Professional Documents
Culture Documents
أساليب التربية والدعوة والتوجيه من خلال سورة إبراهيم
أساليب التربية والدعوة والتوجيه من خلال سورة إبراهيم
والدعوة
والتوجيه
من خلل
سورة
إبراهيم
د.وسيم فتح الله
1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ،والصلة والسلم على خاتم المرسلين نبينا
محمد وعلى آله وصحبه الطيبين ،ومن سار على نهجهم واقتفى
أثرهم إلى يوم الدين ،أما بعد؛
فهذا بحث تناولت فيه سورة إبراهيم متدبرا ً متفكرا ً بالقدر الذي
يسره الله تعالى لي ،ولقد تعرضت إلى المناحي التربوية والدعوية
في هذه السورة من خلل السبر والستقراء التام لياتها الكريمة
مستعينا ً – بعد الله سبحانه وتعالى – بما تيسرت لي مطالعته من
كتب التفسير ل سيما التفسير المأثور ،ولقد جاء البحث على
إيجازه منبها ً على حقائق عظيمة شملتها هذه السورة المباركة،
ولقد بدأته بالتمهيد ثم جاءت مباحثه الثلثة حيث تناولت في أولها
سورة إبراهيم بتعريف عام ل بد منه لمن رام تفيؤ ظلل هذه
السورة ،ثم عرضت في المبحث الثاني الملمح العامة لمنهج
الدعوة في هذه السورة حيث حددت رسالة الدعوة ثم صفات
الرسل ثم معوقات الدعوة ثم أساليب الدعوة ،أما المبحث الثالث
فتناولت فيه منهج التوجيه الدعوي في السورة وملمح المنهج
التربوي فيها ثم لخصت أهم نقاط البحث في الخاتمة دون تفصيل
شديد خشية الطالة.
وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت فيما عرضت وأسأله العفو
عما به زللت ،إنه خير مأمول وأكرم مسؤول ،فهو وحده المستعان
وعليه التكلن.
2
تمهيد
3
المبحث الول :مدخل إلى سورة إبراهيم
جدير بنا إذ عقدنا العزم على دراسة الملمح السلوبية التربوية
والدعوية في سورة إبراهيم أن نتعرف على هذه السورة المباركة
بشيء من اليجاز ،ونتعرف على موضوعها بصورة مجملة إن شاء
الله.
4
بوضوح شديد الوحدة الموضوعية فيها ،بمعنى أنك تقرأ السورة من
أولها إلى آخرها وأنت تعيش جوا ً واحدا ً وتستشعر معنى واحدا ً ل
تأخذك التفريعات بعيدا ً عنه ول تسمح السورة لذهنك بالشرود عنه.
ت في وضوح ولئن كان هذا هو دأب السور القرآنية كلها على تفاو ٍ
هذه الظاهرة القرآنية ،فإنك ل تجد أية صعوبة في استشعار هذه
الوحدة الموضوعية في سورة إبراهيم ،تماما ً كما هو الحال في
سور أخرى كسورة يوسف وسورة ق وسورة الرحمن حيث تبرز
وحدة موضوع السورة بروزا ً ل يخفى على الناظر.
وإن للتعرف على وحدة موضوع سورة إبراهيم – الذي هو الدعوة
إلى التوحيد – فوائد جمة أوجزها فيما يلي :
-1إن تأمل هذه الوحدة الموضوعية في سورة متكاملة من
سور القرآن المكي يشير إلى الهمية القصوى التي أولها
القرآن الكريم لموضوع التوحيد ،ل سيما وأن هذه السورة
ليست الوحيدة التي تتفرغ لموضوع التوحيد فها أنت أمام
سور كالخلص والكافرون وغيرها ،والشاهد أن إفراد
السور القرآنية على تنوعها في الطول والقصر بموضوع
التوحيد تأكيد على أهمية وأولوية هذه الموضوع في
الخطاب القرآني.
-2إن تأمل التنوع السلوبي الذي سلكته السورة في أدائها
للخطاب الدعوي تؤكد على ضرورة مراعاة هذا التنويع عند
خطاب المكلفين بحيث يراعى أحوال المدعوين والشبهات
السائدة والعوائق المانعة من قبول الدعوة.
-3إن الوحدة الموضوعية في سورة إبراهيم ظلت بارزةً
في السورة كلها من أولها إلى آخرها وكأنها تشير للدعاة
إلى مبدأ منهجي مهم وهو عدم تجاوز مسألة تقرير العقيدة
والتوحيد إلى أي شيء البتة حتى يتم الفراغ من تقرير
الساس العقدي.
-4إن الوحدة الموضوعية في هذه السورة ظهرت أيضا ً في
السياق التاريخي الذي سردته السورة من وقائع المم
السابقة والرسل السابقين لتؤكد مرةً أخرى على وحدة
رسالة الرسل وأن دينهم التوحيد من أولهم إلى آخرهم.
-5إن الوحدة الموضوعية لسورة إبراهيم تعين المتدبر على
فهم الجزئيات المذكورة في السورة ضمن هذا السياق
الذي يقرر الفاصل والفارق بين اليمان والكفر؛ بحيث إن
5
كل انقياد لمر وارد في هذه السورة يمثل طريقا ً لتحقيق
ي
س بمنه ٍ ً
اليمان ،تماما كما أن كل مخالفة لمر وارد أو تلب ّ ٍ
عنه في السورة يشكل موردا ً من موارد الكفر إن لم يكن
كفرا ً بعينه ،وتدّبر هذا دقيق جدا ً كما سيظهر معنا في مثال
لحق عند الحديث عن كفران النعم إن شاء الله.
هذه بعض الملمح العامة التي أحببت أن أستهل بها رحلتنا في
رحاب هذه السورة المباركة ،ولسوف تتضح إن شاء الله أبعاد هذه
الفوائد بشكل أدق في سياق استعراض جزئيات السورة ،فهلم
عن.
سر وأ ِ
متكلين على الله ،رب ي ّ
6
تقرران بكل وضوح أن هدف هذه الرسالة استنقاذ الناس أجمعين
من )ظلمات الجهل والكفر والخلق السيئة وأنواع المعاصي إلى
نور العلم واليمان والخلق الحسنة( ،11وهذا ل يتحقق إل بتحقيق
التوحيد الخالص المجرد لله تعالى كما ذكر في الية الثانية "
وليعلموا أنما هو إله واحد" ،وهنا نكتة دقيقة وهي أن ذكر التوحيد
لم يكن صريحا ً في فاتحة السورة وإنما جاء بهذه الصراحة في
خاتمتها ،ولعل الحكمة من ذلك لفت انتباه المخاطبين إلى ما في
دعوة التوحيد هذه من تحقيق مصلحتهم لن الناس مجبولة على
اتباع ما فيه مصلحة لهم ،فضربت الية الولى المثال للكفر
جبل الناس على أنه مصلحة )وهذا على سبيل وللسلم بما ُ
التمثيل ،لن الكفر بمنزلة الظلمة والسلم بمنزلة النور( ،ثم
12
7
رابعا ً :التأكيد على أن الله تعالى ل تنفعه طاعة المؤمنين ول
يضره عصيان الكافرين ،وأنه سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل
ج لطاعة أحد من عبيده ول آبهٍ لمن أبق وأنزل الكتب غير محتا ٍ
منهم ،ولهذا أكدت الية على أن الله تعالى هو " العزيز الحميد "
فهو تعالى العزيز بذاته )الذي ل يغلبه غالب( 13والحميد بذاته
جد في كل مكان على كل حال(،14 ) المحمود بكل لسان والمم ّ
ولكن الذي ينتفع من سلوك هذا الصراط هو العبد المطيع الذي
يعتز بسلوكه الطريق الموصل إلى مرضاة ربه مهما استوحش
الطريق وقل الصاحب والرفيق ،فيكفيه عزا ً أنه متذلل للعزيز
ويكفيه فخرا ً أنه متعبد ٌ للحميد.
13السابق
14السابق
8
ة من هذه الملمح التي يتصف ولدى تأمل هذه السورة وجدنا جمل ً
بها الرسل وهي :
أول ً :الرسال بلسان القوم:
إن توافق لسان الرسول البشري مع لسان قومه أمر لزم لتحقق
البيان عن الله عز وجل ،ولهذا نجد الية الكريمة تؤكد على تقرير
ذلك حيث قال تعالى ":وما أرسلنا من رسول إل بلسان قومه ليبين
لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم"،15
ل ضروري في إقامة الحجة بهداية الرشاد التي هي أثر وهذا أص ٌ
من آثار رحمة الله تعالى بالناس ،ولهذا كان )من لطفه تعالى
بخلقه أنه يرسل إليهم رسل ً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون
وما أرسلوا به إليهم( ،16قلت :وبهذا البيان الجلي تتحقق هداية
الرشاد والدللة على الحق ،ولذا ناسب أن يتبع ذلك بتأكيد أن
ة من عنده سبحانه لمن هداية التوفيق ل تكون إل بمشيئة الله مثوب ً
أقبل على الدعوة مستمعا ً منصتا ً مخبتا ً منقادا ً للحق.
ثانيًا :التوكل على الله :
إن الرسول والداعية الناجح هو الذي يستعين بالله على تنفيذ أوامر
الله ،ويتوكل على الله حين يأخذ بأسبابه مهما كانت هذه السباب
ت أّيد الله تعالى بها رسله وبينات قوية ،وأي شيء أقوى من معجزا ٍ
وبراهين أقام على أيديهم بها حجته ،ولكن ذلك ل يكفي بل إن
مقام شهود هذه السباب هو – بالنسبة للداعية الناجح – عين مقام
شهود الفقر إلى الله وهو بذلك أشد داٍع إلى التوكل على الله
تعالى حق توكله دونما ركون لما سواه مهما كان قويًا ،بل إن هذا
التوكل يصبح في سياق مجابهة الرسل أقوامهم نوعا ً من التحدي
المعجز بحد ذاته ،فهو )كالشارة من الرسل عليهم الصلة
والسلم لقومهم بآية عظيمة وهو أن قومهم في الغالب أن لهم
دتهم رسلهم بأنهم متوكلون على الله في القهر والغلبة عليهم ،فتح ّ
دفع كيدهم ومكرهم وجازمون بكفايته إياهم ،وقد كفاهم الله
17
شرهم مع حرصهم على إتلفهم وإطفاء ما معهم من الحق(
ولقد جاءت السورة بتأكيد هذا المر في مقام محاججة الرسل
قومهم ،تأمل قوله تعالى ":قالت لهم رسلهم إن نحن إل بشر
ن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن مثلكم ولكن الله يم ّ
نأتيكم بسلطان إل بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون .وما لنا
9
سب َُلنا وَلنصبر ّ
ن على ما آذيتمونا وعلى أل نتوكل على الله وقد هدانا ُ
الله فليتوكل المتوكلون" ،18والحقيقة أنه ل يمكن أن تقوم للداعية
قائمة في مواجهة مهمة البلغ إل بتوكل صحيح على الله تعالى،
ولهذا كان توكل الرسل عليهم الصلة السلم أكمل ما يكون من
التوكل لنه في أعلى ما يكون من المطالب وأشرف ما يكون من
ن بالداعية إلى الله تعالى أن يسير على خطاهم المراتب ،فقم ٌ
19
10
الضروري تنبيه الدعاة إلى الله تعالى إلى وجود هذه المعوقات
حتى يتم التعامل معها بما يكون أرجى لنجاح الدعوة وتبليغ
الرسالة ،ونحن نجد السورة الكريمة تستفتح ببيان جملة من هذه
الموانع وهذا أسلوب حكيم في التعامل مع قضية الدعوة ،لن الحق
ل قابل ،ول بد للمحل القابل من أن ُيستفرغ من ل بد له من مح ٍ
الشواغل الخرى لن المشغول ل ُيشغل ،فلنتدبر في تلك الموانع
ل للكافرين من التي بينتها السورة الكريمة حيث قال تعالى ":ووي ٌ
دون عذاب شديد .الذين يستحبون الحياة الدنيا على الخرة ويص ّ
ل بعيد" ،21وقال عن سبيل الله ويبغونها عوجا ً أولئك في ضل ٍ
تعالى ":ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين
دوا أيديهم من بعدهم ل يعلمهم إل الله جاءتهم رسلهم بالبينات فر ّ
في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما ُأرسلتم به وإنا لفي شك مما
تدعوننا إليه مريب" ،22وقال تعالى ":وقال الذين كفروا لرسلهم
ن في ملتنا" ،23فهذه اليات الكريمات لُنخرجّنكم من أرضنا أو لتعود ُ ّ
قد ذكرت مجموعة من معوقات الدعوة يحسن بنا أن نتناولها
بشيء من التفصيل ،بعد أن ننبه إلى أن هذا البيان في السورة هو
أحد الساليب الحكيمة في إعداد الدعاة وتهيئتهم ،فل بد للداعية
من أن يعلم حقيقة ما هو بصدده حتى يكون أتم استعدادا ً وأكثر
تقبل ً لما سيواجهه من معوقات ،وتأمل مصداق هذا في حديث
ابتداء الوحي حين أتت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها برسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل فأخبره
رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة":
هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ،يا ليتني فيها جذعا ً ليتني
أكون حيا ً إذ يخرجك قومك" فقال رسول الله صلى الله عليه
ي هم؟! " قال ":نعم لم يأت رجل قط بمثل ما رج ّمخ ِ
وسلم ":أوَ ُ
جئت به إل عودي" ،قلت :فهذه إشارة واضحة إلى أن هذه سنة
24
من سنن الله تعالى في رسله ومن ُأرسلوا إليهم ،وتوجيه للنبي
صلوات الله وسلمه عليه ليكون مستعدا ً لهذا الحمل الثقيل،
ل" ،25وفيما وصدق الله العظيم إذ قال ":إنا سنلقي عليك قول ً ثقي ً
يلي تفصيل ما ورد في هذه السورة من معوقات الدعوة :
11
ل :حب الدنيا على الخرة: أو ً
ل للكافرين من وقد جاء هذا وصفا ً للكافرين في قوله تعالى ":ووي ٌ
عذاب شديد .الذين يستحبون الحياة الدنيا على الخرة" ،وهذا
وق يمكن اعتباره في الحقيقة الداء الصيل لكل من وضع أمام المع ّ
الدعوة عائقا ً أو اعترض طريقها بعقبة أو نحوها ،لنهم )يقدمونها
] أي الدنيا[ ويؤثرونها عليها ]أي الخرة [ ويعملون للدنيا ونسوا
الخرة وتركوها وراء ظهورهم( ،26قلت :فالذي يعمل للدنيا يتخبط
في كل أوديتها ويسير وراء كل هوى ،فكلما عارض الشرعُ ودعوةُ
الحق هواه أخذ يضع من العوائق والعقبات ما يحجب دعوة الحق
ي بينه وبين هواه ،وهذا عندي هو وجه كون هذا هو عنه لتخل ّ
وق الصيل للدعوة ،فهو يتعدي كونه مانعا ً من قبول الفرد المع ّ
للدعوة وتلقيها إلى تجنيد هذا الفرد تحت إمرة إبليس للوقوف في
طريق الدعوة بشتى السبل كما سيلي ،ولهذا كان مناسبا ً أن
ذكرت الية الكريمة هذا العائق أول ما ذكرت ،والله تعالى أعلم.
ثانيًا :الصد عن سبيل الله :
وسبيل الله هنا بمعنى ) اتباع الرسل( ،27فهؤلء الكفار ل يكتفون
برفض دعوة الرسل لهم ولكنهم يصرفون الناس عن اتباع ما
جاءت به الرسل ،وهذا الصد يكون بالرفض تارة وبالكراه تارة
وبالتهديد تارة وبالتشويه والتحريف تارة كما بينت الية نفسها في
قوله تعالى ":ويبغونها عوجًا" أي )يحرصون على تهجينها ] أي
سبيل الله [ وتقبيحها للتنفير منها ( ،28ولما كان دأب هؤلء هو
التشهير بالدعوة والدعاة فقد رد عليهم القرآن بمثل ما فعلوا
فشّهر الله تعالى بهم وفضحهم على رؤوس الشهاد وبّين أنهم
معادون لمولهم ومعادون للحق ومعادون لنفسهم في اعتراض
دعوة الرسل وتنفير الناس منها ،ولقد ذكر الله تعالى أمثال هؤلء
في غير موضع من القرآن ،فهذه الية نظير قوله تعالى ":قل يا
أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا ً وأنتم
ل عما تعملون" ،29فكان جزاء هؤلء من جنس شهداء وما الله بغاف ٍ
عملهم ولبئس ما عملوا.
ثالثا ً :الستهزاء بالرسل :
12
وهذا مسلك آخر لهؤلء الكفار وهو دليل على إفلس حججهم بل
عدمها ،إذ لو كانت لهم حجة من المعقول أو أثر صحيح منقول
دوا أيديهملخاصموا به الرسل ،ولكن لما أعيتهم الحيلة جحدوا " فر ّ
في أفواههم" ،ولقد تعددت أقوال أهل التفسير في المراد من
هذا الوصف ،وذكر منها الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى أن
معناها أن الكفار عضوا على أناملهم غيضا ً مما جاء به الرسل ،أو
أنهم فعلوا ذلك من العجب لما سمعوا من دعوة الرسل ،أو أنهم
إنما يشيرون بأيديهم إلى أفواه الرسل ليسكتوا عما جاءوا به ،أو
أنهم كذبوهم بأفواههم 30إضافة إلى أقوال أخرى ،31 ،وأول القوال
مأثور عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولعله أصح الماثور
في الية إسنادًا ،ووجهه ابن جرير الطبري بقوله تعالى ":وإذا خلوا
عضوا عليكم النامل من الغيظ".32قلت :إن تأمل هذا الوصف –
دوا أيديهم في أفواههم" -يوحي بشيء من أعني قوله تعالى" فر ّ
الستهزاء والتهكم وهذا مشاهد ومعروف عند الناس فترى الرجل
إذا تكلم بكلمة ل يحبها القوم وضعوا أيديهم على أفواههم وتهكموا
وربما تبسموا أو ضحكوا استخفافا ً واستهزاًء بما يقول ،وعندي أن
هذا ل يتعارض مع ما ُأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه بل يكون
ما ذكره من عضهم على النامل غيظا ً في حال السر واختلئهم
ببعضهم البعض كما ذكر تعالى ":وإذا خلوا عضوا عليكم النامل من
الغيظ" ،33ويكون ما ذكرُته من الستهزاء والستخفاف والتهكم في
المل والعلن وهذا أبلغ في الصد عن سبيل الله من كونهم يظهرون
الغيظ مما جاءت به الرسل ،والله تعالى أعلم.
رابعا ً :إثارة الشكوك والشبهات :
وقد فضحت السورة هذا المسلك أيضا ً في قوله تعالى ":وإنا لفي
شك مما تدعوننا إليه مريب" ،وردت عليهم ردا ً حاسما ً في قوله
تعالى ":قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والرض "،34
ذلك أن هذه الشبهة شبهة واهية ل تستحق النقاش والجدال فكان
كافيا ً في الرد عليها تقرير ما هو مستقر في الفطر السليمة
والعقول الصحيحة ،ولكن الغرض هنا التنبيه على مدى انحطاط
هؤلء الكفرة الصادين عن سبيل الله فهم ل يتورعون عن إثارة
الفتنة والشبهة مهما كانت الحقيقة بدهية في العقول ،ولكن ما
30وهذا على أن في بمعنى الباء ،ذكره في أضواء البيان
31أضواء البيان – الشنقيطي – 59/2-58
32تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 601/4بتصرف
33سورة آل عمران – آية 119
34سورة إبراهيم – آية 10
13
تقول فيمن جعل الله في قلبه مرض وعلى بصره غشاوة وفي أذنه
وقر نسأل الله السلمة والعافية.
خامسا ً :اليذاء الحسي والخراج من الرض:
وهذا التهديد الذي واجهت به أقوام الرسل الدعوة إلى الله تعالى
مّلتنا
ن في ِ كما حكت الية تهديدهم":لُنخرجّنكم من أرضنا أو لتعود ُ ّ
" ،ول شك أن هذا التهديد يعتبر من المعوقات المهمة لنتشار
الدعوة وتقبل الناس لها ،فالمرء مجبول على حب موطنه والنس
به وكراهة الخراج منه ،كما جاء في الحديث عن عبد الله بن عدي
بن حمراء الزهري قال :رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
حْزوََرة فقال ":والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض واقفا ً على ال َ
الله إلى الله ولول أني ُأخرجت منك ما خرجت" ،35ولقد فصّلت
آيات أخرى في كتاب الله تهديد الكفار هذا لرسلهم ،فجاء قوله
تعالى عن قوم شعيب ":لُنخرجّنك يا شعيب والذين آمنوا معك من
ن في ملتنا قال أولو كنا كارهين" ،36وقوله تعالى قريتنا أو لتعود ُ ّ
عن قوم لوط ":فما كان جواب قومه إل أن قالوا أخرجوا آل لوط
من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" ،37وقال تعالى عن قريش ":وإذ
يمكر بك الذين كفروا لُيثبتوك أو يقتلوك أو ُيخرجوك ويمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين" .39،38فهذا تنبيه للرسل وللدعاة
عظم ما سيقابلهم به قومهم ،وأن هذا يجب أل من بعدهم إلى ِ
يثنيهم عن المضي ُقدما ً في أداء الرسالة ،والله تعالى متكفل
ط بمكرهم ل محالة. بأولئك ولئن مكروا مكرا ً فالله تعالى محي ٌ
بعد هذا الستعراض الموجز لما ورد في هذه السورة من إشارة
إلى بعض المعوقات الرئيسية في طريق دعوة الرسل يمكننا
استخلص جملة من العناصر السلوبية المتعلقة بالدعوة فيما يلي:
-1العتناء بتربية الدعاة وتهيئتهم لما هم مقبلون عليه من
شدائد وابتلءات ،وذلك من خلل الشارة إلى أن طبيعة
الدعوة يلزمها صراع ٌ بين الحق والباطل ،ولما كان أهل
الباطل مفلسين من جهة الحجة والدليل لم يكن لهم من
سبيل سوى وضع المعوقات والعراقيل في طريق الدعوة.
35سنن الترمذي – كتاب المناقب وقال أبو عيسى :حديث حسن غريب صحيح ،والحزورة مكان بسوق مكة
36سورة العراف – آية 88
37سورة النمل – آية 56
38سورة النفال – آية 30
39أضواء البيان – الشنقيطي60/2 -
14
-2العتناء بفضح أساليب الباطل في مقاومة الحق سواء
أكانت أساليب مادية – كاليذاء والطرد -أم أساليب معنوية
كإثارة الشبهات والستهزاء ونحوه.
15
اليات ،بل كل آية منها تأتي في موضعها لتنبه على أمر أو مسألة
مستقلة ول يمنع استعمال نفس الشاهد من تعدد المشهود عليه،
فالية الولى استدل بها على انفراده تعالى بالملك،والية الثانية
دلت على انفراده تعالى بالخلق ،والية الثالثة دلت على انتفاء
العبثية في أفعال الله تعالى ،والية الرابعة دلت على انفراده تعالى
بالمر والتدبير؛ فإذا جمعت ما تقدم وصلت إلى تقرير توحيد
الربوبية الذي هو ) إفراد الله سبحانه وتعالى في أمور ثلثة؛ في
47
الخلق والملك والتدبير(.
وهذا التقرير من الساليب القرآنية المعهودة التي تستثمر البدهية
المطلقة المستقرة في قلوب وعقول الناس وهي أن الله تعالى
هو وحده الخالق والصانع فتنطلق من هذه البدهية إلى تقرير لزمها
وهو إفراد من تفرد بالربوبية باللوهية ،تأمل مرةً أخرى قوله
تعالى":قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والرض
يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى" 48تجد
أن الية وجهت إلى توحيد اللوهية – بعد تقرير إفراده تعالى
بالخلق والربوبية – ببيان أن الله تعالى وحده هو الذي يغفر الذنوب
– وهذا من خصائص اللوهية بل ريب كما جاء في الحديث
القدسي ":يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب
جميعا ً فاستغفروني أغفر لكم" 49فهذا صريح في كون المغفرة
50
متعلقة باللوهية.
ومن جهة أخرى فلقد جاءت إحدى اليات في هذا المقام – مقام
التذكير بربوبية الله تعالى وحده – لتنبه على قضية عقدية أساسية
هي قضية البعث ،وذلك في قوله تعالى ":ألم تر أن الله خلق
السماوات والرض بالحق إن يشأ ُيذهبكم ويأت بخلق جديد .وما
ذلك علىالله بعزيز" 51فهذا إخبار من الله تعالى بقدرته على معاد
البدان )بأنه خلق السماوات والرض التي هي أكبر من خلق
الناس( 52وهذا من قبيل التنبيه بالعلى على الدنى ،وهذا من
الساليب القرآنية المعهودة كما في قوله تعالى ":أولم يروا أن الله
الذي خلق السماوات والرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي
الموتى بلى إنه على كل شيء قدير".53
47شرح العقيدة الواسطية – محمد صالح العثيمين 14 -
48سورة إبراهيم – آية 10
49صحيح مسلم – كتاب البر والصلة والداب – تحريم الظلم وهذا جزء من حديث طويل
50ووجه ذلك أن الخطاب جاء إلى "العباد" وهي صيغة أخص من العبيد ،فالعبيد هم المقهورون قدرًا وكونًا والعباد هم المنقادون شرعًا وتألهًا ،كما أن وصف
هؤلء بالخطأ دليل على مخالفة اللتزام الناشيئ عن الخطاب الشرعي فكل قرائن العبارة تدل على أنها متعلقة باللوهية ل بالربوبية وال أعلم
51سورة إبراهيم – آية 20-19
52تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 609/4
53سورة الحقاف – آية 33
16
ثانيًا :التذكير بنعم الله تعالى :
وهذا السلوب قريب من السلوب السابق لن نعم الله تعالى
وعطاياه ومنحه من آثار ربوبيته سبحانه وتعالى ،بل هو أسلوب
أقرب إلى الحس والمشاهدة بحيث يصعب إنكاره إل من جاحد
للنعمة كافرٍ بها ،ونحن نجد فيضا ً من اليات المذكرة بنعم لله
تعالى على اختلف في هذه النعم في هذه السورة الكريمة ،من
رج قومك من ذلك قوله تعالى ":ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخ ِ
الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك ليات لكل صبار
شكور" ،54وأيام الله )أياديه ونعمه عليهم( ،55قلت :ولقد جاء هذا
المعنى في حديث أبي بن كعب قال :سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول ":إنه بينما موسى عليه السلم في قومه ُيذكرهم
بأيام الله وأيام الله نعماؤه وبلؤه"..الحديث ،56وقد فسرته بذلك
أيضا ً الية التالية حيث قال تعالى ":وإذ قال موسى لقومه اذكروا
نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
ويذ َّبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلء من ربكم
عظيم" 57فهذه الية صريحة في بيان أيام الله وأنها ما امتن الله
تعالى به على بني إسرائيل من نعمة النجاة من عذاب فرعون
وبأسه ما هو حري بهم أن يذعنوا بالطاعة والنقياد لله تعالى
والخلص له بالعبادة ،ولقد جاء مثل هذا التنبيه في خطاب
دلوا نعمة الله
مشركي قريش حيث قال تعالى":ألم تر إلى الذين ب ّ
كفرا ً وأحلوا قومهم دار البوار.جهنم يصلونها وبئس القرار" ،حيث
58
ذكر ابن كثير عن ابن عباس أن هؤلء هم كفار أهل مكة ،59جاءتهم
نعمة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا النعمة وجحدوا
بها وأهلكوا أنفسهم وقومهم في الدنيا يوم بدر وفي الخرة حيث
ماتوا على الكفر والعياذ بالله.قلت :وأي نعمة أعظم من نعمة
السلم والهداية إلى التوحيد ،وأي خسارة أعظم من العراض عن
هذه النعمة.
ثم جاءت آية أخرى في هذه السورة وهي عامة غير مختصة
بمناسبة حيث قال تعالى ":وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا
م كّفار" 60وقد اختتمت الية نعمة الله ل تحصوها إن النسان لظلو ٌ
54سورة إبراهيم 5 -
55تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 597/4
56صحيح مسلم – كتاب الفضائل
57سورة إبراهيم – آية 6
58سورة إبراهيم – آية 29-28
59تفسير القرآن العظيم – ابن كثير633/4 -
60سورة إبراهيم 34 -
17
بوصف النسان بالظلم والكفر بصيغة المبالغة ،ول شك أن وصف
الظلم وصف محتمل – أعني للكفر ولما هو دونه من )وضع
الشيء في غير موضعه( -61وكذلك لفظ الكفر أيضا ً محتمل
فيحتمل المعنى الصطلحي بمعنى ما يناقض اليمان كما يحتمل
منِعم بالجحود( ،
62
المعنى اللغوي بمعنى الكفران أي ) ستر نعمة ال ُ
ويقارن الدكتور عبد الرحمن الميداني بين ختم هذه الية بما سبق
وبين ختم نظيرها في سورة النحل بأن الله غفور رحيم حيث قال
63
تعالى":وإن تعدوا نعمة الله ل تحصوها إن الله لغفور رحيم"
فيقول ما حاصله أن تجاهل الناس عن بعض نعم الله تعالى وعدم
مقابلتها بالشكر والعرفان يتسبب في رذيلتين هما استخدام النعمة
في غير موضعها وهذا ظلم ،وجحود النعم كلها أو بعضها مع تفاوت
في نسبة هذا الجحود ،فالمؤمنون العصاة من الناس يتصفون
بمقدار من هاتين الرذيلتين ل يتعارض مع صحة اليمان وأما
الكافرون يجاوزون بتلبسهم بهاتين الرذيلتين إلى دركات سفلى
تتنافى مع صحة اليمان والسلم .فتكون آية النحل قد راعت ظلم
عصاة المؤمنين وكفران النعمة فختمت بوصف المغفرة والرحمة
ترغيبا ً وتكون الية في إبراهيم قد تناولت ظلم الكافرين وكفرانهم
للنعمة كفرا ً أعظم حيث يستفاد من صيغة المبالغة تجاوز هذا
الظلم والكفران حدود استبقاء وصف اليمان معها .64قلت :ولعل
سياق السورة – أعني سورة إبراهيم – يقترب بالوصفين ) الظلم
والكفران( من معنى الكفر المخرج من الملة وهو المناسب للمقام
والله تعالى أعلم ،وأيا ً ما كان فل شك أن وضع نعمة الله في غير
ل إلى الكفر والهلك موضعها وجحود هذه النعمة طريق موص ٌ
ويتفاوت الناس في التردي في دركات هذا الطريق فوجب الحذر.
جبلت عليه النفس وحاصل هذا السلوب أنه يهدف إلى استثمار ما ُ
من العرفان والشكر إلى من أسدى إليها جميل ً فما بال المرء مع
ربه وموله الذي أورد عليه من النعم ما تتقاصر العمار عن تعداده
ناهيك عن الوفاء به ،فحري بهذا السلوب أن يستنقذ من في قلبه
بذرة صلح من مورد الهلك وطريق الكفر والجحيم.
ثالثًا :أسلوب الترغيب والترهيب:
18
وهذا أسلوب من الساليب القرآنية ُيراعي فيه طبيعة النفس
البشريه المجبولة على محبة ما فيه نفعها ومصلحتها والقبال عليه
وكره ما يضرها ويؤذيها ويفسد عليها أمرها والنفور منه ،فتجد
القرآن يرغب الناس في اتباع الهدى من خلل الوعد بالخير
المترتب على ذلك ،وُيرهبهم من اتباع الباطل من خلل الوعيد
المترتب على ذلك أيضًا ،ول شك أن الجمع بين الترغيب والترهيب
مراعاة للتوازن النفسي عند النسان فهو في بعض الحالت أشد
استجابة لدواعي المصلحة فينفعه الترغيب وفي حالت أخرى يكون
أشد انسياقا ً وراء الهوى والشهوات فل يرعوي إل بالترهيب ،وكان
65
من كرم الله تعالى أن كان الوعد لزما ً والوعيد بخلفه.
ولقد أوفت سورة إبراهيم هذا السلوب القرآني حقه ،ولقد
استفتحت السورة بالترهيب في قوله تعالى ":وويل للكافرين من
عذاب شديد" 66وهو استفتاح مناسب حيث جاءت السورة لتعالج
واقع الكفر والشرك فكان مناسبا ً أن يتجه الخطاب إلى التخلية
وذلك بالترهيب والتنفير من مآل ما هم عليه ،ثم تكرر مثل هذا
الترهيب والتهديد في قوله تعالى ":وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم
لزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد" 67وهو تهديد بزوال النعمة
أي ) إن كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها "إن عذابي شديد"
وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها(68قلت :وهذا ينال بل
شك أعظم النعم وهي نعمة السلم والهداية إليه أعني هداية
الرشاد ،فمن كفر هذه النعمة وجحدها ولم يكن محل ً قابل ً لها
عاقبه الله تعالى بالحرمان منها فيحرمه الهتداء بها – أعني هداية
التوفيق – ويختم على قلبه والعياذ بالله وذلك هو الخسران المبين.
ثم جاء التهديد بالستبدال في الدنيا والخرة؛ أما استبدال الدنيا
فقوله تعالى ":ولنسكننكم الرض من بعدهم ذلك لمن خاف
مقامي وخاف وعيد .واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد" 69وهو
خطاب للموحدين يهدد فيه بإحللهم مكان المعارضين من الكفار،
ق ً
وتكرر 70ذلك صريحا في قوله تعالى ":إن يشأ ُيذهبكم ويأت بخل ٍ
جديد" وأما الستبدال في الخرة فهو بأن يبدلهم تعالى
عد ،وأما الوعيد فهو التهديد ،وأنبه بدايًة إلى أن الوعد لزم الوفاء أما الوعيد فيجوز إخلفه 65فالوعد من وعده المر ويقال في الخير َو َ
عد ،وفي الشر َأْو َ
)لنه انتقال من العدل إلى الكرم والنتقال من العدل إلى الكرم كرم وثناءء( والعرب تعرف هذا الفرق في المعنى كما قال الشاعر:
لُمخلف إيعادي وُمنجز موعدي ) راجع غير مأمور شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين رحمه ال صفحة (220 وإني وإن أوعدته أو وعدته
66سورة إبراهيم – آية 2
67سورة إبراهيم – آية 7
68تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 599/4
69سورة إبراهيم – 15-14
70سورة إبراهيم 19 -
19
بمقاعدهم في الجنة مقاعد في جهنم يصلونها وبئس المصير كما
قال تعالى":من ورائه جهنم وُيسقى من ماء صديد .يتجرعه ول يكاد
يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب
غليظ" 71ويشهد لمعنى الستبدال هذا ما ورد في حديث أبي
موسى قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ":إذا كان يوم
القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهوديا ً أو نصرانيا ً فيقول
هذا فكاكك من النار" ،72ثم يأتي ترهيب آخر من حبوط العمال
يوم القيامة مهما عظمت ومهما حسنت في ذاتها فهي ليست
بشيء إذا ما أتى العبد رّبه كافرًا ،قال تعالى ":مثل الذين كفروا
بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف ل يقدرون
مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلل البعيد" 73وأي ترهيب أشد
من هذا حين ينتظر الكفار ثواب أعمالهم فإذا )طلبوا ثوابها من الله
تعالى لنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء فلم يجدوا شيئا ً ول
ألفوا حاصل ً إل كما يتحصل الرماد إذا اشتدت به الريح العاصف(،74
ثم تأمل بعد ذلك ما أعد الله تعالى من العذاب المقيم لمن أعرض
عن صراطه المستقيم قال تعالى":جهنم يصلونها وبئس القرار.
وجعلوا لله أندادا ً لُيضلوا عن سبيله قل تمتعوا قليل ً فإن مصيركم
إلى النار" ،75وذكر النداد هنا مناسب جدا ً لينبه سبحانه وتعالى إلى
أن هذه المعبودات بالباطل لم تكن لتغني عن عابديها شيئا ً وإنما
حالها معهم كما قال تعالى في سورة أخرى ":إنكم وما تعبدون من
دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون" ،76ثم جاءت هذه الية في
مقام الترهيب حيث قال تعالى ":وقد مكروا مكرهم وعند الله
مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال" ،77فمهما كان مكر
ة( 78وهذا ترهيب بما هؤلء فإن الله تعالى )محيط به علما ً وقدر ً
عند الله تعالى من القدرة والمكر الذي هو في مقابلة مكرهم
السيء ،والله تعالى هو خير الماكرين .وأنت ترى أن آيات الترهيب
هذه فيها نوع من التدرج الذي وصل بنا رويدا ً رويدا ً إلى هذه الية
الجامعة فمهما يبذل المعاندون من جهد ومهما يمكرون من مكر
فإن الله تعالى محيط بهم وهم ل يعجزونه ،ولعذابه تعالى في
20
ن تسمع أو أعين الخرة أشد وأبقى لو كانت لهم قلوب تفقه أو آذا ٌ
تبصر.
ة من الوعود أما جانب الترغيب فنجد اليات قد حشدت جمل ً
الجميلة التي يمكن تقسيمها إلى وعود معجلة في الدنيا وأخرى
مؤجلة في الخرة؛ أما الولى فمنها الوعد بالزيادة لمن شكر نعمه
حيث قال تعالى ":وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لزيدنكم" ،79والنعمة
الواجب شهودها في هذا السياق هي نعمة السلم والهداية إلى
كلمة التوحيد بحيث يكون ثواب من أقبل على هذه النعمة بالنقياد
والشكر مزيد تثبيت وهداية وتوفيق وقد جاء هذا صريحا ً في قوله
80
تعالى ":يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا"
وهذا في العاجل " وفي الخرة " 81وهذا في الجل كما سيأتي إن
شاء الله ،ومن هذه النعم العاجلة مغفرة الذنوب وعدم إهلكهم بها
في الدنيا حيث قال تعالى ":يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم
ويؤخركم إلى أجل مسمى" 82يعني )الموت ،فل يعذبكم في
الدنيا( ،83ومن وعد الله تعالى لمن استجاب الله في الدنيا أن
يستبدل بهم من أعرض عن ذكره ويخلفهم في الرض ،قال
تعالى":ولنسكننكم الرض من بعدهم " 84فهذا صريح أنه في
العاجل حيث وعد )بالعاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن
تبعهم جزاء "لمن خاف مقامي" عليه في الدنيا ( ،85أما الوعود
الحسنة والرغائب الجلة فما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر
على قلب بشر ،تأمل معي قوله تعالى":وُأدخل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها بإذن ربهم
تحيتهم فيها سلم"86وقد جاء هذا الوعد الحسن ترغيبا ً بعد بيان
) مآل الشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال وأن خطيبهم
إبليس ]كما سيأتي[ عطف بمآل السعداء وأنهم يدخلون يوم
القيامة جنات تجري من تحتها النهار سارحة فيها حيث ساروا وأنى
ساروا ماكثين أبدا ً ل يحولون ول يزولون( ،87قلت :وقبل هذا المآل
السعيد جاءت الية تطمئن المؤمنين أتباع كلمة التوحيد بالثبات في
21
البرزخ حيث فتنة القبر والسؤال كما سيأتي معنا في فقرة لحقة
88
إن شاء الله.
والحاصل مما تقدم أن السورة الكريمة قد اعتنت أيما اعتناء بهذا
السلوب المؤثر أعني أسلوب الترغيب والترهيب ،ويمكن التأكيد
مما سبق على ما يلي :
-1العتناء بأسلوب الترهيب عند دعوة من شط به هواه
فانحرف عن جادة الحق لنه أحرى بأن يوقظه من غفلته
ختم على قلبه بعد.ويعيده إلى الجادة إن لم يكن ُ
-2العتناء بأسلوب الترغيب عند من أظهر استعداده للقبال
على الدعوة والنقياد لكلمة التوحيد وذلك تثبيتا ً لهذا التوجه
وتعهدا ً لهذا الميل نحو الحق.
رابعًا :أسلوب ضرب المثل :
وهذا أيضا ً من الساليب القرآنية المعهودة والتي تعمل على تقريب
المعنى من خلل ضرب المثلة المعروفة ،ولقد جاء في هذه
ة بيان
السورة مثلن من أروع ما ضرب من المثال القرآنية دق َ
وروعة أسلوب ووضوح معنى ،أحدهما يتعلق بما توهمه الكفار من
أعمال لهم يرجون ثوابها في الخرة ،والخر ينطوي في الحقيقة
على مثالين أحدهما للكلمة الطيبة والخر للكلمة الخبيثة ،فلنتدبر:
المثل الول :كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف:
ضرب الله تعالى مثل ً لمن عبد مع الله غيَره سبحانه وتعالى كيف
يكون مآل أعمالهم ،فيقول تعالى":مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم
كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ل يقدرون مما كسبوا على
شيء ذلك هو الضلل البعيد"89؛ فهؤلء يأتون بأعمال ظاهرها
حسن في دنيا أو هكذا يتوهمون فيرجون ويطلبون ثوابها يوم َ
القيامة ،وما شعر هؤلء أن أعمالهم هذه ليست بشيء وأن ما
يجدونه منها يوم القيامة مشابه لما يجده من طلب ذرات الرماد
التي بعثرتها ريح عاصفة شديدة ،فل يجد هؤلء شيئا ً لنهم بنوا
أعمالهم على غير أساس صحيح 90،وهذا مثل قوله تعالى":مثل ما
صّر أصابت حرث قوم ح فيها ِ
الدنيا كمثل ري ٍ ينفقون في هذه الحياة
ظلموا أنفسهم فأهلكته" ،91قلت :ولكن الية في سورة إبراهيم
عامة في كل العمال والية في آل عمران خاصة في النفاق وهو
88انظر – غير مأمور – فقرة ضرب المثل
89سورة إبراهيم – آية 18
90تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 608/4بتصرف
91سورة آل عمران – آية 118
22
من باب التنويع البياني في القرآن الكريم حيث يذكر العام في
موضع ويذكر بعض أفراده في موضع آخر ليتحقق التكامل البياني
92
على مدى سور القرآن الكريم.
المثل الثاني :كشجرة طيبة أو خبيثة:
تنوعت أساليب القرآن الكريم في توصيل رسالة التوحيد للناس،
وما ذلك إل لنها – أعني رسالة التوحيد – أعظم حقيقة في الكون
وحري بها أن تكون محط عناية القرآن الكريم ،والمتدبر في هذه
الصورة القرآنية يدرك مدى ثقل هذه الكلمة واهتمام القرآن بها
حتى جاء ترسيخها في عقول وقلوب الناس بهذه الصورة الرائعة
ة طيبة والمثل البديع ،قال تعالى ":ألم تر كيف ضرب الله مثل ً كلم ً
كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.تؤتي ُأكلها كل حين
بإذن ربها ويضرب الله المثال للناس لعلهم يتذكرون .ومثل كلمة
خبيثة كشجرة خبيثة اجُتثت من فوق الرض ما لها من قرار"،93
فهذا مثل قد ضربه الله تعالى للكلمة الطيبة )شهادة أن ل إله إل
الله( 94فشبهها بالشجرة الطيبة ذات الجذور الراسخة الضاربة في
الرض ثباتا ً والفروع المتشعبة عن أصلها الطيب فإذا بها يانعة
الثمار صالحة النتاج) ،فكذلك شجرة اليمان أصلها ثابت في قلب
المؤمن علما ً واعتقادًا ،وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح
والخلق المرضية والداب الحسنة( ،95قلت :وهذا في غاية الحسن
من حيث ضرب المثل للمعاني المعقولة بالشياء المحسوسة
المستقرة في بداهة العقول والتي تتراءى للناس في معايشهم كل
يوم ،وإن منتهى الحسن في نتاج هذه الشجرة ذلك التثبيت عند
سؤال الملكين في القبر ثم نوال رضا الله تعالى وثوابه يوم
القيامة ،كما قال تعالى بعد ضرب هذا المثل":يثبت الله الذين آمنوا
بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة" ،96فلقد ثبت هذا
المعنى من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال ":المسلم إذا سئل في القبر شهد أن ل
إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله ،فذلك قوله ":يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة"" ،97ويأتي تكامل
المشهد في عرض الصورة المناقضة ،فبضدها تتميز الشياء؛ ففي
92أضواء البيان – الشنقيطي – 59/2
93سورة إبراهيم – 26-24
94تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 614/4
95تيسير الكريم المنان – السعدي374 -
96سورة إبراهيم – آية 27
97صحيح البخاري – كتاب تفسير القرآن
23
مقابل كلمة التوحيد وشجرة اليمان – التي شبهتها بعض الحاديث
بالنخلة – تأتي الكلمة الخبيثة كلمة الكفر كالشجرة الخبيثة شجرة
الحنظل )ل أصل لها ول ثبات ،كذلك الكفر ل أصل له ول فرع ول
98
يصعد للكافر عمل ول يتقبل منه شيء(
والحقيقة أن التفصيل في عناصر وحيثيات هذين المثالين يحتاج
بحثا ً مفردا ً وإنما أردت التنويه بهذا العرض الموجز إلى ورود هذا
السلوب في الخطاب الدعوي للسورة المباركة وتسخيره تسخيرا ً
ناجحا ً في رسم المعنى المنشود وتوضيحه أيما إيضاح ،كيف ل وهو
كلم الحق تبارك وتعالى .فحري بالداعية إذا ً أن يتعلم كيفية تطبيق
واستعمال هذه المثلة التي ضربها الله تعالى للناس "لعلهم
يتذكرون".
خامسًا :أسلوب القصص:
لقد أخذ القصص القرآني ُبعده وتبوأ مكانه كأسلوب خطابي دعوي
في سور متعددة من القرآن الكريم بعضها قصير وبعضها طويل،
وبعضها – أي القصص – تعرضت له سور في آيات قلئل وبعضها
الخر استغرقت سورا ً بأسرها ،99ول شك أن لهذا العرض المتنوع
أهدافه التي منها استدعاء السياق معنى من معاني القصة أو جانبا ً
من جوانبها فيقتصر على موضع الشاهد منه مع إبراز ما يستدعيه
السياق ،100وهكذا كان الحال في سورة إبراهيم حيث وردت جوانب
من قصة موسى عليه السلم مع قومه في سياق استعراض
أسلوب الدعوة بالتذكير بالنعم ،101حيث قال تعالى ": :وإذ قال
موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون
يسومونكم سوء العذاب ويذ َّبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي
ذلكم بلء من ربكم عظيم" ،102ثم جاءت إشارة خاطفة سريعة
تذكر بمصائر المكذبين في قوله تعالى ":ألم يأتكم نبأ الذين من
قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ل يعلمهم إل الله
جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا
بما ُأرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب" 103وقد جاءت
الشارة بأسلوب قصصي مقتضب جدا ً بعيد عن الستطراد الذي قد
يبعد بالمخاطب عن التركيز المطلوب في هذا الخطاب الدعوي
98تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 616/4
99كسورة يوسف وسورة طه
100قواعد التدبر – عبد الرحمن الميداني – 313بتصرف
101راجع ما سبق غير مأمور
102سورة إبراهيم – آية 6
103سورة إبراهيم – آية 9
24
أعني خطاب الدعوة إلى التوحيد ،ثم جاءت الشارة القصصية
كرت بما أورده مشركي قريش الخيرة من صفحة الواقع حين ذ ّ
قومهم من موارد الهلك في قوله تعالى":ألم تر إلى الذين بدلوا
نعمت الله كفرا ً وأحلوا قومهم دار البوار.جهنم يصلونها وبئس
القرار" 104وقد تقدم أنها في مشركي قريش ومن هلك منهم يوم
بدر .فهذه الشارات القصصية الثلث يراد منها التنبيه على مآل من
كذب الرسل ،ثم جاءت الشارة إلى قصة إبراهيم عليه السلم
لتقرير معنى آخر نتعرض له في فقرة لحقة إن شاء الله تتعلق
بالتربية والتنشئة فنرجئ الكلم عليه إلى حينه إن شاء الله تعالى.
ف من القصص وحاصل ما تقدم أن يتسلح الداعية برصيد كا ٍ
الصحيح ذي المغزى المعين على تقرير مسائل الدعوة ،ل سيما
وأن أسلوب القصة أسلوب قريب من الناس يشد انتباههم ويؤثر
فيهم أكثر مما تؤثر أساليب دعوية أخرى.
25
المبحث الثالث :ملمح منهج التوجيه
والتربية في سورة إبراهيم
إن سورة إبراهيم على ما فيها من إيجاز سورة غنية بملمح
الخطاب الدعوي الشامل الذي يرسخ كلمة التوحيد بشتى السبل
المناسبة ،ولقد تقدم معنا في المبحث السابق ملمح المنهج
الدعوي وأهم سماته السلوبية في هذه السورة ،وناسب أن ننتقل
إلى تأمل توجيهات هذه السورة لمختلف فئات المكلفين
والمخاطبين إضافة إلى التعرف على خصائص المنهج التربوي في
هذه السورة المباركة وهذا ما نتناوله إن شاء الله في المطلبين
التاليين.
26
الية القياس بالتنبيه على أن من أوجد هذا الخلق العظيم من العدم
قادر على أن يذهب بهذا الخلق الضعيف – أي النسان – المتمرد
على عبادة الله سبحانه والنقياد له ،فليحذر الذين يخالفون عن أمر
الله إذا ً أن يحل عليهم عقاب الستبدال "وما ذلك على الله
بعزيز".108
ثم تأمل في هذا المشهد الكوني الخر حيث قال تعالى": :الله
الذي خلق السماوات والرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من
خر
خر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وس ّ الثمرات رزقا ً لكم وس ّ
خر لكم الليل خر لكم الشمس والقمر دائبين وس ّ لكم النهار .وس ّ
والنهار" ،109فهو توجيه رائع إلى مشهد الخلق الكوني الناطق بكل
جزئية فيه وبالتكامل والتناسق المعجز بين هذه الجزئيات تكامل ً
يحكي بنفسه أن له ربا ً خالقا ً مدبرا ً يستحق الحمد والتمجيد
والنقياد له شرعا ً تماما ً كما أن هذا الكون البديع منقاد ٌ له كونا ً
وقدرًا .فطوبى لمن تأمل هذا المشهد فانتفع وانتقل به من مقام
القرار بالربوبية إلى مقام إفراد اللوهية فعرف أن له ربا ً يستحق
وحده العبادة ففعل ففاز وسعد.
27
تدعوننا إليه مريب" ،110بل جاءت الية الخرى بأشد من
ذلك حينما وجهت القوم إلى النظر في الديار التي ورثوها
من تلك المم الهالكة فهو أدعى للعظة والعتبار قال
تعالى":وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين
لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم المثال.وقد مكروا مكرهم
وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم ِلتزول منه الجبال"،111
فلم يغن مكر القوم عنهم شيئا ً لن سنة الله الشرعية قد
قضت بأن يهلك هؤلء ويكونوا أول ضحيةِ مكرهم فيكون
تدبيرهم تدميرهم بإذن الله ،وإل فأين هم الن وأنتم
تسكنون في مساكنهم وتقطنون في ديارهم.
-2مشاهد خصومة أهل النار :فسنة الله الشرعية تقضي
بأن ينال العبد البق عقابه في نار جهنم ،وأن يتجرع – مع
العذاب واللم – كأس الحسرة والندامة جراء اتباع دعاة
جهنم ،وإنما ذكرت هذا المشهد ضمن اليات الشرعية لنه
مترتب على مخالفة المر الشرعي من جهة ولنه ل طريق
لمعرفته إل طريق الشرع من جهة أخرى ،تأمل هذا المشهد
":وبرزوا لله جميعا ً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا
لكم تبعا ً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء
قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما
لنا من محيص" ،112ول شك أن العاقل من اتعظ بهذا
المشهد ل من عاينه وكان من أهله.
-3خطبة إبليس :ولعل مشهد الحسرة والندامة والمخاصمة
يزداد ألما ً عندما يتقدم رئيس دعاة جهنم ليخطب أتباعه
تأمل قوله تعالى":وقال الشيطان لما ُقضي المر إن الله
وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم
من سلطان إل أن دعوتكم فاستجبتم لي فل تلوموني
ي إنيمصرخ ّ رخكم وما أنتم ب ُمص ِ
ولوموا أنفسكم ما أنا ب ُ
بكفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذا ٌ
أليم" ،113فها هو رأس الكفر ورئيس دعاة جهنم يقول):إني
جحدت أن أكون شريكا ً لله عز وجل( ،114واعترف بكذبه
فيما وعد به وأنه ل يملك لتباعه ضرا ً ول نفعا ً ،فيا للحسرة
110سورة إبراهيم 9 -
111سورة إبراهيم – 46-45
112سورة إبراهيم – آية 21
113سورة إبراهيم – آية 22
114تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 612/4
28
والندامة ،ويا شقاء من نسي نفسه وانساق وراء إبليس
حتى صار من شهود هذه الخطبة ،ويا لسعادة ونعيم من
انتبه من غفوته وقدم لنفسه ففاز بالغياب عن هذه الخطبة
التي يظهر من سياقها أنها )تكون من إبليس بعد دخولهم
النار(115والعياذ بالله.
-4مشاهد نعيم أهل الجنة:ففي مقابلة المشهدين السابقين
ل بد من تمام المشهد بالتوجيه إلى النظر في مآل السعداء
حيث قال تعالى":وُأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم
فيها سلم" ،116فكما قضت سنة الله الشرعية أن يعاقب
المتمرد على أمر ربه فقد قضت السنة الشرعية أن يكافأ
المحسن على إحسانه بفضل وكرم ٍ من الله تعالى ،وكان
من تمام التوجيه أن يستكمل عرض مشهد الجزاء ببيان
عاقبة المحسن والمسيء لئل يبقى لحد على الله تعالى
حجة.
-5مشهد يوم ٍ ل بيعٌ فيه ول خلل :فمن جمع مال ً في الدنيا
فليس ماله ذاك بالذي يغنيه يوم الحساب ،ومن جاء معوّل ً
على نسبه وحسبه فليعد غير هذه العدة فإنها ل تغني عنه
شيئًا ،كما نبهت الية الكريمة ":قل لعبادي الذين آمنوا
ة من قبل أن يقيموا الصلة وينفقوا مما رزقناهم سرا ً وعلني ً
م ل بيعٌ فيه ول خلل" ،117فالية تشير إلى أنه )ل يأتي يو ٌ
ينفع أحدا ً بيع ول فدية ولو افتدى بملء الرض ذهبا ً لو
وجده ،ول ينفعه صداقة أحد ول شفاعة أحد إذا لقي الله
كافرًا(،118قلت :ومن جميل توجيه هذه الية أنها قدمت
بالشارة إلى ما ينفع من صلة وصدقة ُيبتغى بها وجه الله
خّلة ،فتأمل هذا فإنه اشتغال ً بتحصيله عما ل ينفع من مال و ِ
لطيف جدًا .وفي موضٍع آخر من السورة جاء مشهد الظلمة
في حالة مهينة ذليلة كان الله تعالى قد أعده لهم وحذرهم
منه ،قال تعالى":ول تحسبن الله غافل ً عما يعمل الظالمون
مقنعي مهطعين ُ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه البصارُ .
رؤوسهم ل يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء" فيا له من
119
115السابق
116سورة إبراهيم – آية 23
117سورة إبراهيم – آية 31
118تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – 636/4
119سورة إبراهيم – آية 43-42
29
مشهد ذلك الذي يسرع فيه هؤلء إسراع الذليل المدفوع
يرفع رأسه مذهول ً ل تطرف له عين لهول ما يرى قد طار
فؤاده منه ،وتأمل مزيد هوان في قوله تعالى":وترى
مقّرنين في الصفاد.سرابيلهم من قطران المجرمين يومئذٍ ُ
وتغشى وجوههم النار" وما هذا العرض والتوجيه إل
120
30
ي أن نعبد الصنام .رب إنهن رب اجعل هذا البلد آمنا ً واجنبني وب َِنـ ّ
أضللن كثيرا ً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك
غفور رحيم .ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرٍع عند بيتك
المحرم ربنا ليقيموا الصلة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.ربنا إنك تعلم ما ُنخفي وما
نعلن وما يخفى على الله من شيء في الرض ول في السماء.
الحمد لله الذي وهب لي على الك َِبر إسماعيل وإسحاق إن ربي
لسميع الدعاء .رب اجعلني مقيم الصلة ومن ذريتي ربنا وتقّبل
دعاء .ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب"،124
ولنتأمل أبرز معالم هذا المنهج التربوي البديع :
31
أن يكون المكان )غير ذي زرٍع( طالما أن كلمة التوحيد ظاهرة
وبيئة التربية صافية نقية ل صولة للشيطان فيها ول جولة .وإن
الذي يقيم مع ناشئته في مجتمٍع تفشو فيه معالم الزيغ والضللة
والفسق والكفر ليس بذاك المربي وليس بذاك الحريص حقا ً على
تقرير عقيدة الوحيد في قلوب الناشئة اللهم ما لم يكن مغلوبا ً على
أمره قد استفرغ الوسع في تأمين البيئة البديلة.
32
بالسباب ويتوكل على خالقها ،يفتقر إلى الله ليصل إلى الله
ويستعين بما طلبه من سبب على عبادة رب كل سبب.
وهذا المربي هو المربي الشفوق بالناشئة الحريص على هدايتهم
ومصلحتهم فهو يلتمس من الله تعالى توفيقهم للتوبة والنابة إليه
تعالى )ومن عصاني فإنك غفور رحيم( ،ويدعو الله تعالى أن يهيأ
لهم أسباب الرفق حتى ل ينشغلوا بتحصيل أسباب العيش عن
تحقيق الهدف من وراء العيش ذاته )وارزقهم من الثمرات لعلهم
يشكرون(
ي
هذه بإيجاز بعض المعالم التربوية في هذه اليات المعجزة ،وحر ٌ
ن الله تعالى عليه بالعاقبة
بمن التزم نهج هذه السورة أن يم ّ
الحسنة في الدنيا والخرة؛ أما الدنيا فكما قال تعالى )الحمد لله
الذي وهب لي على الك َِبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع
الدعاء( ،وأما الخرة فرجاء عفوه ومغفرته سبحانه وتعالى )ربنا
اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب( ،ولعمر الحق ها
نحن نرى آثار دعوة أبي النبياء إبراهيم عليه السلم ،فدعوة
التوحيد رايتها اليوم خفاقة بعد مئات السنين من تلك الدعوة
المباركة ،بل ما أرى مقارعة سيوف الحق للباطل اليوم إل أثرا ً
ممتدا ً لدعاء أبينا إبراهيم عليه السلم ":ربنا إني أسكنت من ذريتي
بوادٍ غير ذي زرٍع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلة فاجعل
أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم
يشكرون" ،125فنعمت التربية إذا ً ونعم المنهج ونعم الثواب والجزاء
من الله تعالى.
33
الخاتمة
إن الوصول إلى خاتمة هذا البحث ضرورة يفرضها واقع البحث
وقصور الباحث ،وإل فإن القلب ل يكاد يستسيغ الصدور عن هذا
المورد العذب إل وفيه رغبة للمزيد ،ولسوف أوجز في هذه الخاتمة
أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث وهي:
-1إن سورة إبراهيم من السور المكية ذات الوحدة
الموضوعية البارزة حيث يدور رحاها حول ترسيخ رسالة
التوحيد باعتبارها دعوة الرسل أجمعين ،ولقد كانت الوحدة
ة
الموضوعية لهذه السورة من مظاهر العجاز القرآني لغ ً
ة لمن تدبر فيها.ة واضح ًوموضوعا ً وأسلوبا ً ومنهجا ً جلي ً
-2لقد كانت سورة إبراهيم من السور التي تنزلت ابتداءً
لمحض هداية البشر مما يؤكد مرة أخرى على لزوم الدعوة
إلى التوحيد وأنها دعوة عالمية الزمان عالمية المكان ل
تفتقر إلى مناسبة ول تنتظر الظروف المواتية ،بل هي كلمة
الحق التي يجب الصدع بها في كل زمان وفي كل مكان.
-3لقد جاء البرنامج الدعوي في سورة إبراهيم متكامل ً حيث
قررت عناصر المنهج الدعوي وبينت صفات الرسل والدعاة
من بعدهم ،ونبهت على معوقات الدعوة وكيفية مواجهتها
وفصلت في وسائل الدعوة وكيفية الفادة منها في البلغ
عن الله سبحانه.
-4اهتمت السورة الكريمة أيضا ً ببيان أساليب توجيه
المدعوين إلى النظر والتدبر في آيات الله الكونية وآياته
الشرعية ل سيما ما يتعلق منها بمشاهد الخرة وهي
عظيمة الثر في تقوية داعي اليمان وردع داعي الهوى في
نفوس المدعوين والمخاطبين بالدعوة السلمية ،مع بيان
كيفية تسخير ذلك كله في الدعوة إلى الله وتقرير رسالة
التوحيد بين الخلق.
-5نبهت السورة الكريمة إلى ضرورة العتناء بمنهج التربية
شؤ الفرد من خلله على التوحيد ليكون الصحيحة الذي ُين ّ
أصيل ً في نفسه أصالة الفطرة التي أودعها الله تعالى في
قلبه وأخذ ميثاقه عليها ،حيث نبهت على هدف التربية
وضرورة تنقية بيئة التربية من الشوائب التي تحرف الناشئة
عن الحق ،كما عنت ببيان أهم صفات المربي وضرورة
34
تحقيق معنى اليمان الصحيح في قلوب الناشئة،فبمثل هذه
التربية يتخرج الجيل الدعوي الذي يحمل التوحيد عقيدةً
ة يتفاني في تبليغها في أرجاء الكون.
يدين بها ورسال ً
35
فهرس المراجع
-1أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن – محمد المين
الشنقيطي – دار إحياء التراث العربي – بيروت – الطبعة
الولى 1996 -
-2تفسير القرآن العظيم – الحافظ ابن كثير – طبعة دار
الفتح – الشارقة – الطبعة الولى 1999 -
-3التعريفات – الجرجاني – تحقيق إبراهيم البياري -دار
الكتاب العربي -بيروت – 2002
-4تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم المنان )تفسير
السعدي( – الشيخ أبة عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل
سعدي – المكتبة العصرية – صيدا /بيروت – 2002
-5الجامع لحكام القرآن -المام القرطبي -تحقيق عبد
الرزاق المهدي -دار الكتاب العربي – بيروت -الطبعة الثانية
– 1999
-6شرح العقيدة الواسطية – الشيخ محمد بن صالح
العثيمين – دار الثريا للنشر – الرياض – الطبعة الولى –
1998
-7فتح الباري شرح صحيح البخاري – الحافظ ابن حجر
العسقلني – دار الفكر – بيروت 1993 -
-8القاموس المحيط – الفيروزآبادي -مؤسسة الرسالة –
بيروت – الطبعة الثالثة – 1993
-9قواعد التدبر المثل لكتاب الله عز وجل – عبد الرحمن
حسن حبنكة الميداني – دار القلم – دمشق – الطبعة الثانية -
1996
" -10موسوعة الحديث الشريف"-برنامج حاسوبي ) صحيح
البخاري ،مسلم ،السنن الربعة ومسند أحمد وسنن الدارمي(-
شركة صخر 1996 -
36