‫ومن أجل ذلك ولمحاولة الوقوف على فهم الشيخ األكبر رضي ه‬
‫بالعمل أكثر من خمس وعشرين سنة في جمع وتصنيف وترتيب ما كتبه الشيخ األكبر في كتبه‬
‫التي بين أيدينا ‪ ،‬مما يصلح أن يكون تفسيرا لبعض آيات القرآن سواء من الناحية الظاهرة على‬
‫نسق التفاسير األخرى من األحكام الشرعية والمعاني العربية ‪ ،‬أو ما يصلح أن يكون تفسيرا‬
‫صوفيا لبعض آيات القرآن وهو ما يسمى باالعتبار واإلشارة ‪ ،‬في التوحيد والسلوك‪.‬‬
‫وسميته « رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن » تمشيا مع عقيدة الشيخ األكبر‬
‫في شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب و‪.‬‬
‫قد أثبت بعض المعاني الجميلة مع قلتها من بعض الكتب التي ال نقطع بصحة نسبتها إلى الشيخ‬
‫مثل كتاب « رد اآليات المتشابهات إلى اآليات المحكمات »‬
‫وكتاب « تلقيح األذهان »‬
‫وكتاب " فصوص الحكم " فإنها معان ال تتعارض مع ما جمع من كتب ثابتة للشيخ ‪.‬‬
‫وقد قمت بإثبات الموجود من تفسير « إيجاز البيان » على هامش هذا التفسير تأكيدا التفاق‬
‫المعاني وتوضيحا ألسلوب الشيخ ومنهاجه العلمي ‪.‬‬
‫ّللا عنه في تفسير القرآن وهي‬ ‫كما سيجد القارئ كثيرا من المعاني التي انفرد بها الشيخ رضي ه‬
‫من السهل الممتنع التي تطرب لها األرواح ويرتاح إليها كل ذي رحمة تدعو إلى رفع الجناح ‪،‬‬
‫وقد أفردت في نهاية كل مجلد فهرسا لمراجع جمع تفسير اآليات ‪ ،‬مشيرا إلى مصادر جمعها‬
‫وّللا أسأل أن ينفعني والمسلمين بهذا العلم الشريف‬
‫المتعددة ليسهل على المحقق الرجوع إليها ه‬
‫‪.‬‬
‫وّللا يقول الحق وهو يهدي السبيل‬
‫ه‬
‫دمشق ‪ 6‬صفر ‪ 1409‬هـ ‪ 17‬أيلول ‪ 1988‬م ‪.‬‬
‫محمود محمود الغراب ص ‪ .‬ب ‪333‬‬

‫ص‪5‬‬

‫ص‪5:‬‬
‫ص‪6:‬‬
‫ّللا الرحمن الرحيم‬
‫بسم ه‬
‫االفتتاح‬
‫الحمد هّلل الذي ليس ألوليته افتتاح كما لسائر األوليات ‪ ،‬الذي له األسماء الحسنى والصفات‬
‫العلى األزليات ‪ ،‬الكائن وال عقل وال نفس وال بسائط وال مركبات ‪ ،‬وال أرض وال سماوات ‪،‬‬
‫العالم في العماء بجميع المعلومات ‪ ،‬القادر الذي ال يعجز عن الجائزات ‪ ،‬المريد الذي ال‬
‫يقصر فتعجزه المعجزات ‪ ،‬المتكلم وال حرف وال أصوات ‪ ،‬السميع الذي يسمع كالمه وال‬
‫كالم مسموع إال بالحروف واألصوات واآلالت والنغمات ‪ ،‬البصير الذي رأى ذاته وال‬
‫مرئيات مطبوعة الذوات ‪ ،‬الحي الذي وجبت له صفات الدوام األحدي ‪ ،‬والمقام الصمدي ‪،‬‬
‫فتعالى بهذه السمات ‪ ،‬الذي جعل اإلنسان الكامل أشرف الموجودات ‪ ،‬وأتم الكلمات المحدثات‬
‫‪ ،‬والصالة والسالم على سيدنا محمد خير البريات ‪ ،‬وسيد الجسمانيات والروحانيات ‪ ،‬صاحب‬
‫الوسيلة في الجنات الفردوسيات ‪ ،‬والمقام المحمود في اليوم العظيم البليات ‪ ،‬األليم الرزيات ‪.‬‬
‫ّللا أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان ‪ ،‬وأنزله قرآنا في شهر‬ ‫اعلم أن ه‬
‫رمضان ‪ ،‬كل ذلك إلى السماء الدنيا ‪ ،‬ومن هناك نزل في ثالث وعشرين سنة فرقانا ‪ ،‬نجوما‬
‫ذا آيات وسور ‪ ،‬لتعلم المنازل وتتبين المراتب ‪ ،‬فمن نزوله إلى األرض في شهر شعبان يتلى‬
‫فرقانا ‪ ،‬ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا ‪.‬‬
‫ّللا أنزل هذا القرآن حروفا‬
‫واعلم أن ه‬

‫إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ّللا ‪ ،‬لقد جاءت رسل ربنا بالحق ‪،‬‬
‫الحمد هّلل الذي هدانا لهذا ‪ ،‬وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا ه‬
‫ّللا عليهم الصحف المطهرة والكتب المنزلة المشرفة ‪ ،‬وكل صحيفة‬ ‫فمما جاءت به صلوات ه‬
‫وكتاب بلسان قوم الرسول الذي أنزلت عليه تلك الصحيفة أو الكتاب ‪ ،‬ومن جملة الكتب‬
‫المنزلة هذا القرآن العربي المنزل على سيدنا محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬على طريق‬
‫اإلعجاز عن المعارضة ‪ ،‬فهو الكتاب الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من‬
‫حكيم حميد ‪ ،‬فهو محفوظ عن أن يزاد فيه‬
‫ص‪7‬‬

‫ص‪7:‬‬
‫منظومة من اثنتين إلى خمسة أحرف متصلة ومفردة ‪ ،‬وجعله كلمات وآيات وسورا ونورا‬
‫وهدى وضياء وشفاء ورحمة وذكرا وعربيا ومبينا وحقا وكتابا ومحكما ومتشابها ومفصال ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ولما كان جامعا لهذه‬ ‫ولكل اسم ونعت من هذه األسماء معنى ليس لآلخر ‪ ،‬وكله كالم ه‬
‫الحقائق وأمثالها استحق اسم القرآن ‪ ،‬فإنه ما سمي قرآنا إال لحقيقة الجمعية التي فيه ‪ ،‬فإنه‬
‫يجمع ما أخبر الحق به عن نفسه ‪ ،‬وما أخبر به عن مخلوقاته وعباده مما حكاه عنهم ‪ ،‬فالقرآن‬
‫هو الذي له صفة الجمع ‪ ،‬من قريت الماء في الحوض إذا جمعته ‪ ،‬وفي الجمع عين الفرقان ‪،‬‬
‫إذ الجمع دليل الكثرة ‪ ،‬والكثرة آحاد ‪ ،‬فهو عين االفتراق من عين الجمع ‪ ،‬فهو الفرقان القرآن‬
‫‪ ،‬فلنذكر مراتب بعض نعوته لتعلم منزلته ‪.‬‬
‫فمن ذلك كونه حروفا ‪ ،‬والمفهوم من هذا االسم أمران ‪ :‬الواحد المسمى قوال وكالما ولفظا ‪،‬‬
‫واألمر اآلخر يسمى كتابا ورقما وخطا ‪ ،‬والقرآن يخط فله حروف الرقم ‪ ،‬وينطق به فله‬
‫ّللا الذي هو صفته أو هل‬ ‫حروف اللفظ ‪ ،‬فلما ذا يرجع كونه حروفا منطوقا بها ؟ هل لكالم ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه سبحانه يتجلى في القيامة‬ ‫ّللا قد أخبرنا نبيه صلهى ه‬
‫للمترجم عنه ؟ فاعلم أن ه‬
‫في صور مختلفة فيعرف وينكر ‪ ،‬ومن كان حقيقته تقبل التجلي في الصور ‪ ،‬فال يبعد أن يكون‬
‫ّللا لبعض تلك الصور كما يليق بجالله ‪ ،‬فكما نقول‬ ‫الكالم بالحروف المتلفظ بها المسماة كالم ه‬
‫تجلى في صورة كما يليق بجالله ‪ ،‬كذلك نقول تكلم بصوت وحرف كما يليق بجالله ‪ ،‬ونحملها‬
‫محمل الفرح والضحك والعين والقدم واليد واليمين وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة ‪،‬‬
‫مما يجب اإليمان به على المعنى المعقول من غير كيفية وال تشبيه ‪ ،‬فإنه يقول « ليس كمثله‬
‫شيء » فنفى أن يماثل مع عقل المعنى وجهل النسبة ‪ ،‬فإذا انتظمت الحروف سميت كلمة ‪،‬‬
‫وإذا انتظمت الكلمات سميت آية ‪ ،‬وإذا انتظمت اآليات سميت سورة ‪ ،‬فلما وصف نفسه بأن له‬
‫نفسا كما يليق بجالله ‪ ،‬ووصف نفسه بالصوت والقول ‪ ،‬وقال «فَأ َ ِج ْرهُ َحتَّى يَ ْس َم َع َك َ‬
‫الم َّ ِ‬
‫ّللا‬
‫»كان النفس المسمى صوتا ‪ ،‬وكان انقطاعه من الصوت حيث انقطع يسمى حرفا ‪ ،‬وكل ذلك‬
‫معقول مما وقع اإلخبار اإللهي به لنا ‪ ،‬مع نفي المماثلة والتشبيه كسائر‬

‫أو ينقص منه بطريق التغيير لكونه معجزة« ِإنَّا ن َْح ُن ن ََّز ْلنَا ال ِذه ْك َر َو ِإنَّا لَهُ لَحافِ ُ‬
‫ظونَ »من التغيير‬
‫والتبديل والتحريف ‪ ،‬ولم يكن ذلك لغيره من الكتب ألن سائر الكتب لم تنزل على طريق‬
‫حرف فيها من حرف وبدهل من بدل ‪ ،‬ومع هذا فإذا حدثنا أهل الكتاب بحديث‬ ‫اإلعجاز ‪ ،‬فلذلك ه‬
‫عن كتابهم فال‬
‫ص‪8‬‬

‫ص‪8:‬‬
‫الصفات ‪ ،‬ولما وصف نفسه بالصورة عرفنا معنى قوله إنه الظاهر والباطن ‪ ،‬فالباطن للظاهر‬
‫غيب ‪ ،‬والظاهر للباطن شهادة ‪ ،‬ووصف نفسه بأن له نفسا ‪ ،‬فهو خروجه من الغيب وظهور‬
‫الحروف شهادة ‪ ،‬والحروف ظروف للمعاني التي هي أرواحها ‪ ،‬والتي وضعت للداللة عليها‬
‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬
‫سو ٍل ِإ َّال ِب ِل ِ‬
‫سان قَ ْو ِم ِه ِليُبَ ِيهنَ لَ ُه ْم »وأبلغ من هذا‬ ‫بحكم التواطؤ ‪ ،‬وقال تعالى« َوما أ َ ْر َ‬
‫ّللا لعباده ما يكون ‪ ،‬فال بد أن يفهم من هذه العبارات ما تدل عليه في ذلك اللسان‬ ‫اإلفصاح من ه‬
‫بما وقع اإلخبار به عن الكون ‪ ،‬فيعرف المعنى الذي يدل عليه ذلك الكالم وتعرف النسبة ‪ ،‬وما‬
‫ّللا يعرف المعنى الذي يدل عليه ذلك الكالم وتجهل النسبة ‪ ،‬لما أعطى‬ ‫وقع اإلخبار به عن ه‬
‫ّللا هو‬
‫الدليل العقلي والدليل الشرعي من نفي المماثلة ‪ ،‬فإذا تحققت ما قررناه ‪ ،‬تبينت أن كالم ه‬
‫هذا المتلو المسموع ‪ ،‬المتلفظ به المسمى قرآنا ‪ ،‬فحروفه تعيهن مراتب كلمه من حيث مفرداتها‬
‫‪ ،‬ثم للكلمة من حيث جمعيتها معنى ليس آلحاد حروف الكلمة ‪ ،‬فللكلمة أثر في نفس السامع‬
‫لهذا سميت كلمة في اللسان العربي ‪ ،‬مشتقة من الكلم وهو الجرح ‪ ،‬وهو أثر في جسم المكلوم‬
‫‪ ،‬كذلك للكلمة أثر في نفس السامع ‪ ،‬أعطاه ذلك األثر استعداد السمع لقبول الكالم بوساطة‬
‫الفهم ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪ ،‬فإذا انتظمت كلمتان فصاعدا سمى المجموع آية ‪ ،‬أي عالمة على أمر‬
‫لم يعط ذلك األمر كل كلمة على انفرادها ‪ ،‬مثل الحروف مع الكلمة ‪ ،‬إذ قد تقرر أن للمجموع‬
‫حكما ال يكون لمفردات ذلك المجموع ‪ ،‬فإذا انتظمت اآليات بالغا ما أراد المتكلم أن يبلغ بها ‪،‬‬
‫سمى المجموع سورة ‪ ،‬معناها منزلة ظهرت عن مجموع هذه اآليات ‪ ،‬لم تكن اآليات تعطى‬
‫تلك المنزلة على انفراد كل آية منها ‪ ،‬وليس القرآن سوى ما ذكرناه من سور وآيات وكلمات‬
‫وحروف ‪ ،‬هذا من كونه كالما ‪ ،‬فإن أنزلناه كتابا ‪ ،‬فهو نظم حروف رقمية النتظام كلمات ‪،‬‬
‫النتظام آيات ‪ ،‬النتظام سور ‪ ،‬كل ذلك عن يمين كاتبة ‪ ،‬كما كان القول عن نفس رحماني ‪،‬‬
‫فصار األمر على مقدار واحد وإن اختلفت األحوال ‪ ،‬ألن حال التلفظ ليس حال الكتابة ‪ ،‬وصفة‬
‫اليد ليست صفة النفس ‪ ،‬فكونه كتابا كصورة الظاهر والشهادة ‪ ،‬وكونه كالما كصورة الباطن‬
‫والغيب ‪،‬‬

‫باّلل ورسوله ‪ ،‬وإن كانوا صادقين لم نكذبهم وإن كانوا‬


‫نصدقهم وال نكذبهم ‪ ،‬بل نقول آمنا ه‬
‫ّللا سبحانه كتابنا‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولما طهر ه‬ ‫كاذبين لم نصدقهم ‪ ،‬كذا أمرنا رسول ه‬
‫هذا وقدسه عن التحريف سماه قرآنا مهموزا ‪ ،‬ولما جمع فيه ما تفرق في سائر الصحف‬
‫والكتب وجميع ما يحتاج إليه من المعارف‬

‫ص‪9‬‬

‫ص‪9:‬‬
‫ّللا هو‬ ‫فالقرآن في الصدور قرآن ‪ ،‬وفي اللسان كالم ‪ ،‬وفي المصاحف كتاب ‪ ،‬والمترجم عن ه‬
‫ّللا في اإللقاء والوحي ‪ ،‬فيكون المترجم خالقا لصور الحروف اللفظية أو‬ ‫كل من كلهمه ه‬
‫ّللا ال غير ‪.‬‬ ‫المرقومة التي يوجدها ‪ ،‬ويكون روح تلك الصور كالم ه‬
‫ّللا قد جعل للقرآن سورة من سوره قلبا ‪ ،‬وجعل هذه السورة تعدل القرآن عشرة أوزان ‪،‬‬ ‫ثم إن ه‬
‫وجعل آليات القرآن آية أعطاها السيادة على آي القرآن ‪ ،‬وجعل من سور هذا القرآن سورة‬
‫تزن ثلثه ونصفه وربعه ‪ ،‬وذلك ما أعطته منزلة تلك السورة ‪ ،‬والكل كالمه ‪ ،‬فمن حيث هو‬
‫كالمه ال تفاضل ‪ ،‬ومن حيث ما هو متكلم به وقع التفاضل الختالف النظم ‪ ،‬والقرآن من‬
‫الكتب والصحف المنزلة بمنزلة اإلنسان من العالم ‪ ،‬فإنه مجموع الكتب واإلنسان مجموع‬
‫العالم ‪ ،‬وأعني بذلك اإلنسان الكامل ‪ ،‬وليس ذلك إال من أنزل عليه القرآن من جميع جهاته‬
‫ونسبه ‪ [.‬كون القرآن نورا وضياء وشفاء ورحمه وهدى ]‬
‫وأما كون القرآن نورا ‪ :‬فبما فيه من اآليات التي تطرد الشبه المضلة ‪ ،‬مثل قوله تعالى« لَ ْو‬
‫س َدتا »وقوله «ال أ ُ ِحبُّ ْاآلفِ ِلينَ »وقوله« فَ ْسئَلُو ُه ْم إِ ْن كانُوا يَ ْن ِطقُونَ‬ ‫ّللاُ لَفَ َ‬‫كانَ فِي ِهما آ ِل َهةٌ إِ َّال َّ‬
‫ب »وكل ما جاء في معرض الداللة فهو من كونه نورا ‪ ،‬ألن‬ ‫ت بِها ِمنَ ْال َم ْغ ِر ِ‬ ‫»وقوله« فَأ ْ ِ‬
‫النور هو المنفر الظلم ‪ ،‬وبه سمى نورا ‪ ،‬إذ كان النور النفور ‪.‬‬
‫وأما كونه ضياء ‪ :‬فلما فيه من اآليات الكاشفة لألمور والحقائق ‪ ،‬مثل قوله « ُك َّل يَ ْو ٍم ُه َو فِي‬
‫ّللا »وما أشبه ذلك مما‬ ‫ع َّ َ‬ ‫سو َل فَقَ ْد أَطا َ‬ ‫الن »وقوله« َم ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫الر ُ‬ ‫غ لَ ُك ْم أَيُّهَ الثَّقَ ِ‬
‫سنَ ْف ُر ُ‬‫شَأ ْ ٍن »و« َ‬
‫يدل على مجرى الحقائق ‪.‬‬
‫وأما كونه شفاء ‪ :‬فكفاتحة الكتاب وآيات األدعية كلها ‪.‬‬
‫وأما كونه رحمة ‪ :‬فلما فيه مما أوجبه على نفسه من الوعد لعباده بالخير والبشرى ‪ ،‬مثل‬
‫الر ْح َمةَ »وكل آية رجاء ‪.‬‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َ‬ ‫طوا ِم ْن َر ْح َم ِة َّ ِ‬
‫ّللا »وقوله« َكت َ َ‬ ‫قوله« ال ت َ ْقنَ ُ‬
‫وأما كونه هدى ‪ :‬فكل آية محكمة ‪ ،‬وكل نص ورد في القرآن مما ال يدخله االحتمال‬

‫والعلوم سماه قرانا بغير همز ‪ ،‬ولهذا قال النبي عليه السالم « أوتيت جوامع الكلم » جمع كلمة‬
‫‪ ،‬ولما ضم حروفه بآية وسورة ومعانيه بهذا النظم المعجز سماه كتابا ‪ ،‬ولما أزال به شبه‬
‫الضالالت وظلمة الشكوك وأوضح به المشكالت سماه نورا ‪ ،‬ولما أبان به عن الحق المطلوب‬
‫وحسن نظمه‬
‫ص ‪10‬‬

‫ص ‪10 :‬‬
‫ُون »وقوله«‬ ‫س ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫وال يفهم منه إال الظاهر بأول وهلة ‪ ،‬مثل قوله« َوما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫ّللا »وأمثال هذه اآليات مما ال‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫صلَ َح فَأ َ ْج ُرهُ َ‬‫عفا َوأ َ ْ‬ ‫صاص َحياة ٌ »وقوله« فَ َم ْن َ‬ ‫ِ‬ ‫َولَ ُك ْم فِي ْال ِق‬
‫يحصى كثرة ‪.‬‬
‫وأما كونه ذكرا ‪ :‬فلما فيه من آيات االعتبارات وقصص األمم من إهالكهم بكفرهم ‪ ،‬كقصة‬
‫نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب األيكة وأصحاب الرس ‪.‬‬
‫وأما كونه عربيا ‪ :‬فلما فيه من حسن النظم ‪ ،‬وبيان المحكم من المتشابه ‪ ،‬وتكرار القصص‬
‫بتغيير ألفاظ من زيادة ونقصان ‪ ،‬مع توفية المعنى المطلوب في التعريف واإلعالم مع إيجاز‬
‫ض َربُوهُ لَ َك ِإ َّال َج َد اال »وقوله«‬ ‫علَ ْي ِه ْم »وقوله« ما َ‬ ‫سبُونَ ُك َّل َ‬
‫ص ْي َح ٍة َ‬ ‫اللفظ ‪ ،‬مثل قوله« يَ ْح َ‬
‫علَ ْي ِه فَأ َ ْل ِقي ِه فِي ْاليَ ِ هم َوال تَخافِي َوال ت َ ْحزَ نِي ِإنَّا‬
‫ت َ‬ ‫ض ِعي ِه فَإِذا ِخ ْف ِ‬ ‫َوأ َ ْو َحيْنا ِإلى أ ُ ِ هم ُموسى أ َ ْن أ َ ْر ِ‬
‫س ِلينَ »كل ذلك في آية واحدة ‪ ،‬تحتوي على بشارتين وأمرين‬ ‫َرادُّوهُ ِإلَي ِْك َوجا ِعلُوهُ ِمنَ ْال ُم ْر َ‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫بعلم نافع ‪ ،‬وتبيين ببشرى من ه‬
‫وأما كونه مبينا ‪ :‬فبما أبان فيه من صفات أهل السعادة وأهل الشقاء ونعوت أهل الفالح من‬
‫غيرهم ‪ ،‬كقوله« قَ ْد أ َ ْفلَ َح ا ْل ُمؤْ ِمنُونَ »إلى آخر اآليات ‪ ،‬وكل آية أبان بها عن أمر ليعرف ‪.‬‬
‫فلهذا سماه بهذه األسماء كلها ‪ ،‬وجعله قرآنا أي طاهرا جامعا لهذه المعاني كلها ‪ ،‬التي ال توجد‬
‫إال فيه ‪.‬تفسير القرآن‬
‫ّللا بأي وجه كان ‪ ،‬من قرآن أو كتاب منزل أو صحيفة أو‬ ‫اعلم أن اآلية المتلفظ بها من كالم ه‬
‫خبر إلهي ‪ ،‬فهي آية على ما تحتمله تلك اللفظة من جميع الوجوه ‪ ،‬أي عالمة مقصودة لمن‬
‫أنزلها بتلك اللفظة الحاوية في ذلك اللسان على تلك الوجوه ‪ ،‬فإن منزلها عالم بتلك الوجوه كلها‬
‫‪ ،‬وعالم بأن عباده متفاوتون في النظر فيها ‪ ،‬وأنه ما كلفهم في خطابه‬

‫وبالغته وجعله مغايرا لسائر الكتب بما حفظه به من التحريف جعله عربيا ‪ ،‬ولما ذكر فيه‬
‫قصص األولين واآلخرين وشرائع المتقدمين ومنازلهم ومراتبهم وسابقتهم ومآلهم جعله ذكرا‬
‫وسماه به ‪ ،‬ولم يجمع لغيره من الكتب هذه األسماء كلها ‪ .‬وسائر أسماء الكتب مندرجة في هذه‬
‫األسماء التي‬
‫ص ‪11‬‬

‫ص ‪11 :‬‬
‫سوى ما فهموا عنه فيه ‪ ،‬فكل من فهم من اآلية وجها فذلك الوجه هو مقصود بهذه اآلية في‬
‫ّللا وإن احتمله اللفظ ‪ ،‬فإنه قد ال يكون‬
‫حق هذا الواجد له ‪ ،‬وليس يوجد هذا في غير كالم ه‬
‫مقصودا للمتكلم به ‪ ،‬لعلمنا بقصور علمه عن اإلحاطة بما في تلك اللفظة من الوجوه ‪ ،‬ولهذا‬
‫كان كل مفسر فسر القرآن ولم يخرج عما يحتمله اللفظ فهو مفسر ‪ ،‬ومن فسره برأيه فقد كفر ‪،‬‬
‫كذا ورد في حديث الترمذي ‪ ،‬وال يكون برأيه إال حتى يكون ذلك الوجه ال يعلمه أهل ذلك‬
‫اللسان في تلك اللفظة وال اصطلحوا على وضعها بإزائه ‪ ،‬فالقرآن هو البحر الذي ال ساحل له‬
‫‪ ،‬إذ كان المنسوب إليه يقصد به جميع ما يطلبه الكالم من المعاني ‪ ،‬بخالف كالم المخلوقين ‪،‬‬
‫ّللا ما أراده بتلك الكلمة أو‬
‫ّللا إذا نزل بلسان قوم فاختلف أهل ذلك اللسان في الفهم عن ه‬
‫فكالم ه‬
‫ّللا ما أراده ‪ ،‬فإنه‬
‫الكلمات مع اختالف مدلوالتها ‪ ،‬فكل واحد منهم وإن اختلفوا فقد فهم عن ه‬
‫عالم بجميع الوجوه تعالى ‪ ،‬وما من وجه إال وهو مقصود هّلل تعالى بالنسبة إلى هذا الشخص‬
‫المعين ‪ ،‬ما لم يخرج من اللسان ‪ ،‬فإن خرج من اللسان ‪ ،‬فال فهم وال علم ‪ ،‬وكل وجه تحتمله‬
‫ّللا من فرقان وتوراة وزبور وإنجيل وصحيفة عند كل عارف بذلك اللسان ‪،‬‬ ‫كل آية من كالم ه‬
‫فإنه مقصود هّلل تعالى في حق ذلك المتأول ‪ ،‬لعلمه اإلحاطي سبحانه بجميع الوجوه ‪ ،‬فال سبيل‬
‫إلى تخطئة عالم في تأويل يحتمله اللفظ ‪ ،‬فإن مخطئه في غاية القصور في العلم ‪ ،‬ولكن ال‬
‫يلزمه القول به وال العمل بذلك التأويل ‪ ،‬إال في حق ذلك المتأول خاصة ومن قلده ‪.‬‬
‫وإذا وردت اآلية أو الخبر بلفظ ما من اللسان ‪ ،‬فاألصل أن يؤخذ بما هو عليه في لغة العرب‬
‫فإن أطلقه الشارع على غير المفهوم من اللسان ‪ ،‬كاسم الصالة واسم الوضوء واسم الحج واسم‬
‫الزكاة ‪ ،‬صار األصل ما فسره به الشارع ‪ ،‬ولم يحمل عليه ما هو عليه في اللسان حتى يرد‬
‫من الرسول في ذلك اللفظ أنه لما هو عليه من اللسان ‪ ،‬فيعدل عند ذلك إليه في ذلك الخبر على‬
‫التعيين ‪ ،‬فإن الشارع إذا عيهن ما أراده باللفظ ‪ ،‬صار ذلك الوصف بذلك اللفظ أصال ‪ ،‬فمتى‬
‫ورد اللفظ به من الشارع فإنه يحمل على المفهوم منه في الشرع حتى‬

‫اختص بها كتابنا ‪ ،‬فالحمد هّلل الذي جعلنا من حامليه ومن أهله ومن خوطب به ‪ ،‬وشرفنا باتباع‬
‫من أنزل عليه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وسميت هذا الكتاب « إيجاز البيان في الترجمة عن‬
‫القرآن » هللف الشكر حق الشكر الذي ينبغي له برؤية ذلك منه ‪ ،‬وله الحمد في اآلخرة واألولى‬
‫‪ ،‬وبه أتأيد وأستعين‪.‬‬
‫ص ‪12‬‬

‫ص ‪12 :‬‬
‫يدل دليل آخر من الشارع أو من قرائن األحوال أنه يريد بذلك اللفظ المفهوم منه في اللغة أو‬
‫أمرا آخر بعينه أيضا ‪ ،‬هذا مطرد في جميع ما تلفظ به الشارع ‪.‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫أما المفسرون الذين يأخذون حكايات اليهود في تفسير القرآن فقد أمرنا رسول ه‬
‫عليه وسلم أن ال نصدق أهل الكتاب وال نكذبهم ‪ ،‬فمن فسر القرآن برواية اليهود فقد ر هد أمر‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم فقد رد أمر ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ومن ر هد أمر رسول ه‬ ‫رسول ه‬
‫فإنه أمر أن نطيع الرسول وأن نأخذ ما أتانا به ‪ ،‬وأن ننتهي عما نهانا عنه ‪ ،‬إذ ال يوصلنا إلى‬
‫أخبار األنبياء اإلسرائليين إال نبي فنصدقه ‪ ،‬أو أهل كتاب فنقف عند أخبارهم ‪ ،‬إذ لم يكن في‬
‫ّللا عليه وسلم وال في أدلة العقول ما يرده وال يثبته ‪ ،‬وال نقضي‬ ‫كتابنا وال قول رسولنا صلهى ه‬
‫فيه بشيء ‪ ،‬وينبغي للمفسر أن يتحرى الصدق وال يتعرض لما ذكره المؤرخون عن اليهود من‬
‫ّللا ‪ ،‬وما ينبغي أن يقدم على‬ ‫ّللا عليهم واجتباهم ‪ ،‬ويجعل ذلك تفسيرا لكتاب ه‬‫زالت من أثنى ه‬
‫ّللا بمثل هذه الطوام ‪ ،‬كقصة يوسف وداود وأمثالهم عليهم السالم ومحمد صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫تفسير كالم ه‬
‫ّللا عنهم ‪ ،‬فيجد‬ ‫ّللا ما قد ذكر ه‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬بتأويالت فاسدة ‪ ،‬وأسانيد واهية ‪ ،‬عن قوم قالوا في ه‬
‫الذي في دينه نقص رخصة يلجأ إليها في معصيته ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إذا كانت األنبياء قد وقعت في‬
‫ّللا ‪ ،‬فهؤالء‬
‫وّللا األنبياء مما نسبت إليهم اليهود لعنهم ه‬
‫مثل هذا ‪ ،‬فمن أكون أنا ؟ وحاشا ه‬
‫ّللا ‪ ،‬لما غلب عليهم‬‫المفسرون الذين يرددون افتراءات اليهود ‪ ،‬نقلة عن اليهود ال عن كالم ه‬
‫ّللا أن ال يقلد اليهود فيما‬
‫من الجهل ‪ ،‬فواجب إقامة حرمة األنبياء عليهم السالم ‪ ،‬والحياء من ه‬
‫قالوا في حق األنبياء عليهم الصالة والسالم من المثالب ‪.‬‬

‫المناسبة بين آي القرآن‬


‫ال بد من مناسبة بين آي القرآن من نسق بعضها إلى بعض ‪ ،‬فيعرف الجامع بين اآليتين وإن‬
‫كان بينهما بعد ظاهر ‪ ،‬فذلك صحيح ‪ ،‬ولكن ال بد من وجه جامع بين اآليتين مناسب هو الذي‬
‫أعطى أن تكون هذه اآلية مناسبة لما جاورها من اآليات ‪ ،‬ألنه نظم إلهي ‪ ،‬وما رأينا أحدا‬
‫ذهب إلى النظر في هذا إال الرماني من النحويين ‪ ،‬فإن له تفسيرا للقرآن ‪ ،‬أخبرني من وقف‬
‫عليه أنه نحا في القرآن هذا المنحى ‪ ،‬ولذلك نقول إن كل آية في الهجيرات تؤخذ على انفرادها‬
‫كما سطرت ‪ ،‬وعند أهل التحقيق هذا المأخذ وإن كان عالي األوج ‪ ،‬فإن مسمى‬
‫ص ‪13‬‬

‫ص ‪13 :‬‬
‫اآلية إذا لزمتها أمور من قبل أو بعد ‪ ،‬يظهر من قوة الكالم أن اآلية تطلب تلك اللوازم ‪ ،‬فال‬
‫ّللا على هذا النمط ‪،‬‬
‫تكمل اآلية إال بها ‪ ،‬وهو نظر الكامل من الرجال ‪ ،‬فمن ينظر في كالم ه‬
‫فإنه يفوز بعلم كبير وخير كثير ‪ ،‬فإن الحق سبحانه ال يعيهن لفظا وال يقيد أمرا إال وقد أراد من‬
‫عباده أن ينظروا فيه من حيث ما خصصه وأفرده لتلك الحالة ‪ ،‬أو عيهنه بتلك العبارة ‪ ،‬ومتى‬
‫لم ينظر الناظر في هذه األمور بهذه العين ‪ ،‬فقد غاب عن الصواب المطلوب ‪.‬‬

‫المجاز في القرآن‬
‫الذي ينبغي من الكالم أن ال يقدهر فيه المحذوف إال عند الحاجة إليه وال بد ‪ ،‬الختالل المعنى ‪،‬‬
‫وأن ال ينتقل في الكلمة من الحقيقة إلى المجاز إال بعد استحالة حملها على الحقيقة ‪ ،‬وكالم‬
‫العرب مبني على الحقيقة والمجاز عند الناس ‪ ،‬وإن كنا خالفناهم في هذه المسألة بالنظر إلى‬
‫القرآن ‪ ،‬فإنا ننفي أن يكون في القرآن مجاز بل في كالم العرب عند المحققين أهل الكشف‬
‫والوجود ؛ وأما من حيث النظر واالعتبار فيجري مجرى العرب في كالمها من استعارات‬
‫ومجاز بأدنى شبهة وأيسر صفة ‪ ،‬ففي القرآن من هذا القبيل كثير ‪ ،‬إذ القرآن جاء على لغة‬
‫ّللا عليه وسلم « وإنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫العرب كما قال رسول ه‬
‫» وعلى هذا يفرق بين التفسير على الحقيقة ألهل الكشف والوجود ‪ ،‬فال مجاز عندهم ‪ ،‬وبين‬
‫التفسير ألهل النظر واالعتبار باإلنكار ‪ ،‬فهو على مجرى لسان العرب فيكون فيه المجاز‬

‫نصيحة وتنبيه‬
‫التأيه على نوعين ‪ :‬تأيه بالصفة مثل قوله« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا* » و« يا أَيُّ َها الَّذِينَ أُوتُوا‬
‫اس » *فمتى سمعت التأيه فلتنظر ما أيهه به ‪ ،‬ال من‬ ‫تاب »وتأيه بالذات مثل قوله« يا أَيُّ َها النَّ ُ‬ ‫ْال ِك َ‬
‫أيه به ‪ ،‬فاعمل بحسب ما أيه به من اجتناب أو غير اجتناب ‪ ،‬فإنه قد يؤيه بأمر ‪ ،‬وقد يؤيه‬
‫بنهي ‪ ،‬كما يقول في األمر« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا أ َ ْوفُوا ِب ْالعُقُو ِد »وكما يقول في النهي« يا أَيُّ َها‬
‫ّللا »وكذلك« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِل َم تَقُولُونَ ما ال ت َ ْفعَلُونَ »فهذا تأيه‬ ‫الَّذِينَ آ َمنُوا ال ت ُ ِحلُّوا شَعائِ َر َّ ِ‬
‫إنكار ‪ ،‬فإذا أتى هذا كان له وجه لألمر ووجه للنهي ‪ ،‬فيأخذه السامع بحسب ما يقع له في‬
‫الوقت ‪ ،‬وأي وجه أخذ به من أمر أو نهي أصاب ‪ ،‬وإن جمع بينهما جمع ثمرة ذلك فيكون له‬
‫ّللا بأحد في كتابه فكن أنت ذلك المؤيه به ‪ ،‬فإن أخبر‬ ‫أجران ‪ ،‬فإذا أيه ه‬
‫ص ‪14‬‬

‫ص ‪14 :‬‬
‫فافهم واعتبر ‪ ،‬فإنه ما أيه بك إال ل هما سمعت ‪ ،‬وإن أمرك أو نهاك فامتثل ‪ ،‬وما ثم قسم رابع ‪،‬‬
‫إنما هو خبر أو أمر أو نهي ‪.‬‬
‫واعلم يا أخي أن القرآن العزيز خاطبنا الحق به على طريقين ‪ :‬منه آيات خاطبنا بها يعرفنا‬
‫فيها بأحوال غيرنا وما كان منهم ‪ ،‬وإلى أين كان مبدؤنا ‪ ،‬وإلى أين كانت غايتنا ‪ ،‬وهو‬
‫الطريق الواحد ‪ ،‬ومنه آيات خاطبنا بها لنخاطبه بها ‪ ،‬وهي على قسمين ‪ :‬خاطبنا بآيات‬
‫الزكاة َ *‪ -‬وأَتِ ُّموا ْال َح َّج‬ ‫صالة َ *‪ -‬وآتُوا َّ‬ ‫لنخاطبه بها مخاطبة فعلية ‪ ،‬مثل قوله تعالى« أَقِي ُموا ال َّ‬
‫ط ْال ُم ْست َ ِق َ‬
‫يم »« َربَّنا آ َمنَّا‬ ‫صرا َ‬‫ّلل »وغير ذلك ‪ ،‬ومخاطبة لفظية مثل قوله« ا ْه ِدنَا ال ِ ه‬ ‫َو ْالعُ ْم َرة َ ِ َّ ِ‬
‫طأْنا »وأشباه ذلك كثير ‪ ،‬وليس القرآن يحوي على‬ ‫ؤاخ ْذنا ِإ ْن نَ ِسينا أ َ ْو أ َ ْخ َ‬
‫فَا ْغ ِف ْر لَنا »« َربَّنا ال ت ُ ِ‬
‫ّللا تعالى إذا قرأته مثل قوله« َو ِإذا لَقُوا الَّذِينَ‬ ‫غير هذا ‪ ،‬وينبغي لك أن تتنبه للتفرقة في كالم ه‬
‫َياطي ِن ِه ْم قالُوا »وقف‬ ‫آ َمنُوا قالُوا »وقف هنا وبين قوله« آ َمنَّا »وقف ‪ ،‬ثم قل« َو ِإذا َخلَ ْوا ِإلى ش ِ‬
‫ئ بِ ِه ْم »فإنك إذا قرأته على‬ ‫ثم قل« إِنَّا َمعَ ُك ْم إِنَّما ن َْح ُن ُم ْست َ ْه ِزؤُنَ »وقف ‪ ،‬ثم قل « َّ‬
‫ّللاُ يَ ْست َ ْه ِز ُ‬
‫هذا الحد عرفت أسراره ‪ ،‬وميزت مواقع الخطاب ‪ ،‬وحكايات األحوال واألقوال واألعمال‬
‫وتناسب األشياء ‪.‬‬

‫اإلشارة‬
‫ّللا‬
‫ّللا أشق وال أشد من علماء الرسوم على أهل ه‬ ‫ّللا وإياك بروح منه ‪ ،‬أنه ما خلق ه‬
‫اعلم أيدنا ه‬
‫المختصين بخدمته ‪ ،‬العارفين به من طريق الوهب اإللهي ‪ ،‬الذي منحهم أسراره في خلقه ‪،‬‬
‫وفهمهم معاني كتابه وإشارات خطابه ‪ ،‬ولما كان األمر في الوجود الواقع على ما سبق به العلم‬
‫القديم ‪ ،‬عدل أصحابنا إلى اإلشارات ‪ ،‬كما عدلت مريم عليها السالم من أجل أهل اإلفك‬
‫ّللا عنهم في شرح كتابه العزيز الذي ال يأتيه الباطل‬
‫واإللحاد إلى اإلشارة ‪ ،‬فكالمهم رضي ه‬
‫من بين يديه وال من خلفه إشارات ‪ ،‬وإن كان ذلك حقيقة وتفسيرا لمعانيه النافعة ‪ ،‬ورد ذلك‬
‫كله إلى نفوسهم ‪ ،‬مع تقريرهم إياه في العموم وفيما نزل فيه ‪ ،‬كما يعلمه أهل اللسان الذين نزل‬
‫الكتاب بلسانهم ‪ ،‬فعم به سبحانه عندهم الوجهين ‪ ،‬فيسمون ما يرونه في نفوسهم إشارة ‪ ،‬ليأنس‬
‫الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك ‪ ،‬وال يقولون في ذلك إنه تفسير ‪ ،‬وقاية لشرهم وتشنيعهم في‬
‫ّللا‬
‫ذلك بالكفر عليه ‪ ،‬وذلك لجهلهم بمواقع خطاب الحق ‪ ،‬واقتدوا في ذلك بسنن الهدى ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا‬
‫كان قادرا على تنصيص ما تأوله أهل ه‬
‫‪15‬‬

‫ص ‪15 :‬‬
‫في كتابه ‪ ،‬ومع ذلك ما فعل ‪ ،‬بل أدرج في تلك الكلمات اإللهية التي نزلت بلسان العامة علوم‬
‫معاني االختصاص التي فهمها عباده ‪ ،‬حين فتح لهم فيها بعين الفهم الذي رزقهم ‪ ،‬ولو كان‬
‫علماء الرسوم ينصفون العتبروا في نفوسهم إذا نظروا في اآلية بالعين الظاهرة التي يسلمونها‬
‫فيما بينهم ‪ ،‬فيرون أنهم يتفاضلون في ذلك ‪ ،‬ويعلو بعضهم على بعض في الكالم في معنى تلك‬
‫اآلية ‪ ،‬ويقر القاصر بفضل غير القاصر فيها ‪ ،‬وكلهم في مجرى واحد ‪ ،‬ومع هذا الفضل‬
‫ّللا إذا جاءوا بشيء مما يغمض عن إدراكهم‬ ‫المشهود لهم فيما بينهم في ذلك ينكرون على أهل ه‬
‫ّللف عباد تولى‬‫ّللا تعالى« يُؤْ تِي ْال ِح ْك َمةَ َم ْن يَشا ُء »وهو العلم ‪ ،‬وجاء بمن وهي نكرة ‪ ،‬ه‬
‫‪ ،‬قال ه‬
‫تعليمهم في سرائرهم بما أنزله في كتبه وعلى ألسنة رسله ‪ ،‬وهو العلم الصحيح عن العالم‬
‫ّللا بعنايته لبعض عباده‬
‫المعلم الذي ال يشك مؤمن في كمال علمه وال غير مؤمن ‪ ،‬فتولى ه‬
‫ّللا عنه في هذا‬
‫تعليمهم بنفسه بإلهامه وإفهامه إياهم ‪ ،‬وكذا قال علي بن أبي طالب رضي ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا من شاء من عباده في هذا القرآن » فجعل ذلك عطاء من ه‬ ‫الباب « ما هو إال فهم يؤتيه ه‬
‫ّللا لعلماء الرسوم أحوالهم ‪ ،‬ألنهم علموا من‬
‫ّللا ‪ ،‬فسلم أهل ه‬
‫يعبر عن ذلك العطاء بالفهم عن ه‬
‫أين تكلموا ‪ ،‬وصانوا عنهم أنفسهم بتسميتهم الحقائق إشارات ‪ ،‬فإن علماء الرسوم ال ينكرون‬
‫اإلشارات ‪.‬‬
‫ّللا باإلشارة دون غيرها من األلفاظ إال‬
‫فأصحابنا ما اصطلحوا على ما جاء به في شرح كتاب ه‬
‫بتعليم إلهي ‪ ،‬جهله علماء الرسوم ‪ ،‬وذلك أن اإلشارة ال تكون إال بقصد المشير بذلك أنه يشير‬
‫ّللا أنه قد اعتبر اإلشارة استعملوها ‪ ،‬فإدراك‬
‫‪ ،‬ال من جهة المشار إليه ‪ ،‬فلما رأى أهل ه‬
‫ّللا خاصة فهم فيه ‪ ،‬ألنه مقصود هّلل تعالى في حق هذا‬‫أصحاب األخذ باإلشارات في كالم ه‬
‫ّللا من كل‬‫المشار إليه بذلك الكالم ‪ ،‬وكالم المخلوق ما له هذه المنزلة ‪ ،‬فمن أوتي الفهم عن ه‬
‫وجه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب ‪.‬‬
‫فاغطس في بحر القرآن العزيز إن كنت واسع النفس ‪ ،‬وإال فاقتصر على مطالعة كتب‬
‫المفسرين لظاهره ‪ ،‬وال تغطس فتهلك ‪ ،‬فإن بحر القرآن عميق ‪ ،‬ولوال الغاطس ما يقصد منه‬
‫المواضع القريبة من الساحل ما خرج لكم أبدا ‪ ،‬فاألنبياء والورثة الحفظة هم الذين يقصدون‬
‫هذه المواضع رحمة بالعالم ‪ ،‬وأما الواقفون الذين وصلوا ومسكوا ‪ ،‬ولم يردوا وال انتفع بهم‬
‫أحد ‪ ،‬وال انتفعوا بأحد ‪ ،‬فقصدوا بل قصد بهم ثبج البحر ‪ ،‬فغطسوا إلى األبد ال يخرجون‪.‬‬
‫ص ‪16‬‬

‫ص ‪16 :‬‬
‫‪ - 1‬سورة الفاتحة‬
‫هي فاتحة الكتاب ‪ ،‬والسبع المثاني ‪ ،‬والقرآن العظيم ‪ ،‬وأم القرآن ‪ ،‬وأم الكتاب ‪ ،‬والكافية ‪،‬‬
‫ّللا أعطاها نبيه محمدا صلهى‬ ‫وتسمى سورة الحمد ‪ ،‬والبسملة آية منها ‪ ،‬وقد قيل في الفاتحة إن ه‬
‫ّللا عليه وسلم خاصة دون غيره من الرسل ‪ ،‬من كنز من كنوز العرش ‪ ،‬لم توجد في كتاب‬ ‫ه‬
‫ّللا وال صحيفة إال في القرآن خاصة ‪ ،‬وبهذا سمي قرآنا ألنه جمع بين ما نزل‬ ‫منزل من عند ه‬
‫في الكتب والصحف وما لم ينزل ‪ ،‬ففيه كل ما في الكتب كلها المنزلة ‪ ،‬وفيه ما لم ينزل في‬
‫كتاب وال صحيفة ‪ ،‬وهي فاتحة الكتاب ‪ ،‬ألن الكتاب يتضمن الفاتحة وغيرها ‪ ،‬وألنها منه ‪،‬‬
‫ّللا مفتاحا له‬
‫وإنما صح لها اسم الفاتحة من حيث أنها أول ما افتتح به كتاب الوجود ‪ ،‬وجعلها ه‬
‫‪ ،‬وهي أم القرآن ألن األم محل اإليجاد ‪ ،‬والموجود فيها هو القرآن ‪ ،‬وهي أم الكتاب الذي عنده‬
‫ب »ألن األم هي الجامعة ‪ ،‬ومنها أم القرى ‪ ،‬والرأس أم الجسد ‪،‬‬ ‫‪ ،‬في قوله« َو ِع ْن َدهُ أ ُ ُّم ْال ِكتا ِ‬
‫يقال أم رأسه ألنه مجموع القوى الحسية والمعنوية كلها التي لإلنسان ‪ ،‬وكانت الفاتحة أما‬
‫لجميع الكتب المنزلة ‪ ،‬وهي القرآن العظيم ‪ ،‬أي المجموع العظيم الحاوي لكل شيء ‪ ،‬ولما‬
‫ّللا عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ‪ ،‬والناس من آدم إلى آخر إنسان ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫كان رسول ه‬
‫فجميع الرسل نوابه بال شك ‪ ،‬فلما ظهر بنفسه لم يبق حكم إال له ‪ ،‬وال حاكم إال راجع إليه ‪،‬‬
‫واقتضت مرتبته أن تختص بأمر عند ظهور عينه في الدنيا ‪ ،‬لم يعطه أحد من نوابه ‪ ،‬وال بد‬
‫أن يكون ذلك األمر من العظم بحيث أنه يتضمن جميع ما تفرق في نوابه وزيادة ‪ ،‬فأعطاه أم‬
‫الكتاب ‪ ،‬فتضمنت جميع الصحف والكتب ‪ ،‬وظهر بها فينا مختصرة ‪ ،‬سبع آيات تحتوي على‬
‫ّللا بها جميع الكتب والصحف المنزلة على األنبياء نواب‬ ‫جميع اآليات ‪ ،‬فأم الكتاب ألحق ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فادخرها له ولهذه األمة ‪ ،‬ليتميز على األنبياء بالتقدم ‪ ،‬وإنه اإلمام‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫األكبر ‪ ،‬وأمته التي ظهر فيها خير أمة أخرجت للناس ‪ ،‬لظهوره بصورته فيهم ‪ ،‬وهي السبع‬
‫المثاني والقرآن‬
‫ص ‪17‬‬

‫ص ‪17 :‬‬
‫العظيم الصفات ‪ ،‬فظهرت في الوجود في واحد وواحد ‪ ،‬فحضرة تفرد ‪ ،‬وحضرة تجمع ‪ ،‬فمن‬
‫البسملة إلى « الدين » إفراد إلهي ‪ ،‬ومن « اهدنا » إلى « الضالين » إفراد العبد المألوه ‪،‬‬
‫ين »تشمل وما هي العطاء ‪ ،‬وإنما العطاء ما بعدها ‪ ،‬و « إياك‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد َو ِإي َ‬
‫وقوله« ِإي َ‬
‫ّللا ‪« ،‬‬
‫» في الموضعين ملحق باإلفراد اإللهي ‪ ،‬فصحت السبع المثاني ‪ ،‬يقول العبد ‪ ،‬فيقول ه‬
‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫ين »‬ ‫َّاك نَ ْعبُ ُد َوإِي َ‬
‫يم »الجمع ‪ ،‬وليس سوى« إِي َ‬ ‫َو ْالقُ ْرآنَ ْالعَ ِظ َ‬

‫إشارة من اسم فاتحة الكتاب وأم الكتاب‬


‫وسميت الفاتحة الكافية ‪ ،‬ألن بقراءتها وحدها تصح الصالة ‪ ،‬وهي قرآن من حيث ما اجتمع‬
‫العبد والرب في الصالة ‪ ،‬وهي فرقان من حيث ما تميز به العبد من الرب ‪ ،‬مما اختص به في‬
‫القراءة من الصالة ‪ ،‬والعبد في الفاتحة قد أبان الحق بمنزلته فيها ‪ ،‬وأنه ال صالة للعبد إال بها‬
‫‪ ،‬فإنها تعرفه بمنزلته من ربه ‪ ،‬وأنها منزلة مقسمة بين عبد ورب كما ثبت ‪ ،‬وتسمى الفاتحة‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫سورة الحمد ‪ ،‬فإنها الجامعة للمحامد كلها ‪ ،‬وما أنزلت على أحد قبل رسول ه‬
‫وسلم ‪ ،‬وال ينبغي أن تنزل إال على من له لواء الحمد ‪ ،‬فهي الجامعة للمحامد كلها فإنه سبحانه‬
‫ال ينبغي أن يحمد إال بما يشرع أن يحمد به ‪ ،‬من حيث ما شرعه ال من حيث ما تطلبه الصفة‬
‫الحمدية من الكمال ‪ ،‬فذلك هو الثناء اإللهي ‪ ،‬ولو حمد بما تعطيه الصفة لكان حمدا عرفيا‬
‫عقليا ‪ ،‬وال ينبغي مثل هذا الحمد لجالله ‪ .‬إشارة وتحقيق ‪ :‬اعلم أن الفاتحة لها طرفان وواسطة‬
‫‪ ،‬ومقدمتان ورابطة ‪ ،‬فالطرف الواحد بالحقائق اإللهية منوط ‪ ،‬والطرف اآلخر بالحقائق‬
‫اإلنسانية منوط ‪ ،‬والواسطة تأخذ منهما على قدر ما تخبر به عنهما ‪ ،‬والمقدمة الواحدة سماوية‬
‫‪ ،‬والمقدمة األخرى أرضية ‪ ،‬والرابطة لهما هوائية ‪ ،‬فهي الفاتحة ‪ ،‬للتجليات الواضحة ‪ ،‬وهي‬
‫المثاني ‪ ،‬لما في الربوبية والعبودية من المعاني ‪ ،‬وهي الكافية ‪ ،‬لتضمنها البالء والعافية ‪،‬‬
‫وهي السبع المثاني ‪ ،‬الختصاصها بصفات المعاني ‪ ،‬وهي القرآن العظيم ‪ ،‬ألنها تحوي صورة‬
‫المحدث والقديم ‪ ،‬وهي أم الكتاب ‪ ،‬ألنها الجامعة للنعيم والعذاب ‪ -‬إشارة ‪ :‬هي فاتحة الكتاب‬
‫ألن الكتاب عبارة من باب اإلشارة عن المبدع األول ‪ .‬وكذلك الروح ازدوج مع النفس بواسطة‬
‫العقل ‪ ،‬فصارت النفس محل اإليجاد حسا ‪ ،‬فهذه النفس هو الكتاب المرقوم لنفوذ الخط ‪ ،‬فظهر‬
‫في االبن ما خط القلم في األم ‪ -‬إشارة ‪ :‬األم أيضا عبارة عن وجود المثل محل األسرار ‪ ،‬فهو‬
‫الرق المنشور الذي أودع فيه الكتاب المسطور المودعة فيه تلك األسرار اإللهية‪.‬‬

‫ص ‪18‬‬

‫ص ‪18 :‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫بِ ْ‬
‫ّللا »‬ ‫الوجه األول ‪ :‬البسملة آية مستقلة ‪ ،‬ونقول فيها في سورة النمل إنها جزء من آية « بسم ه‬
‫ّللا من حيث هويته وذاته « الرحمن » بعموم رحمته التي وسعت كل شيء « الرحيم »‬ ‫هو ه‬
‫من‬
‫الر ْح ِ‬ ‫بما أوجب على نفسه للتائبين من عباده ‪ ،‬فقدم سبحانه في كتابه العزيز« ِبس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫الر ِح ِيم » *في كل سورة ‪ ،‬إذا كانت السورة تحتوي على أمور مخوفة ‪ ،‬تطلب أسماء العظمة‬ ‫َّ‬
‫ش ْيءٍ‬ ‫ت ُك َّل َ‬ ‫واالقتدار ‪ ،‬فقدم أسماء الرحمة تأنيسا وبشرى ‪ ،‬فإنه تعالى القائل « َو َر ْح َمتِي َو ِسعَ ْ‬
‫ّللا الرحمن الرحيم وإن كان‬ ‫»لهذا ليس في البسملة شيء من أسماء القهر ظاهرا ‪ ،‬بل هو ه‬
‫ّللا » القهر ‪ ،‬فكذلك يتضمن الرحمة ‪ ،‬فما فيه من أسماء الغلبة والقهر والشدة‬ ‫يتضمن االسم « ه‬
‫ّللا » من‬ ‫‪ ،‬يقابله بما فيه من الرحمة والمغفرة والعفو والصفح ‪ ،‬وزنا بوزن في االسم « ه‬
‫من‬
‫الر ْح ِ‬ ‫ّللا » وهو قوله« َّ‬ ‫البسملة ‪ ،‬ويبقى لنا فضل زائد على ما قابلنا به األسماء في االسم « ه‬
‫ّللا‬
‫الر ِح ِيم »فأظهر عين « الرحمن » وعين « الرحيم » خارجا زائدا على ما في االسم ه‬ ‫َّ‬
‫ّللا عرفنا بما يحكمه في خلقه ‪ ،‬وأن الرحمة بما هي في‬ ‫الجامع من البسملة ‪ ،‬فرجح ‪ ،‬فكأن ه‬
‫الر ِح ِيم‬ ‫من َّ‬ ‫الر ْح ِ‬ ‫ّللا الجامع من البسملة ‪ ،‬هي رحمته بالبواطن ‪ ،‬وبما هي ظاهرة في « َّ‬ ‫االسم ه‬
‫»هي رحمته بالظواهر ‪ ،‬فعمت ‪ ،‬فعظم الرجاء للجميع ‪ ،‬وما من سورة من سور القرآن إال‬
‫ّللا بالمآل إلى الرحمة ‪ ،‬فإنه جعلها ثالثة ‪ :‬الرحمة‬ ‫والبسملة في أولها ‪ ،‬فأولناها أنها إعالم من ه‬
‫ّللا » و « الرحمن » و « الرحيم » ولم يجعل للقهر سوى المبطون في‬ ‫المبطونة في االسم « ه‬
‫ّللا » فال عين له موجودة في الظاهر ‪ .‬واعلم أن اختصاص البسملة في أول كل‬ ‫االسم « ه‬
‫سورة ‪ ،‬تتويج الرحمة اإللهية في منشور تلك السورة ‪ ،‬أنها تنال كل مذكور فيها ‪ ،‬فإنها‬
‫للسورة كالنية‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الر ِح ِيم »البسملة عندي آية من‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬ ‫سورة الفاتحة الترجمة عن فاتحة الكتاب« ِبس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫القرآن حيث ما وقعت منه إذا تكررت للفصل بين السور ‪ ،‬فقد تكررت قصة آدم وموسى‬
‫وغيرهما وذكر األنبياء في مواضع كثيرة من القرآن ‪ ،‬ولم يقل أحد أن ذلك ليس من القرآن ‪،‬‬
‫وإن أسقطت في بعض الروايات كقراءة حمزة‬
‫ص ‪19‬‬

‫ص ‪19 :‬‬
‫للعمل ‪ ،‬فكل وعيد ‪ ،‬وكل صفة توجب الشقاء مذكورة في تلك السورة ‪،‬‬
‫[ البسملة فاتحة الفاتحة ]‬
‫فإن البسملة بما فيها من « الرحمن » في العموم و « الرحيم » في الخصوص ‪ ،‬تحكم على ما‬
‫ّللا ذلك العبد ‪ ،‬إما بالرحمة‬ ‫في تلك السورة من األمور التي تعطي من قامت به الشقاء ‪ ،‬فيرحم ه‬
‫الخاصة ‪ ،‬وهي الواجبة ‪ ،‬وإما بالرحمة العامة ‪ ،‬وهي رحمة االمتنان ‪ ،‬فالمآل إلى الرحمة‬
‫ألجل البسملة ‪ ،‬فهي بشرى ‪.‬‬
‫والبسملة فاتحة الفاتحة ‪ ،‬وهي آية أولى منها ‪ ،‬أو مالزمة لها ‪ ،‬كالعالوة ‪ ،‬على الخالف‬
‫الر ِح ِيم »عندنا ‪ ،‬خبر ابتداء مضمر ‪ ،‬وهو ابتداء‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬ ‫المعلوم بين العلماء ‪ ،‬و« ِبس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫العالم وظهوره ‪ ،‬ألن األسماء اإللهية سبب وجود العالم ‪ ،‬وهي المسلطة عليه والمؤثرة ‪ ،‬فكأنه‬
‫ّللا الرحمن الرحيم ظهر العالم ‪،‬‬
‫ّللا الرحمن الرحيم ‪ ،‬أي باسم ه‬ ‫يقول ‪ :‬ظهور العالم بسم ه‬
‫والبسملة التي تنفصل عنها الكائنات على اإلطالق هي بسملة الفاتحة ‪ ،‬ال بسملة سائر السور ‪،‬‬
‫فاّلل‬
‫فإن بسملة سائر السور ألمور خاصة ‪ ،‬واختص الثالثة األسماء ألن الحقائق تعطي ذلك ‪ ،‬ه‬
‫هو االسم الجامع لألسماء كلها ‪ ،‬والرحمن صفة عامة ‪ ،‬فهو رحمن الدنيا واآلخرة ‪ ،‬بها رحم‬
‫كل شيء من العالم في الدنيا ‪ ،‬ولما كانت الرحمة في اآلخرة ال تختص إال بقبضة السعادة ‪،‬‬
‫فإنها تنفرد عن أختها ‪ ،‬وكانت في الدنيا ممتزجة ‪ ،‬يولد كافرا ‪ ،‬ويموت مؤمنا ‪ ،‬أي ينشأ كافرا‬
‫في عالم الشهادة ‪ ،‬وبالعكس ‪ ،‬وتارة وتارة ‪ ،‬وبعض العالم تميز بإحدى القبضتين بإخبار‬
‫صادق ‪ ،‬فجاء االسم « الرحيم » مختصا بالدار اآلخرة لكل من آمن ‪ ،‬وتم العالم بهذه الثالثة‬
‫ّللا » وتفصيال في االسمين « الرحمن‬ ‫األسماء ‪ ،‬جملة في االسم « ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ابن حبيب الزيات وكإسقاط هو من سورة الحديد « ‪ ، » 1‬والباء من بالزبر « ‪ ، » 2‬ولم‬
‫يجرح إسقاطها في قراءة من أثبتها من القرآن ‪ ،‬وأما في الفاتحة وفي النمل فما أحد من القراء‬
‫أسقطها رأسا ‪ ،‬إال بسملة الفاتحة في الصالة ‪ ،‬فمنع مالك قراءتها سرا وجهرا ‪ ،‬في المكتوبة ‪،‬‬
‫وأجازها في النافلة ‪ ،‬وأما الثوري وأبو حنيفة فقاال يقرؤها سرا في كل ركعة ‪ ،‬وقال الشافعي‬
‫يقرؤها وال بد في الجهر جهرا وفي السر سرا ‪ ،‬وهي عندي آية من الفاتحة وهو مذهب أبي‬
‫ثور وأحمد ‪ ،‬ومن بعض أقوال الشافعي أن البسملة‬

‫ي » *قرأ المدنيان وابن عامر بغير ( هو ) وكذلك هو في مصاحف‬ ‫ّللا ُه َو ْالغَنِ ُّ‬
‫«) ‪( 1‬فَإِ َّن َّ َ‬
‫المدينة والشام ‪ ،‬وقرأ الباقون بزيادة ( هو ) وكذلك في مصاحفهم ‪ -‬سورة الحديد ‪.‬‬
‫الزبُ ِر َو ْال ِكتا ِ‬
‫ب »قرأ ابن عامر « وبالزبر » بزيادة باء بعد الواو والباقي‬ ‫ت َو ُّ‬‫«) ‪( 2‬بِ ْالبَ ِيهنا ِ‬
‫بحذفها ‪ -‬آل عمران‪.‬‬
‫‪20‬‬

‫ص ‪20 :‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا » أي بي قام كل شيء وظهر « الرحمن » من أعربه بدال من ه‬ ‫الرحيم « »فبسم ه‬
‫جعله ذاتا ‪ ،‬ومن أعربه نعتا ‪ ،‬جعله صفة ‪ ،‬وفيها بسط الرحمة على العالم « الرحيم » وبه‬
‫تمت البسملة ‪ ،‬وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا ‪.‬‬
‫أما سورة التوبة ‪ ،‬فهي واألنفال سورة واحدة ‪ ،‬قسمها الحق على فصلين ‪ ،‬فإن فصلها القارئ‬
‫وحكم بالفصل ‪ ،‬فقد سماها سورة التوبة ‪ ،‬أو سورة الرجعة اإللهية بالرحمة على من غضب‬
‫وّللا هو التواب ‪ ،‬فما قرن بالتواب إال‬
‫عليه من العباد ‪ ،‬فما هو غضب أبد ‪ ،‬لكنه غضب أمد ‪ ،‬ه‬
‫الرحيم ‪ ،‬ليئول المغضوب عليه إلى الرحمة ‪ ،‬أو الحكيم ‪ ،‬لضرب المدة في الغضب ‪ ،‬وحكمها‬
‫فيه إلى أجل ‪ ،‬فيرجع عليه بعد انقضاء المدة بالرحمة ‪ ،‬فانظر إلى االسم الذي نعت به «‬
‫التواب » تجد حكمه كما ذكرنا ‪ ،‬والقرآن جامع لذكر من رضي عنه وغضب عليه ‪ ،‬وتتويج‬
‫ّللا‪.‬‬
‫الر ِح ِيم »والحكم للتتويج ‪ ،‬فإنه به يقع القبول ‪ ،‬وبه يعلم أنه من عند ه‬
‫من َّ‬‫الر ْح ِ‬
‫منازله ب« َّ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫آية من كل سورة ‪ ،‬وبه نقول ‪ ،‬وأما قراءة الفاتحة في الصالة قال تعالى «فَا ْق َرؤُا ما تَيَ َّ‬
‫س َر ِمنَ‬
‫ون ِم ْن ُك ْم َم ْرضى »فروي عن عمر أن الصالة تجوز بغير قراءة ‪ ،‬وروي‬ ‫سيَ ُك ُ‬ ‫ع ِل َم أ َ ْن َ‬
‫آن َ‬ ‫ْالقُ ْر ِ‬
‫عن ابن عباس أنه ال يقرأ في صالة السر ‪ ،‬وأوجب الشافعي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة‬
‫من الصالة ‪ ،‬وهي أشهر الروايات عن مالك ‪ ،‬وروي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من‬
‫الرباعية أجزأه ‪ ،‬وقال الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة ‪ :‬تجوز في قراءة واحدة ‪ ،‬قال‬
‫أبو حنيفة ‪ :‬يجب قراءة أي آية اتفقت في الركعتين األوليين ‪ ،‬ويستحب فيما بقي من الصالة‬
‫التسبيح دون القراءة ‪ ،‬وبه قال الكوفيون ‪ ،‬وجمهور العلماء يستحبون القراءة في الصالة كلها«‬
‫ّللا ما في الحمد هلل من معنى الفعل ‪ ،‬أي يضمر له فعل من‬ ‫ّللا »العامل في الباء من بسم ه‬ ‫ِبس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وهكذا في كل سورة في القرآن‬ ‫لفظه ‪ ،‬مثل حمدته أو أحمده ‪ ،‬وبه تتعلق الباء من بسم ه‬
‫ّللا ‪ .‬أذكرها‬ ‫أولها الحمد ‪ ،‬وفي بعض سور القرآن تكون في أولها أفعال تطلب الباء من بسم ه‬
‫ّللا » اسم للذات وإن كان يجري مجرى العلمية له سبحانه ‪ ،‬فإن‬ ‫ّللا « ه‬ ‫في موضعها أن شاء ه‬
‫المفهوم منه مع هذا بأول اإلطالق من له نعوت األلوهية من الكمال والتنزيه والجالل ‪ ،‬وفي‬
‫طريق االشتقاق فيه تكلف وتعسف ‪ ،‬وهو اسم مختلف في اشتقاقه فأضربنا عن الخوض في‬
‫ذلك لقلة فائدته ‪ ،‬غير أن الغالب عليه أن يجري مجرى األسماء األعالم ‪ ،‬وهو اسم محفوظ‬
‫الر ِح ِيم »من وقف عند‬ ‫من َّ‬ ‫الر ْح ِ‬ ‫من أن يسمى به غيره سبحانه على هذه الصورة الخاصة« َّ‬
‫عوا فَلَهُ ْاأل َ ْسما ُء‬‫الر ْحمنَ أَيًّا ما ت َ ْد ُ‬
‫عوا َّ‬‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬‫قوله سبحانه( قُ ِل ا ْد ُ‬
‫ص ‪21‬‬

‫ص ‪21 :‬‬
‫والقراء في وصل البسملة على أربعة مذاهب ‪:‬‬
‫المذهب الواحد ال يرونه أصل ‪ ،‬وهو أن يصل آخر السورة بالبسملة ويقف ويبتدئ بالسورة ‪،‬‬
‫هذا ال يرتضيه أحد من القراء العلماء منهم ‪ ،‬وقد رأيت األعاجم من الفرس يفعلون مثل هذا ‪،‬‬
‫مما ال يرتضيه علماء األداء من القراء ‪.‬‬
‫والمذهب الحسن الذي ارتضاه الجميع ‪ ،‬وال أعرف لهم مخالفا من القراء ‪ ،‬الوقوف على آخر‬
‫السورة ‪ ،‬ووصل البسملة بأول السورة التي يستقبلها ‪.‬‬
‫والمذهبان اآلخران ‪ ،‬وهما دون هذا من االستحسان ‪ :‬أن يقطع في الجميع ‪ ،‬أو يصل في‬
‫الجميع ‪ ،‬وأجمع الكل أن يبتدئ بالتعوذ والبسملة عند االبتداء بالقراءة في أول السورة ‪ ،‬وأجمع‬
‫على قراءة البسملة في الفاتحة جماعة القراء بال خالف ‪ ،‬واختلفوا في سائر سور القرآن ‪ ،‬ما‬
‫لم يبتدئ أحد منهم بالسورة ‪ ،‬فخيهر من خيهر في ذلك « كورش » ومنهم من ترك « كحمزة »‬
‫ومنهم من بسمل ولم يخيهر كسائر القراء ‪.‬‬
‫الجمد هلل رب العالمين ‪2‬‬
‫قرئ « الحمد » بخفض الدال ‪ ،‬و « الحمد هلل » برفع الالم اتباعا لحركة الدال ‪ ،‬والحمد ‪:‬‬
‫ثناء عام ‪ ،‬ما لم يقيده الناطق به بأمر ‪ ،‬وله ثلث مراتب ‪:‬‬
‫حمد الحمد ‪،‬‬
‫وحمد المحمود نفسه ‪،‬‬
‫وحمد غيره له ‪،‬‬
‫وما ثم مرتبة رابعة في الحمد ‪ ،‬ثم في الحمد بما يحمد الشيء‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا في العلمية ‪ ،‬فاتحد المدلول وهو الذات ‪ ،‬وهو فعالن ‪ ،‬وإن‬ ‫ْال ُحسْنى * )أجراه مجرى االسم ه‬
‫كان هذا اللفظ مشتقا من لفظ الرحمة وهو األظهر ‪ ،‬فمعناه الذي له تعميم الرحمة في خلقه ‪،‬‬
‫أي هذه النسبة إليه صحيحة ‪ ،‬وإن كان المرحومون معدومين ‪ ،‬و « الرحيم » تخصيص‬
‫الرحمة بالسعداء في الدنيا بالتوفيق والهداية ‪ ،‬وفي اآلخرة بالنجاة من العذاب وحصول النعيم ‪،‬‬
‫وسيأتي ذلك في الفاتحة ‪ ،‬والرحمن [ نعت لعموم الرحمة بالخلق ] « * » من االسم الرحمن ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬لم‬
‫والنعت وإن كان يأتي لرفع اللبس فقد يجاء به لمجرد المدح والثناء ‪ ،‬قيل لهم ‪ :‬اعبدوا ه‬
‫ّللا ؟ قيل لهم ‪ :‬اسجدوا للرحمن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما الرحمن ؟ فعلى كل وجه النعت فيه‬ ‫يقولوا ‪ :‬وما ه‬
‫أولى ‪ ،‬وال يلتفت لما قاله الطبري في ذلك ‪ ،‬فإنه مدخول معلول من عدم معرفة العرب‬
‫ّللا ‪ ،‬أي الثناء عليه بأسمائه‬ ‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل »بسم ه‬ ‫بالرحمن ( ‪ْ «) 2‬ال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫الحسنى ‪ ،‬وهذا يدلك على أن أسماءه سبحانه تجري مجرى النعوت‬

‫) * (بياض في األصل‪.‬‬
‫ص ‪22‬‬

‫ص ‪22 :‬‬
‫نفسه ‪ ،‬أو يحمده غيره ‪ ،‬تقسيمان ‪ :‬إما أن يحمده بصفة فعل ‪ ،‬وإما أن يحمده بصفة تنزيه ‪،‬‬
‫وما ثم حمد ثالث هنا ‪ .‬وأما حمد الحمد له ‪ ،‬فهو في الحمدين بذاته ‪ ،‬إذ لو لم يكن لما صح أن‬
‫يكون لها حمد ‪ ،‬ثم إن الحمد على المحمود قسمان ‪ :‬القسم الواحد أن يحمد بما هو عليه ‪ ،‬وهو‬
‫الحمد األعم ‪ ،‬والقسم الثاني ‪ :‬أن يحمد على ما يكون منه ‪ ،‬وهو الشكر ‪ ،‬وهو األخص ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا عليه وسلم يقول في المقام المحمود ‪ :‬فأحمده بمحامد ال أعلمها اآلن ‪ ،‬وقال ‪:‬‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫ال أحصي ثناء عليك ‪ ،‬ألن ما ال يتناهى ال يدخل في الوجود ‪ ،‬ولما كان كل عين حامدة‬
‫ّللا ‪ ،‬وال محمود إال‬
‫ومحمودة في العالم كلمات الحق ‪ ،‬رجعت إليه عواقب الثناء ‪ ،‬فال حامد إال ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وحمد الحمد صفته ‪ ،‬ألن الحمد صفته ‪ ،‬وصفته عينه ‪ ،‬إذ ال يتكثر ‪ ،‬فما في المحامد‬ ‫ه‬
‫أصدق من حمد الحمد ‪ ،‬فإنه عين قيام الصفة به ‪ ،‬فال محمود إال من حمده الحمد ‪ ،‬ال من حمد‬
‫نفسه ‪ ،‬وال من حمده غيره ‪ ،‬فإذا كان عين الصفة عين الموصوف عين الواصف ‪ ،‬كان الحمد‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو عين حمده ‪ ،‬سواء أضيف ذلك الحمد إليه أو إلى‬ ‫عين الحامد والمحمود ‪ ،‬وليس إال ه‬
‫غيره ‪ ،‬فإن قيام الصفة بالموصوف ما فيها دعوى ‪ ،‬وال يتطرق إليها احتمال ‪ ،‬والواصف‬
‫ّللا بما‬
‫نفسه أو غيره بصفة ما ‪ ،‬يفتقر إلى دليل على صدق دعواه ‪ ،‬فالحمد ‪ :‬هو الثناء على ه‬
‫ّللا إال‬
‫ّللا بما يكون منه من النعم ‪ ،‬وال يكون الثناء أبدا على ه‬ ‫هو أهله ‪ ،‬والشكر ‪ :‬الثناء على ه‬
‫مقيدا إما بالنطق ‪ ،‬وإما بالمعنى الباعث على الحمد ‪ ،‬وقد يرد في النطق مطلقا ومقيدا مثل قوله‬
‫تعالى في المطلق اللفظي« قُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل » *وأما المقيد فتارة يقيده بصفة تنزيه كقوله تعالى«‬
‫ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل الَّذِي لَ ْم يَت َّ ِخ ْذ َولَدا ا »وتارة يقيده بصفة فعل ‪ ،‬كقوله « الحمد هّلل‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ال مجرى العلمية ‪ ،‬ألن األسماء األعالم ال يكون بها الثناء ‪ ،‬وإنما يقع الثناء على المثنى عليه‬
‫بما تدل عليه هذه األلفاظ من نعوت الجالل له سبحانه ‪ ،‬فبها يحمد ‪ ،‬فمن المفهوم الثاني من‬
‫ّللا ثناء عليه سبحانه ‪ ،‬بل أتم الثناء لجمعيته مراتب األلوهية ‪ ،‬ولذا علقنا‬
‫ّللا يكون االسم ه‬
‫االسم ه‬
‫الباء بما في الحمد من معنى الفعل ‪ ،‬يقول سبحانه الثناء هّلل من حيث أنه مثني عليه سبحانه‬
‫ومثن اسم فاعل واسم مفعول بجميع أوصاف الثناء ‪ ،‬دل على األول الالم من هّلل ‪ ،‬فال حامد‬
‫وال محمود اال هو ‪ ،‬وكل ثناء من غيره فهو راجع إليه بما يكون منه وهو عليه ‪ ،‬فله عواقب‬
‫الثناء كله ‪ ،‬وله الحمد في األولى واآلخرة في الحالتين معا ‪ ،‬ودل على الثاني األلف والالم‬
‫الستغراق أجناس الثناء ‪ ،‬فالثناء عليه سبحانه بوجهين ‪ ،‬بما هو عليه من نعوت الجالل وبما‬
‫يكون منه من اإلنعام واإلحسان ‪ ،‬وهذا‬
‫ص ‪23‬‬

‫ص ‪23 :‬‬
‫ض »وما خرج‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬‫سماوا ِ‬ ‫الذي أنزل الكتاب على عبده » وقوله« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل الَّذِي َخلَقَ ال َّ‬
‫حمد من محاميد الكتب المنزلة من عنده عن هذا التقسيم ‪ .‬الحمد هّلل تمأل الميزان ‪ ،‬ألنه كل ما‬
‫ّللا وحمد هّلل ‪ ،‬فما مأل الميزان إال الحمد ‪ ،‬فالتسبيح حمد ‪ ،‬وكذلك‬ ‫في الميزان ‪ ،‬فهو ثناء على ه‬
‫التهليل والتكبير والتمجيد والتعظيم والتوقير والتعزيز ‪ ،‬وأمثال ذلك كله حمد ‪ ،‬فالحمد هّلل هو‬
‫العام الذي ال أعم منه ‪ ،‬وكل ذكر فهو جزء منه ‪ ،‬كاألعضاء لإلنسان ‪ ،‬والحمد كاإلنسان‬
‫ّللا آدم وسواه ‪ ،‬نفخ فيه الروح ‪ ،‬فاستوى قاعدا ‪ ،‬فعطس ‪،‬‬ ‫بجملته ‪ « ،‬الحمد هلل » بعد ما خلق ه‬
‫ّللا يا آدم ‪ ،‬لهذا خلقتك » ولهذا قال عقيب قوله «‬ ‫فقال « الحمد هلل »فقال له الحق « يرحمك ه‬
‫علَ ْي ِه ْم‬
‫ب َ‬ ‫غي ِْر ْال َم ْغ ُ‬
‫ضو ِ‬ ‫الر ِح ِيم »فقدم الرحمة ‪ ،‬ثم قال« َ‬ ‫من َّ‬ ‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »« َّ‬
‫الر ْح ِ‬ ‫ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫»فأخر غضبه ‪ ،‬فسبقت الرحمة الغضب في أول افتتاح الوجود ‪ ،‬فسبقت الرحمة إلى آدم قبل‬
‫العقوبة على أكل الشجرة ‪ ،‬ثم رحم بعد ذلك ‪ ،‬فجاءت رحمتان بينهما غضب ‪ ،‬فتطلب‬
‫الرحمتان أن تمتزجا ‪ ،‬ألنهما مثالن ‪ ،‬فانضمت هذه إلى هذه ‪ ،‬فانعدم الغضب بينهما ‪ ،‬فإذا قال‬
‫ّلل » *أي ال حامد إال هو ‪ ،‬فأحرى أن ال يكون محمودا سواه ‪ ،‬وتقول العامة«‬ ‫العالم« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وهي الحامدة ‪ ،‬فاشتركا في صورة اللفظ ‪َ «.‬ربه ِ ْالعالَ ِمينَ‬ ‫ّلل » *أي ال محمود إال ه‬ ‫ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وليس إال الممكنات ‪ ،‬سواء وجدت أو لم توجد ‪،‬‬ ‫[»اعلم أن العالم عبارة عن كل ما سوى ه‬
‫فإنها بذاتها عالمة على علمنا ‪ ،‬أو على العلم بواجب الوجود‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫النوع الواحد يسمى شكرا ‪ ،‬والحمد يجمعها فمن فسر الحمد هنا بالشكر خاصة فقد قصر وما‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »يقول ه‬
‫ّللا‬ ‫أعطى الكلمة حقها في الداللة ‪ ،‬يقول العبد في الصالة« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫وّلل‬
‫حمدني عبدي ‪ ،‬وما قال شكرني عبدي ‪ ،‬فصح ما ذكرناه من عموم الثناء هنا أنه مراد ‪ ،‬ه‬
‫متعلق أيضا بما في الكالم من معنى الفعل وهو كائن ومستقر ‪ - .‬إشارة ‪ -‬الالم من هّلل الخافضة‬
‫ّللا ‪ ،‬والهاء من هّلل معمولة‬ ‫حرف ‪ ،‬فهي عبد ‪ ،‬إذ الحرف يدل على المعنى ‪ ،‬والعبد يدل على ه‬
‫لالم بما حصل لها من الخفض ‪ ،‬الحق مدلول دليل العبد ‪ ،‬من عرف نفسه عرف ربه ‪ ،‬فجعله‬
‫دليال على معرفته ‪ ،‬فكان العلم به معموال للعلم بنا ‪ ،‬وكونه خفضا ألنه يتعالى عن أن نعرف‬
‫حقه ‪ ،‬فال نعلم منه إال ما يناسبنا ولهذا نتخلق بأسمائه الحسنى التي بيدنا ‪ ،‬فهذا معنى الخفض‬
‫ألنها معرفة نازلة عن علمه بنفسه سبحانه ‪ .‬قوله« َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »يقول مصلح العالم ‪ ،‬واسم‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫العالمين هنا كل ما سوى ه‬
‫ص ‪24‬‬

‫ص ‪24 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن اإلمكان حكم لها الزم في حال عدمها ووجودها ‪ ،‬بل هو ذاتي لها ‪ ،‬ألن‬ ‫لذاته ‪ ،‬وهو ه‬
‫الترجيح لها الزم ‪ ،‬فالمرجح لها الزم ‪ ،‬فالمرجح معلوم ‪ ،‬ولهذا سمى عالما من العالمة ‪ ،‬ألنه‬
‫الدليل على المرجح ‪ ،‬فاعلم ذلك ‪ .‬وليس العالم في حال وجوده بشيء سوى الصور التي قبلها‬
‫العماء وظهرت فيه ‪ ،‬فالعالم إن نظرت حقيقته إنما هو عرض زائل ‪ ،‬أي في حكم الزوال ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أصدق‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫ش ْيءٍ ها ِل ٌك إِ َّال َو ْج َههُ »وقال رسول ه‬
‫وهو قوله تعالى « ُك ُّل َ‬
‫ّللا باطل » يقول ما له حقيقة يثبت عليها من‬ ‫بيت قالته العرب قول لبيد « أال كل شيء ما خال ه‬
‫ّللا عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب «‬ ‫نفسه ‪ ،‬فما هو موجود إال بغيره ‪ ،‬ولذلك قال صلهى ه‬
‫ّللا باطل » فالجوهر الثابت هو العماء ‪ ،‬وليس إال نفس الرحمن ‪ ،‬والعالم‬ ‫أال كل شيء ما خال ه‬
‫جميع ما ظهر فيه من الصور ‪ ،‬فهي أعراض فيه ‪ ،‬يمكن إزالتها ‪ ،‬وتلك الصور هي الممكنات‬
‫‪ ،‬ونسبتها من العماء نسبة الصور من المرآة ‪ ،‬تظهر فيها لعين الرائي ‪ ،‬والحق تعالى هو‬
‫بصر العالم ‪ ،‬فهو الرائي ‪ ،‬وهو العالم بالممكنات ‪ ،‬فما أدرك إال ما علمه من صور الممكنات‬
‫‪ ،‬فظهر العالم بين العماء وبين رؤية الحق ‪ ،‬فكان ما ظهر دليال على الرائي ‪ ،‬وهو الحق ‪،‬‬
‫فتفطن[ دحض ما جاء في فتاوى اإلمام ابن تيمية وما نسب إلى الشيخ األكبر ابن العربي أنه‬
‫يقول ‪ :‬إن وجود المحدث هو عين وجود القديم وأنه ينكر التمييز بين القديم والمحدث ]‬
‫واعلم من أنت ] « * » ‪ .‬والرب ال يعقل إال مضافا ‪ ،‬ولذلك ما جاء في القرآن قط مطلقا من‬
‫غير إضافة وإن اختلفت إضافاته ‪ ،‬فتارة يضاف إلى أسماء مضمرة ‪ ،‬وتارة يضاف إلى‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »لم يقل رب نفسه‬
‫األعيان ‪ ،‬وتارة يضاف إلى األحوال ‪ ،‬فقال تعالى« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫‪ ،‬ألن الشيء ال يضاف إلى نفسه ‪ ،‬وأثبت بقوله هذا حضرة الربوبية ‪ ،‬أي مربيهم ومغذيهم ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫والرب هو المصلح والمربي والسيد والمالك والثابت ‪ ،‬والعالم إذا كان مشتقا من العالمة أي‬
‫هو دليل عليه ‪ ،‬فإصالح الدليل أن يكون سادا ال يدخله خلل ‪ ،‬وإذا لم يكن مشتقا ‪ ،‬فهو سبحانه‬
‫مصلح العالمين بما جعل فيهم من صالح دنياهم وآخرتهم وجميع أسبابهم ‪ ،‬كما أنه سبحانه من‬
‫هذا االسم مغذيهم ومربيهم ‪ ،‬كما أنه سيدهم ومالكهم ‪ ،‬فهو الثابت وجوده الذي ال ينقطع ‪،‬‬
‫ويكون العالم محفوظا ببقائه وثبات وجوده ‪ - .‬إشارة ‪ -‬والرب هنا أيضا معمول لالم الجر ‪،‬‬
‫والعالمين في موضع خفض باإلضافة ال بالالم ‪ ،‬فإن الرب هنا هو المضاف إلى العالم ‪ ،‬ولما‬
‫كان حرف الباء‬

‫( * ) هذه الفقرة تدحض وترد ما جاء في فتاوى اإلمام ابن تيمية في الصفحة رقم ‪ 239‬من‬
‫المجلد الحادي عشر من مجموعة فتاويه المطبوعة بالرياض عام ‪ 1382‬ه ‪ ،‬حيث ينسب إلى‬
‫ّللا عنه ينكر‬
‫الشيخ األكبر ‪ ،‬أن وجود المحدث هو عين وجود القديم ‪ ،‬وأن الشيخ رضي ه‬
‫التمييز بين القديم والمحدث ‪.‬‬
‫ص ‪25‬‬

‫ص ‪25 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذه وصية إلهية لعباده ‪ ،‬لما خلقهم على صورته ‪،‬‬
‫والعالمين عبارة عن كل ما سوى ه‬
‫وأعطى من أعطى منهم اإلمامة الكبرى والدنيا وما بينهما ‪ ،‬وذلك قوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫من‬
‫الر ْح ِ‬
‫كلكم راع ومسؤول عن رعيته ‪ ،‬وجعل هذا التحميد بين الرحمة المركبة ‪ ،‬فإنه تقدمه« َّ‬
‫الر ِح ِيم »فصار العالم بين رحمتين ‪ ،‬فأوله مرحوم ومآله إلى‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫الر ِح ِيم »وتأخر بعده « َّ‬
‫َّ‬
‫الرحمة ‪.‬‬
‫[ إشارة إلى معنى اسم الرب بالثابت ]‬
‫إشارة ‪ -‬الرب الثابت فال يزول ‪ ،‬فال تزيله « ‪. » 1‬‬

‫الحمد هّلل رب العالمين على ‪ ....‬ما كان منه من األحوال في الناس‬


‫مما يسرهمو مما يسوؤهمو ‪ .....‬وكل ذلك محمول على الرأس‬
‫من قبل والدنا المنعوت بالناسي‬ ‫له الثناء له التمجيد أجمعه ‪....‬‬
‫عبدته وطلبت العون منه كما ‪ ....‬قد قال شرعا على تحرير أنفاسي‬
‫وأن يهيئ لي من أمرنا رشدا ‪ .....‬وأن يلين مني قلبي القاسي‬
‫حتى أكون على النهج القويم به ‪ ....‬خلقا كريما بإسعاد وإيناس‬
‫الرحمن الرحيم ‪3‬‬
‫ّللا تعالى وهو من األسماء المركبة ‪ ،‬كبعلبك ورام هرمز ‪،‬‬
‫الر ِح ِيم " من أسماء ه‬
‫من َّ‬‫الر ْح ِ‬
‫" َّ‬
‫فكانت تربيته تعالى للعالم باللطف والحنان والرحمة الرحمانية المؤكدة بالرحيمية ‪ ،‬فعم‬
‫بالرحمن ‪ ،‬فالرحمن مبالغة في الرحمة العامة ‪ ،‬التي تعم الكون أجمعه ‪ ،‬وخص بالرحيم ‪،‬‬
‫ّللا تعالى في أم الكتاب أربع رحمات ‪ :‬فضمن اآلية األولى من أم الكتاب وهي البسملة‬ ‫وجعل ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من الرب معموال لالم هّلل ‪ ،‬لم يكن العالم من طريق المعنى مرفوعا ‪ ،‬فبقي على أصله من‬
‫الخفض ‪ ،‬فال وجه للرفع هنا أصال ‪ ،‬لفظا ومعنى ‪ ،‬وقد نبهتك على مأخوذ اإلشارات كيف هي‬
‫عند أصحابنا ‪ ،‬فإنها ال تجري مجرى التفسير ‪ ،‬ولكن تجري مجرى الداللة ‪ ،‬فارجع إلى‬
‫الر ِح ِيم »اعلم أنه مهما وقع‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫الترجمة من غير إشارة تتخللها والحمد هّلل ‪ ،‬قوله ( ‪َّ «) 3‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فال بد أن يكون لالسم معنى فيه ‪،‬‬‫ذكر العالم مجاورا السم إلهي وبين اسمين من أسماء ه‬
‫فينبغي للمفسر أن ال يغفل عن هذا القدر ‪ ،‬والرحمن هو الذي وسعت رحمته كل شيء بإخراج‬
‫كل شيء من العدم إلى الوجود ‪،‬‬

‫) ‪( 1‬ال ‪ :‬هنا نافية أي أنك بإزالته في زعمك فإنه ال يزول‪.‬‬


‫ص ‪26‬‬

‫ص ‪26 :‬‬
‫رحمتين ‪ ،‬هو قوله‬
‫[ نصيحة ‪ :‬الرحمن الرحيم ]‬
‫الرحمن الرحيم ‪ ،‬وضمن اآلية الثالثة منها أيضا رحمتين ‪ ،‬وهما قوله الرحمن الرحيم ‪ ،‬فهو‬
‫رحمن بالرحمتين ‪ ،‬العامة ‪ ،‬وهي رحمة االمتنان ‪ ،‬وهو رحيم بالرحمة الخاصة وهي الواجبة‬
‫الر ْح َمةَ »وأما‬
‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬ ‫سأ َ ْكتُبُها ِللَّذِينَ يَتَّقُونَ »اآليات ‪ ،‬وقوله« َكت َ َ‬
‫ب َربُّ ُك ْم َ‬ ‫‪ ،‬في قوله« فَ َ‬
‫ّللا من وفقه‬
‫رحمة االمتنان فهي التي تنال من غير استحقاق بعمل ‪ ،‬وبرحمة االمتنان رحم ه‬
‫للعمل الصالح الذي أوجب له الرحمة الواجبة ‪ ،‬فبها ينال العاصي وأهل النار إزالة العذاب ‪،‬‬
‫وإن كان مسكنهم ودارهم جهنم ‪ ،‬وهذه رحمة االمتنان ‪ ،‬فالرحمن في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬والرحيم‬
‫اختصاص الرحمة باآلخرة ‪ -‬نصيحة ‪ -‬الزم االسم المركب من اسمين فإن له حقا عظيما ‪،‬‬
‫وهو قولك الرحمن الرحيم خاصة ‪ ،‬ما له اسم مركب غيره فله األحدية ‪ ،‬ومن ذكره بهذا االسم‬
‫ال يشقى أبدا‬
‫مالك يوم الدين ‪4‬‬
‫يريد يوم الجزاء فهو يوم الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فإن الحدود ما شرعت في الشرائع إال جزاء ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وبما خلق في الموجودات من الرحمة التي يتعاطفون بها بعضهم على بعض ‪ ،‬وذلك سار في‬
‫كل حيوان ‪ ،‬وهي لهم من باب المنة ‪ ،‬ومن حكم هذه الرحمة اجترأ من اجترأ على مخالفة‬
‫ِي الَّذِينَ أَس َْرفُوا‬‫ّللا ‪ ،‬قال تعالى« يا ِعباد َ‬ ‫ّللا من المؤمنين ‪ ،‬فإنهم ال يقنطون من رحمة ه‬ ‫أوامر ه‬
‫وب َج ِميعا ا »وفي حديث الشفاعة يقول ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا يَ ْغ ِف ُر الذُّنُ َ‬ ‫على أ َ ْنفُ ِس ِه ْم ال ت َ ْقنَ ُ‬
‫طوا ِم ْن َر ْح َم ِة َّ ِ‬
‫ّللا ِإ َّن َّ َ‬ ‫َ‬
‫اإل ْن ُ‬
‫سان‬ ‫‪ :‬وبقي أرحم الراحمين ‪ ،‬فأتى بنعت الرحمة ‪ ،‬ومن رحمته تلقين عبده حجته« يا أَيُّ َها ْ ِ‬
‫ما غ ََّر َك ِب َر ِبه َك ْال َك ِر ِيم ؟ »ليقول له العبد ‪ :‬كرمك ‪ ،‬فيلطف به ‪ ،‬فلو قال ‪ :‬الشديد العقاب ‪ ،‬ذهل‬
‫الر ِح ِيم »مجرى االسم الواحد المركب ‪ ،‬مثل بعلبك‬ ‫من َّ‬ ‫الر ْح ِ‬ ‫وتحير ‪ ،‬وقد يمكن أن يجري« َّ‬
‫ورام هرمز ‪ ،‬لما قيل في مسيلمة رحمان اليمامة ‪ ،‬ولم يطلق على أحد قط مجموع االسمين ‪،‬‬
‫سأ َ ْكتُبُها‬
‫وقد يكون الرحيم مبالغة في رحمته بعباده السعداء ‪ ،‬فإن رحمته قد خصها بقوله( فَ َ‬
‫الر ْح َمةَ )اآلية ‪ ،‬فهؤالء‬
‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬‫ب َربُّ ُك ْم َ‬ ‫ِللَّذِينَ يَتَّقُونَ )أي أوجبها على نفسي لهم( َكت َ َ‬
‫يأخذونها من طريق الوجوب لقيام األسباب التي جعلها الحق موجبة لها بهم ‪ ،‬ومن عدا هؤالء‬
‫فينتظرونها من باب المنة ‪ ،‬فإن التقييد من صفة الخلق ال من صفة الحق ‪ ،‬حتى إن إبليس‬
‫من‬
‫الر ْح ِ‬‫يطمع فيها من باب المنة ‪ ،‬إذ ال مكره له ‪ ،‬وإن دخلوا النار ‪ ،‬يقول العبد في الصالة ( َّ‬
‫ي عبدي ‪ ،‬فهو قولنا إن أسماءه ال تجري مجرى األعالم ‪«) 4 ( .‬‬ ‫ّللا أثنى عل ه‬ ‫الر ِح ِيم )يقول ه‬ ‫َّ‬
‫ِين »يقول ‪ :‬مالك يوم الجزاء ‪ ،‬وهو يوم الدنيا‬ ‫ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫ص ‪27‬‬

‫ص ‪27 :‬‬
‫وما أصابت المصائب من أصابته إال جزاء بما كسبت يده ‪ ،‬مع كونه يعفو عن كثير ‪ ،‬وكذلك‬
‫ما ظهر من الفتن والخراب والحروب والطاعون ‪ ،‬فهو كله جزاء أعمال عملها الناس ‪،‬‬
‫استحقوا بذلك ما ظهر من الفساد في البر والبحر فهو جزاء في الدنيا ‪ ،‬فيوم الدنيا يوم الجزاء‬
‫ويوم اآلخرة هو يوم الجزاء ‪ ،‬غير أنه في اآلخرة أشد وأعظم ‪ ،‬ألنه ال ينتج أجرا لمن أصيب‬
‫وقد ينتج في الدنيا أجرا لمن أصيب وقد ال ينتج ‪ ،‬ومن الجزاء في الدنيا مجازاة أهل الشقاء بما‬
‫ّللا به عليهم من النعم حتى انقلبوا إلى اآلخرة‬ ‫عملوا من مكارم األخالق في الدنيا ‪ ،‬بما أنعم ه‬
‫وقد جنوا ثمرة خيرهم في الدنيا ‪ ،‬فلو لم تكن الدنيا دار جزاء ما كان هذا ‪ ،‬فال اختصاص ليوم‬
‫ظ َه َر ْالفَسا ُد فِي ْالبَ ِ هر‬
‫باّلل ‪ ،‬أقام لهم الحق في ذلك دليال لما جهلوا« َ‬ ‫الدين بيوم عند العلماء ه‬
‫ع ِملُوا »فأخبر أنه جزاء ما هو ابتداء ‪ ،‬فما‬ ‫ض الَّذِي َ‬ ‫ت أ َ ْيدِي النَّ ِ‬
‫اس ِليُذِيقَ ُه ْم بَ ْع َ‬ ‫َو ْالبَ ْح ِر ِبما َك َ‬
‫سبَ ْ‬
‫ابتليت البرية وهي برية ‪ ،‬وهذه مسألة صعبة المرتقى ال تنال إال باإللقاء ‪ ،‬اختلفت فيها‬
‫طائفتان كبيرتان ( األشاعرة والمعتزلة ) ‪ ،‬فمنعت واحدة ما أجازته أخرى والرسل بما اختلفت‬
‫فيه تترى ‪ ،‬وال تحقق واحد ما جاء به الرسول ‪ ،‬وال يسلك فيه سواء السبيل ‪ ،‬بل ينصر ما قام‬
‫في غرضه وهو عين مرضه ‪ ،‬إال الطبقة العليا فإنهم علموا األمور في الدنيا فلم يتعدوا باألمر‬
‫مرتبته ‪ ،‬وأنزلوه منزلته ‪ ،‬فما رأوا في الدنيا أمرا إال كان جزاء ما كان ابتداء ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫واآلخرة ‪ ،‬ألنه المجازي في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فأما في اآلخرة فمعلوم عند الجميع ‪ ،‬وأما في‬
‫الدنيا فبما شرع من إقامة الحدود جزاء ألعمال نص عليها ‪ ،‬كالزنا والسرقة والمحاربة وغير‬
‫ّللا تعالى‬ ‫ذلك ‪ ،‬وبما شرع من مكافأة المحسن وشكر المنعم ‪ ،‬وبما أخبر عليه السالم من جزاء ه‬
‫الكافر في الدنيا بما فعله من الخير ‪ ،‬وهذا يدلك على أن الكل مخاطبون بفروع الشريعة ‪،‬‬
‫مؤاخذون بها مجازون عليها ‪ ،‬كما خوطبوا بأصولها سواء ‪ ،‬وأن الشرائع قد عمت جميع‬
‫ّللا عليهما ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬وما ُكنَّا ُمعَ ِذه ِبينَ َحتَّى نَ ْبعَ َ‬
‫ث‬ ‫الخلق من آدم إلى نبينا محمد صلى ه‬
‫ض َوال طائِ ٍر‬ ‫ِير )وقال ‪َ ( :‬وما ِم ْن َدابَّ ٍة فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫وال )وقال( َوإِ ْن ِم ْن أ ُ َّم ٍة إِ َّال خَال فِيها نَذ ٌ‬ ‫س ا‬ ‫َر ُ‬
‫ير بِ َجنا َح ْي ِه ِإ َّال أ ُ َم ٌم أ َ ْمثالُ ُك ْم ) ‪،‬وكل نذير من جنس من بعث إليه ( َولَ ْو َجعَ ْلناهُ َملَكا ا لَ َجعَ ْلناهُ‬ ‫يَ ِط ُ‬
‫س ا‬
‫وال‬ ‫ماء َملَكا ا َر ُ‬
‫س ِ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِمنَ ال َّ‬ ‫شونَ ُم ْ‬
‫ط َمئِ ِنهينَ لَن ََّز ْلنا َ‬ ‫ض َمالئِ َكةٌ يَ ْم ُ‬ ‫َر ُج اال )و( لَ ْو كانَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ظ َه َر ْالفَسا ُد فِي ْالبَ ِ هر‬ ‫)يعني من جنسهم ‪ ،‬فالجزاء محقق في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وقد قال تعالى( َ‬
‫ع ِملُوا )وجعله جزاء ‪ ،‬وقال ‪َ ( :‬وما أَصابَ ُك ْم‬ ‫ض الَّذِي َ‬ ‫اس ِليُذِيقَ ُه ْم بَ ْع َ‬‫ت أ َ ْيدِي النَّ ِ‬ ‫َو ْالبَ ْح ِر ِبما َك َ‬
‫سبَ ْ‬
‫ت أ َ ْيدِي ُك ْم )وهذا هو الجزاء ‪ ،‬فمن خصه بيوم اآلخرة فما أعطى اآلية حقها‬ ‫صيبَ ٍة فَبِما َك َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫ِم ْن ُم ِ‬
‫ي‬
‫ّللا ( فوض إل ه‬ ‫ِين »يقول ه‬ ‫‪ ،‬يقول العبد في الصالة« ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫ص ‪28‬‬

‫ص ‪28 :‬‬
‫والملك على الحقيقة هو الحق تعالى المالك للكل ومصرفه ‪ ،‬وهو الشفيع لنفسه عامة وخاصة ‪،‬‬
‫خاصة في الدنيا وعامة في اآلخرة من وجه ما ‪ ،‬ولذلك قدم على قوله «ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫ِين‬
‫»الرحمن الرحيم ‪ ،‬لتأنس أفئدة المحجوبين عن رؤية رب العالمين ‪ ،‬أال تراه يقول يوم الدين (‬
‫شفعت المالئكة والنبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين ) ولم يقل الجبار وال القهار‬
‫ليقع التأنيس قبل وجود الفعل في قلوبهم ‪.‬‬

‫إياك نعبد وإياك نستعين ‪5‬‬


‫إياك نعبد أي لك نقر بالعبودية وحدك ال شريك لك ‪ ،‬فقدم قول إياك نعبد وهو قول العبد‬
‫المحض بذاته إياك نعبد ‪ ،‬فمن قالها متحققا بعبوديته فقد وفهى حق سيده ‪ ،‬ولم يلتفت إلى نفسه‬
‫ّللا عليها التي توجب له الكبرياء بل كان عبدا محضا ‪ ،‬ثم قال‬ ‫وال إلى صورة ما خلقه ه‬
‫ين »على عبادتك وال يطلب العون إال من له نوع تع همل‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫بالصورة التي خلق عليها« إِي َ‬
‫في العمل ‪ ،‬فيقول وإليك نأوي في االستعانة ال إلى غيرك ‪ ،‬فبهذه اآلية نفى الشريك‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫عبدي )وفي رواية ( مجدني عبدي ) فهو قولنا إن الدين هنا هو الجزاء في الدارين ‪ ،‬فإن‬
‫التفويض تكليف ومحله الدنيا ‪ ،‬بل ال يصح أن يكون إال فيها ‪ ،‬وهو أخص من ( مجدني عبدي‬
‫) فإن التمجيد له في الدارين ‪ ،‬وهو الشرف ‪ ،‬والتفويض من العبد ال يكون إال هنا ‪ ،‬فإن‬
‫اآلخرة ال يصح فيها تفويض من العباد ‪ ،‬إذ ال دعوى هناك ‪ ،‬بل األمور كلها مكشوفة للعباد‬
‫ّللا ‪ ،‬وال يفوض المفوض إال ما له فيه تصرف ‪ ،‬وليس ذلك هناك ‪ ،‬فتأمل ‪ ،‬قوله ( ‪5‬‬ ‫أنها بيد ه‬
‫ين »أفرد نفسه بالكاف في الموضعين ‪ ،‬ألنه المعبود وحده ‪ ،‬وال يعبد‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد َو ِإي َ‬
‫)« ِإي َ‬
‫غيره ‪ ،‬والمطلوب منه ‪ ،‬ألنه المعين وحده بكل وجه ‪ ،‬يؤيد ذلك قوله( َوقَضى َرب َُّك أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا‬
‫ِإ َّال ِإيَّاهُ )واأللوهية هي المعبودة من كل معبود ‪ ،‬ولكن أخطئوا في النسبة فشقوا شقاوة األبد ‪،‬‬
‫وكذلك هو المعين بما يوجده ويخلقه في خلقه من أسباب المعونة ‪ ،‬وجمع عباده بالنون فيهما ‪،‬‬
‫ألن العابدين والمستعينين كثيرون ‪ ،‬سواء كان العابد شخصا واحدا أو ما زاد عليه ‪ ،‬فإن‬
‫الشخص وإن كان واحدا ‪ ،‬فإن كل عضو فيه ‪ ،‬عليه عبادة ‪ ،‬فصحت الكثرة في الشخص‬
‫الواحد ‪ ،‬فلهذا له أن يأتي بنون الجماعة ‪ ،‬قال عليه السالم « يصبح على كل سالمي منكم‬
‫ش ْيءٍ ِإ َّال يُ َ‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْم ِد ِه َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْس ِبي َح ُه ْم‬ ‫صدقة » وهي العروق ‪ ،‬وقال تعالى( َو ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫)لسترها عنا ‪ ،‬ولهذا قال في اآلية ‪ ( :‬إِنَّهُ كانَ َح ِليما ا‬
‫ص ‪29‬‬

‫ص ‪29 :‬‬
‫‪ - 6‬اهدنا الصراط المستقيم‬
‫قرئ الزراط بالزاي وهي لغة وقرأ ابن كثير السراط بالسين وحمزة وباقي القراء بالصاد ‪،‬‬
‫والصراط الذي سألته النفس هنا هو صراط النجاة بالتوحيد والتنزيه الذي سار عليه الذين‬
‫صرا َ‬
‫ط‬ ‫أنعمت عليهم وهو الشرع هنا ‪ ،‬وال يزال العبد في كل ركعة من الصالة يقول« ا ْه ِدنَا ال ِ ه‬
‫يم »ألنه أدق من الشعر وأحد من السيف ‪ ،‬وكذا هو علم الشريعة في الدنيا ‪ ،‬ال يعلم‬ ‫ْال ُم ْست َ ِق َ‬
‫ّللا وال من هو المصيب من المخطئ بعينه ‪ ،‬ولذلك تعبدنا بغلبة الظنون‬ ‫الحق في المسألة عند ه‬
‫بعد بذل المجهود في طلب الدليل ‪ ،‬فالنص الصريح أحد من السيف وأدق من الشعر في الدنيا ‪،‬‬
‫والصراط ظهوره في اآلخرة محسوس أبين وأوضح من ظهوره في الدنيا ‪ ،‬إال لمن دعا إلى‬
‫ّللا على بصيرة كالرسول وأتباعه‪.‬‬ ‫ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫غفُورا ا )والغفر الستر ‪ ،‬وسيأتي الترجمة عنها في موضعها ‪ ،‬كما أنه سبحانه إذا كنى عن نفسه‬ ‫َ‬
‫بالنون في مثل ( نزلنا ) و ( خلقنا ) و ( نحن ) فالناس يجعلون ذلك للعظمة ‪ ،‬وليس في‬
‫األصل بصحيح ‪ ،‬بل هي على بابها من الجمع في الداللة ‪ ،‬وغاية من قدر على معناها وقرب‬
‫أن قال ‪ :‬إذا قال بقوله جماعة لمكانته وشرفه وال يرد له قول ‪ ،‬فبذلك االعتبار يكنى بالنون عن‬
‫الواحد ‪ ،‬وليس كذلك ‪ ،‬ولكنه أقرب الوجوه ‪ ،‬بل الوجه الصحيح أن الكناية هنا عن األسماء‬
‫التي عنها تقع اآلثار على اختالفها ‪ ،‬وإن جمعتها ذات واحدة ‪ ،‬فهو العالم من حيث كذا ‪،‬‬
‫والقادر من حيث كذا ‪ ،‬والمريد من حيث كذا ‪ ،‬والرازق من حيث كذا ‪ ،‬فكثرت الوجوه‬
‫والنسب ‪ ،‬فطلبت النون ‪ ،‬ومعنى نعبد نتذلل ‪ ،‬يقال أرض معبدة أي مذللة ‪ ،‬وسمي العبد عبدا‬
‫ّللا ( هذه اآلية بيني وبينك ‪،‬‬ ‫ين »يقول ه‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد َو ِإي َ‬
‫لذلته ‪ ،‬يقول العبد في الصالة« ِإي َ‬
‫ولعبدي ما سأل ) يعني الكاف له والنون للعبد ‪ ،‬والسؤال هنا االستعانة ‪ ،‬فقد وعد بها ‪ ،‬بل هي‬
‫له في الوقت ‪ ،‬فإنه لوال معونته ما قام إلى الصالة ‪ ،‬فليس يطلب إال استصحاب المعونة ‪،‬‬
‫باّلل ‪ ،‬والذي له إعطاء‬ ‫والذي لنا القيام بالعبودة وطلب المعونة منه ‪ ،‬إذ ال حول وال قوة إال ه‬
‫المعونة ‪ ،‬وتعيين ما عبد من أجله ‪ ،‬كل على حسب ما ألقي فيه من القصد ‪ ،‬فمن عابد لما‬
‫تقتضيه الربوبية من التعظيم ‪ ،‬ومن عابد وفاء بحق العبودة والعبودية معا ‪ ،‬ومن عابد طمعا‬
‫فيما وعد ‪ ،‬ومن عابد حذرا مما أوعد ‪ ،‬وهذا تقتضيه العبودة ‪.‬‬
‫يم »اآلية يقول ‪ :‬بيهن لنا الطريق الموصلة إلى سعادتنا عندك‬ ‫ط ْال ُم ْست َ ِق َ‬
‫صرا َ‬‫قوله ( ‪ «) 6‬ا ْه ِدنَا ال ِ ه‬
‫ير ْاأل ُ ُم ُ‬
‫ور‬ ‫‪ ،‬إذ كل طريق موصلة إليه ‪ ،‬قال تعالى ( َوإِلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ )و( أَال إِلَى َّ ِ‬
‫ّللا ت َ ِ‬
‫ص ُ‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم )فأتى به نكرة ‪ ،‬ألنه على‬ ‫على ِ‬ ‫ناصيَتِها إِ َّن َر ِبهي َ‬ ‫آخذٌ بِ ِ‬ ‫)و( ما ِم ْن َدابَّ ٍة إِ َّال ُه َو ِ‬
‫كل صراط‬
‫ص ‪30‬‬

‫ص ‪30 :‬‬
‫صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وال الضالين ‪7‬‬

‫صراط الذين أنعمت عليهم من نبي ورسول ‪ ،‬أي الطريق وليس إال الشرع الذي أنعمت به‬
‫عليهم وهو الرحمة التي أعطتهم التوفيق والهداية في دار التكليف ‪ ،‬وهي رحمة عناية فكانوا‬
‫ب‬
‫ضو ِ‬ ‫غي ِْر ْال َم ْغ ُ‬
‫ّللا الهداية فلم يحاروا« َ‬
‫بذلك غير مغضوب عليهم وال ضالين ‪ ،‬لما أعطاهم ه‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬ه‬
‫من‬ ‫علَ ْي ِه ْم َو َال الض َِّالهينَ »نعت للذين أنعمت عليهم وهو نعت تنزيه يقول من غضب ه‬ ‫َ‬
‫علينا بالرحمة التي مننت بها على أولئك ابتداء من غير استحقاق حتى وصفتهم بأنهم غير‬
‫مغضوب عليهم ‪ ،‬إذ قد مننت عليهم بالهداية فأزالت الضاللة التي هي الحيرة عنهم ‪ ،‬ه‬
‫فمن‬
‫ّللا برحمة االمتنان وهي الرحمة الثالثة‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيرحمهم ه‬
‫بالذي يزيل ما استحققناه من غضب ه‬
‫باالسم الرحمن ‪ ،‬فيزيل عنهم العذاب ويعطيهم النعيم فيما هم فيه باالسم الرحيم ‪ ،‬فليس في أم‬
‫الكتاب آية غضب بل كلها رحمة ‪ ،‬وهي الحاكمة على كل آية في الكتاب ألنها األم ‪ ،‬فسبقت‬
‫ّللا إنما هو من االسم‬ ‫رحمته غضبه ‪ ،‬وكيف ال يكون ذلك والنسب الذي بين العالم وبين ه‬
‫الرحمن ‪ ،‬فجعل الرحم قطعة منه فال تنسب الرحم إال إليه ‪.‬‬
‫ّللا ومن قطعها قطعه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وما في العالم إال من عنده رحمة بأمر ما ال بد من ذلك ‪ ،‬فال بد أن ينال الخلق كلهم‬ ‫ه‬
‫ّللا سبقت غضبه فهي أمام الغضب ‪ ،‬فال يزال‬ ‫ّللا ‪ ،‬فمنهم العاجل واآلجل ‪ ،‬فإن رحمة ه‬
‫رحمة ه‬
‫ّللا يجري في شأوه باالنتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه ‪ ،‬فيجد الرحمة قد‬ ‫غضب ه‬
‫سبقته ‪ ،‬فتتناول منه العبيد المغضوب‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫شهيد ‪ ،‬وجاء في هذا بالتعريف ‪ ،‬فهو صراط مخصوص ‪ ،‬فلذا فسرناه بالصراط المؤدي إلى‬
‫السعادة ‪ ،‬ولما كان اإلنسان تعتريه في أكثر األوقات الشبه المضلة الصارفة عن طريق العلم‬
‫باّلل ‪ ،‬من حيث توحيده وما يجب له ‪ ،‬وغير ذلك ‪ ،‬وال سيما ألرباب الفكر والنظر ‪ ،‬احتاج أن‬‫ه‬
‫يقول ‪:‬‬
‫بيهن لنا طريق الحق في ذلك ‪ ،‬والمطلوب هنا بالصراط المستقيم االجتماع منه على إقامة الدين‬
‫مطلقا ‪ ،‬حتى ال يؤمن ببعض ويكفر ببعض لما ذكرناه ‪ ،‬ونون الجماعة في اهدنا هي النون في‬
‫نعبد ‪ ،‬وإنما‬
‫ص ‪31‬‬

‫ص ‪31 :‬‬
‫عليهم ‪ ،‬فتنبسط عليهم ويرجع الحكم لها فيهم ‪ ،‬والمدى الذي يعطيه الغضب هو ما بين الرحمن‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »فالحمد‬ ‫الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد قوله « ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫هّلل رب العالمين هو المدى ‪ ،‬فأوله الرحمن الرحيم وانتهاؤه الرحمن الرحيم ‪ ،‬وإنما كان الحمد‬
‫هّلل رب العالمين عين المدى ‪ ،‬فإن في هذا المدى تظهر السراء والضراء ولهذا كان الحمد فيه‬
‫وهو الثناء ‪ ،‬ولم يقيد بضراء وال سراء في هذا المدى ألنه يعم السراء والضراء ‪ ،‬فكان رسول‬
‫ّللا عليه وسلم يقول في السراء ‪ " :‬الحمد هّلل المنعم المفضل "‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ه‬
‫وفي الضراء « الحمد هّلل على كل حال »‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ‬
‫ّللا عقيب« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬ ‫ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه ‪ ،‬فجعل ه‬
‫الر ِح ِيم »فالعالم بين هذه الرحمة ورحمة البسملة بما هو عليه من محمود‬ ‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫»قوله« َّ‬
‫ّللا فإنه‬ ‫ّللا لعباده ليقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة ه‬ ‫ومذموم ‪ ،‬وهذا تنبيه عجيب من ه‬
‫أرحم الراحمين ‪ ،‬فإنه إن لم يزد على عبيده في الرحمة بحكم ليس لهم فما يكون أرحم‬
‫ّللا من جميع‬ ‫ّللا ال خاب من أحاطت به رحمة ه‬ ‫الراحمين ‪ ،‬وهو أرحم الراحمين بال شك ‪ ،‬فو ه‬
‫جهاته ‪ ،‬وإذا صحت الحقائق فليقل األخرق ما شاء ‪ ،‬فإن جماعة نازعوا في ذلك ولوال أن‬
‫ّللا أبدا ‪.‬‬
‫ّللا بهذه المثابة من الشمول لكان القائلون بمثل هذا ال تنالهم رحمة ه‬ ‫رحمة ه‬
‫ّللا والعبد في قراءة فاتحة الكتاب ‪ ،‬ومن‬ ‫الوجه الثاني الفاتحة في الصلة ‪ :‬الصالة جامعة بين ه‬
‫هنا يؤخذ الدليل بفرضيتها على المصلي في الصالة ‪ ،‬فمن لم يقرأها في الصالة فما صلى‬
‫ّللا بينه وبين عبده ‪ ،‬فإنه ما قال قسمت الفاتحة وإنما قال قسمت الصالة‬ ‫الصالة التي قسمها ه‬
‫باأللف والالم اللتين للعهد والتعريف ‪ ،‬فلما فسر الصالة المعهودة بالتقسيم جعل محل القسمة‬
‫قراءة الفاتحة ‪ ،‬وهذا أقوى دليل يوجد في فرض قراءة الحمد في الصالة ‪ ،‬والذي أذهب إليه‬
‫وجوب قراءة فاتحة الكتاب في الصالة وإن تركها لم تجزه صالته ‪ ،‬فقراءة أم القرآن في‬
‫الصالة واجبة إن حفظها ‪ ،‬وما عداها ما‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫علَ ْي ِه ْم »يعني من النبيين ‪،‬‬ ‫ت َ‬ ‫ط الَّذِينَ أ َ ْنعَ ْم َ‬
‫صرا َ‬ ‫قلنا االجتماع على إقامة الدين لقوله ( ‪ِ «) 7‬‬
‫صى ِب ِه نُوحا ا‬ ‫ع لَ ُك ْم ِمنَ ال هد ِ‬
‫ِين ما َو َّ‬ ‫فإنه جعل لكل نبي شرعة ومنهاجا ‪ ،‬وقال تعالى ‪ ( :‬ش ََر َ‬
‫يم َو ُموسى َو ِعيسى أ َ ْن أَقِي ُموا ال هدِينَ َوال تَتَفَ َّرقُوا فِي ِه )أي‬ ‫َوالَّذِي أ َ ْو َحيْنا ِإلَي َْك َوما َو َّ‬
‫صيْنا ِب ِه ِإبْرا ِه َ‬
‫في القيام به ‪ ،‬فهذه الصفة هي الجامعة لكل ذي شرع ‪ ،‬وهو قوله تعالى لما ذكر األنبياء لنبيه‬
‫ّللاُ فَبِ ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه )أي فيما ذكرناه ‪ ،‬ال في فروع‬ ‫ّللا على جميعهم ‪ ( :‬أُولئِ َك الَّذِينَ َه َدى َّ‬ ‫صلى ه‬
‫األحكام ‪ ،‬وإن‬
‫ص ‪32‬‬

‫ص ‪32 :‬‬
‫الر ِح ِيم »( أذكر ) فتتعلق الباء بهذا‬ ‫من َّ‬ ‫الر ْح ِ‬ ‫فيه توقيت ‪ ،‬وينبغي أن يكون العامل في« بِس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫ّللا « ذكرني عبدي » وإن‬ ‫الر ِح ِيم »يقول ه‬ ‫من َّ‬ ‫الر ْح ِ‬ ‫الفعل إن صح الخبر ‪ ،‬يقول العبد« ِبس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ظاهر في« ا ْق َرأْ ِباس ِْم َر ِبه َك »هذا يتكلفه لقولهم إن‬ ‫لم يصح فيكون الفعل أقرأ بسم ه‬
‫المصادر ال تعمل عمل األفعال إال إذا تقدمت ‪ ،‬وأما إذا تأخرت فتضعف عن العمل ‪ ،‬وهذا‬
‫عندنا غير مرضي في التعليل ألنه تحكم من النحوي ‪ ،‬فإن العرب ال تعقل وال تعلل ‪ ،‬فيكون‬
‫ّللا ال يحمد إال بأسمائه غير ذلك ال يكون ‪،‬‬ ‫ّلل »بأسمائه فإن ه‬ ‫تعلق البسملة عندي بقوله « ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫وال ينبغي أن نتكلف في القرآن محذوفا إال لضرورة وما هنا ضرورة ‪.‬‬
‫ّللا تبارك وتعالى إن العبد إذا قال« ِبس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫ّللا عليه وسلم عن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فإن صح قول رسول ه‬
‫ّللا يذكرني عبدي فال نزاع ‪ ،‬هكذا روي هذا‬ ‫الر ِح ِيم »في مناجاته في الصالة يقول ه‬ ‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫َّ‬
‫الخبر عن‬
‫[ الفاتحة في الصلة ]‬
‫ّللا عليه وسلم قال « من صلى صالة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي‬ ‫أبي هريرة عن النبي صلهى ه‬
‫خداج ثالث غير تمام » ‪.‬‬
‫ّللا صلهى‬‫فقيل ألبي هريرة إنا نكون وراء اإلمام فقال ‪ :‬اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول ه‬
‫ّللا تعالى قسمت الصالة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل‬ ‫ّللا عليه وسلم يقول « قال ه‬ ‫ه‬
‫ّللا من يسمع ذلك القول بسمعه ‪،‬‬ ‫»‪ ،‬وذكر مسلم هذا الحديث ولم يذكر البسملة فيه ‪ ،‬فمن عبيد ه‬
‫فإن لم تسمعه بسمعك فاسمعه إيمانا به فإنه أخبر بذلك ‪ ،‬فمن األدب اإلصغاء ‪ ،‬وهي السكتات‬
‫الر ِح ِيم »علق الباء بما في الحمد من‬ ‫من َّ‬ ‫ّللا ال َّر ْح ِ‬ ‫بين اآليات في الصالة ‪ ،‬فإذا قال العبد «بِس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا إال بأسمائه الحسنى ‪ ،‬فذكر من ذلك ثالثة أسماء ‪:‬‬ ‫معنى الفعل كما قلنا يقول ال يثنى على ه‬
‫ّللا لكونه جامعا غير مشتق ‪ ،‬فينعت وال ينعت به فإنه لألسماء كالذات للصفات فذكره‬ ‫االسم ه‬
‫أوال من حيث أنه دليل على الذات ‪ ،‬كاألسماء األعالم كلها في اللسان وإن لم يقو قوة األعالم‬
‫ألنه وصف للمرتبة كاسم السلطان ‪ ،‬فلما لم يدل إال على‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ظهر في شرعنا من فروع شرع من قبلنا ‪ ،‬فمن حيث هو شرع لنا ‪ ،‬وقد يقع االتفاق في بعض‬
‫معرفة ‪،‬‬ ‫األحكام كالتوحيد واإليمان باآلخرة وما فيها ‪ ،‬ال ينكر ذلك ‪ ،‬وكال الصراطين ه‬
‫فالتعريف للصراط باإلضافة أخرج الصراط المستقيم من حكم ما تعطيه األلف والالم من‬
‫علَ ْي ِه ْم »يعني‬
‫ب َ‬ ‫غي ِْر ْال َم ْغ ُ‬
‫ضو ِ‬ ‫استغراق الجنس إلى حكم ما تعطيه من العهد ‪ ،‬وقوله «) ‪َ ( 7‬‬
‫ض ِالهينَ »يعنى المهتدين ‪ ،‬ولذا قال ‪ :‬اهدنا كما هديت هؤالء ‪،‬‬ ‫المرضي عنهم ( ‪َ «) 7‬و َال ال َّ‬
‫فهما نعتان للذين أنعمت عليهم ‪،‬‬
‫ص ‪33‬‬

‫ص ‪33 :‬‬
‫الذات المجردة على اإلطالق من حيث ما هي لنفسها من غير نسب لم يتوهم في هذا االسم‬
‫ّللا خاصة ‪ ،‬ثم قال بعد«‬ ‫ّللا أي قولك بسم ه‬ ‫اشتقاق ‪ ،‬ولهذا سميت بالبسملة وهو قولك االسم مع ه‬
‫الر ِح ِيم »من األسماء المركبة‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫الر ِح ِيم »من حيث ما هو أعني« َّ‬ ‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫ّللا »« َّ‬ ‫ِبس ِْم َّ ِ‬
‫كمثل بعلبك ورام هرمز ‪ ،‬فسماه به من حيث ما هو اسم له ال من حيث المرحومين وال من‬
‫ّللا ذكر في‬
‫حيث تعلق الرحمة بهم ‪ ،‬بل من حيث ما هي صفة له جل جالله فإنه ليس لغير ه‬
‫الر ِح ِيم »‬
‫من َّ‬‫الر ْح ِ‬ ‫البسملة أصال ‪ ،‬فإذا قال العبد« بِس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫ّللا تعالى « ذكرني عبدي » وما قيد هذا الذكر بشيء الختالف أحوال الذاكرين أعني‬ ‫قال ه‬
‫البواعث لذكرهم ‪ ،‬فذكر تبعثه الرغبة وذكر تبعثه الرهبة وذكر يبعثه التعظيم واإلجالل ‪،‬‬
‫فأجاب الحق على أدنى مراتب العالم وهو الذي يتلو بلسانه وال يفهم بقلبه ‪ ،‬ألنه لم يتدبر ما‬
‫قاله إذا كان التالي عالما باللسان وال ما ذكره ‪ ،‬فإن تدبر تالوته أو ذكره كانت إجابة الحق له‬
‫ّللا يقول عند قراءة العبد القرآن كذا جوابا‬ ‫بحسب ما حصل في نفسه من العلم بما تاله ‪ ،‬فإن ه‬
‫على حكم اآلية ‪ ،‬فينبغي لإلنسان إذا قرأ اآلية أن يستحضر في نفسه ما تعطيه تلك اآلية على‬
‫قدر فهمه ‪ ،‬فإن الجواب يكون مطابقا لما استحضرته من معاني تلك اآلية ‪ ،‬ولهذا ورد الجواب‬
‫على أدنى مراتب العامة مجمال ‪ ،‬إذا العامي والعجمي الذي ال علم له بمعنى ما يقرأ يكون قول‬
‫ّللا لك الجواب ‪ ،‬فعلى هذا القدر‬ ‫صلت في االستحضار فصل ه‬ ‫ّللا له ما ورد في الخبر ‪ ،‬فإن ف ه‬ ‫ه‬
‫ّللا تعالى فإذا قال‬
‫باّلل والناس في صالتهم ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬قال ه‬ ‫في القراءة تتميز مراتب العلماء ه‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »في الصالة‬
‫العبد« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّللا‬
‫ّللا « حمدني عبدي » والحمد هّلل رب العالمين يعني العبد أن عواقب الثناء ترجع إلى ه‬ ‫يقول ه‬
‫ّللا فعاقبته ترجع إلى‬
‫‪ ،‬ومعنى عواقب الثناء أي كل ثناء يثنى به على كون من األكوان دون ه‬
‫ّللا ومن وجه آخر إذا نظر إلى موضع الالم من‬ ‫ّللا ال لذلك الكون ‪ ،‬فرجعت عواقب الثناء إلى ه‬ ‫ه‬
‫ّلل »يرى أن الحامد عين المحمود ال غيره فهو الحامد المحمود ‪ ،‬وينفي الحمد عن‬ ‫قوله« ِ َّ ِ‬
‫الكون من كونه حامدا ونفى كون الكون محمودا ‪ ،‬فالكون من وجه محمود ال حامد ‪ ،‬ومن‬
‫وجه ال حامد وال محمود ‪ ،‬وأما كونه غير حامد فإن الحمد فعل واألفعال هّلل ‪ ،‬وأما كونه غير‬
‫محمود فإنما يحمد المحمود بما هو له ال لغيره والكون ال شيء‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ط الَّذِينَ‬
‫صرا َ‬ ‫ط ْال ُم ْست َ ِق َ‬
‫يم ِ‬ ‫صرا َ‬
‫وهو من أسماء النواقص ‪ ،‬يقول العبد في الصالة« ا ْه ِدنَا ال ِ ه‬
‫ت‬‫أ َ ْنعَ ْم َ‬
‫ص ‪34‬‬

‫ص ‪34 :‬‬
‫له فما هو محمود أصال ‪ ،‬وجاء قوله تعالى« َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »باالسم الرب على ما يعطيه من‬
‫الثبات واإلصالح والتربية والملك والسيادة ‪ ،‬فهذه الخمسة يطلبها االسم الرب ‪ ،‬ويحضر‬
‫ّللا في قوله « حمدني عبدي‬ ‫القارئ ما يعطيه العالم من الداللة عليه تعالى ‪ ،‬فال يكون جواب ه‬
‫ّللا له حظا في‬ ‫» إال لمن حمده بأدنى المراتب ‪ ،‬ألنه لكرمه يعتبر األضعف الذي لم يجعل ه‬
‫العلم به تعالى رحمة به ‪ ،‬لعلمه أن العالم يعلم من سؤاله أو قراءته ما حضر معه في تلك‬
‫ّللا على ما وقع له ويدخل في إجمال ما خاطب به عبده العامي‬ ‫القراءة من المعاني ‪ ،‬فيجيبه ه‬
‫القليل العلم ‪ ،‬أو األعجمي الذي ال علم له بمدلول ما يقرؤه‪.‬‬
‫ّللا « أثنى علي عبدي » فإن قلت لم اختصت‬ ‫الر ِح ِيم »يقول ه‬
‫من َّ‬‫الر ْح ِ‬
‫ثم قال يقول العبد« َّ‬
‫الرحمة بالثناء قلنا ألنه ال يثنى عليه إال بما هو عليه وال يثنى عليك إال بما تعطيك حقيقتك ‪،‬‬
‫فإذا رحمك ردك إلى عبوديتك واعتقدت أن الربوبية له وحده سبحانه ‪ ،‬فكل من أثني عليه‬
‫بوصف مشترك فما أثني عليه ‪ ،‬إنما ينبغي أن يثنى على الموجود بما ال يقع فيه المشاركة ‪،‬‬
‫من عليك بثناء تنفرد به ‪ ،‬ومتى أشركت معه غيره في الثناء فما خصصته بل‬ ‫فإذا رحمك ه‬
‫شركته بغيره ‪.‬‬
‫ّللا « أثنى علي عبدي » يعنى بصفة الرحمة الشتقاق هذين االسمين منها ‪ ،‬ولم يقل في‬ ‫فيقول ه‬
‫ّللا به إال إذا أعطاه ما يالئمه في‬
‫ما ذا لعموم رحمته ‪ ،‬وألن العامي ما يعرف من رحمة ه‬
‫الر ِح ِيم‬
‫من َّ‬ ‫الر ْح ِ‬
‫غرضه وإن ضره ‪ ،‬أو ما يالئم طبعه ولو كان فيه شقاؤه ‪ .‬أما العالم إذا قال« َّ‬
‫»فإنه يحضر في نفسه مدلول هذا القول من حيث ما هو الحق موصوف به ‪ ،‬ومن حيث ما‬
‫يطلبه المرحوم لعلمه بذلك كله ‪ ،‬ويحضر في قلبه أيضا عموم رحمته الواحدة المقسمة على‬
‫خلقه في الدار الدنيا ‪ ،‬إنسهم وجنهم ومطيعهم وعاصيهم وكافرهم ومؤمنهم وقد شملت الجميع‬
‫ّللا أن يرزق بها عباده من جماد ونبات‬ ‫‪ ،‬ورأى أن هذه الرحمة الواحدة لو لم تعط حقيقتها من ه‬
‫وحيوان وإنس وجان ولم يحجبها عن كافر ومؤمن ومطيع وعاص عرف أن ذاتها من كونها‬
‫رحمة تقتضي ذلك ‪ ،‬ثم جاء الوحي من أثر هذه الرحمة الواحدة بأن هذه الرحمة الواحدة‬
‫السارية في العالم التي اقتضت حقيقتها أن تجعل األم تعطف على ولدها من جميع الحيوان ‪،‬‬
‫وهي واحدة من مائة رحمة ‪ ،‬وقد ادخر سبحانه لعباده في الدار اآلخرة تسعا وتسعين رحمة ‪،‬‬
‫فإذا كان يوم القيامة ونفذ في العالم حكمه وقضاؤه وقدره بهذه الرحمة الواحدة ‪ ،‬وفرغ الحساب‬
‫ونزل الناس منازلهم من الدارين ‪ ،‬أضاف سبحانه هذه الرحمة إلى التسع والتسعين رحمة‬
‫فكانت‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ‪ :‬هؤالء لعبدي ولعبدي ما سأل ‪ ،‬فقد ضمن اإلجابة‪.‬‬
‫عليهم » إلى آخر السورة ‪ ،‬يقول ه‬
‫ص ‪35‬‬

‫ص ‪35 :‬‬
‫مائة ‪ ،‬فأرسلها على عباده مطلقة في الدارين فسرت الرحمة فوسعت كل شيء ‪ ،‬فمنهم من‬
‫وسعته بحكم الوجوب ‪ ،‬ومنهم من وسعته بحكم االمتنان ‪ ،‬فوسعت كل شيء في موطنه وفي‬
‫عين شيئيته ‪ ،‬وقد كان الحكم في الدنيا بالرحمة الدنيا ما قد علمتم ‪ ،‬وهي اآلن أعني باآلخرة‬
‫ّللا « مجدني عبدي »‬ ‫من جملة المائة فما ظنك ‪ ،‬ثم قال يقول العبد« ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫ِين »يقول ه‬
‫واختص الملك بالتمجيد لتصحيح التوحيد ‪ ،‬فأراد بالتمجيد التشريف بالوحدانية في األلوهية ‪،‬‬
‫فال إله إال هو ‪ ،‬وفي رواية « فوض إلي عبدي » ‪.‬‬
‫فالعالم يجب أن ال يقصر يوم الدين على اآلخرة ‪ ،‬ويرى أن الرحمن الرحيم ال يفارقان ملك‬
‫يوم الدين فإنه صفة لهما ‪ ،‬فيكون الجزاء دنيا وآخرة ‪ ،‬وكذلك ظهر بما شرع من إقامة الحدود‬
‫وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‬
‫وّللا ملك يوم الدين ‪ ،‬فالكفارات سارية‬ ‫‪ ،‬وهذا هو عين الجزاء ‪ ،‬فيوم الدنيا أيضا يوم الجزاء ه‬
‫في الدنيا ‪ ،‬واإلنسان في الدار الدنيا ال يسلم من أمر يضيق به صدره يؤلمه حسا وعقال حتى‬
‫ّللا غير موقتة ‪ ،‬فإنها وسعت كل‬ ‫قرصة البرغوث والعثرة ‪ ،‬فاآلالم محدودة موقتة ورحمة ه‬
‫شيء ‪ ،‬فمنها تنال وتحكم من طريق االمتنان وهو أصل األخذ لها ‪ ،‬ومنها ما يؤخذ من طريق‬
‫الر ْح َمةَ »‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َ‬
‫الوجوب اإللهي في قوله« َكت َ َ‬
‫سأ َ ْكتُبُها » ‪،‬فأناس يأخذونها جزاء ‪ ،‬وبعض المخلوقات من المكلفين تنالهم امتنانا‬ ‫وقوله« فَ َ‬
‫حيث كانوا ‪ ،‬فكل ألم في الدنيا واآلخرة فإنه مكفر ألمور قد وقعت محدودة موقتة ‪ ،‬وهو جزاء‬
‫لمن يتألم به من صغير وكبير بشرط تعقل التألم ال بطريق اإلحساس بالتألم دون تعقله ‪،‬‬
‫فالرضيع ال يتعقل التألم مع اإلحساس به ‪ ،‬إال أن أباه وأمه وأمثالهما من محبيه وغير محبيه‬
‫يتألم ويتعقل التألم لما يرى في الرضيع من األمراض النازلة به ‪ ،‬فيكون ذلك كفارة لمن تعقل‬
‫األلم ‪ ،‬فإذا زاد ذلك العاقل الترحم به كان مع التكفير عنه مأجورا ‪ ،‬إذ في كل كبد رطبة أجر ‪،‬‬
‫وأما الصغير إذا تعقل التألم وطلب النفور عن األسباب الموجبة لأللم واجتنبها ‪ ،‬فإن له كفارة‬
‫فيها لما صدر منه مما آلم به غيره من حيوان أو شخص آخر من جنسه ‪ ،‬فإذا تألم الصغير‬
‫كان ذلك األلم القائم به جزاء مكفرا ‪ ،‬حتى اإلنسان يتألم بوجود الغيم ويضيق صدره به ‪ ،‬فإنه‬
‫كفارة ألمور آتاها قد نسيها أو يعلمها ‪.‬‬
‫ّللا « فوض إلي عبدي » أو "‬ ‫ِين »فيقول ه‬ ‫فهذا كله من بعض ما يدل عليه« ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫مجدني عبدي " أي جعل لي الشرف عليه كما هو األمر في نفسه ‪ ،‬فهو الحق الذي له المجد‬
‫باألصالة ‪ ،‬فله تعالى المجد‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫تنبيه ‪ :‬وإن كان النصف األول له فقد جاء فيه ذكر العالمين ‪ ،‬وجاء في النصف الذي لنا ذكره‬
‫ص ‪36‬‬

‫ص ‪36 :‬‬
‫والشرف على العالم في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ألنه جازاهم على أعمالهم في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فيوم‬
‫ّللا كالهما ‪ ،‬إال أن التمجيد راجع إلى جناب الحق من حيث ما‬ ‫الدين هو يوم الجزاء ‪ ،‬أو يقول ه‬
‫تقتضيه ذاته ومن حيث ما تقتضي نسبة العالم إليه ‪ ،‬والتفويض من حيث ما تقتضي نسبة العالم‬
‫ي‬
‫إليه ال غير ‪ ،‬فإنه وكيل لهم بالوكالة المفوضة ‪ ،‬ففي حق قوم يقول « مجدني عبدي وف ه‬
‫المقصد » وفي حق قوم يقول « فوض إلي عبدي وفي المقصد أيضا » وفي حق قوم يقول «‬
‫ّللا له في الرد‬
‫مجدني عبدي وفوض إلي عبدي » ‪ ،‬فإن العبد قد يجمع بين المقصدين فيجمع ه‬
‫ّللا ليس للعبد فيه اشتراك‬‫بين التمجيد والتفويض ‪ -‬وإلى هنا ‪ -‬فهذا النصف كله مخلص لجناب ه‬
‫ّللا هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫ين »يقول ه‬ ‫َّاك نَ ْعبُ ُد َو ِإي َ‬
‫ّللا يقول العبد« ِإي َ‬
‫‪ -‬ثم قال ه‬
‫سأل ‪ ،‬فهذه اآلية تتضمن سائال ومسؤوال مخاطبا وهو الكاف من إياك فيهما ‪ ،‬ونعبد ونستعين‬
‫هما للعبد فإنه العابد والمستعين ‪.‬‬
‫َّاك »وحد بحرف الخطاب بجعله مواجها ال على جهة التحديد ‪ ،‬ولكن امتثاال‬ ‫فإذا قال العبد« إِي َ‬
‫لقول الشارع لمثل ذلك السائل في معرض التعليم حين سأله عن اإلحسان فقال له صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا كأنك تراه » ‪ ،‬فال بد أن تواجهه بحرف الخطاب وهو الكاف ‪ ،‬فهذه‬ ‫عليه وسلم « أن تعبد ه‬
‫اآلية وقع فيها االشتراك بين الحق وبين عبده ‪ ،‬وما مضى من الفاتحة مخلص هّلل وما بقي منها‬
‫مخلص للعبد ‪ ،‬وهذه التي نحن فيها مشتركة ووقع االشتراك من العبادة والعون لتتميز القدرة‬
‫من عجز الكون ‪ ،‬فهو سبحانه المقصود بالعبادة ‪ ،‬والعبد العابد ‪ ،‬وهو المقصود باالستعانة ‪،‬‬
‫والعبد المستعين ‪ ،‬فاالشتراك في اآلية كلمة للرب وكلمة للعبد ‪ ،‬وإنما و هحده ولم يجمعه ألن‬
‫المعبود واحد ‪ ،‬وجمع نفسه بنون الجمع في العبادة والعون المطلوب ألن العابدين من العبد‬
‫كثيرون ‪ ،‬وكل واحد من العابدين يطلب العون والمقصود بالعبادات واحد ‪ ،‬فعلى العين عبادة‬
‫وعلى السمع عبادة وعلى البصر واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب فلهذا قال نعبد‬
‫ونستعين بالنون ‪ ،‬فإذا نظر العالم إلى تفاصيل عالمه وأن الصالة قد عم حكمها جميع حاالته‬
‫ظاهرا وباطنا لم ينفرد بذلك جزء عن آخر ‪ ،‬فجميع عالمه قد اجتمع على عبادة ربه وطلب‬
‫العون منه على عبادته ‪ ،‬فجاء بنون الجماعة في نعبد ونستعين فترجم اللسان عن الجماعة ‪،‬‬
‫كما يتكلم الواحد من الوفد بحضورهم بين يدي الملك ‪ ،‬فعلم العبد من الحق لما أنزل عليه هذه‬
‫اآلية بإفراده نفسه أن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سبحانه في أنعمت بضمير المخاطب ‪ ،‬وإنما أتى بضمير المخاطب ‪ ،‬ولو أتى باسم ظاهر ‪،‬‬
‫تخيل أن‬
‫ص ‪37‬‬

‫ص ‪37 :‬‬
‫ال يعبد إال إياه ‪ ،‬ولما قيد العبد بالنون أنه يريد منه أن يعبده بكله ظاهرا وباطنا من قوى‬
‫وجوارح ويستعين على ذلك الحد ‪ ،‬ومتى لم يكن المصلي بهذه المثابة من جمع عالمه على‬
‫ين »‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد َو ِإي َ‬
‫عبادة ربه لم يصدق في قوله« ِإي َ‬
‫وهو مشغول في االلتفات ببصره واإلصغاء إلى حديث اآلخرين ‪ ،‬مشغول بخاطره في دكانه‬
‫علَ ْي ِه ْم َ‬
‫غي ِْر‬ ‫ط الَّذِينَ أ َ ْنعَ ْم َ‬
‫ت َ‬ ‫صرا َ‬
‫يم ِ‬‫ط ْال ُم ْست َ ِق َ‬ ‫صرا َ‬‫ّللا يقول العبد «ا ْه ِدنَا ال ِ ه‬ ‫أو تجارته ‪ ،‬ثم قال ه‬
‫علَ ْي ِه ْم َو َال الض َِّالهينَ »‬
‫ب َ‬
‫ضو ِ‬‫ْال َم ْغ ُ‬
‫ّللا أن يهديه الصراط المستقيم ‪ ،‬وأن‬ ‫ّللا ( هؤالء لعبدي ولعبدي ما سأل ) فيسأل العبد ه‬ ‫فيقول ه‬
‫يبينه له وأن يوفقه إلى المشي عليه ‪ ،‬وهو صراط التوحيد توحيد الذات وتوحيد المرتبة التي‬
‫ّللا عليه‬ ‫هي األلوهية بلوازمها من األحكام المشروعة التي هي من اإلسالم في قوله صلهى ه‬
‫ّللا » فهو الصراط المستقيم الذي هو عليه الرب ‪ ،‬من‬ ‫وسلم « إال بحق اإلسالم وحسابهم على ه‬
‫حيث ما يقود الماشي عليه إلى سعادته ‪.‬‬
‫ّللا وهم العالمون كلهم أجمعهم ‪،‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم »يريد الذين وفقهم ه‬ ‫ت َ‬ ‫ط الَّ ِذينَ أ َ ْنعَ ْم َ‬
‫صرا َ‬ ‫ولهذا قال« ِ‬
‫والصالحون من اإلنس مثل الرسل واألنبياء واألولياء وصالحي المؤمنين من الجان ‪ ،‬كذلك لم‬
‫ّللا عليهم من نبي وصديق وشهيد وصالح ‪ ،‬وكل دابة هو‬ ‫يجعل الصراط المستقيم إال لمن أنعم ه‬
‫ّللا عليهم لما دعاهم بقوله « حي‬ ‫علَ ْي ِه ْم »أي ال من غضب ه‬ ‫ب َ‬ ‫ضو ِ‬ ‫غي ِْر ْال َم ْغ ُ‬ ‫آخذ بناصيتها« َ‬
‫على الصالة » فلم يجيبوا« َو َال الض َِّالهينَ »فاستثنى بالعطف من حار ‪ ،‬وهم أحسن حاال من‬
‫المغضوب عليهم ‪ ،‬فمن لم يعرف ربه وأشرك معه في ألوهيته من ال يستحق أن يكون إلها كان‬
‫من المغضوب عليهم ‪ ،‬فإذا أحضر العبد مثل هذا وأشباهه في نفسه عند تالوته قالت المالئكة‬
‫« آمين »ويقول العبد « آمين » ‪.‬‬
‫فمن وافق تأمينه تأمين المالئكة في الصفة ‪ ،‬موافقة طهارة وتقديس ذوات ‪ ،‬كرام بررة ‪ ،‬أجابه‬
‫الحق عقيب قوله « آمين » ‪ ،‬أي أمنا بالخير ‪ ،‬فمن وافق تأمينه تأمين المالئكة غفر له ‪« ،‬‬
‫وآمين » كلمة شرعت بعد الفراغ من الفاتحة لما فيها من السؤال ‪ ،‬وهو قوله« ا ْه ِدنَا »وهي‬
‫أي آمين تقصر وتمد ‪ ،‬وورد في الشرع الجهر بها واإلخفاء ‪ ،‬ألن األمر ظاهر وباطن ‪،‬‬
‫فالباطن يطلب اإلخفاء والظاهر يطلب الجهر ‪ ،‬غير أن الظاهر أعم ‪ ،‬فإذا جهر بها حصل حظ‬
‫الباطن ‪ ،‬وإذا أسر بها لم يعلم الظاهر ما جرى ‪ ،‬فالجهر بها عام لعام وخاص وأعم منفعة ‪،‬‬
‫والسر بها أتم مقاما من الجهر بها ‪ ،‬وآمين معناها أجب دعاءنا ‪ ،‬ال بل معناه قصدنا إجابتك‬
‫فيما دعوناك فيه ‪ ،‬يقال أ هم فالن جانب فالن إذا قصده ‪ ،‬وخفف آمين للسرعة المطلوبة في‬
‫اإلجابة ‪ ،‬والخفة‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫األمر مربوط بما تعطيه حقيقة ذلك االسم ‪ ،‬ونسبة األسماء إلى الضمير نسبة واحدة ‪ ،‬كما أنه‬
‫أتى‬
‫ص ‪38‬‬

‫ص ‪38 :‬‬
‫تقتضي اإلسراع في األشياء ‪ ،‬فمن وافق تأمينه تأمين المالئكة فقد غفر له ‪ ،‬ولم يقل فقد أجيب‬
‫لما غفر له ‪ ،‬ألن المهدي ما له ما يغفر ‪ ،‬أي فمن أمن مثل تأمين المالئكة ‪ ،‬هذا معنى الموافقة‬
‫ال الموافقة الزمانية ‪ ،‬وقد تكون الموافقة الزمانية فيحويهم زمان واحد عند قولهم آمين ‪،‬‬
‫والمالئكة ال يخلو قولها في آمين هل يقولونها متجسدين أو يقولونها غير متجسدين ‪ ،‬فإن قالتها‬
‫متجسدين فربما يريد الموافقة الزمانية خاصة ‪ ،‬ألن التجسد يحكم عليها باإلتيان بلفظة آمين أي‬
‫بترتيب هذه الحروف ‪ ،‬وإن قالتها غير متجسدة فلم تبق الموافقة إال أن يقولها العبد بالحال التي‬
‫ّللا له ‪ ،‬وال بد أن يستره عن كل أمر يضاد الهداية بما تنتج ‪ ،‬ال‬ ‫يقولها الملك ‪ ،‬فإذا قالها غفر ه‬
‫بد من ذلك ‪ ،‬ألن نتيجة الهداية سعادة ‪ ،‬وقد يكون في حياته الدنيا غير مهدي والعناية قد سبقت‬
‫فيجني ثمرة الهداية ‪ ،‬فلهذا لم يقل أجيب وقال غفر فهذا معنى قول آمين فحصلت اإلجابة‬
‫باألمن مع تأمين المالئكة ‪ ،‬فيجب قراءة الفاتحة على كل مصل من إمام وغير إمام ‪.‬‬
‫وليس للمأموم أن يسبق إمامه بشيء من أفعال الصالة ‪ ،‬وال من أقوالها حتى في قراءة الفاتحة‬
‫‪ ،‬ليس له أن يشرع فيها إذا جهر بها حتى يفرغ منها أو يتبع سكتات االمام فيها ‪ ،‬فيقرأ ما فرغ‬
‫اإلمام منها في سكتة اإلمام ‪ ،‬وفي صالة السر يقرؤها بحسب ما يغلب على ظنه ‪ ،‬إال في‬
‫ّللا‬
‫الصالة بعد الجلسة الوسطى فإنه يقرؤها ابتداء ‪ ،‬فقراءة الفاتحة ال بد منها لكل مصل ‪ ،‬فإن ه‬
‫قسم الصالة بينه وبين عبده وما ذكر إال الفاتحة ال غير ‪ ،‬فمن لم يقرأها فما صلى الصالة‬
‫ّللا بينه وبين عبده ‪ ،‬وينبغي للعبد أن يقرأ سورة الفاتحة من غير أن‬ ‫المشروعة التي قسمها ه‬
‫تتقدمه روية فيما يقرأ من السور أو اآليات من سورة واحدة أو من سور ‪ ،‬فإذا فرغ المصلي‬
‫ّللا على لسانه منه من غير أن يختار‬ ‫من قراءة الفاتحة قرأ ما تيسر له من القرآن وما يجري ه‬
‫آية معينة أو يتردد ‪ ،‬والسنة إتمام السورة ‪.‬‬
‫في الخبر الصحيح يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ ‪-‬‬
‫همة عالية شريفة ‪ -‬روى الشيخ محي الدين ابن العربي عن شيخه المقرئ أبي بكر محمد بن‬
‫خلف بن صاف اللخمي ‪ ،‬من مشايخ القراءات بجامع قوس الحنية بإشبيلية ‪ ،‬عن بعض‬
‫المعلمين من الصالحين ‪ ،‬أن شخصا صبيا صغيرا كان يقرأ عليه القرآن ‪ ،‬فرآه مصفر اللون‬
‫فسأل عن حاله فقيل له إنه يقوم الليل بالقرآن كله ‪.‬‬
‫فقال له يا ولدي أخبرت أنك تقوم الليل بالقرآن كله ‪ ،‬فقال هو ما قيل لك ‪ ،‬فقال يا ولدي إذا‬
‫ي القرآن في صالتك وال تغفل عني ‪ ،‬فقال‬ ‫كان في هذه الليلة فأحضرني في قبلتك ‪ ،‬واقرأ عل ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫بالعالمين ‪ ،‬وما ذكر عالما مخصوصا ‪ ،‬حتى ال يخرج من العالم أحد ‪ ،‬فالعالم مفتقر إلى حقائق‬
‫األسماء‬
‫ص ‪39‬‬

‫ص ‪39 :‬‬
‫الشاب نعم فلما أصبح قال له هل فعلت ما أمرتك به ؟‬
‫قال نعم يا أستاذ ‪ ،‬قال وهل ختمت القرآن البارحة ؟‬
‫قال ال ما قدرت على أكثر من نصف القرآن ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫قال يا ولدي هذا حسن إذا كان في هذه الليلة فاجعل من شئت من أصحاب رسول ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬واقرأ عليه‬ ‫عليه وسلم أمامك ‪ ،‬الذين سمعوا القرآن من رسول ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم فال تزل في تالوتك ‪ ،‬فقال إن شاء ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫واحذر فإنهم سمعوه من رسول ه‬
‫يا أستاذ كذلك أفعل ‪ ،‬فلما أصبح سأله األستاذ عن ليلته فقال ‪:‬‬
‫يا أستاذ ما قدرت على أكثر من ربع القرآن ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقال ‪ :‬يا ولدي أتل هذه الليلة على رسول ه‬
‫واعرف بين يدي من تتلوه ‪ ،‬فقال نعم ‪ ،‬فلما أصبح قال ‪:‬‬
‫يا أستاذ ما قدرت طول ليلتي على أكثر من جزء من القرآن أو ما يقاربه ‪،‬‬
‫فقال يا ولدي إذا كان هذه الليلة فلتكن تقرأ القرآن بين يدي جبريل ‪ ،‬الذي نزل به على قلب‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فاحذر واعرف قدر من تقرأ عليه ‪ ،‬فلما أصبح قال ‪ ،‬يا أستاذ ما‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫قدرت على أكثر من كذا وذكر آيات قليلة من القرآن ‪،‬‬
‫ّللا وتأهب واعلم أن المصلي يناجي ربه ‪ ،‬وأنك واقف‬ ‫قال يا ولدي إذا كان هذه الليلة فتب إلى ه‬
‫بين يديه تتلو عليه كالمه‪.‬‬
‫فانظر حظك من القرآن وحظه وتدبر ما تقرأ ‪ ،‬فليس المراد جمع الحروف وال تأليفها ‪ ،‬وال‬
‫حكاية األقوال ‪ ،‬وإنما المراد بالقراءة التدبر لمعاني ما تتلوه ‪ ،‬فال تكن جاهال ‪ ،‬فلما أصبح‬
‫انتظر األستاذ الشاب فلم يجئ إليه فبعث من يسأل عن شأنه فقيل له إنه أصبح مريضا يعاد ‪،‬‬
‫ّللا عني خيرا ‪ ،‬ما عرفت أني‬ ‫فجاء إليه األستاذ فلما أبصره الشاب بكى وقال ‪ :‬يا أستاذ جزاك ه‬
‫كاذب إال البارحة ‪ ،‬لما قمت في مصالي وأحضرت الحق تعالى وأنا بين يديه أتلو عليه كتابه‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد »ونظرت إلى نفسي فلم أرها تصدق في‬ ‫‪ ،‬فلما استفتحت الفاتحة ووصلت إلى قوله« ِإي َ‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد »وهو يعلم أني أكذب في مقالتي‪.‬‬
‫قولها ‪ ،‬فاستحييت أن أقول بين يديه« إِي َ‬
‫فإني رأيت نفسي الهية بخواطرها عن عبادته ‪ ،‬فبقيت أردد القراءة من أول الفاتحة إلى قوله«‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد »إنه ما خلصت لي ‪ ،‬فبقيت أستحي أن أكذب‬ ‫ِين »وال أقدر أن أقول« ِإي َ‬‫ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫بين يديه تعالى فيمقتني ‪ ،‬فما ركعت حتى طلع الفجر وقد رضت كبدي ‪ ،‬وما أنا إال راحل إليه‬
‫على حالة ال أرضاها من نفسي ‪ ،‬فما انقضت ثالثة حتى مات الشاب ‪ ،‬فلما دفن أتى األستاذ‬
‫إلى قبره فسأله عن حاله ‪ ،‬فسمع صوت الشاب من قبره وهو يقول له ‪ « :‬يا أستاذ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫اإللهية كلها ‪ ،‬وأيضا لو أتى به مضمرا ‪ ،‬لم يجد الضمير على من يعود ‪ ،‬والتاء تجد على من‬
‫تعود ‪،‬‬

‫ص ‪40‬‬

‫ص ‪40 :‬‬
‫أنا حي عند حي لم يحاسبني بشيء »‬
‫قال فرجع األستاذ إلى بيته ولزم فراشه مريضا مما أثر فيه حال الفتى فلحق به‪.‬‬
‫ّللا المعين فال تبال فإنه‬ ‫َّاك نَ ْعبُ ُد »على قراءة الشاب فقد قرأ ‪ -‬نصيحة ‪ -‬إذا كان ه‬ ‫فمن قرأ« ِإي َ‬
‫ال يقاومه شيء ‪.‬‬
‫ّللا يقول‬ ‫بل هو القادر على كل شيء ‪ ،‬فما ثم مع اإلعانة اإللهية قوة تقاوى قوة الحق ‪ ،‬فإن ه‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد َوإِي َ‬
‫َّاك‬ ‫فيمن سأله اإلعانة « ولعبدي ما سأل » في الخبر الصحيح ‪ ،‬فإذا قال العبد« إِي َ‬
‫ّللا ‪ :‬هذه اآلية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل‪.‬‬ ‫ين »يقول ه‬ ‫نَ ْست َ ِع ُ‬
‫ّللا ‪ :‬هؤالء‬ ‫يم »إلى آخر السورة ‪ -‬وهدايته من معونته ‪ -‬يقول ه‬ ‫ط ْال ُم ْست َ ِق َ‬
‫صرا َ‬‫وإذا قال« ا ْه ِدنَا ال ِ ه‬
‫لعبدي ولعبدي ما سأل ‪ ،‬وخبره صدق وقد قال ‪ :‬ولعبدي ما سأل ‪ ،‬فال بد من إعانته ‪.‬‬
‫ولكن هنا شرط ال يغفل عنه العالم إذا تال مثل هذا ال يتلوه حكاية ‪ ،‬فإن ذلك ال ينفعه فيما ذهبنا‬
‫ّللا تعالى ما شرع له أن يقرأ القرآن ويذكره بهذا الذكر إال ليعلمه‬ ‫إليه ‪ ،‬وفيما أريد له وإنما ه‬
‫كيف يذكره ‪ ،‬فيذكره ذكر طلب واضطرار وافتقار وحضور في طلبه من ربه ما شرع له أن‬
‫يطلبه ‪ ،‬فذلك هو الذي يجيبه الحق إذا سأله ‪ ،‬فإن تال حكاية فما هو سائل ‪ ،‬وإذا لم يسأل وحكى‬
‫السؤال فإن الحق ال يجيب من هذه صفته ‪ ،‬وال جرم أن التالين الغالب عليهم الحكاية ال ثمرة‬
‫عندهم ‪ ،‬فهم يقرءون القرآن بألسنتهم ال يجاوز تراقيهم ‪ ،‬وقلوبهم الهية في حال التالوة وفي‬
‫حال سماعه ‪ ،‬فالمؤمن المخلوق يستعين بالمؤمن الخالق ‪ ،‬فيشد منه ويقوي ما ضعف عنه من‬
‫كونه مخلوقا ‪.‬‬
‫إشارة ‪:‬‬
‫ّللا ما ختم القرآن العظيم الذي هو الفاتحة إال بأهل الحيرة وهو‬ ‫ما أحسن اإلشارة في كون ه‬
‫قوله« َو َال الض َِّالهينَ »والضاللة الحيرة ‪ ،‬ثم شرع عقيبها آمين أي أمنا بما سألناك فيه ‪ ،‬فإن‬
‫غير المغضوب عليهم وال الضالين نعت للذين أنعمت عليهم ‪ ،‬وهو نعت تنزيه ‪ ،‬ومن علم أن‬
‫الغاية هي الحيرة فما حار ‪ ،‬بل هو على نور من ربه ‪ ،‬إذ الحيرة هي االنتهاء وما بيد العالم‬
‫باّلل سواها ‪.‬‬
‫باّلل من العلم ه‬ ‫ه‬
‫( راجع معنى الحيرة في كتابنا الرد على ابن تيمية ص ‪ - 50‬ومعنى الضالين في كتابنا شرح‬
‫كلمات الصوفية ص ‪) 402‬‬
‫إشارة ‪:‬‬
‫في قسمة الفاتحة ‪ ،‬العبودية الواضحة ‪ ،‬واختصت الرحمة بالثنا ‪ ،‬ليتبين من أنت ( الحق )‬
‫ومن أنا ‪ ،‬والملك بالتمجيد ‪ ،‬لتصحيح التوحيد ‪ ،‬ووقع الشرك في العبادة والعون ‪ ،‬لتتميز القدرة‬
‫من عجز الكون ‪ ،‬واختص العبد بنصفها الثاني ‪ ،‬ليصح عليها اسم المثاني ‪ ،‬فإن قلت قد ساوى‬
‫موسى لمحمد في الفرقان فكيف‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ألنه قد تقدم‪.‬‬
‫ص ‪41‬‬

‫ص ‪41 :‬‬
‫صحت له السيادة ‪ ،‬قلنا الختصاصه بالقرآن والعبادة ‪ ،‬فإن قلت قد شاركه في العبودية ‪ ،‬نوح‬
‫وزكريا الوجيه ‪ ،‬قلنا ‪ :‬الواحد عبد نعمة ‪ ،‬واآلخر عبد ربوبية ‪ ،‬ومحمد عبد تنزيه ‪ ،‬فإن قلنا قد‬
‫شاركه يحيى في السيادة الفاخرة ‪ ،‬قلنا تلك السيادة الظاهرة ‪ ،‬ولهذا صرح بها في الكتاب‬
‫المبين ‪ ،‬وأخفى فيه سيادة محمد سيد العالمين ‪ ،‬ثم صرح بها على لسانه في الشاهدين ‪ ،‬فهذا‬
‫سيد عموم ‪ ،‬وهذا سيد رسوم ‪.‬‬

‫( ‪ ) 2‬سورة البقرة مدنيهة‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫سميت سورة البقرة وآل عمران الزهراوين ‪ ،‬وورد أنهما يأتيان يوم القيامة صورة قائمة ‪،‬‬
‫ولهما عينان ولسانان وشفتان ‪ ،‬يشهدان لمن قرأهما بحق ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪1‬‬


‫الر ِح ِيم‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬ ‫بِس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫ألم ( ‪) 1‬‬

‫[ الحروف ]‬
‫ّللا وإياكم ‪ ،‬أن الحروف أمة من األمم مخاطبون ومكلفون ‪ ،‬وفيهم رسل من‬
‫اعلم وفقنا ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ّللا متعلقة بما في المتقين من‬ ‫ّللا الرحمن الرحيم آية من هذه السورة ‪ ،‬والباء من بسم ه‬ ‫قوله بسم ه‬
‫ّللا بأسمائه » وإن شئت علقتها بفعل أمر محذوف ‪،‬‬ ‫معنى الفعل ‪ ،‬كأنه يقول « الذين اتقوا ه‬
‫ّللا » ال ينبغي أن يضمر له غير ذلك ‪ ،‬وإن كان يجوز ‪ ،‬ولكن اتباع‬ ‫وهو قولك « اقرأ بسم ه‬
‫ّللا فيما أوحى به أولى ‪.‬‬
‫ه‬
‫قال تعالى ‪ «:‬ا ْق َرأْ ِباس ِْم َر ِبه َك الَّذِي َخلَقَ »فالعالم األديب ال يضمر إال هذا الفعل على هذه‬
‫الصيغة ‪ ،‬فأما ما يتضمنه من الرحمة ‪ ،‬فهو رحمته سبحانه بمحمد عليه السالم بالكتاب الذي‬
‫علَيْنا ِكتابا ا نَ ْق َر ُؤهُ »‬
‫أنزله عليه حين سأل الكفار إنزاله ‪ ،‬فقالوا« َولَ ْن نُؤْ ِمنَ ِل ُر ِق ِيه َك َحتَّى تُن ِ هَز َل َ‬
‫فأعطاه األمرين المعراج والقرآن ‪ ،‬فقال له « ألم »ذلك الكتاب الذي سألوه منك هو هذا الكتاب‬
‫ال شك فيه ‪ ،‬فهذا من أثر الرحمة من ( بسم هللا الرحمن الرحيم )‬
‫ص ‪42‬‬

‫ص ‪42 :‬‬
‫جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ‪ ،‬وهم عوالم ولكل عالم رسول من جنسهم ‪ ،‬ولهم شريعة‬
‫تعبدوا بها ‪ ،‬ولهم لطائف وكثائف ‪ ،‬وعليهم من الخطاب األمر ليس عندهم نهي ‪ ،‬وفيهم عامة‬
‫وخاصة وخاصة الخاصة وصفاء خالصة خاصة الخاصة ‪ ،‬وحروف أوائل السور من الخاصة‬
‫التي فوق العامة ‪ ،‬وال يعرف حقيقة مبادئ السور المجهولة ‪.‬‬
‫ّللا آدم على صورته ‪ ،‬وهم الذين وصلوا‬ ‫اال أهل الصور المعقولة [ هم الذين لهم حظ من خلق ه‬
‫مرتبة الكمال والخالفة ] وجعل تبارك وتعالى أوائل السور تسعا وعشرين سورة ‪ ،‬وهو كمال‬
‫الصورة ‪ ،‬كما قدر منازل القمر ‪ ،‬وجعل الحروف على تكرارها ثمانية وسبعين حرفا ‪ ،‬فال‬
‫يكمل عبد أسرار اإليمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها ‪.‬‬
‫قال عليه السالم ‪ « :‬واإليمان بضع وسبعون شعبة »كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم‬
‫ّللا فيها على حقيقة اإليجاد وتفرد القديم سبحانه بصفاته األزلية ‪ ،‬ثم إنه سبحانه جعل‬ ‫تنبيه ه‬
‫أولها األلف في الخط ‪ ،‬والهمزة في اللفظ ‪ ،‬وآخرها النون‪.‬‬
‫فاأللف لوجود الذات على كمالها ألنها غير مفتقرة إلى حركة ‪ ،‬والنون لوجود الشطر من العالم‬
‫وهو عالم التركيب ‪ ،‬وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك ‪ ،‬والنصف اآلخر النون‬
‫المعقولة عليها ‪ ،‬التي لو ظهرت للحس وانتقلت من عالم الروح لكانت دائرة محيطة ‪ ،‬ولكن‬
‫أخفى هذه النون الروحانية ‪ -‬التي بها كمال الوجود ‪ -‬وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها‬
‫‪.‬‬
‫فاأللف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة ‪ ،‬وجعلت هذه الحروف على أفراد في بعض‬
‫السور مثل « ص ‪ ،‬ق ‪ ،‬ن » وثنيت في « طس ‪ ،‬طه » وأخواتها ‪.‬‬
‫وجمعت في ثالثة فصاعدا حتى بلغت خمسة حروف متصلة ومنفصلة ولم تبلغ أكثر ‪ ،‬وال‬
‫ّللا تعالى كشفا ‪ ،‬وسماه الحكيم الترمذي علم األولياء‪.‬‬
‫يعرف هذا العلم اال أولياء ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫قوله" ألم " وقع النطق بأسماء هذه الحروف المعينة على طريق البناء على السكون الذي هو‬
‫الثبوت ‪ ،‬فال يتغير ‪ ،‬وأما ما تدل عليه فال يعرف ذلك على الحقيقة إال من جانب الحق ‪ ،‬وليس‬
‫هذا مما يدرك بالرأي ‪.‬‬
‫ّللا ال ينبغي أن يترجم بالحدس وال‬ ‫وكل ما قيل فيه فليس بمرضي ‪ ،‬وال يفيد علما ‪ ،‬وكالم ه‬
‫بالظن والتخمين ‪ ،‬والعرب ال تعرفه ‪ ،‬وكل ما ذكره المفسرون في ذلك ونسبوه للعرب فال‬
‫يشبه هذا إذا حققته ‪ ،‬وكان سبب نزول هذه الحروف أن الكفار قالوا( ال ت َ ْس َمعُوا ِلهذَا ْالقُ ْر ِ‬
‫آن‬
‫َو ْالغ َْوا فِي ِه )‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم يوحى إليه يكثرون اللغط ‪ ،‬فلما سمعوا التلفظ بأسماء‬ ‫فكانوا إذا رأوا النبي صلهى ه‬
‫حروف المعجم ‪ ،‬أرادوا أن يعرفوا ما أريد بها ‪ ،‬عساه يفسر ذكرها ما يدل على المراد بها ‪،‬‬
‫فيسكتون وتتوفر‬
‫ص ‪43‬‬

‫ص ‪43 :‬‬
‫واعلم أن هّلل ثمانية وعشرين اسما على عدد منازل الفلك وهي ‪:‬‬
‫الرفيع الدرجات ‪ ،‬الجامع ‪ ،‬اللطيف ‪ ،‬القوي ‪ ،‬المذل ‪ ،‬رزاق ‪ ،‬عزيز ‪ ،‬مميت ‪ ،‬محيي ‪ ،‬حي‬
‫‪ ،‬قابض ‪ ،‬مبين ‪ ،‬محص ‪ ،‬مصور ‪ ،‬نور ‪ ،‬قاهر ‪ ،‬عليم ‪ ،‬رب ‪ ،‬مقدهر ‪ ،‬غني ‪ ،‬شكور ‪ ،‬محيط‬
‫‪ ،‬حكيم ‪ ،‬ظاهر ‪ ،‬باطن ‪ ،‬باعث ‪ ،‬بديع ‪ .‬ولكل اسم من هذه األسماء روحانية ملك تحفظه‬
‫وتقوم به وتحفظها ‪ ،‬لها صور في النفس اإلنساني تسمى حروفا في المخارج عند النطق وفي‬
‫الخط عند الرقم ‪ ،‬فتختلف صورهما في الكتابة والرقم وال تختلف في النطق ‪ ،‬وتسمى هذه‬
‫المالئكة الروحانيات في عالم األرواح بأسماء هذه الحروف ‪ ،‬فلنذكرها على ترتيب المخارج‬
‫حتى تعرف رتبتها فأولهم ‪ :‬ملك الهاء ثم الهمزة ‪ ،‬وملك العين المهملة ‪ ،‬وملك الحاء المهملة ‪،‬‬
‫وملك العين المعجمة ‪ ،‬وملك الخاء المعجمة ‪ ،‬وملك القاف ‪ ،‬وملك الكاف ‪ ،‬وملك الجيم ‪،‬‬
‫وملك الشين المعجمة ‪ ،‬وملك الياء ‪ ،‬وملك الضاد المعجمة ‪ ،‬وملك الالم ‪ ،‬وملك النون ‪ ،‬وملك‬
‫الراء ‪ ،‬وملك الطاء المهملة ‪ ،‬وملك الدال المهملة ‪ ،‬وملك التاء المعجمة باثنتين من فوقها ‪،‬‬
‫وملك الزاي ‪ ،‬وملك السين المهملة ‪ ،‬وملك الصاد المهملة ‪ ،‬وملك الظاء المعجمة ‪ ،‬وملك الثاء‬
‫المعجمة بالثالث ‪ ،‬وملك الذال المعجمة ‪ ،‬وملك الفاء ‪ ،‬وملك الباء ‪ ،‬وملك الميم ‪ ،‬وملك الواو‬
‫‪ ،‬وهذه المالئكة أرواح هذه الحروف ‪ ،‬وهذه الحروف أجساد تلك المالئكة لفظا وخطا بأي قلم‬
‫كانت ‪ ،‬فبهذه األرواح تعمل الحروف ال بذواتها ‪ ،‬أعني صورها المحسوسة للسمع والبصر‬
‫المتصورة في الخيال ‪ ،‬فال يتخيل أن الحروف تعمل بصورها وإنما تعمل بأرواحها ‪ ،‬ولكل‬
‫حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد يعظم بذلك كله خالقه ومظهره ‪ ،‬وروحانيته ال‬
‫تفارقه وبهذه األسماء يسمون هذه المالئكة في السماوات ‪ ،‬وكذلك الكواكب التي ترونها إنما‬
‫هي صور لها أرواح ملكية تدبرها مثل ما لصورة اإلنسان ‪ ،‬فبروحه يفعل اإلنسان وكذلك‬
‫ّللا سبحانه ما يسوي صورة محسوسة‬ ‫الكوكب ‪ ،‬والحرف لوال الروح ما ظهر منه فعل ‪ ،‬فإن ه‬
‫في الوجود على يد من كان ‪ ،‬من إنسان أو ريح إذا هبت فتحدث أشكاال في كل ما تؤثر فيه ‪،‬‬
‫ّللا بمشي‬
‫حتى الحية والدودة تمشي في الرمل فيظهر طريق ‪ ،‬فذلك الطريق صورة أحدثها ه‬
‫ّللا فيها روحا من أمره ال يزال يسبحه‬
‫هذه الدودة أو غيرها ‪ ،‬فينفخ ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫دواعيهم إلى ذلك ‪ ،‬فيسمعون ما أراد الحق أن يخاطبهم به من القرآن ‪ ،‬فهذا وجه إنزالها ‪،‬‬
‫ومع هذا فلها معان ال يعلمها إال هو ‪ ،‬ومن أنزلت عليه ‪ ،‬ثم إنه ما كتبت على صورة ما تلفظ‬
‫بها ‪،‬‬
‫ص ‪44‬‬

‫ص ‪44 :‬‬
‫ذلك الشكل بصورته وروحه إلى أن يزول فتنتقل روحه إلى البرزخ ‪ ،‬وذلك قوله « ُك ُّل َم ْن‬
‫فان » ‪،‬وكذلك األشكال الهوائية والمائية لوال أرواحها ما ظهر منها في انفرادها وال في‬ ‫علَيْها ٍ‬
‫َ‬
‫تركيبها أثر ‪ ،‬وكل من أحدث صورة وانعدمت وزالت وانتقل روحها إلى البرزخ فإن روحها‬
‫ّللا ويحمده ‪ ،‬ويعود ذلك الفضل على من أوجد تلك الصورة الذي‬ ‫الذي هو ذلك الملك يسبح ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهذا‬ ‫كان هذا الملك روحها ‪ ،‬فما يعرف حقائق األمور إال أهل الكشف والوجود من أهل ه‬
‫ّللا قلوب الغافلين ليتنبهوا على الحروف المقطعة في أوائل السور ‪ ،‬فإنها صور مالئكة‬ ‫نبه ه‬
‫وأسماؤهم ‪ ،‬فإذا نطق بها القارئ كان مثل النداء بهم فأجابوه ‪ ،‬فيقول القارئ « ألف ‪ ،‬الم ‪،‬‬
‫ميم » فيقول هؤالء الثالثة من المالئكة مجيبين « ما تقول » فيقول القارئ ما بعد هذه‬
‫الحروف تاليا فيقولون « صدقت » إن كان خبرا ‪ ،‬ويقولون « هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر‬
‫بحق » فيستغفرون له ‪ ،‬وهم أربعة عشر ملكا ‪ « ،‬ألف ‪ ،‬الم ‪ ،‬ميم ‪ ،‬صاد ‪ ،‬راء ‪ ،‬كاف ‪ ،‬هاء‬
‫‪ ،‬ياء ‪ ،‬عين ‪ ،‬طاء ‪ ،‬سين ‪ ،‬حاء ‪ ،‬قاف ‪ ،‬نون » ظهروا في منازل من القرآن مختلفة ‪،‬‬
‫فمنازل ظهر فيها واحد مثل « ق ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص » ومنازل ظهر فيها اثنان مثل « طس ‪ ،‬يس ‪،‬‬
‫حم »وهي سبعة أعني الحواميم ‪ ،‬طه ‪ ،‬ومنازل فيها ثالثة وهم ‪ « ،‬ألم البقرة ‪ ،‬وألم آل‬
‫عمران ‪ ،‬وألم يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر ‪ ،‬وطسم الشعراء والقصص والعنكبوت‬
‫ولقمان والروم والسجدة » ومنها منازل ظهر فيها أربعة وهم « المص األعراف ‪ ،‬والمر‬
‫الرعد » ومنازل ظهر فيها خمسة وهي « مريم والشورى » وجميعها ثمان وعشرون سورة‬
‫على عدد منازل السماء سواء ‪ ،‬فمنها ما يتكرر في المنازل ومنها ما ال يتكرر ‪ ،‬فصورها مع‬
‫التكرار تسعة وسبعون ملكا بيد كل ملك شعبة من اإليمان ‪ ،‬وإن اإليمان بضع وسبعون شعبة‬
‫ّللا ‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن الطريق ‪ -‬والبضع من واحد إلى تسعة ‪ -‬فقد‬ ‫أرفعها ال إله إال ه‬
‫استوفى غاية البضع ‪ ،‬فمن نظر في هذه الحروف يرى عجائب ‪ ،‬وتكون هذه األرواح الملكية‬
‫التي هذه الحروف أجسامها تحت تسخيره ‪ ،‬وبما بيدها من شعب اإليمان تمده وتحفظ عليه‬
‫إيمانه ‪.‬‬
‫واعلم أن هذه الحروف األربعة عشر التي في أوائل السور ‪ ،‬كل حرف منها له ظاهر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ولما كتبت ما قيدت بحركات مخصوصة ‪ ،‬بل تركت مهملة ‪ ،‬وهذا كله يدلك على أنه من فسر‬
‫ص ‪45‬‬

‫ص ‪45 :‬‬
‫وهو صورته وله باطن وهو روحه ‪ ،‬ولكل حرف ليلة من الشهر أعني الشهر الذي يعرف‬
‫بالقمر ‪ ،‬فإذا مشى القمر وقطع في سيره أربع عشرة منزلة أعطى في كل حرف من هذه‬
‫الحروف من حيث صورها قوتين من حيث ذاته ‪ ،‬ومن حيث نوره ‪ ،‬وأعطاه قوتين أخريين‬
‫من حيث المنزلة التي نزل بها ‪ ،‬ومن حيث البرج الذي لتلك المنزلة ‪ ،‬ولكن بقدر ما لتلك‬
‫المنزلة من البرج ‪ ،‬فيصير في ذلك الحرف أربع قوى ‪ ،‬فيكون عمله أقوى ‪ ،‬فإذا أخذ القمر في‬
‫النقص فقد أخذ في روحانية هذه الحروف إلى أن يكملها بكمال المنازل ‪ ،‬فتلك ثمان وعشرون‬
‫والقوى مثل القوى إال أنه يكون العمل غير العمل ‪ ،‬فالعمل الظاهر في المنافع ‪ ،‬والعمل الثاني‬
‫في دفع المضار ‪ .‬وفي قوة النور الذي للقمر لهذه الحروف مراتب بحسب المنزلة والبرج الذي‬
‫تكون فيه الشمس ‪ ،‬واتصاالت القمر بالمنزلة في تسديسها وتربيعها وتثليثها ومقابلتها‬
‫ومقارنتها ‪ ،‬فتختلف األحكام باختالف هذا للحرف من قوة النور القمري ‪ ،‬وأما الم ألف فهو‬
‫من الحروف المركبة ‪ ،‬أنزلوه منزلة الحرف الواحد لكمال نشأة الحروف ‪ ،‬ولهذا الحرف ليلة‬
‫السرار الذي يكون للقمر ‪ ،‬فالعمل بالحروف يحتاج إلى علم دقيق ‪ ،‬فهذه القوى تحصل‬
‫ّللا ما قدر هذا القمر منازل حتى عاد كالعرجون القديم واختصه‬ ‫للحروف من سير القمر ‪ ،‬فإن ه‬
‫بالذكر سدى ‪ ،‬بل ذلك لحكمة إلهية يعلمها من أوتي الحكمة التي هي الخير الكثير اإللهي ‪ ،‬فإن‬
‫الستة الجواري الباقية قدهرها أيضا منازل في نفس األمر وما خصها بالذكر ‪ ،‬فلما دخل القمر‬
‫في الذكر كان له من القوة اإللهية والشرف في الوالية والحكم اإللهي ما ليس لغيره ‪ ،‬فإنه ما‬
‫ذكر إال بالحروف وبها نزل إلينا الذكر ‪ ،‬فكان نسبته إلى الحروف أتم من نسبة غيره ‪ ،‬فصار‬
‫إمداده للحروف إمدادين ‪ ،‬إمداد جزاء وشكر ألن بها حصل له الذكر ‪ ،‬وإمدادا طبيعيا كإمداد‬
‫سائر الستة لهذه الحروف ‪ -‬راجع والقمر قدرناه منازل ‪.‬‬
‫«تفسير من باب اإلشارة » ‪ « :‬األلف » من( ألم )إشارة إلى التوحيد فمهما نظرت إلى‬
‫الوجود جمعا وتفصيال ‪ ،‬وجدت التوحيد يصحبه ‪ ،‬ال يفارقه البتة ‪ ،‬صحبة الواحد األعداد ‪،‬‬
‫فالواحد ليس العدد ‪ ،‬وهو عين العدد ‪ ،‬أي به ظهر العدد ‪ ،‬فاأللف ليس من الحروف عند من‬
‫شم رائحة من الحقائق ‪ ،‬ولكن قد سمته العامة حرفا ‪ ،‬فإذا قال المحقق إنه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وّللا أعلم ‪ ،‬أو قد اجترأ فيما ذكره ولو أصاب ‪ ،‬فإن ذلك مما ال يدرك‬
‫برأيه فما أصاب ‪ ،‬ه‬
‫باالجتها‬
‫ص ‪46‬‬

‫ص ‪46 :‬‬
‫حرف فإنما يقول ذلك على سبيل التجوز في العبارة ‪ ،‬ومقام األلف مقام الجمع ‪ ،‬له من األسماء‬
‫ّللا ‪ ،‬وله من الصفات القيومية ‪ ،‬وله المراتب كلها ‪ ،‬وله مجموع عالم الحروف ومراتبها ‪،‬‬ ‫اسم ه‬
‫ليس فيها وال خارجا عنها ‪ ،‬نقطة الدائرة ومحيطها ‪ ،‬ومركب العوالم وبسيطها ‪ « .‬والميم »‬
‫للملك الذي ال يهلك « والالم »بينهما واسطة لتكون رابطة بينهما ‪ ،‬فاأللف إشارة إلى الذات‬
‫المنزهة عن قيام الحركات بها ‪ ،‬والالم إشارة إلى الصفات التي ال تعقل إال باألفعال ‪ ،‬لذلك‬
‫اتصلت الالم بالميم الذي هو أثرها وفعلها ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪2‬‬


‫دى ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ين" ( ‪) 2‬‬ ‫ب فِي ِه ُه ً‬ ‫"ذ ِلكَ ا ْل ِك ُ‬
‫تاب ال َر ْي َ‬
‫« ذ ِل َك »مبتدأ ليس بفاعل وال مفعول لما لم يسم فاعله ‪ ،‬وال يصح أن يكون فاعال لقوله« ال‬
‫ْب فِي ِه »فلو كان فاعال لوقع الريب ‪ ،‬ألن الفاعل إنما هو منزله ال هو ‪ ،‬وال يقال فيه أيضا‬ ‫َري َ‬
‫مفعول لم يسم فاعله ألنه من ضرورته أن يتقدمه كلمة على بنية مخصوصة محلها النحو و«‬
‫تاب »هنا نفس الفعل والفعل ال يقال فيه فاعل وال مفعول ‪ ،‬وهو مرفوع فلم يبق إال أن‬ ‫ْال ِك ُ‬
‫يكون مبتدأ ‪ ،‬وجاء بعد قوله «ألم »إشارة إلى موجود بيد أن فيه بعدا ‪ ،‬وسبب البعد لما أشار‬
‫ّللا ) ‪( 1‬‬
‫إلى الكتاب ‪ ،‬وهو المفروق محل التفصيل واإلشارة نداء على رأس البعد عند أهل ه‬
‫فقوله « ذا » حرف مبهم فبيهن ذلك المبهم بقوله« ْال ِك ُ‬
‫تاب »وهو حقيقة ذا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫تاب " ) ‪( 3‬اآلية ‪.‬‬ ‫قوله‪ " :‬ذ ِلكَ ا ْل ِك ُ‬
‫ذا إشارة ‪ ،‬واأللف والالم للعهد ‪ ،‬فاإلشارة للكتاب المسؤول المعهود هو هذا ‪ ،‬وال وجه لقوله(‬
‫ألم )في اإلعراب ‪ ،‬ومن أعربه فقد أخطأ ‪ ،‬فإن إعراب الكالم تابع لمعرفة معانيه ‪ ،‬وهذا‬
‫ْب ِفي ِه »يقول ال شك‬
‫مجهول المعنى ‪ ،‬وال سيما في الخط حيث لم يقيد بحركة ‪ ،‬وقوله« ال َري َ‬
‫فيه ‪ ،‬فيحتمل أن يكون العامل في« فِي ِه »ما في الريب من معنى الفعل ‪ ،‬أو في الهدى من كائن‬
‫‪ ،‬فإن له تعلقا بالريب وتعلقا بالهدى ‪ ،‬وفي القرآن من ذلك كثير مثل« هذَا »في( يس )في‬
‫من )فله وجه إلى ما ‪ ،‬ووجه إلى مرقدنا ‪،‬‬ ‫الر ْح ُ‬ ‫قوله( َم ْن بَعَثَنا ِم ْن َم ْرقَدِنا ‪ ،‬هذا ما َو َ‬
‫ع َد َّ‬
‫وكذلك( َو ْاآلصا ِل ِرجا ٌل ال ت ُ ْل ِهي ِه ْم )في سورة النور يطلبه« يُ َ‬
‫س ِبه ُح »بالفاعلية ‪ ،‬ويطلبه االبتداء‬
‫بالمبتدئية ‪ ،‬وضمير ال تلهيهم يعود عليهم في الوجهين معا ‪ ،‬وكذلك هذا يجوز الوقف على‬
‫ص ‪47‬‬

‫ص ‪47 :‬‬
‫وساق الكتاب بحر في التعريف والعهد ‪ ،‬فذلك الكتاب هو الكتاب المرقوم ‪ ،‬ألن أمهات الكتب‬
‫ثالثة ‪ :‬الكتاب المسطور والكتاب المرقوم والكتاب المجهول ‪ .‬والكتاب ضم معنى إلى معنى ‪،‬‬
‫والمعاني ال تقبل الضم إلى المعاني حتى تودع في الحروف والكلمات ‪ ،‬فإذا حوتها الكلمات‬
‫والحروف قبلت ضم بعضها إلى بعض فانضمت بحكم التبع النضمام الحروف ‪ ،‬وانضمام‬
‫ْب فِي ِه‬
‫الحروف تسمى كتابة ‪ ،‬فذلك الكتاب المرقوم المنزل عليك هو علمي ال علمك« ال َري َ‬
‫ى ِل ْل ُمت َّ ِقينَ »فهو في معرض الهداية لمن‬
‫»عند أهل الحقائق أنزله في معرض الهداية« ُهد ا‬
‫اتقاني وأنت المنزل فأنت محله ‪ ،‬وال بد لكل كتاب من أم ‪ ،‬وأمه ذلك الكتاب المجهول ال‬
‫تعرفه أبدا ‪ ،‬وقال تعالى« ذ ِل َك »ولم يقل تلك آيات الكتاب ‪ ،‬فالكتاب للجمع واآليات للتفرقة ‪،‬‬
‫وذلك مذكر مفرد ‪ ،‬وتلك مفرد مؤنث ‪ ،‬فأشار تعالى بذلك الكتاب أوال لوجود الجمع أصال قبل‬
‫الفرق ‪ ،‬كما أشار باآليات إلى محل األحكام والقضايا ‪.‬‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬الكتاب المرقوم هو هذا القرآن ‪ ،‬والكتاب المسطور هو الوجود كله ‪ ،‬والكتاب‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫المجهول هو علم ه‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪3‬‬


‫صلةَ َو ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ون ( ‪) 3‬‬ ‫ون ِبا ْلغَ ْي ِ‬
‫ب َويُ ِقي ُم َ‬
‫ون ال ه‬ ‫الهذ َ‬
‫ِين يُ ْؤ ِمنُ َ‬

‫[ بحث في اإليمان ]‬
‫بحث في اإليمان ‪ :‬إن اإليمان عبارة عن نور حاصل من قبل الحق تعالى ‪ ،‬قابل لكل ما‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ى ِل ْل ُمت َّ ِقينَ »هدى أي بيان ‪ ،‬أي أن الكتاب يتضمن‬
‫" ِفي ِه " ويجوز االبتداء به فيقرأ ‪ :‬فيه« ُهد ا‬
‫ّللا أن يخبر به عباده ‪ ،‬من طريق السعادة التي من سلك عليها نجا ‪ ،‬وخص‬ ‫بيان ما أراد ه‬
‫المتقين بالذكر ‪ ،‬فإن المتقي هو الذي يحذر ويخاف ‪ ،‬فيؤديه حذره إلى البحث والتفتيش عن‬
‫األمر الذي تكون فيه سعادته ‪ ،‬فيتبين له من القرآن ذلك ‪ ،‬فيما هو معجز يحصل له التصديق‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وبما يتضمنه من المعاني يحصل له التصديق‬ ‫بالمخبر به ‪ ،‬وهو النبي صلهى ه‬
‫ّللا هو الصادق في خبره ‪ ،‬ال يجوز عليه الكذب ‪ ،‬وال يشترط في المتقي هنا أن‬ ‫بها ‪ ،‬فإن ه‬
‫يكون مؤمنا في حال تقواه ‪ ،‬فإنه صاحب نظر وطلب واستكشاف عن بيان األمر ‪ ،‬فإذا تبين له‬
‫ّللا فيما أمر به ونهى ‪ ،‬وفيما يطرأ على‬ ‫آمن ‪ ،‬وإذا آمن استصحبه التقوى والحذر من مخالفة ه‬
‫القلوب من الشكوك والشبه المضلة ‪ ،‬فال تزال التقوى له صفة ‪ ،‬قوله ( ‪ «) 4‬الَّذِينَ يُؤْ ِمنُونَ‬
‫ى‬‫على ُهد ا‬ ‫ب »هو نعت للمتقين ‪ ،‬وقد يكون مبتدأ ‪ ،‬ويكون الخبر الجملة من قوله« أُولئِ َك َ‬ ‫بِ ْالغَ ْي ِ‬
‫ِم ْن َر ِبه ِه ْم » ‪.‬ثم اعلم أن المعلومات على قسمين‪:‬‬
‫ص ‪48‬‬

‫ص ‪48 :‬‬
‫يرد منه من دين وشرع ونحوهما ‪ ،‬فيستحق حامله بوصف قبوله المذكور األمن من سخط‬
‫الرحمن ‪ ،‬فيسمى بهذا الوصف والحكم الخاص إيمانا وتصديقا ‪ ،‬وعلى التحقيق إنما هو أول‬
‫اعتبار من العلم متعلق بالدين والشرع وحداني النعت ‪ ،‬من غير اعتبار تأيد بدليل وبرهان‬
‫عقلي أو سمعي أو كشفي ‪ ،‬فإذا تأيد بشيء من ذلك صار علما وإيقانا ‪ ،‬وخرج من كونه إيمانا‬
‫‪ ،‬ثم إن محل هذا النور يختلف بحسب رقة حجب العادة والطبع الحائل بين النفس والقلب ‪،‬‬
‫وبين قبولهما الدين والشرع وبحسب كثافتهما ‪ ،‬فمهما رقهت الحجب وشفت يرد هذا النور من‬
‫ضمن إخبار مخبر صادق عن الحق تعالى ‪ ،‬رغما منه بطريق السمع غالبا ‪ ،‬ويخلص إلى‬
‫القلب فيتلقاه القلب بالقبول ‪ ،‬وذلك يكون نفس التصديق الذي محله القلب ‪ ،‬والدليل على كونه‬
‫نورا قول النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور ] وذلك في‬
‫آخر حديث تمثيل اليهود والنصارى والمسلمين وتمثيل إجارتهم وأجورهم ‪ ،‬وأما الدليل على‬
‫عز من قائل [ أولئك كتب في قلوبهم اإليمان وأيدهم بروح منه ]‬ ‫وروده على القلب قوله ه‬
‫فيظهر القلب وآثاره ‪ ،‬ويتميز بعد أن كان مغمورا ومستورا ومقهورا تحت سلطنة النفس‬
‫وآثارها ‪ ،‬ثم بعد هذا الورود يسري أثره من الباطن والقلب إلى ظاهر النفس ‪ ،‬حتى إلى‬
‫صورتها البدنية وسائر قواها وأعضائها ‪ ،‬فتنقاد وتستسلم وتلين بعد انشراح الصدر له‬
‫ّللا ] ويسمى‬‫وألحكامه الظاهرة والباطنة ‪ ،‬كما قال تعالى [ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر ه‬
‫هذا النور بحكم سرايته في الظاهر وتليينه إياه وانقياد الظاهر له وألحكامه إسالما ‪ ،‬ومهما‬
‫تراكمت الحجب لم يرد هذا النور من ضمن األخبار المذكورة إال على ظاهر النفس من قبل أن‬
‫ينشرح الصدر ‪ ،‬فتتلقاه النفس بقبول مختلس ‪ ،‬فتنقاد له وألحكامه الظاهرة الحسية ‪ ،‬رغبة أو‬
‫رهبة متعلقة بالظاهر ‪ ،‬كحقن الدم وصون المال والعرض ‪ ،‬ويسمى هذا النور بهذا القدر‬
‫اليسير من االنقياد الظاهري إسالما ‪ ،‬لكن لما لم يخلص ذلك إلى القلب ‪ ،‬لكثافة الحجب وعدم‬
‫سرايته إلى الباطن أصال ‪ ،‬لم ينشرح له الصدر ‪ ،‬ولم ينبسط لقبوله كما قال تعالى [ قالت‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫معلومات تستقل العقول بإدراكها ‪ ،‬كالعلم بوجود الحق سبحانه وتوحيده ‪ ،‬ونسب نعوت الكمال‬
‫والجالل إليه ‪ ،‬وما يجب له وما يستحيل عليه ‪ ،‬وما يجوز أن يكون منه في خلقه ‪ ،‬كل ذلك ال‬
‫يفتقر إلى خبر وال مخبر ‪ ،‬وقسم آخر ال تستقل العقول بإدراكه ‪ ،‬وهو وقوع ما يجوز‬
‫ص ‪49‬‬

‫ص ‪49 :‬‬
‫األعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل اإليمان في قلوبكم ] فأما إذا سرى أثر‬
‫قبول الظاهر إلى الباطن وحكم قبول القلب إلى النفس ‪ ،‬بتلطيف الحجب وغلبة حكم العبادة‬
‫ّللا تعالى [ أفمن‬
‫على أحكام العادة ‪ ،‬فيحصل إما تمام شرح الصدر أو بعضه ‪ ،‬وذلك قول ه‬
‫ّللا صدره لإلسالم فهو على نور من ربه ] ‪.‬‬ ‫شرح ه‬
‫ّللا‬
‫ويعم حكم القبول للقلب من النفس ‪ ،‬ويتحد وصفهما الذي هو اإلسالم واإليمان ‪ ،‬كما أخبر ه‬
‫عز وجل من قائل ‪ [ :‬فأخرجنا من كان فيها من‬ ‫تعالى عن حال مؤمني قوم لوط في ذلك بقوله ه‬
‫المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ] فعلى هذا يكون لهذا النور بحسب محليه ‪-‬‬
‫أعني النفس والقلب ‪ -‬ظاهر وباطن فظاهره االنقياد القائم بالنفس وآالتها التي هي القوى‬
‫واألعضاء البدنية ‪ ،‬وله ثالث مراتب فمبدؤها وصف المنافقين وذلك قبل شرح الصدر ‪ ،‬وهو‬
‫انقياد النفس األمارة بالسوء رغبة أو رهبة دنيوية فحسب ‪ ،‬ووسطها نعت األبرار من المسلمين‬
‫‪ ،‬وهو انقياد النفس اللوامة لألوامر والنواهي ظاهرا وباطنا ‪ ،‬ولكن عن رغبة ورهبة متعلقة‬
‫باآلخرة ‪ ،‬واستيفاء حظوظ النفس من الجنة بنعمها المحسوسة ودرجاتها ‪ ،‬وذلك في أثناء شرح‬
‫الصدر ‪ ،‬وغايتها صفة المؤمنين الموقنين المقربين المخلصين ‪ ،‬وهو انقياد النفس المطمئنة ‪،‬‬
‫ظاهرا وباطنا خالصا مخلصا من غير شائبة حظ النفس أصال دنيا وآخرة ‪ ،‬وهو المراد بقول‬
‫الخليل عليه السالم( ِإ ْذ قا َل لَهُ َربُّهُ « أ َ ْس ِل ْم » قا َل أ َ ْسلَ ْمتُ ِل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ ) ‪.‬‬
‫وبما وصى بنيه يعقوب عليه السالم بقوله( فَال ت َ ُموت ُ َّن ِإ َّال َوأ َ ْنت ُ ْم ُم ْس ِل ُمونَ )وذلك بعد تمام شرح‬
‫الصدر وفتح القلب ‪ ،‬وهو ظهوره من مشيمة النفس والروح ‪ ،‬وهذا النور اإليماني من هذه‬
‫الحيثية الظاهرة ومن حيثية عموم الحكم واتحاد الوصف المذكورين قبيل هذا أيضا قابل للزيادة‬
‫والنقصان ‪ ،‬لكون األعمال البدنية منها ‪ ،‬فيزيد بزيادتها وينتقص بانتقاصها ‪ ،‬وأما باطنه‬
‫وحقيقته المكتوب في القلب ‪ ،‬فهو مجرد التصديق ‪ ،‬وحداني النعت ‪ ،‬غير قابل من هذه الحيثية‬
‫زيادة ونقصانا ‪ ،‬نعم قد يقوى ويضعف ظهوره برقة الحجب وكثافتها ‪ ،‬وربما يتأيد ويتقوى‬
‫ويتفرع منه أشعة في الظاهر والباطن ‪ ،‬ولكن القوة والضعف والتأييد والظهور واألشعة ‪ ،‬كلها‬
‫من نعوته وصفاته ‪ ،‬ال من أجزاء حقيقته ومقوماته ‪ ،‬ثم إن هذه الحيثية الباطنية التصديقية‬
‫أيضا لها ثالث‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أن يكون منه أو عدم وقوعه ‪ ،‬فهذا القسم مغيب عن العقول ‪ ،‬فال تدركه إال بالخبر الصدق ‪،‬‬
‫ص ‪50‬‬

‫ص ‪50 :‬‬
‫درجات ‪:‬أولها إيمان العوام ‪ ،‬وهو االعتقاد الصحيح السليم الذي هو أصل الصراط المستقيم ‪،‬‬
‫ووسطاها سرايتها في النفس وجميع قواها وآالتها البدنية واستصحابها مع كل حركة وسكنة‬
‫قوال وفعال ‪ ،‬وثمرة ذلك االئتمار لجميع األوامر واالنتهاء عن جميع النواهي ظاهرا وباطنا ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ال يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن « الحديث »‬ ‫وقوله صلهى ه‬
‫من هذه المرتبة الوسطى اإليمانية ‪ ،‬فإنه نفى اإليمان عمن لم يستصحبه في جميع حركاته‬
‫وسكناته ‪ ،‬ولو صحبه حال فعل الزنا والسرقة باستحضار الحق تعالى ولزوم أوامره ونواهيه‬
‫لما أقدم على ذلك ‪ ،‬فكان اإليمان المنفي من هذه المرتبة الوسطى ال األعلى واألدنى ‪.‬‬
‫وأعلى مراتب اإليمان ظهور عروقه الكلية الضاربة إلى الروح الروحانية ‪ ،‬وثمرة ذلك تعديل‬
‫األخالق وتبديلها ‪ ،‬أو صرفها فيما ظهر حسنا جميال بالنسبة إلى تلك المصارف ‪ ،‬ويؤول‬
‫األمر من هذه المرتبة إلى أن تزول الحجب كلها أو أكثرها ‪ ،‬ويظهر القلب فتصحو سماؤه عن‬
‫غمام الشك والريب ‪ ،‬وتنجلي فيه آيات الرب تعالى وتقدس ‪ ،‬ويصير اإليمان إحسانا ‪ ،‬ويعود‬
‫الكشف عيانا ‪ ،‬وهنالك الوالية هّلل الحق ‪ ،‬فدخل في مرتبة اإلحسان ‪.‬‬
‫ّللا أن اإليمان بمعناه اللغوي ‪ ،‬الذي هو إعطاء األمان ‪ ،‬إنما يتعدى بنفسه فيقال ‪:‬‬ ‫واعلم أيدك ه‬
‫« آمنته » وأما ما يتضمن معنى التصديق واالعتراف الباطن فيعدى بالباء ‪ ،‬كقوله تعالى ‪( :‬‬
‫ب )وذلك باطنه المتعلق بالقلب وهو األصل ‪ ،‬وأما ما يتضمن معنى االنقياد‬ ‫يُؤْ ِمنُونَ ِب ْالغَ ْي ِ‬
‫ط َمعُونَ أ َ ْن يُؤْ ِمنُوا لَ ُك ْم »فالذي‬ ‫عز وجل« أ َ فَت َ ْ‬
‫واالستسالم المتعلق بالنفس فيعدى بالالم كقوله ه‬
‫يقبل التشعب واالنقسام والزيادة والنقصان من هذا النور إنما هو الظاهري المعدهى بالالم ‪،‬‬
‫الذي هو حقيقة اإلسالم ال الباطن المعدى بالباء الذي هو األصل الذي تفرعت منه األغصان ‪،‬‬
‫ّللا وأدناها‬ ‫والتشعب المذكور في الحديث ( اإليمان بضع وسبعون شعبة أعالها ال إله إال ه‬
‫إماطة األذى عن الطريق والحياء شعبة من شعب اإليمان ) وقد ذكر اإلمام أبو القاسم الراغب‬
‫في ذريعته في معنى انقسام اإليمان المذكور في هذا الحديث كالما بليغا ‪ ،‬وحصر شعبه في‬
‫اثنين وسبعين شعبة ‪.‬‬
‫وحاصل كلمه ‪ :‬أن اإليمان شيئان ‪ ،‬تصديق وأعمال ‪.‬‬
‫سو ِل ِه ث ُ َّم لَ ْم يَ ْرتابُوا‬ ‫فالتصديق على ثلث مراتب ‪ :‬أعلى وهو المراد بقوله« الَّذِينَ آ َمنُوا بِ َّ ِ‬
‫اّلل َو َر ُ‬
‫»وأوسط وهو الظن المقارب لليقين بسبب‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا‬ ‫فإذا وردت عليه صدهقت به ‪ ،‬فهو قوله« الَّذِينَ يُؤْ ِمنُونَ بِ ْالغَ ْي ِ‬
‫ب »وهو ما وقع به اإلخبار من ه‬
‫ص ‪51‬‬

‫ص ‪51 :‬‬
‫ظنُّونَ أَنَّ ُه ْم ُمالقُوا َر ِبه ِه ْم »‪.‬‬‫أمارة قوته ‪ ،‬كما قال تعالى« يَ ُ‬
‫وأدنى وهو التقليد المحض ‪ ،‬واألعمال أيضا ثالثة ‪ :‬خالفة معينة بقوله « َويَ ْست َ ْخ ِلفَ ُك ْم فِي‬
‫ُون »وعمارة أرض كقوله تعالى« َوا ْست َ ْع َم َر ُك ْم فِيها‬ ‫ض »وعبادة مرادة بقوله« ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫»فهذه ستة ‪ ،‬وكل واحد منها صدوره إما أن يكون عن رغبة ورهبة أو عن إخالص فهذه اثنتا‬
‫عشرة ‪ ،‬وكل واحد منها إما يكون المؤمن في مبدئه أو في وسطه أو في منتهاه ‪ ،‬فإن كل‬
‫فضيلة ورذيلة ال تنفك عنها ‪.‬‬
‫فاثنتا عشرة في ثالث صارت ستا وثالثين ‪ ،‬وكل واحد منها إما أن يكون باجتباء وهبي ‪ ،‬وإما‬
‫باهتداء كسبي ‪ ،‬فصارت اثنتين وسبعين شعبة من غير زيادة ونقصان ‪ ،‬هذا حاصل كالم‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وقد أجاد في هذا الحصر والتقسيم ‪ ،‬إال أنه حمل البضع الذي هو‬ ‫الراغب رحمة ه‬
‫العدد المجهول على االثنين ‪ ،‬وقد اختلف في االثنين هل هو من العدد أم ال ‪ ،‬على أن األكثر‬
‫مالوا إلى أن البضع ال يقع إال على العدد المجهول من الثالثة إلى التسعة ‪ ،‬فقد عين واختار‬
‫أمرا مختلفا فيه ‪ ،‬وأيضا يصير الفرع على ما قرره أفضل وأعلى من األصل ‪ ،‬ويلوح لي في‬
‫هذا الحصر والتقسيم وجه آخر مناسب ألفضلية هذا القول وحمل البضع الوضع إجماعا ‪،‬‬
‫وذلك أنا قد قررنا آنفا أن حقيقة اإليمان باطنا أمر وحداني غير قابل للتجزئة والقسمة والتشعب‬
‫‪ ،‬وإنما ينقسم من حيث ظاهره وصفاته ونعوته الظاهرة وذلك هو اإلسالم وهو المعدى بالالم ‪،‬‬
‫وحسبت حروف البضع بحساب الجمل ‪ ،‬فرأيت أن داللة لفظ البضع على عدد الثمانية أشد‬
‫وأقوى من داللتها على غير ذلك من األعداد فحملناه هاهنا على ذلك ‪ ،‬فانحصرت شعب‬
‫اإليمان وانقسمت على ثمان وسبعين شعبة ‪ ،‬ووجه ذلك أن كل ما يصدر من ظاهر نفس‬
‫اإلنسان من حيث قواها وآالتها ‪ ،‬التي تصلح إضافة العمل إليها مبنيا على نية منتشئة من أصل‬
‫اإليمان وماهيته ‪ ،‬التي بسراية تلك النية يقع ذلك التصادر في معرض المجازاة شرعا ‪.‬‬
‫ينقسم ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫ّللاُ » *مثال ‪.‬‬ ‫أحدها قولي محض ‪ ،‬مثل قول« ال ِإلهَ ِإ َّال َّ‬
‫ثانيها عملي محض كالجهاد والزكاة ‪.‬‬
‫وثالثها متركب منهما كالصالة ‪ ،‬ثم إن العملي إما أن يكون باجتماع القوى واآلالت ‪ ،‬أو بتفرد‬
‫كل قوة وآلة بما يخصه من العمل ‪ ،‬فالقولي وحده والمتركب منه ومن العملي والمتركب من‬
‫العمليات ثالثة أقسام ‪ ،‬وبقي ما تفرد‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫مجمال ومفصال ‪ ،‬مثل ( فيها ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر ) ومثل‬
‫قوله‬
‫ص ‪52‬‬

‫ص ‪52 :‬‬
‫كل قوة وآلة بما يخصه من العمل ‪ ،‬وذلك نوعان ‪ :‬نوع غايته والمقصود منه العلم واإلدراك ال‬
‫غير ‪ ،‬وذلك منحصر في خمسة أصناف ‪ :‬هي الحواس الخمس ‪ ،‬السمع والبصر والشم والذوق‬
‫واللمس ‪ .‬والنوع الثاني ما ال يكون غايته العلم واإلدراك بل غايته منحصرة في أمرين ‪:‬‬
‫أحدهما جلب المنفعة أو اللذة ‪ ،‬وذلك يكون بالقوة الشهوية ‪ ،‬واألمر الثاني دفع المضرة واأللم‬
‫وذلك بالقوة الغضبية ‪ ،‬وآالت هاتين القوتين ومظاهرها خمسة أيضا إحداها اليد التي ينتهي‬
‫إليها إعالء كلمة الحق بضرب أعناق مخالفيه ‪ ،‬وثانيها الرجل التي بها يسارع إلى االئتمار‬
‫ّللا تعالى بأمر( َوا ْس ُج ْد‬ ‫بأمر( فَا ْسعَ ْوا ِإلى ِذ ْك ِر َّ ِ‬
‫ّللا ) ‪،‬وثالثها الرأس الذي به يتقرب إلى ه‬
‫َوا ْقت َ ِربْ ) ‪،‬ورابعها البطن الذي به يقوم بقاء الشخص بالمبادرة إلى أمر ( كلوا ) ‪ ،‬وخامسها‬
‫الفرج الذي تعلق به بقاء النوع بواسطة االنتداب بأمر ( تناكحوا ) وليس غير ما أحصيناه قوة‬
‫ّللا تعالى أصال ‪ ،‬فهذه العشرة مع الثالثة المذكورة آنفا‬ ‫وآلة في الظاهر يعمل ويتقرب بها إلى ه‬
‫صارت ثالثة عشر ‪ ،‬وكل واحد منها ينقسم قسمين ‪ :‬أحدهما فعلي كما وصفنا ‪ ،‬والثاني تركي‬
‫كالصوم وجميع مقتضيات الحياة ‪ ،‬فتصير ستا وعشرين ‪ ،‬وكل واحد منها إما أن يكون‬
‫ّللا تعالى وخالصا لوجهه غير مشوب بعلة نفسانية أصال أو يكون‬ ‫صدوره ابتغاء مرضاة ه‬
‫مشوبا بعلة ‪.‬‬
‫والعلة النفسية نوعان ‪:‬‬
‫رغبة ورهبة باقتضاء قوتي الشهوة والغضب وبحسبها ‪ ،‬فهذه الثالثة تضرب في ست‬
‫وعشرين تصير ثمانيا وسبعين ‪.‬‬
‫ّللا بسراية أصلها الذي هو القصد‬ ‫فانحصرت شعب ظاهر اإليمان التي أفضلها قول ال إله إال ه‬
‫والنية المنتشئة من باطن اإليمان وأصله ومنبعثة في ثمان وسبعين شعبة ‪ ،‬ويحتمل أن يعد‬
‫باطن اإليمان الوحداني من جملة شعبه الظاهرة ‪ ،‬تسمية لألصل والذات باسم الفرع والصفة ‪،‬‬
‫فتصير الشعب تسعا وسبعين ويحمل البضع على أكثر ما يحتمله في العدد ‪ ،‬كما أن الراغب‬
‫وّللا تعالى أعلم ‪ .‬وإذا علمت أن اإليمان نور وارد على القلب‬ ‫حمله على أقل العدد من وجه ‪ ،‬ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬المزيلة‬ ‫والنفس ‪ ،‬قابل لكل ما يرد من الحق من أنوار األمر والنهي المقربة إلى ه‬
‫لظلمة الطبيعة العنصرية ‪ ،‬والمظهرة سبيل القرب إليه تعالى وتقدس ‪ ،‬علمت أن التقوى هي‬
‫عز وجل بإتيان األوامر وأداء الواجبات والمندوبات‬ ‫السلوك في ذلك السبيل ‪ ،‬والتقرب إليه ه‬
‫التي هي مقتضاها ‪ ،‬وباالنتهاء عن النواهي وترك المحرمات والشبهات واالنحرافات التي هي‬
‫من‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ان )وما أشبه ذلك ‪ ،‬ومن الغيب أيضا‬ ‫ورات فِي ْال ِخ ِ‬
‫يام )و( فِي ِهما فا ِك َهةٌ َون َْخ ٌل َو ُر َّم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ور َم ْق ُ‬
‫ص‬ ‫( ُح ٌ‬
‫ص ‪53‬‬

‫ص ‪53 :‬‬
‫ّللا تعالى وهدايته ونفعه‬
‫مقتضياتها ‪ ،‬والدخول بواسطة ذلك اإلتيان واالنتهاء في وقاية رضى ه‬

‫[ شعب اإليمان ]‬
‫ولطفه ‪ -‬شعب اإليمان ‪ -‬اعلم أن اإليمان بضع وسبعون شعبة أدناها إماطة األذى عن الطريق‬
‫ّللا ‪ :‬عمل وترك ‪ ،‬أي مأمور به ومنهي‬ ‫ّللا ‪ ،‬وما بينهما على قسمين من ه‬
‫‪ ،‬وأعالها ال إله إال ه‬
‫عنه ‪ ،‬فالمنهي عنه هو الذي يتعلق به الترك وهو قوله ال تفعل ‪ ،‬والمأمور به هو الذي يتعلق‬
‫به العمل وهو قوله افعل ‪ ،‬وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ‪.‬‬
‫وقال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [:‬ما نهيتكم عنه فانتهوا ] وأطلق ولم يقيد وقال في األمر « وما‬
‫أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم » فهذا من رحمته بأمته ‪ ،‬وهو ال ينطق عن الهوى فهذا من‬
‫ّللا تعالى بعباده ‪ :‬وأمره بما وجب به اإليمان على نوعين ‪ :‬فرض ومندوب ‪ ،‬والنهي‬ ‫رحمة ه‬
‫على قسمين نهي حظر ونهي كراهة ‪ ،‬والفرض على نوعين ‪ :‬فرض كفاية وفرض عين ‪.‬‬
‫وكذلك الواجب أقول فيه ‪ :‬واجب موسع وواجب مضيق ‪ ،‬فالواجب الموسع موسع بالزمان‬
‫وموسع بالتخيير وهو الواجب المخير فيه مثل كفارة المتمتع ‪ ،‬وإتيان ما يؤتى من هذا كله‬
‫وترك ما يترك من هذا كله هو اإليمان الذي فيه سعادة العباد ‪ ،‬فالبضع والسبعون من اإليمان‬
‫هو الفرض منه من عمل وترك وأما غير الفرض كالمندوبات والمكروهات فيكاد ال ينحصر‬
‫عند أحد ‪ ،‬فابحث عليها في الكتاب والسنة ‪ .‬ومن شعب اإليمان ‪ :‬الشهادة بالتوحيد وبالرسالة ‪،‬‬
‫والصالة ‪ ،‬والزكاة ‪ ،‬والصوم ‪ ،‬والحج ‪ ،‬والجهاد ‪ ،‬والوضوء والغسل من الجنابة والغسل يوم‬
‫الجمعة ‪ ،‬والصبر ‪ ،‬والشكر ‪ ،‬والورع والحياء ‪ ،‬واألمان ‪ ،‬والنصيحة ‪ ،‬وطاعة أولي األمر ‪،‬‬
‫والذكر ‪ ،‬وكف األذى ‪ ،‬وأداء األمانة ‪ ،‬ونصرة المظلوم وترك الظلم ‪ ،‬وترك االحتقار ‪ ،‬وترك‬
‫الغيبة ‪ ،‬وترك النميمة ‪ ،‬وترك التحسس ‪ ،‬واالستئذان ‪ ،‬وغض البصر ‪ ،‬واالعتبار ‪ ،‬وسماع‬
‫األحسن من القول واتباعه ‪ ،‬والدفع بالتي هي أحسن ‪ ،‬وترك الجهر بالسوء من القول ‪ ،‬والكلمة‬
‫الطيبة ‪ ،‬وحفظ الفرج ‪ ،‬وحفظ اللسان ‪ ،‬والتوبة ‪ ،‬والتوكل ‪ ،‬والخشوع ‪ ،‬وترك اللغو ‪،‬‬
‫واالشتغال بما يعني وترك ما ال يعني ‪ ،‬وحفظ العهد والوفاء بالعقود ‪ ،‬والتعاون على البر‬
‫والتقوى وترك التعاون على اإلثم والعدوان ‪ ،‬والتقوى ‪ ،‬والبر ‪ ،‬والقنوت ‪ ،‬والصدق ‪ ،‬واألمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وإصالح ذات البين وترك إفساد ذات البين ‪ ،‬وخفض الجناح ‪،‬‬
‫واللين ‪ ،‬وبر الوالدين ‪ ،‬وترك العقوق ‪ ،‬والدعاء ‪ ،‬والرحمة بالخلق ‪ ،‬وتوقير الكبير‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ما هو من مجازات العقول ‪ ،‬وهو ما وقفت فيه ‪ ،‬فلم تحكم عليه بوجوب وال جواز وال إحالة ‪،‬‬
‫ص ‪54‬‬

‫ص ‪54 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وترك دعوى الجاهلية فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ومعرفة شرفه ورحمة الصغير ‪ ،‬والقيام بحدود ه‬
‫ّللا ‪ ،‬والتؤدة ‪،‬‬ ‫ّللا والبغض في ه‬ ‫عليه وسلم يقول ‪ :‬دعوها فإنها منتنة ‪ ،‬والتودد ‪ ،‬والحب في ه‬
‫والحلم ‪ ،‬والعفاف ‪ ،‬والبذاذة ‪ ،‬وترك التدابر ‪ ،‬وترك التحاسد ‪ ،‬وترك التباغض ‪ ،‬وترك‬
‫التناجش ‪ ،‬وترك شهادة الزور وترك قول الزور ‪ ،‬وترك الهمز واللمز والغمز ‪ ،‬وشهود‬
‫الجماعات ‪ ،‬وإفشاء السالم ‪ ،‬والتهادي ‪ ،‬وحسن الخلق ‪ ،‬وحسن العهد ‪ ،‬والسمت الصالح ‪،‬‬
‫وحفظ السر ‪ ،‬والنكاح واإلنكاح ‪ ،‬وحب الفأل ‪ ،‬وحب أهل البيت ‪ ،‬وترك الطيرة ‪ ،‬وحب‬
‫ّللا ‪ ،‬وترك الغش‬ ‫النساء ‪ ،‬وحب الطيب ‪ ،‬وحب األنصار ‪ ،‬وتعظيم الشعائر ‪ ،‬وتعظيم حرمات ه‬
‫‪ ،‬وترك حمل السالح على المؤمن ‪ ،‬وتجهيز الميت والصالة على الجنائز ‪ ،‬وعيادة المريض ‪،‬‬
‫ّللا ورسوله أحب إليك مما‬ ‫وإماطة األذى ‪ ،‬وأن تحب لكل مؤمن ما تحب لنفسك ‪ ،‬وأن يكون ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وكتبه ‪ ،‬ورسله ‪ ،‬وبكل ما‬ ‫سواهما ‪ ،‬وأن تكره أن تعود في الكفر ‪ ،‬وأن تؤمن بمالئكة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬من ذلك نعلم أن اإليمان نور شعشعاني ‪ ،‬ظهر عن صفة مطلقة‬ ‫جاءت به الرسل من عند ه‬
‫ال تقبل التقييد ‪ ،‬فإذا خالط هذا النور بشاشة القلوب ال يتصور في صاحبه شك ‪ ،‬ألن الشك ال‬
‫يجد محال يعمره ‪ ،‬فإن محله الدليل وال دليل ‪ ،‬فما ثم على ما يرد عليه الدخل وال الشك بل هو‬
‫ّللا في قلب من شاء من عباده‬ ‫في مزيد ‪ ،‬فاإليمان ال تعطيه إقامة الدليل بل هو نور إلهي يلقيه ه‬
‫‪ ،‬وقد يكون عقيب الدليل وقد ال يكون هناك دليل أصال ‪ ،‬كما قال تعالى( َول ِك ْن َجعَ ْلناهُ نُورا ا‬
‫نَ ْهدِي ِب ِه َم ْن نَشا ُء ِم ْن ِعبادِنا )فنور اإليمان وهب إلهي ليس فيه من الكسب شيء ‪ ،‬وال أثر‬
‫للداللة فيه البتة ‪ ،‬فإن اإليمان كشف نوري ال يقبل الشبهة ‪ ،‬وهو ال يقبل الزوال ألنه نور إلهي‬
‫‪ ،‬وصاحب الدليل ال يقدر على عصمة نفسه من الدخل عليه في دليله القادح ‪ ،‬فيرده هذا‬
‫الداخل إلى محل النظر ‪ ،‬فصاحب اإليمان يصف الحق بما ال تقبله األدلة ‪ ،‬ويتأوله المؤمن به‬
‫من حيث الدليل ‪ ،‬فينقصه من اإليمان بقدر ما نفاه عنه دليله ‪ ،‬وموطن الدنيا اقتضى أن‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ لو أشهدهم نفسه في الدنيا لبطل حكم القضاء والقدر ‪ ،‬الذي هو علم‬ ‫ينحجب الخلق عن ه‬
‫ّللا في خلقه بما يكون عنهم وفيهم ‪ ،‬فكان حجابه رحمة بهم وإبقاء عليهم ‪ ،‬فإن تجليه سبحانه‬ ‫ه‬
‫يعطي بذاته القهر فال يتمكن معه دعوى ‪ ،‬واإليمان ال يكون إال بالخبر ال بالعيان« الَّذِينَ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن‬‫ب »فليس المؤمن إال من يؤمن بالغيب ‪ ،‬وهو الخبر الذي جاء من عند ه‬ ‫يُؤْ ِمنُونَ بِ ْالغَ ْي ِ‬
‫الخبر بما هو خبر يقبل الصدق والكذب ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا سبحانه ‪ ،‬فإذا قررها الخبر الصدق تعين الحكم وأن ذلك‬
‫وقد يمكن أن يكون من ذلك رؤية ه‬
‫ص ‪55‬‬

‫ص ‪55 :‬‬
‫فالصدق متعلقه الخبر ‪ ،‬ومحله الصادق ‪ ،‬وليس بصفة ألصحاب األدلة العلماء الذين آمنوا بما‬
‫أعطتهم اآليات والمعجزات من الداللة على صدق دعواه فذلك علم ‪ ،‬والصدق نور يظهر على‬
‫قلب العبد ‪ ،‬يصدق به هذا المخبر ‪ ،‬ويكشف بذلك النور أنه صدق ‪ ،‬ويرجع عنه برجوع‬
‫المخبر ‪ ،‬ألن النور يتبع المخبر حيث مشى ‪ ،‬والمصدق بالدليل ليس هذا حكمه ‪ ،‬إن رجع‬
‫المخبر لم يرجع لرجوعه ‪ ،‬فالمؤمنون على قسمين ‪ :‬مؤمن عن نظر واستدالل وبرهان ‪ ،‬فهذا‬
‫ال يوثق بإيمانه وال يخالط نوره بشاشة القلوب ‪ ،‬فإن صاحبه ال ينظر إليه إال من خلف حجاب‬
‫دليله ‪ ،‬وما من دليل ألصحاب النظر إال وهو معرض للدخل فيه والقدح ولو بعد حين ‪ ،‬فال‬
‫يمكن لصاحب البرهان أن يخالط اإليمان بشاشة قلبه وهذا الحجاب بينه وبينه ‪ ،‬والمؤمن اآلخر‬
‫الذي كان برهانه عين حصول اإليمان في قلبه ال أمر آخر ‪ .‬ثم إن المؤمن على نوعين ‪:‬‬
‫مؤمن له عين فيه نور ‪ ،‬بذلك العين إذا اجتمع بنور اإليمان أدرك المغيبات التي متعلقها‬
‫اإليمان ‪ ،‬ومؤمن ما لعينه سوى نور اإليمان ‪ ،‬فنظر إليه به ونظر إلى غيره به ‪ ،‬فاألول يمكن‬
‫أن يقوم بعينه أمر يزيل عنه النور الذي إذا اجتمع بنور اإليمان أدرك األمور التي ألزمه‬
‫اإليمان القول بها ‪ ،‬وهو المؤمن الذي ال دليل له وينظر األشياء بذاته ‪ ،‬فيدخله الشك ممن‬
‫يشككه فإن فطرته تعطي النظر في األدلة ‪ ،‬إال أنه لم ينظر فإذا نبهه تنبه ‪ ،‬فمثل هذا إن لم‬
‫يسرع إليه الذوق وإال خيف عليه ‪ ،‬والمؤمن اآلخر هو بمنزلة الجسد الذي قد تسوت بنيته ‪،‬‬
‫واستوت آالت قواه ‪ ،‬وتركبت طبقات عينه ‪ ،‬غير أنه ما نفخ فيه الروح فال نور لعينه ‪ ،‬فإذا‬
‫كان اإلنسان بهذه المثابة من الطمس ‪ ،‬فنفخ فيه روح اإليمان ‪ ،‬فأبصرت عينه بنور اإليمان‬
‫األشياء ‪ ،‬فال يتمكن له إدخال الشكوك عليه جملة ورأسا ‪ ،‬فإنه ما لعينه نور سوى نور اإليمان‬
‫‪ ،‬والضد ال يقبل الضد ‪ ،‬فما له نور في عينه يقبل به الشك والقدح فيما يراه ‪ ،‬ومتى لم يكن‬
‫اإليمان بهذه المثابة وإال فقليل أن يجيء منه ما جاء من األنبياء واألولياء من الصدق باإللهيات‬
‫‪ ،‬فالفطر الذكية التي تقبل النظر في المعقوالت من أكبر الموانع لحصول ما ينبغي‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫صالة َ »يقول ‪ :‬يتمون نشأتها كما أمروا بها ‪ ،‬واأللف‬
‫من قبيل الممكنات ‪ ،‬قوله« َويُ ِقي ُمونَ ال َّ‬
‫والالم للتعريف بالصالة المشروعة ال اللغوية ‪ ،‬وإتمام نشأتها وكمال صورتها يختلف باختالف‬
‫الحاالت ‪ ،‬يحصرها ثالثة أحوال ‪ :‬الواحدة أن يصلي الرجل وحده فيتم ركوعها وسجودها وما‬
‫تحوي عليه‬
‫ص ‪56‬‬

‫ص ‪56 :‬‬
‫أن يحصل من العلم اإللهي ‪ ،‬والفطر المطموسة هي القابلة التي ال نور لعينها من ذاتها إال من‬
‫نور اإليمان ‪ ،‬فال تعطي فطرته النظر في األمور على اختالفها ‪ ،‬ومنزلة األنبياء فيما يأخذونه‬
‫من الغيب بطريق اإليمان من المالئكة منزلة المؤمنين مع ما يأخذونه من األنبياء ‪ ،‬فاألنبياء‬
‫مؤمنون بما يلقي إليهم الروح ‪ ،‬والروح مؤمن بما يلقي إليه من يلقي إليه ‪ ،‬فالمؤمن هو الذي‬
‫ال نور لعين بصيرته إال نور اإليمان ‪ ،‬وليس اإليمان المعتبر عندنا إال أن يقال الشيء لقول‬
‫المخبر على ما أخبر به ‪ ،‬أو يفعل ما يفعل لقول المخبر ال لعين الدليل العقلي ‪َ «.‬ويُ ِقي ُمونَ‬
‫صالة َ »وقعت الصالة في الرتبة الثانية من قواعد اإليمان التي بني اإلسالم عليها ‪ ،‬في الخبر‬ ‫ال َّ‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ ( :‬بني اإلسالم على خمس شهادة أن ال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الصحيح عن رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وإقام الصالة ‪ ،‬وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪ ،‬والحج ) فعلم الصحابة أنه صلهى‬ ‫إله إال ه‬
‫ّللا عليه وسلم راعى الترتيب لما يدخل الواو من االحتمال ‪ ،‬ولهذا لما قال بعض رواة هذا‬ ‫ه‬
‫الحديث من الصحابة لما سرده فقال ‪ :‬والحج وصوم رمضان ‪ ،‬أنكر عليه وقال له ( وصوم‬
‫رمضان والحج ) فقدهمه ‪ ،‬وعلمنا أنه أراد الترتيب ‪ ،‬ونبه على أن ال ننقل عنه صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم إال عين ما تلفظ به ‪ ،‬فإنه من العلماء من يرى نقل الحديث المتلفظ به من النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم على المعنى ‪ ،‬فالصالة ثانية في القواعد ‪ ،‬مشتقة من المصلي في الخيل ‪ ،‬وهو الذي‬
‫يلي السابق في الحلبة ‪ ،‬والسابق من القواعد الشهادة ‪ ،‬والمصلي هي الصالة ‪ ،‬وجعل الزكاة‬
‫ّللا بغير طهور ‪،‬‬ ‫تلي الصالة ألن الزكاة التطهير فناسبت الصالة ‪ ،‬فإن الصالة ال يقبلها ه‬
‫والزكاة تطهير األموال ‪ ،‬ومن شروط الصالة طهارة الثياب واألبدان والبقعة التي توقع الصالة‬
‫ّللا في صوم رمضان عند‬ ‫عليها وفيها كانت ما كانت ‪ ،‬وجعل الصوم يلي الزكاة ‪ ،‬لما شرع ه‬
‫انقضائه من زكاة الفطر فلم يبق الحج إال أن يكون آخرا ‪.‬‬
‫واعلم أن الصالة تضاف إلى ثالثة وإلى رابع ثالثة بمعنيين بمعنى شامل وبمعنى غير شامل ‪،‬‬
‫ّللا وصف نفسه بالرحيم ‪-‬‬ ‫فتضاف الصالة إلى الحق بالمعنى الشامل وهو الرحمة ‪ -‬فإن ه‬
‫علَ ْي ُك ْم )فوصف نفسه‬ ‫ص ِلهي َ‬
‫اح ِمينَ ) *وقال تعالى( ُه َو الَّذِي يُ َ‬ ‫ووصف عباده بها فقال( أ َ ْر َح ُم َّ‬
‫الر ِ‬
‫بأنه يصلي أي يرحمكم ‪ .‬وتضاف الصالة إلى المالئكة بمعنى الرحمة ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من األقوال واألفعال كما علمنا الشارع لنا ‪ ،‬وهذا سار في كل مصل على كل حال ‪ ،‬والثانية‬
‫أن يكون المصلي مع إمام وحده ‪ ،‬فمن تمام صالته وإقامته االقتداء به ‪ ،‬فال يرفع حتى يرفع ‪،‬‬
‫وال‬
‫ص ‪57‬‬

‫ص ‪57 :‬‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ )فصالة‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫واالستغفار ‪ ،‬والدعاء للمؤمنين ‪ ،‬قال تعالى ‪ُ ( :‬ه َو الَّذِي يُ َ‬
‫عز وجل في حق المالئكة ‪َ ( :‬ويَ ْست َ ْغ ِف ُرونَ ِللَّذِينَ آ َمنُوا )وتضاف‬ ‫ّللا ه‬ ‫المالئكة ما ذكرناه ‪ ،‬قال ه‬
‫الصالة إلى البشر بمعنى الرحمة ‪ ،‬والدعاء واألفعال المخصوصة المعلومة شرعا ‪ ،‬فجمع‬
‫صالة َ * »وتضاف‬ ‫البشر هذه الثالث المراتب المسماة صالة ‪ ،‬قال تعالى آمرا لنا« َوأ َ ِقي ُموا ال َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬من جميع المخلوقات ‪ :‬ملك وإنسان وحيوان ونبات ومعدن‬ ‫الصالة إلى كل ما سوى ه‬
‫ت‬ ‫سماوا ِ‬ ‫س ِبه ُح لَهُ َم ْن فِي ال َّ‬ ‫بحسب ما فرضت عليه وعينت له ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا يُ َ‬
‫صالتَهُ َوت َ ْسبِي َحهُ )فأضاف الصالة إلى الكل ‪ ،‬والتسبيح‬ ‫ت ُك ٌّل قَ ْد َ‬
‫ع ِل َم َ‬ ‫صافَّا ٍ‬ ‫ض َو َّ‬
‫الطي ُْر َ‬ ‫َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫في لسان العرب الصالة ‪ .‬وإقامة الصالة ظهور نشأتها على أتم خلقها ‪ ،‬وخلقها يختلف‬
‫باختالف من تنسب إليه ‪ ،‬وكل صالة مما ذكرنا تامة الخلقة ‪ ،‬حتى الصالة المنسوبة إلى‬
‫الجماد والنبات والحيوان ‪ ،‬ما عدا اإلنس والجان ‪ ،‬فإن صالتهما إذا أنشئاها قد تكون مخلقة أو‬
‫صالة َ » *وإقامة البشر للصالة‬ ‫غير تامة الخلقة ‪ ،‬لذلك أمرهما تعالى بقوله« َوأَقِي ُموا ال َّ‬
‫المنسوبة إلى اإلنسان والجن هو أن تنسب إليهم بمعنى الرحمة ‪ ،‬كما نسبت إلى الحق ‪،‬‬
‫وبمعنى الدعاء والرحمة ‪ ،‬كما نسبت إلى المالئكة ‪ .‬وبمعنى الدعاء والرحمة وإتمام التكبير‬
‫والقيام والركوع والسجود والجلوس كما ورد في الخبر ‪ ،‬فمن أتم ركوعها وسجودها وما شرع‬
‫فيها ‪ ،‬وإن كان في جماعة مما تستحقه صالة الجماعة واالئتمام فقد أكمل خلقها ‪ ،‬وإن كان‬
‫وّللا ال يقبلها ناقصة ‪ ،‬فيضم بعض‬ ‫انتقص منها شيء كانت له بحسب ما انتقص منها ‪ ،‬ه‬
‫الصلوات إلى بعض فإن كانت له مائة صالة وفيها نقص كملت بعضها من بعض ‪ ،‬وأدخلت‬
‫على الحق كاملة ‪ ،‬فتصير المائة صالة مثال ثمانين صالة أو خمسين أو عشرة أو زائدا على‬
‫ذلك أو ناقصا عنه ‪ ،‬هكذا هي صالة الثقلين ‪ ،‬وربط إقامة الصالة بأزمان هي األوقات‬
‫علَى ْال ُمؤْ ِمنِينَ ِكتابا ا‬
‫َت َ‬‫صالة َ كان ْ‬ ‫المفروض فيها إقامة الصلوات المفروضات ‪ ،‬قال تعالى ( ِإ َّن ال َّ‬
‫َم ْوقُوتا ا )أي مفروضة في وقت معين سواء كان موسعا أو مضيقا ‪ ،‬وربطها بأماكن وهي‬
‫المساجد ‪ ،‬والمبادرة إلى أول األوقات في العبادات هو األحوط والمطلوب من العباد في حال‬
‫التكليف ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫يفعل شيئا قبل فعل إمامه ‪ ،‬والحالة الثالثة أن يكون في جماعة ‪ ،‬فمن تمام صالته التراص في‬
‫الصف وإلزاق المناكب وتسوية الصف ‪ ،‬فهذا إقامة الصالة ‪ ،‬وسميت صالة ألنها في المرتبة‬
‫الثانية من شهادة‬
‫ص ‪58‬‬

‫ص ‪58 :‬‬
‫ت َو ُه ْم لَها سابِقُونَ )ولهذا االحتراز واالحتياط يحمل‬ ‫قال تعالى‪ ( :‬أُولئِ َك يُ ِ‬
‫سارعُونَ فِي ْال َخيْرا ِ‬
‫األمر اإللهي ‪ -‬إذا ورد معرى عن قرائن األحوال التي يفهم منه الندب أو اإلباحة ‪ -‬على‬
‫الوجوب ‪ ،‬ويحمل النهي كذلك على الحظر إذا تعرى عن قرينة حال تعطيك الكراهة ‪ ،‬وال‬
‫تتوقف عن حمل األمر والنهي على ما قلناه ‪ ،‬إال بقرينة حال تخرجهما عن حكم الوجوب في‬
‫األمر ‪ ،‬وحكم الحظر في النهي ‪َ «.‬و ِم َّما َرزَ ْقنا ُه ْم يُ ْن ِفقُونَ »فرضا كان أو تطوعا ‪ ،‬فالفرض‬
‫ّللا أصنافه ‪ ،‬ورتهبه على نصاب وزمان معين ‪ ،‬والتطوع من ذلك ال يقف‬ ‫من ذلك قد عين ه‬
‫عنده شيء ‪ ،‬وجعله تعالى إنفاقا ألنه له وجه ونسبة إلى الحق ‪ ،‬ووجه ونسبة إلى الخلق ‪ ،‬ألنه‬
‫من النفق وهو جحر اليربوع ويسمى النافقاء ‪ ،‬له بابان إذا طلب من باب ليصاد خرج من‬
‫الباب اآلخر ‪ ،‬كالكالم المحتمل إذا قيدت صاحبه بوجه ‪ ،‬أمكن أن يقول لك إنما أردت الوجه‬
‫اآلخر من محتمالت اللفظ ‪ .‬ورد أن الصدقة تقع بيد الرحمن قبل وقوعها بيد السائل فيربيها له‬
‫كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ‪ ،‬فهذه نسبة إلهية مع الغنى المطلق الذي يستحقه ‪ ،‬والنسب‬
‫ّللا قَ ْرضا ا ) *واليد‬ ‫ّللا يقول ‪َ ( :‬وأ َ ْق َر ُ‬
‫ضوا َّ َ‬ ‫اإللهية ال ينكرها إال من ليس بمؤمن خالص ‪ ،‬فإن ه‬
‫العليا هي المنفقة ‪ ،‬فهي خير بكل وجه من اليد السفلى التي هي اآلخذة ‪ ،‬فلما كان العطاء له‬
‫ّللا إنفاقا ‪ ،‬فالعلماء ينفقون بالوجهين‬ ‫نسبة إلى الحق والغنى ‪ ،‬ونسبة إلى الخلق والحاجة سماه ه‬
‫فيرون الحق فيما يعطونه معطيا وآخذا ‪ ،‬ويشاهدون أيديهم هي التي يظهر فيها العطاء واألخذ‬
‫‪ ،‬وال يحجبهم هذا عن هذا ‪ ،‬والمعطي بحق واآلخذ بحق ليسا على السواء في المرتبة وال في‬
‫االسم وال في الحال‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫التوحيد ‪ ،‬وتلك السابقة ‪ .‬وهذه متأخرة عنها ‪ ،‬تأخر المصلي عن السابق في الحلبة ‪ ،‬فإنه يليه ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وإقام الصالة ) فأتى‬ ‫في الحديث الصحيح ( بني اإلسلم على خمس ‪ :‬شهادة أن ال إله إال ه‬
‫صالة َ »وإذا وقع‬ ‫بها ثانية تابعة بلفظة اإلقامة ‪ ،‬وهكذا جاءت هنا« يُؤْ ِمنُونَ ِب ْالغَ ْي ِ‬
‫ب َويُ ِقي ُمونَ ال َّ‬
‫باّلل ‪ ،‬فليس من حيث الدليل ‪ ،‬وإنما هو من حيث ما جاء به الخبر من قوله ( ‪َ :‬وإِل ُه ُك ْم‬ ‫اإليمان ه‬
‫ّللا في قلب‬ ‫واح ٌد )وشبه ذلك ‪ ،‬فصدهقنا قوله ‪ ،‬فذلك التصديق هو اإليمان ‪ ،‬وهو نور يقذفه ه‬ ‫ِإلهٌ ِ‬
‫من شاء من عباده ‪ ،‬قوله تعالى « َو ِم َّما َرزَ ْقنا ُه ْم يُ ْن ِفقُونَ »من هنا للتبيين ‪ ،‬ولها وجه إلى‬
‫التبعيض ‪ ،‬واآلية وردت على جهة المدح بصفة الكرم ‪ ،‬فعلى هذا سواء كان ذلك الرزق‬
‫ّللا َخي ٌْر لَ ُك ْم‬
‫حراما أو حالال ‪ ،‬ومن حمل الرزق على أنه الحالل خاصة وهو قوله تعالى (بَ ِقيَّتُ َّ ِ‬
‫إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ )‬
‫ص ‪59‬‬

‫ص ‪59 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪4‬‬
‫ون ) ‪( 4‬‬‫ون ِبما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْيكَ َوما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ِلكَ َو ِب ْاآل ِخ َر ِة ُه ْم يُوقِنُ َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫حكم اليقين سكون النفس بالمتيقن أو حركتها إلى المتيقن ‪ ،‬وهو ما يكون اإلنسان فيه على‬
‫بصيرة أي شيء كان ‪ ،‬فإذا كان حكم المتيقن من النفس حكم الحاصل فذلك اليقين ‪ ،‬سواء‬
‫حصل المتيقن أو لم يحصل في الوقت‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وهو األظهر ‪ ،‬فإنه جاء هذا المدح للذين يؤمنون بالغيب ‪ ،‬وقد نقول إن المؤمن إذا عصى‬
‫بكسب المال الحرام فله التصرف فيه ‪ ،‬والتصرف فيه رده إلى من غصبه ‪ ،‬أو إلى ذريته أو‬
‫إلى بيت المال ‪ ،‬وإن لم يوجد شيء من هذا كله تصدق به عن صاحبه ‪ ،‬فتعمه هذه اآلية ‪،‬‬
‫ّللا ماال ‪،‬‬ ‫وأتى بلفظ« يُ ْن ِفقُونَ »من نفقت الدابة إذا هلكت ‪ ،‬وقد ورد في الصحيح فيمن آتاه ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو يخرجه هكذا وهكذا ‪ ،‬وقوله« ِم َّما َرزَ ْقنا ُه ْم »ولم يقل ( من‬ ‫ّللا على هلكته في ه‬ ‫فسلهطه ه‬
‫أموالهم ) فأضاف الرزق إليه لقوله( َوأ َ ْن ِفقُوا ِم َّما َجعَلَ ُك ْم ُم ْست َ ْخلَ ِفينَ فِي ِه )فهم فيما في أيديهم‬
‫وكالء هّلل تعالى في التصريف فيه على حد ما شرعه الموكل ‪ ،‬كالسلطان على بيت المال ‪،‬‬
‫فأجرهم في ذلك أجر الوكيل الموفي حق مرتبة الوكالة ‪ ،‬فلنفقته وإنفاقه وجهان ‪ ،‬وجه من‬
‫حيث أنه المباشر بالعطاء ‪ ،‬ووجه أنه معط ما هو مو هكل فيه ‪ ،‬ليس هو ماله ‪ ،‬من النافقاء وهو‬
‫ض )واختلف الناس في‬ ‫ي نَفَقا ا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ت أ َ ْن ت َ ْبت َ ِغ َ‬ ‫الجحر الذي له بابان ‪ ،‬قال تعالى( فَإِ ِن ا ْست َ َ‬
‫ط ْع َ‬
‫مسمى الرزق ‪ ،‬هل يسمى الحرام رزقا أم ال ؟‬
‫فمن جعله رزقا لمن هو بيده كان المدح بصفة الكرم ‪ ،‬ومن منع ذلك كان المدح أيضا بصفة‬
‫الكرم ‪ ،‬والمدح بالوقوف عندما حد له رب المال ‪.‬‬
‫قوله ‪َ «) 5 ( :‬والَّذِينَ يُؤْ ِمنُونَ ِبما أ ُ ْن ِز َل ِإلَي َْك َوما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ِل َك »يقول ‪ :‬والذين يصدقون بما‬
‫ّللاُ )فرأيه‬ ‫راك َّ‬ ‫اس ِبما أ َ َ‬ ‫أنزل إليك ‪ ،‬وهو ما أوحي به إليه من القرآن ‪ ،‬وقوله( ِلت َ ْح ُك َم بَيْنَ النَّ ِ‬
‫ّللا أراه ذلك ‪ ،‬فالمؤمنون يؤمنون بذلك كله ‪ ،‬وقوله« ما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ِل َك »يعني من‬ ‫شرع ‪ ،‬وأن ه‬
‫الكتب والصحف والشرائع المنزلة ‪ ،‬وال يلزم من اإليمان بالشيء العمل به ‪ ،‬إال حتى يكون‬
‫فيما أنزل العمل بما أنزل أو ببعض ما أنزل ‪ ،‬فالتصديق يعم ‪.‬‬
‫سو ُل ِبما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ِه ِم ْن َر ِبه ِه َو ْال ُمؤْ ِمنُونَ ‪ُ ،‬ك ٌّل آ َمنَ ِب َّ ِ‬
‫اّلل َو َمالئِ َكتِ ِه َو ُكت ُ ِب ِه‬ ‫الر ُ‬
‫قال تعالى( آ َمنَ َّ‬
‫س ِل ِه )فآمنا بما أنزل من قبلنا من حيث ما أنزل على نبينا ‪ ،‬ال من حيث ما نقل إلينا ‪ ،‬وقد‬ ‫َو ُر ُ‬
‫يدخل في هذه اآلية من أسلم من أهل الكتب ‪ ،‬وهو قوله( يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِآمنُوا )بما أخبركم‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫به محمد صلهى ه‬
‫ص ‪60‬‬

‫ص ‪60 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪5‬‬
‫دى ِم ْن َر ِبه ِه ْم َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬
‫ون " ) ‪( 5‬‬ ‫"أُولئِكَ عَلى ُه ً‬
‫ى ِم ْن َر ِبه ِه ْم »أي على بيان وتوفيق حيث صدقوا ربهم فيما أخبرهم به مما هو غيب‬ ‫على ُهد ا‬ ‫َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الفالح‬ ‫ْ‬
‫في حقهم« َوأول ِئ َك ُه ُم ال ُم ْف ِل ُحونَ »أي الناجون من عذاب ه‬
‫ّللا الباقون في رحمة ه‬ ‫ُ‬
‫هو البقاء ‪ ،‬واآلخرة هي دار البقاء ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪6‬‬


‫ون ) ‪( 6‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم أ َأ َ ْنذَ ْرت َ ُه ْم أ َ ْم لَ ْم ت ُ ْنذ ِْر ُه ْم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َ‬
‫سوا ٌء َ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫كما آمنتم به من حيث أخبركم به موسى وعيسى ‪ ،‬قال تعالى« يَ ِجدُونَهُ َم ْكتُوبا ا ِع ْن َد ُه ْم فِي‬
‫اإل ْن ِجي ِل يَأ ْ ُم ُر ُه ْم »فالضمير يعود عليهم بأنه نبي مبعوث إليهم أيضا في كتبهم ‪ ،‬فمن‬ ‫الت َّ ْورا ِة َو ْ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وما من آية إال ولنزولها سبب ‪ ،‬ولكن ليس‬ ‫إيمانهم بكتبهم إيمانهم به صلهى ه‬
‫المقصود معرفة السبب إال إذا كان مقصورا على السبب ‪ ،‬فيتعين عند ذلك ذكر السبب ‪ ،‬وكون‬
‫المنزل مقصورا عليه ‪ ،‬فلذلك ال نتعرض في هذا التفسير ألسباب النزول في أكثره ‪«.‬‬
‫َو ِب ْاآل ِخ َرةِ ُه ْم يُوقِنُونَ »من يقن الماء في الحفرة إذا استقر فيها ‪ ،‬فلما استقر اإليمان بالغيب وبما‬
‫أنزل إليك وما أنزل من قبلك وباآلخرة ‪ ،‬سماهم موقنين ‪ ،‬فأخبر عنهم بفعل الحال ‪ ،‬وإلى هنا‬
‫انتهت جملة المبتدأ إذا كان« الَّذِينَ »مبتدأ ‪ ،‬وقوله« ِب ْاآل ِخ َر ِة »لما قال« َوما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ِل َك‬
‫»وذكر ما كان قبله ‪ ،‬قال« َوبِ ْاآل ِخ َرةِ »وهو ما يكون بعد مما لم يكن ‪ ،‬وهو من وقته إلى قيام‬
‫الساعة ‪ ،‬إلى دخول الجنة والنار ‪ ،‬إلى الخلود فيها ‪ ،‬إلى ما ال يتناهى وال ينقطع ‪ ،‬مما وردت‬
‫ى ِم ْن َر ِبه ِه ْم َوأُولئِ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ »أوالء‬ ‫على ُهد ا‬ ‫به األخبار اإللهية ‪ ،‬قوله ( ‪ «) 6‬أُولئِ َك َ‬
‫ى ِل ْل ُمت َّ ِقينَ »فهو قوله« أُولئِ َك »يعني المتقين‬ ‫حرف إشارة يشار به إلى المتقين ‪ ،‬لقوله« فِي ِه ُهد ا‬
‫على هدى من ربهم في توقيهم الداعي لهم إلى البحث عن طريق نجاتهم حتى يتبين ‪ ،‬فهم على‬
‫على بَ ِيهنَ ٍة ِم ْن َر ِبه ِه ) *وهو الهدى ‪ ،‬والرب هنا بمعنى‬ ‫هدى من ربهم في ذلك( أ َ فَ َم ْن كانَ َ‬
‫المصلح ‪ ،‬وهو األوجه من سائر مدلوالته ‪ ،‬والمربي أيضا ‪.‬‬
‫وقوله ‪َ « :‬وأُولئِ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ »حرف إشارة يشار به أيضا إلى المتقين وإلى الذين يؤمنون ‪،‬‬
‫سواء كان نعتا أو مبتدأ ‪ ،‬وفيه بشرى ونوع تقوية لمن يقول إن المجتهد مأجور وإن أخطأ ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬‫وإن االجتهاد في األصول كما هو في الفروع ‪ ،‬والمفلحون ‪ :‬معناه الناجون من عذاب ه‬
‫ّللا ‪.‬‬‫الباقون في دار كرامة ه‬
‫قال تعالى ‪َ ( :‬وما ُه ْم ِم ْنها بِ ُم ْخ َر ِجينَ )وفي هذه اآليات من أول السورة إلى هنا تكذيب لقول‬
‫من قال ‪ ( :‬لَ ْن يَ ْد ُخ َل ْال َجنَّةَ إِ َّال َم ْن كانَ ُهودا ا أ َ ْو نَصارى )فكذبهم في التحجير ‪ .‬قوله «) ‪( 7‬‬
‫ِإ َّن الَّذِينَ َكفَ ُروا»‬
‫ص ‪61‬‬

‫ص ‪61 :‬‬
‫ّللا حكى لنبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ألنهم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين فكأن ه‬
‫وسلم وعرفه بأن حالهم ما ذكروه عن نفوسهم ‪ ،‬فهذه ظلمة قد تكون ظلمة جهل ‪ ،‬وقد تكون‬
‫ظلمة جحد لهوى قام بهم ‪ ،‬وهو أشد الظلم ‪.‬‬

‫سورة البقرة ‪( 2 ) :‬آية ‪7‬‬


‫َذاب ع َِظي ٌم ( ‪) 7‬‬‫شاوةٌ َولَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫س ْم ِع ِه ْم َوعَلى أ َ ْب ِ‬
‫صار ِه ْم ِغ َ‬ ‫ّللاُ عَلى قُلُوبِ ِه ْم َوعَلى َ‬
‫َخت َ َم ه‬
‫س ْم ِع ِه ْم »أي‬ ‫على قُلُوبِ ِه ْم »بخاتم الكفر فال يدخله اإليمان مع علمهم به ‪َ «،‬و َ‬
‫على َ‬ ‫« َخت َ َم َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫شاوة ٌ‬
‫ْصار ِه ْم ِغ َ‬‫على أَب ِ‬ ‫ّللا بما قاله« َو َ‬‫ختم على سمع فهمهم فهم الجهالء ‪ ،‬ال يعلمون ما أراد ه‬
‫»وعلى أبصار عقولهم غشاوة ‪ ،‬حيث نسبوا ما رأوه من اآليات إلى‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫اآلية ‪ ،‬يقول ‪ :‬بكل ما تقدم ذكره ‪ ،‬الكافر هو الساتر للحق ‪ ،‬والساترون الحق على قسمين ‪:‬‬
‫قسم يسترون الحق مع معرفتهم بأنه الحق ‪ ،‬فال يتمكن أن يستروه عن نفوسهم ‪ ،‬بل يستروه‬
‫عن الغير بما يوردونه من الشبه المضلة والتشكيكات الصارفة عن ظهوره ‪ ،‬وهو قوله تعالى(‬
‫س ُه ْم )فهؤالء جاحدون ‪،‬‬ ‫يَ ْع ِرفُونَهُ َكما يَ ْع ِرفُونَ أَبْنا َء ُه ْم ) *وقوله( َو َج َحدُوا ِبها َوا ْست َ ْيقَنَتْها أ َ ْنفُ ُ‬
‫والقسم اآلخر هو الذي ستر الحق عن نفسه بما ظهر له من الشبه ‪ ،‬فقامت له سترا بينه وبين‬
‫الحق ‪ ،‬فيسمى أيضا هذا كافرا ألنه ما وفهى النظر حقه في األدلة ‪ ،‬فاألول معاند ‪ ،‬والثاني‬
‫علَ ْي ِه ْم »ولم يقل عليك« أ َ أ َ ْنذَ ْرت َ ُه ْم »يقول ‪ :‬خوفتهم‬ ‫سوا ٌء َ‬
‫ّللا لنبيه عليه السالم « َ‬ ‫مفرط ‪ ،‬قال ه‬ ‫ه‬
‫وأعلمتهم بأسباب السعادة والشقاء« أ َ ْم لَ ْم ت ُ ْنذ ِْر ُه ْم »يقول ‪ :‬أو سكت عنهم« ال يُؤْ ِمنُونَ »يقول ‪:‬‬
‫ال يصدقون ‪ ،‬إما عنادا وجحدا ‪ ،‬وإما جهالة ‪ ،‬واألظهر هنا إرادة القسم الواحد وهم الجاهلون ‪،‬‬
‫من أجل ما يأتي بعد من ذكر القلوب ‪ ،‬فالمعاند عالم ومصدق في الباطن ‪ ،‬غير مظهر لما هو‬
‫به مصدق ‪ ،‬فإنه ال يقدر في نفسه أن ينكر علمه بالشيء ‪ ،‬وال أن يجعله جهال ‪ ،‬فهؤالء أيضا‬
‫ت لَ ُه ْم أ َ ْم لَ ْم‬
‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْست َ ْغفَ ْر َ‬‫سوا ٌء َ‬ ‫ّللا جزاءهم عدم المغفرة في قوله تعالى( َ‬ ‫هم الذين جعل ه‬
‫ّللا عليه وسلم سواء ‪ ،‬وهم‬ ‫ّللاُ لَ ُه ْم )ولم يقل عليك فإنه ليس عليه صلهى ه‬ ‫ت َ ْست َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم لَ ْن يَ ْغ ِف َر َّ‬
‫سواء دعاؤه إياهم أو سكوته عنهم ‪ ،‬ما يتغير عليهم الحال في نفوسهم ‪ ،‬وهذا يؤيد أن المراد‬
‫بالذين كفروا هنا من جهل ال من عاند مع علمه( ال يُؤْ ِمنُونَ )‬
‫على قُلُو ِب ِه ْم »اآلية‬ ‫ّللاُ َ‬‫أي ال يصدقون بما أعلمتهم ‪ ،‬والتصديق حالة قلبية ‪ .‬قوله ( ‪َ )« 8‬خت َ َم َّ‬
‫على‬ ‫‪ ،‬العالم بالشيء ما ختم على قلبه ‪ ،‬لكن الجاهل بالشيء مختوم على قلبه ‪ ،‬قوله« َخت َ َم َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫على‬‫ّللاُ َ‬
‫طبَ َع َّ‬ ‫قُلُوبِ ِه ْم »وما ذكر الطبع هنا ‪ ،‬بل ذكره في موضع آخر ‪ ،‬قال تعالى (أُولئِ َك الَّذِينَ َ‬
‫ْصار ِه ْم )والطبع النقش الذي يكون في الختم ‪ ،‬والختم هو القفل ‪ .‬فقال‬ ‫س ْم ِع ِه ْم َوأَب ِ‬ ‫قُلُوبِ ِه ْم َو َ‬
‫ص ‪62‬‬

‫ص ‪62 :‬‬
‫السحر [ طب ]‬
‫طب إذا استرخت الطبقة الصلبة التي في البصر حصل الضرر ‪ ،‬فالرخاوة غشاوة ‪َ « ،‬ولَ ُه ْم‬
‫ّللا‬
‫ّللا بهذا االسم إيثارا للمؤمن ‪ ،‬فإنه يستعذب ما يقوم بأعداء ه‬ ‫ع ِظي ٌم »العذاب إنما سماه ه‬
‫ذاب َ‬
‫ع ٌ‬‫َ‬
‫من اآلالم ‪ ،‬فهو عذاب بالنظر إلى هؤالء ‪ ،‬ومن وجه آخر سمي عذابا ما يقع به اآلالم بشرى‬
‫ّللا لعباده ‪ ،‬أن الذي تتألمون به ال بد إذا شملتكم الرحمة أن تستعذبوه وأنتم في النار ‪ ،‬كما‬ ‫من ه‬
‫يستعذب المقرور حرارة النار والمحرور برودة الزمهرير ‪ ،‬ولهذا جمعت جهنم النار‬
‫والزمهرير الختالف المزاج ‪ ،‬فما يقع به األلم لمزاج مخصوص يقع به النعيم في مزاج آخر‬
‫ّللا على أهل جهنم الزمهرير على المحرورين والنار على‬ ‫يضاده ‪ ،‬فال تتعطل الحكمة ‪ ،‬ويبقي ه‬
‫المقرورين فينعمون في جهنم ‪ ،‬فهم على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا بها العتدالها ‪ ،‬فسمى‬
‫العذاب عذابا ألن المآل إلى استعذابه لمن قام به بعد شمول الرحمة ‪ ،‬كما يستحلي الجرب من‬
‫يحكه ‪ ،‬فإذا حكه من غير جرب أو حاجة من يبوسة تطرأ على بعض بدنه تألم لحكه ‪.‬عناية‬
‫ربي أدركت كل كائن * من الناس في ختم القلوب وفي الطبعومن أجل ذا لم يدخل الكبر قلبهم‬
‫* على موجد الصنع الذي جل من صنعولوال وجود السمع في الناس ما اهتدوا * وليس سوى‬
‫علم الشريعة والوضعفكم بين أهل النقل والعقل يا فتى * وهل تبلغ األلباب منزلة السمع‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫على قُلُوبِ ِه ْم »أي الذين قالوا( قُلُوبُنا فِي‬ ‫ب أ َ ْقفالُها ) ‪،‬وقال هنا« َخت َ َم َّ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫على قُلُو ٍ‬ ‫تعالى ‪ ( :‬أ َ ْم َ‬
‫س ْم ِع ِه ْم »أي وختم على سمعهم حين قالوا( َوفِي‬ ‫على َ‬ ‫عونا ِإلَ ْي ِه )هو منها ‪ ،‬ثم قال« َو َ‬ ‫أ َ ِكنَّ ٍة ِم َّما ت َ ْد ُ‬
‫شاوة ٌ »لقولهم ‪َ ( :‬و ِم ْن بَ ْينِنا َوبَ ْينِ َك‬ ‫على أَب ِ‬
‫ْصار ِه ْم ِغ َ‬ ‫آذانِنا َو ْق ٌر )أي هو منها ‪ ،‬وقال تعالى« َو َ‬
‫ع ِظي ٌم »وهو‬ ‫ذاب َ‬‫ع ٌ‬ ‫ّللا ‪َ «:‬ولَ ُه ْم َ‬‫عاملُونَ )فقال ه‬ ‫جاب )أي هو منها ثم قالوا ‪ ( :‬فَا ْع َم ْل ِإنَّنا ِ‬ ‫ِح ٌ‬
‫العمل الذي قالوه وطلبوه ‪ ،‬والختم الذي على السمع هو بينه وبين القلب ‪ ،‬ال بينه وبين الكالم ‪،‬‬
‫فإنه سمع الكالم من الرسول بال شك ‪ ،‬ولكن لجهله بما سمع أنه حق في نفس األمر وعدم‬
‫تصديقه ‪ ،‬كان عنده كمثل الصوت من اإلنسان عند البهائم التي ال تعقل معناه ‪ ،‬وهو قوله‬
‫ي ‪ ،‬فَ ُه ْم ال يَ ْع ِقلُونَ‬ ‫ص ٌّم ‪ ،‬بُ ْك ٌم ‪ُ ،‬‬
‫ع ْم ٌ‬ ‫تعالى ( ‪َ :‬ك َمث َ ِل الَّذِي يَ ْن ِع ُق بِما ال يَ ْس َم ُع ِإ َّال دُعا اء َونِدا اء ‪ُ ،‬‬
‫شاوة ٌ »وما جعله‬ ‫ْصار ِه ْم ِغ َ‬ ‫على أَب ِ‬ ‫المصوت به حق فيما يدعو إليه ‪ ،‬وكذلك قوله« َو َ‬ ‫ه‬ ‫)أن ذلك‬
‫ختما ‪ ،‬أي حائل بينه وبين القلب أن يعلم القلب أن ذلك المبصر من المعجزات الموقوفة على‬
‫إدراك البصر أنها حق ‪ ،‬مثل نبع الماء من بين أصابعه ‪ ،‬ورؤية الطعام القليل حين أشبع الكثير‬
‫‪ ،‬فإن العلم به ال يحصل إال من جهة‬
‫ص ‪63‬‬

‫ص ‪63 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪8‬‬
‫اَّلل َو ِبا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوما ُه ْم ِب ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ( ‪) 8‬‬ ‫اس َم ْن يَقُو ُل آ َمنها ِب ه ِ‬
‫َو ِم َن النه ِ‬

‫[ حول الناس ]‬
‫ّللا تعالى البشر الناس ؟‬
‫لم سمى ه‬
‫معرف باأللف والالم ألنه نسي أن الحق‬ ‫‪ -‬من باب اإلشارة ‪ -‬الناس اسم فاعل من النسيان ه‬
‫سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا ‪ ،‬فلما لم يتذكر الناسي هذه الحال وهو في‬
‫نفسه عليها غافل عنها ‪ ،‬خاطبه الحق مذكرا له بهذا القرآن الذي تعبده بتالوته ليدبروا آياته‬
‫وليتذكر أولو األلباب ما كانوا قد نسوه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫البصر فعاين ‪ ،‬فلو كان الغشاء بينه وبين المبصر ما صدق هذا القول ‪ ،‬فكان الغشاء بال شك‬
‫على البصر من جهة القلب ‪ ،‬فال يبصر البصر القلب الذي يقبل ما جاء به ‪ ،‬بل جعله القلب من‬
‫قبيل السحر والخيال ‪ ،‬فتعظيم العذاب هو العذاب من وجهين فصاعدا ‪ ،‬فلهم عذاب الجهل‬
‫وعذاب التكذيب ‪.‬‬
‫ْصار )فإنها أدركت بال شك ( وإنما تعمى القلوب ) أعين البصائر‬ ‫قال تعالى( فَإِنَّها ال ت َ ْع َمى ْاألَب ُ‬
‫ُور )قد يكون من الرجوع عن الحق قال‬ ‫صد ِ‬‫وهو النظر في مقدمات األدلة وترتيبها( الَّتِي فِي ال ُّ‬
‫اس َم ْن يَقُو ُل آ َمنَّا بِ َّ ِ‬
‫اّلل‬ ‫ق بَ ْع َد ما تَبَيَّنَ )لهم قوله ‪َ «) 9 ( :‬و ِمنَ النَّ ِ‬ ‫تعالى( يُجا ِدلُون ََك فِي ْال َح ه ِ‬
‫َوبِ ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوما ُه ْم بِ ُمؤْ ِمنِينَ »الناس ‪ :‬اسم جنس ال واحد له من لفظه ‪ ،‬كقوم ومعشر ورهط‬
‫‪ ،‬وقد قيل في تصغيره نويس ‪ ،‬فال أصل له في الهمز ‪ ،‬وقد تكلموا في اشتقاقه وقالوا إنه من‬
‫النوس وهو الصوت ‪ ،‬وهذا كله ال فائدة فيه ‪ ،‬إذ قد علمنا لفظة الناس على من ينطلق ‪ ،‬فأقول‬
‫‪:‬‬
‫ّللا من صفتهم ‪ ،‬فكل من‬ ‫وإن كان سبب نزولها قوم مخصوصون ‪ ،‬فال حاجة لذكرهم بما بيهن ه‬
‫اس َم ْن يَقُو ُل آ َمنَّا‬ ‫قامت به تلك الصفة فهو المراد باآلية إلى يوم القيامة قال تعالى «‪َ :‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وال أنهم قالوا ‪ :‬اليوم اآلخر حق‬ ‫اّلل َو ِب ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر »فلم يخبر تعالى أنهم قالوا ‪ :‬ال إله إال ه‬ ‫ِب َّ ِ‬
‫ّللا ووجود اليوم‬ ‫اّلل »فالمفهوم األول التصديق بوجود ه‬ ‫‪ ،‬وإنما أخبر عنهم أنهم قالوا« آ َمنَّا ِب َّ ِ‬
‫اآلخر ‪ ،‬فيتصور أن يكون هنا طائفتان ‪ ،‬ثم أخبر تعالى بنفي اإليمان عنهم فيما ادعوه ‪ ،‬قوال‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكون اإلخبار عن المعطلة ‪ ،‬وهم على‬ ‫واعتقادا ‪ ،‬فقال« َوما ُه ْم بِ ُمؤْ ِمنِينَ »بوجود ه‬
‫قسمين ‪ :‬معطلة من حيث األصل ‪ ،‬ومعطلة بعد وجود ‪ ،‬فقوله« َوما ُه ْم بِ ُمؤْ ِمنِينَ »أي‬
‫بمصدقين اعتقادا ‪ ،‬وال ذكر أنهم تلفظوا به ‪ ،‬فتحقق نفي اإليمان عن قلوبهم ‪ ،‬وبقي االحتمال‬
‫باّلل من حيث‬ ‫في هل تلفظوا أم ال ؟ واليوم اآلخر ‪ ،‬وأما الطائفة األخرى ‪ ،‬فقد يكونون مؤمنين ه‬
‫وجوده وإن كانوا مشركين ‪ ،‬وال يؤمنون باليوم اآلخر ولو كانوا موحدين من حيث الدليل ‪،‬‬
‫فيكون الحق قد نفى بقوله تعالى ‪َ «:‬وما ُه ْم ِب ُمؤْ ِم ِنينَ »يعني بما جئت به من الغيب عنا وباليوم‬
‫اآلخر ‪ ،‬واألظهر أنه أراد المثبتين وجوده‬
‫ص ‪64‬‬

‫ص ‪64 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪9‬‬
‫ون ( ‪) 9‬‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫ُون ِإاله أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم َوما يَ ْ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوما يَ ْخ َدع َ‬
‫ّللا َوالهذ َ‬ ‫يُخا ِدع َ‬
‫ُون ه َ‬
‫ّللا ال يعلم« َوالَّذِينَ آ َمنُوا َوما يَ ْخ َدعُونَ ِإ َّال أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم َوما‬ ‫ّللا »بجهلهم القائم بهم بأن ه‬ ‫« يُخا ِدعُونَ َّ َ‬
‫يَ ْشعُ ُرونَ »في خداعهم الذين آمنوا ‪ ،‬فإن من خادع المؤمن فما خدع إال نفسه ‪ ،‬وأما من يخادع‬
‫ّللا ال يعلم كثيرا مما يعملون ‪ ،‬فهو من‬ ‫باّلل حيث تخيل أنه يلبهس على الحق وأن ه‬ ‫ّللا فهو جاهل ه‬ ‫ه‬
‫ّللا بهم لكونهم اعتقدوا أنهم يخادعون‬ ‫ّللا هو خادعهم بخداعهم ‪ ،‬أي هو خداع ه‬ ‫الخاسرين فإن ه‬
‫ّللا يرد عليهم أعمالهم‪.‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فما يشعرون اليوم بأن ه‬ ‫ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سبحانه سواء وحدوا أو أشركوا بقوله فيهم ( ‪) 10‬‬
‫ّللا َوالَّذِينَ آ َمنُوا »وهذا وأيضا قوله« َوالَّذِينَ آ َمنُوا »يقوي ما ذهبنا إليه في تفسير‬ ‫« يُخا ِدعُونَ َّ َ‬
‫ّللا »على دعواكم أن ثم إلها« َوالَّذِينَ‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيكون« يُخا ِدعُونَ َّ َ‬ ‫نفي اإليمان أنه اإليمان بوجود ه‬
‫آ َمنُوا »يخادعون حقيقة فإنهم موجودون ‪ ،‬وال يبعد جميع ما ذكرناه ‪ ،‬فإن هؤالء األصناف‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن رسالته‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫كلهم موجودون ‪ ،‬وقد دخلوا فيمن بعث إليهم رسول ه‬
‫عامة ‪ ،‬فينسحب الخطاب عليهم ‪ ،‬والخداع مأخوذ من المخدع ‪ ،‬فدخلوا فيه ليعصموا دماءهم‬
‫باّلل ‪ ،‬وصورة‬ ‫ّللا »على جهلهم ه‬ ‫ّللا ظاهرا ‪ ،‬فدل بقوله« يُخا ِدعُونَ َّ َ‬ ‫وأموالهم لما رأوا دين ه‬
‫الجهل ‪ ،‬إن كان يعلم ما تلفظوا به من كلمتي الشهادة فهو يعلم ما في نفوسهم من عدم التصديق‬
‫بها ‪ ،‬وإن كان ال يعلم عدم تصديقهم فال يعلم أيضا أنهم تلفظوا بالشهادة ‪ ،‬واألظهر أن‬
‫مخادعتهم هّلل على زعمكم أن ثم إلها ‪ ،‬فيبقى الخداع على الحقيقة للذين آمنوا ‪ ،‬الذين يخافون‬
‫س ُه ْم »أي أمثالهم ‪.‬‬ ‫منهم أن يقتلوهم ‪ ،‬ولذلك قال« َوما يَ ْخ َدعُونَ ِإ َّال أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم )يريد أمثالكم ‪ ،‬ويحتمل أن يريد‬ ‫س ُك ْم )ومثل قوله( َك ِخيفَ ِت ُك ْم أ َ ْنفُ َ‬‫مثل قوله( فَال تُزَ ُّكوا أ َ ْنفُ َ‬
‫ع ُه ْم‬‫ّللا َو ُه َو خا ِد ُ‬
‫ّللا تعالى (يُخا ِدعُونَ َّ َ‬
‫س ُه ْم »أن يكون الخداع راجعا عليهم ‪ ،‬قال ه‬ ‫بقوله « ِإ َّال أ َ ْنفُ َ‬
‫ّللا بهم ‪ ،‬يؤيد ذلك قوله« َوما يَ ْشعُ ُرونَ »أي ال يتفطنون لذلك أنه من‬ ‫) ‪،‬أي خداعهم هو خداع ه‬
‫ّللا »ببنية المفاعلة ألن المخادعة فعل فاعلين ‪ ،‬وذلك أن‬ ‫خداعنا بهم ‪ ،‬وأما قوله« يُخا ِدعُونَ َّ َ‬
‫وّللا بكل شيء عليم ‪.‬‬ ‫من شرط الخداع أن ال يعلم به المخدوع ‪ ،‬ه‬
‫ع ُه ْم )اسم فاعل من خدع ولم يقل مخادعهم ‪ ،‬فإنه يخدعهم حقيقة ‪ ،‬وهم ال‬ ‫فقال تعالى( َو ُه َو خا ِد ُ‬
‫يقدرون أن يخدعوه ‪ ،‬فلم تختلف القراءة في األول واختلف في الثاني وهو قوله« َوما يَ ْخ َدعُونَ‬
‫»و« يُخا ِدعُونَ »فإن المفاعلة تصح منهم في جنسهم ‪ ،‬لكن العالم قد يصح أن ينخدع ‪ ،‬فهو‬
‫منخدع ‪ ،‬بمعنى أن يظهر لهم أنه مخدوع ‪،‬‬
‫ص ‪65‬‬

‫ص ‪65 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪10‬‬
‫ون ( ‪) 10‬‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ِبما كانُوا يَ ْك ِذبُ َ‬ ‫ض فَزا َد ُه ُم ه‬
‫ّللاُ َم َرضا ً َولَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫فِي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ض »شك مما جاءهم به رسولي ‪ ،‬وهذا المرض هو الشبه المضلة القادحة في‬ ‫« فِي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ّللاُ َم َرضا ا »شكا‬
‫األدلة وفي اإليمان ‪ ،‬تحول بين العقل من العاقل وبين صحة اإليمان« فَزا َد ُه ُم َّ‬
‫ذاب أ َ ِلي ٌم »يوم القيامة ‪ ،‬وسمي ما يتألم به أهل الشقاء عذابا ألن السعداء‬ ‫ع ٌ‬ ‫وحجابا« َولَ ُه ْم َ‬
‫يستعذبون آالم أهل الشقاء ‪ ،‬إيثارا لجناب الحق حيث أشركوا ‪ ،‬فلهم في أسباب اآلالم نعيم ‪،‬‬
‫فسمى الحق ذلك عذابا إيثارا لهم حين آثروه ‪ ،‬وقوله تعالى« أ َ ِلي ٌم »اعلم أن قيام األلم ووجوده‬
‫في نفس المتألم ‪ ،‬ما هو السبب المربوط به عادة ‪ ،‬كوجود الضرب بالسوط ‪ ،‬والحرق بالنار ‪،‬‬
‫والجرح بالحديد ‪ ،‬وما أشبه ذلك من اآلثار الحسية مما يكون عنها اآلالم الحسية ‪ ،‬وكذلك‬
‫ضياع المال ‪ ،‬والمصيبة في األهل والولد ‪ ،‬والتوعد بالوعيد ‪ ،‬وجميع األسباب الخارجة عنه‬
‫الموجبة لآلالم النفسية عادة ‪ ،‬إذا حصلت بهذا الشخص فتسمى هذه األسباب عذابا ‪ ،‬وليس في‬
‫الحقيقة عذابا ‪ ،‬وإنما العذاب هو وجود األلم عند هذه األسباب ‪ ،‬ال عين األسباب‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ض‬‫بعدم المؤاخذة في الحال ‪ ،‬فيتوهمون لحلمه أنهم خدوعه ‪ ،‬قوله ( ‪ «) 11‬فِي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ذاب أ َ ِلي ٌم ِبما كانُوا يَ ْك ِذبُونَ »يقول في قلوبهم مرض الجهل ه‬
‫باّلل ‪،‬‬ ‫ع ٌ‬ ‫ّللاُ َم َرضا ا َولَ ُه ْم َ‬
‫فَزا َد ُه ُم َّ‬
‫ّللا مرضا بإنزاله سور القرآن ‪ ،‬قال تعالى( فَزا َدتْ ُه ْم ِر ْجسا ا إِلَى ِر ْج ِس ِه ْم )كما قال في‬ ‫فزادهم ه‬
‫ى )و ( زادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) وهؤالء بذلك يتألمون ‪ ،‬واأللم هو‬ ‫المؤمنين( زا َد ُه ْم ُهد ا‬
‫وب الَّذِينَ ال يُؤْ ِمنُونَ‬ ‫ّللاُ َو ْح َدهُ ا ْش َمأ َ َّز ْ‬
‫ت قُلُ ُ‬ ‫المرض عينه ‪ ،‬وهو أيضا قوله تعالى( َو ِإذا ذُ ِك َر َّ‬
‫ِب ْاآل ِخ َرةِ )‬
‫باّلل ‪ ،‬أي انقبضت لما وجدت من ألم نسبة الوحدة هّلل في األلوهية ‪ ،‬ومما يدل على‬ ‫وما قال ‪ :‬ه‬
‫جاب )فبعث الرسل للكفار‬ ‫ع ٌ‬ ‫ش ْي ٌء ُ‬ ‫واحدا ا ِإ َّن هذا لَ َ‬‫جهلهم بالتوحيد ‪ ،‬قوله( أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ ِإلها ا ِ‬
‫ذاب أ َ ِلي ٌم »أي موجع ‪ ،‬واأللم هو العذاب‬ ‫ع ٌ‬ ‫زادهم مرضا ‪ ،‬لخطاب الوقت ‪ ،‬فزادهم ألما« َولَ ُه ْم َ‬
‫نفسه ‪ ،‬وقد يطلق العذاب على سبب األلم ‪ ،‬كما أن النعيم إنما هو اللذة نفسها ‪ ،‬وقد يطلق على‬
‫سببها المعهود ‪ ،‬وقوله تعالى« ِبما كانُوا يَ ْك ِذبُونَ »هذه باء السبب ‪ ،‬أي بسبب تكذيبهم ما جاء‬
‫ّللا عليه وسلم من الخبر عنا ‪ ،‬فإن التكذيب متعلقه الخبر ‪ ،‬فهذا عذاب‬ ‫به محمد صلهى ه‬
‫مخصوص من أجل صفة مخصوصة ‪ ،‬وما قال ‪ :‬ولهم عذاب أليم بمرضهم األول والمزاد ‪،‬‬
‫وجاء بلفظة العذاب ولم يكتف به حتى قال« أ َ ِلي ٌم »وذلك‬
‫ص ‪66‬‬

‫ص ‪66 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪12‬‬
‫سد َ‬
‫ُون‬ ‫ون ( ‪ ) 11‬أَال ِإنه ُه ْم ُه ُم ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫سدُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض قالُوا ِإنهما نَحْ ُن ُم ْ‬
‫ص ِل ُح َ‬ ‫َو ِإذا قِي َل لَ ُه ْم ال ت ُ ْف ِ‬
‫ون ) ‪( 12‬‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫َول ِك ْن ال يَ ْ‬
‫الشعور علم إجمالي قطعي أن ثم مشعورا به لكن ال يعلم ما هو ذلك المشعور به ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪13‬‬


‫سفَها ُء أَال إِنه ُه ْم ُه ُم ال ُّ‬
‫سفَها ُء َول ِك ْن‬ ‫اس قالُوا أ َ نُ ْؤ ِم ُن كَما آ َم َن ال ُّ‬ ‫َوإِذا قِي َل لَ ُه ْم ِ‬
‫آمنُوا كَما آ َم َن النه ُ‬
‫ون ) ‪( 13‬‬ ‫ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫السفيه ‪ :‬هو الضعيف الرأي ‪ ،‬يقولون إنهم ما آمنوا اال لضعف رأيهم وعقلهم فجاز‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫رات ) *ولما كان في إيالم‬ ‫ب فُ ٌ‬ ‫ع ْذ ٌ‬ ‫ألن العذاب فيه ضرب من اللذة ‪ ،‬ومنه في صفة الماء( َ‬
‫ظ قُلُوبِ ِه ْم‬ ‫غ ْي َ‬ ‫ُور قَ ْو ٍم ُمؤْ ِمنِينَ )( َويُ ْذهِبْ َ‬ ‫صد َ‬ ‫ف ُ‬ ‫باّلل ورسوله سرور المؤمنين قال( َويَ ْش ِ‬ ‫الكفار ه‬
‫)سماه عذابا للعذوبة التي تحصل منه للمؤمن ‪.‬‬
‫اّلل َو ِب ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر )فهي زيادة مرض‬ ‫ومن قرأ « يكذبون » مخففا من الكذب في قوله( آ َمنَّا ِب َّ ِ‬
‫ّللا مرضا آخر نكرة ‪ ،‬وهو أن‬ ‫آخر ‪ ،‬والمرض األول اعتقادهم التكذيب بقلوبهم ‪ ،‬فزادهم ه‬
‫نطقهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ‪ ،‬ولكل جنس من المرضين عذاب مخصوص ‪ ،‬فلذلك‬ ‫ه‬
‫وردت القراءتان معا ‪ ،‬أي أنهم مجازون على التكذيب بالنار التي تطلع على األفئدة ‪ ،‬وعلى‬
‫الكذب بالنار التي تتسلط على الجوارح ‪.‬‬
‫ض »الضمير في لهم يعود على الذين كفروا‬ ‫قوله ( ‪َ «) 12‬و ِإذا قِي َل لَ ُه ْم ال ت ُ ْف ِسدُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ع َم ِل ِه فَ َرآهُ‬ ‫ص ِل ُحونَ »في زعمهم ‪ ،‬قال تعالى( أ َ فَ َم ْن ُز ِيهنَ لَهُ ُ‬
‫سو ُء َ‬ ‫خاصة« قالُوا ِإنَّما ن َْح ُن ُم ْ‬
‫ّللا« ال‬ ‫س ِبي ِل ) *الذي هو قول ه‬ ‫ع ِن ال َّ‬ ‫ْطان أَعْمالَ ُه ْم فَ َ‬
‫ص َّد ُه ْم َ‬ ‫شي ُ‬ ‫سنا ا )وقال تعالى ‪َ ( :‬وزَ يَّنَ لَ ُه ُم ال َّ‬ ‫َح َ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وصالح في نظرهم ‪،‬‬ ‫ض »فلما كانوا على عمل هو فساد عند ه‬ ‫ت ُ ْف ِسدُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫اعتقدوا أن ما خالف عملهم من األعمال المقابلة لها وترك أعمالهم هو الفساد ‪ ،‬فاعتقدوا أن‬
‫المؤمنين على فساد لمخالفتهم ما هم عليه ‪ ،‬فقال تعالى في مقابلة هذا االعتقاد وإن لم يجر له‬
‫لفظ ‪ «) 13 ( :‬أَال ِإنَّ ُه ْم ُه ُم ْال ُم ْف ِسدُونَ »دل عليه المعنى « َول ِك ْن »استدراك« ال يَ ْشعُ ُرونَ »أي‬
‫ال يفطنون لذلك ‪ ،‬فلم يكونوا معاندين وال جاحدين ‪ ،‬بل هم جاهلون ‪ ،‬قوله ( ‪َ «) 14‬و ِإذا ِقي َل‬
‫لَ ُه ْم ِآمنُوا» ‪ . . .‬اآلية ‪ ،‬الضمير أيضا يعود على الذين كفروا‬
‫ص ‪67‬‬

‫ص ‪67 :‬‬
‫ّللا« أَال ِإنَّ ُه ْم ُه ُم ال ُّ‬
‫سفَها ُء »أي الذين ضعفت آراؤهم ‪ ،‬فحال ذلك الضعف بينهم‬ ‫ذلك عليهم لقول ه‬
‫وبين اإليمان« َول ِك ْن ال يَ ْعلَ ُمونَ » ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪14‬‬


‫َياطينِ ِه ْم قالُوا إِنها َمعَ ُك ْم إِنهما نَحْ ُن ُم ْ‬
‫ست َه ِْزؤ َ‬
‫ُن‬ ‫) َوإِذا لَقُوا الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا قالُوا آ َمنها َوإِذا َخلَ ْوا إِلى ش ِ‬
‫( ‪14‬‬
‫ّللا عليه وسلم يأتون إلى المؤمنين بوجه يظهرون‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫كان المنافقون في زمان رسول ه‬
‫أنهم معهم ‪ ،‬ويأتون إلى المشركين بوجه يظهرون به أنهم معهم ‪ ،‬ويقولون« ِإنَّما ن َْح ُن‬
‫ّللا المنافقين إال بما زادوا به على صورة النفاق ‪ ،‬ولو أنهم بقوا على‬ ‫ُم ْست َ ْه ِزؤُنَ »وما أخذ ه‬
‫صورة النفاق من غير زيادة لسعدوا يقول تعالى ‪َ «:‬و ِإذا لَقُوا الَّذِينَ آ َمنُوا قالُوا آ َمنَّا »لو قالوا‬
‫َياطينِ ِه ْم قالُوا إِنَّا َمعَ ُك ْم »لو قالوا ذلك وسكتوا ما أثر فيهم‬ ‫ذلك حقيقة لسعدوا ‪َ «،‬وإِذا َخلَ ْوا إِلى ش ِ‬
‫الذم الواقع ‪ ،‬وإنما زادوا« إِنَّما ن َْح ُن ُم ْست َ ْه ِزؤُنَ »فشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين ‪ ،‬فما‬
‫ّللا به عن نفسه في مؤاخذته إياهم فقال‪:‬‬ ‫أخذوا إال بما أقروا به ‪ ،‬يدلنا على ذلك ما أخبر ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫اّلل َو ِب ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر )وإن كانوا كاذبين في مقالتهم تلك« َكما‬‫خاصة ‪ ،‬فإن اآلخرين قالوا( آ َمنَّا ِب َّ ِ‬
‫سفَها ُء »السفه عدم الرشد ‪ ،‬والتصرف‬ ‫اس »يعني المؤمنين« قالُوا أ َ نُؤْ ِم ُن َكما آ َمنَ ال ُّ‬ ‫آ َمنَ النَّ ُ‬
‫على ما ال تقتضيه الحكمة ‪ ،‬وضعف الرأي ‪.‬‬
‫سفَها ُء » ‪.‬يقول ‪:‬‬ ‫ّللا لهم مخبرا لنا« أَال ِإنَّ ُه ْم ُه ُم ال ُّ‬ ‫قال ه‬
‫هم الضعفاء الرأي ال أنتم ‪ ،‬فعاد ما نسبوه للمؤمنين إليهم ‪ ،‬قال عليه السالم ( إنما هي أعمالكم‬
‫ترد عليكم ) وجاء في الصحيح ( من قال ألخيه ‪ :‬كافر فقد باء به أحدهما ) أي بوصف الكفر ‪،‬‬
‫إن كان كما قال فصح الوصف ‪ ،‬وإن لم يكن كما قال جاز ذلك على القائل ألنه من قال إن‬
‫اإلسالم كفر فقد كفر ‪ ،‬والسعيد من استبرأ لدينه وال يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ‪ ،‬والعلم‬
‫واسع والوجوه كثيرة ‪ ،‬ثم قال« َول ِك ْن ال يَ ْعلَ ُمونَ »أنهم هم السفهاء ‪ ،‬فإن السفه عندهم ترك ما‬
‫هم عليه ومخالفته ‪.‬‬
‫قوله ( ‪َ «) 15‬و ِإذا لَقُوا الَّذِينَ آ َمنُوا قالُوا آ َمنَّا »إلى قوله« يَ ْع َم ُهونَ » ‪.‬الضمير في لقوا يعود‬
‫باّلل وباليوم اآلخر وما هم بمؤمنين ‪ ،‬كانوا ويكونون إلى يوم القيامة‬ ‫على الناس الذين قالوا آمنا ه‬
‫من هذه صفتهم« إِذا لَقُوا الَّذِينَ آ َمنُوا قالُوا آ َمنَّا »أي صدقنا بالذي صدقتم به ليعصموا دماءهم‬
‫ط ْوعا ا َو َك ْرها ا )فهؤالء سجدوا كرها ‪ ،‬وآمنوا‬‫ض َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّلل يَ ْس ُج ُد َم ْن فِي ال َّ‬
‫وأموالهم ( َو ِ َّ ِ‬
‫ص ‪68‬‬

‫ص ‪68 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪15‬‬
‫ون ) ‪( 15‬‬ ‫ئ ِب ِه ْم َويَ ُم ُّد ُه ْم فِي ُ‬
‫ط ْغيانِ ِه ْم يَ ْع َم ُه َ‬ ‫ستَه ِْز ُ‬
‫ّللاُ يَ ْ‬
‫ه‬
‫ّللا تعالى أنه يستهزئ بهم بذلك الفعل الذي يفعلونه مع المؤمنين ‪ ،‬وهم ال يشعرون ‪،‬‬ ‫فأخبر ه‬
‫ّللا بهم ‪ ،‬فما أخذهم بقولهم« ِإنَّا َمعَ ُك ْم »وإنما أخذهم بما زادوا به على النفاق‬ ‫فهذا من مكر ه‬
‫ّللا بالجزاء الذي جازى به المنافق إال لتعلم‬ ‫وهو قولهم ‪ «:‬إِنَّما ن َْح ُن ُم ْست َ ْه ِزؤُنَ »وما عرفك ه‬
‫من أين أخذ من أخذ ‪ ،‬حتى تكون أنت تجتنب موارد الهالك« َويَ ُم ُّد ُه ْم فِي ُ‬
‫ط ْغيانِ ِه ْم يَ ْع َم ُهونَ‬
‫»حيث تمادوا على غيهم بعد ما عرفوا من بيده االقتدار ‪ ،‬وعدلوا عنه ‪ ،‬وعملوا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫َياطي ِن ِه ْم قالُوا ِإنَّا َمعَ ُك ْم »إلى هنا‬ ‫كرها ‪ ،‬لظهور أهل اإليمان بالسيف عليهم« َو ِإذا َخلَ ْوا ِإلى ش ِ‬
‫بمعنى مع ‪ ،‬يقول ‪ :‬وإذا خلوا مع شياطينهم من اإلنس الباقين على كفرهم ‪ ،‬أو خال بعضهم مع‬
‫ض ُه ْم إِلى‬ ‫وحي بَ ْع ُ‬ ‫اإل ْن ِس َو ْال ِج ِهن يُ ِ‬ ‫َياطينَ ْ ِ‬ ‫بعض يقولون ذلك ‪ ،‬فإنهم كلهم شياطين قال تعالى( ش ِ‬
‫غ ُرورا ا )وهو قدحهم في أهل اإليمان من حيث إيمانهم ‪ ،‬وتزيين ما هم‬ ‫ف ْالقَ ْو ِل ُ‬ ‫ض ُز ْخ ُر َ‬ ‫بَ ْع ٍ‬
‫ض )أي ينصر بعضهم‬ ‫ض ُه ْم أ َ ْو ِليا ُء بَ ْع ٍ‬
‫عليه من الباطل ‪ ،‬قال تعالى في اليهود والنصارى (بَ ْع ُ‬
‫بعضا« قالُوا ِإنَّا َمعَ ُك ْم »أي على الذي أنتم عليه ‪ ،‬ما غيهرنا وال بدلنا« ِإنَّما ن َْح ُن ُم ْست َ ْه ِزؤُنَ‬
‫»بهم وتقيهة لما ينجر في ذلك إلينا من المصالح في أنفسنا وأموالنا وذرارينا ‪ ،‬يقولون ‪ :‬نسخر‬
‫ّللا تعالى ( ‪) 16‬‬ ‫بهم ‪ ،‬فقال ه‬
‫ئ بِ ِه ْم »أي يسخر بهم ‪ ،‬وذلك على وجهين ‪ :‬الوجه الواحد أن استهزاءهم‬ ‫ّللاُ يَ ْست َ ْه ِز ُ‬
‫« َّ‬
‫ّللا تعالى بهم من حيث ال يشعرون ‪ ،‬ومنه( َو َم َك ُروا َم ْكرا ا َو َم َك ْرنا‬ ‫بالمؤمنين هو عين استهزاء ه‬
‫َم ْكرا ا َو ُه ْم ال يَ ْشعُ ُرونَ )أن عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم ‪ ،‬ومن هذا الباب( ِإ ْن‬
‫ع ُه ْم )‬ ‫ت َ ْسخ َُروا ِمنَّا فَإِنَّا نَ ْسخ َُر ِم ْن ُك ْم َكما ت َ ْسخ َُرونَ )وقوله تعالى (يُخا ِدعُونَ َّ َ‬
‫ّللا َو ُه َو خا ِد ُ‬
‫‪،‬والوجه اآلخر ينقسم إلى وجهين ‪ :‬وجه يقتضيه العدل فيكون جزاء ‪ ،‬ووجه يقتضيه االستهزاء‬
‫‪ ،‬جزاء أيضا في عمل واحد ‪ ،‬وذلك أنه إذا كان يوم القيامة وهو قوله تعالى( َكما ت َ ْسخ َُرونَ‬
‫ّللا هذه األمة وفيها منافقوها ‪،‬‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُمونَ )فخلصه لالستقبال ‪ ،‬وهو يوم القيامة ‪ ،‬يحشر ه‬ ‫س ْو َ‬ ‫فَ َ‬
‫فإذا اتبعت كل أمة ما كانت تعبد ‪ ،‬ودخلت األمم النار ‪ ،‬ونصب الصراط على جسر جهنم ‪،‬‬
‫أتي بهؤالء المنافقين الذين أظهروا اإليمان بألسنتهم ‪ ،‬وصلوا وصاموا وقاموا بفروع الشريعة‬
‫ّللا تعالى حتى [ انفهقت ] « * » لهم الجنة‬ ‫في الصورة الظاهرة كما قام المؤمنون ‪ ،‬أتى بهم ه‬
‫بما تحويه من الخير والسرور ‪ ،‬فتنعموا برؤيتها‬

‫] ‪( * ) [ . . .‬جاءت في األصل وفي الفتوحات المكية في الباب األخير ‪ ،‬باب الوصايا ‪،‬‬
‫الوصية رقم ‪ ( 58‬انفقهت ) والصواب ( انفهقت )‪.‬‬
‫ص ‪69‬‬

‫ص ‪69 :‬‬
‫لغيره مما نصبوه بأيديهم وأيدي من هو من جنسهم إلها ‪ ،‬وظهر لهم عجزه مما يزيد في‬
‫شقاوتهم‪.‬‬
‫[ تنبيه في الذكر ]‬
‫‪-‬نبيه ‪ :‬إذا ذكرت فاعلم بلسان من تذكر ‪ ،‬وإذا تلوت فاعلم بلسان من تتلو ‪ ،‬وما تتلو ‪ ،‬وعمن‬
‫تترجم ‪.‬‬
‫ّللا« آ َمنَّا »حكاية عن‬ ‫مثال ذلك قوله تعالى ‪َ «:‬وإِذا لَقُوا الَّذِينَ آ َمنُوا قالُوا »إلى هنا قول ه‬
‫َياطينِ ِه ْم قالُوا »إلى هنا قول ه‬
‫ّللا« ِإنَّا َمعَ ُك ْم ِإنَّما ن َْح ُن ُم ْست َ ْه ِزؤُنَ‬ ‫المنافقين« َو ِإذا َخلَ ْوا ِإلى ش ِ‬
‫ّللا من قول ما يحكيه لفظا أو معنى‬ ‫»حكاية فهكذا فلتعرف األمور إذا وردت ‪ ،‬حتى يعلم قول ه‬
‫ّللا قد ترجم لنا قول أقوام مثل فرعون وغيره باللسان العربي‬ ‫كل إنسان بما هو عليه ‪ ،‬فإن ه‬
‫والمعنى واحد ‪ ،‬فهذه الحكاية على المعنى‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وظنوا أنهم داخلوها ‪ ،‬فكانت تلك النظرة والفرح الذي قام لهم بالطمع بدخلوها جزاء لما جاءوا‬
‫به من األعمال الظاهرة ‪ ،‬ظاهرا بظاهر ‪ ،‬عدال منه سبحانه ‪ ،‬فإذا طابق الجزاء أعمالهم‬
‫ّللا بينهم وبين الجنة سورا باطنه‬ ‫وأخذوا حقهم ‪ ،‬وهم ال يعلمون أنهم يصرفون عنها ‪ ،‬ضرب ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا بهم وسخرية ه‬ ‫الجنة ‪ ،‬وظاهره من قبله العذاب ‪ ،‬فيؤمر بهم إلى النار ‪ ،‬فهذا هو استهزاء ه‬
‫بهم ‪ ،‬فجمع سبحانه في هذا الفعل الواحد بين العدل واالستهزاء ‪ ،‬كما جمعوا بين اإلسالم‬
‫والكفر ‪ ،‬وليس للمنافقين من النار إال الدرك األسفل ‪ ،‬وهي النار التي تطلع على األفئدة ‪ ،‬قال‬
‫ار )وليس لهم في أعالها مكان إال على قدر‬ ‫تعالى( ِإ َّن ْال ُمنافِ ِقينَ فِي الد َّْر ِك ْاأل َ ْسفَ ِل ِمنَ النَّ ِ‬
‫معاصيهم الظاهرة ‪ ،‬والكافر يتعذب في النار علوا وسفال ‪ ،‬بخالف المنافق ‪ ،‬وكلهم في جهنم‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ليس في الجنة موضع وال في النار موضع إال وله عمل‬ ‫جميعا ‪ ،‬وهذا من عدل ه‬
‫يطلبه من فعل وترك ‪ ،‬إال ما في الجنة من أمكنة االختصاص ‪ ،‬وليس في النار ذلك ‪ ،‬ولهذا ما‬
‫ورد في القرآن يختص بنقمته من يشاء ‪ ،‬وورد يختص برحمته من يشاء ‪ ،‬فالنار ينزل فيها‬
‫باألعمال ‪ ،‬والجنة ينزل فيها باألعمال واالختصاص اإللهي ‪ ،‬ولذا قال ( سبقت رحمتي‬
‫وّللا واسع الرحمة كما قال ‪ ،‬ولم يقل ذلك في النقمة ‪ ،‬فتحقق ما‬ ‫غضبي ) إلى االختصاص ‪ ،‬ه‬
‫ط ْغيانِ ِه ْم يَ ْع َم ُهونَ »يقول ‪ :‬يملي لهم مما هم فيه ‪ ،‬قال تعالى( ِإنَّما‬ ‫ذكرناه ‪ ،‬ثم قال « َويَ ُم ُّد ُه ْم فِي ُ‬
‫ط ْغيا ِن ِه ْم »أي في‬ ‫نُ ْم ِلي لَ ُه ْم ِليَ ْزدادُوا ِإثْما ا )( َو ْالبَ ْح ُر يَ ُم ُّدهُ ِم ْن بَ ْع ِد ِه َ‬
‫س ْبعَةُ أ َ ْب ُح ٍر )وقوله« ِفي ُ‬
‫تغاليهم ‪ ،‬أي فيما ارتفعوا فيه من الضاللة في بواطنهم إذا كانوا مع المؤمنين ‪ ،‬وفي ظواهرهم‬
‫طغَى‬‫إذا كانوا مع أشكالهم من شياطينهم ‪ ،‬من طغى الماء إذا ارتفع وزاد على حده( إِنَّا لَ َّما َ‬
‫ْالما ُء َح َم ْلنا ُك ْم )أي ارتفع ‪ ،‬وقوله تعالى« يَ ْع َم ُهونَ »أي يحارون ‪ ،‬والعمة الحيرة والضالل ‪،‬‬
‫ص ‪70‬‬

‫ص ‪70 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪16‬‬
‫ِين ( ‪ «) 16‬أُولئِ َك‬ ‫ضللَةَ ِبا ْل ُهدى فَما َر ِب َحتْ تِ َ‬
‫جارت ُ ُه ْم َوما كانُوا ُم ْهتَد َ‬ ‫شت َ َر ُوا ال ه‬ ‫أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين ا ْ‬
‫الَّذِينَ ا ْشت َ َر ُوا الضَّاللَةَ ِب ْال ُهدى » ‪:‬أي باعوا الهدى بالضاللة ‪ ،‬واشتروا الحيرة بالبيان فخسروا‬
‫جارت ُ ُه ْم َوما كانُوا ُم ْهتَدِينَ »المؤمن ممدوح في القرآن بالتجارة والبيع فيما يملك‬ ‫ت ِت َ‬ ‫‪ «.‬فَما َر ِب َح ْ‬
‫على‬ ‫ّللا )وقال تعالى ‪ ( :‬ه َْل أَدُلُّ ُك ْم َ‬ ‫ع ْن ِذ ْك ِر َّ ِ‬ ‫بيعه ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬ال ت ُ ْل ِهي ِه ْم تِ َ‬
‫جارة ٌ َوال بَ ْي ٌع َ‬
‫ّللا ا ْشتَرى ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم‬ ‫اّلل )وقال تعالى ‪ ( :‬إِ َّن َّ َ‬ ‫ب أ َ ِل ٍيم تُؤْ ِمنُونَ بِ َّ ِ‬ ‫جارةٍ ت ُ ْن ِجي ُك ْم ِم ْن َ‬
‫عذا ٍ‬ ‫تِ َ‬
‫ّللا في المؤمن بأنه يشتري خاصة ‪ ،‬وما وصف الشراء في‬ ‫َوأ َ ْموالَ ُه ْم بِأ َ َّن لَ ُه ُم ْال َجنَّةَ )وما صرح ه‬
‫ّللا عن جناية فقال ‪ «:‬أُولئِ َك الَّذِينَ ا ْشت َ َر ُوا الضَّاللَةَ ِب ْال ُهدى »والسبب في‬ ‫القرآن إال من أشهدهم ه‬
‫ّللا في أرضه الذي هو‬ ‫ّللا ‪ ،‬وملكه جميع ما خلق ه‬ ‫ّللا بالشراء فإنه خلقه ه‬ ‫أن المؤمن ما وصفه ه‬
‫ض َج ِميعا ا )فجميع ما في األرض ملكه فما بقي له ما‬ ‫مسكنه ومحله( َخلَقَ لَ ُك ْم ما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا‬
‫يشتريه ‪ ،‬وحجر عليه الضاللة وهي صفة عدمية ‪ ،‬فإنها عين الباطل وهو عدم ‪ ،‬ولم يأمرنا ه‬
‫باتباعه فإذا اشترينا الضاللة فقد اخترنا العدم على الوجود ‪ ،‬والباطل على الحق الذي خلقنا له‬
‫ّللا ما هو مباح‬ ‫‪ ،‬فلم يوصف المؤمن بالشراء ‪ ،‬وشرع له البيع فيما أبيح له بيعه ‪ ،‬ومما ملكه ه‬
‫له ‪ ،‬وما هو واجب عليه أن ال يخرجه وال يبيعه ‪ ،‬فكأن المؤمن ملك حلة اإلباحة ‪ ،‬وحلة‬
‫الوجوب ‪ ،‬فخلع عن نفسه حلة اإلباحة ‪ ،‬ولبس حلة الوجوب ‪ ،‬وكالهما له ‪ ،‬فسمى خلعه لها‬
‫بيعا ‪ ،‬وما سمى لباسه للوجوب شراء ‪ ،‬فإنها ملكه ورحله ومتاعه واإلنسان ال يشتري ما يملكه‬
‫ّللا الضاللة على خلقه ورجح من‬ ‫‪ ،‬ولما حجر ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫قوله «) ‪( 17‬أُولئِ َك الَّذِينَ ا ْشت َ َر ُوا الضَّاللَةَ »اآلية ‪ ،‬أوالء حرف إشارة ‪ ،‬أشار بها إلى كل من‬
‫ّللا تعالى عنهم أنهم« ا ْشت َ َر ُوا الضَّاللَةَ ِب ْال ُهدى »دل‬ ‫تقدم ذكره من منافق وكافر ‪ ،‬وأما إخبار ه‬
‫على أنه كان عندهم هدى باعوه بهذه الضاللة ‪ ،‬وأن الذين اشتروا منهم الهدى كان عندهم‬
‫ضاللة ‪ ،‬فالترجمة عن ذلك ‪ ،‬كل مولود يولد على الفطرة ‪ ،‬وأبواه هما اللذان يهودانه أو‬
‫ينصرانه أو يمجسانه ‪ ،‬والفطرة التي فطر الناس عليها هي اإلقرار منهم هّلل بالربوبية عليهم في‬
‫على أ َ ْنفُ ِس ِه ْم أ َ لَ ْستُ ِب َر ِبه ُك ْم‬
‫ور ِه ْم ذُ ِ هريَّت َ ُه ْم َوأ َ ْش َه َد ُه ْم َ‬ ‫قوله تعالى( َو ِإ ْذ أ َ َخذَ َرب َُّك ِم ْن بَنِي آ َد َم ِم ْن ُ‬
‫ظ ُه ِ‬
‫قالُوا بَلى )فهذا هو الهدى ‪،‬‬
‫ص ‪71‬‬

‫ص ‪71 :‬‬
‫رجح منهم الضاللة على الهدى اشتروا« الضَّاللَةَ »فإنهم لم يكونوا يملكونها «بِ ْال ُهدى »الذي‬
‫ّللا ما شرع لعباده‬ ‫جارت ُ ُه ْم َوما كانُوا ُم ْهتَدِينَ »في ذلك الشراء ألن ه‬ ‫ّللا إياه« فَما َر ِب َح ْ‬
‫ت تِ َ‬ ‫ملكهم ه‬
‫الشراء فاعتبر الحق جانب البيع ولم يعتبر في حق المؤمن جانب االبتياع ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ :)2‬آية ‪17‬‬


‫ور ِه ْم َوت َ َر َك ُه ْم فِي ُ‬
‫ظلُما ٍ‬
‫ت ال‬ ‫ّللاُ بِنُ ِ‬
‫ب ه‬ ‫ست َ ْوقَ َد نارا ً فَلَ هما أَضا َءتْ ما َح ْولَهُ ذَ َه َ‬
‫َمثَلُ ُه ْم َك َمث َ ِل الهذِي ا ْ‬
‫ون ) ‪( 17‬‬ ‫يُ ْب ِص ُر َ‬
‫ّللا أعدم النور من أبصارهم ‪ ،‬وتركهم‬ ‫ّللا بنوره أي أزاله عن أبصارهم أي أن ه‬ ‫ذهب ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫كان بأيديهم ‪ ،‬وما من هدى إال وفي مقابلته ضاللة ‪ ،‬وهو تركه ‪ ،‬فجاء المؤمنون الذين بقوا‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫على هداهم ‪ ،‬أو رجعوا إلى هداهم بإجابتهم دعوة الحق بلسان الرسول صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فأخذ المؤمنون هداهم وعوضهم عن ذلك‬ ‫حين دعاهم ‪ ،‬وجاء الذين لم يجيبوا داعي ه‬
‫عوضوا‬ ‫الضالل الذي في مقابلة هداهم لو لم يهتدوا ‪ ،‬فض هل هؤالء الذين اشتروا الضاللة بما ه‬
‫به زيادة على ضاللتهم ‪ ،‬قال تعالى( فَزا َدتْ ُه ْم ِر ْجسا ا ِإلَى ِر ْج ِس ِه ْم )يعني هذه الصفقة ‪ ،‬وهي‬
‫السورة المنزلة ‪ ،‬وازداد المؤمنون هدى إلى هداهم ‪ ،‬قال تعالى ( َوالَّذِينَ ا ْهت َ َد ْوا )يعني بهداهم‬
‫ى )وهو الهدى الذي باعه الكفار منهم ‪ ،‬فكان للمؤمنين نور على نور‬ ‫الذي كان لهم( زا َد ُه ْم ُهد ا‬
‫‪ ،‬وكان للكافرين ظلمات بعضها فوق بعض ‪ ،‬فهم في ظلمات ال يبصرون ‪ ،‬والمؤمنون نورهم‬
‫جارت ُ ُه ْم َوما كانُوا ُم ْهتَدِينَ »أي‬ ‫ت تِ َ‬ ‫يسعى بين أيديهم ‪ ،‬فقال تعالى في صفة الكفار« فَما َربِ َح ْ‬
‫سفَها ُء )وأي صفة‬ ‫خسروا في متجرهم لكونهم سفهاء ‪ ،‬وهو تأكيد لقوله تعالى( أَال ِإنَّ ُه ْم ُه ُم ال ُّ‬
‫أعظم من سفه تاجر ال يدري كيف يحفظ رأس ماله ‪ ،‬الذي هو الدين هنا ‪ ،‬قال تعالى( ه َْل‬
‫ب أ َ ِل ٍيم )قيل وما هي ؟‬ ‫عذا ٍ‬‫جار ٍة ت ُ ْن ِجي ُك ْم ِم ْن َ‬
‫على ِت َ‬ ‫أَدُلُّ ُك ْم َ‬
‫ّللا ) فأبوا واختاروا العمى على الهدى ‪،‬‬ ‫سو ِل ِه َوتُجا ِهدُونَ فِي َ‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫اّلل َو َر ُ‬ ‫قال‪( :‬تُؤْ ِمنُونَ بِ َّ ِ‬
‫واشتروا الكفر باإليمان من المؤمنين ‪ ،‬ليزداد المؤمنون إيمانا مع إيمانهم ‪ ،‬قال تعالى( ِليَ ْزدادُوا‬
‫ور ) ‪،‬فقوله« َوما كانُوا ُم ْهتَدِينَ »هنا ‪ ،‬أي ما رشدوا‬ ‫ِإيمانا ا َم َع ِإيمانِ ِه ْم )( يَ ْر ُجونَ تِ َ‬
‫جارة ا لَ ْن تَبُ َ‬
‫ّللا تعالى ضرب لنا فيهم إذا لقوا المؤمنين مثال ‪،‬‬ ‫وال اتخذوا سبيل الرشد سبيال ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫وضرب لنا مثال آخر فيهم وفيما أنزل من القرآن ‪ ،‬فقال تعالى ( ‪َ «) 18‬مثَلُ ُه ْم َك َمث َ ِل الَّذِي‬
‫ْص ُرونَ »هذا هو‬ ‫ت ال يُب ِ‬ ‫ظلُما ٍ‬ ‫ور ِه ْم َوت َ َر َك ُه ْم فِي ُ‬
‫ّللاُ بِنُ ِ‬
‫َب َّ‬‫ت ما َح ْولَهُ ذَه َ‬ ‫ا ْست َ ْوقَ َد نارا ا فَلَ َّما أَضا َء ْ‬
‫المثل األول ‪ ،‬قوله« َمثَلُ ُه ْم َك َمث َ ِل »أي صفتهم كصفة« الَّذِي ا ْست َ ْوقَ َد نارا ا »ومنه( َمث َ ُل ْال َجنَّ ِة‬
‫الَّتِي ُو ِع َد ْال ُمتَّقُونَ )أي صفة‬
‫ص ‪72‬‬

‫ص ‪72 :‬‬
‫في ظلمات ال يبصرون ‪ .‬فأصحاب الشهوات في هذه الظلمات تائهون ‪ ،‬كما أن أصحاب‬
‫الحضور التام في األنوار ينعمون ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪18‬‬


‫ون ) ‪( 18‬‬‫ي فَ ُه ْم ال يَ ْر ِجعُ َ‬
‫ص ٌّم بُ ْك ٌم ع ُْم ٌ‬
‫ُ‬
‫وصف الحق هؤالء الناس بذلك الوصف فهم صم وإن كانوا يسمعون ‪ ،‬بكم وإن كانوا يتكلمون‬
‫ّللا به ‪ ،‬بكم عن الكالم بالحق ‪ ،‬عمي‬‫‪ ،‬عمي وإن كانوا يبصرون ‪ ،‬صم عن سماع ما ذكرهم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهم صم فلم يسمعوا فلم يرجعوا ‪ ،‬فإنهم لم يعقلوا ما سمعته آذانهم ‪،‬‬ ‫عن النظر في آيات ه‬
‫وما سمع من سمع منهم إال دعاء ونداء ‪ ،‬وهو قوله ‪ :‬يا فالن وما سمع أكثر من ذلك« فَ ُه ْم ال‬
‫يَ ْر ِجعُونَ »لما سمعوا ‪ ،‬وال يرجعون في االعتبار إلى ما أبصروا ‪ ،‬وال في الكالم إلى الميزان‬
‫الذي به خوطبوا ‪ ،‬فال يرجعون عندما يبصرون ‪ ،‬وال يعقلون عندما يسمعون ‪ ،‬وال يصيبون‬
‫عندما يتكلمون‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّلل ْال َمث َ ُل ْاألَعْلى )أي الوصف ‪ ،‬فقال ‪ :‬مثلهم إذا لقوا المؤمنين ‪ -‬قد يمكن أن‬ ‫الجنة ‪ ،‬ومنه( َو ِ َّ ِ‬
‫يكون اللقاء هنا منهم عن قصد ‪ -‬ليؤكدوا عندهم إيمانهم ‪ ،‬فإن المؤمن الحقيقي يدل بإيمانه ‪،‬‬
‫يطلع على ما في باطنه ‪ ،‬فتراه أبدا يحرص على‬ ‫والذي في قلبه خالف ما تلفظ به يتخيل أنه ه‬
‫إظهار اإليمان ابتداء من غير استدعاء ‪ ،‬ليؤكد عند السامع أنه بتلك الصفة ‪ ،‬وإن كان من لقيك‬
‫فقد لقيته ‪ ،‬ولكن ما قال ‪ :‬إذا لقيهم المؤمنون ‪ ،‬ويؤكد ما ذهبنا إليه ما ذكره في التشبيه في‬
‫قوله« َك َمث َ ِل الَّذِي ا ْست َ ْوقَ َد نارا ا »وما قال ‪ :‬كمثل الذي وجد نارا ‪ ،‬والوقود من الواقد ال يكون‬
‫إال بقصد ‪ ،‬فلهذا رجحنا أن اللقاء كان عن قصد لما ذكرناه ‪ ،‬فقال تعالى ‪ :‬مثلهم إذا لقوا‬
‫المؤمنين كمثل من استوقد نارا ‪ ،‬أي أوقد ‪ ،‬أو طلب وقود نار ‪ ،‬وهو ما يشرعون فيه مع‬
‫المؤمنين إذا لقوهم من قولهم( آ َمنَّا )فما داموا مجتمعين على ذكر اإليمان وفضائله ‪ ،‬هو قوله«‬
‫ت ما َح ْولَهُ »في التشبيه وقال ‪ :‬ما حوله ولم يقل فيه ‪ ،‬ألنه ما عنده من اإليمان إال ذكره‬ ‫أَضا َء ْ‬
‫‪ ،‬ليس فيه منه شيء ‪ ،‬ولذلك عصم ظاهره ‪ ،‬فإنه حوله ‪ ،‬ولم يعصم باطنه ‪ ،‬فإنه ليس فيه‬
‫إيمان ‪ ،‬ثم شبه انصراف المؤمنين عنهم فينصرف نور ذكر اإليمان النصرافهم بقوله« ذَه َ‬
‫َب‬
‫ور ِه ْم »ثم شبه رجوعهم إلى أنفسهم وشياطينهم من أمثالهم بقوله « َوت َ َر َك ُه ْم »يعني‬ ‫ّللاُ ِبنُ ِ‬
‫َّ‬
‫ْص ُرونَ »يقول في طغيانهم ال يهتدون ‪ ،‬ألنه‬ ‫ت ال يُب ِ‬ ‫المنافقين بانصراف النور عنهم« فِي ُ‬
‫ظلُما ٍ‬
‫ص ٌّم »عن سماع‬ ‫من ال يبصر ال يهتدي ‪ ،‬وال يعلم ما حدث له في طريقة ‪ ،‬ثم قال ( ‪ُ «) 19‬‬
‫ي»‬ ‫داعي الحق «بُ ْك ٌم »ال يتكلمون في حق« ُ‬
‫ع ْم ٌ‬
‫ص ‪73‬‬

‫ص ‪73 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪19‬‬
‫ق‬ ‫ون أَصا ِبعَ ُه ْم فِي آذانِ ِه ْم ِم َن ال ه‬
‫صوا ِع ِ‬ ‫ق يَجْ عَلُ َ‬
‫ظلُماتٌ َو َر ْع ٌد َوبَ ْر ٌ‬ ‫ماء فِي ِه ُ‬
‫س ِ‬ ‫ب ِم َن ال ه‬ ‫أ َ ْو َك َ‬
‫ص ِيه ٍ‬
‫ين ) ‪( 19‬‬ ‫ّللاُ ُم ِحي ٌ‬
‫ط ِبا ْلكافِ ِر َ‬ ‫ت َو ه‬ ‫َحذَ َر ا ْل َم ْو ِ‬
‫الصواعق هواء محترق ‪ ،‬والبروق هواء مشتعل تحدثه الحركة الشديدة ‪ ،‬والرعود هو هبوب‬
‫يط بِ ْالكافِ ِرينَ »وهي إحاطة عامة ‪ ،‬فهي األخذ‬ ‫ّللاُ ُم ِح ٌ‬
‫الهواء تصدع أسفل السحاب إذا تراكم« َو َّ‬
‫الكلي من غير تقييد بجهة خاصة ‪ ،‬لكن هو أخذ بتقييد صفة وهو الكفر‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ْص ُرونَ )وقال‬ ‫ظ ُرونَ ِإلَي َْك َو ُه ْم ال يُب ِ‬ ‫ال ينظرون في األشياء نظر اعتبار ‪ ،‬كما قال( َوتَرا ُه ْم يَ ْن ُ‬
‫يب الَّذِينَ يَ ْس َمعُونَ ) ‪،‬ثم قال« فَ ُه ْم ال يَ ْر ِجعُونَ »إلى طريق الهدى ‪ ،‬ألن ه‬
‫ّللا‬ ‫تعالى( ِإنَّما يَ ْست َ ِج ُ‬
‫ظلُ ٌ‬
‫مات‬ ‫ماء فِي ِه ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ب ِمنَ ال َّ‬ ‫ختم على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم ‪ ،‬قوله ( ‪ «) 20‬أ َ ْو َك َ‬
‫ص ِيه ٍ‬
‫يط بِ ْالكافِ ِرينَ‬
‫ّللاُ ُم ِح ٌ‬
‫ت َو َّ‬ ‫ق َحذَ َر ْال َم ْو ِ‬ ‫صوا ِع ِ‬ ‫َو َر ْع ٌد َوبَ ْر ٌق يَ ْجعَلُونَ أَصابِعَ ُه ْم فِي آذانِ ِه ْم ِمنَ ال َّ‬
‫»أتى بأو للتشكيك اتساعا ‪ ،‬فعدلوا بها عن الشك ‪ ،‬واألولى أن ال يعلل كالم العرب مثل هذا ‪،‬‬
‫بل يقال ‪:‬‬
‫ترد في اللسان للشك ‪ ،‬وترد للتخيير ‪ ،‬وكالهما لغة ‪ ،‬تقول جالس فالنا أو فالنا ‪ ،‬فمعناه انظر‬
‫في هذا المثل إن شئت ‪ ،‬أو في هذا المثل إن شئت ‪ ،‬أو فيهما ‪ ،‬فالمشبهه الكتاب المذكور في‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬والمشبهه به الصيهب ‪ ،‬الذي هو المطر‬ ‫أول السورة الذي أنزل إليه صلهى ه‬
‫المنحدر من السماء ‪ ،‬وهو السحاب هنا ‪ ،‬نزل به الروح األمين على قلب محمد ‪ ،‬وشبهه القرآن‬
‫في حياة القلوب به للمؤمنين بالمطر الذي به حياة األرض ‪ ،‬ثم قال« فِي ِه »يعود الضمير على‬
‫ت »شبه بها ما يحوي عليه القرآن من األخبار التي أخبر الحق بها‬ ‫ظلُما ٍ‬ ‫السماء وهو السحاب« ُ‬
‫ّللا ُه َو ْال َم ِسي ُح اب ُْن َم ْريَ َم )‬
‫ّللا َوأ َ ِحبَّا ُؤهُ )و( ِإ َّن َّ َ‬
‫ير )و (ن َْح ُن أَبْنا ُء َّ ِ‬
‫ّللا فَ ِق ٌ‬
‫عن الكفار من قولهم( ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َم ْغلُولَةٌ )فهذه األقوال ظلمات القرآن« َو َر ْع ٌد »ما فيه من اآليات الزواجر« َوبَ ْر ٌق‬ ‫*و( يَ ُد َّ ِ‬
‫وّللا أعلم في‬ ‫»ما فيه من اآليات الدالة على التوحيد والتنزيه ‪ ،‬والذي وقع التشبيه بها هنا ه‬
‫البرق إنما هي آيات مكارم األخالق وصنائع المعروف التي هي محبوبة لكل نفس ‪ ،‬ولذا قال‬
‫تعالى( ُكلَّما أَضا َء لَ ُه ْم َمش َْوا فِي ِه )والكافر ال تضيء له آية التوحيد حتى يمشي فيها ‪ ،‬وإنما ذلك‬
‫ق‬‫صوا ِع ِ‬ ‫آيات الوعد والرغبة ومكارم األخالق ‪ ،‬وقوله« يَ ْجعَلُونَ أَصا ِبعَ ُه ْم فِي آذانِ ِه ْم ِمنَ ال َّ‬
‫»من أجل سماع اآليات الزواجر ‪ ،‬جمع صاعقة أي سماع هذه اآليات يجعلهم يصعقون‬
‫ويخافون الصعق لئال يكون فيه موتهم ‪ ،‬أي تنصدع قلوبهم بما سمعوه ‪ ،‬كما اتفق لبعض‬
‫ّللا عليه وسلم يتلو ( فإن أعرضوا فقد أنذرتكم‬ ‫زعماء المشركين وذلك أنه لما سمع النبي صلهى ه‬
‫ص ‪74‬‬

‫ص ‪74 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪20‬‬
‫صار ُه ْم ُكلهما أَضا َء لَ ُه ْم َمش َْوا فِي ِه َو ِإذا أ َ ْظلَ َم َ‬
‫علَ ْي ِه ْم قا ُموا َولَ ْو شا َء ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ف أ َ ْب َ‬
‫ق يَ ْخ َط ُ‬ ‫يَكا ُد ا ْلبَ ْر ُ‬
‫ِير ( ‪) 20‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫س ْم ِع ِه ْم َوأ َ ْب ِ‬
‫صار ِه ْم ِإ هن ه َ‬
‫ّللا عَلى ُك ِ هل َ‬ ‫ب ِب َ‬ ‫لَذَ َه َ‬
‫ّللا ال يجب عليه فعلها وال تركها ‪ ،‬ولهذا جعل المشيئة‬ ‫ّللاُ »من نسبة األفعال إلى ه‬ ‫« َولَ ْو شا َء َّ‬
‫في ذلك وعلقها بلو فامتنع عن نفوذ االقتدار ‪ ،‬وهذا موضع إبهام ال يفتح أبدا ‪ ،‬فوصف الحق‬
‫نفسه بما يقوم الدليل العقلي على تنزيهه عن ذلك ‪ ،‬فما يقبله إال بطريق اإليمان والتسليم ‪ ،‬فإنه‬
‫باّلل ‪ ،‬فإذا علمت‬ ‫سبحانه قيد مشيئته وإرادته بلو ‪ ،‬وهو حرف امتناع فيه سر خفي ألهل العلم ه‬
‫ِير‬ ‫على ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫ّللا ‪ ،‬فالكل بيده وإليه يرجع األمر كله « ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫هذا أقمت عذر العالم عند ه‬
‫»باإليجاد ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪21‬‬


‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم لَعَله ُك ْم تَتهقُ َ‬
‫ون ( ‪) 21‬‬ ‫يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫اس ا ْعبُدُوا َربه ُك ُم الهذِي َخلَقَ ُك ْم َوالهذ َ‬

‫صا ِعقَةا ِمثْ َل صا ِعقَ ِة عا ٍد َوث َ ُمو َد )ضرط وتخبط في عقله ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن هذا كالم جبار ‪ ،‬ثم‬
‫يط ِب ْالكافِ ِرينَ »باألخذ ‪ ،‬من أحاط بهم العدو ‪ ،‬فال يجدون مفلتا وال منقذا ‪ ،‬قال‬ ‫ّللاُ ُم ِح ٌ‬ ‫قال « َو َّ‬
‫ط ِبث َ َم ِر ِه )فالمثل األول في المنافقين ‪ ،‬وهذا المثل اآلخر‬ ‫ط ِب ِه ْم ) ( َوأ ُ ِحي َ‬‫ظنُّوا أَنَّ ُه ْم أ ُ ِحي َ‬ ‫تعالى( َو َ‬
‫ف أَب َ‬
‫ْصار ُه ْم‬ ‫ط ُ‬ ‫في الجميع ‪ ،‬وفي نزول القرآن وما يحويه ‪ ،‬ثم قال ( ‪ «) 21‬يَكا ُد ْالبَ ْر ُق يَ ْخ َ‬
‫ُكلَّما أَضا َء لَ ُه ْم َمش َْوا فِي ِه »يقول ‪ :‬يكاد ما يسمعونه من آيات الوعد والتحضيض على مكارم‬
‫ْصار ُه ْم »عن العمى ‪ ،‬ويردهم إلى الحق مما يفرحون بسماعه ‪ ،‬ثم قال «‬ ‫ف أَب َ‬ ‫ط ُ‬ ‫األخالق« يَ ْخ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم قا ُموا »يقول ‪:‬‬ ‫ظلَ َم َ‬ ‫َو ِإذا أ َ ْ‬
‫وإذا سمعوا اآليات التي حكاها الحق عنهم رجعوا إليها وقاموا على دينهم وكفرهم ‪ ،‬أي ثبتوا«‬
‫ْصار ِه ْم »عن الباطل ‪ ،‬وعن رؤية الظلمات إلى الحق وإلى‬ ‫س ْم ِع ِه ْم َوأَب ِ‬ ‫َب ِب َ‬ ‫ّللاُ لَذَه َ‬ ‫َولَ ْو شا َء َّ‬
‫ِير »أي على كل مقدور ‪،‬‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ّللا لهداهم ‪ «،‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫النور ‪ ،‬كأنه يقول ‪ :‬ولو شاء ه‬
‫أن يوجده إن كان معدوما ‪ ،‬أو يعدمه إن كان موجودا ‪ ،‬قال تعالى( ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم ) *إعدام‬
‫يز ) *بممتنع ‪ ،‬قوله ( ‪22‬‬ ‫علَى َّ ِ‬
‫ّللا ِبعَ ِز ٍ‬ ‫ق َجدِي ٍد ) *إيجاد المعدوم( َوما ذ ِل َك َ‬ ‫ت ِبخ َْل ٍ‬ ‫الموجود( َويَأ ْ ِ‬
‫اس ا ْعبُدُوا‬ ‫)« يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫ص ‪75‬‬

‫ص ‪75 :‬‬
‫ّللا بأحد في كتابه فكن أنت ذلك المؤيه به ‪ ،‬فإن أخبر فافهم واعتبر ‪ ،‬فإنه ما‬ ‫" يا أَيُّ َها" إذا أيه ه‬
‫أيه بك إال لما سمعت ‪ ،‬وإن أمرك أو نهاك فامتثل ‪ ،‬وما ثم قسم رابع ‪ ،‬إنما هو خبر أو أمر أو‬
‫نهي ‪ ،‬وأنزله تعالى في خطابه إياك منزلة األم في الشفقة ‪ ،‬فتلقهى منه بالقبول ما يورده عليك ‪،‬‬
‫فإنه ما خاطبك إال لينفعك ‪ ،‬وكن أنت المخاطب في خطاب الحق بسمعك ال بسمع الحق ‪ ،‬فإنه‬
‫اس ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم الَّذِي َخلَقَ ُك ْم َوالَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم »أي األسباب‬
‫ال يأمر نفسه وال ينهاها« يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫التي وجدتم عندها« لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ »ثم قال لمن يرى أنا وجدنا باألسباب ال عندها‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫َربَّ ُك ُم الَّذِي َخلَقَ ُك ْم َوالَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ »نادى الشاردين من عباده الذين تمادوا في‬
‫إعراضهم عن توحيد خالقهم ‪ ،‬فإن لفظة « يا » في النداء وضعت للبعد ‪ ،‬وكذلك ( أيا ) و (‬
‫سر يأتي‬ ‫هيا ) كما أن الهمزة وأي للقرب ‪ ،‬وأي حرف مبهم ‪ ،‬والهاء للتنبيه ‪ ،‬وال بد من مف ه‬
‫بعد « يا أيها » فكان الناس هنا ‪ ،‬فقال« يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫اس ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم »أي تذللوا وأطيعوا‬
‫مصلحكم ومربيكم ‪ ،‬تعريفا بالنعم« الَّذِي َخلَقَ ُك ْم »أوجدكم« َوالَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم »وخلق من قبلكم‬
‫‪ ،‬فذكر الخلق تنبيها العتكافهم على عبادة آلهة ال يخلقون شيئا وهم يخلقون ‪ ،‬قال تعالى( أ َ فَ َم ْن‬
‫يَ ْخلُ ُق َك َم ْن ال يَ ْخلُ ُق أ َ فَال تَذَ َّك ُرونَ ) ‪،‬فلما تمدح بالخلق دل من مضمون الكالم أن ال خالق‬
‫لألشياء كلها إال هو ‪ ،‬من أفعال العباد وغيرها ‪ ،‬ولو كانت أفعال العباد خلقا لهم ‪ ،‬لم يكن ذكره‬
‫للخلق تمدحا خاصا لوقوع االشتراك ‪ ،‬فتحقق مذهب أهل الحق في أن ال موجد وال فاعل إال‬
‫هو ‪ ،‬وقوله« َوالَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم »أي أنها مخلوقة له أيضا تأكيد لما ذكرناه ‪ ،‬ومن قبلنا كل من‬
‫ّللا ‪ ،‬من عقول ونفوس وأجسام وجسمانيات ‪ ،‬فإن كثيرا من‬ ‫تقدمنا في الخلق من مخلوقات ه‬
‫ّللا أن الكل من خلقه‬ ‫الناس يضيفون األفعال بطريق اإليجاد إلى نفوس األفالك والعقول ‪ ،‬فبيهن ه‬
‫‪ ،‬ثم قال« لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ »لعل كلمة ترج وتوقع ‪ ،‬وكذلك عسى ‪ ،‬وهي من الكرماء واجبة ‪ ،‬ه‬
‫وّللا‬
‫أكرم األكرمين ‪ ،‬والعامل في هذا الترجي عند الجماعة( ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم )وما بعده ‪ ،‬وفيه بعد‬
‫لغموضه وما يحتاج إليه من التقدير فيه ‪ ،‬واألظهر عندي أن ضرب األمثال المتقدمة تطلبه‬
‫بقرائن األحوال ‪ ،‬ومدلول المعاني وسياق الكالم ‪ ،‬أي ضربنا لكم هذه األمثال لعلكم تتقون ‪،‬‬
‫أي تحذرون وتخافون ‪ ،‬فيردكم حذركم إلى الحق ‪ ،‬فيطابق معنى التقوى ‪ ،‬وال يظهر مثل هذا‬
‫في قوله( ا ْعبُدُوا َربَّ ُك ُم الَّذِي َخلَقَ ُك ْم )وال سيما ويأتي بعد تتقون ما يناسب األول ‪ ،‬وهو قوله(‬
‫ض ِفراشا ا )إلى‬ ‫الَّذِي َجعَ َل لَ ُك ُم ْاأل َ ْر َ‬
‫ص ‪76‬‬

‫ص ‪76 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪22‬‬
‫ت‬ ‫ماء ما ًء فَأ َ ْخ َر َ‬
‫ج ِب ِه ِم َن الث ه َمرا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫سما َء ِبنا ًء َوأ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬ ‫ض فِراشا ً َوال ه‬ ‫الهذِي َجعَ َل لَ ُك ُم ْاأل َ ْر َ‬
‫ون ( ‪) 22‬‬ ‫َّلل أ َ ْندادا ً َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ِر ْزقا ً لَ ُك ْم فَل تَجْ عَلُوا ِ ه ِ‬
‫ّللا وضع األسباب وجعلها‬ ‫« َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »أنه أوجد األسباب ‪ ،‬وأوجدكم عندها ال بها ‪ ،‬فإن ه‬
‫له كالح هجاب ‪ ،‬فهي توصل إليه تعالى كل من علمها ح هجابا ‪ ،‬وهي تصد عنه كل‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫قوله ( ِر ْزقا ا لَ ُك ْم )كلها من باب تقرير النعم التي أنعم بها على عباده ‪ ،‬فكأن «لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ‬
‫»صار مقحما ‪ ،‬وإن لم يسم مثل هذا مقحما ‪ ،‬ولكنه في المعنى كذلك ‪ ،‬وربما ال يعرف إنزال‬
‫هذه اللفظة في هذا الموضع وفصلها بين المناسبين إال من يعرف إعجاز القرآن ‪ ،‬وأما حرف‬
‫الترجي في هذه التقوى مع علمه بما يكون منهم ‪ ،‬فمثل قوله( َولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم َحتَّى نَ ْعلَ َم )وهو عالم‬
‫بما يكون منهم ‪ ،‬وغلهب المخاطب على الغائب في« لَعَلَّ ُك ْم »ألنه المقصود بالخطاب ‪ ،‬وهو‬
‫ّللا ‪ ،‬فينسحب هذا‬ ‫ّللا هو المخاطب وال يغيب شيء عن ه‬ ‫األوجه من طريق المعنى ‪ ،‬ألن ه‬
‫الخطاب على جميع المخلوقات من مضى ‪ ،‬ومن هو اآلن ‪ ،‬ومن يكون ‪ ،‬وبال شك أن من‬
‫يكون مخاطب بهذه اآلية وهو اآلن لم يكن ‪ ،‬ولكن ما جاء فيه بضمير الغائب ‪ ،‬وكذلك من قبلنا‬
‫‪ ،‬والكالم قديم ‪ ،‬والسامع محدث ‪ ،‬والمتكلم به كذلك ‪ ،‬قال تعالى( ما يَأ ْ ِتي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم ْن َر ِبه ِه ْم‬
‫ث )والذي جاءهم إنما هو المتكلم به ‪.‬‬ ‫ُم ْح َد ٍ‬
‫ض فِراشا ا »خص ذكر الفراش على المهاد والقرار‬ ‫ثم قال ( ‪ )« 23‬الَّذِي َجعَ َل لَ ُك ُم ْاأل َ ْر َ‬
‫والبساط للتوالد الذي يذكره فيما بعد ‪ ،‬من إخراج الثمرات بإنزال الماء من السماء في األرض‬
‫ض فِراشا ا‬ ‫‪ ،‬وذكر السماء بلفظة البناء لالبتناء ‪ ،‬فجعله شبيها بالنكاح فقال« الَّذِي َجعَ َل لَ ُك ُم ْاأل َ ْر َ‬
‫ماء ما اء »فعلى السماء على األرض وهي مفترشة قابلة ‪ ،‬فأنزل‬ ‫س ِ‬ ‫سما َء ِبنا اء َوأ َ ْنزَ َل ِمنَ ال َّ‬
‫َوال َّ‬
‫فيها الماء فاهتزت وتحركت وربت ‪ ،‬حملت شبه حمل المرأة «فَأ َ ْخ َر َج ِب ِه »أي بسبب هذا‬
‫ت »األلف والالم الستغراق الجنس« ِر ْزقا ا لَ ُك ْم »ما تغتذون به« فَال ت َ ْجعَلُوا‬ ‫النكاح« ِمنَ الث َّ َمرا ِ‬
‫ّلل »الذي خلق هذه األشياء كلها« أ َ ْندادا ا »آلهة تعبدونها ‪ ،‬مخلوقة تنحتونها بأيديكم ‪ ،‬أو‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ّللا هو خالقهم‬ ‫ّللا« َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »أنهم ال يخلقون شيئا وأن ه‬
‫تتخذون الكواكب وغيرها آلهة مع ه‬
‫وخالق كل شيء ‪ ،‬والند المثل المخالف المناوي ‪ ،‬وهذا ال يتصور إال فيمن يدهعي األلوهية ‪،‬‬
‫وّللا أعلم من ن هد أي‬ ‫كفرعون وغيره من الجبابرة ‪ ،‬ال في كل من يدهعى فيه األلوهية ‪ ،‬وهو ه‬
‫شرد ‪ ،‬فإنه شرد من موطن العبودة التي هي حقيقته إلى الربوبية التي ليس له منها وصف ‪،‬‬
‫وال له فيها قدم ‪ ،‬فلهذا سمي ندا ‪ ،‬فكأنه يقول لهم ‪ :‬من ن هد وادعى لكم أنه إله ‪ ،‬فال تجعلوه لي‬
‫ندا ‪ ،‬أي مثال ‪ ،‬قال عليه‬
‫ص ‪77‬‬

‫ص ‪77 :‬‬
‫ّللا من ورائها ‪ ،‬وأنها غير متصلة بخالقها‬‫من اتخذها أربابا ‪ ،‬فذكرت األسباب في إنبائها ‪ ،‬أن ه‬
‫‪ ،‬فإن الصنعة ال تعلم صانعها ‪ ،‬وال منفصلة عن رازقها ‪ ،‬فإنهها تأخذ عنه مضارها ومنافعها ‪،‬‬
‫فالعالقة بين األسباب والمسببات ال تنقطع ‪ ،‬فإنها الحافظة لكون هذا سببا ‪ ،‬وهذا مسببا عنه ‪،‬‬
‫فسببية السماء فيما يظهر على األرض من النبات من توجهها عليها بما تلقيه من الغيث فيها ‪،‬‬
‫وتلقيها ‪ ،‬كذلك كل حركة فلكية ونظر كوكب في العالم العلوي وإمداد الطبيعة ‪ ،‬كل ذلك أسباب‬
‫لوجود زهرة تظهر على وجه األرض ‪ ،‬والسبب الحادث قد يعلم أن أثره وحكمه في المسبهب‬
‫عن أمر إلهي فله فيه إرادة ‪ ،‬فهو سبب عرضي ‪ ،‬وقد ال يعلم أن أثره وحكمه في المسبب عن‬
‫ّللا ‪ ،‬وال عن‬
‫باّلل ال يصح عن ه‬
‫أمر إلهي فهو سبب ذاتي ‪ ،‬ومن جهة أخرى نقول ‪ :‬إن الغنى ه‬
‫المخلوقين من حيث العموم ‪ ،‬لكنه يصح من حيث تعيين مخلوق ما ‪ ،‬يمكن أن يستغنى عنه‬
‫ّللا ما وضع األسباب سدى ‪ ،‬فمنها أسباب ذاتية ال يمكن رفعها هنا ‪ ،‬ومنها أسباب‬ ‫بغيره ‪ ،‬فإن ه‬
‫عرضية يمكن رفعها ‪ ،‬فمن المحال رفع التأليف والتركيب عن الجسم ‪ ،‬مع بقاء حكم الجسمية‬
‫فيه ‪ ،‬فهذا سبب ال يمكن زواله إال بعدم عين الجسم من الوجود ‪ ،‬وإذا كانت األسباب األصلية‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ما وضعها إال وهو يعلم الحكمة في وضعها‬ ‫ال ترتفع فلنقر األسباب العرضية أدبا مع ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فال يرفع األسباب إال جاهل بالوضع اإللهي ‪،‬‬‫‪ ،‬وال نركن إليها ‪ ،‬ونبقي الخاطر معلقا ه‬
‫وال يثبت األسباب إال عالم كبير أديب في العلم اإللهي ‪ ،‬ومع ذلك يجب أن نعلم أن هّلل في كل‬
‫موجود وجها خاصا وفي كل ما وجد فيه ‪ ،‬وعن ذلك الوجه الخاص وجد ‪ ،‬وال يعرف السبب‬
‫ّللا خاصة وهو رقيقة الجود ‪،‬‬ ‫قط ذلك الوجه الخاص الذي لمسبهبه المنفعل عنه ‪ ،‬فال يعلمه إال ه‬
‫وكل خلق أضيف إلى خلق فمجاز وصورة حجابية ‪ ،‬ليعلم العالم من الجاهل ‪ ،‬وفضل الخلق‬
‫بعضهم على بعض‪.‬‬

‫[ كيفيته كون األرض فراشا ]‬


‫إشارة لطيفة ‪ -‬إن فهمت معاني القرآن ‪ ،‬وكيف جعل األرض فراشا ‪ ،‬وكيف خلق آدم منها ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬الولد للفراش يريد المرأة ‪ ،‬أي لصاحب الفراش ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫علمت قول رسول ه‬
‫كما كان آدم عليه السالم حيث جعله خليفة فيمن خلق فيها ‪ ،‬ليكون أيضا صاحب فراش ألنه‬
‫ّللا ما خلق األلفاظ‬
‫على صورة من أوجده ‪ ،‬فأعطاه قوة الفعل ‪ ،‬كما أعطاه قوة االنفعال ‪ ،‬فإن ه‬
‫حين عينها بالذكر سدى ‪ ،‬ولوال هذه الحكمة المطلوبة ال كتفي بالمهاد ولم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫السالم ‪ :‬من الكبائر أن تجعل هّلل ندا وهو خلقك ‪ ،‬فمن عجز عن الخلق فليس بإله ‪ ،‬فالخلق‬
‫أخص‬
‫ص ‪78‬‬

‫ص ‪78 :‬‬
‫يذكر الفراش ‪ ،‬فإن ذلك حرف جاء لمعنى وهو ما قلنا وال يقتصر ‪ ،‬فجعل سبحانه بين السماء‬
‫واألرض التحاما معنويا ‪ ،‬وتوجها لما يريد سبحانه أن يوجده في هذه األرض من المولدات ‪،‬‬
‫من معدن ونبات وحيوان ‪ ،‬فجعل األرض كاألهل ‪ ،‬والسماء كالبعل ‪ ،‬والسماء تلقي إلى‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬كما يلقي الرجل الماء بالجماع في المرأة ‪ ،‬وتبرز‬
‫األرض من األمر الذي أوحى ه‬
‫األرض عند اإللقاء ما خبأه الحق فيها من التكوينات على طبقاتها ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪23‬‬


‫ّللا‬ ‫ور ٍة ِم ْن ِمثْ ِل ِه َوا ْدعُوا ُ‬
‫ش َهدا َء ُك ْم ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫س َ‬‫ع ْبدِنا فَأْتُوا ِب ُ‬
‫ب ِم هما نَ هز ْلنا عَلى َ‬
‫َو ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم فِي َر ْي ٍ‬
‫ين ( ‪) 23‬‬ ‫ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬

‫[ إعجاز القرآن ]‬
‫انظر في إعجاز القرآن تجده حسن النظم ‪ ،‬مع توفير المعنى وحسن مساقه وجمع المعاني‬
‫بعضها إلى بعض من اللفظ الحسن النظم الوجيز ‪ ،‬مع وجود تكرار القصة الموجب للملل ‪،‬‬
‫وال تجد هذا في القرآن ‪ ،‬فتجد مع تكرار القصة الواحدة ‪ ،‬مثل قصص األمم كآدم وموسى‬
‫ونوح وغيرهم ‪ ،‬مما تكرر بزيادة لفظ أو نقصه ‪ ،‬ما تجد إخالال في المعنى جملة واحدة ‪،‬‬
‫وسبب ذلك أنه قول حق ‪ ،‬ما فيه تزوير‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أوصاف اإلله الذي تميز به عن عباده ‪ ،‬فليس لمخلوق خلق فعل أصال ‪ ،‬ثم قال «) ‪َ ( 24‬و ِإ ْن‬
‫ّللا ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ش َهدا َء ُك ْم ِم ْن د ِ‬
‫ُون َّ ِ‬ ‫ورةٍ ِم ْن ِمثْ ِل ِه َوا ْد ُ‬
‫عوا ُ‬ ‫س َ‬‫ع ْبدِنا فَأْتُوا ِب ُ‬ ‫ب ِم َّما ن ََّز ْلنا َ‬
‫على َ‬ ‫ُك ْنت ُ ْم فِي َر ْي ٍ‬
‫صا ِد ِقينَ »هذا خطاب لفصحاء العرب خاصة ‪ ،‬الذين يعرفون نظم الكالم العربي وإعجازه ‪،‬‬
‫يقول ‪ :‬إن كنتم في شك من القرآن أنه منزل على محمد عبدنا من عندنا ‪ ،‬عارضوه في سورة‬
‫مثله ‪ ،‬حتى تعرفوا أنه ليس في مقدور البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن ‪ ،‬ولو كان بعضهم‬
‫لبعض ظهيرا ‪ ،‬أي معينا من الجن واإلنس ‪ ،‬والظاهر في هذه المعجزة أنه ليس من مقدور‬
‫البشر ‪ ،‬ال أنهم صدوا مع القدرة قبل طلب المعارضة ‪ ،‬وهو الوجه اآلخر من اإلعجاز ‪،‬‬
‫فترجح الوجه الواحد بقوله« ن ََّز ْلنا »يؤيد ذلك( فَإِذا قَ َرأْناهُ فَات َّ ِب ْع قُ ْرآنَهُ )فهكذا أنزل عليه بهذه‬
‫ش َهدا َء ُك ْم‬ ‫عوا ُ‬‫األلفاظ المخصوصة ‪ ،‬فإن لم تقدروا ‪ ،‬كما أنه خارج عن مقدور عبدنا ‪َ «،‬وا ْد ُ‬
‫ّللا »يأتونكم بمثل ما نزلنا على عبدنا« إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِينَ‬ ‫»الذين اتخذتموهم آلهة « ِم ْن د ِ‬
‫ُون َّ ِ‬
‫»أنهم آلهة إذ اإلله هو الذي ال يعتاص عليه شيء ‪ ،‬بل‬
‫ص ‪79‬‬

‫ص ‪79 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪24‬‬
‫ين ) ‪( 24‬‬ ‫جارةُ أ ُ ِعدهتْ ِل ْلكافِ ِر َ‬ ‫فَ ِإ ْن لَ ْم ت َ ْفعَلُوا َولَ ْن ت َ ْفعَلُوا فَاتهقُوا النه َ‬
‫ار الهتِي َوقُو ُد َها النه ُ‬
‫اس َوا ْل ِح َ‬
‫ّللا ليس بينه وبينه ترجمان ‪ ،‬فينظر أيمن منه فال يرى إال ما‬ ‫ثبت أنه ما من أحد إال سيكلمه ه‬
‫قدهم ‪ ،‬وينظر أشأم منه فال يرى إال ما قدهم ‪ ،‬وينظر بين يديه فال يرى إال النار ‪ ،‬فاتقوا النار‬
‫ار »أي‬‫ولو بشق تمرة ‪ ،‬والنار تتقى لما يكون من األلم عند تعلقها بنا ‪ ،‬فقوله تعالى« فَاتَّقُوا النَّ َ‬
‫اجعلوا بينكم وبينها وقاية حتى ال يصل إليكم أذاها يوم القيامة« الَّتِي َوقُو ُدهَا النَّ ُ‬
‫اس‬
‫»المشركون ومنهم من ادعى األلوهية ‪ ،‬فدعاكم إلى عبادة نفسه ‪ ،‬أو عبدتموه وكان في وسعه‬
‫جارة ُ »المعبودة التي‬ ‫أن ينهاكم عن ذلك فما نهاكم ‪ ،‬فمثل هؤالء يكون من حصب جهنم« َو ْال ِح َ‬
‫كانوا يصورونها في الكنائس وغيرها ‪ ،‬فالمشركون والحجارة المعبودة جمر جهنم ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : )2‬آية ‪25‬‬


‫هار ُكلهما ُر ِزقُوا ِم ْنها‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫ت أ َ هن لَ ُه ْم َجنها ٍ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫ش ِر الهذ َ‬ ‫َوبَ ِ ه‬
‫ج ُم َط هه َرةٌ َو ُه ْم‬ ‫ِم ْن ث َ َم َر ٍة ِر ْزقا ً قالُوا هذَا الهذِي ُر ِز ْقنا ِم ْن قَ ْب ُل َوأُتُوا ِب ِه ُمتَشا ِبها ً َولَ ُه ْم فِيها أ َ ْزوا ٌ‬
‫ُون ) ‪( 25‬‬ ‫فِيها خا ِلد َ‬
‫ار الَّتِي َوقُو ُدهَا‬ ‫هو على كل شيء قدير ‪ ،‬قوله ( ‪ «) 25‬فَإِ ْن لَ ْم ت َ ْفعَلُوا َولَ ْن ت َ ْفعَلُوا فَاتَّقُوا النَّ َ‬
‫َّت ِل ْلكا ِف ِرينَ »يقول فإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم عن المعارضة ‪،‬‬ ‫جارة ُ أ ُ ِعد ْ‬ ‫اس َو ْال ِح َ‬ ‫النَّ ُ‬
‫ولن تفعلوا ولن تأتوا بمثله ‪ ،‬فنفى بلن اإلتيان في المستقبل كما انتفى في الحال ‪ ،‬فجاء شبه‬
‫المقحم ‪ ،‬وفيه فائدة اإلخبار بعدم المعارضة في المستقبل ‪ ،‬وتأييد أنه خارج عن مقدور البشر ‪،‬‬
‫فتبيهن صدق الرسول عندكم بعدم المعارضة ‪ ،‬فصح عنادكم إن لم تؤمنوا وترجعوا عن‬
‫ّللا عليه‬ ‫ار »أي اتخذوا اإليمان بما جاء به محمد صلهى ه‬ ‫ضاللتكم ‪ ،‬فإن لم تفعلوا «فَاتَّقُوا النَّ َ‬
‫جارة ُ »اآللهة‬ ‫اس »الذين كفروا بما أنزل عليه« َو ْال ِح َ‬ ‫وسلم وقاية من النار« الَّ ِتي َوقُو ُدهَا النَّ ُ‬
‫ّللا تعالى‪.‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬نكاية لهم حيث زعموا أنها تشهد لهم أنهم على الحق عند ه‬ ‫التي عبدوها من دون ه‬
‫ش َهدا َء ُك ْم ِم ْن‬ ‫عوا ُ‬ ‫ّللا ُز ْلفى )فاتخذوهم شهداء ‪ ،‬ولذا قال( َوا ْد ُ‬ ‫قالوا( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم إِ َّال ِليُقَ ِ هربُونا إِلَى َّ ِ‬
‫َّت ِل ْلكافِ ِرينَ »يعني النار ‪ ،‬وقد يحتمل‬ ‫ّللا )فدخولها معهم زيادة في عذابهم ‪ ،‬وقوله« أ ُ ِعد ْ‬ ‫ُون َّ ِ‬ ‫د ِ‬
‫ش ِر الَّذِينَ‬
‫أن يقول ‪ :‬أعدت الحجارة هنا ‪ ،‬أي هي معدة لعذابهم في النار ‪ ،‬ثم قال «) ‪َ ( 26‬وبَ ِ ه‬
‫ت »اآلية ‪ ،‬يقول ‪ :‬وقل للمؤمنين‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ع ِملُوا ال َّ‬ ‫آ َمنُوا َو َ‬
‫ص ‪80‬‬

‫ص ‪80 :‬‬
‫ت »األعمال الصالحة رأسها اإليمان فهي تابعة له ‪،‬‬ ‫ع ِملُوا ال َّ‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫ش ِر الَّذِينَ آ َمنُوا َو َ‬ ‫" َوبَ ِ ه‬
‫فالشرط المصحح لقبول جميع الفرائض فرض اإليمان ‪.‬‬
‫فإن اإليمان واإلسالم واجب على كل إنسان ‪ ،‬واألحكام كلها الواجبة واجبة على كل إنسان ‪،‬‬
‫ولكن يتوقف قبول فعلها أو فعلها من اإلنسان على وجود اإلسالم منه ‪ ،‬فال يقبل تلبسه بشيء‬
‫منها إال بشرط وجود اإلسالم عنده ‪ ،‬فإن لم يؤمن أخذ بالوجهين جميعا يوم القيامة« أ َ َّن لَ ُه ْم‬
‫هار »الجنة وهي دار السعادة ثماني جنات ‪ ،‬وهي ‪ :‬جنة عدن ‪،‬‬ ‫ت ت َ ْج ِري ِم ْن ت َ ْحتِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫َجنَّا ٍ‬
‫وجنة الفردوس ‪ ،‬وجنة النعيم ‪ ،‬وجنة المأوى ‪ ،‬وجنة الخلد ‪ ،‬وجنة السالم ‪ ،‬وجنة المقامة ‪،‬‬
‫والوسيلة ‪ ،‬وهي أعلى جنة في الجنات ‪ ،‬فإنها في كل جنة من جنة عدن إلى آخر جنة ‪ ،‬فلها‬
‫في كل جنة صورة ‪.‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم وحده ‪ ،‬نالها بدعاء أمته ‪ ،‬حكمة من ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وهي مخصوصة برسول ه‬
‫ّللا إلى الناس من‬ ‫ّللا ‪ ،‬وتبيينه ما نزل ه‬
‫حيث نال الناس السعادة ببركة بعثته ودعائه إياهم إلى ه‬
‫أحكامه ‪ ،‬جزاء وفاقا ‪ ،‬وأرض هذه الجنات سطح الفلك المكوكب ‪ ،‬الذي هو سقف النار ‪،‬‬
‫ّللا في كل جنة مائة درجة ‪ ،‬بعدد األسماء الحسنى واالسم األعظم المسكوت عنه لوترية‬ ‫وجعل ه‬
‫األسماء ‪ ،‬وهو االسم الذي يتميز به الحق عن العالم ‪ ،‬هو الناظر إلى درجة الوسيلة خاصة ‪.‬‬
‫ومنازل الجنة على عدد آي القرآن ما بلغ إلينا منه نلنا تلك المنزلة بالقراءة ‪ ،‬وما لم يبلغ إلينا‬
‫نلناه باالختصاص في جنات االختصاص ‪ ،‬كما نلنا بالميراث جنات أهل النار الذين هم أهلها ‪،‬‬
‫وأبواب الجنة ثمانية على عدد أعضاء التكليف فلكل عضو باب ‪ ،‬واألعضاء الثمانية ‪ :‬العين‬
‫واألذن واللسان واليد‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ت ت َ ْج ِري ِم ْن‬‫الذين عملوا الصالحات قوال يظهر منه السرور على بشرتهم ‪ ،‬وهو« أ َ َّن لَ ُه ْم َجنَّا ٍ‬
‫هار »يعني األنهار المعروفة ‪ ،‬فأتى بحرف العهد والتعريف ‪ ،‬قال تعالى( ِفيها أ َ ْن ٌ‬
‫هار‬ ‫ت َ ْح ِت َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫اربِينَ ‪َ ،‬وأ َ ْن ٌ‬
‫هار‬ ‫ش ِ‬ ‫ط ْع ُمهُ ‪َ ،‬وأ َ ْن ٌ‬
‫هار ِم ْن خ َْم ٍر لَذَّةٍ ِلل َّ‬ ‫غي ِْر آ ِس ٍن ‪َ ،‬وأ َ ْن ٌ‬
‫هار ِم ْن لَبَ ٍن لَ ْم يَتَغَيَّ ْر َ‬ ‫ِم ْن ماءٍ َ‬
‫يعرف الجنات ألن‬ ‫صفًّى )وسيأتي الكالم عليها في السورة التي تذكر فيها ‪ ،‬ولم ه‬ ‫س ٍل ُم َ‬ ‫ِم ْن َ‬
‫ع َ‬
‫األعمال التي تقتضيها لم تفصل ‪ ،‬فتتعرف جنة كل عمل ‪ ،‬وهذه مسئلة عظيمة جليلة الخطب ‪،‬‬
‫عظيمة الفائدة ‪ ،‬لنا فيها باع متسع ‪ ،‬وقد أهملها الناس لعدم استقصائهم على مراتب اآلخرة في‬
‫دار السعادة والشقاء ‪ ،‬ثم قال« ُكلَّما ُر ِزقُوا ِم ْنها ِم ْن ث َ َم َر ٍة ِر ْزقا ا »أي كل وقت ‪ ،‬وما هنا‬
‫ظرفية« قالُوا هذَا الَّذِي ُر ِز ْقنا ِم ْن قَ ْب ُل »لشبهه في الصورة ‪ ،‬فإن المثل يشبه المثل ‪ ،‬وال سيما‬
‫في األسماء ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬هذا تفاح ورمان وغير ذلك ‪ ،‬فإذا طعموه تبيهن لهم الفرق بين المثلين ‪،‬‬
‫كالصالة تشبه الصالة األخرى في‬
‫ص ‪81‬‬

‫ص ‪81 :‬‬
‫والبطن والفرج والرجل والقلب ‪ ،‬فقد يقوم اإلنسان في زمن واحد بأعمال هذه األعضاء كلها ‪،‬‬
‫فيدخل من أبواب الجنة الثمانية في حال دخوله من كل باب منها ‪ ،‬فإن نشأة اآلخرة تشبه‬
‫البرزخ وباطن اإلنسان ‪ ،‬وأما خوخات الجنات فهي تسعة وسبعون خوخة وهي شعب اإليمان‬
‫‪ ،‬فلكل شعبة من اإليمان طريق إلى الجنة ‪ ،‬وألهل الجنات الرؤية متى شاءوا ‪ ،‬والذي تولى‬
‫ّللا خلقها بيده ‪،‬‬ ‫بناء الجنات كلها هم االثنا عشر ملكا ‪ ،‬مالئكة البروج ‪ ،‬إال جنة عدن فإن ه‬
‫وجعل بأيديهم غراس الجنات ‪ ،‬إال شجرة طوبى فإن الحق تعالى غرسها بيده في جنة عدن ‪،‬‬
‫وأطالها حتى علت فروعها سور الجنة جنة عدن ‪ ،‬وتدلت مطلة على سائر الجنات كلها ‪،‬‬
‫وليس في أكمامها ثمر إال الحلي والحلل ‪ ،‬لباس أهل الجنة وزينتهم ‪ ،‬زائدا في الحسن والبهاء‬
‫على ما تحمل أكمام شجر الجنات من ذلك ‪.‬‬
‫ّللا خلقها بيده ‪ ،‬فإن لباس أهل الجنة ما هو نسج‬ ‫ألن لشجرة طوبى اختصاص فضل بكون ه‬
‫ينسج ‪ ،‬وإنما تشقق عن لباسهم ثمر الجنهة كما تشقق األكمام هنا عن الورد ‪ ،‬وعن شقائق‬
‫ّللا صلهى‬ ‫النعمان وما شاكلهما من األزهار كلها ‪ ،‬هكذا ورد في الحديث الحسن نقال عن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ .‬وأدار بجنة عدن سائر الجنات ‪ ،‬وبين كل جنة وجنة سور يميزها عن‬ ‫ه‬
‫صاحبتها ‪ ،‬وسمى كل جنة باسم معناه سار في كل جنة ‪ ،‬وإن اختصت هي بذلك االسم ‪ ،‬فإن‬
‫ذلك االسم الذي اختصت أمكن ما هي عليه من معناه وأفضله« ُكلَّما ُر ِزقُوا ِم ْنها ِم ْن ث َ َم َرةٍ ِر ْزقا ا‬
‫قالُوا هذَا الَّذِي ُر ِز ْقنا ِم ْن قَ ْب ُل َوأُتُوا ِب ِه ُمتَشا ِبها ا »أي يشبه بعضه بعضا ‪ ،‬فيتخيل أن الثاني عين‬
‫األول وليس كذلك بل هو مثله ‪ ،‬والفارق بين المثلين في أشياء يعسر إدراكه بالمشاهدة‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫إقامة نشأتها ‪ ،‬ولكن الذي يجده المصلي في كل صالة مختلف باختالف األحوال ‪ ،‬فكما كانت‬
‫األعمال هنا متشابهة الصور ‪ ،‬كذلك ثمراتها متشابهة الصور ‪ ،‬وكل ذائق يعرف الفرق في‬
‫اآلخرة كما عرفه في العمل في الدنيا« َولَ ُه ْم ِفيها أ َ ْزوا ٌج ُم َ‬
‫ط َّه َرة ٌ »ولم يقل مطهرات ألن تطهير‬
‫كل زوجة ما هو تطهير الزوجة األخرى ‪ ،‬كالجنات سواء وما فيها ‪ ،‬فيقول ‪ :‬كل زوجة‬
‫مطهرة ‪ ،‬ولو لم يكن كذلك لكان الذوق له من كل واحدة على نسبة واحدة ‪ ،‬وال تكرار فيها‬
‫أصال ‪ ،‬بل وال في العالم لالتساع اإللهي ‪ ،‬بل نعيم مجدد مع تجدد األنفاس ‪ ،‬وليس اجتماعه‬
‫بها األول شبه الثاني« َو ُه ْم فِيها »يعني في الجنة« خا ِلدُونَ »أي ال يخرجون منها ‪ ،‬قال‬
‫تعالى( َوما ُه ْم ِم ْنها‬
‫ص ‪82‬‬

‫ص ‪82 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪26‬‬
‫ون أَنههُ ا ْل َح ُّ‬
‫ق‬ ‫ضةً فَما فَ ْوقَها فَأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا فَيَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ب َمثَلً ما بَعُو َ‬ ‫ض ِر َ‬ ‫ستَحْ ِيي أ َ ْن يَ ْ‬ ‫ّللا ال يَ ْ‬‫ِإ هن ه َ‬
‫ّللاُ ِبهذا َمثَلً يُ ِض ُّل ِب ِه َكثِيرا ً َويَ ْهدِي ِب ِه َكثِيرا ً‬ ‫ون ما ذا أَرا َد ه‬ ‫ِين َكفَ ُروا فَيَقُولُ َ‬ ‫ِم ْن َر ِبه ِه ْم َوأ َ هما الهذ َ‬
‫ين ) ‪( 26‬‬ ‫س ِق َ‬ ‫َوما يُ ِض ُّل ِب ِه ِإاله ا ْلفا ِ‬
‫ّللا قد‬‫ّللا حيي ‪ ،‬لكن للحياء موطن خاص ‪ ،‬فإن ه‬ ‫الحياء ‪ :‬معناه الترك ‪ ،‬ورد في الخبر ‪ :‬أن ه‬
‫ّللا ال يترك« أ َ ْن‬ ‫ّللا ال يَ ْست َ ْحيِي »أي إن ه‬ ‫قال في الموطن الذي ال حكم للحياء فيه ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬
‫ضةا »فالوجود كله عظيم فال يترك منه شيء ‪ ،‬ألن الحياء ترك ‪ ،‬فما ث هم‬ ‫ب َمث َ اال ما بَعُو َ‬ ‫يَض ِْر َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وذلك لقول من ض هل بهذا المثل من المشركين الذين‬ ‫تافه وال حقير ‪ ،‬فإن الكل شعائر ه‬
‫تكلموا فيه ‪ ،‬فلو وجد الحق عند السامع ما هو أخفى من البعوضة لجاء بها ‪ ،‬كما جاء بذلك‬
‫مجمال في قوله« فَما فَ ْوقَها »يعني في الصغر ‪ ،‬يعني أنه ال يترك ضرب المثل باألدنى‬
‫ّللا ‪ ،‬وكيف يكون حقيرا من هو عين الداللة على‬ ‫واألحقر عند الجاهل ‪ ،‬فإنه ما هو حقير عند ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيعظم الدليل بعظمة المدلول‪.‬‬ ‫ه‬
‫لذلك قال تعالى ‪ «:‬فَأ َ َّما الَّذِينَ آ َمنُوا فَيَ ْعلَ ُمونَ أَنَّهُ ْال َح ُّق ِم ْن َر ِبه ِه ْم َوأ َ َّما الَّذِينَ َكفَ ُروا فَيَقُولُونَ ما‬
‫ّللاُ ِبهذا َمث َ اال »فالقرآن له وجه نفع في المؤمن فإنه يزيده إيمانا ‪ ،‬وفيه وجه ضرر‬ ‫ذا أَرا َد َّ‬
‫ض ُّل ِب ِه َكثِيرا ا »أي بهذا المثل‬ ‫للكافر ألنه يزيده ‪ ،‬رجسا إلى رجسه ‪ ،‬ولذلك قال تعالى ‪ «:‬يُ ِ‬
‫المضروب به في القرآن أي بسببه وهو من القرآن ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ب َمث َ اال »اآلية ‪ ،‬األوجه في قوله« ال يَ ْست َ ْح ِيي‬ ‫ّللا ال يَ ْست َ ْح ِيي أ َ ْن يَض ِْر َ‬
‫بِ ُم ْخ َر ِجينَ " ) ‪ِ )( 27‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا ذو حياء بحديث (‬ ‫ّللا ‪ ،‬فمن قال بالمفهوم من الخطاب ‪ ،‬أو احتج في أن ه‬ ‫»نفي الحياء عن ه‬
‫ّللا جوابا‬ ‫ّللا يستحي من ذي الشيبة ) فاألوجه في التأويل في هذه اآلية ‪ ،‬أن يكون قول ه‬ ‫إن ه‬
‫بحكم المطابقة لكالم تقدم من الكفار ‪ ،‬وهو ‪ :‬أما يستحي رب محمد أن يضرب مثال بالمحقرات‬
‫‪ ،‬كبيت العنكبوت والذباب ؟‬
‫ّللا أعلى وأجل وأعظم حياء أن‬ ‫وهم طائفة من الكفار ال حرمة للحق عندهم ‪ ،‬أو يقولون ‪ :‬ه‬
‫ّللا ال يَ ْست َ ْح ِيي أ َ ْن يَض ِْر َ‬
‫ب‬ ‫ّللا« ِإ َّن َّ َ‬
‫يضرب مثال بما يعاب عليه من ذكره هذه المحقرات ‪ ،‬فقال ه‬
‫َمث َ اال ما »فيكون جوابا بحكم التطابق لكالمهم ‪ ،‬وهل يتصف بالحياء أم ال ؟‬
‫مسئلة أخرى ‪ ،‬فإن ورد بذلك نص عنه أجريناه مجرى ما نسب إليه من اليد والعين وغير ذلك‬
‫‪ ،‬على‬
‫ص ‪83‬‬

‫ص ‪83 :‬‬
‫ومعلوم أن القرآن مهداة كله ‪ ،‬ولكن بالتأويل في المثل المضروب ضل من ضل ‪ ،‬وبه اهتدى‬
‫من اهتدى ‪ ،‬فهو من كونه مثال لم تتغير حقيقته ‪ ،‬وإنما العيب وقع في عين الفهم ‪ ،‬فاحذر من‬
‫ض ُّل ِب ِه َكثِيرا ا »أي يحيرهم« َويَ ْهدِي ِب ِه َكثِيرا ا »أي‬
‫ّللا« يُ ِ‬
‫القرآن إال أن تقرأه فرقانا فإن ه‬
‫يرزقهم الفهم فيه بما هو عليه من البيان ‪ ،‬فعلهمك في هذه اآلية أن ال تترك شيئا إال وتنسبه إلى‬
‫ّللا وال يمنعك حقارة ذلك الشيء وال ما تعلق به من الذم عرفا وشرعا في عقدك ‪ ،‬ثم تقف عند‬ ‫ه‬
‫اإلطالق ‪ ،‬فال تطلق ما في العقد على كل شيء وال في كل حال وقف عندما قاله لك الشارع ‪،‬‬
‫قف عنده فإن ذلك هو األدب اإللهي الذي جاء به الشرع ‪.‬‬
‫ض ُّل ِب ِه ِإ َّال ْالفا ِس ِقينَ »فإنهم حاروا فيه ‪ ،‬والضاللة الحيرة ‪ ،‬ورأوا عزة ه‬
‫ّللا وجالله‬ ‫« َوما يُ ِ‬
‫ّللا أن ينزل في ضرب المثل‬ ‫وكبرياءه وحقارة البعوضة في المخلوقات ‪ ،‬فاستعظموا جالل ه‬
‫لعباده هذا النزول ‪ ،‬وذلك لجهلهم باألمور فإنه ال فرق بين أعظم المخلوقات وهو العرش‬
‫المحيط ‪ ،‬وبين‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الوجهين ‪ ،‬على ما تتأوله األشاعرة ‪ ،‬أو على ما ذهب إليه السلف من الوقوف عند ذلك من‬
‫ب َمث َ اال ما »فأبهمه بقوله « ما » أي بكل‬ ‫ّللا ال يَ ْست َ ْح ِيي أ َ ْن يَض ِْر َ‬
‫غير تأويل ‪ ،‬قال تعالى« ِإ َّن َّ َ‬
‫ما يجوز أن يضرب به المثل ‪ ،‬ألن القصد من المثل إيصال المعنى إلى المخاطب السامع ‪،‬‬
‫حتى يفهم المراد منه إذا كان ال يصل إلى معرفة المعاني بغامضات األدلة لبعدها ‪ ،‬فينزل لهم‬
‫المتكلم في العبارات بضرب األمثال لذلك ‪ ،‬وال يتصور أن ينكر ضرب األمثال بالمحقرات‬
‫أهل الكتاب ‪ ،‬ألنه في كتبهم من ذلك كثير ‪ ،‬وهم مؤمنون به إال أن يباهتوا ‪ ،‬وأما ما عدا أهل‬
‫الكتاب فقد يسوغ منهم ذلك على الطريقين اللذين ذكرناهما ‪ ،‬من التعظيم هّلل ‪ ،‬وعدم التعظيم أو‬
‫ضةا فَما فَ ْوقَها »في الصغر كالذرة ‪.‬‬ ‫التعليل ‪ ،‬ثم قال« بَعُو َ‬
‫ثم قال« فَأ َ َّما الَّذِينَ آ َمنُوا »يريد أصحاب الكتب ‪ ،‬ونحن وكل من أنزل عليه كتاب وآمنوا‬
‫ّللا قاله« َوأ َ َّما‬ ‫بكتبهم« فَيَ ْعلَ ُمونَ أ َنَّهُ »المثل« ْال َح ُّق ِم ْن َر ِبه ِه ْم »أي حق مطابق للممثل به ‪ ،‬وأن ه‬
‫ّللاُ بِهذا »الذي ذكره« َمث َ اال »أي ألي شيء ضرب المثل ‪ ،‬وقد‬ ‫الَّذِينَ َكفَ ُروا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرا َد َّ‬
‫يتصور هذا القول من العالم أنه من الحق ومن غيره ‪.‬‬
‫ض ُّل ِب ِه َكثِيرا ا »يعني بالمثل‬ ‫فيقوله معنى ‪ :‬إنه على زعمكم أنه قاله سبحانه ‪ ،‬فقال تعالى« يُ ِ‬
‫ض ُّل ِب ِه ِإ َّال‬
‫يقول ليضل به« َويَ ْهدِي ِب ِه َك ِثيرا ا »ولم يذكر المؤمنين وذكر الفاسقين« َوما يُ ِ‬
‫باّلل مطلقا ‪ ،‬وبرسوله في حق‬ ‫ْالفا ِس ِقينَ »الذين خرجوا عما دخل فيه المؤمنون من اإليمان ه‬
‫البراهمة ‪ ،‬وبمحمد في حق من كفر به من أهل الكتب ‪ ،‬على الخصوص ‪ ،‬وما جاء به ‪،‬‬
‫والفسوق الخروج عن الشيء ‪ ،‬وفي الشرع الخروج عن‬
‫ص ‪84‬‬

‫ص ‪84 :‬‬
‫الذرة في الخلق ‪ ،‬والبعوضة وإخراجها من العدم إلى الوجود ‪ ،‬فما هي حقيرة إال في صغر‬
‫جسمها إذا أضفته إلى ذي الجسم الكبير ‪ ،‬بل الحكمة في البعوضة أتم ‪ ،‬والقدرة أنفذ ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا على صورة الفيل على عظمه ‪ ،‬فخلق البعوضة أعظم في‬ ‫البعوضة على صغرها خلقها ه‬
‫الداللة على قدرة خالقها من الفيل ألهل النظر واالعتبار ‪ ،‬ولهذا لم يصف نفسه بالحياء في ذلك‬
‫ض ُّل بِ ِه إِ َّال‬
‫لما فيها من الداللة على تعظيم الحق ‪ ،‬ثم إن من رحمته تعالى بخلقه أن قال« َوما يُ ِ‬
‫ْالفا ِس ِقينَ »الخارجين عن حكم إما العقل السليم أو الشرع المعصوم ‪ ،‬وهم الذين خرجوا عن‬
‫حدوده ورسومه ‪ ،‬فأعطانا العالمة ‪ ،‬فمن وجد في نفسه تلك العالمة علم أنه من أهل الضالل ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 27‬إلى ‪28‬‬


‫ُون ِفي‬ ‫سد َ‬ ‫ص َل َويُ ْف ِ‬ ‫ّللاُ ِب ِه أ َ ْن يُو َ‬ ‫ون ما أ َ َم َر ه‬
‫ّللا ِم ْن بَ ْع ِد ِميثا ِق ِه َويَ ْق َطعُ َ‬
‫ع ْه َد ه ِ‬
‫ُون َ‬‫ِين يَ ْنقُض َ‬ ‫الهذ َ‬
‫اَّلل َو ُك ْنت ُ ْم أ َ ْمواتا ً فَأَحْ يا ُك ْم ث ُ هم يُ ِميت ُ ُك ْم ث ُ هم‬
‫ون بِ ه ِ‬‫ف ت َ ْكفُ ُر َ‬
‫ون ( ‪َ ) 27‬ك ْي َ‬ ‫س ُر َ‬ ‫ض أُولئِكَ ُه ُم ا ْلخا ِ‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫ون ) ‪( 28‬‬ ‫يُحْ يِي ُك ْم ث ُ هم إِلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬
‫اّلل َو ُك ْنت ُ ْم أ َ ْمواتا ا »وهو الموت األصلي ال عن حياة متقدمة في‬ ‫ْف ت َ ْكفُ ُرونَ بِ َّ ِ‬‫الوجه األول ‪َ « :‬كي َ‬
‫الموصوف بالموت ‪ ،‬وهو العدم الذي للممكن إذ كان معلوم العين هّلل وال وجود‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ِم ْن بَ ْع ِد ِميثاقِ ِه »مطلقا ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬ثم وصفهم فقال تعالى ( ‪ «) 28‬الَّذِينَ يَ ْنقُضُونَ َ‬
‫ع ْه َد َّ ِ‬ ‫أوامر ه‬
‫طعُونَ ما أ َ َم َر َّ‬
‫ّللاُ‬ ‫يريد ميثاق أخذ الذرية باإلقرار ‪ ،‬وأخذ العهد على أهل الكتاب ‪ ،‬وقوله« َويَ ْق َ‬
‫باّلل في حق البراهمة ومن قال بقولهم ‪،‬‬ ‫ص َل »من وصل اإليمان بالرسل مع اإليمان ه‬ ‫بِ ِه أ َ ْن يُو َ‬
‫باّلل‬
‫وفي حق أهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد عليه السالم ولم يصلوا إيمانهم به بإيمانهم ه‬
‫ّللا مطلقا« أُول ِئ َك ُه ُم ْالخا ِس ُرونَ‬ ‫ض »أن يفعلوا فيها بخالف أمر ه‬ ‫ورسلهم« َويُ ْف ِسدُونَ ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫»يقول ‪:‬‬
‫هم الذين ما ربحت تجارتهم ‪ ،‬بل خسروا رأس مالهم ‪ ،‬وبعد أن ذكرنا أصول هذه اآلية من‬
‫اإليمان ‪ ،‬فالمقصود أيضا منها فروع األحكام ‪ ،‬فكل عهد مشروع بيننا بعضنا في بعض ‪،‬‬
‫ّللا الذي‬‫وبين الكفار وبيننا مما ألزمنا الحق الوفاء به ‪ ،‬يدخل تحت هذا النقض ‪ ،‬وأنه عهد ه‬
‫ّللا به أن نوصله من األرحام وأهل و هد آبائنا ‪ ،‬فيلزمنا إيصاله ‪،‬‬ ‫شرعه لنا ‪ ،‬وكذلك ما أمرنا ه‬
‫وتلحقنا المذمة من هذه اآلية بقطع ذلك« أُول ِئ َك ُه ُم ْالخا ِس ُرونَ »حيث اشتروا الضاللة بالهدى ‪،‬‬
‫والعذاب بالمغفرة ‪ ،‬والكفر‬
‫ص ‪85‬‬

‫ص ‪85 :‬‬
‫له في نفسه ‪ «،‬فَأ َ ْحيا ُك ْم »فأخرجكم إلى الوجود« ث ُ َّم يُ ِميت ُ ُك ْم »وهو الموت العارض ‪ ،‬الذي‬
‫يطرأ على الحي فيزيل حياته ‪ ،‬فإن حياة الجسم الظاهرة من آثار حياة الروح كنور الشمس‬
‫الذي في األرض من الشمس ‪ ،‬فإذا مضت الشمس تبعها نورها وبقيت األرض مظلمة ‪ ،‬كذلك‬
‫الروح إذا رحل عن الجسم إلى عالمه الذي جاء منه تبعته الحياة المنتشرة منه في الجسم الحي‬
‫‪ ،‬وبقي الجسم في صورة الجماد في رأي العين ‪ ،‬فيقال مات فالن وتقول الحقيقة رجع إلى‬
‫تارة ا أ ُ ْخرى )‬
‫أصله ( ِم ْنها َخلَ ْقنا ُك ْم َوفِيها نُ ِعي ُد ُك ْم َو ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم َ‬
‫كما رجع أيضا الروح إلى أصله ‪ ،‬حتى البعث والنشور يكون من الروح تجل للجسم بطريق‬
‫العشق ‪ ،‬فتلتئم أجزاؤه ويتركب أعضاؤه بحياة لطيفة جدا تحرك األعضاء للتأليف ‪ ،‬فإذا‬
‫استوت البنية وقامت النشأة الترابية تجلى له الروح بالرقيقة اإلسرافيلية في الصور المحيط ‪،‬‬
‫فتسري الحياة في أعضائه ‪ ،‬فيقوم شخصا سويا كما كان أول مرة ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ «:‬ث ُ َّم‬
‫يُ ْحيِي ُك ْم »« ث ُ َّم إِلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ »فإما شقي وإما سعيد ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬لما كان الموت سببا لتفريق‬
‫المجموع ‪ ،‬وفصل االتصاالت وشتات الشمل سمي التفريق الذي هو بهذه المثابة موتا ‪ ،‬فقال‬
‫اّلل َو ُك ْنت ُ ْم أ َ ْمواتا ا فَأ َ ْحيا ُك ْم ث ُ َّم يُ ِميت ُ ُك ْم ث ُ َّم يُ ْحيِي ُك ْم »أي كنتم متفرقين في كل‬
‫ْف ت َ ْكفُ ُرونَ بِ َّ ِ‬
‫تعالى ‪َ «:‬كي َ‬
‫جزء من عالم الطبيعة ‪ ،‬فجمعكم وأحياكم ثم يميتكم أي يردكم متفرقين ‪ ،‬أرواحكم مفارقة‬
‫لصور أجسامكم التي أخذ عليها الميثاق «ث ُ َّم يُ ْح ِيي ُك ْم »الحياة الدنيا« ث ُ َّم ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ »بعد‬
‫مفارقة الدنيا –‬

‫[ صلة الجنازة على الطفل ]‬


‫ّللا علينا اسم الموت قبل نفخ الروح ‪ ،‬ولذلك يصلى على‬
‫صالة الجنازة على الطفل ‪ -‬أطلق ه‬
‫صورة الجنين ولو كان أصغر من البعوضة بحيث تكون أعضاؤه مصورة حتى يعلم أنه إنسان‬
‫‪ ،‬وإن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫باإليمان ‪ ،‬والفساد بالصالح ‪ ،‬والقطيعة بالوصل ‪ ،‬ونقض العهد بالوفاء ‪ ،‬ثم أخذ سبحانه يقرر‬
‫ْف »حرف استفهام مثل الهمزة بضرب من التوبيخ والتقرير‬ ‫نعمته عليهم ‪ ،‬فقال ( ‪َ «) 29‬كي َ‬
‫واإلنكار عليهم ‪ ،‬بما قررهم عليه من النعم التي يذكرها ‪ ،‬فقال كيف« ت َ ْكفُ ُرونَ ِب َّ ِ‬
‫اّلل َو ُك ْنت ُ ْم‬
‫أ َ ْمواتا ا »بال حياة «فَأ َ ْحيا ُك ْم »فخلق فيكم الحياة بخلق الروح الذي هو المقصود من اإلنسان «ث ُ َّم‬
‫ّللا ‪ ،‬لتلقوه فتشرفون بلقائه« ث ُ َّم يُ ْحيِي ُك ْم »ثم يرد أرواحكم إلى‬ ‫يُ ِميت ُ ُك ْم »أي يقبض أرواحكم ه‬
‫أجسادها ‪ ،‬ليكون العبد عند ربه بكليته روحا وجسما ‪ ،‬كما كان بالموت روحا دون جسم ‪،‬‬
‫فكان نعمة على نعمة ‪ ،‬فركب أرواحكم في أجسادكم لترجعوا إليه سبحانه ‪ ،‬فقال« ث ُ َّم ِإلَ ْي ِه‬
‫ت ُ ْر َجعُونَ »وجعله رجوعا ألنه خرج من عنده روحا عبدا ‪ ،‬فرده إلى تدبير جسده ‪ ،‬فرجع إليه‬
‫واليا مليكا ‪،‬‬
‫ص ‪86‬‬

‫ص ‪86 :‬‬
‫كان قبل نفخ الروح فيه ‪ ،‬فإنه ينطلق بالشرع على تلك الصورة أنها ميتة ‪ ،‬فإذا خرج الجنين‬
‫بالطرح ‪ ،‬وشاهدناه صورة وإن لم ينفخ فيه روح للصورة الظاهرة ‪ ،‬وتحقق اسم الموت ‪ ،‬فال‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم إنه ال يصلى‬ ‫مانع للصالة عليه بوجه من الوجوه ‪ ،‬ولم يقل رسول ه‬
‫على ميت إال بعد أن تتقدمه حياة ‪ ،‬ما تعرض لذلك ‪ ،‬وإن كان لم يقع األمر إال فيمن تقدمت له‬
‫حياة ‪ ،‬وما يدل عدم النقل على رفع الحكم ‪ ،‬بل المفهوم من الشرع الصالة على الميت من غير‬
‫تخصيص ‪ ،‬إال ما خصصه الشارع من النهي عن الصالة على الكافر وغير ذلك ‪ ،‬ممن نص‬
‫ّللا عن‬
‫ترك الصالة عليه ‪ ،‬وليس للطفل فيه مدخل ‪ .‬بل قد ذكر الترمذي عن جابر بن عبد ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن الطفل يصلى عليه ‪ ،‬وال يرث وال يورث حتى يستهل‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫صارخا ‪ ،‬فقد حكم بالصالة عليه وما حكم بالميراث مثل ما حكم على من مات عن حياة ‪ ،‬فهذا‬
‫الخبر يقوي ما ذهبنا إليه ‪ ،‬من وجود صورة اإلنسان وإن لم يعلم أن موته عن حياة وال عن‬
‫غير حياة ‪ ،‬وحديث المغيرة عن النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن الطفل يصلى عليه ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪29‬‬


‫ت َو ُه َو‬
‫سماوا ٍ‬ ‫ماء فَ َ‬
‫س هوا ُه هن َ‬
‫س ْب َع َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق لَ ُك ْم ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َج ِميعا ً ث ُ هم ا ْ‬
‫ستَوى ِإلَى ال ه‬ ‫ُه َو الهذِي َخلَ َ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 29‬‬ ‫ِب ُك ِ هل َ‬
‫ش ْي ٍء َ‬
‫إن الرزق على نوعين في الميزان الموضوع في العالم إلقامة العدل وهو الشرع ‪ :‬النوع‬
‫ّللا التي جاء نصها في القرآن ‪.‬‬ ‫الواحد يسمى حراما ‪ ،‬والنوع اآلخر يسمى حالال ‪ ،‬وهو بقية ه‬
‫ّللا َخي ٌْر لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ )فهذه هي التي بقيت للمؤمنين‬
‫قال تعالى ‪ ( :‬بَ ِقيَّتُ َّ ِ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا عليه من تدبير جسده ‪ ،‬ومن ملكه الذي يصل إليه في جواره في دار الكرامة ‪ ،‬فإن‬ ‫بما واله ه‬
‫كنتم مؤمنين كنتم بهذه المثابة من الكرامة ‪ ،‬وإن كفرتم كنتم على النقيض من هذه الصفة ‪،‬‬
‫ت َو ْال َحياة َ ِليَ ْبلُ َو ُك ْم أَيُّ ُك ْم‬
‫وكان خلق الحياة والموت في حقكم ابتالء ‪ ،‬فقال تعالى( َخلَقَ ْال َم ْو َ‬
‫ع َم اال )فأحسن المؤمنون فربحوا ‪ ،‬ولم يحسن الكفار فخسروا ‪ ،‬حيث لم يقوموا بشكر‬ ‫أ َ ْح َ‬
‫س ُن َ‬
‫ض‬ ‫هذه النعم ‪ ،‬ثم أردف هذه النعم بنعم أخر فقال ( ‪ُ «) 30‬ه َو الَّذِي َخلَقَ لَ ُك ْم ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫َج ِميعا ا »ردا على القائلين بنسبة الخلق المولد في األرض للطبيعة ‪ ،‬فأضافه إليه سبحانه ‪،‬‬
‫وخلق هنا خاصة بمعنى قدهر ‪ ،‬وهو‬
‫ص ‪87‬‬

‫ص ‪87 :‬‬
‫ض َج ِميعا ا »وقد ورد في الخبر أن ما سكت عن‬ ‫من قوله « ُه َو الَّذِي َخلَقَ لَ ُك ْم ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا قد بيهن للناس ما‬ ‫الحكم فيه بمنطوق فهو عافية ‪ ،‬أي دارس ال أثر له وال مؤاخذة فيه ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬والساكت ال ينسب‬ ‫نزل إليهم من األحكام في كتابه ‪ ،‬وعلى لسان رسوله صلهى ه‬ ‫ه‬
‫إليه أمر حتى يتكلم وال مذهب ‪ ،‬ولهذا ال يدخل في اإلجماع بسكوته ‪ .‬وهذه مسألة خالف ‪،‬‬
‫والصحيح ما قلناه ‪ ،‬كما أن ترك النكير ليس بحجة إال في بقاء ذلك األمر على األصل‬
‫ض َج ِميعا ا »وكالم بني آدم مما خلق في‬ ‫المنطوق به في قوله تعالى« َخلَقَ لَ ُك ْم ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا عليه‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫األرض وجميع أفعالهم ‪ ،‬فإذا رأينا أمرا قد قيل ‪ ،‬أو فعل بمحضر رسول ه‬
‫وسلم ولم ينكره ‪ ،‬فال نقول إن حكمه اإلباحة ‪ ،‬فإنه لم يحكم فيه بشيء ‪ ،‬إذ يحتمل أنه لم ينزل‬
‫ّللا فيه إليه ‪ ،‬فيبقى ذلك على األصل وهو‬ ‫فيه شيء عليه ‪ ،‬وهو ال يحكم إال بما أوحى ه‬
‫التصرف الطبيعي الذي تطلبه هذه النشأة من غير تعيين حكم عليه بأحد األحكام الخمسة وهو‬
‫ض َج ِميعا ا‬ ‫األصل األول ‪ ،‬أو نرده إلى األصل الثاني وهو قوله تعالى« َخلَقَ لَ ُك ْم ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫»وليس بنص في اإلباحة ‪ ،‬وإنما هو ظاهر ألن حكم المحظور خلق أي حكم به من أجلنا ‪ ،‬أي‬
‫ّللا هل نمتنع منه أم ال ‪ ،‬كما نزل الوجوب والندب والكراهة‬ ‫نزل حكمه من أجلنا ابتالء من ه‬
‫واإلباحة ‪ ،‬فاألصل أن ال حكم ‪ ،‬وهو األصل األول الذي يقتضيه النظر الصحيح« ث ُ َّم ا ْستَوى‬
‫سماوات من العناصر ‪ ،‬فهي أجسام عنصريات وإن‬ ‫ت »فال ه‬ ‫سماوا ٍ‬ ‫س ْب َع َ‬ ‫ماء فَ َ‬
‫س َّوا ُه َّن َ‬ ‫س ِ‬‫ِإلَى ال َّ‬
‫كانت فوق األركان بالمكان ‪ ،‬فاألركان فوقهن بالمكانة ‪ - .‬بحث في االستواء ‪ -‬من اآليات‬
‫المتشابهة آيات االستواء ‪ ،‬واألحاديث الواردة فيه ‪ ،‬ومرجعها فيه عند المحققين إلى اآليات‬
‫المحكمات ‪،‬‬

‫[في االستواء ]‬
‫وأول ما ينبغي تقديمه معنى االستواء لغة ‪ ،‬وأصله افتعال من السواء والسواء في اللغة العدل‬
‫والوسط ‪ ،‬وله وجوه في االستعمال ترجع إلى ذلك ‪ ،‬منها استوى يعني أقبل ‪ ،‬نقله الهروي عن‬
‫الفراء ‪ ،‬فإن العرب يقولون استوى إلي يخاصمني أي أقبل إلي ‪ -‬الثاني ‪:‬‬
‫بمعنى قصد ‪ ،‬قاله الهروي ‪ -‬الثالث ‪ :‬بمعنى استولى ‪ -‬الرابع ‪ :‬بمعنى استقام ‪ -‬الخامس‪:‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫قوله تعالى( َوقَد ََّر ِفيها أ َ ْقواتَها )وسيأتي في ( فصلت ) وإنما قلنا خلق هنا بمعنى قدر ‪ ،‬ألنه قال‬
‫ت »فجاء بثم ‪ ،‬يؤذن بالبعدية ‪ ،‬فخلق‬‫سماوا ٍ‬
‫س ْب َع َ‬ ‫ماء فَ َ‬
‫س َّوا ُه َّن َ‬ ‫س ِ‬ ‫بعد هذا« ث ُ َّم ا ْستَوى إِلَى ال َّ‬
‫األرض وقدر فيها أقواتها علما ‪ ،‬ثم استوى إلى السماء وكانت واحدة ففتقها وسواها سبع‬
‫سماوات طباقا‬
‫ص ‪88‬‬

‫ص ‪88 :‬‬
‫بمعنى اعتدل ‪ -‬السادس ‪ :‬بمعنى عال ‪ -‬قال الشاعر ‪:‬ولما علونا واستوينا عليهم * تركناهم‬
‫صرعى لنسر وكاسرقال الحسن بن سهل ‪ :‬إذا علم أصل الوضع وتصاريف االستعمال فنزل‬
‫على ذلك االستواء المنسوب إلى ربه سبحانه وتعالى ‪ ،‬وقد فسره الهروي بالقصد ‪ ،‬وفسره ابن‬
‫عرفة باإلقبال كما نقل عن الفراء ‪ ،‬وفسره بعضهم باالستيالء ‪ ،‬وأنكره ابن األعرابي وقال ‪:‬‬
‫العرب ال تقول استولى إال لمن له تضادد ‪ ،‬وفيما قاله نظر ألن االستيالء من الولي وهو‬
‫القرب أو من الوالية وكالهما ال يفتقر إطالقه بالمضادد ‪ ،‬ونقل الحسن بن سهل عن ابن عباس‬
‫ماء »قال ‪ :‬عال أمره ‪ ،‬وهذه التفاسير‬
‫س ِ‬ ‫ّللا عنهما أنه فسر قوله تعالى« ث ُ َّم ا ْستَوى ِإلَى ال َّ‬ ‫رضي ه‬
‫علَى ْال ُجو ِد ه‬
‫يِ )‬ ‫ت َ‬‫كلها ومنه قوله تعالى( َوا ْست َ َو ْ‬
‫ور ِه )اآلية فال يليق نسبة مثله إلى استواء ربنا تعالى على‬ ‫على ُ‬
‫ظ ُه ِ‬ ‫وقوله تعالى( ِلت َ ْست َ ُووا َ‬
‫العرش ‪ ،‬مع أنا نقول قد علمت أصل اشتقاق االستواء وال مدخل فيه لمعنى االستقرار ‪ ،‬وإنما‬
‫الحق أن معنى استوى على الدابة جاء على األصل ‪ ،‬ويكون معناه اعتدل ‪ ،‬أو عال عليها ‪،‬‬
‫واالستقرار الزم ذلك بحسب خصوصية المحل ‪ ،‬ال أن لالستقرار مدخال في معنى اللفظ مطلقا‬
‫‪ ،‬وحينئذ فال يصح نسبة مثله إليه تعالى الستحالته في حقه ‪ ،‬وعدم وضع اللفظ له ‪ ،‬وقد ثبت‬
‫ّللا عنه أنه سئل كيف استوى ؟‬ ‫عن اإلمام مالك رضي ه‬
‫فقال ‪ :‬كيف غير معقول ‪ ،‬واالستواء غير مجهول ‪ ،‬واإليمان به واجب ‪ ،‬والسؤال عنه بدعة ‪،‬‬
‫فقوله كيف غير معقول ‪ ،‬أي ‪ :‬كيف من صفات الحوادث وكلما كان من صفات الحوادث‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫ّللا تعالى ينافي ما يقتضيه العقل ‪ ،‬فيجزم على نفيه عن ه‬ ‫فإثباته في صفات ه‬
‫واالستواء غير مجهول ‪ ،‬أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة ‪ : ،‬واإليمان به على الوجه‬
‫باّلل تعالى وبكتبه ‪ : ،‬والسؤال عنه بدعة ‪ :‬أي حادث‬ ‫األليق به تعالى واجب ‪ ،‬ألنه من اإليمان ه‬
‫ّللا عنهم كانوا عالمين بمعناه األليق بحسب اللغة ‪ ،‬فلم يحتاجوا للسؤال‬ ‫ألن الصحابة رضي ه‬
‫عنه ‪ ،‬فلما جاء من لم يحط بأوضاع لغتهم ‪ ،‬وال له نور كنورهم ‪ ،‬يهديه لصفات ربهم ‪ ،‬شرع‬
‫يسأل عن ذلك ‪ ،‬فكان سؤاله سببا الشتباهه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫فدارت بكواكبها ‪ ،‬ففتق األرض بما أخرج فيها ومنها من معدن ونبات وحيوان ‪ ،‬فكان إيجادا‬
‫عند دوران األفالك بعد تقدير ‪ ،‬وجعل سبحانه هذا الخلق كله من أجلنا ‪ ،‬فأية نعمة أو أية عناية‬
‫أعظم‬
‫ص ‪89‬‬

‫ص ‪89 :‬‬
‫ّللا تعالى ‪:‬‬ ‫على الناس وزيغهم عن المراد ‪ ،‬وتعين على العلماء حينئذ أن ال يهملوا البيان ‪ ،‬قال ه‬
‫اس َوال ت َ ْكت ُ ُمونَهُ )وال بد في إيضاح البيان‬ ‫ّللاُ ِميثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِك َ‬
‫تاب لَتُبَ ِيهنُنَّهُ ِللنَّ ِ‬ ‫( َو ِإ ْذ أ َ َخذَ َّ‬
‫الزيادة فنقول ‪ :‬قد قررنا أن االستواء مشتق من السواء وأصله العدل ‪ ،‬وحينئذ االستواء‬
‫المنسوب إلى ربنا تعالى في كتابه بمعنى اعتدل أي قام بالعدل ‪ ،‬وأصله من قوله تعالى ‪( :‬‬
‫ْط )فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه ‪ ،‬ويرجع‬ ‫ّللاُ أَنَّهُ ال إِلهَ إِ َّال ُه َو )إلى قوله( قائِما ا بِ ْال ِقس ِ‬ ‫ش ِه َد َّ‬ ‫َ‬
‫معناه إلى أنه أعطى بعدله كل شيء خلقه ‪ ،‬موزونا بحكمته البالغة في التعرف لخلقه بوحدانيته‬
‫يز ْال َح ِكي ُم )‬ ‫‪ ،‬ولذلك قرنه بقوله ‪ ( :‬ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو ْالعَ ِز ُ‬
‫واالستواء المذكور في كتابه استواءان ‪:‬‬
‫استواء سماوي‬
‫واستواء عرشي‬
‫ماء‬
‫س ِ‬ ‫ض َج ِميعا ا ث ُ َّم ا ْستَوى إِلَى ال َّ‬ ‫فاألول تعدى بإلى قال تعالى ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي َخلَقَ لَ ُك ْم ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫وّللا أعلم ‪ -‬اعتدل‬ ‫ُخان »ومعناه ‪ -‬ه‬ ‫يد ٌ‬ ‫ماء َو ِه َ‬
‫س ِ‬ ‫ت »وقال« ث ُ َّم ا ْستَوى إِلَى ال َّ‬ ‫سماوا ٍ‬ ‫س َّوا ُه َّن َ‬
‫س ْب َع َ‬ ‫فَ َ‬
‫أي ‪ :‬قام بقسطه وتسويته إلى السماء فسواهن سبع سماوات ‪ ،‬ونبهه على أن استواءه هذا هو‬
‫سوا اء‬ ‫قيامه بميزان الحكمة ‪ ،‬وتسويته بقوله أوال عن األرض( َوقَد ََّر فِيها أ َ ْقواتَها فِي أ َ ْربَعَ ِة أَي ٍَّام َ‬
‫يز ْالعَ ِل ِيم ) ‪.‬‬ ‫ِير ْالعَ ِز ِ‬
‫سائِ ِلينَ )وبقوله آخرا( ذ ِل َك ت َ ْقد ُ‬ ‫ِلل َّ‬
‫وأما االستواء العرشي ‪ :‬فهو أنه تعالى قام بالقسط ‪ ،‬متعرفا بوحدانيته في عالمين ‪:‬‬
‫عالم الخلق ‪ ،‬وعالم األمر وهو عالم التدبير ‪ (،‬أَال لَهُ ْالخ َْل ُق َو ْاأل َ ْم ُر )فكان استواؤه على العرش‬
‫للتدبير بعد انتهاء عالم الخلق لقوله تعالى ‪ ( :‬الذي خلق السماوات واألرض وما بينهما في ستة‬
‫أيام ثم استوى على العرش يدبر األمر ما من شفيع إال من بعد إذنه ) وبهذا يفهم سر تعدية‬
‫ش ْيءٍ‬ ‫االستواء العرشي بعلى ‪ ،‬ألن التدبير لألمر ال بد فيه من استعالء واستيالء « َو ُه َو ِب ُك ِهل َ‬
‫ع ِلي ٌم »وعلمه تعالى ذاته ‪ ،‬فإنه يستحيل عليه أن يقوم بذاته أمر زائد ‪ ،‬أو عين زائدة ما هي‬ ‫َ‬
‫ذاته ‪ ،‬تعطيها حكما ال يصح لها ذلك الحكم دونها مما يكون كماال لها في ألوهيتها ‪ ،‬بل ال‬
‫تصح األلوهة إال بها وهو كونه عالما بكل شيء ‪ ،‬ذكر ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته ‪،‬‬
‫ودل عليه دليل العقل ‪– .‬‬

‫[ القصد من خلق الثقلين ]‬


‫ّللا الثقلين في المقام الذي قصده بخلقهم وهو أجلية الحق ‪ ،‬من قوله تعالى ‪( :‬‬ ‫رقيقة ‪ -‬لما خلق ه‬
‫س إِ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬
‫ُون )فرغهم لذلك‬ ‫َوما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من هذه العناية ‪ ،‬التي ألجلها خلق هذا الخلق العظيم الكبير ‪ ،‬ومصداق كونه من أجلنا أنه إذا‬
‫انتقلنا إلى الدار اآلخرة مارت السماء وانشقت ‪ ،‬وزالت األرض وسارت الجبال بزوالنا من‬
‫الدنيا ص ‪90‬‬

‫ص ‪90 :‬‬
‫حتى ال يقوم لهم حجة باالشتغال بما به قوامهم ‪ ،‬فخلق األشياء التي بها قوامهم خاصة من‬
‫ّللا إذا لم يقوموا بما خلقوا له ‪ ،‬جاء في األثر‬
‫أجلهم ليتفرغوا لما قصد بهم ‪ ،‬فقامت عليهم حجة ه‬
‫أن الحق يقول البن آدم ‪ :‬خلقت األشياء من أجلك ‪ ،‬وخلقتك من أجلي ‪ ،‬فال تهتك ما خلقت من‬
‫أجلي ‪ ،‬فيما خلقت من أجلك‪.‬‬

‫[ العالم ال يرمي بشيء من الوجود ]‬


‫تحقيق العالم ال يرمي بشيء من الوجود ‪ ،‬وإنما يبرز إليه ما يناسبه منه ‪ ،‬وال يغلب عليه حال‬
‫من األحوال ‪ ،‬بل هو مع كل حال بما يناسبه ‪ ،‬فإن أكثر الناس ال يعلمون ذلك ‪ ،‬بل هم بهذا‬
‫القدر جاهلون ‪ ،‬وهذا هو الذي أداهم إلى ذم الدنيا وما فيها ‪ ،‬والزهد في اآلخرة ‪ ،‬وفي كل ما‬
‫ّللا ‪ ،‬وانتقدوا على من شغل نفسه بمسمى هذه كلها ‪ ،‬وجعلهم في ذلك ما حكي عن‬ ‫سوى ه‬
‫األكابر في هذا النوع ‪ ،‬وحملوا ألفاظهم على غير وجه ما تعطيه الحقيقة ‪ ،‬ورأوا أن كل ما‬
‫ّللا ‪ ،‬فأرادوا هتك هذا الحجاب فلم يقدروا عليه إال بالزهد فيه ‪.‬‬
‫ّللا حجاب عن ه‬ ‫سوى ه‬
‫والحق كل يوم في شأن الخلق ‪ ،‬والجنة وهي دار القربة ومحل الرؤية ‪ ،‬هي دار الشهوات‬
‫فاّلل خلق‬
‫وعموم اللذات ‪ ،‬ولو كانت حجابا لكان الزهد والحجاب فيها ‪ ،‬وكذلك الدار الدنيا ‪ ،‬ه‬
‫أجناس الخلق وأنواعه ‪ ،‬وما أبرز من أشخاصه لننظر فيه نظرا يوصلنا إلى العلم بخالقه ‪ ،‬فما‬
‫خلقه لنزهد فيه ‪ ،‬فوجب علينا االنكباب عليه ‪ ،‬والمثابرة والمحبة فيه ‪ ،‬ألنه طريق النظر‬
‫الموصل إلى الحق ‪ ،‬فمن زهد في الدليل فقد زهد في المدلول ‪ ،‬وخسر الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ذلك‬
‫هو الخسران المبين ‪.‬‬
‫ّللا في العالم وجهل الحق وكان من الخاسرين ‪ ،‬فالرجل كل الرجل من ظهر‬ ‫وجهل حكمة ه‬
‫بصورة الحق في عبودة محضة ‪ ،‬فأعطى كل ذي حق حقه ‪ ،‬ويبدأ بحق نفسه فإنها أقرب إليه‬
‫ّللا عليه إيصال‬
‫ّللا أحق بالقضاء ‪ ،‬وحق ه‬ ‫من كل من توجه له عليه حق من المخلوقين ‪ ،‬وحق ه‬
‫كل حق إلى من يستحقه ‪ ،‬فيطلبه أصحاب الحقوق بحقوقهم نطقا وحاال ظاهرا وباطنا ‪ ،‬فيطلبه‬
‫السمع بحقه ‪ ،‬والبصر واللسان واليدان والبطن والفرج والقدمان والقلب والعقل والفكر والنفس‬
‫النباتية ‪ ،‬والحيوانية والغضبية والشهوانية والحرص ‪ ،‬واألمل والخوف والرجاء واإلسالم‬
‫واإليمان واإلحسان ‪ ،‬وأمثال هؤالء من عالمه المتصل به ‪ ،‬وأمره الحق أن ال يغفل‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وكان أيضا هذا ابتالء مدرجا في نعمة ‪ ،‬أو نعمة مدرجة في ابتالء ‪ ،‬مثل خلق الحياة والموت‬
‫علَى ْال ِ‬
‫ماء ِليَ ْبلُ َو ُك ْم‬ ‫ض فِي ِست َّ ِة أَي ٍَّام َوكانَ َ‬
‫ع ْر ُ‬
‫شه ُ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫‪ ،‬فقال تعالى( َو ُه َو الَّذِي َخلَقَ ال َّ‬
‫سماوا ِ‬
‫أَيُّ ُك ْم‬
‫ص ‪91‬‬

‫ص ‪91 :‬‬
‫عن أحد من هؤالء هأوال ‪ ،‬ويصرفهم في المواطن التي عين له الحق ‪ ،‬وجعل هذه القوى كلها‬
‫ّللا تعالى جعال‬ ‫متوجهة على هذه النفس الناطقة بطلب حقوقها ‪ ،‬وجعلها كلها ناطقة بتسبيح ه‬
‫ذاتيا ال تنفك عنه ‪ ،‬وجعل هذه الحقوق التي توجهت لها على النفس الناطقة الحاكمة على‬
‫ّللا بحمده دنيا وآخرة ‪ ،‬فالعارف المك همل‬ ‫الجماعة ثابتة الحق جزاء لما هي عليه من تسبيح ه‬
‫المعرفة يعلم أن فيه من يطلب مشاهدة ربه ومعرفته الفكرية والشهودية ‪ ،‬فتعين عليه أن يؤدي‬
‫إليهم حقهم من ذلك ‪ ،‬وعلم أن فيه من يطلب المأكل الشهي الذي يالئم مزاجه ‪ ،‬والمشرب‬
‫والمنكح والمركب والملبس والسماع والنعيم الحسي المحسوس ‪ ،‬فتعين عليه أيضا أن يؤدي‬
‫إليهم حقوقهم من ذلك الذي عين لهم الحق ‪ ،‬ومن كان هذا حاله كيف يصح له أن يزهد في‬
‫ّللا إال له ‪ .‬إال أنه مفتقر إلى علم ما هو له وما هو لغيره لئال‬ ‫شيء من الموجودات ؟ وما خلقها ه‬
‫يقول كل شيء هو له ‪ ،‬فال ينظر من الوجوه الحسان إال ما يعلم أنه له ‪ ،‬وما يعلم أنه لغيره‬
‫يكف بصره ويغضه عنه ‪ ،‬فإنه محجور عليه ما هو لغيره ‪ ،‬فهذا حظه من الورع واالجتناب ‪،‬‬
‫والزهد إنما متعلقة األولوية بخالف الورع وكل ترك ‪ ،‬فأما األولوية فينظر في الموطن يعمل‬
‫بمقتضاه ‪ ،‬ومقتضاه قد عينه له الحق بما أعلمه به بلسان الشرع ‪ ،‬فسموا من طريق األخذ‬
‫ّللا‬
‫باألولوية زهادا ‪ ،‬حيث أخذوا بها ‪ ،‬فإن لهم تناول ذلك في الحياة الدنيا فما فعلوا ‪ ،‬ألن ه‬
‫خيرهم فما أوجبه عليهم وال ندبهم إليه وال حجر عليهم وال كرهه فاعلم ذلك ‪ ،‬ثم إنه ينظر في‬
‫هذا المخير فيه فال يخلو حاله في تناوله أن يحول بينه هذا التناول وبين المقام األعلى الذي‬
‫رجحه له أو ال يحول ‪ ،‬فإن حال بينه وبينه تعين عليه بحكم العقل الصحيح السليم تركه والزهد‬
‫فيه ‪ ،‬وإن كان على بينة من ربه أن ذلك ال يقدح ‪ ،‬وال يحول بينه وبين الرتبة العليا من ذلك‬
‫امنُ ْن أ َ ْو أ َ ْم ِس ْك بِغَي ِْر ِحسا ٍ‬
‫ب‬ ‫عطاؤُنا فَ ْ‬
‫فال فائدة لتركه ‪ ،‬كما قال لنبيه سليمان عليه السالم ‪ «:‬هذا َ‬
‫»وال تكون ممن تلتبس عليه األمور فيتخيل أنه بزهده فيما هو حق لشخص ما من رعيته ‪،‬‬
‫ينال حظ ما يطلبه به منه شخص آخر من رعيته ‪ ،‬فإن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ع ِلي ٌم »أي بما خلق ‪،‬‬ ‫ع َم اال ) *وقال( َولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم َحتَّى نَ ْعلَ َم )فقال تعالى « َو ُه َو بِ ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ َ‬ ‫أ َ ْح َ‬
‫س ُن َ‬
‫ت َوما فِي‬ ‫س َّخ َر لَ ُك ْم ما فِي ال َّ‬
‫سماوا ِ‬ ‫وبما ألجله خلق ‪ ،‬وبما يكون ممن خلق ‪ ،‬وقال تعالى( َو َ‬
‫ض َج ِميعا ا ِم ْنهُ )فهو قوله« َخلَقَ لَ ُك ْم » *أي من أجلكم ‪ ،‬وجعل ذلك آيات لقوم يتفكرون‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫ليعلموا ما مراد‬
‫ص ‪92‬‬

‫ص ‪92 :‬‬
‫ّللا تدبير نفسه وواله أن يعلم ‪ ،‬فإذا علم استعمله‬
‫ذلك عين الجهل ‪ ،‬فاألولى بالعبد الذي كلفه ه‬
‫علمه فوفهى الحقوق أربابها ‪ ،‬ومثل هذا اإلمام في العالم قليل ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪30‬‬


‫س ِفكُ‬ ‫ض َخ ِليفَةً قالُوا أ َ تَجْ عَ ُل فِيها َم ْن يُ ْف ِ‬
‫س ُد فِيها َويَ ْ‬ ‫َوإِ ْذ قا َل َربُّكَ ِل ْل َملئِ َك ِة إِ ِنهي جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ون ) ‪( 30‬‬ ‫ِس لَكَ قا َل إِ ِنهي أ َ ْعلَ ُم ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِدكَ َونُقَ هد ُ‬
‫ال هدِما َء َونَحْ ُن نُ َ‬
‫خلق الخليفة من العناصر‬

‫[ خلق الخليفة من العناصر ]‬


‫ّللا األفالك والسماوات ‪ ،‬وأوحى في كل سماء أمرها ‪ ،‬ورتب فيها أنوارها وسرجها ‪،‬‬ ‫لما خلق ه‬
‫وعمرها بمالئكته وحركها فتحركت ‪ ،‬وخلق الجان من النار ‪ ،‬والطير والدواب البرية‬
‫والبحرية والحشرات ‪ ،‬وقدر في األرض أقواتها من أجل المولدات ‪ ،‬فجعلها خزانة ألقواتهم ‪،‬‬
‫واستوت المملكة وتهيأت ‪ ،‬ما عرف أحد من هؤالء المخلوقات كلها من أي جنس يكون هذا‬
‫ّللا الخلق باإليجاد ‪ ،‬إلى أن انتهت النوبة‬
‫ّللا هذه المملكة لوجوده ‪ ،‬بترتيب ه‬
‫الخليفة ؟ الذي مهد ه‬
‫والترتيب اإللهي إلى ظهور هذه النشأة اإلنسانية اآلدمية ‪ ،‬فلما وصل الوقت المعين في علمه‬
‫إليجاد هذا الخليفة ‪ ،‬أمر بعض مالئكته بأن يأتيه بقبضة من كل أجناس تربة األرض ‪ ،‬فأتاه‬
‫بها ‪ -‬في خبر طويل معلوم عند الناس ‪ -‬فأخذها سبحانه وخمرها بيديه في قوله « لما خلقت‬
‫بيدي » فلما خمر الحق تعالى بيديه طينة آدم حتى تغير ريحها وهو المسنون ‪ ،‬وذلك الجزء‬
‫ّللا منه في قوله تعالى ‪ِ «:‬م ْن‬
‫الهوائي الذي في النشأة ‪ ،‬وكان الجزء الناري الذي أنشأه ه‬
‫ار »والجزء المائي هو الذي عجن به التراب فصار طينا ‪ ،‬فلما سوى نشأته‬ ‫ص ْلصا ٍل َك ْالفَ َّخ ِ‬
‫َ‬
‫جعل ظهره محال لألشقياء والسعداء من ذريته ‪ ،‬فأودع فيه ما كان في قبضتيه ‪ ،‬فإنه سبحانه‬
‫أخبر أن في قبضة يمينه السعداء ‪ ،‬وفي قبضة اليد األخرى األشقياء ‪ ،‬وكلتا يدي ربي يمين‬
‫مباركة ‪ ،‬فقال ‪ :‬هؤالء للجنة ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا من ذلك ‪ ،‬فمن وجوهه عندنا االبتالء الذي نبهنا عليه ‪ ،‬ثم أردف هذه اآلية بنعمة‬ ‫ه‬
‫االستخالف وتعليم األسماء والسجود لهذه النشأة اإلنسانية ‪ ،‬فقال تعالى ( ‪َ «) 31‬و ِإ ْذ قا َل َرب َُّك‬
‫ِل ْل َمالئِ َك ِة»‬
‫ص ‪93‬‬

‫ص ‪93 :‬‬
‫وبعمل أهل الجنة يعملون ‪ ،‬وهؤالء إلى النار ‪ ،‬وبعمل أهل النار يعملون ‪ ،‬وأنشأ الحق هذه‬
‫النشأة اإلنسانية في أحسن تقويم ‪ ،‬ثم نفخ فيها من روحه المضاف إليه ‪ ،‬فحدث عند هذا النفخ‬
‫ّللا في اإلنسان الكامل‬
‫فيه بسريانه في أجزائه الحياة وما يتبعها من كونه حيوانا ‪ ،‬وبذلك جمع ه‬
‫بين الصورتين الطبيعيتين في نشأته ‪ ،‬فخلقه بجسم مظلم كثيف ‪ ،‬وبجسم لطيف محمول في هذا‬
‫الجسم الكثيف سماه روحا له ‪ ،‬به كان حيوانا وهو البخار الخارج من تجويف القلب المنتشر‬
‫في أجزاء البدن المعطي فيه النمو واإلحساس ‪ ،‬ثم خصه بما يتميز به عن الحيوان بالقوة‬
‫دراكا بهذه القوى ‪ ،‬حيا عالما‬
‫المصورة والعاقلة ‪ ،‬ثم أنشأه خلقا آخر وهو اإلنسانية فجعله ه‬
‫قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا على حد معلوم معتاد في اكتسابه ‪ ،‬وخصه دون العالم كله‬
‫بالقوة المفكرة التي بها يدبر األمور ويفصلها ‪ ،‬وليس لغيره من العالم ذلك فإنه على الصورة‬
‫ّللا أحسن الخالقين‬
‫اإللهية ‪ ،‬ومن صورتها يدبر األمر يفصل اآليات فتبارك ه‬

‫‪ -‬البحث الثاني ‪:‬‬

‫[ ما هو اإلنسان ؟ ]‬
‫ما هو اإلنسان ؟‬
‫اعلم أن الناس اختلفوا في مسمى اإلنسان ما هو ؟‬
‫فقالت طائفة ‪ :‬هو اللطيفة‬
‫وطائفة قالت ‪ :‬هو الجسم ‪ ،‬وطائفة قالت ‪ :‬هو المجموع وهو األولى ‪.‬‬
‫وقد وردت لفظة اإلنسان على ما ذهبت إليه كل طائفة ‪ ،‬ثم اختلفنا في شرفه هل هو ذاتي ؟‬
‫أو هو بمرتبته نالها بعد ظهوره في عينه وتسويته كامال في إنسانيته إما بالعلم وإما بالخالفة‬
‫واإلمامة ؟‬
‫ّللا إياه بيديه ‪ ،‬ولم يجمع ذلك لغيره من المخلوقين‬
‫فمن قال ‪ :‬إنه شريف لذاته ‪ ،‬نظر إلى خلق ه‬
‫‪ ،‬وقال ‪ :‬إنه خلقه على صورته ‪ ،‬فهذه حجة من قال شرفه شرف ذاتي ‪ ،‬ومن خالف هذا القول‬
‫قال ‪ :‬لو أنه شريف لذاته لكنا إذا رأينا ذاته علمنا شرفه ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا خلقنا صالحا في نفس األمر ‪ ،‬قرن التعريف لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫لما اقتضى عند ه‬
‫باالسم الرب الذي هو المصلح ‪ ،‬وأضافه إلى محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم اعتناء به أنه المقصود‬
‫من هذه النشأة ‪ ،‬إذ كان سيد الناس يوم القيامة ‪ ،‬وأخفى في الدنيا ما يجب من تعظيمه لعلو‬
‫منزلته ‪ ،‬كما أخفى ما يستحقه جل جالله من تعظيم عباده إياه ‪ ،‬وأطلق األلسنة عليه بأن له‬
‫صاحبة وولدا ‪ ،‬وما وقع به التعريف مما ال يليق به ‪ ،‬كذلك قيل فيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم إنه‬
‫ساحر مجنون كذاب ‪ ،‬وغير ذلك ‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة وظهر الحق سبحانه في عزته‬
‫وكبريائه ‪ ،‬فذ هل كل موجود تحت عزته على الكشف ‪ ،‬وذهبت الدعاوى وتبرأ الذين اتهبعوا من‬
‫ّللا عليه وسلم وسيادته على الناس ‪،‬‬‫الذين اتهبعوا ‪ ،‬ظهر أيضا في ذلك اليوم مقام محمد صلهى ه‬
‫وافتقار‬
‫ص ‪94‬‬
‫ص ‪94 :‬‬
‫واألمر ليس كذلك ‪ ،‬ولم يكن يتميز اإلنسان الكبير الشريف بما يكون عليه من العلم والخلق‬
‫على غيره من األناسي ويجمعهما الحد الذاتي ‪ ،‬فدل أن شرف اإلنسان بأمر عارض يسمى‬
‫المنزلة أو المرتبة ‪ ،‬فالمنزلة هي الشريفة ‪ ،‬والشخص الموصوف بها نال الشرف بحكم التبعية‬
‫ّللا من‬
‫‪ ،‬كمرتبة الرسالة والنبوة والخالفة والسلطنة ‪ ،‬فما علم شرف اإلنسان إال بما أعطاه ه‬
‫ّللا إياه ‪ .‬وأرفع المنازل‬ ‫العلم والخالفة ‪ ،‬فليس لمخلوق شرف من ذاته على غيره إال بتشريف ه‬
‫ّللا على عبده مشاهدة عبوديته دائما ‪ ،‬سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا‬ ‫ّللا أن يحفظ ه‬
‫عند ه‬
‫أو لم يخلع ‪ ،‬فهذه أشرف منزلة تعطى لعبد ‪.‬‬
‫سبْحانَ الَّذِي أَسْرى ِبعَ ْب ِد ِه )فقرن‬
‫طنَ ْعت ُ َك ِلنَ ْف ِسي )وقوله سبحانه ‪ُ ( :‬‬
‫ص َ‬
‫وهو قوله تعالى ( ‪َ :‬وا ْ‬
‫معه تنزيهه ‪ ،‬فليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها ‪ ،‬ولهذا لم يكن لمخلوق‬
‫شرف إال بالوجه الخاص الذي له من الحق ‪ ،‬ال من جهة سببه المخلوق مثله ‪ ،‬وفي هذا‬
‫الشرف يستوي أول موجود ‪ -‬وهو القلم أو العقل أو ما سميته ‪ -‬وأدنى الموجودات مرتبة ‪ ،‬فإن‬
‫النسبة واحدة في اإليجاد ‪ ،‬والحقيقة واحدة في الجميع من اإلمكان ‪ ،‬فآخر صورة ظهر فيها‬
‫اإلنسان الصورة اآلدمية ‪ ،‬وليس وراءها صورة أنزل منها ‪ ،‬وبها يكون في النار من شقي‬
‫ألنها نشأة تركيب تقبل اآلالم والعلل ‪ ،‬وأما أهل السعادة فينشئون نشأة وتركيبا ال يقبل ألما وال‬
‫مرضا وال خبثا ‪ ،‬ولهذا ال يهرم أهل الجنة وال يتمخطون وال يبولون وال يتغوطون وال‬
‫يسقمون وال يجوعون وال يعطشون ‪ ،‬وأهل النار على النقيض منهم ‪ ،‬وهي نشأة الدنيا‬
‫وتركيبها فهي أدنى صورة قبلها اإلنسان وقد أتت عليه أزمنة ودهور قبل أن يظهر في هذه‬
‫الصورة اآلدمية ‪ ،‬وهو في الصورة التي له في كل مقام وحضرة من فلك وسماء وغير ذلك‬
‫مما تمر عليه األزمان والدهور ‪ ،‬ولم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة‬
‫اآلدمية العنصرية ‪ ،‬ولهذا ما‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الخلق إليه من سائر األمم في فتح باب الشفاعة ‪ ،‬وبان فضله على سائر األنبياء والرسل ‪ ،‬فعلم‬
‫هنالك عظم منزلته عند ربه ‪ ،‬كما تظهر عزة كل مقرب عند سلطان عند ظهور سلطانه‬
‫ودولته ‪ ،‬فأخبر سبحانه نبيه محمدا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بما كان بينه جل عاله وبين مالئكته‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فمن جعل لفظة المالئكة بمعنى الرسل كان صفة ‪ ،‬فدخل‬ ‫في حق آدم صلهى ه‬
‫فيهم إبليس ‪ ،‬ومن جعله اسما لهم من حيث نشأتهم وإن كانوا سموا به الستتارهم ‪ ،‬لم يدخل‬
‫إبليس في هذا الخطاب ‪ ،‬وقد يكون الخطاب عاما لهم ولغيرهم من المخلوقين في ذلك الوقت ‪،‬‬
‫وخصوا المالئكة بالذكر اعتناء بهم وتهمما وتشريفا ‪ ،‬فيدخل إبليس‬
‫ص ‪95‬‬

‫ص ‪95 :‬‬
‫ابتاله قط في صورة من صوره في جميع العالم إال في هذه الصورة اآلدمية ‪ ،‬وال عصى‬
‫اإلنسان قط خالقه إال فيها ‪ ،‬وال ادعى رتبة خالقه إال فيها وال مات إال فيها ‪ ،‬ولهذا يقبل الموت‬
‫أهل الكبائر في النار ‪ ،‬ثم يخرجون فيغمسون في نهر الحياة فيتركبون تركيبا ال يقبل اآلالم وال‬
‫األسقام ‪ ،‬فيدخلون بتلك الصورة الجنة‬

‫‪ -‬البحث الثالث ‪-‬‬


‫[ خلق االنسان الكامل ]‬
‫خلق آدم عليه السالم اإلنسان الكامل األول ‪ ،‬والخليفة األول ‪ ،‬باليدين وعلى الصورة اإللهية ‪:‬‬
‫ّللا باإلنسان الخالفة واإلمامة بدأ بإيجاد العالم ‪ ،‬وهيأه وسواه وعدله ورتبه مملكة‬
‫لما أراد ه‬
‫ّللا جسم اإلنسان الطبيعي ونفخ فيه من الروح‬ ‫قائمة ‪ ،‬فلما استعد لقبول أن يكون مأموما أنشأ ه‬
‫اإللهي ‪ ،‬فخلقه على صورته ألجل االستخالف ‪ ،‬فظهر بجسمه فكان المسمى آدم فجعله في‬
‫ّللا في كتابه لنا ‪ ،‬وجعل اإلمامة في‬ ‫األرض خليفة ‪ ،‬وكان من أمره وحاله مع المالئكة ما ذكر ه‬
‫بنيه إلى يوم القيامة ‪ ،‬فاإلنسان الكامل هو المقصود الذي به عمرت الدنيا وقامت ‪ ،‬وإذا رحل‬
‫عنها زالت الدنيا ‪ ،‬ومارت السماء ‪ ،‬وانتثرت النجوم ‪ ،‬وكورت الشمس ‪ ،‬وسيرت الجبال ‪،‬‬
‫وعطلت العشار ‪ ،‬وسجرت البحار ‪ ،‬وذهبت الدار الدنيا بآخرها ‪ ،‬وانتقلت العمارة إلى الدار‬
‫اآلخرة ‪ ،‬بانتقال اإلنسان ‪ ،‬فعمرت الجنة والنار ‪ ،‬وما بعد الدنيا من دار ‪ :‬إال الجنة والنار ‪.‬‬
‫ّللا كمال هذه‬‫ّللا جمع لنشأة جسد آدم بين يديه فقال « لما خلقت بيدي » فإنه لما أراد ه‬
‫واعلم أن ه‬
‫النشأة اإلنسانية جمع لها بين يديه ‪ ،‬وأعطاها جميع حقائق العالم ‪ ،‬وتجلى لها في األسماء كلها‬
‫‪ ،‬فحازت الصورة اإللهية ‪ ،‬والصورة الكونية ‪ ،‬وجعلها روحا للعالم وجعل أصناف العالم له‬
‫كاألعضاء من الجسم للروح المدبرة له ‪ ،‬فلو فارق العالم هذا اإلنسان مات العالم ‪ ،‬فالدار الدنيا‬
‫جارحة من جوارح جسد العالم الذي اإلنسان روحه ‪ ،‬فلما قابل اإلنسان الحضرتين بذاته (‬
‫الحضرة اإللهية والحضرة الكونية ) صحت له الخالفة ‪ ،‬وتدبير العالم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫في التعريف وإن لم يجر له ذكر ‪ ،‬وأما قوله تعالى« ِإ ِنهي جا ِع ٌل »أي خالق وناصب« فِي‬
‫ض َخ ِليفَةا »فإن أراد في ذلك من يخلف من مضى في األرض من األمم قبلنا أو المالئكة ‪،‬‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫وهو األظهر ‪ ،‬فيدخل تحت هذه اللفظة آدم وذريته الكافر والمؤمن ‪ ،‬وإن أراد بالخالفة النيابة‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬والوجهان صالحان لذلك« قالُوا أ َ‬ ‫عنه في خلقه ‪ ،‬فتختص بذلك الرسل صلوات ه‬
‫ِك »فلهذا تقوى عندنا وظهر أنا خلف‬ ‫ت َ ْجعَ ُل فِيها َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيها َويَ ْس ِفكُ ال هدِما َء َون َْح ُن نُ َ‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْمد َ‬
‫من المالئكة في األرض ‪ ،‬ألنهم لو فهموا من الحق في خطابه أن المراد غيرهم لما أجابوا بهذا‬
‫الجواب ‪ ،‬هذا جواب‬
‫ص ‪96‬‬

‫ص ‪96 :‬‬
‫وتفصيله ‪ ،‬فإذا لم يحز اإلنسان رتبة الكمال فهو حيوان تشبه صورته صورة اإلنسان ‪.‬‬
‫فاإلنسان الكامل من تممت له الصورة اإللهية ‪ ،‬وال يكمل إال بالمرتبة ‪ ،‬ومن نزل عنها فعنده‬
‫من الصورة بقدر ما عنده ‪ ،‬أال ترى الحيوان يسمع ويبصر ويدرك الروائح والطعوم والحار‬
‫والبارد وال يقال فيه إنسان ! بل هو حمار وفرس وطائر وغير ذلك ‪ ،‬فلو كملت فيه الصورة‬
‫قيل فيه إنسان ‪ ،‬كذلك اإلنسان ال يكمل فيزول عنه االسم العام إلى االسم الخاص فال يسمى‬
‫خليفة إال بكمال الصورة اإللهية فيه ‪ ،‬إذ العالم ال ينظرون إال إليها ‪ ،‬وهو اآلخر بخلقه الطبيعي‬
‫ّللا ما خلق أوال من هذا النوع إال الكامل ‪ ،‬وهو آدم عليه السالم ‪ ،‬وهو‬‫فإنه آخر المولدات فإن ه‬
‫لم يكن مبعوثا ألنه لم يكن مرسال إلى أحد ‪ ،‬وإنما كان في األرض لوجود عالم التركيب ‪ ،‬فهو‬
‫مفتتح وجودنا ‪ ،‬فاإلنسان الكامل ظاهره خلق ‪ ،‬وباطنه حق ‪ ،‬وما عدا هذا فهو اإلنسان‬
‫الحيواني ‪ ،‬ورتبة اإلنسان الحيواني من اإلنسان الكامل رتبة خلق النسناس من اإلنسان‬
‫الحيواني ‪ ،‬ثم أبان الحق عن مرتبة الكمال لهذا النوع ‪ ،‬فمن حازها منه فهو اإلنسان الذي‬
‫أريده ‪ ،‬ومن نزل عن تلك الرتبة فعنده من اإلنسانية بحسب ما تبقى له ‪ ،‬وليس في الموجودات‬
‫من وسع الحق سواه ‪ ،‬وما وسعه إال بقبول الصورة ‪ ،‬فهو مجلى الحق فيرى الحق صورته في‬
‫اإلنسان الكامل ‪ ،‬ومعنى رؤية الحق صورته فيه هو ‪ :‬إطالق جميع األسماء اإللهية عليه ‪ .‬كما‬
‫وّللا الرازق « وبهم‬
‫وّللا الناصر « وبهم ترزقون » ه‬ ‫جاء في الخبر « فبهم تنصرون » ه‬
‫وّللا الراحم ‪ ،‬فإنه سبحانه ما سمى نفسه باسم من األسماء إال وجعل لإلنسان في‬‫ترحمون » ه‬
‫التخلق بذلك االسم حظا منه يظهر به في العالم على قدر ما يليق به ‪ ،‬وأنزله خليفة عنه في‬
‫أرضه ‪ ،‬والخليفة معلوم أنه ال يظهر إال بصفة من استخلفه ‪ ،‬فال مخلوق أعظم رحمة من‬
‫اإلنسان الكامل الذي هو مجلى حقائق العالم ‪ ،‬فهو آخر نوع ظهر ‪ ،‬فأوليته حق وآخريته خلق‬
‫‪ ،‬فهو‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫على أنهم أجابوا من حيث ما فهموا ‪ ،‬وقد يكون األمر في نفسه على ما فهموا وقد ال يكون ‪،‬‬
‫وذلك أن كل كالم يحكيه الحق أو يخبر به أنه قول ألحد من خلقه ‪ ،‬ال يلزم منه أن يكون‬
‫صحيحا مدلول ذلك القول ‪ ،‬وال فاسدا وال إصابة وال خطأ ‪ ،‬وإنما تتبين صحته وفساده من‬
‫دليل آخر سمعي أو عقلي ‪ ،‬واألظهر ما ذهبنا إليه في مفهومهم ‪ ،‬ولما أبصرت المالئكة نشأة‬
‫اإلنسان مركبة من طبائع متنافرة ‪ ،‬دلهم ذلك على أنه في جبلة هذا المخلوق المنازعة في‬
‫جنسه ومع غير جنسه ‪،‬‬
‫ص ‪97‬‬

‫ص ‪97 :‬‬
‫األول من حيث الصورة اإللهية ‪ ،‬واآلخر من حيث الصورة الكونية ‪ ،‬والظاهر بالصورتين‬
‫والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة اإللهية ‪ ،‬وقد ظهر حكم هذا في عدم علم‬
‫ّللا قد قال لهم ‪ :‬إنه خليفة ‪ ،‬فكيف بهم لو لم يقل لهم ذلك ؟ فلم يكن‬ ‫المالئكة بمنزلته مع كون ه‬
‫ذلك إال لبطونه عن المالئكة ‪ ،‬وهم من العالم األعلى العالم بما في اآلخرة وبعض األولى ‪،‬‬
‫فإنهم لو علموا ما يكون في األولى ما جهلوا رتبة آدم عليه السالم مع التعريف اإللهي لهم‬
‫ض َخ ِليفَةا »وما عرفه من العالم إال اللوح والقلم وهم العالون ‪ ،‬وال‬‫بقوله «‪:‬إِ ِنهي جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫يتمكن لهم إنكاره والقلم قد سطره واللوح قد حواه ‪ ،‬فإن القلم لما سطره سطر رتبته وما يكون‬
‫منه ‪ ،‬واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه ‪ .‬أما المالئكة فلم تر من آدم إال صورته‬
‫الطبيعية الجسمية المظلمة العنصرية الكثيفة ‪ ،‬لذلك قالت ما قالت ‪ ،‬وكان آدم عند العالم من‬
‫المالئكة فمن دونهم مجهول الباطن ‪ ،‬فحكموا عليه بالفساد ‪ ،‬أي باإلفساد من ظاهر نشأته ل هما‬
‫رأوها قامت من طبائع مختلفة متضادة متنافرة ‪ ،‬فعلموا أنه ال بد أن يظهر أثر هذه األصول‬
‫ّللا عليه من الصورة حيث‬ ‫على من هو على هذه النشأة ‪ ،‬فلو علموا باطنه وهو حقيقة ما خلقه ه‬
‫ّللا خلق آدم على صورته » لعلمت المالئكة ما جهلته من آدم‬ ‫ّللا عليه وسلم « ‪ :‬إن ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا بكمال الصورة فيه وأمرهم بالسجود له سارعوا بالسجود ‪ ،‬وال سيما وقد‬ ‫‪ ،‬فلما أعلمهم ه‬
‫ّللا إني أعطيته الصورة‬ ‫ظهر لهم بالفعل في تعليمه األسماء إياهم ‪ ،‬ولو لم يعلمهم وقال لهم ه‬
‫ّللا تعالى جمع آلدم في‬
‫ّللا ‪ ،‬فلوال أن ه‬
‫والسورة ألخذوها إيمانا وعاملوه بما عاملوه به ألمر ه‬
‫خلقه بين يديه فحاز الصورتين وإال كان من جملة الحيوان الذي يمشي على رجليه ‪ ،‬وإنا وإن‬
‫حزنا بخلقنا الصورة الربانية فنحن بحكم األصل عبيد عبودية ال حرية فيها ‪ ،‬فما نحن سادة وال‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إال آسية‬ ‫أرباب ‪ ،‬قال صلهى ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ويدخل في هذا الجان واإلنس ‪ ،‬وإنما لم يذكروا ذلك وإن كانوا من طبائع متنافرة غير أنهم‬
‫غلب عليهم عنصر النار كما غلب علينا عنصر التراب ‪ ،‬فهم أشد منازعة منا للحركة السريعة‬
‫التي في لهب النار والسكون الذي في التراب ‪ ،‬فكل منازعة تقع منا فمن غلبة طبيعة النار في‬
‫ذلك الوقت ‪ ،‬وهو الغضب والحمية ‪ ،‬وهو المرة الصفراء ‪ ،‬لكن الجان لما لم يقل لهم الحق‬
‫إنهم يخلفونكم في األرض لم يقولوا شيئا ‪ ،‬وإنما القول في الجان بالمنازعة أولى لما ذكرناه‬
‫ف «قالُوا أ َ ت َ ْجعَ ُل ِفيها َم ْن يُ ْف ِس ُد ِفيها‬
‫ص ‪98‬‬

‫ص ‪98 :‬‬
‫امرأة فرعون ‪ ،‬ومريم ابنة عمران ‪ .‬فلكون اإلنسان الكامل على الصورة الكاملة صحت له‬
‫ّللا تعالى في العالم ‪ ،‬فباإلنسانية والخالفة صحت له الصورة على الكمال‬ ‫الخالفة والنيابة عن ه‬
‫‪ ،‬وما كل إنسان خليفة ‪ ،‬فإن اإلنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا ‪ ،‬وليس المخصوص بها أيضا‬
‫الذكورية فقط ‪ ،‬فكالمنا في صورة الكامل من الرجال والنساء ‪ ،‬فإن اإلنسانية تجمع الذكر‬
‫واألنثى ‪ ،‬والذكورية واألنوثة إنما هما عارضان ليستا من حقائق اإلنسانية لمشاركة الحيوانات‬
‫ّللا عليه وسلم بالكمال للنساء كما شهد به للرجال‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫كلها في ذلك ‪ ،‬وقد شهد رسول ه‬
‫فقال في الصحيح ‪ :‬كمل من الرجال كثيرون ‪ ،‬وكملت من النساء مريم بنت عمران وآسية‬
‫ّللا قد اعتنى باإلنسان دون العالم غاية العناية ما لم‬
‫امرأة فرعون ‪ .‬فالكمل هم الخالئف ‪ ،‬فإن ه‬
‫يعتن بمخلوق بكونه جعله خليفة ‪ ،‬وأعطاه الكمال بعلم األسماء ‪ ،‬وخلقه على الصورة اإللهية ‪،‬‬
‫وأكمل من الصورة اإللهية ما يمكن أن يكون في الوجود ‪ .‬فاإلنسان الكامل مثل ‪ ،‬ضد ‪ ،‬خالف‬
‫‪ ،‬فهو مثل من حيث الصورة اإللهية ‪ ،‬ضد من حيث أنه ال يصح أن يكون في حال كونه عبدا‬
‫ربا لمن هو له عبد ‪ ،‬خالف من حيث أن الحق سمعه وبصره وقواه فأثبته وأثبت نفسه ‪،‬‬
‫ّللا هذا الكمال إال ليكون بدال من الحق ‪،‬‬
‫واإلنسان الكامل الظاهر بالصورة اإللهية لم يعطه ه‬
‫ولهذا سماه خليفة ‪ ،‬وما بعده من أمثاله خلفاء له ‪ ،‬فاألول وحده هو خليفة الحق ‪ ،‬وما ظهر عنه‬
‫من أمثاله في عالم األجسام فهم خلفاء هذا الخليفة وبدل منه في كل أمر يصح أن يكون له ‪.‬‬
‫واعلم أن المراتب كلها إلهية باألصالة ‪ ،‬وظهرت أحكامها في الكون ‪ ،‬وأعلى رتبة إلهية‬
‫ظهرت في اإلنسان الكامل ‪ ،‬فأعلى الرتب رتبة الغنى عن كل شيء ‪ ،‬وتلك الرتبة ال تنبغي إال‬
‫هّلل من حيث ذاته ‪ ،‬وأعلى الرتب في العالم الغنى بكل شيء وإن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫َويَ ْس ِفكُ ال هدِما َء »فإن أرادوا بالفساد إزالة ترتيب بعض ما نظم ه‬
‫ّللا عليه بعض العالم مما لهم‬
‫تسلط عليه وقوة ‪ ،‬ويسفك الدماء فيهم وفيما يذبحونه من الحيوانات ويقتلونها ‪ ،‬فغيرة منهم على‬
‫جناب الحق ‪ ،‬ألن له في كل ترتيب تسبيح مخصوص ‪ ،‬فإذا فسد ذلك النظام ذهب عين تلك‬
‫الصورة فزال ذلك التسبيح والتقديس بزوال المسبح والمقدس ‪ ،‬فقالوا حقا وغيرة وإيثارا لجناب‬
‫الحق ‪ ،‬وهو الظن بهم ‪ ،‬وإن أرادوا بالفساد وسفك الدماء غير ما تشرع لهم ‪ ،‬فينتهكون حرمة‬
‫الحق المشروع ‪ ،‬ويتعدون حدوده ‪ ،‬ويخالفون أمره ‪ ،‬فيريدون المخالفين من بني آدم ‪ ،‬وسبب‬
‫وجود الذرية وجود األب األول الذي هو األصل ‪ ،‬وإنما لم يتعرضوا له ولكن يتضمنه الكالم ‪،‬‬
‫ص ‪99‬‬

‫ص ‪99 :‬‬
‫شئت قلت ‪ :‬الفقر إلى كل شيء ‪ ،‬وتلك رتبة اإلنسان الكامل ‪ ،‬فإن كل شيء خلق له ومن أجله‬
‫ّللا له العالم كله ‪،‬‬ ‫ّللا من حاجته إليه ‪ ،‬فليس له غنى عنه ‪ ،‬ولذلك استخدم ه‬ ‫وسخر له ‪ ،‬لما علم ه‬
‫فما من حقيقة صورية في العالم األعلى واألسفل إال وهي ناظرة إليه نظر كمال ‪ ،‬أمينة على‬
‫ّللا إياه لتوصله إليه ‪ [- .‬حكم الصورة اإللهية ]‬ ‫سر أودعها ه‬
‫حكم الصورة اإللهية التي خلق عليها اإلنسان ‪ :‬إن العالم وإن كان على صورة الحق فما كان‬
‫العالم على الكمال في صورة الحق حتى وجد اإلنسان فيه ‪ ،‬فبه كمل العالم ‪ ،‬فاإلنسان األول‬
‫بالمرتبة اآلخر بالوجود ‪ ،‬واإلنسان من حيث رتبته أقدم من حيث جسميته ‪ ،‬فالعالم باإلنسان‬
‫على صورة الحق ‪ ،‬واإلنسان دون العالم على صورة الحق ‪ ،‬والعالم دون اإلنسان ليس على‬
‫ّللا اإلنسان الكامل وخلفاءه من األناسي على أكمل‬ ‫الكمال في صورة الحق ‪ ،‬ولذلك لما خلق ه‬
‫صورة ‪ ،‬وما ثم كمال إال صورته تعالى ‪ ،‬أخبر أن آدم خلقه على صورته ليشهد فيعرف من‬
‫طريق الشهود ‪ ،‬فأبطن في صورته الظاهرة أسماءه سبحانه التي خلع عليه حقائقها ‪ ،‬ووصفه‬
‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْي ٌء )من‬ ‫بجميع ما وصف به نفسه ‪ ،‬ونفى عنه المثلية فال يماثل وهو قوله ( ‪ :‬لَي َ‬
‫العالم ‪ ،‬أي ليس مثل مثله شيء من العالم ‪ ،‬ولم يكن مثال إال بالصورة ‪ ،‬لهذا كان الخليفة على‬
‫صورة من استخلفه ‪ ،‬فالنسبة الجامعة بين الحق والخلق ‪ ،‬هي الصورة التي خلق عليها اإلنسان‬
‫‪ ،‬ولما كان للصورة حكم ‪ ،‬ومن ظهر في صورة كان له حكمها ‪ ،‬من هنا تعرف مرتبة‬
‫اإلنسان الكامل الذي خلقه على صورته ‪ ،‬ولتلك الصور حكم فتتبع الحكم الصورة ‪ ،‬فلم يدهع‬
‫ّللا إال اإلنسان الذي ظهر بأحكام األسماء والنيابة ‪ ،‬ومن سواه‬ ‫األلوهية لنفسه أحد من خلق ه‬
‫ادعيت فيه وما ادعاها ‪ ،‬قال فرعون ‪ ( :‬أَنَا َربُّ ُك ُم ْاألَعْلى )وما في الخلق من يملك سوى‬
‫ّللا تعالى في إثبات الملك‬ ‫اإلنسان ‪ ،‬وما سوى اإلنسان من ملك وغيره ال يملك شيئا ‪ ،‬يقول ه‬
‫يقر له بالعبودية إال اإلنسان فيقال هذا عبد‬ ‫ت أَيْمانُ ُك ْم )وما ثم موجود ما ه‬ ‫لإلنسان (أ َ ْو ما َملَ َك ْ‬
‫غبه فيه وجعل له والء المعتق إذا مات من غير وارث ‪،‬‬ ‫ّللا له العتق ور ه‬
‫فالن ‪ ،‬ولهذا شرع ه‬
‫علَيْها )وما ثم موجود‬ ‫ث ْاأل َ ْر َ‬
‫ض َو َم ْن َ‬ ‫كما أن الورث هّلل من عباده قال تعالى ‪ِ ( :‬إنَّا ن َْح ُن ن َِر ُ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وإن كان القصد بإنزال المطر في طلب العباد له سقي زراعاتهم ‪ ،‬فيتخرب بيت العجوز‬
‫ّللا أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر‬ ‫الضعيفة بذلك المطر ‪ ،‬قالت عائشة ( يا رسول ه‬
‫تازوا ْاليَ ْو َم أَيُّ َها‬
‫الخبث بالمدينة ‪ ،‬فيعم الهالك الصالح والطالح ويمتازون في القيامة )( َو ْام ُ‬
‫ْال ُم ْج ِر ُمونَ )ثم قالوا عن‬
‫ص ‪100‬‬

‫ص ‪100 :‬‬
‫يقبل التسمية بجميع األسماء اإللهية إال اإلنسان ‪ ،‬وقد ندب إلى التخلق بها ولهذا أعطي الخالفة‬
‫ّللا‬
‫والنيابة وعلم األسماء كلها ‪ ،‬وكان آخر نشأة في العالم جامعة لحقائق العالم ‪ ،‬مما اختص ه‬
‫بها ملكه كله وصورته ‪ ،‬ولما كان لإلنسان الكامل هذا المنصب العالي ‪ ،‬كان العين المقصودة‬
‫علَّ َم آ َد َم ْاألَسْما َء‬
‫من العالم وحده ‪ ،‬وظهر هذا الكمال في آدم عليه السالم في قوله تعالى ‪َ ( :‬و َ‬
‫ُكلَّها )‬

‫[ الخليفة واحد ]‬
‫عز وجل ‪( :‬‬ ‫ّللا ه‬
‫الخليفة واحد ‪:‬جمع األنام على إمام واحد * عين الدليل على اإلله الواحدقال ه‬
‫س َدتا )وقال سبحانه ‪ِ ( :‬إ ِنهي جا ِع ٌل‬ ‫واح ٌد )وقال تعالى ‪ ( :‬لَ ْو كانَ فِي ِهما آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ لَفَ َ‬ ‫َو ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا اآلخر منهما‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ض َخ ِليفَةا )وقال رسول ه‬ ‫ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫وقال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬

‫[ الخلفاء من قريش ]‬
‫والتقريش التقبض واالجتماع ‪ ،‬كذلك اإلمام إن لم يكن متصفا بأخالق من استخلفه جامعا لها‬
‫مما يحتاج من استخلف عليهم وإال فال تصح خالفته ‪ ،‬فهو الواحد المجموع‬

‫[ تتابع الخلفاء في األرض ]‬


‫ّللا تعالى لما شاء أن يجعل في أرضه خلفاء على من‬ ‫تتابع الخلفاء في األرض ‪ :‬اعلم أن ه‬
‫يعمرها من اإلنس والجان وجميع الحيوانات ‪ ،‬وقدمهم ورشحهم لإلمامة دون غيرهم من‬
‫جنسهم جعل بينه وبينهم سفيرا وهو الروح األمين ‪ ،‬وسخر لهم ما في السماوات من ملك‬
‫وكوكب سابح في فلك ‪ ،‬وما في األرض وما بينهما من الخلق جميعا منه ‪ ،‬وأباح لهم جميع ما‬
‫في األرض أن يتصرفوا فيه ‪ ،‬وأيد هؤالء الخلفاء باآليات البينات ليعلم المرسلون إليهم أن‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬ومكنهم من الحكم في رعيتهم باألسماء اإللهية على وجه يسمى التعلق‬ ‫هؤالء خلفاء ه‬
‫‪ ،‬وشرع لهم في نفوسهم شرائع ‪ ،‬وحد لهم حدودا ‪ ،‬ورسم لهم مراسم ‪ ،‬يقفون عندها يختصون‬
‫بها ‪ ،‬ال يجوز ألحد من رعاياهم أن يتخذوها ألنفسهم شرائع ‪ ،‬وال يقتدون بهم فيها ‪ ،‬ثم نصب‬
‫لهم شرائع يعملون بها هم ورعيتهم وكتب لهم كتبا بذلك نزلت بها السفراء عليهم ‪ ،‬ليسمعوها‬
‫ّللا الذي استخلف عليهم فيقفوا عندها ‪ ،‬ويعملوا بها سرا وجهرا‬ ‫رعيتهم فيعلموا حدود ما أنزل ه‬
‫‪ ،‬فمنها ما كتبه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ِس لَ َك »أي من‬
‫ِك َونُقَ هد ُ‬ ‫ّللا بما أنعم عليهم ‪ ،‬فقالوا« َون َْح ُن نُ َ‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْمد َ‬ ‫نفوسهم تحدثا وثناء على ه‬
‫»ّللا تعالى« ِإ ِنهي أ َ ْعلَ ُم ما ال ت َ ْعلَ ُمونَ »من قولكم فيكم وفيمن يخلفكم ‪ ،‬وذلك أن‬ ‫أجلك« قا َل ه‬
‫ِك »فأضاف وأخر التعريف ‪ ،‬ولم يقولوا بالحمد الذي لك ‪ ،‬فالمفهوم منه‬ ‫قولهم «نُ َ‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْمد َ‬
‫تعميم‬
‫ص ‪101‬‬

‫ص ‪101 :‬‬
‫ص ‪102 :‬‬
‫بيده تعالى وهو التوراة ‪ ،‬ومنها ما نزل به الروح األمين عليهم من الكتاب المكنون الذي نزل‬
‫ّللا من عرشه المنقول من الدفتر األعظم ‪ ،‬وهو اإلمام المبين فهو معه على عرشه ‪ ،‬ونقل‬ ‫من ه‬
‫منه في اللوح المحفوظ قدر ما يقع به التصريف في الدنيا إلى يوم القيامة ‪ ،‬ويتضمن ما في‬
‫العالم من حركة وسكون ‪ ،‬واجتماع وافتراق ‪ ،‬ورزق وأجل وعمل ‪ ،‬ثم أنزل ذلك كله في‬
‫كتاب مكنون إلى السماء الدنيا ‪ ،‬وجعله بأيدي سفرة ‪ ،‬كرام بررة ‪ ،‬مطهرين أرواح قدس ‪،‬‬
‫باّلل ومالئكته وكتبه‬ ‫ّللا المؤمنين ه‬ ‫صحفا مكرمة ‪ ،‬مرفوعة مطهرة فيها توقيعات إلهية بما وعد ه‬
‫ّللا‬
‫ورسله وما جاءت به رسله من اليوم اآلخر والبعث اآلخر وما يكون في ذلك اليوم من حكم ه‬
‫ّللا ذلك كله بنفسه على صورة الحق الذي بعث به رسله ‪ ،‬ليصدقهم عند‬ ‫في خلقه ‪ ،‬وتولى ه‬
‫عبيده ‪ ،‬فعال بحكمه ذلك فيهم ‪ ،‬كما صدقهم في حال احتجابه بما أيدهم به من اآليات ‪ ،‬فآمن‬
‫ّللا‬
‫من آمن ‪ ،‬وكفر من كفر ‪ ،‬ثم إنه أنزل في الكتب والصحف على ألسنة الخلفاء صلوات ه‬
‫باّلل ونافق أو آمن ببعض وكفر ببعض مما‬ ‫عليهم وسالمة من الوعيد والتهديد ‪ ،‬وأخذ من كفر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وجحد وأشرك ‪ ،‬وكذب وظلم ‪ ،‬واعتدى وأساء ‪ ،‬وخالف وعصى ‪ ،‬وأعرض وفسق‬ ‫أنزله ه‬
‫‪ ،‬وتولى وأدبر ‪ ،‬وأخبر في التوقيع أنه من كان بهذه المثابة وقامت به هذه الصفات في الحياة‬
‫ّللا منها ‪ ،‬ومات على توبة من ذلك كله ‪ ،‬فإنه يلقى ربه وهو‬ ‫الدنيا أو بعضها ثم تاب إلى ه‬
‫ّللا سيئاته‬
‫ّللا في أجله بعد توبته فعمل عمال صالحا بدهل ه‬ ‫راض عنه ‪ ،‬فإن فسح له وأنسأ ه‬
‫حسنات ‪ ،‬وغفر له جميع ما كان وقع منه قبل ذلك ‪ ،‬ولم يؤاخذه بشيء منه ‪ ،‬وما زالت‬
‫باّلل ورسله من الخير ‪،‬‬ ‫ّللا به من آمن ه‬‫ّللا على خلفائه بما يعدهم ه‬ ‫التوقيعات اإللهية تنزل من ه‬
‫وما توعد به لمن كفر به من الشر ‪ ،‬مدة إقامة ذلك الخليفة المنزل عليه وهو الرسول إلى حين‬
‫موته ‪ ،‬فمن زمان خالفته إلى انتهاء مدة عمره ال تزال التوقيعات اإللهية تنزل عليه ‪ ،‬فإذا مات‬
‫ّللا له في ذلك ‪ ،‬أو ترك األمر شورى بين أصحابه ‪ ،‬فيولون من‬ ‫واستخلف من شاء بوحي من ه‬
‫ّللا من عنده رسوال ‪ ،‬فيقيم فيهم خليفة آخر ‪ ،‬إال إذا كان خاتم‬ ‫يجمعون عليه ‪ ،‬إلى أن يبعث ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ال أنهم‬
‫ّللا يقيم نوابا عنه ‪ ،‬فيكونون خلفاء الخليفة من عند ه‬
‫الخلفاء فإن ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫باّلل ‪ ،‬فإن التنكير أعم ‪ ،‬أي أبين في العموم من األلف والالم ‪ ،‬وإن كان‬
‫الحمد الذي يليق ه‬
‫يقتضي استغراق أجناس الثناء ‪ ،‬فيقتضي أيضا التعريف والعهد ‪ ،‬فال يختص بأحد الوجهين إال‬
‫بدليل ‪ ،‬ومن جملة ما يثنى عليه سبحانه به معرفة أسماء الثناء ‪ ،‬فإن الثناء ال يقع إال بعد‬
‫معرفة األسماء ص ‪102‬‬

‫ص ‪103 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهم األقطاب وأمراء المؤمنين إلى يوم القيامة ‪ ،‬فمن‬ ‫في منزلة الرسل خلفاء من عند ه‬
‫ّللا على‬ ‫ّللا عنه الغطاء فيكون من أهل العين والشهود ‪ ،‬فيدعو إلى ه‬ ‫هؤالء النواب من يكشف ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولوال أن الزمان اقتضى أن ال يكون‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫بصيرة ‪ ،‬كما دعا رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم لكان هؤالء مشرعين ‪ ،‬وإن لم يأتوا إال بشرع‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫مشرع بعد رسول ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإنهم كانوا يكونون فيه كما كان رسول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫وسلم في شرع من قبله إذا حكم به في أمته ‪ ،‬فهو بمنزلة األول الذي كان قبله ‪ ،‬ال خليفة عنه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا ذلك في هذه األمة ‪ ،‬علمنا أنهم خلفاء رسول ه‬ ‫في ذلك وإن قرره ‪ ،‬فلما منع ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬كما ورد‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا على بصيرة ‪ ،‬كما دعا رسول ه‬ ‫عليه وسلم وإن دعوا إلى ه‬
‫يرةٍ أَنَا َو َم ِن اتَّبَعَنِي »فالعبد إذا أقيم‬
‫ص َ‬‫على بَ ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫في القرآن العزيز عنه في قوله ‪ «:‬أ َ ْد ُ‬
‫عوا ِإلَى َّ ِ‬
‫في خروجه من حضرة الحق إلى الخلق بطريق التحكم فيهم من حيث ال يشعرون ‪ ،‬وقد‬
‫ّللا‬
‫يشعرون في حق بعض األشخاص من هذا النوع كالرسل عليهم السالم ‪ ،‬الذين جعلهم ه‬
‫ّللا فيهم ‪ ،‬وأخفى ذلك في الورثة فهم خلفاء من حيث‬ ‫خالئف في األرض ‪ ،‬يبلغون إليهم حكم ه‬
‫ال يشعر بهم ‪ ،‬وال يتمكن لهذا الخليفة المشعور به وغير المشعور به أن يقوم في الخالفة إال‬
‫بعد أن يحصل معاني حروف أوائل السور سور القرآن المعجمة ‪.‬‬
‫ّللا على‬
‫مثل « ألف الم ميم » وغيرها الواردة في أوائل بعض سور القرآن ‪ ،‬فإذا أوقفه ه‬
‫حقائقها ومعانيها تعينت له الخالفة ‪ ،‬وكان أهال للنيابة ‪ ،‬هذا في علمه بظاهر هذه الحروف ‪،‬‬
‫وأما علمه بباطنها فعلى تلك المدرجة يرجع إلى الحق فيها ‪ ،‬فيقف على أسرارها ومعانيها من‬
‫االسم الباطن إلى أن يصل إلى غايتها ‪ ،‬فيحجب الحق ظهوره بطريق الخدمة في نفس األمر ‪،‬‬
‫فيرى مع هذا القرب اإللهي خلقا بالحق ‪ ،‬كما يرى العامة بعضهم بعضا ‪ ،‬وال يكون في‬
‫الزمان إال واحدا يسمى الغوث والقطب ‪ ،‬وهو الذي ينفرد الحق ويخلو به دون خلقه ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا‬
‫فارق هيكله المنور انفرد بشخص آخر ال ينفرد بشخصين في زمان واحد ‪ ،‬وذلك العبد عين ه‬
‫في كل زمان ‪ ،‬ال ينظر الحق في زمانه إال إليه‪.‬‬

‫[ لم كان الخليفة في األرض ؟ ]‬


‫لم كان الخليفة في األرض ؟‬
‫‪ :‬لما كان االختصاص اإللهي الكامل في الجمع بين السعادة والصورة ‪ ،‬كان الكمال للمؤمن‬
‫بالخالفة في المكان الذي من شأنه أن يظهر فيه كمال الصورة ‪ ،‬من نفوذ االقتدار عند‬
‫اإلغضاب ‪ ،‬وليست الجنة بمحل لهذه الصفة‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫فإنها تدل على المسميات ‪ ،‬سواء كانوا حاضرين أو غير حاضرين ‪ ،‬فإن كانوا حاضرين‬
‫فيغني الثناء باإلشارة ‪ ،‬وإن كانوا غير حاضرين وال علم لهم بأسماء من غاب ويريدون الثناء‬
‫ّللا بهم ‪،‬‬
‫على ه‬
‫ص ‪103‬‬

‫ص ‪104 :‬‬
‫فليست بدار خالفة بل هي دار والية ‪ ،‬ونشأة الدنيا على مزاج يقبل الغضب ولهذا قال «‪ِ :‬إ ِنهي‬
‫ض َخ ِليفَةا »ولم يقل في العالم ‪ -‬الوجه الثاني في قوله تعالى« ِإ ِنهي جا ِع ٌل فِي‬ ‫جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬أنا سيد ولد آدم وال فخر‬ ‫ض َخ ِليفَةا »ورد في الخبر أن النبي صلهى ه‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫] وفي صحيح مسلم [ أنا سيد الناس يوم القيامة ] فثبتت له السيادة والشرف على أبناء جنسه‬
‫من البشر ‪ ،‬وقال عليه السالم ‪ « :‬كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » يريد على علم بذلك ‪،‬‬
‫ّللا تعالى بمرتبته وهو روح قبل إيجاده األجسام اإلنسانية ‪ ،‬كما أخذ الميثاق على بني‬ ‫فأخبره ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬من آدم إلى آخر‬ ‫آدم قبل إيجاد أجسامهم ‪ ،‬فكانت األنبياء في العالم نوابه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم عن هذا المقام بأمور ‪ :‬منها قوله صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫الرسل عليهم السالم ‪ ،‬وقد أبان صلهى ه‬
‫وّللا لو كان موسى حيا ما وسعه إال أن يتبعني » ‪.‬‬ ‫عليه وسلم « ه‬
‫وقوله في نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان إنه يؤمنا بسنة نبينا عليه السالم ‪ ،‬ولو كان‬
‫ّللا عليه وسلم قد بعث في زمان آدم لكانت األنبياء وجميع الناس تحت شريعته إلى‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫يوم القيامة حسا ‪ ،‬ولهذا لم يبعث عامة إال هو خاصة ‪ ،‬فهو الملك والسيد وكل رسول سواه‬
‫ّللا عليه‬ ‫بعث إلى قوم مخصوصين ‪ ،‬فمن زمان آدم عليه السالم إلى زمان بعث محمد صلهى ه‬
‫وسلم إلى يوم القيامة ملكه ‪ ،‬وتقدمه في اآلخرة على جميع الرسل وسيادته فمنصوص على‬
‫ّللا عليه وسلم موجودة وروحانية كل نبي ورسول ‪،‬‬ ‫ذلك في الصحيح عنه ‪ ،‬فروحانيته صلهى ه‬
‫فكان اإلمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة بما يظهرون به من الشرائع والعلوم في زمان‬
‫ّللا عليه‬ ‫وجودهم رسال ‪ ،‬فنسب كل شرع إلى من بعث به ‪ ،‬وهو في الحقيقة شرع محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم الحاكم غيبا‬ ‫وسلم وإن كان مفقود العين من حيث ال يعلم ذلك ‪ ،‬فهو صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وهو المقصود فهو ملك‬ ‫وشهادة ‪ ،‬فبنو آدم سوقة وملك لهذا السيد محمد صلهى ه‬
‫نواب عنه ‪.‬‬ ‫وسيد على جميع بني آدم ‪ ،‬وجميع من تقدمه كان ملكا له وتبعا ‪ ،‬والحاكمون فيه ه‬
‫ّللا عليه وسلم من الترتيبات في هذه‬ ‫ّللا من آدم إلى زمان محمد صلهى ه‬ ‫والملك عبارة عما مهد ه‬
‫النشأة اإلنسانية بما ظهر من األحكام اإللهية فيها ‪ ،‬فكانوا خلفاء الخليفة السيد ‪ ،‬وأول موجود‬
‫ظهر من األجسام اإلنسانية كان آدم عليه السالم ‪ ،‬فكان آدم عليه السالم أول خليفة ونائب عن‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقد ورد في الحديث‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ال يتمكن لهم ذلك لعدم معرفتهم بأسمائهم ‪ ،‬فقد نقص من عموم ذلك الحمد ما ادعوه ‪ ،‬فقال«‬
‫إِ ِنهي أ َ ْعلَ ُم ما ال ت َ ْعلَ ُمونَ »والثناء كالم ‪ ،‬والكالم إنما هو باألسماء والمسميات ‪ ،‬وقولهم« َونُقَ هد ُ‬
‫ِس‬
‫لَ َك‬
‫ص ‪104‬‬

‫ص ‪105 :‬‬
‫ّللا يقول ‪ ( :‬لوالك يا محمد ما خلقت سماء وال أرضا ‪ ،‬وال جنة وال نارا ) فكان‬ ‫المروي أن ه‬
‫آدم أول خليفة عنه ثم ولد واتصل النسل ‪ ،‬وعين في كل زمان خلفاء ‪ ،‬إلى أن وصل زمان‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فظهر مثل الشمس الباهرة ‪ ،‬فاندرج كل نور‬ ‫نشأة الجسم الطاهر محمد صلهى ه‬
‫في نوره الساطع ‪ ،‬وغاب كل حكم في حكمه ‪ ،‬وانقادت جميع الشرائع إليه ‪ ،‬وظهرت سيادته‬
‫التي كانت باطنة ‪ ،‬فإن اإلنسان آخر موجود من أجناس العالم ‪.‬‬
‫فإنه ما ثم إال ستة أجناس وكل جنس تحته أنواع وتحت األنواع أنواع ‪:‬‬
‫فالجنس األول الملك‬
‫والثاني الجان‬
‫والثالث المعدن‬
‫والرابع النبات‬
‫والخامس الحيوان ‪ ،‬وانتهى الملك واستوى‬
‫وكان الجنس السادس جنس اإلنسان وهو الخليفة ‪.‬‬
‫وإنما وجد آخرا ليكون إماما بالفعل حقيقة ‪ ،‬ال بالصالحية والقوة ‪ ،‬فعند ما وجد عينه لم يوجد‬
‫ّللا عليه وسلم نوابا ‪ ،‬حين تأخرت نشأة‬ ‫إال واليا سلطانا ملحوظا ‪ ،‬فجعل الحق للرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬ ‫جسده ‪ ،‬فكان آدم عليه السالم أول نائب عنه صلهى ه‬
‫ض َخ ِليفَةا »يحتمل أن يكون المراد‬ ‫فقال تعالى ‪َ «:‬و ِإ ْذ قا َل َرب َُّك ِل ْل َمال ِئ َك ِة ِإ ِنهي جا ِع ٌل ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا لما نفخ في آدم من روحه ‪ ،‬وأمر‬ ‫بالخالفة أن يخلف من كان قبله فيها لما فقد ‪ ،‬فإن ه‬
‫المالئكة بالسجود له ‪ ،‬فوقعت ساجدة عن األمر اإللهي بذلك ‪ ،‬فجعله قبلة للمالئكة ‪.‬‬
‫وحي ‪ ،‬فَقَعُوا لَهُ‬ ‫س َّو ْيتُهُ َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬ ‫وذلك قوله تعالى ‪ِ ( :‬إ ِنهي خا ِل ٌق بَشَرا ا ِم ْن ِط ٍ‬
‫ين ‪ ،‬فَإِذا َ‬
‫ساجدِينَ )ثم عرفهم بخالفته في األرض فلم يعرفوا عمن هو خليفة ‪ ،‬فربما ظنوا أنه خليفة في‬ ‫ِ‬
‫عمارتها عمن سلف ‪ ،‬ويحتمل أن تكون الخالفة أي النيابة عن الحق في أرضه ‪ ،‬وعليه الكالم‬
‫وكان المقصود بقوله خليفة أي نائب الحق الظاهر بصورته ‪.‬‬
‫لقول المالئكة ‪ «:‬أ َ ت َ ْجعَ ُل فِيها َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيها َويَ ْس ِفكُ ال هدِما َء »وهذا ال يقع إال ممن له حكم ‪ ،‬وال‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إن‬ ‫حكم إال لمن له مرتبة التقدم وإنفاذ األمر ‪ ،‬فخلقه على صورته قال صلهى ه‬
‫ّللا خلق آدم على صورته ‪ ،‬ولما كان عالم الخلق والتركيب يقتضي الشر لذاته ‪ ،‬لهذا قال عالم‬ ‫ه‬
‫األمر ‪ -‬الذي هو الخير الذي ال شر فيه ‪ -‬حين رأى خلق اإلنسان وتركيبه من الطبائع المتنافرة‬
‫‪ ،‬والتنافر هو عين التنازع ‪ ،‬والنزاع أمر مؤد إلى الفساد قالوا ‪ «:‬أ َ ت َ ْجعَ ُل ِفيها َم ْن يُ ْف ِس ُد ِفيها‬
‫َويَ ْس ِفكُ ال هدِما َء»‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫يقولون ونقدس ذواتنا من أجلك ‪ ،‬فال يقوم بنا جهل بك ‪ ،‬فيقال لهم ‪ :‬هل تعلمون أسماء هؤالء‬
‫؟ فيقولون ال ‪ ،‬فيقال لهم ‪ :‬فلم لم تقدسوا ذواتكم من جهلكم بما ينسب إلينا من هذه‬
‫ص ‪105‬‬

‫ص ‪106 :‬‬
‫فاعترضت المالئكة لنشأة آدم من الطبيعة ‪ ،‬لما تحمله الصورة من األضداد ‪ ،‬وال سيما وقد‬
‫جعل آدم من العناصر ‪ ،‬فلم تشاهد المالئكة األسماء اإللهية التي هي أحكام هذه الصورة ‪ ،‬وهي‬
‫كون الحق سمعه وبصره وجميع قواه ‪ ،‬فلو شهدت ذلك ما اعترضت ‪ ،‬ولكنها اعترضت لما‬
‫رأوا من تقابل طبائعه في نشأته ‪ ،‬فعلموا أن العجلة تسرع إليه ‪ ،‬وأن تقابل ما تركب منه جسده‬
‫ينتج عنه نزاعا فيؤثر فسادا في األرض وسفك دماء ‪ ،‬فقالت ما قالت ‪ ،‬من غير تعرض لمواقع‬
‫ّللاُ ال يُ ِحبُّ‬
‫األحكام المشروعة ‪ ،‬وكذلك وقع مثل ما قالوه فإنهم رأوا الحق سبحانه يقول ( ‪َ :‬و َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬وجرى‬ ‫ّللاُ ال يُ ِحبُّ ْالفَسا َد »فكرهوا ما كره ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وأحبوا ما أحب ه‬ ‫ْال ُم ْف ِسدِينَ )وقال ‪َ «:‬و َّ‬
‫ّللا في الخلق بما قدره العزيز العليم ‪ ،‬فما ظهر من عالم التركيب من الشرور فمن طبيعته‬ ‫حكم ه‬
‫التي ذكرتها المالئكة ‪ ،‬فإن الغالب على عالم األرض سلطان الهوى ‪ ،‬وهو يورث الفساد ‪،‬‬
‫فعلمت المالئكة ما يقع لعلمهم بالحقائق ‪ ،‬ألن المولد من األضداد المتنافرة ال بد فيه من‬
‫المنازعة ‪ ،‬وال سيما المولد من األركان ‪ ،‬وكذا وقع األمر ‪ ،‬وإنما وقع الغلط عندهم في‬
‫ّللا في هذا الفعل ما هي ‪ ،‬وحملهم على ذلك‬ ‫استعجالهم بهذا القول ‪ ،‬من قبل أن يعلموا حكمة ه‬
‫ّللا ‪ .‬فما ذكرت المالئكة إال مساوينا وما تعرضت للحسن‬ ‫الغيرة التي فطروا عليها في جناب ه‬
‫ّللا أن يهتضم ‪ ،‬وعلمت من هذه‬ ‫من ذلك ‪ ،‬إال ألن المأل األعلى تغلب عليه الغيرة على جناب ه‬
‫النشأة العنصرية أنها ال بد أن تخالف ربها لما هي عليه من حقيقتها ‪ ،‬وذلك عندها بالذوق من‬
‫ذاتها فإنها مخلوقة من عالم الطبيعة ‪ ،‬وإنما هي في نشأتنا أظهر ‪ ،‬فإن اعتراض المالئكة من‬
‫حيث طبيعتهم وغيرتهم على الجناب اإللهي ‪ ،‬فبالذي وقع من اإلنسان من الفساد وغيره مما‬
‫يقتضيه عالم الطبع ‪ ،‬به بعينه وقع اعتراض المالئكة ‪ ،‬فرأوه في غيرهم ولم يروه في نفوسهم‬
‫‪ ،‬فإن المالئكة غلب عليها الطبع ‪ ،‬ولم ترد الخير إال لنفسها ‪ ،‬وما وافقت الحق فيما أراد أن‬
‫يظهره في الكون ‪ ،‬من جعل آدم خليفة في األرض ‪ ،‬فعرفهم بذلك ‪ ،‬فلم يوافقوه ‪ ،‬لحكم الطبع‬
‫في الطمع في أعلى المراتب ‪ ،‬وقامت لهم صورة الغيرة على جناب الحق ‪ ،‬واإليثار لعظمته ‪،‬‬
‫وذهلوا عن تعظيمه ‪ ،‬إذ لو وقفوا مع ما ينبغي له من العظمة لوافقوه ؛ وما وافقوه ‪ ،‬وإن كانوا‬
‫ِك‬ ‫قصدوا الخير ‪ ،‬فقالوا ‪َ «:‬ون َْح ُن نُ َ‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْمد َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫األسماء ؟‬
‫سبْحان ََك ال ِع ْل َم لَنا ِإ َّال ما َ‬
‫علَّ ْمتَنا )فرجعوا إلى العجز وطلب العلم ‪ ،‬ولهذا‬ ‫فقالوا( ُ‬
‫ص ‪106‬‬

‫ص ‪107 :‬‬
‫ِس لَ َك »تعني ذواتها وقولها ‪ «:‬لَ َك »أي من أجلك ‪ ،‬وكونهم ذوات مقدسة لذاتها أنها لم‬ ‫َونُقَ هد ُ‬
‫تلتفت قط إلى غير االسم اإللهي الذي عنه تكونت ‪ ،‬فلم يطرأ عليها حجاب يحجبها عن إلهها ‪،‬‬
‫س ِبه ُحونَ اللَّ ْي َل‬
‫فتتصف لذلك الحجاب بأنها غير مقدسة ‪ ،‬ولذلك قال تعالى في المالئكة ‪ ( :‬يُ َ‬
‫هار ال يَ ْفت ُ ُرونَ )وال يكون ذلك إال من ذاته مقدسة بالشهود الدائم ‪ ،‬فقولها يعني نحن أولى‬ ‫َوالنَّ َ‬
‫ّللا في خلقه ‪ ،‬لذلك قال لهم ‪ «:‬إِ ِنهي أ َ ْعلَ ُم ما ال ت َ ْعلَ ُمونَ‬
‫من هذا ‪ ،‬فرجحوا نظرهم على علم ه‬
‫»فوصفهم بنفي العلم ‪ ،‬الذي علم الحق من هذا الخليفة مما لم يعلموا ‪ ،‬وأثنوا على أنفسهم ‪،‬‬
‫فمسألتهم جمعت ذلك حيث أثنوا على أنفسهم ‪ ،‬وعدلوها ‪ ،‬وجرحوا غيرهم ‪ ،‬وما ردوا العلم‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذا يؤيد أن المالئكة تحت حكم الطبيعة ‪ ،‬وأن لها أثرا فيهم وفي ذلك نقول‪:‬‬ ‫في ذلك إلى ه‬

‫[ شعر في اعتراض المالئكة ]‬


‫فعجبت منهم كيف قال جميعهم ‪ ....‬بفساد والدنا وسفك دماء !‬
‫إذ كان يحجبهم بظلمة طينه ‪ ....‬عما حوته من سنا األسماء‬
‫وبدا بنور ليس فيه غيره ‪ ....‬لكنهم فيه من الشهداء‬
‫أن كان والدنا محال جامعا ‪ ....‬لألولياء معا ولألعداء‬
‫ورأى المويهة والنويرة جاءتا ‪ ....‬كرها بغير هوى وغير صفاء‬
‫فبنفس ما قامت به أضداده ‪ ....‬حكموا عليه بغلظة وبذاء‬
‫وأتى يقول أنا المسبح والذي ‪ ....‬ما زال يحمدكم صباح مساء‬
‫وأنا المقدس ذات نور جاللكم ‪ ....‬وأتوا في حق أبي بكل جفاء‬
‫لما رأوا جهة الشمال ولم يروا ‪ ....‬منه يمين القبضة البيضاء‬
‫ورأوا نفوسهم عبيدا خشعا ‪ ....‬ورأوه ربا طالب استيالء‬
‫لحقيقة جمعت له أسماء من ‪ ....‬خص الحبيب بليلة اإلسراء‬
‫ورأوا منازعة اللعين بجنده ‪ ....‬يرنو إليه بمقلة البغضاء‬
‫وبذات والدنا منافق ذاته ‪ ....‬حظ العصاة وشهوتا حواء‬
‫علموا بأن الحرب حتما واقع ‪ ....‬منه بغير تردد وإباء‬
‫فلذاك ما نطقوا بما نطقوا به ‪ ....‬فاعذرهم فهمو من الصلحاء‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫صح قوله ( إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِينَ )في دعواكم في عموم ما ينبغي لي من الثناء ‪ ،‬وفي تقديس‬
‫ذواتكم‬
‫ص ‪107‬‬

‫ص ‪108 :‬‬
‫فطروا على الخير األعم جبلة ‪ ...‬ال يعرفون مواقع الشحناء‬
‫ومتى رأيت أبي وهم في مجلس ‪ ...‬كان اإلمام وهم من الخدماء‬
‫وأعاد قولهم عليهم ربنا ‪ ....‬عدال فأنزلهم إلى األعداء‬
‫فحرابة المأل الكريم عقوبة ‪ ....‬لمقالهم في أول اآلباء‬
‫أو ما ترى في يوم بدر حربهم ‪ ....‬ونبينا في نعمة ورخاء‬
‫بعريشه متملقا متضرعا ‪ .....‬إللهه في نصرة الضعفاء‬
‫فاإلنسان المخلوق في أحسن تقويم ‪ ،‬لما ظهرت للمإل األعلى طينته ‪ ،‬جهلت قيمته ‪ ،‬ونظر إلى‬
‫األضداد فقال بالفساد ‪ ،‬وغاب عن القبضة البيضاء ‪ ،‬وحميد الثناء ‪ ،‬بما أعطي من علم األسماء‬
‫‪ ،‬ولم يكن المأل األعلى سمع بالصورة ‪ ،‬التي أعطته السورة ‪ ،‬فحمل الخالفة على من تقدم من‬
‫القطان ‪ ،‬في تلك األوطان ‪ ،‬فلو علم أنه خليفة الحق ألذعن وسلم ‪ ،‬وما اعترض وال نطق ‪ ،‬ثم‬ ‫ه‬
‫ظهر في بنيه ما قاله من المقالة ‪.‬‬
‫وآدم للعالم كالروح من الجسد ‪ ،‬فاإلنسان روح العالم ‪ ،‬والعالم جسد ‪ ،‬فبالمجموع يكون العالم‬
‫كله هو اإلنسان الكبير واإلنسان فيه ‪ ،‬وإذا نظرت العالم وحده دون اإلنسان وجدته كالجسم‬
‫المسوى بغير روح ‪ ،‬وكمال العالم باإلنسان مثل كمال الجسد بالروح واإلنسان منفوخ في جسم‬
‫العالم ‪ ،‬فهو المقصود من العالم ‪ ،‬والعالم كله تفصيل آدم ‪ ،‬وآدم هو الكتاب الجامع ‪ ،‬فأرى‬
‫الحق المالئكة شرف آدم عليهم ‪ ،‬بما خصه من علم األسماء اإللهية ‪ ،‬التي خلق المشار إليهم‬
‫بها وجهلتها المالئكة ‪ ،‬فكأنه يقول سبحانه ‪ « :‬أجعل علمي حيث شئت من خلقي أكرمه بذلك‬
‫»‬
‫إشارة واعتبار ‪:‬‬
‫ض َخ ِليفَةا » ‪:‬اعتباره في العالم الصغير ‪ ،‬استخالف الروح‬ ‫في قوله تعالى« ِإ ِنهي جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫في أرض البدن ‪ ،‬لما أوجد الحق هذا الخليفة على حسب ما أوجده قال له ‪ :‬أنت المرآة وبك‬
‫ي ‪ ،‬وجهتك خليفة في‬ ‫ننظر إلى الموجودات ‪ ،‬وفيك ظهرت األسماء والصفات ‪ ،‬أنت الدليل عل ه‬
‫عالمك ‪ ،‬تظهر فيهم بما أعطيتك ‪ ،‬تمدهم بأنواري ‪ ،‬وتغذيهم بأسراري ‪ ،‬وأنت المطالب بجميع‬
‫ما يطرأ في الملك ‪ ،‬ومركز هذا الخليفة من البدن أو الجسم الذي هو مملكته إنما هو القلب‬
‫ّللا عليه وسلم مخبرا عن ربه ‪ :‬ما وسعني أرضي وال سمائي ووسعني قلب‬ ‫شرعا لقوله صلهى ه‬
‫عبدي‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من أجلي عن جهل بأمر ما ‪ ،‬في العلم به زيادة تعظيم في قلوبكم ‪ ،‬والدليل على ما ذهبنا إليه‬
‫في‬
‫ص ‪108‬‬

‫ص ‪109 :‬‬
‫ّللا تعالى ال ينظر إلى صوركم وال إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ‪.‬‬ ‫المؤمن ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن ه‬
‫وّللا سبحانه قد استخلف‬
‫وذلك أن المستخلف إنما نظره أبدا إلى خليفته ما يفعله فيما قلده ‪ ،‬ه‬
‫األرواح على األجسام ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪31‬‬


‫ُالء إِ ْن ُك ْنت ُ ْم‬
‫ماء هؤ ِ‬
‫س ِ‬‫علَى ا ْل َملئِ َك ِة فَقا َل أ َ ْنبِئ ُونِي بِأ َ ْ‬ ‫سما َء ُكلهها ث ُ هم ع ََر َ‬
‫ض ُه ْم َ‬ ‫عله َم آ َد َم ْاأل َ ْ‬
‫َو َ‬
‫ين )‪) 31‬‬ ‫صا ِدقِ َ‬
‫في األسماء‬
‫لما كان لإلنسان المنصب العالي بالخالفة كان العين المقصودة من العالم وحده ‪ ،‬وظهر هذا‬
‫علَّ َم آ َد َم ْاألَسْما َء ُكلَّها »فأكدها بالكل وهي لفظة‬ ‫الكمال في آدم عليه السالم في قوله تعالى ‪َ «:‬و َ‬
‫ّللا عليه‬ ‫تقتضي اإلحاطة والعموم ‪ ،‬فشهد له الحق بذلك ‪ ،‬كما ظهر هذا الكمال في محمد صلهى ه‬
‫وسلم أيضا بقوله « فعلمت علم األولين واآلخرين » ‪ ،‬فدخل علم آدم في علمه فإنه من األولين‬
‫وما جاء باآلخرين إال لرفع االحتمال عند السامع إذا لم يعرف ما أشرنا إليه ‪ ،‬وهو صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا آدم عليه السالم‬ ‫عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم بشهادته لنفسه ‪ ،‬وفي األسماء التي علمها ه‬
‫علَّ َم آ َد َم ْاأل َسْما َء ُكلَّها »فما بقي اسم في الحضرة اإللهية إال ظهر له ‪ ،‬فعلم‬ ‫وجوه ‪ -‬األول ‪َ «-‬و َ‬
‫ّللا بها ‪ ،‬ولم تعط بعد آدم عليه‬ ‫جميع أسماء خالقه ‪ ،‬وهي األسماء التي ما أثنت المالئكة على ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وهو العلم الذي كنى عنه بأنه جوامع الكلم ‪ ،‬فكان آدم‬ ‫السالم إال لمحمد صلهى ه‬
‫العابد بكل شرع ‪ ،‬والمسبح بكل لسان ‪ ،‬والقابل لكل تجلي ‪ .‬وأما األسماء الخارجة عن الخلق‬
‫ّللا عليه وسلم في دعائه‬ ‫والنسب فال يعلمها إال هو ‪ ،‬ألنه ال تعلق لها باألكوان وهو قوله صلهى ه‬
‫« أو استأثرت به في علم غيبك » يعني من األسماء اإللهية ‪ ،‬وإن كان معقول األسماء ما‬
‫يطلب الكون ‪ ،‬ولكن الكون ال نهاية لتكوينه ‪ ،‬فال نهاية ألسمائه ‪ .‬فأعطى الحق آدم جميع‬
‫األسماء اإللهية كلها فسبحه بكل اسم إلهي له بالكون تعلق ‪ ،‬ومجده وعظمه ‪ ،‬ال اسم القصعة‬
‫والقصيعة الذي ذهب إليه من ال علم له بشرف األمور ‪ ،‬ولذلك قالت المالئكة ‪َ «:‬ون َْح ُن نُ َ‬
‫س ِبه ُح‬
‫ِس لَ َك»‬
‫ِك َونُقَ هد ُ‬ ‫بِ َح ْمد َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫علَّ َم آ َد َم ْاألَسْما َء ُكلَّها ث ُ َّم‬
‫هذا التفسير والترجمة عن هذا ‪ ،‬قوله تعالى بعد كالمهم ( ‪َ «) 31‬و َ‬
‫ُالء إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِينَ »وما تقدم لهم في اللفظ‬ ‫علَى ْال َمالئِ َك ِة فَقا َل أ َ ْنبِئُونِي بِأَس ِ‬
‫ْماء هؤ ِ‬ ‫ض ُه ْم َ‬
‫ع َر َ‬
‫َ‬
‫ذكر‬
‫ص ‪109‬‬

‫ص ‪110 :‬‬
‫وال يقدس وال يسبح إال بأسمائه ‪ ،‬فأعلمهم بأن هّلل أسماء في العالم ما سبحته المالئكة وال قدسته‬
‫بها وقد علمها آدم ‪ ،‬فلما أحضر ما أحضره من خلقه مما ال علم للمالئكة به فقال ‪ «:‬أ َ ْن ِبئُونِي‬
‫ُالء »التي يسبحوني بها ويقدسوني« قالُوا ال ِع ْل َم لَنا »فقال آلدم ‪ «:‬أ َ ْن ِبئْ ُه ْم ِبأَسْمائِ ِه ْم‬ ‫ِبأَس ِ‬
‫ْماء هؤ ِ‬
‫»فلما أنبأهم بأسمائهم ‪ ،‬علموا أن هّلل أسماء لم يكن لهم بها علم يسبحه بها هؤالء الذين خلقهم ‪،‬‬
‫ّللا بها ‪ ،‬كما قال للمالئكة لما طافت به البيت ‪ « :‬ما كنتم تقولون » ؟ قالت‬ ‫وعلمها آدم فسبح ه‬
‫وّللا أكبر » فقال‬ ‫ّللا ه‬ ‫ّللا والحمد هّلل وال إله إال ه‬ ‫المالئكة « ‪ :‬كنا نقول في طوافنا به قبلك سبحان ه‬
‫ّللا إياه من كنز من تحت العرش ‪،‬‬ ‫باّلل » أعطاه ه‬ ‫لهم آدم ‪ « :‬وأنا أزيدكم ال حول وال قوة إال ه‬
‫لم تكن المالئكة تعلم ذلك ‪ ،‬فلو أراد المفسر بالقصعة والقصيعة االسم اإللهي المتوجه على‬
‫الصغير والكبير ‪ ،‬فسبحه الصغير في تصغيره ‪ ،‬بما ال يسبحه به الكبير في تكبيره ‪ ،‬أصاب ‪،‬‬
‫وإنما قصد لفظة القصعة والقصيعة وال شرف في مثل هذا ‪ ،‬فإنه راجع إلى ما يصطلح عليه ‪،‬‬
‫إذ لها في كل لسان اسم مركب من حروف ال يشبه االسم اآلخر ‪ ،‬فليس المراد إال ما تقع به‬
‫ّللا‬
‫الفائدة ‪ ،‬التي يماثل بها قول المالئكة في فخرها على اإلنسان أنها مسبحة ومقدسة ‪ ،‬فأراها ه‬
‫تعالى شرف آدم من حيث دعواها ‪ ،‬وهو ما ذكرناه ليس غيره ‪ ،‬وما ثم في المخلوقات أشرف‬
‫من الملك ‪ ،‬ومع هذا فقد فضل عليه اإلنسان الكامل بعلم األسماء ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬اعلم أن‬
‫االسم لما كان يدل على المسمى بحكم المطابقة فال يفهم منه غير مسماه ‪ ،‬كان عينه في صورة‬
‫ّللا أن يعرف بالمعرفة الحادثة لتكمل‬ ‫أخرى تسمى اسما ‪ ،‬فاالسم اسم له ولمسماه ‪ ،‬وأراد ه‬
‫مراتب المعرفة ‪ ،‬ويكمل الوجود بوجود المحدث وال يمكن أن يعرف الشيء إال نفسه أو مثله ‪،‬‬
‫ّللا للعلم به على صورة موجده حتى يكون كالمثل‬ ‫فال بد أن يكون الموجود الحادث الذي يوجده ه‬
‫له ‪ ،‬فإن اإلنسان الكامل حقيقة واحدة ‪ ،‬ولو كان بالشخص ما كان ‪ ،‬مما زاد على الواحد ‪ ،‬فهو‬
‫عين واحدة ‪ ،‬فلما نصبه في الوجود مثال ‪ ،‬تجارت إليه األسماء اإللهية بحكم المطابقة من حيث‬
‫ما هي األسماء ذات صور وحروف لفظية ورقمية ‪ ،‬كما أن اإلنسان ذو صورة جسمية ‪.‬‬
‫فكانت هذه األسماء‬

‫بدعوى علم عام ‪ ،‬حتى يقال لهم هذا إال على الوجه الذي ذكرناه ‪ ،‬وأما من جعل قوله« ِإ ْن‬
‫ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِينَ »في قولهم( أ َ ت َ ْجعَ ُل فِيها َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيها َويَ ْس ِفكُ ال هدِما َء )فال خفاء على ذي بصيرة‬
‫ما فيه من الخلل ‪ ،‬لوجود الفساد وسفك الدماء الذي وقع من بني آدم ‪ ،‬وإنما يمكن أن يكون‬
‫جوابهم‬
‫ص ‪110‬‬

‫ص ‪111 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ولما كان المثل عن مثله‬ ‫اإللهية على هذا اإلنسان الكامل أشد مطابقة منها على المسمى ه‬
‫متميزا بأمر ال يتمكن أن يكون ذلك األمر إال له ‪ ،‬وال يكون لمثله كان األمر في األسماء التي‬
‫ّللا ‪ ،‬فعيهن ما اختص به المثل‬ ‫يتميز المثل عن مثله به وال يشاركه فيه من جانب الحق االسم ه‬
‫عن مثله ‪ ،‬وكان للمثل اآلخر االسم اإلنسان الكامل الخليفة مما اختص به هذا المثل الكوني ‪،‬‬
‫وأسماء الحق الباقية مركبة من روح وصورة ‪ ،‬فمن حيث صورتها تدل بحكم المطابقة على‬
‫ّللا ‪ ،‬ولنا حالة وله حالة ‪،‬‬‫اإلنسان ‪ ،‬ومن حيث روحها ومعناها تدل بحكم المطابقة على ه‬
‫واألسماء تتبع األحوال ‪ ،‬فاألمر بيننا وبينه على السواء ‪ ،‬مع الفرقان الموجود المحقق ‪ ،‬بأنه‬
‫ّللا آدم كل األسماء المتوجهة‬ ‫ّللا وأنا اإلنسان الخليفة ‪ ،‬فأعطى ه‬ ‫الخالق ونحن المخلوقون ‪ ،‬وهو ه‬
‫على إيجاد العالم ‪ ،‬وهي األسماء اإللهية التي يطلبها العالم بذاته ‪ ،‬وإن كان وجوده عنها فقال‬
‫ّللا خلق آدم على صورته » إذ كانت األسماء له وعنها وجد العالم‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬إن ه‬
‫ّللا العالم إنسانا كبيرا ‪ ،‬وجعل آدم وبنيه مختصر هذا العالم ‪ ،‬فبعنايته األزلية بنا‬ ‫‪ ،‬فأوجد ه‬
‫أعطانا الوجود على الصورة ‪ ،‬ولم يعطنا السورة التي هي منزلته ‪ ،‬فإن منزلته الربوبية ‪،‬‬
‫علَّ َم آ َد َم ْاألَسْما َء ُكلَّها »كما سبق أن أوضحنا أن العالم‬
‫ومنزلتنا المربوبية ‪ -‬الوجه الثالث ‪َ «-‬و َ‬
‫كله تفصيل آدم ‪ ،‬وآدم هو الكتاب الجامع ‪ ،‬وما علمت المالئكة من آدم إال ظاهر نشأته ‪،‬‬
‫ّللا عليه من الصورة ‪ ،‬فلو علموا باطنه لرأوا المالئكة‬ ‫وجهلوا باطنه ‪ ،‬وهو حقيقة ما خلقه ه‬
‫جزءا من خلقه ‪ ،‬فجهلوا أسماءه اإللهية التي نالها بهذه الجمعية لما كشف له عنه فأبصر ذاته ‪،‬‬
‫فعلم مستنده في كل شيء ‪ ،‬ومن كل شيء ‪ ،‬وكل تقتضي اإلحاطة وهي األسماء التي لها تعلق‬
‫وتوجه على إيجاد العالم العنصري وغيره ‪ ،‬الذي هو آدم جامع لفطرته فهي األسماء اإللهية‬
‫التي وجدت عنها األكوان كلها ‪ ،‬ولها التأثير والخاصية ولم تعطها المالئكة ‪ ،‬فأعطاه علمها من‬
‫حيث ما هي عليه من الخواص التي يكون عنها االنفعاالت ‪ ،‬فيتصرف بها في العالم تصرفها ‪،‬‬
‫فإن لكل اسم خاصة في الفعل في الكون ‪ ،‬يعلمها من يعلم علم الحروف وترتيبها ‪،‬‬

‫على الفساد وسفك الدماء أن لو لم يقع من بني آدم شيء من ذلك ‪ ،‬ال مشروع وال غير مشروع‬
‫علَّ َم آ َد َم ْاألَسْما َء ُكلَّها )يعني أسماء‬
‫‪ ،‬فكان ما أردناه أظهر في الترجمة ‪ ،‬فأما قوله تعالى« َو َ‬
‫ض ُه ْم »يعني أعيان المسميات بتلك األسماء ‪ ،‬في حضرة من الحضرات‬ ‫األشياء ‪ «،‬ث ُ َّم َ‬
‫ع َر َ‬
‫الوجودية ‪ ،‬ولكن‬
‫ص ‪114‬‬

‫ص ‪112 :‬‬
‫من حيث ما هي مرقومة ‪ ،‬ومن حيث ما هي متلفظ بها ‪ ،‬ومن حيث ما هي متوهمة في الخيال‬
‫علَى ْال َمالئِ َك ِة »يعني ‪ :‬األسماء اإللهية التي توجهت على إيجاد حقائق األكوان‬ ‫ض ُه ْم َ‬ ‫‪ «.‬ث ُ َّم َ‬
‫ع َر َ‬
‫‪ ،‬ومن جملتها األسماء اإللهية التي توجهت على المالئكة ‪ ،‬والمالئكة ال تعرفها ‪ ،‬ثم أقام‬
‫المسمين بهذه األسماء وهي التجليات اإللهية التي هي لألسماء كالمواد الصورية لألرواح«‬
‫ُالء »يعني الصور التي تجلى فيها الحق ‪،‬‬ ‫ْماء هؤ ِ‬ ‫فَقا َل »تعالى للمالئكة ‪ «:‬أ َ ْنبِئُونِي بِأَس ِ‬
‫ُالء »‬
‫واألسماء هنا ‪ :‬هي األسماء اإللهية التي توجهت على األشياء المشار إليها بقوله« هؤ ِ‬
‫فالهاء لإلشارة والتنبيه ‪ ،‬وال تقع اإلشارة إال على حاضر ‪ ،‬فنقول إنه عاين المسميات لكن على‬
‫صورة ما فأراد الحق باألسماء هنا األسماء اإللهية التي استند إليها المشار إليهم بهؤالء في‬
‫ُالء‬
‫إيجادهم وأحكامهم ‪ ،‬والمسميات هي التي عرضها على المالئكة والمشار إليها بقوله« هؤ ِ‬
‫»أي هل سبحتموني بها ؟ وقدستموا لي ؟ فإنكم زعمتم أنكم تسبحون بحمدي وتقدسون لي ! إذ‬
‫كان اإلنباء باألسماء عين الثناء على المسمى ‪ ،‬والناس يأخذون هذه اآلية على أن األسماء هي‬
‫أسماء المشار إليهم من حيث داللتها عليهم ‪ ،‬كداللة زيد في علميته على شخص زيد ‪ ،‬وعمرو‬
‫على شخص عمرو ‪ ،‬وأي فخر في ذلك على الموصوفين بالعلم وهم المالئكة ‪ ،‬وما تفطن‬
‫ّللا تعالى ما توجهت على هؤالء المشار‬ ‫ِك »وقد فاتهم من أسماء ه‬ ‫الناس لقولهم «‪:‬نُ َ‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْمد َ‬
‫ِك »هل‬ ‫إليهم ‪ ،‬ولذلك قال تعالى للمالئكة ‪ِ «:‬إ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِينَ »في قولكم« نُ َ‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْمد َ‬
‫سبحتموني بهذه األسماء التي تقتضيها هذه التجليات التي أتجالها لعبادي ؟ و« ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم‬
‫ِس لَ َك »ذواتنا عن الجهل بك ‪،‬‬ ‫ِس لَ َك »أي قدستموني بها أو« نُقَ هد ُ‬ ‫صا ِدقِينَ »في قولكم «‪َ :‬ونُقَ هد ُ‬
‫فهل قدستم ذواتكم لنا من جهلكم بهذه التجليات ‪ ،‬وما لها من األسماء التي ينبغي أن تسبحوني‬
‫ّللا‬
‫بها ؟ فكان ذلك توبيخا من الحق للمالئكة ‪ ،‬وتقريرا ‪ ،‬فإنهم زكوا نفوسهم ‪ ،‬وجرحوا خليفة ه‬
‫ّللا‪.‬‬
‫في أرضه ‪ ،‬ولم يكن ينبغي لهم ذلك ‪ .‬فقالت المالئكة ما ذكر ه‬

‫لم يتبين لنا أية حضرة كانت ‪ ،‬لكنه أخبر أنه وقعت اإلشارة عليهم للمالئكة ‪ ،‬فدل على وجود‬
‫أعيانهم للمالئكة ‪ ،‬وهل كانوا موجودين لهم من حيث أعيانهم ؟ لم يتعرض لتعريف ذلك في‬
‫هذه اآلية ‪ ،‬ولو قال عرضها لجاز يعني األسماء ‪ ،‬فيسألهم عن مدلوالتها من هم ؟ ولكن ما‬
‫ذكر إال‬
‫ص ‪112‬‬

‫ص ‪113 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪32‬‬
‫عله ْمتَنا ِإنهكَ أ َ ْنتَ ا ْلعَ ِلي ُم ا ْل َح ِكي ُم ( ‪) 32‬‬ ‫س ْبحانَكَ ال ِع ْل َم لَنا ِإاله ما َ‬ ‫قالُوا ُ‬
‫علَّ ْمتَنا »فمن علمهم ه‬
‫باّلل أنهم ما‬ ‫سبْحان ََك ال ِع ْل َم لَنا ِإ َّال ما َ‬ ‫« قالُوا »أي قالت المالئكة ‪ُ «:‬‬
‫ت ْالعَ ِلي ُم »بما ال يعلم « ْال َح ِكي ُم »بترتيب األشياء مراتبها ‪،‬‬ ‫أضافوا التعليم إال إليه تعالى« ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫فأعطيت هذا الخليفة ما لم تعطنا مما غاب عنا ‪ .‬واألسماء اإللهية منها ما كانت المالئكة تعلمه‬
‫‪ ،‬وما اختص آدم إال بالكل ‪ ،‬وما عرض من المسميات إال ما كانت المالئكة تجهله ‪ ،‬وما‬
‫صحت الخالفة للعبد اإلنسان الكامل إال بقبوله لجميع األسماء اإللهية التي بأيدينا ‪ ،‬وبها صحت‬
‫الخالفة ‪ ،‬وفضل على المالئكة ‪ ،‬فالخليفة إن لم يظهر فيمن هو خليفة عليه بأحكام من استخلفه‬
‫وصورته في التصرف فيه وإال فما هو خليفة له ‪ ،‬واستخالف الرب عبده خالفة مقيدة بحسب‬
‫ما تعطيه ذاته ونشأته ‪ ،‬بعكس استخالف العبد ربه لما اتخذه وكيال ‪ ،‬فهي خالفة مطلقة ووكالة‬
‫مفوضة ‪ .‬سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪33‬‬
‫ت‬
‫سماوا ِ‬‫ب ال ه‬ ‫سمائِ ِه ْم قا َل أ َ لَ ْم أَقُ ْل لَ ُك ْم إِ ِنهي أ َ ْعلَ ُم َ‬
‫غ ْي َ‬ ‫سمائِ ِه ْم فَلَ هما أ َ ْنبَأ َ ُه ْم بِأ َ ْ‬
‫قا َل يا آ َد ُم أ َ ْنبِئْ ُه ْم بِأ َ ْ‬
‫ون ) ‪( 33‬‬ ‫ُون َوما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكت ُ ُم َ‬ ‫ض َوأ َ ْعلَ ُم ما ت ُ ْبد َ‬ ‫َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫اعلم أن لألسماء أنوارا تظهر مسمياتها حقا وخلقا ‪ ،‬وهذه األنوار كانت آلدم عليه السالم‬

‫ُالء" ) ‪ " ( 33‬قالُوا " قالت‬ ‫أن المعروض هو المسميات ‪ ،‬بقوله تعالى« أ َ ْن ِبئُو ِني ِبأَس ِ‬
‫ْماء هؤ ِ‬
‫سبْحان ََك »أي أنت المنزه أن تتصف بجهل شيء من المعلومات بمثل ما اتصفنا« ال‬ ‫المالئكة« ُ‬
‫ت ْالعَ ِلي ُم »بكل شيء« ْال َح ِكي ُم »أي المرتب لألشياء على ما ينبغي‬ ‫ِع ْل َم لَنا ِإ َّال ما َ‬
‫علَّ ْمتَنا ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫لها أن تكون ‪ ،‬ومنها جعلك هذا اإلنسان خليفة في األرض ‪ ،‬ولوال قرائن األحوال لكان قولهم(‬
‫أ َ ت َ ْجعَ ُل فِيها َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيها )استعالما من الحق عن ذلك ال على جهة اإلنكار واالعتراض ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد أرى ه‬
‫ولهذا عدلنا به إلى غلبة الغيرة عليهم ‪ ،‬بما علموه من مخالفتهم ألوامر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وأنزلهم يوم بدر مقاتلين فقاتلوا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬والفساد في مرضاة ه‬ ‫المالئكة سفك الدماء في ذات ه‬
‫فوقع منهم ما ذكروه مما يقع من اإلنسان من سفك الدماء ‪ ،‬وفساد األعيان عن ترتيب ما كانت‬
‫ّللا في الواقع ألنهم أهل علم وكشف ‪ ،‬وغيهب‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬فصدهقهم ه‬ ‫عليه بطريق مقرب إلى ه‬
‫ّللا ( ‪ «) 34‬قا َل‬ ‫عنهم كون ذلك يقع قربة إلى ه‬

‫ص ‪113‬‬

‫ص ‪114 :‬‬
‫حين علم جميع األسماء بالوضع اإللهي ال باالصطالح ‪ ،‬وفي ذلك تكون الفضيلة واالختصاص‬
‫وّلل أسماء أوجد بها جامع حقائق الحضرة‬ ‫‪ ،‬فإن هّلل أسماء أوجد بها المالئكة وجميع العالم ‪ ،‬ه‬
‫اإللهية وهو اإلنسان الكامل ‪ ،‬ظهر ذلك بالنص في آدم ‪ ،‬وخفي في غيره فقال تعالى للمالئكة‬
‫في فضل آدم وفي فضل هذا المقام وقد أحضر المالئكة المسميات أعني أعيانهم ‪ «:‬أ َ ْن ِبئُو ِني‬
‫ُالء إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِينَ »أي باألسماء اإللهية التي صدروا عنها ‪.‬‬ ‫ْماء هؤ ِ‬ ‫بِأَس ِ‬
‫ّللا ‪ «:‬يا آ َد ُم أ َ ْنبِئْ ُه ْم بِأَسْمائِ ِه ْم »أي بأسماء هؤالء الذين عرضناهم عليهم ‪،‬‬ ‫فلم يعلموا ذلك فقال ه‬
‫وهي األسماء اإللهية التي أوجدتهم واستندوا إليها في إيجاد أعيانهم ‪ ،‬ال أسماء االصطالح‬
‫الوضعي الكوني فإنه ال فائدة فيه ‪ ،‬فأنبأ آدم المالئكة بأسماء تلك التجليات فكان هؤالء‬
‫ّللا‬
‫المسمون المعروضة على المالئكة تجليات إلهية في صورة ما في آدم من الحقائق ‪ ،‬وجعل ه‬
‫تعالى آدم أستاذا للمالئكة فعلمهم األسماء كلها ‪ ،‬فلما علمهم آدم عليه السالم وهو قوله تعالى ‪«:‬‬
‫ت »وهو ما‬ ‫سماوا ِ‬
‫ْب ال َّ‬ ‫ّللا« أ َ لَ ْم أَقُ ْل لَ ُك ْم إِ ِنهي أ َ ْعلَ ُم َ‬
‫غي َ‬ ‫فَلَ َّما أ َ ْنبَأ َ ُه ْم بِأَسْمائِ ِه ْم «» قا َل »أي قال لهم ه‬
‫ض »وهو ما في الطبيعة من األسرار« َوأ َ ْعلَ ُم ما ت ُ ْبدُونَ »أي ما‬ ‫عال من علم الغيوب« َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫هو من األمور ظاهر« َوما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكت ُ ُمونَ »أي ما تخفونه على أنه باطن مستور ‪ .‬واعلم أنه مع‬
‫أنه ليس فوق مرتبة اإلنسان مرتبة إال مرتبة الملك في المخلوقات ‪ ،‬وقد تلمذت المالئكة له‬
‫حين علمهم األسماء ‪ ،‬فال يدل هذا على أنه خير من الملك ‪ ،‬ولكنه يدل على أنه أكمل نشأة من‬
‫الملك‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪34‬‬


‫كان ِم َن ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين ) ‪( 34‬‬ ‫يس أَبى َوا ْ‬
‫ست َ ْكبَ َر َو َ‬ ‫س َجدُوا ِإاله ِإ ْب ِل َ‬ ‫َو ِإ ْذ قُ ْلنا ِل ْل َملئِ َك ِة ا ْ‬
‫س ُجدُوا ِآل َد َم فَ َ‬
‫ثم قال تعالى للمالئكة بعد التعليم ‪ «:‬ا ْس ُجدُوا ِآل َد َم »سجود المتعلمين للمعلم من أجل‬

‫»ّللا للمالئكة« أ َ‬
‫يا آ َد ُم أ َ ْن ِبئْ ُه ْم » يقول أعلمهم « ِبأَسْما ِئ ِه ْم فَلَ َّما أ َ ْنبَأ َ ُه ْم »أعلمهم بأسمائهم« قا َل ه‬
‫ض »لكالم قد تقدم له سبحانه مع مالئكته لم يذكره‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ْب ال َّ‬ ‫لَ ْم أَقُ ْل لَ ُك ْم إِ ِنهي أ َ ْعلَ ُم َ‬
‫غي َ‬
‫لنا ‪ ،‬ثم قال« َوأ َ ْعلَ ُم ما ت ُ ْبدُونَ »يقول ما تظهرون « َوما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكت ُ ُمونَ »يقول ما هو‬
‫ص ‪114‬‬

‫ص ‪115 :‬‬
‫ما علمهم ‪ ،‬فآلدم هنا الم العلة والسبب أي من أجل آدم ‪ ،‬فالسجود هّلل من أجل آدم سجود شكر‬
‫ّللا من العلم به ‪ ،‬وبما خلقه في آدم عليه السالم ‪ ،‬فعلموا ما لم يكونوا يعلمون فأمر‬ ‫لما علمهم ه‬
‫ّللا سبحانه للمالئكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر ‪ -‬كسجود الناس إلى الكعبة ‪ -‬وتشريف ‪ ،‬ال‬ ‫ه‬
‫باّلل فيكون في هذا العالم اإلنساني ثمرة السجود ‪ ،‬ال نفس السجود ‪ ،‬وإنما‬ ‫سجود عبادة ‪ ،‬نعوذ ه‬
‫هو التواضع والخضوع واإلقرار بالسبق والفخر والشرف والتقدم له ‪ ،‬كتواضع التلميذ لمعلمه‬
‫‪ .‬فنال آدم عليه السالم التقدمة عليهم بكونه علمهم ‪ ،‬فهو أستاذهم في هذه المسألة ‪ ،‬وبعده فما‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال عن نفسه ‪ :‬إنه‬ ‫ظهرت هذه الحقيقة في أحد من البشر إال في محمد صلهى ه‬
‫أوتي جوامع الكلم ‪ ،‬وهو قوله تعالى في حق آدم عليه السالم« ْاألَسْما َء ُكلَّها »وكلها بمنزلة‬
‫ّللا عليها ‪ ،‬عند ذلك‬
‫الجوامع ‪ ،‬والكلم بمنزلة األسماء ‪ ،‬فنال التقدمة بها وبالصورة التي خلقه ه‬
‫ّللا في أرضه ‪ ،‬ال خليفة عن سلف ‪ ،‬ثم ما زال يتلقاها‬ ‫علمت المالئكة أن آدم عليه السالم خليفة ه‬
‫كامل عن كامل حتى انتهت إلى السيد األكبر المشهود له بالكمال محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫ّللا عليه وسلم جوامع الكلم ‪ ،‬كما‬ ‫الذي عرف بنبوته وآدم بين الماء والطين ‪ ،‬وأوتي صلهى ه‬
‫ّللا األسماء التي علمها آدم ‪ ،‬فعلم علم األولين واآلخرين ‪،‬‬ ‫أوتي آدم جميع األسماء ‪ ،‬ثم علمه ه‬
‫س َجدُوا »ولم يزل حكم السجود‬ ‫فكان محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أعظم خليفة وأكبر إمام ‪ «.‬فَ َ‬
‫فيهم آلدم وللكامل من أبنائه أبدا دائما ‪ ،‬فإن المأل األعلى عنده ازدحام لرؤية اإلنسان‬

‫مكتوم فيكم مما ال تعلمونه أنتم ‪ ،‬وما هو مكتوم عندكم بعضكم من بعض ‪ ،‬وهو قوله (يَ ْعلَ ُم‬
‫س َّر َوأ َ ْخفى )فالسر ما بين العبد والحق ‪ ،‬واألخفى ما يعلمه سبحانه من العبد وال يعلمه العبد‬ ‫ال ِ ه‬
‫من نفسه أنه يكون فيه ‪ ،‬ثم أعلم سبحانه نبيه فقال أيضا ( ‪َ «) 35‬و ِإ ْذ قُ ْلنا ِل ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُجدُوا‬
‫ِآل َد َم »اآلية ‪ ،‬تقدم قبل هذا أن ضمير الجماعة في جانب الحق يعود على األسماء من جهة ما‬
‫تطلبه الحقائق في تلك القصة ‪ ،‬فقد أنعم على آدم بأشياء متعددة ‪ ،‬بإيجاد عينه ‪ ،‬وبما علهمه من‬
‫العلم ‪ ،‬مع أنه ال يقوى في تصفية نشأته تصفية المالئكة ‪ ،‬فإنهم مخلوقون من نور ‪ ،‬وآدم‬
‫مخلوق من حمأ مسنون ومن صلصال ‪ ،‬ثم نفخ فيه روحا ملكيا في مثل هذه النشأة الترابية ‪،‬‬
‫وخلقها بيديه ‪ ،‬وهذه كلها أسباب أسماء مختلفة النسب ‪ ،‬فكل اسم له نسبة أثر في آدم ‪ ،‬له أن‬
‫يقول أنا ‪ ،‬فإذا اجتمعت األسماء صدق القائل أن يقول« قُ ْلنا »فقال« َو ِإ ْذ قُ ْلنا ِل ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُجدُوا‬
‫ِآل َد َم »فأحدث لهم حرمة بالسجود هّلل سبحانه من أجل خلق آدم ‪ ،‬وما أنعم به عليه ‪ ،‬حيث أبدى‬
‫لهم في وجوده من العلم‬
‫ص ‪115‬‬

‫ص ‪116 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ناظرين إلى مكان هذا الخليفة حتى يكون‬
‫الخليفة ‪ ،‬وأمروا بالسجود فطأطئوا عن أمر ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬أطت السماء بعمارها‬ ‫ّللا أمرهم بالسجود له ‪ ،‬فقال صلهى ه‬
‫السجود له ‪ ،‬ألن ه‬
‫وحق لها أن تئط ‪ ،‬ما فيها موضع شبر إال وفيه ملك ساجد هّلل ‪ ،‬واستصحاب سجود المالئكة‬
‫ّللا له العالمينكيف‬
‫لإلمام دنيا وآخرة ونقول في المالئكة ‪:‬قدهسهمو أن يجهلوا حق من * قد سخر ه‬
‫لهم وعلمهم أنني * ابن الذي قد خروا له ساجدينواعترفوا بعد اعتراض علي * والدنا بكونهم‬
‫جاهلينوأبلس الشخص الذي قد أبى * وكان للفضل من الجاحدينقدهسهمو قدهسهمو أنهم * قد‬
‫عصموا من خطأ المخطئين‪.‬‬

‫كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف المالئكة ؟‬


‫والسؤال هنا ‪ :‬كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف المالئكة ؟ فقال تعالى ‪«:‬‬
‫يس أَبى َوا ْست َ ْكبَ َر » ‪.‬فنقول إن معنى المالئكة ‪ :‬الرسل وهو من المقلوب ‪ ،‬وأصله مألكة‬
‫إِ َّال إِ ْب ِل َ‬
‫‪ ،‬واأللوكة الرسالة والمألكة الرسالة ‪ ،‬فما تختص بجنس دون جنس ‪ ،‬فالرسالة جنس حكم يعم‬
‫األرواح الكرام البررة السفرة ‪ ،‬والجن ‪ ،‬واإلنس ‪ ،‬فمن كل صنف من أرسل ‪ ،‬ومنه من لم‬
‫ّللا للمالئكة ‪ «:‬ا ْس ُجدُوا »ألنه‬
‫يرسل ‪ ،‬ولهذا دخل إبليس في الخطاب باألمر بالسجود لما قال ه‬
‫ّللا فأبى واستكبر فكان ذلك سببا لبعده عن‬ ‫ممن كان يستعمل في الرسالة ‪ ،‬فهو رسول ‪ ،‬فأمره ه‬
‫القرب اإللهي ‪ ،‬فصح االستثناء وجعله منصوبا باالستثناء المنقطع ‪ ،‬فقطعه عن المالئكة كما‬
‫شرك بينهم في‬
‫قطعه عنهم في خلقه من نار ‪ ،‬ولكنه تعالى ه‬

‫باألسماء ما لم يكونوا يعلمون ‪ ،‬والسجود هّلل ‪ ،‬وجرت العادة في الملوك إذا أنعموا على شخص‬
‫بحضور خاصته ‪ ،‬أن يخدموه بما جرت العادة أن يخدموه به ‪ ،‬وال سيما إذا عاد عليهم من ذلك‬
‫الشخص منفعة من جانب الملك لهم بسببه ‪ ،‬فتكون تلك الخدمة من أجل ذلك الشخص للملك«‬
‫يس أَبى َوا ْست َ ْكبَ َر »وأبى إبليس واستكبر حسدا وظلما وعلوا للجنسية ‪ ،‬فإنه رأى‬
‫س َجدُوا ِإ َّال ِإ ْب ِل َ‬
‫فَ َ‬
‫نفسه مخلوقا مثله من الطبائع األربع ‪ ،‬ورأى أن العنصر الذي غلب عليه أشرف من العنصر‬
‫الذي غلب على نشأة اإلنسان ‪ ،‬فهذا استكباره ‪ ،‬وأما إبايته فقد نبهنا أن النارية تقتضي له ذلك ‪،‬‬
‫ويكون االستثناء متصال بوجه ‪ ،‬ومنقطعا بوجه ‪ ،‬فمن راعى نشأته وجنسه ‪ ،‬قال ‪ :‬إنه استثناء‬
‫منقطع ‪ ،‬ومن رأى أنه في المالئكة كالمستهلك فيهم لكثرتهم ‪ ،‬واتصاله بهم في جماعتهم في‬
‫عباداتهم‬
‫ص ‪116‬‬

‫ص ‪117 :‬‬
‫ّللا من المأمورين بالسجود« أَبى‬ ‫يس »إال من أبعده ه‬ ‫الرسالة ‪ ،‬فكأنه تعالى يقول ‪ِ «:‬إ َّال ِإ ْب ِل َ‬
‫ين » *ثم قال تعالى ‪َ «:‬وكانَ ِمنَ‬ ‫َوا ْست َ ْكبَ َر »وقال ‪ «:‬أَنَا َخي ٌْر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن ٍ‬
‫نار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬
‫ْالكافِ ِرينَ »فطمع إبليس في الرحمة التي وسعت كل شيء ‪ ،‬وطمعه فيها من عين المنة‬
‫ّللا كافرا فقال «‪َ :‬وكانَ ِمنَ ْالكا ِف ِرينَ »ولم يقل‬ ‫إلطالقها ‪ ،‬ألنه علم في نفسه أنه موحد ‪ ،‬وسماه ه‬
‫ّللا واحد ‪ ،‬وقد علم مآل الموحدين إلى أين‬ ‫ّللا رب العالمين ويعلم أن ه‬ ‫من المشركين ألنه يخاف ه‬
‫يصير ‪ ،‬سواء كان توحيدا عن إيمان أو عن نظر من غير إيمان ‪ ،‬وعلم أن جهنم ال تقبل خلود‬
‫ّللا كافرا ألنه يستر عن العباد طرق سعادتهم التي جاء بها الشرع في‬ ‫أهل التوحيد وإنما سماه ه‬
‫حق كل إنسان ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪35‬‬


‫شئْتُما َوال ت َ ْق َربا ه ِذ ِه ال ه‬
‫ش َج َرةَ‬ ‫سك ُْن أ َ ْنتَ َو َز ْو ُجكَ ا ْل َجنهةَ َوكُل ِم ْنها َر َ‬
‫غدا ً َح ْي ُ‬
‫ث ِ‬ ‫َوقُ ْلنا يا آ َد ُم ا ْ‬
‫ين ) ‪( 35‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫فَتَكُونا ِم َن ال ه‬
‫سمي آدم بآدم لحكم ظاهره عليه فإنه ما عرف منه سوى ظاهره ‪ ،‬فال يعرف مخلوق من‬
‫اإلنسان سوى ظاهره ‪ ،‬وأما باطنه فمجهول ‪ .‬ومن هذه اآليات نعلم أن أول أمر ظهر في العالم‬
‫ّللا تعالى إلبليس ‪ :‬اسجد آلدم ‪ ،‬فظهر األمر فيه ‪ ،‬وأول نهي قوله تعالى آلدم‬ ‫الطبيعي هو قول ه‬
‫ش َج َرة َ »فظهر النهي فيهما ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ «:‬ه ِذ ِه ال َّ‬
‫ش َج َرة َ»‬ ‫وحواء ‪ «:‬ال ت َ ْق َربا ه ِذ ِه ال َّ‬

‫ومشاركته لهم فيها ‪ ،‬جعله استثناء متصال ‪ ،‬ودل على أنه كان مأمورا بالسجود قوله تعالى«‬
‫أَبى »وال يقع االمتناع إال بعد توجه تكليف ‪ ،‬وقد يجوز أن يكون السجود سجود تحية ‪ ،‬كسجود‬
‫أبوي يوسف وإخوته له ‪ ،‬واألول أوجه ‪ ،‬يعضد ما قلناه الحديث الصحيح ‪ ،‬قال عليه السالم ‪:‬‬
‫لو أذن ألحد أن يسجد ألحد ‪ ،‬ألذنت للمرأة أن تسجد لزوجها ‪ ،‬وأما سجود التحية فغير منكور‬
‫فيمن تقدم ‪ ،‬وهو من فعل األعاجم ‪ ،‬وهو هذا االنحناء الذي يكون منهم عند التقاء بعضهم‬
‫ّللا أو محرما هو أمر مشروع ليس لذاته بخالف العبودية‬ ‫بعضا ‪ ،‬وكون السجود مكروها لغير ه‬
‫ّللا حقيقة« َوكانَ ِمنَ ْالكافِ ِرينَ »هنا أي من الفاسقين‬ ‫فإنه ممتنع بذاته أن يكون عبدا لغير ه‬
‫ع ْن أ َ ْم ِر َر ِبه ِه )فسماه كافرا ‪ ،‬ثم قال (‬‫سقَ َ‬ ‫ّللا بدليل قوله( كانَ ِمنَ ْال ِج ِهن فَفَ َ‬
‫الخارجين عن أمر ه‬
‫ت َوزَ ْو ُج َك »يعني حواء ‪ْ «،‬ال َجنَّةَ‬ ‫‪َ «) 36‬وقُ ْلنا يا آ َد ُم ا ْس ُك ْن »اآلية ‪ ،‬قال يا آدم اسكن« أ َ ْن َ‬
‫»أي اتخذها مسكنا‬
‫ص ‪117‬‬

‫ص ‪118 :‬‬
‫بحرف اإلشارة تعيين لشجرة معينة ‪ ،‬فتقدم األمر آلدم عليه السالم بسكنى الجنة واألكل منها‬
‫حيث شاء ‪ ،‬ثم نهاه عن قرب شجرة مشار إليها أن يقربها ‪ ،‬فوقع التحجير والنهي في قوله‬
‫حيث شئتما ال في األكل ‪ ،‬فما حجر عليه األكل وإنما حجر عليه القرب منها الذي كان أطلقه‬
‫في حيث شئتما ‪ ،‬فما أكال منها حتى قربا ‪ ،‬فتناوال منها ‪ ،‬فأخذا بالقرب ‪ ،‬ال باألكل ‪ ،‬فالتكليف‬
‫مقسم بين ‪ :‬أمر ونهي ‪ ،‬وهما محموالن على الوجوب حتى تخرجهما عن مقام الوجوب قرينة‬
‫حال ‪ -‬وإن كان مذهبنا فيهما التوقيف ‪ -‬فتعين امتثال األمر والنهي فإن قلت ‪ :‬كيف اقتحم النهي‬
‫على المعصية ؟ قلنا ‪ :‬لظهور هذه الحكمة ‪ ،‬وهي الخالفة في األرض وتمييز القبضتين ‪ ،‬لذلك‬
‫لم يكن النجم ‪ ،‬وكان الشجر ‪ ،‬لوجود الخالف الذي ظهر ‪ ،‬فالشجر من التشاجر والخالف‪.‬‬

‫ومنزال ‪ ،‬وعطف زوجك على أنت ‪ ،‬وإنما تعريف الجنة باأللف والالم فيمكن أن يريد جميع‬
‫الجنات ‪ ،‬ويمكن أن يكون جنة معينة ‪ ،‬وعلى أي وجه كانت فهو يتبوأ منها حيث يشاء ‪ ،‬أي‬
‫ْث ِشئْتُما »وحيث شئتما معمول السكن ‪ ،‬يقول ‪:‬‬ ‫يسكن منها حيث شاء ‪َ «،‬و ُكال ِم ْنها َرغَدا ا َحي ُ‬
‫اسكن أنت وزوجك الجنة حيث شئتما منها ‪ ،‬وكال رغدا أي اتسعا في عيشكما ‪ ،‬ألن الرغد هو‬
‫االتساع في العيش ‪ ،‬وهذا أوجه من أن يكون العامل في الظرف« ُكال »ومنها قد يكون متعلقا‬
‫بكال ‪ ،‬وقد يكون بقوله اسكن ‪ ،‬وأما في األعراف فقد بيهن هنالك أن قوله فكال هو العامل في‬
‫ْث ِشئْتُما )والجمع بين اآليتين إن كانت القصة واحدة ‪ ،‬أن المعنى اسكن من الجنة‬ ‫قوله( ِم ْن َحي ُ‬
‫حيث شئت ‪ ،‬وكال من حيث شئتما من ثمرها ‪ ،‬وهو معنى قوله في الزمر( نَتَبَ َّوأ ُ ِمنَ ْال َجنَّ ِة‬
‫ش َج َرة َ »عيهنتها اإلشارة ‪ ،‬واألظهر تعيين‬ ‫ْث نَشا ُء )فرفع التحجير ‪ ،‬ثم قال« َوال ت َ ْق َربا ه ِذ ِه ال َّ‬ ‫َحي ُ‬
‫ّللا تعالى أية شجرة هي ‪ ،‬وال ص هح عن‬ ‫واحدة من الجنس ‪ ،‬ودون هذا تعيين الجنس ‪ ،‬وما ذكر ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ومثل هذا ال يدرك باالجتهاد ‪ ،‬لكني أشير إلى اللفظ بهذا االسم ‪،‬‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫وذلك أن الشجرة مشتقة من التشاجر ‪ ،‬لتداخل أغصانها بعضها على بعض ‪ ،‬كالمتشاجرين‬
‫يدخل كالم بعضهم في كالم بعضهم بالمخالفة والمنازعة ‪ ،‬وربما أنه ما في الجنة شجرة على‬
‫هذه الصفة إال هذه ‪ ،‬وسائر شجر الجنة ال تدخل أغصانها بعضها على بعض ‪ ،‬ولذلك ما ذكر‬
‫ّللا تعالى في القرآن إال ثمرات الجنة ‪ ،‬فإنه جعلها منزل موافقة ‪ ،‬فقد يكون أغصانها تخرج‬ ‫ه‬
‫ص ِل ا ْل َج ِح ِيم‬
‫ش َج َرة ٌ ت َ ْخ ُر ُج فِي أ َ ْ‬
‫على االعتدال واالستقامة ‪ ،‬وذكر ذلك في النار فقال ( ِإنَّها َ‬
‫ص ُم أ َ ْه ِل‬ ‫ش َج َرة َ ْال َم ْلعُونَةَ )فإن جهنم دار نزاع وتشاجر ‪ ،‬قال تعالى( ِإ َّن ذ ِل َك لَ َح ٌّق تَخا ُ‬ ‫)وقال( َوال َّ‬
‫ار )فوصفهم بالمخاصمة وهي المشاجرة ‪ ،‬ومنها ( قالت أوالهم‬ ‫النَّ ِ‬
‫ص ‪118‬‬

‫ص ‪119 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪36‬‬
‫عد ٌُّو َولَ ُك ْم فِي‬
‫ض َ‬ ‫ع ْنها فَأ َ ْخ َر َج ُهما ِم هما كانا فِي ِه َوقُ ْلنَا ا ْه ِب ُ‬
‫طوا بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم ِلبَ ْع ٍ‬ ‫ش ْي ُ‬
‫طان َ‬ ‫فَأ َ َزله ُه َما ال ه‬
‫ين ) ‪( 36‬‬ ‫ع ِإلى ِح ٍ‬ ‫ستَقَ ٌّر َو َمتا ٌ‬‫ض ُم ْ‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا جعله في الشاهد‬ ‫أضيف الزلل إلى الشيطان ‪ ،‬وقد علم أنه ليس له على ذلك سلطان ‪ ،‬ألن ه‬
‫صفة نقص ‪ ،‬ودليل خسران ‪ ،‬تنزه الجناب العالي أن يضاف إليه ‪ ،‬أو إلى من شهد له بالكمال‬
‫ّللا بين إبليس وآدم وحواء من ضمير واحد ‪ ،‬وهو كان أشد‬ ‫ّللا عليهم ‪ .‬شرك ه‬ ‫كاألنبياء صلوات ه‬
‫طوا »بضمير الجماعة فكانت العقوبة في حق آدم في جمعه‬ ‫العقوبة على آدم ‪ ،‬فقيل لهم «‪:‬ا ْهبِ ُ‬
‫مع إبليس من الضمير ‪ ،‬حيث خاطبهم الحق بالهبوط ‪ ،‬بالكالم الذي يليق بجالله ‪ ،‬ولكن ال بد‬
‫أن يكون في الكالم الصفة التي يقتضيها لفظ الضمير ‪ ،‬فإن صورة اللفظ يطلب المعنى الخاص‬
‫‪ ،‬ولم يكن الهبوط عقوبة آلدم وحواء ‪ ،‬وإنما كان عقوبة إلبليس ‪ ،‬فإن آدم أهبط لصدق الوعد ‪،‬‬
‫بأن يجعل في األرض خليفة ‪ ،‬بعد ما تاب عليه واجتباه ‪ ،‬وتلقي الكلمات من ربه تصديقا لما‬
‫ض َخ ِليفَةا » ‪،‬وأهبطت حواء للنسل ‪ ،‬وأهبط إبليس‬ ‫قاله تعالى للمالئكة ‪ «:‬إِ ِنهي جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫لإلغواء ‪ ،‬ليحور عليه جميع ما يغوي به بني آدم‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ألخراهم ( )وقالت أخراهم ألوالهم ) ( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ( ) وقال الذين‬
‫استكبروا للذين استضعفوا ) ولم يقل شيء من هذا في أهل الجنة ‪ ،‬فكأنه سبحانه أشار لهما‬
‫بالشجرة النهي عن مخالفته فيما نهاهما عنه وموافقته ‪ ،‬تنبيها لهما على ذلك ‪ ،‬وأخبرهما أنهما‬
‫الظا ِل ِمينَ »ألنفسهما حيث عرضا‬ ‫إن خالفا أمره سبحانه كانا من الظالمين ‪ ،‬فقال« فَت َ ُكونَ ِمنَ َّ‬
‫سنا )وكان‬‫ظلَ ْمنا أ َ ْنفُ َ‬
‫بأنفسهما للعقوبة ‪ ،‬وهذا يدلك على أن لنفسك عليك حقا ‪ ،‬وكذا قاال( َربَّنا َ‬
‫غرضنا أن نجمع في هذه السورة ذكر قصص آدم كلها في سائر السور ‪ ،‬وهكذا كل قصة‬
‫فرقها في السور لحكمة علمها ‪ ،‬فينبغي لنا أن نذكر‬ ‫ّللا ه‬
‫تكرر ‪ ،‬ثم أني رأيت من األدب أن ه‬
‫الترجمة عنها في المواضع التي ذكرها الحق من سور القرآن ‪ ،‬حتى ال أحدث شيئا ‪ ،‬واالتباع‬
‫ع ْنها »اآلية ‪،‬‬ ‫شي ُ‬
‫ْطان َ‬ ‫أولى بأهل السعادة من االبتداع ‪ ،‬فنقول قال تعالى ( ‪ «) 37‬فَأَزَ لَّ ُه َما ال َّ‬
‫لما كان متعلق النهي القرب ال األكل ‪ ،‬لذلك عدل إبليس إلى األكل ‪ ،‬ولم يقل لهما اقربا منها ‪،‬‬
‫ّللا عن القرب ‪ ،‬وعلم أنهما ال يقطعان منها ثمرة حتى يقربا ‪ ،‬وهذا من علمه‬ ‫فيتذكران نهي ه‬
‫بمواقع‬
‫ص ‪119‬‬

‫ص ‪120 :‬‬
‫ّللا تعالى إلبراهيم الخليل عليه السالم ‪،‬‬
‫وصية ‪ -‬قال ه‬

‫[ معصية الحبيب على الحبيب شديدة ]‬


‫يا إبراهيم ما هذا الوجل الشديد الذي أراه منك ؟ فقال له إبراهيم ‪ :‬يا رب كيف ال أوجل وال‬
‫أكون على علىوجل ‪ ،‬وآدم أبي كان محله من القرب منك ‪ ،‬خلقته بيديك ‪ ،‬ونفخت فيه من‬
‫روحك ‪ ،‬وأمرت المالئكة بالسجود له ‪ ،‬فبمعصية واحدة أخرجته من جوارك ‪ ،‬فأوحى إليه ‪ :‬يا‬
‫إبراهيم أما علمت أن معصية الحبيب على الحبيب شديدة ؟‬

‫ع ْنها »يعود‬
‫الشرور ‪ ،‬وكانت الشجرة المنهي قربها كان ذلك سببا لوسوسة إبليس ‪ ،‬فضمير« َ‬
‫ّللا ‪ ،‬كما سيأتي ( أن حب الخير )‬ ‫على الشجرة ‪ ،‬أي عنها صدرت الوسوسة من إبليس لعنه ه‬
‫لسليمان عن ذكر ربه ‪ ،‬أي صدر ذلك الحب من سليمان عن ذكر ربه ‪ ،‬ولذلك مسح بسوقها‬
‫وأعناقها فرحا بها ‪ ،‬وسيأتي ذلك في سورة ص ‪ ،‬فقوله تعالى« فَأَزَ لَّ ُه َما »أي ذهب بهما ‪،‬‬
‫وأزالهما انتزعهما ‪ ،‬والمعنى متقارب «فَأ َ ْخ َر َج ُهما »يعني حواء وآدم« ِم َّما كانا فِي ِه »من النعيم‬
‫عد ٌُّو »الضمير يعود على آدم‬ ‫ض َ‬ ‫ض ُك ْم ِلبَ ْع ٍ‬
‫طوا بَ ْع ُ‬ ‫والكرامة لسعادتهما وشقاوته« َوقُ ْلنَا ا ْه ِب ُ‬
‫وحواء وإبليس ‪ ،‬وجمع بينهم في ضمير واحد الشتراكهم في المخالفة ‪ ،‬فإن إبليس خالف األمر‬
‫‪ ،‬وآدم وحواء خالفا النهي ‪ ،‬وقد انحصر التكليف الذي يوجب الوعد والوعيد فعله أو تركه‬
‫بينهما ‪ ،‬واشتركوا في الهبوط ‪ ،‬غير أن آدم هبط إلى األرض للخالفة كما تقدم ال عقوبة ‪ ،‬فإن‬
‫المؤاخذة وقعت بظهور السوآت لهما ‪ ،‬وهبطت حواء ألنها محل الوالدة للتناسل ‪ ،‬وأهبط‬
‫إبليس عقوبة ‪ ،‬ألنه ال يعود إليها وأن مصيره إلى دار الشقاء ‪ ،‬وإن اشتركوا في الهبوط ولكن‬
‫المقاصد مختلفة ‪ ،‬وقوله( َج ِميعا ا )تأكيد ‪ ،‬لم يتأخر بعضهم عن بعض ‪ ،‬ولم نستوف تمام القصة‬
‫ّللا تعالى ما استوفاها هنا ‪ ،‬ويقع االستيفاء لها بالوقوف على تكرار ذكرها في كل‬ ‫هنا ألن ه‬
‫عد ٌُّو »أي يعدو بعضكم على بعض ‪ ،‬فيعدو‬ ‫ض َ‬ ‫ض ُك ْم ِلبَ ْع ٍ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وقوله« بَ ْع ُ‬ ‫سورة إن شاء ه‬
‫ّللا ونواهيه ‪ ،‬ويعدو بنو آدم على الشيطان بأن‬ ‫الشيطان على بني آدم بتزيين مخالفة أوامر ه‬
‫ّللا ( ويجتنبون ) نواهيه ‪ ،‬فيغيظه‬ ‫يردوا وسوسته في نحره وكالمه في وجهه ويمتثلون أمر ه‬
‫ذلك ‪ ،‬فهذه عداوة بني آدم إلبليس ‪ ،‬وأما الذين يسمعون منه فهم أولياؤه وأحباؤه ورفقاؤه في‬
‫النار ‪ ،‬فالمؤمنون كلهم أعداؤه ‪ ،‬وما عدا المؤمنين كلهم أولياؤه ‪ ،‬فالمخالفات الصادرة من‬
‫ّللا قال( ال‬
‫ّللا بها ‪ ،‬فإن ه‬ ‫المؤمنين غير مؤثرة في إيمانهم ‪ ،‬ألنهم ليسوا على يقين من مؤاخذة ه‬
‫وب َج ِميعا ا )ولو دخل المؤمن النار في اآلخرة فكما‬ ‫ّللا يَ ْغ ِف ُر الذُّنُ َ‬ ‫ت َ ْقنَ ُ‬
‫طوا ِم ْن َر ْح َم ِة َّ ِ‬
‫ّللا إِ َّن َّ َ‬
‫يمرض في الدنيا ويتألم حسا ومعنى ‪ ،‬ومقره ومآله السعادة األبدية في النعيم الدائم ‪ ،‬وليس‬
‫باّلل ‪ ،‬وكل ما‬
‫مقصود إبليس هذه المخالفات الواقعة من المؤمنين ‪ ،‬وإنما مقصوده اإلشراك ه‬
‫يؤديهم‬
‫ص‪120‬‬

‫ص ‪121 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪37‬‬
‫الر ِحي ُم ) ‪( 37‬‬ ‫اب ه‬ ‫علَ ْي ِه ِإنههُ ُه َو الت ه هو ُ‬ ‫تاب َ‬‫ت فَ َ‬ ‫فَتَلَقهى آ َد ُم ِم ْن َر ِبه ِه َك ِلما ٍ‬
‫سنا َو ِإ ْن لَ ْم ت َ ْغ ِف ْر لَنا َوت َ ْر َح ْمنا لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخا ِس ِرينَ »«‬‫ظلَ ْمنا أ َ ْنفُ َ‬
‫وهذه الكلمات هي قوله« َربَّنا َ‬
‫ّللا الكل ‪ ،‬فله النعيم في أي دار كان منهم ما كان ‪ ،‬بعد‬ ‫علَ ْي ِه »بكله وذريته فيه فأسعد ه‬ ‫فَ َ‬
‫تاب َ‬
‫الر ِحي ُم »إذا اتفق أن يؤاخذ التائب فما‬ ‫اب َّ‬ ‫عقوبة وآالم ‪ ،‬تقوم بهم دنيا وآخرة« إِنَّهُ ُه َو الت َّ َّو ُ‬
‫ّللا‬
‫يأخذه إال الحكيم ال غير من األسماء ‪ ،‬فإذا لم يؤاخذ فإنما يكون الحكم فيه للرحيم ‪ ،‬فإن ه‬
‫تواب رحيم بطائفة وتواب حكيم بطائفة ‪ ،‬فوصف الحق نفسه بأنه التواب الرحيم ‪ ،‬أي الذي‬
‫ّللا عليه‬
‫يرجع على عباده في كل مخالفة بالرحمة له ‪ ،‬فيرزقه الندم عليها ‪ ،‬فيتوب العبد بتوبة ه‬
‫علَ ْي ِه ْم ِليَتُوبُوا» ‪.‬‬ ‫لقوله« ث ُ َّم َ‬
‫تاب َ‬
‫إشارة ‪ -‬تاب الحق على آدم بتلقيه الكلمات العلية ‪ ،‬ألنه تلقاها من حضرة الربوبية ‪ ،‬حضرة‬
‫اإلصالح‪.‬‬

‫إلى الخلود معه في الشقاء في دار البوار ‪ ،‬فأهل النار الذين هم أهلها هم أولياء الشيطان ‪،‬‬
‫س فِي‬ ‫ْواس ْال َخنَّ ِ‬
‫اس الَّذِي يُ َو ْس ِو ُ‬ ‫ّللا شياطين اإلنس والجن ‪ ،‬وقال( ِم ْن ش ِ هَر ْال َوس ِ‬ ‫ولهذا سماهم ه‬
‫ض ُم ْستَقَ ٌّر »يقول إقامة‬ ‫اس )وقوله تعالى« َولَ ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫اس ِمنَ ْال ِجنَّ ِة َوالنَّ ِ‬ ‫ُور النَّ ِ‬
‫صد ِ‬ ‫ُ‬
‫ع »يقول ‪:‬‬ ‫وقرار« َو َمتا ٌ‬
‫ين »يقول ‪ :‬إلى حلول‬ ‫استمتاع ‪ ،‬وهو كل ما يستمتع به من أكل وشرب ولباس ونعيم« إِلى ِح ٍ‬
‫آجالكم ‪ ،‬يقول ‪ :‬مدة أعماركم ‪ ،‬فإن القبر أول منزل من منازل اآلخرة ‪ ،‬ثم قال ( ‪«) 38‬‬
‫ت »اآلية ‪ ،‬قرئ برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس ‪ ،‬أي من تلقاك فقد‬ ‫فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن َر ِبه ِه َك ِلما ٍ‬
‫تلقيته ‪ ،‬فإن المالقاة فعل فاعلين ‪ ،‬واألولى بمنصب آدم أن تكون الكلمات تستقبله لوجهين ‪،‬‬
‫ّللا به حيث أعطاه ما أداه استعماله إلى إعادة السعادة إليه ‪،‬‬ ‫الوجه الواحد التعريف بعناية ه‬
‫والوجه الثاني التعليم ‪ ،‬ألنه ليس له أن يدعوه بنية التقريب والقربة إال بوحي منزل عليه ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا ‪ ،‬ويحتمل عدم ذكر واسطة‬ ‫رفعت آدم فمن حيث أنه استقبل الكلمات حين استقبلته من عند ه‬
‫ّللا بها منه إليه بال واسطة ‪ ،‬تشريفا له وتعريفا بالحال ‪ ،‬أن الوصلة‬ ‫الملك أنه سبحانه أوحى ه‬
‫بيني وبينك ما انقطعت بمخالفتك نهيي ‪ ،‬واألظهر في ماهية الكلمات أنها المذكورة في سورة‬
‫سنا َو ِإ ْن لَ ْم ت َ ْغ ِف ْر لَنا َوت َ ْر َح ْمنا ‪ ،‬لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخا ِس ِرينَ )فلما قال آدم‬ ‫ظلَ ْمنا أ َ ْنفُ َ‬
‫األعراف( َربَّنا َ‬
‫علَ ْي ِه »أي رجع عليه بالسعادة‬ ‫الكلمات التي تلقاها من ربه أخبره تعالى أنه تاب عليه« فَ َ‬
‫تاب َ‬
‫الر ِحي ُم »الر هجاع بالرحمة على‬ ‫اب َّ‬ ‫بأن مآله بعد موته إلى الجنة في جوار الرحمن« إِنَّهُ ُه َو الت َّ َّو ُ‬
‫عباده ‪ ،‬وهو الذي يكثر منه الرجوع في‬
‫ص ‪121‬‬

‫ص ‪122 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪38‬‬
‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم‬ ‫داي فَل َخ ْو ٌ‬
‫ف َ‬ ‫دى فَ َم ْن ت َ ِب َع ُه َ‬ ‫طوا ِم ْنها َج ِميعا ً فَ ِإ هما يَأْتِيَنه ُك ْم ِم ِنهي ُه ً‬ ‫قُ ْلنَا ا ْه ِب ُ‬
‫ون ) ‪( 38‬‬ ‫يَحْ َزنُ َ‬
‫طوا »فجمع ولم يثن وال أفرد ‪ ،‬فأهبط آدم وحواء وإبليس ‪ ،‬فنزل آدم من‬ ‫قال تعالى ‪ «:‬ا ْه ِب ُ‬
‫ّللا للخالفة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪«:‬‬ ‫الجنة إلى أصله الذي خلق منه ‪ ،‬فإنه مخلوق من التراب ‪ ،‬فأهبطه ه‬
‫ض َخ ِليفَةا »فما أهبط عقوبة لما وقع منه ‪ ،‬وإنما جاء الهبوط عقيب ما وقع‬ ‫إِ ِنهي جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫منه ‪ ،‬ألنه لما كانت نشأة اإلنسان ظهرت في الجنان أوال اتفق هبوطها إلى األرض من أجل‬
‫الخالفة ال عقوبة المعصية ‪ ،‬فإن العقوبة حصلت بظهور السوآت ‪ ،‬واالجتباء والتوبة قد حصال‬
‫بتلقي الكلمات اإللهية ‪ ،‬فلم يبق النزول إال للخالفة ‪ ،‬فكان هبوط تشريف وتكريم ‪ ،‬ليرجع إلى‬
‫اآلخرة بالجم الغفير من أوالده السعداء ‪ ،‬من الرسل واألنبياء ‪ ،‬واألولياء والمؤمنين ‪ ،‬فكان‬
‫هبوط آدم هبوط والية واستخالف ‪ ،‬ال هبوط طرد ‪ ،‬فهو هبوط مكان ‪ ،‬ال هبوط رتبة ‪ ،‬وأهبط‬
‫الحق تعالى حواء للتناسل ‪ ،‬وأهبط إبليس عقوبة ال رجوعا إلى أصله ‪ ،‬فإنها ليست داره وال‬
‫ّللا بما يكرهه من إنزاله إلى‬ ‫ّللا اإلغواء أن يدوم له في ذرية آدم ‪ ،‬لما عاقبه ه‬ ‫خلق منها ‪ ،‬فسأل ه‬
‫األرض ‪ ،‬وكان سبب ذلك في األصل وجود آدم ‪ ،‬ألنه بوجوده وقع األمر بالسجود ‪ ،‬وظهر ما‬
‫ف‬‫داي فَال خ َْو ٌ‬ ‫ظهر من إبليس ‪ ،‬وكان من األمر ما كان ‪ «.‬فَإِ َّما يَأْتِيَنَّ ُك ْم ِم ِنهي ُهد ا‬
‫ى فَ َم ْن ت َ ِب َع ُه َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْحزَ نُونَ »من قامت قيامته في حياته الدنيا ‪ ،‬واستعجل حسابه ‪ ،‬يأتي يوم القيامة‬ ‫َ‬
‫آمنا ال خوف عليه وال يحزن ‪ ،‬ال في الحال‬

‫مقابلة كل مخالفة تقع من العبد ‪ ،‬ألن كل مخالفة خروج ‪ ،‬فإذا عاد باالستغفار وطلب الرحمة‬
‫ّللا عند كل ذنب ‪ ،‬عاد الحق إليه بالرحمة والمغفرة ‪ ،‬فلذلك جاء ببنية المبالغة في التواب ‪،‬‬ ‫من ه‬
‫ى »اآلية ‪ ،‬كرر ذكر الهبوط ‪ ،‬ألنه‬ ‫طوا ِم ْنها َج ِميعا ا فَإِ َّما يَأ ْ ِتيَنَّ ُك ْم ِم ِنهي ُهد ا‬
‫( ‪ ) 39‬قوله« قُ ْلنَا ا ْه ِب ُ‬
‫فصل بين الهبوط المذكور أوال وبين ما أهبط له من إتيان الهدى بالكالم الذي قد تقدم من‬
‫العداوة واالستقرار والتمتع ‪ ،‬فطالت القصة وبعد الذي أهبط له منه ‪ ،‬فكرر الهبوط ‪ ،‬وليدل‬
‫أيضا على الفصاحة واإلعجاز حيث زاد الكالم تكراره جماال وبالغا ‪ ،‬تعرف ذلك فصحاء‬
‫ى »هذا شرط ‪ ،‬وجوابه الشرط الثاني‬ ‫األعراب ال نحن ‪ ،‬فقال تعالى «فَإِ َّما يَأْتِيَنَّ ُك ْم ِم ِنهي ُهد ا‬
‫وجوابه وهو قوله‬
‫ص ‪122‬‬

‫ص ‪123 :‬‬
‫وال في المستقبل ‪ ،‬ولهذا أتى سبحانه بفعل الحال في قوله ‪َ «:‬وال ُه ْم يَ ْحزَ نُونَ »فإن هذا الفعل‬
‫يرفع الحزن في الحال واالستقبال ‪ ،‬بخالف الفعل الماضي والمخلص لالستقبال بالسين أو‬
‫سوف‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 39‬إلى ‪40‬‬


‫سرائِي َل‬‫ُون ( ‪ ) 39‬يا بَنِي إِ ْ‬ ‫ْحاب النه ِار ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َو َكذهبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَص ُ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ون ( ‪) 40‬‬ ‫اي فَ ْ‬
‫ار َهبُ ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوأ َ ْوفُوا بِعَ ْهدِي أ ُ ِ‬
‫وف بِعَ ْه ِد ُك ْم َوإِيه َ‬ ‫ي الهتِي أ َ ْنعَ ْمتُ َ‬ ‫ْ‬
‫اذك ُُروا نِ ْع َمتِ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم »فالفاء جواب الشرط‬ ‫ف َ‬ ‫داي »فالفاء جواب الشرط األول ‪ ،‬وقوله« فَال خ َْو ٌ‬ ‫« فَ َم ْن ت َ ِب َع ُه َ‬
‫الثاني الذي هو من ‪ ،‬فمعنى الكالم اهبطوا فإن جاءكم مني هدى واتبعتموه فال خوف عليكم ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬لكن في نفس‬ ‫والفاء في إما جواب األمر ‪ ،‬وجاء بلفظة الشك مع تحقق إتيان الهدى عند ه‬
‫األمر هو من الممكنات ‪ ،‬فيستوي بالنظر إليه الطرفان ‪ ،‬وجود اإلتيان وعدمه ‪ ،‬وتارة يرد‬
‫ّللا ‪ ،‬وتارة يرد الخطاب بما هو األمر عليه في نفسه ‪ ،‬فيؤذن‬ ‫الخطاب بما هو الكائن في علم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ ال يجب عليه شيء ‪ ،‬كما يقوله مخالفو أهل الحق ‪،‬‬ ‫بأن ذلك اإلتيان ليس بواجب على ه‬
‫ّللا تلقي الكلمات ‪،‬‬ ‫مع أنها ال ننكر أن يوجب على نفسه ‪ ،‬فمن جملة الهدى الذي جاء من عند ه‬
‫داي »أي من اتبع ما شرعت‬ ‫ولذلك الهبوط الثاني هو الهبوط األول عينه ‪ ،‬ثم قال« فَ َم ْن ت َ ِب َع ُه َ‬
‫له على حد ما شرعت له ‪ ،‬ارتفع عنه خوف العذاب ولم يحزن« َوال ُه ْم يَ ْحزَ نُونَ »ولم يذكر‬
‫الجنة وال الخلود كما ذكر فيمن كفر وكذب بآياته ‪ ،‬ألن أهل السعادة على قسمين ‪ ،‬قسم يعملون‬
‫لما يقتضيه حق الربوبية وهم األعلون ‪ ،‬وقسم يعملون ألجل الجنة وهم دونهم ‪ ،‬ولهؤالء خوف‬
‫الحجاب ‪ ،‬ولهؤالء خوف فقد النعيم وحزنه فذكر ارتفاع الخوف والحزن لكونه يعم الطائفتين‬
‫ولم يذكر الجنة ‪ ،‬لئال ييأس األعلون من الطائفتين ‪ ،‬فتهمم الحقق بهم إذ كانوا الطبقة العليا ‪،‬‬
‫والهدى هنا ما بينه لهم في التعريف المنزل المشروع لهم ‪ ،‬ثم قال ( ‪َ «) 40‬والَّذِينَ َكفَ ُروا‬
‫»أي ستروا ‪ ،‬على ما تقدم في أول السورة في قوله( ِإ َّن الَّذِينَ َكفَ ُروا )وقوله« َو َكذَّبُوا »يريد‬
‫المعاندين وغير المعاندين« بِآياتِنا »أي بالعالمات التي جعلناها ونصبناها أدلة على القربة إلينا‬
‫ومعرفتنا ( وفي كل شيء له آية ‪ :‬تدل على أنه واحد ) غير أن اآليات على قسمين ‪ :‬معتادة‬
‫وغير معتادة ‪ ،‬فأرباب الفكر والمستبصرون‬
‫ص ‪123‬‬

‫ص ‪124 :‬‬
‫" َوأ َ ْوفُوا بِعَ ْهدِي »أوفوا بما عاهدتكم عليه في الدنيا في موطن التكليف «أ ُ ِ‬
‫وف بِعَ ْه ِد ُك ْم »في‬
‫ّللا أوجبه‬
‫الدارين معا ‪ ،‬دنيا وآخرة وأدخلكم الجنة ‪ ،‬وهو حق عرضي ال ذاتي ‪ ،‬ألنه حق على ه‬
‫ّللا عهد ‪ ،‬إن شاء عذبه وإن شاء أدخله‬ ‫على نفسه لمن وفي بعهده ‪ ،‬ومن لم يف فليس له عند ه‬
‫الجنة ‪ ،‬وأدخلنا تحت العهد إعالما بأنا جحدنا عبوديتنا له ‪ ،‬إذ لو كنا عبيدا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الموفقون هي عندهم سواء ‪ ،‬يتخذونها أدلة ‪ ،‬وما عدا هؤالء فال ينظرون إال في اآليات غير‬
‫ّللا ‪ ،‬قال تعالى( َو َكأ َ ِيه ْن ِم ْن آيَ ٍة‬ ‫المعتادة ‪ ،‬فيحصل لهم استشعار الخوف ‪ ،‬فيردهم ذلك القدر إلى ه‬
‫ع ْنها ُم ْع ِرضُونَ )ثم إن الذين يتخذون غير المعتادة‬ ‫علَيْها َو ُه ْم َ‬ ‫ض يَ ُم ُّرونَ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫فِي ال َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬ومنهم من يشرك( َوما يُؤْ ِم ُن أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ِب َّ ِ‬
‫اّلل ِإ َّال َو ُه ْم‬ ‫آية ‪ ،‬منهم من يخلصها دليال على ه‬
‫ُم ْش ِر ُكونَ )لمعرفتهم باألسباب المولدة لتلك اآليات ‪ ،‬كالزالزل والكسوفات وما يحدث من‬
‫ار ُه ْم فِيها‬ ‫حاب النَّ ِ‬‫ص ُ‬ ‫وّللا ينور أبصارنا ويرزقنا التوفيق ‪ ،‬قال تعالى« أُولئِ َك أ َ ْ‬ ‫اآلثار العلوية ‪ ،‬ه‬
‫ار »أي أهلها ‪ ،‬كما ورد في الصحيح ( أما أهل النار‬ ‫حاب النَّ ِ‬
‫ص ُ‬ ‫خا ِلدُونَ »باقون ‪ ،‬وقوله« أ َ ْ‬
‫الذين هم أهلها ‪ ،‬فإنهم ال يموتون فيها وال يحيون ) وقال في الذين يخرجون منها ( ولكن ناس‬
‫ّللا فيها إماتة ) ثم ذكر خروجهم من النار ‪-‬‬ ‫أصابتهم النار بذنوبهم ‪ ،‬أو قال بخطاياهم ‪ ،‬فأماتهم ه‬
‫طوا‬ ‫الحديث بكماله ‪ -‬فع هم سبحانه بقوله« الَّذِينَ َكفَ ُروا َو َكذَّبُوا »جميع األشقياء ‪ ،‬وأما قوله« ا ْه ِب ُ‬
‫»فحظي إبليس من هذا الهبوط لما تكبر وعال عند نفسه ‪ ،‬ألن أصله من لهب النار ‪ ،‬ولهب‬
‫النار يطلب العلو ‪ ،‬فلهذا تكبر ‪ ،‬ولما كان لهبا كان إذا جاءه الهواء من أعاله عكس رأس اللهب‬
‫إلى أسفل قسرا وقهرا ‪ ،‬كذلك إبليس لما جاءه هواه من تكبره على آدم لنشأته ‪ ،‬عكسه إلى‬
‫األرض ‪ ،‬فأهبط ‪ ،‬ولم يقف األمر هنا ‪ ،‬بل أهبط إلى أسفل سافلين في دار الخزي والهوان ‪،‬‬
‫فهواه أهبطه ‪ ،‬ولما كانت المالئكة نورا عمت جميع الجهات فال أثر للهواء في النور ‪ ،‬أال ترى‬
‫النور الذي في الشمس والسراج وفي كل جسم مستنير نسبته إلى العلو والسفل والجنبات نسبة‬
‫ّللا ما أمرهم‬ ‫واحدة ‪ ،‬والمالئكة مخلوقون من النور ‪ ،‬فال أثر للهوى فيهم ‪ ،‬فال يعصون ه‬
‫ويفعلون ما يؤمرون ‪ ،‬ولما غلب على آدم في نشأته التراب وله السكون ‪ ،‬بخالف لهب النار ‪،‬‬
‫ثبت على عبوديته وتواضعه ‪ ،‬فسعد ‪ ،‬وكان هبوطه رجوعا إلى أصله ‪ ،‬وسيأتي الكالم على‬
‫ّللا ‪ ،‬وكونه من حمأ مسنون ‪ ،‬ولهذا يتغير كل ما يحل فيه من‬ ‫نشأته في موضعها إن شاء ه‬
‫األطعمة واألشربة ويستحيل إلى الروائح القبيحة ‪ ،‬ويندرج في هذا الكالم النشأة األخراوية ‪،‬‬
‫واستحالة ما يحل فيها من الطعام والشراب إلى الروائح الطيبة ‪ ،‬وتحقيق ذلك في موضعه إن‬
‫ّللا ‪ ،‬قوله ( ‪ «) 41‬يا بَنِي إِسْرائِي َل »اآلية ‪ ،‬أضافهم إلى يعقوب ‪ ،‬فهو إسرائيل ‪ ،‬أي‬ ‫شاء ه‬
‫ّللا به على بني إسرائيل ‪،‬‬ ‫ّللا ما أنعم ه‬ ‫ي الَّتِي أ َ ْنعَ ْمتُ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم »وقد ذكر ه‬ ‫ّللا« ا ْذ ُك ُروا نِ ْع َمتِ َ‬
‫صفوة ه‬
‫من‬
‫ص ‪124‬‬

‫ص ‪125 :‬‬
‫لم يكتب علينا عهده ‪ ،‬فإنا بحكم السيد ‪ ،‬فلما أبقنا بخروجنا عن حقيقتنا وادعينا الملك‬
‫والتصرف ‪ ،‬واألخذ والعطاء ‪ ،‬كتب بيننا وبينه عقودا ‪ ،‬وأخذ علينا العهد والميثاق ‪ ،‬وأدخل‬
‫نفسه معنا في ذلك ‪ ،‬والعبد ال يكتب عليه شيء وال يجب له حق ‪ ،‬فإنه ما يتصرف إال عن إذن‬
‫سيده ‪ ،‬فإذا وفي العبد حقيقة عبوديته ‪ ،‬لم يؤخذ عليه عهد وال ميثاق ‪ ،‬فمن أصعب آية تمر‬
‫على العارفين كل آية فيها« أ َ ْوفُوا بِ ْالعُقُو ِد »أو العهود فإنها آيات أخرجت العبيد من عبوديتهم‬
‫هّلل ‪ .‬فإن قلت ‪ :‬كيف كلف الحق نفسه وقيدها ‪ ،‬مع أنه مطلق ‪ ،‬والمطلق ‪ ،‬ال يقبل التقييد بوجه‬
‫من الوجوه ؟ قلنا ‪ :‬إن للمطلق أن يقيد نفسه إن شاء ‪ ،‬وأن ال يقيدها إن شاء ‪ ،‬فإن ذلك من‬
‫صفة كونه مطلقا إطالق مشيئة ‪ ،‬ومن هنا أوجب الحق على نفسه ‪ ،‬ودخل تحت العهد لعبده‬
‫الر ْح َمةَ »أي أوجب فهو الموجب على نفسه ‪ ،‬ما‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬
‫ب َربُّ ُك ْم َ‬‫فقال في الوجوب «‪َ :‬كت َ َ‬
‫أوجب غيره عليه ذلك فيكون مقيدا بغيره ‪ ،‬فقيد نفسه لعبيده رحمة بهم ولطفا خفيا ‪ ،‬وقال في‬
‫وف بِعَ ْه ِد ُك ْم »فكلفهم ‪ ،‬وكلف نفسه ‪ ،‬لما قام الدليل عندهم بصدقه في‬ ‫العهد ‪ «:‬أ َ ْوفُوا بِعَ ْهدِي أ ُ ِ‬
‫قيله ‪ ،‬ذكر لهم ذلك تأنيسا لهم سبحانه وتعالى ‪ ،‬ولكن هذا كله أعني دخوله في التقييد لعباده من‬
‫كونه إلها ‪ ،‬ال من كونه ذاتا ‪ ،‬فإن الذات غنية عن العالمين ‪ ،‬والملك ما هو غني عن الملك ‪ ،‬إذ‬
‫لوال الملك ما صح اسم الملك ‪ ،‬فالمرتبة أعطت التقييد ‪ ،‬ال ذات الحق جل وتعالى ‪ -‬تنبيه ‪-‬‬
‫احذر أن تفي ليفي إليك ‪ ،‬أوف أنت بعهدك واتركه يفعل ما يريد ‪ ،‬فإنه من وفي بعهده ليفي له‬
‫ّللا عهدا أن‬
‫الحق بعهده ‪ ،‬لم يزده على ميزانه شيئا ‪ ،‬حيث ورد في الحديث « كان له عند ه‬
‫يدخله الجنة » لم يقل غير ذلك ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪َ «:‬و َم ْن أ َ ْوفى بِما عا َه َد َ‬
‫علَ ْيهُ َّ َ‬
‫ّللا »ولم يطلب‬
‫ع ِظيما ا »وما عظمه‬ ‫سيُؤْ تِي ِه أ َ ْجرا ا َ‬
‫الموازنة وال ذكرها هنا أنه ليفي له بعهده ‪ ،‬وإنما قال «‪:‬فَ َ‬
‫الحق فال أعظم منه ‪ ،‬فاعمل‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫المن والسلوى وتفجير الماء من الحجر ومشيهم على البحر وإنجائهم من عدوهم وتظليل الغمام‬ ‫ه‬
‫ّللا يمن على عباده بما يمتن عليهم من المنن الجسام ‪ ،‬ولذا سميت مننا ‪،‬‬ ‫وغير ذلك ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا محمودا ‪ ،‬ألنه‬ ‫وليس للعباد أن يمتنوا ‪ ،‬ألن النعم ليست إال لمن خلقها ‪ ،‬فلهذا كان المن من ه‬
‫ينبه عباده بما أنعم عليهم ليرجعوا إليه ‪ ،‬وكان مذموما من العباد ألنه كذب محض ‪ ،‬قال‬
‫علَ ْي ُك ْم أ َ ْن هَدا ُك ْم‬ ‫ي ِإسْال َم ُك ْم ‪ ،‬بَ ِل َّ‬
‫ّللاُ يَ ُم ُّن َ‬ ‫علَي َْك أ َ ْن أ َ ْسلَ ُموا ‪ ،‬قُ ْل ال ت َ ُمنُّوا َ‬
‫علَ َّ‬ ‫تعالى (يَ ُمنُّونَ َ‬
‫وف ِبعَ ْه ِد ُك ْم »أي أوفوا بما أخذت عليكم من‬ ‫يمان )ثم قال تعالى لهم« َوأ َ ْوفُوا ِبعَ ْهدِي أ ُ ِ‬ ‫إل ِ‬‫ِل ْ ِ‬
‫الميثاق ‪ ،‬فأخبرنا بذلك لنسمع‬
‫ص ‪128‬‬

‫ص ‪126 :‬‬
‫على وفائك بعهدك من غير مزيد ‪ ،‬فإن من طلب من الحق الوفاء ‪ ،‬فقد ناط به الجفا ‪ ،‬وليس‬
‫برب جاف بال خالف‬

‫إشارة ‪ [-‬الرب رب ‪ ،‬والعبد عبد ]‬


‫الرب رب ‪ ،‬والعبد عبد ‪ ،‬وإن اشتركا في العهد ‪.‬‬
‫فال تنظر لما عندي * فإن األمر من عندك‬
‫وال تطلب وفى عهدي * إذا ما خنت في عهدك‬
‫فوعدي صادق مني * إذا صدقت في وعدك‬
‫وما أتيت إال من * فساد كان في عقدك‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 41‬إلى ‪42‬‬


‫ص هدِقا ً ِلما َمعَ ُك ْم َوال تَكُونُوا أ َ هو َل كافِ ٍر بِ ِه َوال ت َ ْ‬
‫شت َ ُروا بِآياتِي ث َ َمنا ً قَ ِليلً َوإِيه َ‬
‫اي‬ ‫آمنُوا بِما أ َ ْن َز ْلتُ ُم َ‬
‫َو ِ‬
‫ون ) ‪( 42‬‬ ‫ق َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫باط ِل َوت َ ْكت ُ ُموا ا ْل َح ه‬
‫ق ِبا ْل ِ‬
‫سوا ا ْل َح ه‬
‫ون ( ‪َ ) 41‬وال ت َ ْل ِب ُ‬ ‫فَاتهقُ ِ‬
‫العلم حاكم ‪ ،‬فإن لم يعمل العامل بعلمه فليس بعالم ‪ ،‬العلم ال يمهل وال يهمل ‪ ،‬العلم أوجب‬
‫الحكم ‪ ،‬لما علم الخضر حكم ‪ ،‬ولما لم يعلم صاحبه اعترض عليه ونسي ما كان قد‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ‪ ،‬وهذا من لطفه سبحانه بنا في الخطاب ‪ ،‬فهو مثل القائل ( إياك‬ ‫حتى نفي بما عاهدنا عليه ه‬
‫وف بِعَ ْه ِد ُك ْم »جزاء بطريق المناسبة ‪،‬‬ ‫أعني فاسمعي يا جاره ) فهذا تكليف بتعريف ‪ ،‬وقوله« أ ُ ِ‬
‫وفاء بوفاء ‪ ،‬فإنه عهد إلينا إذا آمنا به ووقفنا عند حدوده ‪ ،‬أن يدخلنا دار كرامته في جواره‬
‫وينجينا من عذابه ‪ ،‬قال عليه السالم ( فمن جاء بهن ‪ -‬يعني الصلوات ‪ -‬لم يضع من حقهن‬
‫ّللا عهد أن يدخله الجنة ‪ ،‬ومن لم يأت بهن استخفافا بحقهن ‪ ،‬فليس له عند‬ ‫شيئا ‪ ،‬كان له عند ه‬
‫َّاي‬
‫ّللا عهد ‪ ،‬إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ) فجعل لعبده عهدا عنده سبحانه ‪ ،‬وقوله« َوإِي َ‬ ‫ه‬
‫ون »من الرهب والرهبانية ‪ ،‬وإن كانتا ترجعان إلى معنى واحد ‪ ،‬وإياي فخافوني‬ ‫فَ ْ‬
‫ار َهبُ ِ‬
‫وفاعبدوني ‪ ،‬ولهذا رفع عنهم الخوف في قوله ( ال خوف عليهم ) وهو خصوص وصف في‬
‫العبودية ‪ ،‬ثم قال «) ‪َ ( 42‬و ِآمنُوا ِبما أ َ ْنزَ ْلتُ »اآلية ‪ ،‬الضمير في آمنوا ‪ ،‬يحتمل أن يعود‬
‫علينا وعلى غيرنا من أهل الكتاب وغيرهم ‪ ،‬ألنه قال« َو ِآمنُوا ِبما أ َ ْنزَ ْلتُ ُم َ‬
‫ص هدِقا ا ِلما َمعَ ُك ْم‬
‫»مصدقا حال ألنزلت ‪ ،‬فلنا من هذا الخطاب اإليمان بما أنزل من قبلنا مصدقا لما معنا ‪ ،‬مما‬
‫أنزل إلينا وهو القرآن ‪ ،‬وألهل الكتاب من هذا الخطاب ‪ ،‬وآمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا‬
‫لما معكم مما أنزلته عليكم ‪ ،‬ولغير أهل الكتاب ‪،‬‬
‫ص ‪126‬‬

‫ص ‪127 :‬‬
‫التزمه فالتزم ‪ ،‬لما علهم آدم األسماء علم وتبرز في صدر الخالفة وتقدم ‪ ،‬العلم باألسماء كان‬
‫العالمة ‪ ،‬على حصول اإلمامة ‪:‬العلم يحكم واألقدار جارية * وكل شيء له حد ومقدارإال‬
‫العلوم التي ال حد يحصرها * لكن لها في قلوب الخلق آثارفحدها ما لها في القلب من أثر *‬
‫وعينها فيه أنجاد وأغوار‪.‬‬

‫سورة البقرة ‪ ( 2 ) :‬آية ‪43‬‬


‫الرا ِك ِع َ‬
‫ين ) ‪( 43‬‬ ‫الزكاةَ َو ْ‬
‫ار َكعُوا َم َع ه‬ ‫َوأَقِي ُموا ال ه‬
‫صلةَ َوآتُوا ه‬
‫إقامة الصالة ‪ -‬راجع آية رقم ‪َ «- 4‬وآتُوا َّ‬
‫الزكاة َ »سميت الزكاة زكاة لما فيها من‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وآمنوا بما أنزلت من كل كتاب ‪ ،‬مصدقا لما معكم من األدلة والبراهين على وحدانيتي في‬
‫ألوهيتي ‪ ،‬وما ينبغي لي من صفات الجالل ‪ ،‬فيكون إيمانكم بما أنزلت مضافا لما معكم من‬
‫العلوم المستفادة من البراهين ‪ ،‬فهو خطاب يعم الجميع ‪ ،‬وهذا من جوامع الكلم ‪ ،‬وقوله« َوال‬
‫ت َ ُكونُوا أ َ َّو َل كافِ ٍر ِب ِه »صفة لمحذوف ‪ ،‬يعني كل مخاطب به في كل زمان ‪ ،‬حتى يبقى العموم‬
‫في الضمير على أصله ‪ ،‬فيكونون أوال في أهل زمانهم في الكفر به ‪ ،‬أي بما أنزل ‪ ،‬قال‬
‫تعالى (فَلَ َّما جا َء ُه ْم ما َ‬
‫ع َرفُوا َكفَ ُروا ِب ِه )وإن كان له وجود قبل مجيئه إليهم ‪ ،‬وقوله« َوال‬
‫يال »لما كانوا هم أهل الكتاب حيث أنزله الحق إليهم ‪ ،‬فصار ملكا لهم ‪،‬‬ ‫ت َ ْشت َ ُروا بِآياتِي ث َ َمنا ا قَ ِل ا‬
‫ولما كان الكتاب حاكما عليهم باالنقياد والسمع والطاعة لمن جاء به وهم الرسل ‪ ،‬وفي‬
‫المخاطبين رؤساء وأكابر وممن يسمع له ويطاع ‪ ،‬وصعب عليهم أن ينقادوا لما أمرهم به في‬
‫الكتاب المنزل ‪ ،‬فاستبدلوا به رئاسة الدنيا ‪ ،‬فإن البيع والشراء استبدال ومعاوضة ‪ ،‬فاختاروا‬
‫برئاسة الدنيا على رئاسة اآلخرة التي أعطتهم اتباع هذا الكتاب ‪ ،‬فأقام اآليات مقام ما تدل عليه‬
‫من رئاسة اآلخرة وغيرها لمن عمل بها ‪ ،‬فكانوا كمن اشترى الحصى بالياقوت ‪ ،‬والتراب‬
‫بالمسك والعنبر ‪ ،‬وجعله ثمنا قليال لكونه ينقطع بالموت أو بالعزل ‪ ،‬ورئاسة اآلخرة باقية دائمة‬
‫ّللا ) *قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ون »أي اتخذوني وقاية ‪ ،‬وهو قوله( َواتَّقُوا َّ َ‬ ‫َّاي فَاتَّقُ ِ‬‫‪ ،‬ثم قال« َو ِإي َ‬
‫وسلم ( أعوذ برضاك من سخطك ) فجعل الرضاء وقاية من السخط ‪ ،‬وقال ( وبمعافاتك من‬
‫عقوبتك ) فجعل المعافاة وقاية تحول بينه وبين العقوبة ‪ ،‬ولما عزت أسماء الحق تعالى أن‬
‫تنخرط مع اآلثار في سلك واحد قال ( وبك منك ) وإنما أحدث لنا استعاذة أخرى ‪ ،‬فقال عليه‬
‫السالم ( وأعوذ بك ) فجعله وقاية ‪ ،‬وليس له سبحانه ما يقابله ‪ ،‬واالستعاذة تستدعي‬
‫ص ‪127‬‬

‫ص ‪128 :‬‬
‫الربو والزيادة ‪ ،‬ولذلك تعطي قليال وتجدها كثيرا ‪ ،‬والزكاة طهارة لألموال من حيث إضافة‬
‫المال إلى العبيد ‪ ،‬وطهارة ألربابها من صفة البخل ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪44‬‬


‫تاب أ َ فَل ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫ون ) ‪( 44‬‬ ‫ون ا ْل ِك َ‬ ‫س ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم تَتْلُ َ‬
‫س ْو َن أ َ ْنفُ َ‬
‫اس بِا ْلبِ ِ هر َوت َ ْن َ‬ ‫أ َتَأ ْ ُم ُر َ‬
‫ون النه َ‬
‫العقل قيد وما خاطب تعالى إال العقالء ‪ ،‬وهم الذين تقيدوا بصفاتهم وميزوها عن صفات‬
‫خالقهم ‪ ،‬ولهذا أدلة العقول تميز بين الحق والعبد ‪ ،‬والخالق والمخلوق ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬أ َ‬
‫س ُك ْم »وال يتمكن لعبد التزم‬ ‫اس ِب ْال ِب ِ هر »البر هو اإلحسان والخير« َوت َ ْن َ‬
‫س ْونَ أ َ ْنفُ َ‬ ‫تَأ ْ ُم ُرونَ النَّ َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫مستعاذا منه ‪ ،‬فقال ( منك ) فجعله سبحانه في مقابلة نفسه إذ ال مثل له ‪ ،‬وهو قوله تعالى(‬
‫َّار )فهو المتكبر سبحانه الجبار ‪ ،‬والعبد إذا اتصف بما‬ ‫على ُك ِهل قَ ْل ِ‬
‫ب ُمت َ َك ِبه ٍر َجب ٍ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫َكذ ِل َك يَ ْ‬
‫طبَ ُع َّ‬
‫ّللا ] « *‬ ‫تناقض حقيقته من أوصاف العظمة والكبرياء التي تستحقها الربوبية [ يقع في سخط ه‬
‫» فلهذا قال ( منك ) أي أن أكون متكبرا جبارا ‪ ،‬فهو يستعيذ من كبريائه أن يقوم به بكبريائه‬
‫باط ِل »اآلية ‪ ،‬يقول ‪ :‬ال تخلطوا الحق‬ ‫سوا ْال َح َّق ِب ْال ِ‬ ‫سبحانه ‪ ،‬ثم قال تعالى ( ‪َ «) 43‬وال ت َ ْل ِب ُ‬
‫ض )وهو الباطل‬ ‫ض )وهو الحق( َونَ ْكفُ ُر ِببَ ْع ٍ‬ ‫بالباطل ‪ ،‬وهو قوله سبحانه عنهم( نُؤْ ِم ُن ِببَ ْع ٍ‬
‫فخلطوا بينهما« َوت َ ْكت ُ ُموا ْال َح َّق »حال من الضمير وهو األوجه ‪ ،‬أي ال تلبسوا الحق بالباطل‬
‫كاتمين للحق ‪ ،‬ويؤيد هذا قوله« َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »أنه الحق ‪ ،‬قال تعالى( الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم ْال ِك َ‬
‫تاب‬
‫يَ ْع ِرفُونَهُ َكما يَ ْع ِرفُونَ أَبْنا َء ُه ْم ‪َ ،‬و ِإ َّن فَ ِريقا ا ِم ْن ُه ْم )وهم هؤالء (لَيَ ْكت ُ ُمونَ ْال َح َّق َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ )يقول‬
‫ْب فِي ِه )أي ال‬ ‫تاب ال َري َ‬ ‫‪ :‬إن الحق أبلج ‪ ،‬ال لبس فيه لقوة الداللة عليه ‪ ،‬ولذلك قال( ذ ِل َك ْال ِك ُ‬
‫شك وال لبس ‪ ،‬فهم يتخيلون أن الحق يختلط بالباطل وليس كذلك ‪ ،‬ولذلك كثيرا ما يصف‬
‫سبحانه اآليات أنها بينات ومبينات ‪ ،‬اسم فاعل واسم مفعول ‪ ،‬وهو قوله« َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »أنه‬
‫صالة َ »اآلية ‪ ،‬تقدم الكالم‬ ‫الحق وأنه ال يلتبس ‪ ،‬فهما معلومان لهم ‪ ،‬ثم قال ( ‪َ «) 44‬وأَقِي ُموا ال َّ‬
‫الزكاة َ »المفروضة عليكم ‪ ،‬التي يؤدي إعطاؤها إلى‬ ‫في إقامة الصالة في أول السورة« َوآتُوا َّ‬
‫ار َكعُوا َم َع َّ‬
‫الرا ِك ِعينَ‬ ‫نمو أموالكم وزيادتها ‪ ،‬وإلى تطهيركم مما يلزمكم من إمساكها ‪ ،‬وقوله« َو ْ‬
‫»أي صلوا في الجماعة ‪ ،‬ففي ذلك الحث على حضور الجماعة في الصالة ‪ ،‬وإن كان الضمير‬
‫يعود على أهل الكتاب ‪ ،‬فإن صالتهم على ما قيل ال ركوع فيها ‪ ،‬فيقال لهم صلوا صالة‬
‫ار َكعُوا »أي انقادوا لهذا الدين كانقياد المؤمنين ‪ ،‬إذ الركوع االنقياد‬ ‫المسلمين ‪ ،‬وقد يريد« ْ‬
‫اس بِ ْالبِ ِ هر »اآلية ‪ ،‬خطاب لكل من أمر بالبر ولم يعمل به ‪،‬‬ ‫ْ‬
‫والخضوع ‪ «) 45 ( ،‬أ َ تَأ ُم ُرونَ النَّ َ‬
‫البر اإلحسان أجمعه ‪ ،‬وكل من أحسن لمن أمر‬

‫] ‪( * ) [ . . .‬ساقطة من األصل‪.‬‬
‫ص ‪128‬‬

‫ص ‪129 :‬‬
‫ّللا أن يأمر أحدا ببر وينسى نفسه منه ‪ ،‬بل يبتدئ بنفسه ‪ ،‬فقد قال له ربه على لسان‬ ‫الحياء من ه‬
‫ّللا ألحد أن‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ابدأ بنفسك ‪ ،‬وشرع له ذلك حتى في الدعاء إذا دعا ه‬ ‫رسوله صلهى ه‬
‫يبدأ بنفسه ‪ ،‬فإن جميع الخيرات صدقة على النفوس ‪ ،‬أي خير كان حسا ومعنى ‪ ،‬فينبغي‬
‫للمؤمن أن يتصرف في ذلك بشرع ربه ال بهواه ‪ ،‬فإنه عبد مأمور تحت أمر سيده ‪ ،‬فإن تعدى‬
‫شرع ربه في ذلك لم يبق له تصرف إال هوى نفسه ‪ ،‬فسقط عن تلك الدرجة العلية إلى ما هو‬
‫دونها عند العامة من المؤمنين ‪ ،‬وأما عند األكابر العارفين فهو عاص ‪ ،‬فإذا خرج اإلنسان‬
‫بصدقته فأول محتاج يلقاه نفسه ‪ ،‬قبل كل نفس محتاجة ‪ ،‬وهو إنما أخرج الصدقة للمحتاجين ‪،‬‬
‫ّللا قال ‪ :‬ابدأ بنفسك وهو أول من يلقاه من أهل‬ ‫فإن تعدى أول محتاج فذلك لهواه ال هّلل ‪ ،‬فإن ه‬
‫الحاجة ‪ ،‬وقد شرع له في اإلحسان أي يبدأ بالجار األقرب فاألقرب ‪ ،‬فإن رجح األبعد في‬
‫الجيران على األقرب مع التساوي في الحاجة فقد اتبع هواه ‪ ،‬وما وقف عند حد ربه ‪ ،‬وهذا‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فأمر العبد بالصفة التي تحضره‬ ‫سار في جميع أفعال البر ‪ ،‬وسبب ذلك الغفلة عن ه‬
‫ّللا لمن أمر غيره‬ ‫ّللا وهي الصالة ‪ ،‬فهي مناجاة العبد لربه ‪ ،‬وتشير هذه اآلية إلى توبيخ ه‬ ‫مع ه‬
‫بإقامة الصالة ‪ ،‬وإتمام نشأتها ونسي نفسه ‪ ،‬وجعله إياه بمنزلة من ال عقل له ‪ .‬والبر من جملة‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ :‬أقرت الصالة بالبر والسكينة« َوأ َ ْنت ُ ْم‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫أحوال الصالة فإن رسول ه‬
‫ّللا أ َ ْن تَقُولُوا ما ال ت َ ْفعَلُونَ »وهذه حالة‬ ‫تَتْلُونَ ْال ِك َ‬
‫تاب »فإنكم تجدون فيه قوله« َكبُ َر َم ْقتا ا ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا يأمر غيره بالطاعات وهو على‬ ‫من أمر بالبر غيره ونسي نفسه ‪ ،‬فالغافل القليل الحياء من ه‬
‫الفجور ‪ ،‬وينسى نفسه فال يأمرها بذلك« أ َ فَال ت َ ْع ِقلُونَ »يقول ‪:‬‬
‫أما لكم عقول تنظرون بها قبيح ما أنتم عليه ؟ فإذا قلت خيرا ‪ ،‬أو دللت على خير ‪ ،‬فكن أنت‬
‫أول عامل به ‪ ،‬والمخاطب بذلك الخير ‪ ،‬وانصح نفسك فإنها آكد عليك ‪ ،‬فإن نظر الخلق إلى‬
‫ّللا‬
‫فعل الشخص أكثر من نظرهم إلى قوله ‪ ،‬واالهتداء بفعله أعظم من االهتداء بقوله ‪ ،‬فإن ه‬
‫س ْونَ أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم‬ ‫تعالى يقول في نقصان عقل من هذه صفته ‪ «:‬أ َ تَأ ْ ُم ُرونَ النَّ َ‬
‫اس ِب ْال ِب ِ هر َوت َ ْن َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫باإلحسان إليه فقد أحسن لنفسه ‪ ،‬واألمر باإلحسان من اإلحسان ‪ ،‬فقال تعالى منكرا على من‬
‫س ْونَ‬ ‫يأمر باإلحسان وال يأتيه« أ َ تَأ ْ ُم ُرونَ النَّ َ‬
‫اس »أي غيركم « ِب ْال ِب ِ هر »باألفعال الحسنة« َوت َ ْن َ‬
‫س ُك ْم »أي وتتركون أنفسكم ‪ ،‬يقول ‪ :‬أال تأمرون أنفسكم بالفعل الحسن« َوأ َ ْنت ُ ْم تَتْلُونَ ْال ِك َ‬
‫تاب‬ ‫أ َ ْنفُ َ‬
‫»أي تجدون في الكتاب إذا قرأتموه أنكم مخاطبون بأن تأتوا البر في كل حال ‪ «،‬أ َ فَال ت َ ْع ِقلُونَ‬
‫»‬
‫ص ‪129‬‬

‫ص ‪130 :‬‬
‫َوأ َ ْنت ُ ْم تَتْلُونَ ْال ِك َ‬
‫تاب أ َ فَال ت َ ْع ِقلُونَ »فإذا تال اإلنسان القرآن وال يرعوي إلى شيء منه ‪ ،‬فإنه من‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن الرجل يقرأ القرآن والقرآن يلعنه ‪،‬‬ ‫شرار الناس بشهادة رسول ه‬
‫ّللا‬ ‫علَى َّ‬
‫الظا ِل ِمينَ »وهو يظلم فيلعن نفسه ‪ ،‬ويقرأ « لعنة ه‬ ‫ويلعن نفسه فيه ‪ ،‬يقرأ «أَال لَ ْعنَةُ َّ ِ‬
‫ّللا َ‬
‫على الكاذبين » وهو يكذب فيلعنه القرآن ‪ ،‬ويلعن نفسه في تالوته ‪ ،‬ويمر باآلية فيها ذم الصفة‬
‫وهو موصوف بها فال ينتهي عنها ‪ ،‬ويمر باآلية فيها حمد الصفة فال يعمل بها وال يتصف بها‬
‫ّللا عليه وسلم في الثابت عنه ‪ « :‬القرآن حجة لك‬ ‫‪ ،‬فيكون القرآن حجة عليه ال له ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫أو عليك ‪ ،‬كل الناس يغدو فبائع نفسه ‪ ،‬فمعتقها أو موبقها » ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪45‬‬


‫ش ِع َ‬
‫ين ) ‪( 45‬‬ ‫علَى ا ْلخا ِ‬ ‫يرةٌ ِإاله َ‬
‫صل ِة َو ِإنهها لَ َك ِب َ‬ ‫ست َ ِعينُوا ِبال ه‬
‫ص ْب ِر َوال ه‬ ‫َوا ْ‬
‫فأمر من هذه صفته بأن يستعين بالصبر يعني بالصبر على الصالة ‪ ،‬فقدهم حبس النفس عليها ‪،‬‬
‫صالةِ »فإن المصلي يناجي ربه ‪ ،‬فإذا ما حصل العبد في محل‬ ‫ثم ذكر الصالة فقال ‪َ «:‬وال َّ‬
‫ّللا فال يتمكن له أن يأمر أحدا ببر وينسى نفسه منه ‪ ،‬بل‬ ‫المناجاة مع ربه استلزمه الحياء من ه‬
‫يرة ٌ »يعني الصالة ثقيلة شاقة« ِإ َّال َ‬
‫علَى‬ ‫يبتدئ بنفسه ‪ .‬ثم ذكر خشوع الصالة فقال ‪َ «:‬و ِإنَّها لَ َك ِب َ‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫ْالخا ِش ِعينَ »وخشوع كل خاشع على قدر علمه بربه ‪ ،‬وقد جعل رسول ه‬
‫الخشوع للقلب وال سيما في الصالة فقال ‪ :‬لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ‪ ،‬والخشوع ال يكون‬
‫إال هّلل فمن لم يخشع في صالته فما صلى‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ما أنزله في كتابه إليكم ‪ ،‬والنسيان الترك عن غفلة ‪،‬‬ ‫يقول ‪:‬ليس لكم عقل تفهمون به عن ه‬
‫فكأنه يقول ‪ :‬وتغفلون عن أنفسكم ‪ ،‬وإذا لم يكن عن غفلة فهو التناسي ( ‪َ «) 46‬وا ْست َ ِعينُوا‬
‫ين )بيهن الحق له ما يقع له به‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫صب ِْر »اآلية ‪ ،‬لما كان من قول العبد فيما شرع له( َو ِإي َ‬ ‫ِبال َّ‬
‫صب ِْر " يقول ‪:‬‬ ‫المعونة على عدوه إبليس ‪ ،‬فقال لعباده« َوا ْست َ ِعينُوا »على عدوكم" بِال َّ‬
‫بحبس نفوسكم على طاعتي وامتثال ما أمرتكم به ونهيتكم عنه مطلقا ‪ ،‬فإن ذلك مما يقمع‬
‫صالةِ »فإنه ما ثم عبادة ذكر فيها أنه فيها مناج ربه غير الصالة ‪ ،‬فلهذا خصها‬ ‫عدوكم« َوال َّ‬
‫صالتِ ِه ْم‬
‫على َ‬ ‫ّللا( الَّذِينَ ُه ْم َ‬
‫بالذكر دون جميع األعمال ‪ ،‬ليثابر العبد عليها ‪ ،‬فيكون ممن قال ه‬
‫ظونَ )فإن الشيطان ال يتمكن له التمكن من قلب‬ ‫صلَوا ِت ِه ْم يُحا ِف ُ‬
‫على َ‬
‫دا ِئ ُمونَ )وفي موضع آخر( َ‬
‫العبد في حال مناجاته ‪ ،‬ألن أنوار هيبة الحضرة تحرقه ‪ ،‬ولقد نشاهد هذا فيمن يحادث منا ملكا‬
‫عظيما ذا جالل وكبرياء ‪،‬‬
‫ص ‪130‬‬

‫ص ‪131 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪46‬‬
‫ون أَنه ُه ْم ُملقُوا َر ِبه ِه ْم َوأَنه ُه ْم ِإلَ ْي ِه ِ‬
‫راجعُ َ‬
‫ون ) ‪( 46‬‬ ‫ِين يَ ُ‬
‫ظنُّ َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ّللا ما يوجد إال عند ظن العبد به فليظن به خيرا ‪.‬‬ ‫فظن خيرا تلقه ‪ ،‬فإن ه‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪48‬‬


‫ين ( ‪َ ) 47‬واتهقُوا‬ ‫علَى ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوأ َ ِنهي فَ ه‬
‫ض ْلت ُ ُك ْم َ‬ ‫ي الهتِي أ َ ْنعَ ْمتُ َ‬ ‫سرائِي َل ْ‬
‫اذك ُُروا نِ ْع َمتِ َ‬ ‫يا بَنِي إِ ْ‬
‫ش ْيئا ً َوال يُ ْقبَ ُل ِم ْنها شَفاعَةٌ َوال يُ ْؤ َخذُ ِم ْنها َ‬
‫ع ْد ٌل َوال ُه ْم‬ ‫س ع َْن نَ ْف ٍس َ‬ ‫يَ ْوما ً ال تَجْ ِزي نَ ْف ٌ‬
‫ون ) ‪( 48‬‬ ‫ص ُر َ‬‫يُ ْن َ‬
‫ّللا أحق‬‫ّللا ‪ ،‬وحق ه‬ ‫وهي فروض األعيان ال تجزى نفس عن نفس شيئا ‪ ،‬فإن الفروض حقوق ه‬
‫بالقضاء‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ال يقدر أحد يقطع عليه كالمه ‪ ،‬وال يدخل بينه وبين الملك ‪ ،‬لما تقتضيه الحضرة من الهيبة‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا إلى النبي صلهى ه‬ ‫والجالل ‪ ،‬فجناب الحق أولى بهذه الصفة ‪ ،‬ولهذا جاء إبليس لعنه ه‬
‫وسلم بقبس من نار فرماه في وجهه وهو في الصالة ‪ ،‬لما لم يكن له سبيل إلى قلبه لما ذكرناه‬
‫من حضوره مع الحق ومناجاته ‪.،‬‬
‫علَى ْالخا ِش ِعينَ »يقول ‪:‬إن المتكبرين يستكبرونها حيث تنزلهم عن‬ ‫يرة ٌ إِ َّال َ‬
‫ثم قال« َوإِنَّها لَ َكبِ َ‬
‫كبريائهم ‪ ،‬وأما الخاشع فما تطأمن وخضع وذل إال لتجلي الحق على قلبه في كبريائه وعظمته‬
‫‪ ،‬فال يكبر على الخاشع الوقوف عند أوامر سيده ‪ ،‬ثم وصفهم فقال ( ‪ «) 47‬الَّذِينَ يَ ُ‬
‫ظنُّونَ أَنَّ ُه ْم‬
‫ُمالقُوا َر ِبه ِه ْم »اآلية ‪ ،‬العلم القطع على أحد األمرين ‪ ،‬والشك التردد بين األمرين من غير‬
‫ترجيح ‪ ،‬والظن ترجيح أحد األمرين من غير قطع ‪ ،‬والظن هنا على بابه ‪ ،‬وله وجهان هنا ‪،‬‬
‫الوجه الواحد أن المؤمنين قاطعون بأنهم إلى ربهم راجعون ‪ ،‬فإنه قال( َواتَّقُوا يَ ْوما ا ت ُ ْر َجعُونَ‬
‫ّللا ‪ ،‬غير أنه ما كل من يرجع إليه يلقاه ‪،‬‬ ‫ّللا ) والكافر والمؤمن كلهم يرجعون إلى ه‬ ‫فِي ِه إِلَى َّ ِ‬
‫ظنُّونَ أَنَّ ُه ْم ُمالقُوا َر ِبه ِه ْم‬ ‫ع ْن َر ِبه ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ لَ َم ْح ُجوبُونَ )فلذا قيل فيهم« الَّذِينَ يَ ُ‬ ‫قال تعالى( َك َّال ِإنَّ ُه ْم َ‬
‫ّللا بكرمه يختم لهم بما هم عليه من أعمال أهل السعادة ‪ ،‬فيكونون‬ ‫»أي يغلب على ظنهم أن ه‬
‫ممن يلقى ربه ‪ ،‬والوجه اآلخر أنهم يظنون أنهم مالقوا ربهم من حيث هذا االسم ‪ ،‬فإن العبد‬
‫المطيع لسيده يغلب على ظنه أن سيده ال يلقاه بمكروه ‪ ،‬فإن مدلول هذا االسم خير كله ‪ ،‬فإنه‬
‫يجوز أن يلقوا يوم القيامة االسم المنتقم أو الضار ‪ ،‬فاألدب والمعرفة حكمت عليهم بأن يظنوا«‬
‫راجعُونَ »فإن عاد الضمير في « إليه»‬ ‫َوأَنَّ ُه ْم إِلَ ْي ِه ِ‬
‫ص ‪131‬‬

‫ص ‪132 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 49‬إلى ‪52‬‬
‫ون نِسا َء ُك ْم َوفِي‬ ‫ستَحْ يُ َ‬ ‫ون أ َ ْبنا َء ُك ْم َويَ ْ‬
‫ب يُذَ ِبه ُح َ‬ ‫سو َء ا ْلعَذا ِ‬ ‫سو ُمونَ ُك ْم ُ‬ ‫َو ِإ ْذ نَ هج ْينا ُك ْم ِم ْن آ ِل فِ ْرع َْو َن يَ ُ‬
‫ذ ِل ُك ْم بَل ٌء ِم ْن َر ِبه ُك ْم ع َِظي ٌم ( ‪َ ) 49‬و ِإ ْذ فَ َر ْقنا ِب ُك ُم ا ْلبَحْ َر فَأ َ ْن َج ْينا ُك ْم َوأ َ ْغ َر ْقنا آ َل فِ ْرع َْو َن َوأ َ ْنت ُ ْم‬
‫ون (‬ ‫ين لَ ْيلَةً ث ُ هم ات ه َخ ْذت ُ ُم ا ْلعِجْ َل ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأ َ ْنت ُ ْم ظا ِل ُم َ‬
‫عدْنا ُموسى أ َ ْربَ ِع َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 50‬و ِإ ْذ وا َ‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫ت َ ْن ُ‬
‫ون ) ‪( 52‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ع ْن ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬ ‫‪ ) 51‬ث ُ هم َ‬
‫عفَ ْونا َ‬
‫ّللا بما يكون منه خاصة ‪ ،‬لصفة هو عليها من حيث ما هو مشكور‬ ‫الشكر هنا ‪ :‬هو الثناء على ه‬
‫‪ ،‬فإن شكر المنعم يجب عقال وشرعا ‪ ،‬وال يصح الشكر إال على النعم‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫راجعُونَ »فتكون واو العطف تشرك في الظن ‪ ،‬وإن كان الضمير يعود عليه من كونه إلها‬ ‫ِإلَ ْي ِه ِ‬
‫راجعُونَ »الواو بمعنى مع ‪ ،‬أي مع علمهم بأنهم إليه راجعون ‪ ،‬وقد‬ ‫‪ ،‬فيكون« َوأَنَّ ُه ْم إِلَ ْي ِه ِ‬
‫تكون الجملة في موضع الحال ‪ ،‬تقدير الكالم ‪ :‬يظنون أنهم مالقوا ربهم في حال رجوعهم إليه‬
‫الذي ال بد منه ‪ ،‬ثم قال ( ‪ «) 48‬يا بَنِي ِإسْرائِي َل ا ْذ ُك ُروا »اآلية ‪ -‬ذكرهم بهذا النسب نعمته‬
‫عليهم فيه حيث نسبهم بالبنوة إلى صفوته وهو يعقوب ‪ ،‬وحظنا من التعريف أن نذكر نعمته‬
‫علَ ْي ُك ْم »ولها وجهان ‪ ،‬األول‬ ‫ي الَّتِي أ َ ْنعَ ْمتُ َ‬ ‫علينا أيضا ‪ ،‬فلهذا عرفنا فقال« ا ْذ ُك ُروا نِ ْع َمتِ َ‬
‫اذكروا أي تذكروا وال تغفلوا وال تنسوا ذلك ‪ ،‬والوجه اآلخر اذكروا ‪ ،‬من الذكر ‪ ،‬أن تحدهثوا‬
‫ِث )والنعم التي أنعم بها على بني إسرائيل‬ ‫بما أنعمت عليكم ‪ ،‬قال تعالى( َوأ َ َّما بِنِ ْع َم ِة َر ِبه َك فَ َح هد ْ‬
‫علَى ْالعالَ ِمينَ »فيه إنباه لنا‬ ‫مذكورة في القرآن ‪ ،‬فال أحتاج إلى ذكرها ‪ ،‬وقوله« َوأ َ ِنهي فَض َّْلت ُ ُك ْم َ‬
‫اس )وأما قوله لبني إسرائيل أنه فضلهم على‬ ‫ت ِللنَّ ِ‬ ‫أن نذكر ذلك في قوله( ُك ْنت ُ ْم َخي َْر أ ُ َّم ٍة أ ُ ْخ ِر َج ْ‬
‫العالمين ‪ ،‬أي زادهم أمورا ظهرت عامة ‪ ،‬لم يعط عمومها لسائر الملل ‪ ،‬وإن لخواص هذه‬
‫األمة ما أعطى سائر األمم ‪ ،‬من الكشف وطي األرض والمشي على الماء وفي الهواء وتظليل‬
‫الغمام والطير وتسخير الرياح وتفجير المياه ‪ ،‬وقد رأينا كثيرا من هذا على المنقطعين من عباد‬
‫ّللا في حال سياحاتي وطلبي االجتماع بهم ‪ ،‬وكان ذلك في بني إسرائيل يظهر للعام والخاص ‪،‬‬ ‫ه‬
‫فالفضيلة في هذا ‪ ،‬ثم قال ( ‪َ «) 49‬واتَّقُوا يَ ْوما ا ال ت َ ْج ِزي »اآلية ‪ ،‬الخطاب عام لجميع العباد ‪،‬‬
‫فالضمير عام ‪ ،‬وقوله« يَ ْوما ا »يريد يوم القيامة ‪ ،‬وفي الحقيقة األيام كلها بهذه المثابة ‪ ،‬وأنه ما‬
‫ع ْن نَ ْف ٍس‬ ‫ّللا إمضاءه في خلقه ال تقتضيه نفس عن نفس شيئا ‪ ،‬وقوله« ال ت َ ْج ِزي نَ ْف ٌ‬
‫س َ‬ ‫أراد ه‬
‫شيْئا ا )بل كل نفس بما‬ ‫ع ْن َك ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫شيْئا ا »هو قوله( ِإنَّ ُه ْم لَ ْن يُ ْغنُوا َ‬ ‫َ‬
‫ص ‪132‬‬

‫ص ‪133 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 53‬إلى ‪55‬‬
‫ُون ) ‪َ ( 53‬و ِإ ْذ قا َل ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه يا قَ ْو ِم ِإنه ُك ْم‬ ‫تاب َوا ْلفُ ْر َ‬
‫قان لَعَله ُك ْم ت َ ْهتَد َ‬ ‫سى ا ْل ِك َ‬ ‫َو ِإ ْذ آت َ ْينا ُمو َ‬
‫س ُك ْم ذ ِل ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم ِع ْن َد ِ‬
‫بارئِ ُك ْم‬ ‫بارئِ ُك ْم فَ ْ‬
‫اقتُلُوا أ َ ْنفُ َ‬ ‫س ُك ْم ِبا ِت هخا ِذ ُك ُم ا ْلعِجْ َل فَتُوبُوا ِإلى ِ‬ ‫َظلَ ْمت ُ ْم أ َ ْنفُ َ‬
‫الر ِحي ُم ( ‪َ ) 54‬و ِإ ْذ قُ ْلت ُ ْم يا ُموسى لَ ْن نُ ْؤ ِم َن لَكَ َحتهى نَ َرى ه َ‬
‫ّللا‬ ‫اب ه‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِإنههُ ُه َو الت ه هو ُ‬
‫تاب َ‬‫فَ َ‬
‫ون ) ‪( 55‬‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫صا ِعقَةُ َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْن ُ‬‫َجه َْرةً فَأ َ َخذَتْ ُك ُم ال ه‬
‫الصواعق أهوية محترقة ال شعلة فيها فما تمر بشيء إال أثرت فيه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ش ْي ٌء َولَ ْو كانَ ذا قُ ْربى )وقوله( َوما ُه ْم‬ ‫ع ُمثْقَلَةٌ ِإلى ِح ْم ِلها ال يُ ْح َم ْل ِم ْنهُ َ‬ ‫كسبت رهينة ‪َ (،‬و ِإ ْن ت َ ْد ُ‬
‫ش ْيءٍ )فذلك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل‬ ‫حام ِلينَ ِم ْن خَطايا ُه ْم ِم ْن َ‬ ‫ِب ِ‬
‫عةٌ »أي من شفع من أجلها ال تقبل‬ ‫امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ‪ ،‬وقوله« َوال يُ ْقبَ ُل ِم ْنها شَفا َ‬
‫شفاعته فيها ‪ ،‬فإنهم في ذلك اليوم يعرفون ‪ -‬بل عند موتهم ‪ -‬أنهم ليسوا ممن يقبل كالمهم ‪،‬‬
‫ع ْد ٌل »يقول ‪:‬‬ ‫شافِ ِعينَ ) ‪،‬وقوله« َوال يُؤْ َخذُ ِم ْنها َ‬ ‫عةُ ال َّ‬ ‫فثبت ما قلناه ‪ ،‬وهو قوله( فَما ت َ ْنفَعُ ُه ْم شَفا َ‬
‫ض ذَهَبا ا َولَ ِو ا ْفتَدى ِب ِه‬ ‫فداء ‪ ،‬تعريفا لهم هنا ‪ ،‬وهو قوله( فَلَ ْن يُ ْقبَ َل ِم ْن أ َ َح ِد ِه ْم ِم ْل ُء ْاأل َ ْر ِ‬
‫ص ُرونَ »هو قوله(‬ ‫)وقوله (فَ ْاليَ ْو َم ال يُؤْ َخذُ ِم ْن ُك ْم فِ ْديَةٌ َوال ِمنَ الَّذِينَ َكفَ ُروا ) ‪،‬وقوله« َوال ُه ْم يُ ْن َ‬
‫ّللا وال مقاوم له سبحانه( ِإ َّن‬ ‫َوأ َ َّن ْالكا ِف ِرينَ ال َم ْولى لَ ُه ْم )أي ال ناصر لهم ‪ ،‬فإن اآلخذ هو ه‬
‫ير ) *( ‪َ «) 50‬وإِ ْذ نَ َّجيْنا ُك ْم ِم ْن آ ِل‬ ‫َص ٍ‬ ‫ي ٍ َوال ن ِ‬ ‫ّللا ِم ْن َو ِل ه‬
‫ُون َّ ِ‬ ‫شدِي ٌد )( َوما لَ ُك ْم ِم ْن د ِ‬ ‫ش َر ِبه َك لَ َ‬
‫ط َ‬ ‫بَ ْ‬
‫ع ْونَ »اآلية ‪ ،‬ثم رجع إلى ذكر ما أنعم به عليهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬واذكروا« ِإ ْذ نَ َّجيْنا ُك ْم »قوله( يا‬ ‫فِ ْر َ‬
‫ّللا إخبارا لنا على الحكاية بما خاطبهم‬ ‫بَنِي ِإسْرائِي َل )وضمير الخطاب ‪ ،‬يحتمل أن يكون من ه‬
‫به في زمانهم بما أنعم عليهم ‪ ،‬ويمكن أن يكون الضمير يعود على بني إسرائيل الحاضرين في‬
‫زمان النبي عليه السالم ‪ ،‬يعدد عليهم ما أنعم به على أسالفهم ومن مضى من آبائهم في زمان‬
‫موسى عليه السالم ‪ ،‬وقد يكون للحاضرين هذا الخطاب حيث أنعم عليهم إذ لم يوجدهم في‬
‫وّللا‬
‫زمان من أولى أسالفهم سوء العذاب ‪ ،‬وقد يكون ذلك كله مرادا هّلل تعالى في الخطاب ‪ ،‬ه‬
‫ع ْونَ »ولم يقل من فرعون ‪ ،‬ألن آله كانوا المباشرين لعذابهم ‪،‬‬ ‫أعلم ‪ ،‬وقوله تعالى« ِم ْن آ ِل فِ ْر َ‬
‫ولم يكن لفرعون إال األمر بذلك ‪ ،‬وكذا جرت العادة في الرؤساء والملوك ولهذا جوزوا ‪ ،‬فقال‬
‫تعالى( أ َ ْد ِخلُوا آ َل‬
‫ص ‪133‬‬

‫ص ‪134 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 56‬إلى ‪57‬‬
‫علَ ْي ُك ُم ا ْلغَما َم َوأ َ ْن َز ْلنا َ‬
‫علَ ْي ُك ُم ا ْل َم هن‬ ‫ون ) ‪َ ( 56‬و َظله ْلنا َ‬
‫شك ُُر َ‬ ‫ث ُ هم بَعَثْنا ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد َم ْوتِ ُك ْم لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬
‫ون ) ‪( 57‬‬ ‫س ُه ْم يَ ْظ ِل ُم َ‬ ‫ت ما َر َز ْقنا ُك ْم َوما َظلَ ُمونا َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬ ‫س ْلوى ُكلُوا ِم ْن َط ِيهبا ِ‬ ‫َوال ه‬
‫يعني يظلمون أنفسهم بما كانوا عليه في سابق العلم‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ب ) *في مقابلة سوء ‪ ،‬وقرئ بكسر الخاء ‪ ،‬فقد يمكن‬ ‫ش ِ هد ْالعَذا ِ‬‫فرعون )الذين تولوا عذابهم( أ َ َ‬
‫أن يقال لبني إسرائيل يوم القيامة ذلك ليولوهم أشد العذاب بأنفسهم ‪ ،‬كما فعلوا هم بهم في الدنيا‬
‫حين ساموهم سوء العذاب ‪ ،‬وآل الرجل أهله وخوله وأنصاره وأتباعه ‪ ،‬سمعت شيخنا اإلمام‬
‫أوحد زمانه في معرفة كالم العرب ‪ ،‬أبا ذر مصعب بن محمد بن مسعود الخطيب يقول ‪ :‬اآلل‬
‫سو َء‬ ‫سو ُمونَ ُك ْم ُ‬ ‫ال يضاف إال لألكابر الزعماء ‪ ،‬وأما من دونهم فيقال أهل فالن ‪ ،‬وقوله« يَ ُ‬
‫ب »فمن ذلكم قتل أوالدهم ذبحا ‪ ،‬وجعل إبقاء النساء‬ ‫»يقول يولونكم ما يسوؤكم من« ْالعَذا ِ‬
‫عذابا لهم ‪ ،‬مع أن إبقاءهم ينبغي أن يكون من فرعون نعمة عليهم ‪ ،‬وذلك أن الرجل في الغالب‬
‫يسرع إليه ذهاب الحزن منه بخالف النساء ‪ ،‬فأبقى النساء حتى يتجدد على اآلباء العذاب بما‬
‫يجدونه من الحزن لحزن نسائهم وبكائهم على أوالدهم دائما ‪ ،‬وشغلهم بذلك عن مصالح‬
‫أزواجهم ‪ ،‬فيتجدد العذاب عليهم ‪ ،‬هذا يسوغ في إبقاء األمهات ‪ ،‬وأما إبقاء اإلناث فيزيد بذلك‬
‫من قتل ولده حسرة إلى حسرته ‪ ،‬وحزنا إلى حزنه ‪ ،‬قال تعالى« يُذَ ِبه ُحونَ أَبْنا َء ُك ْم َويَ ْست َ ْحيُونَ‬
‫ع ِظي ٌم » ‪،‬نشكر أو‬ ‫نِسا َء ُك ْم »قال تعالى« َوفِي ذ ِل ُك ْم »خطاب لنا« بَال ٌء »أي ابتالء« ِم ْن َر ِبه ُك ْم َ‬
‫نكفر ‪ ،‬كما قال سليمان عليه السالم( ِليَ ْبلُ َونِي أ َ أ َ ْش ُك ُر أ َ ْم أ َ ْكفُ ُر )فكل عذاب في الدنيا يكون بالء‬
‫ين )وأما في الدار اآلخرة فال يقال له بالء وإنما هو‬ ‫إذ كانت دار اختبار( ِإ َّن هذا لَ ُه َو ْالبَال ُء ْال ُم ِب ُ‬
‫ّللا ذكر عذاب اآلخرة بلفظ البالء ‪ ،‬على أني ما‬ ‫وّللا أعلم أن ه‬ ‫عذاب خالص ‪ .‬ولهذا ما أظن ه‬
‫بحثت على ذلك ‪ ،‬لما لم تكن دار تكليف ‪ ،‬وكان سبب قتل األبناء أنه رأى ورئي له أن مولودا‬
‫ّللا على‬ ‫من بني إسرائيل يولد في دولته يكون هالكه وهالك أتباعه على يديه ‪ ،‬ثم من نعمة ه‬
‫بني إسرائيل قوله ( ‪َ «) 51‬و ِإ ْذ فَ َر ْقنا بِ ُك ُم ْالبَ ْح َر »اآلية ‪ ،‬وهذا يؤيد ما ذكرناه أنه سبحانه‬
‫يحكي ما خاطبهم به في زمانهم من تقرير النعم عليهم ‪ ،‬فمن ذلك« َو ِإ ْذ فَ َر ْقنا ِب ُك ُم »أي‬
‫بسببكم« ْالبَ ْح َر »لتنجوا من عدوكم ‪ ،‬فزال البحر بعضه عن بعض وافترق ‪ ،‬فظهرت األرض‬
‫وسكن البحر عن جريته« فَأ َ ْن َجيْنا ُك ْم »بما أهلكنا به‬
‫ص ‪134‬‬

‫ص ‪135 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪60‬‬
‫طة ٌ‬
‫س هجدا ً َوقُولُوا ِح ه‬ ‫باب ُ‬ ‫غدا ً َوا ْد ُخلُوا ا ْل َ‬ ‫شئْت ُ ْم َر َ‬
‫ث ِ‬ ‫َو ِإ ْذ قُ ْلنَا ا ْد ُخلُوا ه ِذ ِه ا ْلقَ ْريَةَ فَ ُكلُوا ِم ْنها َح ْي ُ‬
‫غ ْي َر الهذِي قِي َل لَ ُه ْم‬ ‫ِين َظلَ ُموا قَ ْوالً َ‬ ‫ين ( ‪ ) 58‬فَبَ هد َل الهذ َ‬ ‫سنِ َ‬ ‫سنَ ِزي ُد ا ْل ُمحْ ِ‬
‫نَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم َخطايا ُك ْم َو َ‬
‫سقى ُموسى‬ ‫ست َ ْ‬
‫ون ) ‪َ ( 59‬و ِإ ِذ ا ْ‬ ‫سقُ َ‬ ‫ماء ِبما كانُوا يَ ْف ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ِين َظلَ ُموا ِرجْ زا ً ِم َن ال ه‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫فَأ َ ْن َز ْلنا َ‬
‫ناس َمش َْربَ ُه ْم‬ ‫ع ِل َم ُك ُّل أ ُ ٍ‬ ‫ع ْينا ً قَ ْد َ‬
‫عش َْرةَ َ‬ ‫ض ِر ْب بِعَصاكَ ا ْل َح َج َر فَا ْنفَ َج َرتْ ِم ْنهُ اثْنَتا َ‬ ‫ِلقَ ْو ِم ِه فَقُ ْلنَا ا ْ‬
‫ِين ( ‪) 60‬‬ ‫سد َ‬ ‫ض ُم ْف ِ‬ ‫ّللا َوال ت َ ْعث َ ْوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ق هِ‬ ‫ُكلُوا َواش َْربُوا ِم ْن ِر ْز ِ‬

‫[ في اثنتا عشرة عينا ]‬


‫ّللا ‪ ،‬وهو علم‬
‫إشارة ‪ -‬علم االثنتي عشرة عينا التي في العلم بها العلم بكل ما سوى ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫عدوكم ‪ ،‬فإن رؤيتهم لذلك الطريق غرهم فاتبعوكم حتى غشيهم من اليم ما غشيهم ‪ ،‬فانطبق‬
‫ظ ُرونَ »وأنتم تشهدون ذلك ‪ ،‬ولنا وجه‬ ‫ع ْونَ ‪َ ،‬وأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْن ُ‬
‫البحر عليهم فأهلكهم« َوأ َ ْغ َر ْقنا آ َل فِ ْر َ‬
‫ظ ُرونَ »وهو أن خرج من الحكاية إلى خطاب الحاضرين من بني إسرائيل وذلك‬ ‫في« أ َ ْنت ُ ْم ت َ ْن ُ‬
‫ظ ُرونَ »بمعنى تنتظرون ‪ ،‬فقال لهم وأنتم تنظرون أي تنتظرون أن يحل بكم إن‬ ‫بأن يكون «ت َ ْن ُ‬
‫لم تؤمنوا بمحمد عليه السالم ما حل بآل فرعون لما لم يؤمنوا بموسى عليه السالم ‪ ،‬وأما نسب‬
‫موسى ‪ ،‬فهو موسى ابن عمران بن يصهر بن فاهث بن الوى بن يعقوب بن إسحاق بن‬
‫ّللا ‪ ،‬وقيل س همي موسى ألنه وجد التابوت الذي كان فيه بين الشجر في الماء ‪،‬‬ ‫إبراهيم خليل ه‬
‫والمو بالقبطية الماء ‪ ،‬والسا الشجر ‪ ،‬فركبوا من ذلك اسم موسى ‪ ،‬وأما فرعون فقالوا اسمه‬
‫ع ْدنا‬ ‫الوليد بن مصعب ‪ ،‬وقالوا مصعب بن الريهان ‪ ،‬ثم ذكر من النعم قوله ( ‪َ «) 52‬و ِإ ْذ وا َ‬
‫ّللا عليهم ما أنعم به على رسولهم ‪ ،‬إذ لهم الشرف‬ ‫ُموسى أ َ ْربَ ِعينَ لَ ْيلَةا »اآلية ‪ ،‬لما كان من نعم ه‬
‫ع ْدنا »فعل فاعلين ‪،‬‬ ‫بذلك ‪ ،‬ذكر من جملة النعم مواعدته لموسى في مناجاته ‪ ،‬فقال« َو ِإ ْذ وا َ‬
‫وهو أتم في التشريف حيث قرنه بنفسه في المواعدة ‪ ،‬وكذا أنزلت وتليت ‪ ،‬وقد قرأنا « وعدنا‬
‫» بغير ألف ‪ ،‬فهو الوعد من جانب الحق تعالى خاصة ‪ ،‬وهذا أنزه ‪ ،‬واألول أشرف في حق‬
‫موسى ‪ ،‬وقوله« أ َ ْربَ ِعينَ لَ ْيلَةا »يمسكه عنده فيها مناجيا مقربا ‪ ،‬ويحتمل أنه بعد انقضاء‬
‫الميقات يكون الكالم ‪ ،‬ليس في هذه اآلية دليل على ترجيح أحد الوجهين ‪ ،‬وقوله« ث ُ َّم ات َّ َخ ْذت ُ ُم‬
‫ْال ِع ْج َل ِم ْن بَ ْع ِد ِه »أي من بعد ما فارقكم وجاء لميقاتنا الذي وعدناه‬
‫ص ‪135‬‬

‫ص ‪136 :‬‬
‫الحياة التي يحيا بها كل شيء ‪ ،‬وهو العلم المتولد بين النبات والجماد من المولدات بصفة القهر‬
‫‪ ،‬فإن العيون االثنتي عشرة إنما ظهرت بضرب العصا الحجر ‪ ،‬فانفجرت منه بذلك الضرب‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫" َوأ َ ْنت ُ ْم ظا ِل ُمونَ " أنفسكم ‪ ،‬أي ظلم بعضكم بعضا ‪ ،‬حيث لم يأخذ بعضكم على بعض ‪ ،‬وال‬
‫ع ْن ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِل َك‬‫عفَ ْونا َ‬ ‫ّللا «) ‪" . ( 53‬ث ُ َّم َ‬ ‫نهى بعضكم بعضا في اتخاذكم العجل إلها من دون ه‬
‫»‬
‫إشارة إلى االتخاذ ‪ ،‬أي لم ندخر لكم العقوبة إلى اآلخرة ‪ ،‬وجعلنا عقوبتكم في الدنيا ‪ ،‬وفرضنا‬
‫ّللا كما سيأتي ‪ ،‬ثم قال «لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْش ُك ُرونَ‬ ‫لكم التوبة ‪ ،‬وهو الرجوع من شرككم إلى توحيد ه‬
‫»على هذه النعمة في قبول التوبة ورفع العقوبة عنكم في اآلخرة ‪ ،‬وقد ندخل نحن في قوله«‬
‫لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْش ُك ُرونَ »حيث قصصنا عليكم ما كان منا في حق األمم من قبلكم ‪ ،‬فتشكرون نعمة ه‬
‫ّللا‬
‫عليكم حيث عافيناكم مما ابتلينا به من كان قبلكم ‪ ،‬وسنأتي على شرح هذه القصة في مكانها‬
‫من األعراف وطه ‪.‬‬
‫تاب »اآلية ‪ ،‬ومن النعم أيضا على نبيكم موسى وعليكم ‪،‬‬ ‫سى ْال ِك َ‬
‫ثم قال ( ‪َ «) 54‬و ِإ ْذ آتَيْنا ُمو َ‬
‫أن آتيناه ‪ ،‬أي أعطيناه وأنزلنا عليه الكتاب ‪ ،‬يعني التوراة ‪ ،‬يقول ‪ :‬الجامعة لما فيه سعادتكم إن‬
‫عملتم بها« َو ْالفُ ْرقانَ »فيها ‪ ،‬أي وكتبت الفرقان فيها ‪ ،‬وهو من بعض ما فيها ‪ ،‬يقول ‪ :‬جعلت‬
‫لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل« لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْهتَدُونَ »تتبينون ذلك عند تالوتكم إياها فتعملون‬
‫عليه ‪ ،‬ثم من نعمه قوله تعالى ( ‪.) 55‬‬
‫« َو ِإ ْذ قا َل ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه »اآلية ‪ ،‬فنبههم على ذنبهم وعلى ما شرع الحق في ذلك ‪ ،‬فقال« َو ِإ ْذ‬
‫قا َل »أي يا بني إسرائيل واذكروا أيضا إذ قال« ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه »الذين عبدوا العجل ‪ ،‬فأضافهم‬
‫س ُك ْم »أي ظلم بعضكم بعضا حيث‬ ‫ظلَ ْمت ُ ْم أ َ ْنفُ َ‬
‫إليه وإن كانوا قد كفروا وخالفوا دينه« يا قَ ْو ِم ِإنَّ ُك ْم َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فهؤالء كفار‬ ‫ّللا« ِبا ِت هخا ِذ ُك ُم ْال ِع ْج َل »إلها من دون ه‬ ‫لم يرده عما شرع فيه من مخالفة أمر ه‬
‫بارئِ ُك ْم »فارجعوا إلى الذي‬ ‫وليسوا مشركين إن كانوا لم يتخذوه شريكا ‪ ،‬ثم قال« فَتُوبُوا إِلى ِ‬
‫خلقكم وبرأكم ‪ ،‬فإن العجل ما يخلق شيئا ‪ ،‬فذكر أخص وصف اإلله ‪ ،‬ليدل أن الخلق ال يكون‬
‫س ُك ْم »أي‬ ‫ّللا« فَا ْقتُلُوا أ َ ْنفُ َ‬
‫إال هّلل ‪ ،‬خالفا لمخالفي أهل الحق الذين ينسبون الخلق إلى غير ه‬
‫فتوبتكم أن يقتل بعضكم بعضا عقوبة لكم مناسبة كما لم يرد بعضكم بعضا عن عبادة العجل ‪،‬‬
‫وكما لم يرد بعضكم بعضا في ذلك لظلمة الجهل التي أعمت بصائركم ‪ ،‬كذلك أنزل عليكم‬
‫ّللا عليهم ظلمة بحيث ال يبصر بعضهم بعضا ‪،‬‬ ‫ظلمة حتى يقتل بعضكم بعضا فيها ‪ ،‬فأرسل ه‬
‫ّللا عنهم ذلك ‪ ،‬وقصتهم في التاريخ مذكورة ‪ ،‬وغرضنا التنبيه‬ ‫وتقاتلوا فيها حتى رفع ه‬
‫واإليجاز وما يدل عليه اللفظ وكيفية الوقائع موقوف على كتب التواريخ ‪ ،‬ولو وصلت إلينا من‬
‫طريق صحاح ربما ذكرناها ‪ ،‬ومما ظهر لنا أيضا في إرسال الظلمة عليهم في وقت قتالهم لئال‬
‫يدرك الرجل رأفة في أبيه أو ابنه أو أخيه أو ذي قربى ‪ ،‬فيؤديه ذلك إلى الفتور في إقامة‬
‫ص ‪136‬‬

‫ص ‪137 :‬‬
‫اثنتا عشرة عينا ‪ ،‬يريد علوم المشاهدة عن مجاهدة ‪ ،‬بسبب الضرب ‪ ،‬وعلوم ذوق ‪ ،‬ألن الماء‬
‫من األشياء التي تذاق ‪ ،‬ويختلف طعمها في الذوق ‪ ،‬فيعلم بذلك نسبة الحياة كيف‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا الذي شرع لهم ‪ ،‬كما ورد في شرعنا في جلد الزاني والزانية( َوال تَأ ْ ُخ ْذ ُك ْم بِ ِهما َرأْفَةٌ فِي‬ ‫حد ه‬
‫اّلل )وهذا أيضا من أكبر النعم على بني إسرائيل ‪ ،‬وقال تعالى «ذ ِل ُك ْم‬ ‫ّللا إِ ْن ُك ْنت ُ ْم تُؤْ ِمنُونَ بِ َّ ِ‬
‫ِين َّ ِ‬
‫د ِ‬
‫بارئِ ُك ْم »أي التوبة والقتل خير لكم عند بارئكم ‪ ،‬فأضافهم إلى البارئ عقيب القتل‬ ‫َخي ٌْر لَ ُك ْم ِع ْن َد ِ‬
‫‪ ،‬ليتنبهوا على اإلعادة ورجوع الحياة إليهم ‪ ،‬ونبههم أيضا بذلك على أنهم شهداء ‪ ،‬فهم أحياء‬
‫علَ ْي ُك ْم »أي رجع عليكم برحمته التي كان الكفر قد سلبها عنكم« ِإنَّهُ‬ ‫تاب َ‬ ‫عند ربهم يرزقون« فَ َ‬
‫الر ِحي ُم »بالرحمة إليكم ‪ ،‬وقد تقدم تفسير التواب في قصة آدم ‪ ،‬ثم‬ ‫اب »الر هجاع« َّ‬ ‫ُه َو الت َّ َّو ُ‬
‫أردف أيضا هذه النعم بنعمة أخرى فقال تعالى وجل ( ‪َ «) 56‬وإِ ْذ قُ ْلت ُ ْم يا ُموسى لَ ْن نُؤْ ِمنَ لَ َك‬
‫ّللا تعالى نبيه محمدا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا علينا هذه األمور ليري ه‬ ‫»اآلية ‪ ،‬إلى قوله« ت َ ْش ُك ُرونَ »قص ه‬
‫علَي َْك ِم ْن أ َ ْن ِ‬
‫باء‬ ‫ص َ‬ ‫عليه وسلم ما قاسى موسى من أمته فيعزي نفسه بذلك ‪ ،‬قال تعالى( َو ُك ًّال نَقُ ُّ‬
‫ّللا على ما أوالنا من نعمه حيث‬ ‫ظةٌ َو ِذ ْكرى )لنا لنشكر ه‬
‫س ِل ما نُث َ ِبهتُ ِب ِه فُؤا َد َك )وقال( َو َم ْو ِع َ‬ ‫الر ُ‬
‫ُّ‬
‫آمنا واستسلمنا ‪ ،‬ولم نكلف نبينا أن يسأل ربه شيئا ‪ ،‬مثل ما كلفت األمم رسلها ‪ ،‬فنشكره‬
‫سبحانه على هذه النعمة ‪ ،‬إذ لو شاء أللقى في قلوبنا ما ألقاه في قلوب األمم قبلنا ‪ ،‬ولهذا نشرك‬
‫أنفسنا معهم في الضمير المذكور في قوله( لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْش ُك ُرونَ )فقال تعالى إخبارا عن بني إسرائيل‬
‫‪ ،‬والعامل في إذ كما في أمثاله« َو ِإ ْذ قُ ْلت ُ ْم يا ُموسى لَ ْن نُؤْ ِمنَ لَ َك »أي لن نصدق بك« َحتَّى‬
‫ّللا َج ْه َرة ا »فالعامل في جهرة يحتمل أن يكون قلتم ‪ ،‬ويحتمل أن يكون العامل نرى ‪،‬‬ ‫ن ََرى َّ َ‬
‫ّللا بأن‬‫ّللا تعالى ‪ ،‬وأعظم ما كلفوه لموسى ‪ ،‬فعاقبهم ه‬ ‫وهذا من أعظم ما اجترءوا به على ه‬
‫أرسل عليهم صاعقة ‪ ،‬أمرا من السماء هائال أصعقهم لم ينقل إلينا من طريق صحيحة ما كان‬
‫ظ ُرونَ »قال‬ ‫صا ِعقَةُ »أي فأخذتهم الصاعقة جهرة ‪ ،‬وهو قوله« َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْن ُ‬ ‫ذلك األمر« فَأ َ َخذَتْ ُك ُم ال َّ‬
‫( ‪ «) 57‬ث ُ َّم بَعَثْنا ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد َم ْوتِ ُك ْم »أي من بعد ما صعقتم ‪ ،‬فقد يكون موت غشي ‪ ،‬وقد يكون‬
‫ّللا يقول( ال يَذُوقُونَ فِي َها )يعني في‬ ‫موتا حقيقة ‪ ،‬واألقرب أن يكون موت غشي وصعق ‪ ،‬ألن ه‬
‫الجنة( ِإ َّال ْال َم ْوتَةَ ْاألُولى )فأفردها ‪ ،‬وليس بنص ‪ ،‬ولكن يتقوى به وجه التأويل على هذا المعنى‬
‫‪ ،‬وسنومئ في إحياء من مات في ضرب الميت بالبقرة فحيي ‪ ،‬ما كانت تلك الحياة ‪ ،‬وفي كل‬
‫حي يحيى في الدنيا بعد موته قبل حياة البعث ‪ ،‬فإنه سر لطيف ال يدرك إال من جهة الكشف ‪،‬‬
‫ثم قال« لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْش ُك ُرونَ »خطابا لنا ولهم ‪ ،‬فهذا تعريف يتضمن تكليفا بالشكر ‪ ،‬ومن النعم قوله‬
‫َمام »اآلية ‪ ،‬لما دعا موسى على قومه بالتيه حين قالوا ما ذكر في‬ ‫علَ ْي ُك ُم ْالغ َ‬ ‫ظلَّ ْلنا َ‬ ‫( ‪َ «) 58‬و َ‬
‫سورة المائدة ‪ ،‬قال أصحابه المؤمنون به ‪ :‬ما يقينا من حر الشمس في‬
‫ص ‪137‬‬

‫ص ‪138 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن الحق أضاف ذلك‬
‫اتصف بها المسمى جمادا ‪ ،‬حتى أخبر عنه الصادق أنه يسبح بحمد ه‬
‫إلى الحجر بقوله « منه » ‪ ،‬ومن ال كشف له وال إيمان ال يثبت للجماد حياة ‪ ،‬فكيف‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫هذا التيه ؟‬
‫ّللا عليهم المن ‪،‬‬ ‫ّللا عليهم الغمام ‪ ،‬وهو الضباب أو السحاب ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما نأكل ؟ فأنزل ه‬ ‫فظلل ه‬
‫ّللا لهم فيه غذاء وهو المعروف عندنا ‪،‬‬ ‫وهو هذا الذي ينزل على الشجر ويجمعه الناس ‪ ،‬جعل ه‬
‫وقد قيل فيه إنه شيء شبه الخبز النقي ‪ ،‬وقيل شبه الذرة ‪ ،‬وأما السلوى فهو طائر واحده سلواة‬
‫ت ما َرزَ ْقنا ُك ْم‬ ‫س ْلوى ُكلُوا ِم ْن َ‬
‫ط ِيهبا ِ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ْال َم َّن َوال َّ‬
‫َمام َوأ َ ْنزَ ْلنا َ‬
‫علَ ْي ُك ُم ْالغ َ‬
‫ظلَّ ْلنا َ‬
‫‪ ،‬فقال تعالى« َو َ‬
‫»من جعل من للتبيين جعل الطيبات الحالل من الرزق ‪ ،‬وأطلق الرزق على الحالل والحرام ‪،‬‬
‫ومن جعل من للتبعيض يريد التقليل من األكل وهو مشروع ‪ ،‬جعل الرزق هنا الحالل ‪ ،‬فإن‬
‫ظلَ ُمونا »أي‬ ‫ّللا نهى عن أكل الحرام في غير ما موضع من كالمه في كل كتاب ‪ ،‬وقوله« َوما َ‬ ‫ه‬
‫وما تضررنا بمعصيتهم وال بمخالفتهم ‪ ،‬إذ كان كل مظلوم متضررا« َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم‬
‫ظ ِل ُمونَ »أي ما يكون من الضرر في ذلك يعود عليهم ‪ ،‬وهذا يدلك أيضا على أنه لنفسك عليك‬ ‫يَ ْ‬
‫حق ‪ ،‬وهو أن تسلك بها سبيل النجاة ‪ ،‬فإذا لم تفعل فقد ظلمتها وأورثتها الضرر والشقاء ‪ ،‬ثم‬
‫قال تعالى ( ‪َ «) 59‬و ِإ ْذ قُ ْلنَا ا ْد ُخلُوا ه ِذ ِه ْالقَ ْريَةَ »اآلية ‪ ،‬ومن نعمه أيضا عليهم بعد أن فرغوا‬
‫من إقامتهم في التيه أن قال لهم« ا ْد ُخلُوا ه ِذ ِه ْالقَ ْريَةَ »يعني بيت المقدس أو أريحا ‪ ،‬ما ثبت‬
‫عندنا أية قرية هي ‪ ،‬غير أنا زرنا قبر موسى عليه السالم على قرب من أريحا على قارعة‬
‫الطريق الكبرى وقرب من الكثيب األحمر ‪ ،‬بأرض يقال لها البريصا ‪ ،‬ظاهر حجارتها بيض‬
‫وباطنها أسود نفطية ‪ ،‬كنا نوقدها كما يتقد النفط ‪ ،‬ورائحتها كرائحته وفيها دهن ‪ ،‬والقبر على‬
‫ْث ِشئْت ُ ْم‬ ‫يمين الطريق إذا طلبت أريحا ‪ ،‬ثم قال« فَ ُكلُوا ِم ْنها »الضمير يعود على القرية« َحي ُ‬
‫»أي مما فيها ‪ ،‬فأباح لهم الدخول واألكل كيف شاءوا ومما شاءوا وحيث شاءوا« َرغَدا ا »في‬
‫س َّجدا ا »كلفهم التواضع عبادة‬ ‫باب ُ‬ ‫اتساع عيش من غير تضييق وال تحجير« َوا ْد ُخلُوا ْال َ‬
‫طةٌ »بالرفع ‪ ،‬أي قولوها كما أمرتم حكاية على الرفع ‪،‬‬ ‫بالسجود عند الدخول« َوقُولُوا ِح َّ‬
‫وحطة مثل قعدة وجلسة ‪ ،‬وقد يكون دعاء ‪ ،‬أي حط عنا ذنوبنا حطة ‪ ،‬وقد يكون المعنى إذا‬
‫دخلتم سجدا وفرغتم من عبادتكم فحطوا ‪ ،‬أي أنزلوا رحالكم حطة ‪ ،‬ومعناه يتداعوا بها على‬
‫الرفع بينهم ‪ :‬حطة حطة ‪ ،‬ليحطوا ‪ ،‬فإذا فعلتم ذلك« نَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم خَطايا ُك ْم »جمع خطيئة ‪ ،‬وهو‬
‫سن َِزي ُد ْال ُم ْح ِسنِينَ »إحسانا على إحساننا لهم ‪،‬‬ ‫ما كان منكم مما تقدم مما ذكرناه من الذنوب ‪َ «،‬و َ‬
‫سنُوا ْال ُحسْنى َو ِزيا َدة ٌ‬ ‫ّللا واحترموا جانب الحق ‪ ،‬قال تعالى( ِللَّذِينَ أ َ ْح َ‬ ‫لكونهم ما خالفوا أمر ه‬
‫)فإن تركهم للمخالفة زيادة عمل مشروع إذا اقترنت به نية الترك ‪ ،‬وسواء كان الترك لمباح أو‬
‫ندب أو فرض ‪ ،‬على أنه عندنا إذا أتى المباح من حيث أنه مباح شرعا أجر «) ‪ ( 60‬فَبَ َّد َل‬

‫ص ‪138‬‬

‫ص ‪139 :‬‬
‫وبضربه بها ظهر ما ظهر ‪ ،‬ومن ال كشف له ال يعلم أن النبات حي ‪ ،‬إال من يصرف الحياة‬
‫إلى النمو ‪ ،‬فعلم االثنتي عشرة عينا على الكشف والمشاهدة هو علم ما يتعلق بمصالح العالم«‬
‫ع ِل َم ُك ُّل أ ُ ٍ‬
‫ناس َم ْش َربَ ُه ْم »من تلك العيون ‪ ،‬فمن علمها علم حكم االثني عشر برجا ‪ ،‬وعلم‬ ‫قَ ْد َ‬
‫منتهى أسماء األعداد وهي اثنا عشر ‪ ،‬وعلم اإلنسان بما هو ولي هّلل تعالى‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫غي َْر الَّذِي قِي َل لَ ُه ْم »اآلية ‪ ،‬قيل لهم قولوا ‪ :‬حطة ‪ ،‬فبدلوا ‪ ،‬قيل المعنى‬ ‫الَّذِينَ َ‬
‫ظلَ ُموا قَ ْو اال َ‬
‫فاستهزءوا ‪ ،‬وقيل اللفظ ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬حطا سمقا ‪ ،‬بالقبطية معناه حنطة حمراء استهزاء ‪ ،‬فعاقبهم‬
‫ماء »بيهن أن الرجز إنما نزل‬ ‫ظلَ ُموا ِر ْجزا ا ِمنَ ال َّ‬
‫س ِ‬ ‫علَى الَّذِينَ َ‬ ‫ّللا على ذلك ‪ ،‬فقال «فَأ َ ْنزَ ْلنا َ‬ ‫ه‬
‫بالظالمين ‪ ،‬ولم يقل عليهم لئال يدخل فيه غير الظالمين ‪ ،‬ألن العذاب قد ينزل فيعم الصالح‬
‫ّللا أن الرجز الذي هو العذاب اختص‬ ‫والطالح ‪ ،‬ويحشر كل إنسان على عمله ‪ ،‬فلهذا أخبر ه‬
‫سقُونَ »أي بخروجهم عن أمرنا فيما بدلوه من قولنا قولوا حطة ‪،‬‬ ‫بالذين ظلموا« بِما كانُوا يَ ْف ُ‬
‫ومن نعمه أيضا قوله ( ‪َ «) 61‬و ِإ ِذ ا ْستَسْقى ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه »اآلية ‪ ،‬لما أعطاهم ما يقيهم من‬
‫ّللا لهم موسى« فَقُ ْلنَا »فقال له ربه«‬ ‫حر الشمس وما يأكلون طلبوا ما يشربون ‪ ،‬فاستسقى ه‬
‫صاك ْال َح َج َر » *فإن الحجارة في الغالب موضع تفجير الماء« فَا ْنفَ َج َر ْ‬
‫ت ِم ْنهُ اثْنَتا‬ ‫َ‬ ‫اض ِْربْ ِبعَ‬
‫عيْنا ا »وكانوا اثني عشر سبطا ‪ ،‬لكل سبط عين ‪ ،‬والحجر قد يكون األلف والالم لحجر‬ ‫ع ْش َرة َ َ‬ ‫َ‬
‫بعينه ‪ ،‬وكذا ذكر في التاريخ ‪ ،‬وأنه كان صغيرا يحمله في مخالة ‪ ،‬فحيثما نزلوا من التيه‬
‫أخرجه وضربه بعصاه ‪ ،‬فتفجر عيونا اثنتي عشرة ‪ ،‬وقد يحتمل أن يكون للجنس ‪ ،‬وقوله« قَ ْد‬
‫ناس َم ْش َربَ ُه ْم »كان لكل سبط عين تخصه ‪ ،‬وكل سبط يرجع إلى ولد من أوالد يعقوب‬ ‫ع ِل َم ُك ُّل أ ُ ٍ‬ ‫َ‬
‫‪ ،‬وهم األسباط ‪ ،‬فسبط يرجع إلى روبيل ومعناه بالعربية األبيض ‪ ،‬وسبط يرجع إلى يهود‬
‫ومعناه بالعربية شاكر ‪ ،‬وسبط يرجع إلى شمعون وهو بالعربية سمعان ‪ ،‬وسبط يرجع إلى‬
‫نفنوان ومعناه المنطيق ‪ ،‬وسبط يرجع إلى رنوان ويقال فيه ربالون ولم نر له تفسيرا ‪ ،‬وسبط‬
‫يرجع إلى آشر ومعناه الطيب ‪ ،‬وسبط يرجع إلى أنساخر ومعناه المتأخر ‪ ،‬وسبط يرجع إلى‬
‫جاد ومعناه الفياض ‪ ،‬وسبط يرجع إلى دان ومعناه بالعربية الحكم ‪ ،‬وسبط يرجع إلى يوسف‬
‫ومعناه يزيد ‪ ،‬وسبط يرجع إلى الوى ومعناه العطاف ‪ ،‬وسبط يرجع إلى بنيامين ومعناه شداد ‪،‬‬
‫ق َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫ّللا ‪ ،‬ثم قال لهم« ُكلُوا َوا ْش َربُوا ِم ْن ِر ْز ِ‬ ‫وكلهم أوالد يعقوب وهو إسرائيل ومعناه صفوة ه‬
‫ض ُم ْف ِسدِينَ »اسم فاعل من أفسد يفسد فهو مفسد ‪،‬‬ ‫»تقدم الكالم في الرزق« َوال ت َ ْعث َ ْوا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫يقال عاث في األرض إذا أفسد فيها ‪ ،‬وبه سمى العوث وهي الدودة التي تأكل الثياب‬
‫ص ‪139‬‬

‫ص ‪140 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪61‬‬
‫ض ِم ْن‬ ‫ع لَنا َربهكَ يُ ْخ ِرجْ لَنا ِم هما ت ُ ْن ِبتُ ْاأل َ ْر ُ‬ ‫واح ٍد فَا ْد ُ‬‫عام ِ‬ ‫ص ِب َر عَلى َط ٍ‬ ‫َو ِإ ْذ قُ ْلت ُ ْم يا ُموسى لَ ْن نَ ْ‬
‫طوا‬‫ون الهذِي ُه َو أَدْنى ِبالهذِي ُه َو َخ ْي ٌر ا ْه ِب ُ‬ ‫ص ِلها قا َل أ َ ت َ ْ‬
‫ست َ ْب ِدلُ َ‬ ‫سها َوبَ َ‬ ‫ع َد ِ‬
‫ومها َو َ‬ ‫بَ ْق ِلها َوقِثهائِها َوفُ ِ‬
‫ّللا ذ ِلكَ ِبأَنه ُه ْم كانُوا‬
‫ب ِم َن ه ِ‬ ‫ض ٍ‬‫س َكنَةُ َوبا ُؤ ِبغَ َ‬
‫علَ ْي ِه ُم ال ِذهلهةُ َوا ْل َم ْ‬ ‫سأ َ ْلت ُ ْم َوض ُِربَتْ َ‬
‫ِمصْرا ً فَ ِإ هن لَ ُك ْم ما َ‬
‫ُون ( ‪) 61‬‬ ‫ص ْوا َوكانُوا يَ ْعتَد َ‬ ‫ع َ‬‫ق ذ ِلكَ بِما َ‬ ‫ين بِغَ ْي ِر ا ْل َح ه ِ‬ ‫ّللا َويَ ْقتُلُ َ‬
‫ون النهبِ ِيه َ‬ ‫ت هِ‬ ‫ون بِآيا ِ‬ ‫يَ ْكفُ ُر َ‬
‫ّللا عليهم من‬ ‫« أ َ ت َ ْست َ ْب ِدلُونَ الَّذِي ُه َو أ َ ْدنى »وهو ما ذكروه« بِالَّذِي ُه َو َخي ٌْر »وهو ما أنزل ه‬
‫المن والسلوى ‪ ،‬فأشار إلى دناءة همتهم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫والكتب ‪ ،‬ويقال لها األرضة ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬ال تفسدوا في األرض ‪ ،‬فتسموا مفسدين ‪ ،‬ثم قال‬
‫واح ٍد »اآلية ‪ ،‬لما كان في طبع هذه‬ ‫عام ِ‬ ‫على َ‬
‫ط ٍ‬ ‫صبِ َر َ‬ ‫تعالى ( ‪َ «) 62‬وإِ ْذ قُ ْلت ُ ْم يا ُموسى لَ ْن نَ ْ‬
‫ّللا له من األرزاق أنواعا مختلفة المطاعم‬ ‫النشأة الدنيوية إذا استصحبها أمر تمله ‪ ،‬خلق ه‬
‫واأللوان والروائح ‪ ،‬ولما فرض عليهم العبادات جعلها مختلفة بالنوع ‪ ،‬وجعل لها أوقاتا متفرقة‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬ولو كان الرزق من ألذ المطاعم واستصحبه سئمه وطلب‬ ‫من أجل الملل الذي جبلهم ه‬
‫غيره أو تباعد عنه الزمان ‪ ،‬حتى تدعو الحاجة إليه وإن كان واحدا ‪ ،‬ولما ألفوا تكاثر اآللهة‬
‫ّللا في وحدانيته سبحانه أن جعل له‬ ‫عندهم لم يلتذوا بالتوحيد التذاذهم بالكثرة ‪ ،‬ومن حكمة ه‬
‫أسماء كثيرة ندعوه بها في عموم أحوالنا ‪ ،‬فننتقل من اسم إلى اسم لتتنوع علينا األدعية‬
‫واألذكار مع أحدية المدعو والمذكور ‪ ،‬كل ذلك للملل الذي في جبلتنا ‪ ،‬فسبحان اللطيف بعباده‬
‫ع لَنا َرب ََّك‬
‫‪ ،‬وهذا من خفايا ألطافه التي ال يعرفها إال القليل من عباده ‪ ،‬فقالوا لموسى «فَا ْد ُ‬
‫ض »في تيههم « ِم ْن بَ ْق ِلها »يقول من أنواع بقولها ‪ ،‬ثم خصوا بالذكر‬ ‫يُ ْخ ِرجْ لَنا ِم َّما ت ُ ْن ِبتُ ْاأل َ ْر ُ‬
‫ما كان لهم فيه رغبة ‪ ،‬حتى يكون ذلك المعيهن من جملة ما يخرج لهم« َو ِقثَّا ِئها »بضم القاف‬
‫ومها »قيل هو الثوم وهو األقرب ‪ ،‬وقيل الحنطة ‪ ،‬وقيل الخبز«‬ ‫وكسره وهو معروف« َوفُ ِ‬
‫»ّللا لموسى قل لهم« أ َ ت َ ْست َ ْب ِدلُونَ الَّذِي ُه َو أ َ ْدنى »أي أخس وأوضع‬ ‫ص ِلها قا َل ه‬ ‫ع َد ِسها َوبَ َ‬ ‫َو َ‬
‫وأحقر« بِالَّذِي ُه َو َخي ٌْر »منه ‪ ،‬وهو ما كانوا فيه من اللحم والحلواء ‪ ،‬وال شك أن أمرهم‬
‫متناسب في الشكل ‪ ،‬فمن اشترى الضالل بالهدى ‪ ،‬والعذاب بالمغفرة ‪ ،‬والكفر‬
‫ص ‪140‬‬

‫ص ‪141 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪62‬‬
‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوع َِم َل صا ِلحا ً‬
‫ين َم ْن آ َم َن ِب ه ِ‬
‫صا ِبئِ َ‬‫ِين هادُوا َوالنهصارى َوال ه‬ ‫ِين آ َمنُوا َوالهذ َ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ون ) ‪( 62‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬ ‫فَلَ ُه ْم أَجْ ُر ُه ْم ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم َوال َخ ْو ٌ‬
‫ف َ‬
‫يقال ‪ :‬صبا فالن إلى كذا إذا مال إليه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫باإليمان ‪ ،‬وكله استبدال ‪ ،‬ال ينكر عليه في نفسه القذرة أن يستبدل المن والسلوى بالثوم‬
‫سأ َ ْلت ُ ْم »ألنهم سألوا دنيها ‪ ،‬فأهبطوا من عز‬ ‫صرا ا فَإِ َّن لَ ُك ْم ما َ‬ ‫ّللا« ا ْه ِب ُ‬
‫طوا ِم ْ‬ ‫والبصل ‪ ،‬فقال لهم ه‬
‫صرا ا »منونا ‪ ،‬أي مصرا من‬ ‫ّللا بهم وما اختاره من الطعام الطيب ‪ ،‬وقوله« ِم ْ‬ ‫رفعتهم بعناية ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقتلوا‬ ‫ينون أراد البلدة المسماة بمصر ‪ ،‬فلما هبطوا وكفروا بآيات ه‬ ‫األمصار ‪ ،‬ومن لم ه‬
‫علَ ْي ِه ُم الذهِلَّةُ َو ْال َم ْس َكنَةُ »أي ألصقت بهم ‪ ،‬من‬ ‫ت َ‬ ‫ض ِربَ ْ‬ ‫النبيين بغير الحق وعصوا واعتدوا« ُ‬
‫ضربت الطين على الحائط إذا ألصقته ‪ ،‬يقول لزمتهم الذلة وهي الصغار ‪ ،‬والمسكنة الخضوع‬
‫ّللا لهم علما ‪ ،‬وال قام منهم ملك ‪ ،‬حيث كانوا في‬ ‫والسكون تحت صولة اإليمان ‪ ،‬فلم يرفع ه‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫ّللا »أي استحقوا الغضب من ه‬ ‫ب ِمنَ َّ ِ‬ ‫جميع الملل ال يزالون أذالء صاغرين« َوبا ُؤ ِبغَ َ‬
‫ض ٍ‬
‫يقال باء فالن بفالن إذا كان حقيقا أن يؤخذ به لمساواته إياه في الكفاءة في ذلك ‪ ،‬وقال عليه‬
‫السالم ‪ :‬من قال ألخيه كافر فقد باء به أحدهما ‪ ،‬أي استحق ذلك اإلطالق أحد الرجلين ‪ ،‬إما‬
‫المقول فيه إن كان كافرا ‪ ،‬وإما القائل إن كان المقول فيه مسلما ‪ ،‬ألنه سمى اإلسالم كفرا ‪،‬‬
‫ومن اعتقد بذلك فقد كفر ‪ ،‬ذهب إلى هذا بعض العلماء ‪ ،‬ثم قال« ذ ِل َك بِأَنَّ ُه ْم »هذه باء السبب«‬
‫ّللا »يقول بما‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫ّللا »قد تقدم شرح الكافر في أول السورة ‪ ،‬وقوله« بِآيا ِ‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫كانُوا يَ ْكفُ ُرونَ بِآيا ِ‬
‫نصبه الحق من الدالالت على تصديق ما جاءت به رسله من كتاب وغيره« َويَ ْقتُلُونَ النَّ ِب ِيهينَ‬
‫ق »سبب آخر زائد على الكفر باآليات ‪ ،‬يقول عنادا ‪ ،‬أي لم يقتلوهم بحق من عندهم‬ ‫ِبغَي ِْر ْال َح ه ِ‬
‫فيما يرجع إلى دينهم ‪ ،‬فاأللف والالم للحق المعهود عندهم ‪ ،‬ال للحق الذي جاءت به األنبياء‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬فإن ذلك معلوم بال شك ‪ ،‬وإنما فائدة ذكر الحق فيما ترجمنا عنه« ذ ِل َك بِما‬ ‫صلوات ه‬
‫ص ْوا »في ردهم اآليات« َوكانُوا يَ ْعتَدُونَ »يتجاوزون الحق الذي اتخذوه دينا ‪ ،‬ما وقفوا عنده‬ ‫ع َ‬ ‫َ‬
‫‪ ،‬بل تعدوه وجاوزوه بالمخالفة في قتلهم األنبياء ( ‪ِ «) 63‬إ َّن الَّذِينَ آ َمنُوا َوالَّذِينَ هادُوا »اآلية‬
‫‪ ،‬يقول ‪ :‬إن الذين آمنوا أي أقروا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ‪ ،‬فيكون على هذا من آمن منهم‬
‫باّلل يعود الضمير عليهم ‪ ،‬وعلى الذين هادوا والنصارى والصابئين مخلصا من قلبه ‪ ،‬وقد‬ ‫ه‬
‫وتهود‬
‫ه‬ ‫يريد« إِ َّن الَّذِينَ آ َمنُوا »خالصا من قلبه« َوالَّذِينَ هادُوا »يعني اليهود ‪ ،‬يقال هاد يهود‬
‫إذا دخل في دين اليهودية« َوالنَّصارى »جمع نصران« َوال َّ‬
‫صابِئِينَ »‬
‫ص ‪141‬‬

‫ص ‪142 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 63‬إلى ‪65‬‬
‫اذك ُُروا ما فِي ِه لَعَله ُك ْم تَتهقُ َ‬
‫ون (‬ ‫ور ُخذُوا ما آت َ ْينا ُك ْم ِبقُ هو ٍة َو ْ‬ ‫ط َ‬ ‫َو ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا ِميثاقَ ُك ْم َو َرفَ ْعنا فَ ْوقَ ُك ُم ال ُّ‬
‫ين ( ‪َ ) 64‬ولَقَ ْد‬ ‫س ِر َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو َرحْ َمتُهُ لَ ُك ْنت ُ ْم ِم َن ا ْلخا ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫) ‪63‬ث ُ هم ت َ َوله ْيت ُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ فَلَ ْو ال فَ ْ‬
‫ض ُل ه ِ‬
‫ين ) ‪( 65‬‬ ‫س ِئ َ‬ ‫ت فَقُ ْلنا لَ ُه ْم كُونُوا ِق َر َدةً خا ِ‬ ‫ِين ا ْعتَد َْوا ِم ْن ُك ْم ِفي ال ه‬
‫س ْب ِ‬ ‫ع ِل ْمت ُ ُم الهذ َ‬ ‫َ‬
‫ّللا قردة وخنازير‪.‬‬ ‫ظهر المسخ في بني إسرائيل بالصورة فمسخهم ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫اّلل »صدق من هؤالء المذكورين‬ ‫من صبأ إذا مال من دينه إلى دين آخر ‪ ،‬يقول« َم ْن آ َمنَ ِب َّ ِ‬
‫باّلل » يقول بتوحيده ‪ ،‬أي بوحدانيته « َو ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر »يقول بالبعث ‪ ،‬أي بوجود‬ ‫بقلبه « وآمن ه‬
‫ع ِم َل صا ِلحا ا »ولم يدخل في عمله خلال من شرك خفي وال جلي« فَلَ ُه ْم أ َ ْج ُر ُه ْم‬ ‫يوم القيامة« َو َ‬
‫ّللا تعالى«‬ ‫»جزاء عملهم« ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم »أي عند سيدهم الذي استخدمهم وكلفهم باألعمال ‪ ،‬وهو ه‬
‫صلوا من النعيم في مقابلة ما فعلوا‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْحزَ نُونَ »زائد على الجزاء بما ح ه‬
‫ف َ‬
‫َوال خ َْو ٌ‬
‫من الخير الذي له عين موجودة ‪ ،‬وما وصفوا به من نفي الخوف والحزن عنهم فيما تركوا مما‬
‫أمروا بتركه ‪ ،‬فسلب لسلب ‪ ،‬وإثبات إلثبات ( ‪َ «) 64‬و ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا ِميثاقَ ُك ْم »أما قوله« َو ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا‬
‫»بنون الجمع لوساطة الرسل في ذلك ‪ ،‬فهم الذين أخذوا المواثيق هّلل على أممهم ‪ ،‬فأخذ الميثاق‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬فلهذا كنهى سبحانه بالنون ‪ ،‬وليس لنا ذلك إال بأمر منه سبحانه ‪ ،‬وقد قال‬ ‫من ه‬
‫ّللا ورسوله في الضمير في خطبته ( بئس الخطيب أنت )‪ ،‬فهذا‬ ‫عليه السالم لمن جمع بين ه‬
‫ضمير المخاطبين يعود على كل من أخذ عليه الميثاق مطلقا ‪ ،‬من أخذ الذرية إلى نبوة محمد‬
‫ّللا في كتبه أو على ألسنة رسله مما‬ ‫عليه السالم ‪ ،‬وهو اإلقرار بالوحدانية وبما يجيء من عند ه‬
‫يجب اإليمان به ‪ ،‬ثم خصص في الخطاب بعض من أخذ عليه الميثاق في قوله« َو َرفَ ْعنا فَ ْوقَ ُك ُم‬
‫ور »أراد بني إسرائيل بهذا الخطاب خاصة ‪ ،‬وذلك لما امتنعوا من قبول كتابهم والحفظ له‬ ‫ُّ‬
‫الط َ‬
‫ّللا الجبل ورفعه عليهم كالظلة ‪ ،‬إن لم‬ ‫والعمل به لما فيه من التكاليف الشاقة عليهم ‪ ،‬فاقتلع ه‬
‫ّللا وميثاقه وإال أوقع عليهم الجبل ‪ ،‬وقال لهم والجبل على‬ ‫يقبلوا الكتاب ويوفوا بعهد ه‬
‫رؤوسهم« ُخذُوا ما آتَيْنا ُك ْم بِقُ َّوةٍ »أي اقبلوا ما أعطيناكم بجد وعزم على حفظه والعمل به ‪،‬‬
‫وقد يكون العامل في الباء من بقوة« آتَيْنا ُك ْم »أي خذوا ما أعطيناكم تقوية على ما كلفتموه لما‬
‫يتضمن من الوعد الجميل والثواب الجزيل لمن عمل فيه ‪ ،‬ولما يتضمن من الوعيد‬
‫ص ‪142‬‬

‫ص ‪143 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪67‬‬
‫ين ( ‪َ ) 66‬و ِإ ْذ قا َل ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه ِإ هن‬ ‫فَ َجعَ ْلناها نَكاالً ِلما بَ ْي َن يَ َد ْيها َوما َخ ْلفَها َو َم ْو ِع َظةً ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ين ) ‪( 67‬‬ ‫ُون ِم َن ا ْلجا ِه ِل َ‬ ‫ّللا يَأ ْ ُم ُر ُك ْم أ َ ْن ت َ ْذبَ ُحوا بَقَ َرةً قالُوا أ َ تَت ه ِخذُنا ُه ُزوا ً قا َل أَعُوذُ ِب ه ِ‬
‫اَّلل أ َ ْن أَك َ‬ ‫هَ‬
‫المناسبة بين البقر واإلنسان قوية عظيمة السلطان ‪ ،‬وكما أن البقر برزخ بين اإلبل والغنم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫والتهديد لمن ترك العمل بما فيه ‪ ،‬فيكون وقوفكم عليه وقراءتكم له محرضا وتقوية على العمل‬
‫به ‪ ،‬ويؤيد هذا قوله« َوا ْذ ُك ُروا ما فِي ِه »ثم جاء بلفظة« ا ْذ ُك ُروا ما فِي ِه »مما تقدم من أخذ‬
‫ّللا عليكم ‪ ،‬إذ أوجدكم واصطفاكم بما ذكره فيه‬ ‫المواثيق في ذلكم عليكم ‪ ،‬ومما يتضمنه من نعم ه‬
‫ّللا« لَعَلَّ ُك ْم »فيكون‬ ‫زائدا على ما فيه مما شرع لكم« لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ »يقول لهم الرسول بأمر ه‬
‫الترجي من الرسول أن تتقوا أو منهم أن يكونوا من المتقين ‪ ،‬وقد ذكرنا تفسير« لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ‬
‫»والمتقي من هو في أول السورة ‪ ،‬ثم قال تعالى ( ‪ «) 65‬ث ُ َّم ت َ َولَّ ْيت ُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِل َك »أي‬
‫أعرضتم لما رفعنا عنكم ما ظننتم أنه واقع بكم ‪ ،‬وهو الجبل ‪.‬‬
‫ذاب ِإذا ُه ْم يَ ْن ُكثُونَ «)فَلَ ْو ال‬ ‫ع ْن ُه ُم ْالعَ َ‬ ‫ش ْفنا َ‬‫وإليه اإلشارة « بذلك » وهو قوله تعالى( فَلَ َّما َك َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ »بكم حيث لم يعاقبكم بسقوط الجبل عليكم فتموتون ناكثين ‪ ،‬فتكونون‬ ‫ّللا َ‬ ‫فَ ْ‬
‫ض ُل َّ ِ‬
‫من الذين لم تربح تجارته وكنتم خاسرين« لَ ُك ْنت ُ ْم ِمنَ ْالخا ِس ِرينَ »قال لهم ذلك ليرجعوا عن‬
‫توليهم وإعراضهم ونكثهم ‪ ،‬فإن احتجوا بالفاء في قوله« فَلَ ْو ال »أنها للتعقيب ‪ ،‬قلنا ‪ :‬كذا‬
‫وردت ‪ ،‬فإنه سبحانه لما رفع الجبل على رؤوسهم ‪ ،‬لوال فضله ورحمته أسقطه عليهم ‪ ،‬ولم‬
‫ينتظر بهم أن يأخذوا الكتاب ‪ ،‬ال أنهم بعد التولي الثاني تفضل عليهم بالتوبة ‪ ،‬ثم قال تعالى (‬
‫ع ِل ْمت ُ ُم »خطابا لبني إسرائيل« الَّذِينَ ا ْعت َ َد ْوا ِم ْن ُك ْم »بعهضهم ‪ ،‬أي جاوزوا ما حد‬ ‫‪َ «) 66‬ولَقَ ْد َ‬
‫ت »من ترك الصيد فيه والمثابرة على طاعته ‪ ،‬وهم‬ ‫س ْب ِ‬
‫لهم أن يفعلوه ويتركوه« ِفي »يوم« ال َّ‬
‫الذين تولوا ونكثوا ‪ ،‬وما ذكر أنه تاب عليهم ‪ ،‬ثم قال« فَقُ ْلنا لَ ُه ْم ُكونُوا »هو قوله( ِإنَّما قَ ْولُنا‬
‫ون )وقال عليه السالم وهو في غزوة تبوك وقد أبصر‬ ‫ش ْيءٍ إِذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫ِل َ‬
‫شخصا مقبال على بعد وهو في أصحابه ‪ :‬كن أبا ذر ‪ ،‬فكان أبو ذر ‪ ،‬فكان ‪ ،‬والكون حرف‬
‫وجودي عند الجماعة ‪ ،‬وعندنا حرف ثبوتي ‪ ،‬فإنه يتوجه على اإليجاد واإلعدام ‪ ،‬والعدم يثبت‬
‫يكونوا أنفسهم« قِ َر َدة ا‬ ‫للمعدوم وال يكون له ‪ ،‬وهذه مسئلة عظيمة القدر ‪ ،‬فإنه ليس في قوتهم أن ه‬
‫ّللا يكونهم أي يقلب صورهم قردة ‪ ،‬والحقائق ال تتبدل ‪ ،‬فمن المخاطب بأن يرجع قردا‬ ‫»وإنما ه‬
‫ّللا‬‫؟ فقد يصح هنا قول من يقول إن الجواهر متماثلة والصور أعراض فيها ‪ ،‬فسلخ ه‬

‫ص ‪143‬‬

‫ص ‪144 :‬‬
‫في الحيوان المذكى ‪ ،‬فاإلنسان برزخ بين الملك والحيوان ‪ ،‬ثم إن البقرة التي ظهر اإلحياء‬
‫بموتها والضرب بها برزخية أيضا في سنها ولونها ‪ ،‬فهي ال فارض وال بكر عوان بين ذلك ‪،‬‬
‫فهذا مقام برزخي ‪ ،‬وهي ال بيضاء وال سوداء بل صفراء ‪ ،‬والصفرة لون برزخي بين البياض‬
‫اّلل أ َ ْن‬ ‫والسواد ‪ ،‬فقويت المناسبة بين البقر والنفوس اإلنسانية« قالُوا أ َ تَت َّ ِخذُنا ُه ُزوا ا قا َل أ َ ُ‬
‫عوذُ ِب َّ ِ‬
‫أ َ ُكونَ ِمنَ ْالجا ِه ِلينَ »ألن الجهل صفة مذمومة منهي عنها بقوله تعالى ‪ « :‬فال تك من الجاهلين‬
‫باّلل منها‪.‬‬
‫» مستعاذ ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الصورة اإلنسانية من الجوهر وكساه صورة القرد ‪ ،‬فإن الحرارة ال ترجع برودة ‪ ،‬لكن الحار‬
‫بقبوله للحرارة إذا زالت عنه زال عنه اسم الحار وقبل البرودة ‪ ،‬فصح عليه اسم البارد ‪ ،‬وما‬
‫ثبت عندنا من طريق صحيحة أن ظواهرهم رجعت في صورة القردة ‪ ،‬والقدرة صالحة ‪ ،‬فقد‬
‫يحتمل أن يكون مسخ بواطنهم قردة مع بقاء الصورة اإلنسانية ‪ ،‬ويحتمل أن يكون مسخ‬
‫ظواهرهم قردة مع بقاء علمهم بأنهم ذلك ‪ ،‬ليذوقوا العذاب ‪ ،‬فيكون قردا في الظاهر إنسانا في‬
‫وّللا على كل شيء قدير ‪ ،‬وما يقع التوقف إال من عدم صحة النقل ال من حيث‬ ‫الباطن ‪ ،‬ه‬
‫ّللا ‪ ، ،‬وقوله «) ‪( 67‬‬ ‫اإلمكان ‪ ،‬وقوله« خا ِسئِينَ »أي مبعودين مطرودين من رحمة ه‬
‫َكاال »قيدا وحدا يوقف عنده إذ كان النكل القيد يقف عنده‬ ‫فَ َجعَ ْلناها »يعني هذه الكائنة« ن ا‬
‫الماضي واآلتي معتبرا ‪ ،‬وقد يكون قيدا أي ثباتا للممسوخين على هذه الصورة « ل » ألجل‬
‫ظةا ِل ْل ُمت َّ ِقينَ »للذين يخافون مثل هذه األشياء ‪ ،‬وقد‬ ‫« مابَيْنَ يَ َديْها َوما خ َْلفَها َو »جعلناها« َم ْو ِع َ‬
‫ّللا لما عدلوا عن طاعته والوفاء‬ ‫يكون نكاال من النكول وهو العدول ‪ ،‬عدل بهم عن رحمة ه‬
‫بعهده وميثاقه ‪ ،‬وجعلناها بمعنى صيهرناها في عينها للحاضرين الذين يشاهدونها ‪ ،‬وفي الذكر‬
‫ّللا لما خلق اإلنسان خلقه مستقبال اآلخرة ‪ ،‬فهو يطلبها‬ ‫بالخبر عنها لمن يأتي بعدهم ‪ ،‬وذلك أن ه‬
‫في سيره ‪ ،‬ومدة ذلك عمره ‪ ،‬وأول منزل يلقاه منها القبر ‪ ،‬وأول حالة تدركه منها الموت ‪،‬‬
‫والساعة أيضا تستقبله ولذا سميت ساعة أي تسعى إليه ‪ ،‬فعند الموت يكون اللقاء بين اإلنسان‬
‫والقيامة ‪ ،‬قال عليه السالم ( من مات فقد قامت قيامته ) وال يزال في منازلها يتقلب ويقطعها‬
‫إلى يوم البعث ‪ ،‬ثم يقطع منازل ذلك اليوم إلى أن يصل إلى الجنة أو إلى النار ‪ ،‬فلهذا ثبت له‬
‫ّللا يَأ ْ ُم ُر ُك ْم أ َ ْن‬
‫األمام لما يستقبله ‪ ،‬والخلف لما يأتي بعده ( ‪َ «) 68‬و ِإ ْذ قا َل ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه ِإ َّن َّ َ‬
‫ت َ ْذبَ ُحوا بَقَ َرة ا »القصة ‪ :‬كان سبب هذا أن رجال قتل عمه وجعله في أرض قوم ليأخذ ديته ‪ ،‬ثم‬
‫استعدى على أهل تلك األرض ‪ ،‬وتدافعوا معه بالخصومة فارتفعوا إلى موسى عليه السالم‬
‫وسألوه أن يبين لهم عن األمر ‪ ،‬فسأل ربه ‪ ،‬فأمره أن يأمرهم أن يذبحوا بقرة ‪ ،‬فيضرب الميت‬
‫ّللا الموتى ‪ ،‬ولتبرأ ذمة البريء مما نسب إليه من‬ ‫ّللا ‪ ،‬ليريهم كيف يحيي ه‬ ‫ببعضها ‪ ،‬فيحييه ه‬
‫ذلك ‪،‬‬
‫ص ‪144‬‬

‫ص ‪145 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪72‬‬
‫َوان بَ ْي َن ذ ِلكَ‬
‫ض َوال ِب ْك ٌر ع ٌ‬ ‫ي قا َل ِإنههُ يَقُو ُل ِإنهها بَقَ َرةٌ ال ِ‬
‫فار ٌ‬ ‫ع لَنا َربهكَ يُبَ ِيه ْن لَنا ما ِه َ‬ ‫قالُوا ا ْد ُ‬
‫ع لَنا َربهكَ يُبَ ِيه ْن لَنا ما لَ ْونُها قا َل ِإنههُ يَقُو ُل ِإنهها بَقَ َرةٌ‬ ‫ون ( ‪ ) 68‬قالُوا ا ْد ُ‬ ‫افعَلُوا ما ت ُ ْؤ َم ُر َ‬ ‫فَ ْ‬
‫ي ِإ هن ا ْلبَقَ َر تَشابَهَ‬ ‫ع لَنا َربهكَ يُبَ ِيه ْن لَنا ما ِه َ‬ ‫ين ( ‪ ) 69‬قالُوا ا ْد ُ‬ ‫اظ ِر َ‬‫س ُّر النه ِ‬‫ص ْفرا ُء فا ِق ٌع لَ ْونُها ت َ ُ‬ ‫َ‬
‫ض َوال‬ ‫ير ْاأل َ ْر َ‬
‫ُون ( ‪ ) 70‬قا َل إِنههُ يَقُو ُل إِنهها بَقَ َرةٌ ال ذَلُو ٌل تُثِ ُ‬ ‫ّللاُ لَ ُم ْهتَد َ‬
‫علَ ْينا َوإِنها إِ ْن شا َء ه‬ ‫َ‬
‫ون ( ‪) 71‬‬ ‫ق فَذَبَ ُحوها َوما كادُوا يَ ْفعَلُ َ‬ ‫شيَةَ فِيها قالُوا ْاآل َن ِجئْتَ بِا ْل َح ه ِ‬ ‫سله َمةٌ ال ِ‬ ‫ث ُم َ‬ ‫س ِقي ا ْل َح ْر َ‬ ‫تَ ْ‬
‫ون ( ‪) 72‬‬ ‫ج ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكت ُ ُم َ‬ ‫هارأْت ُ ْم فِيها َو ه‬
‫ّللاُ ُم ْخ ِر ٌ‬ ‫َوإِ ْذ قَت َ ْلت ُ ْم نَ ْفسا ً فَاد َ‬
‫َّارأْت ُ ْم فِيها »أي تدافعتم فيها « َو َّ‬
‫ّللاُ ُم ْخ ِر ٌج ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكت ُ ُمونَ ‪» .‬‬ ‫« فَاد َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫اّلل أ َ ْن أ َ ُكونَ ِمنَ ْالجا ِه ِلينَ »فإن‬ ‫عوذُ بِ َّ ِ‬ ‫فـ" قالُوا" لموسى« أ َ تَت َّ ِخذُنا ُه ُزوا ا »أي تسخر بنا« قا َل أ َ ُ‬
‫ي قا َل إِنَّهُ يَقُو ُل إِنَّها‬ ‫ع لَنا َرب ََّك يُبَ ِيه ْن لَنا ما ِه َ‬ ‫ّللا ( ‪ «) 69‬قالُوا ا ْد ُ‬ ‫الجاهل هو الذي يسخر بعباد ه‬
‫ع ٌ‬
‫وان بَيْنَ ذ ِل َك‬ ‫ض »أي ال هرمة« َوال بِ ْك ٌر »وهي التي ولد لها ولد واحد« َ‬ ‫فار ٌ‬‫بَقَ َرة ٌ ال ِ‬
‫»والعوان التي ولد ولدها ‪ ،‬قد يفهم من هذا ما يخرج في الصدقة من الماشية ‪ ،‬حتى ال يعتدي‬
‫فيها من الطرفين ‪ ،‬من رب المال يأخذ األنفس ‪ ،‬ومن جهة المتصدق عليه من أخذ األخس «‬
‫ع لَنا َرب ََّك يُبَ ِيه ْن لَنا ما لَ ْونُها قا َل ِإنَّهُ يَقُو ُل ِإنَّها بَقَ َرة ٌ‬‫فَا ْفعَلُوا ما تُؤْ َم ُرونَ »( ‪ «) 70‬قالُوا ا ْد ُ‬
‫ص ْفرا ُء فاقِ ٌع لَ ْونُها »أي بالغ في الصفرة حسنا وجماال ‪ ،‬يقال أصفر فاقع ‪ ،‬وأسود حالك ‪،‬‬ ‫َ‬
‫اظ ِرينَ »أي يستحسنها من نظر إليها ( ‪«) 71‬‬ ‫س ُّر النَّ ِ‬
‫وأبيض يقق ‪ ،‬وأحمر ناصع ‪ ،‬وقال« ت َ ُ‬
‫علَيْنا »أي هذا الجنس كثير ويشتبه علينا فزدنا‬ ‫ي ِإ َّن ْالبَقَ َر تَشابَهَ َ‬
‫ع لَنا َرب ََّك يُبَ ِيه ْن لَنا ما ِه َ‬ ‫قالُوا ا ْد ُ‬
‫ّللا في االستثناء رزقهم الهداية إلى ما سألوه‬ ‫ّللاُ لَ ُم ْهتَدُونَ »فلما تأدبوا مع ه‬ ‫بيانا « َو ِإنَّا ِإ ْن شا َء َّ‬
‫من ذلك ‪ ،‬فلم يسألوا بعد ذلك ‪)« 72 ( ،‬قا َل ِإنَّهُ يَقُو ُل ِإنَّها بَقَ َرة ٌ ال ذَلُو ٌل »أي صعبة القياد «‬
‫ض »أي ال تنقاد للحرث ‪ ،‬يقول ‪ :‬ما هي ذلول تثير األرض ‪ ،‬أي يحرث بها« َوال‬ ‫ير ْاأل َ ْر َ‬‫ت ُ ِث ُ‬
‫ث »وال‬ ‫ت َ ْس ِقي ْال َح ْر َ‬

‫ص ‪145‬‬

‫ص ‪146 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪73‬‬
‫ون ) ‪( 73‬‬ ‫ّللاُ ا ْل َم ْوتى َويُ ِري ُك ْم آياتِ ِه لَعَله ُك ْم ت َ ْع ِقلُ َ‬ ‫فَقُ ْلنا ا ْ‬
‫ض ِربُوهُ ِببَ ْع ِضها كَذ ِلكَ يُحْ ي ِ ه‬
‫ولذلك فإن بين البقر والنفس نسبة ‪ ،‬إذ الغنم تناسب األرواح ‪ ،‬والبدن أي اإلبل تناسب األجسام‬
‫ّللاُ ْال َم ْوتى »فتحيا‬
‫ضها َكذ ِل َك يُ ْحي ِ َّ‬ ‫‪ ،‬والبقر تناسب األنفس ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪ «:‬اض ِْربُوهُ ِببَ ْع ِ‬
‫ّللا تلك النفس المقتولة للمناسبة ‪ ،‬فإنه لما كانت المناسبة بين البقر واإلنسان قوية عظيمة‬ ‫بإذن ه‬
‫السلطان ‪ ،‬لذلك حي بها الميت لما ضرب ببعض البقر ‪ ،‬فجاء بالضرب إشارة إلى الصفة‬
‫القهرية لما شمخت النفس اإلنسانية أن تكون سبب حياته بقرة ‪ ،‬وال سيما وقد ذبحت وزالت‬
‫حياتها ‪ ،‬فحيي بحياتها هذا اإلنسان المضروب ببعضها ‪ ،‬وكان قد أبى لما عرضت عليه‬
‫ّللا ذلك‬
‫ّللا اإلنسان عليها ‪ ،‬وفعل ه‬ ‫فضرب ببعضها فحيي بصفة قهرية ‪ ،‬لألنفة التي جبل ه‬
‫ليعرفه أن االشتراك بينه وبين الحيوان في الحيوانية محقق بالحد والحقيقة ‪ ،‬ولهذا هو كل‬
‫حيوان جسم متغذ حساس ‪ ،‬فاإلنسان وغيره ‪ ،‬من الحيوان ‪ .‬وانفصل كل نوع من الحيوان عن‬
‫غيره بفصله المقوم لذاته الذي به سمي هذا إنسانا ‪ ،‬وهذا بقرا ‪ ،‬وهذا غنما ‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫األنواع ‪ ،‬وما أبى اإلنسان إال من حيث فصله المقوم ‪ ،‬وتخيل أن حيوانيته مثل فصله‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سلَّ َمةٌ »صحيحة« ال ِشيَةَ ِفيها »أي ال لون‬ ‫يسقى بها الحرث ‪ ،‬أي تدور بالسانية لصعوبتها« ُم َ‬
‫ق »المطلوب لنا ‪ ،‬أي استوفيت الصفة« فَذَبَ ُحوها‬ ‫ت بِ ْال َح ه ِ‬
‫فيها من عير لونها« قالُوا ْاآلنَ ِجئْ َ‬
‫»ومن كثرة تفتيشهم على صفتها كادوا ال يجدونها فال يفعلون ‪ ،‬فهو قوله« َوما كادُوا يَ ْفعَلُونَ‬
‫ّللاُ ُم ْخ ِر ٌج ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكت ُ ُمونَ »( ‪ «) 74‬فَقُ ْلنا اض ِْربُوهُ‬ ‫َّارأْت ُ ْم فِيها ‪َ ،‬و َّ‬‫»( ‪َ )« 73‬و ِإ ْذ قَت َ ْلت ُ ْم نَ ْفسا ا فَاد َ‬
‫ضها‬ ‫ّللاُ ْال َم ْوتى َويُ ِري ُك ْم آياتِ ِه ‪ ،‬لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْع ِقلُونَ »« فَقُ ْلنا اض ِْربُوهُ ِببَ ْع ِ‬
‫ضها ‪َ ،‬كذ ِل َك يُ ْحي ِ َّ‬ ‫ِببَ ْع ِ‬
‫»واختلف الناس في ذلك البعض ما هو ؟ فمن جملة ما قالوه فخذها ‪ ،‬ولسانها ‪ ،‬وفيه مناسبة ‪،‬‬
‫فإن اللسان محل الكالم ‪ ،‬والمراد من الميت النطق ليعرفوا األمر ‪ ،‬وأما الفخذ خاصته فقد ورد‬
‫أنه ال تقوم الساعة حتى تكلم الرجل فخذه بما فعل أهله بعده ‪ ،‬فخص الفخذ بذلك في الدنيا دون‬
‫غيره من األعضاء ‪ ،‬وهذا اإلحياء إنما وقع في الدنيا ‪ ،‬وأما في اآلخرة فتنطق الجلود واأليدي‬
‫ّللاُ ْال َم ْوتى »يعني في قيام الميت حيا من قبره ‪ ،‬أي‬ ‫واألرجل واأللسنة قال تعالى « َكذ ِل َك يُ ْحي ِ َّ‬
‫تظهر يوم القيامة حياته القائمة بجسمه ‪ ،‬التي نحن اليوم محجوبون عن إدراكها ‪ ،‬السارية في‬
‫كل موجود من جماد ونبات وحيوان ‪ ،‬التي أدركها النبيون وأهل الكشف ‪ ،‬قال تعالى( َو ِإ ْن ِم ْن‬
‫ش ْيءٍ إِ َّال يُ َ‬
‫س ِبه ُح‬ ‫َ‬

‫ص ‪146‬‬

‫ص ‪147 :‬‬
‫ّللا بما وقع أن الحيوانية في الحيوان كله حقيقة واحدة ‪ ،‬فأفاده ما لم يكن عنده‬
‫المقوم ‪ ،‬فأعلمه ه‬
‫‪ ،‬وكذلك ذلك الميت ما حيي إال بحياة حيوانية ال بحياة إنسانية من حيث إنه ناطق ‪ ،‬وكان كالم‬
‫ذلك الميت مثل كالم البقرة في بني إسرائيل ‪ .‬قال الصحابة تعجبا ‪ :‬بقرة تكلم ؟‬
‫ّللا قد قال ما هو أعجب من‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬آمنت بهذا ‪ ،‬وما رأوا أن ه‬ ‫فقال رسول ه‬
‫ّللا الذي أنطق كل شيء ‪ ،‬فهذه الحياة التي تظهر ألعين الخلق‬ ‫هذا أن الجلود قالت ‪ :‬أنطقنا ه‬
‫عند خرق العوائد في إحياء الموتى هي الحياة الذاتية لألشياء ‪ -‬إشارة ‪ -‬ال يقوم تركيب إال بحل‬
‫تركيب ‪ ،‬انظر سره لما ذبحت البقرة قام الميت بحياتها من قبره ‪ ،‬والبقرة من عالم الوسط‬
‫سرحت في‬ ‫كالبرزخ بين الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فهي فوق الكبش ودون البدنة في األجر ‪ ،‬فبذبحها ه‬
‫الحضرة البرزخية ‪ ،‬فكان سببا في نقل حياتها إلى حياة البرزخ ‪ ،‬وهو إحياء هذا الميت ‪ ،‬فإن‬
‫الميت في عالم البرزخ ‪ ،‬فوقعت المناسبة ‪.‬‬

‫[الحياة بالضرب ]‬
‫إشارة ‪ -‬من الحياة بالضرب قول النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬فضرب بيده بين كتفي فوجدت‬
‫بردها بين ثديي ‪ ،‬فعلمت علم األولين واآلخرين » فأضاف العلم إلى الضرب باليد اإللهية ‪،‬‬
‫وهي الحياة المعنوية‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫بِ َح ْم ِد ِه َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ )ال تعلمون تسبيحهم( ِإنَّهُ كانَ َح ِليما ا )فلم يؤاخذكم عاجال بإنكاركم ذلك (‬
‫غفورا ) بما ستر من إدراك حياتها ألبصاركم ‪ ،‬ولنا حياة منسوبة إلى ارتباط الروح الناطق‬
‫بهذا الجسم ‪ ،‬وهو الذي يظهر حياته في الجسم ‪ ،‬وافتراقه من الجسم يسمى الموت ‪ ،‬ولنا حياة‬
‫ّللا بأبصارنا عنها ‪ ،‬فقد يمكن أن يكون حياة‬ ‫أخرى نشرك بها جميع األجسام ‪ ،‬وهي التي أخذ ه‬
‫صاحب البقرة ظهور تلك الحياة ‪ ،‬ثم قال« َويُ ِري ُك ْم آيا ِت ِه »أي دالالته على أنه على كل شيء‬
‫قدير« لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْع ِقلُونَ »أي تمسكون على ذلك ‪ ،‬مأخوذ من العقال ‪ ،‬وتثبتون عليه من غير شبهة‬
‫ّللاُ ُم ْخ ِر ٌج ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكت ُ ُمونَ »وهو ما أظهر من كذب ولي المقتول ‪،‬‬
‫تزلزلكم عنه ‪ ،‬وقوله « َو َّ‬
‫وفيه تنبيه على إظهار ما استتر عن عيوننا من حياة األجسام ‪ ،‬وهو ما نبههنا عليه آنفا ‪ ،‬ونسب‬
‫الكتمان إليهم ألن األمر مستور فيهم ‪ ،‬وقوله «بَقَ َرة ا »بلفظ التنكير حتى لو أخذوا أية بقرة كانت‬
‫ّللا فبقرة مخصوصة بهذا الوصف ‪،‬‬ ‫‪ ،‬وقع الغرض ‪ ،‬ذلك محتمل بالنظر إلينا ‪ ،‬وأما في علم ه‬
‫ولو فهموا منه بقرة على اإلطالق لبادروا إليها ‪ ،‬فإن النفوس قد طبعت على طلب التيسير ‪،‬‬
‫وقوله« فَا ْفعَلُوا ما تُؤْ َم ُرونَ »من أول سؤال سألوه يؤذن بالزجر عن السؤال وكثرته ‪ ،‬قال‬
‫عليه السالم ( إنما أهلك‬

‫ص ‪147‬‬

‫ص ‪148 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪74‬‬
‫جار ِة لَما يَتَفَ هج ُر ِم ْنهُ‬
‫س َوةً َو ِإ هن ِم َن ا ْل ِح َ‬ ‫جار ِة أ َ ْو أ َ َ‬
‫ش ُّد قَ ْ‬ ‫ي كَا ْل ِح َ‬ ‫ستْ قُلُوبُ ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ فَ ِه َ‬ ‫ث ُ هم قَ َ‬
‫ّللاُ ِبغافِ ٍل‬
‫ّللا َو َما ه‬‫شيَ ِة ه ِ‬ ‫ج ِم ْنهُ ا ْلما ُء َو ِإ هن ِم ْنها لَما يَ ْه ِب ُ‬
‫ط ِم ْن َخ ْ‬ ‫ق فَيَ ْخ ُر ُ‬ ‫شقه ُ‬‫هار َو ِإ هن ِم ْنها لَما يَ ه‬ ‫ْاأل َ ْن ُ‬
‫ون ( ‪) 74‬‬ ‫ع هما ت َ ْع َملُ َ‬
‫َ‬
‫ش ُّد قَس َْوة ا »وإنما كانت أشد قسوة من‬ ‫ي َك ْال ِح َ‬
‫جارةِ أ َ ْو أ َ َ‬ ‫ت قُلُوبُ ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِل َك فَ ِه َ‬‫س ْ‬‫« ث ُ َّم قَ َ‬
‫الحجارة‬
‫ألن من الحجارة ما يتفجر منه األنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط‬
‫ّللا ‪ ،‬وأنتم ما عندكم في قلوبكم من هذا شيء ‪ ،‬يذمهم بذلك ‪ -‬تحقيق ‪ -‬اعلم أن‬ ‫من خشية ه‬
‫الحجارة عبيد محققون ‪ ،‬ما خرجوا عن أصولهم في نشأتهم ‪ ،‬فالحجر يهرب من مزاحمة‬
‫ّللا جعل هذه‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن خشي فقد علم من يخشى ‪ .‬ثم إن ه‬ ‫الربوبية في العلو ‪ ،‬فيهبط من خشية ه‬
‫األحجار محال إلظهار المياه التي هي أصل حياة كل حي في العالم الطبيعي ‪ ،‬وهي معادن‬
‫الحياة وبالعلم يحيا اإلنسان الميت بالجهل ‪ ،‬فجمعت األحجار بالخشية وتفجر األنهار ‪ ،‬بين‬
‫العلم والحياة ‪ ،‬قال تعالى ‪ « :‬وإن منها لما يتفجر منه األنهار » مع اتصافها بالقساوة ‪ ،‬وذلك‬
‫لقوتها في مقام العبودية ‪ ،‬فال تتزلزل عن ذاتها ‪ ،‬ألنها ال تحب مفارقة موطنها ‪ ،‬لما لها فيه من‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم ) ‪ ،‬ولذلك جرى لهؤالء لما كثر سؤالهم‬
‫مضى « ‪ » 1‬فيها من أموالهم كثير على ما حكي ‪ ،‬وأما قوله« َو ِإ ْذ قَت َ ْلت ُ ْم »وما قتله إال واحد ‪،‬‬
‫فهو راجع إلى قول بعضهم لبعض ‪ :‬أنتم قتلتم هذا القتيل ‪ ،‬وتدافعهم في ذلك ‪ ،‬فكأنه يقول ‪ :‬وإذ‬
‫ضها »لما كان الضرب‬ ‫يقول بعضكم لبعض قتلتم نفسا فادار أتم فيها ‪ ،‬وأما قوله« اض ِْربُوهُ ِببَ ْع ِ‬
‫يتضمن صفة القهر لذلك جاء به ‪ ،‬إذ إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ال يكون إال من قاهر‬
‫صاك ْال َح َج َر فَا ْنفَ َج َر ْ‬
‫ت ِم ْنهُ‬ ‫َ‬ ‫صاك ْالبَ ْح َر فَا ْنفَلَقَ )( اض ِْربْ ِبعَ‬
‫َ‬ ‫‪ ،‬كما جاء في قوله( اض ِْربْ ِبعَ‬
‫ون )فقرن اإليجاد باألمر ‪ ،‬إذ‬ ‫عيْنا ا )ومن هذا الباب قوله تعالى( أ َ ْن يَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬ ‫اثْنَتا َ‬
‫ع ْش َرة َ َ‬
‫في ضمن مخالفته الوعيد ‪ ،‬وهو من صفة القاهر ‪ ،‬ثم أخبر تعالى أنهم بعد ما عاينوا ذلك قست‬
‫ت قُلُوبُ ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِل َك »أي من بعد ما رأيتم اآليات ‪ ،‬فما‬ ‫س ْ‬ ‫قلوبهم ‪ ،‬فقال تعالى «) ‪ ( 75‬ث ُ َّم قَ َ‬
‫جارةِ »في‬ ‫ي »يعني قلوبكم« َك ْال ِح َ‬ ‫وقع ما ترجاه موسى منكم من عقلها والثبات عليها« فَ ِه َ‬
‫الصالبة والشدة ‪ ،‬أو‬

‫(‪ )1‬ضاع‬
‫ص ‪148‬‬

‫ص ‪149 :‬‬
‫العلم والحياة اللتين هما أشرف الصفات ‪.‬‬
‫[ في ( قست قلوبكم ) ]‬
‫ش ُّد قَس َْوة ا »فإن الحجر ال يقدر أن‬ ‫أما وصفه تعالى لقلوب من كفر من بني إسرائيل بقوله ‪ «:‬أ َ َ‬
‫يمتنع عن تأثيرك فيه ‪ ،‬والقلب يمتنع عن أثرك فيه بال شك ‪ ،‬فإنه ال سلطان لك عليه ‪ ،‬فلهذا‬
‫كان القلب أشد قسوة أي أعظم امتناعا وأحمى ‪ ،‬وإن أحسنت في ظاهره ‪ ،‬فال يلزم أن يلين قلبه‬
‫إليك فذلك إليه ‪ ،‬فالصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ‪ ،‬فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار‬
‫ط »الهبوط سقوط‬ ‫وال تلينها ‪ .‬وأما قوله تعالى ‪َ «:‬و ِإ َّن ِم ْنها »يعني من الحجارة« لَما يَ ْهبِ ُ‬
‫ّللا أخذ‬ ‫ّللا »فوصفها بالخشية وهذه اآلية تدل على أن ه‬ ‫بسرعة عن غير اختيار« ِم ْن َخ ْشيَ ِة َّ ِ‬
‫بأكثر أبصار جنس اإلنس والجان عن إدراك النفوس المدبرة الناطقة التي تسمى جمادا ونباتا‬
‫وحيوانا ‪ ،‬وكشف لبعض الناس عن ذلك ‪ ،‬فإن الخشية المنعوت بها األحجار هي التي أدتها إلى‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه لما وصفها بالهبوط علمنا أن‬ ‫الهبوط ‪ ،‬وهو التواضع من الرفعة التي أعطاها ه‬
‫ّللا بها ميد األرض ‪ ،‬فلما جعلها‬ ‫األحجار التي في الجبال يريد ‪ ،‬والجبال واألوتاد التي سكن ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا لما سمعت ه‬ ‫أوتادا أورثها ذلك فخرا لعلو منصبها ‪ ،‬فنزلت هذه األحجار هابطة من خشية ه‬
‫ض َوال فَسادا ا َو ْالعاقِبَةُ ِل ْل ُمت َّ ِقينَ‬ ‫يقول ‪ «:‬تِ ْل َك الد ُ‬
‫َّار ْاآل ِخ َرة ُ ن َْجعَلُها ِللَّذِينَ ال يُ ِريدُونَ ُ‬
‫علُ ًّوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا حذرا‬ ‫»واإلرادة من صفات القلوب ‪ ،‬فنزلت من علوها ‪ ،‬وإن كان بربها ‪ ،‬هابطة من خشية ه‬
‫أن ال يكون لها حظ في الدار اآلخرة التي تنتقل إليها ‪ ،‬وأعني بالدار اآلخرة هنا دار سعادتها ‪،‬‬
‫ّللا ليس بغافل‬ ‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ »فإن ه‬ ‫ّللاُ بِغافِ ٍل َ‬
‫فإن في اآلخرة منزل شقاوة ومنزل سعادة« َو َما َّ‬
‫ت قُلُوبُ ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِل َك فَ ِه َ‬
‫ي‬ ‫س ْ‬ ‫فإنه معنا في جميع المحافل ‪ -‬تفسير من باب اإلشارة ‪ «:‬ث ُ َّم قَ َ‬
‫ش ُّد قَس َْوة ا »والقسوة هو ما ينبغي أن تتطهر منها القلوب من النجاسات كانت ما‬ ‫َك ْال ِح َ‬
‫جارةِ أ َ ْو أ َ َ‬
‫هار »وهي‬ ‫جارةِ لَما يَتَفَ َّج ُر ِم ْنهُ ْاأل َ ْن ُ‬‫كانت ‪ ،‬فإن منها المأخوذ بها والمعفو عنها« َو ِإ َّن ِمنَ ْال ِح َ‬
‫من القلوب العلوم الغزيرة الواسعة ‪ ،‬وتفجرها خروجها على ألسنة العلماء للتعليم في الفنون‬
‫المختلفة « وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء » ‪ ،‬وهي القلوب التي تغلب عليها‬
‫األحوال فتخرج في الظاهر على ألسنة أصحابها بقدر ما يشقق منها وبقدر العلم الذي فيها ‪،‬‬
‫فينتفع بها الناس ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ش ُّد قَس َْوة ا »يقول أقوى في الصالبة من الحجارة ‪ ،‬قال تعالى( لَ ْو أ َ ْنزَ ْلنا هذَا ْالقُ ْرآنَ َ‬
‫على َجبَ ٍل‬ ‫أَ َ‬
‫ّللا )وذلك لمعرفته بقدر ما أنزل عليه ‪ ،‬وما زالت بنو‬ ‫لَ َرأ َ ْيتَهُ خا ِشعا ا ُمت َ َ‬
‫ص هدِعا ا ِم ْن َخ ْشيَ ِة َّ ِ‬
‫إسرائيل‬

‫ص ‪149‬‬

‫ص ‪150 :‬‬
‫َو ِإ َّن ِم ْنها لَما يَ ْهبِ ُ‬
‫ط ِم ْن َخ ْشيَ ِة َّ ِ‬
‫ّللا »وهبوط القلوب المشبهة بالحجارة في هبوطها هو نزولها من‬
‫عزتها إلى عبوديتها ‪ ،‬ونظرها في عجزها وقصورها باألصالة ‪ ،‬فالخشية من خصائص‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫العلماء ه‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪75‬‬


‫ّللا ث ُ هم يُ َح ِ هرفُونَهُ ِم ْن بَ ْع ِد ما َ‬
‫عقَلُوهُ‬ ‫ون كَل َم ه ِ‬‫س َمعُ َ‬‫ق ِم ْن ُه ْم يَ ْ‬ ‫ون أ َ ْن يُ ْؤ ِمنُوا لَ ُك ْم َوقَ ْد َ‬
‫كان فَ ِري ٌ‬ ‫أ َفَت َ ْط َمعُ َ‬
‫ون ) ‪( 75‬‬ ‫َو ُه ْم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫هذه اآلية تدل على أن التوراة ما تغيرت في نفسها ‪ ،‬وإنما كتابة اليهود إياها وتلفظهم بها لحقه‬
‫عقَلُوهُ َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ »أن كالم‬ ‫ّللا فقال ‪ «:‬ث ُ َّم يُ َح ِ هرفُونَهُ ِم ْن بَ ْع ِد ما َ‬‫التغيير ‪ ،‬فنسب ذلك إلى كالم ه‬
‫ّللا معقول عندهم ‪ ،‬وأبدوا في الترجمة عنه خالف ما هو في صدورهم عندهم وفي مصحفهم‬ ‫ه‬
‫المنزل عليهم ‪ ،‬فإنهم ما حرفوا إال عند نسخهم من األصل ‪ ،‬وأبقوا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ‪ ،‬فعقوبة القاتل إخراج‬ ‫مع كثرة اآليات والنعم تكثر منهم المخالفات وسوء األدب مع ه‬
‫مكتومه بإحياء الميت ‪ ،‬وعقوبة قومه على قولهم( أ َ تَت َّ ِخذُنا ُه ُزوا ا )لمثل موسى عليه السالم ما‬
‫ابتلوا به من السؤال عن البقرة حتى رزءوا في أموالهم بما وزنوه من ثمنها ‪ ،‬وأما قوله« َو ِإ َّن‬
‫شقَّ ُق فَيَ ْخ ُر ُج ِم ْنهُ ْالما ُء َوإِ َّن ِم ْنها لَما يَ ْهبِ ُ‬
‫ط‬ ‫ِمنَ ْال ِح َ‬
‫جارةِ لَما يَتَفَ َّج ُر ِم ْنهُ ْاأل َ ْن ُ‬
‫هار َوإِ َّن ِم ْنها لَما يَ َّ‬
‫ّللا »أي من رجائهم وخوفهم ‪ ،‬ألن الخشية تتضمن‬ ‫»وكل ما يقع منها مما ذكره« ِم ْن َخ ْشيَ ِة َّ ِ‬
‫الرجاء والخوف ‪ ،‬فأما وصفها بتفجير األنهار فهو كثرة بكائها ‪ ،‬والماء الخارج من التشقق‬
‫للبكاء الذي لم يبلغ في الكثرة مبلغ األنهار ‪ ،‬ومنها بكاء فرح وبكاء حزن ‪ ،‬فبكاء الحزن من‬
‫خوف التفريط فيما كلفته من التسبيح ‪ ،‬كالمياه الكبريتية الحارة المالحة ‪ ،‬وبكاء الفرح والسرور‬
‫ّللا كالمياه الباردة العذبة ‪ ،‬وما بينهما من أصناف المياه كما بينهن من‬ ‫بما وفقت له من ذكر ه‬
‫األحوال في امتزاجاتها ‪ ،‬من خلط الحزن بالسرور والفرح على حسب ما يغلب عليها ‪ ،‬والمياه‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم هددهم وأوعدهم‬ ‫شبيه الدموع ‪ ،‬وذكر ما هبط منها في مقابلة ما تكبروا به على أمر ه‬
‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ »بالتاء والياء على الغيبة والحضور ‪ ،‬فالحضور له‬ ‫ّللاُ ِبغافِ ٍل َ‬ ‫مجمال فقال« َو َما َّ‬
‫سبحانه ‪ ،‬والغيبة خطاب لموسى ولمن عرفهم بذلك ‪ ،‬ثم قال لمحمد عليه السالم وأمته ( ‪76‬‬
‫ط َمعُونَ أ َ ْن يُؤْ ِمنُوا لَ ُك ْم »اآلية ‪ ،‬هذه مسئلة مشكلة وليس لها مخرج إال ما روي عن‬ ‫)« أ َ فَت َ ْ‬
‫عيسى عليه السالم لما لقيه إبليس وكان غرضه أن يطيعه ولو في الداللة على الخير ‪ ،‬فقال له‬
‫ّللا ) فقال عيسى عليه السالم ( أقولها ال لقولك ال إله‬ ‫( يا عيسى قل ال إله إال ه‬
‫ص ‪150‬‬

‫ص ‪151 :‬‬
‫األصل على ما هو عليه ليبقى لهم العلم ولعلمائهم ‪ ،‬فما هو عند علمائهم محرف ‪ ،‬وهم‬
‫ّللا كتبها بيده لم يحفظها‬
‫ّللا على علم ‪ ،‬فالتوراة مع اختصاصها بأن ه‬
‫يحرفونه ألتباعهم فأضلهم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وعصمته إنما يعصم ألنه حكم ‪،‬‬
‫من التبديل والتحريف الذي حرفه اليهود ‪ .‬وحفظ كالم ه‬
‫ّللا فينا حفظ ذكره واستحفظ كتابه غير هذه األمة‬
‫والحكم معصوم ومحله العلماء به ‪ ،‬وتولى ه‬
‫فحرفوه وهم يعلمون بمخالفتهم ( راجع المائدة ‪.) 14 -‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا حقا ‪ ،‬ال يشكون‬ ‫ّللا ) وهؤالء المنافقون قد قالوا آمنا بألسنتهم وهم يعلمون أنه رسول ه‬ ‫إال ه‬
‫فيه كما ال يشكون في أبنائهم ‪ ،‬وهم مصدقون بقلوبهم ألنهم ال ينكرون علمهم ‪ ،‬وأقروا‬
‫ّللا‬
‫بألسنتهم للمؤمنين إذا لقوهم ‪ ،‬فلم يبق سلب اإليمان عنهم إال كونهم لم يقولوا ‪ :‬ال إله إال ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬قال تعالى( إِذا جا َء َك ْال ُمنافِقُونَ قالُوا نَ ْش َه ُد إِنَّ َك‬ ‫ّللا ‪ ،‬لقوله صلى ه‬ ‫محمد رسول ه‬
‫ّللاُ يَ ْش َه ُد إِ َّن ْال ُمنافِ ِقينَ لَكا ِذبُونَ )ال في قولهم ‪ ،‬فإنهم قالوا‬ ‫سولُهُ َو َّ‬ ‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم إِنَّ َك لَ َر ُ‬ ‫سو ُل َّ ِ‬
‫ّللا َو َّ‬ ‫لَ َر ُ‬
‫ّللا لهم إال‬ ‫ّللا من كتابهم ‪ ،‬فلم يبق تكذيب ه‬ ‫حقا ‪ ،‬وال في بواطنهم ‪ ،‬فإنهم عالمون أنه رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولم يكن كذلك ‪ ،‬فهذا معنى قوله لنبيه‬ ‫أنهم أظهروا أنهم قالوها لقوله صلى ه‬
‫ط َمعُونَ أ َ ْن يُؤْ ِمنُوا لَ ُك ْم »فيكون سرهم وعالنيتهم أن قالوها لقولك‬ ‫عليه السالم وأصحابه« أ َ فَت َ ْ‬
‫سواء ‪ ،‬هذا ال يكون منهم ‪ ،‬بل يجرون على ما كان عليه بعض أسالفهم ‪ ،‬وهو قوله« َوقَ ْد كانَ‬
‫ّللا ث ُ َّم يُ َح ِ هرفُونَهُ »فيحتمل إضافة سماع الكالم لهم وجهان ‪ ،‬الواحد أن‬ ‫الم َّ ِ‬‫يق ِم ْن ُه ْم يَ ْس َمعُونَ َك َ‬ ‫فَ ِر ٌ‬
‫الم َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫يكون سماعهم من تالوة موسى عليهم كتابهم ‪ ،‬مثل قوله تعالى (فَأ َ ِج ْرهُ َحتَّى يَ ْس َم َع َك َ‬
‫ّللا كما سمعه موسى حين كلمه ربه على الطور وقد ذكر ذلك ‪،‬‬ ‫)ويحتمل أنهم سمعوا كالم ه‬
‫عقَلُوهُ »ما ضبطوه ‪ ،‬فلو لم يذكر التحريف‬ ‫ووقع اإلشكال من قوله «ث ُ َّم يُ َح ِ هرفُونَهُ ِم ْن بَ ْع ِد ما َ‬
‫ّللا حين كلم موسى ‪ ،‬وكان يتعين أنهم السبعون الذين اختارهم ‪،‬‬ ‫كان يتقوى أنهم سمعوا كالم ه‬
‫وقوله« ث ُ َّم يُ َح ِ هرفُونَهُ »يغيرونه إما بحذف بعض الكالم ليزول المعنى ‪ ،‬مثل قولهم [ ومن يبتغ‬
‫اإلسالم دينا ] فأزالوا غير ‪ ،‬وإما أن يزيدوا فيه كالما حتى يتغير المعنى إلى ما يريدونه ‪،‬‬
‫وقوله « َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ »يحتمل أن يكون الضمير يعود على قوم موسى أنهم عالمون بما حرفوا‬
‫ّللا وأنك على الحق ‪ ،‬كما‬ ‫‪ ،‬ويحتمل أن يعود على يهود المدينة« َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ »أنك رسول ه‬
‫علم أسالفهم وغيهروا ‪ ،‬كذلك هؤالء إذا فارقوكم يظهرون إلخوانهم أنهم بخالف ما ظهروا لكم‬
‫به من اإلقرار واالنقياد ‪ ،‬ثم قال تعالى ( ‪َ «) 77‬و ِإذا لَقُوا الَّذِينَ آ َمنُوا »كان المنافقون إذا لقوا‬
‫ض »كان المسلم إذا خال بأحد‬ ‫ض ُه ْم إِلى بَ ْع ٍ‬‫الذين آمنوا« قالُوا آ َمنَّا »أي صدقنا« َوإِذا خَال بَ ْع ُ‬
‫من ذوي رحمه من المنافقين يقول له المسلم ‪:‬إن رسول‬
‫ص ‪151‬‬

‫ص ‪152 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 76‬إلى ‪79‬‬
‫ض قالُوا أ َ ت ُ َح ِ هدثُونَ ُه ْم ِبما فَت َ َح ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ض ُه ْم ِإلى بَ ْع ٍ‬ ‫ِين آ َمنُوا قالُوا آ َمنها َو ِإذا َخل بَ ْع ُ‬ ‫َو ِإذا لَقُوا الهذ َ‬
‫ون َوما‬ ‫ّللا يَ ْعلَ ُم ما يُ ِ‬
‫س ُّر َ‬ ‫ون أ َ هن ه َ‬ ‫ون ( ‪ ) 76‬أ َ َوال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِليُ َحا ُّجو ُك ْم ِب ِه ِع ْن َد َر ِبه ُك ْم أ َ فَل ت َ ْع ِقلُ َ‬ ‫َ‬
‫ون ( ‪ ) 78‬فَ َو ْي ٌل‬ ‫ظنُّ َ‬ ‫ي َو ِإ ْن ُه ْم ِإاله يَ ُ‬ ‫تاب ِإاله أَما ِن ه‬
‫ون ا ْل ِك َ‬
‫ون ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 77‬و ِم ْن ُه ْم أ ُ ِ هميُّ َ‬ ‫يُ ْع ِلنُ َ‬
‫شت َ ُروا بِ ِه ث َ َمنا ً قَ ِليلً فَ َو ْي ٌل لَ ُه ْم ِم هما‬ ‫ون هذا ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬
‫ّللا ِليَ ْ‬ ‫ِيه ْم ث ُ هم يَقُولُ َ‬ ‫تاب بِأ َ ْيد ِ‬
‫ون ا ْل ِك َ‬ ‫ِين يَ ْكتُبُ َ‬‫ِللهذ َ‬
‫ون ( ‪) 79‬‬ ‫سبُ َ‬‫ِيه ْم َو َو ْي ٌل لَ ُه ْم ِم هما يَ ْك ِ‬ ‫َكتَبَتْ أ َ ْيد ِ‬
‫ّللا »وهو ما توسوس به نفوسهم ‪ ،‬وما تسول لهم شياطينهم ‪« ،‬‬ ‫« ث ُ َّم يَقُولُونَ هذا ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫يال »من الجاه والرئاسة عليهم ‪ ،‬وما يحصلوه من المال‪.‬‬ ‫ِليَ ْشت َ ُروا ِب ِه ث َ َمنا ا قَ ِل ا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا قد ذكر لكم في كتابكم نعته ‪ ،‬فيقول له المنافق ‪ :‬نعم إنه لكما قال وإنه لنبي حق‬ ‫ّللا يقول إن ه‬ ‫ه‬
‫‪ ،‬فإذا بلغ ذلك إلى رؤسائهم مثل حيي بن أخطب ‪ ،‬وكعب بن األشرف ‪ ،‬وغيرهم ‪ ،‬يعظم ذلك‬
‫ّللا قد أخبر في التوراة بصدقه ‪،‬‬ ‫عليهم ‪ ،‬فإذا خلوا مع هؤالء الذين تحدثوا مع المسلمين أن ه‬
‫علَ ْي ُك ْم »يعني من العلم به ويروا أن‬ ‫وأنه نبي ‪ ،‬يقولون لهم «قالُوا أ َ ت ُ َح ِ هدثُونَ ُه ْم ِبما فَت َ َح َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫الشرف في العلم« ِليُ َحا ُّجو ُك ْم ِب ِه ِع ْن َد َر ِبه ُك ْم »ليحتجوا بكتابكم عليكم بإقراركم ‪ ،‬أي عند ذكركم‬
‫أنه في كتاب ربكم ‪ ،‬ويحتمل أن يريدوا بذلك يوم القيامة ‪ ،‬قال تعالى( ث ُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة ِع ْن َد‬
‫ص ُمونَ )وهو األوجه ‪ ،‬يقول« أ َ فَال ت َ ْع ِقلُونَ »إنكار ‪ ،‬أي ليس لكم عقول تعرفون بها‬ ‫َر ِبه ُك ْم ت َ ْخت َ ِ‬
‫باّلل تعالى فقال ( ‪ «) 78‬أ َ َوال يَ ْعلَ ُمونَ أ َ َّن‬ ‫ّللا نبيه بجهلهم ه‬ ‫هذا القدر أنه حجة عليكم ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫ّللا يَ ْعلَ ُم ما يُ ِس ُّرونَ »بعضهم لبعض فيخبرك به« َوما يُ ْع ِلنُونَ »وما يظهرون به عندكم ‪ ،‬مما‬ ‫َّ َ‬
‫يكذبون فيه أنهم مصدقون لقولك ‪ ،‬ثم قال تعالى ( ‪َ «) 79‬و ِم ْن ُه ْم أ ُ ِ هميُّونَ »األمي هو الذي ال‬
‫تاب »فيعلمهم علماؤهم وأحبارهم بما‬ ‫يكتب وال يقرأ المكتوب وال يحسب« ال يَ ْعلَ ُمونَ ْال ِك َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫يشتهون ‪ ،‬وال يخبرونهم بما أنزل فيها من الحق في نعت محمد صلهى ه‬
‫ي »إال أن لهم قدرة على االختالق وتنظيم الكالم لمن ال‬ ‫فيقلدونهم في ذلك ‪ ،‬وقوله« إِ َّال أَمانِ َّ‬
‫يفهم حتى يعتقد أنه حق ‪ ،‬يقال منهى إذا قدر‬

‫ص ‪152‬‬

‫ص ‪153 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 80‬إلى ‪81‬‬
‫ع ْه َدهُ أ َ ْم‬
‫ّللاُ َ‬
‫ف ه‬ ‫عهْدا ً فَلَ ْن يُ ْخ ِل َ‬ ‫ار ِإاله أَيهاما ً َم ْعدُو َدةً قُ ْل أَت ه َخ ْذت ُ ْم ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫سنَا النه ُ‬
‫َوقالُوا لَ ْن ت َ َم ه‬
‫س ِيهئَةً َوأَحا َطتْ ِب ِه َخ ِطيئَتُهُ فَأُولئِكَ‬ ‫ب َ‬ ‫س َ‬‫ون ( ‪ ) 80‬بَلى َم ْن َك َ‬ ‫ّللا ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ون َ‬ ‫تَقُولُ َ‬
‫ُون ) ‪( 81‬‬ ‫ْحاب النه ِار ُه ْم ِفيها خا ِلد َ‬ ‫أَص ُ‬
‫فهم الذين تمسهم النار فإنه ما كل من دخل النار تمسه ‪ ،‬فإن مالئكة العذاب في النار وهي‬
‫دارهم وما تمسهم النار‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ظنُّونَ »فذمهم ألنهم متمكنون أن يتعلموا الكتاب حتى يكونوا مثل الذين يعلمون‬ ‫" َو ِإ ْن ُه ْم ِإ َّال يَ ُ‬
‫ي »استثناء منقطع ‪ ،‬وقد يكون عندي استثناء متصل ‪ ،‬وإن‬ ‫الكتاب فال يقلدونهم ‪ ،‬و« ِإ َّال أَما ِن َّ‬
‫كانوا ال يعلمون إال أنهم قادرون على االختالق ‪ ،‬ثم قال ( ‪ «) 80‬فَ َو ْي ٌل ِللَّذِينَ يَ ْكتُبُونَ ْال ِك َ‬
‫تاب‬
‫بِأ َ ْيدِي ِه ْم »أخبر أن لهم الويل يوم القيامة والنشور بما كتبت أيديهم من تغيير نعت محمد صلهى‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم وأمته من التوراة ‪ ،‬وقولهم لمن لم يعرف منهم أن هذا الذي نزل من عند ه‬ ‫ه‬
‫يال »من متاع الدنيا ‪ ،‬أو يكون الثمن‬ ‫وهو قوله« ث ُ َّم يَقُولُونَ هذا ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا ‪ِ ،‬ليَ ْشت َ ُروا ِب ِه ث َ َمنا ا قَ ِل ا‬
‫ت أ َ ْيدِي ِه ْم »من أجل ذلك«‬ ‫رياستهم وافتقار الناس إليهم فيما يشرعون لهم« فَ َو ْي ٌل لَ ُه ْم ِم َّما َكتَبَ ْ‬
‫َو َو ْي ٌل لَ ُه ْم »زائد على ذلك« ِم َّما يَ ْك ِسبُونَ »أي مما حصل لهم من ذلك من المال والرئاسة (‬
‫ار إِ َّال أَيَّاما ا َم ْعدُو َدة ا »يقولون وإن دخلنا النار على زعمكم ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا‬ ‫‪َ «) 81‬وقالُوا لَ ْن ت َ َم َّ‬
‫سنَا النَّ ُ‬
‫عادل ال يعذبنا في النار إال أيام كفرنا وبعد ذلك نخرج ‪ ،‬وصدقوا فيما قالوه من األيام المعدودة‬
‫ّللا ال يعذبهم إال على قدر كفرهم بالنوع الذي وعد على‬ ‫‪ ،‬وكذبوا في انقضاء ذلك ‪ ،‬وذلك أن ه‬
‫كل سيئة من العذاب الخاص بتلك السيئة ‪ ،‬فإذا انتهى الزمان الذي كان قدر ما كفروا فيه رجع‬
‫عوده على بدئه ‪ ،‬فال يزال يدور عليهم عودا على بدء إلى غير نهاية ‪ ،‬كما تدور أيام الجمعة‬
‫ّللا ذلك‬‫وكما تدور فصول السنة وإن كانت محصورة فدورانها ليس بمحصور ‪ ،‬إال أن يشاء ه‬
‫كما شاء بانقضاء الدنيا ‪ ،‬وألنه ما مر عليهم يوم من أيام الجمعة إال والكفر والنفاق يستصحبهم‬
‫فيه ‪ ،‬فتتعاقب األيام السبعة عليهم دائما بما عملوه ‪ ،‬أال ترى في الخبر الوارد أن أبا لهب عم‬
‫النبي عليه السالم يخفف عنه العذاب ليلة االثنين لوليدة أعتقها فرحا بمولد النبي عليه السالم ‪،‬‬
‫فجوزي بذلك في اليوم الذي أوقع فيه هذا الخير ‪ ،‬فإن أنكر منكر وجود األيام في الدار اآلخرة‬
‫ع ِشيًّا )إلى غير ذلك من األخبار ‪ ،‬ثم نرجع ونقول والسبب‬ ‫فاّلل يقول( لَ ُه ْم ِر ْزقُ ُه ْم ِفيها بُ ْك َرة ا َو َ‬ ‫ه‬
‫الموجب لذلك هو ما نذكره ‪ ،‬وذلك أن الجنة والنار تتضمن‬
‫ص ‪153‬‬

‫ص ‪154 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪82‬‬
‫ُون ) ‪( 82‬‬ ‫ت أُولئِكَ أَص ُ‬
‫ْحاب ا ْل َجنه ِة ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬
‫الجنة دار بقاء السعادة والنظر ‪ ،‬وهي الساترة ألهلها عن كل مكروه يكون في الدار التي تقابلها‬
‫‪ ،‬وما يعطيه سلطان أسماء االنتقام‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ثالثة أحوال ‪ :‬دخوال ‪ ،‬ونزوال فيها على طبقات مخصوصة ‪ ،‬وخلودا بال خروج ‪ ،‬فأما‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫الدخول فيها فبرحمة ه‬
‫ّللا‬
‫قال عليه السالم [ ال يدخل الجنة أحد بعمل ‪ ،‬قيل له ‪ :‬وال أنت ؟ قال وال أنا إال أن يتغمدني ه‬
‫برحمته ] فإن الدخول حالة متوهمة ‪ ،‬وذلك كالخط الفاصل بين الظل والشمس الذي ليس من‬
‫الظل وال من الشمس وهو متوهم فهو حال الدخول ‪ ،‬فإنه إن كنت في أول الشمس المالصق‬
‫للظل فقد دخلت وأنت في الشمس ‪ ،‬وإن كنت في الظل الذي في الحد المجاور للشمس فما‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫دخلت ‪ ،‬فلما لم يكن لهذا الفاصل المتوهم وجود حسي لم يقترن به عمل يوجبه إال رحمة ه‬
‫فإذا دخل السعيد أو الشقي داره نزل فيها بحسب عمله في الدرجات والدركات زمانا وحاال ‪،‬‬
‫وأما الخلود فموجبه النيهات ‪ ،‬وهو أن كل فريق منهم كان في نيته لو بقي في الدنيا أبد اآلبدين‬
‫ال يخرج منها لبقي على اعتقاده ذلك ‪ ،‬كفرا كان أو إيمانا ‪ ،‬فكان الخلود في مقابلة هذا‬
‫االستمرار ‪ ،‬فصدقوا في قولهم« أَيَّاما ا َم ْعدُو َدة ا »وغاب عنهم أن ذلك يدور عليهم دائما ‪ ،‬وهذا‬
‫في أهل النار الذين هم أهلها ‪ ،‬وأما الرحمة في دخول النار فهي بالنار وما فيها من الحيوانات‬
‫ّللا بما جعل فيها من اإلنس والجن ‪ ،‬فتأكل جلودهم وتعذبهم ‪ ،‬فإنها‬ ‫المعدة للعذاب ‪ ،‬فرحمها ه‬
‫ّللا ‪ ،‬مثل التشفي ‪ ،‬وقد صح عندنا هنا أنها اشتكت إلى ربها فقالت ‪ :‬يا‬ ‫تتنعم باالنتقام من أعداء ه‬
‫رب أكل بعضي بعضا ‪ ،‬فرحمها بأن أذن لها بنفسين ‪ ،‬نفس في الشتاء وهو ما نجده من شدة‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫البرد ‪ ،‬ونفس في الصيف وهو ما نجده من شدة الحر ‪ ،‬وإن شئنا قلنا إنهم يدخلونها بعدل ه‬
‫ار إِ َّال أَيَّاما ا َم ْعدُو َدة ا »« قُ ْل »لهم يا محمد« قُ ْل أَت َّ َخ ْذت ُ ْم ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫ّللا حين قالوا« لَ ْن ت َ َم َّ‬
‫سنَا النَّ ُ‬ ‫فقال ه‬
‫ع ْه َدهُ »ففي الكالم‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ف َّ‬ ‫ع ْهدا ا »أنزله عليكم في الكتاب ففعلتم به ‪ ،‬فإن كان هذا «فَلَ ْن يُ ْخ ِل َ‬ ‫َ‬
‫ّللا الكذب ‪ ،‬أما حرف «أ َ ْم‬ ‫ّللا ما ال ت َ ْعلَ ُمونَ »يقول ‪ :‬أم تفترون على ه‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫حذف« أ َ ْم تَقُولُونَ َ‬
‫س ِيهئَةا »جواب‬ ‫ب َ‬ ‫س َ‬‫»هنا قد يكون بمعنى أي ‪ ،‬وقد يكون منقطعا ‪ ،‬ثم قال ( ‪ «) 82‬بَلى َم ْن َك َ‬
‫س ِيهئَةا‬‫ب َ‬ ‫ار ِإ َّال أَيَّاما ا َم ْعدُو َدة ا )« بَلى »تمسكم دائما يفسره قوله« َم ْن َك َ‬
‫س َ‬ ‫قولهم( لَ ْن ت َ َم َّ‬
‫سنَا النَّ ُ‬
‫َطيئَتُهُ »على الجمع واإلفراد وإذا أحاطت به فلم يكن له عمل صالح شرعا‬ ‫ت بِ ِه خ ِ‬ ‫ط ْ‬ ‫َوأَحا َ‬
‫وعرفا يخرجه من النار ‪ ،‬فإنه لو تخلل هذا أمر ما صالح ما كان محيطا ‪ ،‬وهؤالء أهل النار‬
‫الذين هم أهلها ال يموتون فيها وال يحيون ‪ ،‬فهم شر محض ليس فيهم من الخير المشروع وال‬
‫المعروف شيء ‪ ،‬إما بأنهم جوزوا على ذاك في الدنيا ‪،‬‬
‫ص ‪154‬‬

‫ص ‪155 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪83‬‬
‫ّللا َو ِبا ْلوا ِل َد ْي ِن ِإحْ سانا ً َوذِي ا ْلقُ ْربى َوا ْليَتامى‬ ‫ُون ِإاله ه َ‬
‫سرائِي َل ال ت َ ْعبُد َ‬ ‫َو ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا ِم َ‬
‫يثاق بَنِي ِإ ْ‬
‫الزكاةَ ث ُ هم ت َ َوله ْيت ُ ْم ِإاله قَ ِليلً ِم ْن ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم‬
‫صلةَ َوآتُوا ه‬ ‫سنا ً َوأَقِي ُموا ال ه‬
‫اس ُح ْ‬ ‫ين َوقُولُوا ِللنه ِ‬
‫َوا ْل َمسا ِك ِ‬
‫ُون ( ‪) 83‬‬ ‫ُم ْع ِرض َ‬
‫الزكاة ‪ :‬ربو من زكا يزكو إذا ربا ‪ ،‬والزكاة طهارة بعض األموال‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫حاب النَّ ِ‬
‫ار ُه ْم فِيها خا ِلدُونَ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ِب ِه »« فَأُولئِ َك أ َ ْ‬ ‫ط ْ‬ ‫وإما لم يعملوه ‪ ،‬فهذا معنى« َوأَحا َ‬
‫»وأصحاب النار هم أهلها الذين خلقوا لها ‪ ،‬وأما الدوام فيها إلى ما ال يتناهى فال يقبل موحدا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم [ من مات‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫أخرج مسلم في الصحيح من رواية عثمان ‪ ،‬قال قال رسول ه‬
‫ّللا دخل الجنة ولو دخل النار ] وهذا خبر ‪ ،‬والخبر اإللهي ال يدخله‬ ‫وهو يعلم أنه ال إله إال ه‬
‫ّللا يوم القيامة من لم يعمل خيرا قط ‪ ،‬والتوحيد ليس بعمل وإنما العمل طلب‬ ‫النسخ ‪ ،‬ويخرج ه‬
‫ّللا حصل لهم نور من عنده سبحانه من غير عمل وال تعمل ‪،‬‬ ‫تحصيله ‪ ،‬فهؤالء الذين أخرجهم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم أخرجهم سبحانه بالعناية التي سبقت‬ ‫ولكن عملوا أعماال استوجبوا بها العقاب ما شاء ه‬
‫لهم ‪ ،‬ثم قال في مقابلة هؤالء في أهل الجنة الذين هم أهلها ( ‪َ «) 83‬والَّذِينَ آ َمنُوا » ه‬
‫باّلل وما‬
‫ت »في مقابلة ( وأحاطت به خطيئاته ) فإن‬ ‫ع ِملُوا ال َّ‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫أنزله من الكتب والرسل« َو َ‬
‫حاب ْال َجنَّ ِة‬
‫ص ُ‬ ‫األعمال الصالحة هي التي ال يدخلها خلل يزيل عنها اسم الصالح ‪ ،‬قال« أُولئِ َك أ َ ْ‬
‫ُه ْم فِيها خا ِلدُونَ »فخصهم بالذكر دون من يدخل الجنة بالشفاعة وبعد العذاب ‪ ،‬تهمما بهم‬
‫واعتناء ‪ ،‬وإن كان الخلود في الجنة يشمل العاصي والطائع ‪ ،‬ثم قال ( ‪َ «) 84‬و ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا ِميثاقَ‬
‫بَنِي ِإسْرائِي َل »جميع ما يأتي هو شرح الميثاق الذي أخذه عليهم ‪ ،‬فهو إخبار بما عهد إليهم‬
‫ّللا »أي ال تقروا بالوحدانية في األلوهية وال تتقربوا‬ ‫وتعليم لنا ‪ ،‬فقوله« ال ت َ ْعبُدُونَ ِإ َّال َّ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وقرئ بالتاء والياء على اإلخبار وعلى حكاية الخطاب الذي قال لهم ‪ ،‬ومن‬ ‫بالعبادات إال ه‬
‫ذلك قوله« َوبِ ْالوا ِل َدي ِْن إِ ْحسانا ا »أي برا بهما عاما ‪ ،‬وهو حجتنا على من يلزمنا الوقوف عند‬
‫التأفيف لهما من التنبيه باألدنى على األعلى في تأويلهم ‪ ،‬وأن ما عدا التأفيف يجوز أن‬
‫نعاملهما به ‪ ،‬فنلتزم لهم ذلك ونجعل حجتنا« َو ِب ْالوا ِل َدي ِْن ِإ ْحسانا ا »وما عدا التأفيف من قبيح‬
‫األفعال ومما يؤدي إلى العقوق يدخل في اإلحسان اجتنابه ‪ ،‬وقوله« َوذِي ْالقُ ْربى »يريد صلة‬
‫الرحم ‪ ،‬وقوله« َو ْاليَتامى »يخاطب األوصياء بحفظ أموالهم ‪ ،‬وغير األوصياء بالشفقة عليهم‬
‫ين »وهم الذين أذلهم‬ ‫وجبر انكسارهم ليتمهم ‪ ،‬وقوله « َو ْال َمسا ِك ِ‬

‫ص ‪155‬‬

‫ص ‪156 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 84‬إلى ‪85‬‬
‫ِيار ُك ْم ث ُ هم أ َ ْق َر ْرت ُ ْم َوأ َ ْنت ُ ْم‬
‫س ُك ْم ِم ْن د ِ‬ ‫ون أ َ ْنفُ َ‬
‫ُون دِما َء ُك ْم َوال ت ُ ْخ ِر ُج َ‬‫س ِفك َ‬ ‫َو ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا ِميثاقَ ُك ْم ال ت َ ْ‬
‫ِيار ِه ْم تَظا َه ُر َ‬
‫ون‬ ‫ون فَ ِريقا ً ِم ْن ُك ْم ِم ْن د ِ‬ ‫س ُك ْم َوت ُ ْخ ِر ُج َ‬‫ون أ َ ْنفُ َ‬ ‫ُون ) ‪ ( 84‬ث ُ هم أ َ ْنت ُ ْم هؤ ِ‬
‫ُالء ت َ ْقتُلُ َ‬ ‫ش َهد َ‬ ‫تَ ْ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِإ ْخرا ُج ُه ْم أ َ فَت ُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون‬ ‫ْوان َو ِإ ْن يَأْتُو ُك ْم أُسارى تُفادُو ُه ْم َو ُه َو ُم َح هر ٌم َ‬ ‫اإلثْ ِم َوا ْلعُد ِ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِب ْ ِ‬
‫َ‬
‫ي فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َويَ ْو َم‬ ‫ض فَما َجزا ُء َم ْن يَ ْفعَ ُل ذ ِلكَ ِم ْن ُك ْم إِاله ِخ ْز ٌ‬ ‫ب َوت َ ْكفُ ُر َ‬
‫ون بِبَ ْع ٍ‬ ‫ض ا ْل ِكتا ِ‬ ‫بِبَ ْع ِ‬
‫ون ) ‪( 85‬‬ ‫ع هما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ّللاُ بِغافِ ٍل َ‬‫ب َو َما ه‬ ‫ُّون إِلى أ َ َ‬
‫ش ِ هد ا ْلعَذا ِ‬ ‫ا ْل ِقيا َم ِة يُ َرد َ‬
‫يوم القيامة هو يوم قيام الناس من قبورهم لرب العالمين لفصل القضاء‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الفقر ‪ ،‬فيتصدق عليهم برؤية المنة لهم علينا في قبولهم منا ما نواسيهم به ‪ ،‬وأن نعرفهم أنا‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬حتى يأخذه المسكين بعزة‬ ‫ّللا فيما بأيدينا ‪ ،‬فهو رزقكم ‪ ،‬ونحن أمناء ه‬ ‫مستخلفون من ه‬
‫اس ُحسْنا ا »أي ألقوهم بالبشاشة‬ ‫وال يظهر عليه ذلة الحاجة لما في أيدينا ‪ ،‬وقوله« َوقُولُوا ِللنَّ ِ‬
‫ص َدقَ ٍة أ َ ْو‬
‫ير ِم ْن ن َْجوا ُه ْم ِإ َّال َم ْن أ َ َم َر بِ َ‬ ‫وطالقة الوجه والقول الحسن ‪ ،‬قال تعالى( ال َخي َْر فِي َكثِ ٍ‬
‫اس )وقوله أيضا( َوقُ ْل لَ ُهما قَ ْو اال َك ِريما ا )هذا كله من القول الحسن‬ ‫الح بَ ْينَ النَّ ِ‬
‫ص ٍ‬ ‫َم ْع ُروفٍ أ َ ْو ِإ ْ‬
‫الزكاة َ »قد تقدم الكالم على ذلك فيما مضى« ث ُ َّم‬ ‫المأمور به ‪ ،‬ثم قال« َوأَقِي ُموا ال َّ‬
‫صالة َ َوآتُوا َّ‬
‫يال ِم ْن ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ُم ْع ِرضُونَ »عن ذلك ‪ ،‬ألنه قد‬ ‫ت َ َولَّ ْيت ُ ْم »عن كل ما أخذنا عليكم الميثاق فيه« ِإ َّال قَ ِل ا‬
‫يكون توليهم عند فراغ الخطاب تولي مفارقة إلى منازلهم ليعملوا بما كلفوا ‪ ،‬فأخبر تعالى أن‬
‫توليهم كان إعراضا عن الحق ‪ ،‬واستثنى قليال منهم ‪ ،‬وهو من أسلم وانقاد إلى الحق وعمل به‬
‫ّللا بن سالم وابن أخته قيس بن زيد وغيرهما ‪ ،‬وهذا يرجح من قرأ بالتاء المنقوطة من‬ ‫‪ ،‬كعبد ه‬
‫فوق من« ال ت َ ْعبُدُونَ »وقد يحتمل أن يكون ضمير المخاطب في« ت َ َولَّ ْيت ُ ْم »و «أ َ ْنت ُ ْم »يهود‬
‫المدينة ‪ ،‬أي توليتم عند إخبارنا إياكم ما أخذناه على أسالفكم أن يكونوا عليه وذريتهم وأعقابهم‬
‫‪ ،‬إلى أن جاء زمانكم فتوجه إليكم الخطاب بما تتضمنه توراتكم من ذلك وغيره ‪ ،‬من اإليمان‬
‫بمحمد واتباعه من نفس كتابكم ‪ ،‬فتوليتم وأنتم معرضون إال قليال منكم ‪ ،‬ثم قال ( ‪َ «) 85‬وإِ ْذ‬
‫أ َ َخ ْذنا ِميثاقَ ُك ْم »يقول مخاطبا يهود المدينة ‪ ،‬وقد‬

‫ص ‪156‬‬

‫ص ‪157 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪86‬‬
‫ون ) ‪( 86‬‬ ‫ذاب َوال ُه ْم يُ ْن َ‬
‫ص ُر َ‬ ‫ع ْن ُه ُم ا ْلعَ ُ‬ ‫شت َ َر ُوا ا ْل َحياةَ ال ُّد ْنيا ِب ْاآل ِخ َر ِة فَل يُ َخفه ُ‬
‫ف َ‬ ‫أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين ا ْ‬
‫لوال نحن ما قيل ‪ :‬دنيا وال آخرة ‪ ،‬وإنما كان يقال ممكنات وجدت وتوجد كما هو األمر ‪ ،‬فلما‬
‫عمرنا نحن من الممكنات المخلوقة أماكن معينة إلى أجل مسمى من حين ظهرت أعياننا ‪،‬‬
‫ونحن صور من صور العالم ‪ ،‬سمينا ذلك الموطن الدار الدنيا ‪ ،‬أي الدار القريبة التي عمرناها‬
‫ّللا تعالى جعل لنا في عمارة‬ ‫في أول وجودنا ألعياننا ‪ ،‬وقد كان العالم ولم نكن نحن ‪ ،‬مع أن ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أخذنا ميثاقكم على ما وجدتموه في التوراة وتقرونه بينكم« ال ت َ ْس ِف ُكونَ دِما َء ُك ْم »أي ال تقتلوا‬
‫ّللا فيمن قتل نفسه‬
‫أنفسكم ‪ ،‬وال يقتل بعضكم بعضا ‪ ،‬يقول ه‬

‫[ بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة ]‬


‫ِيار ُك ْم »أي ال يخرج بعضكم بعضا من منزله تعديا عليه «ث ُ َّم‬ ‫« َوال ت ُ ْخ ِر ُجونَ أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم ِم ْن د ِ‬
‫أ َ ْق َر ْرت ُ ْم »بأن ما ذكرناه حق« َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْش َهدُونَ »أنه في كتابكم كما أخبركم به محمد عليه السالم‬
‫‪ ،‬وهو أمي ال يقرأ كتابكم ‪ ،‬فتعلمون أنه نبي أرسلناه من عندنا ‪ ،‬فكفرتم ببعض ما أنزل إليكم‬
‫س ُك ْم »يقول يقتل بعضكم بعضا«‬ ‫ُالء ت َ ْقتُلُونَ أ َ ْنفُ َ‬ ‫في كتابكم ‪ ،‬وهو قوله ( ‪ «) 86‬ث ُ َّم أ َ ْنت ُ ْم هؤ ِ‬
‫اإلثْ ِم »أي تتعاونون عليهم بما تأثمون‬ ‫علَ ْي ِه ْم بِ ْ ِ‬
‫ِيار ِه ْم تَظاه َُرونَ َ‬ ‫َوت ُ ْخ ِر ُجونَ فَ ِريقا ا ِم ْن ُك ْم ِم ْن د ِ‬
‫ّللا« َو ِإ ْن يَأْتُو ُك ْم أُسارى تُفا ُدو ُه ْم َو ُه َو ُم َح َّر ٌم َ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫وان »من التعدي لحدود ه‬ ‫بفعله « َو ْالعُ ْد ِ‬
‫ِإ ْخرا ُج ُه ْم »من ديارهم ‪ ،‬فهذا مما كفرتم به فغيرتم الصفة التي أقررتم ‪ ،‬بما فعلتم من القتل‬
‫ّللا بكم بما نذكره في الخزي الذي نالهم في الحياة الدنيا ‪ ،‬قال تعالى( ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫واإلخراج ‪ ،‬فغير ه‬
‫ال يُغَ ِيه ُر ما ِبقَ ْو ٍم َحتَّى يُغَ ِيه ُروا ما ِبأ َ ْنفُ ِس ِه ْم )وكتبنا عليكم في التوراة أن تفدوا من أسر منكم ‪ ،‬وهو‬
‫ّللا لهم« أ َ‬ ‫قوله « َو ِإ ْن يَأْتُو ُك ْم أُسارى تُفادُو ُه ْم »فهذا مما أنتم به من التوراة مؤمنون ‪ ،‬يقول ه‬
‫ض »وهو قوله أيضا في سورة النساء( َويَقُولُونَ نُؤْ ِم ُن‬ ‫ب َوت َ ْكفُ ُرونَ بِبَ ْع ٍ‬ ‫ض ْال ِكتا ِ‬ ‫فَتُؤْ ِمنُونَ بِبَ ْع ِ‬
‫يال )أي يحدثوا طريقا أخرى من عند‬ ‫سبِ ا‬ ‫ض ‪َ ،‬ويُ ِريدُونَ أ َ ْن يَت َّ ِخذُوا بَيْنَ ذ ِل َك َ‬ ‫ض َونَ ْكفُ ُر بِبَ ْع ٍ‬ ‫بِبَ ْع ٍ‬
‫أنفسهم ‪ ،‬أولئك هم الكافرون حقا ‪ ،‬فقال تعالى« فَما َجزا ُء َم ْن يَ ْفعَ ُل ذ ِل َك ِم ْن ُك ْم »وهو اإليمان‬
‫ي فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا »وهو ما كان من قتل بني قريظة‬ ‫ببعض الكتاب والكفر ببعضه« ِإ َّال ِخ ْز ٌ‬
‫ّللا عليهم من الذلة والمسكنة أينما كانوا إلى يوم القيامة«‬ ‫وإجالء بني النضير ‪ ،‬وما ضرب ه‬
‫ّللا للمنافقين«‬ ‫ب »وهو الدرك األسفل من النار الذي أعده ه‬ ‫ش ِ هد ْالعَذا ِ‬
‫َويَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة يُ َر ُّدونَ إِلى أ َ َ‬
‫ّللا لهم ( ‪ «) 87‬أُولئِ َك »إشارة إليهم« الَّذِينَ‬ ‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ »وعيد وتهديد من ه‬ ‫ّللاُ بِغافِ ٍل َ‬‫َو َما َّ‬
‫ا ْشت َ َر ُوا ْال َحياة َ‬

‫ص ‪157‬‬

‫ص ‪158 :‬‬
‫الدنيا آجاال ننتهي إليها ‪ ،‬ثم ننتقل إلى موطن آخر يسمى آخرة ‪ ،‬فيها ما في هذه الدار الدنيا ‪،‬‬
‫ولكن متميز بالدار كما هو هنا متميز بالحال ‪ ،‬ولم يجعل إلقامتنا في تلك الدار اآلخرة أجال‬
‫تنتهي إليه مدة إقامتنا ‪ ،‬وجعل تلك الدار محال للتكوين دائما أبدا إلى غير نهاية ‪ ،‬وبدل الصفة‬
‫ذاب »لما قال‬ ‫ع ْن ُه ُم ْالعَ ُ‬
‫ف َ‬ ‫على الدار الدنيا فصارت بهذا التبديل آخرة والعين باقية« فَال يُ َخفَّ ُ‬
‫تعالى في حق أهل الشقاء ‪ «:‬إِ َّن َرب ََّك فَعَّا ٌل ِلما يُ ِري ُد »ما قال إن الحال التي هم فيها ال تنقطع‬
‫ش ْيءٍ »وقوله ‪ « :‬إن‬ ‫ت ُك َّل َ‬ ‫كما قال في السعداء والذي منع من ذلك قوله ‪َ «:‬و َر ْح َمتِي َو ِسعَ ْ‬
‫رحمتي سبقت غضبي » في هذه النشأة فإن الوجود رحمة في حق كل موجود ‪ ،‬وإن تعذب‬
‫بعضهم ببعض ‪ ،‬فتخليدهم في حال النعيم غير منقطع ‪ ،‬وتخليدهم في حال االنتقام موقوف على‬
‫اإلرادة ‪ ،‬فقد يعود االنتقام منهم عذابا عليهم ال غير ويزول االنتقام ‪ ،‬ولهذا فسره في مواضع‬
‫يم » *وفي مواضع لم يقيد العذاب باألليم‬ ‫ذاب أ َ ِلي ٌم »و« ْالعَ َ‬
‫ذاب ْاأل َ ِل َ‬ ‫ع ٌ‬ ‫باأللم المؤلم وقال ‪َ «:‬‬
‫ب َج َهنَّ َم »ولم‬
‫عذا ِ‬
‫ذاب »يعني وإن زال األلم وقال ‪ «:‬فِي َ‬ ‫ع ْن ُه ُم ْالعَ ُ‬
‫ف َ‬‫وأطلقه فقال ‪ «:‬فَال يُ َخفَّ ُ‬
‫ينعته بأنه أليم ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : )2‬آية ‪87‬‬


‫ت َوأَيهدْنا ُه ِب ُروحِ‬ ‫سى ا ْب َن َم ْريَ َم ا ْلبَ ِيهنا ِ‬ ‫س ِل َوآت َ ْينا ِعي َ‬ ‫تاب َوقَفه ْينا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ِب ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫سى ا ْل ِك َ‬ ‫َولَقَ ْد آت َ ْينا ُمو َ‬
‫ون (‬ ‫ست َ ْكبَ ْرت ُ ْم فَفَ ِريقا ً َكذه ْبت ُ ْم َوفَ ِريقا ً ت َ ْقتُلُ َ‬ ‫سو ٌل ِبما ال تَهْوى أ َ ْنفُ ُ‬
‫س ُك ُم ا ْ‬ ‫ُس أ َ فَ ُكلهما جا َء ُك ْم َر ُ‬
‫ا ْلقُد ِ‬
‫وح ْالقُد ُِس »أي قويناه فإن الخوف مما تطلبه حكم الطبيعة في هذه النشأة ‪،‬‬ ‫«) ‪َ 87‬وأَيَّ ْدناهُ بِ ُر ِ‬
‫فإن لها خورا عظيما لكونها ليس بينها وبين األرواح التي لها القوة والسلطان عليها واسطة‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ال ُّد ْنيا ِب ْاآل ِخ َر ِة »يعني ما عصموا به دماءهم وأموالهم من كلمتي الشهادة ‪ ،‬فكانوا في الدنيا‬
‫معافين ‪ ،‬والكفار بالجزية ‪ ،‬فاشتروا عافية الدنيا وتركوا عافية اآلخرة ‪ ،‬وقد تقدم معنى ذلك في‬
‫ع ْن ُه ُم ْالعَ ُ‬
‫ذاب »إذ لم يعملوا‬ ‫ف َ‬ ‫تفسير( ا ْشت َ َر ُوا الضَّاللَةَ بِ ْال ُهدى )في أول السورة ‪ ،‬قال« فَال يُ َخفَّ ُ‬
‫ص ُرونَ »وال لهم ناصر ينصرهم ‪ ،‬ثم قال (‬ ‫ما يوجب لهم التخفيف عنهم من ذلك« َوال ُه ْم يُ ْن َ‬
‫س ِل »يقول بعد موت‬ ‫تاب »يعني التوراة« َوقَفَّيْنا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ِب ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫سى ْال ِك َ‬
‫‪َ «) 88‬ولَقَ ْد آتَيْنا ُمو َ‬
‫موسى‬

‫ص ‪158‬‬

‫ص ‪159 :‬‬
‫وال حجاب ‪ ،‬فالزمها الخوف مالزمة الظل للشخص ‪ ،‬فال يتقوى صاحب الطبيعة إال إذا كان‬
‫مؤيدا بالروح ‪ ،‬فال يؤثر فيه خور الطبيعة ‪ ،‬فإن األكثر فيه أجزاء الطبيعة ‪ ،‬وروحانيته التي‬
‫هي نفسه المدبرة له موجودة أيضا عن الطبيعة فهي أمها ‪ ،‬وإن كان أبوها روحا ‪ ،‬فلألم أثر‬
‫ّللا‬
‫تكون ‪ ،‬وبما عندها تغذى ‪ ،‬فال تتقوى النفس بأبيها إال إذا أيدها ه‬
‫في االبن فإنه في رحمها ه‬
‫بروح قدسي ينظر إليها ‪ ،‬فحينئذ تقوى على حكم الطبيعة فال تؤثر فيها التأثير الكلي وإن بقي‬
‫ّللا أنشأه‬
‫فيه أثر ‪ ،‬فإنه ال يمكن زواله بالكلية ‪ ،‬ولما كان عيسى عليه السالم روحا كما سماه ه‬
‫روحا في صورة إنسان ثابتة ‪ ،‬فكان يحيي الموتى بمجرد النفخ ‪ ،‬ثم إنه أيده بروح القدس فهو‬
‫روح مؤيد بروح طاهرة من دنس األكوان ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪88‬‬


‫ّللاُ بِ ُك ْف ِر ِه ْم فَقَ ِليلً ما يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون) ‪( 88‬‬ ‫َوقالُوا قُلُوبُنا ُ‬
‫غ ْل ٌ‬
‫ف بَ ْل لَعَنَ ُه ُم ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أرسلنا رسال تترى ‪ ،‬يقال قفاه إذا اتبعه من قفاه ‪ ،‬كما يقال واجهه إذا جاءه من جهة وجهه ‪،‬‬
‫فإنه جاء بغده يوشع وشمويل وشعيا وأورميا وداود وغيرهم ‪ ،‬وكلما جاء أمة رسولها كذبوه‬
‫ت »وهو أيشوع بالسريانية ‪،‬‬ ‫سى ابْنَ َم ْريَ َم ْالبَ ِيهنا ِ‬ ‫إلى أن جاء عيسى ابن مريم« َوآتَيْنا ِعي َ‬
‫ّللا من البينات ما جاء ذكره في القرآن«‬ ‫والمريم من النساء كالزير من الرجال ‪ ،‬فأعطاه ه‬
‫وح ْالقُد ُِس »فيه وجهان ‪ ،‬الواحد أنا خلقناه مطهرا من الشهوة‬ ‫َوأَيَّ ْدناهُ »يقول وقويناه« بِ ُر ِ‬
‫الطبيعية التي تكون عن النكاح ‪ ،‬فإنه لم يكن عن نكاح ‪ ،‬فليس للطبيعة فيه أثر ‪ ،‬فكأنه خلق‬
‫مؤيدا بأصل نشأته ‪ ،‬فلم يجدوا له قومه ما يثلبونه به ‪ ،‬والوجه الثاني يعني جبريل عليه السالم‬
‫‪ ،‬فجعلناه له ركنا يأوي إليه ويتقوى جأشه به عند منازعة قومه ‪ ،‬فكانت اليهود قد قالت لمحمد‬
‫عليه السالم ‪ :‬إن من جاء قبلك من الرسل جاءوا بالبينات ‪ ،‬فأت أنت بمثل ما جاءوا به ‪ ،‬فأنزل‬
‫س ُك ُم »يعني أن طلبهم البينات كان دفعا لنبوته‬ ‫سو ٌل بِما ال ت َ ْهوى أ َ ْنفُ ُ‬‫ّللا عليه« أ َ فَ ُكلَّما جا َء ُك ْم َر ُ‬
‫ه‬
‫حتى ال يؤمنوا به ‪ ،‬فإنه من أعظم البينات له كونه مذكورا في كتابهم بنعته واسمه ‪ ،‬وفي‬
‫ّللا تعالى أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ‪ ،‬يقول «ا ْست َ ْكبَ ْرت ُ ْم »عن اتباع‬ ‫اإلنجيل ‪ ،‬كما أخبر ه‬
‫أمثال الرسل وعن اتباعي« فَفَ ِريقا ا َكذَّ ْبت ُ ْم »وما سلطتم عليهم« َوفَ ِريقا ا »أيضا من األنبياء«‬
‫ت َ ْقتُلُونَ »قتلتم كيحيى وزكريا وغيرهما ‪ ،‬وأردتم قتلي بما جعلتم في ذراع الشاة من السم ‪،‬‬
‫ّللا منكم ‪ ،‬ولكن مع هذا قال عليه السالم [ ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا‬ ‫ولكن عصمني ه‬
‫أوان قطعت أبهري ] لتحصل له الشهادة التي هي أشرف الموتات ‪ ،‬فلما عرفت اليهود أن الذي‬
‫قاله حق ولم تكن لهم حجة يحتجون بها «) ‪َ ( 89‬وقالُوا‬

‫ص ‪159‬‬

‫ص ‪160 :‬‬
‫غ ْل ٌ‬
‫ف »أي في غالف ‪ ،‬وهو الكن الذي ستره عن إدراك األمر على ما هو عليه‬ ‫" َوقالُوا قُلُوبُنا ُ‬
‫‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪89‬‬


‫ِين َكفَ ُروا‬
‫علَى الهذ َ‬
‫ون َ‬ ‫ق ِلما َمعَ ُه ْم َوكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل يَ ْ‬
‫ست َ ْفتِ ُح َ‬ ‫ص ِ هد ٌ‬
‫ّللا ُم َ‬‫تاب ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬
‫َولَ هما جا َء ُه ْم ِك ٌ‬
‫ين ) ‪( 89‬‬ ‫علَى ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫فَلَ هما جا َء ُه ْم ما ع ََرفُوا َكفَ ُروا بِ ِه فَلَ ْعنَةُ ه ِ‬
‫ّللا َ‬
‫يعني بذلك كل كافر به في كل زمان ‪ ،‬حتى يبقى العموم في الضمير على أصله ‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى ‪َ «:‬وال ت َ ُكونُوا أ َ َّو َل كافِ ٍر ِب ِه »صفة لمحذوف فيكونون أوال في أهل زمانهم في الكفر به‬
‫ع َرفُوا َكفَ ُروا ِب ِه »وإن كان له وجود قبل مجيئه إليهم فيعم كل‬ ‫فقوله تعالى ‪ «:‬فَلَ َّما جا َء ُه ْم ما َ‬
‫من كفر به في كل زمان‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ف »قالوا قلوبنا غلف أي هي في غالف ‪ ،‬مثل قولهم( فِي أ َ ِكنَّ ٍة ِم َّما ت َ ْد ُ‬
‫عونا ِإلَ ْي ِه )ففي‬ ‫غ ْل ٌ‬‫قُلُوبُنا ُ‬
‫ّللا أن نتبعك ألزال هذا الغالف‬ ‫هذا الكالم رائحة من الرجوع إلى القضاء والقدر ‪ ،‬أي لو أراد ه‬
‫ّللا عن قولهم فقال« بَ ْل »حرف إضراب« لَعَنَ ُه ُم َّ‬
‫ّللاُ‬ ‫عن قلوبنا فأبصرت نور النبوة ‪ ،‬فأضرب ه‬
‫ِب ُك ْف ِر ِه ْم »باء السبب ‪ ،‬فأوقع اللعنة عليهم ألنهم كفروا ‪ ،‬أي ستروا الحق الذي يعلمونه من نبوة‬
‫ف »أي هي نفس الغالف لما تحوي عليه من العلوم‬ ‫غ ْل ٌ‬
‫محمد ‪ ،‬ويحتمل أن يكون قولهم« قُلُوبُنا ُ‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬فلو كنت نبيا لكان في قلوبنا العلم بك ‪ ،‬فأخبر تعالى أن الكفر في قلوبهم بنبوته فلعنهم ه‬
‫يال ما يُؤْ ِمنُونَ »فمنهم المؤمنون‬ ‫لذلك ‪ ،‬وصدقهم في قولهم إن قلوبنا غلف ولكن للكفر« فَقَ ِل ا‬
‫ف »( وفي أكنة مما تدعونا إليه‬ ‫غ ْل ٌ‬‫وأكثرهم الفاسقون ‪ ،‬ولتكذيبهم أيضا وجه في قولهم «قُلُوبُنا ُ‬
‫باّلل وقد فطروا عليه ‪ ،‬إذ كل مولود يولد على الفطرة ‪ ،‬فبطل‬ ‫) فإنه مما يدعوهم إليه اإليمان ه‬
‫باّلل ‪ ،‬ولهذا جعلنا ذلك اإليمان بنبوة محمد صلهى‬ ‫أن تكون قلوبهم في غالف وكن من اإليمان ه‬
‫ّللا »يعني القرآن و« ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ثم قال ( ‪َ «) 90‬ولَ َّما جا َء ُه ْم ِك ٌ‬
‫تاب ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬ ‫ه‬
‫ِق ِلما َمعَ ُه ْم »أي لما في الكتاب الذي معهم وهو التوراة‬ ‫ص هد ٌ‬
‫»في موضع الصفة للكتاب« ُم َ‬
‫واإلنجيل« َوكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل »أن يأتيهم محمد بالقرآن يؤمنون به من كتابهم ‪ ،‬وإذا اجتمعوا‬
‫علَى الَّ ِذينَ َكفَ ُروا »به ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬اللهم‬ ‫بالكفار في قتال« يَ ْست َ ْفتِ ُحونَ »أي يستنصرون ه‬
‫ّللا« َ‬
‫بحق هذا النبي الذي يأتي ووصفته لنا في كتابنا فانصرنا عليهم ‪ ،‬وهذا معنى قوله« َوكانُوا ِم ْن‬
‫ع َرفُوا »الذي كانوا يستنصرون به ‪ ،‬وهو‬ ‫علَى الَّذِينَ َكفَ ُروا »« فَلَ َّما جا َء ُه ْم ما َ‬ ‫قَ ْب ُل يَ ْست َ ْفتِ ُحونَ َ‬
‫قوله( إِ ْن ت َ ْست َ ْفتِ ُحوا فَقَ ْد جا َء ُك ُم ْالفَتْ ُح )« َكفَ ُروا بِ ِه»‬

‫ص ‪160‬‬

‫ص ‪161 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 90‬إلى ‪91‬‬
‫ض ِل ِه عَلى َم ْن يَشا ُء‬ ‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫ّللاُ بَ ْغيا ً أ َ ْن يُنَ ِ هز َل ه‬
‫س ُه ْم أ َ ْن يَ ْكفُ ُروا ِبما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫شت َ َر ْوا ِب ِه أ َ ْنفُ َ‬ ‫ِبئْ َ‬
‫س َما ا ْ‬
‫آمنُوا ِبما‬ ‫ين ) ‪َ ( 90‬و ِإذا قِي َل لَ ُه ْم ِ‬ ‫َذاب ُم ِه ٌ‬ ‫ين ع ٌ‬ ‫ب َو ِل ْلكافِ ِر َ‬
‫ض ٍ‬ ‫غ َ‬ ‫ب عَلى َ‬ ‫ض ٍ‬‫ِم ْن ِعبا ِد ِه فَبا ُؤ ِبغَ َ‬
‫ص هدِقا ً ِلما َمعَ ُه ْم قُ ْل فَ ِل َم‬
‫ق ُم َ‬ ‫ون ِبما َورا َء ُه َو ُه َو ا ْل َح ُّ‬ ‫علَ ْينا َويَ ْكفُ ُر َ‬ ‫ّللاُ قالُوا نُ ْؤ ِم ُن ِبما أ ُ ْن ِز َل َ‬ ‫أ َ ْن َز َل ه‬
‫ين ) ‪( 91‬‬ ‫ّللا ِم ْن قَ ْب ُل إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ون أ َ ْنبِيا َء ه ِ‬
‫ت َ ْقتُلُ َ‬
‫اليهود لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ‪ ،‬ولو آمنوا بكل ما أتى به موسى آلمنوا بمحمد صلهى‬
‫ّللا مع‬ ‫ّللا ِم ْن قَ ْب ُل ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »اعلم أن ه‬ ‫ّللا عليه وسلم وبكتابه« قُ ْل فَ ِل َم ت َ ْقتُلُونَ أ َ ْنبِيا َء َّ ِ‬ ‫ه‬
‫ّللا قد‬ ‫األنبياء بتأييد الدعوى ‪ ،‬ال بالحفظ والعصمة إال إن أخبر بذلك في حق نبي معين ‪ ،‬فإن ه‬
‫عرفنا أن األنبياء قتلتهم أممهم وما عصموا وال حفظوا‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫تاب »محذوف ‪ ،‬تقديره‬ ‫فكفروا جواب « لما جاءهم ما عرفوا » وجواب ل هما في« لَ َّما جا َء ُه ْم ِك ٌ‬
‫كذهبوا به ‪ ،‬أي بالكتاب ‪ ،‬فجمعوا بين كفرين ‪ ،‬وخص االستفتاح دون االفتتاح ألنه بالسين أبلغ«‬
‫س َما‬ ‫علَى ْالكافِ ِرينَ »األلف والالم للجنس ‪ ،‬وهو أولى من العهد ‪ ،‬ثم قال «) ‪ِ ( 91‬بئْ َ‬ ‫ّللا َ‬‫فَلَ ْعنَةُ َّ ِ‬
‫س ُه ْم‬‫ّللا ا ْشتَرى ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ أ َ ْنفُ َ‬ ‫س ُه ْم »لما جاء الشرع ببيع النفوس في قوله( ِإ َّن َّ َ‬ ‫ا ْشت َ َر ْوا ِب ِه أ َ ْنفُ َ‬
‫باّلل ال نفس له بل كله ملك هّلل ‪،‬‬ ‫)وسبب ذلك هذه اإلضافة ‪ ،‬وهي دعوى الملك فيها ‪ ،‬والعالم ه‬
‫سنا )فبتمليك‬ ‫ظلَ ْمنا أ َ ْنفُ َ‬
‫باّلل إليه في مثل قوله( ت َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِسي )وقوله( َربَّنا َ‬ ‫فإذا أضافها العالم ه‬
‫ّللا ال تمليك استحقاق ‪ ،‬فوقع البيع على هذا القدر الذي لحق المؤمن غير العالم من الملك ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فالمؤمن ال نفس له ‪ ،‬وأما غير‬ ‫فصح بيع النفس لكل ذي نفس من المؤمنين من ه‬
‫باّلل فنفسه باقية في ملكه في دعواه ‪ ،‬فلهذا صح لهؤالء وثبت أن يبيعوا‬ ‫المؤمن وغير العالم ه‬
‫ّللاُ »من الكتب« بَ ْغيا ا »أي حسدا« أ َ ْن يُن ِ هَز َل‬ ‫أنفسهم بعرض من الدنيا ب« أ َ ْن يَ ْكفُ ُروا ِبما أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫ّللا على موسى وعيسى ومحمد‬ ‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه »من أجل أن أنزله ه‬ ‫ض ِل ِه َ‬ ‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫َّ‬
‫ّللا تعالى وكفروا ‪ ،‬وكذبوا بما جاءت به األنبياء«‬ ‫عليهم السالم تفضال منه دونهم ‪ ،‬فنازعوا ه‬
‫ب »من المنازعة ‪ ،‬فهذا دليل على أنهم صدقوا‬ ‫ض ٍ‬ ‫غ َ‬ ‫على َ‬ ‫ب »من الكفر والتكذيب« َ‬ ‫ض ٍ‬ ‫فَبا ُؤ بِغَ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد يستروح‬ ‫باإلنزال أنه من عند ه‬

‫ص ‪161‬‬

‫ص ‪162 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪92‬‬
‫ت ث ُ هم ات ه َخ ْذت ُ ُم ا ْلعِجْ َل ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأ َ ْنت ُ ْم ظا ِل ُم َ‬
‫ون) ‪( 92‬‬ ‫َولَقَ ْد جا َء ُك ْم ُموسى ِبا ْلبَ ِيهنا ِ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫على َم ْن يَشا ُء »أن اليهود حسدت العرب حيث كان محمد الذي يجدونه مكتوبا‬ ‫من قوله« َ‬
‫عندهم من العرب ولم يكن من بني إسرائيل ‪ ،‬فأداهم ذلك إلى الكفر بالقرآن ‪ ،‬ثم قال«‬
‫ين »في مقابلة إهانتهم للقرآن ومن جاء به ‪ ،‬من قوله(‬ ‫ذاب ُم ِه ٌ‬ ‫ع ٌ‬ ‫َو ِل ْلكافِ ِرينَ »الجنس أيضا« َ‬
‫ع ُّز ِم ْن َها ْاألَذَ َّل )وغير ذلك ‪ ،‬فهو خصوص عذاب لصفة مخصوصة في كل من‬ ‫لَيُ ْخ ِر َج َّن ْاأل َ َ‬
‫ّللاُ »الضمير يعود‬ ‫ظهرت منه وعوقب بها ‪ ،‬ثم قال ( ‪َ «) 92‬و ِإذا قِي َل لَ ُه ْم ِآمنُوا ِبما أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫علَيْنا َويَ ْكفُ ُرونَ‬ ‫ّللا يريد القرآن واإلنجيل «قالُوا نُؤْ ِم ُن ِبما أ ُ ْن ِز َل َ‬ ‫على اليهود ‪ ،‬وما هنا فيما أنزل ه‬
‫ص هدِقا ا »أي جاء‬ ‫بِما َورا َءهُ »يؤيد ذلك قوله« َو ُه َو ْال َح ُّق »الضمير يعود على المنزل ‪ُ «،‬م َ‬
‫مصدقا لما معهم ‪ ،‬يريد التوراة التي أنزلت عليهم ‪ ،‬فقالت اليهود ‪ :‬نؤمن بما أنزل علينا ‪ ،‬يعني‬
‫التوراة ‪ ،‬ونكفر بما وراءه ‪ ،‬تقول ‪:‬‬
‫ّللا ِم ْن‬‫ّللا لمحمد« قُ ْل »لهم «فَ ِل َم ت َ ْقتُلُونَ أ َ ْن ِبيا َء َّ ِ‬ ‫وراء كتابنا ‪ ،‬أي بما جاء بعده من الكتب ‪ ،‬فقال ه‬
‫علَيْنا »ليس‬ ‫قَ ْب ُل »وكتابكم ال يتضمن قتل من قتلتموه من األنبياء ‪ ،‬فقولكم« نُؤْ ِم ُن ِبما أ ُ ْن ِز َل َ‬
‫بصحيح ‪ ،‬ولهذا قال لهم« ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِد ِقينَ »في إيمانكم بما أنزل عليكم ‪ ،‬فقرينة الحال تدل‬
‫على أنهم قتلوا األنبياء تكذيبا لهم مع إتيانهم بالبينات والقربان ‪ ،‬ألنهم لو لم يقتلوهم تكذيبا ما‬
‫ّللا »حجة عليهم ‪ ،‬ألن المؤمن ال‬ ‫ّللا عليه وسلم لهم« فَ ِل َم ت َ ْقتُلُونَ أ َ ْنبِيا َء َّ ِ‬ ‫كان قول محمد صلهى ه‬
‫يلزم أن يكون معصوما من وقوع الذنب منه ‪ ،‬والقتل فعل ظاهر ‪ ،‬وقد يكون من المصدهق‬
‫ّللا عهد إليكم في كتابكم (‬ ‫والمكذب ‪ ،‬وقد يكون قوله« ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »أي مصدقين في أن ه‬
‫أال تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار ) فقد جاءوا ‪ ،‬فلم قتلتموهم ؟ ( ‪َ «) 93‬ولَقَ ْد‬
‫ت ث ُ َّم ات َّ َخ ْذت ُ ُم ْال ِع ْج َل ِم ْن بَ ْع ِد ِه »حين مشى إلى ميقات ربه« َوأ َ ْنت ُ ْم ظا ِل ُمونَ‬ ‫جا َء ُك ْم ُموسى ِب ْالبَ ِيهنا ِ‬
‫»أنفسكم في ذلك ‪ ،‬وظالمون بعضكم لبعض حيث لم تتناهوا عن منكر فعلتموه ‪ ،‬ثم قال ( ‪94‬‬
‫س ِم ْعنا‬‫ور ‪ُ ،‬خذُوا ما آتَيْنا ُك ْم بِقُ َّوةٍ َوا ْس َمعُوا ‪ ،‬قالُوا َ‬ ‫)« َو ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا ِميثاقَ ُك ْم َو َرفَ ْعنا فَ ْوقَ ُك ُم ُّ‬
‫الط َ‬
‫سما يَأ ْ ُم ُر ُك ْم ِب ِه ِإيمانُ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »لما‬ ‫صيْنا َوأ ُ ْش ِربُوا فِي قُلُو ِب ِه ُم ْال ِع ْج َل ِب ُك ْف ِر ِه ْم ‪ ،‬قُ ْل ِبئْ َ‬ ‫ع َ‬ ‫َو َ‬
‫ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور ظلة عليهم لما امتنعوا من أخذ الكتاب ‪ ،‬ذكر في القصة األولى‬
‫بعض األسباب وهو ترجي التقوى ‪ ،‬فقال( لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ )‬

‫ص ‪162‬‬

‫ص ‪163 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 93‬إلى ‪96‬‬
‫ص ْينا‬‫ع َ‬‫س ِم ْعنا َو َ‬ ‫س َمعُوا قالُوا َ‬ ‫ور ُخذُوا ما آت َ ْينا ُك ْم ِبقُ هو ٍة َوا ْ‬ ‫ط َ‬ ‫َو ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا ِميثاقَ ُك ْم َو َرفَ ْعنا فَ ْوقَ ُك ُم ال ُّ‬
‫ين ( ‪ ) 93‬قُ ْل‬ ‫سما يَأ ْ ُم ُر ُك ْم ِب ِه ِإيمانُ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َوأُش ِْربُوا فِي قُلُو ِب ِه ُم ا ْلعِجْ َل ِب ُك ْف ِر ِه ْم قُ ْل ِبئْ َ‬
‫ين (‬ ‫اس فَت َ َمنه ُوا ا ْل َم ْوتَ ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِد ِق َ‬ ‫ُون النه ِ‬ ‫صةً ِم ْن د ِ‬ ‫ّللا خا ِل َ‬ ‫هار ْاآل ِخ َرةُ ِع ْن َد ه ِ‬
‫ِإ ْن كانَتْ لَ ُك ُم الد ُ‬
‫ص النه ِ‬
‫اس‬ ‫ين ( ‪َ ) 95‬ولَت َ ِج َدنه ُه ْم أَحْ َر َ‬ ‫ع ِلي ٌم بِال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ِيه ْم َو ه‬ ‫‪َ ) 94‬ولَ ْن يَت َ َمنه ْوهُ أَبَدا ً بِما قَ هد َمتْ أ َ ْيد ِ‬
‫ب أ َ ْن‬‫سنَ ٍة َوما ُه َو بِ ُم َزحْ ِز ِح ِه ِم َن ا ْلعَذا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ِين أَش َْركُوا يَ َو ُّد أ َ َح ُد ُه ْم لَ ْو يُعَ هم ُر أ َ ْل َ‬‫عَلى َحيا ٍة َو ِم َن الهذ َ‬
‫ون ) ‪( 96‬‬ ‫ير بِما يَ ْع َملُ َ‬ ‫ّللاُ بَ ِص ٌ‬
‫يُعَ هم َر َو ه‬
‫الحرص يتعلق به الذم من جهة متعلقه إذا كان مذموما شرعا وعقال ‪ ،‬وقوله تعالى ‪«:‬‬
‫َولَت َ ِج َدنَّ ُه ْم »الضمير يعود على قوم مذمومين ‪ ،‬وقرينة الحال تدل على أن مساقه الحرص فيها‬
‫على الذم تكذيبا لهم فيما ادعوه من أن الدار اآلخرة خالصة لهم من دون الناس‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫إذ ذكرتم ما فيه عند أخذكم إياه بجد وعزم ‪ ،‬وزاد في هذا التعريف الثاني لنا أنه قال لهم«‬
‫َوا ْس َمعُوا »وهذا أقوى من األول وأشد في التكليف ‪ ،‬أراد « َوا ْس َمعُوا »لتعملوا بما سمعتم ‪«،‬‬
‫صيْنا »ألنه شدد علينا ووضع علينا من التكاليف‬ ‫ع َ‬ ‫س ِم ْعنا »ما قال ربك لنا في التوراة« َو َ‬ ‫قالُوا َ‬
‫ما يشق علينا فعلها ‪ ،‬ونحن نطلب الرفق ‪ ،‬ولهذا أحببنا عبادة العجل ألنه لم يكلفنا ووسع علينا‬
‫ّللا لمحمد‬ ‫‪ ،‬فأخبر تعالى أنهم« أ ُ ْش ِربُوا فِي قُلُوبِ ِه ُم ْال ِع ْج َل »أي خالط لحمهم ودمهم حبه ‪ ،‬قال ه‬
‫سما يَأ ْ ُم ُر ُك ْم بِ ِه ِإيمانُ ُك ْم »في زعمكم إن صح كونكم مؤمنين‬ ‫ّللا عليه وسلم« قُ ْل »لهم «بِئْ َ‬‫صلهى ه‬
‫‪ ،‬فهو قوله« ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »وقوله« بِ ُك ْف ِر ِه ْم »بالتكاليف الشاقة عليهم ‪ .‬لما ثبت عندنا وعند‬
‫باّلل بال شك ‪ ،‬وأنها دار راحة ال تعب فيها وال نصب ‪ ،‬وأن‬ ‫اليهود أن الجنة خالصة للمؤمنين ه‬
‫الدنيا دار تعب ونصب ‪ ،‬والنفس مجبولة على طلب الراحة ‪ ،‬والجنة ال تحصل إال بعد الموت‬
‫‪ ،‬فالموت مطلوب للمؤمن لتخليصه من المشقة وحصوله على الراحة ‪ ،‬وأنتم تزعمون أنكم‬
‫مؤمنون ‪ ،‬وأن لكم الدار اآلخرة ‪ ،‬يريد الجنة خالصة من دون الناس ‪ ،‬يريد الناس كلهم أو‬
‫ّللا لمحمد صلهى‬ ‫المسلمين خاصة ‪ ،‬فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في القطع بسعادتكم ‪ ،‬فقال ه‬
‫اس‬ ‫صةا ِم ْن د ِ‬
‫ُون النَّ ِ‬ ‫َّار ْاآل ِخ َرة ُ ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا خا ِل َ‬ ‫ّللا عليه وسلم ( ‪ «) 95‬قُ ْل »لهم« ِإ ْن كان ْ‬
‫َت لَ ُك ُم الد ُ‬ ‫ه‬
‫ت ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِينَ »ثم أخبر نبيه عن حال اليهود فقال ( ‪َ «) 96‬ولَ ْن يَت َ َمنَّ ْوهُ أَبَدا ا‬ ‫فَت َ َمنَّ ُوا ْال َم ْو َ‬
‫ّللا عليه وسلم نطقه بالغيب ‪ ،‬فأخبر بما يكون منهم من‬ ‫ت أ َ ْيدِي ِه ْم »وهذا من آياته صلهى ه‬‫ِبما قَ َّد َم ْ‬
‫عدم تمني الموت قبل وقوع ذلك منهم ‪ ،‬فكان كما قال ‪ ،‬قال عليه السالم‬

‫ص ‪163‬‬

‫ص ‪164 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪97‬‬
‫ص هدِقا ً ِلما بَ ْي َن يَ َد ْي ِه َو ُه ً‬
‫دى َوبُشْرى‬ ‫عد ًُّوا ِل ِج ْب ِري َل فَ ِإنههُ نَ هزلَهُ عَلى قَ ْل ِبكَ ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫ّللا ُم َ‬ ‫قُ ْل َم ْن َ‬
‫كان َ‬
‫ين ) ‪( 97‬‬ ‫ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫راجع نزول القرآن على القلب آية ‪.121‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫لو تمنوا الموت ما قام أحد من مجلسه حتى يموت غصصا بريقه‬
‫الظا ِل ِمينَ »وعيد وتهديد لليهود ألنهم‬ ‫ع ِلي ٌم ِب َّ‬‫ّللاُ َ‬
‫فأخبر عليه السالم باألمر قبل كونه ‪ ،‬وقال« َو َّ‬
‫ّللا يعلم ذلك ‪،‬‬ ‫يعلمون أنهم ظالمون ‪ ،‬فإنهم على يقين من صدق ما كفروا به ‪ ،‬ويعلمون أن ه‬
‫ّللا ال يعلم ذلك ‪ ،‬كما يذهب إليه بعض النظار من‬ ‫وعملهم يقتضي بالحال أنهم يعتقدون أن ه‬
‫الظا ِل ِمينَ » ‪،‬ثم قال لمحمد‬ ‫ع ِلي ٌم بِ َّ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ّللا ال يعلم الجزئيات ‪ ،‬فهذا فائدة قوله لهم« َو َّ‬ ‫الفالسفة أن ه‬
‫على َحياةٍ »هما معموالن لهذا الفعل ‪،‬‬ ‫اس َ‬ ‫ص النَّ ِ‬ ‫ّللا عليه وسلم ( ‪َ «) 97‬ولَت َ ِج َدنَّ ُه ْم أ َ ْح َر َ‬ ‫صلهى ه‬
‫أي أشد الناس حرصا ‪ ،‬واأللف والالم للجنس ‪ ،‬فأنهم أحرص على الحياة من كل أحد‬
‫وخصوصا « و » أحرص « ِمنَ الَّذِينَ أ َ ْش َر ُكوا »فإنه ال أحد أحرص على الحياة ممن ال يقول‬
‫بالبعث ‪ ،‬فيستغنم الحياة الدنيا ‪ ،‬فهو شديد الحرص على طلبها ‪ ،‬وهؤالء اليهود المنكرون ما‬
‫تيقنوا أنه صدق ‪ ،‬وقد تيقنوا العقوبة على ذلك من كتابهم ‪ ،‬فهم قاطعون بالوعيد ‪ ،‬فحرصهم‬
‫على الحياة أشد من حرص من ال يؤمن بالبعث لما يؤلون إليه في الدار اآلخرة من العذاب ‪،‬‬
‫على َحياةٍ »من هكرة أي حياة بهذه الصفة من‬ ‫وهو األوجه في الترجمة عن هذه اآلية ‪ ،‬وقوله« َ‬
‫سنَ ٍة »والمعنى أبدا ‪ ،‬لعلمه بما يصير إليه بعد‬ ‫ف َ‬ ‫الطول« يَ َو ُّد أ َ َح ُد ُه ْم »أي يتمنى« لَ ْو يُعَ َّم ُر أ َ ْل َ‬
‫ب أ َ ْن يُعَ َّم َر »فهنا وجهان ‪ -‬الواحد ‪:‬‬ ‫الموت ‪ ،‬قال تعالى« َوما ُه َو ِب ُمزَ ْح ِز ِح ِه ِمنَ ْالعَذا ِ‬
‫أن الدنيا ال بد من تناهيها ‪ ،‬فال بد من الموت واللحوق بما ذكرناه من الوعيد لهم ‪ ،‬ففيه أنهم ال‬
‫ّللا لهم وهو سديد ‪ ،‬والوجه اآلخر ‪ :‬أنه وإن كانت‬ ‫ّللا عليهم ‪ ،‬فهذا يأس من ه‬ ‫يتوبون وال يتوب ه‬
‫اإلقامة في الدنيا لهم سرمدا وال تكون آخرة فليس هذا مما ينجيهم من عذابنا ‪ ،‬فإن العمر‬
‫ير بِما يَ ْع َملُونَ »أي يبصر ويرى ما‬ ‫ص ٌ‬ ‫ّللاُ بَ ِ‬‫الطويل وغير الطويل ال ينجي من العذاب« َو َّ‬
‫يكون من أعمالهم ‪ ،‬تنبيه على الخوف والحياء منه سبحانه ‪ ،‬وفيه هنا تهديد ( ‪ «) 98‬قُ ْل َم ْن‬
‫ى َوبُ ْشرى ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ‬
‫ص هدِقا ا ِلما بَيْنَ يَ َد ْي ِه َو ُهد ا‬ ‫ّللا ُم َ‬ ‫على قَ ْل ِب َك ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬‫عد ًُّوا ِل ِجب ِْري َل فَإِنَّهُ ن ََّزلَهُ َ‬
‫كانَ َ‬
‫ّللا أمر جبريل أن يجعل النبوة في بني إسرائيل فجعلها في العرب ‪،‬‬ ‫»زعمت اليهود أن ه‬
‫ّللا أمر جبريل أن يجعل النبوة في علي ‪،‬‬ ‫فاتخذوه عدوا ‪ ،‬كما فعلت الرافضة حيث قالوا ‪ :‬إن ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وهذا من جملة ما ذكر رسول ه‬ ‫فجعلها في محمد صلهى ه‬
‫أنه يكون في أمته ‪ ،‬فقال في الحديث الصحيح [ إنكم لتتبعون سنن من‬

‫ص ‪164‬‬

‫ص ‪165 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 98‬إلى ‪102‬‬
‫ين ( ‪َ ) 98‬ولَقَ ْد أ َ ْن َز ْلنا‬ ‫عد ٌُّو ِل ْلكافِ ِر َ‬ ‫س ِل ِه َو ِج ْب ِري َل َو ِميكا َل فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫َّلل َو َملئِ َكتِ ِه َو ُر ُ‬ ‫عد ًُّوا ِ ه ِ‬
‫كان َ‬ ‫َم ْن َ‬
‫ق ِم ْن ُه ْم بَ ْل‬ ‫عهْدا ً نَبَذَهُ فَ ِري ٌ‬ ‫ون ( ‪ ) 99‬أ َ َو ُكلهما عا َهدُوا َ‬ ‫سقُ َ‬ ‫ت َوما يَ ْكفُ ُر ِبها ِإاله ا ْلفا ِ‬ ‫ِإلَ ْيكَ آيا ٍ‬
‫ت بَ ِيهنا ٍ‬
‫ق ِم َن‬ ‫ق ِلما َمعَ ُه ْم نَبَذَ فَ ِري ٌ‬ ‫ص ِ هد ٌ‬
‫ّللا ُم َ‬‫سو ٌل ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 100‬ولَ هما جا َء ُه ْم َر ُ‬ ‫أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 101‬واتهبَعُوا ما تَتْلُوا‬ ‫ور ِه ْم كَأَنه ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ظ ُه ِ‬ ‫ّللا َورا َء ُ‬ ‫تاب ه ِ‬ ‫تاب ِك َ‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬ ‫الهذ َ‬
‫سِحْ َر‬ ‫اس ال ه‬ ‫ون النه َ‬ ‫ين َكفَ ُروا يُعَ ِله ُم َ‬ ‫هياط َ‬‫مان َول ِك هن الش ِ‬ ‫سلَ ْي ُ‬ ‫مان َوما َكفَ َر ُ‬ ‫سلَ ْي َ‬ ‫ين عَلى ُم ْل ِك ُ‬ ‫هياط ُ‬
‫الش ِ‬
‫مان ِم ْن أ َ َح ٍد َحتهى يَقُوال إِنهما نَحْ ُن فِتْنَةٌ‬ ‫ماروتَ َوما يُعَ ِله ِ‬ ‫هاروتَ َو ُ‬ ‫علَى ا ْل َملَ َك ْي ِن بِبابِ َل ُ‬ ‫َوما أ ُ ْن ِز َل َ‬
‫ين ِب ِه ِم ْن أ َ َح ٍد ِإاله‬ ‫ضار َ‬ ‫ون ِب ِه بَ ْي َن ا ْل َم ْر ِء َو َز ْو ِج ِه َوما ُه ْم ِب ِ ه‬ ‫ون ِم ْن ُهما ما يُفَ ِ هرقُ َ‬ ‫فَل ت َ ْكفُ ْر فَيَتَعَله ُم َ‬
‫شتَراهُ ما لَهُ فِي ْاآل ِخ َر ِة ِم ْن َخ ٍ‬
‫لق‬ ‫ع ِل ُموا لَ َم ِن ا ْ‬‫ون ما يَض ُُّر ُه ْم َوال يَ ْنفَعُ ُه ْم َولَقَ ْد َ‬ ‫ّللا َويَتَعَله ُم َ‬ ‫ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫ون ( ‪) 102‬‬ ‫س ُه ْم لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ما ش ََر ْوا ِب ِه أ َ ْنفُ َ‬ ‫َولَ ِبئْ َ‬

‫[ قصه هاروت وماروت ]‬


‫تكلم بعض المفسرين بما ال ينبغي في حق الملكين ‪ ،‬وبما ال يليق بهما ‪ ،‬وال يعطيه ظاهر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا أاليهود والنصارى ؟ قال‬ ‫قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ] الحديث ‪ ،‬وفيه [ قالوا يا رسول ه‬
‫‪:‬‬
‫فمن ] فهذا من ذلك ‪ ،‬اتباع الروافض اليهود في نسبة الخيانة لجبريل ‪ ،‬فقال تعالى« قُ ْل َم ْن‬
‫ّللا أنزله على‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬‫عد ًُّوا ِل ِجب ِْري َل »ألجل هذا ‪ ،‬فإن جبريل ما فعل شيئا وال تعدى أمر ه‬ ‫كانَ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬أي بأمره قال تعالى( َوما نَتَن ََّز ُل ِإ َّال ِبأ َ ْم ِر َر ِبه َك )« مصدقا » يعني الكتاب‬ ‫قلب محمد بإذن ه‬
‫ى »وبيانا لما فيها« َوبُ ْشرى ِل ْل ُمؤْ ِم ِنينَ‬
‫الذي هو القرآن« ِلما بَيْنَ يَ َد ْي ِه »من الكتب المنزلة « َو ُهد ا‬
‫باّلل ومالئكته وكتبه ورسله ولم يفرق في الرسالة بين أحد من رسله وقالوا سمعنا‬ ‫»لمن آمن ه‬
‫وأطعنا ‪ ) 99 ( ،‬ثم زعمت اليهود أن من أراد أمرا وأراد اآلخر خالفه ‪ ،‬فإن كل واحد منهما‬
‫عدو لآلخر ‪،‬‬

‫ص ‪165‬‬

‫ص ‪166 :‬‬
‫ّللا ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ‪ ،‬فقد كذب‬ ‫ّللا للمالئكة بأنهم ال يعصون ه‬ ‫اآلية ‪ ،‬وقد شهد ه‬
‫ياط ُ‬
‫ين‬ ‫ش ِ‬ ‫هؤالء المفسرون ربهم في قوله في حق المالئكة ‪ ،‬قال تعالى «‪َ :‬واتَّبَعُوا ما تَتْلُوا ال َّ‬
‫سلَيْمانَ »من علم السحر الذي مزجوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من‬ ‫على ُم ْل ِك ُ‬
‫َ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫مان ِم ْن أ َح ٍد َحتَّى يَقُوال »له« ِإنَّما ن َْح ُن ِفتْنَة فَال ت َ ْكفُ ْر »فإن مقلوب الحمد‬ ‫ه‬
‫علم الحق« َوما يُعَ ِل ِ‬
‫كفر وهو الذم« فَيَتَعَلَّ ُمونَ ِم ْن ُهما »أي من العلمين« ما يُفَ ِ هرقُونَ بِ ِه بَيْنَ ْال َم ْر ِء َوزَ ْو ِج ِه »وهو‬
‫وّللا قد كره ذلك وقد ذمه ‪ ،‬وندب إلى األلفة‬ ‫القدر من السحر الذي يعطي التفرقة ‪ ،‬ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وجبريل صاحب العذاب والشدائد ‪ ،‬وميكائيل صاحب الخصب والخير فيما يزعمون ‪ ،‬فكل‬
‫واحد منهما عدو لآلخر ‪ ،‬فأخبر تعالى أنهم إن صدقوا ‪ ،‬فإنهم عدو لالثنين معا ‪ ،‬ومن كان‬
‫ّللا عدوا له وللكافرين ‪ ،‬وتنزيل صورة العداوة منهم‬ ‫عدوا لهما فهو عدو هّلل ومالئكته ‪ ،‬فيكون ه‬
‫لجبريل وميكائيل ‪ ،‬أنهم يريدون بالمؤمنين إنزال العذاب عليهم بالجوع ونقص من الثمرات ‪،‬‬
‫فيرون الخصب فيهم والخير لهم ‪ ،‬وذلك بيد ميكائيل فيكونون عدوا له ألنه أنعم على أعدائهم ‪،‬‬
‫ويرون ما نزل بهم من رفع الطور والصاعقة وغير ذلك وهو من جبريل ‪ ،‬فهم أيضا عدو له ‪،‬‬
‫فلذلك قال تعالى « من كان عدوا هّلل ومالئكته وجبريل وميكال » فخصهما بالذكر مع دخولهم‬
‫عد ٌُّو ِل ْلكا ِف ِرينَ »الفاء جواب من ‪ ،‬ثم قال ( ‪َ «) 100‬ولَقَ ْد أ َ ْنزَ ْلنا‬ ‫في عموم مالئكته« فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫ت »يعني في القرآن ‪ ،‬تظهر صدقك في أنك نبي« َوما يَ ْكفُ ُر بِها إِ َّال ْالفا ِسقُونَ‬ ‫إِلَي َْك آيا ٍ‬
‫ت بَ ِيهنا ٍ‬
‫ّللا في كتبهم أن يؤمنوا بك وبما أنزل‬ ‫ّللا من أهل الكتب ‪ ،‬حيث أمرهم ه‬ ‫»الخارجون عن أمر ه‬
‫إليك فعصوه ‪ ،‬وخرجوا عن أمره ‪ ،‬وهو الفسوق ‪ ،‬والفسوق اآلخر في حق الذين خرجوا عما‬
‫تعطيهم دالالت المعجزات من التصديق بمن جاء بها فلم يؤمنوا ‪ ،‬والفسوق الثالث من المقلدين‬
‫ّللا من النظر والبحث بما أعطاهم من العقل والفكر فلم يفعلوا وقلدوا ‪ ،‬فهؤالء‬ ‫حيث م هكنهم ه‬
‫أيضا فسقوا أي خرجوا عما تقتضيه عقولهم من أن يكونوا علماء بما هم فيه مقلدون ‪ ،‬فع هم‬
‫ع ْهدا ا نَبَذَهُ‬ ‫الفسوق جميع الفرق ‪ ،‬وهذا من جوامع الكلم ‪ ،‬ثم قال ( ‪ «) 101‬أ َ َو ُكلَّما عا َهدُوا َ‬
‫ع ْه َد ُه ْم فِي ُك ِهل َم َّرةٍ )فأخبر تعالى أنه أخذ عليهم مواثيق‬ ‫يق ِم ْن ُه ْم »هو قوله( ث ُ َّم يَ ْنقُضُونَ َ‬
‫فَ ِر ٌ‬
‫ّللا مرارا ‪ ،‬فقد يكون المعنى( َوما يَ ْكفُ ُر ِبها ِإ َّال ْالفا ِسقُونَ )أي إال الذين‬ ‫مرارا ونكثوا عهد ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬وأو بمعنى الواو العاطفة المعنى ‪ ،‬وكلما عاهدوا عهدا مع ه‬ ‫فسقوا ونقضوا عهد ه‬
‫ورسوله نبذه أي رمى به فريق منهم« بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال يُؤْ ِمنُونَ »يريد المقلدين لعلمائهم ‪ ،‬فإن‬
‫العلماء قليلون والمقلدين كثيرون ‪ ،‬فالمقلد ليس بموقن حقا ‪ ،‬وعالمهم ليس كذلك فإنه يعرف‬
‫الحق وال يقول به ويكتمه عن المقلد له ‪ ،‬فيتضاعف العذاب على العالم ‪ ،‬فإن عليهم إثم‬
‫البرسيين وهم األتباع ‪ ،‬ثم قال «) ‪َ ( 102‬ولَ َّما جا َء ُه ْم َر ُ‬
‫سو ٌل ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا »يريد‬

‫ص ‪166‬‬

‫ص ‪167 :‬‬
‫وانتظام الشمل ‪ .‬ولما علم سبحانه أن االفتراق ال بد منه لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن‬
‫أكثر الناس شرع الطالق رحمة بعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم غير مذمومين إرغاما‬
‫ّللا حالال‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ :‬ما خلق ه‬ ‫للشياطين ‪ ،‬ومع هذا فقد ورد في الخبر النبوي أنه صلهى ه‬
‫ضارينَ ِب ِه ِم ْن أ َ َح ٍد ِإ َّال ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬
‫ّللا »فإنه ال‬ ‫أبغض إليه من الطالق ‪َ «،‬وما ُه ْم »أي السحرة« ِب ِ ه‬
‫تتحرك ذرة إال بإذنه سبحانه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ِق ِلما َمعَ ُه ْم »أي لما بأيديهم من التوراة« نَبَذَ فَ ِر ٌ‬
‫يق ِمنَ‬ ‫ص هد ٌ‬‫ّللا عليه وسلم« ُم َ‬ ‫محمدا صلهى ه‬
‫ور ِه ْم »قد يريد بالكتاب المنبوذ هنا‬ ‫ّللا َورا َء ُ‬
‫ظ ُه ِ‬ ‫تاب َّ ِ‬ ‫تاب »يعني اليهود « ِك َ‬ ‫الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِك َ‬
‫التوراة والقرآن ‪ ،‬وقد يريد أحدهما ‪ ،‬وهو كناية عن ترك العمل به حيث ألقوه خلف ظهورهم«‬
‫َكأَنَّ ُه ْم ال يَ ْعلَ ُمونَ »شبههم بالمقلدة في فعلهم ‪ ،‬وقد يحتمل أن يكون المعنى ‪ ،‬كأنهم ال يعلمون ‪،‬‬
‫ّللا وراء ظهورهم فلم‬ ‫ّللا وفسقوا ‪ ،‬يقول نبذوا كتاب ه‬ ‫تقريرا لعلمهم بذلك ولكنهم نقضوا عهد ه‬
‫على ُم ْل ِك ُ‬
‫سلَيْمانَ‬ ‫ين »من السحر والشعوذة« َ‬ ‫ياط ُ‬
‫ش ِ‬ ‫يعملوا به «) ‪َ ( 103‬واتَّبَعُوا ما تَتْلُوا ال َّ‬
‫ْمان »أي لم يكن علمه سحرا وال شعوذة‬ ‫سلَي ُ‬ ‫»على عهد سليمان ‪ ،‬أي في زمن ملكه« َوما َكفَ َر ُ‬
‫ياطينَ َكفَ ُروا »بما دونوه من علم السحر وخلطوه بما‬ ‫ش ِ‬ ‫ّللا« َول ِك َّن ال َّ‬
‫‪ ،‬بل علمه حق من عند ه‬
‫س ْح َر َوما أ ُ ْن ِز َل‬‫اس ال ِ ه‬ ‫أنزل على الملكين هاروت وماروت من الحق ‪ ،‬والشياطين« يُعَ ِله ُمونَ النَّ َ‬
‫مان ِم ْن أ َ َح ٍد َحتَّى يَقُوال‬ ‫وت َوما يُعَ ِله ِ‬ ‫مار َ‬ ‫وت َو ُ‬ ‫هار َ‬ ‫علَى ْال َملَ َكي ِْن »األمرين معا ممزوجا «بِبابِ َل ُ‬ ‫َ‬
‫ِإنَّما ن َْح ُن فِتْنَةٌ »فإذا أتى السائل إلى الملكين ليعلماه ‪ ،‬يقوالن له« ِإنَّما ن َْح ُن فِتْنَةٌ »أي إنما نزلنا‬
‫للتعليم اختبارا ‪ ،‬فإن الشياطين يعلمون الناس السحر ممزوجا بما أنزل علينا« فَال ت َ ْكفُ ْر »أي ال‬
‫تأخذ من الشياطين فإنك ال تفرق بين الحق من ذلك والباطل ‪ ،‬ثم قال «فَيَتَعَلَّ ُمونَ »يعني‬
‫الناس« ِم ْن ُهما »أي من العلمين ‪ ،‬علم السحر والعلم الذي أنزل على الملكين« ما يُفَ ِ هرقُونَ ِب ِه‬
‫بَيْنَ ْال َم ْر ِء »الرجل « َوزَ ْو ِج ِه »أي امرأته ‪ ،‬وإنما قبله منهم المتعلم ألمرين ‪ :‬الواحد المتزاجه‬
‫بالحق الذي أنزل على الملكين ‪ ،‬فإن الشياطين تتصور في صور علمائهم وتقول لهم ‪ :‬هذا هو‬
‫الذي أنزل على الملكين ‪ ،‬فيصدقونهم ‪ ،‬فيلقون إليهم ما يضرهم وال ينفعهم من علم السحر ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وما نزل من‬ ‫وأما من اقتصر على الملكين ولم يتعداهما فما علهم إال حقا منزال من عند ه‬
‫ّللا َويَتَعَلَّ ُمونَ‬
‫ضارينَ ِب ِه ِم ْن أ َ َح ٍد ِإ َّال ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬
‫ّللا ال يكون كفرا وضالال ‪ ،‬وهو قوله« َوما ُه ْم ِب ِ ه‬ ‫عند ه‬
‫ض ُّر ُه ْم َوال يَ ْنفَعُ ُه ْم »وكل لفظة كفر في هذه القصة قد يكون ضد اإليمان ‪ ،‬وقد يكون بمعنى‬ ‫ما يَ ُ‬
‫ستر الحق ‪ ،‬فإن الكفر الستر في اللغة ‪ ،‬وكال الوجهين في الترجمة عن ذلك صالح ‪ ،‬ثم قال«‬
‫ع ِل ُموا لَ َم ِن ا ْشتَراهُ »يناقض قوله« لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُمونَ »‬ ‫َولَقَ ْد َ‬

‫ص ‪167‬‬

‫ص ‪168 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 103‬إلى ‪104‬‬
‫ون ( ‪ ) 103‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا‬ ‫َولَ ْو أَنه ُه ْم آ َمنُوا َواتهقَ ْوا لَ َمثُوبَةٌ ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬
‫ّللا َخ ْي ٌر لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ) ‪( 104‬‬
‫ين ع ٌ‬ ‫س َمعُوا َو ِل ْلكافِ ِر َ‬ ‫ال تَقُولُوا را ِعنا َوقُولُوا ا ْن ُ‬
‫ظ ْرنا َوا ْ‬
‫تختلف األحكام باختالف األلفاظ التي وقع عليها التواطؤ بين المخاطبين ‪ ،‬وإن كان المعنى‬
‫واحدا فالمصرف ليس بواحد‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ع ِل ُموا »يعود الضمير على من سأل الملكين فقاال له ال‬ ‫بعد هذا فيما يظهر ‪ ،‬فقوله« َولَقَ ْد َ‬
‫ق »فإن من كفر ال خالق له في اآلخرة ‪ ،‬فكأنهم قالوا نحن‬ ‫تكفر« ما لَهُ فِي ْاآل ِخ َرةِ ِم ْن خَال ٍ‬
‫نتعلم منهم ذلك وال نعمل به ‪ ،‬فإن العلم بالشيء يورث التوقي مما فيه من الضرر لمن جهله ‪،‬‬
‫فلما علموه قامت لهم األغراض وطلب الرئاسة وتحصيل ما يشتهون بهذا العلم فعملوا به ‪،‬‬
‫س ُه ْم لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُمونَ »أن ذلك‬ ‫س ما ش ََر ْوا بِ ِه »أي باعوا به« أ َ ْنفُ َ‬ ‫فكفروا ‪ ،‬فهو قوله« َولَبِئْ َ‬
‫يقودهم إلى العمل لما في طيه مما في عمله من تقدمهم على أبناء جنسهم ‪ ،‬واالفتقار إليهم في‬
‫آثار ذلك ونيل أغراضهم ‪ ،‬فهذا هو الذي جهلوه ‪ ،‬والذي علموا هنالك لم يكن هذا الذي جهلوه‬
‫ّللا قد أثنى عليهم ‪ ،‬وما‬ ‫‪ ،‬وقد بان المقصود من اآلية على غاية االختصار ونزهنا المالئكة فإن ه‬
‫ّللا تعالى أنه جرح أحدا من المالئكة ‪ ،‬ثم قال «) ‪َ ( 104‬ولَ ْو أَنَّ ُه ْم آ َمنُوا َواتَّقَ ْوا‬ ‫بلغنا قط عن ه‬
‫ّللا حين قالوا‬ ‫»قد يعود الضمير في آمنوا على الذين سألوا الملكين وما سمعوا منهم ‪ ،‬وال اتقوا ه‬
‫ّللا فيهم« َولَ ْو أَنَّ ُه ْم آ َمنُوا‬ ‫لمن سألهم ال تكفر باتباع الشياطين ألنهم خلطوا الحق بالباطل ‪ ،‬فقال ه‬
‫»أي صدقوا الملكين« َواتَّقَ ْوا »واتخذوا ما قااله لهم وقاية« لَ َمثُوبَةٌ »لحصلت لهم من ذلك‬
‫ّللا َخي ٌْر لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُمونَ »وقد يحتمل أن يعود الضمير على‬ ‫ّللا وخير « ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬ ‫مثوبة من ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ثم قال ( ‪)« 105‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ال تَقُولُوا‬ ‫اليهود في اإليمان بمحمد صلهى ه‬
‫را ِعنا »هذا خطاب للمؤمنين ‪ ،‬فإن اليهود كانت تقول هذه الكلمة بلسانها على طريق السب ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم فرحوا بذلك ‪ ،‬ليقولوها‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫فلما سمع اليهود يخاطب بها المؤمنون رسول ه‬
‫كما يقولها المؤمنون على المعنى الذي تريده اليهود من السب ‪ ،‬وسيأتي شرحها في سورة‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فنهى المؤمنين عن أن يخاطبوا بها رسول ه‬ ‫النساء إن شاء ه‬
‫ظ ْرنا »أي‬ ‫ّللا غرضا لحفظهم ما خاطبهم به ‪ ،‬فقال لهم« َوقُولُوا ا ْن ُ‬ ‫ومعناها اسمع منا يا رسول ه‬
‫ظ ْرنا »«‬ ‫ّللا للمؤمنين« قُولُوا ا ْن ُ‬ ‫ّللا ‪ ،‬يقول ه‬
‫انتظرنا حتى نحفظ ما خاطبتنا به من كالم ه‬
‫َوا ْس َمعُوا »ما تؤمرون به« َو ِل ْلكافِ ِرينَ »يعني الذين يقولون راعنا على غير المعنى الذي قاله‬
‫ذاب أ َ ِلي ٌم »موجع من األلم ‪ ،‬وهو الوجع ‪ ،‬ويقال بالسريانية والعبرانية ( راعينا )‬ ‫ع ٌ‬ ‫المؤمنون« َ‬
‫بالياء والنون ‪ ،‬وأما من قرأ‬

‫ص ‪168‬‬

‫ص ‪169 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪105‬‬
‫ين أ َ ْن يُنَ هز َل َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن َخ ْي ٍر ِم ْن َر ِبه ُك ْم َو ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ب َوال ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ما يَ َو ُّد الهذ َ‬
‫يم «) ‪( 105‬‬ ‫ض ِل ا ْلعَ ِظ ِ‬‫ّللاُ ذُو ا ْلفَ ْ‬‫ص ِب َرحْ َمتِ ِه َم ْن يَشا ُء َو ه‬ ‫يَ ْخت َ ُّ‬
‫ص ِب َر ْح َم ِت ِه َم ْن يَشا ُء »جاء تعالى بلفظة من وهي نكرة فدخل تحتها كل شيء ‪ ،‬ألن‬ ‫ّللاُ يَ ْخت َ ُّ‬
‫َو َّ‬
‫كل شيء حي ناطق فيدخل تحت قوله من ‪ ،‬ألن بعض النحاة يعتقدون أن لفظة من ال تقع إال‬
‫ّللا وال يسبح إال من يعقل من يسبحه ‪ ،‬ويثني عليه بما‬ ‫على من يعقل ‪ ،‬وكل شيء يسبح بحمد ه‬
‫وّللا تعالى ما عرفنا أنه‬ ‫ّللا سبحانه ‪ ،‬ه‬ ‫يستحقه ‪ ،‬فمن تقع على كل شيء إذ كل شيء يعقل عن ه‬
‫اختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختص برحمته من يشاء وبفضله ‪ ،‬فإن أهل النار‬
‫معذبون بأعمالهم ال غير ‪ ،‬وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات االختصاص‬
‫‪ ،‬فألهل السعادة ثالث جنات ‪ :‬جنة أعمال وجنة اختصاص وجنة ميراث ‪ ،‬فينزل أهل الجنة‬
‫في الجنة على قدر أعمالهم ‪ ،‬ولهم جنات الميراث وهي التي كانت ألهل النار لو دخلوا الجنة ‪،‬‬
‫ولهم جنات االختصاص فالحكم هّلل العلي الكبير ‪ ،‬فإن االختصاص اإللهي ال يقبل التحجير وال‬
‫وّللا ذو الفضل العظيم‬ ‫ّللا ‪ ،‬يختص برحمته من يشاء ه‬ ‫الموازنة وال العمل ‪ ،‬وإن ذلك من فضل ه‬
‫‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫"راعنا " بالتنوين في الشاذ ‪ ،‬فهو من الرعن ‪ ،‬وهو الهوج ‪ ،‬أي ال تقولوا قوال راعنا ‪ ،‬ومنه‬
‫ّللا عليه وسلم‬‫الرعونة ‪ ،‬وقد روى أن سعد بن عبادة من األنصار لما قالت اليهود لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بذلك ‪ ،‬قال ‪ :‬لئن قالها رجل‬ ‫راعنا حين سمعوا المؤمنين يخاطبون محمدا صلهى ه‬
‫منكم للنبي ألضربن عنقه ‪ ،‬فإنه كان عارفا بما تواطئوا عليه في كالمهم ‪ ،‬إذ كانوا حلفاء لهم ‪،‬‬
‫ب »دخل في‬ ‫وقيل بل كان سعد بن معاذ ‪ ،‬ثم قال ( ‪ «) 106‬ما يَ َو ُّد الَّذِينَ َكفَ ُروا ِم ْن أ َ ْه ِل ْال ِكتا ِ‬
‫ذلك المنافق والذي لم ينافق« َو َال ْال ُم ْش ِر ِكينَ »عطف على أهل الكتاب ‪ ،‬وحذف من لداللة‬
‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن َخي ٍْر ِم ْن َر ِبه ُك ْم »حسدا من عندهم حيث لم يكن لهم ذلك‬ ‫األول عليه« أ َ ْن يُن ََّز َل َ‬
‫ص بِ َر ْح َمتِ ِه َم ْن يَشا ُء »في هذا تنبيه على رد من يقول إن النبوة مكتسبة ‪،‬‬ ‫ّللاُ يَ ْخت َ ُّ‬‫الخير« َو َّ‬
‫ّللا أنها اختصاص ‪ ،‬وكنهى عنها بالرحمة لكونه رحم بها نبيه عليه السالم ‪ ،‬ورحم بها‬ ‫فأخبر ه‬
‫ض ِل ْالعَ ِظ ِيم »أي‬ ‫ّللاُ ذُو ْالفَ ْ‬‫من بعث إليه من األمة ‪ ،‬حتى سلكوا به طريق هداهم ‪ ،‬ثم قال« َو َّ‬
‫باّلل ‪،‬‬
‫مزيد الخير الذي يعظم وروده وقدره في قلوب العلماء ه‬

‫ص ‪169‬‬

‫ص ‪170 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪106‬‬
‫ّللا عَلى ُك ِ هل َ‬
‫ش ْي ٍء‬ ‫سها نَأ ْ ِ‬
‫ت ِب َخ ْي ٍر ِم ْنها أ َ ْو ِمثْ ِلها أ َ لَ ْم ت َ ْعلَ ْم أ َ هن ه َ‬ ‫س ْخ ِم ْن آيَ ٍة أ َ ْو نُ ْن ِ‬ ‫ما نَ ْن َ‬
‫ِير(‪.)106‬‬ ‫قَد ٌ‬
‫س ْخ ِم ْن آيَ ٍة "‬ ‫"ما نَ ْن َ‬
‫[ في النسخ واالنساء ]‬
‫أي عالمة على صدق ما ادعاه ‪ ،‬فاآليات منسوخة في األولياء ألنهم مأمورون بسترها ‪،‬‬
‫محكمة في األنبياء والرسل« أ َ ْو نُ ْن ِسها »أي نتركها آية لألولياء كما كانت آية لألنبياء« نَأ ْ ِ‬
‫ت‬
‫ِب َخي ٍْر ِم ْنها »من باب المفاضلة أي بأزيد منها في الداللة ‪ ،‬وهي آيات اإلعجاز فال تكون إال‬
‫ألصحابها ‪ ،‬أو لمن قام فيها بالنيابة على صدق أصحابها ‪ ،‬فال يكون لولي قط هذه العالمة من‬
‫حيث صحة مرتبته ‪ ،‬وأما قوله« أ َ ْو ِمثْ ِلها »الضمير يرجع إلى اآلية المنسوخة ‪ ،‬فلم يكن لها‬
‫صفة اإلعجاز ‪ ،‬بل هي مثل األولى ‪ ،‬وال يصح حمل هذه اآلية على أنها آي القرآن التي نزلت‬
‫ّللا ما قال في آخر هذه اآلية « ا‬ ‫في األحكام ‪ ،‬فنسخ بآية ما كان ثبت حكمه في آية قبلها ‪ ،‬فإن ه‬
‫ير » *وال حكيم ‪ ،‬ومثل هذه األسماء هي التي تليق بنظم القرآن الوارد‬ ‫ع ِلي ٌم َخبِ ٌ‬ ‫لم تعلمإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫ِير»‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ّللا تعالى ‪ «:‬أ َ لَ ْم ت َ ْعلَ ْم أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫بآيات األحكام ‪ ،‬وإنما قال ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫على ُك ِهل‬ ‫ت بِ َخي ٍْر ِم ْنها أ َ ْو ِمثْ ِلها أ َ لَ ْم ت َ ْعلَ ْم أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫س ْخ ِم ْن آيَ ٍة أ َ ْو نُ ْن ِسها نَأ ْ ِ‬
‫ثم قال ( ‪ «) 107‬ما نَ ْن َ‬
‫ِير »« * » سبب نزول هذه اآلية فيما قيل ‪ ،‬أن اليهود قالت ‪ :‬أال تنظرون إلى محمد‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬
‫َ‬
‫يأمر بأمر ثم ينهى عنه ويأمر بخالفه ؟ فنزلت هذه اآلية ‪ ،‬وهذا السبب كأنه ال يصح عندي ‪،‬‬
‫ِير »على جهة‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫فإن مساق اآلية ال يعطيه ‪ ،‬فإنه قال في اآلية« أ َ لَ ْم ت َ ْعلَ ْم أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫المدح ‪ ،‬وإبدال حكم بحكم من طريق التكليف ما فيه ذلك المدح من جهة القدرة ‪ ،‬إذ كان هذا‬
‫تحت قدرة كل من له أمر مطاع في عشيرته ‪ ،‬بل اإلنسان في بيته ‪ ،‬بل في نفسه ‪ ،‬وإنما الذي‬
‫ّللا عليهم التي نصبها دالالت بحكم‬ ‫يقوي أنه سبحانه أراد باآلية هنا آيات األنبياء صلوات ه‬
‫س ْخ ِم ْن آيَ ٍة »أي من داللة‬ ‫اإلعجاز على صدقهم ‪ ،‬وقد تقدم تكرارها كثيرا فقال تعالى« ما نَ ْن َ‬
‫على صدق نبي ‪ ،‬ونسخها ذهابها ورفعها ‪ ،‬إذا كانت فعال ‪ ،‬فإنه ينقضي ‪ ،‬ولهذا أتى بها‬
‫نكرة «أ َ ْو نُ ْن ِسها »يقول ‪ :‬أو نتركها ‪ ،‬مثل القرآن الذي هو آية مستمرة إلى يوم القيامة فال‬
‫يعارض ‪ ،‬وكذلك من قرأ « أو ننساها » أو نؤخرها ‪ ،‬وهو ما بقي من الدالالت واآليات ولم‬
‫ت بِ َخي ٍْر ِم ْنها‬ ‫يذهب مثل القرآن وغيره ‪ ،‬والذي رفع كعصا موسى وإحياء الموتى ‪ ،‬وقوله« نَأ ْ ِ‬
‫»يقول ‪ :‬أقوى منها في الداللة ‪ ،‬ألن اآليات قد تظهر للعام والخاص ‪ ،‬فتكون أقوى من اآليات‬
‫التي ال يظهر كونها آية إال للعلماء ‪ ،‬وقوله« أ َ ْو ِمثْ ِلها»‬

‫) * (تفسير هذه اآلية بهذا المعنى الوارد هنا ‪ ،‬نسب إلى الشيخ محمد عبده كما جاء في تفسير‬
‫المنار ‪ ،‬والثابت كما هو واضح أن الشيخ األكبر محي الدين ابن العربي هو السابق لهذا‬
‫المعنى الذي لم يرد في تفسير آخر من كتب المفسرين‪.‬‬
‫ص ‪170‬‬

‫ص ‪171 :‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫فأراد اآليات التي ظهرت على أيدي األنبياء عليهم السالم لصدق دعواهم في أنهم رسل ه‬
‫فمنها ما تركها آية إلى يوم القيامة كالقرآن ‪ ،‬ومنها ما رفعها ولم تظهر إلى يوم القيامة ‪ ،‬واعلم‬
‫أن آيات األنبياء تختلف باختالف األعصار الختالف الزمان واختالف األحوال ‪ ،‬فيعطي هذا‬
‫الحال والزمان ما ال يعطيه الزمان والحال الذي كان قبله ‪ ،‬والذي يكون بعده ‪ ،‬فآية كل خليفة‬
‫ورسول من نسب الغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه ‪ ،‬أي شيء كان ‪ ،‬من طب أو سحر‬
‫ّللا عليهم إظهار اآليات لكونهم مأمورين بالدعاء‬
‫أو فصاحة وما شاكل هذا ‪ ،‬والرسل أوجب ه‬
‫ّللا ابتداء ‪ ،‬وهو ينشئ التشريع وينسخ بعض شرع مقرر على يد غيره من الرسل ‪ ،‬فال بد‬ ‫إلى ه‬
‫ّللا حكما على‬
‫ّللا إزالة ما قرره ه‬
‫من إظهار آية وعالمة تكون دليال على صدقه أنه يخبر عن ه‬
‫لسان رسول آخر ‪ ،‬إعالما بانتهاء مدة الحكم في تلك المسألة ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪107‬‬


‫ي ٍ َوال نَ ِص ٍ‬
‫ير ) ‪( 107‬‬ ‫ّللا ِم ْن َو ِل ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َوما لَ ُك ْم ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫أ َلَ ْم ت َ ْعلَ ْم أ َ هن ه َ‬
‫ّللا لَهُ ُم ْلكُ ال ه‬
‫ّللا بنصرته على األعداء األربعة ‪ :‬الهوى والنفس والدنيا والشيطان‪.‬‬ ‫األولياء هم الذين توالهم ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أي بآية مثلها في القوة في الداللة من الظهور وغيره ‪ ،‬فتكون هذه األخرى مقوية لألولى ‪ ،‬فإن‬
‫األدلة إذا توالت وإن خفيت يقوي بعضها بعضا ‪ ،‬فما من رسول أتى بآية إال وقوى بها آية‬
‫ّللا‬
‫الرسول األول ‪ ،‬واآليات التي هي دالالت على صدق الرسل هي التي ال يقدر عليها إال ه‬
‫تعالى على وجهين من اإلعجاز ‪ :‬الوجه األول ‪ ،‬أن يأتي بآية يعجز البشر عن اإلتيان بها أو‬
‫مثلها ‪ ،‬والوجه اآلخر ‪ ،‬الصرف وهو أن تكون تلك اآلية في مقدور البشر ويتحدى اآلتي بها‬
‫ّللا‬
‫أنه ال يقدر أحد أن يأتي بها فيصرفوا عنها ‪ ،‬وعلى كلتا الحالتين يثبت كونها آية ويعلم أن ه‬
‫على كل شيء قدير ‪ ،‬فيأتي ختم اآلية بالمدح بالقدرة في موضعه ‪ ،‬وال يكون هذا على ما ذهب‬
‫إليه من تقدمنا من المترجمين ‪ ،‬وما رأيت من تنبه لهذا مع وضوحه وبيانه ‪ ،‬إال أن يكون ولم‬
‫وّللا يقول الحق وهو‬ ‫يصل إلينا علمه ‪ ،‬فهذا ال يمنع ‪ ،‬فإني ما أحطت بأقوال الناس في ذلك ‪ ،‬ه‬
‫يهدي السبيل ‪ ،‬والحمد هّلل على نعمه التي ال تحصى ‪ ،‬وأما ترجمتي على مسئلة هاروت‬
‫وماروت فعلمتها في النوم في رؤيا رأيتها ‪ ،‬فوقفت عندها ‪ ،‬وجاءت الترجمة عن الكالم‬
‫ّللا لَهُ ُم ْلكُ‬
‫مطابقة له ‪ ،‬ثم قال تعالى مؤيدا لما ذهبنا إليه في هذا ( ‪ «) 108‬أ َ لَ ْم ت َ ْعلَ ْم أ َ َّن َّ َ‬
‫ض »واآليات ليست بخارجة عنهما‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫ال َّ‬

‫ص ‪171‬‬

‫ص ‪172 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 108‬إلى ‪109‬‬
‫يمان فَقَ ْد َ‬
‫ض هل‬ ‫اإل ِ‬ ‫سئِ َل ُموسى ِم ْن قَ ْب ُل َو َم ْن يَتَبَ هد ِل ا ْل ُك ْف َر ِب ْ ِ‬ ‫سولَ ُك ْم كَما ُ‬ ‫سئَلُوا َر ُ‬ ‫ُون أ َ ْن ت َ ْ‬
‫أ َ ْم ت ُ ِريد َ‬
‫س ِبي ِل ( ‪) 108‬‬ ‫سوا َء ال ه‬ ‫َ‬
‫سدا ا ِم ْن ِع ْن ِد أ َ ْنفُ ِس ِه ْم ِم ْن بَ ْع ِد ما‬ ‫ير ِم ْن أ َ ْه ِل ْال ِكتا ِ‬
‫ب لَ ْو يَ ُردُّونَ ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ِإيما ِن ُك ْم ُكفَّارا ا َح َ‬ ‫َو َّد َك ِث ٌ‬
‫ْ‬ ‫تَبَيَّنَ لَ ُه ُم ْال َح ُّق فَا ْعفُوا َوا ْ‬
‫ِير ( ‪«) 109‬‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ّللاُ بِأ َ ْم ِر ِه إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ي َّ‬‫صفَ ُحوا َحتَّى يَأتِ َ‬
‫ّللا تعالى لم يزل ربا ‪ ،‬ولم نزل‬ ‫سدا ا ِم ْن ِع ْن ِد أ َ ْنفُ ِس ِه ْم »للواسطة فإن الحسد في الجنس ‪ ،‬فإن ه‬ ‫َح َ‬
‫عبيدا في حال عدمنا ووجودنا ‪ ،‬فكل ما أمر سمعنا وأطعنا ‪ ،‬في حال عدمنا ووجودنا ‪ ،‬إذا لم‬
‫يخاطبنا بفهوانية األمثال واألشكال ‪ ،‬فإذا خاطبنا بفهوانية األمثال واألشكال وألسنة اإلرسال ‪،‬‬
‫فمن كان مشهوده ما وراء الحجاب وهو المثل والرسول سمع فأطاع من حينه ‪ ،‬ومن كان‬
‫مشهوده المثل سمع ضرورة ولم يطع للحسد الذي خلق عليه من تقدم أمثاله عليه ‪ ،‬فظهر‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ي على ه‬ ‫ي على مثله لكونه ما نفذ فيه أمره بالطاعة ‪ ،‬ما عص ه‬ ‫المطيع والعاصي ‪ ،‬أي عص ه‬
‫فإنه ال يتمكن أن يخالف أمره على الكشف ‪ ،‬فانحجب باإلرسال انحجابه باألسباب‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ُون َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫فهي في ملكه وتحت قدرته ‪ ،‬وهو الذي عجزكم عن اإلتيان بأمثالها ‪َ «،‬وما لَ ُك ْم ِم ْن د ِ‬
‫ي ٍ »ممن يتوالكم بالمعونة على اإلتيان بمثلها ‪ ،‬كما توليت أنا أنبيائي ورسلي بها« َوال‬ ‫ِم ْن َو ِل ه‬
‫ير » *وال من ينصركم بحجة على دفع ما جاءت به رسلي من اآليات كما نصرت أنا‬ ‫َص ٍ‬ ‫ن ِ‬
‫على قَ ْو ِم ِه )وقال تعالى ‪( :‬‬ ‫رسلي بها حجة عليكم ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬وتِ ْل َك ُح َّجتُنا آتَيْناها ِإبْرا ِه َ‬
‫يم َ‬
‫ّللف ْال ُح َّجةُ ْالبا ِلغَةُ )ومما يؤيد ما ذهبنا إليه قوله أيضا متصال بهذا ( ‪ «) 109‬أ َ ْم ت ُ ِريدُونَ‬ ‫َ ِ َّ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وأضافه إليهم ألنه‬ ‫سولَ ُك ْم »يعني محمدا صلهى ه‬ ‫»يعني اليهود« أ َ ْن ت َ ْسئَلُوا َر ُ‬
‫س ِئ َل ُموسى ِم ْن قَ ْب ُل »كما سأل أسالفكم موسى من قبل‬ ‫ممن بعث إليهم وإلى جميع الخلق« َكما ُ‬
‫ّللا َج ْه َرة ا )وغير ذلك مما قد ذكرناه فيما تقدم مما سألوه ‪ ،‬فهذا يدلك أنه أراد‬ ‫‪ ،‬فقالوا( أ َ ِرنَا َّ َ‬
‫نسخ اآليات المعجزات ال آيات األحكام ‪ ،‬إذ ليس للحكم هنا مدخل وال يدل عليه وصف ‪ ،‬فصح‬
‫ما ذكرناه ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َم ْن يَتَبَ َّد ِل ْال ُك ْف َر‬

‫ص ‪172‬‬

‫ص ‪173 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪110‬‬
‫ّللا ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ون‬ ‫الزكاةَ َوما تُقَ ِ هد ُموا ِأل َ ْنفُ ِ‬
‫س ُك ْم ِم ْن َخ ْي ٍر ت َ ِجدُوهُ ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللا ِإ هن ه َ‬ ‫َوأَقِي ُموا ال ه‬
‫صلةَ َوآتُوا ه‬
‫ير ) ‪( 110‬‬‫بَ ِص ٌ‬
‫تضاف الصالة إلى البشر بمعنى الرحمة والدعاء واألفعال المعلومة شرعا ‪ ،‬فجمع البشر هذه‬
‫المراتب الثالث المسماة صالة‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ض َّل »يقول ‪ :‬فقد‬ ‫يمان »وهو قوله ‪ ( :‬ا ْشت َ َر ُوا الضَّاللَةَ ِب ْال ُهدى ) *وقد شرحناه قبل« فَقَ ْد َ‬ ‫اإل ِ‬ ‫ِب ْ ِ‬
‫س ِبي ِل »أي عدل والتفت عن الطريق المستقيم الموصل إلى السعادة ‪ ،‬وهو‬ ‫سوا َء ال َّ‬
‫حاد عن« َ‬
‫ب لَ ْو يَ ُردُّونَ ُك ْم‬‫ير ِم ْن أ َ ْه ِل ْال ِكتا ِ‬
‫يم )( ‪َ «) 110‬و َّد َك ِث ٌ‬ ‫ط ْال ُم ْست َ ِق َ‬ ‫صرا َ‬ ‫قوله فيما ندعوه به( ا ْه ِدنَا ال ِ ه‬
‫ِم ْن بَ ْع ِد إِيمانِ ُك ْم ُكفَّارا ا »يقول ‪ :‬يتمنى اليهود أن تصغوا إليهم فيما يلقونه إليكم من الكفر في‬
‫ّللا عليه وسلم«‬ ‫معرض النصيحة « ليردوكم » أي ليرجعوكم« ِم ْن بَ ْع ِد إِيمانِ ُك ْم »بمحمد صلهى ه‬
‫سدا ا »أي يفعلوا ذلك حسدا لعلمهم بأنكم على الحق وأنكم تسعدون بذلك ‪،‬‬ ‫ُكفَّارا ا »به مثلهم« َح َ‬
‫وقوله ‪ِ «:‬م ْن ِع ْن ِد أ َ ْنفُ ِس ِه ْم »يقول ‪ :‬إن الذي جاءوا به لم يكن من كتابهم ‪ ،‬فما قالوه إال من‬
‫صفَ ُحوا‬ ‫عندهم ‪ ،‬ألنه قال ‪ِ «:‬م ْن بَ ْع ِد ما تَبَيَّنَ لَ ُه ُم ْال َح ُّق »الذي أنتم عليه ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فَا ْعفُوا َوا ْ‬
‫»دليل على تقدم ذنب ظهر للمؤمنين منهم ‪ ،‬إذ التمني من عمل القلب فيكون الذنب الذي أمر‬
‫المؤمنون بأن ال يؤاخذوهم عليه ‪ ،‬هو ما روي أنهم اجتمعوا بطائفة من الصحابة بعد وقعة أحد‬
‫وقالوا لهم ‪:‬‬
‫"لو كنتم على الحق ما نصر عليكم عدوكم من المشركين ‪ ،‬فارجعوا إلى ما نحن عليه واتركوا‬
‫ما جاءكم بهم محمد "‬
‫باّلل ربا وباإلسالم دينا وبمحمد نبيا ]‬ ‫ّللا عليه وسلم فأبت الصحابة ‪ ،‬وقالوا ‪ [ :‬رضينا ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللاُ ِبأ َ ْم ِر ِه »يحتمل وجهين ‪ :‬الواحد‬ ‫ْ‬
‫ي َّ‬ ‫صفَ ُحوا َحتَّى يَأ ِت َ‬‫ّللا« فَا ْعفُوا َوا ْ‬ ‫وأرادوا مجازاتهم ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫ّللا )والوجه اآلخر ‪ ،‬ما أمروا به بعد ذلك من قتل بني‬ ‫‪ ،‬يوم القيامة قال تعالى ‪ ( :‬أَتى أ َ ْم ُر َّ ِ‬
‫ِير »أي أنه القدير على مجازاتهم على‬ ‫على ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫قريظة وإجالء بني النضير« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا فيهم لئال تشترك الصحابة في مجازاتهم من غير أمر ه‬ ‫ذلك ‪ ،‬ولكن أمهلهم إلى وقت يحكم ه‬
‫ّللا أولياءه‬ ‫‪ ،‬بل من عند أنفسهم ‪ ،‬كما فعلوا هم بما قالوه من عند أنفسهم ال من كتابهم ‪ ،‬فنزه ه‬
‫ّللا عليه وسلم في قوله ( ‪:‬‬ ‫المؤمنين عن أن يشاركوهم في هذا القدر ‪ ،‬وليقتدوا بمحمد صلهى ه‬
‫صالة َ َوآتُوا َّ‬
‫الزكاة َ‬ ‫ي ) *ثم أتبع ذلك بقوله لهم ‪َ )« 111 ( :‬وأَقِي ُموا ال َّ‬ ‫إِ ْن أَتَّبِ ُع إِ َّال ما يُوحى إِلَ َّ‬
‫»يقول لهم ‪ :‬واشتغلوا بما كلفتموه من إقامة الصالة وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وقد تقدم شرحهما ‪ ،‬ثم‬
‫أخبرهم فقال «‪َ :‬وما تُقَ ِ هد ُموا ِأل َ ْنفُ ِس ُك ْم ِم ْن َخي ٍْر »أي ما تقدمونه بين أيديكم آلخرتكم من أجل‬
‫نفوسكم أن يعود عليها من خير مما شرعناه‬

‫ص ‪173‬‬

‫ص ‪174 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪111‬‬
‫َوقالُوا لَ ْن يَ ْد ُخ َل ا ْل َجنهةَ ِإاله َم ْن َ‬
‫كان ُهودا ً أ َ ْو نَصارى تِ ْلكَ أَمانِيُّ ُه ْم قُ ْل هاتُوا بُ ْرهانَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم‬
‫ين ) ‪( 111‬‬ ‫صا ِدقِ َ‬
‫ى ِم ْن‬ ‫على ُهد ا‬ ‫ّللا تعالى في أول سورة البقرة في قوله «‪ :‬أُول ِئ َك َ‬ ‫فأكذبهم في التحجير بما ذكره ه‬
‫َر ِبه ِه ْم َوأُولئِ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ «» قُ ْل هاتُوا بُ ْرهانَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِينَ »البراهين ال تخطئ في‬
‫نفس األمر ‪ ،‬وإن أخطأ المبرهن عليه ‪ ،‬فذلك راجع إليه ‪ ،‬وأما البرهان ‪ ،‬فقوي السلطان‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا »كما ورد في الصحيح [ إن الصدقة تقع بيد‬ ‫لكم من األعمال المقربة إلينا« ت َ ِجدُوهُ ِع ْن َد َّ ِ‬
‫الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ]‬
‫وقوله ‪ [ :‬إن فالنا استطعمك ‪ -‬الحديث ] وفيه [ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ] وقوله «‪:‬فَإِ َّن‬
‫ير »إذا كان بالياء المنقوطة من أسفل فهو وعيد لهم ‪ ،‬أي اشتغلوا بما كلفتم‬ ‫ص ٌ‬ ‫ّللا بِما يَ ْع َملُونَ بَ ِ‬
‫َّ َ‬
‫ّللا بما يعملون بصير ‪ ،‬والعامل في الباء بصير ‪ ،‬وبصير هنا عالم‬ ‫عنهم وعن عقوبتهم ‪ ،‬فإن ه‬
‫بأعمالهم ‪ ،‬أي بقصدهم فيها ‪ ،‬هل يسعدهم ذلك أو يشقيهم ‪ ،‬إذ ليس للرؤية بمعنى البصر فائدة‬
‫ّللا على ذلك الحد من علمه بالقصد في العمل ‪ ،‬ثم‬ ‫‪ ،‬ومن قرأ بالتاء فهو للمؤمنين خطاب من ه‬
‫أخبر عنهم فقال ‪َ «) 112 ( :‬وقالُوا لَ ْن يَ ْد ُخ َل ْال َجنَّةَ ِإ َّال َم ْن كانَ ُهودا ا أ َ ْو نَصارى »جمع‬
‫بالضمير بين القولين التحاد المقول ‪ ،‬وهو دخول الجنة ‪ ،‬إذ كل واحد من الطائفتين يضلل‬
‫ش ْيءٍ )عن اليهود ‪ ،‬ومثل ذلك من‬ ‫على َ‬ ‫ت النَّصارى َ‬ ‫األخرى كما سيأتي في قولهم ‪ ( :‬لَ ْي َ‬
‫س ِ‬
‫النصارى ‪ ،‬فكأنه قال ‪ :‬وقالت اليهود لن يدخل الجنة إال من كان هودا ‪ ،‬جمع هائد ‪ ،‬كعوذ‬
‫جمع عائذ ‪ ،‬وحول جمع حائل ‪ ،‬ويقال للمذكر والمؤنث بلفظ واحد ‪ ،‬وقد يكون هودا مصدر‬
‫يؤدي عن الجمع ‪ ،‬كما يقال رجل صوم ‪ ،‬وزور ‪ ،‬وفطر ‪ ،‬للواحد واالثنين والجمع ‪ ،‬وقالت‬
‫النصارى ‪ :‬لن يدخل الجنة إال من كان نصرانيا ‪ ،‬فقال تعالى ‪ِ «:‬ت ْل َك أَما ِنيُّ ُه ْم »أي لم يكن‬
‫ّللا ذلك منهم ‪ ،‬فتلك إشارة إلى‬ ‫اإلخبار عما يجدونه في كتبهم ‪ ،‬وإنما هو شيء يتمنونه ‪ ،‬يعلم ه‬
‫ف‬‫القولة إنها من أمانيهم المتقدمة ‪ ،‬كقوله ‪ ( :‬ما يَ َو ُّد الَّذِينَ َكفَ ُروا )و( يَ َو ُّد أ َ َح ُد ُه ْم لَ ْو يُعَ َّم ُر أ َ ْل َ‬
‫ب لَ ْو يَ ُردُّونَ ُك ْم )فتلك األماني ‪ ،‬وأما احتجاجنا على التمني بقوله‬ ‫ير ِم ْن أ َ ْه ِل ْال ِكتا ِ‬‫سنَ ٍة )و( َو َّد َكثِ ٌ‬ ‫َ‬
‫ّللا عليه‬ ‫ه‬
‫ّللا لمحمد صلى ه‬ ‫‪ ( :‬ما يَ َو ُّد )وهو نفي التمني فلما يتضمنه من تمني النقيض ‪ ،‬ثم قال ه‬
‫وسلم «قُ ْل »يا محمد لهم« هاتُوا بُ ْرهانَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِد ِقينَ »فإن الذي جاءوا به هو خبر‬
‫محتاج إلى دليل على صدقه ‪ ،‬وليس لهم حجة ‪ ،‬ألنه خبر عن تمنيهم ‪ ،‬وليس في اللفظ ما يدل‬
‫ّللا‬
‫على التمني ‪ ،‬وإنما عرفنا ذلك من كون ه‬

‫ص ‪178‬‬

‫ص ‪175 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪112‬‬
‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم‬
‫ف َ‬ ‫س ٌن فَلَهُ أَجْ ُرهُ ِع ْن َد َر ِبه ِه َوال َخ ْو ٌ‬ ‫بَلى َم ْن أ َ ْ‬
‫سلَ َم َوجْ َههُ ِ ه ِ‬
‫َّلل َو ُه َو ُمحْ ِ‬
‫ون(‪.)112‬‬ ‫يَحْ َزنُ َ‬
‫اعلم أن اإلحسان أعلى درجة في اإليمان ‪ ،‬وأعلى اإلحسان المشاهدة ‪ ،‬وأدناه المراقبة ‪،‬‬
‫ين »والصدق في هذه‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد َوإِي َ‬
‫والمحسن قد تحقق الصدق في دعوى قوله« إِي َ‬
‫ين »خطاب‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد َوإِي َ‬‫الدعوى إنما يكون باإلخالص هّلل سبحانه وحده ‪ ،‬فقوله ‪ «:‬إِي َ‬
‫ّللا تعالى فينا‬
‫لموجود يشاهد مع العبادة ‪ ،‬ويراقب مع االستعانة ‪ ،‬ألننا مع المشاهدة نرى أفعال ه‬
‫وفي غيرنا ‪ ،‬ومع المراقبة نعلم أنه الذي أسمعنا ما نسمعه في أنفسنا ومن غيرنا ‪ ،‬وهو الذي‬
‫أوجد حركاتنا وحركات غيرنا وسكناتهم ‪ ،‬فالمشاهدة على هذا رؤية تقع موقع العيان ‪،‬‬
‫والمراقبة رؤية قلب ‪ ،‬وال تتحقق العبادة واالستعانة إال ممن يعرف المشاهدة والمراقبة ‪ ،‬فمن‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬‫أسلم وآمن وأحسن فقد عرف معالم الدين الذي نزل به جبريل على النبي صلهى ه‬
‫ليعلم األمة معالم دينهم ‪ ،‬وال يظفر بهذه الصفة إال من أسلم وجهه هّلل وهو محسن‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا صادق‬ ‫ّللا ‪ ،‬فهو شرح الشرح ‪ ،‬لعلمنا بأن ه‬ ‫تعالى أخبر أن ذلك من أمانيهم ‪ ،‬فشرحنا لكالم ه‬
‫ّللا فقال ‪( :‬‬ ‫فيما يخبر به ‪ ،‬وال حجة لهم وال برهان على صدق ما أخبروا به ‪ ،‬ثم أكذبهم ه‬
‫ّلل َو ُه َو ُم ْح ِس ٌن »قوله ‪ «:‬بَلى »إثبات لما نفوه من دخول غيرهم‬ ‫‪ «) 113‬بَلى َم ْن أ َ ْسلَ َم َو ْج َههُ ِ َّ ِ‬
‫الجنة ‪ ،‬ولم يقل سبحانه إن اليهود والنصارى ال يدخلون الجنة ‪ ،‬فإن اليهود والنصارى الذين‬
‫ّللا عليه وسلم إنهم يدخلون‬ ‫آمنوا بنبيهم وأسلموا هّلل وأحسنوا وماتوا قبل بعث محمد صلهى ه‬
‫الجنة ‪ ،‬فلهذا أضرب عن تعيين طائفة بعينها منا أو منهم ‪ ،‬وأتى بمن لفظة عامة ‪ ،‬تعم كل من‬
‫عينه الوصف الذي وصفت به من إسالم الوجه هّلل واإلحسان ‪ ،‬فكأنه يقول ليهود المدينة‬
‫القائلين هذا والنصارى ‪ :‬إنما يدخل الجنة من كان بهذه الصفة ‪ ،‬وهم أعلم بنفوسهم ‪ ،‬هل هم‬
‫بهذه الصفة أم ال ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فَلَهُ »الفاء جواب من ‪ ،‬والضمير يعود عليه ‪ « ،‬وأسلم » بمعنى‬
‫ّللا حيث أمره« َو ُه َو ُم ْح ِس ٌن‬ ‫ّللا ‪ ،‬أي ألمر ه‬
‫انقاد و « وجهه » عينه وذاته « هّلل » من أجل ه‬
‫ّللا كأنه يراه ‪ ،‬وقد يخرج محسن على إتيان مكارم األخالق«‬ ‫»يعني في انقياده ‪ ،‬وهو أن يعبد ه‬
‫ف‬‫فَلَهُ أ َ ْج ُرهُ »على عمله ذلك الذي فرض له ‪ ،‬سواء طلبه أو لم يطلبه« ِع ْن َد َر ِبه ِه »« َوال َخ ْو ٌ‬
‫ت‬ ‫س ِ‬ ‫ت ْاليَ ُهو ُد لَ ْي َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْحزَ نُونَ »قد تقدم شرحه في أول السورة «) ‪َ ( 114‬وقالَ ِ‬ ‫َ‬
‫ش ْيءٍ »اآلية ‪ ،‬يتوجه في هذه المقالة ثالثة أوجه ‪،‬‬ ‫على َ‬ ‫النَّصارى َ‬

‫ص ‪175‬‬

‫ص ‪176 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 113‬إلى ‪114‬‬
‫ت ا ْليَ ُهو ُد عَلى َ‬
‫ش ْي ٍء َو ُه ْم‬ ‫س ِ‬ ‫ت النهصارى لَ ْي َ‬ ‫ش ْي ٍء َوقالَ ِ‬ ‫ت النهصارى عَلى َ‬ ‫س ِ‬ ‫ت ا ْليَ ُهو ُد لَ ْي َ‬ ‫َوقالَ ِ‬
‫ون ِمثْ َل قَ ْو ِل ِه ْم فَ ه‬
‫اَّللُ يَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة فِيما كانُوا‬ ‫ِين ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫تاب كَذ ِلكَ قا َل الهذ َ‬ ‫ون ا ْل ِك َ‬ ‫يَتْلُ َ‬
‫سعى ِفي َخرا ِبها‬ ‫س ُمهُ َو َ‬ ‫ّللا أ َ ْن يُ ْذك ََر ِفي َها ا ْ‬ ‫ون ( ‪َ ) 113‬و َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ْن َمنَ َع َم ِ‬
‫ساج َد ه ِ‬ ‫ِفي ِه يَ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ي َولَ ُه ْم فِي ْاآل ِخ َر ِة ع ٌ‬
‫َذاب ع َِظي ٌم‬ ‫ين لَ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا ِخ ْز ٌ‬ ‫كان لَ ُه ْم أ َ ْن يَ ْد ُخلُوها إِاله خائِ ِف َ‬
‫أُولئِكَ ما َ‬
‫) ‪( 114‬‬
‫الدنيا هي الدار القريبة إلينا ‪ ،‬نشأنا فيها وما رأينا سواها ‪ ،‬فهي المشهودة وهي الحفيظة علينا‬
‫ّللا ‪ ،‬وهي الدار‬ ‫ّللا ‪ ،‬وفيها ظهرت شرائع ه‬ ‫والرحيمة بنا ‪ ،‬فيها عملنا األعمال المقربة إلى ه‬
‫الجامعة لجميع األسماء اإللهية فظهرت فيها آالء الجنان وآالم النار ‪ ،‬ففيها العافية والمرض ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الوجه الواحد ‪ ،‬مباهتة بعضهم لبعض مع معرفة كل فريق منهم أن الفريق اآلخر على حق ‪ ،‬إذ‬
‫كان كل فريق أهل كتاب ‪ ،‬وأن في التوراة نبوة عيسى ‪ ،‬وفي اإلنجيل نبوة موسى ‪ ،‬والوجه‬
‫الثاني ‪ ،‬أن يقول كل فريق ليس اآلخر على شيء من دينه ‪ ،‬أي أنه ال يعمل بدينه وال بما أنزل‬
‫عليه ‪ ،‬فإن النصارى لو آمنت باإلنجيل لصدقتنا ‪ ،‬فإن اإلنجيل يصدقنا ‪ ،‬وتقول النصارى لو‬
‫آمنت اليهود بالتوراة لعرفت أنا على الحق ‪ ،‬فإن التوراة تصدقنا ‪ ،‬والوجه الثالث ‪ ،‬أن يكونوا‬
‫ّللا عليه وسلم ارتفعت كل شريعة قبله ‪ ،‬فقالت‬ ‫صادقين فيما قالوه ‪ ،‬فإنه ببعث محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم والقرآن نسخ‬ ‫اليهود وصدقت ليست النصارى على شيء فإن بعث محمد صلهى ه‬
‫على‬‫ت ْاليَ ُهو ُد َ‬ ‫ت النَّصارى »وصدقت« لَ ْي َ‬
‫س ِ‬ ‫شرعهم ‪ ،‬فإن اإلنجيل يدلهم على ذلك ‪َ «،‬وقالَ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم والقرآن نسخ دينهم وهو في التوراة عندهم ‪ ،‬وهو‬ ‫ش ْيءٍ »ألن بعث محمد صلهى ه‬ ‫َ‬
‫أصدق الوجوه فيما يرجع إلى علمهم بما في كتابهم ‪ ،‬فهو اعتقادهم وإن لم يتلفظوا به ‪ ،‬ولهذا‬
‫تاب »يعني التوراة واإلنجيل ‪ ،‬فيعلمون الحق بيد من هو ‪،‬‬ ‫ّللا تعالى ‪َ «:‬و ُه ْم يَتْلُونَ ْال ِك َ‬ ‫قال ه‬
‫ّللا تعالى أشد التوبيخ حيث شبههم بمشركي العرب الذين‬ ‫وهو بيد محمد عليه السالم ‪ ،‬فوبخهم ه‬
‫ليسوا أهل كتاب وأنكروا نبوة محمد عليه السالم ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬كذ ِل َك قا َل الَّذِينَ ال يَ ْعلَ ُمونَ »وهم‬
‫المقلدة« ِمثْ َل قَ ْو ِل ِه ْم »يعني قول علمائهم ‪ ،‬ثم قال «‪:‬فَ َّ‬
‫اّللُ يَ ْح ُك ُم بَ ْينَ ُه ْم »الضمير يعود على‬
‫المتنازعين من جهة المعنى المقصود كانوا من كانوا ‪ ،‬ولهذا لم يثن على إرادة الطائفتين قال‬
‫ص ُمونَ ) ‪،‬وهو قوله ‪ «:‬يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة ِفيما كانُوا ِفي ِه‬ ‫تعالى ‪ ( :‬ث ُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة ِع ْن َد َر ِبه ُك ْم ت َ ْخت َ ِ‬
‫يَ ْخت َ ِلفُونَ »( ‪) 115‬‬
‫ّللا »اآلية ‪ ،‬وإن نزلت‬ ‫ساج َد َّ ِ‬‫ظلَ ُم ِم َّم ْن َمنَ َع َم ِ‬ ‫« َو َم ْن أ َ ْ‬

‫ص ‪176‬‬

‫ص ‪177 :‬‬
‫وفيها السرور والحزن ‪ ،‬وفيها السر والعلن ‪ ،‬وما في اآلخرة أمر إال وفيها منه مثل ‪ ،‬وهي‬
‫ّللا أمانات لعباده لتؤديها إليهم وهي ترقب أحوال أبنائها ما يفعلون‬
‫األمينة الطائعة هّلل ‪ ،‬أودعها ه‬
‫بتلك األمانات التي أدتها إليهم ‪ ،‬هل يعاملونها بما تستحق كل أمانة لما وضعت له ‪ ،‬فمنها أمانة‬
‫ّللا على ما أوالهم من ذلك على يديها ‪،‬‬ ‫توافق غرض نفوس األبناء ‪ ،‬فترقبهم هل يشكرون ه‬
‫ومنها أمانات ال توافق أغراضهم ‪ ،‬فترقب أحوالهم هل يقبلونها بالرضى والتسليم لكونها هدية‬
‫ّللا ‪ ،‬فيقولون في األولى ‪ :‬الحمد هّلل المنعم المفضل ‪ ،‬ويقولون فيما ال يوافق الغرض ‪:‬‬ ‫من ه‬
‫الحمد هّلل على كل حال ‪ ،‬فيكونون من الحامدين في السراء والضراء ‪ ،‬فتعطيهم الدنيا هذه‬
‫األمانات نقية طاهرة من الشوب ‪ ،‬فبعض أمزجة األبناء الذين هم كالبقعة للماء واألوعية لما‬
‫يجعل فيها ‪ ،‬فيؤثر مزاج تلك البقعة في الماء والماء كله طيب عذب في أصله ‪ ،‬قال قتادة ‪:‬ما‬
‫أنصف الدنيا أحد ‪ ،‬ذمت بإساءة المسئ فيها ‪ ،‬ولم تحمد بإحسان المحسن فيها ‪ ،‬فلو كانت بذاتها‬
‫وّللا قد وصفها‬
‫تعطي القبح والسوء ما تمكن أن يكون فيها نبي مرسل وال عبد صالح ‪ ،‬كيف ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إذا‬ ‫بالطاعة فقال ‪ :‬إن علوها وسفلها قاال ‪ :‬أتينا طائعين ‪ ،‬قال رسول ه‬
‫ّللا أعصانا لربه ‪ ،‬فهذا ابن‬
‫ّللا الدنيا قالت الدنيا ‪ :‬لعن ه‬
‫قال أحدكم ‪ :‬لعن ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫هذه اآلية في سبب خاص ولكن الحكم عام ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬و َم ْن »فأتى بصيغة النكرة ‪ ،‬يقول ‪ :‬ومن‬
‫ّللا في المساجد ‪ ،‬وهي البيوت التي جعلها‬ ‫أشد ظلما من شخص منع من أراد« أ َ ْن »يذكر ه‬
‫معبدا تؤدى فيها فرائضه و« يُ ْذ َك َر فِي َها ا ْس ُمهُ »وأمر برفعها عما يجوز من العمل في البيوت ‪،‬‬
‫ّللاُ أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع َويُ ْذ َك َر فِي َها ا ْس ُمهُ يُ َ‬
‫س ِبه ُح )أي يصلي ( له ) هّلل( فِي َها )في‬ ‫ت أَذِنَ َّ‬‫فقال ‪ ( :‬فِي بُيُو ٍ‬
‫المساجد ‪ ،‬فهل ترفع عن دخول الكفار فيها ؟‬
‫هي مسألة خالف فيما يحرم من ذلك ‪ ،‬وأما تنزيهها عن ذلك على جهة الندب فال خالف فيه ‪،‬‬
‫ّللاُ أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع » ‪،‬أي أمر وحمله على الوجوب ‪ ،‬منع من دخول الكفار جميع‬ ‫فمن خرج« أ َذِنَ َّ‬
‫المساجد ‪ ،‬المشركين وغيرهم ‪ ،‬وأما المسجد الحرام الذي بمكة فقد ورد النص بأن ال يقربه‬
‫مشرك وأنه نجس ‪ ،‬فمن علل المنع بالنجاسة وجعل النجاسة لكفره وعلل المسجد لكونه مسجدا‬
‫منع الكفار كيفما كانوا من جميع المساجد ‪ ،‬ومن رأى أن ذلك خاص بالمسجد الحرام ولهذا‬
‫خص بالذكر وأن ما عدا المشرك وإن كان كافرا ال يتنزل منزلته ‪ ،‬منع دخول المشرك المسجد‬
‫ت )وجوز الدخول فيه لمن ليس بمشرك ‪ ،‬ومن‬ ‫الحرام وكل مسجد ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ِ ( :‬في بُيُو ٍ‬
‫أخذ بالظاهر ولم يعلل منع المشرك خاصة من المسجد الحرام خاصة ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم حبس في المسجد في المدينة ثمامة بن أثال حين أسر وهو مشرك ‪ ،‬وهو األوجه ‪،‬‬
‫ومنع « ‪ » 1‬غير المشرك من‬

‫) ‪( 1‬هكذا في األصل والصواب ولم يمنع‪.‬‬


‫ص ‪177‬‬

‫ص ‪178 :‬‬
‫عاق لها ‪ ،‬كيف لعنها وصرح باسمها ‪ ،‬والدنيا من حنوها على أبنائها لم تقدر أن تلعن ولدها ‪،‬‬
‫ّللا أعصانا لربه ‪ ،‬وما قدرت أن تسميه باسمه ‪ ،‬فهذا من حنو األم وشفقتها على‬ ‫فقالت ‪ :‬لعن ه‬
‫ّللا به من طاعته ‪ ،‬وال وفقنا وال وفينا ما رأيناه من‬
‫ولدها ‪ ،‬فيا عجبا فينا لم نقف عندما أمرنا ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬نعمت الدنيا مطية ‪،‬‬‫أخالق هذه األم وحنوها علينا ومحبتها ‪ ،‬وقال النبي صلهى ه‬
‫عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر ‪ ،‬فوصفها بأن حذرها على أبنائها تذكرهم بالشرور‬
‫وتهرب بهم منها ‪ ،‬وتزين لهم الخير وتشوقهم إليه ‪ ،‬فهي تسافر بهم وتحملهم من موطن الشر‬
‫ّللا فيها من األوامر اإللهية المسماة شرائع ‪،‬‬
‫إلى موطن الخير وذلك لشدة مراقبتها إلى ما أنزل ه‬
‫ّللا عليه وسلم قد وصفها بأحسن الصفات‬ ‫فتحب أن يقوم بها أبناؤها ليسعدوا ‪ .‬فهذا صلهى ه‬
‫وجعلها محال للخيرات ‪ ،‬والناس نسبوا ما كانوا عليه من أحوال الشرور التي عيهنها الشارع‬
‫إلى الدنيا ‪ ،‬وهي أحوالهم ما هي أحوال الدنيا ‪ ،‬ألن الشر هو فعل المكلف ما هو الدنيا ‪،‬‬
‫ّللا التي عينها الشارع لآلخرة ‪ ،‬وهي‬‫ونسبوا ما كانوا عليه من أحوال الخير ومرضات ه‬
‫أحوالهم ما هي أحوال اآلخرة ‪ ،‬ألن الخير هو فعل المكلف ما هو اآلخرة ‪ ،‬فللدنيا أجر‬
‫المصيبة في أوالدها من أوالدها ‪ ،‬فمن عرف الدنيا بهذه المثابة فقد عرفها ‪ ،‬ومن لم يعرفها‬
‫بهذه المثابة وجهلها مع كونه فيها مشاهدا ألحوالها شرعا وعقال فهو باآلخرة أجهل ‪ ،‬فراقبوا‬
‫ّللا ‪ ،‬مراقبة الدنيا أبناءها ‪ ،‬فهي األم الرقوب ‪ ،‬وكونوا على أخالق أمكم تسعدوا‪.‬‬ ‫ّللا هنا عباد ه‬
‫ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫المسجد الحرام ومن المساجد ومنع المشرك من سائر المساجد أولى ‪ ،‬لقوله تعالى ( ‪ :‬أَذِنَ َّ‬
‫ّللاُ‬
‫ّللا بالظلم الشديد من منع المسجد‬ ‫أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع )إال أن يقترن بذلك أمر أو حالة فال بأس ‪ ،‬فوصف ه‬
‫ّللا فيه بصالة وغيرها ‪ ،‬ولم يخص أهل دين من أهل دين إذا كان قصد‬ ‫ممن أراد أن يذكر ه‬
‫سعى‬ ‫ع ِن ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫رام ) ‪،‬وقوله «‪َ :‬و َ‬ ‫ّللا فيها ‪ ،‬فهذا قوله ‪ ( :‬أ َ ْن َ‬
‫صدُّو ُك ْم َ‬ ‫الداخل إليها ذكر ه‬
‫ِفي خَرا ِبها »وجهان ‪ :‬الوجه الواحد هدمها وإزالة رسمها ‪ ،‬حتى ال يبقى لها حد يعرف من‬
‫ّللا من غير منار األرض لما يؤدي ذلك إليه من إبطال الوقوف‬ ‫غيرها من المواضع ‪ ،‬وقد لعن ه‬
‫وأكل األموال بالباطل ‪ ،‬فإن خرب سلطان أو أحد مسجدا لما في بقائه من الضرر لمنازلة عدو‬
‫ومحاصرة بلد ‪ ،‬أو لمنفعة التساع خندق أو موضع قتال ‪ ،‬ففيه نظر ‪ ،‬وهل يبني المخرب له‬
‫عوضا منه في موضع آخر ويرد الوقف الذي كان له إلى ما بناه بدال منه ؟ أو لمن يرجع‬
‫الوقف هل لصاحبه أو لبيت المال أو لما يبنى بدله ؟ والوجه اآلخر منع الذكر فيها سعي في‬
‫ّللا ‪ ،‬وأما‬
‫خرابها ‪ ،‬إذ كان بناؤها إلقامة ذكر ه‬

‫ص ‪178‬‬

‫ص ‪179 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪115‬‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪) 115‬‬‫س ٌع َ‬‫ّللا وا ِ‬ ‫ب فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا فَث َ هم َوجْ هُ ه ِ‬
‫ّللا ِإ هن ه َ‬ ‫ق َوا ْل َم ْغ ِر ُ‬
‫َّلل ا ْل َمش ِْر ُ‬‫َو ِ ه ِ‬
‫ّللا جل جالله عن التقييد ‪ ،‬فهو‬ ‫ّللا »هذه حقيقة منزهة بال خالف ‪ ،‬فإن ه‬ ‫« فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا فَث َ َّم َو ْجهُ َّ ِ‬
‫ّللا موجود في كل جهة يتولى أحد إليها ‪ ،‬وال بد لكل مخلوق من التولي‬ ‫قبلة القلوب ‪ ،‬فوجه ه‬
‫إلى أمر ما ‪ ،‬ووجه الشيء ذاته وحقيقته ‪ ،‬فكما نسب الحق الفوقية لنفسه من سماء وعرش ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا »لحكم المراتب ‪ ،‬فإن ه‬ ‫نسب لنفسه اإلحاطة بالجهات كلها بقوله ‪ «:‬فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا فَث َ َّم َو ْجهُ َّ ِ‬
‫تعالى جعل وجهه في كل جهة ليعصم من شاء ويحفظ من شاء ‪ ،‬فإن الحق مع بعض عباده‬
‫بالوالية والعناية وبالكالءة والرعاية ‪ ،‬فله تعالى عين في كل أين ‪ ،‬ومع هذا لو تولى اإلنسان‬
‫في صالته إلى غير الكعبة مع علمه بجهة الكعبة لم تقبل صالته ‪ ،‬ألنه ما شرع له إال استقبال‬
‫هذا البيت الخاص ‪ ،‬بهذه العبادة الخاصة ‪ ،‬فإذا تولى في غير هذه العبادة التي ال تصح إال‬
‫ّللا يقبل ذلك التولي مثل الصالة على الراحلة ‪ ،‬فالمستقبل ال‬ ‫بتعيين هذه الجهة الخاصة ‪ ،‬فإن ه‬
‫يتقيد فهو بحسب ما تمشي به الراحلة ‪ ،‬كما أنه لو اعتقد أن كل جهة يتولى إليها ما فيها وجه‬
‫ّللا لكان كافرا وجاهال ‪ ،‬ولوال أن اإلجماع سبق في أن التوجه إلى القبلة أعني الكعبة شرط من‬ ‫ه‬
‫شروط صحة الصالة ‪ ،‬لما كان ذلك شرطا في صحتها ‪ ،‬فإن قوله تعالى ‪ «:‬فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا فَث َ َّم‬
‫ّللا »نزلت بعد األمر بالتوجه إلى الكعبة ‪ ،‬وهي‬ ‫َو ْجهُ َّ ِ‬

‫قوله «‪:‬أُولئِ َك ما كانَ لَ ُه ْم »يعني الكفار المذكورين« أ َ ْن يَ ْد ُخلُوها إِ َّال خائِ ِفينَ »أي هذا كان‬
‫األولى ‪ ،‬وفيه إباحة الدخول للكفار في المساجد على هذه الحالة من ظهور اإلسالم عليهم ‪ ،‬ثم‬
‫ي »ومن فعل هذا فله في الدنيا خزي أي ثناء سوء ‪ ،‬فإنه مؤلم لهم ما‬ ‫قال ‪ «:‬لَ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا ِخ ْز ٌ‬
‫يذكرون به من القبيح ‪ ،‬فإنهم يقرءون في كتبهم أنه مذموم من فعل ذلك ‪ ،‬فيتألمون به وإن‬
‫فعلوه ‪ ،‬وأما غير أهل الكتاب فخزيهم ما يرون من تعظيم المسلمين لمساجدهم وطردهم عنها ‪،‬‬
‫ع ِظي ٌم »مضاعف‬‫ذاب َ‬‫ع ٌ‬ ‫فيجدون لذلك حزنا وال سيما إذا دخلوا دار اإلسالم« َولَ ُه ْم ِفي ْاآل ِخ َر ِة َ‬
‫ّللا وتخرب أجسادهم في النار بإنضاج الجلود وغير‬ ‫للمنع والتخريب ‪ ،‬فيمنعوا أن تنالهم رحمة ه‬
‫ذلك ‪ ،‬وأما سبب النزول فإنها نزلت في أنطاخوس بن برسيس الرومي ومن معه من نصارى‬
‫الروم ‪ ،‬حين منعوا بيت المقدس أن يصلى فيه ‪ ،‬وظهروا على اليهود فقتلوهم وخربوا بيت‬
‫المقدس ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫ع ِلي ٌم »هذه اآلية‬
‫ّللا وا ِس ٌع َ‬ ‫ّلل ْال َم ْش ِر ُق َو ْال َم ْغ ِر ُ‬
‫ب فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا فَث َ َّم َو ْجهُ َّ ِ‬
‫ّللا ِإ َّن َّ َ‬ ‫) ‪َ "( 116‬و ِ َّ ِ‬
‫محكمة‬

‫ص ‪179‬‬

‫ص ‪180 :‬‬
‫آية محكمة غير منسوخة ‪ ،‬ولكن انعقد اإلجماع على هذا وعلى قوله تعالى «فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا فَث َ َّم‬
‫ّللا »محكما في الحائر الذي جهل القبلة ‪ ،‬فيصلي حيث يغلب على ظنه باجتهاد بال خالف‬ ‫َو ْجهُ َّ ِ‬
‫‪ ،‬وال خالف أن اإلنسان إذا عاين البيت أن الفرض عليه هو استقبال عينه ‪ ،‬وأما إذا لم ير‬
‫البيت فعندنا أن استقبال الجهة هو الفرض ال العين ‪ ،‬فإن في ذلك حرجا ‪ ،‬ومعلوم أن الصف‬
‫الطويل قد صحت صالتهم مع القطع بأن الكل منهم ما استقبلوا العين ‪ ،‬وإصابة الجهة في غير‬
‫الغيم المتراكم ليال أو نهارا في البراري ال يقع إال بحكم االتفاق ‪ ،‬فأحرى إصابة العين ‪ ،‬فال‬
‫إعادة على من صلى ولم يصب الجهة إذا تبين له ذلك بعد ما صلى ‪ ،‬واعلم أنه قد جاء ذكر‬
‫وجه الحق في آيات كثيرة ‪ ،‬فإذا أردت أن تعلم حقيقته ومظهره من الصورة التي يتجلى فيها‬
‫الحق ‪ ،‬فاعلم أن حقيقته من غمام الشريعة ‪ ،‬بإرث نور التوحيد ‪ ،‬ومظهره من العمل وجه‬
‫ِين » *اآلية ويدل على أن وجهه تعالى اإلخالص مظهر قوله تعالى‬ ‫اإلخالص« فَأ َ ِق ْم َو ْج َه َك ِلل هد ِ‬
‫ّللا »وقوله تعالى ‪ «:‬إِ َّال ا ْبتِغا َء َو ْج ِه‬ ‫‪ «:‬يُ ِريدُونَ َو ْج َههُ » *وقوله تعالى ‪ «:‬إِنَّما نُ ْ‬
‫ط ِع ُم ُك ْم ِل َو ْج ِه َّ ِ‬
‫َر ِبه ِه ْاألَعْلى »والمراد في ذلك كله الثناء باإلخالص على أهله تعبيرا بإرادة الوجه عن إخالص‬
‫النية ‪ ،‬وتنبيها على أن مظهر وجهه سبحانه يدل على أن حقيقة الوجه هو بارق نور التوحيد‬
‫ش ْيءٍ ها ِل ٌك ِإ َّال َو ْج َههُ »أي إال نور‬ ‫ّللا ِإلها ا آخ ََر ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو ُك ُّل َ‬
‫ع َم َع َّ ِ‬ ‫لقوله تعالى ‪َ «:‬وال ت َ ْد ُ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬أعوذ بنور وجهك‬ ‫توحيده ‪ ،‬وهو نور السماوات واألرض بدليل قوله صلهى ه‬
‫الذي أشرقت به الظلمات ‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة » وبهذا يفهم سر قوله تعالى ‪«:‬‬
‫ّللا »ولوجه ربنا سبحانه رداء ‪ ،‬وله حجب وله سبحات ‪ ،‬فأما رداؤه‬ ‫فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا فَث َ َّم َو ْجهُ َّ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ‪ ،‬وجنتان‬ ‫سبحانه فقد نبه عليه قوله صلهى ه‬
‫من ذهب آنيتهما وما فيهما ‪ ،‬وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إال رداء الكبرياء على‬
‫وّللا أعلم هو ما يحجب القلب عن رؤية الرب‬ ‫وجهه في جنة عدن » فالرداء هنا ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫فيمن جهل القبلة ‪ ،‬فاجتهد وصلى على أنه مواجهة القبلة ثم تبين له بعد ذلك أنه لم يستقبلها ‪،‬‬
‫أن صالته صحيحة وال إعادة عليه ‪ ،‬وفي المصلي على الراحلة ‪ ،‬وفي السفينة حيث توجهت‬
‫ّللا‬
‫به راحلته ‪ ،‬وما من جهة إال وقد كانت قبلة في أمة من األمم ‪ ،‬وفي هذه اآلية دليل على أن ه‬
‫ال يختص بجهة ‪ ،‬وأن نسبة الجهات إليه نسبة واحدة ‪ ،‬ولهذا جاء باالسم الواسع والعليم ‪،‬‬
‫التساعه في حكم جميع‬

‫ص ‪180‬‬

‫ص ‪181 :‬‬
‫سبحانه ‪ ،‬وهو أن يكون في قلبك كبرياء لغيره ‪ ،‬فأهل الجنة ليس لهم مانع من نعيم الرؤية ‪،‬‬
‫ّللا تعالى من غرف أو تحف أو‬ ‫وشهود نور التوحيد إال رداء الكبرياء ‪ ،‬فمن كبر في قلبه غير ه‬
‫ّللا صغر عنده‬ ‫ّللا تعالى ‪ .‬ومن عرف ه‬ ‫حور أو مأكول أو مشروب أو شيء سواه حجب عن ه‬
‫ّللا في كل شيء ‪ ،‬وبهذا يظهر لك‬ ‫كل شيء فارتفع عن بصره رداء الكبرياء لكل شيء فشهد ه‬
‫سر افتتاح الصالة بالتكبير ‪ ،‬ألن الصالة حضرة التجلي والمناجاة والمراقبة ألنوار سبحات‬
‫وجهه سبحانه ‪ ،‬وأما حجبه فقد ثبت في الصحيح « حجابه النور » وفي رواية « حجابه النار‬
‫» وليس بين الروايتين تناف ‪ ،‬ولك في تأويله سبيالن ‪ :‬أحدهما أن وجهه سبحانه هو الباقي ذو‬
‫ّللا عليه‬ ‫الجالل واإلكرام ‪ ،‬فله تجل بجالله في حجاب النار ‪ ،‬كما تجلى سبحانه لموسى صلهى ه‬
‫وسلم حين آنس من جانب الطور نارا ‪ ،‬وله تجل بإكرامه في حجاب النور ‪ ،‬كما تجلى تعالى‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬رأيت نورا »‬ ‫ّللا عليه وسلم ليلة اإلسراء في قوله صلهى ه‬ ‫لمحمد صلهى ه‬
‫وهذان الحجابان ألهل الخصوص ‪ ،‬والتأويل الثاني ‪ ،‬وهو ألرباب العموم ‪ ،‬يؤخذ مما قررناه‬
‫أنه ال فاعل في الكون غيره ‪ ،‬وال هادي وال مضل سواه ‪ ،‬يهدي من يشاء ويضل من يشاء ‪ ،‬ال‬
‫يسأل عما يفعل وهم يسألون ‪ ،‬فوجه توحيده هو الذي ينعم ويهدي بإقباله ‪ ،‬ويعذب ويضل‬
‫بإعراضه ‪ ،‬وله في هدايته النور وهويته المتجلية للقلوب بواسطة شرائع رسله قال تعالى ‪«:‬‬
‫الم »وحجابه في‬ ‫س ِ‬ ‫ّللاُ َم ِن اتَّبَ َع ِرضْوانَهُ ُ‬
‫سبُ َل ال َّ‬ ‫ين يَ ْهدِي ِب ِه َّ‬ ‫تاب ُم ِب ٌ‬
‫ور َو ِك ٌ‬ ‫قَ ْد جا َء ُك ْم ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا نُ ٌ‬
‫إضالله النار وهو االكتساب المغشي للقلوب من وساوس الشيطان المخلوق من النار« َك َّال بَ ْل‬
‫ع ْن َر ِبه ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ لَ َم ْح ُجوبُونَ »قد بيهن بذلك أن وجه‬ ‫على قُلُوبِ ِه ْم ما كانُوا يَ ْك ِسبُونَ َك َّال إِنَّ ُه ْم َ‬‫رانَ َ‬
‫ض ُّل َوال‬ ‫توحيده ‪ ،‬هو الهادي بإقباله ‪ ،‬في حجاب نور االتباع للرسل« فَ َم ِن اتَّبَ َع ُه َ‬
‫داي فَال يَ ِ‬
‫يَ ْشقى »وأنه هو المضل بإعراضه في حجاب االتباع لوسواس الشيطان ‪ ،‬فإنه ال تنافي بين‬
‫ّللا عليه وسلم « ‪ :‬اللهم‬ ‫قوله حجابه النور وبين قوله حجابه النار ‪ ،‬وبذلك يفهم سر قوله صلهى ه‬
‫اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا إلى قوله واجعلني نورا » أي اجعلني‬
‫من جميع الوجوه نورا داال ‪ ،‬وحجابا يتنعم برؤيتي من أراد التنعم بحسن النظر إليك ‪ ،‬وقد جاء‬
‫في‬

‫النسب إليه ‪ ،‬عليم بكم أينما توليتم أن قصدكم التوجه إليه سبحانه على طريق القربة ‪ ،‬وفي‬
‫ب »وأين ما تولوا ‪ ،‬تنبيه أن كل من سجد إلى جهة معينة ليس مقصده‬‫قوله ‪ْ «:‬ال َم ْش ِر ُق َو ْال َم ْغ ِر ُ‬
‫الجهة‬

‫ص ‪181‬‬

‫ص ‪182 :‬‬
‫الصحيح «إن هّلل سبعين حجابا من نور » وذلك ال تنافي بينه وبين قوله ‪ « :‬حجابه النور »‬
‫ألنه جنس يصلح لشمول األفراد وإن تعددت ‪ ،‬والحق أن حجب أنواره تعالى ال حصر لها ‪،‬‬
‫ألنه ما من شيء إال وهو حجاب من وجه ربنا ‪ ،‬وآية من آيات وحدانيته « وفي كل شيء له‬
‫آية ‪ ،‬تدل على أنه واحد » وبذلك يعرف أن عدد السبعين ليس للحصر ‪ ،‬قال األزهري وغيره‬
‫من علماء اللغة ‪ :‬العرب تضع السبع موضع التضعيف وإن جاوز السبع ‪ ،‬وأصل اعتبار هذا‬
‫العدد في تضعيف حجبه أن هّلل تعالى صفات ذاتية وهي العلم والحياة والقدرة واإلرادة والسمع‬
‫والبصر والكالم ‪ ،‬فهذه سبع صفات ذاتية يتجلى سبحانه في حجب أنوارها بوجه توحيده فكانت‬
‫هي مبدأ التضعيف في حجب أنواره تعالى ‪ ،‬ثم إن آيات صفاته تعالى في تجلياتها تتضاعف‬
‫برتبة العشرة ‪ ،‬ورتبة المائة ‪ ،‬ورتبة األلف ‪ ،‬وأما سبحات وجهه سبحانه فقد ثبت في الصحيح‬
‫« لو كشفه ألحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » وقد أولها العلماء رضي‬
‫ّللا عنهم بجالله تعالى وهو تأويل صحيح ‪ ،‬لكن وجه ربنا ذي الجالل واإلكرام له بجالله‬ ‫ه‬
‫سبحات ‪ ،‬وله بإكرامه سبحات ‪ ،‬وإذا أردت أن تجري في التأويل على وفق االستعمال اللغوي‬
‫والقواعد التي مهدناها ‪ ،‬فاعلم أن السبحات جمع سبحة ‪ ،‬والسبحة في اللغة ‪ :‬ما يتطوع به من‬
‫ذكر وصالة وتسبيح ونحوها مما ال يحصر أفراده ‪ ،‬وقد ثبت أن أنوار الطاعات حجب وجهه‬
‫سبحانه ‪ ،‬ونور الذكر شامل لجميعها ومهيمن على سائر سبحات اإلكرام والجالل ‪ ،‬وقد قال‬
‫ّللا تعالى لنفسه ولعبده سبحة وجهه شاملة ألنواع سبحاته ‪،‬‬‫تعالى ‪ «:‬فَا ْذ ُك ُرو ِني أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم »فذكر ه‬
‫وذكر العبد له نور حجابه ‪ ،‬فما دام العبد يشهد ذكره لربه ‪ ،‬فوجه ربه متجل عليه في حجابه‬
‫بسبحة ذكره ‪ ،‬كما ثبت في الصحيح « أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني » وال‬
‫ّللا ‪ ،‬وذكره له يبعده عن شهود نفسه ونسبتها ‪ ،‬ويقربه من شهود توحيد ربه ‪،‬‬ ‫يزال العبد يذكر ه‬
‫ّللا له ‪ ،‬هناك تحرق سبحته نسبة األفعال‬ ‫حتى ينكشف حجاب ذكره هّلل ‪ ،‬وتتجلى له سبحة ذكر ه‬
‫ي‬
‫واألذكار للعبد ‪ ،‬وتظهر نسبتها للرب ‪ ،‬كما ثبت في الصحيح ‪ « :‬وال يزال عبدي يتقرب إل ه‬
‫بالنوافل حتى أحبه ‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ‪ ،‬وبصره الذي يبصر به ‪ ،‬ويده التي‬
‫يبطش بها ‪ ،‬ورجله التي‬

‫ّللا بتلك العبادة ‪ ،‬واإلنسان ال ينفك عن الجهات لنفسه ‪ ،‬فال‬


‫من حيث عينها ‪ ،‬وإنما قصده وجه ه‬
‫بد أن يكون مستقبال جهة من الجهات ‪ ،‬فدخل في « أين ما تولوا » ما عدا المشرق والمغرب‬
‫من‬

‫ص ‪182‬‬

‫ص ‪183 :‬‬
‫يمشي بها » ‪ ،‬وأما قوله ‪ " :‬ألحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "‪.‬‬
‫فاعلم أن بصره سبحانه ال يتناهى مبصوراته ‪ ،‬وال يحجبه عن خلقه حجاب ‪ ،‬وإنما ينكشف‬
‫لك معنى الحديث لمراجعة ما قررته لك ‪.،‬‬
‫ّللا كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فنبه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ " :‬أن تعبد ه‬ ‫وبقوله صلهى ه‬
‫ّللا له حتى يغيب عن صفته ورؤيته ومراقبته لربه ‪ ،‬فكل‬ ‫بالشرط على أن العبد ال يشهد رؤية ه‬
‫ّللا‬
‫عبادة تصحبها المراقبة فهي نور من حجب وجهه ينظر العبد منه إلى ربه تعالى ‪ ،‬وينظر ه‬
‫ّللا سبحانه له ‪ ،‬فانتهاء بصره‬ ‫منه إلى عبده ‪ ،‬فإذا كشف للعبد فيها حجاب المراقبة شهد رؤية ه‬
‫عبارة عن انتهائه بحسب كشف العبد وشهوده ‪ ،‬ال بحسب نفسه ‪ ،‬فإنه ال انتهاء له ‪ ،‬أو خلقه‬
‫هو صفة العبد ‪ ،‬ورؤيته وإحراقه هو محوه بثبوت صفة الرب للعبد ‪ ،‬وصفة الرب ورؤيته هي‬
‫رام "‪.‬‬ ‫فان َويَبْقى َو ْجهُ َر ِبه َك ذُو ْال َجال ِل َو ْ ِ‬
‫اإل ْك ِ‬ ‫علَيْها ٍ‬
‫سبحة " ُك ُّل َم ْن َ‬

‫ّللا عليه وسلم على الراحلة حيث توجهت ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫[ أوتر رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم على الراحلة حيث توجهت ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رقيقة ‪ -‬أوتر رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم إني أراكم من خلف ظهري ‪ ،‬فأثبت‬ ‫عليه وسلم كله وجه بال قفا ‪ ،‬فإنه قال صلهى ه‬
‫الرؤية لحاله ومقامه فثبتت الوجهية له ‪ ،‬وذكر الخلف والظهر لبشريته ‪ ،‬فإنهم ما يرون رؤيته‬
‫‪ ،‬ويرون خلفه وظهره ‪ ،‬ومن كانت هذه حاله فحيث كانت القبلة فهو مواجهها ‪ ،‬فما أوتر‬
‫ّللا عليه وسلم قط على راحلته حيث توجهت إال والقبلة في وجهه «فَأ َ ْينَما‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا للمصلي إنما هو في قبلته‬ ‫ّللا »فمن كان وجها كله يستقبل ربه بذاته ‪ ،‬ووجه ه‬ ‫ت ُ َولُّوا فَث َ َّم َو ْجهُ َّ ِ‬
‫ودل على أن من حاله هذا الوصف ويرى القبلة بعين منه تكون في الجهة التي تليها فهو مصل‬
‫ع ِلي ٌم » ‪.‬‬ ‫وّللا جل جالله عن التقييد فهو قبلة القلوب« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا وا ِس ٌع َ‬ ‫للقبلة ‪ ،‬ه‬
‫ش ْيءٍ »وهو الواسع لكل شيء ولهذا االتساع هو ال يكرر‬ ‫ت ُك َّل َ‬
‫قال تعالى ‪َ «:‬ر ْح َم ِتي َو ِسعَ ْ‬
‫شيئا في الوجود ‪ ،‬فإن الممكنات ال نهاية لها ‪ ،‬فأمثال توجد دنيا وآخرة على الدوام وأحوال‬
‫تظهر ‪ ،‬وقد وسع كرسيه وهو علمه السماوات واألرض ‪ ،‬ووسعت رحمته علمه والسماوات‬
‫واألرض وما ثم إال سماء وأرض فإنه ما ثم إال أعلى وأسفل ‪ ،‬فال تكرار في الوجود ‪ ،‬وإن‬
‫خفي في الشهود ‪ ،‬فذلك لوجود األمثال ‪ ،‬وال يعرفه إال الرجال ‪ ،‬لو تكرر لضاق النطاق ولم‬
‫يصح االسم الواسع باالتفاق ‪ ،‬وبطل كون الممكنات ال تتناهى ‪ ،‬ولم يثبت ما كان به يتباهى ‪،‬‬
‫ع ِلي ٌم »بما أوجد عليه خلقه‪.‬‬‫ّللا واسع على اإلطالق« َ‬ ‫فإن ه‬

‫الجهات ‪ ،‬ونبه أيضا بالمشرق على العالنية ألنه محل الظهور ‪ ،‬وبالمغرب على السر ألنه‬
‫محل الغيب ‪،‬‬

‫ص ‪183‬‬

‫ص ‪184 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 116‬إلى ‪117‬‬
‫ض ُك ٌّل لَهُ قانِت ُ َ‬
‫ون ( ‪ ) 116‬بَدِي ُع‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ْبحانَهُ بَ ْل لَهُ ما فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬ ‫َوقالُوا ات ه َخذَ ه‬
‫ّللاُ َولَدا ً ُ‬
‫ُون) ‪. ( 117‬‬ ‫ض َو ِإذا قَضى أ َ ْمرا ً فَ ِإنهما يَقُو ُل لَهُ ك ُْن فَيَك ُ‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ال ه‬
‫" بَدِي ُع " ألنه ما خلقهما على مثال متقدم ‪ ،‬وكل خلق على غير مثال فهو مبدع بفتح الدال ‪،‬‬
‫وخالقه مبدعة بكسر الدال « والسماوات واألرض » يعني بذلك ما عال وما سفل ‪ ،‬فهو بديع‬
‫كل شيء ‪ .‬وليس اإلبداع سوى الوجه الخاص الذي له في كل شيء ‪ ،‬وبه يمتاز عن سائر‬
‫األشياء ‪ ،‬فهو على غير مثال وجودي ‪ ،‬إال أنه على مثال نفسه وعينه من حيث إنه ما ظهر‬
‫عينه في الوجود إال بحكم عينه في الثبوت من غير زيادة وال نقصان ‪ ،‬واالبتداع على الحقيقة‬
‫إنشاء ما ال مثل له بالمجموع ‪ ،‬وال بديع من المخلوقات إال من له تخيل ‪ ،‬فقد يبتدع المعاني‬
‫وال بد أن تنزل في صور مادية وهي األلفاظ التي بها يعبر عنها ‪ ،‬فيقال ‪ :‬قد اخترع فالن‬
‫معنى لم يسبق إليه ‪ ،‬وكذلك أرباب الهندسة لهم في اإلبداع اليد الطولى ‪ ،‬وال يشترط في‬
‫المبتدع أنه ال مثل له على اإلطالق ‪ ،‬إنما يشترط فيه أنه ال مثل له عند من ابتدعه ولو جاء‬
‫بمثله خلق كثير كل واحد قد اخترع ذلك األمر في نفسه ثم أظهره ‪ ،‬فهو مبتدع بال‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وّلل ما شرق منكم أي ما ظهر ‪ ،‬وما غرب عنكم أي ما استتر ‪ ،‬فأينما تولوا‬ ‫فكأنه يقول ‪ :‬ه‬
‫ع ِلي ٌم »وهذا‬ ‫ّللا ‪ ،‬أي هو مطلع عليكم ‪ ،‬ويؤيده قوله‪ " :‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا وا ِس ٌع َ‬ ‫بوجوهكم وقلوبكم فث هم وجه ه‬
‫سبْحانَهُ »الضمير يعود على من تقدم‬ ‫من باب اإلشارة والتنبيه) ‪َ " ( 117‬وقالُوا ات َّ َخذَ َّ‬
‫ّللاُ َولَدا ا ُ‬
‫ّللاُ َولَدا ا »‬
‫سعى ) *وقال ‪ «:‬ات َّ َخذَ َّ‬ ‫ّللا ) ( َو َ‬ ‫ساج َد َّ ِ‬ ‫‪ ،‬وهو داخل في قوله ‪َ ( :‬و َم ْن أ َ ْ‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ْن َمنَ َع َم ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الولد ينطلق‬ ‫ّللا ‪ ،‬والمالئكة بنات ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وعزير ابن ه‬ ‫*يريد بذلك من قال ‪ :‬المسيح ابن ه‬
‫على الذكر واألنثى ‪ ،‬وهذا أشد ظلما مما فعلوه ‪ ،‬فنزه الحق نفسه عما نسبوا إليه ‪ ،‬وهنا وجهان‬
‫طفى ِم َّما يَ ْخلُ ُق ما‬ ‫ّللاُ أ َ ْن يَت َّ ِخذَ َولَدا ا َال ْ‬
‫ص َ‬ ‫الوجه الواحد ‪ ،‬إن كانوا أرادوا التبني لقوله ‪ ( :‬لَ ْو أَرا َد َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬حيث نسبوا إليه ما لم‬ ‫يَشا ُء )ثم نزه نفسه عن ذلك ‪ ،‬فيكون هذا القول منهم افتراء على ه‬
‫ينسب إلى نفسه ‪ ،‬مع جواز التبني بطريق االصطفاء ‪ ،‬ولكن ما وقع ‪ ،‬والوجه اآلخر ‪ ،‬أن‬
‫باّلل تعالى ‪ ،‬فهم ما بين جاهل ومفتر ‪،‬‬ ‫يريدوا الولد المعروف الذي للصلب ‪ ،‬فهو جهل منهم ه‬
‫ّللا سبحانه عن األمرين نفسه ‪ ،‬فقال سبحانه عن ذلك ‪ « :‬بل » حرف إضراب عن قولهم‬ ‫فنزه ه‬
‫ض»‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫‪ «:‬لَهُ ما ِفي ال َّ‬
‫سماوا ِ‬

‫ص ‪184‬‬

‫ص ‪185 :‬‬
‫شك وإن كان له مثل ‪ ،‬ولكن عند هذا الذي ابتدعه ال سبيل إال ابتداع الحق تعالى فإنه تعالى‬
‫قال عن نفسه إنه بديع أي خلق ما ال مثل له في مرتبة من مراتب الوجود ‪ ،‬ألنه عالم بطريق‬
‫اإلحاطة بكل ما دخل في كل مرتبة من مراتب الوجود ‪ ،‬فكل ما في الوجود مبتدع هّلل فهو‬
‫البديع ‪ ،‬وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق ‪ ،‬إذ لو‬
‫المكون المخلوق ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫كان عين الحق ما صح أن يكون بديعا ‪ ،‬ولما كان حال كن اإللهية حال‬
‫وكان أسرع ما يكون من الحروف في ذلك فاء التعقيب ‪ ،‬لهذا جاء بها في جواب األمر لسرعة‬
‫نفوذ األمر اإللهي في نشء العالم وظهوره ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬و ِإذا قَضى أ َ ْمرا ا فَإِنَّما يَقُو ُل لَهُ ُك ْن‬
‫ون »القضاء الذي له المضي في األمور هو الحكم على األشياء بكذا ‪ ،‬والقدر ما يقع‬ ‫فَيَ ُك ُ‬
‫بوجوده في موجود معين المصلحة المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ‪ ،‬فالقضاء يحكم على‬
‫القدر ‪ ،‬والقدر ال حكم له في القضاء ‪ ،‬بل حكمه في المقدر ال غير بحكم القضاء‪.‬‬

‫وهم المالئكة وعزير وعيسى ‪ ،‬وأتى بما ولم يقل من ‪ ،‬ألن ما عند سيبويه تقع على كل شيء‬
‫فلها العموم ‪ ،‬فاإلتيان بالعام أولى حتى يدخل فيها كل شيء« ُك ٌّل لَهُ قانِتُونَ »أي قائمون‬
‫بالعبودية وشروطها ‪ ،‬وقد دخل الكفار في هذا القنوت ‪ ،‬فإنهم مما في السماوات واألرض ‪،‬‬
‫وهم طائفتان ‪ :‬جاهلة وعالمة ‪ ،‬فمن علم منهم الحق بباطنه مثل أهل الكتاب ومن جرى‬
‫مجراهم في العلم ‪ ،‬فهو قانت هّلل في باطنه لعلمه به ‪ ،‬ومن جهل منهم ذلك ‪ ،‬فالجاهل ما عبد‬
‫ّللا وال قنت له لعينه ‪ ،‬ولكن تخيل أنه اإلله المقصود بالقنوت له ‪ ،‬فما قنت إال هّلل وإن‬ ‫غير ه‬
‫ّللا في إخباره أنه كل له قانتون بهذا الوجه ‪ ،‬وهل ينفعهم‬ ‫أخطأ في نسبة ذلك ‪ ،‬فصدق قول ه‬
‫ض »إبداع‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫ذلك أو ال ينفعهم مسألة أخرى ليس هذا موضعها ( ‪)« 118‬بَدِي ُع ال َّ‬
‫الشيء إحكامه وإتقانه ‪ ،‬فإذا كان هذا ‪ ،‬فيكون عاما في كل موجود ‪ ،‬وإن كان المراد هنا‬
‫باإلبداع إيجاد الشيء على غير مثال ‪ ،‬فيكون خاصا بالموجود األول من كل نوع ‪ ،‬وال يدخل‬
‫ما تحته تحت هذه الصفة من كونه إبداعا وإنما يدخل تحت اسم الخالق والبارئ ‪ ،‬وقد يريد‬
‫بالسماوات واألرض ما عال وما سفل حصرا لجميع الموجودات ‪ ،‬ومن جملتهم ما نسبتموه إلينا‬
‫من ولد من إنس وملك ‪ ،‬ولكن ال ينتفي الولد من هذا الوجه ‪ ،‬فإن الولد ال بد أن يكون مخلوقا‬
‫مبدعا ‪ ،‬وليس في اللفظ ما يدل على قدم الولد ‪ ،‬وإنما الحجة في قوله ‪َ «:‬و ِإذا قَضى أ َ ْمرا ا فَإِنَّما‬
‫ون »وما أخبركم أنه قضى أن يتبنى أحدا من خلقه ‪ ،‬فافتريتم عليه ‪ ،‬بل نسبة‬ ‫يَقُو ُل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫ما نسبتم إليه من الولد نسبة كل أمر ‪ ،‬إذا قضاه أي شاءه وأراده ‪ ،‬أن يقول له كن أي يأمره بأن‬
‫يتكون ‪ ،‬فيكون ‪ ،‬وكان هنا تامة ‪ ،‬وهنا بحر واسع يعز‬

‫ص ‪185‬‬

‫ص ‪186 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 118‬إلى ‪121‬‬
‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم ِمثْ َل قَ ْو ِل ِه ْم‬‫ّللاُ أ َ ْو تَأْتِينا آيَةٌ كَذ ِلكَ قا َل الهذ َ‬
‫ون لَ ْو ال يُ َك ِله ُمنَا ه‬
‫ِين ال يَ ْعلَ ُم َ‬‫َوقا َل الهذ َ‬
‫شيرا ً َونَذِيرا ً َوال‬ ‫ق بَ ِ‬ ‫س ْلناكَ ِبا ْل َح ه ِ‬‫ون ) ‪ِ ( 118‬إنها أ َ ْر َ‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يُوقِنُ َ‬ ‫تَشابَ َهتْ قُلُوبُ ُه ْم قَ ْد بَيهنها ْاآليا ِ‬
‫ع ْنكَ ا ْليَ ُهو ُد َوال النهصارى َحتهى تَت ه ِب َع ِملهت َ ُه ْم‬ ‫يم ( ‪َ ) 119‬ولَ ْن ت َ ْرضى َ‬ ‫سئ َ ُل ع َْن أَصْحا ِ‬
‫ب ا ْل َج ِح ِ‬ ‫تُ ْ‬
‫ّللا ِم ْن‬ ‫ّللا ُه َو ا ْل ُهدى َولَئِ ِن اتهبَ ْعتَ أ َ ْهوا َء ُه ْم بَ ْع َد الهذِي جا َءكَ ِم َن ا ْل ِع ْل ِم ما لَكَ ِم َن ه ِ‬ ‫قُ ْل إِ هن ُهدَى ه ِ‬
‫ون بِ ِه َو َم ْن يَ ْكفُ ْر‬ ‫لوتِ ِه أُولئِكَ يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ق تِ َ‬ ‫ِين آت َ ْينا ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫تاب يَتْلُونَهُ َح ه‬ ‫ير ) ‪ ( 120‬الهذ َ‬ ‫ي ٍ َوال نَ ِص ٍ‬‫َو ِل ه‬
‫ون ( ‪.)121‬‬ ‫س ُر َ‬ ‫بِ ِه فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْلخا ِ‬

‫" الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم ْال ِك َ‬


‫تاب يَتْلُونَهُ َح َّق تِ َ‬
‫الوتِ ِه "‪.‬‬
‫[ حق التلوة ]‬
‫ّللا وإياك ‪ -‬أن القرآن مجدد اإلنزال على قلوب التالين له دائما أبدا ‪ ،‬ال يتلوه من‬ ‫اعلم ‪ -‬أيدنا ه‬
‫ّللا الحكيم الحميد ‪ ،‬وقلوب التالين لنزوله عرش يستوى عليها في‬ ‫يتلوه إال عن تجديد تنزيل من ه‬
‫نزوله إذا نزل ‪ ،‬فإذا نزل القرآن على‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫السابح فيه ‪ ،‬والهالك فيه أكثر من الناجي ‪ ،‬وهو فهم المعنى ‪ ،‬هل هذا المخاطب بكن من له‬
‫عين تعقل أمر المخاطب فتمتثله ؟ أم ال عين له ؟ وهل ينطلق على المأمور بكن اسم الشيء أم‬
‫ال ؟ وهل العدم صفة للمعدوم ؟ ومتى تعلق الخطاب بالتكوين هل في حال العدم ؟ أو هل بين‬
‫الوجود والعدم حالة أخرى ؟ وهل كل معدوم يصح منه قبول الوجود ؟ والتفريع والتقسيم على‬
‫هذا كثير ‪ ،‬والخالف فيه كثير بين المعتزلة واألشاعرة والحكماء وأهل الحقائق ‪ ،‬والسكوت‬
‫ّللا ما ذكر في كتابه ما يحوجنا إلى الترجمة عنه في ذلك ‪،‬‬ ‫عنه أولى من الخوض فيه ‪ ،‬ألن ه‬
‫فنتركه مجمال كما تركه ‪ ،‬ثم قال عنهم ‪َ «) 119 ( :‬وقا َل الَّذِينَ ال يَ ْعلَ ُمونَ لَ ْو ال يُ َك ِله ُمنَا َّ‬
‫ّللاُ‬
‫ّللا بتصديقه مشافهة ‪ ،‬كما قال أسالفهم ‪ ( :‬أ َ ِرنَا َّ َ‬
‫ّللا َج ْه َرة ا‬ ‫»لوال تحضيض ‪ ،‬يقولون لوال يكلمنا ه‬
‫)« أ َ ْو تَأْتِينا آيَةٌ »تدل على صدقه« َكذ ِل َك قا َل الَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم »كذلك قال بنو إسرائيل في‬
‫ّللا من التعظيم أن‬ ‫زمانهم ألنبيائهم ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬ال يَ ْعلَ ُمونَ »أي ال يعلمون ما ينبغي لجالل ه‬
‫يسأل مثل هذا من غير إذن ‪،‬‬

‫ص ‪186‬‬

‫ص ‪187 :‬‬
‫قلب عبد وظهر فيه حكمه ‪ ،‬واستوى عليه بجميع ما هو عليه مطلقا ‪ ،‬وكان خلقا لهذا القلب ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم فقالت ‪ :‬كان خلقه‬ ‫كان القلب عرشا له ‪ ،‬سئلت عائشة عن خلق رسول ه‬
‫القرآن ‪ ،‬فما من آية في القرآن إال ولها حكم في قلب هذا العبد ‪ ،‬ألن القرآن لهذا نزل ليحكم ال‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في تالوته القرآن إذا مر بآية نعيم حكمت‬ ‫ليحكم عليه ‪ .‬كان رسول ه‬
‫ّللا من فضله ‪ ،‬وإذا مر بآية عذاب ووعيد حكمت‬ ‫ّللا من فضله ‪ ،‬فكان يسأل ه‬‫عليه بأن يسأل ه‬
‫ّللا ويسبحه‬
‫عليه باالستعاذة ‪ ،‬فكان يستعيذ ‪ ،‬وإذا مر بآية تعظيم هّلل حكمت عليه بأن يعظم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وإذا مر بآية قصص وما مضى من الحكم‬ ‫بالنوع الذي أعطته تلك اآلية من الثناء على ه‬
‫اإللهي في القرون قبله ‪ ،‬حكمت عليه باالعتبار فكان يعتبر ‪ .‬وإذا مر بآية حكم حكمت عليه أن‬
‫يقيم في نفسه من يوجه عليه ذلك الحكم فيحكم عليه به ‪ ،‬فكان يفعل ذلك ‪ ،‬وهو عين التدبر‬
‫آليات القرآن والفهم فيه ‪ ،‬ومتى لم يكن التالي حاله في تالوته كما ذكرنا فما نزل على قلبه‬
‫القرآن ‪ ،‬وال كان عرشا الستوائه ألنه ما استوى عليه بهذه األحكام ‪ ،‬وكان نزول هذا القرآن‬
‫أحرفا ممثلة من خياله كانت حصلت له من ألفاظ معلمه إن كان أخذه عن تلقين ‪ ،‬أو من‬
‫حروف كتابته إن كان أخذه عن كتابة ‪ ،‬فإذا أحضر تلك الحروف في خياله ونظر إليها بعين‬
‫خياله ترجم اللسان عنها فتالها من غير تدبر وال استبصار ‪ ،‬بل لبقاء تلك الحروف في حضرة‬
‫خياله ‪ ،‬وله أجر الترجمة ال أجر القرآن ‪ ،‬ولم ينزل على قلبه منه شيء ‪ ،‬كما قال صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم في حق قوم من حفاظ حروف القرآن يقرءون القرآن ال يجاوز حناجرهم ‪ ،‬أي ينزل‬
‫من الخيال الذي في مقدم الدماغ إلى اللسان فيترجم به وال يجاوز حنجرته إلى القلب الذي في‬
‫صدره ‪ ،‬فلم يصل إلى قلبه منه شيء ‪ ،‬وقال فيهم ‪ :‬إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫كما قال ‪َ ( :‬م ْن ذَا الَّذِي يَ ْشفَ ُع ِع ْن َدهُ ِإ َّال ِبإِ ْذ ِن ِه )وأما العرب فالقرآن آيتهم فال يقولون هذا ‪،‬‬
‫وعلماء الكتب ال يقولون هذا فإن اآليات الدالة على صدقه في كتابهم ‪ ،‬فلم يبق إال المقلدة ومن‬
‫ت قُلُوبُ ُه ْم »أي عقولهم في الختم عليها فال يعلمون«‬ ‫ال علم له بإعجاز القرآن ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬تَشابَ َه ْ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يُوقِنُونَ »وهم العارفون بذلك وإن لم يؤمنوا وباهلوا ‪ ،‬والعلماء بذلك أيضا‬ ‫قَ ْد بَيَّنَّا ْاآليا ِ‬
‫ُور الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم َوما يَ ْج َح ُد ِبآياتِنا‬ ‫صد ِ‬‫نات فِي ُ‬ ‫آيات بَ ِيه ٌ‬
‫ٌ‬ ‫من من المؤمنين كما قال ( ‪ :‬بَ ْل ُه َو‬
‫علُ ًّوا )وقوله‬ ‫ظ ْلما ا َو ُ‬
‫س ُه ْم ُ‬ ‫الظا ِل ُمونَ )والجاحد عالم ‪ ،‬قال تعالى ( ‪َ :‬و َج َحدُوا ِبها َوا ْست َ ْيقَنَتْها أ َ ْنفُ ُ‬ ‫ِإ َّال َّ‬
‫«‪:‬يُو ِقنُونَ »أي يتيقنون ‪ ،‬وهو ثبوت العلم في صدورهم ‪ ،‬ثم خاطب نبيه عليه السالم ‪( 120‬‬
‫)‬

‫ص ‪187‬‬

‫ص ‪188 :‬‬
‫من الرمية ‪ ،‬ال ترى فيه أثرا من دم الرمية ‪ ،‬فإنه ما كل تال يحس بنزول القرآن لشغل روحه‬
‫بطبيعته ‪ ،‬فينزل عليه من خلف حجاب الطبع فال يؤثر فيه التذاذا ‪ ،‬فهذا قرآن منزل على‬
‫األلسنة ال على األفئدة ‪ ،‬وقال في الذوق ‪ « :‬نزل به الروح األمين على قلبك » فذلك هو الذي‬
‫يجد لنزوله عليه حالوة ال يقدر قدرها تفوق كل لذة ‪ ،‬فإذا وجدها فذلك الذي نزل عليه القرآن‬
‫الجديد الذي ال يبلى ‪ ،‬والفارق بين النزولين أن الذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم فيعرف‬
‫ما يقرأ ‪ ،‬وإن كانت تلك األلفاظ ال يعرف معانيها في غير القرآن ألنها ليست بلغته ‪ ،‬ويعرفها‬
‫تالوة إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند التالوة ‪ ،‬فمن قرأ القرآن منزال عليه يجد لذة‬
‫اإلنزال ذوقا على قلبه عند قراءته ‪ ،‬فإن للقرآن عند قراءة كل قارئ أي قارئ كان إنزاال ‪،‬‬
‫غير أن الوارث المحمدي بالحال يحس باإلنزال ‪ ،‬ويلتذ به التذاذا خاصا ال يجده إال أمثاله ‪،‬‬
‫فذلك صاحب ميراث الحال وما عدا هؤالء فإنما يقرءون القرآن من خيالهم ‪ ،‬فهم يتخيلون‬
‫صور حروفه المرقومة إن كان حفظ القرآن من المصاحف واأللواح ‪ ،‬أو يتخيلون صور‬
‫حروف ما تلقنوه من معلمهم ‪ ،‬هذا إذا كانوا عاملين به ‪ ،‬وإما إذا قرءوه من غير إخالص فيه‬
‫ّللا منه شيئا ‪ ،‬فيبقى في محل تالوته وهو مخرج الصوت ‪،‬‬ ‫فال يتجاوز حناجرهم ‪ ،‬أي ال يقبل ه‬
‫فال يقرأ القرآن من قلبه إال صاحب التنزل ‪ ،‬وهو الذوق الميراثي ‪ ،‬فمن وجد ذلك فهو صاحبه‬
‫يعرف ذلك عند وجوده إياه فال يحتاج فيه إلى معرف ‪ ،‬فإنه يفرق عند ذلك بين قراءته من‬
‫خياله وبين قراءته عن تنزيل ربه مشاهدة ‪ ،‬فليس التالي إال من تاله عن قلبه الذي له في كل‬
‫تالوة فهم في اآلية ‪ ،‬لم يكن له ذلك الفهم في التالوة التي قبلها ‪ ،‬وال يكون في التالوة التي‬
‫ّللا في دعائه في قوله ‪َ «:‬ربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ا »فمن استوى فهمه في‬
‫بعدها ‪ ،‬وهو الذي أجاب ه‬
‫التالوتين فهو مغبون ‪ ،‬ومن كان له في كل تالوة فهم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ق بَ ِشيرا ا َونَذِيرا ا »يقول له تسلية لما يجده في قلبه من ردهم أمر ه‬
‫ّللا في‬ ‫ناك ِب ْال َح ه ِ‬
‫س ْل َ‬
‫" ِإنَّا أ َ ْر َ‬
‫وجهه ‪:‬‬
‫يا محمد ما عليك إال البالغ ‪ ،‬وما أنت عليهم بجبار ‪ ،‬أي ما أرسلناك لتجبرهم على اإليمان ‪،‬‬
‫وإنما وظيفتك أن تبلغ عنا ما نزل إليهم ‪ ،‬وأمرهم إلينا " بَ ِشيرا ا " أي مبشرا للطائفتين المطيع‬
‫ش ْر ِعبا ِد الَّذِينَ يَ ْست َ ِمعُونَ ْالقَ ْو َل فَيَت َّ ِبعُونَ أ َ ْح َ‬
‫سنَهُ ) ‪.‬‬ ‫والمخالف ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬فَبَ ِ ه‬
‫ب أ َ ِل ٍيم ) *وسنبين ذلك في موضعه وقوله « ‪:‬ونذيرا » أي‬ ‫وقال في أولئك ‪ ( :‬فَبَ ِ ه‬
‫ش ْر ُه ْم ِبعَذا ٍ‬
‫معلما لهم بما أنزلت عليهم ‪ ،‬وقد تستعمل في األكثر ‪ :‬البشارة في الخير واإلنذار في الشر ‪،‬‬
‫وكال التأويلين صالح هنا ‪ ،‬والباء من‬

‫ص ‪188‬‬

‫ص ‪189 :‬‬
‫فهو رابح مرحوم ‪ ،‬ومن تال من غير فهم فهو محروم ‪ ،‬فمن تكرر له المعنى في تالوته فما‬
‫تاله حق تالوته وكان دليال على جهالته ‪ ،‬ومن زادته تالوته علما وأفادته في كل مرة حكما‬
‫فهو التالي ‪ ،‬لمن هو في وجوده له تالي ‪ .‬فينبغي لكل تال إذا تال القرآن أن يتدبره ويأخذ كل‬
‫ّللا عليه وسلم أن يبلغه أو يقوله أو يعلهمه فليقله في تالوته وال يكون‬ ‫ّللا به نبيه صلهى ه‬
‫أمر أمر ه‬
‫حاكيا ‪ ،‬بل يكون صاحب نية وقصد وابتهال في ذلك ‪ ،‬وأنه مأمور به من الحق إن أراد أن‬
‫ّللا أخفى النبوة في خلقه وأظهرها في بعض خلقه ‪ ،‬فالنبوة‬ ‫يكون من الحزب النبوي ‪ ،‬فإن ه‬
‫الظاهرة هي التي انقطع ظهورها ‪ ،‬وأما الباطنة فال تزال في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ألن الوحي‬
‫اإللهي ‪ ،‬واإلنزال الرباني ‪ ،‬ال ينقطع إذ كان به حفظ العالم ‪ ،‬فجميع العالم لهم نصيب من هذا‬
‫اإلنزال والوحي ‪ .‬ومن تال المحامد ولم يكن عين ما يتلوه منها فليس بتال ‪ ،‬وكذلك من تال‬
‫المذام وكان عين ما يتلوه منها فليس بتال ‪ ،‬فما نزل القرآن إال للبيان« الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم ْال ِك َ‬
‫تاب‬
‫الوتِ ِه »اعلم أنك ال تعرف منازل التالوة ما لم تعرف الكتب المتلوة بأعيانها ‪ ،‬فإذا‬ ‫يَتْلُونَهُ َح َّق تِ َ‬
‫عرفتها عرفت حينئذ كيف تتلوها ‪ ،‬وكيف تسمعها ممن يتلوها عليك ‪ ،‬فأسماء الكتب المنزلة ‪-‬‬
‫وأعني القرآن ‪ -‬الكتاب المنير والمبين والمحصي والعزيز والمرقوم والمسطور الظاهر‬
‫والمسطور الباطن والجامع ‪ ،‬وتعيين أربابها القائمين بها ‪ ،‬فالمنير ألهل الحجج ‪ ،‬والمبين ألهل‬
‫الحقائق ‪ ،‬والمحصي ألهل المراقبة ‪ ،‬والعزيز ألهل العصمة ‪ ،‬والمرقوم الحكيم للمرسلين‬
‫والورثة ‪ ،‬والمسطور الظاهر تأويال واعتبارا ألهل اإليمان ‪ ،‬والمسطور الباطن اعتبارا أيضا‬
‫ألهل اإلباحة ‪ ،‬والجامع للروحانيين الملكيين ‪ ،‬وعالمات التالين لهذه الكتب على الحضور‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ناك »و« بَ ِشيرا ا َونَذِيرا ا »فبشيرا ونذيرا تفصيل ما جاء‬ ‫س ْل َ‬
‫ق " تصلح أن يعمل فيها ‪ «،‬أ َ ْر َ‬ ‫" ِب ْال َح ه ِ‬
‫ناك »ألن األلف والالم األظهر فيها العهد ‪،‬‬ ‫س ْل َ‬
‫به ‪ ،‬وقوله بالحق األوجه فيه أن يعمل فيه «أ َ ْر َ‬
‫لحق معلوم عنده ‪ ،‬وهو الحق الذي اشترك فيه جميع المرسلين ‪ ،‬وهو إقامة الدين وتبليغه ‪،‬‬
‫ع ْن‬ ‫وأن سبب إرساله تبليغ هذا الحق ‪ ،‬فالباء للسبب ‪ ،‬وقوله ‪ « :‬وال تسأل » بفتح التاء « َ‬
‫ب ْال َج ِح ِيم »فيه وجهان ‪ :‬الوجه الواحد ‪ ،‬معناه أهملهم وأرح خاطرك وسرك من قبلهم‬ ‫صحا ِ‬ ‫أَ ْ‬
‫فيما نفعل بهم من الهدى أو اإلضالل ‪ ،‬والوجه اآلخر ‪ ،‬على طريق الوعيد ‪ ،‬أي وال تسأل عن‬
‫أصحاب الجحيم ما نفعل بهم من العذاب والضيق والنكال شفاء لصدرك واتساعا بالفرح‬
‫ّللاُ ِبأ َ ْيدِي ُك ْم‬
‫باالنتقام منهم في مقابلة ما ضيقوا به صدرك بما قالوه ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬يُعَ ِذه ْب ُه ُم َّ‬
‫ُور‬
‫صد َ‬ ‫ف ُ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َويَ ْش ِ‬
‫ص ْر ُك ْم َ‬
‫َويُ ْخ ِز ِه ْم َويَ ْن ُ‬

‫ص ‪189‬‬

‫ص ‪190 :‬‬
‫من ادعى أنه تال المنير ‪ ،‬عالمته المكاشفة ‪ ،‬ومن ادعى أنه تال المبين ‪ ،‬عالمته التمييز‬
‫والترتيب ‪ ،‬ومن ادعى أنه تال المحصي ‪ ،‬عالمته الوقوف عند الحدود ‪ ،‬ومن ادعى أنه تال‬
‫العزيز ‪ ،‬عالمته أنه يجهل مقامه ‪ ،‬ومن ادعى أنه تال المرقوم الحكيم ‪ ،‬عالمته األمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر والتسليم هّلل في كل حال ‪ ،‬ومن ادعى أنه تال المسطور الظاهر ‪،‬‬
‫عالمته المجاهدة ‪ ،‬ومن ادعى أنه تال المسطور الباطن ‪ ،‬عالمته الزندقة ‪ ،‬ومن ادعى أنه تال‬
‫الكتاب الجامع ‪ ،‬عالمته الخروج عن البشرية ولحوقه بهيوالنية ملكية ‪ -‬كأبي عقال المغربي‬
‫وغيره ‪ -‬وعالمات من تال الحق عليه هذه الكتب أن من تال الكتاب المنير عليه قمع هواه ‪،‬‬
‫ومن تال عليه المبين شاهد معناه ‪ ،‬ومن تال عليه كتاب المحصي سلك طريق هداه ‪ ،‬ومن تال‬
‫عليه كتاب العزيز اجتنب رداه ‪ ،‬ومن تال عليه المرقوم الحكيم بلغ مناه ‪ ،‬ومن تال عليه ظاهر‬
‫المسطور فاز برحماه ‪ ،‬ومن تال عليه باطن المسطور كان الشيطان مواله ‪ ،‬ومن تال عليه‬
‫الجامع لم ينظر إلى سواه ‪ ،‬ولعلك تشتهي أن ترسم في التالين لهذه الكتب على الحق تعالى بأن‬
‫حاال مترحال وأنت ال تعقل معناه ‪ ،‬وال تقف عند حدوده ‪ ،‬أو‬ ‫تمر على حروفه وتكون فيه ه‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »حمدني عبدي ‪ ،‬ال‬
‫تتخيل أن يقول لك الحق تبارك وتعالى عند قولك« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫وّللا ما يراجع الحق سبحانه وتعالى بقوله حمدني عبدي وأثنى علي عبدي إال أهل الحضور‬ ‫ه‬
‫معه عند التالوة ‪ ،‬بأنه مناج‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ص ْد ُر َك بِما يَقُولُون ََوال ت َ ْحزَ ْن‬
‫يق َ‬‫ض ُ‬ ‫قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) وقوله ‪َ ( :‬ولَقَ ْد نَ ْعلَ ُم أَنَّ َك يَ ِ‬
‫ق ِم َّما يَ ْم ُك ُرونَ )وقد قرئ « وال تسأل » بضم التاء على الخبر ‪ ،‬أي‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال ت َ ُك ْن فِي َ‬
‫ض ْي ٍ‬ ‫َ‬
‫عليك التبليغ ما عليك سؤال هل أجابوك أم ال ‪ ،‬فيكون مزيد درجة ‪ ،‬راحة للنبي عليه السالم‬
‫س َل فَيَقُو ُل ما ذا أ ُ ِج ْبت ُ ْم )فأخبره‬
‫الر ُ‬
‫ّللاُ ُّ‬ ‫يوم القيامة على سائر الرسل لقوله تعالى ‪ ( :‬يَ ْو َم يَ ْج َم ُع َّ‬
‫ّللا تعالى أنه غير داخل في هذا الجمع ‪ ،‬فإن الرسل ما تسأل إال ألجل إنكار األمم التبليغ الذين‬ ‫ه‬
‫ّللا نازال بهم ‪ ،‬أو اعترافهم باإلجابة ولم تقع منهم ‪ ،‬ويحتمل‬ ‫لم يجيبوا في الدنيا إذا رأوا عذاب ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه غير عالم‬ ‫ب ْال َج ِح ِيم »نفي العلم عنه بهم ‪ ،‬وأن ذلك إلى ه‬ ‫صحا ِ‬ ‫ع ْن أ َ ْ‬
‫قوله« َوال ت ُ ْسئ َ ُل َ‬
‫ّللا له ‪ ،‬والعالم بمن ال يعلم ال يسأله عما ال يعلم (‬ ‫بالسعيد منهم على اليقين والشقي إال بتعيين ه‬
‫ع ْن َك ْاليَ ُهو ُد َو َال النَّصارى َحتَّى تَت َّ ِب َع ِملَّت َ ُه ْم »يقول ‪ :‬ما هم عليه من‬ ‫‪َ «) 121‬ولَ ْن ت َ ْرضى َ‬
‫األهواء ‪ ،‬فإنهم مختلفون ‪ ،‬فال يتمكن الجمع بينهما ‪ ،‬ألن كل واحد منهما مخالف لما يتضمنه‬
‫باّلل‬
‫كتابه ‪ ،‬فلو عملوا بما في كتابهم لكانوا أمة واحدة ‪ ،‬وكانوا على ما نحن عليه من اإليمان ه‬
‫وبمالئكته وكتبه ورسله من غير فرقان بين‬

‫ص ‪190‬‬

‫ص ‪191 :‬‬
‫نفسه بفعله والمناجى بإحاطته وذاته ‪ ،‬وأهل التدبر والتذكر لما أودع في كتابه العزيز من‬
‫األسرار والعلوم ‪ ،‬يفهم كل عبد على قدر مقامه وذوقه وكشفه ‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬ليدبروا آياته‬
‫وليتذكر أولو األلباب وقال تعالى ‪ :‬قد علم كل أناس مشربهم ‪ ،‬بل أقول ‪ :‬إن كل من قعد على‬
‫منهج االستقامة ‪ ،‬وكانت حيلته الطاعة ‪ ،‬وكان اللسان صامتا عن تالوة القرآن ‪ ،‬فإنه حامد هّلل‬
‫ّللا فيه حمدني عبدي ‪ .‬فإذا كان اللسان يقول الحمد هّلل ‪ ،‬والقلب في‬
‫شاكر له بأفعاله ‪ ،‬ويقول ه‬
‫ّللا ؟‬‫الدكان ‪ ،‬أو في الدار ‪ ،‬أو في عرض من األعراض ‪ ،‬متى عرف من هذه صفته أن يحمد ه‬
‫ّللا وتريد أن يسمع‬‫! وكيف ذلك والقلب غافل بما هو عليه عما جرى به لسانه ‪ ،‬فإذا وفقك ه‬
‫الحق جل اسمه منك تالوتك ‪ ،‬ويرسمك في ديوان التالين ‪ ،‬ويقول لك على الكلمات حمدني ‪،‬‬
‫فاعلم منازل التالوة ‪ ،‬ومواطنها ‪ ،‬وكم من التالين منك ‪ ،‬وذلك أن تعلم أن على اللسان تالوة ‪،‬‬
‫وعلى الجسم بجميع أعضائه تالوة ‪ ،‬وعلى النفس تالوة ‪ ،‬وعلى القلب تالوة ‪ ،‬وعلى الروح‬
‫السر تالوة ‪ ،‬فتالوة اللسان ترتيل الكتاب على الحد الذي‬ ‫ه‬ ‫سر‬
‫تالوة ‪ ،‬وعلى السر تالوة ‪ ،‬وعلى ه‬
‫رتب المكلف له ‪ ،‬وتالوة الجسم المعامالت على تفاصيلها في األعضاء التي على سطحه ‪،‬‬
‫وتالوة النفس التخلق باألسماء والصفات ‪ ،‬وتالوة القلب اإلخالص والفكر والتدبر ‪ ،‬وتالوة‬
‫ّللا عليه وسلم في الحديث القدسي صفة ال‬ ‫الروح التوحيد ‪ ،‬وتالوة السر االتحاد من قوله صلهى ه‬
‫ذاتا كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ُه َو ْال ُهدى »ولم يقل قل‬
‫أحد من رسله ‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ «:‬قُ ْل »لهم يا محمد« ِإ َّن ُه َدى َّ ِ‬
‫ّللا مثل القرآن ‪ ،‬فلو أطاعوا‬ ‫هداي ‪ ،‬أي الذي جئت به خاصة ‪ ،‬فإن التوراة واإلنجيل هدى ه‬
‫وسمعوا ما جاءت به كتبهم ما تفرقوا جملة واحدة ‪ ،‬وكانوا يؤمنون بكل كتاب وبما تضمنه ‪،‬‬
‫فكنا نحن وهم على السواء ‪ ،‬فإن في التوراة اإليمان باإلنجيل والقرآن وبمن جاء بهما وما جاء‬
‫فيهما ‪ ،‬وفي اإلنجيل اإليمان بالتوراة وبمن جاء بهما وما جاء فيهما ‪ ،‬وفي القرآن اإليمان‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫بالتوراة واإلنجيل وبمن جاء بهما وما جاء فيهما ‪ ،‬فآمنا نحن بالجميع ‪ ،‬والكل هدى ه‬
‫وكفروا هم بالكتابين وببعض ما جاء في كتابهم واتبعوا أهواءهم ‪ ،‬فلو دعونا إلى اتباع كتبهم‬
‫ّللا لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫لوجدونا متبعين لذلك مؤمنين غير مخالفين لشيء من ذلك ‪ ،‬فلهذا قال ه‬
‫ت أ َ ْهوا َء ُه ْم بَ ْع َد الَّذِي جا َء َك ِمنَ ْال ِع ْل ِم »وهو قوله ‪َ ( :‬و ِإ ْن كادُوا‬ ‫وسلم محذرا ‪َ «:‬ولَئِ ِن اتَّبَ ْع َ‬
‫غي َْرهُ )وما سامحه سبحانه في طمعه باستدراجهم‬ ‫علَيْنا َ‬ ‫ي َ‬ ‫ع ِن الَّذِي أ َ ْو َحيْنا ِإلَي َْك ِلت َ ْفت َ ِر َ‬
‫لَيَ ْف ِتنُون ََك َ‬
‫بذلك ليؤمنوا بقوله‬

‫ص ‪191‬‬

‫ص ‪192 :‬‬
‫وتالوة سر السر األدب وهو التنزيه الوارد عليه من اإللقاء منه جل وعال ‪ ،‬فمن قام بين يدي‬
‫سيده بهذه األوصاف كلها فلم ير جزء منه إال مستغرقا فيه على ما يرضاه منه ‪ ،‬كان عبدا كليا‬
‫‪ ،‬وقال له الحق تعالى إذ ذاك ‪ :‬حمدني عبدي أو ما يقول على حسب ما ينطق به العبد قوال أو‬
‫حاال ‪ ،‬فإن كان فيه بعض هذه األوصاف وتعلقت غفلة ببعض التالين فليس بعبد كلي ‪ ،‬وال‬
‫يكون فيه للحق تعالى من عبودية االختصاص إال على قدر ما اتصفت به ذاته ‪ ،‬فثم عبد يكون‬
‫وّلل فيه الخمس ولهواه ما بقي ‪ ،‬والربع والثلث والنصف على‬‫هّلل فيه السدس ولهواه ما بقي ‪ ،‬ه‬
‫قدر ما يحضر منه مع الحق تعالى من حيث هو نوري ‪ ،‬فانظر أين تجعل همتك ‪ ،‬وكيف تكون‬
‫مع الحق الذي إليه مردك ‪ ،‬فإنك ال تجد عنده إال ما قدمت ‪ ،‬وقد علمت المنازل فإما عبدا كليا‬
‫باّلل‬
‫‪ ،‬وإما جزء عبد فتدبر هذه التالوة ‪ ،‬وألزمها نفسك في حركاتك وسكناتك ‪ ،‬فال تتحرك إال ه‬
‫فباّلل من حيث توليه لك‬
‫ّللا وال تسكن إال على هذا الحد ‪ ،‬ه‬
‫ّللا وعن ه‬
‫ّللا وإلى ه‬
‫ّللا وفي ه‬
‫وّلل ومع ه‬
‫ه‬
‫ّللا من حيث‬ ‫ّللا من حيث المشاهدة والمراقبة ‪ ،‬وفي ه‬
‫وّلل من أجله ال من أجلك ‪ ،‬ومع ه‬
‫في ذلك ‪ ،‬ه‬
‫ّللا من حيث التكليف ‪ .‬وهكذا فلتكن‬ ‫ّللا من حيث التوجه والقصد ‪ ،‬وعن ه‬ ‫التدبر والتفكر ‪ ،‬وإلى ه‬
‫في تالوتك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى ‪ ،‬فال يطلع عليك في سرك وعالنيتك على ما ال‬
‫يرضاه منك ‪ ،‬وإن كان هو الفاعل سبحانه الموجد الفعل ‪ .‬فالزم ما كلفت من األدب ‪ ،‬وما‬
‫تقتضيه الحضرة اإللهية من اإلجالل والتعظيم‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫يال ِإذا ا َألَذَ ْق َ‬
‫ناك‬ ‫شيْئا ا قَ ِل ا‬‫ت ت َ ْر َك ُن ِإلَ ْي ِه ْم َ‬
‫ناك )بما أوحينا إليك في ذلك( لَقَ ْد ِك ْد َ‬ ‫تعالى ‪َ ( :‬ولَ ْو ال أ َ ْن ثَبَّتْ َ‬
‫)هذا مع القصد الحسن فكيف بغير ذلك ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬وقُ ِل ْال َح ُّق ِم ْن َر ِبه ُك ْم فَ َم ْن شا َء فَ ْليُؤْ ِم ْن‬
‫ب ْال َج ِح ِيم )و( لَي َ‬
‫ْس‬ ‫صحا ِ‬ ‫ع ْن أ َ ْ‬ ‫َو َم ْن شا َء فَ ْليَ ْكفُ ْر )وهو قوله ‪ ( :‬ما عليك إال البالغ )( َوال ت ُ ْسئ َ ُل َ‬
‫ي ٍ »يتوالك فيما‬ ‫ْت ) ‪،‬ثم قال ‪ «:‬ما لَ َك ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا ِم ْن َو ِل ه‬ ‫علَي َْك ُهدا ُه ْم )و( ِإنَّ َك ال ت َ ْهدِي َم ْن أ َ ْحبَب َ‬‫َ‬
‫ير »ينصرك عليه ‪ ،‬فقال ‪ «) 122 ( :‬الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم‬ ‫َص ٍ‬‫يريده الحق أن يجريه عليك« َوال ن ِ‬
‫الوتِ ِه »التالوة االتباع ‪ ،‬يتلوه يتبعه ‪ ،‬فكما أن آيات الكتاب يتلو بعضها‬ ‫تاب يَتْلُونَهُ َح َّق تِ َ‬‫ْال ِك َ‬
‫بعضا كذلك التالي لها يمشي عليها مشيا بعد مشي ‪ ،‬يقول ‪ :‬الذين أعطيناهم الكتاب الذي أنزلته‬
‫الوتِ ِه »أي يتبعونه حق االتباع الذي يجب له ‪ ،‬وحقه‬ ‫عليهم ‪ ،‬وهم الرسل ‪« ،‬يَتْلُونَهُ َح َّق تِ َ‬
‫اإليمان به أنه من عندنا ‪ ،‬وأن ال يكفر بشيء منه« أُولئِ َك »أي الذين أوتوه وتلوه حق تالوته«‬
‫يُؤْ ِمنُونَ‬

‫ص ‪192‬‬

‫ص ‪193 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 122‬إلى ‪124‬‬
‫ين ( ‪َ ) 122‬واتهقُوا‬ ‫علَى ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوأ َ ِنهي فَ ه‬
‫ض ْلت ُ ُك ْم َ‬ ‫ي الهتِي أ َ ْنعَ ْمتُ َ‬
‫اذك ُُروا نِ ْع َمتِ َ‬‫سرائِي َل ْ‬ ‫يا بَنِي ِإ ْ‬
‫ون (‬‫ص ُر َ‬ ‫ع ْد ٌل َوال ت َ ْنفَعُها شَفاعَةٌ َوال ُه ْم يُ ْن َ‬ ‫ش ْيئا ً َوال يُ ْقبَ ُل ِم ْنها َ‬ ‫س ع َْن نَ ْف ٍس َ‬ ‫يَ ْوما ً ال تَجْ ِزي نَ ْف ٌ‬
‫اس ِإماما ً قا َل َو ِم ْن ذُ ِ هريه ِتي‬ ‫ت فَأَت َ هم ُه هن قا َل ِإ ِنهي جا ِعلُكَ ِللنه ِ‬ ‫‪َ ) 123‬و ِإ ِذ ا ْبتَلى ِإ ْبرا ِهي َم َربُّهُ ِب َك ِلما ٍ‬
‫ين ( ‪) 124‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ع ْهدِي ال ه‬ ‫قا َل ال يَنا ُل َ‬
‫ت »ألن االبتالء من أفضل الكرامات ‪ ،‬وقد تلقاها للتوب صاحب‬ ‫يم َربُّهُ بِ َك ِلما ٍ‬
‫« َوإِ ِذ ا ْبتَلى إِبْرا ِه َ‬
‫ّللا تعالى لخليله إبراهيم عليه السالم «‪ِ :‬إ ِنهي‬ ‫السمات ‪ ،‬واالبتالء إشارة إلى ذبح ولده قال ه‬
‫اس ِإماما ا »ابتداء منه من غير طلب من إبراهيم عليه السالم ليكون معانا مسددا ‪،‬‬ ‫جا ِعلُ َك ِللنَّ ِ‬
‫اس ِإماما ا‬ ‫ّللا وقال تعالى ‪ِ «:‬إ ِنهي جا ِعلُ َك ِللنَّ ِ‬ ‫وعلمنا أنه ليس بظالم قطعا ألن اإلمامة عهد من ه‬
‫»ولم يقل خليفة بل ذكره باإلمامة ألن الخليفة يطلب بحكم هذا االسم عليه من استخلفه فيعلم أنه‬
‫مقهور محكوم عليه ‪ ،‬فالخليفة له فيه تذكرة ألنه مفطور على النسيان والسهو والغفلة ‪ ،‬فيذكره‬
‫اسم الخليفة بمن استخلفه ‪ ،‬واإلمام ربما اشتغل بإمامته عمن جعله إماما ‪ ،‬ألن اإلمامة ليست‬
‫لها قوة التذكير في الخالفة فقال تعالى في الجماعة الكمل ‪َ «:‬جعَلَ ُك ْم*‬

‫ّللا ‪ ،‬ويحتمل أن يريد به أهل التوراة‬ ‫به »أي يصدقون بكل ما يتضمنه ‪ ،‬وبه أنه من عند ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫الذين تلوها حق تالوتها وأهل اإلنجيل وآمنوا بما وجدوا فيها من بعث محمد صلهى ه‬
‫وسلم ورسالته ‪ ،‬وأنه هو هذا ‪ ،‬فيكون خاصا بالمؤمنين من اليهود والنصارى ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َم ْن‬
‫يَ ْكفُ ْر بِ ِه » *كما فصلناه في معنى الكفر والكافر« فَأُولئِ َك ُه ُم ْالخا ِس ُرونَ » *تقدم الكالم على‬
‫جارت ُ ُه ْم )في أول السورة «) ‪ ( 123‬يا بَنِي ِإسْرائِي َل ا ْذ ُك ُروا‬ ‫ت تِ َ‬ ‫هذا المعنى في( فَما َربِ َح ْ‬
‫علَى ْالعالَ ِمينَ »قد تقدم الكالم عليها وكذلك ( ‪«) 124‬‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوأ َ ِنهي فَض َّْلت ُ ُك ْم َ‬
‫ي الَّتِي أ َ ْنعَ ْمتُ َ‬
‫نِ ْع َمتِ َ‬
‫ع ْد ٌل »فذكر في األولى( َوال يُؤْ َخذُ ِم ْنها‬ ‫شيْئا ا َوال يُ ْقبَ ُل ِم ْنها َ‬
‫ع ْن نَ ْف ٍس َ‬ ‫س َ‬ ‫َواتَّقُوا يَ ْوما ا ال ت َ ْج ِزي نَ ْف ٌ‬
‫ع ْد ٌل »أي فداء ‪ ،‬فإن القبول ال يكون إال مع الرضاء به ‪،‬‬ ‫ع ْد ٌل )وزاد في هذا« َوال يُ ْقبَ ُل ِم ْنها َ‬ ‫َ‬
‫واألخذ قد يكون عن رضاء وقد ال يكون ‪ ،‬فزاد في هذه اآلية ولو أخذنا الفداء لم نأخذه على‬
‫جهة القبول والرضاء وإنما هو بضاعتنا ردت إلينا ‪ ،‬فأبان هنا بالقبول أمرا لم يذكره هناك ‪،‬‬
‫عةٌ»‬ ‫وقال في هذه اآلية« َوال ت َ ْنفَعُها شَفا َ‬

‫ص ‪193‬‬

‫ص ‪194 :‬‬
‫ض » *فوقع هذا في مسموعهم فتصرفوا في العالم بحكم الخالفة ‪ ،‬وقال‬ ‫ف فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫خَالئِ َ‬
‫اس ِإماما ا‬‫ّللا من عباده « ِإ ِنهي جا ِعلُ َك ِللنَّ ِ‬
‫إلبراهيم عليه السالم بعد أن أسمعه خالفة آدم ومن شاء ه‬
‫»لما علم أن الخالفة قد أشربها فال يبالي بعد ذلك أن يسميه بأي اسم شاء ‪ ،‬فقال إبراهيم لربه‬
‫الظا ِل ِمينَ »فإن اإلنسان المخلوق على الصورة ‪-‬‬ ‫ع ْهدِي َّ‬
‫تعالى ‪َ «:‬و ِم ْن ذُ ِ هريَّ ِتي »« قا َل ال يَنا ُل َ‬
‫ّللا ال ينال عهده‬ ‫ال اإلنسان الحيوان ‪ -‬هو الذي له اإلمامة في الكون ‪ ،‬صاحب العهد فإن ه‬
‫الظالمون وليس عهده سوى صورته ‪ ،‬فما أهمل من أهمل من األناسي إال لجهله بمنزلته‬
‫وتصرفه في غير مرتبته ‪ ،‬فلو أعطى نفسه حقها ‪ ،‬كما أعطاها ربها خلقها ‪ ،‬لكان إمام العالمين‬
‫‪ ،‬فالسيد اإلمام ‪ ،‬العارف العالم ‪ ،‬يقول ‪ :‬األمام األمام ‪ ،‬وفي يده سراجه وفي رأسه تاجه ‪،‬‬
‫يشهد له الحق بالخالفة ‪ ،‬واألمن من كل عاهة وآفة ‪ ،‬وأما إذا كانت الطرق مظلمة ‪ ،‬ال يعرف‬
‫الماشي فيها في أي مهواة يهوي ‪ ،‬ومع هذا يسير وال يلوي ‪ ،‬فإذا سقط ‪ ،‬عند ذلك يعلم أنه‬
‫فرط‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وهناك ( ال تقبل منها ) أي من أجلها شفاعة ‪ ،‬وهنا ولو قبلت عناية بالشافع ما نفعت المشفوع‬
‫فيه ‪ ،‬بأن نعلم الشافع مرتبته من عنايتنا به عندنا ‪ ،‬ونبين له قدر الجريمة التي لهذه النفس ‪،‬‬
‫ّللا مع أن الحق سمع شفاعته ‪ ،‬ولكن ما نفعت المشفوع‬ ‫فيرجع الشافع عن ذلك إعظاما لجناب ه‬
‫‪ ،‬هذا كله على تقدير الوقوع ‪ ،‬أي لو وقعت الشفاعة من أهل العناية عندنا لكان األمر كما‬
‫ص ُرونَ »قد مضى تفسيره ‪ ،‬ثم قال ( ‪:‬‬ ‫ذكرناه ‪ ،‬فزاد هنا ما لم يذكر في األولى« َوال ُه ْم يُ ْن َ‬
‫ت فَأَت َ َّم ُه َّن »الصحيح في هذه الكلمات عدم تعيينها ‪ ،‬فنعلم‬ ‫يم َربُّهُ بِ َك ِلما ٍ‬
‫«) ‪َ 125‬و ِإ ِذ ا ْبتَلى ِإبْرا ِه َ‬
‫يم الَّذِي َوفَّى‬
‫ّللا اختبره بكلمات أنزلهن عليه« فَأَت َ َّم ُه َّن »فأثنى عليه بقوله ‪َ ( :‬و ِإبْرا ِه َ‬ ‫قطعا أن ه‬
‫سنُ ْل ِقي َ‬
‫علَي َْك‬ ‫ّللا عليه وسلم( ِإنَّا َ‬ ‫)ومحن األنبياء كثيرة ‪ ،‬وما كلفوه كثير ‪ ،‬كما قيل لمحمد صلهى ه‬
‫يال )على غيرك ونهونه عليك ‪ ،‬والعامل في« ِإ ِذ »إما مضمر ‪ ،‬وإما جاعلك ‪ ،‬أي قام‬ ‫قَ ْو اال ث َ ِق ا‬
‫بهن حق القيام من الشكر إن كان نعمة ‪ ،‬ومن الصبر إن كان غير ذلك ‪ ،‬كذبح الولد والرمي‬
‫ّللا عليه وسلم بجميع ما خوطب به على حسب ما يعطيه‬ ‫في النار وغير ذلك ‪ ،‬فوفهى صلهى ه‬
‫ذلك الخطاب ‪ ،‬وقد أكثر الناس في تعيين الكلمات من غير دليل قاطع ‪ ،‬فلهذا تركت تعيين ما‬
‫اس ِإماما ا »يحتمل أن يكون‬ ‫يمكن أن تكون ‪ ،‬إذ ال يفيد ذلك علما ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬قا َل ِإ ِنهي جا ِعلُ َك ِللنَّ ِ‬
‫ّللا في خلقه ‪ ،‬وإقامة العدل فيهم‬ ‫هذا من الكلمات ‪ ،‬ألنها ابتالء لما يلزمه فيها من مراعاة حدود ه‬
‫‪ ،‬والنظر في مصالحهم الدينية والدنياوية ‪ ،‬والمبالغة في‬

‫ص ‪194‬‬

‫ص ‪195 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪125‬‬
‫صلًّى َوع َِهدْنا ِإلى ِإ ْبرا ِهي َم‬ ‫اس َوأ َ ْمنا ً َوات ه ِخذُوا ِم ْن َم ِ‬
‫قام ِإ ْبرا ِهي َم ُم َ‬ ‫َو ِإ ْذ َجعَ ْلنَا ا ْلبَ ْيتَ َمثابَةً ِللنه ِ‬
‫س ُجو ِد ( ‪) 125‬‬ ‫الرك ِهع ال ُّ‬ ‫ين َوا ْلعا ِك ِف َ‬
‫ين َو ُّ‬ ‫طائِ ِف َ‬ ‫ي ِلل ه‬‫سما ِعي َل أ َ ْن َط ِ ههرا بَ ْيتِ َ‬‫َو ِإ ْ‬
‫صلًّى »وهما الركعتان بعد الطواف لننال ما ناله إبراهيم عليه‬ ‫يم ُم َ‬ ‫قام ِإبْرا ِه َ‬‫« َوات َّ ِخذُوا ِم ْن َم ِ‬
‫السالم من الخلة على قدر ما يعطيه حالنا ‪ ،‬فإن من مقامه عليه السالم قوله تعالى فيه «‪:‬‬
‫يم الَّذِي َوفَّى »ومن مقامه عليه السالم أنه كان أواها حليما ‪ ،‬فيكون هذا أيضا من قصدنا‬ ‫َوإِبْرا ِه َ‬
‫مقام إبراهيم لنتخذه مصلى ‪ ،‬أي موضع دعاء في صالة ‪ ،‬أو إثر صالة لنيل هذا المقام والصفة‬
‫ّللا وحاله ومقامه ‪ ،‬ومن مقام إبراهيم عليه السالم‬ ‫‪ ،‬التي هي نعت إبراهيم خليل ه‬

‫التبليغ ‪ ،‬وشروط اإلمامة كثيرة ‪ ،‬فهي من االبتالء الشديد ويحتمل أن يكون ذلك على جهة‬
‫التشريف والتكريم ‪ ،‬لما قام بالكلمات حق القيام على التمام والكمال كان أهال لإلمامة ‪ ،‬فشرفه‬
‫ّللا بأن قدهمه على خلقه ليأتموا به ويهتدوا بهديه ‪ ،‬إذ قد آنس منه الرشد فيما ابتلي به ‪ ،‬فدفع‬ ‫ه‬
‫اإلمامة إليه ‪ ،‬كما أمرنا في األيتام في دفع أموالهم لهم واستحقاقهم لها بإيناس الرشد منهم ‪،‬‬
‫فقال ( ‪َ :‬وا ْبتَلُوا ْاليَتامى َحتَّى ِإذا بَلَغُوا ال ِنهكا َح )وهو أحد الشرطين (فَإِ ْن آنَ ْست ُ ْم ِم ْن ُه ْم ُر ْشدا ا‬
‫الظا ِل ِمينَ »طلب‬ ‫ع ْهدِي َّ‬ ‫فَا ْدفَعُوا ِإلَ ْي ِه ْم أ َ ْموالَ ُه ْم «) قا َل »إبراهيم« َو ِم ْن ذُ ِ هريَّتِي »« قا َل ال يَنا ُل َ‬
‫أن جعله إماما كان تشريفا‬ ‫إبراهيم من ربه أن يجعل من ذريته أئمة ‪ ،‬وهذا الطلب دليل على ه‬
‫وكرامة به ال ابتالء ‪ ،‬فترجح أحد الوجهين ‪ ،‬ولو فهم بقرائن األحوال أن اإلمامة كانت على‬
‫طريق االبتالء ما طلب مثلها لذريته ‪ ،‬وإن كانت ابتالء من حيث ما يتعلق بها ‪ ،‬ولكن إذا‬
‫ّللا أنه معان معصوم كانت إمامته تشريفا بال شك ‪ ،‬ويبقى ما فيها من‬ ‫عرف اإلمام بتعريف ه‬
‫االبتالء في حق من وليها من المؤمنين الذين جهلوا أحوالهم فيها ‪ ،‬وأما قوله ‪ «:‬ال يَنا ُل َ‬
‫ع ْهدِي‬
‫الظا ِل ِمينَ »يقول ال أعطي اإلمامة للظالم بوحي منزل فيه أسميه بعينه ‪ ،‬مثل ما سميت الرسل‬ ‫َّ‬
‫داو ُد ِإنَّا‬
‫بأسمائهم وخصصتهم من سائر الخلق بالخطاب بالعهد واإلمامة ‪ ،‬مثل قولنا ‪ ( :‬يا ُ‬
‫اس إِماما ا )وهكذا جميع الرسل ‪ ،‬فهذا هو‬ ‫ض )وإلبراهيم( إِ ِنهي جا ِعلُ َك ِللنَّ ِ‬‫ناك َخ ِليفَةا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َجعَ ْل َ‬
‫العهد الذي ال يناله الظالم من عبادي ‪ ،‬وأما من نصبه الناس إماما فأئمتهم رجالن ‪ :‬ظالم‬
‫وعادل ‪ ،‬فالعادل هو الذي يقوم فيهم بسنة نبيهم وهديه ‪ ،‬ويسلك بهم أوامر الحق المشروع لهم‬
‫من عندنا ‪ ،‬وهم أئمة الهدى الذين يأمرون بالقسط من الناس ‪ ،‬فنحن أيضا شرعنا لهم بالوحي‬
‫المنزل على الرسل تولية مثل هؤالء اإلمامة ‪ ،‬فهم ممن ينال عهدي ‪ ،‬وطائفة‬

‫ص ‪195‬‬

‫ص ‪196 :‬‬
‫أيضا ‪:‬أنه كان أمة قانتا هّلل حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا ألنعمه اجتباه وهداه إلى صراط‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن مقامه عليه‬ ‫مستقيم ‪ ،‬ومن مقامه عليه السالم ‪ :‬أنه أوتي الحجة على قومه بتوحيد ه‬
‫السالم أيضا ‪ :‬أنه كان مسلما ‪ ،‬ومن مقامه عليه السالم أيضا ‪ :‬الصالح ‪.‬‬
‫ّللا آتاه أجره في الدنيا ‪ ،‬وأنه في اآلخرة لمن الصالحين ‪.‬‬ ‫ومن مقام إبراهيم عليه السالم ‪ :‬أن ه‬
‫صلًّى‬
‫يم ُم َ‬ ‫فهذا كله من مقام إبراهيم الذي أمرنا أن نتخذه مصلى فقال ‪َ «:‬وات َّ ِخذُوا ِم ْن َم ِ‬
‫قام إِبْرا ِه َ‬
‫»أي موضع دعاء إذا صليتم فيه أن ندعو في نيل هذه المقامات التي حصلت إلبراهيم الخليل‬
‫عليه السالم ‪.‬‬
‫واعلم أن مكة خير وسيلة عبادية ‪ ،‬وأشرف منزلة جمادية ترابية ‪ ،‬وأنه قد طاف بهذا البيت‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أخرى نصبهم الناس فظلموا ‪ ،‬وضلوا وأضلوا ‪ ،‬وعدلوا عن الحق ‪ ،‬فهؤالء هم الذين لم ينالوا‬
‫عهدي بحكم تعيينهم باألمر بالتقدم ‪ ،‬ولكن نحن جعلناهم أئمة يدعون إلى النار بقضائنا ال‬
‫ص ُرونَ )وفي هذه‬ ‫ار َويَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة ال يُ ْن َ‬
‫بأمرنا ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬و َجعَ ْلنا ُه ْم أَئِ َّمةا يَ ْدعُونَ ِإلَى النَّ ِ‬
‫ّللا قد نفى عنه اإلمامة ‪ ،‬ويتقوى مذهب‬ ‫اآلية دليل على أن إمامة الظالم ال تصح شرعا ‪ ،‬فإن ه‬
‫من يقول إن اإلمام إذا فسق انعزل شرعا وإن تعذر خلعه ‪ ،‬والكالم في هذه المسألة يطول ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وّللا أعلم ‪ ،‬أن الظلم هنا كما فسره رسول ه‬ ‫والوجه عندي في هذه المسألة ه‬
‫ظ ْل ٍم )‬
‫سوا إِيمانَ ُه ْم بِ ُ‬ ‫وسلم لما نزل قوله تعالى ‪َ ( :‬ولَ ْم يَ ْلبِ ُ‬
‫قالت الصحابة ‪ [ :‬وأينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال عليه السالم ‪ :‬ليس كما زعمتم ‪ ،‬وإنما الظلم‬
‫باّلل إن الشرك لظلم عظيم ] فهذا مثل ذلك ‪ ،‬وأما‬ ‫هنا ما قاله لقمان البنه ‪ :‬يا بني ال تشرك ه‬
‫المسلمون وإن جاروا وظلموا فإن النبي عليه السالم قد أمرنا أن ال نخرج أيدينا من طاعة ‪،‬‬
‫فإن جاروا فلنا وعليهم ‪ ،‬وإن عدلوا فلنا ولهم ‪ ،‬وقال ‪ :‬أطيعوهم ما أقاموا الصالة ‪ ،‬لما تكلموا‬
‫علَى‬‫ش َهدا َء َ‬ ‫سطا ا )أي خيارا عدال( ِلت َ ُكونُوا ُ‬ ‫في جورهم ‪ ،‬وقال تعالى ( ‪َ :‬و َكذ ِل َك َجعَ ْلنا ُك ْم أ ُ َّمةا َو َ‬
‫ّللا على عدالتنا بمجرد اإليمان ‪ ،‬وإن كان قد علم أنه يقع منا الجور والظلم‬ ‫اس )فقد نص ه‬ ‫النَّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فلم‬ ‫ّللا ‪ ،‬وتحريم ما حرم ه‬ ‫والتعدي للحدود المشروعة ‪ ،‬مع حفظ اإليمان بتحليل ما أحل ه‬
‫ّللا العصاة والظلمة من أهل اإليمان من اإلمامة ‪ ،‬وال سيما في قوله ‪ ( :‬ث ُ َّم أ َ ْو َرثْنَا‬ ‫يخرج ه‬
‫طفَيْنا ِم ْن ِعبادِنا فَ ِم ْن ُه ْم ظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِس ِه )مع كونه مصطفى ‪ ،‬ونحن نقول إن الظالم‬ ‫ص َ‬ ‫ْال ِك َ‬
‫تاب الَّذِينَ ا ْ‬
‫ّللا‬
‫ّللا في تلك النازلة ‪ ،‬فإنه بمعزل عن حكم ه‬ ‫سق فيه قد انعزل شرعا عن حكم ه‬ ‫إذا حكم بأمر ف ه‬
‫فيها ‪ ،‬وهو مأثوم ‪ ،‬ولكن أقول إذا اتفق أن يتمكن الناس من خلع الظالم وإقامة العادل من غير‬
‫ضرر فادح يصيب الناس وتهلك فيه النفوس واألموال فلهم ذلك ‪ ،‬وهل يجب أو ال يجب ؟ فيه‬
‫عندي نظر ‪ ،‬وأنا اآلن في محل التردد في ذلك لتعارض األدلة ‪ ،‬وما ترجح عندي في ذلك‬
‫شيء ‪ ،‬واعلم أن‬

‫ص ‪196‬‬

‫ص ‪197 :‬‬
‫مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي سوى األولياء ‪ ،‬وما من نبي وال ولي إال وله همة‬
‫ّللا على سائر البيوت وله سر‬ ‫متعلقة بهذا البيت وهذا البلد الحرام ‪ ،‬ألنه البيت الذي اصطفاه ه‬
‫ى‬ ‫اس لَلَّذِي ِببَ َّكةَ ُم َ‬
‫باركا ا َو ُهد ا‬ ‫ض َع ِللنَّ ِ‬ ‫األولية في المعابد ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ِ «:‬إ َّن أ َ َّو َل بَ ْي ٍ‬
‫ت ُو ِ‬
‫يم َو َم ْن َد َخلَهُ كانَ ِآمنا ا »من كل مخوف إلى غير ذلك من‬ ‫آيات بَ ِيه ٌ‬
‫نات َمقا ُم ِإبْرا ِه َ‬ ‫ٌ‬ ‫ِل ْلعالَ ِمينَ ِفي ِه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا أُس َْوة ٌ‬ ‫األئمة رجالن ‪ :‬إمام يقتدى به وهم الرسل ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم فِي َر ُ‬
‫سو ِل َّ ِ‬
‫سنَةٌ )وسيأتي في ترجمتها في موضعها ما يتعلق بها من الحكم ‪ ،‬فإذا كانت اإلمامة يراد بها‬ ‫َح َ‬
‫االقتداء ‪ ،‬أن يقتدى بها ‪ ،‬فال تجوز اإلمامة إال لمنصوص على عصمته ‪ ،‬وذلك هم الرسل‬
‫خاصة ‪ ،‬وال خالف بين أهل اإلسالم في إمامة من جهلت عصمته أو من ليس بمعصوم ‪ ،‬إال‬
‫شرذمة قليلة ال يحكى قولهم ‪ ،‬والرجل اآلخر ‪ ،‬إمام ال يقتدى به ‪ ،‬ولكن يسأل في النوازل إذا‬
‫كان من أهل الذكر ‪ ،‬فال بد أن يكون عالما ‪ ،‬بما يحكم به بين الناس ‪ ،‬وال يقتدى به في أفعاله‬
‫وإن كانت أفعاله مستقيمة ولكن اقتداءك إنما هو بمن اقتدى هو به وهو الشرع ال به ‪ ،‬فإن الكل‬
‫أتباع الرسل ‪ ،‬فيكون نصب اإلمام هنا لوجود المصالح التي يقوم بها معاشهم ليأمنوا على‬
‫ّللا يزع بالسلطان ما ال يزع بالقرآن ‪ ،‬ثم قال «) ‪: ( 126‬‬ ‫أنفسهم وأموالهم وأزواجهم ‪ ،‬فإن ه‬
‫اس َوأ َ ْمنا ا »يقول ‪ :‬نصبنا البيت بمعنى الكعبة ‪ ،‬مثابة للناس يحجون‬ ‫َو ِإ ْذ َجعَ ْلنَا ْالبَي َ‬
‫ْت َمثابَةا ِللنَّ ِ‬
‫إليه في كل عام بجد وعزم ومحبة تؤديهم إلى أن يثوبوا إلى قصده من جميع البالد بسرعة ‪،‬‬
‫من الوثب ‪ ،‬وإن تناءت بالدهم وهلكت في قصده أموالهم ‪ ،‬فإن ذلك يهون عليهم وال يبطئ بهم‬
‫فهون عليهم الشدائد في طريقه ‪ ،‬وهي بشارة‬ ‫ّللا في نفوسهم من محبته ‪ ،‬ه‬ ‫عن قصده لما جعل ه‬
‫ّللا لعبده إذ أوجد في قلبه تهوين الشدائد ‪ ،‬من بذل المال وتعب البدن ومفارقة األهل‬ ‫من ه‬
‫ّللا به ‪ ،‬وإن وجد غير ذلك‬ ‫والوطن في طلب قصده والوصول إليه ‪ ،‬أنه مؤمن ممن اعتنى ه‬
‫ّللا في قلوب العباد ‪ ،‬وهو من قوله ‪( :‬‬ ‫ّللا قد سلب عنه اإليمان وهذا من سر ه‬ ‫عز نفسه ‪ ،‬فإن ه‬ ‫فلي ه‬
‫نات )وأية آية أعظم من هذا ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬وأ َ ْمنا ا »أي جعل في قلوبهم أن يشرعوا‬ ‫آيات بَ ِيه ٌ‬
‫ٌ‬ ‫فِي ِه‬
‫ّللا تعالى ‪ ( :‬أ َ‬ ‫األمان لكل من دخله والذ به ‪ ،‬جعل ذلك في قلوب المشركين وغيرهم ‪ ،‬قال ه‬
‫َولَ ْم يَ َر ْوا أَنَّا َجعَ ْلنا َح َرما ا ِآمنا ا )فنسب ذلك الجعل إليه وأطبق قلوب الكفار على ذلك ‪ ،‬ثم قال ‪«:‬‬
‫صلًّى »على األمر إذا كسرت الخاء ‪ ،‬وعلى الخبر إذا فتحتها ‪ ،‬وقد‬ ‫يم ُم َ‬
‫قام ِإبْرا ِه َ‬ ‫َوات َّ ِخذُوا ِم ْن َم ِ‬
‫يرد الخبر ويراد به األمر ‪ ،‬فمن جعله خبرا يقول ‪ :‬جعلنا في قلوبهم أن يتخذوه موضعا للدعاء‬
‫فاتخذوه ‪ ،‬فأخبر أنهم اتخذوه ‪ ،‬ومن جعله أمرا جعل اتخاذه مشروعا على جهة الندب ال على‬
‫الوجوب ‪ ،‬واختلف الناس في هذه اآلية في « المقام » ما المراد به ؟ وفي كيفية اتخاذه مصلى‬
‫‪ ،‬وما معنى « مصلى » فأما المقام فال خالف أن الحجر الذي قام‬

‫ص ‪197‬‬

‫ص ‪198 :‬‬
‫يم َو ِإسْما ِعي َل »أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت للطائفين عناية‬ ‫ع ِه ْدنا ِإلى ِإبْرا ِه َ‬
‫اآليات « َو َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬سيد المرسلين ‪ ،‬فأكرمهما ببناء البيت وتطهيره إنما كان لكونهما‬ ‫بمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في ظهورهما ‪ ،‬واختص إسماعيل دون بنيه بذلك وباالبتالء‬ ‫حمال النبي صلهى ه‬
‫لكونه كان من آباء النبي عليه السالم ‪ ،‬قال « أنا ابن الذبيحين » وإنما كانت الفضيلة لهما في‬
‫ي ِل َّ‬
‫لطائِ ِفينَ »في بيت‬ ‫البيت لكونهما طهراه وبنياه عن أمر إلهي فقال تعالى ‪ «:‬أ َ ْن َ‬
‫ط ِ ههرا بَ ْيتِ َ‬
‫ّللا بال واسطة منذ خلق الدنيا ما جرت عليه يد مخلوق ‪ ،‬والطائفون‬ ‫خاص نسبة إذ كان بيت ه‬
‫كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ‪ ،‬والبيت في األرض كالعرش المنسوب إلى‬
‫استواء الرحمن« َو ْالعا ِك ِفينَ »االعتكاف ‪ :‬اإلقامة بمكان مخصوص ‪ ،‬وفي الشرع على عمل‬
‫ّللا جل جالله وهو مندوب إليه شرعا واجب‬ ‫مخصوص ‪ ،‬بحال مخصوص على نية القربة إلى ه‬
‫بالنذر ‪ .‬وللمعتكف أن يفعل جميع أفعال البر التي ال تخرجه عن الموضع الذي أقام فيه ‪ ،‬فإن‬
‫خرج فليس بمعتكف ‪ ،‬وال يثبت عندي فيه االشتراط‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫عليه إبراهيم حين بنى البيت ودعا الناس بالحج إليه الذي هو اليوم في البيت يتبرك به لموضع‬
‫أقدامه فيه أنه مقام إبراهيم ‪ ،‬واختلفوا فيما سوى ذلك في المذكور في هذه اآلية ‪ ،‬فأعمها قوال‬
‫مناسك الحج كلها في الحل والحرم ‪ ،‬وأخصها ما ذكرناه ‪ ،‬وما بين هذين القولين أقوال كثيرة‬
‫صلًّى »فقد يريد به مدهعى ‪ ،‬أن يدعو‬ ‫في تعيين بعض األماكن من الحرم ‪ ،‬وأما قوله ‪ُ «:‬م َ‬
‫الناس فيه ‪ ،‬وقد يريد به الصالة المعلومة في الشرع ‪ ،‬وقد يريد األمرين وهو األوجه إذ ال‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫تناقض في ذلك ‪ ،‬وأما كيفية اتخاذه مصلى فليس بعد شرح رسول ه‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬وذلك أنه صح عنه‬ ‫ذلك شرح ‪ ،‬وينبغي الوقوف عنده ‪ ،‬فإنه أعلم بمعنى ما أنزل ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه لما فرغ من الطواف صلى خلف المقام وجعل المقام الذي هو الحجر‬ ‫صلهى ه‬
‫صلًّى »وليس بعد هذا البيان بيان ‪،‬‬ ‫يم ُم َ‬ ‫بينه وبين القبلة ‪ ،‬وصلى وتال« َوات َّ ِخذُوا ِم ْن َم ِ‬
‫قام ِإبْرا ِه َ‬
‫ي‬ ‫يم َوإِسْما ِعي َل أ َ ْن َ‬
‫ط ِ ههرا بَ ْيتِ َ‬ ‫ع ِه ْدنا إِلى إِبْرا ِه َ‬
‫ومن خالف بعد هذا البيان فما اقتدى ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َ‬
‫س ُجو ِد »أي أمرناهم حتما جزما ‪ ،‬وشرك إسماعيل مع إبراهيم في‬ ‫لطائِ ِفينَ َو ْالعا ِك ِفينَ َو ُّ‬
‫الر َّك ِع ال ُّ‬ ‫ِل َّ‬
‫ذلك العهد لما فيه من الشرف والرفعة حيث أهلهما لتطهير بيت أضافه إليه ‪ ،‬وجعله مقصدا‬
‫لعباده إلى يوم القيامة من ملك وجن وإنس ‪ ،‬واإلنسان مجبول أن يحب البنه من الخير أكثر‬
‫ّللا إبراهيم بأن يشرك ابنه معه في ذلك ‪ ،‬ووجه آخر ‪ ،‬وذلك أن يكون‬ ‫مما يحب لنفسه ‪ ،‬فأكرم ه‬
‫لمحمد عليه السالم نصيب من هذا التشريف حيث كان انتقل إلى إسماعيل من إبراهيم ‪ ،‬فشرف‬
‫الوالد لشرف الولد ‪ ،‬ألنه حامله في ذلك الوقت ‪ ،‬ألنه كان يتردد في األصالب منحدرا‬

‫ص ‪198‬‬

‫ص ‪199 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪126‬‬
‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم‬
‫ت َم ْن آ َم َن ِم ْن ُه ْم ِب ه ِ‬‫ار ُزقْ أ َ ْهلَهُ ِم َن الث ه َمرا ِ‬ ‫ب اجْ عَ ْل هذا بَلَدا ً ِ‬
‫آمنا ً َو ْ‬ ‫َو ِإ ْذ قا َل ِإ ْبرا ِهي ُم َر ه ِ‬
‫ير ) ‪( 126‬‬ ‫س ا ْل َم ِص ُ‬ ‫ض َط ُّرهُ ِإلى عَذا ِ‬
‫ب النه ِار َو ِبئْ َ‬ ‫ْاآل ِخ ِر قا َل َو َم ْن َكفَ َر فَأ ُ َم ِت هعُهُ قَ ِليلً ث ُ هم أ َ ْ‬
‫دعا إبراهيم عليه السالم لمكة بالبركات ‪ ،‬فإنه إذا بورك في األم بورك في البنات‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا عليه وسلم قول‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫في ارتقاء وتطهير ‪ ،‬وأحسن بيت رأيته ورويته أن يليق برسول ه‬
‫بعضهم ‪:‬‬
‫ّللا من آدم ‪ . . .‬فما زلت منحدرا ترتقي ]‬ ‫[ تخيرك ه‬
‫ّللا أن يطهراه من األقذار المحسوسة كما صب النبي عليه السالم الماء على بول‬ ‫فأمرهما ه‬
‫األعرابي ‪ ،‬وبيهن أن المساجد ال تصلح لشيء من هذا ‪ ،‬وغير المحسوسة أيضا ‪ ،‬وهو تطهيره‬
‫من هجر القول وسوئه وجعل األوثان فيه واألصنام ودخول المشركين فيه ‪ ،‬وجميع ما يقع‬
‫عليه اسم تطهير شرعا وعرفا ‪ ،‬مطلقا من غير تخصيص ‪ ،‬فإنه سبحانه ما خصص لنا ‪،‬‬
‫لطائِ ِفينَ »الذين يطوفون بهذا البيت من جميع أصناف الطائفين ‪ ،‬ثم قال ‪«:‬‬ ‫وقوله ‪ِ «:‬ل َّ‬
‫ّللا أن يكون أجرهم‬ ‫َو ْالعا ِك ِفينَ »يريد المقيمين فيه من المجاورين ومن أهله ‪ ،‬وأرجو إن شاء ه‬
‫أجر المعتكف االعتكاف المشروع ‪ ،‬وال سيما على مذهب بعضهم حيث جوز للمعتكف في‬
‫غير المسجد مباشرة النساء ‪ ،‬وقد يستروح من هذا أنه من أراد االعتكاف في نفس البيت ال‬
‫يمنع ‪ ،‬وأن المعتكف في الحرم أي المقيم فيه من غير طواف وال صالة أنه في عبادة بمجرد‬
‫س ُجو ِد »يريد المصلين والساجدين في التالوة ‪ ،‬والراكعين‬ ‫الر َّك ِع ال ُّ‬
‫اإلقامة ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬و ُّ‬
‫الخاضعين وإن لم يكونوا مصلين إذ الركوع الخضوع ‪.‬‬
‫ّللا تعالى نبيه إبراهيم‬ ‫اجعَ ْل َهذَا ْالبَلَ َد ِآمنا ا »لما أخبر ه‬
‫ثم قال ‪َ «) 127 ( :‬و ِإ ْذ قا َل ِإبْرا ِهي ُم َربه ِ ْ‬
‫ّللا جعل بيته أمنا لمن عاد به وجاوره ‪ ،‬دعا إبراهيم ربه أن يجعل البيت أيضا آمنا في نفسه‬ ‫أن ه‬
‫من تسليط الجبابرة عليه بالهدم والتخريب لغير المصلحة وعدم االحترام ‪ ،‬فما زال محترما‬
‫عند كل جبار ‪ ،‬ومن قصده النتهاك حرمته وهدمه فإنه ال يقدر على ذلك ‪ ،‬كأصحاب الفيل‬
‫ّللا عند قرب الساعة فيسلط عليه األحابشة ‪ ،‬وأما الحجاج فما قصد‬ ‫وغيرهم ‪ ،‬حتى يأتي وعد ه‬
‫ّللا بن الزبير بتأويل رآه ‪ ،‬ونحن إنما تكلمنا فيمن قصده لعينه الذي دعا فيه إبراهيم ‪،‬‬ ‫إال عبد ه‬
‫ت »لما رآه واديا غير ذي زرع ‪ ،‬فهو تجبى إليه ثمرات كل‬ ‫ار ُز ْق أ َ ْهلَهُ ِمنَ الث َّ َمرا ِ‬‫وقوله ‪َ «:‬و ْ‬
‫ّللا لدعوة إبراهيم ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬م ْن آ َمنَ ِم ْن ُه ْم بِ َّ ِ‬
‫اّلل‬ ‫شيء من أداني القرى وأقاصيها رزقا من عند ه‬
‫ّللا حيث قال له من قبل لما سأله فقال ‪َ ( :‬و ِم ْن ذُ ِ هريَّتِي قا َل‬ ‫َو ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر »أدبا مع ه‬

‫ص ‪199‬‬

‫ص ‪200 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪127‬‬
‫سما ِعي ُل َربهنا تَقَبه ْل ِمنها ِإنهكَ أ َ ْنتَ ال ه‬
‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ‪( 127‬‬ ‫َو ِإ ْذ يَ ْرفَ ُع ِإ ْبرا ِهي ُم ا ْلقَوا ِع َد ِم َن ا ْلبَ ْي ِ‬
‫ت َو ِإ ْ‬
‫)‬
‫دعا إسماعيل بالقبول ‪ ،‬فأظهر النقص ليصح كمال الخليل ‪ ،‬إذ الواجب على كل بنيه ‪ ،‬أن يضع‬
‫من قدره عند قدر أبيه ‪ ،‬فأظهر إسماعيل صفة االفتقار ‪ ،‬وظهر بها احتراما ألبيه وأدبا معه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ال ينال عهدي الظالمين ) ومثله من يتأدب ويقف عندما نبهه عليه ربه ‪ ،‬وأيضا لما علم إبراهيم‬
‫ّللا بالصالحين من عباده‬ ‫عليه السالم أن سبب خصب البالد وإنزال الرزق إنما هو ألجل عناية ه‬
‫وبدعائهم ‪ ،‬إذ هم المقصودون للحق من العالم ‪ ،‬وأن الكافر يرزق بحكم التبعية ال بحكم العناية‬
‫‪ ،‬كما يهلك الصالح بنزول العذاب الذي أنزل من أجل المفسدين فنال الصالح بحكم التبعية ال‬
‫بحكم العقوبة ‪ ،‬فلهذا أيضا لم يذكر أرزاق الكافر ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬قا َل َو َم ْن َكفَ َر »سؤال من إبراهيم‬
‫ّللا «‪َ :‬و َم ْن َكفَ َر فَأ ُ َم ِت هعُهُ »فتكون الفاء جواب‬ ‫فيكون في الكالم حذف ‪ ،‬كأنه لما قال ذلك قال ه‬
‫ّللا ومن‬ ‫شرط محذوف دل عليه الكالم ‪ ،‬وقد يكون قوله ‪َ «:‬و َم ْن َكفَ َر »مبتدأ ويكون القائل ه‬
‫يال »يعني الحياة الدنيا ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬قُ ْل‬ ‫شرط وجوابه« فَأ ُ َم ِت هعُهُ »يقول والكافر أرزقه« قَ ِل ا‬
‫ار »ال ينبغي أن‬ ‫ب النَّ ِ‬
‫عذا ِ‬ ‫ض َ‬
‫ط ُّرهُ ِإلى َ‬ ‫ع ال ُّد ْنيا قَ ِلي ٌل )أي التمتع بها قليل ‪ ،‬ثم قال «‪:‬ث ُ َّم أ َ ْ‬
‫َمتا ُ‬
‫ار »وإنما‬ ‫ب النَّ ِ‬
‫عذا ِ‬
‫يجعل االضطرار بمعنى اإلكراه ألنه ما قال إلى النار ‪ ،‬وإنما قال ‪ «:‬إِلى َ‬
‫اإلكراه إنما يكون في سوقهم إلى النار ودخولها ابتداء بالجبر ‪ ،‬فإذا حطوا فيها كما قال ‪( :‬‬
‫وّللا يبقي علينا‬ ‫وق ْال ُم ْج ِر ِمينَ ِإلى َج َهنَّ َم )وسيأتي شرحه ومعنى سوقهم( ِو ْردا ا )ما معناه ‪ ،‬ه‬ ‫س ُ‬ ‫َونَ ُ‬
‫فهمه في وقت الترجمة عنه ‪ ،‬فاعلم أن االضطرار هو أن يقصد المضطر ما يحتاج إليه ال ما‬
‫يكره عليه ‪ ،‬فإن اإلكراه ضد االضطرار ‪ ،‬فإن حالة االضطرار تزيل الكراهة عند المضطر‬
‫من الشيء الذي كانت عنده في حال االختيار ‪ ،‬واعلم أن جهنم تحتوي على عذابين حرور‬
‫ست منه ما آلمه ونظر إلى‬ ‫وزمهرير إلى غير ذلك ‪ ،‬فإذا كان الشقي في حرور النار وم ه‬
‫الزمهرير الذي في مقابلته رمى نفسه إليه مضطرا من عذاب إلى عذاب ‪ ،‬وكذلك إذا جاع‬
‫اضطر إلى دفع الجوع بما يأكله ‪ ،‬فينظر إلى شجرة الزقوم ‪ ،‬فيتوهم بالعادة من أكل الثمر أنه‬
‫مزيل لجوعه ‪ ،‬فيضطر إلى قطعها فإذا ازدردها قطعت أمعاءه ‪ ،‬وناله من العذاب فوق ما كان‬
‫ير‬
‫ص ُ‬ ‫س ْال َم ِ‬
‫يجده ‪ ،‬وهكذا في الشراب وغيره ‪ ،‬فهذا معنى االضطرار ‪ ،‬وقال فيه تعالى ‪َ «:‬و ِبئْ َ‬
‫ّللا ذلك المصير الذي صار‬ ‫»كلمة ذم ‪ ،‬كما أن نعم كلمة مدح ‪ ،‬فذم ه‬

‫ص ‪200‬‬

‫ص ‪201 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪128‬‬
‫علَ ْينا ِإنهكَ أ َ ْنتَ الت ه هو ُ‬
‫اب‬ ‫س ِل َمةً لَكَ َوأ َ ِرنا َمنا ِ‬
‫سكَنا َوت ُ ْب َ‬ ‫س ِل َم ْي ِن لَكَ َو ِم ْن ذُ ِ هريهتِنا أ ُ همةً ُم ْ‬
‫َربهنا َواجْ عَ ْلنا ُم ْ‬
‫الر ِحي ُم ) ‪( 128‬‬ ‫ه‬
‫ّللا مقطوع لها بالقبول ‪ ،‬وتوبة العبد في محل اإلمكان ‪ ،‬لما فيها من العلل وعدم‬ ‫اعلم أن توبة ه‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬فالعارف يسأل ربه أن يتوب عليه ‪ ،‬فإن‬ ‫العلم باستيفاء حدودها وشروطها وعلم ه‬
‫ّللا فيه خطر عظيم ‪ ،‬فإنه إن كان قد بقي‬ ‫ّللا بطريق العهد وهو ال يعلم ما في علم ه‬ ‫الرجوع إلى ه‬
‫عليه شيء من مخالفة فال بد من نقض ذلك العهد‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫إليه أهل النار من البؤس ‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 128 ( :‬و ِإ ْذ يَ ْرفَ ُع ِإبْرا ِهي ُم ْالقَوا ِع َد ِمنَ ْالبَ ْي ِ‬
‫ت َو ِإسْما ِعي ُل‬
‫َربَّنا تَقَب َّْل ِمنَّا »اآلية ‪ ،‬يحتمل رفع القواعد وجهين ‪ :‬الوجه الواحد« َوإِ ْذ يَ ْرفَ ُع إِبْرا ِهي ُم »ما قعد‬
‫من البيت ‪ ،‬أي استوطئ فرفعه إبراهيم ‪ ،‬والوجه اآلخر ‪ ،‬أنه أخذ القواعد وهي الحجارة التي‬
‫هي أصال وأساسا للبناء عليها ‪ ،‬وقد تكون تلك القواعد قبل ذلك له على ما روي ‪ ،‬وقد تكون‬
‫حجارة أنشأها ابتداء واختارها لألساس ‪ ،‬ومعنى يرفعها وذلك إذا جعلت القاعدة على المكان‬
‫الذي تريد البناء عليه فقد رفعتها على ذلك المكان بال شك ‪ ،‬فأراد وضعها وإسماعيل ‪ ،‬وقوله‬
‫ت »من أجل بناء البيت ‪ ،‬وإسماعيل يرفعه معه ‪ ،‬ذلك ألنهما أمرا بالبناء معا ‪ ،‬ففي‬ ‫«‪ِ :‬منَ ْالبَ ْي ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد يحتمل أن يكون قوله مبتدأ في وقت‬ ‫أي شغل كان من البناء فقد حصل االمتثال ألمر ه‬
‫رفع القواعد يقول إسماعيل« َربَّنا »أي يدعو بهذا الدعاء ‪ ،‬أو ما في معناه مما يتضمن طلب‬
‫س ِمي ُع »لدعائنا« ْالعَ ِلي ُم »بعملنا وامتثال أمرك‬ ‫ّللا فيما كلفاه من العمل« ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ت ال َّ‬ ‫القبول من ه‬
‫اجعَ ْلنا ُم ْس ِل َمي ِْن لَ َك »يقوالن في دعائهما ‪ :‬ربنا واجعلنا مسلمين ‪،‬‬ ‫في ذلك ( ‪َ «) 129‬ربَّنا َو ْ‬
‫يعني نفسه وابنه ‪ ،‬أي منقادين ألمرك متى أمرتنا بكل وجه« َو ِم ْن ذُ ِ هريَّ ِتنا أ ُ َّمةا ُم ْس ِل َمةا لَ َك »أي‬
‫منقادة ألمرك أيضا ‪ ،‬وتأدب في ذلك ولم يقل كل ذريتي ‪ ،‬فإنه قد قيل له إن فيهم ظالمين ‪:‬‬
‫فقال ‪ :‬أمة منهم ‪ ،‬فكان كما دعا ‪ ،‬فجعل من ذريته رسال ومؤمنين وصالحين إجابة لدعوتهما ‪،‬‬
‫ثم قال ‪َ «:‬وأ َ ِرنا َمنا ِس َكنا »قد تكون الرؤية بمعنى العلم ‪ ،‬وال يكون العلم بمعنى الرؤية ‪ ،‬فلما‬
‫كان موضوع الرؤية أعم جاء بها ‪ ،‬ألن من المناسك ما يحتاج فيه إلى الرؤية ‪ ،‬كاألماكن ‪ ،‬فال‬
‫بد من تعيينها للبصر ‪ ،‬ومن المناسك ما يكون فعال ‪ ،‬كأكثر أفعال الحج مما يعلم وال يرى ‪،‬‬
‫وهو الحكم بما يجوز من ذلك وما ال يجوز ‪ ،‬فلهذا أتى بقوله «‪:‬أ َ ِرنا »وقوله ‪َ «:‬وتُبْ َ‬
‫علَيْنا‬
‫»أما إبراهيم فمن قوله ‪َ ( :‬و ِم ْن ذُ ِ هريَّتِي )في طلب اإلمامة وأشياء ال يعرفها ‪ ،‬وكذلك إسماعيل‬
‫‪ ،‬وقد تكون التوبة هنا بمعنى‬

‫ص ‪201‬‬

‫ص ‪202 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪129‬‬
‫يه ْم ِإنهكَ أ َ ْنتَ‬‫تاب َوا ْل ِح ْك َمةَ َويُ َز ِ هك ِ‬
‫علَ ْي ِه ْم آياتِكَ َويُعَ ِله ُم ُه ُم ا ْل ِك َ‬‫سوالً ِم ْن ُه ْم يَتْلُوا َ‬ ‫َربهنا َوا ْبعَ ْث فِ ِ‬
‫يه ْم َر ُ‬
‫يز ا ْل َح ِكي ُم ) ‪( 129‬‬ ‫ا ْلعَ ِز ُ‬
‫الحكمة ليست مطلوبة إال من أجل ما تدل عليه ‪ ،‬واعلم أن الحكيم من العباد الذي ينزل كل‬
‫شيء منزلته ‪ ،‬وال يتعدى به مرتبته ‪ ،‬ويعطي كل ذي حق حقه ‪ ،‬ال يحكم في شيء بغرضه‬
‫ّللا‬
‫وال بهواه ‪ ،‬وال تؤثر فيه األعراض الطارئة ‪ ،‬فينظر الحكيم إلى هذه الدار التي قد أسكنه ه‬
‫ّللا له من التصرف فيها من غير زيادة وال نقصان ‪،‬‬ ‫فيها إلى أجل ‪ ،‬وينظر إلى ما شرع ه‬
‫فيجري على األسلوب الذي قد أبين له ‪ ،‬وال يضع من يده الميزان الذي قد وضع له ‪ ،‬في هذا‬
‫ّللا الحالتين ‪،‬‬ ‫الموطن ‪ ،‬فإنه إن وضعه جهل المقادير فإما يخسر في وزنه أو يطفف ‪ ،‬وقد ذم ه‬
‫وجعل تعالى للتطفيف حالة خاصة يحمد فيها التطفيف ‪ ،‬فيطفف هناك على علم فإنه رجحان‬
‫ّللا في تطفيفه ‪ ،‬فإذا علم هذا ولم يبرح الميزان من يديه لم يخط‬ ‫الميزان ويكون مشكورا عند ه‬
‫ّللا في خلقه ويكون بذلك إمام وقته ‪ ،‬ومن الحكمة عدم إظهار الحق لعباده ‪،‬‬ ‫شيئا من حكمة ه‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬ومن الحكمة أن ال‬ ‫وتعريف الخلق به ‪ ،‬في الموطن الذي يؤدي ذكره إلى أذى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬في‬ ‫ّللا ‪ ،‬وال بذكر رسوله ‪ ،‬وال أحد ممن له قدر في الدين عند ه‬ ‫يعرض الحكيم بذكر ه‬
‫ّللا به ‪،‬‬ ‫ّللا فيها أو رسوله أو أحدا ممن اعتنى ه‬ ‫األماكن التي يعرفها هذا الحكيم إذا ذكر ه‬
‫كالصحابة عند الشيعة ‪ ،‬فإن ذلك داع إلى ثلب المذكور ‪ ،‬وشتمه ‪ ،‬وإدخال األذى في حقه ‪،‬‬
‫ففي مثل هذا الموطن ال يذكره‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الرجوع إليه في كل حال ‪ ،‬وهذا التفسير على معنى ( فتاب عليهم ليتوبوا ) وأما على ظاهر‬
‫ّللا عليهم لم تقع منهم فيما بعد مخالفة ‪ ،‬فإن توبة‬ ‫اللفظ فليس فيه توبة منهم ‪ ،‬فمعناه إذا تاب ه‬
‫علَيْنا‬
‫ّللا عليه فال يرجع ‪ ،‬ووجه آخر وهو قولهما ‪َ «:‬وتُبْ َ‬ ‫العبد قد يرجع عنها ‪ ،‬ومن تاب ه‬
‫»أي ارجع علينا في كل حال بالرحمة والعطف واللطف والتوفيق والرشد واالستعمال في‬
‫س ا‬
‫وال‬ ‫الر ِحي ُم » ‪،‬ثم قال ‪َ «) 130 ( :‬ربَّنا َوا ْبعَ ْ‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُ‬ ‫اب َّ‬ ‫ت الت َّ َّو ُ‬ ‫محابك ومرضاتك « ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫علَ ْي ِه ْم »ذلك الرسول« آياتِ َك »ما أنزلت‬ ‫ِم ْن ُه ْم »فالسؤال في أن يكون الرسول منهم «يَتْلُوا َ‬
‫تاب »أي ما في الكتاب مما خاطبتهم به ‪ ،‬أو يأمرهم‬ ‫عليه من الصحف والكتب « َويُعَ ِله ُم ُه ُم ْال ِك َ‬
‫بتعليم الكتاب حتى‬

‫ص ‪202‬‬

‫ص ‪203 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪130‬‬
‫ص َطفَ ْيناهُ فِي ال ُّد ْنيا َو ِإنههُ فِي ْاآل ِخ َر ِة لَ ِم َن‬
‫سهُ َولَقَ ِد ا ْ‬‫س ِفهَ نَ ْف َ‬
‫ب ع َْن ِمله ِة ِإ ْبرا ِهي َم ِإاله َم ْن َ‬
‫غ ُ‬‫َو َم ْن يَ ْر َ‬
‫ين ) ‪( 130‬‬ ‫صا ِل ِح َ‬ ‫ال ه‬
‫موه ‪ .‬العقل عن السفاهة منزه ‪ ،‬وما هو بعاقل‬ ‫إلى الهوى يرجع السفه ‪ ،‬ودع عنك كالم من ه‬
‫صا ِل ِحينَ »الصالح أشرف مقام يصل إليه العبد ‪ ،‬ويتصف‬ ‫حتى يتنبه« َوإِنَّهُ فِي ْاآل ِخ َرةِ لَ ِمنَ ال َّ‬
‫ّللا بها على من وصفه بها من خاصته ‪ ،‬وهي‬ ‫به في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فإن الصالح صفة امتن ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫صفة يسأل نيلها كل نبي ورسول ‪ ،‬والصالح صفة ملكية روحانية ‪ ،‬فإن رسول ه‬
‫ّللا الصالحين »‬ ‫عليه وسلم يقول فيها ‪ :‬إذا قال العبد في التشهد « السالم علينا وعلى عباد ه‬
‫أصابت كل عبد صالح هّلل في السماء واألرض‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫يعرفوا ما كتب لهم في الصحف المنزلة ‪ « ،‬والحكمة » أن يضعوا العبادات التي كلفتهم‬
‫مواضعها ‪ ،‬ويرتبوها كما شرعتها زمانا وحاال ومكانا وقوال وفعال وعقدا ‪ ،‬فإن الحكيم هو‬
‫الذي يضع األشياء مواضعها ‪ ،‬قال ‪َ «:‬ويُزَ ِ هكي ِه ْم »أي يطهرهم ويكثر الخير لهم ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫يز »الذي ال تغالب وال‬ ‫ت ْالعَ ِز ُ‬ ‫ط ِ هه ُر ُه ْم َوتُزَ ِ هكي ِه ْم ِبها )ثم قال ‪ِ «:‬إنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ص َدقَةا ت ُ َ‬‫( ُخ ْذ ِم ْن أ َ ْموا ِل ِه ْم َ‬
‫يمتنع عليك شيء فإنه يقول ‪ :‬ال راد ألمره ‪ ،‬ثم نعته ب « ْال َح ِكي ُم »تسليما له في فعله لعلمه‬
‫باألمور ‪ ،‬فإن اقتضت حكمته سبحانه فيما دعاه به خليله أجابه ‪ ،‬وإن لم يكن فاألمر إليه ‪ ،‬فهو‬
‫سبحانه أعلم بمصالح عباده ‪ ،‬وال سيما وقد تقدم له عليه السالم قوله ‪ ( :‬ال يَنا ُل َ‬
‫ع ْهدِي‬
‫ع ْن ِملَّ ِة‬
‫َب َ‬‫الظا ِل ِمينَ )في سؤاله األول في اإلمامة لذريته ‪ ،‬ثم قال ‪َ )« 131 ( :‬و َم ْن يَ ْرغ ُ‬ ‫َّ‬
‫سهُ »يقال ‪:‬‬ ‫يم ِإ َّال َم ْن َ‬
‫س ِفهَ نَ ْف َ‬ ‫ِإبْرا ِه َ‬
‫يم َح ِنيفا ا ) *فقال ‪َ «:‬و َم ْن‬ ‫وّللا تعالى يقول ‪ ( :‬اتَّبَ َع ِملَّةَ ِإبْرا ِه َ‬ ‫رغبت عن كذا إذا زهدت فيه ‪ ،‬ه‬
‫يم »عن الدين الحنيفي الذي هو اإلسالم إال سفيه في نفسه ‪ ،‬أي سخيف‬ ‫ع ْن ِملَّ ِة ِإبْرا ِه َ‬ ‫َب َ‬ ‫يَ ْرغ ُ‬
‫ضعيف الرأي والعقل ‪ ،‬ليس عنده رشد ‪ ،‬والسفه في اللسان الخفة ‪ ،‬والضمير في نفسه يعود‬
‫على من سفه نفسه في موضع رفع ‪ ،‬وانتصب على التمييز ‪ ،‬كقوله غبن رأيه ‪ ،‬أي غبن رأيا ‪،‬‬
‫طفَيْناهُ فِي ال ُّد ْنيا »وقد علمتم أنا‬ ‫ص َ‬ ‫وسفه نفسا ‪ ،‬والمعنى في ذلك واضح ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬ولَقَ ِد ا ْ‬
‫اصطفيناه أي صفيناه من الصفوة واجتبيناه واخترناه للخلة واإلمامة في الدنيا« َو ِإنَّهُ فِي ْاآل ِخ َرةِ‬
‫ّللا على التمام والكمال من غير أن يتخللها ما يفسدها‬ ‫صا ِل ِحينَ »أي من الذين أدوا حقوق ه‬ ‫لَ ِمنَ ال َّ‬
‫‪ ،‬المعنى‬

‫ص ‪203‬‬

‫ص ‪204 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪131‬‬
‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬
‫ين ) ‪( 131‬‬ ‫سلَ ْمتُ ِل َر ه ِ‬ ‫ِإ ْذ قا َل لَهُ َربُّهُ أ َ ْ‬
‫س ِل ْم قا َل أ َ ْ‬
‫ّللا عند كل دعاء يدعوه إليه من غير توقف ‪ِ «.‬ل َربه ِ‬ ‫اإلسلم ‪ :‬أن يكون العبد منقادا إلى ه‬
‫ْالعالَ ِمينَ »اعلم أن الربوبية نعت إضافي ال ينفرد به أحد المتضايفين عن اآلخر فهي موقوفة‬
‫على اثنين ‪ ،‬فمالك بال ملك ال يكون وجودا وتقديرا ‪ ،‬ومليك بال ملك ال يكون ‪ ،‬كذلك الرب بال‬
‫مربوب ‪ ،‬ال يصح وجودا وتقديرا ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪132‬‬


‫ِين فَل ت َ ُموت ُ هن ِإاله َوأ َ ْنت ُ ْم‬
‫ص َطفى لَ ُك ُم ال هد َ‬ ‫ي ِإ هن ه َ‬
‫ّللا ا ْ‬ ‫صى ِبها ِإ ْبرا ِهي ُم بَنِي ِه َويَ ْعقُ ُ‬
‫وب يا بَنِ ه‬ ‫َو َو ه‬
‫ون) ‪. ( 132‬‬ ‫س ِل ُم َ‬
‫ُم ْ‬
‫أي في حال حياتهم ‪ ،‬أي اثبتوا على حالكم الذي ارتضاه الدين لكم في المستقبل ‪ ،‬فأمرهم‬
‫باإلسالم في المستقبل أي بالثبوت عليه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أنه في هذه الزمرة التي بهذه الصفة يحشر يوم القيامة ‪ ،‬ثم قال ‪ِ «) 132 ( :‬إ ْذ قا َل لَهُ َربُّهُ‬
‫أ َ ْس ِل ْم قا َل أ َ ْسلَ ْمتُ ِل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »العامل في« ِإ ْذ »اصطفيناه ‪ ،‬يقول ‪ :‬إن اصطفاءه في وقت أن‬
‫قال له أسلم لما رأى الشمس آفلة قال ‪ ( :‬يا قَ ْو ِم إِ ِنهي بَ ِري ٌء ِم َّما ت ُ ْش ِر ُكونَ )« قال له ربه يا‬
‫إبراهيم أسلم » بما ألقى إليه من النداء في سره ‪ ،‬أو بملك أرسله إليه مبلغا قول ربه له أسلم ‪،‬‬
‫ض )اآلية ‪،‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬
‫ط َر ال َّ‬ ‫قال ‪ «:‬أ َ ْسلَ ْمتُ ِل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ (» ِإ ِنهي َو َّج ْهتُ َو ْج ِه َ‬
‫ي ِللَّذِي فَ َ‬
‫ّللا الكالم عليها في‬ ‫على قَ ْو ِم ِه )وسيأتي إن شاء ه‬ ‫يم َ‬ ‫وقال فيها ‪َ ( :‬وتِ ْل َك ُح َّجتُنا آتَيْناها ِإبْرا ِه َ‬
‫موضعها ومعنى« أ َ ْس ِل ْم »اخضع لي منقادا ‪ ،‬قال من غير توقف ‪ «:‬أ َ ْسلَ ْمتُ »أي انقدت‬
‫وخضعت« ِل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »أي سيد العالم ومصلحهم ومالكهم ‪ ،‬وقد مضى تفسيره في الفاتحة‬
‫وب »الضمير في« بِها »يعود على ملة‬ ‫صى بِها إِبْرا ِهي ُم بَنِي ِه َويَ ْعقُ ُ‬ ‫‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 133 ( :‬و َو َّ‬
‫إبراهيم ‪ ،‬يقول ‪ :‬وصى بها إبراهيم عليه السالم أوالده ‪ ،‬وكذلك يعقوب أيضا وصى بها أوالده‬
‫طفى لَ ُك ُم ال هدِينَ »أن يا بني فحذف أن ‪ ،‬والعامل فيها وصى‬ ‫ص َ‬ ‫ي ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا ا ْ‬ ‫‪ ،‬فقال لهم ‪ «:‬يا بَنِ َّ‬
‫ألنه في معنى القول ‪ ،‬ولو ظهر القول هنا في موضع وصى لم يصلح أن يكون هناك حرف‬
‫أن ‪ ،‬فقولهم إن أن محذوفة ألن وصى في معنى القول ‪ ،‬ولو كان القول لم يحسن وجودها‬
‫تخبيط ‪ ،‬واألولى أنه هكذا نطقت العرب ‪ ،‬فهي لغة محكية ‪ ،‬ودعوى الحذف فيها قول بال‬
‫ي »إلى آخر اآلية تفسير الوصية ‪،‬‬ ‫برهان ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬يا بَنِ َّ‬

‫ص ‪204‬‬

‫ص ‪205 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 133‬إلى ‪136‬‬
‫ُون ِم ْن بَ ْعدِي قالُوا نَ ْعبُ ُد ِإل َهكَ َو ِإلهَ‬ ‫وب ا ْل َم ْوتُ ِإ ْذ قا َل ِلبَنِي ِه ما ت َ ْعبُد َ‬ ‫ض َر يَ ْعقُ َ‬ ‫ش َهدا َء ِإ ْذ َح َ‬ ‫أ َ ْم ُك ْنت ُ ْم ُ‬
‫ون ( ‪ ) 133‬تِ ْلكَ أ ُ همةٌ قَ ْد َخلَتْ‬ ‫س ِل ُم َ‬ ‫واحدا ً َونَحْ ُن لَهُ ُم ْ‬‫حاق ِإلها ً ِ‬ ‫س َ‬ ‫سما ِعي َل َو ِإ ْ‬ ‫آبائِكَ ِإ ْبرا ِهي َم َو ِإ ْ‬
‫ون ) ‪َ ( 134‬وقالُوا كُونُوا ُهودا ً أ َ ْو‬ ‫ع هما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫ون َ‬ ‫سئَلُ َ‬‫س ْبت ُ ْم َوال ت ُ ْ‬ ‫سبَتْ َولَ ُك ْم ما َك َ‬ ‫لَها ما َك َ‬
‫اَّلل َوما‬‫ين ( ‪ ) 135‬قُولُوا آ َمنها بِ ه ِ‬ ‫نَصارى ت َ ْهتَدُوا قُ ْل بَ ْل ِملهةَ إِ ْبرا ِهي َم َحنِيفا ً َوما َ‬
‫كان ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ي ُموسى‬ ‫باط َوما أُوتِ َ‬ ‫س ِ‬ ‫وب َو ْاأل َ ْ‬ ‫حاق َويَ ْعقُ َ‬ ‫س َ‬ ‫سما ِعي َل َوإِ ْ‬ ‫أ ُ ْن ِز َل إِلَ ْينا َوما أ ُ ْن ِز َل إِلى إِ ْبرا ِهي َم َوإِ ْ‬
‫ون ) ‪( 136‬‬ ‫ق بَ ْي َن أ َ َح ٍد ِم ْن ُه ْم َونَحْ ُن لَهُ ُم ْ‬
‫س ِل ُم َ‬ ‫ون ِم ْن َر ِبه ِه ْم ال نُفَ ِ هر ُ‬ ‫ي النهبِيُّ َ‬ ‫َو ِعيسى َوما أُوتِ َ‬
‫ّللا عليه وسلم المؤمنون به أتباع كل نبي ‪ ،‬وكل كتاب ‪ ،‬وكل صحيفة ‪ ،‬جاء‬ ‫أمة محمد صلهى ه‬
‫أو أنزل‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫طفى لَ ُك ُم ال هدِينَ " أي اختار لكم الدين الذي هو اإلسالم ‪ ،‬وهو ملة إبراهيم ‪،‬‬ ‫ص َ‬ ‫فقاال ‪ ":‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا ا ْ‬
‫فاأللف والالم للعهد ‪ «،‬فَال ت َ ُموت ُ َّن ِإ َّال َوأ َ ْنت ُ ْم ُم ْس ِل ُمونَ »فنهاهم عن الصفة ال عن الموت ‪ ،‬فإن‬
‫الموت متحقق ‪ ،‬يقول مت وأنت موحد ‪ ،‬فليس األمر بالموت ‪ ،‬وإنما األمر بموت على هذه‬
‫الصفة ‪ ،‬وفيه تنبيه على مالزمة هذا الدين أيام حياتهم ‪ ،‬ألن وقت الموت مجهول ‪ ،‬والحيوان‬
‫في كل نفس ينتظره ‪ ،‬ولما كان األمر هكذا ‪ ،‬خرج الكالم بالنهي عن الموت على غير صفة‬
‫وب ْال َم ْوتُ‬ ‫اإلسالم مخرج الزموا هذا الدين أيام حياتكم «) ‪ ( 134‬أ َ ْم ُك ْنت ُ ْم ُ‬
‫ش َهدا َء إِ ْذ َح َ‬
‫ض َر يَ ْعقُ َ‬
‫»اآلية ‪ ،‬لما زعمت اليهود أن يعقوب أوصى بنيه عند الموت أن يموتوا على اليهودية ‪ ،‬فقيل‬
‫لهم ‪ ،‬أتدعون على األنبياء اليهودية في قولكم هذا ‪ ،‬أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ؟‬
‫فتكون« أ َ ْم »على هذا متصلة ‪ ،‬ومن جعلها منقطعة جعل الهمزة لإلنكار ‪ ،‬والمعنى أي ما كنتم‬
‫حاضرين يعقوب إذ حضر يعقوب الموت ‪ ،‬وقد يمكن أن يقال فيه أيضا إن الهمزة لالستفهام ‪،‬‬
‫والمعنى أكنتم شهداء ؟ واستفهم بأم ‪،‬‬

‫ص ‪205‬‬

‫ص ‪206 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬في اإليمان به ‪ -‬ال بالعمل بالحكم ‪ ، -‬فالشرائع كلها أنوار ‪ ،‬وشرع محمد صلهى‬
‫من عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم بين هذه األنوار كنور الشمس بين أنوار الكواكب ‪ ،‬فإذا ظهرت الشمس خفيت‬ ‫ه‬
‫أنوار‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫فإنه يستفهم بها كثيرا في الكالم المستأنف على كالم سبق ‪ ،‬فكأنه يقول ‪ :‬ما كنتم حاضرين ‪،‬‬
‫فلم يبق إال أن تعلموا ذلك من كتابكم أن يعقوب وإبراهيم كانا على اليهودية ‪ ،‬وأنتم تعلمون أن‬
‫صرانِيًّا َول ِك ْن‬ ‫كتابكم ينطق بخالف ما تزعمون ‪ ،‬وأنه قيل لكم ‪ ( :‬ما كانَ ِإبْرا ِهي ُم يَ ُهو ِديًّا َوال نَ ْ‬
‫كانَ َحنِيفا ا ُم ْس ِلما ا َوما كانَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ )فما أوصى إبراهيم بنيه الذي يعقوب منهم ‪ -‬فإنه ولد‬
‫ولده ‪ -‬إال بالملة الحنيفية وهو دين اإلسالم ‪ ،‬فقولكم يناقض علمكم ‪ ،‬وقوله ‪ِ «:‬إ ْذ قا َل ِلبَ ِني ِه ما‬
‫ت َ ْعبُدُونَ ِم ْن بَ ْعدِي »فأتى بما فإنها تنطلق على كل شيء بخالف من ‪ ،‬فكأنه يقول ‪ :‬أي شيء‬
‫ّللا يقلبها كيف يشاء ‪ ،‬ولعلمه‬ ‫تعبدون من بعدي ؟ وأما استفهامه بنيه لعلمه بأن قلوب الخلق بيد ه‬
‫بأن أوالد األنبياء قد يخرجون عن دين آبائهم ‪ ،‬وقد وقع هذا كله قبل يعقوب فيمن تقدم ‪ ،‬فأراد‬
‫أن يرى ما يصرون عليه في قلوبهم بعد موته لينقلب مسرورا إن كان خيرا في جوابهم ‪ ،‬وإن‬
‫ّللا لهم ‪ -‬ما دام حيا ‪ -‬أن يجمعهم على اإلسالم ‪ ،‬ولهذا قال « ِم ْن‬ ‫سمع منهم غير ذلك فيدعو ه‬
‫بَ ْعدِي »فإنهم في هذا الوقت على دين أبيهم ‪ ،‬فقالوا ‪ «:‬نَ ْعبُ ُد ِإل َه َك »أي نذل له بالطاعة ألمره‬
‫ّللا له بالخلة ‪ ،‬ولسنه ‪،‬‬ ‫يم »تهمموا بتقديمه لما علموا من اصطفاء ه‬ ‫ونوحده« َوإِلهَ آبائِ َك إِبْرا ِه َ‬
‫وألن ذلك مما يسر يعقوب ‪ ،‬وتلوه بإسماعيل ‪ ،‬فقالوا ‪َ «:‬و ِإسْما ِعي َل »ألنه أسن من إسحاق ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ :‬عم‬ ‫وجعلوا العم هنا أبا فإن أبا يعقوب إسحاق ‪ ،‬وذلك أن النبي صلهى ه‬
‫الرجل صنو أبيه ‪ ،‬فإن األخوين من أب واحد كصنوان النخل« َو ِإسْحاقَ »كل ذلك عطف بيان‬
‫واحدا ا »لئال يتوهم السامع الكثرة ‪ ،‬فهو بدل من إلهك وإله آبائك‬ ‫على« آبا ِئ َك »ثم قالوا ‪ِ «:‬إلها ا ِ‬
‫‪ ،‬وقد قيل إن نصبه على االختصاص ‪ ،‬أي نريد بقولنا إلهك وإله آبائك ‪ ،‬إلها واحدا « َون َْح ُن لَهُ‬
‫ُم ْس ِل ُمونَ »منقادون لما يأمرنا به وينهانا عنه ‪ ،‬وإنما قدموا يعقوب بالذكر على آبائه لحضوره ‪،‬‬
‫وللحاضر مزية على الغائب عند المخاطب ‪ ،‬وربما ذكروه بالقصد األول على وجه االقتصار‬
‫عليه ‪ ،‬ثم إنهم لما ذكروه خطر لهم أن يذكروا آباءه ‪ ،‬ينبهوه أنك كما عبدت إله آبائك كذلك‬
‫ت‬‫نحن نعبد ما كانوا يعبدون ‪ ،‬إذ كان شرع اسم اإلسالم إلبراهيم ‪ «) 135 ( ،‬تِ ْل َك أ ُ َّمةٌ قَ ْد َخلَ ْ‬
‫س ْبت ُ ْم »اآلية ‪ ،‬تدل هذه اإلشارة أن واحدا منهم قال ‪ :‬إنه ينتفع بانتسابه‬ ‫ت َولَ ُك ْم ما َك َ‬ ‫لَها ما َك َ‬
‫سبَ ْ‬
‫ت‬ ‫ّللا ذلك بقوله ‪ «:‬تِ ْل َك أ ُ َّمةٌ قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫إلى آبائه الذين كانوا مع األنبياء المتقدمين على دينهم ‪ ،‬فرد ه‬
‫»أي انقضت مدتها وذهبت بعملها ‪ ،‬يقال خلى الرجل إذا صار إلى مكان ليس فيه غيره ‪ ،‬ومنه‬
‫س ْبت ُ ْم »يؤيد من يقول‬ ‫ت َولَ ُك ْم ما َك َ‬ ‫سبَ ْ‬‫الخلوة والخالء ‪ ،‬النفراد الشخص فيه ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬لَها ما َك َ‬
‫إنه ال ينوب أحد عن أحد في‬

‫ص ‪206‬‬

‫ص ‪207 :‬‬
‫الكواكب واندرجت أنوارها في نور الشمس ‪ ،‬فكان خفاؤها نظير ما نسخ من الشرائع بشرعه‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم مع وجود أعيانها ‪ ،‬كما يتحقق وجود أنوار الكواكب ‪ ،‬ولهذا ألزمنا في‬
‫شرعنا العام أن نؤمن بجميع الرسل ‪ ،‬وجميع شرائعهم أنها حق ‪ ،‬فلم ترجع بالنسخ باطال ‪،‬‬
‫ذلك‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ت‬‫سبَ ْ‬‫سعى )وقوله ‪ «:‬ما َك َ‬ ‫سان ِإ َّال ما َ‬‫إل ْن ِ‬ ‫األعمال البدنية ‪ ،‬ويحتج بقوله تعالى ‪َ ( :‬وأ َ ْن لَي َ‬
‫ْس ِل ْ ِ‬
‫»من الخير والشر ‪ ،‬أي ما عملته من ذلك ‪ ،‬والذي أذهب إليه في هذه المسألة أن ليس لإلنسان‬
‫أن يطلب جزاءه إال عن ما سعى فيه ‪ ،‬وليس له بطريق الجزاء إال ما عمله ‪ ،‬وأما عمل غيره‬
‫فال يتعدى له من حيث هو عمل ‪ ،‬فإن العمل ال يتصف به إال عامله وهو الصحيح ‪ ،‬وإنما‬
‫ّللا على ذلك لعامله هو رحله يتصرف فيه كيف يشاء ‪ ،‬فيمسكه لنفسه ويهبه‬ ‫الجزاء الذي عيهن ه‬
‫إن شاء لمن يريد ‪ ،‬فالذي يوهب له ذلك الثواب فليس هو له جزاء ‪ ،‬ألنه وصل إليه من غير‬
‫عمل عمله ‪ ،‬ولكن من باب الهدية والمنة من صاحبه ‪ ،‬كالرجل يأخذ أجرة عمله فإن شاء أكلها‬
‫‪ ،‬وإن شاء تصدق بها ‪ ،‬وقد ورد في الشرع ما يؤيد قولنا ‪ ،‬وهذا نقول به في الخير ‪ ،‬وأما في‬
‫واز َرة ٌ ِو ْز َر أ ُ ْخرى ) *( َوال‬ ‫الشر فال ‪ ،‬فإن الشرع منع من ذلك ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬وال ت َ ِز ُر ِ‬
‫ع َّما كانُوا يَ ْع َملُونَ »أيضا وال يسألون عما‬ ‫علَيْها ) ‪،‬ثم قال ‪َ «:‬وال ت ُ ْسئَلُونَ َ‬ ‫ب ُك ُّل نَ ْف ٍس ِإ َّال َ‬ ‫ت َ ْك ِس ُ‬
‫كنتم تعملون «) ‪َ ( 136‬وقالُوا ُكونُوا ُهودا ا أ َ ْو نَصارى ت َ ْهتَدُوا »‪ -‬اآلية ‪ -‬قولهم «‪ :‬ت َ ْهتَدُوا »أي‬
‫تصيبوا طريق الحق ‪ ،‬المعنى أي يتبين لكم الحق ‪ ،‬إذا كنتم على اليهودية تقول اليهود ‪ ،‬وتقول‬
‫ّللا‬
‫النصارى كونوا نصارى ‪ ،‬وهما دينان مختلفان ألنه دين عن أهوائهم ال دين أنبيائهم ‪ ،‬فقال ه‬
‫يم َحنِيفا ا َوما كانَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ »أي نتبع نحن وأنتم‬ ‫تعالى لنبيه «‪ :‬قُ ْل »لهم« بَ ْل ِملَّةَ ِإبْرا ِه َ‬
‫ضنا بَ ْعضا ا أ َ ْربابا ا ِم ْن‬ ‫شيْئا ا ‪َ ،‬وال يَت َّ ِخذَ بَ ْع ُ‬
‫ّللا َوال نُ ْش ِر َك ِب ِه َ‬ ‫كلمة بيننا وبينكم سواء( أ َ َّال نَ ْعبُ َد ِإ َّال َّ َ‬
‫ّللا تعالى وهو في كتابكم أن إبراهيم ما كان يهوديا‬ ‫ّللا )فهذه هي ملة إبراهيم ‪ ،‬وقد أخبرنا ه‬ ‫ُون َّ ِ‬
‫د ِ‬
‫وال نصرانيا ‪ ،‬ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ‪ ،‬وأنتم معشر اليهود تقولون ‪:‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فأشركتكم ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬والمسيح هو ه‬ ‫ّللا وأنتم معشر النصارى تقولون ‪ :‬المسيح ابن ه‬ ‫عزير ابن ه‬
‫فكيف نتبعكم وأنتم ما اتبعتم ما أنزل إليكم ؟ والقرآن مما أنزل إليكم فإني رسول إليكم جميعا (‬
‫اّلل »لما قالت اليهود لنا ‪ُ ( :‬كونُوا ُهودا ا )وقالت النصارى ‪ ( :‬كونوا‬ ‫‪ «) 137‬قُولُوا آ َمنَّا ِب َّ ِ‬
‫اّلل »أي بوحدانيته وبوجوده« َوما أ ُ ْن ِز َل ِإلَيْنا »وهو‬ ‫نصارى ) قيل لنا ‪ «:‬قُولُوا »لهم« آ َمنَّا ِب َّ ِ‬
‫ْباط »من الصحف‬ ‫وب َو ْاألَس ِ‬ ‫يم َوإِسْما ِعي َل َوإِسْحاقَ َويَ ْعقُ َ‬ ‫القرآن« َوما أ ُ ْن ِز َل إِلى إِبْرا ِه َ‬
‫ي »أعطي«‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ي ُموسى »وهو التوراة« َو ِعيسى »وهو اإلنجيل« َوما أوتِ َ‬ ‫والوحي « َوما أوتِ َ‬
‫النَّبِيُّونَ »األلف والالم الستغراق الجنس ‪ِ «.‬م ْن َر ِبه ِه ْم »من عند ربهم من الكتب والشرائع« ال‬
‫نُفَ ِ هر ُق بَيْنَ أ َ َح ٍد ِم ْن ُه ْم »كما فرقتم ‪ ،‬فآمنتم ببعضهم‬

‫ص ‪207‬‬

‫ص ‪208 :‬‬
‫ظن الذين جهلوا ‪ ،‬واألنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ‪ ،‬ولم يبعث عاما سوى محمد‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وما سواه فبعثه خاص ‪ ،‬فنعلم من ذلك أن المحمدي مطلق الدعاء بكل‬
‫لسان ‪ ،‬ألنه مأمور باإليمان بالرسل وبما أنزل إليهم ‪ ،‬فما وقف الولي المحمدي مع وحي‬
‫خاص إال في الحكم بالحالل والحرام ‪ ،‬وأما في الدعاء ‪ ،‬وما سكت عنه ‪ ،‬ولم ينزل فيه شيء‬
‫في شرع محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم يؤذن بتركه ‪ ،‬فال يتركه إذا نزل به وحي على نبي من‬
‫األنبياء عليهم السالم ‪ ،‬رسوال كان أو غير رسول ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 137‬إلى ‪138‬‬


‫ّللاُ َو ُه َو‬ ‫قاق فَ َ‬
‫سيَ ْك ِفي َك ُه ُم ه‬ ‫ش ٍ‬ ‫فَ ِإ ْن آ َمنُوا ِب ِمثْ ِل ما آ َم ْنت ُ ْم ِب ِه فَقَ ِد ا ْهتَد َْوا َو ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَ ِإنهما ُه ْم فِي ِ‬
‫ُون ) ‪( 138‬‬ ‫ّللا ِص ْبغَةً َونَحْ ُن لَهُ عا ِبد َ‬
‫س ُن ِم َن ه ِ‬ ‫ّللا َو َم ْن أَحْ َ‬ ‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪ِ ) 137‬ص ْبغَةَ ه ِ‬ ‫ال ه‬
‫اعلم أن لهذه النشأة اإلنسانية صورا ‪ ،‬كانت مبثوثة في العناصر واألفالك ‪ ،‬قبل أخذ الميثاق‬
‫عليه ‪ ،‬ولإلنسان صورة في العدم ‪ ،‬وهذه الصور مرئية مبصرة هّلل تعالى ‪ ،‬وهي التي يتوجه‬
‫ّللا إذا أراد إيجاد مجموعنا في الدنيا بكن ‪ ،‬فنبادر ونجيب إلى الخروج ‪ ،‬من‬ ‫عليها خطاب ه‬
‫ّللا َو َم ْن أ َ ْح َ‬
‫س ُن‬ ‫ص ْبغَةَ َّ ِ‬ ‫حضرة العدم إلى حضرة الوجود ‪ ،‬فينصبغ بالوجود وهو قوله تعالى ‪ِ «:‬‬
‫ص ْبغَةا َون َْح ُن لَهُ عا ِبدُونَ »أي أذالء خاضعون‪.‬‬ ‫ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا ِ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وكفرتم ببعضهم ‪ ،‬وآمنتم ببعض ما في كتابكم وكفرتم ببعضه« َون َْح ُن لَهُ ُم ْس ِل ُمونَ » *أي‬
‫منقادون مستسلمون ألوامره وما يكون منه إلينا ‪ ،‬فإن كنتم أنتم على الحق فقد آمنا به في هذا‬
‫ّللا لهم ليقولوا مثل ذلك على اإلجمال‬ ‫العموم ‪ ،‬وما أنتم على حق ‪ ،‬وإنما كان هذا تنبيها من ه‬
‫فيسعدوا ‪ ،‬ولم يختلف المفسرون في األسباط أنهم األنبياء من أوالد يعقوب ‪ ،‬فمن رأى أن‬
‫ّللا عليه كيوسف ‪ ،‬كان األسباط حفدته ويوسف من‬ ‫أوالد يعقوب لم يكن منهم أنبياء إال ما نص ه‬
‫ولده ‪ ،‬ومن جعل األسباط أوالد يعقوب ‪ ،‬قال ‪ :‬إنهم أنبياء ‪ ،‬وأن ما جرى منهم في حق أخيهم‬
‫كان قبل نبوتهم ‪ ،‬قال الربيع ‪:‬‬
‫األسباط اثنا عشر رجال يوسف وإخوته ‪ ،‬ولد لكل رجل أمة من الناس سموا أسباطا ‪ ،‬قال ابن‬
‫إسحاق ‪ -‬وهذا ابن إسحاق هو الذي قال فيه أحمد بن حنبل ‪ :‬يؤخذ من حديثه ما رواه من‬

‫ص ‪208‬‬

‫ص ‪209 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪139‬‬
‫ص َ‬
‫ون ‪( 139‬‬ ‫ّللا َو ُه َو َربُّنا َو َربُّ ُك ْم َولَنا أَعْمالُنا َولَ ُك ْم أَعْمالُ ُك ْم َونَحْ ُن لَهُ ُم ْخ ِل ُ‬
‫قُ ْل أ َ ت ُ َحا ُّجونَنا فِي ه ِ‬
‫)‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ ( :‬إنما األعمال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫اإلخالص النية ‪ ،‬روينا من حديث رسول ه‬
‫بالنيات ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫السير ‪-‬قال ‪ :‬نكح يعقوب ابنة خاله ليا بنت ليان بن تمويل بن إلياس ‪ ،‬فولدت له روبيل ‪ -‬وهو‬
‫أكبر ولده ‪ -‬وشمعون والوى ويهودا ‪ -‬وإليه تنسب اليهود ‪ -‬وريالون ويشحر وذببه بنت يعقوب‬
‫‪ ،‬ثم توفيت ليا ‪ ،‬فنكح يعقوب أختها راحيل بنت ليان خاله ‪ ،‬فولدت له يوسف وبنيامين ‪ ،‬وولد‬
‫ليعقوب من سريتين كانتا له ‪ ،‬الواحدة اسمها زلفى واألخرى بلها ‪ ،‬أربعة نفر ‪ :‬دان وتغثالى‬
‫من زلفى ‪ ،‬وجاد وأشر من بلها ‪ ،‬وقد روينا من غير هذا الطريق أن زلفى ولدت له دان‬
‫ويقنوان ورنوان ‪ ،‬وولدت له بلها جاد وأشر وأنساخر ‪ ،‬ثم قال «) ‪ : ( 138‬فَإِ ْن آ َمنُوا بِ ِمثْ ِل ما‬
‫آ َم ْنت ُ ْم ِب ِه فَقَ ِد ا ْهت َ َد ْوا »اآلية ‪ -‬فقوله ‪ «:‬فَقَ ِد ا ْهت َ َد ْوا »مقابال لقولهم حين قالوا لنا ‪ ( :‬ت َ ْهتَدُوا ) *إذا‬
‫ّللا‬
‫كنتم هودا أو نصارى ‪ ،‬وكان جوابنا لهم جواب إنصاف معرى من األهواء التي دانوا هم ه‬
‫بها ‪ ،‬فإنه جواب عن وحي منزل« َو ِإ ْن ت َ َولَّ ْوا »يقول ‪:‬وإن أعرضوا عن هذا اإليمان« فَإِنَّما‬
‫ق »أي في منازعة وحرب هّلل ورسوله ‪ ،‬ومعناه أنك أتيتهم بكالم يشق عليهم سماعه‬ ‫ُه ْم فِي ِشقا ٍ‬
‫ّللاُ »فهو قوله ( ‪ :‬فَإِ ْن ت َ َولَّ ْوا‬ ‫سيَ ْك ِفي َك ُه ُم َّ‬‫‪ ،‬فأداهم ذلك إلى حرب ومنازعة فال تهتم يا محمد« فَ َ‬
‫ّللا تعالى ‪:‬‬ ‫ّللاُ )قال ه‬ ‫ي َح ْسبُ َك َّ‬ ‫ّللا يكفيني أمرهم ‪ ،‬وهو قوله ‪ ( :‬يا أَيُّ َها النَّبِ ُّ‬ ‫ّللاُ )أي ه‬
‫ي َّ‬ ‫فَقُ ْل َح ْسبِ َ‬
‫( َو ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم ِشقاقَ بَ ْينِ ِهما )أي نزاعا ‪ ،‬وهو أن يقول كل واحد أو يعمل ما يشق على اآلخر«‬
‫ّللا وعلى أنبيائهم‬ ‫س ِمي ُع »ما يقولونه لكم« ْالعَ ِلي ُم »بهم أنهم يباهتون ويكذبون على ه‬ ‫َو ُه َو ال َّ‬
‫ص ْبغَةا »اآلية ‪ ،‬فعلة من صبغ كقعدة من قعد‬ ‫س ُن ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا ِ‬ ‫ّللا َو َم ْن أ َ ْح َ‬
‫ص ْبغَةَ َّ ِ‬ ‫وكتابهم «) ‪ِ ( 139‬‬
‫وّللا أعلم لما كانت النصارى تصبغ من دخل في دينها في ماء يقال له المعمودية‬ ‫‪ ،‬وذلك ه‬
‫ّللا »الذي هو اإليمان‬ ‫ص ْبغَةَ َّ ِ‬ ‫ّللا لنا ولهم ‪ِ «:‬‬ ‫لتطهره بذلك الصبغ عن كل دين سواه ‪ ،‬قال ه‬
‫س ُن دِينا ا‬ ‫ص ْبغَةا »هو قوله ‪َ ( :‬و َم ْن أ َ ْح َ‬ ‫ّللا ِ‬‫س ُن ِمنَ َّ ِ‬ ‫المطهر القلوب من الكفر والشرك« َو َم ْن أ َ ْح َ‬
‫ِم َّم ْن أ َ ْسلَ َم َو ْج َههُ )فإن هذه الصبغة تسعده وتحله دار القرار ‪ ،‬وصبغتهم ليست كذلك ‪ ،‬ألنها من‬
‫ّللا على أن يكون بدال من قوله ‪ ( :‬بَ ْل ِملَّةَ ِإبْرا ِه َ‬
‫يم‬ ‫ّللا ‪ ،‬ونصب صبغة ه‬ ‫شرعهم الذي لم يأذن به ه‬
‫)أو نصبا على اإلغراء ‪ ،‬ويكون« َون َْح ُن لَهُ عابِدُونَ »مبتدأ فإن كان « َون َْح ُن لَهُ عابِدُونَ‬
‫ّللا على أن يكون مصدرا مؤكدا لقوله ‪( :‬‬ ‫اّلل ) *كان نصب صبغة ه‬ ‫»عطفا على قوله ‪ ( :‬آ َمنَّا بِ َّ ِ‬
‫اّلل ) *وهو أوجه من األول النتظام الكالم على نسق واحد ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬ون َْح ُن لَهُ عابِدُونَ‬ ‫آ َمنَّا بِ َّ ِ‬
‫»أذالء تحت أمره وحكمه ‪ «) 140 ( ،‬قُ ْل أ َ ت ُ َحا ُّجونَنا‬

‫ص ‪209‬‬

‫ص ‪210 :‬‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬ومن‬ ‫ّللا ورسوله ‪ ،‬فهجرته إلى ه‬
‫وإنما المرئ ما نوى ‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى ه‬
‫كانت هجرته لدنيا يصيبها ‪ ،‬أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) والنية لجميع‬
‫الحركات والسكنات من المكلفين لألعمال ‪ ،‬كالمطر لما تنبته األرض ‪ ،‬فالنية من حيث ذاتها‬
‫واحدة ‪ ،‬وتختلف بالمتعلق ‪ ،‬وهو المنوي فتكون النتيجة بحسب المتعلق به ال بحسبها ‪ ،‬فإن حظ‬
‫النية إنما هو القصد للفعل أو تركه ‪ ،‬وكون ذلك الفعل حسنا أو قبيحا ‪ ،‬وخيرا أو شرا ما هو‬
‫من أثر النية ‪ ،‬وإنما هو أمر عارض عرض ‪ ،‬ميهزه الشارع وعينه للمكلف ‪ ،‬فليس للنية أثر‬
‫البتة من هذا الوجه خاصة ‪ ،‬وإنما النية سبب في ظهور األعمال الصالحة وغير الصالحة ‪،‬‬
‫وليس لها إال اإلمداد ‪ ،‬وحقيقتها تعطي تعلقها بالمنوي ‪ ،‬وكون ذلك المنوي حسنا أو قبيحا ليس‬
‫لها ‪ ،‬وإنما ذلك لصاحب الحكم فيه بالحسن والقبح ‪ ،‬فالمخاطب المكلف إن نوى الخير أثمر‬
‫خيرا ‪ ،‬وإن نوى الشر أثمر شرا ‪ ،‬وما أتي عليه إال من المحل من طيبه وخبثه ‪ ،‬فاإلخالص‬
‫ّللا ‪ ،‬وبين فاعل‬
‫هو النية وإن فاتتك النية فاتك الخير كله ‪ ،‬فكثير ما بين فاعل بنية القربة إلى ه‬
‫بغير هذه النية ‪ ،‬والعبادة عمل وترك ‪ ،‬فاإلخالص مأمور به شرعا‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا وما‬ ‫ق )أي في منازعة لكم في ه‬ ‫ّللا »اآلية ‪ ،‬هذه المحاجة هو قوله ‪ ( :‬فَإِنَّما ُه ْم فِي ِشقا ٍ‬ ‫فِي َّ ِ‬
‫ّللا َو ُه َو َربُّنا َو َربُّ ُك ْم »عندنا وعندكم ‪ ،‬فقد ثبت‬ ‫ّللا لنبيه ‪ «:‬قُ ْل أ َ ت ُ َحا ُّجونَنا ِفي َّ ِ‬ ‫أنزل إليكم ‪ ،‬فقال ه‬
‫ّللا رب الكل فما فيه محاجة ‪ ،‬وادعيتم أنتم الشريك معه وهو‬ ‫ذلك وأجمعنا عليه نحن وأنتم أن ه‬
‫عزير والمسيح ‪ ،‬ولم تأتوا على ذلك ببرهان وال تجدونه ‪ ،‬وقد يئسنا من رجوعكم إلى ديننا ‪،‬‬
‫ويئستم من رجوعنا إلى دينكم ‪ ،‬كلمة إنصاف قوله ‪َ «:‬ولَنا أَعْمالُنا َولَ ُك ْم أَعْمالُ ُك ْم »أي ما عمل‬
‫ّللا ‪ ،‬ال خالف بيننا وبينكم في ذلك ‪ ،‬قال تعالى ( ‪ :‬يَ ْو َم ت َ ِج ُد‬ ‫كل واحد منا من شيء يجده عند ه‬
‫سوءٍ )غير أنه يظهر الحق معنا فنحن له‬ ‫ت ِم ْن ُ‬ ‫ضرا ا َوما َ‬
‫ع ِملَ ْ‬ ‫ت ِم ْن َخي ٍْر ُم ْح َ‬ ‫ُك ُّل نَ ْف ٍس ما َ‬
‫ع ِملَ ْ‬
‫صونَ »أي أخلصنا له األلوهية أن يكون له فيها شريك‬ ‫مخلصون ‪ ،‬وهو قوله «‪َ :‬ون َْح ُن لَهُ ُم ْخ ِل ُ‬
‫أو معين ولم تفعلوا أنتم ذلك ( ‪ «) 141‬أ َ ْم تَقُولُونَ إِ َّن إِبْرا ِه َ‬
‫يم َوإِسْما ِعي َل َوإِسْحاقَ َويَ ْعقُ َ‬
‫وب‬
‫ط »اآلية ‪ ،‬قد تكون أم هنا معادلة لهمزة تحاجوننا ‪ ،‬يقول ‪ :‬أتحاجوننا أم تقولون ‪ ،‬فإن‬ ‫َو ْاألَسْبا َ‬
‫الهمزة التي في أتحاجوننا يتصور فيها االستفهام واإلنكار ‪ ،‬وكذلك« أ َ ْم تَقُولُونَ »فتكون متصلة‬
‫‪ ،‬وتكون القراءة في تقولون بالتاء المنقوطة من فوق ‪ ،‬فإن كانت القراءة بالياء فهي منقطعة ‪،‬‬
‫فإنه ذكر عن غائب ‪ ،‬والقراءة على الخطاب أولى ‪ ،‬والعطف أوجه في القراءتين ‪ ،‬على أن‬
‫يكون أي األمرين« إِ َّن إِبْرا ِه َ‬
‫يم‬

‫ص ‪210‬‬

‫ص ‪211 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 140‬إلى ‪143‬‬
‫سبا َط كانُوا ُهودا ً أ َ ْو نَصارى قُ ْل أ َ أ َ ْنت ُ ْم‬ ‫وب َو ْاأل َ ْ‬‫حاق َويَ ْعقُ َ‬
‫س َ‬ ‫سما ِعي َل َو ِإ ْ‬ ‫ون ِإ هن ِإ ْبرا ِهي َم َو ِإ ْ‬ ‫أ َ ْم تَقُولُ َ‬
‫ون ( ‪ ) 140‬تِ ْلكَ‬ ‫ع هما ت َ ْع َملُ َ‬‫ّللاُ ِبغافِ ٍل َ‬ ‫ّللا َو َما ه‬ ‫ّللاُ َو َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ْن َكت َ َم شَها َدةً ِع ْن َدهُ ِم َن ه ِ‬ ‫أ َ ْعلَ ُم أ َ ِم ه‬
‫سيَقُو ُل‬ ‫ون ( ‪َ ) 141‬‬ ‫ع هما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫ون َ‬ ‫سئَلُ َ‬ ‫سبَتْ َولَ ُك ْم ما َك َ‬
‫س ْبت ُ ْم َوال ت ُ ْ‬ ‫أ ُ همةٌ قَ ْد َخلَتْ لَها ما َك َ‬
‫ب يَ ْه ِدي َم ْن‬ ‫ق َوا ْل َم ْغ ِر ُ‬ ‫علَ ْيها قُ ْل ِ ه ِ‬
‫َّلل ا ْل َمش ِْر ُ‬ ‫اس ما َواله ُه ْم ع َْن قِ ْبلَتِ ِه ُم الهتِي كانُوا َ‬ ‫سفَها ُء ِم َن النه ِ‬ ‫ال ُّ‬
‫علَى النه ِ‬
‫اس‬ ‫ش َهدا َء َ‬ ‫سطا ً ِلتَكُونُوا ُ‬ ‫يم ) ‪َ ( 142‬وكَذ ِلكَ َجعَ ْلنا ُك ْم أ ُ همةً َو َ‬ ‫ست َ ِق ٍ‬
‫راط ُم ْ‬ ‫يَشا ُء إِلى ِص ٍ‬
‫سو َل ِم هم ْن‬ ‫علَ ْيها إِاله ِلنَ ْعلَ َم َم ْن يَتهبِ ُع ه‬
‫الر ُ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ش َِهيدا ً َوما َجعَ ْلنَا ا ْل ِق ْبلَةَ الهتِي ُك ْنتَ َ‬ ‫سو ُل َ‬ ‫الر ُ‬
‫ُون ه‬ ‫َويَك َ‬
‫ّللاُ ِليُ ِضي َع ِإيمانَ ُك ْم ِإ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫كان ه‬ ‫ّللاُ َوما َ‬ ‫ِين َهدَى ه‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫يرةً ِإاله َ‬ ‫ع ِقبَ ْي ِه َو ِإ ْن كانَتْ لَ َك ِب َ‬ ‫ب عَلى َ‬ ‫يَ ْنقَ ِل ُ‬
‫ُف َر ِحي ٌم ( ‪.) 143‬‬ ‫اس لَ َرؤ ٌ‬ ‫ِبالنه ِ‬
‫اس »فقد نص على‬ ‫علَى النَّ ِ‬ ‫ش َهدا َء َ‬ ‫سطا ا »أي خيارا عدال« ِلت َ ُكونُوا ُ‬ ‫« َو َكذ ِل َك َجعَ ْلنا ُك ْم أ ُ َّمةا َو َ‬
‫عدالتنا بمجرد اإليمان ‪ ،‬وإن كان قد علم أنه يقع منا الجور والظلم والتعدي للحدود‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ط كانُوا ُهودا ا أ َ ْو نَصارى »فتباهتوا في ذلك ‪ ،‬ألن من‬ ‫وب َو ْاألَسْبا َ‬ ‫َو ِإسْما ِعي َل َو ِإسْحاقَ َويَ ْعقُ َ‬
‫ذكرتموهم كانوا قبل حدوث هذين االسمين ‪ ،‬وإن أردتم المعنى الذي هو دين اليهودية أو‬
‫ّللا له ‪ «:‬قُ ْل »لهم« أ َ‬
‫ّللا في كتابكم وكتابنا ‪ ،‬فلهذا قال ه‬‫النصرانية وإن حدث االسم فقد أكذبكم ه‬
‫ّللا أنهم كانوا‬
‫ّللا أعلم ‪ ،‬فاطلبوهم بذلك ‪ ،‬أي متى أعلمكم ه‬ ‫ّللاُ »فال بد أن يقولوا ‪ :‬ه‬ ‫أ َ ْنت ُ ْم أ َ ْعلَ ُم أ َ ِم َّ‬
‫ّللا عليكم وعلينا أنهم كانوا حنفاء مسلمين ‪ ،‬لم يكونوا هودا وال نصارى«‬ ‫كذلك ‪ ،‬بل أنزل ه‬
‫ّللا شهد عندهم في كتابهم بذلك‬‫ّللا »أي قد علموا أن ه‬ ‫َو َم ْن أ َ ْ‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ْن َكت َ َم شَها َدة ا ِع ْن َدهُ ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا يعلم سرهم وعالنيتهم ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬وهو يعلم أن ه‬ ‫وكتموه ‪ ،‬ووجه آخر« َو َم ْن أ َ ْ‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ْن َكت َ َم »من ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهذا غاية‬
‫وقد علم أنه أعلمهم أنهم كانوا مسلمين ‪ ،‬فلم يؤدهوا هذه الشهادة وكتموها من ه‬
‫باّلل‬
‫الجهل ه‬
‫ص ‪211‬‬

‫ص ‪212 :‬‬
‫ّللا تعالى‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذا ما أنزله ه‬
‫ّللا وتحريم ما حرم ه‬‫المشروعة ‪ ،‬مع حفظ اإليمان بتحليل ما أحل ه‬
‫ّللا تعالى به إلينا من قصص أنبيائه مع‬‫في حق هذه األمة ‪ ،‬فنحن نشهد على األمم بما أوحى ه‬
‫أممهم ‪ ،‬فالشهادة بالوحي أتم من الشهادة بالعين ‪ ،‬فنأتي يوم القيامة يقدمنا القرآن ‪ ،‬ونحن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا »كقولنا إذا شهدنا ألحد بأمر ‪ ،‬هذه‬ ‫والجحود ‪ ،‬ويحتمل أن يكون من هنا في قوله ‪ِ «:‬منَ َّ ِ‬
‫شهادة منهي له بذلك ‪ ،‬فيكون الكالم ‪ :‬ومن أظلم منا لو كتمنا شهادة منا ألحد عندنا ‪ ،‬ليعلم بذلك‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وبكون األنبياء‬ ‫عرض بهم في تكذيبهم بنبوة محمد صلهى ه‬ ‫ّللا ه‬ ‫أهل الكتاب أن ه‬
‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ »وعيد وقد تقدم ‪ ،‬وكذلك (‬ ‫ّللاُ ِبغافِ ٍل َ‬
‫المذكورين على دين اإلسالم وقوله ‪َ «:‬و َما َّ‬
‫ع َّما كانُوا يَ ْع َملُونَ »تقدم‬‫س ْبت ُ ْم َوال ت ُ ْسئَلُونَ َ‬ ‫ت َولَ ُك ْم ما َك َ‬ ‫سبَ ْ‬ ‫ت لَها ما َك َ‬‫‪ِ «) 142‬ت ْل َك أ ُ َّمةٌ قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ع ْن قِ ْبلَتِ ِه ُم الَّتِي كانُوا َ‬
‫علَيْها ‪ ،‬قُ ْل‬ ‫اس ما َو َّال ُه ْم َ‬ ‫سفَها ُء ِمنَ النَّ ِ‬ ‫سيَقُو ُل ال ُّ‬
‫الترجمة عنها ( ‪َ «) 143‬‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم »السفهاء الضعفاء الرأي الخفاف‬ ‫ب يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء إِلى ِ‬ ‫ّلل ْال َم ْش ِر ُق َو ْال َم ْغ ِر ُ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫العقول من الناس ‪ ،‬يعني مشركي العرب واليهود والمنافقين ‪ ،‬وتقديمه اإلخبار عن قولهم قبل‬
‫قولهم ردع لكثير من شرهم ‪ ،‬ألن الخصم إذا حكى قول خصمه قبل وقوعه منه كان أقل لشغبه‬
‫‪ ،‬وذلك لتوهمه بمعرفة ذلك أنه قد استعد للجواب وأعد له جوابا قاطعا ‪ ،‬فيتبلد الخصم عند ذلك‬
‫وتنكسر حدته ‪ ،‬وقولهم« ما َو َّال ُه ْم »استفهام عن السبب الموجب لتحويل القبلة ‪ ،‬فكل فريق‬
‫ّللا عليه وسلم قد صلى إلى بيت‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫منهم يحزر على قدر ما يقع له ‪ ،‬وكان رسول ه‬
‫ّللا‬
‫المقدس على ما قيل سبعة عشر شهرا ‪ ،‬وأكثر الروايات على ذلك ‪ ،‬وغاب عنهم ما في علم ه‬
‫من انتهاء مدة الحكم في التوجه بالعبادة إلى البيت المقدس فينا وفيهم ‪ ،‬ألن جميع الناس‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فشرع لنا التوجه إلى الكعبة حتى ال نبقى بال‬ ‫مخاطبون بشرع محمد صلهى ه‬
‫شرع إذ ال بد أن نستقبل بالصالة جهة ما أو جميع الجهات ‪ ،‬فيكون ذلك مشروعا حتى يكون‬
‫االستقبال عبادة نؤجر عليها وعلى الصالة ‪ ،‬فهو خير على خير ‪ ،‬فهذا شرع حادث اتصل‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فأعلمنا بذلك ‪ ،‬ومثل هذا ال يسمى نسخا ‪ ،‬فإنه ما رفع ‪،‬‬ ‫بشرع انتهت مدته في علم ه‬
‫وإنما انقضى زمانه فانقضى هو بانقضائه ‪ ،‬وحدث زمان فحدث شرع بحدوثه ‪ ،‬فتخيل‬
‫الضعيف الرأي أن ذلك نسخ وليس كذلك ‪ ،‬فإن النسخ إنما يكون فيما حكمه أن يثبت دائما‬
‫ّللا قط أن تستمر الصالة إلى البيت المقدس‬ ‫فيرفع ‪ ،‬وما كان األمر كذلك ‪ ،‬فإنه ما كان في علم ه‬
‫دائما ‪ ،‬وإن غاب ذلك عنا فنحن في هذه المسألة غير معتبرين ‪ ،‬وإنما يعتبر ناصب الحكم وهو‬
‫ّللا‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وما رأيت أحدا حقق هذه المسألة بل أطلقوا القول فيها من غير تحقيق ‪ ،‬فقال ه‬ ‫ه‬
‫ب »أي المطلوب بالعبادة إنما هو‬ ‫ّلل ْال َم ْش ِر ُق َو ْال َم ْغ ِر ُ‬
‫تعالى لما قالوا ذلك ‪ « :‬قل » يا محمد« ِ َّ ِ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فأية جهة شاء أن يكلف عباده عيهنها ‪ ،‬ويجعل ذلك صراطا مستقيما لمن شرعها له‬ ‫ه‬
‫‪ ،‬أي طريقا إلى سعادته ‪ ،‬وأتى بمن نكرة‬

‫ص ‪212‬‬

‫ص ‪213 :‬‬
‫نقدم سائر أهل الموقف ‪ ،‬ويقدم القراء منها من ليس له من القرآن مثله ‪ ،‬فأكثرنا قرآنا أسبقنا في‬
‫التقدم والرقي في المعراج المظهر للفضل بين الناس يوم القيامة ‪ ،‬فإن للقراء منابر ‪ ،‬لكل منبر‬
‫درج على عدد آي القرآن ‪ ،‬يصعد الناس فيه بقدر ما حفظوا منه في صدورهم ‪ ،‬ولهم منابر‬
‫أخر لها درج على عدد آي القرآن ‪ ،‬يرقى فيها العاملون بما حققوه من القرآن ‪ ،‬فمن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وجعل الصراط مثله نكرة ‪ ،‬يقول ‪ :‬أي طائفة شئت كلفت بأي عبادة شئت ‪ ،‬فتكون صراطا له‬
‫إلى سعادته مستقيما من كونه مشروعا منا ‪ ،‬وكما كان من جعلنا الكعبة أول بيت لنا وضعناه‬
‫في األرض لعبادنا ليحفوا به كما تحف المالئكة بعرشنا ‪ ،‬ويدخله عبادي كما تدخل المالئكة‬
‫البيت المعمور ‪ ،‬وجعلناه خير البيوت ‪ ،‬وجعلناكم أنتم خير أمة أخرجت للناس ‪ ،‬وجعلناكم أمة‬
‫وسطا شهداء على سائر األمم ‪ ،‬جعلنا األشرف من عبادي على سائر جنسهم يستقبل األشرف‬
‫ّللا األرض على ما‬ ‫ي ‪ ،‬ومن تحت هذا البيت دحا ه‬ ‫من بيوتي على سائر البيوت التي نسبتها إل ه‬
‫اس »اآلية ‪ ،‬يقول ‪ :‬ومثل‬ ‫علَى النَّ ِ‬
‫ش َهدا َء َ‬ ‫روي ( ‪َ «) 144‬و َكذ ِل َك َجعَ ْلنا ُك ْم أ ُ َّمةا َو َ‬
‫سطا ا ِلت َ ُكونُوا ُ‬
‫سطا ا »أي خيارا عدال ‪ ،‬فالعجب من هذا كالعجب من‬ ‫ذلك ‪ ،‬الكاف للصفة ‪َ «،‬جعَ ْلنا ُك ْم أ ُ َّمةا َو َ‬
‫ّللا كلها عجيبة ‪ ،‬هي نفس الحكمة تجري على غير قياس وال مثال ‪ ،‬هذه اآلية‬ ‫هذا ‪ ،‬فإن أفعال ه‬
‫باّلل ورسوله وما جاء من عنده محمول على العدالة ‪ ،‬مقبول الشهادة ‪،‬‬ ‫دليل على أن المؤمن ه‬
‫ليس للحاكم أن يرد شهادته ‪ ،‬وال يسأل عن حاله ‪ ،‬ويحكم وال يتوقف ‪ ،‬هذا هو الشرع المنزل‬
‫ّللا زكاه وعدله باإليمان وجعله شاهدا مقبوال عنده ‪ ،‬وهو الحكم العدل ‪ ،‬وكذا فعل‬ ‫‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا عليه وسلم وقد شهد عنده شخص برؤية الهالل ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أتشهد أن ال إله‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقبل شهادته وأمر بالال أن ينادي في الناس بالرؤية ‪ ،‬وأما قوله ‪( :‬‬ ‫إال ه‬
‫ع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم )يقول مؤمنين لم تروا منهم ما يؤدي إلى تجريحهم وليس لكم أن‬ ‫َوأ َ ْش ِهدُوا ذَ َو ْ‬
‫ي َ‬
‫تبحثوا عنهم إذ ليس في اآلية ذلك ويؤيد هذا قوله في من حضره الموت في السفر ( ذوا عدل‬
‫غي ِْر ُك ْم )أي ممن ليس بمؤمن ‪ ،‬فإن ادعى الخصم تجريح‬ ‫َران ِم ْن َ‬ ‫منكم ) يعني مؤمنين( أ َ ْو آخ ِ‬
‫الشاهد وأنه ذو جرحة في دينه ‪ ،‬جرحة ترد بها شهادته ‪ ،‬توقف الحاكم في الحكم ‪ ،‬وقيل‬
‫للخصم ‪ :‬أقم البينة على ما ادعيته من جرحه ‪ ،‬فإن قامت البينة على ذلك عند الحاكم رد‬
‫عزر الخصم الفترائه عليه ‪ ،‬إال أن يكون الخصم مجتهدا ‪ ،‬فتخيل فيما‬ ‫شهادته ‪ ،‬وإن لم تقم ه‬
‫ليس بجرحة أنها جرحة ‪ ،‬فليس له تعزيره ‪ ،‬ويحكم بشهادة الشاهد ‪ ،‬ويكون الخصم قد أخطأ‬
‫في اجتهاده ‪ ،‬واألوجه عندي في مسألة التجريح ‪ ،‬أن كل جرحة ال تقدح في صدق ما يقوله ال‬
‫يجرح بها في شهادته ‪ ،‬كالتورية وغيرهم ‪ ،‬فإنهم ال يكذبون ولو مضت في ذلك نفوسهم‬
‫وأموالهم وأوالدهم ‪ ،‬وهم مع ذلك يسرقون ويفسقون بجميع أنواع الفسوق إال الكذب ‪ ،‬وإنما‬
‫قلنا إن‬

‫ص ‪213‬‬

‫ص ‪214 :‬‬
‫عمل بمقتضى كل آية بقدر ما تعطيه في أي شيء نزلت رقي إليها عمال ‪ ،‬وما من آية إال ولها‬
‫عمل في كل شخص لمن تدبر القرآن ‪ ،‬وفي القيامة منابر على عدد كلمات القرآن ‪ ،‬ومنابر‬
‫ّللا من العلم بذلك ‪،‬‬
‫باّلل ‪ ،‬العاملون بما أعطاهم ه‬
‫على عدد حروفه ‪ ،‬يرقى فيها العلماء ه‬
‫فيظهرون‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الوسط هو العدل ألن الوسط هو الذي يكون بين طرفين ‪ ،‬ونسبته إلى كل طرف كنسبته إلى‬
‫اآلخر فال يميل إلى أحد الجانبين ‪ ،‬وكذا ينبغي للشاهد أن يقول الحق الذي يعرفه ال على جهة‬
‫الميل إلى أحد الجانبين ‪ ،‬وكانت هذه األمة نسبتها إلى عزمات أمر ربها فيما كلفها كنسبتها إلى‬
‫ّللا يحب أن تؤتى‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رخصه ‪ ،‬ألنها من أمر ربها ‪ ،‬وقال رسول ه‬
‫رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ] فأتى بكاف التشبيه للتساوي بين المحبتين بميله إلى كل‬
‫جانب على السواء ‪ ،‬ولما كانت هذه األمة ما غلت في دينها كما غال أهل الكتاب ‪ ،‬فلم تفرط‬
‫وال قصرت في دينها وال فرطت كما فرط من ترك النظر في األدلة وقادته الشبه إلى ترك‬
‫أشياء مما يجب اإليمان بها ولم تفرط في ذلك كانت أمة وسطا ‪ ،‬وكذا نسبتها إلى الرجاء‬
‫والخوف ‪ ،‬فالوسط العام الذي تشترك فيه األمة كلها ويقضي بعدالتها أنهم لم يفرقوا في إيمانهم‬
‫بالرسل وما جاءوا به بين واحد منهم ‪ ،‬ونسبتهم من حيث إيمانهم إلى كل واحد منهم على‬
‫السواء ‪ ،‬ثم يعلو الوسط في األمة خصوصا بعد خصوص بتفصيل ليس هذا موضعه إلى أن‬
‫ينتهي إلى أخص وصف في نسبة ما يجري منه من خير وغير ذلك إلى األسماء اإللهية ‪ ،‬ثم‬
‫قال ‪:‬‬
‫اس »يوم القيامة ‪ ،‬إذا أنكروا تبليغ‬ ‫علَى النَّ ِ‬ ‫ش َهدا َء َ‬ ‫إنه جعل هذه األمة أمة وسطا« ِلت َ ُكونُوا ُ‬
‫أنبيائهم إليهم رساالت ربهم مع كونهم ما شاهدوهم ‪ ،‬ولكن الغرض حصول العلم عند الشاهد‬
‫فيما يشهد به ‪ ،‬ال سبب حصوله ‪ ،‬وقد علمنا قطعا بما أنزله علينا وأخبرنا به في كتابه أن‬
‫الرسل بلغت أممها ‪ ،‬وحكى لنا قصصهم ‪ ،‬وهذا السبب أقوى من أن لو شاهدناهم ‪ ،‬فتثبت‬
‫الشهادة قطعا للخبر الصدق ‪ ،‬ولهذا كانت شهادة خزيمة شهادة رجلين ‪ ،‬يقبل وحده ‪ ،‬ويجوز‬
‫من هذه اآلية أن يشهد الشاهد إذا حصل عنده العلم الذي يقطع به ‪ ،‬أي وجه حصل وإن لم‬
‫يشهد ذلك وال حضره ‪ ،‬بخالف الحاكم فإنه ال يحكم بعلمه وال يأثم ‪ ،‬والشاهد يأثم إن لم يشهد‬
‫بعلمه ‪ ،‬وليس للحاكم أن يسأله كيف وصل إليه هذا العلم ‪ ،‬إال إذا عرف أنه لم يشهد تلك‬
‫القضية المشهود فيها ‪ ،‬فليس له أن يقبل شهادته إال حتى يعرف السبب ويعمل بمقتضاه عند‬
‫ش ِهيدا ا »أي رقيبا عليكم في ذلك اليوم حتى‬ ‫علَ ْي ُك ْم َ‬ ‫سو ُل َ‬ ‫ذلك ‪ ،‬وأما قوله تعالى «‪َ :‬ويَ ُكونَ َّ‬
‫الر ُ‬
‫تؤدوا الشهادة لألنبياء على أممهم ‪ ،‬ومنه قول عيسى عليه السالم [ ‪ :‬وكنت عليهم شهيدا ] أي‬
‫وال شا ِهدا ا َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ]وقد تكون على‬ ‫س ا‬‫س ْلنا ِإلَ ْي ُك ْم َر ُ‬
‫رقيبا [ ما دمت فيهم ] وقوله تعالى ‪ِ [:‬إنَّا أ َ ْر َ‬
‫بمعنى الالم ‪ ،‬فإن حروف الجر تبدل بعضها من بعض ‪ ،‬ويعرف ذلك بالمعنى ‪ ،‬قال تعالى ‪[:‬‬
‫ب ]أي للنصب وهي‬ ‫ص ِ‬ ‫َوما ذُبِ َح َ‬
‫علَى النُّ ُ‬

‫ص ‪214‬‬

‫ص ‪215 :‬‬
‫ص ‪216 :‬‬
‫على معارج حروف القرآن وكلماته بسور تلك الحروف والكلمات واآليات والسور والحروف‬
‫الصغار منه ‪ ،‬وبه يتميزون عن أهل الموقف في هذه األمة ‪ ،‬ألن أناجيلهم في صدورهم«‬
‫سو َل ِم َّم ْن‬ ‫علَيْها ِإ َّال ِلنَ ْعلَ َم َم ْن يَت َّ ِب ُع َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ش ِهيدا ا َوما َجعَ ْلنَا ْال ِق ْبلَةَ الَّتِي ُك ْن َ‬
‫ت َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َ‬
‫سو ُل َ‬ ‫َويَ ُكونَ َّ‬
‫الر ُ‬
‫ع ِقبَ ْي ِه »فإن الدار الدنيا دار بالء وفيها يظهر الصادق من الكاذب‬ ‫على َ‬ ‫يَ ْنقَ ِل ُ‬
‫ب َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سو ُل‬ ‫األصنام التي نصبوها للعبادة فكانوا يقربون لها ‪ ،‬فعلى هذا يخرج قوله ‪َ «:‬ويَ ُكونَ َّ‬
‫الر ُ‬
‫ّللا في أمته ‪ ،‬يعرف بها المؤمن منهم من غير المؤمن ‪،‬‬ ‫»لكم [ شهيدا ] بعالمات قد جعل ه‬
‫فيشهد للمؤمن ويشهد على الكافر ‪ ،‬فمن عالمة المؤمنين أن لهم نورا يسعى بين أيديهم‬
‫غرا محجلين من آثار الوضوء ‪ ،‬وقد يخرج على شهادته على‬ ‫وبأيمانهم ‪ ،‬ومن ذلك أن يأتوا ه‬
‫الكفار ممن بعث إليهم فلم يؤمنوا به ‪ ،‬فإن رسالته عامة لجميع الخلق وكافرهم أكثر من مؤمنهم‬
‫‪ ،‬فغلهب الكثرة على القلة ‪ ،‬فأتى بعلى دون الالم ‪ ،‬وعطف ضمير المخاطب في عليكم على‬
‫الضمير في تكونوا لما يتضمن ضمير المخاطب من المؤمنين ‪ ،‬فإن األنبياء كلهم يوم القيامة‬
‫يشهدون على أممهم هّلل بردهم دعوة الحق التي جاءوا بها إليهم ‪.‬‬
‫على‬ ‫ب َ‬ ‫سو َل ِم َّم ْن يَ ْنقَ ِل ُ‬ ‫علَيْها ِإ َّال ِلنَ ْعلَ َم َم ْن يَت َّ ِب ُع َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ثم قال تعالى ‪َ «:‬وما َجعَ ْلنَا ْال ِق ْبلَةَ الَّتِي ُك ْن َ‬
‫ت َ‬
‫ع ِقبَ ْي ِه »‬ ‫َ‬
‫يقول ‪ :‬قبلة لك ‪ ،‬أي تتوجه إليها عند الصالة وفي الدعاء ‪ ،‬الكعبة وبيت المقدس ‪ ،‬إال ابتالء‬
‫ّللا عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ‪ ،‬ثم صلى إلى البيت المقدس‬ ‫لقومك ‪ ،‬فإنه صلهى ه‬
‫سبعة عشر شهرا ‪ ،‬ثم أمر باستقبال الكعبة ‪ ،‬كل ذلك اختبارا ومحنة لقومه ‪ ،‬وداللة على‬
‫صدقه ‪ ،‬وأنه في كتابهم من عالماته أن يصلي إلى القبلتين ‪،‬‬
‫ولذا قال ‪ [ :‬وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ]‬
‫شرك في الضمير بينه وبينهم تشريفا لهم ‪،‬‬ ‫ثم قال [ ليعلم الرسول والمؤمنون ] ألنه سبحانه ه‬
‫ّللا وخاصته ‪ ،‬وهذا كثير في كالم العرب معروف غير منكور ‪،‬‬ ‫ألنهم أهل القرآن ‪ ،‬فهم أهل ه‬
‫والذي يتعلق به من التأويل في جناب الحق هو أن يتعلق العلم بالكائن كما تعلق بسيكون ‪ ،‬فهو‬
‫لتعلق العلم ال الكتساب العلم ‪،‬‬
‫سو َل »فيما يشرع لكم على‬ ‫ومنه قوله ‪ [ :‬ولنبلونكم حتى نعلم ] فقال ‪ِ «:‬إ َّال ِلنَ ْعلَ َم َم ْن يَت َّ ِب ُع َّ‬
‫الر ُ‬
‫على‬‫ب »أي يرجع عنه« َ‬ ‫يده ‪ ،‬أي يقتدي به من غير معارضة وال اعتراض ‪ِ «،‬م َّم ْن يَ ْنقَ ِل ُ‬
‫ع ِقبَ ْي ِه »يعني إلى ضاللته التي جاء منها مقبال على الرسول ليسمع منه ‪ ،‬فلما تبين له الهدى‬ ‫َ‬
‫ّللا ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما‬ ‫ّللا على علم [ وما كان ه‬ ‫انقلب على عقبيه فأضله ه‬
‫يتقون ] وهؤالء الذين انقلبوا على أعقابهم في هذه المسألة وغيرها ‪ ،‬هم الذين يكون غدا‬
‫ّللا إذا قالوا للمؤمنين ‪:‬‬ ‫جزاؤهم عند ه‬
‫[ انظرونا نقتبس من نوركم قيل لهم ] من جانب الحق [ ارجعوا وراءكم ] كما رجعتم عندما‬
‫رأيتم نور الهدى في الدنيا على أعقابكم [ فالتمسوا نورا ] هنالكم ولن تجدوه ‪ ،‬وكثرت قالة‬
‫الكفار والمنافقين في رجوع النبي عليه السالم إلى استقبال‬

‫ص ‪115‬‬
‫ص ‪217 :‬‬
‫اس لَ َرؤ ٌ‬
‫ُف‬ ‫ضي َع ِإيمانَ ُك ْم ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا ِبالنَّ ِ‬ ‫ّللاُ ِليُ ِ‬ ‫علَى الَّذِينَ َه َدى َّ‬
‫ّللاُ َوما كانَ َّ‬ ‫يرة ا ِإ َّال َ‬
‫َت لَ َك ِب َ‬
‫" َو ِإ ْن كان ْ‬
‫ّللا ينزل‬
‫ّللا يحكم بها حيث يكون وزنها ‪ ،‬فإن ه‬ ‫َر ِحي ٌم » ‪،‬اعلم أن للرأفة موطنا ال تتعداه ‪ ،‬وإن ه‬
‫فاّلل هو الرؤوف تعالى مع أنه شرع الحدود ‪ ،‬وأمر‬ ‫كل شيء منزلته ‪ ،‬وال يتعدى به حقيقته ‪ ،‬ه‬
‫بإقامتها ‪ ،‬وعذب قوما بأنواع العذاب األدنى واألكبر ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪144‬‬


‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬
‫رام‬ ‫ش ْط َر ا ْل َم ْ‬‫ماء فَلَنُ َو ِلهيَنهكَ قِ ْبلَةً ت َ ْرضاها فَ َو ِ هل َوجْ َهكَ َ‬
‫س ِ‬ ‫ب َوجْ ِهكَ فِي ال ه‬ ‫قَ ْد نَرى تَقَلُّ َ‬
‫ق ِم ْن َر ِبه ِه ْم َو َما‬‫ون أَنههُ ا ْل َح ُّ‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬
‫تاب لَيَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ش ْط َرهُ َو ِإ هن الهذ َ‬ ‫ث ما ُك ْنت ُ ْم فَ َولُّوا ُو ُجو َه ُك ْم َ‬ ‫َو َح ْي ُ‬
‫ون ) ‪( 144‬‬ ‫ع هما يَ ْع َملُ َ‬ ‫ّللاُ ِبغا ِف ٍل َ‬
‫ه‬
‫ّللا اختار لك ما لك في التوجه إليه سعادتك ‪،‬‬ ‫ّللا حيثما توليت ‪ ،‬ولكن ه‬ ‫ال يرفع حكم أن وجه ه‬
‫ّللا لك فيها هذا التقييد فجمع‬ ‫ولكن في حال مخصوص وهي الصالة ‪ ،‬وسائر األينيات ما جعل ه‬
‫لك بين التقييد واإلطالق ‪ ،‬والمسجد الحرام موطن عبودية ألن السجود‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللاُ »إن هنا مخففة‬ ‫علَى الَّذِينَ َه َدى َّ‬
‫يرة ا ِإ َّال َ‬
‫َت لَ َك ِب َ‬ ‫الكعبة في الصالة بما ال يفيد ذكره« َو ِإ ْن كان ْ‬
‫من الثقيلة ‪ ،‬ولهذا دخل في خبرها الالم ألنه يقرأ بالرفع على زيادة كان ‪ ،‬والضمير في كانت‬
‫يعود على التولية أو الجعلة ‪ ،‬وكونها كبيرة حيث ثقلت عليهم ‪ ،‬وقد أخبر عن الصالة أنها‬
‫كبيرة إال على الخاشعين ‪ ،‬أي ثقيلة شاقة ‪ ،‬فقد انضافت إليها كبيرة أخرى ‪ ،‬وهي التولية إلى‬
‫ّللاُ »يقول إال المؤمنون الذين ليس في‬ ‫علَى الَّذِينَ َه َدى َّ‬ ‫الكعبة ‪ ،‬فزادتهم مشقة إلى مشقتهم« ِإ َّال َ‬
‫قلوبهم مرض ‪ ،‬فإن ذلك كله هين عليهم محبوب لهم ‪ ،‬إذ ليس لهم غرض بتصريف‬
‫مخصوص معين ‪ ،‬بل هم مرتقبون لما يصرفهم إليه الحق وما يصرفهم فيه ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وما‬
‫ضي َع »أي ليخيب« إِيمانَ ُك ْم »أي تصديقكم وصالتكم إلى القبلة التي حولتم عنها ‪ ،‬لما‬ ‫ّللاُ ِليُ ِ‬
‫كانَ َّ‬
‫ّللا‬
‫علم أن بعضهم سيقدح ذلك في نفسه ‪ ،‬ويقول ‪ :‬هل له أجر في عمله األول أم ال ؟ فأخبره ه‬
‫ّللا ال يضيع أجر من أحسن عمال ]‬ ‫بأنه ال يضيع عمل عامل منهم ‪ ،‬قال تعالى ‪ [ :‬إن ه‬
‫اس لَ َرؤ ٌ‬
‫ُف‬ ‫ّللا ِبالنَّ ِ‬
‫وكيف يضيعه وهو الذي شرعه ووعد باألجر عليه ووعده صدق« ِإ َّن َّ َ‬
‫»عطوف عليهم ‪ ،‬ولذلك شرع لهم وأبان طريق سعادتهم ولم يع هم عليهم وال لبهس ‪َ «،‬ر ِحي ٌم‬
‫»بهم فيما أسبغ عليهم من النعم مع كفرهم به لعلهم يرجعون ‪ ،‬ثم أخذ يخاطب نبيه عليه السالم‬
‫ماء »اآلية ‪،‬‬ ‫س ِ‬ ‫فقال ‪ «) 145 ( :‬قَ ْد نَرى تَقَلُّ َ‬
‫ب َو ْج ِه َك فِي ال َّ‬

‫ص ‪216‬‬

‫ص ‪218 :‬‬
‫هو التطأطؤ ‪ ،‬وهو نزول من أعلى إلى أسفل ‪ ،‬وبه سمي الساجد ساجدا ‪ ،‬لنزوله من قيامه ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 145‬إلى ‪146‬‬


‫ض ُه ْم ِبتا ِب ٍع‬ ‫تاب ِب ُك ِ هل آيَ ٍة ما ت َ ِبعُوا ِق ْبلَت َكَ َوما أ َ ْنتَ ِبتا ِب ٍع ِق ْبلَت َ ُه ْم َوما بَ ْع ُ‬
‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬‫َولَ ِئ ْن أَت َ ْيتَ الهذ َ‬
‫ين ( ‪) 145‬‬ ‫ض َولَئِ ِن اتهبَ ْعتَ أ َ ْهوا َء ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءكَ ِم َن ا ْل ِع ْل ِم إِنهكَ إِذا ً لَ ِم َن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫قِ ْبلَةَ بَ ْع ٍ‬
‫ق َو ُه ْم‬ ‫ون ا ْل َح ه‬‫ون أ َ ْبنا َء ُه ْم َوإِ هن فَ ِريقا ً ِم ْن ُه ْم لَيَ ْكت ُ ُم َ‬
‫تاب يَ ْع ِرفُونَهُ َكما يَ ْع ِرفُ َ‬
‫ِين آت َ ْينا ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫الهذ َ‬
‫ون ) ‪( 146‬‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫تاب يَ ْع ِرفُونَهُ َكما يَ ْع ِرفُونَ أَبْنا َء ُه ْم »فإنهم مصدقون بكتابهم وهذا النعت فيه‬ ‫"الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم ْال ِك َ‬
‫وقد أبصروه ‪ ،‬فيعلمون أنه عين هذا النعت وال يعرفون الشخص الذي قام به‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫لما كانت اليهود تقول ما بال محمد يتبع قبلتنا وال يتبعنا في ديننا ‪ ،‬ثقل ذلك على النبي صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم حيث نسبوه إلى اتباعهم في أمر ‪ ،‬وخاف على الضعفاء في إيمانهم من المؤمنين‬ ‫ه‬
‫أن تتعلق بقلوبهم شبهة من ذلك تقدح في إيمانهم ‪ ،‬وكانت الكعبة قبلة إبراهيم أبيه عليه السالم ‪،‬‬
‫ومن ملته التوجه إليها ‪ ،‬فكان يختارها على سائر الجهات من األماكن ‪ ،‬فكان يستقبل السماء‬
‫لكونها محل الدعاء شرعا ‪ ،‬ويكثر تقلب وجهه فيها في عموم أوقاته عسى أن يكون ذلك التقلب‬
‫ّللا في صرفه إلى الكعبة ‪ ،‬فكان يقلب وجهه في السماء حسا ووجه قلبه فيما‬ ‫شرطا في علم ه‬
‫ّللا له ‪ «:‬قَ ْد‬ ‫يسمو من معالي األمور مما يظهر به شرفه ‪ ،‬إذ كان البيت أشرف البيوت ‪ ،‬فقال ه‬
‫ماء »يعني في طلب استقبال الكعبة« فَلَنُ َو ِلهيَنَّ َك »يقال ‪ :‬وليته كذا إذا‬
‫س ِ‬‫ب َو ْج ِه َك فِي ال َّ‬ ‫نَرى تَقَلُّ َ‬
‫جعلته واليا عليه« قِ ْبلَةا ت َ ْرضاها »أخبر الناس باعتنائه به حين لم يعمل ذلك مع غيره ‪ ،‬قال‬
‫يك َرب َُّك فَت َ ْرضى ]واستقبال الكعبة منها ‪ ،‬فما كره استقبال بيت المقدس ‪،‬‬ ‫ف يُ ْع ِط َ‬ ‫تعالى ‪َ [:‬ولَ َ‬
‫س ْو َ‬
‫ّللا عليه وسلم يستحيل عليه أن يكره ما شرع له وإنما كان ذلك لما ذكرناه ‪ ،‬فأمره‬ ‫فإنه صلهى ه‬
‫سبحانه وأوجب عليه ليكون األجر أعظم بإتيان الواجب ‪ ،‬فإنه يقول ‪:‬‬
‫ي أحد بأحب إلي من أداء ما افترضت عليه ] فقال له ‪ «:‬فَ َو ِهل َو ْج َه َك »في الصالة‬ ‫[ ما تقرب إل ه‬
‫‪ ،‬ونزلت وهو في صالة الظهر في شهر رجب قبل قتال بدر بشهرين ‪ ،‬فتحول في الصالة بعد‬
‫أن صلى منها ركعتين واستقبل الكعبة ‪ ،‬وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ‪،‬‬
‫وسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين ‪ ،‬وهو مسجد بني سلمة ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬ش ْ‬
‫َط َر ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫رام‬
‫»أي ناحيته ومواجهته ‪ ،‬والمسجد الحرام هنا إنما هو الكعبة خاصة ‪ ،‬ونصبه على الظرف ‪،‬‬
‫وال وجه لمن قال‬

‫ص ‪217‬‬

‫ص ‪219 :‬‬
‫هذا النعت لجواز أن يقوم ذلك النعت بأشخاص كثيرين ‪ ،‬فدخلهم االحتمال في الشخص ال في‬
‫النعت ‪َ «.‬و ِإ َّن فَ ِريقا ا ِم ْن ُه ْم لَيَ ْكت ُ ُمونَ ْال َح َّق َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ »أنه الحق فيكتمونه عن مقلديهم ‪ ،‬وعن‬
‫ّللا عليه وسلم أنهم عرفوه أنه صاحب هذا النعت ‪ ،‬فقوله ‪َ «:‬و ِإ َّن فَ ِريقا ا ِم ْن ُه ْم »هم‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫الذين يلبسون الحق بالباطل« لَيَ ْكت ُ ُمونَ ْال َح َّق َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ »يقول ‪ :‬إن الحق أبلج ال لبس فيه ‪،‬‬
‫لقوة الداللة عليه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫إنه أراد المسجد لتعذر حصول العلم باستقبال البيت ‪ ،‬وما نحن مأمورين إال باالجتهاد حتى‬
‫ّللا‬‫يغلب على ظننا أنا قد استقبلنا عين البيت ‪ ،‬وإن لم يكن في نفس األمر على ذلك ‪ ،‬فما كلف ه‬
‫نفسا إال وسعها ‪ ،‬وعلى البعد المفرط يلزم في الحرم كله أي في استقباله ما يلزم في البيت ‪،‬‬
‫ّللا وأردتم الصالة« فَ َولُّوا‬ ‫ْث ما ُك ْنت ُ ْم »من أرض ه‬ ‫فال وجه لذلك القول ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َحي ُ‬
‫تاب »يعني أهل التوراة واإلنجيل« لَيَ ْعلَ ُمونَ‬ ‫َط َرهُ »ثم قال ‪َ «:‬وإِ َّن الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِك َ‬ ‫ُو ُجو َه ُك ْم ش ْ‬
‫أَنَّهُ ْال َح ُّق ِم ْن َر ِبه ِه ْم »يعني تحويلك إلى الكعبة وصالتك إلى القبلتين ‪ ،‬فإنه مذكور في كتابهم ‪،‬‬
‫ع َّما‬ ‫ّللاُ ِبغافِ ٍل َ‬ ‫ّللا على قلوبهم« َو َما َّ‬ ‫وهو من جملة األدلة على نبوتك ‪ ،‬ولكنهم قوم بهت قد ختم ه‬
‫يَ ْع َملُونَ »وعيد لهم ‪ ،‬وشفاء صدر وراحة لرسوله وللمؤمنين ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬وإن كانت هذه من‬
‫ْت الَّذِينَ أُوتُوا‬
‫ّللا له ‪َ «) 146 ( :‬ولَ ِئ ْن أَت َي َ‬ ‫آياتك التي ظهرت لهم وعلموا صدقها ‪ ،‬يقول ه‬
‫تاب بِ ُك ِهل آيَ ٍة »يقول ‪:‬‬ ‫ْال ِك َ‬
‫ولئن جئتهم بجميع اآليات كلها التي تدل على صدقك« ما تَبِعُوا قِ ْبلَت َ َك »أي دينك ‪ ،‬ومنه القبلة‬
‫ت بِتابِ ٍع قِ ْبلَت َ ُه ْم »أي دينهم وقبلتهم أيضا ‪ ،‬وذلك بشرى للنبي عليه السالم من‬ ‫المعروفة« َوما أ َ ْن َ‬
‫ربه بثباته على استقبال الكعبة ‪ ،‬إذ في اإلمكان أن يصرف إلى قبلتهم مرة أخرى كما صرف‬
‫ض »يعني اليهود والنصارى ال يتبع‬ ‫ض ُه ْم ِبتا ِب ٍع ِق ْبلَةَ بَ ْع ٍ‬‫أوال ‪ ،‬ثم أخبر عنهم فقال ‪َ «:‬وما بَ ْع ُ‬
‫عرض بهم في اتهباعهم أهواءهم ‪،‬‬ ‫بعضهم دين بعض وال قبلته مع اتفاقهم على مخالفتك ‪ ،‬ثم ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬والخطاب‬ ‫فإنهم من الظالمين من بعد ما تبين لهم الحق ‪ ،‬وحذر أمته صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم خطاب فرض وتقدير ‪ ،‬وقد يفرض وقوع المحال مع العلم بأنه غير‬ ‫للنبي صلهى ه‬
‫ت أ َ ْهوا َء ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َء َك‬ ‫واقع ‪ ،‬لكن يؤتى به مفروضا لما فيه من الفائدة فقال« َولَئِ ِن اتَّبَ ْع َ‬
‫الظا ِل ِمينَ »وهذه صفتهم ‪ ،‬وهو من قولهم ‪:‬‬ ‫ِمنَ ْال ِع ْل ِم ِإنَّ َك ِإذا ا لَ ِمنَ َّ‬
‫تاب يَ ْع ِرفُونَهُ »هذا مثل‬ ‫[ إياك أعني فاسمعي يا جارة ] ‪ ،‬ثم قال ‪ «) 147 ( :‬الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم ْال ِك َ‬
‫من )وهو كل كالم له‬ ‫الر ْح ُ‬ ‫ع َد َّ‬ ‫ى )و( َم ْن بَعَثَنا ِم ْن َم ْرقَدِنا هذا ما َو َ‬ ‫ْب فِي ِه ُهد ا‬ ‫قوله ‪ ( :‬ال َري َ‬
‫وجهان ‪ ،‬وجه إلى ما قبله ‪ ،‬ووجه إلى ما بعده ‪ ،‬فيجوز الوقف عليه ثم يبتدئ به ‪ ،‬فيجوز أن‬
‫تاب »صفة للظالمين له وجه إلى ذلك ‪ ،‬يقول ‪ِ «:‬إنَّ َك ِإذا ا لَ ِمنَ َّ‬
‫الظا ِل ِمينَ‬ ‫يكون« الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم ْال ِك َ‬
‫تاب »فإنهم ظلموا بعد ما جاءهم العلم بما جئت به ‪ ،‬ويقويه قوله ( ‪ِ :‬م ْن بَ ْع ِد‬ ‫الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم ْال ِك َ‬

‫ص ‪218‬‬

‫ص ‪220 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 147‬إلى ‪148‬‬
‫ين ) ‪َ ( 147‬و ِل ُك ٍ هل ِوجْ َهةٌ ُه َو ُم َو ِلهيها فَا ْ‬
‫ست َ ِبقُوا ا ْل َخ ْيرا ِ‬
‫ت‬ ‫ق ِم ْن َر ِبهكَ فَل تَكُونَ هن ِم َن ا ْل ُم ْمت َ ِر َ‬‫ا ْل َح ُّ‬
‫ِير ( ‪َ «) 148‬و ِل ُك ٍهل ِو ْج َهةٌ ُه َو‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫ّللاُ َج ِميعا ً ِإ هن ه َ‬
‫ّللا عَلى ُك ِ هل َ‬ ‫أ َ ْي َن ما تَكُونُوا يَأ ْ ِ‬
‫ت ِب ُك ُم ه‬
‫ُم َو ِلهيها »والعارف متصرف في كل وجهة لكونه يشاهد وجهه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ما جاءك من العلم ) ثم يرجع القارئ بعد الوقوف عليه لبيان ما ذكرناه يبتدئ به فيقول ‪«:‬‬
‫تاب » *يعني أهل التوراة واإلنجيل « يعرفونه » تحويل القبلة في كتابهم ‪،‬‬ ‫الَّذِينَ آتَيْنا ُه ُم ْال ِك َ‬
‫فالضمير يعود عليه هنا وأنه مذكور ‪ ،‬ومن أعاده على محمد عليه السالم فيتكلف وله موضع‬
‫ّللا ال شك فيه ‪ ،‬وتقليده فيما أخبر به‬ ‫آخر« َكما يَ ْع ِرفُونَ أَبْنا َء ُه ْم »ال يشكون فيه ‪ ،‬فإن إخبار ه‬
‫علم ‪ ،‬وتقليد الرجل المرأة أن هذا الولد له ال يقوى هذه القوة ‪ ،‬إلمكان الخيانة والكذب الذي‬
‫ه‬
‫الشك‬ ‫وّللا يستحيل عليه ذلك ‪ ،‬وإنما قرنه بمعرفة األبناء وإن كان يتطرق إليه‬ ‫يجوز عليها ‪ ،‬ه‬
‫لوجهين ‪ ،‬وهما ‪ :‬أن مثل هذا من حصول الفراش ‪ ،‬أو إلحاق االبن به في شرعهم هو ابنه‬
‫شرعا ‪ ،‬وال يجوز له إنكاره ‪ ،‬وقد كان هذا مقررا عندهم ‪ ،‬وفي الجاهلية يعرف ذلك من‬
‫يعرف أنكحتهم ‪ ،‬فبهذا القدر وقع التشبيه وإال كان المشبه أبين من المشبه به ‪ ،‬والمراد زيادة‬
‫البيان في التشبيه ‪ ،‬ثم استثنى العلماء من أهل الكتاب الذين كتموا الحق بعد علمهم من العلماء‬
‫الذين ما كتموه ومن المقلدين للكاتمين والمقرين ‪ ،‬فأخبر عنهم بكتمانهم الحق بعد علمهم به‬
‫فقال ‪َ «:‬و ِإ َّن فَ ِريقا ا ِم ْن ُه ْم لَيَ ْكت ُ ُمونَ ْال َح َّق َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ »األلف والالم للعهد ولجنس الحق ‪ ،‬أي‬
‫كل حق يأتيهم به ‪ ،‬أو الحق الذي تقدم ذكره من تحويل القبلة ‪ ،‬ألنه قد تقدم اإلخبار عنهم في‬
‫ذلك في قوله في أول القصة ‪َ ( :‬و ِإ َّن الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِك َ‬
‫تاب لَيَ ْعلَ ُمونَ أَنَّهُ ْال َح ُّق ِم ْن َر ِبه ِه ْم )ثم قال ‪«:‬‬
‫ْال َح ُّق ِم ْن َر ِبه َك فَال ت َ ُكون ََّن ِمنَ ْال ُم ْمت َ ِرينَ »بالنصب والرفع ‪ ،‬فنصبه على وجهين ‪ :‬الوجه الواحد‬
‫على البدل من الحق المكتوم ‪ ،‬فإنه أبين من الحق األول بإضافته إلى الرب في قوله ( ‪ِ :‬م ْن‬
‫َر ِبه َك )والثاني أن يكون مفعوال لقوله ‪َ «:‬و ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ ْال َح ُّق » ‪،‬ومن رفعه فعلى االبتداء« فَال‬
‫ت َ ُكون ََّن ِمنَ ْال ُم ْمت َ ِرينَ »في كذبهم ‪ ،‬ويكون( ْال َح ُّق ِم ْن َر ِبه َك )تفسيرا لقول ه‬
‫ّللا( َو ِإ َّن فَ ِريقا ا ِم ْن ُه ْم‬
‫لَيَ ْكت ُ ُمونَ ْال َح َّق )فهذا الحق ما هو ذلك الحق ‪ ،‬مع أنه عليه السالم ال يمتري في شيء مما يخبره‬
‫ّللا ‪ ،‬ولكن فيه إشارة ودليل على األخذ بالظاهر وترك التأويل لما يتطرق إلى الكالم من‬ ‫ه‬
‫االحتماالت في التأويل ‪ ،‬فكأنه يقول ‪ :‬هو كما أخبرتك ال تأويل فيه ‪ ،‬كما قال ‪ ( :‬إِ ْن ُه َو إِ َّال*‬

‫ص ‪219‬‬

‫ص ‪221 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪149‬‬
‫ع هما‬ ‫رام َو ِإنههُ لَ ْل َح ُّ‬
‫ق ِم ْن َر ِبهكَ َو َما ه‬
‫ّللاُ ِبغافِ ٍل َ‬ ‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬ ‫ث َخ َرجْ تَ فَ َو ِ هل َوجْ َهكَ َ‬
‫ش ْط َر ا ْل َم ْ‬ ‫َو ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ون ) ‪( 149‬‬ ‫ت َ ْع َملُ َ‬
‫أي من كل جهة خرجت مصليا فاستقبل المسجد الحرام ‪ ،‬ويجوز صالة الفرض داخل الكعبة ‪،‬‬
‫إذ لم يرد نهي في ذلك وال منع ‪ ،‬وقد ورد وثبت حيثما أدركتك الصالة فصل ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫علَّ ْمناهُ‬
‫ذكر وقرآن مبين ) أي ظاهر ما فيه لغز وال رمز كما يكون في الشعر ‪ ،‬فقال ( ‪َ :‬وما َ‬
‫ش ْع َر َوما يَ ْنبَ ِغي لَهُ )ألنه بعث بالبيان الشافي ‪ ،‬ووضع الشعر ليس على هذا البناء وإن كان‬ ‫ال ِ ه‬
‫يقع فيه البيان ‪ ،‬ثم قال ‪َ )« 149 ( :‬و ِل ُك ٍهل ِو ْج َهةٌ ُه َو ُم َو ِلهيها »يقول ‪ :‬ولكل أمة من الناس‬
‫وجهة هو موليها أي جهة وقبلة يولي وجهه إليها ويستقبلها ‪ ،‬فمن جعل ضمير « هو » عائدا‬
‫ّللا يقول ‪ :‬أنا جعلته يولي نحوها ‪ ،‬وهنا وجهان الواحد ‪ :‬أن ذلك بقضائنا وإلهامنا إياه‬ ‫على ه‬
‫ِير )فأصل نصبها قبلة كان منها‬ ‫وإرادتنا ‪ ،‬والوجه اآلخر قوله ‪َ ( :‬و ِإ ْن ِم ْن أ ُ َّم ٍة ِإ َّال خَال فِيها نَذ ٌ‬
‫على لسان الرسول الذي بعثناه لتلك األمة ‪ ،‬أو يعود الضمير على الذي يولي وجهه نحو تلك‬
‫ت »أي اجروا مع الخيرات في الحلبة إلينا ‪ ،‬فإن الخيرات‬ ‫الجهة ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَا ْستَبِقُوا ْال َخيْرا ِ‬
‫إلينا تقصد ‪ ،‬فإذا سابقتموها كنتم معها على طريق واحد فتوصلكم إلينا ‪ ،‬قال النبي عليه السالم‬
‫‪ [ :‬والخير كله بيديك والشر ليس إليك ] والخيرات كل عمل مشروع ‪ ،‬ووجه آخر فاستبقوا‬
‫ي ‪ ،‬ووجه آخر «فَا ْست َ ِبقُوا‬ ‫بالخيرات إلينا أي سابقوا بما شرعنا لكم ‪ ،‬اركبوها مستبقين إل ه‬
‫ت »فاستبقوا إلى الخيرات إذا رأيتموها ‪ ،‬فبادروا مستبقين إلى األخذ بها ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬أَيْنَ‬ ‫ْال َخيْرا ِ‬
‫ّللاُ َج ِميعا ا »موضع مخصوص للجمع فيه وزمان مخصوص ‪ ،‬فإنه تعالى‬ ‫ت ِب ُك ُم َّ‬‫ما ت َ ُكونُوا يَأ ْ ِ‬
‫مع عباده أينما كانوا ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬إِلَ ْي ِه َم ْر ِجعُ ُك ْم َج ِميعا ا )وهذا يؤيد أن الضمير في« ُه َو‬
‫ّللا ‪ ،‬وإنما وقع التعريف باإلتيان ألنه من الممكنات ‪ ،‬فأخبر تعالى أنه واقع‬ ‫ُم َو ِلهيها »يعود على ه‬
‫على ُك ِهل‬ ‫ّللا َ‬‫‪ ،‬ووجه آخر تعريف للمنكرين ذلك المحيلين له بحكم جهلهم فيما غاب عنهم« ِإ َّن َّ َ‬
‫ت فَ َو ِهل َو ْج َه َك ش ْ‬
‫َط َر‬ ‫ِير »ثم عاد وقال ‪َ «) 150 ( :‬و ِم ْن َحي ُ‬
‫ْث خ ََر ْج َ‬ ‫ش ْيءٍ »منه إتيانهم« قَد ٌ‬ ‫َ‬
‫رام »فليس هذا بمعنى األول من كل وجه ‪ ،‬فإن هناك األمر بالتولية إلى شطر‬ ‫ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫المسجد الحرام من موضعه ذلك وما فيه ذلك البيان ‪ ،‬ألنه قد يحتمل أن يقصد من ذلك الموضع‬
‫لكونه شرقا أو جنوبا ‪ ،‬فقال له هنا ‪ :‬إنما يقصد لعينه من حيث خرجت ‪ ،‬ال تراعي شرقا وال‬
‫ْث ما ُك ْنت ُ ْم فَ َولُّوا‬ ‫غربا وال جنوبا وال شماال ‪ ،‬وإن كان في األول ما يدل عليه في قوله ‪َ ( :‬و َحي ُ‬
‫َط َرهُ )فإن ذكره على التعيين ‪ ،‬وتخصيصه يعطي من البيان أكثر من‬ ‫ُو ُجو َه ُك ْم ش ْ‬

‫ص ‪220‬‬

‫ص ‪222 :‬‬
‫إال األماكن التي خصصها الدليل الشرعي في ذلك ال ألعيانها ‪ ،‬وإنما ذلك لوصف قام بها ‪،‬‬
‫فيخرج بنصه ذلك القدر لذلك الوصف ‪،‬‬

‫ت "]‬ ‫[ تفسير " َو ِم ْن َحي ُ‬


‫ْث خ ََر ْج َ‬
‫ت »أي إذا خرجت من الكعبة ‪ ،‬أو من غيرها ‪ ،‬وأردت الصالة فول‬ ‫وقوله ‪َ «:‬و ِم ْن َحي ُ‬
‫ْث خ ََر ْج َ‬
‫وجهك شطرها أي ال تستقبل بوجهك في صالتك جهة أخرى ال تكون الكعبة فيها ‪ ،‬فقبلتك فيها‬
‫ما استقبلت منها ‪ ،‬وكذلك إذا خرجت منها ما قبلتك إال ما يواجهك منها سواء أبصرتها أو‬
‫غابت عن بصرك ‪ ،‬وليس في وسعك أن تستقبل ذاتها كلها بذاتك ‪ ،‬لكبرها وصغر ذاتك ‪،‬‬
‫فالصالة في داخلها كالصالة خارجا عنها وال فرق ‪ ،‬فقد استقبلت منها وأنت في داخلها ما‬
‫استقبلت ‪ ،‬وال تتعرض بالوهم لما استدبرت منها إذا كنت فيها فإن االستدبار في حكم الصالة‬
‫ما ورد وإنما ورد االستقبال ‪ ،‬وما نحن مع المكلهف إال بحسب ما نطق به من الحكم ‪ ،‬فال‬
‫يقتضي عندنا األمر بالشيء النهي عن ضده فإنه ما تعرض في النطق لذلك ‪ ،‬فإذا تعرض‬
‫ونطق به قبلناه ‪ ،‬ومن صلى فوق البيت لم يصل الصالة المشروعة ‪ ،‬فإن شطر المسجد ال‬
‫يواجهه وهو مأمور باالستقبال إليه في الصالة وهو في هذه الحالة ال فيه وال مستقبله ‪.‬‬

‫[ سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪] 150‬‬


‫ش ْط َرهُ ِلئَله‬ ‫ث ما ُك ْنت ُ ْم فَ َولُّوا ُو ُجو َه ُك ْم َ‬ ‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬
‫رام َو َح ْي ُ‬ ‫ش ْط َر ا ْل َم ْ‬‫ث َخ َرجْ تَ فَ َو ِ هل َوجْ َهكَ َ‬ ‫َو ِم ْن َح ْي ُ‬
‫اخش َْونِي َو ِألُتِ هم نِ ْع َمتِي َ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫ِين َظلَ ُموا ِم ْن ُه ْم فَل ت َ ْخش َْو ُه ْم َو ْ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ُح هجةٌ إِاله الهذ َ‬
‫اس َ‬‫ُون ِللنه ِ‬ ‫يَك َ‬
‫ُون ) ‪( 150‬‬ ‫َولَعَله ُك ْم ت َ ْهتَد َ‬
‫ت »إلى الوجود أي من زمان خروجك من العدم‬ ‫ْث خ ََر ْج َ‬ ‫‪-‬تفسير من باب اإلشارة ‪َ «-‬و ِم ْن َحي ُ‬
‫إلى الوجود فارجع بالنظر واالستقبال مفتقرا مضطرا إلى ما منه خرجت ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫اشتراكه في الضمير مع أمته ‪ ،‬ولذا خصصه في الثالثة أيضا مع تشريكه في ضمير المخاطبين‬
‫من المكلفين من أمته ‪ ،‬هذا وجه ‪ ،‬والوجه اآلخر ‪ ،‬أن األول قرن معه علم الذين أوتوا الكتاب‬
‫أنه الحق من ربك ‪ ،‬وما قرن معه علمه به بأن أعلمه هو تعالى أنه الحق على االختصاص ال‬
‫بحكم التضمين كما أعلمهم ‪ ،‬وهو عليه السالم أولى بعلم االختصاص من أن يعلم من أنهم‬
‫علموا أنه للحق ‪ ،‬وكرره باللفظ الظاهر حتى يرتفع اللبس ‪ ،‬ولو كان مضمرا ربما وقع‬
‫الخالف في صاحب‬

‫ص ‪221‬‬

‫ص ‪223 :‬‬
‫فإنه ال أين لك غيره ‪ ،‬فانظر فيه تجده محيطا بك مع كونه مستقبلك« َو َحي ُ‬
‫ْث ما ُك ْنت ُ ْم »من‬
‫َط َرهُ »أي ال تعرضوا عنه ‪ ،‬ووجه الشيء حقيقته وذاته ‪ ،‬فإن‬ ‫األحوال« فَ َولُّوا ُو ُجو َه ُك ْم ش ْ‬
‫اإلعراض عن الحق وقوع في العدم ‪ ،‬وهو الشر الخالص ‪ ،‬كما أن الوجود هو الخير المحض‬
‫ّللا باطل‬
‫الخالص ‪ ،‬والحق هو الوجود ‪ ،‬والخلق هو العدم ‪ ،‬قال لبيد ‪ :‬أال كل شيء ما خال ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫رام َو ِإنَّهُ‬ ‫ت فَ َو ِهل َو ْج َه َك ش ْ‬
‫َط َر ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬ ‫ْث خ ََر ْج َ‬ ‫الضمير من هو ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬و ِم ْن َحي ُ‬
‫لَ ْل َح ُّق ِم ْن َر ِبه َك »فأعلمه أنه الحق من ربه ‪ ،‬فساواهم في الطريق الموصلة إلى العلم به نصا ‪،‬‬
‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ »وعيد في كتمانهم الحق المتقدم الذكر ‪ ،‬ثم قال ثالثا ‪( :‬‬ ‫ّللاُ بِغافِ ٍل َ‬
‫ثم قال« َو َما َّ‬
‫ْث ما ُك ْنت ُ ْم فَ َولُّوا ُو ُجو َه ُك ْم‬ ‫رام َو َحي ُ‬ ‫َط َر ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬ ‫ت فَ َو ِهل َو ْج َه َك ش ْ‬ ‫‪َ «) 151‬و ِم ْن َحي ُ‬
‫ْث خ ََر ْج َ‬
‫َط َرهُ »فأتى به ظاهرا كما قلنا الرتفاع االحتماالت التي تعرض للضمائر ‪ ،‬وهذا إنما ذكره‬ ‫ش ْ‬
‫ليبين ارتفاع الحجة عليكم من المنازعين لكم في ذلك ‪ ،‬فكان األول لمعنى خاص ‪ ،‬والثاني‬
‫ّللا عليه‬ ‫لمعنى آخر ‪ ،‬والثالث لمعنى ليس هو األول وال الثاني ‪ ،‬واالختصاص لمحمد صلهى ه‬
‫علَ ْي ُك ْم ُح َّجةٌ »يعني أهل مكة القائلين لم ترك‬ ‫اس َ‬ ‫وسلم بالذكر تشريف ‪ ،‬قال «‪ِ :‬لئ َ َّال يَ ُكونَ ِللنَّ ِ‬
‫محمد قبلة أبيه إبراهيم ‪ ،‬وقد قال إنه قبل اتبع ملة إبراهيم ‪ ،‬وعدل إلى استقبال بيت المقدس ‪،‬‬
‫ّللا حسمها عن نبيه في تحويل القبلة ‪ ،‬وال يلزم من رد حجة خصم‬ ‫فهذه هي الحجة التي أراد ه‬
‫في أمر ما أن يكون ذلك ردا أو حجة على خصم آخر بقول آخر ‪ ،‬واعتراض لذلك اآلخر في‬
‫ظلَ ُموا ِم ْن ُه ْم »يعني‬ ‫مقابلة اعتراضه وحجته جواب آخر بدليل آخر إذا ذكر ذكر معه« ِإ َّال الَّذِينَ َ‬
‫عاندوا فيقولون كما بدا له ورجع إلى قبلة آبائه بعد أن كان انصرف عنها ‪ ،‬ال نأمن عليه أن‬
‫يرجع معنا إلى ديننا الذي نحن عليه ‪ ،‬وذلك أنه ما من حالة تكون إال ويمكن أن يكون لها‬
‫وجوه جمة من التأويالت ‪ ،‬فما يتخصص وجه منها دون غيره إال بقرينة حال أو دليل واضح‬
‫عند من يظهر عنده ذلك ‪ ،‬فما يعاند المعاند مع معرفته بصحة ما يعاند فيه إال من أجل‬
‫االحتماالت التي تعطي تلك الحالة ‪ ،‬فيجد بذلك مساغا ومدخال إلى المعاندة ال غير ‪ ،‬وحجة‬
‫موضع الوقف واالستئناف تنبيه ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَال ت َ ْخش َْو ُه ْم »الضمير يعود على الذين ظلموا ‪،‬‬
‫اخش َْو ِني‬ ‫يقول ‪ :‬ال تخافوا ما يقولون وال ما يعاندون به ‪ ،‬واهملوهم واطردوهم من قلوبكم« َو ْ‬
‫»واشتغلوا بالخوف مني الذي بيدي الضر والنفع ‪ ،‬وهم ال يضرون وال ينفعون« َو ِأل ُ ِت َّم ِن ْع َم ِتي‬
‫علَ ْي ُك ْم ُح َّجةٌ َو ِألُتِ َّم نِ ْع َمتِي َ‬
‫علَ ْي ُك ْم »« َولَعَلَّ ُك ْم‬ ‫اس َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم »عطف على قوله «‪ِ :‬لئ َ َّال يَ ُكونَ ِللنَّ ِ‬ ‫َ‬
‫ت َ ْهتَدُونَ »الترجي منهم أن يكونوا من المهتدين ‪ ،‬وقد تقدم الكالم في« لَعَلَّ ُك ْم »في أول السورة ‪،‬‬
‫وقد يكون « َو ِألُتِ َّم »معطوف على شيء مقدر ‪ ،‬يقول ‪ :‬واخشوني‬

‫ص ‪222‬‬

‫ص ‪224 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم في هذا القول ‪ :‬إنه أصدق بيت قالته العرب ‪.‬وال شك أن‬‫ّللا صلهى ه‬
‫فقال رسول ه‬
‫الباطل عبارة عن العدم ؛ فال تحجب بالجهة الكعبية ‪ ،‬عن الجهة اإللهية القلبية ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 151‬إلى ‪152‬‬


‫تاب َوا ْل ِح ْك َمةَ َويُعَ ِله ُم ُك ْم ما‬
‫علَ ْي ُك ْم آياتِنا َويُ َز ِ هكي ُك ْم َويُعَ ِله ُم ُك ُم ا ْل ِك َ‬
‫سوالً ِم ْن ُك ْم يَتْلُوا َ‬ ‫كَما أ َ ْر َ‬
‫س ْلنا فِي ُك ْم َر ُ‬
‫ون ) ‪( 152‬‬ ‫شك ُُروا ِلي َوال ت َ ْكفُ ُر ِ‬ ‫اذك ُُرونِي أ َ ْذك ُْر ُك ْم َوا ْ‬
‫ون ( ‪ ) 151‬فَ ْ‬ ‫لَ ْم تَكُونُوا ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ّللا في السر والعلن وفي نفسك وفي المأل‬ ‫ّللا عباده المؤمنين بالذكر والشكر ‪ ،‬فعليك بذكر ه‬ ‫أمر ه‬
‫ّللا جزاء وفاق على ذكر العبد ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ .‬فذكر ه‬ ‫‪ ،‬فقد جعل الحق جواب الذكر من العبد الذكر من ه‬
‫وذكره تعالى في هذا الموطن هو المصلي عن سابق ذكر العبد ‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ألنعم عليكم وألتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون إذا فعلتم هذه الخشية ‪ ،‬ثم قال «) ‪َ : ( 152‬كما‬
‫وال ِم ْن ُك ْم »اآلية ‪ ،‬يقول ‪ :‬وألتم نعمتي عليكم كما أرسلنا ‪ ،‬مثل ما أنعمت عليكم‬ ‫س ْلنا فِي ُك ْم َر ُ‬
‫س ا‬ ‫أ َ ْر َ‬
‫وال ِم ْن ُه ْم )فأرسلت‬ ‫س ا‬ ‫ث ِفي ِه ْم َر ُ‬ ‫بقبول دعوة أبيكم إبراهيم حين قال هو وإسماعيل ‪َ ( :‬ربَّنا َوا ْبعَ ْ‬
‫علَ ْي ُك ْم آياتِنا »يريد آيات القرآن« َويُزَ ِ هكي ُك ْم »بأخذ‬ ‫فيكم منكم معشر العرب رسوال منكم« يَتْلُوا َ‬
‫ط ِ هه ُر ُه ْم َوتُزَ ِ هكي ِه ْم بِها «) َويُعَ ِله ُم ُك ُم‬ ‫الصدقة من أموالكم ‪ ،‬قال تعالى ‪ُ ( :‬خ ْذ ِم ْن أ َ ْموا ِل ِه ْم َ‬
‫ص َدقَةا ت ُ َ‬
‫اس‬ ‫تاب »أي يبين لكم ما أنزل إليكم في القرآن ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬وأ َ ْنزَ ْلنا ِإلَي َْك ال ِذه ْك َر ِلتُبَ ِيهنَ ِللنَّ ِ‬ ‫ْال ِك َ‬
‫اختَلَفُوا فِي ِه )«‬ ‫تاب ِإ َّال ِلتُبَ ِيهنَ لَ ُه ُم الَّذِي ْ‬ ‫علَي َْك ْال ِك َ‬ ‫ما نُ ِ هز َل ِإلَ ْي ِه ْم )وقال تعالى ‪َ ( :‬وما أ َ ْنزَ ْلنا َ‬
‫َو ْال ِح ْك َمةَ »يقول ‪ :‬كيف تكونون حكماء« َويُعَ ِله ُم ُك ْم ما لَ ْم ت َ ُكونُوا ت َ ْعلَ ُمونَ »يعني ما كنتم به‬
‫جاهلين من يوم الجمعة وغيره ‪ ،‬مما يقربكم العلم به إلى سعادتكم ‪ ،‬إذ العلوم على قسمين ‪:‬‬
‫علم ال يتضمن عمال ‪ ،‬وعلم يتضمن عمال ‪ ،‬فأما العلم الذي يتضمن العمل فأفعال العبادات ال‬
‫تعلم إال من جهته ‪ ،‬وأما العلم الذي ال يتضمن عمال كالعلم بما ينسب إلى الحق مما ال يقتضي‬
‫دليل نسبته إليه ‪ ،‬وكالعلم باآلخرة ومواطنها وما يكون فيها مما ينفع العالم العلم به ‪ ،‬وهذا كله‬
‫ال يعلم إال من طريق الشرع ‪ ،‬إذ العقل ال يستقل بإدراك شيء من هذا ‪ ،‬بل ربما يحيل العقل‬
‫الضعيف بعض اإلطالقات الشرعية ويتكلف فيها التأويالت البعيدة ‪ ،‬فهذا معنى قوله «‪:‬‬
‫َويُعَ ِله ُم ُك ْم ما لَ ْم ت َ ُكونُوا ت َ ْعلَ ُمونَ » ‪،‬ثم قال «) ‪ : ( 153‬فَا ْذ ُك ُرو ِني أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم ‪َ ،‬وا ْش ُك ُروا ِلي‬

‫ص ‪223‬‬

‫ص ‪225 :‬‬
‫هو الذي يصلي عليكم أي ‪ :‬يؤخر ذكره عن ذكركم ‪ ،‬فال يذكركم حتى تذكروه ‪ ،‬كان صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم في حال الضراء يقول ‪ :‬الحمد هّلل على كل حال ‪ ،‬وفي حال السراء ‪ :‬الحمد هّلل‬
‫ّللا دائما‬ ‫المنعم المفضل ‪ ،‬وأي ضراء على العبد أضر من الذنب ‪ ،‬فإنك إذا أشعرت قلبك ذكر ه‬
‫وّللا يقول في الخبر المأثور الصحيح عنه‬ ‫في كل حال ال بد أن يستنير قلبك بنور الذكر ‪ ،‬ه‬
‫الحديث وفيه ‪ « :‬وأنا معه » يعني مع العبد « حين يذكرني ‪ ،‬إن ذكرني في نفسه ذكرته في‬
‫نفسي ‪ ،‬وإن ذكرني في مأل ذكرته في مأل خير منهم » ‪ .‬وقال تعالى ‪َ «:‬والذَّا ِك ِرينَ َّ َ‬
‫ّللا َكثِيرا ا‬
‫ّللا على كل حال ‪ ،‬والشكر من المقامات المشروطة بالنعماء‬ ‫ت »وأكبر الذكر ذكر ه‬ ‫َوالذَّا ِكرا ِ‬
‫والمحبة ‪ ،‬ليس للبالء في الشكر دخول ‪ ،‬وال للصبر في النعم دخول ‪ ،‬ولما كانت الصالة‬
‫ّللا وبين عبده فإذا ناجى العبد ربه فأولى ما يناجيه به من الكالم كالمه ‪ ،‬الذي شرع‬ ‫مناجاة بين ه‬
‫له أن يناجيه به ‪ ،‬وهو قراءة القرآن في أحوال الصالة ‪ ،‬من قيام وهو قراءة الفاتحة ‪ ،‬وما‬
‫س ِبه ْح بِاس ِْم َر ِبه َك ْالعَ ِظ ِيم » *فهو ذاكر‬
‫تيسر معها من كالمه ‪ ،‬ومن ركوع وهو قوله تعالى ‪ «:‬فَ َ‬
‫ّللا‬
‫ربه في صالته بكالمه المنزل ‪ ،‬وكذلك في سجوده يقول ‪ « :‬سبحان ربي األعلى » فأمرنا ه‬
‫بذكره وشكره ‪ ،‬والفاتحة تجمع الذكر والشكر ‪ ،‬وهي التي يقرؤها المصلي في قيامه ‪ ،‬فالشكر‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ » *وهو عين الذكر بالشكر إلى كل ذكر فيها وفي سائر‬ ‫فيها قوله « ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّللا في حال الصالة وشكره ‪ ،‬أعظم وأفضل من ذكره سبحانه وشكره في غير‬ ‫الصالة ‪ ،‬فذكر ه‬
‫الصالة ‪ ،‬فإن الصالة خير موضوع العبادات ‪ ،‬وقد أثرت هذه الصالة في الذكر هذا الفضل‬
‫وهو يعود على الذاكر ‪ ،‬وينبغي لكل من أراد أن يذكر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ون »يقول سبحانه ‪ «:‬فَا ْذ ُك ُرو ِني »بهذه النعم التي قررتكم عليها وأتممتها عليكم التي‬ ‫َوال ت َ ْكفُ ُر ِ‬
‫ال تحصى كثرة ‪ ،‬سرا في نفوسكم وعالنية في مإل من عبادي ‪ ،‬تعلمون به الجاهل ‪ ،‬وتذكرون‬
‫به الناسي والغافل« أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم »جزاء لذكركم إياي ‪ ،‬فمن ذكرني منكم في نفسه ذكرته في نفسي‬
‫‪ ،‬ومن ذكرني في مأل ذكرته في مأل خير منه يعني المالئكة ‪ ،‬قال ‪ :‬واشكروا نعمتي ‪ ،‬وقرنها‬
‫بقوله تعالى ‪ِ «:‬لي »فقال ‪َ «:‬وا ْش ُك ُروا ِلي »وهذا شكر خاص ‪ ،‬وهو أعلى الشكر ‪ ،‬وحق‬
‫ّللا النعم عند‬ ‫الشكر وهو أن ترى جميع النعم منه حين تقف الناس مع األسباب التي يرسل ه‬
‫ون »أي‬‫وجودها ‪ ،‬فلذلك قال ‪َ «:‬وا ْش ُك ُروا ِلي »وقد وعد بالزيادة للشاكرين ‪ ،‬قال ‪َ «:‬وال ت َ ْكفُ ُر ِ‬
‫وال تستروا نعمتي ‪ ،‬فإنه يقول لنبيه لما قال ‪َ ( :‬و َو َج َد َك عائِ اال فَأ َ ْغنى )( َوأ َ َّما بِنِ ْع َم ِة َر ِبه َك‬

‫ص ‪224‬‬

‫ص ‪226 :‬‬
‫ّللا تعالى ويشكره باللسان والعمل أن يكون مصليا ‪ ،‬وذاكرا بكل ذكر نزل في القرآن ال في‬ ‫ه‬
‫غيره ‪ ،‬وينوي بذلك الذكر والدعاء الذي في القرآن ليخرج من العهدة ‪ ،‬فإنه من ذكره بكالمه‬
‫ّللا ‪ ،‬وليكون في حال ذكره تاليا لكالمه ‪،‬‬ ‫فقد خرج عن العهدة فيما ينسب في ذلك الذكر إلى ه‬
‫فيقول في التسبيحات ما في القرآن ‪ ،‬ومن التحميدات ما في القرآن ‪ ،‬ومن األدعية ما في القرآن‬
‫ّللا إياه في قوله ‪ «:‬أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم‬
‫ّللا ‪ ،‬وبين ذكر ه‬
‫‪ ،‬فتقع المطابقة بين ذكر العبد بالقرآن ألنه كالم ه‬
‫ّللا الذاكر له وذكره كالمه فتكون المناسبة بين الذكرين ‪ ،‬فإذا ذكره بذكر يخترعه لم‬ ‫»فيذكر ه‬
‫ّللا في ذكره للعبد وبين ذكر العبد ‪ ،‬فإن العبد هنا ما ذكره بما جاء‬ ‫تكن تلك المناسبة بين كالم ه‬
‫في القرآن وال نواه ‪ ،‬وإن صادفه باللفظ ولكن هو غير مقصود« َوا ْش ُك ُروا ِلي »يقال شكرته‬
‫وشكرت له ‪ ،‬فشكرته نص في أنه المشكور عينه ‪ ،‬وقوله شكرت له فيه وجهان ‪ ،‬الوجه‬
‫الواحد يكون مثل شكرته ‪ ،‬والوجه الثاني يكون أن يكون الشكر من أجله ‪ ،‬فإذا كان الشكر من‬
‫أجله يقول له سبحانه ‪ :‬اشكر من أوالك نعمة من عبادي من أجلي ‪ ،‬ليكون شكره للسبب عين‬
‫شكره هّلل ‪ ،‬فإنه شكره عن أمره وجعل المنعم هنا نائبا عن ربه ‪ ،‬فلهذا قال سبحانه ‪َ «:‬وا ْش ُك ُروا‬
‫ِلي »ولم يقل واشكروني ليعم الحالتين ‪ ،‬فإنكم ال تذكرونه حتى يوفقكم ويلهمكم ولذلك قال «‪:‬‬
‫َوال ت َ ْكفُ ُر ِ‬
‫ون »‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪153‬‬


‫صابِ ِري َن ) ‪( 153‬‬ ‫صل ِة إِ هن ه َ‬
‫ّللا َم َع ال ه‬ ‫ست َ ِعينُوا بِال ه‬
‫ص ْب ِر َوال ه‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ا ْ‬
‫ّللا عباده المؤمنين بالذكر والشكر أمرهم أن يستعينوا على ذلك بالصبر والصالة ‪،‬‬ ‫لما أمر ه‬

‫فحدث )ومن حدث بها فما سترها ‪ ،‬وقال عليه السالم ‪ [ :‬التحدث بالنعم شكر ] ‪ ،‬وكفران النعم‬
‫على وجهين ‪ ،‬كفر بمعنى الجحد والستر لها لجهله بالمنعم الحق سبحانه ‪ ،‬وهم الذين يعتقدون‬
‫ّللا ال يعلم الجزئيات ‪ ،‬والوجه اآلخر من كفرها وقوف العبد مع األسباب التي حصلت النعم‬ ‫أن ه‬
‫ون »كما‬ ‫عليه عندها لغفلته ‪ ،‬وهذه حالة أكثر المؤمنين ‪ ،‬وكأنه يقول في هذه اآلية ‪َ «:‬وال ت َ ْكفُ ُر ِ‬
‫كفر أهل الكتاب بما أنعمت عليهم فيما قد أخبرتكم في قولي ‪ ( :‬يا بَنِي ِإسْرائِي َل ا ْذ ُك ُروا ) *( يا‬
‫بَنِي ِإسْرائِي َل ا ْذ ُك ُروا ) *في غير ما موضع من كتابي وأبنت لكم عن كفرهم بنعمي ‪ ،‬فال‬
‫تكفرون أنتم كما كفروا ‪ ،‬ثم أيهه سبحانه بالمؤمنين من عباده فقال ‪ «) 154 ( :‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ‬
‫آ َمنُوا ا ْست َ ِعينُوا ِبال َّ‬
‫صب ِْر‬

‫ص ‪225‬‬

‫ص ‪227 :‬‬
‫ّللا مما كلف عباده بها ‪ ،‬ألن‬ ‫ّللا مع الصابرين عليها وعلى كل مشقة ترضي ه‬ ‫وأخبرهم بأن ه‬
‫الصبر من المقامات المشروطة بالمشقات والمكاره والشدائد المعنوية والحسية ‪ ،‬فجعل الصبر‬
‫ون )فالصالة هنا والصبر عليها وهو الدوام‬ ‫هنا للتطابق في قوله ‪َ ( :‬وا ْش ُك ُروا ِلي َوال ت َ ْكفُ ُر ِ‬
‫والثبات وحبس النفس عليها مؤثرة في الذكر والشكر ‪ ،‬فالصبر هنا هو قوله ‪َ ( :‬وأْ ُم ْر أ َ ْهلَ َك‬
‫علَيْها )فلذلك ذكر الصبر مع الصالة ‪ ،‬فكما يؤثر الصبر على الذكر والشكر‬ ‫طبِ ْر َ‬‫ص َ‬
‫صالةِ َوا ْ‬
‫بِال َّ‬
‫في الذكر والشكر ‪ ،‬كذلك يؤثر في الصالة سواء ‪ ،‬وتؤثر الصالة من حيث الصبر عليها في‬
‫ّللا أمرنا بذكره وشكره ‪ ،‬والفاتحة تجمع الذكر‬ ‫الذكر والشكر ‪ ،‬ومن حيث هي صالة ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا تعالى‬ ‫والشكر ‪ ،‬وهي التي يقرؤها المصلي في قيامه والتسبيح في ركوعه وسجوده ‪ ،‬وقال ه‬
‫صالةِ » *فلوال ما علم الحق بأن الصالة‬ ‫«‪:‬ا ْست َ ِعينُوا » *على ذكري وشكري« ِبال َّ‬
‫صب ِْر َوال َّ‬
‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫ين‬ ‫ّللا قال للعبد ‪ :‬قل ‪َ ( :‬و ِإي َ‬
‫معينة للعبد لما أمره بها ‪ ،‬فإنه أنزلها منزلة نفسه ‪ ،‬فإن ه‬
‫)يعني في عبادتك ‪ ،‬فجعل للعبد أن يستعين بربه ‪ ،‬وأمره أن يستعين في ذكره وشكره بالصالة‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬فناهيك يا ولي من حالة وصفة وحركات وفعل أنزله الحق في أعظم األشياء وهو ذكر ه‬
‫منزلة نفسه ‪ ،‬فكأنه من دخل في الصالة قد التبس بالحق ‪ ،‬والحق هو النور ولهذا قال ‪[ :‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [:‬وجعلت قرة عيني في الصالة‬ ‫الصالة نور ] فأنزلها منزلة نفسه ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫] وقرة عيني ما تسر به عند الرؤية والمشاهدة ‪ ،‬وقد أقام الحق الصبر والصالة مقام نفسه في‬
‫المعونة ‪ ،‬والمصلي يناجي ربه ويشاهده في قلبه ‪ ،‬ففي حال المناجاة والشهود ال يجرأ أحد من‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذا المصلي قليل ‪ ،‬ولكن نرجو أن‬ ‫المخلوقات يقرب من عبد تكون حالته هذه خوفا من ه‬
‫يشفع ظاهر العبد في باطنه ‪ ،‬والقدر من الحضور المرعي شرعا هو من الباطن يتأيد مع الفعل‬
‫الظاهر ‪ ،‬فيقوي على ما يقع للمصلي من الوسوسة في الصالة ‪ ،‬فال يكون لها تأثير في نقص‬
‫ّللا‪.‬‬
‫نشأة الصالة عناية من ه‬

‫ّللا ورسوله‬
‫صا ِب ِرينَ »لما تقدم مقاالت أهل الكتاب وغيرهم مما آذوا به ه‬ ‫صال ِة ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َم َع ال َّ‬ ‫َوال َّ‬
‫ّللا للمؤمنين ‪ «:‬ا ْست َ ِعينُوا* » على ما تجدونه في أنفسكم من اآلالم لذلك‬
‫والمؤمنين ‪ ،‬قال ه‬
‫ّللا‬
‫صب ِْر » *أي بحبس نفوسكم عن االشتغال بهم إن ه‬ ‫وطلب االنتقام منهم ومؤاخذتهم «بِال َّ‬
‫صبور مع الصابرين ‪ ،‬فتخلقوا بأخالقه مع كونه قادرا على أخذهم ‪ ،‬ويسمع أذاهم ويعلم في‬
‫ذلك سرهم ونجواهم ‪ ،‬وأنتم إنما تسمعون ذلك منهم في أوقات متفرقة ‪ ،‬واستعينوا أيضا‬
‫بالصالة ‪ ،‬أي اشتغلوا‬

‫ص ‪226‬‬

‫ص ‪228 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪154‬‬
‫ون ) ‪( 154‬‬ ‫ّللا أ َ ْمواتٌ بَ ْل أَحْ يا ٌء َول ِك ْن ال ت َ ْ‬
‫شعُ ُر َ‬ ‫َوال تَقُولُوا ِل َم ْن يُ ْقت َ ُل فِي َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬
‫ّللا كانت لهم الحياة الدائمة والرزق الدائم‬ ‫ّللا في قتال أعداء ه‬ ‫لما تقرب الشهداء بأنفسهم إلى ه‬
‫ّللا أخذ بأبصار‬ ‫ّللا عن ذلك ‪ ،‬ألن ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فال يقال في الشهداء أموات لنهي ه‬ ‫والفرح بما أعطاهم ه‬
‫الخلق عن إدراك حياتهم ‪ ،‬كما أخذ بأبصارهم عن إدراك المالئكة والجن مع معرفتنا أنهم معنا‬
‫سبَ َّن الَّذِينَ قُتِلُوا فِي‬
‫حضور ‪ ،‬وال نعتقد أيضا في الشهداء أنهم أموات بقوله تعالى ‪َ ( :‬وال ت َ ْح َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا صدق ‪ ،‬فثبتت لهم الحياة لما قصدوا القربة إلى ه‬ ‫ّللا أ َ ْمواتا ا بَ ْل أ َ ْحيا ٌء )وخبر ه‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬
‫َ‬
‫ّللا لهم بين الحياتين ‪ ،‬فالمقتول في‬ ‫ّللا ‪ ،‬فجمع ه‬ ‫ّللا في سبيل ه‬ ‫بنفوسهم ‪ ،‬فما مات من قتله أعداء ه‬
‫ّللا في معترك حرب الكفار حي يرزق ‪ ،‬ولذلك ال يغسل ‪ ،‬وإنما أمرنا بغسل الميت ‪،‬‬ ‫سبيل ه‬
‫وهذا الشهيد الخاص‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫بمناجاتي والحديث معي عن ذلك ‪ ،‬وقصد إلى الصالة دون سائر العبادات من الفرائض‬
‫والنوافل لوجهين ‪ :‬الواحد أنه ما ثم عبادة تتضمن مناجاة الحق والحديث معه وأن يقول معه ‪،‬‬
‫ويقول له إال الصالة ‪ ،‬فهي مشغلة للعبد عن ما سواها ‪ ،‬فقيل استعن بالصالة ‪ ،‬فإن الصوم‬
‫ّللا وال غيره ‪ ،‬ثم إن فرضه شهر في السنة ‪ ،‬والزكاة كذلك ‪ ،‬والحج‬ ‫ليس فيه شغل بحديث مع ه‬
‫مرة في العمر ‪ ،‬والجهاد متى ما حضر عدو ‪ ،‬ونوافل هذه العبادات كذلك ‪ ،‬إنما تكون في‬
‫أزمان بعيدة ‪ ،‬والصالة مستصحبة ليال ونهارا ‪ ،‬فرضها ونافلتها ‪ ،‬وأوقات النهي إذا كان على‬
‫طهارة ينتظر الصالة فهو في صالة ‪ ،‬فما أمرهم الحق إال بما يكون لهم معونة بال شك على‬
‫ذلك ‪ ،‬ووجه آخر أن الصبر هنا في هذه اآلية هو جهادهم وقتالهم ‪ ،‬أي احبسوا نفوسكم على‬
‫ّللا معكم مؤيد وناصر ‪ ،‬وهو األظهر ‪ ،‬فإنه سبحانه أردف هذه‬ ‫قتالهم والفتك فيهم ‪ ،‬فإن ه‬
‫وات )وهو األوجه في تفسير الصبر هنا‬ ‫ّللا أ َ ْم ٌ‬ ‫الوصية بقوله ‪َ ( :‬وال تَقُولُوا ِل َم ْن يُ ْقت َ ُل فِي َ‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬
‫على الجهاد ‪ ،‬ولما كان القتال مشغال عن الصالة ‪ ،‬أوصى بالصالة ‪ ،‬أي ه‬
‫أن االشتغال بها أمام‬
‫العدو مع احتداد القتال على معاينة منهم لذلك ‪ ،‬إرهاب في قلوبهم ‪ ،‬ليعلموا أن في مقابلتهم‬
‫رجاال ال يشغلهم خوف هجوم عدوهم عليهم في حال صالتهم عن صالتهم ‪ ،‬وأيضا يقول لهم‬
‫ّللا ‪ :‬لما أمرتكم بالصبر الذي هو حبس النفس على قتال األعداء عن الصالة إذا حضر وقتها‬ ‫ه‬
‫ال يشغلكم ذلك ‪ ،‬فإن في حضوركم معي فيها تقوية لكم ومعونة ‪ ،‬فإنها مذكرة لكم أنكم بعيني‬
‫وأني معكم ‪ ،‬ومن قتل منكم فإنه ال يموت ‪ ،‬بل هو حي عندي ‪ ،‬فقال تعالى «) ‪َ : ( 155‬وال‬
‫وات »ال يلزم من‬ ‫ّللا أ َ ْم ٌ‬ ‫تَقُولُوا ِل َم ْن يُ ْقت َ ُل فِي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬

‫ص ‪227‬‬

‫ص ‪229 :‬‬
‫ال يقال فيه إنه ميت وال يحسب أنه ميت ‪ ،‬بل هو حي بالخبر اإللهي الصدق الذي ال يأتيه‬
‫ّللا أخذ بأبصارنا عن إدراك الحياة القائمة به كما أخذ‬ ‫الباطل من بين يديه وال من خلفه ‪ ،‬ولكن ه‬
‫بأبصارنا عن إدراك أشياء كثيرة ‪ ،‬كما أخذ أيضا بأسماعنا عن إدراك تسبيح النبات والحيوان‬
‫والجماد وكل شيء ‪ ،‬ولذلك قال تعالى ‪َ «:‬ول ِك ْن ال ت َ ْشعُ ُرونَ »بحياتهم ‪ ،‬كما يحيي الميت عند‬
‫السؤال ونحن نراه من حيث ال نشعر ‪ ،‬ونعلم قطعا أنه يسأل ‪ ،‬وال يسأل إال من يعقل ‪ ،‬وال‬
‫يعقل إال من هو موصوف بالحياة ‪ ،‬فنهينا أن نقول فيهم أموات ‪ ،‬وأخبرنا أنهم أحياء ولكن ال‬
‫نشعر ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪155‬‬


‫ش ِر‬ ‫ص ِم َن ْاأل َ ْموا ِل َو ْاأل َ ْنفُ ِس َوالث ه َمرا ِ‬
‫ت َوبَ ِ ه‬ ‫ف َوا ْل ُجوعِ َونَ ْق ٍ‬
‫ش ْي ٍء ِم َن ا ْل َخ ْو ِ‬
‫َولَنَ ْبلُ َونه ُك ْم ِب َ‬
‫ين ) ‪( 155‬‬ ‫صابِ ِر َ‬ ‫ال ه‬
‫ّللا به عباده حتى يعلم الصابرين منهم ‪،‬‬ ‫الجوع بئس الضجيع ‪ ،‬وهذه كلها أسباب بالء يبتلي ه‬
‫صابِ ِرينَ »على ما ابتليتهم به من‬ ‫ش ِر ال َّ‬ ‫وهو العالم بالصابر منهم وغير الصابر ثم قال ‪َ «:‬وبَ ِ ه‬
‫ذلك ‪ ،‬فحبسوا نفوسهم عند الحدود ولم يتعدوها مطلقا‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫كون اإلنسان حيا كونه مجتمع األجزاء على هيئة مخصوصة ‪ ،‬أو ذا دم سائل أو ذا نفس ‪،‬‬
‫وإنما يلزمه قيام الحياة به مجتمع األجزاء كان أو مفرق األجزاء وغير ذلك ‪ ،‬وال يلزم لروحه‬
‫أن ال تدبر هذه األجزاء إال على هذه الهيئة المخصوصة ‪ ،‬بل يجوز أن تدبرها على غير هذه‬
‫الهيئة ‪ ،‬وال يلزم من قيام الحياة به أن ندرك كونه حيا ‪ ،‬فإن الحياة ليست من إدراك الحواس ‪،‬‬
‫ّللا حيا وال نشعر بذلك ‪ ،‬لوقوفنا مع العادة في عدم‬ ‫وإذا تقرر هذا ‪ ،‬فقد يكون الشهيد في سبيل ه‬
‫ّللا «‪َ :‬وال تَقُولُوا ِل َم ْن يُ ْقت َ ُل‬ ‫الحركة والتنفس من المقتول ‪ ،‬فقال تعالى في حق الشهداء في سبيل ه‬
‫وات بَ ْل أ َ ْحيا ٌء َول ِك ْن ال ت َ ْشعُ ُرونَ »أي ال تعلمون بحياتهم على العادة التي‬ ‫ّللا أ َ ْم ٌ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫فِي َ‬
‫ص ْب ِر ) *فإن قتلتم فإلينا‬ ‫عهدتموها ‪ ،‬يقوي بذلك نفوس المؤمنين الذين قال لهم ‪ ( :‬ا ْست َ ِعينُوا ِبال َّ‬
‫ّللا من‬ ‫تنقلبون أحياء ال تموتون ‪ ،‬إذ كان الخوف من الموت عند اليأس أشد الخوف ‪ ،‬فأمنهم ه‬
‫ذلك ‪ ،‬ولما قال قائل ‪ ،‬إنما نهينا أن نقول خاصة ‪ ،‬قلنا في قوله ‪ «:‬بَ ْل أ َ ْحيا ٌء »جوابك ‪ ،‬ثم زاد‬
‫ّللا أ َ ْمواتا ا )أي كما قلت لك ال تقل‬ ‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫سبَ َّن الَّذِينَ قُتِلُوا فِي َ‬
‫ّللا في بيان ذلك قوله ‪َ ( :‬وال ت َ ْح َ‬ ‫ه‬
‫إنهم أموات ‪ ،‬ال تعتقد أيضا أنهم أموات ‪ ،‬والعلم ليس محله اللسان مثل قوله ‪ ،‬فنهينا عن‬
‫ف »اآلية ‪ ،‬وذلك‬ ‫ش ْيءٍ ِمنَ ْالخ َْو ِ‬
‫األمرين عن القول واالعتقاد ‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 156 ( :‬ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم ِب َ‬
‫أنه سبحانه لما أمر المؤمنين بالصبر على أذى نفسي‬

‫ص ‪228‬‬

‫ص ‪230 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪156‬‬
‫ون ) ‪( 156‬‬ ‫راجعُ َ‬ ‫ِين ِإذا أَصابَتْ ُه ْم ُم ِصيبَةٌ قالُوا ِإنها ِ ه ِ‬
‫َّلل َو ِإنها ِإلَ ْي ِه ِ‬ ‫الهذ َ‬
‫ثم من فضله ورحمته نعت لنا الصابرين لنسلك طريقهم ‪ ،‬ونتصف بصفاتهم عند حلول الرزايا‬
‫صيبَةٌ‬‫ّللا بها عباده ‪ ،‬فقال في نعت الصابرين «‪ :‬الَّذِينَ ِإذا أَصابَتْ ُه ْم ُم ِ‬ ‫والمصائب التي ابتلى ه‬
‫ّلل »فهم هّلل في حالهم«‬ ‫راجعُونَ »يريد في رفعها عنهم ‪ ،‬وقولهم ‪ «:‬إِنَّا ِ َّ ِ‬ ‫قالُوا إِنَّا ِ َّ ِ‬
‫ّلل َوإِنَّا إِلَ ْي ِه ِ‬
‫ّللا على‬‫ّللا ليزول عنه ألمها ‪ ،‬فأثنى ه‬ ‫راجعُونَ »عند مفارقة الحال ‪ ،‬فالرجوع فيها إلى ه‬ ‫َوإِنَّا إِلَ ْي ِه ِ‬
‫راجعُونَ »وأخبر بما يكون منه لمن هذه صفته‬ ‫ّلل َو ِإنَّا ِإلَ ْي ِه ِ‬‫من يقول إذا أصابته مصيبة« ِإنَّا ِ َّ ِ‬
‫وبما لهم منه تعالى في ذلك فقال‪:‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫غير محسوس ‪ ،‬وهو ما يجدونه في أنفسهم من قول الكفار ‪ ،‬قد يمكن أن يكون منهم دعوى في‬
‫ّللا ‪ :‬إني ابتليتكم بأمور محسوسة تتألم النفوس ألجلها ‪ ،‬فإن صبرتم عندها‬ ‫الصبر ‪ ،‬فقال لهم ه‬
‫ي في ذلك كله ‪ ،‬فسأبشركم بما لكم عندي‬ ‫واحتسبتم ولم يشغلكم ذلك عن عبادتي ورجعتم إل ه‬
‫ف »أي من األسباب المخيفة ‪ ،‬من‬ ‫ش ْيءٍ »أي بقليل« ِمنَ ْالخ َْو ِ‬ ‫لذلك ‪ ،‬فقال تعالى «‪َ :‬ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم ِب َ‬
‫ي‬‫جمع عدو لكم ال طاقة لكم بدفعه ‪ ،‬حتى أرى هل تخافون غيري ‪ ،‬أو ترجعون في دفع ذلك إل ه‬
‫لعلمكم بأن ذلك من تسليطي ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و ْال ُجوعِ »أي وقلة الرزق وعدمه حتى يمسكم الجوع‬
‫ص ِمنَ ْاأل َ ْموا ِل‬ ‫ي أو إلى الرزق ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬ونَ ْق ٍ‬ ‫‪ ،‬فنرى هل ترجعون في دفع ألم الجوع إل ه‬
‫»موت اإلبل والغنم ‪ ،‬فإنها أموالهم قد خصوها بهذا االسم ‪ ،‬وقلوبهم منوطة بها « َو ْاأل َ ْنفُ ِس‬
‫ّللا‬
‫ت »بالجوائح ‪ ،‬فإن احتسبوا ذلك وصبروا على ما كلفهم ه‬ ‫»بطاعون يسلطه عليهم« َوالث َّ َمرا ِ‬
‫ّللا فقال ‪«:‬‬ ‫من عبادته في كل ما ابتالهم به ولم يشغلهم ذلك صدقوا في صبرهم ‪ ،‬فبشرهم ه‬
‫صابِ ِرينَ »ثم نعت الصابر ليعلم من هو الصابر عنده سبحانه الذي يصح له البشرى‬ ‫ش ِر ال َّ‬ ‫َوبَ ِ ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن ذلك ال يدرك إال بإعالمه ‪ ،‬فقال في نعت الصابرين ‪ «) 157 ( :‬الَّذِينَ ِإذا‬ ‫من ه‬
‫صيبَةٌ »نالتهم مصيبة ‪ ،‬أي نزلت بهم رزية في أموالهم وأنفسهم ‪ ،‬أية مصيبة كانت‬ ‫أَصابَتْ ُه ْم ُم ِ‬
‫ّلل »أي إنا خلقنا هّلل ال ألنفسنا ‪ ،‬أي لنعبده ‪ ،‬ألنه‬ ‫مشتق من صاب المطر إذا نزل« قالُوا ِإنَّا ِ َّ ِ‬
‫ُون )ما خلقنا لرزق وال لنعيم وال بؤس ‪ ،‬فما كان‬ ‫س ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫يقول ‪َ ( :‬وما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫ّللا إلينا من خير فمن فضله ومنته ‪ ،‬وما كان من غير ذلك فمن حكمه وقضائه ‪ ،‬فالواجب‬ ‫من ه‬
‫راجعُونَ‬‫علينا القيام بوظيفتنا من عبادتنا في هذه األحوال المختلفة من النعيم والبؤس« َوإِنَّا إِلَ ْي ِه ِ‬
‫»فيها على حسب ما كلفنا ‪ ،‬فإن كلفنا بالسؤال له في دفعها رجعنا إليه سائلين متضرعين‬
‫داعين في دفع ذلك عنا من حيث ما أمرنا ‪،‬‬

‫ص ‪229‬‬

‫ص ‪231 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪157‬‬
‫ُون ( ‪) 157‬‬ ‫صلَواتٌ ِم ْن َر ِبه ِه ْم َو َرحْ َمةٌ َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْهتَد َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َ‬ ‫أُولئِكَ َ‬
‫ّللا يشكرهم على ذلك« َو َر ْح َمةٌ »والرحمة ال‬ ‫وات ِم ْن َر ِبه ِه ْم »يقول إن ه‬ ‫صلَ ٌ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َ‬ ‫« أُولئِ َك َ‬
‫يكون معها ألم ‪ ،‬فرحمته بإزالة المصيبة عنهم« َوأُول ِئ َك ُه ُم ْال ُم ْهتَدُونَ »الذين بانت لهم األمور‬
‫على ما هو األمر عليه في نفسه ‪ ،‬فإن كل ما حصل عنده أمانة إلى وقتها ‪ ،‬فسميت مصيبة في‬
‫حقه لنزولها به ‪ ،‬وكانت تنبيها من الحق له ليرجع إليه ‪ ،‬وال يرجع إال من خرج ‪ [.‬سورة‬
‫البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪] 158‬‬
‫ف ِب ِهما َو َم ْن‬ ‫علَ ْي ِه أ َ ْن يَ َّ‬
‫ط َّو َ‬ ‫ّللا فَ َم ْن َح َّج ْالبَي َ‬
‫ْت أ َ ِو ا ْعت َ َم َر فَال ُجنا َح َ‬ ‫صفا َو ْال َم ْر َوة َ ِم ْن شَعائِ ِر َّ ِ‬‫ِإ َّن ال َّ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 158‬‬ ‫ع َخيْرا ا فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا شا ِك ٌر َ‬ ‫تَ َ‬
‫ط َّو َ‬
‫الحج هو تكرار القصد ‪ ،‬فيتكرر القصد من الناس والجن والمالئكة للكعبة في كل سنة للحج‬
‫الواجب والنفل ‪ ،‬وفي غير زمان الحج وحاله يسمى زيارة ال حجا وهو العمرة ‪ ،‬والعمرة‬
‫الزيارة ‪ ،‬وتسمى حجا أصغر لما فيها من اإلحرام والطواف والسعي وأخذ الشعر أو منه‬
‫واإلحالل ‪ ،‬ولم تعم جميع المناسك فسميت حجا أصغر بالنظر إلى الحج األكبر الذي يعم‬
‫استيفاء جميع المناسك ‪ ،‬ولهذا يجزئ القارن بينهما طواف واحد وسعي واحد لمسمى‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫لتكون عبادة ‪ ،‬ال من حيث دفعها عنا من حيث ما هو دفع ورفع ‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك كانت البشرى‬
‫وات »يريد كثرة الرحمة ‪ ،‬فجمعها ألنه نكر المصيبة‬ ‫صلَ ٌ‬ ‫لهم ‪ ،‬قوله ‪ «) 158 ( :‬أُولئِ َك َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َ‬
‫‪ ،‬وهي تقتضي عموم المصائب ‪ ،‬فجعل الجزاء مطابقا في التعميم والتنكير ‪ ،‬أي تنزل عليهم‬
‫الصلوات والرحمة كما نزلت بهم المصيبة ‪ ،‬نزول بنزول ‪ ،‬وقال ‪ِ «:‬م ْن َر ِبه ِه ْم َو َر ْح َمةٌ »فإن‬
‫ّللا لهم أنهم ما‬ ‫الربوبية تقتضي صالح األمور« َوأُولئِ َك ُه ُم ْال ُم ْهتَدُونَ »أي هم الذين أبان ه‬
‫صفا َو ْال َم ْر َوة َ ِم ْن شَعائِ ِر‬
‫خلقهم إال ليعبدوه ‪ ،‬فاهتدوا بأن لزموا ما خلقوا له ‪ِ ( 159 )« ،‬إ َّن ال َّ‬
‫ّللا »اآلية ‪ ،‬الصفا والمروة موضعان مرتفعان بمكة معروفان ‪ ،‬كان على عهد المشركين على‬ ‫َّ ِ‬
‫الصفا صنم من حجر اسمه أساف ‪ ،‬وعلى المروة آخر يسمى نائلة ‪ ،‬كان المشركون إذا سعوا‬
‫بين الصفا والمروة يتمسحون بهما تبركا ‪ ،‬والحج القصد إلى الشيء على التكرار ‪ ،‬واالعتمار‬
‫الزيارة ‪ ،‬والتطوع نوافل العبادات ‪ ،‬والجناح اإلثم ‪ ،‬والشعائر األعالم ‪ ،‬والبيت هنا الكعبة ‪،‬‬
‫صفا َو ْال َم ْر َوة َ »أي هذين‬ ‫والتطواف التردد على الشيء مرارا ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬إِ َّن ال َّ‬
‫ّللا الوقوف‬ ‫ّللا »أي من المناسك التي جعل ه‬ ‫الموضعين« ِم ْن شَعائِ ِر َّ ِ‬

‫ص ‪230‬‬

‫ص ‪232 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم في قرانه في حجة وداعه التي قال فيها ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الحج لها ‪ ،‬وهكذا فعل رسول ه‬
‫[ خذوا عني مناسككم ]‬
‫فالحج األكبر له زمان خاص ‪ ،‬والعمرة ال تختص بزمان دون زمان ‪ ،‬فحكمها أنفذ في الزمان‬
‫من الحج األكبر ‪ ،‬وحكم الحج األكبر أنفذ في استيفاء المناسك من الحج األصغر ‪ ،‬ليكون كل‬
‫ّللا فَ َم ْن َح َّج ْالبَي َ‬
‫ْت أ َ ِو ا ْعت َ َم َر فَال‬ ‫صفا َو ْال َم ْر َوة َ ِم ْن شَعائِ ِر َّ ِ‬ ‫واحد منهما فاضال مفضوال« إِ َّن ال َّ‬
‫ف بِ ِهما »طافت هاجر أم إسماعيل عليه السالم بين الصفا والمروة ‪،‬‬ ‫علَ ْي ِه أ َ ْن يَ َّ‬
‫ط َّو َ‬ ‫ُجنا َح َ‬
‫وهرولت في بطن الوادي سبع مرات تنظر إلى من يقبل من أجل الماء لعطش قام بابنها‬
‫ّللا فعل هاجر من السعي بين‬ ‫إسماعيل ‪ ،‬فخافت عليه من الهالك ‪ ،‬والحديث مشهور ‪ ،‬فجعل ه‬
‫ّللا تهمم بها في الذكر فبدأ بها ‪ ،‬وقال‬ ‫الصفا والمروة وقرره شرعا ‪ ،‬وإنما يبدأ بالصفا ألن ه‬
‫ّللا عليه وسلم لما جاء في حجة وداعه إلى السعي بين الصفا والمروة ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا به ]‬ ‫[ أبدأ بما بدأ ه‬
‫ّللا في خلقه فليقف عند ترتيب حكمته في‬ ‫فبدأ بالصفا واقترأ اآلية ‪ ،‬فمن أراد أن يحصل علم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن من أسمائه المقدم والمؤخر ‪ ،‬فإن أخرت‬ ‫ّللا ويؤخر ما أخره ه‬ ‫األشياء ‪ ،‬فيقدم ما قدمه ه‬
‫ّللا التي بيهنها لكم‬ ‫ما قدمه أو قدمت ما أخره فهو نزاع خفي يورث حرمانا ‪ ،‬فقفوا على مشاعر ه‬
‫ّللا عليه وسلم ذلك إال تعليما لنا ولزوم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وال تتعدوا ما رسم لكم ‪ ،‬وما قال رسول ه‬
‫ّللا به‬‫ّللا ‪ ،‬ولوال أنه جائز له أن يبدأ بالمروة في سعيه لما قال هذا ‪ ،‬ورجح ما بدأ ه‬ ‫األدب مع ه‬
‫ّللا به إال لسر يعلمه ‪ ،‬فمن لم يبدأ‬ ‫على ما في المسألة من التخيير من أجل الواو ‪ ،‬فإنه ما بدأ ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬خذوا عني مناسككم ] ‪ ،‬وتقديم الصفا في‬ ‫به حرم فائدته ‪ ،‬وقد قال صلهى ه‬
‫ّللا ( ‪ :‬لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم فِي‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وقال ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫السعي من المناسك ‪ ،‬وهكذا فعل رسول ه‬
‫ّللاُ ) ‪،‬وقال ‪ [ :‬من رغب‬ ‫سنَةٌ )وقال ‪ِ ( :‬إ ْن ُك ْنت ُ ْم ت ُ ِحبُّونَ َّ َ‬
‫ّللا فَات َّ ِبعُونِي يُ ْح ِب ْب ُك ُم َّ‬ ‫ّللا أُس َْوة ٌ َح َ‬
‫سو ِل َّ ِ‬ ‫َر ُ‬
‫عن سنتي فليس مني ] ‪.‬‬
‫ّللا منها في هذه العبادة ‪ ،‬فاألولى أال نتصرف‬ ‫ّللا عليه وسلم عن مراد ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فأبان رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فلم يقدم‬ ‫باالختيار لما تقدم من بيان الشارع الذي هو العبد المحقق محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم على‬ ‫السعي على الطواف وال المروة على الصفا في السعي ‪ ،‬ولما رقي صلهى ه‬
‫ّللا وحده أنجز وعده ‪،‬‬ ‫ّللا وكبره ‪ ،‬وقال ‪ :‬ال إله إال ه‬ ‫الصفا حتى رأى البيت استقبل القبلة فوحد ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫عليهما والسعي بينهما لمن حج أو اعتمر قربة إليه سبحانه ‪ ،‬وعلما من أعالم القرب في الحج‬
‫ْت »األلف والالم للتعريف والعهد ‪ ،‬يقول فمن قصد البيت حاجا« أ َ ِو‬‫ّللا« فَ َم ْن َح َّج ْالبَي َ‬
‫إلى ه‬
‫ا ْعت َ َم َر »أو معتمرا« فَال ُجنا َح »أي فال إثم « عليه عند ه‬
‫ّللا»‬

‫ص ‪231‬‬

‫ص ‪233 :‬‬
‫ونصر عبده ‪ ،‬وهزم األحزاب وحده ‪ ،‬ثم دعا بين ذلك ‪ ،‬قال مثل هذا ثالث مرات ثم نزل إلى‬
‫المروة ‪ ،‬حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي أسرع حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ‪،‬‬
‫ففعل على المروة كما فعل على الصفا ثم فعل مثل ذلك حتى بلغ سبع أشواط وختم بالمروة ‪،‬‬
‫واتفق العلماء أن من شرط السعي الطهارة من الحيض وليس من شرطه الطهارة من الحدث ‪،‬‬
‫والطهارة أولى ‪ ،‬والسعي سنة فإن خرج عن مكة ولم يسع فليس عليه أن يعود وعليه دم ‪،‬‬
‫واتفق العلماء أن السعي ما يكون إال بعد الطواف بالبيت ‪ ،‬وأنه من سعى قبل الطواف يرجع‬
‫ع ِلي ٌم »ما سمى الحق نفسه باالسم الشاكر والشكور‬ ‫ع َخيْرا ا فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا شا ِك ٌر َ‬ ‫فيطوف« َو َم ْن ت َ َ‬
‫ط َّو َ‬
‫إال لنزيد في العمل الذي شرع لنا أن نعمل به ‪ ،‬كما يزيد الحق النعم بالشكر منا ‪ ،‬فإن الشكر‬
‫يقتضي الزيادة لذاته من المشكور مما شكر من أجله ‪ ،‬فإذا علم ذلك علم أن الحق تعالى يطلب‬
‫الزيادة من عباده في دار التكليف مما كلفهم فيها من األعمال ‪ ،‬فهو يشكر عباده طلبا للزيادة‬
‫ش َك ْرت ُ ْم َأل َ ِزي َدنَّ ُك ْم )فطلب سبحانه من عباده بشكره‬
‫منهم مما شكرهم عليه مثل ما قال لعباده( لَئِ ْن َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أفال أكون عبدا شكورا ] فزاد‬ ‫أن يزيدوه فزادوه من العمل ‪ ،‬وهو قوله صلهى ه‬
‫ّللا له شكرا ‪ ،‬فزاد الحق في الهداية والتوفيق في موطن األعمال حتى إلى‬ ‫في العبادة لشكر ه‬
‫اآلخرة حيث ال عمل وال ألم على السعداء ‪ ،‬وأردف سبحانه وصف نفسه بالشكر وصفه بالعلم‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬هو‬‫‪ ،‬ألن مرتبة العلم تعطي أن وقوع خالف المعلوم محال ‪ ،‬والشكور من أسماء ه‬
‫ببنية المبالغة ‪ ،‬وهذا االسم مختص في حق من أعطاه من العمل ما تعين على جميع أعضائه‬
‫وقواه الظاهرة والباطنة في كل حال بما يليق به ‪ ،‬وفي كل زمان بما يليق به ‪ ،‬فيشكره الحق‬
‫على ذلك باالسم الشكور ‪ ،‬وأما العامة فدون هذه الرتبة في أعمال الحال والزمان ‪ ،‬فإذا أتوا‬
‫بالعمل على هذا الحد من النقص تلقاهم االسم الشاكر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ف بِ ِهما »أي إذا طاف بينهما ‪ ،‬فإن المؤمنين خافوا أن يكون عليهم إثم في الطواف‬ ‫"أ َ ْن يَ َّ‬
‫ط َّو َ‬
‫ّللا‬
‫بينهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما ‪ ،‬فلم يريدوا التأسي بالمشركين ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫ع َخيْرا ا‬ ‫المؤمنين أنه ال إثم عليهم في ذلك لكون الحق جعل ذلك مشروعا للمؤمنين« َو َم ْن ت َ َ‬
‫ط َّو َ‬
‫ّللا شا ِك ٌر »يشكره على ذلك«‬ ‫»فمن فعل من أفعال الخير ما ندب إليه ولم يجب عليه« فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا في نفسه ‪،‬‬ ‫ّللا بما ال يجب عليه أن ذلك من تعظيم ه‬ ‫ع ِلي ٌم »أي يعلم أن العبد إذا تقرب إلى ه‬ ‫َ‬
‫ي غيره ؟ قال ‪ :‬ال إال أن‬ ‫قال األعرابي للنبي عليه السالم حين ذكر له فرض الحج ‪ :‬هل عل ه‬
‫تطوع ‪ ،‬فجعل فعل ما ال يجب تطوعا ‪،‬‬
‫ص ‪232‬‬

‫ص ‪234 :‬‬
‫ال الشكور ‪ ،‬فهم على كل حال مشكورون‬

‫[ إشارة في العمرة ]‬
‫إشارة في العمرة ‪ -‬زيارة أهل السعادات هّلل في الدنيا بالقلوب واألعمال ‪ ،‬وفي اآلخرة بالذوات‬
‫واألعيان ‪ ،‬والعمرة من حيث هي عمرة ال تصح إال بمكة ‪ ،‬ولما فيها من الشهود الذي يكون به‬
‫عمارة القلوب تسمى عمرة ‪.‬‬

‫[ اشاره في السعي ]‬
‫إشارة ‪ -‬كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلة ‪ ،‬فال يغفل الساعي بين الصفا والمروة ذلك‬
‫‪ ،‬فعند ما يرقى في الصفا يعتبر اسمه من األسف ‪ ،‬وهو حزنه على ما فاته من تضييع حقوق‬
‫ّللا تعالى عليه ‪ ،‬ولهذا يستقبل البيت بالدعاء والذكر ‪ ،‬ليذكره ذلك فيظهر عليه الحزن ‪ ،‬فإذا‬
‫ه‬
‫صل نائلة األسف أي‬ ‫وصل إلى المروة وهو موضع نائلة ‪ ،‬يأخذه من النيل وهو العطية ‪ ،‬فيح ه‬
‫ّللا امتن عليه بسبع صفات ليتصرف بها‬ ‫أجره ‪ ،‬ويفعل ذلك في السبعة األشواط ‪ ،‬ألن ه‬
‫ّللا له أجره في‬
‫ّللا ‪ ،‬ال يضيع منها شيئا ‪ ،‬فيأسف على ذلك ‪ ،‬فيجعل ه‬‫ويصرفها في أداء حقوق ه‬
‫ه‬
‫اعتبار نائلة بالمروة ‪ ،‬إلى أن يفرغ ‪ ،‬أما الرمل بين الميلين ‪ ،‬فألنه بطن الوادي ‪ ،‬وبطون‬
‫األودية مساكن الشياطين ‪ ،‬فيرمل في بطن الوادي ليخلص معجال من الصفة الشيطانية ‪،‬‬
‫والتخلص من صحبته فيها إذ كانت مقره ‪ ،‬ثم إن السعي في هذا الموضع جمع الثالثة األحوال‬
‫‪ ،‬وهو االنحدار والترقي واالستواء ‪ ،‬وما ثم رابع ‪ ،‬فحاز درجة الكمال في هذه العبادة ‪،‬‬
‫أعطى‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وكأن الحق في هذه اآلية حيث ذكر اسم الشاكر أنه يحرض عبده ويطلب منه الزيادة من‬
‫ش َك ْرت ُ ْم َأل َ ِزي َدنَّ ُك ْم‬
‫النوافل ‪ ،‬كما أنه سبحانه يزيد الشاكر النعم لشكره ‪ ،‬كما قال تعالى ( ‪ :‬لَئِ ْن َ‬
‫)وصف نفسه سبحانه بأنه يشكر عبده على ما تطوع به ليزيد في تطوعه ‪ ،‬فكان تنبيها ‪،‬‬
‫واختلف الناس في السعي بين الصفا والمروة في الحج هل هو واجب أم ال ؟ فإن النبي عليه‬
‫السالم قال في حجة الوداع ‪:‬‬
‫[ خذوا عني مناسككم ] فأمر ‪ ،‬فمعناه عندي أن يؤخذ من المناسك ما بيهن أنه فرض على جهة‬
‫الفرضية والوجوب ‪ ،‬وما بيهن أنه سنة أمر أن يؤخذ على أنه سنة ال على أنه فرض ‪ ،‬وكذلك‬
‫التطوع ‪ ،‬فمتعلق األمر إنما هو أخذ الحكم على الفعل بالوجوب وغيره ‪ ،‬فقال جماعة منهم‬
‫مالك والشافعي وابن حنبل وابن راهويه إنه فرض واجب ‪ ،‬وحجتهم قول النبي عليه السالم‬
‫ّللا كتب عليكم السعي ] وقد تكلم في هذا الحديث ‪،‬‬ ‫حين سعى بين الصفا والمروة [ اسعوا فإن ه‬
‫وهم يرون أن األصل في أفعاله في هذه العبادة الوجوب إال ما خرج بدليل ‪ ،‬وقد ذكرنا معنى‬
‫قوله عليه السالم‬
‫[ خذوا عني مناسككم ] وخرج الخبر في اآلية مخرج األمر عندهم ‪ ،‬وقال الكوفيون ‪ :‬هو‬
‫واجب ‪ ،‬وهو عندهم دون الفرض وفوق التطوع ‪ ،‬وعلى تاركه دم وليس بركن من أركان‬

‫ص ‪235 :‬‬
‫علَ ْي ِه أ َ ْن‬
‫الحج ‪ ،‬وقال أنس وابن عباس وغيرهما هو تطوع ‪ ،‬واحتجوا باآلية« فَال ُجنا َح َ‬
‫ف ِب ِهما»‬ ‫يَ َّ‬
‫ط َّو َ‬

‫ّللا ‪ ،‬واستواؤه مع‬ ‫ّللا ‪ ،‬وصعوده إلى ه‬ ‫ذلك الموضع ‪ ،‬وهو في كل حال سالك ‪ ،‬فانحداره إلى ه‬
‫ّللا هّلل ‪ ،‬فمن سعى ووجد في‬ ‫ّللا ‪ ،‬فهو في كل حال مع ه‬ ‫باّلل عن أمر ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وهو في كل ذلك ه‬ ‫ه‬
‫باّلل‬
‫حال سعيه ما تعطيه حقيقة الحجارة ‪ -‬ومنها الصفا والمروة ‪ -‬من الخشية والحياة والعلم ه‬
‫باّلل ‪ ،‬ذا‬ ‫والثبات في مقامهم فقد سعى ‪ ،‬وحصل نتيجة سعيه ‪ ،‬فانصرف من مسعاه حي القلب ه‬
‫وّلل ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك فما سعى بين الصفا والمروة ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬عالما بقدره وبما له ه‬ ‫خشية من ه‬
‫واعلم أنه لما كان الكمال غير محجور على النساء ‪ ،‬وإن كانت المرأة أنقص درجة من الرجل‬
‫ّللا فعل هاجر من‬ ‫فتلك درجة اإليجاد ألنها وجدت عنه ‪ ،‬وذلك ال يقدح في الكمال ‪ ،‬لذلك جعل ه‬
‫السعي بين الصفا والمروة ‪ ،‬وقرره شرعا في مناسك الحج ‪ ،‬فالخواطر النفسية إذا أثرت‬
‫الشفقة والسعي في حق الغير أثر القبول في الجناب اإللهي ‪ [.‬سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات‬
‫‪ 159‬إلى ] ‪163‬‬
‫ب أُولئِ َك يَ ْلعَنُ ُه ُم‬ ‫اس فِي ْال ِكتا ِ‬ ‫ت َو ْال ُهدى ِم ْن بَ ْع ِد ما بَيَّنَّاهُ ِللنَّ ِ‬ ‫ِإ َّن الَّذِينَ يَ ْكت ُ ُمونَ ما أ َ ْنزَ ْلنا ِمنَ ْالبَ ِيهنا ِ‬
‫علَ ْي ِه ْم َوأَنَا الت َّ َّو ُ‬
‫اب‬ ‫وب َ‬‫صلَ ُحوا َوبَيَّنُوا فَأُول ِئ َك أَت ُ ُ‬ ‫ّللاُ َويَ ْلعَنُ ُه ُم الالَّ ِعنُونَ ( ‪ِ ) 159‬إالَّ الَّذِينَ تابُوا َوأ َ ْ‬ ‫َّ‬
‫اس‬‫ّللا َو ْال َمالئِ َك ِة َوالنَّ ِ‬
‫علَ ْي ِه ْم لَ ْعنَةُ َّ ِ‬ ‫ُ‬
‫ار أولئِ َك َ‬ ‫الر ِحي ُم ( ‪ ) 160‬إِ َّن الَّذِينَ َكفَ ُروا َوماتُوا َو ُه ْم ُكفَّ ٌ‬ ‫َّ‬
‫ظ ُرونَ ( ‪َ ) 162‬و ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ‬ ‫ذاب َوال ُه ْم يُ ْن َ‬ ‫ع ْن ُه ُم ْالعَ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫أ َ ْج َم ِعينَ ( ‪ ) 161‬خا ِلدِينَ فِيها ال يُ َخفَّ ُ‬
‫الر ِحي ُم ( ‪ [) 163‬في التوحيد األول ]‬ ‫من َّ‬‫الر ْح ُ‬ ‫واح ٌد ال ِإلهَ ِإالَّ ُه َو َّ‬ ‫ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فلما‬ ‫ّللا ‪ ،‬فما عبدوا إال ه‬ ‫ّللا قربة إلى ه‬ ‫ّللا في هذه اآلية المسلمين والذين عبدوا غير ه‬ ‫خاطب ه‬
‫ّللا لنا ‪:‬‬‫ّللا ُز ْلفى )فأكدوا وذكروا العلة فقال ه‬ ‫قالوا( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫إن إلهكم واإلله الذي يطلب المشرك القربة إليه بعبادة هذا الذي أشرك به « واحد » ‪ ،‬كأنكم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫علَ ْي ِهما أ َ ْن يَتَرا َجعا )ومذهب عائشة الطواف بينهما على الوجوب ( ‪160‬‬ ‫كما قال ‪ ( :‬فَال ُجنا َح َ‬
‫ب أ ُول ِئ َك‬
‫اس ِفي ْال ِكتا ِ‬
‫ت َو ْال ُهدى ِم ْن بَ ْع ِد ما بَيَّنَّاهُ ِللنَّ ِ‬
‫)« ِإ َّن الَّذِينَ يَ ْكت ُ ُمونَ ما أ َ ْنزَ ْلنا ِمنَ ْالبَ ِيهنا ِ‬
‫الال ِعنُونَ »في هذه اآلية دليل على لحوق اإلثم بمن سئل عن علم من علوم‬ ‫ّللاُ َويَ ْلعَنُ ُه ُم َّ‬
‫يَ ْلعَنُ ُه ُم َّ‬
‫الدين فكتمه ‪ ،‬وأنه يجب عليه أن يفتيه إذا علم ذلك وال يتوقف ‪ ،‬وقد ورد في الخبر [ استوصوا‬
‫بطالب العلم‬

‫ص ‪234‬‬

‫ص ‪236 :‬‬
‫واح ٌد » ‪،‬فما أشركوا إال بسببه فيما‬ ‫ما اختلفتم في أحديته فقال ‪َ «:‬و ِإل ُه ُك ْم »فجمعنا وإياهم« ِإلهٌ ِ‬
‫أعطاهم نظرهم ‪ ،‬ومن قصد من أجل أمر ما فذلك األمر على الحقيقة هو المقصود ال من ظهر‬
‫ّللا أنهم يتبرءون منهم يوم القيامة ‪ ،‬وما أخذوا إال من كونهم فعلوا ذلك‬ ‫أنه قصد ‪ ،‬ولهذا ذكر ه‬
‫ّللا في ذلك ‪ ،‬أال ترى الحق لما علم هذا منهم كيف قال « َوإِل ُه ُك ْم‬ ‫من نفوسهم ال أنهم جهلوا قدر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬واألسماء اإللهية‬ ‫س ُّمو ُه ْم )فيذكرونهم بأسمائهم المخالفة أسماء ه‬ ‫واح ٌد » ‪،‬ونبههم فقال( َ‬ ‫إِلهٌ ِ‬
‫كلها للمرتبة أي لمرتبة األلوهية إال االسم الواحد خاصة ‪ ،‬فهو اسم خصيص بالذات المقدسة‬
‫التي لها نعوت الكمال والتنزيه ‪ ،‬ال يشاركها في حقيقته من كل وجه أحد ال من األسماء وال‬
‫من المراتب وال من الممكنات ‪ ،‬واعلم أن العبد الحق ال ينبغي أن يضاف إليه شيء ‪ ،‬فهو‬
‫المضاف وال يضاف إليه ‪ ،‬فإذا أضاف السيد نفسه إليه فهو على جهة التشريف والتعريف ‪،‬‬
‫من‬ ‫واح ٌد » ‪ -.‬راجع سورة األنبياء آية ‪ «- 108‬ال إِلهَ إِ َّال ُه َو َّ‬
‫الر ْح ُ‬ ‫مثل قوله« َوإِل ُه ُك ْم إِلهٌ ِ‬
‫الر ِحي ُم »هذا هو أول توحيد يذكر في القرآن من الستة‬ ‫َّ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا نبيه عن انتهار سائل‬ ‫ّللا بلجام من نار ] وقد نهى ه‬ ‫خيرا ‪[ ،‬ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه ه‬
‫اال فَ َهدى )أي‬ ‫ض ًّ‬
‫العلم تعليما لنا ‪ ،‬فقال ‪ ( :‬وأما السائل فال تنهر ) ألنه قال له ‪َ ( :‬و َو َج َد َك َ‬
‫حائرا ما كنت تدري ما الكتاب وال اإليمان ‪ ،‬يقول ‪ِ «:‬إ َّن الَّذِينَ يَ ْكت ُ ُمونَ »أي يخفون« ما أ َ ْنزَ ْلنا‬
‫ت »يقول ‪ :‬من األدلة على صدق ما جاء به« َو ْال ُهدى »في الكتاب المنزل عليهم« ِم ْن‬ ‫ِمنَ ْالبَ ِيهنا ِ‬
‫اس »من أجل الناس فيه ‪ ،‬فأخفوه عما ال يعرف الكتاب ‪ ،‬وهم المقلدة األميون«‬ ‫بَ ْع ِد ما بَيَّنَّاهُ ِللنَّ ِ‬
‫ّللا عن كل ما فيه راحة لهم وخير في‬ ‫ّللاُ »يطردهم ه‬ ‫أُول ِئ َك »إشارة إلى الكاتمين ذلك« يَ ْلعَنُ ُه ُم َّ‬
‫الال ِعنُونَ »يحتمل‬ ‫الدار اآلخرة ‪ ،‬فإن اللعن في اللسان الطرد واللعين المطرود « َويَ ْلعَنُ ُه ُم َّ‬
‫ّللا ] على جهة الدعاء ‪ ،‬والوجه‬ ‫وجهان ‪ :‬الوجه الواحد أن تكون لعنتهم إياهم قولهم ‪ [ :‬لعنهم ه‬
‫ئ ِب ِه ْم‬‫ّللاُ يَ ْست َ ْه ِز ُ‬
‫اآلخر يوم القيامة حين تطردهم المالئكة عن الجنة إذا عاينوها في قوله ‪َّ ( :‬‬
‫صلَ َح ) *أي وعمل‬ ‫)فذلك لعنة الالعنين ‪ ،‬ثم استثنى منهم من رجع عن ذلك الكتمان ( َوأ َ ْ‬
‫*باّلل ورسله صدقا من قلبه ( َوبَيَّنُوا )وأعلموا من ال يعرف الكتاب من األميين‬ ‫ه‬ ‫صالحا( َوآ َمنَ )‬
‫ّللا وبيهنه في كتابه من األدلة على صدق رسله ووعده ووعيده وأحكامه ‪،‬‬ ‫المقلدين ما أنزل ه‬
‫علَ ْي ِه ْم »أي أرجع عليهم‬ ‫وب َ‬ ‫صلَ ُحوا َوبَيَّنُوا فَأُولئِ َك أَت ُ ُ‬ ‫فقال «) ‪ : ( 161‬إِ َّال الَّذِينَ تابُوا َوأ َ ْ‬
‫الر ِحي ُم »قد تقدم تفسيره ‪ ،‬ثم‬ ‫اب َّ‬ ‫برحمتي ‪ ،‬فأنعم عليهم بالخير الذي طردتهم عنه« َوأَنَا الت َّ َّو ُ‬
‫ار »يقول ‪ :‬من‬ ‫قال فيمن لم يتب ومات على كفره ( ‪ِ «) 162‬إ َّن الَّذِينَ َكفَ ُروا َوماتُوا َو ُه ْم ُكفَّ ٌ‬
‫استصحبه حال الكفر حتى مات‬

‫ص ‪235‬‬

‫ص ‪237 :‬‬
‫والثالثين توحيدا المذكورة في القرآن ‪ ،‬وهو توحيد الواحد باالسم الرحمن الذي له النفس ‪ ،‬فبدأ‬
‫به فنفى األلوهية عن كل أحد و هحده الحق تعالى إال أحديته ‪ ،‬فأثبت األلوهية لها بالهوية التي‬
‫أعادها على اسمه الواحد ‪ ،‬وأول نعت نعته به الرحمن ألنه صاحب النفس ‪ ،‬وسمي هذا الذكر‬
‫ّللا ارتفع الصوت الذي هو النفس‬ ‫تهليال من اإلهالل وهو رفع الصوت ‪ ،‬أي إذا ذكر بال إله إال ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫الخارج به على كل نفس ظهر فيه غير هذه الكلمة ‪ ،‬ولهذا قال رسول ه‬
‫‪:‬‬
‫ّللا ] وما قالها إال نبي ‪ ،‬ألنه ما يخبر عن الحق‬ ‫[ أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي ال إله إال ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذه الكلمة اثنا عشر حرفا ‪ ،‬فقد‬ ‫إال نبي ‪ ،‬فهو كالم الحق ‪ ،‬فأرفع الكلمات ال إله إال ه‬
‫استوعبت في هذا العدد بسائط أسماء األعداد وهي اثنا عشر ‪ ،‬ثالث عقود ( العشرات والمئين‬
‫واآلالف ) ‪ ،‬ومن الواحد إلى التسعة ‪ ،‬ثم بعد هذا يقع التركيب بما ال يخرج عن هذه اآلحاد إلى‬
‫ّللا وإن‬
‫ما يتناهى ‪ ،‬وهو هذه االثنا عشر ما ال يتناهى ‪ ،‬وهو ما يتركب منها ‪ ،‬فال إله إال ه‬
‫انحصرت في هذا العدد في الوجود فحزاؤها ال يتناهى ‪ ،‬فبها وقع الحكم بما ال يتناهى ‪ ،‬فبقاء‬
‫ّللا ‪ ،‬فهذا من عمل نفس الرحمن فيها‬ ‫الوجود الذي ال يلحقه عدم بكلمة التوحيد وهي ال إله إال ه‬
‫‪ ،‬ولهذا ابتدأ به في القرآن وجعله توحيد األحد ‪ ،‬ألن عن الواحد الحق ظهر العالم‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا « َو ْال َمالئِ َك ِة َوالنَّ ِ‬
‫اس أ َ ْج َم ِعينَ »فع هم‬ ‫ّللا »أي يستصحبهم الطرد من ه‬ ‫عليه «أُولئِ َك َ‬
‫علَ ْي ِه ْم لَ ْعنَةُ َّ ِ‬
‫الناس وهو قوله تعالى فيهم يوم القيامة ( إنهم يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ) وما‬
‫ّللا مع المالئكة ‪ ،‬فلهذا ع هم بقوله الناس ‪ ،‬ثم‬ ‫عداهم فهو مؤمن ‪ ،‬والمؤمن بال شك يلعنه بلعنة ه‬
‫أردفه بقوله ‪:‬‬
‫ذاب »ما لهم وقت راحة‬ ‫ع ْن ُه ُم ْالعَ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫) ‪"( 163‬خا ِلدِينَ فِيها »يعني في اللعنة مقيمين« ال يُ َخفَّ ُ‬
‫ظ ُرونَ »يؤخرون عن العذاب ‪.‬‬ ‫منه« َوال ُه ْم يُ ْن َ‬
‫س َرةٍ )أي يؤخر إلى أن يجد ما يؤدي به دينه ‪،‬‬ ‫قال تعالى ‪َ ( :‬و ِإ ْن كانَ ذُو ُ‬
‫عس َْرةٍ فَن َِظ َرة ٌ ِإلى َم ْي َ‬
‫الر ِحي ُم »األظهر في هذه اآلية‬ ‫من َّ‬‫الر ْح ُ‬ ‫واح ٌد ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو َّ‬
‫ثم قال ‪َ «) 164 ( :‬و ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ ِ‬
‫وحدانيته في األلوهية ونفيها عمن سواه ‪ ،‬وليس في ظاهر اآلية عند العرب نفي ما سوى‬
‫األلوهية عنه ‪ ،‬وإن كان دليل العقل يعطي ويقضي بأن ذاته ال جنس لها وال مثل وال تنقسم ‪،‬‬
‫ونحن إنما نريد تفسير اآلية بمقتضى كالم العرب بالنظر إلى خصوص هذا اللفظ المعين في‬
‫هذه اآلية ‪ ،‬فليس إال ما ذكرناه والحمد هّلل ‪ ،‬ولما نزلت هذه اآلية في توحيده سبحانه أكثر‬
‫جاب‬
‫ع ٌ‬ ‫ش ْي ٌء ُ‬‫واحدا ا ِإ َّن هذا لَ َ‬ ‫المشركون من ذلك التعجب وقالوا ‪ ( :‬أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ ِإلها ا ِ‬

‫ص ‪236‬‬

‫ص ‪238 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪164‬‬
‫هار َوا ْلفُ ْل ِك الهتِي تَجْ ِري فِي ا ْلبَحْ ِر ِبما يَ ْنفَ ُع‬ ‫لف الله ْي ِل َوالنه ِ‬ ‫اختِ ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫ِإ هن فِي َخ ْل ِ‬
‫ث ِفيها ِم ْن ُك ِ هل دَابه ٍة‬ ‫ض بَ ْع َد َم ْو ِتها َوبَ ه‬‫ماء فَأَحْ يا ِب ِه ْاأل َ ْر َ‬
‫ماء ِم ْن ٍ‬ ‫س ِ‬ ‫ّللاُ ِم َن ال ه‬ ‫اس َوما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫النه َ‬
‫ون ) ‪( 164‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ض َآليا ٍ‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ب ا ْل ُم َ‬
‫س هخ ِر بَ ْي َن ال ه‬ ‫سحا ِ‬ ‫الرياحِ َوال ه‬ ‫يف ِ ه‬ ‫َوتَص ِْر ِ‬
‫اآليات المعتادة هي التي ال خبر لنفوس العامة بكونها حتى يفقدوها ‪ ،‬فإذا فقدوها عرفوا في‬
‫ذلك الوقت موضع داللتها وقدرها ‪ ،‬وأنهم كانوا في آية وهم ال يشعرون ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪«:‬‬
‫هار »حدث الليل والنهار‬ ‫الف اللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬
‫اختِ ِ‬ ‫ض »إلى آخر اآلية« َو ْ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫ِإ َّن فِي خ َْل ِ‬
‫بخلق الشمس في اليوم وقد كان اليوم موجودا ‪ ،‬فجعل النصف من هذا اليوم ألهل األرض‬
‫نهارا ‪ ،‬وهو من طلوع الشمس إلى غروبها ‪ ،‬وجعل النصف اآلخر منه ليال ‪ ،‬وهو من غروب‬
‫الشمس إلى طلوعها ‪ ،‬واليوم عبارة عن المجموع ‪ ،‬فتكرار الملوان باالسم ال بالعيان ‪ ،‬ودار‬
‫ماء‬
‫س ِ‬ ‫ّللاُ ِمنَ ال َّ‬‫اس َوما أ َ ْنزَ َل َّ‬‫الفلك فحدث الجديدان ‪َ «،‬و ْالفُ ْل ِك الَّتِي ت َ ْج ِري فِي ْالبَ ْح ِر بِما يَ ْنفَ ُع النَّ َ‬
‫ّللا األسباب سدى إال لنقول بها ونعتمد عليها‬ ‫ض بَ ْع َد َم ْوتِها »ما وضع ه‬ ‫ِم ْن ماءٍ فَأ َ ْحيا بِ ِه ْاأل َ ْر َ‬
‫اعتمادا إلهيا ‪ ،‬أعطت الحكمة اإللهية ذلك ‪ ،‬فالحكيم اإللهي األديب‬

‫ّللا تعالى (‬
‫وأكثروا اإلنكار في ذلك وطالبوا النبي عليه السالم بالدليل على أحديته ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫هار َو ْالفُ ْل ِك الَّتِي ت َ ْج ِري فِي ْالبَ ْح ِر‬
‫الف اللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬
‫اختِ ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫‪ «) 165‬إِ َّن فِي خ َْل ِ‬
‫ض بَ ْع َد َم ْوتِها َوبَ َّ‬
‫ث فِيها ِم ْن ُك ِهل‬ ‫ماء ِم ْن ماءٍ فَأ َ ْحيا بِ ِه ْاأل َ ْر َ‬ ‫س ِ‬ ‫اس َوما أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫ّللاُ ِمنَ ال َّ‬ ‫بِما يَ ْنفَ ُع النَّ َ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُونَ »فجعل‬ ‫ض َآليا ٍ‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ب ْال ُم َ‬
‫س َّخ ِر بَيْنَ ال َّ‬ ‫سحا ِ‬ ‫ياح َوال َّ‬‫الر ِ‬ ‫يف ِ ه‬ ‫ص ِر ِ‬ ‫َدابَّ ٍة َوت َ ْ‬
‫وجود كل ما ذكره في هذه اآلية دليال على أحديته لمن يعقل موضع الدليل من الذي ذكره ‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى في التنبيه لهم على موضع الداللة مما ذكره( لَ ْو كانَ ِفي ِهما )يعني في السماء‬
‫س َدتا )فإنه قد أجمعنا مع المشركين على ثبوته سبحانه ‪ ،‬وخالفونا في‬ ‫واألرض( آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ لَفَ َ‬
‫ّللا على أحديته أنه لو كان له شريك في فعله يسمى‬ ‫األحدية فكان الدليل المنصوب لهم من عند ه‬
‫إلها ‪ ،‬لكان ال يخلو إما أن يختلفا في كون الشيء أو يتفقا ‪ ،‬فإن اختلفا فالذي ينفذ اقتداره هو‬
‫اإلله ‪ ،‬والذي يعجز ليس بإله ‪ ،‬وإن‬

‫ص ‪237‬‬

‫ص ‪239 :‬‬
‫ّللا يفعل‬‫ّللا ‪ ،‬فمن يشاهد الوجه الخاص في كل منفعل يقول إن ه‬ ‫من ينزل األسباب حيث أنزلها ه‬
‫ّللا يفعل األشياء بها ‪ ،‬فيجعل األسباب‬ ‫عندها ال بها ‪ ،‬ومن ال يشاهد الوجه الخاص يقول ‪ :‬إن ه‬
‫كاآللة يثبتها وال يضيف إليها ‪ ،‬كالنجار الذي ال يصل إلى عمل صورة تابوت أو كرسي إال‬
‫بآلة القدوم والمنشار وغيرهما من اآلالت ‪ ،‬مما ال يتم فعله إال بها ال عندها ‪ ،‬فيثبتها وال‬
‫يضيف صنعة التابوت إليها ‪ ،‬وإنما يثبت ذلك للنجار صاحب التدبير والعلم بما يظهر عنه ‪« ،‬‬
‫ياح »اعلم أن العرب لما أرادت تعريف الرياح حتى تجعل‬ ‫الر ِ‬
‫يف ِ ه‬
‫ص ِر ِ‬ ‫َوبَ َّ‬
‫ث فِيها ِم ْن ُك ِهل َدابَّ ٍة َوت َ ْ‬
‫لها أسماء تذكرها بها لتعرف ‪ ،‬استقبلت مطلع الشمس ‪ ،‬فسمت كل ريح هبت عليها من جهة‬
‫مطلع الشمس إذا استقبلته إذ كان وجهها إلى تلك الجهة فسمتها قبوال ‪ ،‬وهي ريح الصبا ‪ ،‬وما‬
‫أتى إليها من الريح عن دبر في حال استقبالها ذلك سمته دبورا ‪ ،‬وهي الريح الغربية ‪ ،‬وما‬
‫أتاها منها في هبوبها عن الجانب األيمن سمتها جنوبا ‪ ،‬وعن جانب الشمال سمته شماال ‪ ،‬وكل‬
‫ريح بين جهتين من هذه الجهات سمتها نكباء ‪ ،‬من النكوب وهو العدول ‪ ،‬أي عدلت عن هذه‬
‫األربع الجهات ‪ ،‬والنسيم أول هبوب الريح الذي هو من راح يروح ‪ ،‬فالرياح تمر وال تثبت ‪،‬‬
‫والرائح ما هو مقيم ‪ ،‬ومن تصريف الرياح هبوبها ‪ ،‬فيحرك الهواء األشجار إلزالة األبخرة‬
‫الفاسدة عنها ‪ ،‬لئال تودع فيها ما يوجب العلل واألمراض في العالم إذا تغذت به تلك األشجار ‪،‬‬
‫فيأكلها الحيوان أو تفسد في نفسها بتغذيتها بذلك ‪ ،‬فكان هبوب الرياح لمصالح العالم ‪ ،‬حيث‬
‫ض‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ب ْال ُم َ‬
‫س َّخ ِر بَيْنَ ال َّ‬ ‫سحا ِ‬
‫يطرد الوخم عنه ويصفي الجو فتكون الحياة طيبة «‪َ .‬وال َّ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُونَ »وهذه اآليات أسباب مقصودة غير‬ ‫»فإذا فقدوه حينئذ خرجوا لالستسقاء« َآليا ٍ‬
‫مؤثرة في مسببها ‪ ،‬وإنما األثر في ذلك لناصب األسباب وجاعلها حجابا عنه ‪ ،‬ليتبين الفضل‬
‫باّلل ‪ ،‬ويتميز‬
‫بين الخالئق في المعرفة ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫اتفقا فيقدر االختالف ‪ ،‬فيلزم منه ذلك بعينه ‪ ،‬وتقدير اإلمكان في المحال بالفرض كوقوع‬
‫الكائن من أحد اإلمكانين على السواء ‪ ،‬وهذا القدر كاف فيما تعطيه عقول األعراب ‪ ،‬فإنه ال‬
‫ض »فيحتمل أن يريد‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫ّللا ‪ ،‬وأما قوله ‪ «:‬فِي خ َْل ِ‬ ‫أجهل ممن اتخذ شريكا مع ه‬
‫وجودها وأعيانها ‪ ،‬وقد يحتمل أن يريد إيجادها ‪ ،‬فإن الخلق قد يرد بمعنى الفعل ‪ ،‬وهو حال‬
‫ض َوال خ َْلقَ أ َ ْنفُ ِس ِه ْم‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫تعلق القدرة بالمقدور ‪ ،‬مثل قوله ‪ ( :‬ما أ َ ْش َه ْدت ُ ُه ْم خ َْلقَ ال َّ‬
‫ّللا فَأ َ ُرونِي ما ذا َخلَقَ الَّذِينَ ِم ْن‬ ‫)وقد يرد بمعنى المخلوق بأظهر الوجوه كقوله ‪ ( :‬هذا خ َْل ُق َّ ِ‬
‫دُونِ ِه )أي مخلوق‬

‫ص ‪238‬‬

‫ص ‪240 :‬‬
‫من أشرك ممن وحد ‪ ،‬فالمشرك جاهل على اإلطالق ‪ .‬والعقل من عالم التقييد ولهذا سمي عقال‬
‫من العقال ‪ ،‬فإنه مأخوذ من عقال الدابة ‪ ،‬وعلى الحقيقة عقال الدابة مأخوذ من العقل ‪ ،‬فإن‬
‫العقل متقدم على عقال الدابة ‪ ،‬فإنه لوال ما عقل أن هذا الحبل إذا شدت به الدابة قيدها عن‬
‫ّللا منه في خطابه إياه في نفسه‬
‫ّللا ما يريد ه‬
‫السراح ما سماه عقاال ‪ ،‬فالعاقل هو من يعقل عن ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا أمره ونهيه وما يلقيه ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فيعقل عن ه‬‫بما يلهمه ‪ ،‬أو على لسان رسوله صلهى ه‬
‫ّللا أو من نفسه أو من لمة الملك أو من لمة‬‫في سره ‪ ،‬ويفرق بين خواطر قلبه فيما هو من ه‬
‫الشيطان ويعقل نفسه ‪ ،‬فبالعقل يسمع المكلف خطاب الحق ‪ ،‬ألنه إذا زال العقل سقط التكليف‬
‫ولم يبق للشرع عليه سلطان وال حجة ‪ ،‬والعامة ليست اآليات عندهم إال التي هي عندهم غير‬
‫وّللا قد جعل اآليات المعتادة ألصناف مختلفين من عباده‬ ‫ّللا ‪ ،‬ه‬
‫معتادة ‪ ،‬فتلك تنبههم إلى تعظيم ه‬
‫‪ ،‬فمنها تلك اآليات المذكورة في هذه اآلية للعقالء ‪ ،‬فثم آيات للعقالء كلها معتادة ‪ ،‬وآيات‬
‫للموقنين ‪ ،‬وآيات ألولي األلباب ‪ ،‬وآيات ألولي النهى ‪ ،‬وآيات للسامعين ‪ ،‬وهم أهل الفهم عن‬
‫ّللا ‪ ،‬وآيات للعالمين ‪ ،‬وآيات للعالمين ‪ ،‬وآيات للمؤمنين ‪ ،‬وآيات للمتفكرين ‪ ،‬وآيات ألهل‬ ‫ه‬
‫ّللا بنعوت مختلفة وآيات مختلفة ‪ ،‬كلها ذكرها لنا في‬ ‫الذكر ‪ ،‬فهؤالء كلهم أصناف نعتهم ه‬
‫القرآن ‪ ،‬إذا بحثت عليها وتدبرتها علمت أنها آيات ودالالت على أمور مختلفة ترجع إلى عين‬
‫واحدة ‪ ،‬غفل عن ذلك أكثر الناس ‪ ،‬ولهذا عدد األصناف ‪ ،‬فإن من اآليات المذكورة المعتادة ما‬
‫يدرك الناس داللتها من كونهم ناسا وجنا ومالئكة ‪ ،‬وهي التي وصف بإدراكها العالم بفتح الالم‬
‫‪ ،‬ومن اآليات ما تغمض بحيث ال يدركها إال من له التفكر السليم ‪ ،‬ومن اآليات ما هي داللتها‬
‫مشروطة بأولي األلباب ‪ ،‬وهم العقالء الناظرون في لب األمور ال في قشورها ‪ ،‬فهم الباحثون‬
‫عن المعاني ‪ ،‬وإن كانت األلباب والنهى‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا فقال ‪ ( :‬أ َ ت َ ْعبُدُونَ ما ت َ ْن ِحتُونَ )وقال ( ‪ :‬فاتخذوا من دون ه‬
‫ّللا أولياء ال‬ ‫ّللا ‪ ،‬وبهذا ذمهم ه‬
‫ه‬
‫يخلقون شيئا وهم يخلقون ) وأما فيما ذكره في سائر من اآلية من اختالف الليل والنهار ‪،‬‬
‫وإنزال الماء من السماء وإحياء األرض بعد موتها بما أخرج فيها من النبات ‪ ،‬وجري الفلك في‬
‫البحر بمنافع الناس ‪ ،‬وبث الدواب كلها من الحشرات وغيرها في األرض ‪ ،‬وتصريف الرياح‬
‫‪ ،‬وتسخير السحاب بين السماء واألرض ‪ ،‬فما تعرض في الذكر ألعيانها كما تعرض للسماء‬
‫واألرض ‪ ،‬إذ كان كل ما ذكره متولدا فيهما وبينهما ‪ ،‬فدخل ذلك كله في ذكر السماوات‬
‫واألرض ‪ ،‬فعدل‬

‫ص ‪239‬‬

‫ص ‪241 :‬‬
‫العقول ‪ ،‬فلم يكتف الحق سبحانه بلفظة العقل حتى ذكر اآليات ألولي األلباب ‪ ،‬فما كل عاقل‬
‫ينظر في لب األمور وبواطنها ‪ ،‬فإن أهل الظاهر لهم عقول بال شك وليسوا بأولي ألباب ‪ ،‬وال‬
‫شك أن العصاة لهم عقول ولكن ليسوا بأولي نهى ‪ ،‬فاختلفت صفاتهم إذ كانت كل صفة تعطي‬
‫ّللا ذكر اآليات‬
‫ّللا سدى ‪ ،‬وكثر ه‬ ‫صنفا من العلم ال يحصل إال لمن حاله تلك الصفة ‪ ،‬فما ذكرها ه‬
‫في القرآن العزيز ‪ ،‬ففي مواضع أردفها وتال بعضها بعضا وأردف صفة العارفين بها ‪ ،‬وفي‬
‫مواضع أفردها ‪ ،‬فمثل إرداف بعضها على بعض مساقها في سورة الروم ‪ ،‬فال يزال يقول‬
‫تعالى ‪َ ( :‬و ِم ْن آياتِ ِه ) *( َو ِم ْن آياتِ ِه ) *فيتلوها جميع الناس وال يتنبه لها إال األصناف الذين‬
‫ذكرهم في كل آية خاصة ‪ ،‬فكأن تلك اآليات في حق أولئك أنزلت ‪ ،‬وفي حق غيرهم لمجرد‬
‫التالوة ليؤجروا عليها ‪ ،‬فخرق العوائد تهول عند العامة ‪ ،‬وهي عند الخاصة عوائد ‪ ،‬فالعاقل‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُونَ » ‪.‬ومن نظر في كل‬
‫يهوله المعتاد وغير المعتاد ‪ ،‬ولذلك قال في المعتاد ‪َ «:‬آليا ٍ‬
‫ما في الكون أنه آية عليه ‪ ،‬فنظر إلى األمور كلها معتادها وغير معتادها بعين الحق ‪ ،‬ما هاله‬
‫ّللا فإنها من تقوى‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن يعظم شعائر ه‬ ‫ما يرى وال ما بدا مع تعظيمه عنده ‪ ،‬فإنه من شعائر ه‬
‫القلوب ‪ -‬شعر ‪:‬الشخص مستدرج والصدر مشروح * والكنز مستخرج والباب مفتوحأين‬
‫األوائل ال كانوا وال سلفوا * العقل يقبل ما تأتي به الروحلكنهم حجبوا بالفكر فاعتمدوا * عليه‬
‫والعلم موهوب وممنوحما فيه مكتسب إن كنت ذا نصف * فليس للعقل تعديل وتجريحالعدل‬
‫ّللا فاعتبروا * فإنه خلف‬
‫ّللا جاء به * ميزانه فبدا نقص وترجيحالعقل أفقر خلق ه‬ ‫والجرح شرع ه‬
‫باب الفكر مطروح‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫لما يطرأ فيها من األحوال العارضة دائما لها ‪ ،‬فما من حالة تطرأ إال ويجوز خالفها ‪ ،‬فتفتقر‬
‫إلى وجود مرجح مختار ‪ ،‬وأن يكون واحدا لما ذكرناه قبل ‪ ،‬وهذا بالنسبة إلى عقولهم أقرب‬
‫دليل يوضع في األحدية ‪ ،‬وهو الذي ارتضاه أكثر أئمة أهل الكالم وقالوا به وساقوه أحسن‬
‫مساق ‪ ،‬ونحن أوردناه مختصرا لثقتنا بسرعة فهم السامع إلى المقصود من ذلك ‪ ،‬وقد وقفت‬
‫ّللا ‪ ،‬على دليل‬
‫للشيخ اإلمام األوحد السيد سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي اآلمدي أيده ه‬
‫نصبه في أحدية الحق سبحانه ونفي إله آخر ‪ ،‬لم يسبق إليه في علمه وال في علمنا وال وجد في‬
‫كتاب أحد من المتكلمين‬

‫ص ‪240‬‬

‫ص ‪242 :‬‬
‫لوال اإلله ولوال ما حباه به * من القوى لم يقم بالعقل تسريحإن العقول قيود إن وثقت بها *‬
‫خسرت فافهم فقولي فيه تلويحميزان شرعك ال تبرح تزين به * فإن رتبته عدل وتصحيحإن‬
‫التنافس في علم يقوم به * صدر بنور شهود الحق مشروحهذا التنافس ال أبغي به بدال * له من‬
‫الذكر قدوس وسبوحلمثل ذا يعمل العمال ليس لهم * في غير ذلك تحسين وتقبيح‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪165‬‬


‫َّلل َولَ ْو يَ َرى‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ َ‬
‫ش ُّد ُحبًّا ِ ه ِ‬ ‫ّللا َوالهذ َ‬‫ب هِ‬ ‫ّللا أ َ ْندادا ً يُ ِحبُّونَ ُه ْم َك ُح ه ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫اس َم ْن يَت ه ِخذُ ِم ْن د ِ‬ ‫َو ِم َن النه ِ‬
‫ب «) ‪( 165‬‬ ‫شدِي ُد ا ْلعَذا ِ‬ ‫َّلل َج ِميعا ً َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ِين َظلَ ُموا ِإ ْذ يَ َر ْو َن ا ْلعَ َ‬
‫ذاب أ َ هن ا ْلقُ هوةَ ِ ه ِ‬ ‫الهذ َ‬

‫ّلل »أي أصدق حبا هّلل من حب المشركين لمن جعلوهم شركاء ‪ ،‬وسبب‬ ‫َوالَّذِينَ آ َمنُوا أ َ َ‬
‫ش ُّد ُحبًّا ِ َّ ِ‬
‫ذلك أنه إذا كشف الغطاء وتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ‪ ،‬وقال الذين اتبعوا ‪ ( :‬لَ ْو أ َ َّن لَنا‬
‫َك َّرة ا فَنَتَبَ َّرأ َ ِم ْن ُه ْم َكما تَبَ َّرؤُا ِمنَّا )فزال حبهم إياهم في ذلك الموطن وبقي المؤمنون على حبهم هّلل‬
‫‪ ،‬فكانوا أشد حبا هّلل بما زادوا على أولئك في وقت رجوعهم عن حبهم آلهتهم حين لم تغن عنهم‬
‫ّلل َج ِميعا ا »فال قوة لمخلوق ‪،‬‬ ‫ذاب أ َ َّن ْالقُ َّوة َ ِ َّ ِ‬
‫ظلَ ُموا ِإ ْذ يَ َر ْونَ ْالعَ َ‬ ‫ّللا شيئا «‪َ .‬ولَ ْو يَ َرى الَّذِينَ َ‬ ‫من ه‬
‫ب‪» .‬‬ ‫شدِي ُد ْالعَذا ِ‬ ‫فإن موطنه الضعف والعبودية« َوأ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫المتقدمين ‪ ،‬وتبرز به على أقرانه ‪ ،‬ولوال أن هذا الكتاب يضيق عنه لسقناه كما ذكره ‪ ،‬فمن‬
‫أراد أن يقف عليه فلينظره في كتاب [ أبكار األفكار ]‬
‫ّللا أ َ ْندادا ا »يقول ‪ :‬ومن الناس من‬ ‫اس َم ْن يَت َّ ِخذُ ِم ْن د ِ‬
‫ُون َّ ِ‬ ‫له في علم الكالم «) ‪َ ( 166‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فكفى بهم جهال أنهم اتخذوه ‪ ،‬واإلله ما يكون باالتخاذ وال بجعل جاعل ‪،‬‬ ‫يتخذ من دون ه‬
‫وإنما اإلله الحق« أ َ ْندادا ا »أي شركاء ‪ ،‬وقد تقدم تفسير الند في أول السورة ‪ ،‬ثم قال« يُ ِحبُّونَ ُه ْم‬
‫ّللا »يقول ‪ :‬كحبهم هّلل ‪ ،‬ثم شهد للمؤمنين تزكية لهم فقال «‪َ :‬والَّذِينَ آ َمنُوا أ َ َ‬
‫ش ُّد ُحبًّا ِ َّ ِ‬
‫ّلل‬ ‫َك ُحبه ِ َّ ِ‬
‫»فإنه ال شك أن من أفردك بالصفة الشريفة أعظم ممن جعل معك فيها شريكا ‪ ،‬فانقسمت محبة‬
‫ّللا « َولَ ْو‬ ‫المشركين بين آلهتهم مع الحق ‪ ،‬فضعفت أن تبلغ في القوة مبلغ حب المؤمنين بأحدية ه‬
‫ظلَ ُموا » *يعني‬ ‫تَرى » *يا محمد« الَّذِينَ َ‬

‫ص ‪241‬‬

‫ص ‪243 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪166‬‬
‫باب ) ‪( 166‬‬‫س ُ‬ ‫طعَتْ ِب ِه ُم ْاأل َ ْ‬ ‫ِين اتهبَعُوا َو َرأ َ ُوا ا ْلعَ َ‬
‫ذاب َوتَقَ ه‬ ‫ِين ات ُّ ِبعُوا ِم َن الهذ َ‬ ‫ِإ ْذ تَبَ هرأ َ الهذ َ‬
‫اعلم أنه ما من معبود إال ويتبرأ من الذي يعبده هنا ‪ ،‬من حيث ال يسمع العابد إال بخرق العوائد‬
‫‪ ،‬وفي الدار اآلخرة على الكشف ‪ ،‬ففي موقف القيامة يقر كل أحد بالشهادة وال ينكر وال يدعي‬
‫لنفسه ربوبية ‪ ،‬والتبرؤ يوم القيامة يقع من الطائفة التي ادعيت فيها األلوهية ولم تدعها لنفسها‬
‫ّللا ‪ ،‬ما لم يتوبوا قبل الموت ممن يقبل‬ ‫‪ِ «،‬منَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا »وهم الذين اتخذوهم آلهة من دون ه‬
‫ّللا غدا المشركين الذين ذكرهم‬ ‫صفة التوبة وليس إال الجن وهذا النوع اإلنساني ‪ ،‬فإذا عذب ه‬
‫ّللا أنه ال يغفر لهم ‪ ،‬فإنما يعذبهم من حيث أنهم ظلموا أنفسهم ووقعوا في خلق بكالم ودعوى‬ ‫ه‬
‫ساءتهم ‪ ،‬وتوجهت منهم عليهم حقوق في أعراضهم يطلبونهم بها ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬الذين قالوا‬
‫ّللا ُز ْلفى »يوم القيامة تهلكهم عاداتهم وال تنفعهم عباداتهم ‪ ،‬وال‬ ‫‪ «:‬ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا آلهتهم شيئا ‪ ،‬وتبرأ منهم عند اضطرارهم أئمتهم ‪ ،‬فلم تنفع البراءة تلك‬ ‫تغني عنهم من ه‬
‫األئمة ‪ ،‬وضوعف لهم العذاب خلف حجاب الظلمة ‪ ،‬فكانوا وأتباعهم عن سعاداتهم بمعزل ‪،‬‬
‫وأنزلوا النار دار البوار‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ذاب »ينزل بهم يوم القيامة فإنهم‬ ‫المشركين أو الظالمين مطلقا ‪ ،‬واألول أوجه« إِ ْذ يَ َر ْونَ ْالعَ َ‬
‫ّلل َج ِميعا ا »يعني القوة أجمعها التي كان المشركون قد فرقوها‬ ‫يعلمون في ذلك الوقت« أ َ َّن ْالقُ َّوة َ ِ َّ ِ‬
‫ب »كما قال تعالى ( ‪ِ :‬إ َّن‬ ‫شدِي ُد ْالعَذا ِ‬ ‫ّللا َ‬‫على اآللهة واألنداد الذين اتخذوها « و » يعلمون« أ َ َّن َّ َ‬
‫شدِي ٌد «) ‪ِ )( 167‬إ ْذ تَبَ َّرأ َ الَّذِينَ ات ُّ ِبعُوا ِمنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا‬ ‫ش َر ِبه َك لَ َ‬ ‫ط َ‬ ‫شدِي ٌد )وقال ‪ِ ( :‬إ َّن بَ ْ‬ ‫أ َ ْخذَهُ أ َ ِلي ٌم َ‬
‫ْباب »العامل في« ِإ ْذ* » أيضا( َولَ ْو تَرى ) *إذ تبرأ شركاؤهم‬ ‫ت ِب ِه ُم ْاألَس ُ‬ ‫ذاب َوتَقَ َّ‬
‫طعَ ْ‬ ‫َو َرأ َ ُوا ْالعَ َ‬
‫وإن كانوا حجارة ‪ ،‬فإن الدار اآلخرة هي الحيوان ينطق فيها كل شيء ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬وقالُوا‬
‫ش ْيءٍ )فع هم ‪ ،‬وتبرأ منهم رؤساؤهم الذين‬ ‫ّللاُ الَّذِي أ َ ْن َ‬
‫طقَ ُك َّل َ‬ ‫طقَنَا َّ‬ ‫علَيْنا قالُوا أ َ ْن َ‬ ‫ِل ُجلُو ِد ِه ْم ِل َم َ‬
‫ش ِه ْدت ُ ْم َ‬
‫ت أُوال ُه ْم ِأل ُ ْخرا ُه ْم فَما‬
‫باّلل من الذين اتبعوهم وهو قوله ‪َ ( :‬وقالَ ْ‬ ‫أضلوهم ‪ ،‬وجعلوهم يشركون ه‬
‫ض ٍل )حتى تنظروا وتبحثوا على وجه الحق ‪ ،‬بل كنتم مجرمين ‪ ،‬أي‬ ‫علَيْنا ِم ْن فَ ْ‬ ‫كانَ لَ ُك ْم َ‬
‫حاب ْال َجنَّ ِة )إذ تبرأ ‪ ،‬أي في هذا‬ ‫ص ُ‬ ‫مستحقين العذاب ‪ ،‬وقد يكون العامل في« ِإ ْذ »( َونادى أ َ ْ‬
‫ْباب »التي كانوا‬ ‫ت ِب ِه ُم ْاألَس ُ‬ ‫طعَ ْ‬ ‫ذاب »هذه الواو واو الحال يأتيهم« َوتَقَ َّ‬ ‫الوقت ‪َ «،‬و َرأ َ ُوا ْالعَ َ‬
‫ّللا كما كانوا يزعمون في قولهم (‬ ‫يظنون في الدنيا أنها توصلهم إلى سعادتهم ‪ ،‬وتشفع لهم عند ه‬
‫ما‬

‫ص ‪242‬‬

‫ص ‪244 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪167‬‬
‫ت‬
‫سرا ٍ‬ ‫ّللاُ أ َعْمالَ ُه ْم َح َ‬ ‫ِين اتهبَعُوا لَ ْو أ َ هن لَنا ك هَرةً فَنَتَبَ هرأ َ ِم ْن ُه ْم كَما تَبَ هرؤُا ِمنها كَذ ِلكَ يُ ِر ِ‬
‫يه ُم ه‬ ‫َوقا َل الهذ َ‬
‫ين ِم َن النه ِار ) ‪( 167‬‬ ‫خار ِج َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوما ُه ْم ِب ِ‬
‫َ‬
‫خار ِجينَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫ار‬ ‫فقد تبرءوا في موطن ما فيه تكليف بالبراءة أنها نافعة صاحبها ‪َ «.‬وما ُه ْم ِب ِ‬
‫»ما ورد من الشارع أن العالم الذي هو في جهنم الذين هم أهلها وال يخرجون منها أن بقاءهم‬
‫فيها لوجود العذاب ‪ ،‬فإنه يجوز أن يرتفع عن أهل النار وجود العذاب مع كونهم في النار ‪،‬‬
‫ّللا تعالى يقول ( رحمتي سبقت غضبي ) وليس بأيدينا من طريق العقل دليل على وجود‬ ‫فإن ه‬
‫العذاب دائما وال غيره ‪ ،‬فليس إال النصوص المتواترة وليس للعقل رده إذا ورد من الصادق‬
‫النص الصريح ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪168‬‬


‫طان إِنههُ لَ ُك ْم َ‬
‫عد ٌُّو‬ ‫ش ْي ِ‬
‫ت ال ه‬ ‫ض َحلالً َط ِيهبا ً َوال تَتهبِعُوا ُخ ُ‬
‫طوا ِ‬ ‫(يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫اس ُكلُوا ِم هما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ين) ) ‪( 168‬‬ ‫ُم ِب ٌ‬
‫هذا أمر بالورع في المطاعم وغيرها من المكاسب ‪ ،‬وأن يكون الناس على بينة من ربهم في‬
‫مطاعمهم ومشاربهم ‪ ،‬فإن الورع في الكسب يؤدي إلى األكل مما يعلم أن ذلك حالل‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا )( ‪َ «) 168‬وقا َل الَّذِينَ‬ ‫شفَعاؤُنا ِع ْن َد َّ ِ‬ ‫ّللا ُز ْلفى )وقولهم( هؤ ِ‬
‫ُالء ُ‬ ‫نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫اتَّبَعُوا لَ ْو أ َ َّن لَنا َك َّرة ا »يعني رجوعا إلى الدنيا« فَنَتَبَ َّرأ َ ِم ْن ُه ْم َكما تَبَ َّرؤُا ِمنَّا »تبرأنا منكم ومن‬
‫عبادتكم واالنقياد إليكم مثل ما تبرأتم اليوم منا في وقت حاجتنا وضرورتنا( َولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا‬
‫ّللا شقيا ال يسعد ‪ ،‬ومن كتبه سعيدا ال يشقى ‪ ،‬وال يبعد«‬ ‫ّللا أبصارهم ‪ ،‬فمن كتبه ه‬ ‫)وأعمى ه‬
‫علَ ْي ِه ْم »يقال ‪ :‬حسرت عن الشيء إذا كشفت عنه ‪ ،‬كذلك‬ ‫ّللاُ أَعْمالَ ُه ْم َح َ‬
‫سرا ٍ‬
‫ت َ‬ ‫َكذ ِل َك يُ ِري ِه ُم َّ‬
‫خار ِجينَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫ار‬ ‫أعمالهم حسرت عن العذاب إذ كانت أعمالهم في الدنيا سترا عليه« َوما ُه ْم ِب ِ‬
‫ّللا ما‬‫»كما قال في أهل السعادة لما ذكر كونهم في الجنة قال ‪َ ( :‬وما ُه ْم ِم ْنها ِب ُم ْخ َر ِجينَ )فإن ه‬
‫ذكر آية رحمة في القرآن إال وإلى جانبها آية عذاب ‪ ،‬وإن أفردها فستجد أختها أيضا مفردة في‬
‫موضع آخر من القرآن ‪ ،‬ومن تتبع القرآن وجده على ما قلناه ‪ ،‬وهذا نص في استمرار كونهم‬
‫اس ُكلُوا ِم َّما فِي‬ ‫في النار إلى غير نهاية ‪ ،‬فالمشرك ليس بخارج من النار ( ‪ «) 169‬يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫ض »مما يؤكل« َح ا‬
‫الال»‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬

‫ص ‪243‬‬

‫ص ‪245 :‬‬
‫لهم استعماله ‪ ،‬فالحالل عزيز المنال على جهد الورع قليل جدا ‪ ،‬وال يحتمل اإلسراف والتبذير‬
‫‪ ،‬بل إذا تورعت عما لزمه أهل الورع فبالحري أن يسلم لك قوتك على التقصير ‪ ،‬والنفس‬
‫تورط صاحبها في الشبهات وهي تريد الحرام ‪ ،‬فإن الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ‪،‬‬
‫وإياك واإلسراف في النفقة وإن كانت حالال صافيا ‪ ،‬فإنه مذموم وصاحبه مبذر ملوم ولذلك‬
‫قال ‪:‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 169‬إلى ‪170‬‬


‫ون ( ‪َ ) 169‬و ِإذا قِي َل لَ ُه ُم‬ ‫ّللا ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫علَى ه ِ‬‫شاء َوأ َ ْن تَقُولُوا َ‬ ‫وء َوا ْلفَحْ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ِإنهما يَأ ْ ُم ُر ُك ْم ِبال ُّ‬
‫ش ْيئا ً َوال‬ ‫ون َ‬ ‫علَ ْي ِه آبا َءنا أ َ َولَ ْو َ‬
‫كان آبا ُؤ ُه ْم ال يَ ْع ِقلُ َ‬ ‫ّللاُ قالُوا بَ ْل نَت ه ِب ُع ما أ َ ْلفَ ْينا َ‬
‫ات ه ِبعُوا ما أ َ ْن َز َل ه‬
‫ُون) ( ‪(170‬‬ ‫يَ ْهتَد َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولكن لجهله بما سمع أنه‬ ‫ّللا تعالى مثال لمن سمع كالم الرسول صلهى ه‬ ‫وضرب ه‬
‫حق في نفس األمر وعدم تصديقه كان عنده كمثل الصوت من اإلنسان عند البهائم التي ال تعقل‬
‫معناه ‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫مصدر من حل يحل حالال ‪ ،‬أي أطلقت لكم األكل مما في األرض مما أحللته لكم ‪ ،‬وقوله«‬
‫ط ِيهبا ا »أي ليس في أكله تنغيص عليكم ‪ ،‬بل لذة ونعيم في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬قال تعالى ‪( :‬‬ ‫َ‬
‫صةا يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة )ولو كان مناقشة‬ ‫ي ِللَّذِينَ آ َمنُوا فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا خا ِل َ‬ ‫ق قُ ْل ِه َ‬ ‫الر ْز ِ‬
‫ت ِمنَ ِ ه‬ ‫َو َّ‬
‫الط ِيهبا ِ‬
‫حساب لم تكن خالصة ‪ ،‬وال وقعت للمؤمن بها لذة ‪ ،‬واعلم أن ذلك في مجرد األكل الحالل ‪،‬‬
‫والحساب إنما يقع والسؤال في كسبه والوصول إليه ‪ ،‬ال في أكله إذا كان حالال ‪ ،‬فإنه يغمض‬
‫ْطان »يعني في كسب هذا المأكول‬ ‫شي ِ‬ ‫ت ال َّ‬ ‫طوا ِ‬ ‫هذا المعنى على أكثر الناس« َوال تَتَّبِعُوا ُخ ُ‬
‫وتحصيله ‪ ،‬فتأخذوه مما حرمت عليكم أخذه ‪ ،‬فنهانا أن نقتدي بالشيطان ونمشي على أثره ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وأنه لنا عدو مبين ظاهر‬ ‫ّللا قد أعلمنا أنه ال يمشي في طاعة ‪ ،‬وأنه مخالف أوامر ه‬ ‫فإن ه‬
‫ين » ‪،‬وقد بينا في أول السورة ما معنى عدو ‪ ،‬والخطوة بفتح‬ ‫عد ٌُّو ُم ِب ٌ‬‫العداوة ‪ ،‬فقال ‪ِ «:‬إنَّهُ لَ ُك ْم َ‬
‫الخاء الفعلة الواحدة ‪ ،‬وبضم الخاء ما بين قدمي الماشي ‪ ،‬في هذه اآلية دليل على أن الكافرين‬
‫مخاطبون بفروع الشريعة وأنهم داخلون في هذا العموم ‪ ،‬فخاطبهم بأن يأكلوا مما أحل لهم وال‬
‫وء َو ْالفَ ْح ِ‬
‫شاء َوأ َ ْن تَقُولُوا َ‬
‫علَى‬ ‫س ِ‬ ‫يتبعون خطوات الشيطان ‪ ،‬ثم قال ( ‪ «) 170‬إِنَّما يَأ ْ ُم ُر ُك ْم بِال ُّ‬
‫ّللا ما ال ت َ ْعلَ ُمونَ »أنزل الناس منزلة‬ ‫َّ ِ‬

‫ص ‪244‬‬

‫ص ‪246 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪171‬‬
‫ي فَ ُه ْم ال يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ون‬ ‫س َم ُع ِإاله دُعا ًء َونِدا ًء ُ‬
‫ص ٌّم بُ ْك ٌم ع ُْم ٌ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َك َمث َ ِل الهذِي يَ ْن ِع ُ‬
‫ق ِبما ال يَ ْ‬ ‫َو َمث َ ُل الهذ َ‬
‫) ‪( 171‬‬
‫ّللا وأعمى أبصارهم وختم على ألسنتهم ‪ ،‬فما تلفظوا بما دعاهم إليه أن يتلفظوا به ‪،‬‬ ‫فأصمهم ه‬
‫فإنه ال فرق بين الصمم الذي ال يسمع كالم المخاطب ‪ ،‬وبين من يسمع وال يفهم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الحاضرين وخاطبهم ‪ ،‬وفي الحقيقة إنهم مشاهدون له وحاضرون عنده ‪ ،‬فإنه قد أخبر بأخذ‬
‫ّللا عليه وسلم رأى أسودة عن يمين آدم‬ ‫الميثاق عليهم ‪ ،‬وقد ورد في الصحيح أن النبي صلهى ه‬
‫وعن يساره ‪ ،‬وذكر أنها نسم بنيه ‪ ،‬فصح أن يقول لهم مخاطبا« ِإنَّما يَأ ْ ُم ُر ُك ْم »يعني الشيطان«‬
‫شاء »أي بما يفحش ذكره ويقبح ‪،‬‬ ‫وء »أي بما يسوءكم عاقبته في الدار اآلخرة« َو ْالفَ ْح ِ‬ ‫س ِ‬‫بِال ُّ‬
‫ّللا ما ال ت َ ْعلَ ُمونَ »من تشريعكم ألنفسكم ما لم يأذن‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫ّللا« َوأ َ ْن تَقُولُوا َ‬
‫وهو العمل بمعاصي ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا وما هو من عند ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فتقولون هذا حالل وهذا حرام ‪ ،‬وتقولون هو من عند ه‬ ‫به ه‬
‫ّللا الكذب افتراء ‪ ،‬فجعل هذا كله من أمر الشيطان لهم في نفوسهم ‪ ،‬وهو لمته‬ ‫وتقولون على ه‬
‫ووسوسته «) ‪َ ( 171‬و ِإذا قِي َل لَ ُه ُم »اآلية ‪ ،‬الضمير يعود على المقلدة ال على علماء الكفار«‬
‫ّللاُ »بدال من اتباعكم ما أمركم به الشيطان في قلوبكم« قالُوا بَ ْل نَت َّ ِب ُع ما أ َ ْلفَيْنا‬ ‫ات َّ ِبعُوا ما أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫علَ ْي ِه آبا َءنا »من الدين ‪ ،‬ولذا قلنا إن الضمير يعود على المقلدة ‪ ،‬وإن عاد‬ ‫»أي ما وجدنا « َ‬
‫على الجميع فيكون هذا القول من مقلديهم خاصة ‪ ،‬وفي هذا تحريض على النظر في األدلة وذم‬
‫ّللاُ »فدخل تحته جميع األحكام ‪ ،‬وهو‬ ‫التقليد في األصول والفروع ‪ ،‬فإنه ع هم بقوله ‪ «:‬ما أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬بخالف‬ ‫األوجه ‪ ،‬فإن األصول تثبت باألدلة العقلية ‪ ،‬وال يحتاج فيها إلى إنزال وحي من ه‬
‫ّللاُ »فع هم ‪ ،‬وحمله‬ ‫ّللا ‪ ،‬وهو قوله ‪ «:‬ات َّ ِبعُوا ما أ َ ْنزَ َل َّ‬ ‫الفروع فإنها ال تعلم إال بإنزال وحي من ه‬
‫على ذم التقليد في الفروع أوجه وأولى ‪ ،‬فال يبقى من التقليد إال نقل الدليل من المفتي إلى‬
‫ّللا ‪ ،‬أو عن رسوله ‪ ،‬أو اإلجماع في المسألة التي يسأل فيها ‪ ،‬فلو قال له المفتي‬ ‫السائل عن ه‬
‫هذا الحكم رأيي حرم عليه اتباعه واألخذ به ‪ ،‬فليس في الشرع من التقليد محمود غير هذا ‪،‬‬
‫ألنه ال بد منه ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬أ َ َولَ ْو كانَ »فأتى بهمزة الرد والتعجب من فعلهم ذلك وتقليدهم إياهم‬
‫‪ ،‬والواو للحال ‪ ،‬أي تتبعون آباءكم وال تعرفون هل كانوا على الصواب فيما دانوا أنفسهم به هّلل‬
‫إن كان عن نظر في أدلة أو كانوا على خطأ في ذلك ‪ ،‬واآليات بين أيديكم والمعجزات ‪ ،‬فلم ال‬
‫شيْئا ا َوال يَ ْهتَدُونَ »فهو توبيخ وتعجب من‬ ‫تنظرون فيها ‪ ،‬فقال «‪:‬أ َ َولَ ْو كانَ آبا ُؤ ُه ْم ال يَ ْع ِقلُونَ َ‬
‫قلة استعمالهم لعقولهم فيما تكون فيه سعادتهم ‪ ،‬ثم شبههم وشبهه الرسول في دعائه إياهم ‪،‬‬
‫فذكرهم دون الداعي لداللة المعنى عليه ‪ ،‬فقال ‪َ «) 172 ( :‬و َمث َ ُل الَّذِينَ‬

‫ص ‪245‬‬

‫ص ‪247 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن من عقل‬‫أو ال يجيب إذا اقتضى اإلجابة فال يعقل إال من سمع« فَ ُه ْم ال يَ ْع ِقلُونَ »عن ه‬
‫ّللا إن عيونهم لفي وجوههم‬ ‫ّللا ‪ ،‬وو ه‬ ‫المطلوب منه فيما أسمعه أن يرجع ‪ ،‬فهم ال يرجعون إلى ه‬
‫‪ ،‬وإن سمعهم لفي آذانهم ‪ ،‬وإن ألسنتهم لفي أفواههم فهم ال يعقلون ‪ ،‬والعقل من العقال ‪ ،‬أي ال‬
‫يتقيدون بما أريد له المسموع وال المبصر وال المتكلم به ‪ ،‬فهم ال يعقلون أن ذلك المصوت به‬
‫حق فيما يدعوه إليه ‪ ،‬فمن أعجب األشياء وصف السامع بالصمم والبصير بالعمى والمتكلم‬
‫بالبكم ‪ ،‬فما عقل وال رجع وإن فهم‪.‬‬
‫________________________________________________‬
‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬
‫َكفَ ُروا َك َمث َ ِل الَّذِي يَ ْن ِع ُق ِبما ال يَ ْس َم ُع ِإ َّال دُعا اء َونِدا اء »يحتمل هذا المثل وجهين ‪ :‬الوجه الواحد‬
‫أنه ضربه مثال للرسول الذي يدعوهم إلى الحق ولهم ‪ ،‬والوجه اآلخر أنه ضربه مثال للكافرين‬
‫ّللا ‪ ،‬وهل الضمير في كفروا يعود على الناس الكافرين كلهم من‬ ‫ولمن اتخذوه إلها من دون ه‬
‫أهل الملل ‪ ،‬أو يعود على كفار اليهود خاصة ‪ ،‬فنقول ‪ :‬إن كان المثل للرسول ولهم فيكون‬
‫معناه ‪ :‬ومثل الذين كفروا ومثل دعاء الرسول لهم كمثل الذي ينعق بما ال يسمع إال دعاء ونداء‬
‫‪ ،‬فعند غير أهل طريقنا خرج عباد األصنام واألوثان من هذا المثل ‪ ،‬وعندنا لم يخرج منهم‬
‫أحد عن هذا المثل ‪ ،‬فإن األصنام عندنا تسمع وتشهد على متبعيها ‪ ،‬كما ورد في أنه يشهد‬
‫للمؤذن مدى صوته من رطب ويابس ‪ ،‬وتسبيح الحصى في كف النبي عليه السالم ‪ ،‬فخرق‬
‫العادة عندنا لم يكن في تسبيح الحصى ‪ ،‬وإنما كان في إدراكنا ما لم نكن قبل ندركه ‪ ،‬قال‬
‫ّللا ممن هو بهذه‬‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه )فجرى المثل على كل من عبد غير ه‬ ‫ش ْيءٍ ِإ َّال يُ َ‬
‫تعالى ‪َ ( :‬و ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫الصفة ‪ ،‬وليس التشبيه هنا براعي الغنم واإلبل ‪ ،‬فإنها تفهم عن الراعي إذا نعق بها ما يريد‬
‫بذلك ‪ ،‬من مشي وورود ماء ونهي عن أكل ‪ ،‬وإنما األوجه نداء الشخص بالوحوش الشاردة ‪،‬‬
‫فإذا سمعت نداء تخيلت أنه الصائد فندت وشردت عن ندائه ‪ ،‬كذلك الرسول يريد أن يوقعهم‬
‫في حبالة اإليمان ويقيدهم عن مسارحهم التي كانوا فيها ‪ ،‬فيشردون عند دعائه خوفا من ذلك ‪،‬‬
‫ويكون التشبيه مطابقا ‪ ،‬والوجه اآلخر أن شبههم في دعائهم آلهتهم إذا لجئوا إليها في أوقات‬
‫ضروراتهم ‪ ،‬فال يجيبونهم ‪ ،‬كمثل الذي ينعق بما ال يسمع إال دعاء ونداء ‪ ،‬وهم كما قلنا‬
‫الوحوش الشاردة ‪ ،‬فإذا سمعت آلهتهم أصواتهم بنسبة األلوهية لهم فرقوا من ذلك ‪ ،‬وتبرءوا‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬فال‬
‫ّللا من مقالتهم ‪ ،‬وهم ال يشعرون ‪ ،‬فإنهم ال يحسون بذلك منهم ‪ ،‬وقد ختم ه‬ ‫إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقوله ‪ِ «:‬إ َّال دُعا اء َو ِندا اء »كالم صحيح ‪ ،‬فإن السمع إنما متعلقه‬ ‫يجيبونهم إال بأمر ه‬
‫الصوت ‪ ،‬والفهم من قوة أخرى وهو العقل ‪ ،‬فذكر إدراك النداء والدعاء ‪ ،‬وما ذكر إدراك‬
‫ي »تقدم الكالم في تفسيره ‪ ،‬وقوله ‪«:‬‬ ‫ع ْم ٌ‬ ‫ص ٌّم بُ ْك ٌم ُ‬
‫المعنى المقصود من ذلك الدعاء ‪ ،‬وقوله ‪ُ «:‬‬
‫فَ ُه ْم ال يَ ْع ِقلُونَ »‬

‫ص ‪246‬‬

‫ص ‪248 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 172‬إلى ‪173‬‬
‫ُون ( ‪) 172‬‬ ‫َّلل إِ ْن ُك ْنت ُ ْم إِيهاهُ ت َ ْعبُد َ‬
‫شك ُُروا ِ ه ِ‬ ‫ت ما َر َز ْقنا ُك ْم َوا ْ‬ ‫ِين آ َمنُوا ُكلُوا ِم ْن َط ِيهبا ِ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫غ ْي َر باغٍ َوال عا ٍد‬ ‫ط هر َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ّللا فَ َم ِن ا ْ‬
‫ير َوما أ ُ ِه هل بِ ِه ِلغَ ْي ِر ه ِ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ا ْل َم ْيتَةَ َوال هد َم َولَحْ َم ا ْل ِخ ْن ِز ِ‬‫إِنهما َح هر َم َ‬
‫ور َر ِحي ٌم) ‪( 173‬‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫ّللا َ‬
‫علَ ْي ِه ِإ هن ه َ‬‫فَل ِإثْ َم َ‬
‫ما به حياتك ذلك رزقك وال بد ‪ ،‬وال يصح فيه تحجير ‪ ،‬سواء كان في ملك الغير أو لم يكن ‪،‬‬
‫فإن المضطر ال حجر عليه ‪ ،‬وما عدا المضطر فما تناول الرزق لبقاء الحياة عليه وإنما تناوله‬
‫غي َْر باغٍ َوال‬‫ط َّر َ‬‫ض ُ‬ ‫للنعيم به ‪ ،‬وليس الرزق إال ما تبقى به حياته عليه ‪ ،‬قال تعالى ‪ «:‬فَ َم ِن ا ْ‬
‫ط ِر ْرت ُ ْم إِلَ ْي ِه )وذلك هو الرزق‪.‬‬ ‫ض ُ‬ ‫عا ٍد »بعد التحجير وقال( إِ َّال َما ا ْ‬
‫_______________________________________________‬
‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬
‫وقال فيمن تقدم ‪ ( :‬فَ ُه ْم ال يَ ْر ِجعُونَ )فأولئك عرفوا الحق وما رجعوا ‪ ،‬وهؤالء سمعوا وما‬
‫فهموا ‪ ،‬ألنه جاءهم بما يخالف ما كان عليه آباؤهم ‪ ،‬فلم يعلموا ذلك وال استعملوا عقولهم في‬
‫ت ما َرزَ ْقنا ُك ْم »اآلية ‪،‬‬ ‫ط ِيهبا ِ‬‫النظر فيه ( ‪ ) 173‬قوله تعالى ‪ «:‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ُكلُوا ِم ْن َ‬
‫ت ما َرزَ ْقنا ُك ْم »فإن كانت من للتبيين فهم منه أن مسمى‬ ‫خطاب للمؤمنين باألكل« ِم ْن َ‬
‫ط ِيهبا ِ‬
‫الرزق يكون حراما وحالال ‪ ،‬فأمرنا أن نأكل من حالله ‪ ،‬ونعمل في الحرام ما أمرنا بالعمل‬
‫فيه في مواضع كثيرة ‪ ،‬فما أمرنا قط في مثل هذا وال نهينا إال عن األكل ‪ ،‬ومن جعل من‬
‫للتبعيض حمل الرزق على الحالل ‪ ،‬ولكن التبعيض يضعف فإنه معلوم ضرورة ‪ ،‬فإنه ال يخلو‬
‫الطيب من الرزق الذي يملكه إما أن يكون أكثر من حاجته في الوقت ‪ ،‬والتبعيض ال بد منه ‪،‬‬
‫وإما أن يكون مقدار الحاجة أو دون الحاجة ‪ ،‬فيبطل معنى التبعيض ‪ ،‬فالتبيين أولى منه ‪ ،‬ثم‬
‫ون )ثم قال ‪ِ «:‬إ ْن‬ ‫ّلل »تقدم القول عليه في قوله ‪َ ( :‬وا ْش ُك ُروا ِلي َوال ت َ ْكفُ ُر ِ‬ ‫قال ‪َ «:‬وا ْش ُك ُروا ِ َّ ِ‬
‫ُك ْنت ُ ْم ِإيَّاهُ ت َ ْعبُدُونَ »فامتثلوا أمره فيما أمركم به من أكل الطيب الذي هو الحالل المستلذ ومن‬
‫الشكر عليه ‪ ،‬قوله‪:‬‬
‫غي َْر‬ ‫ض ُ‬
‫ط َّر َ‬ ‫ير َوما أ ُ ِه َّل ِب ِه ِلغَي ِْر َّ ِ‬
‫ّللا فَ َم ِن ا ْ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ْال َم ْيتَةَ َوالد ََّم َولَ ْح َم ْال ِخ ْن ِز ِ‬
‫) ‪ِ ( 174‬إنَّما َح َّر َم َ‬
‫ّللا ما ال يعلمون تحريم‬ ‫ور َر ِحي ٌم »لما كان من قولهم على ه‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫علَ ْي ِه ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫باغٍ َوال عا ٍد فَال ِإثْ َم َ‬
‫ّللا سبحانه في هذه‬ ‫عرفنا ه‬ ‫ّللا به من سلطان ‪ ،‬ه‬ ‫ّللا واتخذوها شرعا ما أنزل ه‬ ‫أمور لم يحرمها ه‬
‫ّللا عليه وسلم عامة لجميع الناس ‪،‬‬ ‫حرمه على كافة عباده ‪ ،‬إذ كانت رسالته صلهى ه‬ ‫اآلية بما ه‬
‫علَ ْي ُك ُم ْال َم ْيتَةَ َوالد ََّم »فاأللف والالم للتعريف ‪ ،‬أي الذي يسميها العرب‬ ‫فقال تعالى ‪ِ «:‬إنَّما َح َّر َم َ‬
‫ميتة في عرفها ‪ ،‬والحيوان قسمان‪:‬‬
‫بري وبحري ‪ ،‬واتفق العلماء على تحريم ميتة البر ‪ ،‬واختلفوا في ميتة البحر على ثالثة‬
‫مذاهب ‪ ،‬فطائفة‬

‫ص ‪247‬‬

‫ص ‪249 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪174‬‬
‫طونِ ِه ْم‬ ‫ون فِي بُ ُ‬ ‫ون ِب ِه ث َ َمنا ً قَ ِليلً أُولئِكَ ما يَأ ْ ُكلُ َ‬ ‫شت َ ُر َ‬ ‫ب َويَ ْ‬ ‫ّللاُ ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬ ‫ون ما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ِين يَ ْكت ُ ُم َ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪) 174‬‬ ‫يه ْم َولَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫ّللاُ يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َوال يُ َز ِ هك ِ‬‫ار َوال يُ َك ِله ُم ُه ُم ه‬ ‫ِإاله النه َ‬
‫يال »أي بكتمانه ‪ ،‬لما حصلوه من المال والرئاسة بذلك« أُول ِئ َك ما‬ ‫« َويَ ْشت َ ُرونَ ِب ِه ث َ َمنا ا قَ ِل ا‬
‫ذاب أ َ ِلي ٌم »يفيد أنه‬
‫ع ٌ‬ ‫ّللاُ يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة َوال يُزَ ِ هكي ِه ْم َولَ ُه ْم َ‬
‫ار َوال يُ َك ِله ُم ُه ُم َّ‬ ‫طونِ ِه ْم إِ َّال النَّ َ‬ ‫يَأ ْ ُكلُونَ فِي بُ ُ‬
‫ّللا‬
‫ّللا ألجمه ه‬ ‫من سئل عن علم تعين عليه الجواب عنه وهو يعلمه ‪ ،‬فإن كتمه وهو مما أنزله ه‬
‫بلجام من نار‪.‬‬
‫__________________________________________‬
‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬
‫قالوا ‪ :‬هي حالل مطلقا ‪ ،‬وهو مذهب مالك وغيره ‪ ،‬وذهب آخرون إلى تحريمها مطلقا ‪،‬‬
‫وفرق آخرون فقالوا ‪ :‬ما جزر عنه البحر فهو حالل وما طفا من السمك فهو حرام ‪ ،‬ولكل‬
‫فريق حجة موضعها كتب األحكام ‪ ،‬واختلفوا في ميتة الجراد ألنهم اختلفوا فيه ‪ ،‬هل هو بري‬
‫أو بحري ؟‬
‫فمن قال إنه بري وغلب عليه حكم البر ألحقه بميتة البر ‪ ،‬ومن غلب عليه حكم البحر لحديث‬
‫الترمذي أنه نثرة حوت ألحقه بميتة البحر ‪ ،‬وأما الدم فمن جعل األلف والالم للجنس ع هم ‪ ،‬ومن‬
‫جعله للتعريف حمله على الدم المسفوح في قوله تعالى ‪ ( :‬أ َ ْو َدما ا َم ْسفُوحا ا )فقيده ‪ ،‬فاتفق‬
‫العلماء على تحريم الدم المسفوح من الحيوان المذكى ‪ ،‬واختلفوا في غير المسفوح منه ‪،‬‬
‫والسفح الذي يشترط إنما هو الدم السائل من التذكية في الحيوان الحالل األكل ‪ ،‬إذ الدم السائل‬
‫من الحي فهو حرام بال خالف ‪ ،‬قليله وكثيره ‪ ،‬وكذلك ما سال من دم الحيوان المحرم األكل ‪،‬‬
‫وإن ذكي فقليله وكثيره حرام بغير خالف ‪ ،‬وأما اختالفهم في دم الحوت فمن حرمه فبعموم‬
‫اللفظ ‪ ،‬ومن أحله فليس له دليل ‪ ،‬إال أنه رأى أن الدم تابع في الحرمة والحل لميتة الحيوان ‪،‬‬
‫فمن كان ميتته حراما فدمه حرام ‪ ،‬ومن كان ميتته حالال فدمه حالل ‪ ،‬وأما لحم الخنزير‬
‫فاتفقوا على تحريم لحمه وشحمه وجلده ما لم يدبغ جلده ‪ ،‬وأما الشحم وإن فارق اللحم باالسم ‪،‬‬
‫فإن اللحم يوصف به ‪ ،‬فيقال لحم شحيم ‪ ،‬أي سمين ‪ ،‬فكأن جنسا من اللحم يسمى شحما ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬أي‬ ‫ّللا »اإلهالل رفع الصوت ‪ ،‬والمراد هنا ما ذبح لغير ه‬ ‫وقوله ‪َ «:‬وما أ ُ ِه َّل ِب ِه ِلغَي ِْر َّ ِ‬
‫ب‬
‫ص ِ‬ ‫علَى النُّ ُ‬ ‫ّللا على جهة القربة والعبادة لمن ذبح له ‪ ،‬وهو قوله ‪َ ( :‬وما ذُ ِب َح َ‬ ‫سمي عليه غير ه‬
‫ط َّر »‬ ‫ض ُ‬ ‫)ويتفرع هنا مسائل ليس هذا موضعها ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فَ َم ِن ا ْ‬

‫ص ‪248‬‬

‫ص ‪250 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪175‬‬
‫علَى النه ِار) ‪( 175‬‬ ‫صبَ َر ُه ْم َ‬ ‫ضللَةَ ِبا ْل ُهدى َوا ْلعَ َ‬
‫ذاب ِبا ْل َم ْغ ِف َر ِة فَما أ َ ْ‬ ‫شت َ َر ُوا ال ه‬ ‫ِين ا ْ‬‫أُولئِكَ الهذ َ‬
‫يدل ذلك على أنهم عرفوا الحق وجحدوا مع اليقين ‪ ،‬وأي آية كانت للعرب معجزة مثل القرآن‬
‫ّللا من صبرهم على النار‪.‬‬ ‫‪ ،‬فتعجب ه‬
‫____________________________________________‬
‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬
‫غي َْر باغٍ »أي طالب من غير‬ ‫فيه وجهان ‪ :‬المكره ومن مسته مجاعة يتوقع منهما تلف الروح« َ‬
‫إكراه وال مجاعة« َوال عا ٍد »أي وال يتعدى عند األخذ قدر الحاجة لذي المجاعة ‪ ،‬وقدر ما‬
‫علَ ْي ِه »أي ال حرج عليه في ذلك من ذلك ‪ ،‬وقوله‬ ‫يكره عليه من ذلك للمكره ‪ ،‬يقول ‪ «:‬فَال ِإثْ َم َ‬
‫ور َر ِحي ٌم »والمغفرة تستدعي ذنبا أو شبهة ذنب ‪ ،‬والذنب الحاصل هنا إنما هو‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو يرجع إلى اآلكل في جهله قدر الحاجة ‪ ،‬ألنه‬ ‫شبهة الذنب ‪ ،‬فتتعلق بذلك المغفرة من ه‬
‫عسير جدا ‪ ،‬فقد يزيد من حيث ما يرى أنه محتاج على الحاجة التي تكون بها حياته ‪ ،‬وقد‬
‫ترجع المغفرة للعلماء المجتهدين الذين ذكرناهم في إطالق التحريم وإطالق التحليل ‪ ،‬والقول‬
‫بالتفرقة في ذلك ‪ ،‬وال بد أن يكون في أحد هذه األقوال إصابة وخطأ كما نص عليه الشارع ‪،‬‬
‫ّللا تعالى أنه غفور لذلك ‪ ،‬وقد‬ ‫فالخطأ متحقق في بعض هذه األقوال من غير تعيين ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫يمكن أن يكون راجعا لمن لم يوف حق االجتهاد المطلوب منه ‪ ،‬لما غاب عنه في ذلك من‬
‫معرفة ماهية االجتهاد ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬ر ِحي ٌم »بما رخصه من ذلك ( ‪ «) 175‬إِ َّن الَّذِينَ يَ ْكت ُ ُمونَ ما‬
‫ار »اآلية ‪ ،‬دخل‬ ‫يال أُولئِ َك ما يَأ ْ ُكلُونَ فِي بُ ُ‬
‫طونِ ِه ْم ِإ َّال النَّ َ‬ ‫ب َويَ ْشت َ ُرونَ بِ ِه ث َ َمنا ا قَ ِل ا‬‫ّللاُ ِمنَ ْال ِكتا ِ‬ ‫أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫في هذا التعريف أهل الكتاب وغيرهم ‪ ،‬وقد بيهنا ما كتم أهل التوراة واإلنجيل ‪ ،‬ويدخل في هذا‬
‫التعريف الحاكم يحكم بخالف علمه المشروع له الحكم به لرغبة في اقتناء مال أو جاه سلطان‬
‫‪ ،‬وهو الثمن القليل ‪ ،‬فإنه منقطع ويبقى الوبال عليه ‪ ،‬فقد يعتقد الحاكم أن الحكم الصحيح عنده‬
‫ّللا به هو أمر ما عنده ‪ ،‬فإذا عرف من السلطان أنه يسره الحكم بخالف ذلك‬ ‫الذي يدين ه‬
‫لغرض له فيه ‪ ،‬فيقضي الحاكم بما يوافق هواه مما ال يعتقده حقا ‪ ،‬وال ينجيه من هذه الخطية‬
‫ّللا‬
‫أن يكون ذلك الحكم الذي رجع إليه مذهب بعض األئمة ‪ ،‬فإن ذلك القول عنده خطأ ال يدين ه‬
‫ّللا العافية والعصمة‬ ‫به ‪ ،‬ولوال السلطان ورغبته في أخذ المنزلة عنده بذلك ما حكم به ‪ ،‬فنسأل ه‬
‫من ذلك ‪ ،‬وهو أحد القاضيين اللذين في النار ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬أُولئِ َك »إشارة إلى الذين يكتمون« ما‬
‫ار »هذا موجود في كالم العرب معروف ‪ ،‬يقال أكل فالن سرجه‬ ‫طو ِن ِه ْم ِإ َّال النَّ َ‬ ‫يَأ ْ ُكلُونَ ِفي بُ ُ‬
‫وثوبه ‪ ،‬أي باعه وأكل بثمنه ما يؤكل ‪ ،‬فكنهى عما يحصل له من الجاه والمتاع باألكل« َوال‬
‫ّللا عباده‬ ‫ّللاُ يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة »لما كان تكليم ه‬ ‫يُ َك ِله ُم ُه ُم َّ‬

‫ص ‪249‬‬

‫ص ‪251 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 176‬إلى ‪177‬‬
‫س‬ ‫قاق بَ ِعي ٍد ( ‪ ) 176‬لَ ْي َ‬ ‫ش ٍ‬ ‫ب لَ ِفي ِ‬ ‫اختَلَفُوا فِي ا ْل ِكتا ِ‬ ‫ِين ْ‬ ‫ق َو ِإ هن الهذ َ‬ ‫تاب ِبا ْل َح ه ِ‬
‫ّللا نَ هز َل ا ْل ِك َ‬ ‫ذ ِلكَ ِبأ َ هن ه َ‬
‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوا ْل َملئِ َك ِة‬
‫ب َول ِك هن ا ْل ِب هر َم ْن آ َم َن ِب ه ِ‬‫ق َوا ْل َم ْغ ِر ِ‬ ‫ا ْل ِب هر أ َ ْن ت ُ َولُّوا ُو ُجو َه ُك ْم قِبَ َل ا ْل َمش ِْر ِ‬
‫س ِبي ِل‬‫ين َوا ْب َن ال ه‬‫ين َوآتَى ا ْلما َل عَلى ُح ِبه ِه ذَ ِوي ا ْلقُ ْربى َوا ْليَتامى َوا ْل َمسا ِك َ‬ ‫ب َوالنه ِب ِيه َ‬ ‫َوا ْل ِكتا ِ‬
‫صابِ ِر َ‬
‫ين‬ ‫ون بِعَ ْه ِد ِه ْم إِذا عا َهدُوا َوال ه‬ ‫الزكاةَ َوا ْل ُموفُ َ‬ ‫صلةَ َوآتَى ه‬ ‫ب َوأَقا َم ال ه‬ ‫الرقا ِ‬‫ين َوفِي ِ ه‬ ‫سائِ ِل َ‬‫َوال ه‬
‫ون ( ‪) 177‬‬ ‫ص َدقُوا َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُمتهقُ َ‬ ‫ِين َ‬ ‫ين ا ْلبَأ ْ ِس أُولئِكَ الهذ َ‬ ‫اء َو ِح َ‬ ‫ض هر ِ‬ ‫ساء َوال ه‬ ‫فِي ا ْلبَأ ْ ِ‬
‫على ُح ِبه ِه »سمي المال ماال ألنه يميل بصاحبه وال بد ‪ ،‬إما إلى خير وإما إلى‬ ‫« َوآتَى ْالما َل َ‬
‫شر ال يتركه في حال االعتدال ‪َ «. . .‬و ْال ُموفُونَ ِبعَ ْه ِد ِه ْم ِإذا عا َهدُوا »عهدا مشروعا ‪ ،‬فهم قوم‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن أتى في‬ ‫ّللا بالوفاء ‪ ،‬ال يغدرون إذا عاهدوا ‪ ،‬والوفاء من شيم خاصة ه‬ ‫توالهم ه‬
‫_____________________________________‬
‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬
‫ّللا قال تعالى ‪( :‬‬ ‫سؤُا فِيها )على هذا يكون كالم الملك عن ه‬ ‫شرفا لذلك نفاه عنهم ‪ ،‬وقوله ‪ْ ( :‬‬
‫اخ َ‬
‫ّللا ) ‪،‬وقوله ‪َ «:‬وال يُزَ ِ هكي ِه ْم »أي ال يطهرهم وال ينمي خيرهم« َولَ ُه ْم‬ ‫الم َّ ِ‬ ‫فَأ َ ِج ْرهُ َحتَّى يَ ْس َم َع َك َ‬
‫ذاب أ َ ِلي ٌم » *موجع ‪ ،‬وقوله ‪ «) 176 ( :‬أُولئِ َك الَّذِينَ ا ْشت َ َر ُوا الضَّاللَةَ ِب ْال ُهدى »فأما في حق‬ ‫ع ٌ‬ ‫َ‬
‫الكفار فقد بيناه في أول السورة ‪ ،‬وأما ما يختص بالحاكم من هذا ‪ ،‬فهو أن الحق الذي كتمه ولم‬
‫يحكم به هو الذي اشترى بكتمانه إياه الثمن القليل ‪ ،‬أو الضاللة التي حكم بها ‪ ،‬ولو أراد‬
‫الشراء بالذي حكم به لم يقل بالهدى ‪ ،‬ألنه ليس عنده هدى ‪ ،‬وإنما هو ضاللة ‪ ،‬وما ذكر أنه‬
‫ذاب بِ ْال َم ْغ ِف َرةِ »لما كان الهدى مكتوما في هذه القضية جعل المغفرة‬ ‫اشترى بالضاللة« َو ْالعَ َ‬
‫ار »تعجبا‬ ‫علَى النَّ ِ‬‫صبَ َر ُه ْم َ‬‫التي هي الستر ‪ [ ،‬للهدى ] وجعل العذاب للضاللة ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فَما أ َ ْ‬
‫ّللا ‪ ،‬فقام لهم هذا العلم مقام من هو‬ ‫يدل على أنهم عارفون بالحق ‪ ،‬وأنهم مؤاخذون من عند ه‬
‫في النار ‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫ق »يقول ‪ :‬وما عملوا ‪ ،‬ومن ذلك أنه تعبده بما يغلب‬ ‫تاب ِب ْال َح ه ِ‬‫ّللا ن ََّز َل ْال ِك َ‬
‫( ‪ «) 177‬ذ ِل َك ِبأ َ َّن َّ َ‬
‫ب »ليسوا المؤمنين وال علماء‬ ‫اختَلَفُوا فِي ْال ِكتا ِ‬ ‫على ظنه أنه الحق فلم يحكم به ‪َ «،‬وإِ َّن الَّذِينَ ْ‬
‫أهل الكتاب فإنهم عالمون به ‪ ،‬وإنما هذا في الطائفة التي قالت في الكتاب إنه شعر وسحر‬
‫وغير‬
‫ص ‪250‬‬

‫ص ‪252 :‬‬
‫ي وقد وفهى ‪ ،‬قال‬ ‫ّللا أن يأتي بها على التمام وكثر ذلك في حاالته كلها فهو وف ه‬ ‫أموره التي كلفه ه‬
‫يم الَّذِي َوفَّى )يقال وفي الشيء وفيا على فعول بضم فاء الفعل إذا تم وكثر«‬ ‫تعالى ‪َ ( :‬و ِإبْرا ِه َ‬
‫َوأُولئِ َك ُه ُم ْال ُمتَّقُونَ »من كان حاله التقوى واالتقاء كيف يفرح ويلتذ ‪ ،‬من يتقي ‪ ،‬فإن تقواه‬
‫وحذره وخوفه أن ال يوفي مقام التكليف حقه ‪ ،‬وعلمه بأنه مسؤول عنه ال يتركه يفرح وال يسر‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أنا أتقاكم هّلل وأنا أعلمكم بما أتقي ] ‪.‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫‪ ،‬قال رسول ه‬
‫إشارة ‪ «-‬أُو ِلي ْالقُ ْربى »أقرب أهل الشخص إليه نفسه فهي أولى بما يتصدق به من غيرها ‪،‬‬
‫ولكل متصدهق عليه صدقة تليق به من المخلوقين ‪ ،‬ثم جوارحه ‪ ،‬ثم األقرب إليه بعد ذلك ‪،‬‬
‫وهو األهل ثم الولد ثم الخادم ثم الرحم ثم الجار ‪ ،‬كما يتصدق على تلميذه وطالب الفائدة منه ‪،‬‬
‫وإذا تحقق العارف بربه حتى كان كله نورا ‪ ،‬وكان الحق سمعه وبصره وجميع قواه ‪ ،‬كان حقا‬
‫ّللا فهم أهل هذا العارف الذي ذكرناه ‪ ،‬فإنه حق كله ‪ ،‬فإذا تصدق على‬ ‫كله ‪ ،‬فمن كان من أهل ه‬
‫ّللا فهو المتصدق على أهله ‪ ،‬إذا كان المتصدق بهذه المثابة ‪ ،‬ومن تصدق على نفسه بما‬ ‫أهل ه‬
‫ّللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫باّلل ‪ ،‬الذي الرحمن من نعوته ‪ ،‬قال صلهى ه‬ ‫فيه حياتها كانت له صدقة وصلة ه‬
‫ّللا ‪ -‬والمال في االعتبار العلم وزكاة العلم تعليمه‪.‬‬ ‫الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله ه‬
‫____________________________________‬
‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬
‫ق »يوم القيامة في عذاب يشق عليهم حمله« بَ ِعي ٍد »زواله عنهم ‪ ،‬وقد‬ ‫ذلك ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬لَ ِفي ِشقا ٍ‬
‫يكون عبارة عن منازعتهم فيه ومشاققتهم بعضهم مع بعض ‪ ،‬ويكون قوله ‪ «:‬بَ ِعي ٍد »يعني عن‬
‫ْس ْالبِ َّر أ َ ْن ت ُ َولُّوا ُو ُجو َه ُك ْم »اآلية ‪ ،‬يخاطب اليهود‬ ‫إصابتهم الحق في ذلك ( ‪ «) 178‬لَي َ‬
‫والنصارى لما كثرت قالتهم في تحويل القبلة ‪ ،‬وكل طائفة منهم تحب أن تستقبل قبلتها ‪ ،‬فأنزل‬
‫ب َول ِك َّن‬ ‫ق َو ْال َم ْغ ِر ِ‬‫ْس ْال ِب َّر »ما أنتم عليه من تولية وجوهكم في صالتكم« قِبَ َل ْال َم ْش ِر ِ‬ ‫تعالى« لَي َ‬
‫باّلل ‪ ،‬والوجه عندي في‬ ‫اّلل »أي بر من آمن ه‬ ‫ْال ِب َّر »أي اإلحسان المقرب إلى ه‬
‫ّللا« َم ْن آ َمنَ ِب َّ ِ‬
‫ذلك لما كانت اآلية تقتضي المدح والثناء بقيام هذه األوصاف التي عددها ذكر من قامت به‬
‫تهمما به ‪ ،‬إذ كانت الصفة إذا تحقق بها الموصوف هي والموصوف كالشئ الواحد ‪ ،‬فأقام من‬
‫الذي هو الموصوف مقام اإليمان الذي هو الصفة ‪ ،‬وهو مبالغة في الثناء ‪ ،‬فالمعنى ‪ :‬ولكن‬
‫ّللا وتوحيده ‪ ،‬وفي هذا رد على المعطل والمشرك« َو ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر‬ ‫باّلل أي وجود ه‬ ‫البر اإليمان ه‬
‫ب »يريد الكتب‬ ‫»خالفا لمنكري البعث الجسماني« َو ْال َمالئِ َك ِة »خالفا لمن يجعلها قوى« َو ْال ِكتا ِ‬
‫ّللا من أهل النظر«‬ ‫ّللا ‪ ،‬واأللف والالم للجنس ‪ ،‬خالفا لمنكريها أنها من عند ه‬ ‫المنزلة من عند ه‬
‫َوالنَّبِ ِيهينَ »خالفا للبراهمة‬

‫ص ‪251‬‬

‫ص ‪253 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪178‬‬
‫صاص فِي ا ْلقَتْلى ا ْل ُح ُّر ِبا ْل ُح ِ هر َوا ْلعَ ْب ُد ِبا ْلعَ ْب ِد َو ْاأل ُ ْنثى ِب ْاأل ُ ْنثى‬ ‫ُ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ا ْل ِق‬
‫ب َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ُكتِ َ‬
‫يف ِم ْن َر ِبه ُك ْم‬‫سان ذ ِلكَ ت َ ْخ ِف ٌ‬ ‫وف َوأَدا ٌء ِإلَ ْي ِه ِب ِإحْ ٍ‬ ‫ش ْي ٌء فَا ِت هبا ٌ‬
‫ع ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬ ‫ي لَهُ ِم ْن أ َ ِخي ِه َ‬ ‫فَ َم ْن ُ‬
‫ع ِف َ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم) ‪( 178‬‬ ‫َو َرحْ َمةٌ فَ َم ِن ا ْعتَدى بَ ْع َد ذ ِلكَ فَلَهُ ع ٌ‬
‫سان »من القاتل إلى ولي الدم ‪ «. . .‬فَ َم ِن‬ ‫وف » من ولي الدم « َوأَدا ٌء إِلَ ْي ِه بِإِ ْح ٍ‬ ‫ع بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫" فَا ِت هبا ٌ‬
‫ذاب‬
‫ع ٌ‬ ‫ا ْعتَدى بَ ْع َد ذ ِل َك »أي إن قتله بعد ذلك غدرا وقد رضي بالدية وبما عفا عنه منها« فَلَهُ َ‬
‫ّللا‬‫أ َ ِلي ٌم »فهذه وصية لولي الدم أن يعفو ويخلي بين القاتل والمقتول يوم القيامة ‪ ،‬وأخبر صلهى ه‬
‫س ِيهئَةٌ ِمثْلُها ) ‪،‬فقال‬ ‫س ِيهئ َ ٍة َ‬
‫عليه وسلم أن حكم القاتل قودا حكم القاتل اعتداء ‪ ،‬وهو قوله ‪َ ( :‬جزا ُء َ‬
‫في صاحب التسعة ‪ [ :‬أما إن قتله كان مثله ] فتركه ولم يقتله‪.‬‬
‫______________________________________________‬
‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬
‫على ُح ِبه ِه »يقول ‪ :‬وأعطى المال حبا هّلل ‪ ،‬وقد يعود الضمير‬ ‫ومنكري الرسل« َوآتَى ْالما َل َ‬
‫على المال ‪ ،‬أي يعطيه على حبه فيه ‪ ،‬أي على أنه يحبه ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬لَ ْن تَنالُوا ْالبِ َّر َحتَّى‬
‫ت ُ ْن ِفقُوا ِم َّما ت ُ ِحبُّونَ )فكان ابن عمر يشتري السكر ويتصدق به ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إني أحبه ‪ ،‬ويتلو هذه‬
‫اآلية ‪ ،‬وهو األوجه في التأويل ‪ ،‬ويعني بهذا اإلعطاء صدقة التطوع والتضييف والهدية والهبة‬
‫‪ ،‬وقوله ‪ «:‬ذَ ِوي ْالقُ ْربى »يريد صلة الرحم« َو ْاليَتامى »من ال مال له منهم« َو ْال َمسا ِكينَ‬
‫سبِي ِل »ضيافة المسافر«‬ ‫»الذين يسكنون إلى الناس ليعطوهم وإن لم يسألوا بلسانهم« َوابْنَ ال َّ‬
‫ب »معونة المكاتبين في‬ ‫الرقا ِ‬ ‫سائِ ِلينَ »الملتمسين العطاء من المحتاجين وغيرهم« َوفِي ِ ه‬ ‫َوال َّ‬
‫الزكاة َ »المفروضة« َو ْال ُموفُونَ بِعَ ْه ِد ِه ْم‬ ‫صالة َ » *بحدودها ولوازمها« َوآتَى َّ‬ ‫قام ال َّ‬‫كتابتهم« َوأ َ َ‬
‫ّللا على الوجه المشروع الذي أباح لهم الشرع أن يعاهدوا عليه‬ ‫ّللا ومع غير ه‬ ‫ِإذا عا َهدُوا »مع ه‬
‫اء »فيما يتضررون‬ ‫ساء »في حال الشدائد« َوالض ََّّر ِ‬ ‫صا ِب ِرينَ ِفي ْالبَأ ْ ِ‬ ‫‪ ،‬ومنه الوفاء بالنذر« َوال َّ‬
‫ّللا« أُول ِئ َك »إشارة إلى القائمين‬ ‫ّللا« َو ِحينَ ْالبَأ ْ ِس »المجاهدين في سبيل ه‬ ‫به مما فيه قربة إلى ه‬
‫ص َدقُوا »أي أخذوها بقوة وصالبة في الدين ‪ ،‬ألن الصدق الصالبة في‬ ‫بهذه العبادات« الَّذِينَ َ‬
‫ّللا في ذلك« َوأُولئِ َك ُه ُم »الذين سميناهم‬ ‫الدين ‪ ،‬يقال رمح صدق أي صلب ‪ ،‬يقول صدقوا مع ه‬
‫بأنهم« ْال ُمتَّقُونَ »من عبادي الذين كتبت لهم رحمتي ‪ ،‬وقد تقدم المتقي من هو ‪ ،‬وأن ما ذكره‬
‫صاص فِي ْالقَتْلى ْال ُح ُّر‬ ‫ُ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ْال ِق‬
‫ب َ‬ ‫في هذه اآلية صفة المتقي ( ‪ «) 179‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ُكتِ َ‬
‫ِب ْال ُح ِ هر َو ْالعَ ْب ُد ِب ْالعَ ْب ِد َو ْاأل ُ ْنثى ِب ْاأل ُ ْنثى »يقول ‪ :‬فرض‬

‫ص ‪252‬‬

‫ص ‪254 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪179‬‬
‫صاص َحياةٌ يا أُو ِلي ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫ب لَعَله ُك ْم تَتهقُ َ‬
‫ون ( ‪) 179‬‬ ‫ِ‬ ‫َولَ ُك ْم فِي ا ْل ِق‬

‫ب »وهم‬‫صاص َحياة ٌ »لما في ذلك من مصالح الحياة الدنيا« يا أُو ِلي ْاأل َ ْلبا ِ‬ ‫ِ‬ ‫« َولَ ُك ْم ِفي ْال ِق‬
‫ّللا )فعلموا أن القصاص إنما‬ ‫علَى َّ ِ‬‫صلَ َح فَأ َ ْج ُرهُ َ‬ ‫عفا َوأ َ ْ‬
‫الناظرون في اللب مع قوله ‪ ( :‬فَ َم ْن َ‬
‫شرع ألن الجاهل ال يردعه مثل العفو ‪ ،‬فيؤديه احتمال الكامل مع جهله إلى إهالك أولي‬
‫األلباب ‪ ،‬فإذا علم أن النفس بالنفس وال بد ارتدع ‪ ،‬فقتل الجاهل كقطع عضو لسعته الحية من‬
‫الجسد إبقاء على باقي الجسد ‪ ،‬فهو ينقصه إال أن فيه مصلحته ‪ «.‬لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ »وهذا إثبات‬
‫لألسباب اإللهية المقررة في العالم فعلل ‪ ،‬والم العلة في القرآن كثير‪.‬‬
‫__________________________________________‬
‫عليكم القصاص في القتلى إن قتل حر حرا قتل به ‪ ،‬وإن قتل عبد عبدا قتل به ‪ ،‬وإن قتلت أنثى‬
‫أنثى قتلت بها ‪ ،‬ال يقتل حر بعبد لم يقتله ‪ ،‬وال رجل بامرأة لم يقتلها ‪ ،‬وما تعرض في اآلية‬
‫إلى حكم الحر بالعبد ‪ ،‬وال الذكر باألنثى ‪ ،‬حتى يدهعى في هذه اآلية النسخ ‪ ،‬فإذا ورد حكم آخر‬
‫في الكتاب أو السنة عمل به وكان زيادة حكم ‪ ،‬وإنما تكون هذه اآلية منسوخة لو لم يقتل حر‬
‫بحر وال عبد بعبد وال أنثى بأنثى ‪ ،‬وما قال في اآلية وال يجوز غير هذا ‪ ،‬ولو قال ذلك لكان‬
‫النسخ يرد على قوله حكما ‪ ،‬وال يجوز غير هذا لثبوت الحكم فيما ذكره ‪ ،‬وال خالف في أن‬
‫هذا الحكم في قتل العمد ‪ ،‬وأما شبه العمد أو الخطأ فله حكم آخر إذا ورد يرد الكالم عليه ‪،‬‬
‫والشرط الذي يجب به القصاص في المقتول هو أن يكون دم المقتول مكافئا لدم القاتل ‪ ،‬والذي‬
‫به تختلف النفوس هو اإلسالم والكفر ‪ ،‬والحرية والعبودية ‪ ،‬والذكورية واألنوثية ‪ ،‬والواحد‬
‫والكثير ‪ ،‬وال خالف بين العلماء أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه األربعة أنه يجب‬
‫القصاص ‪ ،‬فثبت بهذا االتفاق أن هذه اآلية ليس بمنسوخة ‪ ،‬وأن النبي عليه السالم إنما كان‬
‫حكمه بين الحيين في السبب الموجب لنزول هذه اآلية أن ال يقتل بالمقتول غير قاتله كما‬
‫ع بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫وف َوأَدا ٌء إِلَ ْي ِه بِإِ ْحسا ٍن »فيه‬ ‫ي لَهُ ِم ْن أ َ ِخي ِه َ‬
‫ش ْي ٌء فَا ِت هبا ٌ‬ ‫ذكرناه ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَ َم ْن ُ‬
‫ع ِف َ‬
‫وجوه ‪ ،‬منها إذا عفا ولي المقتول عن القود وقبل الدية فيطلبها من القاتل بمعروف ‪ ،‬أي برفق‬
‫على وجه مشروع ‪ ،‬وال يشطط في الدية بأن يطلب الغاية القصوى في سمنها وحسنها ‪،‬‬
‫وليطلب بحكم التوسط في ذلك ‪ ،‬وليؤدي القاتل إليه ذلك بإحسان ‪ ،‬أي بحيث يطيب قلبه ‪،‬‬
‫ي لَهُ »أي من بقيت له من دية أخيه بقية فليطلبها كما ذكرناه ‪ ،‬سواء‬ ‫ووجه آخر وهو« فَ َم ْن ُ‬
‫ع ِف َ‬
‫كثرت أو قلت ‪ ،‬وقد يكون للدم أولياء فيعفو بعضهم فيسقط القود وتتعين‬

‫ص ‪253‬‬

‫ص ‪255 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪180‬‬
‫ض َر أ َ َح َد ُك ُم ا ْل َم ْوتُ ِإ ْن ت َ َركَ َخ ْيرا ً ا ْل َو ِصيهةُ ِل ْلوا ِل َد ْي ِن َو ْاأل َ ْق َر ِب َ‬
‫ين ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫وف َحقًّا‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِإذا َح َ‬
‫ب َ‬ ‫ُكتِ َ‬
‫ين ) ‪( 180‬‬ ‫علَى ا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫َ‬
‫األقربون هم الذين الحظ لهم في الميراث ‪ ،‬والوصية في الثلث مما له التصرف فيه من ماله ‪،‬‬
‫فال يتجاوز ثلث ماله‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫يف ِم ْن َر ِبه ُك ْم َو َر ْح َمةٌ »من الذي‬ ‫الدية ‪ ،‬فيطلبونها بالمعروف ‪ ،‬أي بالعدل كما ذكرناه« ذ ِل َك ت َ ْخ ِف ٌ‬
‫كان مكتوبا في ذلك على أهل الكتابين ‪ ،‬فكتب على اليهود القتل وليس لهم أن يعفوا وال أن‬
‫ّللا علينا وعليهم‬ ‫يأخذوا الدية ‪ ،‬وعلى أهل اإلنجيل العفو ليس لهم قتل وال أخذ دية ‪ ،‬فوسع ه‬
‫فخفف بأن خيرنا في إحدى ثالث قودا وعفوا ودية ‪ ،‬فالرحمة بأولياء المقتول إن أخذوا الدية‬
‫انتفعوا بها ‪ ،‬وإن قتلوا شفوا صدورهم ‪ ،‬وكان ذلك كفارة للقاتل ورحمة في حق القاتل ‪ ،‬إن‬
‫قتل فكفارة ‪ ،‬وإن عفي عنه أو أخذوا الدية فقد أبقيت عليه حياته ليتوب ويرجع« فَ َم ِن ا ْعتَدى‬
‫ذاب أ َ ِلي ٌم »أي من اعتدى على القاتل فقتله بعد أخذ الدية أو العفو ‪ ،‬أو اعتدى في‬ ‫ع ٌ‬ ‫بَ ْع َد ذ ِل َك فَلَهُ َ‬
‫ّللا على حد ما شرعه في‬ ‫القود إذا تولى قتله أن يمثل به ‪ ،‬يقول بعد فرض الحكم الذي شرعه ه‬
‫القصاص أن يقتل بمثل ما قتل به ‪ ،‬وهو قول جماعة ‪ ،‬أو يقتل بالسيف وهو قول جماعة‬
‫صاص َحياة ٌ يا أُو ِلي‬ ‫ِ‬ ‫أخرى ‪ ،‬ولكل فريق حجة ليس هذا موضعها ( ‪َ «) 180‬ولَ ُك ْم فِي ْال ِق‬
‫ب لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ »يقول ‪ :‬ال يقتل بالمقتول سوى قاتله ‪ ،‬ألن العرب كانت تقتل الجماعة‬ ‫ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫بالواحد ‪ ،‬وقد يريد بالقصاص أخذ الدية فتبقى حياة القاتل عليه ‪ ،‬وقد يكون القصاص ردعا‬
‫وزجرا فيقل القتل خوفا من القصاص ‪ ،‬وقد يكون جميع هذه الوجوه مقصودة بالقصاص ‪،‬‬
‫وفي هذه اآلية شرف للعقول وأنه ما خاطب بالحكم إال العقالء ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ »تقدهم‬
‫صيَّةُ‬‫ض َر أ َ َح َد ُك ُم ْال َم ْوتُ ِإ ْن ت َ َر َك َخيْرا ا ْال َو ِ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِإذا َح َ‬ ‫تفسيره في أول السورة «) ‪ُ ( 181‬كتِ َ‬
‫ب َ‬
‫علَى ْال ُمت َّ ِقينَ »يقول ‪ :‬فرض عليكم إذا حضر أحدكم الموت‬ ‫ِل ْلوا ِل َدي ِْن َو ْاأل َ ْق َر ِبينَ ِب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫وف َحقًّا َ‬
‫‪ ،‬يعني إذا جاء أجله ‪ ،‬إن ترك خيرا أي ماال فله أن يوصي لوالديه بماله الذي يملكه ‪ ،‬والذي‬
‫يملكه من حضره الموت من ماله ‪ ،‬إنما هو الثلث ال غير ‪ ،‬فلإلنسان أن يهب ماله كله الذي‬
‫ملكه الشرع صحيحا أو مريضا ‪ ،‬ألن التمليك للشارع ‪ ،‬وتلك الوصية حقا هّلل عليه في ماله إن‬
‫ّللا ‪ ،‬وذهب بعضهم إلى أنه يعصي من ال يفعل ذلك ‪ ،‬واألقربون هنا من ال يرث كالخالة‬ ‫اتقى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫والخال ‪ ،‬وقد جاء النص في بر الخالة والوصية عليها ‪ ،‬وقد جاء عن رسول ه‬
‫وسلم [ ال وصية لوارث ] فأما األقربون فيسوغ فيهم ما ذهبوا إليه ‪ ،‬وأما الوالدان‬

‫ص ‪254‬‬

‫ص ‪256 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 181‬إلى ‪182‬‬
‫خاف‬
‫َ‬ ‫ع ِلي ٌم ( ‪ ) 181‬فَ َم ْن‬
‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ِين يُبَ ِ هدلُونَهُ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫س ِمعَهُ فَ ِإنهما ِإثْ ُمهُ َ‬ ‫فَ َم ْن بَ هدلَهُ بَ ْع َد ما َ‬
‫ور َر ِحي ٌم ) ‪( 182‬‬ ‫غف ُ ٌ‬‫ّللا َ‬
‫علَ ْي ِه ِإ هن ه َ‬ ‫وص َجنَفا ً أ َ ْو ِإثْما ً فَأ َ ْ‬
‫صلَ َح بَ ْينَ ُه ْم فَل ِإثْ َم َ‬ ‫ِم ْن ُم ٍ‬
‫الجنف حيف في الكم والكيف‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا لهم بين الوصية والميراث ‪،‬‬ ‫فيتعينون وقد قال ‪َ ( :‬و ِب ْالوا ِل َدي ِْن ِإ ْحسانا ا ) *فما المانع أن يجمع ه‬
‫إذ كان حقهم أعظم الحقوق وأوجبها ‪ ،‬والقرآن نص مقطوع به ‪ ،‬وقد اتفقوا على أنه ال تجوز‬
‫الوصية لوارث ‪ ،‬فإذا وقعت فأجمعوا على أنه ال تجوز إذا لم تجزها الورثة ‪ ،‬واختلفوا إذا‬
‫أجازتها الورثة ‪ ،‬فقال األكثرون تجوز ‪ ،‬وقال أهل الظاهر ال تجوز وإن أجازتها الورثة ‪،‬‬
‫أن تنفيذها من كونها وصية ال تجوز ‪ ،‬وقد رفع‬ ‫وحكي ذلك عن المزني ‪ ،‬والذي يقتضيه النظر ه‬
‫الشارع حكمها أن تكون وصية ‪ ،‬إذا فليست بوصية شرعا ‪ ،‬وإذا لم تكن وصية وقد تعين القدر‬
‫الذي ذكره الميت ‪ ،‬فيقسم على القرابة بأسرهم ما لم يعين قرابة مخصوصين ‪ ،‬فإن عيهن‬
‫فاألولى بالورثة إذا سمحوا بإعطاء هذا المال صدقة منهم عن الميت أن يوصلوه لمن عيهنه‬
‫علَى ْال ُمت َّ ِقينَ‬
‫وف َحقًّا َ‬ ‫على حكم ما عيهنه ‪ ،‬وهي عندنا عبادة غير معللة ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫»يؤيد أنها غير منسوخة وأنها غير مخالفة آلية المواريث ‪ ،‬فيكون المعنى ‪ :‬كتب عليكم ما‬
‫ّللا من توريث الوالدين واألقربين في قوله تعالى ‪:‬‬ ‫أوصى به ه‬
‫( يوصيكم في أوالدكم ) اآليات كلها ‪ ،‬فاعملوا فيها بالمعروف وأعطوا كل ذي حق حقه كما‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬على أنه قد روي عن‬ ‫وف َحقًّا »واجبا على القاسم لها أن يتقي ه‬ ‫ّللا« ِب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫أوصى ه‬
‫بعض أهل العلم أنه يجمع للوالدين بين الوصية والميراث ‪ ،‬ومن قال بالتأويل األول حمل‬
‫المعروف أن ال يتجاوز الموصي الثلث ‪ ،‬ويعمل بالعدل في ذلك ( ‪ «) 182‬فَ َم ْن بَ َّدلَهُ »أي‬
‫علَى الَّذِينَ يُبَ ِ هدلُونَهُ »فإن‬ ‫س ِمعَهُ »من الموصي« فَإِنَّما ِإثْ ُمهُ َ‬ ‫غيهر ما وقعت به الوصية« بَ ْع َد ما َ‬
‫ع ِلي ٌم » *به ‪ ،‬وفيه وعيد‬ ‫س ِمي ٌع »ما أوصى به الميت« َ‬ ‫إثم التبديل على من بدله« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫وص َجنَفا ا »ميال عن الحق وهو ال يدري« أ َ ْو‬ ‫خاف »أي توقع« ِم ْن ُم ٍ‬ ‫َ‬ ‫للمبدهل «) ‪ ( 183‬فَ َم ْن‬
‫علَ ْي ِه »وإن أخطأ في‬ ‫صلَ َح بَ ْينَ ُه ْم فَال ِإثْ َم َ‬
‫ِإثْما ا »متعمدا لذلك ‪ ،‬فتنازع الموصى لهم في ذلك« فَأ َ ْ‬
‫ور »في حق المصلح ‪،‬‬ ‫غف ُ ٌ‬
‫ّللا َ‬‫القسمة أو في رد ذلك إلى الوجه المشروع في اجتهاده« ِإ َّن َّ َ‬
‫والميت الذي ما تعمد الخطأ« َر ِحي ٌم»‬

‫ص ‪255‬‬

‫ص ‪257 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪183‬‬
‫علَى الَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ ) ‪( 183‬‬ ‫ب َ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ال ِ ه‬
‫صيا ُم َكما ُكتِ َ‬ ‫ب َ‬‫يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ُكتِ َ‬
‫الصوم هو اإلمساك والرفعة يقال صام النهار إذا ارتفع ‪ ،‬ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات‬
‫كلها في الدرجة سمي صوما ‪ ،‬ورفعه سبحانه بنفي المثلية عنه في العبادات وسلبه عن عباده‬
‫ّللا صلهى‬
‫مع تعبدهم به وأضافه إليه سبحانه ‪ ،‬أخرجه النسائي عن أبي أمامة قال ‪ :‬أتيت رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم فقلت ‪ :‬مرني بأمر آخذه عنك ‪ ،‬قال ‪ :‬عليك بالصوم فإنه ال مثل له ‪ ،‬وورد في‬ ‫ه‬
‫ّللا تعالى يقول ‪ :‬الصوم لي وأنا أجزي به ‪ ،‬وخرج مسلم في الصحيح عن أبي‬ ‫الخبر أن ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬كل عمل ابن آدم له إال الصيام ‪ ،‬فإنه لي‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫هريرة قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫وأنا أجزي به ‪ ،‬والصيام جنة ‪ ،‬فإذا كان يوم صوم أحدكم فال يرفث يومئذ وال يسخب ‪ ،‬فإن‬
‫سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم إني صائم ‪ ،‬والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم‬
‫ّللا يوم القيامة من ريح المسك ‪ ،‬وللصائم فرحتان يفرحهما ‪ ،‬إذا أفطر فرح بفطره ‪،‬‬ ‫أطيب عند ه‬
‫عز وجل فرح بصومه ] واعلم أن الصوم المشروع منه واجب ومنه مندوب إليه‬ ‫وإذا لقي ربه ه‬
‫ّللا تعالى ابتداء وهو صوم شهر رمضان‬ ‫‪ ،‬والواجب على ثالثة أنواع ‪ :‬منه ما يجب بإيجاب ه‬
‫الذي أنزل فيه القرآن ‪ ،‬أي في صيامه أو عدة من أيام أخر ‪ ،‬في حق المسافر أفطر أو لم يفطر‬
‫عندنا ‪ ،‬وفي حق المريض ‪ ،‬ومنه ما يجب لسبب موجب ‪ ،‬وهو صيام الكفارات ‪ ،‬ومنه ما‬
‫ّللا بما أوجبه اإلنسان على نفسه وهو غير مكروه ‪ ،‬وهو صوم النذر ‪ ،‬فإنه يستخرج‬ ‫يجب من ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ال‬
‫به من البخيل ‪ ،‬وما ثم واجب غير ما ذكرنا ‪ ،‬والصوم عمل مستور عن كل ما سوى ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ألنه ترك وليس بعمل وجودي فيظهر للبصر أو يعمل‬ ‫يعلمه من اإلنسان إال ه‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ال يعلمه من الصائم إال ه‬ ‫بالجوارح ‪ ،‬فهو عمل مستور عن كل ما سوى ه‬
‫والصائم هو الذي سماه الشرع صائما ال الجائع ‪ -‬إشارة واعتبار ‪ -‬لو علم اإلنسان من أي مقام‬
‫ناداه الحق تعالى بالصيام في قوله ‪ «:‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا »وأنه المخاطب‬
‫____________________________________________‬
‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬
‫صيا ُم »اآلية ‪ ،‬يقول ‪ :‬فرض عليكم الصيام ‪،‬‬ ‫علَ ْي ُك ُم ال ِ ه‬ ‫بالكل «) ‪( 184‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ُكتِ َ‬
‫ب َ‬
‫وهو اإلمساك عن كل ما أمر الشرع أن يمسك عنه الصائم ‪ ،‬من طلوع الفجر المستطير إلى‬
‫غروب‬

‫ص ‪256‬‬

‫ص ‪258 :‬‬
‫في نفسه وحده بهذه الجمعية ‪ ،‬فإنه قال ‪ [ :‬يصبح على كل سالمي منكم صدقة ] فجعل التكليف‬
‫عاما في اإلنسان الواحد ‪ ،‬وإذا كان هذا في عروقه فأين أنت من جوارحه ‪ ،‬من سمعه وبصره‬
‫ّللا ناداك من‬ ‫ولسانه ويده وبطنه ورجله وفرجه وقلبه ‪ ،‬الذين هم رؤساء ظاهره ‪ ،‬واعلم أن ه‬
‫كونك مؤمنا من مقام الحكمة الجامعة ‪ ،‬لتقف بتفاصيل ما يخاطبك به على العلم بما أراده منك‬
‫صيا ُم »أي اإلمساك عن كل ما حرم عليكم فعله أو‬ ‫علَ ْي ُك ُم ال ِ ه‬ ‫في هذه العبادة ‪ ،‬فقال «‪ُ :‬كتِ َ‬
‫ب َ‬
‫علَى الَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم »يعني الصوم من حيث ما هو صوم ‪ ،‬فإن كان أيضا‬ ‫ب َ‬‫تركه« َكما ُكتِ َ‬
‫يعني به صوم رمضان بعينه كما ذهب إليه بعضهم ‪ ،‬غير أن الذين قبلنا من أهل الكتاب زادوا‬
‫علَى الَّذِينَ‬
‫ب »أي فرض« َ‬ ‫فيه إلى أن بلغوا خمسين يوما وهو مما غيروه ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬كما ُكتِ َ‬
‫ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم »وهم الذين هم لكم سلف في هذا الحكم وأنتم لهم خلف« لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ »أي تتخذوا‬
‫ّللا عليه وسلم أخبرنا أن الصوم جنة ‪ ،‬والجنة الوقاية ‪ ،‬وال‬ ‫الصوم وقاية ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫يتخذونه وقاية إال إذا جعلوه عبادة ‪ ،‬فيكون الصوم للحق من وجه ما فيه من التنزيه ‪ ،‬ويكون‬
‫من وجه ما هو عبادة في حق العبد جنة ووقاية من دعوى فيما هو هّلل ال له ‪ ،‬فإن الصوم ال‬
‫مثل له ‪ ،‬فهو لمن ال مثل له ‪ ،‬فالصوم هّلل ليس لك ‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬في الخبر المروي [ الصوم‬
‫لي ] ثم قال ‪:‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪184‬‬


‫ِين يُ ِطيقُونَهُ‬
‫علَى الهذ َ‬ ‫سفَ ٍر فَ ِع هدةٌ ِم ْن أَيه ٍام أ ُ َخ َر َو َ‬
‫كان ِم ْن ُك ْم َم ِريضا ً أ َ ْو عَلى َ‬ ‫ت فَ َم ْن َ‬ ‫أَيهاما ً َم ْعدُودا ٍ‬
‫صو ُموا َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ون (‬ ‫ع َخ ْيرا ً فَ ُه َو َخ ْي ٌر لَهُ َوأ َ ْن ت َ ُ‬
‫ين فَ َم ْن ت َ َط هو َ‬
‫س ِك ٍ‬‫فِ ْديَةٌ َطعا ُم ِم ْ‬
‫ت »العامل في األيام كتب األول بال شك ‪ ،‬فإنه ما عندنا علم بما كتب‬ ‫‪ «) 184‬أَيَّاما ا َم ْعدُودا ٍ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫علَى الَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم‬
‫ب »أي مثل ما فرض« َ‬ ‫ّللا تعالى عبادة« َكما ُكتِ َ‬ ‫الشمس ‪ ،‬بنية القربة إلى ه‬
‫ّللا فيما أمرتم به من اإلمساك عنه من أكل وشرب ونكاح‬ ‫»من األمم الخالية« لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ » ه‬
‫ت »فقللها ألن بنية أفعال لجمع القلة ‪،‬‬ ‫وغيبة زمان اإلمساك ‪ ،‬ثم قال ‪ «) 185 ( :‬أَيَّاما ا َم ْعدُودا ٍ‬
‫وكذلك أفعل وأفعلة وفعلة ‪ ،‬ونصبه بكتب األول على المفعولية ‪ ،‬وكذلك أيام شهر رمضان‬

‫ص ‪257‬‬

‫ص ‪259 :‬‬
‫على من قبلنا ‪ ،‬هل كتب عليهم يوم واحد وهو عاشوراء ‪ ،‬أو كتب عليهم أيام ‪ ،‬والذي كتب‬
‫علينا إنما هو شهر ‪ ،‬والشهر إما تسعة وعشرون يوما وإما ثالثون يوما ‪ ،‬بحسب ما نرى‬
‫ّللا صلهى‬
‫الهالل ‪ ،‬واأليام من ثالثة إلى عشرة ال غير ‪ ،‬فطابق لفظ القرآن ما أعلمنا به رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم في عدد أيام الشهر ‪ ،‬فقال ‪ [ :‬الشهر هكذا وأشار بيده عشرة أيام ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬هكذا‬ ‫ه‬
‫يعني عشرة أيام ‪ ،‬وهكذا ‪ ،‬وعقد إبهامه في الثالثة ‪ ،‬يعني تسعة أيام ‪ ،‬وفي المرة األخرى لم‬
‫ت »عدد الشارع‬ ‫يعقد اإلبهام ‪ ،‬فأراد أيضا عشرة أيام ] وذلك لما قال تعالى ‪ «:‬أَيَّاما ا َم ْعدُودا ٍ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه لو قال ثالثون يوما لكان‬ ‫أيام الشهر بالعشرات حتى يصح ذكر األيام موافقا لكالم ه‬
‫كما قال في اإليالء لعائشة ‪ ،‬قد يكون الشهر تسعة وعشرين يوما ‪ ،‬ولم يقل هكذا وهكذا كما‬
‫قال في عدد شهر رمضان ‪ ،‬فعلمنا أنه أراد موافقة الحق تعالى فيما ذكر في كتابه ‪ ،‬ثم قال «‪:‬‬
‫سفَ ٍر فَ ِع َّدة ٌ ِم ْن أَي ٍَّام أُخ ََر »فأتى بذكر األيام أيضا وأشار إلى‬ ‫فَ َم ْن كانَ ِم ْن ُك ْم َم ِريضا ا أ َ ْو َ‬
‫على َ‬
‫المخاطبين بقوله ‪ِ «:‬م ْن ُك ْم »وهم الذين آمنوا ‪ ،‬والذي أذهب إليه أن المريض والمسافر إن‬
‫صاما شهر رمضان فإن ذلك ال يجزيهما ‪ ،‬وأن الواجب عليهما عدة من أيام أخر ‪ ،‬غير أني‬
‫أفرق بين المريض والمسافر إذا أوقعا الصوم في هذه الحالة في شهر رمضان ‪ ،‬فأما المريض‬
‫فيكون الصوم له نفال ‪ ،‬وهو عمل بر وليس بواجب عليه ‪ ،‬ولو أوجبه على نفسه فإنه ال يجب‬
‫عليه ‪ ،‬وأما المسافر ال يكون صومه في السفر في شهر رمضان وال في غيره من عمل بر ‪،‬‬
‫وإذا لم يكن من عمل بر كان كمن لم يعمل شيئا ‪ ،‬وهو أدنى درجاته ‪ ،‬أو يكون على ضد البر‬
‫ونقيضه وهو الفجور ‪ ،‬وال أقول بذلك ‪ ،‬إال أني أنفي عنه أن يكون في عمل بر في ذلك الفعل‬
‫في تلك الحال ‪ ،‬وعلى المسافر أن يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم السفر ‪ ،‬وكذلك المريض‬
‫عليه أن يفطر في أقل ما ينطلق عليه اسم مرض ‪ ،‬والواجب عدة من أيام أخر في غير‬
‫رمضان ‪ ،‬فهو واجب موسع الوقت من ثاني يوم شوال إلى آخر عمره ‪ ،‬وإذا كنا مسافرين‬
‫ّللا تعالى ن هكر‬ ‫فأفطرنا فنقضي أيام رمضان أو نؤديه في أيام غير معينة ‪ ،‬فإن ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سفَ ٍر فَ ِع َّدة ٌ ِم ْن أَي ٍَّام أُخ ََر‬ ‫بالنسبة إلى أيام السنة قليلة ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَ َم ْن كانَ ِم ْن ُك ْم َم ِريضا ا أ َ ْو َ‬
‫على َ‬
‫»يأتي تفسيره في اآلية التي تلي هذه ‪ ،‬والذي يتعلق من ذلك بهذه اآلية ‪ ،‬أنه من رجح الصوم‬
‫على اإلطعام لما كان مخيرا بينهما مع الطاقة ‪ ،‬كان حكمه إذا مرض أو سافر عدة من أيام‬
‫أخر ‪ ،‬إذ قد انقضى زمان شهر رمضان بنية الصوم لوال المرض أو السفر ‪ ،‬فال يجوز له‬

‫ص ‪258‬‬

‫ص ‪260 :‬‬
‫األيام في قوله« فَ ِع َّدة ٌ ِم ْن أَي ٍَّام أُخ ََر »فالذي يجب على المكلف في سفره عدة من أيام أخر ‪ ،‬له‬
‫االختيار في تعيينها ‪ ،‬وإذا قضيت أيام رمضان من مرض أو سفر فاقضه متتابعا كما أفطرته‬
‫ين »اآلية عندي‬ ‫علَى الَّذِينَ يُ ِطيقُونَهُ فِ ْديَةٌ َ‬
‫طعا ُم ِم ْس ِك ٍ‬ ‫متتابعا ‪ ،‬تخرج بذلك من الخالف« َو َ‬
‫مخصصة غير منسوخة في حق الحامل والمرضع والشيخ والعجوز ‪ ،‬فالحامل والمرضع‬
‫يطعمان وال قضاء عليهما ‪ ،‬والشيخ والعجوز إذا لم يقدرا على الصوم يفطران وال يطعمان ‪،‬‬
‫فإن اإلطعام شرع مع الطاقة على الصوم ‪ ،‬وأما من ال يطيقه فقد سقط عنه التكليف في ذلك ‪،‬‬
‫ّللا ما كلف نفسا إال وسعها‬ ‫وليس في الشرع إطعام من هذه صفته من عدم القدرة عليه ‪ ،‬فإن ه‬
‫وما كلفها اإلطعام ‪ ،‬فلو كلفها مع عدم القدرة لم نعدل عنه وقلنا به ‪ ،‬واإلطعام مد عن كل يوم«‬
‫صو ُموا َخي ٌْر لَ ُك ْم »فقد قال فيه إن الصوم ال مثل له ‪ ،‬فهو عبادة ال مثل لها في الخيرية«‬ ‫َوأ َ ْن ت َ ُ‬
‫ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »قد تكون إن هنا بمعنى ما يقول ‪ .‬ما كنتم تعلمون أن الصوم خير من اإلطعام‬
‫لوال ما أعلمتكم ‪ ،‬ويكون معناها أيضا «إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »األفضل فيما خيرتكم فيه ‪ ،‬فقد‬
‫أعلمتكم مرتبة الصوم ومرتبة اإلطعام –‬
‫[ التخيير اختبار وابتالء ]‬
‫تحقيق ‪ -‬اعلم أن الحق إذا خير العبد فقد حيره ‪ ،‬فإن حقيقته العبودية فال يتصرف إال بحكم‬
‫االضطرار والجبر ‪ ،‬والتخيير نعت السيد ما هو نعت العبد ‪ ،‬وقد أقام السيد عبده في التخيير‬
‫اختبارا وابتالء ‪ ،‬ليرى هل يقف مع عبوديته أو يختار فيجري في األشياء مجرى سيده ‪ ،‬وهو‬
‫في المعنى مجبور في اختياره مع كون ذلك عن أمر سيده ‪ ،‬فكان ال يزول عن عبوديته وال‬
‫ّللا عليه التخيير ‪ ،‬ولما نبه تعالى عباده على أن الصوم خير لهم إذا‬ ‫يتشبه بربه فيما أوجب ه‬
‫اختاروه أبان لهم بذلك عن طريق األفضلية ‪ ،‬ليرجحوا الصوم على الفطر ‪ ،‬فكان هذا من رفقه‬
‫سبحانه بهم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫في القضاء اإلطعام كما جاز في زمان رمضان ‪ ،‬ألن الصوم قد ترتب في الذمة بالترجيح في‬
‫علَى الَّذِينَ يُ ِطيقُونَهُ »أي يصومونه‬ ‫زمان التخيير ‪ ،‬وانقضى الزمان على ذلك ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َ‬
‫ين »لكل يوم إطعام مسكين ‪ ،‬واختلف الناس في قدر ذلك ‪ ،‬واألولى‬ ‫طعا ُم ِم ْس ِك ٍ‬ ‫طاقتهم« ِف ْديَةٌ َ‬
‫أن يكون اإلطعام نصف صاع من طعام ‪ ،‬إذ قد نص الشارع عليه في بعض الكفارات ‪،‬‬
‫ع َخيْرا ا »أي زاد‬ ‫فالرجوع إلى الرسول عليه الصالة والسالم عند الخالف أولى« فَ َم ْن ت َ َ‬
‫ط َّو َ‬
‫على الواجب من جنسه فأطعم أكثر من مسكين أو أكثر من نصف صاع« فَ ُه َو َخي ٌْر لَهُ »أي‬
‫ّللا وأعظم أجرا« ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم‬ ‫صو ُموا »بدال من اإلطعام« َخي ٌْر لَ ُك ْم »عند ه‬ ‫أعظم ألجره« َوأ َ ْن ت َ ُ‬
‫ت َ ْعلَ ُمونَ »أي إن عملتم بما‬

‫ص ‪259‬‬

‫ص ‪261 :‬‬
‫حيث أزال عنهم الحيرة في التخيير بهذا القدر من الترجيح ‪ ،‬ومع هذا فاالبتالء له مصاحب ‪،‬‬
‫ألنه تعالى لم يوجب عليه فعل ما رجحه له ‪ ،‬بل أبقى له االختيار على بابه ‪ ،‬أما في الكفارة‬
‫وّللا حكيم والحكمة في بعض‬ ‫فإن الترتيب أولى من التخيير ‪ ،‬فإن الحكمة تقتضي الترتيب ‪ ،‬ه‬
‫األشياء أولى من الترتيب لما اقتضته الحكمة ‪ ،‬والعبد في الترتيب عبد اضطرار كعبودة‬
‫الفرائض ‪ ،‬والعبد في التخيير عبد اختيار كعبودة النوافل ‪ ،‬وفيها رائحة من عبودية االضطرار‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬وبين عبادة النوافل وعبادة الفرائض في التقريب اإللهي بون بعيد في علو الرتبة ‪ ،‬فإن ه‬
‫جعل القرب في الفرائض أعظم من القرب في النوافل ‪ ،‬وأن ذلك أحب إليه ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪185‬‬


‫قان فَ َم ْن ش َِه َد ِم ْن ُك ُم‬
‫ت ِم َن ا ْل ُهدى َوا ْلفُ ْر ِ‬ ‫اس َوبَ ِيهنا ٍ‬‫دى ِللنه ِ‬ ‫ضان الهذِي أ ُ ْن ِز َل ِفي ِه ا ْلقُ ْر ُ‬
‫آن ُه ً‬ ‫شه ُْر َر َم َ‬ ‫َ‬
‫س َر َوال يُ ِري ُد‬ ‫سفَ ٍر فَ ِع هدةٌ ِم ْن أَيه ٍام أ ُ َخ َر يُ ِري ُد ه‬
‫ّللاُ بِ ُك ُم ا ْليُ ْ‬ ‫كان َم ِريضا ً أ َ ْو عَلى َ‬ ‫ص ْمهُ َو َم ْن َ‬ ‫شه َْر فَ ْليَ ُ‬‫ال ه‬
‫ون ( ‪.) 185‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫س َر َو ِلت ُ ْك ِملُوا ا ْل ِع هدةَ َو ِلت ُ َك ِبه ُروا ه َ‬
‫ّللا عَلى ما َهدا ُك ْم َولَعَله ُك ْم ت َ ْ‬ ‫بِ ُك ُم ا ْلعُ ْ‬
‫ش ْه ُر َر َمضانَ " سمي الشهر شهرا من الشهرة الشتهاره وتمييزه واعتناء المسلمين به‬ ‫" َ‬
‫وأصحاب تسيير الكواكب ‪ ،‬يقول ‪ :‬شهر هذا االسم اإللهي ‪ ،‬فإن رمضان من األسماء اإللهية ‪،‬‬
‫فشارك شهر رمضان الحق في االسم ‪ ،‬فتعينت له حرمة على ما هي لسائر شهور‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أعلمتكم ‪ ،‬وهذه اآلية مخصصة بالمرضع والشيخ والعجوز وإن كانوا قادرين على الصوم لكن‬
‫ببذل المجهود من طاقتهم ‪ ،‬وخرج من هذه اآلية غير هؤالء باآلية األخرى ‪ ،‬فارتفع الحكم‬
‫بالتخيير إلى الحكم بوجوب الصوم في حق قوم موصوفين بصفة مخصوصة ‪ ،‬ولم يرتفع فيمن‬
‫ذكرناهم ‪ ،‬إذ أحكام الشرع تتبع األسماء واألحوال ‪ ،‬فلكل اسم وحال حكم ليس لآلخر ‪ ،‬وهو‬
‫ش ْه ُر َر َمضانَ الَّذِي أ ُ ْن ِز َل فِي ِه ْالقُ ْر ُ‬
‫آن »اآلية ‪،‬‬ ‫أس هد الوجوه المذكورة في هذا الفصل «) ‪َ ( 186‬‬
‫ّللا تعالى‬
‫ّللا عليه وسلم أن يقال رمضان فإن رمضان اسم من أسماء ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫نهى رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وإن كان رمضان اسما لهذا الشهر ‪ ،‬فأراد‬ ‫وقولوا شهر رمضان ‪ ،‬فيكون معناه شهر ه‬
‫ّللا عليه وسلم رفع اللبس ‪ ،‬فإذا أمنها االلتباس فلنا أن نقول رمضان ‪ ،‬قال عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫السالم ‪ [ :‬من قام رمضان إيمانا واحتسابا ] وقال ‪ [ :‬من صام‬

‫ص ‪260‬‬

‫ص ‪262 :‬‬
‫السنة ‪ ،‬فإنه أفضل الشهور ‪ ،‬وجعله من الشهور القمرية حتى تعم بركته جميع شهور السنة ‪،‬‬
‫فيظهر في كل شهر من شهور السنة الشمسية ‪ ،‬فيحصل لكل يوم من أيام السنة حظ منه ‪،‬‬
‫ّللا الشهر إليه تعالى من اسمه رمضان ‪ ،‬وهو اسم غريب نادر ‪ ،‬ورد الخبر بذلك ‪،‬‬ ‫فأضاف ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫روى أبو أحمد بن عدي الجرجاني عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫ش ْه ُر َر َمضانَ‬ ‫ّللا تعالى ] لذلك قال تعالى ‪َ «:‬‬ ‫[ ال تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء ه‬
‫آن »أي في صومه أي في إيجاب صومه القرآن‬ ‫»ولم يقل رمضان ‪« ،‬الَّذِي أ ُ ْن ِز َل فِي ِه ْالقُ ْر ُ‬
‫صيا ُم )خرج مسلم من حديث أبي هريرة أن‬ ‫علَ ْي ُك ُم ال ِ ه‬
‫ب َ‬ ‫بقوله تعالى ‪ ( :‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ُكتِ َ‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫وصفهدت الشياطين ] زاد النسائي في كتابه [ ونادى مناد في كل ليلة يا طالب الخير هلم ‪ ،‬ويا‬
‫طالب الشر أمسك ] فنزل القرآن بصوم شهر رمضان على التعيين دون غيره من الشهور ‪،‬‬
‫ّللا الصوم الذي ال مثل له في العبادات ابتداء إال في شهر سماه سبحانه باسم من‬ ‫فما فرض ه‬
‫ّللا إال‬‫أسمائه ‪ ،‬فال مثل له في الشهور ‪ ،‬ألنه ليس في أسماء شهور السنة من اسم تسمى به ه‬
‫رمضان ‪ ،‬والصوم صفة صمدانية يتنزه اإلنسان فيها عن الطعام والشراب والنكاح والغيبة ‪،‬‬
‫وهذه كلها نعوت إلهية يتصف بها العبد في حال صومه ‪ ،‬والقرآن الجمع ‪ ،‬فلهذا جمع بينك‬
‫وبينه في الصفة الصمدانية وهي الصوم ‪ ،‬فما كان فيه من تنزيه فهو هّلل ‪ ،‬فإنه قال الصوم لي ‪،‬‬
‫ّللا تعالى أنزل القرآن في هذا الشهر في أفضل ليلة تسمى ليلة‬ ‫ومن كونه عبادة فهو لك ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫ّللا أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان ‪ ،‬وأنزله قرآنا في‬ ‫القدر ‪ ،‬فإن ه‬
‫شهر رمضان ‪ ،‬كل ذلك إلى السماء الدنيا ‪ ،‬ومن هناك نزل في ثالث وعشرين سنة فرقانا‬
‫نجوما ذا آيات وسور لتعلم المنازل وتتبين المراتب ‪ ،‬فمن نزوله إلى األرض في شهر شعبان‬
‫اس َوبَ ِيهنا ٍ‬
‫ت‬ ‫ى ِللنَّ ِ‬‫يتلى فرقانا ‪ ،‬ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا ‪ ،‬فأنزل القرآن فيه « ُهد ا‬
‫قان »من كونه رمضان ‪ ،‬وأما من كونه في ليلة القدر فأنزله كتابا مبينا أي بينا‬ ‫ِمنَ ْال ُهدى َو ْالفُ ْر ِ‬
‫باّلل ‪،‬‬
‫أنه كتاب ‪ ،‬وبين كون الشيء كتابا وقرآنا وفرقانا مراتب متميزة يعلمها العالمون ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫رمضان ]ولم يذكر لفظة شهر ألنه أمن االلتباس في ذلك ‪ ،‬إذ الغرض التعريف عند السامع‬
‫آن »في هذا دليل على أن‬ ‫ش ْه ُر َر َمضانَ الَّذِي أ ُ ْن ِز َل ِفي ِه ْالقُ ْر ُ‬ ‫بما قصده المتكلم ‪ ،‬قال تعالى ‪َ «:‬‬
‫ليلة القدر تكون في رمضان ألنه قال ‪ ( :‬إِنَّا أ َ ْنزَ ْلناهُ فِي لَ ْيلَ ِة ْالقَ ْد ِر )يعني القرآن ‪ ،‬يقال نزل إلى‬
‫السماء‬

‫ص ‪261‬‬

‫ص ‪263 :‬‬
‫ت »فكل‬ ‫اس »على قدر طبقاتهم وما رزقوا من الفهم عنه ‪َ « ،‬وبَ ِيهنا ٍ‬ ‫ى »أي بيانا« ِللنَّ ِ‬ ‫« ُهد ا‬
‫ّللا في ذلك ‪ِ « ،‬منَ ْال ُهدى »وهو التبيان‬ ‫شخص على بينة تخصه بقدر ما فهم من خطاب ه‬
‫قان »فإنه جمعك أوال معه في الصوم بالقرآن ‪ ،‬ثم فرقك لتتميز عنه بالفرقان ‪،‬‬ ‫اإللهي« َو ْالفُ ْر ِ‬
‫فأنت أنت وهو هو ‪ ،‬فبما هو الصوم له فهو من باب التنزيه ‪ ،‬وهو لك عبادة ال مثل لها« فَ َم ْن‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬صوموا‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ص ْمهُ »يقول فليمسك نفسه قال رسول ه‬ ‫ش ْه َر فَ ْليَ ُ‬
‫ش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال َّ‬
‫َ‬
‫ّللا عليه وسلم ذكر رمضان فضرب‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫لرؤيته وأفطروا لرؤيته ‪ ،‬خرج مسلم أن رسول ه‬
‫بيده فقال ‪:‬‬
‫الشهر هكذا وهكذا ‪ ،‬ثم عقد إبهامه في الثالثة ‪ ،‬صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ‪ ،‬فإن غم‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ :‬إنا أمة أمية ال نكتب وال‬ ‫عليكم فاقدروا ثالثين ‪ ،‬وقد ورد عنه صلهى ه‬
‫نحسب ‪ ،‬الشهر هكذا وهكذا وهكذا ‪ ،‬وعقد اإلبهام ‪ ،‬والشهر هكذا وهكذا وهكذا ‪ ،‬يعني تمام‬
‫الثالثين ‪ ،‬وحديث أقدروا من حمله على التضييق ابتدأ بصوم رمضان من يوم الشك ‪ ،‬ومن‬
‫حمله على التقدير حكم بالتسيير ‪ ،‬وذلك يرجع إلى الحساب بتسيير القمر والشمس ‪ ،‬وهو‬
‫مذهب ابن الشخير ‪ ،‬وبه أقول ‪ ،‬وإذا رؤي الهالل قبل الزوال فهو لليلة الماضية ‪ ،‬وإن رؤي‬
‫بعد الزوال فهو لليلة اآلتية ‪ ،‬ومن أبصر هالل الصوم وحده عليه أن يصوم ‪ ،‬وكذلك يفطر‬
‫ّللا عليه وسلم أن يقال رمضان كما سبق‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫برؤية هالل الفطر وحده ‪ ،‬وقد نهى رسول ه‬
‫ّللا صومه وندب إلى قيامه ‪ ،‬وهو يتضمن صوما وفطرا ألنه يتضمن ليال‬ ‫أن ذكرنا ‪ ،‬وفرض ه‬
‫ونهارا ‪ ،‬واسم رمضان ينطلق عليه في حال الصوم واإلفطار ‪ ،‬حتى يتميز من رمضان الذي‬
‫ّللا تعالى له الصوم الذي ال يقبل اإلفطار ‪ ،‬ولنا الصوم الذي يقبل‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬فإن ه‬ ‫هو اسم ه‬
‫الفطر ‪ ،‬فصوم شهر رمضان واجب على كل إنسان مسلم بالغ عاقل صحيح مقيم غير مسافر ‪،‬‬
‫وهو عين هذا الزمان المعلوم المشهور المعيهن من الشهور االثني عشر شهرا ‪ ،‬الذي بين‬
‫شعبان وشوال ‪ ،‬والمعين في هذا الزمان صوم األيام دون الليالي ‪ ،‬وحد يوم الصوم من طلوع‬
‫الفجر إلى غروب الشمس ‪ ،‬فهذا هو حد اليوم المشروع للصوم ال حد اليوم المعروف بالنهار‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الدنيا في هذه الليلة جملة واحدة ‪ ،‬وقيل ينزل منه في كل ليلة القدر في رمضان قدر ما ينزل‬
‫منه على النبي عليه السالم في سائر السنة ‪ ،‬وقد ورد أن الصحف والكتاب المنزلة على‬
‫األنبياء نزلت كلها في رمضان ‪ ،‬فوصل إلينا من ذلك أن صحف إبراهيم نزلت أول ليلة من‬
‫رمضان ‪ ،‬والتوراة‬

‫ص ‪262‬‬

‫ص ‪264 :‬‬
‫سفَ ٍر »‪ -‬راجع آية ‪- 183‬‬ ‫على َ‬‫" َو َم ْن كانَ َم ِريضا ا أ َ ْو َ‬
‫« فَ ِع َّدة ٌ ِم ْن أَي ٍَّام أُخ ََر »معدودات ال يزاد فيها وال ينقص منها« يُ ِري ُد َّ‬
‫ّللاُ ِب ُك ُم ْاليُس َْر »فيما‬
‫خاطبكم به من الرفق في التكليف« َوال يُ ِري ُد بِ ُك ُم ْالعُس َْر »‪.‬‬
‫ج »وقوله ‪ «:‬فَإِ َّن‬ ‫ِين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِي ال هد ِ‬
‫وهو ما يشق عليكم ‪ ،‬تأكد بهذا القول ‪َ «:‬وما َجعَ َل َ‬
‫َم َع ْالعُس ِْر يُسْرا ا ِإ َّن َم َع ْالعُس ِْر يُسْرا ا »أي فإن مع عسر المرض يسر اإلفطار ‪ ،‬ومع عسر‬
‫ّللا »تشهدوا‬ ‫السفر يسر اإلفطار« َو ِلت ُ ْك ِملُوا ْال ِع َّدة َ »برؤية الهالل أو بتمام الثالثين« َو ِلت ُ َك ِبه ُروا َّ َ‬
‫له بالكبرياء ‪ ،‬تفردوه به وال تنازعوه فيه ‪ ،‬فإنه ال ينبغي إال له سبحانه ‪ ،‬فتكبروه عن صفة‬
‫على ما هَدا ُك ْم »أي وفقكم لمثل هذا وبيهن لكم ما تستحقونه مما يستحقه تعالى‬ ‫العسر واليسر« َ‬
‫‪َ «،‬ولَعَلَّ ُك ْم ت َ ْش ُك ُرونَ »فجعل ذلك نعمة يجب الشكر منا عليها لكوننا نقبل الزيادة ‪ ،‬فنبهنا بما هو‬
‫مضمون الشكر لنزيده في العمل [‪ .‬الصوم ]‬
‫ّللا أن الصوم هو‬ ‫ص ْمهُ »اعلم أيدك ه‬ ‫ش ْه َر فَ ْليَ ُ‬‫ش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال َّ‬
‫ش ْه ُر َر َمضانَ ‪. . .‬فَ َم ْن َ‬
‫‪-‬إشارة ‪َ «-‬‬
‫اإلمساك والرفعة ‪ ،‬يقال ‪ :‬صام النهار ‪ ،‬إذا ارتفع ‪ ،‬ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات كلها‬
‫في الدرجة سمي صوما ‪ ،‬ورفعه سبحانه بنفي المثلية عنه في العبادات ‪ ،‬وسلبه عن عباده مع‬
‫تعبدهم به ‪ ،‬وأضافه إليه سبحانه ‪ ،‬وجعل جزاء من اتصف به بيده من إثابته ‪ ،‬وألحقه بنفسه‬
‫من نفي المثلية فقوله تعالى [ كل عمل ابن آدم له إال الصيام فإنه لي ] أي صفة الصمدانية‬
‫وهي التنزيه عن الغذاء ليس إال لي ‪ ،‬وإن وصفتك به فإنما وصفتك باعتبار تقييد ما من تقييد‬
‫التنزيه ‪ ،‬ال بإطالق التنزيه الذي ينبغي لجاللي ‪ ،‬فقلت [ وأنا أجزي به ] فكان الحق جزاء‬
‫الصوم للصائم إذا انقلب إلى ربه ولقيه بوصف ال مثل له ‪ ،‬وهو الصوم ‪ ،‬إذ كان ال يرى من‬
‫ليس كمثله شيء إال من ليس كمثله شيء ‪ ،‬فإنه سبحانه ال مثل له باألدلة العقلية والشرعية ‪،‬‬
‫ّللا به ‪ ،‬وهو الصوم الظاهر‬ ‫فأول مراتب الصوم عندنا هو الصوم العام المعروف الذي تعبدنا ه‬
‫في الشاهد ‪ ،‬على تمام شروطه ‪ ،‬ثم صوم النفس عند الخواص ‪ ،‬بما هي آمرة للجوارح ‪ ،‬وهو‬
‫إمساكها عما حجر عليها في مسئلة مسئلة وارتفاعها عن ذلك ‪ ،‬وآخرها صوم القلب‬
‫الموصوف بالسعة للنزول اإللهي ‪ ،‬حيث قال تعالى [ وسعني قلب عبدي ] وله صوم وهو‬
‫إمساكه هذه السعة أن يعمرها أحد غير خالقه ‪ ،‬فإن عمرها أحد‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ه‬
‫لست خلت منه ‪ ،‬واإلنجيل لثالث عشرة ليلة خلت منه ‪ ،‬والقرآن ألربع وعشرين ليلة خلت منه‬
‫‪ ،‬فيكون نزول القرآن ليلة القدر ليلة خمس وعشرين من رمضان ‪ ،‬ووجه آخر في قوله ‪«:‬‬
‫الَّذِي‬

‫ص ‪263‬‬

‫ص ‪265 :‬‬
‫غير خالقه فقد أفطر في الزمان الذي يجب أن يكون فيه صائما إيثارا لربه ‪.‬‬
‫ّللا من لدنه علما ‪ ،‬وجعل لك في كل أمر حكمة وحكما ‪ ،‬أن رمضان اسم من‬ ‫واعلم علمك ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وهو الصمد ‪ ،‬ولما كان مجيء رمضان سببا في الشروع في الصوم ‪ ،‬فتح‬ ‫أسماء ه‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫ّللا أبواب الجنة ‪ ،‬والجنة الستر ‪ ،‬فدخل الصوم في عمل مستور ال يعلمه منه إال ه‬ ‫ه‬
‫ألنه ترك وليس بعمل وجودي فيظهر للبصر ‪ ،‬أو يعمل بالجوارح ‪ ،‬فهو مستور عن كل ما‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬والصائم الذي سماه الشرع صائما ال الجائع ‪،‬‬‫ّللا ‪ ،‬ال يعلمه من الصائم إال ه‬ ‫سوى ه‬
‫ّللا أبواب النار ‪ ،‬فإذا أغلقت أبواب النار عاد نفسها عليها ‪ ،‬فتضاعف حرها عليها وأكل‬ ‫وغلهق ه‬
‫بعضها بعضا ‪ ،‬كذلك الصائم في حكم طبيعته إذا صام غلق أبواب نار طبيعته ‪ ،‬فوجد الصائم‬
‫حرارة زائدة لعدم استعمال المرطبات ‪ ،‬ووجد ألم ذلك في باطنه ‪ ،‬وتضاعفت شهوته للطعام‬
‫الذي يتوهم الراحة بتحصيله ‪ ،‬فتقوى نار شهوته بغلق باب تناول األطعمة واألشربة ‪،‬‬
‫ّللا بالصفة الصمدانية ‪ ،‬فإنه في‬‫وصفهدت الشياطين ‪ ،‬وهي صفة البعد ‪ ،‬فكان الصائم قريبا من ه‬
‫عبادة ال مثل لها ‪ ،‬فقرب بها من صفة ليس كمثله شيء ‪ ،‬ومن كانت هذه صفته فقد صفدت‬
‫الشياطين في حقه ‪ ،‬ومتى طلع هالل المعرفة في أفق قلوب العارفين من االسم اإللهي «‬
‫رمضان » وجب الصوم ‪ ،‬ومتى طلع هالل المعرفة في أفق قلوب العارفين من االسم اإللهي«‬
‫ض » *وجب الفطر على األرواح من قوله « السماوات » وعلى‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬
‫فاط ِر ال َّ‬
‫ِ‬
‫األجسام من قوله « واألرض » واعتبار السفر فإن السالك هو المسافر في المقامات ‪،‬‬
‫ّللا يسافر ليشهده ‪ ،‬فما هو في حال شهود ‪ ،‬والمريض مائل عن الحق ‪ ،‬ألن‬ ‫والمسافر إلى ه‬
‫المرض النفسي ميل النفس إلى الكون‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫علَ ْي ُك ُم‬ ‫آن »أي الذي أنزل في شأنه القرآن ‪ ،‬يريد بذلك قوله تعالى ( ‪ُ :‬كتِ َ‬
‫ب َ‬ ‫أ ُ ْن ِز َل فِي ِه ْالقُ ْر ُ‬
‫اس »منصوب على‬ ‫ى ِللنَّ ِ‬
‫صيا ُم )يقال نزل القرآن في شأن عمر بكذا وكذا ‪ ،‬وقوله ‪ُ «:‬هد ا‬ ‫ال ِ ه‬
‫قان »ودالئل واضحات يهتدي بها ‪ ،‬ويفرق‬ ‫ت ِمنَ ْال ُهدى َو ْالفُ ْر ِ‬ ‫الحال والعامل فيه أنزل« َوبَ ِيهنا ٍ‬
‫ص ْمهُ »يقول ‪:‬من كان حاضرا في‬ ‫ش ْه َر فَ ْليَ ُ‬
‫ش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال َّ‬
‫بها بين الحق والباطل ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَ َم ْن َ‬
‫سفَ ٍر »يقول ‪ :‬أو في سفر ‪ ،‬أو على عزم سفر‬ ‫على َ‬ ‫أهله مقيما فليصمه« َو َم ْن كانَ َم ِريضا ا أ َ ْو َ‬
‫إذا دخل مدينة وأقام بها لشغل يقتضيه وهو عازم على السفر في كل يوم وقد يستروح منه فطر‬
‫المسافر يوم خروجه قبل خروجه وأن ال يبيت الصوم من الليلة التي عزم‬

‫ص ‪264‬‬

‫ص ‪266 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪186‬‬
‫َعان فَ ْليَ ْ‬
‫ست َ ِجيبُوا ِلي َو ْليُ ْؤ ِمنُوا ِبي‬ ‫يب أ ُ ِج ُ‬
‫يب َدع َْوةَ الدهاعِ ِإذا د ِ‬ ‫سأَلَكَ ِعبادِي َ‬
‫ع ِنهي فَ ِإ ِنهي قَ ِر ٌ‬ ‫َو ِإذا َ‬
‫ُون ) ‪( 186‬‬ ‫شد َ‬ ‫لَعَله ُه ْم يَ ْر ُ‬
‫سأَلَ َك »لكونك حاجب الباب« ِعبادِي َ‬
‫ع ِنهي‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪َ «:‬و ِإذا َ‬ ‫يقول تعالى للرسول صلهى ه‬
‫يب »يعني‬ ‫»وهم عبيد العموم ‪ ،‬فما خص عبيدا من عبيد ‪ ،‬وأضافهم إليه ‪ ،‬أن يقول ‪ «:‬فَإِ ِنهي قَ ِر ٌ‬
‫يب َدع َْوة َ الدَّاعِ »وهو الموجب لإلجابة ‪ ،‬فإنه سبحانه مجيب عن سؤال ودعاء« إِذا‬ ‫منكم« أ ُ ِج ُ‬
‫عان »ما لم يقل لم يستجب لي ‪ ،‬وسواء دعاه في حق نفسه أو في حق غيره ‪ ،‬فوصف الحق‬ ‫َد ِ‬
‫نفسه بأنه متكلم إذ المجيب من كان ذا إجابة وهي التلبية ‪ ،‬ووصف نفسه بأنه سميع دعاء عباده‬
‫إذا دعوه ‪ ،‬فأجابهم من اسمه السميع وهو الموجب اإلجابة ‪ ،‬وقدم تعالى إجابته لنا إذا دعوناه‬
‫على إجابتنا له إذا دعانا ‪ ،‬وجعل االستجابة من العبيد مؤكدة بالسين لما علم من إبايتنا وبعدنا‬
‫عن إجابته ‪ ،‬فقال ‪ «:‬فَ ْليَ ْست َ ِجيبُوا »ألنه أبلغ من اإلجابة ‪ ،‬فإنه ال مانع له من اإلجابة سبحانه ‪،‬‬
‫ّللا إليه ‪ ،‬وهي الهوى والنفس والشيطان‬ ‫فال فائدة للتأكيد ولإلنسان موانع من اإلجابة لما دعاه ه‬
‫والدنيا ‪ ،‬فلذلك أمر باالستجابة ‪ ،‬فإن االستفعال أشد في المبالغة من اإلفعال ‪ ،‬فقال تعالى «‪:‬‬
‫فَ ْليَ ْست َ ِجيبُوا ِلي »يعني إذا دعوتهم إلى القيام بما شرعته لهم ‪ ،‬فإنك ال تعامل إال بما عاملت ‪،‬‬
‫فإنه إذا دعاك فأجبته يجيبك إذا دعوته ‪ ،‬لذلك قال «‪:‬فَ ْليَ ْست َ ِجيبُوا ِلي »فإني دعوتهم على ألسنة‬
‫أنبيائي بلسان الشرع ‪ ،‬وفي كتبي المنزلة التي أرسلت رسلي بها إليهم ‪ ،‬واعلم أن اإلجابة على‬
‫نوعين ‪ :‬إجابة امتثال وهي إجابة الخلق لما دعاه إليه الحق ‪ ،‬وإجابة امتنان وهي إجابة الحق‬
‫لما دعاه إليه الخلق ‪ ،‬فإجابة الخلق معقولة‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫على السفر في صبيحتها ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فَ ِع َّدة ٌ ِم ْن أَي ٍَّام أُخ ََر »ذهب بعض العلماء أنه الواجب وإن‬
‫صام رمضان لم يجزه ‪ ،‬وعليه عدة من أيام أخر في السفر والحضر حيث شاء صامها ‪،‬‬
‫ّللاُ ِب ُك ُم ْاليُس َْر َوال يُ ِري ُد ِب ُك ُم ْالعُس َْر »وهو رفع الحرج‬
‫بخالف شهر رمضان ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬يُ ِري ُد َّ‬
‫ج ) « َو ِلت ُ ْك ِملُوا ْال ِع َّدة َ »ثالثين إن غم‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِي ال هد ِ‬
‫ِين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫في الدين كما قال ‪َ ( :‬وما َجعَ َل َ‬
‫على ما هَدا ُك ْم »أي وفقكم لصيامه وقيامه« َولَعَلَّ ُك ْم ت َ ْش ُك ُرونَ‬ ‫ّللا »حامدين« َ‬ ‫عليكم« َو ِلت ُ َك ِبه ُروا َّ َ‬
‫ّللا‬
‫»أي وتشكرونه أيضا برخصته لكم بفطره في السفر والمرض ‪ ،‬فإن الرخصة نعمة من ه‬
‫سأَلَ َك ِعبادِي َ‬
‫ع ِنهي فَإِ ِنهي‬ ‫يجب الشكر عليها والعمل بها قربة كالعمل بالعزائم «) ‪َ ( 187‬وإِذا َ‬
‫يب أ ُ ِج ُ‬
‫يب َدع َْوة َ‬ ‫قَ ِر ٌ‬

‫ص ‪265‬‬

‫ص ‪267 :‬‬
‫وإجابة الحق منقولة لكونه تعالى أخبر بها عن نفسه ‪ ،‬وأما اتهصافه بالقرب في اإلجابة فهو‬
‫اتصافه بأنه أقرب إلى اإلنسان من حبل الوريد ‪ ،‬فشبه قربه من عبده قرب اإلنسان من نفسه‬
‫إذا دعا نفسه ألمر ما تفعله فتفعله ‪ ،‬فما بين الدعاء واإلجابة الذي هو السماع زمان ‪ ،‬بل زمان‬
‫الدعاء زمان اإلجابة ‪ ،‬فقرب الحق من إجابة عبده قرب العبد من إجابة نفسه إذا دعاها ‪ ،‬ثم ما‬
‫يدعوها إليه يشبه في الحال ما يدعو العبد ربه إليه في حاجة مخصوصة ‪ ،‬فقد يفعل له ذلك وقد‬
‫ال يفعل ‪ ،‬كذلك دعاء العبد نفسه إلى أمر ما ‪ ،‬قد تفعل ذلك األمر الذي دعاها إليه وقد ال تفعل‬
‫ألمر عارض يعرض له ‪ ،‬والدعاء على نوعين ‪ :‬دعاء بلسان نطق وقول ‪ ،‬ودعاء بلسان حال‬
‫‪ ،‬فدعاء القول يكون من الحق ومن الخلق ‪ ،‬ودعاء الحال يكون من الخلق وال يكون من الحق‬
‫ّللا أحد إال أجابه ‪ ،‬إال أن األمور مرهونة بأوقاتها لمن يعلم ذلك ‪ ،‬فال‬ ‫إال بوجه بعيد ‪ ،‬وما دعا ه‬
‫تستبطئ اإلجابة فإنها في الطريق ‪ ،‬وفي بعض الطريق بعد وهو التأجيل ‪ - ،‬وجه آخر في‬
‫قوله تعالى ‪ « :‬لي » أي من أجلي ‪ ،‬ال تعملون ذلك رجاء تحصيل ما عندي فتكونوا عبيد‬
‫نعمة ال عبيدي« َو ْليُؤْ ِمنُوا بِي »يصدقوا بإجابتي إياهم إذا دعوني ‪ -‬تفسير[ اإلشارة ‪« -‬‬
‫َو ْليُؤْ ِمنُوا بِي » ]‬
‫من باب اإلشارة ‪َ «-‬و ْليُؤْ ِمنُوا ِبي »أي ليكن إيمانهم بي ال بأنفسهم ‪ ،‬ألنه من آمن بنفسه ال ه‬
‫باّلل‬
‫لم يستوعب إيمانه ما استحقه ‪ ،‬فإذا آمن بي وفهى األمر حقه ‪ ،‬وهذا هو الذي يصدق باألخبار‬
‫كلها ‪ ،‬ومن آمن بنفسه فإنه مؤمن بما أعطاه دليله ‪ ،‬والذي أمرته باإليمان به متناقض األدلة‬
‫شدُونَ »أي يسلكون‬ ‫متردد بين تشبيه وتنزيه ‪ ،‬فالذي يؤمن بنفسه إيمانه بعقله ال بي« لَعَلَّ ُه ْم يَ ْر ُ‬
‫طريق الرشد كما يفعل الذين إذا رأوا سبيل الرشد اتخذوه سبيال ‪ ،‬فيمشي بهم إلى السعادة‬
‫األبدية ‪.‬‬
‫[ تحقيق ‪ :‬فَإِ ِنهي قَ ِر ٌ‬
‫يب ]‬
‫ّللا عليه وسلم بقربه من السائلين من عباده إال ليعرف‬ ‫ّللا تعالى ما أخبر نبيه صلهى ه‬‫تحقيق ‪ -‬إن ه‬
‫بثالث أمور ‪ :‬هي القرب والسمع واإلجابة ‪ ،‬فلم يترك لعبده حجة عليه بل هّلل الحجة البالغة ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فال يتوسل إليه بغيره ‪ ،‬وهو‬ ‫فإذا تحقق العبد بهذه اآلية فأول ما ينتج له الزهد فيما سوى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن التوسل إنما‬
‫لمن تحقق بالقرب إلى ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سأَلَ َك ِعبادِي َ‬
‫ع ِنهي »من كان منهم ‪ ،‬تدل‬ ‫عان »اآلية ‪ ،‬يقول لنبيه عليه السالم« إِذا َ‬
‫الدَّاعِ إِذا َد ِ‬
‫قرينة الحال ‪ ،‬أن سؤالهم عنه سبحانه إذا دعوه ما يكون منه إليهم ؟ قال ‪ :‬فقل لهم عني ‪:‬‬
‫إني قريب إجابة دعوة الداع إذا دعاني ‪ ،‬ولكن إذا دعاه عن ظهر فقر محقق ‪ ،‬معرض بقلبه‬
‫عما‬

‫ص ‪266‬‬

‫ص ‪268 :‬‬
‫ّللا تعالى أنه قريب ‪ ،‬فال فائدة لهذا الطلب وخبره صدق ‪،‬‬ ‫هو طلب القرب منه ‪ ،‬وقد أخبرنا ه‬
‫ّللا‬
‫ومن تحقق بالقرب اإللهي ال بد أن يسمع اإلجابة اإللهية ذوقا ‪ ،‬فال بد من عالمة يعطيها ه‬
‫لهذا المتحقق يعلم بها أنه قد أجاب دعاءه ‪ ،‬ومعلوم أنه أجاب دعاءه ‪ ،‬وإنما أريد أن يعلمه أن‬
‫الذي سأل فيه قد قضي وإن تأخر وأعطي بدله على طريق العوض لما له في البدل من الخير ‪،‬‬
‫وقد يكشف له عن خواص األحوال واألزمنة واألمكنة التي توجب قضاء حاجة الداعي فيما‬
‫سأل فيه ‪ ،‬ثم أخبر أنه يجيب سؤال السائلين ‪ ،‬فهو إخبار بأن بيده ملكوت كل شيء ‪ ،‬وأخبر‬
‫باإلجابة ليتحفظ السائل ويراقب ما يسأل فيه ‪ ،‬ألنه ال بد من اإلجابة ‪ ،‬فقد يسأل العبد فيما ال‬
‫خير له فيه لجهله بالمصالح ‪ ،‬فهو تنبيه وتحذير أن ال يسأل إال فيما يعلم أن له فيه الخير الوافر‬
‫ّللا تعالى في حاجة من حوائج الدنيا على‬ ‫ّللا في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فمن تنبه لهذا لم يسأل ه‬
‫عند ه‬
‫ّللا مبهما ال يعيهن ‪ ،‬فإذا عيهن وال بد فليسأل فيه‬
‫التعيين ‪ ،‬ولكن يسأل فيما له في خير يعلمه ه‬
‫ّللا أدركه الندم بعد‬
‫الخيرة وسالمة الدين ‪ ،‬فكم من سائل عيهن فلما قضيت حاجته لحكمة يعلمها ه‬
‫ذلك على ما عيهن ‪ ،‬وتمنى أنه لم يعيهن ‪ ،‬وأما تعيينه في السؤال فيما يرجع إلى أمر الدين‬
‫فليعين ما شاء وال مكر فيه وال غائلة ‪ ،‬وكذلك ما يسأل فيه مما يتعلق باآلخرة ‪ ،‬فإذا قيل ما‬
‫ّللا أخبر أنه يجيب دعوة الداع‬ ‫سبب عدم اإلجابة ألكثر الناس فيما يسألون فيه ربهم ؟ فاعلم أن ه‬
‫ّللا أو يا رب أو رب أو‬ ‫‪ ،‬وما دعاؤه إياه إال عين قوله حين يناديه باسم من أسمائه فيقول ‪:‬يا ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فإجابة هذا القدر الذي هو‬‫يا ذا المجد والكرم ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬فالدعاء نداء وهو تأيه ه‬
‫ّللا في حق كل سائل ‪،‬‬ ‫الدعوة وبها سمي داعيا أن يلبيه الحق فيقول ‪ :‬لبيك ‪ ،‬فهذا ال بد منه من ه‬
‫ثم ما يأتي بعد هذا النداء فهو خارج عن الدعاء ‪ ،‬وقد وقعت اإلجابة كما قال ‪ ،‬فيوصل العبد‬
‫بعد النداء من الحوائج ما قام في خاطره مما شاءه ‪ ،‬فلم يضمن في هذه اآلية إجابته فيما سأل‬
‫فيه ودعاه من أجله ‪ ،‬فهو إن شاء قضى حاجته وإن شاء لم يفعل ‪ ،‬ولهذا ما كل مسؤول فيه‬
‫ّللا لعبده ‪ ،‬وذلك رحمة به ‪ ،‬فإنه قد يسأل فيما ال خير له فيه ‪ ،‬فلو ضمن اإلجابة في‬ ‫يقضيه ه‬
‫ذلك لوقع ويكون فيه هالكه في دينه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سواه ‪ ،‬وهذا حال االضطرار ‪ ،‬ومتى اختل هذا الشرط فما دعاه ‪ ،‬ثم قال كما أنهم إذا دعوني‬
‫لحاجتهم أجيبهم« فَ ْليَ ْست َ ِجيبُوا ِلي »إذا دعوتهم إلى اإليمان بي وبمالئكتي وكتبي ورسلي وما‬
‫جاءوا إليهم‬

‫ص ‪267‬‬

‫ص ‪269 :‬‬
‫وآخرته ‪ ،‬وربما في دنياه من حيث ال يشعر ‪ ،‬فمن كرمه أنه ما ضمن اإلجابة فيما يسأل فيه ‪،‬‬
‫وإنما ضمن اإلجابة في الدعاء خاصة كما بيناه ‪ ،‬وهذا غاية الكرم من السيد في حق عبده ‪،‬‬
‫ّللا فاسألوه التوفيق والعافية والعناية في تحصيل السعادة ‪ ،‬وقل رب زدني علما ‪،‬‬ ‫فإذا سألتم ه‬
‫ّللا ما أمر نبيه بطلب الزيادة منه إال وقد علم أن عين حصول‬ ‫فإن العلم يأبى إال السعادة ‪ ،‬فإن ه‬
‫باّلل خاصة‬ ‫العلم المطلوب هو عين السعادة ‪ ،‬ما فيه مكر وال استدراج أصال ‪ ،‬وما هو إال العلم ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وأما وصفه‬ ‫ال العلم بالحساب والهندسة والنجوم ‪ ،‬ولو علم ذلك لكان علم داللة على علم ه‬
‫يب »وقوله تعالى ‪َ «:‬ون َْح ُن‬ ‫ع ِنهي فَإِ ِنهي قَ ِر ٌ‬ ‫سأَلَ َك ِعبادِي َ‬ ‫تعالى بالقرب في قوله تعالى ‪َ «:‬و ِإذا َ‬
‫ب ِإلَ ْي ِه ِم ْن َح ْب ِل ْال َو ِري ِد »ونحوه ‪ ،‬يفهمك أن قوله تعالى في الحديث القدسي ‪ ( :‬وإن تقرب‬ ‫أ َ ْق َر ُ‬
‫إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ) ليس على ظاهره ‪ ،‬ألن قربه سبحانه من العبد بنوره وال تتفاوت‬
‫ّللا منه على حسب‬ ‫ّللا هو حجابه عن شهود قرب ه‬ ‫درجاته ‪ ،‬وإنما البعد صفة العبد ‪ ،‬وبعده عن ه‬
‫نور اإليمان في االستجابة ‪ ،‬وبهذا يكون تقرب العبد إلى ربه ‪ ،‬وأما تقرب الرب إلى العبد‬
‫ّللا ذلك كله في قوله ‪ «:‬فَ ْليَ ْست َ ِجيبُوا ِلي َو ْليُؤْ ِمنُوا بِي لَعَلَّ ُه ْم‬ ‫فإشارة بنوره لنوره ‪ ،‬وقد جمع ه‬
‫شدُونَ »وقد قرن الحق تعالى إجابته لكم بإجابتكم له ‪ ،‬وقد تقدم دعاؤه لكم في قوله تعالى ‪«:‬‬ ‫يَ ْر ُ‬
‫ب أ َ ِل ٍيم »فإن استجبتم‬ ‫عذا ٍ‬ ‫ّللا َو ِآمنُوا ِب ِه يَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ِم ْن ذُنُو ِب ُك ْم َويُ ِج ْر ُك ْم ِم ْن َ‬ ‫يا قَ ْو َمنا أ َ ِجيبُوا دا ِع َ‬
‫ي َّ ِ‬
‫استجاب لكم ‪ ،‬وإن تصاممتم فما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‪ ،‬وإنما هي أعمالكم ترد‬
‫عليكم ‪ ،‬فكرامتهم عنده سبحانه وتعالى إجابته لهم إذا دعوه الرتباط الحكمة في المناسبة ‪ ،‬فال‬
‫يجاب إال من يجيب ‪ ،‬فإذا ع هم الدعاء ذاتنا كلها بحيث ال يبقى فينا جزء له التفاتة إلى الغير ‪،‬‬
‫حصلت اإلجابة بال شك على الفور ‪ ،‬ألنها قد علمنا صدقه فيما أخبر به عن نفسه ‪َ (،‬و َم ْن ال‬
‫ين )فقد‬ ‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ْس لَهُ ِم ْن دُونِ ِه أ َ ْو ِليا ُء أُولئِ َك فِي َ‬ ‫ض َولَي َ‬ ‫ْس بِ ُم ْع ِج ٍز فِي ْاأل َ ْر ِ‬‫ّللا فَلَي َ‬
‫ي َّ ِ‬‫يُ ِجبْ دا ِع َ‬
‫غفر لكم وأجابكم إن أنتم أجبتم داعيه ‪ ،‬وكالمه حق ووعده صدق ‪ ،‬فلب إذا دعاك الحق إليه ال‬
‫رغبة فيما في يديه ‪ ،‬فإنك إن أجبته لذلك فأنت هالك وكنت لمن أجبت ‪ ،‬وأخطأت وما أصبت ‪،‬‬
‫واستعبدك الطمع‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫به « َو ْليُؤْ ِمنُوا ِبي »أي أجيبهم إجابة أخرى جزاء إلجابتهم لي ‪ ،‬وقرن السين في إجابتهم‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم قال «‪:‬لَعَلَّ ُه ْم يَ ْر ُ‬
‫شدُونَ »يقول‬ ‫للمبالغة في ذلك ‪ ،‬إذ كان ثم من يدعوهم إلى غير ه‬
‫يتخذون سبيل‬

‫ص ‪268‬‬

‫ص ‪270 :‬‬
‫ّللا فما عبد إال هواه ‪،‬‬
‫ّللا ال بد أن يوفيك حقك ‪ ،‬فمن كان عبدا لغير ه‬‫واسترقك ‪ ،‬وأنت تعلم أن ه‬
‫وأخذ به العدو عن طريق هداه ‪ ،‬التلبية تولية ‪ ،‬فال تلب إال الداعي ‪ ،‬فإنك لما عنده واعي ‪ ،‬ما‬
‫اختزن األشياء إال لك ‪ ،‬فقصر أملك وأخلص هّلل عملك ‪ ،‬وهذا سر إجابة الدعاء ‪ ،‬ال رغبة في‬
‫ّللا جامعا للنقيضين فهو وإن ظهر في اللفظ فليس المقصود‬ ‫العطاء ‪ -‬نصيحة ‪ -‬لما كان االسم ه‬
‫ّللا‬
‫إال اسما خاصا منه ‪ ،‬تطلبه قرينة الحال ‪ ،‬فإذا قال طالب الرزق المحتاج إليه ‪ « :‬يا ه‬
‫وّللا هو المانع أيضا ‪ ،‬فما يطلب بحاله إال االسم الرزاق ‪ ،‬فما قال بالمعنى إال « يا‬
‫ارزقني » ه‬
‫ّللا فال يسأله إال باالسم الخاص بذلك األمر ‪ ،‬وال‬
‫رزاق ارزقني » ‪ ،‬فمن أراد اإلجابة من ه‬ ‫ه‬
‫يسأل باسم يتضمن ما يريده وغيره ‪ ،‬وال يسأل باالسم من حيث داللته على ذات المسمى ‪،‬‬
‫ولكن يسأل من حيث المعنى الذي هو عليه الذي ألجله ‪ ،‬جاء وتميز به عن غيره من األسماء ‪،‬‬
‫تميز معنى ال تميز لفظ ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪187‬‬


‫ّللاُ أَنه ُك ْم ُك ْنت ُ ْم‬ ‫باس لَ ُه هن َ‬
‫ع ِل َم ه‬ ‫باس لَ ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ِل ٌ‬
‫ث ِإلى نِسائِ ُك ْم ُه هن ِل ٌ‬ ‫الرفَ ُ‬‫يام ه‬ ‫ص ِ‬ ‫أ ُ ِح هل لَ ُك ْم لَ ْيلَةَ ال ِ ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم َو ُكلُوا‬‫ب ه‬ ‫ش ُرو ُه هن َوا ْبتَغُوا ما َكت َ َ‬ ‫ع ْن ُك ْم فَ ْاآل َن بَا ِ‬
‫علَ ْي ُك ْم َوعَفا َ‬ ‫تاب َ‬ ‫س ُك ْم فَ َ‬ ‫ون أ َ ْنفُ َ‬ ‫ت َ ْختانُ َ‬
‫صيا َم ِإلَى الله ْي ِل‬ ‫س َو ِد ِم َن ا ْلفَجْ ِر ث ُ هم أَتِ ُّموا ال ِ ه‬
‫ض ِم َن ا ْل َخ ْي ِط ْاأل َ ْ‬ ‫ط ْاأل َ ْبيَ ُ‬‫َواش َْربُوا َحتهى يَتَبَيه َن لَ ُك ُم ا ْل َخ ْي ُ‬
‫ّللاُ آيا ِت ِه‬ ‫ّللا فَل ت َ ْق َربُوها كَذ ِلكَ يُبَ ِيه ُن ه‬ ‫ساج ِد ِت ْلكَ ُحدُو ُد ه ِ‬ ‫ون ِفي ا ْل َم ِ‬ ‫ش ُرو ُه هن َوأ َ ْنت ُ ْم عا ِكفُ َ‬ ‫َوال تُبَا ِ‬
‫ون ( ‪) 187‬‬ ‫اس لَعَله ُه ْم يَتهقُ َ‬ ‫ِللنه ِ‬
‫يام »أي الليلة التي انتهى صومكم إليها ‪ ،‬ال الليلة التي تصبحون‬ ‫ص ِ‬ ‫« أ ُ ِح َّل لَ ُك ْم لَ ْيلَةَ ال ِ ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الرفَ ُ‬
‫ث إِلى نِسائِ ُك ْم »كان األمر قبل نزول هذه‬ ‫يام َّ‬
‫ص ِ‬‫الرشد في ذلك ( ‪ «) 188‬أ ُ ِح َّل لَ ُك ْم لَ ْيلَةَ ال ِ ه‬
‫اآلية في الصوم ‪ ،‬أن الصائم إذا صلى العشاء اآلخرة ونام قبل أن يفطر حرم عليه ما يحرم‬
‫على الصائم‬

‫ص ‪269‬‬

‫ص ‪271 :‬‬
‫فيها صائمين ‪ ،‬فهي صفة تصحبكم إلى ليلة عيد الفطر ‪ ،‬ولو كانت إضافة ليلة الصيام إلى‬
‫المستقبل لم تكن ليلة عيد الفطر فيها ‪.‬‬
‫فإنك ال تصبح يوم العيد صائما ‪ ،‬ولو صمت فيه لكنت عاصيا ‪ ،‬وال يلزم هذا في أول ليلة من‬
‫رمضان ‪ ،‬فإن األكل والشرب وأمثاله كان حالال قبل ذلك ‪ ،‬فما زال مستصحب الحكم ‪ ،‬فلهذا‬
‫ث »يعني الجماع« إِلى نِسائِ ُك ْم »فجاء بالنساء ولم يقل األزواج‬ ‫الرفَ ُ‬ ‫جعلناه للصوم الماضي« َّ‬
‫كن أخرن عن هذا‬ ‫وال غير ذلك ‪ ،‬فإن في هذا االسم معنى ما في النسإ وهو التأخير ‪ ،‬فقد ه‬
‫الحكم الذي هو الجماع زمان الصوم إلى الليل ‪ ،‬فلما جاء الليل زال حكم التأخير باإلحالل ‪،‬‬
‫فكأنه يقول إلى ما أخرتم عنه وأخرنا عنه من أزواجكم وما ملكت أيمانكم ممن هو محل‬
‫باس لَ ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ِل ٌ‬
‫باس لَ ُه َّن »المقصود‬ ‫باس لَ ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ِل ٌ‬
‫باس لَ ُه َّن » ]« ُه َّن ِل ٌ‬ ‫للوطء « [ ُه َّن ِل ٌ‬
‫بالضمير « هن » الزوجات ومن يحل جماعه ‪ ،‬فالمناسبة بينكم صحيحة ‪ ،‬ما هي مثل ما‬
‫تلبستم بنا في صومكم حيث اتصفتم بصفة هي لي وهي الصوم ‪ ،‬فلستم لباسا لي ولست لباسا‬
‫لكم ‪ ،‬فإن اللباس يحيط بالملبوس ويستره ‪ ،‬فهي تستره بنفسها وغطاها هو بذاته ‪ -‬إشارة ال‬
‫باس لَ ُه َّن »اإلشارة بهن إلى األسماء اإللهية ‪ ،‬فهو تلبس الحق‬ ‫باس لَ ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ِل ٌ‬
‫تفسير «‪ُ -‬ه َّن ِل ٌ‬
‫بالخلق في الصورة التي ظهر عنها األثر في الشاهد ‪ ،‬كما ظهر عقال عن الحق ‪ ،‬هن لباس لكم‬
‫‪ ،‬وأنتم لباس لهن ‪ ،‬تلبس الخلق في الفعل بالحق في اإليجاد بنسبة الفعل إلى الخلق‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من األكل والشرب والنكاح ‪ ،‬وأن عمر بن الخطاب واقع أهله بعد صالة العشاء ‪ ،‬فلما فرغ ندم‬
‫ّللا وإليك من نفسي‬ ‫ّللا عليه وسلم وقال [ ‪ :‬إني أعتذر إلى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫وبكى وأخبر بذلك رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬لم تكن جديرا بذلك‬ ‫هذه الخاطئة ‪ ،‬فهل تجد لي رخصة ] فقال له النبي صلهى ه‬
‫ث إِلى نِسائِ ُك ْم »وهو كناية عن‬ ‫الرفَ ُ‬
‫يام َّ‬ ‫ّللا« أ ُ ِح َّل لَ ُك ْم لَ ْيلَةَ ال ِ ه‬
‫ص ِ‬ ‫يا عمر ‪ -‬الحديث بطوله ] فأنزل ه‬
‫الجماع ‪ ،‬يقال الرفث والرفوث وهو اإلفصاح بما يجب أن يكنى عنه في الجماع ‪ ،‬وقوله ‪«:‬‬
‫يام »أي الليلة التي يصبحون في صبيحتها صائمين ‪ ،‬فكان لهم النوم وصالة العشاء‬ ‫ص ِ‬‫لَ ْيلَةَ ال ِ ه‬
‫ّللا في هذه قضاء ذلك اليوم على‬ ‫حدها للمنع مثل ما صار طلوع الفجر بعد ذلك ‪ ،‬وما أنزل ه‬
‫عمر وال غيره مما نزلت بسببه اآلية ‪ ،‬فارتفع القضاء عن من جامع في رمضان وهو صائم‬
‫باس لَ ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ِل ٌ‬
‫باس‬ ‫ووجبت الكفارة بالسنهة ‪ ،‬ولم يثبت في ذلك حديث القضاء ‪ ،‬وقوله «‪ُ :‬ه َّن ِل ٌ‬
‫لَ ُه َّن »أي يالبس بعضكم بعضا ‪،‬‬

‫) ‪( 1‬ألن ليلة عيد الفطر يجوز الوصال فيها لصيام اليوم الذي قبله‪.‬‬

‫ص ‪270‬‬

‫ص ‪272 :‬‬
‫فإن قلت هذا الحق أظهرت غائبا * وإن قلت هذا الخلق أخفيته فيهفلوال وجود الحق ما بان‬
‫ّللاُ أَنَّ ُك ْم ُك ْنت ُ ْم ت َ ْختانُونَ أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم »من الخيانة‬ ‫ع ِل َم َّ‬
‫كائن * ولوال وجود الخلق ما كنت تخفيه« َ‬
‫لشهادتي عليكم حين قبلتم األمانة لما عرضتها عليكم ‪ ،‬فكنتم تختانون أنفسكم لما حجر عليكم‬
‫فيما حجره عليكم ‪ ،‬فما أراد هنا تعلق علمه تعالى بأنهم يختانون أنفسهم ‪ ،‬وإنما المستقبل هنا‬
‫بمعنى الماضي ‪ ،‬فإن اللسان العربي يجيء فيه المستقبل ببنية الماضي إذا كان متحققا ‪ ،‬كقوله‬
‫ّللا فَال ت َ ْست َ ْع ِجلُوهُ )وشبهه ‪ ،‬وقد كان الحق كلفهم قبل هذا التعريف أن ال‬ ‫تعالى ‪ ( :‬أَتى أ َ ْم ُر َّ ِ‬
‫ّللا ذلك عفا ع همن‬‫ّللا في ذلك ‪ ،‬فلما علم ه‬ ‫يباشر الصائم امرأته ليلة صومه ‪ ،‬فمنهم من تعدى حد ه‬
‫وقع منه ذلك وأح هل له الجماع ليلة صومه ‪ ،‬إال أن يكون معتكفا في المسجد ‪ ،‬فما خفف عنهم‬
‫حتى وقع منهم ذلك ‪ ،‬ومن من شأنه مثل هذا الواقع فإنه ال يزال يتوقع منه مثله ‪ ،‬فأبيح له‬
‫رحمة به ‪ ،‬حتى إذا وقع منه ذلك كان حالال له ومباحا وتزول عنه صفة الخيانة ‪ ،‬فإن الدين‬
‫ع ْن ُك ْم »أي بالقليل الذي أباحه لكم في‬ ‫عفا َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم »أي رجع عليكم« َو َ‬ ‫تاب َ‬‫أمانة عند المكلف «فَ َ‬
‫زمان اإلحالل الذي هو الليل ‪ ،‬وإنما جعله قليال لبقاء التحجير فيه في المباشرة للمعتكف في‬
‫المسجد بال خالف ‪ ،‬وفي غير المسجد بخالف ‪ ،‬والمواصل« فَ ْاآلنَ بَا ِش ُرو ُه َّن »وهو زمان‬
‫ّللا من أجلكم حتى تعلموه‬ ‫ّللاُ لَ ُك ْم »واطلبوا ما فرض ه‬ ‫الفطر في رمضان« َوا ْبتَغُوا ما َكت َ َ‬
‫ب َّ‬
‫فتعملوا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫بالسكون ‪ ،‬فهي له شعار ‪ ،‬وهو لها دثار ‪ ،‬وإذا البسها فقد خالطها واتحد بها ‪ ،‬وصورة ذلك أن‬
‫الزوجين إذا اجتمعا مكافحة وامتص كل واحد منهما ريق صاحبه ‪ ،‬وسرى من نفسه فيه ‪،‬‬
‫فحصل من ذلك ‪ . . . . . .‬ورطوبات ذلك الريق عند االمتصاص بالتقبيل في جسم كل واحد‬
‫باس لَ ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ِل ٌ‬
‫باس لَ ُه َّن »إذ‬ ‫منهما روحا حيوانيا ‪ ،‬به حياة ذلك الشخص ‪ ،‬فهذا معنى« ُه َّن ِل ٌ‬
‫الروح الحيواني هو البخار الخارج من تجويف القلب ‪ ،‬وذلك البخار هو الذي خرج من كل‬
‫واحد منهما ودخل في جوف اآلخر ‪ ،‬فكان روح كل واحد منهما روحا لصاحبه ‪ ،‬فاتحدت‬
‫س ُك ْم »أي تتعملون في‬ ‫ّللاُ أَنَّ ُك ْم ُك ْنت ُ ْم ت َ ْختانُونَ أ َ ْنفُ َ‬
‫ع ِل َم َّ‬
‫أرواحهما وتجاورت أجسامهما ‪ ،‬ث هم قال ‪َ «:‬‬
‫اكتساب خيانة أنفسكم ‪ ،‬فإن التاء زائدة إذ االختيان افتعال من الخيانة ‪ ،‬ومن رحمته أن قال‬
‫ّللا ] إذ كان المؤمن ال يقصد بالمعصية انتهاك حرمة‬ ‫«‪:‬ت َ ْختانُونَ أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم »ولم يقل [ تخونون ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ه‬

‫) ‪( 1‬لعله ‪ :‬االجتماع أو الجماع‪.‬‬

‫ص ‪271‬‬

‫ص ‪273 :‬‬
‫به في كل ما ذكره في هذه اآلية ‪َ «،‬و ُكلُوا َوا ْش َربُوا »أمر بإعطاء ما عليك لنفسك من حق‬
‫ض »إقبال النهار« ِمنَ ْال َخي ِْط ْاألَس َْو ِد »إدبار الليل‬ ‫ط ْاأل َ ْبيَ ُ‬ ‫األكل والشرب« َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَ ُك ُم ْال َخ ْي ُ‬
‫‪ ،‬يريد بياض الصبح وسواد الليل ‪ ،‬وعلى ذلك يكون التبيين للناظر إليه حينئذ يحرم األكل«‬
‫ِمنَ ْالفَ ْج ِر »النفجار الضوء في األفق ‪ ،‬وذلك الحد هو الفجر األبيض المستطير ‪ ،‬وهو األولى‬
‫من الفجر األحمر ‪ ،‬واألخذ بالتواتر في ذلك أولى من األخذ بالخبر الواحد الصحيح ‪ ،‬والقرآن‬
‫ض ِمنَ ْال َخي ِْط ْاألَس َْو ِد ِمنَ ْالفَ ْج ِر »والذي أذهب‬ ‫متواتر وهو القائل« َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَ ُك ُم ْال َخ ْي ُ‬
‫ط ْاأل َ ْبيَ ُ‬
‫إليه في الحكم أنه ال يحرم األكل من حصول الطلوع في نفس األمر ‪ ،‬لكن ما حصل البيان عند‬
‫الناظر ‪ ،‬ويحرم األكل عند تبيهن الفجر وإذا سمع النداء بالفجر الصادق ‪ ،‬إذا كان في البلد من‬
‫يعلم أنه ال ينادي إال عند الطلوع الذي تصح به الصالة ‪ ،‬فإذا سمع المتسحر ذلك وجب عليه‬
‫الترك ‪ ،‬وقد أجمعوا على أنه يجب على الصائم اإلمساك عن المطعوم والمشروب والجماع ‪،‬‬
‫فال يمنع األكل طلوع الفجر األول شرعا ‪ ،‬وفي الفجر الثاني خالف ‪ ،‬وموضع اإلجماع‬
‫األحمر ‪ ،‬وسمي الفجر األول الكذاب ألنه ربما يتوهم صاحب السحور أن األكل محرم عنده‬
‫وليس كذلك ‪ ،‬فإن علته ضرب الشمس أو طرح شعاعها على البحر فيأخذ الضوء في‬
‫االستطالة ‪ ،‬فإذا ارتفعت ذهب ذلك الضوء المنعكس من البحر إلى األفق ‪ ،‬فجاءت الظلمة‬
‫وبرزت الشمس إلينا ‪ ،‬فظهر ضوؤها في األفق كالطائر الذي فتح جناحيه ‪ ،‬ولهذا سماه‬
‫مستطيرا ‪ ،‬فال يزال في زيادة إلى طلوع الشمس ‪ ،‬وسمت العرب الفجر الكاذب ذنب السرحان‬
‫ألنه ليس في السباع أخبث منه وال أكثر محاال ‪ ،‬فإنه يظهر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ‪ ،‬وإنما اإلنسان تغلب عليه الشهوة في ذلك األمر ‪ ،‬فيتوجه إلى‬‫لما في قلبه من تعظيم ه‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬ويعلم أن له ربا يأخذ بالذنب‬
‫تحصيله ويذهل عما في فعله من ترك تعظيم واجب حق ه‬
‫ويغفر الذنب ‪ ،‬فما خان المؤمن ربه وإنما خان نفسه ‪ ،‬حيث فوتها ما لها من األجر في الوفاء‬
‫باألمانة ‪ ،‬فقال سبحانه لما علم هذا منهم وأنهم خانوا أنفسهم ولم يخونوا ربهم وال رسوله ‪ ،‬كان‬
‫علَ ْي ُك ْم »أي رجع عليكم بتحليل ما كان حرمه‬ ‫ّللا فأخبر فقال« فَ َ‬
‫تاب َ‬ ‫هذا القدر شفيعا لهم عند ه‬
‫ع ْن ُك ْم »يقول ‪ :‬وأذهب عنكم تحريم ذلك ‪ ،‬يقال عفا رسم الدار إذا ذهب أثرها‬
‫عفا َ‬
‫عليكم« َو َ‬
‫ودرس ‪ ،‬وأتى بالعفو دون غيره ألنه يتضمن إزالة التحريم وعدم المؤاخذة على الخيانة« فَ ْاآلنَ‬
‫بَا ِش ُرو ُه َّن »يقول ‪ :‬جاء زمان اإلباحة فباشروهن كناية عن النكاح ‪ ،‬ولم يذكر الرفث هنا ألنه‬

‫ص ‪272‬‬

‫ص ‪274 :‬‬
‫الضعف ليحقر فيغفل عنه ‪ ،‬فينال مقصوده من االفتراس ‪ ،‬فإن ذنبه يشبه ذنب الكلب ‪ ،‬فيتخيل‬
‫من ال يعرفه أنه كلب فيأمن منه ‪ ،‬فال يمنع الفجر األول من يريد الصوم من األكل ‪ ،‬فأمر‬
‫ّللا إياها ‪ ،‬فأكد أمره بها بنهيه أن‬ ‫ّللا عليه وسلم بأكلة السحور وقال ‪ :‬إنها بركة أعطاكم ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ال ندعها ‪ ،‬فكما صرح باألمر بها صرح بالنهي عن تركها ‪ ،‬وأكد في وجوبها فهي سنة مؤكدة‬
‫‪ ،‬وعند بعض علماء الشريعة واجبة ‪ ،‬وأكلة السحور أشد في التأكيد من صالة الوتر في جنس‬
‫يام إِلَى اللَّ ْي ِل »كلمة‬
‫ص َ‬ ‫الصالة ‪ ،‬لما ورد في ذلك من التصريح بالنهي عن تركها« ث ُ َّم أَتِ ُّموا ال ِ ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ :‬إذا غابت‬ ‫إلى هنا تقتضي دخول الحد في المحدود ‪ ،‬وعنه صلهى ه‬
‫الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم ‪ ،‬فسواء أكل أم لم يأكل فإن الشرع قد‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬للصائم فرحتان فرحة عند فطره ‪ -‬ألنه غذاء‬ ‫أخبر أنه قد أفطر ‪ ،‬وقال صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫طبيعته ‪ -‬وفرحة عند لقاء ربه ‪ ،‬وهو غذاؤه الحقيقي الذي به بقاؤه ‪ ،‬فإن المغذي هو ه‬
‫ساج ِد »فأبقى تحجير الجماع على من هذه حالته ‪،‬‬ ‫تعالى« َوال تُبَا ِش ُرو ُه َّن َوأ َ ْنت ُ ْم عا ِكفُونَ فِي ْال َم ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬من‬ ‫وكذلك في األكل والشرب للذي ينوي الوصال في صومه ‪ ،‬يقول صلهى ه‬
‫كان مواصال‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫صار حالال ‪ ،‬فذكر من الكنايات ما ال يقبح عند العرب ذكره ‪ ،‬وذكر الرفث أوال ألنه وقع منهم‬
‫في وقت التحريم ‪ ،‬وهو كناية يقبح ذكرها عند العرب لقربها في استعمالهم من لفظة التصريح‬
‫سوقَ )ولم‬ ‫ث َوال فُ ُ‬ ‫الذي هو النيك ‪ ،‬ولهذا قرن هذه اللفظة بالفسوق في الحج فقال ‪ ( :‬فَال َرفَ َ‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم »أي‬ ‫ب َّ‬ ‫يقل غيرها من الكنايات ‪ ،‬وذلك لما فيها من اإلفصاح عن الفعل« َوا ْبتَغُوا ما َكت َ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬إن كان‬ ‫ّللا لكم عن تحليل وتحريم ‪ ،‬فاحكموا فيه بما حكم ه‬ ‫واطلبوا وابحثوا عن ما فرض ه‬
‫حراما فحرام أو حالال فحالل ‪ ،‬ومن جملة ذلك إباحة الوطء من غروب الشمس إلى طلوع‬
‫ض‬ ‫ط ْاأل َ ْبيَ ُ‬‫الفجر ‪ ،‬وكذلك أيضا أباح األكل والشرب « َو ُكلُوا َوا ْش َربُوا َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَ ُك ُم ْال َخ ْي ُ‬
‫»الذي هو بياض النهار« ِمنَ ْال َخي ِْط ْاألَس َْو ِد »الذي هو سواد الليل « ِمنَ ْالفَ ْج ِر »المستطير‬
‫الممتد عرضا مع األفق ‪ ،‬وهو انفجار الصبح من الليل كانفجار الماء من الحجر ‪ ،‬فيحرم‬
‫يام ِإلَى اللَّ ْي ِل »أي إلى غروب الشمس‬ ‫ص َ‬‫عليكم عند ذلك ما ذكرت تحليله بالليل لكم« ث ُ َّم أ َ ِت ُّموا ال ِ ه‬
‫ق )وقوله ‪َ ( :‬وأ َ ْر ُجلَ ُك ْم‬ ‫‪ ،‬وليس الحد هنا داخال في المحدود بخالف قوله ‪َ ( :‬وأ َ ْي ِديَ ُك ْم ِإلَى ْال َمرا ِف ِ‬
‫إِلَى ْال َك ْعبَي ِْن )فإن الحد هنالك داخل في المحدود ‪ ،‬وليس الفرق بينهما من اللفظ فإنه على‬
‫السواء وإنما خرج هذا عن حكم هذا بدليل استفدناه من الشارع ‪ ،‬واأللف والالم في الفجر‬
‫للتعريف بالفجر الثاني المعترض ‪ ،‬فإن الفجر فجران ‪ :‬فجر أول وهو ذنب السرحان ‪ ،‬وهو‬
‫يأخذ في الطول طالبا كبد السماء ‪،‬‬

‫ص ‪273‬‬

‫ص ‪275 :‬‬
‫فليواصل حتى السحر ‪ ،‬وهو اختالط الضوء والظلمة ‪ ،‬يريد في وقت ظهور ذنب السرحان ما‬
‫بين الفجرين المستطيل والمستطير ‪ ،‬ويكون االعتكاف حيث شاء العبد ‪ ،‬إال أنه إن اعتكف في‬
‫غير مسجد له مباشرة النساء ‪ ،‬وإن اعتكف في مسجد فليس له مباشرة النساء وإن نوى‬
‫االعتكاف في أيام تقام فيها الجمعة فال يعتكف إال في مكان يمكن له مع اإلقامة فيه أن يقيم‬
‫الجمعة ‪ ،‬سواء كان في المسجد أو في مكان قريب من المسجد يجوز له إقامة الجمعة فيه ‪،‬‬
‫وللمعتكف أن يفعل جميع أفعال البر التي ال تخرجه عن اإلقامة بالموضع الذي أقام فيه ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا »التي أمركم أن تقفوا عندها ‪ ،‬فإنه لوال الحدود ما تميزت‬ ‫خرج فليس بمعتكف« تِ ْل َك ُحدُو ُد َّ ِ‬
‫المعلومات« فَال ت َ ْق َربُوها »لئال تشرفوا على ما وراءها فتزل قدم ‪ ،‬فربما تزل قدم بعد ثبوتها‬
‫اس »‪ -‬إشارة ‪ -‬فيتذكر بها« لَعَلَّ ُه ْم يَتَّقُونَ‬
‫ّللاُ آياتِ ِه »أي دالئله« ِللنَّ ِ‬
‫وتذوقوا السوء« َكذ ِل َك يُبَ ِيه ُن َّ‬
‫»يتخذون تلك الدالئل وقاية وجعلها بمعنى الترجي ألنه ما كل من حصل له العلم وفق‬
‫الستعمال ما علمه ‪ -‬إشارة ‪ -‬إذا جاء الليل وأفطر العبد علم أنه عبد فقير متغذ ليس له التنزه‬
‫ّللا من التنزيه عن حكم الطبيعة ‪،‬‬ ‫حقيقة ‪ ،‬وإنما هو أمر عرض له ينبهه على التخلق بأوصاف ه‬
‫ولهذا أخبرنا تعالى في الحديث المروي ‪ :‬أن الصوم له ‪ ،‬وكل عمل ابن آدم البن آدم ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫إن التنزه عن الطعام والشراب والنكاح لي ال لك يا عبدي ‪ ،‬ألني‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ثم تعقبه ظلمة ‪ ،‬ثم بعد ذلك يطلع الفجر الثاني ‪ ،‬وهو الحد المشروع ‪ ،‬وفي هذه اآلية دليل على‬
‫جواز النية في صوم رمضان من لدن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ‪ ،‬إذ النهار من طلوع‬
‫الشمس إلى غروبها ‪ ،‬والليل من غروب الشمس إلى طلوعها ‪ ،‬والفجر حد مشروع في منع‬
‫األكل والشرب والنكاح للصائم ‪ ،‬فمن نوى في ذلك الوقت فقد بيت ‪ ،‬وأما قول النبي عليه‬
‫السالم ‪ [ :‬إن بالال ينادي ليال فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ] فهو قولنا ‪ :‬إن الفجر‬
‫حد مشروع في منع األكل ‪ ،‬وقوله ليال ‪ ،‬يقول ‪ :‬إن الليل شديد التمكن إذ لم تبد عالمة إقبال‬
‫يام ِإلَى اللَّ ْي ِل »أن الصيام يتم‬ ‫ص َ‬ ‫النهار ‪ ،‬فالفجر عالمة إقبال النهار ‪ ،‬وفي قوله ‪ «:‬أَتِ ُّموا ال ِ ه‬
‫بدخول الليل ‪ ،‬وأن الليل ليس بمحل للصوم سواء أكل أو لم يأكل ‪ ،‬فيندرج فيه أن الوصال وإن‬
‫جاز فليس بصوم ‪ ،‬وأنه مفطر شرعا وإن لم يأكل ‪ ،‬فله أجر في ذلك من حيث ما هو تارك‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وكان هو‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫لألكل ‪ ،‬ال من حيث هو صائم ‪ ،‬ولهذا واصل بهم رسول ه‬
‫يواصل أي يستصحب ترك األكل ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬وال تُبَا ِش ُرو ُه َّن َوأ َ ْنت ُ ْم عا ِكفُونَ فِي ْال َم ِ‬
‫ساج ِد »قيل‬
‫نزلت هذه اآلية في علي بن أبي طالب وعمار‬

‫ص ‪274‬‬

‫ص ‪276 :‬‬
‫ي ‪ ،‬وأنت تفتقر في وجودك لحافظ‬ ‫القائم بنفسي ال أفتقر في وجودي إلى حافظ يحفظه عل ه‬
‫يحفظه عليك وهو أنا ‪ ،‬فجعلت لك الغذاء وأفقرتك إليه ‪ ،‬ألنبهك أني أنا الحافظ عليك وجودك ‪،‬‬
‫ليصح عندك افتقارك ‪ ،‬ومع هذا االفتقار طغيت وتجبرت وتكبرت ‪ ،‬وتعاظمت في نفسك وما‬
‫استحييت في ذلك من فضيحتك بجوعك وعطشك ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪ِ «:‬ت ْل َك ُحدُو ُد َّ ِ‬
‫ّللا فَال‬
‫ّللا ‪ ،‬وهي الحدود‬ ‫ت َ ْعتَدُوها »فإذا دخل العبد في نعت الربوبية وهو ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فقد تعدى حدود ه‬
‫الرسمية ال الحدود الذاتية ‪ ،‬فإنه ليس بأيدينا من الحدود الذاتية شيء ‪ ،‬ولهذا اجترأ العباد عليها‬
‫وتعدوها ومنها عوقبوا ‪ ،‬كما إذا أدخل الحق صاحب الحد فيما هو له لم يتصف الداخل بالظلم‬
‫فما استوجب عقوبة ‪ ،‬فلما كان حدا رسميا قبل العبد الدخول فيه ‪ ،‬فإن دخل فيه بنفسه من غير‬
‫إدخال صاحبه فقد عرض نفسه للعقوبة ‪ ،‬فصاحب الحد بخير النظرين إن شاء عاقب ‪ ،‬وإن‬
‫شاء عفا ‪ ،‬وإن شاء أثنى ‪ ،‬كالمتصف بالكرم والعفو والصفح ‪ ،‬وهذه كلها حدود رسمية للحق ‪،‬‬
‫اس لَعَلَّ ُه ْم يَتَّقُونَ »فوصفهم بالتقوى إذا لم يتعدوها وجعلوها‬ ‫ّللاُ آياتِ ِه ِللنَّ ِ‬
‫لذلك قال «‪َ :‬كذ ِل َك يُبَ ِيه ُن َّ‬
‫وقاية لهم ‪ - ،‬إشارة ‪ -‬قوله تعالى «‪ُ :‬كلُوا َوا ْش َربُوا َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَ ُك ُم »كما يحرم على المكلف‬
‫ّللا‬
‫األكل عند تبين الفجر ‪ ،‬كذلك يحرم على صاحب الشهود أن يعتقد أن ثم في الوجود غير ه‬
‫فاعال بل وال مشهودا ‪ ،‬وما يمسك عنه الصائم هو علم الذوق ‪ ،‬والذوق أول مبادي التجلي‬
‫اإللهي‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ابن ياسر وأبي عبيدة بن الجراح ‪ ،‬كان أحدهم يعتكف فإذا أراد الغائط رجع من المسجد إلى‬
‫ّللا هذه اآلية وقرنها‬‫أهله بالليل فيباشر ويجامع امرأته ثم يغتسل ويرجع إلى المسجد ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫بشرطين ‪ ،‬االعتكاف وكونه في المسجد ‪ ،‬فإذا اجتمعا فال خالف ‪ ،‬كالربيبة التي في الحجر مع‬
‫الدخول باألم ‪ ،‬وإذا انفرد أحد الشرطين لم يلزم الحكم حكم تحريم الجماع للمعتكف في غير‬
‫المسجد ‪ ،‬وقد قيل بذلك ‪ ،‬فليس للمعتكف في المسجد أن يجامع أهله ليال وال نهارا ما دام في‬
‫هذه العبادة ‪ ،‬وفي هذه اآلية دليل على جواز االعتكاف في المساجد كلها ‪ ،‬فإنه ع هم بالم الجنس‬
‫‪ ،‬واالعتكاف اإلقامة في المسجد أدنى ما ينطلق عليه اسم إقامة من ليل أو نهار ‪ ،‬بنية القربة‬
‫والعبادة هّلل تعالى ‪ ،‬فمنع المعتكف من المباشرة وما منعه من األكل والشرب كما منع الصائم ‪،‬‬
‫فدل على جواز االعتكاف بغير صوم وأنه عمل مستقل ‪ ،‬وقوله ‪ِ «:‬ت ْل َك »إشارة إلى ما تقدم‬
‫ّللا »التي حدها ليوقف‬‫من ذكر األحكام كلها من صوم ووصية وقصاص ‪ ،‬يقول ‪ :‬تلك« ُحدُو ُد َّ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪[ :‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫عندها وال تتجاوز ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَال ت َ ْق َربُوها »مثل قول رسول ه‬
‫الراتع حول الحمى يوشك ]‬
‫ص ‪275‬‬

‫ص ‪277 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 188‬إلى ‪189‬‬
‫اإلثْ ِم‬
‫اس ِب ْ ِ‬ ‫باط ِل َوت ُ ْدلُوا ِبها ِإلَى ا ْل ُحك ِهام ِلتَأ ْ ُكلُوا فَ ِريقا ً ِم ْن أ َ ْموا ِل النه ِ‬ ‫َوال تَأ ْ ُكلُوا أ َ ْموالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم ِبا ْل ِ‬
‫س ا ْل ِب ُّر ِبأ َ ْن‬ ‫اس َوا ْل َح هجِ َولَ ْي َ‬ ‫ي َمواقِيتُ ِللنه ِ‬ ‫سئَلُونَكَ ع َِن ْاأل َ ِهله ِة قُ ْل ِه َ‬ ‫ون ( ‪ ) 188‬يَ ْ‬ ‫َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ورها َول ِك هن ا ْل ِب هر َم ِن اتهقى َوأْتُوا ا ْلبُيُوتَ ِم ْن أ َ ْبوا ِبها َواتهقُوا ه َ‬
‫ّللا لَعَله ُك ْم‬ ‫ظ ُه ِ‬ ‫تَأْتُوا ا ْلبُيُوتَ ِم ْن ُ‬
‫ون ( ‪) 189‬‬ ‫ت ُ ْف ِل ُح َ‬
‫ع ِن ْاأل َ ِهلَّ ِة »سمي الهالل هالال الرتفاع األصوات عند رؤيته ‪ ،‬فال ترفع األصوات‬ ‫« يَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫ج »الوقت الذي نرى فيه الهالل يحكم علينا ‪ ،‬فإن كان‬ ‫اس َو ْال َح ه ِ‬
‫ي َمواقِيتُ ِللنَّ ِ‬ ‫إال بالرؤية« قُ ْل ِه َ‬
‫رمضان أثر فينا نية الصوم ‪ ،‬وإن كان هالل فطر أثر فينا نية الفطر ‪ ،‬وإن لم يكن إال هالل‬
‫شهر من الشهور أثر فينا العلم بزوال حكم الشهر الذي انقضى وحكم الشهر الذي هو هالله ‪،‬‬
‫وتختلف أحوال الناس ‪ ،‬فتمتاز األوقات به النقضاء اآلجال في كل شيء ‪ ،‬من المبايعات‬
‫ي‬
‫والمداينات واألكرية وأفعال الحج ‪ ،‬وقال تعالى في هذه اآلية ‪ِ «:‬ه َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫[ أن يقع فيه ] فإذا لم يقرب المكلف الحد فأحرى أن يتعداه ‪ ،‬فإن الصائم إذا عانق أو قبل أو‬
‫لمس فقد قرب من الجماع الذي منع منه ‪ ،‬فهذا هو القرب ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬كذ ِل َك يُبَ ِيه ُن َّ‬
‫ّللاُ آياتِ ِه‬
‫اس» يظهر األدلة الواضحة على ما شرعه « لَعَلَّ ُه ْم يَتَّقُونَ »يحذرون الوقوع فيما حرم‬ ‫ِللنَّ ِ‬
‫عليهم ‪ ،‬وقد يكون تقربوها تأتوها وهو األوجه ‪ ،‬فإن تقبيل الصائم مشروع ‪ ،‬وما قال ‪ [ :‬فال‬
‫تقاربوها ] ثم قال ‪:‬‬
‫باط ِل َوت ُ ْدلُوا ِبها ِإلَى ْال ُح َّك ِام ِلتَأ ْ ُكلُوا فَ ِريقا ا ِم ْن أ َ ْموا ِل النَّ ِ‬
‫اس‬ ‫) ‪َ "( 189‬وال تَأ ْ ُكلُوا أ َ ْموالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم ِب ْال ِ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫حرمه ه‬ ‫اإلثْ ِم َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »يقول ‪َ «:‬وال تَأ ْ ُكلُوا »أي ال يأخذ بعضكم مال بعض بوجه ه‬ ‫ِب ْ ِ‬
‫وقوله ‪َ «:‬وت ُ ْدلُوا بِها »أي تلقوها «إِلَى ْال ُح َّك ِام »لمعرفتكم بوجوه المحاكمة والخصومة فيحكم‬
‫لكم الحاكم على حد ما يسمع فيقضي لك من مال أخيك« َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »أنكم على الباطل فيما‬
‫تدعون به ‪ ،‬وذلك على ثالثة أوجه ‪ :‬إما بحسن الخصام ومعرفته بالجدل حتى يظهر الباطل في‬
‫صورة الحق ‪ ،‬وإما باليمين ‪ ،‬وإما بشهادة الزور ‪ ،‬وإن كان حاكم سوء فبالرشوة وما في‬

‫ص ‪276‬‬

‫ص ‪278 :‬‬
‫ج »ولم يقل للحاج ‪ ،‬فأنزل الحج في اآلية منزلة الناس ‪ ،‬ما أنزله منزلة‬ ‫اس َو ْال َح ه ِ‬
‫َمواقِيتُ ِللنَّ ِ‬
‫ّللا ليس حكم األشياء التي‬ ‫الديون والبيوع ‪ ،‬وإن كان المعنى يطلبه ‪ ،‬فعلمنا أن حكم الحج عند ه‬
‫تعتبر فيها األهلة ‪ ،‬أعني مواقيت األهلة ‪ ،‬والحج فعل مضاف مخصوص معيهن يفعله اإلنسان‬
‫كسائر أفعاله في بيوعه ومدايناته ‪ ،‬فاعتنى بذكر هذه األفعال المخصوصة ألنها أفعال‬
‫عز وجل بالقصد ‪ ،‬ليس للعبد فيها منفعة دنيوية إال القليل من الرياضة البدنية ‪،‬‬ ‫مخصوصة هّلل ه‬
‫ولهذا تميز حكم الحج عن سائر العبادات في أغلب أحواله وأفعاله في التعليل ‪ ،‬فأكثره تعبد‬
‫محض ال يعقل له معنى عند الفقهاء ‪ ،‬فكان بذاته عين الحكمة ما وضع لحكمة موجبة ‪ ،‬وفيه‬
‫أجر ال يكون في غيره من العبادات ‪ ،‬وتجل إلهي ال يكون في غيره من األعمال ‪ ،‬فالحاج في‬
‫الحج يجني ثمرة الزمان وما يحوي عليه من المعارف اإللهية المختصة بشهر ذي الحجة ‪،‬‬
‫ويجني ثمرة العدد في المعارف اإللهية ‪ ،‬ألن العدد له حكم فيها ‪ ،‬فالحج هو المعطي ما يحوي‬
‫عليه من المعارف اإللهية للحاج ‪ ،‬لهذا أضيف الميقات للحج في الهالل وما أضيف للحاج كما‬
‫ورها َول ِك َّن ْالبِ َّر َم ِن اتَّقى »البر هو‬ ‫ْس ْالبِ ُّر بِأ َ ْن تَأْتُوا ْالبُيُ َ‬
‫وت ِم ْن ُ‬
‫ظ ُه ِ‬ ‫أضيف للناس ‪َ «،‬ولَي َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ضمنها من جاه وخوف من ذي سلطان ‪ ،‬والسبب في نزول هذه اآلية أن إمرأ القيس بن عابس‬
‫الكلبي ‪ ،‬وعبدان الحضرمي اختصما في أرض وكان الطالب عبدان والمطلوب إمرأ القيس ‪،‬‬
‫ولم تكن لعبدان بينة ‪ ،‬فأراد امرؤ القيس أن يحلف فقال النبي عليه السالم ‪ [ :‬إن الذين يشترون‬
‫ّللا وأيمانهم ثمنا قليال ] إلى آخر اآلية ‪.‬‬ ‫بعهد ه‬
‫فلما سمعها امرؤ القيس كره أن يحلف ولم يخاصمه في أرضه وحكمه فيها ‪ ،‬فقال النبي عليه‬
‫السالم ‪ [ :‬إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ‪،‬‬
‫فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ‪ ،‬فال يأخذن منه شيئا ‪ ،‬فإنما‬
‫أقضي له قطعة من النار ] فبكيا وقال كل واحد منهما حقي لصاحبي فقال ‪ [ :‬اذهبا فتوضيا ثم‬
‫استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه ] ونزلت اآلية« َوال تَأ ْ ُكلُوا »ومعنى« َوت ُ ْدلُوا »وال‬
‫ع ِن ْاأل َ ِهلَّ ِة »اآلية ‪ ،‬السائل جماعة‬ ‫تدلوا فجزم أو منصوب بإضمار إن ( ‪ «) 190‬يَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫ّللا ما بال الهالل يبدو مثل‬ ‫منهم معاذ بن جبل وثعلبة ‪ ،‬وهما من األنصار ‪ ،‬فقالوا [ ‪:‬يا رسول ه‬
‫ع ِن ْاأل َ ِهلَّ ِة‬
‫ّللا« يَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫الخيط ‪ ،‬ثم ينمو حتى يمتلي ‪ ،‬ثم ينقص حتى يعود كما بدأ ] فأنزل ه‬
‫ج »فسماها أهلة ولم يقل هالل ‪ ،‬فإن للهالل‬ ‫اس َو ْال َح ه ِ‬ ‫»ثم قال له ‪ «:‬قُ ْل »لهم« ِه َ‬
‫ي َمواقِيتُ ِللنَّ ِ‬
‫في كل ليلة حالة من نقص أو زيادة ليس لليلة األخرى ‪ ،‬فهالل الليلة ما هو هالل الليلة التي‬
‫قبلها وال التي بعدها ‪ ،‬فإن الذي به سمي هالل هذه الليلة على االختصاص إنما هو ألجل الزائد‬
‫‪ ،‬أو‬

‫ص ‪277‬‬

‫ص ‪279 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم في تفسير اإلحسان‬ ‫اإلحسان ‪ ،‬واإلحسان مشاهدة أو كالمشاهدة ‪ ،‬فإنه قال صلهى ه‬
‫ّللا »أي اتخذوه وقاية من كل‬ ‫ّللا لَعَلَّ ُك ْم ت ُ ْف ِل ُحونَ »قوله ‪ «:‬اتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا كأنك تراه« َواتَّقُوا َّ َ‬
‫‪ :‬أن تعبد ه‬
‫ّللا يتضمن كل اسم إلهي ‪ ،‬فينبغي أن يتقى منه ويتخذ وقاية ‪ ،‬فإنه ما من‬ ‫ما تحذرون ‪ ،‬ومسمى ه‬
‫اسم من األسماء اإللهية للكون به تعلق إال ويمكن أن يتقى منه وبه ‪ ،‬إما خوفا من فراقه إن‬
‫كان من أسماء اللطف ‪ ،‬أو خوفا من نزوله إن كان من أسماء القهر ‪ ،‬فما يتقى إال حكم أسمائه‬
‫ّللا ‪ ،‬أي نتخذه وقاية‬
‫ّللا فأمرنا بتقوى ه‬ ‫‪ ،‬وما تتقى أسماؤه إال بأسمائه ‪ ،‬واالسم الذي يجمعها هو ه‬
‫ّللا عليه وسلم في االستعاذة منه به فقال ‪:‬‬ ‫ونتقيه لما فيه من التقابل ‪ ،‬وهو مثل قوله صلهى ه‬
‫ّللا مكتسب للعبد ‪ ،‬ولهذا أمر به ‪ ،‬وهكذا كل مأمور‬ ‫[ وأعوذ بك منك ] ومقام التقوى ‪ ،‬تقوى ه‬
‫به فهو مقام مكتسب ‪ ،‬ولما كان المعنى في التقوى أن تتخذ وقاية مما ينسب إلى المتقى ‪ ،‬فإذا‬
‫جاءت النسبة حالت الوقاية بينها وبين المتقي أن تصل إليه فتؤذيه ‪ ،‬فتلقتها الوقاية ‪ ،‬لذلك‬
‫يحتاج إلى ميزان قوي ألمور عوارض عرضت للنسبة ‪ ،‬تسمى مذمومة ‪ ،‬فيقبلها العبد وال‬
‫ّللا في نفس األمر ‪ ،‬ولكن األدب مشروع للعبد في‬ ‫ّللا وقاية أدبا ‪ ،‬وإن كان ال يتلقاها إال ه‬ ‫يجعل ه‬
‫ّللا ذلك منك جازاك جزاء من‬ ‫ذلك ‪ ،‬وال تضره هذه الدعوى ألنها صورة ال حقيقة ‪ ،‬وإذا علم ه‬
‫وعول في كل حال عليه ‪ ،‬وسكن تحت مجاري األقدار ‪ ،‬وتفرج فيما يحدث‬ ‫ه‬ ‫رد األمور إليه ‪،‬‬
‫ّللا في أوالد الليل والنهار‪.‬‬
‫ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ما بقي بعد النقص ‪ ،‬وإنما سموه هالال بالحالة التي تكون من المرتقبين له في أول الشهر‬
‫فيهلون عند رؤية أول الشهر ‪ ،‬أي يرفعون أصواتهم تعريفا بأنه قد ظهر ‪ ،‬واإلهالل رفع‬
‫اس »في فطرهم‬ ‫ّللا ‪ :‬جعلت ذلك « َموا ِقيتُ »أي أوقات« ِللنَّ ِ‬ ‫الصوت فبه سمي هالال ‪ ،‬فقال ه‬
‫وصومهم ‪ ،‬وتأجيل ديونهم ‪ ،‬وصلحهم مع الكفار ‪ ،‬وكل فعل يضرب له أجل كالمطلقات‬
‫اس َو ْال َح ه ِ‬
‫ج‬ ‫ج »وخص الحج بالذكر وإن كان داخال في قوله ‪َ «:‬مواقِيتُ ِللنَّ ِ‬ ‫والحيض« َو ْال َح ه ِ‬
‫»فإن الحج لهذا البيت ليس من خصوص الناس بل تحجه المالئكة وغيرهم ممن ليس لهم‬
‫أحكام البشر التي ذكرناها ‪ ،‬من المداينات والمصالحات ‪ ،‬واألهلة مواقيت لهم في ذلك ‪ ،‬ثم‬
‫وت »اآلية ‪ ،‬مثل هذه األسباب ينبغي‬ ‫ْس ْال ِب ُّر ِبأ َ ْن تَأْتُوا ْالبُيُ َ‬
‫شرع فيما يتعلق بالحج فقال ‪َ «:‬ولَي َ‬
‫أن تذكر حتى يعرف ما معنى دخول البيت من ظهره أو كيف يدخل منه ‪ ،‬فاعلم أن سبب‬
‫نزول هذه اآلية أن األنصار كانت في الجاهلية واإلسالم إذا أحرم أحدهم بالحج أو العمرة وكان‬
‫من أهل المدر وهو مقيم في أهله لم يدخل منزله‬

‫ص ‪278‬‬

‫ص ‪280 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 190‬إلى ‪194‬‬
‫اقتُلُو ُه ْم‬ ‫ِين ( ‪َ ) 190‬و ْ‬ ‫ب ا ْل ُم ْعتَد َ‬
‫ّللا ال يُ ِح ُّ‬‫ِين يُقاتِلُونَ ُك ْم َوال ت َ ْعتَدُوا ِإ هن ه َ‬ ‫ّللا الهذ َ‬‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫َوقاتِلُوا فِي َ‬
‫ش ُّد ِم َن ا ْلقَتْ ِل َوال تُقاتِلُو ُه ْم ِع ْن َد‬ ‫ث أ َ ْخ َر ُجو ُك ْم َوا ْل ِفتْنَةُ أ َ َ‬
‫ث ث َ ِق ْفت ُ ُمو ُه ْم َوأ َ ْخ ِر ُجو ُه ْم ِم ْن َح ْي ُ‬‫َح ْي ُ‬
‫ين ( ‪ ) 191‬فَ ِإ ِن‬ ‫اقتُلُو ُه ْم كَذ ِلكَ َجزا ُء ا ْلكا ِف ِر َ‬ ‫رام َحتهى يُقا ِتلُو ُك ْم ِفي ِه فَ ِإ ْن قاتَلُو ُك ْم فَ ْ‬ ‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬ ‫ا ْل َم ْ‬
‫َّلل فَ ِإ ِن ا ْنت َ َه ْوا‬ ‫ُون فِتْنَةٌ َويَك َ‬
‫ُون ال هد ُ‬
‫ِين ِ ه ِ‬ ‫ور َر ِحي ٌم ( ‪َ ) 192‬وقاتِلُو ُه ْم َحتهى ال تَك َ‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫ا ْنت َ َه ْوا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫صاص فَ َم ِن‬ ‫ٌ‬ ‫رام َوا ْل ُح ُرماتُ قِ‬ ‫شه ِْر ا ْل َح ِ‬ ‫شه ُْر ا ْل َحرا ُم بِال ه‬ ‫ين ( ‪ ) 193‬ال ه‬ ‫علَى ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ْوان إِاله َ‬
‫عد َ‬ ‫فَل ُ‬
‫ين (‬ ‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫ّللا َم َع ا ْل ُمت ه ِق َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َواتهقُوا ه َ‬ ‫علَ ْي ِه بِ ِمثْ ِل َما ا ْعتَدى َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فَا ْعتَدُوا َ‬
‫ا ْعتَدى َ‬
‫) ‪194‬‬
‫ّللا عليه وسلم بتبليغ رساالت ربه إلى عباده ‪ ،‬لم يشرع له أن يبدأ بالقتال ‪،‬‬ ‫لما أمر النبي صلهى ه‬
‫والمشروع له وللمؤمنين أن يبدءوا بدعائهم إلى اإلسالم ‪ ،‬فإن أجابوا كففنا عنهم ‪ ،‬وإن لم‬
‫يجيبوا فال‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من قبل الباب ‪ ،‬وكان يوضع له سلم إلى ظهر البيت فيرقى فيه وينحدر منه إلى بيته ‪ ،‬أو‬
‫يتسور من الجدار ‪ ،‬أو يثقب ثقبا في ظهر بيته فيدخل منه ويخرج حتى يتوجه إلى مكة محرما‬
‫ّللا عليه وسلم دخل يوما‬ ‫‪ ،‬وإن كان من الوبر دخل وخرج من وراء بيته ‪ ،‬وإن النبي صلهى ه‬
‫نخال لبني النجار ودخل معه قطبة بن عامر األنصاري من بني سلمة من جشم من قبل الجدار‬
‫ّللا عليه وسلم من الباب وهو محرم خرج قطبة من الباب‬ ‫وهو محرم ‪ ،‬فلما خرج النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ما حملك‬ ‫‪ ،‬فقال رجل هذا قطبة خرج من الباب وهو محرم ‪ ،‬فقال النبي صلهى ه‬
‫ّللا رأيتك خرجت من الباب وأنت محرم‬ ‫أن تخرج من الباب وأنت محرم ؟ فقال ‪ :‬يا نبي ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬خرجت ألني من الحمس ‪،‬‬ ‫فخرجت معك ‪ ،‬وديني دينك ‪ ،‬فقال النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إن كنت بأحمس فأنا أحمس ‪ ،‬وقد رضيت بهداك ودينك‬ ‫فقال قطبة للنبي صلهى ه‬
‫ْس ْال ِب ُّر‬
‫ّللا عليه وسلم ‪َ «:‬ولَي َ‬ ‫ّللا في قول قطبة بن عامر للنبي صلهى ه‬ ‫واستننت بسنتك ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫ورها َول ِك َّن ْال ِب َّر َم ِن اتَّقى‬ ‫»أي ليس من البر المشروع وال المعقول« ِبأ َ ْن تَأْتُوا ْالبُيُ َ‬
‫وت ِم ْن ُ‬
‫ظ ُه ِ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫»أي تقوى ه‬

‫ص ‪279‬‬

‫ص ‪281 :‬‬
‫يخلو إما أن يكونوا أهل كتاب أو ال يكونوا ‪ ،‬وإن كانوا أهل كتاب وجنحوا للسلم الذي هو‬
‫الصلح عرضنا عليهم أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ‪ ،‬فإن أبوا أو لم يكونوا أهل‬
‫ّللا الَّذِينَ يُقاتِلُونَ ُك ْم »أي ال تبدءوهم بقتال قبل‬ ‫كتاب قاتلناهم ‪ ،‬فلهذا قال ‪َ «:‬وقاتِلُوا فِي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫الدعوة وقبل عرض الجزية إن كانوا أهل كتاب ‪ ،‬ويدخل أيضا في هذا الخطاب من قاتلنا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وأقام الموصوف بها مقامها به ‪ ،‬أو يكون ولكن البر بر من اتقى ‪ ،‬وقد تقدم الكالم عليه في(‬
‫وت ِم ْن أَبْوا ِبها »فحصل من الفائدة في هذه المسألة أن اإلنسان‬ ‫ْس ْال ِب َّر أ َ ْن ت ُ َولُّوا )« َوأْتُوا ْالبُيُ َ‬
‫لَي َ‬
‫أوال كان إذا دخل من باب بيته أتى مباحا أو محظورا ‪ ،‬واآلن قد اقترن به األمر ‪ ،‬فيكون في‬
‫إتيان المحرم إلى بيته من الباب عن أمر الشرع مأجورا وإن كان مباحا ‪ ،‬فإنه ما أتاه إال ألمر‬
‫الشارع ال لهوى نفسه ‪ ،‬وكل مباح إذا اقترن مع فاعله فعله لكون الشارع أباحه له كان له من‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم‬
‫ب َّ‬ ‫األجر ما يقابل حرمة القصد في ذلك ال لعين الفعل ‪ ،‬وهو قوله ‪َ ( :‬وا ْبتَغُوا ما َكت َ َ‬
‫ّللا لَعَلَّ ُك ْم ت ُ ْف ِل ُحونَ »قد تقدم الكالم‬‫)فالمباح من ذلك إذا كان فعله له إلباحته ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا »اآليات ‪،‬‬ ‫في أول سورة البقرة على التقوى والفالح ثم قال «) ‪َ : ( 191‬وقا ِتلُوا ِفي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم بتبليغ‬ ‫ّللا الَّذِينَ يُقاتِلُونَ ُك ْم »لما أمر النبي صلهى ه‬ ‫يقول ‪َ «:‬وقاتِلُوا فِي َ‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬
‫رساالت ربه إلى عباده لم يشرع له أن يبدأ بقتال ‪ ،‬والمشروع له وللمؤمنين أن يبدءوا بدعائهم‬
‫إلى اإلسالم ‪ ،‬فإن أجابوا كففنا عنهم ‪ ،‬وإن لم يجيبوا فال يخلو إما أن يكونوا أهل الكتاب أو ال‬
‫يكونوا ‪ ،‬وإن كانوا أهل كتاب وجنحوا إلى السلم الذي هو الصلح عرضنا عليهم أن يعطوا‬
‫الجزية عن يد وهم صاغرون ‪ ،‬فإن أبوا أو لم يكونوا أهل كتاب قاتلناهم ‪ ،‬فلهذا قال ‪َ «:‬وقاتِلُوا‬
‫ّللا الَّذِينَ يُقا ِتلُونَ ُك ْم »أي ال تبدءوهم بقتال قبل الدعوة وقبل عرض الجزية إن كانوا‬ ‫س ِبي ِل َّ ِ‬ ‫ِفي َ‬
‫أهل كتاب ‪ ،‬ويدخل أيضا في هذا الخطاب من قاتلنا في الحرم الذي يحرم القتال فيه« َوال‬
‫ّللا ال يُ ِحبُّ ْال ُم ْعتَدِينَ »أي ال تتجاوزوا ما حددنا لكم من النهي عن قتل الرهبان‬ ‫ت َ ْعتَدُوا ِإ َّن َّ َ‬
‫والنساء والصبيان ‪ ،‬وكل من انحجز عن قتالكم من الرجال ‪ ،‬ولكن هذا في الحرم خاصة ‪،‬‬
‫وأما في غير الحرم فنحن مأمورون بقتال المشركين كافة ‪ ،‬فال يغنيهم كونهم انحجزوا عنهم ‪،‬‬
‫صوب من صوب قتال ابن الزبير للحجاج ‪،‬‬ ‫فال نقاتل في الحرم إال من باشر القتال ‪ ،‬ومن هنا ه‬
‫فإن الحجاج قصده وقاتله لكونه ثبتت خالفته عنده ‪ ،‬ومن صوب قتال الحجاج البن الزبير لم‬
‫تصح عنده خالفة ابن الزبير ورآه خارجا على اإلمام ‪ ،‬ومن خرج على اإلمام فقد عصى‬
‫والحرم ال يعين عاصيا عند من يرى ذلك ‪ ،‬فقاتله الحجاج بحق في الحرم ‪ ،‬ولم يكن البن‬
‫الزبير أن يقاتله في الحرم وال في غير الحرم «) ‪َ ( 192‬وا ْقتُلُو ُه ْم َحي ُ‬
‫ْث ث َ ِق ْفت ُ ُمو ُه ْم »يقول ‪:‬‬
‫واقتلوهم‬

‫ص ‪280‬‬

‫ص ‪282 :‬‬
‫ّللا ال يُ ِحبُّ ْال ُم ْعتَدِينَ »أي ال تتجاوزوا ما‬
‫في الحرم الذي يحرم القتال فيه« َوال ت َ ْعتَدُوا ِإ َّن َّ َ‬
‫حددنا لكم من النهي عن قتل الرهبان والنساء والصبيان وكل من انحجز عن قتالكم من الرجال‬
‫‪ ،‬لكن هذا في الحرم خاصة ‪ ،‬وأما في غير الحرم فنحن مأمورون بقتال المشركين كافة فال‬
‫يغنيهم كونهم انحجزوا عنهم ‪ ،‬فال نقاتل في الحرم إال من باشر القتال ‪ ،‬ووقع النهي‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫حيث ثقفتموهم أي وجدتموهم على طريق القهر والغلبة ‪ ،‬يقال في اللسان رجل ثقف إذا كان‬
‫سريع األخذ ألقرانه ‪ ،‬وإذا كان على هذا ‪ ،‬فال يكون قتالهم على وجه األخذ والغلبة إال بعد‬
‫المنع مما دعوناهم إليه ‪ ،‬أو ابتداء القتال منهم ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وأ َ ْخ ِر ُجو ُه ْم »خطاب للنبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ْث أ َ ْخ َر ُجو ُك ْم »يعني مكة ‪ ،‬وهو قول النبي صلهى ه‬ ‫عليه وسلم والمؤمنين « ِم ْن َحي ُ‬
‫ّللا له‬ ‫لورقة بن نوفل حين أخبره أن قومه يخرجونه ‪ ،‬قال ‪ :‬أو مخرجي هم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقال ه‬
‫ْث أ َ ْخ َر ُجو ُك ْم ‪َ ،‬و ْال ِفتْنَةُ »أي االبتالء بالصد عن المسجد الحرام وبمفارقة‬ ‫‪َ «:‬وأ َ ْخ ِر ُجو ُه ْم ِم ْن َحي ُ‬
‫ش ُّد ِمنَ ْالقَتْ ِل‬
‫األوطان ‪ ،‬والخروج من الديار مع وجود الحياة وتجدد اآلالم في كل وقت لذلك« أ َ َ‬
‫»فإن القتل إنما هو ساعة وينتقل فيستريح من عذاب مفارقة الوطن عن كره لشغله بما يصير‬
‫باّلل في الحرم‬ ‫باّلل والشرك ‪ ،‬فنقول ‪ :‬والشرك ه‬ ‫إليه من خير أو شر ‪ ،‬وإن أراد بالفتنة الكفر ه‬
‫أشد من القتل بال شك ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وال تُقاتِلُو ُه ْم ِع ْن َد ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫رام َحتَّى يُقاتِلُو ُك ْم فِي ِه »أي ال‬
‫تبدءوهم بقتال كما ذكرنا قبل ‪ ،‬وقد يفهم من هذا ما ذهب إليه عطاء بن أبي رباح أن الحرم كله‬
‫مسجد ‪ ،‬فإن النهي إنما وقع عن القتال في الحرم ‪ ،‬وهذا الخطاب عام إلى يوم القيامة ‪ ،‬ثم قال‬
‫‪ «:‬فَإِ ْن قاتَلُو ُك ْم فَا ْقتُلُو ُه ْم »أي فإن قاتلوكم فيه يعني في الحرم ‪ ،‬فهنا ال يسوغ إال قتال من قاتل‬
‫منهم ال قتال من انحجز عنهم ولم يقاتل لحرمة الحرم ‪ ،‬وكذلك في غير الحرم لو انحجز من‬
‫المحاربين طائفة ولم تقاتل وطلبت السلم منا وأخرجوا أيديهم عن طاعة من قاتلنا منهم لغير‬
‫خداع فلنا أن نسالم تلك الطائفة ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬كذ ِل َك َجزا ُء ْالكافِ ِرينَ »فجعل قتالنا لمن قاتلنا جزاء‬
‫‪ ،‬والجزاء ال يكون ابتداء ‪ ،‬ففيه تأكيد أن ال نبدأ بقتال كما أشرنا ‪ ،‬والكاف في كذلك إن شئت‬
‫جعلتها زائدة ‪ ،‬وإن شئت كانت صفة ‪ ،‬أي مثل ذلك يكون أيضا جزاء الكافرين من أهل الكتاب‬
‫إذا قاتلوكم وكل من قاتلكم ممن ليس بمشرك لما كانت اآلية نزلت في حرب أهل األوثان الذين‬
‫ّللا تعريفنا بأن ذلك جزاء كل كافر شرعا ‪ ،‬ثم قال ‪ «) 193 ( :‬فَإِ ِن‬ ‫ليسوا أهل كتاب ‪ ،‬فأراد ه‬
‫ّللا‬
‫ور َر ِحي ٌم »أي فإن انتهوا عن قتالكم في الحرم أو عن الشرك والكفر ‪ ،‬فإن ه‬ ‫غف ُ ٌ‬
‫ّللا َ‬‫ا ْنت َ َه ْوا فَإِ َّن َّ َ‬
‫يغفر لهم ما وقع منهم من اإلثم والعدوان في أيام كفرهم« َر ِحي ٌم »بكم وبهم حيث قرر لهم أن‬
‫يسلموا على ما أسلفوا من خير ولم يحبط لهم ما كانوا عليه في الكفر من العتق والبر ومكارم‬
‫األخالق ‪ ،‬وإن تمادوا على غيهم ولم ينتهوا قال‪:‬‬

‫ص ‪281‬‬

‫ص ‪283 :‬‬
‫عن القتال في الحرم ‪ ،‬وهذا الخطاب عام إلى يوم القيامة ‪ ،‬وقوله تعالى «‪ :‬فَإِ ْن قاتَلُو ُك ْم‬
‫فَا ْقتُلُو ُه ْم »أي فإن قاتلوكم فيه يعني في الحرم فهنا ال يسوغ إال قتال من قاتل منهم ‪ ،‬ال من‬
‫انحجز عنهم ولم يقاتل لحرمة الحرم ‪ ،‬وكذلك في غير الحرم ‪ ،‬لو انحجز من المحاربين طائفة‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫«) ‪َ ( 194‬وقاتِلُو ُه ْم َحتَّى ال ت َ ُكونَ فِتْنَةٌ »أي حتى ال يبقى كفر وال يبقى كافر في قوة تكون‬
‫ّلل »إما بزوال الكفر رأسا ‪ ،‬وإما بإعالء‬ ‫منه فتنة ‪ ،‬أي محنة وبالء للمؤمنين« َويَ ُكونَ ال هد ُ‬
‫ِين ِ َّ ِ‬
‫ّللا على كلمة الكفر بأن يكونوا تحت ذمة المسلمين إن كانوا من أهل الكتاب ‪ ،‬وأما‬ ‫كلمة ه‬
‫ع ْدوانَ »أي‬ ‫المشركون من عبدة األوثان فليس إال اإلسالم أو القتل« فَإِ ِن ا ْنت َ َه ْوا »أيضا« فَال ُ‬
‫س ِيهئَةٌ ِمثْلُها )فسمى‬ ‫س ِيهئ َ ٍة َ‬
‫الظا ِل ِمينَ »إن اعتدوا عليكم مثل قوله ‪َ ( :‬و َجزا ُء َ‬ ‫علَى َّ‬ ‫فال تعتدوا« إِ َّال َ‬
‫جزاء الظالم ظلما ‪ ،‬كأنه عين الظلم الذي فعله عاد عليه ‪ ،‬مثل قوله ‪ [ :‬إنما هي أعمالكم ترد‬
‫عليكم ] ثم قال ‪:‬‬
‫رام »نزلت هذه اآلية في عمرة القضاء ‪ ،‬وذلك أن رسول‬ ‫ش ْه ِر ْال َح ِ‬
‫ش ْه ُر ْال َحرا ُم ِبال َّ‬
‫«) ‪( 195‬ال َّ‬
‫ّللا عليه وسلم عام الحديبية جاء معتمرا والمؤمنين معه ‪ ،‬فصدهم المشركون عن‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫المسجد الحرام والوصول إليه ‪ ،‬وكان في الشهر الحرام الذي هو ذي القعدة ‪ ،‬وما كان لهم أن‬
‫ّللا عليه وسلم لعمرة‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫يصدوه في هذا الشهر ‪ ،‬فلما كان في العام القابل جاء رسول ه‬
‫القضاء الذي ص هد عن إتمامها عام أول في هذا الشهر ‪ ،‬وكان المشركون قد عاهدوه على أن‬
‫يخلوا بينه وبين الكعبة ثالثة أيام في العام اآلتي ‪ ،‬وخاف المسلمون أن ال يفي المشركون‬
‫بعهدهم فتأهبوا لقتالهم إن صدوهم ‪ ،‬فلما جاءوا أيضا في ذي القعدة خلوا بينهم وبين الكعبة‬
‫ّللا قد أنزل عليهم«‬ ‫على الشرط المعروف المذكور ‪ ،‬فأقاموا ثالثة أيام ثم خرجوا ‪ ،‬وكان ه‬
‫رام »الذي صدوكم فيه عن تمام العمرة«‬ ‫ش ْه ِر ْال َح ِ‬‫ش ْه ُر ْال َحرا ُم »الذي قضيتم فيه عمرتكم« بِال َّ‬ ‫ال َّ‬
‫صاص »أي من انتهك حرمة انتهكت حرمته ‪ ،‬فإن دخول المسلمين في عمرة‬ ‫ٌ‬ ‫َو ْال ُح ُرماتُ قِ‬
‫ّللا لنبيه والمؤمنين ‪ «:‬فَ َم ِن ا ْعت َدى‬ ‫القضاء الحرم كان من أشق شيء على المشركين ‪ ،‬وقال ه‬
‫علَ ْي ُك ْم »من غير زيادة« َواتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا »في‬ ‫علَ ْي ِه ِب ِمثْ ِل َما ا ْعتَدى َ‬
‫علَ ْي ُك ْم »فقاتلكم أو آذاكم« فَا ْعتَدُوا َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫االبتداء بالتعدي أو بمجاوزة المثل في القصاص فيمن اعتدى عليكم« َوا ْعلَ ُموا أ َّن َّ َ‬
‫ّللا َم َع‬
‫ْال ُمت َّ ِقينَ »بالنصر والكالءة ‪ ،‬في هذه اآلية دليل لمن يرى أن يعتدي من اعتدي عليه بمثل ما‬
‫اعتدي عليه في مال وغير ذلك من غير حكم حاكم وال ارتفاع إليه ‪ ،‬وهو مذهب ابن عباس ‪،‬‬
‫ومنع غيره من ذلك وقال له ‪ :‬ليس له أن يتعدى عليه ويرفعه إلى الحاكم ‪ ،‬ويكون معنى قوله‬
‫علَ ْي ُك ْم »بعد حكم الحاكم ال تتجاوزوا القدر الذي اعتدى عليكم‬ ‫علَ ْي ِه ِب ِمثْ ِل َما ا ْعتَدى َ‬‫‪ «:‬فَا ْعتَدُوا َ‬
‫فيه إذا مكنتم من القصاص ‪ ،‬وكال الوجهين سائغ في اآلية ‪ ،‬واألول أقوى والثاني أحوط ‪ ،‬وفي‬
‫أن الشروع في نوافل العبادات ملزم ‪ ،‬قال تعالى ‪( :‬‬ ‫عمرة القضاء التي نزلت فيها هذا اآلية ه‬
‫َوال تُب ِْطلُوا‬

‫ص ‪282‬‬

‫ص ‪284 :‬‬
‫ص ‪285 :‬‬
‫ولم تقاتل وطلبوا السلم منها وأخرجوا أيديهم من طاعة من قاتلنا منهم لغير خداع فلنا أن نسالم‬
‫تلك الطائفة ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪195‬‬


‫ب ا ْل ُمحْ ِ‬
‫س ِن َ‬
‫ين‬ ‫ّللا يُ ِح ُّ‬ ‫ّللا َوال ت ُ ْلقُوا ِبأ َ ْيدِي ُك ْم ِإلَى الت ه ْهلُ َك ِة َوأَحْ ِ‬
‫سنُوا ِإ هن ه َ‬ ‫" َوأ َ ْن ِفقُوا فِي َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬
‫ب‬ ‫سنُوا إِ هن ه َ‬
‫ّللا يُ ِح ُّ‬ ‫ّللا َوال ت ُ ْلقُوا بِأ َ ْيدِي ُك ْم إِلَى الت ه ْهلُ َك ِة »وهو هنا البخل« َوأَحْ ِ‬ ‫َوأ َ ْن ِفقُوا فِي َ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬
‫ين» (‪)195‬‬ ‫‪ .‬ا ْل ُمحْ ِ‬
‫س ِن َ‬
‫المحسنون بما أشهدهم من كبريائه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أَعْمالَ ُك ْم )وفيها قضاء نوافل العبادات ‪ ،‬وفيه أنه من ص هد عن عبادة شرع فيها فله أجر الصد‬
‫وما له أجر العمل ‪ ،‬إذ لو كان له أجر العمل ‪ -‬وفائدة العمل حصول الثواب ‪ -‬وقد حصل ‪،‬‬
‫فكان إذا شرع في وقت آخر في مثل ذلك العمل ال يكون قضاء ‪ ،‬وإنما يكون ابتداء عمل آخر‬
‫مشابه للعمل الذي ص هد عنه ‪ ،‬وال كان يسمى ذلك عمرة القضاء ‪ ،‬هذا إن كان النقل عن النبي‬
‫ّللا عليه وسلم هذه التسمية ‪ ،‬وإن لم تكن منه فهذه عمرة أخرى ‪ ،‬وتلك العمرة التي صد‬ ‫صلهى ه‬
‫عن إتمامها حصل له أجرها وكان محله حيث حبس ‪ ،‬ولهذا شرع للمحرم أن يقول ‪ :‬إن محلي‬
‫حيث حبستني ‪ ،‬وإذا لم يقل ذلك عندنا وحبس عن تمام حجه أو عمرته فعليه دم على تركه هذا‬
‫ّللا عليه وسلم قد قضى‬‫القول ‪ ،‬فإنه السنة ‪ ،‬والدماء في الحج لترك السنن ‪ ،‬والنبي صلهى ه‬
‫الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد العصر ‪ ،‬وأخبر أنهما تلك الركعتان ‪ ،‬فقضاهما‬
‫وما كان قد شرع فيهما ‪ ،‬وإنما جاء الوفد فشغله قبل الشروع فيهما ‪ ،‬فكان قضاء لخروج‬
‫الوقت الذي كان التزم أن يصليهما فيه دائما ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫ّللا »اآلية ‪ ،‬يقال أهلك فالن نفسه بيده ‪ ،‬فالمعنى وال تلقوا أنفسكم‬ ‫«) ‪َ ( 196‬وأ َ ْن ِفقُوا فِي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫بأيديكم إلى التهلكة ‪ ،‬وقد تكون الباء زائدة ‪ ،‬والمعنى وال تلقوا أيديكم إلى التهلكة ‪ ،‬أي إذا‬
‫دعاكم ما يكون فيه هالككم ال تلقوا بأيديكم إليه ‪ ،‬أي ال تنقادوا وال تسمعوا له ‪ ،‬يحتمل سبيل‬
‫ّللا هنا طرق البر كلها ‪ ،‬ويحتمل الجهاد خاصة ‪ ،‬وإن كان نزولها في الجهاد لما آثرت‬ ‫ه‬
‫األنصار اإلقامة في أهلها وإصالح أموالها وترك الجهاد حين فشا اإلسالم وكثر ‪ ،‬ولكن سبيل‬
‫ّللا كثيرة ‪ ،‬فالعدول إلى التخصيص تحكم أنه المقصود باآلية ‪ ،‬والتهلكة هنا يحتمل أمران ‪:‬‬ ‫ه‬
‫الواحد البخل ‪ ،‬واآلخر التبذير ‪ ،‬فكأنه يريد االقتصاد في النفقة حتى ال يقعد ملوما محسورا ‪،‬‬
‫وال يترك أوالده عالة يتكففون الناس ‪ ،‬وهذا يبنى على قدر األوقات ‪ ،‬فقد يحسن في وقت بل‬
‫يجب إخراج المال كله‬

‫ص ‪283‬‬

‫ص ‪286 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪196‬‬
‫س ُك ْم َحتهى يَ ْبلُ َغ‬ ‫س َر ِم َن ا ْل َه ْدي ِ َوال تَحْ ِلقُوا ُر ُؤ َ‬ ‫ست َ ْي َ‬ ‫َّلل فَ ِإ ْن أُحْ ِص ْرت ُ ْم فَ َما ا ْ‬‫َوأَتِ ُّموا ا ْل َح هج َوا ْلعُ ْم َرةَ ِ ه ِ‬
‫س ٍك‬ ‫ص َدقَ ٍة أ َ ْو نُ ُ‬ ‫يام أ َ ْو َ‬ ‫س ِه فَ ِف ْديَةٌ ِم ْن ِص ٍ‬ ‫ذى ِم ْن َرأْ ِ‬ ‫كان ِم ْن ُك ْم َم ِريضا ً أ َ ْو بِ ِه أ َ ً‬ ‫ْي َم ِحلههُ فَ َم ْن َ‬ ‫ا ْل َهد ُ‬
‫س َر ِم َن ا ْل َه ْدي ِ فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد فَ ِصيا ُم ثَلث َ ِة أَيه ٍام‬ ‫ست َ ْي َ‬‫فَ ِإذا أ َ ِم ْنت ُ ْم فَ َم ْن ت َ َمت ه َع ِبا ْلعُ ْم َر ِة ِإلَى ا ْل َح هجِ فَ َما ا ْ‬
‫س ِج ِد ا ْل َحر ِام‬ ‫حاض ِري ا ْل َم ْ‬ ‫ِ‬ ‫كاملَةٌ ذ ِلكَ ِل َم ْن لَ ْم يَك ُْن أ َ ْهلُهُ‬ ‫عش ََرةٌ ِ‬ ‫س ْبعَ ٍة ِإذا َر َج ْعت ُ ْم تِ ْلكَ َ‬ ‫فِي ا ْل َح هجِ َو َ‬
‫ب ( ‪) 196‬‬ ‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬‫ّللا َ‬ ‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬ ‫َواتهقُوا ه َ‬
‫ّلل »وهو إتيانهما على الكمال ‪ ،‬وتمامهما إتيانهما كما شرعتا ‪،‬‬ ‫« َوأَتِ ُّموا ْال َح َّج َو ْالعُ ْم َرة َ ِ َّ ِ‬
‫ص ْرت ُ ْم‬‫والعمرة بال شك تنقص عن أفعال الحج ‪ ،‬وكمالها إتيانها كما شرعت ‪ «،‬فَإِ ْن أ ُ ْح ِ‬
‫»المحصر هو الممنوع عن الحج أو العمرة بأي نوع كان من المنع ‪ ،‬بمرض أو بعدو أو غير‬
‫ذلك ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫إلقامة الدين والمصلحة ‪ ،‬وقد يحسن في وقت االقتصاد في النفقة وترجيح إبقاء البعض من‬
‫ّللا وجعلكم مستخلفين فيه‬ ‫ّللا »أي أخرجوا ما رزقكم ه‬ ‫المال ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬وأ َ ْن ِفقُوا فِي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ّللا عليكم ‪ ،‬أو ندبكم أن تخرجوا فيها األموال ‪ ،‬وإذا‬ ‫ّللا ‪ ،‬أي في الطريق التي فرض ه‬ ‫في سبيل ه‬
‫ّللا فالمال أحرى‬
‫أمر اإلنسان أن يبذل نفسه التي هي أشرف من ماله ويهلكها في سبيل ه‬
‫وأولى« َوال ت ُ ْلقُوا بِأ َ ْيدِي ُك ْم إِلَى الت َّ ْهلُ َك ِة »يقول ‪ :‬إلى البخل بذلك ‪ ،‬فإن فيه الهالك ‪ ،‬أو يقول ‪«:‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو‬‫َوال ت ُ ْلقُوا بِأ َ ْيدِي ُك ْم إِلَى الت َّ ْهلُ َك ِة »بأن تنفقوها مبذرين ‪ ،‬والتبذير اإلنفاق في غير طاعة ه‬
‫اإلسراف وقد يكون اإلنفاق في غير األولى ‪ ،‬وهو أن يتعرض له سبيالن إلى الخير ‪ ،‬وأحدهما‬
‫آكد في الدين من اآلخر وأعظم وللشرع به عناية ‪ ،‬غير أن نفس هذا المكلهف صاحب المال له‬
‫غرض نفسي في السبيل اآلخر الذي هو دون اآلخر في عناية الشرع به ‪ ،‬فينفق فيه ويترك‬
‫وّللا‬
‫األولى ‪ ،‬فيكون ممن ألقى بيده إلى التهلكة ‪ ،‬حيث اختار ما لم يختر له الحق ‪ ،‬وال سيما ه‬
‫تار ما كانَ لَ ُه ُم ْال ِخيَ َرة ُ )فأثبت هذا العبد لنفسه ما نفاه الحق‬‫يقول ( ‪َ :‬و َرب َُّك يَ ْخلُ ُق ما يَشا ُء َويَ ْخ ُ‬
‫عنه ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وأ َ ْح ِسنُوا »في النفقة ‪ ،‬وهذا يؤيد ما ذكرناه ‪ ،‬وهو أن اإلحسان أن تعبد‬

‫ص ‪284‬‬

‫ص ‪287 :‬‬
‫والمحصر يحل من عمرته وحجه حين أحصر ‪ ،‬فإن كان المحرم قال حين أحرم إن محلي‬
‫حيث تحبسني كما أمر ‪ ،‬فال هدي عليه ‪ ،‬ويحل حيث أحصر ‪ ،‬وإن لم يقل ذلك وما في معناه‬
‫فعليه الهدي ‪ ،‬وإن كان مع المحصر هدي تطوع نحره حيث أحل ‪ ،‬وال إعادة على المحصر‬
‫في حج التطوع وعمرته إن كان عليه في ذلك حرج ‪ ،‬فإن لم يكن عليه فيه حرج فليعد ‪ ،‬وأما‬
‫ّللا له عن فريضته ‪ ،‬وإن لم يحصل منه‬ ‫الفريضة فال تسقط عنه إال إن مات قبل اإلعادة فيقبلها ه‬
‫إال ركن اإلحرام ‪ ،‬بل ولو لم يحصل منه إال القصد والتعمل ‪ ،‬وما أوقع الخالف بين العلماء‬
‫في اإلحصار إال فهمهم في اللسان ‪ ،‬ألنه جاء في اآلية بالوزن الرباعي ‪ ،‬ونقل أنه يقال ‪:‬‬
‫ص ْرت ُ ْم »هو من أحصر ال من حصر ‪،‬‬ ‫حصره المرض وأحصره العدو ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ «:‬أ ُ ْح ِ‬
‫يقال ‪:‬‬
‫فعل به كذا إذا أوقع به الفعل ‪ ،‬فإذا عرضه لوقوع الفعل يقال فيه أفعل ‪ ،‬وفي اللسان أحصره‬
‫المرض وحصره العدو بغير ألف ‪ ،‬فهو في المرض من الفعل الرباعي ‪ ،‬وفي العدو من الفعل‬
‫س ُك ْم َحتَّى يَ ْبلُ َغ ْال َه ْد ُ‬
‫ي َم ِحلَّهُ ‪ ،‬فَ َم ْن كانَ‬ ‫س َر ِمنَ ْال َه ْدي ِ ‪َ ،‬وال ت َ ْح ِلقُوا ُر ُؤ َ‬
‫الثالثي« فَ َما ا ْست َ ْي َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا من‬
‫ّللا في هذه النفقة كأنك تراه ‪ ،‬وإذا كنت بهذه المثابة فمن المحال أن ترجح إال ما رجح ه‬ ‫ه‬
‫ّللا يُ ِحبُّ ْال ُم ْح ِسنِينَ »يقول ‪ :‬الذين‬
‫النفقة في إحدى السبيلين ‪ ،‬ويختار ما اختاره وقال ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬
‫يعبدونه على المشاهدة ‪ ،‬ألن جميع الخيرات وإيثار جناب الحق تستلزم اإلحسان في العبادة ‪،‬‬
‫ثم قال ‪:‬‬
‫ّلل »اآليات ‪ ،‬في هذه اآلية دليل على أن الشروع ملزم ‪ ،‬وأن‬ ‫«) ‪َ ( 197‬وأَتِ ُّموا ْال َح َّج َو ْالعُ ْم َرة َ ِ َّ ِ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫اإلنسان إذا شرع في عبادة من تطوع أو واجبة عليه ‪ ،‬لزمه إتمامها على حد ما شرعها ه‬
‫إما في كتابه أو على لسان رسوله المبلغ عنه والمبين ‪ ،‬كما شرع فيمن أحرم بالحج وليس له‬
‫هدي أن يرد حجه عمرة وال بد ‪ ،‬أو المرأة تحرم بعمرة فتحيض وتعرف أن حيضتها تكون‬
‫معها في أيام الحج فترفض عمرتها وتحرم بالحج ‪ ،‬فإذا قضت الحج طافت بالبيت وقضت‬
‫ّلل »معرى عن الموانع ‪ ،‬وليس في هذه‬ ‫مكان عمرتها عمرة ‪ ،‬فقوله ‪َ «:‬وأَتِ ُّموا ْال َح َّج َو ْالعُ ْم َرة َ ِ َّ ِ‬
‫اآلية دليل على وجوب الحج والعمرة على هذه القراءة ‪ ،‬وإنما ورد األمر باإلتمام لمن دخل‬
‫فيهما أو في أحدهما على الشرط المعتبر المشروع ‪ ،‬ولما قرن الحق بينهما في اإلتمام وما أفرد‬
‫للعمرة لفظا ثانيا من هذا الفعل ‪ ،‬يستروح منه ترجيح القران على اإلفراد ‪ ،‬والكل جائز وإنما‬
‫ّللا عليه وسلم من ذلك ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫يقع الخالف إما في األفضل في ذلك ‪ ،‬وإما فيما فعله رسول ه‬
‫ص‬‫ِين ْالخا ِل ُ‬ ‫ّلل »يريد اإلخالص في العبادة هّلل( أَال ِ َّ ِ‬
‫ّلل ال هد ُ‬ ‫هل كان قارنا أو حاجا ؟ وأما قوله «‪ِ َّ ِ :‬‬
‫ّللا إن‬
‫)ال يشوبه شيء من عمل ألجل ثواب أو خوف عقاب ‪ ،‬وإنما يقصد بذلك امتثال أمر ه‬
‫ّللا في إتيانه‬ ‫كان واجبا ‪ ،‬أو إتيان ما رغب ه‬

‫ص ‪285‬‬

‫ص ‪288 :‬‬
‫ص ‪289 :‬‬
‫سكٍ »الفدية واجبة على من‬ ‫ص َدقَ ٍة أ َ ْو نُ ُ‬
‫يام أ َ ْو َ‬ ‫ص ٍ‬ ‫ى ِم ْن َرأْ ِس ِه ‪ ،‬فَ ِف ْديَةٌ ِم ْن ِ‬
‫ِم ْن ُك ْم َم ِريضا ا أ َ ْو بِ ِه أَذ ا‬
‫أماط األذى من ضرورة ‪ ،‬ومن أماط األذى من غير ضرورة عليه دم ‪ ،‬فإنه غير متأذ في‬
‫نفسه ‪ ،‬أي أنه ليس بذي ألم لذلك ‪ ،‬ولذلك جعل محل األذى الرأس المحس به وما جعله الشعر‬
‫‪ ،‬فما ثم ضرورة توجب الحلق ‪ ،‬وال فدية على من أماط األذى ناسيا ‪ ،‬والناسي هنا هو الناسي‬
‫إلحرامه ‪ ،‬والفدية هنا على التخيير ‪ ،‬صيام ثالثة أيام ‪ ،‬أو صدقة إطعام ست مساكين نصف‬
‫س َر ِمنَ ْال َه ْدي ِ‬ ‫ج فَ َما ا ْست َ ْي َ‬‫صاع لكل مسكين ‪ ،‬أو نسك شاة« فَإِذا أ َ ِم ْنت ُ ْم فَ َم ْن ت َ َمت َّ َع بِ ْالعُ ْم َرةِ إِلَى ْال َح ه ِ‬
‫ّللا على المتمتع بالعمرة وهي الحج األصغر أن يقدم الهدي إما نسيكة على ما تيسر ‪،‬‬ ‫»أوجب ه‬
‫وإما صوما لمن قصده بتلك الزيارة ‪ ،‬فهي الهدية له فإن الصوم له وهو الذي نزل عليه الحاج‬
‫‪ ،‬فلذلك كان الصوم هدية ألنه يستحقها ‪ ،‬بل هي أليق به من الهدي ‪ ،‬فإنه ال يناله من الهدي إال‬
‫التقوى خاصة من المهدي ‪ ،‬والصوم كله هو له فهو أعظم من الهدية ‪ ،‬والهدية من القادم للذي‬
‫ّللا الصوم لمن لم يجد هديا ألن الهدي ينال الحق منه التقوى ‪،‬‬ ‫قدم عليه معتادة ‪ ،‬وإنما جعل ه‬
‫وينال العبد منه ما يكون له به التغذي وقوام نشأته ‪ ،‬فراعى سبحانه منفعة العبد مع ما للحق‬
‫صيا ُم ثَالث َ ِة أَي ٍَّام فِي ْال َح ه ِ‬
‫ج‬ ‫فيه من نصيب التقوى مع الوجود ‪ ،‬فقال تعالى «‪ :‬فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد فَ ِ‬
‫س ْبعَ ٍة ِإذا َر َج ْعت ُ ْم »فإذا لم يجد رفق به سبحانه فأوجب عليه الصوم ‪ ،‬إذ كان الصوم له فأقامه‬ ‫َو َ‬
‫مقام الهدية ‪ ،‬بل هو أسنى ‪ ،‬وقنع الحق بثالثة أيام‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫س َر ِمنَ ْال َه ْدي ِ »يقول ‪ :‬فإن منعكم مانع من‬ ‫إن كان تطوعا ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَإِ ْن أ ُ ْح ِ‬
‫ص ْرت ُ ْم فَ َما ا ْست َ ْي َ‬
‫إتمام الحج وحبسكم حابس عنه بعد إحرامكم من عدو أو مرض أو ما كان ‪ ،‬قال تعالى ‪( :‬‬
‫سبُ ُه ُم ْالجا ِه ُل أ َ ْغ ِنيا َء‬ ‫ض ْربا ا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض يَ ْح َ‬ ‫ّللا ال يَ ْست َ ِطيعُونَ َ‬ ‫س ِبي ِل َّ ِ‬ ‫راء الَّذِينَ أ ُ ْح ِ‬
‫ص ُروا ِفي َ‬ ‫ِل ْلفُقَ ِ‬
‫ف )فالظاهر أن الفقر أحصرهم عن الضرب في األرض ‪ ،‬وهذا هو أوجه عموم‬ ‫ِمنَ التَّعَفُّ ِ‬
‫الموانع ‪ ،‬على أن الناس اختلفوا كثيرا في هذا اإلحصار المذكور في هذه اآلية ‪ ،‬فما من نوع‬
‫من أنواع المنع إال وقد قال به قائل ‪ ،‬فال فائدة في إيراده ‪ ،‬إذ قد أدخلناه في قولنا ‪ [:‬أو ما كان‬
‫] وإذا كان ذلك كذلك ‪ ،‬فنقول إن المحصر بالعدو اتفق األكثرون على أنه يحل من عمرته أو‬
‫حجه حين أحصر ‪ ،‬وقالت طائفة منهم الثوري ال يتحلل إال يوم النحر ‪ ،‬فأما القائلون بتحلله‬
‫حين أحصر اختلفوا في إيجاب الهدي ‪ ،‬فمنهم من منع وقال ال يجب عليه هدي ‪ ،‬وإن كان معه‬
‫هدي نحره حيث أحل وهو قول مالك ‪ ،‬وقال غيره بوجوب الهدي عليه وأن ينحره حيثما أحل‬
‫‪ ،‬وقال أبو حنيفة يذبحه بالحرم ‪ ،‬وأما إعادة‬

‫ص ‪286‬‬

‫ص ‪290 :‬‬
‫في الحج رفقا به ‪ ،‬حتى يكون قد أتى إليه بشيء ‪ ،‬فيفرح القادم بتلك التقدمة التي قدمها لربه‬
‫في هذا القدوم ‪ ،‬وأ هخر السبعة إذا رجع إلى أهله ‪ ،‬فهناك يأخذها منه ‪ ،‬والقارن عندنا أن يه هل‬
‫بالعمرة والحج معا ‪ ،‬فإذا أه هل بالعمرة ثم بعد ذلك أه هل بالحج فهو مردف وهو قارن أيضا ‪،‬‬
‫ولكن بحكم االستدراك ‪ ،‬فمن جمع بين العمرة والحج في إحرام واحد فهو قران ‪ ،‬سواء قرن‬
‫باإلنشاء أو بعده بزمان ما لم يطف بالبيت ‪ ،‬وذلك كله إن ساق الهدي ‪ ،‬فإن لم يسق معه هديا‬
‫وجب عليه الفسخ وال بد ‪ ،‬والقارن للعمرة والحج يطوف لها طوافا واحدا وسعيا واحدا وحلقا‬
‫واحدا أو تقصيرا ‪ ،‬والهدي يجزئ ولو أهدى دجاجة ‪ ،‬وأجمعوا على أن الكفارة على الترتيب‬
‫‪ ،‬فال يكون الصيام إال بعد أن ال يجد هديا ‪ ،‬وإذا شرع في الصيام فقد انتقل واجبه إلى الصوم‬
‫وإن وجد الهدي في أثناء الصوم ‪ ،‬وصيام الثالثة أيام ما لم ينقض شهر ذي الحجة ‪ ،‬وأما‬
‫السبعة األيام فإذا صامها في الطريق أجزأته ‪ ،‬واتفق العلماء على أنه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ما أحصر عنه فقال قوم ال إعادة عليه ‪ ،‬وقال آخرون عليه اإلعادة ‪ ،‬وقال بعضهم إن كان‬
‫أحرم بالحج فعليه حجة وعمرة ‪ ،‬وإن كان قارنا فعليه حجة وعمرتان ‪ ،‬وإن كان معتمرا قضى‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫عمرته ‪ ،‬وهل يقصر المحلل باإلحصار أم ال ؟ فيه خالف ‪ ،‬وقد ثبت أن رسول ه‬
‫عليه وسلم حلق رأسه حين ص هد ‪ ،‬وأما المحصر بالمرض فذهبت طائفة إلى أنه يطوف بالبيت‬
‫ويسعى بين الصفا والمروة ويتحلل بعمرة ‪ ،‬ألن الحج إذا فاته بطول المرض ينقلب عمرة ‪،‬‬
‫وهو قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما ‪ ،‬وقال العراقيون حكمه حكم المحصر بالعدو يحل‬
‫ّللا بن مسعود ‪،‬‬
‫مكانه ‪ ،‬ويرسل هديه ويقدر يوم النحر ويحل في ذلك اليوم ‪ ،‬وبه يقول عبد ه‬
‫وقال داود وأبو ثور ال هدي عليه ‪ ،‬واتفقوا على إيجاب القضاء عليه ‪ ،‬وأما من فاته الحج بغير‬
‫مانع مرض أو عدو من األسباب الموجبة لفوات الحج كالخطأ في رؤية الهالل أو عدد األيام ‪،‬‬
‫فحكمه عند بعضهم حكم المحصر بالمرض ‪ ،‬وقال بعضهم من فاته الحج بعذر غير المرض‬
‫يحلل بعمرة وال هدي عليه ‪ ،‬وعليه إعادة الحج واالستقصاء في هذه المسألة عندي ال يكون إال‬
‫بالجمع بين الكتاب والسنة ‪ ،‬وذلك أن المحصر الذي منعه مانع فوته الحج إما أن يكون قادرا‬
‫على الوصول إلى البيت أو غير قادر ‪ ،‬فإن كان متمكنا من الوصول إلى البيت فليس له أن‬
‫يحل وال ينحر هديه حتى يطوف بالبيت ويسعى ‪ ،‬وإن كان غير متمكن أحل في موضعه ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا‬
‫كان له هدي ساقه معه نحره ‪ ،‬وليس عليه استئناف هدي آخر ‪ ،‬لحديث مالك أن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬‫ّللا صلهى ه‬
‫شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي ‪ ،‬ثم لم يعلم أن رسول ه‬
‫وسلم أمر أحدا‬

‫ص ‪287‬‬

‫ص ‪291 :‬‬
‫كاملَةٌ »النصوص عزيزة وهو النص الصريح في‬ ‫إن صامها في أهله أجزأته« تِ ْل َك َ‬
‫عش ََرة ٌ ِ‬
‫الحكم واألمر الجلي ‪ ،‬فإن المتواتر وإن أفاد العلم فإن العلم المستفاد من التواتر إنما هو عين‬
‫ّللا عليه وسلم قاله أو عمله ‪ ،‬ومطلوبنا بالعلم ما يفهم‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫هذا اللفظ ‪ ،‬أو العلم أن رسول ه‬
‫من ذلك القول والعمل حتى يحكم في المسألة على القطع ‪ ،‬وهذا ال يوصل إليه إال بالنص‬
‫كاملَةٌ »في كونها‬
‫عش ََرة ٌ ِ‬ ‫الصريح المتواتر ‪ ،‬وهذا ال يوجد إال نادرا ‪ ،‬مثل قوله تعالى ‪ «:‬تِ ْل َك َ‬
‫عشرة خاصة ‪ ،‬فإن المنصوص والمحكم ال إشكال فيه وال تأويل ‪ ،‬واأللفاظ الظاهرة تحتمل‬
‫حاض ِري‬
‫ِ‬ ‫معاني متعددة ما يعرف الناظر قصد المتكلم بها منها ‪ «،‬ذ ِل َك ِل َم ْن لَ ْم يَ ُك ْن أ َ ْهلُهُ‬
‫رام »يريد بذلك إجازة الصوم في أيام التشريق من أجل رجوعه إلى بلده ‪ ،‬ال أن‬ ‫ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫المكي ليس بمتمتع ‪ ،‬واتفق على أنه ليس على المكي دم ‪ ،‬واآلية محتملة ‪ ،‬وحاضري المسجد‬
‫الحرام هم ساكنوا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من أصحابه وال ممن كان معه أن يقضوا شيئا وال أن يعودوا لشيء ‪ ،‬والحديبية موضع خارج‬
‫ص ْرت ُ ْم فَ َما‬‫عن الحرم فإن لم يكن معه هدي فيجب عليه أن يشتري هديا لقوله تعالى ‪ «:‬فَإِ ْن أ ُ ْح ِ‬
‫س َر ِمنَ ْال َه ْدي ِ »فإن تمكن له إرسال الهدي إلى الحرم لينحر هنالك ‪ ،‬فإن شاء أرسله وهو‬ ‫ا ْست َ ْي َ‬
‫ّللا عليه وسلم بعث معه الهدي‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫األولى ‪ ،‬لحديث ناجية بن جندب األسلمي ‪ :‬أن رسول ه‬
‫حين صد حتى نحره في الحرم ‪ ،‬أخرجه النسائي ‪ ،‬وهل يقدر له فال يحل حتى ينحر ؟ ليس‬
‫عندنا نص في ذلك ‪ ،‬فإن أقام على إحرامه حتى يصل الهدي إلى الحرم فبقوله تعالى ‪َ «:‬وال‬
‫ي َم ِحلَّهُ »وإن لم يقم فبحديث مالك الذي ذكرناه آنفا ‪ ،‬وإن لم‬ ‫س ُك ْم َحتَّى يَ ْبلُ َغ ْال َه ْد ُ‬
‫ت َ ْح ِلقُوا ُر ُؤ َ‬
‫يتمكن له إرسال الهدي نحره حيث صد وأحل بحديث مالك ‪ ،‬وال قضاء عليه فيما صد عنه‬
‫وأحصر ‪ ،‬وال في هديه ‪ ،‬في هذا الحديث ‪ ،‬فإن ترجح عنده حديث الحجاج بن عمرو ‪ :‬أن‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬من عرج أو كسر ‪ -‬زاد أبو داود ‪-‬أو مرض فقد حل‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫وعليه حجة أخرى ] وقال أبو داود في حديثه عليه الحج من قابل ‪ ،‬وفيه عن ابن عباس وأبي‬
‫هريرة ‪ ،‬خرج هذا الحديث النسائي ‪ ،‬فإن أضاف إلى قضاء ما حصر عنه قضاء الهدي‬
‫فبحديث أبي داود عن ابن عباس ‪:‬‬
‫ّللا عليه وسلم أمر أصحابه أن يبذلوا الهدي الذي ذكره عام الحديبية في عمرة‬ ‫أن النبي صلهى ه‬
‫القضاء ‪ ،‬وإن لم يقض شيئا من هذا كله فبحكم األصل ‪ ،‬إذ القضاء يفتقر إلى أمر من الشارع ‪،‬‬
‫ّللا صلهى‬ ‫كما يفتقر األداء ‪ ،‬وال سيما وقد ورد في حديث مسلم عن عائشة قالت ‪ :‬دخل رسول ه‬
‫وّللا ما أجدني إال‬ ‫ّللا عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها ‪ :‬أردت الحج ؟ قالت ‪ :‬ه‬ ‫ه‬
‫وجعة ‪ ،‬فقال لها ‪ :‬حجي واشترطي وقولي ‪ :‬اللهم محلي حيث حبستني ‪ ،‬وقال الترمذي قولي‬
‫‪:‬لبيك اللهم لبيك ‪ ،‬محلي من األرض‬

‫ص ‪288‬‬

‫ص ‪292 :‬‬
‫الحرم مما رد األعالم إلى البيت ‪ ،‬فإنه من لم يكن فيه فليس بحاضر بال شك ‪ ،‬فلو قال تعالى‬
‫في حاضر المسجد الحرام كنا نقول بما جاور الحرم ‪ ،‬ألن حاضر البلد ربضه إلى الخارج عن‬
‫سوره ‪ ،‬امتد في المساحة ما امتد ‪ ،‬وإنما علق سبحانه ما ذكره بحاضري المسجد الحرام وهم‬
‫الساكنون فيه ‪ ،‬ومعنى التمتع تحلل المحرم بين النسكين العمرة والحج ‪ ،‬وهذا عندي ما يكون‬
‫إال لمن لم يسق الهدي ‪ ،‬فإن ساق الهدي وأحرم قارنا فإنه متمتع من غير إحالل ‪ ،‬فإنه ليس له‬
‫ج »أي المتمتع‬ ‫أن يحل حتى يبلغ الهدي محله ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ «:‬فَ َم ْن ت َ َمت َّ َع بِ ْالعُ ْم َرةِ إِلَى ْال َح ه ِ‬
‫يلزمه حكم الهدي ‪ ،‬فإن كان له هدي وهو بحالة اإلفراد بالعمرة أو القران ‪ ،‬فذلك الهدي كافيه‬
‫وال يلزمه هدي وال يفسخ جملة واحدة ‪ ،‬وإن أفرد بالحج ومعه هدي فال فسخ ‪ ،‬فقوله ‪ِ «:‬إلَى‬
‫ج »أي مع الحج ‪،‬‬ ‫»هنا بمعنى مع ‪ ،‬ولهذا يدخل القارن في قوله ‪ «:‬فَ َم ْن ت َ َمت َّ َع ِب ْالعُ ْم َرةِ ِإلَى ْال َح ه ِ‬
‫يحول النية‬‫فتعم المفرد والقارن ‪ ،‬وأما من نوى الحج وليس معه هدي فواجب عليه الفسخ وأن ه‬
‫ب»‬ ‫شدِي ُد ْال ِعقا ِ‬ ‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫إلى العمرة ‪ ،‬ويحل ثم ينشئ الحج ‪ ،‬ثم قال تعالى «‪َ :‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫حيث تحبسني ‪ ،‬زاد النسائي ‪ ،‬فإن لك على ربك ما استثنيت ‪ ،‬وليس في شيء من هذه‬
‫الروايات األمر بالقضاء في شيء ‪ ،‬ال فيما حصر عنه وال في الهدي ‪ ،‬فمن ثبت عنده ما‬
‫ذكرناه من أحاديث القضاء فهي زيادة حكم يجب العمل به ‪ ،‬ومن لم يثبت عنده ذلك خيرناه ‪،‬‬
‫ى ِم ْن َرأْ ِس ِه »فإن‬ ‫فإن شاء قضى وإن شاء لم يقض ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَ َم ْن كانَ ِم ْن ُك ْم َم ِريضا ا أ َ ْو ِب ِه أَذ ا‬
‫سكٍ »ثم عيهن‬ ‫ص َدقَ ٍة أ َ ْو نُ ُ‬
‫يام أ َ ْو َ‬‫ص ٍ‬ ‫حلق رأسه المحرم ألذى قام به من مرض وغيره« فَ ِف ْديَةٌ ِم ْن ِ‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا عليه وسلم قدر الفداء من كل ما وقع فيه التخيير ‪ ،‬فقال النبي صلهى ه‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫وسلم لكعب بن عجرة حين أمره بحلق رأسه وهو محرم ‪ :‬إن شئت فأطعم ستة مساكين لكل‬
‫مسكين نصف صاع من طعام ‪ ،‬أو صم ثالثة أيام ‪ ،‬أو اذبح شاة ‪ ،‬وهو مخير أن يحلق قبل‬
‫ج »األظهر في هذه اآلية‬ ‫الفداء أو بعده ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَإِذا أ َ ِم ْنت ُ ْم فَ َم ْن ت َ َمت َّ َع ِب ْالعُ ْم َرةِ ِإلَى ْال َح ه ِ‬
‫أنها في المتمتع الحقيقي ‪ ،‬فيكون معناه وإذا لم تكونوا خائفين فتمتعتم بالعمرة إلى الحج« فَ َما‬
‫س َر ِمنَ ْال َه ْدي ِ »قال بعض شيوخنا ويدل على صحة هذا التأويل قوله سبحانه ‪ ( :‬ذ ِل َك ِل َم ْن‬ ‫ا ْست َ ْي َ‬
‫رام )والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره ‪،‬‬ ‫حاض ِري ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬ ‫ِ‬ ‫لَ ْم يَ ُك ْن أ َ ْهلُهُ‬
‫قلنا ‪ :‬فإذا أمنتم الموانع وقد فات الحج وسواء كان عن إحصار أو غير إحصار أحل بعمرة بال‬
‫شك ‪ ،‬فإن حج من سنته تلك كان متمتعا فوجب عليه هدي التمتع ‪ ،‬وإن لم يحج من‬

‫ص ‪289‬‬

‫ص ‪293 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪197‬‬
‫وق َوال ِجدا َل فِي ا ْل َح هجِ َوما‬ ‫ث َوال فُ ُ‬
‫س َ‬ ‫يه هن ا ْل َح هج فَل َرفَ َ‬
‫ض فِ ِ‬ ‫ش ُه ٌر َم ْعلُوماتٌ فَ َم ْن فَ َر َ‬ ‫ا ْل َح ُّج أ َ ْ‬
‫ب ) ‪( 197‬‬ ‫ون يا أُو ِلي ْاأل َ ْلبا ِ‬ ‫ّللاُ َوت َ َز هودُوا فَ ِإ هن َخ ْي َر ه‬
‫الزا ِد الت ه ْقوى َواتهقُ ِ‬ ‫ت َ ْفعَلُوا ِم ْن َخ ْي ٍر يَ ْعلَ ْمهُ ه‬
‫األشهر المعلومات في الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة عندنا ‪ ،‬وأما العمرة ففي أي‬
‫ٌ‬
‫ومات‬ ‫وقت شاء من السنة ‪ ،‬وال كراهة في تكرارها في السنة الواحدة « ْال َح ُّج أ َ ْش ُه ٌر َم ْعلُ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سنته فال هدي عليه وليس بمتمتع ‪ [ ،‬وهدي التمتع ] « * » إما بدنة أو بقرة ‪ ،‬وفي الشاة‬
‫صيا ُم ثَالث َ ِة أَي ٍَّام فِي ْال َح ه ِ‬
‫ج‬ ‫خالف ‪ ،‬وأما النسك فبأي شيء كان« فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد »يعني الهدي «فَ ِ‬
‫»فإن صامها قبل يوم النحر وبعد اإلحرام بالحج فقد صامها في الحج ‪ ،‬وإن صامها في أيام‬
‫التشريق فقد صامها في الحج إذ قد بقي عليه من مناسك الحج رمي الجمار ‪ ،‬وأستحب للمتمتع‬
‫إذا أخر صيام الثالثة األيام إلى بعد يوم النحر أن يؤخر طواف اإلفاضة حتى يصومها ‪ ،‬ليكون‬
‫صومه لها وهو متلبس بالحج قبل أن يفرغ منه ‪ ،‬وأما غير المتمتع فالسنة أن يطوف طواف‬
‫س ْبعَ ٍة ِإذا َر َج ْعت ُ ْم »يعني إذا رجعتم إلى فعل ما كان حجزه‬ ‫الصدر يوم النحر ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َ‬
‫كاملَةٌ‬
‫عش ََرة ٌ ِ‬ ‫عليكم اإلحرام في أي وقت شاء ‪ ،‬في أهله وفي غير أهله ‪ ،‬وأما قوله ‪ «:‬تِ ْل َك َ‬
‫»ومعلوم أن ثالثة وسبعة تكون عشرة ‪ ،‬ففائدة ذكر العشرة رفع االلتباس واالحتمال الذي في‬
‫س ْبعَ ٍة )من التخيير واإلباحة بين الثالثة والسبعة إن شاء جمع بينهما وإن‬ ‫الواو من قوله ‪َ ( :‬و َ‬
‫عش ََرة ٌ‬
‫شاء صام أحدهما فأي شيء فعل من ذلك أجزأه ‪ ،‬فرفع الحق هذا االلتباس بقوله ‪َ «:‬‬
‫كاملَةٌ »يريد أنها قامت في البدل من الهدي مقام الهدي‬ ‫»فكان الجمع وال بد ‪ ،‬وأما قوله «‪ِ :‬‬
‫رام »ال خالف أن أهل‬ ‫حاض ِري ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫ِ‬ ‫على الكمال ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬ذ ِل َك ِل َم ْن لَ ْم يَ ُك ْن أ َ ْهلُهُ‬
‫الحرم ال متعة لهم ‪ ،‬وهو ظاهر اآلية ‪ ،‬وال أدري ما حجة من خرج عن ظاهر اآلية إلى أن‬
‫جعل ذلك ما دون المواقيت أو مسافة تقصر فيها الصالة ‪ ،‬كل ذلك تحكم من غير حجة«‬
‫ب »أي قوي العقوبة لمن ال يتقي محارمه وتعدى‬ ‫شدِي ُد ْال ِعقا ِ‬ ‫ّللا »أي احذروه« أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫َواتَّقُوا َّ َ‬
‫حدوده ‪ ،‬وسميت عقوبة ألنها تكون عقيب الذنب ‪ ،‬أي متأخرة عنه ‪ ،‬ثم قال تعالى ‪: ( 198‬‬
‫ومات »أي الزمان الذي يفرض فيه الحج أشهر معلومات ‪ ،‬أي كانت‬ ‫ٌ‬ ‫«) ْال َح ُّج أ َ ْش ُه ٌر َم ْعلُ‬
‫العرب تعلمها ‪ ،‬وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة كله عندنا ‪ ،‬وقيل] ‪[ . . .‬‬

‫ص ‪290‬‬

‫ص ‪294 :‬‬
‫ض فِي ِه َّن ْال َح َّج »‪ -‬شعر ‪.‬الحج فرض إلهي على الناس * من عهد والدنا المنعوت‬
‫فَ َم ْن فَ َر َ‬
‫ّللا أخبرنا أن‬
‫بالناسفرض علينا ولكن ال نقوم به * وواجب الفرض أن نلقى على الرأسفإن ه‬
‫الكعبة أول بيت وضعه للناس معبدا ‪ ،‬والحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود ‪ ،‬والعمرة‬
‫ث »وهو النكاح ‪ ،‬وقد أجمع المسلمون على أن الوطء يحرم على المحرم‬ ‫الزيارة« فَال َرفَ َ‬
‫مطلقا ‪ ،‬غير أنه إذا وقع فعندنا فيه نظر في زمان وقوعه ‪ ،‬فإن وقع منه بعد الوقوف بعرفة أي‬
‫بعد انقضاء زمان جواز الوقوف بعرفة من ليل أو نهار فالحج فاسد وليس بباطل ‪ ،‬ألنه مأمور‬
‫بإتمام المناسك مع الفساد ‪ ،‬ويحج بعد ذلك ‪ ،‬وإن جامع قبل الوقوف بعرفة وبعد اإلحرام فالحكم‬
‫فيه عند العلماء كحكمه بعد الوقوف يفسد وال بد ‪ ،‬من غير خالف أعرفه ‪ ،‬وال أعرف لهم‬
‫دليال على ذلك ‪ ،‬ونحن وإن قلنا بقولهم واتبعناهم في ذلك ‪ ،‬فإن النظر يقتضي إن وقع قبل‬
‫الوقوف أن يرفض ما مضى ويجدد اإلحرام ويهدي ‪ ،‬وإن كان بعد الوقوف فال ‪ ،‬ألنه لم يبق‬
‫زمان للوقوف ‪ ،‬وهنا بقي زمان لإلحرام ‪ ،‬لكن ما قال‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وعشر من ذي الحجة ‪ ،‬وقيل تسع من ذي الحجة ‪ ،‬والقوالن سائغان في كالم العرب ‪ ،‬لكن‬
‫الحقيقة فيه أن يكون الشهر كله ‪ ،‬وإنما يعرف ما عدا ذلك بقرينة ال بمجرد اإلطالق ‪ ،‬وهنا في‬
‫هذه اآلية ما ثم قرينة تدل أنه يريد بعض الشهر ‪ ،‬فلو أحرم اإلنسان بالحج بعد فراغه من‬
‫مناسك الحج جاز له ذلك ‪ ،‬فإنه أحرم في أشهر الحج ‪ ،‬فإنه ال خالف عند العرب أنها تسمي ذا‬
‫الحجة شهر الحج ‪ ،‬وهو أحق بهذا االسم من شوال وذي القعدة ‪ ،‬إذ ليس لك فيهما أن تفعل من‬
‫أفعال الحج سوى اإلحرام بالحج والسعي إن جئت البيت ‪ ،‬وجميع المناسك تقع في ذي الحجة ‪،‬‬
‫ض ِفي ِه َّن ْال َح َّج »أي فمن أحرم فيهن بالحج« فَال َرفَ َ‬
‫ث‬ ‫فهو أولى باالسم ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَ َم ْن فَ َر َ‬
‫ج »فجعل حكم المحرم بالحج حكم المصلي ‪ ،‬ولهذا تسمى التكبيرة‬ ‫سوقَ َوال ِجدا َل فِي ْال َح ه ِ‬‫َوال فُ ُ‬
‫صالة َ ت َ ْنهى َ‬
‫ع ِن‬ ‫األولى التي يدخل بها في الصالة تكبيرة اإلحرام ‪ ،‬وقال تعالى ‪ِ ( :‬إ َّن ال َّ‬
‫سوقَ َوال ِجدا َل »فيفترقان من وجه‬ ‫ث َوال فُ ُ‬‫شاء َو ْال ُم ْن َك ِر )فقال في الحج ‪ «:‬فَال َرفَ َ‬ ‫ْالفَ ْح ِ‬
‫ث »قد يريد ال نكاح في الحج وهو األظهر ‪ ،‬وهل يتلفظ‬ ‫ويجتمعان من وجه ‪ ،‬فقوله ‪ «:‬فَال َرفَ َ‬
‫باسمه على التصريح ؟ فيه خالف ‪ ،‬والذين أجازوا التصريح به كابن عباس أجازه عند الرجال‬
‫أو وحده ‪ ،‬ولم يجزه عند النساء ‪ ،‬وكان ابن عباس ينشد وهو محرم ‪:‬خرجن يمشين بنا هميسا‬
‫*إن تصدق الطير ننك لميسا‬

‫ص ‪291‬‬

‫ص ‪295 :‬‬
‫به أحد ‪ ،‬فجرينا على ما أجمع عليه العلماء ‪ ،‬مع أني ال أقدر على صرف هذا الحكم عن‬
‫خاطري ‪ ،‬وال أعمل عليه ‪ ،‬وال أفتي به ‪ ،‬وال أجد دليال ‪ ،‬خرج أبو داود في المراسيل أن‬
‫ّللا عليه وسلم فقال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رجال من جذام جامع امرأته وهما محرمان ‪ ،‬فسأل الرجل رسول ه‬
‫لهما ‪ :‬اقضيا نسككما وأهديا هديا ‪ ،‬ثم ارجعا ‪ ،‬حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما‬
‫أصبتما ‪ ،‬فتفرقا وال يرى منكما واحد صاحبه ‪ ،‬وعليكما حجة أخرى ‪ ،‬فتقبالن حتى إذا كنتما‬
‫بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا وال يرى منكما أحد صاحبه ‪ ،‬فأحرما وأتما نسككما‬
‫وأهديا ‪ ،‬وعلى ذلك فمن جامع أهله عليه أن يمضي في مقام نسكه إلى أن يفرغ مع فساده ‪،‬‬
‫سوقَ‬ ‫شرعها له الشارع« َوال فُ ُ‬ ‫وال يعتد به ‪ ،‬وعليه القضاء من قابل على صورة مخصوصة ه‬
‫»الفسوق الخروج وهو هنا الخروج على سيده ‪ -‬ومن باب اإلشارة ‪ -‬الخروج على سيده ‪،‬‬
‫فيدعي في نعته ويزاحمه في صفاته« َوال ِجدا َل ِفي ْال َح ه ِ‬
‫ج ‪َ ،‬وما ت َ ْفعَلُوا ِم ْن َخي ٍْر يَ ْعلَ ْمهُ َّ‬
‫ّللاُ ‪،‬‬
‫الزا ِد الت َّ ْقوى »التقوى هنا ما يتخذه الحاج من الزاد ليقي به وجهه من السؤال‬ ‫َوت َزَ َّودُوا فَإِ َّن َخي َْر َّ‬
‫ويتفرغ لعبادة ربه ‪ ،‬وليس هذا هو التقوى المعروف ‪ ،‬ولهذا ألحقه بقوله عقيب ذلك ‪َ «:‬واتَّقُ ِ‬
‫ون‬
‫ب »فأوصاه أيضا مع تقوى الزاد بالتقوى فيه ‪ ،‬وهو أن ال يكون إال من وجه‬ ‫يا أُو ِلي ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫طيب ‪ ،‬فجاء األمر بالزاد ‪ ،‬فعلمنا أنها قوم سفر نقطع المناهل باألنفاس ‪ ،‬والتقوى في الزاد ما‬
‫ّللا ‪ ،‬وما زاد على وقايتك فما هو لك ‪ ،‬وما ليس لك ال‬ ‫يقي به الرجل وجهه عن سؤال غير ه‬
‫تحمل ثقله فتتعب به ‪ ،‬وأقل التعب فيه حسابك على ما ال تحتاج إليه ‪ ،‬فلما ذا تحاسب عليه ‪،‬‬
‫هذا ال يفعله عاقل ناصح لنفسه ‪ ،‬وما ث هم عاقل ‪ ،‬ألنه ما ث هم إال من يمسك الفضل ويمنع البذل ‪،‬‬
‫والمسافر وماله على قلة ‪ ،‬فإنه ما من منهلة يقطعها وال مسافة إال وقطاع الطريق على‬
‫ب‪» .‬‬ ‫ون يا أُو ِلي ْاأل َ ْلبا ِ‬ ‫ّللا ففي أمره« َواتَّقُ ِ‬ ‫مدرجته ‪ ،‬فخير الزاد ما يتقي به ‪ ،‬وأما تقوى ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫فقيل له ‪ :‬أترفث في الحج ؟ فقال ‪ :‬إنما ذلك عند النساء ‪ ،‬مثل أن يقول الرجل للمرأة وهو‬
‫محرم ‪:‬‬
‫سوقَ »أي ال يتعدى المحرم شيئا من حدود‬ ‫إذا حللت من إحرامي نكتك ‪ ،‬وأما قوله ‪َ «:‬وال فُ ُ‬
‫ّللا ‪ ،‬وال سيما على من نصبه ‪ ،‬وقد يحتمل أن يريد بالفسوق أي ال‬ ‫ّللا مما يخرج به عن أمر ه‬
‫ه‬
‫حرم عليه ‪ ،‬يفسد بفعله حجه ‪ .‬مما كان يجوز له فعله قبل اإلحرام بالحج ‪ ،‬فهو‬ ‫يفعل فعال ه‬
‫ج »بال خالف أنه منصوب على النفي‬ ‫فسوق في حال الحج ‪ ،‬وقوله «‪َ :‬وال ِجدا َل فِي ْال َح ه ِ‬
‫والتبرئة ‪ ،‬فهو‬

‫ص ‪292‬‬

‫ص ‪296 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪198‬‬
‫ّللا ِع ْن َد ا ْل َم ْ‬
‫شعَ ِر‬ ‫ت فَ ْ‬
‫اذك ُُروا ه َ‬ ‫ضلً ِم ْن َر ِبه ُك ْم فَ ِإذا أَفَ ْ‬
‫ضت ُ ْم ِم ْن ع ََرفا ٍ‬ ‫ح أ َ ْن ت َ ْبتَغُوا فَ ْ‬
‫علَ ْي ُك ْم ُجنا ٌ‬
‫س َ‬ ‫لَ ْي َ‬
‫ين ) ‪( 198‬‬ ‫ضا ِله َ‬ ‫رام َو ْ‬
‫اذك ُُروهُ كَما َهدا ُك ْم َو ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ِم ْن قَ ْب ِل ِه لَ ِم َن ال ه‬ ‫ا ْل َح ِ‬
‫ت »ولم‬ ‫ع َرفا ٍ‬ ‫ّللا الحرج عمن يبتغي فضال من ربه ‪ ،‬وهي التجارة« فَإِذا أَفَ ْ‬
‫ضت ُ ْم ِم ْن َ‬ ‫رفع ه‬
‫يخص مكانا من مكان ‪ ،‬وعرفات كلها موقف ‪ ،‬وعرنة من عرفات ‪ ،‬فمن وقف بعرنة فحجه‬
‫تام إال أنه ناقص الفضيلة ‪ ،‬فإنه موقف إبليس ‪ ،‬فهو موضع مكروه الوقوف به من‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫مخالف في اإلعراب للفسوق والرفث ‪ ،‬فكان الحكم فيه أشد ‪ ،‬وقد قيل في تفسير ذلك وجوه ‪:‬‬
‫أوالها وأحسنها وأوجهها أن العرب كانت تختلف في ذلك كثيرا ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ ( :‬إِنَّ َما‬
‫المحرم ووقتا في ذي الحجة ‪ ،‬لتجمع بين‬ ‫ه‬ ‫النَّ ِسي ُء ِزيا َدة ٌ فِي ْال ُك ْف ِر )فكانت العرب تحج وقتا في‬
‫حجتين في سنة ‪ ،‬وتنقل أسماء األشهر بعضها لبعض في وقت ‪ ،‬ثم ترد أسماءها عليها في‬
‫وقت آخر ‪ ،‬فتقول في صفر وربيع األول صفران ‪ ،‬وفي ربيع اآلخر وجمادى األولى ربيعان ‪،‬‬
‫وفي جمادى اآلخرة ورجب جمادان ‪ ،‬وتسمي شعبان رجب ‪ ،‬وتسمي رمضان شعبان ‪،‬‬
‫وتسمي شواال رمضان ‪ ،‬وتسمي ذا القعدة شواال ‪ ،‬وتسمي ذا الحجة ذا القعدة ‪ ،‬وتسمي المحرم‬
‫ذا الحجة ‪ ،‬فتحج في المحرم تلك السنة ثم ترد أسماء الشهور عليها ‪ ،‬فتقول لصفر صفر ‪،‬‬
‫ولربيعين ربيعان ‪ ،‬ولجمادين جمادان ‪ ،‬ولرجب رجب ‪ ،‬وكذلك شعبان ورمضان ثم شوال ‪ ،‬ثم‬
‫ذو القعدة ثم ذو الحجة ‪ ،‬فتحج فيه ‪ ،‬فتكون لها حجتان في اثني عشر شهرا ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬ال‬
‫ج »فنفى أن يعدل باسم الشهر عن مسماه ‪ ،‬وقال النبي عليه السالم في ذلك ‪ :‬إن‬ ‫ِجدا َل فِي ْال َح ه ِ‬
‫ّللا يوم خلق السماوات‬ ‫ّللا ‪ ،‬السنة اثنا عشر شهرا في كتاب ه‬ ‫الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه ه‬
‫واألرض منها أربعة حرم ‪ ،‬ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر ‪ ،‬الذي بين جمادى‬
‫ّللاُ »هذا‬ ‫وشعبان ‪ ،‬وأبطل النسأة ‪ ،‬فال جدال في ذلك ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وما ت َ ْفعَلُوا ِم ْن َخي ٍْر يَ ْعلَ ْمهُ َّ‬
‫من كرمه ولطفه التصريح بالخير واإلغضاء عن الشر ‪ ،‬وال شك أن من المعلوم أنه من يعلم‬
‫الخير يعلم الشر ‪ ،‬فأخبر عن علمه بالخير ليتحقق العبد الجزاء عليه ‪ ،‬وكف عن التعريف‬
‫ّللا أنه قد ال يؤاخذ به ويعفو ‪ ،‬على أنه قد‬ ‫بالعلم بالشر مع كونه عالما به ‪ ،‬ليعلم العبد من كرم ه‬
‫ّللا ال يعلم الجزئيات ‪ ،‬ولكن باعتبار‬ ‫كان من العرب من يعتقد ما اعتقده بعض النظار من أن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وإذا تكلم‬ ‫آخر غير اعتبار النظار ‪ ،‬وقد كان بعض العرب يعتقد أنه إذا تكلم جهرا سمعه ه‬
‫ّللا في هذه اآلية أنه عالم بكل‬
‫ّللا ‪ ،‬فأخبر ه‬ ‫سرا لم يسمعه ه‬

‫ص ‪293‬‬

‫ص ‪297 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم بارتفاعه عن بطن عرنة إال البعد من‬ ‫جل مشاركة الشيطان ‪ ،‬فما أراد صلهى ه‬
‫ّللا بالمشعر‬ ‫ّللا ِع ْن َد ْال َم ْشعَ ِر ْال َح ِ‬
‫رام »وهو المزدلفة ‪ ،‬وسماها ه‬ ‫مجاورة الشيطان« فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫ّللا في هذه العبادة بالعناية والمغفرة وضمان التبعات ‪ ،‬ووصفه‬ ‫الحرام لنشعر بالقبول من ه‬
‫ّللا‬
‫بالحرمة ألنه في الحرم ‪ ،‬فيحرم فيه ما يحرم في الحرم كله ‪ ،‬فإنه من جملته ‪ ،‬فأمر بذكر ه‬
‫فيه ‪ ،‬يعني بما ذكرناه ‪ ،‬فإن الشيء ال يذكر بأن يسمى ‪ ،‬وإنما يذكر بما يكون عليه من صفات‬
‫المحمدة ‪ ،‬ومنها الصالة ‪ ،‬فقد أجمع العلماء على أنه من بات بالمزدلفة وصلى فيها المغرب‬
‫والعشاء وصلى الصبح يوم النحر ووقف بعد الصالة إلى أن أسفر ثم دفع إلى منى أن حجه‬
‫تام‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ما يفعله العبد من خير في هذه العبادة وغيرها ‪ ،‬ولم يذكر الشر ألنه لم يشرع في هذه العبادة‬
‫سوقَ َوال ِجدا َل »أي ال يفعل في الحج إال ما شرع أن‬ ‫شيئا من الشر ‪ ،‬فهو تأكيد لقوله ‪َ «:‬وال فُ ُ‬
‫يفعل في الحج ‪ ،‬واختلفوا في نكاح المحرم وإنكاحه بمعنى العقد ال بمعنى الوطء ما حكمه ؟‬
‫وفي هذه المسألة عندي نظر إذا وطئ قبل الوقوف بعرفة ‪ ،‬ألن زمان جواز وقوع اإلحرام ما‬
‫انصرم ‪ ،‬وليس هذا التفسير موضع تفريع المسائل إال إذا تكلم في أحكام القرآن لمن يستوعب‬
‫الكالم فيه بإيراد األحاديث في األحكام المشروعة ‪ ،‬إذ كان الكتاب أحد األدلة المشروعة ‪،‬‬
‫الزا ِد الت َّ ْقوى »يحرض في هذه اآلية على التكثير من الزاد لمن‬ ‫وقوله ‪َ «:‬وت َزَ َّودُوا فَإِ َّن َخي َْر َّ‬
‫أراد الحج من أهل اآلفاق ‪ ،‬وتضعيفه لطول الطريق ومفازاته ‪ ،‬وما يطرأ فيه من العوائق ‪،‬‬
‫الزا ِد الت َّ ْقوى »وهو ما يقي به المرء‬ ‫فيطول الزمان على الحاج فقال ‪َ «:‬وت َزَ َّودُوا فَإِ َّن َخي َْر َّ‬
‫وجهه عن السؤال عند الحاجة ‪ ،‬فإن السؤال يذهب بماء الوجه ‪ ،‬وال شك أنه من لم يتزود وال‬
‫استكثر من الزاد في الغالب فإنه ما وقى وجهه عن السؤال ‪ ،‬إذ كان معرضا للحاجة ‪ ،‬فهذا‬
‫باس الت َّ ْقوى ذ ِل َك َخي ٌْر )من هذا الباب ‪ ،‬غير أنه على وجه‬ ‫معنى التقوى هنا ‪ ،‬وكذا قوله ‪َ ( :‬و ِل ُ‬
‫آخر ونسق غير هذا ‪ ،‬ثم قال مما يؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير التقوى ‪ « :‬واتقوني يا أولي‬
‫ّللا قلوبهم‬ ‫نور ه‬ ‫األلباب » فخاطب أهل العقول واالستبصار ‪ ،‬وهم الخاصة من عباده الذين ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فقال لهم ‪ « :‬واتقوني يا أولي األلباب » إذ كان أصحاب الزاد يتخذونه اتقاء‬ ‫بالعقل عن ه‬
‫ّللا‬
‫الحاجة ‪ ،‬فأنا أولى من يتقى ‪ ،‬إذ كان بيدي إنزال الحاجة ورفعها ‪ ،‬فالعالم العاقل عن ه‬
‫ّللا أن ينزل به الحاجة إليه ‪ ،‬إذ العبد معرض‬ ‫األديب يستكثر من الزاد في طريق الحج اتقاء ه‬
‫ي الض ُُّّر )وقال عليه السالم ‪ ( :‬أخرجني‬ ‫سنِ َ‬
‫لذلك ولو بلغ ما بلغ ‪ ،‬قال أيوب عليه السالم ‪َ ( :‬م َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬فلهذا‬ ‫الجوع ) والعامة من العباد يستكثرون من الزاد اتقاء الحاجة إليه مع الغفلة عن ه‬
‫علَ ْي ُك ْم ُجنا ٌح أ َ ْن‬ ‫ضمنت اآلية النوعين من التقوى ‪ ،‬العام والخاص ‪ ،‬ثم قال ‪ «) 199 ( :‬لَي َ‬
‫ْس َ‬
‫ت َ ْبتَغُوا فَض اْال ِم ْن َر ِبه ُك ْم »اآلية ‪ ،‬يقول ال إثم عليكم في هذه العبادة‬

‫ص ‪294‬‬

‫ص ‪298 :‬‬
‫إشارة ‪ [-‬عرفات وجمع والمزدلفة ]‬
‫باّلل‬
‫باّلل ‪ ،‬فإنه لما وصل الحاج إلى البيت ‪ ،‬ونال من العلم ه‬ ‫عرفات هي موقف حصول المعرفة ه‬
‫ّللا في ذلك ‪ ،‬وحصل من‬ ‫ّللا تعالى ما يجده أهل ه‬
‫ما نال ‪ ،‬ونال من المبايعة والمصافحة ليمين ه‬
‫ّللا أن يميز له ما بين العلم‬
‫المعارف اإللهية في طوافه بالبيت وسعيه وصالته بمنى ‪ ،‬أراد ه‬
‫ّللا المحل في الحل‬
‫الذي حصل له في الموضع المحرم ‪ ،‬وبين المعرفة اإللهية التي يعطيه ه‬
‫وهو عرفة ‪ ،‬فإن معرفة الحل تعطي رفع التحجير عن العبد ‪ ،‬وهو في حال إحرامه محجور‬
‫باّلل من حيث ما هو محرم وبين معرفة‬ ‫عليه ألنه محرم بالحج ‪ ،‬فيجمع في عرفة بين معرفته ه‬
‫ّللا من حيث ما هو في الحل ‪ ،‬فتميز العبد بالحجر لبقائه على إحرامه أنه ليس فيه من الحق‬ ‫ه‬
‫المختار شيء ‪ ،‬وتميز الحق بالحل أنه غير محجور عليه فهو يفعل ما يريد ‪ ،‬ولما كان يوم‬
‫عرفة ثالثة أرباع اليوم ‪ ،‬من زوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر ‪ ،‬وكان ينبغي أن ال‬
‫باّلل ‪ ،‬حتى نعلم ذاته وما يجب لها من كونها إلها ‪ ،‬فإذا عرفناه على هذا الحد‬ ‫نسمى عارفين ه‬
‫باّلل على التمام والكمال ال تكون ‪ ،‬فإن يوم عرفة‬ ‫فقد عرفناه ‪ ،‬وهذا ال يكون ‪ ،‬فإن المعرفة ه‬
‫ثالثة أرباع اليوم ‪ ،‬فإنا لما بحثنا باألدلة العقلية وأصغينا إلى األدلة الشرعية ‪ ،‬أثبتنا وجود‬
‫الذات وجهلنا حقيقتها ‪ ،‬وأثبتنا األلوهة لها ‪ ،‬فهو نصف المعرفة بكمالها ‪ ،‬والربع وجودها‬
‫أعني وجود الذات المنسوبة إليها األلوهة ‪ ،‬أما الربع الذي ال يعرف فهو معرفة حقيقتها ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ‪ ،‬خرج أبو داود عن النبي عليه السالم‬ ‫المشروعة إلقامة ذكر ه‬
‫ّللا ]‬
‫[ أن المناسك شرعت إلقامة ذكر ه‬
‫ّللا فيها إال بما يخص جنابه من اإلجالل والتعظيم وما‬ ‫فربما يتوهم العبد أنه ال ينبغي أن يذكر ه‬
‫ّللا لعباده فيها أن يطلبوا منه فضله من خير الدنيا‬ ‫تستلزمه تلك العبادة على الخصوص ‪ ،‬فأباح ه‬
‫من المال والولد واألهل ما لم يكن ‪ ،‬ومن خير اآلخرة ‪ ،‬ولهذا خصه باالسم الرب ‪ ،‬إذ بيده‬
‫مصالح الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وهو مالك الملك ‪ ،‬وقد يريد بابتغاء الفضل هنا التجارة في هذا اليوم ‪،‬‬
‫ّللا وال يشغله عن عبادته ‪ ،‬ويجعل‬ ‫فرفع اإلثم لمن اتجر فيه بحيث أن ال يمنعه ذلك من ذكر ه‬
‫تجارته في ذلك اليوم من جملة عبادته ‪ ،‬ولهذا قال ‪ «:‬فَض اْال ِم ْن َر ِبه ُك ْم »فما عرى هذا الفضل‬
‫المطلوب عن اإلضافة إليه ‪ ،‬أي ال أغيب عنكم في حال طلبكم لهذا الفضل واطلبوه مني ‪ ،‬فإني‬
‫ّللا‬
‫الذي أسوق إليكم األرباح ‪ ،‬والفضل الزيادة ‪ ،‬والربح زيادة على رأس المال ‪ ،‬وما أمر ه‬
‫بطلبه منه في ذلك اليوم إال وهو تعالى قد علم أنه يعطيه ‪ ،‬فإن خسر التاجر في ذلك اليوم‬
‫ّللا في طلب‬‫ونقصه من رأس ماله ‪ ،‬أو لم يزد عليه شيء ‪ ،‬فهي عالمة له على غفلته عن ه‬
‫ت »يقول ‪ :‬إذا دفعتم من‬‫ع َرفا ٍ‬ ‫الفضل منه في وقت تجارته وبيعه وشرائه« فَإِذا أَفَ ْ‬
‫ضت ُ ْم ِم ْن َ‬
‫عرفات ‪ ،‬اسم لموضع الوقوف في الحج ‪ ،‬ويحتمل‬

‫ص ‪295‬‬

‫ص ‪299 :‬‬
‫فلم نصل إلى معرفة حقيقتها وال يمكن الوصول إلى ذلك ‪ ،‬والزائد على الربع الذي جهلناه‬
‫أيضا هو جهلنا بنسبة ما نسبناه إليها من األحكام ‪ ،‬فإنا وإن كنا نعرف النسبة من كونها نسبة ‪،‬‬
‫فقد نجهل النسبة الخاصة لجهلنا بالمنسوب إليه ‪ ،‬فالذي بأيدينا من المعرفة علمنا بوجود الذات‬
‫وعلمنا نسبة األلوهة لها ‪ ،‬ال كيفية النسبة ‪ ،‬وهو نصف المعرفة ‪ ،‬وهو علم بصفات التنزيه‬
‫والسلوب ‪ ،‬والربع الثالث المعرفة بصفات األفعال والنسب ‪ ،‬أما الربع الرابع فال يعرف أبدا ‪،‬‬
‫وكذلك ما جهلنا من نسبة ما وصف الحق به نفسه من صفة التشبيه ‪ ،‬فال ندري كيف ننسب‬
‫ّللا من ذلك ‪ -‬أما قوله‬
‫إليه ‪ ،‬مع إيماننا به ‪ ،‬وإثباتنا له هذا الحكم مع جهلنا ‪ ،‬لكن على ما يعلمه ه‬
‫رام »فالمزدلفة من الزلفى وهو القرب ‪ ،‬فالوقوف في‬ ‫ّللا ِع ْن َد ْال َم ْشعَ ِر ْال َح ِ‬
‫تعالى« فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫المزدلفة هو مقام القربة ‪ ،‬واالجتماع بالمعروف فيها ‪ ،‬وهو تجل خاص منه لقلوب عباده ‪،‬‬
‫ّللا ال يختص بالقول فقط ‪ ،‬بل‬ ‫ولهذا سميت جمعا ‪َ «،‬وا ْذ ُك ُروهُ َكما هَدا ُك ْم »والذكر في طريق ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬من‬
‫تصرف العبد إذا رزق التوفيق في جميع حركاته ‪ ،‬ال يتحرك إال في طاعة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬أي لذكره في ذلك الفعل أنه هّلل بطريق القربة‬
‫واجب أو مندوب إليه ‪ ،‬ويسمى ذلك ذكر ه‬
‫ّللا فذلك من ذكر‬
‫سمي ذكرا ‪ ،‬فجميع الطاعات كلها من فعل وترك إذا فعلت أو تركت ألجل ه‬
‫ّللا ذكر فيها ‪ ،‬ومن أجله فعلت أو تركت على حكم ما شرع فيها ‪ ،‬وهذا هو ذكر‬ ‫ّللا ‪ ،‬أن ه‬
‫ه‬
‫باّلل‪.‬‬
‫الموفقين من العلماء ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أن يكون علما له مسمى باسم الجمع ‪ ،‬أو يكون اسم جمع كمسلمات ‪ ،‬واحده عرفة ‪ ،‬يقول ‪«:‬‬
‫رام »وهو المزدلفة وهو جمع ‪ ،‬وهو من مناسك الحج ‪ ،‬واختلفوا‬ ‫ّللا ِع ْن َد ْال َم ْشعَ ِر ْال َح ِ‬
‫فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫فيمن لم يدرك صالة الصبح مع اإلمام فيه ‪ ،‬هل فاته الحج أو لم يفته ؟ فمن جعل ذلك ركنا ‪،‬‬
‫قال بفوات الحج إذا فاته ‪ ،‬ومن لم يجعله ركنا كان حكمه حكم ما ليس بركن ‪ ،‬وقوله ‪ِ «:‬ع ْن َد‬
‫يختص بهذا‬ ‫ه‬ ‫رام »جعله ظرفا للذكر فيها« َوا ْذ ُك ُروهُ َكما هَدا ُك ْم »هذا الذكر اآلخر ال‬ ‫ْال َم ْشعَ ِر ْال َح ِ‬
‫الموضع وال بهذه العبادة ‪ ،‬بل يع هم ذكره جميع األحوال ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬كما هَدا ُك ْم »يقول ‪ :‬مثل ما‬
‫ذكرتم عند هدايته إياكم من الضالل الذي كنتم عليه ‪ ،‬فمعناه كما أنه اعتنى بكم سبحانه بما بينه‬
‫اال فَ َهدى‬ ‫ض ًّ‬
‫لكم من الطريق التي تؤدي إلى سعادتكم وكنتم بها جاهلين ‪ ،‬قال تعالى ( ‪َ :‬و َو َج َد َك َ‬
‫)فاذكروه أنتم شكرا على هذه النعمة ‪ ،‬بقبولكم ما هداكم له ومشيكم عليه واتباعكم سبيله تعظيما‬
‫له ‪ ،‬فإنه من أهدى إليك هدية عناية منه بك ‪ ،‬فقبولك إياها دون ردها ‪ ،‬فيه تعظيم لجناب‬
‫المهدي ‪ ،‬وشكرك له على ذلك ثناء على ثناء ‪ ،‬وذكر على ذكر ‪ ،‬ولهذا كرره في هذا الموضع‬
‫ملصقا‬

‫ص ‪296‬‬

‫ص ‪300 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 199‬إلى ‪200‬‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪ ) 199‬فَ ِإذا قَ َ‬
‫ض ْيت ُ ْم‬ ‫ّللا َ‬
‫غف ُ ٌ‬ ‫ست َ ْغ ِف ُروا ه َ‬
‫ّللا ِإ هن ه َ‬ ‫اس َوا ْ‬ ‫فاض النه ُ‬ ‫ث أَ َ‬ ‫ث ُ هم أَفِيضُوا ِم ْن َح ْي ُ‬
‫اس َم ْن يَقُو ُل َربهنا آتِنا فِي ال ُّد ْنيا َوما‬ ‫ش هد ِذ ْكرا ً فَ ِم َن النه ِ‬‫ّللا َك ِذ ْك ِر ُك ْم آبا َء ُك ْم أ َ ْو أ َ َ‬
‫اذك ُُروا ه َ‬ ‫س َك ُك ْم فَ ْ‬
‫َمنا ِ‬
‫لق ) ‪( 200‬‬ ‫لَهُ ِفي ْاآل ِخ َر ِة ِم ْن َخ ٍ‬
‫ّللا في أيام التشريق ‪ ،‬فإن العرب كانت في هذه األيام في الموسم تذكر أنسابها‬ ‫ّللا بذكر ه‬ ‫أمر ه‬
‫وأحسابها الجتماع قبائل العرب في هذه األيام ‪ ،‬تريد بذلك الفخر والسمعة ‪ ،‬فهذا معنى قوله ‪«:‬‬
‫ّللا بما هو عليه على طريق الفخر إذ كنتم عبيده ‪،‬‬ ‫َك ِذ ْك ِر ُك ْم آبا َء ُك ْم »أي اشتغلوا بالثناء على ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫وفخر العبد بسيده ‪ ،‬فإنه مضاف إليه ‪ ،‬وأكبر من ذلك من كونه منه ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫‪ ( :‬مولى القوم منهم ) وال فخر للعبد بأبيه ‪ ،‬بل فخره بسيده ‪ ،‬وإن افتخر العبد بأبيه فإنما‬
‫يفتخر به من حيث أن أباه كان مقربا عند سيده ‪ ،‬ألنه عبد مثله ‪ ،‬ممتثال ألمره واقفا عند حدوده‬
‫ّللا ‪ ،‬فلهذا قال ‪َ «:‬ك ِذ ْك ِر ُك ْم آبا َء ُك ْم »أي أديموا‬ ‫ورسومه ‪ ،‬فإنه أيضا عبد ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫رام َوا ْذ ُك ُروهُ َكما هَدا ُك ْم »ومن الهداية وقوفنا بعرفات‬ ‫ّللا ِع ْن َد ْال َم ْشعَ ِر ْال َح ِ‬
‫به ‪ ،‬فقال ‪ «:‬فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫‪ ،‬إذ كانت الحمس ال تقف إال بالمزدلفة اختصاصا لها على سائر الناس ‪ ،‬لشرفها وتميزها‬
‫ّللا نبيه إلى ما هو الحق عنده من الوقوف‬ ‫بشفوفها في ذلك الموضع على سائر الناس ‪ ،‬فهدى ه‬
‫في ذلك اليوم بعرفة ‪ ،‬وهو قوله ‪َ «:‬و ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ِم ْن قَ ْب ِل ِه لَ ِمنَ الض َِّالهينَ »في وقوفكم بالمزدلفة ‪،‬‬
‫اس »األوجه في تأويلها يخاطب الحاج ‪،‬‬ ‫ْث أ َ َ‬
‫فاض النَّ ُ‬ ‫ضوا ِم ْن َحي ُ‬ ‫وقوله ‪ «) 200 ( :‬ث ُ َّم أَفِي ُ‬
‫يقول لهم ‪ :‬ثم أفيضوا كما أفضتم من عرفات إلى المزدلفة ‪ ،‬أفيضوا من المزدلفة إلى منى ‪،‬‬
‫اس »يريد قريشا فإن قريشا كانت تفيض من المزدلفة ‪ ،‬فلم تكن‬ ‫فاض النَّ ُ‬ ‫ْث أ َ َ‬ ‫وقوله ‪ِ «:‬م ْن َحي ُ‬
‫لهم سوى إفاضة واحدة من المزدلفة إلى منى ‪ ،‬والوجه اآلخر ‪ :‬أن يكون الضمير يعود على‬
‫اس »يعني من عرفات ‪ ،‬فتكون« ث ُ َّم »هنا‬ ‫ث أَ َ‬
‫فاض النَّ ُ‬ ‫ضوا ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫قريش ‪ ،‬يقول لهم ‪ «:‬ث ُ َّم أَفِي ُ‬
‫قد سيقت لترتيب الجمل اللفظية ‪ ،‬ال لترتيب المعنى ‪ ،‬إذ لم يكن في اآليات المذكورة ذكر‬
‫للحمس ‪ ،‬وإنما خاطب في هذه اآليات كل من حج من أحمس وغيره ‪ ،‬فحملها على ما قلناه‬
‫أولى في التأويل ‪ ،‬فإنه على التأويل الثاني يكون هذا التأخير يراد به التقديم ‪ ،‬فيكون موضعه‬
‫ضوا‬ ‫سوقَ َوال ِجدا َل ِفي ْال َح ه ِ‬
‫ج )« ث ُ َّم أ َ ِفي ُ‬ ‫ث َوال فُ ُ‬ ‫ض ِفي ِه َّن ْال َح َّج فَال َرفَ َ‬ ‫بعد قوله ‪ ( :‬فَ َم ْن فَ َر َ‬
‫اس»‬ ‫ْث أ َ َ‬
‫فاض النَّ ُ‬ ‫»يعني الحمس ومن تح همس« ِم ْن َحي ُ‬

‫ص ‪297‬‬

‫ص ‪301 :‬‬
‫ّللا تعالى يقول ‪ ( :‬أ َ ِن ا ْش ُك ْر ِلي َو ِلوا ِل َدي َْك‬
‫ذكر آبائكم في هذا الموطن في قلوبكم وألسنتكم ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا على ذكرهم آباءهم بقوله ‪ «:‬أ َ ْو أ َ َ‬
‫ش َّد ِذ ْكرا ا‬ ‫)فما نهاهم عن ذكر آبائهم ‪ ،‬ولكن رجح ذكر ه‬
‫»وهو الموصي عباده بقوله ‪ ( :‬أ َ ِن ا ْش ُك ْر ِلي َو ِلوا ِل َدي َْك )أي كونوا ‪ -‬أنتم من إيثار ذكر ه‬
‫ّللا‬
‫والفخر به من كونه سيدكم وأنتم عبيد له ‪ -‬على ما كان عليه آباؤكم ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 201‬إلى ‪203‬‬


‫َذاب النه ِار ( ‪) 201‬‬ ‫سنَةً َوقِنا ع َ‬ ‫سنَةً َوفِي ْاآل ِخ َر ِة َح َ‬ ‫َو ِم ْن ُه ْم َم ْن يَقُو ُل َربهنا آتِنا فِي ال ُّد ْنيا َح َ‬
‫ّللا فِي أَيه ٍام َم ْعدُودا ٍ‬
‫ت‬ ‫ب ( ‪َ ) 202‬و ْ‬
‫اذك ُُروا ه َ‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِحسا ِ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫سبُوا َو ه‬ ‫يب ِم هما َك َ‬‫أُولئِكَ لَ ُه ْم نَ ِص ٌ‬
‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أَنه ُك ْم‬ ‫علَ ْي ِه َو َم ْن تَأ َ هخ َر فَل ِإثْ َم َ‬
‫علَ ْي ِه ِل َم ِن اتهقى َواتهقُوا ه َ‬ ‫فَ َم ْن تَعَ هج َل فِي يَ ْو َم ْي ِن فَل ِإثْ َم َ‬
‫ون ) ‪( 203‬‬ ‫ِإلَ ْي ِه تُحْ ش َُر َ‬
‫إن الناس اختلفوا في اإلعادة من المؤمنين القائلين بحشر األجسام ‪ ،‬ونحن نثبت الحشر في‬
‫النشأة الروحانية المعنوية مع الحشر المحسوس في األجسام المحسوسة ‪ ،‬والميزان المحسوس‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من عرفات ‪ ،‬ويكون الناس هنا من بقي على ملة إبراهيم في الوقوف بعرفة في ذلك اليوم ‪،‬‬
‫وعلى هذا أكثر أهل التأويل ‪ ،‬وفيه بعد في سياق اآلية وإن كان صحيح المعنى ‪ ،‬والذي ذهبنا‬
‫ّللا »إشعار بما كان عليه من الخطأ من وقف يوم‬ ‫إليه أقرب بالمساق ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وا ْست َ ْغ ِف ُروا َّ َ‬
‫ّللا أن يضمن التبعات عنهم ألربابها‬
‫عرفة بجمع ‪ ،‬وقد يكون االستغفار طلبا من العباد إلى ه‬
‫بإرضاء الخصوم ‪ ،‬حتى ينقلبوا من حجهم مطهرين من جميع الذنوب ‪ ،‬وما أمرهم باالستغفار‬
‫في هذا الموطن إال وهو يغفر لهم ‪ ،‬ولو لم يكن كذلك لم يكن لالستغفار المأمور به على‬
‫ور »إذا استغفر تموه« َر ِحي ٌم »بكم حيث أمركم أن تستغفروه‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫التعيين فائدة ‪ ،‬فقال ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫ض ْيت ُ ْم َمنا ِس َك ُك ْم »في هذا المساق إشعار ونوع ح هجة لمن ال يرى أن طواف‬ ‫«) ‪( 201‬فَإِذا قَ َ‬
‫اإلفاضة ركن من أركان الحج ‪ ،‬ألنه ما ذكره على التعيين كما ذكر اإلحرام بفرض الحج ‪،‬‬
‫وذكر عرفات وذكر المزدلفة يقوي من احتج بالحديث في أنه من لم يدرك من الليل المزدلفة‬
‫وال صلى مع اإلمام صالة الصبح لم يدرك الحج ‪ ،‬فما ذكر إال هؤالء وما بقي أدخله في ذكر‬
‫ض ْيت ُ ْم َمنا ِس َك ُك ْم »اآلية ‪ ،‬يقال ‪ :‬منسك بكسر السين وهو االسم ومنسكا‬ ‫المناسك ‪ ،‬فقال «‪ :‬فَإِذا قَ َ‬
‫بفتح‬

‫ص ‪298‬‬

‫ص ‪302 :‬‬
‫والصراط المحسوس ‪ ،‬والنار والجنة المحسوستين ‪ ،‬فإن كل ذلك حق ‪ ،‬وأعظم في القدرة ‪،‬‬
‫عرف‬‫فإن ث هم نشأتين ‪ ،‬نشأة األجسام ونشأة األرواح وهي النشأة المعنوية ‪ ،‬ولوال أن الشرع ه‬
‫بانقضاء هذه الدار ‪ ،‬وأن كل نفس ذائقة الموت ‪ ،‬وعرف باإلعادة ‪ ،‬وعرف بالدار اآلخرة ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫السين ‪ ،‬يقال نسك ينسك نسكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه بفتح السين ‪ ،‬ويجمع على مناسك ‪،‬‬
‫والنسك أيضا العبادة والزهد ‪ ،‬والمنسك الموضع المشروع للعبادة فيه ‪ ،‬ومناسك الحج من ذلك‬
‫‪ ،‬فإنها أماكن مخصوصة وأفعال مخصوصة ‪ ،‬وهي ما بين فرض وسنة واستحباب ‪ ،‬فقال‬
‫ض ْيت ُ ْم َمنا ِس َك ُك ْم »أي األفعال التي شرعناها لكم في أماكنها ‪ ،‬على حد ما‬ ‫تعالى ‪ «:‬فَإِذا قَ َ‬
‫ّللا َك ِذ ْك ِر ُك ْم آبا َء ُك ْم »يدل على أن عادتهم كانت جارية‬ ‫شرعناها من واجب وغيره «فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫منهم في ذلك الزمان بعد فراغ المناسك يذكرون آباءهم ويفتخرون بأنسابهم ‪ ،‬ويقومون‬
‫النسابون في ذلك الوقت فيذكرون األنساب ‪ ،‬وحكاية أبي بكر الصديق مع األعرابي مذكورة‬
‫ّللا لهم‬
‫بحضور النبي عليه السالم ‪ ،‬فلما كان لهم بذكر آبائهم في ذلك الموطن شدة عناية ‪ ،‬قال ه‬
‫باّلل واذكروا نعمه عليكم كما تذكرون‬ ‫ّللا »مثل ذكركم آباءكم ‪ ،‬أي افتخروا ه‬ ‫‪ «:‬فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫ش َّد ِذ ْكرا ا »يقول ‪ :‬بل أكثر ذكرا ‪ ،‬ألن الذي تنسبونه آلبائكم من الفخر الذي‬ ‫آباءكم« أ َ ْو أ َ َ‬
‫تفخرون به إنما هو من عطائي ونعمتي ‪ ،‬وأنا أحق بالذكر ‪ ،‬وإنما قرر ذكر اآلباء بالخير من‬
‫البر بالوالدين واإلحسان لهم ‪ ،‬وقد قرر الشارع ذلك لعباده فقال ‪ ( :‬أ َ ِن ا ْش ُك ْر ِلي )وهو قوله ‪«:‬‬
‫ش َّد ِذ ْكرا ا (» َو ِلوا ِل َدي َْك )وهو قوله ‪َ «:‬ك ِذ ْك ِر ُك ْم آبا َء ُك ْم »وقال ( ‪َ :‬و ِب ْالوا ِل َدي ِْن ِإ ْحسانا ا )(‬ ‫أ َ ْو أ َ َ‬
‫اإل ْنسانَ ِبوا ِل َد ْي ِه ُحسْنا ا )ولم يخص سبحانه بهذا الذكر الذي أمرنا به ذكرا من ذكر ‪،‬‬ ‫ص ْينَا ْ ِ‬
‫َو َو َّ‬
‫لكن نبه بما ذكر بعد ذلك أن الدعاء من الذكر المطلوب هنا ‪ ،‬إذ كان من دعاك فقد ذكرك ‪،‬‬
‫اس َم ْن يَقُو ُل َربَّنا آتِنا فِي ال ُّد ْنيا َوما لَهُ فِي‬ ‫وليس كل من ذكر دعا ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬فَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫سنَةا‬
‫سنَةا َوفِي ْاآل ِخ َرةِ َح َ‬ ‫ق »( ‪َ )« 202‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن يَقُو ُل َربَّنا آتِنا فِي ال ُّد ْنيا َح َ‬ ‫ْاآل ِخ َرةِ ِم ْن خَال ٍ‬
‫ّللا خيرا في‬ ‫ار »يقول ‪ :‬فمن الناس« َم ْن يَقُو ُل َربَّنا آتِنا فِي ال ُّد ْنيا »يطلب من ه‬ ‫ذاب النَّ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫َوقِنا َ‬
‫ق »أي من نصيب ‪ ،‬وهذا حالة من اشتدت‬ ‫الدنيا ‪ ،‬وما له في الدعاء في خير اآلخرة« ِم ْن خَال ٍ‬
‫ّللا تعالى عنه أنه ما جعل لآلخرة في دعائه‬ ‫ضرورته في الدنيا حتى أنسته اآلخرة ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫سنَةا »أي حالة حسنة في‬ ‫نصيبا و « منهم » يعني من الناس« َم ْن يَقُو ُل َربَّنا آ ِتنا ِفي ال ُّد ْنيا َح َ‬
‫ار »يعم‬ ‫ذاب النَّ ِ‬
‫ع َ‬ ‫سنَةا »أي حالة حسنة كذلك ‪َ «،‬وقِنا َ‬ ‫كل شيء ومن كل شيء« َوفِي ْاآل ِخ َرةِ َح َ‬
‫عذاب الدنيا واآلخرة ‪ ،‬إذ يجمعهما العذاب ‪ ،‬فإن النار قد تكون في الدنيا رحمة إلصالح‬
‫معايش الناس ‪ ،‬فالمسئول الوقاية من عذابها ‪ ،‬ومن خصص التأويل بحسنة دون حسنة فقد قيد‬
‫ّللا في اإلخبار عنهم ‪ ،‬والناس يسألون بحسب أغراضهم ‪،‬‬ ‫ما أطلقه ه‬

‫ص ‪299‬‬

‫ص ‪303 :‬‬
‫وعرف أن اإلقامة فيها في النشأة اآلخرة إلى غير ما نهاية ما عرفنا ذلك ‪ ،‬وما خرجنا في كل‬
‫حال من موت وإقامة وبعث أخروي وجنان ونعيم ونار وعذاب بأكل محسوس وشرب‬
‫ّللا أوسع وأتم ‪ ،‬والجمع بين‬
‫محسوس ونكاح محسوس ولباس على المجرى الطبيعي ‪ ،‬فعلم ه‬
‫العقل والحس والمعقول والمحسوس أعظم في القدرة وأتم في الكمال اإللهي ‪ ،‬فاألولى بكل‬
‫ناصح نفسه الرجوع إلى ما قالته األنبياء والرسل على الوجهين المعقول والمحسوس ‪ ،‬إذ ال‬
‫ّللا‪.‬‬
‫دليل للعقل يحيل ما جاءت به الشرائع ‪ ،‬فألزم اإليمان نفسك تربح وتسعد إن شاء ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ق‬‫وأما من ذهب من أهل التأويل إلى أن القائلين« َربَّنا آتِنا فِي ال ُّد ْنيا َوما لَهُ فِي ْاآل ِخ َرةِ ِم ْن خَال ٍ‬
‫»أنهم الذين ال رغبة لهم فيما عند ربهم من األجر والثواب في اآلخرة عن قصد ‪ ،‬فما هم‬
‫بمؤمنين وال قضى هذا منسكا مشروعا قط ‪ ،‬والظاهر أن الحق سبحانه ما قسم إال الذين قضوا‬
‫سبُوا »يعم الفريقين ‪ ،‬وأما الفريق الثاني‬ ‫يب ِم َّما َك َ‬
‫َص ٌ‬ ‫مناسكهم ‪ ،‬وقوله «) ‪: ( 203‬أُولئِ َك لَ ُه ْم ن ِ‬
‫فال شك فيه ‪ ،‬وأما الفريق األول الذين غفلوا عن طلب خير اآلخرة لشغلهم بما غلب عليهم من‬
‫ضيق الدنيا ‪ ،‬فأخبر تعالى أن لهم نصيبا في اآلخرة مما كسبوه من األعمال في الحج ‪ ،‬وما لهم‬
‫من حيث دعاؤهم في اآلخرة نصيب ‪ ،‬وأما اآلخرون فلهم نصيب من أعمالهم ولهم نصيب في‬
‫ب »لتعجيل نيل ما‬ ‫س ِري ُع ْال ِحسا ِ‬ ‫ّللاُ َ‬‫اآلخرة أيضا من دعائهم في ذلك ‪ ،‬ثم نبه سبحانه بقوله ‪َ «:‬و َّ‬
‫كسبوه من أعمالهم ‪ ،‬أخبر أنه يحاسبهم سريعا ليفضوا إلى نعيمهم ‪ ،‬فهي بشرى لهم سرعة‬
‫ّللا منها‬‫الحساب لمن يحاسب ‪ ،‬وفيه فائدة أخرى ليتنبه طالب الدنيا بأنه محاسب على ما يؤتيه ه‬
‫‪ ،‬فيكون معظم طلبه ما يتعلق بجانب اآلخرة ويقلل من ذكر طلب الدنيا ‪ ،‬إذ الدنيا جواز ليس له‬
‫ت‬‫ّللا فِي أَي ٍَّام َم ْع ُدودا ٍ‬
‫منها إال سد جوعة وستر عورة بأي نوع كان ‪َ «) 204 ( ،‬وا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫ّللا بالذكر في‬ ‫»األيام المعدودات هي أيام التشريق ‪ ،‬وهي أربعة أيام بيوم النحر ‪ ،‬وإنما أمر ه‬
‫هذه األيام فإنها كما قال عليه السالم ‪ [ :‬أيام أكل وشرب وبعال ]‬
‫ّللا على ما أعاننا عليه من قضاء‬ ‫وهذه أسباب مؤدية إلى الغفلة عن ما يجب علينا من شكر ه‬
‫مناسكه ‪ ،‬وما أسبغ علينا من نعمه التي كان حرمها علينا في حجنا ‪ ،‬وأمرنا بالذكر وشرع في‬
‫هذه األيام التكبير إدبار الصلوات والدعاء عند رمي الجمار ‪ ،‬وقسم الجمار على األيام كلها ‪،‬‬
‫كل ذلك حتى ال نغفل ‪ ،‬ولم يقيد الذكر في هذه األيام المعدودات كما قيده في األيام المعلومات‬
‫ّللا ‪ ،‬وأرسل الذكر هنا مطلقا حتى يعم جميع األذكار‬ ‫على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء ه‬
‫بجميع النعم ‪ ،‬إذ كان عقيب فراغ من عبادات جمة ونعم متوالية ‪ ،‬فسبحان العليم الحكيم ‪،‬‬
‫علَ ْي ِه »يريد يومين بعد يوم‬ ‫مرتب األمور مواضعها ‪ ،‬وقوله «‪ :‬فَ َم ْن تَعَ َّج َل فِي يَ ْو َمي ِْن فَال ِإثْ َم َ‬

‫ص ‪300‬‬

‫ص ‪304 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪204‬‬
‫ّللا عَلى ما فِي قَ ْل ِب ِه َو ُه َو أَلَ ُّد ا ْل ِخ ِ‬
‫صام (‬ ‫اس َم ْن يُ ْع ِجبُكَ قَ ْولُهُ فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َويُش ِْه ُد ه َ‬
‫َو ِم َن النه ِ‬
‫) ‪204‬‬
‫اإلنسان ألد الخصام حيث خاصم فيما هو ظاهر الظلم فيه ‪ ،‬وليس إال الربوبية ‪.‬‬

‫[ سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 205‬إلى ‪] 206‬‬


‫ب ا ْلفَسا َد ( ‪) 205‬‬
‫ّللاُ ال يُ ِح ُّ‬ ‫ث َوالنه ْ‬
‫س َل َو ه‬ ‫س َد فِيها َويُ ْه ِلكَ ا ْل َح ْر َ‬ ‫ض ِليُ ْف ِ‬ ‫سعى فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َوإِذا ت َ َولهى َ‬
‫س ا ْل ِمها ُد ) ‪( 206‬‬ ‫سبُهُ َج َهنه ُم َولَ ِبئْ َ‬ ‫ّللا أ َ َخذَتْهُ ا ْل ِع هزةُ ِب ْ ِ‬
‫اإلثْ ِم فَ َح ْ‬ ‫ق هَ‬ ‫َو ِإذا قِي َل لَهُ ات ه ِ‬
‫حد جهنم بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى‬
‫أسفل سافلين ‪ ،‬هذا كله يزيد في جهنم مما هو اآلن ليس مخلوقا فيها ‪ ،‬ولكن ذلك‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫النحر ‪ ،‬من تعجل فيهما فنفر في اليوم الثاني فال إثم عليه ‪ ،‬وفيه وجهان ‪ :‬الوجه الواحد أنه‬
‫مغفور له سواء عجل أو أخر ‪ ،‬ما ينفر إال وهو مغفور له ‪ ،‬والوجه اآلخر ‪ ،‬من تعجل فنفر في‬
‫اليوم الثاني فال إثم في تعجيله حيث ترك اليوم الثالث« َو َم ْن تَأ َ َّخ َر »إلى اليوم الثالث« فَال إِثْ َم‬
‫علَ ْي ِه »لتأخيره إذ كان التعجيل مشروعا ‪ ،‬وكان يمكن أن يكون منهيا عنه ‪ ،‬وكان التأخير‬ ‫َ‬
‫مشروعا وكان يمكن أن يكون منهيا عنه ‪ ،‬فلما كان التعجيل والتأخير مشروعين ‪ ،‬ارتفع اإلثم‬
‫بترك كل واحد منهما ال بتركهما معا ‪ ،‬وقوله «‪ِ :‬ل َم ِن اتَّقى »أي من كان تعجيله وتأخيره من‬
‫ّللا »يعني في المستأنف ‪ ،‬فإنه مغفور له‬ ‫حيث ما هو مشروع له فقد اتقى ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا بذلك وأعلمه أنه إليه يحشر يوم القيامة ‪ ،‬فقال‬ ‫ّللا فيما بقي من عمره ‪ ،‬فأمره ه‬ ‫بحجه ‪ ،‬فليتق ه‬
‫ش ُرونَ »ليلزم طريق االستقامة ‪ ،‬فهو إيقاظ له لئال تجنح النفس وتسكن‬ ‫‪َ «:‬وا ْعلَ ُموا أَنَّ ُك ْم إِلَ ْي ِه ت ُ ْح َ‬
‫اس َم ْن يُ ْع ِجبُ َك قَ ْولُهُ فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا‬
‫ّللا له في حجه ( ‪َ «) 205‬و ِمنَ النَّ ِ‬ ‫إلى ما تقدم من مغفرة ه‬
‫س ْال ِمها ُد )هؤالء اآليات وإن كانت نزلت في األخنس بن شريق‬ ‫»اآليات ‪ ،‬إلى قوله ‪َ ( :‬ولَ ِبئْ َ‬
‫اس َم ْن‬ ‫الثقفي ‪ ،‬فهي عامة في كل من هو بهذه الصفة من النفاق والفساد ‪ ،‬يقول ‪َ «:‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫على ما ِفي‬ ‫يُ ْع ِجبُ َك قَ ْولُهُ »لما فيه من اللين واللطف عندما يلقاك أو يلقى أحباءك« َويُ ْش ِه ُد َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫قَ ْل ِب ِه »من غير ذلك من العداوة والبغضاء لك ‪ ،‬وهذا ال يكون ممن يعرف أنه نبي ويجحد ما‬
‫ي أني عدو لهذا ‪ ،‬وأني‬ ‫ّللا »أي أنه يقول لربه ‪ :‬اشهد عل ه‬ ‫هو متيقن بصدقه ‪ ،‬لقوله ‪َ «:‬ويُ ْش ِه ُد َّ َ‬
‫أعتقد فيه أنه كاذب ‪ ،‬على‬

‫ص ‪301‬‬

‫ص ‪305 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنها ترجع إلى الجنة يوم القيامة ‪ ،‬مثل الروضة‬
‫معد حتى يظهر ‪ ،‬إال األماكن التي عيهنها ه‬
‫ّللا عليه وسلم وبين قبره صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وكل مكان‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫التي بين منبر رسول ه‬
‫عينه الشارع ‪ ،‬وكل نهر ‪ ،‬فإن ذلك كله يصير إلى الجنة ‪ ،‬وما بقي فيعود نارا كله وهو من‬
‫جهنم ‪ ،‬والجنة وجهنم عندنا مخلوقتان غير مخلوقتين ‪ ،‬فأما قولنا مخلوقة ‪ ،‬فكرجل أراد أن‬
‫يبني دارا فأقام حيطانها كلها الحاوية عليها خاصة ‪ ،‬فيقال قد بنى دارا ‪ ،‬وغير مخلوقة هو ما‬
‫يوجد فيها نتيجة أعمال العباد‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ‪ ،‬فإنه أمكن في العداوة التخاذه ذلك دينا ‪ ،‬ولو كان يعلم أنه حق لقال ‪:‬‬ ‫جهة القربة إلى ه‬
‫صام »أي شديد الخصومة في‬ ‫ّللا على الفاعلية« َو ُه َو أَلَ ُّد ْال ِخ ِ‬ ‫ّللا بفتح الياء ورفع ه‬ ‫ويشهد ه‬
‫ّللا عليه وسلم خاصمه أشد الخصومة تحببا للنبي صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫الحالتين ‪ ،‬إذا نازعه أحد فيه صلهى ه‬
‫عليه وسلم وتملقا له ‪ ،‬وإذا نازعه أحد في صدق نبوة محمد أنه على الحق في محل ال يعرف‬
‫أنه يصل إليه ذلك الكالم ‪ ،‬خاصمه أشد الخصومة في الرد على النبي والكفر به ولهذا وصفه‬
‫ض ِليُ ْف ِس َد ِفيها »أي‬ ‫سعى ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫بما قال ‪َ «) 206 ( :‬و ِإذا ت َ َولَّى »يقول ‪ :‬وإذا غاب عنك« َ‬
‫ّللاُ ال يُ ِحبُّ ْالفَسا َد‬
‫ث »بحرق الزرع وعقر البقر« َوالنَّ ْس َل »بالقتل« َو َّ‬ ‫بالفساد« َويُ ْه ِل َك ْال َح ْر َ‬
‫»إبقاء على من أنزلت من أجله هذه اآلية ‪ ،‬ليرجع إلى اإلسالم ‪ ،‬وهو من القول اللين الذي أمر‬
‫ّللا نبيه موسى وهارون أن يقوال لفرعون فقال ‪ ( :‬فَقُوال لَهُ قَ ْو اال لَ ِيهنا ا لَعَلَّهُ يَتَذَ َّك ُر )وإن كان قد‬ ‫ه‬
‫ّللاُ ال يُ ِحبُّ ْالفَسا َد »فنفى عن نفسه حب الفساد‬ ‫علم سبحانه أنه ال يتذكر وال يخشى ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬و َّ‬
‫على ما فِي قَ ْل ِب ِه »لقصده التقرب‬ ‫ّللا َ‬‫‪ ،‬لعله يرجع عن هذه الصفة ‪ ،‬ولم يسمه لقوله ‪َ «:‬ويُ ْش ِه ُد َّ َ‬
‫بذلك إليه سبحانه ‪ ،‬ثم قال ينبه على شرفه في نفسه ‪ ،‬وتمكن الكبرياء من قلبه ‪ ،‬وأنه بمحل من‬
‫ّللا ‪ ،‬فقال ‪َ «) 207 ( :‬وإِذا قِي َل لَهُ ات َّ ِ‬
‫ق‬ ‫العظمة في نفسه أن يقول له من هو في نفسه دونه اتق ه‬
‫ّللا ولكن احتقارا بالمخاطب ‪ ،‬فأخبر تعالى أنه« أ َ َخذَتْهُ ْال ِع َّزة ُ‬ ‫ّللا »كبر ذلك عليه ال تكبرا على ه‬ ‫َّ َ‬
‫اإلثْ ِم »أي على اإلثم الذي ينهى عنه ‪ ،‬فيفعله لجاجا وعزة على القائل له‬ ‫»أي حمية الجاهلية « ِب ْ ِ‬
‫هذا ‪ ،‬فأخبر سبحانه المؤمنين ليريحوا أنفسهم من مثل هذا المتكبر ‪ ،‬فقال «‪:‬فَ َح ْسبُهُ َج َهنَّ ُم »أي‬
‫س ْال ِمها ُد »يذم مقره فيها ‪ ،‬قال السدي ‪ :‬نزلت هذه‬ ‫كفايته جهنم ‪ ،‬أي جهنم تكفيكم شره« َولَ ِبئْ َ‬
‫اآليات في األخنس بن شريق ابن عمرو بن وهب بن أبي سلمة الثقفي ‪ ،‬واسم أمه ريطة بنت‬
‫ّللا بن أبي قيس القرشي ‪ ،‬من بني عامر بن لؤي ‪ ،‬وكان حليفا لبني زهرة ‪ ،‬أقبل إلى‬ ‫عبد ه‬
‫ّللا عليه وسلم ذلك منه ‪ ،‬وقال‬ ‫ّللا عليه وسلم فأظهر اإلسالم ‪ ،‬فأعجب النبي صلهى ه‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫وّللا يعلم أني لصادق ‪ ،‬ثم خرج من عند النبي صلهى ه‬ ‫‪ :‬إنما جئت أريد اإلسالم ه‬
‫فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ‪ ،‬فأحرق الزرع وعقر الحمر ‪ ،‬فنزلت اآليات ‪ ،‬وقال ابن‬
‫عباس ‪ :‬نزلت في رجال من المنافقين ‪ ،‬لما أصيبت السرية أصحاب خبيب بالرجيع ‪،‬‬

‫ص ‪302‬‬

‫ص ‪306 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 207‬إلى ‪209‬‬
‫ُف ِبا ْل ِعبا ِد ( ‪ ) 207‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ّللاُ َرؤ ٌ‬‫ّللا َو ه‬ ‫ت هِ‬ ‫سهُ ا ْبتِغا َء َم ْرضا ِ‬ ‫اس َم ْن يَش ِْري نَ ْف َ‬ ‫َو ِم َن النه ِ‬
‫ين ( ‪ ) 208‬فَ ِإ ْن‬ ‫عد ٌُّو ُم ِب ٌ‬ ‫طان ِإنههُ لَ ُك ْم َ‬
‫ش ْي ِ‬ ‫ت ال ه‬ ‫طوا ِ‬ ‫س ْل ِم كَافهةً َوال تَت ه ِبعُوا ُخ ُ‬ ‫آ َمنُوا ا ْد ُخلُوا فِي ال ِ ه‬
‫يز َح ِكي ٌم ( ‪. )209‬‬ ‫ّللا ع َِز ٌ‬ ‫َزلَ ْلت ُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْ ُك ُم ا ْلبَ ِيهناتُ فَا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫يز »أي ال‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫" فَإِ ْن زَ لَ ْلت ُ ْم »من زل إذا زلق« ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْ ُك ُم ْالبَ ِيهناتُ فَا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫يتوصل أحد إلى معرفة كنه األلوهية أبدا ‪ ،‬وال ينبغي لها أن تدرك ‪ ،‬عزت وتعالت علوا‬
‫كبيرا « َح ِكي ٌم »فإن الحق تعالى ما هو فعله مع األغراض التي أوجدها في عباده ‪ ،‬وإنما هو‬
‫مع ما تطلبه الحكمة ‪ ،‬والذي اقتضته الحكمة هو الواقع في العالم ‪ ،‬فعين ظهوره هو عين‬
‫ّللا ال يعلل بالحكمة بل هو عين الحكمة ‪ ،‬فإنه لو علل بالحكمة لكانت‬ ‫الحكمة ‪ ،‬فإن فعل ه‬
‫الحكمة هي الموجبة له ذلك ‪ ،‬فيكون الحق محكوما عليه ‪ ،‬والحق تعالى ال يكون محكوما عليه‬
‫‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫بين مكة والمدينة ‪ ،‬قال المنافقون ‪ :‬يا ويح هؤالء المقتولين الذين هلكوا [ كذا ]‪ ،‬ال هم قعدوا‬
‫ّللا هذه اآلية ‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 208 ( :‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس‬ ‫في بيوتهم وال هم أدوا رسالة صاحبهم ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫ّللا منه ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬واشتراها ه‬ ‫ّللا »اآلية ‪ ،‬لما باع المؤمن نفسه من ه‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫َم ْن يَ ْش ِري نَ ْف َ‬
‫سهُ ا ْبتِغا َء َم ْرضا ِ‬
‫سهُ »وهو المؤمن يبيع نفسه من ه‬
‫ّللا‬ ‫اس »عامة« َم ْن يَ ْش ِري نَ ْف َ‬ ‫أخبرنا بذلك فقال ‪َ «:‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫بالجهاد في سبيله ‪ ،‬أو كلمة حق عند أمير جائر ‪ ،‬يغلب على ظنه أنه يقتله إذا أمره بمعروف‬
‫ُف ِب ْال ِعبا ِد »حيث‬ ‫ّللاُ َرؤ ٌ‬ ‫ّللا عنه بذلك ‪َ «،‬و َّ‬ ‫ّللا ‪ ،‬أي ليرضى ه‬ ‫أو نهاه عن منكر ‪ ،‬طلبا لمرضاة ه‬
‫لم يعزم عليهم في ذلك ‪ ،‬وال كلفهم ‪ ،‬بل وسع عليهم على ثالثة أنحاء ‪ ،‬فقال النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم ‪ [ :‬من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ‪ -‬فهذا أقواهم إيمانا ‪ -‬فإن لم يستطع فبلسانه ‪-‬‬
‫وهذا ضعف عن األول ‪ -‬فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليمان ليس وراء ذلك مثقال حبة‬
‫س ْل ِم‬
‫من خردل من إيمان ] فهذا من رأفته بعباده ( ‪ «) 209‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ا ْد ُخلُوا فِي ال ِ ه‬
‫ّللا بن سالم ‪ ،‬استأذنوا النبي صلهى‬ ‫َكافَّةا »نزلت في جماعة من مؤمني أهل الكتاب ‪ ،‬منهم عبد ه‬
‫ّللا عليه وسلم في أن يعملوا ببعض ما في التوراة من أمر السبت وغيره ‪ ،‬فنزلت« يا أَيُّ َها‬ ‫ه‬
‫الَّذِينَ آ َمنُوا »أي صدقوا بما جاء من عندنا« ا ْد ُخلُوا»‬

‫ص ‪303‬‬

‫ص ‪307 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪210‬‬
‫ّللا ت ُ ْر َج ُع‬ ‫مام َوا ْل َملئِكَةُ َوقُ ِض َ‬
‫ي ْاأل َ ْم ُر َو ِإلَى ه ِ‬ ‫ظلَ ٍل ِم َن ا ْلغَ ِ‬‫ّللاُ فِي ُ‬ ‫ون ِإاله أ َ ْن يَأْتِيَ ُه ُم ه‬ ‫َه ْل يَ ْن ُ‬
‫ظ ُر َ‬
‫ور ) ‪( 210‬‬ ‫ْاأل ُ ُم ُ‬
‫عرف ‪ ،‬وفيه نسبة المكان إلى الحق‬ ‫صوب ‪ ،‬وال أنكر وال ه‬ ‫ذكر تعالى اعتقادهم وما جرح وال ه‬
‫ت‬‫‪ ،‬ومثل هذا في الشرع كثير ‪ ،‬والظلل أبواب السماء إذا فتحت وهو قوله تعالى ‪َ ( :‬وفُتِ َح ِ‬
‫يال )وهو إتيان‬ ‫سما ُء بِ ْالغَما ِم َونُ ِ هز َل ْال َمالئِ َكةُ ت َ ْن ِز ا‬
‫شقَّ ُق ال َّ‬‫َت أَبْوابا ا )وقوله ( ‪ :‬يَ ْو َم ت َ َ‬ ‫سما ُء فَكان ْ‬ ‫ال َّ‬
‫المالئكة في ظلل من الغمام ‪ .‬واعلم أنه من المتشابه اآليات التي يذكر فيها الصورة ‪ ،‬فمما‬
‫ّللا عنه وفيه‬ ‫صح في ذلك ما رواه البخاري وغيره ‪ ،‬من حديث الرؤية عن أبي هريرة رضي ه‬
‫باّلل منك ‪،‬‬
‫( فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أنا ربكم ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬نعوذ ه‬
‫هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ‪ ،‬فإذا أتى ربنا عرفناه ‪ ،‬فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول ‪:‬‬
‫أنا ربكم ‪ ،‬فيقولون نعم أنت ربنا ‪ ،‬فيتبعونه ) وقد ثبت ذكر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا عليه وسلم بأجمعكم ‪ ،‬واتركوا ما‬ ‫في العمل بشرائع اإلسالم المنزلة على نبينا محمد صلهى ه‬
‫ْطان »أي ال‬
‫شي ِ‬ ‫ت ال َّ‬ ‫أنزلته من الشرائع قبله ‪ ،‬فلكل منكم شرعة ومنهاج « َوال تَتَّبِعُوا ُخ ُ‬
‫طوا ِ‬
‫تسلكوا طريقه ‪ ،‬وال تصغوا إلى ما يوسوس به في صدوركم ‪ ،‬ليضلكم عن طريق الهدى الذي‬
‫أنزلته في هذا األوان على هذا النبي المخصوص ‪ ،‬وإن كان كل كتاب أنزلته حقا وهدى ونورا‬
‫‪ ،‬ولكن تعبدت به عبادي في زمن مخصوص ‪ ،‬وقد انقضت تلك المدة لما سبق في علمي ‪،‬‬
‫فأراد الشيطان أن يضلكم بما وسوس به في صدوركم من اتباع ما نزل من عندنا ‪ ،‬كيدا ومكرا‬
‫ين »أي ظاهر العداوة ‪ ،‬ال تخفى على مؤمن عارف بطريق ما‬ ‫‪ ،‬وقد عرفتكم« ِإنَّهُ لَ ُك ْم َ‬
‫عد ٌُّو ُم ِب ٌ‬
‫يخرجكم عن الهدى ( ‪ «) 210‬فَإِ ْن زَ لَ ْلت ُ ْم »يقول ‪ :‬فإن انتزعكم فنزعتم عن طريق الهدى الذي‬
‫هو القرآن « ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْ ُك ُم ْالبَ ِيهناتُ »الدالئل الواضحة من عندنا ‪ ،‬وهي التعريفات بعداوة‬
‫الشيطان لكم المذكورة في كل كتاب ‪ ،‬وكفرتم أو خالفتم بعض ما أنزل إليكم في هذا القرآن وما‬
‫يز »غالب ال يغالب ‪ ،‬ال يفوته‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫ّللا عليه وسلم «فَا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫جاء به محمد صلهى ه‬
‫هارب « َح ِكي ٌم »بإنزال العقوبات لمن يستحقها ‪ ،‬إذ الحكيم واضع كل شيء في موضعه ‪ ،‬سمع‬
‫ّللا غفور رحيم‬
‫أعرابي قارئا يقرأ هذه اآلية ‪ :‬فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقال ‪ :‬الحكيم ال يذكر الغفران عند الزلل ألنه إغراء عليه ‪،‬‬ ‫‪ ،‬فأنكر أن يكون هذا كالم ه‬
‫فمثل هؤالء عرفوا إعجاز القرآن لمعرفتهم بمواقع الخطاب ‪( 211 ) ،‬‬

‫ص ‪304‬‬

‫ص ‪308 :‬‬
‫ّللا عنه زيادة أيضا ‪ ،‬وهو من األحاديث المتشابهة ‪،‬‬ ‫الصورة في حديث أبي سعيد رضي ه‬
‫ومرجعها إلى اآليات واألحاديث المحكمة ‪ ،‬فاعلم أن للصورة التي يأتي فيها ربنا تعالى يوم‬
‫ّللاُ فِي‬‫ظ ُرونَ ِإ َّال أ َ ْن يَأْتِيَ ُه ُم َّ‬
‫القيامة مظهرا وحقيقة ‪ ،‬فالحقيقة هي الظلة في قوله تعالى ‪:‬ه َْل يَ ْن ُ‬
‫َمام َو ْال َمال ِئ َكةُ »فعلم بذلك أن مظاهر تجليه لعباده هي ظلل غمامه ‪ ،‬وحقائق هذه‬ ‫ظلَ ٍل ِمنَ ْالغ ِ‬ ‫ُ‬
‫ّللا عليهم وسلم ‪ ،‬وقد ثبت في‬ ‫الظلل آياته التي تعرف لخلقه فيها بواسطة أنبيائه صلوات ه‬
‫ّللا عنه‬ ‫الصحيح تشخيص حقائق آياته كالظلل ‪ ،‬ففي مسلم وغيره من حديث أبي أمامة رضي ه‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬أن القرآن يوم القيامة يأتي ‪ ،‬تقدمه البقرة وآل‬ ‫‪ ،‬وحديث النواس بن سمعان رضي ه‬
‫عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان ‪ ،‬ومن المعلوم أن كالمه سبحانه صفته ‪ ،‬وصفته ال‬
‫تفارقه ‪ ،‬فإذا ثبت إتيانها في صور ظلل الغمام ‪ ،‬ثبت إتيانه تعالى ‪ ،‬وفي مسلم وغيره أن أسيد‬
‫ّللا عنه قرأ سورة الكهف ليلة ‪ ،‬فجالت فرسه ‪ ،‬فإذا مثل الظلة فوق رأسه‬ ‫بن حضير رضي ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن السكينة تنزلت للقرآن ‪ ،‬وفي‬ ‫فيها أمثال السرج ‪ ،‬فسأل النبي صلهى ه‬
‫رواية الترمذي مع القرآن ‪ ،‬وفي رواية ‪ ،‬تلك المالئكة كانت تسمع لك ‪ ،‬وذلك كله موافق آلية‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫البقرة ‪ ،‬ونفرة الفرس دليل على أنها ظلة محسوسة ‪ ،‬وقد ثبت رؤيا النبي صلهى ه‬
‫ّللا تعالى‬ ‫للظلة وتأويل أبي بكر لها باإلسالم ‪ ،‬وذلك كله يحقق أن حقائق الظلل هي آيات ه‬
‫وشرائعه ‪ ،‬وهي من الروح األصلي الذي هو منشأ عالم األمر ‪ ،‬وهو مصباح روح التوحيد ‪،‬‬
‫قال تعالى ‪َ ( :‬و َكذ ِل َك أ َ ْو َحيْنا ِإلَي َْك ُروحا ا ِم ْن أ َ ْم ِرنا )اآلية ‪ ،‬وقال تعالى ‪ ( :‬يُن ِ هَز ُل ْال َمال ِئ َكةَ‬
‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه أ َ ْن أ َ ْنذ ُِروا أَنَّهُ ال إِلهَ إِ َّال أَنَا )وبهذا الروح يتجلى‬ ‫وح ِم ْن أ َ ْم ِر ِه َ‬‫الر ِ‬
‫بِ ُّ‬
‫سبحانه لعباده بأسمائه وصفاته المحكمة والمتشابهة ‪ ،‬والظلة قسمان ‪ :‬ظلة عذاب ‪ ،‬وظلة‬
‫ذاب‬
‫ع ُ‬ ‫ّللا عليه وسلم في قوله تعالى ‪ ( :‬فَأ َ َخذَ ُه ْم َ‬ ‫رحمة ‪ ،‬فظلة العذاب كظلة قوم شعيب صلهى ه‬
‫ماء فِي ِه‬‫س ِ‬ ‫ب ِمنَ ال َّ‬ ‫ص ِيه ٍ‬‫ّللا تعالى المثل بذلك بالقرآن في قوله ( ‪ :‬أ َ ْو َك َ‬ ‫الظلَّ ِة )وقد ضرب ه‬ ‫يَ ْو ِم ُّ‬
‫مات َو َر ْع ٌد َوبَ ْر ٌق )اآلية ‪ ،‬وأما ظلة الرحمة ‪ ،‬فهي آياته المقتضية للرحمة النازل غيثها على‬ ‫ظلُ ٌ‬‫ُ‬
‫ّللا عليه وسلم ( ‪ :‬إن‬ ‫قلوب المؤمنين ‪ ،‬كما صح في صحيح مسلم والبخاري وغيره قوله صلهى ه‬
‫مثلي ومثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ظلَ ٍل ِمنَ ْالغ ِ‬
‫َمام »في هذه اآلية إشعار بقرب قيام الساعة ‪،‬‬ ‫ظ ُرونَ ِإ َّال أ َ ْن يَأ ْ ِتيَ ُه ُم َّ‬
‫ّللاُ ِفي ُ‬ ‫«ه َْل يَ ْن ُ‬
‫ّللا‬
‫وبأن هذا القرآن وشرع اإلسالم ما بقي بعده كتاب ينزل وال شرع ‪ ،‬وال نبي بعد رسول ه‬

‫ص ‪305‬‬

‫ص ‪309 :‬‬
‫أصاب أرضا ) الحديث ‪ ،‬فهذا هو مظهر الحقيقة ‪ ،‬وأما مظهر الصورة فهو العمل ‪ ،‬وقد ثبت‬
‫تشخص األعمال بصور شتى ‪ ،‬وقد صح تمثيل الموت بصورة الكبش ‪ ،‬وتمثيل المال بالشجاع‬
‫ّللا عليهم وسلم باآلدميين ‪ ،‬والسنة مشحونة بنحو ذلك ‪،‬‬ ‫األقرع وغيره ‪ ،‬وتمثيل المالئكة صلى ه‬
‫ومن المعلوم أن األعمال أعراض ‪ ،‬فإذا ثبت ظهورها وتمثلها بصور الجواهر واألجسام مع‬
‫ّللا وسالمه عليهم ليسوا بآدميين ‪،‬‬‫القطع بأنها ليست جسما وال جوهرا ‪ ،‬فإن المالئكة صلوات ه‬
‫فعلى مثل ذلك قس إتيان ربنا سبحانه في صور األعمال ‪ ،‬وأنه ال يلزم من إتيانه في صور‬
‫األعمال أن يكون تعالى له صورة ‪ ،‬وال يلزم من نسبتها وإضافتها إليه أن تكون ذاتية له ‪ ،‬كما‬
‫ّللا عنه عند مسلم‬‫ثبت نسبة اليدين والرجلين إلى جبريل عليه السالم في حديث عمر رضي ه‬
‫وغيره في قوله ‪ ( :‬طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ) إلى قوله ‪ ( :‬فأسند ركبتيه ) ‪-‬‬
‫ّللا عليه وسالمه‬
‫الحديث ‪ ، -‬ومن المعلوم أن الركبتين واليدين التي جاء بها جبريل صلوات ه‬
‫جسمانيات ‪ ،‬وليست ذاتية له ‪ ،‬وبهذا تعلم أن رؤية العباد لربهم تعالى يوم القيامة مختلفة النعيم‬
‫‪ ،‬فكل يراه في صورة عمله على حسب مراقبته وإخالص توجهه إليه ‪ ،‬وصدقه في إقباله عليه‬
‫‪ ،‬وتلك الصور حقائق آيات من آيات أسمائه وصفاته تعالى وأخالقه ‪ ،‬فما من آية منها تخلهق‬
‫ّللا عليه وسلم في حديث‬‫ّللا تعالى إليه بها ‪ ،‬أما قوله صلهى ه‬
‫بها العبد في الدنيا إال وقد تعرف ه‬
‫الرؤية ( ‪ :‬فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفون ) أي في ظلة آيات العذاب ومظهر‬
‫باّلل من تلك الصورة كما كانوا‬
‫باّلل منك ) أي فيستعيذون ه‬ ‫األعمال السيئة ‪ ،‬فيقولون ‪ ( :‬نعوذ ه‬
‫في الدنيا ينكرونها ويستعيذون منها ‪ ،‬وأما قوله ‪:‬‬
‫( فيأتيهم في الصورة التي يعرفون ) أي في مظهر أعمال البر ‪ ،‬وظلة صفة الرحمة والنبوة‬
‫التي كانت تحيي قلوبهم بغيث الهدى والعلم ‪ ،‬فيقولون ‪ ( :‬أنت ربنا ) يعرفونه بواسطة تعرفه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ( :‬أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف‬ ‫لهم في الدنيا ‪ ،‬تحقيقا لقوله صلهى ه‬
‫في اآلخرة ) ‪ ،‬أما صفة الرؤية فقد جاء في غير ما آية ‪ ،‬وفي أحاديث منها في هذا الحديث‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ( :‬هل تمارون في رؤية القمر وفي رؤية الشمس ) وإذا ثبت تجليه‬ ‫قوله صلهى ه‬
‫تعالى في صورة روح الشريعة لم يبق في رؤيته إشكال ‪ ،‬وإنما عبر بالوجه والقمر عن حقيقة‬
‫الوجه وهو نور التوحيد ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ظ ُرونَ »أي ينتظرون «إِ َّال أ َ ْن يَأْتِيَ ُه ُم َّ‬
‫ّللاُ فِي‬ ‫ّللا عليه وسلم يرفع حكمه ‪ ،‬فقال ‪ «:‬ه َْل يَ ْن ُ‬ ‫صلهى ه‬
‫َمام َو ْال َمالئِ َكةُ »جمع ظلة وهو الطاق ‪ ،‬وهو قيام الساعة ‪ ،‬فما ينتظر غيرها ‪ ،‬وهو‬ ‫ظلَ ٍل ِمنَ ْالغ ِ‬‫ُ‬
‫شقَّ ُق‬
‫قوله ‪َ ( :‬ويَ ْو َم ت َ َ‬

‫ص ‪306‬‬

‫ص ‪310 :‬‬
‫واختالف الروايتين يجوز أن يكون تنبيها على اختالف درجة الرؤيتين في نعيم الرؤية ‪،‬‬
‫ويجوز أن يكون باعتبار الرؤية في البرزخ واآلخرة ‪ ،‬فإن البرزخ كالليل وآيته القمر ‪،‬‬
‫واآلخرة كالنهار وآيته الشمس ‪ ،‬وقوله ‪ ( :‬ليس دونها سحاب ) فيه تربية ألهل المراقبة ‪ ،‬وذلك‬
‫ألن غالب أهل المراقبة ال يشهدون بقلوبهم عند العبادة والمراقبة إال ظلل آيات الشريعة ‪،‬‬
‫ويحجبون بسحابها عن شهود وجه ربهم تعالى ‪ ،‬وهو نور توحيده ‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة كشف‬
‫الغطاء واحتد البصر ‪ ،‬فيرون وجه ربهم سبحانه كشمس ال دونها سحاب األعمال وال ظلل‬
‫ّللا ت ُ ْر َج ُع ْاأل ُ ُم ُ‬
‫ور‬ ‫ي ْاأل َ ْم ُر َو ِإلَى َّ ِ‬ ‫غمام الشرائع ‪ ،‬بل هو أقرب إليهم من أعمالهم ‪َ «.‬وقُ ِ‬
‫ض َ‬
‫ّللا تعالى أمرهم باألدب في كل ما يلقي إليهم على توقيت أنفاسهم ‪ ،‬عند أخذهم منه‬ ‫»خاصة ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وكذلك إذا ردوا األمور إليه ‪ ،‬يردونها محالة باألدب اإللهي ‪،‬‬ ‫تعالى بالحضور مع ه‬
‫ّللا أن يبدل األرض غير األرض ‪ ،‬وتمد‬ ‫واعلم يا أخي أن الناس إذا قاموا من قبورهم وأراد ه‬
‫ّللا األرض‬ ‫ّللا ‪ ،‬ويكون الجسر دون الظلمة ‪ ،‬فيكون الخلق عليه عندما يبدل ه‬ ‫األرض بإذن ه‬
‫كيف يشاء ‪ ،‬فيمدها مد األديم ويزيد في سعتها ما يشاء أضعاف ما كانت ‪ ،‬ثم يقبض سبحانه‬
‫السماء فيطويها بيمينه كطي السجل للكتب ‪ ،‬ثم يرميها على األرض التي مدها ‪ ،‬فيقفون‬
‫ّللا بهم ‪ ،‬فإذا وهت السماء نزلت مالئكتها على أرجائها ‪ ،‬فيرى أهل‬ ‫منتظرين ما يصنع ه‬
‫ّللا نزل فيهم لما يرون من عظم‬ ‫األرض خلقا عظيما أضعاف ما هم عليه عددا ‪ ،‬فيتخيلون أن ه‬
‫المملكة مما لم يشاهدوه من قبل ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬أفيكم ربنا ؟ فتقول المالئكة ‪ :‬سبحان ربنا ليس فينا‬
‫وهو آت ‪ ،‬فتصف المالئكة صفا مستديرا على نواحي األرض محيطين بالعالم ‪ ،‬اإلنس والجن‬
‫ّللا أيضا ويرمي‬ ‫‪ ،‬وهؤالء هم عمار السماء الدنيا ‪ ،‬ثم ينزل أهل السماء الثانية بعد ما يقبضها ه‬
‫بكوكبها في النار ‪ ،‬وهم أكثر عددا من السماء األولى ‪ ،‬فتقول الخالئق ‪ :‬أفيكم ربنا ؟ فتفزع‬
‫المالئكة من قولهم ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬سبحان ربنا ليس هو فينا وهو آت ‪ ،‬فيفعلون فعل األولين من‬
‫المالئكة ‪ ،‬يصطفون خلفهم صفا ثانيا مستديرا ‪ ،‬ثم ينزل أهل السماء الثالثة ويرمي بكوكبها في‬
‫النار ‪ ،‬فتقول الخالئق ‪ :‬أفيكم ربنا ؟ فتقول المالئكة ‪ :‬سبحان ربنا ليس هو فينا وهو آت ‪ ،‬فال‬
‫يزال األمر هكذا سماء بعد سماء ‪ ،‬حتى ينزل أهل السماء السابعة ‪ ،‬فيرون‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا إلى عباده للفصل والقضاء « والغمام »‬
‫السماء بالغمام ) أي عن الغمام ‪ ،‬فذلك إتيان ه‬
‫الضباب شبه السحاب ‪ ،‬والظلل جمع ظلة ‪ ،‬وهو ما يظلهم من ذلك ‪ ،‬أي طاقات من الغمام‬
‫ظليلة ‪،‬‬

‫ص ‪307‬‬

‫ص ‪311 :‬‬
‫خلقا أكثر من جميع من نزل ‪ ،‬فتقول الخالئق ‪ :‬أفيكم ربنا ؟ فتقول المالئكة ‪ :‬سبحان ربنا قد‬
‫ّللا في ظلل من الغمام والمالئكة ‪ ،‬وعلى المجنبة‬ ‫جاء ربنا وإن كان وعد ربنا لمفعوال ‪ ،‬فيأتي ه‬
‫ِين )وهو ذلك اليوم فسمي‬ ‫اليسرى جهنم ‪ ،‬ويكون إتيانه إتيان الملك ‪ ،‬فإنه يقول ‪ ( :‬ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫بالملك ‪ ،‬ويصطف المالئكة عليهم السالم سبعة صفوف محيطة بالخالئق ‪ ،‬فإذا أبصر الناس‬
‫جهنم لها فوران وتغيظ على الجبابرة المتكبرين ‪ ،‬فيفرون ‪ ،‬الخلق بأجمعهم منها لعظيم ما‬
‫يرونه خوفا وفزعا ‪ ،‬وهو الفزع األكبر ‪ ،‬إال الطائفة التي ال يحزنهم الفزع األكبر ‪ ،‬فتتلقاهم‬
‫عدُونَ )فهم اآلمنون مع النبيين على أنفسهم ‪ ،‬غير أن النبيين‬ ‫المالئكة( هذا يَ ْو ُم ُك ُم الَّذِي ُك ْنت ُ ْم تُو َ‬
‫ّللا عليها للخلق ‪ ،‬فيقولون في ذلك اليوم ‪:‬‬ ‫تفزع على أممها للشفقة التي جبلهم ه‬
‫ّللا قد أمر أن تنصب لآلمنين من خلقه منابر من نور متفاضلة بحسب منازلهم‬ ‫سلهم سلهم ‪ ،‬وكان ه‬
‫فر الناس‬ ‫في الموقف ‪ ،‬فيجلسون عليها آمنين مبشرين ‪ ،‬وذلك قبل مجيء الرب تعالى ‪ ،‬فإذا ه‬
‫خوفا من جهنم وفرقا لعظيم ما يرون من الهول في ذلك اليوم ‪ ،‬يجدون المالئكة صفوفا ال‬
‫يتجاوزونهم ‪ ،‬فتطردهم المالئكة وزعة الملك الحق سبحانه وتعالى إلى المحشر ‪ ،‬وتناديهم‬
‫ّللا‬
‫ّللا تعالى فيما يقول رسول ه‬ ‫أنبياؤهم ‪ :‬ارجعوا ارجعوا ‪ ،‬فينادي بعضهم بعضا ‪ ،‬فهو قول ه‬
‫ّللا من‬‫ّللا عليه وسلم ‪ ( :‬إني أخاف عليكم يوم التناد ‪ ،‬يوم تولون مدبرين ما لكم من ه‬ ‫صلهى ه‬
‫عاصم ) والرسل تقول ‪ :‬اللهم سلهم سلهم ‪ ،‬ويخافون أشد الخوف على أممهم ‪ ،‬واألمم يخافون‬
‫على أنفسهم ‪ ،‬والمطهرون المحفوظون الذين ما تدنست بواطنهم بالشبه المضلة ‪ ،‬وال‬
‫ظواهرهم أيضا بالمخالفات الشرعية ‪ ،‬آمنون يغبطهم النبيون في الذي هم عليه من األمن ‪ ،‬لما‬
‫ّللا ‪ ،‬يسمعه أهل الموقف ‪ ،‬ال‬ ‫هم النبيون عليه من الخوف على أممهم ‪ ،‬فينادي مناد من قبل ه‬
‫يدرون أو ال أدري هل ذلك نداء الحق سبحانه بنفسه ‪ ،‬أو نداء عن أمره سبحانه ‪ ،‬يقول في‬
‫ذلك النداء ‪ ( :‬يا أهل الموقف ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ‪ ،‬أين الذين كانت تتجافى‬
‫جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) فيؤتى بهم إلى الجنة ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ثم يسمعون من قبل الحق نداء ثانيا ‪ ( :‬أين الذين كانوا ال تلهيهم تجارة وال بيع عن ذكر ه‬
‫ّللا‬
‫وإقام الصالة وإيتاء الزكاة ‪ ،‬يخافون يوما تتقلب فيه القلوب واألبصار ‪ ،‬ليجزيهم ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا بعذاب من عنده في ظلل من الغمام ‪ ،‬تحمل العذاب كما‬
‫فيقول ‪:‬هل ينتظرون إال أن يأتيهم ه‬
‫تحمل المطر ‪ ،‬كما كان في إهالك عاد حين رأوا السحابة السوداء قد طلعت ‪ ،‬وكانوا مقحطين‬
‫‪،‬‬

‫ص ‪308‬‬

‫ص ‪312 :‬‬
‫أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ) فيؤمر بهم إلى الجنة ‪ ،‬ثم يسمعون نداء ثالثا ( ‪ :‬يا أهل‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬ليجزي‬
‫الموقف ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ‪ ،‬أين الذين صدقوا ما عاهدوا ه‬
‫الصادقين بصدقهم ) فيؤمر بهم إلى الجنة ‪ ،‬فبعد هذا النداء يخرج عنق من النار ‪ ،‬فإذا أشرف‬
‫على الخلق وله عينان ولسان فصيح يقول ‪ ( :‬يا أهل الموقف إني وكلت منكم بثالث ) كما كان‬
‫النداء األول ثالث مرات لثالث طوائف من أهل السعادة ‪ ،‬وهذا كله قبل الحساب ‪ ،‬والناس‬
‫وقوف قد ألجمهم العرق ‪ ،‬واشتد الخوف وتصدعت القلوب لهول المطلع ‪ ،‬فيقول ذلك العنق‬
‫المستشرف من النار عليهم ( إني و هكلت بكل جبار عنيد ) فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط‬
‫الطائر حب السمسم ‪ ،‬فإذا لم يترك أحدا منهم في الموقف نادى نداء ثانيا ‪ ( :‬يا أهل الموقف‬
‫ّللا ورسوله ) فيلقطهم كما يلقط الطائر حب السمسم من بين الخالئق ‪ ،‬فإذا‬ ‫إني وكلت بمن آذى ه‬
‫ّللا ) فيلقط‬
‫لم يترك منهم أحدا نادى ثالثة ‪ ( :‬يا أهل الموقف إن وكلت بمن ذهب يخلق كخلق ه‬
‫أهل التصاوير وهم الذين يصورون صورا في الكنائس لتعبد تلك الصور ‪ ،‬والذين يصورون‬
‫األصنام ‪ ،‬وهو قوله ‪ ( :‬أ َ ت َ ْعبُدُونَ ما ت َ ْن ِحتُونَ )فكانوا ينحتون لهم األخشاب واألحجار ليعبدوها‬
‫ّللا ‪ ،‬فهؤالء هم المصورون فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطير حب السمسم ‪،‬‬ ‫من دون ه‬
‫ّللا عن آخرهم ‪ ،‬بقي الناس وفيهم المصورون الذين ال يقصدون بتصويرهم ما‬ ‫فإذا أخذهم ه‬
‫قصده أولئك من عباداتها ‪ ،‬حتى يسألوا عنها لينفخوا فيها أرواحا تحيا بها وليسوا بنافخين ‪،‬‬
‫ّللا بهم ‪ ،‬والعرق قد‬
‫ّللا ينتظرون ما فعل ه‬
‫كما ورد في الخبر في المصورين ‪ ،‬فيقفون ما شاء ه‬
‫ألجمهم ‪ ،‬قال علي‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫فسروا بذلك واستبشروا وقالوا ‪ ( :‬هذا عارض ممطرنا ) لكون الغيث أبدا يستلزم الغمام ‪ ،‬فقال‬
‫ّللا عليه وسلم إذا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ذاب أ َ ِلي ٌم )وكان رسول ه‬ ‫ع ٌ‬ ‫تعالى ‪ ( :‬بَ ْل ُه َو َما ا ْست َ ْع َج ْلت ُ ْم بِ ِه ِري ٌح فِيها َ‬
‫رأى ذلك ‪ ،‬يتغير ويدخل ويخرج ‪ ،‬فإذا نزل الغيث وعلم أنه رحمة سكن ‪ ،‬فإذا رأى الناس‬
‫ظلل الغمام التي هي مظنة الخير والرحمة يستبشرون ‪ ،‬فتبدو لهم منها من البأس والشدة ما لم‬
‫سبُوا َوحاقَ ِب ِه ْم ما كانُوا ِب ِه يَ ْست َ ْه ِزؤُنَ )وهو قوله في هذه‬ ‫س ِيهئاتُ ما َك َ‬ ‫يكونوا يحتسبون( َوبَدا لَ ُه ْم َ‬
‫ور » ‪.‬وقوله «‪َ :‬و ْال َمال ِئ َكةُ »بالرفع والجر ‪ ،‬فمن جر‬ ‫ّللا ت ُ ْر َج ُع ْاأل ُ ُم ُ‬
‫ي ْاأل َ ْم ُر َو ِإلَى َّ ِ‬
‫ض َ‬ ‫اآلية« َوقُ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن هذه اآلية آية وعيد‬ ‫عطف على الغمام ‪ ،‬فتكون المالئكة الموكلون بما ذكرناه من بأس ه‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ي‬ ‫ظ ُرونَ إِ َّال أ َ ْن تَأتِيَ ُه ُم ْال َمالئِ َكةُ أ َ ْو يَأتِ َ‬
‫ي َرب َُّك أ َ ْو يَأتِ َ‬ ‫وتهديد ‪ ،‬ومن رفع فمثل قوله ‪ ( :‬ه َْل يَ ْن ُ‬
‫ت َر ِبه َك )واألولى‬ ‫ض آيا ِ‬‫بَ ْع ُ‬

‫ص ‪309‬‬

‫ص ‪313 :‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إن في القيامة‬ ‫ّللا عنه « ‪ » 1‬قال رسول ه‬ ‫ابن أبي طالب رضي ه‬
‫لخمسين موقفا ‪ ،‬كل موقف منها ألف سنة ‪ ،‬فأول موقف إذا خرج الناس من قبورهم يقومون‬
‫على أبواب قبورهم ألف سنة عراة حفاة جياعا عطاشا ‪ ،‬فمن خرج من قبره مؤمنا بربه مؤمنا‬
‫بنبيه ‪ ،‬مؤمنا بجنته وناره ‪ ،‬مؤمنا بالبعث والقيامة ‪ ،‬مؤمنا بالقضاء والقدر خيره وشره ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم من عند ربه ‪ ،‬نجا وفاز وغنم وسعد ‪ ،‬ومن شك‬ ‫مصدقا بما جاء به محمد صلهى ه‬
‫ّللا فيه بما شاء‬
‫في شيء من هذا بقي في جوعه وعطشه وغمه وكربه ألف سنة ‪ ،‬حتى يقضي ه‬
‫‪ ،‬ثم يساقون من ذلك المقام إلى المحشر ‪ ،‬فيقفون على أرجلهم ألف عام في سرادقات النيران‬
‫في حر الشمس ‪ ،‬والنار عن أيمانهم ‪ ،‬والنار عن شمائلهم ‪ ،‬والنار من بين أيديهم ‪ ،‬والنار من‬
‫ّللا تبارك وتعالى‬
‫خلفهم ‪ ،‬والشمس من فوق رؤوسهم ‪ ،‬وال ظل إال ظل العرش ‪ ،‬فمن لقي ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬بريئا من الشرك ومن السحر ‪ ،‬وبريئا‬ ‫شاهدا له باإلخالص ‪ ،‬مقرا بنبيه صلهى ه‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬مبغضا لمن‬‫من إهراق دماء المسلمين ‪ ،‬ناصحا هّلل ولرسوله ‪ ،‬محبا لمن أطاع ه‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬استظل تحت ظ هل عرش الرحمن ‪ ،‬ونجا من غمه ‪ ،‬ومن حاد عن ذلك‬ ‫عصى ه‬
‫ووقع في شيء من الذنوب بكلمة واحدة ‪ ،‬أو تغير قلبه أو شك في شيء من دينه ‪ ،‬بقي ألف‬
‫ّللا فيه بما يشاء ‪ ،‬ثم يساق الخلق إلى النور والظلمة‬
‫سنة في الحر والهم والعذاب حتى يقضي ه‬
‫ّللا تبارك وتعالى لم يشرك به شيئا ‪ ،‬ولم يدخل‬‫‪ ،‬فيقيمون في تلك الظلمة ألف عام ‪ ،‬فمن لقي ه‬
‫في قلبه شيء من النفاق ‪ ،‬ولم يشك في شيء من أمر دينه ‪ ،‬وأعطى الحق من نفسه ‪ ،‬وقال‬
‫ّللا في السر‬
‫الحق ‪ ،‬وأنصف الناس من نفسه ‪ ،‬وأطاع ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫في هذا اإلتيان أنه للفصل والقضاء ‪ ،‬فيتضمن الرحمة للمؤمنين لما في الغمام من الغيث ‪،‬‬
‫ويتضمن‬

‫) ‪( 1‬هذا الحديث الوارد بطوله هنا ‪ ،‬وتتمته في تفسير قوله تعالى ( ‪َ :‬وأ َ َّما الَّذِينَ ُ‬
‫س ِعدُوا فَ ِفي‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬حدثنا شيخنا‬ ‫ْال َجنَّ ِة خا ِلدِينَ فِيها )يقول فيه الشيخ األكبر محي الدين بن العربي رضي ه‬
‫القصار بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة ‪ ،‬تجاه الركن اليماني من الكعبة المعظمة ‪ ،‬وهو‬
‫يونس بن يحيى بن الحسين بن أبي البركات الهاشمي العباسي ‪ ،‬من لفظه وأنا أسمع ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫حدثنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف األرموي ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن‬
‫محمد بن موسى بن جعفر المعروف بابن الخياط المغربي ‪ ،‬قال ‪ :‬قرئ على أبي سهل محمود‬
‫ّللا عنكم ‪ ،‬أبو بكر محمد بن‬ ‫بن عمر بن إسحاق العكبري وأنا أسمع ‪ ،‬قيل له حدثكم رضي ه‬
‫الحسن النقاش ؟ فقال ‪ :‬نعم حدثنا أبو بكر قال ‪:‬حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين ابن علي‬
‫ّللا ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا سلمة بن‬ ‫الطبري المروزي ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا محمد بن حميد الرازي أبو عبد ه‬
‫صالح ‪ ،‬قال ‪ :‬أنا القاسم بن الحكم عن سالم الطويل ‪ ،‬عن غياث بن المسيب عن عبد الرحمن‬
‫ّللا بن مسعود ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت جالسا عند علي بن أبي طالب‬ ‫بن غنم وزيد بن وهب ‪ ،‬عن عبد ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬وحوله عدة من أصحاب رسول ه‬ ‫ّللا بن عباس رضي ه‬ ‫ّللا عنه وعنده عبد ه‬
‫رضي ه‬
‫ّللا عنه ‪ -‬الحديث‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال علي رضي ه‬ ‫صلهى ه‬

‫ص ‪314 :‬‬
‫ص ‪310‬‬
‫ّللا ‪ ،‬خرج من الظلمة إلى النور في مقدار‬‫ّللا ‪ ،‬وقنع بما أعطاه ه‬
‫والعالنية ‪ ،‬ورضي بقضاء ه‬
‫طرفة العين ‪ ،‬مبيضا وجهه ‪ ،‬قد نجا من الغموم كلها ‪ ،‬ومن خالف في شيء منها بقي في الغم‬
‫ّللا يفعل به ما يشاء ‪ ،‬ثم يساق‬
‫والهم ألف سنة ‪ ،‬ثم خرج منها مسودا وجهه ‪ ،‬وهو في مشيئة ه‬
‫الخلق إلى سرادقات الحساب ‪ ،‬وهي عشر سرادقات ‪ ،‬يقفون في كل سرداق منها ألف سنة ‪،‬‬
‫فيسأل ابن آدم عند أول سرداق منها عن المحارم ‪ ،‬فإن لم يكن وقع في شيء منها جاز إلى‬
‫السرادق الثاني ‪ ،‬فيسأل عن األهواء فإن كان نجا منها جاز إلى السرادق الثالث ‪ ،‬فيسأل عن‬
‫ّللا‬
‫عقوق الوالدين ‪ ،‬فإن لم يكن عاقا جاز إلى السرادق الرابع ‪ ،‬فيسأل عن حقوق من فوض ه‬
‫إليه أمورهم ‪ ،‬وعن تعليمهم القرآن ‪ ،‬وعن أمر دينهم وتأديبهم ‪ ،‬فإن كان قد فعل جاز إلى‬
‫السرادق الخامس ‪ ،‬فيسأل عما ملكت يمينه ‪ ،‬فإن كان محسنا إليهم جاز إلى السرادق السادس ‪،‬‬
‫فيسأل عن حق قرابته ‪ ،‬فإن كان أدى حقوقهم جاز إلى السرادق السابع ‪ ،‬فيسأل عن صلة‬
‫الرحم ‪ ،‬فإن كان وصوال لرحمه جاز إلى السرادق الثامن ‪ ،‬فيسأل عن الحسد ‪ ،‬فإن لم يكن‬
‫حاسدا جاز إلى السرادق التاسع فيسأل عن المكر ‪ ،‬فإن لم يكن مكر بأحد جاز إلى السرادق‬
‫ّللا تعالى قارة‬
‫العاشر ‪ ،‬فيسأل عن الخديعة ‪ ،‬فإن لم يكن خدع أحدا نجا ونزل في ظل عرش ه‬
‫عينه فرحا قلبه ضاحكا فوه ‪ ،‬وإن كان قد وقع في شيء من هذه الخصال بقي في كل موقف‬
‫منها ألف عام جائعا عاطشا حزنا مغموما مهموما ال ينفعه شفاعة شافع ‪ ،‬ثم يحشرون إلى أخذ‬
‫كتبهم بأيمانهم وشمائلهم ‪ ،‬فيحبسون عند ذلك في خمسة عشر موقفا ‪ ،‬كل موقف منها ألف سنة‬
‫ّللا عليهم من أموالهم ‪ ،‬فمن أداها‬
‫‪ ،‬فيسألون في أول موقف منها عن الصدقات وما فرض ه‬
‫ّللا عنه‬
‫كاملة جاز إلى الموقف الثاني ‪ ،‬فيسأل عن قول الحق والعفو عن الناس ‪ ،‬فمن عفا عفا ه‬
‫وجاز إلى الموقف الثالث ‪ ،‬فيسأل عن األمر بالمعروف ‪ ،‬فإن كان آمرا بالمعروف جاز إلى‬
‫الموقف الرابع ‪ ،‬فيسأل عن النهي عن المنكر ‪ ،‬فإن كان ناهيا عن المنكر جاز إلى الموقف‬
‫الخامس ‪ ،‬فيسأل عن حسن الخلق ‪ ،‬فإن كان حسن الخلق جاز إلى الموقف السادس ‪ ،‬فيسأل‬
‫ّللا جاز إلى الموقف‬
‫ّللا مبغضا في ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن كان محبا في ه‬
‫ّللا والبغض في ه‬
‫عن الحب في ه‬
‫السابع ‪ ،‬فيسأل عن مال الحرام ‪ ،‬فإن لم يكن أخذ شيئا جاز إلى الموقف الثامن ‪ ،‬فيسأل عن‬
‫شرب الخمر ‪ ،‬فإن لم يكن شرب من الخمر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫البأس للكافرين لما يتضمن من الصواعق والرعود القواصف والبروق الخواطف والرياح‬

‫ص ‪311‬‬

‫ص ‪315 :‬‬
‫شيئا جاز إلى الموقف التاسع ‪ ،‬فيسأل عن الفروج الحرام ‪ ،‬فإن لم يكن أتاها جاز إلى الموقف‬
‫العاشر ‪ ،‬فيسأل عن قول الزور ‪ ،‬فإن لم يكن قاله ‪ ،‬جاز إلى الموقف الحادي عشر ‪ ،‬فيسأل‬
‫عن األيمان الكاذبة ‪ ،‬فإن لم يكن حلفها جاز إلى الموقف الثاني عشر ‪ ،‬فيسأل عن أكل الربا ‪،‬‬
‫فإن لم يكن أكله جاز إلى الموقف الثالث عشر ‪ ،‬فيسأل عن قذف المحصنات ‪ ،‬فإن لم يكن قذف‬
‫المحصنات أو افترى على أحد جاز إلى الموقف الرابع عشر ‪ ،‬فيسأل عن شهادة الزور ‪ ،‬فإن‬
‫لم يكن شهدها جاز إلى الموقف الخامس عشر ‪ ،‬فيسأل عن البهتان ‪ ،‬فإن لم يكن بهت مسلما‬
‫مر فنزل تحت لواء الحمد وأعطي كتابه بيمينه ونجا من غم الكتاب وهوله وحوسب حسابا‬
‫يسيرا ‪ ،‬وإن كان قد وقع في شيء من هذه الذنوب ثم خرج من الدنيا غير تائب من ذلك بقي‬
‫في كل موقف من هذه الخمسة عشر موقفا ألف سنة في الغم والهول والهم والحزن والجوع‬
‫ّللا ه‬
‫عز وجل فيه بما يشاء ‪ ،‬ثم يقام الناس في قراءة كتبهم ألف عام ‪،‬‬ ‫والعطش حتى يقضي ه‬
‫فمن كان سخيا قد قدم ماله ليوم فقره وحاجته وفاقته ‪ ،‬قرأ كتابه وهون عليه قراءته ‪ ،‬وكسي‬
‫من ثياب الجنة ‪ ،‬وتوج من تيجان الجنة ‪ ،‬وأقعد تحت ظل عرش الرحمن آمنا مطمئنا ‪ ،‬وإن‬
‫كان بخيال لم يقدم ماله ليوم فقره وفاقته ‪ ،‬أعطي كتابه بشماله ‪ ،‬ويقطع له من مقطعات النيران‬
‫‪ ،‬يقام على رؤوس الخالئق ألف عام في الجوع والعطش والعري والهم والغم والحزن‬
‫عز وجل فيه بما يشاء ‪ ،‬ثم يحشر الناس إلى الميزان ‪ ،‬فيقومون عند‬ ‫ّللا ه‬
‫والفضيحة حتى يقضي ه‬
‫الميزان ألف عام ‪ ،‬فمن رجح ميزانه بحسناته فاز ونجا في طرفة عين ‪ ،‬ومن خف ميزانه من‬
‫حسناته وثقلت سيئاته حبس عند الميزان ألف عام في الغم والهم والحزن والعذاب والجوع‬
‫ّللا في اثني‬
‫ّللا فيه بما يشاء ‪ ،‬ثم يدعى بالخلق إلى الموقف بين يدي ه‬‫والعطش حتى يقضي ه‬
‫عشر موقفا ‪ ،‬كل موقف منها مقدار ألف عام ‪ ،‬فيسأل في أول موقف عن عتق الرقاب ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا رقبته من النار وجاز إلى الموقف الثاني ‪ ،‬فيسأل عن القرآن وحقه‬ ‫كان أعتق رقبة أعتق ه‬
‫وقراءته ‪ ،‬فإن جاء بذلك تاما جاز إلى الموقف الثالث ‪ ،‬فيسأل عن الجهاد ‪ ،‬فإن كان جاهد في‬
‫ّللا محتسبا جاز إلى الموقف الرابع ‪ ،‬فيسأل عن الغيبة ‪ ،‬فإن لم يكن اغتاب جاز إلى‬
‫سبيل ه‬
‫الموقف الخامس ‪ ،‬فيسأل عن النميمة ‪ ،‬فإن لم يكن نماما جاز إلى الموقف السادس ‪ ،‬فيسأل عن‬
‫الكذب ‪ ،‬فإن لم يكن كذابا جاز إلى الموقف السابع ‪ ،‬فيسأل عن طلب العلم ‪ ،‬فإن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الزعازع ‪ ،‬والمالئكة بالبشرى للفريقين ‪ ،‬ففريق تبشره بعذاب أليم ‪ ،‬وفريق تبشره بنعيم مقيم‬

‫ص ‪312‬‬

‫ص ‪316 :‬‬
‫كان طلب العلم وعمل به جاز إلى الموقف الثامن ‪ ،‬فيسأل عن العجب ‪ ،‬فإن لم يكن معجبا‬
‫بنفسه في دينه ودنياه أو في شيء من عمله جاز إلى الموقف التاسع ‪ ،‬فيسأل عن التكبر ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن لم يكن‬ ‫لم يكن تكبر على أحد جاز إلى الموقف العاشر ‪ ،‬فيسأل عن القنوط من رحمة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن لم يكن‬‫ّللا جاز إلى الموقف الحادي عشر ‪ ،‬فيسأل عن األمن من مكر ه‬ ‫قنط من رحمة ه‬
‫ّللا جاز إلى الموقف الثاني عشر ‪ ،‬فيسأل عن حق جاره ‪ ،‬فإن كان أدى حق‬ ‫أمن من مكر ه‬
‫ّللا تعالى قريرا عينه ‪ ،‬فرحا قلبه ‪ ،‬مبيضا وجهه كاسيا ضاحكا مستبشرا ‪،‬‬ ‫جاره أقيم بين يدي ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن لم يأت‬
‫فيرحب به ربه ويبشره برضاه عنه ‪ ،‬فيفرح عند ذلك فرحا ال يعلمه أحد إال ه‬
‫عز وجل‬ ‫ّللا ه‬
‫بواحدة منهن تامة ومات غير تائب حبس عند كل موقف ألف عام حتى يقضي ه‬
‫فيه بما يشاء ‪ ،‬ثم يؤمر بالخالئق إلى الصراط ‪ ،‬فينتهون إلى الصراط وقد ضربت عليه‬
‫الجسور على جهنم ‪ ،‬أدق من الشعر وأح هد من السيف ‪ ،‬وقد غابت الجسور في جهنم مقدار‬
‫أربعين ألف عام ‪ ،‬ولهيب جهنم بجانبها يلتهب ‪ ،‬وعليها حسك وكالليب وخطاطيف ‪ ،‬وهي‬
‫سبعة جسور ‪ ،‬يحشر العباد كلهم عليها ‪ ،‬وعلى كل جسر منها عقبة مسيرة ثالثة آالف عام ‪،‬‬
‫عز وجل ‪ِ ( :‬إ َّن‬‫ّللا تعالى ه‬ ‫ألف عام صعود ‪ ،‬وألف عام استواء ‪ ،‬وألف عام هبوط ‪ ،‬وذلك قول ه‬
‫َرب ََّك لَ ِب ْال ِم ْرصا ِد )يعني على تلك الجسور ‪ ،‬ومالئكته يرصدون الخلق عليها ‪ ،‬ليسأل العبد عن‬
‫باّلل فإن جاء به مؤمنا مخلصا ال شك فيه وال زيغ جاز إلى الجسر الثاني ‪ ،‬فيسأل عن‬‫اإليمان ه‬
‫الصالة ‪ ،‬فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر الثالث ‪ ،‬فيسأل عن الزكاة ‪ ،‬فإن جاء بها تامة جاز‬
‫إلى الجسر الرابع ‪ ،‬فيسأل عن الصيام ‪ ،‬فإن جاء به تاما جاز إلى الجسر الخامس ‪ ،‬فيسأل عن‬
‫حجة اإلسالم ‪ ،‬فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر السادس ‪ ،‬فيسأل عن الطهر فإن جاء به تاما‬
‫جاز إلى الجسر السابع ‪ ،‬فيسأل عن المظالم ‪ ،‬فإن كان لم يظلم أحدا جاز إلى الجنة ‪ ،‬وإن كان‬
‫عز وجل فيه بما‬ ‫ّللا ه‬
‫صر في واحدة منهن حبس على كل جسر منها ألف سنة حتى يقضي ه‬ ‫ق ه‬
‫يشاء ‪ ،‬واعلم أن القيامة أمر محقق موجود حسي مثل ما هو اإلنسان في الدنيا ‪ ،‬والحشر‬
‫المحسوس في األجسام المحسوسة والميزان المحسوس والصراط المحسوس والنار والجنة‬
‫المحسوستين ‪ ،‬كل ذلك حق وأعظم في القدرة ‪ ،‬فإذا قام الناس ‪ ،‬ومدت األرض ‪ ،‬وانشقت‬
‫السماء ‪ ،‬وانكدرت النجوم ‪ ،‬وكورت‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪\:‬‬


‫ّللا ت ُ ْر َج ُع ْاأل ُ ُم ُ‬
‫ور (»‬ ‫ي ْاأل َ ْم ُر " بين الفريقين فريق في الجنة وفريق في السعير« َوإِلَى َّ ِ‬ ‫" َوقُ ِ‬
‫ض َ‬
‫) ‪212‬‬

‫ص ‪313‬‬

‫ص ‪317 :‬‬
‫الشمس ‪ ،‬وخسف القمر ‪ ،‬وحشرت الوحوش ‪ ،‬وسجرت البحار ‪ ،‬وزوجت النفوس بأبدانها ‪،‬‬
‫ونزلت المالئكة على أرجائها ‪ ،‬أعني أرجاء السماوات ‪ ،‬وأتى ربنا في ظلل من الغمام ‪،‬‬
‫ونادى المنادي ‪ :‬يا أهل السعادة ‪ ،‬فأخذ منهم الثالث الطوائف الذين ذكرناهم ‪ ،‬وخرج العنق‬
‫من النار فقبض الثالث الطوائف التي ذكرناهم ‪ ،‬وماج الناس ‪ ،‬واشتد الحر ‪ ،‬وألجم الناس‬
‫العرق ‪ ،‬وعظم الخطب ‪ ،‬وجل األمر ‪ ،‬وكان البهت فال تسمع إال همسا ‪ ،‬وجيء بجهنم ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫وطال الوقوف بالناس ولم يعلموا ما يريد الحق بهم ‪ ،‬فقال رسول ه‬
‫ّللا لنا أن يريحنا مما‬
‫فيقول الناس بعضهم لبعض ‪ ،‬تعالوا ننطلق إلى أبينا آدم فنسأله أن يسأل ه‬
‫ّللا قد غضب‬ ‫نحن فيه فقد طال وقوفنا ‪ ،‬فيأتون إلى آدم ‪ ،‬فيطلبون منه ذلك ‪ ،‬فيقول آدم ‪ :‬إن ه‬
‫اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ‪ ،‬ولن يغضب بعده مثله ‪ ،‬وذكر خطيئته ‪ ،‬فيستحي من ربه أن‬
‫يسأله ‪ ،‬فيأتون إلى نوح بمثل ذلك ‪ ،‬فيقول لهم مثل ما قال آدم ‪ ،‬ويذكر دعوته على قومه وقوله‬
‫وال يلدوا إال فاجرا كفارا ‪ ،‬ثم يأتون إلى إبراهيم عليه السالم بمثل ذلك ‪ ،‬فيقولون له مثل‬
‫مقالتهم لمن تقدم ‪ ،‬فيقول كما قال من تقدم ‪ ،‬ويذكر كذباته الثالث ‪ ،‬ثم يأتون إلى موسى‬
‫وعيسى ويقولون لكل واحد من الرسل مثل ما قالوه آلدم ‪ ،‬فيجيبونهم مثل جواب آدم ‪ ،‬فيأتون‬
‫ّللا عليه وسلم وهو سيد الناس يوم القيامة ‪ ،‬فيقولون له مثل ما قالوا لألنبياء ‪،‬‬‫إلى محمد صلهى ه‬
‫ّللا به يوم القيامة ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أنا لها ‪ ،‬وهو المقام المحمود الذي وعده ه‬‫فيقول محمد صلهى ه‬
‫ّللا تعالى إياها في ذلك الوقت ‪ ،‬لم يكن يعلمها قبل ذلك ‪،‬‬ ‫ّللا بمحامد يلهمه ه‬
‫فيأتي ويسجد ويحمد ه‬
‫ّللا ذلك الباب ‪ ،‬فيأذن في الشفاعة‬
‫ثم يشفع إلى ربه أن يفتح باب الشفاعة للخلق ‪ ،‬فيفتح ه‬
‫ّللا‬
‫للمالئكة والرسل واألنبياء والمؤمنين ‪ ،‬فبهذا يكون سيد الناس يوم القيامة ‪ ،‬فإنه شفع عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم وقال ‪ :‬أنا سيد الناس ‪ ،‬ولم يقل‬‫أن تشفع المالئكة والرسل ‪ ،‬ومع هذا تأدب صلهى ه‬
‫سيد الخلق فتدخل المالئكة في ذلك ‪ ،‬مع ظهور سلطانه في ذلك اليوم على الجميع ‪ ،‬وذلك أنه‬
‫ّللا عليه وسلم جمع له بين مقامات األنبياء عليهم السالم كلهم ‪ ،‬ولم يكن ظهر له على‬ ‫صلهى ه‬
‫المالئكة ما ظهر آلدم عليه السالم من اختصاصه بعلم األسماء كلها ‪ ،‬فإذا كان في ذلك اليوم ‪،‬‬
‫افتقر الجميع من المالئكة والناس من آدم فمن دونه في فتح باب الشفاعة وإظهار ما له من‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ كان القهر اإللهي والجبروت األعظم قد أخرس الجميع ‪ ،‬وكان هذا المقام‬ ‫الجاه عند ه‬
‫مثل مقام آدم عليه السالم وأعظم ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫س ْل بَنِي ِإسْرائِي َل َك ْم آتَيْنا ُه ْم ِم ْن آيَ ٍة بَ ِيهنَ ٍة » ‪.‬يقول ه‬
‫ّللا لنبيه ‪ :‬سل بني إسرائيل كم ‪ ،‬وإن كانت‬ ‫« َ‬

‫ص ‪314‬‬

‫ص ‪318 :‬‬
‫في يوم اشتدت الحاجة فيه ‪ ،‬مع ما ذكر من الغضب اإللهي الذي تجلى فيه الحق في ذلك اليوم‬
‫‪ ،‬ولم تظهر مثل هذه الصفة فيما جرى من قضية آدم ‪ ،‬فدل بالمجموع على عظيم قدره صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬حيث أقدم مع هذه الصفة الغضبية اإللهية على مناجاة الحق فيما سأل فيه ‪،‬‬ ‫ه‬
‫فأجابه الحق سبحانه ‪ ،‬وعلقت الموازين ‪ ،‬ونشرت الصحف ‪ ،‬ونصب الصراط ‪ ،‬وبدئ‬
‫بالشفاعة ‪ ،‬فأول ما شفعت المالئكة ‪ ،‬ثم النبيون ‪ ،‬ثم المؤمنون ‪ ،‬وبقي أرحم الراحمين ‪ ،‬وهنا‬
‫تفصيل عظيم يطول الكالم فيه ‪ ،‬فإنه مقام عظيم ‪ ،‬غير أن الحق يتجلى في ذلك اليوم فيقول ‪:‬‬
‫لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ‪ ،‬حتى تبقى هذه األمة وفيها منافقوها ‪ ،‬فيتجلى لهم الحق في أدنى‬
‫باّلل‬
‫صورة من الصور التي كان تجلى لهم فيها قبل ذلك ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أنا ربكم ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬نعوذ ه‬
‫منك ‪ ،‬ها نحن منتظرون حتى يأتينا ربنا ‪ ،‬فيقول لهم جل وتعالى ‪ :‬هل بينكم وبينه عالمة‬
‫تعرفونه بها ؟ فيقولون ‪:‬نعم ‪ ،‬فيتحول لهم في الصورة التي عرفوه فيها بتلك العالمة ‪،‬‬
‫فيقولون ‪:‬‬
‫أنت ربنا ‪ ،‬فيأمرهم بالسجود ‪ ،‬فال يبقى من كان يسجد هّلل إال سجد ‪ ،‬ومن كان يسجد اتقاء‬
‫ّللا ظهره طبقة نحاس ‪ ،‬كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ‪ ،‬وذلك قوله ‪ ( :‬يَ ْو َم‬ ‫ورياء جعل ه‬
‫ْصار ُه ْم ت َ ْر َهقُ ُه ْم ذِلَّةٌ َوقَ ْد كانُوا‬
‫س ُجو ِد فَال يَ ْست َ ِطيعُونَ خا ِشعَةا أَب ُ‬
‫ع ْونَ ِإلَى ال ُّ‬ ‫ع ْن سا ٍ‬
‫ق َويُ ْد َ‬ ‫َف َ‬ ‫يُ ْكش ُ‬
‫س ُجو ِد َو ُه ْم سا ِل ُمونَ )يعني في الدنيا ‪ ،‬والساق التي كشفت لهم عبارة عن أمر‬ ‫ع ْونَ ِإلَى ال ُّ‬
‫يُ ْد َ‬
‫عظيم من أهوال يوم القيامة ‪ ،‬فإذا وقعت الشفاعة ولم يبق في النار مؤمن شرعي أصال ‪ ،‬وال‬
‫من عمل عمال مشروعا من حيث ما هو مشروع بلسان نبي ‪ ،‬ولو كان مثقال حبة من خردل‬
‫فما فوق ذلك في الصغر إال خرج بشفاعة النبيين والمؤمنين ‪ ،‬وبقي أهل التوحيد الذين علموا‬
‫باّلل شيئا ‪ ،‬وال آمنوا إيمانا شرعيا ‪ ،‬ولم يعملوا خيرا قط من‬ ‫التوحيد باألدلة العقلية ولم يشركوا ه‬
‫حيث ما اتبعوا فيه نبيا من األنبياء ‪ ،‬فلم يكن عندهم ذرة من إيمان فما دونها ‪ ،‬فيخرجهم أرحم‬
‫الراحمين وما عملوا خيرا قط ‪ ،‬يعني مشروعا من حيث ما هو مشروع ‪ ،‬وال خير أعظم من‬
‫اإليمان وما عملوه ‪ ،‬وهذا حديث عثمان بن عفان في صحيح مسلم بن الحجاج ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫ّللا دخل‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬من مات وهو يعلم ‪ -‬ولم يقل يؤمن ‪ -‬أنه ال إله إال ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا في النار ‪ ،‬فإن النار بذاتها‬ ‫الجنة ‪ ،‬وال قال يقول ‪ ،‬بل أفرد العلم ‪ ،‬ففي هؤالء تسبق عناية ه‬
‫ال تقبل تخليد موحد هّلل بأي وجه كان ‪ -‬إشارة ‪ -‬قرأ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫س ْل »يطلبها ‪ ،‬والسؤال‬
‫تحتمل أن تكون خبرية ولكن االستفهام فيها أظهر ‪ ،‬فإن قوله ‪َ «:‬‬

‫ص ‪315‬‬

‫ص ‪319 :‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ( :‬خلق ه‬ ‫ّللاُ فِي »إشارة إلى قوله صلهى ه‬ ‫ظ ُرونَ ِإ َّال أ َ ْن يَأْتِيَ ُه ُم َّ‬ ‫بعضهم «ه َْل يَ ْن ُ‬
‫ّللا ) ‪ [.‬سورة‬ ‫ّللا ‪ ( :‬إذا رأوا ذكر ه‬ ‫ّللا عليه وسلم عن أولياء ه‬ ‫آدم على صورته ) وقوله صلهى ه‬
‫البقرة ( ‪ ) : 2‬آية ‪] 211‬‬
‫شدِي ُد‬
‫ّللا َ‬‫ّللا ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْهُ فَإِ َّن َّ َ‬ ‫س ْل بَ ِني ِإسْرا ِئي َل َك ْم آتَيْنا ُه ْم ِم ْن آيَ ٍة بَ ِيهنَ ٍة َو َم ْن يُبَ هد ِْل ِن ْع َمةَ َّ ِ‬
‫َ‬
‫شرنا به من عموم مغفرته« ِم ْن بَ ْع ِد ما‬ ‫ّللا »وهي ما ب ه‬ ‫ب ( ‪َ «) 211‬و َم ْن يُبَ هد ِْل نِ ْع َمةَ َّ ِ‬ ‫ْال ِعقا ِ‬
‫شدِي ُد‬ ‫جا َءتْهُ »فمن هنا وإن كانت شرطا ففيها رائحة االستفهام ‪ ،‬وقال في الجواب ‪ «:‬أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو كما قال شديد العقاب في حال العقوبة ‪،‬‬ ‫ّللا يعاقب من بدل نعمة ه‬ ‫ب »ولم يقل فإن ه‬ ‫ْال ِعقا ِ‬
‫ّللا بما هو خير منها بحسب‬ ‫ّللا من بعد ما جاءته ‪ ،‬فيبدل نعمة ه‬ ‫فما ثم من يقدر يبدل نعمة ه‬
‫ّللا )وهي أعيان العالم ‪ ،‬وإنما التبديل هّلل‬ ‫الوقت ‪ ،‬فإن الحكم له ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬ال ت َ ْبدِي َل ِل َك ِلما ِ‬
‫ت َّ ِ‬
‫ّللا من بعد ما جاءته إنه شديد العقاب ‪ ،‬أي يسرع تعالى إلى من‬ ‫ال لهم ‪ ،‬فقوله فيمن بدل نعمة ه‬
‫عز وجل ليس له ‪ ،‬فيعرفه أنه بيده‬ ‫هذه صفته بالعقاب ‪ ،‬وهو أن يعقبه فيما بدله أن التبديل هّلل ه‬
‫ّللا ما قرن بهذا العقاب ألما ‪ ،‬ومتى لم يقرن األلم بعذاب أو عقاب فله‬ ‫ملكوت كل شيء ‪ ،‬فإن ه‬
‫محمل في عين األمر المؤلم ‪ ،‬فإنه ال يخاف إال من األلم ‪ ،‬وال يرغب إال في االلتذاذ خاصة ‪،‬‬
‫هذا يقتضيه الطبع الذي وجد عليه من يقبل األلم واللذة ‪ [.‬سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪] 212‬‬
‫ُز ِيهنَ ِللَّذِينَ َكفَ ُروا ْال َحياة ُ ال ُّد ْنيا َويَ ْسخ َُرونَ ِمنَ الَّذِينَ آ َمنُوا َوالَّذِينَ اتَّقَ ْوا فَ ْوقَ ُه ْم يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة َو َّ‬
‫ّللاُ‬
‫ب ) ‪( 212‬‬ ‫يَ ْر ُز ُق َم ْن يَشا ُء ِبغَي ِْر ِحسا ٍ‬
‫عليه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫استفهام ‪ ،‬وهو استفهام تقرير ‪ ،‬يقول ‪ :‬سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيات النعم ‪ ،‬وقد‬
‫ذكرناها فيما تقدم ‪ ،‬من تظليل الغمام وإهالك عدوهم وغير ذلك ‪ ،‬فإذا أخبروك بما أنعمت‬
‫عليهم ‪ ،‬وأقروا عندك بذلك واعترفوا فقل لهم ‪َ «:‬و َم ْن يُبَ هد ِْل نِ ْع َمةَ َّ ِ‬
‫ّللا ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْهُ »أي‬
‫ب »على ذلك ‪ ،‬ووجه‬ ‫ش ِدي ُد ْال ِعقا ِ‬ ‫ّللا الشكر عليها ‪ ،‬فمن بدله بكفرها« فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫من حق نعمة ه‬
‫آخر« َك ْم آتَيْنا ُه ْم ِم ْن آيَ ٍة بَ ِيهنَ ٍة »على صدقك في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم ‪ ،‬وهي نعمة مني‬
‫عليهم ‪ ،‬حيث‬

‫ص ‪316‬‬

‫ص ‪320 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪] 213‬‬
‫ق ِليَحْ ُك َم‬ ‫ين َوأ َ ْن َز َل َمعَ ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫تاب ِبا ْل َح ه ِ‬ ‫ين َو ُم ْنذ ِِر َ‬ ‫ش ِر َ‬ ‫ّللاُ النه ِب ِيه َ‬
‫ين ُمبَ ِ ه‬ ‫ث ه‬ ‫اس أ ُ همةً ِ‬
‫واح َدةً فَبَعَ َ‬ ‫كان النه ُ‬ ‫َ‬
‫ِين أُوتُوهُ ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْ ُه ُم ا ْلبَ ِيهناتُ بَ ْغيا ً‬ ‫ف فِي ِه ِإاله الهذ َ‬ ‫اختَلَ َ‬‫اختَلَفُوا فِي ِه َو َما ْ‬ ‫اس فِي َما ْ‬ ‫بَ ْي َن النه ِ‬
‫ّللاُ يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء ِإلى ِص ٍ‬
‫راط‬ ‫ق ِب ِإ ْذ ِن ِه َو ه‬
‫اختَلَفُوا ِفي ِه ِم َن ا ْل َح ه ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا ِل َما ْ‬‫ّللاُ الهذ َ‬ ‫بَ ْينَ ُه ْم فَ َهدَى ه‬
‫يم ) ‪( 213‬‬ ‫ست َ ِق ٍ‬ ‫ُم ْ‬
‫ش ِرينَ َو ُم ْنذ ِِرينَ »بشارة األنبياء متعلقة بالعمل المشروع ‪ ،‬وهو أنه‬ ‫ّللاُ النَّبِ ِيهينَ ُمبَ ِ ه‬
‫ث َّ‬‫‪". . .‬فَبَعَ َ‬
‫ّللا من النار بعمل كذا ‪ ،‬هذا ال يكون إال‬ ‫من عمل كذا كان له كذا في الجنة ‪ ،‬أو نجاه ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْهُ »أي من بعد ما‬ ‫أقمت لهم البينات على طريق هداهم ‪َ «،‬و َم ْن يُبَ هد ِْل نِ ْع َمةَ َّ ِ‬
‫ّللا يعاقبهم على ذلك أشد‬ ‫عقَلُوهُ )فإن ه‬
‫علمها وتحققها ‪ ،‬مثل قوله ‪ ( :‬ث ُ َّم يُ َح ِ هرفُونَهُ ِم ْن بَ ْع ِد ما َ‬
‫س ْل بَنِي ِإسْرائِي َل »ثم يخبره سبحانه‬ ‫العقوبة ‪ ،‬وإذا كانت« َك ْم »خبرية ‪ ،‬يقول ‪ :‬يا محمد« َ‬
‫فيقول له ‪َ «:‬ك ْم آتَيْنا ُه ْم »يا محمد ‪ ،‬أي أعطيناهم« ِم ْن آيَ ٍة بَ ِيهنَ ٍة »فإنك إذا سألتهم يقولون ذلك‬
‫مثل ما أخبرتك ‪ ،‬ويكون قوله ‪َ «:‬و َم ْن يُبَ هد ِْل »إخبارا لمحمد عليه السالم أن األمر في كل من‬
‫ّللا ( ‪«) 213‬‬ ‫ّللا كذا ‪ ،‬أو يكون على جهة أن يعرفهم بذلك إذا سألهم واعترفوا بنعم ه‬ ‫بدل نعمة ه‬
‫ّللا تعالى قال تعالى ‪ ( :‬زَ يَّنَّا لَ ُه ْم أَعْمالَ ُه ْم )تنبيه أن‬ ‫ُز ِيهنَ ِللَّذِينَ َكفَ ُروا ْال َحياة ُ ال ُّد ْنيا »ال فاعل إال ه‬
‫يعتقد ذلك وأنه من قضائه وقدره ‪ ،‬إذ كل شيء بيده ‪ ،‬ثم قال ‪ ( :‬زين لهم الشيطان أعمالهم )‬
‫ّللا تعالى تنزيها لجنابه ‪،‬‬ ‫تنبيه على األدب ‪ ،‬ويضاف إلى الشيطان إذ جرى عليه لسان الذم من ه‬
‫ّللا ليثبت في قلبه اعتقاد كل‬ ‫وذلك بحسب المخاطبين فإن كان في العقد خلل أضيف التزيين إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وإن كان [ العقد ] سالما أضاف مثل ذلك إلى الشيطان أو‬ ‫شيء بيده ‪ ،‬والخير والشر من ه‬
‫إلى نفسه ‪ ،‬ثم جعل مرتبة ثالثة في ذلك ‪ ،‬فبنى منه فعل ما لم يسم فاعله فقال ‪ ( :‬أ َ فَ َم ْن ُز ِيهنَ لَهُ‬
‫سنا ا )وقال ‪ُ «:‬ز ِيهنَ ِللَّذِينَ َكفَ ُروا ْال َحياة ُ ال ُّد ْنيا »ولم يذكر من زينها لهم ‪ ،‬فهي‬ ‫ع َم ِل ِه فَ َرآهُ َح َ‬
‫سو ُء َ‬ ‫ُ‬
‫حالة وسط بين العقد واألدب ‪ ،‬فإذا لم يترجح عند المتكلم أحد الجانبين قال بهذه الصفة ‪ ،‬لقرينة‬
‫الحال ‪ ،‬حيث يجمع المجلس المخاطبين الوجهين معا ‪ ،‬فال يكون إنكار ‪ ،‬فإن كل واحد يأخذه‬
‫على حاله في الوقت ‪ ،‬فقال ‪ُ «:‬ز ِيهنَ ِللَّذِينَ َكفَ ُروا ْال َحياة ُ ال ُّد ْنيا »أي نعيم الدنيا ‪ ،‬وطلبوا المثابرة‬
‫عليه ‪ ،‬فإنه من حسن عنده شيء رغب في تحصيله والتكثر منه ‪ ،‬وسفهه غيره في ترك طلبه‬
‫إياه ‪ ،‬فإذا رأى من يزهد فيما‬

‫ص ‪317‬‬

‫ص ‪321 :‬‬
‫ّللاُ الَّذِينَ آ َمنُوا‬
‫ّللا تعالى وأوامره ‪ ،‬أما قوله تعالى «‪ :‬فَ َه َدى َّ‬
‫للرسل ‪ ،‬وكذلك اإلنذار في مخالفة ه‬
‫ّللا اصطفى من كل جنس نوعا ‪ ،‬ومن كل نوع‬ ‫اختَلَفُوا فِي ِه ِمنَ ْال َح ه ِ‬
‫ق ِبإِ ْذنِ ِه »اعلم أن ه‬ ‫ِل َما ْ‬
‫ّللا من أيام‬ ‫شخصا ‪ ،‬واختاره عناية منه بذلك المختار ‪ ،‬أو عناية بالغير بسببه ‪ ،‬فاختص ه‬
‫األسبوع يوم العروبة ‪ ،‬وهو يوم الجمعة ‪ ،‬وعرف األمم أن هّلل يوما اختصه من هذه السبعة‬
‫ّللا في العلم به الجتهادهم ‪،‬‬ ‫ّللا شرف هذا اليوم لألمم ولم يعينه ‪ ،‬وكلهم ه‬ ‫األيام ‪ ،‬ولما ذكر ه‬
‫وّللا أعلم هو يوم األحد ‪ ،‬فاتخذوه عيدا ‪،‬‬ ‫فاختلفوا فيه ‪ ،‬فقالت النصارى ‪:‬أفضل األيام ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫استحسنه بما زين له سخر منه ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬ويَ ْسخ َُرونَ ِمنَ الَّذِينَ آ َمنُوا »حيث يعيبون‬
‫عليهم ما هم فيه من نعيم الدنيا ‪ ،‬فيقولون ‪ [ :‬ال عقل لهم ] مستهزءين بهم ‪ ،‬فقال تعالى ‪«:‬‬
‫َوالَّذِينَ اتَّقَ ْوا فَ ْوقَ ُه ْم يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة »ففيه تحريض للمؤمن على التقوى ‪ ،‬حتى ال يشاركونهم يوم‬
‫القيامة في شيء من النار ‪ ،‬فلو قال ‪ [ :‬والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة ] لكان الكافر إذا رأى‬
‫المؤمنين الذين أوبقتهم الذنوب حتى أوردتهم النار إلى أن يشفع فيهم فيخرجون ‪ ،‬لم يكن‬
‫يصدق عندهم قوله ‪ [ :‬والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة ] فذكر المتقين الذين يحشرون يوم‬
‫ّللا في صفة المتقي ‪ ،‬إذ ال طريق له إلى‬ ‫القيامة إلى الرحمن وفدا ‪ ،‬فيعلمون عند ذلك صدق ه‬
‫ب »أي هذا المتقي أيضا قد يكون له حظ‬ ‫ّللاُ يَ ْر ُز ُق َم ْن يَشا ُء بِغَي ِْر ِحسا ٍ‬ ‫النار ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َّ‬
‫ّللا‬
‫ّللا به على محمد صلى ه‬ ‫عظيم من الدنيا ‪ ،‬وال سيما كملك سليمان ويوسف وداود وما فتح ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫عليهم أجمعين ‪ ،‬وال أحاسبهم عليها ‪ ،‬كما ورد في الحديث أن من أمة محمد صلهى ه‬
‫وسلم سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ‪ ،‬ومن فسره على التقدير ‪ ،‬أي بغير تقدير ‪ ،‬فليس‬
‫ض ‪َ ،‬ول ِك ْن يُن ِ هَز ُل ِبقَ َد ٍر ما‬‫الر ْزقَ ِل ِعبا ِد ِه لَبَغ َْوا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللاُ ِ ه‬
‫ط َّ‬‫س َ‬‫ّللا يقول ‪َ ( :‬ولَ ْو بَ َ‬ ‫بشيء ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا عن‬‫وم )وال تقتضي األلوهية أن تكون األمور جزافا ‪ ،‬تعالى ه‬ ‫يَشا ُء )( َوما نُن ِ هَزلُهُ إِ َّال بِقَ َد ٍر َم ْعلُ ٍ‬
‫ب »وإن قلنا معناه بغير تقدير ‪ ،‬فيكون عند‬ ‫ّللاُ يَ ْر ُز ُق َم ْن يَشا ُء بِغَي ِْر ِحسا ٍ‬ ‫ذلك ‪ ،‬فهذا معنى« َو َّ‬
‫ّللا ‪ :‬هذا الرزق معلوم القدر عندنا ‪ ،‬فما أعلمنا المرزوق بذلك ‪،‬‬ ‫المرزوق ‪ ،‬وإن كان يقول ه‬
‫واح َدة ا »كان‬ ‫اس أ ُ َّمةا ِ‬ ‫فمعناه بغير تقدير عنده ‪ ،‬واألول أولى وأمدح بالمتقي ( ‪ «) 214‬كانَ النَّ ُ‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم اختلفوا بعد‬ ‫حرف وجودي ‪ ،‬يقول إن الناس أوجدهم على الفطرة وكلهم أقروا بوجود ه‬
‫ذلك بحسب ما ظهر لكل واحد منهم عندما بحث وفكر في معرفة من استند إليه في وجوده ‪،‬‬
‫فاختلفت الفرق في ذلك ‪ ،‬وكل ذهب إلى ما أفضاه نظره ‪ ،‬فمنهم المصيب ومنهم المخطئ«‬
‫ش ِرينَ »لمن أصاب الحق في نظره « َو ُم ْنذ ِِرينَ »من أخطأ أن‬ ‫ّللاُ النَّبِ ِيهينَ »بالكتب« ُمبَ ِ ه‬ ‫فَبَعَ َ‬
‫ث َّ‬
‫يرجع إلى الصواب ‪ ،‬وعينت األنبياء لهم ذلك « َوأ َ ْنزَ َل َمعَ ُه ُم »الكتب‬

‫ص ‪318‬‬

‫ص ‪322 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ولم يقل لهم نبيهم في ذلك شيئا ‪ ،‬وال علم لنا هل أعلم‬ ‫وقالت ‪:‬هذا هو اليوم الذي أراده ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا نبيهم بذلك أم ال ‪ ،‬فإنه ما ورد بذلك خبر ‪ ،‬وقالت اليهود ‪ :‬بل ذلك اليوم السبت ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ه‬
‫فرغ من الخلق يوم العروبة واستراح يوم السبت ‪ ،‬واستلقى على ظهره ووضع إحدى رجليه‬
‫ّللا تعالى في مقابلة هذا الكالم وأمثاله ‪َ ( :‬وما قَ َد ُروا َّ‬
‫ّللاَ َح َّق‬ ‫على األخرى وقال أنا الملك ‪ ،‬قال ه‬
‫ّللا بأنه أفضل أيام األسبوع ‪ ،‬فاختلفت‬ ‫قَ ْد ِر ِه ) *فقالت اليهود ‪ :‬يوم السبت هو اليوم الذي أراده ه‬
‫ّللا عليه وسلم بيوم‬ ‫اليهود والنصارى ‪ ،‬وجاءت هذه األمة ‪ ،‬فجاء جبريل إلى محمد صلهى ه‬
‫الجمعة في صورة مرآة مجلوة فيها نكتة ‪ ،‬فقال له ‪ :‬هذا يوم الجمعة ‪ ،‬وهذه النكتة ساعة فيه ال‬
‫اختَلَفُوا فِي ِه ِمنَ ْال َح ه ِ‬
‫ق‬ ‫ّللاُ الَّذِينَ آ َمنُوا ِل َما ْ‬
‫ّللا له« فَ َه َدى َّ‬
‫يوافقها عبد مسلم وهو يصلي إال غفر ه‬
‫ّللا لما اختلفت فيه أهل الكتاب ‪ ،‬وأضاف‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬فهدانا ه‬‫ِبإِ ْذنِ ِه »فقال النبي صلهى ه‬
‫ّللا فيه هذه النشأة اإلنسانية التي خلق‬ ‫ّللا ‪ ،‬وسبب فضله أنه اليوم الذي خلق ه‬ ‫الهداية إلى ه‬
‫المخلوقات من يوم األحد إلى يوم الخميس من أجلها ‪ ،‬فال بد أن يكون أفضل األوقات ‪ ،‬وال‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذه الساعة في يوم الجمعة كليلة القدر في السنة سواء‬ ‫تعرف الساعة التي فيه إال بإعالم ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫ّللا ألحد إال لمحمد صلهى ه‬ ‫‪ ،‬فيوم الجمعة خير يوم طلعت فيه الشمس ‪ ،‬فما بيهنه ه‬
‫لمناسبته الكمالية ‪ ،‬فإنه أكمل األنبياء ‪ ،‬ونحن أكمل األمم ‪ ،‬وسائر األمم وأنبيائها ما أبان الحق‬
‫لهم عنه ‪ .‬ألنهم لم يكونوا من المستعدين له ‪ ،‬لكونهم دون درجة الكمال ‪ ،‬أنبياؤهم دون محمد‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وأممهم دوننا في الكمال ‪ ،‬فيوم الجمعة هو آخر أيام الخلق وفيه خلق من‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا على صورته وهو آدم ‪ ،‬فبه ظهر كمال إتمام الخلق وغايته ‪ ،‬وبه ظهر أكمل‬ ‫خلقه ه‬
‫المخلوقات وهو اإلنسان وهو آخر المولدات ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا بينهم في ذلك ‪ ،‬ثم إنهم اختلفوا في‬
‫ليحكموا بها بين الناس فيما اختلفوا فيه ‪ ،‬فيكون الحاكم ه‬
‫الكتاب خالفا آخر ‪ ،‬فمنهم من صدق به ومنهم من كذب به جهال ‪ ،‬ومنهم من كذب به بغيا‬
‫وحسدا كيف أنزل على شخص منهم بعينه دون غيره ‪ ،‬وهم مشتركون في الجنس اإلنساني ‪،‬‬
‫والذين صدقوا به اختلفوا فيما يتضمنه ‪ ،‬فمنهم من آمن به كله ‪ ،‬ومنهم من آمن ببعضه وكفر‬
‫ببعضه ‪ ،‬وانقسم هذا المخلط قسمين ‪ :‬منهم من كفر ببعضه جهال بمعناه وقلة فهم ‪ ،‬ومنهم من‬
‫كفر ببعضه بغيا وحسدا كما قلنا ‪ ،‬مثل كفرهم بما جاء في التوراة من ذكر القرآن ونبوة محمد‬
‫وملة إبراهيم ‪ ،‬والذين آمنوا على قسمين ‪ :‬منهم من اجتهد فأخطأ في بعض المسائل كيوم‬
‫ّللا عليهم كما فرضه علينا ‪ ،‬فقالت اليهود السبت وقالت النصارى األحد ‪،‬‬ ‫الجمعة الذي فرضه ه‬
‫ّللا المؤمنين لما اختلفوا‬
‫وهدى ه‬

‫ص ‪319‬‬

‫ص ‪323 :‬‬
‫ّللا على هذا اليوم اسما على ألسنة العرب في الجاهلية وهو لفظ العروبة ‪ ،‬أي هو يوم‬ ‫وأطلق ه‬
‫الحسن والزينة ‪ ،‬فلم يكن في األيام أكمل من يوم الجمعة ‪ ،‬فإن فيه ظهرت حكمة االقتدار بخلق‬
‫اإلنسان فيه ‪ ،‬فلما كان أكمل األيام وخلق فيه أكمل الموجودات خصه بالساعة التي ليست لغيره‬
‫من األيام ‪ ،‬والزمان كله ليس سوى هذه األيام ‪ ،‬فلم تحصل هذه الساعة لشيء من الزمان إال‬
‫ليوم الجمعة ‪ ،‬وكان خلق اإلنسان في الساعة المذكورة المخصصة من يوم الجمعة ‪ ،‬فإنها‬
‫أشرف ساعاته ‪ ،‬فالحمد هّلل الذي اصطفانا وهدانا إلى يوم الجمعة وخصنا بساعته ‪ ،‬فإنه من‬
‫ّللا إليها هذه األمة خاصة ‪ ،‬فإنه اليوم الذي اختلفوا فيه ‪ ،‬فيوم الجمعة‬
‫أعظم الهداية التي هدى ه‬
‫أشرف أيام األسبوع ‪ ،‬وشرفه ذاتي لعينه ‪ ،‬وال يفاضل بيوم عرفة وال غيره ‪ ،‬فإن فضل يوم‬
‫عرفة وعاشوراء ألمور عرضت ‪ ،‬إذا وجدت في أي يوم كان من أيام األسبوع كان الفضل‬
‫لذلك اليوم لهذه األحوال العوارض ‪ ،‬ولهذا شرع الغسل ‪ ،‬وهو فرض عندنا ليوم الجمعة ال‬
‫لنفس الصالة ‪ ،‬فإن اتفق أن يغتسل في ذلك اليوم لصالة الجمعة فال خالف أنه أفضل بال شك‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫باّلل ومالئكته وكتبه‬ ‫فيه من ذلك فأصبنا يوم الجمعة ‪ ،‬وأصبنا ملة إبراهيم وأصبنا اإليمان ه‬
‫واح َدة ا »أي‬ ‫اس أ ُ َّمةا ِ‬ ‫ورسله من غير أن يفرق بين أحد منهم ‪ ،‬فقال تعالى مخبرا «‪ :‬كانَ النَّ ُ‬
‫ش ِرينَ َو ُم ْنذ ِِرينَ »مرغبين ومخوفين « َوأ َ ْنزَ َل‬ ‫ّللاُ النَّبِ ِيهينَ ُمبَ ِ ه‬
‫ث َّ‬ ‫على أمر واحد فاختلفوا« فَبَعَ َ‬
‫اختَلَفُوا فِي ِه »ليبين‬ ‫اس فِي َما ْ‬ ‫ق ِليَ ْح ُك َم »الحق المنزل في الكتاب ‪ «.‬بَيْنَ النَّ ِ‬ ‫تاب بِ ْال َح ه ِ‬
‫َمعَ ُه ُم ْال ِك َ‬
‫الصواب عند من هو منهم من الخطأ ‪ ،‬ثم اختلف في الكتاب من أنزل إليهم من األمم ‪ ،‬فقال‬
‫ف فِي ِه ِإ َّال الَّذِينَ أُوتُوهُ ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْ ُه ُم ْالبَ ِيهناتُ »يقول ‪ :‬المعجزات والدالئل على‬ ‫اختَلَ َ‬
‫«‪َ :‬و َما ْ‬
‫ّللا« بَ ْغيا ا »حسدا« بَ ْينَ ُه ْم »كيف أنزل الكتاب على فالن ولم ينزل‬ ‫أن هذا الكتاب هو من عند ه‬
‫ع ِظ ٍيم )فذكر‬ ‫على َر ُج ٍل ِمنَ ْالقَ ْريَتَي ِْن َ‬ ‫آن َ‬‫على فالن ‪ ،‬كما قالوا في القرآن( لَ ْو ال نُ ِ هز َل هذَا ْالقُ ْر ُ‬
‫ّللاُ الَّذِينَ آ َمنُوا‬ ‫الطائفة التي علمت وجحدت ‪ ،‬والطائفة التي جاءها الدليل فلم تعقله« فَ َه َدى َّ‬
‫ق ِبإِ ْذنِ ِه »أي بإعالمه إيانا على لسان‬ ‫اختَلَفُوا فِي ِه ِمنَ ْال َح ه ِ‬‫»المؤمنين من أهل الكتاب ومنا« ِل َما ْ‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم »إلى‬ ‫ّللاُ يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء »منا ومنهم« ِإلى ِ‬ ‫ّللا عليه وسلم « َو َّ‬ ‫رسوله صلهى ه‬
‫ّللا ( ‪ «) 215‬أ َ ْم َح ِس ْبت ُ ْم أ َ ْن ت َ ْد ُخلُوا ْال َجنَّةَ‬ ‫الطريق الذي يهدي إلى الحق الذي فيه سعادتهم عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم والمؤمنين ‪ ،‬بما أصاب‬ ‫»نزلت لما أصيب المسلمون يوم أحد تعزية للنبي صلهى ه‬
‫األمم المؤمنين قبلهم من الشدة والبالء ‪ ،‬فقال لما ذكر أنهم‬

‫ص ‪320‬‬

‫ص ‪324 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 214‬إلى ‪216‬‬
‫ستْ ُه ُم ا ْلبَأْسا ُء َوال ه‬
‫ض هرا ُء‬ ‫ِين َخلَ ْوا ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم َم ه‬ ‫س ْبت ُ ْم أ َ ْن ت َ ْد ُخلُوا ا ْل َجنهةَ َولَ هما يَأْتِ ُك ْم َمث َ ُل الهذ َ‬
‫أ َ ْم َح ِ‬
‫يب ( ‪) 214‬‬ ‫ّللا قَ ِر ٌ‬ ‫ّللا أَال ِإ هن نَص َْر ه ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َمعَهُ َمتى نَص ُْر ه ِ‬ ‫سو ُل َوالهذ َ‬ ‫َو ُز ْل ِزلُوا َحتهى يَقُو َل ه‬
‫الر ُ‬
‫ين َوا ْب ِن‬ ‫ين َوا ْليَتامى َوا ْل َمسا ِك ِ‬ ‫ون قُ ْل ما أ َ ْنفَ ْقت ُ ْم ِم ْن َخ ْي ٍر فَ ِل ْلوا ِل َد ْي ِن َو ْاأل َ ْق َر ِب َ‬
‫سئَلُونَكَ ما ذا يُ ْن ِفقُ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫علَ ْي ُك ُم ا ْل ِقتا ُل َو ُه َو ك ُْرهٌ لَ ُك ْم َوعَسى‬ ‫ب َ‬ ‫ع ِلي ٌم ( ‪ُ ) 215‬كتِ َ‬ ‫سبِي ِل َوما ت َ ْفعَلُوا ِم ْن َخ ْي ٍر فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا بِ ِه َ‬ ‫ال ه‬
‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ون‬ ‫ش ْيئا ً َو ُه َو ش ٌَّر لَ ُك ْم َو ه‬ ‫ش ْيئا ً َو ُه َو َخ ْي ٌر لَ ُك ْم َوعَسى أ َ ْن ت ُ ِحبُّوا َ‬ ‫أ َ ْن ت َ ْك َر ُهوا َ‬
‫( ‪) 216‬‬
‫شيْئا ا »وهو ما ال يوافق الغرض ‪ ،‬فإن أكثر الناس يسأل نيل ما‬ ‫عسى أ َ ْن ت َ ْك َر ُهوا َ‬ ‫" َو َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫مهتدون إلى اإليمان« أ َ ْم َح ِس ْبت ُ ْم »لكونكم مؤمنين« أ َ ْن ت َ ْد ُخلُوا ْال َجنَّةَ »من غير ابتالء وامتحان«‬
‫ستْ ُه ُم »الضمير‬ ‫َولَ َّما يَأْتِ ُك ْم »يصبكم« َمث َ ُل الَّذِينَ َخلَ ْوا ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم »شبه الذين خلوا من األمم« َم َّ‬
‫يعود على الذين خلوا« ْالبَأْسا ُء »شدة القتل« َوالض ََّّرا ُء »ما يضرهم من البالء الواقع بهم من‬
‫األعداء« َو ُز ْل ِزلُوا »أي أرجفوا في قلوبهم بالمخاويف ‪ ،‬من قصد العدو ونكايتهم ومنازلتهم‬
‫سو ُل »المبعوث إليهم« َوالَّذِينَ آ َمنُوا َمعَهُ »لشدة ما‬ ‫فيشتد عليهم ذلك« َحتَّى »إلى أن« يَقُو َل َّ‬
‫الر ُ‬
‫ّللا الذي وعدنا من قوله( أ َ َّن‬ ‫ّللا »أي متى يأتي نصر ه‬ ‫ص ُر َّ ِ‬
‫مسهم من الضر واإلرجاف« َمتى نَ ْ‬
‫يب »إتيانه إليكم ‪ ،‬بشرى‬ ‫ّللا قَ ِر ٌ‬‫ص َر َّ ِ‬‫ّللا لهم« أَال ِإ َّن نَ ْ‬ ‫صا ِل ُحونَ )فقال ه‬
‫ِي ال َّ‬ ‫ْاأل َ ْر َ‬
‫ض يَ ِرثُها ِعباد َ‬
‫لهم وتسكين لما وقع في قلوبهم من الخوف أن تعلو [ ‪ ، ] . . .‬إذ المؤمن الحقيقي غائب عن‬
‫نفسه بإيثار جانب ربه في إعالء كلمته وإعزازها ‪ ،‬ولما كانت ال تعلو وال تظهر إال بظهور‬
‫المؤمنين وسالمتهم وقوتهم وبقائهم ‪ ،‬كان سؤالهم في حصول العافية لهم تبعا ‪ ،‬فأيقن الصحابة‬
‫عند ذلك ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة أنه سبحانه ال بد أن يبتلي عباده ‪ ،‬فإنه‬
‫اس أ َ ْن يُتْ َر ُكوا أ َ ْن يَقُولُوا آ َمنَّا َو ُه ْم ال يُ ْفتَنُونَ‬
‫ب النَّ ُ‬‫خبهر وخبره صدق ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬ألم أ َ َح ِس َ‬
‫)ومثل هذه اآليات ( ‪ )« 216‬يَ ْسئَلُون ََك ما ذا يُ ْن ِفقُونَ »اآلية ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬وأنفقوا ) فسألوا‬
‫ّللا تعالى «‪ :‬قُ ْل »يا محمد« ما أ َ ْنفَ ْقت ُ ْم ِم ْن‬ ‫ّللا عليه وسلم« ما ذا يُ ْن ِفقُونَ »فقال ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫َخي ٍْر »فبيهن أن النفقة من‬

‫ص ‪221‬‬

‫ص ‪325 :‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬ويقول ‪ :‬لعل ه‬ ‫ّللا له يكره العبد ذلك الترك من ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا لم يفعله ه‬ ‫له فيه غرض من ه‬
‫عسى أ َ ْن ت َ ْك َر ُهوا َ‬
‫شيْئا ا َو ُه َو‬ ‫جعل لي في ذلك خيرا من حيث ال أشعر ‪ ،‬وهو قوله تعالى «‪َ :‬و َ‬
‫شيْئا ا َو ُه َو ش ٌَّر لَ ُك ْم »ومن هنا يعلم فضل الحاصل على الفائت في‬ ‫عسى أ َ ْن ت ُ ِحبُّوا َ‬‫َخي ٌْر لَ ُك ْم َو َ‬
‫حقك إذا كان فيه سعادتك ‪ ،‬وال فضل للفائت على الحاصل إذا كان الفائت مطلوبك ولو حصل‬
‫لك أشقاك وأنت ال تعلم ‪ ،‬فكان الفضل فيه في حقك فوته ‪ ،‬فإن بفوته سعدت ‪ ،‬وهذا ال يكون‬
‫ّللا‪.‬‬
‫إال لمن أسعده ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫المال الذي هو الخير ‪ ،‬كما قال ‪ ( :‬إِ ْن ت َ َر َك َخيْرا ا )أي ماال ‪ ،‬ف » أعطوه « للوالدين‬
‫ين »الذين يسكنون‬ ‫واألقربين » أي صلوا به أرحامكم« َو ْاليَتامى »الذين ال مال لهم « َو ْال َمسا ِك ِ‬
‫سبِي ِل »يريد الضيف وتزويد المسافر الذي هو عابر سبيل‬ ‫إليكم لحاجتهم وإن لم يسألوا« َواب ِْن ال َّ‬
‫‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وما ت َ ْفعَلُوا ِم ْن َخي ٍْر »فالخير هنا كل معروف وكل عمل محمود شرعا« فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا ِب ِه‬
‫ع ِلي ٌم »باإلنفاق وبالخير الذي وقع‬ ‫ع ِلي ٌم »أي بقدره ومنزلته ‪ ،‬ليكون الجزاء مطابقا له ‪ ،‬يقول « َ‬ ‫َ‬
‫فيه الفعل ‪ ،‬وبالمنفق عليهم من األصناف ‪ ،‬فإنه لكل حال جزاء معين ‪ ،‬فلإلنفاق جزاء من‬
‫حيث ما هو إنفاق مأمور به وجوبا أو ندبا ‪ ،‬وللمنفق منه جزاء يخصه ‪ ،‬كما قال ‪ ( :‬لَ ْن تَنالُوا‬
‫ْالبِ َّر َحتَّى ت ُ ْن ِفقُوا ِم َّما ت ُ ِحبُّونَ )فكان ابن عمر يشتري السكر ويتصدق به ويقول إني أحبه ‪ ،‬وله‬
‫من جهة المنفق عليه جزاء مخصوص يفضل بعضه على بعض ‪ ،‬فليس اإلنفاق على ذوي‬
‫األرحام كغيرهم ‪ ،‬فإنها صدقة وصلة ‪ ،‬وصدقة الرجل على نفسه أفضل منها على زوجه ‪،‬‬
‫ونفقته على زوجه أفضل منها على ولده ‪ ،‬وعلى ولده أفضل منها على خادمه ‪ ،‬وعلى‬
‫الصالحين من المساكين أفضل منها على من ليس بصالح ‪ ،‬وفي هذه اآلية باب من أجاب بأكثر‬
‫مما سئل عنه ‪ ،‬كان السائل عمرو بن الجموح ‪ ،‬قيل نزلت قبل آية الزكاة ‪ ،‬وعلى أي وجه كان‬
‫علَ ْي ُك ُم ْال ِقتا ُل َو ُه َو ُك ْرهٌ لَ ُك ْم »اآلية ‪ ،‬أخبر تعالى في‬ ‫ب َ‬‫‪ ،‬فالمراد بها نفقة التطوع ( ‪ُ «) 217‬كتِ َ‬
‫هذه اآلية أنه أعلم بمصالح عباده ‪ ،‬وأنهم ال يعلمون ذلك ‪ ،‬وأنه ال يكلف عباده إال بما هو‬
‫األصلح لهم في سعادتهم ‪ ،‬وال يترك ما يترك من التكاليف إال كذلك ‪ ،‬لعلمه سبحانه بذلك‬
‫ّللا لهم ‪ ،‬خيرا إما‬ ‫ولطفه بعباده ‪ ،‬ففي هذه اآلية تحريض للمسلمين على الرضا بما يقضيه ه‬
‫علَ ْي ُك ُم ْال ِقتا ُل‬
‫ب َ‬‫عاجال وإما آجال ‪ ،‬فال ينبغي للمؤمن أن يكره شيئا من ذلك ‪ ،‬قال تعالى ‪ُ «:‬ك ِت َ‬
‫شيْئا ا »مما‬ ‫عسى أ َ ْن ت َ ْك َر ُهوا َ‬ ‫َو ُه َو ُك ْرهٌ لَ ُك ْم »أي أمر تكرهونه لما فيه من بذل المال والنفس« َو َ‬
‫ّللا مثل هذا إما عاجال فالغنيمة والتشفي من نكاية العدو ‪،‬‬ ‫كلفكم فعله« َو ُه َو َخي ٌْر لَ ُك ْم »عند ه‬
‫شيْئا ا »وهو ترك ما‬ ‫عسى أ َ ْن ت ُ ِحبُّوا َ‬
‫وإما آجال فاألجر وإن استشهد فأجر الشهادة« َو َ‬

‫ص ‪222‬‬

‫ص ‪326 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪217‬‬
‫س ِج ِد‬ ‫ّللا َو ُك ْف ٌر ِب ِه َوا ْل َم ْ‬ ‫ص ٌّد ع َْن َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ير َو َ‬ ‫رام قِتا ٍل فِي ِه قُ ْل قِتا ٌل فِي ِه َك ِب ٌ‬ ‫شه ِْر ا ْل َح ِ‬ ‫سئَلُونَكَ ع َِن ال ه‬ ‫يَ ْ‬
‫ون يُقاتِلُونَ ُك ْم َحتهى‬ ‫ّللا َوا ْل ِفتْنَةُ أ َ ْكبَ ُر ِم َن ا ْلقَتْ ِل َوال يَزالُ َ‬
‫ج أ َ ْه ِل ِه ِم ْنهُ أ َ ْكبَ ُر ِع ْن َد ه ِ‬ ‫ا ْل َح ِ‬
‫رام َو ِإ ْخرا ُ‬
‫ستَطاعُوا َو َم ْن يَ ْرت َ ِد ْد ِم ْن ُك ْم ع َْن دِي ِن ِه فَيَ ُمتْ َو ُه َو كا ِف ٌر فَأُول ِئكَ َح ِب َطتْ‬ ‫يَ ُردُّو ُك ْم ع َْن دِي ِن ُك ْم ِإ ِن ا ْ‬
‫ُون ( ‪) 217‬‬ ‫ْحاب النه ِار ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬ ‫أَعْمالُ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َوأُولئِكَ أَص ُ‬
‫عوا »فأضاف الدين إليهم« َو َم ْن يَ ْرت َ ِد ْد‬ ‫ع ْن دِينِ ُك ْم إِ ِن ا ْستَطا ُ‬ ‫" َحتَّى يَ ُردُّو ُك ْم »يعني في الفتنة« َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬من بدل دينه فاقتلوه ‪ ،‬فاختلف‬ ‫ت َو ُه َو كافِ ٌر »قال صلهى ه‬ ‫ع ْن دِينِ ِه فَيَ ُم ْ‬‫ِم ْن ُك ْم َ‬
‫الناس‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ‪ ،‬ومنه هذا إما عاجال فما ذكرناه وإما آجال فما ذكرناه«‬ ‫كلفكم فعله« َو ُه َو ش ٌَّر لَ ُك ْم »عند ه‬
‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم »ما في ذلك من الخير والشر « َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »وتتضمن هذه اآلية فرض القتال‬ ‫َو َّ‬
‫ب »أي فرض ‪ ،‬وقد وردت األوامر اإللهية بذلك ‪ ،‬فقال ‪ ( :‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا‬ ‫وهو قوله «‪ُ :‬كتِ َ‬
‫قاال )وقال ‪َ ( :‬وا ْقتُلُو ُه ْم َح ْي ُ‬
‫ث َو َج ْدت ُ ُمو ُه ْم‬ ‫ار )وقال ‪ ( :‬ا ْن ِف ُروا ِخفافا ا َو ِث ا‬ ‫قا ِتلُوا الَّذِينَ يَلُونَ ُك ْم ِمنَ ْال ُكفَّ ِ‬
‫علَ ْي ُك ُم »يعود على الرجال األحرار ‪ ،‬فإنه ال خالف في ذلك ‪ ،‬البالغين العقالء‬ ‫)والضمير في« َ‬
‫الرتفاع التكليف عن غير البالغ بحديث [ رفع القلم عن ثالث فذكر منهم الصبي والمجنون ] ‪،‬‬
‫علَى‬ ‫علَى ْال َم ْرضى َوال َ‬ ‫ضعَفا ِء َوال َ‬‫علَى ال ُّ‬ ‫ْس َ‬ ‫األصحاء الذين يجدون ما ينفقون لقوله ‪ ( :‬لَي َ‬
‫الَّذِينَ ال يَ ِجدُونَ ما يُ ْن ِفقُونَ َح َر ٌج ) ‪،‬الذين ال عذر لهم من حق يجب عليهم القيام به ‪ ،‬وهو من‬
‫فروض الكفاية ‪ ،‬إذا قام به من يقع به الغناء سقط عن الباقي ‪ ،‬لقوله ‪َ ( :‬وما كانَ ْال ُمؤْ ِمنُونَ‬
‫ّللا عليه وسلم ما خرج قط إلى غزو عدو إال وترك بعض‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ِليَ ْن ِف ُروا َكافَّةا )وأن رسول ه‬
‫الناس في المدينة ‪ ،‬ويتعلق بهذه اآلية أحكام كثيرة هي مذكورة في القرآن ‪ ،‬نتكلم عليها في‬
‫أماكنها ‪ ،‬مثل معرفة المحارب الذي أمرنا بقتاله ‪ ،‬ومعرفة ما يجوز من النكاية في صنف‬
‫صنف من أهل الحرب مما ال يجوز ‪ ،‬وشروط جواز الحرب والثبات ‪ ،‬والفرار فيه والمهادنة‬
‫‪ ،‬ولما ذا نحاربهم ‪ ،‬وما يتفرع على هذا من المسائل ‪ ،‬ولها مواضع في القرآن تأتي إن شاء‬
‫رام ِقتا ٍل ِفي ِه »اآلية ‪ ،‬سأل في ذلك من كان بمكة من‬ ‫ش ْه ِر ْال َح ِ‬ ‫ّللا ( ‪ «) 218‬يَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫ع ِن ال َّ‬ ‫ه‬
‫المسلمين غير المهاجرين قبل الفتح بسبب‬

‫ص ‪223‬‬

‫ص ‪327 :‬‬
‫في اليهودي إن تنصر ‪ ،‬والنصراني إن تهود ‪ ،‬هل يقتل أم ال ؟ ولم يختلفوا فيه إن أسلم ‪ ،‬فإنه‬
‫ّللا عليه وسلم ما جاء يدعو الناس إال إلى اإلسالم ‪ ،‬وجعل بعض العلماء أن هذا تبديل‬ ‫صلهى ه‬
‫مأمور به ‪ ،‬وما هو عندنا كذلك ‪ ،‬فإن النصراني وأهل الكتاب كلهم إذا أسلموا ما بدلوا دينهم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم والدخول في شرعه إذا أرسل وأن رسالته‬ ‫فإنه من دينهم اإليمان بمحمد صلهى ه‬
‫عامة ‪ ،‬فما بدل أحد من أهل الدين دينه إذا أسلم ‪ ،‬وما بقي إال المشرك ‪ ،‬فإن ذلك ليس بدين‬
‫وّللا ما قال إال« َم ْن يَ ْرت َ ِد ْد ِم ْن ُك ْم َ‬
‫ع ْن دِينِ ِه‬ ‫ّللا ‪ ،‬ه‬
‫مشروع وإنما هو أمر موضوع من عند غير ه‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ :‬من بدل دينه ‪ ،‬وإنما لم يسم الشرك دينا ألن الدين‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫»ورسول ه‬
‫الجزاء ‪ ،‬وال جزاء في الخير للمشرك على الشرك أصال ‪ ،‬ال فيما سلف وال فيما بقي ‪ ،‬فما‬
‫أراد بالدين إال الذي له جزاء في الخير والشر ‪ ،‬ما هو الدين الذي هو العادة ‪ ،‬فهو الدين‬
‫ع ْن دِي ِن ِه »األوجه أن يكون الضمير في الهاء هنا‬ ‫المشروع الذي العادة جزء منه ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬‬
‫يعود على ما هو عليه في ضمير المخاطب « ِم ْن ُك ْم »سواء ‪ ،‬وإن جاز أن يكون ضمير الهاء‬
‫ّللا ‪ ،‬لكن األصل في الضمائر كلها عودها على أقرب مذكور إذا عريت عن قرائن‬ ‫يعود على ه‬
‫األحوال‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا عليه وسلم إلى نخلة إلى المشركين ‪ ،‬فأصابوا منهم ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫طرأ ‪ ،‬من بعث بعثه رسول ه‬
‫وذلك في رجب وهو من األشهر الحرم ‪ ،‬فعاب ذلك المشركون على المسلمين حيث أباح القتال‬
‫ّللا عليه وسلم نزلت هذه اآلية« يَ ْسئَلُون ََك‬ ‫في شهر حرام ‪ ،‬فلما وصل الخبر إلى النبي صلهى ه‬
‫ّللا لرسوله« قُ ْل »لهم يا محمد «قِتا ٌل فِي ِه‬ ‫ش ْه ِر ْال َح ِ‬
‫رام قِتا ٍل فِي ِه »أي عن القتال فيه فقال ه‬ ‫ع ِن ال َّ‬ ‫َ‬
‫ّللا »وعن‬ ‫ع ْن َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬ ‫ص ٌّد َ‬ ‫ير »يعني ما أردتموه من قتالكم لنا في ذي القعدة لما صددتمونا« َو َ‬ ‫َك ِب ٌ‬
‫رام َوإِ ْخرا ُج أ َ ْه ِل ِه‬ ‫المسجد الحرام الذي كان منكم لنا« َو ُك ْف ٌر بِ ِه »أي كفركم فيه« َو ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫ّللا »من قتالنا‬ ‫ِم ْنهُ »أي إخراجكم لنا وللمؤمنين من أهل الحرم من الحرم ‪ ،‬كل ذلك« أ َ ْكبَ ُر ِع ْن َد َّ ِ‬
‫إياكم في الشهر الحرام « َو ْال ِفتْنَةُ أ َ ْكبَ ُر ِمنَ ْالقَتْ ِل »إما يريد الشرك وإما يريد ما امتحنوا به من‬
‫كان عندهم من المؤمنين وعذبوهم على اإلسالم ‪ ،‬كخباب بن األرت وبالل وغيرهما ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫ذلك أكبر من القتل فيه ‪ ،‬فهذا تقرير وتقريع كيف أنكرتم علينا أمرا هو بالنسبة إلى ما فعلتموه‬
‫ع ْن‬ ‫أنتم وما تفعلونه كال شيء ‪ ،‬ثم أخبر تعالى عنهم أنهم« َوال يَزالُونَ يُقا ِتلُونَ ُك ْم َحتَّى يَ ُردُّو ُك ْم َ‬
‫عوا »وحتى هنا للعلة والسبب ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬جئتك حتى تعطيني ‪ ،‬أي العلة في‬ ‫دِينِ ُك ْم إِ ِن ا ْستَطا ُ‬
‫ع ْن دِينِ ِه »أي من يرجع‬ ‫ّللا المؤمنين فقال ‪َ «:‬و َم ْن يَ ْرت َ ِد ْد ِم ْن ُك ْم َ‬
‫مجيئي إليك العطاء ‪ ،‬ثم أخبر ه‬
‫ألجل الفتنة عن دينه ‪ ،‬أي عن إيمانه وتصديقه ‪ ،‬فإنه يقول ‪ ( :‬إال من أكره وقلبه مطمئن‬
‫باإليمان )« فَيَ ُم ْ‬
‫ت َو ُه َو كافِ ٌر »أي ويبقى‬

‫‪224‬‬

‫ص ‪328 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 218‬إلى ‪219‬‬
‫غفُ ٌ‬
‫ور‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ّللا َو ه‬‫ون َرحْ َمتَ ه ِ‬ ‫ّللا أُولئِكَ يَ ْر ُج َ‬‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ِين ها َج ُروا َوجا َهدُوا فِي َ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوالهذ َ‬‫ِإ هن الهذ َ‬
‫اس َو ِإثْ ُم ُهما أ َ ْكبَ ُر‬ ‫يهما ِإثْ ٌم َك ِب ٌ‬
‫ير َو َمنا ِف ُع ِللنه ِ‬ ‫س ِر قُ ْل ِف ِ‬
‫سئَلُونَكَ ع َِن ا ْل َخ ْم ِر َوا ْل َم ْي ِ‬
‫َر ِحي ٌم ) ‪ ( 218‬يَ ْ‬
‫ون (‬‫ت لَعَله ُك ْم تَتَفَك ُهر َ‬ ‫ون قُ ِل ا ْلعَ ْف َو كَذ ِلكَ يُبَيِه ُن ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ُم ْاآليا ِ‬ ‫سئَلُونَكَ ما ذا يُ ْن ِفقُ َ‬ ‫ِم ْن نَ ْف ِع ِهما َويَ ْ‬
‫) ‪219‬‬
‫‪-‬راجع إيجاز البيان ‪ -‬كل مسكر حرام ‪ ،‬فالحكم التحريم ‪ ،‬والعلة اإلسكار ‪ ،‬فالحكم أعم من‬
‫العلة الموجبة التحريم ‪ ،‬فإن التحريم قد يكون له سبب آخر غير السكر في أمر آخر ‪،‬‬
‫والسكران هو الذي ال يعقل وهو مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬وهو الصحيح في حد‬

‫ت‬‫ط ْ‬‫على ردته إلى حين موته ‪ ،‬فإنه يموت كافرا« فَأُولئِ َك »إشارة لمن ارتد من المؤمنين« َحبِ َ‬
‫أَعْمالُ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َرةِ »أي بطل ما كانوا يرجون من الثواب على أعمالهم في اآلخرة التي‬
‫عملوها في الدنيا في حال اإلسالم بالردة إلى الكفر ‪ ،‬فالعامل في الدنيا إنما هو أعمالهم ‪،‬‬
‫ار »أهل النار« ُه ْم‬ ‫حاب النَّ ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫والعامل في اآلخرة حبطت ‪ ،‬يقول ‪َ «:‬وأُولئِ َك »اإلشارة إليهم« أ َ ْ‬
‫ّللا أو‬ ‫فِيها خا ِلدُونَ »فيها معمول لخالدين ‪ ،‬وهنا تفصيل في ردتهم ‪ ،‬هل رجعوا عن توحيد ه‬
‫عن اإليمان بما جاء من عنده ؟ ولكل ردة مما ذكرناه حكم خاص وعذاب خاص ليس لآلخر ‪،‬‬
‫ير »فجعل‬ ‫ّللا يقول« قُ ْل قِتا ٌل فِي ِه َكبِ ٌ‬ ‫والقتال في األشهر الحرم مختلف فيه بين العلماء ‪ ،‬فإن ه‬
‫ذلك من الكبائر وبه قال عطاء ‪ ،‬واحتج المبيح لذلك بغزوة حنين والطائف وأوطاس وبيعة‬
‫الرضوان على القتال ‪ ،‬وذلك في شوال وبعض ذي العقدة ‪ ،‬وهو متأخر عن تحريم القتال فيه‬
‫ّللا »اآلية ‪ ،‬في هذه اآلية‬ ‫بال شك ( ‪ِ «) 219‬إ َّن الَّذِينَ آ َمنُوا َوالَّذِينَ ها َج ُروا َوجا َهدُوا فِي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ّللا للمؤمنين ‪ ،‬فقال « ِإ َّن‬ ‫تحريض لمن في مكة من المسلمين على الهجرة والجهاد في سبيل ه‬
‫الَّذِينَ آ َمنُوا َوالَّذِينَ ها َج ُروا »ولم يقل [ وهاجروا ] فيه تنبيه على من هاجر من دار الحرب‬
‫ت َّ ِ‬
‫ّللا »بأن‬ ‫ّللا مع المؤمنين« أ ُولئِ َك يَ ْر ُجونَ َر ْح َم َ‬ ‫وآثر جوار المسلمين وجاهد في سبيل ه‬
‫ور »ما كان منهم من‬ ‫غف ُ ٌ‬
‫ّللاُ َ‬‫يرزقهم اإليمان فيؤمنوا بطول مجالسة المؤمنين ومعاشرتهم« َو َّ‬
‫من عليهم باإليمان والمغفرة كما فعل بالمؤمنين ‪ ،‬وهذا‬ ‫الخطايا في كفرهم« َر ِحي ٌم »حيث ه‬
‫الوجه سائغ في اآلية ‪ ،‬وفي استعانة المؤمنين في القتال بالكفار خالف ‪ ،‬وأنهم إن قاتلوا من‬
‫غير استعانة من المؤمنين بهم بل تطوعا من أنفسهم‬

‫ص ‪225‬‬

‫ص ‪329 :‬‬
‫السكر ‪ ،‬ولكن من شيء يتقدم هذا السكران قبل سكره من شربه طرب وابتهاج ‪ ،‬وهو الذي‬
‫اتخذه غير أبي حنيفة في حد السكر ‪ ،‬وهو ليس بصحيح ‪ ،‬فكل مسكر بهذه المثابة فهو الذي‬
‫يترتب عليه الحكم المشروع ‪ ،‬فإن سكر من شيء ال يتقدم سكره طرب لم يترتب‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫فال خالف أعرف في ذلك ‪ ،‬ثم ليعلم أنه ما من طائفة من الكفار والمشركين إال وهي ترجو‬
‫ّللا ال يعلم الجزئيات ‪ ،‬قال المشركون ‪ ( :‬ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال‬ ‫ّللا ‪ ،‬إال المعطلة والقائلين بأن ه‬ ‫رحمة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقربه سبحانه رحمته بخلقه في الدار‬ ‫ّللا ُز ْلفى )فهم يرجون القرب من ه‬ ‫ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫اآلخرة ‪ ،‬وقد يكون قوله ‪َ «:‬والَّذِينَ ها َج ُروا »تأكيد التشريف بالذكر ‪ ،‬ألن هاجر واصلة الذين‬
‫‪ ،‬إذ كانت من األسماء النواقص ‪ ،‬المهاجرة المتاركة عن عداوة وشحناء وزهد ‪ ،‬من هجر‬
‫فالن فالنا لشيء وقع بينهما ‪ ،‬فهو ترك خاص ‪ ،‬والجهاد مأخوذ من الجهد وهو المشقة ‪ ،‬فأثنى‬
‫ّللا على هؤالء المؤمنين بهجرتهم أوطانهم وديارهم وأهليهم إلى دار اإليمان وإخوانهم من‬ ‫ه‬
‫ّللا وتعلو ‪ ،‬وجاهدوا ذوي أرحامهم من آبائهم‬ ‫ّللا حتى تعز كلمة ه‬ ‫المؤمنين ‪ ،‬إيثارا لجناب ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا أن تصيبهم ‪ ،‬فأخبر ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬رجاء رحمة ه‬ ‫ّللا أي في طريق ه‬ ‫وأبنائهم وإخوانهم في سبيل ه‬
‫تعالى أنه غفور رحيم ‪ ،‬فقوله« َر ِحي ٌم »تحقيق لرجائهم أنه ينيلهم رحمته ‪ ،‬وزادهم الغفران لما‬
‫وقع منهم ويقع من الزلل ‪ ،‬زيادة في كرم الكريم أن يعطي فوق المأمول والمرجو منه ‪( 220‬‬
‫اس َو ِإثْ ُم ُهما أ َ ْكبَ ُر ِم ْن نَ ْف ِع ِهما‬ ‫ع ِن ْالخ َْم ِر َو ْال َم ْي ِس ِر قُ ْل فِي ِهما ِإثْ ٌم َكبِ ٌ‬
‫ير َو َمنافِ ُع ِللنَّ ِ‬ ‫«)يَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫»الخمر معروف ‪ ،‬والميسر القمار كله ‪ ،‬ومنه المراهنة والمخاطرة ‪ ،‬إال ما أباحه الشرع في‬
‫سباق الخيل والرمي ‪ ،‬وما عدا ذلك فهو حرام ‪ ،‬حتى اللعب بالجوز والكعاب ‪ .‬في هذه اآلية‬
‫تحريم الخمر والقمار الذي هو الميسر ‪ ،‬وذلك أن الحل والحرمة واإلثم وغير اإلثم وجميع‬
‫األحكام ال تتعلق بأعيان األشياء ‪ ،‬وإنما تتعلق بأفعال المكلفين ‪ ،‬فالخمر ليس عين الذنب واإلثم‬
‫ّللا تعالى‬ ‫وال الميسر ‪ ،‬ولكن اإلثم استعمال ذلك وهو شرب الخمر ‪ ،‬وهو فعل المكلف ‪ ،‬فقول ه‬
‫ير »أي في استعمالهما ‪ ،‬وإذا فعل اإلنسان ما وجب عليه أو ما أبيح له ال يقال‬ ‫‪ «:‬فِي ِهما ِإثْ ٌم َك ِب ٌ‬
‫إنه أثم بهذا الفعل ‪ ،‬وال خالف في ذلك ‪ ،‬وإنما يأثم في الشرع إذا فعل فعال حرم الشرع عليه‬
‫ذلك الفعل ‪ ،‬فكان قوله تعالى ‪ِ «:‬في ِهما ِإثْ ٌم »نص في التحريم في االستعمال ‪ ،‬وما خص شيئا‬
‫من شيء ‪ ،‬وأما من يجعل اإلثم اسما من أسماء الخمر ويحتج بقول الشاعر ‪:‬شربت اإلثم حتى‬
‫ضل عقلي * كذاك اإلثم يذهب بالعقولفال ننكر أن تسمى إثما ‪ ،‬فإن وضع األسماء غير ممنوع‬
‫ّللا ‪ ،‬ولكن كالمنا في اإلثم‬ ‫إال في أسماء ه‬

‫ص ‪226‬‬

‫ص ‪330 :‬‬
‫عليه حكم الشرعة ال بحد وال بحكم ‪ ،‬والحاكم إذا كان شافعيا وجيء إليه بحنفي قد شرب النبيذ‬
‫الذي يقول بأنه حالل ‪ ،‬فإن الحاكم من حيث ما هو حاكم وحكم بالتحريم في النبيذ يقيم عليه‬
‫الحد ‪ ،‬ومن حيث إن ذلك الشارب حنفي وقد شرب ما هو حالل له شربه في علمه ال تسقط‬
‫عدالته فلم يؤثر في عدالته ‪ ،‬وأما أنا لو كنت حاكما ما حددت حنفيا على‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫المذكور في هذه اآلية ‪ ،‬وبطالن من يحتج بذلك في هذه اآلية من وجهين ‪ :‬الوجه الواحد أنه‬
‫أدخل الميسر في اإلثمية ‪ ،‬وال يسمى الميسر إثما كما سموا الخمر ‪ ،‬والوجه الثاني أنك إذا‬
‫فسرت اإلثم بأنه اسم الخمر ‪ ،‬فكأنه يقول يسألونك عن الخمر قل فيه خمر ‪ ،‬نعم إن يتوجه أن‬
‫اإلثْ َم‬
‫طنَ َو ْ ِ‬
‫ظ َه َر ِم ْنها َوما بَ َ‬
‫ش ما َ‬ ‫ي ْالفَ ِ‬
‫واح َ‬ ‫ّللا باإلثم اسم الخمر في قوله ‪ ( :‬إِنَّما َح َّر َم َر ِبه َ‬ ‫يريد ه‬
‫)فقد يكون هنا اإلثم اسم الخمر ‪ ،‬والصحيح أنه كل ما يأثم به فاعله من المكلفين ‪ ،‬ثم أنه أكد‬
‫ير »فجعله من الكبائر ‪ ،‬والعجب ممن يقول ما ورد في القرآن تحريمها ! وأي‬ ‫ذلك بقوله ‪َ «:‬ك ِب ٌ‬
‫اس »أما في الميسر فمعلوم ‪ ،‬فإن الغالب في القمار‬ ‫شيء أبين من هذا ‪ ،‬وقوله «‪َ :‬و َمنافِ ُع ِللنَّ ِ‬
‫ينتفع به بال شك مما يحصل له من مال غيره أو أهله أو عقاره ‪ ،‬وأما الخمر فبوجهين ‪ :‬الوجه‬
‫الواحد ما يحصل من ثمنها وإن كان حراما وال يجوز له استعماله ‪ ،‬ولكن ال شك أنه انتفع به‬
‫عاجال في نيل أغراضه ‪ ،‬وال يلزم من ذلك أنه فعل ما يجوز أو ما ال يجوز ‪ ،‬ذلك حكم‬
‫شرعي ‪ ،‬وهذا انتفاع عقلي ‪ ،‬معلوم ذلك ضرورة ‪ ،‬وأما الوجه اآلخر من المنافع فتعرفه‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬ونحن نجوز التداوي بها‬ ‫األطباء ‪ ،‬فإنهم أطبقوا على الثناء عليها بالمنافع التي أودع ه‬
‫والعدول إليها في األمراض الشديدة التي ال يقوم فيها بدلها من غيرها ‪.‬‬
‫ّللا ما جعل شفاء أمته فيما حرم عليها ] فصحيح‬ ‫والذي يحتج علينا بقوله عليه السالم ‪ [ :‬إن ه‬
‫ذلك ‪ ،‬ولكن المضطر ما هو محرم عليه استعمال ما اضطر إليه ‪ ،‬ثم أنه زاد بالتكرار تأكيد‬
‫اإلثم فزاد تأكيد التحريم ‪ ،‬فقال «‪َ :‬و ِإثْ ُم ُهما أ َ ْكبَ ُر ِم ْن نَ ْف ِع ِهما »فإن نفع الخمر في بيعها وفي دفع‬
‫المرض باستعمالها ولو كانت حراما شرعا على المضطر ‪ ،‬فكيف واألمر بخالفه ‪ ،‬وأما اإلثم‬
‫فيتعلق بها من جهتين ‪ :‬الواحدة شربها ‪ ،‬والجهة األخرى ما يستلزمها عند أخذها بالعقول من‬
‫ّللا بتعظيمه ‪ ،‬وقس على ذهاب العقل كل رذيلة‬ ‫اآلثام الكبائر كالقتل والزنا والكفر وشتم ما أمر ه‬
‫‪ ،‬ثم ما ينضاف إلى ذلك مما يدخل شارب الخمر من العجب والكبرياء في نفسه والخيالء ‪ ،‬كما‬
‫قال بعضهم ‪:‬فإذا سكرت فإنني * رب الخورنق والسريروإذا صحوت فإنني * رب الشويهة‬
‫والبعيرفلهذا قال ‪َ «:‬و ِإثْ ُم ُهما أ َ ْكبَ ُر ِم ْن نَ ْف ِع ِهما »وأما الميسر ففعله إثم نفسه ‪ ،‬ثم يتضمن آثاما‬
‫ومحرمات ‪ ،‬فإنه إذا وقعت المغالبة ‪ ،‬ال بد أن يجد المغلوب في نفسه موجدة على غالبه فيؤديه‬
‫ذلك إلى السب ‪،‬‬

‫ص ‪227‬‬

‫ص ‪331 :‬‬
‫شرب النبيذ ما لم يسكر ‪ ،‬فإن سكر حددته لكونه سكرانا من النبيذ ‪ ،‬فالحنفي مأجور ما عليه‬
‫إثم في شربه النبيذ وفي ضرب الحاكم له ‪ ،‬وما هو في حقه إقامة حد عليه ‪ ،‬وإنما هو أمر‬
‫ّللا به على يد هذا الحاكم الذي هو الشافعي ‪ ،‬كالذي غصب ماله غير أن الحاكم هنا‬ ‫ابتاله ه‬
‫ّللا ‪ -‬راجع‬
‫أيضا غير مأثوم ألنه فعل ما أوجبه عليه دليله أن يفعله ‪ ،‬فكالهما غير مأثوم عند ه‬
‫المائدة آية‪( 90 ) - .‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫والتسابب إذا فحش أدهى إلى ذكر محرمات كبائر ‪ ،‬وأدهى إلى المؤاخذة باأليدي من الضرب‬
‫والجراحة ‪ ،‬فكان اإلثم أكبر من المنفعة بال شك ‪ ،‬والميسر قد يكون مأخوذا من اليسر واليسار‬
‫‪ ،‬فإن كان من اليسر فهو من يسر ‪ ،‬يقال ‪ :‬يسرته إذا قامرته ‪ ،‬وهو أخذ مال من قامرته بيسر‬
‫من غير تعب ‪ ،‬ومن جعله من اليسار ‪ ،‬قال ‪ :‬يكثر يساره بما يأخذه ممن يقامره ‪ ،‬وكذلك اسم‬
‫الخمر من خمرت الشيء إذا غطيته ‪ ،‬والخمر تغطي عن شاربها عقله ‪ ،‬يقال نزلت هذه اآلية‬
‫ّللا ابن عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ونفر من‬ ‫في عبد ه‬
‫األنصار ‪ ،‬وذلك أن الرجل كان يقول في الجاهلية ‪ :‬أين أصحاب الجزور ؟ فيقوم نفر فيشترون‬
‫الجزور بثمن معلوم ‪ ،‬فيجعلون لكل رجل منهم سهما ‪ ،‬ثم يقترعون ‪ ،‬فمن خرج سهمه تبرأ من‬
‫الثمن ‪ ،‬حتى يبقى آخرهم رجال فيكون ثمن الجزور كله عليه وحده ‪ ،‬وال يكون له نصيب في‬
‫الجزور ‪ ،‬ويقتسم الجزور بقيتهم بينهم ‪ ،‬وهذا نوع من أنواع القمار ‪ ،‬وهذا كانت تسميه العرب‬
‫ّللا في المائدة« َويَ ْسئَلُون ََك ما ذا‬ ‫الميسر ‪ ،‬واألزالم قداحه واحده زلمة ‪ ،‬وسيأتي تفسيره إن شاء ه‬
‫يُ ْن ِفقُونَ قُ ِل ْالعَ ْف َو »العفو من األضداد ‪ ،‬ينطلق على القليل والكثير ‪ ،‬وكالقرء ينطلق على الطهر‬
‫والحيض ‪ ،‬والجون على األبيض واألسود ‪ ،‬فإذا كان مما ينطلق على الشيء وضده فنجمع‬
‫بينهما بأمر ونقول ‪ :‬اإلنفاق من فضل المال قل ذلك الفضل أو كثر فهو العفو ‪ ،‬فيكون رحمة‬
‫بالمنفق والمنفق عليه ‪ ،‬فكان السؤال هنا عن قدر ما ينفق ‪ ،‬والسؤال في األول من أي شيء‬
‫ينفق ‪ ،‬واختلف السؤاالن في المعنى بالجواب ال بنفس السؤال ‪ ،‬وفهمهما المسؤول بقرائن‬
‫األحوال ‪ ،‬ولهذا كان علم الصحابة باألحكام أتم من علم التابعين وغيرهم ‪ ،‬لمشاهدة القرآن عند‬
‫ّللا ‪ ،‬فيفهمون منه ما ال نفهم فيعملون بمقتضى ذلك ‪ ،‬ونحن نعمل بمقتضى‬ ‫نزول الحكم من ه‬
‫التأويل بحسب ما يعطيه الكالم معرى عن القرينة ‪ ،‬إال أن تنقل القرينة كما نقل الحكم ‪ ،‬ووجه‬
‫آخر عندي فيه ‪ ،‬وهو أن يكون من العافية ‪ ،‬كما قال عليه السالم في الدعاء ‪ [ :‬اللهم إنك عفو‬
‫تحب العفو فاعف عني ] أي تجاوز ‪ ،‬وذلك أن النبي عليه السالم كان يكره ألصحابه أن‬
‫يسألوه لئال يفترض عليهم ما يعجزون عن القيام به ‪ ،‬وقال تعالى ‪ ( :‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ال‬
‫ع ْن أ َ ْشيا َء )وقال عليه السالم ‪ [ :‬إنما أهلك من كان قبلكم‬
‫ت َ ْسئَلُوا َ‬

‫ص ‪228‬‬

‫ص ‪332 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪220‬‬
‫طو ُه ْم فَ ِإ ْخوانُ ُك ْم َو ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ح لَ ُه ْم َخ ْي ٌر َو ِإ ْن تُخا ِل ُ‬ ‫سئَلُونَكَ ع َِن ا ْليَتامى قُ ْل ِإصْل ٌ‬ ‫ِفي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َويَ ْ‬
‫يز َح ِكي ٌم ( ‪.) 220‬‬ ‫ّللاُ َأل َ ْعنَت َ ُك ْم إِ هن ه َ‬
‫ّللا ع َِز ٌ‬ ‫س َد ِم َن ا ْل ُم ْ‬
‫ص ِلحِ َولَ ْو شا َء ه‬ ‫يَ ْعلَ ُم ا ْل ُم ْف ِ‬
‫ّللا حادث ولم يكن ثم كان ‪ ،‬فينفي‬ ‫"فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َرةِ »الذي يقوم عليه الدليل أن كل ما سوى ه‬
‫ّللا في كينونة الحق الواجب الوجود لذاته ‪ ،‬فدوام اإليجاد هّلل تعالى ‪،‬‬ ‫الدليل كون ما سوى ه‬
‫ودوام االنفعال للممكنات ‪ ،‬والممكنات هي العالم ‪ ،‬فال يزال التكوين على الدوام ‪ ،‬واألعيان‬
‫تظهر على الدوام ‪ ،‬فال يزال امتداد الخال إلى غير نهاية ألن أعيان الممكنات توجد إلى غير‬
‫نهاية وال تعمر بأعيانها إال الخال ‪ ،‬ألنه ما يمكن أن يعمر المأل ‪ ،‬ألن المأل هو العامر فال يعمر‬
‫في مال ‪ ،‬وما ثم إال مال أو خال ‪ ،‬فالعالم في تجديد أبدا ‪ ،‬فاآلخرة ال نهاية لها ‪ ،‬ولوال نحن ما‬
‫قيل دنيا وال آخرة ‪ ،‬وإنما كان يقال ممكنات وجدت وتوجد كما هو األمر ‪ ،‬فلما عمرنا نحن من‬
‫الممكنات المخلوقة أماكن معينة إلى أجل مسمى من حيث ظهرت أعياننا ونحن صور من‬
‫صور العالم ‪ ،‬سمينا ذلك الموطن دار الدنيا ‪ ،‬أي القريبة التي عمرناها في أول وجودنا ألعياننا‬
‫ّللا تعالى جعل لنا في عمارة الدنيا آجاال ننتهي إليها ثم‬ ‫‪ ،‬وقد كان العالم ولم نكن نحن ‪ ،‬مع أن ه‬
‫ننتقل إلى موطن آخر يسمى آخرة ‪ ،‬فيها ما في هذه الدار الدنيا ولكن متميز بالدار كما هو هنا‬
‫متميز بالحال ‪ ،‬ولم يجعل إلقامتنا في تلك الدار اآلخرة أجال تنتهي إليه مدة إقامتنا ‪ ،‬وجعل تلك‬
‫الدار محال للتكوين دائما أبدا إلى غير نهاية ‪ ،‬وبدهل الصفة على الدار الدنيا فصارت بهذا‬
‫التبديل آخرة والعين واحدة‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا عليه وسلم عن قدر ما‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫كثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم ] فلما سألوا رسول ه‬
‫ّللا له ‪ «:‬قُ ْل »لهم« ْالعَ ْف َو »أي أن يتجاوزوا عن هذا السؤال لئال يفرض عليهم‬ ‫ينفقون ‪ ،‬قال ه‬
‫ما يشق عليهم ‪ ،‬إذ كان يمكن أن يقول لهم ‪ :‬انفقوا أموالكم كلها واخرجوا عنها ‪ ،‬ثم قال ‪«:‬‬
‫ت لَعَلَّ ُك ْم تَتَفَ َّك ُرونَ «) ‪ِ »( 221‬في ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة »متعلق في الدنيا‬
‫ّللاُ لَ ُك ُم ْاآليا ِ‬
‫َكذ ِل َك يُبَ ِيه ُن َّ‬
‫واآلخرة على وجه بإثمهما ‪ ،‬وعلى وجه بيبيهن ‪ ،‬وعلى وجه بقوله تتفكرون ‪ ،‬يقول ‪ :‬وإثمهما‬
‫في الدنيا واآلخرة‬

‫ص ‪329‬‬

‫ص ‪333 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪221‬‬
‫ت َحتهى يُ ْؤ ِم هن َو َأل َ َمةٌ ُم ْؤ ِمنَةٌ َخ ْي ٌر ِم ْن ُمش ِْر َك ٍة َولَ ْو أ َ ْع َجبَتْ ُك ْم َوال ت ُ ْن ِك ُحوا‬ ‫َوال ت َ ْن ِك ُحوا ا ْل ُمش ِْركا ِ‬
‫ُون ِإلَى النها ِر َو ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ين َحتهى يُ ْؤ ِمنُوا َولَعَ ْب ٌد ُم ْؤ ِم ٌن َخ ْي ٌر ِم ْن ُمش ِْر ٍك َولَ ْو أ َ ْع َجبَ ُك ْم أُولئِكَ يَ ْدع َ‬ ‫ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ون ) ‪( 221‬‬ ‫اس لَعَله ُه ْم يَتَذَك ُهر َ‬‫يَ ْدعُوا ِإلَى ا ْل َجنه ِة َوا ْل َم ْغ ِف َر ِة ِب ِإ ْذ ِن ِه َويُبَ ِيه ُن آيا ِت ِه ِللنه ِ‬
‫مسمى النكاح قد يكون عقد الوطء ‪ ،‬وقد يكون عقدا ووطأ معا ‪ ،‬وقد يكون وطأ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أكبر من نفعهما في الدنيا ‪ ،‬فإن اآلخرة ليس لها تعلق بمنافعهما ‪ ،‬يقول ‪ :‬كذلك يبين أي يظهر‬
‫لكم اآليات ‪ -‬جميع ما تقدم من الدالالت فيما مضى من ذلك في هذه السورة ‪ -‬في الدنيا لتؤمنوا‬
‫‪ ،‬واآلخرة لمن لم يتبينها هنا ‪ ،‬لعلكم تتفكرون في الدنيا وأحوالها وفنائها فتزهدون فيها ‪،‬‬
‫واآلخرة وما أعد فيها للعصاة والطائعين من عباده ‪ ،‬فترغبون فيها باألعمال الموصلة إلى‬
‫صال ٌح لَ ُه ْم‬ ‫ع ِن ْاليَتامى قُ ْل ِإ ْ‬ ‫النجاة من عذابها والحصول على نعيمها ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬ويَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫ّللاُ َأل َ ْعنَت َ ُك ْم ‪ِ ،‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫ح ‪َ ،‬ولَ ْو شا َء َّ‬ ‫ص ِل ِ‬‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم ْال ُم ْف ِس َد ِمنَ ْال ُم ْ‬ ‫َخي ٌْر ‪َ ،‬و ِإ ْن تُخا ِل ُ‬
‫طو ُه ْم فَإِ ْخوانُ ُك ْم ‪َ ،‬و َّ‬
‫يز َح ِكي ٌم »السائل هنا ثابت بن رفاعة األنصاري ‪ ،‬سأله عن خلط مال اليتيم بماله ‪ ،‬فإنهم‬ ‫ع ِز ٌ‬
‫َ‬
‫س ُن ) *ونزلت( الَّذِينَ‬ ‫ي أ َ ْح َ‬‫كانوا على ذلك ‪ ،‬فلما نزلت( َوال ت َ ْق َربُوا ما َل ْاليَتِ ِيم إِ َّال بِالَّتِي ِه َ‬
‫ظ ْلما ا )عزل كل من كان عنده يتيم ماله عن ماله ‪ ،‬في طعامه وشرابه‬ ‫يَأ ْ ُكلُونَ أ َ ْموا َل ْاليَتامى ُ‬
‫وجميع مصالحه ‪ ،‬فشق ذلك عليهم ‪ ،‬وربما صار في ذلك تبذير لمال اليتيم ‪ ،‬فسألوا النبي‬
‫ّللا ‪ «:‬قُ ْل »لهم«‬ ‫ع ِن ْاليَتامى »فقال ه‬ ‫ّللا« َويَ ْسئَلُون ََك َ‬ ‫ّللا عليه وسلم عن ذلك ‪ ،‬فأنزل ه‬ ‫صلهى ه‬
‫صال ٌح لَ ُه ْم َخي ٌْر »أي اعملوا معهم ما يكون لهم فيه مصلحة وتوفير ألموالهم وحفظها ‪ ،‬فإن‬ ‫ِإ ْ‬
‫كان ذلك الصالح في مخالطتهم في األكل والشرب وما تمس حاجة اإلنسان إليه ومصاهرتهم‬
‫وإنكاحهم ونكاحهم فخالطوهم ‪ ،‬فإنهم إخوانكم في الدين ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬إِنَّ َما ْال ُمؤْ ِمنُونَ إِ ْخ َوة ٌ‬
‫ع َّما يَ ْع َملُونَ )يقول من أفسد‬ ‫ّللاُ بِغافِ ٍل َ‬ ‫ح »هذا مثل قوله ‪َ ( :‬و َما َّ‬ ‫ص ِل ِ‬‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم ْال ُم ْف ِس َد ِمنَ ْال ُم ْ‬
‫) « َو َّ‬
‫منكم في مال اليتيم فأنا أعلمه ‪ ،‬والمعنى أجازيه على ذلك ‪ ،‬وكذلك المصلح« َولَ ْو شا َء َّ‬
‫ّللاُ‬
‫َأل َ ْعنَت َ ُك ْم »يقول لفرض عليكم في ذلك ما يشق عليكم بما فيه مصلحة لليتيم ومشقة شديدة عليكم‬
‫يز »أي غالب لمن خالف أمره‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫‪ ،‬من العنت وهو الشيء الشاق على اإلنسان فعله« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫وتعدى على مال يتيم عنده« َح ِكي ٌم »يقول ‪ :‬فيما كلفكم مما‬

‫ص ‪330‬‬

‫ص ‪334 :‬‬
‫ويكون نفس الوطء عين العقد ‪ ،‬ألن الوطء ال يصح إال بعقد الزوجين ‪ ،‬والعقد عبارة عما يقع‬
‫اس لَعَلَّ ُه ْم يَتَذَ َّك ُرونَ‬
‫ّللا الكفاءة في النكاح بالدين « َويُبَ ِيه ُن آياتِ ِه ِللنَّ ِ‬
‫عليه رضى الزوجين ‪ ،‬وجعل ه‬
‫ّللا فيه علم كل شيء ‪ ،‬ثم حال بينه وبين أن يدرك ما عنده مما‬ ‫»اعلم أن اإلنسان قد أودع ه‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬وما هو اإلنسان مخصوص بهذا وحده ‪ ،‬بل العالم كله على هذا ‪ ،‬وهو من‬ ‫أودع ه‬
‫األسرار اإللهية التي ينكرها العقل ويحيلها جملة واحدة ‪ ،‬وقربها من الذوات الجاهلة في حال‬
‫علمها قرب الحق من عبده ‪ ،‬ومع هذا القرب ال يدرك وال يعرف إال تقليدا ‪ ،‬ولوال إخباره ما‬
‫دل عليه عقل ‪ ،‬وهكذا جميع ما ال يتناهى من المعلومات التي يعلمها ‪ ،‬هي كلها في اإلنسان‬
‫وفي العالم بهذه المثابة من القرب ‪ ،‬وهو ال يعلم ما فيه حتى يكشف له عنه مع اآلنات ‪ ،‬وال‬
‫يصح فيه الكشف دفعة واحدة ‪ ،‬ألنه يقتضي الحصر ‪ ،‬وقد قلنا إنه ال يتناهى ‪ ،‬فليس يعلم إال‬
‫شيئا بعد شيء إلى ما ال يتناهى ‪ ،‬فكل ما يعلمه اإلنسان دائما وكل موجود فإنما هو تذكر على‬
‫ّللا ذلك العلم كما أنساهم شهادتهم بالربوبية في أخذ‬ ‫الحقيقة وتجديد ما نسيه ‪ ،‬فإن الخلق أنساهم ه‬
‫الميثاق مع كونه قد وقع ‪ ،‬وقد عرفنا ذلك باإلخبار اإللهي ‪ ،‬فعلم اإلنسان دائما إنما هو تذكر ‪،‬‬
‫فمنا من إذا ذ هكر تذكر أنه قد كان علم ذلك المعلوم ونسيه ‪ ،‬ومنا من ال يتذكر ذلك مع إيمانه به‬
‫إذ قد كان يشهد بذلك ‪ ،‬ويكون في حقه ابتداء علم ‪ ،‬ولوال أنه عنده ما قبله من الذي أعلمه‬
‫ّللا بصيرته ‪ ،‬فإن اإلنسان عالم بجميع األمور‬ ‫نور ه‬ ‫ولكن ال شعور له بذلك ‪ ،‬وال يعلمه إال من ه‬
‫الحقية من حيث روحه المدبر ‪ ،‬وهو ال يعلم أنه يعلم ‪ ،‬فهو بمنزلة الساهي والناسي ‪ ،‬واألحوال‬
‫والمقامات والمنازل تذ هكره‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫تعاملون به اليتامى وفيما لم يكلفكم من ذلك ‪ ،‬إذ كان الحكيم واضع األمور في مواضعها (‬
‫ّللا عن نكاح المشركات ‪ ،‬والنهي محمول‬ ‫ت َحتَّى يُؤْ ِم َّن »نهانا ه‬ ‫‪َ «) 222‬وال ت َ ْن ِك ُحوا ْال ُم ْش ِركا ِ‬
‫على التحريم حتى تخرجه عن ذلك قرينة حال ‪ ،‬كما أن األمر محمول على الوجوب ‪ ،‬ولما‬
‫قال ‪َ «:‬و َأل َ َمةٌ ُمؤْ ِمنَةٌ َخي ٌْر ِم ْن ُم ْش ِر َك ٍة َولَ ْو أ َ ْع َجبَتْ ُك ْم »فمن تأكد عنده النهي بقوله «‪َ :‬ولَ ْو‬
‫أ َ ْع َجبَتْ ُك ْم »تقوى عنده التحريم ‪ ،‬والتحريم ضد الحل ‪ ،‬كما قال تعالى لنبيه عليه السالم ‪ ( :‬ال‬
‫يَ ِح ُّل لَ َك ال ِنهسا ُء ِم ْن بَ ْعد َُولَ ْو أ َ ْع َجبَ َك ُح ْسنُ ُه َّن )تقوية للحكم بتحريم ذلك عليه ‪ ،‬ويخرج قوله ‪«:‬‬
‫َو َأل َ َمةٌ ُمؤْ ِمنَةٌ َخي ٌْر ِم ْن ُم ْش ِر َك ٍة »مخرج العلة للتحريم ‪ ،‬ومن فهم من قوله ‪َ «:‬خي ٌْر ِم ْن ُم ْش ِر َك ٍة‬
‫»المفاضلة واألولوية عدل عن نهي التحريم إلى الكراهة واألولى ‪ ،‬ويؤيد التحريم قوله ‪َ ( :‬وال‬
‫ص ِم ْال َكوافِ ِر )ويؤيده‬ ‫ت ُ ْم ِس ُكوا بِ ِع َ‬

‫ص ‪331‬‬

‫ص ‪335 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪222‬‬
‫يض َوال ت َ ْق َربُو ُه هن َحتهى يَ ْط ُه ْر َن‬ ‫ذى فَا ْعت َ ِزلُوا ال ِنهسا َء فِي ا ْل َم ِح ِ‬ ‫يض قُ ْل ُه َو أ َ ً‬ ‫سئَلُونَكَ ع َِن ا ْل َم ِح ِ‬ ‫َويَ ْ‬
‫ين ( ‪«) 222‬‬ ‫ب ا ْل ُمت َ َط ِ هه ِر َ‬ ‫ين َويُ ِح ُّ‬‫ب الت ه هوا ِب َ‬ ‫ّللاُ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا يُ ِح ُّ‬ ‫فَ ِإذا ت َ َط هه ْر َن فَأْتُو ُه هن ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث أ َ َم َر ُك ُم ه‬
‫ى »فيتأذى الرجل بالنكاح في دم الحيض ‪ ،‬وأما االستحاضة‬ ‫يض قُ ْل ُه َو أَذ ا‬ ‫ع ِن ْال َم ِح ِ‬ ‫َويَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫فال تمنع من الصالة وال من الوطء فالرجل ال يتأذى بالنكاح في دم االستحاضة وإن كان عن‬
‫مرض ‪ ،‬ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض ‪ ،‬وكالهما له زمان ومدة في الشرع ‪ ،‬ودم‬
‫االستحاضة ما له مدة يوقف عندها ‪ ،‬والحيض يمنع من الصالة والصيام والوطء والطواف«‬
‫يض »وال يجتنب من الحائض إال موضع الدم خاصة« َوال ت َ ْق َربُو ُه َّن‬ ‫فَا ْعت َ ِزلُوا ال ِنهسا َء فِي ْال َم ِح ِ‬
‫ط ُه ْرنَ »بسكون الطاء وضم الهاء مخففا ‪ ،‬وقرئ بفتح الطاء والهاء مشددا ‪ ،‬ولذلك قال‬ ‫َحتَّى يَ ْ‬
‫بجواز وطء الحائض قبل االغتسال وبعد الطهر المحقق على قراءة من خفف ‪ ،‬ومن قائل بعدم‬
‫جوازه على قراءة من شدد وهو محتمل ‪ ،‬وباألول أقول ‪ ،‬ومن أتى امرأته وهي حائض فهو‬
‫ّللا يُ ِحبُّ الت َّ َّوابِينَ َويُ ِحبُّ‬ ‫ّللاُ إِ َّن َّ َ‬ ‫ط َّه ْرنَ فَأْتُو ُه َّن ِم ْن َحي ُ‬
‫ْث أ َ َم َر ُك ُم َّ‬ ‫عاص وال كفارة عليه« فَإِذا ت َ َ‬
‫ّللا يحب التوابين ‪ ،‬التوبة المشروعة هي التوبة من المخالفات ‪ ،‬والتوبة‬ ‫ط ِ هه ِرينَ »إن ه‬ ‫ْال ُمت َ َ‬
‫ّللا وقوته ‪ ،‬فليست التوبة‬ ‫الحقيقية هي التبري من الحول والقوة بحول ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ع َملُهُ )فيلحق بالنكاح الفاسد الذي ال ينعقد معه النكاح ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا‬ ‫ط َ‬ ‫يمان فَقَ ْد َحبِ َ‬
‫اإل ِ‬ ‫( َو َم ْن يَ ْكفُ ْر بِ ْ ِ‬
‫قد أحبط عمله في الدنيا بقوله ‪َ ( :‬و ُه َو فِي ْاآل ِخ َرةِ ِمنَ ْالخا ِس ِرينَ ) *وقال فيمن يموت وهو‬
‫ع َملُ َك )كسائر‬ ‫ط َّن َ‬ ‫ت لَيَ ْحبَ َ‬ ‫ت أَعْمالُ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة ) *وقال ‪ ( :‬لَئِ ْن أ َ ْش َر ْك َ‬‫ط ْ‬‫كافر ‪َ ( :‬ح ِب َ‬
‫العبادات من الصوم والصالة ‪ ،‬لم يكن ذلك عمال مشروعا لعدم المصحح وهو اإليمان ‪،‬‬
‫ّللا إلها آخر سواء كان‬ ‫والنكاح من جملة العبادات المشروعة ‪ ،‬والمشرك هو الذي يجعل مع ه‬
‫من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب ‪ ،‬وإذا كان أهل الكتاب هم الذين أنزل إليهم الكتاب‬
‫ّللا بقتالهم حتى يعطوا الجزية ‪ ،‬فيجوز لنا‬ ‫وجاءهم الرسول بذلك وكانوا كافرين بكتابهم وأمرنا ه‬
‫تاب )ونمنع من ذلك بقوله ‪َ ( :‬وال ت ُ ْم ِس ُكوا‬ ‫صناتُ ِمنَ الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِك َ‬ ‫نكاح بناتهم بقوله ‪َ ( :‬و ْال ُم ْح َ‬
‫يمان فَقَ ْد َح ِب َ‬
‫ط‬ ‫اإل ِ‬‫ص ِم ْال َكوا ِف ِر )على من يحمل النهي هنا على التحريم ‪ ،‬وقوله ‪َ ( :‬و َم ْن يَ ْكفُ ْر ِب ْ ِ‬ ‫ِب ِع َ‬
‫ع َملُهُ )على أظهر‬ ‫َ‬

‫ص ‪332‬‬

‫ص ‪336 :‬‬
‫فاّلل يحب التوابين الذين يكثرون‬ ‫المشروعة إال الرجوع من حال المخالفة إلى حال الموافقة ‪ ،‬ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وأما من رجع إليه‬‫ّللا إلى ه‬
‫الرجوع إليه في كل حال يرضيه ‪ ،‬فالتوابون هم الراجعون من ه‬
‫من غيره فهو تائب خاصة ‪ ،‬فإنه ال يرجع إليه من غيره من هذه صفته إال إلى عين واحدة ‪،‬‬
‫ومن يرجع منه إليه فإنه يرجع إلى أسماء متعددة في عين واحدة ‪ ،‬وذلك هو المحبوب ‪ ،‬ومن‬
‫وّللا سبحانه وصف نفسه بالتواب ال التائب ‪،‬‬ ‫ّللا كان سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه ‪ ،‬ه‬ ‫أحبه ه‬
‫ّللا إال اسمه وصفته ‪ ،‬وأحب العبد‬ ‫عز وجل ‪ ،‬فما أحب ه‬‫فالتواب صفة الحق تعالى ومن أسمائه ه‬
‫ال تصافه بها على حد ما أضافها الحق إليه ‪ ،‬وذلك أن الحق يرجع على عبده في كل حال‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو المسمى ذنبا ومعصية ومخالفة ‪ ،‬فإذا أقيم‬ ‫يكون العبد عليه مما يبعده من ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الوجهين ‪ ،‬فإن النص عزيز في ذلك ‪ ،‬وفي قوله ‪َ «:‬وال ت ُ ْن ِك ُحوا ْال ُم ْش ِر ِكينَ َحتَّى يُؤْ ِمنُوا َولَعَ ْب ٌد‬
‫ُمؤْ ِم ٌن َخي ٌْر ِم ْن ُم ْش ِركٍ َولَ ْو أ َ ْع َجبَ ُك ْم »مثل ذلك ‪ ،‬غير أنه في هذه اآلية أن ولي المرأة أحق‬
‫بتزويجها منها ‪ ،‬إذ رجح إنكاح الولي بكونه ذكره ‪ ،‬ولو اعتبر واليتها لنفسها لنصب التاء ‪،‬‬
‫ّللا على كلمة الكفر لما للرجل‬ ‫وبينهما من الفرق أن نكاح المرأة المشركة فيه إعالء كلمة ه‬
‫عليها من الحكم والوالية ‪ ،‬وفي نكاح المشرك عكس ذلك على السواء ‪ ،‬فيجوز نكاح المشركة‬
‫وال يجوز إنكاح المشرك ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬ولَ ْو أ َ ْع َجبَ ُك ْم »ولو أعجبكم في الحسن والمال والجاه‬
‫ار »أي إلى األعمال المؤدية إلى النار ‪ ،‬أما في‬ ‫وشرف النسب وقوله «أُولئِ َك يَ ْدعُونَ ِإلَى النَّ ِ‬
‫حق الرجل فإنه األقوى والضعف الذي في النساء ‪ ،‬وأما من جانب المرأة فلما يتعلق بقلب‬
‫الرجل من حبها ‪ ،‬والحب يعمي ويصم ‪ ،‬فقد تدعوه إلى دينها فيجيب ‪ ،‬وقد رأينا ذلك ورويناه«‬
‫ّللا ‪ ،‬ونكاح‬ ‫عوا ِإلَى ْال َجنَّ ِة َو ْال َم ْغ ِف َر ِة ِبإِ ْذ ِن ِه »أي إلى أسباب ما يوجب الجنة والمغفرة من ه‬ ‫ّللاُ يَ ْد ُ‬
‫َو َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬وقوله «‪:‬بِإِ ْذنِ ِه »أي بما أمر ه‬
‫ّللا‬ ‫المسلمة وإنكاح المسلم من األسباب المعينة على طاعة ه‬
‫كل واحد من الزوجين أن يأمر اآلخر به من الخير المؤدي إلى السعادة وقال ‪َ «:‬ويُبَ ِيه ُن آياتِ ِه‬
‫اس »أي ما نصب من األدلة على ذلك« لَعَلَّ ُه ْم يَتَذَ َّك ُرونَ »ما أعطاهم الفكر الصحيح والعقل‬ ‫ِللنَّ ِ‬
‫الموافق لما جاءت به الشرائع من الدالالت ‪ ،‬فإنه ما جاء بما تحيله العقول ‪ ،‬بل ما تجيزه ‪،‬‬
‫فنصب اآليات على ترجيح أحد الممكنين بالوقوع ‪ ،‬فهذا معنى قوله ‪ «:‬يَتَذَ َّك ُرونَ »فهو خطاب‬
‫ّللا في القرآن إال أولي األلباب وأولي النهى ‪ ،‬قوله ( ‪:‬‬ ‫خاص لذوي األلباب ‪ ،‬وما خاطب ه‬
‫ى »اآلية ‪ ،‬يقول «‪َ :‬ويَ ْسئَلُون ََك »يا محمد عن‬ ‫ع ِن ْال َم ِح ِ‬
‫يض قُ ْل ُه َو أَذ ا‬ ‫«) ‪َ 223‬ويَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫ى »أي هو مما تتأذون‬ ‫وطئ النساء في موضع الحيض في حال الحيض ‪ ،‬فقل لهم ‪ُ «:‬ه َو أَذ ا‬
‫بفعله ‪ ،‬وقد يخرج مخرج العلة في تحريم الوطء ‪ ،‬ويحتمل‬

‫ص ‪333‬‬

‫ص ‪337 :‬‬
‫العبد في حق من أساء إليه من أمثاله وأشكاله فرجع عليه باإلحسان إليه والتجاوز عن إساءته‬
‫فاّلل معنا على كل حال كما قال ‪َ ( :‬و ُه َو َمعَ ُك ْم‬
‫ّللا ‪ ،‬ه‬ ‫فذلك هو التواب ‪ ،‬ما هو الذي رجع إلى ه‬
‫ّللا توابا عليك فيما أسأت من‬ ‫أَيْنَ ما ُك ْنت ُ ْم )فإذا كنت من التوابين على من أساء في حقك ‪ ،‬كان ه‬
‫ّللا عباده ‪ ،‬فهو‬ ‫حقه ‪ ،‬فرجع عليك باإلحسان ‪ ،‬فهكذا تعرف حقائق األمور وتفهم معاني خطاب ه‬
‫يحب التوابين وهو التواب ‪ ،‬فإنه رأى نفسه فأحبها ‪ ،‬ألنه الجميل فهو يحب الجمال ‪ ،‬فالتواب‬
‫ّللا بالموافقات ال يكون إال كذلك ‪ ،‬ال أنه‬‫ّللا إلى ه‬ ‫من البشر ينتقل في اآلنات مع األنفاس من ه‬
‫الراجع من المخالفة إلى الطاعة ‪ ،‬فإن التائب راجع إليه من عين المخالفة ولو رجع ألف مرة‬
‫في كل يوم ‪ ،‬فما يرجع إال من المخالفة إلى عين واحدة ‪ ،‬والتواب ليس كذلك ‪ ،‬فالتواب هو‬
‫المجهول في الخلق ‪ ،‬ألنه محبوب ‪ ،‬والمحب غيور على محبوبه فستره عن عيون الخلق ‪ ،‬فهم‬
‫ّللا بنص كتابه الناطق بالحق الذي‬ ‫العرائس المخدرات خلف حجاب الغيرة ‪ ،‬والتوابون أحباب ه‬
‫ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم حميد ‪ ،‬وجاء ذكره لهذه المحبة في‬
‫ّللا‬
‫التوابين عقب ذكر األذى الذي جعله في المحيض للمناسبة ‪ ،‬وكذلك قال عليه السالم ‪ :‬إن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيرجع‬ ‫ّللا بمن يسيء إليه من عباد ه‬
‫يحب كل مفتن تواب ‪ ،‬أي مختبر ‪ ،‬يريد أن يختبره ه‬
‫ّللا يختبر عباده بالمعاصي ‪،‬‬ ‫عليهم باإلحسان إليهم في مقابلة إساءتهم ‪ ،‬وهو التواب ‪ ،‬ال أن ه‬
‫ط ِ هه ِرينَ »التطهير صفة تقديس وتنزيه ‪ ،‬وتطهير‬ ‫ّللا أن يضاف إليه مثل هذا« َويُ ِحبُّ ْال ُمت َ َ‬
‫حاشا ه‬
‫العبد هو أن يميط عن نفسه كل أذى ال يليق به أن يرى فيه ‪ ،‬وإن كان محمودا بالنسبة إلى‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬كالكبرياء‬ ‫غيره وهو مذموم شرعا بالنسبة إليه ‪ ،‬فإذا طهر نفسه من ذلك أحبه ه‬
‫والجبروت والفخر والخيالء والعجب ‪ ،‬فمن طهر ذاته عن أن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا من حيث‬ ‫معنيين ‪:‬أحدهما يتعلق بالطب ‪ ،‬أي يتأذى فاعله في نفسه ‪ ،‬والثاني أنه أذى عند ه‬
‫يض »وقت إتيانه‬ ‫حرمه ‪ ،‬وقد يكون المعنيان مقصودين في الخطاب« فَا ْعت َ ِزلُوا ال ِنهسا َء فِي ْال َم ِح ِ‬ ‫ه‬
‫ط َّه ْرنَ »الذي ينبغي في‬ ‫وفي محله« َوال ت َ ْق َربُو ُه َّن »فيه كناية عن الجماع« َحتَّى يَ ْ‬
‫ط ُه ْرنَ فَإِذا ت َ َ‬
‫الكالم أن ال يقدر فيه المحذوف إال عند الحاجة إليه وال بد الختالل المعنى ‪ ،‬وأن ال ينتقل في‬
‫الكلمة من الحقيقة إلى المجاز إال بعد استحالة حملها على الحقيقة ‪ ،‬فنقول ‪ :‬المعنى« َحتَّى‬
‫ط ُه ْرنَ »أي حتى يغتسلن بالماء بعد انقطاع الدم ‪ ،‬وهو فعل ينطلق عليه اسم الطهارة ‪،‬‬ ‫يَ ْ‬
‫ط ُه ْرنَ »على‬ ‫والمفهوم الثاني االغتسال المشروع الذي يبيح الصالة فعله ‪ ،‬وال يحمل« َحتَّى يَ ْ‬
‫انقطاع الدم ‪ ،‬فإن الفعل إذا‬

‫ص ‪334‬‬

‫ص ‪338 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬كما نفى محبته عن كل مختال‬ ‫ترى عليه هذه النعوت في غير مواطنها فهو متطهر ويحبه ه‬
‫فخور ‪ ،‬فالمتطهرون هم الذين توالهم الحق من اسمه القدوس بتطهيره ‪ ،‬فتطهيرهم ذاتي ال‬
‫فعلي ‪ ،‬وهي صفة تنزيه وهو تعمل في الطهارة ظاهرا وفي الحقيقة ليس كذلك ‪ ،‬ولهذا أحبهم‬
‫ّللا فإنها صفة ذاتية له يدل عليها اسمه القدوس ‪ ،‬فأحب نفسه ‪ ،‬والصورة فيهم مثل الصورة في‬ ‫ه‬
‫التوابين ‪ ،‬ولهذا قرن بينهما في آية واحدة ‪ ،‬فعيهن محبته لهم ليعلم أن صفة التوبة ما هي صفة‬
‫ّللا في حقهما من كونه ما أحب سوى نفسه ‪،‬‬ ‫التطهير ‪ ،‬وجاور بينهما ألحدية المعاملة من ه‬
‫والمتطهر هو الذي تطهر من كل صفة تحول بينه وبين دخوله على ربه ‪ ،‬ومنها الطهارة‬
‫للصالة ‪ ،‬وطهارة القلب بصفات العبودة ‪ ،‬وهي حالة مكتسبة يتعمل لها اإلنسان فإن التفعل‬
‫تعمل الفعل ‪ ،‬ثم الكالم في التعمل في ذلك على صورة ما ذكرناه في التواب سواء ‪ [- .‬المرأة‬
‫والدم ]‬
‫إشارة واعتبار ‪ -‬المرأة تقابل النفس في االعتبار ‪ ،‬وقد أجمعوا على أن الكذب حيض النفوس ‪،‬‬
‫ّللا تعالى والكذب‬
‫فليكن الصدق على هذا طهارة النفس من هذا الحيض ‪ ،‬وهو الكذب على ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وكل كذب متعمد يؤذي ‪ ،‬وكما أن الحيض يمنع من‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫على رسول ه‬
‫الصالة والصوم والطواف والجماع فاعتباره الكذب في المناجاة وهو أن تكون في الصالة‬
‫ّللا في باطنك ‪ ،‬والكذب في الصوم هو عدم إمساك النفس عن الكذب‬ ‫بظاهرك وتكون مع غير ه‬
‫‪ ،‬أما الكذب في الطواف فعبارة عن الكذب إلى غير نهاية ألنه دوران ‪ ،‬فهو اإلصرار على‬
‫الكذب ‪ ،‬أما اعتبار الكذب في الجماع هو إذا كانت المقدمات كاذبة خرجت النتيجة عن أصل‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أيزني المؤمن‬‫ّللا صلهى ه‬
‫فاسد ‪ ،‬وأما اعتبار مباشرة الحائض ‪ ،‬فقد قيل لرسول ه‬
‫؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قيل ‪ :‬أيشرب المؤمن ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قيل ‪ :‬أيسرق المؤمن ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قيل له ‪:‬‬
‫ّللا وعلى رسوله ‪،‬‬ ‫أيكذب المؤمن ؟ قال ‪ :‬ال ‪ ،‬فأكد أن تجتنب النفس في أفعالها الكذب على ه‬
‫والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ‪ ،‬ومن عود نفسه الكذب على الناس يستدرجه الطبع‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الطبع يسرقه ‪ ،‬وأما استحاضة النفس فهو الكذب لعلة إذا كان المراد‬
‫حتى يكذب على ه‬
‫به دفع مضرة ع همن ينبغي دفعها عنه بذلك الكذب ‪ ،‬أو استجالب‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫أضيف إلى المكلف فال يضاف إليه إال إذا كان هو الفاعل له ‪ ،‬هذا هو الحقيقة ‪ ،‬وانقطاع الدم‬
‫ليس من فعل المكلف ‪ ،‬واالغتسال بالماء على الوجهين من فعل المكلف ‪ ،‬وإذا حملنا« يَ ْ‬
‫ط ُه ْرنَ‬
‫»على انقطاع الدم يحتاج أن نتكلف الحذف في الكالم ‪ ،‬فيكون التقدير حتى يطهرن‬
‫ويتطهرن« فَإِذا ت َ َ‬
‫ط َّه ْرنَ »‬

‫ص ‪335‬‬

‫ص ‪339 :‬‬
‫ص ‪340 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬حتى لو‬
‫منفعة مشروعة مما ينبغي أن يظهر مثل هذا بها وبسببها ‪ ،‬فيكون قربة إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فكان في عدم منع وطء المستحاضة إشارة إلى أنه ال‬‫صدق في هذا الموطن كان بعدا عن ه‬
‫يمتنع تعليم من تعلم منه أن ال يكذب إال لسبب مشروع وعلة مشروعة ‪ ،‬فإن ذلك ال يقدح في‬
‫عدالته ‪ ،‬بل هو نص في عدالته ‪ .‬وأما االعتبار في االغتسال من الحيض ‪ ،‬فيجب تطهير القلب‬
‫من لمة الشيطان [ الحيض ركضة من الشيطان ] إذا نزلت به ومسه في باطنه ‪ ،‬وتطهيرها‬
‫بلمة الملك [‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 223‬إلى ‪224‬‬


‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أَنه ُك ْم ُملقُوهُ‬
‫س ُك ْم َواتهقُوا ه َ‬ ‫ث لَ ُك ْم فَأْتُوا َح ْرث َ ُك ْم أَنهى ِ‬
‫شئْت ُ ْم َوقَ ِ هد ُموا ِأل َ ْنفُ ِ‬ ‫نِسا ُؤ ُك ْم َح ْر ٌ‬
‫ضةً ِأل َ ْيما ِن ُك ْم أ َ ْن تَبَ ُّروا َوتَتهقُوا َوت ُ ْ‬
‫ص ِل ُحوا بَ ْي َن‬ ‫ّللا ع ُْر َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 223‬وال تَجْ عَلُوا ه َ‬ ‫ش ِر ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬‫َوبَ ِ ه‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 224‬‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ّللاُ َ‬‫اس َو ه‬ ‫النه ِ‬
‫باّلل كاذبا فال تدخل ابتداء‬ ‫ّللا ال يرحم وال يزكي من حلف ه‬ ‫ّللا عرضة أليمانكم فإن ه‬ ‫ال تجعلوا ه‬
‫في اليمين ‪ ،‬فإنك إن دخلت في اليمين راعيته ‪ ،‬وأوجبت عليك حقا لم يجب عليك ‪،‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وإن لم يكن كذلك داال ‪ ،‬فليس من كالم العرب أن تقول ‪ [ :‬ال أعطيك ثوبا حتى تركب ‪ ،‬فإذا‬
‫دخلت السوق أعطيتك ثوبا ] والذي تقوله العرب [ فإذا ركبت أعطيتك ثوبا ] وتكلف الحذف‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكون المفهوم من يطهرن هو المفهوم بعينه من‬ ‫مع االستغناء عنه تحكم على كالم ه‬
‫يتطهرن على المعاني الثالثة التي ذكرناها ‪ ،‬وهو انقطاع الدم أو غسل موضع الحيض بالماء‬
‫أو االغتسال المبيح للصالة ‪ ،‬وهذا هو موضع اجتهاد المجتهد ‪ ،‬ويعمل بحسب ما يترجح عنده‬
‫ْث أ َ َم َر ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ‬ ‫ط َّه ْرنَ »على ما قدمناه« فَأْتُو ُه َّن »كناية عن الجماع ‪ِ « ،‬م ْن َحي ُ‬‫‪ ،‬ثم قال «‪:‬فَإِذا ت َ َ‬
‫ّللا يُ ِحبُّ الت َّ َّوابِينَ‬
‫»بإتيان المرأة إذا طهرت من الحيض في محل المحيض ‪ ،‬ثم قال ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم‬ ‫ّللا وإلى رسوله فيما يتنازعون فيه ‪ ،‬فيرجعون إلى حكم ه‬ ‫»يريد الذين يرجعون إلى ه‬
‫ط ِ هه ِرينَ »يقول ‪ :‬الذين فعلوا الطهارة ‪ ،‬وهو استعمال الماء على ما ذكرناه قبل‬ ‫قال« َويُ ِحبُّ ْال ُمت َ َ‬
‫‪ ،‬فأوجب محبته للمتصفين بهاتين الصفتين ‪ :‬التوبة والتطهير ‪ ،‬وقد يكون من حيث ما أمركم‬
‫ّللا باعتزالهن في‬ ‫ّللا متعلقا بقوله «‪ :‬فَا ْعت َ ِزلُوا »التقدير ‪ :‬وال تقربوهن من حيث أمركم ه‬ ‫ه‬
‫ْ‬
‫ث لَ ُك ْم فَأتُوا َح ْرث َ ُك ْم أَنَّى‬ ‫المحيض حتى يطهرن ‪ ،‬وقد يتعلق بتقربوهن ( ‪ «) 224‬نِسا ُؤ ُك ْم َح ْر ٌ‬
‫ِشئْت ُ ْم »اآلية ‪ ،‬كناية عن الجماع‬

‫ص ‪336‬‬

‫ص ‪341 :‬‬
‫وخشي عليك الحنث‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫في غاية الحسن بضرب من التشبيه ‪ ،‬ولما كان المقصود من الحرث بذر الحب في األرض‬
‫ليخرج من ذلك ما تقع به المنفعة ‪ ،‬وكان المراد من النكاح في الدنيا التناسل إلبقاء النوع ‪،‬‬
‫أنزل ذلك منزلة الحرث ‪ ،‬فيكون األوجه على هذا المعنى المفهوم من التشبيه في قوله ‪ «:‬أَنَّى‬
‫ِشئْت ُ ْم »كيف شئتم من االختالف في هيئات الجماع في موضع البذر ‪ ،‬ومع هذا فقوله ‪ «:‬أَنَّى‬
‫ِشئْت ُ ْم »فهو لفظ يصلح أن يكون موضع كيف وأين وحيث ‪ ،‬وقد اختلف الناس في هذه المسألة‬
‫أعني وطئ المرأة الحالل في الدبر ‪ ،‬فمنهم من أباحه ومنهم من حرمه ‪ ،‬واألصل إباحة‬
‫ّللا فعليه بالدليل على ذلك ‪ ،‬وما ورد في تحريمه وال في‬ ‫األشياء ‪ ،‬ومن ادعى تحجير ما أباحه ه‬
‫تحليله شيء يصح جملة واحدة على تعيينه غير األصل المرجوع إليه العام في كل شيء وهو‬
‫اإلباحة ‪ ،‬وقوله «‪َ :‬وقَ ِ هد ُموا ِأل َ ْنفُ ِس ُك ْم »يؤيد أنه أراد النكاح في الفرج فإنه من أحسن ما يقدمه‬
‫اإلنسان لنفسه عند ربه ولده ‪ ،‬إن مات قبله كان له فرطا وإن مات الوالد دعا له ولده ‪ ،‬وقد‬
‫ّللا »أن‬ ‫ورد الخبر في األمرين معا ‪ ،‬فيمن قدم ولده أو ترك ولدا بعده ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫تعدلوا أو تخالفوا ما أمرناكم به أو نهيناكم عنه فيما تقدم من األحكام من الوطء وصورته ‪،‬‬
‫والنكاح واإلنكاح ‪ ،‬واليتامى ‪ ،‬واإلنفاق ‪ ،‬والخمر والميسر ‪ ،‬والقتال في األشهر الحرم ‪ ،‬ثم قال‬
‫‪َ «:‬وا ْعلَ ُموا أَنَّ ُك ْم ُمالقُوهُ »فيسألكم عن ذلك كله ‪ ،‬ففيه إنذار وتخويف وتحريض على فعل‬
‫ش ِر ْال ُمؤْ ِمنِينَ »في مقابلة اإلنذار‬ ‫ّللا به أو نهى عنه ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وبَ ِ ه‬ ‫الخير ‪ ،‬والوقوف عندما أمر ه‬
‫ّللا عليه وسلم سئل عن اإليمان‬ ‫جعل البشرى للمؤمنين العاملين بما آمنوا به ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا وإقام الصالة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان‬ ‫ّللا وأن محمدا رسول ه‬ ‫فقال ‪ :‬شهادة أن ال إله إال ه‬
‫وأن يؤدوا الخمس من المغنم ‪ ،‬ونهاهم عن الدهباء والحنتم والمزفت والنقير ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫احفظوه وأخبروا به من وراءكم ‪ ،‬ففسر اإليمان باألفعال ‪ ،‬وهو الذي أراد بالمؤمنين هنا ‪،‬‬
‫زيادة على التصديق ‪ ،‬ألن البشرى الواردة في القرآن للمؤمنين مقرونة باألعمال الصالحة ‪،‬‬
‫مثل قوله ‪ ( :‬الَّذِينَ آ َمنُوا َوكانُوا يَتَّقُونَ لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى )وقال تعالى ‪ ( :‬الَّذِينَ آ َمنُوا َوها َج ُروا‬
‫ش ُر ُه ْم َربُّ ُه ْم‬ ‫ّللا َوأُول ِئ َك ُه ُم ْالفا ِئ ُزونَ يُبَ ِ ه‬ ‫ّللا ِبأ َ ْموا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِس ِه ْم أ َ ْع َ‬
‫ظ ُم َد َر َجةا ِع ْن َد َّ ِ‬ ‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫َوجا َهدُوا ِفي َ‬
‫ضةا ِألَيْما ِن ُك ْم‬ ‫ع ْر َ‬
‫ّللا ُ‬‫)فما بشر إال العاملين بما آمنوا به ‪ ،‬قوله تعالى «) ‪َ : ( 225‬وال ت َ ْجعَلُوا َّ َ‬
‫ع ِلي ٌم »قوله عرضة من قول القائل اعترضني‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫اس َو َّ‬ ‫ص ِل ُحوا بَيْنَ النَّ ِ‬ ‫أ َ ْن تَبَ ُّروا َوتَتَّقُوا َوت ُ ْ‬
‫باّلل‬
‫الشيء دون كذا ‪ ،‬أي حال بيني وبين الوصول إليه ‪ ،‬كأنه يقول ‪ :‬وال تجعلوا أيمانكم ه‬
‫باّلل أني ال أوليك برا ألوليتك ‪ ،‬فنهى‬ ‫تعترض بينكم وبين فعل الخير ‪ ،‬فتقول ‪ :‬لوال أني حلفت ه‬
‫ّللا قد شرع لعباده أن يأتوا بمكارم األخالق وكره لهم سفسافها‬ ‫ّللا عن ذلك ‪ ،‬وذلك أنه لما كان ه‬ ‫ه‬
‫‪ ،‬فأمرهم بأفعال البر‬

‫ص ‪337‬‬

‫ص ‪342 :‬‬
‫ص ‪343 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪225‬‬
‫ور َح ِلي ٌم‬ ‫سبَتْ قُلُوبُ ُك ْم َو ه‬
‫ّللاُ َ‬
‫غف ُ ٌ‬ ‫ّللاُ ِبالله ْغ ِو ِفي أ َ ْيما ِن ُك ْم َول ِك ْن يُ ِ‬
‫ؤاخذُ ُك ْم ِبما َك َ‬ ‫ؤاخذُ ُك ُم ه‬
‫ال يُ ِ‬
‫) ‪( 225‬‬
‫باّلل ‪ ،‬وما عدا ذلك من األقسام فهو ساقط ما ينعقد به يمين في المقسوم عليه ‪ ،‬ولهذا‬ ‫ال قسم إال ه‬
‫ّللاُ ِباللَّ ْغ ِو فِي أَيْمانِ ُك ْم »واللغو الساقط ‪ ،‬فمعناه ال يؤاخذكم ه‬
‫ّللا باأليمان‬ ‫ؤاخذُ ُك ُم َّ‬
‫قال تعالى ‪ «:‬ال يُ ِ‬
‫ت قُلُوبُ ُك ْم‬ ‫ؤاخذُ ُك ْم ِبما َك َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫التي أسقط الكفارة فيها إذا حنثتم« َول ِك ْن يُ ِ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫والتقوى واإلصالح بين الناس والعدل واإلحسان وإيتاء ذي القربى ‪ ،‬وكان الناس إذا غضبوا‬
‫باّلل ال يفعلون مع فالن خيرا وال يولونه إحسانا وال برا ‪ ،‬وإن كان في إصالح بين‬ ‫يحلفون ه‬
‫ّللا تعالى«‬ ‫ّللا فيك ‪ ،‬فأنزل ه‬ ‫وّللا ال اتقيت ه‬ ‫باّلل ال يصلح بينهما ‪ ،‬ويقول ‪ :‬ه‬ ‫اثنين يحلف الرجل ه‬
‫ضةا ِألَيْمانِ ُك ْم »باسمه ‪ ،‬يقول ‪ :‬قوة وتقوية على ترك فعل الخير الذي أمركم‬ ‫ع ْر َ‬ ‫َوال ت َ ْجعَلُوا َّ َ‬
‫ّللا ُ‬
‫باّلل أن ال أفعل ذلك ‪ ،‬فشرع رسول‬ ‫ّللا بفعله ‪ ،‬فإذا قيل لك افعل هذا الخير ‪ ،‬تقول ‪ :‬قد حلفت ه‬ ‫ه‬
‫ّللا في أبي‬ ‫ّللا عليه وسلم في ذلك أن يكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ‪ ،‬وقد أنزل ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عنه وكان ينفق على مسطح ‪ -‬رجل من قرابته ‪ -‬ويحسن إليه ‪ ،‬فبلغ أبا‬ ‫بكر الصديق رضي ه‬
‫ّللا إليه( َوال‬ ‫بكر أنه شارك أهل اإلفك فيما تحملوه ‪ ،‬فحلف أبو بكر أن ال يحسن إليه ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫سعَ ِة )يعني في الرزق( أ َ ْن‬ ‫ض ِل ِم ْن ُك ْم )من له مال رزقه ه‬
‫ّللا( َوال َّ‬ ‫يَأْت َ ِل )أي ال يحلف( أُولُوا ْالفَ ْ‬
‫*و ْليَ ْعفُوا َو ْليَ ْ‬
‫صفَ ُحوا أ َ ال ت ُ ِحبُّونَ‬ ‫ين َ‬ ‫يُؤْ تُوا )يعطوا (أُو ِلي ْالقُ ْربى )ذوي الرحم( َو ْاليَتامى َو ْال َمسا ِك ِ‬
‫ّللا عنه على مسطح نفقته وأجراه على عادته ‪ ،‬وقوله ‪«:‬‬ ‫ّللاُ لَ ُك ْم )فرد أبو بكر رضي ه‬ ‫أ َ ْن يَ ْغ ِف َر َّ‬
‫أ َ ْن تَبَ ُّروا »معناه أن ال تبروا ‪ ،‬فحذف لداللة الكالم عليه ‪ ،‬قال امرؤ القيس ‪ [ :‬فقلت يمين ه‬
‫ّللا‬
‫أبرح قاعدا ] أراد ال أبرح ‪ ،‬فحذف ال لداللة الكالم عليه ‪ ،‬والعرضة القوة والشدة ‪ ،‬وقد قيل‬
‫هو من عرضت العود على اإلناء إذا غطيته به خوفا أن يصل إلى اإلناء شيء ‪ ،‬فجعلته‬
‫باّلل عرضة ‪ ،‬أي حاجزا بينكم وبين فعل الخير«‬ ‫حاجزا ‪ ،‬فكأنه يقول ‪ :‬وال تجعلوا أيمانكم ه‬
‫ع ِلي ٌم »بما تقصدونه بأيمانكم ‪ ،‬قوله تعالى «) ‪ : ( 226‬ال‬ ‫س ِمي ٌع »ما تحلفون به« َ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫َو َّ‬
‫ّللاُ بِاللَّ ْغ ِو فِي أَيْمانِ ُك ْم »يقال لما ال يعتد به من أوالد اإلبل لغو ‪ ،‬أي ساقط ‪ ،‬فكل يمين‬ ‫ؤاخذُ ُك ُم َّ‬ ‫يُ ِ‬
‫أسقط الشرع الكفارة واإلثم على الحالف فتلك اليمين لغو ‪ ،‬ألن الشارع ألغاها وما اعتد بها‬
‫ّللاُ »أي ال يعاقبكم‬ ‫ؤاخذُ ُك ُم َّ‬
‫وأسقط الحكم بالمؤاخذة عن الحالف بها ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬ال يُ ِ‬
‫بالكفارة واإلثم ‪ ،‬وقوله ‪ِ «:‬باللَّ ْغ ِو ِفي أَيْما ِن ُك ْم »أي بما أسقطنا الحكم فيه من األيمان بالمؤاخذة‬
‫وإذا تقرر هذا ‪ ،‬فنقول ‪ :‬إن لغو األيمان عند العلماء بالشريعة‬

‫ص ‪338‬‬

‫ص ‪344 :‬‬
‫ور َح ِلي ٌم »الحليم هو القادر على األخذ فيؤخر األمر ‪ ،‬ويمهل العبد وال يهمله ‪ ،‬وإنما‬ ‫غف ُ ٌ‬
‫ّللاُ َ‬
‫َو َّ‬
‫يؤخره ألجل معدود وال يمحوه ‪ ،‬ألنه يبدله بالحسنى فيكسوه حلة الحسن وهو هو بعينه ‪،‬‬
‫ّللا وكرمه على عبيده ‪ ،‬ولهذا وصف الذنوب بالمغفرة وهي الستر ‪ ،‬وما وصفها‬ ‫ليظهر فضل ه‬
‫ور َح ِلي ٌم »وال حليم إال أن‬‫غف ُ ٌ‬
‫ّللاُ َ‬
‫بذهاب العين ‪ ،‬وإنما يسترها بثوب الحسن ‪ ،‬لهذا قال ‪َ «:‬و َّ‬
‫يكون ذا اقتدار ‪ ،‬فإن صاحب العجز عن إنفاذ اقتداره ال يكون حليما‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫على قسمين ‪ :‬منها مقصودة وغير مقصودة ومشتبهة ‪ ،‬فغير المقصودة منها هو الذي يجري‬
‫وّللا ‪ ،‬من غير قصد لليمين بقلبه للعادة التي‬‫باّلل ‪ ،‬وال ه‬ ‫على ألسنة الناس من قولهم ‪ ،‬ه‬
‫استصحبوها في كالمهم ‪ ،‬فهذه اليمين لغو ‪ ،‬وبذلك فسرته عائشة ‪ ،‬وأما اليمين األخرى‬
‫المشتبهة فيمين المحرج والغضبان ‪ ،‬فقد تشبه أن تكون مقصودة وأن تكون غير مقصودة ‪،‬‬
‫فجعلها القاضي إسماعيل من لغو اليمين ‪ ،‬وأما األيمان المقصودة فمنها أن يحلف الحالف أن‬
‫األمر كذا وال يعلم أن األمر في نفسه على خالف ما حلف عليه ‪ ،‬فهذا من لغو اليمين عند مالك‬
‫وغيره ‪ ،‬ومنها أن يحلف أن يفعل معصية ‪ ،‬فهذه اليمين لغو عند ابن عباس ‪ ،‬ومن لغو اليمين‬
‫أن يحلف على ما ال يملك عند ابن عباس أيضا ‪ ،‬ومنها أن يحلف أنه يفعل ما له أن يفعل ‪ ،‬فلم‬
‫يفعل ‪ ،‬ورأى ترك الفعل خيرا له ‪ ،‬فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير ‪ ،‬وجعل ابن عباس‬
‫هذا النوع من لغو اليمين ‪ ،‬وأما يمين المكره وذلك أن يلزمه ذو سلطان يمينا لم يلزمها الشرع‬
‫إياه ‪ ،‬فالظاهر أن الشرع يلغي هذه اليمين وال يجب عليه إبرارها ‪ ،‬وال يعتبر هنا نية‬
‫المستحلف ‪ ،‬إذ ال حق له في استحالفه شرعا ‪ ،‬وهي على نية الحالف ‪ ،‬ولنا في هذا اليمين‬
‫نظر ‪ ،‬وهو إن حلف من هذه صورته على نية المستحلف لزمته ولم تكن لغوا ‪ ،‬ألنه ألزم نفسه‬
‫ما لم يلزمه الشرع ‪ ،‬فقد أوجب على نفسه ‪ ،‬وإن حلف على غير نية المستحلف فهي لغو ال‬
‫ت قُلُوبُ ُك ْم »أي‬ ‫ؤاخذُ ُك ْم »أي يلزمكم الكفارة واإلثم« بِما َك َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫يلزمه فيها حكم ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬ول ِك ْن يُ ِ‬
‫بما تعمدت قلوبكم اليمين عليه وهو باطل ‪ ،‬يقول ‪ :‬ولكن يعاقبكم إذا قصدتم باليمين قطع حق‬
‫يجب عليكم أداؤه ‪ ،‬أنه ليس كذلك أو هو كذلك ‪ ،‬وأنت تعلم أنك كاذب في يمينك ‪ ،‬فهذا هو‬
‫اليمين التي شرع فيها الكفارة ‪ ،‬إال عند بعض الناس ‪ ،‬فإنه ال كفارة في اليمين الغموس وهي‬
‫غفُو ٌر »لما وقع منكم من األيمان لغوا وعقدا ‪ ،‬حيث أسقط المؤاخذة في‬ ‫ّللاُ َ‬
‫هذه ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َّ‬
‫اللغو وشرع الكفارة في األخرى ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬ح ِلي ٌم »أي من حلمه ما عجل عليكم بالعقوبة‬
‫وأمهلكم لتتوبوا على قول من ال يرى الكفارة ‪ ،‬وعلى قول من يرى الكفارة في اليمين الغموس‬
‫ليكون حليما ‪ ،‬حيث جعل الكفارة برفع العقوبة ولم يؤاخذكم بما فعلتموه من إسقاط حرمة اسم‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ه‬

‫ص ‪339‬‬

‫ص ‪345 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 226‬إلى ‪227‬‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪َ ) 226‬و ِإ ْن‬ ‫ّللا َ‬
‫غفُ ٌ‬ ‫ص أ َ ْربَعَ ِة أ َ ْ‬
‫ش ُه ٍر فَ ِإ ْن فا ُؤ فَ ِإ هن ه َ‬ ‫ون ِم ْن نِسائِ ِه ْم ت َ َربُّ ُ‬ ‫ِللهذ َ‬
‫ِين يُ ْؤلُ َ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 227‬‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ّللا َ‬‫ق فَ ِإ هن ه َ‬
‫طل َ‬‫ع ََز ُموا ال ه‬
‫لما علم سبحانه أن االفتراق ال بد منه لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن أكثر الناس ‪ ،‬شرع‬
‫الطالق رحمة بعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم ‪ ،‬محمودين غير مذمومين إرغاما للشياطين‬
‫ّللا حالال أبغض‬‫ّللا عليه وسلم قال ‪ :‬ما خلق ه‬ ‫‪ ،‬ومع هذا فقد ورد في الخبر النبوي أنه صلهى ه‬
‫إليه من الطالق‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫حيث حلفتم به كاذبين وأنتم تعلمون أنه يعلم منكم خالف ما حلفتم عليه ‪ ،‬وأما إضافة األيمان‬
‫إلينا فيدل ظاهرا على كل ما نحلف به عرفا وشرعا مما يسمى يمينا عندنا ‪ ،‬إال أن يخرج‬
‫باّلل أو‬‫الشرع من ذلك شيئا مثل قوله ‪ [ :‬ال تحلفوا بآبائكم ] وقوله ‪ [ :‬من كان حالفا فليحلف ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فانقسمت‬ ‫ليصمت ] وال أعرف في صفة األيمان المعتبرة يمينا متفقا عليها إال اليمين ه‬
‫األيمان إلى قسمين ‪:‬‬
‫إلى ما يجوز أن يحلف به ‪ ،‬وإلى ما ال يجوز أن يحلف به ‪ ،‬وما من قسم جوزته طائفة إال‬
‫باّلل وبأسمائه وبصفاته وبأفعاله وما عظمه الشرع ‪ ،‬وما عندنا‬ ‫ومنعته أخرى ‪ ،‬من الحلف ه‬
‫ّللا في‬
‫ّللا أقسم بشيء دون نفسه ‪ ،‬ولكن ثم ظواهر ‪ ،‬وسيرد الكالم في األيمان إن شاء ه‬ ‫نص أن ه‬
‫سورة المائدة ‪ ،‬ثم قال من األيمان «) ‪ِ : ( 227‬للَّذِينَ يُؤْ لُونَ ِم ْن نِسائِ ِه ْم ت َ َرب ُ‬
‫ُّص أ َ ْربَعَ ِة أ َ ْش ُه ٍر‬
‫»اإليالء اليمين يقال ‪:‬‬
‫آليت على الشيء آلية إذا حلفت عليه ‪ ،‬واإليالء المعلوم في هذه اآلية أن يحلف الرجل أن ال‬
‫يطأ امرأته سواء كان على غضب أو غير غضب ‪ ،‬فإن العلماء اختلفوا في ذلك ‪ ،‬فقال ابن‬
‫عباس ال إيالء إال بغضب ‪ ،‬واألوجه أن ال يعتبر في اإليالء موجب ‪ ،‬وال يعتبر فيه إال العزم‬
‫على ترك الجماع ‪ ،‬وسواء كان بيمين أو بغير يمين ‪ ،‬فإن كان بيمين وفاء كفر ‪ ،‬وإن كان بغير‬
‫يمين وفاء لم يكفر ‪ ،‬فليس لليمين هنا حكم إال الكفارة ‪ ،‬وإنما جاءت لفظة اإليالء إذ كان الغالب‬
‫أن ال يقع مثل هذا من الرجل إال بيمين ‪ ،‬وقد يقع في الغالب عن الغضب ‪ ،‬ولهذا اعتبره ابن‬
‫ّللا تعالى ال يزاد فيه ‪ ،‬فمن زاد فيه‬ ‫ُّص أ َ ْربَعَ ِة أ َ ْش ُه ٍر »فهو حكم من ه‬
‫عباس ‪ ،‬وأما قوله ‪ «:‬ت َ َرب ُ‬
‫ّللا ‪ ،‬وسواء قيد المولي مدة هي األربعة أشهر أو أكثر أو أطلقها ‪ ،‬فإنها‬ ‫فقد شرع ما لم يأذن به ه‬
‫ُّص أ َ ْربَعَ ِة أ َ ْش ُه ٍر فَإِ ْن فا ُؤ »يعني فيها أي في‬ ‫ال تبلغ إال أربعة أشهر خاصة ‪ ،‬ألنه قال ‪ «:‬ت َ َرب ُ‬
‫هذه المدة ‪ ،‬يقول ‪ :‬رجعوا ‪ ،‬وال بد من الجماع في الرجوع فإن لم يجامع فاإليالء باق على‬
‫حكمه ‪ ،‬ألن اإليالء والعزم وقع على ترك الجماع ‪ ،‬فال تكون الفيئة إال بوقوعه ‪ ،‬والمفهوم من‬
‫الشرع في تعيين مدة اإليالء إنما هو‬

‫ص ‪340‬‬

‫ص ‪346 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪228‬‬
‫حام ِه هن ِإ ْن‬‫ّللاُ فِي أ َ ْر ِ‬ ‫وء َوال يَ ِح ُّل لَ ُه هن أ َ ْن يَ ْكت ُ ْم َن ما َخلَ َ‬
‫ق ه‬ ‫س ِه هن ثَلثَةَ قُ ُر ٍ‬ ‫ْن ِبأ َ ْنفُ ِ‬
‫َوا ْل ُم َطلهقاتُ يَت َ َربهص َ‬
‫ق ِب َر ِ هد ِه هن فِي ذ ِلكَ ِإ ْن أَرادُوا ِإصْلحا ً َولَ ُه هن ِمثْ ُل‬ ‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوبُعُولَت ُ ُه هن أ َ َح ُّ‬
‫ك هُن يُ ْؤ ِم هن ِب ه ِ‬
‫يز َح ِكي ٌم ( ‪) 228‬‬ ‫ّللاُ ع َِز ٌ‬ ‫علَ ْي ِه هن د ََر َجةٌ َو ه‬ ‫لرجا ِل َ‬ ‫وف َو ِل ِ ه‬ ‫علَ ْي ِه هن ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬ ‫الهذِي َ‬
‫علَ ْي ِه َّن َد َر َجةٌ » ]‬ ‫لرجا ِل َ‬ ‫[ « َو ِل ِ ه‬
‫علَ ْي ِه َّن َد َر َجةٌ »اعلم أن‬ ‫لرجا ِل َ‬
‫القرء من ألفاظ األضداد ‪ ،‬ينطلق على الحيض والطهر ‪َ «. . .‬و ِل ِ ه‬
‫اإلنسانية لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة ‪ ،‬لم يكن للرجال على النساء درجة‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫رفع الضرر عن المرأة ورعاية المصلحة لها ‪ ،‬فإن ورد حكم من الشارع يناقض هذه المصلحة‬
‫في بعض ما في هذه المسألة من األحكام وقفنا عنده في ذلك ‪ ،‬واعتبرنا المصلحة ورفع‬
‫الضرر فيما عدا ذلك الوجه الذي ورد فيه الحكم ‪ ،‬ثم إن كان اإليالء بيمين معتبرة في الشرع‬
‫فسبيلها عندنا سبيل األيمان ‪ ،‬فإن كان اإليالء بيمين غير مشروعة ‪ ،‬فال إيالء فال كفارة لو وقع‬
‫الفيء منه ‪ ،‬وبقي الحكم ينسحب على العزم إلى آخر المدة ما لم يجامع ‪ ،‬فإذا انقضت المدة‬
‫المشروعة وما فاء طلقت وال عدة عليها إن كانت قد حاضت في تلك المدة ثالث حيض ‪ ،‬وإن‬
‫انتقص من ذلك شيء أتمته بعد الطالق ‪ ،‬إذ كانت العدة مشروعة هنا لبراءة الرحم ‪ ،‬وهذه‬
‫وجدت مع ما انضاف إلى ذلك من المصلحة المعتبرة في هذه المسألة ‪ ،‬فترجح هنا على من‬
‫يرى أن العدة عبادة غير معللة ‪ ،‬فإن اإليالء يشبه طالق الرجعة ‪ ،‬والمدة في اإليالء تشبه‬
‫العدة في الطالق الرجعي ‪ ،‬ويكون الطالق بائنا بعد انقضاء المدة لما فيه من المصلحة للمرأة ‪،‬‬
‫ووجود الضرر لو كان رجعيا ‪ ،‬لما يبقى له من الحكم عليها ‪ ،‬والعزم على الطالق أن ال يفيء‬
‫في تلك المدة ‪ ،‬فإن العازم على عدم الفيئة يحدث نفسه بالطالق ‪ ،‬وإن أوقع الحديث فال شك أن‬
‫ّللا سميع حديثه في نفسه ‪ ،‬فهذا قوله ‪ ( :‬وإن عزموا الطالق فإن هللا سميع )بما يحدث به نفسه‬ ‫ه‬
‫ع ِلي ٌم )بما قصده ونواه من ذلك ‪ ،‬والحر والعبد في هذه المسألة في الحكم سواء ‪ ،‬وما‬ ‫من ذلك( َ‬
‫من وجه ذهبنا إليه إال وفيه خالف بين العلماء ‪ ،‬والذي يتعلق بهذه اآلية من الترجمة قوله «‪:‬‬
‫ِللَّذِينَ يُؤْ لُونَ »أي يحلفون« ِم ْن ِنسا ِئ ِه ْم »من أجل نسائهم أن ال يجامعوهن« ت َ َرب ُ‬
‫ُّص أ َ ْربَعَ ِة‬
‫أ َ ْش ُه ٍر »تنتظر به انقضاء هذه المدة «فَإِ ْن فا ُؤ »أي رجعوا إما في األربعة أشهر أو عند‬
‫غف ُ ٌ‬
‫ور َر ِحي ٌم »أي‬ ‫انقضائها يحتمل فيه الوجهان« فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬

‫ص ‪341‬‬

‫ص ‪347 :‬‬
‫من حيث اإلنسانية ‪ ،‬ففضل الذكور على اإلناث مفاضلة عرضية ال ذاتية ‪ ،‬وإنما كانت الدرجة‬
‫هي أن حواء منفعلة عن آدم مستخرجة متكونة من الضلع القصير ‪ ،‬والمنفعل ال يقوى قوة‬
‫الفاعل ‪ ،‬فقصرت بذلك أن تلحق بدرجة من انفعلت عنه ‪ ،‬فال تعلم من مرتبة الرجل إال حد ما‬
‫خلقت منه وهو الضلع ‪ ،‬فقصر إدراكها عن حقيقة الرجل ‪ ،‬فبهذا القدر يمتاز الرجال عن‬
‫النساء ‪ ،‬ولهذا كانت النساء ناقصات العقل عن الرجال ‪ ،‬ألنهن ما يعقلن‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫غفور لما وقع منهم من اإليالء إذ كان مكروها ‪ ،‬فإنه مناقض لقوله تعالى ( ‪ِ :‬لت َ ْس ُكنُوا ِإلَيْها‬
‫)فكأن المولي لما لم يعتبر العلة التي لها كان التزويج ‪ ،‬كره له ذلك ‪ ،‬وضرب له أجل ‪ ،‬وغفر‬
‫ّللا له برجوعه عن ذلك ‪ ،‬فكان رحيما به من حيث أنه تعالى غفر له ‪ ،‬ورحيما بالمرأة حيث‬ ‫ه‬
‫رد عليها زوجها بالعطف ‪ ،‬ولم يكن اإليالء مكروها في حق النبي عليه السالم ألنه األسوة ‪،‬‬
‫كرهه الناس (‬ ‫ّللا وإن ه‬ ‫ّللا عليه لتبيين الحكم في ذلك ‪ ،‬وأنه ال يأتي مكروها يكرهه ه‬ ‫فأجراه ه‬
‫س ِمي ٌع »يحتمل‬ ‫ّللا َ‬ ‫الطالقَ »يقول ‪ :‬فإن رجح الطالق على الفيئة« فَإِ َّن َّ َ‬ ‫عزَ ُموا َّ‬
‫‪َ «) 228‬و ِإ ْن َ‬
‫التلفظ بالطالق أو حديث النفس به ‪ ،‬ولذلك اشترط بعضهم التلفظ بالطالق وحينئذ يقع ‪ ،‬وأنه ال‬
‫ع ِلي ٌم »قد يكون بما‬ ‫يقع بانقضاء المدة عنده وال بالعزم ‪ ،‬فإن العزم غير مسموع ‪ ،‬لكن قوله «‪َ :‬‬
‫عزم عليه من الطالق بترك الفيئة في هذه المدة ‪ ،‬فتطلق باالنقضاء ‪ ،‬ويكون سميع إن تكلم‬
‫بالطالق ‪ ،‬مع الخالف الذي بين أهل النظر في معنى السميع ‪ ،‬فأتى سبحانه باالسمين جميعا‬
‫صنَ ِبأ َ ْنفُ ِس ِه َّن ثَالثَةَ قُ ُروءٍ »هذا عام في‬ ‫لوجود الحالتين ‪ ،‬قوله «) ‪َ : ( 229‬و ْال ُم َ‬
‫طلَّقاتُ يَت َ َربَّ ْ‬
‫كل حرة مدخول بها مطلقة تحيض ‪ ،‬فتخرج من هذه اآلية من المطلقات اليائسة ‪ ،‬والتي لم تبلغ‬
‫المحيض ‪ ،‬والحامل ‪ ،‬واألمة ‪ ،‬وغير المدخول بها ‪ ،‬والمرتفعة الحيض في سن الحيض ‪،‬‬
‫والمستحاضة ‪ ،‬والمرتابة بالحمل لحس تجده في بطنها ‪ ،‬وغير المرتابة وهي التي عرفت سبب‬
‫انقطاع دمها من مرض أو جماع ‪ ،‬والمطلقة التي تتربص ثالثة قروء هي ما ذكرنا ‪ ،‬ولكل‬
‫صنَ ِبأ َ ْنفُ ِس ِه َّن »يلبثن بغير نكاح ‪،‬‬ ‫جنس مما خرج عن هذا عدة من المطلقات ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬يَت َ َربَّ ْ‬
‫أي ال يتزوجن« ثَالثَةَ قُ ُروءٍ »يعني هذه المدة ‪ ،‬واختلف الناس في القرء في هذه اآلية ‪ ،‬فطائفة‬
‫قالت أراد األطهار ‪ ،‬وأخرى قالت الحيض ‪ ،‬واألظهر أنه الحيض لقوله عليه السالم ‪ [ :‬دعي‬
‫الصالة أيام أقرائك ] وقد روي عدة األمة حيضتان ‪ ،‬والقرء في اللسان من األضداد ‪ ،‬يقال‬
‫يض ِم ْن‬ ‫الالئِي يَئِسْنَ ِمنَ ْال َم ِح ِ‬ ‫للحيض والطهر ‪ ،‬ويقوي من يقول إنه الحيض قوله ‪َ ( :‬و َّ‬
‫نِسائِ ُك ْمفَ ِع َّدت ُ ُه َّن ثَالثَةُ أ َ ْش ُه ٍر )فأقام األشهر مقام الحيض ‪ ،‬وهذا ظاهر ليس بنص ‪ ،‬وأيضا فإن‬
‫استبراء الرحم إنما يقع بالحيض ‪ ،‬والظاهر في العدة أنها الستبراء الرحم وقد نقل عن‬

‫ص ‪342‬‬

‫ص ‪348 :‬‬
‫إال قدر ما أخذت المرأة من خلق الرجل في أصل النشأة ‪ ،‬وأما النقصان في الدين فيها فإن‬
‫الجزاء على قدر العمل ‪ ،‬والعمل ال يكون إال عن علم ‪ ،‬والعلم على قدر قبول العالم ‪ ،‬وقبول‬
‫العالم على قدر استعداده في نشأته ‪ ،‬واستعدادها ينقص عن استعداد الرجل ألنها جزء منه ‪،‬‬
‫فال بد أن تتصف المرأة بنقصان الدين عن الرجل ‪ ،‬وقد تبلغ المرأة من الكمال درجة الرجل ‪،‬‬
‫ّللا قبل عقل المرأة ألنه‬
‫غير أن الغالب فضل عقل الرجل على عقل المرأة ‪ ،‬ألنه عقل عن ه‬
‫تقدمها في الوجود ‪ ،‬واألمر اإللهي ال يتكرر ‪ ،‬فالمشهد الذي حصل للمتقدم ال سبيل أن يحصل‬
‫ّللا لما‬
‫للمتأخر ‪ ،‬فالمرأة أنقص درجة من الرجل ‪ ،‬وتلك درجة اإليجاد ألنها وجدت عنه ‪ ،‬فإن ه‬
‫خلق آدم وكان قد سبق في علم الحق إيجاد التوالد والتناسل ‪ -‬والنكاح في هذه الدار إنما هو‬
‫لبقاء النوع ‪ -‬استخرج من ضلع آدم من القصيرى حواء ‪ ،‬فقصرت بذلك عن درجة الرجل كما‬
‫قال تعالى ‪ ،‬فما تلحق بالرجال أبدا ‪ ،‬فآدم أصل لحواء ‪ ،‬فصح لألب األول الدرجة عليها لكونه‬
‫أصال لها ‪ ،‬فالدرجة درجة االنفعال فإنها لما انفعلت عنه كان له عليها درجة السبق ‪ ،‬وكل أنثى‬
‫ّللا صلهى‬
‫من سبق ماء المرأة ماء الرجل وعلوه على ماء الرجل ‪ ،‬هذا هو الثابت عن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم فاعلم ذلك ‪ ،‬فللرجال عليهن درجة فإن الحكم لكل أنثى بماء أمها ‪ ،‬وهنا سر‬
‫ه‬
‫عجيب دقيق روحاني من أجله كان النساء شقائق الرجال ‪ ،‬فخلقت المرأة من شق‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ط ِلهقُو ُه َّن ِل ِع َّدتِ ِه َّن )أي الستقبال‬
‫العرب أقرأت المرأة إذا حاضت ‪ ،‬وامرأة مقرئ ‪ ،‬وقوله ‪ ( :‬فَ َ‬
‫عدتهن ‪ ،‬والطالق المشروع ال يكون إال في طهر لم تجامع فيه ‪ ،‬فإذا طلق فيه كانت األطهار‬
‫غير كاملة ‪ ،‬وال بد أن تكون الثالثة قروء كاملة ‪ ،‬فيتقوى من هذا المجموع أنها الحيض ‪ ،‬فإن‬
‫قيل ‪:‬‬
‫تجوزا وإن لم تكمل ‪ ،‬قلنا ‪ :‬ال نرجع من الحقيقة إلى المجاز إال بدليل ‪ ،‬وهم‬ ‫يقال ثالثة قروء ه‬
‫ّللا عليه وسلم وأنا بمكة‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫بال شك يعتدون بالطهر الذي يطلق فيه ‪ ،‬ولقد رأيت رسول ه‬
‫في المنام سنة تسع وتسعين وخمسمائة ‪ ،‬وهو عليه السالم في الحرم ‪ ،‬فكنت أقول ‪ :‬يا رسول‬
‫صنَ ِبأ َ ْنفُ ِس ِه َّن ثَالثَةَ قُ ُروءٍ »وهو من األضداد ‪ ،‬وأنت أعلم‬ ‫ّللا يقول ‪َ «:‬و ْال ُم َ‬
‫طلَّقاتُ يَت َ َربَّ ْ‬ ‫ّللا إن ه‬
‫ه‬
‫ّللا عليك ‪ ،‬فقال ‪ :‬إذ فرغ قرؤها‬ ‫ّللا بالقرء في هذه اآلية ‪ ،‬إذ أنت أعلم بما أنزل ه‬ ‫بما أراد ه‬
‫ّللا إذن هو الحيض ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فكنت أقول له ‪ :‬يا رسول ه‬ ‫فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬قلت ‪ :‬فإذن هو‬ ‫فتبسم وقال ‪ :‬إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬فتبسم وقال ‪ :‬إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم ه‬ ‫الحيض يا رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فتبسم وما زاد على ذلك ‪ ،‬وكنت أفهم منه في ذلك‬ ‫‪ ،‬فقلت له ‪ :‬فإذن هو الحيض يا رسول ه‬
‫الوقت أنه يريد بقوله إذا فرغ قرؤها إذا انقطع عنها الدم فأفرغوا‬

‫ص ‪343‬‬

‫ص ‪349 :‬‬
‫الرجل ‪ ،‬فهو أصلها ‪ ،‬فله عليها درجة السببية ألنها عنه تولدت ‪ ،‬فلم تزل الدرجة تصحبه‬
‫عليها في الذكورة على األنوثة ‪ ،‬وإن كانت األم سببا في وجود االبن فابنها يزيد عليها بدرجة‬
‫الذكورة ألنه أشبه أباه من جميع الوجود ‪ ،‬فال تقل هذا مخصوص بحواء ‪ ،‬فكل أنثى كما‬
‫أخبرتك من مائها أي من سبق مائها وعلوه على ماء الرجل ‪ ،‬وكل ذكر من سبق ماء الرجل‬
‫وعلوه على ماء األنثى ‪ ،‬فليست المرأة بكفء للرجل ‪ ،‬فإن المنفعل ما هو كفؤ لفاعله ‪ ،‬وحواء‬
‫منفعلة عن آدم فله عليها درجة الفاعلية ‪ ،‬فليست له بكفء من هذا الوجه ‪ ،‬ولقوله تعالى «‪:‬‬
‫علَ ْي ِه َّن َد َر َجةٌ »ولم يجعل عيسى عليه السالم منفعال عن مريم حتى ال يكون الرجل‬ ‫لرجا ِل َ‬
‫َو ِل ِ ه‬
‫منفعال عن المرأة كما كانت حواء عن آدم ‪ ،‬فتمثل لها جبريل أو الملك بشرا سويا ‪ ،‬وقال لها ‪:‬‬
‫غالما ا زَ ِكيًّا )فوهبها عيسى عليه السالم ‪ ،‬فكان انفعال عيسى عن‬
‫َب لَ ِك ُ‬ ‫( أَنَا َر ُ‬
‫سو ُل َر ِبه ِك ِألَه َ‬
‫الملك الممثل في صورة الرجل ‪ ،‬وإن كان لمريم درجة فعلى عيسى ال على الرجال ‪ ،‬فالدرجة‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬كمل من الرجال كثيرون ومن النساء مريم بنت‬ ‫لم تزل باقية ‪ ،‬وأما قوله صلهى ه‬
‫عمران وآسية امرأة فرعون ‪ ،‬فاجتمع الرجال والنساء في درجة الكمال ‪ ،‬فاعلم أن فضل‬
‫الرجال باألكملية ال الكمالية ‪ ،‬فإن كمال بالنبوة فقد فضل الرجال بالرسالة‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا كناية عن الجماع ‪ ،‬بيهن في هذا الحديث‬ ‫عليها الماء ‪ ،‬أي مروها بالغسل ‪ ،‬وكلوا مما رزقكم ه‬
‫صحة مذهب من يقول إن الحائض إذا طهرت ال يقربها زوجها إال بعد استعمال الماء ‪،‬‬
‫ويرجحه قول المخالف ‪ ،‬ويريد به االغتسال المشروع بقوله عليها ‪ ،‬وال خالف أنه األولى عند‬
‫الكل ‪ ،‬وبالجملة إن اآلية مجملة ال يظهر فيها ترجيح ‪ ،‬وإنما يطلب الدليل من جهة أخرى ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم يقولون األقراء هي‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال أحمد بن حنبل ‪ :‬األكابر من أصحاب رسول ه‬
‫الحيض ‪ ،‬ومما يؤيد عندي أنها الحيض قوله تعالى في هذه اآلية ‪َ «:‬وال يَ ِح ُّل لَ ُه َّن أ َ ْن يَ ْكت ُ ْمنَ ما‬
‫ّللا في أرحامهن إنما هو الدم ‪ ،‬والطهر عبارة عن عدم‬ ‫حام ِه َّن »فإن الذي خلق ه‬ ‫ّللاُ فِي أ َ ْر ِ‬ ‫َخلَقَ َّ‬
‫ّللا العدم ‪ ،‬ألن العدم ال شيء ‪ ،‬وهذا من بعض وجوه ما يحتمله لفظ اآلية‬ ‫الدم ‪ ،‬وال يقال خلق ه‬
‫ّللا عليهن أن يكتمن أزواجهن الحيض ويقلن قد طهرت استعجاال‬ ‫‪ ،‬فكأنه يريد إذا طلقن حرم ه‬
‫للطالق لما له عليها من حكم الرجعة في زمان العدة ‪ ،‬وهذا التأويل في اآلية ظاهر ‪ ،‬ويريد‬
‫أيضا كتمان الولد ‪ ،‬تكتم حملها لئال يضن بالطالق ‪ ،‬وهذا الوجه أيضا سائغ في اآلية ‪ ،‬ثم قال‬
‫اّلل َو ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر »يقول ‪:‬‬
‫‪ «:‬إِ ْن ُك َّن يُؤْ ِم َّن بِ َّ ِ‬
‫ّللا يؤاخذهن على ذلك ويعاقبهن في الدار‬ ‫باّلل ‪ ،‬أي يصدقن بأن ه‬‫ال يفعلن ذلك إن كن يؤمن ه‬
‫ّللا له فيه حكم على عباده وأنه مسؤول ‪ ،‬ال يقدم‬ ‫اآلخرة ‪ ،‬فإنه من صدهق باليوم اآلخر وأن ه‬

‫ص ‪344‬‬

‫ص ‪350 :‬‬
‫والبعثة ‪ ،‬ولم يكن للمرأة درجة البعثة والرسالة ‪ ،‬فالمرأة ناقصة عن الرجل بالدرجة التي‬
‫بينهما ‪ ،‬وإن كملت المرأة فما كمالها كمال الرجل ألجل تلك الدرجة ‪ ،‬فمن جعل الدرجة كون‬
‫حواء وجدت من آدم فلم يكن لها ظهور إال به فله عليها درجة السببية فال تلحقه فيها أبدا ‪،‬‬
‫وهذه قضية في عين ‪ ،‬ونقابلها بمريم في وجود عيسى ‪ ،‬فإذا الدرجة ما هي سبب ظهورها عنه‬
‫وإنما المرأة محل االنفعال والرجل ليس كذلك ‪ ،‬ومحل االنفعال ال يكون له رتبة أن يفعل ‪ ،‬فلها‬
‫يز َح ِكي ٌم »يضع األمور مواضعها وينزلها منازلها ‪ -‬إشارة ‪ -‬ال تسبقك اإلناث‬ ‫ع ِز ٌ‬
‫ّللاُ َ‬
‫النقص « َو َّ‬
‫إلى الحق ‪ ،‬فينلن ذكوريتك وتنال أنوثتهن‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫على مثل هذا ‪ ،‬وهذه اآلية من أصعب شيء على من يرى أن اإليمان هو التصديق فقط ‪ ،‬فإن‬
‫الشرط إذا انتفى انتفى المشروط ‪ ،‬واإلقرار بما في أرحامهن شرط في وجود اإليمان ‪ ،‬وقد‬
‫صالحا ا‬ ‫انتفى بالكتمان فينتفي اإليمان ‪ ،‬ثم قال «‪َ :‬وبُعُولَت ُ ُه َّن أ َ َح ُّق ِب َر ِ هد ِه َّن فِي ذ ِل َك ِإ ْن أَرادُوا ِإ ْ‬
‫»الظاهر من هذا الكالم أن للمرأة حقا في الرجعة ‪ ،‬فإذا أبت الرجعة وهي في العدة رجح‬
‫الشارع إرادة زوجها رجعتها على إباءتها في ذلك ‪ ،‬أي في زمان العدة ‪ ،‬وقوله ‪ِ «:‬إ ْن أَرادُوا‬
‫صالحا ا »يعني البعولة إن أراد الزوج بالرجعة إصالحا ‪ ،‬فإن أراد ضرارا بها فهو آثم عند ه‬
‫ّللا‬ ‫إِ ْ‬
‫ّللا في رحمها ألن تضر زوجها بقطع ما له من الحق في ذلك ‪،‬‬ ‫‪ ،‬كما أنها إن كتمت ما خلق ه‬
‫فهي تأثم في ذلك ‪ ،‬فهذا في مقابلة ذلك ‪ ،‬وإرادته اإلصالح أو غير اإلصالح شيء في نفس‬
‫ّللا ‪ ،‬فيحكم له بالمراجعة ظاهرا كما يحكم لها إن كتمت بعدم المراجعة‬ ‫الزوج ال يعلمه إال ه‬
‫وّللا يتولى السرائر ‪ ،‬البعل زوج المرأة ويجمع على بعول وبعولة وقوله ‪َ «:‬ولَ ُه َّن‬ ‫ظاهرا ‪ ،‬ه‬
‫وف »يقول ‪ :‬ولهن من الحقوق الواجبة على أزواجهن بالشرع مثل‬ ‫علَ ْي ِه َّن ِب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫ِمثْ ُل الَّذِي َ‬
‫الذي ألزواجهن عليهن من الحقوق الواجبة ‪ ،‬والمثلية في الوجوب ال فيما يجب من األفعال ‪،‬‬
‫وف »أي بما ال ينكره الشرع ‪ ،‬فال تكلفه ما لم يجوز لها الشرع تكليفه ‪ ،‬وال‬ ‫وقوله ‪ «:‬بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫علَ ْي ِه َّن َد َر َجةٌ »وهي كون‬ ‫لرجا ِل َ‬ ‫يكلفها الزوج ما لم يجوز له الشرع أن يكلفها ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬و ِل ِ ه‬
‫يز »أي غالب لمن نازعه فيما أمر‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫ّللاُ َ‬‫ّللا بيده من ذلك« َو َّ‬ ‫أمرها بيده وحكمه عليها بما ألقى ه‬
‫به وتعدى حدوده ‪ ،‬المرأة بالكتمان والرجل باإلضرار ‪ ،‬وقوله «‪َ :‬ح ِكي ٌم »أي عليم بتعيين ما‬
‫الق »الذي يملك الرجل‬ ‫الط ُ‬ ‫ينبغي أن يعاقب به من يفعل هذا الفعل المعين ‪ ،‬يقول ‪َّ «) 230 ( :‬‬
‫تان »ألن الثالثة ال يملك رجعتها فيه وال بعده إال حتى تنكح زوجا غيره ‪،‬‬ ‫به الرجعة« َم َّر ِ‬
‫ساك بِ َم ْع ُروفٍ »في نفس الطالق الرجعي ألن أمرها بيده ‪ ،‬متى‬ ‫وترضى برجوعها إليه« فَإِ ْم ٌ‬
‫شاء راجعها ‪ ،‬فله أن يعاشرها ويعاملها في ذلك الحال بالمعروف ‪ ،‬ال بما‬

‫ص ‪345‬‬

‫ص ‪351 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪229‬‬
‫سان َوال يَ ِح ُّل لَ ُك ْم أ َ ْن تَأ ْ ُخذُوا ِم هما آت َ ْيت ُ ُمو ُه هن‬
‫س ِري ٌح ِب ِإحْ ٍ‬ ‫وف أ َ ْو ت َ ْ‬
‫تان فَ ِإ ْمساكٌ ِب َم ْع ُر ٍ‬
‫ق َم هر ِ‬ ‫طل ُ‬ ‫ال ه‬
‫علَ ْي ِهما فِي َما ْ‬
‫افتَدَتْ‬ ‫ح َ‬‫ّللا فَل ُجنا َ‬ ‫ّللا فَ ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم أَاله يُ ِقيما ُحدُو َد ه ِ‬
‫ش ْيئا ً ِإاله أ َ ْن يَخافا أَاله يُ ِقيما ُحدُو َد ه ِ‬
‫َ‬
‫ون ) ‪( 229‬‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫ّللا فَأُول ِئكَ ُه ُم ال ه‬
‫ّللا فَل ت َ ْعتَدُوها َو َم ْن يَتَعَ هد ُحدُو َد ه ِ‬
‫ِب ِه ِت ْلكَ ُحدُو ُد ه ِ‬
‫من قال بالرجعة بعد ما طلق فما طلق ‪ ،‬وكان صاحب شبهة فيما نطق أنه به تحقق ‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن كذلك فهو أخرق ‪ ،‬الطالق الرجعي رحمة بالجاهل الغبي ‪ ،‬ولو قلنا في الرجال‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سان »وهي الطلقة‬ ‫ال يجيز له الشرع أن يعاملها به وينكر عليه ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬أ َ ْو تَس ِْري ٌح بِإِ ْح ٍ‬
‫الثالثة ‪ ،‬يقول ‪ :‬وإن عجز عن المعروف في اإلمساك ألسباب يعرفها من جهته فليسرحها‬
‫ّللا تعالى في تسريحها‬ ‫بإحسان ‪ ،‬فمن اإلحسان أن ال يخالعها بشيء يأخذه منها ‪ ،‬ويستحي من ه‬
‫فال يرزؤها في شيء من نفسها بضرب وغيره وعرضها بكالم قبيح يسمعها ‪ ،‬ومال بشيء‬
‫ّللا كأنك‬
‫يأخذه منها مما وهبها إياه أو استحقته عليه ‪ ،‬وقال عليه السالم ‪ [ :‬اإلحسان أن تعبد ه‬
‫ّللا يَرى )ومن إحسانه إليها في هذا‬ ‫ّللا( أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ْم ِبأ َ َّن َّ َ‬
‫تراه ] فلهذا فسرناه هنا بالحياء من ه‬
‫التسريح أن يترك لها حقا يستوجبه عليها ‪ ،‬أو يدفع لها شيئا من عنده تستعين به في زمان‬
‫ّللا عليه وسلم‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫عدتها فضال منه ‪ ،‬وكل ذلك من مكارم األخالق الذي بعث رسول ه‬
‫ساك بِ َم ْع ُروفٍ »أي بعد أن يراجعها« أ َ ْو تَس ِْري ٌح بِإِ ْح ٍ‬
‫سان »في‬ ‫ليتمها ‪ ،‬أو يريد بقوله ‪ «:‬فَإِ ْم ٌ‬
‫وقوع الطالق بعد المراجعة ‪ ،‬وإنما جعلنا هذا التفسير في الثالثة من أجل فاء التعقيب من قوله‬
‫تان )وإنما من حيث المعاملة ‪ ،‬فهذا يلزمه شرعا في‬ ‫الطال ُق َم َّر ِ‬ ‫ساك »بعد قوله ( ‪َّ :‬‬ ‫‪ «:‬فَإِ ْم ٌ‬
‫شيْئا ا »يقول ‪ :‬وحرمت عليكم ‪،‬‬ ‫الطلقة األولى ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬وال يَ ِح ُّل لَ ُك ْم أ َ ْن تَأ ْ ُخذُوا ِم َّما آت َ ْيت ُ ُمو ُه َّن َ‬
‫إذ كان ضد الحل الحرمة ‪ ،‬ال من أجل قوله ‪ « :‬ال » وإنما ذلك من أجل الفعل الذي دخل عليه‬
‫شيْئا ا »يقول ‪ :‬وهبتموهن شيئا ‪ ،‬فإن العائد في هبته‬ ‫النهي وقوله «‪:‬أ َ ْن تَأ ْ ُخذُوا ِم َّما آت َ ْيت ُ ُمو ُه َّن َ‬
‫كالكلب يعود في قيئه ‪ ،‬وأما الصداق وما ألزمه الشرع من الكسوة والنفقة فذلك حق لها ‪ ،‬وقد‬
‫نال منها العوض لذلك ‪ ،‬فإذا حرم عليه أن يأخذ ما وهبها منها مع أنه يمكن أن يعود في هبته‬
‫لقلة مروءته وخساسة نفسه وأن له في ذلك حقا ما لم تكافيه على ذلك بقيمته ‪ ،‬فمن باب‬
‫األحرى واألولى أن يحرم عليه وال يحل له أن يأخذ مما أعطاها من صداق وإنفاق يلزمه‬

‫ص ‪346‬‬

‫ص ‪352 :‬‬
‫ّللا من االتفاق ‪ ،‬فإنه نكاح جديد ولذلك‬ ‫بالرجعة في الطالق ‪ ،‬خرقنا في ذلك ما جاء به أهل ه‬
‫يحتاج إلى شهود أو ما يقوم مقام الشهود ‪ ،‬من حركة ال تصح إال من مالك غير مطلق ‪ ،‬وكذا‬
‫ّللا فقد‬ ‫ّللا فَأُولئِ َك ُه ُم َّ‬
‫الظا ِل ُمونَ »[ من يتعدى حدود ه‬ ‫هو عند كل محقق ‪َ «. . .‬و َم ْن يَتَعَ َّد ُحدُو َد َّ ِ‬
‫ظلم نفسه ]‬
‫ّللا فقد ظلم نفسه ‪ ،‬ألن لنفسه حدا تقف عنده ‪ ،‬وهي‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬من يتعدى حدود ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫لقبوله العوض ‪ ،‬فكان كالبيع ‪ ،‬والعوض ال يمكن رده ألنه االستمتاع بوطئها ‪ ،‬فأخذ ذلك منها‬
‫ْف تَأ ْ ُخذُونَهُ َوقَ ْد‬ ‫من أكل المال بالباطل إال أن تطيب له نفسا بشيء منه ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬و َكي َ‬
‫غ ِليظا ا )وذاك اإلفضاء ال يصح فيه الرجوع فال‬ ‫ض َوأ َ َخ ْذنَ ِم ْن ُك ْم ِميثاقا ا َ‬ ‫ض ُك ْم إِلى بَ ْع ٍ‬ ‫أ َ ْفضى بَ ْع ُ‬
‫المعوض منه ‪ ،‬ومع هذه الوجوه يسوغ أن يريد بقوله ‪َ «:‬وال يَ ِح ُّل لَ ُك ْم أ َ ْن‬ ‫ه‬ ‫يصح أيضا في‬
‫ش ْيئا ا »أي كل ما وصل إليها منه من صداق وغيره ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ِ «:‬إ َّال‬ ‫تَأ ْ ُخذُوا ِم َّما آت َ ْيت ُ ُمو ُه َّن َ‬
‫ّللا في‬ ‫ّللا »يقول ‪ :‬إال أن يخاف كل واحد منهما أن يتعدى حدود ه‬ ‫أ َ ْن يَخافا أ َ َّال يُ ِقيما ُحدُو َد َّ ِ‬
‫معاشرة صاحبه ‪ ،‬المرأة تخاف من النشوز وما في ضمنه ‪ ،‬والرجل يخاف أن يتعدى فيها حد‬
‫ّللا الذي أمره بالوقوف عنده ‪ ،‬وبالمجموع يجوز االختالع بما آتاها« فَإِ ْن ِخ ْفت ُ ْم »الضمير يعود‬ ‫ه‬
‫على الحكام أو الذين يفتون في الدين من العلماء ‪ ،‬لئال يحجروا عليهما ذلك ‪ ،‬وإن لم يكن لهم‬
‫ذكر ولكن يعرف بقرينة الحال يقول ‪:‬‬
‫علَ ْي ِهما فِي َما ا ْفت َ َد ْ‬
‫ت‬ ‫ّللا »بالمعاشرة« فَال ُجنا َح »أي ال إثم وال حرج« َ‬ ‫فإن خفتم« أ َ َّال يُ ِقيما ُحدُو َد َّ ِ‬
‫ِب ِه »أن تعطيه وأن يأخذ منها ‪ ،‬فإن خافت هي ولم يخف الرجل ذلك فال حرج عليها في البذل‬
‫‪ ،‬ويبقى الرجل فإن نوى بذلك اإلحسان إليها في أخذه ذلك ليعصمها مما يخاف من الوقوع فيه‬
‫من فساد آخرتها ‪ ،‬جاز له أخذه وال جناح عليه ‪ ،‬وإن طلقها ال إلى عوض فهو أولى به ‪ ،‬وأبرأ‬
‫لذمته وأرفع للحرج عنه ‪ ،‬وكذلك في الجانب اآلخر مثله سواء ‪ ،‬وهذا النوع من فراق يسمى‬
‫الخلع ‪ ،‬وهو بذل المرأة للرجل العوض على طالقها ‪ ،‬فإن بذلت كل ما أعطاها عوضا كان‬
‫خلعا ‪ ،‬وإن كان بعضه كان صلحا ‪ ،‬وإن كان أكثره كان فدية ‪ ،‬وإن كان إسقاطه عنه كان‬
‫مباداة ‪ ،‬هذا اصطالح الفقهاء ‪ ،‬وحكم الكل حكم الخلع ‪ ،‬وهل هذا النوع من فراق يسمى طالقا‬
‫فيعتد به في الثالثة ؟ أو يكون فسخا فال يعتد به وتجوز له المراجعة من غير أن تنكح زوجا‬
‫غيره ؟ وهل تلزمها العدة أم ال ؟ والظاهر أن العدة تلزمها فإن العدة من حكم النكاح ال من‬
‫حكم الطالق ‪ ،‬وفي ذلك خالف بين العلماء ‪ ،‬وإنما رجحنا كون العدة من حكم النكاح ألن غير‬
‫ّللا العدة عليها ‪،‬‬ ‫المدخول بها إذا طلقت ال عدة عليها ‪ ،‬ولو كانت العدة من حكم الطالق أوجب ه‬
‫ألن الطالق موجود والنكاح غير موجود ‪ ،‬وهذا النوع من الفراق بائن وال بد ‪ ،‬سواء كان‬
‫فسخا أو طالقا ‪ ،‬من أجل ما افتدت به ‪ ،‬وأنه لو ملك رجعتها مع أخذ مالها ارتفعت الفائدة في‬
‫حقها ‪ ،‬فال بد أن‬

‫ص ‪347‬‬

‫ص ‪353 :‬‬
‫ّللا هو الذي يكون له ‪ ،‬فإذا دخل العبد‬ ‫عليه في نفسها ‪ ،‬وذلك الحد هو عين عبوديتها ‪ ،‬وح هد ه‬
‫ّللا فأولئك هم الظالمون ‪ ،‬ألن‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن يتع هد حدود ه‬ ‫ّللا فقد تعدى حدود ه‬ ‫في نعت الربوبية وهو ه‬
‫حد الشيء يمنع ما هو منه أن يخرج منه وما ليس منه أن يدخل فيه ‪ [.‬سورة البقرة ( ‪: ) 2‬‬
‫اآليات ‪ 230‬إلى ‪] 231‬‬
‫علَ ْي ِهما أ َ ْن يَتَرا َجعا إِ ْن‬ ‫طلَّقَها فَال ُجنا َح َ‬ ‫غي َْرهُ فَإِ ْن َ‬ ‫طلَّقَها فَال ت َ ِح ُّل لَهُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى ت َ ْن ِك َح زَ ْوجا ا َ‬ ‫فَإِ ْن َ‬
‫طلَّ ْقت ُ ُم ال ِنهسا َء فَبَلَ ْغنَ‬
‫ّللا يُبَ ِيهنُها ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُمونَ ( ‪َ ) 230‬وإِذا َ‬ ‫ّللا َوتِ ْل َك ُحدُو ُد َّ ِ‬‫ظنَّا أ َ ْن يُ ِقيما ُحدُو َد َّ ِ‬ ‫َ‬
‫ضرارا ا ِلت َ ْعتَدُوا َو َم ْن يَ ْفعَ ْل‬ ‫س ِ هر ُحو ُه َّن بِ َم ْع ُروفٍ َوال ت ُ ْم ِس ُكو ُه َّن ِ‬ ‫أ َ َجلَ ُه َّن فَأ َ ْم ِس ُكو ُه َّن بِ َم ْع ُروفٍ أ َ ْو َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َوما أ َ ْنزَ َل َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِمنَ‬ ‫ت َّ ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫ّللا ُه ُزوا ا َوا ْذ ُك ُروا نِ ْع َم َ‬
‫ت َّ ِ‬ ‫سهُ َوال تَت َّ ِخذُوا آيا ِ‬ ‫ظلَ َم نَ ْف َ‬
‫ذ ِل َك فَقَ ْد َ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪َ «) 231‬و َم ْن يَ ْفعَ ْل ذ ِل َك‬ ‫ش ْيءٍ َ‬ ‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا ِب ُك ِهل َ‬ ‫ظ ُك ْم ِب ِه َواتَّقُوا َّ َ‬‫ب َو ْال ِح ْك َم ِة يَ ِع ُ‬ ‫ْال ِكتا ِ‬
‫سهُ »ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم ‪َ «. . .‬وا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫ظلَ َم نَ ْف َ‬
‫فَقَ ْد َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ما نصبها من األحكام« فَال‬ ‫يكون بائنا ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬تِ ْل َك ُحدُو ُد َّ ِ‬
‫ّللا فَال ت َ ْعتَدُوها »يريد بحدود ه‬
‫ّللا فَأُول ِئ َك‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َم ْن يَتَعَ َّد ُحدُو َد َّ ِ‬
‫ّللا وال يحرم ما أحل ه‬ ‫ت َ ْعتَدُوها »أي ال يحلل ما حرم ه‬
‫الظا ِل ُمونَ »على قدر ما تعدى منها ‪ ،‬فإن تعدى منها ما يرجع لنفسه كان ظالما لنفسه ‪ ،‬وإن‬ ‫ُه ُم َّ‬
‫طلَّقَها فَال‬
‫تعدى منها ما يرجع إلى غيره كان ظالما لغيره ولنفسه ‪ ،‬ثم قال ‪ «) 231 ( :‬فَإِ ْن َ‬
‫طلَّقَها »يقول ‪ :‬فإن وقع‬ ‫غي َْرهُ »يحتمل أن يريد بقوله ‪ «:‬فَإِ ْن َ‬ ‫ت َ ِح ُّل لَهُ ِم ْن بَ ْع ُد َحتَّى ت َ ْن ِك َح زَ ْوجا ا َ‬
‫ما ذكرناه من الفداء فقد طلقت بعد طلقتين ‪ ،‬فال تحل له حتى تعقد على زوج آخر غيره ‪،‬‬
‫ويحتمل أن ال يعتبر الخلع وال يجعله طالقا وأنه يجوز له مراجعتها إذا خالعها بعد التطليقتين ‪،‬‬
‫ويعتبر صريح الطالق ‪ ،‬يقول ‪ :‬فإن طلقها قبل أن يراجعها برضاها أو بعد مراجعته إياها‬
‫برضاها ‪ ،‬فإنها بائن بالفداء ‪ ،‬فإنها تقع ثالثة إذ كانت بعد تطليقتين ولكن إذا تلفظ في الخلع‬
‫بالطالق أو ينويه طالقا ويجعله مثل الكنايات فال تحل له ‪ ،‬أي هي حرام عليه حتى تتزوج‬
‫بغيره ‪ ،‬فهل تحل بمجرد العقد على الزوج اآلخر لألول أم ال ؟ فظاهر اآلية جواز ذلك ‪ ،‬فإن‬
‫العقد نكاح ‪ ،‬وبه قال ابن المسيب ‪،‬‬

‫ص ‪348‬‬

‫ص ‪354 :‬‬
‫ع ِلي ٌم »فيعمل بعلمه ‪ ،‬فما علم أنه يكون كونه ‪ ،‬وما علم أنه ال يكون لم يكونه ‪ ،‬فكان‬ ‫بِ ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ َ‬
‫عمله بعلمه‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫والذي يشترط الوطء في ذلك يفتقر إلى نص من الشرع ‪ ،‬وقد ورد في ذلك حديث ولكن فيه‬
‫نظر من حيث أنه قضية في عين ‪ ،‬وتتضمن هذه اآلية صحة نكاح المحلل ‪ ،‬فإنه أرسله مطلقا‬
‫ّللا المحلل والمحلل له ] مخرج اللغو‬ ‫من غير تقييد ‪ ،‬ويخرج قول النبي عليه السالم ‪ [ :‬لعن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬المحلل والمحلل‬ ‫ّللا ‪ ،‬أي أبعد ه‬ ‫في األيمان ‪ ،‬إذ كانت اللعنة بمعنى البعد ‪ ،‬فكأنه قال ‪ :‬لعن ه‬
‫له ‪ ،‬لما في ذلك من عدم الغيرة وقلة المروءة ‪ ،‬فال يريد به الجزم بالدعاء عليهما ‪ ،‬وال‬
‫ّللا أنه أبعدهما من رحمته ‪ ،‬واألظهر أنه بعد من المروءة والغيرة المستحسنة في‬ ‫اإلخبار عن ه‬
‫الرجال ‪ ،‬ولهذا جوز نكاحه من جوزه ‪ ،‬وهو األوجه في المسألة ‪ ،‬إذ كانت لعنة المؤمن حرام‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬والنبي أبعد من كل ما ينهى عنه ‪ ،‬فإنه اتقى هّلل ‪ ،‬وقد روينا عن الحسن بن علي رضي ه‬
‫عنهما أنه قال المرأة مطلقة بالثالث ‪ :‬يا فالنة وهل تستحلي بأحد أفضل مني ‪ ،‬فتبسمت ‪ ،‬فلو‬
‫ّللا عنه ‪،‬‬ ‫فهم من لعنة النبي عليه السالم ما فهم من لم يجوز ذلك لكان الحسن أبعد منه رضي ه‬
‫ط ِهيرا ا )وهو من أهل‬ ‫ط ِ هه َر ُك ْم ت َ ْ‬
‫ت َويُ َ‬‫س أ َ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬
‫الر ْج َ‬ ‫ع ْن ُك ُم ِ ه‬ ‫ّللاُ ِليُ ْذ ِه َ‬
‫ب َ‬ ‫قال تعالى ‪ ( :‬إِنَّما يُ ِري ُد َّ‬
‫ّللا أنه طهرهم وأذهب عنهم الرجس ‪ ،‬وخبره صدق ‪ ،‬وهذا يدل‬ ‫البيت بال شك ‪ ،‬وقد أخبر ه‬
‫ّللا لهم في ذلك وليس ذلك لغيرهم ‪ ،‬فقد رأى‬ ‫على عصمة أهل البيت في حركاتهم وحفظ ه‬
‫علَ ْي ِهما أ َ ْن يَتَرا َجعا »يقول ‪ :‬فإن طلقها الزوج الذي‬ ‫طلَّقَها فَال ُجنا َح َ‬ ‫الحسن نكاح التحليل« فَإِ ْن َ‬
‫ظنَّا أ َ ْن يُ ِقيما ُحدُو َد َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫وقع بنكاحه اإلحالل ‪ ،‬فللزوج األول أن يراجعها ولها أن تراجعه« ِإ ْن َ‬
‫ّللا عليه في معاشرة‬ ‫ّللا فيما أوجبه ه‬ ‫»أي إن غلب على ظنهما أن كل واحد منهما يقوم بحق ه‬
‫ّللا يُبَ ِيهنُها ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُمونَ »يعني‬ ‫صاحبه ‪ ،‬إذ كان سبب الخلع الخوف من ذلك قال «‪َ :‬وتِ ْل َك ُحدُو ُد َّ ِ‬
‫طلَّ ْقت ُ ُم ال ِنهسا َء فَبَلَ ْغنَ أ َ َجلَ ُه َّن فَأ َ ْم ِس ُكو ُه َّن بِ َم ْع ُروفٍ‬‫مواقع الكالم والبيان ‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 232 ( :‬و ِإذا َ‬
‫طلَّ ْقت ُ ُم ال ِنهسا َء فَبَلَ ْغنَ أ َ َجلَ ُه َّن‬
‫ضرارا ا ِلت َ ْعتَدُوا »يقول ‪َ «:‬و ِإذا َ‬ ‫أ َ ْو َ‬
‫س ِ هر ُحو ُه َّن ِب َم ْع ُروفٍ َوال ت ُ ْم ِس ُكو ُه َّن ِ‬
‫»فإن أراد الطلقة التي يملك فيها الرجعة إال أنه لم يراجعها حتى انقضت عدتها على اختالف‬
‫أحوال النساء في العدة ‪ ،‬مثل اليائسة والحائض والتي لم تحض بعد وغيرهن ‪ ،‬وقد يريد في‬
‫الطالق البائن الذي ال يراجعها إال برضاها أو المحلهلة إذا انقضت عدتها من الثاني ‪ ،‬كل ذلك‬
‫سائغ في تأويل هذه اآلية ‪ ،‬وفي الكالم حذف ‪ ،‬وهو فراجعتموهن بعد فراغ األجل« فَأ َ ْم ِس ُكو ُه َّن‬
‫ّللا أن تمسك به ‪ ،‬وإن لم تطق على ذلك فقد جعل لك سراحها فقال ‪«:‬‬ ‫بِ َم ْع ُروفٍ »أي بما أمر ه‬
‫طلَّقَها فَال ُجنا َح‬ ‫ّللا فهو قوله ‪ ( :‬فَإِ ْن َ‬ ‫س ِ هر ُحو ُه َّن ِب َم ْع ُروفٍ »أي ال تسرحوهن بما لم يأمر به ه‬ ‫أ َ ْو َ‬
‫ّللا )ثم قال ‪َ «:‬وال ت ُ ْم ِس ُكو ُه َّن‬ ‫ظنَّا أ َ ْن يُ ِقيما ُحدُو َد َّ ِ‬ ‫علَ ْي ِهما أ َ ْن يَتَرا َجعا ِإ ْن َ‬
‫َ‬

‫ص ‪249‬‬

‫ص ‪355 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 232‬إلى ‪233‬‬
‫ضلُو ُه هن أ َ ْن يَ ْنكِحْ َن أ َ ْزوا َج ُه هن ِإذا تَرا َ‬
‫ض ْوا بَ ْينَ ُه ْم‬ ‫َو ِإذا َطله ْقت ُ ُم ال ِنهسا َء فَبَلَ ْغ َن أ َ َجلَ ُه هن فَل ت َ ْع ُ‬
‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر ذ ِل ُك ْم أ َ ْزكى لَ ُك ْم َوأ َ ْط َه ُر َو ه‬
‫ّللاُ‬ ‫كان ِم ْن ُك ْم يُ ْؤ ِم ُن ِب ه ِ‬ ‫ظ ِب ِه َم ْن َ‬ ‫ع ُ‬ ‫وف ذ ِلكَ يُو َ‬ ‫ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫كاملَ ْي ِن ِل َم ْن أَرا َد أ َ ْن يُ ِت هم‬
‫ون ( ‪َ ) 232‬وا ْلوا ِلداتُ يُ ْر ِض ْع َن أ َ ْوال َد ُه هن َح ْولَ ْي ِن ِ‬ ‫يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ار‬
‫ض ه‬ ‫سعَها ال ت ُ َ‬ ‫س إِاله ُو ْ‬‫ف نَ ْف ٌ‬ ‫علَى ا ْل َم ْولُو ِد لَهُ ِر ْزقُ ُه هن َو ِك ْ‬
‫س َوت ُ ُه هن بِا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫وف ال ت ُ َكله ُ‬ ‫الرضاعَةَ َو َ‬ ‫ه‬
‫راض ِم ْن ُهما‬ ‫ث ِمثْ ُل ذ ِلكَ فَ ِإ ْن أَرادا فِصاالً ع َْن ت َ ٍ‬ ‫علَى ا ْل ِ‬
‫وار ِ‬ ‫وا ِل َدةٌ بِ َولَدِها َوال َم ْولُو ٌد لَهُ بِ َولَ ِد ِه َو َ‬
‫سله ْمت ُ ْم ما‬ ‫علَ ْي ُك ْم إِذا َ‬
‫ح َ‬‫ست َ ْر ِضعُوا أ َ ْوال َد ُك ْم فَل ُجنا َ‬ ‫علَ ْي ِهما َوإِ ْن أ َ َر ْدت ُ ْم أ َ ْن ت َ ْ‬‫ح َ‬‫شاو ٍر فَل ُجنا َ‬ ‫َوت َ ُ‬
‫ير ( ‪) 233‬‬ ‫ون بَ ِص ٌ‬ ‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫ّللا ِبما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫وف َواتهقُوا ه َ‬ ‫آت َ ْيت ُ ْم ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫س ِإ َّال ُو ْسعَها »النفس هنا عبارة عن إكمال الحس ‪ ،‬ألن النفس المعنوية‬ ‫« ال ت ُ َكلَّ ُ‬
‫ف نَ ْف ٌ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا الرجل أن يمسك المرأة ويضاررها في ذلك ليعتدي عليها ‪ ،‬إما‬ ‫ضرارا ا ِلت َ ْعتَدُوا »نهى ه‬ ‫ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وإما يقصد بإضرارها لتختلع ويأخذ بذلك‬ ‫مناكدة منه ورغبة في أذاها ‪ ،‬فقد تعدى فيها حد ه‬
‫ّللا في ذلك ‪ ،‬فإنه حرام عليه أخذه ‪ ،‬وإنما يحل من ذلك ما‬ ‫طائفة من مالها ‪ ،‬فقد تعدى حد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬قال ‪َ «:‬و َم ْن يَ ْفعَ ْل ذ ِل َك »يعني‬ ‫تعطيه على الخوف من جهتها أن تتعدى في زوجها حد ه‬
‫سهُ »بما تأخذ المرأة من حسنات الرجل لذلك ‪ ،‬أو يحمل‬ ‫ظلَ َم نَ ْف َ‬
‫اإلمساك على اإلضرار« فَقَ ْد َ‬
‫ّللا ُه ُزوا ا »أي‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫نفسه من أوزارها ‪ ،‬وعلى الوجهين فهو ظالم نفسه ‪ ،‬ثم قال «‪َ :‬وال تَت َّ ِخذُوا آيا ِ‬
‫ما نصب لكم فيما أنزل عليكم من الدالالت على مؤاخذته إياكم على مثل هذا الفعل« ُه ُزوا ا‬
‫»يعني ال تبالون به وتتأولونه على غير وجهه ‪ ،‬وأما االستهزاء على غير وجه التأويل فهو‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫باّلل من ذلك ‪ ،‬ثم قال «‪َ :‬وا ْذ ُك ُروا ِن ْع َمةَ َّ ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫ّللا نعوذ ه‬
‫كفر يناقض اإليمان واستخفاف بحق ه‬
‫ّللا الذي رزقكم ‪ ،‬واذكروا أيضا«‬ ‫»فيما أحله لكم من نيل شهواتكم واستمتاعكم بطيبات رزق ه‬
‫َوما أ َ ْنزَ َل َ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬

‫ص ‪350‬‬

‫ص ‪356 :‬‬
‫ال كلفة عليها إال إذا كانت صاحبة غرض ‪ ،‬فكلفت بما ال غرض لها فيه ‪ ،‬ولهذا لم يعذر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ظ ُك ْم بِ ِه »على جهة الوعظ لكم لتزدجروا وتنتهوا وتقفوا عند حدوده ‪ ،‬ثم‬ ‫ب َو ْال ِح ْك َم ِة يَ ِع ُ‬ ‫ِمنَ ْال ِكتا ِ‬
‫ش ْيءٍ »تعملونه‬ ‫ّللا »في ذلك أي في كل ما ذكرناه« َوا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا بِ ُك ِهل َ‬ ‫قال ‪َ «:‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا وتعليم وتنبيه وتذكرة ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬ ‫ع ِلي ٌم »وعيد من ه‬ ‫وتضمرونه في قلوبكم من خير وشر« َ‬
‫ض ْوا‬ ‫ضلُو ُه َّن أ َ ْن يَ ْن ِك ْحنَ أ َ ْزوا َج ُه َّن ِإذا تَرا َ‬ ‫طلَّ ْقت ُ ُم ال ِنهسا َء فَبَلَ ْغنَ أ َ َجلَ ُه َّن فَال ت َ ْع ُ‬
‫«) ‪َ ( 233‬و ِإذا َ‬
‫طلَّ ْقت ُ ُم ال ِنهسا َء فَبَلَ ْغنَ أ َ َجلَ ُه َّن »بانقضاء العدة على كل وجه كما‬ ‫وف »يقول ‪َ «:‬و ِإذا َ‬ ‫بَ ْينَ ُه ْم ِب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫ضلُو ُه َّن »يخاطب من يخاطب المرأة من عائلته من أوليائها ‪ ،‬يقول ‪ :‬ال‬ ‫تقدم« فَال ت َ ْع ُ‬
‫تمنعوهن« أ َ ْن يَ ْن ِك ْحنَ أ َ ْزوا َج ُه َّن »أن ترجع إلى زوجها إذا تراضيا على ذلك بالمعروف ‪ ،‬فهو‬
‫أحق بها من غيره ‪ ،‬وفي هذه اآلية دليل على أن تنكح المرأة نفسها ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫وف‬
‫ض ْوا بَ ْينَ ُه ْم »بما تجيزه الشريعة من ذلك ‪ ،‬أي على الوجه المشروع ‪ ،‬ثم قال‬ ‫»يعني ‪ِ «:‬إذا تَرا َ‬
‫ضلُو ُه َّن‬ ‫اّلل َو ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر »اإلشارة بذلك لقوله ‪ ( :‬ت َ ْع ُ‬ ‫ظ ِب ِه َم ْن كانَ ِم ْن ُك ْم يُؤْ ِم ُن ِب َّ ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫‪ «:‬ذ ِل َك يُو َ‬
‫وف )في هذه اآلية ‪ ،‬العضل في اللسان األمر الذي ال يطاق لشدته على‬ ‫)ولقوله ‪ِ ( :‬ب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫النفوس ‪ ،‬ومنه الداء العضال وهو الذي ال يطاق عالجه ‪ ،‬يقال عضل الفضاء بالجيش أي‬
‫ضاق عنه لكثرته فال يسعه ‪ ،‬وعضلت المرأة إذا نشب الولد في رحمها لضيق المخرج ‪،‬‬
‫ّللا ال يقبله إال من كان منكم يؤمن‬ ‫وأعضل األمر إذا اشتد ‪ ،‬يقول ‪ :‬وهذا الوعظ المنزل من ه‬
‫باّلل ‪ ،‬إنه عليم بما يكون منكم وقادر على مؤاخذتكم على ذلك « َو ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر‬ ‫باّلل ‪ ،‬أي يصدق ه‬ ‫ه‬
‫ّللا فيه من الظالم للمظلوم ‪ ،‬وقوله ‪«:‬‬ ‫»يقول ‪ :‬ويصدق بأن ث هم يوما بعد انقضاء الدنيا ‪ ،‬يأخذ ه‬
‫ط َه ُر »أي ال تعضلوهن ‪ ،‬وفي حق الزوجين أزكى وأطهر إن تراضيا‬ ‫ذ ِل ُك ْم أ َ ْزكى لَ ُك ْم َوأ َ ْ‬
‫وّللا يعلم ما ينفعكم عنده فيأمركم به ‪ ،‬وما يضركم‬ ‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »أي ه‬ ‫بالمعروف « َو َّ‬
‫عنده فينهاكم عنه« َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »ذلك ‪ ،‬ففي هذا رد على الفالسفة حيث يزعمون أنهم‬
‫ّللا ‪ ،‬وأن ذلك من مدارك العقول ‪ ،‬وعند المعتزلة أن‬ ‫عالمون بذلك من غير ورود وحي من ه‬
‫بعض ذلك من مدارك العقول ‪ ،‬وبعضه ال يدرك إال بإعالمه الشتباهه علينا ‪ ،‬فنفى الحق ذلك‬
‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »نزلت هذه اآلية في معقل ابن يسار حين عضل أخته ‪،‬‬ ‫بقوله ‪َ «:‬و َّ‬
‫ض ْعنَ أ َ ْوال َد ُه َّن‬‫ّللا حين عضل بنت عمه «) ‪َ ( 234‬و ْالوا ِلداتُ يُ ْر ِ‬ ‫وقيل في جابر بن عبد ه‬
‫كاملَي ِْن »أمر خرج مخرج الخبر ‪ ،‬يقول ‪ :‬حق على الوالدة رضاع ولدها ‪ ،‬والذي يقول‬ ‫َح ْولَي ِْن ِ‬
‫ض ُع‬ ‫ست ُ ْر ِ‬ ‫س ْرت ُ ْم فَ َ‬ ‫ض ْعنَ لَ ُك ْم فَآتُو ُه َّن أ ُ ُج َ‬
‫ور ُهنَّ َو ِإ ْن تَعا َ‬ ‫إنه ال يجب عليها ذلك لقوله تعالى ‪ ( :‬فَإِ ْن أ َ ْر َ‬
‫لَهُ أ ُ ْخرى )وأنه إنما يجب على المولود له وهو األب ‪ ،‬يقول ‪ :‬بإيجابه إذا لم يقبل غير ثدي أمه‬
‫‪ ،‬أو يكون الوالد معسرا ‪ ،‬فالقرآن أوجب الرضاعة على األم وأوجب على األب نفقة‬

‫ص ‪351‬‬

‫ص ‪357 :‬‬
‫اإلنسان من حيث نفسه ‪ ،‬ويعذر من حيث حسه ‪ ،‬لخروج ذلك عن طاقته في المعهود‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫األم وكسوتها ما دامت ترضعه ‪ ،‬وذلك بالمعروف ‪ ،‬وهو أن ال تكلفه إال على قدر ما يجده ‪،‬‬
‫وال تضاره وال يضارها في الولد ‪ ،‬بأن تكلفه من أجل ولدها فوق استطاعته أو ترميه له ‪،‬‬
‫ويضارها األب بأن يأخذه منها بعد تألفه بها لتسقط عنه بذلك النفقة وما يجب لها ‪ ،‬وكل ضرر‬
‫كاملَي ِْن »يقول ‪ :‬سنتين ‪،‬‬ ‫يتعلق بسبب الولد من كل واحد منهما بصاحبه ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬ح ْولَي ِْن ِ‬
‫كاملَي ِْن »رفعا للتجوز الذي يدخل الكالم في ذلك ‪ ،‬تقول في بعض اليوم الثاني ما‬ ‫وقوله «‪ِ :‬‬
‫كاملَي ِْن »رفع هذا االلتباس‬ ‫رأيت فالنا منذ يومين من قبل أن ينقضي اليوم الثاني ‪ ،‬فإذا قال «‪ِ :‬‬
‫عةَ »والعامل في قوله ‪ِ «:‬ل َم ْن »يرضعن فما أوجب‬ ‫الرضا َ‬ ‫‪ ،‬ولذلك قال ‪ِ «:‬ل َم ْن أَرا َد أ َ ْن يُتِ َّم َّ‬
‫علَى ْال َم ْولُو ِد لَهُ »يريد األب دون األم ‪ ،‬فإن الولد‬ ‫سبحانه إتمام الرضاعة له ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬و َ‬
‫لألب ‪ ،‬ويقوي هذا قول من يقول من العلماء بهذا الشأن من الحكماء ‪ ،‬إن ماء المرأة ال يتكون‬
‫منه ولد وإنما ذلك من ماء الرجل ‪ ،‬والتكوين للمولود من ماء الرجل ‪ ،‬وكون المولود ذكرا أو‬
‫أنثى أو خنثى إنما ذلك راجع إلى سبق أحد الماءين بحيث يعلو أحدهما اآلخر ‪ ،‬فإن عال ماء‬
‫الرجل أذكر ‪ ،‬وإن عال ماء المرأة أنث ‪ ،‬وإن تساويا كان الخنثى ‪ ،‬وتساويهما أن يحصال معا‬
‫في الرحم من غير سبق واحد منهما ‪ ،‬فكان هذا المقدار مؤثرا في الذكورية واألنوثة ‪ ،‬وهما‬
‫عرضان ال في عين التكوين ‪ ،‬فلهذا أضيف إلى األب ‪ ،‬وإذا أضيف الولد إلى أمه فمن كونه‬
‫يكون في رحمها ‪ ،‬وكان غذاؤه منها في مدة كونه في بطنها ‪ ،‬وإنما أمهات الناس أوعية‬
‫س ِإ َّال ُو ْسعَها ‪ ،‬ال‬
‫ف نَ ْف ٌ‬ ‫ومستودعات ‪ ،‬ولألبناء آباء ‪ِ « ،‬ر ْزقُ ُه َّن َو ِكس َْوت ُ ُه َّن ِب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫وف ‪ ،‬ال ت ُ َكلَّ ُ‬
‫ث ِمثْ ُل ذ ِل َك »أحسن التأويالت‬ ‫علَى ْال ِ‬
‫وار ِ‬ ‫ار وا ِل َدة ٌ ِب َولَدِها ‪َ ،‬وال َم ْولُو ٌد لَهُ ِب َولَ ِد ِه »وقوله ‪َ «:‬و َ‬ ‫تُ َ‬
‫ض َّ‬
‫فيه أن يكون المعنى بالوارث الولد إذا مات أبوه ‪ ،‬أنفق عليه مما يرثه من أبيه من ماله ‪ ،‬وقوله‬
‫‪ِ «:‬مثْ ُل ذ ِل َك »أي مثل ما كان يجب على األب من النفقة والكسوة لمن يرضعه ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فَإِ ْن‬
‫علَ ْي ِهما »يقول ‪ :‬فإن أراد والداه بعد أن عرفا‬ ‫شاو ٍر فَال ُجنا َح َ‬ ‫راض ِم ْن ُهما َوت َ ُ‬ ‫ع ْن ت َ ٍ‬ ‫أَرادا فِ ا‬
‫صاال َ‬
‫التحديد على أكمل الوجوه بذكر الحولين لمن أراد تتميم الرضاعة ‪ ،‬يقول ‪ :‬فإن تراضيا‬
‫وتشاورا على فصاله ‪ ،‬أي فطامه من الرضاعة ‪ ،‬فال جناح عليهما ‪ ،‬وسبب ذلك أن األم أعلم‬
‫بمصالح الطفل الصغير وتربيته ‪ ،‬فينبغي أن ال يكون الفصال إال بعد مشورتها ومشورة األب‬
‫ورضاه لما يلزمه على ذلك ‪ ،‬فإذا رأيا الزيادة أصلح بالطفل زادا ‪ ،‬أو النقص من الحولين اتفقا‬
‫على ذلك ‪ ،‬للحق الذي لكل واحد منها في الولد ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬و َح ْملُهُ َوفِصالُهُ ثَالثُونَ َ‬
‫ش ْهرا ا‬
‫)على أقل ما يولد من زمن الحمل ويعيش وهو ستة أشهر حمال ‪ ،‬وسنتان رضاعا على التمام ‪،‬‬
‫وإن أتم الحمل المعتاد في الغالب وهو تسعة أشهر ‪ ،‬كانت مدة الرضاعة حولين‬

‫ص ‪352‬‬

‫ص ‪358 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 234‬إلى ‪235‬‬
‫عشْرا ً فَ ِإذا بَلَ ْغ َن أ َ َجلَ ُه هن‬ ‫ش ُه ٍر َو َ‬ ‫س ِه هن أ َ ْربَعَةَ أ َ ْ‬ ‫ْن ِبأ َ ْنفُ ِ‬‫ون أ َ ْزواجا ً يَت َ َربهص َ‬ ‫ِين يُت َ َوفه ْو َن ِم ْن ُك ْم َويَذَ ُر َ‬
‫َوالهذ َ‬
‫ح‬
‫ير ( ‪َ ) 234‬وال ُجنا َ‬ ‫ون َخ ِب ٌ‬‫ّللاُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫وف َو ه‬ ‫س ِه هن ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِيما فَعَ ْل َن فِي أ َ ْنفُ ِ‬
‫ح َ‬ ‫فَل ُجنا َ‬
‫ست َ ْذ ُك ُرونَ ُه هن َول ِك ْن‬‫ّللاُ أَنه ُك ْم َ‬ ‫س ُك ْم َ‬
‫ع ِل َم ه‬ ‫ساء أ َ ْو أ َ ْكنَ ْنت ُ ْم ِفي أ َ ْنفُ ِ‬
‫ضت ُ ْم ِب ِه ِم ْن ِخ ْطبَ ِة ال ِنه ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِفيما ع هَر ْ‬
‫َ‬
‫تاب أ َ َجلَهُ‬
‫ع ْق َدةَ ال ِنهكاحِ َحتهى يَ ْبلُ َغ ا ْل ِك ُ‬ ‫س ًّرا إِاله أ َ ْن تَقُولُوا قَ ْوالً َم ْع ُروفا ً َوال ت َ ْع ِز ُموا ُ‬ ‫ال تُوا ِعدُو ُه هن ِ‬
‫ور َح ِلي ٌم ) ‪( 235‬‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫س ُك ْم فَاحْ ذَ ُروهُ َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ّللا يَ ْعلَ ُم ما فِي أ َ ْنفُ ِ‬
‫َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫‪َ ". . .‬ول ِك ْن ال تُوا ِعدُو ُه َّن ِس ًّرا »عبر عن النكاح بالسر في اللسان لما فيه من األسرار‬
‫كاح »العقد عبارة عما يقع‬ ‫المكتومة المستورة« ِإ َّال أ َ ْن تَقُولُوا قَ ْو اال َم ْع ُروفا ا َوال ت َ ْع ِز ُموا ُ‬
‫ع ْق َدة َ ال ِنه ِ‬
‫ور َح ِلي ٌم »الحق له االقتدار التام ‪ ،‬لكن من‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫ّللا َ‬‫عليه رضا الزوجين ‪َ «. . . .‬وا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫نعوته اإلمهال والحلم والتراخي بالمؤاخذة ال اإلهمال ‪ ،‬فإذا أخذ لم يفلت ‪ ،‬وزمان عمر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا اإلثم عن األبوين في الزيادة والنقص‬ ‫إال ربع حول وهي إحدى وعشرون شهرا ‪ ،‬ورفع ه‬
‫ضعُوا أ َ ْوال َد ُك ْم »اآلية ‪ ،‬يقول‬ ‫ّللا من النقص والتمام« َو ِإ ْن أ َ َر ْدت ُ ْم أ َ ْن ت َ ْست َ ْر ِ‬ ‫عن التحديد الذي حد ه‬
‫‪:‬‬
‫إن امتنعت األم عن رضاع ولدها إما إباية أو لعذر قام بها ‪ ،‬من انقطاع لبن أو فساده لمرض‬
‫يخاف على الصبي إن شرب منه ‪ ،‬فأردتم أن تسترضعوا من يرضع أوالدكم من النساء وهي‬
‫علَ ْي ُك ْم »يقول ‪ :‬فال حرج عليكم في ذلك« ِإذا »شرط‬ ‫الظئر ‪ ،‬فحذف أحد المفعولين« فَال ُجنا َح َ‬
‫سلَّ ْمت ُ ْم ما آت َ ْيت ُ ْم »والتسليم اإلعطاء بسهولة واالنقياد إلى ذلك ‪ ،‬ومنه ( أسلمت وجهي إليك )‬ ‫‪َ «،‬‬
‫يقول ‪ :‬إذا قبضتم الظئر ما آتيتم القدر الذي تعطونها من األجرة على ذلك « ِب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫وف‬
‫»بالوجه المشروع من السماحة في العطاء والمبادرة إليه من غير نقص مما وقع عليه االتفاق‬
‫ّللا »فيما أمركم به ونهاكم عنه في كل ما تقدم ذكره« َوا ْعلَ ُموا أ َ َّن‬ ‫بينكم من غير مطل« َواتَّقُوا َّ َ‬
‫راك ِحينَ تَقُو ُم‬ ‫صي ٌر »أي عالم يراكم كما قال تعالى ‪ ( :‬الَّذِي يَ َ‬ ‫ّللا ِبما ت َ ْع َملُونَ »من ذلك« بَ ِ‬ ‫َّ َ‬
‫ّللا يَرى )ثم قال تعالى ‪َ «) 235 ( :‬والَّذِينَ يُت َ َوفَّ ْونَ ِم ْن ُك ْم َويَذَ ُرونَ‬ ‫)وقال ‪ ( :‬أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ْم ِبأ َ َّن َّ َ‬
‫صنَ »اآلية ‪،‬‬ ‫أ َ ْزواجا ا يَت َ َربَّ ْ‬

‫ص ‪353‬‬

‫ص ‪359 :‬‬
‫ّللا‬
‫الحياة الدنيا زمان الصلح واستدراك الفائت والجبر بمن قام بمصالح األمور المرضية عند ه‬
‫تعالى المسماة خيرا الموافقة لما نزلت به الشرائع ‪ ،‬فهو حليم ال يعجل لعدم المؤاخذة مع‬
‫االقتدار ‪ ،‬فإمهاله العبد المستحق لألخذ إلى زمان األخذ ‪ ،‬حبس عن إرسال األخذ في زمان‬
‫االستحقاق ‪ ،‬فكل عبد استحق العقاب على مخالفته لما جاء الرسول إليه به فقد أمهله‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫يقول ‪:‬والذين يموتون منكم ‪ ،‬خطابا للرجال ‪ ،‬ويتركون أزواجا في عصمة نكاحهم ‪ ،‬وهي‬
‫ّللا أن تحبس‬ ‫المرأة الحرة التي عقد عليها ودخل ‪ ،‬ثم مات عنها وهي في نكاحه ‪ ،‬فأمرها ه‬
‫نفسها عن النكاح وعن الزينة ‪ ،‬وهي اإلحداد أربعة أشهر وعشرة أيام ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬والَّذِينَ‬
‫ع ْشرا ا فَإِذا بَلَ ْغنَ أ َ َجلَ ُه َّن فَال ُجنا َح‬ ‫صنَ بِأ َ ْنفُ ِس ِه َّن أ َ ْربَعَةَ أ َ ْش ُه ٍر َو َ‬ ‫يُت َ َوفَّ ْونَ ِم ْن ُك ْم َويَذَ ُرونَ أ َ ْزواجا ا يَت َ َربَّ ْ‬
‫وف »يقول ‪ :‬إذا انقضت عدتهن التي ذكرناها« فَال ُجنا َح‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِيما فَعَ ْلنَ فِي أ َ ْنفُ ِس ِه َّن بِ ْال َم ْع ُر ِ‬ ‫َ‬
‫علَ ْي ُك ْم »يخاطب الحكام والمسلمين ‪ ،‬أي ال حرج فيما فعلن في أنفسهن من نكاح أو زينة«‬ ‫َ‬
‫وف »على الحد المشروع ‪ ،‬وفي هذه اآلية أيضا دليل على إنكاحها نفسها ‪ ،‬ألنه أضاف‬ ‫ِبال َم ْع ُر ِ‬‫ْ‬
‫ّللاُ ِبما‬
‫الفعل إليها ‪ ،‬ولم يقل فيما أمرن أن يفعلن في أنفسهن ‪ ،‬فيكون الخطاب لألولياء« َو َّ‬
‫ّللا أن ال يتصرفوا وال يعملوا إال على حد ما‬ ‫ير »من جميع أعمالكم ‪ ،‬تنبيه من ه‬ ‫ت َ ْع َملُونَ َخبِ ٌ‬
‫ع ْشرا ا »يريد الليالي ‪ ،‬فحذف الهاء وكانت األيام تبعا ‪ ،‬فإن‬ ‫شرع لهم سبحانه ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬و َ‬
‫ضت ُ ْم بِ ِه ِم ْن‬
‫ع َّر ْ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِيما َ‬
‫الليل في حساب العرب مقدم على النهار «) ‪َ ( 236‬وال ُجنا َح َ‬
‫ساء »يقول ‪ :‬وال حرج عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء من غير تصريح بلفظ‬ ‫ِخ ْ‬
‫طبَ ِة ال ِنه ِ‬
‫يدل على النكاح ‪ ،‬ال صريحا وال كناية للمرأة التي في العدة ‪ ،‬ولكن يقول لها كالما يفهم بقرينة‬
‫الحال ‪ -‬ال من نفس ما تكلم به دون القرينة ‪ -‬أنه يريد نكاحها ‪ ،‬فتمسك نفسها عليه إن وقع لها‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ذكر ألم سلمة وهي في عدتها‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫في ذلك غرض ‪ ،‬وكذا فعل رسول ه‬
‫ّللا على سائر خلقه ‪ ،‬فكان ذلك خطبة ‪ ،‬فلما انقضت عدتها‬ ‫عز وجل وما شرفه ه‬ ‫ّللا ه‬ ‫مكانته من ه‬
‫تزوج بها ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬أ َ ْو أ َ ْكنَ ْنت ُ ْم فِي أ َ ْنفُ ِس ُك ْم »يريد بذلك ما سترتم في نفوسكم من إرادتكم بذلك‬
‫ّللاُ أَنَّ ُك ْم َ‬
‫ست َ ْذ ُك ُرونَ ُه َّن‬ ‫ع ِل َم َّ‬
‫التعريض نكاح المرأة ‪ ،‬وحدثتم به أنفسكم ‪ ،‬ال إثم عليكم في ذلك« َ‬
‫»يقول ‪ :‬إن اإلنسان من جبلته أنه ال يخلو وال ينفك أن يحدث نفسه في نفسه بما يشتهي ويريد‬
‫ّللا عن عباده اإلثم في ذلك ‪ ،‬ثم حذف ( فاذكروهن ) لداللة الكالم‬ ‫فعله قبل أن يفعله ‪ ،‬فرفع ه‬
‫عليه ‪ ،‬وجاء بحرف االستدراك الدال على المحذوف ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬ول ِك ْن ال تُوا ِعدُو ُه َّن ِس ًّرا »أي‬
‫ال تذكروا لهن في التعريض لفظة جماع وال نكاح ‪ ،‬وال تكنوا عن ذلك وقد يحتمل أن يريد‬
‫بالسر هنا ضد العالنية ‪ ،‬ألن التستر بالكالم في مثل هذا يدل على أنه ربما يقول ما يفحش‬
‫سماعه ‪ ،‬ولذلك استثنى استثناء متصال فقال ‪ِ «:‬إ َّال أ َ ْن تَقُولُوا»‬

‫ص ‪354‬‬

‫ص ‪360 :‬‬
‫ّللا وما أخذه ‪ ،‬وهو تحت حكم سلطان االسم الحليم ‪ ،‬فهو كالمهمل فال يدري هل تسبق له‬ ‫ه‬
‫العناية بالمغفرة والعفو قبل إقامة الحد اإللهي عليه بالحكم ‪ ،‬أو يؤخذ فيقام عليه حدود جناياته‬
‫ّللا السابق إما مغفور له وإما مؤاخذ بما جنى على نفسه ‪ ،‬فهو‬‫إلى أجل معلوم ‪ ،‬فإنه في علم ه‬
‫على خطر وعلى غير علم بما سبق له في الكتاب الماضي الحكم ‪ ،‬وكفى بالترقب للعارف‬
‫العاصي الممهل الذي هو في صورة المهمل عذابا في حقه ‪ ،‬ألنه ال يدري ما عاقبة األمر فيه ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 236‬إلى ‪237‬‬


‫علَى‬‫ضةً َو َم ِت هعُو ُه هن َ‬ ‫سو ُه هن أ َ ْو ت َ ْف ِرضُوا لَ ُه هن فَ ِري َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِإ ْن َطله ْقت ُ ُم ال ِنهسا َء ما لَ ْم ت َ َم ُّ‬
‫ح َ‬‫ال ُجنا َ‬
‫ين ( ‪َ ) 236‬و ِإ ْن‬ ‫سنِ َ‬‫علَى ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫علَى ا ْل ُم ْقتِ ِر قَد َُرهُ َمتاعا ً ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫وف َحقًّا َ‬ ‫س ِع قَد َُرهُ َو َ‬ ‫ا ْل ُمو ِ‬
‫ون أ َ ْو‬
‫ضت ُ ْم ِإاله أ َ ْن يَ ْعفُ َ‬
‫ْف ما فَ َر ْ‬ ‫ضةً فَ ِنص ُ‬ ‫ضت ُ ْم لَ ُه هن فَ ِري َ‬ ‫سو ُه هن َوقَ ْد فَ َر ْ‬ ‫َطله ْقت ُ ُمو ُه هن ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن ت َ َم ُّ‬
‫ض َل بَ ْينَ ُك ْم إِ هن ه َ‬
‫ّللا بِما‬ ‫ب ِللت ه ْقوى َوال ت َ ْن َ‬
‫س ُوا ا ْلفَ ْ‬ ‫ع ْق َدةُ ال ِنهكاحِ َوأ َ ْن ت َ ْعفُوا أ َ ْق َر ُ‬ ‫يَ ْعفُ َوا الهذِي بِيَ ِد ِه ُ‬
‫ير ) ‪( 237‬‬ ‫ون بَ ِص ٌ‬ ‫ت َ ْع َملُ َ‬
‫الفضل في البذل ‪ ،‬والبذل في الفضل ‪ ،‬وفي األصل من الفضل‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫سرا معها« قَ ْو اال َم ْع ُروفا ا »يريد قوال غير منكور شرعا في هذا الموطن ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وال‬
‫تاب أ َ َجلَهُ »لما كان العزم على الشيء يؤذن بوقوع المعزوم‬ ‫كاح َحتَّى يَ ْبلُ َغ ْال ِك ُ‬
‫ع ْق َدة َ ال ِنه ِ‬‫ت َ ْع ِز ُموا ُ‬
‫عليه ‪ ،‬والنهي إنما ورد في وقوع عقد النكاح في العدة ‪ ،‬نهينا عن العزم الذي هو سبب ‪ ،‬فكان‬
‫تاب أ َ َجلَهُ‬‫من باب األحرى واألولى النهي عن وقوع المعزوم عليه ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬حتَّى يَ ْبلُ َغ ْال ِك ُ‬
‫ّللا يَ ْعلَ ُم ما ِفي أ َ ْنفُ ِس ُك ْم »إذا أضمرتم فيها ما نهاكم‬ ‫»وهو انقضاء العدة ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬وا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫احذَ ُروهُ »أي‬ ‫ّللا عنه أن تضمروه ‪ ،‬وهو العزم هنا ليس في اآلية غير ذلك ‪ ،‬قال تعالى «‪ :‬فَ ْ‬ ‫ه‬
‫سهُ » *ولست أعرف في القرآن‬ ‫خافوه واتقوه أن يؤاخذكم بذلك ‪ ،‬قال تعالى «‪َ :‬ويُ َحذه ُِر ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ نَ ْف َ‬
‫ظ ْل ٍم نُ ِذ ْقهُ‬
‫وال في السنة مؤاخذة على إرادة النفس إال هذا وقوله تعالى ‪َ ( :‬و َم ْن يُ ِر ْد فِي ِه ِبإِ ْلحا ٍد ِب ُ‬
‫ب أ َ ِل ٍيم )وهي أشد من هذا ‪ ،‬إذ كان العزم خصوص وصف في اإلرادة ‪ ،‬ثم قال ‪«:‬‬ ‫عذا ٍ‬‫ِم ْن َ‬
‫ور »أي يستركم ويستر عليكم ‪ ،‬فال يؤاخذكم بذلك عاجال ‪ ،‬فتتخيلوا أنه‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫َوا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫يسامحكم فيما‬

‫ص ‪355‬‬

‫ص ‪361 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪238‬‬
‫ين ) ‪( 238‬‬ ‫سطى َوقُو ُموا ِ ه ِ‬
‫َّلل قانِتِ َ‬ ‫صل ِة ا ْل ُو ْ‬ ‫صلَوا ِ‬
‫ت َوال ه‬ ‫علَى ال ه‬ ‫حافِ ُ‬
‫ظوا َ‬
‫ّللا هذه اآلية بين آيات نكاح وطالق وعدة وفاة تتقدمها وتتأخر عنها وغير ذلك مما ال‬ ‫جعل ه‬
‫مناسبة في الظاهر بينهما وبين الصالة ‪ ،‬وإن آية الصالة لو زالت من هذا الموضع‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫كان منكم من ذلك ‪ ،‬فذلك من مكره الخفي في عباده الذي ال يشعر به ‪ ،‬وال يريد هنا غفران‬
‫الذنب إزالة المؤاخذة في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فإنه قال في إثره تأكيدا له ‪َ «:‬ح ِلي ٌم »والحليم هو الذي‬
‫يمهل ويؤخر العقوبة وال يهمل مع وجود القدرة على ذلك ‪ ،‬وال يلزم من حلمه في الوقت‬
‫التجاوز عن الذنب مطلقا وإن كان ‪ ،‬فنبهنا سبحانه بقوله ‪َ «:‬ح ِلي ٌم »ما أراد بالمغفرة هنا ‪ ،‬ثم‬
‫سو ُه َّن »اآلية ‪ ،‬يقول ال إثم عليكم في‬ ‫طلَّ ْقت ُ ُم ال ِنهسا َء ما لَ ْم ت َ َم ُّ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِإ ْن َ‬
‫قال «) ‪ : ( 237‬ال ُجنا َح َ‬
‫ضةا »يقول‬ ‫ضوا لَ ُه َّن فَ ِري َ‬ ‫سو ُه َّن »عن الجماع« أ َ ْو ت َ ْف ِر ُ‬ ‫الطالق قبل الدخول ‪ ،‬وكنى بقوله ‪ «:‬ت َ َم ُّ‬
‫‪ :‬ولم تس هموا لهن صداقا ‪ ،‬فأمرنا سبحانه وأوجب علينا إذا طلقنا المرأة على هذه الحال«‬
‫َو َم ِت هعُو ُه َّن »أن نمتعها بشيء ندفعه لها من ذهب أو ثياب أو شيء تنتفع به على قدر جدة الرجل‬
‫علَى ْال ُم ْقتِ ِر قَ َد ُرهُ‬ ‫ّللا عليه رزقه« َو َ‬ ‫علَى ْال ُمو ِس ِع قَ َد ُرهُ »أي من وسع ه‬ ‫وعدم جدته ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬‬
‫وف »باء السبب ‪،‬‬ ‫»هو الذي ضيق عليه رزقه« َمتاعا ا »أي يمتعها بذلك ‪ ،‬وقوله «‪ :‬بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫علَى ْال ُم ْح ِسنِينَ »أي على ما من اعتقد أن‬ ‫أي بسبب أنه شرع لكم ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬حقًّا »أي واجبا« َ‬
‫ّللا يراه ويعلم سره ونجواه ‪ ،‬ويظهر في هذه اآلية أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا يراه ‪ ،‬ومن ال يعتقد ذلك فليس بمؤمن ‪ ،‬سأل جبريل‬ ‫فإنه ما أوجبه إال على من يعتقد أن ه‬
‫ّللا عليه وسلم عن اإلحسان ‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫ّللا كأنك تراه ‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك ‪ ،‬وهذا ال يقول به أهل الجاهلية الجهالء من‬ ‫أن تعبد ه‬
‫ّللا ال يعلم الجزئيات ‪ ،‬وكان هذا الذي‬ ‫العرب ‪ ،‬ومن يقول من أهل النظر من الفالسفة إن ه‬
‫ّللا لغير المدخول بها من المتعة لمن لم يفرض لها صداقا ‪ ،‬ونصف المهر لمن فرض‬ ‫فرض ه‬
‫لها صداقا وطلقها قبل الدخول بها ‪ ،‬إنما ذلك في مقابلة ما نالها من الضرر زمان عقده عليها ‪،‬‬
‫فمنع العقد بينها وبين أن تتصرف في نفسها ومنافعها بحكم التزويج ‪ ،‬فكانت تنال في تلك المدة‬
‫ّللا عليه‬ ‫راحة من غيره ‪ ،‬فجعل سبحانه هذا القدر عوضا من ذلك ‪ ،‬فقد روي أن النبي صلهى ه‬
‫وسلم قبل من واحد فلسا في المتعة ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫إنما أردت بذلك إحياء سنة ‪ ،‬إذ كان قدر المنفعة بالفلس خسيس ‪ ،‬ولم يكن في وسع الزوج أكثر‬
‫ضة ا‬‫ضت ُ ْم لَ ُه َّن فَ ِري َ‬ ‫سو ُه َّن َوقَ ْد فَ َر ْ‬ ‫طلَّ ْقت ُ ُمو ُه َّن ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن ت َ َم ُّ‬
‫من ذلك ‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 238 ( :‬و ِإ ْن َ‬
‫ب ِللت َّ ْقوى »اآلية‬ ‫كاح َوأ َ ْن ت َ ْعفُوا أ َ ْق َر ُ‬
‫ع ْق َدة ُ ال ِنه ِ‬ ‫ضت ُ ْم ِإ َّال أ َ ْن يَ ْعفُونَ أ َ ْو يَ ْعفُ َوا الَّذِي ِبيَ ِد ِه ُ‬
‫ف ما فَ َر ْ‬
‫ص ُ‬‫فَنِ ْ‬
‫‪ ،‬يقول ‪ :‬وإن طلقتم النساء الالتي عقدتم عليهن من قبل أن تمسوهن ‪ ،‬كناية عن الجماع ‪ ،‬أو‬
‫كناية‬

‫ص ‪356‬‬
‫ص ‪362 :‬‬
‫واتصلت اآلية التي بعدها باآليات التي قبلها لظهر التناسب لكل ذي عينين ‪ ،‬ففي ظاهر األمر‬
‫أن هذا ليس موضعها ‪ ،‬وما في الظاهر وجه مناسب للجمع بينها وبين ما ذكرناه ‪ ،‬وقد جعل‬
‫ّللا ذلك موضعها لعلمه بما ينبغي في األشياء ‪ ،‬فإن الحكيم من يعمل ما ينبغي لما ينبغي كما‬
‫ه‬
‫ينبغي ‪ ،‬وإن جهلنا نحن صورة ما ينبغي في ذلك فالمناسبة ث هم ولكن في غاية الخفاء ‪ ،‬فإن‬
‫أمعنت النظر وجدت أن هناك مناسبة بين الصالة والنكاح ‪ ،‬فإن الصالة تقع بين طرفي إحرام‬
‫وتحليل ‪ ،‬وكذلك النكاح يقع بين طرفي تحليل وتحريم ‪ ،‬فكانت المناسبة بين الصالة والنكاح‬
‫كونهما بين طرفي تحريم وتحليل ‪ ،‬متقدم أو متأخر ‪ ،‬فكانت المناسبة بين هذه اآليات‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫عن الدخول بها وإن لم يقربها ‪ ،‬فالشرع يحكم بالصداق ‪ ،‬وال يدينوه في ذلك لو أنكر المسيس ‪،‬‬
‫فهذا شيء ال يعلمه إال الزوج والزوجة ‪ ،‬وال شك أن المسيس إنما يكنى به عن الجماع ‪ ،‬ولذلك‬
‫ب ِللت َّ ْقوى »ألنه ما نال منها ما فرض‬ ‫ّللا ‪َ «:‬وأ َ ْن ت َ ْعفُوا »عن أخذ نصف الصداق« أ َ ْق َر ُ‬ ‫قال ه‬
‫الصداق من أجله ‪ ،‬فكأنه مال ال عن معاوضة ‪ ،‬وإن عفت المرأة عن ذلك ‪ ،‬فإن الرجل يتعين‬
‫عليه أن يمتعها ويلحقها بمن لم يفرض لها صداق ‪ ،‬وإن كان ال يجب ذلك عليه ‪ ،‬ولكنه خير‬
‫مندوب إليه ‪ ،‬إذ كانت الهبة على اإلطالق مشروعة ‪ ،‬فكيف إذا اقترن بذلك شبهة حق بدخوله‬
‫بها وإن لم يمسها ‪ ،‬وتورعت المرأة في إسقاط ذلك الحق عنه ‪ ،‬وليس للذي بيده عقدة النكاح‬
‫بعد الدخول بها أن يعفو عن ذلك إال حتى يتيقن من ذلك ما تيقنت المرأة ‪ ،‬وهو عدم المنفعة‬
‫طلَّ ْقت ُ ُمو ُه َّن‬
‫والتلذذ بها من كل وجه ‪ ،‬من عناق وتقبيل وما في ضمن من ذلك ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬و ِإ ْن َ‬
‫ف ما‬ ‫ص ُ‬ ‫ضةا »صداقا معينا« فَ ِن ْ‬ ‫ضت ُ ْم لَ ُه َّن فَ ِري َ‬
‫سو ُه َّن »أي تدخلوا بهن« َوقَ ْد فَ َر ْ‬ ‫ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن ت َ َم ُّ‬
‫ضت ُ ْم »يجب عليكم إعطاؤه لها ‪ ،‬فإنه مثل المتعة في الوجوب ‪ ،‬غير أن المتعة على قدر‬ ‫فَ َر ْ‬
‫حال الزوج من الجدة ‪ ،‬وفي هذا الموضع لما ألزم نفسه بتعيين الصداق ‪ ،‬ألزمه الحق مما ألزم‬
‫نفسه نصف ذلك ‪ ،‬لكونه حجر عليها التصرف في نفسها ‪ ،‬وفرض لها النصف ولكونه ما نال‬
‫منها شيئا أسقط عنه النصف ‪ ،‬فكان المهر لمنفعته بها وحجره عليها ‪ ،‬فلما سقط أحد األمرين‬
‫قسم الصداق على ذلك ‪ ،‬ولما كان المعتبر والركن األعظم من النكاح الجماع ولم يقع ‪ ،‬رجح‬
‫ّللا العفو عن أخذ ما عينه من نصف الصداق لها على أخذه ‪ ،‬من عفا الشيء إذا ذهب رسمه ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ض َل بَ ْينَ ُك ْم »يؤيد ما ذهبنا‬ ‫س ُوا ْالفَ ْ‬
‫ب ِللت َّ ْقوى »وقوله ‪َ «:‬وال ت َ ْن َ‬ ‫فهذا معنى قوله ‪َ «:‬وأ َ ْن ت َ ْعفُوا أ َ ْق َر ُ‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكافئها الزوج على‬ ‫إليه أن يهبها الزوج شيئا إذا هي عفت عن أخذ النصف الذي أعطاها ه‬
‫ض َل )فقال ‪:‬‬ ‫ّللا( ْالفَ ْ‬ ‫ذلك بشيء سماه ه‬
‫ض َل بَ ْينَ ُك ْم »أي كما تفضلت عليك بترك نصف الصداق الذي كان لها‬ ‫وال تتركوا« ْالفَ ْ‬

‫ص ‪357‬‬

‫ص ‪363 :‬‬
‫صالةِ ْال ُوسْطى‬‫ت »وليس سوى هذه الخمس الموقتة المعينة المكتوبة« َوال َّ‬ ‫صلَوا ِ‬
‫علَى ال َّ‬ ‫ظوا َ‬ ‫حافِ ُ‬
‫راجع إيجاز البيان‬
‫« َوقُو ُموا ِ َّ ِ‬
‫ّلل قانِتِينَ »القيام تعظيم هّلل ولقيوميته التي ال تنبغي إال له امتثاال ألمره« قانِتِينَ‬
‫»خاضعين طائعين ‪ ،‬فالقنوت ال يكون إال هّلل ‪ ،‬أي من أجله ال من أجل أجر أو أمر آخر ‪ ،‬فإنه‬
‫أعظم من األجر ‪ ،‬لذلك لم يسم أجرا على‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ير »أي يرى لكم ذلك ‪،‬‬ ‫ص ٌ‬‫ّللا ِبما ت َ ْع َملُونَ بَ ِ‬
‫أخذه فأحسن أنت إليها مكافأة على ذلك« ِإ َّن َّ َ‬
‫كاح »يريد الزوج إذا أعطاها الصداق كله عند‬ ‫ويتوجه في قوله ‪ «:‬أ َ ْو يَ ْعفُ َوا الَّذِي بِيَ ِد ِه ُ‬
‫ع ْق َدة ُ ال ِنه ِ‬
‫ّللا ‪ «:‬أ َ ْو يَ ْعفُ َوا الَّذِي بِيَ ِد ِه‬
‫عقد النكاح عليها ثم طلقها ‪ ،‬فله أن يطالبها بنصف المهر ‪ ،‬فقال له ه‬
‫ب ِللت َّ ْقوى »من أنها استحقت ذلك بالعقد ‪،‬‬ ‫كاح »عن مطالبتها بالنصف ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬أ َ ْق َر ُ‬ ‫ع ْق َدة ُ ال ِنه ِ‬
‫ُ‬
‫ّللا سبحانه على أن‬ ‫ّللا عن الزوج ونبهه ه‬ ‫ووقع الطالق من الزوج ال من جهتها ‪ ،‬فخفف ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ويكون قوله ‪َ «:‬وال‬ ‫اإلفضال ترك ما أباح له أخذه ‪ ،‬إذ كان له في ترك ذلك األجر عند ه‬
‫ض َل بَ ْينَ ُك ْم »ما كان من فضل الزوجة حيث رضيت به وأجابته إلى مراده إذ كان هو‬ ‫س ُوا ْالفَ ْ‬‫ت َ ْن َ‬
‫الطالب والخاطب لها ‪ ،‬فأسعفته في ذلك وقضت حاجته ‪ ،‬وأن الرجل بطالقه إياها كسر قلبها‬
‫وخجلها عند أهلها ‪ ،‬فرجح له ترك النصف الذي أباح له أخذه على أخذه ‪ ،‬فضال منه عليها في‬
‫مقابلة فضلها عليه في إجابتها ‪ ،‬فقال له ‪ :‬ال تنس ذلك الفضل واجعل الجزاء عليه ترك ما أبيح‬
‫لك أخذه ‪ ،‬ثم قال تعالى ‪:‬‬
‫صال ِة ْال ُوسْطى »المحافظة على الصالة أن يؤتى بها في‬ ‫ت َوال َّ‬ ‫صلَوا ِ‬‫علَى ال َّ‬ ‫ظوا َ‬ ‫«) ‪( 239‬حافِ ُ‬
‫علَى ْال ُمؤْ ِم ِنينَ ِكتابا ا َم ْوقُوتا ا )وأن يؤتى بها أيضا على‬ ‫صالة َ كان ْ‬
‫َت َ‬ ‫أوقاتها قال تعالى ‪ِ ( :‬إ َّن ال َّ‬
‫أكمل هيئاتها ‪ ،‬من إتمام الركوع والسجود والقيام والجلوس وما شرع الشارع من هيئاتها ‪ ،‬كما‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ [ :‬صلوا كما رأيتموني أصلي ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ورد في الخبر عن رسول ه‬
‫وتعليمه الصالة للرجل الذي دخل عليه في المسجد فصلى ‪ ،‬فقال له عليه السالم ‪ [ :‬ارجع‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫فصل فإنك لم تصل ] وفيه قال الرجل ‪ [ :‬ما أحسن غير هذا ] وفيه أنه صلهى ه‬
‫لما علمه الصالة قال له ‪ [ :‬كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما‬
‫ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس ‪ ،‬فإذا فعلت هذا فقد تمت صالتك ] ومن المحافظة على‬
‫الفرائض ‪ ،‬منها أن يؤتى بها في المساجد في الجماعة ‪ ،‬ومن المحافظة عليها االستكثار منها ‪،‬‬
‫فإن النبي عليه السالم يقول أيضا في الصحيح ‪ [ :‬أول ما ينظر فيه يوم القيامة من عمل العبد‬
‫الصالة ‪ ،‬فإن كانت تامة كتبت له تامة ‪ ،‬وإن كان انتقص منها شيئا قال ‪:‬‬
‫انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع قال ‪ :‬أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ]‬
‫وقال تعالى ‪َ ( :‬و ِمنَ اللَّ ْي ِل فَت َ َه َّج ْد ِب ِه نا ِفلَةا لَ َك )ومن المحافظة على الصالة النافلة أن رسول ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم قضى الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد العصر وبيهن أنهما تلك‬ ‫صلهى ه‬
‫الركعتان إذ كان الوفد شغله‬

‫ص ‪358‬‬
‫ص ‪364 :‬‬
‫القنوت ‪ ،‬فالقيام هّلل ‪ ،‬نعت الحليم األواه ‪ ،‬لوال قيامه ما رمي في النار ‪ ،‬وال انخرقت العادة في‬
‫األبصار ‪ ،‬هي نار في أعين األنام ‪ ،‬وهي على الخليل برد وسالم ‪ ،‬فهو عندهم في عذاب مقيم‬
‫‪ ،‬وهو في نفسه في جنة ونعيم ‪ ،‬لما هبت عليه األنفاس ‪ ،‬كان كأنه في ديماس‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا تعالى بالمحافظة على الصلوات وما خص فرضا من نفل ورغبنا فيها فقد‬ ‫عنهما ‪ ،‬فأمرنا ه‬
‫صال ِة ْال ُوسْطى »الفريضة من هذه الصلوات ‪ ،‬فإن صالة الفرض بال خالف‬ ‫يكون قوله ‪َ «:‬وال َّ‬
‫أفضل من صالة النافلة ‪ ،‬فأكد بذكرها المحافظة عليها ‪ ،‬ألن السؤال عنها يقع يوم القيامة ‪،‬‬
‫وأمر بالمحافظة على النوافل في التكثير منها وحسن إقامتها ‪ ،‬لما كان يكمل الفرائض منها بما‬
‫فيها من الفرائض والسنن ‪ ،‬وهذا غير بعيد في التأويل ‪ ،‬وقد يمكن أن يريد بالصالة الوسطى‬
‫صالة واحدة مخصوصة من الفرائض كما قد ذكر الناس ‪ ،‬وما من صالة من الخمس إال وقد‬
‫روي أنها الوسطى ‪ ،‬ولم يرد في ذلك نص يرفع اإلشكال فيها ‪ ،‬وكذلك اختلفوا في الوسطى ‪،‬‬
‫هل هو من الوسط الذي هو الشيء بين الشيئين أو هو من الفضل ؟ فإن كان من الوسط ‪،‬‬
‫فأحسن الوجوه فيها أنها المغرب ‪ ،‬فإن أول صالة صالها الظهر ‪ ،‬فيكون المغرب وسطا بال‬
‫ّللا وتر يحب‬‫شك ‪ ،‬وليس في الصلوات وتر إال المغرب ‪ ،‬وقد ورد في الخبر الصحيح أن ه‬
‫الوتر ‪ ،‬فهي وسط في الترتيب ‪ ،‬وهي أفضل من طريق الوترية ‪ ،‬وقد يتوجه على مذهب أبي‬
‫ّللا عنه أن تكون صالة الوتر ‪ ،‬إذ كانت عنده واجبة ‪ ،‬فهي دون الفرض وفوق‬ ‫حنيفة رضي ه‬
‫ّللا قد زادكم صالة‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬إن ه‬ ‫النفل ‪ ،‬فهي وسط بينهما ‪ ،‬فإن رسول ه‬
‫إلى صالتكم ] وهي الوتر ‪ ،‬فأضافها إلى ما فرضه علينا من الصالة ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫[ أوتروا يا أهل القرآن ] وما نص على حفظ صالة مما سوى الخمس وال حافظ هو على ما‬
‫نقل أكثر من الوصية وحفظه على صالة الوتر ‪ ،‬وجعلها وتر صالة الليل كما جعل المغرب‬
‫وتر صالة النهار ‪ ،‬وقد يتوجه في ذلك أن تكون صالة الجمعة لما روي عن النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم من الوعيد بالحرق بالنار في الدنيا على من تخلف عنها ‪ ،‬ومما يؤيد ما ذهبنا إليه‬
‫من أنه تعالى يريد بالصالة الوسطى صالة الفرض ‪ ،‬قوله يوم الخندق ‪ [ :‬شغلونا عن الصالة‬
‫الوسطى صالة العصر ] وما شغلوه إال عن صالة العصر ‪ ،‬فذكر الصالة المفروضة ‪ ،‬واتفق‬
‫أن كانت صالة العصر ‪ ،‬فتحقق النص في الفرض ‪ ،‬ولم يتحقق في تعيين العصر ‪ ،‬ولكنه‬
‫محتمل ‪ ،‬وفي مصحف عائشة « حافظوا على الصلوات والصالة الوسطى وصالة العصر »‬
‫فهذا أيضا يقوي ما ذهبنا إليه ‪ ،‬فجعل المحافظة على الصلوات مطلقا نفلها وفرضها ‪ ،‬ثم قال‬
‫صالةِ ْال ُوسْطى »[ فأكد المحافظة على صالة الفرض خصوصا ‪ ،‬ثم قال ‪ « :‬وصالة‬ ‫‪َ «:‬وال َّ‬
‫العصر » ] « * » فأكد المحافظة على العصر‬

‫) * (هذه العبارة ساقطة في األصل‬

‫ص ‪369‬‬

‫ص ‪365 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 239‬إلى ‪242‬‬
‫ون ) ‪( 239‬‬ ‫عله َم ُك ْم ما لَ ْم تَكُونُوا ت َ ْعلَ ُم َ‬‫ّللا كَما َ‬
‫اذك ُُروا ه َ‬ ‫فَ ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم فَ ِرجاالً أ َ ْو ُر ْكبانا ً فَ ِإذا أ َ ِم ْنت ُ ْم فَ ْ‬
‫غ ْي َر إِ ْخراجٍ فَ ِإ ْن‬ ‫ون أ َ ْزواجا ً َو ِصيهةً ِأل َ ْز ِ‬
‫واج ِه ْم َمتاعا ً إِلَى ا ْل َح ْو ِل َ‬ ‫ِين يُت َ َوفه ْو َن ِم ْن ُك ْم َويَذَ ُر َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫يز َح ِكي ٌم ( ‪) 240‬‬ ‫ّللاُ ع َِز ٌ‬
‫وف َو ه‬ ‫س ِه هن ِم ْن َم ْع ُر ٍ‬‫علَ ْي ُك ْم فِي ما فَعَ ْل َن فِي أ َ ْنفُ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫َخ َرجْ َن فَل ُجنا َ‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم آياتِ ِه لَعَله ُك ْم ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫ون‬ ‫ين ( ‪ ) 241‬كَذ ِلكَ يُبَ ِيه ُن ه‬ ‫علَى ا ْل ُمت ه ِق َ‬ ‫وف َحقًّا َ‬ ‫ع ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬ ‫ت َمتا ٌ‬ ‫َو ِل ْل ُم َطلهقا ِ‬
‫) ‪.( 242‬‬

‫فإن العاقل يستبرئ لنفسه ‪ ،‬فإن كان عالما حكم بما علم ‪ ،‬وإن لم يكن عالما بتلك الواقعة ما‬
‫حكمها حكم عليه عقله أن يسأل من يدري الحكم اإللهي المشروع في تلك النازلة ‪ ،‬فإذا عرفه‬
‫حكم فيها ‪ ،‬فهذا فائدة العقل ‪ ،‬فإن كثيرا ممن ينتمي إلى الدين والعلم الرسمي تحكم‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫من الفرائض ‪ ،‬إذ كان وقتها أخفى األوقات كلها ‪ ،‬ألنه قال ‪ [ :‬والشمس مرتفعة بيضاء نقية ]‬
‫قبل أن تدخلها الصفرة ‪ ،‬فما فوقها في البيان كوقت الصبح بطلوع الفجر ‪ ،‬وصالة الظهر‬
‫بزوال الشمس ‪ ،‬والمغرب بغروب الشمس ‪ ،‬والعتمة بمغيب الشفق ‪ ،‬فجميع األوقات في غاية‬
‫البيان ‪ ،‬فلهذا أكد بذكر صالة العصر في مصحف عائشة ‪ ،‬وهو المحافظة على معرفة وقتها ‪،‬‬
‫ّلل قا ِن ِتينَ »يعني فيها ‪ ،‬معناه ساكنين ‪ ،‬فإنهم كانوا يتكلمون في‬ ‫ثم قال تعالى ‪َ «:‬وقُو ُموا ِ َّ ِ‬
‫الصالة حتى نزلت هذه اآلية ‪ ،‬قال الراوي ‪ :‬فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكالم في الصالة ‪،‬‬
‫ّللا به وما علمكم ‪،‬‬ ‫ّلل »بها على حد ما أمركم ه‬ ‫وإن كان القنوت الطاعة هّلل ‪ ،‬فقوله ‪َ «:‬وقُو ُموا ِ َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬ ‫أي من أجل ه‬
‫جاال أ َ ْو ُر ْكبانا ا »وهذا من المحافظة على الصلوات أن تقام على جميع‬ ‫«) ‪( 240‬فَإِ ْن ِخ ْفت ُ ْم فَ ِر ا‬
‫األحوال وعلى قدر االستطاعة ‪ ،‬وال سبيل إلى تركها ‪ ،‬ولو صالها إيماء بعينيه ‪ ،‬فقال تعالى ‪:‬‬
‫فإن كنتم في حال خوف من عدو ال تستطيعون أن تؤدوها وأنتم قائمون على األرض فلتصلهوها‬
‫وأنتم تمشون إن كنتم رجاال ‪ ،‬أي على أرجلكم ‪ ،‬أو ركبانا ‪ ،‬يقول ‪ :‬على رواحلكم إذا لم‬
‫علَّ َم ُك ْم ما لَ ْم ت َ ُكونُوا‬ ‫تستطيعوا النزول على األرض ‪ ،‬ثم قال ‪ «:‬فَإِذا أ َ ِم ْنت ُ ْم فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫ّللا َكما َ‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ت َ ْعلَ ُمونَ »يقول ‪ :‬فإذا ارتفع الخوف وكان األمن فصلوا كما علمكم رسول ه‬
‫وسلم من أعمال الصالة من القيام على األرض والركوع والسجود ‪ ،‬وليس في هذه اآلية ما‬
‫يدل على النقص من أعداد ركعات الصالة‬

‫ص ‪360‬‬

‫ص ‪366 :‬‬
‫شهوتهم عليهم ‪ ،‬والعاقل ليس كذلك ‪ ،‬فإن العقل يأبى إال الفضائل ‪ ،‬فإنه يقيد صاحبه عن‬
‫التصرف فيما ال ينبغي ‪ ،‬ولهذا سمي عقال من العقال ‪ ،‬وقوة العقل والدليل الواضح قاما للعقل‬
‫على تصديق الرسول الذي بعثه إلينا في إخباره الذي يخبر به عن ربه بما يكون منه سبحانه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫كما ورد في السنة من أنه فرض الخائف ركعة ‪ ،‬وهي مسألة خالف بين الناس ‪ ،‬وقد يمكن أن‬
‫ّللا »تحريض على شكره سبحانه كما علمنا كيف نؤدي هذه الصالة في‬ ‫يكون قوله ‪ «:‬فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫حال الخوف وفي حال اآلمن وعلى كل حال ‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 241 ( :‬والَّذِينَ يُت َ َوفَّ ْونَ ِم ْن ُك ْم‬
‫علَ ْي ُك ْم فِي‬‫راج فَإِ ْن خ ََر ْجنَ فَال ُجنا َح َ‬ ‫واج ِه ْم َمتاعا ا إِلَى ْال َح ْو ِل َ‬
‫غي َْر إِ ْخ ٍ‬ ‫صيَّةا ِأل َ ْز ِ‬ ‫َويَذَ ُرونَ أ َ ْزواجا ا َو ِ‬
‫يز َح ِكي ٌم »الوجه عندي في تأويل هذه اآلية أنه إخبار‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫ما فَعَ ْلنَ فِي أ َ ْنفُ ِس ِه َّن ِم ْن َم ْع ُروفٍ َو َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫ّللا بما كان األمر عليه في زمان الجاهلية ‪ ،‬واستمرار ذلك في أول اإلسالم ‪ ،‬من غير أن‬ ‫من ه‬
‫ّللا في ذلك حكم يرفعه ‪ ،‬وال حكم يقره ‪ ،‬بل بقي األمر على ما هو عليه من أن المرأة‬ ‫يرد من ه‬
‫إذا مات عنها زوجها وهي في عصمته ‪ ،‬أنه كان يوصي لها بالنفقة والسكنى حوال كامال ‪ ،‬ولم‬
‫يكن لها ميراث ‪ ،‬فإن استعجلت المرأة الخروج قبل الحول سقطت نفقتها وسكناها ‪ ،‬ولم ينزل‬
‫ّللا عليهم في حق من تركها تخرج وال في حقهن إذا خرجن إثما ‪ ،‬بل كان األولياء والمؤمنون‬ ‫ه‬
‫يتركونهن ‪ ،‬وكانت النساء يزلن اإلحداد ويتزين ويتعرضن للخطاب والتزويج ‪ ،‬وال حرج في‬
‫ّللا ‪ ،‬إلى أن نزلت آية الميراث والتربص أربعة أشهر وعشرا ‪،‬‬ ‫ذلك عليهم ‪ ،‬وال عليهن من ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ويؤيد هذا أنه لما نزلت‬ ‫فلم يكن الحول وال النفقة فيه وال السكنى شرعا مقررا من عند ه‬
‫عدة المتوفى أربعة أشهر وعشرا ‪ ،‬وظهر من الناس في ذلك ما ظهر من أنه يشق على النساء‬
‫‪ ،‬قال عليه السالم ‪:‬‬
‫[ قد كانت إحداكن في الجاهلية تقعد حوال في شر ثيابها ] الحديث ‪ -‬ولم يقل عليه السالم فيه إن‬
‫ّللا ‪ ،‬وقاله منكرا عليهن ‪ ،‬وأن الذي نزل عليه في ذلك أخف مما كان‬ ‫ذلك كان شرعا من عند ه‬
‫ّللا تعالى بما كان األمر‬ ‫األمر عليه ‪ ،‬وهن يضقن به ذرعا ‪ ،‬فإذا كانت هذه اآلية إخبارا من ه‬
‫عليه ‪ ،‬فال يكون ما نزل من الحكم في ذلك باألربعة أشهر والعشر الليالي وآية الميراث ناسخا‬
‫لهذا الخبر ‪ ،‬ألن الخبر ال ينسخ ‪ ،‬وإنما الحكم الذي وقع الخبر عنه ارتفع بما نزل في ذلك ‪،‬‬
‫ّللا في أول اإلسالم ‪ ،‬ثم‬ ‫والذي ذهب إليه المفسرون أن هذه اآلية خرجت مخرج الحكم من ه‬
‫نسخها ما ذكرنا ‪ ،‬وهو بعيد لإلنكار الوارد من النبي عليه السالم الذي ذكرناه ‪ ،‬وقوله هنا ‪«:‬‬
‫يز »أي غالب بما قهرهم من الموت ‪ ،‬منيع الحمى أن يحال بينه وبين ما يريد ‪ ،‬فإن‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫َو َّ‬
‫ّللا توفاهم ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬ح ِكي ٌم »أي عليم بالوقت الذي أنزل فيه رفع هذه المشقة ‪ ،‬فإن الحكيم هو‬ ‫ه‬
‫ت‬‫طلَّقا ِ‬‫الذي ال يتعدى باألشياء ميقاتها ‪ ،‬لعلمه بذلك وال نعلمه نحن ‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 242 ( :‬و ِل ْل ُم َ‬
‫علَى ْال ُمت َّ ِقينَ »‬ ‫وف َحقًّا َ‬ ‫ع ِب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫َمتا ٌ‬

‫ص ‪361‬‬

‫ص ‪367 :‬‬
‫في خلقه ‪ ،‬وبما يكون عليه سبحانه في نفسه ومما يصف به نفسه مما يحيله عليه العقل إذا‬
‫انفرد بدليله دون الشارع ‪ ،‬فالعاقل الحازم يقف ذليال مشدود الوسط في خدمة الشرع ‪ ،‬قابال‬
‫لكل ما يخبر به عن ربه سبحانه وتعالى مما يكون عليه ومنه ‪ [.‬سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪243‬‬
‫]‬
‫ّللاُ ُموتُوا ث ُ َّم أ َ ْحيا ُه ْم إِ َّن‬
‫ت فَقا َل لَ ُه ُم َّ‬ ‫ِيار ِه ْم َو ُه ْم أُلُ ٌ‬
‫وف َحذَ َر ْال َم ْو ِ‬ ‫أ َ لَ ْم ت َ َر إِلَى الَّذِينَ خ ََر ُجوا ِم ْن د ِ‬
‫اس ال يَ ْش ُك ُرونَ ) ‪( 243‬‬ ‫اس َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬
‫علَى النَّ ِ‬ ‫ض ٍل َ‬ ‫ّللا لَذُو فَ ْ‬
‫َّ َ‬
‫المراد هنا الفضل العام والخاص لما كان الناس يفضل بعضهم بعضا والرسل تفضل بعضهم‬
‫اس ال يَ ْش ُك ُرونَ »فإن عين الشكر عين النعم ‪ ،‬ومن النعم دفع النقم ‪ ،‬كم‬ ‫بعضا« َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬
‫نعمة هّلل أخفاها شدة ظهورها ‪ ،‬واستصحاب كرورها على المنعم عليه ومرورها ‪ ،‬وهم في‬
‫غفلة معرضون ‪ ،‬ولكن أكثر الناس ال يعلمون ‪ ،‬بل ال يشعرون بل ال يشكرون‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫يقول ‪:‬إن حكم المطلقة ما هو حكم المتوفى عنها زوجها ‪ ،‬وهو عموم في جميع المطلقات ‪،‬‬
‫وهذه مسألة خالف بين العلماء ‪ ،‬فمن الناس من قال ‪ :‬إن المتاع هنا نفقة العدة ‪ ،‬ومنهم من قال‬
‫‪ :‬هي في غير المدخول بها كما تقدم ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬واجبة في كل مطلقة ‪ ،‬وقوله تعالى ‪«:‬‬
‫ّللا فعله عليه ‪ ،‬والظاهر لو‬ ‫ّللا فيفعل ما أوجب ه‬ ‫علَى ْال ُمت َّ ِقينَ »أي واجبة على من يتقي ه‬ ‫َحقًّا َ‬
‫أراد بهذه اآلية ما أراد باألولى التي هي غير المدخول بها التي لم يفرض لها لكانت خلية عن‬
‫الفائدة ‪ ،‬فاألوجه أن يكون مثل األولى في الوجوب في غير المدخول بها ‪ ،‬وفي المدخول بها‬
‫ّللا إليه مبادرته إلى‬ ‫ّللا إلى ذلك ‪ ،‬والتقي يبادر إلى ما ندبه ه‬ ‫على االستحباب والندب من ه‬
‫ّللا له وإن لم يجب عليه ‪ ،‬فإن المتقي يوجبه على نفسه‬ ‫الواجب على السواء ‪ ،‬إيثارا لما اختاره ه‬
‫علَى ْال ُمت َّ ِقينَ »أي واجبا ‪ ،‬وما‬ ‫‪ ،‬ومن ألزم نفسه طاعة ألزمه الشارع إياها فلذلك قال ‪َ «:‬حقًّا َ‬
‫كل مؤمن ذا تقوى ‪ ،‬وفي غير المدخول بها واجب وال بد ‪ ،‬ثم قال ‪َ «) 243 ( :‬كذ ِل َك يُبَ ِيه ُن َّ‬
‫ّللاُ‬
‫»أي يظهر لكم «آياتِ ِه »أي العالمات التي تستدلون بها على األحكام ‪ ،‬أو يقول ‪ :‬كما بينت لكم‬
‫ّللا لكم آياته التي جاءت بها األنبياء‬ ‫األحكام بما أنزلته عليكم في الكتاب ‪ ،‬مثل ذلك يبين ه‬
‫دالالت على صدقهم ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْع ِقلُونَ »أي تقيهدون أنفسكم بالعمل بها ‪ ،‬مأخوذ من‬
‫العقال ‪ ،‬فال تسرحوا إال فيما سرحكم الشرع فيه ‪ ،‬ثم قال ‪ «) 244 ( :‬أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلَى الَّذِينَ‬
‫ت فَقا َل لَ ُه ُم َّ‬
‫ّللاُ ُموتُوا‬ ‫ِيار ِه ْم َو ُه ْم أُلُ ٌ‬
‫وف َحذَ َر ْال َم ْو ِ‬ ‫خ ََر ُجوا ِم ْن د ِ‬

‫ص ‪362‬‬

‫ص ‪368 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 244‬إلى ‪245‬‬
‫ّللا قَ ْرضا ً‬
‫ض هَ‬ ‫ع ِلي ٌم ) ‪َ ( 244‬م ْن ذَا الهذِي يُ ْق ِر ُ‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫َوقاتِلُوا فِي َ‬
‫ون ) ‪( 245‬‬ ‫ص ُ‬
‫ط َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬ ‫ض َويَ ْب ُ‬ ‫ّللاُ يَ ْق ِب ُ‬
‫يرةً َو ه‬ ‫ضعافا ً َكثِ َ‬ ‫سنا ً فَيُضا ِعفَهُ لَهُ أ َ ْ‬
‫َح َ‬
‫ّللا منك القرض وأنت‬ ‫فقالت طائفة من اليهود إن رب محمد يطلب منها القرض ‪ ،‬وما طلب ه‬
‫تعلم أنه ما طلبه منك إال ليعود به وبأضعافه عليك من جهة من تعطيه إياه من المخلوقين ‪ ،‬فمن‬
‫ّللا هي‬
‫ّللا ‪ ،‬وليس الحسن في القرض إال أن ترى يد ه‬ ‫ّللا فإنما أقرض ه‬ ‫أقرض أحدا من خلق ه‬
‫القابضة لذلك القرض ال غير ‪ ،‬فتعلم عند ذلك في يد من جعلت ذلك ‪ ،‬وهو الحفيظ الكريم ‪،‬‬
‫وما خرج عن الملك شيء حتى يحكم فيه القبض ‪ ،‬وإنما يقال ذلك بالفرض ‪ ،‬ما خرج شيء‬
‫عنه ‪ ،‬فالكل به وإليه ومنه ‪ ،‬الحق له الغنى ‪ ،‬ومن أقرضه بلغ المنى ‪ ،‬ودع اللجاج ‪ ،‬فما هو‬
‫محتاج ‪ ،‬أنت من جملة خزائنه ‪ ،‬فما خرج الشيء عن معادنه ‪ ،‬فما أعطى إال من خزانته ‪ ،‬لما‬
‫وّللا يقبض ويبسط » إن‬ ‫أعطته حقيقة مكانته ‪ ،‬وحصلت أنت على األجر ‪ ،‬إن فهمت األمر « ه‬
‫هّلل يدين مباركتين مبسوطتين فيهما الرحمة ‪ ،‬فلم يقرن بهما شيئا من العذاب ‪ ،‬فيعطي رحمة‬
‫يبسطها ويعطي رحمة يقبضها ‪ ،‬فإن القبض ضم إليه ‪ ،‬والبسط‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫اس ال يَ ْش ُك ُرونَ »في هذه اآلية رد على‬ ‫اس َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬‫علَى النَّ ِ‬
‫ض ٍل َ‬ ‫ث ُ َّم أ َ ْحيا ُه ْم إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا لَذُو فَ ْ‬
‫ناظ َرة ٌ‬
‫ناض َرة ٌ ِإلى َر ِبهها ِ‬ ‫ّللا باألبصار بقوله ‪ُ ( :‬و ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ ِ‬ ‫األشاعرة في استداللهم على رؤية ه‬
‫)أن الرؤية إذا اقترنت بها كلمة [ إلى ] كانت بالبصر ‪ ،‬تقول ‪ :‬نظرت إلى كذا ‪ ،‬أي شاهدته‬
‫ببصري ‪ ،‬ونظرت في كذا ‪ ،‬أي فكرت فيه ‪ ،‬ونظرت لكذا ‪ ،‬أي رحمته ‪ ،‬ونظرت كذا ‪ ،‬أي‬
‫قابلته ‪ ،‬واحتجوا بذلك على نفاة الرؤية ‪ ،‬فقد جاءت الرؤية هنا بإلى وليست هنا الرؤية بالبصر‬
‫ّللا عليه وسلم ومن خوطب ‪ ،‬عن أمم قد مضوا ‪ ،‬وما‬ ‫بال شك ‪ ،‬فإنه خطاب لمحمد صلهى ه‬
‫رأيناهم حال خروجهم وال حال موتهم وال حال إحيائهم ‪ ،‬وكذلك قوله ‪ ( :‬أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلى َر ِبه َك‬
‫الظ َّل )فجاء بإلى ومعناه هنا الفكر ‪ ،‬أن يتفكر في ذلك مع وجود [ إلى ] فإنه معلوم‬ ‫ْف َم َّد ِ ه‬ ‫َكي َ‬
‫في هذه اآلية أن واحدا منا ما رأى ربه وهو يمد الظل ‪ ،‬فيعرف كيفية ذلك المد بوساطة‬
‫مشاهدة البصر ‪ ،‬فبطل ما استشهدوا به من هذه اآلية لتقييدها بحرف [ إلى ] فالرؤية في هذه‬
‫اآلية بمعنى التعجب واالعتبار إذا فكرت فيهم‬

‫ص ‪363‬‬

‫ص ‪369 :‬‬
‫ّللا « ‪» : 1‬‬ ‫وّللا يقبض بمنع غضبه ‪ ،‬ويبسط ببسط رحمته ‪ ،‬ويقول أبو عبد ه‬
‫انفساح فيه ‪ ،‬ه‬
‫وّللا يقبض القرض ‪ ،‬ويبسط األجر ‪ ،‬واعلم أن الفرق بين الحضرتين القبض والبسط ‪ ،‬أن‬
‫ه‬
‫القبض ال يكون أبدا إال عن بسط ‪ ،‬والبسط قد يكون عن قبض وقد يكون ابتداء ‪ ،‬فاالبتداء سبق‬
‫الرحمة اإللهية الغضب اإللهي ‪ ،‬والرحمة بسط ‪ ،‬والغضب قبض ‪ ،‬والبسط الذي يكون بعد‬
‫ّللا بها عباده بعد وقوع العذاب بهم ‪ ،‬فهذا بسط بعد قبض ‪ ،‬وهذا‬
‫قبض كالرحمة التي يرحم ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫وعلمت قصتهم وحديثهم ‪ ،‬فإن الخبر الصدق والمعاينة على السواء في التصديق بذلك ‪ ،‬وال‬
‫ّللا حديثا ‪ ،‬وهو المخبر بقصة هؤالء الذين أخبر عنهم ‪ ،‬فال فرق عندنا بين أن‬ ‫أصدق من ه‬
‫نشهدهم بأعيننا في هذه اآلية وبين هذا الخبر اإللهي ‪ ،‬بل أتم وأوضح ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬و ُه ْم أُلُ ٌ‬
‫وف‬
‫»أي متألفون ‪ ،‬جمع ألف ‪ ،‬كجالس وجلوس ‪ ،‬وقد يمكن أن يكون من العدد ‪ ،‬ويكون األمران‬
‫ّللا تعالى أنهم خرجوا فرارا من الموت ‪ ،‬وهو أن الطاعون كان نزل بهم ‪ ،‬فأراهم‬ ‫معا ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫ّللا أنه ال ينجي حذر من قدر ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬أ َ ْينَما ت َ ُكونُوا يُ ْد ِر ْك ُك ُم ْال َم ْوتُ َولَ ْو ُك ْنت ُ ْم فِي بُ ُر ٍ‬
‫وج‬ ‫ه‬
‫َ‬
‫ّللاُ ُموتُوا »فماتوا ميتة رجل واحد« ث ُ َّم أ ْحيا ُه ْم »ليعتبروا ‪ ،‬فإن األجل‬ ‫شيَّ َد ٍة )« فَقا َل لَ ُه ُم َّ‬
‫ُم َ‬
‫المسمى ما كان وصل وقته ‪ ،‬وإنما كان هذا موت اعتبار وإحياء اعتبار لهم ولنا من بعدهم ‪،‬‬
‫ّللا على كل شيء قدير ‪ ،‬وأنه ال راد ألمره ‪ ،‬ويخرج على هذا قوله تعالى ‪ ( :‬ال‬ ‫ليعلموا أن ه‬
‫ت ِإ َّال ْال َم ْوتَةَ ْاألُولى )يريد في األولى التي هي الدار الدنيا ‪ ،‬فحذف حرف‬ ‫يَذُوقُونَ فِي َها ْال َم ْو َ‬
‫علَى‬‫ض ٍل َ‬ ‫ّللا لَذُو فَ ْ‬
‫الجر ‪ ،‬فإن هؤالء حصل لهم في الدنيا موتتان ‪ ،‬وألمثالهم ‪ ،‬ثم قال ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬هؤالء‬ ‫اس ال يَ ْش ُك ُرونَ »أي يكفرون بنعم ه‬ ‫اس »منه هذا وأمثاله« َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬ ‫النَّ ِ‬
‫ّللا عنهم كانوا من بني إسرائيل ‪ ،‬وكان ذو الكفل نبيهم الذي بعث إليهم ‪ ،‬وهو‬ ‫القوم الذين أخبر ه‬
‫ّللا قد أمره أن يخرج بقومه لقتال عدوهم ‪،‬‬ ‫حزقيل بن روم ‪ ،‬وقيل حزقيا بن روم ‪ ،‬وكان ه‬
‫وكان الطاعون كثيرا ‪ ،‬ما يكون بأرض عدوهم ‪ ،‬فخاف قومه من القدوم على تلك األرض ‪،‬‬
‫ّللا حزقيل عليه‬ ‫ّللا بالطاعون ‪ ،‬فخرجوا من مدينتهم حذر الموت ‪ ،‬فدعا ه‬ ‫فأبوا عليه ‪ ،‬فابتالهم ه‬
‫ّللا ‪ :‬موتوا ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فقال لهم ه‬ ‫السالم ربه أن يريهم آية يعرفون بها أنه ال ينجيهم حذرهم من قدر ه‬
‫ّللا حزقيل أن يحييهم‬ ‫فماتوا ميتة رجل واحد ‪ ،‬وجيفوا وانتثرت لحومهم عن عظامهم ‪ ،‬ثم دعا ه‬
‫ّللا ال ينجيهم ‪ ،‬ثم قال تعالى ‪«) 245 ( :‬‬ ‫فأحياهم ‪ ،‬فلما رأوا ذلك تحققوا أن الفرار من قدر ه‬
‫ع ِلي ٌم »يحتمل أن يكون المخاطب هؤالء القوم بالقتال‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ّللا َوا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫َوقاتِلُوا فِي َ‬
‫‪ ،‬فيكون إخبارا لنا من الحق بتمام القصة وبما أمرهم به ‪ ،‬ويحتمل أن يكون المؤمنون‬
‫المخاطبين بهذه اآلية بعد فراغ القصة ‪ ،‬تحريضا للمؤمنين على جهاد عدوهم ‪ ،‬وال يقولوا مثل‬
‫س ِمي ٌع »لكل ما يتكلمون‬ ‫ّللا « َ‬ ‫ما قال هؤالء الذين أبوا على نبيهم ‪ ،‬فإن ه‬

‫ّللا هو الجامع لهذا التفسير ‪.‬‬


‫( ‪ ) 1‬أبو عبد ه‬

‫ص ‪364‬‬

‫ص ‪370 :‬‬
‫ّللا على بصيرة‬
‫لبسط الثاني محال أن يكون بعده ما يوجب قبضا يؤلم العبد ‪ ،‬ومن يدعو إلى ه‬
‫يدعو من باب البسط من يعلم أن البسط يعين على اإلجابة من المدعو ‪ ،‬ويدعو من باب‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ع ِلي ٌم »إعالم‬ ‫ع ِلي ٌم »بما يضمرونه في صدورهم وإن لم يتكلموا به ‪ ،‬وقد يكون قوله «‪َ :‬‬ ‫به ‪َ « ،‬‬
‫بما هي الحقائق عليه ‪ ،‬فإن السمع متعلقه الكالم من حيث ما هو كالم ال من حيث ما يدل عليه‬
‫ع ِلي ٌم »بما دل عليه الكالم المسموع ‪ ،‬فجعل له تعلقين ‪ :‬تعلق‬ ‫من المعاني ‪ ،‬فيكون قوله ‪َ «:‬‬
‫سنا ا »نزلت في أبي الدحداح عمرو‬ ‫ّللا قَ ْرضا ا َح َ‬
‫ض َّ َ‬ ‫السمع والعلم ( ‪َ «) 246‬م ْن ذَا الَّذِي يُ ْق ِر ُ‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ :‬من تصدق بصدقة فله‬ ‫بن الدحداح من األنصار ‪ ،‬لما سمع النبي صلهى ه‬
‫ّللا إن تصدقت بحديقتي فلي‬ ‫مثلها في الجنة ‪ ،‬وكان ألبي الدحداح حديقة ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬وأم الدحداح معي ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫مثلها ؟ فقال رسول ه‬
‫ّللا أجره‬ ‫ّللا هذه اآلية فيه ‪ ،‬وضاعف ه‬ ‫‪ :‬والصبية ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬فتصدق بحديقته ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫على صدقته ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬م ْن ذَا الَّذِي »يقول ‪ :‬أي إنسان كان من المؤمنين لم يخص به واحدا‬
‫سنا ا »القرض السلف ‪ ،‬لما كان السلف يعود إلى معطيه بعد‬ ‫ّللا قَ ْرضا ا َح َ‬ ‫ض َّ َ‬ ‫دون آخر« يُ ْق ِر ُ‬
‫ذلك جعل الحق سبحانه ما يتصدق به من أجله قرضا ‪ ،‬ألنه يعيد مثله وأكثر من ذلك على من‬
‫أقرضه ‪ ،‬ولو قال ذلك بغير لفظة القرض ما أعطى هذا المعنى ‪ ،‬وإذا علم المعطي أن متاعه‬
‫سنا ا »يقول طيبة بذلك‬ ‫يعود إليه مضاعفا سارع إلى إعطائه لمن يسأل منه ذلك ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬ح َ‬
‫ّللا عليه إذا وقف السائل ببابه‬ ‫نفسه ‪ ،‬ببسط وجه للسائل وبشاشة وفرح ‪ ،‬كان الحسن صلوات ه‬
‫يسارع بالصدقة إليه بيده فرحا مستبشرا به ‪ ،‬ويقول ‪ :‬مرحبا بحامل زادي إلى اآلخرة ‪ ،‬ومن‬
‫سنا ا »أي من وجه ‪ ،‬من‬ ‫ّللا عند العطاء ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬قَ ْرضا ا َح َ‬ ‫القرض الحسن رؤية النعمة من ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فَيُضا ِعفَهُ لَهُ‬ ‫ّللا إياه بوجه صحيح يرضاه ه‬ ‫المال يجوز له التصدق به مما ملكه ه‬
‫سنابِ َل‬ ‫س ْب َع َ‬ ‫ت َ‬ ‫ّللا َك َمث َ ِل َحبَّ ٍة أ َ ْنبَت َ ْ‬ ‫يرة ا »هو قوله ‪َ ( :‬مث َ ُل الَّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ أ َ ْموالَ ُه ْم فِي َ‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫أَضْعافا ا َكثِ َ‬
‫ف ِل َم ْن يَشا ُء )وقوله عليه السالم ‪ [ :‬إن الصدقة تقع بيد‬ ‫ّللاُ يُضا ِع ُ‬ ‫س ْنبُلَ ٍة ِمائَةُ َحبَّ ٍة َو َّ‬
‫فِي ُك ِهل ُ‬
‫الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ] ومن القرض الحسن أن ال يتبعه أذى وال منة‬
‫ص َدقا ِت ُك ْم ِب ْال َم ِهن َو ْاألَذى‬ ‫ى )وقال ( ‪ :‬ال تُب ِْطلُوا َ‬ ‫‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬ث ُ َّم ال يُتْ ِبعُونَ ما أ َ ْنفَقُوا َمنًّا َوال أَذ ا‬
‫ّللا فال أكثر منه ‪ ،‬وأقل الكثرة دوامه ‪ ،‬فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجود‬ ‫)والشيء إذا كثره ه‬
‫وّللا يقبض‬ ‫ع ْش ُر أ َ ْمثا ِلها )لكان مبالغة في الكثرة « ه‬ ‫الكثرة في األمثال ‪ ،‬مثل قوله ‪ ( :‬فَلَهُ َ‬
‫ويبسط » يريد هنا في الرزق ‪ ،‬يوسع الرزق على قوم ويضيقه على قوم بقدر ما يعلمه من‬
‫المصلحة في حق ذلك العبد ‪ ،‬وإن كان شقيا فإنه مرحوم به في شقائه بوجه ما ‪ ،‬فإن رحمته‬
‫وسعت كل شيء ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬ول ِك ْن يُن ِ هَز ُل ِبقَ َد ٍر ما يَشا ُء )يعني الرزق ‪ ،‬وقال ‪َ ( :‬وما نُن ِ هَزلُهُ‬
‫ّللا‬
‫وم )فمن أعطاه ه‬ ‫ِإ َّال ِبقَ َد ٍر َم ْعلُ ٍ‬

‫ص ‪365‬‬

‫ص ‪371 :‬‬
‫ص ‪372 :‬‬
‫القبض من يعلم أن القبض يعين على إجابة المدعو ‪ ،‬فيدعو بالقبض والبسط ‪ ،‬فإنه يراعي‬
‫المصلحة ويدفع بالتي هي أحسن في حق المدفوع عنه وفي حق نفسه ‪ ،‬والبسط مطلب النفوس‬
‫فليحذر غوائلها« َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ » ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪: )2‬اآليات ‪ 246‬إلى ‪247‬‬


‫ي ٍ لَ ُه ُم ا ْبعَ ْث لَنا َم ِلكا ً نُقاتِ ْل فِي‬‫سرائِي َل ِم ْن بَ ْع ِد ُموسى إِ ْذ قالُوا ِلنَبِ ه‬ ‫َل ِم ْن بَنِي إِ ْ‬ ‫أ َ لَ ْم ت َ َر إِلَى ا ْل َم َ ِ‬
‫ّللا‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ا ْل ِقتا ُل أَاله تُقاتِلُوا قالُوا َوما لَنا أَاله نُقاتِ َل فِي َ‬ ‫ب َ‬ ‫س ْيت ُ ْم ِإ ْن ُكتِ َ‬
‫ع َ‬ ‫ّللا قا َل َه ْل َ‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫َ‬
‫ع ِلي ٌم‬ ‫علَ ْي ِه ُم ا ْل ِقتا ُل ت َ َوله ْوا ِإاله قَ ِليلً ِم ْن ُه ْم َو ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫ب َ‬‫ِيارنا َوأ َ ْبنائِنا فَلَ هما ُكتِ َ‬ ‫َوقَ ْد أ ُ ْخ ِرجْ نا ِم ْن د ِ‬
‫ث لَ ُك ْم طالُوتَ َم ِلكا ً قالُوا أَنهى يَك ُ‬
‫ُون لَهُ ا ْل ُم ْلكُ‬ ‫ّللا قَ ْد بَعَ َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 246‬وقا َل لَ ُه ْم نَ ِبيُّ ُه ْم ِإ هن ه َ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ِبال ه‬
‫س َطةً‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوزا َدهُ بَ ْ‬‫ص َطفاهُ َ‬ ‫سعَةً ِم َن ا ْلما ِل قا َل إِ هن ه َ‬
‫ّللا ا ْ‬ ‫ق بِا ْل ُم ْل ِك ِم ْنهُ َولَ ْم يُ ْؤتَ َ‬ ‫علَ ْينا َونَحْ ُن أ َ َح ُّ‬ ‫َ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 247‬‬ ‫س ٌع َ‬ ‫ّللاُ وا ِ‬‫ّللاُ يُ ْؤتِي ُم ْل َكهُ َم ْن يَشا ُء َو ه‬ ‫س ِم َو ه‬ ‫فِي ا ْل ِع ْل ِم َوا ْل ِج ْ‬
‫لما كانت الحضرة اإللهية ال تقتضي التكرار لما هي عليه من االتساع ‪ ،‬وكان العلم صفة‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫علم ذلك فقد اعتنى به ‪ ،‬وقد علم شيئا من سر القدر ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وإِلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ »ليوفيكم ما‬
‫أقرضتموه في دار الكرامة ‪ ،‬وليندم من لم يقرضه في هذه الدار حين طلب منهم ذلك بالوجه‬
‫الذي يصح فيه التصرف ‪ ،‬فهو قوله ( ‪ :‬يَ ْو ُم التَّغابُ ِن )للمعطي والمانع ‪ ،‬والمعطي من غير‬
‫وجهه ‪ ،‬فيود المعطي المقبول لو أعطى جميع ما عنده ‪ ،‬ويود المانع لو أعطى وما منع ‪ ،‬ويود‬
‫المعطي من غير وجهه أنه أعطى من الوجه الذي يليق ويكون معه القبول كما تقدم ‪ ،‬ولما‬
‫خرج أبو الدحداح عن حديقته صدقة هّلل تعالى ‪ ،‬جاء إلى حديقته التي تصدق بها ليسلمها إلى‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فوجد أم الدحداح والصبية فيها ‪ ،‬فامتنع من الدخول فيها ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫فقال ‪ :‬يا أم الدحداح ‪ ،‬قالت له لبيك ‪ ،‬قال إني جعلت حديقتي هذه صدقة واشترطت مثلها في‬
‫ّللا لك فيما شريت وفيما اشتريت‬ ‫الجنة وأنت وأوالدنا معنا فيها ‪ ،‬فقالت له أم الدحداح ‪ :‬بارك ه‬
‫‪ ،‬فخرجوا منها وسلم أبو الدحداح الحديقة‬

‫ص ‪366‬‬

‫ص ‪373 :‬‬
‫ّللاُ وا ِس ٌع‬
‫إحاطته ‪ ،‬قرن معه السعة ‪ ،‬واشتق له اسما منها كما اشتق من العلم ‪ ،‬فقال تعالى «‪َ :‬و َّ‬
‫ع ِلي ٌم »فإن الحق له االتساع الذي ال ينبغي إال له ‪ ،‬واالسم الواسع من أعظم األسماء إحاطة ‪،‬‬
‫َ‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬كم نخلة مدلى عذوقها ألبي الدحداح في الجنة ‪ ،‬ما رأيت أعرف‬ ‫للنبي صلهى ه‬
‫من أم الدحداح حيث دعت بالبركة فيما باع وما اشترى ‪ ،‬فأما البركة فيما باعه ‪ ،‬فهو قوله‬
‫عليه السالم في الصدقة ‪ ،‬تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ‪ ،‬حتى‬
‫تصير مثل جبل أحد وإن كانت غاية في الصغر ‪ ،‬فهذه بركته فيما باع ‪ ،‬فإن الجزاء يقع عليها‬
‫يوم يقع على قدر ما انتهت إليه من العظم في التربية اإللهية ‪ ،‬ال على قدر الوقت الذي أعطاها‬
‫‪ ،‬والبركة التي تكون في المشتري هو ما لم يدخل تحت التعريف ‪ ،‬مضافا إلى القدر الذي زاد‬
‫على ما كان جزاء للصدقة في أول إعطائها قبل التربية ‪ ،‬فهذا من أدل دليل على علمها بذلك ‪،‬‬
‫ّللا لتجهيز الضعفاء الذين ال مال لهم إلى قتال عدوهم في‬ ‫ومن جملة القرض النفقة في سبيل ه‬
‫ّللا » *ونفقتهم على أنفسهم في ذلك ‪ ،‬فوقعت النسبة بين اآليتين ‪ ،‬ثم‬ ‫س ِبي ِل َّ ِ‬‫قوله ‪َ «:‬وقاتِلُوا فِي َ‬
‫إل ِم ْن بَ ِني ِإسْرا ِئي َل ِم ْن بَ ْع ِد ُموسى »اآلية ‪ ،‬يقول ألم تعلم بما‬ ‫قال ‪ «) 247 ( :‬أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلَى ْال َم َ ِ‬
‫أخبرتك به مما كان من وجوه بني إسرائيل من بعد موت موسى ابن عمران« إِ ْذ قالُوا ِلنَبِ ه‬
‫ي ٍ لَ ُه ُم‬
‫»قيل هو شموئيل ‪ ،‬وهو بالعربية إسماعيل بن بالي بن علقمة بن برخام بن البهر بن يهرص‬
‫بن علقمة بن ناحب بن عموط بن عزريا بن صفية بن علقمة بن أبي يأسف بن قارون بن‬
‫يصهر بن فاهث بن الوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ‪ ،‬وقيل هذا النبي هو‬
‫شمعون ‪ ،‬وقيل هو يوشع بن نون بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم‬
‫ث لَنا َم ِلكا ا »يقولون يتقدم علينا ويملك أمرنا ونسمع له ونطيع ليجمعنا‬ ‫الخليل ‪ ،‬قالوا له ‪ «:‬ا ْبعَ ْ‬
‫على قتال عدونا الذي جالنا عن أهلنا وبالدنا ‪ ،‬وهو جالوت وأصحابه ‪ ،‬فهو قوله ‪ «:‬نُقاتِ ْل فِي‬
‫علَ ْي ُك ُم ْال ِقتا ُل أ َ َّال تُقاتِلُوا »كما قال‬‫ب َ‬‫س ْيت ُ ْم ِإ ْن ُكتِ َ‬
‫ع َ‬ ‫ّللا »« قا َل »فقال لهم نبيهم ‪ «:‬ه َْل َ‬ ‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫َ‬
‫ّللا ومن رسوله واجبة ‪ ،‬ألن األنبياء‬ ‫علَ ْي ُك ُم ْال ِقتا ُل َو ُه َو ُك ْرهٌ لَ ُك ْم )وعسى من ه‬ ‫ب َ‬ ‫تعالى لنا ( ‪ُ :‬كتِ َ‬
‫قلوبهم محفوظة من الخواطر المذمومة ‪ ،‬فما يقع في قلوبهم إال الحق ‪ ،‬وكذلك كان ‪ ،‬لما كتب‬
‫عليهم القتال تولوا وأعرضوا إال قليال منهم ‪ ،‬كانوا ثالثمائة وثالثة عشر خاصة ‪ ،‬فالمعنى‬
‫يقول لهم نبيهم ‪ :‬األقرب من أحوالكم إن كتب عليكم القتال أنكم ال تقاتلون وتكرهون ذلك ‪ ،‬ألن‬
‫كلمة عسى من أفعال المقاربة « قالوا » فقالوا في جواب قوله ‪َ «:‬وما لَنا أ َ َّال نُقاتِ َل فِي َ‬
‫سبِي ِل‬
‫ِيارنا‬‫ّللا »يقولون وما يمنعنا من ذلك ونحن نطلب ثأرا من عدونا ‪ ،‬فقالوا ‪َ «:‬وقَ ْد أ ُ ْخ ِر ْجنا ِم ْن د ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫علَ ْي ِه ُم ْال ِقتا ُل ت َ َولَّ ْوا »أي أعرضوا‬ ‫ب َ‬ ‫َوأَبْنائِنا »لما ظهر علينا عدونا جالوت ‪ ،‬قال ‪ «:‬فَلَ َّما ُكتِ َ‬
‫يال ِم ْن ُه ْم »فكأن فعل المقاربة إنما دخل من أجل‬ ‫ّللا عليه وسلم« ِإ َّال قَ ِل ا‬ ‫كما ظنه فيهم نبيهم صلهى ه‬
‫من أطاع منهم‬

‫ص ‪367‬‬
‫ص ‪374 :‬‬
‫وهو االسم الذي يتضمن األسماء اإللهية التي تطلبها األكوان كلها التساعه ‪ ،‬وهي أكثر من أن‬
‫تحصى كثرة‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا اعتنى بالطائفة التي استثنى‬ ‫ولم يتول عن القتال ‪ ،‬فكأنهم قاربوا أن يتولوا بأجمعهم لوال أن ه‬
‫ّللا يعلم ما يكون من الظالم من‬ ‫الظا ِل ِمينَ »وعيد وتهديد ‪ ،‬وتحقيق أن ه‬ ‫ع ِلي ٌم ِب َّ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫منهم ‪ ،‬قال ‪َ «:‬و َّ‬
‫ّللا بهذا كله تنبيها لنا وتذكرة‬ ‫ّللا بذلك نبيه عليه السالم ‪ ،‬وعرفنا ه‬ ‫الظلم قبل وقوعه ‪ ،‬فأنطق ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وتثبيتا‬ ‫لئال نكون مثلهم فيما يأمرنا به سبحانه ‪ ،‬وتعزية للنبي محمد صلهى ه‬
‫علَي َْك ِم ْن أ َ ْن ِ‬
‫باء‬ ‫ص َ‬ ‫ّللا ما وقع من هؤالء ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬و ُك ًّال نَقُ ُّ‬ ‫لفؤاده إن وقع منا في أمر ه‬
‫وت َم ِلكا ا‬ ‫ث لَ ُك ْم طالُ َ‬ ‫ّللا قَ ْد بَعَ َ‬ ‫س ِل ما نُث َ ِبهتُ بِ ِه فُؤا َد َك )ثم قال ‪َ «) 248 ( :‬وقا َل لَ ُه ْم نَبِيُّ ُه ْم إِ َّن َّ َ‬ ‫الر ُ‬
‫ُّ‬
‫ّللا‬
‫»يقول ‪ :‬لما سأل مأل بني إسرائيل نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه عدوهم ‪ ،‬قيل أوحى ه‬
‫فينش الدهن عند دخوله‬ ‫ه‬ ‫إلى نبيه بقارورة فيها دهن مقدس ‪ ،‬فقال له ربه ‪ :‬إذا دخل عليك رجل‬
‫ّللا عليه‬ ‫فذلك هو الملك الذي نبعثه لهم ‪ ،‬فدخل عليه طالوت يوما يرجو بركة دعائه في أن يرد ه‬
‫حمرا ضلت له ‪ ،‬فلما دخل نش الدهن في القارورة ‪ ،‬فدهنه به ‪ ،‬وكان رجال دباغا حقيرا في‬
‫قومه من سبط بنيامين ‪ ،‬ولم يكن في ذلك السبط نبوة وال ملك ‪ ،‬وكان طالوت من أدنى بيت فيه‬
‫‪ ،‬وسمي طالوت لفضله عليهم في العلم والجسم من الطول وهو الفضل ‪ ،‬واسمه بالسريانية‬
‫شانك بن قيس بن إنبال بن ضرار ابن يحرب بن أفثح بن إيش بن يامين بن يعقوب بن إسحاق‬
‫بن إبراهيم الخليل ‪ ،‬فقال له شمويل ‪:‬‬
‫ّللا قد أمرني أن أبعثك ملكا لهؤالء القوم تقاتل بهم عدوهم ‪ ،‬ودهنه بدهن القدس ‪ ،‬وأعلمه‬ ‫إن ه‬
‫وت َم ِلكا ا‬ ‫ث لَ ُك ْم طالُ َ‬ ‫ّللا قَ ْد بَعَ َ‬ ‫ّللا يوحي إليه إذا كان في مكان كذا وكذا ‪ ،‬ثم قال لقومه ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬ ‫أن ه‬
‫علَيْنا »وليس هو من سبط فيه نبوة وال‬ ‫ون »يقولون كيف يكون ‪ «:‬لَهُ ْال ُم ْلكُ َ‬ ‫»« قالُوا أَنَّى يَ ُك ُ‬
‫سعَةا ِمنَ ْالما ِل »يقولون وما له مال واسع يكون به‬ ‫ت َ‬‫ملك« َون َْح ُن أ َ َح ُّق بِ ْال ُم ْل ِك ِم ْنهُ َولَ ْم يُؤْ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم »يقول ‪ :‬يكون ملكا عليكم‬ ‫طفاهُ »أي اختاره« َ‬ ‫ص َ‬ ‫ملكا« قا َل » ‪247‬لهم نبيهم« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا ا ْ‬
‫طةا »أي اتساعا« فِي ْال ِع ْل ِم َو ْال ِجس ِْم »أي منظره عظيم حسن‬ ‫يملك أمركم« َوزا َدهُ »عليكم« بَ ْس َ‬
‫‪ ،‬ومخبره مثل ذلك ‪ ،‬وأحسن الناس من عظم منظرا ومخبرا ‪ ،‬وقيل كان سقاء يستقي الماء‬
‫ّللاُ يُؤْ ِتي ُم ْل َكهُ َم ْن يَشا ُء »يقول ‪ :‬الملك هّلل سبحانه ليس لكم فيعطيه لمن يشاء‬ ‫على حمار له« َو َّ‬
‫ع ْال ُم ْل َك ِم َّم ْن تَشا ُء‬ ‫من عباده ‪ ،‬قال تعالى ‪ ( :‬قُ ِل اللَّ ُه َّم ما ِل َك ْال ُم ْل ِك تُؤْ تِي ْال ُم ْل َك َم ْن تَشا ُء َوت َ ْن ِز ُ‬
‫ّللا بأني واسع‬ ‫ع ِلي ٌم »لما قالوا ‪ :‬ولم يؤت سعة من المال ‪ ،‬أخبرهم ه‬ ‫ّللاُ وا ِس ٌع َ‬ ‫)ثم قال «‪َ :‬و َّ‬
‫ع ِلي ٌم »في هذا الموضع ‪ ،‬يقول ‪ :‬عليم بمن يصلح‬ ‫العطاء إذا شئت أغنيته بالمال ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬‬
‫ّللا اصطفى عليهم‬ ‫من عبادي للنيابة عني في خلقي والتقدم عليهم ‪ ،‬ولما أخبرهم نبيهم بأن ه‬
‫طالوت بالملك ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ما آية ذلك ؟‬

‫ص ‪368‬‬
‫ص ‪375 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪248‬‬
‫س ِكينَةٌ ِم ْن َر ِبه ُك ْم َوبَ ِقيهةٌ ِم هما ت َ َركَ آ ُل ُموسى‬ ‫َوقا َل لَ ُه ْم نَ ِبيُّ ُه ْم ِإ هن آيَةَ ُم ْل ِك ِه أ َ ْن يَأْتِيَ ُك ُم التهابُوتُ فِي ِه َ‬
‫ين ) ‪( 248‬‬ ‫ون تَحْ ِملُهُ ا ْل َملئِكَةُ ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليَةً لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫هار َ‬ ‫َوآ ُل ُ‬
‫ّللا عالمة على حصولها في نفوس من شاء‬ ‫اعلم أن المعاني التي تتصف بها القلوب قد يجعل ه‬
‫من عباده أن يحصلها ‪ ،‬فيه عالمات من خارج ‪ ،‬تسمى تلك العالمة باسم ذلك المعنى الذي‬
‫ّللا ‪ ،‬وإنما يسميه به ليعلم أن تلك العالمة لحصول هذا المعنى‬ ‫يحصل في نفسه من ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫«) ‪َ ( 249‬وقا َل لَ ُه ْم نَبِيُّ ُه ْم »فقال لهم ‪ «:‬إِ َّن آيَةَ ُم ْل ِك ِه »أي عالمة إعطاء ه‬
‫ّللا له الملك« أ َ ْن‬
‫ّللا لهم فيه آية يسكنون إليها تدل‬ ‫يَأْتِيَ ُك ُم التَّابُوتُ »وكان عند أنبياء بني إسرائيل تابوتا قد جعل ه‬
‫على نصرهم على عدوهم ‪ ،‬فكانوا إذا قاتلوا عدوهم قدموا التابوت أمام الجيش واستنصروا به‬
‫س ِكينَةٌ »كما يقال ‪ :‬اقبل هذا األمر فإن فيه‬ ‫ربهم ‪ ،‬فيعطيهم النصر ‪ ،‬فهذا معنى قوله ‪ «:‬فِي ِه َ‬
‫ّللا قد رفع التابوت من بني إسرائيل لما فشت فيهم المخالفات والكفر ‪ ،‬فقيل‬ ‫فرجا لك ‪ ،‬وكان ه‬
‫ّللا إليه ‪ ،‬وال شك أن هذا المأل من بني إسرائيل إنما أوتوا‬ ‫أخذه منهم عدوهم ‪ ،‬وقيل بل رفعه ه‬
‫ّللا هي العليا‬
‫في إنكارهم الملك على طالوت لكونهم ما طلبوا قتال عدوهم ألن تكون كلمة ه‬
‫وّللا أغنى الشركاء عن الشرك ‪،‬‬ ‫وكلمة الذين كفروا هي السفلى إيثارا لجناب الحق تعالى ‪ ،‬ه‬
‫ّللا وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) فذكروا العلة فما‬ ‫فقالوا ‪ ( :‬وما لنا أن ال نقاتل في سبيل ه‬
‫ّللا فضعفوا في نفوسهم ‪ ،‬فلم يقبلوا فرض‬ ‫ّللا ‪ ،‬فبعدوا من ه‬ ‫قاتلوا إال لحظوظ نفوسهم ال لجناب ه‬
‫ّللا في والية طالوت عليهم ‪ ،‬فجاءت المالئكة بالتابوت تحمله بين‬ ‫القتال عليهم ‪ ،‬ونازعوا ه‬
‫السماء واألرض وهم ينظرون إليه حتى أنزلته في بيت طالوت ‪ ،‬فحينئذ سمعوا له وأطاعوا‬
‫س ِكينَةٌ ِم ْن َر ِبه ُك ْم »أي فيه آية تدل على النصر ‪،‬‬
‫رغبة في النصر على عدوهم ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فِي ِه َ‬
‫فيسكن إليه من كان عنده في حال قتال عدوه ‪ ،‬يقال سكن إلى هذا األمر يسكن سكونا وسكينة ‪،‬‬
‫على أنه قد قيل في هذه السكينة أقوال ‪ ،‬كلها ترجع إلى ما ذكرناه ‪ ،‬فقالوا كانت السكينة التي‬
‫فيه ريحا هفافة ‪ ،‬لها وجه كوجه اإلنسان ‪ ،‬وقيل غير ذلك ‪ ،‬وسميت سكينة لما ذكرناه ‪ ،‬وال‬
‫فرق بين أن تكون اآلية حضور التابوت عندهم أو تكون ما ذكروه ‪ ،‬قال تعالى ‪ُ ( :‬ه َو الَّذِي‬
‫ب ْال ُمؤْ ِم ِنينَ )ويحتمل أن تكون السكينة عبارة عن المالئكة الذين مع‬ ‫س ِكينَةَ ِفي قُلُو ِ‬ ‫أ َ ْنزَ َل ال َّ‬
‫ّللا بهم مددا ودعاء ‪ ،‬فإنه قد ورد في الصحيح أن بعض الصحابة‬ ‫التابوت ينصرهم ه‬

‫ص ‪369‬‬

‫ص ‪376 :‬‬
‫ّللا قد جعل فيه سكينة ‪ ،‬وهي صورة على‬ ‫نصبت ‪ ،‬مثل قوله تعالى في تابوت بني إسرائيل إن ه‬
‫شكل حيوان من الحيوانات ‪ ،‬اختلف الناس في أي صورة حيوان كانت ‪ ،‬وال فائدة لنا في ذكر‬
‫ما ذكروه من صورتها ‪ ،‬فكانت تلك الصورة إذا هفت أو ظهرت منها حركة خاصة بصروا ‪،‬‬
‫فسكن قلبهم عند رؤية تلك العالمة من تلك الصورة التي سماها سكينة ‪ ،‬وأن السكينة المعلومة‬
‫إنما محلها القلوب ‪ ،‬ولم يجعل لهذه األمة المحمدية عالمة خارجة عنهم على حصولها ‪ ،‬فليس‬
‫لهم عالمة في قلوبهم سوى حصولها ‪ ،‬فهي الدليل على نفسها ‪ ،‬ما تحتاج إلى دليل من خارج‬
‫كما كان في بني إسرائيل‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫كان يقرأ القرآن وله فرس فجعلت الفرس تضرب بيديها وتنفر ‪ ،‬فنظر الرجل فإذا غمامتان قد‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال‬ ‫نزلتا من السماء ‪ ،‬فلما سكت عن القراءة ارتفعتا ‪ ،‬فذكر ذلك للنبي صلهى ه‬
‫‪ :‬تلك السكينة نزلت للقرآن وكانت المالئكة في الغمامتين ‪ ،‬وقوله ‪َ «:‬وبَ ِقيَّةٌ ِم َّما ت َ َر َك آ ُل ُموسى‬
‫هارونَ »يعني األنبياء« ت َ ْح ِملُهُ ْال َمالئِ َكةُ »فيقال كان فيه عصا موسى وعمامته وشيء من‬ ‫َوآ ُل ُ‬
‫التوراة وثياب موسى ورضراض األلواح والطست الذي كان يغسل فيه قلوب األنبياء ‪ ،‬ثم قال‬
‫‪ «:‬إِ َّن فِي ذ ِل َك َآليَةا لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »وهذا دليل على مغايرة العلم لإليمان كما قدمنا ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا في قلب من خصه من‬ ‫الدليل يعطي العلم لذاته وال يعطي اإليمان ‪ ،‬فاإليمان نور يقذفه ه‬
‫عباده ‪ ،‬وقوله ‪ِ «:‬إ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »أي مصدقين بأن النصر يكون مع التابوت ‪ ،‬واآلية كانت‬
‫ّللا‬
‫في إتيانه ال فيه ‪ ،‬فقوله «‪ :‬ذ ِل َك »إشارة إلى اإلتيان ‪ ،‬فجعله دليال على صدق شمويل أن ه‬
‫بعث لهم طالوت ملكا ‪ ،‬فأضيفت اآلية للملك المضاف إلى طالوت ألنه محل النزاع ‪ ،‬وقوله‬
‫«‪َ :‬آليَةا لَ ُك ْم »يدل على أنه علم سبحانه أنهم اتخذوا اإلتيان دليال ‪ ،‬ألنه من لم يتقرر عنده كون‬
‫هذا األمر دليال على كذا ال يكون عنده دليال ‪ ،‬وإن كان في نفس األمر دليال ‪ ،‬ولكن هنا‬
‫غموض ‪ ،‬فإنه إذا حصل هذا الدليل عند الناظر فيه من جميع وجوهه باستيفاء أركانه ‪ ،‬فال بد‬
‫أن يكون عنده دليال ألنه لذاته يدل ‪ ،‬ويرتبط بمدلوله ‪ ،‬فليس الدليل باإلضافة ‪ ،‬فالجهل إنما‬
‫حصل من كون الناظر ما استوفى النظر فيه ‪ ،‬ولهذا انقسم الناظرون في آيات األنبياء إلى‬
‫قسمين ‪ :‬قسم لم يحصل لهم العلم بالدليل فكفروا بالمدلول ‪ ،‬وقسم حصل لهم العلم بذلك فجحدوا‬
‫ّللا الختالف أحوالهم وإن‬ ‫باآلية واستيقنتها أنفسهم ‪ ،‬فيختلف الحكم عليهم في اآلخرة من عند ه‬
‫جمعهم اسم الكفر ‪ ،‬فلما رأت بنو إسرائيل إتيان المالئكة بالتابوت إلى بيت طالوت على حد ما‬
‫ذكره نبيهم سمعوا له وأطاعوا ‪ ،‬فخرج بهم طالوت لقتال عدوهم ‪ ،‬وهو قوله ‪)« 250 ( :‬فَلَ َّما‬
‫ص َل طالُوتُ ِب ْال ُجنُو ِد »من خرج من‬ ‫فَ َ‬

‫ص ‪370‬‬

‫ص ‪377 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪249‬‬
‫س ِم ِنهي َو َم ْن لَ ْم يَ ْطعَ ْمهُ‬ ‫ب ِم ْنهُ فَلَ ْي َ‬‫ّللا ُم ْبت َ ِلي ُك ْم ِبنَ َه ٍر فَ َم ْن ش َِر َ‬
‫ص َل طالُوتُ ِبا ْل ُجنُو ِد قا َل ِإ هن ه َ‬ ‫فَلَ هما فَ َ‬
‫ِين آ َمنُوا‬ ‫غ ْرفَةً ِبيَ ِد ِه فَش َِربُوا ِم ْنهُ ِإاله قَ ِليلً ِم ْن ُه ْم فَلَ هما َ‬
‫جاو َزهُ ُه َو َوالهذ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫فَ ِإنههُ ِم ِنهي ِإاله َم ِن ا ْغت َ َر َ‬
‫ون أَنه ُه ْم ُملقُوا ه ِ‬
‫ّللا َك ْم ِم ْن ِفئ َ ٍة قَ ِليلَ ٍة‬ ‫ظنُّ َ‬ ‫َمعَهُ قالُوا ال طاقَةَ لَنَا ا ْليَ ْو َم ِبجالُوتَ َو ُجنُو ِد ِه قا َل الهذ َ‬
‫ِين يَ ُ‬
‫ين ) ‪( 249‬‬ ‫صابِ ِر َ‬ ‫ّللاُ َم َع ال ه‬
‫ّللا َو ه‬ ‫غلَبَتْ فِئَةً َكثِ َ‬
‫يرةً بِ ِإ ْذ ِن ه ِ‬ ‫َ‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن‬ ‫ّللا في األرض ‪ ،‬ما قام بأحد وال اتصف به إال نصره ه‬ ‫من ذلك يعلم أن الصدق سيف ه‬
‫ّللا المؤمن الذي لم يدخله خلل في إيمانه على‬ ‫الصدق نعته والصادق اسمه ‪ ،‬فينصر ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ص َل »أي خرج من بيته بجنوده يطلب عدوه‬ ‫شيء فقد فصل عنه فصوال ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬فَلَ َّما فَ َ‬
‫ّللا ُم ْبت َ ِلي ُك ْم بِنَ َه ٍر »قيل هو نهر األردن الخارج من‬ ‫‪ ،‬وكان في زمان الحر ‪ «،‬قا َل »لهم ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا أي اختبر صدقهم في اتباع طالوت بالشرب‬ ‫بحيرة طبرية الواقعة في بحيرة لوط ‪ ،‬فابتالهم ه‬
‫ب ِم ْنهُ »يقول ‪ :‬من كرع فيه‬ ‫من النهر ‪ ،‬إذ التكليف إنما يقع ويتعلق بفعل المكلف« فَ َم ْن ش َِر َ‬
‫فشرب منه أكثر مما يسد به عطشه خاصة ‪ ،‬وهو الضروري من ذلك ‪ ،‬الذي تبقى به حياة‬
‫ْس ِم ِنهي »يقول ‪َ «:‬و َم ْن لَ ْم يَ ْ‬
‫طعَ ْمهُ‬ ‫اإلنسان وإن أحس بالعطش ‪ ،‬يقول ‪ :‬فمن فعل ذلك «فَلَي َ‬
‫غ ْرفَةا بِيَ ِد ِه »وهو قدر الضرورة الداعية إليه‬ ‫ف ُ‬ ‫»وصبر على عطشه «فَإِنَّهُ ِم ِنهي إِ َّال َم ِن ا ْغت َ َر َ‬
‫ْس ِم ِنهي »أي الشرب منه ليس من سنتي ‪ ،‬كما ورد [ من غشنا فليس‬ ‫فإنه مني ‪ ،‬وقوله ‪ «:‬فَلَي َ‬
‫يال ِم ْن ُه ْم »وكانوا ثالثمائة وثالثة‬ ‫منا ] أي ليس من سنتنا الغش ‪ ،‬قال «‪ :‬فَش َِربُوا ِم ْنهُ ِإ َّال قَ ِل ا‬
‫جاوزَ هُ ُه َو »يعني‬ ‫عشر ‪ ،‬وما عدا هؤالء فإنهم شربوا حتى رووا منه ‪ ،‬قال تعالى ‪ «:‬فَلَ َّما َ‬
‫طالوت « والذين معه » يعني عسكره ‪ ،‬أبصروا عسكر جالوت وكثرته وشدة بأسه ‪ ،‬ونظروا‬
‫وت َو ُجنُو ِد ِه »وهؤالء القائلون منهم هم الذين‬ ‫إلى ضعفهم وقلتهم« قالُوا ال طاقَةَ لَنَا ْاليَ ْو َم بِجالُ َ‬
‫شربوا وهم الذين وقع عليهم الشرط بقوله ‪ِ ( :‬إ َّن فِي ذ ِل َك َآليَةا لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ )وهم الذين‬
‫ِيارنا َوأَبْنائِنا )فكرهوا أن يخرجوا من أنفسهم أيضا بالقتل ‪ ،‬فجبنوا‬ ‫قالوا ‪َ ( :‬وقَ ْد أ ُ ْخ ِر ْجنا ِم ْن د ِ‬
‫عن قتال عدوهم ‪ ،‬وضعفوا عن اإليمان بالنصر المقترن بحضور التابوت ‪ ،‬فما كان فيه في‬
‫حق هؤالء سكينة ‪ ،‬ألن نفوسهم ما سكنت إليه في ذلك‬

‫ص ‪371‬‬

‫ص ‪378 :‬‬
‫ّللا يخذله على قدر ما دخله من الخلل ‪ ،‬أي مؤمن كان من‬ ‫من دخله خلل في إيمانه ‪ ،‬فإن ه‬
‫المؤمنين ‪ ،‬فالمؤمن الكامل اإليمان منصور أبدا ‪ ،‬ولهذا ما انهزم نبي قط وال ولي ‪ ،‬أال ترى‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم رأوا كثرتهم فأعجبتهم كثرتهم‬ ‫ّللا عنهم توحيد ه‬
‫يوم حنين لما ادعت الصحابة رضي ه‬
‫ّللا عند ذلك ‪ ،‬فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ‪ ،‬مع كون الصحابة مؤمنين بال شك ‪ ،‬ولكن‬ ‫فنسوا ه‬
‫ّللا‬ ‫ت فِئَةا َكثِ َ‬
‫يرة ا بِإِ ْذ ِن َّ ِ‬ ‫غلَبَ ْ‬
‫ّللا« َك ْم ِم ْن فِئ َ ٍة قَ ِليلَ ٍة َ‬
‫دخلهم الخلل باعتمادهم على الكثرة ‪ ،‬ونسوا قول ه‬
‫ّللا ‪ [-‬اال من اغترف‬ ‫ّللا هنا إال للغلبة فأوجدها ‪ ،‬فغلبتهم الفئة القليلة بها عن إذن ه‬ ‫»فما أذن ه‬
‫غرفة ]‬
‫إشارة ‪ -‬لما جرى نهر البلوى ‪ ،‬بين العدوتين الدنيا والقصوى ‪ ،‬وكان االضطرار ‪ ،‬وقع‬
‫االبتالء واالختبار ‪ ،‬لما كان الظما ‪ ،‬اختبر اإلنسان بالماء ‪ ،‬فلم يحصل له أمان الغرفة ‪ ،‬إال من‬
‫قنع في شربه بالغرفة ‪ ،‬فمن اغترف نال الدرجات ‪ ،‬ومن شرب ليرتوي عمر الدركات ‪ ،‬فما‬
‫ارتوى من شرب ‪ ،‬وروي من اغترف غرفة بيده وطرب ‪ ،‬فمن رضي بالقليل ‪ ،‬عاش في ظل‬
‫ظليل ‪ ،‬في خير مستقر وأحسن مقيل‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 250‬إلى ‪251‬‬


‫علَى ا ْلقَ ْو ِم‬‫ص ْرنا َ‬ ‫ص ْبرا ً َوث َ ِبهتْ أ َ ْقدا َمنا َوا ْن ُ‬
‫علَ ْينا َ‬ ‫َولَ هما بَ َر ُزوا ِلجالُوتَ َو ُجنُو ِد ِه قالُوا َربهنا أ َ ْف ِر ْغ َ‬
‫عله َمهُ ِم هما‬ ‫ّللاُ ا ْل ُم ْلكَ َوا ْل ِح ْك َمةَ َو َ‬
‫داو ُد جالُوتَ َوآتا ُه ه‬ ‫ّللا َوقَت َ َل ُ‬ ‫ين ) ‪ ( 250‬فَ َه َز ُمو ُه ْم ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬ ‫ا ْلكا ِف ِر َ‬
‫ين (‬‫علَى ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ض ٍل َ‬ ‫ّللا ذُو فَ ْ‬ ‫ض َول ِك هن ه َ‬ ‫ت ْاأل َ ْر ُ‬
‫س َد ِ‬‫ض لَفَ َ‬ ‫اس بَ ْع َ‬
‫ض ُه ْم بِبَ ْع ٍ‬ ‫ّللا النه َ‬‫يَشا ُء َولَ ْو ال د َْف ُع ه ِ‬
‫) ‪251‬‬
‫باّلل وبكل شيء ومنزلة ذلك‬ ‫الحكمة هي علم النبوة ‪ ،‬والحكماء على الحقيقة هم العلماء ه‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا ‪ ،‬وقد‬ ‫ّللا »فقال القليل منهم ‪ ،‬وهم الذين يظنون أنهم مالقوا ه‬ ‫ظنُّونَ أَنَّ ُه ْم ُمالقُوا َّ ِ‬ ‫«قا َل الَّذِينَ يَ ُ‬
‫يرة ا »الفئة الجماعة ‪ ،‬وقوله‬ ‫ت فِئَةا َكثِ َ‬‫غلَبَ ْ‬‫تقدم الكالم في الظن في هذه السورة« َك ْم ِم ْن فِئ َ ٍة قَ ِليلَ ٍة َ‬
‫ّللا ‪ ،‬أي بأمره ‪ ،‬فإنه شيء ‪ ،‬وقد قال ‪ِ ( :‬إنَّما قَ ْولُنا‬ ‫ّللا »أي الغلب ال يقع إال بإذن ه‬ ‫‪ِ «:‬بإِ ْذ ِن َّ ِ‬
‫ّللا َرمى‬ ‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬
‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬ ‫ون )وقال تعالى ‪َ ( :‬وما َر َمي َ‬ ‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬ ‫ِل َ‬
‫صا ِب ِرينَ »قد تقدم الكالم عليه في هذه السورة ثم قال ‪َ «) 251 ( :‬ولَ َّما‬ ‫ّللاُ َم َع ال َّ‬ ‫)وقوله ‪َ «:‬و َّ‬
‫علَى ْالقَ ْو ِم ْالكافِ ِرينَ‬ ‫ص ْرنا َ‬ ‫ت أ َ ْقدا َمنا َوا ْن ُ‬
‫صبْرا ا َوث َ ِبه ْ‬
‫علَيْنا َ‬ ‫غ َ‬ ‫وت َو ُجنُو ِد ِه قالُوا َربَّنا أ َ ْف ِر ْ‬ ‫بَ َر ُزوا ِلجالُ َ‬
‫»‬

‫ص ‪372‬‬

‫ص ‪379 :‬‬
‫ض‬
‫ض ُه ْم بِبَ ْع ٍ‬
‫اس بَ ْع َ‬ ‫الشيء المعلوم ‪ ،‬وهم على الحقيقة الرسل واألولياء« َولَ ْو ال َد ْف ُع َّ ِ‬
‫ّللا النَّ َ‬
‫ض »ولبطلت السنة والفرض ‪.‬‬ ‫ت ْاأل َ ْر ُ‬ ‫لَفَ َ‬
‫س َد ِ‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 252‬إلى ‪253‬‬


‫ض ُه ْم‬ ‫س ُل فَ ه‬
‫ض ْلنا بَ ْع َ‬ ‫الر ُ‬‫ين ( ‪ ) 252‬تِ ْلكَ ُّ‬ ‫س ِل َ‬‫ق َوإِنهكَ لَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬‫علَ ْيكَ بِا ْل َح ه ِ‬
‫ّللا نَتْلُوها َ‬ ‫تِ ْلكَ آياتُ ه ِ‬
‫ت َوأَيه ْدناهُ‬
‫سى ا ْب َن َم ْريَ َم ا ْلبَ ِيهنا ِ‬ ‫ت َوآت َ ْينا ِعي َ‬‫ض ُه ْم د ََرجا ٍ‬ ‫ّللاُ َو َرفَ َع بَ ْع َ‬‫ض ِم ْن ُه ْم َم ْن َكله َم ه‬ ‫عَلى بَ ْع ٍ‬
‫اختَلَفُوا‬‫ِين ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءتْ ُه ُم ا ْلبَ ِيهناتُ َول ِك ِن ْ‬ ‫اقتَت َ َل الهذ َ‬‫ّللاُ َما ْ‬‫ُس َولَ ْو شا َء ه‬ ‫بِ ُروحِ ا ْلقُد ِ‬
‫ّللا يَ ْفعَ ُل ما يُ ِري ُد ) ‪( 253‬‬ ‫اقتَتَلُوا َول ِك هن ه َ‬‫ّللاُ َما ْ‬ ‫فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن آ َم َن َو ِم ْن ُه ْم َم ْن َكفَ َر َولَ ْو شا َء ه‬
‫الرسل ثالثمائة وثالثة عشر رسول ‪ ،‬منهم الفاضل واألفضل ‪ ،‬وإن سبح الكل في فلك الرسالة‬
‫‪ ،‬ألن كل صنف أشخاصه يفضل بعضهم بعضا ‪ ،‬وال تفاضل إال بالعلم ‪ ،‬فهؤالء‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا أن يصب عليهم الصبر والثبات في‬ ‫يقول ‪:‬ولما برزوا أي ظهروا إلى عدوهم ‪ ،‬دعوا ه‬
‫الحرب ‪ ،‬والنصر على األعداء ‪ ،‬وكيف يسألون النصر وهم قد علموا وقوع النصر لهم على‬
‫أعدائهم بكون التابوت معهم ؟ فالجواب من وجهين ‪ :‬الوجه الواحد ‪ ،‬األدب مع الحق واالعتماد‬
‫عليه ال على األسباب ‪ ،‬وما هم على يقين أن التابوت يكون معه النصر كما كان لمن تقدم ‪،‬‬
‫لتغير األحوال ‪ ،‬ومجيئه إنما كان آية على ملك طالوت ال على نصره على عدوهم ‪ ،‬وما‬
‫يقتضيه أيضا جبلة اإلنسان من الجبن ‪ ،‬فاستعان بالدعاء للهلع الذي قام به ‪ ،‬قال تعالى ( ‪ِ :‬إ َّن‬
‫ش ُّر َج ُزوعا ا ) ‪،‬والوجه اآلخر ‪ ،‬منقول عن السكينة ‪ ،‬فإنهم قالوا‬ ‫اإل ْنسانَ ُخ ِلقَ َهلُوعا ا ِإذا َم َّ‬
‫سهُ ال َّ‬ ‫ِْ‬
‫إنها كانت آية لها رأس كرأس الهر ‪ ،‬فإذا صاحت علموا أنهم قد نصروا ‪ ،‬وإذا سكتت علموا‬
‫أنهم ال ينصرون ‪ ،‬وهم ال يدرون هل تصيح فينصرون أم ال ؟ فاستعانوا بالدعاء هّلل والتضرع‬
‫ّللا دعاءهم ‪ ،‬فأخبر تعالى وقال «) ‪ : ( 252‬فَ َهزَ ُمو ُه ْم بِإِ ْذ ِن‬ ‫في النصر على أعدائهم ‪ ،‬فأجاب ه‬
‫ّللا )« َوقَت َ َل ُ‬
‫داو ُد‬ ‫ت فِئَةا َكثِ َ‬
‫يرة ا ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬ ‫غلَبَ ْ‬
‫ّللا ‪ ،‬تصديقا لهم حيث قالوا ‪َ ( :‬‬ ‫ّللا »كما قال أوال بإذن ه‬ ‫َّ ِ‬
‫ّللاُ »يعني داود«‬ ‫ّللا عليه وسلم وجالوت هو الملك « َوآتاهُ َّ‬ ‫وت »يريد داود النبي صلهى ه‬ ‫جالُ َ‬
‫علَّ َمهُ ِم َّما يَشا ُء »ما أراده‬ ‫ْال ُم ْل َك »الذي كان لطالوت« َو ْال ِح ْك َمةَ »الزبور الذي أنزل عليه« َو َ‬
‫من العلوم التي فيها سعادته وشرفه« َولَ ْو ال‬

‫ص ‪373‬‬

‫ص ‪380 :‬‬
‫مع اجتماعهم في الرسالة والكمال يفضل بعضهم بعضا فيما لهم من األخالق الخاصة بهم ‪،‬‬
‫وهي مائة وسبعة عشر خلقا ‪ [،‬مكانه محمد ( ص ) ]‬
‫ّللا تعالى لما خلق‬ ‫وقد جمعها كلها محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬جمعت له عناية أزلية ‪ ،‬فإن ه‬
‫الخلق خلقهم أصنافا ‪ ،‬وجعل في كل صنف خيارا ‪ ،‬واختار من الخيار خواصا وهم المؤمنون‬
‫‪ ،‬واختار من المؤمنين خواصا وهم األولياء ‪ ،‬واختار من هؤالء الخواص خالصة وهم األنبياء‬
‫‪ ،‬واختار من الخالصة نقاوة وهم أنبياء الشرائع المقصورة عليهم ‪ ،‬واختار من النقاوة شرذمة‬
‫قليلة هم صفاء النقاوة المروقة وهم الرسل أجمعهم ‪ ،‬واصطفى واحدا من خلقه هو منهم وليس‬
‫منهم ‪ ،‬هو المهيمن على جميع الخالئق ‪ ،‬جعله عمدا‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا يدفع‬
‫ّللا الناس بعضهم ببعض ‪ ،‬أي ولوال أن ه‬ ‫ض »أي ولوال دفاع ه‬ ‫ض ُه ْم بِبَ ْع ٍ‬
‫اس بَ ْع َ‬ ‫َد ْف ُع َّ ِ‬
‫ّللا النَّ َ‬
‫ض »أي لظهر‬ ‫ت ْاأل َ ْر ُ‬ ‫س َد ِ‬‫ّللا وأوليائه« لَفَ َ‬ ‫بأوليائه شر أعدائه وفسادهم الذي يرمونه في دين ه‬
‫علَى ْالعالَ ِمينَ »أي ذو منة وعناية على العالمين ‪ ،‬يعني‬ ‫ّللا ذُو فَ ْ‬
‫ض ٍل َ‬ ‫الفساد في األرض « َول ِك َّن َّ َ‬
‫ّللا »يعني جميع ما ذكره من‬ ‫ّللا عليه وسلم «) ‪ِ : ( 253‬ت ْل َك آياتُ َّ ِ‬ ‫عباده ‪ ،‬ثم قال لنبيه صلهى ه‬
‫ق »أنها حق« َوإِنَّ َك لَ ِمنَ ْال ُم ْر َ‬
‫س ِلينَ »يقول ‪:‬‬ ‫علَي َْك »أي نعرفك بها« بِ ْال َح ه ِ‬ ‫هذه القصة« نَتْلُوها َ‬
‫كما أرسل هؤالء ‪ ،‬وأنك ستلقى مثل ما لقي هؤالء ‪ ،‬وتعزية له لما لقيه من بني قريظة‬
‫ّللا صنفين ‪ :‬صنف أرسلهم إلى الخلق مبشرين‬ ‫والنضير ‪ ،‬ولما كانت األنبياء قد جعلها ه‬
‫ومنذرين ‪ ،‬وصنف لم يرسلهم بل نبأهم وجعلهم على شريعة من عنده تعبدهم بها ‪ ،‬قال لمحمد‬
‫س ِلينَ »منهم ‪ ،‬أي من الصنف الذي أرسل ‪ ،‬وكان صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫عليه السالم ‪َ «:‬و ِإنَّ َك لَ ِمنَ ْال ُم ْر َ‬
‫عليه وسلم أعظم الرسل ‪ ،‬إذ كان الرسالة إلى كافة الناس ‪ ،‬فجميع بني آدم من زمان رسالته‬
‫إلى يوم القيامة من أمته ‪ ،‬من آمن منهم ومن كفر ‪ ،‬فميزانه أرجح الموازين ‪ ،‬وسواد أمته أكثر‬
‫سوادا يوم القيامة من سائر األمم ‪ ،‬فهو المكاثر الذي ال يكاثر ‪ ،‬ثم نرجع إلى ذكر القصة بعد‬
‫انقضاء التفسير فنقول ‪ :‬إن بني إسرائيل لما استولى عليهم جالوت وأخرجهم من ديارهم وحال‬
‫بينهم وبين أبنائهم باألسر والجالء والقتل ‪ ،‬وأخذ التابوت الذي كانت تستنصر به األنبياء على‬
‫أعدائها في القتال ‪ ،‬وكان موسى لما مات في التيه ترك التابوت عند يوشع بن نون بن أفراييم‬
‫ابن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ‪ ،‬وأوصاه به ‪ ،‬وما زال التابوت ينتقل من‬
‫ّللا عليهم جالوت فاتكا‬ ‫نبي إلى نبي بالوصية عليه ‪ ،‬إلى أن كفرت بنو إسرائيل وضلوا ‪ ،‬سلط ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقيل إن جالوت استولى عليه وأخذه منهم وبقي عنده ما شاء‬ ‫فيهم ‪ ،‬فقيل إن التابوت رفعه ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولما رأت بنو إسرائيل ما جرى عليها ‪ ،‬اجتمع وجوههم إلى النبي الذي كان عندهم في‬ ‫ه‬
‫ذلك الوقت وهو شمويل ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬إن عدونا استولى علينا وليس لنا ملك وال رأس نرجع له‬
‫ونسمع له‬

‫ص ‪374‬‬

‫ص ‪381 :‬‬
‫أقام عليه قبة الوجود ‪ ،‬جعله أعلى المظاهر وأسناها ‪ ،‬صح له المقام تعيينا وتعريفا ‪ ،‬فعلمه قبل‬
‫وجود طينة البشر ‪ ،‬وهو محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ال يكاثر وال يقاوم ‪ ،‬هو السيد ومن سواه‬
‫سوقة ‪ ،‬قال عن نفسه ‪ :‬أنا سيد الناس وال فخر ‪ ،‬بالراء والزاي ‪ ،‬روايتان ‪ ،‬أي أقولها غير‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ونطيع ‪ ،‬فكان يغزو بنا عدونا وال نبقى ضميمة يفتك بنا بسيفه ورجاله ‪ ،‬فقال لهم نبيهم ‪:‬‬
‫ّللا في ذلك ‪ ،‬ولكني أخاف عليكم إن فرض عليكم القتال أال تقاتلوا ‪ ،‬وكانت األمم‬ ‫أنا أسأل ه‬
‫ّللا وكيف نتخلف عن قتال‬ ‫تنزل عليهم األحكام على قدر سؤاالتهم ‪ ،‬فقالوا لشمويل ‪ :‬يا رسول ه‬
‫عدونا وقد أخرجنا من ديارنا وحال بيننا وبين أبنائنا ؟ وذهلوا عن الذي قال لهم شمويل من‬
‫فرض القتال عليهم لما كانوا فيه من شدة الحرص على قتال عدوهم ‪ ،‬فما طلبوا إال ملكا يدبر‬
‫ّللا نبيه شمويل فيما سأل من‬ ‫أمرهم ‪ ،‬ال أن يفرض عليهم القتال فيعصون بتركه ‪ ،‬فلما أجاب ه‬
‫ّللا قد فرض عليكم قتال عدوكم ‪،‬‬ ‫ّللا عليهم القتال ‪ ،‬فقال لهم نبيهم شمويل ‪ :‬إن ه‬
‫ذلك ‪ ،‬فرض ه‬
‫فلما سمع القوم بأن ذلك على جهة الفرض صعب عليهم لما في التكليف من المشقة ‪ ،‬فأعرض‬
‫ّللا عليها من قتال عدوها ‪ ،‬فكان الذين‬ ‫أكثرهم ورجع عن سؤاله ‪ ،‬وآمنت طائفة بما فرض ه‬
‫ّللا في أن يبعث‬ ‫ّللا عليه ‪ :‬إنني سألت ه‬
‫آمنوا ثالثمائة وثالثة عشر ‪ ،‬ثم قال لهم شمويل صلوات ه‬
‫ّللا إلى شمويل ونزل عليه جبريل بقارورة‬ ‫لكم ملكا يرجع أمركم في قتال عدوكم إليه ‪ ،‬فأوحى ه‬
‫فيها دهن القدس ‪ ،‬وقال له ‪ :‬يا شمويل انظر إلى هذا الدهن في هذه القارورة فأي رجل دخل‬
‫إليك ونش هذا الدهن لدخوله ‪ ،‬فهو الملك الذي قد قضيت أن أبعثه لبني إسرائيل ‪ ،‬وكان في‬
‫زمن شمويل رجل يسقي الماء على حمار له ‪ ،‬وقيل بل كان دباغا ولم يكن من بيت فيه نبوة‬
‫وال ملك وال من أشراف بيته ‪ ،‬وقد ذكرنا نسبه وبيته ‪ ،‬فضاع حماره فخرج في طلبه ‪ ،‬فمر‬
‫بمنزل شمويل ‪ ،‬فدخل عليه يرجو بركة دعائه في وجدان حماره ‪ ،‬فلما دخل عليه نش الدهن‬
‫في القارورة ‪ ،‬فنظر إليه شمويل وقال له ‪:‬‬
‫ّللا قد‬
‫وبرك عليه ‪ ،‬وقال له ‪ :‬يا طالوت إن ه‬ ‫ادنه ‪ ،‬فدنا منه طالوت ‪ ،‬فدهن رأسه بذلك الدهن ه‬
‫أعطاك ملك بني إسرائيل وقدمك عليهم ‪ ،‬وكان طالوت ذا منظر حسن وهيبة وامتداد قامة ‪،‬‬
‫ّللا علما بالحروب وترتيب الجيوش والمكايد التي يحتاج إليها في الحرب ‪ ،‬فقال‬ ‫وكان قد آتاه ه‬
‫ّللا قد بعث لكم طالوت ملكا ‪ ،‬وكانوا يعرفون طالوت بينهم وأنه‬ ‫شمويل لبني إسرائيل ‪ :‬إن ه‬
‫فقير حقير مهان في عشيرته ‪ ،‬وعشيرته في العشائر حقيرة غير معتبرة ‪ ،‬فأنفوا أن يتقدم‬
‫عليهم مثل ذلك ‪ ،‬وقالوا لشمويل ‪ :‬نحن أحق بالملك منه ‪ ،‬فإنه رجل ال أصل له فينا يرجع إليه‬
‫ّللا قد فضله عليكم بما‬
‫من ملك وال نبوة ‪ ،‬وال مال له ينفقه فينا ‪ ،‬فقال لهم شمويل ‪ :‬إن ه‬
‫ّللا العلم بالقتال‬
‫تحتاجون إليه في قتال عدوكم وبما ينبغي أن يكون عليه الملك ‪ ،‬وأعطاه ه‬
‫والمغالبة والحروب ‪ ،‬وأعطاه البسطة والجمال في‬

‫ص ‪382 :‬‬
‫ص ‪375‬‬

‫متبجح بباطل ‪ ،‬أي أقولها وال أقصد االفتخار على من بقي من العالم ‪ ،‬وإن كنت أعلى‬
‫ض »فمن‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫س ُل فَض َّْلنا بَ ْع َ‬
‫ض ُه ْم َ‬ ‫المظاهر اإلنسانية فأنا أشد الخلق تحققا بعيني« تِ ْل َك ُّ‬
‫الر ُ‬
‫حيث ما هي رسالة فال فضل إذ االسم يعم هذه الحالة ‪ ،‬ومن حيث ما هي رسالة بأمر ما وقع‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫ّللا بيده خزائن األرض ومقاليدها ‪ ،‬فهو‬ ‫صورته بحيث إذا رآه عدوه هابه ‪ ،‬وأما المال ه‬
‫فإن ه‬
‫ّللا اختاره لنا وبعثه ملكا علينا كما زعمت فما‬‫يعطيه ويهبه ما ينفقه فيكم ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬إن كان ه‬
‫عالمة ذلك ‪ ،‬وكانت بنو إسرائيل كثيرا ما تطلب اآليات من أنبيائها ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬إن عالمة‬
‫ملكه فيكم أن يرجع إليكم التابوت الذي أخذ منكم ‪ ،‬وتأتي به المالئكة تحمله في الهواء وأنتم‬
‫تنظرون إليه حتى تنزله في بيت طالوت ‪ ،‬ففرحوا برد التابوت ورضوا بهذه اآلية ‪ ،‬فبينما هم‬
‫جلوس وإذا بالتابوت بين السماء واألرض تحمله المالئكة وهم ينظرون إليه ‪ ،‬حتى نزلت به‬
‫المالئكة في بيت طالوت ‪ ،‬وكان في التابوت صورة يقال لها السكينة ‪ ،‬لها رأس كرأس الهر‬
‫ووجه كوجه اإلنسان وجناحان ‪ ،‬فإذا لقوا العدو نظروا إليها وهي في التابوت ‪ ،‬فإذا أنهت‬
‫وصوتت وفتحت جناحيها أيقنوا بالنصر ‪ ،‬وسار التابوت بحركتها قدما تجاه العدو ‪ ،‬وسار‬
‫الجيش خلف التابوت ‪ ،‬فيدبر عدوهم منهزما ‪ ،‬فلما رأت بنو إسرائيل التابوت قد نزل عند‬
‫ّللا قد أعطاه الملك عليهم ‪ ،‬فسمعوا له وأطاعوا واجتمعوا عليه ‪ ،‬فخرج بهم‬ ‫طالوت علموا أن ه‬
‫يطلب جالوت ‪ ،‬وكان عدوهم بين فلسطين وديار مصر ‪ ،‬وكان من عبدة األوثان ‪ ،‬فلما جاء‬
‫ّللا لهم نهرا من بحيرة‬
‫الغور وكان زمان قيظ واشتد عليهم الحر ‪ ،‬وأخذهم العطش ‪ ،‬أخرج ه‬
‫طبرية يجري مع طول الغور إلى أن يصب في بحيرة لوط ‪ ،‬يقال له األردن ‪ ،‬فقال لهم‬
‫ّللا يختبركم بهذا النهر مع عطشكم ‪ ،‬فمن لم يطعمه صحبني وكان معي ‪ ،‬ومن‬ ‫طالوت ‪ :‬إن ه‬
‫شرب منه وأخذ منه فوق حاجته فليس يتبعني وال يكون معي ‪ ،‬إال من أخذ منه قدر الحاجة ‪،‬‬
‫وهي الغرفة بيده ليسد بها رمقه إذا خاف الهالك من العطش ‪ ،‬فشرب منه كل من تولى حين‬
‫فرض عليهم القتال ‪ ،‬ولم يشرب منه الثالثمائة والثالثة عشر ‪ ،‬فلما جاوز النهر طالوت‬
‫وعسكره ولحقوا بجالوت وعسكره ‪ ،‬قال أصحاب طالوت الذين شربوا من النهر ‪:‬ال طاقة لنا‬
‫اليوم بجالوت وجنوده ‪ ،‬لما رأوه من العدة والعدد ‪ ،‬فقال الثالثمائة والثالثة عشر ‪ :‬ال تقولوا‬
‫ّللا ‪ ،‬ما هو بكثرة الجموع ‪ ،‬فكم رأينا وسمعنا من جماعة قليلة‬‫هكذا فإن النصر من عند ه‬
‫ّللا ‪ -‬لما ثبتت وصبرت ‪ -‬جماعة كثيرة قوية في العدة‬ ‫ضعيفة في العدة والعدد هزمت بإذن ه‬
‫وّللا مع من يثبت في الحرب ‪ ،‬وال يبرح معين له وناصر ‪ ،‬وكان طالوت لما بشره‬ ‫والعدد ‪ ،‬ه‬
‫شمويل بالملك قال له ‪ :‬إني أعطيك درعا يكون معك ‪ ،‬تخلعه على قاتل جالوت ‪ ،‬وتزوجه بنتك‬
‫وتعطيه نصف ملكك ‪ ،‬وإن هذا الدرع ال يلبسه ويكون على قده إال قاتل جالوت ‪ ،‬وهذه عالمة‬
‫لك على ذلك ‪ ،‬وكان داود عليه‬

‫ص ‪383 :‬‬
‫ص ‪376‬‬
‫التفاضل ‪ ،‬ووقع التفاضل بين الرسل وهم الخلفاء الختالف األزمان واختالف األحوال ‪ ،‬ولهذا‬
‫سى‬‫ت َوآت َيْنا ِعي َ‬
‫ض ُه ْم َد َرجا ٍ‬ ‫اختلفت آيات األنبياء باختالف األعصار« ِم ْن ُه ْم َم ْن َكلَّ َم َّ‬
‫ّللاُ َو َرفَ َع بَ ْع َ‬
‫وح ْالقُد ُِس »فآية كل خليفة ورسول من نسبة ما هو الظاهر والغالب‬ ‫ابْنَ َم ْريَ َم ْالبَ ِيهنا ِ‬
‫ت َوأَيَّ ْدناهُ بِ ُر ِ‬
‫على ذلك الزمان وأحوال علمائه ‪ ،‬أي شيء كان من طب أو سحر‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫السالم يرعى غنما ‪ ،‬وكان داود بن إيشا بن عويذ بن غابر بن يسلمون بن يخسون بن عميذاب‬
‫ابن رام بن حصرون بن فارض بن يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ‪ ،‬وكان أبوه‬
‫إيشا وإخوته في عسكر طالوت ‪ ،‬وأراد داود الغزو معه فأودع غنمه ربه تعالى وانحدر يريد‬
‫الجيش ‪ ،‬فخاطبه حجر وقال له ‪ :‬خذني يا داود فإني أقتل جالوت ‪ ،‬فكم قتل بي هارون عليه‬
‫ّللا ‪ ،‬فقل للريح تعينني على إزالة البيضة من رأس جالوت ‪ ،‬حتى أنفذ إلى‬ ‫السالم من أعداء ه‬
‫رأسه فأشدخه ‪ ،‬فأخذه فجعله في مخالة له ‪ ،‬ثم انصرف ‪ ،‬فناداه حجر آخر ‪ :‬يا داود أنا حجر‬
‫ّللا ‪ ،‬فخذني حتى تستعين بي على قتل عسكر جالوت ‪ ،‬فأخذه‬ ‫موسى ‪ ،‬كم قتل بي من عدو ه‬
‫وجعله في مخالته ‪ ،‬ثم انصرف ‪ ،‬فناداه حجر ثالث كذلك ‪ ،‬فأخذه فجعله في مخالته ‪ ،‬فلما‬
‫دخل على طالوت ‪ ،‬قال له داود ‪ :‬يا طالوت إني قاتل جالوت ولي عليك شرط إذا قتلته أن‬
‫تزوجني بنتك وتقاسمني في ملكك ‪ ،‬فقال له طالوت وتذكر ما عهد إليه شمويل في ذلك ‪ :‬يا‬
‫داود إن لي عالمة فيك وهو هذا الدرع ‪ ،‬فإن هو استوى عليك ولم يقصر عنك وال طال عليك‬
‫فأنت قاتل جالوت ‪ ،‬وكان ذلك الدرع ما يلبسه أحد إال طال عليه أو قصر ‪ ،‬فأفرغه على داود‬
‫فطال عليه فانتقص فيه فتقلص حتى استوى عليه ‪ ،‬فكان تقلصه من أكبر اآليات ‪ ،‬حتى ال يقال‬
‫إنه وقع له بحكم الموافقة ‪ ،‬فعلم طالوت أن ذلك آية كما كان التابوت له آية ‪ ،‬ثم إن الجمع التقى‬
‫وجاء داود حيال جالوت ‪ ،‬فقال له جالوت ‪ :‬ما تريد ؟ قال ‪ :‬أنا قاتلك ‪ ،‬فازدراه جالوت وحقره‬
‫لقلة سالحه ولذاته وما رأى عنده إال الدرع عليه ومخالة ومقالعا ‪ ،‬فأدخل يده داود في مخالته‬
‫ّللا‬
‫ّللا وصارت واحدا ‪ ،‬فجعل الحجر في المقالع ‪ ،‬وأمر ه‬ ‫فإذا األحجار الثالثة قد التأمت بإذن ه‬
‫الريح أن تلقي البيضة عن رأس جالوت ‪ ،‬فهبت هبوبا شديدا حتى ألقت البيضة عن رأس‬
‫جالوت ‪ ،‬ورمى داود عليه السالم بالمقالع الحجر كما رمى النبي عليه السالم التراب في‬
‫وجوه األعداء يوم حنين ‪ ،‬فانقسم الحجر في الهواء ثالثة أقسام ‪ ،‬فطار حجر منه إلى رأس‬
‫جالوت فنفذه ‪ ،‬والحجر اآلخر أخذ يمين الجيش ‪ ،‬وأخذ الحجر الثالث ميسرة الجيش ‪ ،‬فانهزم‬
‫ّللا عن آخرهم ‪ ،‬واستبشر الناس ‪ ،‬وجاء داود‬ ‫جالوت وجنوده ‪ ،‬وسقط جالوت قتيال ‪ ،‬وهزمهم ه‬
‫إلى طالوت وطالبه بالشرط ‪ ،‬فصعب على طالوت أن يكون ملكا ويعطيه ابنته وهو رجل‬
‫راعي غنم ‪ ،‬فقال يا داود ‪ :‬ما كان لمثلك أن يخطب بنات‬

‫ص ‪377‬‬
‫ص ‪384 :‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم جميع ما فضلت به‬ ‫أو فصاحة أو ما شاكل هذا ‪ ،‬وأعطي رسول ه‬
‫ّللا به على غيره في الدنيا بما اختص به ‪،‬‬
‫الرسل بعضهم على بعض ليتبين شرفه وما فضله ه‬
‫وفي البرزخ والقيامة والجنة والكثيب وأيد عيسى عليه السالم بالروح ‪ ،‬ألنه ما رقمه قلم في‬
‫لوح ‪ ،‬فقذف في الرحم من غير شهوة ‪ ،‬فلم يكن له عن طرح األكوان سلوة‪.‬‬

‫من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‪:‬‬


‫الملوك ؟ وفرح الناس بداود ‪ ،‬وحسده طالوت ‪ ،‬فأراد أن يوقع به ‪ ،‬فلم يعن عليه ‪ ،‬وهرب‬
‫ّللا من ذلك ‪ ،‬ووجه إلى‬ ‫داود أمامه ‪ ،‬وندم طالوت على ما جرى منه في حق داود ‪ ،‬فتاب إلى ه‬
‫ّللا إلى طالوت فيما حكي أن توبتك عندي أن تأتي‬ ‫داود وأعطاه ابنته ونصف ملكه ‪ ،‬وأوحى ه‬
‫أرض البلقاء وحدك فتقاتلهم ‪ ،‬فإما أن تفتحها وإما أن تقتل بها ‪ ،‬فتلك توبتك ‪ ،‬فنهض طالوت‬
‫إلى بلقاء وما زال يقاتلها وحده حتى قتل ‪ ،‬واجتمعت األسباط كلها على داود ‪ ،‬وملكها وانقادت‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬ولم تكن قبل ذلك تجتمع على ملك واحد ‪ ،‬بل كان لكل سبط ملك منهم ‪ ،‬إال داود فآتاه ه‬
‫وّللا‬
‫وّللا يختص برحمته من يشاء ه‬ ‫الملك ‪ ،‬وأنزل عليه الزبور ‪ ،‬وأقام فيهم إلى حين موته ‪ ،‬ه‬
‫ذو الفضل العظيم ‪.‬‬
‫انتهى الجزء الثامن من إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ‪ ،‬ويتلوه في التاسع قوله تعالى ‪«:‬‬
‫ض »وهذا األصل األول بخط يدي من غير مسودة ‪ ،‬وكتب‬ ‫على بَ ْع ٍ‬
‫ض ُه ْم َ‬‫س ُل فَض َّْلنا بَ ْع َ‬ ‫تِ ْل َك ُّ‬
‫الر ُ‬
‫محمد ابن علي بن محمد بن أحمد بن العربي الحاتمي الطائي المترجم في يوم الجمعة الثاني‬
‫ّللا‬
‫والعشرين من ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وستمائة ‪ ،‬والحمد هّلل رب العالمين وصلى ه‬
‫على محمد خاتم النبيين وعلى آله أجمعين آمين ‪.‬‬
‫تم استنساخه بخط الفقير إليه تعالى كامل بن محمد السمسمية مساء يوم السبت الواقع في التاسع‬
‫والعشرين من رمضان المبارك سنة ألف وثالثمائة وإحدى وسبعين عن نسخة بخط الحكيم‬
‫ّللا على سيدنا محمد وآله وصحبه‬‫محمد سعيد السيوطي والحمد هّلل رب العالمين وصلى ه‬
‫أجمعين ‪.‬‬
‫ّللا تعالى محمود بن محمود الغراب مساء يوم الثالثاء العاشر من‬ ‫تم استنساخه بخط الفقير إلى ه‬
‫ذي القعدة سنة ألف وثالثمائة وثمان وثمانين هجرية الموافق للثامن والعشرين من كانون الثاني‬
‫سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين ميالدية والحمد هّلل رب العالمين والصالة والسالم على سيدنا‬
‫محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪.‬‬
‫تم مراجعة هذه النسخة بوساطة الكاتب والسيد رضا العظمة على النسخة الخطية للسيد‬
‫حسني ابن محمود بيك العظمة وهي النسخة المنقولة من نسخة شيخ اإلسلم األسبق السيد‬
‫عبد الرحمن أفندي نسيب ‪ ،‬تم ذلك في يوم االثنين العاشر من ربيع األول سنة ألف وثلثمائة‬
‫وتسع وثمانين هجرية‪.‬‬

‫ص ‪378‬‬

‫ص ‪385 :‬‬
‫ص ‪386 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 254‬إلى ‪255‬‬
‫ي يَ ْو ٌم ال بَ ْي ٌع فِي ِه َوال ُخلهةٌ َوال شَفاعَةٌ‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ ْن ِفقُوا ِم هما َر َز ْقنا ُك ْم ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن يَأْتِ َ‬
‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫سنَةٌ َوال نَ ْو ٌم لَهُ ما‬ ‫ي ا ْلقَيُّو ُم ال تَأ ْ ُخذُهُ ِ‬ ‫ّللاُ ال ِإلهَ ِإاله ُه َو ا ْل َح ُّ‬ ‫ون ( ‪ ) 254‬ه‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫ون ُه ُم ال ه‬ ‫َوا ْلكافِ ُر َ‬
‫ِيه ْم َوما َخ ْلفَ ُه ْم‬ ‫شفَ ُع ِع ْن َد ُه ِإاله ِب ِإ ْذ ِن ِه يَ ْعلَ ُم ما بَ ْي َن أ َ ْيد ِ‬ ‫ض َم ْن ذَا الهذِي يَ ْ‬ ‫ت َوما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ِفي ال ه‬
‫ظ ُهما‬ ‫ض َوال يَ ُؤ ُدهُ ِح ْف ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫سيُّهُ ال ه‬ ‫س َع ك ُْر ِ‬ ‫ش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه إِاله بِما شا َء َو ِ‬ ‫ون بِ َ‬ ‫ط َ‬ ‫َوال يُ ِحي ُ‬
‫ي ا ْلعَ ِظي ُم ) ‪( 255‬‬ ‫َو ُه َو ا ْلعَ ِل ُّ‬
‫ورد أن آية الكرسي سيدة آي القرآن ‪ ،‬فقد ثبت في األخبار تفاضل سور القرآن وآية بعضه‬
‫على بعض في حق القارئ بالنسبة لما لنا فيه من األجر ‪ ،‬فكانت آية الكرسي سيدة آي القرآن ‪،‬‬
‫ّللا فيها بين مضمر وظاهر في ستة عشر موضعا منها إال آية‬ ‫ألنه ليس في القرآن آية يذكر ه‬
‫الكرسي ‪ ،‬ولما كانت اآليات العالمات ‪ ،‬وال شيء أدل على الشيء من نفسه ‪ ،‬وآية الكرسي‬
‫كلها أسماؤه وصفاته ‪ ،‬ال يوجد ذلك في غيرها من اآليات ‪ ،‬فدل على نفسه بنفسه ‪،‬‬

‫[ توحيد ألوهية ]‬
‫ّللاُ ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو »فنفى وأثبت بضمير غائب على اسم حاضر له مسمى غيب ‪ ،‬وما‬ ‫فقال ‪َّ «:‬‬
‫ي »صفة شرطية في وجود ما له من‬ ‫نفى الحق إال األلوهة أن تكون نعتا ألكثر من واحد « ْال َح ُّ‬
‫األسماء ‪ ،‬فإنه لما لم يتمكن أن يتقدم االسم الحي اإللهي اسم من األسماء اإللهية ‪ ،‬كانت له‬
‫رتبة السبق ‪ ،‬فهو المنعوت على الحقيقة باألول ‪ ،‬فكل حي من العالم ‪ -‬وما في العالم إال حي ‪-‬‬
‫فهو فرع عن هذا األصل ‪ ،‬فالحي اسم ذاتي للحق سبحانه ‪ ،‬لم يتمكن أن يصدر عنه إال حي ‪،‬‬
‫فالعالم كله حي ‪ ،‬إذ عدم الحياة ووجود موجود من العالم غير حي لم يكن له مستند إلهي في‬
‫وجوده البتة ‪ ،‬وال بد لكل حادث من مستند « ْالقَيُّو ُم »على كل ما سواه بما كسب ‪ ،‬فإنه أعطى‬
‫كل شيء خلقه ‪ ،‬ولما كانت القيومية من لوازم الحي استصحبها في الذكر مع الحي ‪ ،‬قال ه‬
‫عز‬
‫ُّوم )فكانت القيومية من نعوت الحي ‪ ،‬واستصحبته فال تذكر‬ ‫ي ِ ْالقَي ِ‬
‫ت ْال ُو ُجوهُ ِل ْل َح ه‬‫عنَ ِ‬
‫وجل ( ‪َ :‬و َ‬
‫إال معه ‪ ،‬فاالسم القيوم أخو االسم الحي‬

‫ص ‪379‬‬

‫ص ‪387 :‬‬
‫المالزم له ‪ ،‬فما جاء االسم الحي إال والقيوم معه« ال تَأ ْ ُخذُهُ ِسنَةٌ َوال ن َْو ٌم »صفة تنزيه عما‬
‫يناقض حفظ العالم الذي لوال قيوميته ما بقي لحظة واحدة ‪ ،‬فنعت الحق نفسه بصفة التنزيه عن‬
‫حكم السنة والنوم ‪ ،‬لما يظهر به من الصور التي يأخذها السنة والنوم ‪ ،‬كما يرى اإلنسان ربه‬
‫في المنام على صورة اإلنسان التي من شأنها أن تنام ‪ ،‬فنزه نفسه ووحدها في هذه الصورة‬
‫وإن ظهر بها في الرؤيا حيث كانت ‪ ،‬فما هي ممن تأخذها سنة وال نوم ‪ ،‬فهذا هو النعت‬
‫األخص بها في هذه اآلية ‪ ،‬وقدم الحي القيوم ألن النوم والسنة ال يأخذ إال الحي القائم ‪ ،‬أي‬
‫المتيقظ ‪ ،‬إذ كان الموت ال يرد إال على حي ‪ ،‬فلهذا قيل في الحق إنه الحي الذي ال يموت ‪،‬‬
‫كذلك النوم والسنة ‪ ،‬والسنة أول النوم كالنسيم للريح ‪ ،‬فإن النوم بخار وهو هواء ‪ ،‬والنسيم‬
‫أوله ‪ ،‬والسنة أول النوم ‪ ،‬فال يرد إال على متصف باليقظة ‪ ،‬فهذا توحيد التنزيه عمن من شأنه‬
‫ّللا فيه مبتدأ‬
‫أن يقبل ما نزه عنه ‪ ،‬هذا الحي القيوم ‪ ،‬وهو توحيد الهوية توحيد االبتداء ‪ ،‬ألن ه‬
‫ونعته في هذه اآلية بصفة التنزيه ‪ ،‬فهو تعالى ال يغيبه شهود البرازخ عن شهود عالم الحس‬
‫عن شهود عالم المعاني الخارجة عن المواد في حال عدم حصولها في البرازخ وتحت حكمه«‬
‫ض »السماوات هنا‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫لَهُ »الضمير يعود عليه وهو ضمير غيب« ما فِي ال َّ‬
‫ما عال واألرض هو ما سفل ‪ ،‬فله ما في السماوات وما في األرض ملكا له وعبدا ‪ ،‬معين‬
‫الحفظ لبقاء الحكم باأللوهة« َم ْن ذَا الَّذِي يَ ْشفَ ُع »شفعية الوتر بالحكم « ِع ْن َدهُ »ضمير غيب« ِإ َّال‬
‫ِبإِ ْذ ِن ِه »عدم االستقالل بالحكم دونه ‪ ،‬فال بد من إذنه إذ كان ثم شفيع أو شفعاء ‪ ،‬والشفاعة ال‬
‫تقع إال فيمن أتى كبيرة تحول بينه وبين سعادته ‪ ،‬فيعلم ما في السماوات وما في األرض من‬
‫الشفعاء والمشفوع فيهم« يَ ْعلَ ُم ما بَيْنَ أ َ ْيدِي ِه ْم »وهو ما هم فيه« َوما خ َْلفَ ُه ْم »وهو ما يؤولون‬
‫ش ْيءٍ ِم ْن ِع ْل ِم ِه »باألشياء« ِإ َّال بِما شا َء »منها ال بكلها ‪ ،‬فبيهن الحق في‬ ‫إليه« َوال يُ ِحي ُ‬
‫طونَ بِ َ‬
‫هذه اآلية أن العقل وغيره ما أعطاه من العلم إال ما شاء ‪ ،‬وما ذكر عن أحد من نبي وال حكيم‬
‫أنه أحاط علما بما يحوي عليه حاله في كل نفس نفس إلى موته ‪ ،‬بل يعلم بعضا وال يعلم بعضا‬
‫ّللا أودع اللوح المحفوظ علمه‬ ‫عز وجل أوحى في كل سماء أمرها ‪ ،‬وأن ه‬ ‫ّللا ه‬ ‫‪ ،‬مع علمنا بأن ه‬
‫في خلقه بما يكون منهم إلى يوم القيامة ‪ ،‬ولو سئل اللوح المحفوظ ما فيك أو ما خط القلم فيك‬
‫عز وجل ؟‬ ‫ّللا ه‬‫من علم ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا أودع ذلك كله في نظره لمن هو دونه ‪ ،‬وال يعلم ما يكون عن األثر إال ه‬ ‫ما علم ‪ ،‬فإن ه‬
‫فإن األثر‬

‫ص ‪380‬‬

‫ص ‪388 :‬‬
‫ّللا وحده ‪ ،‬فإن‬ ‫ما يظهر عن النظر بل عن استعداد القابل ‪ ،‬فال يعلم األمور على التفصيل إال ه‬
‫ّللا ستر العلوم واألسرار الراجعة إليه تعالى وإلى أسمائه وإلى العالم عن الخلق كلهم‬ ‫ه‬
‫بالمجموع ‪ ،‬فال يعلم المجموع وال يعلم واحد من الخلق ‪ ،‬لكن له العلم باآلحاد ‪ ،‬فعند واحد ما‬
‫ليس عند اآلخر ‪ ،‬فهو بالمجموع حاصل ال حاصل ‪ ،‬فهو حاصل في المجموع غير حاصل‬
‫ش ْيءٍ ِم ْن ِع ْل ِم ِه إِ َّال بِما شا َء »فجاء بباء التبعيض ‪ ،‬فعند‬ ‫عند واحد ‪ ،‬وهو قوله «‪َ :‬وال يُ ِحي ُ‬
‫طونَ بِ َ‬
‫واحد من العلم ما ليس عند اآلخر« َو ِس َع ُك ْر ِسيُّهُ »قال بعض أهل المعاني يريد العلم ‪ ،‬ونقلوه‬
‫ض »إال أنه في هذه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬
‫لغة ‪ ،‬فإن الكرسي لغة عبارة عن العلم ‪ ،‬أي وسع علمه« ال َّ‬
‫اآلية ليس إال جسم محسوس ‪ ،‬هو في العرش كحلقة ملقاة في فالة ‪ ،‬فهو مخلوق فوق‬
‫السماوات ودون العرش ‪ ،‬وهو محصور موجود متناهي األجزاء ‪ ،‬وهو موضع القدمين‬
‫الواردتين في الخبر كالعرش الستواء الرحمن ‪ ،‬وله مالئكة قائمون به ‪ ،‬والمراد بالسماوات‬
‫ظ ُهما »يعني السماوات وهم العالم األعلى ‪،‬‬ ‫واألرض من العلو والسفل« َوال يَ ُؤ ُدهُ »يثقله« ِح ْف ُ‬
‫واألرض وهم العالم األسفل ‪ ،‬وما ث هم إال أعلى وأسفل ‪ ،‬فوصف الحق نفسه بأنه لكل شيء‬
‫حفيظ ‪ ،‬ألنه حفظ ذاتي معنوي وإمداد غيبي ‪ ،‬وخلق دائم في سفل وعلو« َو ُه َو »ضمير‬
‫ي »بغناه عن خلقه من ذاته ‪ ،‬فإن أعلى الموجودات وأعظمها من وجب له الوجود‬ ‫غيب« ْالعَ ِل ُّ‬
‫ي »أولى‬ ‫لنفسه استقالال ‪ ،‬وكان له الغنى صفة ذاتية لم يفتقر إلى غيره ‪ ،‬وكان باالسم« ْالعَ ِل ُّ‬
‫المعظم اسم فاعل ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫وأحق« ْالعَ ِظي ُم »في قلوب العارفين بجالله فله الهيبة فيها ‪ ،‬والعظمة حال‬
‫المعظم اسم مفعول ‪ ،‬إال أن يكون الشيء يعظم عنده ذاته فعند ذلك تكون العظمة حال‬ ‫ه‬ ‫ال حال‬
‫المعظم ألن المعظم اسم فاعل ما عظمت عنده إال نفسه ‪ ،‬فهو من كونه معظما نفسه كانت‬
‫الحال صفته ‪ ،‬وما عظم سوى نفسه ‪ ،‬فالعظمة حال نفسه ‪ ،‬وعظمة الحق في القلوب ال توجبها‬
‫إال المعرفة في قلوب المؤمنين ‪ ،‬وهي من آثار األسماء اإللهية ‪ ،‬فإن األمر يعظم بقدر ما‬
‫ينسب إلى هذه الذات المعظمة من نفوذ االقتدار ‪ ،‬وكونها تفعل ما تريد ‪ ،‬وال راد لحكمها ‪ ،‬وال‬
‫يقف شيء ألمرها ‪ ،‬فبالضرورة تعظم في قلب العارف بهذه األمور ‪ ،‬وهي العظمة األولى‬
‫الحاصلة لمن حصلت عنده من اإليمان ‪ ،‬والمرتبة الثانية من العظمة هو ما يعطيه التجلي في‬
‫قلوب أهل الشهود ‪ ،‬بمجرد التجلي تحصل العظمة في نفس من يشاهده ‪ ،‬وهذه العظمة الذاتية‬
‫وال تحصل إال لمن شاهده به ال بنفسه ‪ ،‬وهو الذي يكون الحق بصره ‪،‬‬

‫ص ‪381‬‬

‫ص ‪389 :‬‬
‫وال أعظم من الحق عند نفسه ‪ ،‬فال أعظم من الحق عند من يشهده في تجليه ببصر الحق ال‬
‫ّللا ببنية فعيل فقال ‪:‬‬
‫ببصره ‪ ،‬فما أحسن ما جاء هذا االسم ‪ ،‬حيث جاء في كالم ه‬
‫«عظيم » وهي ببنية لها وجه إلى الفاعل ‪ ،‬ووجه إلى المفعول ‪ ،‬ولما كان الحق عظيما عند‬
‫نفسه ‪ ،‬كان هو المعظم والمعظم ‪ ،‬فأتى بلفظ يجمع الوجهين ‪.‬‬
‫عال الحق في اإلدراك عن كل حادث ‪ ....‬وهل يدرك التنزيه ما قيد الطبع‬
‫‪ .....‬وليس لمخلوق على حمله وسع‬ ‫عاله بها عقال وليس بذاته‬
‫عبيد وفي التحقيق رب كصورة ‪ .....‬وليس له ضر وليس له نفع‬
‫عظيم على من أو جليل من أجل من ‪ ....‬تعالى فال فطر لديه وال صدع‬
‫ّللا فيها ما بين اسم ظاهر ومضمر في ستة عشر موضعا ‪ ،‬ال تجد ذلك‬ ‫وآية الكرسي آية ذكر ه‬
‫ّللا الحي القيوم العلي العظيم ‪ ،‬ومنها تسعة‬‫في غيرها من اآليات ‪ ،‬منها خمسة أسماء ظاهرة ه‬
‫ضميرها ظاهر ‪ ،‬فهي مضمرة في الظاهر ‪ ،‬ومنها اثنان مضمران في الباطن ال عين لها في‬
‫الظاهر ‪ ،‬وهما ضمير العلم والمشيئة ‪ ،‬وكذلك علمه ومشيئته ال يعلمها إال هو ‪ ،‬فال يعلم أحد‬
‫ما في علمه وال ما في مشيئته إال بعد ظهور المعلوم بوقوع المراد ال غير ‪ ،‬فلذلك لم يظهر‬
‫الضمير فيها ‪ ،‬ومعلوم عند الخاص والعام أن ث هم اسما عاما يسمى االسم األعظم يعمل‬
‫بالخاصية ‪ ،‬وهو في آية الكرسي وأول سورة آل عمران ‪ ،‬ومع علم النبي عليه السالم به ما‬
‫ّللا ‪ ،‬فلعل الذي‬ ‫دعا به تأدبا باألدب اإللهي ‪ ،‬ألنه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ال يعلم ما في نفس ه‬
‫ّللا بغير‬
‫يدعو فيه ما له فيه خيرة ‪ ،‬فعدل األنبياء عليهم السالم إلى الدعاء فيما يريدون من ه‬
‫االسم الخاص بذلك ‪ ،‬فإن كان هّلل في علمه فيه رضى وللداعي فيه خيرة أجاب في عين ما سئل‬
‫عوض الداعي درجات أو تكفيرا في السيئات ‪ ،‬فلهذا ما دعا به صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫فيه ‪ ،‬وإن لم يكن ه‬
‫ّللا في األشياء ال يبطل ‪ ،‬فلهذا‬
‫ّللا في عين ما سأل فيه ‪ ،‬وعلم ه‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ولو دعا به أجابه ه‬
‫ّللا أهله ‪-‬بحث في الكرسي ‪ -‬الكرسي على شكل العرش في التربيع ال في القوائم ‪ ،‬وهو‬ ‫أدب ه‬
‫في العرش كحلقة ملقاة ‪ ،‬ومقعره على الماء الجامد ‪ ،‬وفي جوف هذا الكرسي جميع المخلوقات‬
‫من سماء وأركان ‪ ،‬هي فيه كهو في العرش سواء ‪ ،‬وله مالئكة من المقسمات ‪ ،‬والجسم‬
‫المسمى الكرسي تدلت إليه القدمان فهو موضعهما ‪ ،‬وفيه انقسمت الكلمة الرحمانية الواحدة‬
‫التي هي في العرش أحدية الكلمة ‪ ،‬إلى رحمة وغضب مشوب برحمة ‪ ،‬فإنه لما تدلت القدمان‬

‫ص ‪382‬‬

‫ص ‪390 :‬‬
‫استقرت كل قدم في مكان ليس هو المكان الذي استقرت فيه األخرى ‪ ،‬وهو منتهى استقرارها‬
‫‪ ،‬فسمي المكان الواحد جهنما واآلخر جنة ‪ ،‬وليس بعدهما مكان تنتقل إليه هاتان القدمان ‪،‬‬
‫وهاتان القدمان ال يستمدان إال من األصل الذي منه ظهرت وهو الرحمن ‪ ،‬فال يعطيان إال‬
‫الرحمة ‪ ،‬فإن النهاية ترجع إلى األصل بالحكم ‪ ،‬غير أنه بين البدء والنهاية طريق ‪ ،‬ميز ذلك‬
‫الطريق بين البداية والغاية ‪ ،‬ولوال تلك الطريق ما كان بدء وال غاية ‪ ،‬أال ترى إلى صدق ما‬
‫قلناه أن النار ال تزال متألمة لما فيها من النقص وعدم االمتالء ‪ ،‬حتى يضع الجبار فيها قدمه ‪،‬‬
‫وهي إحدى تينك القدمين المذكورتين في الكرسي ‪.‬‬
‫ق ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم‬ ‫ش ِر الَّذِينَ آ َمنُوا أ َ َّن لَ ُه ْم قَ َد َم ِ‬
‫ص ْد ٍ‬ ‫والقدم األخرى التي مستقرها الجنة قوله ‪َ ( :‬وبَ ِ ه‬
‫)فاالسم الرب مع هؤالء والجبار مع اآلخرين ‪ ،‬ألنها دار جالل وجبروت وهيبة ‪ ،‬والجنة دار‬
‫جمال وأنس وتنزل إلهي لطيف ‪ ،‬فقدم الصدق إحدى قدمي الكرسي ‪ ،‬وهما قبضتان الواحدة‬
‫للنار وال يبالي واألخرى للجنة وال يبالي ‪ ،‬ألنهما في المآل إلى الرحمة ‪ ،‬فلذلك ال يبالي فيهما‬
‫‪ ،‬ولو كان األمر كما يتوهمه من ال علم له من عدم المباالة ‪ ،‬ما وقع األخذ بالجرائم وال وصف‬
‫ّللا نفسه بالغضب وال كان البطش الشديد ‪ ،‬فهذا كله من المباالة والتهمم بالمأخوذ ‪ ،‬إذ لو لم‬ ‫ه‬
‫يكن له قدر ما عذب وال استعد له ‪ ،‬وقد قيل في أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقين ‪ ،‬وقيل في‬
‫عذابا ا أ َ ِليما ا )‪.‬‬ ‫أهل الشقاء (أ َ َ‬
‫ع َّد لَ ُه ْم َ‬
‫فلوال المباالة ما ظهر هذا الحكم ‪ ،‬والقدمان عبارة عن تقابل األسماء اإللهية ‪ ،‬فبالقدمين أغنى‬
‫وأفقر ‪ ،‬وبهما أمات وأحيا ‪ ،‬وبهما أهل وأقفر ‪ ،‬وبهما خلق الزوجين الذكر واألنثى ‪ ،‬وبهما‬
‫أذل وأعز ‪ ،‬وأعطى ومنع ‪ ،‬وأضر ونفع ‪ ،‬ولوالهما ما وقع شيء في العالم مما وقع ‪،‬‬
‫فالقدمان في األسماء اإللهية مثل األول واآلخر والظاهر والباطن ‪ ،‬ومثل ذلك ظهر عنها في‬
‫العالم الغيب والشهادة والجالل والجمال ‪ ،‬والقرب والبعد ‪ ،‬والهيبة واألنس ‪ ،‬والدنيا واآلخرة ‪،‬‬
‫والجنة والنار ‪.‬من ال تنام له عين وليس له * قلب ينام فذاك الواحد األحدمقامه الحفظ واألعيان‬
‫تعبده * وال يقيده طبع وال جسدهو اإلمام وما تسري إمامته * في العالمين فلم يظفر به‬
‫أحدكرسيه تخزن األكوان فيه وال * يؤده حفظ شيء ضمه عدد‬

‫ص ‪383‬‬

‫ص ‪391 :‬‬
‫فالحمد هّلل الذي وسع كرسيه السماوات واألرض ‪ ،‬ووضع فيه ميزان الرفع والخفض ‪ ،‬ودلى‬
‫إليه قدمي النهي واألمر ‪ ،‬وصيره طريق روحانيات التدبير في السر والجهر ‪..‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪256‬‬


‫اَّلل فَقَ ِد ا ْ‬
‫ست َ ْم َ‬
‫سكَ‬ ‫ت َويُ ْؤ ِم ْن بِ ه ِ‬
‫غو ِ‬ ‫ي ِ فَ َم ْن يَ ْكفُ ْر بِال ه‬
‫طا ُ‬ ‫ش ُد ِم َن ا ْلغَ ه‬ ‫ِين قَ ْد تَبَيه َن ُّ‬
‫الر ْ‬ ‫ال إِ ْكرا َه فِي ال هد ِ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 256‬‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫بِا ْلعُ ْر َو ِة ا ْل ُوثْقى ال ا ْن ِفصا َم لَها َو ه‬
‫ّللاُ َ‬
‫ص ُر ْال ُمؤْ ِمنِينَ‬
‫علَيْنا نَ ْ‬‫ّللا نصرهم بقوله تعالى‪َ ( :‬وكانَ َحقًّا َ‬ ‫وهؤالء هم السعداء الذين حق على ه‬
‫)‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪257‬‬


‫طا ُ‬
‫غوتُ‬ ‫ِين َكفَ ُروا أ َ ْو ِليا ُؤ ُه ُم ال ه‬ ‫ت إِلَى النُّ ِ‬
‫ور َوالهذ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا يُ ْخ ِر ُج ُه ْم ِم َن ال ُّ‬
‫ظلُما ِ‬ ‫ي الهذ َ‬ ‫ّللاُ َو ِل ُّ‬
‫ه‬
‫ُون ( ‪.) 257‬‬ ‫ْحاب النه ِار ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬ ‫ت أُولئِكَ أَص ُ‬ ‫ظلُما ِ‬ ‫ور إِلَى ال ُّ‬ ‫يُ ْخ ِر ُجونَ ُه ْم ِم َن النُّ ِ‬
‫ّللا لنفسه الوالية بتعلق خاص للمؤمنين خاصة ‪ ،‬وذلك من اسمه‬ ‫ي الَّذِينَ آ َمنُوا »نسب ه‬ ‫ّللاُ َو ِل ُّ‬‫« َّ‬
‫المؤمن ‪ ،‬والمؤمن من يعطي األمان في نفوس العالم بإيصال حقوقهم إليهم ‪ ،‬فهم في أمان منه‬
‫من تعديه فيها ‪ ،‬ومتى لم يكن كذا فليس بمؤمن ‪ ،‬والمؤمن من أعطى األمان في الحق إن أمنه‬
‫‪ ،‬فال يضيف إليه ما ال يستحق جالله أن يوصف به مما ذكر تعالى أن ذلك ليس له بصفة ‪،‬‬
‫كالذلة واالفتقار ‪ ،‬وهذه أرفع الدرجات أن نصف العبد بأنه مؤمن ‪ ،‬فالمؤمن اسم هّلل تعالى‬
‫والمؤمن اسم لإلنسان ‪ ،‬وقد عم في الوالية بين المؤمنين ‪ ،‬فهو ولي الذين آمنوا بإخراجه إياهم‬
‫من الظلمات إلى النور ‪ ،‬وليس إال إخراجهم من العلم بهم إلى العلم به ‪ ،‬فإنه يقول ‪ :‬من عرف‬
‫ّللا من‬
‫نفسه عرف ربه ‪ ،‬فيعلم أنه الحق ‪ ،‬فيخرج العارف المؤمن الحق بواليته التي أعطاه ه‬
‫ظلمة الغيب إلى نور الشهود ‪ ،‬فهو نور العيان وهو عين اليقين ‪ ،‬فيشهد ما كان غيبا له ‪،‬‬
‫فيعطيه كونه مشهودا ‪ ،‬ولم يكن له هذا الحكم من هذا الشخص قبل هذا ‪،‬‬

‫ص ‪384‬‬

‫ص ‪392 :‬‬
‫فكون الشخص مؤمنا سبب إخراجه من الظلمات إلى النور ‪ ،‬ولوال أنهم كانوا في ظلمة بالطبع‬
‫ّللا‬
‫ما امتن عليهم بإخراجهم منها إلى ما أدخل عليهم من نور اليقين ‪ ،‬وكذلك جاء الخبر أن ه‬
‫تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ‪.‬‬
‫فمن أصابه اهتدى ومن أخطأه ضل ‪ ،‬واعلم أن أشد الظلمات ظلمة اإلمكان ‪ ،‬فإنها عين الجهل‬
‫ّللا عبده أخرجه من ظلمة الجهل الذي هو اإلمكان ‪ ،‬وليس إال نظره لنفسه‬ ‫المحض ‪ ،‬فإذا تولى ه‬
‫معرى عن نظره للذي تواله ‪ ،‬فيخرجه بهذا التولي من ظلمة إمكانه إلى نور وجوب وجوده به‬
‫‪.‬‬
‫باّلل بالدليل النظري ‪ ،‬والمهواة‬ ‫إشارة ‪ -‬هل تعرف من هم أصحاب الظلم ‪ ،‬الناظرون في العلم ه‬
‫الشبهة ‪ ،‬فما يحركهم مع هذا إال نعمة اإليمان ‪ ،‬فانتقلوا إلى التقليد ‪ ،‬فتحركوا بنور الشرع‬
‫المطهر ‪ ،‬فأبصروا محجة بيضاء ‪ ،‬ال ترى فيها عوجا وال أمتا ‪ ،‬وال تخاف فيها دركا وال‬
‫تخشى‪.‬‬
‫ّللا الطاغوت في قوله ‪ «:‬يُ ْخ ِر ُجونَ ُه ْم »ألن‬
‫غوتُ »وما أفرد ه‬ ‫« َوالَّذِينَ َكفَ ُروا أ َ ْو ِليا ُؤ ُه ُم َّ‬
‫الطا ُ‬
‫األهواء مختلفة ‪ ،‬وأفرد نفسه ألنه واحد ‪ ،‬والطاغوت من طغى ‪ ،‬إذا ارتفع ‪ ،‬فهم يعتقدون في‬
‫الطاغوت األلوهية ‪ ،‬فلذلك رفعوه ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪258‬‬


‫ي الهذِي يُحْ يِي َويُ ِميتُ‬ ‫ّللاُ ا ْل ُم ْلكَ إِ ْذ قا َل إِ ْبرا ِهي ُم َر ِبه َ‬
‫ج إِ ْبرا ِهي َم فِي َر ِبه ِه أ َ ْن آتاهُ ه‬‫أ َلَ ْم ت َ َر إِلَى الهذِي َحا ه‬
‫ت بِها ِم َن ا ْل َم ْغ ِر ِ‬
‫ب‬ ‫ق فَأ ْ ِ‬
‫ّللا يَأْتِي بِالش ْهم ِس ِم َن ا ْل َمش ِْر ِ‬ ‫قا َل أَنَا أُحْ يِي َوأ ُ ِميتُ قا َل إِ ْبرا ِهي ُم فَ ِإ هن ه َ‬
‫ين ) ‪( 258‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫فَبُ ِهتَ الهذِي َكفَ َر َو ه‬
‫ّللاُ ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ال ه‬
‫لما كان القوم يرجعون في عبادتهم لما نحتوه آلهة ال إلى نمروذ بن كنعان ‪ ،‬فإن األنوار التي‬
‫أشار إليها إبراهيم لم تكن آلهتهم ‪ ،‬وال كان النمروذ إلها لهم ‪ ،‬لذلك قال إبراهيم عليه السالم ‪«:‬‬
‫ي الَّذِي يُ ْح ِيي َويُ ِميتُ »لم يجرأ نمروذ أن ينسب اإلحياء واإلماتة آللهتهم التي وضعها لهم‬ ‫َر ِبه َ‬
‫لئال يفتضح ‪.‬‬
‫فقال ‪ «:‬أَنَا أ ُ ْحيِي َوأ ُ ِميتُ »فعدل إلى نفسه تنزيها آللهتهم عندهم ‪ ،‬حتى ال يتزلزل الحاضرون‬
‫‪ ،‬فإنه يقال فيمن أبقى حياة الشخص عليه إذا استحق قتله ‪ ،‬أن يقال أحياه ‪ ،‬ولم يكن مراد‬
‫الخليل إال ما فهمه نمروذ ‪ ،‬ولما علم إبراهيم عليه السالم قصور أفهام الحاضرين عما جاء به‬
‫لو فصله ‪ ،‬وطال المجلس ‪ ،‬فعدل إلى األقرب في أفهامهم وهو‬

‫ص ‪385‬‬

‫ص ‪393 :‬‬
‫أخفى في نفس األمر وأبعد ‪ ،‬وهو أوضح عند الحاضرين‪.‬‬
‫ّللا‬
‫ب »وهو أمر إمكاني فابتلى ه‬ ‫ت ِبها ِمنَ ْال َم ْغ ِر ِ‬ ‫ق فَأ ْ ِ‬
‫ش ْم ِس ِمنَ ْال َم ْش ِر ِ‬‫ّللا يَأْتِي ِبال َّ‬
‫فقال ‪ «:‬فَإِ َّن َّ َ‬
‫ت الَّذِي َكفَ َر‬
‫نمروذ لما ادعى ما ليس له من األلوهية بهذا األمر اإلمكاني ‪ ،‬فاختبره« فَبُ ِه َ‬
‫»والباهت مقطوع الحجة دارس المحجة ‪ ،‬فقامت الحجة عليه وافتضح كذبه في المسألة األولى‬
‫‪ ،‬وهو قوله يحيي ويميت ‪ ،‬فإن البهت عجز ‪ ،‬ومن عجز فقد وقف على حقيقته ‪ ،‬وهو بالبهت‬
‫ليس بكافر ألنه علم الحق ‪ ،‬ولوال شروق الشمس ما كان الشرق مشرقا ‪ ،‬فلو أتى بها ‪ ،‬أي لو‬
‫شرقت من المغرب لكان مشرقا ‪ ،‬فما شرقت إال من المشرق ‪ ،‬فبهت الكافر وهو موضع‬
‫البهت ‪ ،‬ألنه علم أنه حيث كان الشروق لها اتبعه اسم المشرق ‪ ،‬فليس للمغرب سبيل في نفس‬
‫األمر ‪ ،‬فما بهت الكافر إال من عجزه كيف يوصل إلى أفهام الحاضرين ‪ -‬مع قصورهم ‪-‬‬
‫موضع العلم فيما جاء به إبراهيم الخليل عليه السالم ‪ ،‬فأظلم عليه األمر وتخبط في نفسه ‪،‬‬
‫فبهت الذي كفر في أمر إبراهيم ‪ ،‬كيف عدل إلى ما هو أخفى في نفس األمر وأبعد إلقامة‬
‫الحجة ‪ ،‬وقامت له الحجة عليه عند قومه ‪ ،‬فكان بهته في هذا األمر المعجز الذي أعمى بصائر‬
‫الحاضرين عن معرفة عدوله من األوضح إلى األخفى ‪ ،‬فحصل من تعجبه وبهته في نفوس‬
‫الحاضرين عجزه ‪ ،‬وهو كان المراد ‪ ،‬فظهرت حجة إبراهيم الخليل عليه السالم على نمروذ‬
‫أمام الحاضرين ‪ ،‬ولم يقدر نمروذ على إزالة ذلك مع ما حصل في قلوب العارفين الحاضرين‬
‫من ذلك ‪ ،‬فعلم صدقه ‪ ،‬وإنما نسب الكفر إليه بالمسألة األولى ‪.‬‬
‫ي الَّذِي يُ ْحيِي َويُ ِميتُ »فستره فسمي كافرا ‪ ،‬فلما ارتفع‬ ‫فإنه علم ما أراده الخليل بقوله ‪َ «:‬ر ِبه َ‬
‫الستر كان تجلي األمر على ما هو عليه فأعطي العلم ‪ ،‬فبهت الذي ستر عنه األمر قبل تجليه ‪،‬‬
‫فآمن به في نفسه وال بد ‪ ،‬وإن لم يتلفظ به ‪ ،‬وكيف يتلفظ به وقد غاب عن اإلحساس بعين ما‬
‫ّللا ما هداه ‪.‬‬ ‫هو به محس ‪ ،‬ولكن ه‬
‫ّللاُ ال يَ ْهدِي ْالقَ ْو َم ْالكا ِف ِرينَ »‪.‬‬
‫أي ما وفقه لإليمان ‪َ « :‬و َّ‬
‫أي ال يبين لهم في حال سترهم وحجابهم ‪ ،‬فإن اإلبانة بالعلم ترفع ستور الجهل بذلك المعلوم ‪،‬‬
‫ّللا كون النمروذ بهت فيما له فيه ‪ ،‬مقال وإن كان فاسدا ‪ ،‬ألنه لو قاله قيل له فقد‬ ‫واإلعجاز من ه‬
‫كانت الشمس طالعة من المشرق وأنت لم تكن ‪ ،‬وأكذبه من تقدمه بالسن على البديهة ‪ ،‬أما‬
‫المقال الفاسد فقد كان يقول ما نفعل األمر بحكمك وال نبطل الحكمة ألجلك ‪ ،‬فكان بهت‬
‫ّللا سبحانه حتى علم الحاضرون أن إبراهيم عليه السالم على الحق ‪ ،‬ولم‬ ‫النمروذ إعجازا من ه‬
‫يكن لنمروذ أن يدعي األلوهية‪.‬‬

‫ص ‪386‬‬

‫ص ‪394 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪259‬‬
‫ّللاُ بَ ْع َد َم ْوتِها فَأَماتَهُ‬
‫شها قا َل أَنهى يُحْ ِيي ه ِذ ِه ه‬ ‫ي خا ِويَةٌ عَلى ع ُُرو ِ‬ ‫أ َ ْو كَالهذِي َم هر عَلى قَ ْريَ ٍة َو ِه َ‬
‫ض يَ ْو ٍم قا َل بَ ْل لَ ِبثْتَ ِمائَةَ ٍ‬
‫عام فَا ْن ُ‬
‫ظ ْر‬ ‫ّللاُ ِمائَةَ ٍ‬
‫عام ث ُ هم بَعَثَهُ قا َل َك ْم لَ ِبثْتَ قا َل لَ ِبثْتُ يَ ْوما ً أ َ ْو بَ ْع َ‬ ‫ه‬
‫ظام َك ْي َ‬
‫ف‬ ‫اس َوا ْن ُ‬
‫ظ ْر ِإلَى ا ْل ِع ِ‬ ‫ً‬
‫ماركَ َو ِلنَجْ عَلَكَ آيَة ِللنه ِ‬‫ظ ْر ِإلى ِح ِ‬ ‫سنه ْه َوا ْن ُ‬‫عامكَ َوشَرا ِبكَ لَ ْم يَت َ َ‬ ‫ِإلى َط ِ‬
‫ِير ) ‪( 259‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫سوها لَحْ ما ً فَلَ هما تَبَيه َن لَهُ قا َل أ َ ْعلَ ُم أ َ هن ه َ‬
‫ّللا عَلى ُك ِ هل َ‬ ‫ش ُزها ث ُ هم نَ ْك ُ‬
‫نُ ْن ِ‬
‫ّللا عروشها خاوية حين لم يغير الناس بها المنكر ‪،‬‬ ‫يقال إن هذه القرية وادي القرى ‪ ،‬صبهح ه‬
‫ّللا سكانها فأهلك المقبل والمدبر ‪ ،‬ويقال إن الذي سأل هذا السؤال هو العزير عليه‬ ‫وعم بالء ه‬
‫ّللا عليه السالم كثير السؤال عن القدر ‪ ،‬إلى أن قال له الحق‬ ‫السالم ‪ ،‬وكان العزير رسول ه‬
‫تعالى ‪ :‬يا عزير لئن سألت عنه ألمحون اسمك من ديوان النبوة ‪ ،‬ألن علم القدر له نسبة إلى‬
‫ذات الحق ونسبة إلى المقادير ‪ ،‬والنسب معقولة غير موجودة وال معلومة ‪ ،‬لذلك امتنع العلم به‬
‫ّللا‬
‫ّللا علم القدر ‪ ،‬ومن جهل ه‬ ‫ّللا بعلمه ‪ ،‬فمن علم ه‬ ‫أو تصوره ‪ ،‬فال ينال أبدا ‪ ،‬وكان مما انفرد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وما من‬ ‫وّللا سبحانه مجهول فالقدر مجهول ‪ ،‬فمن المحال أن يعرف المألوه ه‬ ‫جهل القدر ‪ ،‬ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن القدر لو علم علمت أحكامه ‪ ،‬ولو‬ ‫وجه من المعلومات إال وللقدر فيه حكم ال يعلمه إال ه‬
‫علمت أحكامه الستقل العبد في العلم بكل شيء ‪ ،‬وما احتاج إلى الحق في شيء ‪ ،‬وكان الغنى‬
‫ّللا عن عباده فال يعلم ‪.‬‬ ‫له على اإلطالق ‪ ،‬فل هما كان األمر بعلم القدر يؤدي إلى هذا ‪ ،‬طواه ه‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪260‬‬


‫ف تُحْ ي ِ ا ْل َم ْوتى قا َل أ َ َولَ ْم ت ُ ْؤ ِم ْن قا َل بَلى َول ِك ْن ِليَ ْط َمئِ هن قَ ْلبِي قا َل‬ ‫َوإِ ْذ قا َل إِ ْبرا ِهي ُم َر ه ِ‬
‫ب أ َ ِرنِي َك ْي َ‬
‫ع ُه هن يَأ ْتِينَكَ َ‬
‫س ْعيا ً‬ ‫ط ْي ِر فَ ُ‬
‫ص ْر ُه هن ِإلَ ْيكَ ث ُ هم اجْ عَ ْل عَلى ُك ِ هل َجبَ ٍل ِم ْن ُه هن ُج ْزءا ً ث ُ هم ا ْد ُ‬ ‫فَ ُخ ْذ أ َ ْربَعَةً ِم َن ال ه‬
‫يز َح ِكي ٌم) ‪( 260‬‬ ‫َوا ْعلَ ْم أ َ هن ه َ‬
‫ّللا ع َِز ٌ‬

‫ص ‪387‬‬

‫ص ‪395 :‬‬
‫تنزيه األنبياء‬
‫ّللا ‪ ،‬وهم‬ ‫يجب تنزيه األنبياء مما نسب إليهم المفسرون من الطامات مما لم يجئ في كتاب ه‬
‫ّللا العصمة في القول والعمل ‪ ،‬فلقد‬ ‫ّللا فيما أخبر به عنهم ‪ ،‬نسأل ه‬ ‫يزعمون أنهم قد فسروا كالم ه‬
‫جاءوا في ذلك بأكبر الكبائر ‪ ،‬وكل ذلك نقل عن اليهود واستحلوا أعراض األنبياء والمالئكة‬
‫ّللا وملئوا كتبهم في تفسير القرآن العزيز بذلك ‪ ،‬وما في ذلك‬ ‫بما ذكرته اليهود ‪ ،‬الذين جرحهم ه‬
‫فاّلل يعصمنا وإياكم من غلطات األفكار واألقوال واألفعال ‪ ،‬آمين‬ ‫نص في كتاب وال سنة ‪ ،‬ه‬
‫بعزته وقوته ‪ ،‬مثال ذلك في تفسير هذه اآلية ما نسبوا إلى إبراهيم الخليل عليه السالم من‬
‫الشك‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬نحن أولى بالشك من إبراهيم ‪ ،‬فإن‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وما نظروا في قول رسول ه‬
‫إبراهيم عليه السالم ما شك في إحياء الموتى ‪.‬‬
‫ّللا‬
‫ولكن لما علم أن إلحياء الموتى وجوها متعددة مختلفة ‪ ،‬لم يدر بأي وجه منها يكون يحيي ه‬
‫به الموتى ‪ ،‬وهو مجبول على طلب العلم ‪.‬‬
‫ّللا له وجها من تلك‬ ‫فكان طلب رؤية اإلحياء مع ثبوت اإليمان ليجمع بين العلم والعيان فعيهن ه‬
‫ّللا الموتى ‪.‬‬ ‫الوجوه حتى سكن إليه قلبه ‪ ،‬فعلم كيف يحيي ه‬
‫وكذلك قصة يوسف ولوط وموسى وداود ومحمد عليهم السالم ‪ ،‬وكذلك ما نسبوه في قصة‬
‫ْف ت ُ ْحي ِ ْال َم ْوتى »فطلب‬ ‫سليمان إلى الملكين يقول تعالى ‪َ «:‬و ِإ ْذ قا َل ِإبْرا ِهي ُم َربه ِ أ َ ِر ِني َكي َ‬
‫إبراهيم عليه السالم كيفية إحياء الموتى الختالف الوجوه في ذلك ال إنكار إحياء الموتى« قا َل أ َ‬
‫َولَ ْم تُؤْ ِم ْن قا َل بَلى »يقول بلى آمنت ولكن وجوه اإلحياء كثيرة كما كان وجود الخلق ‪ ،‬فمن‬
‫الخلق ما أوجدته عن كن ‪ ،‬ومنهم من أوجدته بيدك ‪ ،‬ومنهم من أوجدته بيديك ‪ ،‬ومنهم من‬
‫أوجدته ابتداء ‪ ،‬ومنهم من أوجدته عن خلق آخر ‪ ،‬فتنوع وجود الخلق ‪ ،‬وإحياء الخلق بعد‬
‫الموت إنما هو وجود آخر في اآلخرة ‪ ،‬فقد يتنوع وقد يتوحد ‪ ،‬فطلب العلم بكيفية األمر هل هو‬
‫متنوع أو واحد ؟ فإن كان واحدا ‪ ،‬فأي واحد من هذه األنواع ‪ ،‬لذلك قال ‪َ «:‬ول ِك ْن ِليَ ْ‬
‫ط َم ِئ َّن قَ ْل ِبي‬
‫»أي يسكن ‪ ،‬فإذا أعلمتني به اطمأن قلبي وسكن بحصول ذلك الوجه ‪ ،‬والزيادة من العلم مما‬
‫أمرت به ‪ ،‬والطمأنينة بدء السكينة التي هي مطالعة األمر بطريق اإلحاطة من كل وجه ‪ ،‬فإن‬
‫وجوه اإلحياء كانت تجاذبه من كل ناحية ‪ ،‬والسكون صفة مطلوبة لألكابر ‪ ،‬لذلك قال إبراهيم‬
‫ط َمئِ َّن قَ ْل ِبي »أي يسكن إلى الوجه الذي يحيي به الموتى ويتعين لي‬ ‫عليه السالم ‪ «:‬بَلى َول ِك ْن ِليَ ْ‬
‫إذ الوجوه لذلك كثيرة ومعلوم أن اليقين كان عنده ‪ ،‬والطمأنينة كانت المطلوبة ‪ ،‬التي تعطيها‬
‫العين ‪ ،‬فإن السكون أمر زائد على اليقين ‪ ،‬فجاز أن يطلب ‪،‬‬

‫ص ‪388‬‬

‫ص ‪396 :‬‬
‫ّللا على الكيفية بالطيور األربعة ‪ ،‬التي هي مثال الطبائع األربع فقال «‪ :‬فَ ُخ ْذ أ َ ْربَعَةا ِمنَ‬ ‫فأحاله ه‬
‫الطي ِْر »إخبارا بأن وجود اآلخرة طبيعي ‪ ،‬يعني حشر األجساد الطبيعية ‪ ،‬إذ كان ث هم من يقول‬ ‫َّ‬
‫ال تحشر األجسام وإنما تحشر النفوس بالموت إلى النفس الكلية مجردة عن الهياكل الطبيعية ‪،‬‬
‫ّللا إبراهيم أن األمر ليس كما زعم هؤالء ‪ ،‬فأحال على أمر موجود عنده تصرف فيه ‪،‬‬ ‫فأخبر ه‬
‫ّللا لم تتميز ‪ ،‬فما أوجد العالم الطبيعي‬ ‫إعالما أن الطبائع لو لم تكن مشهودة معلومة مميزة عند ه‬
‫إال من شيء معلوم عنده مشهود له ‪ ،‬نافذ التصرف فيه ‪ ،‬فجمع بعضها إلى بعض ‪ ،‬فأظهر‬
‫الجسم على هذا الشكل الخاص ‪ ،‬فأبان إلبراهيم بإحالته على األطيار األربعة وجود األمر الذي‬
‫فعله الحق في إيجاد األجسام الطبيعية والعنصرية ‪ ،‬إذ ما ث هم جسم إال طبيعي أو عنصري ‪،‬‬
‫فأجسام النشأة اآلخرة في حق السعداء طبيعية ‪ ،‬وأجسام أهل النار عنصرية ‪ ،‬فاألربعة‬
‫الطبيعية الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ‪ ،‬واألربعة العنصرية هي النار والهواء والماء‬
‫والتراب ‪ ،‬وأما حشر األرواح التي يريد أن يعقلها إبراهيم من هذه الداللة التي أحالها الحق‬
‫عليها في الطيور األربعة ‪ ،‬فهي في اإللهيات كون العالم يفتقر في ظهوره إلى إله قادر على‬
‫إيجاده ‪ ،‬عالم بتفاصيل أمره ‪ ،‬مريد إظهار عينه ‪ ،‬حي لثبوت هذه النسب التي ال تكون إال لحي‬
‫‪ ،‬فهذه أربعة ال بد في اإللهيات منها ‪ ،‬فإن العالم ال يظهر إال ممن له هذه األربعة ‪ ،‬فهذه داللة‬
‫الطيور له عليه السالم في اإللهيات في العقول واألرواح وما ليس بجسم طبيعي ‪ ،‬كما هي‬
‫ص ْر ُه َّن ِإلَي َْك »أي ضمهن ‪،‬‬ ‫داللة على تربيع الطبيعة إليجاد األجسام الطبيعية والعنصرية« فَ ُ‬
‫على ُك ِهل َجبَ ٍل‬ ‫والضم جمع عن تفرقة ‪ ،‬وبضم بعضها إلى بعض ظهرت األجسام« ث ُ َّم ْ‬
‫اجعَ ْل َ‬
‫ِم ْن ُه َّن ُج ْزءا ا »وهو ما ذكرناه من الصفات األربع اإللهيات ‪ ،‬وهي أجبل لشموخها وثبوتها« ث ُ َّم‬
‫س ْعيا ا »وما كان أذهب منهن شيئا إال فساد عين التركيب ‪ ،‬وأما األجزاء فهي‬ ‫ع ُه َّن يَأ ْتِين ََك َ‬
‫ا ْد ُ‬
‫باقية بأعيانها ‪ ،‬وال يدعى إال من يسمع وله عين ثابتة ‪ ،‬فأقام له الدعاء بها مقام قوله كن من‬
‫ّللا خليله إبراهيم عليه‬ ‫ون )فلما أشهد ه‬‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫قوله ‪ِ ( :‬إنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫السالم الكيفية سكن عما كان يجده من القلق لتلك الجذبات التي للوجوه المختلفة ‪ ،‬وسكن سكونا‬
‫ال يشوبه تحير وال تشويش في معرفة الكيفية ‪ ،‬وزاد يقينه طمأنينة بعلمه بالوجه الخاص من‬
‫الوجوه اإلمكانية ‪ ،‬وهنا دقيقة ‪ ،‬وهي أن تعلق القدرة األزلية باإليجاد حارت فيها المشاهد‬
‫والعقول ‪ ،‬وقد قال تعالى إلبراهيم عليه السالم حين قال‪:‬‬

‫ص ‪389‬‬

‫ص ‪397 :‬‬
‫ْف ت ُ ْحي ِ ْال َم ْوتى »لما أراه آثار القدرة ال تعلقها ‪ ،‬عرف كيفية األشياء والتحام‬
‫" َربه ِ أ َ ِرنِي َكي َ‬
‫األجزاء حتى قام شخصا سويا ‪ ،‬وال رأى تعلق قدرة وال تحققها ‪ ،‬قال له الخبير العليم ‪«:‬‬
‫يز َح ِكي ٌم »لما تقدمه في صور األطيار وتفريقه األطوار ‪.‬‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫َوا ْعلَ ْم أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪261‬‬


‫س ْنبُلَ ٍة ِمائَةُ َحبه ٍة‬ ‫سنابِ َل فِي ُك ِ هل ُ‬
‫س ْب َع َ‬‫ّللا َك َمث َ ِل َحبه ٍة أ َ ْنبَتَتْ َ‬‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ون أ َ ْموالَ ُه ْم فِي َ‬ ‫َمث َ ُل الهذ َ‬
‫ِين يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 261‬‬ ‫س ٌع َ‬ ‫ّللاُ وا ِ‬ ‫ف ِل َم ْن يَشا ُء َو ه‬ ‫ّللاُ يُضا ِع ُ‬ ‫َو ه‬
‫إذا أدخل الحق صورة العمل الصالح الميزان ووزنه بصورة الجزاء رجحت عليه صورة‬
‫ّللا وفضال ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬م ْن‬ ‫الجزاء أضعافا مضاعفة وخرجت عن الحد والمقدار منة من ه‬
‫ّللا َك َمث َ ِل َحبَّ ٍة أ َ ْنبَت َ ْ‬
‫ت‬ ‫ع ْش ُر أ َ ْمثا ِلها )وقال «‪َ :‬مث َ ُل الَّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ أ َ ْموالَ ُه ْم ِفي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬ ‫سنَ ِة فَلَهُ َ‬‫جا َء ِب ْال َح َ‬
‫ف ِل َم ْن يَشا ُء »بالزيادة من النعم ‪ ،‬فلم يجعل‬ ‫ّللاُ يُضا ِع ُ‬ ‫س ْنبُلَ ٍة ِمائَةُ َحبَّ ٍة َو َّ‬
‫سنابِ َل فِي ُك ِهل ُ‬ ‫س ْب َع َ‬
‫َ‬
‫ع ِلي ٌم‬
‫ّللاُ وا ِس ٌع َ‬ ‫للتضعيف في الخير مقدارا يوقف عنده ‪ ،‬بل وصف نفسه بالسعة فقال ‪َ «:‬و َّ‬
‫ّللا في األشياء ال تنحصر ‪ ،‬ولهذا تقول الخواص ما ث هم تكرار لالتساع اإللهي‬ ‫»فإن أسرار ه‬
‫وّللا واسع‬ ‫وإنما أمثال تحجب بصورها القلوب عن هذا اإلدراك ‪ ،‬فتتخيل العامة التكرار ‪ ،‬ه‬
‫عليم ‪ ،‬فمن تحقق بوجود هذا االسم الواسع ‪ ،‬لم يقل بالتكرار ‪ ،‬بل هم في لبس من خلق جديد ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 262‬إلى ‪263‬‬


‫ذى لَ ُه ْم أَجْ ُر ُه ْم ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم‬
‫ون ما أ َ ْنفَقُوا َمنًّا َوال أ َ ً‬
‫ّللا ث ُ هم ال يُتْبِعُ َ‬ ‫ون أ َ ْموالَ ُه ْم فِي َ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ِين يُ ْن ِفقُ َ‬
‫الهذ َ‬
‫ص َدقَ ٍة يَتْبَعُها أ َ ً‬
‫ذى‬ ‫ون ( ‪ ) 262‬قَ ْو ٌل َم ْع ُر ٌ‬
‫وف َو َم ْغ ِف َرةٌ َخ ْي ٌر ِم ْن َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬
‫ف َ‬ ‫َوال َخ ْو ٌ‬
‫ي َح ِلي ٌم) ‪( 263‬‬ ‫غنِ ٌّ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫َو ه‬

‫ص ‪390‬‬

‫ص ‪398 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪264‬‬
‫اس َوال يُ ْؤ ِم ُن‬‫ق مالَهُ ِرئا َء النه ِ‬ ‫صدَقاتِ ُك ْم ِبا ْل َم ِهن َو ْاألَذى كَالهذِي يُ ْن ِف ُ‬
‫ِين آ َمنُوا ال ت ُ ْب ِطلُوا َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫راب فَأَصابَهُ وا ِب ٌل فَت َ َر َكهُ َ‬
‫ص ْلدا ً ال يَ ْقد ُِرو َن عَلى‬ ‫علَ ْي ِه ت ُ ٌ‬ ‫وان َ‬‫ص ْف ٍ‬ ‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر فَ َمثَلُهُ َك َمث َ ِل َ‬
‫ِب ه ِ‬
‫ين ) ‪( 264‬‬ ‫ّللاُ ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ا ْلكا ِف ِر َ‬‫سبُوا َو ه‬ ‫ش ْي ٍء ِم هما َك َ‬ ‫َ‬
‫احذر من المن في العطاء ‪ ،‬فإن المن في العطاء يؤذن بجهل المعطي من وجوه ‪ ،‬منها رؤيته‬
‫ّللا‬
‫نفسه بأنه رب النعمة التي أعطى ‪ ،‬والنعمة إنما هي هّلل خلقا وإيجادا ‪ ،‬والثاني نسيانه منة ه‬
‫عليه فيما أعطاه وملكه من نعمه وأحوج هذا اآلخر لما في يده ‪ ،‬والثالث نسيانه أن الصدقة‬
‫التي أعطاها إنما تقع بيد الرحمن ‪ ،‬واآلخر ما يعود عليه من الخير في ذلك ‪ ،‬فلنفسه أحسن‬
‫ولنفسه سعى ‪ ،‬فكيف له بالمنة على ذلك ‪ ،‬إنه ما أوصل إليه إال ما هو له ‪ ،‬إذ لو كان رزقه ما‬
‫أوصله إليه ‪ ،‬فهو مؤد أمانة من حيث ال يشعر ‪ ،‬فجهله بهذه األمور جعله يمتن بالعطاء على‬
‫من أوصل إليه راحة ‪ ،‬وأبطل عمله ‪ ،‬والمنعم إذا أبطل نعمته بالمن واألذى ال يكون مشكورا‬
‫ّللا على ذلك ‪ ،‬وإن شكره المنعم عليه لمعرفته بذلهه وفقره إليه ‪ ،‬فمن مكارم األخالق أن ال‬ ‫عند ه‬
‫يمن المنعم بما أنعم عليه وال سيما مع شكره على ذلك فمن أمراض األقوال ‪ ،‬االمتنان‬
‫والتحدث بما يفعله من الخير مع الشخص على طريق المن ‪ ،‬والمن األذى ‪ ،‬دواؤه لما كان‬
‫ّللا تعالى قد أبطل ذلك العمل بقوله «‪:‬ال تُب ِْطلُوا‬ ‫يسوءه ذلك ويحبط أجر رب النعمة ‪ ،‬فإن ه‬
‫ص َدقا ِت ُك ْم ِب ْال َم ِهن َو ْاألَذى »وأي أذى أعظم من المن ‪ ،‬فإنه أذى نفسي ‪ ،‬ودواؤه أنه ال يرى‬ ‫َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وأن ذلك الخير كان أمانة بيده ‪ ،‬ما كان‬ ‫أوصل إليه مما كان في يديه إال ما هو له في علم ه‬
‫ّللا في نفس األمر ‪ ،‬حينئذ‬ ‫له ‪ ،‬لكنه لم يكن يعرف صاحبها ‪ ،‬فلما أخرجها بالعطاء لمن عين ه‬
‫ّللا على أدائها ‪ ،‬ومن أعطي هذا النظر فال تصح منه منة‬ ‫يعرف صاحب تلك األمانة ‪ ،‬فشكر ه‬
‫ّللاُ ال يَ ْهدِي ْالقَ ْو َم ْالكافِ ِرينَ »أي ال يبين لهم في حال سترهم وحجابهم ‪ ،‬فإن اإلبانة‬ ‫أصال« َو َّ‬
‫بالعلم ترفع ستور الجهل بذلك المعلوم ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪265‬‬


‫س ِه ْم َك َمث َ ِل َجنه ٍة ِب َر ْب َو ٍة أَصابَها‬
‫ّللا َوتَثْ ِبيتا ً ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬
‫ت هِ‬ ‫ون أ َ ْموالَ ُه ُم ا ْبتِغا َء َم ْرضا ِ‬ ‫َو َمث َ ُل الهذ َ‬
‫ِين يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ير ) ‪( 265‬‬ ‫ون بَ ِص ٌ‬ ‫ّللاُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬‫وا ِب ٌل فَآتَتْ أ ُ ُكلَها ِض ْعفَ ْي ِن فَ ِإ ْن لَ ْم يُ ِص ْبها وا ِب ٌل فَ َط ٌّل َو ه‬
‫الوابل المطر الغزير ‪ ،‬وفيه رائحة اشتقاق من االستبالل ‪ ،‬والطل هو أول نشيء المطر ‪،‬‬

‫ص ‪391‬‬

‫ص ‪399 :‬‬
‫فهو ضعيف ‪ ،‬فما نزل بالنهار سمي شذا ‪ ،‬وما نزل من الطل بالليل سمي ندى ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 266‬إلى ‪268‬‬


‫هار لَهُ ِفيها ِم ْن ُك ِ هل‬ ‫ب تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫ُون لَهُ َجنهةٌ ِم ْن نَ ِخي ٍل َوأَعْنا ٍ‬ ‫أَيَ َو ُّد أ َ َح ُد ُك ْم أ َ ْن تَك َ‬
‫نار فَاحْ ت َ َرقَتْ كَذ ِلكَ يُبَ ِيه ُن ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ُم‬ ‫ضعَفا ُء فَأَصابَها إِع ٌ‬
‫ْصار فِي ِه ٌ‬ ‫ت َوأَصابَهُ ا ْل ِكبَ ُر َولَهُ ذُ ِ هريهةٌ ُ‬ ‫الث ه َمرا ِ‬
‫س ْبت ُ ْم َو ِم هما أ َ ْخ َرجْ نا‬
‫ت ما َك َ‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ ْن ِفقُوا ِم ْن َط ِيهبا ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 266‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫ت لَعَله ُك ْم تَتَفَك ُهر َ‬ ‫ْاآليا ِ‬
‫آخذِي ِه إِاله أ َ ْن ت ُ ْغ ِمضُوا فِي ِه َوا ْعلَ ُموا أ َ هن‬ ‫ون َولَ ْ‬
‫ست ُ ْم بِ ِ‬ ‫يث ِم ْنهُ ت ُ ْن ِفقُ َ‬ ‫ض َوال تَيَ هم ُموا ا ْل َخبِ َ‬ ‫لَ ُك ْم ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللاُ يَ ِع ُد ُك ْم َم ْغ ِف َرةً ِم ْنهُ‬
‫شاء َو ه‬ ‫طان يَ ِع ُد ُك ُم ا ْلفَ ْق َر َويَأ ْ ُم ُر ُك ْم ِبا ْلفَحْ ِ‬
‫ش ْي ُ‬ ‫ي َح ِمي ٌد ( ‪ ) 267‬ال ه‬ ‫ّللا َ‬
‫غنِ ٌّ‬ ‫هَ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 268‬‬ ‫س ٌع َ‬ ‫ضلً َو ه‬
‫ّللاُ وا ِ‬ ‫َوفَ ْ‬
‫اعلم أن النفس جبلت على الشح ‪ ،‬واإلنسان ما دامت حياته مرتبطة بجسده فإن حاجته بين‬
‫ْطان يَ ِع ُد ُك ُم ْالفَ ْق َر »فال‬ ‫شي ُ‬ ‫عينيه وفقره مشهود له ‪ ،‬وبه يأتيه اللعين في وعده ‪ ،‬فقال تعالى «‪:‬ال َّ‬
‫يغلب نفسه وال الشيطان إال الشديد بالتوفيق اإللهي ‪ ،‬فإنه يقاتل نفسه والشيطان المساعد لها‬
‫عليه ‪ ،‬ولهذا سماها ‪ ،‬الشارع صدقة ألنها تخرج عن شدة وقوة ‪ ،‬يقال رمح صدق أي قوي‬
‫شديد ‪ ،‬فلو لم يأمل البقاء وتيقن بالفراق هان عليه إعطاء المال ‪ ،‬ألنه مأخوذ عنه بالقهر شاء أم‬
‫أبى ‪ ،‬ومن إسراف إبليس ‪ ،‬أنه يعدنا الفقر ويأمرنا بالفحشاء ‪ ،‬أي بإظهارها ‪ ،‬يعني بذلك‬
‫وقوعها ‪ ،‬لما علم أن اإلنسان قد رفع عنه الحق ما حدث به نفسه وما هم به من السوء إال أن‬
‫ّللاُ يَ ِع ُد ُك ْم َم ْغ ِف َرة ا ِم ْنهُ َوفَض اْال‬ ‫يظهر ذلك على جوارحه بالعمل ‪ ،‬وهو الفحشاء ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬و َّ‬
‫ّللا كل مخالفة‬ ‫ّللا ذلك للمؤمن إرغاما للشيطان الذي يزين لإلنسان سوء عمله ‪ ،‬فجعل ه‬ ‫»فجعل ه‬
‫ّللا‬
‫تكون من اإلنسان من إلقاء العدو ‪ ،‬وليحور على إبليس جميع ما يغوي به بني آدم ‪ ،‬ووعد ه‬
‫بالمغفرة في مقابلة الفحشاء التي يأمر بها الشيطان إذا وقعت منا ‪ ،‬والمغفرة هي الستر الذي‬
‫ّللا بين المؤمن العاصي وبين الكفر الذي يرديه عند وقوع‬ ‫يجعله ه‬

‫ص ‪392‬‬

‫ص ‪400 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وذلك من بركة ذلك الستر ‪ ،‬ثم ث هم مغفرة‬ ‫المعصية ‪ ،‬فيعتقد أنها معصية وال يبيح ما حرم ه‬
‫ّللا المشروع في تلك‬ ‫أخرى وهو ستر خلف سترين ‪ ،‬ستر عليه في الدنيا ‪ ،‬لم يمض فيه حد ه‬
‫المعصية ‪ ،‬وإن ستر عليه في اآلخرة لم يعاقبه عليها ‪ ،‬فالستر األول محقق في الوقت ‪ ،‬والثاني‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬واستغفار‬ ‫لطائفة ال تضرهم الذنوب التي وقعت منهم ‪ ،‬فال تمسهم النار بما تاب ه‬
‫ّللاُ يَ ِع ُد ُك ْم َم ْغ ِف َرة ا ِم ْنهُ »لما وقع منكم من الفحشاء التي‬
‫المأل األعلى لهم ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬و َّ‬
‫أمركم بها الشيطان« َوفَض اْال »فجعل فضله في مقابلة ما وعد به الشيطان من الفقر الذي هو به‬
‫ّللا المؤمن حيث ناب عنه الحق سبحانه في مدافعة‬ ‫مأمور في قوله تعالى ‪ ( :‬وعدهم ) فأراح ه‬
‫ّللا عن عبده المؤمن وعدا إلهيا دفع به وعدا‬ ‫ما أراد الشيطان إمضاءه في المؤمن ‪ ،‬فدفع ه‬
‫وّللا ال يقاوم وال يغالب ‪ ،‬فالمغفرة متحققة والفضل متحقق ‪ ،‬وباء الشيطان‬ ‫شيطانيا ‪ ،‬ه‬
‫ّللا أن نتخذه وكيال في أمورنا ‪ ،‬فيكون الحق هو الذي‬ ‫بالخسران المبين ‪ ،‬ولهذه الحقيقة أمرنا ه‬
‫يتولى بنفسه دفع مضار هذه األمور عن المؤمنين ‪ ،‬وما غرض الشيطان المعصية لعينها ‪،‬‬
‫وإنما غرضه أن يعتاد العبد طاعة الشيطان ‪ ،‬فيستدرجه حتى يأمره بالشرك الذي فيه شقاوة‬
‫األبد ‪ ،‬وهذه اآلية أعظم آية وأشدها مرت على سمع إبليس ‪ ،‬فإنه علم أنه ال ينفعه إغواؤه ‪،‬‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر أ َ ْن يُ ْش َر َك‬
‫ولهذا ال يحرص إال على الشرك خاصة ‪ ،‬لكونه سمع الحق يقول ‪ِ ( :‬إ َّن َّ َ‬
‫وّللا ما قال ذلك ‪ ،‬فال بد من عقوبة‬ ‫ِب ِه ) *وتخيل أن العقوبة على الشرك ال ينتهي أمدها ‪ ،‬ه‬
‫المشرك ومن سكناه جهنم ‪ ،‬فإنه ليس بخارج من النار ‪ ،‬فهو مؤبد السكن ‪ ،‬ولم يتعرض‬
‫النتهاء مدة العذاب فيها بالشقاء ‪ ،‬وليس الخوف إال من ذلك ال من كونها دار إقامة لمن يعمرها‬
‫ّللا بكون المشرك مأخوذا بشركه ‪ ،‬فهو بمنزلة إقامة الحد على من تعين عليه ‪ ،‬سواء‬ ‫‪ ،‬فصدق ه‬
‫كان ذلك في الدنيا أو في اآلخرة ‪ ،‬فهي حدود إلهية يقيمها الحق على عبده إذا لم يغفر له‬
‫ّللاُ‬
‫أسبابها ‪ ،‬وجهل إبليس انتهاء مدة عقوبة المشرك من أجل شركه ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪َ «:‬و َّ‬
‫ع ِلي ٌم »فإن األمر بالفحشاء من الفحشاء ‪ ،‬فدخل إبليس تحت وعد الحق بالمغفرة فزاده‬ ‫وا ِس ٌع َ‬
‫طمعا وإن كانت دار النار مسكنه ‪ ،‬وال يعظم الفضل اإللهي إال في المسرفين والمجرمين ‪،‬‬
‫وأما المحسنين فما على المحسنين من سبيل ‪ ،‬فإن الفضل اإللهي جاءهم ابتداء ‪ ،‬وبه كانوا‬
‫محسنين ‪ ،‬وما بقي الفضل اإللهي إال في غير المحسنين‪.‬‬

‫ص ‪393‬‬

‫ص ‪401 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪269‬‬
‫ب(‬ ‫يُ ْؤتِي ا ْل ِح ْك َمةَ َم ْن يَشا ُء َو َم ْن يُ ْؤتَ ا ْل ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أُوتِ َ‬
‫ي َخ ْيرا ً َكثِيرا ً َوما يَذهك ُهر ِإاله أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫) ‪269‬‬
‫الحكمة علم بمعلوم خاص ‪ ،‬وهي صفة تحكم ويحكم بها وال يحكم عليها ‪ ،‬واسم الفاعل منها‬
‫حكيم ‪ ،‬فلها الحكم ‪ ،‬واسم الفاعل من الحكم الذي هو أثرها حاكم وحكم ‪ ،‬وبهذا سمي الرسن‬
‫الذي يحكم به الفرس حكمة ‪ ،‬فكل علم له هذا النعت فهو الحكمة ‪ ،‬وما يعلم الحكمة إال من‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ولما كانت الحكمة إعطاء كل ذي حق حقه ‪ ،‬وال يفعل‬ ‫أوتيها ‪ ،‬فهي هبة من ه‬
‫صاحب الحكمة حتى يعلم ما يستحقه كل ذي حق من الحق ‪ ،‬وليس إال بتبيين الحق ‪ ،‬لذلك‬
‫ّللا سبحانه معلمه باإللهام واإللقاء وبإنزال‬ ‫أضافها الحق إليه ‪ ،‬فالعلم اإللهي هو الذي كان ه‬
‫ّللا ال‬
‫الروح ‪ ،‬فهو سبحانه معلم اإلنسان ‪ ،‬ولذلك جاء بمن وهي نكرة ‪ ،‬ردا على من اعتقد أن ه‬
‫يعلهم من ليس بنبي وال رسول ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬م ْن يَشا ُء »فنكر األمر ولم يعرفه ‪ ،‬فهو نكرة في‬
‫معرفة يعلمها هو ال غيره ‪ ،‬ألن األمور معينة عنده مفصلة ‪ ،‬ليس في حقه إجمال وال يصح ‪،‬‬
‫وال مبهم في علمه بالمجمل في حق من يكون في حقه األمر مجمال ومبهما ‪ ،‬والحكمة في‬
‫األشياء كلها واألمور أجمعها إنما هو للمراتب واألعيان ‪ ،‬وأعظم المراتب األلوهية ‪ ،‬وأنزل‬
‫المراتب العبودية ‪ ،‬فما ث هم إال مرتبتان ‪ ،‬فما ث هم إال عبد ورب ‪ ،‬فمن يؤت الحكمة يعلم ترتيب‬
‫فاّلل سبحانه حكيم ‪ ،‬فما وضع شيئا إال في‬ ‫األشياء وإعطاء كل شيء حقه وإنزاله منزلته ‪ ،‬ه‬
‫موضعه ‪ ،‬وال أنزله إال منزلته ‪ ،‬والحكيم من العباد هو الذي ينزل كل شيء منزلته وال يتعدى‬
‫به قدره ومرتبته ‪ ،‬ويعطي كل ذي حق حقه ‪ ،‬ال يحكم في شيء بغرضه وال هواه ‪ ،‬ال تؤثر‬
‫فصرفته ‪ ،‬ال من حكم الحكمة ‪ ،‬فإن من حكم الحكمة‬ ‫ه‬ ‫فيه األغراض ‪ ،‬وهو من حكمته الحكمة‬
‫له المشيئة فيها ‪ ،‬ومن حكمته الحكمة فهي المصرفة له ‪ ،‬وإذا قامت الصفة بالموصوف أعطته‬
‫حكمها عطاء واجبا ‪ ،‬فالحكيم من قامت به الحكمة فكان الحكم لها به ‪ ،‬كما كان الحكم له بها ‪،‬‬
‫فهو عينها وهي عينه ‪ ،‬فالحكمة عين الحاكم عين المحكوم به عين المحكوم عليه ‪ ،‬فينظر‬
‫ّللا له من التصرف‬ ‫ّللا فيها إلى أجل ‪ ،‬وينظر إلى ما شرع ه‬ ‫الحكيم إلى هذه الدار التي أسكنه ه‬
‫فيها من غير زيادة وال نقصان ‪ ،‬فيجري على األسلوب الذي قد أبين له ‪ ،‬وال يضع من يده‬
‫الميزان الذي قد وضع له في هذا الموطن ‪ ،‬فإنه إن وضعه‬

‫ص ‪394‬‬

‫ص ‪402 :‬‬
‫ّللا الحالتين ‪ ،‬وجعل تعالى للتطفيف‬ ‫جهل المقادير ‪ ،‬فإما يخسر في وزنه ‪ ،‬أو يطفف ‪ ،‬وقد ذم ه‬
‫حالة تخصه يحمد فيها التطفيف ‪ ،‬فيطفف هناك على علم ‪ ،‬فإنه رجحان الميزان ويكون‬
‫ّللا في خلقه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإذا علم هذا ولم يبرح الميزان من يديه لم يخط شيئا من حكمة ه‬ ‫مشكورا عند ه‬
‫ّللا وال بذكر رسوله‬ ‫‪ ،‬ويكون بذلك إمام وقته ‪ ،‬فمن الميزان مثال أن ال يعرض الحكيم بذكر ه‬
‫ّللا أو‬ ‫ّللا في األماكن التي يعرفها هذا الحكيم إذا ذكر ه‬ ‫وال أحد ممن له قدر في الدين عند ه‬
‫ّللا به كالصحابة عند الشيعة ‪ ،‬فإن ذلك داع إلى ثلب المذكور‬ ‫رسوله أو أحدا ممن اعتنى ه‬
‫ُ‬
‫ت ْال ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أوتِ َ‬
‫ي‬ ‫وشتمه وإدخال األذى في حقه ‪ ،‬ففي مثل هذا الموطن ال يذكره « َو َم ْن يُؤْ َ‬
‫ّللا ما يدخله احتقار« َوما يَذَّ َّك ُر ِإ َّال‬ ‫َخيْرا ا َكثِيرا ا »وما كثره ه‬
‫ّللا ال تدخله قلة ‪ ،‬كما أن ما عظم ه‬
‫ب »فإن اإلنسان قد يغفل عن أشياء كان علمها من نفسه ثم يذكرها ‪ ،‬ولب الشيء‬ ‫أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫سره وقلبه ‪ ،‬واللب نور في العقل كالدهن في اللوز والزيتون ‪ ،‬والتذكر ال يكون إال عن علم‬
‫منسي ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪270‬‬


‫صار ) ‪( 270‬‬‫ين ِم ْن أ َ ْن ٍ‬ ‫َوما أ َ ْنفَ ْقت ُ ْم ِم ْن نَفَقَ ٍة أ َ ْو نَذَ ْرت ُ ْم ِم ْن نَ ْذ ٍر فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا يَ ْعلَ ُمهُ َوما ِلل ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ّللا أوجبه بإيجاب‬
‫ّللا إذا أوجبه العبد على نفسه كالنذر ‪،‬فإن ه‬ ‫التطوع قد يكون واجبا بإيجاب ه‬
‫العبد‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪271‬‬


‫ي َو ِإ ْن ت ُ ْخفُوها َوت ُ ْؤتُو َها ا ْلفُقَرا َء فَ ُه َو َخ ْي ٌر لَ ُك ْم َويُ َك ِفه ُر َ‬
‫ع ْن ُك ْم ِم ْن‬ ‫ت فَنِ ِع هما ِه َ‬ ‫ِإ ْن ت ُ ْبدُوا ال ه‬
‫صدَقا ِ‬
‫ير ) ‪( 271‬‬ ‫ون َخ ِب ٌ‬
‫ّللاُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫س ِيهئاتِ ُك ْم َو ه‬
‫َ‬
‫الكامل يعلن في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق رجح فيه اإلعالن ‪ ،‬ويسر بها في وقت‬
‫الموضع الذي يرى أن الحق يرجح فيه اإلسرار وهذا هو األولى بالكمل ‪ ،‬فيعطي بالحالتين‬
‫ليجمع بين المقامين ‪ ،‬ويحصل النتيجتين ‪ ،‬وينظر بالعينين ‪ ،‬ويسلك النجدين ‪ ،‬ويعطي باليدين ‪،‬‬
‫وأما من راعى صدقة السر فألجل ثناء الحق على ذلك في الحديث الحسن الذي يتضمن قوله ‪:‬‬
‫" ما تدري شماله ما تنفق يمينه " ‪ ،‬وما جاء في صدقة السر أنها تطفئ‬

‫ص ‪395‬‬

‫ص ‪403 :‬‬
‫ّللا بما أنفق ‪ ،‬ومن راعى اإلعالن يعلن بها‬
‫ّللا بذلك ‪ ،‬فيسر بها لعلم ه‬
‫غضب الرب ‪ ،‬واعتناء ه‬
‫ّللا هي العليا ‪ ،‬كما يعلن أصحاب‬
‫للتأسي وراثة نبوية ‪ ،‬وإعالنا بالطاعة هّلل حتى تكون كلمة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومعلوم أن هناك‬
‫المعاصي بالمعاصي والمخالفات وإظهار المنكرات وال يستحيون من ه‬
‫خالفا في الصدقة المكتوبة وصدقة التطوع ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪272‬‬


‫س ُك ْم َوما ت ُ ْن ِفقُ َ‬
‫ون إِاله‬ ‫ّللا يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء َوما ت ُ ْن ِفقُوا ِم ْن َخ ْي ٍر فَ ِِل َ ْنفُ ِ‬ ‫علَ ْيكَ ُهدا ُه ْم َول ِك هن ه َ‬ ‫س َ‬ ‫لَ ْي َ‬
‫ون ( ‪.) 272‬‬ ‫ف ِإلَ ْي ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت ُ ْظلَ ُم َ‬
‫ّللا َوما ت ُ ْن ِفقُوا ِم ْن َخ ْي ٍر يُ َو ه‬‫ا ْبتِغا َء َوجْ ِه ه ِ‬
‫علَي َْك ُهدا ُه ْم »فيما يجري منهم من خير وشر ‪ ،‬أي ليس عليك أن توفقهم لقبول ما‬ ‫ْس َ‬ ‫« لَي َ‬
‫ّللا يَ ْهدِي »أي يوفق« َم ْن يَشا ُء »وهو أعلم بالمهتدين ‪ ،‬ه‬
‫فاّلل‬ ‫أرسلتك به وأمرتك بتبيانه« َول ِك َّن َّ َ‬
‫سبحانه من حيث هو الهادي له اإلبانة والتوفيق ‪ ،‬وليس للهادي الذي هو مخلوق إال اإلبانة‬
‫ف‬‫ّللا َوما ت ُ ْن ِفقُوا ِم ْن َخ ْي ٍر يُ َو َّ‬ ‫خاصة« َوما ت ُ ْن ِفقُوا ِم ْن َخي ٍْر فَ ِأل َ ْنفُ ِس ُك ْم َوما ت ُ ْن ِفقُونَ إِ َّال ا ْبتِغا َء َو ْج ِه َّ ِ‬
‫ّللا وصف نفسه بالغيرة ‪ ،‬وعلم من أكثر عباده أنهم يهبون‬ ‫ظلَ ُمونَ »اعلم أن ه‬ ‫ِإلَ ْي ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت ُ ْ‬
‫جزيل المال وأنفسه في هوى نفوسهم وأغراضهم ‪ ،‬فإذا أعطى أكثرهم هّلل أعطى كسرة باردة ‪،‬‬
‫ّللا ما‬
‫وفلسا وثوبا خلقا ‪ ،‬وأمثال هذا ‪ ،‬هذا هو الكثير واألغلب ‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة وأحضر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيقول‬ ‫أعطى العبد من أجله ‪ ،‬بينه وبين عبده حيث ال يراه أحد ‪ ،‬فأعطى ما أعطى لغير ه‬
‫له ‪ :‬يا عبدي أليست هذه نعمتي التي أنعمت بها عليك ؟‬
‫أين ما أعطيت لمن سألك بوجهي ؟ فيعيهن ذلك الشيء التافه الحقير ‪ ،‬ويقول له ‪ :‬فأين ما‬
‫أعطيت لهوى نفسك ؟ فيعين جزيل المال من ماله ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أما استحييت مني أن تقابلني بمثل‬
‫هذا وأنت تعلم أنك ستقف بين يدي ‪ ،‬وسأقررك على ما كان منك ؟ فما أعظمها من خجلة ‪ ،‬ثم‬
‫يقول له ‪ :‬قد غفرت لك بدعوة ذلك السائل لفرحه بما أعطيته ‪ ،‬لكني قد ربيتها لك ‪ ،‬وقد محقت‬
‫ما أعطيته لهوى نفسك ‪ ،‬فإن صدقتك أخذتها وربيتها لك ‪ ،‬فيحضرها أمام األشهاد وقد رجع‬
‫باّلل ال‬ ‫ّللا قد عاد هباء منثورا ‪ ،‬فالعارفون ه‬ ‫الفلس أعظم من جبل أحد ‪ ،‬وما أعطى لغير ه‬
‫يعطون هّلل إال أنفس ما عندهم ‪ ،‬ال أحقر ما عندهم ‪ ،‬فكلهم هّلل ‪ ،‬وكل ما عندهم هّلل ‪ ،‬العبد وما‬
‫ّللا هي اآلخذة ‪،‬‬ ‫ّللا ويشاهدون يد ه‬ ‫يملكه لسيده ‪ ،‬فيعطون بيد ه‬

‫ص ‪396‬‬

‫ص ‪404 :‬‬
‫وهم مبرءون في العطاء واألخذ مع غاية االستقامة والمشي على سنن الهدى واألدب المشروع‬
‫‪ ،‬فيكونون عند الحق بمنزلة ما هو الحق في قلوبهم ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 273‬إلى ‪275‬‬


‫سبُ ُه ُم ا ْلجا ِه ُل أ َ ْغنِيا َء‬
‫ض يَحْ َ‬ ‫ض ْربا ً فِي ْاأل َ ْر ِ‬‫ون َ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬‫ّللا ال يَ ْ‬ ‫ِين أُحْ ِص ُروا فِي َ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫راء الهذ َ‬‫ِل ْلفُقَ ِ‬
‫ع ِلي ٌم (‬ ‫اس إِ ْلحافا ً َوما ت ُ ْن ِفقُوا ِم ْن َخ ْي ٍر فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا بِ ِه َ‬ ‫ون النه َ‬ ‫سئَلُ َ‬ ‫سيما ُه ْم ال يَ ْ‬ ‫ف ت َ ْع ِرفُ ُه ْم بِ ِ‬
‫ِم َن التهعَفُّ ِ‬
‫ف‬‫س ًّرا َوعَلنِيَةً فَلَ ُه ْم أَجْ ُر ُه ْم ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم َوال َخ ْو ٌ‬ ‫ون أ َ ْموالَ ُه ْم بِالله ْي ِل َوالنه ِ‬
‫هار ِ‬ ‫ِين يُ ْن ِفقُ َ‬‫) ‪273‬الهذ َ‬
‫ون ِإاله كَما يَقُو ُم الهذِي يَت َ َخبه ُ‬
‫طه ُ‬ ‫الربا ال يَقُو ُم َ‬ ‫ون ِ ه‬‫ِين يَأ ْ ُكلُ َ‬
‫ون ( ‪ ) 274‬الهذ َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬ ‫َ‬
‫الربا فَ َم ْن جا َءهُ‬ ‫الربا َوأ َ َح هل ه‬
‫ّللاُ ا ْلبَ ْي َع َو َح هر َم ِ ه‬ ‫س ذ ِلكَ ِبأَنه ُه ْم قالُوا ِإنه َما ا ْلبَ ْي ُع ِمثْ ُل ِ ه‬ ‫طان ِم َن ا ْل َم ِ ه‬
‫ش ْي ُ‬ ‫ال ه‬
‫ْحاب النه ِار ُه ْم ِفيها‬ ‫ّللا َو َم ْن عا َد فَأُول ِئكَ أَص ُ‬ ‫ف َوأ َ ْم ُر ُه ِإلَى ه ِ‬ ‫سلَ َ‬ ‫َم ْو ِع َظةٌ ِم ْن َر ِبه ِه فَا ْنتَهى فَلَهُ ما َ‬
‫ُون (‪)275‬‬ ‫خا ِلد َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬لذلك قيل لرسول ه‬ ‫البيع شراء ومعاوضة ‪ ،‬وال يعلم قدر ذلك إال ه‬
‫ّللا وليس‬ ‫ّللا هو المسعر وأرجو أن ألقى ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫سعر لنا ‪ ،‬فقال رسول ه‬
‫ألحد منكم علي طلبة ‪ ،‬فإن الوزن بين الشيئين بالقيمة مجهول ال يتحقق ‪ ،‬فما بقي إال المراضاة‬
‫بين البائع والمشتري ما لم يجهل أمر السوق بالوقت والزمان ‪ ،‬وأحوال الناس في ذلك ‪ ،‬فإن‬
‫األحكام واألسعار تختلف باختالف األوقات لما يختلف من األحوال بسلطان الوقت ‪ ،‬فأخبر‬
‫ّللا عليه وسلم أن الحق ألسنة العالم في أثمان األشياء التي تدخل البيع والشراء ‪ ،‬فمن‬ ‫صلهى ه‬
‫سام فليعرف من يسم ‪ ،‬وال تسم على سوم أخيك وال تبع على بيعه‪.‬‬

‫ص ‪397‬‬

‫ص ‪405 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪276‬‬
‫يم ( ‪.) 276‬‬‫ب ُك هل َكفه ٍار أَثِ ٍ‬‫ّللاُ ال يُ ِح ُّ‬
‫ت َو ه‬
‫صدَقا ِ‬
‫الربا َويُ ْر ِبي ال ه‬
‫ّللاُ ِ ه‬
‫ق ه‬ ‫يَ ْم َح ُ‬
‫ت »فتزكو ‪ ،‬واختصت بهذا االسم لوجود معناه فيها ‪ ،‬ففي الزكاة البركة في‬ ‫ص َدقا ِ‬
‫« َويُ ْر ِبي ال َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬فالزكاة من حيث اسمها صدقة شديدة على‬ ‫المال ‪ ،‬وطهارة النفس ‪ ،‬والصالبة في دين ه‬
‫النفس ‪ ،‬فإذا أخرج اإلنسان الصدقة تضاعف له األجر ‪ ،‬فإن له أجر المشقة وأجر اإلخراج ‪،‬‬
‫وإن أخرجها عن غير مشقة فهذا فوق تضاعف األجر بما ال يقاس وال يحد ‪ ،‬والزكاة بمعنى‬
‫ّللا عن معطيها اسم البخل والشح عليه ‪ ،‬فال حكم للبخل والشح‬ ‫التطهير والتقديس ‪ ،‬لما أزال ه‬
‫ّللا يربيها ‪ -‬تراجع اآلية ‪- 245‬‬
‫فيه ‪ ،‬وبما في الزكاة من النمو والبركة سميت زكاة ألن ه‬
‫ومذهب الجماعة في األدب من المتصدق أن يضع الصدقة في كف نفسه وينزل بها حتى تعلو‬
‫يد السائل إذا أخذها على يد المعطي ‪ ،‬حتى تكون هي اليد العليا ‪ ،‬وهي خير من اليد السفلى ‪،‬‬
‫واليد العليا هي المنفقة ‪ ،‬فيأخذها الرحمن لينفقها له تجارة حتى تعظم ‪ ،‬فيجدها يوم القيامة قد‬
‫نمت وزادت ‪ ،‬وأما مذهبنا فليس كذلك ‪ ،‬إنما السائل إذا بسط يده لقبول الصدقة من المتصدق‬
‫جعل الحق يده على يد السائل ‪ ،‬فإذا أعطى المتصدق الصدقة وقعت بيد الرحمن قبل أن تقع بيد‬
‫السائل كرامة بالمتصدق ‪ ،‬ويخلق مثلها في يد السائل لينتفع بها السائل ‪ ،‬ويأخذ الحق عين تلك‬
‫الصدقة فيربيها فتربو حتى تصير مثل جبل أحد في العظم ‪ ،‬وهذا من باب الغيرة اإللهية حيث‬
‫كان العطاء من أجله ‪ ،‬لما يرى أن اإلنسان يعطي من أجل هواه ما يعظم شأنه من الهبات ‪،‬‬
‫ّللا لجنابه أن ال يرى في‬
‫ّللا أحقر ما عنده ‪ ،‬هذا هو الغالب في الناس ‪ ،‬فيغار ه‬ ‫ويعطي من أجل ه‬
‫مقام االستهضام ‪ ،‬فيربي تلك الصدقة حتى تعظم ‪ ،‬فإذا جالها في صورة تلك العظمة حصل‬
‫المقصود ‪ ،‬فيد المعطي تعلو على يد اآلخذ ‪ ،‬ولهذا قال ‪ :‬تقع ‪ ،‬والوقوع ال يكون إال من أعلى ‪،‬‬
‫ّللا في االستواء على العرش ‪ ،‬فهو في التحت أيضا ‪ ،‬كما هو بكل شيء‬ ‫فكما ينسب العلو إلى ه‬
‫محيط ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪277‬‬


‫الزكاةَ لَ ُه ْم أَجْ ُر ُه ْم ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم َوال‬ ‫ت َوأَقا ُموا ال ه‬
‫صلةَ َوآت َ ُوا ه‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫إِ هن الهذ َ‬
‫ون) ‪( 277‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬ ‫َخ ْو ٌ‬
‫ف َ‬

‫ص ‪398‬‬

‫ص ‪406 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 278‬إلى ‪280‬‬
‫ين ( ‪ ) 278‬فَ ِإ ْن لَ ْم ت َ ْفعَلُوا‬ ‫الربا ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ي ِم َن ِ ه‬ ‫ّللا َوذَ ُروا ما بَ ِق َ‬ ‫ِين آ َمنُوا اتهقُوا ه َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 279‬‬ ‫ون َوال ت ُ ْظلَ ُم َ‬ ‫ُس أ َ ْموا ِل ُك ْم ال ت َ ْظ ِل ُم َ‬ ‫سو ِل ِه َو ِإ ْن ت ُ ْبت ُ ْم فَلَ ُك ْم ُرؤ ُ‬ ‫ب ِم َن ه ِ‬
‫ّللا َو َر ُ‬ ‫فَأْذَنُوا ِب َح ْر ٍ‬
‫ون ) ‪( 280‬‬ ‫س َر ٍة َوأ َ ْن ت َ َ‬
‫ص هدقُوا َخ ْي ٌر لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫س َر ٍة فَنَ ِظ َرةٌ ِإلى َم ْي َ‬ ‫كان ذُو ُ‬
‫ع ْ‬ ‫َو ِإ ْن َ‬
‫هذه اآلية حث على إنظار المعسر إلى ميسرة ‪ ،‬وإن وضعت عنه فهو أعظم ألجرك ‪ ،‬قال‬
‫ّللا يوم القيامة‬ ‫ّللا في ظله ‪ ،‬وإن ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬من انظر معسرا أو وضع عنه أظله ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا من كرب يوم القيامة فلينفس‬ ‫سره أن ينجيه ه‬ ‫يتجاوز عمن يتجاوز عن عباده ‪ ،‬وقال ‪ :‬من ه‬
‫س َرةٍ »أي يؤخر إلى‬ ‫عس َْرةٍ فَن َِظ َرة ٌ ِإلى َم ْي َ‬ ‫عن معسر أو يضع عنه ‪ ،‬فقال تعالى «‪َ :‬و ِإ ْن كانَ ذُو ُ‬
‫أن يجد ما يؤدي وأ َ ْن ت َ َ‬
‫ص َّدقُوا َخي ٌْر لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ "‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪281‬‬


‫ون ( ‪.) 281‬‬ ‫سبَتْ َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬‫ّللا ث ُ هم ت ُ َوفهى ُك ُّل نَ ْف ٍس ما َك َ‬ ‫َواتهقُوا يَ ْوما ً ت ُ ْر َجعُ َ‬
‫ون فِي ِه إِلَى ه ِ‬
‫ّللا معه على‬‫ّللا إال من جهل أن ه‬ ‫ّللا »ال يصح أن يرجع إلى ه‬ ‫« َواتَّقُوا يَ ْوما ا ت ُ ْر َجعُونَ فِي ِه ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا معه‬
‫ّللا »إال من غفل عن كون ه‬ ‫كل حال ‪ ،‬وما خاطب الحق بقوله ‪ «:‬ت ُ ْر َجعُونَ فِي ِه ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا في الحقيقة من حال أنت‬ ‫على كل حال ؛ كما قال ‪َ ( :‬و ُه َو َمعَ ُك ْم أَيْنَ ما ُك ْنت ُ ْم )فالرجوع إلى ه‬
‫ّللا على هذا‬
‫ّللا أضيف الرجوع إلى ه‬ ‫عليها لحال ما أنت عليها ‪ ،‬ولما كانت األحوال كلها بيد ه‬
‫ظلَ ُمونَ »األعمال مكاسب ‪،‬‬ ‫ت َو ُه ْم ال يُ ْ‬ ‫الوجه ‪ ،‬أي بالبناء للمجهول« ث ُ َّم ت ُ َوفَّى ُك ُّل نَ ْف ٍس ما َك َ‬
‫سبَ ْ‬
‫ولهذا أقيم الكسب مقام العمل ‪ ،‬والعمل مقام الكسب ‪ ،‬فجاء في آية ( وتوفى كل نفس ما عملت‬
‫ت )فسمي العمل كسبا ‪ ،‬وناب كل واحد منهما مناب صاحبه‪.‬‬ ‫سبَ ْ‬
‫) وفي آية( ما َك َ‬

‫ص ‪399‬‬

‫ص ‪407 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪282‬‬
‫ب ِبا ْلعَ ْد ِل َوال يَأ ْ َ‬
‫ب‬ ‫س ًّمى فَا ْكتُبُوهُ َو ْليَ ْكت ُ ْب بَ ْينَ ُك ْم كاتِ ٌ‬ ‫ِين آ َمنُوا ِإذا تَدايَ ْنت ُ ْم ِب َد ْي ٍن ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫س ِم ْنهُ‬ ‫ّللا َربههُ َوال يَ ْب َخ ْ‬ ‫ق هَ‬ ‫ق َو ْليَت ه ِ‬ ‫علَ ْي ِه ا ْل َح ُّ‬ ‫ّللاُ فَ ْليَ ْكت ُ ْب َو ْليُ ْم ِل ِل الهذِي َ‬ ‫عله َمهُ ه‬ ‫ب كَما َ‬ ‫ب أ َ ْن يَ ْكت ُ َ‬
‫كاتِ ٌ‬
‫ست َ ِطي ُع أ َ ْن يُ ِم هل ُه َو فَ ْليُ ْم ِل ْل َو ِليُّهُ ِبا ْلعَ ْد ِل‬ ‫ض ِعيفا ً أ َ ْو ال يَ ْ‬ ‫س ِفيها ً أ َ ْو َ‬ ‫ق َ‬ ‫علَ ْي ِه ا ْل َح ُّ‬ ‫كان الهذِي َ‬ ‫ش ْيئا ً فَ ِإ ْن َ‬ ‫َ‬
‫ض ْو َن ِم َن‬ ‫تان ِم هم ْن ت َ ْر َ‬ ‫ام َرأ َ ِ‬ ‫ستَش ِْهدُوا ش َِهي َد ْي ِن ِم ْن ِرجا ِل ُك ْم فَ ِإ ْن لَ ْم يَكُونا َر ُجلَ ْي ِن فَ َر ُج ٌل َو ْ‬ ‫َوا ْ‬
‫سئ َ ُموا‬ ‫ش َهدا ُء إِذا ما ُدعُوا َوال ت َ ْ‬ ‫ب ال ُّ‬ ‫داء أ َ ْن ت َ ِض هل إِحْ دا ُهما فَتُذَ ِ هك َر إِحْ دا ُه َما ْاأل ُ ْخرى َوال يَأ ْ َ‬ ‫ش َه ِ‬ ‫ال ُّ‬
‫ّللا َوأ َ ْق َو ُم ِللشهها َد ِة َوأَدْنى أَاله ت َ ْرتابُوا إِاله‬ ‫ط ِع ْن َد ه ِ‬ ‫س ُ‬‫ص ِغيرا ً أ َ ْو َكبِيرا ً إِلى أ َ َج ِل ِه ذ ِل ُك ْم أ َ ْق َ‬ ‫أ َ ْن ت َ ْكتُبُوهُ َ‬
‫ح أَاله ت َ ْكتُبُوها َوأَش ِْهدُوا ِإذا تَبايَ ْعت ُ ْم‬ ‫علَ ْي ُك ْم ُجنا ٌ‬ ‫س َ‬ ‫ِيرونَها بَ ْينَ ُك ْم فَلَ ْي َ‬ ‫حاض َرةً تُد ُ‬ ‫ِ‬ ‫جارةً‬
‫ُون تِ َ‬ ‫أ َ ْن ت َك َ‬
‫ش ْي ٍء‬ ‫ّللاُ ِب ُك ِ هل َ‬
‫ّللاُ َو ه‬ ‫ق ِب ُك ْم َواتهقُوا ه َ‬
‫ّللا َويُعَ ِله ُم ُك ُم ه‬ ‫سو ٌ‬ ‫ب َوال ش َِهي ٌد َو ِإ ْن ت َ ْفعَلُوا فَ ِإنههُ فُ ُ‬ ‫ار كاتِ ٌ‬ ‫ض ه‬ ‫َوال يُ َ‬
‫ع ِلي ٌم (‪.)282‬‬ ‫َ‬
‫ب بِا ْلعَ ْد ِل »العدل‬ ‫س ًّمى فَا ْكتُبُوهُ َو ْليَ ْكتُبْ بَ ْينَ ُك ْم كاتِ ٌ‬ ‫«يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا إِذا تَدايَ ْنت ُ ْم بِ َدي ٍْن إِلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫هو الميل ‪ ،‬يقال عدل عن الطريق إذا مال عنه ‪ ،‬وعدل إليه إذا مال إليه ‪ ،‬وسمي الميل إلى‬
‫ّللاُ ‪ ،‬فَ ْليَ ْكتُبْ‬ ‫علَّ َمهُ َّ‬‫ب َكما َ‬ ‫ب أ َ ْن يَ ْكت ُ َ‬ ‫ب كاتِ ٌ‬ ‫الحق عدال ‪ ،‬كما سمي الميل عن الحق جورا« َوال يَأ ْ َ‬
‫س ِفيها ا أ َ ْو‬ ‫علَ ْي ِه ْال َح ُّق َ‬‫شيْئا ا ‪ ،‬فَإِ ْن كانَ الَّذِي َ‬ ‫َس ِم ْنهُ َ‬ ‫ّللا َربَّهُ َوال يَ ْبخ ْ‬ ‫ق َّ َ‬ ‫علَ ْي ِه ْال َح ُّق َو ْليَت َّ ِ‬
‫َو ْليُ ْم ِل ِل الَّذِي َ‬
‫ش ِهي َدي ِْن ِم ْن ِرجا ِل ُك ْم ‪ ،‬فَإِ ْن لَ ْم‬ ‫ض ِعيفا ا أ َ ْو ال يَ ْست َ ِطي ُع أ َ ْن يُ ِم َّل ُه َو فَ ْليُ ْم ِل ْل َو ِليُّهُ ِب ْالعَ ْد ِل ‪َ ،‬وا ْست َ ْش ِهدُوا َ‬ ‫َ‬
‫ض َّل ِإ ْحدا ُهما فَت ُذَ ِ هك َر ِإ ْحدا ُه َما‬ ‫داء ‪ ،‬أ َ ْن ت َ ِ‬ ‫ش َه ِ‬ ‫ض ْونَ ِمنَ ال ُّ‬ ‫تان ِم َّم ْن ت َ ْر َ‬ ‫يَ ُكونا َر ُجلَي ِْن فَ َر ُج ٌل َو ْام َرأ َ ِ‬
‫ْاأل ُ ْخرى »المرأة أنسى من الرجل ولهذا قامت المرأتان في الشهادة مقام الرجل الواحد ‪ ،‬وذلك‬
‫أن المرأة شق الرجل ‪ ،‬فالمرأتان شقان ‪ ،‬وشقان نشأة كاملة ‪ ،‬فامرأتان رجل واحد ‪ ،‬فهي‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ناقصة الخلق معوجة في النشء ألنها ضلع ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬نسي آدم فنسيت ذريته ‪،‬‬ ‫النساء شقائق الرجال ‪ -‬ومن وجه آخر ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫فنسيان‬

‫ص ‪400‬‬

‫ص ‪408 :‬‬
‫بني آدم ذرية عن نسيان آدم ‪ ،‬على أن الحق ما وصف إحدى المرأتين إال بالحيرة فيما شهدت‬
‫ض َّل ِإ ْحدا ُهما »ما وصفها بالنسيان ‪ ،‬والحيرة نصف النسيان ال كله ‪ ،‬ونسب النسيان‬ ‫فيه« أ َ ْن ت َ ِ‬
‫ع ْزما ا )فقد يمكن أن ينسى الرجل الشهادة رأسا‬ ‫ي َولَ ْم ن َِج ْد لَهُ َ‬ ‫على الكمال للرجال ‪ ،‬فقال ‪ ( :‬فَنَ ِس َ‬
‫وال يتذكرها ‪ ،‬وال يمكن أن تنسى إحدى المرأتين ‪ ،‬وهي المذكرة ال على التعيين ‪ ،‬فتذكر التي‬
‫ّللا صدق بال شك ‪ ،‬وهو قد أخبر في هذه اآلية أن إحداهما‬ ‫ضلت عما شهدت فيه ‪ ،‬فإن خبر ه‬
‫تذكر األخرى ‪ ،‬فال بد أن تكون الواحدة ال تضل عن الشهادة وال تنسى ‪ ،‬وهذا جبر لقلب‬
‫المرأة الذي يكسره من ال علم له من الرجال باألمر ‪ ،‬ومن لحوق النساء بالرجال ‪ ،‬بل تقوم‬
‫المرأة في بعض المواطن مقام رجلين ‪ ،‬إذ ال يقطع الحاكم بالحكم إال بشهادة رجلين ‪ ،‬فقامت‬
‫المرأة في بعض المواطن مقامهما ‪ ،‬وهو قبول الحاكم قولها في حيض العدة ‪ ،‬وقبول الزوج‬
‫قولها في أن هذا ولده مع االحتمال المتطرق إلى ذلك ‪ ،‬وقبول قولها إنها حائض ‪ ،‬فقد تنزلت‬
‫هنا منزلة شاهدين عدلين ‪ ،‬كما تنزل الرجل في شهادة الدين منزلة امرأتين ‪ ،‬فتداخال في‬
‫ص ِغيرا ا ‪ ،‬أ َ ْو َكبِيرا ا إِلى أ َ َج ِل ِه ‪ ،‬ذ ِل ُك ْم‬ ‫عوا َوال ت َ ْسئ َ ُموا أ َ ْن ت َ ْكتُبُوهُ َ‬ ‫ش َهدا ُء إِذا ما ُد ُ‬ ‫ب ال ُّ‬ ‫الحكم« َوال يَأ ْ َ‬
‫ِيرونَها بَ ْينَ ُك ْم‬
‫حاض َرة ا تُد ُ‬
‫ِ‬ ‫شها َدةِ ‪َ ،‬وأ َ ْدنى أ َ َّال ت َ ْرتابُوا ِإ َّال أ َ ْن ت َ ُكونَ تِ َ‬
‫جارة ا‬ ‫ّللا َوأ َ ْق َو ُم ِلل َّ‬
‫ط ِع ْن َد َّ ِ‬ ‫س ُ‬‫أ َ ْق َ‬
‫ش ِهي ٌد ‪َ ،‬و ِإ ْن ت َ ْفعَلُوا‬
‫ب َوال َ‬ ‫ار كاتِ ٌ‬ ‫ض َّ‬‫علَ ْي ُك ْم ُجنا ٌح أ َ َّال ت َ ْكتُبُوها ‪َ ،‬وأ َ ْش ِهدُوا ِإذا تَبايَ ْعت ُ ْم ‪َ ،‬وال يُ َ‬ ‫ْس َ‬ ‫فَلَي َ‬
‫ّللا بما علمكم من أعلمته بطريق التقوى ‪،‬‬ ‫ّللاُ »واتقوا ه‬ ‫ّللا َويُعَ ِله ُم ُك ُم َّ‬
‫وق ِب ُك ْم ‪َ ،‬واتَّقُوا َّ َ‬ ‫س ٌ‬ ‫فَإِنَّهُ فُ ُ‬
‫ّللا فقال تعالى «‪َ :‬واتَّقُوا‬ ‫فلإلنسان أن يسأل أمثاله عن حد التقوى المشروع ‪ ،‬فيتعلم منه ليتقي ه‬
‫ّللاُ »فكان سبحانه هو المعلم ‪ ،‬فبالتقوى تزيد علما لم‬ ‫ّللا »باألعمال المنتجة للعلوم« َويُعَ ِله ُم ُك ُم َّ‬ ‫َّ َ‬
‫يكن عندك ‪ ،‬يعلمك إياه الحق تشريفا منحك إياه التقوى ‪ ،‬وقد كان هذا العلم مغيبا عنك ‪،‬‬
‫فأعطاك العلم به به زيادة اإليمان بالغيب الذي لو عرض على أغلب العقول لردته ببراهينها ‪،‬‬
‫باّلل ذوقا وتعليما إلهيا فيما ال يكون ذوقه إال من فتوح المكاشفة ال من طريق األدلة‬ ‫فالمعرفة ه‬
‫ّللاُ »وأكثر الناس يتخيلون أن العلوم الحاصلة‬ ‫ّللا َويُعَ ِله ُم ُك ُم َّ‬
‫بالبراهين هو قوله تعالى ‪َ «:‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫عن التقوى علوم وهب ‪ ،‬وليست كذلك ‪ ،‬وإنما هي علوم مكتسبة بالتقوى ‪ ،‬فإن التقوى جعلها‬
‫ّللا طريقا إلى حصول هذا العلم ‪ ،‬والعلم الوهبي ال يحصل عن سبب بل من لدنه سبحانه ‪،‬‬ ‫ه‬
‫فالنبوات كلها علوم وهب ‪ ،‬ألن النبوة ليست مكتسبة ‪ ،‬والشرائع كلها من علوم الوهب‬

‫ص ‪401‬‬

‫ص ‪409 :‬‬
‫عند أهل اإلسالم الذين هم أهله ‪ ،‬وأريد باالكتساب في العلوم ما يكون للعبد فيه تعمل ‪ ،‬كما أن‬
‫ّللا‬
‫باّلل التقي الورع قد وسع الحق ‪ ،‬فتولى ه‬ ‫الوهب ما ليس للعبد فيه تعمل ‪ ،‬فإن القلب المؤمن ه‬
‫ّللا يَ ْجعَ ْل لَ ُك ْم فُ ْرقانا ا ) « َواتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫تعالى تعليم عباده المتقين الذين قال فيهم ‪ِ ( :‬إ ْن تَتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا معاني القرآن ‪ ،‬فتعلموا مقاصد المتكلم به ‪ ،‬ألن فهم كالم‬ ‫َويُعَ ِله ُم ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ »ومعناه أن يفهمكم ه‬
‫المتكلم ما هو بأن يعلم وجوه ما تتضمنه تلك الكلمة بطريق الحصر مما تحوي عليه مما تواطأ‬
‫عليه أهل اللسان ‪ ،‬وإنما الفهم أن يفهم ما قصده المتكلم بذلك الكالم ‪ ،‬هل قصد جميع الوجوه‬
‫الذي يتضمنها ذلك الكالم أو بعضها ‪ ،‬فينبغي لك أن تفرق بين الفهم للكالم ‪ ،‬أو الفهم عن‬
‫المتكلم وهو المطلوب ‪ ،‬فالفهم عن المتكلم ما يعلمه إال من أنزل القرآن على قلبه ‪ ،‬وفهم الكالم‬
‫للعامة ‪ ،‬فكل من فهم عن المتكلم فقد فهم الكالم ‪ ،‬وما كل من فهم الكالم فهم عن المتكلم ما‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهذا‬‫ّللا ممن رزق الفهم عن ه‬ ‫أراد به على التعيين ‪ ،‬إما كل الوجوه أو بعضها ‪ ،‬جعلنا ه‬
‫ّللا يتولى بالفعل تعليم أوليائه بما يشهدهم إياه في تجلياته‬ ‫ّللا وليا جاهال قط ‪ ،‬فإن ه‬ ‫قيل ‪ :‬ما اتخذ ه‬
‫ّللا تعليم المتقي من عباده ‪ ،‬فيقرب سنده ‪،‬‬ ‫حظ الورثة من النبوة ‪ ،‬بأن يتولى ه‬ ‫‪ ،‬فهذه اآلية ه‬
‫فيقول أخبرني ربي بشرع نبيه الذي تعبده به ممن أخذه وأوحى به إليه ‪ ،‬فهو عال في العلم ‪،‬‬
‫تابع في الحكم ‪ ،‬وهم الذين ليسوا بأنبياء وتغبطهم األنبياء عليهم السالم في هذه الحالة ‪ ،‬ألنهم‬
‫ّللا بعد التقوى بما عملوا عليه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وكان أخذ هذه الطائفة عن ه‬ ‫اشتركوا معهم في األخذ عن ه‬
‫ّللا في‬ ‫مما جاءهم به هذا الرسول ‪ ،‬فهم وإن كانوا بهذه المثابة وأنتج لهم تقواهم األخذ عن ه‬
‫موازين الرسل وتحت حيطتهم وفي دائرتهم ‪ ،‬ووقع االغتباط من كونهم لم يكونوا رسال ‪ ،‬فبقوا‬
‫مع الحق دائما على أصل عبودية لم تشبها ربوبية أصال ‪ ،‬فمن هنا وقع الغبط لراحتهم ‪ ،‬وإن‬
‫ع ِلي ٌم »بنية فعيل ترد بمعنى الفاعل وبمعنى‬ ‫ش ْيءٍ َ‬ ‫ّللاُ بِ ُك ِهل َ‬
‫كانت الرسل أرفع مقاما منهم« َو َّ‬
‫المفعول ‪ ،‬فعليم بمعنى عالم وبمعنى معلوم ‪ ،‬وكال الوجهين سائغ في هذه اآلية ‪ ،‬إذا كانت الباء‬
‫من قوله «‪ِ :‬ب ُك ِهل »بمعنى الفاء فهو في كل شيء معلوم ‪ ،‬ولما صح باالستواء نزوله تعالى كل‬
‫ليلة إلى السماء ‪ ،‬ومع هذا فهو مع عباده أينما كانوا ‪ ،‬ولما علم أن بعض عباده يقولون في مثل‬
‫هذا بعلمه ‪ ،‬أعلم في هذه اآلية أنه بكل شيء عليم ‪ ،‬ليغلب على ظن السامع أنه ليس على ما‬
‫تأولوه ‪ ،‬فإنا ال نشك أنه يحيط بنا علما أينما كنا ‪ ،‬وكيف ال يعلم ذلك وهو خلقنا وخلق األينية‬
‫ّللا ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته‪.‬‬ ‫التي نحن فيها ‪ ،‬فذكر ه‬

‫ص ‪402‬‬

‫ص ‪410 :‬‬
‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬اآليات ‪ 283‬إلى ‪284‬‬
‫ض ُك ْم بَ ْعضا ً فَ ْليُ َؤ ِ هد الهذِي ْ‬
‫اؤت ُ ِم َن‬ ‫ضةٌ فَ ِإ ْن أ َ ِم َن بَ ْع ُ‬ ‫هان َم ْقبُو َ‬‫سفَ ٍر َولَ ْم ت َ ِجدُوا كاتِبا ً فَ ِر ٌ‬
‫َو ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم عَلى َ‬
‫ع ِلي ٌم (‬‫ون َ‬ ‫ّللا َربههُ َوال ت َ ْكت ُ ُموا الشهها َدةَ َو َم ْن يَ ْكت ُ ْمها فَ ِإنههُ آثِ ٌم قَ ْلبُهُ َو ه‬
‫ّللاُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ق هَ‬ ‫أَمانَتَهُ َو ْليَت ه ِ‬
‫س ُك ْم أ َ ْو ت ُ ْخفُو ُه يُحا ِ‬
‫س ْب ُك ْم ِب ِه‬ ‫ض َو ِإ ْن ت ُ ْبدُوا ما ِفي أ َ ْنفُ ِ‬ ‫ت َوما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّلل ما ِفي ال ه‬ ‫‪ ِ ) 283‬ه ِ‬
‫ِير ) ‪( 284‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫ّللاُ عَلى ُك ِ هل َ‬ ‫ِب َم ْن يَشا ُء َو ه‬ ‫ّللاُ فَيَ ْغ ِف ُر ِل َم ْن يَشا ُء َويُعَذه ُ‬
‫ه‬
‫كم بين الرغبة عنه والرغبة فيه ‪ ،‬عبد مصطفى وعبد ال يصطفيه ‪ ،‬عناية أزلية ‪ ،‬بسعادة أبدية‬
‫‪ ،‬وخذالن سبق ‪ ،‬وكل ذلك حق ‪ ،‬أحق ما قال العبد ‪ ،‬وكلنا لك عبد ‪ ،‬فجمع بين المطرود‬
‫والمجتبى ‪ ،‬ومن أطاع ومن أبى في عبودية القصاص ‪ ،‬ال في عبودية االختصاص ‪ ،‬عبد‬
‫ّللا بينه وبين خصمه فيسعده ‪ ،‬وعبد يأمر به إلى النار بعدله ‪ ،‬فيبعده ‪ ،‬مع القول بعدم‬ ‫يصلح ه‬
‫االستحقاق ‪ ،‬ومفارقة الوفاق ‪ ،‬وكالهما عاصيان ‪ ،‬وما هما سيان ‪ ،‬يا ليت شعري لم كان ذلك‬
‫؟ عاص ناج وعاص هالك ‪ ،‬عبدان لملك واحد ‪ ،‬وما ث هم أمر زائد ‪ ،‬إن كان لعمارة الدار فلما‬
‫ذا يخرج بالشفاعة ‪ ،‬وال يبقى مع الجماعة ‪ ،‬ما ذاك إال لما قيل في بعض األشعار ( ماء ونار ‪.‬‬
‫ّللا عن نفسه اختيار‬ ‫ِب َم ْن يَشا ُء »فذكر ه‬ ‫‪ . .‬ما التقيا إال ألمر كبهار )« يَ ْغ ِف ُر ِل َم ْن يَشا ُء َويُعَذه ُ‬
‫مشيئته بين المغفرة والعذاب ‪ ،‬فهو غير قاطع بأحد األمرين ‪ ،‬وهذا هو ما جرأ النفوس األمارة‬
‫بالسوء على ما ارتكبوه من المخالفات وتعدوه من الحدود وانتهكوه من المحارم ‪ ،‬فلو قطعوا‬
‫على‬ ‫ّللاُ َ‬‫بالمؤاخذة على ما صدر منهم إن ماتوا على غير توبة ما فعلوا ما ال يرضي سيدهم« َو َّ‬
‫ّللا ما جعل‬ ‫ِير »يخرج على أنه عين قوله لألشياء( ُك ْن )إذا أراد تكوينها ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫ُك ِهل َ‬
‫سبب إيجاد الكائنات الممكنات سبحانه وتعالى إال اإلرادة واألمر اإللهي ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪( :‬‬
‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن )فأتى في اإلرادة واألمر ‪ ،‬ولم يذكر معنى ثالثا‬ ‫ِإنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫يسمى القدرة ‪ ،‬والتحقيق أن القدرة ما لها أثر سوى إعطاء الوجود لكل عين يريد الحق‬
‫وجودها من الممكنات ‪ ،‬فيقول لها ‪ُ ( :‬ك ْن )وأخفى االقتدار بقوله‪:‬‬

‫ص ‪403‬‬

‫ص ‪411 :‬‬
‫( ُك ْن) وجعله سترا على االقتدار ‪ ،‬فكان الممكن عن االقتدار اإللهي من حيث ال يعلم الممكن ‪،‬‬
‫وسارع الممكن إلى التكوين فكان ‪ ،‬فظهر منه عند نفسه السمع والطاعة لمن قال له كن ‪،‬‬
‫عز وجل اقتداره وجاء بالقول بصيغة األمر ليتصف الممكن بالسمع والطاعة ‪ ،‬فال‬ ‫وأخفى ه‬
‫تزال عين الحق تنظر إليه بالرحمة وتراعي منه هذا األصل ‪ ،‬مع أن القول ال حكم له في‬
‫المعدوم ‪ ،‬وال سيما فيمن ليس له اقتدار باألصالة ‪ ،‬فأشبه صورة التكليف والفعل هّلل ‪.‬‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪285‬‬


‫س ِل ِه ال نُفَ ِ هر ُ‬
‫ق‬ ‫اَّلل َو َملئِ َكتِ ِه َو ُكت ُ ِب ِه َو ُر ُ‬
‫ون ُك ٌّل آ َم َن ِب ه ِ‬‫سو ُل ِبما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ِه ِم ْن َر ِبه ِه َوا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫آ َم َن ه‬
‫الر ُ‬
‫ير ( ‪.) 285‬‬ ‫غ ْفرانَكَ َربهنا َو ِإلَ ْيكَ ا ْل َم ِص ُ‬ ‫س ِم ْعنا َوأ َ َط ْعنا ُ‬ ‫س ِل ِه َوقالُوا َ‬ ‫بَ ْي َن أ َ َح ٍد ِم ْن ُر ُ‬
‫سو ُل ِبما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ِه ِم ْن َر ِبه ِه »منزلة األنبياء فيما يأخذونه من الغيب بطريق اإليمان‬ ‫الر ُ‬
‫« آ َمنَ َّ‬
‫منزلة المؤمنين مع ما يأخذونه من األنبياء ‪ ،‬فاألنبياء مؤمنون بما يلقي إليهم الروح ‪ ،‬فال‬
‫يأخذون التشريع إال من الروح الذي ينزل به على قلوبهم ‪ ،‬وهو تنزيل خبري ال علمي ‪ ،‬فال‬
‫يتلقونه إال بصفة اإليمان ‪ ،‬وال يكشفونه إال بنوره ‪ ،‬فهم صدهيقون لألرواح التي تنزل عليهم‬
‫س ِل ِه »ونحن أمرنا باإليمان بمحمد صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫بذلك « َو ْال ُمؤْ ِمنُونَ ُك ٌّل آ َمنَ ِب َّ ِ‬
‫اّلل َو َمالئِ َكتِ ِه َو ُكت ُ ِب ِه َو ُر ُ‬
‫عليه وسلم وبجميع الرسل والكتب ‪ ،‬وأخبر الحق عنا بذلك ‪ ،‬وخبره صدق ‪ ،‬فاستحال في أمة‬
‫ّللا عليه وسلم أن يؤمن المؤمن منهم ببعض ويكفر ببعض ‪ ،‬فهذه عناية إلهية حيث‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم لليهود ‪ :‬نحن أولى‬ ‫أخبر بعصمتنا من ذلك ‪ ،‬فهي بشرى لنا ‪ ،‬وقال صلهى ه‬
‫بموسى منكم ‪ ،‬فكنى بنحن عن نفسه وأمته ‪ ،‬فكنا أولى بموسى عليه السالم من اليهود ‪ ،‬ألنهم‬
‫لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ‪ ،‬ونحن آمنا به وبما أنزل عليه ‪ ،‬وال يلزم اإليمان بالشيء‬
‫العمل به إال حتى يكون فيما أنزل العمل بما أنزل أو ببعض ما أنزل ‪ ،‬فالتصديق يع هم ‪ ،‬فنحن‬
‫آمنا بما أنزل من قبلنا من حيث ما أنزل على نبينا ال من حيث ما نقل إلينا« ال نُفَ ِ هر ُق بَيْنَ أ َ َح ٍد‬
‫ّللا فضل بعضهم على بعض رسال وأنبياء ‪ ،‬ثم نهانا أن نفضل بين‬ ‫س ِل ِه »مع علمنا بأن ه‬ ‫ِم ْن ُر ُ‬
‫األنبياء قياسا ونظرا ‪ ،‬فإن العبد‬

‫ص ‪404‬‬

‫ص ‪412 :‬‬
‫باّلل وبما جاء من عنده وبالرسول وبالرسل ‪ ،‬فإن‬ ‫ّللا بشيء ‪ ،‬فيطلب منا اإليمان ه‬
‫ال يحكم على ه‬
‫س ِل ِه »فال يستخدم العقل‬‫ّللا أوجب اإليمان علينا بنفسه ‪ ،‬ومن نفسه أسماؤه « َو َمالئِ َكتِ ِه َو ُكت ُ ِب ِه َو ُر ُ‬
‫ه‬
‫في اإللهيات إذا ورد النص المتواتر من الشرع الذي ال يدخله احتمال وال إشكال فيه ‪ ،‬فإن‬
‫ط ْعنا‪ » :‬على السمع عولنا فكنا‬ ‫س ِم ْعنا َوأ َ َ‬ ‫اإليمان بالنص يعطي العلم الحق والكشف« َوقالُوا َ‬
‫أولي النهى * وال علم فيما ال يكون عن السمعإذا كان معصوما وقال فقوله * هو الحق ال يأتيه‬
‫مين على القطعفعقل وشرع صاحبان تألفا *فبورك من عقل وبورك من شرعفالعاقل يقول‬
‫ير » ‪.‬‬ ‫غ ْفران ََك َربَّنا َو ِإلَي َْك ْال َم ِ‬
‫ص ُ‬ ‫ّللا وهذه حالة معجلة وراحة« ُ‬ ‫بالسمع والطاعة ألمر ه‬

‫سورة البقرة ( ‪ : ) 2‬آية ‪286‬‬


‫سينا أ َ ْو‬‫ؤاخ ْذنا ِإ ْن نَ ِ‬
‫سبَتْ َربهنا ال ت ُ ِ‬ ‫علَ ْيها َما ا ْكت َ َ‬
‫سبَتْ َو َ‬ ‫سعَها لَها ما َك َ‬ ‫ّللاُ نَ ْفسا ً ِإاله ُو ْ‬
‫ف ه‬ ‫ال يُ َك ِله ُ‬
‫ِين ِم ْن قَ ْب ِلنا َربهنا َوال ت ُ َح ِ هم ْلنا ما ال طاقَةَ‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫علَ ْينا إِصْرا ً كَما َح َم ْلتَهُ َ‬‫أ َ ْخ َطأْنا َربهنا َوال تَحْ ِم ْل َ‬
‫ين ) ‪( 286‬‬ ‫علَى ا ْلقَ ْو ِم ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ص ْرنا َ‬ ‫ار َح ْمنا أ َ ْنتَ َم ْوالنا فَا ْن ُ‬
‫عنها َوا ْغ ِف ْر لَنا َو ْ‬
‫ْف َ‬ ‫لَنا بِ ِه َواع ُ‬
‫ّللاُ نَ ْفسا ا ِإ َّال ُو ْسعَها »وهو ما آتاها‬ ‫ف َّ‬ ‫أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات« ال يُ َك ِله ُ‬
‫من التمكن الذي هو وسعها ‪ ،‬فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض األعمال ‪ ،‬نجد ذلك من‬
‫نفوسنا وال ننكره ‪ ،‬وهي الحركة االختيارية ‪ ،‬كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض األفعال‬
‫الظاهرة فينا ‪ ،‬ونجد ذلك من نفوسنا ‪ ،‬كحركة المرتعش الذي ال اختيار للمرتعش فيها ‪ ،‬وبذلك‬
‫القدر من التمكن الذي يجده اإلنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ‪ ،‬وال يحقق اإلنسان بعقله لما‬
‫ذا يرجع ذلك التمكن ‪ ،‬هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ‪ ،‬وال‬
‫يمكن رفع الخالف في هذه المسألة ‪ ،‬فإنها من المسائل المعقولة وال يعرف الحق فيها إال‬
‫ّللا لم يقم عليها حجة ‪،‬‬ ‫بالكشف ‪ ،‬وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة ه‬

‫ص ‪405‬‬

‫ص ‪413 :‬‬
‫ّللا أج هل أن يكلف نفسا إال وسعها ‪ ،‬ولذلك كان االجتهاد في الفروع واألصول« لَها ما‬ ‫فإن ه‬
‫ت »لما كانت النفوس والة الحق على الجوارح ‪ ،‬والجوارح مأمورة‬ ‫علَيْها َما ا ْكت َ َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫ت َو َ‬‫سبَ ْ‬
‫َك َ‬
‫مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ‪ ،‬مطيعة بكل وجه ‪ ،‬والنفوس ليست كذلك ‪ ،‬فإذا عملت‬
‫لغير عبادة ال يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ‪ ،‬لكن من حيث أن‬
‫العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ‪ ،‬فإنها تجزى به تلك الجارحة ‪ ،‬فيقبل‬
‫العمل لمن ظهر منه وال يعود منه على النفس اآلمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا‬
‫بالصورة كصالة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم‬
‫تقصد به النفس عبادة ‪ ،‬وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ‪ ،‬والجوارح‬
‫ال تجزى بها ألنها ليس في قوتها االمتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ‪ ،‬فإنها مجبورة‬
‫على السمع والطاعة لها ‪ ،‬فإن جارت النفوس فعليها ‪ ،‬وللجوارح رفع الحرج ‪ ،‬بل لهم الخير‬
‫ت‬ ‫علَيْها َما ا ْكت َ َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫ت َو َ‬ ‫سبَ ْ‬ ‫األتم ‪ ،‬وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪ «:‬لَها ما َك َ‬
‫ّللا حيث جعل المخالفة‬ ‫ّللا بين الكسب واالكتساب بالالم وعلى ‪ ،‬وهذه اآلية بشرى من ه‬ ‫»فميز ه‬
‫ت »فأوجبه لها ‪.‬‬ ‫سبَ ْ‬‫اكتسابا والطاعة كسبا ‪ ،‬فقال ‪ «:‬لَها ما َك َ‬
‫ت »فما أوجب لها األخذ بما اكتسبته ‪،‬‬ ‫علَيْها َما ا ْكت َ َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫وقال في المعصية والمخالفة ‪َ «:‬و َ‬
‫فاالكتساب ما هو حق لها فتستحقه ‪ ،‬فتستحق الكسب وال تستحق االكتساب ‪ ،‬والحق ال يعامل‬
‫طأْنا‬
‫ؤاخ ْذنا ِإ ْن نَ ِسينا أ َ ْو أ َ ْخ َ‬
‫ّللا يحكم على األخذ بالجريمة« َربَّنا ال ت ُ ِ‬ ‫إال باالستحقاق ‪ ،‬والعفو من ه‬
‫ّللا في النسيان الموجود في العالم ‪ ،‬وأنه لو لم يكن لعظم األمر وشق‬ ‫»اعلم أن الرحمة أبطنها ه‬
‫ّللا في موطن التكليف‬ ‫‪ ،‬وفيما يقع فيه التذكر كفاية ‪ ،‬وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين ه‬
‫ّللا فال بد من وقوعها من العبد ضرورة ‪ ،‬فلو‬ ‫‪ ،‬إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم ه‬
‫ّللا حيث يشهده ويراه ‪ ،‬والقدر حاكم‬ ‫وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ّللا إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ‪ ،‬حتى إذا أمضى فيهم قضاءه‬ ‫إن ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ‪ ،‬فال‬ ‫وقدره ردها عليهم ليعتبروا ‪ ،‬وقال صلهى ه‬
‫ّللا به في الدنيا وال في اآلخرة ‪ ،‬فأما في اآلخرة فمجمع عليه من الكل ‪ ،‬وأما في‬ ‫يؤاخذهم ه‬
‫الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ‪ ،‬واختلفوا في الحكم ‪ ،‬وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع‬
‫الشارع في‬

‫ص ‪406‬‬

‫ص ‪414 :‬‬
‫ّللا تعالى الذي‬ ‫أشخاص المسائل ‪ ،‬مثل اإلفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ‪ ،‬فإن ه‬
‫شرع المعصية والطاعة وبيهن حكمهما ‪ ،‬رفع حكم األخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ«‬
‫علَى الَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِلنا ‪َ ،‬ربَّنا َوال ت ُ َح ِ هم ْلنا ما ال طاقَةَ لَنا ِب ِه‬
‫صرا ا َكما َح َم ْلتَهُ َ‬
‫علَيْنا ِإ ْ‬
‫َربَّنا َوال ت َ ْح ِم ْل َ‬
‫»وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن ال يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ‪«،‬‬
‫عنَّا »أي كثر خيرك لنا وقلل بالءك عنا ‪ ،‬أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن‬ ‫ْف َ‬‫َواع ُ‬
‫يكثر ‪ ،‬فإن العفو من األضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ‪ ،‬وليس إال عفوك عن خطايانا التي‬
‫طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى ال تصيبنا ‪ ،‬وهو قولنا ‪َ «:‬وا ْغ ِف ْر لَنا »أي استرنا من المخالفات‬
‫ار َح ْمنا »برحمة االمتنان ورحمة الوجوب ‪ ،‬أي برحمة‬ ‫حتى ال تعرف مكاننا فتقصدنا« َو ْ‬
‫االختصاص‪.‬‬

‫ص ‪407‬‬

‫ص ‪415 :‬‬
‫‪ - 03‬سورة آل عمران مدنيهة‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫ألم ) ‪( 1‬‬
‫مبادي السور المجهولة‬
‫إشارة ‪ « -‬اعلم أن مبادي السور المجهولة ‪ ،‬ألهل الصور المعقولة » ‪ ،‬يعني معاني سور‬
‫القرآن تجتمع مع الصور المعقولة التي يأخذها العقل من طريق التعريف اإللهي ‪ ،‬ال من‬
‫طريق فكره ‪ ،‬فهي تجهلها األفكار مثل ما جهلت ما أراد الحق بمبادي هذه السور ‪ ،‬والصور‬
‫المجهولة كالنبوة والوالية ‪ ،‬وكرؤية الحق ‪ ،‬وكل ما ال يستقل العقل بإدراكه ‪ ،‬حتى يقع به[‬
‫توحيد حروف النفس ]‬
‫ّللا يُؤْ تِي ِه َم ْن يَشا ُء ) *جملتها تسعة وعشرون سورة » وهي‬ ‫ض ُل َّ ِ‬ ‫التعريف اإللهي ‪ ( «،‬ذ ِل َك فَ ْ‬
‫ثمانية وعشرون مرتبة كمرتبة الحروف ‪ ،‬والالم ألف هي عبارة عن الحق والعبد ‪ ،‬وهي‬
‫بمنزلة القمر الدائر في المنازل ‪ ،‬فاأللف للحق من حيث التجلي ‪ ،‬فمشيه في المنازل هي‬
‫ناز َل »ونصيب العبد منها قبول‬ ‫تجلياته ومظاهره ‪ ،‬وذلك كمال الصورة ‪َ «،‬و ْالقَ َم َر قَد َّْرناهُ َم ِ‬
‫ذلك التجلي ‪ ،‬والالم للعبد « أكملت فيها » أي الحروف « العالم بأسره » « وفرقت بيني‬
‫وبينهم بما لوحت به من نهيه وأمره » أي إني وإن كنت الفاعل على اإلطالق ‪ ،‬والفعل لي ‪،‬‬
‫فأنت محل تعلق األمر والنهي ‪ ،‬والوعد والوعيد «فَ ِم ْنها »أي الحروف « مفرد » مثل ص ‪،‬‬
‫ق ‪ « ،‬ومثنى » ومنها ما جمع لمعنى ‪ ،‬ولئن شكرتم ألزيدنكم ‪ ،‬منها ما زيد فيه فاستغنى ‪،‬‬
‫صها ِم ْن أ َ ْ‬
‫طرافِها )منها متماثلة‬ ‫ض نَ ْنقُ ُ‬‫ومنها من نقص منه فتعنهى (أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا أَنَّا نَأْتِي ْاأل َ ْر َ‬
‫ّللا لجعل الناس أمة واحدة ) غايتها‬ ‫الصور ومختلفة ‪ ،‬كما منها مفرقة ومؤتلفة ( ولو شاء ه‬
‫خمسة حروف ‪ ،‬وبقي اثنان للواصف والموصوف ‪ ،‬من مقام آدم وحوى ‪ ،‬في جنة اإلقامة ‪،‬‬
‫ومأوى اإلمامة ( وكال منها حيث شئتما ) مبلغها ثمانية وسبعون ‪ ،‬فمن كوشف بحقائقها ملك‬
‫األعلى والدون » قوله منها ومنها يعني أن هذه السور المجهولة جاءت مطابقة لصور اإلنسان‬
‫على المطابقة ‪ ،‬فهذه الحروف أربعة عشر حرفا غير مكررة ‪ ،‬وهي نصف الفلك الظاهر ‪،‬‬
‫واألربعة عشر األخرى الغائبة للنصف الباطن ‪ ،‬والحروف إذا نظرتها مكررة كانت ثمانية‬

‫ص ‪408‬‬

‫ص ‪416 :‬‬
‫وسبعين ‪ ،‬وهي في معنى مراتب اإليمان ‪ ،‬كما جاء في الخبر [ اإليمان بضع وسبعون شعبة ]‬
‫ّللا‬
‫قوله « فمن كوشف بحقائقها ملك العالي والدون » هذا باب الكشف والذوق ‪ ،‬إذا أراد ه‬
‫تعالى التعريف به أقامه في الكشف ‪ ،‬أو وهب العلم الضروري للمحل بطريق المعاني المجردة‬
‫فتعرض لنيل ذلك من الوهاب الفتاح سبحانه وتعالى واستعمل المجاهدة ‪ ،‬وتح هل بالموافقة‬‫ه‬ ‫‪،‬‬
‫والمساعدة ‪ ،‬عساك تلتذ بالمشاهدة ‪.‬‬
‫واعلم أنه لما كان األلف يسري في مخارج الحروف كلها ‪ ،‬سريان الواحد في مراتب األعداد‬
‫كلها ‪ ،‬فهو قيوم الحروف ‪ ،‬وله التنزيه بالقبلية ‪ ،‬وله االتصال بالبعدية ‪ ،‬فكل شيء يتعلق به ‪،‬‬
‫وال يتعلق هو بشيء ‪ ،‬فأشبه الواحد ‪ ،‬ألن وجود أعيان األعداد يتعلق به ‪ ،‬وال يتعلق الواحد بها‬
‫‪ ،‬فيظهرها وال تظهره ‪ ،‬وتشبهه في هذا الحكم الدال والذال والراء والزاي والواو ‪ ،‬ويشبه في‬
‫حكم السريان الواو المضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها ‪ ،‬وكما أن الواحد ال يتقيد بمرتبة‬
‫دون غيرها ‪ ،‬ويخفى عينه ‪ ،‬أعني اسمه ‪ ،‬في جميع المراتب كلها ‪ ،‬كذلك األلف ال يتقيد‬
‫بمرتبة ويخفى اسمه في جميع المراتب ‪ ،‬االسم هناك للباء والجيم والحاء وجميع الحروف ‪،‬‬
‫والمعنى لأللف ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪2‬‬


‫ي ا ْلقَيُّو ُم ) ‪( 2‬‬
‫ّللاُ ال إِلهَ إِاله ُه َو ا ْل َح ُّ‬
‫ه‬
‫هذا توحيد حروف النفس ‪ ،‬وهو األلف والالم والميم وهو التوحيد الثالث في القرآن من نفس‬
‫ّللا مبتدأ ‪ ،‬وله من أسماء األفعال‬
‫الرحمن ‪ ،‬وهذا التوحيد أيضا توحيد االبتداء ‪ ،‬فإن االسم ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا المسمى بالحي القيوم ‪ ،‬فبيهن أنه منزل الكتاب بالحق من ه‬ ‫منزل الكتاب بالحق من ه‬
‫المسمى بالحي القيوم ‪ ،‬وهي أربعة كتب يصدق بعضها بعضا ‪ ،‬والكتب اإللهية وثائق الحق‬
‫على عباده ‪ ،‬فهي كتب مواثيقه ‪ ،‬وتحقيق بما له عليهم ‪ ،‬وما لهم عليه مما أوجبه على نفسه لهم‬
‫ي »الحياة شرط في جميع وجود النسب المنسوبة‬ ‫فضال منه ومنهة ‪ ،‬فدخل معهم في العهدة« ْال َح ُّ‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذه النسبة أوجبت له سبحانه أن يكون اسمه الحي ‪ ،‬فجميع األسماء اإللهية موقوفة‬ ‫إلى ه‬
‫ّللا هو المهيمن على جميع األسماء التي من‬‫ّللا ‪ ،‬فاالسم ه‬ ‫عليه ومشروطة به ‪ ،‬حتى االسم ه‬
‫جملتها االسم الحي ‪ ،‬ونسبة االسم الحي لها المهيمنية على جميع النسب‬

‫ص ‪409‬‬

‫ص ‪417 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فكل اسم هو للحي إذا حققت األمر ‪،‬‬ ‫ّللا ه‬
‫األسمائية ‪ ،‬حتى نسبة األلوهة التي بها تسمى ه‬
‫فيسري سره في جميع العالم ‪ ،‬فخرج على صورته فيما نسب إليه من التسبيح بحمده ‪ ،‬فما في‬
‫العالم إال حي ‪ ،‬ولما لم يتمكن أن يتقدم االسم الحي اإللهي اسم من األسماء اإللهية ‪ ،‬كانت له‬
‫رتبة السبق ‪ ،‬فهو المنعوت على الحقيقة باألول ‪ْ «.‬القَيُّو ُم »الحق قيوم بعباده فيما يحتاجون إليه‬
‫‪ ،‬وهو تعالى الحي لنفسه ‪ ،‬لتحقيق ما نسب إليه مما ال يتصف به إال من شرطه أن يكون حيا ‪،‬‬
‫القيوم لقيامه على كل نفس بما كسبت ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪3‬‬


‫ص هدِقا ً ِلما بَ ْي َن يَ َد ْي ِه َوأ َ ْن َز َل الت ه ْوراةَ َو ْ ِ‬
‫اإل ْن ِجي َل ) ‪( 3‬‬ ‫تاب ِبا ْل َح ه ِ‬
‫ق ُم َ‬ ‫علَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬
‫نَ هز َل َ‬
‫لما ضم الحق تعالى حروف القرآن وسوره ومعانيه بهذا النظم المعجز سماه كتابا ‪ ،‬فهو نظم‬
‫حروف رقمية النتظام كلمات النتظام آيات النتظام سور ‪ ،‬كل ذلك عن يمين كاتبة ‪ ،‬كما كان‬
‫القول عن نفس رحماني ‪ ،‬فصار األمر على مقدار واحد وإن اختلفت األحوال ‪ ،‬ألن حال‬
‫التلفظ ليس حال الكتابة ‪ ،‬وصفة اليد ليست صفة النفس ‪ ،‬فكونه كتابا كصورة الظاهر والشهادة‬
‫‪ ،‬وكونه كالما كصورة الباطن والغيب ‪ ،‬فالقرآن في الصدور قرآن ‪ ،‬وفي اللسان كالم ‪ ،‬وفي‬
‫المصاحف كتاب [‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪4‬‬


‫يز ذُو‬
‫ّللاُ ع َِز ٌ‬
‫شدِي ٌد َو ه‬ ‫ّللا لَ ُه ْم ع ٌ‬
‫َذاب َ‬ ‫ت هِ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِبآيا ِ‬ ‫اس َوأ َ ْن َز َل ا ْلفُ ْر َ‬
‫قان ِإ هن الهذ َ‬ ‫ِم ْن قَ ْب ُل ُه ً‬
‫دى ِللنه ِ‬
‫قام ) ‪( 4‬‬ ‫ا ْنتِ ٍ‬
‫يز »عن مثل هذا«‬ ‫ع ِز ٌ‬
‫ّللاُ َ‬
‫لما كان االنتقام من رحمة المنتقم بنفسه من الخلق ‪ ،‬قال تعالى ‪َ «:‬و َّ‬
‫ذُو ا ْن ِت ٍ‬
‫قام » ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪5‬‬


‫ماء ) ‪( 5‬‬
‫س ِ‬ ‫ض َوال فِي ال ه‬ ‫ش ْي ٌء فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ّللا ال يَ ْخفى َ‬
‫علَ ْي ِه َ‬ ‫ِإ هن ه َ‬
‫ض »وهو كل معلوم وكل ما في الطبيعة‬ ‫وكيف يخفى عليه وهو عنده علم المقادير« فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ماء »وهو المعلوم وكل ما‬
‫س ِ‬‫من األسرار ‪ ،‬فإن صورها أرض األرواح« َوال ِفي ال َّ‬

‫ص ‪410‬‬

‫ص ‪418 :‬‬
‫في األرواح التي بين الطبيعة والعماء[ كل إنسان أعلم بحاله ]‬
‫‪-‬نصيحة ‪ -‬كل إنسان أعلم بحاله ‪ ،‬وال ينفعك أن تنزل نفسك عند الناس منزلة ليست لك في‬
‫ّللا ال يخفى عليه شيء في األرض وال في السماء‬ ‫نفس األمر ‪ ،‬فإن ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪6‬‬


‫يز ا ْل َح ِكي ُم ( ‪) 6‬‬
‫ف يَشا ُء ال إِلهَ إِاله ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫ص ه ِو ُر ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫حام َك ْي َ‬ ‫ُه َو الهذِي يُ َ‬

‫حام »لكونها‬ ‫حام » ]« ُه َو الَّذِي يُ َ‬


‫ص ه ِو ُر ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫[ تفسير « ُه َو الَّذِي يُ َ‬
‫ص ه ِو ُر ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫مظلمة ‪ ،‬تمدح بإدراك األشياء فيها ‪ ،‬ويصورنا في األرحام من غير مباشرة ‪ ،‬وأضاف‬
‫ْف يَشا ُء »أي كيف أراد من أنواع الصور والتصوير« ال ِإلهَ ِإ َّال‬ ‫التصوير إليه ال إلى غيره« َكي َ‬
‫يز »أي المنيع الذي نسب لنفسه الصورة ‪ ،‬ال عن تصوير وال تصور ‪ ،‬فهو المصور‬ ‫ُه َو ْالعَ ِز ُ‬
‫ال الملك ‪ ،‬مع العزة التي تليق بجالله« ْال َح ِكي ُم »المرتب األشياء التي أنزلت منازلها بما تعطيه‬
‫االستعدادات المسواة لقبول الصور ‪ ،‬فيعين لها من الصور ما شاء مما قد علم أنها مناسبة له ‪،‬‬
‫وهذا هو التوحيد الرابع ‪ ،‬توحيد المشيئة ‪ ،‬ووصف الهوية بالعزة ‪ ،‬وهو قوله( َولَ ْم يُولَ ْد )فهو‬
‫عزيز الحمى ‪ ،‬إذ كان هو الذي صورنا في األرحام من غير مباشرة ‪ ،‬إذ لو باشر لضمه‬
‫الرحم كما يضم القابل للصورة ‪ ،‬ولو لم يكن هو المصور لما صدقت هذه النسبة ‪ ،‬وهو‬
‫ْف يَشا ُء »أي كيف‬ ‫الصادق ‪ ،‬فإنه ما أضاف التصوير إلى غيره ‪ ،‬فقال[ توحيد المشيئة ]« َكي َ‬
‫أراد ‪ ،‬فظهر في هذه الكيفية أن مشيئته تقبل الكيفية ‪ ،‬مع نعته بالعزة ثم بالحكمة ‪ ،‬والحكيم هو‬
‫المرتب األشياء أي أنزلت منازلها ‪ ،‬فالتصوير يستدعيه إذ كان هو المصور مع العزة التي‬
‫تليق بجالله ‪ ،‬فحيهر العقول السليمة التي تعرف جالله ‪ -‬تفسير من باب اإلشارة ‪ُ «-‬ه َو الَّذِي‬
‫ّللا أولي األلباب من عباده وأهل االعتبار‬ ‫ْف يَشا ُء »ما أحسن تنبيه ه‬ ‫حام َكي َ‬ ‫ص ه ِو ُر ُك ْم ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫يُ َ‬
‫بهذه اآلية ‪ ،‬فمن األرحام ما يكون خياال ‪ ،‬فيصور فيه المتخيالت كيف يشاء ‪ ،‬عن نكاح‬
‫ّللا في ذلك الرحم المعاني في أي صورة ما شاء ركبها ‪ ،‬فيريك‬ ‫معنوي وحمل معنوي ‪ ،‬يفتح ه‬
‫اإلسالم فيه والقرآن سمنا وعسال ‪ ،‬والقيد ثباتا في الدين ‪ ،‬والدين قميصا سابغا وقصيرا درعا‬
‫ومجوال ونقيا ودنسا على حسب ما يكون الرائي ‪ ،‬أو من يرى له عليه من الدين ‪ ،‬فالخيال من‬
‫جملة األرحام التي تظهر فيها الصور‪.‬‬

‫ص ‪411‬‬

‫ص ‪419 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪7‬‬
‫ِين فِي‬ ‫ب َوأ ُ َخ ُر ُمتَشا ِبهاتٌ فَأ َ هما الهذ َ‬ ‫تاب ِم ْنهُ آياتٌ ُمحْ كَماتٌ ُه هن أ ُ ُّم ا ْل ِكتا ِ‬ ‫علَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬ ‫ُه َو الهذِي أ َ ْن َز َل َ‬
‫ون ما تَشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغا َء ا ْل ِفتْنَ ِة َوا ْبتِغا َء تَأ ْ ِوي ِل ِه َوما يَ ْعلَ ُم تَأ ْ ِويلَهُ ِإاله ه‬
‫ّللاُ‬ ‫قُلُو ِب ِه ْم َز ْي ٌغ فَيَت ه ِبعُ َ‬
‫ب)‪(7‬‬ ‫ون آ َمنها ِب ِه ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َر ِبهنا َوما يَذهك ُهر ِإاله أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬ ‫ون ِفي ا ْل ِع ْل ِم يَقُولُ َ‬ ‫س ُخ َ‬ ‫الرا ِ‬ ‫َو ه‬
‫أم الكتاب هي اآليات المحكمات ‪ ،‬واآليات المحكمات هي اآليات الدالة على وحدانيته تعالى ‪،‬‬
‫ت )اآلية ‪ ،‬ثم فسر إحكامها بالتوحيد‬ ‫صلَ ْ‬ ‫ت آياتُهُ ث ُ َّم فُ ِ ه‬ ‫تاب أ ُ ْح ِك َم ْ‬
‫بدليل قوله تعالى في أول هود( ِك ٌ‬
‫ّللا )وفسر تفصيلها باالستغفار والتوبة في قوله ( َوأ َ ِن ا ْست َ ْغ ِف ُروا َربَّ ُك ْم ث ُ َّم‬ ‫في قوله( أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا ِإ َّال َّ َ‬
‫تُوبُوا ِإلَ ْي ِه )ونبه تعالى أن آياته المحكمة ترجع أعدادها إلى آية واحدة محكمة وهي( ال ِإلهَ ِإ َّال‬
‫ّللاُ )فما من علم من العلوم في الغيب وال في الشهادة إال وهو منتظم في سلك( ال ِإلهَ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ‬ ‫َّ‬
‫ّللا عليه وسلم إجماال وتفصيال‬ ‫)مستثمر من ثمار أسرارها ‪ ،‬ولهذا اكتفى بعلمها النبي صلهى ه‬
‫ّللاُ َوا ْست َ ْغ ِف ْر ِلذَ ْنبِ َك )واآليات المتشابهات إنما أنزلت من ه‬
‫ّللا‬ ‫في قوله تعالى (فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلهَ إِ َّال َّ‬
‫ابتالء لعباده ‪ ،‬وبالغ سبحانه في نصيحة عباده في ذلك ‪ ،‬ونهاهم أن يتبعوا المتشابه بالمحكم ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬والراسخون في العلم إن علموه بإعالم‬ ‫أي ال يحكموا عليه بشيء ‪ ،‬فإن تأويله ال يعلمه إال ه‬
‫ّللا ال بفكرهم واجتهادهم ‪ ،‬فإن األمر أعظم أن تستقل العقول بإدراكه من غير إخبار إلهي ‪،‬‬ ‫ه‬
‫فالمتشابه إن علمت أنه متشابه ولم تتع هد به حدهه ‪ ،‬وال أخرجته بميلك إليه ونظرك فيه عن‬
‫المتشابه فال حرج عليك ‪ ،‬وإنما الخوف والحذر أن تلحقه بأحد الطرفين ‪ ،‬وما ذلك حقيقته ‪،‬‬
‫وإنما حقيقته أن يكون له وجهان ؛ وجه إلى كل طرف ‪ ،‬وجه إلى الحل ووجه إلى الحرمة ‪،‬‬
‫ويتعذر الفصل بين الوجهين وتخليصه إلى أحد الطرفين ‪ ،‬فإذا اتبعته اتباع من ال يزيله عن‬
‫حقيقته فما ثم زيغ ‪ ،‬فالمحكم في المتشابه التشابه ‪ ،‬فمن تأوله فقد أزاله عن االشتراك ‪ ،‬وهو‬
‫مشترك ‪ ،‬فقد زاغ من تأوله عن طريق الحق ‪ ،‬ولذلك نهينا عن الخوض في اآليات المتشابهات‬
‫‪ ،‬ونسبنا إلى الزيغ في اتباعها ‪ ،‬فإن الزيغ ميل إلى أحد الشبهين ‪ ،‬وإذا أولت إلى أحد الشبهين‬
‫فقد صيرتها محكمة وهي متشابهات ‪ ،‬فعدلت بها عن حقيقتها ‪ ،‬وكل من عدل بشيء عن‬
‫حقيقته فما أعطاه حقه ‪ ،‬فالكيهس من يقف عندها وال يحكم فيها بشيء ‪ ،‬فإن لها شبها بالطرفين‬
‫‪ ،‬ومن ذلك الشبهات ‪ ،‬وهو كل‬

‫ص ‪412‬‬

‫ص ‪420 :‬‬
‫معلوم يظهر فيه وجه للحق ووجه لغير الحق ‪ ،‬فمثال يكون من األرزاق ما هو حالل بيهن‬
‫وحرام بيهن ‪ ،‬وبينهما مشتبهات ال يعلمها كثير من الناس ‪ ،‬فمن الحت له وقف عندها حتى‬
‫يتبين له أمرها ‪ ،‬فإما أن يلحقها بالحالل وإما أن يلحقها بالحرام ‪ ،‬فال يقدم عليها ما دامت في‬
‫حقه شبهة ‪ ،‬فإنها في نفس األمر مخلصة ألحد الجانبين ‪ ،‬وإنما اشتبه على المكلف لتعارض‬
‫األدلة الشرعية عنده في ذلك «‪.‬فَأ َ َّما الَّذِينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم زَ ْي ٌغ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغا َء ْال ِفتْنَ ِة‬
‫ّللاُ »مآل الشيء ال يصح أن يكون واقعا فيرى إال إن مثهل‬ ‫َوا ْبتِغا َء تَأ ْ ِوي ِل ِه ‪َ ،‬وما يَ ْعلَ ُم تَأ ْ ِويلَهُ إِ َّال َّ‬
‫للرائي ‪ ،‬فهو كأنه يراه ‪ ،‬فإن المآل يقابل الحال ‪ ،‬فالحال موجود والمآل ليس بموجود ‪ ،‬ولهذا‬
‫سمي مآال ‪ ،‬والتأويل هو ما يؤول إليه حكم هذا المتشابه ‪ ،‬فهو محكم غير متشابه عند من يعلم‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو من العلوم المستورة‬ ‫ّللا ‪ ،‬فما تشابه من القرآن ال يعلم تأويله إال ه‬ ‫تأويله ‪ ،‬وليس إال ه‬
‫مضمن في صور كلمات ‪ ،‬وهو مستور أن يتعلق به معرفة عارف على القطع إال بإخبار إلهي‬
‫‪ ،‬لهذا ترك التأويل من تركه من العلماء ولم يقل به ‪ ،‬واعتمد على الظاهر ‪ ،‬وترك ذلك هّلل ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬أي ما‬ ‫ّللا ال بنظره ‪ ،‬فما يعلم تأويله إال ه‬ ‫ّللا بما أراده في قوله علمه بإعالم ه‬ ‫فمن أعلمه ه‬
‫الرا ِس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم »يعني في العلم‬ ‫يؤول إليه هذا اللفظ المنزل المرقوم ‪ ،‬وما أودع فيه« َو َّ‬
‫باّلل ‪ ،‬فهم الراسخون في العلم بشهادة توحيده ‪ ،‬يعلمهم الحق بذلك التأويل من غير فكر فيه ‪ ،‬إذ‬ ‫ه‬
‫كان الفكر في نفسه غير معصوم من الغلط في حق كل أحد ‪ ،‬وذلك التعليم من طريق الوهب ال‬
‫الكسب ‪ ،‬فالعالم هو الراسخ الثابت الذي ال تزيله الشبه وال تزلزله الشكوك ‪ ،‬لتحققه بما شاهد‬
‫من الحقائق بالعلم ‪ ،‬فالراسخ في العلم يقول« آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َر ِبهنا »يعني متشابهه ومحكمه‬
‫ّللا مآله فهو عنده محكم ‪ ،‬وزال عنه في حق هذا العالم التشابه ‪ ،‬فهو عنده كما هو‬ ‫‪ ،‬فإذا أشهده ه‬
‫ّللا من ذلك الوجه ‪ ،‬وهو عنده أيضا متشابه لصالحيته إلى الطرفين من غير تخليص ‪،‬‬ ‫عند ه‬
‫كما هو في نفس األمر بحكم الوضع المصطلح عليه ‪ ،‬فهو وإن عرف تأويله فلم يزل عن‬
‫ّللا بما يؤول إليه ‪ ،‬علمه بالوجه الواحد ال‬ ‫حكمه متشابها ‪ ،‬فغاية علم العالم الذي أعلمه ه‬
‫بالوجهين ‪ ،‬فهو على الحقيقة ما زال عن كونه متشابها ‪ ،‬ألن الوجه اآلخر يطلبه بما دل عليه‬
‫ّللا على الحقيقة به أن يعلم‬ ‫ّللا به هذا الشخص ‪ ،‬فعلم ه‬ ‫ويتضمنه ‪ ،‬كما طلبه الوجه الذي أعلم ه‬
‫تأويله ‪ ،‬أي ما يؤول إليه من الجانبين في حق كل واحد ‪ ،‬أو الجوانب إن كانوا كثيرين ‪،‬‬
‫فيعلمه متشابها ‪ ،‬ألنه كذا هو ؛ إذ كل جانب‬

‫ص ‪413‬‬

‫ص ‪421 :‬‬
‫يطلبه بنصيبه وداللته منه ‪ .‬فالمحكم محكم ال يزول ‪ ،‬والمتشابه متشابه ال يزول ‪ ،‬وإنما قلنا‬
‫ذلك لئال يتخيل أن علم العالم بما يؤول إليه ذلك اللفظ في حق كل من له فيه حكم ‪ ،‬أنه يخرجه‬
‫عن كونه متشابها ليس األمر كذلك ‪ ،‬بل هو متشابه على أصله مع العلم بما يؤول إليه في حق‬
‫كل من له نصيب فيه ‪ ،‬واعلم أن الورع هو اجتناب المحرمات ‪ ،‬وكل ما فيه شبهة من جانب‬
‫المحرم فيجتنب لذلك الشبه ‪ ،‬وهو المعبر عنه بالشبهات أي الشيء الذي له شبه بما جاء النص‬
‫الصريح بتحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع ‪ ،‬بالحال الذي يوجب له هذا االسم ‪َ «.‬وما يَذَّ َّك ُر‬
‫ب »وهم الغواصون الذين يستخرجون لب األمور إلى الشهادة العينية ‪ ،‬بعد ما‬ ‫ِإ َّال أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫كان يستر ذلك اللب القشر الظاهر الذي كان به صونه ‪ ،‬فإن الراسخ في العلم جمع بين اإليمان‬
‫الذي هو الدين الخالص ‪ ،‬وبين ما تستحقه مرتبته من التسليم هّلل في كل ما يخبر به عن نفسه ‪،‬‬
‫وأما العقول التي أدركها الفضول فتأولت المتشابه من األمور ‪ ،‬فنحن نسلم لهم حالهم وال‬
‫ّللا بما قاله فنعتمد عليه أوليس بمراده‬ ‫نشاركهم في ذلك التأويل ‪ ،‬فإنا ال ندري هل ذلك مراد ه‬
‫فنرده ‪ ،‬فلهذا التزمنا التسليم ‪ .‬فإذا سئلنا عن مثل هذا قلنا ‪ :‬إنها مؤمنون بما جاء من عند ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ورسله عليهم‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا به ‪ ،‬وإنها مؤمنون بما جاء من عند رسول ه‬ ‫على مراد ه‬
‫ّللا عليه وسلم ومراد رسله عليهم السالم ‪ ،‬ونكل العلم في‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫السالم على مراد رسول ه‬
‫ّللا في هذا األمر مثلنا ‪ ،‬يرد عليها‬
‫كل ذلك إليه سبحانه وإليهم وقد تكون الرسل بالنسبة إلى ه‬
‫ّللا فتسلمه إليه سبحانه وتعالى كما سلمناه وال تعرف تأويله ‪ ،‬هذا ال يبعد ‪ ،‬وقد‬ ‫هذا اإلخبار من ه‬
‫ّللا بأي وجه كان ‪ ،‬هذا أيضا ال يبعد ‪ ،‬وهذه كانت طريقة السلف‬ ‫تكون تعرف تأويله بتعريف ه‬
‫ّللا قلبه وأخلص هّلل‬ ‫ّللا لهم خلفا بمنهه ‪ .‬فطوبى لمن راقب ربه وخاف ذنبه وعمر بذكر ه‬ ‫جعلنا ه‬
‫حبه ‪.‬‬
‫وفي هذا الزمان أمر عظيم خطبه ‪ ،‬وع هم ضرره ‪ ،‬وهو ما تظاهر به بعض المبتدعة المنتسبين‬
‫إلى الحديث والفقه ‪ ،‬وأشاعه في العامة والخاصة ‪ ،‬من اعتقاد ظواهر اآليات المتشابهة في‬
‫أسمائه تعالى وصفاته ‪ ،‬من غير تعرض لصرفها عما يوهم التشبيه والتجسيم ‪ ،‬ويزعم أنه في‬
‫ذلك متمسك بالكتاب وماش في طريقة السلف الصالح ‪ ،‬ويشنع على من تعرض إلى شيء منها‬
‫بتأويل أو صرفه على ظاهره بدليل ‪ ،‬وينسبه في ذلك إلى مخالفة الصحابة والتابعين رضوان‬
‫ّللا عليهم أجمعين ‪ ،‬لكونهم ما نقل عنهم التعرض لشيء من ذلك ‪ ،‬وقد ض هل وأض هل كثيرا ‪،‬‬ ‫ه‬
‫وما يض هل‬

‫ص ‪414‬‬

‫ص ‪422 :‬‬
‫ّللا تعالى على عبده ‪ ،‬طهارة قلبه‬ ‫به إال من هو قاصر الفهم ضعيف النور ‪ ،‬ومن أج هل منح ه‬
‫وسالمة فطرته وقلة منطقه ‪ ،‬فإنه بذلك يلقن الحكمة ‪ ،‬ويسمع هواتف الحق في كل نفس من‬
‫أنفاسه ‪ ،‬ويضيء له في ليل المتشابه مصباح المحكم ‪ ،‬فيرسخ قدم صدقه في معرفة ربه‬
‫سبحانه ‪ ،‬ويحيى بلده الطيب بغيث الهدى والعلم ‪ ،‬فيخرج نباته بإذن ربه ‪ ،‬كشجرة طيبة أصلها‬
‫ثابت وفرعها في السماء ‪ ،‬تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ‪ ،‬ويسلك بنحل أفكاره سبل االستقامة‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ‪ ،‬وقد كان للصحابة رضوان ه‬
‫عليهم من هذا المشرب أصفاه وأعذبه ‪ ،‬ومن العلم بالكتاب والسنة أزكاه وأطيبه ‪ ،‬وكيف ال‬
‫ّللا وفيهم رسوله ‪ ،‬ولهم باالعتصام با هّلل ما ضمنت لهم به‬ ‫يكونون كذلك وقد تليت عليهم آيات ه‬
‫باّلل فقد هدي إلى صراط مستقيم ‪ ،‬يعلمون الناسخ والمنسوخ‬ ‫الهداية واالستقامة ‪ ،‬ومن يعتصم ه‬
‫بالمعاصرة ‪ ،‬وأسباب النزول بالوقائع ‪ ،‬ويفهمون ما أودع في مواقع التركيب وأساليب البيان‬
‫ّللا والرسول ‪ ،‬فيعلمه الذين يستنبطونه منهم ‪ ،‬وهم‬
‫بالطباع ‪ ،‬يردهون ما اختلفوا فيه إلى ه‬
‫الراسخون في العلم وأولو األمر ‪ ،‬يتدبرون القرآن ويردهون المتشابه إلى معنى المحكم ‪،‬‬
‫ّللا لوجدوا فيه‬
‫ويقولون آمنا به كل من عند ربنا ‪ ،‬فال اختالف فيه ‪ ،‬ولو كان من عند غير ه‬
‫اختالفا كثيرا ‪ ،‬وألجل ذلك لم ينقل عنهم اعتناء بإيضاح آيات األسماء والصفات ‪ ،‬وال أكثروا‬
‫السؤال عنها لعدم إشكالها بحسب لغتهم ‪ ،‬والتساع مجال إفهامهم في معانيها الصحيحة ‪ ،‬وكان‬
‫ّللا عنهم أن ال يثق أحدهم بفهمه في استيعاب المراد منها ‪ ،‬فسكتوا عنها‬‫من أدبهم رضي ه‬
‫ّللا تعالى من االتساع الموافق للهغة واآليات المحكمة ‪،‬‬ ‫مفوضين إلى كل فهم صحيح ‪ ،‬ما منحه ه‬
‫ّللا وجهه ‪ ،‬هل عندكم‬ ‫كما في صحيح البخاري وغيره عن أبي جحيفة ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت لعلي كرم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬أو فهما أعطيه رجل مسلم ‪ ،‬أو ما في هذه الصحيفة ‪ ،‬وفي‬ ‫كتاب ؟ قال ‪ :‬ال ‪ ،‬إال كتاب ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬‫ّللا عبده فهما في القرآن ‪ ،‬فلما انقطع بموته صلهى ه‬
‫بعض الروايات إال ما يعطيه ه‬
‫ّللا‬
‫عن ظواهر األسماع مدد روح الوحي ‪ ،‬وعفت عهود بانقراض علماء الصحابة رضي ه‬
‫عنهم ‪ ،‬وضعف استنباط المتشابه من المحكم ‪ -‬بمخالطة النبط والعجم ‪ -‬المعنى الواضح‬
‫بمالبسة العجم ‪ ،‬وحصل التمرج في القلوب ‪ ،‬فزاغت وحجبت عن هواتف الغيب ‪ ،‬وكثر‬
‫الكالم فيما ال يعني ‪ ،‬فق هل إيتاء الحكمة ‪ ،‬هنالك ظهرت أرباب البدع وأشكل معنى المتشابه ‪،‬‬
‫ّللا تعالى به هذه األمة‬
‫فاتبعه من في قلبه زيغ ‪ ،‬وكاد األمر يلتبس لوال ما أيد ه‬

‫ص ‪415‬‬

‫ص ‪423 :‬‬
‫من العلماء الوارثين ‪ ،‬والسلف الصالح ‪ ،‬فنهضوا لمناظرة أرباب البدع وتخطئتهم ‪ ،‬وحل‬
‫شبههم ‪ ،‬ونهوا الناس عن اتباعهم وعن اإلصغاء إليهم ‪ ،‬وعن التعرض باآلراء المتشابهة ‪،‬‬
‫وحسموا مادة الجدال فيه والسؤال عنه ‪ ،‬سدا للذريعة واستغناء عنه بالمحكم ‪ ،‬وأمروا باإليمان‬
‫وبإمراره كما جاء من غير تعطيل وال تشبيه ‪ ،‬وكان ذلك في عصرهم مغنيا ‪ ،‬لوال أن‬
‫ّللا سبحانه‬ ‫المبتدعة دونوا بدعهم ‪ ،‬ونصبوا عليها أشراك الشبه واألهواء المضلة ‪ ،‬فوفهق ه‬
‫الراسخين من علماء السنة ‪ ،‬فدونوا في الرد عليهم الكتب الكالمية ‪ ،‬وأيدوها بالحجج العقلية‬
‫ّللا الحق على ألسنتهم ‪ ،‬وقمع أهل الباطل‬ ‫والبراهين المقيدة من الكتاب والسنة ‪ ،‬إلى أن أظهر ه‬
‫ّللا تعالى عن نصيحة هذه األمة أفضل الجزاء ‪،‬‬ ‫والزيغ وأطفأ نار البدع واألهواء ‪ ،‬فجزاهم ه‬
‫ّللا تعالى وإياك لما اختلف فيه من الحق بإذنه ‪ ،‬أن ربنا سبحانه وتعالى ‪،‬‬ ‫ونقول ‪ ،‬اعلم هداني ه‬
‫متكلم عالم مريد قدير ‪ ،‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ‪ ،‬أحدي فال أين وال تركيب لذاته‬
‫‪ ،‬أزلي فال كيف وال ترتيب لصفاته ‪ ،‬أبدي فال تناهي لجالله وإكرامه ‪ ،‬تنزه في سمعه وبصره‬
‫وعز في قدرته عن الشريك والمعين ‪ ،‬وجل في إرادته عن‬ ‫ه‬ ‫وإدراكه وبطشه عن الجوارح ‪،‬‬
‫وتفرد في كالمه عن الحروف واألصوات ‪ ،‬وتعالى في استوائه عن التشبيه‬ ‫ه‬ ‫األغراض ‪،‬‬
‫والكون ‪ ،‬وتقدس في علوه وفوقيته عن الجهات ‪ ،‬ينزل سبحانه بال نقلة ‪ ،‬ويجيء ويأتي بال‬
‫حركة ‪ ،‬وتراه أبصار المؤمنين بال إدراك وال إحاطة ‪ ،‬ال حد لقربه ‪ ،‬وال مثل لحبه ‪ ،‬وال ثورة‬
‫لغضبه ‪ ،‬وال كيف له في رضاه وضحكه ‪ ،‬وال شفعية إال بمعيته ‪ ،‬وال وترية إال بظهور قهره‬
‫وأحديته ‪ ،‬وال بقاء إال ألهل عنديته ‪ ،‬نفسه تعالى ذاته أو أم كتابه ‪ ،‬ووجه نور توحيده عند‬
‫إقباله ‪ ،‬وصورته تعالى مظاهر تعرفاته ‪ ،‬وظلل غمامه ويده ويداه وأيديه أسماء حقائق‬
‫يتصرف بها في مخلوقاته ‪ ،‬وأعينه وعينه آياته المبصرة القائمة بالحفظ والرعاية‬
‫للمخصوصين من عباده ‪ ،‬وقدمه قدم الصدق الذي بشر به المؤمنين ‪ ،‬وجنبه صحبته وكالءته‬
‫للذاكرين من أتباع النبيين ‪ ،‬وهو األول واآلخر ‪ ،‬فما من عرض وال جوهر إال وهو مبدوء‬
‫بأوليته ‪ ،‬مختوم بآخريته ‪ ،‬وهو الظاهر بحكمه في محكمه ‪ ،‬الباطن بعلمه في متشابه آياته ‪،‬‬
‫وحكمه ظهر بمعيته في باطن وتريته ‪ ،‬فنشأت أعداد مصنوعاته ‪ ،‬وبطن بقدم أحديته في أسماء‬
‫ض َو ِإلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ‬
‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬‫ْب ال َّ‬ ‫الحوادث ‪ ،‬فرجعت بحقائق هوياته إليه( َو ِ َّ ِ‬
‫ّلل َ‬
‫غي ُ‬
‫علَ ْي ِه )ال شريك له في ملكه ‪ ،‬وهو يؤتي الملك من يشاء ‪ ،‬وال مثل له في كنهه ‪،‬‬ ‫فَا ْعبُ ْدهُ َوت َ َو َّك ْل َ‬
‫ناض َرة ٌ‬
‫وله المثل األعلى ‪ ،‬تقدهس عن النظير في الدنيا واآلخرة ‪ُ (.‬و ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ ِ‬

‫ص ‪416‬‬

‫ص ‪424 :‬‬
‫ناظ َرة ٌ )وتنزه عن الجهات وهو ه‬
‫ّللا في السماوات ‪ ،‬وتعالى عن التشبيه وله اآليات‬ ‫ِإلى َر ِبهها ِ‬
‫المتشابهات ‪ ،‬يجتني معانيها أهل قربه في ريان جنان ذكره ‪ ،‬كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا‬
‫قالوا ‪ :‬هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ‪ ،‬ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ‪،‬‬
‫فيقول الراسخون في العلم ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪8‬‬


‫اب ( ‪) 8‬‬ ‫َربهنا ال ت ُ ِز ْغ قُلُوبَنا بَ ْع َد إِ ْذ َه َد ْيتَنا َو َه ْب لَنا ِم ْن لَ ُد ْنكَ َرحْ َمةً إِنهكَ أ َ ْنتَ ا ْل َو هه ُ‬
‫غ قُلُوبَنا »يعني بالفكر فيما أنزلته« بَ ْع َد ِإ ْذ َه َد ْيتَنا »إلى األخذ منك علم ما أنزلته‬ ‫« َربَّنا ال ت ُ ِز ْ‬
‫إلينا ‪ ،‬فأوقفتنا على مرادك من تلك األلفاظ التي حواها الكتاب ‪ ،‬والتعريف من المعاني‬
‫ّللا العلم غير مشوب ‪َ «.‬وهَبْ لَنا ِم ْن لَ ُد ْن َك َر ْح َمةا ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ت‬ ‫المخلصة عن المواد ‪ ،‬فأعطاهم ه‬
‫اب »الوهب العطاء من الواهب على جهة اإلنعام ‪ ،‬ال يخطر له خاطر الجزاء عليه من‬ ‫ْال َو َّه ُ‬
‫شكر وال غيره ‪ ،‬فأم األعطيات اإللهية هو الوهب ‪ ،‬وهو اإلعطاء لينعم ال ألمر آخر ‪ ،‬فهو‬
‫الوهاب على الحقيقة في جميع أنواع عطائه ‪ ،‬وكل عطاء خارج عن الجزاء الوفاق فذلك من‬
‫االسم الواهب والوهاب ‪ ،‬فسأله الراسخون في العلم من جهة الوهب ال من جهة الكسب ‪ ،‬فإنه‬
‫ّللا فيما أنزله على التعيين إال بطريق الوهب ‪ ،‬وهو اإلخبار اإللهي الذي يخاطب‬ ‫ما يعلم مراد ه‬
‫سره بينه وبينه ‪ ،‬فأشرف العلوم ما ناله العبد من طريق الوهب ‪ ،‬وإن‬ ‫به الحق قلب العبد في ه‬
‫كان الوهب يستدعيه استعداد الموهوب إليه بما اتصف به من األعمال الزكية المشروعة ‪،‬‬
‫ولكنه لما لم يكن ذلك شرطا في حصول هذا العلم ‪ ،‬لذلك تعالى هذا العلم عن الكسب ‪ ،‬فإن‬
‫بعض األنبياء تحصل لهم النبوة من غير أن يكونوا على عمل مشروع يستعدون به إلى قبولها‬
‫‪ ،‬وبعضهم قد يكون على عمل مشروع فيكون ذلك عين االستعداد ‪ ،‬فربما يتخيل من ال معرفة‬
‫له ‪ ،‬أن ذلك االستعداد لواله ما حصلت النبوة ‪ ،‬فتخيل أنها اكتساب ‪ ،‬والنبوة في نفسها‬
‫اختصاص إلهي يعطيه لمن يشاء من عباده وما عنده خبر بشرع وال غيره ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪9‬‬


‫ف ا ْل ِميعا َد) ‪( 9‬‬
‫ّللا ال يُ ْخ ِل ُ‬
‫ب فِي ِه ِإ هن ه َ‬ ‫جام ُع النه ِ‬
‫اس ِليَ ْو ٍم ال َر ْي َ‬ ‫َربهنا ِإنهكَ ِ‬

‫ص ‪417‬‬

‫ص ‪425 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪13‬‬
‫ش ْيئا ً َوأُولئِكَ ُه ْم َوقُو ُد النه ِار ‪( 10‬‬ ‫ّللا َ‬ ‫ع ْن ُه ْم أ َ ْموالُ ُه ْم َوال أ َ ْوال ُد ُه ْم ِم َن ه ِ‬
‫ي َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ْن ت ُ ْغنِ َ‬
‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ب(‬ ‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬
‫ّللاُ َ‬‫ّللاُ ِبذُنُو ِب ِه ْم َو ه‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َكذهبُوا ِبآياتِنا فَأ َ َخذَ ُه ُم ه‬‫ب آ ِل فِ ْرع َْو َن َوالهذ َ‬ ‫) َكدَأْ ِ‬
‫كان لَ ُك ْم آيَةٌ‬ ‫س ا ْل ِمها ُد ( ‪ ) 12‬قَ ْد َ‬ ‫ون ِإلى َج َهنه َم َو ِبئْ َ‬ ‫ون َوتُحْ ش َُر َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َ‬
‫ست ُ ْغلَبُ َ‬ ‫) ‪11‬قُ ْل ِللهذ َ‬
‫ي ا ْلعَ ْي ِن َو ه‬
‫ّللاُ يُ َؤ ِيه ُد‬ ‫ّللا َوأ ُ ْخرى كافِ َرةٌ يَ َر ْونَ ُه ْم ِمثْلَ ْي ِه ْم َرأْ َ‬ ‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫فِي فِئَت َ ْي ِن ا ْلتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِ ُل فِي َ‬
‫صار ) ‪( 13‬‬ ‫بِنَص ِْر ِه َم ْن يَشا ُء إِ هن فِي ذ ِلكَ لَ ِع ْب َرةً ِألُو ِلي ْاأل َ ْب ِ‬
‫لعبرة أي تعجبا ‪ ،‬فإن في إسبال الستور الجهل باألمور ‪ ،‬واألبصار تخترق األستار ‪ ،‬لهذا‬
‫ْصار »والستر مسدل ‪ ،‬والباب مقفل ‪ ،‬والعطاء‬ ‫شرع االعتبار« ِإ َّن فِي ذ ِل َك لَ ِعب َْرة ا ِألُو ِلي ْاألَب ِ‬
‫مسبل ‪ ،‬فما نفع الحجاب ‪ ،‬وال منع باب ‪ ،‬بصر االعتبار ال يقف له شيء من االسكار ‪ ،‬وهو‬
‫ّللا العبرة لألبصار ‪ ،‬واالعتبار إنما هو للبصائر ‪،‬‬ ‫النظر في األشياء بحكم االعتبار ‪ ،‬وجعل ه‬
‫ّللا‬
‫فذكر األبصار ألنها األسباب المؤدية إلى الباطن ما يعتبر فيه عين البصيرة ‪ ،‬فاعلم أن ه‬
‫خص ظاهره من باطنه ‪ ،‬وال باطنه من ظاهره ‪ ،‬فتوفرت دواعي‬ ‫ه‬ ‫خاطب اإلنسان بجملته ‪ ،‬وما‬
‫الناس أكثرهم إلى معرفة أحكام الشرع في ظواهرهم ‪ ،‬وغفلوا عن األحكام المشروعة في‬
‫بواطنهم ‪ ،‬إال القليل ‪ ،‬فإنهم بحثوا في ذلك ظاهرا وباطنا ‪ ،‬فما من حكم قرروه شرعا في‬
‫ظواهرهم إال ورأوا أن ذلك الحكم له نسبة إلى بواطنهم ‪ ،‬أخذوا على ذلك جميع أحكام الشرع‬
‫ّللا بما شرع لهم ظاهرا وباطنا ‪ ،‬ففازوا حين خسر األكثرون ‪ ،‬ونبغت طائفة ضلهت‬ ‫‪ ،‬فعبدوا ه‬
‫وأضلهت ‪ ،‬فأخذت األحكام الشرعية وصرفتها في بواطنهم ‪ ،‬وما تركت من حكم الشريعة في‬
‫الظواهر شيئا ‪ ،‬تسمى الباطنية ‪ ،‬وهم في ذلك على مذاهب مختلفة ‪ ،‬وقد ذكر اإلمام أبو حامد‬
‫في كتابه المستظهر له في الرد عليهم شيئا من مذاهبهم ‪ ،‬وبيهن خطأهم فيها ‪ ،‬والسعادة إنما هي‬
‫مع أهل الظاهر ‪ ،‬وهم في الطرف والنقيض من أهل الباطن ‪ ،‬والسعادة كل السعادة مع الطائفة‬
‫باّلل وبأحكامه ‪ .‬فما من حكم من أحكام فرائض‬ ‫التي جمعت بين الظاهر والباطن ‪ ،‬وهم العلماء ه‬
‫الشريعة وسننها واستحباباتها إال وله في الباطن‬

‫ص ‪418‬‬

‫ص ‪426 :‬‬
‫حكم أو أزيد ‪ ،‬على قدر ما يفتح للعبد في ذلك ‪ ،‬فرضا كان أو سنة أو مستحبا ‪ ،‬ال ب هد من ذلك‬
‫‪ ،‬وح هد ذلك في سائر العبادات المشروعة كلها ‪ ،‬وبهذا يتميز حكم الظاهر من الباطن ‪ ،‬فإن‬
‫الظاهر يسري في الباطن ‪ ،‬وليس في الباطن أمر مشروع ‪ ،‬يسري في الظاهر ‪ ،‬بل هو عليه‬
‫مقصور ‪ ،‬فإن الباطن معان كلها ‪ ،‬والظاهر أفعال محسوسة ‪ ،‬فينتقل من المحسوس إلى المعنى‬
‫الحس ‪ ،‬لهذا جاء االعتبار في الشرع ‪ ،‬فإن خطاب الشرع إذا تعلق‬ ‫ه‬ ‫وال ينتقل من المعنى إلى‬
‫بالظاهر كان اعتباره في الباطن ‪ ،‬وإذا تعلق خطاب الشرع بالباطن كان اعتباره في الظاهر ‪،‬‬
‫فالعالم ال يزال ناظرا إلى الشرع بمن علق الحكم فيما جاء به في هذه المسألة الخاصة ‪ ،‬هل‬
‫بالظاهر مثل الحركات ؟ أو بالباطن مثل النية والحسد والغل وتمني الخير للمؤمنين والظن‬
‫الحسن والظن القبيح ؟ فحيث ما علق الشارع خطاب اللسان الظاهر به كان االعتبار في مقابله‬
‫‪ ،‬أو في مقابلة الحكم ‪ ،‬كالظن الحسن يقابله الظن القبيح ‪ ،‬ويقابله الفعل الحسن في الظاهر ‪،‬‬
‫هذه مقابلة المواطن ‪ ،‬فنجمع بين الظاهر والباطن لكمال النشأة ‪ ،‬فإنه ما يظهر في العالم‬
‫ّللا بأي سبب ظهرت من أشكال وغيرها ‪ ،‬إال ولتلك العين الحادثة في‬ ‫صورة من أحد من خلق ه‬
‫ّللا هو الموجد على الحقيقة‬ ‫الحس روح ‪ ،‬تصحب تلك الصورة في الشكل الذي ظهر ‪ ،‬فإن ه‬
‫لتلك الصورة بنيابة كون من أكوانه ‪ ،‬من ملك أو جن أو إنس أو حيوان أو نبات أو جماد ‪،‬‬
‫ّللا قد ربط بكل صورة‬ ‫الحس ‪ .‬فلما علمنا أن ه‬
‫ه‬ ‫وهذه األسباب كلها لوجود تلك الصورة في‬
‫حسية روحا معنويا بتوجه إلهي عن حكم اسم رباني ‪ ،‬لهذا اعتبرنا خطاب الشرع في الباطن‬
‫على حكم ما هو في الظاهر ‪ ،‬قدما بقدم ‪ ،‬ألن الظاهر منه هو صورته الحسية ‪ ،‬والروح‬
‫اإللهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسميه االعتبار في الباطن ‪ ،‬من عبرت الوادي إذا‬
‫ْصار »وقال( فَا ْعتَبِ ُروا يا أُو ِلي ْاألَب ِ‬
‫ْصار‬ ‫جزته ‪ ،‬وهو قوله تعالى« ِإ َّن فِي ذ ِل َك لَ ِعب َْرة ا ِألُو ِلي ْاألَب ِ‬
‫)أي جوزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم ‪ ،‬إلى ما تعطيه تلك الصور من المعاني‬
‫واألرواح في بواطنكم ‪ ،‬فتدركونها ببصائركم ‪ ،‬وأمر وحث على االعتبار ‪ ،‬وهذا باب أغفله‬
‫العلماء وال سيما أهل الجمود على الظاهر ‪ ،‬فليس عندهم من االعتبار إال التعجب ‪ ،‬فال فرق‬
‫بين عقولهم وعقول الصبيان الصغار ‪ ،‬فهؤالء ما عبروا قط من تلك الصورة الظاهرة كما‬
‫ّللا‪.‬‬
‫أمرهم ه‬

‫ص ‪419‬‬

‫ص ‪427 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪14‬‬
‫ض ِة َوا ْل َخ ْي ِل‬ ‫ير ا ْل ُمقَ ْن َط َر ِة ِم َن الذه َه ِ‬
‫ب َوا ْل ِف ه‬ ‫ين َوا ْلقَ ِ‬
‫ناط ِ‬ ‫ساء َوا ْلبَنِ َ‬
‫ت ِم َن ال ِنه ِ‬‫ش َهوا ِ‬ ‫ب ال ه‬
‫اس ُح ُّ‬ ‫ُز ِيه َن ِللنه ِ‬
‫ب ) ‪( 14‬‬ ‫س ُن ا ْل َمآ ِ‬‫ّللاُ ِع ْن َدهُ ُح ْ‬
‫ع ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو ه‬ ‫س هو َم ِة َو ْاأل َ ْن ِ‬
‫عام َوا ْل َح ْر ِ‬
‫ث ذ ِلكَ َمتا ُ‬ ‫ا ْل ُم َ‬
‫»فصور‬‫ه‬ ‫ت‬
‫ش َهوا ِ‬ ‫اس ُحبُّ ال َّ‬ ‫ّللا فيها« ُز ِيهنَ ِللنَّ ِ‬ ‫لما قبلت الحضرة الخيالية المعاني صورا قال ه‬
‫الحب صورة ‪ ،‬زينها لمن شاء من عباده ‪ ،‬فأحبها بنفسها ما أحبها بغيرها ‪ ،‬ألنه تعالى ما زيهن‬
‫له إال حب الشهوة فيما ذكره ‪ ،‬فالحب المطلق زين له ‪ ،‬ثم علقه بالشهوة فيما ذكره ‪ ،‬وعلقه‬
‫فإن الخيال‬ ‫لمن شاء في الشهوة أيضا في أمر آخر ‪ ،‬وإنما ذكر الشهوة ألنها صورة طبيعية ‪ ،‬ه‬
‫حضرته الطبيعة ‪ ،‬ثم يحكم عليها الخيال فيجسدها إذا شاء ‪ ،‬والشهوة هي آلة النفس تعلو بعلو‬
‫المشتهى وتسفل باستفال المشتهى ‪ ،‬والشهوة إرادة االلتذاذ بما ينبغي أن يلتذ به ‪ ،‬وال يلتذ إال‬
‫بالمناسب ‪ ،‬والتذاذ اإلنسان بكماله أشد االلتذاذ ‪ ،‬برهان ذلك أن اإلنسان ال يسري في كله‬
‫االلتذاذ ‪ ،‬وال يفنى في مشاهدة شيء بكليته ‪ ،‬وال تسري المحبة والعشق في طبيعة روحانيته إال‬
‫إذا عشق جارية أو غالما ‪ ،‬وسبب ذلك أنه يقابله بكليته ألنه على صورته ‪ ،‬وكل شيء من‬
‫العالم جزء منه ‪ ،‬فال يقابله إال بذلك الجزء المناسب ‪ ،‬فلذلك ال يفنى في شيء يعشقه إال في‬
‫ساء »أي في النساء ‪ ،‬فحنين الرجل إليهن حنين الكل إلى‬ ‫مثله ‪ ،‬ولذلك بدأ بالنساء فقال« ِمنَ ال ِنه ِ‬
‫جزئه ‪ ،‬كاستيحاش المنازل لساكنيها التي بهم حياتها ‪ ،‬وألن المكان الذي في الرجل الذي‬
‫ّللا بالميل إليها ‪ ،‬فحنينه إلى المرأة حنين الكبير ‪ ،‬وحنوه على‬ ‫استخرجت منه المرأة عمره ه‬
‫الصغير ‪ ،‬وكذلك كما كان اإلنسان مح هل التكوين ‪ ،‬وكان اإلنسان بالصورة يقتضي أن يكون‬
‫فعاال ‪ ،‬وال ب هد له من محل يفعل فيه ‪ ،‬ويريد لكماله أن ال يصدر عنه إال الكمال ‪ ،‬وال أكمل من‬
‫ّللا محال ‪ ،‬والمرأة جزء من‬ ‫وجود اإلنسان ‪ ،‬وال يكون ذلك إال في النساء الالتي جعلهن ه‬
‫الرجل باالنفعال الذي انفعلت عنه ‪ ،‬حبب إلى الكامل النساء ‪ ،‬ولما كانت المرأة عين ضلع‬
‫الرجل ‪ ،‬فما كان محل تكوين ما كون فيها إال نفسه ‪ ،‬فما ظهر عنه مثله إال في عينه ونفسه ‪،‬‬
‫ثم ذكر فتنة الولد والمال ‪ ،‬وهذه الفتن تضم األمهات الثالث للبالء واالختبار ‪ :‬وهي فتنة النساء‬
‫والولد والمال ‪ ،‬وأما فتنة الولد فلكونه سر أبيه وقطعة من كبده ‪ ،‬وألصق األشياء به ‪ ،‬فحبه‬

‫ص ‪420‬‬

‫ص ‪428 :‬‬
‫ّللا بنفسه في صورة خارجة‬ ‫حب الشيء نفسه ‪ ،‬وال شيء أحب إلى الشيء من نفسه ‪ ،‬فاختبره ه‬
‫عنه سماه ولدا ‪ ،‬ليرى هل يحجبه النظر إليه عما كلفه الحق في إقامة الحقوق عليه ‪ ،‬يقول‬
‫ّللا عليه وسلم في حق ابنته فاطمة ومكانتها من قلبه المكانة التي ال تجهل ‪[ :‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫لو أن فاطمة بنت محمد سرقت قطعت يدها ] وجلد عمر بن الخطاب ابنه في الزنا فمات ‪،‬‬
‫ونفسه بذاك طيبة ‪.‬فما من فتنة أعظم عند الرجال من فتنة الولد ‪ ،‬والمال ‪ ،‬الولد مجهلة مجبنة‬
‫مبخلة ‪ ،‬والمال مالك ‪ ،‬وصاحبه بكل وجه ‪ ،‬وإن فاز هالك ‪ ،‬إن أمسكه أهلكه ‪ ،‬وإن جاد به‬
‫ّللا به عباده حيث جعل تيسير بعض‬ ‫تركه ‪ ،‬وما سمي ماال إال لكونه يمال إليه طبعا ‪ ،‬فاختبر ه‬
‫األمور بوجوده ‪ ،‬وعلهق القلوب بمحبة صاحب المال وتعظيمه ‪ ،‬ولو كان بخيال ‪ ،‬فإن العيون‬
‫تنظر إليه بعين التعظيم ‪ ،‬لتوهم النفوس باستغنائه عنهم ‪ ،‬لما عنده من المال ‪ ،‬وربما يكون‬
‫صاحب المال أشد الناس فقرا إليهم في نفسه ‪ ،‬وال يجد في نفسه االكتفاء وال القناعة بما عنده ‪،‬‬
‫فهو يطلب الزيادة مما بيده ‪ ،‬ومن أراد أن يعتصم من التزيين ‪ ،‬فليقف عند ظاهر الكتاب‬
‫والسنة ‪ ،‬ال يزيد على الظاهر شيئا ‪ ،‬فإن التأويل قد يكون من التزيين ‪ ،‬فما أعطاه الظاهر‬
‫ّللا ‪ ،‬وآمن به ‪ ،‬فهذا متبع ليس للتزيين عليه سبيل‬ ‫جرى عليه ‪ ،‬وما تشابه منه ‪ ،‬وكل علمه إلى ه‬
‫ب »اإلنسان يتردد بين ثالثة أحكام ‪:‬‬ ‫ّللاُ ِع ْن َدهُ ُحس ُْن ْال َمآ ِ‬
‫ّللا ‪َ «.‬و َّ‬
‫‪ ،‬وال يقوم عليه حجة عند ه‬
‫حكم ذاتي له منه عليه وهو المباح ‪ ،‬وحكمان قرنا به مما قرن به من األرواح الطاهرة الملكية‬
‫وغير الطاهرة الشيطانية ‪ ،‬وله القبول والر هد بحسب ما سبق به الكتاب ‪ ،‬وقضى به الخطاب ‪،‬‬
‫ّللا تبيان‬ ‫فمنهم شقي وسعيد ‪ ،‬كما كان من القرناء مقرب وطريد ‪ ،‬فهو لمن أجاب ‪ ،‬وعلى ه‬
‫ّللا قط بالمآب إليه‬ ‫ّللا عنده حسن المآب » وما قرن ه‬ ‫الخطأ من الصواب ‪ ،‬وغاية األمر « أن ه‬
‫سيَ ْعلَ ُم الَّذِينَ‬
‫سوءا تصريحا ‪ ،‬وغاية ما ورد في ذلك في معرض التهديد في الفهم األول (‪َ .‬و َ‬
‫ظلَ ُموا أ َ َّ‬
‫ي ُم ْنقَلَ ٍ‬
‫ب يَ ْنقَ ِلبُونَ ) ‪.‬‬ ‫َ‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪16‬‬


‫هار خا ِلد َ‬
‫ِين فِيها‬ ‫قُ ْل أ َ أُنَ ِبهئ ُ ُك ْم بِ َخ ْي ٍر ِم ْن ذ ِل ُك ْم ِللهذ َ‬
‫ِين اتهقَ ْوا ِع ْن َد َربِه ِه ْم َجنهاتٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫ِين يَقُولُ َ‬
‫ون َربهنا إِنهنا آ َمنها‬ ‫ير بِا ْل ِعبا ِد ( ‪ ) 15‬الهذ َ‬ ‫ّللاُ بَ ِص ٌ‬ ‫وان ِم َن ه ِ‬
‫ّللا َو ه‬ ‫ض ٌ‬ ‫ج ُم َط هه َرةٌ َو ِر ْ‬ ‫َوأ َ ْزوا ٌ‬
‫َذاب النه ِار) ‪( 16‬‬ ‫فَا ْغ ِف ْر لَنا ذُنُوبَنا َوقِنا ع َ‬

‫ص ‪421‬‬

‫ص ‪429 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪17‬‬
‫حار ( ‪) 17‬‬
‫س ِ‬‫ين ِب ْاأل َ ْ‬ ‫ين َوا ْل ُم ْ‬
‫ست َ ْغ ِف ِر َ‬ ‫ين َوا ْل ُم ْن ِف ِق َ‬
‫ين َوا ْلقانِتِ َ‬
‫صا ِدقِ َ‬
‫ين َوال ه‬ ‫صا ِب ِر َ‬ ‫ال ه‬
‫ْحار »عند تجليه من سمائه ‪ ،‬والسحر هو سدفة ‪ ،‬وهو اختالط الضوء‬ ‫« َو ْال ُم ْست َ ْغ ِف ِرينَ ِب ْاألَس ِ‬
‫والظلمة ‪ ،‬فال هو ظلمة محضة ‪ ،‬وال هو نور محض ‪ ،‬فله وجهان ‪ :‬وجه إلى الليل ‪ ،‬ووجه‬
‫إلى النهار ‪ ،‬وهو الوقت الذي بين الفجرين ‪ ،‬الفجر الكاذب ‪ ،‬والفجر الصادق ‪ ،‬وهو أشبه‬
‫ّللا عند تجليه من سمائه التستر عن‬
‫بالشبهة ‪ ،‬لذلك شرع االستغفار في األسحار ‪ ،‬أي طلب من ه‬
‫الميل إلى المتشابه ‪ .‬وقد ذكر تعالى أنه ما يتبعه إال من في قلبه زيغ ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪18‬‬


‫يز ا ْل َح ِكي ُم (‬ ‫ّللاُ أَنههُ ال ِإلهَ ِإاله ُه َو َوا ْل َمل ِئكَةُ َوأُولُوا ا ْل ِع ْل ِم قا ِئما ً ِبا ْل ِق ْ‬
‫س ِط ال ِإلهَ ِإاله ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫ش َِه َد ه‬
‫) ‪18‬‬

‫توحيد االلهويه والشهادة على االسم المسقط‬


‫ّللاُ » ‪،‬فبدأ بنفسه في الشهادة بتوحيده ‪ ،‬ثم ذكر المالئكة ‪ ،‬ثم ذكر بعد المالئكة أولي‬ ‫ش ِه َد َّ‬
‫« َ‬
‫العلم ‪ ،‬وهم األناسي ‪ ،‬وهكذا كان أمر الوجود ‪ ،‬فاألولية للحق ‪ ،‬ثم أوجد الملك ثم أوجد‬
‫اإلنسان وأعطاه الخالفة ‪ ،‬فكانت شهادته تعالى لنفسه بالتوحيد ‪ ،‬ثم عطف سبحانه« ْال َمال ِئ َكةُ‬
‫ّللا تعالى هنا بذكر الشهادة تشريفا للمالئكة وأولي‬ ‫َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم »على نفسه بالواو ‪ ،‬ولم يعطف ه‬
‫العلم ‪ ،‬وإن كان قد فصلهم عن شهادته لنفسه بذكره« ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو »والواو حرف يعطي‬
‫االشتراك ‪ ،‬وال اشتراك هنا إال في الشهادة قطعا ‪ ،‬وفصل شهادة الحق لنفسه لتتميز من شهادة‬
‫ّللاُ »فعطف‬ ‫ش ِه َد َّ‬ ‫من سواه ‪ ،‬بما شهد به لنفسه ‪ ،‬والضمير في« أَنَّهُ »يعود على ه‬
‫ّللا من« َ‬
‫باّلل ليس فيهم من‬ ‫بالواو ‪ ،‬وقال « َو ْال َمال ِئ َكةُ »فقدم المالئكة للمجاورة ‪ ،‬والمالئكة كلهم علماء ه‬
‫يجهل بخالف الناس ‪ ،‬ثم قال في حق الناس« َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم »يعني من الجن واإلنس ‪ ،‬وما‬
‫أطلق مثل ما أطلق المالئكة ‪ ،‬فجعلهم جيران المالئكة لتصح الشفاعة من المالئكة فينا لحق‬
‫الجوار ‪ ،‬والعلم هنا علم التوحيد ال علم الوجود ‪ ،‬فإن العالم كله عالم بالوجود ال بالتوحيد ‪ ،‬ال‬
‫في الذات وال في المرتبة ‪ ،‬فالموحدون بأي وجه كان أولياء هّلل تعالى ‪ ،‬فإنهم حازوا أشرف‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬وشهادة المالئكة وأولي العلم بتوحيده‬ ‫ّللا أصحابها من أجلها مع ه‬ ‫المراتب التي شرك ه‬
‫على قدر مراتبهم في ذلك ‪ ،‬فلذلك فصل بين شهادته لنفسه وشهادة‬

‫ص ‪422‬‬

‫ص ‪430 :‬‬
‫العلماء له ‪ ،‬فأخبر سبحانه وتعالى عباده بشرف العلم حيث وصف به نفسه ‪ ،‬وأخبر تعالى أن‬
‫العلماء هم الموحدون على الحقيقة ‪ ،‬والتوحيد أشرف مقام ينتهى إليه ‪ ،‬وليس وراءه مقام إال‬
‫التثنية ‪ ،‬فمن زلت قدمه عن صراط التوحيد رسما أو حاال وقع في الشرك ‪ ،‬فمن زلت قدمه في‬
‫الرسم فهو مؤبد الشقاء ال يخرج من النار أبدا ال بشفاعة وال بغيرها ‪ ،‬ومن زلت قدمه في‬
‫الحال فهو صاحب غفلة ‪ ،‬يمحوها الذكر وما شاكله ‪ ،‬فإن األصل باق يرجى أن يجبر فرعه‬
‫ّللا تعالى وعنايته ‪ ،‬والموحد هّلل في ألوهته إن كان عن شهود ال عن نظر وفكر ‪ ،‬فهو من‬ ‫ه‬
‫بمن ه‬
‫ّللا في هذه اآلية ‪ ،‬ألن الشهادة إن لم تكن عن شهود وإال فال ‪ ،‬فإن‬ ‫أولي العلم الذين ذكرهم ه‬
‫الشهود ال يدخله الريب وال الشكوك ‪ ،‬وإن و هحده بالدليل الذي أعطاه النظر ‪ ،‬فما هو من هذه‬
‫الطائفة المذكورة ‪ ،‬فإنه ما من صاحب فكر ‪ ،‬وإن أنتج له علما إال وقد يخطر له دخل في دليله‬
‫وشبهة في برهانه ‪ ،‬يؤديه ذلك إلى التحيهر والنظر في ر هد تلك الشبهة ‪ ،‬فلذلك ال يقوى صاحب‬
‫النظر في علم ما يعطيه النظر قوة صاحب الشهود ‪ ،‬لذلك كان أرباب الفيض اإللهي الذين قال‬
‫علَّ ْمناهُ ِم ْن لَ ُدنَّا ِع ْلما ا )والذين ورثوا العلم وأخذوه بالمجاهدة واألعمال ‪ ،‬قال‬
‫تعالى فيهم ‪َ ( :‬و َ‬
‫ّللا علم ما ال يعلم ]‬
‫ّللا عليه وسلم [ من عمل بما علم أورثه ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫رسول ه‬
‫ّللا أعطاهم من الفيض اإللهي ما‬ ‫كان هؤالء أولى باسم العالم من صاحب النظر والفكر ‪ ،‬ألن ه‬
‫هو وراء طور العقل ‪ ،‬وهم على بصيرة فيما يعلمونه ال يدخلهم شبهة ؛ وصاحب النظر ما‬
‫يخلو عن شبهة تدخل عليه في دليله وقال تعالى« َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم »ولم يقل ( وأولو اإليمان ) ألن‬
‫أولي العلم شهدوا هّلل بتوحيده قبل إيمانهم ‪ ،‬ومنهم الرسل قد وحدوه قبل أن يكونوا أنبياء ورسال‬
‫‪ ،‬فإن الرسول ما أشرك قط ‪ ،‬فرتبة العلم فوق رتبة اإليمان بال شك ‪ ،‬وهي صفة المالئكة‬
‫والرسل ‪ ،‬وقد يكون حصول ذلك العلم عن نظر أو ضرورة كيفما كان ‪ ،‬فيسمى علما إذ ال‬
‫قائل وال مخبر يلزم التصديق بقوله ‪ ،‬فلما أضافهم إلى العلم ال إلى اإليمان علمنا أنه أراد من‬
‫حصل له التوحيد من طريق العلم النظري أو الضروري ال من طريق الخبر ‪ ،‬كأنه يقول ‪:‬‬
‫وشهدت المالئكة بتوحيدي بالعلم الضروري من التجلي الذي أفادهم العلم ‪ ،‬وقام لهم مقام‬
‫النظر الصحيح في األدلة العقلية ‪ ،‬فشهدت لي بالتوحيد كما شهدت لنفسي« َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم‬
‫»بالنظر العقلي الذي جعلته في عبادي ‪ ،‬ثم جاء اإليمان بعد ذلك في الرتبة الثانية من العلماء ‪،‬‬
‫ّللا به أمر ‪ ،‬وسميناه‬
‫وهو الذي يعول عليه في السعادة ‪ ،‬فإن ه‬

‫ص ‪423‬‬

‫ص ‪431 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فقال( فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال ِإلهَ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ )قال رسول ه‬ ‫علما لكون المخبر هو ه‬
‫ّللا دخل الجنة ] ولم يقل هنا يؤمن ‪ ،‬فإن‬ ‫في الصحيح [ من مات وهو يعلم أنه ال إله إال ه‬
‫اإليمان موقوف على الخبر ‪ ،‬وقد علمنا أن هّلل عبادا كانوا في فترات ‪ ،‬وهم موحدون علما ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم عامة ‪ ،‬فيلزم أهل كل زمان اإليمان‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وما كانت دعوة الرسل قبل رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬المؤمن منهم من حيث ما هو عالم به من جهة‬ ‫‪ ،‬فع هم بهذا الكالم جميع العلماء بتوحيد ه‬
‫الخبر الصدق الذي يفيد العلم ال من جهة اإليمان ‪ ،‬وغير المؤمن ‪ ،‬فاإليمان ال يصح وجوده إال‬
‫باّلل وغير‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وبين يديه العلماء ه‬ ‫بعد مجيء الرسول ‪ ،‬فإذا جاء الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا ‪ ،‬علمنا على القطع ‪ ،‬أنه صلهى ه‬ ‫باّلل ‪ ،‬وقال للجميع ‪ :‬قولوا ال إله إال ه‬ ‫العلماء ه‬
‫ّللا من المشركين ‪ ،‬وعلمنا أنه في ذلك القول أيضا‬ ‫في ذلك القول معلم لمن ال علم له بتوحيد ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وتوحيده أن التلفظ به واجب ‪ ،‬وأنه العاصم لهم من سفك دمائهم وأخذ‬ ‫معلم للعلماء ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أمرت أن أقاتل الناس‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫أموالهم وسبي ذراريهم ‪ ،‬ولهذا قال رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إال بحق اإلسالم وحسابهم‬ ‫حتى يقولوا ال إله إال ه‬
‫ّللا ]‪.‬‬
‫على ه‬
‫باّلل‬
‫فالحكم هنا للقول ال للعلم ‪ ،‬والحكم يوم تبلى السرائر في هذا العلم ال للقول ‪ ،‬فأعلم العلماء ه‬
‫ْط »فوصف‬ ‫باّلل باألدلة ومن دونهم ‪ «.‬قائِما ا ِب ْال ِقس ِ‬ ‫ّللا وأولياؤه ‪ ،‬ث هم العلماء ه‬ ‫ّللا رسل ه‬ ‫بعد مالئكة ه‬
‫الحق نفسه في هذا التوحيد أنه قائم بالقسط ‪ ،‬أي بإقامة الوزن ‪ ،‬أي بالعدل فيما فصل به بين‬
‫الشهادتين ‪ ،‬فشهد لنفسه بتوحيده وشهد لمالئكته وأولي العلم أنهم شهدوا له بالتوحيد ‪ ،‬وهذا من‬
‫ّللا شهد لعباده‬ ‫باب قيامه بالقسط ‪ ،‬وهو من باب فضل من أتى بالشهادة قبل أن يسألها ‪ ،‬فإن ه‬
‫أنهم شهدوا بتوحيده قبل أن يسأل منه عباده ذلك ‪ ،‬وهذا هو التوحيد الخامس في القرآن ‪ ،‬وهو‬
‫ّللاُ أَنَّهُ ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو »وهو توحيد الهوية ‪ ،‬والشهادة على االسم المقسط ‪،‬‬ ‫ش ِه َد َّ‬
‫قوله تعالى« َ‬
‫وهو العدل في العالم بإعطاء كل شيء خلقه ‪ ،‬فوصف نفسه بإقامة الوزن في التوحيد ‪ ،‬أعني‬
‫ّللا الشاهد على ذلك من حيث أسماؤه‬ ‫توحيد الشهادة بالقيام بالقسط ‪ ،‬وجعل ذلك للهوية ‪ ،‬وكان ه‬
‫كلها ‪ ،‬فإنه عطف بالكثرة وهو قوله« َو ْال َمالئِ َكةُ َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم » ‪،‬فعلمنا حيث ذكر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولم‬
‫يعين اسما خاصا أنه أراد جميع األسماء اإللهية التي يطلبها العالم بالقسط ‪ ،‬إذ ال يزن على‬
‫نفسه ‪ ،‬فلم يدخل تحت هذا إال ما يدخل في الوزن ‪ ،‬فهذا توحيد القسط في إعطاء الحق في هذه‬
‫ْط »« ال ِإلهَ ِإ َّال‬ ‫الشهادة ‪ ،‬فإنه قال بعد قوله« قائِما ا ِب ْال ِقس ِ‬

‫ص ‪424‬‬

‫ص ‪432 :‬‬
‫يز ْال َح ِكي ُم » ‪،‬وبيهن الحق في هذه اآلية أن الشهادة ال تكون إال عن علم ال عن غلبة ظن‬ ‫ُه َو ْالعَ ِز ُ‬
‫‪ ،‬وال تقليد إال تقليد معصوم فيما يدعيه ‪ ،‬فتشهد له بأنك على علم ‪ ،‬كما نشهد نحن على األمم‬
‫أن أنبياءها بلهغتها دعوة الحق ‪ ،‬ونحن ما كنا في زمان التبليغ ‪ ،‬ولكن ص هدقنا الحق فيما أخبر به‬
‫في كتابه ‪ ،‬وكشهادة خزيمة ‪ ،‬وذلك ال يكون إال لمن هو في إيمانه على علم بمن آمن به ‪ ،‬ال‬
‫على تقليد وحسن ظن ‪.‬‬
‫ثم قوله تعالى بنفسه« ال إِلهَ إِ َّال ُه َو »نظير الشهادة األولى التي له ‪ ،‬فحصلت شهادة العالم له‬
‫بالتوحيد بين شهادتين إلهيتين أحاطتا بها ‪ ،‬حتى ال يكون للشقاء سبيل إلى القائل بها ‪ ،‬ثم ت همم‬
‫يز »ليعلم أن الشهادة الثانية له مثل األولى القتران العزة بها ‪ ،‬أي ال ينالها إال هو‬ ‫بقوله« ْالعَ ِز ُ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫‪ ،‬ألنها منيعة الحمى بالعزة ‪ ،‬ولو كانت هذه الشهادة من الخلق لم تكن منيعة الحمى عن ه‬
‫ّللا لنفسه ‪ ،‬فهو تعالى العزيز فال يصل أحد إلى العلم وال‬ ‫فد هل إضافة العزة لها على أنها شهادة ه‬
‫إلى الظفر بحقيقته ‪ .‬وقوله« ْال َح ِكي ُم »لوجود هذا الترتيب في إعطاء السعادة لصاحب هذه‬
‫ّللا ‪ ،‬من حيث االسم األول واآلخر وشهادة‬ ‫الشهادة ‪ ،‬حيث جعلها بين شهادتين منسوبتين إلى ه‬
‫حق قدرها ‪،‬‬ ‫الخلق بينهما ‪ ،‬فسبحان من قدهر األشياء مقاديرها ‪ ،‬وعجز العالم عن أن يقدهروها ه‬
‫فقرب البعيد في‬ ‫فكيف أن يقدروا من خلقها ‪ ،‬وهو تعالى الحكيم الذي نزل لعباده في كلماته ‪ ،‬ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فشهد‬ ‫ّللا جعل في قلب العارف كنز العلم ه‬ ‫الخطاب لحكمة أرادها تعالى ‪ -‬فائدة ‪ -‬اعلم أن ه‬
‫هّلل بما شهد به الحق لنفسه من أنه ال إله إال هو ‪ ،‬ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه ‪ ،‬فقال‬
‫ّللاُ أَنَّهُ ال إِلهَ إِ َّال ُه َو َو ْال َمالئِ َكةُ َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم »فجعلها كنزا في قلوب العلماء ه‬
‫باّلل‬ ‫ش ِه َد َّ‬‫تعالى ‪َ «:‬‬
‫‪ ،‬ولما كانت كنزا لذلك ال تدخل الميزان يوم القيامة ‪ ،‬وما يظهر لها عين إال إن كان في الكثيب‬
‫األبيض يوم الزور ‪ ،‬ويظهر جسمها وهو النطق بها عناية لصاحب السجالت ال غير ‪ ،‬فذلك‬
‫الواحد يوضع له في ميزانه التلفظ بها ‪ ،‬إذ لم يكن له خير غيرها ‪ ،‬فما يزن ظاهرها شيء ‪،‬‬
‫فأين أنت من روحها ومعناها ؟ فهي كنز م هدخر أبدا دنيا وآخرة ‪ ،‬وكل ما ظهر في األكوان‬
‫واألعيان من الخير فهو من أحكامها وحقها ‪.‬‬
‫‪3 / 19‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪19‬‬
‫ِين أُوتُوا ا ْل ِكت َ َ‬
‫اب ِإ هال ِم ْن بَ ْع ِد َما َجا َء ُه ُم ا ْل ِع ْل ُم بَ ْغيًا بَ ْينَ ُه ْم‬ ‫ف الهذ َ‬ ‫س َل ُم َو َما ْ‬
‫اختَلَ َ‬ ‫ِين ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللا ْ ِ‬
‫اإل ْ‬ ‫ِإ هن ال هد َ‬
‫ب (‪)19‬‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِح َ‬
‫سا ِ‬ ‫ّللا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ت هِ‬ ‫َو َم ْن يَ ْكفُ ْر ِبآيَا ِ‬

‫ص ‪425‬‬

‫ص ‪433 :‬‬
‫اإلسالم االنقياد إلى ما دعاك الحق إليه ظاهرا وباطنا على الصفة التي دعاك أن تكون عليها‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فمن‬ ‫عند اإلجابة ‪ - ،‬إشارة ‪ -‬الدين االنقياد ‪ ،‬والناموس هو الشرع الذي شرعه ه‬
‫ّللا له فذلك الذي قام بالدين ‪ ،‬وأقامه أي أنشأه كما يقيم الصالة ‪،‬‬ ‫اتصف باالنقياد لما شرعه ه‬
‫فالمكلف إما منقاد بالموافقة وإما مخالف ‪ ،‬فالموافق المطيع ال كالم فيه لبيانه ‪ ،‬وأما المخالف ‪،‬‬
‫ّللا أحد أمرين ‪ ،‬إما التجاوز والعفو ‪ ،‬وإما األخذ على ذلك ‪،‬‬ ‫فإنه يطلب بخالفه الحاكم عليه من ه‬
‫وال بد من أحدهما ألن األمر حق في نفسه ‪ ،‬فإنه يقتضي االنقياد ‪ ،‬فعلى كل حال صح انقياد‬
‫الحق إلى عبده بأفعاله وما هو عليه من الحال ‪.‬‬
‫‪-‬تحقيق ‪ -‬ما في الكون إال مسلم لغة ‪ ،‬ألنه ما ث هم إال منقاد لألمر اإللهي ‪ ،‬ألنه ما ث هم من قيل له‬
‫ّللا اإلسالم منه ومنك ‪،‬‬ ‫كن فأبى ‪ ،‬بل يكون من غير تثبهط ال يصح إال ذلك ‪ ،‬إن الدين عند ه‬
‫سواء كنت مخالفا للشرائع أو موافقا لها ‪ ،‬فالموافق لما أسلم إلى الحق ما يرضاه من انقياده ‪،‬‬
‫ّللا عنهم ورضوا عنه ‪ ،‬والمخالف أيضا على‬ ‫أسلم إليه ما يرضيه من نتائج استعداده ‪ ،‬رضي ه‬
‫وفق استعداده وقوة إنتاج فعله وإمداده ‪ ،‬فإن قوى إسالمه في الظلم والعدوان حكما في جميع‬
‫األديان ‪ ،‬أضرمت نتائجه عليه النيران وتسربل بالقطران ‪ ،‬ومن ضعفت مخالفاته وقويت‬
‫طاعاته في إسالمه ‪ ،‬أسلم إليه الحق الغفران ‪ ،‬فالكل دين وثواب ‪ ،‬ووفاق وعقاب ‪ ،‬ألن الدين‬
‫في اللسان العربي هو العادة ‪ ،‬والعقاب هو ما يعقب من أثر األحوال ‪ ،‬والحساب هو إحصاء‬
‫األنفاس واألعمال واألحوال واألقوال ‪ ،‬والثواب هو ر هد ما يقابلها من األجر والوزر ‪ ،‬فالكل‬
‫ّللا ثوابا وضده عقابا ‪ ،‬والموافقة من‬ ‫أجر ‪ ،‬ولكن العرف سمى المالئم من ذلك إذا كان من ه‬
‫العبد دينا وإسالما ‪ ،‬والمخالفة فسوقا وعصيانا ‪.‬‬
‫‪3 / 20‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪20‬‬
‫ين أ َأ َ ْ‬
‫سلَ ْمت ُ ْم فَ ِإ ْن‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِكت َ َ‬
‫اب َو ْاأل ُ ِ هم ِيه َ‬ ‫َّلل َو َم ِن اتهبَعَ ِن َوقُ ْل ِللهذ َ‬
‫ي ِه ِ‬ ‫سلَ ْمتُ َوجْ ِه َ‬ ‫فَ ِإ ْن َحا ُّجوكَ فَقُ ْل أ َ ْ‬
‫ير ِبا ْل ِعبَا ِد (‪)20‬‬
‫ّللاُ بَ ِص ٌ‬
‫غ َو ه‬ ‫أَ ْ‬
‫سلَ ُموا فَقَ ِد ا ْهتَد َْوا َو ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَ ِإنه َما َ‬
‫علَ ْيكَ ا ْلبَ َل ُ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وما‬ ‫التبليغ أفضل األعمال ‪ ،‬وهو أخص أوصاف الرسل ‪ ،‬أي التبليغ عن ه‬

‫ص ‪426‬‬

‫ص ‪434 :‬‬
‫ّلل »أي انقدت ألمره ‪«-‬‬ ‫وك فَقُ ْل أ َ ْسلَ ْمتُ َو ْج ِه َ‬
‫ي ِ َّ ِ‬ ‫عدا هذا الوصف فإنه يشارك فيه ‪ «،‬فَإِ ْن َحا ُّج َ‬
‫ّللا ال يصح منه الندم على فعل ما يجب عليه‬ ‫غ »فإن المبلغ عن ه‬ ‫علَي َْك ْالبَال ُ‬ ‫َو ِإ ْن ت َ َولَّ ْوا فَإِنَّما َ‬
‫فعله ‪ ،‬لضرر قام به أو شفقة على من لم يسمع حيث زاد في شقائه لما أعلمه حين لم يصغ إلى‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫‪3 / 21‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪21‬‬
‫س ِط ِم َن‬ ‫ون بِا ْل ِق ْ‬‫ِين يَأ ْ ُم ُر َ‬ ‫ون الهذ َ‬ ‫ق َويَ ْقتُلُ َ‬ ‫ون النهبِ ِيه َ‬
‫ين بِغَ ْي ِر َح ه ٍ‬ ‫ّللا َويَ ْقتُلُ َ‬
‫ت هِ‬ ‫ون بِآيَا ِ‬ ‫ِين يَ ْكفُ ُر َ‬ ‫إِ هن الهذ َ‬
‫يم (‪)21‬‬ ‫ب أ َ ِل ٍ‬ ‫اس فَبَ ِ ه‬
‫ش ْر ُه ْم ِبعَذَا ٍ‬ ‫النه ِ‬
‫ّللا ما عصم من بالء الدنيا ‪ ،‬فإن األنبياء مع طاعتهم هّلل وحضورهم معه ال يأمنون أن‬ ‫إن ه‬
‫ّللا عامة عباده بشيء فيعم الصالح والطالح ‪ ،‬ألن الدنيا دار بالء ؛ قال تعالى ‪ِ «:‬إ َّن‬ ‫يصيب ه‬
‫اس‬ ‫ْط ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ق َويَ ْقتُلُونَ الَّذِينَ يَأ ْ ُم ُرونَ بِ ْال ِقس ِ‬ ‫ّللا َويَ ْقتُلُونَ النَّبِ ِيهينَ بِغَي ِْر َح ه ٍ‬ ‫ت َّ ِ‬‫الَّذِينَ يَ ْكفُ ُرونَ بِآيا ِ‬
‫ّللا كما دعا الرسل ‪ ،‬ألنهم المجاهدون الذين‬ ‫»وهم ورثة األنبياء الذين يدعون على بصيرة من ه‬
‫ّللا بينهم وبين‬ ‫اختاروا ألنفسهم أن يظهروا الحق والدين ‪ ،‬حتى يموتوا مجاهدين ‪ ،‬فشرك ه‬
‫ّللا ذلك في معرض الثناء على المقتولين ‪ ،‬وذم الذين‬ ‫األنبياء في المحنة وما ابتلوا به ‪ ،‬وذكر ه‬
‫باّلل‬
‫ّللا واجبة على كل مؤمن ه‬ ‫لم يصغوا إلى ما بلغ الرسول وال الوارث إليهم ‪ ،‬فالنصيحة لعباد ه‬
‫‪ ،‬وال يبالي ما يطرأ عليه من الذي ينصحه من الضرر ‪ ،‬فإن الدين النصيحة هّلل ولرسوله‬
‫وألئمة المسلمين وعامتهم ‪ ،‬فال يصرفنك عن ذلك صارف ‪ ،‬وال تظهر الندم على ذلك ‪ ،‬فإن‬
‫ش ْر ُه ْم‬ ‫ّللا ال يرى في باطنه إال النور الساطع ‪ ،‬سواء قبل قوله أو ر هد أو أذى «‪.‬فَبَ ِ ه‬ ‫المخبر عن ه‬
‫ب أ َ ِل ٍيم »من جملة الخطابات اإللهية البشارات ‪ ،‬وهي على قسمين ‪ :‬بشارة بما يسوء ‪ ،‬مثل‬ ‫بِعَذا ٍ‬
‫ش ْرهُ ِب َم ْغ ِف َرةٍ َوأ َ ْج ٍر‬‫ب أ َ ِل ٍيم »وبشارة بما يسر ‪ ،‬مثل قوله تعالى( فَبَ ِ ه‬ ‫ش ْر ُه ْم ِبعَذا ٍ‬ ‫قوله تعالى« فَبَ ِ ه‬
‫َك ِر ٍيم )فكل خبر يؤثر وروده في بشرة اإلنسان الظاهرة فهو خبر بشرى ‪ ،‬فالبشرى ال تختص‬
‫بالسعداء في الظاهر ‪ ،‬وإن كانت مختصة بالخير ‪ ،‬والكالم على هذه البشرى لغة وعرفا ‪ ،‬فأما‬
‫البشرى من طريق العرف فالمفهوم منها الخير وال بد ‪ ،‬ولما كان هذا الشقي ينتظر البشرى في‬
‫زعمه لكونه يتخيل أنه على الحق ‪ ،‬قيل بشره النتظاره البشرى ‪ ،‬ولكن كانت البشرى له‬
‫بعذاب أليم ‪ ،‬وأما من طريق اللغة فهو أن يقال له ‪ :‬ما يؤثر في بشرته ‪،‬‬

‫ص ‪427‬‬

‫ص ‪435 :‬‬
‫فإنه إذا قيل له خير أثر في بشرته بسط وجه وضحكا وفرحا واهتزازا وطربا ‪ ،‬وإذا قيل له‬
‫شر أثر في بشرته قبضا وبكاء وحزنا وكمدا واغبرارا وتعبيسا ‪ ،‬ولذلك قال تعالى ‪ُ ( :‬و ُجوهٌ‬
‫غبَ َرة ٌ ت َ ْر َهقُها قَت َ َرة ٌ )ذكر ما أثر في‬ ‫علَيْها َ‬ ‫ضاح َكةٌ ُم ْست َ ْب ِش َرة ٌ ‪َ ،‬و ُو ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ َ‬
‫ِ‬ ‫يَ ْو َمئِ ٍذ ُم ْس ِف َرة ٌ‬
‫بشرتهم ‪ ،‬فلهذا كانت البشرى تنطلق على الخير والشر لغة ‪ ،‬وأما في العرف فال ‪ ،‬ولهذا‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فقال في حق المؤمنين( لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا َوفِي ْاآل ِخ َرةِ )ولم يقل‬ ‫أطلقها ه‬
‫بما ذا ‪ ،‬فإن العرف يعطي أن ذلك بالخير ‪ ،‬وقرينة الحال تد هل عليه ‪ ،‬وقيل هنا « بشرهم »‬
‫ش َر أ َ َح ُد ُه ْم بِ ْاأل ُ ْنثى َ‬
‫ظ َّل َو ْج ُههُ ُمس َْودًّا‬ ‫شر ‪ ،‬يقول تعالى( َو ِإذا بُ ِ ه‬ ‫ألثر ما بشر به في بشرة كل من ب ه‬
‫ش ُر ُه ْم َربُّ ُه ْم ِب َر ْح َم ٍة ِم ْنهُ »ألن كل واحد أثر في بشرته‬ ‫ب أ َ ِل ٍيم »وقيل« يُبَ ِ ه‬ ‫ش ْر ُه ْم ِبعَذا ٍ‬ ‫)فقيل« فَبَ ِ ه‬
‫شر به ‪ ،‬ومن عيهنته الرسل بالبشرى أنه شقي فقد تميز بالشقاء ‪ ،‬فالبشرى مختصة بالمؤمن‬ ‫ما ب ه‬
‫حظ له في البشرى اإللهية برفع الوسائط ‪.‬‬ ‫وهو يبشر الكافر ‪ ،‬والكافر ال ه‬
‫‪3 / 22‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪22‬‬
‫ين (‪)22‬‬ ‫اص ِر َ‬ ‫ِين َح ِب َطتْ أ َ ْع َمالُ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيَا َو ْاآل ِخ َر ِة َو َما لَ ُه ْم ِم ْن نَ ِ‬ ‫أُولَئِكَ الهذ َ‬
‫ينجونهم من ذلك العذاب ‪.‬‬

‫‪3 / 25 - 23‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪25 : 23‬‬
‫ق‬‫ّللا ِليَحْ ُك َم بَ ْينَ ُه ْم ث ُ هم يَت َ َولهى فَ ِري ٌ‬
‫ب هِ‬ ‫ب يُ ْدع َْو َن إِلَى ِكتَا ِ‬ ‫ِين أُوتُوا نَ ِصيبًا ِم َن ا ْل ِكتَا ِ‬ ‫أَلَ ْم ت َ َر إِلَى الهذ َ‬
‫ت َو َ‬
‫غ هر ُه ْم فِي‬ ‫ار ِإ هال أَيها ًما َم ْعدُودَا ٍ‬ ‫سنَا النه ُ‬ ‫ُون (‪ )23‬ذَ ِلكَ ِبأَنه ُه ْم قَالُوا لَ ْن ت َ َم ه‬ ‫ِم ْن ُه ْم َو ُه ْم ُم ْع ِرض َ‬
‫سبَتْ‬‫ب فِي ِه َو ُو ِفهيَتْ ُك ُّل نَ ْف ٍس َما َك َ‬ ‫ف ِإذَا َج َم ْعنَا ُه ْم ِليَ ْو ٍم َال َر ْي َ‬ ‫ون (‪ )24‬فَ َك ْي َ‬ ‫دِينِ ِه ْم َما كَانُوا يَ ْفت َ ُر َ‬
‫ون (‪)25‬‬ ‫َو ُه ْم َال يُ ْظلَ ُم َ‬
‫الجمع ظهر في ثالثة مواطن ‪ :‬في أخذ الميثاق ‪ ،‬وفي البرزخ بين الدنيا واآلخرة ‪ ،‬والجمع في‬
‫البعث بعد الموت ‪ ،‬وما ثم بعد هذا الجمع جمع يع هم ‪ ،‬فإنه بعد القيامة كل دار تستقل بأهلها فال‬
‫يجتمع عالم اإلنس والجن بعد هذا الجمع أبدا‪.‬‬

‫ص ‪428‬‬

‫ص ‪436 :‬‬
‫‪3 / 26‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪26‬‬
‫قُ ِل الله ُه هم َما ِلكَ ا ْل ُم ْل ِك ت ُ ْؤتِي ا ْل ُم ْلكَ َم ْن تَشَا ُء َوت َ ْن ِز ُ‬
‫ع ا ْل ُم ْلكَ ِم هم ْن تَشَا ُء َوت ُ ِع ُّز َم ْن تَشَا ُء َوت ُ ِذ ُّل َم ْن‬
‫ِير (‪)26‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫علَى ُك ِ هل َ‬‫تَشَا ُء ِبيَ ِدكَ ا ْل َخ ْي ُر ِإنهكَ َ‬
‫لما كانت عبوديتنا هّلل يستحيل رفعها وعتقها ‪ ،‬ألنها صفة ذاتية له ‪ ،‬واستحال العتق منها ‪ ،‬نبه‬
‫تعالى على ذلك بقوله« قُ ِل اللَّ ُه َّم ما ِل َك ْال ُم ْل ِك »فسماه ملكا ليصح له اسم المالك ‪ ،‬ولم يقل مالك‬
‫ع ْال ُم ْل َك ِم َّم ْن تَشا ُء َوت ُ ِع ُّز َم ْن تَشا ُء َوت ُ ِذ ُّل َم ْن تَشا ُء »فإنه‬ ‫العالم «‪ .‬تُؤْ تِي ْال ُم ْل َك َم ْن تَشا ُء َوت َ ْن ِز ُ‬
‫الربه ‪ ،‬فله السيادة ‪ ،‬والعبد المربوب ‪ -‬وجه ‪ «-‬قُ ِل اللَّ ُه َّم ما ِل َك ْال ُم ْل ِك »وأي ملك أعظم من‬
‫العلم« تُؤْ تِي ْال ُم ْل َك َم ْن تَشا ُء »وهو ما أعطاه من العلم للمؤمن المقلد الجاهل ‪ ،‬السعيد في الدار‬
‫ع ْال ُم ْل َك ِم َّم ْن تَشا ُء »وأي ملك أفضل من العلم فينزعه من العالم غير المؤمن‬ ‫اآلخرة« َوت َ ْن ِز ُ‬
‫الذي هو من أهل النار« َوت ُ ِع ُّز َم ْن تَشا ُء »بذلك العلم« َوت ُ ِذ ُّل َم ْن تَشا ُء »بانتزاع ذلك العلم منه«‬
‫ِك ْال َخي ُْر »لما كان هو الخير المحض ‪ ،‬فإنه الوجود الخالص المحض الذي لم يكن عن عدم‬ ‫بِيَد َ‬
‫وال إمكان عدم وال شبهة عدم ‪ ،‬كان الخير كله بيديه ‪ ،‬فال يضاف إليه عدم الخير الذي هو‬
‫ِير »ولم يضف الشر إليه ‪ ،‬وهو الحكيم‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫الشر ‪ ،‬فإنه ال ينبغي لجالله ‪ِ «:‬إنَّ َك َ‬
‫الخبير ‪ -‬تحقيق ‪ -‬يتخيل أن المشيئة هنا ضميرها الرحمن ‪ ،‬وما ضميرها إال من ‪ ،‬وهو عين‬
‫األكوان ‪ ،‬ألنها قد قررنا أن الذي كانوا عليه في ثبوتهم هو عين القضاء ‪ ،‬من حيث أن العلم‬
‫تابع للمعلوم ‪ ،‬فالكون أعطاه العزل والوالية ‪ ،‬والعز والذل ‪ ،‬والرشد والغواية ‪ ،‬فحكم عليه بما‬
‫أعطاه ‪ ،‬فما قسط وال جار ‪ ،‬فإنه نعم الحاكم والجار ‪.‬‬

‫‪3 / 28 - 27‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪28 - 27‬‬
‫ج ا ْل َم ِيهتَ ِم َن ا ْل َح ه‬
‫يِ‬ ‫ي ِم َن ا ْل َم ِيه ِ‬
‫ت َوت ُ ْخ ِر ُ‬ ‫ج ا ْل َح ه‬‫ار ِفي الله ْي ِل َوت ُ ْخ ِر ُ‬ ‫تُو ِل ُج الله ْي َل ِفي النه َه ِار َوتُو ِل ُج النه َه َ‬
‫ين‬ ‫ين أ َ ْو ِليَا َء ِم ْن د ِ‬
‫ُون ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ون ا ْلكَافِ ِر َ‬
‫ب (‪َ )27‬ال يَت ه ِخ ِذ ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫سا ٍ‬ ‫ق َم ْن تَشَا ُء بِغَ ْي ِر ِح َ‬ ‫َوت َ ْر ُز ُ‬
‫سهُ َوإِلَى ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ش ْي ٍء إِ هال أ َ ْن تَتهقُوا ِم ْن ُه ْم تُقَاةً َويُ َحذه ُِر ُك ُم ه‬
‫ّللاُ نَ ْف َ‬ ‫ّللا فِي َ‬ ‫س ِم َن ه ِ‬ ‫َو َم ْن يَ ْفعَ ْل ذَ ِلكَ فَلَ ْي َ‬
‫ير (‪)28‬‬ ‫ا ْل َم ِص ُ‬

‫ص ‪429‬‬

‫ص ‪437 :‬‬
‫سه ُ‬ ‫ّللا عندنا محجور بقوله تعالى« َويُ َحذه ُِر ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ نَ ْف َ‬ ‫« َويُ َحذه ُِر ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ نَ ْف َ‬
‫سهُ »الكالم في ذات ه‬
‫ّللا كما‬
‫»وذلك من وجه من وجوه معنى هذه اآلية ‪ ،‬ففي ذلك إشارة إلى منع التفكر في ذات ه‬
‫أمر به الشرع ‪ ،‬ألن مقام الفكر ال يتعدى النظر في اإلله من كونه إلها وفيما ينبغي أن يستحقه‬
‫من له صفة األلوهية من التعظيم والجالل واالفتقار إليه بالذات ‪ ،‬وهذا كله يوجد حكمه قبل‬
‫وجود الشرائع ‪ ،‬ثم جاء الشرع به مخبرا وآمرا ‪ ،‬فأمر به وإن أعطته فطرة البشر ‪ ،‬ليكون‬
‫عبادة يؤجر عليها ‪ ،‬فإذا كان عمال مشروعا للعبد أثمر له ما ال يثمر له إذا اتصف به ال من‬
‫حيث ما هو مشروع ‪ ،‬وليس للفكر حكم وال مجال في ذات الحق ال عقال وال شرعا ‪.‬‬

‫‪3 / 29‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪29‬‬
‫ّللاُ‬ ‫ت َو َما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو ه‬ ‫اوا ِ‬
‫س َم َ‬ ‫ُور ُك ْم أ َ ْو ت ُ ْبدُوهُ يَ ْعلَ ْمهُ ه‬
‫ّللاُ َويَ ْعلَ ُم َما فِي ال ه‬ ‫صد ِ‬‫قُ ْل إِ ْن ت ُ ْخفُوا َما فِي ُ‬
‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬
‫ِير (‪)29‬‬ ‫علَى ُك ِ هل َ‬ ‫َ‬
‫ّللا بكل شيء عليم ‪ ،‬وعلى كل شيء قدير ‪ ،‬لهذا يتجلى في كل صورة ‪.‬‬ ‫تنبيه ‪ -‬لما كان ه‬

‫‪3 / 30‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪30‬‬
‫وء ت َ َو ُّد لَ ْو أ َ هن بَ ْينَ َها َوبَ ْينَهُ أ َ َمدًا‬
‫س ٍ‬‫ض ًرا َو َما ع َِملَتْ ِم ْن ُ‬‫يَ ْو َم ت َ ِج ُد ُك ُّل نَ ْف ٍس َما ع َِملَتْ ِم ْن َخ ْي ٍر ُمحْ َ‬
‫وف بِا ْل ِعبَا ِد (‪)30‬‬
‫ّللاُ َر ُء ٌ‬ ‫سهُ َو ه‬ ‫بَ ِعيدًا َويُ َحذه ُِر ُك ُم ه‬
‫ّللاُ نَ ْف َ‬
‫عندما تشرق األرض بنور ربها تعلم كل نفس بذلك النور ما قدمت وأخرت ألنها تجده محضرا‬
‫يكشفه لها هذا النور ‪ ،‬وما من نفس إال ولها نور تكشف به ما عملت ‪ ،‬فما كان من خير سرت‬
‫ّللاُ‬
‫ّللا اآلية بقوله ‪َ «:‬و َّ‬ ‫به ‪ ،‬وما كان من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ‪ ،‬ولهذا ختم ه‬
‫حظ في النور كيف يشقى شقاء‬ ‫ُف ِب ْال ِعبا ِد »حيث جعل لهم أنوارا يدركون بها ‪ ،‬ومن كان له ه‬ ‫َرؤ ٌ‬
‫األبد ‪ ،‬والنور ليس من عالم الشقاء فال بد أن يكون المآل إلى المالئم ‪ ،‬وهو المعبر عنه‬
‫خص نفسا من نفس وذكر الخير‬ ‫ه‬ ‫بالسعادة ألنه قال« ُك ُّل نَ ْف ٍس »فع هم وما‬

‫ص ‪430‬‬

‫ص ‪438 :‬‬
‫سهُ »أي ال تتعرضوا للتفكر فيها فتحكموا عليها‬ ‫والشر ‪ ،‬وأشار بقوله تعالى« َويُ َحذه ُِر ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ نَ ْف َ‬
‫ّللا أي ال تستعملوا‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ال تتفكروا في ذات ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫بأمر أنها كذا وكذا قال رسول ه‬
‫فيها الفكر ‪ ،‬ألن الفكر فيها ممنوع شرعا ‪ ،‬وسبب ذلك ارتفاع المناسبة بين ذات الحق وذات‬
‫ُف ِب ْال ِعبا ِد »يقول تعالى ما حذرناكم من النظر في ذات ه‬
‫ّللا إال رحمة بكم‬ ‫ّللاُ َرؤ ٌ‬
‫الخلق« َو َّ‬
‫وشفقة عليكم لما نعلم ما تعطيه القوة المفكرة للعقل من نفي ما نثبته على ألسنة رسلي من‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫صفاتي فتردونها بأدلتكم فتحرمون اإليمان فتشقون شقاوة األبد ‪ ،‬ثم أمر رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فأخذوا يتكلمون في ذات‬ ‫ّللا كما فعل بعض عباد ه‬ ‫عليه وسلم أن ينهانا ‪ ،‬أن نفكر في ذات ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وكل تكلم بما اقتضاه نظره ‪ ،‬فنفى واحد‬ ‫ّللا من أهل النظر ‪ ،‬واختلفت مقاالتهم في ذات ه‬ ‫ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا من حيث النظر في ذاته وعصوا ه‬ ‫عين ما أثبته اآلخر ‪ ،‬فما اجتمعوا على أمر واحد في ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وضل سعيهم في‬ ‫ّللا عنه رحمة بهم ‪ ،‬فرغبوا عن رحمة ه‬ ‫ورسوله بما تكلموا به مما نهاهم ه‬
‫الحياة الدنيا ‪ ،‬وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ‪ ،‬فقالوا هو علة ‪ ،‬وقال آخرون ليس بعلة ‪،‬‬
‫وقال آخرون ذات الحق ال تصح أن تكون جوهرا وال عرضا وال جسما بل عين إنيتها عين‬
‫ماهيتها ‪ ،‬وأنها ال تدخل تحت شيء من المقوالت العشرة ‪ ،‬وأطنبوا في ذلك ‪ ،‬ثم جاء الشرع‬
‫بنقيض ما دلت عليه العقول مما هو من صفات المحدثات ‪ ،‬ثم جاء بليس كمثله شيء مع ثبوت‬
‫هذه الصفات ‪ ،‬فلو استحالت كما يدل عليه العقل ما أطلقها على نفسه ‪ ،‬ولكان الخبر الصدق‬
‫ّللا رسوال إال بلسان قومه ليبين لهم ما أنزل إليهم ليفهموا ‪ ،‬وقد بيهن صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫كذبا ‪ ،‬إذ ما بعث ه‬
‫ّللا على أمته أنه بلغ ‪ ،‬فجهلنا النسبة بليس كمثله شيء ‪ ،‬وفهمنا معقول هذه‬ ‫عليه وسلم وأشهد ه‬
‫األلفاظ الواردة ‪ ،‬وأن المعقول منها واحد بالنظر إلى الوضع فتختلف نسبتها باختالف المنسوب‬
‫إليه ‪ ،‬ما تختلف حقائقها ألن الحقائق ال تتبدل ‪ .‬فمن وقف مع هذه األلفاظ ومعانيها ‪ ،‬وقال بعدم‬
‫علم النسبة إلى الحق ‪ ،‬فهو عالم مؤمن بما جاء من المنقول مع نفي المماثلة في النسبة ‪ ،‬وهو‬
‫العلم الصحيح بحقيقة الصفة الواردة الموصوف بها ذاتا مجهولة ‪ ،‬فاثبت على ما جاءتك به‬
‫الشريعة تسلم ‪ ،‬فهو أعلم بنفسه وأصدق في قوله ‪ ،‬وما عرفنا إال بما هو األمر عليه ‪ [.‬العلم‬
‫باّلل ديني إذ أدين به * والجهل بالعين إيماني وتوحيديفي كل مجلى أراه حين أشهده‬ ‫باّلل ]العلم ه‬
‫ه‬
‫* ما بين صورة تنزيه وتحديدفالعلم بالسمعيات هو علمنا الذي نعول عليه في الحكم الظاهر ‪،‬‬
‫ونأخذ بالكشف عند‬

‫ص ‪431‬‬

‫ص ‪439 :‬‬
‫ّللا تعليمنا بالتجلي ‪ ،‬فنشهد ما ال تدركه العقول بأفكارها مما ورد به‬ ‫التعمل بالتقوى ‪ ،‬فيتولى ه‬
‫السمع ‪ ،‬وأحاله العقل ‪ ،‬وتأوله عقل المؤمن ‪ ،‬وسلمه المؤمن الصرف أما إذا أردنا أن نتأول‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وهي من اآليات المتشابهة ‪ ،‬فنرد ذلك إلى آياته المحكمة ‪،‬‬ ‫نسبة النفس هنا إلى ه‬
‫سهُ »أي يحذركم أ هم كتابه ‪ ،‬بدليل قوله أول اآلية« يَ ْو َم ت َ ِج ُد‬ ‫فيكون قوله تعالى « َويُ َحذه ُِر ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ نَ ْف َ‬
‫ض َع‬‫سوءٍ »اآلية ‪ ،‬مع قوله تعالى« َو ُو ِ‬ ‫ت ِم ْن ُ‬ ‫ضرا ا َوما َ‬
‫ع ِملَ ْ‬ ‫ت ِم ْن َخي ٍْر ُم ْح َ‬ ‫ُك ُّل نَ ْف ٍس ما َ‬
‫ع ِملَ ْ‬
‫تاب فَت َ َرى ْال ُم ْج ِر ِمينَ ُم ْش ِف ِقينَ »اآلية ‪ ،‬مع ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من قوله صلهى‬ ‫ْال ِك ُ‬
‫ّللا عليه وسلم [ فوالذي ال إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها‬ ‫ه‬
‫إال ذراع واحد ‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب ‪ ،‬فيعمل بعمل أهل النار ‪ ،‬فيدخلها ‪ -‬الحديث ] فهذا تحذير‬
‫من أم الكتاب الذي يكون خاتمة العبد على وفق ما سبق له فيه ‪ ،‬وبهذا يفهم السر في ذكر‬
‫النفس وأم الكتاب متقاربين في أول السورة ‪ -‬راجع تفسير النفس في سورة المائدة آية ‪-116‬‬
‫ُف بِ ْال ِعبا ِد »فمن رأفته أن حذرنا نفسه ‪ ،‬فإنه من ليس كمثله شيء ال يعرف أبدا إال‬ ‫ّللاُ َرؤ ٌ‬
‫« َو َّ‬
‫بالعجز عن معرفته ‪ ،‬وذلك أن نقول ليس كذا وليس كذا ‪ ،‬مع كوننا نثبت له ما أثبته لنفسه‬
‫إيمانا ال من جهة عقولنا وال نظرنا ‪ .‬فليس لعقولنا إال القبول منه فيما يرجع إليه ‪ ،‬فهو الحي‬
‫الذي ال إله إال هو الملك القدوس السالم المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ‪ ،‬عالم الغيب‬
‫والشهادة الرحمن الرحيم ‪ ،‬الخالق البارئ المصور الحكيم ‪ ،‬بهذا وأمثاله أخبرنا عن نفسه ‪،‬‬
‫س ِمي ُع‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْي ٌء َو ُه َو ال َّ‬ ‫فنؤمن بذلك كله على علمه بذلك ‪ ،‬ال على تأويل منا لذلك ‪ ،‬فإنه( لَي َ‬
‫ير )فال ينضبط لعقل وال ناظر ‪ ،‬فما لنا من العلم به من طريق اإلثبات إال ما أوصله إلينا‬ ‫ص ُ‬ ‫ْالبَ ِ‬
‫في كتبه وعلى ألسنة رسله المترجمين عنه ‪ ،‬ليس غير ذلك ‪ .‬ونسبة هذه األسماء إليه غير‬
‫معلومة عندنا ‪ ،‬فإن المعرفة بالنسبة إلى أمر ما موقوفة على علم المنسوب إليه ‪ ،‬وعلمنا‬
‫بالمنسوب إليه ليس بحاصل ‪ ،‬فعلمنا بهذه النسبة الخاصة ليس بحاصل ‪ ،‬فالفكر والتفكر‬
‫ّللا وإياكم ممن عقل ‪ ،‬ووقف عندما وصل إليه منه‬ ‫والمتفكر يضرب في حديد بارد ‪ .‬جعلنا ه‬
‫سبحانه ‪ ،‬ونقل ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪31‬‬


‫ور َر ِحي ٌم) ‪( 31‬‬ ‫ّللاُ َ‬
‫غفُ ٌ‬ ‫ّللا فَات ه ِبعُونِي يُحْ ِب ْب ُك ُم ه‬
‫ّللاُ َويَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َو ه‬ ‫قُ ْل ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت ُ ِحبُّ َ‬
‫ون ه َ‬

‫ص ‪432‬‬

‫ص ‪440 :‬‬
‫اإلنسان ال يخلو أن يكون واحدا من ثالثة بالنظر إلى الشرع ‪ :‬وهو إما أن يكون باطنيا محضا‬
‫‪ ،‬وهو القائل بتجريد التوحيد حاال وفعال ‪ ،‬وهذا يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع وقلب أعيانها ‪،‬‬
‫ّللا وإياكم من‬ ‫وكل ما يؤدي إلى هدم قاعدة من قواعد الدين ‪ ،‬فهو مذموم بإطالق ‪ ،‬عصمنا ه‬
‫ذلك ‪ ،‬وإما أن يكون ظاهريا محضا متغلغال بحيث أن يؤديه ذلك إلى التجسيم والتشبيه ‪ ،‬فهذا‬
‫مثل ذلك ملحوق بالذم شرعا ‪ ،‬وإما أن يكون جاريا مع الشريعة على فهم اللسان حيثما مشى‬
‫ّللا له ‪ ،‬قال‬
‫الشارع مشى ‪ ،‬وحيثما وقف وقف قدما بقدم ‪ ،‬وهذا هو الوسط ‪ ،‬وبهذا تصح محبة ه‬
‫ّللاُ َويَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم »فباتباع‬ ‫تعالى لرسوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن يقول« فَاتَّبِعُونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم َّ‬
‫ّللا للعبد ‪ ،‬وغفرت الذنوب ‪ ،‬وصحت السعادة الدائمة ‪،‬‬ ‫الشارع واقتداء أثره ‪ ،‬صحت محبة ه‬
‫فإن االئتمام باإلمام يلزم ما دام يسمى إماما ‪ ،‬وإمامة الرسول ال ترتفع ‪ ،‬فاالتباع الزم ‪ ،‬ومحبة‬
‫ّللا عبده كان جميع قواه وجوارحه ‪ ،‬وهو ال يتصرف‬ ‫ّللا لمن اتبعه الزمة بال شك ‪ ،‬وإذا أحبه ه‬
‫ه‬
‫إال بقواه وجوارحه ‪ ،‬فال يتصرف إال با هّلل ‪ ،‬فيكون محفوظ التصرف في حركاته وسكناته ‪،‬‬
‫وكان سبب إقبال الحق على العبد إقبال العبد على الحق ‪ ،‬ومعنى االتباع أن نفعل ما يقول لنا ؛‬
‫فإن قال ‪ :‬اتبعوني في فعلي ‪ ،‬اتبعناه ‪ ،‬وإن لم يقل ‪ ،‬فالذي يلزمنا االتباع فيما يقول ‪ ،‬فاالتباع‬
‫إنما هو فيما حدهه لك في قوله ورسمه ‪ ،‬فتمشي حيث مشى بك ‪ ،‬وتقف حيث وقف بك ‪ ،‬وتنظر‬
‫فيما قال لك انظر ‪ ،‬وتسلم فيما قال لك سلهم ‪ ،‬وتعقل فيما قال لك اعقل ‪ ،‬وتؤمن فيما قال لك‬
‫آمن ‪ ،‬فإن اآليات اإللهية الواردة في الذكر الحكيم وردت متنوعة ‪ ،‬وتنوع لتنوعها وصف‬
‫المخاطب بها ‪ ،‬فمنها آيات لقوم يتفكرون ‪ ،‬وآيات لقوم يعقلون ‪ ،‬وآيات لقوم يسمعون ‪ ،‬وآيات‬
‫للمؤمنين ‪ ،‬وآيات للعالمين ‪ ،‬وآيات للمتقين ‪ ،‬وآيات ألولي النهى ‪ ،‬وآيات ألولي األلباب ‪،‬‬
‫صل وال تتعد إلى غير ما ذكر ‪ ،‬بل نزل كل آية وغيرها‬ ‫صل كما ف ه‬‫وآيات ألولي األبصار ‪ ،‬فف ه‬
‫بموضعها ‪ ،‬وانظر فيمن خاطب بها وكن أنت المخاطب بها ‪ ،‬فإنك مجموع ما ذكر فإنك‬
‫المنعوت بالبصر والنهى واللب والعقل والفكر والعلم واإليمان والسمع والقلب ‪ ،‬فأظهر بنظرك‬
‫الصفة التي نعتك بها في تلك اآلية الخاصة ‪ ،‬تكن ممن جمع له القرآن فاجتمع عليه ‪ ،‬فينتج لنا‬
‫االتباع فيما أمرنا به ‪ ،‬ونهانا عنه والوقوف عند حدوده أن نتبعه في أفعاله في خلقه ‪ ،‬وهي‬
‫المسماة كرامة وآية ‪ ،‬أي عالمة على صدق االتباع ‪ ،‬فإن الرسل أيضا تابعون ‪ ،‬فإنه‬

‫ص ‪433‬‬

‫ص ‪441 :‬‬
‫ّللا‬
‫ي ) *فيكون ما يظهر عليه من االتباع في فعل ه‬ ‫يقول عليه السالم( ِإ ْن أَتَّبِ ُع ِإ َّال ما يُوحى ِإلَ َّ‬
‫ّللا آية ‪ ،‬ويكون لنا ذلك كرامة ‪ ،‬وهو الفعل بالهمة والتوجه من غير‬ ‫نتيجة اتباعه ألوامر ه‬
‫مباشرة ‪ ،‬فيظهر على يد هذا العبد من خرق العوائد مما ال ينبغي أن يكون إال على ذلك الوجه‬
‫ّللا عليه وسلم فيما يرويه عن ربه‬ ‫من غير سبب إال مجرد اإلرادة إال هّلل تعالى ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ي مما افترضته عليه ‪،‬‬ ‫ي عبدي بشيء أحب إل ه‬ ‫عز وجل أنه قال الحديث وفيه ‪ ،‬وما تقرب إل ه‬ ‫ه‬
‫وال يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ‪ ،‬فإذا أحببته ‪ ،‬كنت له سمعا وبصرا ويدا‬
‫ومؤيدا ‪.‬‬
‫وإذا كان الحق سمع العبد وقواه في النوافل ‪ ،‬فكيف بالحب الذي يكون من الحق بأداء الفرائض‬
‫‪ ،‬وهو أن يكون الحق يريد بإرادة هذا العبد المجتبى ‪ ،‬ويجعل له التحكم في العالم بما شاء‬
‫عز وجل يعامل عباده بما يعاملونه‬ ‫ّللا ه‬‫بمشيئته تعالى األولية التعلق ‪ ،‬التي بها وفقه ‪ ،‬واعلم أن ه‬
‫به ‪ ،‬وإن كان ابتداء األمر منه ‪ ،‬ولكن هكذا علهمنا وقرر لدينا ‪ ،‬فإنا ال ننسب إليه إال ما نسبه‬
‫ّللاُ »وقوله صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا فَاتَّبِعُونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم َّ‬
‫إلى نفسه ‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى« إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ت ُ ِحبُّونَ َّ َ‬
‫ّللا ال يم هل حتى تملوا ] فكل مخالف أمر الحق ‪ ،‬فإنه يستدعي‬ ‫عليه وسلم في الصحيح [ إن ه‬
‫بهذه المخالفة من الحق مخالفة غرضه ‪ ،‬ولذلك ال يكون العفو والتجاوز والمغفرة من الحق‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬فإن كان جزاء فهو‬ ‫جزاء لمخالفة العبد في بعض العبيد ‪ ،‬وإنما يكون ذلك امتنانا من ه‬
‫جزاء لمن عفا عن عبد مثله وتجاوز ‪ ،‬وغفر لمن أساء إليه في دنياه ‪ ،‬فقام له الحق في تلك‬
‫ّللا‬
‫الصفة من العفو والصفح والتجاوز والمغفرة ‪ ،‬مثال بمثل ‪ ،‬يدا بيد ‪ ،‬ها وها ‪ ،‬وما نهى ه‬
‫عباده عن شيء إال كان منه أبعد ‪ ،‬وال أمرهم بكريم خلق إال كان الحق به أحق ‪ ،‬ففي هذا النبأ‬
‫الحق أنه يحب أتباعه ‪ ،‬وما يتبعه إال من أطاعه ‪ ،‬واتباع الرسول اتباع اإلله ‪ ،‬ألنه قال ه‬
‫عز‬
‫ع ِظيما ا )فصلوا‬‫سولَهُ فَقَ ْد فازَ فَ ْوزا ا َ‬ ‫ّللا )( َو َم ْن يُ ِط ِع َّ َ‬
‫ّللا َو َر ُ‬ ‫ع َّ َ‬‫سو َل فَقَ ْد أ َطا َ‬ ‫وجل( َم ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫الر ُ‬
‫عز وجل ‪ ،‬حب ليس‬ ‫عليه وسلهموا تسليما ‪ ،‬ومحبة اإلنسان المتبع محصورة بين حبين هّلل ه‬
‫بجزاء حب عناية ؛ وهو المحبة التي وفقك بها لالتباع ‪ ،‬فهو حبه منهة ‪ ،‬ثم يحبك حبه جزاء‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫على اتباعك من شرعه لك ‪ ،‬وهو حب كرامة ‪ ،‬فنحن مأمورون باتباعه صلهى ه‬
‫ّللا فيما فرض جزاء فرضين ‪ :‬فرض االتباع ‪ ،‬وفرض الفعل‬ ‫سن وفرض ‪ ،‬فنجازى من ه‬ ‫فيما ه‬
‫سن ولم يفرضه جزاء فرض واحد وسنة ‪ ،‬فرض االتباع‬ ‫الذي وقع فيه االتباع ‪ ،‬ونجازى فيما ه‬
‫وسنة الفعل الذي لم يوجبه ‪ ،‬فإن حوى ذلك الفعل على فرائض ‪ ،‬جوزينا جزاء الفريضة بما‬
‫فيه من الفرائض ‪،‬‬

‫ص ‪434‬‬

‫ص ‪442 :‬‬
‫ّللا العامل به من الخير ‪ ،‬وال بد‬ ‫فنجازى في كل عمل بحسب ما يقتضيه ذلك العمل مما وعد ه‬
‫من فريضة االتباع لذلك قال تعالى« قُ ْل »يا محمد ألمتك« ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت ُ ِحبُّونَ َّ َ‬
‫ّللا فَات َّ ِبعُونِي‬
‫»فجعل االتباع دليال ‪ ،‬وما قال في شيء دون شيء ‪ ،‬فإنه من ترك شيئا من اتباع الرسول‬
‫ّللا إياه على قدر ما نقص من‬ ‫ّللا عليه وسلم مما لم ينفرض عليه ‪ ،‬فإنه ينقص من محبة ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫اتباع الرسول ‪ ،‬وأكذب نفسه في محبته هّلل ‪ ،‬لعدم إتمام االتباع ‪ ،‬فإنه عند األكابر من أهل ه‬
‫لو اتبعه في جميع أموره ‪ ،‬وأخ هل باالتباع في أمر واحد مما لم ينفرض عليه ‪ ،‬بل خالف سنة‬
‫االتباع في ذلك مما أبيح له االتباع فيه ‪ ،‬أنه ما اتبعه قط ‪ ،‬وإنما اتبع هوى نفسه ‪ ،‬إال مع‬
‫ّللا عن االتباع ‪ ،‬فالحق ينوب عنه ‪ «.‬يُ ْح ِب ْب ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ‬ ‫األعذار الموجبة لعدم االتباع ‪ ،‬فإنه في حبس ه‬
‫»فإن صدقتم في محبتي فإني أحبكم ‪ ،‬ودليل صدق محبتكم لي هو االتباع وحصول محبتي لكم‬
‫سو ِل‬ ‫ّللاُ »وقال في االقتداء( لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم ِفي َر ُ‬ ‫‪ ،‬فاالتباع جاء بقوله تعالى« فَات َّ ِبعُو ِني يُ ْح ِب ْب ُك ُم َّ‬
‫ّللا جميل يحب الجمال ‪ ،‬وقد أمرنا أن نتزين له‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إن ه‬ ‫سنَةٌ )قال صلهى ه‬ ‫ّللا أُس َْوة ٌ َح َ‬
‫َّ ِ‬
‫ّللا تعالى« قُ ْل إِ ْن‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فاتباعه هو الزينة ‪ ،‬لذا قال ه‬ ‫‪ ،‬فالتجمل للحق باتباعه صلهى ه‬
‫ّللا يحب الجمال ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ّللاُ »أي تزينوا بزينتي يحببكم ه‬ ‫ّللا فَاتَّبِعُونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم َّ‬
‫ُك ْنت ُ ْم ت ُ ِحبُّونَ َّ َ‬
‫وعالمة المحبة اتباع المحبوب فيما أمر ونهى ‪ ،‬في المنشط والمكره ‪ ،‬والسراء والضراء ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإنه لو لم يكن معصوما ما صح‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وبهذه اآلية ثبتت عصمة رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم في جميع حركاته وسكناته وأفعاله‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫التأسي به ‪ ،‬فنحن نتأسى برسول ه‬
‫وأحواله وأقواله ‪ ،‬ما لم ينه عن شيء من ذلك على التعيين في كتاب أو سنة ‪ ،‬مثل نكاح‬
‫ُون ْال ُمؤْ ِمنِينَ )قال بعضهم ‪ :‬إني ألعرف متى يحبني ربي ‪ ،‬فقيل له ‪:‬‬ ‫صةا لَ َك ِم ْن د ِ‬ ‫الهبةخا ِل َ‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫عرفني ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬أوحي بعد رسول ه‬ ‫ومن أين لك معرفة ذلك ؟ فقال ‪ :‬هو ه‬
‫ّللاُ »وأنا في هذه الساعة في حال اتباع لما شرع ‪ ،‬وهو‬ ‫وسلم ؟ قال ‪ :‬قوله« فَات َّ ِبعُونِي يُ ْح ِب ْب ُك ُم َّ‬
‫ّللا محبه لي في هذه الساعة ‪ ،‬لكوني مجلى لما أحبه ‪ ،‬وهو‬ ‫صادق القول ‪ ،‬فأعطاني الحال أن ه‬
‫تعالى ناظر إلى محبوبه ‪ ،‬ومحبوبه ما أنا عليه ‪ ،‬فأضاف تعلق المحبة التي تصيرني محبوبا‬
‫ّللا عليه وسلم في كل فعل كان عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫باالتباع ‪ ،‬فورثة األفعال هم الذين اتبعوا رسول ه‬
‫وهيئة مما أبيح لنا اتباعه ‪ ،‬حتى في عدد نكاحه وفي أكله وشربه وجميع ما ينسب إليه من‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬من أوراد وتسبيح وصالة ‪ ،‬ال ينقص من ذلك ‪ ،‬فإن زاد عليها بعد‬ ‫األفعال التي أقامه ه‬
‫تحصيلها ‪ ،‬فما زاد عليها إال من حكم قوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‪:‬‬

‫ص ‪435‬‬

‫ص ‪443 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪32‬‬
‫ب ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين ) ‪( 32‬‬ ‫سو َل فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا ال يُ ِح ُّ‬ ‫الر ُ‬ ‫قُ ْل أ َ ِطيعُوا ه َ‬
‫ّللا َو ه‬
‫ّللا بأنه ال‬
‫ّللا في محبة الجزاء ‪ ،‬وهي محبة الكرامة ؛ غفر الذنوب وهو سترها ‪ ،‬ختم ه‬ ‫لما جعل ه‬
‫يحب الكافرين ‪ ،‬والكافر الساتر ‪ ،‬فعلمنا أنه ال يحب من عباده من يستر نعمه ‪ ،‬كانت النعم ما‬
‫ّللا فقد كفر بها ‪.‬‬ ‫كانت ‪ ،‬ومن ستر نعمة ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 33‬إلى ‪36‬‬


‫ين ( ‪ ) 33‬ذُ ِ هريهةً بَ ْعضُها ِم ْن‬ ‫علَى ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ص َطفى آ َد َم َونُوحا ً َوآ َل ِإ ْبرا ِهي َم َوآ َل ِع ْم َ‬
‫ران َ‬ ‫ِإ هن ه َ‬
‫ّللا ا ْ‬
‫ب ِإ ِنهي نَذَ ْرتُ لَكَ ما فِي بَ ْطنِي ُم َح هررا ً‬ ‫ام َرأَتُ ِع ْم َ‬
‫ران َر ه ِ‬ ‫ت ْ‬ ‫ع ِلي ٌم ( ‪ِ ) 34‬إ ْذ قالَ ِ‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ض َو ه‬ ‫بَ ْع ٍ‬
‫ض ْعتُها أ ُ ْنثى َو ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ضعَتْها قالَتْ َر ه ِ‬
‫ب ِإ ِنهي َو َ‬ ‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪ ) 35‬فَلَ هما َو َ‬ ‫فَتَقَبه ْل ِم ِنهي ِإنهكَ أ َ ْنتَ ال ه‬
‫س هم ْيتُها َم ْريَ َم َوإِنِهي أ ُ ِعيذُها بِكَ َوذُ ِ هريهتَها ِم َن‬
‫َاأل ُ ْنثى َوإِ ِنهي َ‬
‫س الذهك َُر ك ْ‬‫ضعَتْ َولَ ْي َ‬ ‫أ َ ْعلَ ُم بِما َو َ‬
‫يم ( ‪) 36‬‬ ‫الر ِج ِ‬
‫طان ه‬ ‫ش ْي ِ‬ ‫ال ه‬

‫س َّم ْيتُها َم ْريَ َم »ومعنى هذا االسم معلوم في اللسان الذي فيه سميت ‪ ،‬وهي محررة هّلل ‪،‬‬
‫« َو ِإ ِنهي َ‬
‫ومريم اسمها حنة ‪ ،‬ومريم لقب لها وصفت به ‪ ،‬فإن المريم المنقطعة عن الرجال ‪:‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪37‬‬


‫علَ ْيها َزك َِريها ا ْل ِمحْ َ‬
‫راب‬ ‫س ٍن َوأ َ ْنبَتَها نَباتا ً َح َ‬
‫سنا ً َو َكفهلَها َزك َِريها ُكلهما َد َخ َل َ‬ ‫فَتَقَبهلَها َربُّها بِقَبُو ٍل َح َ‬
‫ق َم ْن يَشا ُء ِبغَ ْي ِر‬
‫ّللا يَ ْر ُز ُ‬ ‫َو َج َد ِع ْندَها ِر ْزقا ً قا َل يا َم ْريَ ُم أَنهى لَ ِك هذا قالَتْ ُه َو ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬
‫ّللا ِإ هن ه َ‬
‫ب(‬
‫ِحسا ٍ‬
‫) ‪)37‬‬
‫الزم موضع عبادتك‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬الزم المحراب يأتيك رزقك بغير حساب ‪ ،‬أي الزم موضع عبادتك ‪ -‬وموضع‬
‫عبادتك ذاتك ‪ ،‬فالزم نفسك لتعرف قدرك ‪ ،‬يأتيك رزقك بغير حساب ‪ ،‬أي من حيث ال تحتسب‬
‫‪ ،‬أي إذا اشتغلت بعبوديتك فهو يعطيك من العلوم ما تحب وتريد‪.‬‬

‫ص ‪436‬‬

‫ص ‪444 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪38‬‬
‫ُّعاء ) ‪( 38‬‬ ‫ب َه ْب ِلي ِم ْن لَ ُد ْنكَ ذُ ِ هريهةً َط ِيهبَةً ِإنهكَ َ‬
‫س ِمي ُع الد ِ‬ ‫ُهنا ِلكَ دَعا َزك َِريها َربههُ قا َل َر ه ِ‬
‫لما دخل زكريا عليه السالم على مريم المحراب ‪ ،‬وهي بتول محررة ‪ -‬وقد علم زكريا ذلك ‪-‬‬
‫ّللا عند ذلك أن يهبه ولدا حين تعشق‬ ‫ّللا ‪ ،‬أعجبه حالها ‪ ،‬فطلب من ه‬ ‫ورأى عندها رزقا آتاها ه‬
‫بحالها ‪ ،‬فقال« َربه ِ َهبْ ِلي ِم ْن لَ ُد ْن َك »يقول من عندك ‪ ،‬عندية رحمة ولين وعطف« ذُ ِ هريَّةا‬
‫ّللا من االختصاص‬ ‫ُّعاء »ومريم في خياله من حيث مرتبتها وما أعطاها ه‬ ‫س ِمي ُع الد ِ‬ ‫ط ِيهبَةا إِنَّ َك َ‬
‫َ‬
‫بالعناية اإللهية ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪39‬‬


‫ص هدِقا ً ِب َك ِل َم ٍة ِم َن ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ش ُركَ ِبيَحْ يى ُم َ‬ ‫ب أ َ هن ه َ‬
‫ّللا يُبَ ِ ه‬ ‫ص ِلهي ِفي ا ْل ِمحْ را ِ‬‫فَنا َدتْهُ ا ْل َمل ِئكَةُ َو ُه َو قا ِئ ٌم يُ َ‬
‫ين ( ‪) 39‬‬ ‫صورا ً َونَبِيًّا ِم َن ال ه‬
‫صا ِل ِح َ‬ ‫س ِيهدا ً َو َح ُ‬ ‫َو َ‬

‫ب »ألنه دخل عليها المحراب عندما وجد عندها‬ ‫ص ِلهي فِي ْال ِم ْحرا ِ‬ ‫« فَنا َدتْهُ ْال َمالئِ َكةُ َو ُه َو قائِ ٌم يُ َ‬
‫س ِيهدا ا »وهو الكمال ‪ ،‬ألن مريم كملت‬ ‫ص هدِقا ا ِب َك ِل َم ٍة ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا َو َ‬ ‫ش ُر َك ِبيَ ْحيى ُم َ‬ ‫الرزق« أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا يُبَ ِ ه‬
‫فكمل يحيى بالنبوة ‪ .‬فسيادة يحيى عليه السالم سيادة ظاهرة ولهذا صرح بها في الكتاب المبين‬
‫‪ ،‬وأخفى فيه سيادة محمد سيد العالمين ‪ ،‬ثم صرح بها على لسانه في الشاهدين ‪ ،‬فالسيادة‬
‫الظاهرة سيادة الدنيا ‪ ،‬والسيادة الباطنة سيادة اآلخرة ‪ ،‬بقوله [ أنا سيد ولد آدم ] [ وأنا سيد‬
‫الناس يوم القيامة ]‬
‫فصرح بسيادة يحيى في القرآن لمناسبتها للظهور فظهر الوصف ‪ ،‬ولما كانت سيادة النبي‬
‫ّللا عليه وسلم باطنة ‪ ،‬أي محل ظهورها في الدار اآلخرة ‪ ،‬لذلك بطن ذكرها في الكتاب‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عن مباشرة النساء ‪ ،‬وهو العنين عندنا ‪ ،‬كما اقتطع‬ ‫العزيز ‪ ،‬وحصورا ‪ ،‬وهو الذي اقتطعه ه‬
‫مريم عن مباشرة الرجال ‪ ،‬فكان يحيى زير نساء ‪ ،‬كما كانت حنة مريما من أثر همة والده ‪،‬‬
‫صا ِل ِحينَ »فما‬
‫فما هي صفة كمال ‪ ،‬وإنما كان أثر همة ‪ ،‬فإن اإلنتاج عين الكمال« َونَبِيًّا ِمنَ ال َّ‬
‫ّللا برحمته في عباده الصالحين ‪ ،‬وهم‬ ‫ّللا قط ‪ ،‬وهو طلب األنبياء كلهم أن يدخلهم ه‬ ‫عصى ه‬
‫الذين لم يقع منهم معصية قط ‪ ،‬كبيرة وال صغيرة ‪ ،‬فانظر ما أثر سلطان الخيال من زكريا في‬
‫ابنه يحيى عليهما السالم ‪ ،‬حين استفرغت قوة زكريا في حسن حال مريم عليها السالم لما‬
‫ّللا من المنزلة ‪ ،‬فالخيال وإن كان من الطبيعة فله سلطان عظيم‬ ‫أعطاها ه‬

‫ص ‪437‬‬

‫ص ‪445 :‬‬
‫ّللا به من القوة اإللهية ‪ ،‬فإذا أراد اإلنسان أن ينجب ولده ‪ ،‬فليقم في نفسه‬
‫على الطبيعة لما أيده ه‬
‫عند اجتماعه مع امرأته صورة من شاء من أكابر العلماء ‪ ،‬وإن أراد أن يحكم أمر ذلك‬
‫فليصورها في صورتها التي نقلت إليه ‪ ،‬أو رآه عليها المصور ‪ ،‬ويذكر المرأته حسن ما كانت‬
‫عليه تلك الصورة ‪ ،‬وإذا صورها المصور فليصورها على صورة حسن علمه وأخالقه ‪ ،‬وإن‬
‫كانت صورته المحسوسة قبيحة المنظر فال يصورها إال حسنة المنظر ‪ ،‬بقدر حسن علمه‬
‫وأخالقه ‪ ،‬كأنه يجسد تلك المعاني ‪ ،‬ويحضر تلك الصورة المرأته ولعينه عند الجماع ‪،‬‬
‫ويستفرغان في النظر إلى حسنها ‪ ،‬فإن وقع للمرأة حمل من ذلك الجماع ‪ ،‬أثهر في ذلك الحمل‬
‫ما تخيال من تلك الصورة في النفس ‪ ،‬فيخرج المولود بتلك المنزلة وال ب هد حتى إنه إن لم يخرج‬
‫كذلك فألمر طرأ في نفس الوالدين عند نزول النطفة في الرحم ‪ ،‬أخرجهما ذلك األمر عن‬
‫مشاهدة تلك الصورة في الخيال من حيث ال يشعرون ‪ ،‬وتعبر عنه العامة بتوحم المرأة ‪ .‬وقد‬
‫يقع باالتفاق عند الوقاع في نفس أحد الزوجين أو الزوجين صورة كلب أو أسد أو حيوان ما ‪،‬‬
‫فيخرج الولد من ذلك الوقاع على أخالقه على صورة ما وقع للوالدين من تخيل ذلك الحيوان ‪،‬‬
‫وإن اختلفا فيظهر في الولد صورة ما تخيله الوالد وصورة ما تخيلته األم ‪ ،‬حتى في الحسن‬
‫الظاهر في الصورة أو في القبح ‪ ،‬والناس مع معرفتهم بهذا ال يرفعون به رأسا ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪40‬‬


‫ام َرأَتِي عاقِ ٌر قا َل كَذ ِلكَ ه‬
‫ّللاُ يَ ْفعَ ُل ما يَشا ُء ‪( 40‬‬ ‫غل ٌم َوقَ ْد بَلَغَنِ َ‬
‫ي ا ْل ِكبَ ُر َو ْ‬ ‫ب أَنهى يَك ُ‬
‫ُون ِلي ُ‬ ‫قا َل َر ه ِ‬
‫)‬

‫أعجب من حال زكريا عليه السالم ما رأيت ‪ ،‬وما رأيت من ظهر فيه سلطان اإلنسانية مثله ‪،‬‬
‫ط ِيهبَةا )فما سأل حتى تصور الوقوع ‪ ،‬وال بقوله« َربه ِ‬ ‫هو الذي يقول( هَبْ ِلي ِم ْن لَ ُد ْن َك ذُ ِ هريَّةا َ‬
‫ي ْال ِكبَ ُر َو ْام َرأ َ ِتي عا ِق ٌر »فأين هذه الحالة من تلك الحالة ؟ ‪ .‬فإن لم‬ ‫غال ٌم َوقَ ْد بَلَغَ ِن َ‬ ‫أَنَّى يَ ُك ُ‬
‫ون ِلي ُ‬
‫ّللاُ يَ ْفعَ ُل ما يَشا ُء‬
‫يكن ثم قرينة حال جعلته أن يقول مثل هذا حتى يقال له في الوحي« َكذ ِل َك َّ‬
‫ّللا يفعل ما يشاء في المعتاد أن يخرقه كما‬ ‫ّللا بذلك ‪ ،‬حتى يعلم غيره أن ه‬ ‫»فيكون قصده إعالم ه‬
‫ّللا‬
‫وقع ‪ ،‬وإن كان ذلك القول من نفسه فقد أعطته اإلنسانية قوتها ‪ ،‬فإن اإلنسان بذاته كما ذكره ه‬
‫ّللا في موضع إال وذكر عند ذكره صفة نقص تدل على خالف ما خلق له‬ ‫في كتابه ‪ ،‬فما ذكره ه‬

‫ص ‪438‬‬

‫ص ‪446 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪41‬‬
‫اس ثَلثَةَ أَيه ٍام ِإاله َر ْمزا ً َو ْ‬
‫اذك ُْر َربهكَ َكثِيرا ً َو َ‬
‫س ِبهحْ‬ ‫ب اجْ عَ ْل ِلي آيَةً قا َل آيَت ُكَ أَاله ت ُ َك ِله َم النه َ‬ ‫قا َل َر ه ِ‬
‫كار ( ‪) 41‬‬ ‫ي ِ َو ْ ِ‬
‫اإل ْب ِ‬ ‫ش ه‬‫ِبا ْلعَ ِ‬

‫في األمر المطلوب‬


‫اعلم أن األمر ظهر من بطون وبالعكس ‪ ،‬ومتى قوي الظاهر نقص الباطن ‪ ،‬وبالعكس ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ولذلك أمر‬‫فالظاهر مؤثر في الباطن محيل للمستمد منه إليه ‪ ،‬وبالعكس ‪ ،‬كل ذلك بإذن ه‬
‫ّللا تعالى زكريا عليه السالم بصمت ثالثة أيام وأن يأمر قومه بالذكر بكرة وعشية ‪ ،‬ليسوي‬ ‫ه‬
‫بذلك ظاهره مع وجود باطنه ‪ ،‬فيحيى ‪ ،‬ويستعين بذكر قومه لمناسبتهم إياه ‪ ،‬إذ كانوا ال‬
‫ّللا‬
‫يصلحون للصمت ‪ ،‬فالذكر أولى بهم ألنه كان شيخا كبيرا فانيا ‪ ،‬وامرأته عاقرا ‪ ،‬فأصلحها ه‬
‫له بوجود الحيض ‪ ،‬واستثنى من الكالم الرمز ‪ ،‬واألثر موجود من اإلشارة والرمز كما هو‬
‫موجود من نظم الحروف في النطق ‪ ،‬والرمز إشارة بكالم ال يفهمه إال المرادون به ‪ ،‬فإنه‬
‫الكالم الذي يعطي ظاهره ما لم يقصده قائله ‪ ،‬فإن الرموز ليست مرادة ألنفسها ‪ ،‬وإنما هي‬
‫مرادة لما رمزت له ‪ ،‬ومواضعها في القرآن آيات االعتبار كلها ‪ ،‬وكذلك اإلشارة واإليماء ‪،‬‬
‫فالرمز ما يقع باإلشارة ‪ ،‬فإن اإلشارة صريحة في األمر المطلوب ‪ ،‬بل هي أقوى في التعريف‬
‫من التلفظ باسم المشار إليه في مواطن يحتاج الكالم فيها إلى قرينة حال ‪ ،‬والنكر والحرف إنما‬
‫هو لفظ مجمل يحتمل التوجيه فيه إلى أمور مثل ما رمز الشاعر في التعريف بالنار من غير‬
‫أن يسميها فقال ‪:‬وطائرة تطير بال جناح * وتأكل في المساء وفي الصباحإلى قوله ‪:‬إذا ماتت‬
‫تجارح والداها * فترجع حية عند الجراحيريد بالوالدين الزناد ‪ ،‬فهذا هو الرمز في النار ‪ ،‬وقال‬
‫اآلخر في العينوطائرة تطير بال جناح * تفوق الطائرين وال تطيرإذا ما مسها الحجر استكنت *‬
‫وتنكر أن يالمسها الحرير يريد بالحجر اإلثمد‬

‫ص ‪439‬‬

‫ص ‪447 :‬‬
‫المنزه ال ه‬
‫ينزه ]‬ ‫ه‬ ‫[‬
‫نزه فقد ه‬
‫نزه عن التنزيه ‪ ،‬فإنه ماله نعت إال هو فيشبه ‪،‬‬ ‫ينزه ‪ ،‬فإنه إن ه‬
‫المنزه ال ه‬
‫ه‬ ‫‪-‬إشارة ‪-‬‬
‫فسبحه على الحكاية ‪ -‬فإنه سبح نفسه ‪ -‬وعلى ما أراد بذلك ‪ ،‬فهو تسبيح األدباء العارفين به‬
‫سبحانه ‪:‬‬

‫سورة آلعمران (‪ : )3‬آية ‪42‬‬


‫ساء ا ْلعالَ ِم َ‬
‫ين ( ‪) 42‬‬ ‫ص َط ِ‬
‫فاك عَلى نِ ِ‬ ‫فاك َو َط هه َر ِك َوا ْ‬
‫ص َط ِ‬ ‫ت ا ْل َملئِكَةُ يا َم ْريَ ُم إِ هن ه َ‬
‫ّللا ا ْ‬ ‫َوإِ ْذ قالَ ِ‬

‫فاك »ليظهر فيك الولد بالتوجه اإللهي في عين الرائي ‪ ،‬كجبريل تمثل لمريم بشرا‬ ‫ط ِ‬ ‫ص َ‬
‫«ا ْ‬
‫غالما ا زَ ِكيًّا ) ‪.‬‬ ‫سويا ‪ ،‬فقال لها ( إنما أن رسول ربك ) جئتك( ِألَه َ‬
‫َب لَ ِك ُ‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪45‬‬


‫وحي ِه ِإلَ ْيكَ‬
‫ب نُ ِ‬ ‫ين ) ‪ ( 43‬ذ ِلكَ ِم ْن أ َ ْن ِ‬
‫باء ا ْلغَ ْي ِ‬ ‫الرا ِك ِع َ‬
‫ار َك ِعي َم َع ه‬ ‫س ُجدِي َو ْ‬ ‫اقنُتِي ِل َر ِبه ِك َوا ْ‬ ‫يا َم ْريَ ُم ْ‬
‫ون ( ‪ِ ) 44‬إ ْذ‬ ‫ون أ َ ْقل َم ُه ْم أَيُّ ُه ْم يَ ْكفُ ُل َم ْريَ َم َوما ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم ِإ ْذ يَ ْخت َ ِص ُم َ‬‫َوما ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم ِإ ْذ يُ ْلقُ َ‬
‫سى ا ْب ُن َم ْريَ َم َو ِجيها ً فِي‬ ‫سي ُح ِعي َ‬ ‫س ُمهُ ا ْل َم ِ‬
‫ش ُر ِك ِب َك ِل َم ٍة ِم ْنهُ ا ْ‬ ‫ت ا ْل َملئِكَةُ يا َم ْريَ ُم ِإ هن ه َ‬
‫ّللا يُبَ ِ ه‬ ‫قالَ ِ‬
‫ين ) ‪( 45‬‬ ‫ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َو ِم َن ا ْل ُمقَ هر ِب َ‬

‫لما كان الولد ال يدعى إال ألبيه ‪ ،‬ال ينسب إلى أمه ‪ ،‬ألن األب له الدرجة من قوله تعالى(‬
‫علَ ْي ِه َّن َد َر َجةٌ )وله العلو فينسب إلى األشرف ‪ ،‬ولما لم يتمكن لعيسى عليه السالم أن‬
‫لرجا ِل َ‬
‫َو ِل ِ ه‬
‫ينسب إلى من وهبه لها بشرا سويا ‪ ،‬أعطيت أمه الكمال ‪ ،‬وهو المقام األشرف ‪ ،‬فنسب عيسى‬
‫إليها ‪ ،‬فقيل ‪ :‬عيسى ابن مريم ‪ ،‬فكان لها هذا الشرف مقام الدرجة التي شرف بها الرجال على‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫النساء ‪ ،‬فنسب االبن ألبيه ألجلها ‪ ،‬وكمال مريم شهد لها بذلك رسول ه‬
‫وآلسية امرأة فرعون ‪َ «.‬و ِمنَ ْال ُمقَ َّربِينَ »القرب من الحق قربان ‪ :‬قرب حقيقي ‪ ،‬وهو ارتباط‬
‫الرب بالمربوب وارتباط العبادة بالسيادة ‪ ،‬والحادث بالسبب الذي أحدثه ‪ ،‬والقرب الثاني‬
‫القرب بالطاعة ألمر المكلهف والدخول تحت حكمه ‪ ،‬فاألول قرب ذاتي يع هم جمع الموجودات ‪،‬‬

‫ص ‪440‬‬

‫ص ‪448 :‬‬
‫والثاني قرب اعتناء وكرامة ‪ ،‬فالقرب األول قرب رحم ونسب ‪ ،‬لو أراد الدافع أن يدفعه لم‬
‫يستطع ‪ ،‬ألنه لذاته هو قرب ‪ ،‬وقرب االختصاص قرب المكانة من السلطان ‪ ،‬والمسيح كل من‬
‫مسح أرضه بالمشي فيها ‪ ،‬والسياحة في نواحيها ليرى آثار ربه ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪46‬‬


‫اس فِي ا ْل َم ْه ِد َو َك ْهلً َو ِم َن ال ه‬
‫صا ِل ِح َ‬
‫ين ) ‪( 46‬‬ ‫َويُ َك ِله ُم النه َ‬
‫كان كالم عيسى عليه السالم في المهد داللة على براءة أمه مما نسب إليها ‪:‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪47‬‬


‫ق ما يَشا ُء ِإذا قَضى أ َ ْمرا ً‬
‫ّللاُ يَ ْخلُ ُ‬
‫س ِني بَش ٌَر قا َل كَذ ِل ِك ه‬ ‫س ْ‬ ‫ُون ِلي َولَ ٌد َولَ ْم يَ ْم َ‬‫ب أَنهى يَك ُ‬ ‫قالَتْ َر ه ِ‬
‫ُون ) ‪( 47‬‬ ‫فَ ِإنهما يَقُو ُل لَهُ ك ُْن فَيَك ُ‬
‫ون )وأصمنا الحق عن إدراك هذا‬ ‫ش ْيءٍ إِذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬‫وقال تعالى ‪ ( :‬إِنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫القول إال بطريق اإليمان ‪ ،‬وأعمانا عن توجهه على إيجاد األشياء ‪ ،‬بما نصب من األسباب ‪،‬‬
‫فيحتاج السمع إلى شق هذه الحجب حتى يسمع قول كن ‪ ،‬فخلق في المؤمن قوة اإليمان ‪،‬‬
‫فسرت في سمعه فأدرك قول كن ‪ ،‬وسرت في بصره فشاهد المكون لألسباب ‪:‬‬

‫سورة آلعمران ‪ ( 3 ) :‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪49‬‬


‫سرائِي َل أ َ ِنهي قَ ْد ِجئْت ُ ُك ْم‬ ‫سوالً إِلى بَنِي إِ ْ‬ ‫اإل ْن ِجي َل ) ‪َ ( 48‬و َر ُ‬ ‫تاب َوا ْل ِح ْك َمةَ َوالت ه ْوراةَ َو ْ ِ‬ ‫َويُعَ ِله ُمهُ ا ْل ِك َ‬
‫ئ‬ ‫ُون َط ْيرا ً ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫ّللا َوأ ُ ْب ِر ُ‬ ‫ط ْي ِر فَأ َ ْنفُ ُخ فِي ِه فَيَك ُ‬
‫ين َك َه ْيئ َ ِة ال ه‬ ‫ط ِ‬ ‫ق لَ ُك ْم ِم َن ال ِ ه‬‫ِبآيَ ٍة ِم ْن َر ِبه ُك ْم أ َ ِنهي أ َ ْخلُ ُ‬
‫ون فِي بُيُوتِ ُك ْم ِإ هن فِي‬ ‫ون َوما تَد ِهخ ُر َ‬ ‫ّللا َوأُنَ ِبهئ ُ ُك ْم ِبما تَأ ْ ُكلُ َ‬‫ص َوأُحْ ي ِ ا ْل َم ْوتى ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬ ‫ْاأل َ ْك َمهَ َو ْاأل َ ْب َر َ‬
‫ين ) ‪( 49‬‬ ‫ذ ِلكَ َآليَةً لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫ّللا عند سبب إال بتجل إلهي خاص لذلك الموجود ‪،‬‬ ‫هذه اآلية دالة على أنه ما من موجود خلقه ه‬
‫ال يعرفه السبب ‪ ،‬فيتكون هذا الموجود ‪ ،‬وهو قوله سبحانه وتعالى ‪ «:‬فَأ َ ْنفُ ُخ فِي ِه »فلم يكن‬
‫ّللا عليه بالكون ‪ ،‬وهو‬ ‫ّللا »فالطائر إنما كان لتوجه أمر ه‬ ‫طيْرا ا بِإِ ْذ ِن َّ ِ‬‫ون َ‬ ‫للسبب غير النفخ« فَيَ ُك ُ‬
‫قوله تعالى( ُك ْن )باألمر الذي يليق بجالله ‪ ،‬فالعامل في قوله تعالى « ِبإِ ْذ ِن‬

‫ص ‪441‬‬

‫ص ‪449 :‬‬
‫ّللا »يتعلق بيكون طيرا ‪ ،‬وأما عند مثبتي األسباب فيتعلق بقوله« فَأ َ ْنفُ ُخ »فإنه نسب الخلق‬ ‫َّ ِ‬
‫إلى عيسى عليه السالم ‪ ،‬وهو إيجاد صورة الطائر في الطين ‪ ،‬ثم أمره أن ينفخ فيه ‪ ،‬فقامت‬
‫تلك الصورة التي صورها عيسى عليه السالم طائرا حيها ‪ ،‬وقوله« ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬
‫ّللا »يعني األمر الذي‬
‫ّللا به في خلقه صورة الطائر ‪ ،‬والنفخ وإبراء األكمه واألبرص وإحيائه الميت ‪ ،‬فأخبر‬ ‫أمره ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ليكون ذلك وإحياء‬ ‫أن عيسى عليه السالم لم ينبعث إلى ذلك من نفسه ‪ ،‬وإنما كان عن أمر ه‬
‫الموتى من آياته على ما يدعيه ‪ ،‬ويخرج عليه السالم ممن يدهعى فيه الخلق ‪ ،‬إذ يقول تعالى(‬
‫ض ) *فلو قالوا عيسى دعي إلها‬ ‫ُون اللَّ ِهأ َ ُرونِي ما ذا َخلَقُوا ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬
‫قُ ْل أ َ فَ َرأ َ ْيت ُ ْم ما ت َ ْدعُونَ ِم ْن د ِ‬
‫ّللا وقد خلق من األرض ‪ ،‬لذلك قدم الحق ألجل هذا القول أن خلق عيسى للطير كان‬ ‫من دون ه‬
‫ّللا ‪ ،‬والمأمور عبد ‪ ،‬والعبد ال يكون إلها ‪ ،‬فكل‬ ‫ّللا ‪ ،‬فكان خلقه له عبادة يتقرب بها إلى ه‬ ‫بإذن ه‬
‫خلق أضيف إلى خلق فمجاز وصورة حجابية ‪ ،‬ليعلم العالم من الجاهل ‪ ،‬وفضل الخلق بعضهم‬
‫على بعض ‪ .‬واعلم أنه لما وجد عيسى من غير شهوة طبيعية ‪ ،‬فإنه كان من باب التمثيل في‬
‫صورة البشر ‪ ،‬فكان غالبا على الطبيعة بخالف من نزل عن هذه الرتبة ‪ ،‬ولما كان الممثل به‬
‫روحا في األصل كانت في قوة عيسى إحياء الموتى ‪ ،‬أال ترى السامري لمعرفته بأن جبريل‬
‫معدن الحياة حيث سلك ‪ ،‬أخذ من أثره قبضته فرماها في العجل فخار وقام حيا ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 50‬إلى ‪52‬‬


‫علَ ْي ُك ْم َو ِجئْت ُ ُك ْم بِآيَ ٍة ِم ْن َر ِبه ُك ْم‬ ‫َي ِم َن الت ه ْورا ِة َو ِأل ُ ِح هل لَ ُك ْم بَ ْع َ‬
‫ض الهذِي ُح ِ هر َم َ‬ ‫ص هدِقا ً ِلما بَ ْي َن يَد ه‬ ‫َو ُم َ‬
‫ست َ ِقي ٌم ( ‪ ) 51‬فَلَ هما‬ ‫ط ُم ْ‬‫ّللا َر ِبهي َو َربُّ ُك ْم فَا ْعبُدُوهُ هذا ِصرا ٌ‬ ‫ون ( ‪ ) 50‬إِ هن ه َ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُ ِ‬
‫فَاتهقُوا ه َ‬
‫ّللا آ َمنها ِب ه ِ‬
‫اَّلل‬ ‫صار ه ِ‬ ‫ون نَحْ ُن أ َ ْن ُ‬ ‫ّللا قا َل ا ْل َح ِ‬
‫واريُّ َ‬ ‫صاري ِإلَى ه ِ‬ ‫س ِعيسى ِم ْن ُه ُم ا ْل ُك ْف َر قا َل َم ْن أ َ ْن ِ‬ ‫أ َ َح ه‬
‫ون ) ‪( 52‬‬ ‫س ِل ُم َ‬ ‫ش َه ْد ِبأَنها ُم ْ‬‫َوا ْ‬

‫الحواريون هم العلماء أتباع عيسى عليه السالم ‪ ،‬والحواري هو من جمع في نصرة الدين بين‬
‫السيف والحجة ‪ ،‬فأعطي العلم والعبارة والحجة وأعطي السيف والشجاعة واإلقدام ‪ ،‬ومقاومة‬
‫التحدي في إقامة الحجة على صحة الدين المشروع‪.‬‬

‫ص ‪442‬‬

‫ص ‪450 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪53‬‬
‫سو َل فَا ْكت ُ ْبنا َم َع الشها ِهد َ‬
‫ِين ) ‪( 53‬‬ ‫َربهنا آ َمنها ِبما أ َ ْن َز ْلتَ َواتهبَ ْعنَا ه‬
‫الر ُ‬
‫ّللا لهم« ِآمنُوا ِب َّ ِ‬
‫اّلل »تقريرا لصحة ما نسبوه من األفعال‬ ‫فأضافوا اإليمان إليهم إيجادا ‪ .‬فقول ه‬
‫إليهم بهذه اإلضافة ‪ ،‬فهي إضافة شرعية ‪:‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪54‬‬
‫ين ) ‪( 54‬‬ ‫ّللاُ َخ ْي ُر ا ْلما ِك ِر َ‬
‫ّللاُ َو ه‬
‫َو َمك َُروا َو َمك ََر ه‬
‫ّللا بهم ‪ ،‬ال أنه استأنف مكرا‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬فهو عين مكر ه‬ ‫ّللا وهو عين مكرهم ‪ ،‬فرده ه‬ ‫ومكر ه‬
‫آخر ‪ ،‬ومنه إرداف النعم مع المخالفة وإبقاء الحال مع سوء األدب ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 55‬إلى ‪59‬‬


‫ِين اتهبَعُوكَ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َوجا ِع ُل الهذ َ‬ ‫ي َو ُم َط ِ هه ُركَ ِم َن الهذ َ‬ ‫ّللاُ يا ِعيسى إِ ِنهي ُمت َ َو ِفهيكَ َورافِعُكَ إِلَ ه‬ ‫إِ ْذ قا َل ه‬
‫ي َم ْر ِجعُ ُك ْم فَأَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم فِيما ُك ْنت ُ ْم فِي ِه ت َ ْخت َ ِلفُو َن ‪( 55‬‬‫ِين َكفَ ُروا إِلى يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة ث ُ هم إِلَ ه‬ ‫ق الهذ َ‬ ‫فَ ْو َ‬
‫ين ( ‪َ ) 56‬وأ َ هما‬ ‫شدِيدا ً فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َوما لَ ُه ْم ِم ْن ِ‬
‫ناص ِر َ‬ ‫ع ِذهبُ ُه ْم عَذابا ً َ‬ ‫)فَأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا فَأ ُ َ‬
‫ين ( ‪ ) 57‬ذ ِلكَ نَتْلُوهُ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ب ال ه‬ ‫ور ُه ْم َو ه‬
‫ّللاُ ال يُ ِح ُّ‬ ‫يه ْم أ ُ ُج َ‬
‫ت فَيُ َو ِفه ِ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫الهذ َ‬
‫ّللا َك َمث َ ِل آ َد َم َخلَقَهُ ِم ْن تُرا ٍ‬
‫ب ث ُ هم‬ ‫يم ( ‪ِ ) 58‬إ هن َمث َ َل ِعيسى ِع ْن َد ه ِ‬ ‫ت َوال ِذه ْك ِر ا ْل َح ِك ِ‬‫علَ ْيكَ ِم َن ْاآليا ِ‬‫َ‬
‫ُون ( ‪) 59‬‬ ‫قا َل لَهُ ك ُْن فَيَك ُ‬
‫لما قال أهل الطبيعة إن ماء المرأة ال يتكون منه شيء ‪ ،‬وإن الجنين الكائن في الرحم إنما هو‬
‫من ماء الرجل ‪ ،‬كان تكوين جسم عيسى عليه السالم تكوينا آخر ‪ ،‬وإن كان تدبيره في الرحم‬
‫تدبير أجسام البنين ‪ ،‬فإن كان من ماء المرأة إذ تمثل لها الروح بشرا سويا ‪ ،‬أو كان عن نفخ‬
‫بغير ماء ‪ ،‬فعلى كل وجه هو جسم رابع مغاير في النشء غيره من أجسام النوع اإلنساني ‪[،‬‬
‫مثل عيسى ]‬
‫ّللا َك َمث َ ِل‬
‫ولذلك قال تعالى« ِإ َّن َمث َ َل ِعيسى »أي صفة نشء عيسى« ِع ْن َد َّ ِ‬

‫ص ‪443‬‬

‫ص ‪451 :‬‬
‫ب »الضمير يعود على آدم ‪ ،‬ووقع الشبه في خلقه من غير أب ‪ ،‬أي صفة‬ ‫آ َد َم َخلَقَهُ ِم ْن تُرا ٍ‬
‫ون »فشبه الكامل وهو‬ ‫نشئه صفة نشء آدم ‪ ،‬إال أن آدم خلقه من تراب« ث ُ َّم قا َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫عيسى عليه السالم بالكامل وهو آدم عليه السالم من حيث خلقه بقوله كن ‪ ،‬فصفته صفة آدم في‬
‫صدوره عن األمر ‪ ،‬فأوقع التشبيه في عدم األبوة الذكرانية ‪ ،‬من أجل أنه نصبه دليال لعيسى‬
‫في براءة أمه ‪ ،‬ولم يوقع التشبيه بحواء وإن كان األمر عليه ‪ ،‬لكون المرأة محل التهمة لوجود‬
‫الحمل ‪ ،‬إذ كانت محال موضوعا للوالدة ‪ ،‬وليس الرجل بمحل لذلك ‪ ،‬والمقصود من الداللة‬
‫ارتفاع الشكوك ‪ ،‬وفي حواء من آدم ال يقع االلتباس لكون آدم ليس محال لما صدر عنه من‬
‫الوالدة ‪ ،‬وهذا ال يكون دليال إال عند من ثبت عنده وجود آدم وتكوينه والتكوين منه ‪ ،‬وكما ال‬
‫يعهد ابن من غير أب ‪ ،‬كذلك ال يعهد من غير أم ‪ ،‬فالمثل من طريق المعنى أن عيسى كحواء‬
‫‪ ،‬ولكن لما كان الدخل يتطرق في ذلك من المنكر لكون األنثى كما قلنا محال لما صدر عنها ‪،‬‬
‫ولذلك كانت التهمة ‪ ،‬كان التشبيه بآدم لحصول براءة مريم مما يمكن في العادة ‪ ،‬فظهور‬
‫عيسى من مريم من غير أب كظهور حواء من آدم من غير أم ‪ ،‬فكما وجد أنثى من ذكر وجد‬
‫ذكر من أنثى ‪ ،‬فختم بمثل ما به بدأ في إيجاد ابن من غير أب كما كانت حواء من غير أم ‪ ،‬ثم‬
‫أن عيسى على ما قيل لم يلبث في بطن مريم لبث البنين المعتاد ‪ ،‬ألنه أسرع إليه التكوين لما‬
‫ّللا أن يجعله آية ير هد به على الطبيعيين ‪ ،‬حيث حكموا على الطبيعة بما أعطتهم من العادة‬ ‫أراد ه‬
‫ّللا فيها من األسرار والتكوينات العجيبة ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬قوله‬ ‫‪ ،‬ال بما تقتضيه مما أودع ه‬
‫ّللا َك َمث َ ِل آ َد َم »هذا االشتراك في الفردية ‪ ،‬غير أن جسد عيسى‬ ‫تعالى« إِ َّن َمث َ َل ِعيسى ِع ْن َد َّ ِ‬
‫عليه السالم أخلص ‪ ،‬ولهذا سماه روحا ‪ ،‬وسمى ذلك آدم من األدمة ‪ ،‬فإنه مأخوذ من أديم‬
‫ب »ولم يقل « خلقهما‬ ‫األرض ‪ ،‬وأين األدمة من الصفاء النوراني ‪ ،‬ولهذا قال« َخلَقَهُ ِم ْن تُرا ٍ‬
‫»والضمير يعود على أقرب مذكور ‪ ،‬ومعنى االشتراك في الفردية هو أن فردانية اللطيفة‬
‫اإلنسانية ثبتت له بتقدم االثنين ‪ ،‬وهو تسوية البدن وتوجه الروح الكلي ‪ ،‬فظهرت النفس‬
‫الجزئية التي هي اللطيفة اإلنسانية فكانت فردا ‪ ،‬فظهرت الفردية في األجسام اإلنسانية في‬
‫وحي ) ‪* ،‬وفي عيسى‬ ‫س َّو ْيتُهُ َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫موضعين ‪ .‬في آدم عليه الصالة والسالم (فَإِذا َ‬
‫ت فَ ْر َجها فَنَفَ ْخنا فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫وحنا )ولهذا‬ ‫َت ِع ْمرانَ الَّتِي أ َ ْح َ‬
‫صنَ ْ‬ ‫عليه الصالة والسالم( َو َم ْريَ َم ا ْبن َ‬
‫ّللا َك َمث َ ِل آ َد َم »‪ -‬الوجه‬
‫قال تعالى« ِإ َّن َمث َ َل ِعيسى ِع ْن َد َّ ِ‬

‫ص ‪444‬‬

‫ص ‪452 :‬‬
‫ّللا تعالى‬ ‫الثالث ‪-‬لما كان عيسى عليه السالم هو الذي ستختم به الوالية المطلقة بنزوله ‪ ،‬نبه ه‬
‫ّللا َك َمث َ ِل آ َد َم َخلَقَهُ ِم ْن‬
‫على ختمية الظهور به وتمام دورته بقوله سبحانه« ِإ َّن َمث َ َل ِعيسى ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ون »فإن مماثلة عيسى آلدم عليهما السالم ليست من قبل المادة في‬ ‫ب ث ُ َّم قا َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫تُرا ٍ‬
‫ّللا تعالى خلق آدم بأنه من تراب ‪ ،‬ولكن المماثلة في ختميته الظهور‬ ‫خلقه ‪ ،‬ولذلك عرف ه‬
‫اآلدمي النبوي ‪ ،‬كما كان آدم خاتم انبساط الظهور للعالم من الغيب إلى الشهادة ‪ ،‬وابتداء المرآة‬
‫الكاملة اإلنسانية ‪ ،‬فهو المطلع األول الذي هو أول مظاهر الكمال في الخالفة الظاهرة ‪ ،‬ثم أخذ‬
‫يترقى بسطا في ذريته ‪ ،‬كما كان بروز الظهور في الوجود وأحكامه بالتدريج من الغيب إلى‬
‫الشهادة حتى انتهى إلى آدم عليه السالم ‪ ،‬فلذلك أيضا كان يرتقي بسطا من آدم في ذريته حتى‬
‫انتهى إلى عيسى ‪ ،‬فكان خاتما لظهور المرائي اإلنسانية التي تنسبط بها التجلي ‪ ،‬الذي هو في‬
‫ون »ولم يقل فكان ‪،‬‬ ‫مقابلة الغيب والشهادة ‪ ،‬وابتداء الرجوع إلى البطون ‪ ،‬فلذلك قال فيه« فَيَ ُك ُ‬
‫ألنه تمام زوجية العالم ‪ ،‬فهو ينبسط فيمن بعده إلى تمام النسخة اآلدمية ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 60‬إلى ‪62‬‬


‫ين ( ‪ ) 60‬فَ َم ْن َحا هجكَ فِي ِه ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َءكَ ِم َن ا ْل ِع ْل ِم فَقُ ْل‬ ‫ق ِم ْن َر ِبهكَ فَل تَك ُْن ِم َن ا ْل ُم ْمت َ ِر َ‬ ‫ا ْل َح ُّ‬
‫سنا َوأ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم ث ُ هم نَ ْبت َ ِه ْل فَنَجْ عَ ْل لَ ْعنَتَ ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ع أ َ ْبنا َءنا َوأ َ ْبنا َء ُك ْم َونِسا َءنا َونِسا َء ُك ْم َوأ َ ْنفُ َ‬
‫تَعالَ ْوا نَ ْد ُ‬
‫ّللا لَ ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫يز‬ ‫ق َوما ِم ْن ِإل ٍه ِإاله ه‬
‫ّللاُ َو ِإ هن ه َ‬ ‫ص ا ْل َح ُّ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 61‬إ هن هذا لَ ُه َو ا ْلقَ َ‬
‫ص ُ‬ ‫علَى ا ْلكا ِذ ِب َ‬ ‫َ‬
‫ا ْل َح ِكي ُم ) ‪( 62‬‬
‫ّللا هو واضع األشياء ‪ ،‬وهو الحكيم ‪ ،‬فما وضع شيئا إال في‬ ‫العبد المراقب ربه يعلم أن ه‬
‫ّللا فيما رتبه من الكائنات في العالم في كل‬ ‫موضعه ‪ ،‬وال أنزله إال منزلته ‪ ،‬فال يعترض على ه‬
‫فاّلل تعالى‬ ‫وقت ‪ ،‬وال يرجح نظره وفكره على حكمة ربه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬لو كان كذا لكان أحسن ‪ ،‬ه‬
‫يعلم ما خلق ‪ ،‬فما رتب في الزمان إال ما استحقه بخلقه ‪ ،‬فإنه أعطى كل شيء خلقه‪.‬‬

‫ص ‪445‬‬

‫ص ‪453 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 63‬إلى ‪64‬‬
‫واء بَ ْينَنا‬
‫س ٍ‬ ‫ب تَعالَ ْوا ِإلى َك ِل َم ٍة َ‬ ‫ِين ( ‪ ) 63‬قُ ْل يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬ ‫سد َ‬ ‫ع ِلي ٌم ِبا ْل ُم ْف ِ‬ ‫فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫ّللا فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا‬ ‫ش ْيئا ً َوال يَت ه ِخذَ بَ ْعضُنا بَ ْعضا ً أ َ ْربابا ً ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ّللا َوال نُش ِْركَ ِب ِه َ‬ ‫َوبَ ْينَ ُك ْم أَاله نَ ْعبُ َد ِإاله ه َ‬
‫ون ) ‪( 64‬‬ ‫س ِل ُم َ‬ ‫ش َهدُوا ِبأَنها ُم ْ‬ ‫فَقُولُوا ا ْ‬
‫زعمت طائفة من أهل الكتاب ممن اتخذوا عيسى ربا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إن محمدا يطلب منا أن نعبده‬
‫سواءٍ بَ ْينَنا ‪» . . .‬اآلية‬ ‫ّللا تعالى« قُ ْل يا أ َ ْه َل ْال ِكتا ِ‬
‫ب تَعالَ ْوا إِلى َك ِل َم ٍة َ‬ ‫كما عبدنا عيسى ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫ّللا تعالى ما أرسل الرسل إال ليدعوا الخلق إليه ‪ ،‬ال ليدعوهم إليهم ‪.‬‬ ‫فإن ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 65‬إلى ‪67‬‬


‫ون (‬‫اإل ْن ِجي ُل ِإاله ِم ْن بَ ْع ِد ِه أ َ فَل ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫ت الت ه ْوراةُ َو ْ ِ‬ ‫ون ِفي ِإ ْبرا ِهي َم َوما أ ُ ْن ِزلَ ِ‬ ‫ب ِل َم ت ُ َحا ُّج َ‬‫يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫س لَ ُك ْم بِ ِه ِع ْل ٌم َو ه‬
‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم‬ ‫ون فِيما لَ ْي َ‬ ‫‪) 65‬ها أ َ ْنت ُ ْم هؤ ِ‬
‫ُالء حاجَجْ ت ُ ْم فِيما لَ ُك ْم بِ ِه ِع ْل ٌم فَ ِل َم ت ُ َحا ُّج َ‬
‫س ِلما ً َوما َ‬
‫كان‬ ‫كان َحنِيفا ً ُم ْ‬ ‫كان إِ ْبرا ِهي ُم يَ ُهو ِديًّا َوال نَصْرانِيًّا َول ِك ْن َ‬ ‫ون ( ‪ ) 66‬ما َ‬ ‫َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ين ( ‪) 67‬‬ ‫ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ّللا عند كل دعاء يدعوه إليه من غير توقف ‪.‬‬ ‫ّللا« ُم ْس ِلما ا »منقادا إلى ه‬ ‫« َحنِيفا ا »أي مائال إلى ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪68‬‬


‫ي ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين «) ‪( 68‬‬ ‫ّللاُ َو ِل ُّ‬ ‫ِين اتهبَعُوهُ َوهذَا النهبِ ُّ‬
‫ي َوالهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َو ه‬ ‫إِ هن أ َ ْولَى النه ِ‬
‫اس بِ ِإ ْبرا ِهي َم لَلهذ َ‬
‫ي ْال ُمؤْ ِمنِينَ »من كونه مؤمنا ‪.‬‬ ‫ّللاُ َو ِل ُّ‬
‫َو َّ‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪ 69‬إلى ‪70‬‬


‫شعُ ُر َ‬
‫ون) ‪( 69‬‬ ‫ون ِإاله أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم َوما يَ ْ‬ ‫ب لَ ْو يُ ِضلُّونَ ُك ْم َوما يُ ِضلُّ َ‬ ‫َودهتْ طا ِئفَةٌ ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ُون ( ‪) 70‬‬ ‫ش َهد َ‬ ‫ّللا َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْ‬
‫ت هِ‬ ‫ب ِل َم ت َ ْكفُ ُر َ‬
‫ون ِبآيا ِ‬ ‫يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬

‫ص ‪446‬‬

‫ص ‪454 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 71‬إلى ‪73‬‬
‫ون ) ‪َ ( 71‬وقالَتْ طائِفَةٌ‬ ‫ق َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬‫ون ا ْل َح ه‬ ‫ق ِبا ْل ِ‬
‫باط ِل َوت َ ْكت ُ ُم َ‬ ‫ون ا ْل َح ه‬
‫س َ‬ ‫ب ِل َم ت َ ْل ِب ُ‬‫يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫آخ َرهُ لَعَله ُه ْم يَ ْر ِجعُ َ‬
‫ون (‬ ‫هار َوا ْكفُ ُروا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوجْ هَ النه ِ‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫آمنُوا ِبالهذِي أ ُ ْن ِز َل َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ّللا أ َ ْن يُ ْؤتى أ َ َح ٌد ِمثْ َل ما أُو ِتيت ُ ْم أ َ ْو‬ ‫‪َ ) 72‬وال ت ُ ْؤ ِمنُوا ِإاله ِل َم ْن ت َ ِب َع دِينَ ُك ْم قُ ْل ِإ هن ا ْل ُهدى ُهدَى ه ِ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 73‬‬ ‫س ٌع َ‬ ‫ّللاُ وا ِ‬ ‫ّللا يُ ْؤتِي ِه َم ْن يَشا ُء َو ه‬ ‫يُحا ُّجو ُك ْم ِع ْن َد َر ِبه ُك ْم قُ ْل إِ هن ا ْلفَ ْ‬
‫ض َل بِيَ ِد ه ِ‬
‫ّللا كله فضل ‪ ،‬ألن التوفيق منه فضل ‪،‬‬ ‫الفضل ال يدخل في الجزاء وبهذا كان فضال ‪ .‬فعطاء ه‬
‫والعمل له وهو العامل ‪ ،‬فالحاصل عن العمل بالموازنة وإن كان جزاء فهو فضل باألصالة ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪74‬‬


‫يم ) ‪( 74‬‬ ‫ّللاُ ذُو ا ْلفَ ْ‬
‫ض ِل ا ْلعَ ِظ ِ‬ ‫يَ ْخت َ ُّ‬
‫ص ِب َرحْ َم ِت ِه َم ْن يَشا ُء َو ه‬
‫ّللا‬
‫اعلم أن االختصاص اإللهي ال يقبل التحجير ‪ ،‬وال الموازنة وال العمل ‪ ،‬وأن ذلك من فضل ه‬
‫وّللا ذو الفضل العظيم ‪ ،‬ومن هنا يتضح خطأ من قال باكتساب النبوة‬ ‫يختص برحمته من يشاء ه‬ ‫ه‬
‫ّللا كل واحد باستعداد ‪ .‬واعلم أن‬
‫اختص ه‬
‫ه‬ ‫‪ ،‬فإن االستعداد غير مكتسب ‪ ،‬ال تع همل ألحد فيه ‪ ،‬بل‬
‫االختصاص اإللهي الذي يعطي السعادة غير االختصاص الذي يعطي كمال الصورة ‪ ،‬وقد‬
‫يجتمعان أعني االختصاصين في بعض األشخاص ؛ فاالختصاص الذي يعطي السعادة هو‬
‫االختصاص باإليمان ‪ ،‬والعصمة من المخالفة أو بموت عقيب توبة ‪ ،‬واالختصاص الذي‬
‫يعطي كمال الصورة هو الذي ال يعطي إال نفوذ االقتدار والتحكم في العالم ‪ ،‬بالهمة والحس ؛‬
‫والكامل من يرزق االختصاصين ‪ .‬فليس في الجنة موضع وال في النار موضع إال وله عمل‬
‫يطلبه من فعل وترك ‪ ،‬إال ما في الجنة من أمكنة االختصاص ‪ ،‬وليس في النار ذلك ‪ ،‬ولهذا ما‬
‫ورد في القرآن ( يختص بنقمته من يشاء ) وورد ( يختص برحمته من يشاء ) فالنار ينزل‬
‫فيها باألعمال ‪ ،‬والجنة ينزل فيها باألعمال واالختصاص اإللهي ‪ ،‬ولذا‬

‫ص ‪447‬‬

‫ص ‪455 :‬‬
‫قال [ سبقت رحمتي غضبي ] إلى االختصاص ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪75‬‬


‫طار يُ َؤ ِ هد ِه ِإلَ ْيكَ َو ِم ْن ُه ْم َم ْن ِإ ْن تَأ ْ َم ْنهُ ِبد ٍ‬
‫ِينار ال يُ َؤ ِ هد ِه ِإلَ ْيكَ ِإاله ما‬ ‫ب َم ْن ِإ ْن تَأ ْ َم ْنهُ ِب ِق ْن ٍ‬
‫َو ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ّللا ا ْل َكذ َ‬
‫ِب َو ُه ْم‬ ‫علَى ه ِ‬‫ون َ‬‫سبِي ٌل َويَقُولُ َ‬ ‫ين َ‬ ‫علَ ْينا فِي ْاأل ُ ِ هم ِيه َ‬ ‫س َ‬ ‫علَ ْي ِه قائِما ً ذ ِلكَ بِأَنه ُه ْم قالُوا لَ ْي َ‬‫د ُْمتَ َ‬
‫ون ) ‪( 75‬‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫يؤاخذ الكاذب على كذبه إذا كان عالما بكذبه في المواطن التي كلف أن يصدق فيها ‪ ،‬وإذا أخذ‬
‫من ال يعلم أنه كاذب ‪ ،‬إنما يؤاخذ من حيث أنه فرط في اقتناء العلم الذي يطلعه على هذا األمر‬
‫الذي كذب فيه من غير علم به أنه ليس بحق ‪ ،‬فما يؤاخذ إال بتفريطه في تحصيل ما ينبغي له‬
‫أن يحصله من العلم والعمل بما فيه نجاته وسعادته ‪ ،‬ال من جهة كذبه ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 76‬إلى ‪78‬‬


‫ّللا َوأ َ ْيمانِ ِه ْم‬
‫ون ِبعَ ْه ِد ه ِ‬‫شت َ ُر َ‬ ‫ِين يَ ْ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 76‬إ هن الهذ َ‬ ‫ب ا ْل ُمت ه ِق َ‬ ‫بَلى َم ْن أ َ ْوفى ِبعَ ْه ِد ِه َواتهقى فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا يُ ِح ُّ‬
‫ّللاُ َوال يَ ْن ُ‬
‫ظ ُر ِإلَ ْي ِه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َوال‬ ‫ق لَ ُه ْم فِي ْاآل ِخ َر ِة َوال يُ َك ِله ُم ُه ُم ه‬ ‫ث َ َمنا ً قَ ِليلً أُولئِكَ ال َخل َ‬
‫سبُو ُه ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب‬ ‫ب ِلتَحْ َ‬ ‫سنَت َ ُه ْم ِبا ْل ِكتا ِ‬ ‫ون أ َ ْل ِ‬
‫اب أ َ ِلي ٌم ( ‪َ ) 77‬و ِإ هن ِم ْن ُه ْم لَفَ ِريقا ً يَ ْل ُو َ‬ ‫يه ْم َولَ ُه ْم عَذ ٌ‬ ‫يُ َز ِ هك ِ‬
‫ّللا ا ْل َكذ َ‬
‫ِب‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫ون َ‬ ‫ّللا َويَقُولُ َ‬ ‫ّللا َوما ُه َو ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬ ‫ون ُه َو ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬ ‫ب َويَقُولُ َ‬‫َوما ُه َو ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬
‫ون ) ‪( 78‬‬ ‫َو ُه ْم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ّللا وما هو‬ ‫ّللا ‪ ،‬وقالوا ألتباعهم هذا من عند ه‬ ‫فهم األئمة المضلون الذين شرعوا ما لم يأذن به ه‬
‫ّللا الكذب وهم يعلمون ‪.‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬ويقولون على ه‬ ‫من عند ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪79‬‬


‫ّللا‬ ‫تاب َوا ْل ُح ْك َم َوالنُّبُ هوةَ ث ُ هم يَقُو َل ِللنه ِ‬
‫اس كُونُوا ِعبادا ً ِلي ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ّللاُ ا ْل ِك َ‬ ‫كان ِلبَش ٍَر أ َ ْن يُ ْؤ ِتيَهُ ه‬
‫ما َ‬
‫ون) ‪( 79‬‬‫س َ‬ ‫تاب َوبِما ُك ْنت ُ ْم تَد ُْر ُ‬‫ون ا ْل ِك َ‬ ‫ين بِما ُك ْنت ُ ْم تُعَ ِله ُم َ‬‫َول ِك ْن كُونُوا َربهانِ ِيه َ‬

‫ص ‪448‬‬

‫ص ‪456 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 79‬إلى ‪84‬‬
‫ّللا‬
‫ون ه ِ‬ ‫اس كُونُوا ِعبادا ً ِلي ِم ْن ُد ِ‬ ‫تاب َوا ْل ُح ْك َم َوالنُّبُ هوةَ ث ُ هم يَقُو َل ِللنه ِ‬ ‫ّللاُ ا ْل ِك َ‬ ‫كان ِلبَش ٍَر أ َ ْن يُ ْؤتِيَهُ ه‬ ‫ما َ‬
‫ون ( ‪َ ) 79‬وال يَأ ْ ُم َر ُك ْم أ َ ْن‬ ‫س َ‬ ‫تاب َو ِبما ُك ْنت ُ ْم تَد ُْر ُ‬ ‫ون ا ْل ِك َ‬ ‫ين ِبما ُك ْنت ُ ْم تُعَ ِله ُم َ‬ ‫َول ِك ْن كُونُوا َربهانِ ِيه َ‬
‫ون ( ‪َ ) 80‬و ِإ ْذ أ َ َخذَ ه‬
‫ّللاُ‬ ‫س ِل ُم َ‬ ‫تَت ه ِخذُوا ا ْل َمل ِئكَةَ َوالنه ِب ِيه َ‬
‫ين أ َ ْربابا ً أ َ يَأ ْ ُم ُر ُك ْم ِبا ْل ُك ْف ِر بَ ْع َد ِإ ْذ أ َ ْنت ُ ْم ُم ْ‬
‫ق ِلما َمعَ ُك ْم لَت ُ ْؤ ِمنُ هن بِ ِه‬ ‫ص ِ هد ٌ‬ ‫سو ٌل ُم َ‬ ‫ب َو ِح ْك َم ٍة ث ُ هم جا َء ُك ْم َر ُ‬ ‫ين لَما آت َ ْيت ُ ُك ْم ِم ْن ِكتا ٍ‬ ‫يثاق النهبِ ِيه َ‬
‫ِم َ‬
‫ش َهدُوا َوأَنَا َمعَ ُك ْم ِم َن‬ ‫ص ُرنههُ قا َل أ َ أ َ ْق َر ْرت ُ ْم َوأ َ َخ ْذت ُ ْم عَلى ذ ِل ُك ْم إِص ِْري قالُوا أ َ ْق َر ْرنا قا َل فَا ْ‬ ‫َولَت َ ْن ُ‬
‫ون َولَهُ‬ ‫ّللا يَ ْبغُ َ‬ ‫ِين ه ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 82‬أ َ فَغَ ْي َر د ِ‬ ‫سقُ َ‬ ‫ِين ) ‪ ( 81‬فَ َم ْن ت َ َولهى بَ ْع َد ذ ِلكَ فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْلفا ِ‬ ‫الشها ِهد َ‬
‫اَّلل َوما أ ُ ْن ِز َل‬ ‫ون ) ‪ ( 83‬قُ ْل آ َمنها ِب ه ِ‬ ‫ض َط ْوعا ً َوك َْرها ً َو ِإلَ ْي ِه يُ ْر َجعُ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫سلَ َم َم ْن فِي ال ه‬ ‫أَ ْ‬
‫ي ُموسى َو ِعيسى‬ ‫باط َوما أُوتِ َ‬ ‫س ِ‬ ‫وب َو ْاأل َ ْ‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫سحا َ‬ ‫سما ِعي َل َو ِإ ْ‬ ‫علَ ْينا َوما أ ُ ْن ِز َل عَلى ِإ ْبرا ِهي َم َو ِإ ْ‬ ‫َ‬
‫ون ) ‪( 84‬‬ ‫س ِل ُم َ‬‫ق بَ ْي َن أ َ َح ٍد ِم ْن ُه ْم َونَحْ ُن لَهُ ُم ْ‬ ‫ون ِم ْن َر ِبه ِه ْم ال نُفَ ِ هر ُ‬ ‫َوالنه ِبيُّ َ‬
‫ّللا عليه وسلم بين هذه األنوار كنور الشمس بين‬ ‫الشرائع كلها أنوار ‪ ،‬وشرع محمد صلهى ه‬
‫أنوار الكواكب ‪ ،‬فإذا ظهرت الشمس ‪ ،‬خفيت أنوار الكواكب ‪ ،‬واندرجت أنوارها في نور‬
‫ّللا عليه وسلم مع وجود‬ ‫الشمس ؛ فكان خفاؤها نظير ما نسخ من الشرائع بشرعه صلهى ه‬
‫أعيانها ‪ ،‬كما يتحقق وجود أنوار الكواكب ‪ ،‬ولهذا ألزمنا في شرعنا العام أن نؤمن بجميع‬
‫الرسل وجميع شرائعهم أنها حق ‪ ،‬فلم ترجع بالنسخ باطال ‪ ،‬ذلك ظن الذين جهلوا ‪ ،‬فرجعت‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ .‬فلو كانت الرسل في زمانه لتبعوه‬ ‫الطرق كلها ناظرة إلى طريق النبي صلهى ه‬
‫كما تبعت شرائعهم شرعه ‪ ،‬لذلك فإن الولي المحمدي يجمع بمرتبته جميع ما تفرق في الرسل‬
‫من الدعاء به ‪ ،‬فهو مطلق الدعاء بكل لسان ‪ ،‬ألنه مأمور باإليمان بالرسل وبما أنزل إليهم ‪،‬‬
‫فما وقف الولي المحمدي مع وحي خاص إال في الحكم بالحالل والحرمة ‪ ،‬وأما في الدعاء وما‬
‫ّللا عليه وسلم يؤذن بتركه ‪ ،‬فال يتركه إذا‬ ‫سكت عنه ولم ينزل فيه شيء في شرع محمد صلهى ه‬
‫نزل به وحي على نبي من األنبياء عليهم السالم ‪ ،‬رسوال كان أو غير رسول‪.‬‬

‫ص ‪449‬‬

‫ص ‪457 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪85‬‬
‫لم دِينا ً فَلَ ْن يُ ْقبَ َل ِم ْنهُ َو ُه َو فِي ْاآل ِخ َر ِة ِم َن ا ْلخا ِ‬
‫س ِر َ‬
‫ين ) ‪( 85‬‬ ‫س ِ‬‫اإل ْ‬ ‫َو َم ْن يَ ْبت َ ِغ َ‬
‫غ ْي َر ْ ِ‬
‫ألنه حرم نفسه أجر اآلخرة ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 86‬إلى ‪91‬‬


‫ق َوجا َء ُه ُم ا ْلبَ ِيهناتُ َو ه‬
‫ّللاُ ال‬ ‫سو َل َح ٌّ‬ ‫ّللاُ قَ ْوما ً َكفَ ُروا بَ ْع َد إِيمانِ ِه ْم َوش َِهدُوا أ َ هن ه‬
‫الر ُ‬ ‫ف يَ ْهدِي ه‬ ‫َك ْي َ‬
‫ين (‬ ‫اس أَجْ َم ِع َ‬ ‫ّللا َوا ْل َملئِ َك ِة َوالنه ِ‬ ‫علَ ْي ِه ْم لَ ْعنَةَ ه ِ‬
‫ين ( ‪ ) 86‬أُولئِكَ َجزا ُؤ ُه ْم أ َ هن َ‬ ‫يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ِين تابُوا ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ‬ ‫ون ) ‪ِ ( 88‬إاله الهذ َ‬ ‫ذاب َوال ُه ْم يُ ْن َظ ُر َ‬ ‫ع ْن ُه ُم ا ْلعَ ُ‬
‫ف َ‬ ‫ِين فِيها ال يُ َخفه ُ‬‫‪ ) 87‬خا ِلد َ‬
‫ازدادُوا ُك ْفرا ً لَ ْن ت ُ ْقبَ َل‬ ‫ِين َكفَ ُروا بَ ْع َد ِإيمانِ ِه ْم ث ُ هم ْ‬ ‫ور َر ِحي ٌم ( ‪ِ ) 89‬إ هن الهذ َ‬ ‫صلَ ُحوا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫غف ُ ٌ‬ ‫َوأ َ ْ‬
‫ون ) ‪( 90‬‬ ‫ضالُّ َ‬ ‫ت َ ْوبَت ُ ُه ْم َوأُول ِئكَ ُه ُم ال ه‬
‫افتَدى بِ ِه أُولئِكَ‬ ‫ض ذَ َهبا ً َولَ ِو ْ‬ ‫ار فَلَ ْن يُ ْقبَ َل ِم ْن أ َ َح ِد ِه ْم ِم ْل ُء ْاأل َ ْر ِ‬
‫ِين َكفَ ُروا َوماتُوا َو ُه ْم ُكفه ٌ‬ ‫إِ هن الهذ َ‬
‫ين ) ‪( 91‬‬ ‫ناص ِر َ‬‫َذاب أ َ ِلي ٌم َوما لَ ُه ْم ِم ْن ِ‬‫لَ ُه ْم ع ٌ‬
‫ع ْد ٌل )وقوله( فَ ْاليَ ْو َم ال يُؤْ َخذُ ِم ْن ُك ْم فِ ْديَةٌ َوال ِمنَ الَّذِينَ َكفَ ُروا ) ‪.‬‬ ‫هو قوله تعالى( َوال يُؤْ َخذُ ِم ْنها َ‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪92‬‬


‫ع ِلي ٌم ) ‪( 92‬‬ ‫ش ْي ٍء فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا ِب ِه َ‬ ‫ون َوما ت ُ ْن ِفقُوا ِم ْن َ‬
‫لَ ْن تَنالُوا ا ْل ِب هر َحتهى ت ُ ْن ِفقُوا ِم هما ت ُ ِحبُّ َ‬
‫ّللا عنهما يشتري السكر ويتصدق به ويقول ‪ :‬إني أحبه ‪ ،‬عمال‬ ‫ّللا بن عمر رضي ه‬ ‫كان عبد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬نال بذلك ما في موازنتها ‪ ،‬فإنه‬ ‫بهذه اآلية ‪ ،‬وأحب ما لإلنسان نفسه ‪ ،‬فإن أنفقها في سبيل ه‬
‫من استهلك شيئا فعليه قيمته ‪ ،‬والحق قد استهلك نفس هذا العبد ‪ ،‬فإنه أمرك بإنفاق ما تحبه ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ال يوجد إال عند عدم‬ ‫وما لها قيمة عنده إال الجنة ‪ ،‬ولهذا إذا لم تجد شيئا وجدت ه‬
‫األشياء التي يركن إليها ‪ ،‬ونفس اإلنسان هي عين األشياء كلها ‪ ،‬وقد هلكت ‪ ،‬فقيمتها ما‬
‫ذكرناه‪.‬‬

‫ص ‪450‬‬

‫ص ‪458 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 93‬إلى ‪95‬‬
‫س ِه ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن تُنَ هز َل الت ه ْوراةُ قُ ْل‬
‫سرائِي ُل عَلى نَ ْف ِ‬ ‫سرائِي َل ِإاله ما َح هر َم ِإ ْ‬ ‫كان ِحلًّ ِلبَنِي ِإ ْ‬‫عام َ‬ ‫ط ِ‬ ‫ُك ُّل ال ه‬
‫ّللا ا ْل َكذ َ‬
‫ِب ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫افتَرى َ‬ ‫ين ( ‪ ) 93‬فَ َم ِن ْ‬ ‫فَأْتُوا ِبالت ه ْورا ِة فَاتْلُوها ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬
‫كان ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ين‬ ‫ّللاُ فَات ه ِبعُوا ِملهةَ ِإ ْبرا ِهي َم َح ِنيفا ً َوما َ‬ ‫َق ه‬ ‫ون ( ‪ ) 94‬قُ ْل َ‬
‫صد َ‬ ‫فَأ ُول ِئكَ ُه ُم ال ه‬
‫ظا ِل ُم َ‬
‫) ‪( 95‬‬
‫أمرنا الحق أن نتبع ملة إبراهيم ‪ ،‬ألن العصمة مقرونة بها ‪ ،‬فكان الخليل حنيفا أي مائال إلى‬
‫الحق ‪ ،‬مسلما منقادا إليه ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪96‬‬


‫ين ) ‪( 96‬‬‫دى ِل ْلعالَ ِم َ‬ ‫اس لَلهذِي ِببَكهةَ ُم َ‬
‫باركا ً َو ُه ً‬ ‫ِإ هن أ َ هو َل بَ ْي ٍ‬
‫ت ُو ِض َع ِللنه ِ‬
‫البيت المكي أول بيت وضع للناس معبدا ‪ ،‬والصالة فيه أفضل فيما سواه ‪ ،‬وهو أقدم المساجد‬
‫ّللا على سائر البيوت ‪،‬‬ ‫ّللا الدنيا ‪ ،‬فهذا البيت هو الذي اصطفاه ه‬ ‫بالزمان ‪ ،‬وكان البيت مذ خلق ه‬
‫باركا ا »أي جعلت فيه البركة والهدى ‪ ،‬فقد طاف به مائة ألف‬ ‫سر األولية في المعابد « ُم َ‬ ‫وله ه‬
‫نبي وعشرون ألف نبي ‪ ،‬سوى األولياء ‪ ،‬وما من نبي وال ولي إال وله همة متعلقة بهذا البيت‬
‫وهذا البلد الحرام ‪ ،‬فإن مكة خير وسيلة عبادية وأشرف منزلة جمادية ترابية ‪ ،‬فكما تتفاضل‬
‫المنازل الروحانية ‪ ،‬كذلك تتفاضل الجسمانية ‪ ،‬فكثير بين مدينة يكون أكثر عمارتها الشهوات‬
‫‪ ،‬وبين مدينة يكون أكثر عمارتها اآليات البينات ‪ ،‬لذلك كانت مكة أشرف بقاع األرض ‪ ،‬فإنها‬
‫ّللا عليه وسلم لمكة ‪ [ :‬إنك‬‫ّللا صلهى ه‬‫موطن لظهور يمين الحق وحضرة المبايعة ‪ .‬قال رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولوال أني أخرجت منك ما خرجت ] فمن رأى‬ ‫ّللا إلى ه‬
‫ّللا وأحب أرض ه‬ ‫وّللا لخير أرض ه‬ ‫ه‬
‫البيت ولم يجد عنده زيادة إلهية فما نال من بركة البيت شيئا ‪ ،‬ألن البركة الزيادة« َو ُهد ا‬
‫ى‬
‫ِل ْلعالَ ِمينَ »والهدى وهو البيان ‪ ،‬أي يتبين له ذلك الذي زاده به من العلم به ‪ ،‬فما جعلت البركة‬
‫في البيت إال أن يكون يعطي خازنه للطائف به القادم عليه ‪ ،‬خلع البركة والقرب والعناية ‪،‬‬
‫والبيان الذي هو الهدى في األمور المشكلة في األحوال والمسائل المبهمات اإللهية في العلم‬
‫باّلل ما يليق بمثل ذلك البيت المصطفى ‪ ،‬محل يمين الحق ‪ ،‬المبايع‬ ‫ه‬

‫ص ‪451‬‬

‫ص ‪459 :‬‬
‫ّللا‬ ‫ّللا من البركات والهدى ‪ ،‬ه‬
‫فإن داخل مكة قادم على ه‬ ‫المسجود عليه ‪ ،‬فإن هذا البيت خزانة ه‬
‫في حضرته ‪ ،‬ومن المحال أن ينزل أحد على كريم غني ويدخل بيته وال يضيفه ‪ ،‬فمن ال يجد‬
‫هذه الزيادة فما له سوى أجر األعمال الظاهرة في اآلخرة في الجنان ‪ ،‬وهو الحاصل لعامة‬
‫المؤمنين ‪ ،‬فإن جاور جاور األحجار ‪ ،‬وإن رجع إلى بلده رجع بخفي حنين دون زيادة علم‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪97‬‬


‫ع ِإلَ ْي ِه‬
‫ستَطا َ‬ ‫اس ِح ُّج ا ْلبَ ْي ِ‬
‫ت َم ِن ا ْ‬ ‫علَى النه ِ‬ ‫آمنا ً َو ِ ه ِ‬
‫َّلل َ‬ ‫فِي ِه آياتٌ بَ ِيهناتٌ َمقا ُم ِإ ْبرا ِهي َم َو َم ْن َد َخلَهُ َ‬
‫كان ِ‬
‫ين) ‪( 97‬‬ ‫ي ع َِن ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫غنِ ٌّ‬ ‫س ِبيلً َو َم ْن َكفَ َر فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫َ‬
‫نات »فإن لألمكنة في القلوب اللطيفة تأثيرا ‪ ،‬ولو وجد القلب في أي موضع كان‬ ‫آيات بَ ِيه ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ِفي ِه‬
‫الوجود األعم ‪ ،‬فوجوده بمكة أسنى وأتم ‪ ،‬فمن ال يجد الفرق في وجود قلبه بين السوق‬
‫والمساجد ‪ ،‬فهو صاحب حال ال صاحب مقام ‪ ،‬ومن تلك اآليات البينات أن المالئكة ‪ ،‬وإن‬
‫عمرت جميع األرض مع تفاضلهم في المعارف والرتب ‪ ،‬فإن أعالهم رتبة وأعظمهم علما‬
‫ومعرفة عمرة المسجد الحرام ‪ ،‬وعلى قدر جلسائك يكون وجودك ‪ ،‬فإن لهمم الجلساء في قلب‬
‫الجليس لهم تأثيرا ‪ ،‬وهممهم على قدر مراتبهم ‪ ،‬ولذلك فإن وجود القلب في مكة ليس للتراب ‪،‬‬
‫ولكن لمجالسة األتراب من المالئكة المكرمين ‪ ،‬أو الجن الصادقين ‪ ،‬أو من همة من كان‬
‫يعمره وفقد ‪ ،‬وبقيت آثارهم فيه ‪ ،‬ومن اآليات البينات الحجر والملتزم والمستجار ومقام‬
‫ّللا الحرام أجمع للخيرات من سائر البيوت ‪ ،‬ولهذا منع‬ ‫إبراهيم وزمزم إلى غير ذلك ‪ .‬فبيت ه‬
‫يم َو َم ْن َد َخلَهُ كانَ ِآمنا ا »من كل خوف ‪ ،‬إلى غير ذلك من‬ ‫حمل السالح في مكة ‪َ «.‬مقا ُم ِإبْرا ِه َ‬
‫اآليات ‪ ،‬فهو سلم كله ‪ ،‬من دخله كان آمنا ‪ ،‬فإنه أقدم الحرم ‪ ،‬فله التقدم على كل بيت ‪،‬‬
‫ويحتوي على أفعال وتروك ال تكون في غيره من العبادات وال في بيت من البيوت ‪ ،‬فإنه مح هل‬
‫يال »ال خالف في وجوب الحج بين‬ ‫س ِب ا‬
‫ع ِإلَ ْي ِه َ‬‫ت َم ِن ا ْستَطا َ‬ ‫اس ِح ُّج ْالبَ ْي ِ‬ ‫علَى النَّ ِ‬‫ّلل َ‬ ‫الحج ‪َ «.‬و ِ َّ ِ‬
‫علماء المسلمين ‪ ،‬فهو عندنا واجب على كل مستطيع من الناس ‪ ،‬صغير وكبير ‪ ،‬ذكر وأنثى ‪،‬‬
‫حر وعبد ‪ ،‬مسلم وغير مسلم ‪ ،‬وال يقع بالفعل إال بشروط معينة ‪ ،‬فإن اإليمان واإلسالم واجب‬
‫على كل إنسان ‪ ،‬واألحكام كلها الواجبة واجبة على كل إنسان ‪ ،‬ولكن يتوقف قبول فعلها أو‬
‫فعلها من اإلنسان على وجود اإلسالم ‪ ،‬فال‬

‫ص ‪452‬‬

‫ص ‪460 :‬‬
‫يقبل تلبسه بشيء منها إال بشرط وجود اإلسالم عنده ‪ ،‬فإن لم يؤمن أخذ بالواجبين جميعا يوم‬
‫القيامة ‪ :‬وجوب الشرط المصحح لقبول هذه العبادات ‪ ،‬ووجوب المشروط التي هي هذه‬
‫العبادات ‪ ،‬فإنه ما قال « على المسلمين » وال ذكر صفة زائدة على أعيانهم ‪ ،‬فأوجبها على‬
‫ّللا له تلك‬
‫األعيان وجوبا إلهيا ‪ ،‬والطفل الرضيع يصح حجه ‪ ،‬ولو مات عندنا قبل البلوغ كتب ه‬
‫اس »إشارة إلى‬ ‫علَى النَّ ِ‬ ‫ت » ]« َو ِ َّ ِ‬
‫ّلل َ‬ ‫اس ِح ُّج ْالبَ ْي ِ‬‫علَى النَّ ِ‬
‫ّلل َ‬‫الحجة عن فريضته ‪ -‬إشارة « [‪َ -‬و ِ َّ ِ‬
‫ت »وقرئ بكسر الحاء وهو االسم ‪ ،‬وبفتحها هو‬ ‫النسيان ولم يقل على بني آدم« ِح ُّج ْالبَ ْي ِ‬
‫المصدر ‪ ،‬يعني قصد هذا المكان من كونه بيتا ‪ ،‬ليتنبه باسمه على ما قصد به دون غيره ‪ ،‬لما‬
‫فيه من اشتقاق المبيت ‪ .‬فكأنه إنما سمي بيتا للمبيت فيه ‪ ،‬فإنه الركن األعظم في منافع البيت ‪،‬‬
‫فراعى حكم المبيت ‪ ،‬والمبيت ال يكون إال ليال ‪ ،‬والليل محل التجلي فيه ‪ ،‬فإن الحق ما جعل‬
‫تجليه لعباده في الحكم إال في الليل ‪ ،‬فإن فيه ينزل ربنا ‪ ،‬ومن فتح الحاء وجب أن يقصد البيت‬
‫ّللا له أن يفعلها ‪ .‬ومن‬ ‫ّللا به أن يفعله عند الوصول إليه ‪ ،‬في المناسك التي عيهن ه‬ ‫ليفعل ما أمره ه‬
‫قرأ بالكسر وأراد االسم ‪ ،‬فمعناه أن يراعي قصد البيت ‪ ،‬فيقصد ما يقصده البيت ‪ ،‬وبينهما بون‬
‫بعيد ‪ .‬فإن العبد بفتح الحاء يقصد البيت ‪ ،‬وبكسرها يقصد قصد البيت ‪ ،‬وقصد البيت قصد‬
‫حالي ‪ ،‬ألنه يطلب بصورته الساكن ‪ ،‬وما أمرك بالقصد إلى البيت ال إليه إال لكونه جعله قصدا‬
‫حسيا ‪ ،‬فيه قطع مسافة أقربها من بيتك الذي بمكة إلى البيت ‪ ،‬وهو معك أينما كنت ‪ .‬فال يصح‬
‫يال »أي من قدر على الوصول‬ ‫س ِب ا‬
‫ع ِإلَ ْي ِه َ‬
‫أن تقصد بالمشي الحسي من هو معك «‪َ .‬م ِن ا ْستَطا َ‬
‫إليه ‪ ،‬وحد االستطاعة يدخل فيها كل ما يؤدي الحاج إلى السكون من األسباب ‪ ،‬كالزاد‬
‫والراحلة في المباشرة وما قرره الشرع بالحكم ‪ .‬فينبغي لإلنسان أن يكون مثبتا لألسباب ‪،‬‬
‫فاعال بها غير معتمد عليها ‪ ،‬ألن التجرد عنها خالف الحكمة ‪ ،‬واالعتماد عليها خالف العلم ‪،‬‬
‫واالستطاعة بالنيابة مع العجز عن المباشرة ثبتت شرعا عندنا ‪ ،‬باألمر بالحج عمن ال يستطيع‬
‫لوليه ‪ ،‬أو باإلجارة عليه من ماله إن كان ذا مال ‪ .‬ومن شرط النائب في الحج إن كان وليها أن‬
‫يكون قد قضى فريضته ‪ .‬وأما إذا كان النائب باإلجارة فله حكم آخر ‪ .‬وأما العبد فواجب عليه‬
‫الحج ‪ ،‬وإن منعه سيده مع القدرة على تركه لذلك ‪ ،‬كان السيد عندنا من الذين يصدون عن‬
‫ّللا عليه وسلم أن العبد إذا حج عبدا ثم مات قبل‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ .‬وقد ورد عن رسول ه‬
‫سبيل ه‬
‫ّللا له ذلك الحج عن فريضته ‪ ،‬والمرأة إن منعها زوجها‬ ‫العتق كتب ه‬

‫ص ‪453‬‬

‫ص ‪461 :‬‬
‫ّللا إن كان لها محرم تسافر معه ‪ ،‬إذا كانت آفاقية ‪ .‬وأما إن‬ ‫فهو من الذين يصدون عن سبيل ه‬
‫كانت من أهل مكة ‪ ،‬فال تحتاج إلى إذن زوجها ‪ ،‬فإنها في محل الحج ‪ ،‬كما ال تستأذنه في‬
‫الصالة وال في صوم رمضان وال في اإلسالم وال في أداء الزكاة ‪ ،‬وهذه العبادة عندنا على‬
‫ّللا ما هو غني عن‬ ‫ع ِن ْالعالَ ِمينَ »اعلم أن ه‬
‫ي َ‬
‫غ ِن ٌّ‬ ‫الفور عند االستطاعة ‪َ «.‬و َم ْن َكفَ َر فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫العالم إال لظهوره بنفسه للعالم ‪ ،‬فاستغنى أن يعرف بالعالم ‪ ،‬فال يدل عليه الغير ‪ ،‬بل هو الدليل‬
‫على نفسه بظهوره لخلقه ‪ ،‬فال دليل عليه سواه ‪.‬فإنه ال شيء أد هل من الشيء على نفسه ‪ ،‬فهو‬
‫غني عن العالمين ‪ ،‬أي سواء ظهوركم وعدمكم ‪ ،‬فهو غني عن الداللة ‪ ،‬كأنه يقول ‪ :‬ما‬
‫ي وال أظهرته عالمة على وجودي ‪ ،‬وإنما أظهرته ليظهر حكم حقائق‬ ‫أوجدت العالم ليدل عل ه‬
‫ي سوائي ‪ ،‬فإذا تجليت عرفت بنفس التجلي ‪ ،‬والعالم عالمة‬ ‫أسمائي ‪ ،‬وليست لي عالمة عل ه‬
‫ي ‪ ،‬وعالمة أيضا على أني مستنده ال غير ‪ ،‬فإن كل حكم في العالم‬ ‫على حقائق األسماء ال عل ه‬
‫ال بد أن يستند إلى نعت إلهي ‪ ،‬إال النعت الذاتي الذي يستحقه الحق لذاته ‪ ،‬وبه كان غنيا عن‬
‫العالمين ‪ ،‬والنعت الذاتي الذي للعالم باالستحقاق وبه كان فقيرا ‪ ،‬بل عبدا ‪ ،‬فإنه أحق من نعت‬
‫الفقر ‪ ،‬وإن كان الفقر والذلة على السواء ‪ ،‬فالحق تعالى هو المنزه عن أن تدل عليه عالمة ‪،‬‬
‫فهو المعروف بغير حد ‪ ،‬المجهول بالحد ‪ ،‬ولهذا فإن التجلي اإللهي ال يكون إال لإلله وللربه ‪،‬‬
‫ّللا هو الغني ‪ ،‬وكذا االسم اإللهي األحد ‪ ،‬فال يتجلى في هذا االسم ‪،‬‬ ‫وال يكون هّلل أبدا ‪ ،‬فإن ه‬
‫وال يصح التجلي فيه ‪ ،‬وما عدا هذين االسمين من األسماء المعلومات لنا ‪ ،‬فإن التجلي يقع فيها‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو غني عن الدالالت عليه ‪ ،‬فرفع أن يكون بينه وبين‬ ‫‪ ،‬والعالمون هنا هو الدالالت على ه‬
‫العالم نسبة ووجه يربطه بالعالم ‪ ،‬من حيث ذلك الوجه الذي هو منه غني عن العالمين ‪ ،‬وهو‬
‫ي فيكون له وجه يربطني به ‪،‬‬ ‫الذي يسميه أهل النظر وجه الدليل ‪ .‬يقول الحق ‪ :‬ما ث هم دليل عل ه‬
‫ي أدلة المحدثات ‪،‬‬‫فأكون مقيدا به ‪ ،‬وأنا الغني العزيز ‪ ،‬الذي ال تقيدني الوجوه ‪ ،‬وال تد هل عل ه‬
‫فالواجب الوجود غني على اإلطالق ‪ ،‬فال شيء واجب الوجود لنفسه إال هو ‪ ،‬فهو الغني بذاته‬
‫على اإلطالق عن العالمين بالدليل العقلي والشرعي ‪ ،‬إذ لو أوجد العالم للداللة عليه لما صح له‬
‫الغنى عنه ‪ ،‬فهو أظهر وأجلى من أن يستدل عليه بغير ‪ ،‬أو يتقيد تعالى بسوى ‪ ،‬إذ لو كان‬
‫األمر كذلك ‪ ،‬لكان للدليل بعض سلطنة وفخر على المدلول ‪ ،‬فكان يبطل الغنى ‪ ،‬فما نصب‬
‫األدلة عليه ‪ ،‬وإنما‬

‫ص ‪454‬‬

‫ص ‪462 :‬‬
‫نصبها على المرتبة ‪ ،‬ليعلم أنه ال إله إال هو « ‪ ، » 1‬ولهذا ال يصح أن يكون عليه ‪ ،‬وإليه‬
‫ّللا وال شيء معه ] ‪ ،‬فهو غني عن الداللة ‪ .‬واعلم‬ ‫الداللة بقوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬كان ه‬
‫ّللا ذاتا ‪ ،‬ما هي معقولية كونه إلها ‪ ،‬وهي مرتبة ‪ ،‬وليس في الوجود العيني‬‫أن معقولية كون ه‬
‫سوى العين ‪ ،‬فهو من حيث هو غني عن العالمين ‪ ،‬ومن حيث األسماء التي تطلب العالم‬
‫إلمكانه لظهور آثارها فيه ‪ ،‬يطلب وجود العالم ‪ ،‬فلو ال الممكن ما ظهر أثر لألسماء اإللهية ‪،‬‬
‫فلألسماء اإللهية أو المرتبة التي هي مرتبة المسمى إلها التصريف والحكم فيمن نعت بها ‪ ،‬فبها‬
‫يتصرف ‪ ،‬ولها يتصرف ‪ ،‬وهو غني عن العالمين في حال تصرفه ‪ ،‬ال بد منه ‪ ،‬فاأللوهية‬
‫ّللا ‪ ،‬فطلبت مستحقها ‪ ،‬ما هو طلبها ‪ ،‬والمألوه يطلبها وهي‬
‫مرتبة للذات ‪ ،‬ال يستحقها إال ه‬
‫فاّلل من حيث ذاته ووجوده غني عن العالمين ‪ ،‬ومن‬ ‫تطلبه ‪ ،‬والذات غنية عن كل شيء ‪ .‬ه‬
‫كونه ربها يطلب المربوب بال شك ‪ ،‬فهو من حيث العين ال يطلب ‪ ،‬ومن حيث الربوبية يطلب‬
‫المربوب وجودا وتقديرا ‪ ،‬فالوجود الحادث والقديم مربوط بعضه ببعضه ربط اإلضافة والحكم‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬ال ربط وجود العين ‪ ،‬وذلك تنزيه أن يقوم بالحق فقر ‪ ،‬أو يدل عليه دليل غير نفسه ‪ ،‬فإن ه‬
‫وإن كان في ذاته غنيا عن العالمين ‪ ،‬فمعلوم أنه منعوت بالكرم والجود والرحمة ‪ ،‬فال بد من‬
‫مرحوم ومتكرم عليه ‪ ،‬فأوجد العالم من جوده وكرمه ‪ ،‬وهذا ال يشك فيه عاقل وال مؤمن ‪،‬‬
‫وأن الجود له نعت نفسي ‪ ،‬فإنه جواد كريم لنفسه ‪ ،‬فال بد من وجود العالم ‪ ،‬وما حكم العلم‬
‫بكونه يستحيل عدم كونه ‪ ،‬فهو تعالى المطلوب للعالم ‪ ،‬والطلب يؤذن باالفتقار في حق‬
‫المحدثات ‪ ،‬وهو المطلوب ‪ ،‬فهو الغني ‪ .‬فمن كونه مطلوبا للموجودات صح افتقارها إليه ‪،‬‬
‫ّللا منه في حال وجوده ‪ ،‬ولهذا ال تصحب الممكن‬ ‫والممكن في حال عدمه أشد افتقارا إلى ه‬
‫دعوى في حال عدمه كما تصحبه في حال وجوده ‪ ،‬فإفاضة الوجود عليه في حال عدمه أعظم‬
‫في الجود والكرم ‪ ،‬وبذلك صح غناه تعالى عن العالم ‪ .‬فقبوله عليه قبول جود وكرم ‪ ،‬ومتعلق‬
‫غناه تعالى هو فيما بقي من الممكنات مما لم يوجد ‪ ،‬فإنها غير متناهية باألشخاص ‪ ،‬فال بد من‬
‫بقاء ما لم يوجد ‪ ،‬فبه تتعلق صفة الغنى اإللهي عن العالم ‪ ،‬فإن بعض العالم يسمى عالما ‪ .‬فمن‬
‫فهم الغنى اإللهي هكذا فقد علمه ‪ ،‬وأما تنزيه الحق عما تنزهه عباده مما سوى العبودية ‪ ،‬فال‬
‫علم لهم بما‬

‫ص ‪455‬‬

‫ص ‪463 :‬‬
‫هو األمر عليه ‪ ،‬فإنه يكذب ربه في كل حال يجعل الحق فيه نفسه مع عباده ‪ ،‬وهذا أعظم ما‬
‫ّللا ‪ ،‬أن ينزهه عما نسبه سبحانه إلى نفسه بما نسبه إلى نفسه ‪ ،‬وهذه‬
‫يكون من سوء األدب مع ه‬
‫اآلية تشير من وجه أن الحق في نفسه على ما علم ‪ ،‬وله في نفسه ما ال يصح أن يعلم ‪ ،‬فهو‬
‫غني عن العالمين ‪.‬‬

‫[ لم وجد العالم مع كونه غنيا ؟ ]‬


‫فإن قلت ‪ :‬فلم وجد العالم ؟ قلنا ‪ :‬ما أظهر العالم مع االستغناء عنه إال لتظهر مرتبة قوة االثنين‬
‫ّللا غني عن‬ ‫ّللا مع ظهور الممكنات والمخلوقين ‪ ،‬فيعلم أن ه‬ ‫‪ ،‬لئال يقال ما في الوجود إال ه‬
‫العالمين مع وجود العالمين ‪ ،‬واالستغناء عنه معقول لبيان غنى الحق عن العالم ‪ ،‬وذلك معناه‬
‫أن الحق غني عن وجود العالم ال عن ثبوته ‪ ،‬فإن العالم في حال ثبوته يقع به االكتفاء‬
‫واالستغناء عن وجوده ‪ ،‬ألنه وفهى األلوهية حقها بإمكانه ‪ ،‬ولوال طلب الممكنات وافتقارها إلى‬
‫ذوق الحاالت ‪ ،‬وأرادت أن تذوق حال الوجود كما ذاقت حال العدم ‪ ،‬فسألت بلسان ثبوتها‬
‫واجب الوجود أن يوجد أعيانها ‪ ،‬ليكون العلم لها ذوقا ‪ ،‬فأوجدها لها ال له ‪ ،‬فهو الغني عن‬
‫وجودها ‪ ،‬وعن أن يكون وجودها دليال عليه وعالمة على ثبوته ‪ ،‬بل عدمها في الداللة عليه‬
‫باّلل ‪ ،‬فلهذا علمنا‬ ‫كوجودها ‪ .‬فأي شيء رجح من عدم أو وجود حصل به المقصود من العلم ه‬
‫أن غناه سبحانه عن العالم عين غناه عن وجود العالم ‪ ،‬فهو غني عن العالمين ‪ ،‬والعالم ليس‬
‫علَى‬ ‫بغني عنه جملة واحدة ‪ ،‬ألنه ممكن ‪ ،‬والممكن فقير إلى مرجح ‪ -‬إشارة واعتبار ‪َ «-‬و ِ َّ ِ‬
‫ّلل َ‬
‫ّللا أن الحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود ‪ ،‬والعمرة‬ ‫ت »اعلم أيدك ه‬ ‫اس ِح ُّج ْالبَ ْي ِ‬
‫النَّ ِ‬
‫الزيارة ‪ ،‬وقد جعل تعالى بيته في مكة نظيرا لعرشه ‪ ،‬وجعل الطائفين به من البشر كالمالئكة‬
‫الحافين من حول العرش ‪ ،‬يسبحون بحمد ربهم ‪ ،‬أي بالثناء على ربهم تبارك وتعالى ‪ ،‬فقلب‬
‫العبد المؤمن أعظم علما وأكثر إحاطة من كل مخلوق ‪ ،‬فإنه محل لجميع الصفات ‪ ،‬وارتفاعه‬
‫ّللا لما أودع فيه من المعرفة به ‪ ،‬ولما كان للبيت أركان أربعة ‪،‬‬
‫بالمكانة عند ه‬

‫[ الخواطر األربعة ]‬
‫فللقلب خواطر أربعة ‪:‬‬
‫خاطر إلهي وهو ركن الحجر ‪.‬‬
‫وخاطر ملكي وهو الركن اليمني ‪.‬‬
‫وخاطر نفسي وهو الركن الشامي ‪.‬‬
‫وهذه الثالثة األركان هي األركان الحقيقية للبيت من حيث أنه مكعب الشكل ‪ ،‬وعلى هذا‬
‫الشكل قلوب األنبياء مثلثة الشكل ‪ ،‬ليس للخاطر الشيطاني فيها مح هل ‪ ،‬ولما أراد ه‬
‫ّللا ما أراد‬
‫من إظهار الركن الرابع ‪ ،‬جعله للخاطر الشيطاني ‪ ،‬وهو الركن العراقي ‪ ،‬وإنما جعلنا الخاطر‬
‫باّلل من الشقاق والنفاق وسوء‬
‫الشيطاني للركن العراقي ألن الشارع شرع أن يقال عنده ( أعوذ ه‬
‫األخالق ) وبالذكر‬

‫ص ‪456‬‬

‫ص ‪464 :‬‬
‫المشروع في كل ركن تعرف مراتب األركان ‪ ،‬وعلى هذا الشكل المربع قلوب المؤمنين وما‬
‫ّللا رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين بالعصمة التي‬ ‫عدا الرسل واألنبياء المعصومين ‪ ،‬ليميز ه‬
‫ّللا تعالى‬ ‫أعطاهم وألبسهم إياها ‪ ،‬فليس لنبي إال ثالثة خواطر ‪ ،‬إلهي وملكي ونفسي ‪ ،‬وكما أن ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فشهد هّلل بما شهد به‬ ‫ّللا في قلب العارف كنز العلم ه‬ ‫أودع في الكعبة كنزا ‪ ،‬كذلك جعل ه‬
‫ّللاُ أَنَّهُ ال‬
‫ش ِه َد َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه ‪ ،‬فقال( َ‬ ‫الحق لنفسه ‪ ،‬من أنه ال إله إال ه‬
‫فاّلل بيته قلب عبده‬ ‫إِلهَ إِ َّال ُه َو َو ْال َمالئِ َكةُ َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم )فجعلها كنزا في قلوب العلماء ه‬
‫باّلل ‪ ،‬ه‬
‫المؤمن ‪ ،‬والبيت بيت اسمه تعالى ‪ ،‬والعرش مستوى الرحمن ‪ ،‬فبين القلب والعرش في‬
‫ّللا واالسم الرحمن ‪ ،‬فإن مشهد األلوهية أع هم ‪ ،‬إلقرار الجميع ‪ ،‬فما أنكر‬ ‫المنزلة ما بين االسم ه‬
‫ّللا الحرام تكرار‬ ‫من )ولما كان الحج لبيت ه‬‫الر ْح ُ‬ ‫ّللا ‪ ،‬وأنكر الرحمن ‪ ،‬فإنهم قالوا ‪َ ( :‬و َما َّ‬ ‫أحد ه‬
‫القصد في زمان مخصوص ‪ ،‬كذلك القلب تقصده األسماء اإللهية في حال مخصوص ‪ ،‬إذ كل‬
‫اسم له خاص يطلبه ‪ ،‬فمهما ظهر ذلك الحال من العبد طلب االسم الذي يخصه ‪ ،‬فيقصده ذلك‬
‫االسم ‪ ،‬فلهذا تحج األسماء اإللهية بيت القلب ‪ ،‬وقد تحج إليه من حيث أن القلب وسع الحق ‪،‬‬
‫واألسماء تطلب مسماها ‪ ،‬فال بد لها أن تقصد مسماها ‪ ،‬فتقصد البيت الذي ذكر أنه وسعه‬
‫ت »لما كان قصد البيت قصدا حاليا ‪،‬‬ ‫اس ِح ُّج ْالبَ ْي ِ‬‫علَى النَّ ِ‬ ‫السعة التي يعلمها سبحانه ‪َ «،‬و ِ َّ ِ‬
‫ّلل َ‬
‫ّللف على الناس أن يجعلوا قلوبهم كالبيت ‪ ،‬تطلب بحالها أن‬ ‫ألنه يطلب بصورته الساكن ‪ ،‬ه‬
‫ّللا أن‬
‫يكون الحق ساكنها ‪ ،‬وهذا معنى من قرأ بكسر الحاء ‪ ،‬وهو االستعداد بالصفة التي ذكر ه‬
‫القلب يصلح له تعالى بها ‪ ،‬ومن قرأ بفتح الحاء ‪ ،‬فوجب عليه أن يطلب قلبه ليرى فيه آثار ربه‬
‫‪ ،‬فيعمل بحسب ما يرى فيه من اآلثار اإللهية والعمرة التي هي الزيارة بمنزلة الزور الذي‬
‫يخص كل إنسان ‪ ،‬فعلى قدر اعتماره تكون زيارته لربه ‪ ،‬فالزيارة من غير تسميتها بالعمرة‬
‫تكون لكل زائر حيث كان ‪ ،‬وكذلك الحج ‪ ،‬فهي زيارة مخصوصة كما هو قصد مخصوص ‪،‬‬
‫ولما فيها من الشهود الذي يكون به عمارة القلوب تسمى عمرة ‪ ،‬وأما العمرة بلسان الشرع فال‬
‫تصح إال بمكة ‪ ،‬وكذا الحج ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪98‬‬


‫ّللاُ ش َِهي ٌد عَلى ما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ون ) ‪( 98‬‬ ‫ّللا َو ه‬
‫ت هِ‬ ‫ون ِبآيا ِ‬ ‫قُ ْل يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب ِل َم ت َ ْكفُ ُر َ‬
‫فاّلل هو الشهيد الذي ال يقبل الرشا ‪ ،‬والبصير ال يقوم ببصره غشا‪.‬‬ ‫ه‬

‫ص ‪457‬‬

‫ص ‪465 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪99‬‬
‫ّللاُ ِبغافِ ٍل‬ ‫ّللا َم ْن آ َم َن ت َ ْبغُونَها ِع َوجا ً َوأ َ ْنت ُ ْم ُ‬
‫ش َهدا ُء َو َما ه‬ ‫ُّون ع َْن َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫صد َ‬ ‫قُ ْل يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب ِل َم ت َ ُ‬
‫ون ) ‪( 99‬‬ ‫ع هما ت َ ْع َملُ َ‬
‫َ‬
‫وهذه مراقبة الحق عباده مراقبة كبرياء ووعيد ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 100‬إلى ‪101‬‬


‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬
‫تاب يَ ُردُّو ُك ْم بَ ْع َد إِيمانِ ُك ْم كافِ ِر َ‬
‫ين (‬ ‫ِين آ َمنُوا إِ ْن ت ُ ِطيعُوا فَ ِريقا ً ِم َن الهذ َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫اَّلل فَقَ ْد ُهد َ‬
‫ِي‬ ‫سولُهُ َو َم ْن يَ ْعت َ ِص ْم ِب ه ِ‬ ‫ّللا َوفِي ُك ْم َر ُ‬ ‫ون َوأ َ ْنت ُ ْم تُتْلى َ‬
‫علَ ْي ُك ْم آياتُ ه ِ‬ ‫ف ت َ ْكفُ ُر َ‬‫) ‪َ 100‬و َك ْي َ‬
‫يم ) ‪( 101‬‬ ‫ست َ ِق ٍ‬
‫راط ُم ْ‬ ‫ِإلى ِص ٍ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن كنت من أهل الحبل فأنت من أهل‬ ‫باّلل ‪ ،‬واعتصام بحبل ه‬ ‫االعتصام ضربان اعتصام ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن هّلل من عباده أهال وخاصة ‪.‬‬ ‫باّلل كنت من أهل ه‬ ‫السبب ؛ وإن اعتصمت ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪102‬‬


‫ق تُقاتِ ِه َوال ت َ ُموت ُ هن ِإاله َوأ َ ْنت ُ ْم ُم ْ‬
‫س ِل ُم َ‬
‫ون ( ‪) 102‬‬ ‫ّللا َح ه‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا اتهقُوا ه َ‬

‫[ « يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا اتَّقُوا َّ َ‬


‫ّللا َح َّق تُقا ِت ِه ] »‬
‫ّللا بهذه اآلية من حيث كوننا مؤمنين فقال« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا اتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا َح َّق تُقاتِ ِه‬ ‫خاطبنا ه‬
‫ّللا حق تقاته هو رؤية المتقي التقوى منه ‪ ،‬وهو عنها بمعزل ‪ ،‬ما عدا نسبة التكليف‬ ‫»وتقوى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فحال المتقي هّلل حق تقاته كحال‬ ‫به ‪ ،‬فإنه ال ينعزل عنها لما يقتضيه من سوء األدب مع ه‬
‫ّللا حق الشكر ‪ ،‬وهو أن يرى النعمة منه سبحانه ‪ ،‬وهذه اآلية من أصعب آية مرت‬ ‫من شكر ه‬
‫ّللا خفهف عن عباده بآية االستطاعة في التقوى ‪ ،‬وما علموا أنهم‬ ‫على الصحابة ‪ ،‬وتخيلوا أن ه‬
‫سر مراده بالحقية في أمثال هذا ‪ ،‬وهو‬ ‫ّللا لما ف ه‬‫انتقلوا إلى األشد ‪ ،‬وكنا نقول بما قالوه ‪ ،‬ولكن ه‬
‫ّللا باالستطاعة أعظم‬ ‫ّللا حق شكره ‪ ،‬هان علينا األمر في ذلك ‪ ،‬وعلمنا أن تقوى ه‬ ‫حديث شكر ه‬
‫في التكليف ‪ ،‬ففي حق تقاته أثبت للعبد النظر إليه في تقواه وهو أهون عليه ‪ ،‬فما كان شديدا‬
‫ّللا ‪ ،‬وما كان هينا عندهم كان في نفس‬ ‫عندهم كان في نفس األمر أهون ‪ ،‬وعند من فهم عن ه‬
‫ّللا ممن فهم عنه خطابه ‪ ،‬فحقيقة حق تقاته تبري‬ ‫ّللا ‪ ،‬جعلنا ه‬ ‫األمر شديدا وعند من فهم عن ه‬
‫العبد من الدعوى ‪ ،‬وهو قوله ! ال حول وال قوة إال‬

‫ص ‪458‬‬

‫ص ‪466 :‬‬
‫ّللا من التعظيم ويرى ما هّلل‬
‫باّلل العلي العظيم ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬أن العبد يرى ما يستحقه جالل ه‬
‫ه‬
‫عليه من الحقوق ‪ ،‬فيجهد نفسه في أداء ذلك ‪ ،‬ألداء حق ما تعين عليه هّلل وما تعطيه مرتبة‬
‫العبد من سيهده ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪103‬‬


‫علَ ْي ُك ْم إِ ْذ ُك ْنت ُ ْم أَعْدا ًء فَأَله َ‬
‫ف بَ ْي َن‬ ‫ّللا َ‬
‫اذك ُُروا نِ ْع َمتَ ه ِ‬ ‫ّللا َج ِميعا ً َوال تَفَ هرقُوا َو ْ‬ ‫َوا ْعت َ ِص ُموا بِ َح ْب ِل ه ِ‬
‫صبَحْ ت ُ ْم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخوانا ً َو ُك ْنت ُ ْم عَلى شَفا ُح ْف َر ٍة ِم َن النه ِار فَأ َ ْنقَذَ ُك ْم ِم ْنها كَذ ِلكَ يُبَ ِيه ُن ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم‬ ‫قُلُوبِ ُك ْم فَأ َ ْ‬
‫ُون ) ‪( 103‬‬ ‫آياتِ ِه لَعَله ُك ْم ت َ ْهتَد َ‬
‫صا ِل ُح‬‫ب َو ْالعَ َم ُل ال َّ‬ ‫صعَ ُد ْال َك ِل ُم َّ‬
‫الط ِيه ُ‬ ‫ّللا هو الطريق الذي يعرج بك إليه مثل قوله( ِإلَ ْي ِه يَ ْ‬ ‫حبل ه‬
‫ّللا بينه‬ ‫يَ ْرفَعُهُ )فليس حبله سوى ما شرعه ‪ ،‬وهو السبب الموصل إلى إدراك السعادة ‪ ،‬فجعل ه‬
‫وبين عباده حبال منه إليهم ‪ ،‬وهو الشرع يعتصمون به ويتمسكون ‪ ،‬ليصح الوصلة بينهم وبين‬
‫باّلل فأعطى الحبل منزلته في قوله‬ ‫ّللا سبحانه ‪ ،‬فإن الحبل الوصل وبه يكون االعتصام كما هو ه‬ ‫ه‬
‫ّللا بعضهم‬ ‫اّلل ) *وتفاضل فهم الناس فيه ‪ ،‬فمنهم ومنهم ‪ ،‬ولذلك فضل ه‬ ‫ص ُموا بِ َّ ِ‬ ‫تعالى( َوا ْعت َ َ‬
‫على بعض ‪ ،‬فمن لم يخطئ طريقه فهو المعصوم ‪ ،‬والتمسك به هو االعتصام ‪ ،‬وعليه حال‬
‫ّللا‬
‫باّلل في اعتصامهم بحبل ه‬ ‫المؤمنين الذين بلغوا الكمال في اإليمان ‪ ،‬ومثل هؤالء يعتصمون ه‬
‫‪ ،‬ثم قال« َج ِميعا ا »فإن األمر الشديد على الواحد إذا انقسم على الجماعة هان ‪ ،‬فأمر الجماعة‬
‫ّللا َج ِميعا ا »فأمر الجماعة‬ ‫ص ُموا بِ َح ْب ِل َّ ِ‬ ‫باالعتصام به حتى يهون عليهم ‪ ،‬فقال تعالى« َوا ْعت َ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو عهده ودينه المشروع فينا الذي ال يتمكن لكل واحد منا على‬ ‫باالعتصام بحبل ه‬
‫ت‬‫االنفراد الوفاء به فيحصل بالمجموع الختالف أحوال المخاطبين ‪َ «.‬وال تَفَ َّرقُوا َوا ْذ ُك ُروا نِ ْع َم َ‬
‫على شَفا ُح ْف َرةٍ ِمنَ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِإ ْذ ُك ْنت ُ ْم أَعْدا اء فَأَلَّ َ‬
‫ف بَيْنَ قُلُو ِب ُك ْم فَأ َ ْ‬
‫صبَ ْحت ُ ْم ِبنِ ْع َمتِ ِه ِإ ْخوانا ا ‪َ ،‬و ُك ْنت ُ ْم َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ّللا َ‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ار فَأ َ ْنقَذَ ُك ْم ِم ْنها »ورد في الحديث الصحيح أن رسول ه‬ ‫النَّ ِ‬
‫ألصحابه من األنصار في واقعة وقعت في فتح مكة في غزوة حنين ‪ ،‬فقال لهم ‪ [ :‬ألم تكونوا‬
‫ّللا بي ] وهذا‬ ‫ّللا بي ] فذكر نفسه [ ووجدتكم على شفا حفرة من النار فأنقذكم ه‬ ‫ضالال فهداكم ه‬
‫معنى وأصل قول الناس هذا ببركة فالن ‪ ،‬وهذا بهمة فالن ‪ ،‬ولوال همته ما جرى كذا وما دفع‬
‫ّللا عنا كذا ‪ ،‬وقولهم اجعلني في خاطرك وفي همتك وال تنساني وأشباه‬ ‫ه‬

‫ص ‪459‬‬

‫ص ‪467 :‬‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم آياتِ ِه لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْهتَدُونَ » ‪.‬‬
‫هذا ‪َ «.‬كذ ِل َك يُبَ ِيه ُن َّ‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪104‬‬


‫وف َويَ ْن َه ْو َن ع َِن ا ْل ُم ْنك َِر َوأُول ِئكَ ُه ُم‬
‫ون ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬ ‫َو ْلتَك ُْن ِم ْن ُك ْم أ ُ همةٌ يَ ْدع َ‬
‫ُون ِإلَى ا ْل َخ ْي ِر َويَأ ْ ُم ُر َ‬
‫ون ( ‪) 104‬‬ ‫ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬
‫ع ِن ْال ُم ْن َك ِر »المنكر فعل ما أمر‬ ‫وف »وهو األمر بما هو معلوم له« َويَ ْن َه ْونَ َ‬ ‫« يَأ ْ ُم ُرونَ بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫بتركه أو ترك ما أمر بفعله ‪ ،‬وال يوصف بأنه أتى منكرا حتى يعلم أنه مأمور به ذلك العمل أو‬
‫منهي عنه« َوأُولئِ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ »الناجون بفعلهم من عذابه ‪ ،‬الباقون في نعيمه ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 105‬إلى ‪106‬‬


‫َذاب ع َِظي ٌم ( ‪105‬‬‫اختَلَفُوا ِم ْن بَ ْع ِد ما جا َء ُه ُم ا ْلبَ ِيهناتُ َوأُولئِكَ لَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫ِين تَفَ هرقُوا َو ْ‬ ‫َوال تَكُونُوا كَالهذ َ‬
‫س َودهتْ ُو ُجو ُه ُه ْم أ َ َكفَ ْرت ُ ْم بَ ْع َد إِيمانِ ُك ْم فَذُوقُوا‬ ‫س َو ُّد ُو ُجوهٌ فَأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين ا ْ‬ ‫ض ُو ُجوهٌ َوت َ ْ‬ ‫) يَ ْو َم ت َ ْبيَ ُّ‬
‫ون ( ‪) 106‬‬ ‫ذاب ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكفُ ُر َ‬ ‫ا ْلعَ َ‬

‫َّت ُو ُجو ُه ُه ْم »أي ذواتهم ‪ ،‬فال نور لهم يكشفون به األشياء ‪ ،‬بل هم عمي فال‬ ‫« فَأ َ َّما الَّذِينَ اس َْود ْ‬
‫يبصرون« أ َ َكفَ ْرت ُ ْم بَ ْع َد ِإيما ِن ُك ْم »ولم يكن لهم إيمان تقدم إال إيمان الذر زمان األخذ من الظهر‬
‫‪ ،‬فنسي ذلك العقد لما قدم العهد ‪ ،‬ولوال البيان واإليمان ما أقر به اإلنسان ‪ ،‬فتظهر العناية‬
‫اإللهية بالمقرب الوجيه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ‪ ،‬والنميمة والغيبة وإفشاء السر وما‬
‫شاكل هذا كله حق مكروه ‪ ،‬وهو يؤدي إلى اسوداد الوجوه ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 107‬إلى ‪109‬‬


‫ُون ( ‪ِ ) 107‬ت ْلكَ آياتُ ه ِ‬
‫ّللا نَتْلُوها‬ ‫ّللا ُه ْم ِفيها خا ِلد َ‬
‫ت هِ‬ ‫ِين ا ْبيَضهتْ ُو ُجو ُه ُه ْم فَ ِفي َرحْ َم ِ‬ ‫َوأ َ هما الهذ َ‬
‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َوإِلَى‬ ‫سماوا ِ‬
‫َّلل ما فِي ال ه‬
‫ين ( ‪َ ) 108‬و ِ ه ِ‬ ‫ظ ْلما ً ِل ْلعالَ ِم َ‬‫ّللاُ يُ ِري ُد ُ‬
‫ق َو َما ه‬ ‫علَ ْيكَ بِا ْل َح ه ِ‬‫َ‬
‫ور) ‪( 109‬‬ ‫ّللا ت ُ ْر َج ُع ْاأل ُ ُم ُ‬
‫هِ‬
‫وعرف بفضل هذه األمة المحمدية على سائر األمم فقال ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫ثم شهد الحق في القرآن‬

‫ص ‪460‬‬

‫ص ‪468 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪110‬‬
‫اَّلل َولَ ْو آ َم َن‬ ‫وف َوت َ ْن َه ْو َن ع َِن ا ْل ُم ْنك َِر َوت ُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫ون ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬ ‫اس تَأ ْ ُم ُر َ‬ ‫ُك ْنت ُ ْم َخ ْي َر أ ُ هم ٍة أ ُ ْخ ِر َجتْ ِللنه ِ‬
‫ون ) ‪( 110‬‬ ‫سقُ َ‬ ‫ون َوأ َ ْكث َ ُر ُه ُم ا ْلفا ِ‬ ‫كان َخ ْيرا ً لَ ُه ْم ِم ْن ُه ُم ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ب لَ َ‬ ‫أ َ ْه ُل ا ْل ِكتا ِ‬
‫إذا حملنا قوله تعالى« أ ُ َّم ٍة »على أمة الدعوة ال أمة اإلجابة ‪ ،‬كان المؤمن بإيمانه والكافر منهم‬
‫بكفره هما خير من كل مؤمن من غير هذه األمة وكافر ‪ ،‬أي مؤمن هذه األمة خير من مؤمن‬
‫غيرها من األمم ‪ ،‬وكافر هذه األمة خير من كافر غيرها من األمم ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬إذا حملت‬
‫األمة على أمة اإلجابة كانت األمة المحمدية المتأخرة المنعوتة بالخيرية على جميع األمم‬
‫السالفة مؤمنيهم وكافريهم ‪ ،‬فكافرهم شر من كافري األمم ‪ ،‬ومؤمنهم خير من مؤمني األمم ‪،‬‬
‫فلهم التقدم ‪ ،‬كما ورد في الخبر في قريش [ إنهم المقدهمون على جميع القبائل في الخير والشر‬
‫ّللا‬
‫اس »لظهور رسول ه‬ ‫ت ِللنَّ ِ‬ ‫اس » ]« ُك ْنت ُ ْم َخي َْر أ ُ َّم ٍة أ ُ ْخ ِر َج ْ‬ ‫ت ِللنَّ ِ‬ ‫][ « ُك ْنت ُ ْم َخي َْر أ ُ َّم ٍة أ ُ ْخ ِر َج ْ‬
‫ّللا عليه وسلم بصورته فيها ‪ ،‬وكذلك القرن الذي ظهر فيهم خير القرون لظهوره فيه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم سيد ولد آدم من‬ ‫بنفسه ‪ ،‬وما كنا خير أمة أخرجت للناس ‪ ،‬إال وكان نبينا صلهى ه‬
‫غير شك وال التباس ‪ ،‬فهو بنا ونحن به ‪ ،‬وليس خيرا من كل أمة إال نبيها ونحن خير األمم ‪،‬‬
‫فنحن واألنبياء في هذه الخيرية في سلك واحد منخرطين ‪ ،‬ألنه ما ثم مرتبة بين النبي وأمته ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا عليه وسلم خير من أمته كما كان كل نبي خيرا من أمته ‪ ،‬فهو صلهى ه‬ ‫ومحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم [ ليتمنين اثنا عشر نبيا أن يكونوا من أمتي ]‬ ‫وسلم خير األنبياء ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫باّلل » وإن كانت كل أمة تأمر بالمعروف‬ ‫تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون ه‬
‫صت هذه األمة المحمدية بأمور لم يخص بها أمة من‬ ‫باّلل ‪ ،‬فقد خ ه‬ ‫وتنهى عن المنكر ويؤمنون ه‬
‫األمم ‪ ،‬ولها أجور على ما خصصت به من األعمال مما لم يستعمل فيها غيرهم من األمم ‪،‬‬
‫فتميزوا بذلك يوم القيامة ‪ ،‬وظهر فضلهم ‪ ،‬والفضل الزيادة ‪ ،‬وبالزيادة كانت خير أمة أخرجت‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬عناية منه تعالى لحضوره صلهى ه‬ ‫للناس أمة محمد صلهى ه‬
‫وظهوره فيها ‪ ،‬وإن كان العالم اإلنساني والناري كله أمته ‪ ،‬فإنه المرسل إلى الناس كافة ‪،‬‬
‫ولكن لهذه األمة خصوص وصف ‪ ،‬فجعلهم تعالى خير أمة أخرجت للناس ؛ هذا الفضل أعطاه‬
‫ّللا عليه وسلم بنشأتيه ‪ ،‬فكان من فضل هذه األمة على األمم أن أنزلها صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ظهوره صلهى ه‬
‫عليه وسلم منزلة خلفائه األنبياء في العالم قبل ظهوره ‪ ،‬إذ كان أعطاهم‬

‫ص ‪461‬‬

‫ص ‪469 :‬‬
‫التشريع ‪ ،‬فأعطى ‪ ،‬هذه األمة االجتهاد في نصب األحكام ‪ ،‬وأمرهم أن يحكموا بما أداهم إليه‬
‫اجتهادهم فأعطاهم التشريع ‪ ،‬فلحقوا بمقامات األنبياء في ذلك ‪ ،‬وجعلهم ورثة لهم لتقدمهم‬
‫عليهم ‪ ،‬فإن المتأخر يرث المتقدم بالضرورة ‪ ،‬وكل من دخل في زمان هذه األمة بعد ظهور‬
‫ّللا عليه وسلم من األنبياء والخلفاء األول فإنهم ال يحكمون في العالم إال بما شرع‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في هذه األمة وتميز في المجتهدين وصار في حزبهم مع إبقاء‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫منزلة الخالفة األولى عليه ‪ ،‬فله حكمان ‪ ،‬يظهر بذلك في القيامة ‪ ،‬ما له ظهور بذلك هنا ‪،‬‬
‫وكل وارث علم في زمان إنما يرث من تقدمه من األنبياء عليهم السالم ال من تأ هخر عنه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم وراثة جزئية ‪ ،‬وهذه األمة‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فوراثة عالم كل أمة كانت لنبي قبل رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم آخر األنبياء ‪ ،‬وكانت أمته خير األمم ‪ ،‬صح‬ ‫المحمدية لما كان نبيها محمد صلهى ه‬
‫للوارث منهم أن يرثه ‪ ،‬ويرث جميع األنبياء عليهم السالم وال يكون هذا أبدا في عالم أمة‬
‫متقدمة قبل هذه األمة فلهذا كانت أفضل أمة أخرجت للناس ‪ ،‬ألنها زادت على الوارثين بأمر‬
‫ّللا عليه وسلم [ ‪ :‬العلماء ورثة األنبياء ] وقال ‪ [ :‬نحن معاشر‬ ‫لم ينله إال هذه األمة ‪ .‬قال صلهى ه‬
‫األنبياء ال نرث وال نورث ‪ ،‬ما تركناه صدقة ] يعني الورث ‪ ،‬أي ما يورث من الميت من‬
‫ّللا في كشفهم ‪ ،‬فكنها‬ ‫المال ‪ ،‬فلم يبق الميراث إال في العلم والحال والعبارة وعما وجدوه من ه‬
‫سطا ا )أي خيارا( ِلت َ ُكونُوا ُ‬
‫ش َهدا َء‬ ‫للناس مثل النبي للناس ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬و َكذ ِل َك َجعَ ْلنا ُك ْم أ ُ َّمةا َو َ‬
‫ش ِهيدا ا )فجعل حكمنا ومنزلتنا في غيرنا من األمم منزلة‬ ‫علَ ْي ُك ْم َ‬
‫سو ُل َ‬ ‫علَى النَّ ِ‬
‫اس َويَ ُكونَ َّ‬
‫الر ُ‬ ‫َ‬
‫الرسول منا ‪ ،‬فنحن في حقهم رسل ‪ ،‬ولهذا قال عليه السالم ‪:‬‬
‫[ علماء هذه األمة أنبياء سائر األمم ] في هذه المنزلة والمرتبة ‪.‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 111‬إلى ‪] 113‬‬


‫علَ ْي ِه ُم ال ِذهلهةُ‬
‫ون ( ‪ ) 111‬ض ُِربَتْ َ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ذى َو ِإ ْن يُقا ِتلُو ُك ْم يُ َولُّو ُك ُم ْاألَد َ‬
‫ْبار ث ُ هم ال يُ ْن َ‬ ‫لَ ْن يَض ُُّرو ُك ْم ِإاله أ َ ً‬
‫س َكنَةُ‬
‫علَ ْي ِه ُم ا ْل َم ْ‬
‫ّللا َوض ُِربَتْ َ‬‫ب ِم َن ه ِ‬ ‫اس َوبا ُؤ ِبغَ َ‬
‫ض ٍ‬ ‫أ َ ْي َن ما ث ُ ِقفُوا ِإاله ِب َح ْب ٍل ِم َن ه ِ‬
‫ّللا َو َح ْب ٍل ِم َن النه ِ‬
‫ص ْوا َوكانُوا يَ ْعتَد َ‬
‫ُون‬ ‫ع َ‬ ‫ق ذ ِلكَ بِما َ‬ ‫ون ْاأل َ ْنبِيا َء بِغَ ْي ِر َح ه ٍ‬
‫ّللا َويَ ْقتُلُ َ‬
‫ت هِ‬ ‫ون بِآيا ِ‬ ‫ذ ِلكَ بِأَنه ُه ْم كانُوا يَ ْكفُ ُر َ‬
‫س ُجد َ‬
‫ُون (‬ ‫ّللا آنا َء الله ْي ِل َو ُه ْم يَ ْ‬
‫ت هِ‬ ‫ون آيا ِ‬ ‫ب أ ُ همةٌ قائِ َمةٌ يَتْلُ َ‬ ‫سوا ًء ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬ ‫سوا َ‬ ‫) ‪( 112‬لَ ْي ُ‬
‫) ‪113‬‬

‫ص ‪462‬‬

‫ص ‪470 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪] 114‬‬
‫ُون فِي ا ْل َخ ْيرا ِ‬
‫ت‬ ‫وف َويَ ْن َه ْو َن ع َِن ا ْل ُم ْنك َِر َويُ ِ‬
‫سارع َ‬ ‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َويَأ ْ ُم ُر َ‬
‫ون ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬ ‫يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ِب ه ِ‬
‫ين ) ‪( 114‬‬ ‫صا ِل ِح َ‬ ‫َوأُولئِكَ ِم َن ال ه‬
‫سارعُونَ‬ ‫لما كانت المغفرة ال تصح إال بعد حصول فعل الخير الموجب لها ‪ ،‬قال تعالى « َويُ ِ‬
‫عوا‬
‫سار ُ‬
‫ت »فجعل المسابقة في الخيرات إلى المغفرة ‪ ،‬ولذلك قال في موطن آخر( َو ِ‬ ‫فِي ْال َخيْرا ِ‬
‫إِلى َم ْغ ِف َرةٍ ِم ْن َر ِبه ُك ْم )والمسارعون في الخيرات هم المسارعون إلى إجابة الحق ‪ ،‬فينبغي‬
‫للعاقل أن ال يستعجل في أمر له فيه أناة ‪ ،‬وال يتأنى في أمر يكون الحق في المبادرة إليه‬
‫واإلسراع في تحصيله ‪ ،‬هذا فائدة العقل في العاقل ‪:‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ ) : 3‬آية ‪] 115‬‬


‫ع ِلي ٌم بِا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ين ) ‪( 115‬‬ ‫َوما يَ ْفعَلُوا ِم ْن َخ ْي ٍر فَلَ ْن يُ ْكفَ ُروهُ َو ه‬
‫ّللاُ َ‬
‫ّللا إلى العبد ‪ ،‬ولوال ذلك ما صح التكليف ‪ ،‬يقول صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫في هذه اآلية إضافة العمل من ه‬
‫وسلم ‪:‬‬
‫[ إنما هي أعمالكم ترد عليكم ] ‪.‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 116‬إلى ‪] 117‬‬


‫ش ْيئا ً َوأُولئِكَ أَص ُ‬
‫ْحاب النه ِار ُه ْم‬ ‫ع ْن ُه ْم أ َ ْموالُ ُه ْم َوال أ َ ْوال ُد ُه ْم ِم َن ه ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫ي َ‬‫ِين َكفَ ُروا لَ ْن ت ُ ْغنِ َ‬‫إِ هن الهذ َ‬
‫ون فِي ه ِذ ِه ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َك َمث َ ِل ِريحٍ فِيها ِص ٌّر أَصابَتْ َح ْر َ‬
‫ث‬ ‫ُون ( ‪َ ) 116‬مث َ ُل ما يُ ْن ِفقُ َ‬ ‫فِيها خا ِلد َ‬
‫ون ) ‪( 117‬‬ ‫س ُه ْم يَ ْظ ِل ُم َ‬‫ّللاُ َول ِك ْن أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم فَأ َ ْهلَ َكتْهُ َوما َظلَ َم ُه ُم ه‬
‫قَ ْو ٍم َظلَ ُموا أ َ ْنفُ َ‬
‫الصر والصرير الصوت‪.‬‬

‫ص ‪463‬‬

‫ص ‪471 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 118‬إلى ‪122‬‬
‫ت ا ْلبَ ْغضا ُء‬ ‫ِين آ َمنُوا ال تَت ه ِخذُوا ِبطانَةً ِم ْن دُونِ ُك ْم ال يَأْلُونَ ُك ْم َخباالً َودُّوا ما َ‬
‫عنِت ُّ ْم قَ ْد بَ َد ِ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ون ( ‪ ) 118‬ها أ َ ْنت ُ ْم‬ ‫ُور ُه ْم أ َ ْكبَ ُر قَ ْد بَيهنها لَ ُك ُم ْاآليا ِ‬
‫ت ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع ِقلُ َ‬ ‫صد ُ‬ ‫ِم ْن أ َ ْفوا ِه ِه ْم َوما ت ُ ْخ ِفي ُ‬
‫ضوا‬ ‫ع ُّ‬ ‫ب ُك ِله ِه َو ِإذا لَقُو ُك ْم قالُوا آ َمنها َو ِإذا َخلَ ْوا َ‬ ‫ون ِبا ْل ِكتا ِ‬ ‫أُ ِ‬
‫والء ت ُ ِحبُّونَ ُه ْم َوال يُ ِحبُّونَ ُك ْم َوت ُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫س ُك ْم‬ ‫س ْ‬ ‫ُور ( ‪ ) 119‬إِ ْن ت َ ْم َ‬ ‫صد ِ‬ ‫ت ال ُّ‬ ‫ع ِلي ٌم بِذا ِ‬ ‫نام َل ِم َن ا ْلغَ ْي ِظ قُ ْل ُموتُوا بِغَ ْي ِظ ُك ْم إِ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ْاأل َ ِ‬
‫َ‬
‫ش ْيئا ً إِ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫صبِ ُروا َوتَتهقُوا ال يَض ُُّر ُك ْم َك ْي ُد ُه ْم َ‬ ‫س ِيهئَةٌ يَ ْف َر ُحوا بِها َوإِ ْن ت َ ْ‬ ‫سنَةٌ ت َ ُ‬
‫س ْؤ ُه ْم َوإِ ْن ت ُ ِص ْب ُك ْم َ‬ ‫َح َ‬
‫س ِمي ٌع‬ ‫ّللاُ َ‬‫ين َمقا ِع َد ِل ْل ِقتا ِل َو ه‬ ‫ئ ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫غد َْوتَ ِم ْن أ َ ْه ِلكَ تُبَ ه ِو ُ‬ ‫ط ( ‪َ ) 120‬وإِ ْذ َ‬ ‫ون ُم ِحي ٌ‬ ‫بِما يَ ْع َملُ َ‬
‫ون (‬ ‫ّللا فَ ْليَت َ َو هك ِل ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ّللاُ َو ِليُّ ُهما َو َ‬‫تان ِم ْن ُك ْم أ َ ْن ت َ ْفشَل َو ه‬ ‫ع ِلي ٌم ) ‪ِ ( 121‬إ ْذ َه همتْ طائِفَ ِ‬ ‫َ‬
‫) ‪122‬‬
‫ّللا تعالى فيما يجريه أو وعد به ‪ ،‬مع عدم االضطراب عند فقد‬ ‫التوكل اعتماد القلب على ه‬
‫األسباب الموضوعة في العالم ‪ ،‬التي من شأن النفوس أن تركن إليها ‪ ،‬فإن اضطرب فليس‬
‫بمتوكل ‪ ،‬وهو من صفات المؤمنين ‪ ،‬وإن كان التوكل ال يكون للعالم إال من كونه مؤمنا كما‬
‫ّللا به ‪ -‬وما قيده سدى ‪ -‬فلو كان من صفات العلماء ويقتضيه العلم النظري ما قيده‬ ‫قيده ه‬
‫ّللا‬
‫باإليمان ‪ ،‬فال يقع في التوكل بمشاركة من غير المؤمن بأي شريعة كان ‪ ،‬وسبب ذلك أن ه‬
‫تعالى ال يجب عليه شيء عقال إال ما أوجبه على نفسه ‪ ،‬فيقبله بصفة اإليمان ال بصفة العلم ‪،‬‬
‫فإنه فعال لما يريد ‪ ،‬فلما ضمن ما ضمن وأخبر بأنه يفعل أحد الممكنين ‪ ،‬اعتمدنا عليه في ذلك‬
‫على التعيين وصدقناه ‪ ،‬وعدم اضطرابنا عند فقد األسباب إنما هو من إيماننا بضمانه ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪123‬إلى ‪125‬‬


‫ون ( ‪ِ ) 123‬إ ْذ تَقُو ُل ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين أ َ لَ ْن‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ّللاُ ِببَد ٍْر َوأ َ ْنت ُ ْم أ َ ِذلهةٌ فَاتهقُوا ه َ‬
‫ّللا لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬ ‫ص َر ُك ُم ه‬ ‫َولَقَ ْد نَ َ‬
‫ص ِب ُروا َوتَتهقُوا‬ ‫ين ( ‪ ) 124‬بَلى ِإ ْن ت َ ْ‬ ‫آالف ِم َن ا ْل َمل ِئ َك ِة ُم ْن َز ِل َ‬ ‫ٍ‬ ‫يَ ْك ِفيَ ُك ْم أ َ ْن يُ ِم هد ُك ْم َربُّ ُك ْم ِبثَلث َ ِة‬
‫ين) ‪( 125‬‬ ‫آالف ِم َن ا ْل َمل ِئ َك ِة ُم َ‬
‫س ه ِو ِم َ‬ ‫ٍ‬ ‫َويَأْتُو ُك ْم ِم ْن فَ ْو ِر ِه ْم هذا يُ ْم ِد ْد ُك ْم َربُّ ُك ْم ِب َخ ْم َ‬
‫س ِة‬

‫ص ‪464‬‬

‫ص ‪472 :‬‬
‫ّللا المالئكة مددا لنصر المؤمنين على‬
‫لما كان أهل بدر قليلين والمشركون كثيرين ‪ ،‬أنزل ه‬
‫األعداء في القتال يوم بدر ‪ ،‬فنزل المالئكة مقاتلين خاصة ‪ .‬وكونهم مسومين أي أصحاب‬
‫عالمات يعرفون بها أنهم من المالئكة ‪ ،‬فبوجود المدد الملكي واألثر الفلكي كانت النصرة ‪،‬‬
‫ورجعت على األعداء الكرة ‪ ،‬أقدم حيزوم ‪ ،‬لنصرة دين الحي القيوم ‪ ،‬ولما فيه من تقوية‬
‫القلوب ‪ ،‬عند أهل اإليمان بالغيوب ‪ ،‬وما كان عند أهل الغيب إيمانا ‪ ،‬كان ألهل الشرك عيانا ‪،‬‬
‫ّللا قتلهم ‪ ،‬قتلهم بالملك ‪ ،‬لألمر الذي أوحاه في السماء‬
‫وذلك الشهود خذلهم ‪ ،‬فلم تقتلوهم ولكن ه‬
‫وأودعه حركة الفلك ‪ ،‬فما انحجب عن المؤمن إلهانته ‪ ،‬كما أنه ما كشفه للمشرك لمكانته ‪،‬‬
‫ّللا بالكشف ‪ ،‬وهو من النصر اإللهي‬ ‫لكن ليثبت ارتياعه ‪ ،‬ويتحقق انصداعه واندفاعه ‪ ،‬فخذله ه‬
‫الصرف ‪ ،‬نصر به عباده المؤمنين على التعيين ‪ ،‬فإنه أوجب سبحانه على نفسه نصرتهم ‪،‬‬
‫فرد عليهم لهم كرتهم ‪ ،‬فانهزموا أجمعين وكان حقها علينا نصر المؤمنين ‪ ،‬والمؤمن اإلله الحق‬
‫‪ ،‬وقد نصره الخلق ‪.‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪] 126‬‬


‫يز ا ْل َح ِك ِ‬
‫يم (‬ ‫ّللاُ ِإاله بُشْرى لَ ُك ْم َو ِلت َ ْط َمئِ هن قُلُوبُ ُك ْم ِب ِه َو َما النهص ُْر ِإاله ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬
‫ّللا ا ْلعَ ِز ِ‬ ‫َوما َجعَلَهُ ه‬
‫) ‪126‬‬

‫ّللاُ إِ َّال بُ ْشرى لَ ُك ْم »فيحتمل لكونهم من المالئكة عامة ‪ ،‬أوهم المالئكة الذين قالوا في‬ ‫َوما َجعَلَهُ َّ‬
‫حق آدم( أ َ ت َ ْجعَ ُل فِيها َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيها َويَ ْس ِفكُ ال هدِما َء )فأنزلهم ه‬
‫ّللا في يوم بدر ‪ ،‬فسفكوا الدماء ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فنصرونا على األعداء بما عابوه علينا‬
‫حيث عابوا آدم بسفك الدماء ‪ ،‬فلم يتخلفوا عن أمر ه‬
‫ط َمئِ َّن قُلُوبُ ُك ْم ِب ِه »أي من عادة البشرية أن تسكن إلى الكثرة ‪ ،‬إذ كان أهل بدر ثالثمائة‬ ‫‪َ «.‬و ِلت َ ْ‬
‫والمشركون ألفا ‪ ،‬فلما رأوا المالئكة خمسة آالف ‪ ،‬اطمأنت قلوب المؤمنين بكثرة العدد مع‬
‫وجود القتال منهم ‪ ،‬فما اطمأنوا به برؤيتهم وحصل لهم من األمان في قلوبهم حتى غشيهم‬
‫النعاس ‪ ،‬إذ كان الخائف ال ينام ‪.‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 127‬إلى ‪] 128‬‬


‫ش ْي ٌء أ َ ْو‬
‫س لَكَ ِم َن ْاأل َ ْم ِر َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا أ َ ْو يَ ْك ِبت َ ُه ْم فَيَ ْنقَ ِلبُوا خائِ ِب َ‬
‫ين ( ‪ ) 127‬لَ ْي َ‬ ‫ِليَ ْق َط َع َط َرفا ً ِم َن الهذ َ‬
‫ون) ‪( 128‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْو يُعَ ِذهبَ ُه ْم فَ ِإنه ُه ْم ظا ِل ُم َ‬ ‫يَت ُ َ‬
‫وب َ‬

‫ص ‪456‬‬

‫ص ‪473 :‬‬
‫ْس لَ َك ِمنَ‬
‫يقول الحق تعالى ألكرم الناس عليه وأتمهم في الشهود وأعالهم في الوجود « [لَي َ‬
‫ش ْي ٌء »فإن األمر يكون عنه التكوين ‪ ،‬والتكوين للحق ال‬‫ْس لَ َك ِمنَ ْاأل َ ْم ِر َ‬ ‫ْاأل َ ْم ِر َ‬
‫ش ْي ٌء » ]« لَي َ‬
‫له ‪ ،‬فما أراده كان ‪ ،‬فأفلسه الحق حتى ال يخرج عن حقيقته ‪.‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 129‬إلى ‪] 133‬‬


‫غف ُ ٌ‬
‫ور َر ِحي ٌم (‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫ِب َم ْن يَشا ُء َو ه‬ ‫ض يَ ْغ ِف ُر ِل َم ْن يَشا ُء َويُعَذه ُ‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّلل ما فِي ال ه‬‫َو ِ ه ِ‬
‫ون ( ‪130‬‬ ‫عفَةً َواتهقُوا ه َ‬
‫ّللا لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬ ‫ضعافا ً ُمضا َ‬ ‫ِين آ َمنُوا ال تَأ ْ ُكلُوا ِ ه‬
‫الربَوا أ َ ْ‬ ‫‪ ) 129‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 132‬‬ ‫سو َل لَعَله ُك ْم ت ُ ْر َح ُم َ‬ ‫الر ُ‬
‫ّللا َو ه‬ ‫ين ( ‪َ ) 131‬وأ َ ِطيعُوا ه َ‬ ‫ار الهتِي أ ُ ِعدهتْ ِل ْلكافِ ِر َ‬ ‫) َواتهقُوا النه َ‬
‫ين ( ‪) 133‬‬ ‫ض أ ُ ِعدهتْ ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫سماواتُ َو ْاأل َ ْر ُ‬ ‫ض َها ال ه‬ ‫سارعُوا ِإلى َم ْغ ِف َر ٍة ِم ْن َر ِبه ُك ْم َو َجنه ٍة ع َْر ُ‬ ‫َو ِ‬

‫عوا إِلى َم ْغ ِف َرةٍ ِم ْن َر ِبه ُك ْم »وهي العبادة ‪،‬‬ ‫عوا إِلى َم ْغ ِف َرةٍ ِم ْن َر ِبه ُك ْم » ] « َو ِ‬
‫سار ُ‬ ‫سار ُ‬
‫[ « َو ِ‬
‫فالمسارعة هي المبادرة إلى الصالة مثال بالتأهب المعتاد قبل دخول وقتها ‪ ،‬فيأتيها بسكينة‬
‫ووقار ‪ ،‬فيجمع بين المسارعة والسكينة ‪ ،‬فمن سارع إليها فقد سارع إلى المغفرة ‪ ،‬وإنما أمر‬
‫العبد بالمسارعة إلى الخيرات لتصرفه في المباحات ال غير ‪ ،‬فمن كانت حالته أن ال يتصرف‬
‫عوا ِإلى َم ْغ ِف َرةٍ ِم ْن‬
‫سار ُ‬
‫في مباح ‪ ،‬فهو في خير على كل حال ‪ -‬تفسير من باب اإلشارة ‪َ «. -‬و ِ‬
‫َر ِبه ُك ْم »المسارعة في الخير وإليه ‪ ،‬والمغفرة ال ترد إال على ذنب ‪ ،‬وإن كانت في وقت تستر‬
‫العبد عن أن تصيبه الذنوب ‪ ،‬وهو المعصوم والمحفوظ ‪ ،‬فلها الحكمان في العبد ‪ ،‬محو الذنب‬
‫بالستر عن العقوبة أو العصمة والحفظ ‪ ،‬وال ترد على تائب ‪ ،‬فإن التائب ال ذنب له ‪ ،‬إذ التوبة‬
‫أزالته ‪ ،‬فما ترد المغفرة إال على المذنبين في حال كونهم مذنبين غير تائبين ‪ ،‬فهناك يظهر‬
‫ّللا في عباده الخفية ‪ ،‬من‬ ‫حكمها ‪ .‬وهذا ذوق لم يطرق قلبك مثله قبل هذا ‪ ،‬وهو من أسرار ه‬
‫حكم أسمائه الحسنى ‪ ،‬ومثل هذا يسمى التضمين ‪ ،‬فإنه أمر بالمسابقة إلى المغفرة ‪ ،‬وما أمر‬
‫بالمسابقة إلى الذنب ‪ ،‬ولما كان العفو والغفران يطلب الذنب ‪ ،‬وهو مأمور بالمسابقة إلى‬
‫المغفرة ‪ ،‬فهو مأمور بما له يكون ليظهر حكمها ‪ ،‬فما ال يتوصل إلى الواجب إال به فهو واجب‬
‫‪ ،‬ولكن من حيث‬

‫ص ‪466‬‬

‫ص ‪474 :‬‬
‫ّللا ال يَأ ْ ُم ُر‬
‫ما هو فعل ال من حيث ما هو حكم ‪ ،‬وإنما أخفى ذكره هنا وذكر المغفرة لقوله ( ِإ َّن َّ َ‬
‫شاء )واألمر من أقسام الكالم ‪ ،‬فما أمر بالذنوب وإنما أمر بالمسابقة واإلسراع إلى الخير‬ ‫ِب ْالفَ ْح ِ‬
‫ّللا بقوم يذنبون فيغفر لهم ] ولم يقل‬ ‫وفيه ‪ ،‬وإلى المغفرة ‪ ،‬جاء في الحديث [ لو لم تذنبوا لجاء ه‬
‫فيعاقبهم ‪ ،‬فغلب المغفرة وجعل لها الحكم ‪ .‬فأصل وجود الذنب بذاته لما يتضمنه من المغفرة‬
‫والمؤاخذة ‪ ،‬فيطلب تأثير األسماء ‪ ،‬وليس أحد االسمين المتقابلين في الحكم أولى من اآلخر ‪،‬‬
‫ض َها‬
‫ع ْر ُ‬ ‫لكن سبقت الرحمة الغضب في التجاري ‪ ،‬فلم تدع شيئا إال وسعته رحمته« َو َجنَّ ٍة َ‬
‫ض »العرض ينحصر في السماوات واألرض في سعة الجنة ‪ ،‬ولم يذكر‬ ‫سماواتُ َو ْاأل َ ْر ُ‬ ‫ال َّ‬
‫لطولها حد وال انتهاء ‪ ،‬فطولها روحاني معنوي ‪ ،‬وعرضها جسماني ‪ ،‬فطولها ال ينحصر ‪،‬‬
‫وأما من جهة التحقيق ‪ ،‬فإن ذكر عرض الجنة فإن شكلها مستدير ‪ ،‬والطول ال يظهر إال ببداية‬
‫وغاية ‪ ،‬فعرض الجنة قطرها إذا قدرته ‪ ،‬وليس لها طول لكونها كريهة ‪.‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪] 134‬‬


‫ب‬
‫ّللاُ يُ ِح ُّ‬
‫اس َو ه‬ ‫ين ا ْلغَ ْي َظ َوا ْلعافِ َ‬
‫ين ع َِن النه ِ‬ ‫اء َوا ْل ِ‬
‫كاظ ِم َ‬ ‫اء َوال ه‬
‫ض هر ِ‬ ‫س هر ِ‬ ‫ِين يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ون فِي ال ه‬ ‫الهذ َ‬
‫ين) ‪( 134‬‬ ‫سنِ َ‬ ‫ا ْل ُمحْ ِ‬

‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬من كظم غيظا وهو قادر‬ ‫ّللا ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ظ »لتعدي حدود ه‬ ‫كاظ ِمينَ ْالغَ ْي َ‬
‫َو ْال ِ‬
‫اس »فإن للخلق‬‫ع ِن النَّ ِ‬ ‫ّللا أمنا وإيمانا ] فمن اإليمان كظم الغيظ ‪َ «.‬و ْالعافِينَ َ‬
‫على أن ينفذه مأله ه‬
‫ّللا ألعمال عملوها له ‪ ،‬وألعمال عملوها للخلق رعاية للحق ‪ ،‬كالعفو من العافين‬ ‫أجرا على ه‬
‫عن الناس ؛ فإن اإلنسان إذا رحم نفسه وزال الغضب بإطالق االنتقام أعقبته الرحمة ‪ ،‬وهي‬
‫ّللا كان العفو عنه أحسن ‪ ،‬ال بد أن‬ ‫الندم الذي يجده اإلنسان إذا عاقب أحدا ‪ ،‬ويقول ‪ :‬لو شاء ه‬
‫يقول ذلك ‪ ،‬إما دنيا وإما آخرة في انتقامه لنفسه ‪ ،‬لئال يتخيل أن إقامة الحدود من هذا القبيل ‪،‬‬
‫ّللاُ يُ ِحبُّ ْال ُم ْح ِس ِنينَ »راجع‬
‫ّللا ‪ ،‬ما لإلنسان فيها تع همل ‪َ «.‬و َّ‬
‫فإن إقامة الحدود شرع من عند ه‬
‫اآلية ( ‪. ) 148‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪] 135‬‬


‫ّللا فَا ْ‬
‫ست َ ْغفَ ُروا ِلذُنُو ِب ِه ْم َو َم ْن يَ ْغ ِف ُر الذُّنُ َ‬
‫وب ِإاله‬ ‫فاحشَةً أ َ ْو َظلَ ُموا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم ذَك َُروا ه َ‬ ‫ِين ِإذا فَعَلُوا ِ‬
‫َوالهذ َ‬
‫ون) ‪( 135‬‬ ‫ّللاُ َولَ ْم يُ ِص ُّروا عَلى ما فَعَلُوا َو ُه ْم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ه‬

‫ص ‪467‬‬

‫ص ‪475 :‬‬
‫اإلصرار من األعمال المنهي عن عملها ‪ ،‬وال يزيلها إال التوبة ‪ ،‬فإن مات خيف عليه ولم‬
‫يقطع ‪ ،‬وإذا ز هل العبد فقامت به الذلة والحياء واالنكسار ‪ ،‬كان ذلك عين الترقي ‪ ،‬فإذا فقد‬
‫اإلنسان هذه الحالة في زلته ‪ ،‬ولم يندم وال انكسر وال ذ هل وال خاف مقام ربه ‪ ،‬كان جليس‬
‫إبليس ‪ ،‬بل إبليس أحسن حاال منه ‪ ،‬ألنه يقول لمن يطيعه في الكفر( ِإ ِنهي بَ ِري ٌء ِم ْن َك ِإ ِنهي أ َ ُ‬
‫خاف‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬الندم توبة]‬ ‫ّللا َربَّ ْالعالَ ِمينَ )وقال رسول ه‬
‫ّللا صلهى ه‬ ‫َّ َ‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪136‬‬


‫ِين فِيها َونِ ْع َم أَجْ ُر‬
‫هار خا ِلد َ‬ ‫أُولئِكَ َجزا ُؤ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ ِم ْن َر ِبه ِه ْم َو َجنهاتٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫ين ( ‪) 136‬‬ ‫عام ِل َ‬‫ا ْل ِ‬
‫ّللا تعالى أخبر أن أصحاب األعمال‬ ‫عام ِلينَ »بأمره ‪ ،‬فإن ه‬ ‫عام ِلينَ » ]« أ َ ْج ُر ْال ِ‬ ‫" ِن ْع َم أ َ ْج ُر ْال ِ‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬المشتغلين بكل عمل توجه عليهم منه‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬الموفين ما عاهدوا ه‬ ‫الحافظين لحدود ه‬
‫في أوقاتهم ‪ ،‬أن لهم اآلخرة واألولى ‪ ،‬وأعطاهم ملك الدارين ‪ ،‬ونزههم في العالمين ‪ ،‬وذكرهم‬
‫وّللا ذو الفضل العظيم ‪ ،‬واعلم‬ ‫بلسان صدق فيمن عنده ‪ ،‬وفي كتابه العزيز منة منه وطوال ‪ ،‬ه‬
‫ّللا تعالى ما أثنى على أحد من عباده في كتابه العزيز ‪ ،‬وال على لسان نبيه في حديثه ‪ ،‬إال‬ ‫أن ه‬
‫كان الثناء عمال من األعمال ؛ ما مدحهم إال بأعمالهم ‪ ،‬فأعمالهم هي التي ردها سبحانه عليهم‬
‫‪ ،‬مع توليه لهم فيها ‪ ،‬وهذا غاية الكرم والجود أن يمنحك ‪ ،‬ويعطيك ‪ ،‬ويثني عليك بعد ذلك بما‬
‫ليس لك ‪ ،‬فإنه سبحانه آخذ بناصيتك ‪ ،‬قائدك إلى كل فعل أراده منك أن يوجده فيك أو على‬
‫يديك ‪ ،‬فطائفة أثنى عليهم بالتقوى ‪ ،‬وطائفة باإليمان ‪ ،‬وطائفة بالعلم وهو من جملة األعمال ‪،‬‬
‫صل أعمالهم اعتناء بهم وشرفا وتعليما لنا وهداية وبيانا‬ ‫َّت ِل ْل ُمت َّ ِقينَ )ثم ف ه‬‫فقال تعالى ‪ ( :‬أ ُ ِعد ْ‬
‫ع ِن‬‫ظ َو ْالعافِينَ َ‬ ‫كاظ ِمينَ ْالغَ ْي َ‬
‫اء َو ْال ِ‬ ‫اء َوالض ََّّر ِ‬ ‫وموعظة ‪ ،‬فقال تعالى (الَّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ فِي ال َّ‬
‫س َّر ِ‬
‫س ِل ِه )فما وصفهم لما وصفهم إال بأعمالهم‬ ‫َّت ِللَّذِينَ آ َمنُوا ِب َّ ِ‬
‫اّلل َو ُر ُ‬ ‫اس )اآليات ‪ ،‬وقال ‪ ( :‬أ ُ ِعد ْ‬ ‫النَّ ِ‬
‫نص على مقام يناله العبد عنده إال قرنه بالعمل الصالح ‪ ،‬كما‬ ‫التي خلق لهم ‪ ،‬ثم أنه سبحانه ما ه‬
‫قال تعالى ‪ ( :‬الَّذِينَ آ َمنُوا َوكانُوا يَتَّقُونَ ‪ ،‬لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا َوفِي ْاآل ِخ َرةِ )وقال تعالى‬
‫علَ ْي ِه ُم ْال َمالئِ َكةُ أ َ َّال تَخافُوا َوال ت َ ْحزَ نُوا )اآلية ‪،‬‬ ‫‪ِ ( :‬إ َّن الَّذِينَ قالُوا َربُّنَا َّ‬
‫ّللاُ ث ُ َّم ا ْستَقا ُموا تَتَن ََّز ُل َ‬
‫ق ِع ْن َد َملِيكٍ‬ ‫ص ْد ٍ‬ ‫ت َونَ َه ٍر فِي َم ْقعَ ِد ِ‬ ‫وقال ‪ِ ( :‬إ َّن ْال ُمت َّ ِقينَ فِي َجنَّا ٍ‬

‫ص ‪468‬‬

‫ص ‪476 :‬‬
‫ُم ْقتَد ٍِر )إلى أمثال هذه اآليات النيرات ‪ ،‬فقد شاء سبحانه وتعالى أن ال تنال المقامات على‬
‫تفاصيلها بتفاضل بعضها على بعض إال بعمل ‪ ،‬والصبر والرضى من جملة األعمال‬
‫صب ُْر َك ِإ َّال ِب َّ ِ‬
‫اّلل‬ ‫ص ِب ْر َوما َ‬
‫واألحوال المشروعة لنا ‪ ،‬المأمور بها شرعا ‪ ،‬كما قال تعالى ( ‪َ :‬وا ْ‬
‫)وال يكون الصبر إال على بالء ومشقة ‪ .‬وأصل السعادة الجامعة لها موافقتنا للحق تعالى فيما‬
‫ّللا تعالى‬ ‫أمر به ونهى شرعا ‪ ،‬مع التوحيد في باطنه بنفي األغيار ‪ ،‬وتلك الموافقة عناية من ه‬
‫ببعض عباده ‪ ،‬ولكن ينبغي للعبد أن يعتقد أن أعماله لم توصله إلى نيل تلك المقامات ‪ ،‬وإنما‬
‫ّللا تعالى به الذي أعطاه التوفيق للعمل والقدرة عليه والثواب ‪ .‬فحصول‬ ‫أوصله إلى ذلك رحمة ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬كما قال صلهى ه‬ ‫السعادة أعني دخول دار الكرامة ابتداء إنما هو برحمة ه‬
‫ّللا ؟ قال ‪ :‬وال أنا إال أن‬ ‫وسلم ‪ [ :‬ال يدخل أحد الجنة بعمل ‪ ،‬قيل له ‪ :‬وال أنت يا رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقسمة الدرجات باألعمال ‪ ،‬والخلود بالنيات ‪،‬‬ ‫ّللا برحمته ] فالدخول برحمة ه‬‫يتغمدني ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وطبقات عذابهم باألعمال ‪ .‬وخلودهم‬ ‫وكذلك في دار الشقاوة ‪ ،‬دخول أهلها فيها بعدل ه‬
‫بالنيات ‪.‬‬
‫وأصل ما استوجبوا به العذاب المؤبد المخالفة ‪ ،‬كما كانت السعادة في الموافقة ‪ .‬وكذلك من‬
‫ّللا شرعا ‪ .‬وأول ما يجب عليك ‪ ،‬إن رزقت‬ ‫دخل من العاصين النار ‪ ،‬لوال المخالفة ما عذبهم ه‬
‫الموافقة والتوفيق ‪ ،‬العلم باألمور التي مهدناها لك ‪ ،‬فإذا علمتها توجه عليك العمل بها ‪ ،‬وإن‬
‫كان طالب العلم في عمل من حيث طلبه ‪ ،‬ولكن يعطيك العلم العمل بأمور أخر ‪ ،‬توجه عليك‬
‫بها خطاب الشارع ‪ ،‬كما أن العلم لم يصح طلبه إال بالعلم ‪ .‬فمن حصل له العلم باألحكام التي‬
‫يحتاج إليها في مقامه ‪ ،‬فال يكثر مما ال يحتاج إليه ‪ ،‬فإن التكثير مما ال حاجة فيه سبب في‬
‫تضييع الوقت عما هو أهم ‪ ،‬فيأخذ منها ما توجه عليه في الوقت من علم تكليف ذلك الوقت ‪،‬‬
‫فإذا عرفت هذا ‪ ،‬والزمت العمل ‪ ،‬فأنت الموفق السعيد ‪ .‬واعلم أن عدد األعضاء المكلفة‬
‫ثمانية ‪ :‬وهي العين واألذن واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب ‪ ،‬فعلى كل واحد من‬
‫هذه األعضاء تكليف ‪ ،‬يخصه من أنواع األحكام الشرعية ‪ ،‬ثم تصرفها على الوجه الشرعي‬
‫في محلين خاصة إما في ذاتك وإما في غير ذاتك ‪ .‬فالذي في ذاتك منه ما يلحقك عليه المذمة‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فالمحمدة كالصوم والصالة وما أشبه ذلك ‪ ،‬والمذمة‬ ‫الشرعية والمحمدة عند ه‬
‫كضربك نفسك بالسكين لتقتلها ‪ .‬ومنها ما ال يلحقك فيه مذمة وال محمدة ‪ ،‬كصنف المباح ‪ ،‬وال‬
‫يجوز لك هذا الفعل إال في ذاتك ‪ .‬وأما في غير ذاتك فال إال بشرط‬

‫ص ‪469‬‬

‫ص ‪477 :‬‬
‫ما ‪.‬والذين هم غيرك ثمانية أصناف خارجون عنك ‪ :‬الولد والوالدان والزوجة وملك اليمين‬
‫والبهيمة والجار واألجير واألخ اإليماني والطيني ‪ .‬وكل فعل حسن للجوارح أسه انتباه القلب ‪،‬‬
‫وهذه األعمال كلها ليس لها زوال عن شخص حتى يموت ‪ ،‬فإن عدمها في أحواله وطريقه فهو‬
‫مخدوع ‪ ،‬والواصل ال يتصور منه ترك لها أصال ‪ ،‬وإن ادعى الوصول ‪ ،‬وفارق المعامالت‬
‫استصحابا ‪ ،‬فدعواه كاذبة ‪ .‬ولو فتح له في علم الكونين وسر العالم فمكر واستدراج ‪ .‬فال سبيل‬
‫إلى الوصول إلى نهاية صحيحة عن الشوب اإلبليسي ‪ ،‬خالصة عن الغرض النفسي ‪ ،‬ما لم‬
‫يزل المريد هأوال عن رعونة النفس وكدورة البشرية ‪ .‬ومن لم يتخلق لم يتحقق ‪ .‬وعالمة من‬
‫صح وصوله الخروج عن الطبع واألدب مع الشرع واتباعه حيث سلك ‪ ،‬والشفاء الشافي‬
‫والدواء الكافي لهذا الداء العضال العلم بشرط التوفيق ‪ ،‬فإذا اجتمعا فال حائل بينك وبين‬
‫التحقيق ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪137‬إلى ‪138‬‬


‫ين ( ‪ ) 137‬هذا‬ ‫كان عاقِبَةُ ا ْل ُم َك ِذه ِب َ‬
‫ف َ‬ ‫ض فَا ْن ُ‬
‫ظروا َك ْي َ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫سنَ ٌن فَ ِ‬‫قَ ْد َخلَتْ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم ُ‬
‫ين ) ‪( 138‬‬ ‫دى َو َم ْو ِع َظةٌ ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫اس َو ُه ً‬ ‫يان ِللنه ِ‬
‫بَ ٌ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬تركت فيكم واعظين ‪ ،‬صامت وناطق ‪ ،‬فالصامت الموت والناطق‬ ‫قال صلهى ه‬
‫القرآن ] ليست الموعظة من الشعر فترمز ‪ ،‬وال من الخطابة فتلغز ‪ ،‬وإنما هي من النعم‬
‫علَّ ْمناهُ ال ِ ه‬
‫ش ْع َر‬ ‫المبسوطة على الدوام ‪ ،‬على مر الليالي واأليام ‪ ،‬كما قال المهيمن العالم ‪َ ( :‬وما َ‬
‫علَى ْالكافِ ِرينَ ) ‪.‬‬ ‫ين ِليُ ْنذ َِر َم ْن كانَ َحيًّا َويَ ِح َّق ْالقَ ْو ُل َ‬
‫آن ُمبِ ٌ‬ ‫َوما يَ ْنبَ ِغي لَهُ ‪ِ ،‬إ ْن ُه َو ِإ َّال ِذ ْك ٌر َوقُ ْر ٌ‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : )3‬آية ‪139‬‬


‫ين ) ‪( 139‬‬ ‫َوال ت َ ِهنُوا َوال تَحْ َزنُوا َوأ َ ْنت ُ ُم ْاأل َ ْعلَ ْو َن ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫ّللا على كلمة أعدائه ‪ [.‬سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪] 140‬‬ ‫فهم األعلون بإعلء كلمة ه‬
‫ِين‬ ‫ح ِمثْلُهُ َوتِ ْلكَ ْاألَيها ُم نُدا ِولُها بَ ْي َن النه ِ‬
‫اس َو ِليَ ْعلَ َم ه‬
‫ّللاُ الهذ َ‬ ‫س ا ْلقَ ْو َم قَ ْر ٌ‬ ‫ح فَقَ ْد َم ه‬ ‫س ُك ْم قَ ْر ٌ‬
‫س ْ‬ ‫إِ ْن يَ ْم َ‬
‫ين ) ‪( 140‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ب ال ه‬ ‫ّللاُ ال يُ ِح ُّ‬‫ش َهدا َء َو ه‬ ‫آ َمنُوا َويَت ه ِخذَ ِم ْن ُك ْم ُ‬

‫ص ‪470‬‬

‫ص ‪478 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪141‬‬
‫ّللا لعباده الذين‬ ‫ق ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين ) ‪ ( 141‬وهذا كله ابتلء من ه‬ ‫ّللاُ الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َويَ ْم َح َ‬ ‫ص ه‬ ‫َو ِليُ َم ِ هح َ‬
‫ادعوا اإليمان به بألسنتهم ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪142‬‬


‫ِين جا َهدُوا ِم ْن ُك ْم َويَ ْعلَ َم ال ه‬
‫صابِ ِر َ‬
‫ين ) ‪( 142‬‬ ‫س ْبت ُ ْم أ َ ْن ت َ ْد ُخلُوا ا ْل َجنهةَ َولَ هما يَ ْعلَ ِم ه‬
‫ّللاُ الهذ َ‬ ‫أ َ ْم َح ِ‬
‫فميهز بينهما ‪ ،‬فيجازي المجاهد بجزاء معين ‪ ،‬ويجازي الصابر عليه بجزاء معين ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 143‬إلى ‪144‬‬


‫ون ( ‪َ ) 143‬وما ُم َح هم ٌد ِإاله‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫َولَقَ ْد ُك ْنت ُ ْم ت َ َمنه ْو َن ا ْل َم ْوتَ ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن ت َ ْلقَ ْو ُه فَقَ ْد َرأ َ ْيت ُ ُمو ُه َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْن ُ‬
‫س ُل أ َ فَ ِإ ْن ماتَ أ َ ْو قُتِ َل ا ْنقَلَ ْبت ُ ْم عَلى أَعْقابِ ُك ْم َو َم ْن يَ ْنقَ ِل ْب عَلى َ‬
‫ع ِقبَ ْي ِه‬ ‫سو ٌل قَ ْد َخلَتْ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫َر ُ‬
‫ين ) ‪( 144‬‬ ‫ّللاُ الشها ِك ِر َ‬ ‫سيَجْ ِزي ه‬ ‫ش ْيئا ً َو َ‬ ‫فَلَ ْن يَض هُر ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫ّللا عليه وسلم إال ذهل في ذلك اليوم ‪ ،‬وخولط في عقله‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ما بقي أحد يوم مات رسول ه‬
‫‪ ،‬وتكلم بما ليس األمر عليه ‪ ،‬إال أبو بكر الصديق ‪ ،‬فما طرأ عليه من ذلك أمر ‪ ،‬بل رقي‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬من كان منكم يعبد‬ ‫المنبر ‪ ،‬وخطب الناس ‪ ،‬وذكر موت النبي صلهى ه‬
‫ت‬‫ّللا حي ال يموت ‪ ،‬ثم تال« ِإنَّ َك َم ِيه ٌ‬ ‫ّللا فإن ه‬ ‫محمدا ‪ ،‬فإن محمدا قد مات ‪ ،‬ومن كان يعبد ه‬
‫سو ٌل »‪ -‬اآلية ‪ ،‬فسكن جأش الناس ‪ ،‬حتى قال عمر ‪ :‬ه‬
‫وّللا ما‬ ‫‪،‬وما ُم َح َّم ٌد إِ َّال َر ُ‬‫َوإِنَّ ُه ْم َم ِيهتُونَ َ‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫كأني سمعت بهذه اآلية إال في ذلك اليوم ‪ ،‬فإنه ما بقي أحد حين مات رسول ه‬
‫وسلم إال اضطرب وقال ‪:‬‬
‫ما ال يمكن أن يسمع ‪ ،‬وشهد على نفسه في ذلك اليوم بقصوره وعدم معرفته برسوله الذي‬
‫اتبعه إال أبا بكر ‪ ،‬فإنه ما تغير عليه الحال لعلمه بما ثم وما هو األمر عليه ‪ ،‬فلما قرأ اآلية‬
‫تراجع من حكم عليه وهمه ‪ ،‬وعرف الناس حينئذ فضل أبي بكر على الجماعة ‪ ،‬فاستحق‬
‫اإلمامة والتقديم ‪ ،‬فما بايعه من بايعه سدى ‪ ،‬وما تخلهف عن بيعته إال من جهل منه ‪ ،‬ما جهل‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬أو من كان في محل نظر في ذلك ‪ ،‬أو متأوال ‪ ،‬فإنه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫أيضا من رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم في حياته بفضله على الجماعة بالسر الذي وقر في‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قد شهد له رسول ه‬
‫صدره ‪ ،‬فظهر حكم ذلك السر في ذلك اليوم ‪ ،‬وهو استيفاء مقام العبودة ‪ ،‬بحيث أنه لم يخل‬
‫منه بشيء‬

‫ص ‪471‬‬

‫ص ‪479 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم أن أبا بكر‬‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فعلم محمد صلهى ه‬‫ّللا صلهى ه‬
‫في حقه وفي حق رسول ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ليس معه إال بحكم أنه يرى ما يخاطبه الحق‬‫الصديق مع من دعاه إليه ‪ ،‬وهو ه‬
‫ّللا عليه وسلم في كل خطاب يسمعه منه ‪ ،‬بل من جميع من‬ ‫سبحانه على لسان رسوله صلهى ه‬
‫يخاطبه ‪ ،‬وقد علهمه الحق في نفسه ميزان ما يقبل من خطابه وما يرد ‪ ،‬فكان أبو بكر رضي‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا في مقام الرضا واالستسالم والتفويض والصبر واالعتماد على ه‬ ‫ّللا عنه أحكم أولياء ه‬
‫ه‬
‫ّللا عنه ما ظهر قط عليه مما كان عليه في باطنه من المعرفة شيء لقوته إال يوم‬ ‫فإنه رضي ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وذهلت الجماعة ‪ ،‬وقالوا ما حكي عنهم إال الصديق ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫مات رسول ه‬
‫ّللا أهله دون الجماعة لإلمامة والتقدم ‪،‬‬‫ّللا تعالى وفقه إلظهار القوة التي أعطاه ‪ ،‬لكون ه‬‫فإن ه‬
‫ّللا قد‬
‫واإلمام ال بد أن يكون صاحيا ‪ ،‬ال يكون سكرانا ‪ ،‬فقامت له تلك القوة في الداللة على أن ه‬
‫ّللا عليه وسلم في أمته ‪ ،‬كالمعجزة للنبي‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫جعله مقدهم الجماعة في الخالفة عن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم في الداللة على نبوته ‪ ،‬فلم يتقدم وال حصل األمر له إال عن طوع من‬ ‫صلهى ه‬
‫جماعة وكره من آخرين ‪ ،‬وذلك ليس نقصا في إمامته ‪ ،‬ومن كره إمامته من الصحابة رضي‬
‫ّللا عنهم ‪ ،‬ما كان عن هوى نفس ‪ ،‬نحاشيهم من ذلك على طريق حسن الظن بالجماعة ‪ ،‬ولكن‬ ‫ه‬
‫كان لشبهة قامت عندهم ‪ ،‬رأى من رأى أنه أحق بها منه في رأيه ‪ ،‬وما أعطته شبهته ال في‬
‫ّللا قد سبق علمه بأن يجعله خليفة في األرض ‪ ،‬وكذلك عمر وعثمان وعلي‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬
‫علم ه‬
‫ّللا أن‬‫والحسن ‪ ،‬ولو تقدم غير أبي بكر لمات أبو بكر في خالفة من تقدمه ‪ ،‬وال بد في علم ه‬
‫يكون خليفة ‪ ،‬فتقدمهم بالزمان بأنه أولهم لحوقا باآلخرة ‪ ،‬فكان سبب هذا الترتيب في الخالفة‬
‫ترتيب أعمارهم ‪ ،‬فال بد أن يتأخر عنها من يتأخر مفارقته للدنيا ‪ ،‬ليلي الجميع ذلك المنصب ‪،‬‬
‫فكل لها أهل في وقت أهلية الذي قبله ‪ ،‬وال بد من والية كل واحد منهم ‪ ،‬وخلع المتأخر لو تقدم‬
‫ّللا الخالفة ترتيب‬ ‫ّللا في سابق علمه من الوالية ‪ ،‬فرتب ه‬ ‫ال بد منه ‪ ،‬حتى يلي من ال بد له عند ه‬
‫الزمان لألعمار ‪ ،‬حتى ال يقع خلع مع االستحقاق في كل واحد من متقدم ومتأخر ‪ ،‬وما علم‬
‫ّللا ‪ ،‬هو العالم بمنازلهم‬
‫الصحابة ذلك إال بالموت ‪ ،‬وفضل بعضهم على بعض مصروف إلى ه‬
‫عنده ‪ ،‬فإن المخلوق ما يعلم ما في نفس الخالق إال ما يعلمه به الخالق سبحانه ‪ ،‬وما أعلم‬
‫ّللا‬
‫بشيء من ذلك ‪ ،‬فال يعلم ما في نفسه ‪ ،‬إال إذا أوجد أمرا ‪ ،‬علمنا أنه لوال سبق في علم ه‬
‫فاّلل يعصمنا من الفضول ‪ ،‬إنه ذو الفضل العظيم ‪ ،‬ومع هذا البيان اإللهي ‪،‬‬ ‫كونه ما كان ‪ ،‬ه‬
‫فبقي أهل األهواء في خوضهم يلعبون مع‬

‫ص ‪472‬‬

‫ص ‪480 :‬‬
‫ّللا العصمة من األهواء وأمراض التعصب‬ ‫إبانة الصبح لذي عينين ‪ ،‬بلسان وشفتين ‪ ،‬نسأل ه‬
‫وحمية الجاهلية ‪ .‬من هذا نعلم أنه إذا عرف التلميذ من الشيخ أنه محل لظهور آثار الربوبية ‪،‬‬
‫ّللا على ذلك التلميذ بما‬
‫وهو في نفسه على خالف ما يظهر للعالم ‪ ،‬مشاهد عبودته ‪ ،‬فقد فتح ه‬
‫ّللا ال عليه‬
‫فيه سعادته ‪ ،‬فإنه يتجرد إلى جانب الحق تجرد الشيخ ‪ ،‬فإنه عرف منه واتكل على ه‬
‫ّللا عليه من الحال في حق ذلك التلميذ ‪ ،‬من نطق بأمر‬ ‫‪ ،‬وبقي ناظرا في الشيخ ما يجري ه‬
‫ّللا على لسان هذا الشيخ ‪ ،‬ويعلم التلميذ‬ ‫يأمره به أو ينهاه ‪ ،‬أو بعلم يفيده ‪ ،‬فيأخذه التلميذ من ه‬
‫في نفسه من الشيخ ما يعلمه الشيخ من نفسه ‪ ،‬أنه محل جريان أحكام الربوبية ‪ ،‬حتى لو فقد‬
‫الشيخ لم يقم فقده عند ذلك التلميذ ذلك القيام ‪ ،‬لعلمه بحال شيخه ‪ ،‬كأبي بكر الصديق مع رسول‬
‫ّللاُ ال َّ‬
‫شا ِك ِرينَ »لما أسداه من آالئه ‪.‬‬ ‫سيَ ْج ِزي َّ‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم حين مات ‪َ «.‬و َ‬ ‫ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 145‬إلى ‪146‬‬


‫واب ال ُّد ْنيا نُ ْؤتِ ِه ِم ْنها َو َم ْن يُ ِر ْد‬ ‫كان ِلنَ ْف ٍس أ َ ْن ت َ ُموتَ إِاله بِ ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫ّللا ِكتابا ً ُم َؤ هجلً َو َم ْن يُ ِر ْد ث َ َ‬ ‫َوما َ‬
‫ون َكثِ ٌ‬
‫ير‬ ‫ي ٍ قات َ َل َمعَهُ ِر ِبهيُّ َ‬‫ين ) ‪َ ( 145‬وكَأ َ ِيه ْن ِم ْن نَ ِب ه‬ ‫سنَجْ ِزي الشها ِك ِر َ‬ ‫ثَ َ‬
‫واب ْاآل ِخ َر ِة نُ ْؤتِ ِه ِم ْنها َو َ‬
‫ين ( ‪) 146‬‬ ‫صا ِب ِر َ‬
‫ب ال ه‬ ‫ستَكانُوا َو ه‬
‫ّللاُ يُ ِح ُّ‬ ‫ضعُفُوا َو َما ا ْ‬‫ّللا َوما َ‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬‫فَما َو َهنُوا ِلما أَصابَ ُه ْم فِي َ‬

‫ضعُفُوا »عن حمل ما ابتلوا به ‪ ،‬ألنهم حملوه ه‬


‫باّلل ‪،‬‬ ‫« فَما َو َهنُوا ِلما أَصابَ ُه ْم ِفي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ّللا َوما َ‬
‫ّللاُ يُ ِحبُّ‬
‫ّللا في إزالته ‪َ «:‬و َّ‬ ‫وإن شق عليهم« َو َما ا ْستَكانُوا »لغير ه‬
‫ّللا في إزالته ‪ ،‬ولجئوا إلى ه‬
‫ّللا الذي أنزل بهم‬ ‫ّللا ‪ ،‬فحبسوا نفوسهم عن الشكوى إلى غير ه‬ ‫صابِ ِرينَ »وهم الذين ابتالهم ه‬ ‫ال َّ‬
‫ّللا عباده‬ ‫ّللا ‪ ،‬وما ضعفوا عن حمله ‪ ،‬فما ابتلى ه‬ ‫هذا البالء ‪ ،‬وما وهنوا لما أصابهم في سبيل ه‬
‫إال ليلجئوا في رفع ذلك إليه ‪ ،‬وال يلجئوا في رفعه إلى غيره ‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك كانوا من‬
‫الصابرين ‪ ،‬وهو محبوب هّلل ‪ ،‬ومن أسمائه تعالى النعتية الصبور ‪ ،‬فما أحب إال من رأى‬
‫عز وجل فيما أخذ منك وفيما أعطاك ‪ ،‬فإنه تعالى ما أخذ منك‬ ‫ّللا ه‬ ‫خلعته عليه ‪ .‬فعليك بمراقبة ه‬
‫إال لتصبر فيحبك ‪ ،‬فإنه يحب الصابرين ‪ ،‬وإذا أحبك عاملك معاملة المحب محبوبه ‪،‬‬

‫ص ‪473‬‬

‫ص ‪481 :‬‬
‫فكان لك حيث تريد إذا اقتضت إرادتك مصلحتك ‪ ،‬وإن لم تقتض إرادتك مصلحتك فعل بحبه‬
‫إياك معك ما تقتضيه المصلحة في حقك ‪ ،‬وإن كنت تكره في الحال فعله معك ‪ ،‬فإنك تحمد بعد‬
‫ّللا غير متهم في مصالح عبده إذا أحبه ‪ ،‬فميزانك في حبه إياك أن‬
‫ذلك عاقبة أمرك ‪ ،‬فإن ه‬
‫تنظر إلى ما رزقك من الصبر على ما أخذه منك ورزأك فيه ‪ ،‬من مال أو أهل أو ما كان مما‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫يعز عليك فراقه ‪ ،‬فما من شيء يزول عنك من المألوفات إال ولك عوض منه عند ه‬

‫سورة آل عمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 147‬إلى ‪148‬‬


‫سرافَنا فِي أ َ ْم ِرنا َوث َ ِبهتْ أ َ ْقدا َمنا َوا ْن ُ‬
‫ص ْرنا‬ ‫كان قَ ْولَ ُه ْم ِإاله أ َ ْن قالُوا َربهنَا ا ْغ ِف ْر لَنا ذُنُوبَنا َو ِإ ْ‬
‫َوما َ‬
‫ب‬ ‫ب ْاآل ِخ َر ِة َو ه‬
‫ّللاُ يُ ِح ُّ‬ ‫س َن ثَوا ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 147‬فَآتا ُه ُم ه‬
‫ّللاُ ث َ َ‬
‫واب ال ُّد ْنيا َو ُح ْ‬ ‫علَى ا ْلقَ ْو ِم ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫َ‬
‫ين ) ‪( 148‬‬ ‫س ِن َ‬‫ا ْل ُمحْ ِ‬
‫سمي جزاء الخير ثوابا لثورانه وعجلته ‪ ،‬فيكون في نفس الخير المستحق له ‪ ،‬ألنه من ثاب‬
‫ّللا تعالى‬ ‫ّللاُ يُ ِحبُّ ْال ُم ْح ِسنِينَ »اإلحسان صفة ه‬ ‫إلى الشيء إذا ثار إليه بالعجلة والسرعة ‪َ «.‬و َّ‬
‫ّللا كأنه يراه‬ ‫وهو المحسن ‪ ،‬فصفته أحب ‪ ،‬واإلحسان الذي به يسمى العبد محسنا هو أن يعبد ه‬
‫‪ ،‬أي يعبده على المشاهدة ‪ ،‬كما أن شهود الحق لكل شيء هو إحسانه ‪ ،‬فإنه بشهوده يحفظه من‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ هو الذي نقله تعالى ‪ ،‬ولهذا سمي‬ ‫الهالك ‪ .‬فكل حال ينتقل فيه العبد ‪ ،‬فهو من إحسان ه‬
‫اإلنعام ‪ ،‬إحسانا ‪ ،‬فإنه ال ينعم عليك بالقصد إال من يعلمك ‪ ،‬ومن كان علمه عين رؤيته ‪ ،‬فهو‬
‫محسن على الدوام ‪ ،‬فإنه يراك على الدوام ألنه يعلمك دائما ‪ ،‬وليس اإلحسان في الشرع إال‬
‫هذا ‪ ،‬وقد قال ‪ :‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك ‪ ،‬أي فإن لم تحسن فهو المحسن ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 149‬إلى ‪150‬‬


‫ِين َكفَ ُروا يَ ُردُّو ُك ْم عَلى أَعْقا ِب ُك ْم فَت َ ْنقَ ِلبُوا خا ِ‬
‫س ِر َ‬
‫ين ( ‪) 149‬‬ ‫ِين آ َمنُوا ِإ ْن ت ُ ِطيعُوا الهذ َ‬‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ين ( ‪) 150‬‬ ‫ّللاُ َم ْوال ُك ْم َو ُه َو َخ ْي ُر النه ِ‬
‫اص ِر َ‬ ‫بَ ِل ه‬

‫َو ُه َو َخي ُْر النَّ ِ‬


‫اص ِرينَ »أهل دينه على من ناواهم فيه ابتغاء منازعته‪.‬‬

‫‪474‬‬

‫ص ‪482 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪151‬‬
‫س ْلطانا ً َو َمأْوا ُه ُم النه ُ‬
‫ار‬ ‫ْب ِبما أَش َْركُوا ِب ه ِ‬
‫اَّلل ما لَ ْم يُنَ ِ هز ْل ِب ِه ُ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ُّ‬
‫الرع َ‬ ‫ب الهذ َ‬ ‫سنُ ْل ِقي فِي قُلُو ِ‬
‫َ‬
‫ين ( ‪) 151‬‬ ‫س َمثْ َوى ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫َو ِبئْ َ‬

‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بالرعب‬ ‫نصر رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم بالرعب بين يديه مسيرة شهر ‪ ،‬والشهر قدر قطع القمر‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫نصر رسول ه‬
‫درجات الفلك المحيط ‪ ،‬فهو أسرع قاطع ‪ ،‬والحساب به للعرب ‪ ،‬وهو عربي ‪ ،‬فإذا نصر بين‬
‫يديه بالرعب مسيرة شهر بسير القمر ‪ ،‬ألنه ما ذكر السائر وذكر الشهر ‪ ،‬وال يعين الشهر عند‬
‫ّللا عليه وسلم بالرعب ما قطعه من‬‫أصحاب هذا اللسان إال سير القمر ‪ ،‬فقد عم نصره صلهى ه‬
‫المسافة هذا القمر في شهر ‪ ،‬فع هم حكم كل درجة للفلك األقصى ‪ ،‬لها أثر في عالم الكون‬
‫والفساد ‪ ،‬بقطع القمر تلك المسافة ‪ ،‬فال يقبل الرعب إال عدو مقصود ‪ ،‬يعلم أنه مقصود ‪ ،‬فما‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم أحد في قتال إال وفي قلبه رعب منه ‪ ،‬ولكنه يتجلد عليه بما أشقاه ه‬‫قابله صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فما‬
‫‪ ،‬ليتميز السعيد من الشقي ‪ ،‬فيوهن ذلك الرعب من جالدة عدوه على قدر ما يريد ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫نقص من جالدة ذلك العدو بما وجده من الرعب ‪ ،‬كان ذلك القدر نصرا من ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 152‬إلى ‪153‬‬


‫ص ْيت ُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد‬ ‫ع َ‬ ‫ناز ْعت ُ ْم فِي ْاأل َ ْم ِر َو َ‬ ‫سونَ ُه ْم بِ ِإ ْذنِ ِه َحتهى إِذا فَ ِ‬
‫ش ْلت ُ ْم َوت َ َ‬ ‫ّللاُ َو ْع َدهُ إِ ْذ ت َ ُح ُّ‬
‫ص َدقَ ُك ُم ه‬
‫َولَقَ ْد َ‬
‫ص َرفَ ُك ْم َ‬
‫ع ْن ُه ْم ِليَ ْبت َ ِليَ ُك ْم َولَقَ ْد‬ ‫ون ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ ِري ُد ال ُّد ْنيا َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ ِري ُد ْاآل ِخ َرةَ ث ُ هم َ‬ ‫ما أَرا ُك ْم ما ت ُ ِحبُّ َ‬
‫سو ُل‬ ‫ون عَلى أ َ َح ٍد َو ه‬
‫الر ُ‬ ‫ُون َوال ت َ ْل ُو َ‬
‫ص ِعد َ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 152‬إ ْذ ت ُ ْ‬ ‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ض ٍل َ‬ ‫ّللاُ ذُو فَ ْ‬‫ع ْن ُك ْم َو ه‬
‫عَفا َ‬
‫ّللاُ َخ ِبي ٌر ِبما‬ ‫غ ًّما ِبغَ ٍ هم ِل َك ْيل تَحْ َزنُوا عَلى ما فات َ ُك ْم َوال ما أَصابَ ُك ْم َو ه‬ ‫يَ ْدعُو ُك ْم فِي أ ُ ْخرا ُك ْم فَأَثابَ ُك ْم َ‬
‫ون) ‪( 153‬‬ ‫ت َ ْع َملُ َ‬

‫‪475‬‬

‫ص ‪483 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪154‬‬
‫ظنُّ َ‬
‫ون‬ ‫س ُه ْم يَ ُ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ا ْلغَ ِ هم أ َ َمنَةً نُعاسا ً يَ ْغشى طائِفَةً ِم ْن ُك ْم َوطائِفَةٌ قَ ْد أ َ َه همتْ ُه ْم أ َ ْنفُ ُ‬ ‫ث ُ هم أ َ ْن َز َل َ‬
‫َّلل يُ ْخفُ َ‬
‫ون‬ ‫ش ْي ٍء قُ ْل ِإ هن ْاأل َ ْم َر ُكلههُ ِ ه ِ‬ ‫ون َه ْل لَنا ِم َن ْاأل َ ْم ِر ِم ْن َ‬ ‫ق َظ هن ا ْلجا ِه ِليه ِة يَقُولُ َ‬ ‫اَّلل َ‬
‫غ ْي َر ا ْل َح ه ِ‬ ‫ِب ه ِ‬
‫ش ْي ٌء ما قُ ِت ْلنا ها ُهنا قُ ْل لَ ْو ُك ْنت ُ ْم ِفي‬ ‫كان لَنا ِم َن ْاأل َ ْم ِر َ‬ ‫ُون لَكَ يَقُولُ َ‬
‫ون لَ ْو َ‬ ‫س ِه ْم ما ال يُ ْبد َ‬ ‫ِفي أ َ ْنفُ ِ‬
‫ص ما‬ ‫ُور ُك ْم َو ِليُ َم ِ هح َ‬ ‫صد ِ‬ ‫ّللاُ ما فِي ُ‬ ‫ي ه‬ ‫علَ ْي ِه ُم ا ْلقَتْ ُل إِلى َم ِ‬
‫ضاج ِع ِه ْم َو ِليَ ْبت َ ِل َ‬ ‫ب َ‬ ‫ِين ُكتِ َ‬ ‫بُيُوتِ ُك ْم لَبَ َر َز الهذ َ‬
‫ُور ( ‪) 154‬‬ ‫صد ِ‬ ‫ت ال ُّ‬ ‫ع ِلي ٌم بِذا ِ‬‫ّللاُ َ‬ ‫فِي قُلُوبِ ُك ْم َو ه‬
‫ّلل »ال إيجاد لمخلوق في عقدنا ‪ ،‬بل األمر كله هّلل ‪ ،‬فإنه هو الفاعل والموجد‬ ‫قُ ْل ِإ َّن ْاأل َ ْم َر ُكلَّهُ ِ َّ ِ‬
‫للعمل ‪ ،‬الذي له خلق األعمال من األحوال والقدرة عليها ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 155‬إلى ‪159‬‬


‫عفَا ه‬
‫ّللاُ‬ ‫سبُوا َولَقَ ْد َ‬ ‫ض ما َك َ‬ ‫طان بِبَ ْع ِ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫ست َ َزله ُه ُم ال ه‬
‫عان إِنه َما ا ْ‬‫ِين ت َ َوله ْوا ِم ْن ُك ْم يَ ْو َم ا ْلتَقَى ا ْل َج ْم ِ‬
‫إِ هن الهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا َوقالُوا ِ ِإل ْخوانِ ِه ْم‬ ‫ِين آ َمنُوا ال تَكُونُوا كَالهذ َ‬ ‫ور َح ِلي ٌم ( ‪ ) 155‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫ّللا َ‬
‫ع ْن ُه ْم إِ هن ه َ‬ ‫َ‬
‫س َرةً‬‫ّللاُ ذ ِلكَ َح ْ‬ ‫غ ًّزى لَ ْو كانُوا ِع ْندَنا ما ماتُوا َوما قُتِلُوا ِليَجْ عَ َل ه‬ ‫ض أ َ ْو كانُوا ُ‬ ‫ض َربُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ِإذا َ‬
‫ّللا أ َ ْو‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ير ) ‪َ ( 156‬ولَئِ ْن قُتِ ْلت ُ ْم فِي َ‬ ‫ون بَ ِص ٌ‬ ‫ّللاُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ّللاُ يُحْ ِيي َويُ ِميتُ َو ه‬ ‫فِي قُلُو ِب ِه ْم َو ه‬
‫ّللا تُحْ ش َُر َ‬
‫ون‬ ‫ون ( ‪َ ) 157‬ولَئِ ْن ُمت ُّ ْم أ َ ْو قُتِ ْلت ُ ْم َ ِإللَى ه ِ‬ ‫ّللا َو َرحْ َمةٌ َخ ْي ٌر ِم هما يَجْ َمعُ َ‬ ‫ُمت ُّ ْم لَ َم ْغ ِف َرةٌ ِم َن ه ِ‬
‫ْف‬ ‫ضوا ِم ْن َح ْو ِلكَ فَاع ُ‬ ‫ب ال ْنفَ ُّ‬ ‫غ ِلي َظ ا ْلقَ ْل ِ‬
‫ظا َ‬ ‫ّللا ِل ْنتَ لَ ُه ْم َولَ ْو ُك ْنتَ فَ ًّ‬
‫( ‪ ) 158‬فَ ِبما َرحْ َم ٍة ِم َن ه ِ‬
‫ين (‬ ‫ب ا ْل ُمت َ َو ِ هك ِل َ‬ ‫ّللا إِ هن ه َ‬
‫ّللا يُ ِح ُّ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫ست َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم َوشا ِو ْر ُه ْم فِي ْاأل َ ْم ِر فَ ِإذا ع ََز ْمتَ فَت َ َو هك ْل َ‬ ‫ع ْن ُه ْم َوا ْ‬‫َ‬
‫‪) 159‬‬

‫ت لَ ُه ْم »فإن النفوس مجبولة على حبه من‬


‫ّللا« ِل ْن َ‬ ‫« فَ ِبما َر ْح َم ٍة ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا »أي إنما كان برحمة ه‬
‫أحسن إليها ‪ ،‬فإياك أن تصلح رعيتك بالخوف الشديد فتزيدهم نفورا ‪ ،‬فإنه يأتي باللين‬

‫‪476‬‬

‫ص ‪484 :‬‬
‫ما يأتي بالقهر والفظاظة ‪ ،‬وال يأتي بالقهر ما يأتي باللين ‪ ،‬فإن القهر ال يأتي بالرحمة والمودة‬
‫في قلب المقهور ‪ ،‬وباللين ينقضي المطلوب وتأتي بالمودة ‪ ،‬فتلقيها في قلب من استملته باللين‬
‫‪ ،‬وصاحب اللين ال يقاوم ‪ ،‬فإنه ال يقاوم لما يعطيه اللين من الحكم ‪ ،‬فالرخاوة في الدين من‬
‫ت لَ ُه ْم »وبهذا‬‫ّللا ِل ْن َ‬
‫ّللا فجعل نبيه من أهل اللين فقال« فَ ِبما َر ْح َم ٍة ِمنَ َّ ِ‬ ‫الدين ‪ ،‬ولهذا امتن ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪[ :‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فضلهم ‪ ،‬واللين خفض الجناح والمداراة والسياسة ‪ ،‬قال رسول ه‬
‫ّللا تحتاج إلى علم السياسة ‪ ،‬فإن صورتها من الداعي‬ ‫مداراة الناس صدقة ] والدعوة إلى ه‬
‫تختلف باختالف صورة المدعو ‪ ،‬فثم دعاء بصفة غلظة وقهر ‪ ،‬وث هم دعاء بصفة لين وعطف«‬
‫ب َال ْنفَضُّوا ِم ْن َح ْو ِل َك »فلو كان فظا غليظا في فعله وقوله النفضوا من‬ ‫ظ ْالقَ ْل ِ‬‫غ ِلي َ‬ ‫ت فَ ًّ‬
‫ظا َ‬ ‫َولَ ْو ُك ْن َ‬
‫حوله ‪ ،‬فهم مع العفو واللين ال يقبلون ‪ ،‬فكيف مع الشدة والفظاظة ‪ ،‬لن يزالوا مدبرين« فَاع ُ‬
‫ْف‬
‫ع ْن ُه ْم َوا ْست َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم َوشا ِو ْر ُه ْم ِفي ْاأل َ ْم ِر »ليس للرسول من حيث رسالته المشاورة ‪ ،‬فمشاورته‬ ‫َ‬
‫ّللا صلهى‬
‫ألصحابه في غير ما شرع له ‪ ،‬وذلك من مقام الخالفة ال الرسالة ‪ .‬فلما كان رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا عليه وسلم من الخلفاء قيل له« َوشا ِو ْر ُه ْم فِي ْاأل َ ْم ِر »فأمر الحق نبيه صلهى ه‬ ‫ه‬
‫يعن له إذا لم يوح إليه فيه شيء ‪ ،‬ألن للحق وجها خاصا في‬ ‫بمشاورة أصحابه في األمر الذي ه‬
‫كل موجود ‪ ،‬ال يكون لغير ذلك الموجود ‪ .‬فقد يلقي إليه الحق سبحانه في أمر ما ما ال يلقيه‬
‫ّللا أشرف منه ‪ ،‬ومع‬ ‫لمن هو أعلى منه طبقة ‪ ،‬كعلم األسماء آلدم مع كون المأل األعلى عند ه‬
‫ّللا‬
‫وّللا تعالى يعطي بسبب ‪ ،‬وهو الذي كتبه القلم من علم ه‬ ‫هذا كان عند آدم ما لم يكن عندهم ‪ .‬ه‬
‫في خلقه ‪ ،‬ويعطي بغير سبب ‪ ،‬وهو ما يعطيه من ذلك الوجه ‪ ،‬فال تعرف به األسباب وال‬
‫الخلق ‪ ،‬فوقعت المشورة ليظهر عنها أمر يمكن أن يكون من علم ذلك الوجه ‪ ،‬فيلقي إليه من‬
‫ّللا ‪ ،‬من حيث ذلك الوجه الذي لم يكتب علمه وال‬ ‫شاوره في تدبيره علما قد حصل له من ه‬
‫ّللا »يعني على إمضاء ما‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫ت فَت َ َو َّك ْل َ‬ ‫ّللا لرسوله« فَإِذا َ‬
‫عزَ ْم َ‬ ‫حصل في خلقه ‪ ،‬ولهذا قال ه‬
‫ّللا »في مثل‬‫علَى َّ ِ‬‫اتفقتم عليه في المشورة ‪ ،‬أو ما انفردت به دونهم ‪ .‬وقوله تعالى ‪ «:‬فَت َ َو َّك ْل َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ما يدري ما لم يقع‬ ‫هذا ما لم يقع الفعل ‪ ،‬فإن العزم يتقدم الفعل ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬توكل على ه‬
‫ّللا في نفسك من ذلك الوجه الخاص اإللهي ‪ ،‬فال يطلع على مراتب العقول إال‬ ‫الفعل ما يلقي ه‬
‫أصحاب المشاورة ‪ ،‬وال سيما في المسامرة ‪ ،‬فإنها أجمع لله هم والذكر ‪ ،‬وأقدح لزناد الفكر ‪.‬‬
‫فعرض اإلنسان ما يريد فعله على اآلراء دليل على عقله التام ‪ ،‬ليقف على تخالف األهواء ‪،‬‬
‫فيعلم‬

‫‪477‬‬

‫ص ‪485 :‬‬
‫مع أحدية مطلوبه أنه وإن تفرد فله وجوه متعددة ‪ .‬واعلم أن هذا موطن ‪ ،‬يجب أن تكون‬
‫ار َو ْال ُمنافِ ِقينَ َوا ْغلُ ْ‬
‫ظ‬ ‫ي جا ِه ِد ْال ُكفَّ َ‬
‫المعاملة فيه كما ذكر وأنه قال في موطن آخر( يا أَيُّ َها النَّ ِب ُّ‬
‫علَ ْي ِه ْم ) *فإن للمواطن أحكاما ‪ ،‬فافعل بمقتضاها تكن حكيما[ الفرق بين النية واإلرادة والقصد‬ ‫َ‬
‫والهمة والعزم والهاجس ]‬
‫ّللا تعالى إذا‬ ‫‪-‬تحقيق ‪ -‬الفرق بين النية واإلرادة والقصد والهمة والعزم والهاجس ‪ ،‬اعلم أن ه‬
‫أراد إيجاد فعل ما ‪ ،‬بمقارنة حركة شخص ما ‪ ،‬بعث إليه رسوله المعصوم ‪ ،‬وهو الخاطر‬
‫اإللهي المعلوم ‪ ،‬ولقربه من حضرة االصطفاء ‪ ،‬هو في غاية الخفا ‪ ،‬فال يشعر بنزوله في‬
‫القلب إال أهل الحضور والمراقبة في مرآة الصدق والصفا ‪ ،‬فينقر في القلب نقرة خفية ‪ ،‬تنبه‬
‫لنزول نكتة غيبية ‪ ،‬فمن حكم به فقد أصاب في كل ما يفعله ‪ ،‬ونجح في كل ما يعمله ‪ ،‬وذلك‬
‫هو السبب األول عند الشخص الذي عليه يعول ‪ ،‬وهو نقر الخاطر عند أرباب الخواطر ‪ ،‬وهو‬
‫الهاجس عند من هو للقلب سائس ‪ ،‬فإن رجع عليه مرة أخرى فهو اإلرادة ‪ ،‬وقد قامت بصاحبه‬
‫السعادة ‪ ،‬فإن عاد ثالثة فهو اله هم ‪ ،‬وال يعود إال ألمر مهم ‪ ،‬فإن عاد رابعة فهو العزم ‪ ،‬وال‬
‫يعود إال لنفوذ األمر الجزم ‪ ،‬فإن عاد خامسة فهو النية ‪ ،‬وهو الذي يباشر الفعل الموجود عن‬
‫هذه البنية ‪ ،‬وبين التوجه إلى الفعل وبين الفعل يظهر القصد ‪ ،‬وهو صفة مقدسة يتصف بها‬
‫الرب والعبد‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪160‬‬


‫ّللا فَ ْليَت َ َو هك ِل‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ب لَ ُك ْم َوإِ ْن يَ ْخذُ ْل ُك ْم فَ َم ْن ذَا الهذِي يَ ْن ُ‬
‫ص ُر ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ِه َو َ‬ ‫ّللاُ فَل غا ِل َ‬ ‫إِ ْن يَ ْن ُ‬
‫ص ْر ُك ُم ه‬
‫ون ) ‪( 160‬‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫إن لم تنصروه يخذلكم ‪ ،‬وإن خذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ‪ ،‬فنصرته من جملة ما أخذ‬
‫عليكم من عهده ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪161‬‬


‫غ هل يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ث ُ هم ت ُ َوفهى ُك ُّل نَ ْف ٍس ما َك َ‬
‫سبَتْ َو ُه ْم ال‬ ‫ي ٍ أ َ ْن يَغُ هل َو َم ْن يَ ْغلُ ْل يَأ ْ ِ‬
‫ت بِما َ‬ ‫كان ِلنَبِ ه‬
‫َوما َ‬
‫ون ) ‪( 161‬‬ ‫يُ ْظلَ ُم َ‬
‫ثم توفى كل نفس ما كسبت أي ما عملت وهم ال يظلمون‪.‬‬

‫‪478‬‬

‫ص ‪486 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 162‬إلى ‪163‬‬
‫ير ( ‪ُ ) 162‬ه ْم‬ ‫ّللا َو َمأْواهُ َج َهنه ُم َو ِبئْ َ‬
‫س ا ْل َم ِص ُ‬ ‫س َخ ٍط ِم َن ه ِ‬
‫ّللا َك َم ْن با َء ِب َ‬
‫وان ه ِ‬‫ض َ‬ ‫أ َفَ َم ِن اتهبَ َع ِر ْ‬
‫ون ( ‪) 163‬‬ ‫ير ِبما يَ ْع َملُ َ‬
‫ّللاُ بَ ِص ٌ‬
‫ّللا َو ه‬‫د ََرجاتٌ ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فجعلهم أعيان الدرجات ‪ ،‬ألنهم‬ ‫ّللا »ولم يقل تعالى ‪ :‬لهم درجات عند ه‬ ‫جات ِع ْن َد َّ ِ‬‫« ُه ْم َد َر ٌ‬
‫عين الكمال الذاتي ‪ ،‬وبالكمال العرضي لهم الدرجات الجنانية ‪ ،‬فيقع التفاضل في الكمال‬
‫العرضي ‪ ،‬وال يقع في الكمال الذاتي ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪: ) 3‬اآليات ‪ 164‬إلى ‪167‬‬


‫يه ْم‬‫علَ ْي ِه ْم آياتِ ِه َويُ َز ِ هك ِ‬ ‫س ِه ْم يَتْلُوا َ‬ ‫سوالً ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬ ‫يه ْم َر ُ‬
‫ث فِ ِ‬ ‫ين ِإ ْذ بَعَ َ‬
‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫لَقَ ْد َم هن ه‬
‫ين ( ‪ ) 164‬أ َ َولَ هما أَصابَتْ ُك ْم ُم ِصيبَةٌ‬ ‫ضل ٍل ُم ِب ٍ‬ ‫تاب َوا ْل ِح ْك َمةَ َو ِإ ْن كانُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَ ِفي َ‬ ‫َويُعَ ِله ُم ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫ِير ( ‪) 165‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫ّللا عَلى ُك ِ هل َ‬ ‫س ُك ْم إِ هن ه َ‬ ‫ص ْبت ُ ْم ِمثْلَ ْيها قُ ْلت ُ ْم أَنهى هذا قُ ْل ُه َو ِم ْن ِع ْن ِد أ َ ْنفُ ِ‬ ‫قَ ْد أ َ َ‬
‫ِين نافَقُوا َوقِي َل‬ ‫ين ( ‪َ ) 166‬و ِليَ ْعلَ َم الهذ َ‬ ‫عان فَبِ ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫ّللا َو ِليَ ْعلَ َم ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َوما أَصابَ ُك ْم يَ ْو َم ا ْلتَقَى ا ْل َج ْم ِ‬
‫ّللا أ َ ِو ا ْدفَعُوا قالُوا لَ ْو نَ ْعلَ ُم قِتاالً التهبَ ْعنا ُك ْم ُه ْم ِل ْل ُك ْف ِر يَ ْو َمئِ ٍذ أ َ ْق َر ُ‬
‫ب‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫لَ ُه ْم تَعالَ ْوا قاتِلُوا فِي َ‬
‫ون ) ‪( 167‬‬ ‫ّللاُ أ َ ْعلَ ُم ِبما يَ ْكت ُ ُم َ‬
‫س فِي قُلُو ِب ِه ْم َو ه‬ ‫ون ِبأ َ ْفوا ِه ِه ْم ما لَ ْي َ‬
‫يمان يَقُولُ َ‬‫َل ِ‬ ‫ِم ْن ُه ْم ِل ْ ِ‬
‫المنافقون هم أحد الطوائف األربعة الذين هم أهل النار وما هم منها بمخرجين ‪ ،‬وهم الذين‬
‫أظهروا اإلسالم للقهر الذي حكم عليهم ‪ ،‬فخافوا على دمائهم وأموالهم وذراريهم ‪ ،‬وهم في‬
‫ّللا إلها آخر ‪ ،‬أو‬ ‫ّللا ‪ ،‬أو يجعلون من ه‬ ‫نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد ‪ ،‬إما تكبر على ه‬
‫يعطلون األلوهية ‪ ،‬فينفون اإلله جملة واحدة ‪ ،‬فلم يثبتوا إلها للعالم ‪.‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪168‬‬
‫س ُك ُم ا ْل َم ْوتَ ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ِين قالُوا ِ ِإل ْخوانِ ِه ْم َوقَعَدُوا لَ ْو أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُ ْل فَاد َْرؤُا ع َْن أ َ ْنفُ ِ‬ ‫الهذ َ‬
‫ين) ‪( 168‬‬ ‫صا ِد ِق َ‬

‫‪479‬‬

‫ص ‪487 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪169‬‬
‫ّللا أ َ ْمواتا ً بَ ْل أَحْ يا ٌء ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم يُ ْر َزقُ َ‬
‫ون ( ‪) 169‬‬ ‫ِين قُتِلُوا فِي َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫سبَ هن الهذ َ‬
‫َوال تَحْ َ‬

‫[ الشهيد حي ]‬
‫النقلة من الدار الدنيا على ضربين ‪ ،‬فمن الناس من ينتقل بموت ‪ ،‬وهو مفارقة الحياة الدنيا ‪،‬‬
‫فيحيى بحياة اآلخرة ‪ ،‬ومن الناس من ينتقل بالحياة الدنيا من غير موت ‪ ،‬وهو الشهيد في سبيل‬
‫ّللا خاصة ‪ ،‬فهو في نفس األمر حي يرزق ويأكل ‪ ،‬يدركه المؤمن بإيمانه والمكاشف ببصره ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا أن نقول لمن يقتل في سبيل‬ ‫فهو منتقل عن هذه الدار ‪ ،‬وإن لم يتصف بالموت ‪ ،‬وقد نهانا ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬إنه ميت ‪ ،‬وال نحسب أنه ميت ‪ ،‬بل هو حي عند ربه ‪ ،‬وفي إيماني يرزق ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ه‬
‫ّللا بأنهم أحياء يرزقون ‪ ،‬ونهى أن يقال فيهم أموات ‪ ،‬ونفى العلم‬ ‫تعالى وصف القتلى في سبيل ه‬
‫عمن يلحقهم باألموات للمشاركة في صورة مفارقة اإلحساس وعدم وجود األنفاس ‪ ،‬وما يقال‬
‫فيه إنه أفضل من الميت ‪ ،‬إال أنه أفضل من بعض الموتى ‪ ،‬وهذه اآلية أد هل دليل على إبطال‬
‫ّللا إنما اعتقدوه قياسا على المقتول‬ ‫القياس ‪ ،‬ألن المعتقدين موت المجاهدين المقتولين في سبيل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬بالعلة الجامعة في كونهم رأوا كل واحد من المقتولين على صورة واحدة ‪،‬‬ ‫في غير سبيل ه‬
‫من عدم األنفاس والحركات الحيوانية ‪ ،‬وعدم االمتناع مما يراد من الفعل بهم ‪ ،‬من قطع‬
‫األعضاء ‪ ،‬وتمزيق الجلود ‪ ،‬وأكل سباع الطير والسباع ‪ ،‬واستحالة أجسامهم إلى الدود والبلى‬
‫‪ ،‬فقاسوا فأخطئوا القياس ‪ ،‬وال قياس أوضح من هذا ‪ ،‬أوال أدل في وجود العلة منه ‪ ،‬ومع هذا‬
‫ّللا وقال لهم ‪ :‬ما هو األمر في المقتول في سبيلي كالمقتول في غير سبيلي ‪ ،‬ونفى عنهم‬ ‫أكذبهم ه‬
‫العلم الذي أعطاهم القياس في قوله في اآلية الثانية ( َول ِك ْن ال ت َ ْشعُ ُرونَ )فإنه لما كان التقرب‬
‫ّللا‬
‫ّللا في قتال أعداء ه‬ ‫ّللا أسنى القربات ‪ ،‬لذلك كان للشهداء لما تقربوا بأنفسهم إلى ه‬ ‫بالنفس إلى ه‬
‫ّللا عن‬
‫ّللا فال يقال في الشهداء أموات لنهي ه‬ ‫الحياة الدائمة ‪ ،‬والرزق الدائم والفرح بما أعطاهم ه‬
‫ّللا أخذ بأبصار الخلق عن إدراك حياتهم ‪ ،‬كما أخذ بأبصارهم عن إدراك المالئكة‬ ‫ذلك ‪ ،‬ألن ه‬
‫والجن ‪ ،‬مع معرفتنا أنهم معنا حضور ‪ ،‬وال نعتقد أيضا في الشهداء أنهم أموات بقوله ‪َ «:‬وال‬
‫ّللا صدق ‪ ،‬فثبت لهم الحياة لما‬ ‫ّللا أ َ ْمواتا ا بَ ْل أ َ ْحيا ٌء » ‪.‬وخبر ه‬ ‫سبَ َّن الَّذِينَ قُتِلُوا فِي َ‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫ت َ ْح َ‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهذا قال ‪ِ «:‬ع ْن َد َر ِبه ِه ْم‬
‫ّللا بنفوسهم ‪ ،‬والشهيد هو الحاضر عند ه‬ ‫قصدوا القربة إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فال يغسل وهو عند‬ ‫»فالشهيد حاضر عند ربه بمجرد الشهادة التي هي القتل في سبيل ه‬
‫ربه ‪ -‬مسئلة ‪ -‬الشهيد بالنص حي فكيف يورث ماله وتنكح عياله ؟ ‪ -‬الجواب ‪ -‬ما تفسد في‬
‫الوجود صورة إال وعين فسادها أيضا ظهور‬

‫‪480‬‬

‫ص ‪488 :‬‬
‫صورة ‪ ،‬فما نزال في الصور ‪ ،‬في حال النفع والضرر ‪ ،‬فالجهاد صالح وفساد ‪ ،‬ألن فيه ه‬
‫حز‬
‫الرؤوس ومفارقة الحس المحسوس ‪ ،‬فالشهيد يشبه الميت ‪ ،‬فيما اتصف به من الفوت ‪ ،‬ولذلك‬
‫يورث ماله وينكح عياله ‪ ،‬فطالق الشهيد يشبه تطليق الحاكم على الغائب ‪ ،‬وإن كان حيا إذا‬
‫أبعد في المذاهب ‪ ،‬وقد ثبت عن سيد البشر ال ضرر وال ضرار ‪ ،‬وقد علم أن الشهيد هو سعيد‬
‫بدار الخلود ‪ ،‬وإن حصل تحت الصعيد ‪ ،‬وال سبيل إلى رجعته وال إنزاله من رفعته ‪ ،‬مع كونه‬
‫حيا بفرح ويرزق ‪ ،‬وما هو عند أهله وال طلهق ‪ ،‬وهذه حالة األموات ‪ ،‬والشهداء أحياء عند‬
‫ربهم يرزقون فرحين وهم عندنا رفات ‪ ،‬وما لنا إال ما نراه ‪ ،‬ولكل امرئ ما نواه ‪ ،‬وال نحكم‬
‫إال بما شهدناه ‪ ،‬فاستمع تنتفع ‪.‬‬

‫سورة آل عمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪170‬‬


‫علَ ْي ِه ْم‬
‫ف َ‬‫ِين لَ ْم يَ ْل َحقُوا بِ ِه ْم ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم أَاله َخ ْو ٌ‬
‫ون بِالهذ َ‬ ‫ست َ ْب ِ‬
‫ش ُر َ‬ ‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه َويَ ْ‬ ‫ين بِما آتا ُه ُم ه‬ ‫فَ ِر ِح َ‬
‫ون ) ‪( 170‬‬ ‫َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬
‫فرحين ببيعهم لما رأوا فيه الربح ‪ ،‬حيث انتقلوا إلى اآلخرة من غير موت « َوال ُه ْم يَ ْحزَ نُونَ‬
‫»أتى سبحانه بفعل الحال في قوله« َوال ُه ْم يَ ْحزَ نُونَ »فإن هذا الفعل يرفع الحزن في الحال‬
‫واالستقبال ‪ ،‬بخالف الفعل الماضي والمخلص لالستقبال بالسين أو سوف ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪171‬إلى ‪173‬‬


‫ستَجابُوا ِ ه ِ‬
‫َّلل‬ ‫ِين ا ْ‬ ‫ين ( ‪ ) 171‬الهذ َ‬ ‫ّللا ال يُ ِضي ُع أَجْ َر ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫ض ٍل َوأ َ هن ه َ‬ ‫ّللا َوفَ ْ‬‫ون ِبنِ ْع َم ٍة ِم َن ه ِ‬
‫ش ُر َ‬‫ست َ ْب ِ‬
‫يَ ْ‬
‫ِين قا َل‬‫سنُوا ِم ْن ُه ْم َواتهقَ ْوا أَجْ ٌر ع َِظي ٌم ( ‪ ) 172‬الهذ َ‬ ‫ِين أَحْ َ‬ ‫ح ِللهذ َ‬‫سو ِل ِم ْن بَ ْع ِد ما أَصابَ ُه ُم ا ْلقَ ْر ُ‬ ‫الر ُ‬
‫َو ه‬
‫ّللاُ َو ِن ْع َم ا ْل َو ِكي ُل (‬ ‫اخش َْو ُه ْم فَزا َد ُه ْم ِإيمانا ً َوقالُوا َح ْ‬
‫سبُنَا ه‬ ‫اس قَ ْد َج َمعُوا لَ ُك ْم فَ ْ‬‫اس ِإ هن النه َ‬ ‫لَ ُه ُم النه ُ‬
‫) ‪173‬‬
‫ّللا الكفاية« َونِ ْع َم ْال َو ِكي ُل‪» .‬‬ ‫ّللاُ »أي في ه‬ ‫َوقالُوا َح ْسبُنَا َّ‬

‫‪481‬‬

‫ص ‪489 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪174‬‬
‫يم (‬ ‫ّللاُ ذُو فَ ْ‬
‫ض ٍل ع َِظ ٍ‬ ‫ّللا َو ه‬ ‫ض َ‬
‫وان ه ِ‬ ‫سو ٌء َواتهبَعُوا ِر ْ‬‫س ُه ْم ُ‬
‫س ْ‬ ‫ّللا َوفَ ْ‬
‫ض ٍل لَ ْم يَ ْم َ‬ ‫فَا ْنقَلَبُوا ِبنِ ْع َم ٍة ِم َن ه ِ‬
‫) ‪174‬‬
‫ّللا«‬
‫ّللا وفضل لم يمسسه سوء ‪ ،‬وجاء في ذلك بما يرضي ه‬ ‫ّللا حسبه انقلب بنعمة من ه‬ ‫فمن كان ه‬
‫ع ِظ ٍيم »على من جعله حسبه ‪ ،‬والفضل الزيادة أي ما يعطيه على موازنة عمله‬ ‫ض ٍل َ‬ ‫ّللاُ ذُو فَ ْ‬ ‫َو َّ‬
‫بل أزيد من ذلك مما يعظم عنده إذا رآه ذوقا ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪175‬‬


‫ين ) ‪( 175‬‬ ‫ف أ َ ْو ِليا َء ُه فَل تَخافُو ُه ْم َوخافُ ِ‬
‫ون ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫طان يُ َخ ه ِو ُ‬ ‫ِإنهما ذ ِل ُك ُم ال ه‬
‫ش ْي ُ‬

‫الخوف من مقام اإليمان ‪ ،‬ولكل موطن خوف يخصه إذا حققت ‪ ،‬فما متعلق كل خوف إال ما‬
‫وّللا يوجد في ذلك ‪ ،‬فتعلق خوفنا‬ ‫ّللا ‪ ،‬وهو محدث ‪ ،‬فما الخوف إال من المحدثات ‪ ،‬ه‬ ‫يكون من ه‬
‫ون ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »فجعل الخوف نتيجة اإليمان ‪ ،‬فإنه‬ ‫بالموجد لذلك ‪ ،‬وهذا قوله ‪َ «:‬وخافُ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن العلم من غير إيمان ال‬ ‫موقوف على العلم اإللهي الذي يأتي به الصادق من عند ه‬
‫ّللا فيهم ‪ ،‬وال إلى أين‬ ‫ّللا ألنهم ال يعرفون مراد ه‬‫يعطيه ‪ ،‬وحصل الخوف عند الرجال من ه‬
‫ينقلهم ‪ ،‬وال في أي صفة وطبقة يميزهم ‪ ،‬فلما أبهم األمر عليهم عظم خوفهم منه ‪.‬‬
‫ّللا يا مسكين إن كنت مؤمنا ‪ ....‬إذا جاء سلطان المنازع في األمر‬ ‫خف ه‬
‫فإن جنحوا للسلم فاجنح لها تنل ‪ ....‬بها رتب العلياء في عالم األمر‬
‫ّللا معلما ‪ ....‬كما جاء في القرآن في محكم الذكر‬ ‫وما قلته بل قاله ه‬
‫ّللا هو الخوف األعظم ‪ ،‬فإنه هو المسلهط وبيده ملكوت كل شيء ‪ ،‬فأين األمان ؟ ومن‬ ‫فخوف ه‬
‫ّللا به في قوله تعالى ‪ ( :‬يَخافُونَ َربَّ ُه ْم ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم ) ‪.‬‬
‫خافه التحق بالمإل األعلى فيما وصفهم ه‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 176‬إلى ‪177‬‬


‫ظا فِي‬ ‫ّللاُ أَاله يَجْ عَ َل لَ ُه ْم َح ًّ‬
‫ش ْيئا ً يُ ِري ُد ه‬‫ّللا َ‬‫ُون فِي ا ْل ُك ْف ِر ِإنه ُه ْم لَ ْن يَض ُُّروا ه َ‬
‫سارع َ‬ ‫َوال يَحْ ُز ْنكَ الهذ َ‬
‫ِين يُ ِ‬
‫ش ْيئا ً َولَ ُه ْم‬ ‫مان لَ ْن يَض ُُّروا ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫اإل ْي ِ‬ ‫شت َ َر ُوا ا ْل ُك ْف َر ِب ْ ِ‬ ‫ْاآل ِخ َر ِة َولَ ُه ْم ع ٌ‬
‫َذاب ع َِظي ٌم ( ‪ِ ) 176‬إ هن الهذ َ‬
‫ِين ا ْ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم) ‪( 177‬‬
‫ع ٌ‬

‫ص ‪482‬‬

‫ص ‪490 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪178‬‬
‫َذاب‬ ‫ِين َكفَ ُروا أَنهما نُ ْم ِلي لَ ُه ْم َخ ْي ٌر ِأل َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم ِإنهما نُ ْم ِلي لَ ُه ْم ِليَ ْزدادُوا ِإثْما ً َولَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫سبَ هن الهذ َ‬
‫َوال يَحْ َ‬
‫ين ) ‪( 178‬‬ ‫ُم ِه ٌ‬
‫ّللا الخفي بإرداف النعم على المخالف ‪ ،‬فيطيل لهم ليزدادوا إثما ‪ ،‬واإلمالء بسط‬ ‫وهذا من مكر ه‬
‫في العمر والدنيا ‪ ،‬فيتصرفون فيهما بما يكون فيه شقاؤهم ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ( :‬ويَ ُم ُّد ُه ْم فِي ُ‬
‫ط ْغيانِ ِه ْم‬
‫يَ ْع َم ُهونَ )يقول يملي لهم مما هم فيه ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪179‬‬


‫ّللاُ ِليُ ْط ِلعَ ُك ْم‬
‫كان ه‬ ‫ب َوما َ‬ ‫يث ِم َن ال ه‬
‫ط ِيه ِ‬ ‫يز ا ْل َخ ِب َ‬ ‫ين عَلى ما أ َ ْنت ُ ْم َ‬
‫علَ ْي ِه َحتهى يَ ِم َ‬ ‫ّللاُ ِليَذَ َر ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫كان ه‬ ‫ما َ‬
‫س ِل ِه َو ِإ ْن ت ُ ْؤ ِمنُوا َوتَتهقُوا فَلَ ُك ْم‬ ‫آمنُوا ِب ه ِ‬
‫اَّلل َو ُر ُ‬ ‫س ِل ِه َم ْن يَشا ُء فَ ِ‬ ‫ّللا يَجْ ت َ ِبي ِم ْن ُر ُ‬ ‫ب َول ِك هن ه َ‬ ‫علَى ا ْلغَ ْي ِ‬‫َ‬
‫أَجْ ٌر ع َِظي ٌم ( ‪) 179‬‬
‫س ِل ِه »هذا األمر من الحق تقرير لصحة ما نسب من األفعال إلى العبد شرعا ‪،‬‬ ‫اّلل َو ُر ُ‬‫آمنُوا بِ َّ ِ‬ ‫« فَ ِ‬
‫ت )فأضافوا اإليمان إليهم إيجادا« َو ِإ ْن تُؤْ ِمنُوا َوتَتَّقُوا فَلَ ُك ْم أ َ ْج ٌر‬ ‫ولذلك قالوا ( ‪َ :‬ربَّنا آ َمنَّا بِما أ َ ْنزَ ْل َ‬
‫ع ِظي ٌم » ‪.‬فاجعل أساس أمرك كله على اإليمان والتقوى حتى تبين لك األمور ‪ ،‬فإنه ما ث هم إال‬ ‫َ‬
‫اإليمان فال تعدل عنه ‪.‬‬

‫[ سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪] 180‬‬


‫سيُ َط هوقُ َ‬
‫ون ما‬ ‫ض ِل ِه ُه َو َخ ْيرا ً لَ ُه ْم بَ ْل ُه َو ش ٌَّر لَ ُه ْم َ‬‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ون بِما آتا ُه ُم ه‬ ‫سبَ هن الهذ َ‬
‫ِين يَ ْب َخلُ َ‬ ‫َوال يَحْ َ‬
‫ير ( ‪) 180‬‬ ‫ون َخ ِب ٌ‬
‫ّللاُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ض َو ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫يراث ال ه‬ ‫بَ ِخلُوا ِب ِه يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َو ِ ه ِ‬
‫َّلل ِم ُ‬
‫ط َّوقُونَ ما بَ ِخلُوا ِب ِه يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة »وذلك في حق مانع الزكاة ‪ ،‬قال عليه السالم ‪:‬‬ ‫سيُ َ‬
‫« َ‬
‫ُ‬
‫يراث‬ ‫[ يمثل له ماله شجاعا أقرع ‪ -‬الحديث ‪ ] -‬وفيه يقول ‪ :‬أنا كنزك ‪ ،‬فيطوق به « َو ِ َّ ِ‬
‫ّلل ِم‬
‫»وّللا تعالى ما يرث األرض إال بعد موت اإلنسان الكامل ‪ ،‬فإن بيننا وبين‬ ‫ه‬ ‫ض‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ال َّ‬
‫الحق نسبا ودينا ‪ ،‬فال يقع الميراث إال في مستحق له ‪ ،‬كما يرث السماء لما فيها من حكم‬

‫ص ‪483‬‬

‫ص ‪491 :‬‬
‫ّللا‬ ‫أرواح األنبياء عليهم السالم ‪ ،‬ال من كونها ه‬
‫محال للمالئكة ‪ ،‬فإذا صعقوا بالنفخة ورث ه‬
‫السماء‬

‫ّللا السماوات واألرض وهي ملكه ؟ ]‬


‫[ كيف يرث ه‬
‫ّللا السماوات واألرض وهي ملكه ؟‬ ‫فإن قلت ‪ :‬كيف يرث ه‬
‫قلنا ‪ :‬يرثها االسم اإللهي الوارث من األسماء اإللهية التي لها التصرف فيها ‪ ،‬فإذا انقضت‬
‫مدتها بالحكم فيها ما دامت على هذه الصورة والنظم الخاص وكانت المدبرة لها ‪ ،‬فلما زال‬
‫تدبيرها وانقضى حكمها الخاص النقضاء أمد مدة القبول لذلك ‪ ،‬سمى ذلك موتا ‪ ،‬وصارت‬
‫السماوات واألرض ورثا ‪ ،‬فتوالها االسم الوارث « وهللا خبير بما تعملون » ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪181‬‬


‫ب ما قالُوا َوقَتْلَ ُه ُم ْاأل َ ْنبِيا َء بِغَ ْي ِر‬ ‫ير َونَحْ ُن أ َ ْغنِيا ُء َ‬
‫سنَ ْكت ُ ُ‬ ‫ّللا فَ ِق ٌ‬
‫ِين قالُوا إِ هن ه َ‬‫ّللاُ قَ ْو َل الهذ َ‬
‫س ِم َع ه‬‫لَقَ ْد َ‬
‫يق ) ‪( 181‬‬ ‫ق َونَقُو ُل ذُوقُوا ع َ‬
‫َذاب ا ْل َح ِر ِ‬ ‫َح ه ٍ‬
‫ّللا تعالى من مقام غناه عن العالمين إلى طلب القرض من عباده بقوله تعالى ‪( :‬‬ ‫لما نزل ه‬
‫سنا ا ) *قالت اليهود ‪ :‬إن رب محمد يطلب منا القرض ‪ ،‬وقالت اليهود‬ ‫ّللا قَ ْرضا ا َح َ‬
‫ضوا َّ َ‬ ‫َوأ َ ْق َر ُ‬
‫ير »وهو الغني« َون َْح ُن أ َ ْغ ِنيا ُء »وهم الفقراء ‪ ،‬فانعكست عندهم القضية ‪ ،‬وهذا‬ ‫ّللا فَ ِق ٌ‬
‫‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا وال عن إسباغ‬ ‫من المكر اإللهي الذي ال يشعر به ‪ ،‬فكفرت اليهود فإنهم ليسوا بأغنياء عن ه‬
‫ّللا ومنهة ‪ ،‬فالحق غناه مطلق بالنظر إلى ذاته والخلق مفتقر على‬ ‫النعم عليهم فضال من ه‬
‫اإلطالق بالنظر أيضا إلى ذاته ‪ ،‬فتميز الحق من الخلق ‪ ،‬وهذا التمييز ال يرتفع أبدا ألنه تميز‬
‫ذاتي في الموصوف به من حق وخلق ‪ ،‬فالحق منفرد بالغنى كما وصف نفسه ‪ ،‬فهو غني نفسه‬
‫ّللا تعالى الذي بيده ملكوت‬ ‫‪ ،‬ونحن أغنياء به في عين افتقارنا فيما ال نستغني عنه ‪ ،‬فالفقر إلى ه‬
‫ب ما قالُوا »أي سنوجب ما قالوه فيما يرجع ضرره‬ ‫سنَ ْكت ُ ُ‬
‫كل شيء ثابت وموجود ‪ ،‬بقوله ‪َ «:‬‬
‫عليهم ‪ ،‬أي سيعلمون أن الفقر نعت واجب ‪ ،‬ال يشكون فيه وجوبا ذاتيا من أجل قولهم ‪«:‬‬
‫اس أ َ ْنت ُ ُم ْالفُقَرا ُء ِإلَى‬ ‫َون َْح ُن أ َ ْغنِيا ُء »ألنهم انحجبوا عما هو األمر عليه من فقرهم ‪ (.‬يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫ّللا )ولذلك كانوا كافرين ‪ ،‬فستروا ما هم به عالمون ذوقا من أنفسهم ‪ ،‬ال يقدرون على إنكاره ‪،‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ولو باهتوا فالحال يكذبهم في قولهم «‪َ :‬ون َْح ُن أ َ ْغنِيا ُء »وليسوا بأغنياء وقولهم ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا فَ ِق ٌ‬
‫ير‬
‫»وليس بفقير من حيث ذاته ‪ ،‬فإنه غني عن العالمين ‪ ،‬فألحقهم في العقاب بالكفار ‪ ،‬وهم الذين‬
‫ستروا ما يجب للحق عليهم من التنزيه ‪ ،‬لذلك‬

‫‪484‬‬

‫ص ‪492 :‬‬
‫ق »عقوبة لقولهم وفعلهم ‪ ،‬فإن اليهود قالت ‪«:‬‬ ‫ذاب ْال َح ِري ِ‬
‫ع َ‬ ‫قال في تمام اآلية « َونَقُو ُل ذُوقُوا َ‬
‫ير َون َْح ُن أ َ ْغنِيا ُء »أي من أجل فقره طلب القرض منا ‪ ،‬فإن في القرض سد الخلة ‪.‬‬ ‫ّللا فَ ِق ٌ‬
‫ِإ َّن َّ َ‬
‫وغابوا عن الذي أراده الحق تعالى من ذلك من غاية الوصلة بخلقه ‪ ،‬كما جاء في الصحيح [‬
‫الر ْزقَ ِل ِعبا ِد ِه لَبَغ َْوا ِفي‬
‫ّللاُ ِ ه‬
‫ط َّ‬‫س َ‬
‫جعت فلم تطعمني ] وهذه اآلية تصديق لقوله تعالى ‪َ ( :‬ولَ ْو بَ َ‬
‫ض )[ الزم استحضار الفقر في كل نفس وعلى كل حال ]‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫باّلل مطلقا من‬ ‫‪-‬نصيحة ‪ -‬الزم استحضار الفقر في كل نفس وعلى كل حال ‪ ،‬وعلق فقرك ه‬
‫باّلل تعالى‬
‫غير تعيين ‪ ،‬فهو أولى بك ‪ ،‬وإن لم تقدر على تحصيل عدم التعيين فال أقل أن تعلقه ه‬
‫ّللا تعالى إلى موسى ‪ :‬يا موسى ال تجعل غيري موضع حاجتك ‪ ،‬وسلني‬ ‫مع التعيين ‪ ،‬أوحى ه‬
‫حتى الملح تلقيه في عجينك ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 182‬إلى ‪184‬‬


‫ّللا ع َِه َد إِلَ ْينا أَاله‬
‫ِين قالُوا إِ هن ه َ‬ ‫س بِ َظله ٍم ِل ْلعَبِي ِد ( ‪ ) 182‬الهذ َ‬ ‫ذ ِلكَ بِما قَ هد َمتْ أ َ ْيدِي ُك ْم َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا لَ ْي َ‬
‫ت َو ِبالهذِي قُ ْلت ُ ْم‬ ‫س ٌل ِم ْن قَ ْب ِلي ِبا ْلبَ ِيهنا ِ‬ ‫بان تَأ ْ ُكلُهُ النه ُ‬
‫ار قُ ْل قَ ْد جا َء ُك ْم ُر ُ‬ ‫سو ٍل َحتهى يَأْتِيَنا ِبقُ ْر ٍ‬ ‫نُ ْؤ ِم َن ِل َر ُ‬
‫ت‬‫س ٌل ِم ْن قَ ْب ِلكَ جا ُؤ ِبا ْلبَ ِيهنا ِ‬ ‫ِب ُر ُ‬‫ين ) ‪ ( 183‬فَ ِإ ْن َكذهبُوكَ فَقَ ْد ُكذه َ‬ ‫فَ ِل َم قَت َ ْلت ُ ُمو ُه ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬
‫ير ) ‪( 184‬‬ ‫ب ا ْل ُمنِ ِ‬ ‫الزبُ ِر َوا ْل ِكتا ِ‬
‫َو ُّ‬
‫الزبر معناه الكتابة ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪185‬‬


‫ح ع َِن النه ِار َوأُد ِْخ َل ا ْل َجنهةَ‬ ‫ور ُك ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة فَ َم ْن ُزحْ ِز َ‬
‫ت َو ِإنهما ت ُ َوفه ْو َن أ ُ ُج َ‬‫ُك ُّل نَ ْف ٍس ذائِقَةُ ا ْل َم ْو ِ‬
‫ور ( ‪) 185‬‬ ‫ع ا ْلغُ ُر ِ‬
‫فاز َو َما ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا ِإاله َمتا ُ‬ ‫فَقَ ْد َ‬
‫ت »وهو عزلها عن تدبير هذا الهيكل الطبيعي الذي كانت تدبره في الدنيا‬ ‫« ُك ُّل نَ ْف ٍس ذا ِئقَةُ ْال َم ْو ِ‬
‫ار َوأ ُ ْد ِخ َل ْال َجنَّةَ »الجنة فيها معنى الستر وبذلك‬ ‫ع ِن النَّ ِ‬‫في حال إقامتها فيها« فَ َم ْن ُز ْح ِز َح َ‬
‫ور‪» .‬‬ ‫ع ْالغُ ُر ِ‬ ‫سميت جنة ‪ ،‬ألنها ستر عن النار لمن دخل فيها ‪َ «،‬و َما ْال َحياة ُ ال ُّد ْنيا إِ َّال َمتا ُ‬

‫‪485‬‬

‫ص ‪493 :‬‬
‫ّللا تصير األمور ‪ ...‬ما أنت يا دنياي إال غرور‬ ‫أال إلى ه‬
‫أهل التقى لم يأمنوا مكرها ‪ ...‬مع التلقي فكيف أهل الفجور‬
‫لها صفات الحق في مكرها ‪ ...‬وما لنا في مكره من شعور‬
‫لو أنها تنصف في حالها ‪ ...‬كانت لهم نعم البشير النذير‬
‫من صدقها في حالها أنها ‪ ...‬أرت رحى الموت علينا تدور‬
‫وكان لي فيها وما عندها ‪ ...‬موعظة مذكرة للخبير‬
‫بها ينال العبد في كونها ‪ ...‬كمال نعت الحق يوم النشور‬
‫وهي على النص إذا ما مضى ‪ ...‬عنها ومن يجحد هذا يجور‬
‫ميزانها قام بها والذي ‪ ...‬يعلمه هو العليم القدير‬
‫فالموت للمؤمن تحفة ‪ ،‬والنعش له محفة ‪ ،‬ينقله من العدوة الدنيا إلى العدوة القصوى ‪ ،‬حيث ال‬
‫فتنة وال بلوى ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 186‬إلى ‪187‬‬


‫ِين أَش َْركُوا‬
‫تاب ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم َو ِم َن الهذ َ‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬ ‫س َمعُ هن ِم َن الهذ َ‬‫س ُك ْم َولَت َ ْ‬‫لَت ُ ْبلَ ُو هن فِي أ َ ْموا ِل ُك ْم َوأ َ ْنفُ ِ‬
‫يثاق الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ّللاُ ِم َ‬ ‫ور ( ‪َ ) 186‬و ِإ ْذ أ َ َخذَ ه‬ ‫ص ِب ُروا َوتَتهقُوا فَ ِإ هن ذ ِلكَ ِم ْن ع َْز ِم ْاأل ُ ُم ِ‬ ‫ذى َكثِيرا ً َو ِإ ْن ت َ ْ‬ ‫أَ ً‬
‫س‬‫شت َ َر ْوا ِب ِه ث َ َمنا ً قَ ِليلً فَ ِبئْ َ‬
‫ور ِه ْم َوا ْ‬
‫ظ ُه ِ‬ ‫اس َوال ت َ ْكت ُ ُمونَهُ فَنَبَذُو ُه َورا َء ُ‬ ‫تاب لَتُبَ ِيهنُنههُ ِللنه ِ‬‫أُوت ُوا ا ْل ِك َ‬
‫ون ( ‪) 187‬‬ ‫شت َ ُر َ‬
‫ما يَ ْ‬
‫ور ِه ْم »فلم يتذكروه لعدم شهودهم إياه ‪ ،‬وليس أولئك إال األئمة الضالل‬ ‫ظ ُه ِ‬ ‫« فَنَبَذُوهُ َورا َء ُ‬
‫المضلهون ‪ ،‬الذين ضلوا وأضلوا‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 188‬إلى ‪189‬‬


‫ون أ َ ْن يُحْ َمدُوا ِبما لَ ْم يَ ْفعَلُوا فَل تَحْ َ‬
‫سبَنه ُه ْم ِب َم َ‬
‫فاز ٍة ِم َن‬ ‫ون ِبما أَت َ ْوا َويُ ِحبُّ َ‬
‫ِين يَ ْف َر ُح َ‬
‫سبَ هن الهذ َ‬
‫ال تَحْ َ‬
‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬
‫ِير (‬ ‫ّللاُ عَلى ُك ِ هل َ‬
‫ض َو ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪َ ) 188‬و ِ ه ِ‬
‫َّلل ُم ْلكُ ال ه‬ ‫ب َولَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫ا ْلعَذا ِ‬
‫) ‪189‬‬

‫‪486‬‬

‫ص ‪494 :‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪190‬‬
‫ب ) ‪( 190‬‬‫ت ِألُو ِلي ْاأل َ ْلبا ِ‬ ‫لف الله ْي ِل َوالنه ِ‬
‫هار َآليا ٍ‬ ‫اختِ ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو ْ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ِإ هن فِي َخ ْل ِ‬
‫ق ال ه‬
‫وهم الذين يعقلون معانيها بما ركب فيهم سبحانه من القوة العقلية ‪ ،‬فهذه آيات داللتها مشروطة‬
‫بأولي األلباب ‪ ،‬وهم العقالء الناظرون في لب األمور ال في قشورها ‪ ،‬فهم الباحثون عن‬
‫المعاني ‪ ،‬وإن كانت األلباب والنهى العقول ‪ ،‬فلم يكتف سبحانه بلفظة العقل حتى ذكر اآليات‬
‫ألولي األلباب ‪ ،‬فما كل عاقل ينظر في لبه األمور وبواطنها ‪ ،‬فإن أهل النظر لهم عقول بال‬
‫شك ‪ ،‬وليسوا بأولي األلباب ‪ ،‬وال شك أن العصاة لهم عقول ولكن ليسوا بأولي نهى ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪191‬‬


‫ض َربهنا ما‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬‫ق ال ه‬ ‫ون ِفي َخ ْل ِ‬ ‫ّللا ِقياما ً َوقُعُودا ً َوعَلى ُجنُو ِب ِه ْم َويَتَفَ هك ُر َ‬ ‫ِين يَ ْذك ُُر َ‬
‫ون ه َ‬ ‫الهذ َ‬
‫َذاب النه ِار ) ‪( 191‬‬ ‫س ْبحانَكَ فَ ِقنا ع َ‬ ‫باطلً ُ‬ ‫َخلَ ْقتَ هذا ِ‬
‫الذاكرون ثالثة ‪ :‬ذاكر قائم ‪ ،‬وهو الذي له مشاهدة قيومية الحق ‪ ،‬فيراه قائما على كل نفس بما‬
‫كسبت ‪ ،‬فال يشهده إال هكذا في ذكره ‪ ،‬وذاكر قاعد ‪ ،‬وهو الذي يشهد من الحق استواءه على‬
‫العرش ‪ ،‬وذاكر على الجنوب ‪ ،‬وهو يقرب من الغيوب ‪ ،‬ألنها حالة النائم أو المريض ‪ ،‬وهو‬
‫قريب من حضرة الخيال وهي محل الغيوب ‪ ،‬وإنما قلنا ذلك ألن العالم مرآة الحق ‪ ،‬والحق‬
‫مرآة الرجل الكامل ‪ ،‬وينعكس النظر في المرآة ‪ ،‬فيظهر في المرآة ما هو في المرآة األخرى ‪،‬‬
‫ض »التفكر بمعنى‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬‫ال يعرف ذلك إال من رأى ذلك« َويَتَفَ َّك ُرونَ فِي خ َْل ِ‬
‫االعتبار ال يكون في أحد من المخلوقين سوى هذا الصنف البشري ‪ ،‬وهو ألهل العبر‬
‫الناظرين في الموجودات من حيث ما هي دالالت ‪ ،‬ال من حيث أعيانها وال من حيث ما تعطي‬
‫ض »فإذا تفكروا أفادهم ذلك‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬‫حقائقها ‪ ،‬لذلك قال تعالى «‪َ :‬ويَتَفَ َّك ُرونَ فِي خ َْل ِ‬
‫التفكر علما لم يكن عندهم ‪ ،‬فهم أصحاب البصر الذي يعتبر ‪ ،‬وصاحب األذن التي تعي‬
‫وصاحب القلب الذي يعقل ‪ ،‬فيعطيهم التفكر مما سمعوا وأبصروا وتقليب األحوال عليهم أن‬
‫سبْحان ََك »فسبحوه ‪ ،‬أي جعلوه منزها عن إيجاب العلة عليه‬ ‫باط اال ُ‬ ‫ت هذا ِ‬ ‫يقولوا« َربَّنا ما َخلَ ْق َ‬
‫في خلقه ‪ ،‬ألنه إذا خلقها لحكمة فكأن تلك الحكمة أوجبت الخلق عليه ‪ ،‬وما ثم موجب عليه إال‬
‫ما يوجبه بنفسه على نفسه لخلقه امتنانا منه لصدق وعده ال غير ‪،‬‬

‫‪487‬‬

‫ص ‪495 :‬‬
‫ار »وليست إال الطبيعة في هذه الدار ‪ ،‬كما هي النار‬ ‫ذاب النَّ ِ‬
‫ع َ‬ ‫وتمم بالتعريف بقوله ‪ «:‬فَ ِقنا َ‬
‫الحسية في الدار اآلخرة ‪ ،‬فما عدلوا إلى االستجارة به من عذاب النار ‪ ،‬إال وقد أعطاهم الفكر‬
‫ّللا أن يحول بينهم‬
‫في خلق السماوات واألرض علما ‪ ،‬أشهدهم النار ذلك العلم ‪ ،‬فطلبوا من ه‬
‫وبين عذاب النار ‪ .‬وهكذا فائدة كل مف هكر فيه إذا أعطى للمف هكر علما ما يسأل ه‬
‫ّللا منه بحسب ما‬
‫يعطيه‬
‫ض ]‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫[ نصيحة ‪َ « -‬ويَتَفَ َّك ُرونَ فِي خ َْل ِ‬
‫ق ال َّ‬

‫ض »وأمثال ذلك ‪ ،‬هاهنا ننظر امتثاال لهذا‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬


‫سماوا ِ‬ ‫‪-‬نصيحة ‪َ «-‬ويَتَفَ َّك ُرونَ فِي خ َْل ِ‬
‫ق ال َّ‬
‫األمر ‪ ،‬وإذا وفيت هذا األمر حقه ‪ ،‬حينئذ تطلب من الحق الفائدة التي ينتجها الحق منه سبحانه‬
‫ال من الفكر ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 192‬إلى ‪193‬‬


‫صار ( ‪َ ) 192‬ربهنا ِإنهنا َ‬
‫س ِم ْعنا ُمنادِيا ً‬ ‫ين ِم ْن أ َ ْن ٍ‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ار فَقَ ْد أ َ ْخ َز ْيتَهُ َوما ِلل ه‬‫َربهنا ِإنهكَ َم ْن تُد ِْخ ِل النه َ‬
‫س ِيهئاتِنا َوت َ َوفهنا َم َع‬
‫عنها َ‬ ‫يمان أ َ ْن ِ‬
‫آمنُوا ِب َر ِبه ُك ْم فَآ َمنها َربهنا فَا ْغ ِف ْر لَنا ذُنُوبَنا َو َك ِفه ْر َ‬ ‫َل ِ‬ ‫يُنادِي ِل ْ ِ‬
‫رار ) ‪( 193‬‬ ‫ْاأل َ ْب ِ‬
‫ّللا أنه يثبت حكمه ‪ ،‬كاإليمان الذي‬ ‫اعلم أنه ال يعتمد على سبب محدث عادي إال بإعالم من ه‬
‫باّلل وبما جاء من عنده إلعالم الحق‬ ‫ثبت معه السعادة فيعتمد عليه ‪ ،‬فالسعادة مرتبطة باإليمان ه‬
‫ْرار »الذين غمرتهم بإحسانك ‪.‬‬ ‫بذلك ‪ ،‬وأما قولهم« َوت َ َوفَّنا َم َع ْاألَب ِ‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 194‬إلى ‪195‬‬


‫ف ا ْل ِميعا َد ( ‪) 194‬‬ ‫س ِلكَ َوال ت ُ ْخ ِزنا يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ِإنهكَ ال ت ُ ْخ ِل ُ‬‫ع ْدتَنا عَلى ُر ُ‬ ‫َربهنا َوآ ِتنا ما َو َ‬
‫ض فَالهذ َ‬
‫ِين‬ ‫عام ٍل ِم ْن ُك ْم ِم ْن ذَك ٍَر أ َ ْو أ ُ ْنثى بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم ِم ْن بَ ْع ٍ‬ ‫ع َم َل ِ‬ ‫جاب لَ ُه ْم َربُّ ُه ْم أ َ ِنهي ال أ ُ ِضي ُع َ‬
‫ست َ َ‬ ‫فَا ْ‬
‫سبِي ِلي َوقاتَلُوا َوقُتِلُوا َأل ُ َك ِفه َر هن َ‬
‫ع ْن ُه ْم َ‬
‫س ِيهئاتِ ِه ْم‬ ‫ِيار ِه ْم َوأُوذُوا فِي َ‬ ‫ها َج ُروا َوأ ُ ْخ ِر ُجوا ِم ْن د ِ‬
‫ب ( ‪) 195‬‬ ‫س ُن الث هوا ِ‬ ‫ّللاُ ِع ْن َدهُ ُح ْ‬ ‫هار ثَوابا ً ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬
‫ّللا َو ه‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫َو َألُد ِْخلَنه ُه ْم َجنها ٍ‬

‫ض»‬ ‫عام ٍل ِم ْن ُك ْم ِم ْن ذَ َك ٍر أ َ ْو أ ُ ْنثى بَ ْع ُ‬


‫ض ُك ْم ِم ْن بَ ْع ٍ‬ ‫ع َم َل ِ‬ ‫جاب لَ ُه ْم َربُّ ُه ْم أ َ ِنهي ال أ ُ ِ‬
‫ضي ُع َ‬ ‫« فَا ْست َ َ‬

‫‪488‬‬

‫ص ‪496 :‬‬
‫ّللا ال يضيعه ‪ ،‬ألنه‬ ‫كان العمل ما كان ‪ ،‬فإن كان خيرا فال يضيع أجره ‪ ،‬وإن لم يكن خيرا فإن ه‬
‫ّللا سيئات التائب حسنات ‪ ،‬فإن لم يكن العمل غير مضيع وإال ففي أي أمر يقع‬ ‫ال بد أن يبدل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه العامل والعبد محل ظهور‬ ‫التبديل ‪ ،‬ألن األعمال صور أنشأها العامل ‪ ،‬ال بل أنشأها ه‬
‫ذلك العمل ‪ ،‬فكيف يضيع عنه أو يضيعه ‪ ،‬وهو خلق خلقه يسبح بحمده ‪.‬‬
‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬اآليات ‪ 196‬إلى ‪199‬‬
‫س ا ْل ِمها ُد (‬ ‫ع قَ ِلي ٌل ث ُ هم َمأْوا ُه ْم َج َهنه ُم َوبِئْ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا فِي ا ْلبِل ِد ) ‪َ ( 196‬متا ٌ‬ ‫ب الهذ َ‬ ‫ال يَغُ هرنهكَ تَقَلُّ ُ‬
‫ِين فِيها نُ ُزالً ِم ْن ِع ْن ِد‬ ‫هار خا ِلد َ‬ ‫ِين اتهقَ ْوا َربه ُه ْم لَ ُه ْم َجنهاتٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫) ‪197‬ل ِك ِن الهذ َ‬
‫اَّلل َوما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ُك ْم‬
‫ب لَ َم ْن يُ ْؤ ِم ُن ِب ه ِ‬ ‫رار ( ‪َ ) 198‬و ِإ هن ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬ ‫ّللا َخ ْي ٌر ِل ِْل َ ْب ِ‬
‫ّللا َوما ِع ْن َد ه ِ‬ ‫هِ‬
‫ّللا ث َ َمنا ً قَ ِليلً أُولئِكَ لَ ُه ْم أَجْ ُر ُه ْم ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم ِإ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫ت هِ‬ ‫ون ِبآيا ِ‬‫شت َ ُر َ‬
‫َّلل ال يَ ْ‬ ‫ش ِع َ‬
‫ين ِ ه ِ‬ ‫َوما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ِه ْم خا ِ‬
‫ب ) ‪( 199‬‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِحسا ِ‬ ‫َ‬
‫الخشوع ال يكون حيث كان إال عن تجل إلهي على القلوب ‪ ،‬ففي قلب المؤمن يكون عن تعظيم‬
‫وإجالل ‪ ،‬فإذا وقع التجلي حصل الخشوع ‪ ،‬وأورث التجلي العلم ‪ ،‬والعلم يورث الخشية ‪،‬‬
‫والخشية تعطي الخشوع ‪ ،‬والخشوع يعطي التصدع ‪ ،‬وهو انفعال الطبع للخشوع ‪.‬‬

‫سورة آلعمران ( ‪ : ) 3‬آية ‪200‬‬


‫ّللا لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬
‫ون ) ‪( 200‬‬ ‫ص ِب ُروا َوصا ِب ُروا َورا ِب ُ‬
‫طوا َواتهقُوا ه َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ا ْ‬

‫الرباط أن يلزم االنسان نفسه دائما من غير حد ينتهي إليه ‪ ،‬أو يجعله في نفسه ‪ ،‬فإذا ربط نفسه‬
‫بهذا األمر ‪ ،‬فهو مرابط ‪ ،‬والرباط مالزمة ‪ ،‬وهو من أفضل أحوال المؤمن ‪ ،‬فكل إنسان إذا‬
‫مات يختم على عمله إال المرابط ‪ ،‬فإنه ين همى له إلى يوم القيامة ‪ ،‬ويأمن فتان القبر ‪ ،‬ثبت هذا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬والرباط في الخير كله ‪ ،‬ما يختص به خير من خير ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫عن رسول ه‬
‫فالكل‬

‫‪489‬‬

‫ص ‪497 :‬‬
‫يختص بمالزمة الثغور فقط‬ ‫ه‬ ‫ّللا لعباده أن يعملوا به ‪ ،‬فما‬
‫ّللا ما شرعه ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن سبيل ه‬ ‫سبيل ه‬
‫ّللا عليه وسلم قال في انتظار الصالة بعد الصالة ‪ :‬إنه‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫وال بالجهاد ‪ ،‬فإن رسول ه‬
‫ّللا )يعني في ذلك كله ‪ ،‬أي اجعلوه وقاية تتقوا به هذه العزائم ‪ ،‬وذلك معونته‬ ‫رباط ‪َ «.‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫باّلل ) فهذا معنى قوله« اتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا » *«‬ ‫صال ِة ) *( واستعينوا ه‬ ‫في قوله (ا ْست َ ِعينُوا ِبال َّ‬
‫صب ِْر َوال َّ‬
‫لَعَلَّ ُك ْم ت ُ ْف ِل ُحونَ »أي تكون لكم النجاة من مشقة الصبر والرباط ‪.‬‬

‫( ‪ ) 4‬سورة النهساء مدنيهة‬


‫[ في ‪َ :‬خلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬
‫واح َدةٍ ]‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآلية ‪1‬‬
‫ث ِم ْن ُه َما ِر َج ً‬
‫اال‬ ‫ق ِم ْن َها َز ْو َج َها َوبَ ه‬ ‫اس اتهقُوا َربه ُك ُم الهذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس َو ِ‬
‫اح َد ٍة َو َخلَ َ‬ ‫يَاأَيُّ َها النه ُ‬
‫علَ ْي ُك ْم َرقِيبًا (‪)1‬‬ ‫ون بِ ِه َو ْاأل َ ْر َحا َم إِ هن ه َ‬
‫ّللا ك َ‬
‫َان َ‬ ‫سا َءلُ َ‬ ‫سا ًء َواتهقُوا ه َ‬
‫ّللا الهذِي ت َ َ‬ ‫َكثِ ً‬
‫يرا َونِ َ‬

‫اس اتَّقُوا َربَّ ُك ُم الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬


‫واح َدةٍ َو َخلَقَ ِم ْنها زَ ْو َجها »يعني نفس آدم ‪،‬‬ ‫« يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ] يريد‬ ‫يخاطب ما تفرع منه ‪ ،‬وهو قوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم فإنه لما ظهر جسم آدم ‪ ،‬ولم تكن فيه شهوة نكاح ‪ ،‬وكان قد‬ ‫باألب آدم صلهى ه‬
‫سبق في علم الحق إيجاد التوالد والتناسل ‪ ،‬والنكاح في هذه الدار ‪ ،‬إنما هو لبقاء النوع ‪،‬‬
‫استخرج من ضلع آدم من القصيرى األيسر صورة حواء ‪ ،‬فكان واحدا في عينه فصار زوجا‬
‫بها ‪ ،‬وكانت من الضلع لالنحناء الذي في الضلوع ‪ ،‬لتحنو بذلك على ولدها وزوجها ‪ .‬فحنو‬
‫الرجل على المرأة حنوه على نفسه ألنها جزء منه ‪ ،‬وحنو المرأة على الرجل لكونها خلقت من‬
‫ّللا الموضع من آدم الذي خرجت منه حواء‬ ‫الضلع والضلع فيه انحناء وانعطاف ‪ .‬وعمر ه‬
‫بالشهوة إليها ‪ ،‬إذ ال يبقى في الوجود خالء ‪ ،‬فحن إليها حنينه إلى نفسه ألنها جزء منه ‪،‬‬

‫‪490‬‬

‫ص ‪498 :‬‬
‫وحنت إليه لكونه موطنها الذي نشأت فيه ‪ ،‬فحبه حواء حبه الموطن ‪ ،‬وحبه آدم حبه نفسه ‪،‬‬
‫وصور الحق في ذلك الضلع جميع ما صوره وخلقه في جسم آدم ‪ ،‬ولما أقام الحق صورتها‬ ‫ه‬
‫وسواها وعدلها نفخ فيها من روحه ‪ ،‬فقامت حية ناطقة ‪ ،‬أنثى ليجعلها محال للزراعة والحرث‬
‫لوجود اإلنبات الذي هو التناسل ‪ ،‬فالمرأة منفصلة عن الرجل ليحن إليها حنين من ظهرت‬
‫تحن إليه وتحبه حنين الجزء إلى‬ ‫سيادته بها ‪ ،‬فهو يحبها محبة من أعطاه درجة السيادة وهي ه‬
‫الكل ‪ ،‬وهو حنين الوطن ألنه وطنها ‪ ،‬مع ما يضاف إلى ذلك من كون كل واحد موضعا‬
‫لشهوته والتذاذه ‪ ،‬وسكن إليها وسكنت إليه ‪ ،‬وكانت لباسا له وكان لباسا لها ‪ ،‬وسرت الشهوة‬
‫منه في جميع أجزائه فطلبها ‪ ،‬فلما تغشاها وألقى الماء في الرحم ودار بتلك النطفة من ماء إلى‬
‫نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظم ‪ ،‬ثم كسا العظم لحما ‪ ،‬فلما أتم نشأته الحيوانية ‪ ،‬أنشأه‬
‫خلقا آخر فنفخ فيه الروح اإلنساني‪.‬‬
‫اعلم أن آدم عليه السالم خلق من الفردانية ‪ ،‬وأما حواء عليها الصالة والسالم فمن الوحدانية ‪،‬‬
‫ي نائم ‪ ،‬كما خلق آدم عليه‬‫ألن الفرد لم يعلم حتى استيقظ ‪ ،‬وخلقت كاملة على صورتها من ح ه‬
‫الصالة والسالم على صورته من غير مزيد ‪ ،‬فعقل نفسه فيها ‪ ،‬وكانت الشهوة النكاحية في‬
‫الموضع الذي عمرته حواء حين خرجت ‪ ،‬فإنه ليس في الوجود خالء ‪ ،‬فأخلت الشهوة‬
‫الموضع لنزول حواء فيه ‪ ،‬ونزلت بالموضع الذي خرجت منه حواء من آدم فعمر الموضع ‪،‬‬
‫وخرجت الشهوة فيه أقوى مما جرت في حواء ‪ ،‬فإن حواء حكم عليها موضع الشهوة ‪ ،‬فالنساء‬
‫أغلب على شهواتهن من الرجال ‪ ،‬فإن الشهوة في الرجل بذاتها وفي المرأة بما بقي من آثار‬
‫رحمتها في موطنها الذي عمرته ‪ ،‬وكانت الشهوة كالثوب على حواء من أجل صورة الموضع‬
‫‪ ،‬وفشت الشهوة في آدم ‪ ،‬فع همتهما جميعا ‪ ،‬لكن بهذا الحكم ‪ ،‬ولهذا تعم شهوة الجماع عند‬
‫اإلنزال جميع البدن ‪ ،‬ولهذا أمر بتطهير جميع البدن ‪ ،‬فإنه فني بكليته في تلك اللحظة ‪ ،‬فأمر‬
‫بتطهير كليته من ذلك ألجل مناجاة الحق ‪ ،‬فآدم فرد وحواء واحد ‪ ،‬وواحد في الفرد مبطون فيه‬
‫‪ ،‬فقوة المرأة من أجل الوحدانية أقوى من قوة الفردانية ‪ ،‬ولهذا تكون المرأة أقوى في ستر‬
‫المحبة من الرجل ‪ ،‬ولهذا هي أقرب إلى اإلجابة وأصفى محال ‪ ،‬كل ذلك من أجل الوحدانية ‪،‬‬
‫ّللا أحسن‬
‫فما نكح آدم سوى نفسه ‪ ،‬فمنه الصاحبة والولد ‪ ،‬واألمر واحد في العدد ‪ ،‬فتبارك ه‬
‫جاال َكثِيرا ا َونِسا اء »على صورة‬
‫ث ِم ْن ُهما »من آدم وحواء« ِر ا‬
‫الخالقين الذي قال ‪َ «:‬وبَ َّ‬
‫الزوجين ‪ ،‬وجعلنا مختلفين في عقولنا‬

‫ص ‪491‬‬

‫ص ‪499 :‬‬
‫متفاوتين في نظرنا ‪ ،‬واألصل واحد ‪ ،‬ومنا الطيب والخبيث ‪ ،‬واألبيض واألسود ‪ ،‬وما بينهما ‪،‬‬
‫والواسع الخلق والضيق الخلق الحرج ‪ ،‬فجميع الناس رحم ‪ ،‬فإنهم أبناء أب واحد وأم واحدة ‪-‬‬
‫الوجه الثاني ‪ -‬لما كان الهباء أصل الوجود ‪ ،‬وتجلهى له اسمه تعالى النور ‪ ،‬من حضرة الجود‬
‫ّللا عليه وسلم من هذا الهباء فيض ذلك النور ‪ ،‬فظهرت‬ ‫كان الظهور ‪ ،‬فقبلت صورته صلهى ه‬
‫صورة مثلية ‪ ،‬مشاهدها عينية ‪ ،‬ومشاربها غيبية ‪ ،‬وجنتها عدنية ‪ ،‬ومعارفها قلمية ‪ ،‬وعلومها‬
‫ّللا عليه وسلم أب‬ ‫يمينية ‪ ،‬وأسرارها مدادية ‪ ،‬وأرواحها لوحية ‪ ،‬وطينتها آدمية ‪ ،‬فهو صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬‫ّللا عليه أبا لنا في الجسمية ‪ ،‬قال صلهى ه‬ ‫لنا في الروحانية ‪ ،‬كما كان آدم صلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا نور نبيك يا جابر ] فكان صلهى ه‬ ‫ّللا عنه [ أول ما خلق ه‬ ‫في حديث جابر رضي ه‬
‫النفس الواحدة التي خلق منها زوجها ‪ ،‬وبه وجد الوجود ‪ ،‬فآدم زوجها من وجه ‪ ،‬ألنه أكمل‬
‫مخلوق مقابل لها في الوجود ‪ ،‬فهو بهذه النسبة أ هم ‪ ،‬ثم هو أب بالنسبة إلى ذريته وحواء أ هم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم آدم أبوة النبوة ‪ ،‬كما أن آدم عليه السالم آدم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فهي زوجة ‪ ،‬فإن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ] فكان صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫أبوة الطين ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫عليه وسلم النفس الواحدة التي خلق منها زوجها ‪ ،‬فإنه ما من نبي ‪ -‬من آدم إلى عيسى ‪ -‬يأخذ‬
‫ناك ِإ َّال َر ْح َمةا ِل ْلعالَ ِمينَ )فهو نازل من حيث‬
‫س ْل َ‬‫إال من مشكاته ‪ ،‬التي هي فلك الرحمة( َوما أ َ ْر َ‬
‫روحانيته إلى كل نبي لما أنزل إليه إن فهمت وإن تأخرت طينته ‪ ،‬وذلك معنى قوله ‪ [ :‬كنت‬
‫نبيا وآدم بين الماء والطين ] ولذلك تأخر وجود طينته إلى ختم النبوة ‪ ،‬فإن البداية هي النهاية ‪،‬‬
‫وغيره ما كان نبيا إال بعد استعداده لنزوله عليه ‪ ،‬فكان نبيا حين بعث بفيض الحياة من مشكاته‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وقد نبهه على ذلك بقوله ‪ [ :‬مثلي ومثل‬ ‫‪ ،‬ولم يتحقق بها كما تحقق بها صلهى ه‬
‫األنبياء قبلي كمثل رجل بنى قصرا أحسن بنيانه ‪ ،‬وترك فيه موضع لبنة ‪ ،‬فطاف بها النظار‬
‫يتع هجبون من حسن بنائه إال موضع تلك اللبنة ‪ ،‬فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ‪ ،‬ختم بي‬
‫ّللا‬
‫البنيان وختم بي الرسل ] وفي رواية [ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ] ومما رواه جابر بن عبد ه‬
‫ّللا تعالى‬
‫ّللا عليه وسلم عن أول شيء خلقه ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا عنهما قال ‪ :‬سألت رسول ه‬ ‫رضي ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ثم خلق فيه كل خير ‪ ،‬وخلق بعده كل شيء ‪-‬‬ ‫فقال ‪ :‬هو نور نبيك يا جابر ‪ ،‬خلقه ه‬
‫الحديث بطوله [‪ .‬العام وجد من واحد ]‬
‫وحي "‬‫اح َدةٍ » وقوله تعالى" َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬قوله تعالى« َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس و ِ‬
‫دليل على أن األجسام من جسم واحد واألرواح من روح واحدة ‪ ،‬تنبيه على أن العالم وجد من‬
‫واحد ‪ ،‬ال إله‬

‫ص ‪492‬‬

‫ص ‪500 :‬‬
‫حام »قال تعالى ‪( :‬‬ ‫ّللا الَّذِي تَسائَلُونَ بِ ِه َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫واح ٌد )« َواتَّقُوا َّ َ‬ ‫إال هو العليم القدير( َو ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم [ الرحم شجنة من الرحمن ] وقال ‪ [ :‬أنا من‬ ‫ِإنَّ َما ْال ُمؤْ ِمنُونَ ِإ ْخ َوة ٌ )وقال صلهى ه‬
‫ّللا والمؤمنون مني ] فالرحم رحمان ‪ :‬رحم طينية ‪ ،‬ورحم دينية ‪ ،‬قال تعالى في الرحم‬ ‫ه‬
‫ْس لَ َك ِب ِه ِع ْل ٌم فَال ت ُ ِط ْع ُهما َو ِ‬
‫صاح ْب ُهما ِفي ال ُّد ْنيا‬ ‫على أ َ ْن ت ُ ْش ِر َك ِبي ما لَي َ‬ ‫َداك َ‬ ‫الطينية( َو ِإ ْن جاه َ‬
‫ي أ َ ْولى بِ ْال ُمؤْ ِمنِينَ ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ِه ْم َوأ َ ْزوا ُجهُ أ ُ َّمهات ُ ُه ْم )وقال (‬
‫َم ْع ُروفا ا ) ‪.‬وقال في الرحم الديني( النَّبِ ُّ‬
‫إِنَّ َما ْال ُمؤْ ِمنُونَ إِ ْخ َوة ٌ )فأعط الطين حقه ‪ ،‬وانفر إلى رحمك الديني الذي هو أولى بك من نفسك ‪،‬‬
‫فإن صلة الرحم بتقوى األرحام ‪ ،‬بتحكيم اللطيف على الكثيف ‪ -‬إشارة ‪ -‬هذه اآلية تشير إلى‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن كان العبد كافرا فهو أخوه من حيث أنه‬ ‫ّللا والرحمة بعباد ه‬ ‫وجوب الشفقة على خلق ه‬
‫وأباه من نفس واحدة ‪ ،‬وإن كان مؤمنا فهو أخوه أخوة اختصاص ديني سعادي ‪ ،‬فعلى كل حال‬
‫ّللا له مع كل‬ ‫علَ ْي ُك ْم َر ِقيبا ا »رقيب على كل نفس بما كسبت ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ّللا كانَ َ‬ ‫وجبت الشفقة ‪ِ «.‬إ َّن َّ َ‬
‫واحد من المملكة أمر خاص في نفسه ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 2‬إلى ‪3‬‬


‫كان ُحوبا ً‬ ‫ب َوال تَأ ْ ُكلُوا أ َ ْموالَ ُه ْم ِإلى أ َ ْموا ِل ُك ْم ِإنههُ َ‬‫ط ِيه ِ‬‫يث ِبال ه‬ ‫َوآتُوا ا ْليَتامى أ َ ْموالَ ُه ْم َوال تَتَبَ هدلُوا ا ْل َخ ِب َ‬
‫لث‬‫ساء َمثْنى َوث ُ َ‬ ‫طاب لَ ُك ْم ِم َن ال ِنه ِ‬‫َ‬ ‫طوا فِي ا ْليَتامى فَا ْن ِك ُحوا ما‬ ‫س ُ‬ ‫َك ِبيرا ً ( ‪َ ) 2‬و ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم أَاله ت ُ ْق ِ‬
‫واح َدةً أ َ ْو ما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُك ْم ذ ِلكَ أَدْنى أَاله تَعُولُوا ( ‪) 3‬‬ ‫ع فَ ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم أَاله ت َ ْع ِدلُوا فَ ِ‬‫َو ُربا َ‬
‫ع »اعلم أن مسمى النكاح قد يكون عقد‬ ‫الث َو ُربا َ‬ ‫ساء َمثْنى َوث ُ َ‬ ‫طاب لَ ُك ْم ِمنَ ال ِنه ِ‬ ‫َ‬ ‫« فَا ْن ِك ُحوا ما‬
‫الوطء ‪ ،‬وقد يكون عقدا ووطأ معا ‪ ،‬وقد يكون وطأ ‪ ،‬ويكون نفس الوطء عين العقد ‪ ،‬ألن‬
‫ت أَيْمانُ ُك ْم »[ اشاره‬ ‫واح َدة ا أ َ ْو ما َملَ َك ْ‬
‫الوطء ال يصح إال بعقد الزوجين ‪ «.‬فَإِ ْن ِخ ْفت ُ ْم أ َ َّال ت َ ْع ِدلُوا فَ ِ‬
‫إلى ملك اليمين ]‬
‫ما في الخلق من يملك سوى اإلنسان ‪ ،‬وما سوى اإلنسان من ملك وغيره ال يملك شيئا ‪ ،‬وذلك‬
‫ت‬‫من حكم الصورة التي خلق عليها اإلنسان ‪ ،‬فقال تعالى في إثبات الملك لإلنسان« أ َ ْو ما َملَ َك ْ‬
‫أَيْمانُ ُك ْم » ‪.‬واعلم أن الكفاءة مشروعة ال معقولة ‪ ،‬والشرع‬

‫ص ‪493‬‬

‫ص ‪501 :‬‬
‫إنما لزمها من الطرف الواحد ال من الطرفين ‪ ،‬فمنع المرأة أن تنكح ما ليس لها بكفء ‪ ،‬ولم‬
‫يمنع الرجل أن ينكح ما ليس بكفء له ‪ ،‬ولهذا له أن ينكح أمته بملك اليمين ‪ ،‬وليس للمرأة أن‬
‫ينكحها عبدها ‪ -‬إشارة ‪ -‬ملك اليمين ‪ -‬عبدك ليس هو عبدك ‪ ،‬وإنما هو قيمته ‪ ،‬فعامله معاملة‬
‫مالك ‪ ،‬وأنزله مرتبته من حيث أنه إنسان ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪4‬‬


‫صدُقاتِ ِه هن نِحْ لَةً فَ ِإ ْن ِط ْب َن لَ ُك ْم ع َْن َ‬
‫ش ْي ٍء ِم ْنهُ نَ ْفسا ً فَ ُكلُوهُ َهنِيئا ً َم ِريئا ً ) ‪( 4‬‬ ‫َوآتُوا ال ِنهسا َء َ‬
‫فال يحل لك من مال امرأتك شيء إال شيء تعطيك من غير أن تسألها ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪6‬‬


‫سو ُه ْم َوقُولُوا لَ ُه ْم قَ ْوالً‬ ‫ار ُزقُو ُه ْم فِيها َوا ْك ُ‬ ‫سفَها َء أ َ ْموالَ ُك ُم الهتِي َجعَ َل ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم قِياما ً َو ْ‬ ‫َوال ت ُ ْؤتُوا ال ُّ‬
‫ست ُ ْم ِم ْن ُه ْم ُرشْدا ً فَا ْدفَعُوا إِلَ ْي ِه ْم‬‫ح فَ ِإ ْن آنَ ْ‬
‫َم ْع ُروفا ً ( ‪َ ) 5‬وا ْبتَلُوا ا ْليَتامى َحتهى إِذا بَلَغُوا ال ِنهكا َ‬
‫كان فَ ِقيرا ً فَ ْليَأ ْ ُك ْل‬‫ف َو َم ْن َ‬ ‫غنِيًّا فَ ْليَ ْ‬
‫ست َ ْع ِف ْ‬ ‫سرافا ً َو ِبدارا ً أ َ ْن يَ ْكبَ ُروا َو َم ْن َ‬
‫كان َ‬ ‫أ َ ْموالَ ُه ْم َوال تَأ ْ ُكلُوها ِإ ْ‬
‫سيبا ً ( ‪) 6‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوكَفى ِب ه ِ‬
‫اَّلل َح ِ‬ ‫وف فَ ِإذا َدفَ ْعت ُ ْم ِإلَ ْي ِه ْم أ َ ْموالَ ُه ْم فَأَش ِْهدُوا َ‬
‫ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫« َوا ْبتَلُوا ْاليَتامى َحتَّى ِإذا بَلَغُوا ال ِنهكا َح »وهو أحد الشرطين« فَإِ ْن آنَ ْست ُ ْم ِم ْن ُه ْم ُر ْشدا ا فَا ْدفَعُوا‬
‫ِإلَ ْي ِه ْم أ َ ْموالَ ُه ْم »فأمرنا في األيتام في دفع أموالهم واستحقاقهم لها بإيناس الرشد منهم ‪«،‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬والحسيب ذو‬ ‫اّلل َح ِسيبا ا »أي عليما ‪ ،‬والحسيب من أسماء ه‬ ‫علَ ْي ِه ْم َو َكفى بِ َّ ِ‬ ‫فَأ َ ْش ِهدُوا َ‬
‫الحسب الكريم والنسب الشريف ‪ ،‬وال نسب أتم وال أكمل في الشرف من شرف الشيء بذاته‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬انسب لنا ربك ‪ ،‬ما نسب الحق نفسه فيما‬ ‫لذاته ‪ ،‬ولهذا لما قيل لمحمد صلهى ه‬
‫أوحى به إليه إال لنفسه ‪ ،‬وتبرأ أن يكون له نسب من غيره ‪ ،‬فأنزل عليه سورة اإلخالص‪.‬‬

‫ص ‪494‬‬

‫ص ‪502 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪11‬‬
‫ون ِم هما‬ ‫دان َو ْاأل َ ْق َربُ َ‬
‫يب ِم هما ت َ َركَ ا ْلوا ِل ِ‬ ‫ساء نَ ِص ٌ‬ ‫ون َو ِلل ِنه ِ‬ ‫دان َو ْاأل َ ْق َربُ َ‬
‫يب ِم هما ت َ َركَ ا ْلوا ِل ِ‬ ‫لرجا ِل نَ ِص ٌ‬ ‫ِل ِ ه‬
‫س َمةَ أُولُوا ا ْلقُ ْربى َوا ْليَتامى َوا ْل َمسا ِك ُ‬
‫ين‬ ‫ض َر ا ْل ِق ْ‬ ‫قَ هل ِم ْنهُ أ َ ْو َكث ُ َر نَ ِصيبا ً َم ْف ُروضا ً ( ‪َ ) 7‬و ِإذا َح َ‬
‫ِين لَ ْو ت َ َركُوا ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم ذُ ِ هريهةً ِضعافا ً‬ ‫ش الهذ َ‬ ‫ار ُزقُو ُه ْم ِم ْنهُ َوقُولُوا لَ ُه ْم قَ ْوالً َم ْع ُروفا ً ( ‪َ ) 8‬و ْليَ ْخ َ‬ ‫فَ ْ‬
‫ظ ْلما ً إِنهما‬ ‫ون أ َ ْموا َل ا ْليَتامى ُ‬ ‫ِين يَأ ْ ُكلُ َ‬
‫سدِيدا ً ( ‪ ) 9‬إِ هن الهذ َ‬ ‫ّللا َو ْليَقُولُوا قَ ْوالً َ‬‫علَ ْي ِه ْم فَ ْليَتهقُوا ه َ‬ ‫خافُوا َ‬
‫ّللاُ فِي أ َ ْوال ِد ُك ْم ِللذهك َِر ِمثْ ُل َح ِ ه‬
‫ظ‬ ‫وصي ُك ُم ه‬‫س ِعيرا ً ( ‪ ) 10‬يُ ِ‬ ‫صلَ ْو َن َ‬ ‫سيَ ْ‬‫طونِ ِه ْم نارا ً َو َ‬ ‫ون فِي بُ ُ‬ ‫يَأ ْ ُكلُ َ‬
‫ْف َو ِألَبَ َو ْي ِه‬ ‫واح َدةً فَلَ َها ال ِنهص ُ‬‫ق اثْنَت َ ْي ِن فَلَ ُه هن ثُلُثا ما ت َ َركَ َوإِ ْن كانَتْ ِ‬ ‫ْاأل ُ ْنثَيَ ْي ِن فَ ِإ ْن ك هُن نِسا ًء فَ ْو َ‬
‫ث‬‫كان لَهُ َولَ ٌد فَ ِإ ْن لَ ْم يَك ُْن لَهُ َولَ ٌد َو َو ِرثَهُ أَبَواهُ فَ ِِل ُ ِ هم ِه الثُّلُ ُ‬
‫ُس ِم هما ت َ َركَ ِإ ْن َ‬ ‫سد ُ‬ ‫واح ٍد ِم ْن ُه َما ال ُّ‬ ‫ِل ُك ِ هل ِ‬
‫ون‬‫وصي ِبها أ َ ْو َد ْي ٍن آبا ُؤ ُك ْم َوأ َ ْبنا ُؤ ُك ْم ال ت َ ْد ُر َ‬ ‫ُس ِم ْن بَ ْع ِد َو ِصيه ٍة يُ ِ‬ ‫سد ُ‬ ‫كان لَهُ ِإ ْخ َوةٌ فَ ِِل ُ ِ هم ِه ال ُّ‬‫فَ ِإ ْن َ‬
‫ع ِليما ً َح ِكيما ً ( ‪)11‬‬ ‫كان َ‬ ‫ّللا َ‬‫ّللا ِإ هن ه َ‬ ‫ضةً ِم َن ه ِ‬ ‫ب لَ ُك ْم نَ ْفعا ً فَ ِري َ‬ ‫أَيُّ ُه ْم أ َ ْق َر ُ‬
‫ّللا أحق‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬حق ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وصي بِها أ َ ْو َدي ٍْن »قال رسول ه‬ ‫صيَّ ٍة يُ ِ‬ ‫« ِم ْن بَ ْع ِد َو ِ‬
‫ّللا ألنه الذي‬ ‫وّللا قدهم الوصية على الدهين ‪ ،‬والوصية ه‬
‫حق ه‬ ‫بالقضاء ] يعني من حق المخلوق ‪ ،‬ه‬
‫أوجبها علينا حين أوجبها الموصي في المال الذي له فيه تصرف ‪ ،‬وتقديم الوصية على الدهين‬
‫ّللا تعالى قدهم الوصية‬ ‫ّللا ‪ ،‬وهذا خالف ما عليه اليوم الفقهاء في الوصية والدهين ‪ ،‬فإن ه‬ ‫حكم ه‬
‫على الدهين ‪ ،‬ويرجع عندي حق الغرماء ‪ ،‬إذا لم يف ما بقي لهم من مال هذا الميت في بيت‬
‫المال ‪ ،‬يؤديه عنه السلطان من الصدقات ‪ ،‬فإنهم من الثمانية األصناف ‪ ،‬فلصاحب الدهين أمر‬
‫يرجع إليه في دينه ‪ ،‬وليس للوصية ذلك ‪ ،‬فوجب تقديمها بال شك عند المنصف ‪ .‬والمحتضر‬
‫ما‬

‫ص ‪495‬‬

‫ص ‪503 :‬‬
‫يملك من المال إال الثلث ‪ ،‬وأجاز له الشارع أن يتصرف بالثلث كله الذي يملكه ‪ ،‬وهو محمود‬
‫في ذلك شرعا ‪ ،‬فكان أفضل ممن لم يتصدق بذلك الثلث الذي يملكه ‪ ،‬أو تصدق بأقل من الثلث‬
‫‪ ،‬وينوي بما يبقيه أنه صدقة على ورثته ‪ ،‬وما أبيح للمحتضر إال الثلث ‪ ،‬وما فوق ذلك فال‬
‫ع ِليما ا َح ِكيما ا »الحكيم مرتب األمور‬ ‫يسمع له فيه كالم ‪ ،‬ألنه تكلم فيما ال يملك ‪ِ «.‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا كانَ َ‬
‫مراتبها ومنزل األشياء مقاديرها ‪ -‬إشارة ‪ -‬أشار الحق بقوة المرأة وضعف الرجل بصورة‬
‫الميراث ‪ ،‬فأعطى األكثر لألضعف كي يقوى من جهة الضعف ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 12‬إلى ‪14‬‬


‫الربُ ُع ِم هما ت َ َر ْك َن ِم ْن‬ ‫ْف ما ت َ َركَ أ َ ْزوا ُج ُك ْم ِإ ْن لَ ْم يَك ُْن لَ ُه هن َولَ ٌد فَ ِإ ْن َ‬
‫كان لَ ُه هن َولَ ٌد فَلَ ُك ُم ُّ‬ ‫َولَ ُك ْم نِص ُ‬
‫كان لَ ُك ْم َولَ ٌد‬ ‫ين ِبها أ َ ْو َد ْي ٍن َولَ ُه هن ُّ‬
‫الربُ ُع ِم هما ت َ َر ْكت ُ ْم ِإ ْن لَ ْم يَك ُْن لَ ُك ْم َولَ ٌد فَ ِإ ْن َ‬ ‫وص َ‬ ‫بَ ْع ِد َو ِصيه ٍة يُ ِ‬
‫ام َرأَةٌ‬ ‫ث كَللَةً أ َ ِو ْ‬ ‫ور ُ‬‫كان َر ُج ٌل يُ َ‬‫ون بِها أ َ ْو َد ْي ٍن َوإِ ْن َ‬ ‫ص َ‬ ‫فَلَ ُه هن الث ُّ ُم ُن ِم هما ت َ َر ْكت ُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد َو ِصيه ٍة تُو ُ‬
‫ث ِم ْن‬ ‫ُس فَ ِإ ْن كانُوا أ َ ْكث َ َر ِم ْن ذ ِلكَ فَ ُه ْم ش َُركا ُء فِي الثُّلُ ِ‬ ‫سد ُ‬ ‫خ أ َ ْو أ ُ ْختٌ فَ ِل ُك ِ هل ِ‬
‫واح ٍد ِم ْن ُه َما ال ُّ‬ ‫َولَهُ أ َ ٌ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِلي ٌم ( ‪ ) 12‬تِ ْلكَ ُحدُو ُد ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫ار َو ِصيهةً ِم َن ه ِ‬
‫ّللا َو ه‬ ‫ض ٍه‬ ‫بَ ْع ِد َو ِصيه ٍة يُوصى ِبها أ َ ْو َد ْي ٍن َ‬
‫غ ْي َر ُم َ‬
‫ِين فِيها َوذ ِلكَ ا ْلفَ ْو ُز ا ْلعَ ِظي ُم‬ ‫هار خا ِلد َ‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫سولَهُ يُد ِْخ ْلهُ َجنها ٍ‬‫ّللا َو َر ُ‬‫َو َم ْن يُ ِط ِع ه َ‬
‫ين ‪( 14‬‬ ‫سولَهُ َويَتَعَ هد ُحدُو َد ُه يُد ِْخ ْلهُ نارا ً خا ِلدا ً فِيها َولَهُ ع ٌ‬
‫َذاب ُم ِه ٌ‬ ‫ّللا َو َر ُ‬
‫ص هَ‬ ‫( ‪َ ) 13‬و َم ْن يَ ْع ِ‬
‫)‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ متعلق المعصية األمر اإللهي والنهي ‪ ،‬وال يعرف‬ ‫ّللا عصيان رسول ه‬ ‫اعلم أن عصيان ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وليس لغير الرسل من‬ ‫ّللا ال يبلغ أمره إال رسل ه‬ ‫ذلك إال بتبليغ الرسول وعلى لسانه ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللف أمر يعصى فيه وللرسول أمر يعصى فيه ‪ ،‬وثم أمر يجمع فيه‬ ‫البشر هذا المقام ‪ ،‬ومع هذا ه‬
‫ّللا ليس لمخلوق فيه دخول فتلك‬ ‫ّللا ورسوله ‪.‬فكل أمر يتعلق بجناب ه‬ ‫معصية ه‬

‫ص ‪486‬‬

‫ص ‪504 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فتلك معصية الرسول ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬وكل أمر يتعلق بجناب المخلوق الذي هو رسول ه‬ ‫معصية ه‬
‫ّللا‬
‫ص َّ َ‬ ‫ّللا تعالى ‪َ «:‬و َم ْن يَ ْع ِ‬ ‫ّللا ورسوله ؛ قال ه‬
‫وكل أمر يتضمن الجانبين ‪ ،‬فتلك معصية ه‬
‫ض َّل )فأفرد‬ ‫سو ِل ) *فأفرده ‪ ،‬وقال ‪َ ( :‬و َم ْن يُ ْش ِر ْك ِب َّ ِ‬
‫اّلل فَقَ ْد َ‬ ‫الر ُ‬ ‫سولَهُ » ‪،‬وقال ‪َ ( :‬و َم ْع ِ‬
‫صيَ ِة َّ‬ ‫َو َر ُ‬
‫نفسه ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪17‬‬


‫سكُو ُه هن فِي‬ ‫علَ ْي ِه هن أ َ ْربَعَةً ِم ْن ُك ْم فَ ِإ ْن ش َِهدُوا فَأ َ ْم ِ‬
‫ستَش ِْهدُوا َ‬ ‫فاحشَةَ ِم ْن نِسائِ ُك ْم فَا ْ‬ ‫ين ا ْل ِ‬ ‫َواللهتِي يَأْتِ َ‬
‫ذان يَأْتِيانِها ِم ْن ُك ْم فَآذُو ُهما‬ ‫س ِبيلً ( ‪َ ) 15‬واله ِ‬ ‫ت َحتهى يَت َ َوفها ُه هن ا ْل َم ْوتُ أ َ ْو يَجْ عَ َل ه‬
‫ّللاُ لَ ُه هن َ‬ ‫ا ْلبُيُو ِ‬
‫ِين‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا ِللهذ َ‬ ‫كان ت َ هوابا ً َر ِحيما ً ( ‪ِ ) 16‬إنه َما الت ه ْوبَةُ َ‬ ‫ّللا َ‬ ‫ع ْن ُهما ِإ هن ه َ‬ ‫صلَحا فَأَع ِْرضُوا َ‬ ‫فَ ِإ ْن تابا َوأ َ ْ‬
‫ع ِليما ً َح ِكيما ً (‬ ‫ّللاُ َ‬
‫كان ه‬ ‫علَ ْي ِه ْم َو َ‬ ‫ّللاُ َ‬‫وب ه‬ ‫ب فَأُول ِئكَ يَت ُ ُ‬ ‫ون ِم ْن قَ ِري ٍ‬ ‫سو َء ِب َجهالَ ٍة ث ُ هم يَتُوبُ َ‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫ون ال ُّ‬
‫) ‪17‬‬
‫هو سبحانه العليم بكل شيء بما كان ويكون ‪ ،‬الحكيم ‪ ،‬والحكمة تعطي وضع كل شيء في‬
‫موضعه ‪ ،‬فما ثم شيء مطلق أصال ‪ ،‬ألنه ال يقتضيه اإلمكان ‪ ،‬فما من أمر إال وله موطن يقبله‬
‫وموطن يدفعه وال يقبله ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪18‬‬


‫ض َر أ َ َح َد ُه ُم ا ْل َم ْوتُ قا َل إِ ِنهي تُبْتُ ْاآل َن َوال‬
‫ت َحتهى إِذا َح َ‬‫س ِيهئا ِ‬
‫ون ال ه‬ ‫ت الت ه ْوبَةُ ِللهذ َ‬
‫ِين يَ ْع َملُ َ‬ ‫َولَ ْي َ‬
‫س ِ‬
‫ار أُولئِكَ أ َ ْعتَدْنا لَ ُه ْم عَذابا ً أ َ ِليما ً) ‪( 18‬‬
‫ون َو ُه ْم ُكفه ٌ‬
‫ِين يَ ُموت ُ َ‬‫الهذ َ‬

‫ض َر أ َ َح َد ُه ُم ْال َم ْوتُ قا َل ِإ ِنهي تُبْتُ ْاآلنَ »فإن‬


‫ت َحتَّى ِإذا َح َ‬ ‫ت الت َّ ْوبَةُ ِللَّذِينَ يَ ْع َملُونَ ال َّ‬
‫س ِيهئا ِ‬ ‫« َولَ ْي َ‬
‫س ِ‬
‫ذلك الجزء من الحياة الدنيا ليس منها وإنما هو من البرزخ ‪ .‬من الدار التي ال ينفع فيها ما عمل‬
‫عذابا ا أ َ ِليما ا‪» .‬‬ ‫ار أُول ِئ َك أ َ ْعت َ ْدنا لَ ُه ْم َ‬‫فيها ‪َ «،‬و َال الَّذِينَ يَ ُموتُونَ َو ُه ْم ُكفَّ ٌ‬

‫ص ‪497‬‬

‫ص ‪505 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪19‬‬
‫ض ما‬ ‫ضلُو ُه هن ِلت َ ْذ َهبُوا ِببَ ْع ِ‬
‫ِين آ َمنُوا ال يَ ِح ُّل لَ ُك ْم أ َ ْن ت َ ِرثُوا ال ِنهسا َء ك َْرها ً َوال ت َ ْع ُ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫وف فَ ِإ ْن ك َِر ْهت ُ ُمو ُه هن فَعَسى أ َ ْن‬‫ش ُرو ُه هن ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫ش ٍة ُمبَ ِيهنَ ٍة َوعا ِ‬ ‫فاح َ‬ ‫ين ِب ِ‬ ‫آت َ ْيت ُ ُمو ُه هن ِإاله أ َ ْن يَأْتِ َ‬
‫ّللاُ ِفي ِه َخ ْيرا ً َك ِثيرا ً ) ‪( 19‬‬ ‫ش ْيئا ً َويَجْ عَ َل ه‬ ‫ت َ ْك َر ُهوا َ‬
‫أي صاحبوهن بما يعرف أنه يدوم بينكما الصحبة به ‪ ،‬والمعاشرة الصحبة ‪« ،‬فَإِ ْن َك ِر ْهت ُ ُمو ُه َّن‬
‫ّللاُ فِي ِه َخيْرا ا َكثِيرا ا » ‪.‬‬ ‫شيْئا ا َويَ ْجعَ َل َّ‬ ‫فَعَسى أ َ ْن ت َ ْك َر ُهوا َ‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 20‬إلى ‪21‬‬


‫ش ْيئا ً أ َ تَأ ْ ُخذُونَهُ‬
‫كان َز ْوجٍ َوآت َ ْيت ُ ْم ِإحْ دا ُه هن قِ ْنطارا ً فَل تَأ ْ ُخذُوا ِم ْنهُ َ‬‫ستِ ْبدا َل َز ْوجٍ َم َ‬‫َو ِإ ْن أ َ َر ْدت ُ ُم ا ْ‬
‫ض َوأ َ َخ ْذ َن ِم ْن ُك ْم ِميثاقا ً‬ ‫ف تَأ ْ ُخذُونَهُ َوقَ ْد أ َ ْفضى بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم ِإلى بَ ْع ٍ‬ ‫بُهْتانا ً َو ِإثْما ً ُم ِبينا ً ( ‪َ ) 20‬و َك ْي َ‬
‫غ ِليظا ً ) ‪( 21‬‬ ‫َ‬
‫فإنه ال يحل أن يأخذ مما أعطاها من صداق وإنفاق يلزمه لقبول العوض ‪ ،‬فكان كالبيع ‪،‬‬
‫والعوض ال يمكن رده ألنه االستمتاع بوطئها ‪ ،‬وذلك اإلفضاء ال يصح فيه الرجوع ‪ ،‬فال‬
‫يصح أيضا في المعوض منه ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 22‬إلى ‪23‬‬


‫سبِيلً ( ‪22‬‬ ‫فاحشَةً َو َم ْقتا ً َوسا َء َ‬ ‫كان ِ‬‫ف إِنههُ َ‬ ‫سلَ َ‬‫اء إِاله ما قَ ْد َ‬ ‫َوال ت َ ْن ِك ُحوا ما نَ َك َح آبا ُؤ ُك ْم ِم َن ال ِنهس ِ‬
‫ع همات ُ ُك ْم َوخاالت ُ ُك ْم َوبَناتُ ْاألَخِ َوبَناتُ ْاأل ُ ْخ ِ‬
‫ت‬ ‫علَ ْي ُك ْم أ ُ همهات ُ ُك ْم َوبَنات ُ ُك ْم َوأ َ َخوات ُ ُك ْم َو َ‬
‫) ُح ِ هر َمتْ َ‬
‫ع ِة َوأ ُ همهاتُ نِسائِ ُك ْم َو َربائِبُ ُك ُم اللهتِي فِي‬ ‫الرضا َ‬ ‫ض ْعنَ ُك ْم َوأ َ َخوات ُ ُك ْم ِم َن ه‬ ‫َوأ ُ همهات ُ ُك ُم اللهتِي أ َ ْر َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َحلئِ ُل‬ ‫ور ُك ْم ِم ْن نِسائِ ُك ُم اللهتِي َد َخ ْلت ُ ْم ِب ِه هن فَ ِإ ْن لَ ْم تَكُونُوا َد َخ ْلت ُ ْم ِب ِه هن فَل ُجنا َ‬
‫ح َ‬ ‫ُح ُج ِ‬
‫غفُورا ً َر ِحيما ً‬ ‫كان َ‬‫ّللا َ‬
‫ف ِإ هن ه َ‬ ‫سلَ َ‬ ‫ِين ِم ْن أَصْل ِب ُك ْم َوأ َ ْن تَجْ َمعُوا بَ ْي َن ْاأل ُ ْخت َ ْي ِن ِإاله ما قَ ْد َ‬ ‫أ َ ْبنا ِئ ُك ُم الهذ َ‬
‫) ‪( 23‬‬

‫ص ‪498‬‬

‫ص ‪506 :‬‬
‫الدخول وطء لوجود لذة أو إليجاد عين ‪ ،‬وهو بعقد ‪ ،‬وهو عبارة عما يقع عليه رضى الزوجين‬
‫‪ ،‬وبال عقد لإلماء ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪24‬‬


‫علَ ْي ُك ْم َوأ ُ ِح هل لَ ُك ْم ما َورا َء ذ ِل ُك ْم أ َ ْن ت َ ْبتَغُوا‬
‫ّللا َ‬ ‫ساء إِاله ما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُك ْم ِك َ‬
‫تاب ه ِ‬ ‫َوا ْل ُمحْ صَناتُ ِم َن ال ِنه ِ‬
‫ح‬‫ضةً َوال ُجنا َ‬ ‫ور ُه هن فَ ِري َ‬
‫ست َ ْمت َ ْعت ُ ْم بِ ِه ِم ْن ُه هن فَآت ُو ُه هن أ ُ ُج َ‬
‫ين فَ َما ا ْ‬
‫غ ْي َر ُمسافِ ِح َ‬ ‫ين َ‬ ‫بِأ َ ْموا ِل ُك ْم ُمحْ ِصنِ َ‬
‫ع ِليما ً َح ِكيما ً ) ‪( 24‬‬ ‫كان َ‬‫ّللا َ‬
‫ض ِة إِ هن ه َ‬ ‫ض ْيت ُ ْم بِ ِه ِم ْن بَ ْع ِد ا ْلفَ ِري َ‬
‫علَ ْي ُك ْم فِيما تَرا َ‬‫َ‬

‫كل نكاح أي دخول بغير عقد أو لإلماء الغير المملوكات ‪ ،‬فهو سفاح ال نكاح ‪ ،‬أي هو بمنزلة‬
‫الشيء السائل الذي ال ثبات له ‪ ،‬ألنه ال عقد فيه وال رباط وال وثاق ‪ ،‬والصداق ال بد منه ‪،‬‬
‫ألنه القيمة والثمن والعوض عن شراء استمتاع بعضو وبيعه ‪ ،‬ألن النكاح من باب الشراء‬
‫ّللا عليه وسلم عن أن تسم على سوم أخيك وال تبع على‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫والبيع ‪ ،‬لذلك نهى رسول ه‬
‫بيعه ‪ ،‬كما نهيت أن تخطب على خطبته ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪25‬‬


‫ت فَ ِم ْن ما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُك ْم ِم ْن فَتَيا ِت ُك ُم‬ ‫ت ا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬
‫صنا ِ‬ ‫ست َ ِط ْع ِم ْن ُك ْم َط ْوالً أ َ ْن يَ ْن ِك َح ا ْل ُمحْ َ‬‫َو َم ْن لَ ْم يَ ْ‬
‫ض فَا ْن ِك ُحو ُه هن بِ ِإ ْذ ِن أ َ ْه ِل ِه هن َوآتُو ُه هن أ ُ ُج َ‬
‫ور ُه هن‬ ‫ّللاُ أ َ ْعلَ ُم بِ ِإيمانِ ُك ْم بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم ِم ْن بَ ْع ٍ‬ ‫ت َو ه‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬
‫ش ٍة فَعَلَ ْي ِه هن‬ ‫دان فَ ِإذا أُحْ ِص هن فَ ِإ ْن أَت َ ْي َن بِ ِ‬
‫فاح َ‬ ‫ت أ َ ْخ ٍ‬ ‫ت َوال ُمت ه ِخذا ِ‬ ‫غ ْي َر ُمسافِحا ٍ‬ ‫ت َ‬‫صنا ٍ‬ ‫وف ُمحْ َ‬ ‫بِا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫ص ِب ُروا َخ ْي ٌر لَ ُك ْم َو ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ي ا ْلعَنَتَ ِم ْن ُك ْم َوأ َ ْن ت َ ْ‬‫ش َ‬‫ب ذ ِلكَ ِل َم ْن َخ ِ‬ ‫ت ِم َن ا ْلعَذا ِ‬ ‫صنا ِ‬ ‫علَى ا ْل ُمحْ َ‬ ‫ْف ما َ‬ ‫نِص ُ‬
‫ور َر ِحي ٌم) ‪( 25‬‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫َ‬

‫ص ‪499‬‬

‫ص ‪507 :‬‬
‫ال ينكح األمة إال من ال يستطيع الطول ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪26‬‬


‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ) ‪( 26‬‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫وب َ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم َويَت ُ َ‬
‫سنَ َن الهذ َ‬
‫ّللاُ ِليُبَ ِيه َن لَ ُك ْم َويَ ْه ِديَ ُك ْم ُ‬
‫يُ ِري ُد ه‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم »بما يجريه ويثبته ‪ ،‬فال‬ ‫ّللاُ َ‬‫السنة الطريقة ‪ ،‬والسنن مثل الطرق ‪ ،‬طرق االقتداء« َو َّ‬
‫ينازع الحق ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪27‬‬


‫ت أ َ ْن ت َ ِميلُوا َم ْيلً ع َِظيما ً ) ‪( 27‬‬
‫ش َهوا ِ‬
‫ون ال ه‬ ‫علَ ْي ُك ْم َويُ ِري ُد الهذ َ‬
‫ِين يَت ه ِبعُ َ‬ ‫ّللاُ يُ ِري ُد أ َ ْن يَت ُ َ‬
‫وب َ‬ ‫َو ه‬
‫الشهوة إرادة الملذوذات ‪ ،‬فهي لذة والتذاذ بملذوذ عند المشتهي ‪ ،‬فإنه ال يلزم أن يكون ذلك‬
‫ملذوذا عند غيره ‪ ،‬وال أن يكون موافقا لمزاجه وال مالئمة طبعه ‪ ،‬وذلك أن الشهوة شهوتان ‪:‬‬
‫شهوة عرضية ‪ ،‬وهي التي يمنع من اتباعها ‪ ،‬فإنها كاذبة وإن نفعت يوما ما ‪ ،‬فال ينبغي للعاقل‬
‫أن يتبعها لئال يرجع ذلك له عادة ‪ ،‬فتؤثر فيه العوارض ‪ ،‬وشهوة ذاتية ‪ ،‬فواجب عليه اتباعها‬
‫‪ ،‬فإن فيها صالح مزاجه لمالءمتها طبعه ‪ ،‬وفي صالح مزاجه وفي صالح دينه سعادته ‪،‬‬
‫ولكن يتبعها بالميزان اإللهي الموضوع من الشارع ‪ ،‬وهو حكم الشرع المقرر فيها ‪ ،‬سواء‬
‫ّللا مشروعة ‪،‬‬ ‫كان من الرخص أو العزائم ‪ ،‬إذا كان متبعا للشرع ال يبالي ‪ ،‬فإنه طريق إلى ه‬
‫فإنه تعالى ما شرع إال ما يوصل إليه بحكم السعادة ‪ .‬والشهوة ال تتعلق إال بما للنفس في نيله‬
‫لذة خاصة ‪ ،‬ومحل الشهوة النفس الحيوانية ‪ ،‬ومحل اإلرادة النفس الناطقة ‪ ،‬والشهوة تتقدم اللذة‬
‫بالمشتهى في الوجود ‪ ،‬ولها لذة متخيلة تتعلق بتصور وجود المشتهى وشهوة الدنيا ال تقع لها‬
‫لذة إال بالمحسوس الكائن ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪28‬‬


‫ض ِعيفا ً) ‪( 28‬‬ ‫اإل ْن ُ‬
‫سان َ‬ ‫ع ْن ُك ْم َو ُخ ِل َ‬
‫ق ِْ‬ ‫ّللاُ أ َ ْن يُ َخ ِفه َ‬
‫ف َ‬ ‫يُ ِري ُد ه‬

‫ّللا تعالى اإلنسان إنسانا ألنه أنس الرتبة الكمالية ]‬


‫[ س همى ه‬
‫ّللا تعالى اإلنسان إنسانا ألنه أنس الرتبة الكمالية ‪ ،‬فوقع بما رآه األنس له ‪ ،‬فسماه إنسانا‬
‫س همى ه‬
‫‪ .‬فاأللف والنون فيه زائدتان في اللسان العربي‪.‬‬

‫ص ‪500‬‬

‫ص ‪508 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪29‬‬
‫راض ِم ْن ُك ْم َوال‬
‫جارةً ع َْن ت َ ٍ‬
‫ُون تِ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا ال تَأ ْ ُكلُوا أ َ ْموالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم ِبا ْل ِ‬
‫باط ِل ِإاله أ َ ْن تَك َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫كان ِب ُك ْم َر ِحيما ً) ‪( 29‬‬ ‫ّللا َ‬ ‫ت َ ْقتُلُوا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم ِإ هن ه َ‬

‫[ الصالة على من قتل نفسه ]‬


‫إن الذي قتل نفسه ‪ ،‬عظم جرمه لحق الجوار األقرب ‪ ،‬وحال بذلك بينها وبين ملكها ‪ ،‬وما‬
‫سوى نفسه فبعيد عن هذا القرب الخاص الذي لنفسه ‪ ،‬فمن قتل نفسه فما قتلها إال لجهله بما‬
‫وّللا يقول ‪ :‬إنا ال نصلح منك شيئا أفسدته من نفسك ‪ ،‬فالحقوق وإن‬ ‫لنفسه عليه من الحق ‪ ،‬ه‬
‫ّللا أحق ‪ ،‬ويليه حق نفسك ‪ ،‬وما خرج عن هذين الحقين فهيهن الخطب ‪ ،‬ومن قتل‬ ‫عظمت فحق ه‬
‫عز وجل في الشفاعة بالصالة على الميت ‪ ،‬علمنا أنه‬ ‫نفسه فإنه يصلهى عليه ‪ ،‬ألنه لما أذن ه‬
‫ّللا ه‬
‫عز وجل قد ارتضى ذلك ‪ ،‬وأن السؤال فيه مقبول ‪ ،‬وأخبر أن الذي يقتل نفسه في النار خالدا‬ ‫ه‬
‫مخلهدا فيها أبدا ‪ ،‬وأن الجنة عليه حرام ‪ ،‬وما ورد النهي عن الصالة على من قتل نفسه ‪،‬‬
‫فيحمل ذلك على من قتل نفسه ولم يص هل عليه ‪ ،‬فيجب على المؤمنين الصالة على من قتل‬
‫ّللا شفاعة المصلي عليه فيه ‪ ،‬وال سيما واألخبار والصحاح‬ ‫نفسه لهذا االحتمال فيقبل ه‬
‫واألصول تقضي بخروجه من النار ‪ ،‬ويخرج الخبر الوارد بتأبيد الخلود مخرج الزجر ‪،‬‬
‫والحكمة المشار إليها في هذه المسألة في قوله تعالى ‪:‬‬
‫[ بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة ] ففيه إشارة حقيقية ‪ ،‬فاإلشارة يسارعون ‪ ،‬وسابقوا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فاستعجل اللقاء فبادر إليه‬
‫ي شبرا تقربت منه ذراعا ‪ ،‬والموت سبب لقاء ه‬ ‫تقرب إل ه‬
‫ومن ه‬
‫قبل وصوله الحد ‪ ،‬وهو السبب الذي ال تعمل له في لقائه ‪ ،‬فإن كان عن شوق للقاء الحق فإنه‬
‫يلقاه برفع الحجب ابتداء ‪ ،‬فإنه قال ‪ [ :‬حرمت عليه الجنة ] والجنة ستر ‪ ،‬أي منعت عنه أن‬
‫يستر عني ‪ ،‬فإنه بادرني بنفسه ‪ ،‬ولم يقل ذلك على التفصيل ‪ ،‬فحمله على وجه الخير للمؤمن‬
‫لما يعضده من األصول أولى ‪ ،‬وأما قوله عليه السالم فيمن قتل نفسه بحديدة وبسم وبالتردي‬
‫من الجبل ‪ ،‬فلم يقل في الحديث من المؤمنين وال من غيرهم ‪ ،‬فتطرق االحتمال ‪ ،‬وإذا دخل‬
‫االحتمال رجعنا إلى األصول ‪ ،‬فرأينا أن اإليمان قوي السلطان ‪ ،‬ال يتمكن معه الخلود على‬
‫التأبيد إلى غير نهاية في النار ‪ ،‬فنعلم قطعا أن الشارع أخبر بذلك عن المشركين في تعيين ما‬
‫يعذبون به أبدا ؛ فقال ‪ [ :‬من قتل نفسه بحديدة منهم فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار‬
‫جهنم خالدا‬

‫ص ‪501‬‬

‫ص ‪509 :‬‬
‫مخلدا فيها أبدا ] أي هذا الصنف من العذاب هو حكمه في النار ‪ ،‬وكذلك من شرب سما فقتل‬
‫نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ‪ ،‬أي هذا النوع من العذاب يعذهب به هذا‬
‫ّللا أن‬
‫الكافر ‪ ،‬وقد ورد من قتل نفسه بشيء عذب به ‪ ،‬وأما المؤمن فحاشى اإليمان بتوحيد ه‬
‫يقاومه شيء ‪ ،‬فتعين أن ذلك النص في المشرك وإن لم يخص الشارع في هذا الخبر صنفا‬
‫بعينه ‪ ،‬فإن األدلة الشرعية تؤخذ من جهات متعددة ‪ ،‬ويضم بعضها إلى بعض ليقوي بعضها‬
‫بعضا ‪ ،‬وأهل الجنة إنما يرون ربهم رؤية نعيم بعد دخولهم الجنة ‪ ،‬كما ورد الخبر في الزيارة‬
‫خص هذا الذي بادره‬ ‫ه‬ ‫ّللا قد‬
‫إذا أخذ الناس أماكنهم في الجنة ‪ ،‬فيدعون إلى الرؤية ‪ ،‬فيمكن أن ه‬
‫ّللا رؤية‬
‫بنفسه فقتل نفسه أن يكون قوله حرمت عليه الجنة قبل لقائي ‪ ،‬فيتقدم للقاتل نفسه لقاء ه‬
‫ّللا أرحم به مما هو فيه من الحال‬ ‫نعيم ‪ ،‬وحينئذ يدخل الجنة ‪ ،‬فإن القاتل نفسه يرى أن ه‬
‫ّللا من العذاب الذي هو فيه لما بادر‬ ‫الموجبة له إلى هذه المبادرة ‪ ،‬فلوال ما توهم الراحة عند ه‬
‫وّللا يقول ‪ [ :‬أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا ] والقاتل نفسه إن كان مؤمنا فظنه‬ ‫إليه ‪ ،‬ه‬
‫بربه حسن ‪ ،‬فظنه بربه الحسن هو الذي جعله أن يقتل نفسه ‪ ،‬وهذا هو األليق أن يحمل عليه‬
‫ص بالتصريح على خالف هذا التأويل ‪ ،‬وإن ظهر فيه بعد ‪ ،‬فلبعد‬ ‫لفظ الخبر اإللهي ‪ ،‬إذ ال ن ه‬
‫الناظر في نظره من األصول المقررة التي تناقض هذا التأويل بالشقاء المؤبد ‪ ،‬فإذا‬
‫استحضرها ووزن ‪ ،‬عرف ما قلناه ‪ .‬وفي األخبار الصحاح [ أخرجوا من كان في قلبه أدنى‬
‫أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان ] فلم يبق إال ما ذكرناه ‪ .‬فإن قلنا وال ب هد بالعقوبة ‪،‬‬
‫فتكون الجنة محرمة عليه أن يدخلها دون عقاب ‪ ،‬مثل أهل الكبائر ‪ ،‬فيكون نصا في القاتل‬
‫نفسه ‪ ،‬وغيره من أهل الكبائر في حكم المشيئة ‪ ،‬فغايته إنفاذ الوعيد في القاتل نفسه قبل دخول‬
‫وّللا أكرم أن ينسب إليه إنفاذ الوعيد ‪ ،‬بل ينسب إليه المشيئة وترجيح‬ ‫الجنة وأنه ال يغفر له ‪ ،‬ه‬
‫الكرم‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 30‬إلى ‪31‬‬


‫سيرا ً ( ‪ ) 30‬إِ ْن‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا يَ ِ‬ ‫كان ذ ِلكَ َ‬ ‫ص ِلي ِه نارا ً َو َ‬ ‫ف نُ ْ‬ ‫ظ ْلما ً فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫عدْوانا ً َو ُ‬ ‫َو َم ْن يَ ْفعَ ْل ذ ِلكَ ُ‬
‫س ِيهئاتِ ُك ْم َونُد ِْخ ْل ُك ْم ُم ْد َخلً ك َِريما ً) ‪( 31‬‬
‫ع ْن ُك ْم َ‬
‫ع ْنهُ نُ َك ِفه ْر َ‬
‫تَجْ تَنِبُوا كَبائِ َر ما ت ُ ْن َه ْو َن َ‬

‫ص ‪502‬‬

‫ص ‪510 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 32‬إلى ‪33‬‬
‫يب ِم هما‬ ‫ساء نَ ِص ٌ‬‫سبُوا َو ِلل ِنه ِ‬ ‫يب ِم هما ا ْكت َ َ‬‫لرجا ِل نَ ِص ٌ‬ ‫ض ِل ِ ه‬ ‫ض ُك ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ّللاُ ِب ِه بَ ْع َ‬
‫ض َل ه‬ ‫َوال تَت َ َمنه ْوا ما فَ ه‬
‫ي ِم هما‬‫ع ِليما ً ( ‪َ ) 32‬و ِل ُك ٍ هل َجعَ ْلنا َموا ِل َ‬ ‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ّللا َ‬
‫كان ِب ُك ِ هل َ‬ ‫ّللا ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه ِإ هن ه َ‬ ‫سئَلُوا ه َ‬ ‫ا ْكت َ َ‬
‫س ْب َن َو ْ‬
‫كان عَلى ُك ِ هل َ‬
‫ش ْي ٍء‬ ‫ّللا َ‬ ‫عقَدَتْ أ َ ْيمانُ ُك ْم فَآتُو ُه ْم نَ ِصيبَ ُه ْم ِإ هن ه َ‬
‫ِين َ‬‫ون َوالهذ َ‬ ‫دان َو ْاأل َ ْق َربُ َ‬
‫ت َ َركَ ا ْلوا ِل ِ‬
‫ش َِهيدا ً ) ‪( 33‬‬
‫ّللا هو الحفيظ على سمعك وبصرك ولسانك ويدك ورجلك وحياتك ‪ ،‬وحاسب نفسك‬ ‫فتحفهظ فإن ه‬
‫‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪34‬‬


‫ض َوبِما أ َ ْنفَقُوا ِم ْن أ َ ْموا ِل ِه ْم‬ ‫ض ُه ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ّللاُ بَ ْع َ‬‫ض َل ه‬ ‫ساء بِما فَ ه‬ ‫علَى ال ِنه ِ‬
‫ون َ‬‫الرجا ُل قَ هوا ُم َ‬‫ِه‬
‫ظو ُه هن‬ ‫ُوز ُه هن فَ ِع ُ‬
‫ون نُش َ‬ ‫ّللاُ َواللهتِي تَخافُ َ‬ ‫ب بِما َح ِف َظ ه‬ ‫صا ِلحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ ِل ْلغَ ْي ِ‬ ‫فَال ه‬
‫ع ِليًّا‬
‫كان َ‬‫ّللا َ‬ ‫س ِبيلً ِإ هن ه َ‬ ‫ض ِربُو ُه هن فَ ِإ ْن أ َ َط ْعنَ ُك ْم فَل ت َ ْبغُوا َ‬
‫علَ ْي ِه هن َ‬ ‫ضاج ِع َوا ْ‬ ‫َوا ْه ُج ُرو ُه هن فِي ا ْل َم ِ‬
‫َك ِبيرا ً ) ‪( 34‬‬
‫ّللا الرزق على يديه قائم على من‬ ‫فالرجال قوامون على النساء فيما يحتجن إليه ‪ ،‬فالذي يجعل ه‬
‫يرزق بسببه ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪35‬‬


‫ّللاُ‬
‫ق ه‬ ‫قاق بَ ْينِ ِهما فَا ْبعَثُوا َحكَما ً ِم ْن أ َ ْه ِل ِه َو َحكَما ً ِم ْن أ َ ْه ِلها ِإ ْن يُ ِريدا ِإصْلحا ً يُ َو ِفه ِ‬
‫ش َ‬ ‫َو ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم ِ‬
‫ع ِليما ً َخ ِبيرا ً ( ‪) 35‬‬ ‫كان َ‬ ‫بَ ْينَ ُهما ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬

‫« َو ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم ِشقاقَ بَ ْي ِن ِهما »أي نزاعا ‪ ،‬وهو أن يقول كل واحد أو يعمل ما يشق على اآلخر«‬
‫فَا ْبعَثُوا َح َكما ا ِم ْن أ َ ْه ِل ِه َو َح َكما ا ِم ْن أ َ ْه ِلها »الحكم هو القاضي في األمور ‪ ،‬ومن أعجب ما في‬
‫هذا نصب الحكمين في النازلة الواحدة ‪ ،‬فقد يتفقان في الحكم وقد يختلفان‪.‬‬

‫ص ‪503‬‬

‫ص ‪511 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪36‬‬
‫ين َوا ْل ِ‬
‫جار‬ ‫ش ْيئا ً َو ِبا ْلوا ِل َد ْي ِن ِإحْ سانا ً َو ِبذِي ا ْلقُ ْربى َوا ْليَتامى َوا ْل َمسا ِك ِ‬
‫ّللا َوال تُش ِْركُوا ِب ِه َ‬
‫َوا ْعبُدُوا ه َ‬
‫ب‬ ‫س ِبي ِل َوما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُك ْم ِإ هن ه َ‬
‫ّللا ال يُ ِح ُّ‬ ‫ب ِبا ْل َج ْن ِ‬
‫ب َوا ْب ِن ال ه‬ ‫اح ِ‬‫ص ِ‬ ‫ب َوال ه‬ ‫جار ا ْل ُجنُ ِ‬
‫ذِي ا ْلقُ ْربى َوا ْل ِ‬
‫كان ُم ْختاالً فَ ُخورا ً ( ‪) 36‬‬‫َم ْن َ‬
‫ب »الجار مشتق من جار إذا مال ‪ ،‬فإن الجور ميل ‪ ،‬فما‬ ‫جار ْال ُجنُ ِ‬
‫جار ذِي ْالقُ ْربى َو ْال ِ‬ ‫« َو ْال ِ‬
‫سمي جارا لك إال لميلك إليه باإلحسان ‪ ،‬وميله إليك لدفع الضرر ‪ ،‬ومن جعله مشتقا من الجور‬
‫الذي هو الميل إلى الباطل والظلم في العرف ‪ ،‬فهو كمن يسمي اللديغ سليما في النقيض‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 37‬إلى ‪40‬‬


‫ين عَذابا ً‬ ‫ض ِل ِه َوأ َ ْعتَدْنا ِل ْلكا ِف ِر َ‬
‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ون ما آتا ُه ُم ه‬ ‫اس ِبا ْلبُ ْخ ِل َويَ ْكت ُ ُم َ‬‫ون النه َ‬ ‫ون َويَأ ْ ُم ُر َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ِين يَ ْب َخلُ َ‬
‫اَّلل َوال بِا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َو َم ْن‬ ‫اس َوال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون بِ ه ِ‬ ‫ون أ َ ْموالَ ُه ْم ِرئا َء النه ِ‬ ‫ِين يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ُم ِهينا ً ( ‪َ ) 37‬والهذ َ‬
‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوأ َ ْنفَقُوا‬ ‫طان لَهُ قَ ِرينا ً فَسا َء قَ ِرينا ً ( ‪َ ) 38‬وما ذا َ‬
‫علَ ْي ِه ْم لَ ْو آ َمنُوا بِ ه ِ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫يَك ُِن ال ه‬
‫سنَةً يُضا ِع ْفها‬ ‫ّللا ال يَ ْظ ِل ُم ِمثْقا َل ذَ هر ٍة َو ِإ ْن تَكُ َح َ‬ ‫ع ِليما ً ( ‪ِ ) 39‬إ هن ه َ‬ ‫ّللاُ ِب ِه ْم َ‬
‫كان ه‬‫ّللاُ َو َ‬ ‫ِم هما َر َزقَ ُه ُم ه‬
‫ت ِم ْن لَ ُد ْنهُ أَجْ را ً ع َِظيما ً ) ‪( 40‬‬ ‫َويُ ْؤ ِ‬
‫ّللا في كل حال ‪ ،‬لما جبل عليه من الغفلة‬ ‫العبد متنوع األحوال ‪ ،‬واإلنسان ال يحضر مع ه‬
‫ّللا ال يظلم مثقال ذرة ‪.‬‬ ‫والضيق ‪ ،‬وهو بكله هّلل ‪ ،‬فما كان منه هّلل هّلل ‪ ،‬فإن ه‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 41‬إلى ‪42‬‬


‫ِين َكفَ ُروا‬ ‫ف ِإذا ِجئْنا ِم ْن ُك ِ هل أ ُ هم ٍة ِبش َِهي ٍد َو ِجئْنا ِبكَ عَلى هؤ ِ‬
‫ُالء ش َِهيدا ً ( ‪ ) 41‬يَ ْو َمئِ ٍذ يَ َو ُّد الهذ َ‬ ‫فَ َك ْي َ‬
‫ّللا َحدِيثا ً) ‪( 42‬‬
‫ون ه َ‬ ‫س هوى ِب ِه ُم ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض َوال يَ ْكت ُ ُم َ‬ ‫سو َل لَ ْو ت ُ َ‬
‫الر ُ‬
‫ص ُوا ه‬‫ع َ‬‫َو َ‬

‫ص ‪504‬‬

‫ص ‪512 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪43‬‬
‫ون َوال ُجنُبا ً ِإاله عا ِب ِري‬ ‫سكارى َحتهى ت َ ْعلَ ُموا ما تَقُولُ َ‬ ‫صلةَ َوأ َ ْنت ُ ْم ُ‬ ‫ِين آ َمنُوا ال ت َ ْق َربُوا ال ه‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ست ُ ُم‬‫سفَ ٍر أ َ ْو جا َء أ َ َح ٌد ِم ْن ُك ْم ِم َن ا ْلغائِ ِط أ َ ْو ال َم ْ‬‫سلُوا َو ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم َم ْرضى أ َ ْو عَلى َ‬ ‫س ِبي ٍل َحتهى ت َ ْغت َ ِ‬ ‫َ‬
‫عفُ ًّوا‬ ‫ّللا َ‬
‫كان َ‬ ‫س ُحوا ِب ُو ُجو ِه ُك ْم َوأ َ ْيدِي ُك ْم ِإ هن ه َ‬ ‫ص ِعيدا ً َط ِيهبا ً فَ ْ‬
‫ام َ‬ ‫ال ِنهسا َء فَلَ ْم ت َ ِجدُوا ما ًء فَتَيَ هم ُموا َ‬
‫غفُورا ً ( ‪) 43‬‬ ‫َ‬

‫[ التيمم ]‬
‫لمس النساء ال ينقض الوضوء ‪ ،‬واالحتياط أن يتوضأ للخالف الذي في هذه المسألة الالمس‬
‫ص ِعيدا ا‬
‫والملموس ‪ ،‬وقد تصدعنا في هذه المسألة مع علماء الرسوم «فَلَ ْم ت َ ِجدُوا ما اء فَتَيَ َّم ُموا َ‬
‫ّللا طهارة مائية وترابية ‪ ،‬فإن النشء اإلنساني لم يكن إال من تراب كآدم ‪ ،‬وماء‬ ‫ط ِيهبا ا »شرع ه‬
‫َ‬
‫كبني آدم ‪ ،‬فقال خلقكم من تراب ‪ ،‬ومن ماء ‪ ،‬ومن طين وهو خلط الماء بالتراب ‪ ،‬فجعل‬
‫الطهارة بما منه خلقنا ‪ ،‬فطهارتنا منا من ماء وهو الوضوء ‪ ،‬وتراب وهو التيمم ‪ .‬فنحن نور‬
‫ّللا ‪ ،‬والتيمم القصد إلى األرض الطيبة ‪ ،‬كان ذلك األرض ما كان مما يسمى‬ ‫على نور بحمد ه‬
‫أرضا ‪ ،‬ترابا كان أو رمال أو حجرا أو زرنيخا ‪ ،‬فإن فارق األرض شيء من هذا كله وأمثاله‬
‫‪ ،‬لم يجز التيمم بما فارق األرض من ذلك إال التراب خاصة ‪ ،‬لورود النص فيه ‪ ،‬وفي األرض‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬وجعلت لي األرض مسجدا‬ ‫سواء فارق األرض أو لم يفارق ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫وطهورا ] وفي خبر آخر [ جعلت تربتها لنا طهورا ] فع هم في األول ‪ ،‬وخرج التراب بالنص‬
‫فيه في الثاني عن سائر ما يكون أرضا ‪ ،‬ويزول عنه االسم بالمفارقة ‪ ،‬فجعل تربة هذه‬
‫األرض طهورا ‪ ،‬فكان لها حكم الماء في الطهارة إذا عدم الماء ‪ ،‬أو عدم االقتدار على‬
‫استعماله لسبب مانع من ذلك ‪ ،‬فأقام لنا تراب هذه األرض واألرض طهورا ‪ ،‬فإذا فارق‬
‫األرض ما فارق منها ما عدا التراب فال يتطهر به إال التراب ‪ ،‬فإنه ما كان منها يسمى أرضا‬
‫ما دام فيها ‪ ،‬من معدن ورخام وزرنيخ وغير ذلك ‪ ،‬فما دام في األرض كان أرضا ‪ ،‬حقيقة ‪،‬‬
‫ألن األرض تعم هذا كله ‪ ،‬فإذا فارق األرض انفرد باسم خاص له ‪ ،‬وزال عنه اسم األرض‬
‫فزال حكم الطهارة منه ‪ ،‬إال التراب خاصة فسواء فارق األرض أو لم يفارقها فإنه طهور ‪،‬‬
‫ّللا النص عليه بالحكم‬ ‫ألنه منه خلق المتطهر به وهو اإلنسان ‪ ،‬فيطهر بذاته تشريفا له ‪ ،‬فأبقى ه‬
‫به في الطهارة دون غيره ممن له اسم غير اسم األرض ‪ ،‬فإذا فارق التراب األرض زال عنه‬
‫اسم األرض وبقي عليه اسم التراب ‪ ،‬كما زال عن الزرنيخ اسم األرض لما فارق األرض‬
‫وبقي‬

‫ص ‪505‬‬

‫ص ‪513 :‬‬
‫ّللا ما خلق اإلنسان من زرنيخ‬
‫عليه اسم الزرنيخ ‪ ،‬فلم تجز الطهارة به بعد المفارقة ‪ ،‬ألن ه‬
‫ط ِيهبا ا »أي اقصدوا التراب الذي ما فيه ما‬
‫ص ِعيدا ا َ‬
‫وإنما خلقه من تراب ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬فَتَيَ َّم ُموا َ‬
‫يمنع من استعماله في هذه العبادة من نجاسة ولم يقل ذلك في طهارة الماء ‪ ،‬فإنه أحال على‬
‫الماء المطلق ال المضاف ‪ ،‬فإن الماء المضاف مقيهد بما أضيف إليه عند العرب ‪ .‬فإذا قلت‬
‫للعربي أعطني ماء ‪ ،‬جاء إليك بالماء الذي هو غير مضاف ‪ ،‬ما يفهم العربي منه غير ذلك ‪،‬‬
‫وما أرسل رسول وال أنزل كتاب إال بلسان قومه ‪ ،‬فلهذا لم يقل بالقصد في الماء ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫اغسلوا ولم يقل ‪ :‬تيمموا ماء طيبا ‪ ،‬فهنا القصد للصعيد الطيب ‪ ،‬والعمل به تبع يحتاج إلى نية‬
‫أخرى عند الشروع في الفعل ‪ ،‬كما يفتقر العمل بالماء في الوضوء والغسل وجميع األعمال‬
‫المشروعة إلى اإلخالص المأمور به وهو النية ‪ .‬والتيمم عندنا عبادة مستقلة وليست بدال ‪،‬‬
‫وإنما هي طهارة مشروعة مخصوصة بشروط اعتبرها الشرع ‪ .‬وإنما قلنا مشروعة ‪ ،‬ألنها‬
‫ليست بطهارة لغوية ‪ ،‬والتيمم عندنا يجوز للمريض والمسافر إذا عدم الماء ‪ ،‬أو عدم استعمال‬
‫الماء مع وجوده لمرض قام به يخاف أن يزيد به المرض أو يموت ‪ ،‬وال إعادة عليه ‪ .‬ويجوز‬
‫للحاضر يعدم الماء ‪ ،‬أن يتيمم ‪ ،‬والذي يجد الماء ويمنعه من الخروج إليه خوف عدو يجوز له‬
‫التيمم ‪ ،‬والخائف من البرد في استعمال الماء يجوز له التيمم إذا غلب على ظنه أنه يمرض إن‬
‫استعمل الماء ‪ ،‬وطهارة التيمم تحتاج إلى نية ‪ ،‬والتيمم عبادة ‪ ،‬واإلخالص عين النية ‪ ،‬ومن لم‬
‫يجد الماء ال يشترط له الطلب ‪ .‬ويشترط دخول الوقت في هذه الطهارة ‪ ،‬وح هد األيدي هو أقل‬
‫ما يسمى به يدا في لغة العرب هو الواجب ‪ ،‬وما زاد على أقل مسمى اليد إلى غايته فذلك له‬
‫مستحب ‪ ،‬وضربة واحدة تجزي ‪ ،‬وحديث الضربة الواحدة أثبت ‪ .‬والظاهر إيصال التراب إلى‬
‫أعضاء المتيمم ‪ ،‬وجميع ما يفعل بالوضوء يستباح بالتيمم ‪ ،‬واألولى أنه ال يستباح ‪ ،‬ألن التيمم‬
‫ليس بدال من الوضوء ‪ ،‬وإنما هو طهارة أخرى عينها الشارع بشرط خاص ‪ ،‬ويستباح بها‬
‫أكثر من صالة واحدة ‪ ،‬واألولى أن ال يستباح ‪ ،‬ويكون التيمم لكل فريضة ‪ ،‬فالدليل في وجوب‬
‫ذلك أقوى من قياسه على الوضوء ‪ ،‬وإليه أذهب ؛ فإن نص القرآن في ذلك ‪ ،‬وناقض هذه‬
‫الطهارة هو كل ما ينقض الوضوء والطهر [‪ .‬االغتسال ]‬
‫‪-‬إشارة واعتبار ‪ -‬االغتسال هو تعميم طهارة النفس من كل ما أمرت بالطهارة منه وبه ‪ ،‬من‬
‫األعمال ظاهرا مما يتعلق باألعضاء ‪ ،‬وباطنا مما يتعلق بالنفس من مصارف صفاتها ‪،‬‬

‫ص ‪506‬‬

‫ص ‪514 :‬‬
‫ال من صفاتها ‪ ،‬وإنما قلنا من مصارف صفاتها ‪ ،‬فإن صفاتها الزمة لها في أصل خلقها ال‬
‫تنفك عنها ‪ ،‬حتى إن كل وصف مذموم فمتعلق الذي أمرنا بالطهارة منه ما هو عين الصفة ‪،‬‬ ‫ه‬
‫إنما هو عين المصرف ‪ ،‬كصرف الحرص إلى طلب العلم وتحصيل أسباب الخير واألعمال‬
‫الصالحة ‪ ،‬فالحرص بهذا الوجه يكون سعادة الحريص ‪ ،‬وبوجهه المذموم يكون شقاوة‬
‫الحريص ‪ ،‬فلهذا قلنا بالمصرف ال بعين الصفة ‪ ،‬وهكذا في جميع الصفات التي علق الذم بها ‪،‬‬
‫وال يعلم مصارف الصفات إال من يعلم مكارم األخالق ‪ ،‬فيتطهر بها ‪ ،‬ويعلم سفساف األخالق‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫فيتطهر منها ‪ ،‬وما خفي منها مما ال يدركه يتلقاه من الشارع ‪ ،‬وهو كل عمل يرضي ه‬
‫فيتطهر به من كل عمل ال يرضيه فيتطهر منه ‪ ،‬ومن هذه الطهارة واجب مثل العلم والجهل ‪،‬‬
‫والكفر واإليمان ‪ ،‬والشرك والتوحيد ‪ ،‬وهكذا في األعمال كلها المشروعة ‪ ،‬يطهرها بالموافقة‬
‫من المخالفة على حسب مرتبته من الوجوب أو الندب أو اإلباحة ‪ ،‬مثل التطهير بإيتاء الزكاة‬
‫مثال فهو غسل واجب ‪ ،‬وكإعطائها للفقراء من ذوي األرحام وهو مندوب إليه ‪ ،‬وكتخصيص‬
‫أهل الدين منهم دون غيرهم من ذوي األرحام وهو مستحب ‪.‬‬

‫باّلل ]‬
‫[ نواقض الوضوء في المعرفة ه‬
‫باّلل هو كل ما يقدح في األدلة العقلية من‬ ‫‪-‬إشارة واعتبار ‪ -‬نواقض الوضوء في المعرفة ه‬
‫الشبه الواردة ‪ ،‬وكل ما يقدح في األدلة الشرعية من ضعف الطريق الموصل إليها ‪ ،‬وهو عدم‬
‫باّلل وبتوحيده وبأسمائه الحسنى ‪ ،‬وما‬ ‫الثقة بالرواة وغريب المتون ‪ ،‬فكل ما يخرجك عن العلم ه‬
‫يجب هّلل أن يكون عليه ‪ ،‬وما يجوز وما يستحيل عليه عقال إال أن يرد به خبر متواتر من كتاب‬
‫ّللا وتوحيده وأسمائه ‪ «،‬أ َ ْو جا َء أ َ َح ٌد ِم ْن ُك ْم‬ ‫أو سنهة ‪ ،‬فإن كل ذلك ناقض لطهارة القلب بمعرفة ه‬
‫ِمنَ ْالغائِ ِط »فينظر في اللفظ الخارج من اإلنسان ‪ ،‬وهو الذي يؤثر في طهارة إيمانه ‪ ،‬مثل أن‬
‫يقول في يمينه ‪ :‬برئت من اإلسالم إن كان كذا وكذا ‪ ،‬أو ما كان إال كذا وكذا ‪ ،‬فإن هذا وإن‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫وبر ولم يحنث لم يرجع إلى اإلسالم سالما ‪ ،‬كذا قال صلهى ه‬ ‫صدق في يمينه ه‬
‫ّللا ليضحك بها الناس ‪ ،‬ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيهوي بها‬ ‫ومثل من يتكلم بالكلمة من سخط ه‬
‫في النار سبعين خريفا ‪ ،‬أما اإلشارة واالعتبار في قوله تعالى «أ َ ْو ال َم ْست ُ ُم ال ِنهسا َء » ‪:‬النساء‬
‫كناية عن الشهوات ‪ ،‬فإذا لمست الشهوة القلب ولمسها ‪ ،‬والتبس بها والتبست به ‪ ،‬وحالت بينه‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬فقد انتقض وضوءه ‪ ،‬وإن لم تحل بينه وبين مراقبة‬ ‫وبين ما يجب عليه من مراقبة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وال‬
‫ّللا فهو على طهارته ‪ ،‬فإن طهارة القلب الحضور مع ه‬ ‫ه‬

‫ص ‪507‬‬

‫ص ‪515 :‬‬
‫يبالي في متعلق الشهوة من حرام أو حالل ‪ ،‬إذا اعتقد التحريم في الحرام والتحليل في الحالل‬
‫‪ ،‬فال تؤثر في طهارته ‪.‬‬

‫[ الجنابة ]‬
‫‪-‬إشارة واعتبار ‪ -‬الجنابة الغربة ‪ ،‬والغربة ال تكون إال بمفارقة الوطن ‪ ،‬وموطن اإلنسان‬
‫عبوديته ‪ ،‬فإذا فارق موطنه ودخل في حدود الربوبية فاتصف بوصف من أوصاف السيادة‬
‫على أبناء موطنه وأمثاله ‪ ،‬فهي غربة العبد عن موطن العبودية ‪ ،‬وكذا تغريب صفة ربانية‬
‫عن موطنها ‪ ،‬فيتصف بها أو يصف بها ممكنا من الممكنات ‪ ،‬فيجب الطهر من هذا بال خالف‬
‫صر به ‪ ،‬فإذا جاوز العبد حدهه ‪ ،‬ودخل في حدود الربوبية ‪،‬‬ ‫‪ ،‬واالغتسال هو االعتراف بما ق ه‬
‫وأدخل ربه في الحد معه بما وصف به من صفات الممكنات ‪ ،‬فقد وجب عليه الطهر من ذلك ‪،‬‬
‫فإن تنزيه العبد أن ال يخرج عن إمكانه ‪ ،‬وال يدخل الواجب لنفسه في إمكانه ‪ ،‬فال يقول يجوز‬
‫ّللا كذا ‪ ،‬ويجوز أن ال يفعله ‪ ،‬فإن ذلك يطلب المرجح ‪ ،‬والحق له الوجوب على‬ ‫أن يفعل ه‬
‫اإلطالق ‪ ،‬والطهر من هذا العلم بالعلم الذي ال يدخله تحت الجواز ‪ ،‬والفناء يؤدي إلى عموم‬
‫الطهارة ‪ ،‬فالغسل طهر يعم من الجنابتين ‪ ،‬لغيبتك الكلية عن علم نكاح الصورتين ‪ ،‬المثلية‬
‫ّللا آدم على صورته )‬ ‫ش ْي ٌء )مثلية عقلية ‪ ( ،‬خلق ه‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬‫العقلية ‪ ،‬والمثلية الشرعية ‪ (،‬لَي َ‬
‫مثلية شرعية ‪.‬‬
‫[ دخول الجنب المسجد ]‬
‫‪-‬إشارة واعتبار ‪ -‬اعتبار دخول الجنب المسجد من قوله تعالى ‪َ «:‬وال ُجنُبا ا ِإ َّال عابِ ِري َ‬
‫سبِي ٍل »‬
‫‪:‬من أباح ذلك هو العارف الذي يرى العالم كله علوه وسفله ال تصح له اإلقامة في حال ‪ -‬فإن‬
‫باّلل يشاهدون هذا العبور ‪ ،‬وغير‬ ‫األرض كلها مسجد ‪ -‬فهو عابر أبدا مع األنفاس ‪ ،‬فالعلماء ه‬
‫باّلل يتخيلون أنهم مقيمون ‪ ،‬والوجود على خالف ذلك ‪ ،‬فإن اإلله الموجد في كل نفس ‪،‬‬ ‫العلماء ه‬
‫موجد بفعل ‪ ،‬فال يعطل نفسا واحدا يتصف فيه باإلقامة ‪ ،‬ومن قال بالمنع فقد غلب عليه رؤية‬
‫نفسه أنه ليس بمحل طاهر حيث لم يتخلق باألسماء اإللهية ‪.‬‬
‫[ اعتبار من التيمم ]‬
‫ط ِيهباا‪ ،‬إذا عدمت الماءين فاعمد‬ ‫ص ِعيدا ا َ‬‫‪-‬إشارة واعتبار ‪ -‬قوله تعالى ‪ «:‬فَلَ ْم ت َ ِجدُوا ما اء فَتَيَ َّم ُموا َ‬
‫إلى ما خلقت منه وال تعدل عنه ‪ ،‬واعلم أن طهارة العبد إنما تكون باستيفاء ما يجب أن يكون‬
‫العبد عليه من الذلة واالفتقار ‪ ،‬والوقوف عند مراسيم سيده وحدوده وامتثال أوامره ‪ ،‬ولما كان‬
‫التراب واألرض نشأة اإلنسان ‪ ،‬وهو تحقيق عبوديته وذلته ‪ ،‬ثم‬

‫ص ‪508‬‬

‫ص ‪516 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم قال فيه ‪ :‬إنه مخلوق على‬ ‫عرض له عارض الدعوى ‪ ،‬بكون الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه من قبوله للتخلق باألسماء اإللهية على ما‬
‫الصورة ‪ ،‬وذلك عندنا الستعداده الذي خلقه ه‬
‫تعطيه حقيقته ‪ ،‬فإن في مفهوم الصورة والضمير ‪ ،‬خالفا ‪ ،‬فما هو نص ‪ ،‬فاعتز لهذه النسبة‬
‫وعال وتكبهر ‪ ،‬فأمر لطهارة نفسه من هذا التكبر باألرض والترائب وهو حقيقة عبوديته ‪،‬‬
‫بنظره في أصل خلقه مم خلق ‪ ،‬فوقوف العبد مع حقيقته من حيث نشأته طهوره من كل حدث‬
‫يخرجه من هذا المقام ‪ ،‬وهذا ال يكون هإال بعدم وجدان الماء ‪ ،‬والماء العلم ‪ ،‬فإن العلم حياة‬
‫باّلل هو الذي قلهد عقله‬
‫باّلل ‪ ،‬والمقلد عندنا في العلم ه‬
‫القلوب ‪ ،‬فكأن التيمم حالة المقلد في العلم ه‬
‫باّلل من حيث الفكر ‪ ،‬فكما أنه إذا وجد الماء أو قدر على استعماله بطل‬ ‫لنظره في معرفته ه‬
‫باّلل في‬
‫التيمم ‪ ،‬كذلك إذا جاء الشرع بأمر ما من العلم اإللهي بطل تقليد العقل لنظره في العلم ه‬
‫تلك المسألة ‪ ،‬وال سيما إذا لم يوافقه في دليله ‪ ،‬كان الرجوع بدليل العقل إلى الشرع ‪ ،‬فهو ذو‬
‫شرع وعقل معا في هذه المسألة ‪ ،‬واإلشارة بالوجه إلى ذات العبد ‪ ،‬واإلشارة باأليد إلى‬
‫االقتدار الظاهر من العبد ‪ ،‬وهو مجبول على العجز ‪ ،‬فإذا نظر في هذا األصل زكت نفسه‬
‫وتطهر من الدعوى ‪ ،‬وأما اإلشارة بالسفر فإن صاحب النظر في الدليل مسافر بفكره في‬
‫منازل مقدماته وطريق ترتيبها حتى ينتج له الحكم في المسألة المطلوبة ‪ ،‬والمريض هو الذي‬
‫ال تعطي فطرته النظر في األدلة ‪ ،‬لما يعلم من سوء فطرته وقصوره عن بلوغ المقصود من‬
‫النظر ‪ ،‬بل الواجب أن يزجر عن النظر ويؤمر باإليمان تقليدا ‪ ،‬وهو التيمم في حقهما ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 44‬إلى ‪46‬‬


‫س ِبي َل ( ‪) 44‬‬ ‫ُون أ َ ْن ت َ ِضلُّوا ال ه‬ ‫ضللَةَ َويُ ِريد َ‬ ‫ون ال ه‬ ‫شت َ ُر َ‬ ‫ب يَ ْ‬‫ِين أُوتُوا نَ ِصيبا ً ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬‫أَلَ ْم ت َ َر ِإلَى الهذ َ‬
‫ون ا ْل َك ِل َم‬‫ِين هادُوا يُ َح ِ هرفُ َ‬ ‫اَّلل نَ ِصيرا ً ( ‪ِ ) 45‬م َن الهذ َ‬ ‫ّللاُ أ َ ْعلَ ُم ِبأَعْدائِ ُك ْم َوكَفى ِب ه ِ‬
‫اَّلل َو ِليًّا َوكَفى ِب ه ِ‬ ‫َو ه‬
‫س َم ٍع َورا ِعنا لَيًّا ِبأ َ ْل ِ‬
‫سنَ ِت ِه ْم َو َط ْعنا ً ِفي‬ ‫س َم ْع َ‬
‫غ ْي َر ُم ْ‬ ‫ص ْينا َوا ْ‬
‫ع َ‬ ‫س ِم ْعنا َو َ‬‫ون َ‬ ‫واض ِع ِه َويَقُولُ َ‬
‫ع َْن َم ِ‬
‫كان َخ ْيرا ً لَ ُه ْم َوأ َ ْق َو َم َول ِك ْن لَعَنَ ُه ُم ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ظ ْرنا لَ َ‬ ‫س َم ْع َوا ْن ُ‬‫س ِم ْعنا َوأ َ َط ْعنا َوا ْ‬
‫ِين َولَ ْو أَنه ُه ْم قالُوا َ‬‫ال هد ِ‬
‫ون إِاله قَ ِليلً) ‪( 46‬‬ ‫بِ ُك ْف ِر ِه ْم فَل يُ ْؤ ِمنُ َ‬

‫ص ‪509‬‬

‫ص ‪517 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪48‬‬
‫س ُو ُجوها ً فَنَ ُردهها‬ ‫ص هدِقا ً ِلما َمعَ ُك ْم ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن نَ ْط ِم َ‬‫آمنُوا ِبما نَ هز ْلنا ُم َ‬
‫تاب ِ‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر‬ ‫ّللا َم ْفعُوالً ( ‪ِ ) 47‬إ هن ه َ‬ ‫كان أ َ ْم ُر ه ِ‬
‫ت َو َ‬ ‫س ْب ِ‬ ‫ْبارها أ َ ْو نَ ْلعَنَ ُه ْم كَما لَعَنها أَص َ‬
‫ْحاب ال ه‬ ‫عَلى أَد ِ‬
‫افتَرى ِإثْما ً ع َِظيما ً ) ‪( 48‬‬ ‫اَّلل فَقَ ِد ْ‬ ‫أ َ ْن يُش َْركَ ِب ِه َويَ ْغ ِف ُر ما د َ‬
‫ُون ذ ِلكَ ِل َم ْن يَشا ُء َو َم ْن يُش ِْر ْك ِب ه ِ‬
‫ّللا من صفة خاصة ‪ ،‬يستحق من مات‬ ‫االنتقام واألخذ ما هو بأولى من المغفرة إال ما عيهن ه‬
‫ّللا أدخله في المشيئة ‪،‬‬ ‫وهي به قائمة المؤاخذة وال بد ‪ ،‬وليس إال الشرك وما عدا الشرك فإن ه‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر أ َ ْن يُ ْش َر َك بِ ِه َويَ ْغ ِف ُر ما دُونَ ذ ِل َك ِل َم ْن يَشا ُء » ‪.‬‬
‫فقال تعالى ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫فهذه اآلية ظاهرة في مؤاخذته تعالى أهل الشرك على القطع ‪ ،‬فهو ظاهر لقرينة الحال ‪ ،‬فجعل‬
‫ّللا الشرك من الكبائر التي ال تغفر ‪ ،‬ولكن ما كل مشرك ‪ ،‬بل المشركون الذين بعثت إليهم‬ ‫ه‬
‫الرسل أو لم يوفوا النظر حقه وال اجتهدوا ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم قد أخبر أن المجتهد وإن أخطأ فإنه مأجور ‪ ،‬ولم يعيهن فرعا من‬ ‫فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر‬ ‫ش ْيءٍ )وأما قوله تعالى ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬ ‫ت ُك َّل َ‬‫أصل بل ع هم ‪ ،‬وصدق قوله ‪َ ( :‬و َر ْح َمتِي َو ِسعَ ْ‬
‫ّللا ما ستر الشرك على أهل الشرك بل‬ ‫أ َ ْن يُ ْش َر َك بِ ِه »من طريق اللسان فهو الواقع ‪ ،‬فإن ه‬
‫ظهروا به ‪ ،‬فهو إخبار بما وقع في الوجود من ظهور الشرك ‪ ،‬وستر ما دون ذلك لمن يشاء‬
‫أن يستر ‪ ،‬فإن ثم أمورا لم تظهر لعين وال لعقل ‪ ،‬ولكن قرائن األحوال تد هل على القطع‬
‫بمؤاخذة المشركين ‪.‬‬
‫ثم لم يذكر سبحانه ما هو األمر عليه فيهم بعد المؤاخذة التي هي إقامة الح هد عليهم في اآلخرة‬
‫يوم الدين الذي هو الجزاء ‪ ،‬فيدخلون النار مع بعض آلهتهم ليتحققوا مشاهدة أن تلك اآللهة ال‬
‫اّلل فَقَ ِد‬‫ّللا شيئا ؛ لكونهم اتخذوها عن نظر ال عن وضع إلهي ‪َ «:‬و َم ْن يُ ْش ِر ْك بِ َّ ِ‬ ‫تغني عنهم من ه‬
‫ع ِظيما ا »فقد ظلم الشريك هذا الذي وضعه أو اتخذه إلها ‪ ،‬فلذلك قال تعالى ‪ِ «:‬إ َّن‬ ‫ا ْفتَرى ِإثْما ا َ‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر أ َ ْن يُ ْش َر َك ِب ِه »فإنها من حقوق الغير ال من حق ه‬
‫ّللا ‪.‬‬ ‫َّ َ‬
‫ّللا له ‪ ،‬فإن الشرك من مظالم‬ ‫ّللا ما كان هّلل من حق على العبد وفرط فيه غفره ه‬ ‫فإنه من كرم ه‬
‫العباد ‪ ،‬فإن الشريك يأتي يوم القيامة من كوكب ونبات وحيوان وحجر وإنسان فيقول ‪ :‬يا رب‬
‫سل هذا الذي جعلني إلها ووصفني بما ال‬

‫ص ‪510‬‬

‫ص ‪518 :‬‬
‫ّللا له بمظلمته من المشرك ‪ ،‬فيخلده في النار مع‬
‫ينبغي لي ‪ ،‬خذ لي بمظلمتي منه ‪ ،‬فيأخذ ه‬
‫شريكه إن كان حجرا أو نباتا أو حيوانا أو كوكبا ‪ ،‬إال اإلنسان الذي لم يرض بما نسب إليه‬
‫ونهى عنه وكرهه ظاهرا وباطنا ال يكون معه في النار ‪ ،‬وإن كان هذا من قوله وعن أمره ‪،‬‬
‫ومات غير موحد وال تائب كان معه في النار‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر أ َ ْن يُ ْش َر َك بِ ِه » ]‬
‫[ تحقيق ‪ « -‬إِ َّن َّ َ‬
‫‪-‬تحقيق –‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر أ َ ْن يُ ْش َر َك بِ ِه »ألنه ال يجده ‪ ،‬فلو وجد لصح ‪ ،‬وكان للمغفرة عين تتعلق بها ‪،‬‬ ‫« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا ألن الغفر الستر ‪ ،‬وال يستر إال من له وجود ‪،‬‬
‫فإن الشريك ليس ث هم ؛ ولذلك ال يغفره ه‬
‫والشريك عدم فال يستر ‪ ،‬فالخطأ من إثبات الغير وهو القول بالشريك ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 49‬إلى ‪56‬‬


‫ف‬‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫ون فَتِيلً ( ‪ ) 49‬ا ْن ُ‬ ‫ّللاُ يُ َز ِ هكي َم ْن يَشا ُء َوال يُ ْظلَ ُم َ‬ ‫س ُه ْم بَ ِل ه‬‫ُّون أ َ ْنفُ َ‬
‫ِين يُ َزك َ‬ ‫أ َلَ ْم ت َ َر إِلَى الهذ َ‬
‫ِين أُوتُوا نَ ِصيبا ً ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب‬ ‫ِب َوكَفى ِب ِه ِإثْما ً ُم ِبينا ً ) ‪ ( 50‬أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلَى الهذ َ‬ ‫ّللا ا ْل َكذ َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ون َ‬ ‫يَ ْفت َ ُر َ‬
‫س ِبيلً ( ‪) 51‬‬ ‫ِين آ َمنُوا َ‬‫ُالء أ َ ْهدى ِم َن الهذ َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا هؤ ِ‬ ‫ت َويَقُولُ َ‬
‫ون ِللهذ َ‬ ‫غو ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫ت َوال ه‬ ‫ون ِبا ْل ِج ْب ِ‬
‫يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ّللاُ فَلَ ْن ت َ ِج َد لَهُ نَ ِصيرا ً ) ‪ ( 52‬أ َ ْم لَ ُه ْم نَ ِص ٌ‬
‫يب ِم َن ا ْل ُم ْل ِك فَ ِإذا ً‬ ‫ّللاُ َو َم ْن يَ ْلعَ ِن ه‬ ‫ِين لَعَنَ ُه ُم ه‬‫أُولئِكَ الهذ َ‬
‫اس نَ ِقيرا ً ) ‪( 53‬‬ ‫ون النه َ‬ ‫ال يُ ْؤت ُ َ‬
‫تاب َوا ْل ِح ْك َمةَ َوآت َ ْينا ُه ْم‬
‫ض ِل ِه فَقَ ْد آت َ ْينا آ َل إِ ْبرا ِهي َم ا ْل ِك َ‬
‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬
‫اس عَلى ما آتا ُه ُم ه‬ ‫ُون النه َ‬ ‫سد َ‬ ‫أ َ ْم يَحْ ُ‬
‫س ِعيرا ً ( ‪ ) 55‬إِ هن‬ ‫ع ْنهُ َوكَفى بِ َج َهنه َم َ‬ ‫ُم ْلكا ً ع َِظيما ً ( ‪ ) 54‬فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن آ َم َن بِ ِه َو ِم ْن ُه ْم َم ْن َ‬
‫ص هد َ‬
‫غ ْي َرها ِليَذُوقُوا‬ ‫يه ْم نارا ً ُكلهما نَ ِض َجتْ ُجلُو ُد ُه ْم بَ هد ْلنا ُه ْم ُجلُودا ً َ‬ ‫ف نُ ْ‬
‫ص ِل ِ‬ ‫س ْو َ‬‫ِين َكفَ ُروا ِبآياتِنا َ‬ ‫الهذ َ‬
‫كان ع َِزيزا ً َح ِكيما ً) ‪( 56‬‬ ‫ّللا َ‬ ‫ذاب ِإ هن ه َ‬ ‫ا ْلعَ َ‬

‫ص ‪511‬‬

‫ص ‪519 :‬‬
‫العمل لغير عبادة ال يقبل على كل حال من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ‪ ،‬لكن‬
‫من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو جارحة مخصوصة ‪ ،‬فإنها تجزى به تلك الجارحة ‪،‬‬
‫فيقبل العمل لمن ظهر منه ‪ ،‬وال يعود منه على النفس اآلمرة به للجوارح شيء ‪ ،‬إذا كان العمل‬
‫خيرا بالصورة كصالة المرائي والمنافق وجميع ما ظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي‬
‫لم تقصد به النفس عبادة ‪.‬‬
‫الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ‪ ،‬والجوارح ال تجزى بها ألنه ليس‬ ‫ه‬ ‫وأما أعمال‬
‫في قوتها االمتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ‪ ،‬فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها‬
‫‪ ،‬فإن جارت النفس فعليها وللجوارح رفع الحرج ‪ ،‬بل لهم الخير األت هم ‪ ،‬وإن عدلت النفوس‬
‫فلها وللجوارح ‪ ،‬فإن النفوس والة الحق على هذه الجوارح ‪.‬‬
‫والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ‪ ،‬فهي مطيعة بكل وجه ‪ ،‬والنفوس‬
‫ليست كذلك ‪ ،‬فهي التي تذوق العذاب ‪ ،‬ومن النفوس من لم يقم بما قصد له فكان عاصيا مخالفا‬
‫ّللا حين أمره باألعمال والعبادة ‪.‬‬‫أمر ه‬
‫فالطائع يقع منه العبادة في حالة االضطرار واالختيار ‪ ،‬وإن لم يكن مطيعا من حيث األمر‬
‫بالعمل ‪.‬‬
‫فإن كان مطيعا طائعا ‪ ،‬فقد فاز بوقوع ما قصد له ‪ ،‬وأما العاصي فال تقع منه العبادة إال في‬
‫حالة االضطرار ال في حال االختيار ‪ ،‬ويقع منه صورة العمل ال العمل المشروع له ‪ ،‬فهو‬
‫ّللا ‪ ،‬فلم يقم بما قصد له ‪ ،‬واعلم أن جسد اإلنسان من حيث طبيعته ال من حيث‬ ‫مخالف أمر ه‬
‫لطيفته بما هي مدبرة لهذا الجسم ومتولدة عنه طائع هّلل مشفق ‪ ،‬وما من جارحة منه إذا أرسلها‬
‫العبد جبرا في مخالفة أمر إلهي إال وهي تناديه ‪ :‬ال تفعل ‪ ،‬ال ترسلني فيما حرم عليك إرسالي‬
‫ّللا من فعله بها ‪ ،‬وكل قوة وجارحة فيه بهذه‬ ‫‪ ،‬إني شاهدة عليك ‪ ،‬ال تتبع شهوتك ‪ ،‬وتبرأ إلى ه‬
‫ّللا تعالى دونه من‬
‫المثابة ‪ ،‬وهم مجبورون تحت قهر النفس المدبرة لهم وتسخيرها ‪ ،‬فينجيهم ه‬
‫ّللا يوم القيامة ‪ ،‬وجعله في النار ‪.‬‬
‫عذاب يوم أليم ‪ ،‬إذا آخذه ه‬
‫ّللا فيها إماتة كرامة للجوارح ‪ ،‬حيث‬‫فأما المؤمنون الذين يخرجون إلى الجنة بعد هذا فيميتهم ه‬
‫تحس باأللم ‪ ،‬وتعذب النفس وحدها في تلك الموتة ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫كانت مجبورة فيما قادها إلى فعله ‪ ،‬فال‬
‫كما يعذب النائم فيما يراه في نومه ‪ ،‬وجسده في سريره وفرشه على أحسن الحاالت ‪.‬‬
‫وأما أهل النار الذين قيل فيهم ‪:‬‬
‫ال يموتون فيها ‪ ،‬وال يحيون ‪ ،‬فإن جوارحهم أيضا بهذه المثابة ؛ أال تراها تشهد عليهم يوم‬
‫القيامة ؟ فأنفسهم ال تموت في النار لتذوق العذاب ‪ ،‬وأجسامهم ال تحيا في النار حتى ال تذوق‬
‫ّللا من‬
‫العذاب ‪ ،‬فعذابهم نفسي في صورة حسية من تبديل الجلود ‪ ،‬وما وصف ه‬

‫ص ‪512‬‬

‫ص ‪520 :‬‬
‫عذابهم ‪ ،‬كل ذلك تقاسيه نفوسهم ‪ ،‬فإنه قد زالت الحياة من جوارحهم ‪ ،‬فهم ينضجون كما‬
‫ينضج اللحم في القدر ؛ أتراه يحس بذلك ؟‬
‫ّللا في ذلك نعيما ‪ ،‬وإال ما تحمله النفوس كشخص يرى‬ ‫بل له نعيم به إذا كان ث هم حياة يجعل ه‬
‫بعينه نهب ماله وخراب ملكه وإهانته ؛ فالملك مستريح بيد من صار إليه ‪ ،‬واألمير يعذب‬
‫بخرابه وإن كان بدنه سالما من العلل واألمراض الحسية ‪.‬‬
‫ولكن هو أشد الناس عذابا ‪ ،‬حتى إنه يتمنى الموت وال يرى ما رآه ‪ ،‬فنضج الجلود سبب في‬
‫عذاب النفس المكلفة ‪ ،‬والجلد متنعم في ذلك العذاب المحسوس ‪ ،‬لما كانت الجلود من الشهود‬
‫ّللا ‪ ،‬والتبديل لذوق العذاب كما تبدلت األحوال عليهم في الدنيا بأنواع المخالفات ‪،‬‬ ‫العدول عند ه‬
‫يحس باأللم كما كان هنا دائما في تجديد ‪ .‬فإذا انتهى زمان‬ ‫ه‬ ‫فلكل نوع عذاب ولهم جلد خاص‬
‫المخالفة المعينة ‪ ،‬انتهى نضج الجلد ‪.‬‬
‫فإن شرع عند انتهاء المخالفة في مخالفة أخرى ‪ ،‬أعقب النضج تبديال آخر ليذوق العذاب كما‬
‫ذاق اللذة بالمخالفة ‪.‬‬
‫وإن تصرف بين المخالفتين بمكارم خلق ‪ ،‬استراح بين النضج والتبديل بقدر ذلك ‪ ،‬فهم على‬
‫طبقات في العذاب في جهنم ‪ .‬ومن أوصل المخالفات ومذام األخالق بعضها ببعض فهم الذين‬
‫يفتر عنهم العذاب ‪ ،‬فإن العذاب المستصحب أهون من العذاب المجدد ‪.‬‬ ‫ال ه‬
‫فيذوقون العذاب مستصحبا إلى أن تنضج الجلود ‪ ،‬وحينئذ يتجدد عليهم بالتبديل عذاب جديد ‪،‬‬
‫ّللا باستصحاب العذاب إلى حين تبديل الجلود من حيث ال يشعرون ‪ ،‬فإن العذاب لو‬ ‫فرحمهم ه‬
‫كان مجددا باستمرار لكان أشد في عذابهم ‪ ،‬فلما انتهى بهم العمر إلى األجل المسمى انتهت‬
‫المخالفة فتنتهي العقوبة فيهم إلى ذلك الحد ‪ ،‬وتكتنفهم الرحمة التي وسعت كل شيء ‪ ،‬وال‬
‫ع ِزيزا ا َح ِكيما ا » ‪.‬‬ ‫تشعر بذلك جهنم وال وزعتها« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا كانَ َ‬

‫سورة النساء ( ‪ : (4‬آية ‪57‬‬


‫ِين فِيها أَبَدا ً‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫هار خا ِلد َ‬ ‫سنُد ِْخلُ ُه ْم َجنها ٍ‬
‫ت َ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫لَ ُه ْم فِيها أ َ ْزوا ٌ‬
‫ج ُم َط هه َرةٌ َونُد ِْخلُ ُه ْم ِظلًّ َظ ِليلً ) ‪( 57‬‬
‫الظل الراحة ‪ -‬ال سيما في ظل األشجار ‪ -‬والكنف ‪ ،‬فإنه من قعد في ظلك فهو في كنفك‪.‬‬

‫ص ‪513‬‬

‫ص ‪521 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪58‬‬
‫اس أ َ ْن تَحْ ُك ُموا ِبا ْلعَ ْد ِل ِإ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫ّللا يَأ ْ ُم ُر ُك ْم أ َ ْن ت ُ َؤدُّوا ْاألَمانا ِ‬
‫ت ِإلى أ َ ْه ِلها َو ِإذا َحك َْمت ُ ْم بَ ْي َن النه ِ‬ ‫ِإ هن ه َ‬
‫س ِميعا ً بَ ِصيرا ً ) ‪( 58‬‬ ‫كان َ‬ ‫ّللا َ‬
‫ظ ُك ْم ِب ِه ِإ هن ه َ‬ ‫نِ ِع هما يَ ِع ُ‬

‫[أمانه بنى شيبة ]‬


‫ت إِلى أ َ ْه ِلها »أي إيصال الحق إلى أهله ‪ .‬حين مسك رسول‬ ‫ّللا يَأ ْ ُم ُر ُك ْم أ َ ْن ت ُ َؤدُّوا ْاألَمانا ِ‬
‫« إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا يَأ ْ ُم ُر ُك ْم‬
‫ّللا تعالى« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا عليه وسلم مفتاح البيت الذي أخذه من بني شيبة ‪ ،‬أنزل ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫ت ِإلى أ َ ْه ِلها »فتخيل الناس أن األمانة سدانة البيت ‪ ،‬ولم تكن األمانة إال مفتاح‬ ‫أ َ ْن ت ُ َؤدُّوا ْاألَمانا ِ‬
‫ّللا عليه وسلم عليهم والية‬ ‫البيت الذي هو ملك لبني شيبة ‪ ،‬فر هد إليهم مفتاحهم ‪ ،‬وأبقى صلهى ه‬
‫السدانة ‪ ،‬ولو شاء جعل في تلك المرتبة غيرهم ‪ .‬ولإلمام أن يفعل ذلك إذا رأى في فعله‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫المصلحة ‪ .‬لكن الخلفاء لم يريدوا أن يؤخروا عن هذه المرتبة من قرره رسول ه‬
‫عليه وسلم فيها ‪ ،‬فهم مثل سائر والة المناصب ؛ إن أقاموا فيه بالحق فلهم ‪ ،‬وإن جاروا فعليهم‬
‫ّللا الحجر وهو من البيت ورفع التحجير فيه ‪ ،‬ال حكم لبني شيبة‬ ‫‪ ،‬ولإلمام النظر ‪ ،‬وقد أبقى ه‬
‫وال لغيرهم فيه ‪ ،‬فمن دخله دخل البيت ‪ ،‬ومن صلى فيه صلى في البيت ‪ ،‬كذا قال النبي صلهى‬
‫ّللا قد‬ ‫ّللا عنها ‪ ،‬فال يحتاج أحد لمنة بني شيبة ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ّللا عليه وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي ه‬ ‫ه‬
‫ّللا أوسع أن يكون عليه سدنة من خلقه ‪ ،‬وال‬ ‫كفاه بما أخرج له من البيت في الحجر ‪ ،‬فجناب ه‬
‫سيما من نفوس جبلت على الشح وحب الرئاسة والتقدم ‪.‬‬
‫يقول علي بن الجهم ‪.‬‬
‫ّللا مبذول الفناء‬
‫وأبواب الملوك محجبات ‪ ....‬وباب ه‬

‫ّللا أن نؤديها إليهم ليس المعتبر من أعطاها وال بد ‪ ،‬وإنما‬ ‫واعلم أن أهل األمانات الذين أمرنا ه‬
‫أهلها من تؤدى إليه ‪ ،‬فإن كان الذي أعطاها بنية أن تؤدى إليه في وقت آخر فهو أهلها من‬
‫حيث ما تؤدى إليه ال من حيث أنه أعطاها ‪ ،‬وإن أعطاها هذا األمين المؤتمن إلى من أعطاه‬
‫إياها ليحملها إلى غيره ‪ ،‬فذلك الغير هو أهلها ال من أعطى ‪ ،‬فقد أعلمك باألهلية فيها ‪ ،‬فإن‬
‫الحق إنما هو لمن يستحقه ‪ ،‬فاعلم ذلك واعمل عليه ‪ ،‬فإن حكم األمانة إنما هي لمن توصل إليه‬
‫اس أ َ ْن ت َ ْح ُك ُموا ِب ْالعَ ْد ِل »العدل هو ميل إلى أحد‬
‫ال لمن يح هملك إياها« َو ِإذا َح َك ْمت ُ ْم بَيْنَ النَّ ِ‬
‫الجانبين الذي يطلبه الحكم الصحيح التابع للمحكوم عليه وله ‪ ،‬أو لإلقرار أو الشهود ‪ ،‬غير‬
‫ذلك ال يكون عدال في الحكم ‪ -‬وجه آخر ‪ ،‬الحق في االعتدال ‪ ،‬فمن جار أو عدل فقد مال ‪،‬‬
‫فإن مال لك فقد أفضل وأتى في ذلك بالنعت األنفس ‪ ،‬وإن مال عليك فقد‬

‫ص ‪514‬‬

‫ص ‪522 :‬‬
‫أبخس ‪ ،‬العدل في األحكام ‪ ،‬ال يكون محمودا إال من الحكام ‪ ،‬والعدل هنا من االعتدال ‪ ،‬ال من‬
‫الميل ‪ ،‬فإن ذلك إفضال ‪ ،‬ورد في الخبر عن سيد البشر فيمن انقطع أحد شراك نعليه ‪ ،‬أن‬
‫صه به‬
‫خص أحد أوالده دون الباقين بما خ ه‬
‫ه‬ ‫ينزع األخرى ليقيم التساوي بين قدميه ‪ ،‬وقال فيمن‬
‫من المال ‪ ،‬ال أشهد على جور لعدم المساواة واالعتدال ‪ ،‬فسماه جورا ‪ ،‬وإن كان خيرا ‪ ،‬ثم‬
‫قال ‪ :‬ألست تحبه أن يكونوا لك في البر على السواء ؟ فما لك تعدل عن محجة االهتداء ‪،‬‬
‫فاعدل بين أوالدك ‪ ،‬بطرفك وتالدك ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪59‬‬


‫ش ْي ٍء‬ ‫سو َل َوأُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم فَ ِإ ْن ت َ َ‬
‫ناز ْعت ُ ْم فِي َ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُوا ه‬
‫الر ُ‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ ِطيعُوا ه َ‬
‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫س ُن تَأ ْ ِويلً ( ‪) 59‬‬ ‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر ذ ِلكَ َخ ْي ٌر َوأَحْ َ‬ ‫سو ِل ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت ُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫الر ُ‬ ‫فَ ُردُّو ُه ِإلَى ه ِ‬
‫ّللا َو ه‬

‫ّللا عليه وسلم مما‬ ‫ّللا »أي فيما أمركم به على لسان رسوله صلهى ه‬ ‫« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا أ َ ِطيعُوا َّ َ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ثم قال‬ ‫ّللا يأمركم ‪ ،‬وهو كل أمر جاء في كتاب ه‬ ‫إن ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ه‬ ‫قال فيه صلهى ه‬
‫ّللا من طاعة رسوله صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫وفرق ‪ ،‬ففصل أمر طاعة ه‬ ‫سو َل »فميهز وعيهن ه‬ ‫‪َ «:‬وأ َ ِطيعُوا َّ‬
‫الر ُ‬
‫ّللا تعالى لم تكن ث هم فائدة زائدة ‪ ،‬فال بد أن‬ ‫عليه وسلم ‪ .‬فلو كان يعني بذلك ما بلهغ إلينا من أمر ه‬
‫يوليه رتبة األمر والنهي فيأمر وينهى‬
‫ّللا بأمره ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم عن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫‪ .‬فنحن مأمورون بطاعة رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫ّللا ) ‪،‬وطاعتنا له فيما أمر به صلهى ه‬ ‫سو َل فَقَ ْد أَطا َ‬
‫ع َّ َ‬ ‫وقال تعالى ‪َ ( :‬م ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫الر ُ‬
‫سو ُل‬ ‫عز وجل( َوما آتا ُك ُم َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ّللا ه‬‫ّللا ‪ ،‬فيكون قرآنا ‪ .‬قال ه‬‫ونهى عنه مما لم يقل هو من عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فأتى باأللف والالم في‬ ‫ع ْنهُ فَا ْنت َ ُهوا )فأضاف النهي إليه صلهى ه‬ ‫فَ ُخذُوهُ َوما نَها ُك ْم َ‬
‫الرسول يريد بهما التعريف والعهد ‪ ،‬أي الرسول الذي استخلفناه عنا ‪ ،‬فجعلنا له أن يأمر‬
‫وينهى زائدا على تبليغ أمرنا ونهينا إلى عبادنا ‪ ،‬فإن الخليفة ال بد أن يظهر فيما استخلف عليه‬
‫بصورة مستخلفه وإال فليس بخليفة له فيهم ‪ ،‬فأعطاه األمر والنهي وسماه بالخليفة ‪ ،‬وجعل‬
‫ّللا سبحانه عباده‬ ‫البيعة له بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر ‪ ،‬وأمر ه‬
‫ّللا عليه وسلم بين‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫بالطاعة هّلل ولرسوله والطاعة ألولي األمر منهم ‪ ،‬فجمع رسول ه‬
‫ّللا بطاعته ‪،‬‬ ‫الرسالة والخالفة ‪ .‬فما ك هل رسول خليفة ؛ فمن أمر ونهى وعاقب وعفا ‪ ،‬وأمر ه‬
‫وجمعت له هذه الصفات ‪ ،‬كان خليفة ‪ .‬ومن بلهغ أمر ه‬
‫ّللا ونهيه‬

‫ص ‪515‬‬

‫ص ‪523 :‬‬
‫ّللا تعالى أن يأمر وينهى ‪ ،‬فهو رسول مبلهغ رساالت ربه ‪.‬‬ ‫ولم يكن له من نفسه إذن من ه‬
‫وبهذا بان لك الفرقان بين الخليفة والرسول ‪ .‬ولهذا جاء باأللف والالم في قوله تعالى( َم ْن يُ ِط ِع‬
‫ّللا )ثم قال تعالى «‪َ :‬وأُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم »وهم الخلفاء ومن استخلفه اإلمام‬‫ع َّ َ‬‫سو َل فَقَ ْد أَطا َ‬
‫الر ُ‬
‫َّ‬
‫ّللا جعل خليفة عنه في أرضه ‪ ،‬وجعل له الحكم في خلقه ‪ ،‬وشرع له ما‬ ‫من النواب ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا‬
‫يحكم به ‪ ،‬وأعطاه األحدية ‪ ،‬فشرع أنه من نازعه في رتبته قتل المنازع ‪ ،‬فقال رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إذا بويع لخليفتين ‪ ،‬فاقتلوا اآلخر منهما ] وجعل بيده التصرف في بيت‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فبأيديهم‬ ‫ّللا للخليفة أن يستخلف كما استخلفه ه‬ ‫المال ‪ ،‬وصرف له النظر عموما ‪ ،‬وجعل ه‬
‫العطاء والمنع والعقوبة والعفو ‪ ،‬كل ذلك على الميزان المشروع ‪ ،‬فلهم التولية والعزل ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬واستخلفهم‬ ‫وأمرنا الحق بالطاعة له سواء جار علينا أو عدل فينا ‪ .‬واألئمة الذين استنابهم ه‬
‫على قسمين ‪ :‬قسم يعدلون بصورة حق وال يتعدون ما شرع لهم ‪ ،‬والقسم اآلخر قائلون بما‬
‫شرع لهم غير أنهم لم يرجعوا ما دعوا إليه في المصارف التي دعاهم الحق إليها ‪ ،‬وجاروا‬
‫ّللا لعلهم يرجعون ‪ .‬وقد يقيم‬ ‫عن الحق في ذلك ‪ ،‬وعلموا أنهم جائرون قاسطون ‪ ،‬فيمهلهم ه‬
‫الحق منازعا في مقابلته يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم ‪ ،‬فإن ظهر مثل هذا فقد أوجب‬
‫الحق على عباده القتال معه والقيام في حقه ونصرته واألخذ على يد الجائر ‪ ،‬وال يزال األمر‬
‫ّللا وتنفذ كلمة الحق ‪ - .‬الوجه الثاني ‪َ «-‬وأُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم »‬
‫على ذلك حتى يأتي أمر ه‬

‫[ ليس الولى االمر ان يشرعوا ]‬


‫ّللا علينا وجعل زمامنا بأيديهم ‪.‬‬‫ّللا به ونهى عنه ‪ ،‬وهم الذين قدمهم ه‬ ‫وهم العلماء منها بما أمر ه‬
‫ّللا عليه وسلم يقدم في السرايا وغيرها إال من هو أعلمهم ‪ ،‬وما كان‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ولم يكن رسول ه‬
‫أعلمهم هإال من كان أكثرهم قرآنا ‪ ،‬فكان يقدمه على الجيش ويجعله أميرا ؛ فقال تعالى ‪«:‬‬
‫َوأُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم »أي إذا ولهي عليكم خليفة عن رسولي أو وليتموه من عندكم كما شرع لكم ‪،‬‬
‫فإن في طاعتكم إياه طاعة‬‫فاسمعوا له ‪ ،‬وأطيعوا ولو كان عبدا حبشيا مجدع األطراف ‪ ،‬ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ .‬ولهذا لم يستأنف في« أُو ِلي ْاأل َ ْم ِر »أطيعوا ‪ ،‬واكتفى بقوله«‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫رسول ه‬
‫سو َل »ففصل لكونه‬ ‫ّللا »عن قوله« أ َ ِطيعُوا َّ‬
‫الر ُ‬ ‫سو َل »ولم يكتف بقوله« أ َ ِطيعُوا َّ َ‬ ‫أ َ ِطيعُوا َّ‬
‫الر ُ‬
‫سو َل »فهذا دليل على أنه قد شرع له‬ ‫تعالى ليس كمثله شيء ‪ ،‬واستأنف بقوله« َوأ َ ِطيعُوا َّ‬
‫الر ُ‬
‫يشرعوا شريعة ‪ ،‬إنما لهم األمر‬
‫ّللا عليه وسلم أن يأمر وينهى ‪ ،‬وليس ألولي األمر أن ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا علينا طاعتهم‬
‫والنهي فيما هو مباح لهم ولنا ‪ ،‬فإذا أمرونا بمباح أو نهونا عن مباح ‪ ،‬أوجب ه‬
‫فيما أمروا به ‪ ،‬وما لهم أمر‬

‫ص ‪516‬‬

‫ص ‪524 :‬‬
‫ّللا فيما أوجبه علينا من أمر‬ ‫فينا إال بما أبيح لنا ؛ فإن أطعناهم في ذلك أجرنا أجر من أطاع ه‬
‫ونهي ‪ ،‬فإنه ما بقي لألئمة إال المباح وال أجر فيه وال وزر ‪ .‬فإذا أمرك اإلمام المقدهم عليك‬
‫الذي بايعته على السمع والطاعة بأمر من المباحات ‪ ،‬وجب عليك طاعته في ذلك ‪ ،‬وحرمت‬
‫مخالفته ‪ ،‬وصار حكم ذلك الذي كان مباحا واجبا ؛ فنزل اإلمام منزلة الشارع بأمر الشارع ؛‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن في‬
‫ومن أنزله الحق منزلته في الحكم تعيهن اتباعه ‪ .‬وعصيان أولي األمر من معصية ه‬
‫ّللا عصيانهم إال في الرسول خاصة ‪ ،‬فإن في‬ ‫ّللا ‪ ،‬وليس في عصيان ه‬ ‫عصيانهم عصيان أمر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ متعلق المعصية األمر والنهي ‪ ،‬وال يعرف ذلك إال بتبليغ‬ ‫ّللا عصيان رسول ه‬‫عصيان ه‬
‫ّللا المشروع ؛ من‬ ‫الرسول وعلى لسانه ‪ .‬فطاعة السلطان واجبة ‪ ،‬فإن السلطان بمنزلة أمر ه‬
‫سو ِل‬ ‫ّللا »حكما« َو ِإلَى َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ش ْيءٍ فَ ُردُّوهُ ِإلَى َّ ِ‬
‫أطاعه نجا ‪ ،‬ومن عصاه هلك «فَإِ ْن ت َنازَ ْعت ُ ْم فِي َ‬
‫»عينا ‪ ،‬فننظر ما اختلفوا فيه وتنازعوا ‪ ،‬فإن كان هّلل أو لرسوله حكم فيه يعضد قول أحد‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬إن كنا‬ ‫المخالفين جعلنا الحق بيده ‪ ،‬فإنا أمرنا إن تنازعنا في شيء ‪ ،‬أن نرده إلى ه‬
‫ّللا على بصيرة ‪ ،‬وعلى بينة من ربنا ‪ ،‬فنحكم في‬ ‫مؤمنين ‪ ،‬فإن كنا عالمين ممن يدعو إلى ه‬
‫ّللا تعالى من غير طريق اإليمان ‪ ،‬وليس لنا العدول عنه البتة ‪-‬‬ ‫المسألة بالعلم ‪ ،‬وهو رد إلى ه‬
‫إشارة ‪ -‬من اتبع الخليفة أمن من كل خيفة ‪ ،‬وصارت األسرار به مطيفة ‪ ،‬وحصل بالرتبة‬
‫المنيفة –‬

‫[ االتباع الذي يورث العصمة ]‬


‫يريد االتباع الذي يورث العصمة ‪ -‬تفسير من باب اإلشارة ‪ « [-‬أُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم » ]« َوأُو ِلي‬
‫ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم »من كان الحق سمعه وبصره ويده ولسانه هم أصحاب األمر على الحقيقة ‪ ،‬فهم‬
‫باّلل يأمرون كما به يسمعون كما به يبصرون ‪ ،‬فإذا قالوا‬ ‫الذين ال يقف ألمرهم شيء ‪ ،‬ألنهم ه‬
‫ّللا‬
‫لشيء ‪ :‬كن فإنه يكون ‪ ،‬ألنهم به يتكلمون ‪ -‬تحقيق ‪ -‬نحن اليوم أبعد في المعصية لرسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم من أصحابه إلى من دونهم إلينا ‪ .‬فنحن ما عصينا إال أولي أمرنا في وقتنا‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا به ونهى عنه ‪ .‬فنحن أقل مؤاخذة وأعظم أجرا ‪ ،‬ألن للواحد منا‬ ‫‪ ،‬وهم العلماء منا بما أمر ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬للواحد منهم أجر‬ ‫أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة ‪ .‬يقول صلهى ه‬
‫ّللا تعالى «‪ :‬أ َ ِطيعُوا َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫خمسين يعملون مثل عملكم ] فاجعل بالك لكونه لم يقل منكم ‪ ،‬قال ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وذكر الرسول ‪ ،‬وذكرنا ‪ ،‬أعني أولي‬ ‫سو َل َوأُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم »فذكر ه‬ ‫َوأ َ ِطيعُوا َّ‬
‫الر ُ‬
‫ّللا علينا وجعل زمامنا بأيديهم‪.‬‬ ‫األمر منا ‪ ،‬وهم الذين قدمهم ه‬

‫ص ‪517‬‬

‫ص ‪525 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 60‬إلى ‪64‬‬
‫ُون أ َ ْن يَتَحا َك ُموا‬ ‫ون أَنه ُه ْم آ َمنُوا ِبما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْيكَ َوما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ِلكَ يُ ِريد َ‬ ‫ع ُم َ‬ ‫أ َلَ ْم ت َ َر ِإلَى الهذ َ‬
‫ِين يَ ْز ُ‬
‫ضلالً بَ ِعيدا ً ( ‪َ ) 60‬و ِإذا‬ ‫طان أ َ ْن يُ ِضله ُه ْم َ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫ت َوقَ ْد أ ُ ِم ُروا أ َ ْن يَ ْكفُ ُروا ِب ِه َويُ ِري ُد ال ه‬ ‫طا ُ‬
‫غو ِ‬ ‫ِإلَى ال ه‬
‫صدُودا ً ( ‪) 61‬‬ ‫ع ْنكَ ُ‬ ‫ُّون َ‬‫صد َ‬ ‫ين يَ ُ‬ ‫سو ِل َرأ َ ْيتَ ا ْل ُمنا ِف ِق َ‬ ‫ّللاُ َو ِإلَى ه‬
‫الر ُ‬ ‫ِقي َل لَ ُه ْم تَعالَ ْوا ِإلى ما أ َ ْن َز َل ه‬
‫اَّلل إِ ْن أ َ َردْنا إِاله إِحْ سانا ً َوت َ ْوفِيقا ً‬‫ون بِ ه ِ‬ ‫ِيه ْم ث ُ هم جاؤُكَ يَحْ ِلفُ َ‬ ‫ف إِذا أَصابَتْ ُه ْم ُم ِصيبَةٌ بِما قَ هد َمتْ أ َ ْيد ِ‬ ‫فَ َك ْي َ‬
‫س ِه ْم قَ ْوالً‬‫ع ْن ُه ْم َو ِع ْظ ُه ْم َوقُ ْل لَ ُه ْم فِي أ َ ْنفُ ِ‬‫ض َ‬ ‫ّللاُ ما فِي قُلُوبِ ِه ْم فَأَع ِْر ْ‬ ‫ِين يَ ْعلَ ُم ه‬ ‫( ‪ ) 62‬أُولئِكَ الهذ َ‬
‫س ُه ْم جاؤُكَ‬ ‫ّللا َولَ ْو أَنه ُه ْم إِ ْذ َظلَ ُموا أ َ ْنفُ َ‬
‫ع بِ ِإ ْذ ِن ه ِ‬ ‫سو ٍل إِاله ِليُطا َ‬‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬ ‫بَ ِليغا ً ( ‪َ ) 63‬وما أ َ ْر َ‬
‫ّللا ت َ هوابا ً َر ِحيما ً ) ‪( 64‬‬ ‫سو ُل لَ َو َجدُوا ه َ‬ ‫الر ُ‬ ‫ست َ ْغفَ َر لَ ُه ُم ه‬‫ّللا َوا ْ‬ ‫فَا ْ‬
‫ست َ ْغفَ ُروا ه َ‬

‫االستغفار عند زيارة رسول هللا‬


‫الظالم نفسه هو الذي يرجع إلى ربه ‪ ،‬فإذا جاء هذا الظالم نفسه إلى الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫ّللا ولم يجد صورة الرسول تستغفر له ‪ ،‬إ هما في النوم‬ ‫وسلم في قبره ولو بعد انتقاله ‪ ،‬واستغفر ه‬
‫ّللا في ذلك‬ ‫أو في اليقظة ‪ ،‬كيف كان ‪ ،‬فيعلم عند ذلك أنهه ما استغفر ه‬
‫ّللا ؛ فإن استغفاره ه‬
‫ّللا عند ذلك توابا رحيما ‪.‬‬ ‫الموطن يذ هكر النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم باالستغفار هّلل في حقه فيجد ه‬
‫ومن قصد الرسول عليه الصالة والسالم في زيارته إياه عند قبره ‪ ،‬فعليه أن يتلو عليه صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫ّللا عليه وسلم هذه اآلية الشريفة ‪ .‬وقد ظلمت نفسي وجئت إلى قبره صلهى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم هذه اآلية في زيارتي إياه عند قبره ‪ ،‬ولم يكن قصدي في ذلك‬ ‫وتلوت عليه صلهى ه‬
‫ّللا حاجتي وانصرفت ‪ ،‬ورأيت‬ ‫المجيء إلى الرسول إال هذه اآلية ‪ ،‬فكان القبول ‪ ،‬وقضى ه‬
‫األمر على ما ذكرته ‪ ،‬وذلك في سنة إحدى وستمائة ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪65‬‬


‫ش َج َر بَ ْينَ ُه ْم ث ُ هم ال يَ ِجدُوا ِفي أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم َح َرجا ً ِم هما قَ َ‬
‫ض ْيتَ‬ ‫فَل َو َر ِبهكَ ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون َحتهى يُ َح ِ هك ُموكَ ِفيما َ‬
‫س ِليما ً) ‪( 65‬‬ ‫س ِله ُموا ت َ ْ‬
‫َويُ َ‬

‫ص ‪518‬‬

‫ص ‪526 :‬‬
‫ّللا جل ثناؤه بالربوبية على صورة تحصيل اإليمان ‪ ،‬أقسم سبحانه على نفسه باسم‬ ‫في قسم ه‬
‫الرب المضاف إلى نبيه محمد عليه السالم على أقصى غاية مراتب اإليمان ‪ ،‬فقال ‪ «:‬فَال‬
‫َو َر ِبه َك ال يُؤْ ِمنُونَ ‪» . . .‬اآلية فمن شرط قوة اإليمان وتحصيله أن ال ننتظر حكم من آمنا به ‪،‬‬
‫بل نحكمه علينا ابتداء منا ‪ ،‬تثبيتا إليماننا ونرضى بقضائه فينا ‪ ،‬وال نبالي بما حكم علينا بما‬
‫يهون علينا حمله أو ما ال يهون ‪ ،‬فإذا قضى بما قضى به علينا مما تعظم مشقته ويصعب حمله‬
‫‪ ،‬طابت به نفوسنا ‪ ،‬وعظمت اللذة بذلك في قلوبنا ‪ ،‬وزال عن النفس ما كان شجر بينها وبين‬
‫ّللا علينا سهلة ذلولة ‪ .‬ومتى لم نجد ذلك في نفوسنا ‪ ،‬فليس عندنا‬ ‫خصمها ‪ ،‬وانقادت بحكم ه‬
‫رائحة من حقيقة اإليمان في جميع حكمه كله علينا ‪ ،‬بل عليه أن ينقاد بظاهره على الفور‬
‫س ِله ُموا ت َ ْس ِليما ا »فأكده‬
‫انقيادا كليا على االنقياد لما وقع به الحكم من الشرع ‪ ،‬ولهذا قال« َويُ َ‬
‫بالمصدر للتفرغ في االنقياد إليه ‪ ،‬وعلى قدر ما يتوقف أو يجده في نفسه حرجا أو أمرا ينافي‬
‫وجه اللذة والحب والعشق في ذلك الحكم ‪ ،‬ينتفي منك التصديق ضرورة ‪ ،‬ولما كان هذا المقام‬
‫الشامخ عسيرا على النفوس نيله ‪ ،‬أقسم بنفسه جل وتعالى عليه ‪ .‬ولما لم يكن المحكوم عليهم‬
‫ّللا وخليفته‬‫ّللا الثابت صدقه ‪ ،‬النائب عن ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وإنما حكم عليهم بذلك رسول ه‬
‫يسمعون ذلك من ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال« فَال‬ ‫في األرض ‪ ،‬لذلك أضاف االسم إليه عناية به وشرفا له صلهى ه‬
‫َو َر ِبه َك »وجعله بحرف الخطاب إشارة إلى أنه حاضر معنا ‪ ،‬ولم يجعلها إضافة عينية ‪.‬‬
‫س ِله ُموا ت َ ْس ِليما ا » ‪،‬فإن من سلهم لم يطلب على العلة في كل ما جاء به النبي ‪،‬‬ ‫وقوله تعالى« َويُ َ‬
‫وال في مسئلة من مسائله ‪ ،‬فإن جاء النبي بالعلة قبلها كما قبل المعلول ‪ ،‬وإن لم يجئ بها سلهم ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪66‬‬


‫ِيار ُك ْم ما فَعَلُوهُ ِإاله قَ ِلي ٌل ِم ْن ُه ْم َولَ ْو أَنه ُه ْم‬
‫اخ ُر ُجوا ِم ْن د ِ‬‫س ُك ْم أ َ ِو ْ‬ ‫علَ ْي ِه ْم أ َ ِن ْ‬
‫اقتُلُوا أ َ ْنفُ َ‬ ‫َولَ ْو أَنها َكت َ ْبنا َ‬
‫كان َخ ْيرا ً لَ ُه ْم َوأ َ َ‬
‫ش هد تَثْ ِبيتا ً ( ‪) 66‬‬ ‫ون ِب ِه لَ َ‬ ‫ظ َ‬ ‫فَعَلُوا ما يُو َ‬
‫ع ُ‬

‫ش َّد تَثْبِيتا ا"‬


‫ظونَ بِ ِه »على ألسنتهم وألسنة غيرهم« لَكانَ َخيْرا ا لَ ُه ْم َوأ َ َ‬ ‫" َولَ ْو أَنَّ ُه ْم فَعَلُوا ما يُو َ‬
‫ع ُ‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 67‬إلى ‪68‬‬


‫َو ِإذا ً َآلت َ ْينا ُه ْم ِم ْن لَ ُدنها أَجْ را ً ع َِظيما ً ( ‪َ ) 67‬ولَ َه َد ْينا ُه ْم ِصراطا ً ُم ْ‬
‫ست َ ِقيما ً) ‪( 68‬‬

‫ص ‪519‬‬

‫ص ‪527 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪69‬‬
‫داء‬
‫ش َه ِ‬ ‫ص هدِي ِق َ‬
‫ين َوال ُّ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِم َن النه ِب ِيه َ‬
‫ين َوال ِ ه‬ ‫ِين أ َ ْنعَ َم ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫سو َل فَأُولئِكَ َم َع الهذ َ‬
‫الر ُ‬ ‫َو َم ْن يُ ِط ِع ه َ‬
‫ّللا َو ه‬
‫س َن أُولئِكَ َرفِيقا ً ( ‪) 69‬‬‫ين َو َح ُ‬‫صا ِل ِح َ‬
‫َوال ه‬

‫[ األنبياء على نوعين ‪ :‬أنبياء تشريع وأنبياء ال تشريع لهم ]‬


‫األنبياء على نوعين ‪ :‬أنبياء تشريع وأنبياء ال تشريع لهم ‪.‬‬
‫وأنبياء التشريع على قسمين ‪:‬‬
‫على نَ ْف ِس ِه » ‪،‬‬ ‫أنبياء تشريع في خاصتهم ‪ ،‬كقوله« ِإ َّال ما َح َّر َم ِإسْرائِي ُل َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليهم توالهم ه‬ ‫وأنبياء تشريع في غيرهم وهم الرسل عليهم السلم ‪ ،‬فاألنبياء صلوات ه‬
‫بالنبوة ‪ ،‬وهم رجال اصطنعهم لنفسه ‪ ،‬واختارهم لخدمته ‪ ،‬واختصهم من سائر العباد لحضرته‬
‫‪ ،‬شرع لهم ما تعبدهم به في ذواتهم ‪ ،‬ولم يأمر بعضهم بأن يعدي تلك العبادات إلى غيرهم‬
‫ّللا ‪ ،‬أح هل لهم أمورا ‪ ،‬وحرم عليهم أمورا ‪ ،‬قصرها‬ ‫بطريق الوجوب ‪ ،‬فهم على شرع من ه‬
‫عليهم دون غيرهم ‪ ،‬إذ كانت الدار الدنيا تقتضي ذلك ‪ ،‬ألنها دار الموت والحياة ‪.‬‬
‫ّللا بالرسالة ‪ ،‬فهم النبيون المرسلون إلى طائفة من‬ ‫ّللا وسالمه عليهم توالهم ه‬ ‫والرسل صلوات ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫الناس ‪ ،‬أو يكون إرساال عاما إلى الناس ‪ ،‬ولم يحصل ذلك إال لمحمد صلهى ه‬
‫علَى‬ ‫سو ُل بَ ِله ْغ ما أ ُ ْن ِز َل ِإلَي َْك ِم ْن َر ِبه َك )( َوما َ‬ ‫ّللا بتبليغه في قوله( يا أَيُّ َها َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ّللا ما أمره ه‬ ‫فبلهغ عن ه‬
‫غ)‪.‬‬ ‫سو ِل إِ َّال ْالبَال ُ‬ ‫الر ُ‬
‫َّ‬
‫فمقام التبليغ هو المعبر عنه بالرسالة ال غير ‪ ،‬واعلم أنه ليس من شرط كل مقام إذا دخله‬
‫اإلنسان ذوقا أن يحيط بجميع ما يتضمنه من جهة التفصيل ؛ فإنا نعلم أنا نجتمع مع األنبياء‬
‫عليهم السالم في مقامات ‪ ،‬وبيننا وبينهم في العلم بأسرارها بون بعيد ‪ ،‬يكون عندهم ما ليس‬
‫عندنا ‪ ،‬وإن شملنا المقام«‪.‬‬
‫باّلل ورسوله عن قول المخبر ‪ ،‬ال عن دليل سوى النور‬ ‫ص هدِي ِقينَ »الصديق من آمن ه‬ ‫َوال ِ ه‬
‫اإليماني الذي يجده في قلبه ‪ ،‬المانع له من تردد أو شك يدخله في قول المخبر الرسول ‪،‬‬
‫باّلل على جهة القربة ال على إثباته ‪ ،‬إذ‬ ‫ومتعلقه على الحقيقة اإليمان بالرسول ‪ ،‬ويكون اإليمان ه‬
‫كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق ضرورة أو نظرا ‪ ،‬ولكن ما ثبت كونه قربة ‪،‬‬
‫ثم إن الرسول إذا آمن به الصديق آمن بما جاء به ‪ ،‬ومما جاء به توحيد اإلله وهو قوله( ال ِإلهَ‬
‫ّللاُ )أو ( واعلم أنه ال إله إال هللا ) فعلم أنه واحد في ألوهيته من حيث قوله( فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال ِإلهَ‬ ‫ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ )فذلك يسمى إيمانا ‪ ،‬ويسمى المؤمن به على هذا الح هد صديقا ‪.‬‬ ‫إِ َّال َّ‬
‫ّللاُ ) ‪،‬وعثر على توحيده بعد نظره‬ ‫فإن نظر في دليل يدل على صدق قوله( فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلهَ إِ َّال َّ‬
‫ّللاُ )فليس بصديق ‪،‬‬ ‫ّللا في قوله( ال ِإلهَ ِإ َّال َّ‬ ‫فصدق الرسول في قوله وصدق ه‬

‫ص ‪520‬‬

‫ص ‪528 :‬‬
‫وهو مؤمن عن دليل فهو عالم ‪ ،‬فالصدهيق هو صاحب النور اإليماني الذي يجده ضرورة في‬
‫ّللا في البصر ‪ ،‬فلم يكن للعبد فيه كسب ‪ ،‬كذلك نور‬ ‫عين قلبه ‪ ،‬كنور البصر الذي جعله ه‬
‫ش َهدا ُء ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم لَ ُه ْم أ َ ْج ُر ُه ْم »من‬ ‫الصديق في بصيرته ؛ ولهذا قال« أُولئِ َك ُه ُم ال ِ ه‬
‫ص ِ هديقُونَ َوال ُّ‬
‫ور ُه ْم »من حيث الصدهيقية ‪ ،‬فجعل النور للصديقية واألجر للشهادة ‪.‬‬ ‫حيث الشهادة« َونُ ُ‬
‫والصديقية بنية مبالغة في التصديق ‪ ،‬وليس بين النبوة التي هي نبوة التشريع والصديقية مقام‬
‫وال منزلة ‪ ،‬فمن تخطى رقاب الصديقين ‪ ،‬وقع في النبوة والرسالة ‪،‬‬

‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقد كذب ‪ ،‬بل كذب وكفر ]‬ ‫[ من ادعى نبوة التشريع بعد محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقد كذب ‪ ،‬بل كذب وكفر بما جاء به‬ ‫ومن ادعى نبوة التشريع بعد محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬غير أن ثم مقام القربة ‪ ،‬وهي النبوة العامة ‪ ،‬ال نبوة‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫الصادق رسول ه‬
‫التشريع ‪ ،‬فيثبتها نبي التشريع فيثبتها الصديق إلثبات النبي المشرع إياها ال من حيث نفسه ‪،‬‬
‫وحينئذ يكون صدهيقا ‪.‬‬
‫ولكل رسول صديقون ‪ ،‬إما من عالم اإلنس والجان ‪ ،‬أو من أحدهما ‪ ،‬فكل من آمن عن نور‬
‫في قلبه ‪ ،‬ليس له دليل من خارج سوى قول الرسول ‪ ( :‬قل ) وال يجد توقفا ‪ ،‬وبادر ‪ ،‬فذلك‬
‫الصديق ‪.‬‬
‫ّللا ذلك النور في قلبه‬ ‫فإن آمن عن نظر ودليل من خارج ‪ ،‬أو توقف عند القول حتى أوجد ه‬
‫فآمن ‪ ،‬فهو مؤمن ال صديق ‪ ،‬فنور الصديق معد قبل وجود المصدهق به ‪ ،‬ونور المؤمن غير‬
‫داء »الشهداء الذين تعمهم هذه‬ ‫ّللا ‪َ «.‬وال ُّ‬
‫ش َه ِ‬ ‫الصديق يوجد بعد قول الرسول ‪ :‬قل ال إله إال ه‬
‫ّللا‬
‫باّلل ‪ ،‬المؤمنون بعد العلم بما قاله سبحانه ‪ :‬إن ذلك قربة إليه من حيث قال ه‬ ‫اآلية هم العلماء ه‬
‫ّللاُ أَنَّهُ ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو‬
‫ش ِه َد َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬وهم الذين قال تعالى فيهم( َ‬ ‫أو قاله الرسول الذي جاء من عند ه‬
‫َو ْال َمال ِئ َكةُ َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم ) ‪،‬فجمعهم مع المالئكة في بساط الشهادة ‪ ،‬فهم موحدون عن حضور‬
‫إلهي وعناية أزلية ‪ ،‬فهم الموحدون ‪ ،‬واإليمان فرع عن هذه الشهادة ‪ ،‬فإن بعث رسول وآمنوا‬
‫به ‪ ،‬أعني هؤالء الشهداء ‪ ،‬فهم المؤمنون العلماء ‪ ،‬ولهم األجر التام يوم القيامة ‪ ،‬وإن لم‬
‫سنَ أُولئِ َك‬ ‫ّللا عليهم في هذه اآلية ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ «:‬و َح ُ‬ ‫يؤمنوا فليس هم الشهداء الذين أنعم ه‬
‫َرفِيقا ا » ‪.‬وقدم الصديق على الشهيد وجعله بإزاء النبي ‪ ،‬فإنه ال واسطة بينهما التصال نور‬
‫اإليمان بنور الرسالة ‪ .‬والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث ما هو شاهد هّلل‬
‫بتوحيده ال من حيث هو رسول ‪ ،‬فال يصح أن يكون بعده مع المساوقة ‪ ،‬فكانت المساوقة تبطل‬
‫‪ ،‬وال يصح أن يكون معه لكونه رسوال ‪ ،‬والشاهد ليس برسول ‪ ،‬فال بد أن يتأخر ‪ ،‬فلم يبق إال‬
‫أن يكون في المرتبة التي تلي الصديقية ؛ فإن‬

‫ص ‪521‬‬

‫ص ‪529 :‬‬
‫الصديق أتم نورا من الشهيد في الصديقية ‪ ،‬ألنه صديق من وجهين ‪ :‬من وجه التوحيد ومن‬
‫وجه القربة ‪ ،‬والشهيد من وجه القربة خاصة ال من وجه التوحيد ؛ فإن توحيده عن علم ال عن‬
‫إيمان ‪ ،‬فنزل عن الصديق في مرتبة اإليمان ‪ ،‬وهو فوق الصديق في مرتبة العلم ‪ ،‬فهو المتقدم‬
‫في رتبة العلم المتأخر برتبة اإليمان والتصديق ‪ ،‬فإنه ال يصح من العالم أن يكون صديقا ‪ ،‬وقد‬
‫ّللا ‪ ،‬والصديق ال‬
‫ّللا إذا بلغ رسالة ه‬
‫تقدم العلم مرتبة الخبر ‪ ،‬فهو يعلم أنه صادق في توحيد ه‬
‫يعلم ذلك إال بنور اإليمان المعد في قلبه ‪ ،‬فعند ما جاءه الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر ‪«.‬‬
‫ّللا بالصالح ‪ ،‬وجعل رتبتهم بعد الشهداء في المرتبة الرابعة ‪،‬‬ ‫صا ِل ِحينَ »الصالحون توالهم ه‬
‫َوال َّ‬
‫وما من نبي إال وقد ذكر أنه صالح ‪ ،‬أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا ‪ ،‬فدل‬
‫على أن رتبة الصالح خصوص في النبوة ‪ ،‬فقد تحصل لمن ليس بنبي وال صديق وال شهيد ‪،‬‬
‫فصالح األنبياء هو مما يلي بدايتهم وهو عطف الصالح عليهم ‪ ،‬فهم صالحون للنبوة فكانوا‬
‫أنبياء ‪ ،‬وأعطاهم الداللة فكانوا شهداء ‪ ،‬وأخبرهم بالغيب فكانوا صديقين ‪ ،‬فاألنبياء صلحت‬
‫لجميع هذه المقامات فكانوا صالحين ‪ ،‬فجمعت الرسل جميع المقامات كما صلح الصديقون‬
‫للصديقية وصلح الشهداء للشهادة ‪ ،‬فالصالح أرفع صفة لألنبياء عليهم السالم وهو مطلبهم ‪،‬‬
‫ّللا برحمته في عباده‬‫ّللا أن يدخلهم ه‬
‫ّللا أخبرنا عنهم أنهم مع كونهم رسال وأنبياء ‪ ،‬سألوا ه‬
‫فإن ه‬
‫الصالحين ‪ ،‬وذكر في أولي العزم من رسله أنهم من الصالحين في معرض الثناء عليهم ‪.‬‬
‫أخص وصف للرسل واألنبياء عليهم السالم ‪ ،‬وهم بال خالف أرفع الناس‬ ‫ه‬ ‫فالصالح يكون‬
‫ّللا ‪ ،‬فقد نال ما دونه ‪ ،‬فله منازل‬
‫منزلة وإن فضل بعضهم بعضا ‪ ،‬ومن نال الصالح من عباد ه‬
‫الرسل واألنبياء عليهم السالم ‪ ،‬وليس برسول وال نبي ‪ ،‬لكن يغبطه الرسول والنبي ‪ ،‬لما يناله‬
‫الرسول والنبي من مشقة الرسالة والنبوة ‪ ،‬ألنها تكليف وبها حصلت لهم المنزلة الزلفى ‪،‬‬
‫ونالها صاحب العمل الصالح المغبوط من غير ذوق هذه المشقات ‪ ،‬ومن هنا تعرف قول‬
‫الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في قوم تنصب لهم منابر يوم القيامة في الموقف ‪:‬‬
‫[ يخاف الناس وال يخافون ‪ ،‬ويحزن الناس وال يحزنون ‪ ،‬ال يحزنهم الفزع األكبر ‪ ،‬ليسوا‬
‫بأنبياء ‪ ،‬يغبطهم النبيون ] حيث رأوا تحصيلهم هذه المنازل مع هذه الحال ‪ ،‬فهم غير مسئولين‬
‫من بين الخالئق ‪ ،‬لم يدخلهم في عملهم خلل من زمان توبتهم ‪ ،‬فإن دخلهم خلل فليسوا‬
‫بصالحين ‪ ،‬فمن شرط الصالح استصحاب العصمة في الحال والقول والعمل ‪ ،‬وال يكون هذا‬

‫ص ‪522‬‬

‫ص ‪530 :‬‬
‫إال للعارفين بالمواطن والمقامات واآلداب والحكم ‪ ،‬فيحكمون نفوسهم ‪ ،‬فيمشون بها مشي ربهم‬
‫ّللا عليهم بأنه أنعم عليهم‬
‫من حيث هو على صراط مستقيم ‪ .‬فهؤالء هم الصالحون الذين أثنى ه‬
‫‪ ،‬وهم المطلوبون في هذا المقام ‪ ،‬وأراد بالنبيين هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا‬
‫باّلل‬
‫باّلل وال إيمانهم ه‬
‫‪ ،‬أعني بطريق الوجوب عليهم ‪ ،‬والصالحون هم الذين ال يدخل علمهم ه‬
‫ّللا خلل ‪ ،‬فإن دخله خلل بطل كونه صالحا ‪ ،‬فهذا هو الصالح الذي رغبت‬ ‫وبما جاء من عند ه‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬فكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح ‪ ،‬وال في‬ ‫فيه األنبياء صلوات ه‬
‫شهادته فهو صالح ‪ ،‬وال في نبوته فهو صالح ‪ ،‬ولما كان اإلنسان حقيقته اإلمكان ‪ ،‬فله أن‬
‫يدعو بتحصيل الصالح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه ‪ ،‬ألن‬
‫النبي لو كان نبيا لنفسه أو إلنسانيته لكان كل إنسان بتلك المثابة ‪ ،‬إذ العلة في كونه نبيا كونه‬
‫إنسانا ‪ ،‬فلما كان األمر اختصاصا إلهيا ‪ ،‬جاز دخول الخلل فيه وجاز رفعه ‪ ،‬فصح أن يدعو‬
‫سنَ‬‫الصالح بأن يجعل من الصالحين ‪ ،‬أي الذين ال يدخل صالحهم خلل في زمان ما ‪َ «.‬و َح ُ‬
‫أُولئِ َك َرفِيقا ا » ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 70‬إلى ‪74‬‬


‫ت أ َ ِو‬ ‫ِين آ َمنُوا ُخذُوا ِح ْذ َر ُك ْم فَا ْن ِف ُروا ثُبا ٍ‬ ‫ع ِليما ً ( ‪ ) 70‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫اَّلل َ‬
‫ّللا َوكَفى ِب ه ِ‬ ‫ض ُل ِم َن ه ِ‬ ‫ذ ِلكَ ا ْلفَ ْ‬
‫ي ِإ ْذ لَ ْم‬
‫علَ ه‬ ‫طئ َ هن فَ ِإ ْن أَصابَتْ ُك ْم ُم ِصيبَةٌ قا َل قَ ْد أ َ ْنعَ َم ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫ا ْن ِف ُروا َج ِميعا ً ( ‪َ ) 71‬و ِإ هن ِم ْن ُك ْم لَ َم ْن لَيُبَ ِ ه‬
‫ّللا لَيَقُولَ هن كَأ َ ْن لَ ْم تَك ُْن بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ َم َو هدةٌ يا‬
‫ض ٌل ِم َن ه ِ‬ ‫أَك ُْن َمعَ ُه ْم ش َِهيدا ً ( ‪َ ) 72‬ولَئِ ْن أَصابَ ُك ْم فَ ْ‬
‫ون ا ْل َحياةَ ال ُّد ْنيا‬
‫ِين يَش ُْر َ‬ ‫ّللا الهذ َ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ع ِظيما ً ( ‪ ) 73‬فَ ْليُقاتِ ْل فِي َ‬ ‫وز فَ ْوزا ً َ‬ ‫لَ ْيتَنِي ُك ْنتُ َمعَ ُه ْم فَأَفُ َ‬
‫ف نُ ْؤتِي ِه أَجْ را ً ع َِظيما ً) ‪( 74‬‬ ‫س ْو َ‬ ‫ّللا فَيُ ْقت َ ْل أ َ ْو يَ ْغ ِل ْب فَ َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬‫ِب ْاآل ِخ َر ِة َو َم ْن يُقاتِ ْل فِي َ‬

‫ص ‪523‬‬

‫ص ‪531 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 75‬إلى ‪76‬‬
‫ِين يَقُولُ َ‬
‫ون‬ ‫دان الهذ َ‬ ‫ساء َوا ْل ِو ْل ِ‬
‫الرجا ِل َوال ِنه ِ‬ ‫ين ِم َن ِ ه‬ ‫ضعَ ِف َ‬ ‫ّللا َوا ْل ُم ْ‬
‫ست َ ْ‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬‫ون فِي َ‬ ‫َوما لَ ُك ْم ال تُقاتِلُ َ‬
‫ظا ِل ِم أ َ ْهلُها َواجْ عَ ْل لَنا ِم ْن لَ ُد ْنكَ َو ِليًّا َواجْ عَ ْل لَنا ِم ْن لَ ُد ْنكَ نَ ِصيرا ً‬ ‫َربهنا أ َ ْخ ِرجْ نا ِم ْن ه ِذ ِه ا ْلقَ ْريَ ِة ال ه‬
‫ت فَقاتِلُوا‬
‫غو ِ‬ ‫طا ُ‬‫سبِي ِل ال ه‬ ‫ون فِي َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا يُقاتِلُ َ‬ ‫ّللا َوالهذ َ‬‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ون فِي َ‬ ‫ِين آ َمنُوا يُقاتِلُ َ‬ ‫) ‪( 75‬الهذ َ‬
‫ض ِعيفا ً ( ‪) 76‬‬ ‫كان َ‬‫طان َ‬ ‫ش ْي ِ‬ ‫طان إِ هن َك ْي َد ال ه‬‫ش ْي ِ‬ ‫أ َ ْو ِليا َء ال ه‬

‫[ الماء وهو العنصر األعظم في اإلنسان أقوى من النار وهو العنصر األعظم في الجان ]‬
‫فإن الماء وهو العنصر األعظم في اإلنسان أقوى من النار وهو العنصر األعظم في الجان ‪،‬‬
‫فلم ينسب إلى الشيطان من القوة شيئا ‪.‬‬
‫وسبب ذلك أن النشأة اإلنسانية تعطي التؤدة في األمر واألناة والفكر والتدبر ‪ ،‬لغلبة العنصرين‬
‫من الماء والتراب على مزاجه ‪ ،‬فيكون وافر العقل ‪.‬‬
‫ألن التراب يثبطه ويمسكه ‪ ،‬والماء يلينه ويسهله ‪ ،‬والجان ليس كذلك ‪ ،‬فإنه ليس لعقله ما‬
‫يمسكه عليه ذلك اإلمساك الذي لإلنسان ‪ ،‬وبذلك ض هل عن طريق الهدى لخفة عقله وعدم تثبته‬
‫في نظره فقال ‪ :‬أنا خير منه ‪ ،‬فجمع بين الجهل وسوء األدب لخفته فأولياء الشياطين وليهم‬
‫الطاغوت ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪77‬‬


‫علَ ْي ِه ُم ا ْل ِقتا ُل ِإذا‬
‫ب َ‬ ‫الزكاةَ فَلَ هما ُكتِ َ‬
‫صلةَ َوآتُوا ه‬ ‫ِين قِي َل لَ ُه ْم ُكفُّوا أ َ ْي ِديَ ُك ْم َوأَقِي ُموا ال ه‬
‫أ َلَ ْم ت َ َر ِإلَى الهذ َ‬
‫شيَةً َوقالُوا َربهنا ِل َم َكت َ ْبتَ َ‬
‫علَ ْينَا ا ْل ِقتا َل لَ ْو ال‬ ‫ش هد َخ ْ‬ ‫ّللا أ َ ْو أ َ َ‬
‫شيَ ِة ه ِ‬ ‫ق ِم ْن ُه ْم يَ ْخش َْو َن النه َ‬
‫اس َك َخ ْ‬ ‫فَ ِري ٌ‬
‫ون فَ ِتيلً ( ‪) 77‬‬ ‫ع ال ُّد ْنيا قَ ِلي ٌل َو ْاآل ِخ َرةُ َخ ْي ٌر ِل َم ِن اتهقى َوال ت ُ ْظلَ ُم َ‬
‫ب قُ ْل َمتا ُ‬ ‫أ َ هخ ْرتَنا ِإلى أ َ َج ٍل قَ ِري ٍ‬
‫ع ال ُّد ْنيا قَ ِلي ٌل »أي التمتع بها قليل ‪ ،‬فما زهد من زهد إال لطلب األكثر ‪ ،‬فما تركوا‬ ‫« قُ ْل َمتا ُ‬
‫الدنيا إال حذرا أن يرزأهم في اآلخرة ‪ ،‬وأما من أمسك الدنيا من األنبياء والك همل من األولياء ‪،‬‬
‫فأمسكوا باطالع عرفاني ‪ ،‬أنتج لهم أمرا عشقه بما في اإلمساك من المعرفة والتحلي بالكمال ‪،‬‬
‫ّللا تعالى على أيوب رجل جراد من ذهب ‪ ،‬فسقط عليه ‪،‬‬ ‫ال عن بخل وضعف يقين ‪ .‬أرسل ه‬
‫ّللا إليه ‪ :‬ألم أكن أغنيتك عن هذا ؟‬ ‫فأخذ يجمعه في ثوبه ‪ ،‬فأوحى ه‬
‫ّللا ال نهاية له ‪،‬‬ ‫فقال ‪ :‬ال غنى لي عن خيرك ‪ .‬فانظر ما أعطته معرفته ‪ .‬واعلم أن ما عند ه‬
‫ودخول ما ال نهاية له في الوجود محال ‪ ،‬فكل ما دخل في الوجود فهو متناه ‪ ،‬فإذا أضيف ما‬
‫تناهى إلى ما ال يتناهى ظهر كأنه قليل ‪ ،‬أو كأنه ال شيء‪.‬‬

‫ص ‪524‬‬

‫ص ‪532 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪78‬‬
‫سنَةٌ يَقُولُوا ه ِذ ِه ِم ْن ِع ْن ِد‬ ‫شيه َد ٍة َو ِإ ْن ت ُ ِص ْب ُه ْم َح َ‬ ‫أ َ ْينَما تَكُونُوا يُد ِْر ْك ُك ُم ا ْل َم ْوتُ َولَ ْو ُك ْنت ُ ْم فِي بُ ُروجٍ ُم َ‬
‫ُالء ا ْلقَ ْو ِم ال يَكاد َ‬
‫ُون‬ ‫ّللا فَما ِلهؤ ِ‬ ‫س ِيهئَةٌ يَقُولُوا ه ِذ ِه ِم ْن ِع ْن ِدكَ قُ ْل ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬ ‫ّللا َو ِإ ْن ت ُ ِص ْب ُه ْم َ‬
‫هِ‬
‫ون َحدِيثا ً ( ‪) 78‬‬ ‫يَ ْفقَ ُه َ‬
‫شيَّ َدةٍ »فإنه ال ينجي حذر من قدر ‪ ،‬وكان‬ ‫« أ َ ْينَما ت َ ُكونُوا يُ ْد ِر ْك ُك ُم ْال َم ْوتُ َولَ ْو ُك ْنت ُ ْم فِي بُ ُر ٍ‬
‫وج ُم َ‬
‫سنَةٌ يَقُولُوا ه ِذ ِه ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا َو ِإ ْن‬ ‫ص ْب ُه ْم َح َ‬ ‫ّللا عليه وسلم« ِإ ْن ت ُ ِ‬ ‫الكافرون يتطيرون بمحمد صلهى ه‬
‫ّللا »أي ما يحدث فيهم من‬ ‫ِك »فقال له تعالى« قُ ْل ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬ ‫س ِيهئَةٌ يَقُولُوا ه ِذ ِه ِم ْن ِع ْند َ‬ ‫ص ْب ُه ْم َ‬ ‫تُ ِ‬
‫الشر‬
‫ه‬ ‫الكوائن من حيث أنها فعل ‪ .‬والسيئة هنا ليست السيئة المحكوم بها من الشرع ‪ ،‬وذلك هو‬
‫ّللا »ما‬ ‫‪ ،‬وإنما هو فيما يسوؤك وهو مخالفة غرضك ‪ ،‬فقال له تعالى ‪ «:‬قُ ْل ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا وهذا من نفسك‬ ‫ّللا ‪ ،‬والحكم بأن هذا من ه‬ ‫يسوءكم وما يحسن عندكم والتعريف بذلك من عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫وهذا خير وهذا شر ‪ ،‬فأنكر عليهم أن تكون السيئة من عند محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫ّللا ‪ ،‬والكل خير وهو بيده ‪ ،‬والشر ليس إليه ؛ قال صلهى ه‬ ‫فأضاف الكل إلى ه‬
‫دعائه ربهه [ والشر ليس إليك ] فالمؤمن ينفي عن الحق ما نفاه عن نفسه ‪ ،‬ولذلك قال في‬
‫ّللا »أي هو الذي حسن الحسن وقبح‬ ‫معرض الذم في حق من جهل ما ذكرناه« قُ ْل ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ُالء ْالقَ ْو ِم ال يَكادُونَ يَ ْفقَ ُهونَ َحدِيثا ا »أي أنتم محجوبون ال تعلمون ما نحدثكم به‬ ‫القبيح« فَما ِلهؤ ِ‬
‫‪ ،‬فإن الشرع كله حديث وخبر إلهي بما يقبله العقل فما لهؤالء القوم ال يفقهون ما حدثناهم به‬
‫من أن الكل من عندنا ذما وحمدا فال يذمون ما سميناه مذموما ويحمدون ما سميناه محمودا ‪،‬‬
‫وينظرون األشياء من حيث علمناهم ووصفناها ‪ ،‬ال من حيث إسنادها إلينا بحكم اإليجاد ؟ !‬
‫واعلم أن الحديث قد يكون حديثا في نفس األمر ‪ ،‬وقد يكون حديثا بالنسبة إلى وجوده عندك في‬
‫الحال وهو أقدم من ذلك الحدوث ‪ ،‬فقد يكون حادثا في نفسه ذلك الشيء قبل حدوثه عندك ‪،‬‬
‫وقد يكون حادثا بحدوثه عندك ‪ ،‬أي ذلك زمان حدوثه ‪ ،‬وهو ما يقوم بك أو بمن يخاطبك أو‬
‫ّللا فهي على قسمين ‪ ،‬أعني ما هو عنده ‪ :‬القسم‬ ‫يجالسك من األغراض في الحال ‪ ،‬وأما عندية ه‬
‫الواحد ما هو عليه من األمر الذي يعقل زائدا على هويته وإن لم نقل فيه إنه غيره وال عينه‬
‫أيضا ‪ ،‬كالصفات المنسوبة إليه ‪ ،‬ال هي هو وال هي غيره ‪ ،‬وقد‬

‫ص ‪525‬‬

‫ص ‪533 :‬‬
‫ش ْيءٍ ِإ َّال ِع ْن َدنا خَزائِنُهُ ) ‪،‬وهذا الذي‬ ‫يكون عنده ما يحدثه فينا ولنا ‪ ،‬وهو مثل قوله( َو ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫عندنا على نوعين ‪ :‬نوع يحدث صورته ال جوهره كالمطر ‪ ،‬فإنا نعلم ما هو من حيث جوهره‬
‫وما هو من حيث صورته ‪ ،‬وكل العالم على هذا ‪ ،‬أو هو النوع اآلخر ما يحدث جوهره وليس‬
‫إال جوهر الصورة ووجود جوهر العين القائمة به تلك الصورة ‪ ،‬فإنه ال وجود لعين جوهرها‬
‫الذي قامت به إال عند قيامها به ‪ ،‬فهو قبل ذلك معقول ال موجود العين ‪ ،‬فموضع الصورة أو‬
‫مح هل الصورة من المادة يحدث له الوجود بحدوث الصورة في حال ما ‪ ،‬ال في كل حال ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فما ث هم معقول وال‬
‫وينعدم من الوجود بعدمها ما لم تكن صورة أخرى تقوم به ‪ ،‬والكل عند ه‬
‫موجود يحدث عنده ‪ ،‬بل الكل مشهود العين له بين ثبوت ووجود ‪.‬‬
‫فالثبوت خزائنه والوجود ما يحدثه عندنا من تلك الخزائن ‪ .‬ومن هنا تعلم جميع المحدثات ما‬
‫هي ‪ ،‬ومتى ينطلق عليها اسم الحدوث ومتى تقبل اسم العدم ‪ . -‬إشارة ‪ -‬فما لهؤالء القوم ال‬
‫يكادون يفقهون حديثا فأحرى قديما ‪ - .‬نصيحة ‪ -‬إن من شرف العلم أن يعطي العالم وك هل‬
‫عز وجل بأمر ‪ ،‬فإن‬ ‫مرتبة ما لها من الحكم ‪ ،‬ومن علم السر ‪ ،‬أن ال يقطع العالم به على ربه ه‬
‫قطع وحكم فقد جهل وظلم ‪ ،‬ومع أنه تعالى ما عصي إال بعلمه وال خولف إال بحكمه ‪ ،‬ال يقول‬
‫ذلك العاصي وإن اعتقده ‪ ،‬وكان ممن اطلع عليه وشهده ‪ ،‬وكذلك حكم الطاعة إلى قيام الساعة‬
‫‪ ،‬فالعلماء هم الحكماء ال يتعدون بالسلعة قيمتها ‪ ،‬وال بكل نشأة شيمتها ‪ ،‬لوال ذلك ما كانت‬
‫فرق في الحكم بين األعداء واألولياء ‪ ،‬وال عرفت المراتب وال شرعت المذاهب‬ ‫األنبياء ‪ ،‬وال ه‬
‫‪ ،‬وال كانت التكاليف وال حكمت التصاريف ‪ ،‬وال كان أجل مسمى وال تميز البصير من‬
‫ّللا أال يضاف إليه إال ما أضافه إلى نفسه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ «:‬ما‬ ‫األعمى ‪ ،‬فمن األدب مع ه‬
‫ّللا »وقال في السيئة« َوما أَصابَ َك ِم ْن َ‬
‫س ِيهئ َ ٍة فَ ِم ْن نَ ْف ِس َك »وقال ‪ «:‬قُ ْل‬ ‫أَصابَ َك ِم ْن َح َ‬
‫سنَ ٍة فَ ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فراع اللفظ ‪ .‬واعلم أن‬ ‫ّللا »قال ذلك في األمرين إذا جمعتهما ‪ ،‬ال تقل من ه‬ ‫ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫لجمع األمر حقيقة تخالف حقيقة كل مفرد إذا انفرد ولم يجتمع مع غيره ؛ ففصل سبحانه بين ما‬
‫يكون منه وبين ما يكون من عنده ‪ ،‬فما لهم ال يفقهون ما حدثتهم به فإني قد قلت ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪79‬‬


‫سوالً َوكَفى‬ ‫سكَ َوأ َ ْر َ‬
‫س ْلناكَ ِللنه ِ‬
‫اس َر ُ‬ ‫ّللا َوما أَصابَكَ ِم ْن َ‬
‫س ِيهئ َ ٍة فَ ِم ْن نَ ْف ِ‬ ‫ما أَصابَكَ ِم ْن َح َ‬
‫سنَ ٍة فَ ِم َن ه ِ‬
‫اَّلل ش َِهيدا ً) ‪( 79‬‬
‫ِب ه ِ‬

‫ص ‪526‬‬

‫ص ‪534 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪79‬‬
‫سوالً َوكَفى‬ ‫سكَ َوأ َ ْر َ‬
‫س ْلناكَ ِللنه ِ‬
‫اس َر ُ‬ ‫ّللا َوما أَصابَكَ ِم ْن َ‬
‫س ِيهئ َ ٍة فَ ِم ْن نَ ْف ِ‬ ‫ما أَصابَكَ ِم ْن َح َ‬
‫سنَ ٍة فَ ِم َن ه ِ‬
‫اَّلل ش َِهيدا ً ) ‪( 79‬‬
‫ِب ه ِ‬

‫فرفعت االحتمال أو نصصت على األمر بما هو عليه ‪ ،‬فأضاف السوء إليك والحسن إليه ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫وقوله صدق وإخباره حق ‪ .‬وما أصابك من سيئة فمن نفسك ‪ ،‬ال من محمد صلهى ه‬
‫وسلم ‪ ،‬فما أعطيتك إال على قدر قبولك ‪ .‬والسيئة في هذه اآلية ظاهر االسم وما هي السيئة‬
‫شرعا فتكون فجورا ‪ ،‬وإنما هو ما يسوءه وال يوافق غرضه ‪ ،‬وهو في الظاهر قولهم( ِإنَّا‬
‫باّلل أنه أراد الحكم واإلعالم‬ ‫طي َّْرنا ِب ُك ْم )فأمره سبحانه أن يقول« ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا »فيعلم العالم ه‬ ‫تَ َ‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪[ :‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫ّللا ال عين السوء ‪ .‬ولما علم ذلك رسول ه‬ ‫بذلك أنه من عند ه‬
‫الخير كله بيديك والشر ليس إليك ] ‪ -‬مسئلة نسبة األفعال ‪ -‬إن هّلل بال شك رائحة اشتراك في‬
‫الفعل بالخبر اإللهي ‪ ،‬فأضاف العمل وقتا إلينا ووقتا إليه ‪ ،‬فلهذا قلنا فيه رائحة اشتراك ‪.‬‬
‫[ نسبه االفعال ]‬
‫ت )فأضاف الكل إلينا ‪ ،‬وقال( ُك ًّال نُ ِم ُّد هؤ ِ‬
‫ُالء‬ ‫علَيْها َما ا ْكت َ َ‬
‫سبَ ْ‬ ‫قال تعالى ‪ ( :‬لَها ما َك َ‬
‫سبَ ْ‬
‫ت َو َ‬
‫طاء َر ِبه َك )فقد يكون عطاؤه اإللهام ‪ ،‬وقد يكون خلق العمل ‪ .‬وقال تعالى ‪ ( :‬قُ ْل‬ ‫ع ِ‬ ‫ُالء ِم ْن َ‬
‫َو َهؤ ِ‬
‫ّللا )فأضاف الكل إليه ‪ ،‬وهذه مسئلة ال يتخلص فيها توحيد أصال ‪ ،‬ال من جهة‬ ‫ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫الكشف وال من جهة الخبر ‪ ،‬فاألمر الصحيح في ذلك أنه مربوط بين حق وخلق ‪ ،‬غير مخلص‬
‫ألحد الجانبين ‪ ،‬فإنه أعلى ما يكون من النسب اإللهية أن يكون الحق تعالى هو عين الوجود‬
‫الذي استفادته الممكنات ‪ .‬فما ث هم إال وجود عين الحق ال غيره ‪ ،‬والتغييرات الظاهرة في هذه‬
‫العين أحكام أعيان الممكنات ‪ ،‬فلوال العين ما ظهر الحكم ‪ ،‬ولوال الممكن ما ظهر التغيير ‪ ،‬فال‬
‫ّللا‬
‫بد في األفعال من حق وخلق ‪ .‬وفي مذهب بعض العامة أن العبد محل ظهور أفعال ه‬
‫ّللا من‬ ‫الحس إال من األكوان ‪ ،‬وال تشهدها بصيرتهم إال من ه‬ ‫ه‬ ‫وموضع جريانها ‪ ،‬فال يشهدها‬
‫وراء حجاب هذا الذي ظهرت على يديه المريد لها المختار فيها ‪ ،‬فهو لها مكتسب باختياره ‪،‬‬
‫وهذا مذهب األشاعرة ‪ .‬ومذهب بعض العامة أيضا أن الفعل للعبد حقيقة ‪ ،‬ومع هذا فربط‬
‫الفعل عندهم بين الحق والخلق ال يزول ‪ ،‬فإن هؤالء يقولون ‪ :‬إن القدرة الحادثة في العبد التي‬
‫ّللا خلق له القدرة عليها ‪ ،‬فما يخلص الفعل للعبد إال بما خلق‬ ‫يكون بها هذا الفعل من الفاعل أن ه‬
‫ّللا فيه من القدرة عليه ‪ ،‬فما زال االشتراك ‪ ،‬وهذا مذهب أهل االعتزال ‪ ،‬فهؤالء ثالثة‬ ‫ه‬
‫أصناف ‪ :‬أصحابنا واألشاعرة والمعتزلة ما زال منهم وقوع‬

‫ص ‪527‬‬

‫ص ‪535 :‬‬
‫االشتراك ‪ ،‬وما ث هم عقل يدل على خالف هذا وال خبر إلهي في شريعة تخلص الفعل من جميع‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬وما ث هم إال كشف وشرع‬
‫ّللا على علم ه‬
‫الجهات إلى أحد الجانبين ‪ ،‬فلنقره كما أقره ه‬
‫وّللا أعلم‬ ‫وعقل ‪ ،‬وهذه الثالثة ما خلصت شيئا وال يخلص أبدا دنيا وال آخرة ‪ .‬فاألمر في نفسه ه‬
‫ما هو إال كما وقع ‪ ،‬ما يقع فيه تخليص ‪ ،‬ألنه في نفسه غير مخلص ‪ ،‬إذ لو كان في نفسه‬
‫مخلصا ‪ ،‬ال بد أن كان يظهر عليه بعض هذه الطوائف ؛ وال يتمكن لنا أن نقول ‪ :‬الكل على‬
‫خطأ ‪ ،‬فإن في الكل الشرائع اإللهية ‪ ،‬ونسبة الخطأ إليها محال ‪ ،‬وما يخبر باألشياء على ما‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد أخبر ‪ ،‬فما هو األمر إال كما أخبر ‪ ،‬ألن مرجوع الكل إليه ‪ ،‬فما خلص‬ ‫هي عليه إال ه‬
‫فهو مخلص ‪ ،‬وما لم يخلص فما هو في نفسه مخلص ‪ ،‬فاتفق الحق والعالم جميعه في هذه‬
‫المسألة على االشتراك ‪ ،‬وهو موضع الحيرة فال يرجح ‪ .‬ولما كان المتكلمون في هذا الشأن‬
‫على قسمين ‪ :‬الواحد أضاف األفعال كلها إلى األكوان ‪ ،‬فقال لسان الغيرة اإللهية( ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد‬
‫ُالء ْالقَ ْو ِم ال يَكادُونَ يَ ْفقَ ُهونَ َحدِيثا ا )أي حادثا ‪ ،‬وأما القسم الثاني فأضاف األفعال‬
‫ّللا فَما ِلهؤ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ّللا وأضاف األفعال القبيحة إلى األكوان ‪ ،‬فقال لسان الجود اإللهي( قُ ْل ُك ٌّل‬ ‫الحسنة كلها إلى ه‬
‫ّللا )ال تكذيبا لهم بل ثناء جميال ‪ ،‬وما ث هم من قال إن األفعال كلها هّلل وال إلى األكوان‬ ‫ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا في جميع حركاته‬ ‫من غير رائحة اشتراك ‪ ،‬فمن السعادة أن يستعمل اإلنسان الحضور مع ه‬
‫ّللا تعالى من حيث اإليجاد واالرتباط المحمود‬ ‫وسكناته ‪ ،‬وأن تكون مشاهدة نسبة األفعال إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فقد أساء األدب ‪ ،‬وجهل علم التكليف‬ ‫منها ‪ ،‬وأما االرتباط المذموم منها فإن نسبه إلى ه‬
‫وبمن تعلق ‪ ،‬ومن المكلف الذي قيل له افعل ‪ ،‬إذ لو لم يكن للمكلهف نسبة إلى الفعل بوجه ما ‪،‬‬
‫لما قيل له افعل ‪ ،‬وليس متعلقها اإلرادة كالقائلين بالكسب ‪ ،‬وإنما هو سبب اقتداري لطيف‬
‫مدرج في االقتدار اإللهي ‪ ،‬الذي يعطيه الدليل ‪ ،‬كاندراج نور الكواكب في نور الشمس ‪ ،‬فتعلم‬
‫بالدليل أن للكواكب نورا منبسطا على األرض ‪ ،‬لكن ما ندركه حسا لسلطان نور الشمس ‪ ،‬كما‬
‫يعطي الحس في أفعال العباد أن الفعل لهم حسا وشرعا ‪ ،‬وأن االقتدار اإللهي مندرج فيه ‪،‬‬
‫يدركه العقل وال يدركه الحس ‪ ،‬كاندراج نور الشمس في نور الكواكب ‪ ،‬فإن نور الكواكب هو‬
‫والحس يجعل النور للكواكب ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫عين نور الشمس ‪ ،‬والكواكب لها مجلى ‪ ،‬فالنور كله للشمس ‪،‬‬
‫فيقول اندرج نور الكواكب في نور الشمس ‪ ،‬وعلى الحقيقة ما ثم إال نور الشمس ‪ ،‬فاندرج‬
‫نوره في نفسه إذ لم يكن ث هم نور‬

‫ص ‪528‬‬

‫ص ‪536 :‬‬
‫غيره ‪ ،‬والمرائي وإن كان لها أثر فليس ذلك من نورها ‪ ،‬وإنما النور يكون له أثر من كونه بال‬
‫واسطة في الكون ‪ ،‬ويكون له أثر آخر في مرآة تجليه ‪ ،‬بحكم يخالف حكمه من غير تلك‬
‫الواسطة ‪ .‬فنور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما ال يعطيه من الحكم بغير البدر‬
‫‪ ،‬ال شك في ذلك ‪ .‬كذلك االقتدار اإللهي إذا تجلى في العبيد فظهرت األفعال عن الخلق ‪ ،‬فهو‬
‫وإن كان باالقتدار اإللهي ‪ ،‬ولكن يختلف الحكم ‪ ،‬ألنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل‬
‫المرآة لتجليه ‪ .‬وكما ينسب النور الشمسي إلى البدر في الحس ‪ ،‬والفعل لنور البدر وهو‬
‫الحس ‪ ،‬والفعل إنما هو هّلل في نفس األمر ‪ ،‬والختالف‬‫ه‬ ‫للشمس ‪ ،‬فكذلك ينسب الفعل للخلق في‬
‫األثر تغير الحكم النوري في األشياء ‪ ،‬فكان ما يعطيه النور بواسطة البدر خالف ما يعطيه‬
‫بنفسه بال واسطة ‪ .‬كذلك يختلف الحكم في أفعال العباد ‪ ،‬ومن هنا يعرف التكليف على من‬
‫توجه وبمن تعلق ‪ .‬وكما تعلم عقال أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء ه‬
‫وأن‬
‫الشمس ما انتقلت إليه بذاتها ‪ ،‬وإنما كان لها مجلى ‪ ،‬وأن الصفة ال تفارق موصوفها واالسم‬
‫مسماه ‪ ،‬كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء وال حل فيه ‪ ،‬وإنما هو مجلى له خاصة ومظهر‬
‫له ‪ ،‬وكما ينسب نور الشمس إلى البدر ‪ ،‬كذلك ينسب االقتدار إلى الخلق حسا ‪ ،‬والحال الحال‬
‫‪.‬وإذا كان األمر بين الشمس والبدر بهذه المثابة من الخفاء ‪ ،‬وأنه ال يعلم ذلك كل أحد ‪ ،‬فما‬
‫ظنك باألمر اإللهي في هذه المسألة مع الخلق ‪ ،‬أخفى وأخفى ‪ .‬وأما المشرك فإنه جاهل على‬
‫اإلطالق ‪ ،‬فإن الشركة ال تصح بوجه من الوجوه ‪ ،‬فإن إيجاد الفعل ال يكون بالشركة ‪ ،‬ولهذا‬
‫لم تلتحق المعتزلة بالمشركين ‪ ،‬فإنهم وحدوا أفعال العباد للعباد ‪ ،‬فما جعلوهم شركاء ‪ ،‬وإنما‬
‫أضافوا الفعل إليهم عقال وصدقهم الشرع في ذلك ‪ .‬واألشاعرة وحدوا فعل الممكنات كلها من‬
‫غير تقسيم هّلل عقال ‪ ،‬وساعدهم الشرع على ذلك ‪ ،‬لكن ببعض محتمالت وجوه ذلك الخطاب ‪،‬‬
‫فكانت حجج المعتزلة فيه أقوى في الظاهر ‪ ،‬وما ذهبت إليه األشاعرة في ذلك أقوى عند أهل‬
‫ّللا ‪ ،‬وكال الطائفتين صاحب توحيد ‪ ،‬والمشرك إنما ج ههلناه لكون الموجود ال‬
‫الكشف ‪ ،‬أهل ه‬
‫يتصف إال بإيجاد واحد ‪ ،‬والقدرة ليس لها في األعيان إال اإليجاد ‪ ،‬فال يكون الموجود موجودا‬
‫بوجودين ‪ ،‬فال يصح أن يكون الوجود عن تعلق قدرتين ؛ فإن كل واحد منهما تعطي الوجود‬
‫للموجود ‪ ،‬فإذا أعطته الواحدة منهما وجوده فما لألخرى فيه من أثر ‪ ،‬فبطل إذا حققت الشركة‬
‫في الفعل ‪ .‬فالمشرك الخاسر‬

‫ص ‪529‬‬

‫ص ‪537 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فعبده على أنه إله ‪ ،‬فكأنه جعله‬ ‫المشروع نعته ‪ ،‬هو من أضاف ما يستحقه اإلله إلى غير ه‬
‫ّللا َوما أَصابَ َك ِم ْن َ‬
‫س ِيهئ َ ٍة‬ ‫سنَ ٍة فَ ِمنَ َّ ِ‬‫شريكا في المرتبة ‪ ،‬ولذلك قال تعالى ‪ «:‬ما أَصابَ َك ِم ْن َح َ‬
‫فَ ِم ْن نَ ْف ِس َك » ‪،‬فهو إنكار عن نسبة الفعل الذي ظهر على العبد من األمور التي نهى أن يعملها‬
‫ّللا ‪ ،‬والسيئة هو ما يسوؤك فأنت محل أثر السوء ‪ .‬فمن حيث هو فعل ال يتصف بالسوء ‪،‬‬ ‫إلى ه‬
‫هو لالسم اإللهي الذي أوجده ‪ ،‬فإنه يحسن منه إيجاد مثل هذا الفعل ‪ ،‬فال يكون سوءا إال من‬
‫يجده سوءا أو من يسوءه وهو نفس اإلنسان ‪ ،‬إذ ال يجد األلم إال من يوجد فيه ؛ ففيه يظهر‬
‫حكمه ال من يوجده ‪ ،‬فإنه ال حكم له في فاعله ‪ ،‬فهذا معنى قوله« َوما أَصابَ َك ِم ْن َ‬
‫س ِيهئ َ ٍة فَ ِم ْن‬
‫نَ ْف ِس َك »وإن كانت الحسنة كذلك ‪ ،‬فذلك يحسن عند اإلنسان ‪ ،‬فإنها أيضا تحسن في جانب الحق‬
‫ّللا الموجد لها ابتداء وإن كانت بعد اإليجاد تحسن أيضا فيك‬ ‫الموجد لها ‪ ،‬فأضيفت الحسنة إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فال‬
‫‪ ،‬ولكن ال تسمى حسنة إال من كونها مشروعة ‪ ،‬وال تكون مشروعة إال من قبل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬والسيئة من قبل الحق حسنة ‪ ،‬ألنه بيهنها لتجتنب ‪ ،‬فتسوء من قامت به إما‬ ‫تضاف إال إلى ه‬
‫في الدنيا وإما في العقبى ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪80‬‬


‫علَ ْي ِه ْم َح ِفيظا ً ) ‪( 80‬‬ ‫ّللا َو َم ْن ت َ َولهى فَما أ َ ْر َ‬
‫س ْلناكَ َ‬ ‫ع هَ‬ ‫سو َل فَقَ ْد أَطا َ‬ ‫َم ْن يُ ِط ِع ه‬
‫الر ُ‬

‫ّللا الذي وكلهه في التبليغ عنه ‪ ،‬فهو‬ ‫ّللا وكلهه على عباده ‪ ،‬فأمر ونهى ‪ ،‬وتصرف بما أراه ه‬‫ألن ه‬
‫ّللا منه ‪ ،‬فإن‬ ‫باّلل ‪ ،‬بل ال ينطق إال ه‬
‫ّللا ‪ ،‬بل ال ينطق إال ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ال ينطق إال عن ه‬
‫ّللا‬
‫ع َّ َ‬‫ّللا من غيره من األسماء في قوله« فَقَ ْد أَطا َ‬‫خص االسم ه‬‫ه‬ ‫ّللا سمعه وبصره ولسانه ‪ ،‬وما‬
‫ه‬
‫»إال لكونه االسم الجامع ‪ ،‬فله معاني جميع األسماء كلها ‪ .‬واعلم أن كل ما أمر به الحق سمعنا‬
‫وأطعنا في حال عدمنا ووجودنا إذا لم يخاطبنا بفهوانية األمثال واألشكال ‪ ،‬فإذا خاطبنا‬
‫بفهوانية األمثال واألشكال وألسنة اإلرسال ؛ فمن كان مشهوده ما وراء الحجاب ‪ ،‬وهو المثل‬
‫والرسول سمع فأطاع من حينه ‪ ،‬ومن كان مشهوده المثل ‪ ،‬سمع ضرورة ولم يطع للحسد الذي‬
‫ّللا‬
‫خلق عليه من تقدهم أمثاله عليه ‪ ،‬فظهر المطيع والعاصي ‪ .‬ولهذا قال بعضهم ‪ :‬إنما احتجب ه‬
‫في الدنيا عن عباده ألنه سبق في علمه أن يكلفهم ويأمرهم وينهاهم ‪ ،‬وقد قدهر عليهم بمخالفة‬
‫أمره وبموافقته في أوقات ‪ ،‬فال بد من ظهور المخالفة والموافقة ‪ ،‬فخاطبهم على ألسنة الرسل‬
‫عليهم السالم ‪ ،‬وحجب ذاته سبحانه عنهم في صورة الرسول ‪ ،‬وذلك ألنه قال« َم ْن يُ ِط ِع‬

‫ص ‪530‬‬

‫ص ‪538 :‬‬
‫ّللا )فوقعت المخالفة بالقدر السابق‬ ‫ّللا » ‪،‬وقال( فَأ َ ِج ْرهُ َحتَّى يَ ْس َم َع َك َ‬
‫الم َّ ِ‬ ‫ع َّ َ‬ ‫سو َل فَقَ ْد أَطا َ‬‫الر ُ‬
‫َّ‬
‫والحكم القضائي وال يتمكن أن يخالف أمره على الكشف ؛ فانحجب باإلرسال انحجابه‬
‫ّللا تعالى يظهرنا وقتا ويستر نفسه فيما هو له ‪ ،‬ووقتا يظهر نفسه ويسترنا‬ ‫باألسباب ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا »فجاله باسمه وكان ظاهرا فستره‬ ‫ع َّ َ‬ ‫سو َل فَقَ ْد أَطا َ‬ ‫بحسب المواطن حكمة منه« َم ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫الر ُ‬
‫ّللا )فأظهره بكاف الخطاب ثم ستره ‪ ،‬فانظر إلى‬ ‫كما قال( إِ َّن الَّذِينَ يُبايِعُونَ َك إِنَّما يُبايِعُونَ َّ َ‬
‫سريان اللطف اإللهي ما أعجبه وحكمه الظاهر كيف أبان أن طاعة رسوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم طاعته ‪ ،‬وقد ورد في الخبر الصدق والنبأ الحق أنه يجب اتباعه ‪ ،‬وما يتبعه إال من‬
‫ّللاَ »«‬
‫ع َّ‬‫سو َل فَقَ ْد أَطا َ‬ ‫عز وج هل« َم ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫الر ُ‬ ‫أطاعه ‪ ،‬واتباع الرسول اتباع اإلله ‪ ،‬ألنه قال ه‬
‫ّللا يصلي عليه‬ ‫ع ِظيما ا »فصلوا عليه وسلهموا تسليما ‪ ،‬فإن ه‬ ‫سولَهُ فَقَ ْد فازَ فَ ْوزا ا َ‬ ‫َو َم ْن يُ ِط ِع َّ َ‬
‫ّللا َو َر ُ‬
‫ّللا ؛ فأمر‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬لم يمتثل أمر ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وينظر إليه ‪ ،‬ومن لم يمتثل أمر رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ال ينطق عن الهوى ‪ ،‬فمن يطع الرسول ‪ ،‬فقد‬ ‫ّللا عليه وسلم أمر ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن هويته سمعه وبصره وجميع قواه ‪.‬‬ ‫أطاع ه‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 81‬إلى ‪82‬‬


‫ب ما يُبَ ِيهت ُ َ‬
‫ون‬ ‫غ ْي َر الهذِي تَقُو ُل َو ه‬
‫ّللاُ يَ ْكت ُ ُ‬ ‫ون طاعَةٌ فَ ِإذا بَ َر ُزوا ِم ْن ِع ْن ِدكَ بَيهتَ طائِفَةٌ ِم ْن ُه ْم َ‬ ‫َويَقُولُ َ‬
‫آن َولَ ْو َ‬
‫كان ِم ْن‬ ‫اَّلل َو ِكيلً ) ‪ ( 81‬أ َ فَل يَت َ َدبه ُر َ‬
‫ون ا ْلقُ ْر َ‬ ‫ّللا َوكَفى ِب ه ِ‬‫علَى ه ِ‬‫ع ْن ُه ْم َوت َ َو هك ْل َ‬
‫ض َ‬ ‫فَأَع ِْر ْ‬
‫اختِلفا ً َكثِيرا ً ( ‪) 82‬‬ ‫ّللا لَ َو َجدُوا فِي ِه ْ‬ ‫ِع ْن ِد َ‬
‫غ ْي ِر ه ِ‬

‫ّللا لَ َو َجدُوا فِي ِه‬ ‫« أ َ فَال يَت َ َدب َُّرونَ ْالقُ ْرآنَ »أي يتفكرون في معانيه« َولَ ْو كانَ ِم ْن ِع ْن ِد َ‬
‫غي ِْر َّ ِ‬
‫اختِالفا ا َكثِيرا ا »الوجه األول ‪ -‬يعني في نعت الحق وما يجب له ‪ ،‬فإن الناظر بفكره في معتقده‬ ‫ْ‬
‫ال يبقى على حالة واحدة دائما ‪ ،‬بل هو في كل وقت بحسب ما يعطيه دليله في زعمه في وقته‬
‫ّللا والخائضين فيه ‪ ،‬ليست أنوارا ‪،‬‬ ‫‪ ،‬فيخرج من أمر إلى نقيضه ‪ ،‬فعلوم المتكلمين في ذات ه‬
‫وهم يتخيلون قبل ورود الشبه أنهم في نور وعلى بينة من ربهم في ذلك ‪ ،‬فال يبدو لهم نقصهم‬
‫ه‬
‫الحق والعلم‬ ‫حتى ترد عليهم الشبهة ‪ ،‬وما يدريك لعل تلك الشهبة التي يزعمون أنها شبهة هي‬
‫‪ ،‬فإنك تعلم قطعا أن دليل األشعري في إثبات المسألة التي ينفيها المعتزلي هو الحق وأنه شبهة‬
‫عند المعتزلي ‪ ،‬ودليل المعتزلي الذي ينفي به ما يثبته األشعري شبهة عند األشعري ‪ ،‬ثم أنه‬
‫ما من مذهب إال وله أئمة يقومون به ‪ ،‬وهم فيه مختلفون ‪ ،‬وإن اتصفوا‬

‫ص ‪531‬‬

‫ص ‪539 :‬‬
‫جميعهم مثال باألشاعرة فال يزالون مختلفين ‪ ،‬مع كون كل طائفة يجمعها مقام واحد واسم واحد‬
‫‪ ،‬وهم مختلفون في أصول ذلك المذهب الذي جمعهم ‪ ،‬ورأينا المسمين رسال وأنبياء قديما‬
‫وحديثا من آدم إلى محمد ومن بينهما عليهم الصالة والسالم ‪ ،‬ما رأينا ‪ -‬أحدا منهم قط ‪ -‬قد‬
‫ّللا ‪ ،‬بل كل واحد منهم يصدق بعضهم بعضا ‪ ،‬وال‬ ‫اختلفوا في أصول معتقدهم في جناب ه‬
‫سمعنا عن أحد منهم أنه طرأ عليه في معتقده وعلمه بربه شبهة قط ‪ ،‬وال اختلف واحد منهم‬
‫فاّلل يحول بيننا وبين سلطان أفكارنا فيما لم نؤمر بالتفكر فيه ‪ ،‬الوجه‬ ‫على اآلخر في ذلك ‪ ،‬ه‬
‫الثاني ‪ -‬لما كان الوحي ينزل لترتيب األمور التي تقتضيها حكمة الوجود ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪«:‬‬
‫اختِالفا ا َكثِيرا ا »يخالف ترتيب حكمة الوجود ‪ ،‬وليس إال‬
‫ّللا لَ َو َجدُوا فِي ِه ْ‬ ‫َولَ ْو كانَ ِم ْن ِع ْن ِد َ‬
‫غي ِْر َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو في غاية اإلحكام واإلتقان الذي ال يمكن غيره ‪ ،‬فال يؤمن بما جاء به هذا الرسول‬ ‫من ه‬
‫إال من خاطبه الرسول في سره ‪ ،‬وإن لم يشعر به المخاطب ‪ ،‬وال يعرف من كلمه ‪ ،‬وإنما يجد‬
‫التصديق بما جاء به في قلبه ‪ .‬وأهل الكشف والحضور يعرفون عن سماع بقلوب وآذان‬
‫ّللا ‪ ،‬فيؤمنون به على بصيرة ‪.‬‬
‫وأبصار كالم الرسول بأن هذا جاء من عند ه‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪83‬‬


‫سو ِل َو ِإلى أُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُه ْم‬ ‫الر ُ‬ ‫ف أَذاعُوا ِب ِه َولَ ْو َردُّو ُه ِإلَى ه‬ ‫َو ِإذا جا َء ُه ْم أ َ ْم ٌر ِم َن ْاأل َ ْم ِن أ َ ِو ا ْل َخ ْو ِ‬
‫طان ِإاله قَ ِليلً ‪( 83‬‬ ‫ش ْي َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو َرحْ َمتُهُ التهبَ ْعت ُ ُم ال ه‬
‫ّللا َ‬ ‫طونَهُ ِم ْن ُه ْم َولَ ْو ال فَ ْ‬
‫ض ُل ه ِ‬ ‫ست َ ْن ِب ُ‬ ‫لَعَ ِل َمهُ الهذ َ‬
‫ِين يَ ْ‬
‫)‬

‫اعلم أن الناس يفضل بعضهم بعضا ‪ ،‬فأدناهم منزلة من هو إنسان حيواني ‪ ،‬وأعالهم من هو‬
‫ّللا وهو اإلنسان الكامل نائب الحق ‪ ،‬يكون الحق لسانه وجميع قواه ‪ ،‬وما بين هذين‬ ‫ظل ه‬
‫المقامين مراتب ‪ .‬ففي زمان الرسل يكون الكامل رسوال ‪ ،‬وفي زمان انقطاع الرسالة يكون‬
‫الكامل وارثا ‪ ،‬وال ظهور للوارث مع وجود الرسول ‪ ،‬إذ الوارث ال يكون وارثا إال بعد موت‬
‫من يرثه ‪ ،‬فلم يتمكن للصاحب مع وجود الرسول أن تكون له هذه المرتبة ‪ ،‬واألمر ينزل من‬
‫ّللا على الدوام ال ينقطع ‪ ،‬فال يقبله إال الرسل خاصة على الكمال ‪ ،‬فإذا‬
‫ه‬

‫ص ‪532‬‬

‫ص ‪540 :‬‬
‫فقدوا حينئذ ‪ ،‬وجد ذلك االستعداد في غير الرسل ‪ ،‬فقبلوا ذلك التنزل اإللهي في قلوبهم ‪،‬‬
‫ّللا بالتنزل اإللهي ‪ .‬فإن كان‬ ‫فسموا ورثة ‪ ،‬لم ينطلق عليهم اسم رسل مع كونهم يخبرون عن ه‬
‫في ذلك التنزل اإللهي حكم أخذه هذا المنزل عليه وحكم به ‪ ،‬وهو المعبر عنه بلسان علماء‬
‫ّللا« لَعَ ِل َمهُ الَّذِينَ يَ ْست َ ْن ِب ُ‬
‫طونَهُ ِم ْن ُه ْم‬ ‫الرسوم المجتهد الذي يستنبط الحكم عندهم ‪ ،‬وهو العالم بقول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ونحن نقول به ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫» ‪،‬فهذا حظ الناس اليوم من التشريع بعد رسول ه‬
‫ولكن ال نقول بأن االجتهاد هو ما ذكره علماء الرسوم ‪ ،‬بل االجتهاد عندنا بذل الوسع في‬
‫تحصيل االستعداد الباطن الذي به يقبل هذا التنزل الخاص ‪ ،‬الذي ال يقبله في زمان النبوة‬
‫والرسالة إال نبي أو رسول ‪ ،‬إال أنه ال سبيل إلى مخالفة حكم ثابت قد تقرر من الرسول صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم في نفس األمر ‪ ،‬فإن لم يكن ذلك في نفس األمر فال يلقى إلى هذا المجتهد الذي‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ه‬
‫ذكرناه إال ما هو الحكم عليه في نفس األمر ‪ ،‬حتى إنه لو كان الرسول صلى ه‬
‫حيا لحكم به ‪ ،‬مع أنه قرر حكم المجتهد وإن أخطأ ‪.‬‬
‫فما أخطأ المجتهد إال في االستعداد كما ذكرناه ‪ ،‬فلو أصاب في االستعداد ما أخطأ مجتهد أبدا ‪،‬‬
‫بل ال يكون مجتهدا في الحكم ‪ ،‬وإنما هو ناقل ما قبله من الحق النازل عليه في تجليه ‪ ،‬وهذا‬
‫عزيز في األمة ما يوجد إال في أفراد ‪ ،‬وعالمتهم أنهم ما يختلفون في الحكم أصال لوحدانية‬
‫الرسالة في هذا الزمان ‪ ،‬فإذا اختلفوا فما هم الذين ذكرناهم ‪ ،‬فيكون صاحب الحق إذا كانت‬
‫األحكام منحصرة القسمة واحدا منهم ‪ ،‬فإن بقي قسم لم يقع به حكم ربما كان الحق فيه ‪ ،‬ومع‬
‫هذا تعبد كل واحد بما أعطاه دليله ‪ ،‬فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر ‪ ،‬فوقع االجتهاد‬
‫في االجتهاد ‪ ،‬فإن كنت من أهل االجتهاد في االستنباط لألحكام الشرعية ‪ ،‬فأنت وارث نبوة‬
‫شرعية ‪ ،‬فإنه تعالى قد شرع ذلك في تقرير ما أدى إليه اجتهادك ودليلك من الحكم أن تشرعه‬
‫لنفسك وتفتي به غيرك إذا سئلت ‪ ،‬وإن لم تسئل فال ‪.‬‬
‫واعلم أن االجتهاد ما هو في أن تحدث حكما ‪ ،‬هذا غلط ‪ ،‬وإنما االجتهاد المشروع طلب الدليل‬
‫من كتاب أو سنة أو إجماع ‪ ،‬وفهم عربي على إثبات حكم في تلك المسألة بذلك الدليل الذي‬
‫ّللا تعالى ورسوله ما ترك‬ ‫اجتهدت في تحصيله والعلم به في زعمك ‪ ،‬هذا هو االجتهاد ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا تعالى يقول ( ْاليَ ْو َم أ َ ْك َم ْلتُ لَ ُك ْم دِينَ ُك ْم )وبعد‬
‫نص عليه ولم يتركه مهمال ‪ ،‬فإن ه‬
‫شيئا إال وقد ه‬
‫ثبوت الكمال فال يقبل الزيادة ‪ ،‬فإن الزيادة في الدين نقص من الدين ‪ ،‬وذلك هو الشرع الذي لم‬
‫ّللا‪.‬‬
‫يأذن به ه‬

‫ص ‪533‬‬

‫ص ‪541 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 84‬إلى ‪85‬‬
‫ِين َكفَ ُروا‬
‫س الهذ َ‬ ‫ُف بَأ ْ َ‬
‫ّللاُ أ َ ْن يَك ه‬
‫سى ه‬ ‫ع َ‬‫ين َ‬ ‫ض ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ف ِإاله نَ ْف َ‬
‫سكَ َو َح ِ هر ِ‬ ‫ّللا ال ت ُ َكله ُ‬ ‫فَقاتِ ْل فِي َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬
‫سنَةً يَك ُْن لَهُ نَ ِص ٌ‬
‫يب ِم ْنها َو َم ْن يَ ْ‬
‫شفَ ْع‬ ‫شفَ ْع شَفاعَةً َح َ‬ ‫ش ُّد ت َ ْن ِكيلً ( ‪َ ) 84‬م ْن يَ ْ‬ ‫ش ُّد بَأْسا ً َوأ َ َ‬
‫ّللاُ أ َ َ‬
‫َو ه‬
‫ش ْي ٍء ُم ِقيتا ً ) ‪( 85‬‬ ‫ّللاُ عَلى ُك ِ هل َ‬ ‫س ِيهئَةً يَك ُْن لَهُ ِك ْف ٌل ِم ْنها َو َ‬
‫كان ه‬ ‫شَفاعَةً َ‬

‫القاضي حاكم والمقدهر مقيت ‪ ،‬فالقدر التوقيت في األشياء من اسمه المقيت ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪86‬‬


‫سيبا ً ) ‪( 86‬‬ ‫س َن ِم ْنها أ َ ْو ُردُّوها ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫كان عَلى ُك ِ هل َ‬
‫ش ْي ٍء َح ِ‬ ‫َو ِإذا ُح ِيهيت ُ ْم ِبت َ ِحيه ٍة فَ َحيُّوا ِبأَحْ َ‬

‫يخص صالة من غيرها ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ال يجوز تأخير رد التحية بدليل قوله تعالى« فَ َحيُّوا »فجاء بالفاء ولم‬
‫فيجوز للمصلي أن يرد السالم على من يسلم عليه ‪ ،‬فإنه يجوز التلفظ به في الصالة وغيرها ‪،‬‬
‫وهو ذكر هّلل ‪ ،‬فكيف ورد السالم واجب ‪ .‬وعند أهل اإليمان فإن المصلي إذا أراد أن يكبر‬
‫ّللا وبركاته ‪ ،‬ألنهم‬
‫تكبيرة اإلحرام في صالة الصبح والعصر يقول ‪ :‬وعليكم السالم ورحمة ه‬
‫في ذلك الوقت تنصرف عنهم المالئكة التي كانوا فيهم ‪ ،‬وترد عليهم المالئكة الذين يأتون إليهم‬
‫‪ ،‬فال تنصرف عنهم المالئكة الذين كانوا معهم وال تأتيهم المالئكة األخر إال عند شروعهم في‬
‫الصالة ‪ ،‬سواء قاموا إليها في أول الوقت أو في آخره ‪ ،‬كل إنسان ال تنصرف عنه المالئكة إال‬
‫وّللا قد أمرنا‬
‫كما قلنا ‪ ،‬وهم عند إتيانهم يسلمون على العبد ‪ ،‬وعند انصرافهم يسلمون أيضا ‪ ،‬ه‬
‫سنَ ِم ْنها أ َ ْو ُردُّوها » ‪.‬فوجب على كل مؤمن عند حق إيمانه‬ ‫بقوله« َو ِإذا ُح ِيهيت ُ ْم بِت َ ِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا بِأ َ ْح َ‬
‫وحقيقته أن يرد في ذلك الوقت السالم عليهم ‪ ،‬وإال فهو طعن في إيمانه إن حضر مع هذا‬
‫الخبر ‪.‬‬

‫سورة النساء ‪ ( 4 ) :‬آية ‪87‬‬


‫ّللا َحدِيثا ً) ‪( 87‬‬
‫ق ِم َن ه ِ‬ ‫ب فِي ِه َو َم ْن أ َ ْ‬
‫ص َد ُ‬ ‫ّللاُ ال إِلهَ إِاله ُه َو لَيَجْ َمعَنه ُك ْم إِلى يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة ال َر ْي َ‬
‫ه‬

‫ص ‪534‬‬

‫ص ‪542 :‬‬
‫هذا التوحيد السادس في القرآن ‪،‬‬
‫[ توحيد الهوية المنعوت باالسم الجامع للقضاء والفصل ]‬
‫ّللا‬
‫توحيد االبتداء ‪ ،‬وهو توحيد الهوية المنعوت باالسم الجامع للقضاء والفصل ‪ .‬فمن رحمة ه‬
‫أنه قال« لَيَ ْج َمعَنَّ ُك ْم »فما نجتمع إال فيما نفترق فيه ‪ ،‬وهو اإلقرار بربوبيته سبحانه ‪ .‬وإذا جمعنا‬
‫من حيث إقرارنا له بالربوبية فهي آية بشرى ‪ ،‬وذكر خير في حقنا بسعادة الجميع ‪ ،‬وإن دخلنا‬
‫النار ‪ ،‬فإن الجمعية تمنع من تسرمد االنتقام ال إلى نهاية ‪ ،‬لكن يتسرمد العذاب وتختلف‬
‫الحاالت فيه ؛ فإذا انتهت حالة االنتقام ووجدان اآلالم ‪ ،‬أعطى من النعيم واالستعذاب بالعذاب‬
‫ما يليق بمن أقر بربوبيته ثم أشرك ثم وحد في غير موطن التكليف ‪ .‬والتكليف أمر عرض في‬
‫الوسط بين الشهادتين لم يثبت ‪ ،‬فبقي الحكم لألصلين األول واآلخر ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 88‬إلى ‪90‬‬


‫ّللاُ َو َم ْن‬
‫ض هل ه‬ ‫ُون أ َ ْن ت َ ْهدُوا َم ْن أ َ َ‬ ‫سبُوا أ َ ت ُ ِريد َ‬ ‫س ُه ْم بِما َك َ‬ ‫ّللاُ أ َ ْر َك َ‬
‫فَما لَ ُك ْم فِي ا ْل ُمنافِ ِقي َن فِئَت َ ْي ِن َو ه‬
‫سوا ًء فَل تَت ه ِخذُوا‬ ‫ون َ‬ ‫ون كَما َكفَ ُروا فَتَكُونُ َ‬ ‫س ِبيلً ( ‪َ ) 88‬ودُّوا لَ ْو ت َ ْكفُ ُر َ‬ ‫ّللاُ فَلَ ْن ت َ ِج َد لَهُ َ‬
‫ض ِل ِل ه‬ ‫يُ ْ‬
‫ث َو َج ْدت ُ ُمو ُه ْم َوال‬ ‫اقتُلُو ُه ْم َح ْي ُ‬‫ّللا فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَ ُخذُو ُه ْم َو ْ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫هاج ُروا فِي َ‬ ‫ِم ْن ُه ْم أ َ ْو ِليا َء َحتهى يُ ِ‬
‫ق أ َ ْو جا ُؤ ُك ْم‬ ‫ون ِإلى قَ ْو ٍم بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَ ُه ْم ِميثا ٌ‬ ‫ِين يَ ِصلُ َ‬ ‫تَت ه ِخذُوا ِم ْن ُه ْم َو ِليًّا َوال نَ ِصيرا ً ( ‪ِ ) 89‬إاله الهذ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم فَلَقاتَلُو ُك ْم فَ ِإ ِن‬
‫سله َط ُه ْم َ‬‫ّللاُ لَ َ‬‫ُور ُه ْم أ َ ْن يُقا ِتلُو ُك ْم أ َ ْو يُقا ِتلُوا قَ ْو َم ُه ْم َولَ ْو شا َء ه‬ ‫صد ُ‬ ‫َح ِص َرتْ ُ‬
‫سبِيلً) ‪( 90‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َ‬ ‫سلَ َم فَما َجعَ َل ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم َ‬ ‫ا ْعت َ َزلُو ُك ْم فَلَ ْم يُقاتِلُو ُك ْم َوأ َ ْلقَ ْوا إِلَ ْي ُك ُم ال ه‬

‫ص ‪535‬‬

‫ص ‪543 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 91‬إلى ‪92‬‬
‫سوا فِيها فَ ِإ ْن لَ ْم‬ ‫ُون أ َ ْن يَأ ْ َمنُو ُك ْم َويَأ ْ َمنُوا قَ ْو َم ُه ْم ُكلهما ُردُّوا ِإلَى ا ْل ِفتْنَ ِة أ ُ ْر ِك ُ‬
‫ين يُ ِريد َ‬ ‫ُون آ َخ ِر َ‬‫ست َ ِجد َ‬ ‫َ‬
‫ث ث َ ِق ْفت ُ ُمو ُه ْم َوأُولئِ ُك ْم َجعَ ْلنا‬ ‫سلَ َم َويَ ُكفُّوا أ َ ْي ِديَ ُه ْم فَ ُخذُو ُه ْم َو ْ‬
‫اقتُلُو ُه ْم َح ْي ُ‬ ‫يَ ْعت َ ِزلُو ُك ْم َويُ ْلقُوا ِإلَ ْي ُك ُم ال ه‬
‫كان ِل ُم ْؤ ِم ٍن أ َ ْن يَ ْقت ُ َل ُم ْؤ ِمنا ً ِإاله َخ َطأ ً َو َم ْن قَت َ َل ُم ْؤ ِمنا ً َخ َطأ ً‬ ‫س ْلطانا ً ُم ِبينا ً ( ‪َ ) 91‬وما َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ُ‬‫لَ ُك ْم َ‬
‫عد ه ٍُو لَ ُك ْم َو ُه َو‬‫كان ِم ْن قَ ْو ٍم َ‬ ‫ص هدقُوا فَ ِإ ْن َ‬ ‫سله َمةٌ إِلى أ َ ْه ِل ِه إِاله أ َ ْن يَ ه‬
‫ير َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة َو ِديَةٌ ُم َ‬ ‫فَتَحْ ِر ُ‬
‫سله َمةٌ إِلى أ َ ْه ِل ِه‬ ‫ق فَ ِديَةٌ ُم َ‬ ‫كان ِم ْن قَ ْو ٍم بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَ ُه ْم ِميثا ٌ‬
‫ير َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة َوإِ ْن َ‬ ‫ُم ْؤ ِم ٌن فَتَحْ ِر ُ‬
‫ع ِليما ً‬ ‫ّللاُ َ‬
‫كان ه‬ ‫ّللا َو َ‬ ‫شه َْر ْي ِن ُمتَتابِعَ ْي ِن ت َ ْوبَةً ِم َن ه ِ‬ ‫ير َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد فَ ِصيا ُم َ‬ ‫َوتَحْ ِر ُ‬
‫َح ِكيما ً ) ‪( 92‬‬

‫ما في الخلق من يملك سوى اإلنسان ‪ ،‬وما سوى اإلنسان من ملك وغيره ال يملك شيئا ‪ ،‬وما‬
‫ّللا له العتق‬
‫يقر له بالعبودية إال اإلنسان ‪ ،‬فيقال ‪ :‬هذا عبد فالن ولهذا شرع ه‬
‫ثم موجود من ه‬
‫ور ه‬
‫غبه فيه ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪93‬‬


‫علَ ْي ِه َولَعَنَهُ َوأ َ َ‬
‫ع هد لَهُ عَذابا ً‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ب ه‬ ‫َو َم ْن يَ ْقت ُ ْل ُم ْؤ ِمنا ً ُمتَعَ ِ همدا ً فَ َجزا ُؤ ُه َج َهنه ُم خا ِلدا ً فِيها َو َ‬
‫غ ِض َ‬
‫ع َِظيما ً ) ‪( 93‬‬

‫ّللا ال يخلص عن رحمة إلهية تشوبه ‪ ،‬فغضبه في الدنيا ما نصبه من الحدود‬ ‫غضب ه‬
‫والتعزيرات ‪ ،‬وغضبه في اآلخرة ما يقيم من الحدود على من يدخل النار ‪ ،‬فهو وإن كان‬
‫غضبا ‪ ،‬فهو تطهير لما شابه من الرحمة في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ألن الرحمة لما سبقت الغضب‬
‫في الوجود ع همت الكون كله ووسعت كل شيء ‪ ،‬ويخرج تخليد من قتل مؤمنا متعمدا أي قصد‬
‫علَ ْي ِه »أي جازاه جزاء المغضوب عليه ‪ ،‬فإن غضب ه‬
‫ّللا تعالى‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ب َّ‬‫َض َ‬
‫قتله إليمانه ‪َ «:‬وغ ِ‬
‫منزه عن غليان دم القلب طلبا لالنتصار ‪ ،‬ألنه سبحانه يتقدس عن الجسمية والعرض ‪ ،‬فذلك‬
‫قد يرجع إلى أن يفعل فعل من غضب ممن يجوز عليه الغضب ‪ ،‬وهو انتقامه سبحانه من‬
‫الجبارين والمخالفين ألمره والمتعدين حدوده ‪ ،‬فالمجازي يكون غاضبا ؛ فظهور الفعل أطلق‬
‫االسم ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪94‬‬


‫ستَ‬ ‫سل َم لَ ْ‬ ‫ّللا فَتَبَيهنُوا َوال تَقُولُوا ِل َم ْن أ َ ْلقى إِلَ ْي ُك ُم ال ه‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ض َر ْبت ُ ْم فِي َ‬ ‫ِين آ َمنُوا إِذا َ‬‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫يرةٌ كَذ ِلكَ ُك ْنت ُ ْم ِم ْن قَ ْب ُل فَ َم هن ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫ض ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا فَ ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللا َمغانِ ُم َكثِ َ‬ ‫ُم ْؤ ِمنا ً ت َ ْبتَغُ َ‬
‫ون ع ََر َ‬
‫ون َخ ِبيرا ً) ‪( 94‬‬ ‫كان ِبما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫فَتَبَيهنُوا ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬

‫ص ‪536‬‬

‫ص ‪544 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪95‬‬
‫ّللا ِبأ َ ْموا ِل ِه ْم‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬‫ُون فِي َ‬ ‫ض َر ِر َوا ْل ُمجا ِهد َ‬ ‫غ ْي ُر أُو ِلي ال ه‬ ‫ين َ‬ ‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ست َ ِوي ا ْلقا ِعد َ‬ ‫ال يَ ْ‬
‫سنى‬ ‫ّللاُ ا ْل ُح ْ‬
‫ع َد ه‬ ‫ِين د ََر َجةً َو ُكلًّ َو َ‬
‫علَى ا ْلقا ِعد َ‬ ‫س ِه ْم َ‬ ‫ِين ِبأ َ ْموا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِ‬
‫ّللاُ ا ْل ُمجا ِهد َ‬
‫ض َل ه‬‫س ِه ْم فَ ه‬‫َوأ َ ْنفُ ِ‬
‫ِين أَجْ را ً ع َِظيما ً ) ‪( 95‬‬ ‫علَى ا ْلقا ِعد َ‬ ‫ِين َ‬‫ّللاُ ا ْل ُمجا ِهد َ‬
‫ض َل ه‬ ‫َوفَ ه‬
‫ّللا ممن يعبد من‬ ‫ّللا في األماكن التي يعلو فيها ذكر غير ه‬ ‫المقصود من الجهاد هو إعالء كلمة ه‬
‫أن المجاهدين‬ ‫ّللا ه‬‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬سياحة هذه األمة الجهاد ] واعلم أيدك ه‬ ‫ّللا قال صلهى ه‬ ‫دون ه‬
‫هم أهل الجهد والمشقة والمكابدة ‪ ،‬والمجاهدة مقام مستصحب للتكليف ‪ ،‬فما دام التكليف‬
‫موجودا كانت المجاهدة قائمة العين ‪ ،‬فإذا زال حكم التكليف زالت المجاهدة ‪،‬‬
‫[ المجاهدون أربعة أصناف ]‬
‫ّللاُ‬
‫ض َل َّ‬ ‫والمجاهدون أربعة أصناف ‪ :‬مجاهدون من غير تقييد بأمر ‪ ،‬وهو قوله تعالى «‪َ :‬وفَ َّ‬
‫علَى ْالقا ِعدِينَ »‬ ‫ْال ُمجا ِهدِينَ َ‬
‫ّللا » ‪،‬‬ ‫ّللا وهو قوله« َو ْال ُمجا ِهدُونَ فِي َ‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫ومجاهدون بتقييد في سبيل ه‬
‫ّللا حق جهاده ‪.‬‬ ‫سبُلَنا )ومجاهدون في ه‬ ‫ومجاهدون فيه وهو قوله( َوالَّذِينَ جا َهدُوا فِينا لَنَ ْه ِديَنَّ ُه ْم ُ‬
‫ولما كان إتالف المهج أعظم المشاق على النفوس ‪ ،‬لهذا سمي جهادا ‪ ،‬فإن النفوس نفسان ‪:‬‬
‫نفس ترغب في الحياة الدنيا أللفتها بها ‪ ،‬فال تريد المفارقة وتشق عليها ‪ ،‬ونفس ترغب في‬
‫فشق عليها مفارقة الحياة‬ ‫ه‬ ‫الحياة الدنيا لتزيد طاعة وأفعاال مقربة وترقيا دائما مع األنفاس ‪،‬‬
‫ع ِظيما ا »وما عظم ه‬
‫ّللا‬ ‫علَى ْالقا ِعدِينَ أ َ ْجرا ا َ‬ ‫ّللاُ ْال ُمجا ِهدِينَ َ‬ ‫ض َل َّ‬ ‫الدنيا ‪ ،‬فلهذا سمي جهادا ‪َ «:‬وفَ َّ‬
‫ال يقدر قدره ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪96‬‬


‫ّللاُ َ‬
‫غفُورا ً َر ِحيما ً «) ‪( 96‬‬ ‫ت ِم ْنهُ َو َم ْغ ِف َرةً َو َرحْ َمةً َو َ‬
‫كان ه‬ ‫د ََرجا ٍ‬
‫ت ِم ْنهُ »وما جعلها درجة واحدة ‪ ،‬فإن جهادهم مطلق غير مقيد ‪ ،‬كما قال في المجاهدين‬ ‫َد َرجا ٍ‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو جهاد مقيد حيث جعل لهم درجة واحدة ‪ ،‬ثم زادهم ما‬ ‫في سبيل ه‬

‫ص ‪537‬‬

‫ص ‪545 :‬‬
‫غفُورا ا َر ِحيما ا »كان حرف وجودي ‪ ،‬ويطلق‬ ‫ذكر في تمام اآلية« َو َم ْغ ِف َرة ا َو َر ْح َمةا َوكانَ َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫غفُورا ا َر ِحيما ا » ‪.‬‬
‫ّللاُ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فيقال« َوكانَ َّ‬
‫من الوجه الذي ال يقبل به ظرفية الزمان على ه‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪97‬‬


‫ين فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض قالُوا‬ ‫ست َ ْ‬
‫ضعَ ِف َ‬ ‫ِين ت َ َوفها ُه ُم ا ْل َملئِكَةُ ظا ِل ِمي أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم قالُوا فِي َم ُك ْنت ُ ْم قالُوا ُكنها ُم ْ‬ ‫إِ هن الهذ َ‬
‫هاج ُروا فِيها فَأُولئِكَ َمأْوا ُه ْم َج َهنه ُم َوسا َءتْ َم ِصيرا ً ) ‪( 97‬‬ ‫سعَةً فَت ُ ِ‬ ‫ّللا وا ِ‬
‫ض هِ‬ ‫أ َ لَ ْم تَك ُْن أ َ ْر ُ‬

‫هاج ُروا فِيها »ولم يقل منها وال إليها ‪ ،‬فهي أرض‬ ‫ّللا وا ِسعَةا فَت ُ ِ‬
‫ض َّ ِ‬ ‫قال تعالى ‪ «:‬أ َ لَ ْم ت َ ُك ْن أ َ ْر ُ‬
‫ّللا‬
‫ّللا سواء سكنها من يعبده أو من يستكبر عن عبادته ‪ ،‬فإن مكة أشرف البقاع وإنها بيت ه‬ ‫ه‬
‫الذي يحج إليه من مشارق األرض ومغاربها ‪ ،‬ومع ذلك أمر وعظم األجر لمن يهاجر منها من‬
‫ّللا عليه وسلم [ ‪ :‬ال هجرة‬ ‫ّللا وأسكنها المؤمنين من عباده قال صلهى ه‬ ‫أجل ساكنيها ‪ ،‬فلما فتحها ه‬
‫بعد الفتح ] ولما قال تعالى ‪َ «:‬وقَضى َرب َُّك أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا إِ َّال إِيَّاهُ »أي حكم ‪ ،‬فما عبد من عبد غير‬
‫ّللا وإن أخطئوا في النسبة ‪ ،‬إذ كان هّلل في كل شيء وجه خاص‬ ‫ّللا إال لهذا الحكم ‪ ،‬فلم يعبد إال ه‬ ‫ه‬
‫ّللا أن يميهز بين من عبده على‬ ‫ّللا ‪ .‬ولما أراد ه‬ ‫‪ ،‬به ثبت ذلك الشيء ‪ ،‬فما خرج أحد عن عبادة ه‬
‫ّللا فيها‬ ‫االختصاص وبين من عبده في األشياء ‪ ،‬أمر بالهجرة من األماكن األرضية التي يعبد ه‬
‫ّللا في األغيار ‪ ،‬والطيب‬ ‫ّللا الخبيث من الطيب ‪ ،‬فالخبيث هو الذي عبد ه‬ ‫في األعيان ‪ ،‬ليميز ه‬
‫ّللا ال في األغيار ‪ .‬فعليك بالهجرة ‪ ،‬وال تقم بين أظهر الكفار ‪ ،‬فإن في ذلك إهانة‬ ‫هو الذي عبد ه‬
‫ّللا هي‬ ‫ّللا ما أمر بالقتال إال لتكون كلمة ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬
‫دين اإلسالم وإعالء كلمة الكفر على كلمة ه‬
‫العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ‪ .‬وإياك واإلقامة أو الدخول تحت ذمة كافر ما استطعت ‪.‬‬
‫حظ له في‬ ‫واعلم أن المقيم بين أظهر الكفار مع تمكنه من الخروج من بين ظهرانيهم ال ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا عليه وسلم قد تبرأ منه ‪ ،‬وال يتبرأ رسول ه‬ ‫اإلسالم ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر‬ ‫من مسلم ‪ ،‬وقد ثبت عنه أنه صلهى ه‬
‫المشركين ] فما اعتبر له كلمة اإلسالم ‪.‬‬
‫ّللا تعالى فيمن مات وهو بين أظهر المشركين" ِإ َّن الَّذِينَ ت َ َوفَّا ُه ُم ْال َمالئِ َكةُ ظا ِل ِمي أ َ ْنفُ ِس ِه ْم‬ ‫وقال ه‬
‫ض"‬ ‫ضعَ ِفينَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫يم ُك ْنت ُ ْم قالُوا ُكنَّا ُم ْست َ ْ‬
‫قالُوا فِ َ‬

‫ص ‪538‬‬

‫ص ‪546 :‬‬
‫صيرا ا »‬ ‫هاج ُروا فِيها فَأُولئِ َك َمأْوا ُه ْم َج َهنَّ ُم َوسا َء ْ‬
‫ت َم ِ‬ ‫ّللا وا ِسعَةا فَت ُ ِ‬ ‫ض َّ ِ‬ ‫ّللا لهم« أ َ لَ ْم ت َ ُك ْن أ َ ْر ُ‬
‫قال ه‬
‫‪.‬ولهذا حجرنا في هذا الزمان على الناس زيارة بيت المقدس واإلقامة فيه لكونه بيد الكفار ‪،‬‬
‫باّلل من تحكم‬ ‫فالوالية لهم والتحكم في المسلمين ‪ ،‬والمسلمون معهم على أسوأ حال نعوذ ه‬
‫ّللا‬
‫األهواء ‪ ،‬فالزائرون اليوم البيت المقدس والمقيمون فيه من المسلمين هم من الذين قال ه‬
‫ص ْنعا ا ) ‪.‬‬ ‫س ْعيُ ُه ْم فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا َو ُه ْم يَ ْح َ‬
‫سبُونَ أَنَّ ُه ْم يُ ْح ِسنُونَ ُ‬ ‫ض َّل َ‬
‫فيهم( َ‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 98‬إلى ‪99‬‬


‫س ِبيلً ( ‪) 98‬‬ ‫ون ِحيلَةً َوال يَ ْهتَد َ‬
‫ُون َ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ساء َوا ْل ِو ْل ِ‬
‫دان ال يَ ْ‬ ‫الرجا ِل َوال ِنه ِ‬‫ين ِم َن ِ ه‬ ‫ضعَ ِف َ‬ ‫ِإاله ا ْل ُم ْ‬
‫ست َ ْ‬
‫غفُورا ً ) ‪( 99‬‬ ‫عفُ ًّوا َ‬
‫ّللاُ َ‬‫كان ه‬ ‫ّللاُ أ َ ْن يَ ْعفُ َو َ‬
‫ع ْن ُه ْم َو َ‬ ‫سى ه‬ ‫ع َ‬‫فَأُولئِكَ َ‬

‫العفو يجمع بالداللة بين القليل والكثير ‪ ،‬هكذا هو في أصل وضع اللسان ‪ .‬واتصاف الحضرة‬
‫اإللهية بالعفو أنها تعطي ما تقتضيه الحاجة ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪ .‬من كونه سخيا حكيما ‪ ،‬ثم يزيد‬
‫في العطاء في كونه منعما مفضال غير محجور عليه ‪ ،‬وال تقضي عليه الحاجات باالقتصار‬
‫على ما يكون به االكتفاء ‪ .‬وأما في المؤاخذة على الذنوب فهو عفو بما يعطي من قليل العذاب‬
‫ّللا ويجود باإلنعام ورفع اآلالم‪.‬‬
‫‪ ،‬وهو عفو بما يعطي من كثير المغفرة والتجاوز ‪ ،‬ثم يغفر ه‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪100‬‬


‫سعَةً َو َم ْن يَ ْخ ُرجْ ِم ْن بَ ْيتِ ِه ُم ِ‬
‫هاجرا ً‬ ‫ض ُمرا َ‬
‫غما ً َكثِيرا ً َو َ‬ ‫ّللا يَ ِج ْد فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫هاج ْر فِي َ‬ ‫َو َم ْن يُ ِ‬
‫غفُورا ً َر ِحيما ً ) ‪( 100‬‬ ‫ّللاُ َ‬
‫كان ه‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا َو َ‬ ‫سو ِل ِه ث ُ هم يُد ِْر ْكهُ ا ْل َم ْوتُ فَقَ ْد َوقَ َع أَجْ ُرهُ َ‬ ‫ِإلَى ه ِ‬
‫ّللا َو َر ُ‬
‫ّللا ‪ ،‬المهاجر يموت قبل وصوله إلى‬ ‫الهجرة هي االغتراب عن األوطان ‪ ،‬وممن أجره على ه‬
‫ّللا على قدر الباعث الذي بعثه على الهجرة ‪ ،‬والناس‬ ‫المنزل الذي هاجر إليه ‪ ،‬فإن أجره على ه‬
‫ّللا ينوب عن رسوله فيما يعطيه من األجر ‪ ،‬فإنه خرج مهاجرا إلى‬ ‫في ذلك متفاضلون ‪ .‬ثم إن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه‬ ‫ّللا ورسوله ‪ ،‬ثم إن له أجر الفوت بالموت الذي أدركه وذلك من ه‬ ‫ه‬

‫ص ‪539‬‬

‫ص ‪547 :‬‬
‫الذي رزأه وحال بينه وبين الوصول إلى مهاجره ‪ ،‬فالدية عليه ‪ .‬فإن كان هذا الذي يموت‬
‫ّللا ورؤيته فما يكون ‪ ،‬وقد حصل له ذلك بالموت ‪ ،‬فهو أفضل في‬ ‫عالما عاقال فأعظم من لقاء ه‬
‫حقه من أن يعيش حتى يصل ‪ ،‬فإنه ال يدري ما دام في الحياة الدنيا ما يتقلب عليه من األحوال‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في هذا الباب‬ ‫‪ ،‬فإنهه في محل خطر سريع التبديل ‪ .‬وصح عن رسول ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا عنه عن رسول ه‬ ‫خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي ه‬ ‫ما ه‬
‫ّللا ورسوله ‪،‬‬
‫أنه قال [ ‪ :‬إنما األعمال بالنيات ‪ ،‬وإنما المرئ ما نوى ‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى ه‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ‪ ،‬فهجرته إلى ما‬ ‫فهجرته إلى ه‬
‫هاجر إليه ] ثم يضاف إلى هذه األجور قدر كرم المعطي وغناه ‪ ،‬وهذا يدخل تحت قوله صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن في الجنة ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر ] يعني‬ ‫ه‬
‫من المجزيين ‪.‬‬

‫ّللا بالوقوع وهو الوجوب ‪ ،‬فإن‬


‫ّللا تعالى هذا األجر على غيره ممن له أجر على ه‬
‫وقد أكد ه‬
‫األجر قد يقتضيه الكرم من غير وجوب وقد يقتضيه الوجوب ‪ ،‬والذي يقتضيه الوجوب أعلى‬
‫‪.‬‬
‫ّللا ورسوله بتركه وبالغ في ترك ذلك هّلل خالصا من كل شبهة ‪ ،‬عن‬‫والمهاجر من ترك ما أمر ه‬
‫كرم نفس وطواعية ال عن كره وإكراه وال رغبة في جزاء ‪ ،‬بل كرم نفس بمقاساة شدائد يلقاها‬
‫من المنازعين له في ذلك ‪ ،‬ويسمعونه ما يكره من الكالم طبعا ‪ ،‬فيتغير عند سماعه ‪ ،‬ويكون‬
‫ذلك كله عن اتساع في العلم ‪ ،‬والدءوب على مثل هذه الصفة ‪ ،‬وتقيده في ذلك كله بالوجوه‬
‫المشروعة ال بأغراض نفسه ‪ ،‬ويكون به كمال مقامه ‪ .‬فإذا اجتمعت هذه الصفات في الرجل‬
‫فهو مهاجر ‪ ،‬فإن فاته شيء من هذه الفصول والنعوت فاته من المقام بحسب ما فاته من الحال‬
‫وّللا بكل شيء عليم ‪ ،‬فكل ما يدخل‬
‫ّللا مهاجرا ‪ ،‬ه‬
‫‪.‬وإنما قلنا هذا كله واشترطناه لما سماه ه‬
‫تحت هذا اللفظ مما ينبغي أن يكون وصفا حسنا للعبد فيسمى به صاحب هجرة اشترطناه في‬
‫المهاجر ‪ ،‬النسحاب هذه الحقيقة اللفظية في نفس الوضع على ذلك المعنى الذي اشتق من لفظه‬
‫هذا االسم ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪101‬‬


‫صل ِة ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم أ َ ْن يَ ْف ِتنَ ُك ُم الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ح أ َ ْن ت َ ْق ُ‬
‫ص ُروا ِم َن ال ه‬ ‫علَ ْي ُك ْم ُجنا ٌ‬
‫س َ‬ ‫ض فَلَ ْي َ‬ ‫ض َر ْبت ُ ْم ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫َو ِإذا َ‬
‫عد ًُّوا ُمبِينا ً) ‪( 101‬‬ ‫ين كانُوا لَ ُك ْم َ‬ ‫َكفَ ُروا إِ هن ا ْلكافِ ِر َ‬

‫ص ‪540‬‬

‫ص ‪548 :‬‬
‫[قصر الصالة ]‬
‫ّللا عنها قالت ‪ :‬ال يجوز القصر إال‬
‫السفر يؤثر في الصالة القصر باتفاق ‪ ،‬إال عائشة رضي ه‬
‫عز وجل« ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم أ َ ْن يَ ْفتِنَ ُك ُم الَّذِينَ َكفَ ُروا » ‪.‬والذي أقول به إن القصر للمسافر‬
‫للخائف لقوله ه‬
‫فرض متعين في كل سفر ‪ ،‬قريبا كان أو بعيدا ‪ .‬فالمعتبر فيه اللسان ‪ ،‬قربة كان أو مباحا أو‬
‫معصية ‪.‬ومدة القصر األولى عندي فيها أن ينظر في مدة إقامة النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫بمكة إلى أن رجع إلى المدينة ‪ ،‬فإنه كان يقصر في تلك المدة ‪ .‬واتفق العلماء كلهم على الجمع‬
‫بين الظهر والعصر في أول الظهر يوم عرفة ‪ ،‬وعلى الجمع بين المغرب والعشاء بتأخير‬
‫المغرب إلى وقت العشاء بالمزدلفة ‪ ،‬فال يصح الجمع بين الصالتين إال فيما ذكرناه من عرفة‬
‫وجمع‬
‫[ السفر ]‬
‫ّللا في الحقائق اإللهية ‪ ،‬بل لكل من يتصف بالوجود ‪،‬‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬السفر حال الزم لكل ما سوى ه‬
‫وهو سفر األكابر من الرجال ‪ ،‬فهو سفر بالعلم والتحقق ‪ ،‬وسفر في األسماء اإللهية بالتخلق ‪،‬‬
‫وهو سفر حاله نازل عن الحال األول ‪ ،‬وسفر ثالث في األكوان باالعتبار ‪ ،‬وهو حال دون‬
‫الحالين ‪ ،‬وسفر جامع لهذه األسفار كلها في أحوالها ‪ ،‬وهو أعظم أسفار الكون ‪ ،‬واألول أعظم‬
‫األسفار وأجلها ‪ ،‬والقصر في الخوف ‪ ،‬فإن العبد مطلوب في كل نفس بمراقبة الحق في حكمه‬
‫تعالى في ذلك النفس بما شرع له تعالى فيه خاصة ‪ ،‬وما كل أحد يقدر على مراعاة هذا المقام‬
‫مع الحق ‪ ،‬فال يزال في خوف دائما ‪ ،‬فالعارف إذا حصل فيه وخاف أن يلتبس عليه مناجاة‬
‫الحق في األنفاس ‪ ،‬اقتصر من المناجاة على ما يختص بذلك النفس ‪ ،‬فكان الخوف سببا للقصر‬
‫‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪102‬‬


‫س َجدُوا‬ ‫صلةَ فَ ْلتَقُ ْم طا ِئفَةٌ ِم ْن ُه ْم َمعَكَ َو ْليَأ ْ ُخذُوا أ َ ْ‬
‫س ِل َحت َ ُه ْم فَ ِإذا َ‬ ‫يه ْم فَأَقَ ْمتَ لَ ُه ُم ال ه‬ ‫َو ِإذا ُك ْنتَ ِف ِ‬
‫س ِل َحت َ ُه ْم‬‫صلُّوا َمعَكَ َو ْليَأ ْ ُخذُوا ِح ْذ َر ُه ْم َوأ َ ْ‬ ‫صلُّوا فَ ْليُ َ‬ ‫ت طائِفَةٌ أ ُ ْخرى لَ ْم يُ َ‬ ‫فَ ْليَكُونُوا ِم ْن َورائِ ُك ْم َو ْلتَأ ْ ِ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫ح َ‬ ‫واح َدةً َوال ُجنا َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َم ْيلَةً ِ‬‫ون َ‬ ‫س ِل َحتِ ُك ْم َوأ َ ْمتِعَتِ ُك ْم فَيَ ِميلُ َ‬
‫ون ع َْن أ َ ْ‬
‫ِين َكفَ ُروا لَ ْو ت َ ْغفُلُ َ‬ ‫َو هد الهذ َ‬
‫ع هد‬ ‫س ِل َحت َ ُك ْم َو ُخذُوا ِح ْذ َر ُك ْم ِإ هن ه َ‬
‫ّللا أ َ َ‬ ‫ضعُوا أ َ ْ‬ ‫ذى ِم ْن َم َط ٍر أ َ ْو ُك ْنت ُ ْم َم ْرضى أ َ ْن ت َ َ‬ ‫كان ِب ُك ْم أ َ ً‬
‫ِإ ْن َ‬
‫ين عَذابا ً ُم ِهينا ً) ‪( 102‬‬ ‫ِل ْلكافِ ِر َ‬

‫ص ‪541‬‬

‫ص ‪549 :‬‬
‫ّللا‬
‫وأما صالة الخوف فالذي أذهب إليه أن اإلمام مخيهر في الصورة التي ثبتت عن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فبأي صورة صالها أجزأته صالته وصحت صالة الجماعة ‪ ،‬إال‬ ‫صلهى ه‬
‫الرواية التي فيها االنتظار بالسالم ‪ ،‬فإن عندي فيها نظر ‪ ،‬لكون اإلمام يصير فيها تبعا تابعا ‪،‬‬
‫ّللا متبوعا ‪ ،‬وسبب توقفي في ذلك دون جزم من طريق المعنى ؛ فإن النبي صلهى‬ ‫وقد نصبه ه‬
‫ّللا عليه وسلم أمر اإلمام أن يصلي بصالة المريض وأضعف الجماعة ‪ ،‬والخالف في صورة‬ ‫ه‬
‫صالة الخوف مسطور في كتب الحديث ‪ .‬وأما الصالة عند المسايفة فالذي أذهب إليه أن العبد‬
‫مأمور في ذلك الوقت بالصالة على قدر ما يمكنه أن يفعله منها ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : )4‬آية ‪103‬‬


‫ّللا ِقياما ً َوقُعُودا ً َوعَلى ُجنُو ِب ُك ْم فَ ِإذَا ا ْط َمأْنَ ْنت ُ ْم فَأ َ ِقي ُموا ال ه‬
‫صلةَ ِإ هن‬ ‫اذك ُُروا ه َ‬ ‫صلةَ فَ ْ‬ ‫فَ ِإذا قَ َ‬
‫ض ْيت ُ ُم ال ه‬
‫ين ِكتابا ً َم ْوقُوتا ً ) ‪. ( 103‬‬‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫صلةَ كانَتْ َ‬ ‫ال ه‬

‫" ِكتابا ا َم ْوقُوتا ا "أي مفروضة في وقت معيهن ‪ ،‬سواء كان موسعا أو مضيقا ‪ ،‬فإنه معيهن وال بد ‪،‬‬
‫بقوله موقوتا ‪.‬‬
‫فمن أخرج صالة مفروضة عن وقتها المعيهن له ‪ ،‬كان ما كان ‪ ،‬من ناس أو متذكر ‪ ،‬فإنه ال‬
‫يقضيها أبدا وال تبرأ ذمته ‪ ،‬فإنه ما صلى الصالة المشروعة ‪ ،‬إذ كان الوقت من شروط صحة‬
‫الصالة ‪ .‬فليكثر النوافل بعد التوبة ‪ ،‬وال قضاء عليه عندنا لخروج وقتها الذي هو شرط في‬
‫صحتها ‪.‬‬
‫ووقت الناسي والنائم وقت تذكره واستيقاظه من نومه ‪ ،‬وهو مؤد وال ب هد ‪ ،‬وال يسمى قاضيا‬
‫على االعتبار الذي يراه الفقهاء ‪ ،‬ال على ما تعطيه اللغة ‪ ،‬فإن القاضي والمؤدي ال فرق بينهما‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫في اللسان ‪ ،‬فكل مؤد للصالة فقد قضى ما عليه ‪ ،‬فهو قاض بأدائه ما تعيهن عليه أداؤه من ه‬
‫واتفق علماء الشريعة أن وقت الظهر الذي ال تجوز قبله هو الزوال ؛ جاء في الحديث الثابت‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال يخرج وقت صالة حتى يدخل وقت األخرى ] يعني‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫عن رسول ه‬
‫في األربع صلوات ‪ ،‬فإنه إذا خرج وقت الصبح لم يدخل وقت الظهر حتى تزول الشمس ‪،‬‬
‫بخالف الظهر والعصر والمغرب والعشاء ‪ ،‬وجاء في الحديث الثابت في إمامة جبريل النبي‬
‫ّللا عليه وسلم أنه صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في‬‫صلهى ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬آخر وقت‬ ‫اليوم األول ‪ ،‬وفي حديث ثابت آخر عن رسول ه‬
‫الظهر ما لم يدخل وقت العصر ] فحديث إمامة جبريل يعطي االشتراك في الوقت ‪،‬‬

‫ص ‪542‬‬

‫ص ‪550 :‬‬
‫والحديثان اآلخران يعطي الزمان الذي ينقسم ‪ ،‬فيرتفع االشتراك ‪ .‬والقول هنا أقوى من الفعل ‪،‬‬
‫ألن الفعل يعسر الوقوف على تحقيق الوقت به ‪ ،‬وهو قول الصاحب على ما أعطاه نظره ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم يخالف ما قال الصاحب وحكم به على فعل صالة جبريل عليه‬ ‫وقول النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم مفسرا للفعل‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫ّللا عليه وسلم ؛ فيكون كالم رسول ه‬ ‫السالم بالنبي صلهى ه‬
‫الذي فسره الراوي ‪.‬‬
‫ّللا أن نأخذ به ‪ ،‬فكان ينبغي في‬ ‫ّللا عليه وسلم هو الذي أمرنا ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫واألخذ بقول رسول ه‬
‫ّللا جعل هذا‬ ‫مسئلة آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وأمثالها أن ال يتصور خالف ‪ ،‬ولكن ه‬
‫الخالف رحمة لعباده واتساعا فيما كلفهم به من عبادته ‪ .‬وآخر وقت الظهر أن يكون ظل كل‬
‫شيء مثله ‪ ،‬وهو أول وقت العصر ‪ .‬وآخر وقت العصر عندنا قبل أن تغرب الشمس بركعة ‪.‬‬
‫والمغرب وقته موسع وهو ما بين غروب الشمس إلى مغيب الشفق ‪ .‬وقد ورد في إمامة‬
‫ّللا عليه وسلم أنه صلى المغرب في اليومين في وقت‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫جبريل عليه السالم برسول ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫واحد في أول فرض الصلوات ‪ ،‬والمغرب وتر صالة النهار كما أخبرنا رسول ه‬
‫ّللا قد زادكم صالة إلى صالتكم ]‬ ‫ّللا وتر صالة الليل [ إن ه‬‫عليه وسلم ‪ ،‬وذلك قبل أن يزيدنا ه‬
‫ّللا‬
‫وذكر صالة الوتر [ فأوتروا يا أهل القرآن ] فشبهها بالفرائض وأمر بها ‪ .‬ولما سئل رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم عن وقت الصالة ‪،‬‬ ‫ّللا عليه وسلم بعد إمامة جبريل عليه السالم به صلهى ه‬ ‫صلهى ه‬
‫صلى بالناس يومين ‪ ،‬صلى في اليوم األول في أول األوقات ‪ ،‬وصلى في اليوم الثاني في آخر‬
‫األوقات ‪ ،‬الصلوات الخمس كلها وفيها المغرب ‪ ،‬ثم قال للسائل [ الوقت ما بين هذين ] فجعل‬
‫للمغرب وقتين كسائر الصلوات ‪ ،‬فوسع وقتها كسائر الصلوات ‪ ،‬وهو الذي ينبغي أن يعول‬
‫عليه ‪ ،‬فإنه متأخر عن إمامة جبريل ‪ ،‬فوجب األخذ به ‪ ،‬فإن الصحابة كانت تأخذ باألحدث ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم كان يثابر‬‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وإن كان صلهى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫فاألحدث من فعل رسول ه‬
‫على الصالة في أول األوقات فال يدل ذلك على أن الصالة ما لها وقتان ‪ ،‬وما بينهما ‪ ،‬فقد أبان‬
‫ّللا عليه وسلم إال البالغ والبيان ‪ ،‬وقد فعل صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫عن ذلك وصرح به ‪ ،‬وما عليه صلهى ه‬
‫عليه وسلم ‪ .‬وأول وقت العشاء مغيب حمرة الشفق ‪ ،‬وآخر وقتها طلوع الفجر ‪ .‬واتفق الجميع‬
‫على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر وآخره طلوع الشمس ‪ ،‬واختلفوا في اإلسفار والتغليس‬
‫ّللا تعالى الصالة على المؤمنين دون‬ ‫بصالة الصبح ‪ ،‬والتغليس بها أفضل عندنا ‪ .‬وقد كتب ه‬
‫ّللا على العلماء دون المؤمنين لما‬ ‫العالم لعموم اإليمان فإنه يشمل المقلد والعالم ‪ ،‬فلو كتبها ه‬
‫وجبت على المقلدين ‪ ،‬والعلماء لهم صفة اإليمان ‪ ،‬فكتب على الوصف العام‪.‬‬

‫ص ‪543‬‬

‫ص ‪551 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 104‬إلى ‪105‬‬
‫ون َوت َ ْر ُج َ‬
‫ون ِم َن ه ِ‬
‫ّللا ما ال‬ ‫ون كَما تَأْلَ ُم َ‬ ‫ون فَ ِإنه ُه ْم يَأْلَ ُم َ‬‫غاء ا ْلقَ ْو ِم ِإ ْن تَكُونُوا تَأْلَ ُم َ‬ ‫َوال ت َ ِهنُوا فِي ا ْبتِ ِ‬
‫اس ِبما‬ ‫ق ِلتَحْ ُك َم بَ ْي َن النه ِ‬ ‫ع ِليما ً َح ِكيما ً ( ‪ِ ) 104‬إنها أ َ ْن َز ْلنا ِإلَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬
‫تاب ِبا ْل َح ه ِ‬ ‫ّللاُ َ‬‫كان ه‬‫ون َو َ‬ ‫يَ ْر ُج َ‬
‫ين َخ ِصيما ً ) ‪( 105‬‬ ‫أَراكَ ه‬
‫ّللاُ َوال تَك ُْن ِل ْلخا ِئ ِن َ‬
‫ّللاُ‬
‫راك َّ‬‫اس بِما أ َ َ‬ ‫ّللا عليه وسلم «‪ِ :‬لت َ ْح ُك َم بَيْنَ النَّ ِ‬ ‫ّللا تعالى قال تعالى لنبيه صلهى ه‬ ‫ما ثم شارع إال ه‬
‫»ولم يقل بما رأيت بل عتبه سبحانه وتعالى لما حرم على نفسه باليمين في قضية عائشة‬
‫واج َك »فكان‬ ‫ضات أ َ ْز ِ‬‫َ‬ ‫ي ِل َم ت ُ َح ِ هر ُم ما أ َ َح َّل َّ‬
‫ّللاُ لَ َك ت َ ْبت َ ِغي َم ْر‬ ‫وحفصة ‪ ،‬فقال تعالى «‪:‬يا أَيُّ َها النَّبِ ُّ‬
‫ّللاُ »أنه ما يوحي به إليه ال ما يراه‬ ‫راك َّ‬‫أن قوله تعالى« ِبما أ َ َ‬ ‫هذا مما أرته نفسه ‪ .‬فهذا يدلك ه‬
‫في رأيه ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم أولى من رأي كل ذي رأي فإذا‬ ‫فلو كان الدين بالرأي ‪ ،‬لكان رأي النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم فيما أرته نفسه فكيف رأي من ليس بمعصوم ومن‬ ‫كان هذا حال النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الخطأ أقرب إليه من اإلصابة ‪ .‬فدل أن االجتهاد الذي ذكره رسول ه‬
‫إنما هو طلب الدليل على تعيين الحكم في المسألة الواقعة ال في تشريع حكم في النازلة ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ذلك شرع لم يأذن به ه‬
‫ّللا أراه ذلك ‪ ،‬فإنه ال ينطق عن‬ ‫ّللا عليه وسلم شرع ‪ ،‬وأن ه‬ ‫فالمؤمنون يؤمنون بأن رأيه صلهى ه‬
‫سر السنة في إثبات‬ ‫ّللا ‪ ،‬وهو ه‬ ‫ّللا ومبلغ عنه بما أراه ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وهو ناقل عن ه‬ ‫الهوى ‪ ،‬فحكمه حكم ه‬
‫الحكم ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 106‬إلى ‪108‬‬


‫س ُه ْم ِإ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫ون أ َ ْنفُ َ‬
‫ِين يَ ْختانُ َ‬
‫غفُورا ً َر ِحيما ً ( ‪َ ) 106‬وال تُجا ِد ْل ع َِن الهذ َ‬ ‫كان َ‬‫ّللا َ‬ ‫ست َ ْغ ِف ِر ه َ‬
‫ّللا ِإ هن ه َ‬ ‫َوا ْ‬
‫ّللا َو ُه َو َمعَ ُه ْم‬
‫ون ِم َن ه ِ‬ ‫ست َ ْخفُ َ‬
‫اس َوال يَ ْ‬‫ون ِم َن النه ِ‬ ‫ست َ ْخفُ َ‬‫كان َخ هوانا ً أ َ ِثيما ً ( ‪ ) 107‬يَ ْ‬
‫ب َم ْن َ‬ ‫ال يُ ِح ُّ‬
‫ون ُم ِحيطا ً ) ‪( 108‬‬ ‫ّللاُ ِبما يَ ْع َملُ َ‬
‫كان ه‬‫ون ما ال يَ ْرضى ِم َن ا ْلقَ ْو ِل َو َ‬ ‫ِإ ْذ يُبَ ِيهت ُ َ‬

‫اس »فإنهم مجبولون على النسيان« َوال يَ ْست َ ْخفُونَ ِمنَ‬


‫ما أحسن ما قال تعالى« يَ ْست َ ْخفُونَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫ّللا َو ُه َو َمعَ ُه ْم »الذي ال يض هل وال ينسى ‪ .‬وكان األولى لو صح عكس القضية‬
‫َّ ِ‬

‫ص ‪544‬‬

‫ص ‪552 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬والسبب الموجب لالستخفاء عن الناس هو حبه‬ ‫إال أنه ال يصح أن يستخفي شيء عن ه‬
‫الثناء وطلب المحمدة ‪ .‬فإذا أطلع الناس على العمل الذي يخفيه سقطت حرمة العامل من قلب‬
‫الذي يراه وقام عليه لسان الذ هم منه وسبب ذلك الجنسية ‪ ،‬وال يستخفي إال مؤمن فإنه يكره فعل‬
‫ما يستخفى منه بأن هذا ال يجوز عمله شرعا ‪ِ «.‬إ ْذ يُبَ ِيهتُونَ ما ال يَ ْرضى ِمنَ ْالقَ ْو ِل »وهو‬
‫ّللاُ بِما يَ ْع َملُونَ ُم ِحيطا ا » ‪.‬ينبه أن هذا العمل قد أحاط ه‬
‫ّللا به‬ ‫الجهر بالسوء من القول« َوكانَ َّ‬
‫علما ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 109‬إلى ‪110‬‬


‫ع ْن ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة أ َ ْم َم ْن يَك ُ‬
‫ُون‬ ‫ع ْن ُه ْم فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا فَ َم ْن يُجا ِد ُل ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ها أ َ ْنت ُ ْم هؤ ِ‬
‫ُالء جا َد ْلت ُ ْم َ‬
‫ّللا َ‬
‫غفُورا ً َر ِحيما ً‬ ‫ّللا يَ ِج ِد ه َ‬‫ست َ ْغ ِف ِر ه َ‬ ‫سوءا ً أ َ ْو يَ ْظ ِل ْم نَ ْف َ‬
‫سهُ ث ُ هم يَ ْ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َو ِكيلً ( ‪َ ) 109‬و َم ْن يَ ْع َم ْل ُ‬ ‫َ‬
‫) ‪( 110‬‬
‫الظالم نفسه طلب منه االستغفار مع أنه يغفر له ‪ ،‬وإن لم يستغفر ‪ ،‬وإنما أمره الحق باالستغفار‬
‫ليقيمه إذا جنى ثمرة ذلك من مقام اإلدالل لما له في ذلك من الكسب ؛ فإن الذي يأخذ من جهة‬
‫الهبة قصير اليد ‪ ،‬والذي يأخذ من كسبه طويل اليد ‪ ،‬فإنه طالب حق ومستحقه ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 111‬إلى ‪113‬‬


‫س ْب َخ ِطيئَةً‬‫ع ِليما ً َح ِكيما ً ( ‪َ ) 111‬و َم ْن يَ ْك ِ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫كان ه‬ ‫س ِه َو َ‬ ‫سبُهُ عَلى نَ ْف ِ‬ ‫س ْب إِثْما ً فَ ِإنهما يَ ْك ِ‬
‫َو َم ْن يَ ْك ِ‬
‫علَ ْيكَ َو َرحْ َمتُهُ‬‫ّللا َ‬ ‫أ َ ْو إِثْما ً ث ُ هم يَ ْر ِم بِ ِه بَ ِريئا ً فَقَ ِد احْ ت َ َم َل بُهْتانا ً َوإِثْما ً ُمبِينا ً ( ‪َ ) 112‬ولَ ْو ال فَ ْ‬
‫ض ُل ه ِ‬
‫علَ ْيكَ‬ ‫ش ْي ٍء َوأ َ ْن َز َل ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫س ُه ْم َوما يَض ُُّرونَكَ ِم ْن َ‬ ‫لَ َه همتْ طائِفَةٌ ِم ْن ُه ْم أ َ ْن يُ ِضلُّوكَ َوما يُ ِضلُّ َ‬
‫ون ِإاله أ َ ْنفُ َ‬
‫علَ ْيكَ ع َِظيما ً ) ‪( 113‬‬‫ّللا َ‬
‫ض ُل ه ِ‬‫كان فَ ْ‬ ‫تاب َوا ْل ِح ْك َمةَ َو َ‬
‫عله َمكَ ما لَ ْم تَك ُْن ت َ ْعلَ ُم َو َ‬ ‫ا ْل ِك َ‬
‫ّللا هذا الفضل‬ ‫عظم ه‬ ‫وعلمك ما لم تكن تعلم به ‪ ،‬فعرفته في موطن اإلنكار ولذلك ه‬

‫ص ‪545‬‬

‫ص ‪553 :‬‬
‫ع ِظيما ا »ثم نبه تعالى على طهارة الفم المعنوية بقوله ‪:‬‬
‫علَي َْك َ‬ ‫فقال« َوكانَ فَ ْ‬
‫ض ُل َّ ِ‬
‫ّللا َ‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪114‬‬


‫اس َو َم ْن يَ ْفعَ ْل‬‫وف أ َ ْو ِإصْلحٍ بَ ْي َن النه ِ‬
‫ص َدقَ ٍة أ َ ْو َم ْع ُر ٍ‬
‫ير ِم ْن نَجْ وا ُه ْم ِإاله َم ْن أ َ َم َر ِب َ‬ ‫ال َخ ْي َر ِفي َك ِث ٍ‬
‫ف نُ ْؤتِي ِه أَجْ را ً ع َِظيما ً ( ‪) 114‬‬ ‫س ْو َ‬ ‫ّللا فَ َ‬
‫ت هِ‬ ‫ذ ِلكَ ا ْبتِغا َء َم ْرضا ِ‬
‫ص َدقَ ٍة "ولها مواطن مخصوصة ‪ ،‬وهو أن يأمره‬ ‫ير ِم ْن ن َْجوا ُه ْم إِ َّال َم ْن أ َ َم َر بِ َ‬‫" ال َخي َْر فِي َكثِ ٍ‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫في السر ال في الجهر ‪ ،‬فإن الجهر علة ال يشعر بها ‪ .‬ألنه قد يعطيها لغير ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ويرجو حصول‬ ‫ثم قال‪ :‬أ َ ْو َم ْع ُروفٍ » ‪،‬وقول المعروف هو القول في موطنه الذي عينه ه‬
‫الفائدة به في حق السامع ‪ ،‬فهذا معنى« أ َ ْو َم ْع ُروفٍ » ‪.‬‬
‫فمن لم يفعل فهو جاهل وإن ادعى العلم ‪.‬‬
‫ّللا التوادد والتحابب فيسعى في ذلك ‪.‬‬ ‫أن مراد ه‬ ‫اس » ‪،‬فيعلم ه‬ ‫الح بَيْنَ النَّ ِ‬
‫ص ٍ‬ ‫ثم قال« أ َ ْو إِ ْ‬
‫وإن لم يجعل الكالم في موضعه أدى إلى التقاطع والتنافر والتدابر ‪.‬‬
‫ّللا » وال يكون ذلك‬ ‫ثم بعد هذا كله قال في حق المتكلم « ومن لم يفعل ذلك ابتغاء مرضات ه‬
‫ّللا في كتابه وعلى‬ ‫ّللا إال بالعلم بما شرع ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وال يعلم ما يرضي ه‬ ‫إال ممن يعلم ما يرضي ه‬
‫ّللا من‬ ‫لسان رسوله ‪ ،‬فيرى عندما يريد أن ينطق باألمر هل نطقه به في ذلك الموطن يرضي ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ال‬ ‫جميع الوجوه ؟ فإن وجد وجها يقدح فيه ‪ ،‬فالكل غير مقبول وغير مرضي عند ه‬
‫يحتمل التجزي وال االنقسام ‪ .‬واعلم أن من شعب اإليمان قول الخير والصمت عن الشر ؛ قال‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬كل كالم ابن آدم عليه ال له إال أمر بمعروف أو نهي عن منكر ‪.‬‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬من صمت نجا ‪ .‬فصمت اللسان مفردا للعامة يخفف األوزار ‪،‬‬ ‫وقال صلهى ه‬
‫وصمت القلب مفردا ينتج النطق بالحكمة ‪ ،‬ومن صمت عن شر ‪ ،‬نطق بخير قطعا ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 115‬إلى ‪116‬‬


‫سبِي ِل ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين نُ َو ِله ِه ما ت َ َولهى‬ ‫سو َل ِم ْن بَ ْع ِد ما تَبَيه َن لَهُ ا ْل ُهدى َويَتهبِ ْع َ‬
‫غ ْي َر َ‬ ‫الر ُ‬
‫ق ه‬ ‫َو َم ْن يُشاقِ ِ‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر أ َ ْن يُش َْركَ بِ ِه َويَ ْغ ِف ُر ما د َ‬
‫ُون ذ ِلكَ ِل َم ْن‬ ‫ص ِل ِه َج َهنه َم َوسا َءتْ َم ِصيرا ً ( ‪ ) 115‬إِ هن ه َ‬ ‫َونُ ْ‬
‫ضلالً بَ ِعيدا ً ) ‪( 116‬‬ ‫ض هل َ‬ ‫اَّلل فَقَ ْد َ‬‫يَشا ُء َو َم ْن يُش ِْر ْك ِب ه ِ‬
‫حرم على نفسه المغفرة للمشرك ‪ ،‬وجبت المؤاخذة في الشرك وال ب هد‪.‬‬ ‫إذا كان الحق ه‬

‫ص ‪547‬‬

‫ص ‪554 :‬‬
‫ّللا لم يغفر للمشركين وال ألهل التبعات ‪ ،‬بل ضمن التباعات ‪ ،‬وجعل مغفرتهم‬ ‫واعلم أن ه‬
‫ّللا تعالى يقول‬ ‫موقوفة على رضا المظلومين ‪ ،‬فيصلح بينهم يوم القيامة ‪ .‬جاء في الخبر أن ه‬
‫يوم القيامة ألهل الحشر « يا عبادي ما كان بيني وبينكم فقد غفرته لكم فانظروا فيما بينكم فإنهه‬
‫ال يجاوزني ظلم ظالم ‪ » .‬ويظهر في الشرك أنه فيما بينه وبينهم فلما ذا أخذ به ولم يغفره ؟‬
‫ّللا به ‪ ،‬فإن التباعات‬ ‫باّلل باب من التباعات وظلم الغير ولهذا أخذ ه‬ ‫ّللا أن الشرك ه‬ ‫فاعلم وفقك ه‬
‫على ضروب في الدماء واألموال واألعراض ‪ ،‬والشرك من باب تباعات األعراض ‪ ،‬وهو‬
‫من باب الفرية ‪ ،‬وأن يقال في الشيء ما ليس فيه ‪ ،‬وهو البهتان ‪ .‬وليس الشرك من األمور‬
‫ّللا وبين العبد ‪ .‬وهو من أكبر الكبائر ‪.‬‬ ‫التي بين ه‬
‫فإذا كان يوم القيامة وحشر الناس في صعيد واحد وضج المظلومون عند معاينة ما ال طاقة لهم‬
‫ّللا من حجر وشجر وحيوان‬ ‫بحمله من األهوال ؛ ضجت األصناف الذين اتخذوا آلهة من دون ه‬
‫وإنسان وكوكب وروحاني وقالوا ‪:‬‬
‫يا ربنا خذ لنا حقنا ممن افترى علينا ‪ ،‬ونسب إلينا ما ليس فينا وقال ‪ :‬إنا آلهة فعبدونا ‪ ،‬ونحن‬
‫ال نضر وال ننفع ‪ ،‬وليس لنا من األمر شيء ‪ ،‬فخذ لنا حقنا ‪ .‬وهنا يقع تفصيل ‪ ،‬فأ هما كل من‬
‫ّللا وحيوان وروحاني مشرك‬ ‫ّللا من حجر وشجر وإنسان مشرك أشرك نفسه مع ه‬ ‫عبد من دون ه‬
‫أيضا ‪ ،‬فإنهم يدخلون مع الذين عبدوهم في نار جهنم ليكون أنكى لهم إذا عاينوهم ؛ ومن كان‬
‫ارتضى منهم ما ينسب إليه كفرعون وغيره ‪ ،‬فهو مشارك لهم في عذابهم ‪ .‬ومثل األحجار‬
‫ّللا تعالى«‬ ‫واألشجار ‪ ،‬فلم تدخل للعذاب ‪ ،‬ولكن دخلت لنكايتهم أن تكون معهم آلهتهم كما قال ه‬
‫واردُونَ » ‪.‬‬ ‫ب َج َهنَّ َم أ َ ْنت ُ ْم لَها ِ‬
‫ص ُ‬ ‫ّللا َح َ‬ ‫ِإنَّ ُك ْم َوما ت َ ْعبُدُونَ ِم ْن د ِ‬
‫ُون َّ ِ‬
‫ُالء آ ِل َهةا ما َو َردُوها َو ُك ٌّل فِيها خا ِلدُونَ » ‪.‬وقال تعالى «‬ ‫ويقول المشركون هناك« لَ ْو كانَ هؤ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬ونفى‬ ‫جارة ُ » *وهم المشركون ‪ ،‬وهم األصنام المعبودون من دون ه‬ ‫اس َو ْال ِح َ‬ ‫َوقُو ُدهَا النَّ ُ‬
‫األصناف الذين سبقت لهم الحسنى وكانوا عن النار مبعدين ‪ ،‬وهم الذين اتخذوا مثلة على‬
‫صورتهم عبدوها كالصليب للنصارى والصور التي يصورونها للمشركين التي صنعوها على‬
‫صورة هذا المعصوم السعيد كائنا من كان ؛ فتلك األمثال تدخل معهم النار ‪ ،‬وهذا ينكيهم جدا‬
‫‪.‬‬
‫ّللا لهم ‪ :‬إن ألهل الجنة اطالعا على أهل النار يعاين هؤالء هؤالء‬ ‫ووجه آخر من نكاية ه‬
‫واء‬
‫س ِ‬ ‫اطلَ َع فَ َرآهُ فِي َ‬ ‫ّللا تعالى« فَ َّ‬
‫وهؤالء هؤالء ‪ ،‬فيزيد نعيم هؤالء ويزيد عذاب هؤالء ؛ يقول ه‬
‫ض ِرينَ »« َو َم ْن يُ ْش ِر ْك ِب َّ ِ‬
‫اّلل‬ ‫ِين َولَ ْو ال ِن ْع َمةُ َر ِبهي لَ ُك ْنتُ ِمنَ ْال ُم ْح َ‬
‫ت لَت ُ ْرد ِ‬ ‫ْال َج ِح ِيم قا َل ت َ َّ ِ‬
‫اّلل ِإ ْن ِك ْد َ‬
‫فَقَ ْد َ‬
‫ض َّل‬

‫ص ‪547‬‬

‫ص ‪555 :‬‬
‫الال بَ ِعيدا ا »ألنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم وعلموا أنه ال‬
‫ض ا‬ ‫َ‬
‫ّللا بقصور نظرهم وعقولهم ‪.‬‬ ‫ّللا شيئا ‪ ،‬فهي شهادة من ه‬
‫يسمع وال يبصر وال يغني عنهم من ه‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪117‬‬


‫ُون إِاله َ‬
‫ش ْيطانا ً َم ِريدا ً ) ‪( 117‬‬ ‫ُون ِم ْن دُونِ ِه إِاله إِناثا ً َوإِ ْن يَ ْدع َ‬
‫إِ ْن يَ ْدع َ‬
‫الشيطنة البعد يقال ركية شطون إذا كانت بعيدة القعر ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 118‬إلى ‪125‬‬


‫ّللاُ َوقا َل َألَت ه ِخذَ هن ِم ْن ِعبا ِدكَ نَ ِصيبا ً َم ْف ُروضا ً ) ‪َ ( 118‬و َأل ُ ِضلهنه ُه ْم َو َأل ُ َم ِنهيَنه ُه ْم َو َآل ُم َرنه ُه ْم‬ ‫لَعَنَهُ ه‬
‫ّللا فَقَ ْد‬
‫ُون ه ِ‬ ‫طان َو ِليًّا ِم ْن د ِ‬ ‫ش ْي َ‬ ‫ّللا َو َم ْن يَت ه ِخ ِذ ال ه‬
‫ق هِ‬ ‫عام َو َآل ُم َرنه ُه ْم فَلَيُغَ ِيه ُر هن َخ ْل َ‬
‫آذان ْاأل َ ْن ِ‬
‫َ‬ ‫فَلَيُبَ ِت هك هُن‬
‫غ ُرورا ً ( ‪ ) 120‬أُولئِكَ‬ ‫طان إِاله ُ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫يه ْم َوما يَ ِع ُد ُه ُم ال ه‬ ‫سرانا ً ُمبِينا ً ( ‪ ) 119‬يَ ِع ُد ُه ْم َويُ َم ِنه ِ‬ ‫س َر ُخ ْ‬ ‫َخ ِ‬
‫سنُد ِْخلُ ُه ْم‬ ‫ت َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫ع ْنها َم ِحيصا ً ( ‪َ ) 121‬والهذ َ‬ ‫ُون َ‬ ‫َمأْوا ُه ْم َج َهنه ُم َوال يَ ِجد َ‬
‫ّللا قِيلً (‬ ‫ق ِم َن ه ِ‬ ‫ص َد ُ‬ ‫ّللا َحقًّا َو َم ْن أ َ ْ‬‫ِين فِيها أَبَدا ً َو ْع َد ه ِ‬ ‫هار خا ِلد َ‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫َجنها ٍ‬
‫) ‪122‬‬
‫ّللا َو ِليًّا َوال‬ ‫ُون ه ِ‬ ‫سوءا ً يُجْ َز ِب ِه َوال يَ ِج ْد لَهُ ِم ْن د ِ‬ ‫ب َم ْن يَ ْع َم ْل ُ‬ ‫ي ِ أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬
‫س ِبأَمانِ ِيه ُك ْم َوال أَمانِ ه‬ ‫لَ ْي َ‬
‫ون ا ْل َجنهةَ‬ ‫ت ِم ْن ذَك ٍَر أ َ ْو أ ُ ْنثى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأُول ِئكَ يَ ْد ُخلُ َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫نَ ِصيرا ً ( ‪َ ) 123‬و َم ْن يَ ْع َم ْل ِم َن ال ه‬
‫س ٌن َواتهبَ َع ِملهةَ‬ ‫َّلل َو ُه َو ُمحْ ِ‬ ‫سلَ َم َوجْ َههُ ِ ه ِ‬ ‫س ُن دِينا ً ِم هم ْن أ َ ْ‬ ‫ون نَ ِقيرا ً ( ‪َ ) 124‬و َم ْن أَحْ َ‬ ‫َوال يُ ْظلَ ُم َ‬
‫ّللاُ إِ ْبرا ِهي َم َخ ِليلً ) ‪( 125‬‬ ‫إِ ْبرا ِهي َم َحنِيفا ً َوات ه َخذَ ه‬
‫ما سمى إبراهيم عليه السالم بالخليل إال بسلوكه سواء السبيل ‪ .‬نزل ضيف من غير ملة‬
‫ّللا حتى أكرمك‬ ‫إبراهيم عليه السالم بإبراهيم عليه السالم ‪ ،‬فقال له إبراهيم عليه السالم ‪ :‬و هحد ه‬
‫وأضيفك فقال يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي ؟ فانصرف عنه ‪ .‬فأوحى‬

‫ص ‪548‬‬

‫ص ‪556 :‬‬
‫ّللا إليه يا إبراهيم صدقك ؛ لي سبعون سنة أرزقه ‪ ،‬وهو يشرك بي فتريد أنت منه أن يترك‬ ‫ه‬
‫دينه ودين آبائه ألجل لقمة ؟ فلحقه إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر‬
‫إليه ‪ .‬فقال له المشرك يا إبراهيم ما بدا لك ؟‬
‫فقال إن ربي عتبني فيك ‪ ،‬وقال لي ‪ :‬أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي ‪ ،‬وأنت تريد منه‬
‫أن يترك دينه ودين آبائه ألجل لقمة ؟ فقال المشرك أو قد وقع هذا ؟ مثل هذا ينبغي أن يعبد ‪.‬‬
‫ّللا من كل وارد ورد‬ ‫فأسلم ورجع مع إبراهيم عليه السالم إلى منزله ‪ .‬ثم ع همت كرامته خلق ه‬
‫عليه ‪ ،‬فقيل له في ذلك فقال ‪ :‬تعلمت الكرم من ربي ‪ ،‬رأيته ال يضيع أعداءه فال أضيعهم ‪.‬‬
‫ّللا إليه ‪ :‬أنت خليلي حقها ‪.‬‬
‫فأوحى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬المرء على دين خليله ‪ ،‬فلينظر أحدكم من يخالل[ الخلة ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫ّللا وبين عبده ‪ ،‬وال تصح المخاللة بين المخلوقين‬ ‫‪-‬الخلة ‪ -‬اعلم أن المخاللة ال تص هح إال بين ه‬
‫المؤمنين ‪ ،‬فإن شروط الخلة ال تصح بين المؤمنين وال بين النبي وتابعيه ‪ ،‬فإذا لم تصح‬
‫ّللا ال بحكم خليله وال بحكم نفسه‬ ‫شروطها ‪ ،‬ال تصح هي في نفسها ‪ ،‬فإن النبي والمؤمن بحكم ه‬
‫‪ .‬ومن شروط الخلة أن يكون الخليل بحكم خليله ‪ ،‬وهذا ال يتصور مطلقا بين المؤمنين وال بين‬
‫ّللا ‪ ،‬وال تصح بينه وبين‬ ‫الرسل وأتباعهم في الدار الدنيا ‪ .‬والمؤمن تصح الخلة بينه وبين ه‬
‫الناس ‪ .‬فالنبي ليس له خليل وال هو صاحب ألحد سوى نبوته ‪ ،‬وكذلك المؤمن ليس له خليل‬
‫وال صاحب سوى إيمانه ‪ .‬فمن ال يتصرف إال عن أمر إلهي ال يكون خليال ألحد وال صاحبا‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فقد جهل مقام الخلة ‪ ،‬فال خليل إال ه‬ ‫أبدا ‪ .‬فمن اتخذ خليال غير ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬لو كنت متخذا خليال التخذت أبا بكر خليال ‪ ،‬لكن صاحبكم خليل ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا ال يستحيل عليه خلة عباده ‪ ،‬فاجهد أن تكون أنت ذلك الخليل بأن تنظر إلى‬ ‫‪ .‬فإذا علمت أن ه‬
‫ما يؤدي إلى تحصيل هذه الخلة الشريفة ‪ ،‬فإنك ال تجد لها سببا إال الموافقة ‪ ،‬وال علم لنا‬
‫حرمناه ‪ ،‬وما أح هل أحللناه ‪ ،‬وما أباحه أبحناه ‪،‬‬
‫حرم ه‬ ‫بموافقتنا الحق إال موافقتنا شرعه ؛ فما ه‬
‫وما كرهه كرهناه ‪ ،‬وما ندب إليه ندبنا إليه ‪ ،‬وما أوجبه أوجبناه ‪ ،‬فإذا عمك هذا في نفسك ‪،‬‬
‫وكانت هذه صفتك ‪ ،‬وقمت فيها مقام حق ‪ ،‬صحت لك الخلة ال بل المحبة التي هي أعظم‬
‫وأخص من الخلة ‪ ،‬ألن الخليل يصحبك لك ‪ ،‬والمحب يصحبك لنفسه ‪ ،‬فشتان ما بين الخلة‬
‫والمحبة ‪ .‬فالخليل يعتضد بخليله والحبيب يبطن في محبه فيقيه بنفسه‬
‫مجن خليله ‪ .‬فينبغي لإلنسان الطالب مقام الخلة أن يحسن‬ ‫ه‬ ‫ه‬
‫مجن المحبوب ‪ ،‬والخليل‬ ‫‪ .‬فالحق‬
‫ّللا كافرهم ومؤمنهم طائعهم‬ ‫عامة لجميع خلق ه‬

‫ص ‪549‬‬

‫ص ‪557 :‬‬
‫وعاصيهم ‪ ،‬وأن يقوم في العالم مع قوته مقام الحق فيهم مع شمول الرحمة وعموم لطائفه من‬
‫حيث ال يشعرهم أن ذلك اإلحسان منه ‪ ،‬ويوصل اإلحسان إليهم من حيث ال يعلمون ‪ .‬فإذا كان‬
‫العبد بهذه المثابة ‪ ،‬صحت له الخلة ‪ ،‬وإذا لم يستطع بالظاهر لعدم الموجود ‪ ،‬أمدهم بالباطن ‪،‬‬
‫فدعا لهم في نفسه بينه وبين ربه ‪ ،‬هكذا تكون حالة الخليل فهو رحمة كله ‪ .‬فالخليل على عادة‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬المرء على دين خليله أي على عادة خليله ‪ .‬فمن كانت‬‫خليله وهو قوله صلهى ه‬
‫ّللا من لطائف مننه ‪ ،‬وأسبغ عليهم من جزيل نعمه ‪ ،‬وأعطف‬ ‫ّللا ما عودهم ه‬‫عادته في خلق ه‬
‫بعضهم على بعض ‪ ،‬فلم يظهر في العالم غضب ال تشويه رحمة وال عداوة ال تتخللها مودة ‪،‬‬
‫فذلك مستحق اسم الخلة لقيامه بحقها واستيفائه شروطها ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪126‬‬


‫ش ْي ٍء ُم ِحيطا ً ) ‪( 126‬‬
‫ّللاُ بِ ُك ِ هل َ‬
‫كان ه‬‫ض َو َ‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫َّلل ما فِي ال ه‬
‫َو ِ ه ِ‬
‫أي له في كل شيء إحاطة ‪ ،‬بما هو ذلك المعلوم عليه ‪ ،‬ويريد هنا شيئية الوجود ال شيئية‬
‫ّللاُ »ساكن‬
‫الثبوت ‪ ،‬فإن األمر هناك ال يتصف باإلحاطة ‪ .‬فالوجود في نقطة دائرة هذا االسم« َّ‬
‫وقد اشتمل عليه بحقيقته اشتمال األماكن على المتمكن الساكن ‪ ،‬فليس لشيء خروج عنه تعالى‬
‫ّللا ‪ .‬اجتمع أربعة من األمالك‬
‫‪ ،‬فهو مستو على عرشه األعلى ‪ ،‬ولو دليتم بحبل لهبط على ه‬
‫على الكعبة ‪ :‬واحد نازل من السماء ‪ ،‬وآخر عرج من األرض السفلى ‪ ،‬والثالث جاء من ناحية‬
‫المشرق ‪ ،‬والرابع من ناحية المغرب ‪ ،‬فسأل كل واحد منهم صاحبه من أين جئت ‪ ،‬فكلهم قالوا‬
‫ّللا في السماء كما هو في‬‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ :‬إن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ .‬وعن رسول ه‬ ‫‪ :‬من عند ه‬
‫األرض ‪ ،‬وإن المأل األعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم ‪ .‬فهو تعالى ‪ -‬جل جالله عن التقييد ‪-‬‬
‫القبلة المعتبرة للقلوب ‪ .‬ال تقيده الجهات وال تحصره األينيات وهو بالعين في ك هل أين ‪ ،‬ليس‬
‫ذلك لسواه ‪ ،‬وال يوصف به موجود إال إياه ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪127‬‬


‫ب فِي يَتا َمى ال ِنه ِ‬
‫ساء اللهتِي‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِي ا ْل ِكتا ِ‬
‫يه هن َوما يُتْلى َ‬ ‫ساء قُ ِل ه‬
‫ّللاُ يُ ْفتِي ُك ْم فِ ِ‬ ‫ست َ ْفتُونَكَ فِي ال ِنه ِ‬‫َويَ ْ‬
‫دان َوأ َ ْن تَقُو ُموا‬
‫ين ِم َن ا ْل ِو ْل ِ‬ ‫ست َ ْ‬
‫ضعَ ِف َ‬ ‫ون أ َ ْن ت َ ْن ِك ُحو ُه هن َوا ْل ُم ْ‬
‫غب ُ َ‬ ‫ب لَ ُه هن َوت َ ْر َ‬
‫ال ت ُ ْؤتُونَ ُه هن ما ُكتِ َ‬
‫ع ِليما ً) ‪( 127‬‬ ‫كان ِب ِه َ‬ ‫س ِط َوما ت َ ْفعَلُوا ِم ْن َخ ْي ٍر فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ِل ْليَتامى ِبا ْل ِق ْ‬

‫ص ‪550‬‬

‫ص ‪558 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪128‬‬
‫ص ْلحا ً‬
‫ص ِلحا بَ ْينَ ُهما ُ‬‫علَ ْي ِهما أ َ ْن يُ ْ‬ ‫ام َرأَةٌ خافَتْ ِم ْن بَ ْع ِلها نُشُوزا ً أ َ ْو ِإعْراضا ً فَل ُجنا َ‬
‫ح َ‬ ‫َو ِإ ِن ْ‬
‫ون َخ ِبيرا ً (‬
‫كان ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ّللا َ‬‫سنُوا َوتَتهقُوا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ش هح َو ِإ ْن تُحْ ِ‬ ‫ت ْاأل َ ْنفُ ُ‬
‫س ال ُّ‬ ‫ص ْل ُح َخ ْي ٌر َوأُحْ ِض َر ِ‬
‫َوال ُّ‬
‫) ‪128‬‬
‫وأحضرت األنفس الشح ألنها من الطبيعة ومن حكمها الشح والبخل فيمن تركب منها ‪ ،‬وسببه‬
‫فينا أن الفقر والحاجة ذاتي لنا ولكل ممكن ‪ ،‬فالمكون عن الطبيعة شحيح بخيل بالذات كريم‬
‫بالعرض ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪129‬‬


‫صت ُ ْم فَل ت َ ِميلُوا ُك هل ا ْل َم ْي ِل فَتَذَ ُروها كَا ْل ُمعَلهقَ ِة َو ِإ ْن‬ ‫ست َ ِطيعُوا أ َ ْن ت َ ْع ِدلُوا بَ ْي َن ال ِنه ِ‬
‫ساء َولَ ْو َح َر ْ‬ ‫َولَ ْن ت َ ْ‬
‫غفُورا ً َر ِحيما ً ) ‪( 129‬‬ ‫كان َ‬‫ّللا َ‬ ‫ص ِل ُحوا َوتَتهقُوا فَ ِإ هن ه َ‬ ‫تُ ْ‬
‫األحكام للمواطن التي تملك ‪ ،‬وما ال يملك منها إذا وقع فيها الجور ‪ ،‬فإن صاحبه ال يهلك ‪،‬‬
‫القسمة بين األزواج ‪ ،‬في النفقة والنكاح على السواء ‪ ،‬وما يقع به االلتذاذ من طريق األشباح ‪،‬‬
‫والقسمة في الوداد ‪ ،‬خارجة عن مقدور العباد ‪ ،‬فال حرج وال جناح ‪ ،‬في جور األرواح ‪ .‬الو هد‬
‫للمناسبة ‪ ،‬فزالت فيه المعاتبة ‪ .‬ال يقال ‪ :‬لم لم تحبني ؟ ويقال ‪ :‬لم ال تقربني ؟‬
‫قربة األجساد مقدور عليه في المعتاد وقرب الفؤاد ال يكون إال بحكم الوداد ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 130‬إلى ‪132‬‬


‫ت َوما‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّلل ما فِي ال ه‬ ‫سعا ً َح ِكيما ً ( ‪َ ) 130‬و ِ ه ِ‬ ‫ّللاُ وا ِ‬ ‫سعَتِ ِه َو َ‬
‫كان ه‬ ‫َو ِإ ْن يَتَفَ هرقا يُ ْغ ِن ه‬
‫ّللاُ ُكلًّ ِم ْن َ‬
‫َّلل‬ ‫تاب ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم َو ِإيها ُك ْم أ َ ِن اتهقُوا ه َ‬
‫ّللا َو ِإ ْن ت َ ْكفُ ُروا فَ ِإ هن ِ ه ِ‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬
‫ص ْينَا الهذ َ‬‫ض َولَقَ ْد َو ه‬‫فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ت َوما‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّلل ما ِفي ال ه‬ ‫غ ِنيًّا َح ِميدا ً ) ‪َ ( 131‬و ِ ه ِ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫ض َو َ‬
‫كان ه‬ ‫ت َوما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ما ِفي ال ه‬
‫اَّلل َو ِكيلً) ‪( 132‬‬ ‫ض َوكَفى ِب ه ِ‬ ‫ِفي ْاأل َ ْر ِ‬

‫ص ‪551‬‬

‫ص ‪559 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪133‬‬
‫ّللاُ عَلى ذ ِلكَ قَدِيرا ً ) ‪( 133‬‬ ‫كان ه‬‫ين َو َ‬ ‫ت ِبآ َخ ِر َ‬‫اس َويَأ ْ ِ‬
‫ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم أَيُّ َها النه ُ‬
‫يتضح من هذه اآلية أن االقتدار يأبى إال الوجود ‪ ،‬وعلق اإلرادة والمشيئة باإلعدام فقال« ِإ ْن‬
‫يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم »أي يردكم إلى الحالة التي كنتم موصوفين فيها بالعدم وعلق االقتدار بإيجاد قوم‬
‫على ذ ِل َك »ولم يقل ذينك على التثنية ؛ فكانت‬ ‫ّللاُ َ‬
‫آخرين فقال ‪ « :‬ويأت بقوم آخرين »« َوكانَ َّ‬
‫ّللا تعالى هو الوجود ‪،‬‬ ‫اإلشارة من حيث أحديتها لألقرب ‪ ،‬وهو الذي أتى به« قَدِيرا ا » ‪،‬فإن ه‬
‫ه‬
‫والحق ال يعدم عدم العين‬ ‫فال يعطي إال الوجود ألن الخير كله بيديه ‪ ،‬والوجود هو الخير كله ‪،‬‬
‫‪ ،‬ولكن يكون عنه العدم اإلضافي وهو الذهاب واالنتقال ‪ ،‬فينقلك أو يذهبك من حال إلى حال‬
‫مع وجود عينك في الحالين ومن مكان إلى مكان مع وجود عينك في كل واحد منهما وبينهما ؛‬
‫فاإلتيان بصفة القدرة والذهاب باإلرادة من حيث ما هو ذهاب خاصة ‪ ،‬فالحق مذهب األشياء ال‬
‫معدمها ‪ ،‬فهو وإن أذهب األشياء من موطن كان لها وجود في موطن آخر ‪ .‬فالموت إذهاب ال‬
‫إعدام ‪ ،‬فإنه انتقال من دنيا إلى آخرة ‪ ،‬التي أولها البرزخ ‪.‬‬
‫ت‬‫فلما كان اإلذهاب من صفات الحق ال اإلعدام ‪ ،‬قال تعالى« ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم »أيها الناس« َويَأ ْ ِ‬
‫على ذ ِل َك قَدِيرا ا » ‪.‬‬‫ّللاُ َ‬
‫ِبآخ َِرينَ »ولم يقل يعدمكم« َوكانَ َّ‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 134‬إلى ‪135‬‬


‫س ِميعا ً بَ ِصيرا ً ( ‪ ) 134‬يا‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫كان ه‬ ‫ّللا ث َ ُ‬
‫واب ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َو َ‬ ‫واب ال ُّد ْنيا فَ ِع ْن َد ه ِ‬
‫كان يُ ِري ُد ث َ َ‬ ‫َم ْن َ‬
‫س ُك ْم أ َ ِو ا ْلوا ِل َد ْي ِن َو ْاأل َ ْق َربِ َ‬
‫ين إِ ْن‬ ‫َّلل َولَ ْو عَلى أ َ ْنفُ ِ‬
‫ش َهدا َء ِ ه ِ‬ ‫ين بِا ْل ِق ْ‬
‫س ِط ُ‬ ‫ام َ‬ ‫ِين آ َمنُوا كُونُوا قَ هو ِ‬ ‫أَيُّ َها الهذ َ‬
‫اَّللُ أ َ ْولى ِب ِهما فَل تَت ه ِبعُوا ا ْل َهوى أ َ ْن ت َ ْع ِدلُوا َو ِإ ْن ت َ ْل ُووا أ َ ْو ت ُ ْع ِرضُوا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫غنِيًّا أ َ ْو فَ ِقيرا ً فَ ه‬
‫يَك ُْن َ‬
‫ون َخ ِبيرا ً) ‪( 135‬‬ ‫كان ِبما ت َ ْع َملُ َ‬‫َ‬

‫ص ‪552‬‬

‫ص ‪560 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪136‬‬
‫ب الهذِي أ َ ْن َز َل ِم ْن‬
‫سو ِل ِه َوا ْل ِكتا ِ‬
‫ب الهذِي نَ هز َل عَلى َر ُ‬ ‫سو ِل ِه َوا ْل ِكتا ِ‬ ‫اَّلل َو َر ُ‬‫آمنُوا ِب ه ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا ِ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ضلالً بَ ِعيدا ً ( ‪) 136‬‬ ‫ض هل َ‬‫س ِل ِه َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر فَقَ ْد َ‬ ‫قَ ْب ُل َو َم ْن يَ ْكفُ ْر ِب ه ِ‬
‫اَّلل َو َملئِ َكتِ ِه َو ُكت ُ ِب ِه َو ُر ُ‬

‫" يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِآمنُوا "‬


‫الوجه األول ‪ «-‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا »في األخذ الميثاقي «آ َمنُوا »لقول الرسول إليكم من عندنا‬
‫‪ ،‬فلوال أن اإليمان كان عندهم ما وصفوا به ‪ ،‬فما ثم إيمان محدث بل هو مكتوب في قلب كل‬
‫حق المريد الشقاء ‪ ،‬فإنما تزول وحدانية المعبود ال وجوده ‪ ،‬وبالتوحيد‬ ‫مؤمن ‪ ،‬فإن زال في ه‬
‫تتعلق السعادة ‪ ،‬وبنفيه يتعلق الشقاء المؤبد ‪ .‬فما في العالم إال مؤمن ‪ ،‬ألن ما في العالم إال من‬
‫ّللا‬
‫هو ساجد هّلل إال بعض الثقلين من الجن واإلنس ‪ ،‬فإن اإلنسان الواحد منهم كثيرا ممن يسبح ه‬
‫ويسجد هّلل وفيه من ال يسجد هّلل وهو الذي حق عليه العذاب ‪.‬‬
‫فقوله تعالى« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا »فسماهم مؤمنين وأمرهم باإليمان ؛ فاألول عموم اإليمان ‪،‬‬
‫ّللا قال في حق قوم والذين آمنوا بالباطل ‪ ،‬والثاني خصوص اإليمان وهو المأمور به ‪،‬‬ ‫فإن ه‬
‫واألول إقرار منهم من غير أن يقترن به تكليف ‪ ،‬بل ذلك عن علم ‪ ،‬وأيسره في بني آدم حين‬
‫أشهدهم على أنفسهم فقال« أ َ لَ ْستُ ِب َر ِبه ُك ْم قالُوا بَلى » ‪،‬فخاطبهم بالمؤمنين حين أيه بهم ‪ ،‬ثم‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن آمن‬ ‫اّلل »ولم يقل بتوحيد ه‬ ‫أمرهم باإليمان في هذه الحالة األخرى ‪ .‬وقوله« ِآمنُوا ِب َّ ِ‬
‫ّللا فقد آمن ‪ ،‬ومن آمن بتوحيده فما أشرك ‪ .‬فاإليمان إثبات ‪ ،‬والتوحيد نفي الشريك ‪.‬‬ ‫بوجود ه‬
‫الوجه الثاني ‪ :‬تدل هذه اآلية على إطالق لفظة اإليمان من حيث اإلطالق وعدم التقييد على‬
‫ّللا اإليمان ولم يقيده ‪ ،‬فإنه قال في‬ ‫كل من آمن بالباطل فإنه قال« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا »فأطلق ه‬
‫باط ِل »وقال« َو ِإ ْن يُ ْش َر ْك ِب ِه تُؤْ ِمنُوا » ‪،‬فسمى المشرك مؤمنا ‪،‬‬ ‫المشركين « َوالَّذِينَ آ َمنُوا ِب ْال ِ‬
‫ّللا بهم في قوله« يا أَيُّ َها الَّذِينَ‬ ‫وما كانوا مؤمنين إال بالباطل ‪ .‬فهؤالء هم المؤمنون الذين أيه ه‬
‫ب الَّذِي أ َ ْنزَ َل ِم ْن قَ ْب ُل »فميزهم‬ ‫سو ِل ِه َو ْال ِكتا ِ‬
‫على َر ُ‬ ‫سو ِل ِه َو ْال ِكتا ِ‬
‫ب الَّذِي ن ََّز َل َ‬ ‫آ َمنُوا ِآمنُوا ِب َّ ِ‬
‫اّلل َو َر ُ‬
‫عن أهل الكتاب والكتب ‪ ،‬وما ثم مخبر جاء بخبر إال الرسل ‪ ،‬فتعين أن المؤمنين الذين أمروا‬
‫باإليمان أنهم الذين آمنوا بالباطل وآمنوا بالشريك ‪ ،‬ود هل على أنه ما خاطب أهل الكتاب فقط ‪،‬‬
‫فإنه أمرهم باإليمان بالكتاب الذي أنزل من قبل ‪ ،‬وال شك أنهم به مؤمنون أعني علماء أهل‬
‫اّلل »فقيد في الذكر ما‬ ‫الكتاب ‪ ،‬ثم قيد الكفر في هذه اآلية ولم يقيد اإليمان فقال« َو َم ْن يَ ْكفُ ْر ِب َّ ِ‬
‫أمر به عبده أن يؤمن به ‪ ،‬وما تعرض في الذكر للكفر المطلق ‪ ،‬كما أطلق اإليمان ونعتهم به‬
‫في قوله« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا »وما كانوا مؤمنين إال بالباطل ‪ ،‬فإن‬

‫ص ‪553‬‬

‫ص ‪561 :‬‬
‫باّلل فإنه به مؤمن ‪ ،‬وإن احتمل أن يؤمن به لقول هذا الرسول‬ ‫باّلل ال يقال له ‪ :‬آمن ه‬ ‫المؤمن ه‬
‫الخاص على طريق القربة ‪ ،‬ولكن التحقيق في ذلك ما ذهبنا إليه وال سيما والحق قد أطلق اسم‬
‫اإليمان على من آمن بالباطل ‪ ،‬واسم الكفر على من كفر بالطاغوت ‪ -‬الوجه الثالث ‪ «-‬يا أَيُّ َها‬
‫الَّذِينَ آ َمنُوا »يريد أهل الكتاب حيث قالوا ما قالوه ألمر نبيهم عيسى أو موسى أو من كان من‬
‫أهل اإليمان بذلك من الكتب المتقدمة ‪ ،‬ولهذا قال لهم« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا »ثم قال لهم« آ َمنُوا‬
‫ّللا عليه وسلم ال لعلمكم بذلك وال إليمانكم‬ ‫ّللا لقول محمد صلهى ه‬
‫»بأنبيائي ‪ ،‬قولوا ال إله إال ه‬
‫بنبيكم األول ‪ ،‬فتجمعوا بين اإليمانين فيكون لكم أجران ‪.‬‬
‫وأن السعادة في اإليمان وهو أن تقول‬ ‫ومن هنا يعلم الفرق بين العلم بالشيء وبين اإليمان به ‪ ،‬ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ما تعلمه ‪ ،‬وما قلته لقول رسولك األول لقول هذا الرسول الثاني الذي هو محمد صلهى ه‬
‫وسلم ال لعلمك وال للقول األول ‪ ،‬فحينئذ يشهد لك باإليمان ومآلك السعادة ‪ ،‬وإذا قلت ذلك ال‬
‫ّللا العالم إال ليعلم ما هو به عالم‬ ‫لقوله ‪ ،‬وأظهرت أنك قلت ذلك لقوله ‪ ،‬كنت منافقا ‪ ،‬فما اختبر ه‬
‫فقال« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِآمنُوا‪ :‬هذا ذلك من وجه ‪ ،‬فهذا مؤمن كلف أن يؤمن بما هو به مؤمن‬
‫‪.‬‬
‫سره ‪ ،‬وإن لم‬ ‫سو ِل ِه » ‪،‬وال يؤمن بالرسول إال ما خاطبه الحق في ه‬ ‫لذلك قال« ِآمنُوا ِب َّ ِ‬
‫اّلل َو َر ُ‬
‫يشعر به المخاطب وال يعرف ‪ ،‬ولكن يجد التصديق به في قلبه ‪ .‬فلوال تجلي الحق لقلب‬
‫المؤمن وتعريفه إياه بغير واسطة ما آمن بالرسول وال صدهق ‪.‬‬
‫سو ِل ِه »‬ ‫ب الَّذِي ن ََّز َل َ‬
‫على َر ُ‬ ‫وكذلك في إيمان المؤمن بما جاء به الرسول وهو قوله« َو ْال ِكتا ِ‬
‫‪،‬لوال تجلي الرسول بقلبه وتعريفه إياه بغير واسطة ما آمن بما جاء به وال صدق وإن لم يشعر‬
‫المؤمن وال يدري كيف آمن ‪ ،‬فما كل مؤمن يعرف من أين حصل له اإليمان ‪ -‬الوجه الرابع ‪-‬‬
‫لما كان التأيه والنداء مؤذنا بالبعد عن الحالة التي يدعو إليها من يناديه من أجلها فيقول« يا‬
‫أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِآمنُوا »فلبعدهم مما أيه بهم أن يؤمنوا به ‪ ،‬لذلك أيه بهم ‪ ،‬فإن كانوا موصوفين‬
‫في الحال بما دعاهم إليه فيتعلق البعد بالزمان المستقبل في حقهم ‪ ،‬أي اثبتوا على حالكم الذي‬
‫ارتضاه الدين لكم في المستقبل كما قال يعقوب لبنيه« فَال ت َ ُموت ُ َّن إِ َّال َوأ َ ْنت ُ ْم ُم ْس ِل ُمونَ »في حال‬
‫حياته ‪ ،‬فأمرهم باإلسالم في المستقبل أي بالثبوت عليه ‪ ،‬واالستقبال بعيد عن زمان الحال ‪،‬‬
‫فيكون التأيه أيضا بما هو موجود في الحال أن يكون باقيا في المستقبل ‪ .‬واعلم أن النداء‬
‫اإللهي يع هم المؤمن والكافر والطائع والعاصي واألرواح والروحانيين ‪ ،‬فمن أجاب سمي مطيعا‬
‫وكان سعيدا ‪ ،‬وإن لم‬

‫ص ‪554‬‬

‫ص ‪562 :‬‬
‫يجب سمي عاصيا وكان شقيا ‪ .‬ونداء الحق ال يكون إال بما يكون في إجابته السعادة للعبد ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 137‬إلى ‪140‬‬


‫ازدادُوا ُك ْفرا ً لَ ْم يَك ُِن ه‬
‫ّللاُ ِليَ ْغ ِف َر لَ ُه ْم َوال ِليَ ْه ِديَ ُه ْم‬ ‫ِين آ َمنُوا ث ُ هم َكفَ ُروا ث ُ هم آ َمنُوا ث ُ هم َكفَ ُروا ث ُ هم ْ‬ ‫إِ هن الهذ َ‬
‫ين أ َ ْو ِليا َء‬
‫ون ا ْلكافِ ِر َ‬‫ِين يَت ه ِخذُ َ‬ ‫ين بِأ َ هن لَ ُه ْم عَذابا ً أ َ ِليما ً ( ‪ ) 138‬الهذ َ‬ ‫ش ِر ا ْل ُمنافِ ِق َ‬
‫سبِيلً ( ‪ ) 137‬بَ ِ ه‬ ‫َ‬
‫َّلل َج ِميعا ً ( ‪َ ) 139‬وقَ ْد نَ هز َل َ‬
‫علَ ْي ُك ْم فِي‬ ‫ون ِع ْن َد ُه ُم ا ْل ِع هزةَ فَ ِإ هن ا ْل ِع هزةَ ِ ه ِ‬‫ين أ َ يَ ْبتَغُ َ‬ ‫ُون ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫ِم ْن د ِ‬
‫ستَه َْزأ ُ ِبها فَل ت َ ْقعُدُوا َمعَ ُه ْم َحتهى يَ ُخوضُوا فِي‬ ‫ّللا يُ ْكفَ ُر ِبها َويُ ْ‬ ‫ت هِ‬ ‫س ِم ْعت ُ ْم آيا ِ‬‫ب أ َ ْن ِإذا َ‬ ‫ا ْل ِكتا ِ‬
‫ين فِي َج َهنه َم َج ِميعا ً ) ‪( 140‬‬ ‫ين َوا ْلكافِ ِر َ‬ ‫جام ُع ا ْل ُمنافِ ِق َ‬ ‫ّللا ِ‬ ‫غ ْي ِر ِه ِإنه ُك ْم ِإذا ً ِمثْلُ ُه ْم ِإ هن ه َ‬
‫ث َ‬ ‫َحدِي ٍ‬

‫من لم يحضر عند الكالم بسمعه لم يعرف هل كفر به أو لم يكفر ؟ وال يصدق في دعواه أنه‬
‫ّللا تعالى شيئا ‪ ،‬فال يعقل إال من سمع ‪ ،‬وال يسمع إال من‬ ‫سمع فإنه ال يغنيه سماع األذن من ه‬
‫ّللا إذا قعد معهم سامع لهم أنه في‬ ‫حضر ‪ .‬فلما أخبر سبحانه أن الذين يخوضون في آيات ه‬
‫مقامهم وأنه يجازى من حيث هم لالشتراك ‪ ،‬أوصانا وحذرنا بقوله تعالى« ِإنَّ ُك ْم ِإذا ا ِمثْلُ ُه ْم »إذا‬
‫أقمتم معهم وهم بهذه المثابة ‪ ،‬وإن لم نخض معهم فإنه ال يرضى بهذه المنزلة إال منافق ‪،‬‬
‫جام ُع ْال ُمنا ِف ِقينَ َو ْالكا ِف ِرينَ ِفي َج َهنَّ َم َج ِميعا ا »فالكافر الخائض والمنافق‬ ‫ولهذا قال تعالى« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا ِ‬
‫الجليس له والمستمع لخوضه ‪ ،‬فيخاض بهم حيث يكرهون كما خاضوا هنا حيث يكره الحق‬
‫منهم‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪141‬‬


‫كان ِل ْلكا ِف ِري َن نَ ِص ٌ‬
‫يب‬ ‫ّللا قالُوا أ َ لَ ْم نَك ُْن َمعَ ُك ْم َو ِإ ْن َ‬ ‫كان لَ ُك ْم فَتْ ٌح ِم َن ه ِ‬ ‫ون ِب ُك ْم فَ ِإ ْن َ‬ ‫ص َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ِين يَت َ َربه ُ‬
‫ين فَ ه‬
‫اَّللُ يَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َولَ ْن يَجْ عَ َل ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ستَحْ ِو ْذ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َونَ ْمنَ ْع ُك ْم ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫قالُوا أ َ لَ ْم نَ ْ‬
‫سبِيلً) ‪( 141‬‬ ‫ين َ‬ ‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫ين َ‬ ‫ِل ْلكافِ ِر َ‬

‫ص ‪555‬‬

‫ص ‪563 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪142‬‬
‫ُن النه َ‬
‫اس‬ ‫صل ِة قا ُموا كُسالى يُراؤ َ‬ ‫ع ُه ْم َو ِإذا قا ُموا ِإلَى ال ه‬
‫ّللا َو ُه َو خا ِد ُ‬ ‫ين يُخا ِدع َ‬
‫ُون ه َ‬ ‫ِإ هن ا ْل ُمنافِ ِق َ‬
‫ّللا ِإاله قَ ِليلً ) ‪( 142‬‬
‫ون ه َ‬ ‫َوال يَ ْذك ُُر َ‬
‫ّللا َو ُه َو خا ِد ُ‬
‫ع ُه ْم »أي‬ ‫باّلل غاية الجهل ‪ .‬وقوله تعالى« يُخا ِدعُونَ َّ َ‬ ‫ّللا إال جاهل ه‬ ‫ما يخادع ه‬
‫ّللا ‪ .‬وقال تعالى« َو ُه َو‬ ‫ّللا بهم فهو خادعهم بعين اعتقادهم أنهم يخادعون ه‬ ‫خداعهم هو خداع ه‬
‫ع ُه ْم »ولم يقل مخادعهم ‪ ،‬فإنه يخدعهم حقيقة ‪ ،‬وهم ال يقدرون أن يخدعوه ‪.‬‬ ‫خا ِد ُ‬
‫اس »فهم في بواطنهم على خالف ما يبدو‬ ‫صالةِ قا ُموا ُكسالى يُراؤُنَ النَّ َ‬ ‫« َو ِإذا قا ُموا ِإلَى ال َّ‬
‫للناس ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 143‬إلى ‪145‬‬


‫سبِيلً ( ‪ ) 143‬يا‬ ‫ّللاُ فَلَ ْن ت َ ِج َد لَهُ َ‬
‫ض ِل ِل ه‬ ‫ُالء َو َم ْن يُ ْ‬‫ُالء َوال إِلى هؤ ِ‬ ‫ين بَ ْي َن ذ ِلكَ ال إِلى هؤ ِ‬ ‫ُمذَ ْبذَبِ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫ُون أ َ ْن تَجْ عَلُوا ِ ه ِ‬
‫َّلل َ‬ ‫ين أ َ ت ُ ِريد َ‬ ‫ين أ َ ْو ِليا َء ِم ْن د ِ‬
‫ُون ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ال تَت ه ِخذُوا ا ْلكافِ ِر َ‬
‫سفَ ِل ِم َن النه ِار َولَ ْن ت َ ِج َد لَ ُه ْم نَ ِصيرا ً ‪( 145‬‬ ‫ين فِي الد ْهر ِك ْاأل َ ْ‬‫س ْلطانا ً ُم ِبينا ً ( ‪ِ ) 144‬إ هن ا ْل ُمنافِ ِق َ‬‫ُ‬
‫)‬

‫ّللا هذه األمة وفيها منافقوها ‪ ،‬فإذا انبعثت كل أمة إلى ما كانت تعبد‬
‫إذا كان يوم القيامة يحشر ه‬
‫‪ ،‬ودخلت األمم النار ‪ ،‬ونصب الصراط على جسر جهنم ‪ ،‬أتي بالمنافقين الذين أظهروا اإليمان‬
‫بألسنتهم وصلوا وصاموا ‪ ،‬وقاموا بفروع الشريعة في الصورة الظاهرة كما قام المؤمنون ‪،‬‬
‫ّللا تعالى حتى انفهقت لهم الجنة بما تحويه من الخير والسرور ‪ ،‬فتنعموا برؤيتها‬
‫أتى بهم ه‬
‫وظنوا أنهم داخلوها ‪ ،‬فكانت تلك النظرة والفرح الذي قام لهم بالطمع بدخولها جزاء لما جاءوا‬
‫به من األعمال الظاهرة ظاهرا بظاهر ‪ ،‬عدال منه سبحانه ‪.‬‬
‫فإذا طابق الجزاء أعمالهم وأخذوا حقههم ‪ ،‬وهم ال يعلمون أنهم يصرفون عنها ‪ ،‬ضرب ه‬
‫ّللا‬
‫بينهم وبين الجنة سورا ‪ ،‬باطنه الجنة ‪ ،‬وظاهره من قبله العذاب ‪ ،‬فيؤمر بهم إلى النار ‪ ،‬فهذا‬
‫ّللا بهم ‪ ،‬فجمع سبحانه في هذا الفعل الواحد بين العدل‬
‫ّللا بهم وسخرية ه‬
‫هو استهزاء ه‬
‫واالستهزاء كما جمعوا بين اإلسالم‬

‫ص ‪556‬‬

‫ص ‪564 :‬‬
‫والكفر ‪.‬وليس للمنافقين من النار إال الدرك األسفل وهي النار التي تطلع على األفئدة لما هم‬
‫عليه من إصرار الكفر ‪ ،‬وليس لهم في أعالها مكان إال على قدر معاصيهم الظاهرة ولما أتوا‬
‫به من األعمال الظاهرة ‪ .‬والكافر يتعذب في النار علوا وسفال بخالف المنافق ‪ ،‬فما عنده من‬
‫ّللا وال من جهنم ‪ ،‬وكلهم في جهنم جميعا ‪ :‬ومن أعجب ما روينا عن رسول‬ ‫يعصمه من نار ه‬
‫ّللا عليه وسلم كان قاعدا مع أصحابه في المسجد‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن رسول ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أتعرفون ما هذه الهدة ؟‬‫ّللا صلهى ه‬
‫فسمعوا هدة عظيمة فارتاعوا فقال رسول ه‬
‫ّللا ورسوله أعلم قال حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين سنة ‪ ،‬اآلن وصل إلى قعرها‬ ‫قالوا ‪ :‬ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫‪ .‬فكان وصوله إلى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدة ‪ .‬فما فرغ من كالمه صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫إال والصراخ في دار منافق من المنافقين ‪ ،‬قد مات وكان عمره سبعين سنة فقال رسول ه‬
‫ّللا أكبر فعلم علماء الصحابة أن هذا الحجر هو ذاك المنافق وأنه منذ‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ه‬
‫ّللا يهوي في نار جهنم وبلغ عمره سبعين سنة ‪ ،‬فلما مات حصل في قعرها ‪ ،‬فكان‬ ‫خلقه ه‬
‫ّللا ليعتبروا ‪ .‬فانظر ما أعجب كالم النبوة ‪ ،‬وما ألطف تعريفه‬ ‫سماعهم تلك الهدة التي أسمعهم ه‬
‫‪ ،‬وما أحسن إشارته ‪ ،‬وما أعذب كالمه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬
‫واعلم أن جهنم كلها مائة درك من أعالها إلى أسفلها نظائر درج الجنة التي ينزل فيها السعداء‬
‫‪ ،‬فتساوى عدد الدرك والدرج ‪ .‬ويقع االمتياز بأن امتازت النار عن الجنة بأنه ليس في النار‬
‫قط أنه اختص‬ ‫ّللا ما عرفنا ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬
‫دركات اختصاص إلهي وال عذاب اختصاص إلهي من ه‬
‫يختص برحمته من يشاء وبفضله ‪ ،‬فأهل النار معذبون بأعمالهم‬ ‫ه‬ ‫بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه‬
‫ال غير ‪ ،‬وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات االختصاص ‪ .‬ولما كان مذهبنا‬
‫أن جميع الناس كافة من مؤمن وكافر ومنافق مكلفون مخاطبون بأصول الشريعة وفروعها‬
‫وأنهم مؤاخذون يوم القيامة باألصول والفروع ‪ ،‬لهذا كان المنافق في الدرك األسفل من النار‬
‫وهو باطن النار ‪ ،‬وأن المنافق معذب بالنار التي تطلع على األفئدة ‪ ،‬إذ أتى في الدنيا بصورة‬
‫ظاهر الحكم المشروع من التلفظ بالشهادة وإظهار تصديق الرسل واألعمال الظاهرة ‪ ،‬وما‬
‫عندهم في بواطنهم من اإليمان مثقال ذرة ‪ .‬فبهذا القدر تميهزوا من الكفار وقيل فيهم ‪ :‬إنهم‬
‫منافقون ‪ ،‬وقال تعالى ‪ :‬إن المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ‪ ،‬فذكر الدار ‪.‬فالمنافقون‬
‫يعذبون في أسفل جهنم ‪ ،‬والكافرون لهم عذاب األعلى واألسفل‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪146‬‬


‫ف‬
‫س ْو َ‬ ‫َّلل فَأُولئِكَ َم َع ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين َو َ‬ ‫اَّلل َوأ َ ْخلَ ُ‬
‫صوا دِينَ ُه ْم ِ ه ِ‬ ‫ص ُموا بِ ه ِ‬ ‫ِين تابُوا َوأ َ ْ‬
‫صلَ ُحوا َوا ْعت َ َ‬ ‫إِاله الهذ َ‬
‫ين أَجْ را ً ع َِظيما ً) ‪( 146‬‬ ‫ّللاُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ت ه‬ ‫يُ ْؤ ِ‬

‫ص ‪557‬‬

‫ص ‪565 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 146‬إلى ‪148‬‬
‫ف‬
‫س ْو َ‬ ‫َّلل فَأُولئِكَ َم َع ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين َو َ‬ ‫صوا دِينَ ُه ْم ِ ه ِ‬‫اَّلل َوأ َ ْخلَ ُ‬
‫ص ُموا ِب ه ِ‬ ‫صلَ ُحوا َوا ْعت َ َ‬ ‫ِين تابُوا َوأ َ ْ‬ ‫ِإاله الهذ َ‬
‫ّللاُ‬ ‫شك َْرت ُ ْم َوآ َم ْنت ُ ْم َو َ‬
‫كان ه‬ ‫ين أَجْ را ً ع َِظيما ً ( ‪ ) 146‬ما يَ ْفعَ ُل ه‬
‫ّللاُ ِبعَذا ِب ُك ْم ِإ ْن َ‬ ‫ّللاُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ت ه‬ ‫يُ ْؤ ِ‬
‫س ِميعا ً‬
‫ّللاُ َ‬
‫كان ه‬ ‫ظ ِل َم َو َ‬ ‫وء ِم َن ا ْلقَ ْو ِل ِإاله َم ْن ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ّللاُ ا ْل َجه َْر ِبال ُّ‬
‫ب ه‬ ‫ع ِليما ً ( ‪ ) 147‬ال يُ ِح ُّ‬ ‫شا ِكرا ً َ‬
‫ع ِليما ً ) ‪( 148‬‬ ‫َ‬
‫ما علم الحكم بكون القول سوءا إال من القول إذ لوال القول ما وصل علمه إلينا ‪.‬‬
‫فالقول بالسوء بطريق التعريف أنه سوء قول خير يجب الجهر به ألنه تعليم حتى ال يجهر به‬
‫ّللا على المكلف استعمال هذا ‪ .‬فنفى المحبة أن يكون متعلقها الجهر‬ ‫عند االستعمال إذا قضى ه‬
‫بالسوء من القول ‪ ،‬والجهر بالسوء قد يكون قوال ‪ ،‬وقد يكون في األفعال التي ال تكون قوال ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم من بلي منكم بهذه‬ ‫فيريد بالجهر فيها ظهور الفحشاء من العبد ‪ ،‬كما قال صلهى ه‬
‫القاذورات فليستتر ؛ يعني ال يجهر بها ‪ .‬ولما وقع االصطالح في اللسان على السيئ والحسن‬
‫ّللا بحسب التواطؤ ‪ ،‬فهم سموه سوءا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إن ث هم سوءا فقال « إن‬ ‫‪ ،‬نزل الشرع من عند ه‬
‫وء ِمنَ ْالقَ ْو ِل »الذي سميتموه سوءا لكونه ال يوافق أغراضكم « ِإ َّال‬ ‫س ِ‬ ‫ّللاُ ْال َج ْه َر بِال ُّ‬
‫اللههال يُ ِحبُّ َّ‬
‫ظ ِل َم »ولكن السكوت عنه‬ ‫ظ ِل َم »والجهر بالسوء من القول وإن كان جزاء بقوله« ِإ َّال َم ْن ُ‬ ‫َم ْن ُ‬
‫ع ِليما ا» ‪.‬‬‫س ِميعا ا َ‬ ‫ّللاُ َ‬‫أفضل« َوكانَ َّ‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪149‬‬


‫عفُ ًّوا قَدِيرا ً ) ‪( 149‬‬ ‫وء فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫كان َ‬ ‫س ٍ‬‫إِ ْن ت ُ ْبدُوا َخ ْيرا ً أ َ ْو ت ُ ْخفُوهُ أ َ ْو ت َ ْعفُوا ع َْن ُ‬
‫اعلم أن كل مخالف أمر الحق فإنه يستدعي بهذه المخالفة من الحق مخالفة غرضه ‪ ،‬ولذلك ال‬
‫يكون العفو والتجاوز والمغفرة من الحق جزاء لمخالفة العبد في بعض العبيد ‪ ،‬وإنما يكون ذلك‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬فإن كان جزاء فهو جزاء لمن عفا عن عبد مثله وتجاوز وغفر لمن أساء‬ ‫امتنانا من ه‬
‫إليه في دنياه ‪ ،‬فقام له الحق في تلك الصفة من العفو والصفح والتجاوز والمغفرة مثال بمثل يدا‬
‫ّللا عباده عن شيء إال كان منه أبعد ‪ ،‬وال أمرهم بكريم خلق إال كان‬ ‫بيدها وها ‪ ،‬فما نهى ه‬
‫الحق به أحق ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪150‬‬


‫ض‬ ‫س ِل ِه َويَقُولُ َ‬
‫ون نُ ْؤ ِم ُن ِببَ ْع ٍ‬ ‫ُون أ َ ْن يُفَ ِ هرقُوا بَ ْي َن ه ِ‬
‫ّللا َو ُر ُ‬ ‫س ِل ِه َويُ ِريد َ‬‫اَّلل َو ُر ُ‬ ‫ِين يَ ْكفُ ُر َ‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫سبِيلً) ‪( 150‬‬ ‫ُون أ َ ْن يَت ه ِخذُوا بَ ْي َن ذ ِلكَ َ‬
‫ض َويُ ِريد َ‬ ‫َونَ ْكفُ ُر بِبَ ْع ٍ‬

‫ص ‪558‬‬

‫ص ‪566 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪150‬‬
‫ض‬ ‫ون نُ ْؤ ِم ُن ِببَ ْع ٍ‬‫س ِل ِه َويَقُولُ َ‬ ‫ُون أ َ ْن يُفَ ِ هرقُوا بَ ْي َن ه ِ‬
‫ّللا َو ُر ُ‬ ‫س ِل ِه َويُ ِريد َ‬ ‫اَّلل َو ُر ُ‬ ‫ِين يَ ْكفُ ُر َ‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫س ِبيلً ) ‪( 150‬‬ ‫ُون أ َ ْن يَت ه ِخذُوا بَ ْي َن ذ ِلكَ َ‬ ‫ض َويُ ِريد َ‬ ‫َونَ ْكفُ ُر ِببَ ْع ٍ‬
‫ض »وهو الحق«‬ ‫باط ِل »فإنهم قالوا« نُؤْ ِم ُن ِببَ ْع ٍ‬ ‫سوا ْال َح َّق ِب ْال ِ‬ ‫لذلك قال لهم الحق تعالى« َوال ت َ ْل ِب ُ‬
‫ض »وهو الباطل فخلطوا بينهما ويتخيلون أن الحق يختلط بالباطل وليس كذلك«‬ ‫َونَ ْكفُ ُر بِبَ ْع ٍ‬
‫يال »أي يحدثوا طريقا أخرى من عند أنفسهم ‪.‬‬ ‫سبِ ا‬ ‫َويُ ِريدُونَ أ َ ْن يَت َّ ِخذُوا بَيْنَ ذ ِل َك َ‬
‫واعلم أن جماعة من العقالء جعلوا الشريعة بمعزل فيما زعموا ؛ والشريعة أبدا ال تكون‬
‫ّللا المتكلم ‪،‬‬ ‫بمعزل ‪ ،‬فإنها تعم قول كل قائل واعتقاد كل معتقد ومدلول كل دليل ‪ ،‬ألنها عن ه‬
‫فيه قد نزلت ‪ .‬وإنما قلنا في هذه الطائفة المعينة أنها جعلت الشريعة بمعزل مع كونها قالت‬
‫ببعض ما جاءت به الشريعة ؛ فما أخذت من الشريعة إال ما وافق نظرها ‪ .‬وما عدا ذلك رمت‬
‫ّللا ال من‬ ‫به أو جعلته خطابا للعامة التي ال تفقه ‪ ،‬هذا إذا عرفت واعتقدت أن ذلك من عند ه‬
‫س ِل ِه َويُ ِريدُونَ أ َ ْن‬ ‫نفس الرسول ‪ ،‬فقال تعالى عنهم على طريق الذم« إِ َّن الَّذِينَ يَ ْكفُ ُرونَ بِ َّ ِ‬
‫اّلل َو ُر ُ‬
‫يال‬ ‫ض َويُ ِريدُونَ أ َ ْن يَت َّ ِخذُوا بَيْنَ ذ ِل َك َ‬
‫سبِ ا‬ ‫ض َونَ ْكفُ ُر بِبَ ْع ٍ‬ ‫س ِل ِه َويَقُولُونَ نُؤْ ِم ُن بِبَ ْع ٍ‬ ‫يُفَ ِ هرقُوا بَيْنَ َّ ِ‬
‫ّللا َو ُر ُ‬
‫» ‪.‬وإن كان قد جاء الشرع بما هم عليه فما أخذوا ما أخذوا من كون الشرع جاء به وإنما قالوا‬
‫به للموافقة احتجاجا ‪ .‬والطائفة السعيدة ال ترمي من الشريعة شيئا ‪ ،‬بل تترك نظرها وحكم‬
‫عقلها بعد ثبوت الشرع لحكم ما يأتي به الشرع إليها ‪ ،‬ويقضي به ‪ ،‬فهم سادات العالم ‪ ،‬وأما‬
‫تنزيه الحق عما تنزهه عباده مما سوى العبودية ‪ ،‬فال علم لهم بما هو األمر عليه ‪ ،‬فإنه يكذب‬
‫ّللا‬
‫ربه في كل حال يجعل الحق فيه نفسه مع عباده ‪ ،‬وهذا أعظم ما يكون من سوء األدب مع ه‬
‫أن ينزهه عما نسبه سبحانه إلى نفسه بما نسبه إلى نفسه ‪ ،‬فهو يؤمن ببعض وهو قوله« لَي َ‬
‫ْس‬
‫ش ْي ٌء »ويكفر ببعض ‪ ،‬فأولئك هم الكافرون حقها ‪ ،‬فجعل العبد نفسه أعلم منه بربه نفسه‬ ‫َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫‪ ،‬وأكثر من هذا الجهل فال يكون ‪ .‬والعبد المؤمن ينبغي له أن ينسب إلى الحق ما نسبه الحق‬
‫ّللا عن بصيرته ‪ ،‬حتى رأى‬ ‫ّللا من ذلك ‪ ،‬إذا لم يكن ممن كشف ه‬ ‫إلى نفسه على حد ما يعلمه ه‬
‫األمر على ما هو عليه ‪.‬وهذا هو الشرك الخفي فإنه نزاع هّلل تعالى خفي في العبد ‪ ،‬ال يشعر‬
‫به كل أحد وال سيما الواقع فيه ‪ ،‬ويتخيل أنه في الحاصل ‪ ،‬وهو في الفائت ‪ .‬فهذا المنزه‬
‫الجاهل ينزهه عن ذلك الوصف الذي وصف به الحق نفسه ‪ ،‬وأخذ يثني عليه بما يرى أنه ثناء‬
‫وّللا ما أمره أن ينزهه إال بحمده أي بما أثنى على‬ ‫ّللا ‪ ،‬ه‬ ‫على ه‬

‫ص ‪559‬‬

‫ص ‪567 :‬‬
‫نفسه به في كتبه وعلى ألسنة رسله ‪ .‬فإذا أراد العبد نجاة نفسه وتحصيل أسباب سعادته ‪ ،‬فال‬
‫ّللا تعالى‬
‫ّللا في ذلك من غير تعيين ‪ ،‬فإن قبضه ه‬‫ّللا إال بحمده كان ما كان ‪ ،‬على علم ه‬‫يحمد ه‬
‫على ذلك اطلع على األمر على ما هو عليه ‪ ،‬إذا لم يكن من أهل الكشف في الحياة الدنيا ‪ ،‬وإن‬
‫ّللا كل ما خرج عن تأويله ‪ ،‬فلم يره فيه ‪ ،‬وهذا أعظم‬‫لم يفعل وتأول فهو لما تأوله ‪ ،‬وحرمه ه‬
‫ّللا والجهل به ‪ ،‬كما‬‫الحرمان ‪ ،‬وعند الكشف األخروي يرى ما كان عليه من سوء األدب مع ه‬
‫ورد أن أهل هذا المقام ‪ ،‬إذا تجلى لهم الحق تعالى في اآلخرة ينكرونه وال يقرون به ألنهم ما‬
‫عبدوا ربا إال مقيدا بعالمة ‪ ،‬فإذا ظهر لهم بتلك العالمة أقروا له بالربوبية وهو عين ما أنكروه‬
‫‪ ،‬وأي جهل أعظم من أن يقر بما هو له منكر ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪151‬‬


‫ون َحقًّا َوأ َ ْعتَدْنا ِل ْلكافِ ِر َ‬
‫ين عَذابا ً ُم ِهينا ً ) ‪( 151‬‬ ‫أُولئِكَ ُه ُم ا ْلكافِ ُر َ‬
‫فرجح جانب الكفر في الحكم على جانب اإليمان ‪ ،‬وإنما رجح حكم الكفر ألحدية المخبر‬
‫وصدقه عنده فيما أخبر به مطلقا من غير تقييد الستحالة الكذب عليه ‪ ،‬وألن اإليمان في نفسه‬
‫ال يتكثر وإنما كثرته ظهوره في المواطن ‪ ،‬فنفى عنهم اإليمان كله إذ نفوه من مرتبة واحدة ‪،‬‬
‫فهم أولى باسم الكفر الذي هو الستر ‪ ،‬فإن الكافر األصلي هو الذي استتر عنه الحق ‪ ،‬وهذا‬
‫عرف اإليمان وستره ‪ ،‬فإنه قال نؤمن ببعض فهو أولى باسم الكفر من الذي ال يعرفه ‪ ،‬لذا‬
‫قال «أُولئِ َك ُه ُم ْالكافِ ُرونَ َحقًّا » ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 152‬إلى ‪153‬‬


‫ّللاُ‬ ‫ور ُه ْم َو َ‬
‫كان ه‬ ‫يه ْم أ ُ ُج َ‬
‫ف يُ ْؤتِ ِ‬‫س ْو َ‬ ‫س ِل ِه َولَ ْم يُفَ ِ هرقُوا بَ ْي َن أ َ َح ٍد ِم ْن ُه ْم أُولئِكَ َ‬‫اَّلل َو ُر ُ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ِب ه ِ‬
‫سأَلُوا ُموسى‬ ‫ماء فَقَ ْد َ‬
‫س ِ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِكتابا ً ِم َن ال ه‬ ‫ب أ َ ْن تُنَ ِ هز َل َ‬
‫سئَلُكَ أ َ ْه ُل ا ْل ِكتا ِ‬‫غفُورا ً َر ِحيما ً ( ‪ ) 152‬يَ ْ‬ ‫َ‬
‫صا ِعقَةُ ِب ُ‬
‫ظ ْل ِم ِه ْم ث ُ هم ات ه َخذُوا ا ْلعِجْ َل ِم ْن بَ ْع ِد ما‬ ‫ّللا َجه َْرةً فَأ َ َخذَتْ ُه ُم ال ه‬‫أ َ ْكبَ َر ِم ْن ذ ِلكَ فَقالُوا أ َ ِرنَا ه َ‬
‫س ْلطانا ً ُمبِينا ً) ‪( 153‬‬ ‫جا َءتْ ُه ُم ا ْلبَ ِيهناتُ فَعَفَ ْونا ع َْن ذ ِلكَ َوآت َ ْينا ُموسى ُ‬

‫ص ‪560‬‬

‫ص ‪568 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 154‬إلى ‪157‬‬
‫ت‬
‫س ْب ِ‬ ‫س هجدا ً َوقُ ْلنا لَ ُه ْم ال ت َ ْعدُوا فِي ال ه‬ ‫باب ُ‬ ‫ور ِب ِميثاقِ ِه ْم َوقُ ْلنا لَ ُه ُم ا ْد ُخلُوا ا ْل َ‬ ‫ط َ‬ ‫َو َرفَ ْعنا فَ ْوقَ ُه ُم ال ُّ‬
‫ّللا َوقَتْ ِل ِه ُم ْاأل َ ْن ِبيا َء‬
‫ت هِ‬ ‫غ ِليظا ً ( ‪ ) 154‬فَ ِبما نَ ْق ِض ِه ْم ِميثاقَ ُه ْم َو ُك ْف ِر ِه ْم ِبآيا ِ‬ ‫َوأ َ َخ ْذنا ِم ْن ُه ْم ِميثاقا ً َ‬
‫ون ِإاله قَ ِليلً ( ‪) 155‬‬ ‫علَ ْيها ِب ُك ْف ِر ِه ْم فَل يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ّللاُ َ‬‫ف بَ ْل َطبَ َع ه‬ ‫ق َوقَ ْو ِل ِه ْم قُلُوبُنا ُ‬
‫غ ْل ٌ‬ ‫ِبغَ ْي ِر َح ه ٍ‬
‫سى ا ْب َن َم ْريَ َم‬ ‫سي َح ِعي َ‬ ‫َوبِ ُك ْف ِر ِه ْم َوقَ ْو ِل ِه ْم عَلى َم ْريَ َم بُهْتانا ً ع َِظيما ً ( ‪َ ) 156‬وقَ ْو ِل ِه ْم إِنها قَت َ ْلنَا ا ْل َم ِ‬
‫اختَلَفُوا فِي ِه لَ ِفي ش ٍهَك ِم ْنهُ ما لَ ُه ْم‬ ‫ِين ْ‬ ‫ش ِبههَ لَ ُه ْم َوإِ هن الهذ َ‬
‫صلَبُوهُ َول ِك ْن ُ‬ ‫ّللا َوما قَتَلُوهُ َوما َ‬ ‫سو َل ه ِ‬ ‫َر ُ‬
‫ظ ِهن َوما قَتَلُوهُ يَ ِقينا ً ) ‪( 157‬‬ ‫ع ال ه‬ ‫بِ ِه ِم ْن ِع ْل ٍم إِاله ا ِت هبا َ‬
‫صلَبُوهُ‬ ‫ّللا فقال« َوما قَت َلُوهُ َوما َ‬ ‫سى ابْنَ َم ْريَ َم »فأكذبهم ه‬ ‫قالت بنو إسرائيل« ِإنَّا قَت َ ْلنَا ْال َم ِسي َح ِعي َ‬
‫ش ِبههَ لَ ُه ْم » ‪.‬وقال« َوما قَتَلُوهُ يَ ِقينا ا »يريد ما هو مقتول في نفس األمر ال عندهم بل شبه‬ ‫َول ِك ْن ُ‬
‫لهم ‪ ،‬فهذا يقين مستقل ‪ ،‬ليس له محل يقوم به ‪ ،‬فإنهم متيقنون أنهم قتلوه ‪ ،‬وهذا من باب قيام‬
‫المعنى بالمعنى ‪ ،‬فإن اليقين معنى ‪ ،‬والقتل معنى ‪ ،‬فالقتل قد تيقن في نفسه أنه ما قام بعيسى‬
‫عليه السالم ‪ ،‬فالقتل موصوف في هذه اآلية باليقين ‪ ،‬وأصدق المعاني ما قام بالمعاني ‪ ،‬وهذه‬
‫المسألة من محارات العقول ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 158‬إلى ‪159‬‬


‫ّللاُ ع َِزيزا ً َح ِكيما ً ) ‪َ ( 158‬و ِإ ْن ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب ِإاله لَيُ ْؤ ِمنَ هن ِب ِه قَ ْب َل‬ ‫بَ ْل َرفَعَهُ ه‬
‫ّللاُ ِإلَ ْي ِه َو َ‬
‫كان ه‬
‫علَ ْي ِه ْم ش َِهيدا ً ) ‪( 159‬‬ ‫َم ْوتِ ِه َويَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة يَك ُ‬
‫ُون َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ينزل فيكم عيسى ابن مريم حكما قسطا وفي رواية‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫مقسطا عدال ‪ ،‬فيكسر الصليب ‪ ،‬ويقتل الخنزير ‪ .‬وقال رسول ه‬
‫عيسى عليه السالم إذا نزل « أنه ال يؤمنا إال منا » أي بسنتنا‪.‬‬

‫ص ‪561‬‬

‫ص ‪569 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 160‬إلى ‪162‬‬
‫ّللا َكثِيرا ً ) ‪( 160‬‬ ‫ص ِ هد ِه ْم ع َْن َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ت أ ُ ِحلهتْ لَ ُه ْم َو ِب َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َط ِيهبا ٍ‬ ‫ِين هادُوا َح هر ْمنا َ‬ ‫ظ ْل ٍم ِم َن الهذ َ‬‫فَ ِب ُ‬
‫عذابا ً أ َ ِليما ً‬ ‫ين ِم ْن ُه ْم َ‬‫باط ِل َوأ َ ْعتَدْنا ِل ْلكافِ ِر َ‬
‫اس ِبا ْل ِ‬ ‫ع ْنهُ َوأ َ ْك ِل ِه ْم أ َ ْموا َل النه ِ‬ ‫الربَوا َوقَ ْد نُ ُهوا َ‬‫َوأ َ ْخ ِذ ِه ُم ِ ه‬
‫ون ِبما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْيكَ َوما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ِلكَ‬ ‫ون يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ون ِفي ا ْل ِع ْل ِم ِم ْن ُه ْم َوا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫س ُخ َ‬ ‫الرا ِ‬
‫( ‪ ) 161‬ل ِك ِن ه‬
‫يه ْم أَجْ را ً‬
‫سنُ ْؤتِ ِ‬ ‫اَّلل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر أُولئِكَ َ‬ ‫الزكاةَ َوا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون بِ ه ِ‬ ‫ون ه‬ ‫صلةَ َوا ْل ُم ْؤت ُ َ‬ ‫ين ال ه‬‫يم َ‬‫َوا ْل ُم ِق ِ‬
‫ع َِظيما ً ( ‪.) 162‬‬
‫[ الزكاة ]‬
‫الزكاة َ »الزكاة واجبة بالكتاب والسنة واإلجماع فال خالف فيها ‪ ،‬واتفق العلماء‬ ‫« َو ْال ُمؤْ تُونَ َّ‬
‫حر بالغ عاقل مالك للنصاب ملكا تاما ‪ ،‬والزكاة واجبة في المال‬ ‫على أنها واجبة على كل مسلم ه‬
‫ال على المكلهف ‪ ،‬وإنما هو مكلف في إخراجها من المال ‪ ،‬فالزكاة أمانة بيد من هو المال بيده‬
‫ألصناف معينين ‪ ،‬وما هو مال للحر وال للعبد ‪ ،‬فوجب أداؤه ألصحابه ممن هو عنده وله‬
‫التصرف فيه حرا كان أو عبدا من المؤمنين ‪ ،‬واألولى أن يكون كل ناظر في المال هو‬
‫المخاطب بإخراج الزكاة منه ‪ ،‬وعلى ذلك فإن الوصي على المحجور عليه يخرج عنه الزكاة‬
‫وليس له فيه شيء ‪ ،‬ولهذا قلنا إنه حق في المال ‪ ،‬فإن الصغير ال يجب عليه شيء ‪ ،‬وقد أمر‬
‫ّللا عليه وسلم بالتجارة في مال اليتيم حتى ال تأكله الصدقة ‪ ،‬وعلى ذلك فإن‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫الصدقة أي الزكاة واجبة في مال اليتيم يخرجها وليه ‪ ،‬وواجبة في مال المجنون المحجور عليه‬
‫يخرجها وليه ‪ ،‬وواجبة في مال العبد يخرجها العبد ‪ ،‬أما أهل الذمة فالذي أذهب إليه أنه ال‬
‫يجوز أخذ الزكاة من كافر وإن كانت واجبة عليه مع جميع الواجبات ‪ ،‬ألنه ال يقبل منه شيء‬
‫مما كلهف به إال بعد حصول اإليمان به ‪ ،‬فإن كان من أهل الكتاب ففيه عندنا نظر ‪ ،‬فإن أخذ‬
‫الجزية منهم قد يكون تقريرا من الشارع لهم على دينهم الذي هم عليه ‪ ،‬فهو مشروع لهم ‪،‬‬
‫فيجب عليهم إقامة دينهم ‪ ،‬فإن كان فيه أداء زكاة وجاءوا بها قبلت منهم ‪ ،‬وليس لنا طلب‬
‫الزكاة من المشرك وإن جاء بها قبلناها ‪ ،‬والكافر هنا المشرك ليس الموحد ‪ ،‬فال زكاة على‬
‫أهل الذمة بمعنى أنها ال تجزي عنهم إذا أخرجوها مع كونها واجبة عليهم كسائر فروض‬
‫الشريعة ؛ لعدم الشرط المصحح لها ‪ ،‬وهو اإليمان بجميع ما جاءت به الشريعة ال بها وال‬
‫ببعض ما جاء به الشرع ‪ ،‬فلو آمن بالزكاة وحدها أو بشيء من الفرائض أنها فريضة ‪ ،‬أو‬
‫بشيء من النوافل‬

‫ص ‪562‬‬

‫ص ‪570 :‬‬
‫أنها نافلة ‪ ،‬ولو ترك اإليمان بأمر واحد من فرض أو نفل لم يقبل منه إيمانه إال أن يؤمن‬
‫بالجميع ‪ ،‬ومع هذا فليس لنا أن نسأل ذميا زكاته ‪ ،‬فإن أتى بها من نفسه فليس لنا ردها ‪ ،‬ألنه‬
‫جاء بها إلينا من غير مسألة ‪ ،‬فيأخذها السلطان منه لبيت مال المسلمين ‪ ،‬ال يأخذها زكاة وال‬
‫ّللا عليه وسلم واتفق العلماء على أن الزكاة‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫يردها ‪ ،‬فإن ردها فقد عصى أمر رسول ه‬
‫تجب في ثمانية أشياء محصورة في المولدات من معدن ونبات وحيوان ‪ ،‬فالمعدن الذهب‬
‫والفضة ‪ ،‬والنبات الحنطة والشعير والتمر ‪ ،‬والحيوان واإلبل والبقر والغنم ‪ ،‬هذا هو المتفق‬
‫عليه وهو الصحيح عندنا ‪ ،‬واعلم أن للزكاة نصابا وحوال أي مقدارا في العين والزمان ‪ ،‬أما‬
‫ّللا في القرآن ‪ :‬الفقراء والمساكين والعاملون عليها‬ ‫من تجب لهم الصدقة فهم الذين ذكرهم ه‬
‫ّللا ‪ -‬إشارة واعتبار ‪ -‬لما كان‬‫والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمون والمجاهدون في سبيل ه‬
‫معنى الزكاة التطهير كان لها من األسماء اإللهية االسم القدوس وهو الطاهر ‪ ،‬وما في معناه‬
‫من األسماء اإللهية ‪ ،‬والزكاة في المال الظاهر معلومة يقابلها في الباطن زكاة النفوس ‪ ،‬فإن‬
‫النفوس لها صفات تستحقها ‪ ،‬وهي كل صفة يستحقها الممكن ‪ ،‬وقد يوصف اإلنسان بصفات ال‬
‫يستحقها الممكن من حيث ما هو ممكن ‪ ،‬ولكن يستحق تلك الصفات إذا وصف بها ليميزها عن‬
‫صفاته التي يستحقها ‪ ،‬كما أن الحق سبحانه وصف نفسه بما هو حق للممكن ه‬
‫تنزال منه سبحانه‬
‫ّللا منها فهو تطهيرها بذلك اإلخراج من الصفات التي‬ ‫ورحمة بعباده ؛ فزكاة نفسك إخراج حق ه‬
‫ليست بحق لها ‪ ،‬فتأخذ ما لك منه وتعطي ما له منك ‪ ،‬ولما كان األصل الذي ظهرت عنه‬
‫األشياء من أسمائه القدوس وهو الطاهر لذاته من دنس المحدثات ‪ ،‬فلما ظهرت األشياء في‬
‫المالك بالملكية ‪ ،‬طرأ عليها من نسبة الملك إلى غير منشئها ‪ ،‬ما‬ ‫أعيانها وحصلت فيها دعاوى ه‬
‫أزالها عن الطهارة األصلية التي كانت لها من إضافتها إلى منشئها ‪ ،‬قبل أن يلحقها هذا الدنس‬
‫ّللا على مالك األصناف الثمانية الزكاة‬ ‫العرضي بملك الغير لها ‪ ،‬وكفى بالحدث حدثا ‪ ،‬فأوجب ه‬
‫ّللا ‪ ،‬لينسبها إلى مالكها‬
‫ّللا عن أمر ه‬‫ّللا فيها نصيبا يرجع إلى ه‬‫‪ ،‬وجعل ذلك طهارتها ‪ ،‬فعين ه‬
‫ّللا طهارة األموال ‪ ،‬أما اعتبار وجوب‬ ‫األصلي ‪ ،‬فتكتسب الطهارة ‪ ،‬فإن الزكاة إنما جعلها ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فردوا‬
‫ّللا إنما هو ه‬
‫ّللا على أن وجود ما سوى ه‬ ‫الزكاة ‪ ،‬فاإلجماع أجمع كل ما سوى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو اعتبار‬
‫وجودهم إليه سبحانه لهذا اإلجماع ‪ ،‬وال خالف في ذلك بين كل ما سوى ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫اإلجماع في الزكاة الوجود ‪ ،‬فرددنا ما هو هّلل إلى ه‬

‫ص ‪563‬‬

‫ص ‪571 :‬‬
‫ش ْيءٍ ها ِل ٌك ِإ َّال َو ْج َههُ )وليس الوجه إال‬
‫ّللا ‪ ،‬وأما الكتاب ف( ُك ُّل َ‬‫فال موجود وال موجد إال ه‬
‫باّلل ) وأما اعتبار‬
‫سنة ( فال حول وال قوة إال ه‬ ‫الوجود ‪ ،‬وهو ظهور الذوات واألعيان ‪ ،‬وأما ال ه‬
‫ّللا قد‬
‫من تجب عليه الزكاة ‪ ،‬فالمسلم هو المنقاد إلى ما يراد منه ‪ ،‬وقد ذكرنا أن كل ما سوى ه‬
‫باّلل‬
‫ّللا ‪ ،‬وال بقاء له في الوجود إال ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وأنه ما استفاد الوجود إال من ه‬ ‫انقاد في ر هد وجوده إلى ه‬
‫حر ‪ ،‬أي ال ملك عليه في وجوده ألحد‬ ‫‪ ،‬وأما الحرية فمثل ذلك فإنه من كان بهذه المثابة فهو ه‬
‫عز وجل وما‬ ‫ّللا جل جالله ‪ ،‬وأما البلوغ فاعتباره إدراكه للتمييز بين ما يستحقه ربهه ه‬ ‫من خلق ه‬
‫ّللا تعالى‬‫ال يستحقه ‪ ،‬وإذا عرف مثل هذا فقد بلغ الح هد الذي يجب عليه فيه ر هد األمور كلها إلى ه‬
‫ّللا منه في خطابه إياه في نفسه بما يلهمه ‪ ،‬أو على‬ ‫ّللا ما يريد ه‬
‫‪ ،‬وأما العقل فهو أن يعقل عن ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ومن قيد وجوده بوجود خالقه فقد عقل نفسه ‪.‬‬ ‫لسان رسوله صلهى ه‬
‫وأما اعتبار ما تجب فيه الزكاة ‪ ،‬فالزكاة تجب من اإلنسان في ثمانية أعضاء ‪ :‬البصر والسمع‬
‫واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب ‪ ،‬ففي كل عضو وعلى كل عضو من هذه‬
‫ّللا بها العبد في الدار اآلخرة ‪ ،‬وأما صدقة التطوع فعلى كل‬ ‫األعضاء صدقة واجبة ‪ ،‬يطلب ه‬
‫عرق في اإلنسان صدقة ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬يصبح على كل سالمي من اإلنسان صدقة ] فالزكاة التي في‬ ‫كما قال صلهى ه‬
‫ّللا تعالى الذي أوجبها على اإلنسان في هذه األعضاء الثمانية ‪ ،‬فتعين‬ ‫هذه األعضاء هي حق ه‬
‫ّللا تعالى في كل عضو ‪ ،‬فزكاة البصر ما يجب هّلل تعالى فيه من الحق ‪،‬‬ ‫على المؤمن أداء حق ه‬
‫ّللا ‪ ،‬كالنظر في‬
‫كالغض عن المحرمات ‪ ،‬والنظر فيما يؤدي النظر إليه من القربة عند ه‬
‫يسر بنظرك إليه من أهل وولد وأمثالهم وكالنظر إلى‬ ‫المصحف وفي وجه العالم وفي وجه من ه‬
‫الكعبة ‪ ،‬وعلى هذا النحو تنظر في جميع األعضاء المكلفة في اإلنسان من تصرفها فيما ينبغي‬
‫وكفهها عما ال ينبغي ‪ ،‬ومن جهة أخرى تعتبر األعضاء الثمانية األصناف التي تجب لهم الزكاة‬
‫‪ ،‬فمن زكى نظره بنفسه أعطى الزكاة بصره ‪ ،‬فعاد يبصر بربه بعد ما كان يبصر بنفسه ‪،‬‬
‫وكذلك من ز هكى سمعه بنفسه أعطى الزكاة سمعه ‪ ،‬فصار يسمع بربه ‪ ،‬وهو قوله ‪ [ :‬كنت‬
‫سمعه وبصره ‪ . . .‬الحديث ]‬
‫ويتقلب في أموره كلها بربه ‪ ،‬والمعرفة مال العارف ‪ ،‬وزكاة هذا المال التعليم ‪ ،‬ومن وجه‬
‫آخر اعتبار األصناف الثمانية ‪ ،‬فالعلم والعمل بمنزلة الذهب والفضة ‪ ،‬ومن الحيوان الروح‬
‫والنفس والجسم في مقابلة الغنم والبقر واإلبل ‪ ،‬ومن النبات‬

‫ص ‪564‬‬

‫ص ‪572 :‬‬
‫الحنطة والشعير والتمر ‪ ،‬وهي في االعتبار ما تنبته األرواح والنفوس والجوارح من العلوم‬
‫والخواطر واألعمال ‪ ،‬وجعلنا الغنم لألرواح فإنها جعلت فداء ولد إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬نبي‬
‫ابن نبي ‪ ،‬وجعلنا اإلبل لألجسام لمناسبة االسم ‪ ،‬فإن الجسم يسمى البدن ‪ ،‬واإلبل من أسمائها‬
‫البدن ‪ ،‬وكون البقر في مقابلة النفوس وهي دون الغنم في الرتبة وفوق اإلبل ‪ ،‬كالنفس فوق‬
‫ّللا‬
‫الجسم ودون العقل الذي هو الروح اإللهي ‪ ،‬والروح الذي هو العقل يظهر عنه مما زرع ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو بمنزلة الزكاة في الحنطة ‪ ،‬ألنها أرفع‬
‫فيه من العلوم والحكم واألسرار ما ال يعلمه إال ه‬
‫ّللا فيها من الخواطر والشبهات ‪ ،‬ما ال يعلمه إال‬
‫الحبوب ‪ ،‬وإن النفس يظهر عنها مما زرع ه‬
‫ّللا فيها األعمال كلها فأنبتت‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فهذا نباتها وهو بمنزلة التمر ‪ ،‬وأما الجوارح فزرع ه‬
‫ه‬
‫ه‬
‫وحظ الزكاة منها األعمال ‪ ،‬والورق العمل والذهب هو العلم ‪ ،‬والزكاة في العمل‬ ‫األعمال ‪،‬‬
‫المفروض منه ‪ ،‬والزكاة في العلم أيضا المفروض منه ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 163‬إلى ‪164‬‬


‫ين ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأ َ ْو َح ْينا ِإلى ِإ ْبرا ِهي َم َو ِإ ْ‬
‫سما ِعي َل‬ ‫ِإنها أ َ ْو َح ْينا ِإلَ ْيكَ كَما أ َ ْو َح ْينا ِإلى نُوحٍ َوالنه ِب ِيه َ‬
‫داو َد َزبُورا ً (‬‫مان َوآت َ ْينا ُ‬‫سلَ ْي َ‬ ‫ون َو ُ‬‫هار َ‬‫س َو ُ‬ ‫وب َويُونُ َ‬ ‫باط َو ِعيسى َوأَيُّ َ‬ ‫س ِ‬ ‫وب َو ْاأل َ ْ‬
‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫سحا َ‬ ‫َو ِإ ْ‬
‫ّللاُ ُموسى ت َ ْك ِليما ً‬‫علَ ْيكَ َو َكله َم ه‬‫ص ُه ْم َ‬‫ص ْ‬‫سلً لَ ْم نَ ْق ُ‬ ‫علَ ْيكَ ِم ْن قَ ْب ُل َو ُر ُ‬
‫صصْنا ُه ْم َ‬ ‫سلً قَ ْد قَ َ‬
‫‪َ ) 163‬و ُر ُ‬
‫) ‪( 164‬‬

‫ّللا تعالى موسى عليه السالم بغير واسطة بكالمه سبحانه بال ترجمان ‪ .‬ولذلك أكده في‬ ‫كلم ه‬
‫التعريف لنا بالمصدر لرفع اإلشكال ‪ ،‬وفي ذلك إشارة إلى فضله على غيره بخطاب‬
‫ّللا تعالى موسى عليه‬ ‫مخصوص على رفع الحجاب ‪ ،‬لم يسمعه من ذلك المقام غيره ‪ ،‬وكلهم ه‬
‫السالم من حجاب النار والشجرة وشاطئ الوادي األيمن وجانب الطور األيمن وفي البقعة‬
‫المباركة ‪.‬‬
‫ش ْيءٍ‬‫واعلم أن الكالم والقول نعتان هّلل ‪ ،‬فبالقول يسمع المعدوم ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ «:‬إِنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫ون »وبالكالم يسمع الموجود ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪َ «:‬و َكلَّ َم َّ‬
‫ّللاُ‬ ‫ِإذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫ُموسى ت َ ْك ِليماا‪ :‬وقد يطلق الكالم على الترجمة في لسان المترجم ‪ ،‬وينسب الكالم إلى المترجم‬
‫عنه في ذلك ‪ .‬فالقول له أثر في المعدوم وهو الوجود ‪ ،‬والكالم له أثر في الموجود ‪ ،‬وهو‬

‫ص ‪565‬‬

‫ص ‪573 :‬‬
‫العلم ‪ ،‬والكالم اإللهي ال يحكى وال يوصف بالوصف الذاتي ؛ فإذا وقع التجلي اإللهي في أي‬
‫صورة كانت ‪ ،‬فال يخلو أن كانت من الصور المنسوب إليها الكالم في العرف أو ال تكون ‪،‬‬
‫فإن كانت من الصور المنسوب إليها الكالم ‪ ،‬فكالمها من جنس الكالم المنسوب إليها لحكم‬
‫الصورة على التجلي ‪ .‬وإن كان مما ال ينسب إليه الكالم في العرف ‪ ،‬فال يخلو إما أن تكون‬
‫مما ينسب إليها القول باإليمان مثل قول الجلود والجوارح« قالُوا أ َ ْن َ‬
‫طقَنَا َّ‬
‫ّللاُ » ‪،‬وإما أن ال‬
‫تكون ممن ينسب إليه قول وال نطق ‪ ،‬وهو الذي ينسب إليه التسبيح الذي ال يفقه ‪ ،‬والتسبيح لو‬
‫كان قوال أو كالما لنفى عنه سمعنا ‪ ،‬وإنما نفى عنه فهمنا وهو العلم ‪ ،‬والعلم قد يكون عن كالم‬
‫وقول وقد ال يكون ‪ .‬فإذا تجلى في مثل هذه الصور ‪ ،‬فيكون النطق بحسب ما يريده المتجلي‬
‫مما يناسب تسبيح تلك الصورة ال يتعداه ‪ ،‬فيفهم من كالم ذلك المتجلي تسبيح تلك الصورة ‪،‬‬
‫عز وجل في مثل هذه الصور بحسب ما هي عليه ‪ ،‬هذا إذا وقع‬ ‫ّللا ه‬
‫فيكون الكالم المنسوب إلى ه‬
‫التجلي في المواد النورية والطبيعية ‪ ،‬فإذا وقع التجلي في غير مادة نورية وال طبيعية وتجلهى‬
‫في المعاني المجردة ‪ ،‬فيكون ما يقال في مثل هذا أنه كالم من حيث أثره في المتجلى له ال من‬
‫ّللا تعالى علمه ‪ ،‬وعلمه ذاته ‪ ،‬وال يصح أن يكون كالمه‬ ‫حيث أنهه تكلم بكذا ‪ .‬واعلم أن كالم ه‬
‫عز وجل ‪.‬‬ ‫ليس هو ‪ ،‬فإنه كان يوصف بأنه محكوم عليه للزائد على ذاته ‪ ،‬وهو ال يحكم عليه ه‬
‫وكل ذي كالم موصوف بأنه قادر على أن يتكلم متمكن في نفسه من ذلك ‪ ،‬والحق ال يوصف‬
‫بأنه قادر على أن يتكلم ‪ ،‬فيكون كالمه مخلوقا ‪ ،‬وكالمه قديم في مذهب األشعري وعين ذاته‬
‫ّللا مجهولة ال تعرف كما أن ذاته ال تعرف ‪،‬‬ ‫في مذهب غيره من العقالء ‪ ،‬فنسبة الكالم إلى ه‬
‫وال يثبت الكالم لإلله إال شرعا ‪ ،‬ليس في قوة العقل إدراكه من حيث فكره ‪ ،‬ذكر أن موسى‬
‫عليه السالم كلمه ربه باثني عشر ألف كلمة في كل كلمة يقول له ‪ «:‬يا ُموسى » ‪* ،‬والكالم ما‬
‫أثر وال يدخله انقسام ‪ ،‬فإذا دخله االنقسام ‪ ،‬فهو القول ‪ ،‬وفيه المنهة اإللهية والطول ‪ .‬القرآن كله‬
‫ّللا ‪ ،‬وإن كان قد ورد فيه ذكر الكالم ‪ ،‬ولكن تشريفا لموسى عليه السالم‬ ‫ّللا ‪ ،‬وما فيه تكلم ه‬
‫قال ه‬
‫‪ ،‬ولو جاء بالكالم ما كفر به أحد ‪ ،‬ألنه من الكلم فيؤثر فيمن أنكره وجحد ‪ .‬أال ترى إلى قوله‬
‫ّللا موسى تكليما ‪ ،‬كيف سلك به نهجا قويما ‪ ،‬فأثر فيه كالمه وظهرت عليه أحكامه ؟ فإذا‬ ‫وكلهم ه‬
‫أثر القول فما هو لذاته بل هو من االمتنان اإللهي والطول‬
‫خص موسى بالكالم ]‬‫ه‬ ‫[ لم‬
‫خص موسى بالكالم ليتقرر في نفسه نيل ه‬
‫حظه من‬ ‫ه‬ ‫‪-‬إشارة ‪-‬‬

‫ص ‪566‬‬

‫ص ‪574 :‬‬
‫ميراث محمد عليه السالم ‪ ،‬ولذلك كان في ألواحه تفصيل كل شيء علم في مقابلة جوامع الكلم‬
‫‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪165‬‬


‫ّللاُ ع َِزيزا ً َح ِكيما ً (‬ ‫س ِل َو َ‬
‫كان ه‬ ‫ّللا ُح هجةٌ بَ ْع َد ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫ُون ِللنه ِ‬
‫اس َ‬ ‫ين َو ُم ْنذ ِِر َ‬
‫ين ِلئَله يَك َ‬ ‫سلً ُمبَ ِ ه‬
‫ش ِر َ‬ ‫ُر ُ‬
‫) ‪165‬‬
‫ّللا ما بعث الرسل سدى ‪ ،‬ولو استقلت العقول بأمور سعادتها ما احتاجت إلى‬ ‫اعلم يا ولي أن ه‬
‫الرسل ‪ ،‬وكان وجود الرسل عبثا ‪ .‬ولكن لما كان من استندنا إليه ال يشبهنا وال نشبهه ولو‬
‫أشبهنا عينا ما كان استنادنا إليه بأولى من استناده إلينا ‪ ،‬فعلمنا قطعا علما ال يدخله شبهة في‬
‫هذا المقام ‪ ،‬أنه ليس مثلنا ‪ ،‬وال تجمعنا حقيقة واحدة ‪ .‬فبالضرورة يجهل اإلنسان مآله وإلى أين‬
‫ينتقل وما سبب سعادته إن سعد أو شقاوته إن شقي عند هذا الذي استند إليه ‪ ،‬ألنه يجهل علم‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬ال يعرف ما يريد به ‪ ،‬وال لما ذا خلقه تعالى ‪ ،‬فافتقر بالضرورة إلى التعريف اإللهي‬ ‫ه‬
‫عرف كل شخص بأسباب سعادته ‪ ،‬وأبان له عن الطريق التي ينبغي له‬ ‫بذلك ‪ ،‬فلو شاء تعالى ه‬
‫أن يسلك عليها ‪ ،‬ولكن ما شاء إال أن يبعث في كل أمة رسوال من جنسها ال من غيرها ‪ ،‬قدمه‬
‫عليها وأمرها باتباعه والدخول في طاعته ابتالء منه لها إلقامة الحجة عليها لما سبق في علمه‬
‫فيها ؛ ث هم أيده بالبينة واآلية على صدقه في رسالته التي جاء بها ليقوم له الحجة عليها ‪ .‬فأول‬
‫ّللا به خلقه بعث الرسل إليهم منهم ال من غيرهم ‪ ،‬فإن الرسل حجبة ‪ ،‬وحجبة‬ ‫ابتالء ابتلى ه‬
‫الملك حجابه ليرى به بمن تتعلق أبصار الرعية ‪ ،‬هل بالحجبة أو تعديها بطلب رؤية الملك ؟‬
‫ّللا ال إلى أنفسهم ‪.‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬والرسل يدعون إلى ه‬ ‫فالحجبة ابتالء من ه‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪166‬‬


‫اَّلل ش َِهيدا ً ) ‪( 166‬‬
‫ُون َوكَفى ِب ه ِ‬ ‫ش َه ُد ِبما أ َ ْن َز َل ِإلَ ْيكَ أ َ ْن َزلَهُ ِب ِع ْل ِم ِه َوا ْل َمل ِئكَةُ يَ ْ‬
‫ش َهد َ‬ ‫ّللاُ يَ ْ‬
‫ل ِك ِن ه‬
‫ّللا بكل شيء عليم فيعمل بما علم أنه يكون كونه ‪ ،‬وما علم أنه‬ ‫اإلنزال عمل أوجده العلم ‪ ،‬فإن ه‬
‫باّلل شهيدا‪.‬‬
‫ال يكون لم يكونه فكان عمله بعلمه ‪ .‬والمالئكة يشهدون وكفى ه‬

‫ص ‪567‬‬

‫ص ‪575 :‬‬
‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 167‬إلى ‪171‬‬
‫ِين َكفَ ُروا َو َظلَ ُموا‬ ‫ضلالً بَ ِعيدا ً ( ‪ِ ) 167‬إ هن الهذ َ‬ ‫ضلُّوا َ‬ ‫ّللا قَ ْد َ‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫صدُّوا ع َْن َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َو َ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫كان ذ ِلكَ‬ ‫ِين فِيها أَبَدا ً َو َ‬ ‫يق َج َهنه َم خا ِلد َ‬ ‫ّللاُ ِليَ ْغ ِف َر لَ ُه ْم َوال ِليَ ْه ِديَ ُه ْم َط ِريقا ً ( ‪ِ ) 168‬إاله َط ِر َ‬ ‫لَ ْم يَك ُِن ه‬
‫آمنُوا َخ ْيرا ً لَ ُك ْم‬ ‫ق ِم ْن َر ِبه ُك ْم فَ ِ‬‫سو ُل ِبا ْل َح ه ِ‬ ‫الر ُ‬ ‫اس قَ ْد جا َء ُك ُم ه‬ ‫سيرا ً ( ‪ ) 169‬يا أَيُّ َها النه ُ‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا يَ ِ‬ ‫َ‬
‫ع ِليما ً َح ِكيما ً ( ‪ ) 170‬يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب‬ ‫ّللاُ َ‬‫كان ه‬ ‫ض َو َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّلل ما فِي ال ه‬ ‫َوإِ ْن ت َ ْكفُ ُروا فَ ِإ هن ِ ه ِ‬
‫ّللا‬
‫سو ُل ه ِ‬ ‫سى ا ْب ُن َم ْريَ َم َر ُ‬ ‫سي ُح ِعي َ‬ ‫ق إِنه َما ا ْل َم ِ‬ ‫ّللا إِاله ا ْل َح ه‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ال ت َ ْغلُوا فِي دِينِ ُك ْم َوال تَقُولُوا َ‬
‫س ِل ِه َوال تَقُولُوا ثَلثَةٌ ا ْنت َ ُهوا َخ ْيرا ً لَ ُك ْم إِنه َما‬ ‫آمنُوا بِ ه ِ‬
‫اَّلل َو ُر ُ‬ ‫ح ِم ْنهُ فَ ِ‬ ‫َو َك ِل َمتُهُ أ َ ْلقاها إِلى َم ْريَ َم َو ُرو ٌ‬
‫اَّلل َو ِكيلً (‬ ‫ض َوكَفى ِب ه ِ‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ُون لَهُ َولَ ٌد لَهُ ما فِي ال ه‬ ‫س ْبحانَهُ أ َ ْن يَك َ‬ ‫واح ٌد ُ‬ ‫ّللاُ ِإلهٌ ِ‬ ‫ه‬
‫) ‪171‬‬
‫الغلو في الدين سبب ‪ ،‬فيما فات الناس من خير كثير ‪ .‬ومن الغلو في الدين ما توغلوا فيه من‬
‫تنزيه الحق حتى أكذبوه ؛ فالمتغالي في دينه ونزه الحق تعالى عما يستحقه فهو وإن قصد‬
‫تعظيما بذلك الفعل في التغالي فقد وقع في الجهل وجاء بالنقص ؛ قال تعالى ‪ «:‬يا أ َ ْه َل ْال ِكتا ِ‬
‫ب‬
‫ّللا ِإ َّال ْال َح َّق » ‪،‬وليس الحق إال ما قاله عن نفسه ‪ِ «:‬إنَّ َما‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫ال ت َ ْغلُوا فِي دِينِ ُك ْم َوال تَقُولُوا َ‬
‫ّللا َو َك ِل َمتُهُ أ َ ْلقاها ِإلى َم ْريَ َم »فمن غلوهم في دينهم وتعظيمهم‬ ‫سو ُل َّ ِ‬ ‫سى اب ُْن َم ْريَ َم َر ُ‬ ‫ْال َم ِسي ُح ِعي َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وقال من لم يغل في دينه هو عبد‬ ‫ّللا ‪ ،‬وقالت طائفة هو ابن ه‬ ‫لرسلهم قالوا ‪ :‬إن عيسى هو ه‬
‫ّللا من حيث النفس الرحماني كما قال تعالى ‪َ «:‬و َك ِل َمتُهُ أ َ ْلقاها‬ ‫ّللا وكلمته ‪ ،‬والعالم كله كلمات ه‬ ‫ه‬
‫إِلى َم ْريَ َم »وليست غير عيسى عليه السالم لم يلق إليها غير ذلك وال علمت غير ذلك ‪ .‬فلو‬
‫ّللا وكالما لها مثل كالمه لموسى عليه السالم ‪ ،‬لسرت ولم تقل«‬ ‫كانت الكلمة اإللهية قوال من ه‬
‫ت قَ ْب َل هذا َو ُك ْنتُ نَسْيا ا َم ْن ِسيًّا »فلم تكن الكلمة اإللهية التي‬ ‫يا لَ ْيتَنِي ِم ُّ‬

‫ص ‪568‬‬

‫ص ‪576 :‬‬
‫ّللا وكلمته وهو عبده ‪ ،‬فنطق عيسى ببراءة أمه في غير الحالة‬ ‫ألقيت إليها إال عين عيسى روح ه‬
‫ّللا عن أمه بذلك ما كان‬ ‫ّللا في نفس الرحمن ‪ ،‬فنفهس ه‬ ‫المعتادة ليكون آية ‪ ،‬فكان نطقه كالم ه‬
‫ّللا منه ‪َ «:‬و ُرو ٌح ِم ْنهُ »وهو النفس الذي‬ ‫أصابها من كالم أهلها بما نسبوها إليه مما طهرها ه‬
‫ّللا ألن جبريل عليه السالم وهو روح القدس‬ ‫كانت به حياته ‪ ،‬وس همي عيسى عليه السالم بروح ه‬
‫اح ٌد‬ ‫س ِل ِه َوال تَقُولُوا ثَالثَةٌ ا ْنت َ ُهوا َخيْرا ا لَ ُك ْم إِنَّ َما َّ‬
‫ّللاُ إِلهٌ و ِ‬ ‫اّلل َو ُر ُ‬ ‫هو الذي وهبه ألمه ‪ «:‬فَ ِ‬
‫آمنُوا بِ َّ ِ‬
‫»األحدية أشرف صفة الواحد من جميع الصفات وهي سارية في كل موجود ؛ ولوال أنها‬
‫سارية في كل موجود ما صح أن تعرف أحدية الحق سبحانه ؛ فما طلب الحق من عباده إال أن‬
‫سبْحانَهُ أ َ ْن يَ ُكونَ لَهُ َولَ ٌد »كما قال تعالى لم يلد ‪،‬‬ ‫يعلموا أنه إله واحد ال شريك له في ألوهته ‪ُ «:‬‬
‫ّللا وال أحد من خلقه يكون له‬ ‫وقال سبحانه أن يكون له ولد ؛ فليس الحق بأب ألحد من خلق ه‬
‫ولد سبحانه وتعالى ‪ .‬فكما قال تعالى في عيسى ‪َ «:‬و ُرو ٌح ِم ْنهُ » ‪،‬فما شيء من الوجود إال منه‬
‫ت َوما‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّلل ما فِي ال َّ‬ ‫‪ .‬قال تعالى ‪ « :‬وسخر لكم ما في السماوات واألرض » جميعا منه« ِ َّ ِ‬
‫يال » ‪.‬‬‫اّلل َو ِك ا‬ ‫فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو َكفى بِ َّ ِ‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬آية ‪172‬‬


‫ست َ ْن ِك ْ‬
‫ف ع َْن ِعبا َدتِ ِه‬ ‫َّلل َوال ا ْل َملئِكَةُ ا ْل ُمقَ هربُ َ‬
‫ون َو َم ْن يَ ْ‬ ‫ع ْبدا ً ِ ه ِ‬ ‫سي ُح أ َ ْن يَك َ‬
‫ُون َ‬ ‫ف ا ْل َم ِ‬‫ست َ ْن ِك َ‬
‫لَ ْن يَ ْ‬
‫سيَحْ ش ُُر ُه ْم ِإلَ ْي ِه َج ِميعا ً ( ‪) 172‬‬ ‫ست َ ْك ِب ْر فَ َ‬
‫َويَ ْ‬

‫ّلل » ‪،‬ثم عطف‬ ‫ف ْال َم ِسي ُح »لكونه يحيي الموتى ويخلق ويبرئ« أ َ ْن يَ ُكونَ َ‬
‫عبْدا ا ِ َّ ِ‬ ‫« لَ ْن يَ ْست َ ْن ِك َ‬
‫فقال ‪َ «:‬و َال ْال َمالئِ َكةُ ْال ُمقَ َّربُونَ »وهم العالون عن العالم العنصري المولد ‪ ،‬فهم أعلى نشأة ‪،‬‬
‫واإلنسان أجمع نشأة ؛ فإن فيه الملك وغيره فله فضيلة الجمع ‪ ،‬ولهذا جعله معلم المالئكة‬
‫وأسجدهم له ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 173‬إلى ‪174‬‬


‫ست َ ْن َكفُوا‬ ‫ض ِل ِه َوأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين ا ْ‬ ‫ور ُه ْم َويَ ِزي ُد ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫يه ْم أ ُ ُج َ‬
‫ت فَيُ َو ِفه ِ‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬‫فَأ َ هما الهذ َ‬
‫ّللا َو ِليًّا َوال نَ ِصيرا ً ( ‪ ) 173‬يا أَيُّ َها‬ ‫ُون ه ِ‬‫ُون لَ ُه ْم ِم ْن د ِ‬‫ست َ ْكبَ ُروا فَيُعَ ِذهبُ ُه ْم عَذابا ً أ َ ِليما ً َوال يَ ِجد َ‬
‫َوا ْ‬
‫هان ِم ْن َر ِبه ُك ْم َوأ َ ْن َز ْلنا ِإلَ ْي ُك ْم نُورا ً ُم ِبينا ً) ‪( 174‬‬
‫اس قَ ْد جا َء ُك ْم بُ ْر ٌ‬ ‫النه ُ‬

‫ص ‪569‬‬

‫ص ‪577 :‬‬
‫البرهان قوي السلطان ‪ ،‬ولما أزال الحق بالقرآن شبه الضالالت وظلمة الشكوك وأوضح به‬
‫المشكالت سماه نورا ‪ ،‬وكل ما جاء في معرض الداللة فهو من كونه نورا ‪ ،‬ألن النور هو‬
‫المنفر الظلم ‪ ،‬والقرآن ضياء ألن الضياء يكشف ‪ ،‬فكل ما أظهره القرآن فهو من أثر ضيائه ‪،‬‬
‫فبالقرآن يكشف جميع ما في الكتب المنزلة من العلوم ‪ ،‬وفيه ما ليس فيها ‪ .‬فمن أوتي القرآن‬
‫فقد أوتي الضياء الكامل الذي يتضمن كل علم ؛ فعلوم األنبياء والمالئكة وكل لسان علم فإن‬
‫القرآن يتضمنه ويوضحه ألهل القرآن بما هو ضياء ‪ ،‬فهو نور من حيث ذاته ألنه ال يدرك‬
‫لعزته ‪ ،‬وهو ضياء لما يدرك به ولما يدرك منه ‪ .‬فمن أعطي القرآن فقد أعطي العلم الكامل ‪.‬‬

‫سورة النساء ( ‪ : ) 4‬اآليات ‪ 175‬إلى ‪176‬‬


‫ِيه ْم ِإلَ ْي ِه ِصراطا ً‬ ‫ض ٍل َويَ ْهد ِ‬ ‫سيُد ِْخلُ ُه ْم ِفي َرحْ َم ٍة ِم ْنهُ َوفَ ْ‬ ‫ص ُموا ِب ِه فَ َ‬ ‫فَأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ِب ه ِ‬
‫اَّلل َوا ْعت َ َ‬
‫س لَهُ َولَ ٌد َولَهُ أ ُ ْختٌ‬ ‫ام ُر ٌؤ َهلَكَ لَ ْي َ‬ ‫ّللاُ يُ ْفتِي ُك ْم فِي ا ْلكَللَ ِة إِ ِن ْ‬ ‫ست َ ْفتُونَكَ قُ ِل ه‬‫ست َ ِقيما ً ( ‪ ) 175‬يَ ْ‬ ‫ُم ْ‬
‫ثان ِم هما ت َ َركَ َوإِ ْن‬ ‫ْف ما ت َ َركَ َو ُه َو يَ ِرثُها إِ ْن لَ ْم يَك ُْن لَها َولَ ٌد فَ ِإ ْن كانَتَا اثْنَت َ ْي ِن فَلَ ُه َما الثُّلُ ِ‬ ‫فَلَها نِص ُ‬
‫ع ِلي ٌم‬
‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ّللاُ لَ ُك ْم أ َ ْن ت َ ِضلُّوا َو ه‬
‫ّللاُ ِب ُك ِ هل َ‬ ‫كانُوا ِإ ْخ َوةً ِرجاالً َونِسا ًء فَ ِللذهك َِر ِمثْ ُل َح ِ ه‬
‫ظ ْاأل ُ ْنثَيَ ْي ِن يُبَ ِيه ُن ه‬
‫) ‪( 176‬‬

‫[وحدانية المرأة وفردانية الرجل وقوة المرأة وضعف الرجل ]‬


‫‪-‬تحقيق ‪ -‬أشار الحق بوحدانية المرأة وفردانية الرجل وقوة المرأة وضعف الرجل بصورة‬
‫الميراث ‪ ،‬فأعطى األكثر لألضعف كي يقوى من جهة الضعف ومن جهة النشء ‪ ،‬فإن‬
‫الوحداني ال يقبل إال مثله ‪ ،‬فأعطي قسما واحدا ‪ ،‬والفرد إنما هو عين اثنين فهو ناظر لما هو‬
‫عنه ‪ ،‬فأخذ قسمين ‪ ،‬فمن الوجهين معا للمرأة الثلث وللرجل الثلثان إذا لم يكن سواهما‪.‬‬

‫ص ‪570‬‬

‫ص ‪578 :‬‬
‫المراجع‬
‫‪- 1‬الفتوحات المكية طبعة الميمنية ‪.‬‬
‫‪- 2‬إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ‪.‬‬
‫‪- 3‬التدبيرات اإللهية في إصالح المملكة اإلنسانية ‪.‬‬
‫‪- 4‬كتاب الجالل والجمال ‪.‬‬
‫‪- 5‬التنزالت الموصلية ‪.‬‬
‫‪- 6‬كتاب المسائل ‪.‬‬
‫‪- 7‬ديوان الشيخ األكبر ‪.‬‬
‫‪- 8‬كتاب الشاهد ‪.‬‬
‫‪- 9‬كتاب النجاة شرح اإلسراء ‪.‬‬
‫‪- 10‬كتاب اإلسراء إلى مقام األسرى ‪.‬‬
‫‪- 11‬رسالة شعب اإليمان ‪.‬‬
‫‪- 12‬رسالة مراتب التقوى ‪.‬‬
‫‪- 13‬اإلسفار عن معاني األسفار ‪.‬‬
‫‪- 14‬كتاب مواقع النجوم ‪.‬‬
‫‪- 15‬كتاب رد اآليات المتشابهات إلى اآليات المحكمات ‪.‬‬
‫‪- 16‬كتاب عقلة المستوفز ‪.‬‬
‫‪- 17‬كتاب تاج الرسائل ‪.‬‬
‫‪- 18‬كتاب فصوص الحكم ‪.‬‬
‫‪- 19‬تلقيح األذهان ‪.‬‬
‫‪- 20‬كتاب الكتب ‪.‬‬

‫ص ‪571‬‬

‫ص ‪579 :‬‬
‫‪- 21‬كتاب اإلعالم‪.‬‬
‫‪- 22‬كتاب نقش الفصوص ‪.‬‬
‫‪- 23‬رسالة ابن سودكين ‪.‬‬
‫‪- 24‬رسالة اليقين ‪.‬‬
‫‪- 25‬كتاب عنقاء مغرب ‪.‬‬
‫‪- 26‬كتاب األلف ‪.‬‬
‫‪- 27‬كتاب منزل القطب ‪.‬‬
‫‪- 28‬كتاب التراجم ‪.‬‬
‫‪- 29‬كتاب القسم اإللهي‪.‬‬

‫ص ‪572‬‬

‫ص ‪580 :‬‬
‫مراجع جمع اآليات‬

‫رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن‬


‫االفتتاح‬
‫ف ح ‪ - 94 ، 444 / 3‬ح ‪ - 369 / 1‬ح ‪ - 172 / 2‬ح ‪ - 318 / 3‬ح ‪ - 172 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪94 ، 332 ، 173 ، 95‬‬
‫تفسير القرآن‬
‫ف ح ‪ - 581 ، 567 / 2‬ح ‪ - 25 / 4‬ح ‪ - 164 ، 119 / 2‬ح ‪ - 441 / 1‬ح ‪207 / 2‬‬
‫‪256 -‬‬
‫المناسبة بين آي القرآن‬
‫ف ح ‪ - 548 / 2‬ح ‪ - 137 / 4‬ح ‪460 / 1‬‬
‫المجاز في القرآن‬
‫إيجاز البيان آية رقم ‪ - 223‬ف ح ‪ - 253 / 1‬التدبيرات اإللهية‬
‫نصيحة وتنبيه‬
‫ف ح ‪ - 400 ، 127 / 4‬كتاب الجالل والجمال‬
‫اإلشارة‬
‫ف ح ‪ - 281 ، 280 ، 279 / 1‬ح ‪ - 25 / 4‬ح ‪76 / 1‬‬
‫سورة الفاتحة‬
‫ف ح ‪ - 111 / 1‬ح ‪ - 500 / 3‬ح ‪ - 111 / 1‬ح ‪ - 134 / 2‬ح ‪، 492 ، 111 / 1‬‬
‫‪ - 490‬ح ‪ - 88 / 2‬التنزالت الموصلية الباب ‪ ) 1 ( 36‬ف ح ‪ - 132 ، 137 / 4‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪270 -‬ح ‪ - 147 ، 100 ، 9 / 3‬ح ‪ - 101 / 1‬ح ‪ - 135 / 2‬ح ‪ - 101 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ( 2 ) 10 ، 100‬ف ح ‪ - 403 ، 401 / 2‬ح ‪ - 287 / 4‬ح ‪ - 578 / 2‬كتاب المسائل ‪-‬‬
‫ح ‪ - 287 / 4‬ح ‪ - 111 / 1‬ح ‪ - 395 ، 443 / 3‬ح ‪ - 113 / 1‬ح ‪ - 5 / 4‬ديوان ‪/‬‬
‫‪136 -‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 3‬ف ح ‪ - 196 / 4‬ح ‪ - 550 ، 505 / 3‬ح ‪ ( 4 ) 406 / 4‬ف‬
‫ح ‪ - 261 / 4‬ح ‪ ) 5 ( 513 / 1‬ف ح ‪ - 417 ، 111 / 1‬ح ‪ ) 6 ( 61 / 4‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ( 7 ) 315 ، 61 ، 111 ، 331‬ف ح ‪ - 61 ، 731 ، 61 / 1‬ح ‪–551 / 3‬‬

‫ص ‪573‬‬

‫ص ‪581 :‬‬
‫ح ‪4 / 407 -‬ف ح ‪ - 173 / 3‬ح ‪ - 422 ، 406 ، 422 ، 456 ، 413 / 1‬كتاب النجاة‬
‫شرح اإلسراء ‪ -‬ح ‪ - 422 / 1‬كتاب النجاة شرح اإلسراء ‪ -‬ح ‪ - 261 / 4‬كتاب النجاة شرح‬
‫اإلسراء ‪ -‬ح ‪ - 101 / 2‬ح ‪ - 422 ، 492 / 1‬ح ‪ - 407 ، 481 / 4‬كتاب اإلسراء ‪،‬‬
‫اإلشارات المحمدية‬
‫سورة البقرة‬
‫ف ح ‪ - 464 / 1‬ح ‪40 / 3‬‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ - 60 ، 59 / 1‬ح ‪ - 261 / 3‬ح ‪ - 448 / 2‬ف ح ‪2 ( 65 ، 63 ، 61 / 1‬‬
‫)ف ح ‪ - 63 ، 61 ، 64 / 1‬ح ‪ - 424 / 4‬ح ‪ ) 3 ( 63 / 1‬رسالة شعب اإليمان ‪ ،‬رسالة‬
‫مراتب التقوى ‪ -‬ف ح ‪ - 329 / 1‬ح ‪ - 478 / 4‬ح ‪ - 374 ، 98 / 2‬ح ‪ / 520 - 1‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 379 ، 36 ، 218 ، 232 /‬ح ‪ - 98 / 2‬ح ‪، 540 ، 539 ، 386 ، 387 ، 553 / 1‬‬
‫‪ ( 4 ) 587 ، 387 ، 541‬ف ح ‪ ) 5 ( 204 / 2‬ف ح ‪ - 525 / 4‬ح ‪/ 660 ( 6 ) 1‬‬
‫ف ح ‪ ) 7 ( 278 / 3‬ف ح ‪ - 356 ، 525 / 4‬ح ‪ - 207 ، 136 / 2‬ف ح ‪/ 463 - 3‬‬
‫ديوان ‪ ) 8 ( 461‬ف ح ‪ ) 9 ( 618 / 1‬ف ح ‪ - 487 / 4‬ف ح ‪ ( 10 ) 116 / 1‬ف ح‬
‫‪ - 116 ، 475 ، 116 / 1‬ح ‪ - 315 / 3‬ح ‪ ) 12 ( 746 / 1‬ف ح ‪) 13 ( 143 / 2‬‬
‫ف ح ‪ ) 14 ( 483 / 4‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ ) 15 ( 472 / 3‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 472‬ح ‪ ) 16 ( 414 ، 634 / 2‬ف ح ‪ - 258 ، 329 / 3‬ح ‪ ( 17 ) 541 / 1‬ف ح‬
‫‪ - 608 / 2‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 18‬ف ح ‪ ( 19 ) 149 ، 232 ، 163 ، 525 / 4‬ف‬
‫ح ‪ - 452 / 2‬ح ‪ ) 20 ( 193 / 4‬ف ح ‪ - 739 / 1‬ح ‪ - 252 ، 116 / 2‬ح ‪/ 289 4‬‬
‫) ‪( 21‬ف ح ‪ ) 22 ( 400 / 4‬ف ح ‪ - 399 / 1‬ح ‪، 227 ، 208 ، 428 ، 429 / 2‬‬
‫‪ - 434 ، 123‬ح ‪ - 386 / 3‬ف ح ‪ - 415 ، 243 / 4‬ف ح ‪ ) 23 ( 131 / 1‬ف ح ‪2‬‬
‫) ‪/ 394 ( 24‬ف ح ‪ - 496 / 4‬ف ح ‪ - 161 / 2‬ح ‪ ) 25 ( 725 / 1‬ف ح ‪- 388 / 3‬‬
‫ح ‪2 / 559 -‬ح ‪ - 668 / 1‬ح ‪ - 435 / 3‬ح ‪ ) 26 ( 500 / 2‬ف ح ‪462 ، 468 / 4‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 223 ، 226 ، 2 / 225‬ح ‪ - 174 ، 373 / 3‬ح ‪ - 209 / 1‬ح ‪ - 401 / 4‬ح ‪2‬‬
‫‪/ 226 -‬ح ‪ - 468 / 4‬ح ‪ - 418 / 2‬ح ‪ - 174 / 3‬ح ‪ - 401 / 4‬ح ‪) 28 ( 174 / 3‬‬
‫ف ح ‪ - 55 ، 379 / 1‬ح ‪ - 24 / 3‬ح ‪ ) 29 ( 535 / 1‬ف ح ‪ - 463 / 2‬ح ‪- 305 / 4‬‬
‫ح ‪2 / 115 -‬كتاب رد اآليات المتشابهات ‪ -‬ح ‪ - 114 / 2‬ح ‪ - 124 / 3‬ح ‪( 112 / 4‬‬
‫) ‪30‬ف ح ‪ - 123 / 1‬ح ‪ - 399 / 3‬ح ‪ - 123 / 1‬ح ‪ - 399 / 3‬ح ‪ - 123 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪156 -‬ح ‪ - 123 / 1‬ح ‪، 156 / 3‬‬

‫ص‪574‬‬

‫ص ‪582 :‬‬
‫‪31 -‬ح ‪ - 299 / 4‬ح ‪ - 468 / 2‬ح ‪ - 156 / 3‬ح ‪ - 299 / 4‬ح ‪ - 468 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪- 109‬ح ‪ - 296 / 3‬ح ‪ - 468 / 2‬ح ‪ - 398 / 3‬ح ‪ - 73 / 1‬ح ‪ - 555 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 282‬ح ‪ - 468 / 2‬ح ‪ ، 156 / 3‬ح ‪ - 67 / 2‬ح ‪ - 156 / 3‬ح ‪ - 745 / 1‬كتاب عقلة‬
‫المستوفز ‪ -‬ح ‪ - 280 ، 270 / 3‬ح ‪ - 268 / 2‬ح ‪ - 382 ، 343 / 3‬ح ‪، 602 / 2‬‬
‫‪268 -‬ح ‪ - 81 ، 80 / 3‬ح ‪ - 26 / 4‬ح ‪ - 555 / 2‬ح ‪ - 164 / 3‬ح ‪ - 134 / 1‬ح ‪4‬‬
‫‪/ 68 -‬ح ‪ - 399 / 3‬ح ‪ - 68 / 4‬ح ‪ - 129 / 2‬ح ‪ - 68 / 4‬ح ‪ - 575 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 399 ، 282‬ح ‪ - 251 ، 575 / 2‬ح ‪ - 447 / 4‬ح ‪ - 651 / 2‬ح ‪ - 586 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪108 -‬ح ‪ - 6 ، 586 / 1‬ح ‪ - 361 / 4‬ح ‪ - 67 / 2‬كتاب التدبيرات اإللهية ( ‪) 31‬ف‬
‫ح ‪ - 120 ، 603 / 2‬ح ‪ - 191 / 3‬ح ‪ - 355 ، 69 / 2‬ح ‪ - 74 ، 267 / 3‬ح ‪/ 67 2‬‬
‫‪ - 69 ،‬ح ‪ - 216 / 1‬ح ‪ - 68 / 4‬ح ‪ - 71 / 2‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ح ‪4 / 527 -‬ح‬
‫‪ - 399 ، 278 / 3‬ح ‪ - 71 ، 9 / 2‬ح ‪ ) 32 ( 278 / 3‬ف ح ‪429 - ، 71 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 33 ( 299‬ف ح ‪ 71 ، 487 ، 71 ، 487 / 2‬ف ح ‪ - 399 / 3‬ح ‪( 105 ، / 712‬‬
‫) ‪34‬ف ح ‪ - 71 / 2‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ح ‪ - 152 ، 399 / 3‬ح ‪1 / 50 -‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 255‬ح ‪ - 753 / 1‬ح ‪ - 367 / 3‬ح ‪ - 255 / 2‬ح ‪) 35 ( 382 / 3‬ف ح ‪- 67 / 2‬‬
‫ح ‪ - 231 / 1‬ح ‪ - 138 / 3‬ح ‪ - 565 / 2‬ح ‪ - 231 / 1‬كتاب النجاة ( ‪ ) 36‬كتاب النجاة‬
‫‪ -‬ف ح ‪ - 231 / 1‬ح ‪ - 382 / 3‬ح ‪ ) 37 ( 527 / 4‬ف ح ‪ - 565 / 2‬ح ‪ - 302 / 4‬ح‬
‫‪ - 534 / 2‬كتاب النجاة ( ‪ ) 38‬ف ح ‪- 50 ، 143 / 3‬ح ‪ - 142 / 2‬ح ‪) 40 ( 43 / 3‬‬
‫ف ح ‪ - 478 / 3‬ح ‪ - 682 / 2‬ح ‪ - 220 / 3‬ح ‪/ 406 - 2‬ح ‪ - 72 / 3‬ح ‪، 405 / 4‬‬
‫‪ - 356 ، 351‬ديوان ‪ ) 42 ( 182 /‬ف ح ‪ / 345 ( 43 ) 4‬ف ح ‪( 583 ، 584 / 1‬‬
‫‪ ) 44‬ف ح ‪ - 358 / 2‬ح ‪ - 543 ، 542 / 1‬ح ‪ / 485 ( 45 ) 4‬ف ح ‪، 542 / 1‬‬
‫‪ - 501 ، 542 ، 543‬إيجاز البيان آية رقم ‪ ( 46 ) 144‬ف ح ‪ ) 48 ( 153 / 4‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ ) 52 ( 456 /‬ف ح ‪ ) 55 ( 202 / 2‬ف ح ‪ / 450 ( 57 ) 2‬ف ح ‪ ) 60 ( 16 / 4‬ف‬
‫ح ‪ ) 61 ( 644 / 1‬ف ح ‪ ) 62 ( 526 / 4‬ف ح ‪/ 446 ( 65 ) 1‬ف ح ‪( 553 / 2‬‬
‫‪ ) 67‬ف ح ‪ ) 72 ( 728 ، 596 / 1‬ف ح ‪ ( 73 ) 564 / 1‬ف ح ‪ - 596 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 68‬تاج الرسائل ‪ -‬اإلسراء ‪ -‬النجاة ( ‪ ) 74‬ف ح ‪/ 526 - 4‬ح ‪ - 710 / 1‬ح ‪115 / 4‬‬
‫‪ -‬فصوص الحكم ‪ ، 17 /‬ح ‪ - 552 ، 228 / 3‬ح ‪/ 383 - 1‬ح ‪ - 353 / 4‬ح ‪383 / 1‬‬
‫( ‪ ) 75‬ف ح ‪ - 351 / 3‬ح ‪ - 145 / 1‬ح ‪ ( 79 ) 4 / 2‬ف ح ‪. )81 ( 526 / 4‬‬

‫ص ‪575‬‬

‫ص ‪583 :‬‬
‫ف ح ‪ ) 82 ( 150 / 3‬ف ح ‪ - 173 / 2‬ح ‪ ) 83 ( 438 / 4‬ف ح ‪ ) 85 ( 438 / 4‬ف‬
‫ح ‪/ 25 ( 86 ) 3‬ف ح ‪ - 506 / 3‬ح ‪ ) 87 ( 281 / 2‬ف ح ‪ - 275 / 1‬ح ‪- 125 / 3‬‬
‫ح ‪/ 168 ( 88 ) 1‬فصوص الحكم ‪ ) 89 ( 13 /‬إيجاز البيان آية ‪ ) 92 ( 42‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫) ‪635 ( 96‬ف ح ‪ ) 102 ( 198 / 2‬ف ح ‪ - 265 / 1‬ح ‪ - 576 / 2‬ح ‪( 161 / 4‬‬
‫‪) 104‬ف ح ‪ ) 105 ( 434 / 4‬ف ح ‪ - 258 / 3‬ح ‪ ) 106 ( 319 ، 302 / 1‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ - 173 ، 258 /‬ح ‪ ) 107 ( 531 ، 68 / 2‬ف ح ‪ ) 109 ( 53 / 2‬ف ح ‪، 510 / 3‬‬
‫‪ ( 110 ) 547‬ف ح ‪ ) 111 ( 386 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 6 /‬ف ح ‪) 112 ( 352 / 4‬‬
‫كتاب المسائل ‪ ) 114 ( 120 /‬ف ح ‪ ) 115 ( 210 / 2‬ف ح ‪ - 517 / 1‬ح ‪- 253 / 4‬‬
‫ح ‪ - 408 / 3‬ح ‪ - 103 ، 346 / 4‬ح ‪ - 542 / 3‬ح ‪ - 404 / 1‬رد اآليات المتشابهات ‪-‬‬
‫ح ‪ - 517 ، 507 ، 491 / 1‬ح ‪ - 369 ، 256 / 4‬ح ‪ ( 117 ) 306 / 1‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 421‬ح ‪ - 314 / 4‬ح ‪ - 702 / 1‬ح ‪ ) 121 ( 112 / 3‬ف ح ‪413 ، 90 ، 128 / 3‬‬
‫‪ - 128 ،‬ح ‪ - 367 / 4‬ح ‪ - 285 / 3‬ح ‪ - 402 / 4‬مواقع النجوم ) ‪ ( 124‬النجاة ‪/‬‬
‫اإلشارات اإلبراهيمية ‪ -‬ف ح ‪ - 305 / 4‬ح ‪ - 410 / 3‬ح ‪( 392 ، 56 ، 305 / 4‬‬
‫) ‪125‬ف ح ‪ - 723 ، 722 / 1‬النجاة ‪ /‬اإلشارات اإلبراهيمية ‪ -‬ح ‪، 361 ، / 358 1‬‬
‫‪ ( 126 ) 661‬النجاة ‪ /‬اإلشارات اإلبراهيمية ( ‪ ) 127‬النجاة ‪ /‬اإلشارات اإلبراهيمية (‬
‫‪ ) 128‬ف ح ‪ ) 129 ( 142 / 2‬األعالق ‪ -‬ف ح ‪ ( 130 ) 35 / 3‬ف ح ‪ - 354 / 4‬ح‬
‫‪ ) 131 ( 723 / 1‬ف ح ‪ - 722 / 1‬ح ‪ ) 132 ( 499 / 3‬ف ح ‪ ) 136 ( 592 / 2‬ف‬
‫ح ‪ - 153 ، 414 / 3‬ح ‪ - 87 / 2‬ح ‪ ) 138 ( 167 / 3‬ف ح ‪/ 23 ( 139 ) 3‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ - 209 /‬ح ‪ ) 143 ( 479 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ - 125‬ف ح ‪3 / 393 -‬ف ح ‪206 / 4‬‬
‫‪ ) 144 ( 234 ،‬ف ح ‪ - 161 / 3‬ح ‪ ) 146 ( 712 / 1‬ف ح ‪3 / 243 -‬إيجاز البيان‬
‫آية ‪ ) 148 ( 43‬ف ح ‪ ) 149 ( 351 / 4‬ف ح ‪ ( 150 ) 406 / 1‬ف ح ‪- 406 / 1‬‬
‫التنزالت الموصلية ( ‪ ) 152‬ف ح ‪ - 446 / 4‬ح ‪ - 119 / 2‬ح ‪ - 446 / 4‬ح ‪- 543 / 1‬‬
‫ح ‪ ) 153 ( 119 / 2‬ف ح ‪ ) 154 ( 468 ، 543 / 1‬ف ح ‪1 / 467 -‬ح ‪- 415 / 4‬‬
‫ح ‪ ) 155 ( 521 / 1‬ف ح ‪ - 352 / 4‬ح ‪ - 522 / 1‬ح ‪ / 30 ( 156 ) 2‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 522‬ح ‪ ) 157 ( 420 / 2‬ف ح ‪ - 522 / 1‬ح ‪490 ( 158 ) ، 420 / 2‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - ، 625 ، 708 ، 668‬ح ‪ - 261 / 2‬ح ‪176 - ، 708 ، 711 / 1‬ح ‪ - 242 / 4‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 202 ، 343 /‬ح ‪ ) 163 ( 708 ، 779 ، 733 / 1‬ف ح ‪ / 106 - 4‬ح ‪، 323 / 1‬‬
‫‪ - 417‬ح ‪ ) 164 ( 405 / 2‬ف ح ‪ - 140 ، 206 / 1‬ح ‪.- 335 / 4‬‬

‫ص ‪576‬‬

‫ص ‪584 :‬‬
‫ح ‪ - 114 ، 630 ، 489 ، 393 ، 2 / 471‬ح ‪ - 206 ، 674 ، 335 ، 552 / 1‬ح ‪4‬‬
‫‪ ( 165 ) 112 ، / 410‬ف ح ‪ ) 166 ( 29 ، 336 ، 222 / 2‬كتاب المسائل ‪ -‬ف ح ‪2‬‬
‫‪/ 170 -‬ح ‪ - 118 / 3‬التنزالت الموصلية ( ‪ ) 167‬ف ح ‪ - 284 / 4‬ح ‪( 263 / 1‬‬
‫) ‪168‬ف ح ‪ - 273 / 1‬مواقع النجوم ( ‪ ) 170‬إيجاز البيان ( ‪ ) 171‬ف ح ‪، 25 / 4‬‬
‫‪ - 233‬مواقع النجوم ‪ -‬ح ‪ - 13 / 3‬إيجاز البيان ‪ -‬ح ‪ ) 173 ( 393 / 3‬ف ح ‪/ 463 2‬‬
‫) ‪( 174‬ف ح ‪ ) 177 ( 526 / 4‬ف ح ‪ - 177 / 2‬ح ‪ - 553 / 1‬ح ‪ - 37 / 2‬ح ‪3 /‬‬
‫‪ ( 178 ) 51 ، 50‬ف ح ‪ ) 179 ( 526 / 4‬ف ح ‪ - 408 / 2‬تلقيح األذهان ‪ -‬ح ‪2 /‬‬
‫) ‪408 ( 180‬ف ح ‪ ) 182 ( 526 / 4‬ف ح ‪ ) 183 ( 387 / 4‬ف ح ‪، 602 / 1‬‬
‫‪ ( 184 ) 628 ، 604‬ف ح ‪ - 612 / 1‬ح ‪ - 543 / 3‬ح ‪ - 486 / 4‬ح ‪، 617 / 1‬‬
‫‪ ( 185 ) 620 ، 623 ، 629‬ف ح ‪ - 629 ، 626 / 1‬ح ‪ - 174 / 2‬ح ‪، 604 / 1‬‬
‫‪ - 604 ، 629 ، 496 ، 629‬ح ‪ - 94 / 3‬ح ‪( 629 ، 604 ، 606 ، 629 ، 604 / 1‬‬
‫‪ ) 186‬ف ح ‪/ 629 - 1‬ح ‪ - 255 ، 45 ، 71 / 4‬ح ‪ - 522 ، 629 / 1‬ح ‪- 234 / 4‬‬
‫ح ‪629 - ، 191 / 1‬ح ‪ - 429 ، 255 ، 71 / 4‬ح ‪ - 629 / 1‬ح ‪، 255 ، 71 / 4‬‬
‫‪ - 429‬ح ‪ / 629 - 1‬ح ‪ - 177 / 4‬رد اآليات المتشابهات ‪ -‬كتاب الكتب ‪ -‬مواقع النجوم ‪-‬‬
‫ح ‪/ 284 - 3‬ح ‪ - 345 / 4‬ح ‪ ) 187 ( 462 / 2‬ف ح ‪ - 630 / 1‬ح ‪ - 226 / 4‬ح ‪1‬‬
‫‪/ 630 -‬ح ‪ - 437 - 226 / 4‬ح ‪ - 630 / 1‬ح ‪ - 534 / 2‬ح ‪632 ، 631 ، 630 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪3 / 301 -‬ح ‪ - 622 ، 630 ، 497 - 624 / 1‬ح ‪ - 291 / 3‬ح ‪496 ، 630 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ) ‪2 / 160 ( 189‬ف ح ‪ - 606 / 1‬ح ‪ - 11 / 3‬ح ‪، 686 ، 723 ، 647 / 1‬‬
‫‪ - 733‬ح ‪ ( 194 ) 158 ، 2 / 157‬إيجاز البيان ( ‪ ) 195‬ف ح ‪ - 342 / 1‬ح ‪39 / 2‬‬
‫( ‪) 196‬ف ح ‪- 315 ، 198 ، 752 ، 692 ، 691 ، 730 ، 727 ، 726 ، 725 / 1‬‬
‫ح ‪ / 596 - 2‬ح ‪ ) 197 ( 752 / 1‬ف ح ‪ - 744 ، 736 ، 683 ، 665 ، 677 / 1‬ح‬
‫‪ ( 198 ) 163 / 4‬ف ح ‪ - 164 / 4‬ح ‪ ) 200 ( 718 / 1‬ف ح ‪ ) 203 ( 650 / 1‬ف‬
‫ح ‪312 ( 204 ) ، 311 / 1‬ف ح ‪ ) 206 ( 355 / 4‬ف ح ‪) 209 ( 297 ، 299 / 1‬‬
‫ف ح ‪ - 140 / 2‬ح ‪ - 86 / 1‬ح ‪ ) 210 ( 530 / 3‬ف ح ‪ - 677 / 1‬ح ‪ - 4 / 3‬ر هد‬
‫اآليات المتشابهات ‪ -‬ح ‪ - 118 / 2‬ح ‪ - 308 / 1‬اإلعالم ( ‪ ) 211‬ف ح ‪( 212 ) 5 / 4‬‬
‫نقش الفصوص ( ‪ ) 213‬ف ح ‪ - 258 / 2‬ح ‪ ) 216 ( 646 ، 465 / 1‬ف ح ‪739 / 1‬‬
‫‪740 - ،‬ح ‪ ) 217 ( 357 / 3‬ف ح ‪ ) 219 ( 131 / 4‬ف ح ‪ - 171 / 1‬ح ‪115 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪./ 235 ( 220 ) 4‬‬

‫ص ‪577‬‬

‫ص ‪585 :‬‬
‫ف ح ‪ ) 221 ( 506 / 3‬ف ح ‪ - 516 / 3‬ح ‪ - 686 ، 579 / 2‬ح ‪ ) 222 ( 22 / 3‬ف‬
‫ح ‪ - 369 ، / 368 1‬ح ‪ - 49 / 4‬ح ‪ - 144 / 2‬ح ‪ - 444 / 1‬ح ‪32 ، 341 ، 31 / 2‬‬
‫‪31 ( 224 ) ،‬ف ح ‪ - 509 / 4‬النجاة عن حجب االشتباه ( ‪ ) 225‬ف ح ‪( 299 / 3‬‬
‫) ‪227‬ف ح ‪ - 576 / 2‬إيجاز البيان ( ‪ ) 228‬ف ح ‪ - 541 / 2‬ح ‪ - 373 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 353 ، 87‬ح ‪ - 136 ، 124 ، 679 / 1‬ح ‪ - 494 ، 415 / 4‬ح ‪ - 10 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪494 -‬ح ‪ - 182 / 3‬ح ‪ - 403 / 4‬ح ‪ - 87 / 3‬ح ‪ - 471 / 2‬ح ‪ - 207 / 3‬كتاب‬
‫الشاهد ( ‪ ) 229‬ف ح ‪ - 369 / 4‬ح ‪ ) 231 ( 160 / 2‬ف ح ‪ - 309 / 4‬ح ‪( 243 / 3‬‬
‫) ‪233‬ف ح ‪ ) 235 ( 650 / 2‬ف ح ‪ - 30 / 2‬ح ‪ - 512 / 3‬ح ‪ - 3 / 4‬ح ‪، 137 / 1‬‬
‫‪730 -‬ح ‪ ) 237 ( 387 ، 219 / 3‬ف ح ‪ ) 238 ( 350 / 4‬ف ح ‪ - 200 / 3‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪696 -‬ح ‪ - 163 / 2‬ح ‪ - 200 / 3‬ح ‪ - 696 / 1‬ح ‪ - 175 / 4‬ح ‪ - 433 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪27 -‬ح ‪ ) 242 ( 340 / 4‬ف ح ‪ ) 243 ( 58 ، 333 / 3‬ف ح ‪ - 419 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ( 245 ) 350‬ف ح ‪ - 46 / 3‬ح ‪ - 374 ، 224 / 4‬ح ‪ - 430 / 3‬ح ‪225 ، 224 / 4‬‬
‫( ‪ ) 247‬ف ح ‪ - 491 / 1‬ح ‪ ) 248 ( 510 / 2‬ف ح ‪ ) 249 ( 59 / 2‬ف ح ‪329 / 3‬‬
‫ف ح ‪ / 351 ( 251 ) 4‬ف ح ‪ - 523 / 2‬ح ‪ ) 253 ( 336 / 4‬ف ح ‪ - 75 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 442 ، 53‬ح ‪ - 522 / 1‬ح ‪ - 73 / 2‬األعالق ‪ -‬ح ‪ - 68 / 2‬ح ‪) 255 ( 145 / 3‬‬
‫ف ح ‪ / 693 - 2‬ح ‪ - 464 / 1‬ح ‪ - 172 / 2‬ح ‪ - 317 / 3‬ح ‪ - 172 / 2‬ح ‪324 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ / 172 - 2‬ح ‪ - 291 / 4‬ح ‪ - 183 ، 172 ، 219 / 2‬ح ‪ - 119 / 3‬ح ‪172 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ / 753 - 1‬ح ‪ - 172 / 2‬ح ‪ - 322 / 3‬ح ‪ - 131 / 4‬ح ‪ - 437 ، 671 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 461‬ح ‪ - 208 ، 2 / 172‬ح ‪ - 119 / 3‬ح ‪ - 172 / 2‬ح ‪ - 243 / 4‬ح ‪- 172 / 2‬‬
‫ح ‪ / 241 - 4‬ديوان ‪ -‬ح ‪ - 300 ، 172 / 2‬ح ‪ - 462 ، 432 / 3‬ح ‪- 181 / 2‬‬
‫التنزالت الموصلية ( ‪ ) 256‬ف ح ‪ ) 257 ( 283 / 4‬ف ح ‪ - 247 / 2‬ح ‪، 147 / 4‬‬
‫‪ - 283‬رسالة ابن سودكين ‪ -‬ف ح ‪ - 283 ، 414 ، 147 / 4‬ح ‪ ) 258 ( 248 / 2‬ف ح‬
‫‪ / 350 - 3‬ح ‪ - 63 / 4‬ح ‪ - 350 / 3‬ح ‪ - 340 ، 63 / 4‬ح ‪ - 284 / 3‬ح ‪، 421 / 4‬‬
‫‪ - 63 ، 421 ، 63‬ح ‪ ) 259 ( 350 / 3‬الديوان ‪ -‬ف ح ‪ ) 260 ( 64 / 2‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪- 454‬كتاب اإلسراء ‪ -‬ح ‪ - 213 / 3‬ح ‪ - 615 ، 59 ، 36 ، 520 / 2‬رسالة اليقين ‪ -‬ح‬
‫‪ - 520 / 2‬عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪ - 615 ، 92 ، 520 / 2‬عنقاء مغرب ) ‪ ( 261‬ف ح‬
‫‪ - 9 / 3‬ح ‪ - 422 / 2‬ح ‪ ) 264 ( 735 / 1‬ف ح ‪. -477 / 4‬‬

‫ص ‪578‬‬

‫ص ‪586 :‬‬
‫ح ‪ - 314 ، 2 / 649‬ح ‪ ) 265 ( 421 / 4‬األعالق ( ‪ ) 268‬ف ح ‪ - 580 / 1‬ح ‪4 / 4‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 71 ، 382 ، 71 ، 382 / 3‬ح ‪ - 301 / 1‬ح ‪ - 207 / 3‬ح ‪ - 4 / 4‬ح ‪، / 713‬‬
‫‪ - 382‬ح ‪ ) 269 ( 4 / 4‬ف ح ‪ - 272 / 2‬ح ‪ - 456 / 3‬ح ‪ - 279 / 1‬ح ‪/ 391 - 2‬‬
‫ح ‪ - 408 / 3‬ح ‪ - 258 / 4‬ح ‪ - 231 / 2‬ح ‪ - 379 / 3‬ح ‪ - 258 / 4‬ح ‪ / 36 - 3‬ح‬
‫‪ - 242 ، 258 / 4‬ح ‪ ) 271 ( 646 / 2‬ف ح ‪ ) 272 ( 590 / 1‬ف ح ‪- 595 / 2‬ح‬
‫‪ - 498 / 3‬ح ‪ ) 273 ( 49 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ ) 275 ( 199‬ف ح ‪( 276 271 / 4‬‬
‫)ف ح ‪ - 549 ، 547 / 1‬ح ‪ ) 280 ( 136 / 3‬ف ح ‪ - 487 / 4‬إيجاز البيان آية ‪162‬‬
‫( ‪ ) 281‬ف ح ‪ ) 282 ( 145 ، 342 / 2‬ف ح ‪ - 60 / 2‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪89 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 582 / 1‬ح ‪ - 522 ، 521 / 2‬ح ‪ - 254 / 1‬ح ‪300 ، 51 ، 557 ، / 1283‬‬
‫‪-‬ح ‪ ) 284 ( 402 / 4‬ف ح ‪ - 152 ، 319 / 4‬ح ‪ - 355 / 1‬ح ‪) 285 ( 296 / 4‬‬
‫ف ح ‪ - 91 ، 98 / 2‬ح ‪ - 635 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 5‬ف ح ‪1 / 357 -‬ح ‪، 105 / 4‬‬
‫‪ ) 286 ( 300‬التنزالت الموصلية ‪ -‬ف ح ‪ - 341 / 1‬ح ‪/ 381 - 2‬ح ‪123 ، 348 / 3‬‬
‫‪ - 511 ،‬ح ‪ - 684 ، 535 / 2‬ح ‪ - 381 / 3‬ح ‪. 434 ، 435 / 1‬‬
‫سورة آل عمران‬
‫) ‪( 1‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ‪ -‬كتاب األلف ( ‪ ) 2‬ف ح ‪ - 406 / 2‬ح ‪، / 3223‬‬
‫‪ ( 3 ) 324‬إيجاز البيان ( المقدمة ) ‪ -‬ف ح ‪ ) 4 ( 173 / 3‬ف ح ‪( 5 ) 200 / 4‬ف ح‬
‫‪ - 65 / 2‬ح ‪ - 156 / 4‬ح ‪ ) 6 ( 270 / 1‬ف ح ‪406 - ، 65 ، 406 ، 65 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 7 ( 58‬كتاب رد اآليات المتشابهات ‪ -‬ف ح ‪ - 195 / 1‬ح ‪ - 250 ، 407 ، 430 / 4‬ح‬
‫‪ - 542 ، 369 / 3‬ح ‪ - 39 ، 595 ، 522 ، 638 / 2‬ح ‪ - 506 / 3‬كتاب مواقع النجوم‬
‫‪ -‬ف ح ‪ - 58 ، 506 ، 542 / 3‬كتاب رد اآليات المتشابهات ) ‪ ( 8‬ف ح ‪ - 595 / 2‬ح ‪4‬‬
‫‪ - 217 /‬ح ‪ - 586 / 1‬ح ‪ - 468 / 3‬ح ‪ ) 13 ( 595 / 2‬ف ح ‪ - 319 / 3‬ح ‪390 / 4‬‬
‫‪ -‬ح ‪ ) 14 ( 550 ، 478 ، 338 ، 334 ، 335 / 1‬ف ح ‪ / 508 - 3‬ح ‪ - 189 / 2‬ح‬
‫‪ - 508 / 3‬ح ‪ - 189 / 2‬ح ‪ - 505 / 3‬ح ‪454 - ، 341 ، 454 / 4‬ح ‪ - 494 / 2‬ح‬
‫‪ ) 17 ( 390 / 3‬ف ح ‪ - 39 / 2‬ح ‪ - 430 / 4‬ح ‪ - 660 / 1‬ح ‪ ) 18 ( 39 / 2‬ف ح‬
‫‪ - 8 / 4‬ح ‪ - 325 ، 431 ، 325 / 1‬ح ‪ - 52 / 2‬ح ‪ / 448 - 3‬ح ‪ - 52 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 448‬ح ‪ – 52 / 2‬كتاب‪.‬‬

‫ص ‪579‬‬

‫ص ‪587 :‬‬
‫مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ - 559 / 2‬ح ‪ - 372 ، 324 / 1‬ح ‪ - 25 / 2‬ح ‪ - 325 / 1‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 310 ، 52 ، 310 ، 52 ، 407 ، / 52‬ح ‪ ) 19 ( 667 / 1‬ف ح ‪ - 668 / 1‬كتاب‬
‫فصوص الحكم ( كلمة يعقوبية ) ‪ -‬كتاب تلقيح األذهان ( ‪ ) 20‬كتاب النجاة ‪ -‬ف ح ‪1 /‬‬
‫‪433 -‬ح ‪ ) 21 ( 467 / 3‬ف ح ‪ - 17 / 2‬ح ‪ - 251 / 1‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ - 5 ، 85 ، 467 ، 311 /‬ح ‪ - 410 / 4‬ح ‪ ) 22 ( 211 / 2‬ف ح ‪ ( 25 ) 3 / 2‬ف ح‬
‫‪ ) 26 ( 154 / 3‬ف ح ‪ - 618 / 1‬ح ‪ - 421 / 4‬ح ‪ - 245 / 3‬ح ‪ - 420 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 28 ( 389 ، 355‬ف ح ‪ ) 29 ( 203 / 4‬ف ح ‪ ) 30 ( 390 / 3‬ف ح ‪ / 485 - 2‬ح‬
‫‪ - 233 ، 81 / 3‬ح ‪ - 319 ، 619 / 2‬ح ‪ - 751 / 1‬ح ‪ - 389 / 2‬كتاب اإلسفار عن‬
‫نتائج األسفار ( ‪ ) 31‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 486 / 1‬ح ‪ - 341 ، 2 / 32‬ح ‪4‬‬
‫‪ - 105 /‬ح ‪ - 341 / 2‬ح ‪ - 321 / 3‬ح ‪102 - ، 456 ، 348 / 4‬ح ‪717 ، 463 / 1‬‬
‫‪ - 637 ،‬ح ‪ - 456 ، 414 ، 270 / 4‬ح ‪ - 498 / 2‬ح ‪ / 414 ( 32 ) 3‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 36 ( 104‬ف ح ‪ - 417 / 2‬ح ‪ ) 37 ( 509 / 3‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪) 38‬‬
‫ف ح ‪ ) 39 ( 509 / 3‬ف ح ‪ - 509 / 3‬كتاب النجاة شرح اإلسراء ‪ -‬ف ح ‪( 509 / 3‬‬
‫‪ ) 40‬ف ح ‪ ) 41 ( 509 / 3‬كتاب تلقيح األذهان ‪ -‬ف ح ‪ - 278 ، 326 / 3‬ح ‪174 / 1‬‬
‫‪ - 189 ،‬ح ‪ ) 42 ( 414 / 4‬ف ح ‪ / 437 ( 43 ) 4‬ف ح ‪ ) 45 ( 515 / 1‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 11‬ح ‪ ) 46 ( 443 ، 421 / 4‬ف ح ‪/ 347 ( 47 ) 3‬ف ح ‪ ) 49 ( 414 / 2‬ف ح‬
‫‪ - 274 ، 675 / 2‬ح ‪ - 276 / 1‬ح ‪ - 386 ، / 1493‬كتاب ذخائر األعالق ( ‪ ) 52‬ف‬
‫ح ‪ - 223 / 1‬ح ‪ ) 53 ( 8 / 2‬ف ح ‪/ 614 ( 54 ) 1‬ف ح ‪) 59 ( 131 ، 120 / 2‬‬
‫ف ح ‪ - 125 ، 679 ، 125 / 1‬ح ‪ / 297 - 3‬ح ‪ - 136 / 1‬كتاب األلف ‪ -‬كتاب تلقيح‬
‫األذهان ( ‪ ) 62‬ف ح ‪ ( 64 ) 258 / 4‬ف ح ‪ - 228 / 1‬ح ‪ ) 67 ( 350 / 3‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 68 ( 722‬ف ح ‪ ) 73 ( 154 / 3‬ف ح ‪ ) 73 ( 432 / 4‬ف ح ‪ ) 74 ( 432 / 4‬ف‬
‫ح ‪ - 329 / 1‬ح ‪ - 569 / 2‬ح ‪ / 163 - 3‬كتاب إيجاز البيان ( ‪ ) 75‬ف ح ‪( 138 / 4‬‬
‫‪ ) 78‬كتاب التنزالت الموصلية ) ‪( 84‬ف ح ‪ ) 85 ( 167 ، 153 / 3‬ف ح ‪( 751 / 1‬‬
‫‪ ) 91‬كتاب إيجاز البيان ) ‪ ( 92‬ف ح ‪ ) 95 ( 573 / 1‬ف ح ‪ ) 96 ( 306 / 4‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ( 97 ) 360 ، 757 ، 756 ، 99 ، 360 ، 99 ، 757‬ف ح ‪، 99 ، 757 ، 99 / 1‬‬
‫‪ - 673 ، 671 ، 669 ، 695 ، 668 ، 695 ، 668 ، 695 ، 669 ، 695‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 405‬ح ‪ - 474 / 2‬ح ‪ - 101 / 4‬ح ‪3 / 557 -‬ح ‪ - 541 / 2‬ح ‪ - 364 / 3‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 518‬ح ‪. -178 / 3‬‬

‫‪580‬‬

‫ص ‪588 :‬‬
‫ح ‪ - 291 ، 1 / 439‬ح ‪ - 429 ، 227 / 2‬ح ‪- 375 ، 289 ، 364 ، 42 ، 316 / 3‬‬
‫ح ‪/ 62 - 4‬ح ‪ ) 98 ( 276 ، 306 ، 299 / 3‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 99‬ف ح ‪2‬‬
‫) ‪/ 208 ( 101‬ف ح ‪ ) 102 ( 406 / 4‬ف ح ‪ ) 103 ( 492 ، 158 / 2‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 85‬ح ‪ - 744 / 1‬ح ‪ - 249 / 3‬ح ‪ - 469 ، 38 / 2‬ح ‪ - 85 / 4‬ح ‪ - 744 / 1‬ح ‪3‬‬
‫) ‪/ 407 ( 104‬ف ح ‪ - 358 / 3‬ح ‪ ) 106 ( 400 / 1‬ف ح ‪ - 536 / 3‬ح ‪349 / 4‬‬
‫) ‪( 110‬ف ح ‪ - 519 / 3‬ح ‪ - 135 / 2‬ح ‪ - 333 / 4‬ح ‪ - 124 / 2‬ح ‪، 169 / 3‬‬
‫‪321 - ، 142‬كتاب منزل القطب ( ‪ ) 114‬ف ح ‪ - 747 ، 453 / 1‬ح ‪( 357 / 3‬‬
‫) ‪117‬كتاب ذخائر األعالق ( ‪ ) 122‬ف ح ‪ - 199 / 2‬ح ‪ ) 125 ( 221 / 4‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 251‬ح ‪ ) 126 ( 362 / 4‬ف ح ‪ ) 128 ( 251 / 2‬ف ح ‪ ) 133 ( 105 / 3‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ - 735 ، 734 ، 453 /‬كتاب النجاة في شرح اإلسراء ( ‪ ) 134‬ف ح ‪ - 39 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 487‬ح ‪ ) 135 ( 551 ، 169 / 3‬ف ح ‪ - 9 / 3‬ح ‪ ) 136 ( 232 / 1‬ف ح ‪39 / 2‬‬
‫‪ -‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 138‬ف ح ‪ - 387 / 4‬كتاب تاج الرسائل ( ‪ ) 139‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ( 141 ) 39‬ف ح ‪ ) 144 ( 249 / 3‬ف ح ‪ - 262 / 2‬ح ‪ - 16 ، 372 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 276‬ح ‪/ 16 - 3‬ح ‪ - 276 / 4‬ح ‪ - 372 / 3‬ح ‪ ) 146 ( 39 / 2‬ف ح ‪، 343 / 2‬‬
‫‪ - 342‬ح ‪/ 456 ( 148 ) 4‬ف ح ‪ - 734 / 1‬ح ‪ ) 150 ( 344 / 2‬ف ح ‪( 39 / 2‬‬
‫‪ ) 151‬ف ح ‪ / 144 ( 154 ) 3‬ف ح ‪ ) 159 ( 436 / 3‬ف ح ‪ - 270 / 4‬كتاب‬
‫التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 406 / 3‬ح ‪ - 356 / 4‬ح ‪ - 473 ، 472 / 3‬ح ‪- 356 / 4‬‬
‫ح ‪ - 259 / 2‬ح ‪ / 262 - 3‬ح ‪ - 423 / 2‬ح ‪ - 398 / 4‬ح ‪ - 437 / 1‬كتاب التنزالت‬
‫الموصلية ) ‪ ( 160‬ف ح ‪ ) 161 ( 362 / 4‬ف ح ‪ ) 163 ( 145 / 2‬ف ح ‪( 588 / 2‬‬
‫‪ ) 167‬ف ح ‪( 169 ) 302 / 1‬ف ح ‪ - 75 / 4‬ح ‪ - 312 / 2‬ح ‪ - 67 / 4‬ح ‪146 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 75 / 4‬ح ‪ / 146 - 2‬ح ‪ - 521 ، 467 / 1‬ح ‪ ) 170 ( 340 / 4‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 271‬ح ‪ ( 173 ) 4 / 3‬ف ح ‪ ) 174 ( 410 / 2‬ف ح ‪ ) 175 ( 410 / 2‬كتاب‬
‫اإلسفار عن مقام األسفار ‪ -‬ف ح ‪ - 184 / 2‬ح ‪ - 574 / 1‬ح ‪ ) 178 ( 38 / 2‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 225‬كتاب إيجاز البيان ( ‪ ) 179‬ف ح ‪ - 614 / 1‬ح ‪ ) 180 ( 405 / 4‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 296‬ح ‪102 ( 181 ) ، 135 / 3‬ف ح ‪ - 317 ، 535 ، 317 ، 46 ، 147 / 3‬ح‬
‫‪ - 214 ، 264 / 2‬ح ‪ / 600 - 1‬ح ‪ ) 184 ( 264 ، 511 / 2‬ف ح ‪185 ( 112 / 3‬‬
‫) ف ح ‪ - 107 / 3‬ح ‪ / 745 - 1‬ح ‪ - 558 / 3‬ح ‪ ) 187 ( 352 / 4‬ف ح ‪-753 / 1‬‬
‫‪.‬‬

‫‪581‬‬

‫ص ‪589 :‬‬
‫ج ‪ ( 190 ) 439 / 3‬ف ح ‪ - 291 / 3‬ح ‪ ) 191 ( 206 / 1‬ف ح ‪ - 429 / 4‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪- 230‬ح ‪ - 149 / 4‬ح ‪ - 230 / 2‬كتاب النجاة في شرح اإلسراء ( ‪ ) 193‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ( 195 ) 39 ، 473‬ف ح ‪ ) 200 ( 117 / 4‬ف ح ‪. 482 ، 347 ، 482 / 4‬‬
‫سورة النساء‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ - 501 / 3‬فصوص الحكم ‪ -‬ف ح ‪ - 445 / 2‬ح ‪ - 314 / 3‬ح ‪، 124 / 1‬‬
‫‪679 -‬كتاب األلف ‪ -‬ف ح ‪ - 531 ، 417 ، 314 / 3‬ح ‪ - 5 / 1‬كتاب تلقيح األذهان ‪-‬‬
‫كتاب التراجم ‪ -‬كتاب تلقيح األذهان ‪ -‬ف ح ‪ - 381 / 3‬ح ‪) 3 ( 296 / 1‬ف ح ‪516 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 580 ، 603 / 2‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 6‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪( 11 ) 250 ، / 249 4‬‬
‫ف ح ‪ - 413 ، 475 / 3‬ح ‪ - 580 ، 577 ، 617 / 1‬ح ‪ / 435 - 2‬كتاب األلف ( ‪14‬‬
‫) ف ح ‪ ) 17 ( 59 / 3‬ف ح ‪ ) 18 ( 657 / 1‬ف ح ‪( 19 ) 657 / 1‬ف ح ‪( 505 / 3‬‬
‫‪ ) 20‬إيجاز البيان ( ‪ ) 23‬ف ح ‪ ) 24 ( 512 / 3‬ف ح ‪ ( 25 ) 271 ، / 3514‬ف ح ‪4‬‬
‫‪ ) 26 ( 351 /‬ف ح ‪ ) 27 ( 553 ، 168 ، 166 / 2‬ف ح ‪/ 191 ( 28 ) 2‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 29 ( 643‬ف ح ‪ - 291 ، 360 / 3‬ح ‪ ( 33 ) 535 ، 534 / 1‬كتاب تلقيح األذهان ‪-‬‬
‫ف ح ‪ ) 34 ( 507 / 1‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ ( 43 ) 235 / 4‬ف ح ‪ - 355 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 176‬ح ‪ - 370 / 1‬ح ‪ - 144 / 3‬ح ‪375 - ، 370 ، 332 / 1‬ح ‪) 48 ( 486 / 4‬‬
‫ف ح ‪ - 418 / 3‬ح ‪ - 947 / 1‬ح ‪ - 309 / 3‬ح ‪ - 725 / 1‬ح ‪ ) 56 ( 107 / 4‬ف ح‬
‫‪ - 3 ، 123 / 3‬ح ‪ - 248 ، 151 / 4‬ح ‪ - 172 / 3‬ح ‪ / 248 ( 57 ) 4‬كتاب ذخائر‬
‫األعالق ( ‪ ) 58‬ف ح ‪ - 705 ، 554 / 1‬ح ‪ - 139 / 4‬ح ‪/ 631 - 2‬ح ‪، 236 / 4‬‬
‫‪ ) 59 ( 348‬ف ح ‪ - 263 / 1‬ح ‪ - 471 / 2‬ح ‪ - 263 / 1‬ح ‪/ 475 - 3‬ح ‪، 3 / 4‬‬
‫‪ - 125 ، 122‬ح ‪ - 263 / 1‬ح ‪ - 222 / 3‬ح ‪ - 263 / 1‬ح ‪ - 59 ، / 1393‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 471‬ح ‪ - 167 / 3‬ح ‪ - 446 / 1‬كتاب اإلسراء وكتاب النجاة ‪ -‬ف ح ‪) 64 ( 122 / 4‬‬
‫ف ح ‪ ) 65 ( 193 / 4‬كتاب القسم اإللهي ‪ -‬ف ح ‪/ 126 ( 66 ) 2‬ف ح ‪69 ( 127 / 4‬‬
‫) ف ح ‪ - 24 ، 76 / 2‬ح ‪ - 448 / 1‬ح ‪25 - ، 24 / 2‬ح ‪ - 123 / 4‬ح ‪76 ( 25 / 2‬‬
‫) ف ح ‪ - 133 / 1‬كتاب التنزالت الموصلية ) ‪ ( 77‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪353 ، 178 / 2‬‬
‫( ‪ ) 78‬ف ح ‪ - 286 / 1‬ح ‪ - 64 / 2‬ح ‪4 / 18 -‬ح ‪ - 521 / 3‬ح ‪ - 286 ، 64 / 2‬ح‬
‫‪ - 365 / 3‬كتاب ذخائر األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 381 ، 129 / 4‬ح ‪ ) 79 ( 204 / 1‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ - 521 /‬ح ‪ - 64 / 2‬ح ‪ - 286 / 1‬ح ‪ - 211 ، 521 / 3‬ح ‪..، 659 / 2‬‬

‫‪582‬‬

‫ص ‪590 :‬‬
‫‪630 -‬ح ‪ - 358 / 3‬ح ‪ ) 80 ( 556 / 1‬ف ح ‪ - 122 ، 281 / 4‬ح ‪ - 547 / 3‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 471 ، / 470‬ح ‪ - 348 ، 238 / 4‬ح ‪ - 433 ، 403 / 1‬ح ‪ ) 82 ( 338 / 4‬ف ح‬
‫‪ / 504 - 1‬ح ‪ ) 83 ( 479 ، 116 / 3‬ف ح ‪ ) 85 ( 502 ، 270 / 3‬ف ح ‪112 / 3‬‬
‫) ‪( 86‬ف ح ‪ ) 87 ( 445 ، 477 / 1‬ف ح ‪ ) 92 ( 408 / 2‬ف ح ‪) 93 ( 603 / 2‬‬
‫ف ح ‪ / 333 - 3‬ح ‪ - 692 / 2‬ح ‪ ) 95 ( 97 / 1‬ف ح ‪ ) 96 ( 145 ، 33 / 2‬ف ح ‪2‬‬
‫‪692 ( 97 ) ، 148 /‬ف ح ‪ - 247 / 3‬ح ‪ ) 99 ( 491 / 4‬ف ح ‪) 100 ( 303 / 4‬‬
‫ف ح ‪ / 529 - 2‬ح ‪ - 24 ، 23 / 4‬ح ‪ ) 101 ( 37 / 2‬ف ح ‪ ) 103 ( 468 / 1‬ف ح‬
‫‪ - 390 / 1‬ح ‪ ) 105 ( 176 / 4‬ف ح ‪ - 69 / 3‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪) 108 ( 166 / 2‬‬
‫ف ح ‪/ 173 ( 110 ) 4‬ف ح ‪ ) 113 ( 442 / 4‬ف ح ‪ ) 114 ( 110 / 4‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 315‬ح ‪/ 485 - 4‬كتاب تلقيح األذهان ( ‪ ) 116‬ف ح ‪ - 518 / 3‬كتاب القسم اإللهي ‪-‬‬
‫ف ح ) ‪4 / 106 ( 117‬ف ح ‪ ) 125 ( 564 / 1‬ف ح ‪ - 385 / 4‬ح ‪- 23 ، 362 / 2‬‬
‫ح ‪ / 270 - 3‬ح ‪ ) 126 ( 363 / 2‬ف ح ‪ - 300 / 3‬ح ‪ - 68 / 4‬ح ‪496 ، 104 / 1‬‬
‫‪517 ( 128 ) ، 506 ،‬ف ح ‪ ) 129 ( 586 / 1‬ف ح ‪ ) 133 ( 348 / 4‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪656 - ، 657 ، 169‬ح ‪ - 300 / 4‬ح ‪ ) 136 ( 729 / 1‬ف ح ‪ - 616 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 304 ، 465‬ح ‪/ 328 - 3‬ح ‪ - 304 / 4‬ح ‪ - 283 / 1‬ح ‪ - 410 / 4‬ح ‪- 479 / 3‬‬
‫ح ‪( 140 ) 593 ، 592 / 2‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ - 81 / 2‬كتاب مواقع النجوم ‪-‬‬
‫ف ح ‪( 142 ) 81 / 2‬ف ح ‪ - 145 / 4‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ ) 145 ( 535 / 2‬إيجاز‬
‫البيان ‪ -‬ف ح ‪ - 387 / 3‬ح ‪ ) 148 ( 335 ، 302 ، 298 / 1‬ف ح ‪- 104 ، 174 / 4‬‬
‫ح ‪ / 338 ( 149 ) 1‬ف ح ‪ ) 150 ( 322 / 3‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ - 94 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ( 151 ) 375‬ف ح ‪ - 212 / 4‬ح ‪ ) 157 ( 414 / 1‬ف ح ‪ - 388 / 2‬ح ‪( 205 / 2‬‬
‫‪ ) 159‬ف ح ‪ - 545 ، 1 / 135‬ح ‪ ) 162 ( 238 ، 513 / 3‬ف ح ‪، 552 ، 551 / 1‬‬
‫‪ ( 164 ) 562 ، 553 ، 554 ، 584‬ف ح ‪ - 192 / 1‬ح ‪ - 21 / 2‬ح ‪ - 211 / 3‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 428 ، 400 /‬ح ‪ - 369 / 4‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 165‬ف ح ‪ - 83 / 3‬ح ‪( 212 / 4‬‬
‫‪ ) 166‬ف ح ‪ / 243 ( 171 ) 3‬ف ح ‪ - 73 / 4‬ح ‪ - 283 ، 398 / 3‬ح ‪، 400 / 2‬‬
‫‪ - 331‬ح ‪ - 346 / 3‬ح ‪ - 636 / 1‬ح ‪ - 210 / 3‬ح ‪ - 552 / 1‬ح ‪) 172 ( 406 / 4‬‬
‫ف ح ‪) 174 ( 202 / 2‬ف ح ‪ - 352 / 4‬إيجاز البيان ( المقدمة ) ‪ -‬ف ح ‪ - 94 / 3‬ح ‪2‬‬
‫‪) 176 ( 107 /‬كتاب األلف‪.‬‬

‫‪583‬‬

‫ص ‪591 :‬‬
‫فهرس الجزء األول رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن‬
‫الموضوع الصفحة‬
‫المقدمة ‪3‬‬
‫االفتتاح ‪7‬‬
‫كون القرآن حروفا ‪8‬‬
‫كون القرآن نورا ‪ ،‬ضياء ‪ ،‬شفاء ‪ ،‬رحمة ‪ ،‬هدى ‪10‬‬
‫كون القرآن ذكرا ‪ ،‬عربيا ‪ ،‬مبينا ‪11‬‬
‫تفسير القرآن ‪11‬‬
‫المناسبة بين آي القرآن ‪13‬‬
‫المجاز في القرآن ‪14‬‬
‫نصيحة وتنبيه ‪14‬‬
‫اإلشارة ‪15‬‬
‫سورة الفاتحة‬
‫أسماء الفاتحة ‪17‬‬
‫إشارة من اسم فاتحة الكتاب وأم الكتاب ‪18‬‬
‫البسملة فاتحة الفاتحة ‪20‬‬
‫دحض ما جاء في فتاوى اإلمام ابن تيمية وما نسب إلى الشيخ األكبر ابن العربي أنه يقول ‪ :‬إن‬
‫وجود المحدث هو عين وجود القديم وأنه ينكر التمييز بين القديم والمحدث ‪25‬‬
‫إشارة إلى معنى اسم الرب بالثابت ‪26‬‬
‫نصيحة ‪ :‬الرحمن الرحيم ‪27‬‬
‫الفاتحة في الصالة ‪33‬‬

‫ص ‪584‬‬

‫ص ‪592 :‬‬
‫همة عالية شريفة ‪39‬‬
‫سورة البقرة‬
‫الحروف ‪42‬‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪ -‬ألم‬
‫بحث في اإليمان ‪48‬‬
‫شعب اإليمان ‪54‬‬
‫طب ‪63‬‬
‫الناس من باب اإلشارة ‪64‬‬
‫تنبيه عند الذكر ‪70‬‬
‫ّللا األرض فراشا ؟ ‪78‬‬
‫إشارة لطيفة ‪ :‬كيف جعل ه‬
‫إعجاز القرآن « آية ‪79 » 23‬‬
‫صالة الجنازة على الطفل ‪86‬‬
‫بحث في االستواء ‪88‬‬
‫رقيقة ‪ -‬القصد من خلق الثقلين ‪90‬‬
‫تحقيق ‪ -‬العالم ال يرمي بشيء من الوجود ‪91‬‬
‫خلق الخليفة من العناصر ‪93‬‬
‫ما هو اإلنسان ؟ ‪94‬‬
‫خلق اإلنسان الكامل األول باليدين وعلى الصورة اإللهية ‪96‬‬
‫حكم الصورة اإللهية التي خلق عليها اإلنسان ‪100‬‬
‫الخليفة واحد ‪101‬‬
‫تتابع الخلفاء في األرض ‪101‬‬
‫لم كان الخليفة في األرض ؟ ‪103‬‬
‫شعر في اعتراض المالئكة ‪107‬‬
‫ّللا تعالى آدم ‪109‬‬
‫األسماء التي علمها ه‬
‫كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف المالئكة ؟ ‪116‬‬

‫ص ‪585‬‬

‫ص ‪593 :‬‬
‫وصية ‪ -‬معصية الحبيب على الحبيب شديدة ‪120‬‬
‫إشارة ‪ :‬الربوبية حضرة اإلصالح ‪121‬‬
‫تنبيه ‪ :‬احذر أن تفي ليفي إليك ‪125‬‬
‫إشارة ‪ :‬الرب رب والعبد عبد ‪126‬‬
‫إشارة ‪ :‬فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ‪135‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال يقوم تركيب إال بحل تركيب ‪147‬‬
‫إشارة ‪ :‬اضربوه ببعضها ‪147‬‬
‫تحقيق ‪ :‬الحجارة عبيد محققون ‪148‬‬
‫ت قُلُوبُ ُك ْم »اآلية ‪149‬‬ ‫تفسير من باب اإلشارة ‪ «:‬ث ُ َّم قَ َ‬
‫س ْ‬
‫قصة هاروت وماروت ‪165‬‬
‫ما ننسخ من آية أو ننسها ‪ -‬اآلية ‪170‬‬
‫ّللا عليه وسلم على الراحلة ‪183‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رقيقة ‪ :‬وتر رسول ه‬
‫تالوة القرآن حق تالوته ‪186‬‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪ :‬من حيث خرجت فو هل وجهك ‪221‬‬
‫إشارة في العمرة ‪233‬‬
‫إشارة في السعي ‪233‬‬
‫التوحيد األول في القرآن ‪ ،‬توحيد الواحد باالسم الرحمن ‪234‬‬
‫تحقيق ‪ :‬التخيير اختبار وابتالء ‪259‬‬
‫إشارة الصوم ‪263‬‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪َ «:‬و ْليُؤْ ِمنُوا ِبي »‪266‬‬
‫يب »‪266‬‬ ‫تحقيق ‪ «:‬فَإِ ِنهي قَ ِر ٌ‬
‫نصيحة ‪ :‬الدعاء باألسماء اإللهية ‪269‬‬
‫باس لَ ُه َّن »‪270‬‬‫باس لَ ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ِل ٌ‬
‫إشارة ‪ُ «:‬ه َّن ِل ٌ‬
‫إشارة إلى عرفات وجمع ومزدلفة ‪295‬‬
‫إشارة من قراءة ‪315‬‬

‫ص ‪586‬‬

‫ص ‪594 :‬‬
‫إشارة واعتبار ‪ :‬المرأة والنفس والحيض ‪335‬‬
‫علَ ْي ِه َّن َد َر َجةٌ »‪341‬‬
‫لرجا ِل َ‬
‫« َو ِل ِ ه‬
‫إشارة من درجة الرجال ‪345‬‬
‫ّللا فقد ظلم نفسه ‪347‬‬
‫إشارة ‪ :‬من يتعدى حدود ه‬
‫إشارة ‪ :‬إال من اغترف غرفة بيده ‪372‬‬
‫ّللا عليه وسلم من الخلق ‪374‬‬ ‫مكانة محمد صلهى ه‬
‫التوحيد الثاني في القرآن ‪ ،‬توحيد الهوية وهو توحيد االبتداء ‪379‬‬
‫بحث في الكرسي ‪382‬‬
‫تنزيه األنبياء مما نسب إليهم المفسرون ‪388‬‬
‫سورة آل عمران‬
‫إشارة ‪ -‬مبادي السور المجهولة ‪408‬‬
‫التوحيد الثالث في القرآن ‪ ،‬توحيد حروف النفس ‪408‬‬
‫نصيحة ‪ :‬كل إنسان أعلم بحاله ‪411‬‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪ -‬هو الذي يصوركم في األرحام ‪411‬‬
‫التوحيد الرابع في القرآن ‪ ،‬توحيد المشيئة ‪411‬‬
‫الظاهرية والباطنية ‪418‬‬
‫التوحيد الخامس في القرآن ‪ ،‬توحيد الهوية والشهادة على االسم المقسط ‪422‬‬
‫باّلل ‪425‬‬
‫فائدة ‪ -‬قلب العارف كنز العلم ه‬
‫إشارة إلى االنقياد ‪ -‬تحقيق ‪426‬‬
‫من جملة الخطابات اإللهية البشارات ‪427‬‬
‫تحقيق ‪ :‬عين الثبوت هو عين القضاء ‪429‬‬
‫تنبيه ‪ :‬تجلي الحق في كل صورة ‪430‬‬
‫باّلل ‪431‬‬ ‫العلم ه‬
‫اإلنسان ال يخلو أن يكون واحدا من ثالثة بالنظر إلى الشرع ‪433‬‬
‫إشارة ‪ :‬الزم موضع عبادتك ‪436‬‬

‫ص ‪587‬‬

‫ص ‪595 :‬‬
‫سلطان الخيال ووحم المرأة ‪437‬‬
‫اإلشارة صريحة في األمر المطلوب ‪439‬‬
‫ّللا َك َمث َ ِل آ َد َم ‪» . . .‬اآلية ‪443‬‬
‫ينزه ‪ِ «440‬إ َّن َمث َ َل ِعيسى ِع ْن َد َّ ِ‬ ‫المنزه ال ه‬ ‫ه‬ ‫إشارة ‪:‬‬
‫خطأ من قال باكتساب النبوة ‪447‬‬
‫وّلل على الناس حج البيت ‪453‬‬ ‫إشارة ‪ :‬ه‬
‫ّللا العالم مع كونه غنيا عن العالمين ؟ ‪456‬‬ ‫لم أوجد ه‬
‫إشارة واعتبار ‪ :‬الخواطر األربعة ‪456‬‬
‫ّللا حق تقاته ‪ « . . .‬اآلية » ‪458‬‬ ‫يا أيها الذين آمنوا اتقوا ه‬
‫أصل قول الناس هذا ببركة فالن ‪ ،‬وهذا بهمة فالن ‪459‬‬
‫اس »اآلية ‪461‬‬ ‫ت ِللنَّ ِ‬‫« ُك ْنت ُ ْم َخي َْر أ ُ َّم ٍة أ ُ ْخ ِر َج ْ‬
‫ش ْي ٌء »اآلية ‪466‬‬ ‫ْس لَ َك ِمنَ ْاأل َ ْم ِر َ‬ ‫« لَي َ‬
‫عوا إِلى َم ْغ ِف َرةٍ ِم ْن َر ِبه ُك ْم »‪466‬‬ ‫سار ُ‬‫تفسير من باب اإلشارة ‪َ «-‬و ِ‬
‫عام ِلينَ » *اآلية ‪468‬‬ ‫« نِ ْع َم أ َ ْج ُر ْال ِ‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪471‬‬ ‫ّللا عنه عند موت رسول ه‬ ‫موقف أبي بكر الصديق رضي ه‬
‫ّللا عليه وسلم بالرعب ‪475‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫نصر رسول ه‬
‫تحقيق ‪ :‬الفرق بين النية واإلرادة والقصد والهمة والعزم والهاجس ‪478‬‬
‫الشهيد حي يرزق ويأكل ‪480‬‬
‫مسئلة ‪ :‬الشهيد بالنص حي ‪ ،‬فكيف يورث ماله ‪ ،‬وتنكح عياله ؟ ‪480‬‬
‫ّللا السماوات واألرض وهي ملكه ؟ ‪484‬‬ ‫كيف يرث ه‬
‫نصيحة ‪ :‬الزم استحضار الفقر في كل نفس وعلى كل حال ‪485‬‬
‫ض »اآلية ‪488‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬‫نصيحة ‪َ «:‬ويَتَفَ َّك ُرونَ ِفي خ َْل ِ‬
‫سورة النساء‬
‫واح َدةٍ » *‪490‬‬ ‫قوله تعالى« َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬
‫إشارة إلى أن العالم وجد من واحد ‪492‬‬

‫ص ‪588‬‬

‫ص ‪596 :‬‬
‫إشارة إلى ملك اليمين ‪494‬‬
‫إشارة إلى قوة المرأة وضعف الرجل ‪496‬‬
‫لم سمي اإلنسان إنسانا ؟ ‪500‬‬
‫الصالة على من قتل نفسه ‪501‬‬
‫التيمم ‪505‬‬
‫إشارة واعتبار من االغتسال ‪506‬‬
‫باّلل ‪507‬‬
‫إشارة واعتبار نواقض الوضوء في المعرفة ه‬
‫إشارة واعتبار في الجنابة ‪508‬‬
‫إشارة واعتبار في حكم دخول الجنب المسجد ‪508‬‬
‫إشارة واعتبار من التيمم ‪508‬‬
‫ّللا ال يغفر أن يشرك به ‪511‬‬ ‫تحقيق ‪ :‬إن ه‬
‫جسد اإلنسان طائع هّلل مشفق ‪512‬‬
‫أمانة بني شيبة ‪514‬‬
‫ليس ألولي األمر أن يشرعوا شريعة ‪516‬‬
‫إشارة إلى االتباع ‪517‬‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪َ «:‬وأُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم »‪517‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم من أصحابه ‪517‬‬ ‫تحقيق ‪ :‬نحن اليوم أبعد في المعصية لرسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪518‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫االستغفار عند زيارة رسول ه‬
‫األنبياء على نوعين ‪520‬‬
‫ّللا عليه وسلم فقد كذب وكفر ‪521‬‬ ‫من ادعى نبوة التشريع بعد محمد صلهى ه‬
‫ّللا فقد نال ما دونه ‪522‬‬ ‫من نال الصالح من عباد ه‬
‫العنصر األعظم في اإلنسان والعنصر األعظم في الجان ‪524‬‬
‫إشارة ‪ :‬فما لهؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثا ‪526‬‬
‫نصيحة ‪ :‬من شرف العلم ‪526‬‬
‫مسألة نسبة األفعال ‪527‬‬

‫ص ‪589‬‬

‫ص ‪597 :‬‬
‫االجتهاد عند الشيخ األكبر ‪533‬‬
‫رد السالم على المالئكة في صالة الصبح وصالة العصر ‪534‬‬
‫التوحيد السادس في القرآن ‪535‬‬
‫المجاهدون أربعة أصناف ‪537‬‬
‫ّللا عليه وسلم من مسلم يقيم بين أظهر المشركين ‪538‬‬ ‫براءة النبي صلهى ه‬
‫قصر الصالة في السفر والجمع ‪541‬‬
‫إشارة ‪ :‬السفر ‪541‬‬
‫ال قضاء على من أخرج الصالة مفروضة عن وقتها ‪542‬‬
‫االجتهاد هو طلب الدليل على تعيين الحكم ال في تشريع حكم ‪544‬‬
‫الخلة ‪ «549‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِآمنُوا »‪553‬‬
‫إشارة واعتبار في الزكاة ‪563‬‬
‫إشارة ‪ :‬لم خص موسى عليه السالم بالكالم ؟ ‪566‬‬
‫تحقيق ‪ :‬وحدانية المرأة وفردانية الرجل ‪570‬‬

‫ص ‪590‬‬

‫ص ‪598 :‬‬

You might also like