Professional Documents
Culture Documents
ـ
ـ
ـﻦ
ﯿﻞﻟ
د
ﯿﻦ
ﺒﮑﺗ
ﺮﻤﻠ
ﻟ
ة
ﺮﻘﺑ
وس
اﺮ
ﻧ ﺲﮐ
رﻮﻟ
الخوف من الفيزياء
دليل للمرتبكي
تأليف
لورنس كراوس
ترجمة
زينب أحمد عبد املعي السباعي مريا جندي
رامي أبو زرد حبيب زريق حسام شبيل
مراجعة
أحمد رضا
قامئة املحتويات
مقدمة2.......................................................................................................................
شكر وعرفان5..............................................................................................................
مالحظات200...............................................................................................................
مقدمة الطبعة الجديدة
مهتًّم ملراجعة وتحديث كتايب الخوف
ًّ ري يف بيسك ليسألوا إن كنت
أثارين ج ًّدا اتصال مح ّر ّ
من الفيزياء .يف األعوام الخمسة عرش التي تلت أول ظهور للكتاب ،تغري مقدار ضخم يف فهمنا
للمفاهيم التي تتصدر عامل الفيزياء ،وقد طال التغيري حتى بعض مبادئنا امل ُرشدة .باإلضافة
إىل هذا ،تطور كذلك منظوري عن القضايا املهمة ،ال سيًّم من جهة االهتًّمم العام بالعلم ،بسبب
تطوري يف مجال العلم وبسبب تجاريب الالحقة يف الكتابة والتأليف.
يف الوقت نفسه ،فاجأين ،قبل عرشة أعوام عندما كنت أق ّدم سلسلة من املحارضات
ألساتذة الفيزياء يف املدرسة الثانوية ،أن هذا الكتاب قد أصبح شيئًا من قبيل «كتب امل ُريدين
الكالسيكية» إذ يُهدى عادة لطالب الثانوية الواعدين ليوجههم إىل املواضيع الحديثة يف
ص ّمم ببقرة عىل شكل كرة ،تكرميًا لهذا
الفيزياء .أرسل يل أحد أندية الكتاب نسخة من قميص ُ
أوال أن يكون جمهور هذا الكتاب من ليس لهم كبري معرفة
الكتاب .لذا ،عىل رغم أنني أردت ً
سابقة بالعلم ،ليشمل من يعانون الخوف من الفيزياء ،فإنني أدركت أن شيئًا يف العالقة بني
الفيزياء الحديثة واألفكار املؤسسة يثري العلًّمء الشباب املبتدئني أيضً ا ،كًّم ينبغي.
حامال يف ذهني هذه األفكار ،راجعت الكتاب من الغالف إىل الغالف ،وحافظت عىل
ً
إطاره األصيل ،ولكني حدثته مبواد جديدة حتى يصبح أقرب إىل بعض الفئات ،وأشد إثارة لدى
وألشمل الطبيعة املتطورة للعلم إىل اللحظة الحارضة ،ونحن نستكشف أعًّمق الكون
َ غريها،
استمتعت مبراجعتها.
ُ النائية .أرجو أن تستمتع بهذه النسخة الجديدة كًّم
1
مقدمة
عندما يعرف أحد يف حفلة أنني عامل فيزياء ،فإنه مبارش ًة إما أن ( )1يغري املوضوع ،أو ()2
يسأل عن االنفجار الكبري ،أو األكوان األخرى ،أو محرك االعوجاج ،أو الكواركات ،أو أحد
التطورات «الفائقات» الثالثة :الناقالت الفائقة ،أو األوتار الفائقة ،أو املصادمات الفائقة .حتى
ريا ما
الذين يُق ّرون بأريحية أنهم تجنبوا الفيزياء يف املدرسة الثانوية ومل ينظروا خلفهم ،كث ً
تذهلهم الظواهر الخفية التي تتصدر املجال ،حتى وإن كانوا ال يدركون أن هذا الذي يهتمون
به هو الفيزياء .تتعامل الفيزياء مع كثري من األسئلة الكونية التي تستثرينا كلنا بطريقة أو
ريا ما تبدو غريبة وبعيدة ،جزئ ًّيا بسبب أن البحث يف طليعة هذا العلم
بأخرى .لكن الفيزياء كث ً
يكون أحيانًا بعي ًدا عن التجربة اليومية.
لكن عقب ًة أساسية أخرى تقف يف طريق تقدير الطريق الذي تسلكه الفيزياء الحديثة.
إن الطريقة التي يعالج بها الفيزيائيون املشكالت ،واللغة التي يستخدمونها ،هي أيضً ا بعيدة
عن األنشطة الحديثة التي ميارسها معظم الناس .يف غياب صورة عامة تُرشد املطّلع ،فإن غابة
الظواهر واملفاهيم املرتبطة بالفيزياء الحديثة تبقى يف نظره متباعدة ومخيفة.
حتى أقدم الفيزياء الحديثة كًّم أفهمها ،ارتأيت أالّ أركز عىل نظريات بعينها ،بل عىل
األدوات التي ترشد الفيزيائيني يف عملهم .إذا أراد املرء أن يق ّدر االتجاهات الحالية يف الفيزياء
الحديثة ،من حيث هي نشاط فكري إنساين ،ومن حيث هي أساس صورتنا الحديثة عن الكون،
فإن تحقيق هذا التقدير أسهل إذا كان ميلك فكرة عن كيفيات هذا العلم .إن ما أريد أن أقدمه
دليال يقودك يف غابة الفيزياء الحديثة ،بل هو أقرب إىل دليل يعلمك أصول الرحلة
هنا ليس ً
يف املقام األول :ما املعدات الالزمة ،كيف تتجنب املنحدرات والطرق املسدودة ،وكيف تعرف
أجمل الطرق ،وكيف تعود إىل البيت سامل ًا.
2
علًّمء الفيزياء أنفسهم ال يستطيعون تتبع التطورات الحديثة يف العلم إال ألنها مبنية
عىل حفنة من األفكار املؤسسة التي نجح تطبيقها يف دراسة العامل الذي نعرفه .تعالج الفيزياء
النظرية يف يومنا هذا ظواهر تحدث عىل مختلف نطاقات الزمان واملكان ،إذ يبلغ التنوع بني
هذه النطاقات ستني درجة أسية–أي إن نسبة أكرب نطاق إىل أصغر نطاق هي 1يتبعها 60
مجاال أضيق ،لكنه ليس أضيق بكثري .يف وسط كل هذه األمور ،أي
ً صف ًرا .أما التجارب فتغطي
ظاهرة يصفها أي فيزيايئ يستطيع فهمها أي فيزيايئ آخر باستعًّمل بعض املفاهيم األساسية
التي رمبا ال تزيد عن عرشة مفاهيم .ليس يف املعارف اإلنسانية مجال آخر يتصف بهذا االتساع
أو بهذه البساطة يف التأطري.
لذلك السبب أيضً ا ارتأيت أن أقدم مفاهيم جديدة لتوضح املفاهيم .قد يجد بعض القراء
محرية يف
ّ يف هذه املفاهيم راح ًة جميلة من األفكار التي يعرفونها من قبل .وقد يجدها آخرون
لحظة القراءة .بعض هذه األفكار ،رغم أساسيتها ،مل تق َّدم من قبل يف الكتب املوجهة للعموم.
ُخترب يف هذا الكتاب .املقصد أقرب إىل تقديم نكهة الفيزياء منه إىل احرتاف
ال يهم .لن ت َ
جوهرها .أعتقد أن اإللهام ،ال املعرفة العملية ،هو األنفع وهو ما يحتاجه غري العلًّمء يف عامل
اليوم ،لذلك فإن هديف هو اإللهام.
3
األهم أنني سأق ّدم بعض االرتباطات الخفية والعجيبة بني كثري من املواضيع .إن هذه
االرتباطات هي التي تشكل نسيج الفيزياء .تكمن سعادة عامل الفيزياء النظرية يف اكتشاف
هذه االرتباطات ،وتكمن سعادة التجريبي يف اختبار قوتها .يف النهاية ،تجعل هذه االرتباطات
الفيزياء ممكنةً .إذا بلغ اهتًّممك درجة تجعلك متش ّوقًا إىل نقاشات أوسع نطاقًا ،فإن املصادر
الواسعة كثرية.
ريا ،أريد أن أؤكد عىل أن الفيزياء نشاط فكري إنساين إبداعي ،مثل الفن واملوسيقا.
أخ ً
لقد ساعدتنا الفيزياء عىل صياغة تجربتنا الثقافية .لست أعرف من سيكون صاحب أكرب أثر
يف اإلرث الذي سنرتكه ،لكنني عىل يقني أن تجاهل الجانب الثقايف من الرتاث العلمي سيكون
ح ا .إن األمية العلمية أمية ثقافية .والفضيلة الكربى يف النشاط الثقايف –سواء أكان
خطأ فاد ً
علًّم– هي الطريقة التي يغني بها حياتنا .من خالل هذه األنشطة
ف ًّنا أم موسيقا أم أدبًا أم ً
نعيش السعادة واإلثارة والجًّمل والغموض واملغامرة .إن اليشء الوحيد الذي أعتقد أنه يفرق
ح ًّقا بني العلم وبقية العنارص عىل القامئة هو أن العتبة التي تبدأ عندها تغذيته الراجعة أعىل
باملقارنة مع غريه .ال شك أن التربير األهم لكثري مًّم نفعله نحن الفيزيائيني هو املتعة الشخصية
التي نشعر بها من الفيزياء .إن يف اكتشاف ارتباطات جديدة سعادة كونية .تن ّوع العامل
الفيزيايئ وبساطة عملياته الجوهرية كالهًّم يحمل جًّمالً وإثارة .لذا ،بعد االعتذار من إريكا
جونغ ،سيكون هذا الكتاب مك ّر ًسا لإلجابة عن هذا السؤال :هل ميكن لإلنسان املتوسط أن يخلع
ويتخىل ،ويستمتع ببساطة باملتعة البسيطة الجوهرية يف الفيزياء؟ أرجو
ّ عوائقه،
ذلك.
4
شكر وعرفان
مل يكن هذا الكتاب لريى النور ،أو عىل األقل مل يكن لرياه بشكله الحايل ،لوال فضل مجموعة
أوال ،خدعني مارتن كسلر ،رئيس دار بيسك بوكس ،يف فطو ٍر قبل عرشين عا ًما،
من الناسً .
ألحول أفكاري عن الطريقة التي ينبغي أن يفكر بها الفيزيائيون يف الفيزياء ،إىل ما بدا يل
حا .خالل عام من الزمان ،وقعنا عق ًدا ،أوقفه من لطفه مؤق ًتا حتى أستطيع كتابة
كتابًا طَمو ً
كتاب آخر لدار بيسك عن موضوع ارتأيت حينها أنه أنسب للوقت .كان محرري يف ذلك املرشوع
ريتشارد ليبًّمن سميث ،الذي أصبح صديقي ،وساعدتني محادثايت معه قبل أن يرتك بيسك
بوكس ألصقل رؤيتي ملا أريد تحقيقه من هذا الكتاب.
يف خضم كتابتي ،أُتيحت يل فرصة مناقشة عدة أفكار محتواة يف الكتاب مع عدة
أشخاص .كًّم قلت من قبل ،قدمت زوجتي يل مصفاة مل متر من خاللها بعض األشياء .أريد
أن أشكر الطالب الكثريين الذين علمتهم عىل مر السنني يف مواد الفيزياء لغري العلًّمء ،الذين
5
ساعدوين يف صقل أفكاري إذ بينوا يل عندما مل يكن أسلويب ناج ًحا .أخىش أنني استفدت من
ميا يف مركز أونتاريو للعلوم ،أُتيحت يل
هذه العملية أكرب من استفادتهم .يف خالل عميل قد ً
فرصة بناء تقدير ملا يسهل فهمه عىل غري الفيزيائيني وما يو ّدون أن يفهموه–وهًّم مختلفان
ين ،يف هذا العمل بطرق مبارشة وغري
ريا ،أثّر أساتذيت ،وبعد ذلك زماليئ ومعاو ّ
عاد ًة .أخ ً
ريا ج ًّدا من األفراد ال أستطيع ذكر أسًّمئهم جمي ًعا .هم
مبارشة .تحتوي هذه املجموعة عد ًدا كب ً
يعرفون أنفسهم ،وأنا أشكرهم .كًّم سيدرك كل من يقرأ الكتاب رسي ًعا ،لعب ريتشارد فينًّمن
دو ًرا مؤث ًرا يف تفكريي بشأن عدد من املجاالت يف الفيزياء ،كًّم أثر يف كثري من الفيزيائيني
اآلخرين .أود كذلك أن أشكر سوبري ساكديف عىل املناقشات النافعة التي ساعدتني عىل صقل
مناقشتي لتحوالت الطور يف املادة ،ومارتن وايت وجولز كوملان لقراءتهًّم املسودة وتقدميهًّم
تعليقات ،وجاتيال فان دير فني دافيس وجنيفر إليزابيث مارش يف ما ّدتهًّم املق ّدمة إىل الفيزياء
يف جامعة كاليفورنيا سانتا بربارا ،إذ استعمال النسخة املسودة ووجدا فيها خطأ.
ريا وليس آخ ًرا ،أريد أن أشكر ابنتي لييل ،ألنها أعارتني حاسوبها يف عدة فرتات
أخ ً
معطال .مبع ًنى حقيقي ج ًّدا ،مل يكن هذا الكتاب ليظهر اآلن لوال مساعدتها.
ً عندما كان حاسويب
ض ّحت لييل وكيت كالهًّم بالوقت الثمني الذي نقضيه م ًعا يف فرتة عميل عىل هذا الكتاب،
وأرجو أن أعوضهًّم.
6
إن الرس األول يف كل رحلة هو :كيف وصل املسافر إىل نقطة االنطالق هذه يف املقام األول؟
– لويس بوغان ،رحلة حول غرفتي
7
الجزء األول
العملية
8
الفصل األول
النظر حيث يوجد الضوء
إذا كانت األداة الوحيدة يف يدك مطرقة ،فمن شأنك أن تعامل كل يشء كًّم لو كان
وت ًدا.
ُدعي عامل فيزياء ومهندس وعامل نفس ليُستشاروا يف مزرعة ألبان كان إنتاجها أقل من
املتوسط .أُعطي كل واحد منهم وقتًا ليفحص تفاصيل العمل قبل إنشاء تقرير.
كان أولهم املهندس ،الذي قال« :يجب إنقاص حجم غُرف املوايش .ميكن تحسني
صغّر حجم توزع البقر ،بجعل املساحة الصافية لكل بقرة 275قد ًما مكعبة .كذلك
الفعالية إذا ُ
فإن قطر أنابيب الحلب يجب أن يُزاد 4باملئة ليسمح مبتوسط تدفق أعىل يف فرتات الحلب».
يل جدران اإلسطبل الداخلية باألخرض .هذا اللون أقرب إىل اللني من البني
«يجب ط ُ
وينبغي أن يساعد عىل زيادة تدفق الحليب .كذلك يجب زرع مزيد من األشجار يف الحقول
إلضفاء التنوع عىل املشهد الذي تراه املوايش وهي ترعى ،وهكذا سيقل مللها».
قائال:
حا للكتابة ثم رسم دائرة .وابتدأ ً
رياُ ،دعي الفيزيايئ .طلب الرجل لو ً
أخ ً
هذه النكتة القدمية ،وإن مل تكن شديدة الطرافة ،تُظهر كيف ينظر الفيزيائيون إىل
العامل –عىل األقل رمزيًّا– .إن أدوات الفيزيائيني التي يستعملونها لوصف الطبيعة محدودة.
معظم النظريات الحديثة التي تقرأ عنها بدأت حياتها بوصفها مناذج بسيطة اقرتحها
فيزيائيون مل يجدوا طريقة أخرى لحل املشكلة .هذه النًّمذج البسيطة الصغرية تكون عادة
9
مبنية عىل مناذج صغرية أبسط ،وهل ّم ج ًّرا ،ألن األشياء التي نعلم حقًّا كيف ميكن حلها ميكن
ع ّدها عىل أصابع يد واحدة ،أو رمبا اثنتني .يف معظم األحوال ،يتبع الفيزيائيون خطوط
اإلرشاد نفسها التي تساعد منتجي أفالم هوليوود عىل تحقيق الغنى :إذا نفع األمر ،فاستغله.
إذا استمر نفعه ،فانسخه.
هنا كلمتان :ج ّرد و«غري املهمة» .التخلص من التفاصيل غري املهمة هو أول خطوة يف
بناء أي منوذج للعامل ،وهو أمر نفعله يف الالوعي من لحظة والدتنا .لكن فعله يف الوعي أمر
مختلف متا ًما .إن التغلب عىل الرغبة الطبيعية بعدم التلفظ بالتفاصيل غري املهمة هو أصعب
وأهم جزء يف تعلم الفيزياء .باإلضافة إىل هذا ،إن عدم األهمية يف حالة من الحاالت ليس عا ًّما
ويعتمد يف معظم الحاالت عىل ما تهت ّم به .يؤدي هذا إىل الكلمة الثانية :التجريد .من كل
التفكري املج َّرد املطلوب يف الفيزياء ،أصعب جزء هو اختيار كيفية مقاربة مشكلة .إن مجرد
وصف الحركة عىل خط مستقيم –وهو أول تطور كبري يف الفيزياء الحديثة– تطلب مقدا ًرا
ريا من التجريد إىل درجة أنه متلّص من عقول باهرة حقًّا ،إىل أن جاء غاليليو ،كًّم سأناقش
كب ً
الحقًا .أما اآلن ،فلنعد إىل عامل الفيزياء وبقرته لرنى مثاالً عن املنفعة الحاصلة حتى من التجريد
املتطرف.
10
مكربة يف كل االتجاهات بعامل
تخيل اآلن «بقرة فائقة»–مطابقة للبقرة العادية ،لكنها ّ
اثنني:
البقرة الفائقة
البقرة العادية
ما الفرق بني هاتني البقرتني؟ عندما نقول إن األوىل تساوي ضعفي الثانية ،فًّم الذي
نقصده حقًّا؟ البقرة الفائقة هي الضعفان يف الحجم ،لكن هل هي الضعفان يف الكرب؟ كم
11
مثال؟ إذا كانت البقرتان مصنوعتني من املادة نفسها ،فمن املعقول أن
يزيد وزنها عن العادية ً
نتوقع أن وزنهًّم سيعتمد عىل املقدار الصايف لهذه املادة .يعتمد هذا املقدار عىل حجم البقرة.
إذا كان الشكل معق ًدا ،سيكون من الصعب تقدير حجمه ،لكن بالنسبة لكرة فاألمر سهل .قد
تتذكر من املدرسة الثانوية أنه إذا كان نصف القطر ،rفالحجم يساوي . (4π/3)r3لكن ليس
علينا أن نعرف املقدار املحدد لحجم أي من البقرتني ،إمنا نريد أن نعرف النسبة بني حجميهًّم.
لنا أن نتوقع كيف ستكون هذه النسبة بتذكر أن الحجوم تقاس بالبوصات املكعبة واألقدام
املكعبة واألميال املكعبة وهكذا .الكلمة املهمة هنا هي املكعبة .لذا ،إذا زدت االتجاهات الخطية
ليشء ما بعامل ،2فإن حجمه يزيد مبك ّعب ،2أي ،2 × 2 × 2أو .8فالبقرة الفائقة إذن تزن
8أضعاف البقرة العادية .لكن ماذا لو أردت أن أصنع ثيابًا من جلدها؟ كم سيكون مقدار زيادة
جلدها عن جلد البقرة العادية؟ مقدار الجلد يزداد كلًّم ازداد سطح البقرة .إذا زدت األبعاد
الخطية كلها بعامل ،2فإن السطح–وهو يُقاس بالبوصة املربعة ،والقدم املربعة ،وامليل املربع،
وهلم ج ًّرا– يزداد مبربّع ،2أي .4
إذن ،بقرة مضاعفة «الكرب» تزن عمل ًّيا 8أضعاف ويبلغ مقدار جلدها 4أضعاف
باملقارنة مع البقرة العادية .إذا فكرت يف األمر ،ستجد أن الضغط الذي يضغطه جسد البقرة
الفائقة عىل جلدها يساوي الضعفني ،بسبب وزنها املضاعف .إذا استمررنا يف زيادة حجم
البقرة الكروية ،فسنبلغ نقطة يعجز فيها الجلد (أو األعضاء القريبة منه) عن تحمل الضغط
الزائد ،وستتمزق البقرة! إذن فإن حجم البقرة محدود حتى أمام أكرث أصحاب املزارع موهبة –
ليس بسبب البيولوجيا بل بسبب قوانني التحجيم يف الطبيعة.
إن قوانني التحجيم هذه مستقلة عن الشكل الفعيل للبقرة ،لذلك فلن نخرس شي ًئا إذا
تخيلنا البقرة عىل شكل بسيط كالكرة ،إذ نستطيع حساب كل مقادير هذا الشكل بدقة .لو
حاولت أن أحدد حجم بقرة غري منتظمة الشكل ،ثم أن أعرف كيف يتغري الحجم إذا ضاعفت
12
كل أبعادها ،فسأصل إىل النتيجة نفسها لكن األمر سيكون أصعب .لذلك فألهدايف هنا ،البقرة
كرة!
نحسن تقريبنا لشكل البقرة ،سنكتشف عالقات تحجيم جديدة .عىل سبيل
ّ اآلن ،عندما
املثال ،فلنتخيل البقرة بشكل أقرب إىل الواقع ،كًّم ييل:
عصا)
البقرة بوصفها كرتني (بينهًّم ً
كل العالقات السابقة عن التحجيم تصدق عىل هذه البقرة الجديدة ،بل وعىل كل جزء
من أجزائها املفردة .إذن ،البقرة الفائقة سيكون رأسها أكرب بثًّمنية أضعاف من البقرة العادية.
فلننظر اآلن إىل الرقبة التي تربط الرأس بالجسم ،وهي ممثلة هنا بعصا .إن قوة هذه العصا
تتناسب مع مساحتها العرضية (أي إن العصا األثخن ستكون أقوى من العصا األدقّ إذا كانتا
عصا تساوي الضعفني ،فإن مساحتها العرضية أكرب بـ4
من املادة نفسها) .إذا كانت ثخانة ً
أضعاف فقط .لذا فإن وزن رأس البقرة الفائقة يساوي 8أضعاف البقرة العادية ،ولكن رقبتها
أقوى بـ 4أضعاف فقط .باملقارنة مع البقرة العادية ،أصبحت فعالية الرقبة تساوي نصف
الفعالية يف حمل الرأس .إذا استمررنا يف زيادة أبعاد بقرتنا الفائقة ،سنبلغ نقطة تعجز فيها
يفرس هذا كون رؤوس الديناصورات صغرية باملقارنة مع
ّ عظام الرقبة عن حمل الرأس.
أجسادها الضخمة ،وأن الحيوانات ذات الرؤوس األكرب (باملقارنة مع أجسادها) ،كالدالفني
13
والحيتان ،تسكن يف املاء :تكون األشياء أخف وزنًا يف املاء ،فتصبح القوة املطلوبة لحمل وزن
الرأس أقل.
نستطيع اآلن أن نفهم ملاذا مل يقرتح عامل الفيزياء يف القصة إنتاج أبقار أكرب لحل
مشكلة إنتاج الحليب! واألهم من ذلك ،فحتى عند استعًّمل هذا التجريد الساذج ،استطعنا أن
نستنتج بعض املبادئ العامة بشأن التحجيم يف الطبيعة .ملا كانت كل مبادئ التحجيم مستقلة
عن الشكل ،كان يف مقدورنا استعًّمل أبسط األشكال لفهمها.
ميكننا أن نستنتج أشياء كثرية أخرى من هذا املثال البسيط ،وسأعود إليه .أوالً أريد أن
أعود إىل غاليليو .كانت طليعة إنجازاته السبق الذي سبق إليه قبل 400عام من اليوم ،بتجريد
مفهوم الحركة مًّم ال يه ّم لدى وصفه ،ليؤسس بذلك العلم الحديث.
14
الهواء ،إذا ُرميت البيضتان من ارتفاع عرشين ذرا ًعا ،فإن الواحدة منهًّم ستقرص عن األخرى
بأقل من عرض أربعة أصابع».
بنا ًء عىل هذه الحجة ،ادعى غاليلو ،صادقًا ،أننا إذا تجاهلنا أثر الوسط ،فكل األجسام
تسقط بالطريقة نفسها متا ًما .وجهز غاليلو ألمواج النقد من الذين مل يكونوا مستعدين
لتجريده الجوهر مًّم ال يهم« :أثق أنك لن تتبع مثال الكثريين الذين يحيدون بالنقاش عن
مقصده األصيل وميسكون بعبارة واحدة من عبارايت تفقد شعرة من الحقيقة ،فيخفون تحت
1
هذه الشعرة خطأ آخر يبلغ حجمه حجم حبل سفينة».
هذا هو بالضبط ما قال إن أرسطو فعله عندما ركز ال عىل التشابهات بني األجسام بل
عىل االختالفات ،التي ميكن نسبتها إىل أثر الوسط .بهذا املعنى ،فإن العامل «املثايل» الخايل
من األوساط ،ال يبعد عن العامل الحقيقي إال «مبقدار شعرة».
بعد هذا التجريد العميق ،اتضح كل يشء حرف ًّيا :قال غاليليو إن األجسام التي تتحرك
بحرية ،دون التعرض ألي قوة خارجية ،تستمر يف حركتها «مستقيم ًة إىل األمام» –أي عىل
خط مستقيم وبرسعة ثابتة–برصف النظر عن حركاتها السابقة.
وصل غاليليو إىل هذه النتيجة باالتجاه إىل األمثلة التي ال يكون فيها للوسيط أثر كبري،
مثل قطعة ثلج عىل األرض ،ليثبت أن األجسام طبيع ًّيا تستمر برسعة ثابتة دون تباطؤ أو
تسارع أو انحدار .إن ما ادعى أرسطو أنه الحالة الطبيعية للحركة –السعي إىل حالة سكون–
تبني بعد ذلك أنه مجرد تعقيد ناجم عن الوسط الخارجي.
ّ
ملاذا كانت هذه املالحظة مهمة ج ًّدا؟ ألنها أزالت الفرق بني األجسام التي تتحرك برسعة
ثابتة واألجسام الساكنة .كال الفئتني متشابه ألنهًّم يستم ّران يف حالتهًّم ما مل يؤثّر فيهًّم
مؤثر .الفرق الوحيد بني الرسعة الثابتة والرسعة الصفرية هي مقدار الرسعة –ليس الصفر إال
15
يغري الرتكيز يف
احتًّمال من عدد غري منته من االحتًّمالت .أتاحت هذه املالحظة لغاليليو أن ّ
ً
دراسة الحركة –وقد كان موقع األجسام– ويحوله إىل كيفية تغري املوقع ،أي إىل كون الرسعة
ثابتة أو متغرية .عندما تدرك أن الجسم إذا مل تؤثر فيه أي قوة فسيتحرك برسعة ثابتة ،فلم يبق
إال خطوة قصرية (وإن كانت تطلبت عقل إسحاق نيوتن لتكتمل) لتدرك أن أثر القوة هو تغيري
الرسعة .أثر القوة الثابتة ليس تغيري موقع الجسم مبقدار ثابت ،بل تغيري رسعته .كذلك فإن
تغريها نفسه! هذا هو قانون نيوتن .بهذا
القوة املتغرية يظهر أثرها يف الرسعة التي يتغري ّ
القانون ،ميكن فهم حركة كل األجسام تحت الشمس ،ودراسة طبيعة كل القوى يف الطبيعة–
أي األشياء التي هي أصل كل التغري يف الكون– :أصبحت الفيزياء الحديثة ممكنة .مل يكن هذا
ليحدث لوال أن تخلّص غاليلو من التفاصيل ليدرك أن املهم حقًّا هو الرسعة ،وكونها ثابتة أو
متغرية.
16
التحليل املفصل لخصائصها الهندسية .يف العروض الفعلية ،حاملا يُرفَع املكبح يف اآللة ،كانت
تبدأ دورانها وتزداد رسعتها فيًّم يبدو أثناء العرض ،وبدا األمر مقن ًعا.
عىل رغم تعقيد تفاصيل اآللة ،فعندما تُتجاهل كل هذه التفاصيل ،تصبح استحالة اآللة
واضحة .انظر إىل ترتيب املثال األويل الذي رسمته أدناه يف بداية ونهاية دورة كاملة (بعد أن
تكمل العجالت دورة كاملة واحدة):
كل ترس وبكرة ،كل مسًّمر وحزقة ،يف املكان نفسه بالضبط! مل يتغري يشء ،مل
«يسقط» يشء ،مل يتبخر يشء .إذا كانت عجلة املوازنة ساكنة يف أول الدورة ،فكيف ميكن أن
تتحرك يف نهايتها؟
املشكلة يف محاولة تحليل الجهاز هندس ًّيا ،هي أن وجود مكونات كثرية يص ّعب ج ًّدا
تحديد مكان وزمان تأثري القوى يف املكونات املحددة إليقاف الحركة .أما التحليل «الفيزيايئ»
مثال (وليكن صندوقًا
فريكز عىل األسس ال عىل التفاصيل .ضع األمر كله يف صندوق أسودً ،
مثال ،ال بد أن يأيت
كرويًّا إن شئت!) ،وفكر يف هذا املطلب البسيط :حتى ننتج شيئًا ،كالطاقة ً
من الداخل ،لكن إذا مل يتغري يشء يف الداخل ،فال ميكن أن ينتُج يشء .أما إذا حاولت تعقب
كل يشء ،فستغيب عنك الصورة الكربى يف التفاصيل الصغرية.
كيف تستطيع التفريق مسبقًا بني األسس وبني ما ميكن تجاهله بأمان؟ يف كثري من
األحيان ال تستطيع .الطريقة الوحيدة هي امليض يف األمر والنظر يف معقولية النتائج .بعبارة
أ
ريتشارد فينًّمن« ،اللعنة عىل الطوربيدات ،الرسعة القصوى قُ ُد ًما!».
17
مثال يف محاولة فهم بنية الشمس .إلنتاج الطاقة املالحظة التي تصدر عن سطح
فكر ً
الشمس ،ال بد من تفجري مئة مليار قنبلة هدروجينية كل ثانية يف لُ ّبها الكثيف الساخن إىل
درجة تفوق الوصف! يف الظاهر ،ال يستطيع املرء أن يتخيل بيئة أشد تعقي ًدا أو اضطرابًا من
الشمس .من حسن حظ الجنس البرشي ،كان الفرن الشميس عىل درجة جيدة من االستمرارية
يف مليارات السنوات السابقة ،ومن املعقول افرتاض أن األشياء يف الشمس تحت السيطرة إىل
درجة جيدة .البديل األبسط ،واألهم ،ورمبا الوحيد الذي يتيح إمكانية املعالجة التحليلية ،هو
افرتاض أن الشمس يف الداخل يف حالة «توازن هيدروستاتييك» .يعني هذا أن التفاعالت
النووية التي تجري يف الشمس تس ّخنها حتى يبلغ الضغط مقدا ًرا كاف ًيا إلمساك الطبقة
الخارجية ،التي كانت لتنهار إىل الداخل بسب الجاذبية .إذا بدأت الطبقة الخارجية للشمس
تنهار إىل الداخل ،سيزداد الضغط والحرارة يف داخل الشمس ،وهو ما سيؤدي إىل تسارع
التفاعالت النووية ،التي بدورها ستؤدي إىل ازدياد الضغط ودفع الطبقة الخارجية مرة أخرى
إىل الخارج .كذلك ،لو كانت الشمس تتوسع يف حجمها ،لربد لبها ،ولتباطأت التفاعالت النووية
قليال .لذلك تحرتق الشمس بالوترية
فيها ،والنخفض الضغط ،والنهارت الطبقة الخارجية ً
نفسها عىل مدار فرتات طويلة من الزمن .بهذا املعنى ،تعمل الشمس مثل املضخة يف محرك
سيارتك وأنت تقود برسعة ثابتة.
هذا الرشح كان ليكون صع ًبا ج ًّدا أن يُعالج باألرقام لوال بعض التبسيطات األخرى .أوالً ،
نحن نفرتض أن الشمس كرة! أي إننا نفرتض أن كثافة الشمس تتغري بالطريقة نفسها إذا
تحرك املراقب من مركزها يف أي اتجاه–نفرتض أن الكثافة والضغط والحرارة هي نفسها يف
كل مكان عىل سطح أي كرة داخل الشمس .ثم نحن نفرتض غياب أشياء كثرية أخرى كانت
لتعقد آليات الشمس ،مثل الحقول املغناطيسية الضخمة يف لبها.
خالفًا الفرتاض التوازن الهيدروستاتييك ،هذه االفرتاضات ليست قامئة عىل أي أساس
فيزيايئ .يف النهاية ،نحن نعرف من املالحظة أن الشمس تدور ،وهذا الدوران يؤدي إىل
18
تنوعات مكانية إذا تحرك املراقب حول سطح الشمس .كذلك فإن وجود البقع الشمسية يدل
عىل أن ظروف سطح الشمس متنوعة–تتنوع مدة نشاطها تنو ًعا نظام ًّيا عىل مدار أحد عرش
عا ًما عىل السطح .نحن نتجاهل هذه التعقيدات لصعوبة معالجتها ،عىل األقل يف أول األمر،
وألن من املعقول ج ًّدا أن مقدار الدوران الشميس والرتابط بني آثار السطح واللب الشميس،
كالهًّم صغري مبا يكفي لنهمله دون أن يُبطل هذا اإلهًّمل تفسرينا.
إذن ،كيف يعمل هذا النموذج لعمل الشمس؟ أفضل مًّم كان لنا أن نتوقع .إن حجم
ريا مع هذا النموذج.
الشمس وحرارة سطحها وسطوعها وعمرها ،كل هذه تتفق اتفاقًا كب ً
جا صوتية ،وكًّم تهتز
واألغ َرب رمبا أنه ،كًّم يهتز القدح إذا نقرت طرفه بأصبعك ويصدر أموا ً
األرض بـ«أمواج اهتزازية» بسبب الضغوط التي تطلقها الزالزل ،فإن الشمس أيضً ا تهتز
برتددات خاصة بسبب املؤثرات التي تحدث يف داخلها .هذه االهتزازات تسبب حركات عىل
سطحها ميكن مالحظتها من األرض ،وميكن أن تدلنا هذه الرتددات عىل مقدار كبري من
املعلومات بشأن داخل الشمس ،كًّم أن املوجات االهتزازية ميكن استخدامها لدراسة تكون
األرض لدى البحث عن النفط .هذا النموذج ،الذي صار يعرف باسم النموذج الشميس القيايس
–وهو الذي يضم كل املقاربات التي وصفتها– يستطيع أن يتوقع بدقة كبرية طيف التذبذات
التي نالحظها عىل سطح الشمس.
يبدو آم ًنا إذن أن نتخيل أن الشمس حقًّا كرة بسيطة–وأن صورتنا التقريبية لها قريبة
ج ًّدا من حقيقتها .لكن هنا مشكلة .إىل جانب إنتاج وفرة من الحرارة والضوء ،تنتج التفاعالت
النووية يف الشمس أشياء أخرى .أهمها أنها تنتج جسيًّمت أولية ،وأجسا ًما ميكروسكوبية
تشبه الجسيًّمت التي تك ّون الذرات ،كاإللكرتونات والكواركات ،تدعى هذه الجسيًّمت
مهًّم عن الجسيًّمت التي تشكل املادة الطبيعية.
النيوترينوات .تختلف هذه الجسيًّمت اختالفًا ًّ
إن تفاعل هذه الجسيًّمت مع املادة العادية ضعيف ج ًّدا ،ويف الحقيقة ،تعرب معظم
النيوتريينوات كوكب األرض دون أن تشعر بوجوده .يف الوقت الذي استغرقته لقراءة هذه
19
الجملة ،مر يف جسدك ألف مليار نيوترينو من الفرن الشميس املشتعل( .يصدق األمر يف النهار
والليل ،ألن النيوترينوات يف الليل تأيت من الشمس لتعرب من خاللك ،ولكن من األسفل!) منذ
اقرتح وجود هذه األجسام يف العقد الرابع من القرن العرشين ،لعبت النيوترينوات دو ًرا
أن ُ
هًّم ج ًّدا يف فهمنا للطبيعة عىل أصغر أنطقتها .أما النيوترينوات اآلتية من الشمس ،فلم تؤ ّد
م ًّ
إال إىل اللبس.
إن حسابات النموذج الشميس نفسه التي تتوقع بدقة كبرية كل الخصائص املالحظة
للشمس ،ينبغي أن تتيح لنا أن نتوقع عدد النيوترينوات ذات الطاقة املعينة التي تأيت إل سطح
األرض يف أي وقت .وإن كنت تتخيل أن هذه األجرام املراوغة مستحيلة املالحظة ،فإن تجارب
رسية ضخمة بُنيت بكثري من الذكاء والصرب والتقانة ملراقبتها .كان أولها يف منجم عميق يف
جنوب داكوتا ،وكان يف التجربة خزان من 100,000غالون من سائل الغسل ،تُ ُوقّع أن يتغري
فيه ذرة واحدة من الكلور إىل ذرة من األرغون كل يوم ،بسبب احتًّمل تفاعلها مع نيوترينو
قادم من الشمس .بعد خمسة وعرشين عا ًما ،جرت تجربتان مختلفتان حساستان للنيوترينوات
عالية الطاقة من الشمس ،وظهرت نتائجهًّم .وجدت التجربتان عد ًدا أصغر من النيوترينوات،
يرتاوح بني ُربع ونصف املقدار املتوقَّع.
قد يكون أول انطباع لك من هذا هو أنه ضجة كبرية عىل ال يشء .إن توقع النتائج بهذه
الدقة ميكن أن يُرى عىل أنه نجاح كبري ،ألن هذه التوقعات مبنية عىل املقاربات التي وصفتها
ريا من الفيزيائيني رأى يف هذه النتائج إشارة إىل أن واح ًدا عىل األقل
للفرن الشميس .بل إن كث ً
من هذه املقاربات غري مناسب .أما غريهم ،وأبرزهم الذين عملوا لتطوير النموذج الشميس
القيايس ،فقالوا إن هذا بعيد ج ًّدا ،بسبب اتفاق النموذج مع كل املالحظات األخرى.
أنتج العقد األخري من القرن العرشين سلسلة بطولية من التجارب التي حلت هذا الرس.
ضخًّم تحت األرض يحوي 50,000طن من املاء ،يستطيع كشف كثري من
ً شملت أوالها كاشفًا
20
األحداث النيوترينوية إىل درجة أنه استطاع التأكيد بدقة كبرية أن املقدار الذي يأيت من الشمس
أقل من املقدار املتوقع.
بدال
بعد ذلك ،بُني يف سدبري ،كندا ،كاشف جديد تحت األرض ،يستعمل املاء الثقيل ً
من املاء العادي .من األشياء التي مل أرشحها من قبل أن كل كواشف النيوترينوات السابقة كانت
حساسة لنوع واحد من النيوترينوات ،وقد تبني أن يف الطبيعة ثالثة أنواع مختلفة من
النيوترينوات التي نعرفها .تنتج التفاعالت النووية نو ًعا واح ًدا منها ،يُسمى اإللكرتون–
نيوترينو ،لذا كان من املعقول أن كل الكواشف السابقة كانت حساسة لهذا النوع فقط.
كان من الطرق الغريبة لحل معضلة النيوترينو الشميس ،كًّم أصبحت تُع َرف ،هي أن
النيوترينوات اإللكرتونية التي تصدرها الشمس تح ّول نفسها إىل نوع آخر من النيوترينوات
داخل الشمس أو يف طريقها إىل األرض .يتطلب هذا التحول نو ًعا من العمليات الفيزيائية التي
ال يشملها النموذج القيايس لفيزياء الجسيًّمت–إذ يتطلب أن تكون النيوترونوات غري صفرية
الكتلة ،بل أن تكون ذات كتلة صغرية ج ًّدا .وعىل كل حال ،إذا كانت النيوترينوات اإللكرتونية
تتحول إىل أنواع أخرى من النيوترينوات قبل أن تبلغ الكواشف األرضية ،فإن هذا يفرس
مالحظة عدد أقل من املتوقع يف الكاشفات.
استطاع الكاشف الذي يستعمل املاء الثقيل الكشف النيوترينوات اإللكرتونية والنوعني
اآلخرين من النيوترينوات ،باستعًّمل نوعني مختلفني من التفاعالت النيوترينوية يف املاء
الثقيل .وانظر عج ًبا ،عندما سكن الغبار ،و ُع ّدت كل أنواع النيوترينوات ،تبيل أن املقدار
اإلجًّميل من النيوترينوات اآلتية من الشمس يساوي متا ًما ما توقعه النموذج الشميس
القيايس! لقد لوحظت «تذبذبات» نيوترينوية واك ُتشفت كتل نيوترينوية ،وحاز بعض علًّمء
الفيزياء السعداء جائزة نوبل .مرة أخرى ،أثبتت مقاربة الشمس ،كمقاربة البقرة ،أنها مقاربة
قوية كشفت عن وجه خفي آخر من الطبيعة.
21
ميكننا أن منيض بهذه املقاربة أكرث :أن الشمس كرة ،لندرس مزي ًدا ن الكون .ميكننا أن
واألس ّن من الشمس .عىل وجه
َ نحاول فهم النجوم األخرى ،األكرب واألصغر ،واألح َدث
الخصوص ،تعطينا صورة التوازن الهيدروستاتييك البسيطة فكرة مقاربة عن السلوك العام
للنجوم خالل أعًّمرها .عىل سبيل املثال ،منذ ابتداء تشكل النجم من الغاز املنهار إىل ابتداء
ريا ج ًّدا ،فإن حرارة الغاز
التفاعالت النووية ،تستمر حرارة الغاز يف االزدياد .إذا كان النجم صغ ً
يف املستويات قبل الذرية ميكن أن توفر ضغطًا كاف ًيا لحمل كتلته .يف هذه الحالة ،لن «يشتعل»
مثال .أما األجرام األكرب
النجم ،ولن تبدأ التفاعالت النووية .ينطبق الوصف عىل املشرتي ً
فيستمر االنهيار فيها حتى يبدأ االشتعال النووي وتوفر الحرارة املنطلقة ضغطًا إضاف ًّيا
يشح الوقود
ّ يستطيع إيقاف االنهيار وإحداث االستقرار يف النظام .يف النهاية ،عندما
الهيدروجيني الالزم للتفاعالت النووية ،يبدأ االنهيار الداخيل البطيء من جديد ،إىل أن يصبح
لب النجم حا ًّرا مبا يكفي ليحرق نتيجة أول مجموعة من التفاعالت ،الهيليوم .تستمر هذه
العملية يف نجوم كثرية ،لتحرق يف كل مرة منتج الدورة السابقة من التفاعالت ،إىل أن يصبح
لب النجم – واسمه اآلن العمالق األحمر أو األزرق ،بسبب تغري لون سطحه مع توسع قرشته
الخارجية إىل حجم أكرب يف الوقت الذي يزداد فيه اللب حرارة وكثافة– مك ّونًا من الحديد يف
معظمه .هنا ال بد أن تنتهي العملية بطريقة أو بأخرى ،ألن الحديد ال ميكن أن يكون وقو ًدا
نوويًّا ،ألن مكونات نواته –الربوتونات والنيوترونات– متًّمسكة فيًّم بينها بعمق مينعها من
التخيل عن أي طاقة ربط لتصبح جز ًءا من نظام أكرب .ماذا يحدث هنا؟ أمر من اثنني .إما أن
ميوت النجم ببطء ،كًّم تنطفئ الشعلة مع انتهاء عود الكربيت ،أو ،يف النجوم الكبرية ،يحدث
يشء من أعظم األحداث يف الكون :ينفجر النجم!
هذا النجم املنفجر ،أو السوبرنوفا (أو املستعر األعظم) ،ينتج يف فرتة عرض ألعابه
النارية القصرية مقدا ًرا من الضوء يكافئ ما تنتجه مجرة كاملة ،أي أكرث من مئة مليار نجم
عادي .يصعب فهم القوة الشديدة التي تُطلَق يف هذا الحدث .قبل ثوان من حدوث االنفجار
22
النهايئ ،يكون النجم يحرق آخر ما تبقى من الوقود بهدوء ،إىل أن يصبح الضغط املولد من
آخر نفس يف النجم غري كاف إلمساك نواته الحديدية شديدة الكثافة ،التي تحتوي من الكتلة
ما يكافئ كتلة شمسنا ،لكنها مضغوطة يف مساحة تساوي حجم األرض–أصغر مبليون مرة.
يف أقل من ثانية تنهار كل هذه الكتلة إىل الداخل ،وتطلق يف أثناء هذا مقادير هائلة من الطاقة.
يستمر هذا االنهيار إىل أن يصبح اللب كله محت ًوى يف كرة ال يتجاوز نصف قطرها 10
كيلومرتات–يساوي تقري ًبا حجم نيو هيفن ،كونيكتيكت .هنا تصبح املادة كثيفة ج ًّدا إىل درجة
أن مقدار ملعقة صغرية يزن آالف األطنان .األهم من ذلك ،أن نوى الحديد الذرية الشديدة
الكثافة تبدأ االحتشاد ،و«التالمس» إن صح التعبري .يف هذه املرحلة ،تتصلب املادة فجأة،
مهًّم ،هو الضغط الناجم عن تفاعالت هذه النوى
ويصبح مصدر جديد متا ًما من الضغط ًّ
املتقاربة ج ًّدا .يتوقف االنهيار ،و«يرتد» اللب ،وتبدأ موجة صدمة إىل الخارج ،من اللب ،إىل
القرشة الخارجية للنجم ،عرب آالف األميال ،لتنفجر القرشة عندها حرف ًّيا وتبدو لنا يف شكل
سوبرنوفا.
هذه الصورة النهيار لب النجم املنفجر بُنيت عىل مر عقود من العمل التحلييل والريايض
املضني عىل يد فرق من الباحثني ،بعد االقرتاح األول للعامل سابرامانني تشاندراسخار عام
،1939الذي قال فيه إن هذا السيناريو الذي يعجز اإلنسان عن فهمه ميكن أن يحدث .كان
األمر كله من ًّوا ألفكار بسيطة من التوازن الهيدروستاتييك ،الذي نؤمن أنه يحكم بنية الشمس.
بعد نحو خمسني عا ًما من هذا االقرتاح ،ظلّت العمليات التي تحكم انهيار النجوم مجرد
توقعات .لقد مرت قرون عىل مالحظة آخر سوبرنوفا يف مجرتنا ،وحتى عندئذ ،مل ير الناس
إال األلعاب النارية الخارجية ،التي تحدث بعي ًدا ج ًّدا عن مركز الفعل الحقيقي ،يف ُعمق النجم.
تغري كل هذا يف 23فرباير .1987يف ذلك اليوم لوحظ سوبرنوفا يف سحب ماجالن
الكربى ،وهي نظام صغري تابع يقع يف الحافة الخارجية ملجرتنا ،عىل بعد نحو 150,000
تبني أن النريان الظاهرة
سنة ضوئية .كان هذا أقرب سوبرنوفا يالحظ يف آخر أربعمئة عا ًماّ .
23
املرتبطة بالسوبرنوفا ليست إال قمة الجبل الجليدي .يصدر عن انفجار النجم أكرث من ألف
ضعف ما يحدث يف األلعاب النارية ،ليس عىل شكل ضوء ،بل –كًّم حزرت– عىل شكل
نيوترينوات تكاد تكون خفية .أقول تكاد ألن النيوترينو الذي تطلقه السوبرنوفا قد مير من
األرض دون أن نالحظه ،لكن قوانني االحتًّمالت تقول لنا أن أحد النيوترينوات ،وإن كان ناد ًرا،
تفاعال ميكن قياسه يف كاشف لألبعاد الصغرية .يف الحقيقة ،يستطيع املرء أن يقدر
ً سيتفاعل
اآلن أنه عندما مرت «عاصفة النيوترينوات» من السوبرنوفا البعيد عرب األرض ،فإن واح ًدا من
كل مليون إنسان صادف أنه أغلق عينه يف الوقت املناسب قد يرى ملعة من الضوء عندما اصطدم
أحد النيوترينوات بذرة يف عينه.
لكن لحسن الحظ ،ليس علينا أن نعتمد عىل روايات شهود العيان لهذه الظاهرة البارزة.
لقد بُني كاشفان كبريان ،يف كل منهًّم 1,000طن من املياه ،ويقعان يف عمق األرض يف
مكانني متقابلني من األرض .يف كل خزان كاشف آالف األنابيب الحساسة للضوء القابعة يف
الظالم ،ويف 23فرباير ،يف فرتة عرش ثوان اتفق فيها الكاشفان ،لوحظ 19حدث ناجم عن
ريا ،لكنه يساوي بالضبط عدد األحداث التي يتوقعها
النيوتريينوات .قد يبدو هذا الرقم صغ ً
املرء من حدوث سوبرنوفا عىل الحافة الخارجية ملجرتنا .كذلك فإن توقيت النيوترينوات
وطاقاتها كانت يف اتفاق جيد مع التوقعات.
كلًّم فكرت يف األمر أذهلني ،إىل اليوم .هذه النيوترنوات انطلقت مبارشة من اللب
الكثيف املنهار ،وليس من سطح النجم .تعطينا هذه النيوترينوات معلومات مبارشة عن هذه
الثواين املرتبطة باالنهيار الكاريث للب النجم .وتخربنا أن نظرية االنهيار النجمي–التي صيغت
يف غياب للقياس التجريبي املبارش عىل مر أكرث من ثالثني عا ًما ،وبُنيت عىل القياس عىل
كامال مع
ً فيزياء التوازن الهيدروستاتييك املسؤول عن تحديد بنية شمسنا– متفقة اتفاقًا
البيانات اآلتية من السوبرنوفا .لقد قادتنا الثقة بنًّمذجنا البسيطة إىل فهم إحدى أغرب
العمليات يف الطبيعة.
24
مل يزل مثال مل أذكره عن القوة الكبرية ملقاربة الشمس وجعلها كرة .حتى عندما كانت
تُحل مشكلة النيوترينوات الشمسية ،ظلّت أحجية أخرى متعلقة ببنية النجم .إذا افرتضنا أن
عملية النمذجة الشمسية التي نستعملها يف الشمس تساعد عىل توقع تطور النجوم ،فإن يف
استطاعتنا أن نستعمل املقارنة بني النظرية واملالحظة لنحدد تاري ًخا ال لشمسنا فقط (وعمرها
4.55مليار عام) ،بل ألقدم الشموس يف مجرتنا .عندما طُ ّبقت هذه العملية عىل النجوم يف
بعض النظم املعزولة عىل حواف مجرتنا ،التي تدعى التجمعات الكرويةُ ،وجد أن عمر هذه
األنظمة يزيد عىل 15مليار عام.
يف الوقت نفسه ميكننا استخدام حقيقة متدد الكون –وافرتاض تباطؤ متدده ،كًّم
يفرض كون الجاذبية قوة جاذبة– لتحديد عمر الكون بقياس معدل التمدد اليوم .الحجة
بسيطة نسب ًّيا :نالحظ مقدار رسعة املجرات املعلومة البعد عنا اليوم يف االبتعاد عنا ،ثم
بافرتاض أنها كانت تتباعد عنا بهذه الرسعة أو بأكرب منها منذ فجر الكون ،نستطيع وضع حد
أعىل ملقدار الزمن الذي كانت لتأخذه حتى تبلغ بعدها الحايل منذ االنفجار العظيم .بعد مثانني
ريا قياس معدل التمدد بدقة تبلغ 10باملئة ،ووجدنا أن متدد
عا ًما من املحاولة ،استطعنا أخ ً
الكون إذا كان يتباطأ ،فإن عمر الكون يجب ّأال يقل عن 11مليار عام.
كانت هذه مشكلة ،ألنها تدل عىل أن نجو ًما يف مجرتنا أقدم من الكون نفسه .مل تكن
هذه أول مرة تكون فيها أعًّمر النجوم مشكلة ،ويف كل مرة كان حل املشكلة يلقي مزي ًدا من
النور عىل الكون .عىل سبيل املثال ،يف العقد األول من القرن التاسع عرشُ ،وضع تقدير لعمر
الشمس ،بافرتاض أنها كرة من الكربون تحرتق احرتاق الفحم .إذا عرفنا كتلة الشمس ،فلنا أن
نحدد الزمن الذي ستأخذه لتستهلك كل وقودها ،وكانت اإلجابة نحو 10,000عام .كان هذا
التقدير موافقًا عىل نحو جميل للتفسريات الحرفية للكتاب املقدس بشأن عمر الكون ،لكن يف
ذلك الوقت دلّت أدلة األحافري والطبقات الجيولوجية عىل أن األرض أقدم بكثري من هذا .مع
اقرتاب انتهاء القرن التاسع عرش أشار اثنان من الفيزيائيني البارزين ،هًّم اللورد كلفن يف
25
اململكة املتحدة وهلمولتز يف أملانيا ،أنه إذا كانت املادة يف الشمس تنهار بسبب حقل الجاذبية
وفصل الباحثان كيف ميكن لهذه
ّ الكبري يف الشمس ،فقد يقدم هذا طاقة إلشعال الشمس،
العملية أن تستمر رمبا 100مليون عام قبل استهالك كل الطاقة املتاحة .كان هذا تحس ًنا
ضخًّم ،لكن يف ذلك الوقت كانت الجيولوجيا والبيولوجيا التطورية تدل عىل أن عمر األرض
ً
يبلغ مليارات السنني ،وهو ما أدى إىل مشكلة مرة أخرى ،لصعوبة تخيل كون األرض أقدم
بكثري من الشمس.
يف عرشينيات القرن العرشين كانت املشكلة شديدة ج ًّدا إىل درجة دفعت عامل فيزياء
النجوم البارز ،السري آرثر ستانيل إدنغتون إىل القول بوجود آلية أخرى غري معروفة إلنتاج
الطاقة ،تستطيع أن تبقي الشمس مشتعلة مليارات السنني .شك كثريون بهذا االدعاء ،ألن 100
مليون درجة حرارية يف داخل الشمس حا ّرة ج ًّدا حسب معايري األرض ،لكنها مل تبد حا ّرة مبا
يكفي للسًّمح لنوع جديد من الفيزياء بالتدخل .يف أحد ترصيحايت املفضلة يف تاريخ العلم،
دعا إدنغتون كل الذين ال يصدقون دعواه إىل «البحث عن مكان أشد حرارة!» .تبني فيًّم بعد
صواب إدنغتون يف ثالثينيات القرن نفسه ،عندما أدرك عامل الفيزياء هانز بيث ،الذي سيعود
ذكر اسمه بعد قليل ،أن التفاعالت النووية املكتشفة حديثًا ميكن أن تستعمل لبناء قنبلة عىل
األرض تستطيع إشعال الشمس نفسها ،وهو ما يتيح لها البقاء 10مليارات عام يف الشكل
الذي نعرفه .حاز بيث جائزة نوبل عىل حساباته التي تشكل اليوم أساس النموذج الشميس
القيايس.
بالعودة إىل سؤال قدرة النموذج الشميس القيايس عىل تحديد عمر النجوم األقدم،
تعاونت مع عدد من زماليئ واستطعنا إعادة النظر يف تقديرات عمر التجمعات الكروية؛
استطعنا أن ندمج مقدار الريبة الذي أدت إليه نتائج املقاربات املستعملة للوصول إىل هذه
التقديرات ،وأظهرنا أن أقدم التجمعات الكروية يف مجرتنا ميكن أن يبلغ عمرها 12مليار عام،
26
وال ميكن أن تكون أحدث بكثري ،وهو ما دل عىل أن التضارب الظاهر بني أعًّمرها وعمر الكون
تضارب حقيقي.
مدفوعني بهذه النتيجة ،وببيانات أخرى بدا تضاربها مع نظرية تباطؤ متدد الكون،
حا مهرطقًا (ورمبا طريفًا نو ًعا ما) هو
اقرتحت أنا وأحد زماليئ من شيكاغو عام 1995اقرتا ً
أن متدد الكون قد يكون متسار ًعا ال متباط ًئا! قد يبدو هذا غري معقول لكن هذا االحتًّمل الغريب
لنوع دافع من الجاذبية اقرتحه ألربت أينشتاين عام ،1916بُعيد تطويره لنظرية النسبية
أساسا لفكرة الكون الساكن –الذي كان يُعتقد به يف ذلك الوقت– لكنه أُهمل عند
ً العامة ،وكان
اكتشاف متدد الكون .مل يكن اقرتاحنا مجنونًا متا ًما إذ تبني أننا نفهم اليوم أن نو ًعا جدي ًدا من
الجاذبية «الدافعة» ميكن أن ينتج طبيع ًّيا إذا كان الفضاء الفارغ ميلك نو ًعا جدي ًدا من الطاقة
يتيحه سياق نظرية الجسيًّمت الحديثة.
إذن ،استمر تقريب النجوم إىل كرات عىل مر 200عام ليقودنا إىل اكتشاف جوانب
جديدة وعميقة من الكون.
تبني األمثلة السابقة قوة االكتشاف العظيمة التي أتاحها التقريب يف الفيزياء ،لكن ال
ّ
ينبغي أن تشتتنا عن الحقيقة الجوهرية ،وهي أننا لوال التقريب ملا استطعنا فعل يشء تقري ًبا.
27
باستخدام التقريب ،نستطيع صنع توقعات ميكن اختبارها .عندما يتبني خطأ التوقعات ،ميكننا
أن نركز عىل جوانب أخرى من التقريبات التي صنعناها ،وهكذا تعلمنا كل يشء نعرفه عن
الكون .بعبارة جيمس كلريك ماكسويل ،أشهر وأنجح منظّري الفيزياء يف القرن التاسع عرش:
«أهم فضائل النظرية هي أن تُرشد التجربة ،دون أن تعيق تطور النظرية الصحيحة عندما
2
تظهر».
يبسط علًّمء الفيزياء الكون أحيانًا عىل أساس الحدس السليم ،لكن يف معظم األحيان
ّ
يفعلون ذلك النعدام البديل .يحب الفيزيائيون أن يطلقوا هذا التشبيه املعروف :إذا كنت متيش
ليال يف شارع ضعيف اإلضاءة ،والحظت أن مفاتيح سيارتك ليست يف جيبك ،فأين ستنظر
ً
أوال؟ تحت أقرب مصباح شارع ،طب ًعا .ملاذا؟ ال ألنك تتوقع أنك أضعت املفاتيح هنالك
ً
ريا
بالرضورة ،بل ألنه املكان الوحيد الذي ميكن أن تجدها فيه! كذلك الفيزياء يقود جز ًءا كب ً
منها النظر يف مكان الضوء.
28
انتهت الحرب ،وعاد الفيزيائيون إىل استطالع األسئلة الجوهرية بعد أعوام من العمل
املتعلق بالحرب ،واكتملت ثورات القرن العرشين–النسبية وميكانيكا الكم .ظهرت مشكلة
جديدة عندما حاول الفيزيائيون التوفيق بني هذين التطورين ،اللذين سأصفهًّم مبزيد من
التفصيل الحقًا يف الكتاب .ميكانيكا الكم مبنية عىل حقيقة أن الكميات املرتبطة بتفاعالت
فمثال،
ً املادة يف األنطقة الصغرية واألزمنة الصغرية ال ميكن قياسها جمي ًعا يف الوقت نفسه.
ال ميكن قياس رسعة الجسيم وموقعه يف اللحظة نفسها ،مهًّم كان جهاز القياس جي ًدا .هكذا
فإن املرء ال يستطيع قياس طاقة جسيم بالضبط إذا قاسها عىل مر فرتة زمنية محدودة .أما
النسبية ،من جهة أخرى ،فتقيض أن قياسات املوقع والرسعة والزمن والطاقة مرتبطة فيًّم
حا مع االقرتاب من رسعة الضوء .يف أعًّمق الذرات ،حركة الجسيًّمت
بينها بعالقات تزداد اتضا ً
رسيعة مبا يكفي إلظهار آثار النسبية ،لكن يف الوقت نفسه فإن الحيز صغري ج ًّدا إىل درجة
أن ميكانيكا الكم تحكمه .أبرز نتائج تزاوج هاتني الفكرتني هي توقع أن األزمنة القصرية مبا
يكفي ليستحيل فيها قياس الطاقة يف حجم محدد ،يستحيل فيها تحديد عدد الجسيًّمت التي
تتحرك داخل هذا الحجم .عىل سبيل املثال ،تأ َّمل حركة اإللكرتون من ظهر أنبوب تلفازك إىل
واجهته( .اإللكرتونات جسيًّمت ميكروسكوبية مشحونة ،تصنع مع الربوتونات والنيوترونات
كل ذرات املادة العادية .يف املعادن ،تتحرك اإللكرتونات بفعل القوى الكهربائية لتنتج تيارات.
تنطلق هذه اإللكرتونات من الوجه املعدين لعنرص التسخني يف ظهر تلفازك وتصدم الواجهة
لتيضء وتنتج الصورة التي تراها ).تقول قوانني ميكانيكا الكم إن الفاصل الزمني إذا كان
ريا ج ًّدا فمن املستحيل تحديد املسار الذي سيتخذه اإللكرتون ومحاولة قياس رسعته يف
قص ً
الوقت نفسه .يف هذه الحالة ،عندما تدخل النسبية إىل الصورة ،فإنها تقول إن هذا األمر إن
صح ،فال ميكن أن نقول بيقني أن إلكرتونًا واح ًدا فقط هو الذي يتحرك يف هذه الفرتة القصرية
ج ًّدا .من املمكن أن يكون يف الوقت نفسه إلكرتون آخر إىل جانب جسيمه املضاد ،البوزيرتون،
قد ظهرا من الفضاء الفارغ وتحركا إىل جانب اإللكرتون مدة قصرية من الزمان قبل أن يفني
29
ويضمحال ،ليرتكا لنا اإللكرتون األصيل! أما الطاقة الالزمة إلنتاج هذين
ًّ كل واحد منهًّم نظريه
الجسيمني من العدم يف هذا الوقت القصري فهي ممكنة ألن طاقة اإللكرتون األصيل املتحرك ال
ميكن قياسها بدقة يف هذا الزمن القصري ،حسب قوانني فيزياء الكم.
يف العقد الرابع من القرن العرشين ،أدركنا أن هذه الظاهرة ،ووجود الجسيًّمت املضادة
مثل البوزيرتون ،ال بد من حدوثها نتيجة إدماج ميكانيكا الكم والنظرية النسبية .لكن مشكلة
كيفية إدماج هذه االحتًّمالت الجديدة يف حسابات املقادير الفيزيائية ظلت من دون حل .كانت
املشك لة أنك إذا افرتضت أنطقة أصغر وأصغر ،فإن األمر يتكرر مرة بعد أخرى .عىل سبيل
املثال ،إذا نظرت يف حركة اإللكرتون األصيل لكن عىل فرتة زمنية أقرص ،كان مقدار الريبة
فيها يف طاقة اإللكرتون أكرب ،وعليه فإن االحتًّمل يظهر لحظ ًّيا بظهور شفعني من أشفاع
اإللكرتون والبوزيرتون ،ال شفع واحد فقط ،وهكذا كلًّم درسنا فرتة زمنية أصغر .يف محاولة
تتبع كل هذه األجسام ،أي تقدير كان ينتج نتائج النهائية ملقادير فيزيائية مثل الشحنة
الكهربائية لإللكرتون .هذه النتيجة طب ًعا ،غري مقبولة.
كان هذا عىل خلفية اجتًّمع انعقد يف أبريل ،1947يف نُ ُزل يف جزيرة شلرت ،وهي
مجتمع منعزل عىل الجانب الرشقي من جزيرة لونغ ،نيويورك .حرض االجتًّمع مجموعة من
الفيزيائيني التجريبيني والنظريني ،من الذين يعملون عىل حل املشكالت الجوهرية يف بنية
املادة .اشتمل الحضور عىل رجال كبار مسنني مثل جًّمعة تركيا الفتاة ،الذين قىض معظمهم
30
أعوام الحرب يف العمل لتطوير قنبلة نووية .بالنسبة لكثري من هؤالء األفراد ،مل تكن العودة
إىل البحث العلمي البحت بعد أعوام املجهود الحريب سهلة .لهذا السبب جزئ ًّيا ،انعقد مؤمتر
جزيرة شلرت ليتعاون الفيزيائيون يف تحديد أهم املشكالت التي تواجه الفيزياء.
بدأ االجتًّمع بداية ميمونة .استقبل الحافل َة التي تنقل معظم الحضور رجال الرشطة
عىل الدراجات النارية ،وهم يدخلون منطقة ناساو غريب جزيرة لونغ ،واستغرب الحضور أن
صفارات اإلنذار رافقتهم وهم يعربون نحو وجهتهم .عرف الحضور الحقًا أن مرافقة الرشطة
كانت شك ًرا من أفراد خدموا يف املحيط الهادي يف الحرب وشعروا أن حياتهم قد أنقذها العلًّمء
الذين طوروا القنبلة النووية.
وافقت حًّمس َة ما قبل املؤمتر تطورات عاطفية يف يوم افتتاحه .باستعًّمل تقنيات
األمواج الصغرية التي طُ ّورت يف مجال العمل الحريب الخرتاع الرادار يف جامعة كولومبيا،
ق ّدم ويليس المب نتيجة مهمة .لقد أتاحت ميكانيكا الكم ،يف واحد من أول نجاحاتها الكبرية،
حساب الطاقات املميزة لإللكرتونات التي تدور عىل محيط الذرات .لكن نتيجة المب اقتضت
قليال مًّم أنتجته الحسابات يف نظرية
أن مستويات الطاقة يف اإللكرتونات يف الذرات تغريت ً
الكم التي كانت قد تطورت قبل ذلك دون إدماج النسبيةُ .عرف هذا االكتشاف بعد ذلك باسم
«انزياح المب» .تال هذه النتيجة تقرير من عامل الفيزياء التجريبية البارز ،إزيدور إسحاق رايب،
عن عمل كان يجريه ،وتقرير من بويل كوش ،يظهران اختالفات أخرى عن توقعات ميكانيكا
حظة يف الهيدروجني وغريه من الذرات .هؤالء العلًّمء التجريبيون
الكم يف مقادير مال َ
األمريكيون الثالثة –المب ورايب وكوش– حازوا جائزة نوبل لعملهم بعد ذلك.
ظهر التحدي .كيف ميكن أن نفرس هذا االنزياح ،وكيف ميكننا أن نجري الحسابات التي
تستطيع تفسري الوجود اللحظي لعدد قد يكون غري منته من أشفاع اإللكرتونات
والبوزيرتونات «االفرتاضية» ،كًّم أصبحت تس َّمى؟ إن فكرة أن إدماج النسبية وميكانيكا الكم
31
كان هو سبب املشكلة أدت إىل تفسري كان يف ذلك الوقت مجرد تخمني .لقد عقّد قانون النسبية
الحسابات إىل درجة مل يستطع معها أحد يف ذلك الوقت أن يجد طريقة إلجرائها .كان نجًّم
الفيزياء النظرية الصاعدان الشابّان ريتشارد فينًّمن وجوليان شوينغر كالهًّم يف االجتًّمع.
كان كل واحد منهًّم يطور عىل استقالل ،مثل عامل الفيزياء الياباين سني إيتريو توموناغا،
مخططًا حساب ًّيا للتعامل مع «نظرية الحقول الكمية» بعد أن ُعرف اتحاد ميكانيكا الكم
والنسبية .أ ِمل هؤالء العلًّمء ،وصدقت آمالهم بعد ذلك ،أن تقدم هذه املخططات طريقة آمنة
لعزل آثار أشفاع اإللكرتونات والبوزيرتونات االفرتاضية ،أو إزالتها متا ًما ،عىل نحو يعطي
نتائج متسقة مع النسبية .حني أنهى هؤالء العلًّمء عملهم ،أسسوا طريقة جديدة لتصوير
العمليات األساسية وب ّينا أن نظرية الكهرطيسية ميكن أن تُجمع باتساق مع ميكانيكا الكم
والنسبية لتشكل أنجح إطار عمل نظري يف كل الفيزياء–إنجاز استحق به هؤالء الثالثة جائزة
نوبل بعد نحو 20عا ًما .لكن يف وقت االجتًّمع ،مل يكن هذا املخطط موجو ًدا .كيف ميكننا أن
نعالج تفاعالت اإللكرتونات يف الذرات بوجود حشد من أشفاع اإللكرتونات والبوزيرتونات
االفرتاضية التي ميكن أن تظهر من الفراغ نتيجة للحقول والقوى التي تنتجها اإللكرتونات
نفسها؟
كان يف االجًّمع كذلك هانز بيث ،املنظّر البارز وأحد قادة مرشوع القنبلة النووية .مىض
بيث كذلك ليفوز بجائزة نوبل لعمله الذي أثبت أن التفاعالت النووية هي حقًّا مصدر الطاقة
يف النجوم مثل الشمس .يف املؤمتر ألهم التجريبيون واملنظرون بيث ليعود إىل جامعة كورنيل
ويحا ول حساب األثر الذي الحظه المب .بعد خمسة أيام من انتهاء االجتًّمع ،أنتج بيث ورقة
فيها نتيجة محسوبة ،قال إنها متفقة اتفاقًا رائ ًعا مع القيمة التي لوحظت يف انزياح المب .كان
بيث معروفًا بقدرته عىل إجراء الحسابات املعقدة يف كتابات عادية عىل األلواح أو عىل الورق.
لكن حسابه البارز النزياح المب مل يكن تقدي ًرا متسقًا مع نفسه متا ًما بنا ًء عىل املبادئ املؤسسة
مهتًّم باكتشاف كون األفكار الحالية عىل الطريق الصحيح.
ًّ مليكانيكا الكم والنسبية .كان بيث
32
مل ّا كانت مجموعة األدوات الكاملة للتعامل مع نظرية الكم والنسبية غري متوفرة بعد ،استخدم
بيث األدوات املتوفرة بني يديه.
تعلّل بيث بأن املرء إذا مل يستطع معالجة الحركة النسبية لإللكرتون عىل نحو متسق،
فإن عليه أن يجري حسابًا «هجي ًنا» يجمع رصاح ًة بني الظواهر الفيزيائية الجديدة التي أتاحتها
النسبية –مثل األشفاع االفرتاضية من اإللكرتونات والبوزيرتونات– وبستعمل معادالت حركة
اإللكرتونات بنا ًء عىل ميكانيكا الكم القياسية املعروفة يف العقدين الثالث والرابع من القرن
العرشين ،التي مل يكن التعقيد الريايض للنسبية قد أُدمج فيها .لكنه مع ذلك وجد أن آثار
األشفاع االفرتاضية من اإللكرتونات والبوزيرتونات ال ميكن التعامل معها .كيف تعامل مع
األمر؟ بنا ًء عىل اقرتاح سمعه يف االجتًّمع ،أعاد الرجل الحسابات مرتني ،مرة لإللكرتون داخل
ذرة هيدروجني ومرة إللكرتون حر ،غري مرتبط بأي ذرة .كانت النتيجة يف كال الحالتني
مستعصية رياض ًّيا (بسبب وجود أشفاع الجسيًّمت االفرتاضية) ،لكن الرجل طرح إحدى
النتيجتني من األخرى .هكذا كان يأمل أن يكون الفرق بينهًّم –الذي ميثل االنزياح يف الطاقة
بني إلكرتون يف ذرة وإلكرتون حر ليس يف ذرة ،وهو األثر الذي الحظه المب– ممك ًنا رياض ًّيا.
لسوء الحظ ،مل ينجح األمر .احتج بيث بأن هذه النتيجة املستعصية األخرية غري فيزيائية ،لذلك
نبسطها بطريقة ما ،باستخدام الحدس الفيزيايئ.
فاليشء الوحيد الذي ميكننا أن نفعله هو أن ّ
اقرتح بيث أن النسبية أتاحت عمليات جديدة بسبب وجود أشفاع الجسيًّمت االفرتاضية .تؤثر
هذه العمليات عىل حالة اإللكرتون يف الذرة ،لكن آثار النسبية لن تكون كبرية يف هذه العمليات
التي تحتوي عىل كثري من أشفاع الجسيًّمت االفرتاضية التي تبلغ طاقتها اإلجًّملية مقدا ًرا أكرب
بكثري من الطاقة املوافقة للكتلة السكونية لإللكرتون نفسه.
أذكّرك أن ميكانيكا الكم تتيح هذه العمليات ،التي يوجد فيها كرثة من الجسيًّمت
االفرتاضية ،لكن فقط يف فواصل زمنية قصرية ج ًّدا ألن صغر هذه الفواصل الزمنية هو ما
يكرب الريبة يف املقدار املقيس للطاقة اإلجًّملية للنظام .قال بيث إننا إذا أردنا أن تكون النظرية
ّ
33
مشتمل ًة عىل النسبية ومعقولة ،فعلينا أن نستطيع تجاهل آثار هذه العمليات الغريبة الفاعلة
عىل نطاق فواصل زمنية صغرية ج ًّدا .وهكذا اقرتح بيث أن نتجاهل األمر .كانت حساباته
النهائية النزياح المب ،باشرتاط أن تكون هذه العمليات تحتوي أشفا ًعا افرتاضية ذات طاقة ال
تزيد عن الطاقة السكونية لإللكرتون ،متسقة رياض ًّيا .بل واتفقت متا ًما مع املالحظات .يف
ذلك الوقت ،مل يكن لهذا املنهج أي مربر حقيقي ،سوى أنه أتاح لبيث إجراء الحساب وإجراء ما
افرتض أن نظرية معقولة مشتمل ًة عىل النسبية كانت لتجريه.
حلّت أعًّمل فينًّمن وشوينغر وتوموناغا الالحقة التناقضات يف منهج بيث .أظهرت
نتائجهم كيف أن النظرية الكاملة ،املشتملة عىل ميكانيكا الكم والنسبية ترصي ًحا يف كل
مرحلة ،تجعل آثار أشفاع الجسيًّمت وأضدادها الطاقية يف الكميات القابلة للقياس يف الذرات
صغرية ج ًّدا .هكذا ،أصبحت اآلثار النهائية إلدماج الجسيًّمت االفرتاضية يف النظرية مقبولة.
توافق النتيجة املحسوبة اليوم انزياح المب املقيس موافقة جيدة ،إىل درجة أنها من أفضل
االتفاقات بني النظرية واملالحظة يف الفيزياء! لكن تقريب بيث الهجني األول أكد ما كان يعرفه
الجميع عنه .لقد كان بيث ،ومل يزل «فيزيائ ًّيا للفيزيائ ّيني» .لقد وصل بذكاء إىل طريقة
الستعًّمل األدوات املوجودة للحصول عىل نتائج .عىل طريقة األبقار الكروية ،ساعدتنا
شجاعته يف تجاهل التفاصيل الزائدة املرتبطة بالعمليات املحتوية عىل جسيًّمت افرتاضية يف
ميكانيكا الكم عىل أن نرتفع إىل عتبة البحث العلمي الحديث .لقد أصبحت جز ًءا جوهريًّا يف
الطريقة التي ينهجها الفيزيائيون يف فيزياء الجسيًّمت األولية ،وهو موضوع سأعود إليه يف
الفصل األخري من الكتاب.
لقد جلنا من األبقار إىل النيوترينوات الشمسية ،ومن النجوم املنفجرة إىل الكون
املنفجر ،ثم إىل جزيرة شلرت .كان الخيط الذي يربط كل هذه األمور هو الخيط الذي يربط كل
أنواع الفيزيائيني .يف الظاهر ،يبدو العامل مكانًا معق ًدا .لكن يف الكواليس ،يبدو أن قوانني
34
بسيطة هي التي تديره .إن من أهداف الفيزياء الكشف عن هذه القوانني .أملنا الوحيد يف هذا
هو االستعداد للتوجه إىل العمق–لرؤية األبقار كرات ،ووضع اآلالت املعقدة يف صناديق سوداء،
أو لرمي عدد غري محدود من الجسيًّمت االفرتاضية ،إذا دعت الحاجة .إذا حاولنا أن نفهم كل
يشء يف الوقت نفسه ،فلن نستطيع غال ًبا فهم أي يشء .إما أن ننتظر ونرجو اإللهام ،وإما أن
نترصف ونحل املشكالت التي نستطيع حلها ،وهكذا نحصل عىل إلهامات جديدة بشأن الفيزياء
التي نريد معرفتها حقًّا.
35
الفصل الثان
فن األرقام
36
الشعبية .حتى إن ستيفن هوكينغ اقرتح ،يف كتابه «تاريخ موجز للزمن» ،أن كل معادلة يف
كتاب شعبي تقلل مبيعاته إىل النصف .عند االختيار بني رشح كمي وآخر لفظي ،من املحتمل
ريا من سبب النفور الشائع من الرياضيات
أن يختار معظم الناس األخري .أعتقد أن جز ًءا كب ً
اجتًّمعي .يُعترب عدم معرفة الرياضيات شارة رشف – فالشخص الذي ال يستطيع موازنة دفرت
شيكاته ،عىل سبيل املثال ،يبدو أكرث إنسانية بسبب هذا العيب .لكن الجذر األعمق ،حسبًّم
أعتقد ،هو أن الناس يُعلمون بطريقة ما منذ الصغر أال يفكروا يف ما متثله األرقام بنفس
الطريقة التي يفكرون بها يف ما متثله الكلًّمت .لقد شعرت بالذهول قبل عدة سنوات عند
تدريس دورة فيزياء لغري العلًّمء يف ييل –مدرسة معروفة باملعرفة اللغوية ،إن مل تكن
العددية– إذ اكتشف أن 35باملئة من الطالب ،والذين تخرج العديد منهم يف التاريخ أو
الدراسات األمريكية ،مل يعرفوا عدد سكان الواليات املتحدة مبعامل يصل إىل عرشة أضعاف!
كثريون ظنوا أن عدد السكان يرتاوح بني 1و 10ماليني – أقل من عدد سكان مدينة نيويورك،
التي تقع عىل بعد أقل من 100ميل.
يف البداية ،اعتربت هذا دليالً عىل نقص خطري يف منهج الدراسات االجتًّمعية يف
نظامنا التعليمي .فعالوة عىل كل يشء ،وبغض النظر عن قرب نيويورك ،إن هذه البالد كانت
لتبدو مكانًا مختلفًا جذريًا لو أن عدد سكانها كان مليونًا فقط .الحقًا ،أدركت أن معظم هؤالء
الطالب مل تكن لديهم معاين موضوعية ملفاهيم مثل مليون أو 100مليون .فهم مل يتعلموا أب ًدا
ربط يشء يحتوي عىل مليون يشء ،مثل مدينة أمريكية متوسطة الحجم ،بالرقم مليون .كثري
من الناس ،عىل سبيل املثال ،مل يتمكنوا من إخباري باملسافة التقريبية عرب الواليات املتحدة
باألميال .فحتى هذا الرقم يعترب كبري ج ًدا بحيث يصعب التفكري فيه .ومع ذلك ،وبقليل من
التفكري العقالين ،مثل دمج تقدير للمسافة التي ميكنك قيادتها براحة يف يوم واحد عىل طريق
رسيع بني الواليات (حوايل 500ميل) مع تقدير عدد األيام التي ستستغرقها لعبور البالد
(حوايل 6-5أيام) يخربين أن هذه املسافة أقرب إىل 3000-2500ميل منها إىل ،عىل سبيل
املثال 10000 ،ميل.
إن التفكري يف األرقام من حيث ما متثله يزيل معظم الغموض عن العملية برمتها .وهذا
ما يتخصص فيه الفيزيائيون .ال أريد أن أدعي أن التفكري الريايض يشء ميكن للجميع الشعور
جا سحريًا لقلق الرياضيات .لكنه ليس باألمر الصعب للغاية –بل
بالراحة معه ،أو أن هناك عال ً
37
وفعال رضوريًا لفهم طريقة تفكري الفيزيائيني– تقدير ما متثله األرقام،
ً غال ًبا ما يكون ممت ًعا
قليال يف ذهنك .عىل أقل تقدير ،يجب عىل املرء أن يتعلم تقدير الفائدة العظيمة
واللعب بها ً
لألرقام ،حتى دون القدرة بالرضورة عىل إجراء تحليالت كمية مفصلة بنفسه .يف هذا الفصل،
سأنحرف بإيجاز عن َمثَل ستيفن هوكينغ (آمل ،بالطبع ،أن تثبت أنت وكل الجمهور الشاري
خطأه!) وأريكم كيف يتعامل الفيزيائيون مع االستدالل العددي ،بطريقة يجب أن توضح ملاذا
نريد استخدامه وما نكسبه من هذه العملية .بإمكاين ذكر الدرس األسايس ببساطة :نحن
نستخدم األرقام لئال نصعب األمور أب ًدا أكرث مًّم يجب .وذلك ألن الفيزياء ،يف املقام األول،
تتعامل مع مجموعة واسعة من املقاييس أو األحجام ،وميكن أن تنشأ أرقام كبرية ج ًدا أو
صغرية ج ًدا حتى يف أبسط املسائل .إن أصعب يشء يف التعامل مع مثل هذه الكميات ،كًّم
سيشهد أي شخص حاول رضب رقمني مكونني من 8أرقام ،هو الحساب الصحيح لجميع
األرقام .ومع ذلك ،لألسف ،فغال ًبا ما يكون هذا األمر األشد صعوبة هو أيضً ا األكرث أهمية ،ألن
عدد األرقام يحدد الحجم العام لرقم ما .إذا رضبت 40يف ،40أيهًّم إجابة أفضل 160 :أم
2000؟ ال يشء منهًّم دقيق ،لكن األخري أقرب بكثري إىل اإلجابة الفعلية وهي .1600لو كان
هذا هو األجر الذي تتلقاه مقابل 40ساعة من العمل ،فإن الحصول عىل الرقم 16صحي ًحا لن
يكون مبثابة عزاء معترب لفقدان أكرث من 1400دوالر بسبب الخطأ يف تقدير الحجم.
لتجنب مثل هذه األخطاء ،اخرتع الفيزيائيون طريقة لتقسيم األرقام إىل جزأين ،أحدهًّم
يخربك عىل الفور بالحجم الكيل أو املقياس للرقم –هل هو كبري أم صغري؟– ضمن نطاق يصل
إىل عامل يساوي ،10بينًّم اآلخر يخربك بالقيمة الدقيقة ضمن هذا النطاق .وعالوة عىل ذلك،
من األسهل تحديد املقياس الفعيل دون الحاجة إىل عرض جميع األرقام رصاحةً ،مبعنى آخر،
دون الحاجة إىل كتابة الكثري من األصفار ،كًّم لو كان املرء يكتب حجم الكون املريئ
بالسنتيمرتات :حوايل .1,000,000,000,000,000,000,000,000,000عند عرضه بهذه
الطريقة ،كل ما نعرفه هو أن الرقم كبري!
يتحقق كال الهدفني من خالل طريقة لكتابة األرقام تُعرف بالتدوين العلمي( .ينبغي أن
يُدعى التدوين املعقول ).وهي تبدأ بكتابة الرقم 10nعىل هيئة الرقم 1متبو ًعا بـ nمن
مثال ،بينًّم 106ميثل الرقم 1متبو ًعا بـ 6أصفار
األصفار ،بحيث تكتب 100عىل هيئة ً 102
38
رقًّم مثل 106لديه صفر
(مليون) ،وهكذا .إن املفتاح لتقدير حجم مثل هذه األرقام هو تذكر أن ً
واحد أكرث ،وبالتايل هو أكرب 10مرات من .105ولألرقام الصغرية ج ًدا ،مثل حجم ذرة
بالسنتيمرتات ،حوايل 0.000000001سم ،ميكننا كتابة 10-nلتمثيل الرقم 1مقسو ًما عىل
،10nوهو رقم به 1يف املكان nبعد النقطة العرشية .وبالتايل ،سيكون ُعرش ،10-1ومليار
،10-9وهكذا.
هذا ال يتخلص فقط من األصفار ولكنه يحقق كل ما نريد ،ألن أي رقم ميكن كتابته
ببساطة عىل أنه رقم بني 1و 10مرضوبًا يف رقم يتكون من 1متبو ًعا بـ nمن األصفار .الرقم
100هو ،102بينًّم الرقم 135هو ،102 × 1.35عىل سبيل املثال .الجًّمل يف هذا هو أن
الجزء الثاين من رقم مكتوب بهذه الطريقة ،يُسمى األُس ،أو قوة العرشة ،يخربنا عىل الفور
بعدد األرقام التي يحتويها ،أو «رتبة الحجم» للرقم (وبالتايل 100و 135هًّم من نفس رتبة
الحجم) ،بينًّم الجزء األول يخربك بالضبط ما هي القيمة ضمن هذا النطاق (أي ،سواء كان
100أو .)135
نظ ًرا ألن أهم يشء عن رقم هو عىل األرجح حجمه ،فإن كتابته بشكل مثل 1.45962
× 1013بدالً من ،1,459,620,000,000أو تريليون وأربعًّمئة وتسعة وخمسون مليار
فهًّم أفضل ملعنى الرقم الكبري ،بخالف حقيقة أنه أقل تعقي ًدا،
وستًّمئة وعرشون مليونًا ،يعطي ً
حني يكتب بهذه الطريقة .ما قد يكون أكرث إثارة للدهشة هو االدعاء الذي سأديل به قريبًا
بخصوص أن األرقام التي متثل العامل الفيزيايئ تكتسب املعنى فقط عند كتابتها بالرتميز
العلمي.
ومع ذلك ،فبداية هناك فائدة فورية من استخدام التدوين العلمي .فهي تسهل التالعب
ريا .عىل سبيل املثال ،إذا احتفظت بالخانات بشكل صحيح ،تجد أن = 100 × 100
باألرقام كث ً
بدال من ذلك هكذا ،104 =10)2 + 2( = 102 × 102يتحول الرضب إىل
.10,000وحني نكتبها ً
جمع .وباملثل ،فبكتابة 10 = 100 ÷ 1000يف هيئة ،102 = 10)3 - 1( = 101 ÷ 103تصبح
القسمة بسيطة كالطرح .باستخدام هذه القواعد لقوى العرشة ،يصبح الصداع الرئييس –تتبع
الحجم الكيل يف حساب ما– أم ًرا تاف ًها .إن اليشء الوحيد الذي قد تحتاج إىل آلة حاسبة له هو
رضب أو قسمة األجزاء األوىل من األرقام املكتوبة بالرتميز العلمي ،أي األجزاء التي بني 1و.10
39
ولكن حتى هنا ،فإن األمور أبسط ،حيث أن االعتياد عىل جداول الرضب حتى 10 × 10يسمح
للمرء بتخمني ما ستكون عليه النتيجة مسبقًا بدقة.
إن املغزى هذا النقاش ليست محاولة لتحويلكم إىل عباقرة يف الحساب .بل إذا كان
تبسيط العامل يعني تقريبه ،فإن الرتميز العلمي ميكن من استخدام إحدى أهم األدوات يف علم
الفيزياء كله :تقدير رتبة الحجم .والتفكري يف األرقام بالطريقة التي يوجهك إليها الرتميز
العلمي تسمح لك بتقدير اإلجابات لألسئلة التي كانت لتصبح يف غالب األمر غري قابلة للحل.
ٍ
أراض ومبا أنه يساعد بشكل كبري عىل معرفة إذا كنت عىل الطريق الصحيح عند التنقل يف
غري مستكشفة ،فإن القدرة عىل تقدير اإلجابة الصحيحة ألي مشكلة فيزيائية مفيدة ج ًدا .وهي
أيضً ا تقطع الطريق عىل كثري من اإلحراج .هناك قصص أسطورية عن طالب الدكتوراه الذين
قدموا أطروحات بصيغ معقدة من املفرتض أن تصف الكون ،فقط ليكتشفوا أثناء دفاعهم عن
األطروحة أن إدخال أرقام واقعية يف الصيغ يُظهر أن التقديرات بعيدة كل البعد عن الواقع.
تفتح تقديرات رتبة الحجم العامل عىل مرصاعيه من أجلك ،كًّم كان إلنريكو فريمي أن
يقول .كان فريمي ( )1954-1901واح ًدا من أواخر الفيزيائيني العظًّمء يف هذا القرن املهرة
عىل حد سواء يف الفيزياء النظرية والتجريبية .وقد اختري ليكون مسؤوالً عن مرشوع مانهاتن،
املجهود الرسي للواليات املتحدة خالل الحرب لتطوير مفاعل نووي وبالتايل إثبات إمكانية
االنشطار النووي املتحكم به –انشطار نوى الذرات– قبل بناء قنبلة ذرية .كان أيضً ا أول
فيزيايئ يقرتح نظرية ناجحة لوصف التفاعالت التي تسمح مبثل هذه العمليات ،والتي تم
منحه جائزة نوبل لها .تويف يف سن مبكرة بالرسطان ،رمبا بسبب سنوات من التعرض
لإلشعاع يف الوقت الذي مل يكن معروفًا فيه مدى خطورة ذلك( .من يهبط من بينكم يف مطار
لوجان ويعلقون يف االزدحامات املرورية الضخمة التي تؤدي إىل النفق الذي سيأخذك إىل
بوسطن ،قد يسيل نفسه بالبحث عن لوحة تذكارية مخصصة لفريمي موجودة عند قاعدة جرس
صغري قبل محطات الدفع عند مدخل النفق .إننا نسمي املدن تيم ًنا بأسًّمء الرؤساء ،واملالعب
الرياضية عىل أسًّمء أبطال الرياضة .وإنه ليشء معرب أن يحصل فريمي عىل جرس بجانب
محطة تحصيل).
40
إنني أتحدث عن فريمي ألنه ،بصفته قائدا ً لفريق من الفيزيائيني العاملني يف مرشوع
مانهاتن يف مخترب تحت األرض أسفل ملعب لكرة القدم يف جامعة شيكاغو ،كان يساعد يف
الحفاظ عىل معنويات الفريق من خالل تقديم تحديات بانتظام للمجموعة .تلك مل تكن مشاكل
فيزيائية بالفعل .بدالً من ذلك ،أعلن فريمي أن عىل الفيزيايئ الجيد أن يكون قادرا ً عىل اإلجابة
عىل أي مشكلة تُطرح عليه – وليس عليه بالرضورة أن يأيت باإلجابة الصحيحة ،ولكن أن يطور
خوارزمية تسمح بالحصول عىل تقدير بالرتتيب الحجمي استنادا ً إىل أشياء يعرفها املرء أو
ميكنه تقديرها بشكل موثوق .عىل سبيل املثال ،هناك سؤال غالباً ما يُطرح يف اختبارات
الفيزياء الجامعية هو ،كم عدد مز ّودي خدمة ضبط البيانو يف شيكاغو يف أي وقت معني؟
دعني أرشدك خالل نوع التفكري الذي رمبا كان فريمي ليتوقعه .النقطة األساسية هي
أنه إذا كنت مهتًّمً فقط بالحصول عىل الرتتيب الحجمي الصحيح ،فهذا ليس باألمر الصعب.
أوالً ،ق ّدر عدد سكان شيكاغو .حوايل 5ماليني؟ كم عدد األشخاص يف األرسة العادية؟ حوايل
4؟ وبالتايل ،يوجد حوايل مليون ( )106أرسة يف شيكاغو .كم عدد األرس التي لديها بيانو؟
حوايل واحدة من كل عرشة؟ وبالتايل ،يوجد حوايل 100,000بيانو يف شيكاغو .اآلن ،كم
عدد البيانوهات التي يضبطها مزود خدمة ضبط البيانو كل عام؟ إذا كان ليعيش من هذا العمل،
فهو عىل األرجح يضبط ما ال يقل عن اثنني يف اليوم ،خمسة أيام يف األسبوع ،أو عرشة يف
األسبوع .العمل حوايل خمسني أسبوعاً يف السنة يجعل 500بيانو .إذا تم ضبط كل بيانو يف
املتوسط مرة واحدة يف السنة ،فإنه يتطلب 100,000عملية ضبط يف السنة ،وإذا قام كل
مزود بضبط ،500فإن عدد املزودين املطلوب هو ( 200 = 500 / 100,000ألن 100,000
.)102 × 2 = 103 × 0.2 = 103 × 5/1 = 102/510 × 5/1 = 500 /
إن املغزى ليس أنه قد يكون هناك بالضبط 200مزود خدمة ضبط البيانو يف شيكاغو
أم ال .املغزى هو أن هذا التقدير ،الذي جرى الحصول عليه برسعة ،يخربنا بأننا سنتفاجأ إذا
وجدنا أقل من حوايل 100أو أكرث من حوايل 1,000مزود خدمة ضبط البيانو( .أعتقد أن
هناك يف الواقع حوايل .)600حني تفكر يف حقيقة أنه رمبا مل تكن لتملك فكرة عن نطاق
اإلجابة الصحيحة قبل أنت تجري مثل هذا التقدير ،فإن قوة هذه التقنية تتجىل.
ميكن أن يعطيك تقدير رتبة الحجم رؤى جديدة حول أشياء قد ال تكون قد فكرت أبدا ً
أنك قد تتوقع تقديرها أو تصورها .هل هناك املزيد من حبات الرمل عىل الشاطئ من النجوم
41
يف السًّمء؟ كم عدد األشخاص الذين يعطسون عىل األرض يف كل ثانية؟ كم من الوقت
سيستغرق الرياح واملاء لتآكل جبل إيفرست؟ كم عدد األشخاص يف العامل الذين( ...اكتب
احتًّملك املفضل هنا) بينًّم تقرأ هذه الكلًّمت؟
وبنفس القدر من األهمية ،رمبا يعطيك التقدير برتبة الحجم رؤى جديدة حول أشياء
يجب أن تفهمها .ميكن للبرش أن يتخيلوا األرقام مبارشة حتى مكان ما بني 6و .12إذا رأيت
النقاط الست عندما ترمي نردا ً ،ال تحتاج إىل عدها يف كل مرة ملعرفة أن هناك .6ميكنك تخيل
«الكل» كيشء مختلف عن مجموع أجزائه .لكن لو أعطيتك نردا ً بعرشين وج ًها ،من غري املحتمل
أن تتمكن من النظر إىل 20نقطة فتفهمها مبارشة كالعدد .20حتى لو كانت مرتبة بأمناط
مثال ،قبل
منتظمة ،فمن املحتمل أن تضطر إىل تجميع النقاط يف رأسك إىل 4مجموعات من ً 5
أن تتمكن من متييز املجموع .هذا ال يعني أننا ال نستطيع بسهولة فهم ما ميثله العدد .20إننا
نألف الكثري من األشياء التي يوصف بها هذا العدد :مجموع أصابعنا وأصابع قدمينا؛ رمبا عدد
الثواين التي تستغرقها ملغادرة املنزل والصعود إىل سيارتك.
لكن مع األعداد الكبرية أو الصغرية جدا ً ،ليس لدينا طريقة مستقلة لفهم ما متثله هذه
األعداد بدون تقديرات متعمدة ميكن أن ترتبط بهذه األعداد إلعطائها معنى .املليون قد يكون
عدد األشخاص الذين يعيشون يف مدينتك ،أو عدد الثواين يف حوايل 10أيام .البليون قريب
من عدد األشخاص الذين يعيشون يف الصني .إنه أيضاً عدد الثواين يف حوايل 32سنة .كلًّم
قمت باملزيد من التقديرات للكميات التي تحتوي عىل هذه األعداد ،كلًّم كان بإمكانك فهمها
بشكل حديس بشكل أفضل .ميكن أن يكون ذلك ممتعاً فعالً .ق ّدر األشياء التي تثري فضولك،
أو األشياء التي تبدو مسلية :كم مرة ستسمع اسمك يُنادى يف حياتك؟ كم من الطعام تأكل،
مقد ًرا بالرطل ،يف عقد من الزمان؟ وقد يصبح الرسور الذي تناله من القدرة عىل التعامل،
خطوة بخطوة ،مع ما كان ليصبح مشكلة عصية للغاية عىل حل دقيق ،إدمانياً .أعتقد أن هذا
النوع من «االندفاع» يأيت بالكثري من املتعة التي يحصل عليها الفيزيائيون من مًّمرسة
الفيزياء.
إن فضيلة الرتميز العلمي والتقدير برتبة الحجم أكرث مبارشة بالنسبة للفيزيائيني .وهي
تسمح للتبسيطات املفاهيمية التي ناقشتها يف الفصل األخري بأن تصبح واضحة .إذا استطعنا
فهم رتبة الحجم الصحيحة ،فغالباً ما سنفهم معظم ما نحتاج إىل معرفته .وليس الهدف أن
42
مهًّم .إنه مهم ،وهذا يوفر
نقول إن الحصول عىل جميع عوامل الـ 2والـ πصحيحة ليس ً
االختبار الحقيقي الذي يكشف أننا نعرف ما نتحدث عنه ،ألننا بعد ذلك ميكننا مقارنة التنبؤات
باملالحظات بدقة أعىل الختبار أفكارنا .هذا يقودين إىل العبارة الغريبة التي ذكرتها سابقاً ،أن
األرقام التي متثل العامل تكتسب معنى فقط عندما تُكتب بالرتميز العلمي .هذا ألن األرقام يف
الفيزياء تشري عموماً إىل أشياء ميكن قياسها .إذا قست املسافة بني األرض والشمس ،ميكنني
التعبري عن تلك املسافة بـ 14,960,000,000,000أو 1013 × 1.4960سنتيمرت (سم) .قد
يبدو االختيار بني االثنني قد يف األساس وكأنه مسألة من مسائل الدالالت الرياضية ،وبالفعل،
بالنسبة لريايض ،تلك متثيالت مختلفة لكنها متساوية لعدد واحد متطابق .ولكن بالنسبة
لفيزيايئ ،فالرقم األول ال يعني فقط شيئًا مختلفًا ج ًدا عن الثاين ولكنه مشبوه للغاية .إذن
فالرقم األول يوحي بأن املسافة بني األرض والشمس هي 14,960,000,000,000سم وليس
14,959,790,562,739سم أو حتى 14,960,000,000,001سم .إنه يوحي بأننا نعرف
املسافة بني األرض والشمس بالسنتيمرت األقرب!
هذا أمر سخيف ألن ،ومن بني أمور أخرى ،الفارق يف املسافة بني أسنب ،كولورادو (يف
الظهر بتوقيت املنطقة الجبلية) ،والشمس ،وبني كليفالند ،أوهايو (يف الظهر بتوقيت الرشق
القيايس) ،والشمس يختلف مبقدار 8000قدم ،أو حوايل 250,000سنتيمرت ،وهو الفارق
بني ارتفاعات أسنب وكليفالند عن مستوى سطح البحر .وبالتايل ،يتعني علينا تحديد املكان
عىل األرض الذي نجري فيه مثل هذا القياس لجعله ذا معنى .بعد ذلك ،حتى لو حددنا أن هذه
املسافة تُقاس من مركز األرض إىل مركز الشمس (وهو اختيار منطقي) ،يعني ذلك أننا ميكن
أن نقيس حجم األرض والشمس بدقة تصل إىل السنتيمرت األقرب ،ناهيك عن قياس املسافة
بينهًّم بتلك الدقة العالية( .إذا فكرت يف أي طريقة عملية ممكنة لقياس املسافة من األرض إىل
قياسا بهذا النوع من الدقة غري مرجح ،إن مل يكن
ً الشمس ،ميكنك أن تقنع نفسك بأن
مستحيال).
ً
ال :من الواضح أننا عندما نكتب 14,960,000,000,000سم ،نقوم بتقريب املسافة
إىل رقم مرتب .لكن ،بأي دقة نعرف هذا الرقم حقًا؟ ال توجد مثل هذه الغموض عندما نكتب
1013 × 1.4960سم ،فهو يخربنا بالضبط كم نعرف هذه املسافة .تحدي ًدا ،يخربنا أن القيمة
الفعلية تقع يف مكان ما بني 1013 × 1.49595سم و 1013 × 1.49605سم .لو كنا نعرف
43
املسافة بدقة أكرب بعرش مرات ،لكتبنا بدالً من ذلك 1013 × 1.49600سم .وبالتايل ،هناك
فارق كبري بني 1013 × 1.4960سم و 14,960,000,000,000سم .إنه أكرث من عالَم يف
حقيقة األمر ،ألنك إذا فكرت يف عدم اليقني الضمني يف الرقم األول ،فهو حوايل × 0.0001
،1013أو مليار ،سنتيمرت – أكرب من نصف قطر األرض!
إن ذلك يقود إىل سؤال مثري لالهتًّمم .هل هذا الرقم دقيق؟ بينًّم يبدو عدم اليقني
ريا ،فمقارن ًة مبسافة األرض إىل الشمس هو صغري – وهو أقل من
مبقدار مليار سنتيمرت كث ً
واحد من عرشة آالف من هذه املسافة ،عىل وجه الدقة .هذا يعني أننا نعرف مسافة األرض إىل
الشمس بدقة تزيد عن 1جزء يف .10,000وعىل مقياس نسبي ،هذه دقة عالية .سيكون ذلك
مثل قياس طولك بدقة تصل إىل ُعرش املليمرت .إن جًّمل كتابة رقم مثل 1013 × 1.4960هو
أن نطاق 1013يحدد «مقياس» الرقم ،مًّم ميكنك من رؤية مدى دقته عىل الفور .كلًّم زاد عدد
األماكن العرشية التي تم ملؤها ،كانت الدقة أعىل .يف الواقع ،عندما تفكر يف األمر بهذه
الطريقة ،تخربك األرقام املكتوبة بالرتميز العلمي قبل كل يشء مبا ميكنك تجاهله! يف اللحظة
التي ترى فيها 1013سم ،فلتعلم أن اآلثار الفيزيائية التي قد تغري النتيجة بالسنتيمرتات ،أو
حتى باملاليني أو املليارات من السنتيمرتات ،عىل األرجح غري ذات صلة .وكًّم أكدت يف الفصل
األخري ،فإن معرفة ما يجب تجاهله عاد ًة ما تكون األهم من كل يشء.
لقد تجاهلت حتى اآلن رمبا الحقيقة األكرث أهمية التي تجعل من 1013 × 1.49600سم كمية
فيزيائية وليست رياضية .إنها «سم» امللحقة يف النهاية .بدون هذه الصفة ،ليس لدينا أي فكرة
عًّم يشري إليه هذا الرقم .إن «سم» تخربنا أن هذه قياس للطول .وهذا التخصيص يُسمى البعد
لكمية ما ،وهو ما يربط األرقام يف الفيزياء بالعامل الحقيقي للظواهر .إن السنتيمرتات،
البوصات ،األميال ،والسنوات الضوئية – كلها قياسات للمسافة وبالتايل تحمل أبعاد الطول.
إن ما يُعترب عىل األرجح األكرث مسؤولية عن تبسيط الفيزياء هو خاصية مثرية لالهتًّمم
يف العامل .هناك ثالثة أنواع فقط من الكميات األساسية البعدية يف الطبيعة :الطول ،الزمن،
والكتلة .وكل الكميات الفيزيائية ميكن التعبري عنها من حيث بعض تركيبات هذه الوحدات .ال
يهم إذا عربت عن الرسعة باألميال/الساعة ،األمتار/الثانية ،الفرلنغ/أسبوعني ،فهي كلها مجرد
طرق مختلفة لكتابة الطول/الزمن.
44
ولهذا تأثري ملحوظ .فبًّم أن هناك ثالثة أنواع فقط من الكميات األساسية البعدية ،هناك
عدد محدود من الرتكيبات املستقلة لهذه الكميات ميكن ابتكاره .هذا يعني أن كل كمية فيزيائية
مرتبطة بكل كمية فيزيائية أخرى بطريقة بسيطة ،وهذا يحد بشكل كبري من عدد العالقات
الرياضية املختلفة املمكنة يف الفيزياء .رمبا ال توجد أداة أكرث أهمية يستخدمها الفيزيائيون
من استخدام األبعاد لتوصيف املالحظات الفيزيائية .ال يقترص األمر عىل التخلص إىل حد كبري
من الحاجة إىل حفظ املعادالت ،ولكنه يكمن أيضً ا يف الطريقة التي نتصور بها العامل
أساسا
ً الفيزيايئ .كًّم سأجادل ،مينحك استخدام التحليل البعدي منظو ًرا أساس ًيا للعامل ،ويوفر
منطق ًيا لتفسري املعلومات التي تحصل عليها من حواسك أو من قياسات أخرى .إنه يوفر
التقريب النهايئ :عندما نتخيل األشياء ،نتخيل أبعادها.
عندما قمنا بتحليل قوانني التحجيم لألبقار الكروية يف وقت سابق ،عملنا فعل ًيا مع
مهًّم هناك هو العالقة بني
العالقة بني أبعادها من الطول والكتلة .عىل سبيل املثال ،ما كان ً
الطول والحجم ،وبشكل أكرث تحدي ًدا ،نسبة أحجام األشياء التي تم تكبري حجمها .عند التفكري
يف األبعاد ،ميكننا أن نذهب إىل أبعد من ذلك ونقدر حجم اليشء نفسه .فكر يف أي نظام من
الوحدات لوصف حجم يشء :بوصة مكعبة ،سنتيمرت مكعب ،قدم مكعب .إن الكلمة الرئيسية
هي مكعب .هذه القياسات كلها تصف نفس األبعاد :طول × طول × طول = الطول .3وبالتايل،
فمن املحتمل أن ميكن تقدير حجم اليشء بأخذ بعض الطول الخصائيص ،ولنسمه ،dثم
تكعيبه ،فيعطينا .d3عاد ًة ما يكون ذلك جي ًدا يف حدود رتبة حجم ما .عىل سبيل املثال ،ميكن
إعادة كتابة حجم الكرة الذي ذكرته سابقًا يف هيئة ،π/6 d³ ≈ [1/2] d³حيث dهو قطرها.
وهنا مثال آخر :أيهًّم صحيح :املسافة = الرسعة × الزمن ،أم املسافة = الرسعة/الزمن؟
عىل الرغم من أن أبسط أنواع «تحليل األبعاد» ميكن أن يعطي اإلجابة الصحيحة عىل الفور،
جيال بعد جيل من الطالب الذين يدرسون الفيزياء يرصون عىل محاولة حفظ الصيغة،
إال أن ً
وهم دامئًا ما يخطئون يف ذلك .أبعاد الرسعة هي الطول/الزمن .أبعاد املسافة هي الطول.
لذلك ،إذا كان للجانب األيرس أبعاد الطول ،والرسعة لها أبعاد الطول/الزمن ،فمن الواضح أنك
يجب أن ترضب الرسعة يف الزمن حتى تكون للجانب األمين أبعاد الطول.
هذا النوع من التحليل ال ميكنه أب ًدا أن يضمن لك أن لديك اإلجابة الصحيحة ،لكنه ميكن أن
يعلمك عندما تكون مخط ًئا .وحتى وإن مل يضمن أنك عىل صواب ،فعند التعامل مع مجهول،
45
من املفيد ج ًدا أن تدع التحليل البعدي يكون دليلك .إنها توفر لك إطا ًرا لتناسب املجهول مع ما
تعرفه بالفعل عن العامل.
يُقال إن الحظ يُفضّ ل العقل املستعد .وال يشء ميكن أن يكون أصدق من ذلك يف تاريخ
الفيزياء .وميكن للتحليل البعدي أن يجهز أذهاننا للغري متوقع .يف هذا الصدد ،غال ًبا ما تكون
النتائج النهائية للتحليل البعدي البسيط قوية ج ًدا لدرجة أنها قد تبدو سحرية .لعرض هذه
األفكار بشكل توضيحي ،أريد القفز إىل مثال حديث يعتمد عىل البحث يف طليعة الفيزياء –
حيث يختلط املعروف واملجهول م ًعا .يف هذه الحالة ،ساعدت الحجج البعدية يف الوصول إىل
فهم واحدة من القوى األربع املعروفة يف الطبيعة :التفاعالت «القوية» التي تربط «الكواركات»
م ًعا لتشكيل الربوتونات والنيوترونات ،التي بدورها تشكل نوى جميع الذرات .قد تبدو الحجج
غامضة بعض اليشء عند القراءة األوىل ،لكن ال تقلق .أقدمها ألنها تعطيك الفرصة لرؤية كيف
ميكن أن تكون الحجج البعدية شاملة وقوية يف توجيه حدسنا الفيزيايئ .رمبا تكون نكهة
الحجج أكرث أهمية لتحملها معك مقارنة بأي من النتائج.
إن الفيزيائيني الذين يدرسون فيزياء الجسيًّمت األولية –ذلك الجزء من الفيزياء التي
يتعامل مع املكونات النهائية للًّمدة وطبيعة القوى بينها– قد ابتكروا نظا ًما للوحدات يستغل
التحليل البعدي بقدر ما ميكن أخذه .من حيث املبدأ ،جميع الكميات البعدية الثالث–الطول
والزمن والكتلة– مستقلة ،لكن يف الواقع تعطينا الطبيعة عالقات أساسية بينها .عىل سبيل
املثال ،لو كان هناك ثابت عاملي يربط الطول بالزمن ،فإنني أستطيع التعبري عن أي طول
مبصطلحات الزمن برضبه بذلك الثابت .يف الواقع ،كانت الطبيعة كرمية مبا فيه الكفاية
لتزودنا مبثل هذا الثابت ،كًّم أظهر أينشتاين ألول مرة .إن أساس نظريته النسبية ،التي
سأناقشها الحقًا ،هو املبدأ القائل بأن رسعة الضوء ،املسًّمة ،cثابت عاملي ،والذي سيقيس
جميع املراقبني له نفس القيمة .ونظ ًرا ألن الرسعة لها أبعاد الطول/الزمن ،إذا رضبت أي زمن
يف ،cسأصل إىل يشء بأبعاد الطول – أي املسافة التي سيقطعها الضوء يف هذا الزمن .ثم
يصبح من املمكن التعبري عن جميع األطوال بشكل ال لبس فيه من حيث املدة التي يستغرقها
الضوء للسفر من نقطة إىل أخرى .عىل سبيل املثال ،ميكن التعبري عن املسافة من كتفك إىل
مرفقك بـ 10-9ثوانٍ ،نظ ًرا ألن هذا هو تقري ًبا الزمن الذي يستغرقه شعاع الضوء لقطع هذه
املسافة .إن أي مراقب يقيس املسافة التي يقطعها الضوء يف هذا الزمن سيقيس نفس املسافة.
46
إن وجود ثابت رسعة الضوء العاملي يوفر تطابقًا فرديًا بني أي طول وزمن .وذلك يسمح
لنا بإلغاء إحدى هذه الكميات البعدية لصالح األخرى .مبعنى أن بإمكاننا اختيار إذا كنا نرغب
يف التعبري عن جميع األطوال كأزمنة مكافئة أو العكس .إذا أردنا القيام بذلك ،فمن األبسط
اسم وحدة الطول «ثانية
ابتكار نظام للوحدات حيث تكون رسعة الضوء عدديًا مساوية للواحدِ .
ضوئية» بدالً من سنتيمرت أو بوصة ،عىل سبيل املثال .يف هذه الحالة ،تصبح رسعة الضوء
مساوية لـ 1ثانية ضوئية/ثانية .واآلن تصبح جميع األطوال وأزمنتها املكافئة عدديًا متساوية!
ميكننا الذهاب خطوة أبعد .إذا كانت القيم العددية ألطوال الضوء وأزمنة الضوء
متساوية يف هذا النظام من الوحدات ،ملاذا نعترب الطول والزمن كميتني بعديتني منفصلتني؟
ميكننا بدالً من ذلك أن نعادل أبعاد الطول والزمن .يف هذه الحالة جميع الرسعات ،التي كانت
سابقًا لها أبعاد الطول/الزمن ،ستصبح بال أبعاد ،نظ ًرا ألن أبعاد الطول والزمن يف البسط
واملقام ستلغي بعضها بعضً ا .يف الواقع هذا مكافئ لكتابة جميع الرسعات كجزء (بال أبعاد)
من رسعة الضوء ،بحيث إذا قلت إن شيئًا ما كان له رسعة [ ،]2/1هذا يعني أن رسعته كانت
[ ]2/1رسعة الضوء .من الواضح أن هذا النوع من النظام يتطلب أن تكون رسعة الضوء ثابتة
عاملية لجميع املراقبني ،بحيث ميكننا استخدامها كقيمة مرجعية.
لدينا اآلن كميتني بعديتني مستقلتني فقط ،الزمن والكتلة (أو بشكل معادل ،الطول
والكتلة) .واحدة من نتائج هذا النظام غري العادي هي أنه يسمح لنا مبعادلة كميات بعدية
أخرى بجانب الطول والزمن .عىل سبيل املثال ،تعادل صيغة أينشتاين الشهرية E = mc2كتلة
الجسم مع كمية معادلة من الطاقة .ومع ذلك ،ففي نظام الوحدات الجديد لدينا )1 =( cليس
لها أبعاد ،بحيث نجد أن «أبعاد» الطاقة والكتلة اآلن متساوية .وذلك يطبق يف الواقع ما تفعله
اتصاال فرديًا بني الكتلة والطاقة .تخربنا صيغة أينشتاين أنه
ً صيغة أينشتاين شكليًا :إنه يخلق
مبا أن الكتلة ميكن تحويلها إىل طاقة ،ميكننا اإلشارة إىل كتلة يشء ما إما بالوحدات التي
كانت عليها قبل أن تتحول إىل طاقة أو وحدات الكمية املعادلة من الطاقة التي تتحول إليها .مل
نعد بحاجة إىل الحديث عن كتلة جسم بالكيلوغرامات أو األطنان أو الجنيهات ،بل ميكننا
التحدث عنها بوحدات الطاقة املكافئة ،بـ «الفولت» أو «السعرات الحرارية» ،عىل سبيل املثال.
هذا بالضبط ما يفعله فيزيائيو الجسيًّمت األولية عندما يشريون إىل كتلة اإللكرتون بـ 0.5
مليون إلكرتون فولت (اإللكرتون فولت هي الطاقة التي يحصل عليها إلكرتون يف سلك عند
47
تشغيله ببطارية فولت واحد) بدالً من 10-31غرامات .نظ ًرا ألن تجارب فيزياء الجسيًّمت
تتعامل بانتظام مع عمليات يتم فيها تحويل الكتلة الساكنة للجسيًّمت إىل طاقة ،فمن املعقول
يف النهاية استخدام وحدات الطاقة لتتبع الكتلة .وهذه واحدة من اإلرشادات :استخدم دامئًا
الوحدات التي تجعل أكرث املعاين الفيزيائية .باملثل ،الجسيًّمت يف املرسعات الكبرية تسافر
بالقرب من رسعة الضوء ،بحيث أن تعيني c = 1عدديًا عمل ًيا .ومع ذلك ،لن يكون هذا عمل ًيا
لوصف الحركات عىل مقياس أكرث اعتيادية ،حيث يتعني علينا وصف الرسعات بأرقام صغرية
ج ًدا .عىل سبيل املثال ،رسعة طائرة نفاثة بهذه الوحدات ستكون حوايل ،0.000001أو 10-
.6
ال تتوقف األمور ال تتوقف عند هذا الحد .هناك ثابت عاملي آخر يف الطبيعة ،يرمز له بـ
hويُسمى ثابت بالنك ،عىل اسم الفيزيايئ األملاين ماكس بالنك (أحد آباء ميكانيكا الكم) .يربط
بني الكميات ذات أبعاد الكتلة (أو الطاقة) وتلك ذات أبعاد الطول (أو الزمن) .باستمرارنا كًّم
يف السابق ،ميكننا ابتكار نظام للوحدات بحيث ال يكون c = 1فقط ،ولكن h = 1أيضً ا .يف
هذه الحالة ،تصبح العالقة بني األبعاد أكرث تعقي ًدا قليالً :يجد املرء أن بعد الكتلة (أو الطاقة)
يصبح مكافئًا لـ /1الطول ،أو /1الزمن( .عىل وجه التحديد ،تصبح كمية الطاقة 1إلكرتون
فولت مكافئة لـ 10-16 × 6/1ثانية) .والنتيجة النهائية لكل هذا هي أننا ميكن أن نقلل
الكميات البعدية الثالث املستقلة بالفطرة يف الطبيعة إىل كمية واحدة .ميكننا بعد ذلك وصف
جميع القياسات يف العامل الفيزيايئ مبصطلحات كمية بعدية واحدة فقط ،والتي ميكننا
اختيارها لتكون الكتلة أو الزمن أو الطول حسب راحتنا .وللتحويل بينها ،نحتفظ فقط بتتبع
عوامل التحويل التي أخذتنا من نظامنا العادي للوحدات –الذي يحوي ،عىل سبيل املثال ،رسعة
الضوء c = 3 × 108مرت/ثانية– إىل النظام الذي فيه .c = 1عىل سبيل املثال ،الحجم ،بأبعاد
الطول × الطول × الطول = طول 3يف نظام الوحدات العادي لدينا ،يكون له بشكل مكافئ
أبعاد /1كتلة( 3أو /1طاقة )3يف هذا النظام الجديد .عند إجراء التحويالت املناسبة إىل هذه
الوحدات الجديدة ،يجد املرء ،عىل سبيل املثال ،أن حجم 1مرت مكعب ( 1مرت )3يكون مكاف ًئا
لـ ( 10-20 [/1إلكرتون فولت.)]3
يف حني أن هذه طريقة غري مألوفة وجديدة يف التفكري ،الجميل فيها هو أنه مع وجود
معامل أسايس مستقل واحد فقط متبقي ،ميكننا تقريب نتائج ما قد يكون ظواهر معقدة
48
بطبيعتها ببساطة يف نطاق كمية واحدة .وعرب القيام بذلك ،ميكننا أداء بعض السحر .عىل
سبيل املثال ،لنقل إنه تم اكتشاف جسيم أويل جديد له ثالث أضعاف كتلة الربوتون أو ،بوحدات
الطاقة ،حوايل 3مليارات إلكرتون فولت – 3جيجا إلكرتون فولت (جيجا إلكرتون فولت)،
اختصا ًرا .إذا كان هذا الجسيم غري مستقر ،ما الذي قد نتوقعه ملدة بقائه قبل أن يتحلل؟ قد
يبدو من املستحيل تقدير ذلك دون معرفة أي من العمليات الفيزيائية التفصيلية املعنية .ومع
ذلك ،ميكننا استخدام التحليل البعدي لعمل تخمني ما .إن الكمية البعدية الوحيدة يف املسألة
هي كتلة السكون ،أو باملثل طاقة السكون للجسيم .نظ ًرا إىل أن أبعاد الزمن مكافئة ألبعاد
/1الكتلة يف نظامنا ،فإن تقدي ًرا معقوالً ملدة العمر سيكون 3(/kجيجا إلكرتون فولت) ،حيث
kهو رقم بال أبعاد قد نأمل ،يف غياب أي معلومات أخرى ،أن ال يكون مختلفًا ج ًدا عن .1
مثال ،الثواين ،باستخدام صيغة التحويل
ميكننا التحويل مرة أخرى إىل وحداتنا العادية ،ولنقل ً
لدينا ( 1/1إلكرتون فولت) = 10-16 × 6ثانية .وبالتايل نقدر مدة عمر الجسيم الجديد لدينا
بحوايل k × 10–25ثانية.
بالطبع ،ال يوجد هنا سحر حقيقي .فلم نحصل عىل يشء مقابل ال يشء .إن ما قدمه لنا
التحليل البعدي هو مقياس املشكلة .إنه يخربنا أن «العمر الطبيعي» للجسيًّمت غري املستقرة
التي لديها هذا النوع من الكتلة يقارب k × 10–25ثانية ،متا ًما مثل «العمر الطبيعي» للبرش
الذي يكون بحدود k × 75سنة .كل الفيزياء الحقيقية (أو ،يف الحالة األخرية ،األحياء) محتواة
يف الكمية املجهولة .kإذا كانت صغرية ج ًدا ،أو كبرية ج ًدا ،يجب أن يكون هناك يشء مثري
لالهتًّمم ميكن تعلمه لفهم السبب .ونتيجة لذلك ،أخربنا التحليل البعدي بيشء مهم ج ًدا .إذا
اختلفت الكمية kبشكل كبري عن ،1نعلم أن العمليات املعنية يجب أن تكون قوية ج ًدا أو
ضعيفة ج ًدا ،لدفع عمر هذا الجسيم إىل االنحراف عن قيمته الطبيعية كًّم هو معطى بالحجج
البعدية .سيكون ذلك كرؤية بقرة خارقة بحجم 10أضعاف البقرة العادية لكن بوزن 10
أونصات فقط .يف هذه الحالة ،ستخربنا حجج التحجيم البسيطة أن هذه البقرة مصنوعة من
مادة غريبة ج ًدا .يف الواقع ،العديد من النتائج األكرث إثارة يف الفيزياء هي تلك التي تنهار فيها
حجج التحجيم البعدي الساذجة .املهم أن ندرك أنه بدون هذه حجج التحجيم ،قد ال تكون لدينا
ريا كان يحدث يف املقام األول!
أي فكرة عن أن شي ًئا مث ً
49
يف عام ،1974وقع حدث ملحوظ ودراماتييك يف هذا السياق .خالل خمسينيات
وستينيات القرن العرشين ،ومع تطوير تقنيات جديدة لترسيع حزم الجسيًّمت عالية الطاقة
لتتصادم ،أوالً مع أهداف ثابتة ومن ثم مع حزم أخرى من جسيًّمت ذات طاقة أعىل وأعىل،
جرى اكتشاف مجموعة من الجسيًّمت األولية الجديدة .ومع اكتشاف املئات واملئات من
الجسيًّمت الجديدة ،بدا كًّم لو أن أي أمل يف ترتيب بسيط يف هذا النظام قد اختفى – حتى
جاء تطوير منوذج «الكوارك» يف أوائل الستينيات ،إىل حد كبري بواسطة موراي جيل-مان يف
كالتك ،وجلب النظام من الفوىض .ميكن تشكيل جميع الجسيًّمت الجديدة التي متت مالحظتها
من تركيبات بسيطة نسب ًيا – أجسام أساسية أطلق عليها جيل-مان اسم الكواركات .ميكن
تصنيف الجسيًّمت التي تم إنشاؤها يف املرسعات ببساطة إذا كانت مكونة من ثالثة كواركات
أو كوارك واحد وجسيمه املضاد .تم التنبؤ بأن تركيبات جديدة من نفس مجموعة الكواركات
التي تكون الربوتون والنيوترون ستؤدي إىل جسيًّمت غري مستقرة ،مًّمثلة يف الكتلة
للربوتون .وقد جرت مالحظتها ،وتبني أن أعًّمرها قريبة إىل حد ما من تقديرنا البعدي (أي،
حوايل 25–10ثانية) .بشكل عام ،كانت أعًّمر هذه الجسيًّمت يف حدود 24–10ثانية ،بحيث أن
ثابت kيف تقدير بعدي سيكون حوايل ،10أي ليس بعي ًدا ج ًدا عن الوحدة .ومع ذلك ،تبدو
التفاعالت بني الكواركات ،التي تسمح لهذه الجسيًّمت بالتحلل ،وكأنها يف نفس الوقت
تحتجزها بإحكام داخل جسيًّمت مثل الربوتونات والنيوترونات بحيث مل يتم مالحظة أي
كوارك حر واحد .لقد بدت هذه التفاعالت قوية ج ًدا بحيث تتحدى محاوالت منذجتها بالتفصيل
من خالل أي نظام حسايب.
يف عام ،1973مهد اكتشاف نظري مهم الطريق .بالعمل مع نظريات صممت عىل غرار
نظرية الكهرومغناطيسية ونظرية التفاعالت الضعيفة التي تم إنشاؤها حديثًا ،اكتشف ديفيد
جروس وفرانك ويلزيك يف برينستون ،وبشكل مستقل ،ديفيد بوليتزر يف هارفارد ،أن نظرية
جذابة مرشحة للتفاعالت القوية بني الكواركات كانت تتمتع بخاصية فريدة وغري عادية .يف
هذه النظرية ،ميكن أن يأيت كل كوارك يف واحدة من ثالثة أصناف مختلفة ،تم تسميتها بشكل
طريف بـ«األلوان» ،لذلك ُسميت النظرية بالكروموديناميكا الكمية ،أو .QCDإن ما اكتشفه
جروس وويلزيك وبوليتزر كان أنه كلًّم اقرتبت الكواركات من بعضها ،يجب أن تصبح
التفاعالت بينها ،بنا ًء عىل «لونها» ،أضعف وأضعف! وعالوة عىل ذلك ،أثبتوا أن مثل هذه
50
الخاصية كانت فريدة لهذا النوع من النظريات – ال ميكن ألي نوع آخر من النظريات يف
الطبيعة أن يترصف بشكل مًّمثل.
ريا بأمل يف إمكانية أداء حسابات ملقارنة توقعات النظرية معلقد برش ذلك أخ ً
املالحظات .فإذا أمكن العثور عىل حالة حيث التفاعالت كانت ضعيفة مبا فيه الكفاية ،ميكن
أداء تقريبات ناجحة بسيطة ،بد ًءا بالكواركات غري التفاعلية ثم إضافة تفاعل صغري ،لعمل
تقديرات تقريبية موثوقة لكيف يجب أن يكون سلوكها.
بينًّم كان فيزيائيون نظريون يبدأون يف استيعاب تداعيات هذه الخاصية الرائعة،
املسًّمة بـ«الحرية املتقاربة» ،كان العلًّمء التجريبيون يف منشأتني جديدتني يف الواليات
املتحدة –واحد يف نيويورك واآلخر يف كاليفورنيا– يفحصون بنشاط تصادمات ذات طاقة
أعىل وأعىل بني الجسيًّمت األولية .يف نوفمرب ،1974خالل أسابيع من بعضها البعض،
جسيًّم جدي ًدا بكتلة ثالث مرات من كتلة الربوتون .إن ما جعل
ً اكتشفت مجموعتان مختلفتان
هذا الجسيم الفتًا للنظر كان أنه كان يتمتع بعمر حوايل 100مرة أطول من الجسيًّمت ذات
الكتل األصغر بعض اليشء .علق فيزيايئ مشارك بأنه كان كًّم لو أنهم عرثوا عىل قبيلة جديدة
من الناس يف الغابة ،كل واحد منهم يبلغ من العمر 10,000سنة!
بالتزامن مع هذه النتيجة ،أدرك بوليتزر وزميله توم أبيلكويست أن هذا الجسيم الثقيل
الجديد كان يجب أن يتكون من نوع جديد من الكواركات –الذي كان قد أطلق عليه سابقًا اسم
الكوارك الساحر– والذي كان وجوده يف الواقع قد تم التنبؤ به عدة سنوات قبل ذلك بواسطة
النظريني ألسباب غري ذات صلة .عالوة عىل ذلك ،ميكن تفسري حقيقة أن هذه الحالة املقيدة
للكواركات عاشت لفرتة أطول بكثري مًّم يحق لها كنتيجة مبارشة للحرية املتقاربة يف
الكروموديناميكا الكمية .إذا تواجد الكوارك الثقيل والكوارك املضاد بشكل قريب ج ًدا م ًعا يف
هذه الحالة املقيدة ،ستكون تفاعالتها أضعف من تفاعالت الكواركات األخف داخل جسيًّمت
مثل الربوتون .كان ضعف هذه التفاعالت يعني أنه سيستغرق وق ًتا أطول للكوارك والكوارك
املضاد لـ«العثور» عىل بعضهًّم ثم االضمحالل .وقد أدت التقديرات التقريبية للوقت الذي
ستستغرقه ،بنا ًء عىل توسيع قوة تفاعل الكروموديناميكا الكمية اآليت من حجم الربوتون إىل
الحجم املقدر لهذا الجسيم الجديد ،إىل توافق معقول مع املالحظات .وقد تلقت
الكروموديناميكا الكمية تأكيدها املبارش األول.
51
يف السنوات التي تلت هذا االكتشاف ،ظلت التجارب تجرى عند طاقات عالية ،وتبني أن
التقريبات املستخدمة يف الحسابات أكرث موثوقية ،فتأكدت توقعات نظرية الكروموديناميكا
الكمية والحرية املتقاربة بشكل جميل ومتكرر .عىل الرغم من أنه مل يتمكن أحد بعد من إجراء
حساب كامل يف النظام الذي تصبح فيه الكروموديناميكا الكمية قوية ،إال أن األدلة التجريبية
يف نظام الطاقة العالية غامرة لدرجة أن أح ًدا ال يشك يف أن لدينا اآلن النظرية الصحيحة
للتفاعالت بني الكواركات .يف الواقع ،تم منح غروس وويلزك وبوليتزر جائزة نوبل يف عام
2004الكتشافهم الحرية اللوغاريتمية ،ومعها ،القدرة عىل التحقق من الكروموديناميكا
الكمية كنظرية للتفاعل القوي .وبدون بعض اإلرشادات البعدية لتفكرينا ،ملا تم تقدير
االكتشافات الرئيسية التي ساعدت يف وضع النظرية عىل أساس تجريبي ثابت عىل اإلطالق.
وهذا يعمم جي ًدا ما يتجاوز قصة اكتشاف الكروموديناميكا الكمية .يوفر التحليل البعدي إطا ًرا
نستطيع من خالله اختبار صورتنا الخاصة بالواقع.
إذا بدأت رؤيتنا الكونية باألرقام التي نستخدمها لوصف الطبيعة ،فهي ال تتوقف عند
هذا الحد .يرص الفيزيائيون عىل استخدام العالقات الرياضية بني هذه الكميات أيضً ا لوصف
العمليات الفيزيائية – مًّمرسة قد تجعلك تتساءل ملاذا ال نستخدم لغة أكرث سهولة .لكن ليس
لدينا خيار آخر .حتى إن غاليليو قد قدر هذه الحقيقة ،منذ حوايل 400عام ،عندما كتب:
حا دامئًا أمام نظرنا .لكن ال
«الفلسفة مكتوبة يف هذا الكتاب العظيم ،الكون ،الذي يظل مفتو ً
يسع املرء فهم الكتاب إال إذا تعلم أوالً فهم اللغة وقراءة الحروف التي كتب بها .إنه مكتوب بلغة
الرياضيات ،وحروفه هي املثلثات والدوائر واألشكال الهندسية األخرى التي بدونها يستحيل
عىل اإلنسان فهم كلمة واحدة منه؛ وبدون هذه ،يتجول املرء يف متاهة مظلمة».
إن القول بأن الرياضيات «لغة» الفيزياء ،قد يبدو تاف ًها كًّم قول إن الفرنسية هي «لغة»
الحب .لكن ذلك ال يزال ال يفرس ملاذا ال ميكننا ترجمة الرياضيات جي ًدا كًّم قد نرتجم أشعار
بودلري .ويف شؤون الحب ،بينًّم نحن الذين ليست الفرنسية لغتنا األم قد نعاين من عجز،
فمعظمنا يتدبر األمر عندما يهم األمر! ال ،مثة ما هو أكرث من أنها مجرد لغة وحسب .ولبدء
وصف كم هو أكرث ،سأستعري حجة من ريتشارد فاينًّمن .بجانب كونه شخصية كاريزمية،
كان فاينًّمن من بني أعظم عقول الفيزياء النظرية يف هذا القرن .كانت لديه هبة نادرة يف
الرشح ،وأنا أعتقد أنها كانت يف جزء منها بسبب حقيقة أن لديه طريقته الخاصة يف فهم
52
واشتقاق تقري ًبا جميع النتائج الكالسيكية يف الفيزياء ،ويف جزء آخر أيضً ا بسبب لهجته
النيويوركية.
عندما حاول فاينًّمن رشح رضورة الرياضيات ،مل يلجأ إال إىل نيوتن كسلف له .كان
أعظم اكتشافات نيوتن بالطبع قانون الجذب العام .من خالل إيضاح أن نفس القوة التي
تربطنا بهذه الكرة ،التي نسميها األرض ،مسؤولة عن حركات جميع األجسام السًّموية ،جعل
علًّم عامل ًيا .لقد أظهر أننا ال منلك فقط القدرة عىل فهم ميكانيكا حالتنا
نيوتن من الفيزياء ً
مسلًّم به ،لكن
ً اإلنسانية ومكاننا يف الكون ،بل الكون نفسه .إننا منيل إىل اعتبار ذلك أم ًرا
بالتأكيد أحد أكرث األمور املذهلة حول الكون هو أن نفس القوة التي توجه كرة البيسبول خارج
امللعب تحكم الحركة األنيقة املهيبة ألرضنا حول الشمس ،وشمسنا حول املجرة ،ومجرتنا حول
جريانها ،واملجموعة كلها مثلًّم يتطور الكون نفسه .مل يكن لزا ًما أن يكون األمر كذلك (أو رمبا
كان يجب أن يكون – هذه املسألة ال تزال مفتوحة).
باإلمكان اآلن صياغة قانون نيوتن بالكلًّمت عىل النحو التايل :القوة الجاذبة التي
متارسها الجاذبية بني جسمني تتجه عىل طول خط يربط بينهًّم ،وتعتمد عىل حاصل رضب
كتلتيهًّم وعكس ًيا مع مربع املسافة بينهًّم .والرشح اللفظي بالفعل مرهق بعض اليشء ،لكن ال
بأس .إن الجمع بني هذا مع قانون نيوتن اآلخر –أن األجسام تتفاعل مع القوى بتغيري رسعتها
يف اتجاه القوة ،بطريقة تتناسب طرديًا مع القوة وعكسيًا مع كتلها– مينحك كل يشء .إن كل
نتيجة من نتائج الجاذبية تتبع من هذا النتيجة .لكن كيف؟ ميكنني إعطاء هذا الوصف ألفضل
لغوي يف العامل وأطلب منه أو منها استنتاج عمر الكون من خالل الحجج الداللية ،لكن من
املحتمل أن يستغرق األمر وقتًا أطول من هذا الوقت للحصول عىل إجابة.
النقطة هي أن الرياضيات أيضً ا نظام من االتصاالت ،يجري إنشاؤه بأدوات املنطق .عىل
سبيل املثال ،للمتابعة مع هذا املثال الشهري ،صنع يوهانس كبلر التاريخ يف أوائل القرن السابع
عرش من خالل اكتشافه بعد عمر من تحليل البيانات أن الكواكب تتحرك حول الشمس بطريقة
خاصة .إذا رسم املرء خطًا بني الكوكب والشمس ،فإن املساحة التي يكنسها هذا الخط كًّم
يتحرك الكوكب يف مداره هي دامئًا نفسها يف أي فرتة زمنية محددة .هذا يكافئ (باستخدام
الرياضيات!) القول بأنه عندما يكون الكوكب أقرب إىل هذه الشمس يف مداره فإنه يتحرك
بشكل أرسع ،وعندما يكون أبعد يتحرك ببطء أكرب .لكن نيوتن أظهر أن هذا النتيجة متطابقة
53
أيضً ا رياض ًيا مع البيان القائل بأنه يجب أن تكون هناك قوة موجهة عىل طول خط من الكوكب
إىل الشمس! وكانت تلك بداية قانون الجاذبية.
حاول كًّم تشاء ،ولن تتمكن أب ًدا ،باالستناد عىل أسس لغوية فحسب ،من إثبات أن هاتني
العبارتني متطابقتان .لكن مع الرياضيات ،والتي ستكون يف هذه الحالة هندسة بسيطة،
ميكنك أن تثبت ذلك لنفسك بشكل مبارش( .اقرأ مبادئ نيوتن ،أو لرتجمة أسهل ،اقرأ لفاينًّمن).
إن الهدف من طرح كل هذا ليس فقط أن نيوتن رمبا مل يكن ليستطيع أب ًدا استنباط
قانون الجاذبية لو مل يتمكن من إجراء الربط الريايض بني مالحظة كيبلر وحقيقة أن الشمس
مهًّم بشدة لتقدم العلم .وال هو
متارس قوة عىل الكواكب – عىل الرغم من أن هذا وحده كان ً
حقيقة أنه بدون تقدير األساس الريايض للفيزياء ،ال ميكن استنباط روابط أخرى مهمة .إن
النقطة الحقيقية أن الروابط التي تفرضها الرياضيات أساسية متا ًما لتحديد صورتنا الكاملة
للواقع.
إنني أعتقد أن هناك حاجة إىل استعارة أدبية .عندما كتبت هذا الفصل ،كنت قد قرأت
رواية للكاتب الكندي روبرتسون ديفيز .يف بضع جمل ،لخص شيئًا رضب عىل وتر حساس
ج ًدا« :ما أذهلني حقًا كان مفاجأة الرجال بأين أستطيع القيام مبثل هذا اليشء ...مل يكن
معاكسا متا ًما
ً شخصا يقرأ ...ميكن أن يكون لديه جانب آخر ،يبدو
ً بإمكانهم تقريبًا تصور أن
مسلًّم به أن لكل شخص ،عىل األقل ،جانبني ،إن
ً لشخصيته .ال أتذكر وقتًا مل أعترب فيه مفهو ًما
مل يكن اثنني وعرشين جانبًا».
اسمحوا يل أن أشخصن األمر بعض اليشء .إن واحدة من األشياء الكثرية التي فعلتها
زوجتي من أجيل كانت فتح طرق جديدة لرؤية العامل .لقد أتينا من خلفيات مختلفة ج ًدا .هي
تأيت من بلدة صغرية ،وأنا أتيت من مدينة كبرية .إن األشخاص الذين يكربون يف مدينة كبرية
كًّم فعلت مييلون إىل رؤية اآلخرين بشكل مختلف ج ًدا عن األشخاص الذين يكربون يف بلدة
صغرية .فالغالبية العظمى من األشخاص الذين تقابلهم يوم ًيا يف مدينة كبرية أحاديو البعد.
فأنت ترى الجزار كجزار ،وساعي الربيد كساعي بريد ،والطبيب كطبيب ،وهكذا .لكن يف بلدة
صغرية ،ال ميكنك إال أن تقابل األشخاص بأكرث من طريقة .إنهم جريانك .قد يكون الطبيب
مدم ًنا للرشاب ،وجارك زير النساء قد يكون املعلم امللهم للغة اإلنجليزية يف املدرسة الثانوية
املحلية .لقد تعلمت ،كًّم فعل بطل رواية ديفيز (من بلدة صغرية!) ،أنه ال ميكن تصنيف
54
األشخاص بسهولة عىل أساس سمة واحدة أو نشاط .فقط حني يدرك املرء هذا يصبح من
املمكن حقًا فهم الحالة اإلنسانية.
وكذلك فإن كل عملية فيزيائية يف الكون متعددة األبعاد .وفقط من خالل إدراكنا أننا
ميكن أن نفهم كل واحدة منها بطرق متعددة متساوية ،رغم أنها تبدو مختلفة ،ميكننا أن نقدر
بعمق أكرب الطريقة التي يعمل بها الكون .ال ميكننا أن ندعي فهم الطبيعة عندما نرى جانباً
واحدا ً فقط منها .وسواء كان جي ًدا أم سيئًا ،فإنها الحقيقة أن العالقات الرياضية وحدها التي
تسمح لنا برؤية الكل وسط األجزاء .إن الرياضيات هي التي تسمح لنا بالقول إن العامل هو
أبقار كروية.
إذن فبمعنى ما ،تزيد الرياضيات العامل تعقي ًدا ،إذ تقدم الوجوه املختلفة العديدة للواقع.
لكنها وإذ تفعل ذلك ،تبسط يف الحقيقة فهمنا .ليس علينا أن نحتفظ بكل الوجوه يف رؤوسنا
يف نفس الوقت .فبمساعدة الرياضيات ،ميكننا االنتقال من وجه إىل آخر كًّم نشاء .وإذا كانت
نيال ،فإن
االرتباطات يف الفيزياء ،كًّم سأدعي ،هي ما تجعلها يف نهاية املطاف األسهل ً
الرياضيات تجعل الفيزياء متاحة.
عالوة عىل ذلك ،فحقيقة أن الرياضيات تسمح لنا بإعادة صياغة نفس الظاهرة بأشكال
مختلفة توفر لنا إثارة االكتشاف املستمرة .ذلك أن وجود رؤى جديدة لنفس اليشء احتًّمل
قائم دامئًا! وكذلك فكل وجه جديد للواقع يوفر لنا إمكانية توسيع فهمنا أبعد من الظواهر التي
رصا إذا مل أصف مثاالً معروفًا عىل هذا ،والذي
قد تكون أدت إىل بصريتنا الجديدة .سأكون مق ً
ال يزال يبهرين متا ًما بعد خمسة وعرشين عا ًما منذ أن تعلمته ألول مرة من فاينًّمن.
إن هذا املثال يتضمن ظاهرة مألوفة لكنها محرية :الرساب .إن أي شخص قد قاد سيارته
عىل امتداد طويل ومستقيم من الطريق الرسيع يف يوم صيفي حار سيكون قد مر بتجربة
مبتال ويعكس السًّمء
النظر إىل الطريق ورؤيته يتحول إىل اللون األزرق يف األفق ،كًّم لو كان ً
أعاله .تلك هي النسخة األقل غرابة من نفس اليشء الذي يحدث لتلك األرواح الضائعة التي
تتجول يف الصحراء بحثًا عن املاء وتراه ،ليختفي حني يركضون نحو رؤيتهم للخالص.
هناك تفسري بسيط ومعياري للرساب يتعلق بالحقيقة املعروفة جي ًدا أن الضوء ينحني
عندما يعرب الحد بني وسطني مختلفني .وهذا سبب أنه عندما تقف يف املاء ،تبدو أقرص مًّم
55
أنت عليه بالفعل .ذلك أشعة الضوء تنحني عند السطح وتخدعك بالتفكري أن قدميك أعىل مًّم
هًّم عليه:
عندما ينتقل الضوء من وسط أكرث كثافة إىل وسط أقل كثافة ،كًّم يف الصورة (االنتقال
من ساقيك يف املاء إىل عينيك يف الهواء) ،فإنه دامئًا ما ينحني «للخارج» .يف نهاية املطاف،
إذا اصطدم بالسطح بزاوية كبرية مبا فيه الكفاية ،فإنه سينحني لدرجة أنه يعكس الضوء مرة
أخرى إىل املاء .وبذلك ،يظل القرش املقبل عىل الهجوم مخف ًيا عن األنظار.
يف يوم هادئ وشديد الحرارة ،يصبح الهواء مبارشة فوق سطح الطريق ساخنًا ج ًدا –
أكرث سخونة بكثريمن درجة حرارة الهواء يف األعىل .وما يحدث هو أن الهواء يتشكل يف
طبقات ،فيكون أكرثها حرارة وأقلها كثافة يف األسفل ،وباالتجاه إىل األعىل توجد طبقات أبرد
وأكرث كثافة .عندما يأيت الضوء من السًّمء باتجاه الطريق ،ينحني عند كل طبقة وإذا كان
هناك عدد ٍ
كاف من الطبقات ،ينعكس بالكامل حتى تراه كًّم لو كنت تنظر إىل الطريق من
السيارة .وبذلك ،يبدو الطريق وكأنه يعكس السًّمء الزرقاء .إذا نظرت بعناية يف املرة القادمة
التي ترى فيها رسابًا ،سرتى أن طبقة اللون األزرق تأيت من فوق سطح الطريق بقليل.
56
ملهًّم .لكن هناك رشح آخر
ً ٍ
مرض ،إن مل يكن بالرضورة هذا هو الرشح القيايس ،وهو
لنفس الظاهرة ،ونحن اآلن نعلم أنه مكافئ رياض ًيا لهذا الرشح ،لكنه يقدم صورة مختلفة متا ًما
عن كيفية وصول الضوء إىل عينيك من السًّمء .إنه يستند إىل مبدأ أقرص زمن ،الذي اقرتحه
الرياضيايت الفرنيس بيري دي فريما يف عام ،1650والذي ينص عىل أن الضوء سيأخذ دامئًا
املسار الذي يتطلب أقل زمن للذهاب من نقطة Aإىل نقطة .B
إن هذا املبدأ مناسب بوضوح للحركة العادية للضوء ،والتي تكون يف خط مستقيم .كيف
ميكنه إذن تفسري الرساب؟ حسنًا ،إن الضوء يسافر بشكل أرسع يف وسط أقل كثافة (يسافر
بأرسع ما ميكن يف الفضاء الفارغ) .ومبا أن الهواء بالقرب من الطريق أكرث حرارة وأقل كثافة،
فكلًّم طالت مدة بقاء الضوء بالقرب من الطريق ،كلًّم سافر بشكل أرسع .وبالتايل ،تخيل أن
شعاع ضوء يريد الذهاب من نقطة ،Aإىل عينك .B ،أي مسار سيتخذه؟
إن واحدة من طرق القيام بذلك ستكون السفر مبارشة إىل عينك .لكن يف هذه الحالة،
بينًّم يسافر الضوء أقرص مسافة ،سيقيض معظم وقته يف الهواء الكثيف عالياً فوق الطريق.
مثة طريقة أخرى ،وهي اتخاذ املسار املوضح يف الرسم التوضيحي .يف هذه الحالة ،يسافر
الضوء مسافة أطول ،لكنه يقيض مزيدا ً من الوقت يف الطبقات األقل كثافة بالقرب من الطريق،
حيث يسافر برسعة أكرب .من خالل التوازن بني املسافة املسافرة والرسعة التي يسافر بها،
ستجد أن املسار الفعيل الذي يتخذه ،الذي ينتج رسابًا ،هو الذي يقلل من الوقت.
لو فكرت يف ذلك لوجدته غري ًبا .كيف ميكن للضوء التحديد مسبقًا ،عندما يصدر ،أي
ريا؟
املسار هو األرسع؟ هل يقوم بـ«شم» كل املسارات املمكنة قبل أن يختار الصواب أخ ً
57
بالتأكيد ال .إنه يطيع فقط القوانني املحلية للفيزياء ،التي تخربه ماذا يفعل عند كل واجهة،
ويحدث فقط ،من الناحية الرياضية ،أن هذا يتحول دامئًا إىل املسار الذي يأخذ أقرص وقت.
ٍ
مرض للغاية حول هذا االكتشاف .إنه يبدو أساس ًيا أكرث من الوصف البديل من وهناك يشء
ناحية انحناء الضوء عند طبقات مختلفة يف الغالف الجوي .ومبعنى من املعاين هو كذلك .إننا
نفهم اآلن أن قوانني حركة جميع األجسام ميكن إعادة صياغتها بشكل مشابه ملبدأ فريما للضوء.
وعالوة عىل ذلك ،هذا الشكل الجديد من التعبري عن قوانني الحركة النيوتونية الكالسيكية أدى
إىل طريقة جديدة ،طورها فاينًّمن ،لتفسري قوانني ميكانيكا الكم.
بتوفري طرق مختلفة ،ولكن متكافئة ،لتصور العامل ،تقودنا الرياضيات إىل طرق جديدة
لفهم الطبيعة .وههنا عىل املحك ،مثة ما يتجاوز مجرد التحديث .ميكن أن تسمح لنا صورة
جديدة بتجنب العوائق التي قد تعرتض طريق استخدام الصورة القدمية .فعىل سبيل املثال،
سمحت الطرق املستندة عىل التشابه مع مبدأ فريما بتطبيق ميكانيكا الكم عىل أنظمة فيزيائية
كانت حتى اآلن غري قابلة لالخرتاق ،مبا يف ذلك املحاولة األخرية التي قادها ستيفن هوكينغ
ملحاولة فهم كيف قد تؤثر ميكانيكا الكم عىل نظرية النسبية العامة ألينشتاين .إذا كانت
الروابط الرياضية تساعد يف حكم فهمنا للطبيعة من خالل كشف طرق جديدة لتصور العامل،
فإن ذلك يؤدي بالرضورة إىل املسألة التالية التي أريد ترككم معها يف هذا الفصل .إذا كانت
تجريداتنا للطبيعة رياضية ،فبأي معنى ميكن أن يقال إننا نفهم الكون؟ عىل سبيل املثال ،بأي
معنى يفرس قانون نيوتن ملاذا تتحرك األشياء؟ للعودة إىل فاينًّمن مرة أخرى:
ماذا نعني بـ «فهم» يشء ما؟ تخيل أن العامل شبيه بلعبة شطرنج كبرية يلعبها اآللهة،
ونحن مراقبون للعبة .نحن ال نعرف ما هي قواعد اللعبة؛ كل ما يسمح لنا هو مراقبة اللعب.
بالطبع ،إذا ما استمرينا يف املشاهدة لفرتة كافية ،قد نتوصل يف النهاية إىل فهم بعض
القواعد .إن القواعد التي نتحدث عنها هي ما نسميه بالفيزياء األساسية .حتى لو عرفنا كل
قاعدة ،فقد ال نتمكن رغم ذلك من فهم سبب وقوع حركة معينة يف اللعبة ،وذلك ببساطة ألنها
معقدة ج ًدا وعقولنا محدودة .إذا كنت تلعب الشطرنج ،يجب أن تعلم أنه من السهل تعلم كل
القواعد ،ومع ذلك ،غالبًا ما يكون من الصعب ج ًدا اختيار أفضل حركة أو فهم ملاذا يتحرك
الالعب كًّم يفعل .هكذا هي الحال يف الطبيعة ،لكن بشكل أكرب بكثري ....يجب أن نقترص عىل
السؤال األسايس عن قواعد اللعبة .إذا عرفنا القواعد ،نعترب أننا «نفهم» العامل.
58
يف النهاية ،قد ال نتخطى أب ًدا رشح القواعد ،وقد ال نعرف أب ًدا ملاذا هي كًّم هي .ولكننا
نجحنا بشكل رائع يف اكتشاف هذه القواعد ،من خالل تجريد املواقف املعقدة ،حيث تكون
القواعد غري قابلة للتتبع ،وتحويلها إىل مواقف بسيطة ،حيث تكون القواعد واضحة بنفسها –
باستخدام توجيه األدوات التي وصفتها يف هذا الفصل والفصل السابق .وعندما نحاول فهم
العامل ،كفيزيائيني ،فهذا كل ما ميكننا أن نأمل يف القيام به .ومع ذلك ،إذا حاولنا بجد وكان
الحظ يف جانبنا ،ميكننا عىل األقل أن نستمتع بتوقع كيف ستستجيب الطبيعة يف حالة مل
يسبق رؤيتها من قبل .وبذلك ،ميكننا أن نأمل يف مشاهدة االتصاالت الخفية يف الفيزياء التي
ريا لإلعجاب.
قد تكشف عنها الرياضيات أوالً والتي ،بدورها ،تجعل العامل مث ً
59
الجزء الثان
التقدم
60
الفصل الثالث
رسقة فكرية إبداعية
61
معروف أنه صحيح بالفعل .وكذلك ستستمر النظريات املستقبلية دامئًا يف اقرتاض الكثري من
النظريات السابقة.
تكمل طريقة العمل هذه مفهوم تقريب الواقع الذي ناقشته سابقًا .تقرتح عقلية «اللعنة
عىل الطوربيدات ،بأقىص رسعة إىل األمام» نفسها أنه ال يتعني عىل املرء فهم كل يشء متا ًما
قبل امليض قد ًما .ميكننا استكشاف املياه املجهولة باألدوات املتاحة لنا دون أن قضاء وقت يف
بناء ترسانة جديدة.
إن سابقة هذا التقليد أنشأها غاليليو أيضً ا .تحدثت يف الفصل األول عن اكتشاف غاليليو
أن الرتكيز عىل أبسط جوانب الحركة وإبعاد الحقائق غري ذات الصلة أدى إىل إعادة تنظيم
رصح مبارش ًة منذ البداية أنه ال يهتم ملاذا تتحرك
عميقة لصورتنا عن الواقع .ما مل أرشحه هو أنه ّ
األشياء؛ كل ما أراده هو التحقيق ،بأسلوبه املتواضع الذي ال يضاهى ،يف كيفية تحركها« .هديف
هو تقديم علم جديد متا ًما يتعامل مع موضوع قديم ج ًدا .رمبا ال يوجد يف الطبيعة يشء أقدم
من الحركة ،والتي كتب عنها الفالسفة كت ًبا ليست قليل ًة وال ه ّينةً؛ ومع ذلك فقد اكتشفت
7
بالتجربة بعض خصائصها التي تجدر معرفتها».
إن مجرد معرفة الكيفية ميكن أن توفر لنا ر ًؤى جديد ًة رائعةً .فًّم أن جادل غاليليو بأن
الجسم الساكن كان مجرد حالة خاصة لجسم متحرك برسعة ثابتة ،بدأت التصدعات تظهر يف
الفلسفة األرسطية ،التي أكدت عىل الوضع الخاص لألول .يف الحقيقة ،أشارت حجة غاليليو
إىل أن قوانني الفيزياء من وجهة نظر مراقب متحرك برسعة ثابتة قد تبدو مشابهة للقوانني
من وجهة نظر مراقب ساكن .ففي النهاية ،سيكون الجسم الثالث املتحرك حركة نسبية ثابتة
بالنسبة إىل أحدهًّم يتحرك حركة ثابتة بالنسبة لآلخر أيضً ا .وباملثل ،إن الجسم املتسارع أو
املتباطئ بالنسبة إىل أحدهًّم سيكون اليشء نفسه بالنسبة إىل اآلخر .كان هذا التكافؤ بني
وجهتي النظر هو إعالن غاليليو عن النسبية ،الذي سبق إعالن أينشتاين بنحو ثالثة قرون .ومن
حسن حظنا أنه صامد ،فرغم أننا اعتدنا عىل قياس الحركة مقارن ًة باليابسة الثابتة واملستقرة،
يف حني أن األرض تتحرك حول الشمس ،والشمس تتحرك حول املجرة ،ومجرتنا تتحرك يف
عنقود مجري ،وهلم ج ًرا .لذا نحن يف الحقيقة لسنا ساكنني ،بل نتحرك برسعة كبرية بالنسبة
للمجرات البعيدة .لو كان يجب أخذ هذه الحركة الخلفية يف االعتبار قبل أن نتمكن من وصف
فيزياء الكرة الطائرة يف الهواء بالنسبة لنا عىل األرض بشكل صحيح ،ملا متكن غاليليو ونيوتن
62
من استخالص هذه القوانني يف األساس .يف الواقع ،مل تكتشف قوانني الحركة إال ألن الحركة
الثابتة (عىل املقاييس الزمنية البرشية) ملجرتنا بالنسبة إىل جريانها ال تغري سلوك األجسام
املتحركة عىل األرض ،األمر الذي سمح بدوره بالتطورات يف علم الفلك التي أدت إىل إدراك أن
مجرتنا تتحرك بالنسبة إىل املجرات البعيدة يف املقام األول.
أوال أن أصف كيف تابع غاليليو استغالل نجاحه األول
سأعود إىل النسبية الحقًا .أريد ً
يف الحركة املنتظمة .نظ ًرا ألن أغلب الحركة التي نراها يف الطبيعة غري منتظمة يف الحقيقة،
فإذا أراد غاليليو ادعاء مناقشة الواقع حقًا ،كان عليه معالجة هذه املشكلة .مر ًة أخرى ،اتبع
تخل عًّم ال يهم ،وال تسأل ملاذا:
مبادئه األوىلَّ :
عرب
ال يبدو الوقت الحارض وقتًا مناس ًبا للتحقيق يف سبب تسارع الحركة الطبيعية التي ّ
عنها فالسفة مختلفون بآراء مختلفة ،فمنهم من يفرسها باالنجذاب إىل املركز ،وآخرون
بالتنافر بني أجزاء الجسم الصغرية ج ًدا .بينًّم يعزوها آخرون إىل ضغط معني يف
الوسط املحيط يرتاكم خلف الجسم الساقط ويدفعه من موضع إىل آخر .ينبغي اآلن
فحص كل هذه األوهام وغريها أيضً ا؛ لكنها غري جديرة باالهتًّمم حقًا .يف الوقت
الحارض ،غرض مؤلفنا هو مجرد التحقيق وإظهار بعض خصائص الحركة املتسارعة –
وهذا يعني حرك ًة . . .تتزايد رسعتها باستمرار بعد االنطالق من السكون ،يف تناسب
بسيط مع الزمن ،وهذا كالقول بأن الجسم يتلقى زيادات متساوية يف الرسعة يف فرتات
8
زمنية متساوية.
ع ّرف غاليليو الحركة املتسارعة بأنها أبسط أنواع الحركة غري املنتظمة ،أي حركة تتغري
فيها رسعة الجسم ،ولكن مبعدل ثابت .هل هذه املثالية ذات صلة؟ أظهر غاليليو برباعة أن هذا
التبسيط يصف يف الواقع حركة كل األجسام املتساقطة ،إذا تجاهل املرء التأثريات الخارجية
ألشياء مثل مقاومة الهواء .مهد هذا االكتشاف الطريق لقانون الجاذبية لنيوتن .لو مل تكن هناك
معرفة بانتظام الحركة األساسية لألجسام املتساقطة ،لكان تعيني قوة تتناسب مع كتلة هذه
مستحيال ببساطة .يف الحقيقة ،ليحقق هذا ،كان عىل غاليليو التغلب عىل عقبتني
ً األجسام
أخريني ال عالقة لهًّم إىل حد ما بالنقطة التي أطرحها ،لكن حججه كانت بسيط ًة وذكي ًة للغاية
لدرجة أنني ال أستطيع مقاومة وصفها.
63
ادعى أرسطو أن األجسام املتساقطة تكتسب رسعتها النهائية عند تركها فوريًا .كان هذا
معقوال يستند إىل مفاهيم بديهية ملا نراه .كان غاليليو أول من أظهر بشكل مقنع أن ليس
ً ادعا ًء
هذا هو الحال ،باستخدام مثال شديد البساطة .استند إىل تجربة غيدانكني أو «فكرية» ،عىل
قليال سأتحدث عنها هنا .تخيل إسقاط حذاء يف حوض
حد تعبري أينشتاين ،نسخة محدثة ً
االستحًّمم من 6بوصات فوق املاء .ثم إسقاطه من 3أقدام (والرتاجع) .إذا افرتضت ببساطة
أن حجم الرذاذ يرتبط برسعة الحذاء عند اصطدامه باملاء ،فيمكنك إقناع نفسك برسعة بأن
الحذاء يتسارع أثناء سقوطه.
بعد ذلك ،كان إثبات غاليليو أن جميع األجسام تسقط بنفس املعدل ،برصف النظر عن
كتلتها ،إذا تجاهلت تأثريات مقاومة الهواء .بينًّم يفكر معظم الناس يف هذا من حيث التجربة
الشهرية املتمثلة يف إسقاط جسمني مختلفني من برج بيزا املائل ،التي رمبا مل تج َر أب ًدا ،اقرتح
غاليليو يف الواقع تجربة فكرية أبسط أوضحت التناقض يف افرتاض أن األجسام التي تكون
أكثف مبرتني تسقط أرسع مبرتني .تخيل إسقاط قذيفتني مدفعيتني لهًّم نفس الكتلة متا ًما
من برج .يجب أن تسقطا بنفس املعدل لو كان معدل سقوطهًّم يعتمد عىل كتلهًّم .اآلن ،يف
أثناء سقوطهًّم ،تخيل حرف ًيا ماه ًرا ورسي ًعا ميد يده من النافذة ويربطهًّم م ًعا بقطعة رشيط
الصق قوي .لديك اآلن جسم واحد تبلغ كتلته ضعف كتلة أي من القذيفتني .يخربنا املنطق
السليم أن هذا الجسم الجديد لن يبدأ فجأ ًة يف السقوط برسعة تعادل ضعف رسعة سقوط
القذيفتني قبل إضافة الرشيط الالصق .وبالتايل ،فإن معدل سقوط األجسام ليس متناسبًا مع
كتلتها.
بعد إبعاد هذه املسائل الزائفة جانبًا ،صار غاليليو حينها جاه ًزا لقياس تسارع الجسم
املتساقط وإظهار أنه ثابت .تذكر أن هذا يعني أن الرسعة تتغري مبعدل ثابت .وأذكرك أنه عند
وضع األساس الذي قامت عليه نظرية الجاذبية ،مل يحاول غاليليو أكرث من وصف كيفية سقوط
األشياء ،وليس سبب سقوطها .يشبه األمر محاولة التعرف عىل لعبة شطرنج فاينًّمن من خالل
أوال ثم وصف حركة القطع بعناية .وجدنا مرا ًرا وتكرا ًرا
فحص تكوين رقعة الشطرنج بعناية ً
منذ غاليليو أن الوصف الصحيح لـ«امللعب» الذي تحدث فيها الظواهر الفيزيائية يقطع شوطًا
طويال نحو الوصول إىل تفسري «القواعد» الكامنة وراء هذه الظواهر .ويف النسخة النهائية
ً
64
من هذا ،يحدد امللعب القواعد ،سأناقش الحقًا أن هذا هو بالضبط املقصد الذي تتجه إليه أبحاث
الفيزياء الحديثة ....لكنني أستطرد.
مل يتوقف غاليليو عند هذا الحد .تابع إىل معالجة إحدى التعقيدات الرئيسية األخرى
للحركة عن طريق تقليد ما فعله مسبقًا .حتى هذه اللحظة ،ناقشنا ،نحن وهو ،الحركة يف بعد
واحد فقط – إما السقوط أو التحرك أفق ًيا .لكن ،إذا رميت كرة بيسبول فإنها تفعل كال األمرين.
إن مسار كرة البيسبول ،مر ًة أخرى بتجاهل مقاومة الهواء ،هو منحنى يسميه علًّمء الرياضيات
القطع املكافئ ،شكل قويس .أثبت غاليليو ذلك من خالل القيام بأبسط متديد ممكن لتحليالته
السابقة .اقرتح أن الحركة ثنائية األبعاد ميكن اختزالها إىل نسختني مستقلتني من الحركة
أحادية البعد ،التي وصفها سابقًا بالطبع .أي ،سيوصف املكون الرأيس لحركة الكرة من خالل
التسارع الثابت الذي حدده ،يف حني سيوصف املكون األفقي للحركة من خالل الرسعة املنتظمة
الثابتة التي أكد أن جميع األشياء تحافظ عليها بشكل طبيعي يف غياب أي قوة خارجية .اجمع
االثنني م ًعا ،وستحصل عىل قطع مكافئ.
ريا من الظواهر التي يساء فهمها غال ًبا،
رغم أن هذا قد يبدو تاف ًها ،لكنه أوضح عد ًدا كب ً
أوال ،فكر يف الوثب الطويل األوملبي ،أو رمبا
وشكل سابقة اتبعها الفيزيائيون منذ ذلك الحنيً .
رمية مايكل جوردان التي تبدأ من خط الرمية الحرة .عندما نشاهد هذه األعًّمل البطولية
الرائعة ،يبدو لنا أن الرياضيني يبقون يف الهواء لألبد .بالنظر إىل رسعتهم السابقة للقفزة ،كم
ميكنهم التحليق يف الهواء؟ تقدم حجج غاليليو إجاب ًة مفاجئةً .لقد أظهر أن الحركة األفقية
والرأسية مستقلتان .وبالتايل ،إذا قرر العب القفز الطويل كارل لويس أو نجم كرة السلة مايكل
جوردان القفز وهو واقف يف مكانه ،طاملا يحقق نفس االرتفاع الرأيس الذي حققه يف منتصف
قفزته أثناء الركض ،فإنه سيظل يف الهواء نفس املدة متا ًما .وباملثل ،باستخدام مثال يلقى يف
دروس الفيزياء حول العامل ،إن الرصاصة التي تطلق أفقيًا من مسدس ستصطدم باألرض يف
نفس الوقت الذي تصل فيه عملة معدنية سقطت عند سحب الزناد ،حتى لو قطعت الرصاصة
مسافة ميل قبل ذلك .يبدو أن الرصاصة تسقط بشكل أبطأ فقط ألنها تبتعد برسعة كبرية
لدرجة أن الوقت الذي تستغرقه ملغادرة أنظارنا ،ال يكفي لها وال للعملة معدنية للسقوط عىل
اإلطالق!
65
استغل الفيزيائيون منذ ذلك الحني نجاح غاليليو يف إظهار أنه ميكن اعتبار البعدين
مجرد نسختني من بعد واحد ،فيًّم يتعلق بالحركة .تهدف معظم الفيزياء الحديثة إىل إظهار
أنه ميكن اختزال املسائل الجديدة ،بتقنية أو بأخرى ،إىل مسائل محلولة سابقًا .وهذا ألن قامئة
أنواع املسائل التي ميكننا حلها متا ًما تعد عىل أصابع اليدين (ورمبا بعض أصابع القدمني).
فمثال ،رغم أننا نعيش يف ثالثة أبعاد مكانية ،فإن حل معظم املسائل ثالثية األبعاد متا ًما يكاد
ً
مستحيال ،حتى باستخدام القدرة الحاسوبية ألرسع الحواسيب .وتلك التي ميكننا حلها
ً يكون
تنطوي بالرضورة إما عىل اختزالها فعل ًيا إىل مسائل أحادية أو ثنائية األبعاد قابلة للحل،
بإظهار أن بعض جوانب املسألة متكررة ،أو عىل األقل اختزالها إىل مجموعات مستقلة من
املسائل أحادية أو ثنائية األبعاد القابلة للحل ،بإظهار أنه ميكن معالجة أجزاء مختلفة من
املشكلة بشكل مستقل.
توجد أمثلة عىل هذا اإلجراء يف كل مكان .لقد ناقشت بالفعل صورتنا للشمس ،إذ
نفرتض فيها أن البنية الداخلية هي نفسها يف جميع أنحاء الشمس بأكملها عند أي مسافة ثابتة
من املركز .يسمح هذا لنا بتحويل باطن الشمس من مسألة ثالثية األبعاد إىل مسألة أحادية
البعد بشكل فعال ،توصف بالكامل من حيث املسافة ،r ،من مركز الشمس .ميكن الحصول عىل
مثال حديث ملوقف ال نتجاهل فيه مسألة ثالثية األبعاد ،بل نقسمها إىل أجزاء أصغر ،بالقرب
من الوطن .إذ سمحت لنا قوانني ميكانيكا الكم ،التي تحكم سلوك الذرات والجسيًّمت التي
تشكلها ،توضيح قوانني الكيمياء من خالل رشح بنية الذرات ،التي تكون جميع املواد .الذرة
األبسط هي ذرة الهيدروجني ،التي تحتوي عىل جسيم واحد موجب الشحنة يف مركزها،
الربوتون ،ويحيط به جسيم واحد سالب الشحنة ،اإللكرتون .إن الحل الكمومي امليكانييك
لسلوك هذا النظام البسيط غني للغاية .ميكن أن يوجد اإللكرتون يف مجموعة من الحاالت
املنفصلة ذات الطاقات اإلجًّملية املختلفة .ينقسم كل مستوى من «مستويات الطاقة» الرئيسية
يف حد ذاته إىل حاالت يختلف فيها شكل «مدارات» اإللكرتون .إن كل السلوكيات املعقدة
للكيمياء –املسؤولة عن بيولوجيا الحياة ،من بني أشياء أخرى– تعكس ،عىل مستوى أسايس
ما ،قواعد الحساب البسيطة لعدد هذه الحاالت املتاحة .متيل العنارص التي متلك جميع هذه
الحاالت ،باستثناء حالة واحدة يف مستوى معني مملوء باإللكرتونات ،إىل االرتباط كيميائ ًيا
فمثال ،يوجد امللح ،الذي
ً بالعنارص التي متلك إلكرتونًا وحي ًدا يشغل أعىل مستويات الطاقة.
66
يُسمى أيضً ا كلوريد الصوديوم ،ألن الصوديوم يشرتك يف إلكرتونه الوحيد مع الكلور ،الذي
يستخدمه مللء الحالة الوحيدة الشاغرة يف أعىل مستوى طاقة له.
السبب الوحيد لقدرتنا عىل تعداد بنية املستويات حتى ألبسط الذرات مثل الهيدروجني
هو اكتشافنا أن الطبيعة ثالثية األبعاد لهذه األنظمة «تنقسم» إىل جزأين منفصلني .يتضمن
أحدهًّم مسألة أحادية البعد ،تتعلق ببساطة بفهم املسافة الشعاعية بني اإللكرتون والربوتون.
أما الجزء اآلخر فيتضمن مسألة ثنائية األبعاد ،تتحكم يف التوزيع الزاوي «ملدارات» اإللكرتون
يف الذرة .تُحل هاتني املسألتني بشكل منفصل ثم تدمجان للسًّمح لنا بتصنيف العدد اإلجًّميل
لحاالت ذرة الهيدروجني.
إليك مثال أحدث وأكرث غرابةً ،عىل نفس املنوال .اشتهر ستيفن هوكينغ يف عام 1974
بإثباته أن الثقوب السوداء ليست سوداء – أي أنها تصدر إشعاعات بدرجة حرارة تتناسب مع
كتلة الثقب األسود .والسبب الذي جعل هذا االكتشاف مفاجئًا للغاية هو أن الثقوب السوداء
ُسميت بهذا االسم ألن مجال الجاذبية عىل سطحها قوي ج ًدا لدرجة أنه ال ميكن ألي يشء
بداخله اإلفالت ،وال حتى الضوء .فكيف ميكن أن تصدر إشعا ًعا؟ أظهر هوكينغ أنه يف ظل
وجود مجال الجاذبية القوي للثقب األسود ،تسمح قوانني ميكانيكا الكم بتجنب نتيجة التفكري
الكالسييك هذه .إن مثل هذه املراوغات من النظريات الكالسيكية «املحظورة» شائعة يف
مثال ،يف صورتنا الكالسيكية للواقع ،قد ال يتمكن الرجل الذي يسرتيح يف وا ٍد
ميكانيكا الكمً .
بني جبلني من الوصول إىل الوادي املجاور دون تسلق أحد الجبلني .ومع ذلك ،تسمح ميكانيكا
مثال ،بطاقة أصغر من تلك املطلوبة لإلفالت من الذرة ،وفقًا
الكم لإللكرتون املوجود يف الذرةً ،
للمبادئ الكالسيكية ،أحيانًا «بشق نفق» للخارج من داخل املجال الكهربايئ الذي يربطه ،ويجد
ريا من سالسله السابقة! واملثال القيايس لهذه الظاهرة هو االضمحالل اإلشعاعي.
نفسه ح ًرا أخ ً
وهنا ،ميكن أن يتغري فجأ ًة تكوين الجسيًّمت –الربوتونات والنيوترونات– املدفونة عميقًا يف
نواة الذرة .تخربنا ميكانيكا الكم ،اعتًّم ًدا عىل خصائص الذرة أو النواة الفردية ،أنه ميكن لواحد
أو أكرث من هذه الجسيًّمت اإلفالت من النواة ،رغم أنها جمي ًعا مرتبطة كالسيك ًيا بشكل قطعي.
يف مثال آخر ،إذا رميت كرة عىل النافذة ،فإما سيكون لدى الكرة طاق ًة كافي ًة لتمر عربها ،أو
سرتتد عن النافذة وتعود .إذا كانت الكرة صغرية كفاي ًة بحيث يكون سلوكها محكو ًما مببادئ
مثال ،التي تصطدم بحاجز رفيع أن
ميكانيكا الكم ،ستكون األمور مختلفةً .ميكن لإللكرتوناتً ،
67
تفعل كال األمرين! يف مثال مألوف أكرث ،قد ينعكس الضوء الذي يصطدم بسطح مادة مثل
املرآة بشكل طبيعي .ومع ذلك ،إذا كانت املرآة رفيعة كفايةً ،نجد أنه رغم أن معظم الضوء
ينعكس ،لكن بعضه ميكن أن «يشق نفقًا» عرب املرآة ويظهر عىل الجانب اآلخر! (سأوضح
مسلًّم
ً «القواعد» الجديدة التي تحكم هذا السلوك الغريب الحقًا .يف الوقت الحايل ،اعتربها أم ًرا
به).
أوضح هوكينغ أنه ميكن أن تحدث ظواهر مًّمثلة بالقرب من الثقب األسود .ميكن
للجسيًّمت شق نفق عرب حاجز الجاذبية عىل سطح الثقب األسود واإلفالت .كانت هذه املظاهرة
إنجازًا مبه ًرا ألنها كانت أول مرة تستخدم فيها قوانني ميكانيكا الكم إىل جانب النسبية العامة
لكشف ظاهرة جديدة .ومع ذلك ،مر ًة أخرى ،مل يكن ذلك ممكنًا إال ألن حاالت الجسيًّمت
امليكانيكية الكمومية حول الثقب األسود كانت ،مثل ذرة الهيدروجني« ،قابلة للفصل» – أي
ميكن تحويل الحساب ثاليث األبعاد بفعالية إىل مسألة أحادية البعد ومشكلة ثنائية األبعاد
مستقلة .لوال هذا االختزال ،لبقينا نجهل الكثري بشأن الثقوب السوداء.
مهًّم كانت هذه الحيل التقنية مثري ًة لالهتًّمم ،لكنها ليست سوى غيض من فيض.
السبب الحقيقي وراء استمرارنا يف تكرار أنفسنا عند اكتشاف قوانني جديدة ال يرجع إىل
شخصنا ،أو عدمه ،بقدر ما يرجع إىل شخص الطبيعة .إنها تكرر نفسها باستمرار .ولهذا
السبب نتحقق عامليًا تقريبًا ملعرفة ما إذا كانت الفيزياء الجديدة هي حقًا إعادة اخرتاع للفيزياء
القدمية .استفاد نيوتن من اكتشاف قانونه العام للجاذبية بشكل هائل من املالحظات
والتحليالت التي أجراها غاليليو ،كًّم وصفت .واستفاد أيضً ا من مجموعة أخرى من املالحظات
الدقيقة أجراها عامل الفلك الدمناريك تيخو براهي ،كًّم حللها تلميذه يوهانس كيبلر – أحد
معارصي غاليليو.
كان كل من براهي وكيبلر شخصيتني رائعتني .أصبح براهي ،املنحدر من خلفية متميزة،
من أبرز علًّمء الفلك يف أوروبا بعد مالحظاته عن املستعر األعظم عام .1572وقد منحه امللك
الدمناريك فريدريك الثاين جزير ًة كامل ًة الستخدامها كموقع مرصد ،ليجربه خليفة فريدريك
بعد بضع سنوات عىل االنتقال .متكن براهي ،دون أن تعيقه ،أو رمبا بسبب ،غطرسته (وأنفه
الزائف املعدين) ،من تحسني دقة القياسات الفلكية خالل عقد واحد مبعدل 10أضعاف مقارن ًة
بالتي اح ُتفظ بها طوال األلف سنة املاضية – وكل هذا دون تلسكوب! يف براغ ،حيث كان منف ًيا
68
عني براهي كيبلر قبل عام من وفاته إلجراء التحليل الحسايب املعقد املطلوب
من الدمناركّ ،
لتحويل مالحظاته التفصيلية عن حركات الكواكب إىل علم كوين متسق.
طفال لعائلة ذات إمكانات متواضعة ،وكانت حياته دامئًا
ً جاء كيبلر من عامل آخر .كان
عىل الحافة ،مال ًيا وعاطف ًيا .إىل جانب مساعيه العلمية ،وجد كيبلر وقتًا للدفاع عن والدته
بنجاح يف محاكمتها بتهمة السحر ولكتابة ما كان عىل األرجح أول رواية خيال علمي ،عن
رحلة إىل القمر .ورغم هذه املشتتات ،تعامل كيبلر مع مهمة تحليل البيانات يف دفاتر مالحظات
براهي ،التي ورثها بعد وفاة براهي ،بحًّمس غري عادي .دون حاسوب ماكنتوش ،ناهيك عن
حاسوب فائق ،أجرى معجزة تحليل البيانات املعقدة التي شغلت الجزء األكرب من حياته املهنية.
ومن خالل جداول مواقع الكواكب الالنهائية ،توصل إىل القوانني الثالثة املشهورة لحركة
الكواكب التي ما تزال تحمل اسمه ،والتي قدمت األدلة الرئيسية التي سيستخدمها نيوتن لكشف
لغز الجاذبية.
لقد ذكرت أحد قوانني كيبلر سابقًا –وهو أن مدارات الكواكب تقطع مساحات متساوي ًة
يف أوقات متساوية– وكيف متكن نيوتن من استخدام هذا لالستدالل عىل وجود قوة تسحب
الكواكب نحو الشمس .إننا مرتاحون ج ًدا لهذه الفكرة يف الوقت الحارض لدرجة أنه تجدر
اإلشارة إىل مدى كونها غري بديهية حقًا .لعدة قرون قبل نيوتن ،افرتض أن القوة الالزمة
للحفاظ عىل حركة الكواكب حول الشمس يجب أن تنبع من يشء يدفعها .اعتمد نيوتن بكل
بساطة عىل قانون غاليليو للحركة املنتظمة ملعرفة أن هذا غري رضوري .يف الواقع ،زعم أن
نتيجة غاليليو التي مفادها أن حركة األجسام املقذوفة يف الهواء ميكن أن ترسم قط ًعا مكافئًا،
وأن رسعتها األفقية ستظل ثابتة ،تعني ضمنًا أن الجسم املقذوف برسعة كافية ميكن أن يدور
حول األرض .نظ ًرا النحناء األرض ،ميكن ألي جسم أن يستمر يف «السقوط» باتجاه األرض،
ولكن إذا كان يتحرك برسعة كافية يف البداية ،فإن حركته األفقية الثابتة ميكن أن تحمله بعي ًدا
كفاي ًة بحيث يظل يف حالة «السقوط» عىل مسافة ثابتة من سطح األرض .يوضح ذلك يف
الرسم البياين التايل ،املنسوخ من مبادئ نيوتن:
69
بعد أن أدركنا أن القوة التي تشد بوضوح نحو األسفل عىل األرض ميكن أن تؤدي إىل
ريا من
سقوط جسم نحوها باستمرار إىل األبد –وهذا ما نسميه املدار– مل يتطلب األمر كث ً
الخيال لالفرتاض أن األشياء التي تدور حول الشمس ،مثل الكواكب ،كانت تُشد باستمرار نحو
الشمس ،وال تدفع حولها( .باملناسبة ،إن حقيقة أن األجسام يف املدار «تسقط» باستمرار هي
املسؤولة عن انعدام الوزن الذي يختربه رواد الفضاء .وال عالقة لذلك بغياب الجاذبية ،التي
تكون قوي ًة عند املسافات التي تجتازها األقًّمر الصناعية والصواريخ عاد ًة بقدر قوتها هنا عىل
األرض تقري ًبا).
عىل أي حال ،قدم قانون آخر من قوانني كيبلر لحركة الكواكب ملس ًة رائعةً .أعطى هذا
حا كموم ًيا كشف طبيعة الجذب الثقايل بني األجسام ،إذ قدم عالق ًة رياضي ًة بني
القانون مفتا ً
طول سنة كل كوكب – الوقت الذي يستغرقه للدوران حول الشمس وبعده عن الشمس .من هذا
القانون ،ميكن أن نستنتج بسهولة أن رسعة الكواكب حول الشمس تتناسب بطريقة ثابتة مع
بعدها عن الشمس .عىل وجه التحديد ،أظهرت قوانني كيبلر أن رسعتها تتناسب عكس ًيا مع
الجذر الرتبيعي لبعدها عن الشمس.
مسل ًحا بهذه املعرفة وبتعميمه الخاص من نتائج غاليليو بأن تسارع األجسام املتحركة
يجب أن يتناسب مع القوة املؤثرة عليها ،متكن نيوتن من إظهار أنه إذا انجذبت الكواكب نحو
70
الشمس بقوة تتناسب مع حاصل رضب كتلتها وكتلة الشمس ،مقسو ًما عىل مربع املسافة
بينهًّم ،سينتج قانون رسعة كيبلر بطبيعة الحال .عالو ًة عىل ذلك ،كان قاد ًرا عىل إظهار أن
ثابت التناسب سيكون مساويًا متا ًما لكتلة الشمس مرضوب ًة بشدة الجاذبية .إذا كانت شدة
الجاذبية بني جميع األجسام عامليةً ،فيمكن متثيلها بواسطة ثابت ،الذي نسميه اآلن G.
رغم أن تحديد الثابت Gمبارش ًة كان يتجاوز قدارت القياس يف عرصه ،لكن مل يحتج
نيوتن إىل ذلك إلثبات صحة قانونه .انطالقًا من فكرة أن نفس القوة التي تبقي الكواكب حول
الشمس يجب أن تبقي القمر يف مداره حول األرض ،قارن بني الحركة املتوقعة للقمر حول
األرض – بنا ًء عىل استقراء التسارع الرأيس املقاس لألجسام عىل سطح األرض مع الحركة
الفعلية املقاسة :أي يستغرق القمر 28يو ًما تقري ًبا للدوران حول األرض .اتفقت التنبؤات
ريا ،إن حقيقة أن أقًّمر املشرتي ،التي اكتشفها غاليليو أول مرة
واملالحظات بشكل مثايل .أخ ً
باستخدام تلسكوبه ،خضعت أيضً ا لقانون كيبلر للحركة املدارية ،هذه املرة بالنسبة ملدارها
حول املشرتي ،جعل من الصعب التشكيك يف عاملية قانون نيوتن.
ال أذكر هذه القصة اآلن ألكرر فقط كيف أن مجرد مالحظة كيفية تحرك األشياء – يف
هذه الحالة ،الكواكب – أدى إىل فهم سبب حركتها .بل ألظهر كيف متكنا من استغالل هذه
النتائج حتى يف األبحاث الحديثة .أبدأ بسابقة رائعة أنشأها العامل الربيطاين هرني كافنديش،
بعد 150عا ًما تقريبًا من اكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية.
زميال ما بعد الدكتوراه يف جامعة هارفارد ،رسعان ما تعلمت
ً عندما تخرجت وأصبحت
قيًّم هناك :قبل كتابة ورقة علمية ،ال بد من التوصل إىل عنوان جذاب .اعتقدت حينها أن
درسا ً
ً
ذلك كان اكتشافًا حديثًا يف العلوم ،لكنني علمت منذ ذلك الحني أن له تقلي ًدا متمي ًزا ،يعود عىل
األقل إىل كافنديش يف عام .1798
يُذكر كافنديش إلجراءه أول تجربة قاست مبارش ًة يف املخترب الجذب الثقايل بني كتلتني
معروفتني ،ما سمح له ،ألول مرة ،بقياس قوة الجاذبية وتحديد قيمة .Gعند تقديم نتائجه أمام
الجمعية امللكية مل يعنون ورقته البحثية «حول قياس قوة الجاذبية» أو «تحديد ثابت نيوتن
.»Gال ،دعاها «وزن األرض».
كان هناك سب ًبا وجي ًها لهذا العنوان الجذاب .بحلول ذلك الوقت ،كان قانون نيوتن
مقبوال عامل ًيا ،وكذلك الفرضية القائلة بأن قوة الجاذبية هذه هي املسؤولة عن الحركة
ً للجاذبية
71
املرصودة للقمر حول األرض .عن طريق قياس املسافة إىل القمر (وهذا ما كان يتم بسهولة،
حتى يف القرن السابع عرش ،من خالل مالحظة تغري الزاوية بني القمر واألفق عند رصده يف
نفس الوقت من موقعني مختلفني – نفس التقنية التي يستخدمها املساحون عند قياس
املسافات عىل األرض) ،ومعرفة مدة دوران القمر – 28يو ًما تقري ًبا– ميكن بسهولة حساب
رسعة القمر حول األرض .اسمحوا يل أن أكرر أن نجاح نيوتن العظيم مل يقترص عىل تفسريه
لقانون كيبلر الذي ينص عىل أن رسعة األجسام التي تدور حول الشمس تتناسب عكس ًيا مع
الجذر الرتبيعي لبعدها عن الشمس .إذ أظهر أيضً ا أن هذا القانون نفسه ميكن أن ينطبق عىل
حركة القمر وعىل األجسام التي تسقط عىل سطح األرض .يشري قانونه للجاذبية إىل أن ثابت
التناسب يساوي حاصل رضب Gيف كتلة الشمس يف الحالة األوىل ،و Gمرضوبًا يف كتلة
األرض يف الحالة األخرية( .مل يثبت أب ًدا أن قيمة ،Gيف الحقيقة ،هي نفسها يف الحالتني .كان
هذا تخمينًا مبن ًيا عىل افرتاض البساطة وعىل املالحظة التجريبية بأن قيمة Gتبدو نفسها
بالنسبة لألشياء التي تسقط عىل سطح األرض واألشياء التي تسقط عىل القمر ،وأن قيمة G
املنطبقة عىل الكواكب التي تدور حول الشمس تبدو موحدة بالنسبة لجميع هذه الكواكب.
وبالتايل ،فإن استقراء بسيط يشري إىل أن قيمة واحدة لـ Gقد تكون كافية لكل يشء).
عىل أية حال ،من خالل معرفة املسافة بني القمر واألرض ،ورسعة القمر حول األرض،
ميكنك إدخال قانون نيوتن وتحديد حاصل رضب Gيف كتلة األرض .ومع ذلك ،فإىل أن تعرف
قيمة Gبشكل مستقل ،لن تتمكن من استخالص كتلة األرض من هذا .وهكذا ،كان كافنديش
أيضً ا ،أول من حدد قيمة ،Gبعد 150عا ًما من اقرتاح نيوتن له ،أول من متكن من تحديد كتلة
األرض( .يبدو األخري أكرث إثارةً ،وكذلك عنوانه).
مل نستفد من إدراك كافنديش الذيك لقيمة الصحافة الجيدة فحسب ،بل أيضً ا من التقنية
التي ابتكرها لوزن األرض بدفعه قانون نيوتن إىل أقىص حد ممكن .التي ما تزال تستخدم
اليوم .تأيت أفضل قياسات لدينا لكتلة الشمس من نفس اإلجراء متا ًما ،باستخدام املسافات
والرسعات املدارية املعروفة لكل كوكب .يف الواقع ،هذا اإلجراء جيد ج ًدا لدرجة أنه ميكننا ،من
حيث املبدأ ،قياس كتلة الشمس بدقة تصل إىل جزء من املليون ،بنا ًء عىل البيانات الكوكبية
املوجودة .لسوء الحظ ،فإن ثابت نيوتن Gهو أسوأ ثابت أسايس تم قياسه يف الطبيعة .نحن
72
نعرفه بدقة جزء واحد فقط من 100,000أو نحو ذلك .وبالتايل فإن معرفتنا بكتلة الشمس
تقترص عىل هذه الدقة.
بالتبعية ،إن عدم يقيننا بشدة الجاذبية الدقيقة ال يحد من قدرتنا عىل قياس كتلة
الشمس فحسب ،بل يحد أيضً ا من قدرتنا عىل سرب أصغر وأكرب املقاييس يف الكون .ألنه ،كًّم
سرنى ،يتبني أنه عىل املقاييس الصغرية ،أقل من نحو مليون من البوصة ،ال منلك مسبا ًرا
رشا يوضح أن الجاذبية تترصف كًّم وصفها نيوتن ،وما إذا كانت االنحرافات عن قانون
مبا ً
نيوتن للجاذبية قد توجد عىل هذه املقاييس وهو ما ميكن أن يلقي الضوء عىل احتًّمل وجود
أبعاد إضافية ،إىل جانب األبعاد الثالثية للفضاء التي نعرفها ونحبها.
ولكن ،عندما تسري األمور عىل ما يرام ،ال تتوقف .تدور شمسنا (وبالتايل نظامنا
الشميس) حول الحافة الخارجية ملجرة درب التبانة ،ولذا ميكننا استخدام بعد الشمس املعروف
عن مركز املجرة ( 25,000سنة ضوئية تقري ًبا) ورسعتها املدارية املعروفة ( 150ميل/ثانية
تقري ًبا) ،لـ«وزن» املجرة .عندما نفعل ذلك ،نجد أن كتلة املواد املحصورة داخل مدارنا تعادل
مئة مليار كتلة شمسية تقري ًبا .وهذا أمر مشجع ،ألن إجًّميل الضوء املنبعث من مجرتنا يعادل
تقري ًبا الضوء املنبعث من نحو مئة مليار نجم يشبه شمسنا بشكل أو بآخر( .توفر هاتان
املالحظتان األساس املنطقي لبياين السابق الذي يشري إىل وجود نحو مئة مليار نجم يف
مجرتنا).
يحدث يشء رائع عندما نحاول توسيع هذا القياس من خالل رصد رسعة األجسام
وبدال من االنخفاض ،كًّم ينبغي أن يحدث لو
املوجودة يف أماكن أبعد وأبعد عن مركز مجرتناً .
كانت كل كتلة مجرتنا مركزة يف املنطقة التي توجد بها النجوم املرصودة ،تظل هذه الرسعة
ثابتةً .يشري هذا إىل وجود كتلة أكرث بكثري خارج املنطقة التي تلمع فيها النجوم .يف الواقع،
تشري التقديرات الحالية إىل وجود ما ال يقل عن عرشة أضعاف ما تراه العني من األشياء! عالو ًة
عىل ذلك ،فإن املالحظات املًّمثلة لحركات النجوم يف املجرات األخرى تشري جميعها إىل نفس
اليشء .إن توسيع قانون نيوتن ليستخدم الحركة املرصودة للمجرات نفسها وسط مجموعات
وعناقيد املجرات يؤكد هذه الفكرة .عندما نستخدم قانون نيوتن لوزن الكون ،نجد أن ما ال يقل
عن %90من املادة فيه «مظلمة».
73
إن املالحظات التي تشري إىل أن الكتلة املجمعة يف الكون تهيمن عليها كًّم يبدو ما
نسميه املادة املظلمة هي صميم أحد أكرث األلغاز إثار ًة وتتب ًعا يف الفيزياء الحديثة .سيتطلب
األمر كتابًا كامالً ليصف الجهود املبذولة لتحديد ماهية هذه األشياء وصفًا كاف ًيا (وبالصدفة،
كتبت كتابًا بالفعل) .مع ذلك ،أريد هنا أن أطلعكم عليها فقط وأن أوضح أن مشكلة البحث
الحديثة للغاية هذه تنبع من استغالل نفس التحليل متا ًما الذي استخدمه كافنديش منذ أكرث
من قرنني من الزمن لوزن األرض ألول مرة.
عند هذه النقطة ،قد متيل إىل التساؤل عن سبب اعتقادنا أنه ميكننا دفع قانون نيوتن
حتى هذا الحد .ففي النهاية ،إن املطالبة بوجود مصدر جديد بالكامل للًّمدة غري املضيئة مللء
بدال من ذلك أن قانون نيوتن للجاذبية ال ينطبق
الكون تبدو أم ًرا مبالغًا فيه .ملاذا ال نفرتض ً
عىل املقاييس املجرية واألكرب؟ رغم أن بعض الفيزيائيني اقرتحوا هذا االحتًّمل تحدي ًدا ،آمل أن
تساعد حججي حتى هذه النقطة يف جعل سبب اعتقاد الفيزيائيون أن افرتاض كون مملوء
باملادة املظلمة أكرث تحفظًا من استبعاد قانون نيوتن أكرث قابلي ًة للفهم .عملت الجاذبية
النيوتونية بشكل مثايل حتى اآلن لتفسري حركة كل يشء حرف ًيا تحت الشمس .وليس لدينا أي
سبب لالعتقاد بأنها قد ال تنطبق عىل املقاييس األكرب .عالو ًة عىل ذلك ،هناك تقليد متميز يف
فمثال ،بعد اكتشاف كوكب أورانوس،
ً التغلب عىل التحديات األخرى املحتملة لقانون نيوتن.
أُدرك أن حركة هذا الجسم ،أبعد جسم معروف عن الشمس يف نظامنا الشميس املعروف آنذاك،
ال ميكن متثيلها بالجاذبية النيوتونية القامئة عىل جذب الشمس والكواكب األخرى .هل ميكن
أن تكون هذه أول إشارة إىل انهيار القانون العاملي؟ نعم ،ولكن كان من األسهل افرتاض أن
حركته املرصودة قد تتأثر ببعض األجسام «املظلمة» غري املرئية حتى اآلن .حددت الحسابات
الدقيقة باستخدام قانون نيوتن ،التي أجريت يف القرن الثامن عرش ،أين ميكن توجد مثل هذه
األجسام .وعندما وجهت التلسكوبات نحو هذه املنطقة ،رسعان ما اكتشف كوكب نبتون .أدت
املالحظات الالحقة املًّمثلة لحركة نبتون إىل اكتشاف بلوتو صدف ًة يف عام .1930
يشري مثال سابق إىل فائدة االلتزام بقانون ناجح .يف أغلب األحيان ،ميكن أن تؤدي
مواجهة التحديات الواضحة ملثل هذا القانون إىل اكتشافات فيزيائية جديدة ومثرية غري
فمثال ،يف القرن السابع عرش ،الحظ عامل الفلك الدمناريك
ً مرتبطة مبارش ًة بالقانون نفسه.
أويل رومر حركة أقًّمر املشرتي واكتشف حقيق ًة غريبةً .ويف وقت معني من السنة ،تعود
74
األقًّمر للظهور من خلف املشرتي قبل أربع دقائق تقري ًبا من املوعد املتوقع بتطبيق قانون
فشال
نيوتن مبارشةً .وبعد ستة أشهر ،تتأخر األقًّمر أربع دقائق .استنتج رومر أن هذا مل يكن ً
رشا عىل حقيقة أن الضوء ينتقل برسعة محدودة .رمبا تتذكر أن
لقانون نيوتن ،وإمنا كان مؤ ً
الضوء يجتاز املسافة بني األرض والشمس يف نحو مثاين دقائق .وهكذا ،يف وقت معني من
السنة ،تكون األرض أقرب إىل املشرتي بثًّمين «دقائق ضوئية» مًّم هي عليه عندما تكون عىل
الجانب اآلخر من مدارها حول الشمس .وهذا يفرس فارق الثًّمن دقائق يف توقيت مدارات أقًّمر
املشرتي .وبهذه الطريقة ،متكن رومر بالفعل من تقدير رسعة الضوء بدقة ،قبل أكرث من 200
عام من قياسها مبارشةً.
وهكذا ،رغم أننا مل نكن نعرف أنه ميكننا االستمرار يف وزن مناطق أكرب وأكرب من
الكون كًّم كنا قد وزنا األرض والشمس بالفعل ،كان القيام بذلك هو الرهان األفضل .ويوفر
أيضً ا أعظم أمل للتقدم .قد تكون مالحظة حاسمة واحدة كافي ًة لدحض نظرية يف الفيزياء.
حاسًّم .ميكن
ً ولكن الحركة املرصودة لألجسام يف مجرتنا وغريها من املجرات ليست اختبا ًرا
تفسريها بوجود املادة املظلمة ،التي يوجد اآلن دعم متزامن لها يأيت من مجموعة حجج مستقلة
حول تكوين البنى واسعة النطاق يف الكون .ستخربنا املالحظات اإلضافية ما إذا كانت مثابرتنا
العنيدة قامئ ًة عىل أسس سليمة ،وبذلك قد نكتشف مًّم يتكون معظم الكون.
رسائال عديد ًة بعد تأليف الكتاب عن املادة املظلمة من أفراد كانوا مقتنعني بأن
ً تلقيت
حاسًّم لنظرياتهم الجديدة الجريئة ،التي زعموا أن
ً دعًّم
ً املالحظات التي وصفتها قدمت
«املتخصصون» كانوا ضيقي األفق للغاية لدراستها .أمتنى أن أمتكن من إقناعهم بأن االنفتاح
العقيل يف الفيزياء ينطوي عىل والء عنيد ألفكار مثبتة جي ًدا حتى يوجد دليل قاطع عىل
رضورة تجاوزها .فمعظم الثورات الحيوية يف هذا القرن مل تعتمد عىل نبذ األفكار القدمية
بقدر ما اعتمدت عىل محاولة استيعابها واستخدام الحكمة الناتجة عنها يف مواجهة األلغاز
التجريبية أو النظرية القامئة .وعىل حد تعبري فاينًّمن مر ًة أخرى ،وهو نفسه أحد أكرث علًّمء
9
الفيزياء أصال ًة يف عرصنا« :اإلبداع العلمي هو خيال مقيد».
لنتأمل الثورة األكرث شهر ًة رمبا يف الفيزياء يف هذا القرن :تطوير آينشتاين لنظرية
النسبية الخاصة .بينًّم ال ميكن إنكار أن نتيجة النسبية الخاصة تفرض مراجع ًة كامل ًة ملفاهيمنا
عن املكان والزمن ،فإن أصل هذه الفكرة كان محاول ًة أقل طمو ً
حا لجعل قانونني فيزيائيني
75
مثبتني متسقني .يف الواقع ،كان الدافع الكامل لتحليل آينشتاين هو محاولة إعادة صياغة
الفيزياء الحديثة يف قالب يستوعب مبدأ النسبية لغاليليو ،الذي طور قبل نحو ثالمثئة عام.
عند النظر إليه بهذه الطريقة ،ميكن تأطري املنطق وراء نظرية أينشتاين بكل بساطة .زعم
غاليليو أن وجود الحركة املنتظمة يتطلب أن تكون قوانني الفيزياء ،كًّم يقيسها مراقب متحرك
حركة منتظمة –مبا يف ذلك املراقب الثابت– متطابقة .ينطوي هذا عىل نتيجة مفاجئة :من
املستحيل إجراء أي تجربة تثبت بشكل قاطع أنك يف حالة سكون .ميكن ألي مراقب يتحرك
برسعة ثابتة بالنسبة إىل أي مراقب آخر أن يدعي أنه يف حالة سكون واآلخر متحرك .ال ميكن
ألي تجربة ميكن إجراؤها أن متيز أيهًّم متحرك .لقد مررنا جمي ًعا بهذه التجربة .عندما تشاهد
القطار عىل املسار التايل من املسار الذي ستغادره ،يكون من الصعب أحيانًا يف البداية معرفة
أي القطارين يتحرك( .بالطبع ،إذا كنت مساف ًرا بالقطار يف الواليات املتحدة ،فرسعان ما يصبح
سهال .ما عليك سوى االنتظار حتى تشعر باملطبات).
ً األمر
رمبا كان التطور الرئييس لفيزياء القرن التاسع عرش هو وضع جيمس كالرك
ماكسويل ،عامل الفيزياء النظرية املتميز يف عرصه ،اللمسات األخرية عىل نظرية
كهرومغناطيسية كاملة ،نظرية ترشح بشكل متسق جميع الظواهر الفيزيائية التي تحكم
حياتنا اآلن – من أصل التيارات الكهربائية إىل القوانني الكامنة وراء املولدات واملحركات.
وكانت مفخرة هذه النظرية هي أنها «تنبأت» بوجوب وجود الضوء ،كًّم سأبني.
وخصوصا العامل
ً إن أعًّمل الفيزيائيني اآلخرين يف الجزء األول من القرن التاسع عرش،
الربيطاين مايكل فاراداي –تلميذ سابق يف مجال تجليد الكتب ترقى ليصبح مدي ًرا للمركز
الرئييس للعلوم الربيطانية ،املعهد املليك– أنشأت عالق ًة رائع ًة بني القوى الكهربائية
واملغناطيسية .ويف بداية القرن ،بدا أن هاتني القوتني ،املعروفتني جي ًدا لدى فالسفة الطبيعة،
مثال ،له دامئًا «قطبان»،
كانتا مختلفتني .يف الواقع ،للوهلة األوىل ،إنهًّم كذلك .فاملغناطيسً ،
شًّميل وجنويب .تجذب األقطاب الشًّملية األقطاب الجنوبية والعكس صحيح .ومع ذلك ،إذا
قطعت املغناطيس إىل نصفني ،فلن تنتج قط ًبا شًّمل ًيا أو جنوب ًيا معزوالً .ستنتج مغناطيسني
حجًّم ،لكل منهًّم قطبني .من ناحية أخرى ،تأيت الشحنة الكهربائية يف نوعني،
ً جديدين أصغر
سًّمهًّم بن فرانكلني موج ًبا وسال ًبا .تجذب الشحنات السالبة الشحنات املوجبة والعكس
صحيح .ومع ذلك ،عىل عكس املغناطيس ،ميكن عزل الشحنات املوجبة والسالبة بسهولة.
76
عىل مدار النصف األول من القرن ،بدأت تظهر روابط جديدة بني الكهرباء
واملغناطيسية .يف البداية ،ثبت أن املجاالت املغناطيسية ،أي املغناطيسات ،ميكن أن تنشأ عن
طريق تحريك الشحنات الكهربائية ،أي التيارات .بعد ذلك تبني أن املغناطيس من شأنه أن
يحرف حركة الشحنة الكهربائية املتحركة .ويف مفاجأة أكرب بكثري ،تبني (بواسطة فاراداي،
وبشكل مستقل بواسطة الفيزيايئ األمرييك جوزيف هرني) أن املغناطيس املتحرك ميكنه يف
الواقع خلق مجال كهربايئ والتسبب يف تدفق التيار.
مثة قصة مثرية لالهتًّمم مرتبطة باألخرية ،وال أستطيع مقاومة رسدها (خاص ًة يف هذه
األوقات من النقاش السيايس حول متويل مشاريع مثل امل ُصادم الفائق فائق التوصيل ،الذي
سأتحدث عنه الحقًا) .كان فاراداي ،بصفته مدي ًرا للمعهد املليك ،يجري بحثًا «رصفًا» — أي
أنه كان يحاول اكتشاف الطبيعة األساسية للقوى الكهربائية واملغناطيسية ،وليس بالرضورة
مهًّم،
البحث عن تطبيقات تقنية محتملة( .كان هذا رمبا قبل العرص الذي كان هذا التمييز فيه ً
بكل األحوال) .ولكن يف الواقع ،أصبحت كل التقنية الحديثة ممكن ًة بفضل هذا البحث :املبدأ
وراء توليد كل الطاقة الكهربائية اليوم ،واملبادئ وراء مفهوم املحرك الكهربايئ ،وما إىل ذلك.
خالل فرتة عمل فاراداي كمدير للمعهد املليك ،زار رئيس وزراء إنجلرتا مختربه ،الذي أعرب
عن أسفه لهذا البحث املجرد وتساءل عالني ًة عًّم إذا كان مثة أي فائدة عىل اإلطالق لهذه الحيل
املبنية يف املخترب .فأجاب فاراداي فوريًا بأن هذه النتائج مهمة للغاية ،مهمة ج ًدا لدرجة أن
حكومة جاللة امللكة ستفرض عليها رضيبة يو ًما ما! لقد كان محقًا.
وبالعودة إىل نقطة تحول هذا التاريخ ،بحلول منتصف القرن التاسع عرش كان من
الواضح أن هناك عالقة أساسية ما بني الكهرباء واملغناطيسية ،ولكن مل تكن هناك صورة
موحدة لهاتني الظاهرتني متاح ًة بعد .كانت مساهمة ماكسويل العظيمة هي توحيد القوى
الكهربائية واملغناطيسية يف نظرية واحدة – إلظهار أن هاتني القوتني املختلفتني كانتا يف
الحقيقة مجرد وجهني مختلفني لعملة واحدة .عىل وجه الخصوص ،وسع ماكسويل النتائج
السابقة ليجادل بشكل عام للغاية بأن أي مجال كهربايئ متغري سيخلق مجاالً مغناطيس ًيا،
مثال،
وبالتايل ،فإن أي مجال مغناطييس متغري سيخلق مجاالً كهربائ ًيا .وهكذا ،إذا قستً ،
شحنة كهربائية يف حالة السكون ،ستقيس مجاالً كهربائ ًيا .إذا مررت بنفس الشحنة ،ستقيس
77
مجاال مغناطيس ًيا .ما تراه يعتمد عىل حالتك الحركية .فاملجال الكهربايئ لشخص ما هو
ً أيضً ا
مجال مغناطييس لشخص آخر .إنهًّم يف الحقيقة مجرد جانبان مختلفان لنفس اليشء!
وبقدر ما كانت هذه النتيجة مثري ًة لالهتًّمم للفلسفة الطبيعية ،وجدت نتيجة أخرى
كانت رمبا أكرث أهميةً .إذا هززت شحنة كهربائية ألعىل وألسفل ،فسأنتج مجاالً مغناطيس ًيا
بسبب الحركة املتغرية للشحنة .إذا كانت حركة الشحنة نفسها تتغري باستمرار ،سأنتج يف
ريا .وهذا املجال املغناطييس املتغري سينتج بدوره مجاالً كهربائ ًيا
مجاال مغناطيس ًيا متغ ً
ً الواقع
ريا ،وهكذا دواليك .سيتحرك االضطراب أو
مجاال مغناطيس ًيا متغ ً
ً ريا ،والذي بدوره سينتج
متغ ً
املوجة «الكهرومغناطيسية» نحو الخارج .هذه نتيجة رائعة .ولعل األكرث روع ًة هو حقيقة أن
ماكسويل متكن من حساب مدى الرسعة التي يجب أن يتحرك بها هذا االضطراب ،مستن ًدا فقط
إىل الشدة املقاسة للقوى الكهربائية واملغناطيسية بني الشحنات الساكنة واملتحركة .النتيجة؟
يجب أن تنترش موجة املجاالت الكهربائية واملغناطيسية املتحركة برسعة مطابقة لرسعة انتقال
الضوء .وليس مستغربًا ،يف الواقع ،أن يتبني أن الضوء ليس سوى موجة كهرومغناطيسية،
تعيني رسعتها بداللة ثابتني أساسيني يف الطبيعة :شدة القوة الكهربائية بني الجسيًّمت
املشحونة وشدة القوة املغناطيسية بني املغناطيسات.
ال ميكنني املبالغة يف التأكيد عىل مدى أهمية هذا التطور للفيزياء .لقد لعبت طبيعة
الضوء دو ًرا يف جميع التطورات الرئيسية يف الفيزياء يف هذا القرن .يف الوقت الحايل أريد
الرتكيز عىل تطور واحد فقط .كان أينشتاين بالطبع عىل دراية بنتائج ماكسويل حول
الكهرومغناطيسية .ويعود له الفضل الكبري أيضً ا إلدراكه بوضوح أنها تتضمن مفارقة أساسية
تهدد باإلطاحة بفكرة النسبية الغاليلية.
أخربنا غاليليو أن قوانني الفيزياء يجب أن تكون مستقلة عن املكان الذي تقاس فيه،
مثال ،أحدهًّم يف مخترب
طاملا أنك يف حالة حركة منتظمة .وهكذا ،ينبغي ملراقبني مختلفنيً ،
عىل منت قارب عائم برسعة ثابتة يف اتجاه مجرى النهر واآلخر يف مخترب مثبت عىل الشاطئ،
قياس شدة القوة الكهربائية بني الشحنات الكهربائية الثابتة املوجودة عىل بعد مرت واحد يف
مختربهًّم لتكون نفس الشدة متا ًما .وباملثل ،يجب قياس القوة بني مغناطيسني عىل بعد مرت
واحد لتكون هي نفسها برصف النظر عن املخترب الذي تقاس فيه.
78
من ناحية أخرى ،يخربنا ماكسويل أننا إذا هززنا شحنة ألعىل وألسفل ،فسننتج دامئًا
موجة كهرومغناطيسية تتحرك بعي ًدا عنا برسعة تحددها قوانني الكهرومغناطيسية .وبالتايل،
سريى املراقب املوجود عىل القارب الذي يهز شحنة ما موجة كهرومغناطيسية تنتقل بعي ًدا
بهذه الرسعة .وباملثل ،سينتج املراقب املوجود عىل األرض والذي يهز شحنة ما موجة
كهرومغناطيسية تتحرك بعي ًدا عنه بهذه الرسعة .الطريقة الوحيدة التي ميكن بها أن تكون
هاتان الجملتان متسقتني ظاهريًا هي أن يقيس املراقب عىل األرض املوجة الكهرومغناطيسية
التي ينتجها املراقب املوجود عىل القارب لتكون لها رسعة مختلفة عن املوجة التي ينتجها هو
عىل األرض.
ولكن ،كًّم أدرك أينشتاين ،كانت هناك مشكلة يف ذلك .لنفرتض أنني «أركب» بجوار
موجة ضوئية ،مثلًّم اقرتح ،برسعة هذه املوجة تقري ًبا .أتخيل نفيس يف حالة سكون ،وعندما
حقال كهربائ ًيا
أنظر إىل بقعة ثابتة بجواري ،تنتقل عربها موجة كهرومغناطيسية ببطء ،أرى ً
ريا يف تلك البقعة .يخربين ماكسويل أن هذه املجاالت املتغرية يجب أن تولد
ومغناطيس ًيا متغ ً
موجة كهرومغناطيسية تنتقل نحو الخارج برسعة تحددها قوانني الفيزياء ،ولكن بدالً من ذلك
كل ما أراه هو موجة تتحرك ببطء بجانبي.
وهكذا واجه أينشتاين املشكلة الواضحة التالية .إما التخيل عن مبدأ النسبية ،الذي يبدو
أنه يجعل الفيزياء ممكنة بالقول إن قوانني الفيزياء مستقلة عن املكان الذي تقاس فيه ،طاملا
أنك يف حالة حركة منتظمة؛ أو التخيل عن نظرية ماكسويل الجميلة يف الكهرومغناطيسية
وبدال
واملوجات الكهرومغناطيسية .ويف خطوة ثورية حقيقية ،اختار أال يتخىل عن أي منهًّمً .
من ذلك ،ومع علمه بأن هذه األفكار األساسية كانت معقولة للغاية بحيث ال ميكن أن تكون
خاطئة ،اتخذ قرا ًرا جريئًا بأنه يجب عىل املرء أن يفكر يف تغيري مفهومي املكان والزمن نفسهًّم
ملعرفة ما إذا كان ميكن تلبية هذين املطلبني املتناقضني ظاهريًا يف نفس الوقت.
كان حله بسيطًا للغاية .الطريقة الوحيدة التي ميكن فيها أن يكون كل من غاليليو
وماكسويل عىل صواب يف نفس الوقت هي أن يقيس كال املراقبني رسعة املوجات
الكهرومغناطيسية التي ولدوها بأنفسهم لتكون القيمة التي تنبأ بها ماكسويل ،وقياس رسعة
املوجات التي ولدها نظريهًّم لتكون نفس هذه الرسعة أيضً ا .وهكذا ،هذا ما يجب أن يحدث!
79
طفال يف سيارة
قد ال يبدو هذا املطلب غري ًبا ،لكن فكر للحظة فيًّم يقرتحه .إذا شاهدت ً
متر بجانبي وهو يتقيأ ،فسأقيس رسعة القيء بالنسبة يل لتكون رسعة السيارة ،مثالً 60ميالً
مثال 5 ،أقدام يف الثانية .ومع ذلك،
يف الساعة ،باإلضافة إىل رسعة القيء بالنسبة للسيارةً ،
فإن األم الجالسة يف املقعد األمامي للسيارة ستقيس رسعة القيء بالنسبة لها لتكون األخرية
فقط ،أي 5أقدام يف الثانية .ولكن ،أخربين أينشتاين أنه لو سلط الطفل شعاع ليزر عىل والدته
بدال من القيء ستكون النتيجة مختلفةً .يبدو أن النسبية الخاصة تتطلب أن أقيس رسعة شعاع
ً
الضوء بالنسبة يل لتكون الرسعة التي حسبها ماكسويل ،وليس هذه الرسعة باإلضافة إىل 60
ميال يف الساعة .وباملثل ،ستقيس والدة الطفل أيضً ا نفس الرسعة.
ً
الطريقة الوحيدة ليكون هذا ممكنًا هي أن «تضبط» قياساتنا للمكان والزمن نفسها
بطريقة ما بحيث يقيس كل منا نفس الرسعة .ففي النهاية ،تقاس الرسعة بتحديد املسافة التي
يقطعها يشء ما خالل فرتة زمنية محددة .إذا كانت املسطرة املوجودة يف السيارة املستخدمة
لقياس املسافة «تنكمش» بالنسبة إىل مسطريت ،أو كانت الساعة التي تدق لقياس الوقت
تتباطأ بالنسبة إىل ساعتي ،فسيكون ممكنًا لكلينا أن نسجل نفس الرسعة لشعاع الضوء .يف
الواقع ،تقول نظرية أينشتاين أن كال األمرين يحدثان! وعالو ًة عىل ذلك ،تنص عىل أن األمور
متبادلة متا ًما .أي ،بالنسبة للمرأة يف السيارة« ،تنكمش» مسطريت وتتباطأ وساعتي بالنسبة
لها!
تبدو هذه الترصيحات سخيف ًة للغاية لدرجة أنه ال أحد يصدقها عند القراءة األوىل .يف
تفصيال بكثري للتحقق من جميع مضامني ادعاء أينشتاين بأن
ً تحليال أكرث
ً الواقع ،يتطلب األمر
رسعة الضوء يجب أن تقاس لتكون متساوية لجميع املراقبني وحل كل التناقضات الظاهرة
التي تفرتضها .ومن هذه مضامني ،الحقائق املقاسة اآلن التي تشري إىل أن الساعات املتحركة
تتباطأ ،وأن الجسيًّمت املتحركة تبدو أكرث ضخامة ،وأن رسعة الضوء هي الحد األقىص للرسعة
– فال يشء مادي ميكنه التحرك أرسع .تنجم هذه منطق ًيا من التأكيد األول .يف حني أن
أينشتاين يستحق بال شك الثناء عىل امتالكه الشجاعة والثبات ملتابعة كل هذه التبعات ،لكن
املهمة الصعبة حقًا كانت التوصل إىل ادعائه حول ثبات الضوء يف املقام األول .إنها شهادة
عىل جرأته وإبداعه ،ليس ألنه اختار التخلص من القوانني القامئة التي نجحت بوضوح ،بل
ألنه وجد طريقة مبتكرة للعيش يف إطارها .مبدع ج ًدا ،يف الواقع ،يبدو جنون ًيا.
80
سأعود يف الفصل التايل إىل طريقة عرض نظرية أينشتاين بحيث تبدو أقل جنونًا .لكن
أريد اآلن أن أترك هذا مبثابة تذكري ألي شخص أراد استخدام االدعاء القائل« :لقد قالوا إن
أينشتاين كان مجنونًا أيضً ا!» لتأكيد أفكارهم :ما مل يفعله أينشتاين تحدي ًدا هو االدعاء بأن
قوانني الفيزياء املثبتة التي سبقته كانت خاطئة .وإمنا أظهر أنها تعني يشء مل يقدر من قبل.
لقد فرضت نظرية النسبية الخاصة ،إىل جانب ميكانيكا الكم ،مراجعات عىل صورتنا
البديهية للواقع بشكل أعمق من أي تطورات أخرى يف القرن العرشين .بني النظريتني ،اهتزت
معقوال من خالل تغيري كيفية فهمنا لتلك الركائز التي يقوم عليها إدراكنا:
ً أسس ما نعتربه عاد ًة
مكرسا الستيعاب مضامني هذه
ً املكان والزمن واملادة .وإىل حد كبري ،كان باقي هذا القرن
التغيريات .تطلب هذا يف بعض األحيان نفس القدر من النباهة وااللتزام مببادئ الفيزياء املثبتة
الذي كان مطلوبًا لتطوير النظريات نفسها .إليكم مثال عىل ذلك يتعلق باالقرتان الدقيق بني
ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة ،وهو ما أرشت إليه يف مناقشتي الجتًّمع شيلرت آيالند :خلق
أزواج الجسيًّمت والجسيًّمت املضادة من العدم.
رغم أنني ذكرت ميكانيكا الكم عدة مرات ،لكنني مل أناقش مبادئها بأي تفصيل بعد،
ومثة سبب وجيه لذلك .كان الطريق إىل اكتشافها أقل مبارش ًة بكثري من الطريق إىل النسبية،
وإن الظواهر التي تنطبق عليها –يف عامل الفيزياء الذرية ودون الذرية– أقل شهرة أيضً ا .رغم
ذلك ،ومع استقرار األمور ،ندرك اآلن أن ميكانيكا الكم مستمدة أيضً ا من تأكيد واحد بسيط –
يبدو مجنونًا أيضً ا .إذا رميت كرة يف الهواء وأمسكها كلبي عىل بعد 20قد ًما ،فيمكنني مشاهدة
الكرة أثناء انتقالها والتأكد من أن املسار الذي تتبعه هو املسار الذي تنبأت به امليكانيكا
الغاليلية .رغم ذلك ،مع نقصان املسافات وأوقات االنتقال ،يختفي هذا التأكد ببطء .تؤكد قوانني
ميكانيكا الكم أنه إذا انتقل جسم ما من النقطة أ إىل النقطة ب ،فال ميكنك الجزم بأنه يعرب
قط ًعا أي نقطة معينة بينهًّم!
إن الرد الطبيعي عىل هذا االدعاء هو أنه ميكن دحضه فوريًا .ميكنني أن تسليط ضوء
عىل الجسم ورؤية أين يذهب! إذا سلطت «ضوء» بني أ و ب ،ميكنك اكتشاف الجسم،
فمثال ،إذا وضعت سلسلة من كواشف اإللكرتون
ً كاإللكرتون ،يف نقطة معينة ،ج ،بني االثنني.
عىل طول خط يفصل بني أ و ب ،سينقر واح ًدا منها فقط أثناء مرور الجسيم.
81
إذًا ماذا يحدث للتأكيد األصيل إذا كان بإمكاين عىل ما يبدو دحضه بسهولة؟ حسنًا،
الطبيعة دقيقة .ميكنني بالتأكيد اكتشاف مرور جسيم مثل اإللكرتون ،ولكن ال ميكنني فعل
فمثال ،إذا أرسلت شعا ًعا من اإللكرتونات نحو شاشة فسفورية ،كشاشة
ً ذلك دون عقاب!
التلفزيون ،ستيضء مناطق من الشاشة عند اصطدامها بها .ميكنني بعد ذلك وضع حاجز يف
الطريق إىل الشاشة مع شقني ضيقني متجاورين أمام الشعاع ،بحيث ال بد من أن متر
اإللكرتونات عرب أحدهًّم أو اآلخر للوصول إىل الشاشة .لتحديد عرب أي منهًّم مير كل إلكرتون
فردي ،ميكنني تثبيت كاشف عند كل شق .ليحدث حينها اليشء األروع .إذا مل أقس اإللكرتونات
أثناء مرورها عرب الشقني ،أرى منطًا واح ًدا عىل الشاشة .إذا قستها واح ًدا تلو اآلخر ،ألمتكن
من التأكد من املسار الذي يتبعه كل منها ،يتغري النمط الذي أراه عىل الشاشة .إن إجراء القياس
يغري النتيجة! وبالتايل ،بينًّم ميكنني التأكيد بثقة عىل أن كل إلكرتون أكتشفه مير يف الواقع
عرب أحد الشقني ،ال ميكنني التوصل بهذا إىل أي استنتاج بشأن اإللكرتونات التي ال أكتشفها،
التي يتضح أن لها سلوكًا مختلفًا.
يعتمد مثل هذا السلوك عىل حقيقة أن قوانني ميكانيكا الكم تتطلب عند مستوى أسايس
فمثال ،مثة حد مطلق لقدرتنا عىل قياس
ً معني عدم يقني متأصل يف قياس العمليات الطبيعية.
موضع جسيم متحرك ويف نفس الوقت معرفة رسعته (وبالتايل إىل أين يتجه) .كلًّم قست
أحدها بدقة أكرب ،قلت دقة معرفة اآلخر .إن عملية القياس ،ألنها تخل بالنظام ،تغريه .يف
املقاييس البرشية العادية ،تكون هذه االضطرابات صغرية ج ًدا بحيث ال تالحظ .لكن يف
املقاييس الذرية ،ميكن أن تصبح مهمة .حصلت ميكانيكا الكم عىل اسمها ألنها تستند إىل فكرة
أن الطاقة ال ميكن نقلها بكميات صغرية عىل نحو اعتباطي ،وإمنا تأيت يف مضاعفات لبعض
أصغر «الكميات» أو ( quantaمن األملانية) .هذا الكم األصغر يشبه طاقات الجسيًّمت يف
األنظمة الذرية ،وبالتايل عندما نحاول قياس مثل هذه الجسيًّمت ،نضطر دامئًا للقيام بذلك
عن طريق السًّمح بنقل بعض اإلشارات التي تكون بنفس مقدار طاقتها األولية .بعد النقل،
ستتغري طاقة النظام ،وكذلك حركات الجسيًّمت املعنية .إذا قست نظام ما لفرتة طويلة ج ًدا،
فإن متوسط طاقة النظام سيظل ثاب ًتا إىل حد ما ،حتى لو تغري فجأ ًة من وقت آلخر خالل
عملية القياس .وهكذا نصل إىل «عالقة عدم يقني» أخرى شهرية :كلًّم أردت قياس طاقة نظام
ما بدقة أكرب ،طالت مدة قياسه.
82
تشكل عالقات عدم اليقني هذه جوهر السلوك امليكانييك الكمومي .لقد وضحها ألول
مرة الفيزيايئ األملاين فرينر هايزنربغ ،أحد مؤسيس نظرية ميكانيكا الكم .كان هايزنربغ ،مثل
غريه من العباقرة الذين شاركوا يف تطوير هذه النظرية خالل عرشينيات وثالثينيات القرن
العرشين ،فيزيائ ًيا رائ ًعا .يرص بعض زماليئ عىل أنه يأيت يف املرتبة الثانية بعد أينشتاين يف
تأثريه عىل الفيزياء يف هذا القرن .ولكن لسوء الحظ ،فإن سمعة هايزنربغ الشعبية مشوهة
اليوم إىل حد ما ألنه ظل شخصي ًة علمي ًة بارز ًة حتى يف أيام أملانيا النازية .ليس واض ًحا عىل
اإلطالق أنه دعم علنًا النظام النازي أو مجهوده الحريب .ولكنه ،عىل نقيض عدد من زمالئه،
مل يعمل بنشاط ضده .عىل أية حال ،فإن عمله يف ميكانيكا الكم –وخاص ًة توضيحه ملبدأ عدم
غري إىل األبد الطريقة التي نفهم بها العامل الفيزيايئ .باإلضافة إىل ذلك ،مل تؤثر أي
اليقني– ّ
نتيجة فيزيائية عىل األرجح يف هذا القرن بهذه القوة عىل الفلسفة.
افرتضت امليكانيكا النيوتونية حتمية كاملة .تشري قوانني امليكانيكا إىل أنه ميكن للمرء،
من حيث املبدأ ،التنبؤ متا ًما بالسلوك املستقبيل لنظام من الجسيًّمت (مبا يف ذلك الجسيًّمت
املكونة للدماغ البرشي) مع معرفة كافية مبواقع وحركات جميع الجسيًّمت يف أي وقت .غريت
عالقات عدم اليقني يف ميكانيكا الكم كل ذلك فجأةً .فإذا أخذ املرء لقطة تعطي معلومات دقيق ًة
عن مواقع جميع الجسيًّمت يف نظام ما ،فإنه يخاطر بفقدان جميع املعلومات حول املكان
الذي تتجه إليه تلك الجسيًّمت .مع هذه الخسارة الواضحة يف الحتمية –مل يعد املرء قاد ًرا عىل
تقديم تنبؤات دقيقة متا ًما حول السلوك املستقبيل لجميع األنظمة ،حتى من حيث املبدأ– جاءت
اإلرادة الحرة ،عىل األقل يف أذهان الكثري من الناس.
يف حني أن مبادئ ميكانيكا الكم أثارت حًّمس العديد من غري الفيزيائيني ،وخاص ًة
الفالسفة ،فمن الجدير باملالحظة أن جميع املضامني الفلسفية مليكانيكا الكم ذات تأثري ضئيل
ج ًدا ،إن وجد ،عىل الفيزياء .كل ما يجب عىل الفيزيائيني مراعاته هو قواعد اللعبة .والقواعد
هي أن عدم اليقني يف القياسات متأصل يف الطبيعة وقابل للحساب .مثة طرق عديدة ملحاولة
وصف أصل عدم اليقني هذا ،ولكن كالعادة ،فإن الطرق الوحيدة املتسقة متا ًما (وهناك،
كالعادة ،عدد من الطرق املختلفة ولكن املتكافئة) هي طرق رياضية .توجد صيغة رياضية
واحدة قابلة للتصور بشكل خاص ،ويعود الفضل فيها إىل ريتشارد فاينًّمن دون سواه.
83
كانت إحدى أعظم مساهًّمت فاينًّمن يف الفيزياء هي إعادة تفسري قوانني ميكانيكا
الكم فيًّم يتعلق مبا يعرف يف الرياضيات بتكامالت املسار عىل غرار مبدأ فريما للضوء الذي
ناقشته يف الفصل السابق .إن ما بدأ كمخطط حسايب «مجرد» أثر اآلن عىل الطريقة التي
يتصور بها جيل كامل من الفيزيائيني ما يفعلونه .حتى أنه قدم خدع ًة رياضي ًة تسمى «الزمن
التخييل» ،التي أشار إليها ستيفن هوكينغ يف كتابه الشهري تاريخ موجز للزمن.
توفر تكامالت املسار لفاينًّمن قواعد لحساب العمليات الفيزيائية يف ميكانيكا الكم،
وهي تسري عىل هذا النحو .عند تحرك جسيم من نقطة أ إىل نقطة ب ،تخيل جميع املسارات
املمكنة التي ميكن أن يسلكها:
يربط املرء بكل مسار نوع من االحتًّملية بأن يسلكه الجسيم .الجزء الصعب هو حساب
االحتًّملية املرتبطة مبسار معني ،وهذا هو الغرض من جميع األدوات الرياضية مثل الزمن
التخييل .لكن هذا ليس ما يهمني هنا .بالنسبة األجسام العيانية (التي تكون كبرية مقارن ًة
احتًّمال
ً باملقياس الذي تصبح فيه التأثريات الكمومية مهمةً) يجد املرء أن مسا ًرا واح ًدا هو األكرث
بشكل ساحق مقارن ًة بأي مسار آخر ،وميكن تجاهل جميع املسارات األخرى .هذا هو املسار
الذي تتنبأ به قوانني امليكانيكا الكالسيكية ،وهذا يفرس سبب وصف قوانني الحركة املرصودة
لألجسام العيانية بشكل جيد للغاية بواسطة امليكانيكا الكالسيكية .ولكن بالنسبة للجسيًّمت
ريا عن
املتحركة عىل املقاييس حيث ميكن مليكانيكا الكم تقديم تنبؤات مختلفة اختالفًا كب ً
امليكانيكا الكالسيكية ،قد توجد عدة مسارات مختلفة محتملة بنفس القدر .يف هذه الحالة،
سيعتمد االحتًّمل النهايئ النتقال جسيم من أ إىل ب عىل النظر يف أكرث من مسار محتمل.
جسيًّم يبدأ من أ سينتهي عند ب Kيعتمد عىل
ً اآلن ،يتبني أن هذا االحتًّمل النهايئ Kبأن
مجموع «االحتًّمالت» الفردية لجميع املسارات املمكنة.
84
أساسا عن امليكانيكا الكالسيكية هو أن هذه ً ما يجعل ميكانيكا الكم مختلفة
«االحتًّمالت» كًّم تم حسابها تحمل اختالفًا أساس ًيا واح ًدا عن االحتًّمالت الفيزيائية الفعلية كًّم
نع ّرفها عادةً .بينًّم تكون االحتًّمالت العادية موجبة دامئًا ،ميكن أن تكون «احتًّمالت» املسارات
الفردية يف ميكانيكا الكم سالبة ،أو حتى «تخيلية» ،أي رقم مربعه سالب! (إذا كنت ال تحب
التفكري يف االحتًّمالت التخيلية ،ميكنك التخلص من هذه امليزة بتخيل عامل يكون فيه «الزمن»
رقًّم تخيل ًيا .يف هذه الحالة ،ميكن كتابة جميع االحتًّمالت كأرقام موجبة .ومن هنا جاء
ً
مصطلح زمن تخييل .ومع ذلك ،ال يلزم مزيد من الرشح لهذه املشكلة هنا .الزمن التخييل هو
مجرد تركيب ريايض مصمم ملساعدتنا يف التعامل مع رياضيات ميكانيكا الكم ،وليس أكرث).
ال توجد مشكلة يف حساب االحتًّمل الفيزيايئ الفعيل النهايئ النتقال الجسيم من أ إىل ب،
ألنه بعد جمع «االحتًّمالت» امليكانيكية الكمومية الفردية لكل مسار ،تطلب قوانني ميكانيكا
الكم تربيع النتيجة بطريقة يكون فيها االحتًّمل الفيزيايئ الفعيل دامئًا عد ًدا موج ًبا.
النقطة املهمة يف هذا كله هي أنني أستطيع أن أفكر يف «االحتًّمالت» املرتبطة مبسارين
مختلفني ،كل منهًّم ،عندما يؤخذ عىل حدة ،قد يؤدي إىل احتًّمل نهايئ غري صفري ،ولكن
عند جمعهًّم م ًعا ،يُلغيان ليعطيا نتيجة صفرية .وهذا هو بالضبط ما ميكن أن يحدث
لإللكرتونات التي تنتقل إىل الشاشة الفوسفورية عرب الشقني .إذا نظرت إىل نقطة معينة عىل
الشاشة ،وغطيت أحد الشقني ،أجد أن هناك احتًّمالً غري صفري التخاذ اإللكرتون مسا ًرا من أ
إىل ب عرب هذا الشق ووصوله إىل الشاشة:
وباملثل ،هناك احتًّمل غري صفري النتقاله من أ إىل ب إذا غطيت الشق اآلخر:
85
ولكن ،إذا سمحت بكال املسارين املحتملني ،فإن االحتًّمل النهايئ لالنتقال من أ إىل ب،
بنا ًء عىل مجموع «االحتًّمالت» امليكانيكية الكمومية لكل مسار ،ميكن أن يكون صف ًرا:
التجسيد الفيزيايئ لهذا بسيط .إذا غطيت أيًا من الشقني ،سأرى نقطة ساطعة تظهر
عىل الشاشة عند النقطة ب عندما أرسل اإللكرتونات عربه واحد تلو اآلخر .ومع ذلك ،إذا تركت
حا ،تظل الشاشة مظلم ًة عند ب .فرغم أن إلكرتونًا واح ًدا فقط ينتقل إىل الشاشة
كليهًّم مفتو ً
يف كل مرة ،فإن احتًّمل الوصول إىل ب يعتمد عىل توفر كال املسارين ،كًّم لو أن اإللكرتون
«مير عرب» كال الشقني بطريقة ما! عندما نتحقق ملعرفة ما إذا كان هذا هو الحال ،بوضع كاشف
عىل كل من الشقني ،نجد أن اإللكرتونات متر عرب أحدهًّم أو اآلخر ،لكن النقطة ب اآلن ساطعة!
إن اكتشاف اإللكرتون ،وإجباره عىل فضح وجوده ،أو االختيار إن شئت ،له نفس تأثري إغالق
أحد الشقني :إنه يغري القواعد!
لقد تحملت عناء وصف ذلك بيشء من التفصيل ،ليس فقط لتعريفكم بظاهرة أساسية
للطريقة التي يوجد بها العامل عند املقاييس الذرية .وإمنا أريد أن أصف كيف تفرض علينا،
بالتمسك بإرصار بهذه النتيجة الجامحة واملثبتة ،ومبضامني النسبية الخاصة ،تبعات كان من
الصعب حتى عىل أولئك الذين تنبأوا بها ألول مرة قبولها .لكن الفيزياء تتقدم بدفع النظريات
املثبتة إىل أقىص الحدود ،وليس بالتخيل عنها ملجرد أن األمور تزداد صعوبةً.
86
إن كنا نعتقد أن اإللكرتونات ،أثناء انتقالها« ،تستكشف» جميع املسارات املتاحة لها،
منيع ًة ضد قدرتنا عىل مراقبتها ،فيجب أن نقبل احتًّمل أن تكون بعض هذه املسارات
«مستحيلةً» لو كانت قابلة للقياس .وعىل وجه الخصوص ،نظ ًرا ألن حتى القياسات الدقيقة
املتكررة ملوضع الجسيم يف أوقات متتالية ال ميكنها تحديد رسعته بشكل مؤكد بني هذه
األوقات ،وفقًا ملبدأ عدم اليقني ،فقد يكون ممكنًا أن يتحرك الجسيم برسعة أكرب من رسعة
الضوء ألوقات قصرية ج ًدا .اآلن ،إحدى التبعات األساسية للعالقة الخاصة بني املكان والزمن
التي اقرتحها أينشتاين –أذكرك ،للتوفيق بني الثبات املطلوب لرسعة الضوء لجميع املراقبني–
هي أنه ال ميكن قياس أي يشء ينتقل برسعة أكرب من رسعة الضوء.
وصلنا اآلن إىل السؤال الشهري :لو سقطت شجرة يف الغابة ومل يكن هناك من يسمعها،
فهل تصدر صوتًا؟ أو ،رمبا أكرث صلة بهذا النقاش :لو انتقل جسيم أويل رسعته املتوسطة
املقاسة أقل من رسعة الضوء مؤقتًا برسعة أكرب من رسعة الضوء لفرتة قصرية ج ًدا بحيث ال
ميكنني قياسها مبارشةً ،فهل ميكن أن يكون لهذا أي تبعات ملحوظة؟ الجواب نعم يف
الحالتني.
تربط النسبية الخاصة املكان والزمن ارتباطًا وثيقًا لدرجة أنها تقيد الرسعات ،التي
تربط املسافة املقطوعة بزمن معني .إنها نتيجة حتمية للروابط الجديدة بني املكان والزمن التي
فرضتها النسبية ،ألنه لو تم قياس جسم ينتقل برسعة أكرب من رسعة الضوء بواسطة مجموعة
واحدة من املراقبني ،ميكن قياسه من قبل مراقبني آخرين بأنه يرجع يف الزمن! هذا أحد األسباب
مثال ،كًّم يعرف جميع كتاب الخيال العلمي،
التي متنع مثل هذا االنتقال (وإال ستنتهك السببيةً ،
ميكن أن تحدث مثل هذه االحتًّمالت غري املقبولة ،مثل إطالق النار عىل جديت قبل أن أولد!)!
تبدو ميكانيكا الكم وكأنها تشري إىل أن الجسيًّمت ميكنها ،من حيث املبدأ ،االنتقال أرسع من
الضوء لفرتات قصرية ج ًدا لدرجة أنني ال أستطيع قياس رسعتها .طاملا أنني ال ميكنني قياس
هذه الرسعات مبارشةً ،فليس هناك انتهاك عميل للنسبية الخاصة .ومع ذلك ،إذا كان من
املفرتض أن تظل النظرية الكمومية متوافق ًة مع النسبية الخاصة ،فيجب أن تكون هذه
الجسيًّمت قادرةً ،خالل هذه الفرتات ،حتى لو مل أمتكن من قياسها ،عىل الترصف كًّم لو كانت
تنتقل إىل الوراء يف الزمن.
87
ماذا يعني هذا عمل ًيا؟ حسنًا ،دعونا نرسم مسار اإللكرتون كًّم يراه مراقب افرتايض قد
يشاهد هذه القفزة اللحظية يف الزمن:
إذا كان هذا املراقب يسجل مالحظاته يف اللحظات الثالث املرقمة ،3 ،2 ،1سيقيس
جسيًّم واح ًدا عند .3بعبار ٍة
ً جسيًّم واح ًدا يف اللحظة ،1وثالثة جسيًّمت يف ،2ومر ًة أخرى
ً
أخرى ،إن عدد الجسيًّمت املوجودة يف أي وقت لن يكون ثاب ًتا! قد يكون هناك أحيانًا إلكرتون
يتحرك يف طريقه املرح ،ويف أوقات أخرى قد يكون هذا اإللكرتون مصحوبًا باثنني آخرين،
رغم أن أحدهًّم يبدو أنه يرجع يف الزمن.
ولكن ماذا يعني أن نقول إن اإللكرتون يرجع يف الزمن؟ حسنًا ،أعرف أن الجسيم هو
إلكرتون من خالل قياس كتلته وشحنته الكهربائية ،التي تكون سالبة .ميثل اإللكرتون الذي
ينتقل من املوضع ب يف وقت معني إىل املوضع أ يف وقت سابق تدفق الشحنة السالبة من
اليسار إىل اليمني عند رجوعي يف الزمن .بالنسبة للمراقب الذي يتقدم يف الزمن ،كًّم يفعل
املراقبون عادةً ،يسجل ذلك عىل أنه تدفق للشحنة املوجبة من اليمني إىل اليسار .وبالتايل،
سيقيس مراقبنا بالفعل ثالثة جسيًّمت موجودة يف األوقات بني 1و ،3وكلها ستبدو وكأنها
تتقدم يف الزمن ،لكن أحد هذه الجسيًّمت ،الذي سيكون له نفس كتلة اإللكرتون ،سيكون له
شحنة موجبة .يف هذه الحالة ،تصور سلسلة األحداث يف املخطط السابق عىل النحو التايل:
88
ومن وجهة النظر هذه ،تبدو الصورة أقل غراب ًة بعض اليشء .يف اللحظة ،1يرى املراقب
إلكرتونًا يتحرك من اليسار إىل اليمني .يف املوضع أ ،يف وقت ما بني 1و ،2يرى املراقب فجأ ًة
جا إضاف ًيا من الجسيًّمت يظهر من العدم .يتحرك أحد الجسيمني ،ذو الشحنة املوجبة ،نحو
زو ً
اليسار ،واآلخر ذو الشحنة السالبة ،يتحرك نحو اليمني .وبعد مرور بعض الوقت ،يف املوضع
ب ،يصطدم الجسيم املوجب الشحنة باإللكرتون األصيل ويختفيان ،تاركني فقط اإللكرتون
«الجديد» مستم ًرا يف التحرك يف طريقه املرح من اليسار إىل اليمني.
اآلن ،كًّم قلت ،ال ميكن ألي مراقب قياس رسعة اإللكرتون األصيل خالل الفرتة الزمنية
بني 1و ،3وبالتايل ال ميكن ألي مراقب فيزيايئ أن يقيس مبارش ًة هذا «الخلق» التلقايئ
الظاهري للجسيًّمت من العدم ،متا ًما كًّم لن يتمكن أي مراقب أب ًدا من قياس أن الجسيم األصيل
ينتقل أرسع من الضوء .ولكن سواء كنا قادرين عىل قياسه مبارش ًة أم مل نكن ،إذا كانت قوانني
ميكانيكا الكم تسمح بهذا االحتًّمل ،فيجب ،إذا أريد لها أن تكون متسق ًة مع النسبية الخاصة،
أن تسمح بالخلق والتدمري التلقايئ ألزواج الجسيًّمت عىل مقاييس زمنية قصرية لدرجة أننا
ال نستطيع قياس وجودها مبارشةً .نسمي هذه الجسيًّمت جسيًّمت افرتاضي ًة .وكًّم بينت يف
الفصل األول ،قد ال تكون العمليات مثل تلك املوضحة أعاله قابلة للمالحظة مبارشةً ،لكنها ترتك
بصمة غري مبارشة عىل العمليات التي ميكن مالحظتها مبارشةً ،والتي متكن بيته وزمالؤه من
حسابها.
كتبت املعادلة التي دمجت قوانني ميكانيكا الكم كًّم تنطبق عىل اإللكرتونات مع النسبية
الخاصة ألول مرة يف عام 1928بواسطة الفيزيايئ الربيطاين قليل الكالم بول أدريان موريس
ديراك ،أحد أفراد املجموعة التي ساعدت يف اكتشاف قوانني ميكانيكا الكم قبل عدة سنوات،
والذي أصبح يف النهاية أستاذًا لوكاسيًا للرياضيات ،منصب شغله اآلن هوكينغ وشغله نيوتن
89
سابقًا .هذه النظرية املركبة ،التي تسمى الكهروديناميكا الكمومية ،والتي شكلت موضوع
اجتًّمع شيلرت آيالند الشهري ،مل تفهم بالكامل إال بعد عرشين عا ًما تقري ًبا ،وذلك بفضل عمل
فاينًّمن وآخرين.
ال ميكن أن يكون هناك فيزيائيان أكرث اختالفًا من ديراك وفاينًّمن .فبقدر ما كان
فاينًّمن منفت ًحا ،كان ديراك منطويًا .كان بول االبن األوسط ملعلم سويرسي للغة الفرنسية يف
بريستول ،إنجلرتا ،أُجرب بول الشاب عىل اتباع قاعدة والده يف مخاطبته بالفرنسية ح ً
رصا،
حتى يتعلم الصبي تلك اللغة .ومبا أن بول مل يستطع التعبريعن نفسه جي ًدا بالفرنسية ،اختار
التزام الصمت ،ورافقه هذا امليل بقية حياته .يقال (وقد يكون صحي ًحا) أن نيلز بور ،أشهر
فيزيايئ يف عرصه ،ومدير املعهد يف كوبنهاغن الذي قصده ديراك للعمل فيه بعد حصوله عىل
الدكتوراه من كامربيدج ،ذهب لزيارة اللورد رذرفورد ،الفيزيايئ الربيطاين ،بعد وقت من
وصول ديراك .واشتىك من هذا الباحث الشاب الجديد الذي مل يقل شيئًا منذ وصوله .رد
رذرفورد برسد قصة عىل بور تقول :دخل رجل متج ًرا يريد رشاء ببغاء .فعرض له البائع ثالثة
طيور .األول رائع باللونني األصفر واألبيض ،ويعرف 300كلمة .وعندما سأل عن السعر أجاب
املوظف 5000دوالر .وكان الطائر الثاين ملونًا أكرث من األول ،ويتحدث جي ًدا بأربع لغات!
سأل الرجل مجد ًدا عن السعر ،فقيل له إنه ميكن رشاء هذا الطائر بـ 25ألف دوالر .ثم الحظ
جالسا يف قفصه .فسأل املوظف عن عدد
ً الرجل الطائر الثالث ،الذي كان أشعثًا إىل حد ما،
اللغات األجنبية التي يستطيع هذا الطائر التحدث بها ،فقيل له« :ال يشء» .شعر الرجل
بالحرص عىل املال ،وسأل برتقب عن مثن هذا الطائر .وكان الرد « 100ألف دوالر» .فقال
ملًّم بقدر الثاين .فكيف بحق
الرجل مذهوالً « :ماذا؟ هذا الطائر ليس ملونًا بقدر األول ،وليس ً
السًّمء ترى أنه من املناسب أن يكلف هذا القدر من املال؟ فابتسم املوظف بأدب وأجاب :هذا
الطائر يفكر!»
عىل أي حال ،مل يكن ديراك ممن ميارسون الفيزياء عن طريق التخيل .لقد شعر براحة
أكرب مع املعادالت ،ومل يكتشف العالقة الرائعة التي تصف بشكل صحيح السلوك امليكانييك
الكمومي والنسبية الخاصة لإللكرتونات إال بعد العمل عىل مجموعة معادالت لعدة سنوات.
ورسعان ما اتضح أن هذه املعادلة ال تتنبأ بإمكانية وجود رشيك موجب لإللكرتون فحسب،
90
والذي ميكن أن يوجد كجسيم «افرتايض» ينتج كجزء من زوج افرتايض من الجسيًّمت ،وإمنا
بوجوب قدرة هذا الجسم الجديد أيضً ا عىل الوجود مبفرده كجسيم حقيقي مبعزل عن غريه.
آنذاك ،كان الجسيم الوحيد موجب الشحنة املعروف يف الطبيعة هو الربوتون .افرتض
ديراك وزمالؤه ،الذين رأوا أن معادلته تنبأت بشكل صحيح بعدد من السًّمت غري املفرسة
ريا عن األرثوذكسية القامئة ،أن الربوتون يجب
للظواهر الذرية ولكنهم مل يرغبوا يف االبتعاد كث ً
أن يكون الجسيم املوجب الذي تنبأت به النظرية .كانت املشكلة الوحيدة هي أن الربوتون كان
أثقل بنحو 2,000مرة من اإللكرتون ،يف حني أن التفسري األكرث سذاج ًة لنظرية ديراك هو أن
الجسيم املوجب يجب أن يكون له نفس كتلة اإللكرتون.
مثاال حيث فرضت علينا نظريتان معروفتان ومدروستان جي ًدا عن العامل
كان هذا ً
الفيزيايئ ،عندما دفعتا إىل أقىص حدودهًّم ،استنتاجات متناقضة ،متا ًما كًّم فعلت النسبية
لتوحيد أفكار غاليليو مع الكهرومغناطيسية .ومع ذلك ،وعىل عكس أينشتاين ،مل يكن
الفيزيائيون يف عام 1928مستعدين متا ًما للمطالبة بظواهر جديدة للتحقق من أفكارهم .مل
يكن ذلك حتى عام ،1932عندما اكتشف الفيزيايئ التجريبي األمرييك كارل أندرسون،
صدفةً ،أثناء مراقبة األشعة الكونية –جسيًّمت عالية الطاقة ترضب األرض باستمرار ويرتاوح
أصلها من التوهجات الشمسية القريبة إىل النجوم املنفجرة يف املجرات البعيدة– شذوذًا يف
بياناته .مل ميكن تفسري هذا الشذوذ إال بوجود جسيم جديد موجب الشحنة كتلته أقرب بكثري
إىل كتلة اإللكرتون من الربوتون .وهكذا اكتشف «البوزيرتون»« ،الجسيم املضاد» لإللكرتون
الذي تنبأت به نظرية ديراك .نعلم اآلن أن نفس قوانني ميكانيكا الكم والنسبية تخربنا أنه
مقابل كل جسيم مشحون يف الطبيعة ،يجب أن يوجد جسيم مضاد مسا ٍو له بالكتلة ومعاكس
بالشحنة كهربائية.
متأمال خجله يف قبول مضامني عمله يف دمج النسبية الخاصة
ً يقال إن ديراك،
وميكانيكا الكم ،أدىل بأحد ترصيحاته النادرة« :كانت معادلتي أذىك مني!» لذا ،فإن هديف
أيضً ا من طرح هذه القصة هو التوضيح مر ًة أخرى كيف أن أبرز النتائج يف الفيزياء ال تنشأ
غال ًبا من نبذ األفكار والتقنيات القامئة ،بل من دفعها بجرأة إىل أقىص حد ممكن – ومن ثم
التحيل بالشجاعة لالستكشاف املضامني.
91
أعتقد أنني دفعت بفكرة دفع األفكار إىل أقىص حد ممكن .لكن ال أقصد بعنونة هذا
الفصل «رسقة فكرية إبداعية» ،توسيع األفكار القدمية إىل أقىص حدودها فحسب؛ أعني أيضً ا
فمثال ،ال نعرف سوى أربع
ً نسخها بالكامل! تستمر الطبيعة حيثًّم اتجهنا يف تكرار نفسها.
قوى يف الطبيعة –القوى الشديدة والضعيفة والكهرومغناطيسية والجاذبية– وكل منها
موجودة يف صورة أي من القوى األخرى .لنبدأ بقانون الجاذبية لنيوتن .القوة الوحيدة بعيدة
غري
املدى يف الطبيعة ،القوة بني الجسيًّمت املشحونة ،تبدأ كنسخة مبارشة من الجاذبيةّ .
«الكتلة» إىل «الشحنة الكهربائية» وهذا كل يشء عمو ًما .فالصورة الكالسيكية لإللكرتون الذي
يدور حول الربوتون لتكوين أبسط ذرة ،الهيدروجني ،مطابقة لصورة القمر الذي يدور حول
األرض .تختلف شدة التآثرات متا ًما ،ويفرس هذا اختالف الحجم يف املسألة ،ولكن خالف ذلك،
تنطبق جميع النتائج املبنية لوصف حركة الكواكب حول الشمس يف هذه الحالة .نجد أن مدة
دوران اإللكرتون حول الربوتون -15 10ثانية تقري ًبا ،مقابل شهر واحد للقمر حول األرض.
وحتى هذه املالحظة املبارشة مفيدة .إن تردد الضوء املريئ املنبعث من الذرات هو رتبة 10
15
دورة يف الثانية ،ما يشري بقوة إىل أن اإللكرتون الذي يدور حول الذرة له عالقة بانبعاث
الضوء ،كًّم هو الحال بالفعل.
بالطبع ،مثة اختالفات مهمة تجعل القوة الكهربائية أغنى من الجاذبية .تأيت الشحنة
الكهربائية بنوعني مختلفني :موجبة وسالبة .وبالتايل ،ميكن أن تكون القوى الكهربائية منفرة
وكذلك جاذبة .باإلضافة إىل ذلك ،هناك حقيقة مفادها أن الشحنات الكهربائية املتحركة
تتعرض لقوة مغناطيسية .كًّم رشحت سابقاً يؤدي ذلك إىل وجود الضوء ،كموجة
كهرومغناطيسية مولدة بواسطة الشحنات املتحركة .ومن ثم فإن نظرية الكهرومغناطيسية،
التي تتحد فيها كل هذه الظواهر ،تكون مبثابة منوذج للتآثرات الضعيفة بني الجسيًّمت يف
النوى املسؤولة عن معظم التفاعالت النووية .كانت النظريات متشابهة لدرجة أنه أُدرك يف
تعميًّم
ً النهاية إمكانية توحيدها م ًعا يف نظرية واحدة ،التي كانت يف حد ذاتها
للكهرومغناطيسية .شُ كلت القوة الرابعة ،القوة الشديدة بني الكواركات التي تك ّون الربوتونات
والنيوترونات ،عىل غرار الكهرومغناطيسية أيضً ا .وينعكس هذا يف اسمها ،الديناميكا اللونية
ريا ،مع الخربة املكتسبة من هذهالكمومية ،سليلة الديناميكا الكهربائية الكمومية .وأخ ً
النظريات ميكننا العودة إىل الجاذبية النيوتونية وتعميمها ،وها نحن نصل إىل النسبية العامة
92
ألينشتاين .وكًّم قال الفيزيايئ شيلدون غالشو ،إن الفيزياء ،مثل األوروبوروس ،الثعبان الذي
يأكل ذيله ،تعود إىل نقطة البداية.
أريد أن أنهي هذا الفصل مبثال محدد يوضح بيان ًيا مدى قوة الروابط بني مجاالت
الفيزياء املختلفة كل ًيا .يتعلق مبصادم الهادرونات الكبري ( ،)LHCمرسع جسيًّمت ضخم
اكتمل بناؤه يف عام 2007بتكلفة إجًّملية ترتاوح بني 5إىل 10مليارات دوالر.
أي شخص زار موقع مخترب فيزياء الجسيًّمت الكبرية قد شهد معنى كلًّمت
الفيزيايئ/املعلم املتميز فييك فايسكوبف ،الذي وصف هذه املرافق بأنها ككاتدرائيات القرن
العرشين القوطية .من حيث الحجم والتعقيد ،متثل هذه املشاريع ،بحجمها وتعقيدها ،يف
القرن العرشين ما كانت متثله مشاريع الكنائس الهندسية الضخمة يف القرنني الحادي عرش
والثاين عرش (رغم أنني أشك يف أنها ستدوم مثلها) .يقع مصادم الهادرونات الكبري عىل عمق
رتا ،مع
نحو 100قدم تحت الريف السويرسي والفرنيس ،يف دائرة كبرية مبحيط 27كيلوم ً
أكرث من 6,000مغناطيس فائق التوصيل لتوجيه تيارين من الربوتونات يف اتجاهني
متعاكسني حول النفق ،ما يتسبب يف اصطدامهًّم ببعضها بطاقة تبلغ 7,000ضعف كتلتها
السكونية .ميكن أن ينتج عن كل اصطدام يف املتوسط أكرث من ألف جسيم ،وميكن أن يحدث
ما يصل إىل 600مليون تصادم يف الثانية.
الغرض من هذه اآللة العمالقة هو محاولة اكتشاف أصل «الكتلة» يف الطبيعة .ال منلك
أي فكرة حاليًا عن سبب امتالك الجسيًّمت األولية كتلتها ،وملاذا بعضها أثقل من البعض اآلخر،
وملاذا بعضها ،مثل النيوترينوات ،خفيفة ج ًدا .يشري عدد من الحجج النظرية القوية إىل أن
مفتاح هذا اللغز ميكن سربه يف الطاقات التي ميكن الوصول إليها يف مصادم الهادرونات
الكبري.
أساسا عىل املغناطيسات فائقة
ً يعتمد نجاح مصادم الهادرونات الكبري ()LHC
التوصيل العديدة التي تشكل «محركه» املركزي ،مغناطيسات سيكون بناؤها دون التربيد إىل
مستحيال أو عىل
ً درجات حرارة منخفضة للغاية بحيث تصبح األسالك فيها فائقة التوصيل،
األقل مكلفًا للغاية .لفهم سبب مالءمة ظاهرة التوصيل الفائق ،التي تجعل مصادم الهادرونات
الكبري ممك ًنا تقن ًيا ،ألسباب أعمق بكثري ،علينا أن نرجع يف الزمن نحو مثانني عا ًما إىل مخترب
يف اليدن بهولندا ،حيث اكتشف الفيزيايئ التجريبي الهولندي املميز إتش كامرلينغ أونس
93
الظاهرة املذهلة التي نسميها اآلن التوصيل الفائق .كان أونس يربد معدن الزئبق إىل درجة
حرارة منخفضة يف مختربه لفحص خصائصه .عندما تربد أي مادة ،تنخفض مقاومتها لتدفق
أساسا إىل انخفاض حركة الذرات والجزيئات يف املادة التي
ً التيار الكهربايئ ،ويرجع ذلك
متيل إىل منع تدفق التيار .ولكن ،عندما برد أونس الزئبق إىل 270درجة (مئوية) تحت الصفر،
الحظ شيئًا غري متوقع :اختفت املقاومة الكهربائية متا ًما! ال أقصد أن املقاومة كانت ضئيل ًة؛
أقصد أنه مل تكن هناك أي مقاومة .مبجرد بدء التيار ،سيستمر التدفق دون تغيري لفرتات طويلة
ج ًدا يف ملف من هذه املواد ،حتى بعد إزالة مصدر الطاقة الذي بدأ تدفق التيار .أثبت أونس
هذه الحقيقة بشكل مثري بحمله حلقة من األسالك فائقة التوصيل التي تحتوي عىل تيار مستمر
من منزله يف اليدن إىل كامربيدج ،إنجلرتا.
ريا لالهتًّمم لنصف قرن تقري ًبا حتى طور الفيزيائيون جون
ظل التوصيل الفائق لغ ًزا مث ً
باردين وليون كوبر وجي روبرت رشيفر نظري ًة مجهري ًة كامل ًة تفرس الظاهرة يف عام .1957
كان باردين قد قدم بالفعل مساهم ًة مهم ًة يف العلم الحديث والتكنولوجيا بكونه مخرت ًعا
مشاركًا للرتانزستور ،أساس جميع األجهزة اإللكرتونية الحديثة .وكانت جائزة نوبل يف
الفيزياء التي تقاسمها باردين مع كوبر ورشيفر يف عام 1972عن عملهم يف مجال املوصلية
الفائقة هي الثانية له( .قرأت ذات مرة رسالة شكوى إىل مجلة فيزيائية أشارت إىل الحقيقة
الالذعة أنه عند وفاة باردين –الفائز الوحيد بجائزيت نوبل يف نفس املجال واملخرتع املشارك
لجهاز غري الطريقة التي يعمل بها العامل – يف عام ،1992بالكاد ذكر عىل التلفزيون .سيكون
لطيفًا لو متكن الناس من ربط املتعة التي يحصلون عليها من املسجالت ،والتلفزيونات،
واأللعاب ،والحواسيب التي تعمل بالرتانزستور باألفكار التي أنتجها أشخاص مثل باردين).
إن الفكرة الرئيسية التي أدت إىل نظرية التوصيل الفائق اقرتحها يف الواقع الفيزيايئ
فريتز لندن يف عام .1950اقرتح أن هذا السلوك الغريب كان نتيجة لظواهر ميكانيكية
كمومية ،تؤثر عاد ًة يف السلوك عىل مقاييس صغرية ج ًدا فحسب ،ومتتد فجأ ًة إىل مقاييس
عيانية .كان األمر كًّم لو أن جميع اإللكرتونات يف املوصل التي تساهم عاد ًة يف التيار املتدفق
عند ربط هذا املوصل مبصدر طاقة ،تعمل فجأ ُة كتكوين واحد «متسق» بسلوك تحكمه قوانني
ميكانيكا الكم التي تتحكم باإللكرتونات الفردية أكرث من القوانني الكالسيكية التي تحكم عاد ًة
األجسام العيانية .إذا كانت جميع اإللكرتونات التي توصل التيار تعمل كتكوين واحد ميتد عىل
94
طول املوصل ،فال ميكن اعتبار تدفق التيار نات ًجا عن حركة اإللكرتونات الفردية التي قد ترتد
عن العوائق أثناء تحركها ،منتج ًة مقاومة لحركتها .وإمنا ،يسمح هذا التكوين املتسق ،الذي ميتد
عرب املادة ،بنقل الشحنة من خالله .يبدو كأن هذا التكوين يتوافق يف إحدى الحاالت مع
مجموعة كاملة من اإللكرتونات الساكنة .ويف حالة أخرى ،مستقرة ومستقلة عن الزمن ،يتوافق
التكوين مع مجموعة كاملة من اإللكرتونات املتحركة بشكل منتظم.
ال ميكن أن تحدث هذه الظاهرة بأكملها إال بسبب خاصية مهمة يف ميكانيكا الكم .نظ ًرا
ألن كمية الطاقة التي ميكن نقلها من أو إىل نظام محدود الحجم توجد فقط بكميات منفصلة،
أو «كًّمت» ،فإن مجموعة حاالت الطاقة املحتملة ألي جسيم يف نظام محدود تقلل يف ميكانيكا
الكم من مجموعة مستمرة إىل مجموعة منفصلة .وذلك ألن الجزيئات ال ميكنها تغيري طاقتها
إال عن طريق امتصاص الطاقة .لكن إذا كان ال ميكن امتصاص الطاقة إال بكميات منفصلة،
فإن مجموعة الطاقات املحتملة التي ميكن أن متتلكها الجسيًّمت ستكون أيضً ا منفصلة .اآلن،
ماذا يحدث إذا كان لديك مجموعة كاملة من الجسيًّمت يف صندوق؟ إذا وجدت العديد من
حاالت الطاقة املختلفة املحتملة للجسيًّمت ،فمن املتوقع أن يشغل كل منها حالة منفصلة
مختلفة ،يف املتوسط .لكن يف بعض األحيان ،يف ظل ظروف خاصة للغاية ،ميكن أن ترغب
جميع الجسيًّمت يف شغل حالة واحدة.
فيلًّم كوميديًا يف سينًّم
لفهم كيفية حدوث ذلك ،فكّر يف التجربة املألوفة التالية :تشاهد ً
مزدحمة وتجده مضحكًا للغاية .ثم تستأجر الفيديو ملشاهدته يف املنزل مبفردك ،ويصبح الفيلم
معد .عندما يبدأ شخص بجانبك بالضحك بصوت عا ٍل ،يصعب بالكاد مضحك .السبب؟ الضحك ٍ
عدم الضحك معه .وكلًّم زاد عدد األشخاص الذين يضحكون من حولك ،زادت صعوبة عدم
االنضًّمم إليهم.
ميكن أن يكون النظري الفيزيايئ لهذه الظاهرة فعاالً بالنسبة للجسيًّمت املوجودة يف
الصندوق .لنفرتض أنه يف تكوين معني ،ميكن أن ينجذب جسيًّمن يف الصندوق لبعضهًّم
البعض ،وبالتايل تقليل طاقتهًّم اإلجًّملية من خالل التواجد م ًعا .ومبجرد قيام الجسيًّمن
بذلك ،قد يكون من األفضل من ناحية الطاقة أن ينضم جسيم متفرج ثالث إىل الحزمة .اآلن،
لنفرتض أن هذا النوع من الجذب ال يحدث إال إذا كانت الجسيًّمت يف تكوين واحد من جميع
التكوينات املمكنة التي ميكن أن متتلكها .ميكنك تخمني ما سيحدث .إذا شغلت الجسيًّمت
95
عشوائ ًيا ،فرسعان ما ستتكثف جميعها يف نفس الحالة الكمومية .وهكذا ،تُشكل «مكثفات»
متسقة.
ولكن مثة املزيد .نظ ًرا ألن الحاالت الكمومية املختلفة يف نظام ما تقسم إىل مستويات
منفصلة ،مبجرد أن تتكثف جميع الجسيًّمت يف هذا النظام يف حالة واحدة ،ميكن أن يكون
هناك «فجوة» كبرية يف الطاقة الكلية بني هذه الحالة وحالة النظام بأكمله حيث ،لنقل ،يتحرك
جسيم واحد بشكل مستقل ويظل الباقي مجم ًعا .هذا هو الوضع بالضبط يف املوصل الفائق.
رغم أن اإللكرتونات مشحونة بشحنة سالبة ،وبالتايل تتنافر مع اإللكرتونات األخرى ،ولكن قد
يكون هناك جاذبية صغرية متبقية بني اإللكرتونات داخل املادة بسبب وجود جميع الذرات يف
الحالة الصلبة .وهذا بدوره ميكن أن يتسبب يف اقرتان اإللكرتونات م ًعا ثم تكثيفها يف تكوين
كمومي واحد متسق .اآلن ،لنفرتض أنني وصلت هذا النظام بأكمله ببطارية .تريد جميع
اإللكرتونات التحرك م ًعا يف وجود القوة الكهربائية .فإذا تنحى أي منها عن عائق ما ،يعرقل
حركته ،سيتعني عليه تغيري حالته الكمومية يف نفس الوقت .ولكن هناك «حاجز طاقة» مينع
ذلك ،ألن اإللكرتون مرتبط ارتباطًا وثيقًا بجميع رشكائه .وهكذا ،تتحرك جميع اإللكرتونات م ًعا
يف طريقها املرح ،متجنب ًة العوائق وال تنتج أي مقاومة.
ومن خالل السلوك االستثنايئ لهذه التكتالت اإللكرتونية فحسب ،ميكنك أن تخمن أنه
ستكون هناك خصائص أخرى للًّمدة تتغري يف هذه الحالة فائقة التوصيل .تدعى إحدى هذه
الخصائص تأثري مايسرن ،نسب ًة إىل الفيزيايئ األملاين ف .مايسرن ،الذي اكتشفه يف عام
موصال فائقًا قرب مغناطيس ،فإن املادة فائقة التوصيل ستبذل
ً .1933وجد أنه إذا وضعت
قصارى جهدها «لطرد» املجال املغناطييس الذي سببه املغناطيس .أعني بذلك أن اإللكرتونات
يف املادة سرتتب نفسها بطريقة تلغي املجال املغناطييس الخارجي متا ًما ويظل صف ًرا داخل
املادة .للقيام بذلك ،يجب إنشاء مجاالت مغناطيسية صغرية عىل سطح املادة إللغاء املجال
املغناطييس الخارجي .وبالتايل ،إذا قربت املادة من القطب الشًّميل ملغناطيس ،ستنشأ جميع
أنواع األقطاب الشًّملية الصغرية عىل سطح املادة لصد الحقل األويل .ميكن أن يكون هذا
دراماتيك ًيا للغاية .إذا أخذت مادة غري فائقة التوصيل ووضعتها عىل مغناطيس ،فقد تبقى
هناك دون تغيري .إذا بردت النظام بأكمله بحيث تصبح املادة فائقة التوصيل ،سرتتفع فجأة
96
و«تطفو» فوق املغناطيس بسبب جميع املجاالت املغناطيسية الصغرية التي نشأت عىل السطح
والتي تصد الحقل املغناطييس األويل.
مثة طريقة أخرى لوصف هذه الظاهرة .فالضوء ،كًّم أرشت سابقًا ،ليس سوى موجة
كهرومغناطيسية .حرك شحنةً ،وسيؤدي التغيري يف املجالني الكهربايئ واملغناطييس إىل
إنشاء موجة ضوئية تنتقل نحو الخارج .تنتقل املوجة الضوئية برسعة الضوء ألن ديناميكيات
الكهرومغناطيسية تجعل الطاقة التي تحملها املوجة الضوئية غري مرتبطة بأي «كتلة» .بعبار ٍة
أخرى ،إن األجسام امليكانيكية الكمومية املجهرية التي تتوافق عند املقاييس الصغرية مع ما
نسميه موجة كهرومغناطيسية عند املقاييس العيانية ،والتي تسمى فوتونات ،ال كتلة لها.
يرجع السبب يف عدم متكن الحقول املغناطيسية من دخول املوصل الفائق إىل أنه عندما
تدخل الفوتونات املوافقة لهذا املجال العياين إىل الداخل وتنتقل عرب خلفية جميع اإللكرتونات
يف حالتها املتسقة ،تتغري خصائص هذه الفوتونات نفسها .تترصف كًّم لو كان لديها كتلة!
الوضع مشابه للطريقة التي تترصف بها عندما تتزلج عىل الرصيف ،مقارن ًة بالتزلج يف الطني.
تنتج لزوجة الطني مقاومة أكرب بكثري لحركتك .وبالتايل ،إذا كان دفعك أحدهم ،ستترصف كًّم
لو كنت «أثقل» بكثري يف الطني مقارن ًة بالرصيف – مبعنى أنه سيكون دفعك أصعب بكثري.
وباملثل ،تجد هذه الفوتونات صعوبة أكرب يف االنتشار يف املوصل الفائق ،بسبب كتلتها الفعالة
يف هذه املادة .والنتيجة هي أنها ال تذهب بعي ًدا ،وال يخرتق املجال املغناطييس املادة.
ريا للحديث عن كيفية ارتباط كل هذا باملصادم فائق التوصيل .قلت
نحن مستعدون أخ ً
إنني آمل أن تكتشف هذه اآللة سبب امتالك جميع الجسيًّمت األولية كتلة .قبل قراءة الصفحات
القليلة السابقة ،كنت تعتقد رمبا أنه ال ميكن أن يكون هناك موضوعان أكرث انفصاالً ،ولكن
يف الواقع يحتمل أن يكون حل لغز الجسيًّمت األولية مطابقًا للسبب الذي يجعل املواد فائقة
التوصيل تطرد املجاالت املغناطيسية.
قلت سابقًا إن الكهرومغناطيسية كانت مبثابة منوذج للقوة التي تتحكم يف التفاعالت
النووية يف الطبيعة مثل تلك التي تغذي الشمس ،التي تسمى القوة «الضعيفة» .والسبب هو
أن اإلطار الريايض للقوتني متطابق تقري ًبا ،باستثناء اختالف واحد مهم .الفوتون ،الكيان
الكمومي املوافق للموجات الكهرومغناطيسية ،التي تنقل القوى الكهرومغناطيسية ،عديم
الكتلة .من ناحية أخرى ،فإن الجسيًّمت التي تنقل القوة الضعيفة ليست كذلك .ولهذا السبب
97
تعد القوة الضعيفة بني الربوتونات والنيوترونات داخل النواة قصرية املدى للغاية ،وال يتم
الشعور بهذه القوة أب ًدا خارج النواة ،بينًّم ميكن الشعور بالقوى الكهربائية واملغناطيسية عىل
مسافات كبرية.
مبجرد أن أدرك الفيزيائيون هذه الحقيقة ،مل ميض وقت طويل حتى يبدأوا يف التساؤل
مسؤوال عن هذا االختالف .تقرتح نفس الفيزياء املسؤولة عن السلوك
ً عًّم ميكن أن يكون
الغريب للموصالت الفائقة إجاب ًة محتملةً .لقد وصفت بالفعل كيف أن عامل فيزياء الجسيًّمت
األولية ،حيث تعمل النسبية الخاصة وميكانيكا الكم م ًعا ،ذو سلوك غريب خاص به.
وخصوصا ،قلت إن املساحة الفارغة ال يجب أن تكون فارغة حقًا .وميكن ملؤها بأزواج
ً
الجسيًّمت االفرتاضية ،التي تظهر تلقائ ًيا ثم تختفي ،برسعة كبرية ج ًدا بحيث ال ميكن
اكتشافها .ووصفت أيضً ا يف الفصل األول كيف ميكن لهذه الجسيًّمت االفرتاضية أن تؤثر عىل
العمليات املرصودة ،مثل انزياح المب.
حان الوقت اآلن لربط األمور م ًعا .إذا كان للجسيًّمت االفرتاضية تأثريات دقيقة عىل
العمليات الفيزيائية ،فهل ميكن أن يكون لها تأثري أكرث دراماتيكي ًة عىل خصائص الجسيًّمت
األولية املقاسة؟ تخيل أن نو ًعا جدي ًدا من الجسيًّمت موجود يف الطبيعة ينجذب بشدة إىل
الجسيًّمت من نفس النوع .إذا ظهر زوج واحد من هذه الجسيًّمت يف الوجود ،كًّم هو الحال
مع الجسيًّمت االفرتاضية عادةً ،فإنه يكلف طاقة ،لذلك يجب أن تختفي الجسيًّمت برسعة إذا
أردنا عدم انتهاك الطاقة .ومع ذلك ،إذا انجذبت هذه الجسيًّمت إىل بعضها البعض ،فقد يكون
من املفيد من ناحية الطاقة ليس فقط ظهور زوج واحد ،وإمنا زوجان .ولكن إذا كان زوجان
أفضل من واحد ،فلًّمذا ليس ثالثة؟ وهكذا دواليك .ميكن ،إذا رتبت جاذبية هذه الجسيًّمت
بشكل صحيح ،أن يكون إجًّميل الطاقة املطلوبة لنظام متسق مكون من العديد من هذه
الجسيًّمت أقل يف الواقع من ذلك املطلوب لنظام ال توجد فيه مثل هذه الجسيًّمت .يف هذه
الحالة ،ماذا سيحدث؟ نتوقع أن تولد هذه الحالة املتسقة من الجسيًّمت تلقائ ًيا يف الطبيعة.
سيمتلئ «الفراغ» بخلفية متسقة من الجسيًّمت يف حالة كمومية واحدة خاصة.
ماذا سيكون تأثري هذه الظاهرة؟ حس ًنا ،ال نتوقع بالرضورة مراقبة الجسيًّمت الفردية
يف الخلفية ،ألن إنتاج جسيم حقيقي يتحرك مبفرده قد يتطلب قد ًرا ال يصدق من الطاقة ،متا ًما
98
كالطاقة الالزمة ملحاولة طرد إلكرتون من تكوينه املتًّمسك يف املوصل الفائق .بدالً من ذلك،
عندما تتحرك الجسيًّمت وسط هذه الخلفية ،نتوقع أن تتأثر خصائصها.
إذا رتبنا هذه الخلفية للتآثر مع الجسيًّمت التي تنقل القوة الضعيفة ،التي تسمى
جسيًّمت Wو ،Zوليس مع الفوتونات ،فقد نأمل أن يؤدي ذلك إىل ترصف جسيًّمت WوZ
بشكل فعال كًّم لو كان لديهًّم كتلة كبرية .وبالتايل ،فإن السبب الحقيقي وراء ترصف القوة
الضعيفة بشكل مختلف متا ًما عن الكهرومغناطيسية ال يرجع إىل أي اختالف جوهري ،بل إىل
هذه الخلفية املتًّمسكة العاملية التي تتحرك عربها هذه الجسيًّمت.
قد يبدو هذا التشبيه االفرتايض بني ما يحدث للمجاالت املغناطيسية يف املوصل الفائق
وما يحدد الخصائص األساسية لـ«الطبيعة» رائ ًعا إىل حد يصعب تصديقه ،لكنه يفرس كل
تجربة أجريت حتى اآلن .يف عام ،1984اكتشفت جسيًّمت Wو Zومنذ ذلك الحني تم التحقيق
فيها بالتفصيل .تتوافق خصائصها متا ًما مع ما ميكن توقعه إذا نشأت هذه الخصائص بسبب
اآللية التي وصفتها هنا.
ما هي الخطوة التالية إذن؟ حسنًا ،ماذا عن كتل الجسيًّمت العادية ،مثل الربوتونات
واإللكرتونات؟ هل ميكننا أن نأمل يف فهمها أيضً ا ،باعتبارها ناتجة عن تآثراتها مع هذه الحالة
الكمية املوحدة واملتسقة التي متأل الفضاء الفارغ؟ إذا كان األمر كذلك ،فإن أصل جميع كتل
الجسيًّمت سيكون نفسه .كيف ميكننا معرفة ذلك عىل وجه اليقني؟ األمر بسيط :من خالل
خلق الجسيًّمت ،التي تسمى جسيًّمت هيغز ،عىل اسم الفيزيايئ اإلسكتلندي بيرت هيغز ،التي
يفرتض أن تتكثف يف الفضاء الفارغ لبدء اللعبة بأكملها .يقال عاد ًة إن املهمة املركزية للمصادم
الفائق التوصيل هي اكتشاف جسيم هيغز .وتخربنا نفس التنبؤات النظرية التي تكشف جي ًدا
عن خصائص جسيًّمت Wو Zأن جسيم هيغز ،إذا كان موجو ًدا ،يجب أن تكون كتلته ضمن
عامل 5أو نحو ذلك من هذه الجسيًّمت ،وهذا النطاق هو ما تم اختيار تصميم مصادم
الهادرونات الكبري الستكشافه.
جسيًّم أول ًيا أساس ًيا ،مثل
ً يجب أن أقول إن هذه الصورة ال تتطلب أن يكون جسيم هيغز
اإللكرتون أو الربوتون .ميكن أن يكون أن جسيم هيغز مكونًا من أزواج من الجسيًّمت األخرى،
مثل أزواج اإللكرتونات التي ترتبط ببعضها لتشكل حالة فائقة التوصيل يف املادة .وملاذا يوجد
جسيم هيغز ،إذا كان موجو ًدا؟ هل هناك نظرية أكرث أساسي ًة تفرس وجوده ،إىل جانب وجود
99
اإللكرتونات ،والكواركات ،والفوتونات ،وجسيًّمت WوZ؟ لن نتمكن من اإلجابة عىل هذه
األسئلة إال من خالل إجراء التجارب ملعرفة ذلك.
أنا شخص ًيا ال أرى كيف ميكن ألي شخص أال يشعر بالذهول من هذه االزدواجية املذهلة
بني فيزياء املوصلية الفائقة وما قد يفرس أصل كل الكتلة يف الكون .لكن تقدير هذا التوحيد
الفكري املذهل والرغبة يف دفع املال للتعرف عليه أمران مختلفان .ففي النهاية ،سيكلف بناء
مصادم الهادرونات الكبري ما يصل إىل 10مليارات دوالر موزعة عىل عرش سنوات .وال يعترب
السؤال الحقيقي حول ما إذا كان ينبغي بناء مصادم الهادرونات الكبري سؤاالً علم ًيا – فال
ميكن ألي فرد مطلع جي ًدا أن يشك يف جدوى املرشوع العلمية .إنه سؤال سيايس :هل نستطيع
أن نجعله أولوية يف وقت يتسم مبحدودية املوارد؟
كًّم أكدت يف بداية هذا الكتاب ،أعتقد أن املربر الرئييس لتقدم املعرفة املحتمل يف
ريا عن مرافق
امل ُصادم الفائق فائق التوصيل ثقايف ،وليس تكنولوجي .نحن ال نتحدث كث ً
السباكة يف اليونان القدمية ،لكننا نتذكر املثل الفلسفية والعلمية التي نشأت هناك .ترسبت
هذه األفكار عرب ثقافتنا الشعبية ،ما ساعد يف تشكيل املؤسسات التي نستخدمها لحكم أنفسنا
واألساليب التي نستخدمها لتعليم شبابنا .إن جسيم هيغز ،إذا اكتشف ،لن يغري حياتنا اليومية.
لكنني واثق من أن الصورة التي ينتمي إليها ستؤثر عىل األجيال القادمة ،ولو من خالل إثارة
فضول بعض الشباب ،لتدفعهم رمبا إىل اختيار مهنة يف مجال العلوم أو التقنية .وأذكر هنا
ترصي ًحا منسوبًا إىل روبرت ويلسون ،املدير األول ملنشأة فريميالب الكبرية التي تضم حاليًا
أعىل معجل للطاقة يف العامل .عندما ُسئل عًّم إذا كانت هذه املنشأة ستساهم يف الدفاع
الوطني ،قيل إنه أجاب« :ال ،لكنها ستساعد يف إبقاء هذا البلد بل ًدا يستحق الدفاع عنه».
100
الفصل الرابع
وقائع خفية
101
مثال ،كًّم فعل أفالطون ،عًّم إذا كان هناك واقع خارجي ،بوجود مستقل عن
فالتساؤلً ،
قدرتنا عىل قياسه ،ميكن أن يؤدي إىل نقاشات مطولة ال أكرث .وبقويل هذا ،فأنا ال أريد أن
أستخدم فكر ًة طورها أفالطون يف تشبيه الكهف الشهري الخاص به – ويعود ذلك جزئ ًيا إىل
أنه يظهرين مبظهر املثقف ،ولكن األهم من ذلك ،ألن البناء عليه يسمح يل بتقديم تشبيه خاص
يب.
شبه أفالطون مكاننا يف الصورة األكرب لألشياء بشخص يعيش يف كهف ،تشكل كل
صورته عن الواقع صور –ظالل األشياء الواقعة عىل الجدران– «األجسام الواقعية» املوجودة
لألبد يف ضوء النهار ،وراء نظرة الشخص .وقد جادل بأننا ،أيضً ا ،كذلك الشخص يف الكهف،
محكوم علينا بأال نستطيع سوى خدش سطح الواقع من خالل ما تتيحه لنا حواسنا.
ميكن للمرء تصور الصعوبات املتأصلة يف حياة حبيسة الكهف .فأفضل ما ميكن
للظالل أن تقدمه هو انعكاس سيئ للعامل .ومع ذلك ،ميكن للمرء أيضً ا أن يتخيل لحظات
اإللهام .لنقل إنه يف كل مساء أحد قبل أن تغرب الشمس ،ينعكس الظل التايل عىل الجدار:
بدال عنه:
ويف مساء كل اثنني ،تظهر الصورة هذه ً
وعىل رغم شبهها الكبري بالبقرة ،فإن هذه يف الحقيقة صورة يشء آخر .ويف كل
أسبوع تظهر نفس الصور عىل الجدار ،لتتغري عىل الدوام وتعود للظهور بانتظام كعقارب
ريا يف صباح اثنني ،وبعد أن تستيقظ قبل الوقت املعتاد ،تسمع الحبيسة أيضً ا صوت
الساعة .أخ ً
شاحنة مع قرقعة معدن .وألنها امرأة ذات خيال غري عادي ،مصحوب مبوهبة رياضية ،فقد
خطرت لبالها رؤية جديدة فجأة :فهذان مل يكونا جسمني مختلفان ،بعد كل يشء! بل كانا
اليشء نفسه .بإضافة بعد جديد لخيالها ،أمكنها تصور الجسم الحقيقي املمدد ،وهو سلة
مهمالت:
102
فعند وقوفها عىل طولها يف مساء األحد ،مع انخفاض الشمس وراءها مبارشةً ،تلقي
ظل مستطيل .ويف االثنني ،بعد إلقائها جان ًبا من قبل جامعي املهمالت ،فهي تلقي ظل دائرة.
ميكن لجسم ثاليث األبعاد ،عند رؤيته من زوايا مختلفة ،أن يلقي مبساقط ثنائية األبعاد شديدة
االختالف .وبقفزة اإللهام هذه ،مل تحل األحجية وحسب بل أمكن فهم عدة ظواهر اآلن عىل أنها
متثل مجرد انعكاسات مختلفة لليشء نفسه.
وبسبب إعادات متوضع كهذه ،ال تتقدم كعجالت يف عجالت؛ ليس بالرضورة أن تؤدي
دقة التفاصيل إىل تعقيد أكرب .يف أحيان أكرث ،تعكس اكتشافات جديدة تحوالت مفاجئة يف
اإلدراك كًّم يف مثال الكهف .تربط الوقائع الخفية عند كشفها أحيانًا أفكا ًرا كانت متباينة ،ما
يخلق أقل من األكرث .أحيانًا ،بدل ذلك ،فإنها تربط بني كميات فيزيائية كانت متباينة وبذلك
تفتح املجال ملساحات جديدة من التساؤل والفهم.
كنت قد قدمت التوحيد الذي شكل انطالقة حقبة الفيزياء املعارصة :اإلنجاز الفكري
الذي توج به جيمس كلريك ماكسويل يف القرن التاسع عرش ،ونظرية الكهرومغناطيسية،
ومعها« ،التنبؤ» بوجود الضوء .من املالئم أن يف قصة سفر التكوين ،قد خلق الضوء قبل أي
يشء آخر .كان أيضً ا بوابة الفيزياء املعارصة .أدى السلوك الغريب للضوء بآينشتاين إىل أن
يفرتض وجود عالقة جديدة بني املكان والزمان .وقد أدى أيضً ا مبؤسيس ميكانيك الكم إىل
إعادة اخرتاع قواعد السلوك عىل املستويات الصغرية ،لتسمح باحتًّمل كون األمواج والجسيًّمت
ريا ،شكلت النظرية الكمومية للضوء التي اكتملت يف منتصف ذاك
أحيانًا اليشء نفسه .أخ ً
القرن أساس فهمنا الحايل لكل القوى املعروفة يف الطبيعة ،مبا فيها التوحيد الرائع بني
الكهرومغناطيسية والتآثر الضعيف يف آخر خمسة وعرشين عا ًما .بدأ فهم الضوء نفسه مع
103
اإلدراك األبسط بأن قوتني شديديت االختالف ،الكهرباء واملغناطيسية ،كانتا يف الحقيقة اليشء
الواحد نفسه.
كنت قد رسمت الخطوط العريضة الكتشافات فاراداي وهرني التي أسست للروابط بني
الكهرباء واملغناطيسية ،ولكنني ال أظن أن هذه تعطيكم فكر ًة مبارش ًة عن عمق أو أصل هذه
بدال من ذلك ،تظهر تجربة فكرية بشكل مبارش كيف أن الكهرباء
الرابطة بالقدر الذي أودهً .
واملغناطيسية يف الحقيقة جانبان مختلفان من اليشء نفسه .عىل قدر معرفتي ،فإن هذه
التجربة الفكرية مل تجر فعل ًيا قبل االكتشافات التجريبية التي أدت إىل الرؤى ،ولكن ،باألثر
الرجعي ،فإنها شديدة البساطة.
التجارب الفكرية جزء أسايس من إجراء الفيزياء ألنها تسمح للمرء بأن «يشهد» األحداث
من منظورات مختلفة يف الوقت نفسه .قد تذكرون فيلم كوروساوا الكالسييك روشومون،
والذي يعرض فيه حدث واحد عدة مرات ويفرس بشكل منفصل من قبل كل من األشخاص
رشا جدي ًدا الستشفاف عالقة أوسع ،رمبا تكون أكرث
الحارضين .يعطينا كل منظور مختلف مؤ ً
موضوعيةً ،بني األحداث .وألن من املستحيل عىل راصد واحد أن ميتلك نقطتي منظور يف
ريا عىل
الوقت نفسه ،فإن الفيزيائيني يستغلون التجارب الفكرية من النوع الذي سأصفه ،س ً
نهج بدأه غاليليو وأتقنه إىل حد الكًّمل آينشتاين.
وإلجراء التجربة الفكرية هذه ،هناك حقيقتان يجب إدراكهًّم .األوىل أن القوة الوحيدة
التي يشعر بها جسيم ذو شحنة يف السكون ،عدا الجاذبية ،هي القوة الكهربائية .ميكن وضع
جاهال ما يوجد جانبه .من
ً أقوى مغناطيس يف العامل جانب هذا الجسيم ولن يحرك ساكنًا،
جهة أخرى ،فعند تحريك جسيم مشحون يف وجود مغناطيس ،فإن الجسيم سيشهد قوة تغري
حركته .وهذه تدعى قوة لورنتز ،نسب ًة إىل الفيزيايئ الهولندي هرنيك لورينتز ،الذي اقرتب من
صياغة النسبية الخاصة قبل آينشتاين .ولها شكل من أغرب ما يكون .إذا تحرك جسيم مشحون
أفقيًا بني قطبي مغناطيس ،كًّم يظهر ادناه ،فإن القوة عىل الجسيم ستكون باتجاه األعىل،
عمودي ًة عىل حركته األصلية:
104
هاتان امليزتان العامتان كافيتان ليسمحا لنا بإظهار أن قوة كهربائي ًة لشخص هي قوة
مغناطيسية آلخر .لذلك فإن الكهرباء واملغناطيسية مرتبطان ببعضهًّم كارتباط الدائرة
واملستطيل عىل جدار الكهف .ولرؤية ذلك ،لنأخذ الجسيم يف الشكل السابق .إذا كنا نرصده
يف املخرب ،ونراقبه يتحرك وينحرف ،نعلم أن القوة املؤثرة عليه هي قوة لورنتز املغناطيسية.
ولكن لنتصور بدل ذلك أننا يف مخرب ينتقل برسعة ثابته مع الجسيم .يف هذه الحالة ،لن يكون
الجسيم متحركًا بالنسبة لنا ،ولكن املغناطيس سيكون .فسيكون ما نراه بدل ما سبق:
ألن الجسيم املشحون يف السكون ال ميكن أن يتحسس لغري قوة كهربائية ،فإن القوة
املؤثرة عىل الجسيم يف هذا اإلطار ال بد أن تكون كهربائي ًة .أيضً ا ،لقد علمنا منذ غاليليو أن
قوانني الفيزياء يجب أن تبدو نفسها ألي راصدين يتحركان برسعة نسبية ثابتة .بالتايل ،ال
طريقة إلثبات ،بشكل مطلق ،أن الجسيم هو الذي يتحرك واملغانط هي الساكنة ،أو العكس .بل
باألحرى ،ميكننا فقط استنتاج أن الجسيم واملغانط تتحرك بالنسبة لبعضها .ولكننا رأينا للتو
أنه يف اإلطار التي تكون فيه املغانط ساكن ًة والجسيم متحركًا ،ينحرف الجسيم باتجاه األعىل
بسبب القوة املغناطيسية .يف اإلطار اآلخر ،الذي يكون فيه الجسيم يف وضع السكون ،ال بد
105
أن تعزى هذه الحركة باتجاه األعىل إىل قوة كهربائية .كًّم هو موعود ،فإن القوة املغناطيسية
لشخص هي القوة الكهربائية آلخر .الكهرباء واملغناطيسية هًّم «الظالن» املختلفان لقوة
واحدة ،وهي الكهرومغناطيسية ،حسب رؤيتها من نقاط منظور مختلفة ،ما يعتمد عىل وضع
الحركة النسبية لكم!
أريد تال ًيا القفز إىل الحارض ،لرؤية كيف يبدو تطور أحدث بكثري للفيزياء –والذي
حدث خالل آخر خمس وعرشين سن ًة والذي ملحت له يف نهاية الفصل األخري– تحت هذا
الضوء .عندما ناقشت العالقة املفاجئة بني املوصلية الفائقة واملصادم الفائق ،وصفت كيف
للمرء أن يفهم أصل الكتلة نفسها عىل أنه «حادث عريض» لظروفنا املحدودة .بالتحديد ،فإننا
نربط الكتلة ببعض الجسيًّمت دون غريها بسبب حقيقة أننا قد نكون نعيش يف «حقل» خلفية
كوين «يؤخر» حركتها بشكل متييزي بحيث يجعلها تبدو ثقيلة .أذكركم بأن اليشء نفسه
بالضبط يحدث للضوء يف موصل فائق .إذا كنا نعيش داخل موصل فائق ،فسنظن بأن حامل
الضوء ،الفوتون ،ذو كتلة .وألننا ال نعيش كذلك ،فإننا نفهم أن السبب الوحيد لكون الفوتون
يبدو ذا كتلة يف موصل فائق هو تفاعالته مع حالة املادة املحددة هناك.
وهنا تكمن النكتة .فكوننا عالقني يف كهف مجازي ،كموصل فائق ،كيف ميكننا أن نقفز
فعال خارج عامل تجربتنا املحدود بطريقة قد توحد الظواهر
قفزة اإللهام إلدراك ما يوجد ً
املتنوعة والتي تبدو غري مرتبطة فيًّم عدا ذلك؟ ال أظن أن هناك أي قاعدة عاملية ،ولكن عندما
فعال ،يصبح كل يشء جليًا بوضوح يجعلنا نعرف أننا قد قفزنا القفزة الصحيحة.
نقفز القفزة ً
بدأت هذه القفزة يف أواخر خمسينيات القرن العرشين ،وانتهت يف بدايات سبعينياته
يف فيزياء الجسيًّمت .لقد اتضح ببطء أن النظرية التي وصلت إىل الكًّمل بعد النقاشات يف
جزيرة شيلرت ،التي تناولت ميكانيك الكم للكهرومغناطيسية ،رمبا تشكل أيضً ا أساس نظرية
الكم للقوى األخرى املعروفة يف الطبيعة .وكًّم أرشت مسبقًا ،فإن اإلطارات الرياضية وراء كل
من الكهرومغناطيسية والتآثرات الضعيفة املسؤولة عن معظم التفاعالت النووية شديدة
التشابه .الفرق الوحيد هو أن الجسيًّمت التي تنقل القوة الضعيفة ثقيلة ،بينًّم الفوتون ،حامل
الكهرومغناطيسية ،عديم الكتلة .يف الحقيقة ،لقد أظهر شيلدون غالشو يف 1961أن هاتني
القوتني املختلفتني قد توحدان يف الحقيقة يف نظرية واحدة تكون فيها القوتان
الكهرومغناطيسية والضعيفة مظهرين ميثالن اليشء نفسه ،ولكن ملشكلة الفرق الشاسع يف
106
الكتلة بني الجسيًّمت التي تنقل هاتني القوتني ،الفوتون من جهة وجسيًّمت دبليو وزد من
جهة أخرى.
ولكن ،ما أن أدرك بأن املكان نفسه ميكن أن يؤدي دور موصل فائق ،مبعنى أن «حقل»
اقرتح ،يف عام
خلفية ميكن أن يجعل الجسيًّمت فعل ًيا «تترصف» وكأنها ذات كتلة ،رسعان ما ُ
،1967من قبل ستيفن وينربغ و ،بشكل مستقل ،عبد السالم ،أن هذا هو بالضبط ما يحدث
لجسيًّمت دبليو وزد ،كًّم وصفت يف نهاية الفصل األخري.
ما يهم هنا ليس أن آلي ًة إلعطاء جسيًّمت دبليو وزد كتل ًة قد اكتشفت ،ولكن أنه يف غياب
آلية من هذا النوع ،فقد أصبح اآلن مفهو ًما أن القوتني الضعيفة والكهرومغناطيسية مجرد
مظهرين للنظرية الفيزيائية نفسها وراءهًّم .من جديد ،فإن الفرق امللحوظ املرصود بني
القوتني يف الطبيعة حادث عريض نتيجة وضعنا .فلو مل نكن نعيش يف فضاء مملوء بالحالة
املتجانسة املناسبة من الجسيًّمت ،لكان التآثر الضعيف والكهرومغناطييس ليبدوا وكأنهًّم
اليشء نفسه .بشكل ما متكننا ،من انعكاسات متباينة عىل الجدار ،من اكتشاف الوحدة الكامنة
املوجودة وراء الدليل املبارش لحواسنا.
يف عام ،1971أظهر الفيزيايئ الهولندي جريارد توفت ،الذي كان حينها طالب
دراسات عليا ،أن اآللية املقرتحة إلعطاء جسيًّمت دبليو وجسيًّمت زد كتل ًة كانت متوافق ًة
رياضيًا وفيزيائيًا .يف ،1979منح كل من غالشو ،وعبد السالم ،ووينربغ جائزة نوبل عن
نظريتهم ،ويف ،1984اكتشفت الجسيًّمت التي تحمل القوة الضعيفة ،جسيًّمت دبليو وزد،
تجريبيًا يف مرسع كبري يف املركز األورويب لألبحاث النووية (سرين) يف جنيف ،بكتلها
ريا ،يف عام ،1999منح توفت نفسه ،إىل جانب املرشف عىل أطروحته، املتوقعة .وأخ ً
مارتينوس فيلتًّمن ،جائزة نوبل عن عملهًّم األصيل الذي أظهر أن نظرية غالشو-وينربغ-
سالم كانت معقول ًة يف نهاية األمر.
هذه ليست النتيجة الوحيدة لهذا املنظور الجديد .إن نجاح رؤية كل من القوتني
الضعيفة والكهرومغناطيسية يف إطار واحد يحايك ويوسع يف آن واحد نظرية الكم
«البسيطة» للكهرومغناطيسية شكل حاف ًزا لدراسة ما إذا كانت كل القوى يف الطبيعة ميكن أن
تقع ضمن هذا اإلطار .إن نظرية التآثرات القوية ،التي طورت وأكدت بعد االكتشاف النظري
للحرية املتقاربة التي وصفتها يف الفصل ،1لها نفس الشكل العام ،املعروف باسم نظرية
107
«القياس» .حتى هذا االسم له تاريخ محفور يف فكرة النظر إىل القوى املختلفة بوصفها ظواهر
مختلفة للفيزياء الكامنة نفسها .بالعودة إىل عام ،1918استخدم الفيزيايئ/الريايض هريمان
ويل واح ًدا من التشابهات العديدة بني الجاذبية والكهرومغناطيسية القرتاح إمكانية توحيدهًّم
يف نظرية واحدة .وقد أسمى امليزة التي تربط بينهًّم نظرية القياس –نسب ًة إىل حقيقة أنه يف
النسبية العامة ،كًّم سرنى قري ًبا ،فإن القياس ،أو مقياس الطول ،للمساطر املوضعية
املستخدمة من قبل راصدين مختلفني قد تختلف بشكل اعتباطي دون التأثري عىل الطبيعة
الكامنة للقوة الثقالية .وميكن تطبيق تغيري مًّمثل رياض ًيا عىل الطريقة التي يقيس بها
راصدون مختلفون الشحنة الكهربائية يف نظرية الكهرومغناطيسية .مل ينجح اقرتاح ويل،
الذي ربط بني الكهرومغناطيسية الكالسيكية والجاذبية ،بشكله األصيل .ولكن ،اتضح أن
قانونه الريايض سيلعب دو ًرا بارزًا يف النظرية الكمومية للكهرومغناطيسية ،وهذه هي
الخاصية املشرتكة يف نظريات التآثرات الضعيفة والقوية .واتضح أيضً ا أنها عىل صلة قريبة
بالكثري من الجهود الحالية لتطوير نظرية كمومية للجاذبية وتوحيدها مع القوى املعروفة
األخرى.
أصبحت النظرية «الكهروضعيفة» ،كًّم أصبحت تعرف اآلن ،إىل جانب نظرية التآثر
القوي املبنية عىل الحرية املتقاربة ،م ًعا تشكالن ما يعرف بالنموذج املعياري يف فيزياء
الجسيًّمت .كل التجارب املوجودة التي أجريت يف آخر عرشين سنة كانت عىل اتفاق تام مع
تنبؤات هذه النظريات .كل ما يبقى إلمتام توحيد التآثرين الضعيف والكهرومغناطييس عىل
وجه التحديد هو اكتشاف الطبيعة الدقيقة للحالة الكمومية الخلفية املتجانسة التي تحيط بنا
والتي نعتقد أنها تعطي الكتلة لجسيًّمت دبليو وجسيًّمت زد .نريد أيضً ا أن نعرف ما إذا كانت
هذه الظاهرة نفسها هي املسؤولة عن إعطاء الكتل لكل الجسيًّمت األخرى املرصودة يف
الطبيعة .وهذا ما نأمل أن يستطيع مصادم الهادرونات الكبري أن يفعله من أجلنا.
وكوين فيزيائ ًيا نظريًا ،فًّم أيرس ما تثريين هذه الوقائع الخفية املدهشة ،التي تكاد
تكون باطنية ،يف عامل فيزياء الجسيًّمت .ولكنني أعلم من محادثايت مع زوجتي بأنها تبدو
شديدة البعد عن الحياة اليومية ملعظم الناس فال يثارون بها .مع ذلك ،فإنها يف الحقيقة
مرتبطة مبارش ًة بوجودنا .إذا مل تكن الجسيًّمت املعروفة متتلك الكتل التي متتلكها بالضبط،
مع كون النيوترون أثقل بجزء واحد من األلف من الربوتون ،ملا كانت الحياة كًّم نعرفها ممكنة.
108
إن حقيقة أن الربوتون أخف من النيوترون تعني أن الربوتون مستقر ،عىل األقل عىل املقياس
الزمني للعمر الحايل للكون .وبالتايل ،فإن الهيدروجني ،املتكون من بروتون وحيد وإلكرتون
وحيد وهو العنرص األكرث وفر ًة يف الكون باإلضافة إىل كونه وقود النجوم كشمسنا وأساس
الجزيئات العضوية ،مستقر .إضاف ًة إىل ذلك ،فلو كان فرق الكتلة بني النيوترون والربوتون
مختلفًا ،لكان هذا غري التوازن الحساس يف بدايات الكون والذي أنتج كل العنارص الخفيفة
التي نراها .ساهم هذا املزيج من العنارص الخفيفة يف تطور أول النجوم التي تشكلت ،وهذا مل
يساهم يف تشكل شمسنا بعد 5مليارات إىل 10مليارات عام وحسب ،بل أنتج أيضً ا كل املادة
املوجودة يف أجسامنا .دامئًا ما أدهشتني حقيقة أن كل ذرة يف جسمنا تشكلت يف فرن محرتق
يف نجم بعيد متفجر! بهذا املعنى املبارش ،فنحن كلنا أبناء نجوم .ويف عرق متصل ،يف نواة
شمسنا ،فإن فرق الكتلة بني الجسيًّمت األولية هو ما يحدد معدل التفاعالت املنتجة للطاقة
ريا ،إن كتل هذه الجسيًّمت األولية التي تجتمع م ًعا إلنتاج القراءات
التي تغذي وجودنا بذاته .أخ ً
عىل ميزان حًّممنا الذي يخىش الكثري منا الوقوف عليه.
ومهًّم بلغت قوة الرابطة بني عامل الجسيًّمت وعاملنا ،فإن تقدم فيزياء القرن العرشين
مل يقترص عىل تقديم آفاق جديدة فقط لظواهر تتجاوز إدراكنا املبارش .أريد العودة ،عىل
مراحل ،من نهايات مستويات القياس التي كنت أناقشها إىل املستويات األكرث ألفة لنا.
ال يشء مبارش أكرث من إدراكنا للزمان واملكان .فهو يشكل جز ًءا مفصليًا يف تطور
الوعي اإلنساين .تصنف محددات معروفة ملراحل السلوك الحيواين حسب تغريات اإلدراك
املكاين والزماين .فعىل سبيل املثال ،متيش الهريرة بال خشية فوق حفرة مغطاة بالزجاج
الشبيك (البليكسيغالس) حتى عمر معني تبدأ فيه الحيوانات بإدراك مدى خطورة وجود
مساحة فارغة تحت أقدامها .لذا فهو أمر مدهش أن نكتشف ،يف بداية القرن العرشين ،أن
الزمان واملكان عىل صلة حميمة ببعضهًّم بطريقة مل نظنها يو ًما .قلة من يعرتضون عىل كون
اكتشاف ألربت آينشتاين لهذه الصلة من خالل نظريتيه الخاصة والعامة للنسبية أحد أبرز
اإلنجازات الفكرية لعرصنا .وباألثر الرجعي ،من الواضح أن قفزاته االستنتاجية كانت مدهشة
الشبه لساكن الكهف يف مثالنا.
كًّم ناقشت ،أسس آينشتاين نظرية النسبية الخاصة به عىل الرغبة باملحافظة عىل
االتساق مع نظرية ماكسويل الكهرومغناطيسية .يف هذه النظرية األخرية ،أذكركم أن رسعة
109
الضوء ميكن اشتقاقها بديه ًيا بالنسبة لثابتني أساسيني يف الطبيعة :شدة القوة الكهربائية
بني شحنتني وشدة القوة املغناطيسية بني مغناطيسني .تشري النسبية الغاليلية إىل أن هذين
يجب أن يكونا بنفس القيمة بالنسبة ألي راصدين ينتقالن برسعة ثابتة بالنسبة لبعضهًّم.
ولكن هذا يعني أن كل الراصدين يجب أن يقيسوا رسعة الضوء بنفس القيمة ،بغض النظر عن
رسعاتهم (الثابتة) أو رسعة مصدر الضوء .بالتايل ،وصل آينشتاين إىل فرضيته األساسية عن
النسبية :رسعة الضوء يف الفراغ ثابت كوين ،مستقل عن رسعة املصدر أو الراصد.
ويف حال مل تكن سخافة هذه الفرضية بالنسبة للفطرة واضحة للقارئ بشكل تام،
مثاال آخر عىل ما يعنيه ذلك .للسيطرة عىل البيت األبيض يف هذا الزمان ،يبدو أن
ألقدم لكم ً
من الرضوري للحزب السيايس الرابح أن يظهر أنه يغطي بالوسط ،بينًّم الحزب اآلخر إما عىل
ميني الوسط أو يساره .لذا يكون هناك بعض التشكيك عندما يدعي الحزبان ،قبل االنتخابات،
كال منهًّم قد سيطر عىل الوسط .إن فرضية آينشتاين ،من جهة أخرى ،تجعل ادعا ًء كهذا
أن ً
ممكنًا!
تخيلوا راصدين يف حركة نسبية ميران ببعضهًّم يف لحظة إشعال أحدهًّم ملفتاح
الضوء .تنتقل حزمة كروية الشكل يف كل االتجاهات إلضاءة العتمة .ينتقل الضوء برسعة
جا من املصدر ،ولكنه يفعل
شديدة إىل درجة عدم إدراكنا عاد ًة الستغراقه أي زمن لالنتقال خار ً
ذلك .الراصدة أ ،يف حالة سكون بالنسبة ملصباح الضوء ،ترى التايل بعد إشعال الضوء بقليل:
سرتى نفسها يف مركز الكرة الضوئية ،وسيكون الراصد ب ،الذي يتحرك إىل اليمني
بالنسبة لها ،قد تحرك ملسافة ما يف الوقت الذي استغرقه الضوء للوصول إىل موقعه الحايل.
110
جا كًّم لو كان
الراصد ب ،من جهة أخرى ،سيقيس أشعة الضوء تلك نفسها كأنها تنتقل خار ً
جا بالنسبة له ،حسب
لها رسعة ثابتة بالنسبة له وبالتايل وكأنها تنتقل نفس املسافة خار ً
فرضية آينشتاين .وبالتايل فسريى نفسه وكأنه مركز الكرة ،بينًّم تتحرك أ إىل يسار املركز.
111
عندما أخذ صورة بكامريتكم الخاصة ،فأنتم معتادون عىل تصورها كلقطة يف الزمن:
هذه لحظة قفز الكلب عىل لييل بينًّم كانت ترقص .ولكن ،ليس هذا صحي ًحا متا ًما .فهي متثل
لحظةً ،ولكن ليس يف الزمن .إن الضوء الذي تستقبله الكامريا عند لحظة تسجيل الفيلم
للصورة يف نقاط مختلفة من الفيلم كان قد أرسل يف أوقات مختلفة ،إذ تظهر هذه النقاط
أوال .بالتايل ،فإن الصورة ليست رشيح ًة يف
األشياء األبعد عن الكامريا وهي ترسل الضوء ً
الزمن ،بل ،باألحرى ،مجموعة من الرشائح يف املكان يف أزمان مختلفة.
إن طبيعة املكان هذه «الشبيهة بالزمان» ال تدرك عاد ًة بسبب اختالف املقاييس البرشية
مثال ،يف جزء من مئة من الثانية ،وهو الطول الزمني
للمكان عن املقاييس البرشية للزمانً .
رتا ،أو ما يكاد يعادل مسافة عرض الواليات
للقطة تقليدية ،ينتقل الضوء نحو 3,000كيلوم ً
املتحدة! مع ذلك ،ومع أن الكامريا ليس لها عمق حقل كهذا ،فإن اآلن ،الذي تلتقطه صورة
فوتوغرافية ،ليس مطلقًا بأي شكل .فهو فريد متعلق بالراصد الذي يلتقط الصورة .هو ميثل
«اآلن وهنا» و«هناك وحينذاك» لكل راصد مختلف .فقط أولئك الراصدون املوجودون يف هنا
نفسها ميكنهم أن يشهدوا اآلن ذاته.
تخربنا النسبية ،يف الحقيقة ،إن الراصدين املتحركني بالنسبة لبعضهًّم ال ميكن أن
يشهدا نفس اآلن ،حتى لو كان كالهًّم هنا يف نفس اللحظة .وهذا ألن إدراكهًّم ملا هو «هناك
مثاال .وبينًّم ال أنوي هنا ترجيع كل املحارضات املعتادة يف
وحينذاك» مختلف .ألقدم لكم ً
النصوص األساسية عن النسبية ،فإنني سأستخدم هنا مثاالً معروفًا ألنه يعود إىل آينشتاين،
مثاال أفضل .لنقل إن راصدين عىل قطارين مختلفني ،يتحركان عىل سكتني
وألنني مل أر قط ً
متوازيتني برسعة ثابتة بالنسبة لبعضهًّم .ال يهم من يتحرك فعليًا ،ألن ال طريقة ملعرفة ذلك
حقًا ،باملعنى املطلق ،بأي حال .لنقل إنه يف لحظة عبور هذين الراصدين ،الذي يوجد كل منهًّم
يف مركز قطاره ،من بعضهًّم ،يلمع الربق .وزياد ًة عىل ذلك ،لنقل إنه يربق مرتني ،مر ًة عند
مقدمة القطارين ومر ًة عند نهايتهًّم .لنأخذ منظور الراصد أ لحظة رؤيته ملوجات الضوء بسبب
ملعتي الربق.
112
مبا أنه يرى ملعتي الربق بنفس الوقت من طريف القطار ،وهو يف مركز قطاره ،فلن
يكون أمامه خيار سوى أن يعترب أن اللمعتني حدثتا يف الوقت نفسه متا ًما ،الذي قد يسميه
اآلن مع أنه يف الحقيقة كان حينذاك .زياد ًة عىل ذلك ،مبا أن الراصد ب اآلن عىل ميني أ ،فإن
ب سريى ملعة الربق اليميني قبل أن يرى ملعة الربق اليساري.
ال يزعج هذا أح ًدا يف العادة ،ألننا جمي ًعا نعزو الفرق يف زمن الرصد بالنسبة للراصد ب
لحقيقة أنه كان يتحرك باتجاه أحد منبعي الضوء مبتع ًدا عن اآلخر .ولكن ،يخربنا آينشتاين أنه
من املستحيل عىل ب أن يرصد هذا األثر .إن رسعة كل من شعاعي الضوء تجاهه سيكون نفسه
كًّم لو كان ال يتحرك عىل اإلطالق .لذلك ،فإن ب سوف «يرصد» ما ييل:
من هنا ،سيستنتج ب –بسبب (أ) أنه يرى ملعة برق قبل اآلخر( ،ب) أن الضوء كان قد
أرسل من طريف القطار الذي يجلس يف مركزه( ،ج) ألن الضوء ينتقل بنفس الرسعة يف كال
فعال! ال توجد
االتجاهني– أن الربق اليميني حدث قبل اليساري .وبالنسبة له ،فإن ذلك حدث ً
تجربة ميكن ألي من أ أو ب أن يجريها تشري إىل العكس .كل من أ وب سيتفق عىل حقيقة أن
ب رأى ملعة الربق األمين قبل األيرس (ال ميكن أن يختلفا فيًّم يحدث يف نقطة واحدة يف املكان
يف لحظة واحدة) ،ولكن سيكون لكل منهًّم تفسري مختلف .كل تفسري سيكون أساس اآلن
113
الخاص بكل شخص .لذا ال بد لهذين اآلنني أن يكونا مختلفني .األحداث البعيدة املتزامنة
بالنسبة لراصد ال يجب بالرضورة أن تكون متزامنة بالنسبة لراصد آخر.
أدى النوع نفسه من التجارب الفكرية بآينشتاين إىل إظهار أن وجهني آخرين لصورتنا
عن املكان املطلق والزمان املطلق يجب أن ينبثقا بالنسبة لراصدين متحركني بالنسبة لبعضهًّم.
سوف «يرصد» أ أن ساعة ب تتحرك ببطء ،وسوف «يرصد» ب أن ساعة أ تتحرك ببطء .زيادة
عىل ذلك ،فإن أ سوف «يرصد» أن قطار ب أقرص من قطاره ،و«يرصد» ب أن قطار أ أقرص من
قطاره.
وحتى ال يظن القارئ أن هذه مجرد تناقضات إدراك ،لنوضح أنها ليست كذلك .سوف
يقيس كل راصد مرور الزمن عىل أنه مختلف وسوف يقيس األطوال عىل أنها مختلفة .ومبا أن
القياس ،يف الفيزياء ،هو ما يحدد الواقع ،وألننا ال نكرتث للوقائع التي تتعدى القياس ،فإن
هذا يعني أن هذه األشياء تحدث فعليًا .يف الحقيقة ،فهي تحدث يوم ًيا بطرق ميكننا قياسها.
األشعة الكونية التي تهطل عىل األرض كل ثانية من الفضاء تحتوي عىل جسيًّمت ذات طاقات
شديدة االرتفاع ،تنتقل برسعات قريبة ج ًدا من رسعة الضوء .وعندما تصطدم بالغالف الجوي
العلوي ،فهي ترتطم بنوى ذرات يف الهواء و*تتفكك* لشالل من الجسيًّمت األولية األخرى،
واألخف .وأحد أكرث الجسيًّمت التي تنتج بهذه الطريقة شيو ًعا يدعى امليوون .وهذا الجسيم
يطابق فرضيًا اإللكرتونات املألوفة التي تكون األجزاء الخارجية من الذرات ،إال أنه أثقل .نحن
ال نعرف حاليًا سبب وجود نسخة طبق األصل عن اإللكرتون ،ما أدى بالفيزيايئ األمرييك
البارز آي .آي .رايب إىل االعرتاض* :من طلب هذا؟* عند اكتشاف امليوون .بأي حال ،فإن
امليوون ،وألنه أثقل من اإللكرتون ،ميكن أن يتفكك إىل إلكرتون وجسيمي نيوترينو .وقد قسنا
العمر الزمني لهذه العملية يف املخترب ووجدنا أن للميوونات عم ًرا زمنيًا يبلغ نحو جزء من
املليون من الثانية .يجب عىل جسيم عمره الزمني جزء من املليون من الثانية يسري برسعة
رتا قبل أن يتفكك .لذلك ،فإن امليوونات التي تنتج يف الغالف
الضوء أن ينتقل نحو ٣٠٠م ً
الجوي العلوي أال تصل قط إىل األرض .مع ذلك ،فهي الشكل السائد من األشعة الكونية (إىل
جانب الفوتونات واإللكرتونات) الذي يصل بالفعل!
تفرس النسبية هذه املعضلة .فإن *ساعة* امليوون تسري ببطء باملقارنة مع ساعتنا ،ألن
امليوون يسري قرب رسعة الضوء .لذلك ،ففي إطاره الخاص ،يتفكك امليوون بشكل متوسط
114
خالل بضع أجزاء من املليون من الثانية .ولكن ،حسب اقرتاب امليوون من رسعة الضوء خالل
هذه الفرتة القصرية يف إطاره الزمني ،رمبا متر بضع ثوانٍ يف إطارنا املرجعي عىل األرض.
إن الزمن يتباطأ حقًا لألجسام املتحركة.
وال أستطيع مقاومة ترككم مع معضلة أخرى (مفضلتي!) تشري إىل مدى ما قد تبلغه
هذه اآلثار من واقعية ،مع التأكيد بنفس الوقت عىل مدى شخصية مفهومنا عن الواقع .لنقل
رسا
إن لديكم سيارة أمريكية كبرية ،جديدة تريدون التباهي بها من خالل قيادتها برسعة تبلغ ك ً
معت ًدا به من رسعة الضوء إىل كراجي .اآلن فإن سيارتكم ،يف حال السكون ،بطول 12قد ًما.
كراجي أيضً ا بطول 12قد ًما .ولكن ،إذا كنتم تتحركون برسعة كبرية ،فإنني سأقيس أن
سيارتكم طولها فقط ،لنقل 8 ،أقدام .وبالتايل ،ال يجب أن يكون هناك مشكلة يف دخول
سيارتكم يف كراجي للحظة قصرية قبل أن تصطدموا بالجدار الخلفي أو أفتح أنا بابًا يف خلف
الكراج ألسمح لكم بالخروج .أما أنتم ،من جهة أخرى ،فسرتون أنني أنا وكراجي منر من جانبكم
برسعة شديدة ولذلك فإن كراجي بالنسبة لكم بطول 8أقدام فقط ،بينًّم سيارتكم ما تزال
بطول 12قد ًما .بالتايل ،فمن املستحيل أن تتسع سيارتكم يف كراجي.
فعال أن أغلق باب
كال منا عىل حق .ميكنني ً
إن املعجز يف هذه املعضلة ،من جديد ،أن ً
كراجي عليكم وأبقيكم يف كراجي للحظة .أما أنتم ،من جهة أخرى ،فستشعرون باالصطدام
بالجدار الخلفي قبل أن أغلق الباب.
ال ميكن أن يكون يشء واقعيًا أكرث ألي من الطرفني ،ولكن كًّم ترون ،فإن الواقع يف
هذه الحالة يف عني الناظر .النقطة هي أن اآلن لكل شخص ذايت بالنسبة لألحداث البعيدة.
يرص السائق أن مقدمة سيارته اآلن تالمس الجدار الخلفي للكراج بينًّم تربز خلفية سيارته من
حا ،بينًّم يرص صاحب الكراج أن الجدار األمامي اآلن مغلق
الباب األمامي ،الذي ما يزال مفتو ً
ومقدمة السيارة مل تصل بعد إىل الجدار الخلفي.
إذا كان اآلن الخاص بكم غري اآلن الخاص يب وثانيتكم غري ثانيتي ،وإنشكم غري إنيش،
فهل من يشء ما يزال بإمكاننا االعتًّمد عليه؟ الجواب هو نعم ،وهو يتصل بالروابط الجديدة
بني املكان والزمان التي تكشفها النسبية .لقد سبق أن وصفت كيف أنه مبجرد أخذ رسعة
الضوء املنتهية بالحسبان ،فإن املكان يكتسب صف ًة زمانية .ولكن هذه األمثلة تدفع هذه الفكرة
إىل حد أبعد .إذ ميكن ملسافة شخص يف املكان ،كاملسافة بني طريف قطار مقاس ًة يف اللحظة
115
نفسها ،أن تشمل لشخص آخر أيضً ا مساف ًة يف الزمن .سيرص الشخص اآلخر أن القياسات
نفسها قد أجريت يف الحقيقة يف أزمنة مختلفة .بكالم آخر ،ميكن أن يكون «مكان» شخص
«زمان» شخص آخر.
باألثر الرجعي ،ليس ذلك مفاجئًا .إن ثبات الضوء يربط الزمان واملكان بطريقة مل يكونا
يرتبطان بها من قبل .لتقاس الرسعة –واملعطاة بقيمة املسافة املقطوعة يف خالل زمن ثابت–
عىل أنها نفسها لراصدين مختلفني بينهًّم حركة نسبية ،يجب أن تتغري قياسات كل من الزمان
واملكان م ًعا بني الراصدين .هناك فعالً ما هو مطلق ،ولكنه ال يتمثل بالزمان لوحده ،وال املكان
لوحده .بل يجب أن يشمل مزي ًجا من االثنني .وليس صع ًبا إيجاد ما هو هذا املطلق .إن املسافة
التي يقطعها شعاع ضوء برسعة cلفرتة زمنية tهي .d=ctلو قاس كل الراصدين اآلخرين
الرسعة نفسها cلشعاع الضوء ،فإن األزمنة لديهم ’ tواملسافات لديهم ’ dيجب أن تكون بحيث
تحقق ’ .d’=ctولنكتبها بصيغة مرموقة أكرث ،برتبيع هذه العالقات ،فإن الكمية s2=c2t2-
d2=c2t‘2-d‘2يجب أن تساوي الصفر ويجب بالتايل أن تكون نفسها لجميع الراصدين .وهذا
مفتاح ميكنه أن يضع صورتنا عن الزمان واملكان يف تشبيه مبارش لقفزة البصرية املعرفية
لساكن الكهف الذي تطرقنا إليه.
تصوروا الظالل التي تلقيها مسطرة عىل جدار الكهف .يف إحدى الحاالت ،ميكن رؤية
هذا:
بالنسبة لرجل الكهف املسكني ،فإن األطوال املحددة لن تكون ثابتة .كيف ذلك؟ نحن،
الذين ليس علينا أن نكتفي باملساقط ثنائية األبعاد بل نعيش يف فراغ ثاليث األبعاد ،ميكننا أن
نهتدي لسبيلنا حول املشكلة .فبالنظر إىل املسطرة من األعىل ،ميكننا أن نرى أنه يف الحالتني
املختلفتني كانت املسطرة يف الوضعني الظاهرين أدناه:
116
يف املرة الثانية ،أديرت .نعلم أن هذا الدوران ال يغري طول املسطرة ولكنه يغري فقط
مثال ،كان هناك راصدان مختلفان يرون الظالل
«مركبة» طولها الساقطة عىل الجدار .إذاً ،
الساقطة بزوايا قامئة ،لكان للمسطرة املدارة مساقط االطوال كًّم يف الشكل:
إذا كان الطول الفعيل للمسطرة ،Lيخربنا فيثاغورس بأن .L2=x2+y2بالتايل ،فحتى
عند تغري الطولني املفردين xو yلكل من الراصدين ،فإن الجمع بينهًّم سيظل ثاب ًتا دامئًا.
بالنسبة لراصد يقيس جهة ،yسيكون امتداد املسطرة األصلية صف ًرا ،بينًّم يكون لآلخر أعظم ًيا
بجهة .xبينًّم يكون للمسطرة املدارة امتداد غري صفري عىل املحور yولكنها ذات امتداد أقرص
عىل .x
هذا مشابه بشكل ملحوظ لسلوك الزمان واملكان لراصدين بينهًّم حركة نسبية .قد يبدو
قطار يتحرك برسعة كبرية أقرص بالنسبة يل ،ولكنه سيكون لديه يشء من االمتداد «الزمني»–
أي ،لن تبدو الساعتان عىل طريف القطار متزامنتني بالنسبة يل إذا كانا كذلك بالنسبة للراصد
117
عىل القطار .واألهم ،أن الكمية sتحايك الطول املكاين Lيف مثال الكهف .لنذكر أن sكانت
معرفة عىل أنها املسافة «الزمكانية» .s2=c2t2-d2وهي متثل مزي ًجا من مسافتني منفصلتني
يف الزمان واملكان بني األحداث ،وهي دو ًما تساوي الصفر بني نقطتني يف الزمكان عىل مسار
أي شعاع ضوء ،بغض النظر عن حقيقة أن الراصدين املختلفني إذا كان بني كل زوج منهم
قيًّم فردية مختلفة لكل من dو tللمسافات الفردية يف الزمان واملكان
حركة نسبية سيعينون ً
بني النقطتني اللتني يقيسونهًّم .ويتضح أنه حتى لو مل تكن هاتان النقطتان مرتبطتني بشعاع
ضوء ولكنهًّم متثالن أي نقطتني زمكانيتني يفصل بينهًّم طول dوزمن tلراصد واحد ،فإن
املزيج ( sالذي مل يعد من الرضوري أن يكون مساويًا للصفر) سيكون نفسه لكل الراصدين،
مجد ًدا بغض النظر عن حقيقة أن الفواصل الزمنية واملكانية املنفصلة املقاسة املختلفة قد
تختلف من راصد آلخر.
بالتايل ،هناك حقًا يف الزمان واملكان يشء مطلق :الكمية .sوهي متثل بالنسبة
للراصدين املتحركني بالنسبة لبعضهم ما متثله Lبالنسبة للراصدين الدائرين بالنسبة
لبعضهًّم .أي هي الطول «الزمكاين» .لذا فإن أفضل وصف لعاملنا الذي نعيش فيه هو أنه
فضاء رباعي األبعاد :األبعاد الثالثة املكانية و«بعد» الزمان متزاوجة بنفس قدر (وإن مل يكن
بالطريقة نفسها بالضبط) تزاوج البعدين xو yأعاله .وتعطينا الحركة مساقط مختلفة لهذا
الفضاء رباعي األبعاد عىل رشيحة ثالثية األبعاد ندعوها اآلن ،متا ًما كًّم يعطي التدوير مساقط
مختلفة لجسم ثاليث األبعاد عىل الجدار ثنايئ األبعاد للكهف! كان آلينشتاين ،مع بصريته
املبنية عىل إرصاره عىل ثبات الضوء ،فضل فعل ما بالكاد يحلم به أي منا .لقد هرب من قيود
كهفنا ليلمح ألول مرة واق ًعا خفيًا وراء طرفنا اإلنساين املحدود ،متا ًما كًّم فعل ساكن الكهف
يف مثالنا حني اكتشف أن الدائرة واملستطيل انعكاسان للجسم نفسه.
ولكيال ننكر فضله ،فإن آينشتاين مل يتوقف عند هذا الحد .مل تكن الصورة مكتمل ًة بعد.
دليال له .كل الراصدين املتحركني برسعات نسبية ثابتة يرصدون أن
استخدم من جديد الضوء ً
لشعاع الضوء نفس الرسعة cبالنسبة لكل منهم ،وبالتايل ال ميكن ألي منهم أن يثبت أنه هو
الثابت واآلخرون متحركون .الحركة نسبية .ولكن ماذا لو مل يكونوا يتحركون برسعة ثابتة؟
ماذا لو تسارع أحدهم؟ هل سيتفق الجميع يف هذه الحالة بال شك عىل أن الغريب بينهم هو
املتسارع ،مبا فيهم هذا الراصد الوحيد؟ الكتشاف بعض ما يف هذه القضايا ،فكر آيننشتاين
118
بتجربة خضناها جمي ًعا .عندما تكونون يف املصعد ،كيف تعرفون متى بدأ بالحركة وبأي
اتجاه؟ حسنًا ،إن بدأ بالحركة إىل األعىل ،تشعرون بثقل لحظي؛ وإن تحرك لألسفل ،تشعرون
بخفة لحظية .ولكن كيف تعلمون أنه تحرك بالفعل ،وليست الجاذبية هي التي ازدادت فجأة؟
الجواب هو ،أنتم ال تعلمون .ال يوجد تجربة واحدة ميكن إجراؤها يف مصعد مغلق
إلخباركم ما إذا كنتم تتسارعون أو أنكم يف حقل جاذبية أقوى .ميكننا أن نجعل األمر أبسط
حتى .لنضع املصعد يف فضا ٍء خا ٍل ،بال أرض حوله .عندما يكون املصعد يف حال السكون ،أو
يتحرك برسعة ثابتة ،فال يشء يسحبكم باتجاه أرضيته .ولكن ،إن تسارع املصعد باتجاه
قليال بيشء من القوة لتجعلكم تتسارعون مع
األعىل ،فإن األرضية ستدفعكم إىل األعىل ً
املصعد .فستشعرون وأنتم يف املصعد بأنكم تدفعون باتجاه األرضية .وإن كان يف أيديكم كرة
وتركتموها ،فهي سوف «تسقط» باتجاه األرضية .ملاذا؟ ألنكم إن كنتم يف البداية يف حال
سكون ،فهي ستحاول البقاء عىل تلك الحال ،حسب قانون غاليليو .ولكن األرضية ،من جهتها،
ستتسارع باتجاه األعىل ،باتجاهها .من وجهة نظركم ،وأنتم تتسارعون مع املصعد ،فإن الكرة
سوف تسقط إىل األسفل .إضاف ًة إىل ذلك ،فإن هذه الحجة مستقلة عن كتلة الكرة .إذا كان
لديكم ست كرات ،لكل منها كتلة مختلفة ،فهي سوف «تقع» جمي ًعا بنفس التسارع .من جديد،
فإن هذا ألن األرضية هي التي تتسارع فعليًا إىل األعىل باتجاه الكرات جميعها بنفس املعدل.
لو كان غاليليو معكم يف املصعد نفسه ،فسوف يقسم أنه عىل كوكب األرض .كل ما
أمىض حياته املهنية يف إثبات أنه طريقة سلوك األجسام عىل سطح األرض سيكون نفسه
بالنسبة لألجسام يف املصعد .إذن ،بينًّم أدرك غاليليو أن قوانني الفيزياء يجب أن تكون نفسها
لكل الراصدين املتحركني برسعة ثابتة ،أدرك آينشتاين أن قوانني الفيزياء متطابقة بالنسبة
للراصدين املتحركني بتسارع ثابت من جهة ،وأولئك املوجودين يف حقل ثقايل ثابت من جهة
أخرى .وبهذه الطريقة ،فقد حاجج بأنه حتى التسارع نسبي .تسارع شخص هو جاذبية
شخص آخر.
من جديد ،فقد اسرتق آينشتاين النظر إىل ما وراء الكهف .لو كان ميكن «خلق» الجاذبية
يف مصعد ،لرمبا كنا جمي ًعا يف مصعد مجازي .رمبا كان ما ندعوه جاذبي ًة يتعلق يف الحقيقة
بالنقطة التي ننظر منها .ولكن ما املميز يف هذه النقطة؟ نحن عىل كوكب األرض ،كتلة ضخمة.
119
رمبا أمكن رؤية ما نراه قو ًة بيننا وبني كتلة األرض عىل أنها قوة ناتجة من يشء تفعله هذه
الكتلة يف محيطنا ،يف الزمان واملكان.
ولحل هذه األحجية ،عاد آينشتاين إىل الضوء .كان قد أظهر للتو أن ثبات الضوء هو ما
يحدد كيف يحاك الزمان واملكان م ًعا .ماذا ميكن لشعاع ضوء أن يفعله يف املصعد املتسارع
يف املكان؟ حسنًا ،بالنسبة لراصد خارجي ،سيميض يف خط مستقيم برسعة ثابتة .ولكن داخل
املصعد ،الذي يتسارع إىل األعىل خالل هذا الوقت ،فإن مسار شعاع الضوء سيبدو هكذا:
يف إطار املصعد ،سيبدو أن الضوء ينحني لألسفل ،ألن املصعد يتسارع إىل األعىل
مبتع ًدا عنه! بكلًّمت أخرى ،سيبدو أنه يقع .إذن ،لو كان عىل مصعدنا املتسارع أن يكون نفس
مصعد ساكن يف حقل جاذبية ،عىل الضوء أن ينحني أيضً ا يف حقل ثقايل! وليس هذا مفاجئًا
فعال أن الكتلة والطاقة متكافئان وتبادليان .تزيد
ج ًدا يف الحقيقة .كان آينشتاين قد أظهر ً
طاقة شعاع الضوء كتلة الجسم الذي ميتصه .وبشكل مشابه ،فإن كتلة جسم يشع ضو ًءا
تتناقص مبقدار يتناسب مع طاقة اإلشعاع .لذلك ،إذا كان الضوء يحمل طاقةً ،فإن بإمكانه
الترصف كًّم لو كان ذا كتلة .وكل األجسام ذات الكتلة تقع يف الحقل الثقايل.
ولكن ،هناك مشكلة أساسية يف هذه الفكرة .الكرة التي تقع ،تتسارع! تتغري رسعتها
مع موقعها .ولكن ،فإن ثبات رسعة الضوء هو الركيزة التي بنيت عليها النسبية الخاصة.
العقيدة األساسية للنسبية الخاصة هي أن الضوء ينتقل برسعة ثابتة لكل الراصدين ،بغض
النظر عن رسعة كل منهم بالنسبة لشعاع الضوء كًّم يراه شخص آخر .وبالتايل ،فإن راص ًدا
يف الجزء األيرس العلوي من املصعد يراقب دخول الضوء يتوقع أن يقيس رسعة الضوء عىل
120
أنها ،cولكن كذلك سيفعل راصد يف الجزء السفيل األمين ،وهو يقيس رسعة الضوء أثناء
خروجه من املصعد .ال يهم أن الراصد األدىن يتحرك برسعة أعىل عند رؤيته الضوء من الراصد
األول عند قياسه .كيف ميكننا املواءمة بني هذه النتيجة وحقيقة أن الضوء ينحني عامل ًيا ويجب
بالتايل أنه «يقع»؟ عالوة عىل ذلك ،مبا أن آينشتاين اقرتح أنني إذا كنت يف حقل ثقايل فسأرى
ما سأراه لو كنت يف مصعد متسارع ،إذن ،فأنا يف حالة سكون ،ولكن يف حقل ثقايل ،فسيقع
الضوء أيضً ا .ميكن حدوث هذا فقط لو كانت رسعة الضوء تتغري عامل ًيا حسب املكان.
هناك طريقة وحيدة ميكن للضوء فيها أن ينحني ويتسارع عامل ًيا بينًّم ينتقل بخطوط
مستقيمة وتقاس رسعته لكل راصد يف كل نقطة عىل أنه ينتقل برسعة .cيجب أن تتغري
مساطر وساعات الراصدين املختلفني ،اآلن يف إطار واحد –تلم الخاصة مبصعد متسارع ،أو
الخاصة بالراصد الساكن يف حقل ثقايل– حسب املوضع!
ماذا يحدث للمعنى العاملي للمكان والزمان إذا حدث يشء من هذا القبيل؟ حسنًا ،ميكننا
الحصول عىل فكرة جيدة بالعودة إىل كهفنا .لنأخذ الصورة التالية ،والتي تظهر مسار طائرة
من نيويورك إىل بومباي كًّم تظهر عىل جدار مسطح عىل الكهف:
كيف ميكننا أن نجعل هذا املسار املنحني يظهر محل ًيا كخط مستقيم ،مع تحرك الطائرة
برسعة ثابتة؟ من الطرق السًّمح ألطوال املساطر بأن تتغري أثناء تحركها عىل السطح ،بحيث
تقاس غرينالند ،التي تبدو يف هذه الصورة أكرب من كل أوروبا بكثري ،تقاس يف الحقيقة عىل
أوال حجم غرينالند وهو هناك ثم يعود لقياس حجم أوروبا
أنها أصغر من قبل راصد يقيس ً
بنفس املسطرة حني يكون عندها.
121
قد يبدو من الجنون اقرتاح حل من هذا القبيل ،عىل األقل بالنسبة للشخص يف الكهف.
ولكننا نعلم ما وراء ذلك .الحل يف الحقيقة يكافئ إدراك أن السطح الذي رسمت عليه الصورة
هو ،يف الحقيقة ،منح ٍن .السطح يف الحقيقة كرة ،أسقطت عىل مست ٍو مسطح .بهذه الطريقة،
متتد املسافات القريبة من القطب يف املسقط بالنسبة للمسافات الحقيقية املقاسة عىل سطح
األرض .وبالنظر إليها ككرة ،وهو ما ميكننا فعله بفضل منظورنا ثاليث األبعاد ،نتحرر .املسار
الظاهر أعاله هو يف الحقيقة خط عرض ،وهو خط مستقيم مرسوم عىل الكرة وهو أقرص
مسافة بني النقطتني .تتبع طائرة تطري برسعة ثابتة يف مسار مستقيم بني هاتني النقطتني
منحن ًيا كهذا بالفعل.
ما االستنتاج الذي نستخلصه من هذا؟ لو أردنا أن نكون متسقني ،علينا أن ندرك بأن
القواعد التي أسسناها إلطار متسارع ،أو إلطار يوجد فيه حقل ثقايل ،ليست غري معقولة بل
مكافئة الشرتاط كون الزمكان منحنيًا! ملاذا ال ميكننا الشعور بهذا االنحناء بشكل مبارش إن
كان موجو ًدا؟ ألننا نحصل دامئًا عىل نظرة محلية للمكان من منطور نقطة واحدة .األمر كًّم
لو كنا حرش ًة تعيش يف كنساس .يبدو عاملها ،الذي يتكون من السطح ثنايئ األبعاد الذي
تزحف عليه ،مسط ًحا كلوح .فقط من خالل السًّمح ألنفسنا برفاهية مكاملة هذا السطح يف
إطار ثاليث األبعاد ميكننا بشكل مبارش تصور مدارنا .وبشكل مشابه ،إذا أردنا أن نتصور
بشكل مبارش منحنيًا للمكان ثاليث األبعاد ،فعلينا إدخاله يف إطار رباعي األبعاد ،وتصور هذا
مستحيل بالنسبة لنا كاستحالته عىل حرشة ترتبط حياتها بسطح األرض ،والفضاء ثاليث
األبعاد خارج تجربتها املبارشة.
بهذا املعنى ،كان آينشتاين كريستوفر كولومبوس القرن العرشين .جادل كولومبوس
بأن األرض كروية الشكل .إلدراك ذلك الواقع الخفي ،جادل بأن بإمكانه اإلبحار إىل الغرب
والعودة من الرشق .آينشتاين ،من جهة أخرى ،جادل بأنه لرؤية أن فضاءنا ثاليث األبعاد ميكن
أن يكون منحن ًيا ،عىل املرء فقط أن يتتبع سلوك شعاع الضوء يف حقل ثقايل .هذا سمح له
أوال ،يجب أن ينحني الضوء عندما يقرتب من
باقرتاح ثالث اختبارات كالسيكية لفرضيتهً .
الشمس مبقدار ضعفي ما لو كان فقط «يقع» يف فضاء مسطح .ثان ًيا ،املدار اإلهليجي حول
الشمس بالنسبة لكوكب عطارد يجب أن يتغري توجهه ،أو يستبق مداره ،مبقدار ضئيل ج ًدا كل
122
مبنى طويل
ً عام ،بسبب االنحناء الضئيل للفضاء قرب الشمس .ثالثًا ،تسري الساعات يف أدىن
بشكل أبطأ من أعاله.
كان معروفًا استباق مدار عطارد منذ زمن طويل ،واتضح أن هذا املعدل كان مساويًا
ريا مبقدار التنبؤ
متا ًما لحسابات آينشتاين .مع ذلك ،فإن تفسري يشء سبق رؤيته ليس مث ً
بيشء جديد كل ًيا .وكان تنبؤا آينشتاين اآلخران يف النسبية العامة من هذا الصنف األخري .ففي
عام ،1919سجلت بعثة يقودها السري آرثر ستانيل إيدنغتون إىل أمريكا الجنوبية لرصد
خسوف شميس كامل أن النجوم قرب الشمس التي ميكن رصدها يف الظالم كانت منحازة عن
حيث يتوقع أن تكون باملقدار الذي تنبأ به آينشتاين متا ًما .بالتايل بدا أن أشعة الضوء تتبع
اسًّم عىل كل لسان! مل يكن حتى أربعني سنة
مسارات منحنية قرب الشمس ،وأصبح آينشتاين ً
الحقة إىل أن أجري االختبار الكالسييك الثالث الذي اقرتحه آينشتاين ،يف قبو مخترب الفيزياء
يف هارفرد من بني كل األماكن .أظهر روبرت باوند وجورج ريبكا أن تواتر الضوء املنتج يف
القبو كان قياسه مختلفًا عنه عند استقبال حزمة الضوء يف أعىل املبنى .كان انحياز التواتر،
وإن كان شديد الضآلة ،أيضً ا متا ًما باملقدار الذي يتنبأ آينشتاين بأن ساع ًة تدق بهذا التواتر
تحيد به بني االرتفاعني املختلفني.
من وجهة نظر النسبية العامة ،ميكن التفكري باملسارات املنحنية واملتسارعة التي تتبعها
أجسام يف حقل ثقايل ،مبا فيها الضوء ،عىل أنها ظواهر النحناء الفضاء الخفي .من جديد،
من املفيد التفكري بتشبيه ثنايئ األبعاد .لنأخذ املسقط ثنايئ األبعاد لجسم يدور بشكل حلزوين
نحو جسم أكرب ،كًّم يظهر عىل جدار الكهف:
123
ميكننا فرض وجود قوة بني الجسمني لتفسري ذلك .أو ميكننا تخيل أن السطح الحقيقي
الذي تحدث عليه هذه الحركة منحنٍ ،كًّم ميكننا أن نتصور يف إطار ثاليث األبعاد .ال يشعر
مستقيًّم عىل هذا السطح املنحني:
ً الجسم بأي قوة من الكرة األكرب ،بل يتبع مسا ًرا
بهذه الطريقة ،جادل آينشتاين بأن قوة الجاذبية التي نقيسها بني جسمني ذوي كتلة
ميكن أن نعتربها بدل ذلك نتيج ًة لحقيقة أن وجود كتلة يسبب انحنا ًء يف الفضاء املحيط ،وأن
األجسام التي تنتقل يف هذا الفضاء ال تتعدى أن تتبع مسارات مستقيمة يف زمكان منحنٍ ،ما
124
ينتج مسارات منحنية .هناك بالتايل تغذية راجعة جديرة باملالحظة بني وجود املادة وانحناء
الزمكان ،وهي من جديد تذكرة باألوروبوروس ،األفعى التي تأكل نفسها .يحكم انحناء الفضاء
حركة املادة ،التي يحكم متوضعها الناتج بدوره انحناء الفضاء .إن هذه التغذية الراجعة بني
املادة واالنحناء هي ما يجعل النسبية العامة يف التعامل أعقد بكثري من جاذبية نيوتن ،حيث
الخلفية التي تتحرك فيها األجسام ثابتة.
ريا إىل حد أن آثاره ال ميكن استشعارها ،وهذا أحد
عاد ًة ما يكون انحناء الفضاء صغ ً
أسباب كون مفهوم الفضاء املنحني يبدو غري ًبا لنا .خالل انتقاله من نيويورك إىل لوس
أنجلوس ،ينحني شعاع الضوء مبقدار نحو ميليمرت واحد فقط بسبب انحناء الفضاء الذي
مثال ،يف املستعر
تسببه كتلة األرض .ولكن ،هناك أوقات ،ترتاكم فيها حتى اآلثار الصغريةً .
األعظم عام 1987الذي أرشت إليه سابقًا كان من بني املشاهدات الفلكية األكرث إثار ًة يف هذا
القرن .ولكن ،ميكن للمرء أن يحسب بسهولة –ويف الواقع ،بلغت املفاجأة بهذه النتيجة يب
وأحد الزمالء أن كتبنا ورق ًة بحثي ًة عن أهميتها– أن االنحناء الضئيل الذي مر عربه الضوء من
مستعر 1987األعظم أثناء انتقاله من أحد أطراف مجرتنا إىل اآلخر وصوالً إلينا كان كاف ًيا
لتأخري وصوله إىل حد تسعة أشهر! لوال النسبية العامة وانحناء الفضاء ،لشاهدنا مستعر
1987األعظم يف عام !1986
أكرب ساحة تجارب ألفكار آينشتاين هي الكون ذاته .ال تخربنا النسبية العامة عن انحناء
الفضاء حول الكتل املحلية وحسب بل تشري ضمنًا إىل أن الرتكيبة الهندسية للكون بأكمله
تحكمها املادة فيه .لو كانت الكثافة الوسطية كافية للكتلة ،لكان انحناء الفضاء كافيًا النحناء
الفضاء يف النهاية عىل نفسه يف محاكاة ثالثية األبعاد للسطح ثنايئ األبعاد للكرة .األهم من
ذلك ،يتضح أنه يف هذه الحالة يتوقف الكون يف النهاية عن التوسع ويعود لالنكًّمش يف
«انسحاق عظيم» ،عكس االنفجار العظيم.
هناك ما هو مذهل يف كون «مغلق» ،كًّم ميكن تسمية كون عايل الكثافة كهذا .أذكر أول
مرة تعلمت فيها ذلك إذ كنت طال ًبا يف الثانوية حني سمعت محارضة عامل الفيزياء الكونية
ثوماس غولد ،وقد الزمني ذلك منذ تلك اللحظة .يف عامل ينغلق عىل نفسه ،ستعود أشعة الضوء
–التي ،بالطبع ،تنتقل يف خطوط مستقيمة يف هذا الفضاء– يف النهاية إىل حيث انطلقت،
متا ًما كخطوط الطول والعرض عىل سطح األرض .بالتايل ،ال ميكن للضوء أن يهرب أب ًدا إىل
125
الالنهاية .اآلن ،عندما يحدث يشء من هذا القبيل عىل نطاق أصغر ،أي ،عندما يكون للجسم
كثافة مرتفعة إىل درجة أن حتى الضوء ال ميكن أن يهرب من سطحه ،ندعوه ثق ًبا أسود .إذا
كان كوننا مغلقًا ،فنحن يف الحقيقة نعيش يف ثقب أسود! ليس عىل اإلطالق كًّم كنتم
تتوقعون ،وال كفيلم ديزين! ذلك ألنه ،مع كرب األنظمة أكرث فأكرث ،تصبح الكثافة املتوسطة
املطلوبة إلنتاج ثقب أسود أصغر فأصغر .يكون ثقب أسود بكتلة الشمس بقطر نحو كيلومرت
حني تشكله يف البداية ،بكثافة متوسطة تبلغ عدة أطنان للسنتيمرت املكعب .أما ثقب أسود
بكتلة كوننا املريئ ،من جهة أخرى ،فسيكون قد تشكل يف البداية بحجم قريب من الكون املريئ
وكثافة متوسطة قدرها نحو 29-10غرا ًما يف السنتيمرت املكعب!
أما املعرفة الحالية ،فتقرتح أننا ال نعيش يف ثقب أسود .منذ أوائل مثانينيات القرن
العرشين آمن معظم املنظرين ،عىل األقل ،أن الكثافة املتوسطة للفضاء كانت بحيث أن الكون
بالكاد عىل الحد بني كون مغلق ،ينغلق عىل نفسه وسينهار يف الحالة العامة ،وكون مفتوح،
وهو النهايئ وسيستمر عمو ًما يف التوسع بال توقف لألبد .الحالة الحرجة هذه ،والتي تدعى
الكون «املسطح» ،النهائية أيضً ا يف البعد املكاين ،وإذا كان الجذب الثقايل يأيت من املادة،
فسوف يستمر بالتوسع إىل األبد ،مع تباطؤ التوسع دون أن يتوقف بشكل نهايئ أب ًدا .مبا أن
كونًا مسط ًحا يتطلب نحو 100ضعف املادة املرئية يف كل النجوم واملجرات التي نراها ،فقد
أصبح املنظرون يتوقعون أن حتى 99باملئة من الكون مكون من مادة مظلمة ،ال تراها
التلسكوبات ،كًّم وصفت يف الفصل ،3رغم أن املادة املظلمة املستنتجة من وزن املجرات
والعناقيد املجرية كانت أصغر بنحو ثالث مرات من القدر املطلوب لكون مسطح.
كيف ميكننا أن نعرف إن كان هذا الفرض صحي ًحا؟ من الطرق محاولة تحديد الكثافة
رشا الكلية للًّمدة حول املجرات وعناقيد املجرات ،كًّم وصفت يف الفصل ،3ما مل ِ
يعط مؤ ً
رشا إىل كون مسطح .هناك طريقة أخرى ،عىل األقل من حيث املبدأ ،تحايك جوهريًا أن
مبا ً
تحاول حرشة ذكية يف كنساس تحديد ما إذا كانت األرض كروي ًة دون الدوران حولها ودون
مغادرة سطحها .حتى لو مل تستطع هذه الحرشة تصور الكرة يف عقلها ،كًّم ال ميكننا تصور
انحناء الفضاء ثاليث األبعاد يف عقولنا ،فقد تتصورها من خالل تعميم تجربة ثنائية األبعاد.
هناك قياسات هندسية ميكن إجراؤها عىل سطح األرض ال تناسب إال كون هذا السطح كرويًا.
مثال ،أخربنا إقليدس قبل أكرث من عرشين قرنًا أن مجموع ثالث زوايا يف أي مثلث مرسوم عىل
ً
126
ورقة .°180إذا رسمت مثلثًا أحد زواياه ،°90فإن مجموع الزاويتني األخريني يجب أن يساوي
.°90إذن يجب أن تكون كل من هاتني الزاويتني أقل من ،°90كًّم يظهر يف الحالتني أدناه:
ولكن ،هذا ال يصح سوى عىل ورقة مسطحة .فعىل سطح كرة ،ميكنني أن أرسم مثلثًا
تكون فيه كل زاوية تساوي !°90ببساطة برسم خط عىل خط االستواء ،ثم الصعود عىل خط
طول حتى القطب الشًّميل ،ثم رسم °90والعودة عىل خط طول آخر إىل خط االستواء:
بشكل مشابه ،قد تتذكرون أن محيط الدائرة ذات نصف القطر rيساوي 𝑟𝜋 .2من
األسهل فهم هذا إن نظرنا إىل الكرة من الخارج:
127
لو مددنا مثلثات كبرية ،أو دوائر كبرية ،عىل سطح األرض ،ميكننا استخدام االنحرافات
من تنبؤات إقليدس لقياس انحنائها وسنستنتج أنها كرة .كًّم ميكن أن نرى من الرسوم ،ولكن،
حتى تنتج انحرافات معتربة عن تنبؤات السطح املسطح إلقليدس ،فيجب أن نحصل عىل أرقام
شديدة الكرب ،باملقارنة مع حجم الكرة األرضية .ميكننا بشكل مشابه استشعار الشكل الهنديس
دال من استخدام محيط الدوائر ،وهي طريقة جيدة لرسم انحناءات
لفضائنا ثاليث األبعاد .ب ً
سطح ثنايئ األبعاد ،ميكننا أن نستخدم عوض ذلك مساحة أو حجم الكرات .لو أخذنا كرة
كبرية مبا يكفي ذات قطر rمتمركزة عىل موقع األرض ،فإن الحجم داخل هذه الكرة سينحرف
عن تنبؤ إقليدس إذا كان فضاؤنا ثاليث األبعاد منحرفًا.
كيف ميكننا أن نقيس حجم كرة أبعادها كرس غري مهمل بالنسبة للكون املريئ؟ حسنًا،
لو افرتضنا أن حجم أي منطقة متناسب طر ًدا مع العدد الكيل للمجرات داخل تلك املنطقة ،فكل
ما يجب أن نفعله ،من حيث املبدأ ،هو عد املجرات كتابع للمسافة .لو كان الفضاء منحنيًا ،فيجب
جرب هذا ،يف الحقيقة ،يف 1986من قبل
أن نستطيع استشعار انحراف عن تنبؤ إقليدسُ .
عاملي فضاء شابني كانا حينذاك يف برينستون ،إ .لوه وإ .سبيالر ،وكانت النتائج التي أعلناها
تزعم تقديم دليل ألول مرة عىل أن الكون مسطح ،كًّم نتوقع نحن كفيزيائيني نظريني .لألسف،
فقد ظهر بعد إعالنهًّم عن نتائجهًّم بقليل بأن حاالت شك ،تعود بشكل أسايس لحقيقة أن
املجرات تتطور يف الزمن وتندمج ،تجعل من املستحيل استخدام البيانات التي كانت متاح ًة
حينها للوصول إىل أي استنتاج حاسم.
128
من الطرق األخرى الستشعار الشكل الهنديس للكون قياس الزاوية التي يغطيها جسم
مثال ،من الواضح
معروف كمسطرة مرفوعة أمام عينك مبسافة معروفة .عىل مست ٍو مسطحً ،
أن هذه الزاوية تستمر باالنخفاض مع ابتعاد املسطرة أكرث فأكرث:
يف بدايات تسعينيات القرن العرشين أجريت دراسة للزاوية التي تغطيها أجسام
مضغوطة ج ًدا يف مراكز مجرات بعيدة مقاسة بتلسكوبات راديوية حتى مسافات تبلغ نحو
نصف حجم الكون املريئ .كان سلوك هذه الزاوية مع تزايد املسافات من جديد متا ًما ما يتوقع
يف كون مسطح .أظهرنا أنا وزميل يل أن هذا االختبار فيه أيضً ا شكوك محتملة بسبب احتًّمل
التطور الكوين عرب الزمن لألجسام املرصودة.
يف 1998ظهرت فرصة مختلفة متا ًما وغري متوقعة الستخدام هذا اإلجراء تحدي ًدا
لتحديد الشكل الهنديس للكون ،بنا ًء عىل قياسات ما يعرف بإشعاع الخلفية الكونية امليكروي
(يس يب إم) ،التوهج الناتج عن االنفجار العظيم.
يأتينا هذا اإلشعاع ،الذي قيس ألول مرة يف عام ،1965من كل االتجاهات وهو ينتقل
عرب الفضاء بال إعاقة إىل حد كبري لنحو 14مليار سنة .كانت آخر مرة يتفاعل فيها هذا اإلشعاع
بشكل معتد به مع املادة عندما كان عمر الكون 100,000عام فقط وكانت درجة حرارته أعىل
بنحو 3,000درجة فوق الصفر املطلق يف مقياس كلفن .كنتيجة لذلك ،فعندما نرصد هذا
129
اإلشعاع اليوم يعطينا «صورةً» لسطح كروي ،عندما تفاعل اإلشعاع مع املادة آلخر مرة ،عىل
بعد أكرث من 14مليار سنة ضوئية.
يوفر هذا السطح الكروي طريق ًة مثالي ًة الستخدام الطريقة الهندسية املوصوفة سابقًا،
إذا أمكن املرء فقط إيجاد نوع من «املسطرة» عىل السطح الذي ميكننا قياس حجمه الزاوي.
لحسن الحظ فقد وفرت لنا الطبيعة مسطرة كهذه بفضل الجاذبية .مبا أن ثقالة املادة دو ًما
جاذبة ،فإن أي كتلة مادية ستنهار نحو الداخل إال إذا منعها نوع من الضغط من ذلك .قبل أن
برد الكون إىل ما دون 3,000درجة اتضح أن املادة ،عىل شكل هيدروجني بشكل رئييس،
شكال من الضغط كان ليمنع أي
ً كانت مؤين ًة بالكامل وتفاعلت بقوة مع اإلشعاع .شكل هذا
كتلة مادية حتى حجم معني من االنهيار.
ملاذا حتى حد معني فقط؟ حسنًا ،عندما كان عمر الكون فقط 100,000عام ،كان ميكن
ألي شعاع ضوء أن ينتقل نحو 100,000سنة ضوئية فقط .مبا أن ال معلومة ميكنها االنتقال
أرسع من الضوء ،فال الضغط وال حتى الجذب الثقايل املوضعي أمكنهًّم أن يؤثرا عىل الكتل
األوىل من املادة ذات األبعاد األكرب من نحو 100,000سنة ضوئية .ما أن برد الكون إىل ما
دون 3,000درجة ،وأصبحت املادة حيادية ،هبط ضغط اإلشعاع عىل املادة إىل نحو الصفر،
وأمكن الكتل املادية أن تبدأ باالنهيار ،مع كون أوىل الكتل التي تنهار هي تلك التي مل تكن تتأثر
بضغط اإلشعاع ،أي ،تلك الكتل التي كانت أبعادها نحو 100,000سنة ضوئيًا.
بقياس إشعاع الخلفية الكونية امليكروي ومحاولة رصد هذه الكتل وتحديد حجمها
ريا يف عام 1998محاولة
الزاوي ،مبعرفة حجمها املادي الذايت ،أمكن الفيزيائيني الكونيني أخ ً
ريا .وكانت اإلجابة (انظر الشكل أدناه) ،رمبا مبا
حد الشكل الهنديس للكون بشكل مبارش أخ ً
يدعو للدهشة ،بالضبط ما كان املنظرون يتخيلون أنها كان يجب أن تكون .يبدو أننا ،بدقة
كبرية إىل حد معقول ،نعيش يف كون مسطح.
تظهر الصورة العلوية صور ًة بألوان غري حقيقية إلشعاع الخلفية الكونية امليكروي يف
منطقة صغرية من السًّمء كًّم رصدها مسبار بومريانغ لألمواج امليكروية ،املطلق يف القطب
الجنويب يف .1998يف األسفل ثالث صور مولدة بالحاسوب تظهر الحجم املتوسط لتفاوتات
حا (ميني) أو مسط ًحا (الوسط).
درجات الحرارة املتوقعة لو كان الكون مغلقًا (يسار) أو مفتو ً
130
ولكن ،يف الوقت نفسه أظهرت التحديدات املبارشة للمحتوى املادي الكيل املصاحب
للمجرات والعناقيد املجرية ،مبا فيها املادة املظلمة ،بشكل قطعي أنه يشكل فقط 30باملئة من
الكثافة الطاقية الكلية املطلوبة للحصول عىل كون مسطح .الجدير بالذكر ،أن نسبة 70باملئة
الغامضة املفقودة هي بالضبط ما يقرتح وجوده يف الفضاء الخايل لتفسري تسارع الكون
املوصوف يف الفصل السابق .كل البيانات تتًّمسك إذا كنا نعيش يف كون عجيب تحتجب فيه
99باملئة من الطاقة الكلية عن النظر ،مع 30باملئة منها عىل شكل ،مع 30باملئة منها عىل
شكل مادة مظلمة ونحو 70باملئة عىل شكل طاقة مظلمة ،بشكل متوزع يف الفضاء الخايل!
من البديع كم تطور فهمنا للزمان واملكان منذ فك آينشتاين الروابط الخفية بينهًّم ألول
مرة .نحن نفهم اآلن أن الكون يف تجربتنا رباعي األبعاد يف الحقيقة ،يجب فيه عىل كل راصد
أو راصدة أن يحدد أو تحدد اآلن الخاص به أو بها ،وبفعل ذلك ،أن يقسم الزمكان لكيانات
منفصلة ندركها عىل أنها الزمان واملكان .علينا أن نفهم أن الزمان واملكان أيضً ا مرتبطان بشكل
ال ميكن فصله عن املادة والطاقة ،وأن انحناء الزمكان قرب األجسام ذات الكتلة فيًّم نرصده
عىل أنه جاذبية .وقد قسنا للتو انحناء كوننا ،مسلطني ضو ًءا جدي ًدا عىل تكوينه وتطوره
املستقبيل .قد نعيش يف كهف مجازي ،ولكن الظالل عىل الجدار قد وفرت حتى اآلن أدل ًة
سديدة عن وجود روابط جديدة رائعة تجعلنا أكرث قدرة عىل فهم الكون والتنبؤ به يف النهاية.
قبل أن أتعمق ،أريد العودة إىل عامل الظواهر اليومية إلنهاء هذا الفصل .لقد وعدت
بأمثلة أقرب إلينا ،ورغم أنني بدأت بيشء ببساطة الزمان واملكان ،فقد انتهى يب املطاف أن
تحدثت عن الكون ككل .ولكن الروابط الخفية ال تكمن منتظر ًة تبسيط صورتنا عن الكون يف
131
أقىص املقاييس امليكروية والكبرية وحسب .حتى عندما كانت تصنع االكتشافات الكربى عن
املكان والزمان واملادة التي وصفتها يف هذا الفصل ،فقد اكتشفت روابط جديدة عن طبيعة
مثال ،وبينها من االختالف ما بني املاء والحديد .كًّم سأصف يف الفصل
مواد غريبة كالشوفان ً
األخري ،بينًّم يشكل موضوع هذه االكتشافات موضوع الفيزياء اليومية ،فإن التبعات تشمل
تعيري طريقة تصورنا عن البحث عن النظرية «النهائية».
تبدو املواد اليومية بالغة التعقيد .ال بد من ذلك ألنها تختلف بشكل واسع يف سلوكها.
من أسباب كون الهندسة الكيميائية وعلم املواد مجاالت بذلك الغنى ،وكون الصناعة تدعم
أبحاث املواد بشكل بارز ،هو أن املواد ميكن تصميمها لتحقيق نحو أي خاصية ميكن طلبها.
مثال ،وهي
أحيانًا تطور املواد الجديدة بالصدفة .بدأت املوصلية الفائقة مرتفعة الحرارةً ،
موضوع اهتًّمم شديد حال ًيا ،وكأنها صدفة خيميائية من قبل باحثني يف مختربات آي يب إم
كانا يبحثان يف مجموعة جديدة من املواد عىل أمل إيجاد موصل فائق جديد ،ولكن دون أسباب
نظرية قوية تدعم طريقتهًّم .من جهة أخرى ،تطور املواد ،ويف أغلب األحيان ،بنا ًء عىل مزيج
مثال ،وهو العنرص األسايس يف
من الخربة التجريبية والتوجيه النظري .أطلق السيليكونً ،
األجهزة شبه املوصلة التي تدير حواسيبنا (وحيواتنا) مجاالً بحث ًيا للبحث عن مواد جديدة
بخواص قد تكون أكرث مالءم ًة لتطبيقات معينة ألنصاف النواقل.
حتى أبسط املواد وأكرثها انتشا ًرا تبدي أكرث السلوكات غراب ًة .سأذكر دامئًا أستاذ
الفيزياء يف الثانوية وهو يخربين ،ساخ ًرا ،بالطبع ،أن هناك شيئني يف الفيزياء يثبتان وجود
اإلله .األول ،املاء الذي ،رمبا وحده من بني كل املواد ،يتمدد عند تجمده .لو مل تكن هذه الخاصية
الغريبة كذلك ،لتجمدت البحريات من األدىن إىل األعىل بدل من األعىل إىل األسفل .مل تكن
األسًّمك لتنجو من الشتاء ،وما كانت الحياة كًّم نعرفها أن تتطور عىل األرجح .تاليًا ،أشار إىل
حقيقة أن «معامل التوسع» –أي ،مقدار متدد املادة عند تسخينها– يكاد يكون نفسه لإلسمنت
والفوالذ .لو مل تكن الحالة كذلك ،ملا كانت األبنية الكبرية الحديثة ممكن ًة ألنها ستتعرض يف
يل أن أعرتف أنني وجدت املثال الثاين أقل إقنا ًعا ،ألنني متأكد أنه
الصيف والشتاء للتحنيب( .ع ّ
لو مل يكن للفوالذ واإلسمنت نفس معامل التوسع ،لطورت مواد بناء أخرى تحقق ذلك).
بالعودة إىل مثالنا األول ،فإن حقيقة أن املاء ،والذي قد يكون أكرث مادة شيو ًعا عىل
األرض ،يتفاعل بشكل مختلف عن معظم املواد األخرى عند تجمده حقيقة مثرية .يف الواقع،
132
جا لكيفية تغري
بعي ًدا عن حقيقة أن املاء يتمدد عند تجمده ،فهو يوفر بكل معنى آخر أمنوذ ً
املواد عند تغري الظروف الفيزيايئ الخارجية .عند درجات الحرارة املوجودة عىل األرض ،يتجمد
«تحوال طوريًا» ألن طور املادة يتغري – من
ً املاء ويتبخر .يدعى كل تحول كهذا يف الطبيعة
الصلب إىل السائل إىل الغاز .من العدل القول إننا لو فهمنا األطوار والظروف التي تحكم
التحوالت الطورية ألي مادة ،علينا فهم معظم الفيزياء األساسية.
اآلن ،ما يجعل هذا األمر صع ًبا بشكل خاص هو أنه يف منطقة التحول الطوري ،تبدو
املادة يف أعقد شكل لها .عند غليان املاء ،تدوم تيارات إيدي املضطربة ،وتفقع الفقاعات بشكل
انفجاري من السطح .ولكن ،غال ًبا ما تكمن يف التعقيد بذور النظام .بينًّم قد تبدو البقرة
معقد ًة بشكل يفقد األمل ،فقد رأينا كيف تحكم حجج القياس البسيطة عد ًدا ملحوظًا من
خصائصها دون أن تتطلب منا تذكر كل التفاصيل .وبشكل مشابه ،ال ميكننا أن نأمل أب ًدا أن
نصف بشكل محدد تشكل كل فقاعة يف وعاء من املاء املغيل .مع ذلك ،ميكننا تحديد عدة مزايا
مثال ،عند درجة حرارة وضغط معينني ،وأن نخترب سلوكها
عامة تحرض دامئًا عندما يغيل املاءً ،
القيايس.
عىل سبيل املثال ،عند الضغط الجوي العياري ،عندما يكون املاء عند درجة الغليان،
ريا من املادة مختا ًرا بشكل عشوايئ .ميكننا أن نطرح عىل أنفسنا
حجًّم صغ ً
ً ميكننا أن ندرس
السؤال التايل :هل ستكون هذه املنطقة يف داخل فقاعة ،أم داخل املاء ،أم لن تكون أيًا من
مثال ،من الواضح أنه من غري
الحالتني؟ عىل مقاييس صغرية ،تكون األمور شديدة التعقيدً .
املنطقي وصف جزيء ماء واحد بأنه غازي أو سائل .هذا ألن متوضع العديد ،العديد من
مثال– هو ما مييز الغاز عن السائل .من
الجزيئات –كم تقرتب من بعضها بشكل وسطيً ،
الواضح أيضً ا أنه من غري املنطقي وصف مجموعة صغرية من الجزيئات املتحركة عىل أنها يف
حالة سائل أو بخار .وذلك ألنها بينًّم تتحرك وتتصادم ،ميكننا تخيل أنه يف أوقات ما يكون
جزء معتد به من الجزيئات بعيد مبا يكفي عن بعضه البعض لتصنيفه كبخار .ويف أوقات
سائال .بينًّم ،ما أن نصل إىل
ً أخرى ،قد تكون الجزيئات قريبة من بعضها مبا يكفي العتبارها
كاف من الجزيئات ،يصبح من املنطقي أن نسأل ما منطقة من حجم معني ،تحتوي عىل عدد ٍ
إذا كانت عىل شكل سائل أم غاز.
133
عندما يغيل املاء يف ظروف عيارية ،توجد فقاعات بخار املاء والسائل م ًعا .بالتايل يقال
إن املاء يخضع لتحول من «الرتبة األوىل» عند درجة الغليان °212 ،فهرنهايت عند مستوى
سطح البحر .ستستقر عينة عيانية بعد وقت ٍ
كاف متا ًما عند درجة الغليان وميكن تصنيفها
بشكل ال لبس فيه عىل أنها إما يف حالة سائلة أو غازية .كل منهًّم ممكن يف درجة الحرارة
هذه بالضبط .عند درجة حرارة أقل بكثري ،ستستقر العينة دامئًا يف الحالة السائلة؛ وعند درجة
حرارة أعىل بقليل ،ستستقر عىل شكل بخار.
عىل الرغم من التعقيد الدقيق للتحوالت املوضعية التي تحدث عند تحول املاء من السائل
إىل الغاز عند درجة حرارة الغليان ،هناك مقياس حجمي مميز ،عند ضغط محدد ،من املعقول
عنده سؤال ما الحالة التي يكون فيها املاء .بالنسبة لكل األحجام األصغر من هذا املقياس،
تحدث اهتزازات موضعية يف الكثافة بشكل رسيع يخفي التًّميز بني حالتي السائل والغاز.
بالنسبة لألحجام األكرب من لك ،ترتاوح الكثافة الوسطية مبقدار ضئيل مبا يكفي لكون هذه
العينة املعتربة متتلك إما خصائص الغاز أو السائل.
قد يكون من املفاجئ أن نظا ًما معق ًدا كهذا فيه هذا التجانس .هذا نتيجة حقيقة أن كل
نقطة من املاء تحتوي عىل عدد كبري من الجزيئات .بينًّم قد تترصف مجموعات صغرية منها
بشكل غريب األطوار ،فإن منها الكثري من الجزيئات التي تسلك سلوكًا وسطيًا إىل درجة أن
القلة التي تترصف بشكل منحرف ال تشكل فارقًا .األمر مشابه للناس ،عىل ما أفرتض .فبأخذ
الناس كأفراد ،لكل شخص أسبابه الخاصة للتصويت ملرشح سيايس .يحرض بعض الناس حتى
قوائم بأشخاص غري مرشحني ألشخاص محليني مختارين .ولكن ،هناك منا ما يكفي ،بحيث
حتى لو جرى التالعب باآلالت اإللكرتونية الحديثة ،أو ظهرت األخطاء نتيجة عدم اكتًّمل
الثقوب عىل أوراق التصويت ،أو محطات التلفاز عىل أساس استطالعات رأي الخارجني من
صناديق التصويت ،ما يزال بإمكاننا التنبؤ برسعة من سريبح وأن يكون تنبؤنا صحي ًحا غالبًا.
بشكل وسطي ،فإن كل اختالفاتنا تلغي بعضها.
مثال ،أن نسأل ما إذا كان القياس
باكتشاف نظام خفي كهذا ،ميكننا استغالله .ميكنناً ،
الذي يصبح عنده التمييز بني املاء والسائل ذا معنى يتغري عند تغيري مزيج الضغط ودرجة
الحرارة الذي يغيل املاء عنده .عندما نزيد الضغط ،وبالتايل نقلص الفارق بني كثافة بخار املاء
وسائل املاء ،تزداد درجة الحرارة التي يغيل عندها املاء .لو حققنا اآلن درجة الحرارة الجديدة
134
هذه ،نجد ،كًّم ميكنكم أن تتوقعوا بعد التفكري باألمر ،أنه بسبب أن الفرق يف الكثافة بني
البخار والسائل أصغر ،فإن املناطق التي ترتاوح بني الحالتني عند درجة حرارة الغليان تتزايد.
لو استمرينا بزيادة الضغط ،نجد أنه عند تقاطع معني للضغط ودرجة الحرارة ،يدعى
القيمة الحرجة ،يفشل التمييز بني الغاز والسائل يف اكتساب أي معنى عىل اإلطالق ،حتى يف
عينة النهائية .عىل كل املقاييس ،تحدث تفاوتات يف الكثافة كبرية مبا يكفي لجعل تصنيف
مستحيال .قبل درجة الحرارة هذه بقليل ،تكون كثافة املادة
ً املادة املعتربة كسائل أو غاز أم ًرا
مناسب ًة للسائل ،وفوقها بقليل ،تكون مناسب ًة للغاز .ولكن عند درجة الحرارة الحرجة هذه ،ال
يكون املاء أيًا منهًّم أو يكون كليهًّم م ًعا ،حسب وجهة نظرك.
التموضع املحدد للًّمء عند النقطة الحرجة مذهل .عىل كل املقاييس ،تبدو املادة نفسها
متا ًما .املادة «تشابه نفسها» بزيادة املقياس الذي تدرسونه .لو كان لكم التقاط صورة عالية
التكبري ملنطقة صغرية ،مع متثيل اختالفات الكثافة باختالفات يف اللون ،فهي ستبدو كصورة
مأخوذة عند تكبري عادي ،بنفس أنواع التباينات ولكن بتمثيل املناطق املدروسة ألحجام أكرب
بكثري .يف الحقيقة ،يف املاء عند النقطة الحرجة ،تحدث ظاهرة تدعى الربيق الحرج .وألن
التفاوتات يف الكثافة تحدث عىل كل املقاييس ،فإن هذه التفاوتات تنرش ضو ًءا من كل األطوال
املوجية ،وال يعود املاء صافيًا فجأة ،بل يصبح ضبابيًا.
متًّمثال عىل كل
ً ذهاال يف حالة املاء هذه .ألنه يبدو إىل حد ما
بل هناك حتى يشء أكرث إ ً
املقاييس –ما يدعى الالتباين املقيايس– فإن طبيعة البنية املجهرية للًّمء (أي ،حقيقة أن
جزيئات املاء مصنوعة من ذريت هيدروجني وذرة أكسجني) ال تعود ذات صلة .كل ما مييز
مثال ،أن يحدد املناطق ذات الفائض القليل
النظام يف النقطة الحرجة هو الكثافة .ميكن للمرءً ،
يف الكثافة بوسم 1+واملناطق ذات العجز بوسم .1-ولكل النوايا واألغراض ،يبدو املاء عىل
أي قياس عندها تخطيطيًا عىل هذا النحو تقريبًا:
135
هذا أكرث من مجرد تبسيط صوري .إن حقيقة أن املاء ميكن متييزه فيزيائ ًيا عىل كل
املقاييس فقط بدرجة الحرية الفعالة الوحيدة هذه ،التي ميكن أن تأخذ هاتني القيمتني ،تحدد
متا ًما طبيعة التحول الطوري يف املنطقة الخاصة بالنقطة الحرجة هذه .هذا يعني أن التحول
الطوري بني السائل والغاز للًّمء يصبح مطابقًا متا ًما للتحول الطوري يف أي مادة أخرى،
والتي ميكن عند النقطة الحرجة الخاصة بها وصفها بسلسلة من إشارات .1±
مثال ،لنأخذ الحديد .قلة من الناس ميكن أن تخطئ بني كتلة من الحديد وبني كأس ماء.
ً
اآلن ،أي شخص يلعب باملغانط يعلم ،أن الحديد ميكن مغنطته يف وجود مغناطيس .ما يحدث
كال من ذرات الحديد مغناطيس صغري ،بقطب جنويب وشًّميل.
عىل املقياس املجهري هو أن ً
يف الظروف العادية ،عند عدم وجود مغانط أخرى قريبة ،تصطف ذرات الحديد هذه بشكل
عشوايئ ،بحيث تلغي حقولها املغناطيسية الفردية بعضً ا لعدم إنتاج حقل مغناطييس عياين.
ولكن ،عند تأثري مغناطيس خارجي ،تصطف كل املغانط الذرية يف الحديد باتجاه الحقل
مغناطيسا حديديًا عيان ًيا .لو كان الحقل املغناطييس يشري إىل األعىل،
ً الخارجي نفسه ،ما ينتج
فكذلك ستفعل كل املغانط الذرية يف الحديد .ولو اتجه إىل األسفل ،فهي ستتجه كذلك إىل
األسفل.
اآلن لنأخذ قطع ًة مثالي ًة من الحديد ،تقيد املغانط الذرية فيها لتشري فقط إىل األعىل أو
األسفل ،ولكن دون أي اتجاه آخر .عند درجات حرارة منخفضة ،إذا حرض حقل مغناطييس
خارجي يبدأ قيم ًة ما تشري إىل األعىل ،تصطف كل املغانط الذرية بهذا االتجاه .ولكن إذا تناقص
الحقل الخارجي إىل الصفر ،فلن مييل عىل املغانط الذرية إىل أي اتجاه تشري .يتضح أن من
136
املرجح طاق ًيا وسط ًيا لكل منها أن تشري إىل االتجاه نفسه الذي تشري به الذرات األخرى ،ولكن
االتجاه الذي تختاره عشوايئ .قد تشري إما إىل األعىل أو األسفل .هذا يعني أن مغناطيس ًيا
حدي ًدا كهذا قد يكون له تحول طوري .بينًّم يصل الحقل الخارجي إىل الصفر ،فإن املغانط
الذرية الصغرية التي كانت تتبع هذا الحقل ميكنها اآلن ،بسبب اهتزاز حراري عشوايئ ما ،أن
تصطف بشكل عشوايئ إىل األسفل عىل امتداد العينة.
رياض ًيا ،يبدأ هذا مبحاكاة حالة املاء .بتعويض «يشري إىل األعىل» محل «فائض كثافة»
و«يشري إىل األسفل محل «عجز كثافة» .متا ًما كًّم يف حالة املاء ،يجد املرء أنه ملغناطيس كهذا
عند عدم وجود حقل مغناطييس خارجي ،هناك مقياس مميز بحيث لو فحص املرء العينة عىل
مقاييس أصغر منه ،يظل من املمكن أن تتغري جهة االهتزازات الحرارية يف االتجاه الذي تشري
ٍ
صاف .عىل إليه املغانط .فسيكون من املستحيل القول إن املنطقة لها أي توجه مغناطييس
مقاييس أكرب من هذا /لن تكون االهتزازات الحرارية قادرة عىل التسبب بتغيري التوجه
املغناطييس الوسطي وسيظل ثابتًا .إضافة إىل ذلك ،فبينًّم يزيد املرء درجة الحرارة مع اإلبقاء
عىل صفرية الحقل املغناطييس الخارجي ،فسيكون للعينة نقطة حرجة .عند هذه النقطة،
ستحافظ تغريات االتجاه عىل مدى العينة بأكملها عىل نفسها بذات الطريقة عىل كل املقاييس،
بحيث يكون من غري املجدي محاولة تصنيف الجسم حسب توجه مغانطه الذرية ،حتى يف
عينة النهائية.
ومغناطيسا كهذا نفس اليشء بالضبط.
ً ما يهم هنا هو أنه ،عند النقطة الحرجة ،فإن املاء
حقيقة أن البنية املجهرية الفعلية لالثنني مختلفة متا ًما غري مهمة إطالقًا .ألن التباينات يف
املادة عند النقطة الحرجة تتميز بدرجتي حرية فقط –أعىل وأسفل ،أو فائض الكثافة
ومنخفض الكثافة– عىل كل املقاييس ،حتى تلك األكرب بكثري من املقاييس املجهرية ،ال تتحسس
سائال
ً الفيزياء للفروق املجهرية .سلوك املاء وهو يقرتب من نقطته الحرجة ،املعلمة مبا إذا كان
أو غازًا ،مطابق متا ًما لسلوك املغناطيس ،املعلم مبا إذا كانت نقاط حقله متجهة لألعىل أو
األسفل .أي قياس ميكنكم أخذه ألحد النظامني سيكون مطابقًا متا ًما للنظام اآلخر.
حقيقة أن بإمكاننا استخدام خصائص املقاييس ألنظمة مختلفة ،يف هذه الحالة
التباينها املقيايس قرب النقطة الحرجة ،إليجاد التجانس والرتابة فيًّم يبدو سوى ذلك وض ًعا
بالغ التعقيد من أعظم نجاحات ما أصبح يعرف بفيزياء املادة املكثفة .هذه املقاربة ،التي أحدثت
137
ثور ًة يف كيفية فهمنا لفيزياء الجسيًّمت ،كان روادها يف ستينيات وسبعينيات القرن العرشين
مايكل فيرش وكينث ويلسون يف كورنيل وليو كادانوف يف جامعة شيكاغو .استوردت األفكار
املطورة يف هذا االكتشاف عىل امتداد الفيزياء حيثًّم كانت تظهر التعقيدات الخاصة باملقياس.
منح ويلسون جائزة نوبل يف عام 1982عن تحقيقاته يف إمكانية تطبيق هذه األساليب لفهم
ليس سلوك املاء وحده بل أيضً ا الجسيًّمت األولية ،كًّم سأصف يف الفصل األخري .ما يهم هنا
هو كيف كشفوا عن الوحدة الكامنة املصاحبة للعامل املادي املتنوع واملعقد الذي نتعامل معه
بشكل يومي .ليس عىل املقاييس دون املجهرية الخاصة بالجسيًّمت األولية وال املقاييس التي
قد تكون النهائية للكون وحدها ميكن للروابط الخفية أن تبسط الواقع .فكروا بذلك يف كل مرة
يصفر إبريق الشاي ،أو يف املرة التالية التي تستيقظون فيها وترون رقاقات الثلج عىل النافذة.
138
الجزء الثالث
مبادئ
139
الفصل الخامس
البحث عن التناظر
عندما يفكر الفنان يف التناظرات ،قد يفكر يف احتًّمالت ال نهاية لها ،مثل رقاقات الثلج ،أو
األملاس ،أو انعكاسات سطح الربكة .أما الفيزيايئ إذا فكّر يف التناظر ،يفكر يف املستحيالت
الالمتناهية .إن اكتشاف ما يحدث ليس الدافع الحقيقي خلف الفيزياء ،بل اكتشاف ما ال يحدث.
الكون مكان كبري ،والتجربة علمتنا أن كل ما ميكن حدوثه يحدث .ما يعطي الكون نظامه
حقيقة أننا نستطيع البت بدقة مطلقة بعدم حدوث بعض األشياء أب ًدا .قد يتصادم نجًّمن مر ًة
واحد ًة فقط كل مليون سنة يف كل مجرة ،وهو أمر يبدو ناد ًرا .ومع ذلك ،إذا جمعنا كل املجرات
املعروفة ،فإن ذلك يعني عدة آالف من هذه األحداث سنويًا يف الكون املريئ .عىل أي حال،
ميكنك االنتظار 10مليارات سنة ولن تلمح أب ًدا كر ًة تسقط عىل األرض .هذا هو النظام.
والتناظر ميثل األداة املفاهيمية األهم يف الفيزياء الحديثة تحدي ًدا ألنه يوضح تلك األشياء التي
ال تتغري أو ال ميكن أن تحدث.
140
عىل عقب ،وستظل تبدو كًّم هي .مل يتغري يشء! ولكن مبا يفيدنا هذا؟ حسنًا ،ألن ال دورانًا أو
انقالبًا ميكنه التأثري يف الكرة ،فإن الوصف الكامل لهذا الكائن ُمختزل إىل متغري واحد ،وهو
نصف القطر .ولهذا السبب ،أمكننا وصف التغريات يف خصائصه من طريق قياس هذا املتغري
الواحد فحسب .إن هذه امليزة عامة :كلًّم كان اليشء أكرث تناسقًا ،قل عدد املتغريات الالزمة
لوصفه بالكامل.
ال ميكنني أن أبالغ يف الحديث عن أهمية هذه امليزة ،وسأثني عليها أكرث يف وقت الحق.
حال ًيا ،من املهم الرتكيز عىل الكيفية التي متنع بها التناظرات التغيري .أحد أكرث األشياء إثار ًة
للدهشة يف العامل ،كًّم أشار شريلوك هوملز لواتسون الحائر ،حقيقة أن بعض األشياء ال تحدث.
ال تبدأ الكرات يف االرتداد تلقائ ًيا إىل أعىل الدرج ،وال تلتقط نفسها وتتدحرج يف الردهة .ال
تسخن أحواض املاء تلقائ ًيا ،وال يرتفع الن ّواس يف الدورة الثانية أعىل مًّم كان عليه يف الدورة
األوىل .كل هذه امليزات نابعة من تناظرات الطبيعة.
بدأت أعًّمل الفيزيائيني الرياضيني الكالسيكيني يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش
باالعرتاف بهذه الحقيقة ،مثل أعًّمل جوزيف لويس الغرانج يف فرنسا ،والسري ويليام روان
هاملتون يف إنجلرتا ،اللذين أطّرا ميكانيكا نيوتن يف إطار ريايض أكرث عمومي ًة واتساقًا.
أمثرت أعًّملهًّم يف النصف األول من هذا القرن عىل يد عاملة الرياضيات األملانية الالمعة إميي
نويرث .لسوء الحظ ،فإن ذكائها الشديد مل يساعدها يف عامل الرجال؛ أُلغي منصبها املؤقت وغري
املدفوع يف قسم الرياضيات املتميز يف جامعة غوتنغن مبوجب قوانني معادية للسامية عام
– 1933رغم الدعم الذي تلقته من أعظم عامل رياضيات يف ذلك الوقت ،ديفيد هيلربت( .الذي
جادل أمام أعضاء هيئة التدريس يف غوتنغن ،دون جدوى ،بأنهم جزء من جامعة ال مؤسسة
استحًّمم .من املؤسف أن كليات الجامعة مل تكن أب ًدا مصد ًرا للوعي االجتًّمعي).
يف نظرية تحمل اسمها ،أظهرت نويرث نتيج ًة رياضية ذات أهمية كبرية للفيزياء .وبعد
أساسا عىل
ً تلك الواقعة ،تبدو نظرية نويرث معقول ًة إىل حد كبري .تسري صياغتها يف الفيزياء
النحو التايل :إذا كانت املعادالت التي تحكم السلوك الدينامييك لنظام فيزيايئ ال تتغري عند
141
تطبيق تحول ما عىل النظام ،فيجب أن توجد كمية فيزيائية ما تكون محفوظ ًة يف حد ذاتها
لكل تحول من هذا القبيل ،مبعنى أنها ال تتغري مبرور الوقت.
يساعد هذا االكتشاف البسيط عىل تفسري أحد أبرز املفاهيم التي يساء فهمها يف العلوم
الشعبية (مبا فيها العديد من النصوص الجامعية) ألنه يساعد عىل توضيح سبب استحالة
مثال ،االخرتاع املفضل للعلًّمء غريبي األطوار .كًّم
بعض األشياء .فكّر يف آالت الحركة األبدية ً
خدعوا لالستثًّمر فيها.
رشحت يف الفصل األول ،قد تكون متطورة ج ًدا ،والعديد من العقالء ُ
ميثل قانون حفظ الطاقة السبب النموذجي لفشل معظم اآلالت من هذا النوع يف العمل.
وحتى دون تعريفها بدقة ،ميلك معظم الناس فكر ًة بديهي ًة جيد ًة إىل حد ما عن ماهية الطاقة،
إذ إن رشح سبب استحالة وجود مثل هذه اآلالت رشح سهل نسب ًيا .تأمل مر ًة أخرى األداة
الغريبة املوضحة يف الصفحة .12وكًّم وصفت هناك ،بعد دورة كاملة واحدة ،سيعود كل جزء
من أجزائها إىل موضعه األصيل؛ فإذا كان يف حالة سكون يف بداية الدورة ،يجب أن يكون يف
حالة سكون عند نهايتها .وإال سيختزن طاق ًة إضافي ًة يف نهاية الدورة عًّم كانت عليه يف
البداية .ال بد من إنتاج الطاقة يف مكان ما؛ ومبا أن شيئًا مل يتغري يف اآللة ،فال ميكن إنتاج أي
طاقة.
لكن املخرتع العنيد قد يقول يل« :كيف أعرف يقينًا أن الطاقة محفوظة؟ ما الذي يجعل
هذا القانون ممي ًزا حتى ال ميكن انتهاكه؟ قد تدعم جميع التجارب الحالية هذه الفكرة ،ولكن
رمبا توجد طريقة للتغلب عليها .سابقًا ،ظنوا أن آينشتاين كان مجنونًا أيضً ا!».
مثة بعض املزايا يف هذا االعرتاض .ال ينبغي لنا تصديق يشء عىل أساس اإلميان .وهكذا
تخرب هذه الكتب كلها الطالب الجامعيني أن الطاقة محفوظة (وحتى أنهم يستفيدون منها).
يُقال إن هذا قانون عاملي للطبيعة ،ينطبق عىل الطاقة بجميع أشكالها .ولكن يف حني أن هذه
خاصية مفيدة ج ًدا للطبيعة ،فإن سؤال ملاذا؟ يبقى السؤال املهم .أعطتنا إميي نويرث اإلجابة،
ويخيب أميل بسبب عدم اكرتاث العديد من النصوص الفيزيائية بالذهاب إىل هذا الحد .إن مل
ترشح سبب وجود مثل هذه الخاصية الرائعة ،ستتعزز فكرة اعتًّمد الفيزياء عىل مجموعة من
القواعد الغامضة عالية الدرجة ،يجب حفظها وال يطالها إال مجموعة محددة.
142
فلًّمذا الطاقة محفوظة؟ تخربنا نظرية نويرث أن السبب مرتبط بتناظر يف الطبيعة.
وأذكرك أن تناظر الطبيعة يخربنا أن تطبيق بعض التحوالت ،لن يغري بقاء كل يشء عىل حاله.
يف الواقع ،يرتبط حفظ الطاقة بالتناظر نفسه الذي يجعل الفيزياء ممكنة .نعتقد أن قوانني
الطبيعة ستكون نفسها غ ًدا كًّم هي اليوم .إذا مل يكن األمر كذلك ،سيتعني علينا الحصول عىل
نص فيزيايئ مختلف لكل يوم من أيام األسبوع.
لذلك نعتقد ،وهذا افرتاض إىل حد ما –ولكنه ،كًّم سأبني ،افرتاض قابل لالختبار– أن
جميع قوانني الطبيعة ثابتة ،أي أنها ظلت دون تغيري ،يف ظل الرتجمة الزمنية؛ هذه طريقة
رائعة للقول إنها نفسها بغض النظر عن وقت قياسها .لكننا إذا قبلنا هذا يف الوقت الحايل،
حاسًّم (أي رياض ًيا) لزوم وجود كمية ،ميكن أن نطلق عليها طاقة،
ً فيمكننا أن نبني تبيانًا
تكون ثابت ًة مبرور الوقت .وهكذا ،مع اكتشاف قوانني جديدة للطبيعة ،ال داعي للقلق يف كل
تغري املبادئ
مرحلة من حدوث انتهاك ما لقانون حفظ الطاقة .كل ما علينا أن نفرتضه هو عدم ّ
الفيزيائية األساسية مبرور الوقت.
رمبا ليس من السخافة التساؤل عن تطور قوانني الطبيعة املحتمل مبرور الوقت ،وفق
مقياس زمني ما عىل أقل تقدير .فالكون نفسه يف نهاية املطاف يتوسع ويتغري ،ورمبا صياغة
القوانني الفيزيائية الدقيقة تكون مرتبط ًة بطريقة أو بأخرى بحالة الكون املريئ .يف الواقع،
اقرتح ديراك هذه الفكرة يف ثالثينيات القرن العرشين .مثة أرقام كبرية ومتنوعة متيز الكون
املريئ ،مثل عمره ،وحجمه ،وعدد الجسيًّمت األولية فيه ،وما إىل ذلك .مثة أيضً ا بعض األرقام
الصغرية ذات األهمية ،مثل قوة الجاذبية .اقرتح ديراك أن قوة الجاذبية رمبا تختلف مع توسع
143
ريا طبيع ًيا سبب ضعف
الكون ،وتصبح أضعف مبرور الوقت! اعتقد أن هذا قد يفرس تفس ً
الجاذبية اليوم مقارن ًة بالقوى األخرى يف الطبيعة .الكون قديم!
أُجريت منذ اقرتاح ديراك اختبارات عديدة مبارشة وغري مبارشة للتحقق من تغري قوة
الجاذبية ،وكذلك تغري قوة القوى األخرى يف الطبيعة مبرور الوقت .يف الواقعُ ،وضعت حدود
فيزيائية فلكية وأرضية صارمة للغاية عىل اختالف الثوابت األساسية ،ومل يُالحظ أي دليل
قاطع عىل االختالف .ادعت إحدى املجموعات امتالك أدلة ،بنا ًء عىل مالحظات طيف الضوء
من مصادر بعيدة ،عىل اختالف محتمل مبقدار جزء واحد من 100,000يف قوة
الكهرومغناطيسية عىل مدى العرشة مليارات سنة املاضية ،ولكنه ادعاء يبقى يف الوقت
الحارض بال تأكيد مستقل ،تأكيد سهل وفق العديد من الفيزيائيني بسبب التفاعالت الذرية
املعقدة التي يجب أخذها بعني االعتبار .وعىل جبهات أخرى ،فإن مالحظات وفرة العنارص
الخفيفة التي نشأت يف االنفجار األعظم مقارن ًة بالتنبؤات النظرية التي حصلنا عليها باستخدام
مثال إىل
الثوابت األساسية الحالية يف الحسابات متثّل مالحظات جيد ًة مبا فيه الكفاية لإلشارة ً
أن قوة الجاذبية ال ميكنها أن تتغري بأكرث من نحو %20خالل 10مليارات سنة أو نحو ذلك
منذ أن كان عمر الكون ثاني ًة واحد ًة فقط! وعليه ،فإن الجاذبية حسب معلوماتنا ال تتغري مع
مرور الوقت.
عىل أي حال ،حتى لو كانت صياغة القوانني الفيزيائية الدقيقة مرتبط ًة بطريقة ما بحالة الكون
املريئ ،فإننا نتوقع أن تظل املبادئ الفيزيائية األساسية التي تربط االثنني م ًعا ثابتة .يف هذه
تعميًّم يبقيها محفوظة .نحن دامئًا أحرار
ً الحالة ،سيبقى ممكنًا دامئًا تعميم تعريفنا للطاقة
يف تعميم ما نعنيه بالطاقة مع ظهور مبادئ فيزيائية جديدة عىل مقاييس أكرب أو أصغر .لكن
هذا اليشء ،الذي ميكننا أن نسميه الطاقة ،يظل محفوظًا ،طاملا أن هذه املبادئ ال تتغري مع
مرور الوقت.
لقد أتيحت لنا بالفعل مناسبات عدة ملراجعة مفهومنا للطاقة .واملثال األوضح هنا يتعلق
بنظريات آينشتاين العامة والخاصة للنسبية .وأذكرك أن هذه تشري ضم ًنا إىل أن املراقبني
144
املختلفني قد يقيسون الكميات األساسية قياسات مختلفة ،لكنها قياسات صالحة بالقدر نفسه.
ونتيجة ذلك ،يجب اعتبار هذه القياسات نسبي ًة إىل مراقب محدد وليس كعالمات مطلقة.
يجب علينا اآلن ،عند محاولة فهم الكون ككل ،أو فهم أي نظام تصبح فيه تأثريات
الجاذبية قوية ،استخدام تعميم الطاقة املتوافق مع انحناء الزمكان .ولكننا إذا نظرنا إىل
ديناميكيات الكون عىل مقاييس صغرية مقارنة بحجم الكون املريئ ،نجد أن تأثريات االنحناء
تصبح صغرية .يف هذه الحالة ،يُختزل التعريف املناسب للطاقة إىل شكله التقليدي .وهذا
بدوره يقدم مثاالً عىل مدى قوة حفظ الطاقة ،حتى عىل املقاييس الكونية .إن حفظ الطاقة هو
الذي يحدد مصري الكون ،كًّم أصفه اآلن.
يقال« :ما طار طري وارتفع إال كًّم طار وقع» .هذا خاطئ بالطبع ،مثله مثل العديد من
األقوال القدمية .نحن نعلم من تجربتنا مع املركبات الفضائية أن إطالق يشء ما إىل أعىل من
سطح األرض حتى ال يسقط مرة أخرى أمر ممكن .يف الواقع ،نحتاج إىل رسعة متجهة كونية
(الرسعة نفسها لجميع األجسام) من أجل الهروب من جاذبية األرض( .لو مل يكن األمر كذلك،
لكانت بعثات أبولو إىل القمر أكرث صعوبة .وتصميم املركبة الفضائية سيأخذ يف االعتبار
مثال) .إن حفظ الطاقة مسؤول عن وجود رسعة الهروب (اإلفالت)
حا وزن كل رائد فضاء ً
وضو ً
الكونية.
ميكننا تعريف طاقة أي جسم يتحرك يف جاذبية األرض بداللة جزأين .يعتمد األول عىل
رسعة الجسم؛ كلًّم زادت رسعته ،زادت كمية طاقة الحركة هذه ،التي تسمى الطاقة الحركية
،kinetic energyمن الكلمة اليونانية kineticالتي تعني حركة .وطاقة األجسام الساكنة
الحركية تساوي الصفر .يسمى الجزء الثاين من الطاقة التي ميكن أن ميتلكها الجسم يف مجال
الجاذبية الطاقة الكامنة .potential energyإذا كان البيانو الكبري معلقًا بحبل عىل ارتفاع
خمسة عرش طابقًا ،فإننا نعلم أن فيه القدرة عىل إحداث رضر كبري .كلًّم ارتفع يشء ما ،زادت
الطاقة الكامنة فيه ،ألن العواقب أكرب رمبا يف حال سقوطه.
تُع ّد الطاقة الكامنة لألجسام املنفصلة جي ًدا كمي ًة سلبية .هذه مجرد اتفاقية ،ولكن
املنطق خلفها هو التايل :يُع ّرف الجسم الساكن املوجود عىل مسافة ال نهائية من األرض أو أي
145
جسم ضخم آخر بطاقة جاذبية صفرية املحصلة .ومبا أن الطاقة الحركية ملثل هذا الجسم
تساوي صف ًرا ،فإن طاقته الكامنة يجب أن تكون صف ًرا أيضً ا .ولكن مبا أن طاقة األشياء الكامنة
تتناقص كلًّم اقرتبت أكرث فأكرث من بعضها –كًّم يحدث يف حالة البيانو عندما يقرتب من
األرض– فإن هذه الطاقة يجب أن تصبح أكرث سلبي ًة عندما تجتمع األشياء م ًعا.
إذا التزمنا بهذه االتفاقية ،فإن جزأي طاقة الجاذبية ألي جسم يتحرك بالقرب من سطح
األرض لهًّم إشارتني متعارضتني – واحدة موجبة واألخرى سالبة .ميكننا بعد ذلك أن نسأل
عن مجموعهًّم :أكرب من الصفر أم أصغر منه .هذه القضية الحاسمة .ألن الطاقة إذا كانت
محفوظة ،فإن الجسم الذي يبدأ بطاقة جاذبية إجًّملية سلبية لن يتمكن أب ًدا من الهروب دون
العودة .ومبجرد أن يبتعد إىل ما ال نهاية ،حتى لو تباطأ حتى توقف ،فسيكون إجًّميل طاقته
صف ًرا ،كًّم وصفت أعاله .وهذا بالطبع أكرب من أي قيمة سالبة ،وعليه إذا بدأ إجًّميل الطاقة
بالسالب ،فال ميكن أب ًدا أن يصبح موج ًبا ،أو حتى صف ًرا ،إال إذا أضفت طاق ًة بطريقة أو بأخرى.
إن الرسعة التي تكون فيها الطاقة الحركية األولية (املوجبة) مساوي ًة متا ًما للطاقة الكامنة
(السالبة) ،إذ يكون إجًّميل الطاقة األولية صف ًرا ،هي رسعة اإلفالت .escape velocityميكن
ملثل هذا الجسم ،من حيث املبدأ ،الهروب دون العودة .ومبا أن كال شكيل الطاقة يعتمد
بالطريقة نفسها عىل كتلة الجسم ،فإن رسعة اإلفالت ال تعتمد عىل الكتلة .فمن سطح األرض
مثال ،تبلغ رسعة اإلفالت نحو 10كيلومرتات يف الثانية ،أو نحو 20ألف ميل يف الساعة.
ً
إذا كان الكون متناحيًا –متساوي الخواص يف جميع االتجاهات– فإن توسع الكون إىل
األبد من عدمه يعادل استمرار مجموعة متوسطة من املجرات املنفصلة جي ًدا بالتحرك بعي ًدا عن
بعضها إىل أجل غري مسمى من عدمه .وباستثناء مصادر الطاقة الجديدة والغريبة ،مثل طاقة
الفضاء الفارغ ،التي سنتناولها بعد قليل ،فإن هذا مطابق للتساؤل حول هبوط الكرة املقذوفة
من األرض من عدمه .يف هذه الحالة ،إذا كانت رسعة املجرات النسبية ،بسبب توسع الخلفية،
كبري ًة مبا يكفي للتغلب عىل الطاقة الكامنة السلبية بسبب تجاذبها املتبادل ،فسوف تتابع
املجرات التحرك بعي ًدا .إذا كانت طاقتها الحركية متوازن ًة متا ًما مع طاقتها الكامنة ،سيكون
إجًّميل طاقة الجاذبية صف ًرا .ستستمر املجرات بعد ذلك يف التحرك بعي ًدا عن بعضها إىل األبد،
لكنها ستتباطأ مبرور الوقت ،ولن تتوقف أب ًدا حتى تصبح (أو ما تبقى منها) بعيد ًة عن بعضها
146
بع ًدا ال نهائ ًيا .لو تذكرون وصفي لكون مسطح نعتقد أننا نعيش فيه؛ هكذا وصفته .وعليه ،إذا
كنا نعيش يف كون مسطح اليوم ،فإن إجًّميل طاقة (الجاذبية) الكون بأكمله صفري .وهذه
مذهال للغاية.
ً قيمة خاصة ،وأحد األسباب التي تجعل الكون املسطح
أبديت تحفظًا مفاده أن الحجج املذكورة أعاله بُنيت عىل االفرتاض املعقول القائل بعدم
وجود مصادر جديدة غريبة للطاقة يف الكون ،مثل طاقة الفضاء الفارغ .عىل أي حال ،رأينا
أن هذا االفرتاض املعقول غري صحيح يف الواقع .ميكن املرء االستغناء عن ذلك ،ولكن ما يعنيه
غري كل يشء ،فعندها تنتهي كل الرهانات :ميكن الكون املفتوح االنهيار ،وميكن الكون
هذا ت ّ
املغلق التوسع األبدي ،اعتًّم ًدا عىل إشارة عنرص الطاقة اإلضايف هذا وحجمه .ولكن هذا ال
أساسا ،ألن حساب الطاقة حسابًا صحي ًحا سيظل يحدد مستقبل الكون.
ً يحدث
مثال الكون الذي يبدو أننا نعيش فيه ،وهو مسطح ،ما يعني أن إجًّميل طاقة
لنأخذ ً
جاذبيته صفري ،ومع ذلك ،يبدو أن الجزء األكرب من هذه الطاقة موجود يف الفضاء الفارغ.
يف هذه الحالة سوف يتوسع الكون املرصود إىل األبد ،مع استمرار معدل التوسع يف الزيادة
بدال من التناقص كًّم أوضحنا سابقًا بالنسبة إىل الكون املسطح .ما الذي تغري؟ حسنًا ،ألن
ً
طاقة الفضاء الفارغ تنافر الجاذبية ،اتضح أن إجًّميل الطاقة املوجودة يف أي منطقة متوسعة
وبدال من ذلك ،فإن الكون يؤثر يف هذه املنطقة يف أثناء توسعه .ويعني هذا
ً ال يظل ثابتًا.
العمل اإلضايف استمرار ضخ طاقة إضافية يف الكون املتوسع ،ما يسمح لها بالتسارع رغم أن
إجًّميل طاقة الجاذبية يظل صف ًرا.
ريا ،فإن نهاية الكون بانفجار أو بأنني صامت من عدمها مسألة تقررها الطاقة ،غريب ًة
أخ ً
كانت أو غري ذلك .إن اإلجابة عىل أحد األسئلة األكرث عمقًا يف الوجود البرشي –كيف سينتهي
الكون؟– ممكنة من طريق قياس رسعة توسع مجموعة معينة من املجرات ،وقياس كتلتها
ريا تقرير توافر «الطاقة املظلمة» املحتملة وطبيعتها .لن نعرف العملة التي
اإلجًّملية ،وأخ ً
ستحكم حسابات الطاقة حتى نكتشف طبيعة الطاقة املظلمة الغامضة التي تشكل حال ًيا %70
من طاقة الكون .لكن مصري الكون غري املحدد حال ًيا سيغدو يف نهاية املطاف مجرد مسألة
حسابات طاقة بسيطة.
147
***
مثة تناظر آخر للطبيعة يسري جن ًبا إىل جنب مع ثبات الرتجمة الزمنية .فكًّم أن قوانني الطبيعة
ال تعتمد عىل الزمان الذي تقيسها فيه ،فال ينبغي لها االعتًّمد عىل املكان الذي تقيسها فيه.
وكًّم أوضحت لبعض الطالب ،إن مل يكن األمر كذلك ،فسنحتاج إىل فصل درايس متهيدي يف
الفيزياء ،ليس فقط يف كل جامعة ولكن يف كل مبنى!
إن نتيجة هذا التناظر يف الطبيعة وجود كمية محفوظة تسمى الزخم ،يعرفها معظمكم
باسم العطالة – حقيقة أن األشياء التي بدأت تتحرك متيل إىل االستمرار يف الحركة واألشياء
التي ما تزال ثابت ًة تظل عىل هذا النحو .إن مبدأ حفظ الزخم هو املبدأ الكامن وراء مالحظة
غاليليو استمرار األجسام بتحركها برسعة ثابتة ما مل تؤثر فيها بعض القوى الخارجية .أطلق
ديكارت عىل الزخم اسم «كمية الحركة» ،واقرتح بداي ًة كونه ثابتًا يف الكون« ،معطى من الله».
نحن نفهم اليوم أن هذا التأكيد عىل رضورة حفظ الزخم صحيح ،تحدي ًدا ألن قوانني الفيزياء
ال تتغري من مكان إىل آخر.
لكن هذا الفهم مل يكن دامئًا بهذا الوضوح .يف الواقع ،م ّرت فرتات يف ثالثينيات القرن
العرشين بدا فيها أن االستغناء عن مبدأ حفظ الزخم وارد ،عىل مستوى الجسيًّمت األولية.
إليكم السبب :ينص قانون حفظ الزخم عىل أن نظا ًما ما لو كان يف حالة سكون وانكرس فجأ ًة
إىل عدة قطع –كًّم هو الحال عندما تنفجر قنبلة– فمن غري املمكن أن تتطاير القطع جميعها
يف االتجاه نفسه .من املؤكد أن هذا واضح بديهيًا ،لكن حفظ الزخم يوضح ذلك من طريق
اشرتاط بقاء الزخم األويل صف ًرا ،كًّم هو الحال يف نظام ساكن ،طاملا مل تؤثر أي قوة خارجية
فيه .إن الطريقة الوحيدة حتى يصبح الزخم صف ًرا بعدها وجود مقابل لكل قطعة تحلق يف
اتجاه واحد :قطعة تحلق يف االتجاه املعاكس .وذلك ألن الزخم ،عىل عكس الطاقة ،كمية
اتجاهية تشبه الرسعة املتجهة .وعليه ،ال ميكن إلغاء الزخم غري الصفري الذي يحمله جسيم
واحد إال من طريق زخم غري صفري يف االتجاه املعاكس.
يكون النيوترون ،أحد الجسيًّمت األولية التي تشكل نواة الذرات ،غري مستقر عند عزله
متحلال إىل بروتون وإلكرتون ميكن اكتشافهًّم
ً ومن ثم سوف يضمحل يف غضون 10دقائق،
148
ألنهًّم يحمالن شحنات كهربائية (متساوية ومتعاكسة) .وعليه ،ميكن املرء مالحظة املسارات
التالية يف الكاشف بعد اضمحالل نيوترون كان يف حالة سكون يف البداية:
لكن قانون حفظ الزخم يخربنا أن الربوتون واإللكرتون ،كًّم هو الحال يف القنبلة ،ال
ينبغي لهًّم التطاير ميينًا م ًعا؛ يجب عىل أحدهًّم الذهاب يسا ًرا .بدالً من ذلك ،عىل األقل أحيانًا،
لُوحظ التكوين يف املخطط أعاله .ومن هنا يُطرح السؤال :أال ينطبق قانون حفظ الزخم عىل
الجسيًّمت األولية؟ إذ إن أح ًدا مل يفهم حينها طبيعة القوة املسؤولة عن اضمحالل النيوترونات
يف املقام األول .لكن فكرة التخيل عن قانون الحفظ هذا (وكذلك قانون حفظ الطاقة ،الذي
جرى انتهاكه أيضً ا عىل ما يبدو يف هذه املالحظات) مل تكن فكر ًة مستساغة ،لدرجة أن
فولفغا نغ باويل ،أحد أبرز علًّمء الفيزياء النظرية يف ذلك الوقت ،اقرتح احتًّمالً آخر؛ اقرتح
احتًّملية يتم فيها إنتاج جسيم غري قابل لالكتشاف يف اضمحالل النيوترونات إضاف ًة إىل إنتاج
الربوتون واإللكرتون .وهذا ممكن يف حال كان الجسيم محاي ًدا إلكرتون ًيا ،إذ ال ميكن اكتشافه
يف أجهزة الكشف القياسية للجسيًّمت املشحونة .ويجب أيضً ا أن يكون خفيفًا ج ًدا ،ألن
مجموع كتل الربوتون واإللكرتون يساوي تقري ًبا كتلة النيوترون .ولهذا السبب ،أطلق فريمي،
زميل باويل اإليطايل ،عىل هذا الجسيم اسم نيوترينو ،مصطلح إيطايل يعني «نيوترون
صغري» .إنه الجسيم نفسه الذي تحدثت عنه سابقًا يف التفاعالت النووية التي تزود الشمس
بالطاقة .إذا أنتج اضمحالل النيوترونات النيوترينو ،قد يلغي اتجاه زخمه زخم الجسيمني
اآلخرين:
149
إن اخرتاع جسيم غري مكتشف سابقًا ليس أم ًرا يُستخف به ،وال باويل شخص يُستخف
به .قدم باويل إسهامات مهم ًة يف الفيزياء ،ال سيًّم «مبدأ استبعاد باويل» ،الذي يحكم طريقة
سلوك اإللكرتونات يف الذرات .كان لهذا العبقري منساوي املولد أيضً ا شخصية مخيفة .اشتهر
بعادته مبقاطعة املحارضات التي حرضها وأخذ الطباشري من يد املتحدث إذا ظن أن حديثه بال
حا جي ًدا يف
قيمة .عالو ًة عىل ذلك ،فإن فكرة التخيل عن الزخم وحفظ الطاقة ،التي نجحت نجا ً
كل مكان آخر يف الفيزياء ،بدت أكرث تطرفًا بكثري مًّم اقرتحه – يف ظل روح االنتحال اإلبداعي
التي ناقشتها سابقًا .لذلك أصبح النيوترينو جز ًءا ثاب ًتا من الفيزياء قبل فرتة طويلة من
مالحظته تجريب ًيا عام ،1956وقبل أن يصبح جز ًءا قياس ًيا من الفيزياء الفلكية.
واليوم ،بطبيعة الحال ،سنكون أكرث ترد ًدا يف التخيل عن مبدأ حفظ الزخم ،حتى عىل
هذه املقاييس الصغرية ،ألننا ندرك أنه نتيجة تناظر أسايس حقيقي يف الطبيعة .وما مل نتوقع
أن تعتمد قوانني الطبيعة الديناميكية الجديدة بطريقة أو بأخرى عىل املكان ،يبقى مبدأ حفظ
الزخم صال ًحا وميكننا االعتًّمد عليه .وبطبيعة الحال ،فإنه ال ينطبق فقط عىل املقاييس دون
الذرية .إنه جزء أسايس من فهم األنشطة البرشية مثل البيسبول أو التزلج أو القيادة أو الكتابة.
يف أي نظام معزول عن تأثريات القوى خارجية ،يظل زخم هذا النظام محفوظًا ،أي يظل ثابتًا
طوال الوقت.
أين نستطيع إيجاد مثل هذه األنظمة املعزولة؟ الجواب يف أي مكان تختاره! يوجد رسم
كاريكاتوري مشهور يظهر عاملني يجلسان عىل سبورة مليئة باملعادالت ،ويقول أحدهًّم لآلخر:
«نعم ،لكنني ال أعتقد أن رسم مربع حولها يجعلها نظري ًة موحدة» .قد يكون هذا صحي ًحا،
ولكن كل ما عليك فعله لتعريف النظام هو رسم مربع وهمي حوله .تكمن الحيلة يف اختيار
املربع املناسب.
150
انظر يف املثال التايل :اصطدمت بجدار من الطوب بسيارتك .اآلن ارسم مرب ًعا حول
السيارة ،وس ّمي هذا نظا ًما .إن رسعة سيارتك املتحركة يف األساس كانت رسع ًة ثابتةً؛ كان زخم
السيارة ثابتًا .وفجأ ًة يأيت الجدار ويوقفك .ومبا أن زخمك يتغري إىل الصفر بحلول الوقت الذي
تصبح عنده يف حالة راحة ،فال بد أن يؤثر الجدار بقوة يف نظامك ،أي السيارة .يجب أن يبذل
الجدار قو ًة معين ًة إليقافك ،اعتًّم ًدا عىل رسعتك األولية.
بعد ذلك ،ارسم مرب ًعا حول السيارة والجدار .ويف هذا النظام الجديد ،ال تبدو أي قوى
خارجية فاعلة موجودةً .يبدو أن الجدار هو العامل الوحيد املؤثر فيك ،وأنك العامل الوحيد
املؤثر يف الجدار .من هذا املنطلق ،ماذا يحدث عندما تصطدم؟ حسنًا ،إذا مل تؤثر أي قوى
خارجية يف هذا النظام ،فحفظ الزخم واجب ،أي يجب أن يظل ثابتًا .يف البداية ،كنت تتحرك
بقدر من الزخم ،وكان الجدار يف حالة سكون وزخم صفري .بعد االصطدام ،يبدو أنك والجدار
يف حالة راحة .ماذا حدث للزخم؟ ال بد أن يذهب إىل مكان ما .إن اختفاءه املفرتض هنا ال يعني
إال أن املربع املرسوم ما يزال غري كايف ،أي أن نظامك والجدار ليسا معزولني حقًا .إن الجدار
مرتكز عىل األرض .ومن الواضح إذن أن حفظ الزخم يف هذا االصطدام غري ممكن إال إذا كان
زخم األرض نفسه الزخم الذي تحركت به سيارتك يف البداية .وعليه فإن النظام املعزول حقًا
يتكون منك ،والجدار ،واألرض .ومبا أن األرض أكرب بكثري من سيارتك ،فليس من الرضوري
ريا لتأخذ هذا الزخم ،ولكن حركتها مع ذلك يجب أن تتغري! لذا ،يف املرة القادمة
أن تتحرك كث ً
التي يخربك فيها شخص ما أن األرض تحركت ،تأكد أنها تحركت بالفعل!
***
إن البحث عن التناظر هو ما يحرك الفيزياء .يف الواقع ،كل الحقائق املخفية التي جرت
مناقشتها يف الفصل األخري هدفها الكشف عن تناظرات جديدة للكون .تسمى تلك التي
حا بتناظرات
وصفتها مثل حفظ الطاقة والزخم تناظرات الزمان واملكان ،الرتباطها وضو ً
الطبيعة الزمانية واملكانية ،ولتمييزها عن تلك غري املرتبطة بها .وعليه تغدو هذه التناظرات
مرتبط ًة ارتباطًا تكامل ًيا بنظرية النسبية الخاصة آلينشتاين .وألن النسبية تعادل بني الزمان
واملكان ،فإنها تكشف عن تناظر جديد بني االثنني .إذ تربطهًّم م ًعا يف كيان واحد جديد،
151
الزمكان ،الذي يحمل يف طياته مجموع ًة من التناظرات غري املوجودة إذا بحثنا يف املكان
منفصال .يف الواقع ،إن ثبات رسعة الضوء يف حد ذاته إشارة إىل تناظر جديد
ً والزمان بحثًا
يف الطبيعة يربط بني املكان والزمان.
لقد رأينا كيف تجعل الحركة قوانني الفيزياء ثابت ًة عرب توفري اتصال جديد بني املكان
والزمان .يظل «طول» زمكاين رباعي األبعاد ثابتًا يف ظل الحركة املنتظمة ،متا ًما كًّم يظل
طول مكاين ثاليث األبعاد ثابتًا يف ظل الدوران .إن هذا التناظر يف الطبيعة دون ارتباط املكان
والزمان ببعضهًّم .وعليه ،فإن الرتجًّمت املكانية البحتة والرتجًّمت الزمانية البحتة ،املسؤولة
بحد ذاتها عن حفظ الزخم والطاقة عىل التوايل ،يجب أن تكون مرتبطة م ًعا .حقيقة أن حفظ
الطاقة والزخم ليسا ظاهرتني منفصلتني نتيجة من نتائج النسبية الخاصة .إنهًّم م ًعا جزء من
كمية واحدة تسمى «زخم الطاقة» .إن حفظ هذه الكمية الفردية –الذي يتطلب يف الواقع إعادة
تعريف جزئية لكل من الطاقة والزخم عىل حدة ،إذ إن تعريفهًّم تم تقليديًا يف سياق قوانني
نيوتن – يصبح نتيج ًة وحيد ًة لثوابت عامل يرتبط فيه املكان والزمان ببعضها .وبهذا املعنى،
تخربنا النسبية الخاصة بيشء جديد :الزمكان هو أننا ال نستطيع حفظ الطاقة دون حفظ
الزخم والعكس صحيح.
مثة تناظر زمكاين آخر مل أرش إليه حتى اآلن إال إشار ًة غري مبارشة ،وهو مرتبط بالتناظر
املؤدي إىل حفظ زخم الطاقة يف النسبية الخاصة ،لكنه أكرث ألف ًة ألنه يتعلق بثالثة أبعاد ال
أربعة .يتضمن تناظر الطبيعة يف ظل الدوران يف الفضاء .لقد وصفت كيف يستطيع املراقبون
املختلفون رؤية جوانب مختلفة لجسم جرى تدويره ،لكننا نعلم أن الكميات األساسية ،مثل
الطول اإلجًّميل ،تظل دون تغيري يف ظل هذا الدوران .إن ثبات القوانني الفيزيائية عندما أقوم
مثال
بتدوير مختربي لإلشارة إىل اتجاه مختلف هو تناظر حاسم يف الطبيعة .فنحن ال نتوقع ً
أن تفضل الطبيعة منهجيًا اتجا ًها محد ًدا يف الفضاء .يجب أن تكون جميع االتجاهات متطابقة
فيًّم يتعلق بالقوانني األساسية.
تعني حقيقة ثبات القوانني الفيزيائية يف أثناء الدوران وجود كمية مرتبطة يتم حفظها.
ويرتبط الزخم بثبات الطبيعة يف سياق الرتجًّمت املكانية ،بينًّم ترتبط هذه الكمية الجديدة
152
بثبات الطبيعة تحت االنتقال الزاوي .ولهذا السبب يطلق عليه اسم الزخم الزاوي .مثل الزخم،
مهًّم يف العمليات التي ترتاوح من املقاييس الذرية وصوالً إىل
يلعب حفظ الزخم الزاوي دو ًرا ً
املقاييس البرشية .إن حفظ الزخم الزاوي واجب بالنسبة إىل نظام معزول .يف الواقع ،يكفينا
يف أي مثال عىل حفظ الزخم استبدال «املسافة» بكلمة «الزاوية» و«الرسعة» بكلمة «الرسعة
الزاوية» لنعرث عىل بعض أمثلة حفظ الزخم الزاوي .هذا مظهر رئييس لالنتحال اإلبداعي.
مثاال؛ عندما تصطدم سياريت بسيارة أخرى كانت يف حالة سكون ،وتعلق مصدات
هاك ً
السيارتني ببعضها بحيث تتحرك السيارتان م ًعا ،فإن املجموعة ستتحرك حرك ًة أبطأ من حركة
سياريت وحدها يف األصل .هذه نتيجة كالسيكية لحفظ الزخم .يجب أن يبقى زخم النظام
املدمج للسيارتني نفسه بعد االصطدام كًّم كان قبله .ومبا أن الكتلة املجمعة للنظام أكرب من
كتلة الجسم األصيل املتحرك ،يجب أن يتحرك الجسم املدمج حرك ًة أبطأ ليحافظ عىل الزخم.
من جهة أخرى ،تخيل متزلج ًة عىل الجليد تدور برسعة كبرية وذراعاها مالصقة
جانبيها .عندما تباعد ذراعيها إىل الخارج ،يتباطأ دورانها ،كًّم لو كانت ساحرةً؛ هذه نتيجة
لحفظ الزخم الزاوي ،متا ًما كًّم كان املثال السابق نتيجة لحفظ الزخم .وفيًّم يتعلق بالتدوير
والرسعات الزاوية ،فإن الجسم ذا نصف القطر األكرب يترصف متا ًما مثل الجسم ذي الكتلة
األكرب .وعليه ،سيزيد رفع ذراعيها نصف قطر جسم املتزلجة الدوارة .متا ًما كًّم تتحرك
السيارتان م ًعا حرك ًة أبطأ من سيارة واحدة طاملا مل تؤثر أي قوة خارجية يف النظام ،سوف
تدور املتزلجة ذات نصف القطر املتزايد دورانًا أبطأ من دورانها مع نصف قطر أصغر ،طاملا
أن ال قوة خارجية تؤثر فيها .بدالً من ذلك ،تستطيع املتزلجة التي تبدأ الدوران ببطء وذراعيها
ممدودتني أن تزيد رسعة دورانها زياد ًة كبري ًة من طريق تقريب ذراعيها نحو الجسم .وهكذا
تُربح امليداليات األوملبية.
توجد كميات أخرى محفوظة يف الطبيعة تنشأ من تناظرات أخرى غري تناظرات
الزمكان ،مثل الشحنة الكهربائية .سأعود إىل هذه الحقًا .أما حال ًيا ،أريد املتابعة يف وجه غريب
من أوجه ثبات الطبيعة الدوراين ،وجه سيسمح يل باستعراض جانب واسع االنتشار من
فمثال ،مع أن قوانني الحركة األساسية ثابتة دوران ًيا –أي ال يوجد اتجاه
ً التناظر ال يظهر دامئًا.
153
مفضل تختاره القوانني التي تحكم الديناميكيات– فالعامل ليس كذلك .ولو كان كذلك ،ملا
استطعنا إعطاء االتجاهات إىل متجر البقالة .يبدو اليسار مختلفًا عن اليمني ،والشًّمل مختلفًا
عن الجنوب ،وأعىل مختلفًا عن أسفل.
من السهل علينا ع ّد هذه مجرد حوادث لظروفنا ،ألن هذا بالضبط ما هي عليه .لو كنا
يف مكان آخر ،لرمبا كانت الفروق بني اليسار واليمني ،والشًّمل والجنوب ،مختلفة متا ًما .ومع
ذلك ،تبقى حقيقة أن حادثًا يف ظروفنا ميكنه حجب تناظر أسايس للعامل إحدى أهم األفكار
التي توجه الفيزياء الحديثة .لتحقيق التقدم ،واالستفادة من قوة مثل هذه التناظرات ،علينا أن
ننظر تحت الغطاء.
ترتبط العديد من األمثلة الكالسيكية عىل الحقائق املخفية التي ناقشتها يف الفصل
األخري بفكرة إمكانية حجب التناظر .تحمل هذه الفكرة االسم املخيف كرس التناظر التلقايئ،
وقد واجهناها بالفعل يف عدد من األشكال املختلفة.
من األمثلة الجيدة عىل ذلك سلوك املغناطيسات املجهرية املوجودة يف قطعة من الحديد؛
فكرة ناقشتها يف نهاية الفصل األخري .عند درجة حرارة منخفضة ،حيث ال مجال مغناطييس
خارجي مطبق عىل هذه املغناطيسات ،فمن املفضل طاق ًيا أن تصطف جميعها يف اتجاه ما،
لكن اتجاه اصطفافها يقرره اختيار عشوايئ .ال يوجد يشء يف الفيزياء األساسية
للكهرومغناطيسية يختار اتجا ًها واح ًدا عىل حساب آخر ،وال يوجد تنبؤ مسبق ميكنه تحديد
االتجاه املختار بدقة .ولكن االختيار متى حدث ،يصبح هذا االتجاه ممي ًزا للغاية .إن الحرشة
الحساسة للمجاالت املغناطيسية والتي تعيش داخل مثل هذا املغناطيس ستنمو عىل افرتاض
اختالف «الشًّمل» اختالفًا جوهريًا عن بقية االتجاهات؛ هذا اتجاه اصطفاف املغناطيسات
املجهرية.
تكمن خدعة الفيزياء يف تجاوز الظروف الخاصة واملقرتنة رمبا بوجودنا ،ومحاولة
النظر إىل ما هو أبعد منها .يف كل حالة أعرفها ،يعني هذا البحث عن التناظرات الحقيقية يف
العامل .ويف حالة املغناطيس ،يعني هذا اكتشاف أن املعادالت التي تحكم املغناطيس كانت ثابت ًة
يف أثناء الدوران ،وأن الشًّمل ميكنه الدوران ليصبح جنوبًا وستظل الفيزياء كًّم هي.
154
يُعد توحيد التفاعالت الضعيفة والكهرومغناطيسية مثاالً منوذج ًيا عىل ما سبق.
فالفيزياء األساسية هنا ال تفرق بني الفوتون عديم الكتلة والجسيم زد الضخم للغاية .يف
الواقع ،مثة تناظر يف الديناميكيات األساسية التي ميكن مبوجبها تحويل زد إىل فوتون مع
بقاء كل يشء كًّم هو متا ًما .عىل أي حال ،يف العامل الذي نعيش فيه ،أنتجت الفيزياء األساسية
نفسها تطبيقًا محد ًدا ،وهو حل املعادالت –«متكثف» الجسيًّمت التي تشغل مساحة فارغة–
حيث يترصف الفوتون وجسيم زد بصورة مختلفة متا ًما.
رياض ًيا ،ميكن ترجمة هذه النتائج إىل ما ييل :ال يلزم أن يكون حل معادلة رياضية
معني ثابتًا يف ظل مجموعة التحوالت نفسها التي تكون مبوجبها املعادلة األساسية ثابتة .إن
أي تطبيق محدد لنظام ريايض أسايس ،مثل اإلدراك الذي نراه عندما ننظر حولنا يف الغرفة،
قد يؤدي إىل كرس التناظر األسايس املرتبط به .تأمل املثال الذي ابتكره الفيزيايئ عبد السالم،
أحد الحائزين عىل جائزة نوبل عن عمله يف توحيد الكهرومغناطيسية والتفاعل الضعيف:
عندما تجلس عىل طاولة عشاء دائرية ،تكون متناظر ًة متا ًما .كأسا النبيذ عىل اليمني واليسار
متساويان ،وال يشء سوى آداب السلوك (التي ال أستطيع تذكرها أب ًدا) يحدد أي كأس لك .فور
اختيارك أحدهًّم –ولنقل ،الذي عىل اليمني– يصبح اختيار الجميع ثابتًا ،إن أرادوا واح ًدا.
حقيقة أننا نعيش يف إدراك محدد مًّم يكون رمبا عد ًدا ال نهائيًا من االحتًّمالت حقيقة عاملية
من حقائق الحياة .وإلعادة صياغة عبارة روسوُ :ولد العامل ح ًرا ،لكنه مقيد بالسالسل يف كل
مكان!
ملاذا علينا االهتًّمم بالتناظرات يف الطبيعة ،حتى تلك غري الواضحة؟ هل هي محض
نشوة جًّملية غريبة متتع الفيزيائيني ،كأنها نوع من االستمناء الفكري؟ رمبا هذا صحيح
جزئيًا ،ولكن مثة أيضً ا سبب آخر .التناظرات ،حتى تلك التي ال تظهر مبارشةً ،ميكنها أن تحدد
متا ًما الكميات الفيزيائية التي تنشأ يف وصف الطبيعة ،إضاف ًة إىل العالقات الديناميكية بينها.
باختصار ،قد يكون التناظر هو الفيزياء .ويف التحليل النهايئ ،قد ال يوجد يشء آخر.
155
مثال– تتبع هذين املبدأين .والتناظر
جاذبية األرض .كل الديناميكيات –القوة املنتجة للتسارع ً
يحدد حتى طبيعة القوى األساسية نفسها ،كًّم سأصفها قري ًبا.
يحدد لنا التناظر املتغريات الرضورية لوصف العامل .مبجرد االنتهاء من ذلك ،يصبح كل
يشء آخر ثابت .خذ مثايل املفضل مرة أخرى :الكرة .عندما أمثل البقرة ككرة ،فأنا أقول إن
العمليات الفيزيائية الوحيدة التي نحتاجها ستعتمد عىل نصف قطر البقرة .أي يشء يعتمد
رصاح ًة عىل موقع زاوي محدد يجب أن يكون زائ ًدا عن الحاجة ،ألن جميع املواقع الزاوية يف
نصف قطر معني متطابقة .أدى التناظر الكبري للكرة إىل تقليص مشكلة الوجود املحتمل لعدد
كبري من املعلًّمت إىل مشكلة ذات معلمة واحدة :نصف القطر.
ميكننا عكس األحداث هنا .إذا متكنا من عزل تلك املتغريات الرضورية لوضع وصف
مناسب لعمليات فيزيائية معينة ،رمبا نقدر ،إذا كنا أذكياء ،عىل العمل باالتجاه املعاكس
لتخمني التناظرات الجوهرية املعنية ،والتي تحدد بدورها جميع القوانني التي تحكم العملية.
وبهذا املعنى فإننا نتبع مرة أخرى خطى غاليليو .تذكر أنه أوضح لنا أن تعلّم كيفية تحرك
األشياء وحده يعادل معرفة سبب تحركها .أوضحت تعريفات الرسعة املتجهة والتسارع ما هو
رضوري لتحديد سلوك األجسام املتحركة الدينامييك .نحن نخطو خطو ًة صغري ًة إضافي ًة نحو
األمام عندما نفرتض أن القوانني التي تحكم مثل هذا السلوك ال يوضحها عزل املتغريات ذات
الصلة فحسب؛ بل إن هذه املتغريات وحدها تحدد كل يشء آخر.
دعونا نعود إىل وصف فاينًّمن الطبيعة باعتبارها لعبة شطرنج عظيمة تلعبها اآللهة،
ويرشفنا مشاهدتها .ما نسميه الفيزياء األساسية ميثل قواعد اللعبة ،وفهم هذه القواعد هدفنا.
ادعى فاينًّمن أن فهم هذه القواعد هو كل ما ميكننا أن نأمل بفعله عندما ندعي «فهم» الطبيعة.
أعتقد أننا قادرون اآلن عىل خطو خطوة أخرى إىل األمام .نعتقد أن هذه القواعد ميكن تحديدها
بالكامل مبجرد استكشاف تكوين «اللوحة» و«القطع» التي تُلعب بها اللعبة وتناظراتها .وهكذا
فإن فهم الطبيعة ،أي فهم قواعدها ،يعادل فهم تناظراتها.
156
إن هذا ادعاء كبري ،ندعيه مع يشء من التعميم الكبري .ومبا أنني أتوقعك اآلن مرتبكًا
حا .ويف هذه العملية ،آمل أن
ومشككًا ،أريد أن أستعرض بعض األمثلة لجعل األمور أكرث وضو ً
أعطي فكرة عن كيفية تقدم الفيزياء.
أوالً ،اسمحوا يل أن أصف هذه األفكار يف سياق تشبيه فاينًّمن .رقعة الشطرنج جسم
متناظر إىل حد ما .يتكرر منط اللوحة بعد مسافة واحدة يف أي اتجاه .وهي مصنوعة من
لونني ،وإذا قمنا بتبديلهًّم ،يبقى النمط متطابقًا .عالو ًة عىل ذلك ،فإن حقيقة احتوائها عىل 8
× 8مربعات تسمح بالفصل الطبيعي إىل نصفني ،وميكن تبادلهًّم أيضً ا دون تغيري مظهر
اللوحة.
قد ترغب بتسلية نفسك بطرح السؤال ذاته عن رياضتك املفضلة .هل ستكون كرة القدم
نفسها إذا مل تُلعب عىل ملعب مساحته 100ياردة مقسمة إىل أقسام يقيس كل منها 10
157
ياردات؟ وأهم من ذلك ،إىل أي مدى تعتمد القواعد عىل تناظرات الفريق الذي يلعب؟ ماذا عن
لعبة البيسبول؟ يبدو ملعب البيسبول جز ًءا أساس ًيا من اللعبة .لو ض ّم امللعب خمس قواعد
مرتبة عىل شكل خًّميس ،فهل ستحتاج إىل أربع كرات خارجة؟
ملاذا يقترص الحديث عىل الرياضة؟ ما مدى تحديد قوانني الدولة من طريق هيئة
املرشعني؟ ولطرح السؤال الذي طرحه العديد من األشخاص القلقني بشأن اإلنفاق العسكري
يف الواليات املتحدة :إىل أي حد مييل التخطيط الدفاعي وجود أربع قوات مسلحة مختلفة:
القوات الجوية ،والجيش ،والبحرية ،ومشاة البحرية؟
بالعودة إىل الفيزياء ،أريد أن أصف كيف تستطيع التناظرات ،حتى تلك غري الواضحة،
أن تث ّبت شكل القوانني الفيزيائية املعروفة .سأبدأ بقانون الحفظ الوحيد الذي مل أناقشه بعد
مع أنه يؤدي دو ًرا أساس ًيا يف الفيزياء :قانون حفظ الشحنة .يبدو أن جميع العمليات يف
الطبيعة تحافظ عىل الشحنة – أي أن وجود شحنة سالبة صافية واحدة يف بداية أي عملية
يعني وجود شحنة سالبة صافية واحدة يف نهايتها ،بغض النظر عن مدى تعقيد هذه العملية.
ميكن خاللها إنشاء جسيًّمت مشحونة عديدة أو تدمريها ،رشط حدوث هذا يف أزواج من
الشحنات املوجبة والسالبة ،فتكون بذلك الشحنة اإلجًّملية يف أي لحظة مساوي ًة تلك املوجودة
يف البداية وتلك املوجودة يف النهاية.
نحن نعرف ،وفقًا لنظرية نويرث ،أن قانون الحفظ العاملي هذا نتاج تناظر عاملي :ميكننا
تحويل جميع الشحنات املوجبة يف العامل إىل شحنات سالبة ،والعكس صحيح ،ولن يتغري
يشء يف العامل .وهذا يعادل حقًا القول بأن تسمية موجب وسالب تسمية اعتباطية ،وأننا ال
نتبع سوى العرف عندما نصف إلكرتونًا بسالب الشحنة وبروتونًا مبوجبها.
يف الواقع ،فإن التناظر املسؤول عن حفظ الشحنة يشبه يف جوهره تناظر الزمكان
مثال جميع املساطر يف الكون يف وقت
الذي ناقشته فيًّم يتعلق بالنسبية العامة .فإذا غرينا ً
واحد ،إذ يصبح ما كان بوص ًة واحد ًة سابقًا يساوي بوصتني ،فإننا نتوقع أن تبدو قوانني
الفيزياء كًّم هي .قد تتغري الثوابت األساسية املختلفة يف القيمة للتعويض عن التغري يف
الحجم ،ولكن شي ًئا لن يتغري بخالف ذلك .وهذا يعادل عبارة أننا أحرار يف استخدام أي نظام
158
من الوحدات نريده لوصف العمليات الفيزيائية .قد نستخدم األميال والرطل يف الواليات
املتحدة ،وميكن كل دولة متقدمة أخرى يف العامل استخدام الكيلومرتات والكيلوغرامات.
وبرصف النظر عن اإلزعاج الناتج عن التحويل ،فإن قوانني الفيزياء نفسها يف الواليات املتحدة
كًّم هي يف بقية العامل.
ولكن ماذا لو اخرتت تغيري طول املساطر مبقادير مختلفة من نقطة إىل أخرى؟ ما
يحدث بعد ذلك؟ حسنًا ،أخربنا آينشتاين أن ال خطأ يف هذا اإلجراء .وأنه يعني فقط معادلة
القوانني التي تحكم حركة الجسيًّمت يف مثل هذا العامل لتلك الناتجة عن وجود بعض مجاالت
الجاذبية.
ما تخربنا به النسبية العامة إذن هو وجود تناظر عام للطبيعة ال يسمح لنا بتغيري
تعريف الطول من نقطة إىل أخرى إال إذا سمحنا نحن أيضً ا بوجود يشء مثل مجال الجاذبية.
يف هذه الحالة ،ميكننا التعويض عن التغريات املحلية يف الطول من طريق إدخال مجال
الجاذبية .بدالً من ذلك ،رمبا ميكننا إيجاد وصف عاملي يظل فيه الطول ثابتًا من نقطة إىل
أخرى ،ومن ثم ال يلزم وجود مجال جاذبية .هذا التناظر ،الذي يسمى ثبات اإلحداثيات العامة
،general-coordinate invarianceيحدد متا ًما النظرية التي نسميها النسبية العامة.
ويعني أن نظام اإلحداثيات الذي نستخدمه لوصف املكان والزمان نظام اعتباطي بحد ذاته،
متا ًما مثل الوحدات التي نستخدمها لوصف املسافة .مثة فرق موجود عمو ًما .قد تكون أنظمة
اإلحداثيات املختلفة متكافئة ،ولكن التحويل بينها إذا اختلف محليًا –أي إذا اختلفت األطوال
القياسية من نقطة إىل أخرى– سوف يتطلب أيضً ا إدخال مجال جاذبية لبعض املراقبني من
أجل بقاء حركة األجسام املتوقعة كًّم هي .النقطة املهمة :يف العامل الغريب الذي اخرتت فيه
تغيري تعريف الطول من نقطة إىل أخرى ،سيبدو مسار الجسم املتحرك تحت تأثري أي قوة
مستقيًّم .لقد وصفت هذا سابقًا يف مثال الطائرة املسافرة حول العامل
ً أخرى منحنيًا ،وليس
كًّم يراها شخص ينظر إىل املسقط عىل خريطة مسطحة .ميكنني أن أفرس هذا ،وأن أظل متفقًا
مع قواعد غاليليو ،فقط إذا سمحت لقوة واضحة أن تعمل يف هذا اإلطار الجديد .هذه قوة
الجاذبية .ومن ثم ميكن القول إن شكل الجاذبية ناتج عن ثبات اإلحداثيات العامة للطبيعة.
159
ال يعني هذا أن الجاذبية من نسج خيالنا .تخربنا النسبية العامة أن الكتلة تحني الفضاء.
يف هذه الحالة ،جميع أنظمة اإلحداثيات التي ميكننا اختيارها ستفرس هذا االنحناء بطريقة أو
بأخرى .قد يكون من املمكن محل ًيا االستغناء عن مجال الجاذبية – أي أن املراقب الساقط بحرية
لن «يشعر» بأي قوة تؤثر فيه ،متا ًما كًّم يسقط رواد الفضاء الذين يدورون حول األرض بحرية
وال يشعرون بالجاذبية .ومع ذلك ،فإن مسارات املراقبني املختلفني الذين يسقطون سقوطًا ح ًرا
سوف تنحني بالنسبة لبعضها ،وهذه عالمة عىل أن الفضاء منحني .ميكننا اختيار أي إطار
مرجعي نرغب به .ثبته يف كوكب األرض ،وسوف نخترب قوة الجاذبية .قد ال يتمكن املراقبون
الذين يسقطون بحرية من ذلك .عىل أي حال ،ستعكس ديناميكيات الجسيًّمت يف كلتا
الحالتني انحناء الفضاء األسايس ،وهو انحناء حقيقي ناجم عن وجود املادة .رمبا يكون مجال
الجاذبية «خيال ًيا» مبعنى أن االختيار املناسب لإلحداثيات يخلصنا منه يف كل مكان ،لكن هذا
غري ممكن إال إذا كان الفضاء األسايس مسط ًحا متا ًما ،ما يعني عدم وجود مادة حوله .أحد
األمثلة عىل ذلك نظام اإلحداثيات الدوار ،كًّم قد تجده إذا وقفت مقابل الحائط يف إحدى جوالت
الكرنفال حيث تدور غرفة أسطوانية كبرية ويتم دفعك باتجاه الخارج .داخل غرفة الدوران ،قد
تتخيل وجود مجال جاذبية يسحبك إىل الخارج .يف الواقع ،ال توجد كتلة تعمل كمصدر ملثل
هذا املجال ،كًّم تفعل األرض بالنسبة ملجال جاذبيتنا .يدرك هؤالء املراقبون أن ما ميكن أن
نسميه مجال الجاذبية ال يتعدى كونه حادثًا نتيجة اختيار يسء لنظام اإلحداثيات؛ النظام
املثبت يف الغرفة الدوارة .االنحناء حقيقي ،أما مجال الجاذبية موضوعي.
بدأت بالحديث عن الشحنة الكهربائية وانتهى يب األمر أتحدث عن الجاذبية .واآلن أريد
أن أفعل بالشحنة الكهربائية ما فعلته بالطول يف الزمكان .هل مثة يف الطبيعة تناظر يسمح
يل محليًا باختيار اصطالحي الخاص بالشحنة الكهربائية بصورة تعسفية مع الحفاظ عىل
تنبؤات قوانني الفيزياء كًّم هي؟ اإلجابة نعم ،ولكن فقط إذا ُوجد مجال آخر يف الطبيعة يؤثر
يف الجسيًّمت التي ميكنها «التعويض» عن اختياري املحيل للشحنة بالطريقة نفسها التي
«يعوض» بها مجال الجاذبية االختيار املتغري اعتباط ًيا لنظام اإلحداثيات.
إن املجال الناتج عن هذا التناظر يف الطبيعة ليس املجال الكهرومغناطييس نفسه ،كًّم
بدال من ذلك ،يؤدي هذا املجال دور انحناء الزمكان .فهو موجود دامئًا إذا كانت
قد تتخيلً .
160
الشحنة قريبة ،متا ًما كًّم يكون انحناء الفضاء موجو ًدا دامئًا إذا كانت الكتلة موجودة .هذا ليس
مجاال تعسف ًيا؛ فثمة مجال آخر ،يتعلق باملجال الكهرومغناطييس ،يؤدي دو ًرا مشاب ًها ملجال
ً
الجاذبية .يُسمى هذا املجال كمون املتجه vector potentialيف الكهرومغناطيسية.
هذا التناظر الغريب يف الطبيعة ،الذي يسمح يل بتغيري تعريفي للشحنة أو الطول
محل ًيا عىل حساب إدخال قوى إضافية ،يسمى تناظر املقياس ،gauge symmetryوقد أرشت
إليه باختصار يف فصل سابق .مثّل وجوده ،بأشكال مختلفة ،يف النسبية العامة
والكهرومغناطيسية ،السبب خلف تقديم هريمان فايل هذا التناظر ومحاولة توحيد االثنني.
تبني أن األمر أكرث عمومية ،كًّم سرنى .ما أريد التأكيد عليه هو أن مثل هذا التناظر ( )1يتطلب
وجود قوى مختلفة يف الطبيعة ،و( )2يخربنا ما الكميات التي تعد «فيزيائيةً» حقًا ومييزها
عن تلك األخطاء الناتجة عن اختيار اإلطار املرجعي .مثلًّم تكون املتغريات الزاوية يف الكرة
زائدة عن الحاجة إذا اعتمد كل يشء عىل نصف قطر الكرة فقط ،فإن مقياس تناظر الطبيعة
يخربنا إىل حد ما أن املجاالت الكهرومغناطيسية وانحناء الزمكان فيزيائية وأن مجاالت
الجاذبية وكمونات املتجهات تعتمد عىل املراقب.
إن اللغة الغريبة لقياس التناظر ستكون تحذلقًا رياض ًيا ال أكرث إذا انحرص استخدامها
يف وصف األشياء بعد وقوعها .ففي نهاية املطاف ،كانت الكهرومغناطيسية والجاذبية
مهًّم آثاره يف بقية
فهًّم جي ًدا قبل اقرتاح تناظر املقياس .ما يجعل تناظر املقياس ً
مفهومتان ً
الفيزياء ،إذ اكتشفنا يف السنوات الخمس والعرشين املاضية أن جميع القوى املعروفة يف
الطبيعة تنتج عن تناظرات مقياس .وهذا بدوره سمح لنا ببناء فهم جديد ألشياء مل نفهمها
سابقًا .إن البحث عن تناظر مقياس مرتبط بهذه القوى سمح للفيزيائيني بالتمييز بني الكميات
الفيزيائية ذات الصلة والكامنة وراء هذه القوى.
من الخصائص العامة لتناظر املقياس لزوم وجود مجال ما ميكنه التأثري يف مسافات
طويلة ،ويرتبط بالقدرة عىل التعويض عن الحرية يف تغيري تعريف خصائص معينة
للجسيًّمت أو الزمكان من نقطة إىل أخرى عرب مسافات طويلة دون تغيري الفيزياء األساسية.
ويف حالة النسبية العامة ،يتجىل ذلك يف مجال الجاذبية؛ ويف الكهرومغناطيسية ،يتجىل ذلك
161
يف املجاالت الكهربائية واملغناطيسية (التي تنتج يف حد ذاتها عن كمونات املتجهات) .لكن
التفاعل الضعيف بني الجسيًّمت يف النواة ال يحدث إال عىل مسافات قصرية ج ًدا .كيف ميكن
أن تكون مرتبط ًة بتناظر املقياس األسايس للطبيعة؟
الجواب هو أن هذا التناظر «ينكرس تلقائ ًيا» .إن كثافة الجسيًّمت يف خلفية الفضاء
الفارغ نفسها التي تتسبب يف ظهور جسيم زد ضخم ،يف حني أن الفوتون الناقل
الكهرومغناطيسية يظل عديم الكتلة ،توفر أيضً ا خلفي ًة ميكنها االستجابة فيزيائ ًيا للشحنة
الضعيفة لجسم ما .لهذا السبب ،مل يعد املرء ح ًرا يف تغيري ما يعنيه محل ًيا بالشحنات الضعيفة
املوجبة والسالبة ،ومن ثم فإن مقياس التناظر ،الذي أمكن لوال ذلك وجوده ،ليس واض ًحا .يبدو
مجاال كهربائ ًيا خلف ًيا موجود يف الكون .سيظهر يف هذه الحالة فرق كبري بني
ً األمر كأن
الشحنات املوجبة والسالبة ،إذ إن نو ًعا واح ًدا من الشحنات سينجذب إىل هذا املجال بينًّم يتنافر
النوع اآلخر معه .وعليه ،فإن التمييز بني الشحنة املوجبة والسالبة لن يكون اعتباط ًيا بعد اآلن.
سيتم اآلن حجب تناظر الطبيعة األسايس هذا.
ما يلفت النظر هنا هو أن تناظرات املقياس املكسورة تلقائ ًيا ليست محجوب ًة متا ًما .وكًّم
وصفت ،فإن تأثري «متكثف» الجسيًّمت يف خلفية الفضاء الفارغ جعل جسيًّمت دابليو وزد
تبدو ثقيلة ،مع الحفاظ عىل الفوتون عديم الكتلة .ومن ثم فإن بصمة نظرية املقياس املكسور
وجود جسيًّمت ثقيلة ،تنقل قوى ال ميكنها التأثري إال يف مسافات قصرية – ما يسمى بالقوى
قصرية املدى .إن رس اكتشاف مثل هذا التناظر األسايس املكسور هو النظر إىل القوى قصرية
املدى واستكشاف أوجه التشابه مع القوى طويلة املدى ،وهي القوى التي ميكنها التأثري يف
مسافات طويلة ،مثل الجاذبية والكهرومغناطيسية .وهكذا بالضبط« ،فُهم» التفاعل الضعيف،
باملعنى اإلرشادي عىل األقل ،عىل أنه ابن عم الديناميكا الكهربائية الكمومية ،النظرية الكمومية
للكهرومغناطيسية.
طور فاينًّمن وموري جيلًّمن نظرية ظاهراتية وضعا فيها التفاعل الضعيف يف
التشكيل نفسه مع الكهرومغناطيسية من أجل استكشاف ما سيحدث .ويف غضون عقد من
كال من الكهرومغناطيسية والتفاعل الضعيف بصفة نظريات
حدت ً
الزمانُ ،وضعت نظرية و ّ
162
مقياس ،وتضمنت تنبؤات جوهرية كان أحدها وجوب وجود جزء واحد من القوة الضعيفة مل
يُالحظ من قبل .مل تتضمن النظرية تفاعالت تخلط شحنة الجسيًّمت ،مثل تلك التي تأخذ
نيوترونًا محاي ًدا وتسمح له بالتحلل إىل بروتون موجب وإلكرتون سالب .بل سمحت بتفاعالت
من شأنها أن تبقي شحنات الجسيًّمت كًّم هي ،متا ًما كًّم تستطيع القوة الكهربائية أن تؤثر
يف اإللكرتونات دون تغيري شحنتها .كان هذا «التفاعل املحايد» مبثابة تنبؤ أسايس للنظرية
ريا بشكل ال لبس فيه يف السبعينيات .رمبا كانت هذه أول حالة اكتشاف تناظر
التي اعتُمدت أخ ً
تنبأ بوجود قوة جديدة ،بدالً من تسميتها بعد فوات األوان.
يُعزى ضعف التفاعل الضعيف إىل أن تناظر املقياس املرتبط به ينكرس تلقائياً .وهكذا
– عىل مقاييس الطول األكرب من متوسط املسافة بني الجسيًّمت يف متكثفات الخلفية املؤثرة
يف خصائص جسيًّمت زد و دابليو– تبدو هذه الجسيًّمت ثقيلة ج ًدا وتخمد التفاعالت التي
تتوسطها .إذا ُوجدت تناظرات مقياس جديدة أخرى يف الطبيعة كُرست تلقائ ًيا عىل نطاقات
مسافات أصغر ،رمبا تكون القوى املعنية أضعف من أن تُكتشف بعد؛ رمبا موجودة بأعداد ال
متناهية ،ورمبا غري موجودة.
وهكذا يغدو مناس ًبا التساؤل :هل يجب أن تنتج جميع القوى يف الطبيعة عن تناظرات
مقياس ،حتى لو كُرست تلقائيًا .أال يوجد سبب آخر لوجود القوة؟ ليس لدينا حتى اآلن فهم
كامل لهذه املسألة ،لكننا نعتقد أن اإلجابة عىل األرجح هي عدم وجود أسباب أخرى .وكًّم
ترون ،فإن جميع النظريات التي ال تتضمن مثل هذا التناظر نظريات «مريضة» رياضيًا ،أو
غري متسقة يف مضمونها .فور حساب التأثريات امليكانيكية الكمومية حسابًا صحي ًحا ،يبدو
واجبًا إدخال عدد ال حرص له من املعلًّمت الفيزيائية يف هذه النظريات لوصفها عىل نحو
مناسب .أي نظرية ذات عدد ال نهايئ من املعلًّمت ليست نظري ًة عىل اإلطالق! يعمل مقياس
التناظر عىل تقييد عدد املتغريات الالزمة لوصف الفيزياء ،بنفس الطريقة التي يعمل بها
التناظر الكروي عىل تحديد عدد املتغريات الالزمة لوصف البقرة .وهكذا ،فإن ما يبدو مطلوبًا
للحفاظ عىل القوى املختلفة سليم ًة رياض ًيا وفيزيائ ًيا هو التناظر نفسه املسؤول عن وجودها
يف املقام األول.
163
هذا هو السبب الكامن خلف هوس فيزيائيي الجسيًّمت بالتناظر .عىل املستوى
األسايس ،ال تصف التناظرات الكون فحسب؛ إنها تحدد ما هو ممكن ،أي ماهية الفيزياء .مل
تختلف التوجهات يف كرس التناظر التلقايئ حتى اآلن .ميكن التناظرات املكسورة عىل املقاييس
العيانية أن تتجىل عىل مقاييس أصغر .ومع استمرارنا يف استكشاف مقاييس أصغر من أي
وقت مىض ،يستمر الكون بالظهور مبظهر أكرث تناسقًا .إذا أراد املرء أن يفرض املفاهيم
اإلنسانية للبساطة والجًّمل عىل الطبيعة ،فال بد أن يكون هذا تجليها .النظام يعني التناظر.
لقد أوصلتنا اعتبارات التناظر إىل أقىص حدود معرفتنا بالعامل .لكنها بدأت يف
السنوات العرشين املاضية تقري ًبا تدفعنا أبعد منها ،إذ صارع الفيزيائيون الستكشاف
التناظرات التي تحدد رمبا سبب ترصف الكون يف مقياسه األسايس وفق الطريقة التي
يترصف بها ،وما إذا كانت التناظرات املرصودة يف الطبيعة ستجربنا عىل تبني مفهوم جديد
متا ًما للواقع املادي.
ينبع الدافع جزئ ًيا من العالقة ذاتها بني الكهرومغناطيسية والجاذبية التي ناقشتها للتو
وذكرتها يف سياق محاولة هريمان فايل التوحيد .إن االعرتاف بنشأة القوتني كلتيهًّم من تناظر
مرض للغاية ،ولكن مع ذلك يبقى فرق أسايس بني االثنني موجو ًدا .ترتبط ٍ محيل للطبيعة أمر
الجاذبية بتناظر الفضاء ،يف حني أن الكهرومغناطيسية والقوى الطبيعية األخرى املعروفة
ليست مرتبط ًة به .والقوة التي نشعر بها كجاذبية تعكس انحنا ًءا أساسيًا للفضاء ،بينًّم ما
نشعر به ككهرومغناطيسية ال يعكس اليشء نفسه .تناول عامل الرياضيات البولندي الشاب،
ثيودور كالوتسا ،هذا االختالف عام ،1919حيث اقرتح احتًّملية وجود بعد آخر للفضاء،
يتجاوز األبعاد الثالثة التي نختربها مبارشة .هل ميكن أن تنتج الكهرومغناطيسية عن انحناء
أسايس يف بعد إضايف غري ملحوظ للفضاء؟
رائع أن اإلجابة كانت نعم .كًّم تأكّد بعد عدة سنوات بصورة مستقلة عىل يد الفيزيايئ
خامسا ،بُعد اقرتح كالين إمكانية التفافه يف دائرة
ً السويدي أوسكار كالين ،إذا أضفنا بُع ًدا
صغرية صغ ًرا يجعل اكتشافه بأي تجارب موجودة غري ممكن ،يغدو ممك ًنا أن تنتج
الكهرومغناطيسية والجاذبية رباعية األبعاد من نظرية أساسية خًّمسية األبعاد ذات تناظرات
164
خًّمسية األبعاد ،إذ إن االنحناء يف األبعاد األربعة التي الحظناها من شأنه أن ينتج ما نالحظه
كجاذبية ،واالنحناء يف البعد الخامس ميكن أن ينتج ما نالحظه ككهرومغناطيسية.
قد تعتقد أن شهرة كالوتسا وكالين مع مثل هذه النتيجة الرائعة كانت ستضاهي شهرة
آينشتاين وديراك ،لكن نظريتهًّم ،رغم جًّملها ،قد تنبأت أيضً ا بنوع إضايف من قوة الجاذبية
حظ ،وعليه ال ميكن أفكارهًّم كًّم صاغوها أن تكون صحيحة .عىل أي حال ،ظل توحيد
غري ُمال َ
كالوتسا-كالين يف أذهان املنظرين مع انكشاف بقية فيزياء القرن العرشين.
يف السبعينيات والثًّمنينيات ،عندما أصبح واض ًحا أن جميع القوى األخرى يف الطبيعة،
مثل الكهرومغناطيسية ،تُوصف بتناظرات املقياس ،عاد الفيزيائيون إىل الرشب من كأس
آينشتاين املقدسة وتوحيد قوى الطبيعة جميعها ،مبا فيها الجاذبية ،يف نظرية واحدة.
إن رسد القصة املناسب ملا حدث يتطلب كتابًا كامالً؛ لحسن الحظ كتبت واح ًدا مؤخ ًرا،
كًّم فعل عدد كبري من اآلخرين .ويكفي القول إن الفيزيائيني اقرتحوا عام 1984توسيع
الزمكان الخاص بنا ،ال ب ُبعد واحد فقط ،بل بستة أبعاد إضافية عىل األقل ،ليصبح ممكنًا
تضمني جميع التناظرات املرصودة واملرتبطة بجميع القوى املرصودة يف الطبيعة ،مبا فيها
الجاذبية ،بطريقة بدت أيضً ا سامح ًة بتطوير نظرية كمومية متسقة للجاذبية ،وهذا ما
استعىص حتى اليوم عىل كل املحاوالت .أصبحت «النظرية» الناتجة تعرف باسم نظرية األوتار
الفائقة ،Superstring theoryألنها استندت جزئيًا إىل افرتاض أن جميع الجسيًّمت التي
نالحظها يف الطبيعة تتكون يف الواقع من أشياء تشبه األوتار ميكنها االهتزاز يف األبعاد
اإلضافية.
شهدت نظرية األوتار نجاحات وإخفاقات عىل مدى العقدين املاضيني ،والحًّمس األويل
الذي شهدته الثًّمنينات خف بريقه ألننا أدركنا أن املرء عىل ما يبدو ال يستطيع كتابة نظرية
أوتار واحدة تتنبأ استثنائيًا بوجود أي يشء مثل عاملنا ،وأدركنا أننا رمبا بحاجة إىل أنواع أكرث
تعقي ًدا من التناظرات الرياضية لجعل النظرية متسقة ،وهكذا فحتى فكرة األوتار األساسية
نفسها رمبا محض وهم ،واألشياء األكرث أساسية شيئ آخر .يف الواقع ،كًّم سأعود يف نهاية
هذا الكتاب ،فإن فشل نظرية األوتار يف التنبؤ بأي يشء يشبه كوننا دفع مؤخ ًرا بعض
165
املنظرين إىل اقرتاح إمكانية عدم وجود تفسري فيزيايئ أسايس لسبب كون الكون عىل ما هو
عليه ..قد يكون الكون مجرد حادث بيئي!
مل أطرح أفكار نظرية األوتار واألبعاد اإلضافية هنا بغرض الثناء وال التفنيد .ومن املؤكد
أن الجدل مل يُحسم بعد يف كل هذه القضايا .ما يه ّم إدراكه هو أن ما يدفع املنظرين اليوم
الستكشاف هذه العوامل الجديدة االفرتاضية هو البحث عن التناظر .أطلق أحد علًّمء الفيزياء
عىل الجًّمل املرتبط بتناظرات األبعاد اإلضافية اسم «أناقة» .سيجيبنا الوقت عن سؤال ماهية
هذا الجًّمل :هل هو حقًا جًّمل الطبيعة أم أن السبب يف عني الناظر.
مر ًة أخرى ،اسرتسلت يف الظواهر الواقعة عىل حدود الطاقة العالية .مثة أيضً ا أمثلة
عديدة حول كيفية تحكم التناظرات يف السلوك الدينامييك لعاملنا اليومي ،دون ارتباط هذه
األمثلة بوجود قوى جديدة يف الطبيعة .دعونا نعود إليها.
حتى عام 1950تقري ًبا ،مثّلت خصائص املواد مثل البلورات أوضح مواضع تجيل
التناظر يف الفيزياء .مثل رقعة شطرنج فاينًّمن ،تحوي البلورات منطًا متناظ ًرا من الذرات
املوجودة عىل شبكة بلورية صلبة .وهذا النمط هو ما يعطينا األمناط الجميلة يف األسطح
البلورية مثل أسطح األملاس واألحجار الكرمية األخرى .وفيًّم يتعلق أكرث بالفيزياء ،فإن حركات
الشحنات اإللكرتونية داخل شبكة بلورية ،مثل حركات البيادق يف لعبة الشطرنج ،ميكن
فمثال ،حقيقة تكرر النمط الشبيك بدورية معينة يف
ً تحديدها بالكامل عرب تناظرات الشبكة.
الفضاء تحدد النطاق املحتمل لزخم اإللكرتونات املتحركة داخل الشبكة .وذلك ألن دورية املادة
داخل الشبكة تعني تقييد االنتقال مبسافة قصوى معينة قبل أن تبدو األشياء كًّم هي متا ًما،
ما يعادل عدم إجراء أي انتقال عىل اإلطالق .أعلم أن هذا يبدو مثل يشء قد تقرأه يف أليس يف
بالد العجائب ،لكنه ذو تأثري كبري .نظ ًرا إىل ارتباط الزمن بتناظر القوانني الفيزيائية يف ظل
االنتقاالت يف الفضاء ،فإن تقييد الحجم الفعال للفضاء بهذا النوع من الدورية يقيد نطاق
الزخم املتاح الذي ميكن أن تحمله الجسيًّمت.
تقف هذه الحقيقة الوحيدة خلف طبيعة علوم اإللكرتونيات الدقيقة الحديثة كلها .إذا
وضعت اإللكرتونات داخل بنية بلورية ،ستكون حرية حركتها محدود ًة ضمن نطاق معني من
166
الزخم .وهذا يعني بدوره نطاقًا ثابتًا من الطاقات أيضً ا .اعتًّم ًدا عىل كيمياء الذرات والجزيئات
املوجودة يف الشبكة البلورية ،قد تكون اإللكرتونات املوجودة يف مجال الطاقة هذا مرتبط ًة
بالذرات الفردية وال تكون حرة الحركة .ال توصل املادة الكهرباء بسهولة إال يف حالة توافق هذا
«النطاق» من العزم والطاقات املتاحة مع مجال طاقة فيه اإللكرتونات حرة التحرك .يف أشباه
املوصالت الحديثة مثل السيليكون ،ميكن من طريق إضافة كثافة معينة من الشوائب املؤثرة
يف مجال طاقة اإللكرتونات املرتبط بالذرات تيسري حدوث تغيريات حساسة للغاية يف
موصلية املواد مع تغري الظروف الخارجية.
قد ترتبط مثل هذه الحجج يف الواقع بأكرب لغز يف فيزياء املادة املكثفة الحديثة .بني
عامي ،1911سنة اكتشاف أونس املوصلية الفائقة يف الزئبق ،و ،1987مل يُعرث عىل أي مادة
تصبح فائقة التوصيل عند درجات حرارة أعىل من 20درجة فوق الصفر املطلق .كان العثور
عىل مثل هذه املادة مبثابة الجائزة الكربى يف هذا املوضوع منذ فرتة طويلة .إذا أمكن إيجاد
مثال ،فقد تحدث ثورة يف التكنولوجيا .إذا أمكن
يشء فائق التوصيل يف درجة حرارة الغرفة ً
التغلب عىل املقاومة بصورة كاملة دون الحاجة إىل أنظمة تربيد معقدة ،فإن مجموعة جديدة
كاملة من األجهزة الكهربائية ستصبح عملية .عام ،1987كًّم ذكرت سابقًا ،اكتشف عاملان
يعمالن لدى رشكة IBMبالصدفة ماد ًة أصبحت فائقة التوصيل عند درجة حرارة 35درجة
فوق الصفر املطلق .ورسعان ما جرى البحث يف مواد أخرى مًّمثلة ،وحتى اآلن تم الكشف عن
مواد تصبح فائقة التوصيل عند درجة حرارة تزيد عن 100درجة فوق الصفر املطلق .ما يزال
هذا بعي ًدا كل البعد عن املوصلية الفائقة يف درجة حرارة الغرفة ،لكنه أعىل من نقطة غليان
النيرتوجني السائل ،الذي ميكن إنتاجه تجاريًا بتكلفة رخيصة نسبيًا .إذا أمكن تحسني هذا
الجيل الجديد من املوصالت الفائقة «عالية الحرارة» ومعالجتها وتحويلها إىل أسالك ،فقد
نكون عىل عتبة مجال جديد متا ًما من التكنولوجيا.
ما يفاجئنا بشأن هذه املوصالت الفائقة الجديدة هو أنها ال تشبه بأي شكل من األشكال
املواد فائقة التوصيل املوجودة مسبقًا .يف الواقع ،تتطلب املوصلية الفائقة يف هذه املواد إدخال
أساسا عازل يف حالته الطبيعية ،أي ال توصل الكهرباء عىل
ً الشوائب فيها ،والعديد منها
اإلطالق.
167
رغم الجهد املحموم الذي بذله آالف الفيزيائيني ،ال يوجد حتى اآلن فهم واضح للموصلية
الفائقة يف درجات الحرارة العالية .لكن أول ما ركزوا عليه كان تناظر الشبكة البلورية يف هذه
املواد ،التي يبدو أن لها ترتي ًبا محد ًدا تحدي ًدا جي ًدا .عالو ًة عىل ذلك ،فهي مصنوعة من طبقات
منفصلة من الذرات التي تبدو كأنها مستقلة عن بعضها .ميكن أن يتدفق التيار مبحاذاة هذه
الطبقات ثنائية األبعاد ،وال يتدفق عموديًا .ويبقى أن نرى :هل تعطينا التناظرات املحددة
للموصالت الفائقة يف درجات الحرارة العالية شكل التفاعالت املؤدية إىل حالة موصلية فائقة
عيانية لإللكرتونات؟ إذا كانت يف التاريخ عربة ،فهذا أفضل رهان.
سواء أحدثت هذه التناظرات الشبكية ثور ًة يف التكنولوجيا الكهربائية أو مل تُحدث ،فقد
أسهمت بالفعل يف تثوير علم األحياء .حصل السري ويليام براغ وابنه السري لورانس براغ عىل
جائزة نوبل عام 1905الكتشافهًّم الرائع .إذا ُسلّطت األشعة السينية ،ذات طول املوجة املًّمثل
للمسافة بني الذرات يف شبكة بلورية منتظمة ،عىل مثل هذه املواد ،فإن األشعة السينية املتناثرة
منتظًّم عىل شاشة الكشف .ميكن إرجاع طبيعة النمط مبارش ًة إىل تناظر الشبكة.
ً تشكل منطًا
وبهذه الطريقة ،قدم علم البلوريات باألشعة السينية ،كًّم أصبح معروفًا ،أدا ًة قوي ًة الستكشاف
تكوين الذرات الحيزي يف املواد ،ومن ثم ،استكشاف بنية األنظمة الجزيئية الكبرية التي قد
لعل البيانات البلورية باألشعة السينية التي
تضم عرشات آالف الذرات املصفوفة بانتظامّ .
فرسها واتسون وكريك وزمالؤهًّم ،والتي أدت إىل اكتشاف منط الحلزون املزدوج للحمض
النووي ،أشهر تطبيقات هذه التقنية .مل تقترص فيزياء املواد عىل التطورات التكنولوجية ،بل
قدمت رمبا أكرث العالقات الحميمية املعروفة بني التناظر والديناميكيات ،من طريق الفهم
الحديث للتحوالت الطورية .سبق أن وصفت كيف ملواد مختلفة متا ًما أن تسلك نفس السلوك
الفعال با لقرب من قيمة حرجة معينة لبعض املعلًّمت مثل درجة الحرارة أو املجاالت
املغناطيسية؛ ألن الفيزياء الدقيقة األكرث تفصيالً تفقد أهمتيها عند النقطة الحرجة ،ويتوىل
التناظر املسؤولية.
يترصف املاء واملغناطيس الحديدي عند نقطتيهًّم الحرجة بالطريقة نفسها لسببني
مرتبطني .أوالً ،أذكرك أن عند هذه النقطة الحرجة تحدث تقلبات صغرية متزامنة عىل املقاييس
مثال ،مهًّم كان املقياس ،إن كنا نشاهد ما ًء أو بخار ماء .ومبا
جميعها ،لذلك يستحيل أن نف ّرق ً
168
أن املادة تبدو متشابهة عىل جميع املستويات ،فإن الخصائص الفيزيائية الدقيقة املحلية ،مثل
حتًّم بال أهمية .ثان ًيا ،ولهذا السبب ،فإن كل ما
التكوين الذري املحدد لجزيء املاء ،ستصبح ً
يلزم لتوصيف تكوين املاء كثافته :هل املنطقة قيد النظر مفرطة الكثافة أم منخفضة الكثافة؟
ميكن توصيف املاء بالرقمني نفسهًّم 1+ ،أو ،1-اللذين ميكننا استخدامهًّم لتحديد نسق
املغناطيسات املجهرية داخل الحديد.
ترتبط هاتان امليزتان الحاسمتان ارتباطًا تكامل ًيا بفكرة التناظر .لقد أصبح املاء،
واملغناطيس الحديدي عند نقاطهًّم الحرجة ،مثل رقعة الشطرنج .مثة درجتان من الحرية
ميكن تضمينها :األسود مع األبيض ،والكثافة الزائدة مع الكثافة املنخفضة ،وأعىل مع أسفل.
مل يكن رضوريًا سري األمور عىل هذا النحو .عىل سبيل املثال ،ميكن أن تتضمن املعلمة األساسية
التي تصف الحاالت املحتملة للنظام بالقرب من نقطته الحرجة مجموع ًة أكرب من االحتًّمالت،
مثل اإلشارة إىل أي مكان حول دائرة ،كًّم قد تفعل املغناطيسات املجهرية يف مادة غري مقيدة
بإشارة أعىل وأسفل .مثل هذه املادة ،يف نقطتها الحرجة ،قد تبدو بشكل تخطيطي كًّم ييل:
قد تتخيل أن الخصائص األساسية ملثل هذه املادة عندما تقرتب من النقطة الحرجة
ستختلف عن املاء أو املغناطيس الحديدي املثايل الذي جرت مقارنته باملاء ،وقد تتخيل أنك
ستكون عىل صواب .ولكن ما الفرق الرئييس بني هذه الصورة وتلك املوضحة يف الصفحة
168بالنسبة للمياه عند النقطة الحرجة؟ إنها مجموعة القيم املحتملة للمعلمة التي تصف
الكثافة االنتقالية ،واتجاه املجال املغناطييس ،وما إىل ذلك .وما الذي مييز هذه املجموعة من
169
القيم املمكنة؟ التناظر األسايس لـ«معلمة الرتتيب» ،التي تصف التغيري يف «ترتيب» املادة .هل
ميكن أن تأخذ أي قيمة عىل دائرة ،أو مربع ،أو خط ،أو كرة؟
وبهذه الطريقة ،يحدد التناظر الديناميكيات مر ًة أخرى .تُح َّدد طبيعة تحول الطور عند
النقطة الحرجة بالكامل وفق طبيعة معلمة الرتتيب ،ومعلمة الرتتيب هذه مقيدة بتناظراتها.
مًّمثال عندما متر
ً كل املواد ذات معلمة الرتتيب ومجموعة التناظرات نفسها تسلك سلوكًا
كامال.
ً مبرحلة انتقالية عند النقطة الحرجة .ومر ًة أخرى ،يحدد التناظر الفيزياء تحدي ًدا
يف الواقع ،يسمح لنا استخدام التناظر هكذا بإقامة عالقة قوية بني فيزياء املواد وفيزياء
مثاال عىل كرس التناظر التلقايئ .ميكن ملعلمة
الجسيًّمت األولية .ألن الصورة أعاله ليست إال ً
الرتتيب التي تصف اتجاه املجاالت املغناطيسية املحلية يف الصورة السابقة أن تأخذ أي قيمة
عىل الدائرة .إنها متلك التناظر الدائري .وفور اختيار قيمة معينة ،يف منطقة ما ،فإنها «تكرس»
هذا التناظر من طريق اختيار مظهر واحد محدد من بني االحتًّمالت كلها .يف املثال أعاله ،عند
النقطة الحرجة ،تتقلب هذه القيمة باستمرار ،بغض النظر عن املقياس الذي تستخدمه
لقياسها .عىل أي حال ،بعي ًدا عن النقطة الحرجة ،سوف يهدأ النظام وصوالً إىل تكوين واحد
محتمل عىل مقاييس كبرية مبا فيه الكفاية ،مثل تكوين املاء يف الحالة السائلة ،أو اتجاه جميع
املغناطيسات إىل األعىل ،أو اتجاه جميع املغناطيسات إىل الرشق ،وهكذا .يف فيزياء الجسيًّمت
األولية ،نصف تكوين الحالة القاعية للكون« ،الفراغ» ،باستخدام خصائص أي تكوين متًّمسك
للحقول األولية ذات القيمة الثابتة يف هذه الحالة .ومعلًّمت الرتتيب هنا هي الحقول األولية
نفسها؛ إذا هدأت هذه إىل قيمة غري صفرية يف الفضاء الفارغ ،سوف تسلك الجسيًّمت
املتفاعلة مع هذه املجاالت سلوكًا مختلفًا عن الجسيًّمت التي ال تتفاعل .لقد كُرس التناظر
املوجود مسبقًا والذي رمبا ُوجد بني جسيًّمت أولية مختلفة.
نتيج ًة لذلك ،نتوقع أن يختفي كرس التناظر التلقايئ الذي مييز الطبيعة كًّم نالحظها
اليوم عىل نطاقات صغرية مبا فيه الكفاية – حيث تتقلب معامالت الرتتيب ،أي حقول الخلفية،
تقلبات كبرية ،ومن ثم ال ميكنها عىل أي حال تغيري خصائص حركة الجسيًّمت عىل مثل هذه
املقاييس الصغرية .عالو ًة عىل ذلك ،نعتقد أيضً ا أن كرس التناظر التلقايئ اختفى يف مرحلة
170
مبكرة ج ًدا من متدد االنفجار العظيم حيث كان الكون ساخنًا ج ًدا .إن النوع نفسه من التحول
الطوري الذي مييز متيع املاء مع تغري درجة الحرارة بالقرب من النقطة الحرجة ميكنه يف
الواقع الحدوث لحالة الكون القاعية .عند درجة حرارة عالية مبا يكفي ،قد تصبح التناظرات
واضحة ألن معامالت الرتتيب ،الحقول األولية يف الطبيعة ،ال ميكنها أن تهدأ لتصل قيمها عند
درجات الحرارة املنخفضة .وكًّم أن التناظرات توجه املاء خالل تحوالته الطورية ،ميكن أن
توجه تناظرات الطبيعة الكون يف تحوالته .نحن نعتقد أن مقابل كل تناظر ينكرس تلقائ ًيا عىل
املقاييس األولية اليوم ،كان مثة مرحلة طورية «كونية» مرتبطة بكرسه يف وقت مبكر مبا فيه
الكفاية .يُك ّرس جزء كبري من علم الكونيات اليوم الستكشاف اآلثار املرتتبة عىل مثل هذه
التحوالت ،التي يحكمها التناظر مرة أخرى.
بالعودة إىل األرض ،يؤدي التناظر دو ًرا أقوى يف التحوالت الطورية التي تحكم سلوك
املواد العادية .لقد رأينا أن تناظر معاملة ترتيب املاء ،أو املغناطيس ،أو دقيق الشوفان ،أو أي
يشء آخر ،ميكنه أن يحدد متا ًما سلوك هذه املواد عند نقاطها الحرجة .ولكن رمبا يكون أقوى
تناظر معروف يف الطبيعة هو الذي يحكم قدرتنا عىل وصف هذه التحوالت .وهذا التناظر،
الذي أدى دو ًرا منذ بداية هذا الكتاب ،هو ثبات املقياس .scale invariance
إن أساس القدرة عىل الربط بني مواد متنوعة مثل املغناطيس واملاء عند نقاطها الحرجة
حقيقة أن التقلبات تحدث عىل جميع املقاييس .تصبح املادة ثابتة الحجم :تبدو متشابه ًة عىل
جميع املقاييس .هذه خاصية مميزة ج ًدا لدرجة أن األبقار الكروية ال متلكها! تذكر أنني متكنت
من اإلدالء ببيانايت الشاملة حول طبيعة علم األحياء من طريق تقيص كروية سلوك األبقار
عندما تغري حجمها .إذا ظلت الفيزياء ذات الصلة ثابت ًة عىل نطاق واسع ،فسيتم السًّمح
باألبقار ذات الحجم التعسفي .لكن هذا ال يحدث ،ألن مادة األبقار ال تتغري كثافتها مع زيادة
حجم البقرة .سيكون هذا جوهريًا لبقاء الكميات ثابتةً ،مثل الضغط عىل سطح بطن البقرة
ليظل كًّم هو ،وجوهري للبقرة الخارقة لنمو رقبتها بتناسب ثابت مع حجمها.
لكن املواد عند النقطة الحرجة من تحول طوري تكون ثابتة الحجم .إن الرسوم البيانية
التخطيطية للمياه واملغناطيس مثل التي رسمتها لحظ ًيا متيز النظام متا ًما عىل جميع املقاييس.
171
لو استخدمت مجه ًرا ذو قوة تحليل أعىل ،لرأيت النوع نفسه من توزع التقلبات .ولهذا السبب،
خاصا ج ًدا ج ًدا من النًّمذج ميكنه وحده وصف مثل هذا النظام وصفًا صحي ًحا
ً فإن نو ًعا
بالقرب من نقطته الحرجة .أصبحت الرياضيات املثرية ملثل هذه النًّمذج محط اهتًّمم أعداد
مثال تصنيف جميع
كبرية من علًّمء الرياضيات والفيزياء يف السنوات األخرية .إذا متكن املرء ً
النًّمذج املمكنة ذات ثبات املقياس ،يغدو ممكنًا تصنيف جميع الظواهر الحرجة املحتملة يف
الطبيعة .إن ثبات املقياس إحدى أعقد ظواهر الطبيعة ،عىل املستوى املجهري عىل األقل،
وميكن التنبؤ بها متا ًما وعليه فهمها عىل األقل من منظور فيزيايئ .يُذكر أن العديد من املهتمني
بثبات املقياس كانوا ،أو ما زالوا علًّمء فيزياء الجسيًّمت .وذلك لوجود سبب لإلميان ،كًّم آمل
أن أوضح يف الفصل التايل ،بأن نظرية كل يشء ،Theory of Everythingبافرتاض وجود
مثل هذه النظريات ،ترتكز رمبا عىل ثبات املقياس.
أريد العودة ،يف نهاية هذا الفصل ،إىل بعض املالحظات اإلضافية حول املكان الذي
يقودنا إليه التناظر .وكًّم أرشت يف مقدمتي عن نظرية األوتار ،فإن هذا ،يف الواقع ،واحد من
املجاالت القليلة التي ميكن املرء فيها إلقاء نظرة خاطفة عىل أصول أبرز ما وصل إليه التقدم
العلم ي ،حيث تتحول النًّمذج الفكرية وتظهر وقائع جديدة .هذا هو املكان الذي ميكنني فيه
الحديث عن األشياء تحت السيطرة ،وتلك الخارجة عنها أيضً ا؛ كًّم وصفت سابقًا يف هذا
الفصل ،فإن األسئلة التي يطرحها الفيزيائيون حول الطبيعة غالبًا ما تسرتشد بالتناظرات التي
ال نفهمها متا ًما .اسمحوا يل أن أقدم لكم بعض األمثلة امللموسة عىل ذلك.
ما فعلته طوال هذا الفصل كان وضع افرتاضات ضمنية حول الطبيعة تبدو موثوق ًة ال
مثال بأنها مصدر
غبار عليها .ال ينبغي للطبيعة أن تهتم أين أو متى نختار وصفها ،إذا وصفناها ً
أهم قيدين عىل العامل املادي :حفظ الطاقة والزخم .إضاف ًة إىل ذلك ،يف حني أنني أستطيع
عاد ًة التمييز بني يدي اليمنى من اليرسى ،يبدو أن الطبيعة ال تهتم بأي منهًّم .هل يختلف
الحال يف فيزياء العامل الذي ننظر إليه يف املرآة؟ قد يبدو الجواب املعقول ال .عىل أي حال،
ريا عام .1956اقرتح اثنان من املنظرين األمريكيني من
ريا كب ً
تغري تصورنا ملا هو معقول تغ ً
أصل صيني املستحيل من أجل تفسري ظاهرة محرية تتعلق بالتحلل النووي :رمبا تستطيع
الطبيعة نفسها التمييز بني اليمني واليسار! جرى اختبار هذا االقرتاح برسعة .وقد لُوحظ تحلل
172
نيوترون داخل نواة كوبالت أنتج إلكرتونًا صاد ًرا ونيوترينو ،إضاف ًة إىل اتجاه مجاله
حفظ الثبات من اليسار إىل اليمني ،فاملفرتض أن تتوزعاملغناطييس املحيل اتجا ًها معينًا .إذا ُ
اإللكرتونات إىل اليمني واليسار بنفس القدر وسط ًيا .بدالً من ذلكُ ،وجد أن التوزيع غري
متناظر .والتكافؤ ،أو التناظر بني اليسار واليمني ،مل يكن من سًّمت التفاعالت الضعيفة التي
حكمت هذا التحول!
وضع هذا مجتمع الفيزياء بحالة صدمة تامة .والفيزيائيان تشني نينغ يانغ ،وتسونغ
داو يل ،حصال عىل جائزة نوبل يف غضون عام من توقعهًّم .أصبح انتهاك التكافؤ Parity
،violationكًّم يُعرف اليوم ،جز ًءا ال يتجزأ من نظرية التفاعل الضعيف ،ولهذا السبب ميتلك
النيوترينو ،وحده من بني الجسيًّمت يف الطبيعة الحساسة لهذا التفاعل فقط (عىل حد علمنا)،
سم ًة مميز ًة للغاية .تترصف الجسيًّمت مثل النيوترينوات ،وكذلك اإللكرتونات والربوتونات
والنيوترونات ،كًّم لو كانت «تدور» ،مبعنى أنها تترصف يف تفاعالتها مثل قمم صغرية أو
جريوسكوبات .يف حالة اإللكرتونات والربوتونات املشحونة ،فإن هذا الدوران يجعلها تترصف
مثل مغناطيس صغري ،له قطب شًّميل وجنويب .ويف حالة إلكرتون يتحرك حرك ًة محاذية،
فإن اتجاه مجاله املغناطييس الداخيل يكون عشوائ ًيا يف األساس .قد ال يكون للنيوترينو
املحايد مجال مغناطييس داخيل ،لكن دورانه ما يزال يشري إىل اتجاه ما .ومع ذلك ،فمن
خصائص انتهاك التكافؤ للتفاعالت الضعيفة أن النيوترينوات التي يدل دورانها عىل اتجاه
حركتها نفسه وحدها تنبعث أو متُ تص يف أثناء العمليات التي يتوسطها هذا التفاعل .ونحن
نسمي مثل هذه النيوترينوات «يساريةً» ،لسبب وجيه واحد مفاده ارتباط هذه الخاصية ارتباطًا
وثيقًا بـ«اليدوية» املالحظة يف توزيع الجسيًّمت املنبعثة أثناء االضمحالل النووي.
ليس لدينا أي فكرة عن وجود النيوترينوات «اليمنى» يف الطبيعة من عدمه .إن ُوجدت،
فال داعي للتفاعل عرب التفاعل الضعيف ،لذلك قد ال نعلم بوجودها .لكن هذا ال يعني أنها غري
موجودة .ميكننا أن نبني ،يف الواقع ،أن النيوترينوات إن مل تكن عدمية الكتلة متا ًما ،مثل
الفوتونات ،يصبح وجود النيوترينوات اليمنى عايل االحتًّمل .إذا ُوجد بالفعل أن أي نيوترينو
ذي كتلة غري صفرية ،سيمثل إشار ًة مبارش ًة إىل الحاجة إىل فيزياء جديدة ،مبا يتجاوز النموذج
املعياري .ولهذا السبب ،مثة اهتًّمم كبري بالتجارب الحالية للكشف عن النيوترينوات املنبعثة
173
من قلب الشمس .لقد ثبت أن النقص امللحوظ يف هذه النيوترينوات ،إذا كان حقيق ًيا ،فإن
وجود كتلة نيوترينو غري صفرية سيمثل إحدى أبرز املصادر املحتملة ملثل هذا النقص .وهذا
بدوره لو إذا كان هذا صحي ًحا ،سنفتح نافذ ًة جديد ًة متا ًما عىل العامل .إن انتهاك التكافؤ ،الذي
صدم العامل ليصبح اليوم جز ًءا أساس ًيا من منوذجنا له ،قد يوجهنا يف االتجاه الصحيح للبحث
عن قوانني الطبيعة األكرث جوهرية.
بعد وقت قصري من اكتشاف انتهاك التكافؤ ،لُوحظ غياب تناظر واضح آخر يف
الطبيعة :التناظر بني الجسيًّمت وجسيًّمتها املضادة .اعتُقد سابقًا ،أننا إذا استبدلنا بجميع
الجسيًّمت يف العامل جسيًّمتها املضادة ،فسيكون العامل نفسه نظ ًرا إىل تطابق الجسيًّمت
مثال.
املضادة يف جميع النواحي مع نظرياتها من الجسيًّمت ،باستثناء شحنتها الكهربائية ً
لكن األمر يف الواقع ليس بهذه البساطة ،ألن بعض الجسيًّمت ذات الجسيًّمت املضادة املميزة
محايدة كهربائ ًيا ،وال ميكن متييزها عن نظرياتها املضادة إال من طريق مالحظة كيفية
اضمحالل كل منها .اكتُشف عام 1964أن أحد هذه الجسيًّمت ،يسمى جسيم كاون املحايد،
اضمحالال ال يتوافق مع تناظر الجسيًّمت ومضادات الجسيًّمت .مر ًة أخرى ،يبدو أن
ً يضمحل
التفاعل الضعيف هو الجاين .تم قياس التفاعل القوي بني الكواركات التي تشكل الكاونات
مستقال للتقيد بتناظرات التكافؤ والتبادل بني الجسيًّمت ومضادات الجسيًّمت بدقة
ً قياسا
ً
عالية.
عىل أي حال ،أثبت جريارد هوفت عام ،1976يف واحدة من اكتشافاته النظرية العديدة
الرائدة ،أن ما بات النظرية املقبولة للتفاعل القوي ،الديناميكا اللونية الكمومية ،يجب أن ينتهك
كال من التكافؤ والتناظر بني الجسيًّمت ومضادات الجسيًّمت .جرى تقديم
يف الواقع ً
مقرتحات نظرية ذكية عديدة للتوفيق بني الحفظ الواضح املالحظ للجسيًّمت ومضاداتها يف
التفاعل القوي مع نتيجة هوفت .وحتى اآلن ،ال منلك أدىن فكرة عن صحة أي منها .ولعل أكرث
إثار ًة احتًّمل وجود جسيًّمت أولية جديدة تسمى األكسيونات ،axionsالتي إن وجدت ،قد
تكون املادة املظلمة التي تهيمن عىل كتلة الكون .وإذا اك ُتشفت عىل هذا النحو ،فقد حققنا
أوال تعلمنا أساسيات حول الفيزياء املجهرية ،وثان ًيا ،تحديدنا التطور
اكتشافني عميقني؛ ً
املستقبيل للكون .إذا توصلنا إىل مثل هذا االكتشاف ،فستكون اعتبارات التناظر منارة الطريق.
174
مثة تناظرات أخرى يف الطبيعة موجودة ،أو غري موجودة ،ألسباب ال نفهمها .إنها متثل
ماد ًة للبحث النظري الحديث .تثري مثل هذه املشكالت األسئلة الرئيسية املعلقة يف فيزياء
الجسيًّمت األولية :ملاذا توجد مجموعتان أو «عائلتان» متميزتان أخريان من الجسيًّمت األولية
تشبه الجسيًّمت املألوفة التي تشكل املادة العادية ،باستثناء أن هذه الجسيًّمت األخرى كلها
أثقل بكثري؟ ملاذا تختلف الكتل داخل كل عائلة؟ ملاذا تختلف «مقاييس» التفاعل الضعيف
والجاذبية؟ أصبح من تقاليد الفيزيائيني وضع هذه األسئلة يف إطار التناظر ،وليس غري
معقول أن نتوقع ،استنا ًدا إىل كل خربتنا حتى اآلن ،أن اإلجابات ستكون ضمن هذا اإلطار.
175
الفصل السادس
العلم بحر ال ينضب
لسنا ندعي أن الصورة التي نرسمها هي الحقيقة الكاملة ،إمنا تشبهها فحسب.
— فيكتور هوغو ،البؤساء
يعجبني أحد مشاهد أفالم وودي آلن ،إذ يزور رجل مهووس مبعنى الحياة
واملوت والديه ،ويرتبك ويرصخ طل ًبا للنصح .عندها ينظر والده إىل األعىل
قائال« :ال تسألني عن معنى الحياة .فأنا ال أعرف حتى كيف تعمل
ويشتيك ً
املحمصة!»
بالنسبة يل فقد شددتُ يف هذا الكتاب ،لكن رمبا ليس بنفس القدر من
اإلقناع ،عىل العالقة القوية بني املسائل الغيبية أحيانًا التي تعنى بأحدث
التطورات وفيزياء الظواهر اليومية .لذا يبدو من املناسب أن أركز يف هذا
الفصل األخري عىل الكيفية التي يدفعنا بها هذا االرتباط نحو االكتشافات
املرتقبة يف القرن الواحد والعرشين .إذ إن األفكار التي ناقشتُها –وأقصد تلك
التي انبثقت من االجتًّمع الصغري يف شيلرت آيالند منذ خمسني عا ًما تقري ًبا–
أحدثَت ثورة يف العالقة بني أية اكتشافات مستقبلية محتملة ونظرياتنا الحالية.
رمبا كانت النتيجة هي عملية إعادة التنظيم األكرث عم ًقا وحداثة يف
رؤيتنا للعامل والتي حصلت خالل العرص الحديث .وما زالت فكرة «اإلجابة
النهائية» إىل حد كبري مسألة تحيز شخيص .ومع ذلك ،فقد قادتنا الفيزياء
الحديثة إىل عتبة فهم السبب ،عىل األقل بشكل مبارش ،ال يهم ح ًقا.
والسؤال الرئييس الذي أريد أن أتناوله هنا هو :ما الذي يوجه تفكرينا
ج ّل هذا الكتاب أصف كيف ص َقل
قضيت ُ
ُ حول مستقبل الفيزياء ،وملاذا؟ لقد
الفيزيائيون أدواتهم لبناء فهمنا الحايل للعامل ،وذلك ألسباب من أهمها أن هذه
األدوات عىل وجه التحديد هي ما سيوجه نهجنا الحايل تجاه تلك األشياء التي
176
مل نفهمها بعد .لذا ،فإن املناقشة التالية تعيدين إىل نقطة البداية ،عند التقريب
والنطاق ،وسننتهي حيث بدأنا.
بناء عىل املناقشة السابقة ،قد تبدو اإلجابة واضحة .ففي نهاية املطاف،
ميكننا قياس االنحرافات عن قانون نيوتن .لكن من ناحية أخرى ،إذا كانت كل
املالحظات التي قد نشاهدها مبارشة يف حياتنا تتوافق مع تنبؤات قانون نيوتن،
فهو بالتأكيد صحيح لجميع املقاصد واألغراض .حتى نتجاوز هذه الجزئية
بدال من ذلك أننا نحدد الحقيقة العلمية لتشمل فقط تلك
التقنية ،لنفرتض ً
األفكار التي تتوافق متا ًما مع كل ما نعرفه عن العامل .من املؤكد أن قانون نيوتن
ال يل ّبي هذا املعيار .لكنه كان كذلك حتى أواخر القرن التاسع عرش عىل األقل.
فهل كان صحيحا حينها؟ وهل الحقيقة العلمية مرتبطة بالزمن؟
177
قد تقول ،خاصة إذا كنت محام ًيا ،إن صياغة تعريفي الثاين أيضً ا سيئة.
إذ ينبغي يل أن أزيل عبارة «كل ما نعرفه» وأستبدلها رمبا بعبارة «كل ما هو
موجود» ،وبذلك يكون التفسري ال لَبس فيه .ولكن ذلك عديم الفائدة أيضً ا! فقد
أصبح فلسف ًة وال ميكن اختباره .ولن ندري قط إن كنا نعرف كل ما هو موجود
أم ال ،إذ إننا لن نحيط مبا ال نعرفه! طب ًعا ال ميكن التغلب عىل هذه املشكلة،
ولكن لها آثار مهمة ال تحظى بالتقدير يف كثري من األحيان .يتمثل أحد املبادئ
األساسية للعلم يف أننا ال نستطيع أب ًدا إثبات صحة يشء ما؛ ميكننا فقط إثبات
عدم صحته .هذه فكرة مهمة ج ًدا ،وهي أساس كل تقدم علمي .فبمجرد أن نجد
مثاال تختلف فيه النظرية املعمول بها آلالف السنني مع املالحظة ،عندها ندرك
ً
وجوب التعديل ،إما بإضافة بيانات جديدة أو بوضع نظرية جديدة .ال مكان
للجدال هنا.
ومع ذلك ،مثة قضية أعمق مدفونة هنا ،آمل أن تكون أقل داللة ،وهي
القضية التي أريد الرتكيز عليها .ماذا يعني أن نقول ،حتى من حيث املبدأ ،إن
هذه النظرية أو تلك هي النظرية الصحيحة؟ لننظر إىل نظرية الديناميكا
الكهربائية الكمومية ( ،)QEDالتي اكتملت بعد االجتًّمع يف شيلرت آيالند يف
العام .1947قبل ذلك بعرشين عا ًما تقريبًا ،كان ديراك الشاب قد كتب معادلته
أسلفت ،هذه املعادلة
ُ النسبية للحركة امليكانيكية الكمومية لإللكرتون .إمنا كًّم
ريا صحي ًحا لكل ما كان معروفًا عن اإللكرتونات طَرحت عد ًدا
التي قدمت تفس ً
من املشكالت التي ُعقد اجتًّمع شيلرت آيالند ملعالجتها .وتتابعت التناقضات
الرياضية املربكة .ق ّدم عمل فاينًّمن وشفينغر وتوموناغا يف نهاية املطاف
طريقة متسقة للتعامل مع هذه املشكالت والوصول إىل تنبؤات ذات معنى
تتوافق كل ًيا مع جميع البيانات .كانت كل القياسات التي أُجريت لتأثُر
اإللكرتونات والضوء لعقود تلت اجتًّمع شيلرت آيالند متفقة متا ًما مع تنبؤات
هذه النظرية .يف الواقع ،إنها النظرية األفضل اختبا ًرا يف العامل .وقد قورنت
الحسابات النظرية بقياسات تجريبية فائقة الحساسية ،وأصبح التوافق اآلن
178
أفضل بـ 9منازل عرشية يف بعض الحاالت! لن نتوصل إىل نظرية أكرث دقة
من هذه وال يف األحالم.
إذًا هل نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية هي نظرية تأثُر
فمثال نحن نعلم أنه إذا أخذنا بعني االعتبار
اإللكرتونات والفوتونات؟ بالطبع الً .
العمليات التي تتم بوجود طاقات عالية مبا فيه الكفاية والتي تتضمن جسيًّمت
(دبليو) و (زد) الثقيلة ،عندها تصبح نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية
جز ًءا من نظرية أكرب ،وهي نظرية «الكهروضعيفة» .يف هذه املرحلة ،ال تكون
نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية وحدها كاملة.
ليس يف ذلك خطأ .فحتى لو مل تكن جسيًّمت دبليو وزد موجودة وكانت
القوة الكهرومغناطيسية هي القوة الوحيدة التي نعرفها يف الطبيعة إىل جانب
الجاذبية ،فال نستطيع أن نسمي نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية باسم
نظرية اإللكرتونات والفوتونات .ألن ما تعلمناه يف السنوات الالحقة الجتًّمع
شيلرت آيالند هو أن هذا البيان ،بدون مزيد من التأهيل ،ليس له معنى فيزيايئ.
لقد علَّمنا دمج النسبية وميكانيكا الكم ،والذي كانت نظرية الديناميكا
الكهربائية الكمومية أول مثال ناجح لها ،أن كل نظرية مثل نظرية الديناميكا
الكهربائية الكمومية لها معنى بقدر ما نربط نطاق األبعاد بكل تنبؤ .عىل سبيل
املثال ،من املفيد أن نقول إن نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية هي نظرية
تأثُر اإللكرتون والفوتون التي تحدث عىل مسافة 10-10سنتيمرتات عىل
سبيل املثال .وعىل هذا النطاق ،فإن جزيئات دبليو وزد ليس لها تأثري مبارش.
قد يبدو هذا التمييز مثل تصيّد األخطاء يف الوقت الحايل ،ولكن ثق يب ،فهو
ليس كذلك.
يف الفصل األول ،شددتُ عىل رضورة ربط األبعاد والنطاق بالقياسات
الفيزيائية .لقد بدأ االعرتاف بالحاجة إىل ربط نطاقات الطول أو الطاقة
بالنظرية الفيزيائية بشكل جدي عندما أت ّم هانز بيته التقريب الذي سمح له
بحساب انزياح المب بعد اجتًّمع شيلرت آيالند بخمسة أيام .تذكر أن بيته كان
179
قاد ًرا عىل تحويل عملية حسابية صعبة إىل تنبؤ باستخدام املنطق الفيزيايئ
كأساس لتجاهل التأثريات التي مل يفهمها.
تذكر ما كان بيته ضده .تشري النسبية وميكانيكا الكم إىل إمكانية
«انبثاق» الجسيًّمت تلقائ ًيا من الفضاء الفارغ ثم اختفائها رسي ًعا ،طاملا أنها
تفعل ذلك لفرتة قصرية ج ًدا بحيث ال ميكن قياسها بشكل مبارش .ومع ذلك،
فإن الهدف األسايس من حساب تحول المب هو إثبات إمكانية تأثري هذه
الجسيًّمت عىل الخصائص القابلة للقياس للجسيًّمت العادية ،مثل اإللكرتون
املوجود يف ذرة الهيدروجني .لكن املشكلة هي أن تأثريات جميع الجسيًّمت
االفرتاضية املحتملة ،ذات الطاقات العالية عشوائ ًيا ،جعلت حساب خصائص
اإللكرتون أم ًرا مستعص ًيا رياض ًيا .يعتقد بيته أنه إذا كانت النظرية معقولة
بطريقة ما ،فإن تأثري الجسيًّمت االفرتاضية ذات الطاقة العالية عشوائ ًيا والتي
تعمل عىل فرتات زمنية قصرية ج ًدا ينبغي تجاهله .ومل يكن يعرف يف ذلك
الوقت كيفية التعامل مع النظرية الكاملة ،لذا فقد استبعد تأثريات هذه
ريا ،وهذا ما كان.
الجسيًّمت االفرتاضية عالية الطاقة وتأ ّمل خ ً
عندما اكتشف فاينًّمن ،وشفينغر ،وتوموناغا كيفية التعامل مع النظرية
الكاملة ،وجدوا أن تأثريات الجسيًّمت االفرتاضية عالية الطاقة ميكن بالفعل
تجاهلها باستمرار .وقدمت النظرية إجابات منطقية مثل أية نظرية منطقية
أخرى .ففي املحصلة ،إذا كانت التأثريات عىل النطاقات الزمنية واملسافية
متناهية الصغر كبري ًة مقارنة بالنطاقات الذرية التي يتم قياسها ،فلن يكون
هناك أمل يف دراسة الفيزياء .هذا يشبه القول إننا إذا أردنا فهم حركة كرة
البيسبول ،فعلينا أن نتتبع بالتفصيل القوى املؤثرة عىل املستوى الجزيئي خالل
كل جزء من مليون جزء من الثانية من حركتها.
تضمنت الفيزياء منذ أيام غاليليو تجاهل املعلومات غري ذات الصلة ،وهي
حقيقة أكدتُها أيضً ا يف الفصل األول .وهذا صحيح حتى يف الحسابات الدقيقة
للغاية .فكر يف مثال كرة البيسبول مرة أخرى .حتى لو حسبنا حركتها ألقرب
ملليمرت ،فًّم نزال نفرتض أننا نستطيع التعامل معها ككرة بيسبول .يف الواقع،
180
هي عبارة عن مزيج من حوايل 2410ذرة ،يؤدي كل منها العديد من االهتزازات
والدورات املعقدة أثناء طريان الكرة .ومع ذلك ،فمن الخصائص األساسية
لقوانني نيوتن أننا نستطيع أخذ جسم معقد عشوائ ًيا وتقسيم حركته إىل
جزأين )1( :حركة «مركز الكتلة» التي يتم تحديدها من خالل متوسط موضع
جميع الكتل الفردية قيد النظر ،و( )2حركة جميع األجسام الفردية حول مركز
الكتلة .الحظ أنه ليس من الرضوري وقوع مركز الكتلة حيث توجد أية كتلة
فعلية .عىل سبيل املثال ،يقع مركز كتلة قطعة الدونات يف املركز مبارشةً ،حيث
يوجد الثقب! وإذا أردنا رمي قطعة الدونات يف الهواء ،فقد تدور وتدور بطرق
معقدة ،لكن مركز الكتلة ،أي ثقب الدونات ،سيتبع الحركة املكافئة البسيطة التي
أوضحها غاليليو ألول مرة.
وهكذا ،عندما ندرس حركة الكرات أو الدونات وفقا لقوانني نيوتن ،فإننا
يف الواقع ندرس ما نسميه اآلن نظرية فعالة .يجب أن تكون النظري ُة األكرث
اكتًّمال نظري َة الكواركات واإللكرتونات ،أو عىل األقل نظرية الذرات .لكننا
ً
قادرون عىل جمع كل هذه املستويات الحرة التي ال عالقة لها باملوضوع يف
يشء نسميه كرة ،ونعني بها مركز كتلة الكرة .تتضمن قوانني حركة جميع
األجسام العيانية نظري ًة فعالة لحركة مركز كتلتها وما حوله.
كل ما نحتاجه هو النظرية الفعالة لحركة الكرة ،وميكننا اإلفادة منها
بدرجة كبرية بحيث منيل إىل اعتبارها أساسية .ما سأناقشه اآلن هو أن جميع
نظريات الطبيعة ،عىل األقل تلك التي تصف الفيزياء حاليًا ،هي بالرضورة
نظريات فعالة .فعندما تضع إحداها تُقيص غريها يف الوقت ذاته.
اتّضحت فائدة النظريات الفعالة يف ميكانيكا الكم يف وقت مبكر .عىل
سبيل املثال ،يف القياس الذري لحركة مركز كتلة الكرة التي تحدثت عنها ت ًوا،
تتمثل إحدى الطرق الكالسيكية لفهم سلوك الجزيئات يف ميكانيكا الكم –
والتي تعود إىل عرشينيات القرن العرشين عىل األقل– بفصل الجزيئات إىل
درجات حرية «رسيعة» و«بطيئة» .ومبا أن نوى الجزيئات ثقيلة ج ًدا،
ستتضمن استجابتها للقوى الجزيئية تباي ًنا أصغر وأبطأ من اإللكرتونات التي
181
تدور حولها برسعة عىل سبيل املثال .وبالتايل ميكننا اتباع إجراء مثل هذا للتنبؤ
أوال ،تخيل أن النوى ثابتة وغري متغرية ،ثم احسب حركة
بخصائصهاً .
اإللكرتونات حول هذه األجسام الثابتة .عندها ،طاملا أن النوى تتحرك ببطء،
فمن غري املتوقع أن تؤثر هذه الحركة بشكل كبري عىل تكوين اإللكرتونات.
ستتبع مجموعة اإللكرتونات املدمجة حرك َة النوى بسالسة ،والتي بدورها
ستتأثر فقط مبتوسط تكوين اإللكرتون .وبالتايل فإن تأثري اإللكرتونات
الفردية «ينفصل» عن حركة النواة .ميكننا بعد ذلك وصف نظرية فعالة للحركة
النووية تتبع بوضوح درجات الحرية النووية فقط وتستبدل جميع اإللكرتونات
الفردية بكمية واحدة متثل متوسط تكوين الشحنة .يُطلق عىل هذا التقريب
الكالسييك يف ميكانيكا الكم اسم نظرية بورن-أوبنهامير ،عىل اسم
الفيزيائ َيني املشهورين اللذين اقرتحاها ألول مرة ،وهًّم ماكس بورن وروبرت
أوبنهامير .وهذا يشبه متا ًما وصف حركة الكرة مبجرد تت ّبع مركز كتلة الكرة،
باإلضافة رمبا إىل الحركة ال َجمعية لجميع الذرات حول مركز الكتلة ،أي
الطريقة التي تدور بها الكرة.
وصفت كيفية
ُ مثاال آخر أحدث يتعلق باملوصلية الفائقة .لقد
ً لنأخذ
ارتباط أزواج اإللكرتونات م ًعا يف املوصل الفائق لتشكل تكوينًا متًّمس ًكا .يف
مثل هذه الحالة ،ال نحتاج إىل وصف املادة من خالل تتبّع جميع اإللكرتونات
منفردة .ومبا أننا نحتاج الكثري من الطاقة لنتسبب بانحراف إلكرتون فردي عن
النمط الجًّمعي ،فيمكننا تجاهل الجسيًّمت الفردية بشكل فعال .بدالً من ذلك،
ميكننا بناء نظرية فعالة من حيث كمية واحدة فقط تصف التكوين املتًّمسك.
تَستنسخ هذه النظرية ،التي اقرتحها لندن يف الثالثينات وطورها الفيزيائيان
السوفييتيان النداو وجينسبريغ يف العام ،1950بطريقة صحيحة جميع
السًّمت العيانية الرئيسية للمواد فائقة التوصيل –مبا يف ذلك تأثري مايسرن
بالغ األهمية ،الذي يجعل الفوتونات تترصف مثل أجسام ضخمة داخل
املوصالت الفائقة.
182
لقد أرشتُ سابقًا إىل أن فصل املشكلة إىل متغريات ذات صلة وغري ذات
صلة ليس أسلوبًا جدي ًدا يف حد ذاته .بَيد أن التكامل بني ميكانيكا الكم
والنسبية أدى إىل رضورة إزالة املتغريات غري ذات الصلة .من أجل حساب نتائج
أية عملية فيزيائية مجهرية قابلة للقياس ،علينا تجاهل عدد ال حرص له من
قليال منها فحسب.
الكميات وليس عد ًدا ً
لحسن الحظ ،أثبت اإلجراء الذي بدأه فاينًّمن وآخرون أنه ميكن تجاهل
هذه األمور دون أن يشكل ذلك أية مشكلة.
حا .لنأخذ
سأحاول وصف هذه النقطة الرئيسية يف سياق أكرث وضو ً
بعني االعتبار «اصطدام» إلكرتونني .بحسب الكهرومغناطيسية الكالسيكية،
فإن اإللكرتونني سيتنافران .إذا كان اإللكرتونان يتحركان يف البداية ببطء
شديد ،فلن يقرتبا أب ًدا من بعضها ،وقد تكون التفاسري الكالسيكية كافية
لتحديد سلوكهًّم النهايئ بشكل صحيح .لكن إذا كانا يتحركان برسعة كافية
يف البداية ليقرتبا من بعضها ،تصبح تفاسري ميكانيكا الكم عىل املقياس الذري
رضورية.
ما الذي «يراه» اإللكرتون عندما يتفاعل مع املجال الكهربايئ إللكرتون
آخر؟ يحمل كل إلكرتون الكثري من األثقال بسبب وجود أزواج افرتاضية من
الجسيًّمت والجسيًّمت املضادة التي تنبثق من الفراغ .تلك الجسيًّمت املوجبة
التي تخرج للحظات من الفراغ سوف تنجذب إىل اإللكرتون ،يف حني تُنبذ
رشكائها السالبة .وهكذا ،يحمل اإللكرتون بطريقة ما «سحابة» من الجسيًّمت
االفرتاضية حوله .ومبا أن معظم هذه الجسيًّمت تنبثق من الفراغ لفرتة قصرية
للغاية وتنتقل ملسافة صغرية للغاية ،تكون هذه السحابة معظم الوقت صغرية
ج ًدا .ميكننا جمع تأثري جميع الجسيًّمت االفرتاضية عىل مسافات كبرية
ببساطة عن طريق «قياس» شحنة اإللكرتون .وبذلك ،فإننا نجمع يف رقم واحد
الجوانب املعقدة املحتملة للمجال الكهربايئ بسبب الجسيًّمت االفرتاضية التي
َ
قد تحيط باإللكرتون .وهذا «يحدد» شحنة اإللكرتون التي نراها مكتوبة يف
الكتب املدرسية .هذه هي الشحنة الفعالة التي نقيسها عىل مسافات كبرية يف
183
جهاز باملخترب ،من خالل فحص حركة اإللكرتون يف جهاز تلفزيون ،عىل سبيل
املثال ،عند تطبيق مجال خارجي.
وبالتايل ،ال تعترب كمية شحنة اإللكرتون أساسية إال بقدر ما تصف
قاسا عىل مقياس معني! وإذا أرسلنا إلكرتونًا آخر أقرب إىل
اإللكرتون ُم ً
مييض بعض الوقت يف أطراف هذه السحابة من اإللكرتون األول ،فقد ُ
الجسيًّمت االفرتاضية ويسرب شحن ًة مختلفة بشكل فعال يف الداخل .من حيث
املبدأ ،هذا مثال عىل نفس نوع التأثري مثل انزياح المب .ميكن أن تؤثر
الجسيًّمت االفرتاضية عىل الخصائص امل ُقاسة للجسيًّمت الحقيقية .املهم هنا
هو أنها تؤثر عىل عدد من الخصائص مثل شحنة اإللكرتون بشكل مختلف
اعتًّم ًدا عىل النطاق الذي تقيسها به.
إذا طرحنا أسئلة مناسبة للتجارب التي تُجرى عىل نطاق طول معني أو
أكرب ،والتي تتضمن إلكرتونات تتحرك بطاقة أصغر من كمية معينة ،حينها
ميكننا كتابة نظرية فعالة كاملة تتنبأ بكل قياس .ستكون هذه النظرية هي
نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية مع معا ِمالت حرة مناسبة ،وشحنة
اإللكرتون ،وما إىل ذلك ،والتي تم تثبيتها اآلن لتكون مناسبة لنطاق التجربة،
وفقًا ملا تحدده نتائج التجربة .ومع ذلك ،تتجاهل كل هذه الحسابات بالرضورة
كمي ًة ال حرص لها من املعلومات ،وهي تلك املعلومات املتعلقة بالعمليات
االفرتاضية التي تعمل عىل نطاقات أصغر مًّم ميكن لقياساتنا التحقق منه.
قد يبدو من غري املعقول أن نتجاهل هذا القدر الكبري من املعلومات ،وقد
بدا األمر كذلك لبعض الوقت حتى بالنسبة للفيزيائيني الذين اخرتعوا هذا
اإلجراء .لكن بعد التفكري ،إذا أردنا دراسة الفيزياء ،فهذا ما يجب أن يكون .ففي
نهاية املطاف ،قد ال تكون املعلومات التي نتجاهلها صحيحة! يتضمن كل قياس
يف العالَم نطاقًا معي ًنا للطول أو الطاقة .ويتم تحديد نظرياتنا أيضً ا من خالل
نطاق الظواهر الفيزيائية التي ميكننا فحصها .قد تتنبأ هذه النظريات
مبجموعة ال حرص لها من األشياء بنطاقات بعيدة عن متناولنا يف أي وقت،
ولكن ملاذا علينا أن نصدق أيًا منها إىل أن نقيسها؟ سيكون من الرائع أن تكون
184
النظرية املصممة لرشح تأثر اإللكرتونات بالضوء صحيحة متا ًما يف جميع
وصوال إىل نطاقات أصغر بكثري من أي يشء نعرفه حال ًيا .قد يكون
ً تنبؤاتها،
هذا هو الحال ،ولكن يف كلتا الحالتني ،هل ميكننا أن نتوقع أن تكون صحة
النظرية عىل النطاقات التي ميكننا التحقق منها اآلن رهينة لقدرتها املحتملة
عىل تفسري كل يشء عىل نطاقات أصغر؟ بالتأكيد ال .لكن يف هذه الحالة ،من
األفضل أن تكون جميع العمليات الغريبة ،التي تنبأت النظرية بحدوثها عىل
ري ذات صلة بتنبؤاتها
نطاقات أصغر بكثري مًّم ميكننا التحقيق فيه اآلن ،غ َ
للمقارنة مع التجارب الحالية ،وذلك عىل وجه التحديد ألن لدينا كل األسباب
لالعتقاد بأن هذه العمليات الغريبة ميكن بسهولة أن تكون بقايا خيالية لدفع
النظرية إىل ما هو أبعد من مجال تطبيقها .إذا كان ال بد من أن تكون النظرية
صحيحة عىل جميع النطاقات لإلجابة عىل سؤال حول ما يحدث عىل نطاق ما
ثابت ،فسيتعني علينا أن نعرف نظرية كل يشء قبل أن نتمكن من تطوير نظرية
يشء ما.
يف مواجهة هذا الوضع ،كيف ميكننا أن نعرف ما إذا كانت النظرية
«أساسية» – أي ما إذا كان لديها أمل يف أن تكون صحيحة عىل جميع
النطاقات؟ يف الحقيقة ،ال ميكننا ذلك .يجب النظر إىل جميع النظريات
الفيزيائية التي نعرفها عىل أنها نظريات فعالة عىل وجه التحديد ألنه يتعني
علينا تجاهل تأثريات الظواهر الكمومية الجديدة املحتملة التي قد تحدث عىل
نطاقات صغرية ج ًدا من أجل إجراء حسابات لتحديد ما تتنبأ به النظرية عىل
نطاقات أكرب ميكن قياسها حاليًا.
ولكن كًّم هو الحال يف كثري من األحيان ،فإن هذا النقص الواضح هو
يف الحقيقة نعمة .فكًّم تنبأنا متا ًما يف بداية هذا الكتاب مبا يجب أن تكون
عليه خصائص البقرة الخارقة من خالل التوسع يف خصائص األبقار املعروفة،
تشري حقيقة اعتًّمد قوانيننا الفيزيائية عىل الحجم إىل إمكانية قدرتنا عىل
التنبؤ بكيفية تطورها أيضً ا بينًّم نستكشف نطاقات أصغر يف الطبيعة .إذًا
185
ميكن أن تعطي فيزياء اليوم إشارة واضحة لفيزياء الغد! يف الواقع ،ميكننا
حتى التنبؤ مسبقًا عندما تكون هناك حاجة إىل اكتشاف جديد.
عندما تتنبأ نظرية فيزيائية ما بالهراء أو تصبح غري قابلة لإلدارة رياض ًيا
عندما تؤخذ يف االعتبار تأثريات العمليات امليكانيكية الكمومية االفرتاضية
األصغر نطاقًا ،فإننا نعتقد أن هناك عمليات فيزيائية جديدة يجب أن تدخل عىل
نطاق ما «لعالج» هذا السلوك .وإن تطور النظرية الحديثة للتأثر الضعيف هو
مثال عىل ذلك .وضع إنريكو فريمي يف العام 1934نظرية تصف اضمحالل
«بيتا» للنيوترون إىل بروتون وإلكرتون ونيوترينو –وهو االضمحالل الضعيف
النموذجي .كانت نظرية فريمي مبنية عىل التجربة ،وكانت متفقة مع كل
املعطيات املعروفة .ومع ذلك ،فإن التأثر «الفعال» الذي كُتب لتفسري اضمحالل
مخصصا ،ألنه مل يكن مبن ًيا عىل أية
ً النيوترون إىل ثالث جسيًّمت أخرى كان
مبادئ فيزيائية أساسية أخرى تتجاوز اتفاقه مع التجربة.
مبجرد فهم الديناميكا الكهربائية الكمومية ،اتضح أن تأثُر فريمي
الضعيف يختلف بشكل أسايس يف طبيعته عن الديناميكا الكهربائية
الكمومية .عندما ذهبنا إىل ما هو أبعد من اضمحالل بيتا البسيط ،الستكشاف
ما ميكن أن تتنبأ النظرية بحدوثه عىل نطاقات أصغر ،واجهنا مشاكل.
فالعمليات االفرتاضية التي ميكن أن تحدث عىل نطاقات أصغر مبئات املرات
من حجم النيوترون من شأنها أن تجعل تنبؤات النظرية غري قابلة لإلدارة
مبجرد محاولة التنبؤ بنتائج التجارب املحتملة عىل مثل هذه النطاقات.
مل تكن هذه املشكلة موجودة ،ألنه مل تكن هناك تجارب قادرة بشكل
مبارش عىل استكشاف مثل هذه النطاقات ألكرث من خمسني عا ًما بعد اخرتاع
فريمي منو َذجه .ومع ذلك ،بدأ املنظرون قبل ذلك بوقت طويل يف استكشاف
الطرق املمكنة لتوسيع منوذج فريمي وعالج مشكالته .كانت الخطوة األوىل
للتغلب عىل هذه املشكلة واضحة .ميكننا حساب نطاق املسافة الذي تبدأ عنده
املشاكل الشديدة يف تنبؤات النظرية .يعترب هذا النطاق أصغر من حجم
النيوترون بحوايل 100مرة ،وهو أصغر بكثري من أي نطاق ميكن الوصول
186
إليه يف أية منشأة موجودة آنذاك .كانت أبسط طريقة لعالج املشكلة هي
االفرتاض أنه ميكن أن تصبح بعض العمليات الفيزيائية الجديدة ،التي مل يتم
التنبؤ بها يف سياق نظرية فريمي وحدها ،مهم ًة عىل هذا النطاق (وليس عىل
نطاق أكرب) ،وميكنها بطريقة أو بأخرى مواجهة السلوك السيئ للعمليات
االفرتاضية يف نظرية فريمي .وكان االحتًّمل األكرث مبارشة هو إدخال جسيًّمت
افرتاضية جديدة كتلتها حوايل 100مرة كتلة النيوترون ،األمر الذي من شأنه
أن يجعل النظرية أفضل .ونظ ًرا ألن هذه الجسيًّمت كانت ضخمة ج ًدا ،فيمكن
إنتاجها كجسيًّمت افرتاضية فقط لفرتات قصرية ج ًدا ،وبالتايل ال ميكنها
التحرك إال عىل نطاقات مسافات صغرية ج ًدا .ستعطي هذه النظري ُة الجديدة
نتائج مًّمثلة لنظرية فريمي ،طاملا أُجريت التجارب عىل نطاقات ال تستكشف
َ
بنية التأثُر ،أي عىل نطاقات أكرب من املسافة التي تقطعها الجسيًّمت
االفرتاضية الضخمة.
لقد رأينا أن البوزيرتونات ،التي كان من املتوقع وجودها كجزء من أزواج
جزيئات افرتاضية يف الديناميكا الكهربائية الكمومية ،موجودة أيضً ا
كجسيًّمت حقيقية قابلة للقياس ،رشيطة وجود ما يكفي من الطاقة لتكوينها.
وكذلك األمر بالنسبة للجسيًّمت االفرتاضية فائقة الثقل الجديدة التي يُتوقع
وجودها من أجل عالج نظرية فريمي .وهذه هي جسيًّمت دبليو وزد فائقة
ريا بشكل مبارش كأجسام حقيقية يف مرسع جسيًّمت
الثقل التي اكتُشفت أخ ً
عايل الطاقة بُني يف جنيف يف العام ،1984بعد خمسة وعرشين عا ًما تقريبًا
من الحديث عنها نظريًا ألول مرة.
كًّم قلت ،تُشكل جسيًّمت دبليو وزد جز ًءا مًّم يُعرف حاليًا بالنموذج
القيايس لفيزياء الجسيًّمت الذي يصف القوى الالتجاذبية الثالثة يف الطبيعة:
وهي القوى القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية .قد تكون هذه النظرية
«أساسية» ،إذ ال يشء مًّم يتعلق بالعمليات االفرتاضية املحتملة بنطاقات طولية
صغرية ج ًدا والتي يُتوقع حدوثها يف النظرية يتطلب بشكل مبارش عمليات
جديدة تتجاوز تلك املتوقعة يف النظرية عىل هذه النطاقات .وعليه ،ميكن أن
187
تكون هذه النظرية كاملة عىل هذا النحو الذي ال يصدقه أحد .وعىل نفس
املنوال ،ال يشء مينع وجود فيزياء جديدة تعمل عىل نطاقات طول صغرية ج ًدا.
بل إن هناك حج ًجا نظرية قوية أخرى تشري إىل صحة ذلك ،كًّم سأوضح.
يف حني تدلنا نظريات مثل نظرية فريمي ،التي تعترب «مريضة»،
بوضوح عىل الحاجة إىل فيزياء جديدة ،ميكن لنظريات مثل النموذج القيايس،
التي ال تعترب كذلك ،أن تدلنا أيضً ا عىل األمر ذاته ،ببساطة ألن صياغتها تعتمد
عىل النطاق –أي أنها تعتمد بشكل جوهري عىل النطاق الذي نجري فيه
التجارب لقياس معاملها األساسية .ومع دمج العمليات التي تتضمن جسيًّمت
افرتاضية تعمل عىل نطاقات أصغر من أي وقت مىض من أجل املقارنة مع
نتائج التجارب األكرث حساسية ،فمن املتوقع أن تتغري قيمة هذه املع ِلًّمت،
بطريقة ميكن التنبؤ بها! ولهذا السبب ،فإن خصائص اإللكرتون الذي يشارك
يف العملية الذرية ضمن النطاقات الذرية ليست بالضبط نفس خصائص
اإللكرتون الذي يتأثر بنواة الذرة عىل النطاقات النووية األصغر بكثري .لكن
األهم من ذلك هو أن الفرق قابل للحساب!
هذه نتيجة مهمة .ففي حني يتعني علينا التخيل عن فكرة وجود منوذج
قيايس واحد ونظرية واحدة غري قابلة للخرق ومناسبة عىل جميع النطاقات،
فإننا نكتسب بذلك سلسلة متواصلة من النظريات الفعالة ،بحيث يكون كل منها
مناسبًا للتطبيق يف نطاق مختلف ،وكلها مرتابطة بطريقة قابلة للحساب.
وللحصول عىل نظرية منوذج قيايس دقيقة ميكننا أن نحدد بالضبط مدى تغري
قوانني الفيزياء مع تغري النطاق!
يعود أساس هذه الرؤية الرائعة التي وصفتها ،حول اعتًّمد الفيزياء عىل
النطاق ،إىل عمل كني ويلسون الحاصل عىل جائزة نوبل بسببها ،ويرجع
تاريخها إىل ستينيات القرن العرشين .وقد اعتمدت نشأتها عىل دراسة فيزياء
املواد بقدر ما اعتمدت عىل فيزياء الجسيًّمت .ذكرنا أن السلوك القيايس للمواد
هو امليزة األساسية التي تسمح لنا بتحديد خصائصها حني تقرتب من مرحلة
انتقالية .فقد كانت مناقشتي ملا يحدث عند غليان املاء ،عىل سبيل املثال ،مبنية
188
عىل كيفية تغري وصف املادة عند تغيري نطاق مالحظتنا لها .فإذا ع ِمدنا إىل
مالحظة املاء يف حالته السائلة عىل نطاق بالغ الصغر ،ميكننا اكتشاف التقلبات
التي تجعل كثافته الداخلية تعادل قيمتها يف الحالة الغازية .وكلًّم تم حساب
املتوسط عىل نطاقات أكرب وأكرب ،نجد أن الكثافة تستقر عند قيمتها السائلة
مبجرد وصولنا إىل نطاقه املميز.
ماذا نفعل عندما نقوم بحساب املتوسط عىل نطاقات أكرب؟ إننا نستثني
من حساب املتوسط تأثري الظواهر األصغر نطاقًا ،والتي ميكننا تجاهل
تفاصيلها إذا كان كل ما يهمنا هو الخصائص املرئية للًّمء السائل .لكن إذا كانت
لدينا نظرية أساسية للمياه –نظرية ميكن أن تشمل السلوك عىل نطاق صغري–
فيمكننا محاولة إجراء حساب دقيق لكيفية اختالف مالحظاتنا حسب النطاق
بدمج تأثريات التقلبات عىل النطاقات األصغر .وبهذه الطريقة ،ميكن حساب
جميع خصائص املواد بالقرب من نقطة حرجة حيث يصبح السلوك القيايس
مهًّم للغاية كًّم قلت .وترسي التقنيات املطبقة عىل املواد العادية أيضً ا
للًّمدة ً
عىل وصف القوى األساسية يف الطبيعة .إذ تحتوي نظريات مثل الديناميكا
الكهربائية الكمومية عىل أصول االعتًّمد عىل نطاقها الخاص.
وبالعودة إىل هذا املثال ،ميكننا حقيق ًة أن نرى مثاالً عمليًا واض ًحا عىل
أوال :إذا حددتُ كثافة جلد البقرة العادية وقوته بالتجربة ،فيمكنني معرفة
ذلكً .
كثافة جلد البقرة الخارقة التي تبلغ ضعف حجم البقرة الكروية .كًّم ميكنني
عالوة عىل ذلك التنبؤ بنتائج أية قياسات ستجرى عىل مثل هذه البقرة الخارقة.
فهل نظرية البقرة الكروية نظرية شاملة لألبقار؟ مل نتمكن أب ًدا من
إثبات أنها من املسلًّّمت ،ولكن توجد ثالث طرق مختلفة ملعرفة أنها ليست كذلك
أو أن هذا االحتًّمل غري وارد )1( :إن كانت النظرية ذاتها تتنبأ بنتائج غري
189
منطقية عىل نطاق معني )2( ،إن كانت النظرية تشري بوضوح إىل وجود ما
هو أبسط من الكرة وميكنه أداء الوظيفة ذاتها )3( ،قابلية إجرائنا تجربة عىل
نطاق محدد لتمييز السًّمت غري املتوقعة يف هذه النظرية .وإليكم مثاالً عىل
هذه التجربة :لنفرتض أنني رميت قطعة ملح عىل بقرة كروية .املتوقع هو أن
يرتد امللح عنها:
لكن يف الحقيقة هناك جهة يف البقرة إذا رميت قطعة امللح نحوها فإنها
لن ترتد .وسنكتشف سمة مل تؤخذ بعني االعتبار يف النظرية األصلية ،وهي
فتحة الفم.
وعىل املنوال ذاته يوفر استكشاف مدى اعتًّمد قوانني الطبيعة عىل
النطاق آليات حاسمة للبحث عن قوانني فيزياء أساسية جديدة .كان عريض
التاريخي املوجز للتأثر الضعيف أحد األمثلة الكالسيكية .سأصف اآلن بعض
القوانني األخرى األكرث حداثة.
190
ما ميكنها التنبؤ به حول العمليات الفيزيائية عىل النطاقات التي نستطيع
قياسها اآلن.
وصفت يف الفصل
ُ يشمل هذان النهجان نطاق البحث عىل الحدود اليوم.
الثاين كيفية اكتشاف نظرية التأثر القوي الذي يربط الكواركات داخل
الربوتونات والنيوترونات ،وقد كان لفكرة الحرية املتقاربة دور أسايس فيها.
أما الديناميكا اللونية الكمومية ،أو نظرية التأثر القوي ،فتختلف عن الديناميكا
الكهربائية الكمومية يف جانب أسايس واحد :اختالف تأثري الجسيًّمت
االفرتاضية يف النطاقات الصغرية عىل تطور مقاييس النظرية .ففي الديناميكا
الكهربائية الكمومية ،يتمثل تأثري سحابة الجسيًّمت االفرتاضية التي تحيط
باإللكرتون يف «حًّمية» شحنته الكهربائية إىل حد ما من املراقب البعيد.
وبالتايل ،إذا فحصنا اإللكرتون عن كثَب فسنجد أن الشحنة التي نقيسها تزداد
فعاال عن القيمة التي سنقيسها لو فحصناه من الجانب اآلخر من الغرفة.
ازديا ًدا ً
ومن ناحية أخرى ،ميكن أن تترصف الديناميكا اللونية الكمومية (فقط
النظريات املشابهة للديناميكا اللونية الكمومية) بطريقة معاكسة متا ًما ،وهذه
هي املفاجأة التي اكتشفها غروس ،وفيلتشيك ،وبوليتزر .فعندما تفحص تأثرات
الكواركات التي تقرتب أكرث فأكرث من بعضها البعض ،تصبح الشحنة القوية
الفعالة التي تشعر بها أضعف .وتزيد كل سحابة جزيئات افرتاضية من
تأثرياتها مع املراقبني البعيدين زيادة فعالة .وكلًّم تعمقت أكرث داخل هذه
السحابة ،تكتشف أن قوة التأثر القوي فيًّم بني الكواركات تصبح أضعف!
كًّم أننا إن استخدمنا نظري ًة تصف بدقة تأثرات الكواركات عىل مسافات
صغرية ،فسنتمكن من محاولة رؤية طريقة تغري األشياء حسب النطاق مع
زيادتنا النطاق .وحني نصل إىل حجم الربوتون والنيوترون ،سنأمل أن نتمكن
من حساب متوسط جميع الكواركات الفردية والتوصل إىل نظرية فعالة
للربوتونات والنيوترونات فقط .لكن نظ ًرا للقوة الشديدة لتأثرات الكواركات يف
هذا النطاق ،مل يتمكن أحد حتى اآلن من تنفيذها بشكل مبارش ،وذلك عىل الرغم
191
من تخصيص أجهزة حاسوب كبرية لهذه املهمة ،وقد أسفرت حتى اآلن عن
نتائج تتوافق مع املالحظات.
192
هذه التفاعالت .هذه هي الفكرة التي اقرتحها شيلدون غالشو إىل جانب
جورجي بشكل مستقل .تتالءم فكرة ازدياد تناظر الكون عند استكشاف
مقاييس أصغر فأصغر مع هذا االكتشاف متا ًما .لقد بدأ عرص النظريات املوحدة
الكربى ،التي تنشأ فيها جميع تأثرات الطبيعة ،باستثناء الجاذبية ،من تأثر
واحد عند نطاقات صغرية مبا فيه الكفاية.
لقد مرت قرابة عرشين عا ًما ،وما زلنا نفتقر إىل أي دليل مبارش آخر عىل
صحة هذا االستقراء املذهل بخصوص النطاق.
ومع ذلك ،فإن القياسات الدقيقة الحديثة لقوة جميع القوى يف مرافق
دعًّم إضاف ًيا الحتًّمل تطابقها جمي ًعا عند نطاق
املختربات الحالية قد وفرت ً
واحد .ولكن املثري لالهتًّمم أن ذلك لن يحصل ما مل نقم بتكملة النموذج
القيايس الحايل بقواعد فيزياء جديدة لن ميكن التوصل الستنتاجها بطريقة
طبيعية إذا افرتضنا وجود تناظر جديد يف الطبيعة يسمى التناظر الفائق.
193
املكان ذاته ،كًّم بني فولفغانغ باويل ألول مرة .وهكذا ،عندما نضيف إلكرتونات
إىل الذرات ،عىل سبيل املثال ،يجب أن تشغل اإللكرتونات مستويات طاقة
متزايدة بشكل تدريجي.
فًّم هو الدافع املحتمل إذًا إلدخال تناظر ريايض جديد يف الطبيعة ال
يظهر فيًّم نالحظه؟ إن إدخال هذا التناظر ،شأنه شأن النموذج القيايس ،ميكن
أن يحل بعض التناقضات يف النظريات املوجودة مسبقًا .إن الدافع الكامل
194
الفرتاض وجود تناظر فائق مكسور يف نظرية الجسيًّمت معقد ج ًدا يف الواقع
فعل ذلك مجد ًدا وبشكل مطول يف
حاولت ُ
ُ بحيث ال ميكن إنصافه هنا ،وقد
كتاب حديث .ومع ذلك ،كان أحد األسباب املنطقية الرئيسية هو أن هذا التناظر
قد يساعد يف تفسري السبب وراء صغر مقياس القوة الكهروضعيفة إىل حد
كبري أمام مقياس الجاذبية.
ومهًّم يكن الحال ،يظل من املذهل أنه إذا افرتضنا وجود التناظر الفائق
قليال من
باعتباره تناظ ًرا جدي ًدا يف الطبيعة يتم كرسه عىل نطاق مسافة أصغر ً
النطاق الكهروضعيف ،فإن دمج مجموعة من الجسيًّمت الثقيلة الجديدة التي
ال بد لها أن توجد يف حساباتنا لقوة القوى املعروفة يف الطبيعة سيؤدي
لتطابقها يف القوة عند نطاق واحد أصغر بستة عرش قيمة أسية تقري ًبا من
حجم الربوتون.
وسواء صحت هذه الفكرة أم ال ،فإن هذه النتيجة قد وجهت عقول علًّمء
الفيزياء النظرية والتجريبية ،أكرث من أي نتيجة أخرى يف فرتة ما بعد الحرب،
نحو استكشاف إمكانية وجود فيزياء جديدة مبقاييس مختلفة إىل حد كبري عن
تلك التي ال يزال بإمكاننا قياسها مبارشة يف املخترب .وكانت النتائج مختلطة
حسب رأيي .لقد تضاءلت العالقة الوثيقة السابقة بني النظرية والتجربة إىل
حد ما ،والتي لطاملا حكمت تقدم فيزياء الجسيًّمت (بل كل الفيزياء الباقية يف
الواقع) ،حتى مع زيادة املخاطرة بسبب التفات الفيزيائيني إىل احتًّمل توحيد
جميع القوى يف الطبيعة ،مبا فيها الجاذبية.
يحرينا لفرت ٍة معترب ٍة من يف الفيزياء نطاق شاسع عايل الطاقة ما ّ
انفك ّ
هذا القرن .ليست نظرية التأثر الضعيف التي وضعها فريمي النظرية األساسية
الوحيدة التي تعاين من قصور واضح عند الطاقات العالية والنطاقات
الصغرية ،فنظرية النسبية العامة مثال آخر عىل ذلك .تنشأ مشاكل عديدة عندما
نحاول دمج ميكانيكا الكم مع الجاذبية .وأهم هذه املشاكل هي أن تأثريات
195
الجسيًّمت االفرتاضية يف تأثرات الجاذبية تخرج عن السيطرة عند نطاق أصغر
بحوايل تسعة عرش قيمة أسية من حجم الربوتون .ال يبدو أن نظرية الجاذبية
ميكن أن تكون نظرية كمومية أساسية يف وضعها الحايل مثلها مثل نظرية
فريمي .ومن املفرتض أن تؤدي بعض جوانب الفيزياء الجديدة دو ًرا يف تغيري
سلوك النظرية عند هذه النطاقات الصغرية.
وتعترب نظرية األوتار حال ًيا املرشح األكرث شعبية لهذه الفيزياء الجديدة.
إذ ميكن لطبيعة الجسيًّمت الشبيهة باألوتار يف هذه النظرية أن تغري طريقة
إجراء الحسابات الرياضية عند النطاق الذي قد تتسبب فيه الجسيًّمت
االفرتاضية يف انهيار الجاذبية بصفتها نظرية كمومية ،مًّم يؤدي إىل ترويض
يصبح لوال ذلك ال نهائيات خارجة عن السيطرة ،إذ أن الجاذبية نفسها
َ ما كان لِ
تنشأ بشكل طبيعي يف النظرية األساسية لألوتار .املشكلة الوحيدة هي أن
األوتار ذاتها ال معنى لها ككائنات كمومية يف أربعة أبعاد ،ونحتاج إىل عرشة
أو أحد عرش بع ًدا عىل األقل للوصول إىل نظرية متسقة ،ستة أو سبعة منها غري
مرئية حتى اآلن.
عندما ظهرت نظرية األوتار ألول مرةُ ،وصفت بأنها نظرية كل يشء ،أو
نهاية الفيزياء ،إن شئنا استخدام مصطلحات أكرث صلة باملناقشة الحالية .لقد
كان من املفرتض لهذه النظرية أن تصبح أساسية بحق وقابلة للتطبيق عىل
جميع النطاقات .وقد تؤدي التناظرات الجديدة إىل توقف اعتًّمد النظرية عىل
النطاق ،لتصبح النظرية كاملة حقًا ،وال تستبدل أب ًدا بنظرية أكرث أساسية عند
النطاقات األصغر ،وبذلك تختزل قوانني الفيزياء إىل تلك املعروفة عند النطاقات
األكرب.
اعرتى الشك العديد منا عند طرح هذه االدعاءات ،وقد ثبتت صحة
شكوكنا حتى اآلن .اتضح اآلن أنه حتى األوتار نفسها يف الواقع قد تكون
كائنات فعالة ميكن استبدالها بأشياء أخرى أساسية أكرث وتعمل يف أبعاد أعىل،
196
يف سياق النًّمذج الرياضية قيد البحث حال ًيا .وحتى بعد عرشين عا ًما من
الجهود الشاقة التي بذلها بعض أملع املنظرين يف العامل ،مل يُح َرز تقدم يذكر.
تظل نظرية األوتار مبثابة أمل نظري أكرث من كونها نظرية فعلية ،وال
يوجد أي دليل عىل اإلطالق يثبت أن لنظرية األوتار أية عالقة بالطبيعة سوى
الدوافع النظرية التي وصفتها أعاله.
ينبغي ألية نظرية تشمل كل يشء أن تحل السؤال األسايس الذي كان
محور اهتًّمم آينشتاين واهتًّممي :هل هناك خيارات يف الكون؟ وعىل وجه
التحديد :هل توجد مجموعة واحدة فقط من القوانني الفيزيائية املتسقة التي
رقًّم واح ًدا،
ترتابط م ًعا بشكل متناغم ،بحيث إذا تغري رقم واحد ،حتى ولو كان ً
فسينهار الرصح بأكمله؟ من املؤكد أن ذلك هو األمل الذي قاد الفيزياء لعدة
مئات من السنني والذي روج له منظرو األوتار يف األيام األوىل :األمل الكبري
يف التفسري الدقيق لسبب وجود الكون عىل ما هو عليه ،وملاذا يجب أن يكون
عىل هذا النحو.
يوجد احتًّمل آخر ،وهو ما يلجأ إليه العديد من أنصار نظرية األوتار عىل
نحو ملحوظ ،يف حني يتضح أن نظريتهم ليست فريدة من نوعها عىل اإلطالق.
فحتى أبسط التساؤالت عن عامل األوتار تكشف بوضوح االحتًّمل املرجح
لوجود أي يشء يحل محل نظرية األوتار ،وأن أيًا كان قد يفرس كيف تصبح
تلك األبعاد الستة أو السبعة اإلضافية غري مرئية بالنسبة لنا ،فمن املحتمل أن
يكون هناك ما ال يقل عن 10500احتًّمل ألكوان ذات أربعة أبعاد مختلفة
بالنتيجة ،وقد يكون لكل منها قوانينه الفيزيائية الخاصة .وبدالً من وصف
السبب الذي يجعل الكون يبدو هكذا ،تع ِمد نظرية األوتار إىل عكس ذلك تقريبًا.
فهي تدل عىل أن الكون يجب أن يبدو مختلفًا متا ًما يف العموم!
مثل هذا السيناريو يدفع العلًّمء إىل افرتاض يطمح يف تفسري سبب
امتياز الكون الذي نعيش فيه بالخصائص التي ميتلكها :والسبب هو أننا نعيش
197
فيه! ميكن أن نقول عىل وجه التحديد إن الحياة رمبا لن تكون ممكنة إال ضمن
مجموعة فرعية صغرية ج ًدا من هذه األكوان املحتملة العديدة واملختلفة التي
ميكن أن توجد جميعها يف مناطق منفصلة من املكان والزمان .يف هذه الحالة
لن تكون األكوان التي يوجد فيها فيزيائيون ميكنهم طرح أسئلة حول أكوانهم
سوى أكوان تشبه كوننا إىل حد كبري.
إذا كانت هذه الفكرة ،التي ارتقى بها البعض إىل مستوى «املبدأ» ،والتي
تسمى «املبدأ األنرثويب» ،تبدو يف نظرك وكأنها انسحاب ،فينبغي لها أن تكون
فعال ،لكنها قد تكون صحيحةً ،ويف هذه الحالة لن تكون
كذلك ،ألنها كذلك ً
قوانني الفيزياء سوى حادث بيئي.
لكني ال أريد أن أنهي هذا الكتاب بالتكهنات حول نظرية كل يشء وال
حتى نظرية العدمية .االحتًّمل الوارد أيضً ا هو أن يكون البحث عن حقيقة
كونية مفهو ًما خاطئًا .قد يوجد عدد ال نهايئ من القوانني الفيزيائية يف انتظار
اكتشافها بينًّم نواصل سرب أقىص النطاقات .والفكرة األساسية هي أن ذلك ال
يهم حقًا!
ال تتطلب الحقيقة العلمية توقع أساسية النظريات التي نعمل بها حقًا.
ومن هذا املنطلق نجد أن الفيزياء ال تزال فعل ًيا تسرتشد بوضوح باملبادئ ذاتها
التي قدمها غاليليو قبل 400عام ،وباملبادئ التي قدمتها يف البداية ويف جميع
أنحاء هذا الكتاب .تتضمن جميع نظرياتنا الرائعة عن الطبيعة تقديرات تقريبية
198
نستخدمها دون غضاضة ،ونستدل بها متجاهلني ما ال عالقة له باملوضوع .وهو
ما يتم توجيهه عمو ًما من خالل النظر يف الطبيعة البعدية للكميات الفيزيائية،
والتي تحدد نطاق املشكالت التي نهتم بها وغريها مًّم ميكننا تجاهله بأمان.
إننا نحاول طوال الوقت تطبيق ما قد نجح بالفعل عىل املواقف الجديدة بأسلوب
إبداعي .واكتشفنا من خالل القيام بذلك عامل ًا مخف ًيا رائ ًعا يوجد خارج نطاق
حواسنا البرشية املحدودة ،وهو عامل أبسط وأكرث تناسقًا بكثري .ويف كل مكان
ننظر إليه حتى اآلن نظل نرى األبقار الكروية تحيط بنا.
199
مالحظات
8 Ibid., p. 166.
200
A translation of “Fear of Physics: A Guide for the Perplexed”© [1993] Lawrence M.
Krauss.