You are on page 1of 209

‫اﻟﺨﻮفاﻟﻔﯿﺰﯾﺎء‬

‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـﻦ‬
‫ﯿﻞ‬‫ﻟ‬
‫د‬
‫ﯿﻦ‬
‫ﺒﮑ‬‫ﺗ‬
‫ﺮ‬‫ﻤ‬‫ﻠ‬
‫ﻟ‬

‫ة‬
‫ﺮ‬‫ﻘ‬‫ﺑ‬

‫وس‬
‫ا‬‫ﺮ‬
‫ﻧ ﺲﮐ‬
‫ر‬‫ﻮ‬‫ﻟ‬
‫الخوف من الفيزياء‬
‫دليل للمرتبكي‬

‫تأليف‬
‫لورنس كراوس‬

‫ترجمة‬
‫زينب أحمد‬ ‫عبد املعي السباعي‬ ‫مريا جندي‬
‫رامي أبو زرد‬ ‫حبيب زريق‬ ‫حسام شبيل‬

‫مراجعة‬
‫أحمد رضا‬
‫قامئة املحتويات‬

‫مقدمة الطبعة الجديدة‪1..................................................................................................‬‬

‫مقدمة‪2.......................................................................................................................‬‬

‫شكر وعرفان‪5..............................................................................................................‬‬

‫الجزء األول‪ :‬العملية‪8.....................................................................................................‬‬

‫الفصل األول‪ :‬النظر حيث يوجد الضوء‪9.............................................................................‬‬

‫الفصل الثاين‪ :‬فن األرقام‪36.............................................................................................‬‬

‫الجزء الثاين‪ :‬التقدم‪60....................................................................................................‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬رسقة فكرية إبداعية‪61................................................................................‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬وقائع خفية‪101.........................................................................................‬‬

‫الجزء الثالث‪ :‬مبادئ‪139.............................................................................................. ...‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬البحث عن تناظر‪140...............................................................................‬‬

‫الفصل السادس‪ :‬العلم بحر ال ينضب‪176............................................................................‬‬

‫مالحظات‪200...............................................................................................................‬‬
‫مقدمة الطبعة الجديدة‬
‫مهتًّم ملراجعة وتحديث كتايب الخوف‬
‫ًّ‬ ‫ري يف بيسك ليسألوا إن كنت‬
‫أثارين ج ًّدا اتصال مح ّر ّ‬
‫من الفيزياء‪ .‬يف األعوام الخمسة عرش التي تلت أول ظهور للكتاب‪ ،‬تغري مقدار ضخم يف فهمنا‬
‫للمفاهيم التي تتصدر عامل الفيزياء‪ ،‬وقد طال التغيري حتى بعض مبادئنا امل ُرشدة‪ .‬باإلضافة‬
‫إىل هذا‪ ،‬تطور كذلك منظوري عن القضايا املهمة‪ ،‬ال سيًّم من جهة االهتًّمم العام بالعلم‪ ،‬بسبب‬
‫تطوري يف مجال العلم وبسبب تجاريب الالحقة يف الكتابة والتأليف‪.‬‬

‫يف الوقت نفسه‪ ،‬فاجأين‪ ،‬قبل عرشة أعوام عندما كنت أق ّدم سلسلة من املحارضات‬
‫ألساتذة الفيزياء يف املدرسة الثانوية‪ ،‬أن هذا الكتاب قد أصبح شيئًا من قبيل «كتب امل ُريدين‬
‫الكالسيكية» إذ يُهدى عادة لطالب الثانوية الواعدين ليوجههم إىل املواضيع الحديثة يف‬
‫ص ّمم ببقرة عىل شكل كرة‪ ،‬تكرميًا لهذا‬
‫الفيزياء‪ .‬أرسل يل أحد أندية الكتاب نسخة من قميص ُ‬
‫أوال أن يكون جمهور هذا الكتاب من ليس لهم كبري معرفة‬
‫الكتاب‪ .‬لذا‪ ،‬عىل رغم أنني أردت ً‬
‫سابقة بالعلم‪ ،‬ليشمل من يعانون الخوف من الفيزياء‪ ،‬فإنني أدركت أن شيئًا يف العالقة بني‬
‫الفيزياء الحديثة واألفكار املؤسسة يثري العلًّمء الشباب املبتدئني أيضً ا‪ ،‬كًّم ينبغي‪.‬‬
‫حامال يف ذهني هذه األفكار‪ ،‬راجعت الكتاب من الغالف إىل الغالف‪ ،‬وحافظت عىل‬
‫ً‬
‫إطاره األصيل‪ ،‬ولكني حدثته مبواد جديدة حتى يصبح أقرب إىل بعض الفئات‪ ،‬وأشد إثارة لدى‬
‫وألشمل الطبيعة املتطورة للعلم إىل اللحظة الحارضة‪ ،‬ونحن نستكشف أعًّمق الكون‬
‫َ‬ ‫غريها‪،‬‬
‫استمتعت مبراجعتها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫النائية‪ .‬أرجو أن تستمتع بهذه النسخة الجديدة كًّم‬

‫لورنس ماكسويل كراوس‬


‫كليفالند‪ ،‬أوهايو‬
‫نوفمرب ‪2006‬‬

‫‪1‬‬
‫مقدمة‬
‫عندما يعرف أحد يف حفلة أنني عامل فيزياء‪ ،‬فإنه مبارش ًة إما أن (‪ )1‬يغري املوضوع‪ ،‬أو (‪)2‬‬
‫يسأل عن االنفجار الكبري‪ ،‬أو األكوان األخرى‪ ،‬أو محرك االعوجاج‪ ،‬أو الكواركات‪ ،‬أو أحد‬
‫التطورات «الفائقات» الثالثة‪ :‬الناقالت الفائقة‪ ،‬أو األوتار الفائقة‪ ،‬أو املصادمات الفائقة‪ .‬حتى‬
‫ريا ما‬
‫الذين يُق ّرون بأريحية أنهم تجنبوا الفيزياء يف املدرسة الثانوية ومل ينظروا خلفهم‪ ،‬كث ً‬
‫تذهلهم الظواهر الخفية التي تتصدر املجال‪ ،‬حتى وإن كانوا ال يدركون أن هذا الذي يهتمون‬
‫به هو الفيزياء‪ .‬تتعامل الفيزياء مع كثري من األسئلة الكونية التي تستثرينا كلنا بطريقة أو‬
‫ريا ما تبدو غريبة وبعيدة‪ ،‬جزئ ًّيا بسبب أن البحث يف طليعة هذا العلم‬
‫بأخرى‪ .‬لكن الفيزياء كث ً‬
‫يكون أحيانًا بعي ًدا عن التجربة اليومية‪.‬‬

‫لكن عقب ًة أساسية أخرى تقف يف طريق تقدير الطريق الذي تسلكه الفيزياء الحديثة‪.‬‬
‫إن الطريقة التي يعالج بها الفيزيائيون املشكالت‪ ،‬واللغة التي يستخدمونها‪ ،‬هي أيضً ا بعيدة‬
‫عن األنشطة الحديثة التي ميارسها معظم الناس‪ .‬يف غياب صورة عامة تُرشد املطّلع‪ ،‬فإن غابة‬
‫الظواهر واملفاهيم املرتبطة بالفيزياء الحديثة تبقى يف نظره متباعدة ومخيفة‪.‬‬

‫حتى أقدم الفيزياء الحديثة كًّم أفهمها‪ ،‬ارتأيت أالّ أركز عىل نظريات بعينها‪ ،‬بل عىل‬
‫األدوات التي ترشد الفيزيائيني يف عملهم‪ .‬إذا أراد املرء أن يق ّدر االتجاهات الحالية يف الفيزياء‬
‫الحديثة‪ ،‬من حيث هي نشاط فكري إنساين‪ ،‬ومن حيث هي أساس صورتنا الحديثة عن الكون‪،‬‬
‫فإن تحقيق هذا التقدير أسهل إذا كان ميلك فكرة عن كيفيات هذا العلم‪ .‬إن ما أريد أن أقدمه‬
‫دليال يقودك يف غابة الفيزياء الحديثة‪ ،‬بل هو أقرب إىل دليل يعلمك أصول الرحلة‬
‫هنا ليس ً‬
‫يف املقام األول‪ :‬ما املعدات الالزمة‪ ،‬كيف تتجنب املنحدرات والطرق املسدودة‪ ،‬وكيف تعرف‬
‫أجمل الطرق‪ ،‬وكيف تعود إىل البيت سامل ًا‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫علًّمء الفيزياء أنفسهم ال يستطيعون تتبع التطورات الحديثة يف العلم إال ألنها مبنية‬
‫عىل حفنة من األفكار املؤسسة التي نجح تطبيقها يف دراسة العامل الذي نعرفه‪ .‬تعالج الفيزياء‬
‫النظرية يف يومنا هذا ظواهر تحدث عىل مختلف نطاقات الزمان واملكان‪ ،‬إذ يبلغ التنوع بني‬
‫هذه النطاقات ستني درجة أسية–أي إن نسبة أكرب نطاق إىل أصغر نطاق هي ‪ 1‬يتبعها ‪60‬‬
‫مجاال أضيق‪ ،‬لكنه ليس أضيق بكثري‪ .‬يف وسط كل هذه األمور‪ ،‬أي‬
‫ً‬ ‫صف ًرا‪ .‬أما التجارب فتغطي‬
‫ظاهرة يصفها أي فيزيايئ يستطيع فهمها أي فيزيايئ آخر باستعًّمل بعض املفاهيم األساسية‬
‫التي رمبا ال تزيد عن عرشة مفاهيم‪ .‬ليس يف املعارف اإلنسانية مجال آخر يتصف بهذا االتساع‬
‫أو بهذه البساطة يف التأطري‪.‬‬

‫ريا‪ .‬إن األدلة التي تسرتشد بها الفيزياء قليلة يف‬


‫لهذا السبب وغريه‪ ،‬كان هذا الكتاب قص ً‬
‫ضخًّم‪.‬‬
‫ً‬ ‫العدد‪ ،‬وإذا كان احرتافها يتطلب درجة علمية متقدمة‪ ،‬فإن تبيينها ال يتطلب مجل ًدا‬
‫لذلك ستجد يف تجوالك يف كل فصل من الفصول الستة يف الكتاب (بعد أن تشرتيه‪ ،‬طب ًعا!)‪،‬‬
‫نقاشً ا لفكرة أو موضوع مفتاحي واحد يرشد الفيزيائيني يف بحثهم‪ .‬لتوضيح هذه األفكار‪،‬‬
‫اخرتت أمثلة تنفع يف كل مستويات الفيزياء‪ ،‬من األساسيات إىل ما سيغطيه كُ ّتاب العلوم يف‬
‫نيويورك تاميز هذا األسبوع‪ .‬قد يبدو االختيار أحيانًا نخبويًّا‪ .‬لكن مع تركيزي يف البداية عىل‬
‫ما أرشد الفيزيائيني حتى وصلوا إىل مكانهم اليوم‪ ،‬فإنني سأركز يف النهاية عىل ما يقودنا‬
‫اليوم إىل حيث نتجه‪.‬‬

‫لذلك السبب أيضً ا ارتأيت أن أقدم مفاهيم جديدة لتوضح املفاهيم‪ .‬قد يجد بعض القراء‬
‫محرية يف‬
‫ّ‬ ‫يف هذه املفاهيم راح ًة جميلة من األفكار التي يعرفونها من قبل‪ .‬وقد يجدها آخرون‬
‫لحظة القراءة‪ .‬بعض هذه األفكار‪ ،‬رغم أساسيتها‪ ،‬مل تق َّدم من قبل يف الكتب املوجهة للعموم‪.‬‬
‫ُخترب يف هذا الكتاب‪ .‬املقصد أقرب إىل تقديم نكهة الفيزياء منه إىل احرتاف‬
‫ال يهم‪ .‬لن ت َ‬
‫جوهرها‪ .‬أعتقد أن اإللهام‪ ،‬ال املعرفة العملية‪ ،‬هو األنفع وهو ما يحتاجه غري العلًّمء يف عامل‬
‫اليوم‪ ،‬لذلك فإن هديف هو اإللهام‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫األهم أنني سأق ّدم بعض االرتباطات الخفية والعجيبة بني كثري من املواضيع‪ .‬إن هذه‬
‫االرتباطات هي التي تشكل نسيج الفيزياء‪ .‬تكمن سعادة عامل الفيزياء النظرية يف اكتشاف‬
‫هذه االرتباطات‪ ،‬وتكمن سعادة التجريبي يف اختبار قوتها‪ .‬يف النهاية‪ ،‬تجعل هذه االرتباطات‬
‫الفيزياء ممكنةً‪ .‬إذا بلغ اهتًّممك درجة تجعلك متش ّوقًا إىل نقاشات أوسع نطاقًا‪ ،‬فإن املصادر‬
‫الواسعة كثرية‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬أريد أن أؤكد عىل أن الفيزياء نشاط فكري إنساين إبداعي‪ ،‬مثل الفن واملوسيقا‪.‬‬
‫أخ ً‬
‫لقد ساعدتنا الفيزياء عىل صياغة تجربتنا الثقافية‪ .‬لست أعرف من سيكون صاحب أكرب أثر‬
‫يف اإلرث الذي سنرتكه‪ ،‬لكنني عىل يقني أن تجاهل الجانب الثقايف من الرتاث العلمي سيكون‬
‫ح ا‪ .‬إن األمية العلمية أمية ثقافية‪ .‬والفضيلة الكربى يف النشاط الثقايف –سواء أكان‬
‫خطأ فاد ً‬
‫علًّم– هي الطريقة التي يغني بها حياتنا‪ .‬من خالل هذه األنشطة‬
‫ف ًّنا أم موسيقا أم أدبًا أم ً‬
‫نعيش السعادة واإلثارة والجًّمل والغموض واملغامرة‪ .‬إن اليشء الوحيد الذي أعتقد أنه يفرق‬
‫ح ًّقا بني العلم وبقية العنارص عىل القامئة هو أن العتبة التي تبدأ عندها تغذيته الراجعة أعىل‬
‫باملقارنة مع غريه‪ .‬ال شك أن التربير األهم لكثري مًّم نفعله نحن الفيزيائيني هو املتعة الشخصية‬
‫التي نشعر بها من الفيزياء‪ .‬إن يف اكتشاف ارتباطات جديدة سعادة كونية‪ .‬تن ّوع العامل‬
‫الفيزيايئ وبساطة عملياته الجوهرية كالهًّم يحمل جًّمالً وإثارة‪ .‬لذا‪ ،‬بعد االعتذار من إريكا‬
‫جونغ‪ ،‬سيكون هذا الكتاب مك ّر ًسا لإلجابة عن هذا السؤال‪ :‬هل ميكن لإلنسان املتوسط أن يخلع‬
‫ويتخىل‪ ،‬ويستمتع ببساطة باملتعة البسيطة الجوهرية يف الفيزياء؟ أرجو‬
‫ّ‬ ‫عوائقه‪،‬‬
‫ذلك‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫شكر وعرفان‬

‫مل يكن هذا الكتاب لريى النور‪ ،‬أو عىل األقل مل يكن لرياه بشكله الحايل‪ ،‬لوال فضل مجموعة‬
‫أوال‪ ،‬خدعني مارتن كسلر‪ ،‬رئيس دار بيسك بوكس‪ ،‬يف فطو ٍر قبل عرشين عا ًما‪،‬‬
‫من الناس‪ً .‬‬
‫ألحول أفكاري عن الطريقة التي ينبغي أن يفكر بها الفيزيائيون يف الفيزياء‪ ،‬إىل ما بدا يل‬
‫حا‪ .‬خالل عام من الزمان‪ ،‬وقعنا عق ًدا‪ ،‬أوقفه من لطفه مؤق ًتا حتى أستطيع كتابة‬
‫كتابًا طَمو ً‬
‫كتاب آخر لدار بيسك عن موضوع ارتأيت حينها أنه أنسب للوقت‪ .‬كان محرري يف ذلك املرشوع‬
‫ريتشارد ليبًّمن سميث‪ ،‬الذي أصبح صديقي‪ ،‬وساعدتني محادثايت معه قبل أن يرتك بيسك‬
‫بوكس ألصقل رؤيتي ملا أريد تحقيقه من هذا الكتاب‪.‬‬

‫عًّم تص ّورته أول األمر‪ .‬أصبح كتاب الخوف من‬


‫ربا ّ‬
‫يختلف هذا الكتاب اختالفًا معت ً‬
‫الفيزياء كتابًا أرجو أن تحب قراءته زوجتي كيت‪ .‬ويف الحقيقة‪ ،‬قدمت زوجتي تعليقات‬
‫رسل إىل‬
‫مستمرة عندما كنت أخترب أفكاري وتقدميايت أمامها‪ .‬ال شك أن الفصل األول مل يُ َ‬
‫ريا‪ ،‬لعبت سوزان رابرن‪ ،‬كبرية‬
‫النارش حتى حاز ختم قبولها للمقروئية وإثارة االهتًّمم‪ .‬أخ ً‬
‫ريا يف إكًّمل النسخة األوىل‪ .‬هي التي أقنعتني أن‬
‫محرري العلوم يف بيسك بوكس‪ ،‬دو ًرا كب ً‬
‫رؤيتي الجديدة ميكن تطبيقها‪ ،‬وأن بيسك بوكس مستعدة إلنتاج وبيع هذا النوع‪ .‬بعد أن اتفقنا‬
‫فصال أوصل ما أريد إيصاله باألسلوب الذي أريد‪ ،‬مل تكف سوزان عن العمل‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأنتجت‬
‫ُ‬ ‫عىل هذا‬
‫كان دعمها املتحمس لهذا الكتاب حاف ًزا مستم ًّرا يل‪ .‬عىل وجه الخصوص‪ ،‬ساعدتني جدولتها‬
‫املبكرة ملواعيد إكًّمل الغالف والتحرير عىل تحقيق االلتزام وإكًّمل املسودة يف وقتها تقريبًا–‬
‫وهو أمر جديد عيل‪.‬‬

‫يف خضم كتابتي‪ ،‬أُتيحت يل فرصة مناقشة عدة أفكار محتواة يف الكتاب مع عدة‬
‫أشخاص‪ .‬كًّم قلت من قبل‪ ،‬قدمت زوجتي يل مصفاة مل متر من خاللها بعض األشياء‪ .‬أريد‬
‫أن أشكر الطالب الكثريين الذين علمتهم عىل مر السنني يف مواد الفيزياء لغري العلًّمء‪ ،‬الذين‬

‫‪5‬‬
‫ساعدوين يف صقل أفكاري إذ بينوا يل عندما مل يكن أسلويب ناج ًحا‪ .‬أخىش أنني استفدت من‬
‫ميا يف مركز أونتاريو للعلوم‪ ،‬أُتيحت يل‬
‫هذه العملية أكرب من استفادتهم‪ .‬يف خالل عميل قد ً‬
‫فرصة بناء تقدير ملا يسهل فهمه عىل غري الفيزيائيني وما يو ّدون أن يفهموه–وهًّم مختلفان‬
‫ين‪ ،‬يف هذا العمل بطرق مبارشة وغري‬
‫ريا‪ ،‬أثّر أساتذيت‪ ،‬وبعد ذلك زماليئ ومعاو ّ‬
‫عاد ًة‪ .‬أخ ً‬
‫ريا ج ًّدا من األفراد ال أستطيع ذكر أسًّمئهم جمي ًعا‪ .‬هم‬
‫مبارشة‪ .‬تحتوي هذه املجموعة عد ًدا كب ً‬
‫يعرفون أنفسهم‪ ،‬وأنا أشكرهم‪ .‬كًّم سيدرك كل من يقرأ الكتاب رسي ًعا‪ ،‬لعب ريتشارد فينًّمن‬
‫دو ًرا مؤث ًرا يف تفكريي بشأن عدد من املجاالت يف الفيزياء‪ ،‬كًّم أثر يف كثري من الفيزيائيني‬
‫اآلخرين‪ .‬أود كذلك أن أشكر سوبري ساكديف عىل املناقشات النافعة التي ساعدتني عىل صقل‬
‫مناقشتي لتحوالت الطور يف املادة‪ ،‬ومارتن وايت وجولز كوملان لقراءتهًّم املسودة وتقدميهًّم‬
‫تعليقات‪ ،‬وجاتيال فان دير فني دافيس وجنيفر إليزابيث مارش يف ما ّدتهًّم املق ّدمة إىل الفيزياء‬
‫يف جامعة كاليفورنيا سانتا بربارا‪ ،‬إذ استعمال النسخة املسودة ووجدا فيها خطأ‪.‬‬

‫ريا وليس آخ ًرا‪ ،‬أريد أن أشكر ابنتي لييل‪ ،‬ألنها أعارتني حاسوبها يف عدة فرتات‬
‫أخ ً‬
‫معطال‪ .‬مبع ًنى حقيقي ج ًّدا‪ ،‬مل يكن هذا الكتاب ليظهر اآلن لوال مساعدتها‪.‬‬
‫ً‬ ‫عندما كان حاسويب‬
‫ض ّحت لييل وكيت كالهًّم بالوقت الثمني الذي نقضيه م ًعا يف فرتة عميل عىل هذا الكتاب‪،‬‬
‫وأرجو أن أعوضهًّم‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫إن الرس األول يف كل رحلة هو‪ :‬كيف وصل املسافر إىل نقطة االنطالق هذه يف املقام األول؟‬
‫– لويس بوغان‪ ،‬رحلة حول غرفتي‬

‫‪7‬‬
‫الجزء األول‬

‫العملية‬

‫‪8‬‬
‫الفصل األول‬
‫النظر حيث يوجد الضوء‬

‫إذا كانت األداة الوحيدة يف يدك مطرقة‪ ،‬فمن شأنك أن تعامل كل يشء كًّم لو كان‬
‫وت ًدا‪.‬‬

‫ُدعي عامل فيزياء ومهندس وعامل نفس ليُستشاروا يف مزرعة ألبان كان إنتاجها أقل من‬
‫املتوسط‪ .‬أُعطي كل واحد منهم وقتًا ليفحص تفاصيل العمل قبل إنشاء تقرير‪.‬‬

‫كان أولهم املهندس‪ ،‬الذي قال‪« :‬يجب إنقاص حجم غُرف املوايش‪ .‬ميكن تحسني‬
‫صغّر حجم توزع البقر‪ ،‬بجعل املساحة الصافية لكل بقرة ‪ 275‬قد ًما مكعبة‪ .‬كذلك‬
‫الفعالية إذا ُ‬
‫فإن قطر أنابيب الحلب يجب أن يُزاد ‪ 4‬باملئة ليسمح مبتوسط تدفق أعىل يف فرتات الحلب»‪.‬‬

‫أما الثاين فكان عامل النفس‪ ،‬الذي اقرتح‪:‬‬

‫يل جدران اإلسطبل الداخلية باألخرض‪ .‬هذا اللون أقرب إىل اللني من البني‬
‫«يجب ط ُ‬
‫وينبغي أن يساعد عىل زيادة تدفق الحليب‪ .‬كذلك يجب زرع مزيد من األشجار يف الحقول‬
‫إلضفاء التنوع عىل املشهد الذي تراه املوايش وهي ترعى‪ ،‬وهكذا سيقل مللها»‪.‬‬

‫قائال‪:‬‬
‫حا للكتابة ثم رسم دائرة‪ .‬وابتدأ ً‬
‫ريا‪ُ ،‬دعي الفيزيايئ‪ .‬طلب الرجل لو ً‬
‫أخ ً‬

‫«تخيل أن البقرة كرة‪»...‬‬

‫هذه النكتة القدمية‪ ،‬وإن مل تكن شديدة الطرافة‪ ،‬تُظهر كيف ينظر الفيزيائيون إىل‬
‫العامل –عىل األقل رمزيًّا–‪ .‬إن أدوات الفيزيائيني التي يستعملونها لوصف الطبيعة محدودة‪.‬‬
‫معظم النظريات الحديثة التي تقرأ عنها بدأت حياتها بوصفها مناذج بسيطة اقرتحها‬
‫فيزيائيون مل يجدوا طريقة أخرى لحل املشكلة‪ .‬هذه النًّمذج البسيطة الصغرية تكون عادة‬

‫‪9‬‬
‫مبنية عىل مناذج صغرية أبسط‪ ،‬وهل ّم ج ًّرا‪ ،‬ألن األشياء التي نعلم حقًّا كيف ميكن حلها ميكن‬
‫ع ّدها عىل أصابع يد واحدة‪ ،‬أو رمبا اثنتني‪ .‬يف معظم األحوال‪ ،‬يتبع الفيزيائيون خطوط‬
‫اإلرشاد نفسها التي تساعد منتجي أفالم هوليوود عىل تحقيق الغنى‪ :‬إذا نفع األمر‪ ،‬فاستغله‪.‬‬
‫إذا استمر نفعه‪ ،‬فانسخه‪.‬‬

‫مثاال عن التفكري بالعامل ببساطة‪ ،‬وتساعدين عىل القفز‬


‫تعجبني نكتة البقرة ألنها تقدم ً‬
‫ريا‪ ،‬لكنها أساسية يف العمل اليومي للعلم‪ :‬قبل كل يشء‪،‬‬
‫مبارشة إىل فكرة ال يُكتب عنها كث ً‬
‫ج ّرد املوضوع من كل التفاصيل غري املهمة!‬

‫هنا كلمتان‪ :‬ج ّرد و«غري املهمة»‪ .‬التخلص من التفاصيل غري املهمة هو أول خطوة يف‬
‫بناء أي منوذج للعامل‪ ،‬وهو أمر نفعله يف الالوعي من لحظة والدتنا‪ .‬لكن فعله يف الوعي أمر‬
‫مختلف متا ًما‪ .‬إن التغلب عىل الرغبة الطبيعية بعدم التلفظ بالتفاصيل غري املهمة هو أصعب‬
‫وأهم جزء يف تعلم الفيزياء‪ .‬باإلضافة إىل هذا‪ ،‬إن عدم األهمية يف حالة من الحاالت ليس عا ًّما‬
‫ويعتمد يف معظم الحاالت عىل ما تهت ّم به‪ .‬يؤدي هذا إىل الكلمة الثانية‪ :‬التجريد‪ .‬من كل‬
‫التفكري املج َّرد املطلوب يف الفيزياء‪ ،‬أصعب جزء هو اختيار كيفية مقاربة مشكلة‪ .‬إن مجرد‬
‫وصف الحركة عىل خط مستقيم –وهو أول تطور كبري يف الفيزياء الحديثة– تطلب مقدا ًرا‬
‫ريا من التجريد إىل درجة أنه متلّص من عقول باهرة حقًّا‪ ،‬إىل أن جاء غاليليو‪ ،‬كًّم سأناقش‬
‫كب ً‬
‫الحقًا‪ .‬أما اآلن‪ ،‬فلنعد إىل عامل الفيزياء وبقرته لرنى مثاالً عن املنفعة الحاصلة حتى من التجريد‬
‫املتطرف‪.‬‬

‫انظر إىل الصورة التالية للبقرة‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫مكربة يف كل االتجاهات بعامل‬
‫تخيل اآلن «بقرة فائقة»–مطابقة للبقرة العادية‪ ،‬لكنها ّ‬
‫اثنني‪:‬‬

‫البقرة الفائقة‬

‫البقرة العادية‬

‫ما الفرق بني هاتني البقرتني؟ عندما نقول إن األوىل تساوي ضعفي الثانية‪ ،‬فًّم الذي‬
‫نقصده حقًّا؟ البقرة الفائقة هي الضعفان يف الحجم‪ ،‬لكن هل هي الضعفان يف الكرب؟ كم‬

‫‪11‬‬
‫مثال؟ إذا كانت البقرتان مصنوعتني من املادة نفسها‪ ،‬فمن املعقول أن‬
‫يزيد وزنها عن العادية ً‬
‫نتوقع أن وزنهًّم سيعتمد عىل املقدار الصايف لهذه املادة‪ .‬يعتمد هذا املقدار عىل حجم البقرة‪.‬‬
‫إذا كان الشكل معق ًدا‪ ،‬سيكون من الصعب تقدير حجمه‪ ،‬لكن بالنسبة لكرة فاألمر سهل‪ .‬قد‬
‫تتذكر من املدرسة الثانوية أنه إذا كان نصف القطر ‪ ،r‬فالحجم يساوي‪ . (4π/3)r3‬لكن ليس‬
‫علينا أن نعرف املقدار املحدد لحجم أي من البقرتني‪ ،‬إمنا نريد أن نعرف النسبة بني حجميهًّم‪.‬‬
‫لنا أن نتوقع كيف ستكون هذه النسبة بتذكر أن الحجوم تقاس بالبوصات املكعبة واألقدام‬
‫املكعبة واألميال املكعبة وهكذا‪ .‬الكلمة املهمة هنا هي املكعبة‪ .‬لذا‪ ،‬إذا زدت االتجاهات الخطية‬
‫ليشء ما بعامل ‪ ،2‬فإن حجمه يزيد مبك ّعب ‪ ،2‬أي ‪ ،2 × 2 × 2‬أو ‪ .8‬فالبقرة الفائقة إذن تزن‬
‫‪ 8‬أضعاف البقرة العادية‪ .‬لكن ماذا لو أردت أن أصنع ثيابًا من جلدها؟ كم سيكون مقدار زيادة‬
‫جلدها عن جلد البقرة العادية؟ مقدار الجلد يزداد كلًّم ازداد سطح البقرة‪ .‬إذا زدت األبعاد‬
‫الخطية كلها بعامل ‪ ،2‬فإن السطح–وهو يُقاس بالبوصة املربعة‪ ،‬والقدم املربعة‪ ،‬وامليل املربع‪،‬‬
‫وهلم ج ًّرا– يزداد مبربّع ‪ ،2‬أي ‪.4‬‬

‫إذن‪ ،‬بقرة مضاعفة «الكرب» تزن عمل ًّيا ‪ 8‬أضعاف ويبلغ مقدار جلدها ‪ 4‬أضعاف‬
‫باملقارنة مع البقرة العادية‪ .‬إذا فكرت يف األمر‪ ،‬ستجد أن الضغط الذي يضغطه جسد البقرة‬
‫الفائقة عىل جلدها يساوي الضعفني‪ ،‬بسبب وزنها املضاعف‪ .‬إذا استمررنا يف زيادة حجم‬
‫البقرة الكروية‪ ،‬فسنبلغ نقطة يعجز فيها الجلد (أو األعضاء القريبة منه) عن تحمل الضغط‬
‫الزائد‪ ،‬وستتمزق البقرة! إذن فإن حجم البقرة محدود حتى أمام أكرث أصحاب املزارع موهبة –‬
‫ليس بسبب البيولوجيا بل بسبب قوانني التحجيم يف الطبيعة‪.‬‬

‫إن قوانني التحجيم هذه مستقلة عن الشكل الفعيل للبقرة‪ ،‬لذلك فلن نخرس شي ًئا إذا‬
‫تخيلنا البقرة عىل شكل بسيط كالكرة‪ ،‬إذ نستطيع حساب كل مقادير هذا الشكل بدقة‪ .‬لو‬
‫حاولت أن أحدد حجم بقرة غري منتظمة الشكل‪ ،‬ثم أن أعرف كيف يتغري الحجم إذا ضاعفت‬

‫‪12‬‬
‫كل أبعادها‪ ،‬فسأصل إىل النتيجة نفسها لكن األمر سيكون أصعب‪ .‬لذلك فألهدايف هنا‪ ،‬البقرة‬
‫كرة!‬

‫نحسن تقريبنا لشكل البقرة‪ ،‬سنكتشف عالقات تحجيم جديدة‪ .‬عىل سبيل‬
‫ّ‬ ‫اآلن‪ ،‬عندما‬
‫املثال‪ ،‬فلنتخيل البقرة بشكل أقرب إىل الواقع‪ ،‬كًّم ييل‪:‬‬

‫عصا)‬
‫البقرة بوصفها كرتني (بينهًّم ً‬

‫كل العالقات السابقة عن التحجيم تصدق عىل هذه البقرة الجديدة‪ ،‬بل وعىل كل جزء‬
‫من أجزائها املفردة‪ .‬إذن‪ ،‬البقرة الفائقة سيكون رأسها أكرب بثًّمنية أضعاف من البقرة العادية‪.‬‬
‫فلننظر اآلن إىل الرقبة التي تربط الرأس بالجسم‪ ،‬وهي ممثلة هنا بعصا‪ .‬إن قوة هذه العصا‬
‫تتناسب مع مساحتها العرضية (أي إن العصا األثخن ستكون أقوى من العصا األدقّ إذا كانتا‬
‫عصا تساوي الضعفني‪ ،‬فإن مساحتها العرضية أكرب بـ‪4‬‬
‫من املادة نفسها)‪ .‬إذا كانت ثخانة ً‬
‫أضعاف فقط‪ .‬لذا فإن وزن رأس البقرة الفائقة يساوي ‪ 8‬أضعاف البقرة العادية‪ ،‬ولكن رقبتها‬
‫أقوى بـ‪ 4‬أضعاف فقط‪ .‬باملقارنة مع البقرة العادية‪ ،‬أصبحت فعالية الرقبة تساوي نصف‬
‫الفعالية يف حمل الرأس‪ .‬إذا استمررنا يف زيادة أبعاد بقرتنا الفائقة‪ ،‬سنبلغ نقطة تعجز فيها‬
‫يفرس هذا كون رؤوس الديناصورات صغرية باملقارنة مع‬
‫ّ‬ ‫عظام الرقبة عن حمل الرأس‪.‬‬
‫أجسادها الضخمة‪ ،‬وأن الحيوانات ذات الرؤوس األكرب (باملقارنة مع أجسادها)‪ ،‬كالدالفني‬

‫‪13‬‬
‫والحيتان‪ ،‬تسكن يف املاء‪ :‬تكون األشياء أخف وزنًا يف املاء‪ ،‬فتصبح القوة املطلوبة لحمل وزن‬
‫الرأس أقل‪.‬‬

‫نستطيع اآلن أن نفهم ملاذا مل يقرتح عامل الفيزياء يف القصة إنتاج أبقار أكرب لحل‬
‫مشكلة إنتاج الحليب! واألهم من ذلك‪ ،‬فحتى عند استعًّمل هذا التجريد الساذج‪ ،‬استطعنا أن‬
‫نستنتج بعض املبادئ العامة بشأن التحجيم يف الطبيعة‪ .‬ملا كانت كل مبادئ التحجيم مستقلة‬
‫عن الشكل‪ ،‬كان يف مقدورنا استعًّمل أبسط األشكال لفهمها‪.‬‬

‫ميكننا أن نستنتج أشياء كثرية أخرى من هذا املثال البسيط‪ ،‬وسأعود إليه‪ .‬أوالً أريد أن‬
‫أعود إىل غاليليو‪ .‬كانت طليعة إنجازاته السبق الذي سبق إليه قبل ‪ 400‬عام من اليوم‪ ،‬بتجريد‬
‫مفهوم الحركة مًّم ال يه ّم لدى وصفه‪ ،‬ليؤسس بذلك العلم الحديث‪.‬‬

‫مستحيال‪ ،‬هي أن كل يشء‬


‫ً‬ ‫من أهم صفات الكون التي تجعل الوصف العام للحركة يبدو‬
‫يتحرك بطريقة مختلفة‪ .‬الريشة تتهادى برفق عندما تسقط من طائر‪ ،‬أما فضالت الحًّمم‬
‫فتسقطع كحجرة ال تخطئ عىل زجاج سيارتك‪ .‬كرات البولنغ إذا أطلقها طفل ابن ثالثة أعوام‬
‫كيفًّم اتفق‪ ،‬تجد طريقها يف املسار حتى تبلغ نهايته‪ ،‬أما جزازة العشب فال تتحرك قيد أمنلة‬
‫من تلقاء نفسها‪ .‬أدرك غاليلو أن هذه الصفة الواضحة للكون هي أيضً ا غري مهمة‪ ،‬عىل األقل‬
‫من جهة فهم الحركة‪ .‬لقد قال مارشال مكلوهان إن الوسط هو الرسالة‪ ،‬لكن غاليليو اكتشف‬
‫قبله بزمن أن الوسط ليس إال عائقًا‪ .‬لقد جادل الفالسفة قبل غاليلو أن الوسط أسايس يف‬
‫رصح بطريقة مقنعة أن جوهر الحركة ال ميكن فهمه إال بإزالة‬
‫وجود الحركة‪ ،‬لكن غاليليو ّ‬
‫اللبس الذي تدخله الظروف املحددة التي تجد األجسام املتحركة نفسها فيها‪« :‬أمل تجد أن‬
‫الجسمني إذا سقطا يف املاء وكانت رسعة الواحد منهًّم مئة ضعف رسعة اآلخر‪ ،‬فإنهًّم يهويان‬
‫يف الهواء برسعتني قريبتني من التساوي إذ ال تتجاوز الواحدة منهًّم جز ًءا من مئة زياد ًة عن‬
‫مثال‪ ،‬تسقط بيضة من الرخام يف املاء برسعة أكرب من بيضة دجاجة‪ ،‬لكن يف‬
‫األخرى؟ هكذا ً‬

‫‪14‬‬
‫الهواء‪ ،‬إذا ُرميت البيضتان من ارتفاع عرشين ذرا ًعا‪ ،‬فإن الواحدة منهًّم ستقرص عن األخرى‬
‫بأقل من عرض أربعة أصابع»‪.‬‬

‫بنا ًء عىل هذه الحجة‪ ،‬ادعى غاليلو‪ ،‬صادقًا‪ ،‬أننا إذا تجاهلنا أثر الوسط‪ ،‬فكل األجسام‬
‫تسقط بالطريقة نفسها متا ًما‪ .‬وجهز غاليلو ألمواج النقد من الذين مل يكونوا مستعدين‬
‫لتجريده الجوهر مًّم ال يهم‪« :‬أثق أنك لن تتبع مثال الكثريين الذين يحيدون بالنقاش عن‬
‫مقصده األصيل وميسكون بعبارة واحدة من عبارايت تفقد شعرة من الحقيقة‪ ،‬فيخفون تحت‬
‫‪1‬‬
‫هذه الشعرة خطأ آخر يبلغ حجمه حجم حبل سفينة»‪.‬‬

‫هذا هو بالضبط ما قال إن أرسطو فعله عندما ركز ال عىل التشابهات بني األجسام بل‬
‫عىل االختالفات‪ ،‬التي ميكن نسبتها إىل أثر الوسط‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬فإن العامل «املثايل» الخايل‬
‫من األوساط‪ ،‬ال يبعد عن العامل الحقيقي إال «مبقدار شعرة»‪.‬‬

‫بعد هذا التجريد العميق‪ ،‬اتضح كل يشء حرف ًّيا‪ :‬قال غاليليو إن األجسام التي تتحرك‬
‫بحرية‪ ،‬دون التعرض ألي قوة خارجية‪ ،‬تستمر يف حركتها «مستقيم ًة إىل األمام» –أي عىل‬
‫خط مستقيم وبرسعة ثابتة–برصف النظر عن حركاتها السابقة‪.‬‬

‫وصل غاليليو إىل هذه النتيجة باالتجاه إىل األمثلة التي ال يكون فيها للوسيط أثر كبري‪،‬‬
‫مثل قطعة ثلج عىل األرض‪ ،‬ليثبت أن األجسام طبيع ًّيا تستمر برسعة ثابتة دون تباطؤ أو‬
‫تسارع أو انحدار‪ .‬إن ما ادعى أرسطو أنه الحالة الطبيعية للحركة –السعي إىل حالة سكون–‬
‫تبني بعد ذلك أنه مجرد تعقيد ناجم عن الوسط الخارجي‪.‬‬
‫ّ‬

‫ملاذا كانت هذه املالحظة مهمة ج ًّدا؟ ألنها أزالت الفرق بني األجسام التي تتحرك برسعة‬
‫ثابتة واألجسام الساكنة‪ .‬كال الفئتني متشابه ألنهًّم يستم ّران يف حالتهًّم ما مل يؤثّر فيهًّم‬
‫مؤثر‪ .‬الفرق الوحيد بني الرسعة الثابتة والرسعة الصفرية هي مقدار الرسعة –ليس الصفر إال‬

‫‪15‬‬
‫يغري الرتكيز يف‬
‫احتًّمال من عدد غري منته من االحتًّمالت‪ .‬أتاحت هذه املالحظة لغاليليو أن ّ‬
‫ً‬
‫دراسة الحركة –وقد كان موقع األجسام– ويحوله إىل كيفية تغري املوقع‪ ،‬أي إىل كون الرسعة‬
‫ثابتة أو متغرية‪ .‬عندما تدرك أن الجسم إذا مل تؤثر فيه أي قوة فسيتحرك برسعة ثابتة‪ ،‬فلم يبق‬
‫إال خطوة قصرية (وإن كانت تطلبت عقل إسحاق نيوتن لتكتمل) لتدرك أن أثر القوة هو تغيري‬
‫الرسعة‪ .‬أثر القوة الثابتة ليس تغيري موقع الجسم مبقدار ثابت‪ ،‬بل تغيري رسعته‪ .‬كذلك فإن‬
‫تغريها نفسه! هذا هو قانون نيوتن‪ .‬بهذا‬
‫القوة املتغرية يظهر أثرها يف الرسعة التي يتغري ّ‬
‫القانون‪ ،‬ميكن فهم حركة كل األجسام تحت الشمس‪ ،‬ودراسة طبيعة كل القوى يف الطبيعة–‬
‫أي األشياء التي هي أصل كل التغري يف الكون–‪ :‬أصبحت الفيزياء الحديثة ممكنة‪ .‬مل يكن هذا‬
‫ليحدث لوال أن تخلّص غاليلو من التفاصيل ليدرك أن املهم حقًّا هو الرسعة‪ ،‬وكونها ثابتة أو‬
‫متغرية‪.‬‬

‫ريا ما نف ّوت األسس املهمة ونعلق يف‬


‫لسوء الحظ‪ ،‬يف محاولتنا لفهم األمور بالضبط‪ ،‬كث ً‬
‫مشكالت جانبية‪ .‬إذا كان غاليليو وأرسطو يبدوان بعيدين شي ًئا ما‪ ،‬فإليك مثاالً أقرب‪ .‬استثمر‬
‫أحد أقربايئ‪ ،‬هو وغريه –وكلهم متعلمون يف الجامعة‪ ،‬ومنهم أستاذ فيزياء يف مدرسة‬
‫ثانوية– مب لغ مليون دوالر يف مرشوع يسعى إىل تطوير محرك جديد مصدر وقوده الوحيد‬
‫ني بأحالم حل أزمة الطاقة‪ ،‬وإنهاء االعتًّمد الوطني عىل‬
‫هو حقل الجاذبية لألرض‪ .‬مدفوع َ‬
‫النفط األجنبي‪ ،‬وتحقيق الغنى الفاحش‪ ،‬أقنع القوم أنفسهم بإمكانية إكًّمل هذه اآللة بقليل‬
‫من املال‪.‬‬

‫مل يكن املستثمرون س َّذ ً‬


‫جا ليقتنعوا أنك تستطيع الحصول عىل يشء باملجان‪ .‬لكنهم مل‬
‫يعتقدوا أنهم يستثمرون يف آلة «حركة دامئة»‪ .‬كانوا يفرتضون أن اآللة بطريقة ما ستسخرج‬
‫«الطاقة» من حقل الجاذبية األريض‪ .‬كان يف الجهاز كثري من الرتوس والبكرات واملقابض‬
‫التي أشعرت املستثمربن أنهم ال يستطيعون عزل اآللية الفعلية التي تقود اآللة وال محاولة‬

‫‪16‬‬
‫التحليل املفصل لخصائصها الهندسية‪ .‬يف العروض الفعلية‪ ،‬حاملا يُرفَع املكبح يف اآللة‪ ،‬كانت‬
‫تبدأ دورانها وتزداد رسعتها فيًّم يبدو أثناء العرض‪ ،‬وبدا األمر مقن ًعا‪.‬‬

‫عىل رغم تعقيد تفاصيل اآللة‪ ،‬فعندما تُتجاهل كل هذه التفاصيل‪ ،‬تصبح استحالة اآللة‬
‫واضحة‪ .‬انظر إىل ترتيب املثال األويل الذي رسمته أدناه يف بداية ونهاية دورة كاملة (بعد أن‬
‫تكمل العجالت دورة كاملة واحدة)‪:‬‬

‫كل ترس وبكرة‪ ،‬كل مسًّمر وحزقة‪ ،‬يف املكان نفسه بالضبط! مل يتغري يشء‪ ،‬مل‬
‫«يسقط» يشء‪ ،‬مل يتبخر يشء‪ .‬إذا كانت عجلة املوازنة ساكنة يف أول الدورة‪ ،‬فكيف ميكن أن‬
‫تتحرك يف نهايتها؟‬

‫املشكلة يف محاولة تحليل الجهاز هندس ًّيا‪ ،‬هي أن وجود مكونات كثرية يص ّعب ج ًّدا‬
‫تحديد مكان وزمان تأثري القوى يف املكونات املحددة إليقاف الحركة‪ .‬أما التحليل «الفيزيايئ»‬
‫مثال (وليكن صندوقًا‬
‫فريكز عىل األسس ال عىل التفاصيل‪ .‬ضع األمر كله يف صندوق أسود‪ً ،‬‬
‫مثال‪ ،‬ال بد أن يأيت‬
‫كرويًّا إن شئت!)‪ ،‬وفكر يف هذا املطلب البسيط‪ :‬حتى ننتج شيئًا‪ ،‬كالطاقة ً‬
‫من الداخل‪ ،‬لكن إذا مل يتغري يشء يف الداخل‪ ،‬فال ميكن أن ينتُج يشء‪ .‬أما إذا حاولت تعقب‬
‫كل يشء‪ ،‬فستغيب عنك الصورة الكربى يف التفاصيل الصغرية‪.‬‬

‫كيف تستطيع التفريق مسبقًا بني األسس وبني ما ميكن تجاهله بأمان؟ يف كثري من‬
‫األحيان ال تستطيع‪ .‬الطريقة الوحيدة هي امليض يف األمر والنظر يف معقولية النتائج‪ .‬بعبارة‬
‫أ‬
‫ريتشارد فينًّمن‪« ،‬اللعنة عىل الطوربيدات‪ ،‬الرسعة القصوى قُ ُد ًما!»‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫مثال يف محاولة فهم بنية الشمس‪ .‬إلنتاج الطاقة املالحظة التي تصدر عن سطح‬
‫فكر ً‬
‫الشمس‪ ،‬ال بد من تفجري مئة مليار قنبلة هدروجينية كل ثانية يف لُ ّبها الكثيف الساخن إىل‬
‫درجة تفوق الوصف! يف الظاهر‪ ،‬ال يستطيع املرء أن يتخيل بيئة أشد تعقي ًدا أو اضطرابًا من‬
‫الشمس‪ .‬من حسن حظ الجنس البرشي‪ ،‬كان الفرن الشميس عىل درجة جيدة من االستمرارية‬
‫يف مليارات السنوات السابقة‪ ،‬ومن املعقول افرتاض أن األشياء يف الشمس تحت السيطرة إىل‬
‫درجة جيدة‪ .‬البديل األبسط‪ ،‬واألهم‪ ،‬ورمبا الوحيد الذي يتيح إمكانية املعالجة التحليلية‪ ،‬هو‬
‫افرتاض أن الشمس يف الداخل يف حالة «توازن هيدروستاتييك»‪ .‬يعني هذا أن التفاعالت‬
‫النووية التي تجري يف الشمس تس ّخنها حتى يبلغ الضغط مقدا ًرا كاف ًيا إلمساك الطبقة‬
‫الخارجية‪ ،‬التي كانت لتنهار إىل الداخل بسب الجاذبية‪ .‬إذا بدأت الطبقة الخارجية للشمس‬
‫تنهار إىل الداخل‪ ،‬سيزداد الضغط والحرارة يف داخل الشمس‪ ،‬وهو ما سيؤدي إىل تسارع‬
‫التفاعالت النووية‪ ،‬التي بدورها ستؤدي إىل ازدياد الضغط ودفع الطبقة الخارجية مرة أخرى‬
‫إىل الخارج‪ .‬كذلك‪ ،‬لو كانت الشمس تتوسع يف حجمها‪ ،‬لربد لبها‪ ،‬ولتباطأت التفاعالت النووية‬
‫قليال‪ .‬لذلك تحرتق الشمس بالوترية‬
‫فيها‪ ،‬والنخفض الضغط‪ ،‬والنهارت الطبقة الخارجية ً‬
‫نفسها عىل مدار فرتات طويلة من الزمن‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬تعمل الشمس مثل املضخة يف محرك‬
‫سيارتك وأنت تقود برسعة ثابتة‪.‬‬

‫هذا الرشح كان ليكون صع ًبا ج ًّدا أن يُعالج باألرقام لوال بعض التبسيطات األخرى‪ .‬أوالً ‪،‬‬
‫نحن نفرتض أن الشمس كرة! أي إننا نفرتض أن كثافة الشمس تتغري بالطريقة نفسها إذا‬
‫تحرك املراقب من مركزها يف أي اتجاه–نفرتض أن الكثافة والضغط والحرارة هي نفسها يف‬
‫كل مكان عىل سطح أي كرة داخل الشمس‪ .‬ثم نحن نفرتض غياب أشياء كثرية أخرى كانت‬
‫لتعقد آليات الشمس‪ ،‬مثل الحقول املغناطيسية الضخمة يف لبها‪.‬‬

‫خالفًا الفرتاض التوازن الهيدروستاتييك‪ ،‬هذه االفرتاضات ليست قامئة عىل أي أساس‬
‫فيزيايئ‪ .‬يف النهاية‪ ،‬نحن نعرف من املالحظة أن الشمس تدور‪ ،‬وهذا الدوران يؤدي إىل‬

‫‪18‬‬
‫تنوعات مكانية إذا تحرك املراقب حول سطح الشمس‪ .‬كذلك فإن وجود البقع الشمسية يدل‬
‫عىل أن ظروف سطح الشمس متنوعة–تتنوع مدة نشاطها تنو ًعا نظام ًّيا عىل مدار أحد عرش‬
‫عا ًما عىل السطح‪ .‬نحن نتجاهل هذه التعقيدات لصعوبة معالجتها‪ ،‬عىل األقل يف أول األمر‪،‬‬
‫وألن من املعقول ج ًّدا أن مقدار الدوران الشميس والرتابط بني آثار السطح واللب الشميس‪،‬‬
‫كالهًّم صغري مبا يكفي لنهمله دون أن يُبطل هذا اإلهًّمل تفسرينا‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬كيف يعمل هذا النموذج لعمل الشمس؟ أفضل مًّم كان لنا أن نتوقع‪ .‬إن حجم‬
‫ريا مع هذا النموذج‪.‬‬
‫الشمس وحرارة سطحها وسطوعها وعمرها‪ ،‬كل هذه تتفق اتفاقًا كب ً‬
‫جا صوتية‪ ،‬وكًّم تهتز‬
‫واألغ َرب رمبا أنه‪ ،‬كًّم يهتز القدح إذا نقرت طرفه بأصبعك ويصدر أموا ً‬
‫األرض بـ«أمواج اهتزازية» بسبب الضغوط التي تطلقها الزالزل‪ ،‬فإن الشمس أيضً ا تهتز‬
‫برتددات خاصة بسبب املؤثرات التي تحدث يف داخلها‪ .‬هذه االهتزازات تسبب حركات عىل‬
‫سطحها ميكن مالحظتها من األرض‪ ،‬وميكن أن تدلنا هذه الرتددات عىل مقدار كبري من‬
‫املعلومات بشأن داخل الشمس‪ ،‬كًّم أن املوجات االهتزازية ميكن استخدامها لدراسة تكون‬
‫األرض لدى البحث عن النفط‪ .‬هذا النموذج‪ ،‬الذي صار يعرف باسم النموذج الشميس القيايس‬
‫–وهو الذي يضم كل املقاربات التي وصفتها– يستطيع أن يتوقع بدقة كبرية طيف التذبذات‬
‫التي نالحظها عىل سطح الشمس‪.‬‬

‫يبدو آم ًنا إذن أن نتخيل أن الشمس حقًّا كرة بسيطة–وأن صورتنا التقريبية لها قريبة‬
‫ج ًّدا من حقيقتها‪ .‬لكن هنا مشكلة‪ .‬إىل جانب إنتاج وفرة من الحرارة والضوء‪ ،‬تنتج التفاعالت‬
‫النووية يف الشمس أشياء أخرى‪ .‬أهمها أنها تنتج جسيًّمت أولية‪ ،‬وأجسا ًما ميكروسكوبية‬
‫تشبه الجسيًّمت التي تك ّون الذرات‪ ،‬كاإللكرتونات والكواركات‪ ،‬تدعى هذه الجسيًّمت‬
‫مهًّم عن الجسيًّمت التي تشكل املادة الطبيعية‪.‬‬
‫النيوترينوات‪ .‬تختلف هذه الجسيًّمت اختالفًا ًّ‬
‫إن تفاعل هذه الجسيًّمت مع املادة العادية ضعيف ج ًّدا‪ ،‬ويف الحقيقة‪ ،‬تعرب معظم‬
‫النيوتريينوات كوكب األرض دون أن تشعر بوجوده‪ .‬يف الوقت الذي استغرقته لقراءة هذه‬

‫‪19‬‬
‫الجملة‪ ،‬مر يف جسدك ألف مليار نيوترينو من الفرن الشميس املشتعل‪( .‬يصدق األمر يف النهار‬
‫والليل‪ ،‬ألن النيوترينوات يف الليل تأيت من الشمس لتعرب من خاللك‪ ،‬ولكن من األسفل!) منذ‬
‫اقرتح وجود هذه األجسام يف العقد الرابع من القرن العرشين‪ ،‬لعبت النيوترينوات دو ًرا‬
‫أن ُ‬
‫هًّم ج ًّدا يف فهمنا للطبيعة عىل أصغر أنطقتها‪ .‬أما النيوترينوات اآلتية من الشمس‪ ،‬فلم تؤ ّد‬
‫م ًّ‬
‫إال إىل اللبس‪.‬‬

‫إن حسابات النموذج الشميس نفسه التي تتوقع بدقة كبرية كل الخصائص املالحظة‬
‫للشمس‪ ،‬ينبغي أن تتيح لنا أن نتوقع عدد النيوترينوات ذات الطاقة املعينة التي تأيت إل سطح‬
‫األرض يف أي وقت‪ .‬وإن كنت تتخيل أن هذه األجرام املراوغة مستحيلة املالحظة‪ ،‬فإن تجارب‬
‫رسية ضخمة بُنيت بكثري من الذكاء والصرب والتقانة ملراقبتها‪ .‬كان أولها يف منجم عميق يف‬
‫جنوب داكوتا‪ ،‬وكان يف التجربة خزان من ‪ 100,000‬غالون من سائل الغسل‪ ،‬تُ ُوقّع أن يتغري‬
‫فيه ذرة واحدة من الكلور إىل ذرة من األرغون كل يوم‪ ،‬بسبب احتًّمل تفاعلها مع نيوترينو‬
‫قادم من الشمس‪ .‬بعد خمسة وعرشين عا ًما‪ ،‬جرت تجربتان مختلفتان حساستان للنيوترينوات‬
‫عالية الطاقة من الشمس‪ ،‬وظهرت نتائجهًّم‪ .‬وجدت التجربتان عد ًدا أصغر من النيوترينوات‪،‬‬
‫يرتاوح بني ُربع ونصف املقدار املتوقَّع‪.‬‬

‫قد يكون أول انطباع لك من هذا هو أنه ضجة كبرية عىل ال يشء‪ .‬إن توقع النتائج بهذه‬
‫الدقة ميكن أن يُرى عىل أنه نجاح كبري‪ ،‬ألن هذه التوقعات مبنية عىل املقاربات التي وصفتها‬
‫ريا من الفيزيائيني رأى يف هذه النتائج إشارة إىل أن واح ًدا عىل األقل‬
‫للفرن الشميس‪ .‬بل إن كث ً‬
‫من هذه املقاربات غري مناسب‪ .‬أما غريهم‪ ،‬وأبرزهم الذين عملوا لتطوير النموذج الشميس‬
‫القيايس‪ ،‬فقالوا إن هذا بعيد ج ًّدا‪ ،‬بسبب اتفاق النموذج مع كل املالحظات األخرى‪.‬‬

‫أنتج العقد األخري من القرن العرشين سلسلة بطولية من التجارب التي حلت هذا الرس‪.‬‬
‫ضخًّم تحت األرض يحوي ‪ 50,000‬طن من املاء‪ ،‬يستطيع كشف كثري من‬
‫ً‬ ‫شملت أوالها كاشفًا‬

‫‪20‬‬
‫األحداث النيوترينوية إىل درجة أنه استطاع التأكيد بدقة كبرية أن املقدار الذي يأيت من الشمس‬
‫أقل من املقدار املتوقع‪.‬‬

‫بدال‬
‫بعد ذلك‪ ،‬بُني يف سدبري‪ ،‬كندا‪ ،‬كاشف جديد تحت األرض‪ ،‬يستعمل املاء الثقيل ً‬
‫من املاء العادي‪ .‬من األشياء التي مل أرشحها من قبل أن كل كواشف النيوترينوات السابقة كانت‬
‫حساسة لنوع واحد من النيوترينوات‪ ،‬وقد تبني أن يف الطبيعة ثالثة أنواع مختلفة من‬
‫النيوترينوات التي نعرفها‪ .‬تنتج التفاعالت النووية نو ًعا واح ًدا منها‪ ،‬يُسمى اإللكرتون–‬
‫نيوترينو‪ ،‬لذا كان من املعقول أن كل الكواشف السابقة كانت حساسة لهذا النوع فقط‪.‬‬

‫كان من الطرق الغريبة لحل معضلة النيوترينو الشميس‪ ،‬كًّم أصبحت تُع َرف‪ ،‬هي أن‬
‫النيوترينوات اإللكرتونية التي تصدرها الشمس تح ّول نفسها إىل نوع آخر من النيوترينوات‬
‫داخل الشمس أو يف طريقها إىل األرض‪ .‬يتطلب هذا التحول نو ًعا من العمليات الفيزيائية التي‬
‫ال يشملها النموذج القيايس لفيزياء الجسيًّمت–إذ يتطلب أن تكون النيوترونوات غري صفرية‬
‫الكتلة‪ ،‬بل أن تكون ذات كتلة صغرية ج ًّدا‪ .‬وعىل كل حال‪ ،‬إذا كانت النيوترينوات اإللكرتونية‬
‫تتحول إىل أنواع أخرى من النيوترينوات قبل أن تبلغ الكواشف األرضية‪ ،‬فإن هذا يفرس‬
‫مالحظة عدد أقل من املتوقع يف الكاشفات‪.‬‬

‫استطاع الكاشف الذي يستعمل املاء الثقيل الكشف النيوترينوات اإللكرتونية والنوعني‬
‫اآلخرين من النيوترينوات‪ ،‬باستعًّمل نوعني مختلفني من التفاعالت النيوترينوية يف املاء‬
‫الثقيل‪ .‬وانظر عج ًبا‪ ،‬عندما سكن الغبار‪ ،‬و ُع ّدت كل أنواع النيوترينوات‪ ،‬تبيل أن املقدار‬
‫اإلجًّميل من النيوترينوات اآلتية من الشمس يساوي متا ًما ما توقعه النموذج الشميس‬
‫القيايس! لقد لوحظت «تذبذبات» نيوترينوية واك ُتشفت كتل نيوترينوية‪ ،‬وحاز بعض علًّمء‬
‫الفيزياء السعداء جائزة نوبل‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬أثبتت مقاربة الشمس‪ ،‬كمقاربة البقرة‪ ،‬أنها مقاربة‬
‫قوية كشفت عن وجه خفي آخر من الطبيعة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ميكننا أن منيض بهذه املقاربة أكرث‪ :‬أن الشمس كرة‪ ،‬لندرس مزي ًدا ن الكون‪ .‬ميكننا أن‬
‫واألس ّن من الشمس‪ .‬عىل وجه‬
‫َ‬ ‫نحاول فهم النجوم األخرى‪ ،‬األكرب واألصغر‪ ،‬واألح َدث‬
‫الخصوص‪ ،‬تعطينا صورة التوازن الهيدروستاتييك البسيطة فكرة مقاربة عن السلوك العام‬
‫للنجوم خالل أعًّمرها‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬منذ ابتداء تشكل النجم من الغاز املنهار إىل ابتداء‬
‫ريا ج ًّدا‪ ،‬فإن حرارة الغاز‬
‫التفاعالت النووية‪ ،‬تستمر حرارة الغاز يف االزدياد‪ .‬إذا كان النجم صغ ً‬
‫يف املستويات قبل الذرية ميكن أن توفر ضغطًا كاف ًيا لحمل كتلته‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬لن «يشتعل»‬
‫مثال‪ .‬أما األجرام األكرب‬
‫النجم‪ ،‬ولن تبدأ التفاعالت النووية‪ .‬ينطبق الوصف عىل املشرتي ً‬
‫فيستمر االنهيار فيها حتى يبدأ االشتعال النووي وتوفر الحرارة املنطلقة ضغطًا إضاف ًّيا‬
‫يشح الوقود‬
‫ّ‬ ‫يستطيع إيقاف االنهيار وإحداث االستقرار يف النظام‪ .‬يف النهاية‪ ،‬عندما‬
‫الهيدروجيني الالزم للتفاعالت النووية‪ ،‬يبدأ االنهيار الداخيل البطيء من جديد‪ ،‬إىل أن يصبح‬
‫لب النجم حا ًّرا مبا يكفي ليحرق نتيجة أول مجموعة من التفاعالت‪ ،‬الهيليوم‪ .‬تستمر هذه‬
‫العملية يف نجوم كثرية‪ ،‬لتحرق يف كل مرة منتج الدورة السابقة من التفاعالت‪ ،‬إىل أن يصبح‬
‫لب النجم – واسمه اآلن العمالق األحمر أو األزرق‪ ،‬بسبب تغري لون سطحه مع توسع قرشته‬
‫الخارجية إىل حجم أكرب يف الوقت الذي يزداد فيه اللب حرارة وكثافة– مك ّونًا من الحديد يف‬
‫معظمه‪ .‬هنا ال بد أن تنتهي العملية بطريقة أو بأخرى‪ ،‬ألن الحديد ال ميكن أن يكون وقو ًدا‬
‫نوويًّا‪ ،‬ألن مكونات نواته –الربوتونات والنيوترونات– متًّمسكة فيًّم بينها بعمق مينعها من‬
‫التخيل عن أي طاقة ربط لتصبح جز ًءا من نظام أكرب‪ .‬ماذا يحدث هنا؟ أمر من اثنني‪ .‬إما أن‬
‫ميوت النجم ببطء‪ ،‬كًّم تنطفئ الشعلة مع انتهاء عود الكربيت‪ ،‬أو‪ ،‬يف النجوم الكبرية‪ ،‬يحدث‬
‫يشء من أعظم األحداث يف الكون‪ :‬ينفجر النجم!‬

‫هذا النجم املنفجر‪ ،‬أو السوبرنوفا (أو املستعر األعظم)‪ ،‬ينتج يف فرتة عرض ألعابه‬
‫النارية القصرية مقدا ًرا من الضوء يكافئ ما تنتجه مجرة كاملة‪ ،‬أي أكرث من مئة مليار نجم‬
‫عادي‪ .‬يصعب فهم القوة الشديدة التي تُطلَق يف هذا الحدث‪ .‬قبل ثوان من حدوث االنفجار‬

‫‪22‬‬
‫النهايئ‪ ،‬يكون النجم يحرق آخر ما تبقى من الوقود بهدوء‪ ،‬إىل أن يصبح الضغط املولد من‬
‫آخر نفس يف النجم غري كاف إلمساك نواته الحديدية شديدة الكثافة‪ ،‬التي تحتوي من الكتلة‬
‫ما يكافئ كتلة شمسنا‪ ،‬لكنها مضغوطة يف مساحة تساوي حجم األرض–أصغر مبليون مرة‪.‬‬
‫يف أقل من ثانية تنهار كل هذه الكتلة إىل الداخل‪ ،‬وتطلق يف أثناء هذا مقادير هائلة من الطاقة‪.‬‬
‫يستمر هذا االنهيار إىل أن يصبح اللب كله محت ًوى يف كرة ال يتجاوز نصف قطرها ‪10‬‬
‫كيلومرتات–يساوي تقري ًبا حجم نيو هيفن‪ ،‬كونيكتيكت‪ .‬هنا تصبح املادة كثيفة ج ًّدا إىل درجة‬
‫أن مقدار ملعقة صغرية يزن آالف األطنان‪ .‬األهم من ذلك‪ ،‬أن نوى الحديد الذرية الشديدة‬
‫الكثافة تبدأ االحتشاد‪ ،‬و«التالمس» إن صح التعبري‪ .‬يف هذه املرحلة‪ ،‬تتصلب املادة فجأة‪،‬‬
‫مهًّم‪ ،‬هو الضغط الناجم عن تفاعالت هذه النوى‬
‫ويصبح مصدر جديد متا ًما من الضغط ًّ‬
‫املتقاربة ج ًّدا‪ .‬يتوقف االنهيار‪ ،‬و«يرتد» اللب‪ ،‬وتبدأ موجة صدمة إىل الخارج‪ ،‬من اللب‪ ،‬إىل‬
‫القرشة الخارجية للنجم‪ ،‬عرب آالف األميال‪ ،‬لتنفجر القرشة عندها حرف ًّيا وتبدو لنا يف شكل‬
‫سوبرنوفا‪.‬‬

‫هذه الصورة النهيار لب النجم املنفجر بُنيت عىل مر عقود من العمل التحلييل والريايض‬
‫املضني عىل يد فرق من الباحثني‪ ،‬بعد االقرتاح األول للعامل سابرامانني تشاندراسخار عام‬
‫‪ ،1939‬الذي قال فيه إن هذا السيناريو الذي يعجز اإلنسان عن فهمه ميكن أن يحدث‪ .‬كان‬
‫األمر كله من ًّوا ألفكار بسيطة من التوازن الهيدروستاتييك‪ ،‬الذي نؤمن أنه يحكم بنية الشمس‪.‬‬
‫بعد نحو خمسني عا ًما من هذا االقرتاح‪ ،‬ظلّت العمليات التي تحكم انهيار النجوم مجرد‬
‫توقعات‪ .‬لقد مرت قرون عىل مالحظة آخر سوبرنوفا يف مجرتنا‪ ،‬وحتى عندئذ‪ ،‬مل ير الناس‬
‫إال األلعاب النارية الخارجية‪ ،‬التي تحدث بعي ًدا ج ًّدا عن مركز الفعل الحقيقي‪ ،‬يف ُعمق النجم‪.‬‬

‫تغري كل هذا يف ‪ 23‬فرباير ‪ .1987‬يف ذلك اليوم لوحظ سوبرنوفا يف سحب ماجالن‬
‫الكربى‪ ،‬وهي نظام صغري تابع يقع يف الحافة الخارجية ملجرتنا‪ ،‬عىل بعد نحو ‪150,000‬‬
‫تبني أن النريان الظاهرة‬
‫سنة ضوئية‪ .‬كان هذا أقرب سوبرنوفا يالحظ يف آخر أربعمئة عا ًما‪ّ .‬‬

‫‪23‬‬
‫املرتبطة بالسوبرنوفا ليست إال قمة الجبل الجليدي‪ .‬يصدر عن انفجار النجم أكرث من ألف‬
‫ضعف ما يحدث يف األلعاب النارية‪ ،‬ليس عىل شكل ضوء‪ ،‬بل –كًّم حزرت– عىل شكل‬
‫نيوترينوات تكاد تكون خفية‪ .‬أقول تكاد ألن النيوترينو الذي تطلقه السوبرنوفا قد مير من‬
‫األرض دون أن نالحظه‪ ،‬لكن قوانني االحتًّمالت تقول لنا أن أحد النيوترينوات‪ ،‬وإن كان ناد ًرا‪،‬‬
‫تفاعال ميكن قياسه يف كاشف لألبعاد الصغرية‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬يستطيع املرء أن يقدر‬
‫ً‬ ‫سيتفاعل‬
‫اآلن أنه عندما مرت «عاصفة النيوترينوات» من السوبرنوفا البعيد عرب األرض‪ ،‬فإن واح ًدا من‬
‫كل مليون إنسان صادف أنه أغلق عينه يف الوقت املناسب قد يرى ملعة من الضوء عندما اصطدم‬
‫أحد النيوترينوات بذرة يف عينه‪.‬‬

‫لكن لحسن الحظ‪ ،‬ليس علينا أن نعتمد عىل روايات شهود العيان لهذه الظاهرة البارزة‪.‬‬
‫لقد بُني كاشفان كبريان‪ ،‬يف كل منهًّم ‪ 1,000‬طن من املياه‪ ،‬ويقعان يف عمق األرض يف‬
‫مكانني متقابلني من األرض‪ .‬يف كل خزان كاشف آالف األنابيب الحساسة للضوء القابعة يف‬
‫الظالم‪ ،‬ويف ‪ 23‬فرباير‪ ،‬يف فرتة عرش ثوان اتفق فيها الكاشفان‪ ،‬لوحظ ‪ 19‬حدث ناجم عن‬
‫ريا‪ ،‬لكنه يساوي بالضبط عدد األحداث التي يتوقعها‬
‫النيوتريينوات‪ .‬قد يبدو هذا الرقم صغ ً‬
‫املرء من حدوث سوبرنوفا عىل الحافة الخارجية ملجرتنا‪ .‬كذلك فإن توقيت النيوترينوات‬
‫وطاقاتها كانت يف اتفاق جيد مع التوقعات‪.‬‬

‫كلًّم فكرت يف األمر أذهلني‪ ،‬إىل اليوم‪ .‬هذه النيوترنوات انطلقت مبارشة من اللب‬
‫الكثيف املنهار‪ ،‬وليس من سطح النجم‪ .‬تعطينا هذه النيوترينوات معلومات مبارشة عن هذه‬
‫الثواين املرتبطة باالنهيار الكاريث للب النجم‪ .‬وتخربنا أن نظرية االنهيار النجمي–التي صيغت‬
‫يف غياب للقياس التجريبي املبارش عىل مر أكرث من ثالثني عا ًما‪ ،‬وبُنيت عىل القياس عىل‬
‫كامال مع‬
‫ً‬ ‫فيزياء التوازن الهيدروستاتييك املسؤول عن تحديد بنية شمسنا– متفقة اتفاقًا‬
‫البيانات اآلتية من السوبرنوفا‪ .‬لقد قادتنا الثقة بنًّمذجنا البسيطة إىل فهم إحدى أغرب‬
‫العمليات يف الطبيعة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫مل يزل مثال مل أذكره عن القوة الكبرية ملقاربة الشمس وجعلها كرة‪ .‬حتى عندما كانت‬
‫تُحل مشكلة النيوترينوات الشمسية‪ ،‬ظلّت أحجية أخرى متعلقة ببنية النجم‪ .‬إذا افرتضنا أن‬
‫عملية النمذجة الشمسية التي نستعملها يف الشمس تساعد عىل توقع تطور النجوم‪ ،‬فإن يف‬
‫استطاعتنا أن نستعمل املقارنة بني النظرية واملالحظة لنحدد تاري ًخا ال لشمسنا فقط (وعمرها‬
‫‪ 4.55‬مليار عام)‪ ،‬بل ألقدم الشموس يف مجرتنا‪ .‬عندما طُ ّبقت هذه العملية عىل النجوم يف‬
‫بعض النظم املعزولة عىل حواف مجرتنا‪ ،‬التي تدعى التجمعات الكروية‪ُ ،‬وجد أن عمر هذه‬
‫األنظمة يزيد عىل ‪ 15‬مليار عام‪.‬‬

‫يف الوقت نفسه ميكننا استخدام حقيقة متدد الكون –وافرتاض تباطؤ متدده‪ ،‬كًّم‬
‫يفرض كون الجاذبية قوة جاذبة– لتحديد عمر الكون بقياس معدل التمدد اليوم‪ .‬الحجة‬
‫بسيطة نسب ًّيا‪ :‬نالحظ مقدار رسعة املجرات املعلومة البعد عنا اليوم يف االبتعاد عنا‪ ،‬ثم‬
‫بافرتاض أنها كانت تتباعد عنا بهذه الرسعة أو بأكرب منها منذ فجر الكون‪ ،‬نستطيع وضع حد‬
‫أعىل ملقدار الزمن الذي كانت لتأخذه حتى تبلغ بعدها الحايل منذ االنفجار العظيم‪ .‬بعد مثانني‬
‫ريا قياس معدل التمدد بدقة تبلغ ‪ 10‬باملئة‪ ،‬ووجدنا أن متدد‬
‫عا ًما من املحاولة‪ ،‬استطعنا أخ ً‬
‫الكون إذا كان يتباطأ‪ ،‬فإن عمر الكون يجب ّأال يقل عن ‪ 11‬مليار عام‪.‬‬

‫كانت هذه مشكلة‪ ،‬ألنها تدل عىل أن نجو ًما يف مجرتنا أقدم من الكون نفسه‪ .‬مل تكن‬
‫هذه أول مرة تكون فيها أعًّمر النجوم مشكلة‪ ،‬ويف كل مرة كان حل املشكلة يلقي مزي ًدا من‬
‫النور عىل الكون‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف العقد األول من القرن التاسع عرش‪ُ ،‬وضع تقدير لعمر‬
‫الشمس‪ ،‬بافرتاض أنها كرة من الكربون تحرتق احرتاق الفحم‪ .‬إذا عرفنا كتلة الشمس‪ ،‬فلنا أن‬
‫نحدد الزمن الذي ستأخذه لتستهلك كل وقودها‪ ،‬وكانت اإلجابة نحو ‪ 10,000‬عام‪ .‬كان هذا‬
‫التقدير موافقًا عىل نحو جميل للتفسريات الحرفية للكتاب املقدس بشأن عمر الكون‪ ،‬لكن يف‬
‫ذلك الوقت دلّت أدلة األحافري والطبقات الجيولوجية عىل أن األرض أقدم بكثري من هذا‪ .‬مع‬
‫اقرتاب انتهاء القرن التاسع عرش أشار اثنان من الفيزيائيني البارزين‪ ،‬هًّم اللورد كلفن يف‬

‫‪25‬‬
‫اململكة املتحدة وهلمولتز يف أملانيا‪ ،‬أنه إذا كانت املادة يف الشمس تنهار بسبب حقل الجاذبية‬
‫وفصل الباحثان كيف ميكن لهذه‬
‫ّ‬ ‫الكبري يف الشمس‪ ،‬فقد يقدم هذا طاقة إلشعال الشمس‪،‬‬
‫العملية أن تستمر رمبا ‪ 100‬مليون عام قبل استهالك كل الطاقة املتاحة‪ .‬كان هذا تحس ًنا‬
‫ضخًّم‪ ،‬لكن يف ذلك الوقت كانت الجيولوجيا والبيولوجيا التطورية تدل عىل أن عمر األرض‬
‫ً‬
‫يبلغ مليارات السنني‪ ،‬وهو ما أدى إىل مشكلة مرة أخرى‪ ،‬لصعوبة تخيل كون األرض أقدم‬
‫بكثري من الشمس‪.‬‬

‫يف عرشينيات القرن العرشين كانت املشكلة شديدة ج ًّدا إىل درجة دفعت عامل فيزياء‬
‫النجوم البارز‪ ،‬السري آرثر ستانيل إدنغتون إىل القول بوجود آلية أخرى غري معروفة إلنتاج‬
‫الطاقة‪ ،‬تستطيع أن تبقي الشمس مشتعلة مليارات السنني‪ .‬شك كثريون بهذا االدعاء‪ ،‬ألن ‪100‬‬
‫مليون درجة حرارية يف داخل الشمس حا ّرة ج ًّدا حسب معايري األرض‪ ،‬لكنها مل تبد حا ّرة مبا‬
‫يكفي للسًّمح لنوع جديد من الفيزياء بالتدخل‪ .‬يف أحد ترصيحايت املفضلة يف تاريخ العلم‪،‬‬
‫دعا إدنغتون كل الذين ال يصدقون دعواه إىل «البحث عن مكان أشد حرارة!»‪ .‬تبني فيًّم بعد‬
‫صواب إدنغتون يف ثالثينيات القرن نفسه‪ ،‬عندما أدرك عامل الفيزياء هانز بيث‪ ،‬الذي سيعود‬
‫ذكر اسمه بعد قليل‪ ،‬أن التفاعالت النووية املكتشفة حديثًا ميكن أن تستعمل لبناء قنبلة عىل‬
‫األرض تستطيع إشعال الشمس نفسها‪ ،‬وهو ما يتيح لها البقاء ‪ 10‬مليارات عام يف الشكل‬
‫الذي نعرفه‪ .‬حاز بيث جائزة نوبل عىل حساباته التي تشكل اليوم أساس النموذج الشميس‬
‫القيايس‪.‬‬

‫بالعودة إىل سؤال قدرة النموذج الشميس القيايس عىل تحديد عمر النجوم األقدم‪،‬‬
‫تعاونت مع عدد من زماليئ واستطعنا إعادة النظر يف تقديرات عمر التجمعات الكروية؛‬
‫استطعنا أن ندمج مقدار الريبة الذي أدت إليه نتائج املقاربات املستعملة للوصول إىل هذه‬
‫التقديرات‪ ،‬وأظهرنا أن أقدم التجمعات الكروية يف مجرتنا ميكن أن يبلغ عمرها ‪ 12‬مليار عام‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫وال ميكن أن تكون أحدث بكثري‪ ،‬وهو ما دل عىل أن التضارب الظاهر بني أعًّمرها وعمر الكون‬
‫تضارب حقيقي‪.‬‬

‫مدفوعني بهذه النتيجة‪ ،‬وببيانات أخرى بدا تضاربها مع نظرية تباطؤ متدد الكون‪،‬‬
‫حا مهرطقًا (ورمبا طريفًا نو ًعا ما) هو‬
‫اقرتحت أنا وأحد زماليئ من شيكاغو عام ‪ 1995‬اقرتا ً‬
‫أن متدد الكون قد يكون متسار ًعا ال متباط ًئا! قد يبدو هذا غري معقول لكن هذا االحتًّمل الغريب‬
‫لنوع دافع من الجاذبية اقرتحه ألربت أينشتاين عام ‪ ،1916‬بُعيد تطويره لنظرية النسبية‬
‫أساسا لفكرة الكون الساكن –الذي كان يُعتقد به يف ذلك الوقت– لكنه أُهمل عند‬
‫ً‬ ‫العامة‪ ،‬وكان‬
‫اكتشاف متدد الكون‪ .‬مل يكن اقرتاحنا مجنونًا متا ًما إذ تبني أننا نفهم اليوم أن نو ًعا جدي ًدا من‬
‫الجاذبية «الدافعة» ميكن أن ينتج طبيع ًّيا إذا كان الفضاء الفارغ ميلك نو ًعا جدي ًدا من الطاقة‬
‫يتيحه سياق نظرية الجسيًّمت الحديثة‪.‬‬

‫يف ‪ ،1998‬اكتشف فريقان –باستعًّمل مالحظات عن السطوع الظاهر للنجوم املنفجرة‬


‫يف املجرات البعيدة لتقدير اختالف معدل متدد الكون مع الزمن– عىل نحو مستقل –وهو أمر‬
‫الفت للنظر– أن متدد الكون متسارع حقًّا! غري هذا االكتشاف التجريبي متا ًما الصورة التي‬
‫نحملها عن كوننا املتمدد‪ ،‬إذ أصبحت محاولة فهم طبيعة هذه املادة املظلمة رمبا أهم مشكلة‬
‫يف علم الكون‪ .‬لكن األهم من وجهة نظر النقاش الحايل هو أننا متى أدمجنا هذه الحقيقة‬
‫بتحديد عمر الكون‪ ،‬اكتشفنا أن عمره يبلغ ‪ 14–13‬مليار عام‪ ،‬وهو ما يتفق متا ًما مع تحديد‬
‫عمر أقدم النجوم يف مجرتنا‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬استمر تقريب النجوم إىل كرات عىل مر ‪ 200‬عام ليقودنا إىل اكتشاف جوانب‬
‫جديدة وعميقة من الكون‪.‬‬

‫تبني األمثلة السابقة قوة االكتشاف العظيمة التي أتاحها التقريب يف الفيزياء‪ ،‬لكن ال‬
‫ّ‬
‫ينبغي أن تشتتنا عن الحقيقة الجوهرية‪ ،‬وهي أننا لوال التقريب ملا استطعنا فعل يشء تقري ًبا‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫باستخدام التقريب‪ ،‬نستطيع صنع توقعات ميكن اختبارها‪ .‬عندما يتبني خطأ التوقعات‪ ،‬ميكننا‬
‫أن نركز عىل جوانب أخرى من التقريبات التي صنعناها‪ ،‬وهكذا تعلمنا كل يشء نعرفه عن‬
‫الكون‪ .‬بعبارة جيمس كلريك ماكسويل‪ ،‬أشهر وأنجح منظّري الفيزياء يف القرن التاسع عرش‪:‬‬
‫«أهم فضائل النظرية هي أن تُرشد التجربة‪ ،‬دون أن تعيق تطور النظرية الصحيحة عندما‬
‫‪2‬‬
‫تظهر»‪.‬‬

‫يبسط علًّمء الفيزياء الكون أحيانًا عىل أساس الحدس السليم‪ ،‬لكن يف معظم األحيان‬
‫ّ‬
‫يفعلون ذلك النعدام البديل‪ .‬يحب الفيزيائيون أن يطلقوا هذا التشبيه املعروف‪ :‬إذا كنت متيش‬
‫ليال يف شارع ضعيف اإلضاءة‪ ،‬والحظت أن مفاتيح سيارتك ليست يف جيبك‪ ،‬فأين ستنظر‬
‫ً‬
‫أوال؟ تحت أقرب مصباح شارع‪ ،‬طب ًعا‪ .‬ملاذا؟ ال ألنك تتوقع أنك أضعت املفاتيح هنالك‬
‫ً‬
‫ريا‬
‫بالرضورة‪ ،‬بل ألنه املكان الوحيد الذي ميكن أن تجدها فيه! كذلك الفيزياء يقود جز ًءا كب ً‬
‫منها النظر يف مكان الضوء‪.‬‬

‫ريا يف أوقات كثرية‪ ،‬وهو ما جعلنا نفرتض لطفها دامئًا‪.‬‬


‫لقد أظهرت لنا الطبيعة لطفًا كب ً‬
‫لطاملا تُعالَج املشكالت الجديدة باستعًّمل األدوات املوجودة سابقًا‪ ،‬سواء أكان واض ًحا أنها‬
‫مناسبة أم غري واضح‪ ،‬ألن هذه األدوات هي كل ما منلكه عندئذ‪ .‬إذا حالفنا الحظ‪ ،‬فلنا أن نأمل‬
‫أننا حتى بالتقريب الشنيع ميكن أن نكتشف جان ًبا من جوهر الفيزياء‪ .‬الفيزياء مليئة باألمثلة‬
‫التي أظهر فيها النظر يف مكان الضوء أكرث مًّم كان لنا أن نتوقع‪ .‬من هذه األمثلة ما حدث‬
‫بُعيد نهاية الحرب العاملية الثانية‪ ،‬يف سلسلة من األحداث حملت معها عنارص درامية شديدة‬
‫رصا جدي ًدا من الفيزياء‪ .‬كانت النتيجة النهائية لها هي الصورة‬
‫وافتتحت يف الوقت نفسه ع ً‬
‫ربا‪ .‬هذه‬
‫التي نراها اليوم من تطور الفيزياء مع استكشاف الكون عىل أنطقة تزداد صغ ًرا وك ً‬
‫الفكرة‪ ،‬التي مل أرها تناقَش من قبل يف األدبيات العامة‪ ،‬أساسية يف دراسة الفيزياء الحديثة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫انتهت الحرب‪ ،‬وعاد الفيزيائيون إىل استطالع األسئلة الجوهرية بعد أعوام من العمل‬
‫املتعلق بالحرب‪ ،‬واكتملت ثورات القرن العرشين–النسبية وميكانيكا الكم‪ .‬ظهرت مشكلة‬
‫جديدة عندما حاول الفيزيائيون التوفيق بني هذين التطورين‪ ،‬اللذين سأصفهًّم مبزيد من‬
‫التفصيل الحقًا يف الكتاب‪ .‬ميكانيكا الكم مبنية عىل حقيقة أن الكميات املرتبطة بتفاعالت‬
‫فمثال‪،‬‬
‫ً‬ ‫املادة يف األنطقة الصغرية واألزمنة الصغرية ال ميكن قياسها جمي ًعا يف الوقت نفسه‪.‬‬
‫ال ميكن قياس رسعة الجسيم وموقعه يف اللحظة نفسها‪ ،‬مهًّم كان جهاز القياس جي ًدا‪ .‬هكذا‬
‫فإن املرء ال يستطيع قياس طاقة جسيم بالضبط إذا قاسها عىل مر فرتة زمنية محدودة‪ .‬أما‬
‫النسبية‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬فتقيض أن قياسات املوقع والرسعة والزمن والطاقة مرتبطة فيًّم‬
‫حا مع االقرتاب من رسعة الضوء‪ .‬يف أعًّمق الذرات‪ ،‬حركة الجسيًّمت‬
‫بينها بعالقات تزداد اتضا ً‬
‫رسيعة مبا يكفي إلظهار آثار النسبية‪ ،‬لكن يف الوقت نفسه فإن الحيز صغري ج ًّدا إىل درجة‬
‫أن ميكانيكا الكم تحكمه‪ .‬أبرز نتائج تزاوج هاتني الفكرتني هي توقع أن األزمنة القصرية مبا‬
‫يكفي ليستحيل فيها قياس الطاقة يف حجم محدد‪ ،‬يستحيل فيها تحديد عدد الجسيًّمت التي‬
‫تتحرك داخل هذا الحجم‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬تأ َّمل حركة اإللكرتون من ظهر أنبوب تلفازك إىل‬
‫واجهته‪( .‬اإللكرتونات جسيًّمت ميكروسكوبية مشحونة‪ ،‬تصنع مع الربوتونات والنيوترونات‬
‫كل ذرات املادة العادية‪ .‬يف املعادن‪ ،‬تتحرك اإللكرتونات بفعل القوى الكهربائية لتنتج تيارات‪.‬‬
‫تنطلق هذه اإللكرتونات من الوجه املعدين لعنرص التسخني يف ظهر تلفازك وتصدم الواجهة‬
‫لتيضء وتنتج الصورة التي تراها‪ ).‬تقول قوانني ميكانيكا الكم إن الفاصل الزمني إذا كان‬
‫ريا ج ًّدا فمن املستحيل تحديد املسار الذي سيتخذه اإللكرتون ومحاولة قياس رسعته يف‬
‫قص ً‬
‫الوقت نفسه‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬عندما تدخل النسبية إىل الصورة‪ ،‬فإنها تقول إن هذا األمر إن‬
‫صح‪ ،‬فال ميكن أن نقول بيقني أن إلكرتونًا واح ًدا فقط هو الذي يتحرك يف هذه الفرتة القصرية‬
‫ج ًّدا‪ .‬من املمكن أن يكون يف الوقت نفسه إلكرتون آخر إىل جانب جسيمه املضاد‪ ،‬البوزيرتون‪،‬‬
‫قد ظهرا من الفضاء الفارغ وتحركا إىل جانب اإللكرتون مدة قصرية من الزمان قبل أن يفني‬

‫‪29‬‬
‫ويضمحال‪ ،‬ليرتكا لنا اإللكرتون األصيل! أما الطاقة الالزمة إلنتاج هذين‬
‫ًّ‬ ‫كل واحد منهًّم نظريه‬
‫الجسيمني من العدم يف هذا الوقت القصري فهي ممكنة ألن طاقة اإللكرتون األصيل املتحرك ال‬
‫ميكن قياسها بدقة يف هذا الزمن القصري‪ ،‬حسب قوانني فيزياء الكم‪.‬‬

‫ريا محاولة ع ّد املالئكة عىل رأس‬


‫بعد تجاوز صدمة هذا االحتًّمل‪ ،‬قد تظن أنه يشبه كث ً‬
‫دبوس‪ .‬لكن بني األمرين فرق مهم‪ .‬إن شفع اإللكرتون والبوزيرتون اإلضافيني ال يختفي دون‬
‫ترك أثر‪ .‬مثل قط شيشاير الشهري‪ ،‬الذي ال بد أن يرتك بطاقة اتصال‪ .‬ميكن لوجود هذا الشفع‬
‫قليال الخصائص التي تنسبها لإللكرتون عندما تفرتض أنه الجسيم الوحيد الذي ينتقل‬
‫أن يغري ً‬
‫يف الفرتة كلها‪.‬‬

‫يف العقد الرابع من القرن العرشين‪ ،‬أدركنا أن هذه الظاهرة‪ ،‬ووجود الجسيًّمت املضادة‬
‫مثل البوزيرتون‪ ،‬ال بد من حدوثها نتيجة إدماج ميكانيكا الكم والنظرية النسبية‪ .‬لكن مشكلة‬
‫كيفية إدماج هذه االحتًّمالت الجديدة يف حسابات املقادير الفيزيائية ظلت من دون حل‪ .‬كانت‬
‫املشك لة أنك إذا افرتضت أنطقة أصغر وأصغر‪ ،‬فإن األمر يتكرر مرة بعد أخرى‪ .‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬إذا نظرت يف حركة اإللكرتون األصيل لكن عىل فرتة زمنية أقرص‪ ،‬كان مقدار الريبة‬
‫فيها يف طاقة اإللكرتون أكرب‪ ،‬وعليه فإن االحتًّمل يظهر لحظ ًّيا بظهور شفعني من أشفاع‬
‫اإللكرتون والبوزيرتون‪ ،‬ال شفع واحد فقط‪ ،‬وهكذا كلًّم درسنا فرتة زمنية أصغر‪ .‬يف محاولة‬
‫تتبع كل هذه األجسام‪ ،‬أي تقدير كان ينتج نتائج النهائية ملقادير فيزيائية مثل الشحنة‬
‫الكهربائية لإللكرتون‪ .‬هذه النتيجة طب ًعا‪ ،‬غري مقبولة‪.‬‬

‫كان هذا عىل خلفية اجتًّمع انعقد يف أبريل ‪ ،1947‬يف نُ ُزل يف جزيرة شلرت‪ ،‬وهي‬
‫مجتمع منعزل عىل الجانب الرشقي من جزيرة لونغ‪ ،‬نيويورك‪ .‬حرض االجتًّمع مجموعة من‬
‫الفيزيائيني التجريبيني والنظريني‪ ،‬من الذين يعملون عىل حل املشكالت الجوهرية يف بنية‬
‫املادة‪ .‬اشتمل الحضور عىل رجال كبار مسنني مثل جًّمعة تركيا الفتاة‪ ،‬الذين قىض معظمهم‬

‫‪30‬‬
‫أعوام الحرب يف العمل لتطوير قنبلة نووية‪ .‬بالنسبة لكثري من هؤالء األفراد‪ ،‬مل تكن العودة‬
‫إىل البحث العلمي البحت بعد أعوام املجهود الحريب سهلة‪ .‬لهذا السبب جزئ ًّيا‪ ،‬انعقد مؤمتر‬
‫جزيرة شلرت ليتعاون الفيزيائيون يف تحديد أهم املشكالت التي تواجه الفيزياء‪.‬‬

‫بدأ االجتًّمع بداية ميمونة‪ .‬استقبل الحافل َة التي تنقل معظم الحضور رجال الرشطة‬
‫عىل الدراجات النارية‪ ،‬وهم يدخلون منطقة ناساو غريب جزيرة لونغ‪ ،‬واستغرب الحضور أن‬
‫صفارات اإلنذار رافقتهم وهم يعربون نحو وجهتهم‪ .‬عرف الحضور الحقًا أن مرافقة الرشطة‬
‫كانت شك ًرا من أفراد خدموا يف املحيط الهادي يف الحرب وشعروا أن حياتهم قد أنقذها العلًّمء‬
‫الذين طوروا القنبلة النووية‪.‬‬

‫وافقت حًّمس َة ما قبل املؤمتر تطورات عاطفية يف يوم افتتاحه‪ .‬باستعًّمل تقنيات‬
‫األمواج الصغرية التي طُ ّورت يف مجال العمل الحريب الخرتاع الرادار يف جامعة كولومبيا‪،‬‬
‫ق ّدم ويليس المب نتيجة مهمة‪ .‬لقد أتاحت ميكانيكا الكم‪ ،‬يف واحد من أول نجاحاتها الكبرية‪،‬‬
‫حساب الطاقات املميزة لإللكرتونات التي تدور عىل محيط الذرات‪ .‬لكن نتيجة المب اقتضت‬
‫قليال مًّم أنتجته الحسابات يف نظرية‬
‫أن مستويات الطاقة يف اإللكرتونات يف الذرات تغريت ً‬
‫الكم التي كانت قد تطورت قبل ذلك دون إدماج النسبية‪ُ .‬عرف هذا االكتشاف بعد ذلك باسم‬
‫«انزياح المب»‪ .‬تال هذه النتيجة تقرير من عامل الفيزياء التجريبية البارز‪ ،‬إزيدور إسحاق رايب‪،‬‬
‫عن عمل كان يجريه‪ ،‬وتقرير من بويل كوش‪ ،‬يظهران اختالفات أخرى عن توقعات ميكانيكا‬
‫حظة يف الهيدروجني وغريه من الذرات‪ .‬هؤالء العلًّمء التجريبيون‬
‫الكم يف مقادير مال َ‬
‫األمريكيون الثالثة –المب ورايب وكوش– حازوا جائزة نوبل لعملهم بعد ذلك‪.‬‬

‫ظهر التحدي‪ .‬كيف ميكن أن نفرس هذا االنزياح‪ ،‬وكيف ميكننا أن نجري الحسابات التي‬
‫تستطيع تفسري الوجود اللحظي لعدد قد يكون غري منته من أشفاع اإللكرتونات‬
‫والبوزيرتونات «االفرتاضية»‪ ،‬كًّم أصبحت تس َّمى؟ إن فكرة أن إدماج النسبية وميكانيكا الكم‬

‫‪31‬‬
‫كان هو سبب املشكلة أدت إىل تفسري كان يف ذلك الوقت مجرد تخمني‪ .‬لقد عقّد قانون النسبية‬
‫الحسابات إىل درجة مل يستطع معها أحد يف ذلك الوقت أن يجد طريقة إلجرائها‪ .‬كان نجًّم‬
‫الفيزياء النظرية الصاعدان الشابّان ريتشارد فينًّمن وجوليان شوينغر كالهًّم يف االجتًّمع‪.‬‬
‫كان كل واحد منهًّم يطور عىل استقالل‪ ،‬مثل عامل الفيزياء الياباين سني إيتريو توموناغا‪،‬‬
‫مخططًا حساب ًّيا للتعامل مع «نظرية الحقول الكمية» بعد أن ُعرف اتحاد ميكانيكا الكم‬
‫والنسبية‪ .‬أ ِمل هؤالء العلًّمء‪ ،‬وصدقت آمالهم بعد ذلك‪ ،‬أن تقدم هذه املخططات طريقة آمنة‬
‫لعزل آثار أشفاع اإللكرتونات والبوزيرتونات االفرتاضية‪ ،‬أو إزالتها متا ًما‪ ،‬عىل نحو يعطي‬
‫نتائج متسقة مع النسبية‪ .‬حني أنهى هؤالء العلًّمء عملهم‪ ،‬أسسوا طريقة جديدة لتصوير‬
‫العمليات األساسية وب ّينا أن نظرية الكهرطيسية ميكن أن تُجمع باتساق مع ميكانيكا الكم‬
‫والنسبية لتشكل أنجح إطار عمل نظري يف كل الفيزياء–إنجاز استحق به هؤالء الثالثة جائزة‬
‫نوبل بعد نحو ‪ 20‬عا ًما‪ .‬لكن يف وقت االجتًّمع‪ ،‬مل يكن هذا املخطط موجو ًدا‪ .‬كيف ميكننا أن‬
‫نعالج تفاعالت اإللكرتونات يف الذرات بوجود حشد من أشفاع اإللكرتونات والبوزيرتونات‬
‫االفرتاضية التي ميكن أن تظهر من الفراغ نتيجة للحقول والقوى التي تنتجها اإللكرتونات‬
‫نفسها؟‬

‫كان يف االجًّمع كذلك هانز بيث‪ ،‬املنظّر البارز وأحد قادة مرشوع القنبلة النووية‪ .‬مىض‬
‫بيث كذلك ليفوز بجائزة نوبل لعمله الذي أثبت أن التفاعالت النووية هي حقًّا مصدر الطاقة‬
‫يف النجوم مثل الشمس‪ .‬يف املؤمتر ألهم التجريبيون واملنظرون بيث ليعود إىل جامعة كورنيل‬
‫ويحا ول حساب األثر الذي الحظه المب‪ .‬بعد خمسة أيام من انتهاء االجتًّمع‪ ،‬أنتج بيث ورقة‬
‫فيها نتيجة محسوبة‪ ،‬قال إنها متفقة اتفاقًا رائ ًعا مع القيمة التي لوحظت يف انزياح المب‪ .‬كان‬
‫بيث معروفًا بقدرته عىل إجراء الحسابات املعقدة يف كتابات عادية عىل األلواح أو عىل الورق‪.‬‬
‫لكن حسابه البارز النزياح المب مل يكن تقدي ًرا متسقًا مع نفسه متا ًما بنا ًء عىل املبادئ املؤسسة‬
‫مهتًّم باكتشاف كون األفكار الحالية عىل الطريق الصحيح‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫مليكانيكا الكم والنسبية‪ .‬كان بيث‬

‫‪32‬‬
‫مل ّا كانت مجموعة األدوات الكاملة للتعامل مع نظرية الكم والنسبية غري متوفرة بعد‪ ،‬استخدم‬
‫بيث األدوات املتوفرة بني يديه‪.‬‬

‫تعلّل بيث بأن املرء إذا مل يستطع معالجة الحركة النسبية لإللكرتون عىل نحو متسق‪،‬‬
‫فإن عليه أن يجري حسابًا «هجي ًنا» يجمع رصاح ًة بني الظواهر الفيزيائية الجديدة التي أتاحتها‬
‫النسبية –مثل األشفاع االفرتاضية من اإللكرتونات والبوزيرتونات– وبستعمل معادالت حركة‬
‫اإللكرتونات بنا ًء عىل ميكانيكا الكم القياسية املعروفة يف العقدين الثالث والرابع من القرن‬
‫العرشين‪ ،‬التي مل يكن التعقيد الريايض للنسبية قد أُدمج فيها‪ .‬لكنه مع ذلك وجد أن آثار‬
‫األشفاع االفرتاضية من اإللكرتونات والبوزيرتونات ال ميكن التعامل معها‪ .‬كيف تعامل مع‬
‫األمر؟ بنا ًء عىل اقرتاح سمعه يف االجتًّمع‪ ،‬أعاد الرجل الحسابات مرتني‪ ،‬مرة لإللكرتون داخل‬
‫ذرة هيدروجني ومرة إللكرتون حر‪ ،‬غري مرتبط بأي ذرة‪ .‬كانت النتيجة يف كال الحالتني‬
‫مستعصية رياض ًّيا (بسبب وجود أشفاع الجسيًّمت االفرتاضية)‪ ،‬لكن الرجل طرح إحدى‬
‫النتيجتني من األخرى‪ .‬هكذا كان يأمل أن يكون الفرق بينهًّم –الذي ميثل االنزياح يف الطاقة‬
‫بني إلكرتون يف ذرة وإلكرتون حر ليس يف ذرة‪ ،‬وهو األثر الذي الحظه المب– ممك ًنا رياض ًّيا‪.‬‬
‫لسوء الحظ‪ ،‬مل ينجح األمر‪ .‬احتج بيث بأن هذه النتيجة املستعصية األخرية غري فيزيائية‪ ،‬لذلك‬
‫نبسطها بطريقة ما‪ ،‬باستخدام الحدس الفيزيايئ‪.‬‬
‫فاليشء الوحيد الذي ميكننا أن نفعله هو أن ّ‬
‫اقرتح بيث أن النسبية أتاحت عمليات جديدة بسبب وجود أشفاع الجسيًّمت االفرتاضية‪ .‬تؤثر‬
‫هذه العمليات عىل حالة اإللكرتون يف الذرة‪ ،‬لكن آثار النسبية لن تكون كبرية يف هذه العمليات‬
‫التي تحتوي عىل كثري من أشفاع الجسيًّمت االفرتاضية التي تبلغ طاقتها اإلجًّملية مقدا ًرا أكرب‬
‫بكثري من الطاقة املوافقة للكتلة السكونية لإللكرتون نفسه‪.‬‬

‫أذكّرك أن ميكانيكا الكم تتيح هذه العمليات‪ ،‬التي يوجد فيها كرثة من الجسيًّمت‬
‫االفرتاضية‪ ،‬لكن فقط يف فواصل زمنية قصرية ج ًّدا ألن صغر هذه الفواصل الزمنية هو ما‬
‫يكرب الريبة يف املقدار املقيس للطاقة اإلجًّملية للنظام‪ .‬قال بيث إننا إذا أردنا أن تكون النظرية‬
‫ّ‬

‫‪33‬‬
‫مشتمل ًة عىل النسبية ومعقولة‪ ،‬فعلينا أن نستطيع تجاهل آثار هذه العمليات الغريبة الفاعلة‬
‫عىل نطاق فواصل زمنية صغرية ج ًّدا‪ .‬وهكذا اقرتح بيث أن نتجاهل األمر‪ .‬كانت حساباته‬
‫النهائية النزياح المب‪ ،‬باشرتاط أن تكون هذه العمليات تحتوي أشفا ًعا افرتاضية ذات طاقة ال‬
‫تزيد عن الطاقة السكونية لإللكرتون‪ ،‬متسقة رياض ًّيا‪ .‬بل واتفقت متا ًما مع املالحظات‪ .‬يف‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬مل يكن لهذا املنهج أي مربر حقيقي‪ ،‬سوى أنه أتاح لبيث إجراء الحساب وإجراء ما‬
‫افرتض أن نظرية معقولة مشتمل ًة عىل النسبية كانت لتجريه‪.‬‬

‫حلّت أعًّمل فينًّمن وشوينغر وتوموناغا الالحقة التناقضات يف منهج بيث‪ .‬أظهرت‬
‫نتائجهم كيف أن النظرية الكاملة‪ ،‬املشتملة عىل ميكانيكا الكم والنسبية ترصي ًحا يف كل‬
‫مرحلة‪ ،‬تجعل آثار أشفاع الجسيًّمت وأضدادها الطاقية يف الكميات القابلة للقياس يف الذرات‬
‫صغرية ج ًّدا‪ .‬هكذا‪ ،‬أصبحت اآلثار النهائية إلدماج الجسيًّمت االفرتاضية يف النظرية مقبولة‪.‬‬
‫توافق النتيجة املحسوبة اليوم انزياح المب املقيس موافقة جيدة‪ ،‬إىل درجة أنها من أفضل‬
‫االتفاقات بني النظرية واملالحظة يف الفيزياء! لكن تقريب بيث الهجني األول أكد ما كان يعرفه‬
‫الجميع عنه‪ .‬لقد كان بيث‪ ،‬ومل يزل «فيزيائ ًّيا للفيزيائ ّيني»‪ .‬لقد وصل بذكاء إىل طريقة‬
‫الستعًّمل األدوات املوجودة للحصول عىل نتائج‪ .‬عىل طريقة األبقار الكروية‪ ،‬ساعدتنا‬
‫شجاعته يف تجاهل التفاصيل الزائدة املرتبطة بالعمليات املحتوية عىل جسيًّمت افرتاضية يف‬
‫ميكانيكا الكم عىل أن نرتفع إىل عتبة البحث العلمي الحديث‪ .‬لقد أصبحت جز ًءا جوهريًّا يف‬
‫الطريقة التي ينهجها الفيزيائيون يف فيزياء الجسيًّمت األولية‪ ،‬وهو موضوع سأعود إليه يف‬
‫الفصل األخري من الكتاب‪.‬‬

‫لقد جلنا من األبقار إىل النيوترينوات الشمسية‪ ،‬ومن النجوم املنفجرة إىل الكون‬
‫املنفجر‪ ،‬ثم إىل جزيرة شلرت‪ .‬كان الخيط الذي يربط كل هذه األمور هو الخيط الذي يربط كل‬
‫أنواع الفيزيائيني‪ .‬يف الظاهر‪ ،‬يبدو العامل مكانًا معق ًدا‪ .‬لكن يف الكواليس‪ ،‬يبدو أن قوانني‬

‫‪34‬‬
‫بسيطة هي التي تديره‪ .‬إن من أهداف الفيزياء الكشف عن هذه القوانني‪ .‬أملنا الوحيد يف هذا‬
‫هو االستعداد للتوجه إىل العمق–لرؤية األبقار كرات‪ ،‬ووضع اآلالت املعقدة يف صناديق سوداء‪،‬‬
‫أو لرمي عدد غري محدود من الجسيًّمت االفرتاضية‪ ،‬إذا دعت الحاجة‪ .‬إذا حاولنا أن نفهم كل‬
‫يشء يف الوقت نفسه‪ ،‬فلن نستطيع غال ًبا فهم أي يشء‪ .‬إما أن ننتظر ونرجو اإللهام‪ ،‬وإما أن‬
‫نترصف ونحل املشكالت التي نستطيع حلها‪ ،‬وهكذا نحصل عىل إلهامات جديدة بشأن الفيزياء‬
‫التي نريد معرفتها حقًّا‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫الفصل الثان‬
‫فن األرقام‬

‫الفيزياء بالنسبة للرياضيات كالجنس بالنسبة لالستمناء‪.‬‬


‫– ريتشارد فاينًّمن‬
‫إن اللغة‪ ،‬بوصفها اخرتاع إنساين‪ ،‬مرآة للروح‪ .‬فمن خالل اللغة تعلمنا رواية جيدة أو مرسحية‬
‫أو قصيدة عن إنسانيتنا‪ .‬أما الرياضيات‪ ،‬من ناحية أخرى‪ ،‬فهي لغة الطبيعة‪ ،‬وبالتايل توفر‬
‫مرآة للعامل الفيزيايئ‪ .‬إنها دقيقة‪ ،‬نظيفة‪ ،‬متنوعة‪ ،‬وصلبة كالصخر‪ .‬وبينًّم تجعلها هذه‬
‫الصفات بالتحديد مثالية لوصف عمليات الطبيعة‪ ،‬فهي نفس الصفات التي يبدو وأنها تجعلها‬
‫غري مالمئة لتقلبات الدراما اإلنسانية‪ .‬من هنا تنشأ املعضلة املركزية لـ«الثقافتني»‪.‬‬
‫سواء أحببت ذلك أم ال‪ ،‬األرقام جزء مركزي من الفيزياء‪ .‬كل ما نقوم به‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫الطريقة التي نفكر بها يف العامل الفيزيايئ‪ ،‬يتأثر بكيفية تفكرينا يف األرقام‪ .‬لحسن الحظ‪،‬‬
‫فالطريقة التي نفكر بها فيها تعتمد كل ًيا عىل كيفية نشأة هذه الكميات يف العامل الفيزيايئ‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬يفكر الفيزيائيون يف األرقام بطريقة مختلفة ج ًدا عن الرياضياتيني‪ .‬يستخدم‬
‫الفيزيائيون األرقام لتوسيع حدسهم الفيزيايئ‪ ،‬وليس لتجاوزه‪ .‬يتعامل الرياضياتيون مع‬
‫الهياكل املثالية‪ ،‬وال يهتمون حقًا من أين‪ ،‬أو ما إذا كانت‪ ،‬قد تنشأ بالفعل يف الطبيعة‪ .‬بالنسبة‬
‫لهم‪ ،‬الرقم النقي له واقعه الخاص‪ .‬بالنسبة لفيزيايئ‪ ،‬عاد ًة ما ال يكون للرقم النقي أي معنى‬
‫مستقل عىل اإلطالق‪.‬‬
‫تحمل األرقام يف الفيزياء أمتعة كبرية بسبب ارتباطها بقياس الكميات الفيزيائية‪.‬‬
‫واألمتعة‪ ،‬كًّم يعرف أي شخص يسافر‪ ،‬لها جانب جيد وآخر سيئ‪ .‬قد تكون صعبة يف التقاطها‬
‫ومتعبة يف حملها‪ ،‬لكنه تؤمن نفائسنا وتسهل الحياة أميا تسهيل عندما نصل إىل وجهتنا‪ .‬قد‬
‫تكون مقيدة‪ ،‬لكنه أيضً ا محررة‪ .‬وكذلك فإن األرقام والعالقات الرياضية بينها تقيدنا من خالل‬
‫تحديد كيف نتصور العامل‪ .‬لكن املتاع الذي تحمله األرقام يف الفيزياء هو أيضً ا جزء أسايس‬
‫من تبسيط هذا التصور‪ .‬إنها تحررنا من خالل إيضاح ما ميكننا وما ال ميكننا تجاهله بالتحديد‪.‬‬
‫مثل هذا املفهوم‪ ،‬بالطبع‪ ،‬يتعارض مبارشة مع الرأي السائد الذي يعترب أن األرقام‬
‫والعالقات الرياضية تعقد األمور فقط ويجب تجنبها بكل الوسائل‪ ،‬حتى يف كتب العلوم‬

‫‪36‬‬
‫الشعبية‪ .‬حتى إن ستيفن هوكينغ اقرتح‪ ،‬يف كتابه «تاريخ موجز للزمن»‪ ،‬أن كل معادلة يف‬
‫كتاب شعبي تقلل مبيعاته إىل النصف‪ .‬عند االختيار بني رشح كمي وآخر لفظي‪ ،‬من املحتمل‬
‫ريا من سبب النفور الشائع من الرياضيات‬
‫أن يختار معظم الناس األخري‪ .‬أعتقد أن جز ًءا كب ً‬
‫اجتًّمعي‪ .‬يُعترب عدم معرفة الرياضيات شارة رشف – فالشخص الذي ال يستطيع موازنة دفرت‬
‫شيكاته‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يبدو أكرث إنسانية بسبب هذا العيب‪ .‬لكن الجذر األعمق‪ ،‬حسبًّم‬
‫أعتقد‪ ،‬هو أن الناس يُعلمون بطريقة ما منذ الصغر أال يفكروا يف ما متثله األرقام بنفس‬
‫الطريقة التي يفكرون بها يف ما متثله الكلًّمت‪ .‬لقد شعرت بالذهول قبل عدة سنوات عند‬
‫تدريس دورة فيزياء لغري العلًّمء يف ييل –مدرسة معروفة باملعرفة اللغوية‪ ،‬إن مل تكن‬
‫العددية– إذ اكتشف أن ‪ 35‬باملئة من الطالب‪ ،‬والذين تخرج العديد منهم يف التاريخ أو‬
‫الدراسات األمريكية‪ ،‬مل يعرفوا عدد سكان الواليات املتحدة مبعامل يصل إىل عرشة أضعاف!‬
‫كثريون ظنوا أن عدد السكان يرتاوح بني ‪ 1‬و‪ 10‬ماليني – أقل من عدد سكان مدينة نيويورك‪،‬‬
‫التي تقع عىل بعد أقل من ‪ 100‬ميل‪.‬‬
‫يف البداية‪ ،‬اعتربت هذا دليالً عىل نقص خطري يف منهج الدراسات االجتًّمعية يف‬
‫نظامنا التعليمي‪ .‬فعالوة عىل كل يشء‪ ،‬وبغض النظر عن قرب نيويورك‪ ،‬إن هذه البالد كانت‬
‫لتبدو مكانًا مختلفًا جذريًا لو أن عدد سكانها كان مليونًا فقط‪ .‬الحقًا‪ ،‬أدركت أن معظم هؤالء‬
‫الطالب مل تكن لديهم معاين موضوعية ملفاهيم مثل مليون أو ‪ 100‬مليون‪ .‬فهم مل يتعلموا أب ًدا‬
‫ربط يشء يحتوي عىل مليون يشء‪ ،‬مثل مدينة أمريكية متوسطة الحجم‪ ،‬بالرقم مليون‪ .‬كثري‬
‫من الناس‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬مل يتمكنوا من إخباري باملسافة التقريبية عرب الواليات املتحدة‬
‫باألميال‪ .‬فحتى هذا الرقم يعترب كبري ج ًدا بحيث يصعب التفكري فيه‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وبقليل من‬
‫التفكري العقالين‪ ،‬مثل دمج تقدير للمسافة التي ميكنك قيادتها براحة يف يوم واحد عىل طريق‬
‫رسيع بني الواليات (حوايل ‪ 500‬ميل) مع تقدير عدد األيام التي ستستغرقها لعبور البالد‬
‫(حوايل ‪ 6-5‬أيام) يخربين أن هذه املسافة أقرب إىل ‪ 3000-2500‬ميل منها إىل‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ 10000 ،‬ميل‪.‬‬
‫إن التفكري يف األرقام من حيث ما متثله يزيل معظم الغموض عن العملية برمتها‪ .‬وهذا‬
‫ما يتخصص فيه الفيزيائيون‪ .‬ال أريد أن أدعي أن التفكري الريايض يشء ميكن للجميع الشعور‬
‫جا سحريًا لقلق الرياضيات‪ .‬لكنه ليس باألمر الصعب للغاية –بل‬
‫بالراحة معه‪ ،‬أو أن هناك عال ً‬

‫‪37‬‬
‫وفعال رضوريًا لفهم طريقة تفكري الفيزيائيني– تقدير ما متثله األرقام‪،‬‬
‫ً‬ ‫غال ًبا ما يكون ممت ًعا‬
‫قليال يف ذهنك‪ .‬عىل أقل تقدير‪ ،‬يجب عىل املرء أن يتعلم تقدير الفائدة العظيمة‬
‫واللعب بها ً‬
‫لألرقام‪ ،‬حتى دون القدرة بالرضورة عىل إجراء تحليالت كمية مفصلة بنفسه‪ .‬يف هذا الفصل‪،‬‬
‫سأنحرف بإيجاز عن َمثَل ستيفن هوكينغ (آمل‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن تثبت أنت وكل الجمهور الشاري‬
‫خطأه!) وأريكم كيف يتعامل الفيزيائيون مع االستدالل العددي‪ ،‬بطريقة يجب أن توضح ملاذا‬
‫نريد استخدامه وما نكسبه من هذه العملية‪ .‬بإمكاين ذكر الدرس األسايس ببساطة‪ :‬نحن‬
‫نستخدم األرقام لئال نصعب األمور أب ًدا أكرث مًّم يجب‪ .‬وذلك ألن الفيزياء‪ ،‬يف املقام األول‪،‬‬
‫تتعامل مع مجموعة واسعة من املقاييس أو األحجام‪ ،‬وميكن أن تنشأ أرقام كبرية ج ًدا أو‬
‫صغرية ج ًدا حتى يف أبسط املسائل‪ .‬إن أصعب يشء يف التعامل مع مثل هذه الكميات‪ ،‬كًّم‬
‫سيشهد أي شخص حاول رضب رقمني مكونني من ‪ 8‬أرقام‪ ،‬هو الحساب الصحيح لجميع‬
‫األرقام‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لألسف‪ ،‬فغال ًبا ما يكون هذا األمر األشد صعوبة هو أيضً ا األكرث أهمية‪ ،‬ألن‬
‫عدد األرقام يحدد الحجم العام لرقم ما‪ .‬إذا رضبت ‪ 40‬يف ‪ ،40‬أيهًّم إجابة أفضل‪ 160 :‬أم‬
‫‪2000‬؟ ال يشء منهًّم دقيق‪ ،‬لكن األخري أقرب بكثري إىل اإلجابة الفعلية وهي ‪ .1600‬لو كان‬
‫هذا هو األجر الذي تتلقاه مقابل ‪ 40‬ساعة من العمل‪ ،‬فإن الحصول عىل الرقم ‪ 16‬صحي ًحا لن‬
‫يكون مبثابة عزاء معترب لفقدان أكرث من ‪ 1400‬دوالر بسبب الخطأ يف تقدير الحجم‪.‬‬

‫لتجنب مثل هذه األخطاء‪ ،‬اخرتع الفيزيائيون طريقة لتقسيم األرقام إىل جزأين‪ ،‬أحدهًّم‬
‫يخربك عىل الفور بالحجم الكيل أو املقياس للرقم –هل هو كبري أم صغري؟– ضمن نطاق يصل‬
‫إىل عامل يساوي ‪ ،10‬بينًّم اآلخر يخربك بالقيمة الدقيقة ضمن هذا النطاق‪ .‬وعالوة عىل ذلك‪،‬‬
‫من األسهل تحديد املقياس الفعيل دون الحاجة إىل عرض جميع األرقام رصاحةً‪ ،‬مبعنى آخر‪،‬‬
‫دون الحاجة إىل كتابة الكثري من األصفار‪ ،‬كًّم لو كان املرء يكتب حجم الكون املريئ‬
‫بالسنتيمرتات‪ :‬حوايل ‪ .1,000,000,000,000,000,000,000,000,000‬عند عرضه بهذه‬
‫الطريقة‪ ،‬كل ما نعرفه هو أن الرقم كبري!‬
‫يتحقق كال الهدفني من خالل طريقة لكتابة األرقام تُعرف بالتدوين العلمي‪( .‬ينبغي أن‬
‫يُدعى التدوين املعقول‪ ).‬وهي تبدأ بكتابة الرقم ‪ 10n‬عىل هيئة الرقم ‪ 1‬متبو ًعا بـ ‪ n‬من‬
‫مثال‪ ،‬بينًّم ‪ 106‬ميثل الرقم ‪ 1‬متبو ًعا بـ ‪ 6‬أصفار‬
‫األصفار‪ ،‬بحيث تكتب ‪ 100‬عىل هيئة ‪ً 102‬‬

‫‪38‬‬
‫رقًّم مثل ‪ 106‬لديه صفر‬
‫(مليون)‪ ،‬وهكذا‪ .‬إن املفتاح لتقدير حجم مثل هذه األرقام هو تذكر أن ً‬
‫واحد أكرث‪ ،‬وبالتايل هو أكرب ‪ 10‬مرات من ‪ .105‬ولألرقام الصغرية ج ًدا‪ ،‬مثل حجم ذرة‬
‫بالسنتيمرتات‪ ،‬حوايل ‪ 0.000000001‬سم‪ ،‬ميكننا كتابة ‪ 10-n‬لتمثيل الرقم ‪ 1‬مقسو ًما عىل‬
‫‪ ،10n‬وهو رقم به ‪ 1‬يف املكان ‪ n‬بعد النقطة العرشية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬سيكون ُعرش ‪ ،10-1‬ومليار‬
‫‪ ،10-9‬وهكذا‪.‬‬
‫هذا ال يتخلص فقط من األصفار ولكنه يحقق كل ما نريد‪ ،‬ألن أي رقم ميكن كتابته‬
‫ببساطة عىل أنه رقم بني ‪ 1‬و‪ 10‬مرضوبًا يف رقم يتكون من ‪ 1‬متبو ًعا بـ ‪ n‬من األصفار‪ .‬الرقم‬
‫‪ 100‬هو ‪ ،102‬بينًّم الرقم ‪ 135‬هو ‪ ،102 × 1.35‬عىل سبيل املثال‪ .‬الجًّمل يف هذا هو أن‬
‫الجزء الثاين من رقم مكتوب بهذه الطريقة‪ ،‬يُسمى األُس‪ ،‬أو قوة العرشة‪ ،‬يخربنا عىل الفور‬
‫بعدد األرقام التي يحتويها‪ ،‬أو «رتبة الحجم» للرقم (وبالتايل ‪ 100‬و‪ 135‬هًّم من نفس رتبة‬
‫الحجم)‪ ،‬بينًّم الجزء األول يخربك بالضبط ما هي القيمة ضمن هذا النطاق (أي‪ ،‬سواء كان‬
‫‪ 100‬أو ‪.)135‬‬
‫نظ ًرا ألن أهم يشء عن رقم هو عىل األرجح حجمه‪ ،‬فإن كتابته بشكل مثل ‪1.45962‬‬
‫× ‪ 1013‬بدالً من ‪ ،1,459,620,000,000‬أو تريليون وأربعًّمئة وتسعة وخمسون مليار‬
‫فهًّم أفضل ملعنى الرقم الكبري‪ ،‬بخالف حقيقة أنه أقل تعقي ًدا‪،‬‬
‫وستًّمئة وعرشون مليونًا‪ ،‬يعطي ً‬
‫حني يكتب بهذه الطريقة‪ .‬ما قد يكون أكرث إثارة للدهشة هو االدعاء الذي سأديل به قريبًا‬
‫بخصوص أن األرقام التي متثل العامل الفيزيايئ تكتسب املعنى فقط عند كتابتها بالرتميز‬
‫العلمي‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فبداية هناك فائدة فورية من استخدام التدوين العلمي‪ .‬فهي تسهل التالعب‬
‫ريا‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬إذا احتفظت بالخانات بشكل صحيح‪ ،‬تجد أن ‪= 100 × 100‬‬
‫باألرقام كث ً‬
‫بدال من ذلك هكذا ‪ ،104 =10)2 + 2( = 102 × 102‬يتحول الرضب إىل‬
‫‪ .10,000‬وحني نكتبها ً‬
‫جمع‪ .‬وباملثل‪ ،‬فبكتابة ‪ 10 = 100 ÷ 1000‬يف هيئة ‪ ،102 = 10)3 - 1( = 101 ÷ 103‬تصبح‬
‫القسمة بسيطة كالطرح‪ .‬باستخدام هذه القواعد لقوى العرشة‪ ،‬يصبح الصداع الرئييس –تتبع‬
‫الحجم الكيل يف حساب ما– أم ًرا تاف ًها‪ .‬إن اليشء الوحيد الذي قد تحتاج إىل آلة حاسبة له هو‬
‫رضب أو قسمة األجزاء األوىل من األرقام املكتوبة بالرتميز العلمي‪ ،‬أي األجزاء التي بني ‪ 1‬و‪.10‬‬

‫‪39‬‬
‫ولكن حتى هنا‪ ،‬فإن األمور أبسط‪ ،‬حيث أن االعتياد عىل جداول الرضب حتى ‪ 10 × 10‬يسمح‬
‫للمرء بتخمني ما ستكون عليه النتيجة مسبقًا بدقة‪.‬‬
‫إن املغزى هذا النقاش ليست محاولة لتحويلكم إىل عباقرة يف الحساب‪ .‬بل إذا كان‬
‫تبسيط العامل يعني تقريبه‪ ،‬فإن الرتميز العلمي ميكن من استخدام إحدى أهم األدوات يف علم‬
‫الفيزياء كله‪ :‬تقدير رتبة الحجم‪ .‬والتفكري يف األرقام بالطريقة التي يوجهك إليها الرتميز‬
‫العلمي تسمح لك بتقدير اإلجابات لألسئلة التي كانت لتصبح يف غالب األمر غري قابلة للحل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أراض‬ ‫ومبا أنه يساعد بشكل كبري عىل معرفة إذا كنت عىل الطريق الصحيح عند التنقل يف‬
‫غري مستكشفة‪ ،‬فإن القدرة عىل تقدير اإلجابة الصحيحة ألي مشكلة فيزيائية مفيدة ج ًدا‪ .‬وهي‬
‫أيضً ا تقطع الطريق عىل كثري من اإلحراج‪ .‬هناك قصص أسطورية عن طالب الدكتوراه الذين‬
‫قدموا أطروحات بصيغ معقدة من املفرتض أن تصف الكون‪ ،‬فقط ليكتشفوا أثناء دفاعهم عن‬
‫األطروحة أن إدخال أرقام واقعية يف الصيغ يُظهر أن التقديرات بعيدة كل البعد عن الواقع‪.‬‬
‫تفتح تقديرات رتبة الحجم العامل عىل مرصاعيه من أجلك‪ ،‬كًّم كان إلنريكو فريمي أن‬
‫يقول‪ .‬كان فريمي (‪ )1954-1901‬واح ًدا من أواخر الفيزيائيني العظًّمء يف هذا القرن املهرة‬
‫عىل حد سواء يف الفيزياء النظرية والتجريبية‪ .‬وقد اختري ليكون مسؤوالً عن مرشوع مانهاتن‪،‬‬
‫املجهود الرسي للواليات املتحدة خالل الحرب لتطوير مفاعل نووي وبالتايل إثبات إمكانية‬
‫االنشطار النووي املتحكم به –انشطار نوى الذرات– قبل بناء قنبلة ذرية‪ .‬كان أيضً ا أول‬
‫فيزيايئ يقرتح نظرية ناجحة لوصف التفاعالت التي تسمح مبثل هذه العمليات‪ ،‬والتي تم‬
‫منحه جائزة نوبل لها‪ .‬تويف يف سن مبكرة بالرسطان‪ ،‬رمبا بسبب سنوات من التعرض‬
‫لإلشعاع يف الوقت الذي مل يكن معروفًا فيه مدى خطورة ذلك‪( .‬من يهبط من بينكم يف مطار‬
‫لوجان ويعلقون يف االزدحامات املرورية الضخمة التي تؤدي إىل النفق الذي سيأخذك إىل‬
‫بوسطن‪ ،‬قد يسيل نفسه بالبحث عن لوحة تذكارية مخصصة لفريمي موجودة عند قاعدة جرس‬
‫صغري قبل محطات الدفع عند مدخل النفق‪ .‬إننا نسمي املدن تيم ًنا بأسًّمء الرؤساء‪ ،‬واملالعب‬
‫الرياضية عىل أسًّمء أبطال الرياضة‪ .‬وإنه ليشء معرب أن يحصل فريمي عىل جرس بجانب‬
‫محطة تحصيل)‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫إنني أتحدث عن فريمي ألنه‪ ،‬بصفته قائدا ً لفريق من الفيزيائيني العاملني يف مرشوع‬
‫مانهاتن يف مخترب تحت األرض أسفل ملعب لكرة القدم يف جامعة شيكاغو‪ ،‬كان يساعد يف‬
‫الحفاظ عىل معنويات الفريق من خالل تقديم تحديات بانتظام للمجموعة‪ .‬تلك مل تكن مشاكل‬
‫فيزيائية بالفعل‪ .‬بدالً من ذلك‪ ،‬أعلن فريمي أن عىل الفيزيايئ الجيد أن يكون قادرا ً عىل اإلجابة‬
‫عىل أي مشكلة تُطرح عليه – وليس عليه بالرضورة أن يأيت باإلجابة الصحيحة‪ ،‬ولكن أن يطور‬
‫خوارزمية تسمح بالحصول عىل تقدير بالرتتيب الحجمي استنادا ً إىل أشياء يعرفها املرء أو‬
‫ميكنه تقديرها بشكل موثوق‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬هناك سؤال غالباً ما يُطرح يف اختبارات‬
‫الفيزياء الجامعية هو‪ ،‬كم عدد مز ّودي خدمة ضبط البيانو يف شيكاغو يف أي وقت معني؟‬
‫دعني أرشدك خالل نوع التفكري الذي رمبا كان فريمي ليتوقعه‪ .‬النقطة األساسية هي‬
‫أنه إذا كنت مهتًّمً فقط بالحصول عىل الرتتيب الحجمي الصحيح‪ ،‬فهذا ليس باألمر الصعب‪.‬‬
‫أوالً‪ ،‬ق ّدر عدد سكان شيكاغو‪ .‬حوايل ‪ 5‬ماليني؟ كم عدد األشخاص يف األرسة العادية؟ حوايل‬
‫‪4‬؟ وبالتايل‪ ،‬يوجد حوايل مليون (‪ )106‬أرسة يف شيكاغو‪ .‬كم عدد األرس التي لديها بيانو؟‬
‫حوايل واحدة من كل عرشة؟ وبالتايل‪ ،‬يوجد حوايل ‪ 100,000‬بيانو يف شيكاغو‪ .‬اآلن‪ ،‬كم‬
‫عدد البيانوهات التي يضبطها مزود خدمة ضبط البيانو كل عام؟ إذا كان ليعيش من هذا العمل‪،‬‬
‫فهو عىل األرجح يضبط ما ال يقل عن اثنني يف اليوم‪ ،‬خمسة أيام يف األسبوع‪ ،‬أو عرشة يف‬
‫األسبوع‪ .‬العمل حوايل خمسني أسبوعاً يف السنة يجعل ‪ 500‬بيانو‪ .‬إذا تم ضبط كل بيانو يف‬
‫املتوسط مرة واحدة يف السنة‪ ،‬فإنه يتطلب ‪ 100,000‬عملية ضبط يف السنة‪ ،‬وإذا قام كل‬
‫مزود بضبط ‪ ،500‬فإن عدد املزودين املطلوب هو ‪( 200 = 500 / 100,000‬ألن ‪100,000‬‬
‫‪.)102 × 2 = 103 × 0.2 = 103 × 5/1 = 102/510 × 5/1 = 500 /‬‬
‫إن املغزى ليس أنه قد يكون هناك بالضبط ‪ 200‬مزود خدمة ضبط البيانو يف شيكاغو‬
‫أم ال‪ .‬املغزى هو أن هذا التقدير‪ ،‬الذي جرى الحصول عليه برسعة‪ ،‬يخربنا بأننا سنتفاجأ إذا‬
‫وجدنا أقل من حوايل ‪ 100‬أو أكرث من حوايل ‪ 1,000‬مزود خدمة ضبط البيانو‪( .‬أعتقد أن‬
‫هناك يف الواقع حوايل ‪ .)600‬حني تفكر يف حقيقة أنه رمبا مل تكن لتملك فكرة عن نطاق‬
‫اإلجابة الصحيحة قبل أنت تجري مثل هذا التقدير‪ ،‬فإن قوة هذه التقنية تتجىل‪.‬‬
‫ميكن أن يعطيك تقدير رتبة الحجم رؤى جديدة حول أشياء قد ال تكون قد فكرت أبدا ً‬
‫أنك قد تتوقع تقديرها أو تصورها‪ .‬هل هناك املزيد من حبات الرمل عىل الشاطئ من النجوم‬

‫‪41‬‬
‫يف السًّمء؟ كم عدد األشخاص الذين يعطسون عىل األرض يف كل ثانية؟ كم من الوقت‬
‫سيستغرق الرياح واملاء لتآكل جبل إيفرست؟ كم عدد األشخاص يف العامل الذين‪( ...‬اكتب‬
‫احتًّملك املفضل هنا) بينًّم تقرأ هذه الكلًّمت؟‬
‫وبنفس القدر من األهمية‪ ،‬رمبا يعطيك التقدير برتبة الحجم رؤى جديدة حول أشياء‬
‫يجب أن تفهمها‪ .‬ميكن للبرش أن يتخيلوا األرقام مبارشة حتى مكان ما بني ‪ 6‬و‪ .12‬إذا رأيت‬
‫النقاط الست عندما ترمي نردا ً‪ ،‬ال تحتاج إىل عدها يف كل مرة ملعرفة أن هناك ‪ .6‬ميكنك تخيل‬
‫«الكل» كيشء مختلف عن مجموع أجزائه‪ .‬لكن لو أعطيتك نردا ً بعرشين وج ًها‪ ،‬من غري املحتمل‬
‫أن تتمكن من النظر إىل ‪ 20‬نقطة فتفهمها مبارشة كالعدد ‪ .20‬حتى لو كانت مرتبة بأمناط‬
‫مثال‪ ،‬قبل‬
‫منتظمة‪ ،‬فمن املحتمل أن تضطر إىل تجميع النقاط يف رأسك إىل ‪ 4‬مجموعات من ‪ً 5‬‬
‫أن تتمكن من متييز املجموع‪ .‬هذا ال يعني أننا ال نستطيع بسهولة فهم ما ميثله العدد ‪ .20‬إننا‬
‫نألف الكثري من األشياء التي يوصف بها هذا العدد‪ :‬مجموع أصابعنا وأصابع قدمينا؛ رمبا عدد‬
‫الثواين التي تستغرقها ملغادرة املنزل والصعود إىل سيارتك‪.‬‬
‫لكن مع األعداد الكبرية أو الصغرية جدا ً‪ ،‬ليس لدينا طريقة مستقلة لفهم ما متثله هذه‬
‫األعداد بدون تقديرات متعمدة ميكن أن ترتبط بهذه األعداد إلعطائها معنى‪ .‬املليون قد يكون‬
‫عدد األشخاص الذين يعيشون يف مدينتك‪ ،‬أو عدد الثواين يف حوايل ‪ 10‬أيام‪ .‬البليون قريب‬
‫من عدد األشخاص الذين يعيشون يف الصني‪ .‬إنه أيضاً عدد الثواين يف حوايل ‪ 32‬سنة‪ .‬كلًّم‬
‫قمت باملزيد من التقديرات للكميات التي تحتوي عىل هذه األعداد‪ ،‬كلًّم كان بإمكانك فهمها‬
‫بشكل حديس بشكل أفضل‪ .‬ميكن أن يكون ذلك ممتعاً فعالً‪ .‬ق ّدر األشياء التي تثري فضولك‪،‬‬
‫أو األشياء التي تبدو مسلية‪ :‬كم مرة ستسمع اسمك يُنادى يف حياتك؟ كم من الطعام تأكل‪،‬‬
‫مقد ًرا بالرطل‪ ،‬يف عقد من الزمان؟ وقد يصبح الرسور الذي تناله من القدرة عىل التعامل‪،‬‬
‫خطوة بخطوة‪ ،‬مع ما كان ليصبح مشكلة عصية للغاية عىل حل دقيق‪ ،‬إدمانياً‪ .‬أعتقد أن هذا‬
‫النوع من «االندفاع» يأيت بالكثري من املتعة التي يحصل عليها الفيزيائيون من مًّمرسة‬
‫الفيزياء‪.‬‬
‫إن فضيلة الرتميز العلمي والتقدير برتبة الحجم أكرث مبارشة بالنسبة للفيزيائيني‪ .‬وهي‬
‫تسمح للتبسيطات املفاهيمية التي ناقشتها يف الفصل األخري بأن تصبح واضحة‪ .‬إذا استطعنا‬
‫فهم رتبة الحجم الصحيحة‪ ،‬فغالباً ما سنفهم معظم ما نحتاج إىل معرفته‪ .‬وليس الهدف أن‬

‫‪42‬‬
‫مهًّم‪ .‬إنه مهم‪ ،‬وهذا يوفر‬
‫نقول إن الحصول عىل جميع عوامل الـ ‪ 2‬والـ ‪ π‬صحيحة ليس ً‬
‫االختبار الحقيقي الذي يكشف أننا نعرف ما نتحدث عنه‪ ،‬ألننا بعد ذلك ميكننا مقارنة التنبؤات‬
‫باملالحظات بدقة أعىل الختبار أفكارنا‪ .‬هذا يقودين إىل العبارة الغريبة التي ذكرتها سابقاً‪ ،‬أن‬
‫األرقام التي متثل العامل تكتسب معنى فقط عندما تُكتب بالرتميز العلمي‪ .‬هذا ألن األرقام يف‬
‫الفيزياء تشري عموماً إىل أشياء ميكن قياسها‪ .‬إذا قست املسافة بني األرض والشمس‪ ،‬ميكنني‬
‫التعبري عن تلك املسافة بـ ‪ 14,960,000,000,000‬أو ‪ 1013 × 1.4960‬سنتيمرت (سم)‪ .‬قد‬
‫يبدو االختيار بني االثنني قد يف األساس وكأنه مسألة من مسائل الدالالت الرياضية‪ ،‬وبالفعل‪،‬‬
‫بالنسبة لريايض‪ ،‬تلك متثيالت مختلفة لكنها متساوية لعدد واحد متطابق‪ .‬ولكن بالنسبة‬
‫لفيزيايئ‪ ،‬فالرقم األول ال يعني فقط شيئًا مختلفًا ج ًدا عن الثاين ولكنه مشبوه للغاية‪ .‬إذن‬
‫فالرقم األول يوحي بأن املسافة بني األرض والشمس هي ‪ 14,960,000,000,000‬سم وليس‬
‫‪ 14,959,790,562,739‬سم أو حتى ‪ 14,960,000,000,001‬سم‪ .‬إنه يوحي بأننا نعرف‬
‫املسافة بني األرض والشمس بالسنتيمرت األقرب!‬
‫هذا أمر سخيف ألن‪ ،‬ومن بني أمور أخرى‪ ،‬الفارق يف املسافة بني أسنب‪ ،‬كولورادو (يف‬
‫الظهر بتوقيت املنطقة الجبلية)‪ ،‬والشمس‪ ،‬وبني كليفالند‪ ،‬أوهايو (يف الظهر بتوقيت الرشق‬
‫القيايس)‪ ،‬والشمس يختلف مبقدار ‪ 8000‬قدم‪ ،‬أو حوايل ‪ 250,000‬سنتيمرت‪ ،‬وهو الفارق‬
‫بني ارتفاعات أسنب وكليفالند عن مستوى سطح البحر‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يتعني علينا تحديد املكان‬
‫عىل األرض الذي نجري فيه مثل هذا القياس لجعله ذا معنى‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬حتى لو حددنا أن هذه‬
‫املسافة تُقاس من مركز األرض إىل مركز الشمس (وهو اختيار منطقي)‪ ،‬يعني ذلك أننا ميكن‬
‫أن نقيس حجم األرض والشمس بدقة تصل إىل السنتيمرت األقرب‪ ،‬ناهيك عن قياس املسافة‬
‫بينهًّم بتلك الدقة العالية‪( .‬إذا فكرت يف أي طريقة عملية ممكنة لقياس املسافة من األرض إىل‬
‫قياسا بهذا النوع من الدقة غري مرجح‪ ،‬إن مل يكن‬
‫ً‬ ‫الشمس‪ ،‬ميكنك أن تقنع نفسك بأن‬
‫مستحيال)‪.‬‬
‫ً‬
‫ال‪ :‬من الواضح أننا عندما نكتب ‪ 14,960,000,000,000‬سم‪ ،‬نقوم بتقريب املسافة‬
‫إىل رقم مرتب‪ .‬لكن‪ ،‬بأي دقة نعرف هذا الرقم حقًا؟ ال توجد مثل هذه الغموض عندما نكتب‬
‫‪ 1013 × 1.4960‬سم‪ ،‬فهو يخربنا بالضبط كم نعرف هذه املسافة‪ .‬تحدي ًدا‪ ،‬يخربنا أن القيمة‬
‫الفعلية تقع يف مكان ما بني ‪ 1013 × 1.49595‬سم و‪ 1013 × 1.49605‬سم‪ .‬لو كنا نعرف‬

‫‪43‬‬
‫املسافة بدقة أكرب بعرش مرات‪ ،‬لكتبنا بدالً من ذلك ‪ 1013 × 1.49600‬سم‪ .‬وبالتايل‪ ،‬هناك‬
‫فارق كبري بني ‪ 1013 × 1.4960‬سم و‪ 14,960,000,000,000‬سم‪ .‬إنه أكرث من عالَم يف‬
‫حقيقة األمر‪ ،‬ألنك إذا فكرت يف عدم اليقني الضمني يف الرقم األول‪ ،‬فهو حوايل ‪× 0.0001‬‬
‫‪ ،1013‬أو مليار‪ ،‬سنتيمرت – أكرب من نصف قطر األرض!‬
‫إن ذلك يقود إىل سؤال مثري لالهتًّمم‪ .‬هل هذا الرقم دقيق؟ بينًّم يبدو عدم اليقني‬
‫ريا‪ ،‬فمقارن ًة مبسافة األرض إىل الشمس هو صغري – وهو أقل من‬
‫مبقدار مليار سنتيمرت كث ً‬
‫واحد من عرشة آالف من هذه املسافة‪ ،‬عىل وجه الدقة‪ .‬هذا يعني أننا نعرف مسافة األرض إىل‬
‫الشمس بدقة تزيد عن ‪ 1‬جزء يف ‪ .10,000‬وعىل مقياس نسبي‪ ،‬هذه دقة عالية‪ .‬سيكون ذلك‬
‫مثل قياس طولك بدقة تصل إىل ُعرش املليمرت‪ .‬إن جًّمل كتابة رقم مثل ‪ 1013 × 1.4960‬هو‬
‫أن نطاق ‪ 1013‬يحدد «مقياس» الرقم‪ ،‬مًّم ميكنك من رؤية مدى دقته عىل الفور‪ .‬كلًّم زاد عدد‬
‫األماكن العرشية التي تم ملؤها‪ ،‬كانت الدقة أعىل‪ .‬يف الواقع‪ ،‬عندما تفكر يف األمر بهذه‬
‫الطريقة‪ ،‬تخربك األرقام املكتوبة بالرتميز العلمي قبل كل يشء مبا ميكنك تجاهله! يف اللحظة‬
‫التي ترى فيها ‪ 1013‬سم‪ ،‬فلتعلم أن اآلثار الفيزيائية التي قد تغري النتيجة بالسنتيمرتات‪ ،‬أو‬
‫حتى باملاليني أو املليارات من السنتيمرتات‪ ،‬عىل األرجح غري ذات صلة‪ .‬وكًّم أكدت يف الفصل‬
‫األخري‪ ،‬فإن معرفة ما يجب تجاهله عاد ًة ما تكون األهم من كل يشء‪.‬‬
‫لقد تجاهلت حتى اآلن رمبا الحقيقة األكرث أهمية التي تجعل من ‪ 1013 × 1.49600‬سم كمية‬
‫فيزيائية وليست رياضية‪ .‬إنها «سم» امللحقة يف النهاية‪ .‬بدون هذه الصفة‪ ،‬ليس لدينا أي فكرة‬
‫عًّم يشري إليه هذا الرقم‪ .‬إن «سم» تخربنا أن هذه قياس للطول‪ .‬وهذا التخصيص يُسمى البعد‬
‫لكمية ما‪ ،‬وهو ما يربط األرقام يف الفيزياء بالعامل الحقيقي للظواهر‪ .‬إن السنتيمرتات‪،‬‬
‫البوصات‪ ،‬األميال‪ ،‬والسنوات الضوئية – كلها قياسات للمسافة وبالتايل تحمل أبعاد الطول‪.‬‬
‫إن ما يُعترب عىل األرجح األكرث مسؤولية عن تبسيط الفيزياء هو خاصية مثرية لالهتًّمم‬
‫يف العامل‪ .‬هناك ثالثة أنواع فقط من الكميات األساسية البعدية يف الطبيعة‪ :‬الطول‪ ،‬الزمن‪،‬‬
‫والكتلة‪ .‬وكل الكميات الفيزيائية ميكن التعبري عنها من حيث بعض تركيبات هذه الوحدات‪ .‬ال‬
‫يهم إذا عربت عن الرسعة باألميال‪/‬الساعة‪ ،‬األمتار‪/‬الثانية‪ ،‬الفرلنغ‪/‬أسبوعني‪ ،‬فهي كلها مجرد‬
‫طرق مختلفة لكتابة الطول‪/‬الزمن‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ولهذا تأثري ملحوظ‪ .‬فبًّم أن هناك ثالثة أنواع فقط من الكميات األساسية البعدية‪ ،‬هناك‬
‫عدد محدود من الرتكيبات املستقلة لهذه الكميات ميكن ابتكاره‪ .‬هذا يعني أن كل كمية فيزيائية‬
‫مرتبطة بكل كمية فيزيائية أخرى بطريقة بسيطة‪ ،‬وهذا يحد بشكل كبري من عدد العالقات‬
‫الرياضية املختلفة املمكنة يف الفيزياء‪ .‬رمبا ال توجد أداة أكرث أهمية يستخدمها الفيزيائيون‬
‫من استخدام األبعاد لتوصيف املالحظات الفيزيائية‪ .‬ال يقترص األمر عىل التخلص إىل حد كبري‬
‫من الحاجة إىل حفظ املعادالت‪ ،‬ولكنه يكمن أيضً ا يف الطريقة التي نتصور بها العامل‬
‫أساسا‬
‫ً‬ ‫الفيزيايئ‪ .‬كًّم سأجادل‪ ،‬مينحك استخدام التحليل البعدي منظو ًرا أساس ًيا للعامل‪ ،‬ويوفر‬
‫منطق ًيا لتفسري املعلومات التي تحصل عليها من حواسك أو من قياسات أخرى‪ .‬إنه يوفر‬
‫التقريب النهايئ‪ :‬عندما نتخيل األشياء‪ ،‬نتخيل أبعادها‪.‬‬
‫عندما قمنا بتحليل قوانني التحجيم لألبقار الكروية يف وقت سابق‪ ،‬عملنا فعل ًيا مع‬
‫مهًّم هناك هو العالقة بني‬
‫العالقة بني أبعادها من الطول والكتلة‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ما كان ً‬
‫الطول والحجم‪ ،‬وبشكل أكرث تحدي ًدا‪ ،‬نسبة أحجام األشياء التي تم تكبري حجمها‪ .‬عند التفكري‬
‫يف األبعاد‪ ،‬ميكننا أن نذهب إىل أبعد من ذلك ونقدر حجم اليشء نفسه‪ .‬فكر يف أي نظام من‬
‫الوحدات لوصف حجم يشء‪ :‬بوصة مكعبة‪ ،‬سنتيمرت مكعب‪ ،‬قدم مكعب‪ .‬إن الكلمة الرئيسية‬
‫هي مكعب‪ .‬هذه القياسات كلها تصف نفس األبعاد‪ :‬طول × طول × طول = الطول‪ .3‬وبالتايل‪،‬‬
‫فمن املحتمل أن ميكن تقدير حجم اليشء بأخذ بعض الطول الخصائيص‪ ،‬ولنسمه ‪ ،d‬ثم‬
‫تكعيبه‪ ،‬فيعطينا ‪ .d3‬عاد ًة ما يكون ذلك جي ًدا يف حدود رتبة حجم ما‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ميكن‬
‫إعادة كتابة حجم الكرة الذي ذكرته سابقًا يف هيئة ‪ ،π/6 d³ ≈ [1/2] d³‬حيث ‪ d‬هو قطرها‪.‬‬
‫وهنا مثال آخر‪ :‬أيهًّم صحيح‪ :‬املسافة = الرسعة × الزمن‪ ،‬أم املسافة = الرسعة‪/‬الزمن؟‬
‫عىل الرغم من أن أبسط أنواع «تحليل األبعاد» ميكن أن يعطي اإلجابة الصحيحة عىل الفور‪،‬‬
‫جيال بعد جيل من الطالب الذين يدرسون الفيزياء يرصون عىل محاولة حفظ الصيغة‪،‬‬
‫إال أن ً‬
‫وهم دامئًا ما يخطئون يف ذلك‪ .‬أبعاد الرسعة هي الطول‪/‬الزمن‪ .‬أبعاد املسافة هي الطول‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬إذا كان للجانب األيرس أبعاد الطول‪ ،‬والرسعة لها أبعاد الطول‪/‬الزمن‪ ،‬فمن الواضح أنك‬
‫يجب أن ترضب الرسعة يف الزمن حتى تكون للجانب األمين أبعاد الطول‪.‬‬
‫هذا النوع من التحليل ال ميكنه أب ًدا أن يضمن لك أن لديك اإلجابة الصحيحة‪ ،‬لكنه ميكن أن‬
‫يعلمك عندما تكون مخط ًئا‪ .‬وحتى وإن مل يضمن أنك عىل صواب‪ ،‬فعند التعامل مع مجهول‪،‬‬

‫‪45‬‬
‫من املفيد ج ًدا أن تدع التحليل البعدي يكون دليلك‪ .‬إنها توفر لك إطا ًرا لتناسب املجهول مع ما‬
‫تعرفه بالفعل عن العامل‪.‬‬
‫يُقال إن الحظ يُفضّ ل العقل املستعد‪ .‬وال يشء ميكن أن يكون أصدق من ذلك يف تاريخ‬
‫الفيزياء‪ .‬وميكن للتحليل البعدي أن يجهز أذهاننا للغري متوقع‪ .‬يف هذا الصدد‪ ،‬غال ًبا ما تكون‬
‫النتائج النهائية للتحليل البعدي البسيط قوية ج ًدا لدرجة أنها قد تبدو سحرية‪ .‬لعرض هذه‬
‫األفكار بشكل توضيحي‪ ،‬أريد القفز إىل مثال حديث يعتمد عىل البحث يف طليعة الفيزياء –‬
‫حيث يختلط املعروف واملجهول م ًعا‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬ساعدت الحجج البعدية يف الوصول إىل‬
‫فهم واحدة من القوى األربع املعروفة يف الطبيعة‪ :‬التفاعالت «القوية» التي تربط «الكواركات»‬
‫م ًعا لتشكيل الربوتونات والنيوترونات‪ ،‬التي بدورها تشكل نوى جميع الذرات‪ .‬قد تبدو الحجج‬
‫غامضة بعض اليشء عند القراءة األوىل‪ ،‬لكن ال تقلق‪ .‬أقدمها ألنها تعطيك الفرصة لرؤية كيف‬
‫ميكن أن تكون الحجج البعدية شاملة وقوية يف توجيه حدسنا الفيزيايئ‪ .‬رمبا تكون نكهة‬
‫الحجج أكرث أهمية لتحملها معك مقارنة بأي من النتائج‪.‬‬
‫إن الفيزيائيني الذين يدرسون فيزياء الجسيًّمت األولية –ذلك الجزء من الفيزياء التي‬
‫يتعامل مع املكونات النهائية للًّمدة وطبيعة القوى بينها– قد ابتكروا نظا ًما للوحدات يستغل‬
‫التحليل البعدي بقدر ما ميكن أخذه‪ .‬من حيث املبدأ‪ ،‬جميع الكميات البعدية الثالث–الطول‬
‫والزمن والكتلة– مستقلة‪ ،‬لكن يف الواقع تعطينا الطبيعة عالقات أساسية بينها‪ .‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬لو كان هناك ثابت عاملي يربط الطول بالزمن‪ ،‬فإنني أستطيع التعبري عن أي طول‬
‫مبصطلحات الزمن برضبه بذلك الثابت‪ .‬يف الواقع‪ ،‬كانت الطبيعة كرمية مبا فيه الكفاية‬
‫لتزودنا مبثل هذا الثابت‪ ،‬كًّم أظهر أينشتاين ألول مرة‪ .‬إن أساس نظريته النسبية‪ ،‬التي‬
‫سأناقشها الحقًا‪ ،‬هو املبدأ القائل بأن رسعة الضوء‪ ،‬املسًّمة ‪ ،c‬ثابت عاملي‪ ،‬والذي سيقيس‬
‫جميع املراقبني له نفس القيمة‪ .‬ونظ ًرا ألن الرسعة لها أبعاد الطول‪/‬الزمن‪ ،‬إذا رضبت أي زمن‬
‫يف ‪ ،c‬سأصل إىل يشء بأبعاد الطول – أي املسافة التي سيقطعها الضوء يف هذا الزمن‪ .‬ثم‬
‫يصبح من املمكن التعبري عن جميع األطوال بشكل ال لبس فيه من حيث املدة التي يستغرقها‬
‫الضوء للسفر من نقطة إىل أخرى‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ميكن التعبري عن املسافة من كتفك إىل‬
‫مرفقك بـ ‪ 10-9‬ثوانٍ ‪ ،‬نظ ًرا ألن هذا هو تقري ًبا الزمن الذي يستغرقه شعاع الضوء لقطع هذه‬
‫املسافة‪ .‬إن أي مراقب يقيس املسافة التي يقطعها الضوء يف هذا الزمن سيقيس نفس املسافة‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫إن وجود ثابت رسعة الضوء العاملي يوفر تطابقًا فرديًا بني أي طول وزمن‪ .‬وذلك يسمح‬
‫لنا بإلغاء إحدى هذه الكميات البعدية لصالح األخرى‪ .‬مبعنى أن بإمكاننا اختيار إذا كنا نرغب‬
‫يف التعبري عن جميع األطوال كأزمنة مكافئة أو العكس‪ .‬إذا أردنا القيام بذلك‪ ،‬فمن األبسط‬
‫اسم وحدة الطول «ثانية‬
‫ابتكار نظام للوحدات حيث تكون رسعة الضوء عدديًا مساوية للواحد‪ِ .‬‬
‫ضوئية» بدالً من سنتيمرت أو بوصة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬تصبح رسعة الضوء‬
‫مساوية لـ ‪ 1‬ثانية ضوئية‪/‬ثانية‪ .‬واآلن تصبح جميع األطوال وأزمنتها املكافئة عدديًا متساوية!‬
‫ميكننا الذهاب خطوة أبعد‪ .‬إذا كانت القيم العددية ألطوال الضوء وأزمنة الضوء‬
‫متساوية يف هذا النظام من الوحدات‪ ،‬ملاذا نعترب الطول والزمن كميتني بعديتني منفصلتني؟‬
‫ميكننا بدالً من ذلك أن نعادل أبعاد الطول والزمن‪ .‬يف هذه الحالة جميع الرسعات‪ ،‬التي كانت‬
‫سابقًا لها أبعاد الطول‪/‬الزمن‪ ،‬ستصبح بال أبعاد‪ ،‬نظ ًرا ألن أبعاد الطول والزمن يف البسط‬
‫واملقام ستلغي بعضها بعضً ا‪ .‬يف الواقع هذا مكافئ لكتابة جميع الرسعات كجزء (بال أبعاد)‬
‫من رسعة الضوء‪ ،‬بحيث إذا قلت إن شيئًا ما كان له رسعة [‪ ،]2/1‬هذا يعني أن رسعته كانت‬
‫[‪ ]2/1‬رسعة الضوء‪ .‬من الواضح أن هذا النوع من النظام يتطلب أن تكون رسعة الضوء ثابتة‬
‫عاملية لجميع املراقبني‪ ،‬بحيث ميكننا استخدامها كقيمة مرجعية‪.‬‬
‫لدينا اآلن كميتني بعديتني مستقلتني فقط‪ ،‬الزمن والكتلة (أو بشكل معادل‪ ،‬الطول‬
‫والكتلة)‪ .‬واحدة من نتائج هذا النظام غري العادي هي أنه يسمح لنا مبعادلة كميات بعدية‬
‫أخرى بجانب الطول والزمن‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬تعادل صيغة أينشتاين الشهرية ‪ E = mc2‬كتلة‬
‫الجسم مع كمية معادلة من الطاقة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ففي نظام الوحدات الجديد لدينا ‪ )1 =( c‬ليس‬
‫لها أبعاد‪ ،‬بحيث نجد أن «أبعاد» الطاقة والكتلة اآلن متساوية‪ .‬وذلك يطبق يف الواقع ما تفعله‬
‫اتصاال فرديًا بني الكتلة والطاقة‪ .‬تخربنا صيغة أينشتاين أنه‬
‫ً‬ ‫صيغة أينشتاين شكليًا‪ :‬إنه يخلق‬
‫مبا أن الكتلة ميكن تحويلها إىل طاقة‪ ،‬ميكننا اإلشارة إىل كتلة يشء ما إما بالوحدات التي‬
‫كانت عليها قبل أن تتحول إىل طاقة أو وحدات الكمية املعادلة من الطاقة التي تتحول إليها‪ .‬مل‬
‫نعد بحاجة إىل الحديث عن كتلة جسم بالكيلوغرامات أو األطنان أو الجنيهات‪ ،‬بل ميكننا‬
‫التحدث عنها بوحدات الطاقة املكافئة‪ ،‬بـ «الفولت» أو «السعرات الحرارية»‪ ،‬عىل سبيل املثال‪.‬‬
‫هذا بالضبط ما يفعله فيزيائيو الجسيًّمت األولية عندما يشريون إىل كتلة اإللكرتون بـ ‪0.5‬‬
‫مليون إلكرتون فولت (اإللكرتون فولت هي الطاقة التي يحصل عليها إلكرتون يف سلك عند‬

‫‪47‬‬
‫تشغيله ببطارية فولت واحد) بدالً من ‪ 10-31‬غرامات‪ .‬نظ ًرا ألن تجارب فيزياء الجسيًّمت‬
‫تتعامل بانتظام مع عمليات يتم فيها تحويل الكتلة الساكنة للجسيًّمت إىل طاقة‪ ،‬فمن املعقول‬
‫يف النهاية استخدام وحدات الطاقة لتتبع الكتلة‪ .‬وهذه واحدة من اإلرشادات‪ :‬استخدم دامئًا‬
‫الوحدات التي تجعل أكرث املعاين الفيزيائية‪ .‬باملثل‪ ،‬الجسيًّمت يف املرسعات الكبرية تسافر‬
‫بالقرب من رسعة الضوء‪ ،‬بحيث أن تعيني ‪ c = 1‬عدديًا عمل ًيا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لن يكون هذا عمل ًيا‬
‫لوصف الحركات عىل مقياس أكرث اعتيادية‪ ،‬حيث يتعني علينا وصف الرسعات بأرقام صغرية‬
‫ج ًدا‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬رسعة طائرة نفاثة بهذه الوحدات ستكون حوايل ‪ ،0.000001‬أو ‪10-‬‬
‫‪.6‬‬
‫ال تتوقف األمور ال تتوقف عند هذا الحد‪ .‬هناك ثابت عاملي آخر يف الطبيعة‪ ،‬يرمز له بـ‬
‫‪ h‬ويُسمى ثابت بالنك‪ ،‬عىل اسم الفيزيايئ األملاين ماكس بالنك (أحد آباء ميكانيكا الكم)‪ .‬يربط‬
‫بني الكميات ذات أبعاد الكتلة (أو الطاقة) وتلك ذات أبعاد الطول (أو الزمن)‪ .‬باستمرارنا كًّم‬
‫يف السابق‪ ،‬ميكننا ابتكار نظام للوحدات بحيث ال يكون ‪ c = 1‬فقط‪ ،‬ولكن ‪ h = 1‬أيضً ا‪ .‬يف‬
‫هذه الحالة‪ ،‬تصبح العالقة بني األبعاد أكرث تعقي ًدا قليالً‪ :‬يجد املرء أن بعد الكتلة (أو الطاقة)‬
‫يصبح مكافئًا لـ ‪/1‬الطول‪ ،‬أو ‪/1‬الزمن‪( .‬عىل وجه التحديد‪ ،‬تصبح كمية الطاقة ‪ 1‬إلكرتون‬
‫فولت مكافئة لـ ‪ 10-16 × 6/1‬ثانية)‪ .‬والنتيجة النهائية لكل هذا هي أننا ميكن أن نقلل‬
‫الكميات البعدية الثالث املستقلة بالفطرة يف الطبيعة إىل كمية واحدة‪ .‬ميكننا بعد ذلك وصف‬
‫جميع القياسات يف العامل الفيزيايئ مبصطلحات كمية بعدية واحدة فقط‪ ،‬والتي ميكننا‬
‫اختيارها لتكون الكتلة أو الزمن أو الطول حسب راحتنا‪ .‬وللتحويل بينها‪ ،‬نحتفظ فقط بتتبع‬
‫عوامل التحويل التي أخذتنا من نظامنا العادي للوحدات –الذي يحوي‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬رسعة‬
‫الضوء ‪ c = 3 × 108‬مرت‪/‬ثانية– إىل النظام الذي فيه ‪ .c = 1‬عىل سبيل املثال‪ ،‬الحجم‪ ،‬بأبعاد‬
‫الطول × الطول × الطول = طول‪ 3‬يف نظام الوحدات العادي لدينا‪ ،‬يكون له بشكل مكافئ‬
‫أبعاد ‪/1‬كتلة‪( 3‬أو ‪/1‬طاقة‪ )3‬يف هذا النظام الجديد‪ .‬عند إجراء التحويالت املناسبة إىل هذه‬
‫الوحدات الجديدة‪ ،‬يجد املرء‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أن حجم ‪ 1‬مرت مكعب (‪ 1‬مرت‪ )3‬يكون مكاف ًئا‬
‫لـ (‪ 10-20 [/1‬إلكرتون فولت‪.)]3‬‬
‫يف حني أن هذه طريقة غري مألوفة وجديدة يف التفكري‪ ،‬الجميل فيها هو أنه مع وجود‬
‫معامل أسايس مستقل واحد فقط متبقي‪ ،‬ميكننا تقريب نتائج ما قد يكون ظواهر معقدة‬

‫‪48‬‬
‫بطبيعتها ببساطة يف نطاق كمية واحدة‪ .‬وعرب القيام بذلك‪ ،‬ميكننا أداء بعض السحر‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬لنقل إنه تم اكتشاف جسيم أويل جديد له ثالث أضعاف كتلة الربوتون أو‪ ،‬بوحدات‬
‫الطاقة‪ ،‬حوايل ‪ 3‬مليارات إلكرتون فولت – ‪ 3‬جيجا إلكرتون فولت (جيجا إلكرتون فولت)‪،‬‬
‫اختصا ًرا‪ .‬إذا كان هذا الجسيم غري مستقر‪ ،‬ما الذي قد نتوقعه ملدة بقائه قبل أن يتحلل؟ قد‬
‫يبدو من املستحيل تقدير ذلك دون معرفة أي من العمليات الفيزيائية التفصيلية املعنية‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬ميكننا استخدام التحليل البعدي لعمل تخمني ما‪ .‬إن الكمية البعدية الوحيدة يف املسألة‬
‫هي كتلة السكون‪ ،‬أو باملثل طاقة السكون للجسيم‪ .‬نظ ًرا إىل أن أبعاد الزمن مكافئة ألبعاد‬
‫‪/1‬الكتلة يف نظامنا‪ ،‬فإن تقدي ًرا معقوالً ملدة العمر سيكون ‪ 3(/k‬جيجا إلكرتون فولت)‪ ،‬حيث‬
‫‪ k‬هو رقم بال أبعاد قد نأمل‪ ،‬يف غياب أي معلومات أخرى‪ ،‬أن ال يكون مختلفًا ج ًدا عن ‪.1‬‬
‫مثال‪ ،‬الثواين‪ ،‬باستخدام صيغة التحويل‬
‫ميكننا التحويل مرة أخرى إىل وحداتنا العادية‪ ،‬ولنقل ً‬
‫لدينا (‪ 1/1‬إلكرتون فولت) = ‪ 10-16 × 6‬ثانية‪ .‬وبالتايل نقدر مدة عمر الجسيم الجديد لدينا‬
‫بحوايل ‪ k × 10–25‬ثانية‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬ال يوجد هنا سحر حقيقي‪ .‬فلم نحصل عىل يشء مقابل ال يشء‪ .‬إن ما قدمه لنا‬
‫التحليل البعدي هو مقياس املشكلة‪ .‬إنه يخربنا أن «العمر الطبيعي» للجسيًّمت غري املستقرة‬
‫التي لديها هذا النوع من الكتلة يقارب ‪ k × 10–25‬ثانية‪ ،‬متا ًما مثل «العمر الطبيعي» للبرش‬
‫الذي يكون بحدود ‪ k × 75‬سنة‪ .‬كل الفيزياء الحقيقية (أو‪ ،‬يف الحالة األخرية‪ ،‬األحياء) محتواة‬
‫يف الكمية املجهولة ‪ .k‬إذا كانت صغرية ج ًدا‪ ،‬أو كبرية ج ًدا‪ ،‬يجب أن يكون هناك يشء مثري‬
‫لالهتًّمم ميكن تعلمه لفهم السبب‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬أخربنا التحليل البعدي بيشء مهم ج ًدا‪ .‬إذا‬
‫اختلفت الكمية ‪ k‬بشكل كبري عن ‪ ،1‬نعلم أن العمليات املعنية يجب أن تكون قوية ج ًدا أو‬
‫ضعيفة ج ًدا‪ ،‬لدفع عمر هذا الجسيم إىل االنحراف عن قيمته الطبيعية كًّم هو معطى بالحجج‬
‫البعدية‪ .‬سيكون ذلك كرؤية بقرة خارقة بحجم ‪ 10‬أضعاف البقرة العادية لكن بوزن ‪10‬‬
‫أونصات فقط‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬ستخربنا حجج التحجيم البسيطة أن هذه البقرة مصنوعة من‬
‫مادة غريبة ج ًدا‪ .‬يف الواقع‪ ،‬العديد من النتائج األكرث إثارة يف الفيزياء هي تلك التي تنهار فيها‬
‫حجج التحجيم البعدي الساذجة‪ .‬املهم أن ندرك أنه بدون هذه حجج التحجيم‪ ،‬قد ال تكون لدينا‬
‫ريا كان يحدث يف املقام األول!‬
‫أي فكرة عن أن شي ًئا مث ً‬

‫‪49‬‬
‫يف عام ‪ ،1974‬وقع حدث ملحوظ ودراماتييك يف هذا السياق‪ .‬خالل خمسينيات‬
‫وستينيات القرن العرشين‪ ،‬ومع تطوير تقنيات جديدة لترسيع حزم الجسيًّمت عالية الطاقة‬
‫لتتصادم‪ ،‬أوالً مع أهداف ثابتة ومن ثم مع حزم أخرى من جسيًّمت ذات طاقة أعىل وأعىل‪،‬‬
‫جرى اكتشاف مجموعة من الجسيًّمت األولية الجديدة‪ .‬ومع اكتشاف املئات واملئات من‬
‫الجسيًّمت الجديدة‪ ،‬بدا كًّم لو أن أي أمل يف ترتيب بسيط يف هذا النظام قد اختفى – حتى‬
‫جاء تطوير منوذج «الكوارك» يف أوائل الستينيات‪ ،‬إىل حد كبري بواسطة موراي جيل‪-‬مان يف‬
‫كالتك‪ ،‬وجلب النظام من الفوىض‪ .‬ميكن تشكيل جميع الجسيًّمت الجديدة التي متت مالحظتها‬
‫من تركيبات بسيطة نسب ًيا – أجسام أساسية أطلق عليها جيل‪-‬مان اسم الكواركات‪ .‬ميكن‬
‫تصنيف الجسيًّمت التي تم إنشاؤها يف املرسعات ببساطة إذا كانت مكونة من ثالثة كواركات‬
‫أو كوارك واحد وجسيمه املضاد‪ .‬تم التنبؤ بأن تركيبات جديدة من نفس مجموعة الكواركات‬
‫التي تكون الربوتون والنيوترون ستؤدي إىل جسيًّمت غري مستقرة‪ ،‬مًّمثلة يف الكتلة‬
‫للربوتون‪ .‬وقد جرت مالحظتها‪ ،‬وتبني أن أعًّمرها قريبة إىل حد ما من تقديرنا البعدي (أي‪،‬‬
‫حوايل ‪ 25–10‬ثانية)‪ .‬بشكل عام‪ ،‬كانت أعًّمر هذه الجسيًّمت يف حدود ‪ 24–10‬ثانية‪ ،‬بحيث أن‬
‫ثابت ‪ k‬يف تقدير بعدي سيكون حوايل ‪ ،10‬أي ليس بعي ًدا ج ًدا عن الوحدة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تبدو‬
‫التفاعالت بني الكواركات‪ ،‬التي تسمح لهذه الجسيًّمت بالتحلل‪ ،‬وكأنها يف نفس الوقت‬
‫تحتجزها بإحكام داخل جسيًّمت مثل الربوتونات والنيوترونات بحيث مل يتم مالحظة أي‬
‫كوارك حر واحد‪ .‬لقد بدت هذه التفاعالت قوية ج ًدا بحيث تتحدى محاوالت منذجتها بالتفصيل‬
‫من خالل أي نظام حسايب‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،1973‬مهد اكتشاف نظري مهم الطريق‪ .‬بالعمل مع نظريات صممت عىل غرار‬
‫نظرية الكهرومغناطيسية ونظرية التفاعالت الضعيفة التي تم إنشاؤها حديثًا‪ ،‬اكتشف ديفيد‬
‫جروس وفرانك ويلزيك يف برينستون‪ ،‬وبشكل مستقل‪ ،‬ديفيد بوليتزر يف هارفارد‪ ،‬أن نظرية‬
‫جذابة مرشحة للتفاعالت القوية بني الكواركات كانت تتمتع بخاصية فريدة وغري عادية‪ .‬يف‬
‫هذه النظرية‪ ،‬ميكن أن يأيت كل كوارك يف واحدة من ثالثة أصناف مختلفة‪ ،‬تم تسميتها بشكل‬
‫طريف بـ«األلوان»‪ ،‬لذلك ُسميت النظرية بالكروموديناميكا الكمية‪ ،‬أو ‪ .QCD‬إن ما اكتشفه‬
‫جروس وويلزيك وبوليتزر كان أنه كلًّم اقرتبت الكواركات من بعضها‪ ،‬يجب أن تصبح‬
‫التفاعالت بينها‪ ،‬بنا ًء عىل «لونها»‪ ،‬أضعف وأضعف! وعالوة عىل ذلك‪ ،‬أثبتوا أن مثل هذه‬

‫‪50‬‬
‫الخاصية كانت فريدة لهذا النوع من النظريات – ال ميكن ألي نوع آخر من النظريات يف‬
‫الطبيعة أن يترصف بشكل مًّمثل‪.‬‬
‫ريا بأمل يف إمكانية أداء حسابات ملقارنة توقعات النظرية مع‬‫لقد برش ذلك أخ ً‬
‫املالحظات‪ .‬فإذا أمكن العثور عىل حالة حيث التفاعالت كانت ضعيفة مبا فيه الكفاية‪ ،‬ميكن‬
‫أداء تقريبات ناجحة بسيطة‪ ،‬بد ًءا بالكواركات غري التفاعلية ثم إضافة تفاعل صغري‪ ،‬لعمل‬
‫تقديرات تقريبية موثوقة لكيف يجب أن يكون سلوكها‪.‬‬
‫بينًّم كان فيزيائيون نظريون يبدأون يف استيعاب تداعيات هذه الخاصية الرائعة‪،‬‬
‫املسًّمة بـ«الحرية املتقاربة»‪ ،‬كان العلًّمء التجريبيون يف منشأتني جديدتني يف الواليات‬
‫املتحدة –واحد يف نيويورك واآلخر يف كاليفورنيا– يفحصون بنشاط تصادمات ذات طاقة‬
‫أعىل وأعىل بني الجسيًّمت األولية‪ .‬يف نوفمرب ‪ ،1974‬خالل أسابيع من بعضها البعض‪،‬‬
‫جسيًّم جدي ًدا بكتلة ثالث مرات من كتلة الربوتون‪ .‬إن ما جعل‬
‫ً‬ ‫اكتشفت مجموعتان مختلفتان‬
‫هذا الجسيم الفتًا للنظر كان أنه كان يتمتع بعمر حوايل ‪ 100‬مرة أطول من الجسيًّمت ذات‬
‫الكتل األصغر بعض اليشء‪ .‬علق فيزيايئ مشارك بأنه كان كًّم لو أنهم عرثوا عىل قبيلة جديدة‬
‫من الناس يف الغابة‪ ،‬كل واحد منهم يبلغ من العمر ‪ 10,000‬سنة!‬
‫بالتزامن مع هذه النتيجة‪ ،‬أدرك بوليتزر وزميله توم أبيلكويست أن هذا الجسيم الثقيل‬
‫الجديد كان يجب أن يتكون من نوع جديد من الكواركات –الذي كان قد أطلق عليه سابقًا اسم‬
‫الكوارك الساحر– والذي كان وجوده يف الواقع قد تم التنبؤ به عدة سنوات قبل ذلك بواسطة‬
‫النظريني ألسباب غري ذات صلة‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬ميكن تفسري حقيقة أن هذه الحالة املقيدة‬
‫للكواركات عاشت لفرتة أطول بكثري مًّم يحق لها كنتيجة مبارشة للحرية املتقاربة يف‬
‫الكروموديناميكا الكمية‪ .‬إذا تواجد الكوارك الثقيل والكوارك املضاد بشكل قريب ج ًدا م ًعا يف‬
‫هذه الحالة املقيدة‪ ،‬ستكون تفاعالتها أضعف من تفاعالت الكواركات األخف داخل جسيًّمت‬
‫مثل الربوتون‪ .‬كان ضعف هذه التفاعالت يعني أنه سيستغرق وق ًتا أطول للكوارك والكوارك‬
‫املضاد لـ«العثور» عىل بعضهًّم ثم االضمحالل‪ .‬وقد أدت التقديرات التقريبية للوقت الذي‬
‫ستستغرقه‪ ،‬بنا ًء عىل توسيع قوة تفاعل الكروموديناميكا الكمية اآليت من حجم الربوتون إىل‬
‫الحجم املقدر لهذا الجسيم الجديد‪ ،‬إىل توافق معقول مع املالحظات‪ .‬وقد تلقت‬
‫الكروموديناميكا الكمية تأكيدها املبارش األول‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫يف السنوات التي تلت هذا االكتشاف‪ ،‬ظلت التجارب تجرى عند طاقات عالية‪ ،‬وتبني أن‬
‫التقريبات املستخدمة يف الحسابات أكرث موثوقية‪ ،‬فتأكدت توقعات نظرية الكروموديناميكا‬
‫الكمية والحرية املتقاربة بشكل جميل ومتكرر‪ .‬عىل الرغم من أنه مل يتمكن أحد بعد من إجراء‬
‫حساب كامل يف النظام الذي تصبح فيه الكروموديناميكا الكمية قوية‪ ،‬إال أن األدلة التجريبية‬
‫يف نظام الطاقة العالية غامرة لدرجة أن أح ًدا ال يشك يف أن لدينا اآلن النظرية الصحيحة‬
‫للتفاعالت بني الكواركات‪ .‬يف الواقع‪ ،‬تم منح غروس وويلزك وبوليتزر جائزة نوبل يف عام‬
‫‪ 2004‬الكتشافهم الحرية اللوغاريتمية‪ ،‬ومعها‪ ،‬القدرة عىل التحقق من الكروموديناميكا‬
‫الكمية كنظرية للتفاعل القوي‪ .‬وبدون بعض اإلرشادات البعدية لتفكرينا‪ ،‬ملا تم تقدير‬
‫االكتشافات الرئيسية التي ساعدت يف وضع النظرية عىل أساس تجريبي ثابت عىل اإلطالق‪.‬‬
‫وهذا يعمم جي ًدا ما يتجاوز قصة اكتشاف الكروموديناميكا الكمية‪ .‬يوفر التحليل البعدي إطا ًرا‬
‫نستطيع من خالله اختبار صورتنا الخاصة بالواقع‪.‬‬
‫إذا بدأت رؤيتنا الكونية باألرقام التي نستخدمها لوصف الطبيعة‪ ،‬فهي ال تتوقف عند‬
‫هذا الحد‪ .‬يرص الفيزيائيون عىل استخدام العالقات الرياضية بني هذه الكميات أيضً ا لوصف‬
‫العمليات الفيزيائية – مًّمرسة قد تجعلك تتساءل ملاذا ال نستخدم لغة أكرث سهولة‪ .‬لكن ليس‬
‫لدينا خيار آخر‪ .‬حتى إن غاليليو قد قدر هذه الحقيقة‪ ،‬منذ حوايل ‪ 400‬عام‪ ،‬عندما كتب‪:‬‬
‫حا دامئًا أمام نظرنا‪ .‬لكن ال‬
‫«الفلسفة مكتوبة يف هذا الكتاب العظيم‪ ،‬الكون‪ ،‬الذي يظل مفتو ً‬
‫يسع املرء فهم الكتاب إال إذا تعلم أوالً فهم اللغة وقراءة الحروف التي كتب بها‪ .‬إنه مكتوب بلغة‬
‫الرياضيات‪ ،‬وحروفه هي املثلثات والدوائر واألشكال الهندسية األخرى التي بدونها يستحيل‬
‫عىل اإلنسان فهم كلمة واحدة منه؛ وبدون هذه‪ ،‬يتجول املرء يف متاهة مظلمة»‪.‬‬
‫إن القول بأن الرياضيات «لغة» الفيزياء‪ ،‬قد يبدو تاف ًها كًّم قول إن الفرنسية هي «لغة»‬
‫الحب‪ .‬لكن ذلك ال يزال ال يفرس ملاذا ال ميكننا ترجمة الرياضيات جي ًدا كًّم قد نرتجم أشعار‬
‫بودلري‪ .‬ويف شؤون الحب‪ ،‬بينًّم نحن الذين ليست الفرنسية لغتنا األم قد نعاين من عجز‪،‬‬
‫فمعظمنا يتدبر األمر عندما يهم األمر! ال‪ ،‬مثة ما هو أكرث من أنها مجرد لغة وحسب‪ .‬ولبدء‬
‫وصف كم هو أكرث‪ ،‬سأستعري حجة من ريتشارد فاينًّمن‪ .‬بجانب كونه شخصية كاريزمية‪،‬‬
‫كان فاينًّمن من بني أعظم عقول الفيزياء النظرية يف هذا القرن‪ .‬كانت لديه هبة نادرة يف‬
‫الرشح‪ ،‬وأنا أعتقد أنها كانت يف جزء منها بسبب حقيقة أن لديه طريقته الخاصة يف فهم‬

‫‪52‬‬
‫واشتقاق تقري ًبا جميع النتائج الكالسيكية يف الفيزياء‪ ،‬ويف جزء آخر أيضً ا بسبب لهجته‬
‫النيويوركية‪.‬‬
‫عندما حاول فاينًّمن رشح رضورة الرياضيات‪ ،‬مل يلجأ إال إىل نيوتن كسلف له‪ .‬كان‬
‫أعظم اكتشافات نيوتن بالطبع قانون الجذب العام‪ .‬من خالل إيضاح أن نفس القوة التي‬
‫تربطنا بهذه الكرة‪ ،‬التي نسميها األرض‪ ،‬مسؤولة عن حركات جميع األجسام السًّموية‪ ،‬جعل‬
‫علًّم عامل ًيا‪ .‬لقد أظهر أننا ال منلك فقط القدرة عىل فهم ميكانيكا حالتنا‬
‫نيوتن من الفيزياء ً‬
‫مسلًّم به‪ ،‬لكن‬
‫ً‬ ‫اإلنسانية ومكاننا يف الكون‪ ،‬بل الكون نفسه‪ .‬إننا منيل إىل اعتبار ذلك أم ًرا‬
‫بالتأكيد أحد أكرث األمور املذهلة حول الكون هو أن نفس القوة التي توجه كرة البيسبول خارج‬
‫امللعب تحكم الحركة األنيقة املهيبة ألرضنا حول الشمس‪ ،‬وشمسنا حول املجرة‪ ،‬ومجرتنا حول‬
‫جريانها‪ ،‬واملجموعة كلها مثلًّم يتطور الكون نفسه‪ .‬مل يكن لزا ًما أن يكون األمر كذلك (أو رمبا‬
‫كان يجب أن يكون – هذه املسألة ال تزال مفتوحة)‪.‬‬
‫باإلمكان اآلن صياغة قانون نيوتن بالكلًّمت عىل النحو التايل‪ :‬القوة الجاذبة التي‬
‫متارسها الجاذبية بني جسمني تتجه عىل طول خط يربط بينهًّم‪ ،‬وتعتمد عىل حاصل رضب‬
‫كتلتيهًّم وعكس ًيا مع مربع املسافة بينهًّم‪ .‬والرشح اللفظي بالفعل مرهق بعض اليشء‪ ،‬لكن ال‬
‫بأس‪ .‬إن الجمع بني هذا مع قانون نيوتن اآلخر –أن األجسام تتفاعل مع القوى بتغيري رسعتها‬
‫يف اتجاه القوة‪ ،‬بطريقة تتناسب طرديًا مع القوة وعكسيًا مع كتلها– مينحك كل يشء‪ .‬إن كل‬
‫نتيجة من نتائج الجاذبية تتبع من هذا النتيجة‪ .‬لكن كيف؟ ميكنني إعطاء هذا الوصف ألفضل‬
‫لغوي يف العامل وأطلب منه أو منها استنتاج عمر الكون من خالل الحجج الداللية‪ ،‬لكن من‬
‫املحتمل أن يستغرق األمر وقتًا أطول من هذا الوقت للحصول عىل إجابة‪.‬‬
‫النقطة هي أن الرياضيات أيضً ا نظام من االتصاالت‪ ،‬يجري إنشاؤه بأدوات املنطق‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬للمتابعة مع هذا املثال الشهري‪ ،‬صنع يوهانس كبلر التاريخ يف أوائل القرن السابع‬
‫عرش من خالل اكتشافه بعد عمر من تحليل البيانات أن الكواكب تتحرك حول الشمس بطريقة‬
‫خاصة‪ .‬إذا رسم املرء خطًا بني الكوكب والشمس‪ ،‬فإن املساحة التي يكنسها هذا الخط كًّم‬
‫يتحرك الكوكب يف مداره هي دامئًا نفسها يف أي فرتة زمنية محددة‪ .‬هذا يكافئ (باستخدام‬
‫الرياضيات!) القول بأنه عندما يكون الكوكب أقرب إىل هذه الشمس يف مداره فإنه يتحرك‬
‫بشكل أرسع‪ ،‬وعندما يكون أبعد يتحرك ببطء أكرب‪ .‬لكن نيوتن أظهر أن هذا النتيجة متطابقة‬

‫‪53‬‬
‫أيضً ا رياض ًيا مع البيان القائل بأنه يجب أن تكون هناك قوة موجهة عىل طول خط من الكوكب‬
‫إىل الشمس! وكانت تلك بداية قانون الجاذبية‪.‬‬
‫حاول كًّم تشاء‪ ،‬ولن تتمكن أب ًدا‪ ،‬باالستناد عىل أسس لغوية فحسب‪ ،‬من إثبات أن هاتني‬
‫العبارتني متطابقتان‪ .‬لكن مع الرياضيات‪ ،‬والتي ستكون يف هذه الحالة هندسة بسيطة‪،‬‬
‫ميكنك أن تثبت ذلك لنفسك بشكل مبارش‪( .‬اقرأ مبادئ نيوتن‪ ،‬أو لرتجمة أسهل‪ ،‬اقرأ لفاينًّمن)‪.‬‬
‫إن الهدف من طرح كل هذا ليس فقط أن نيوتن رمبا مل يكن ليستطيع أب ًدا استنباط‬
‫قانون الجاذبية لو مل يتمكن من إجراء الربط الريايض بني مالحظة كيبلر وحقيقة أن الشمس‬
‫مهًّم بشدة لتقدم العلم‪ .‬وال هو‬
‫متارس قوة عىل الكواكب – عىل الرغم من أن هذا وحده كان ً‬
‫حقيقة أنه بدون تقدير األساس الريايض للفيزياء‪ ،‬ال ميكن استنباط روابط أخرى مهمة‪ .‬إن‬
‫النقطة الحقيقية أن الروابط التي تفرضها الرياضيات أساسية متا ًما لتحديد صورتنا الكاملة‬
‫للواقع‪.‬‬
‫إنني أعتقد أن هناك حاجة إىل استعارة أدبية‪ .‬عندما كتبت هذا الفصل‪ ،‬كنت قد قرأت‬
‫رواية للكاتب الكندي روبرتسون ديفيز‪ .‬يف بضع جمل‪ ،‬لخص شيئًا رضب عىل وتر حساس‬
‫ج ًدا‪« :‬ما أذهلني حقًا كان مفاجأة الرجال بأين أستطيع القيام مبثل هذا اليشء‪ ...‬مل يكن‬
‫معاكسا متا ًما‬
‫ً‬ ‫شخصا يقرأ‪ ...‬ميكن أن يكون لديه جانب آخر‪ ،‬يبدو‬
‫ً‬ ‫بإمكانهم تقريبًا تصور أن‬
‫مسلًّم به أن لكل شخص‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬جانبني‪ ،‬إن‬
‫ً‬ ‫لشخصيته‪ .‬ال أتذكر وقتًا مل أعترب فيه مفهو ًما‬
‫مل يكن اثنني وعرشين جانبًا»‪.‬‬
‫اسمحوا يل أن أشخصن األمر بعض اليشء‪ .‬إن واحدة من األشياء الكثرية التي فعلتها‬
‫زوجتي من أجيل كانت فتح طرق جديدة لرؤية العامل‪ .‬لقد أتينا من خلفيات مختلفة ج ًدا‪ .‬هي‬
‫تأيت من بلدة صغرية‪ ،‬وأنا أتيت من مدينة كبرية‪ .‬إن األشخاص الذين يكربون يف مدينة كبرية‬
‫كًّم فعلت مييلون إىل رؤية اآلخرين بشكل مختلف ج ًدا عن األشخاص الذين يكربون يف بلدة‬
‫صغرية‪ .‬فالغالبية العظمى من األشخاص الذين تقابلهم يوم ًيا يف مدينة كبرية أحاديو البعد‪.‬‬
‫فأنت ترى الجزار كجزار‪ ،‬وساعي الربيد كساعي بريد‪ ،‬والطبيب كطبيب‪ ،‬وهكذا‪ .‬لكن يف بلدة‬
‫صغرية‪ ،‬ال ميكنك إال أن تقابل األشخاص بأكرث من طريقة‪ .‬إنهم جريانك‪ .‬قد يكون الطبيب‬
‫مدم ًنا للرشاب‪ ،‬وجارك زير النساء قد يكون املعلم امللهم للغة اإلنجليزية يف املدرسة الثانوية‬
‫املحلية‪ .‬لقد تعلمت‪ ،‬كًّم فعل بطل رواية ديفيز (من بلدة صغرية!)‪ ،‬أنه ال ميكن تصنيف‬

‫‪54‬‬
‫األشخاص بسهولة عىل أساس سمة واحدة أو نشاط‪ .‬فقط حني يدرك املرء هذا يصبح من‬
‫املمكن حقًا فهم الحالة اإلنسانية‪.‬‬
‫وكذلك فإن كل عملية فيزيائية يف الكون متعددة األبعاد‪ .‬وفقط من خالل إدراكنا أننا‬
‫ميكن أن نفهم كل واحدة منها بطرق متعددة متساوية‪ ،‬رغم أنها تبدو مختلفة‪ ،‬ميكننا أن نقدر‬
‫بعمق أكرب الطريقة التي يعمل بها الكون‪ .‬ال ميكننا أن ندعي فهم الطبيعة عندما نرى جانباً‬
‫واحدا ً فقط منها‪ .‬وسواء كان جي ًدا أم سيئًا‪ ،‬فإنها الحقيقة أن العالقات الرياضية وحدها التي‬
‫تسمح لنا برؤية الكل وسط األجزاء‪ .‬إن الرياضيات هي التي تسمح لنا بالقول إن العامل هو‬
‫أبقار كروية‪.‬‬
‫إذن فبمعنى ما‪ ،‬تزيد الرياضيات العامل تعقي ًدا‪ ،‬إذ تقدم الوجوه املختلفة العديدة للواقع‪.‬‬
‫لكنها وإذ تفعل ذلك‪ ،‬تبسط يف الحقيقة فهمنا‪ .‬ليس علينا أن نحتفظ بكل الوجوه يف رؤوسنا‬
‫يف نفس الوقت‪ .‬فبمساعدة الرياضيات‪ ،‬ميكننا االنتقال من وجه إىل آخر كًّم نشاء‪ .‬وإذا كانت‬
‫نيال‪ ،‬فإن‬
‫االرتباطات يف الفيزياء‪ ،‬كًّم سأدعي‪ ،‬هي ما تجعلها يف نهاية املطاف األسهل ً‬
‫الرياضيات تجعل الفيزياء متاحة‪.‬‬
‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬فحقيقة أن الرياضيات تسمح لنا بإعادة صياغة نفس الظاهرة بأشكال‬
‫مختلفة توفر لنا إثارة االكتشاف املستمرة‪ .‬ذلك أن وجود رؤى جديدة لنفس اليشء احتًّمل‬
‫قائم دامئًا! وكذلك فكل وجه جديد للواقع يوفر لنا إمكانية توسيع فهمنا أبعد من الظواهر التي‬
‫رصا إذا مل أصف مثاالً معروفًا عىل هذا‪ ،‬والذي‬
‫قد تكون أدت إىل بصريتنا الجديدة‪ .‬سأكون مق ً‬
‫ال يزال يبهرين متا ًما بعد خمسة وعرشين عا ًما منذ أن تعلمته ألول مرة من فاينًّمن‪.‬‬
‫إن هذا املثال يتضمن ظاهرة مألوفة لكنها محرية‪ :‬الرساب‪ .‬إن أي شخص قد قاد سيارته‬
‫عىل امتداد طويل ومستقيم من الطريق الرسيع يف يوم صيفي حار سيكون قد مر بتجربة‬
‫مبتال ويعكس السًّمء‬
‫النظر إىل الطريق ورؤيته يتحول إىل اللون األزرق يف األفق‪ ،‬كًّم لو كان ً‬
‫أعاله‪ .‬تلك هي النسخة األقل غرابة من نفس اليشء الذي يحدث لتلك األرواح الضائعة التي‬
‫تتجول يف الصحراء بحثًا عن املاء وتراه‪ ،‬ليختفي حني يركضون نحو رؤيتهم للخالص‪.‬‬
‫هناك تفسري بسيط ومعياري للرساب يتعلق بالحقيقة املعروفة جي ًدا أن الضوء ينحني‬
‫عندما يعرب الحد بني وسطني مختلفني‪ .‬وهذا سبب أنه عندما تقف يف املاء‪ ،‬تبدو أقرص مًّم‬

‫‪55‬‬
‫أنت عليه بالفعل‪ .‬ذلك أشعة الضوء تنحني عند السطح وتخدعك بالتفكري أن قدميك أعىل مًّم‬
‫هًّم عليه‪:‬‬

‫عندما ينتقل الضوء من وسط أكرث كثافة إىل وسط أقل كثافة‪ ،‬كًّم يف الصورة (االنتقال‬
‫من ساقيك يف املاء إىل عينيك يف الهواء)‪ ،‬فإنه دامئًا ما ينحني «للخارج»‪ .‬يف نهاية املطاف‪،‬‬
‫إذا اصطدم بالسطح بزاوية كبرية مبا فيه الكفاية‪ ،‬فإنه سينحني لدرجة أنه يعكس الضوء مرة‬
‫أخرى إىل املاء‪ .‬وبذلك‪ ،‬يظل القرش املقبل عىل الهجوم مخف ًيا عن األنظار‪.‬‬
‫يف يوم هادئ وشديد الحرارة‪ ،‬يصبح الهواء مبارشة فوق سطح الطريق ساخنًا ج ًدا –‬
‫أكرث سخونة بكثريمن درجة حرارة الهواء يف األعىل‪ .‬وما يحدث هو أن الهواء يتشكل يف‬
‫طبقات‪ ،‬فيكون أكرثها حرارة وأقلها كثافة يف األسفل‪ ،‬وباالتجاه إىل األعىل توجد طبقات أبرد‬
‫وأكرث كثافة‪ .‬عندما يأيت الضوء من السًّمء باتجاه الطريق‪ ،‬ينحني عند كل طبقة وإذا كان‬
‫هناك عدد ٍ‬
‫كاف من الطبقات‪ ،‬ينعكس بالكامل حتى تراه كًّم لو كنت تنظر إىل الطريق من‬
‫السيارة‪ .‬وبذلك‪ ،‬يبدو الطريق وكأنه يعكس السًّمء الزرقاء‪ .‬إذا نظرت بعناية يف املرة القادمة‬
‫التي ترى فيها رسابًا‪ ،‬سرتى أن طبقة اللون األزرق تأيت من فوق سطح الطريق بقليل‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ملهًّم‪ .‬لكن هناك رشح آخر‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫مرض‪ ،‬إن مل يكن بالرضورة‬ ‫هذا هو الرشح القيايس‪ ،‬وهو‬
‫لنفس الظاهرة‪ ،‬ونحن اآلن نعلم أنه مكافئ رياض ًيا لهذا الرشح‪ ،‬لكنه يقدم صورة مختلفة متا ًما‬
‫عن كيفية وصول الضوء إىل عينيك من السًّمء‪ .‬إنه يستند إىل مبدأ أقرص زمن‪ ،‬الذي اقرتحه‬
‫الرياضيايت الفرنيس بيري دي فريما يف عام ‪ ،1650‬والذي ينص عىل أن الضوء سيأخذ دامئًا‬
‫املسار الذي يتطلب أقل زمن للذهاب من نقطة ‪ A‬إىل نقطة ‪.B‬‬
‫إن هذا املبدأ مناسب بوضوح للحركة العادية للضوء‪ ،‬والتي تكون يف خط مستقيم‪ .‬كيف‬
‫ميكنه إذن تفسري الرساب؟ حسنًا‪ ،‬إن الضوء يسافر بشكل أرسع يف وسط أقل كثافة (يسافر‬
‫بأرسع ما ميكن يف الفضاء الفارغ)‪ .‬ومبا أن الهواء بالقرب من الطريق أكرث حرارة وأقل كثافة‪،‬‬
‫فكلًّم طالت مدة بقاء الضوء بالقرب من الطريق‪ ،‬كلًّم سافر بشكل أرسع‪ .‬وبالتايل‪ ،‬تخيل أن‬
‫شعاع ضوء يريد الذهاب من نقطة ‪ ،A‬إىل عينك‪ .B ،‬أي مسار سيتخذه؟‬

‫إن واحدة من طرق القيام بذلك ستكون السفر مبارشة إىل عينك‪ .‬لكن يف هذه الحالة‪،‬‬
‫بينًّم يسافر الضوء أقرص مسافة‪ ،‬سيقيض معظم وقته يف الهواء الكثيف عالياً فوق الطريق‪.‬‬
‫مثة طريقة أخرى‪ ،‬وهي اتخاذ املسار املوضح يف الرسم التوضيحي‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬يسافر‬
‫الضوء مسافة أطول‪ ،‬لكنه يقيض مزيدا ً من الوقت يف الطبقات األقل كثافة بالقرب من الطريق‪،‬‬
‫حيث يسافر برسعة أكرب‪ .‬من خالل التوازن بني املسافة املسافرة والرسعة التي يسافر بها‪،‬‬
‫ستجد أن املسار الفعيل الذي يتخذه‪ ،‬الذي ينتج رسابًا‪ ،‬هو الذي يقلل من الوقت‪.‬‬
‫لو فكرت يف ذلك لوجدته غري ًبا‪ .‬كيف ميكن للضوء التحديد مسبقًا‪ ،‬عندما يصدر‪ ،‬أي‬
‫ريا؟‬
‫املسار هو األرسع؟ هل يقوم بـ«شم» كل املسارات املمكنة قبل أن يختار الصواب أخ ً‬

‫‪57‬‬
‫بالتأكيد ال‪ .‬إنه يطيع فقط القوانني املحلية للفيزياء‪ ،‬التي تخربه ماذا يفعل عند كل واجهة‪،‬‬
‫ويحدث فقط‪ ،‬من الناحية الرياضية‪ ،‬أن هذا يتحول دامئًا إىل املسار الذي يأخذ أقرص وقت‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مرض للغاية حول هذا االكتشاف‪ .‬إنه يبدو أساس ًيا أكرث من الوصف البديل من‬ ‫وهناك يشء‬
‫ناحية انحناء الضوء عند طبقات مختلفة يف الغالف الجوي‪ .‬ومبعنى من املعاين هو كذلك‪ .‬إننا‬
‫نفهم اآلن أن قوانني حركة جميع األجسام ميكن إعادة صياغتها بشكل مشابه ملبدأ فريما للضوء‪.‬‬
‫وعالوة عىل ذلك‪ ،‬هذا الشكل الجديد من التعبري عن قوانني الحركة النيوتونية الكالسيكية أدى‬
‫إىل طريقة جديدة‪ ،‬طورها فاينًّمن‪ ،‬لتفسري قوانني ميكانيكا الكم‪.‬‬
‫بتوفري طرق مختلفة‪ ،‬ولكن متكافئة‪ ،‬لتصور العامل‪ ،‬تقودنا الرياضيات إىل طرق جديدة‬
‫لفهم الطبيعة‪ .‬وههنا عىل املحك‪ ،‬مثة ما يتجاوز مجرد التحديث‪ .‬ميكن أن تسمح لنا صورة‬
‫جديدة بتجنب العوائق التي قد تعرتض طريق استخدام الصورة القدمية‪ .‬فعىل سبيل املثال‪،‬‬
‫سمحت الطرق املستندة عىل التشابه مع مبدأ فريما بتطبيق ميكانيكا الكم عىل أنظمة فيزيائية‬
‫كانت حتى اآلن غري قابلة لالخرتاق‪ ،‬مبا يف ذلك املحاولة األخرية التي قادها ستيفن هوكينغ‬
‫ملحاولة فهم كيف قد تؤثر ميكانيكا الكم عىل نظرية النسبية العامة ألينشتاين‪ .‬إذا كانت‬
‫الروابط الرياضية تساعد يف حكم فهمنا للطبيعة من خالل كشف طرق جديدة لتصور العامل‪،‬‬
‫فإن ذلك يؤدي بالرضورة إىل املسألة التالية التي أريد ترككم معها يف هذا الفصل‪ .‬إذا كانت‬
‫تجريداتنا للطبيعة رياضية‪ ،‬فبأي معنى ميكن أن يقال إننا نفهم الكون؟ عىل سبيل املثال‪ ،‬بأي‬
‫معنى يفرس قانون نيوتن ملاذا تتحرك األشياء؟ للعودة إىل فاينًّمن مرة أخرى‪:‬‬
‫ماذا نعني بـ «فهم» يشء ما؟ تخيل أن العامل شبيه بلعبة شطرنج كبرية يلعبها اآللهة‪،‬‬
‫ونحن مراقبون للعبة‪ .‬نحن ال نعرف ما هي قواعد اللعبة؛ كل ما يسمح لنا هو مراقبة اللعب‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬إذا ما استمرينا يف املشاهدة لفرتة كافية‪ ،‬قد نتوصل يف النهاية إىل فهم بعض‬
‫القواعد‪ .‬إن القواعد التي نتحدث عنها هي ما نسميه بالفيزياء األساسية‪ .‬حتى لو عرفنا كل‬
‫قاعدة‪ ،‬فقد ال نتمكن رغم ذلك من فهم سبب وقوع حركة معينة يف اللعبة‪ ،‬وذلك ببساطة ألنها‬
‫معقدة ج ًدا وعقولنا محدودة‪ .‬إذا كنت تلعب الشطرنج‪ ،‬يجب أن تعلم أنه من السهل تعلم كل‬
‫القواعد‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬غالبًا ما يكون من الصعب ج ًدا اختيار أفضل حركة أو فهم ملاذا يتحرك‬
‫الالعب كًّم يفعل‪ .‬هكذا هي الحال يف الطبيعة‪ ،‬لكن بشكل أكرب بكثري‪ ....‬يجب أن نقترص عىل‬
‫السؤال األسايس عن قواعد اللعبة‪ .‬إذا عرفنا القواعد‪ ،‬نعترب أننا «نفهم» العامل‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫يف النهاية‪ ،‬قد ال نتخطى أب ًدا رشح القواعد‪ ،‬وقد ال نعرف أب ًدا ملاذا هي كًّم هي‪ .‬ولكننا‬
‫نجحنا بشكل رائع يف اكتشاف هذه القواعد‪ ،‬من خالل تجريد املواقف املعقدة‪ ،‬حيث تكون‬
‫القواعد غري قابلة للتتبع‪ ،‬وتحويلها إىل مواقف بسيطة‪ ،‬حيث تكون القواعد واضحة بنفسها –‬
‫باستخدام توجيه األدوات التي وصفتها يف هذا الفصل والفصل السابق‪ .‬وعندما نحاول فهم‬
‫العامل‪ ،‬كفيزيائيني‪ ،‬فهذا كل ما ميكننا أن نأمل يف القيام به‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا حاولنا بجد وكان‬
‫الحظ يف جانبنا‪ ،‬ميكننا عىل األقل أن نستمتع بتوقع كيف ستستجيب الطبيعة يف حالة مل‬
‫يسبق رؤيتها من قبل‪ .‬وبذلك‪ ،‬ميكننا أن نأمل يف مشاهدة االتصاالت الخفية يف الفيزياء التي‬
‫ريا لإلعجاب‪.‬‬
‫قد تكشف عنها الرياضيات أوالً والتي‪ ،‬بدورها‪ ،‬تجعل العامل مث ً‬

‫‪59‬‬
‫الجزء الثان‬
‫التقدم‬

‫‪60‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫رسقة فكرية إبداعية‬

‫بقدر ما تتغري األشياء‪ ،‬بقدر ما تبقى عىل حالها‪.‬‬


‫قد تدفعك الحكمة الشعبية إىل االعتقاد أن االكتشافات الجديدة يف العلوم تتمحور دامئًا حول‬
‫أفكار جديدة جذريًا‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬غال ًبا ما يكون العكس هو الصحيح‪ .‬فاألفكار القدمية ال تبقى‬
‫فحسب‪ ،‬بل تظل مؤثرة يف معظم األحيان‪ .‬ففي حني أن الكون ال نهايئ التنوع يف الظواهر‪،‬‬
‫لكنه يبدو محدو ًدا إىل حد ما يف املبادئ‪ .‬ونتيج ًة لذلك‪ ،‬ال يوىل اهتًّمم كبري لألفكار الجديدة‬
‫يف الفيزياء بقدر ما يوىل اهتًّمم باألفكار الناجحة‪ .‬وهكذا‪ ،‬نرى نفس املفاهيم‪ ،‬ونفس‬
‫الشكليات‪ ،‬ونفس التقنيات‪ ،‬ونفس الصور ملوي ًة ومقولب ًة ومثني ًة قدر اإلمكان لتطبيقها عىل‬
‫مجموعة من املواقف الجديدة‪ ،‬طاملا أنها سبق أن نجحت‪.‬‬
‫خجوال‪ ،‬أو غري إبداعي حتى‪ ،‬لكشف أرسار الطبيعة‪ ،‬لكنه ليس‬
‫ً‬ ‫يبدو هذا رمبا نه ًجا‬
‫كذلك‪ .‬إذا كان األمر يتطلب جرأة كبرية الفرتاض أن املقالع قد يقتل عمالقًا‪ ،‬فإن افرتاض أن‬
‫نفس األساليب التي تحدد مدى وصول الطلقة قد تحدد أيضً ا مصري الكون يتطلب نفس القدر‬
‫ريا من اإلبداع ملعرفة كيفية تطبيق األفكار الحالية‬
‫من الجرأة‪ .‬غال ًبا ما يتطلب األمر أيضً ا قد ًرا كب ً‬
‫عىل املواقف الجديدة وغري العادية‪ .‬يف الفيزياء‪ ،‬القليل يعني الكثري‪.‬‬
‫لقد أثبت نقل األفكار القدمية نجاحه بانتظام لدرجة أننا أصبحنا نتوقع نجاحه‪ .‬حتى‬
‫تلك املفاهيم الجديدة النادرة التي شقت طريقها إىل الفيزياء فُرض وجودها من خالل إطار‬
‫املعرفة القائم‪ .‬إن هذه الرسقة الفكرية اإلبداعية هي التي جعلت الفيزياء مفهومةً‪ ،‬ألنها تعني‬
‫أن األفكار األساسية محدودة العدد‪.‬‬
‫ولعل أعظم سوء فهم حديث حول العلم هو أن «الثورات» العلمية تلغي كل ما سبقها‪.‬‬
‫وهكذا قد يتصور املرء أن الفيزياء قبل أينشتاين مل تعد صحيحة‪ .‬األمر ليس كذلك‪ .‬فمن اآلن‬
‫وإىل األبد‪ ،‬ستوصف حركة الكرة التي تسقط من يدي بقوانني نيوتن‪ .‬ورغم كونها املادة التي‬
‫تشكل قصص الخيال العلمي‪ ،‬لن يجعل أي قانون فيزيايئ جديد الكرة تسقط لألعىل إطالقًا!‬
‫فأحد الجوانب األكرث إرضا ًء يف الفيزياء هو أن االكتشافات الجديدة يجب أن تتفق مع ما هو‬

‫‪61‬‬
‫معروف أنه صحيح بالفعل‪ .‬وكذلك ستستمر النظريات املستقبلية دامئًا يف اقرتاض الكثري من‬
‫النظريات السابقة‪.‬‬
‫تكمل طريقة العمل هذه مفهوم تقريب الواقع الذي ناقشته سابقًا‪ .‬تقرتح عقلية «اللعنة‬
‫عىل الطوربيدات‪ ،‬بأقىص رسعة إىل األمام» نفسها أنه ال يتعني عىل املرء فهم كل يشء متا ًما‬
‫قبل امليض قد ًما‪ .‬ميكننا استكشاف املياه املجهولة باألدوات املتاحة لنا دون أن قضاء وقت يف‬
‫بناء ترسانة جديدة‪.‬‬
‫إن سابقة هذا التقليد أنشأها غاليليو أيضً ا‪ .‬تحدثت يف الفصل األول عن اكتشاف غاليليو‬
‫أن الرتكيز عىل أبسط جوانب الحركة وإبعاد الحقائق غري ذات الصلة أدى إىل إعادة تنظيم‬
‫رصح مبارش ًة منذ البداية أنه ال يهتم ملاذا تتحرك‬
‫عميقة لصورتنا عن الواقع‪ .‬ما مل أرشحه هو أنه ّ‬
‫األشياء؛ كل ما أراده هو التحقيق‪ ،‬بأسلوبه املتواضع الذي ال يضاهى‪ ،‬يف كيفية تحركها‪« .‬هديف‬
‫هو تقديم علم جديد متا ًما يتعامل مع موضوع قديم ج ًدا‪ .‬رمبا ال يوجد يف الطبيعة يشء أقدم‬
‫من الحركة‪ ،‬والتي كتب عنها الفالسفة كت ًبا ليست قليل ًة وال ه ّينةً؛ ومع ذلك فقد اكتشفت‬
‫‪7‬‬
‫بالتجربة بعض خصائصها التي تجدر معرفتها»‪.‬‬
‫إن مجرد معرفة الكيفية ميكن أن توفر لنا ر ًؤى جديد ًة رائعةً‪ .‬فًّم أن جادل غاليليو بأن‬
‫الجسم الساكن كان مجرد حالة خاصة لجسم متحرك برسعة ثابتة‪ ،‬بدأت التصدعات تظهر يف‬
‫الفلسفة األرسطية‪ ،‬التي أكدت عىل الوضع الخاص لألول‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬أشارت حجة غاليليو‬
‫إىل أن قوانني الفيزياء من وجهة نظر مراقب متحرك برسعة ثابتة قد تبدو مشابهة للقوانني‬
‫من وجهة نظر مراقب ساكن‪ .‬ففي النهاية‪ ،‬سيكون الجسم الثالث املتحرك حركة نسبية ثابتة‬
‫بالنسبة إىل أحدهًّم يتحرك حركة ثابتة بالنسبة لآلخر أيضً ا‪ .‬وباملثل‪ ،‬إن الجسم املتسارع أو‬
‫املتباطئ بالنسبة إىل أحدهًّم سيكون اليشء نفسه بالنسبة إىل اآلخر‪ .‬كان هذا التكافؤ بني‬
‫وجهتي النظر هو إعالن غاليليو عن النسبية‪ ،‬الذي سبق إعالن أينشتاين بنحو ثالثة قرون‪ .‬ومن‬
‫حسن حظنا أنه صامد‪ ،‬فرغم أننا اعتدنا عىل قياس الحركة مقارن ًة باليابسة الثابتة واملستقرة‪،‬‬
‫يف حني أن األرض تتحرك حول الشمس‪ ،‬والشمس تتحرك حول املجرة‪ ،‬ومجرتنا تتحرك يف‬
‫عنقود مجري‪ ،‬وهلم ج ًرا‪ .‬لذا نحن يف الحقيقة لسنا ساكنني‪ ،‬بل نتحرك برسعة كبرية بالنسبة‬
‫للمجرات البعيدة‪ .‬لو كان يجب أخذ هذه الحركة الخلفية يف االعتبار قبل أن نتمكن من وصف‬
‫فيزياء الكرة الطائرة يف الهواء بالنسبة لنا عىل األرض بشكل صحيح‪ ،‬ملا متكن غاليليو ونيوتن‬

‫‪62‬‬
‫من استخالص هذه القوانني يف األساس‪ .‬يف الواقع‪ ،‬مل تكتشف قوانني الحركة إال ألن الحركة‬
‫الثابتة (عىل املقاييس الزمنية البرشية) ملجرتنا بالنسبة إىل جريانها ال تغري سلوك األجسام‬
‫املتحركة عىل األرض‪ ،‬األمر الذي سمح بدوره بالتطورات يف علم الفلك التي أدت إىل إدراك أن‬
‫مجرتنا تتحرك بالنسبة إىل املجرات البعيدة يف املقام األول‪.‬‬
‫أوال أن أصف كيف تابع غاليليو استغالل نجاحه األول‬
‫سأعود إىل النسبية الحقًا‪ .‬أريد ً‬
‫يف الحركة املنتظمة‪ .‬نظ ًرا ألن أغلب الحركة التي نراها يف الطبيعة غري منتظمة يف الحقيقة‪،‬‬
‫فإذا أراد غاليليو ادعاء مناقشة الواقع حقًا‪ ،‬كان عليه معالجة هذه املشكلة‪ .‬مر ًة أخرى‪ ،‬اتبع‬
‫تخل عًّم ال يهم‪ ،‬وال تسأل ملاذا‪:‬‬
‫مبادئه األوىل‪َّ :‬‬
‫عرب‬
‫ال يبدو الوقت الحارض وقتًا مناس ًبا للتحقيق يف سبب تسارع الحركة الطبيعية التي ّ‬
‫عنها فالسفة مختلفون بآراء مختلفة‪ ،‬فمنهم من يفرسها باالنجذاب إىل املركز‪ ،‬وآخرون‬
‫بالتنافر بني أجزاء الجسم الصغرية ج ًدا‪ .‬بينًّم يعزوها آخرون إىل ضغط معني يف‬
‫الوسط املحيط يرتاكم خلف الجسم الساقط ويدفعه من موضع إىل آخر‪ .‬ينبغي اآلن‬
‫فحص كل هذه األوهام وغريها أيضً ا؛ لكنها غري جديرة باالهتًّمم حقًا‪ .‬يف الوقت‬
‫الحارض‪ ،‬غرض مؤلفنا هو مجرد التحقيق وإظهار بعض خصائص الحركة املتسارعة –‬
‫وهذا يعني حرك ًة ‪ . . .‬تتزايد رسعتها باستمرار بعد االنطالق من السكون‪ ،‬يف تناسب‬
‫بسيط مع الزمن‪ ،‬وهذا كالقول بأن الجسم يتلقى زيادات متساوية يف الرسعة يف فرتات‬
‫‪8‬‬
‫زمنية متساوية‪.‬‬
‫ع ّرف غاليليو الحركة املتسارعة بأنها أبسط أنواع الحركة غري املنتظمة‪ ،‬أي حركة تتغري‬
‫فيها رسعة الجسم‪ ،‬ولكن مبعدل ثابت‪ .‬هل هذه املثالية ذات صلة؟ أظهر غاليليو برباعة أن هذا‬
‫التبسيط يصف يف الواقع حركة كل األجسام املتساقطة‪ ،‬إذا تجاهل املرء التأثريات الخارجية‬
‫ألشياء مثل مقاومة الهواء‪ .‬مهد هذا االكتشاف الطريق لقانون الجاذبية لنيوتن‪ .‬لو مل تكن هناك‬
‫معرفة بانتظام الحركة األساسية لألجسام املتساقطة‪ ،‬لكان تعيني قوة تتناسب مع كتلة هذه‬
‫مستحيال ببساطة‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬ليحقق هذا‪ ،‬كان عىل غاليليو التغلب عىل عقبتني‬
‫ً‬ ‫األجسام‬
‫أخريني ال عالقة لهًّم إىل حد ما بالنقطة التي أطرحها‪ ،‬لكن حججه كانت بسيط ًة وذكي ًة للغاية‬
‫لدرجة أنني ال أستطيع مقاومة وصفها‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ادعى أرسطو أن األجسام املتساقطة تكتسب رسعتها النهائية عند تركها فوريًا‪ .‬كان هذا‬
‫معقوال يستند إىل مفاهيم بديهية ملا نراه‪ .‬كان غاليليو أول من أظهر بشكل مقنع أن ليس‬
‫ً‬ ‫ادعا ًء‬
‫هذا هو الحال‪ ،‬باستخدام مثال شديد البساطة‪ .‬استند إىل تجربة غيدانكني أو «فكرية»‪ ،‬عىل‬
‫قليال سأتحدث عنها هنا‪ .‬تخيل إسقاط حذاء يف حوض‬
‫حد تعبري أينشتاين‪ ،‬نسخة محدثة ً‬
‫االستحًّمم من ‪ 6‬بوصات فوق املاء‪ .‬ثم إسقاطه من ‪ 3‬أقدام (والرتاجع)‪ .‬إذا افرتضت ببساطة‬
‫أن حجم الرذاذ يرتبط برسعة الحذاء عند اصطدامه باملاء‪ ،‬فيمكنك إقناع نفسك برسعة بأن‬
‫الحذاء يتسارع أثناء سقوطه‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬كان إثبات غاليليو أن جميع األجسام تسقط بنفس املعدل‪ ،‬برصف النظر عن‬
‫كتلتها‪ ،‬إذا تجاهلت تأثريات مقاومة الهواء‪ .‬بينًّم يفكر معظم الناس يف هذا من حيث التجربة‬
‫الشهرية املتمثلة يف إسقاط جسمني مختلفني من برج بيزا املائل‪ ،‬التي رمبا مل تج َر أب ًدا‪ ،‬اقرتح‬
‫غاليليو يف الواقع تجربة فكرية أبسط أوضحت التناقض يف افرتاض أن األجسام التي تكون‬
‫أكثف مبرتني تسقط أرسع مبرتني‪ .‬تخيل إسقاط قذيفتني مدفعيتني لهًّم نفس الكتلة متا ًما‬
‫من برج‪ .‬يجب أن تسقطا بنفس املعدل لو كان معدل سقوطهًّم يعتمد عىل كتلهًّم‪ .‬اآلن‪ ،‬يف‬
‫أثناء سقوطهًّم‪ ،‬تخيل حرف ًيا ماه ًرا ورسي ًعا ميد يده من النافذة ويربطهًّم م ًعا بقطعة رشيط‬
‫الصق قوي‪ .‬لديك اآلن جسم واحد تبلغ كتلته ضعف كتلة أي من القذيفتني‪ .‬يخربنا املنطق‬
‫السليم أن هذا الجسم الجديد لن يبدأ فجأ ًة يف السقوط برسعة تعادل ضعف رسعة سقوط‬
‫القذيفتني قبل إضافة الرشيط الالصق‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن معدل سقوط األجسام ليس متناسبًا مع‬
‫كتلتها‪.‬‬
‫بعد إبعاد هذه املسائل الزائفة جانبًا‪ ،‬صار غاليليو حينها جاه ًزا لقياس تسارع الجسم‬
‫املتساقط وإظهار أنه ثابت‪ .‬تذكر أن هذا يعني أن الرسعة تتغري مبعدل ثابت‪ .‬وأذكرك أنه عند‬
‫وضع األساس الذي قامت عليه نظرية الجاذبية‪ ،‬مل يحاول غاليليو أكرث من وصف كيفية سقوط‬
‫األشياء‪ ،‬وليس سبب سقوطها‪ .‬يشبه األمر محاولة التعرف عىل لعبة شطرنج فاينًّمن من خالل‬
‫أوال ثم وصف حركة القطع بعناية‪ .‬وجدنا مرا ًرا وتكرا ًرا‬
‫فحص تكوين رقعة الشطرنج بعناية ً‬
‫منذ غاليليو أن الوصف الصحيح لـ«امللعب» الذي تحدث فيها الظواهر الفيزيائية يقطع شوطًا‬
‫طويال نحو الوصول إىل تفسري «القواعد» الكامنة وراء هذه الظواهر‪ .‬ويف النسخة النهائية‬
‫ً‬

‫‪64‬‬
‫من هذا‪ ،‬يحدد امللعب القواعد‪ ،‬سأناقش الحقًا أن هذا هو بالضبط املقصد الذي تتجه إليه أبحاث‬
‫الفيزياء الحديثة‪ ....‬لكنني أستطرد‪.‬‬
‫مل يتوقف غاليليو عند هذا الحد‪ .‬تابع إىل معالجة إحدى التعقيدات الرئيسية األخرى‬
‫للحركة عن طريق تقليد ما فعله مسبقًا‪ .‬حتى هذه اللحظة‪ ،‬ناقشنا‪ ،‬نحن وهو‪ ،‬الحركة يف بعد‬
‫واحد فقط – إما السقوط أو التحرك أفق ًيا‪ .‬لكن‪ ،‬إذا رميت كرة بيسبول فإنها تفعل كال األمرين‪.‬‬
‫إن مسار كرة البيسبول‪ ،‬مر ًة أخرى بتجاهل مقاومة الهواء‪ ،‬هو منحنى يسميه علًّمء الرياضيات‬
‫القطع املكافئ‪ ،‬شكل قويس‪ .‬أثبت غاليليو ذلك من خالل القيام بأبسط متديد ممكن لتحليالته‬
‫السابقة‪ .‬اقرتح أن الحركة ثنائية األبعاد ميكن اختزالها إىل نسختني مستقلتني من الحركة‬
‫أحادية البعد‪ ،‬التي وصفها سابقًا بالطبع‪ .‬أي‪ ،‬سيوصف املكون الرأيس لحركة الكرة من خالل‬
‫التسارع الثابت الذي حدده‪ ،‬يف حني سيوصف املكون األفقي للحركة من خالل الرسعة املنتظمة‬
‫الثابتة التي أكد أن جميع األشياء تحافظ عليها بشكل طبيعي يف غياب أي قوة خارجية‪ .‬اجمع‬
‫االثنني م ًعا‪ ،‬وستحصل عىل قطع مكافئ‪.‬‬
‫ريا من الظواهر التي يساء فهمها غال ًبا‪،‬‬
‫رغم أن هذا قد يبدو تاف ًها‪ ،‬لكنه أوضح عد ًدا كب ً‬
‫أوال‪ ،‬فكر يف الوثب الطويل األوملبي‪ ،‬أو رمبا‬
‫وشكل سابقة اتبعها الفيزيائيون منذ ذلك الحني‪ً .‬‬
‫رمية مايكل جوردان التي تبدأ من خط الرمية الحرة‪ .‬عندما نشاهد هذه األعًّمل البطولية‬
‫الرائعة‪ ،‬يبدو لنا أن الرياضيني يبقون يف الهواء لألبد‪ .‬بالنظر إىل رسعتهم السابقة للقفزة‪ ،‬كم‬
‫ميكنهم التحليق يف الهواء؟ تقدم حجج غاليليو إجاب ًة مفاجئةً‪ .‬لقد أظهر أن الحركة األفقية‬
‫والرأسية مستقلتان‪ .‬وبالتايل‪ ،‬إذا قرر العب القفز الطويل كارل لويس أو نجم كرة السلة مايكل‬
‫جوردان القفز وهو واقف يف مكانه‪ ،‬طاملا يحقق نفس االرتفاع الرأيس الذي حققه يف منتصف‬
‫قفزته أثناء الركض‪ ،‬فإنه سيظل يف الهواء نفس املدة متا ًما‪ .‬وباملثل‪ ،‬باستخدام مثال يلقى يف‬
‫دروس الفيزياء حول العامل‪ ،‬إن الرصاصة التي تطلق أفقيًا من مسدس ستصطدم باألرض يف‬
‫نفس الوقت الذي تصل فيه عملة معدنية سقطت عند سحب الزناد‪ ،‬حتى لو قطعت الرصاصة‬
‫مسافة ميل قبل ذلك‪ .‬يبدو أن الرصاصة تسقط بشكل أبطأ فقط ألنها تبتعد برسعة كبرية‬
‫لدرجة أن الوقت الذي تستغرقه ملغادرة أنظارنا‪ ،‬ال يكفي لها وال للعملة معدنية للسقوط عىل‬
‫اإلطالق!‬

‫‪65‬‬
‫استغل الفيزيائيون منذ ذلك الحني نجاح غاليليو يف إظهار أنه ميكن اعتبار البعدين‬
‫مجرد نسختني من بعد واحد‪ ،‬فيًّم يتعلق بالحركة‪ .‬تهدف معظم الفيزياء الحديثة إىل إظهار‬
‫أنه ميكن اختزال املسائل الجديدة‪ ،‬بتقنية أو بأخرى‪ ،‬إىل مسائل محلولة سابقًا‪ .‬وهذا ألن قامئة‬
‫أنواع املسائل التي ميكننا حلها متا ًما تعد عىل أصابع اليدين (ورمبا بعض أصابع القدمني)‪.‬‬
‫فمثال‪ ،‬رغم أننا نعيش يف ثالثة أبعاد مكانية‪ ،‬فإن حل معظم املسائل ثالثية األبعاد متا ًما يكاد‬
‫ً‬
‫مستحيال‪ ،‬حتى باستخدام القدرة الحاسوبية ألرسع الحواسيب‪ .‬وتلك التي ميكننا حلها‬
‫ً‬ ‫يكون‬
‫تنطوي بالرضورة إما عىل اختزالها فعل ًيا إىل مسائل أحادية أو ثنائية األبعاد قابلة للحل‪،‬‬
‫بإظهار أن بعض جوانب املسألة متكررة‪ ،‬أو عىل األقل اختزالها إىل مجموعات مستقلة من‬
‫املسائل أحادية أو ثنائية األبعاد القابلة للحل‪ ،‬بإظهار أنه ميكن معالجة أجزاء مختلفة من‬
‫املشكلة بشكل مستقل‪.‬‬
‫توجد أمثلة عىل هذا اإلجراء يف كل مكان‪ .‬لقد ناقشت بالفعل صورتنا للشمس‪ ،‬إذ‬
‫نفرتض فيها أن البنية الداخلية هي نفسها يف جميع أنحاء الشمس بأكملها عند أي مسافة ثابتة‬
‫من املركز‪ .‬يسمح هذا لنا بتحويل باطن الشمس من مسألة ثالثية األبعاد إىل مسألة أحادية‬
‫البعد بشكل فعال‪ ،‬توصف بالكامل من حيث املسافة‪ ،r ،‬من مركز الشمس‪ .‬ميكن الحصول عىل‬
‫مثال حديث ملوقف ال نتجاهل فيه مسألة ثالثية األبعاد‪ ،‬بل نقسمها إىل أجزاء أصغر‪ ،‬بالقرب‬
‫من الوطن‪ .‬إذ سمحت لنا قوانني ميكانيكا الكم‪ ،‬التي تحكم سلوك الذرات والجسيًّمت التي‬
‫تشكلها‪ ،‬توضيح قوانني الكيمياء من خالل رشح بنية الذرات‪ ،‬التي تكون جميع املواد‪ .‬الذرة‬
‫األبسط هي ذرة الهيدروجني‪ ،‬التي تحتوي عىل جسيم واحد موجب الشحنة يف مركزها‪،‬‬
‫الربوتون‪ ،‬ويحيط به جسيم واحد سالب الشحنة‪ ،‬اإللكرتون‪ .‬إن الحل الكمومي امليكانييك‬
‫لسلوك هذا النظام البسيط غني للغاية‪ .‬ميكن أن يوجد اإللكرتون يف مجموعة من الحاالت‬
‫املنفصلة ذات الطاقات اإلجًّملية املختلفة‪ .‬ينقسم كل مستوى من «مستويات الطاقة» الرئيسية‬
‫يف حد ذاته إىل حاالت يختلف فيها شكل «مدارات» اإللكرتون‪ .‬إن كل السلوكيات املعقدة‬
‫للكيمياء –املسؤولة عن بيولوجيا الحياة‪ ،‬من بني أشياء أخرى– تعكس‪ ،‬عىل مستوى أسايس‬
‫ما‪ ،‬قواعد الحساب البسيطة لعدد هذه الحاالت املتاحة‪ .‬متيل العنارص التي متلك جميع هذه‬
‫الحاالت‪ ،‬باستثناء حالة واحدة يف مستوى معني مملوء باإللكرتونات‪ ،‬إىل االرتباط كيميائ ًيا‬
‫فمثال‪ ،‬يوجد امللح‪ ،‬الذي‬
‫ً‬ ‫بالعنارص التي متلك إلكرتونًا وحي ًدا يشغل أعىل مستويات الطاقة‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫يُسمى أيضً ا كلوريد الصوديوم‪ ،‬ألن الصوديوم يشرتك يف إلكرتونه الوحيد مع الكلور‪ ،‬الذي‬
‫يستخدمه مللء الحالة الوحيدة الشاغرة يف أعىل مستوى طاقة له‪.‬‬
‫السبب الوحيد لقدرتنا عىل تعداد بنية املستويات حتى ألبسط الذرات مثل الهيدروجني‬
‫هو اكتشافنا أن الطبيعة ثالثية األبعاد لهذه األنظمة «تنقسم» إىل جزأين منفصلني‪ .‬يتضمن‬
‫أحدهًّم مسألة أحادية البعد‪ ،‬تتعلق ببساطة بفهم املسافة الشعاعية بني اإللكرتون والربوتون‪.‬‬
‫أما الجزء اآلخر فيتضمن مسألة ثنائية األبعاد‪ ،‬تتحكم يف التوزيع الزاوي «ملدارات» اإللكرتون‬
‫يف الذرة‪ .‬تُحل هاتني املسألتني بشكل منفصل ثم تدمجان للسًّمح لنا بتصنيف العدد اإلجًّميل‬
‫لحاالت ذرة الهيدروجني‪.‬‬
‫إليك مثال أحدث وأكرث غرابةً‪ ،‬عىل نفس املنوال‪ .‬اشتهر ستيفن هوكينغ يف عام ‪1974‬‬
‫بإثباته أن الثقوب السوداء ليست سوداء – أي أنها تصدر إشعاعات بدرجة حرارة تتناسب مع‬
‫كتلة الثقب األسود‪ .‬والسبب الذي جعل هذا االكتشاف مفاجئًا للغاية هو أن الثقوب السوداء‬
‫ُسميت بهذا االسم ألن مجال الجاذبية عىل سطحها قوي ج ًدا لدرجة أنه ال ميكن ألي يشء‬
‫بداخله اإلفالت‪ ،‬وال حتى الضوء‪ .‬فكيف ميكن أن تصدر إشعا ًعا؟ أظهر هوكينغ أنه يف ظل‬
‫وجود مجال الجاذبية القوي للثقب األسود‪ ،‬تسمح قوانني ميكانيكا الكم بتجنب نتيجة التفكري‬
‫الكالسييك هذه‪ .‬إن مثل هذه املراوغات من النظريات الكالسيكية «املحظورة» شائعة يف‬
‫مثال‪ ،‬يف صورتنا الكالسيكية للواقع‪ ،‬قد ال يتمكن الرجل الذي يسرتيح يف وا ٍد‬
‫ميكانيكا الكم‪ً .‬‬
‫بني جبلني من الوصول إىل الوادي املجاور دون تسلق أحد الجبلني‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تسمح ميكانيكا‬
‫مثال‪ ،‬بطاقة أصغر من تلك املطلوبة لإلفالت من الذرة‪ ،‬وفقًا‬
‫الكم لإللكرتون املوجود يف الذرة‪ً ،‬‬
‫للمبادئ الكالسيكية‪ ،‬أحيانًا «بشق نفق» للخارج من داخل املجال الكهربايئ الذي يربطه‪ ،‬ويجد‬
‫ريا من سالسله السابقة! واملثال القيايس لهذه الظاهرة هو االضمحالل اإلشعاعي‪.‬‬
‫نفسه ح ًرا أخ ً‬
‫وهنا‪ ،‬ميكن أن يتغري فجأ ًة تكوين الجسيًّمت –الربوتونات والنيوترونات– املدفونة عميقًا يف‬
‫نواة الذرة‪ .‬تخربنا ميكانيكا الكم‪ ،‬اعتًّم ًدا عىل خصائص الذرة أو النواة الفردية‪ ،‬أنه ميكن لواحد‬
‫أو أكرث من هذه الجسيًّمت اإلفالت من النواة‪ ،‬رغم أنها جمي ًعا مرتبطة كالسيك ًيا بشكل قطعي‪.‬‬
‫يف مثال آخر‪ ،‬إذا رميت كرة عىل النافذة‪ ،‬فإما سيكون لدى الكرة طاق ًة كافي ًة لتمر عربها‪ ،‬أو‬
‫سرتتد عن النافذة وتعود‪ .‬إذا كانت الكرة صغرية كفاي ًة بحيث يكون سلوكها محكو ًما مببادئ‬
‫مثال‪ ،‬التي تصطدم بحاجز رفيع أن‬
‫ميكانيكا الكم‪ ،‬ستكون األمور مختلفةً‪ .‬ميكن لإللكرتونات‪ً ،‬‬

‫‪67‬‬
‫تفعل كال األمرين! يف مثال مألوف أكرث‪ ،‬قد ينعكس الضوء الذي يصطدم بسطح مادة مثل‬
‫املرآة بشكل طبيعي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا كانت املرآة رفيعة كفايةً‪ ،‬نجد أنه رغم أن معظم الضوء‬
‫ينعكس‪ ،‬لكن بعضه ميكن أن «يشق نفقًا» عرب املرآة ويظهر عىل الجانب اآلخر! (سأوضح‬
‫مسلًّم‬
‫ً‬ ‫«القواعد» الجديدة التي تحكم هذا السلوك الغريب الحقًا‪ .‬يف الوقت الحايل‪ ،‬اعتربها أم ًرا‬
‫به‪).‬‬
‫أوضح هوكينغ أنه ميكن أن تحدث ظواهر مًّمثلة بالقرب من الثقب األسود‪ .‬ميكن‬
‫للجسيًّمت شق نفق عرب حاجز الجاذبية عىل سطح الثقب األسود واإلفالت‪ .‬كانت هذه املظاهرة‬
‫إنجازًا مبه ًرا ألنها كانت أول مرة تستخدم فيها قوانني ميكانيكا الكم إىل جانب النسبية العامة‬
‫لكشف ظاهرة جديدة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مر ًة أخرى‪ ،‬مل يكن ذلك ممكنًا إال ألن حاالت الجسيًّمت‬
‫امليكانيكية الكمومية حول الثقب األسود كانت‪ ،‬مثل ذرة الهيدروجني‪« ،‬قابلة للفصل» – أي‬
‫ميكن تحويل الحساب ثاليث األبعاد بفعالية إىل مسألة أحادية البعد ومشكلة ثنائية األبعاد‬
‫مستقلة‪ .‬لوال هذا االختزال‪ ،‬لبقينا نجهل الكثري بشأن الثقوب السوداء‪.‬‬
‫مهًّم كانت هذه الحيل التقنية مثري ًة لالهتًّمم‪ ،‬لكنها ليست سوى غيض من فيض‪.‬‬
‫السبب الحقيقي وراء استمرارنا يف تكرار أنفسنا عند اكتشاف قوانني جديدة ال يرجع إىل‬
‫شخصنا‪ ،‬أو عدمه‪ ،‬بقدر ما يرجع إىل شخص الطبيعة‪ .‬إنها تكرر نفسها باستمرار‪ .‬ولهذا‬
‫السبب نتحقق عامليًا تقريبًا ملعرفة ما إذا كانت الفيزياء الجديدة هي حقًا إعادة اخرتاع للفيزياء‬
‫القدمية‪ .‬استفاد نيوتن من اكتشاف قانونه العام للجاذبية بشكل هائل من املالحظات‬
‫والتحليالت التي أجراها غاليليو‪ ،‬كًّم وصفت‪ .‬واستفاد أيضً ا من مجموعة أخرى من املالحظات‬
‫الدقيقة أجراها عامل الفلك الدمناريك تيخو براهي‪ ،‬كًّم حللها تلميذه يوهانس كيبلر – أحد‬
‫معارصي غاليليو‪.‬‬
‫كان كل من براهي وكيبلر شخصيتني رائعتني‪ .‬أصبح براهي‪ ،‬املنحدر من خلفية متميزة‪،‬‬
‫من أبرز علًّمء الفلك يف أوروبا بعد مالحظاته عن املستعر األعظم عام ‪ .1572‬وقد منحه امللك‬
‫الدمناريك فريدريك الثاين جزير ًة كامل ًة الستخدامها كموقع مرصد‪ ،‬ليجربه خليفة فريدريك‬
‫بعد بضع سنوات عىل االنتقال‪ .‬متكن براهي‪ ،‬دون أن تعيقه‪ ،‬أو رمبا بسبب‪ ،‬غطرسته (وأنفه‬
‫الزائف املعدين)‪ ،‬من تحسني دقة القياسات الفلكية خالل عقد واحد مبعدل ‪ 10‬أضعاف مقارن ًة‬
‫بالتي اح ُتفظ بها طوال األلف سنة املاضية – وكل هذا دون تلسكوب! يف براغ‪ ،‬حيث كان منف ًيا‬

‫‪68‬‬
‫عني براهي كيبلر قبل عام من وفاته إلجراء التحليل الحسايب املعقد املطلوب‬
‫من الدمنارك‪ّ ،‬‬
‫لتحويل مالحظاته التفصيلية عن حركات الكواكب إىل علم كوين متسق‪.‬‬
‫طفال لعائلة ذات إمكانات متواضعة‪ ،‬وكانت حياته دامئًا‬
‫ً‬ ‫جاء كيبلر من عامل آخر‪ .‬كان‬
‫عىل الحافة‪ ،‬مال ًيا وعاطف ًيا‪ .‬إىل جانب مساعيه العلمية‪ ،‬وجد كيبلر وقتًا للدفاع عن والدته‬
‫بنجاح يف محاكمتها بتهمة السحر ولكتابة ما كان عىل األرجح أول رواية خيال علمي‪ ،‬عن‬
‫رحلة إىل القمر‪ .‬ورغم هذه املشتتات‪ ،‬تعامل كيبلر مع مهمة تحليل البيانات يف دفاتر مالحظات‬
‫براهي‪ ،‬التي ورثها بعد وفاة براهي‪ ،‬بحًّمس غري عادي‪ .‬دون حاسوب ماكنتوش‪ ،‬ناهيك عن‬
‫حاسوب فائق‪ ،‬أجرى معجزة تحليل البيانات املعقدة التي شغلت الجزء األكرب من حياته املهنية‪.‬‬
‫ومن خالل جداول مواقع الكواكب الالنهائية‪ ،‬توصل إىل القوانني الثالثة املشهورة لحركة‬
‫الكواكب التي ما تزال تحمل اسمه‪ ،‬والتي قدمت األدلة الرئيسية التي سيستخدمها نيوتن لكشف‬
‫لغز الجاذبية‪.‬‬
‫لقد ذكرت أحد قوانني كيبلر سابقًا –وهو أن مدارات الكواكب تقطع مساحات متساوي ًة‬
‫يف أوقات متساوية– وكيف متكن نيوتن من استخدام هذا لالستدالل عىل وجود قوة تسحب‬
‫الكواكب نحو الشمس‪ .‬إننا مرتاحون ج ًدا لهذه الفكرة يف الوقت الحارض لدرجة أنه تجدر‬
‫اإلشارة إىل مدى كونها غري بديهية حقًا‪ .‬لعدة قرون قبل نيوتن‪ ،‬افرتض أن القوة الالزمة‬
‫للحفاظ عىل حركة الكواكب حول الشمس يجب أن تنبع من يشء يدفعها‪ .‬اعتمد نيوتن بكل‬
‫بساطة عىل قانون غاليليو للحركة املنتظمة ملعرفة أن هذا غري رضوري‪ .‬يف الواقع‪ ،‬زعم أن‬
‫نتيجة غاليليو التي مفادها أن حركة األجسام املقذوفة يف الهواء ميكن أن ترسم قط ًعا مكافئًا‪،‬‬
‫وأن رسعتها األفقية ستظل ثابتة‪ ،‬تعني ضمنًا أن الجسم املقذوف برسعة كافية ميكن أن يدور‬
‫حول األرض‪ .‬نظ ًرا النحناء األرض‪ ،‬ميكن ألي جسم أن يستمر يف «السقوط» باتجاه األرض‪،‬‬
‫ولكن إذا كان يتحرك برسعة كافية يف البداية‪ ،‬فإن حركته األفقية الثابتة ميكن أن تحمله بعي ًدا‬
‫كفاي ًة بحيث يظل يف حالة «السقوط» عىل مسافة ثابتة من سطح األرض‪ .‬يوضح ذلك يف‬
‫الرسم البياين التايل‪ ،‬املنسوخ من مبادئ نيوتن‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫بعد أن أدركنا أن القوة التي تشد بوضوح نحو األسفل عىل األرض ميكن أن تؤدي إىل‬
‫ريا من‬
‫سقوط جسم نحوها باستمرار إىل األبد –وهذا ما نسميه املدار– مل يتطلب األمر كث ً‬
‫الخيال لالفرتاض أن األشياء التي تدور حول الشمس‪ ،‬مثل الكواكب‪ ،‬كانت تُشد باستمرار نحو‬
‫الشمس‪ ،‬وال تدفع حولها‪( .‬باملناسبة‪ ،‬إن حقيقة أن األجسام يف املدار «تسقط» باستمرار هي‬
‫املسؤولة عن انعدام الوزن الذي يختربه رواد الفضاء‪ .‬وال عالقة لذلك بغياب الجاذبية‪ ،‬التي‬
‫تكون قوي ًة عند املسافات التي تجتازها األقًّمر الصناعية والصواريخ عاد ًة بقدر قوتها هنا عىل‬
‫األرض تقري ًبا‪).‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬قدم قانون آخر من قوانني كيبلر لحركة الكواكب ملس ًة رائعةً‪ .‬أعطى هذا‬
‫حا كموم ًيا كشف طبيعة الجذب الثقايل بني األجسام‪ ،‬إذ قدم عالق ًة رياضي ًة بني‬
‫القانون مفتا ً‬
‫طول سنة كل كوكب – الوقت الذي يستغرقه للدوران حول الشمس وبعده عن الشمس‪ .‬من هذا‬
‫القانون‪ ،‬ميكن أن نستنتج بسهولة أن رسعة الكواكب حول الشمس تتناسب بطريقة ثابتة مع‬
‫بعدها عن الشمس‪ .‬عىل وجه التحديد‪ ،‬أظهرت قوانني كيبلر أن رسعتها تتناسب عكس ًيا مع‬
‫الجذر الرتبيعي لبعدها عن الشمس‪.‬‬
‫مسل ًحا بهذه املعرفة وبتعميمه الخاص من نتائج غاليليو بأن تسارع األجسام املتحركة‬
‫يجب أن يتناسب مع القوة املؤثرة عليها‪ ،‬متكن نيوتن من إظهار أنه إذا انجذبت الكواكب نحو‬

‫‪70‬‬
‫الشمس بقوة تتناسب مع حاصل رضب كتلتها وكتلة الشمس‪ ،‬مقسو ًما عىل مربع املسافة‬
‫بينهًّم‪ ،‬سينتج قانون رسعة كيبلر بطبيعة الحال‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬كان قاد ًرا عىل إظهار أن‬
‫ثابت التناسب سيكون مساويًا متا ًما لكتلة الشمس مرضوب ًة بشدة الجاذبية‪ .‬إذا كانت شدة‬
‫الجاذبية بني جميع األجسام عامليةً‪ ،‬فيمكن متثيلها بواسطة ثابت‪ ،‬الذي نسميه اآلن ‪G.‬‬
‫رغم أن تحديد الثابت ‪ G‬مبارش ًة كان يتجاوز قدارت القياس يف عرصه‪ ،‬لكن مل يحتج‬
‫نيوتن إىل ذلك إلثبات صحة قانونه‪ .‬انطالقًا من فكرة أن نفس القوة التي تبقي الكواكب حول‬
‫الشمس يجب أن تبقي القمر يف مداره حول األرض‪ ،‬قارن بني الحركة املتوقعة للقمر حول‬
‫األرض – بنا ًء عىل استقراء التسارع الرأيس املقاس لألجسام عىل سطح األرض مع الحركة‬
‫الفعلية املقاسة‪ :‬أي يستغرق القمر ‪ 28‬يو ًما تقري ًبا للدوران حول األرض‪ .‬اتفقت التنبؤات‬
‫ريا‪ ،‬إن حقيقة أن أقًّمر املشرتي‪ ،‬التي اكتشفها غاليليو أول مرة‬
‫واملالحظات بشكل مثايل‪ .‬أخ ً‬
‫باستخدام تلسكوبه‪ ،‬خضعت أيضً ا لقانون كيبلر للحركة املدارية‪ ،‬هذه املرة بالنسبة ملدارها‬
‫حول املشرتي‪ ،‬جعل من الصعب التشكيك يف عاملية قانون نيوتن‪.‬‬
‫ال أذكر هذه القصة اآلن ألكرر فقط كيف أن مجرد مالحظة كيفية تحرك األشياء – يف‬
‫هذه الحالة‪ ،‬الكواكب – أدى إىل فهم سبب حركتها‪ .‬بل ألظهر كيف متكنا من استغالل هذه‬
‫النتائج حتى يف األبحاث الحديثة‪ .‬أبدأ بسابقة رائعة أنشأها العامل الربيطاين هرني كافنديش‪،‬‬
‫بعد ‪ 150‬عا ًما تقريبًا من اكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية‪.‬‬
‫زميال ما بعد الدكتوراه يف جامعة هارفارد‪ ،‬رسعان ما تعلمت‬
‫ً‬ ‫عندما تخرجت وأصبحت‬
‫قيًّم هناك‪ :‬قبل كتابة ورقة علمية‪ ،‬ال بد من التوصل إىل عنوان جذاب‪ .‬اعتقدت حينها أن‬
‫درسا ً‬
‫ً‬
‫ذلك كان اكتشافًا حديثًا يف العلوم‪ ،‬لكنني علمت منذ ذلك الحني أن له تقلي ًدا متمي ًزا‪ ،‬يعود عىل‬
‫األقل إىل كافنديش يف عام ‪.1798‬‬
‫يُذكر كافنديش إلجراءه أول تجربة قاست مبارش ًة يف املخترب الجذب الثقايل بني كتلتني‬
‫معروفتني‪ ،‬ما سمح له‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬بقياس قوة الجاذبية وتحديد قيمة ‪ .G‬عند تقديم نتائجه أمام‬
‫الجمعية امللكية مل يعنون ورقته البحثية «حول قياس قوة الجاذبية» أو «تحديد ثابت نيوتن‬
‫‪ .»G‬ال‪ ،‬دعاها «وزن األرض»‪.‬‬
‫كان هناك سب ًبا وجي ًها لهذا العنوان الجذاب‪ .‬بحلول ذلك الوقت‪ ،‬كان قانون نيوتن‬
‫مقبوال عامل ًيا‪ ،‬وكذلك الفرضية القائلة بأن قوة الجاذبية هذه هي املسؤولة عن الحركة‬
‫ً‬ ‫للجاذبية‬

‫‪71‬‬
‫املرصودة للقمر حول األرض‪ .‬عن طريق قياس املسافة إىل القمر (وهذا ما كان يتم بسهولة‪،‬‬
‫حتى يف القرن السابع عرش‪ ،‬من خالل مالحظة تغري الزاوية بني القمر واألفق عند رصده يف‬
‫نفس الوقت من موقعني مختلفني – نفس التقنية التي يستخدمها املساحون عند قياس‬
‫املسافات عىل األرض)‪ ،‬ومعرفة مدة دوران القمر –‪ 28‬يو ًما تقري ًبا– ميكن بسهولة حساب‬
‫رسعة القمر حول األرض‪ .‬اسمحوا يل أن أكرر أن نجاح نيوتن العظيم مل يقترص عىل تفسريه‬
‫لقانون كيبلر الذي ينص عىل أن رسعة األجسام التي تدور حول الشمس تتناسب عكس ًيا مع‬
‫الجذر الرتبيعي لبعدها عن الشمس‪ .‬إذ أظهر أيضً ا أن هذا القانون نفسه ميكن أن ينطبق عىل‬
‫حركة القمر وعىل األجسام التي تسقط عىل سطح األرض‪ .‬يشري قانونه للجاذبية إىل أن ثابت‬
‫التناسب يساوي حاصل رضب ‪ G‬يف كتلة الشمس يف الحالة األوىل‪ ،‬و‪ G‬مرضوبًا يف كتلة‬
‫األرض يف الحالة األخرية‪( .‬مل يثبت أب ًدا أن قيمة ‪ ،G‬يف الحقيقة‪ ،‬هي نفسها يف الحالتني‪ .‬كان‬
‫هذا تخمينًا مبن ًيا عىل افرتاض البساطة وعىل املالحظة التجريبية بأن قيمة ‪ G‬تبدو نفسها‬
‫بالنسبة لألشياء التي تسقط عىل سطح األرض واألشياء التي تسقط عىل القمر‪ ،‬وأن قيمة ‪G‬‬
‫املنطبقة عىل الكواكب التي تدور حول الشمس تبدو موحدة بالنسبة لجميع هذه الكواكب‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬فإن استقراء بسيط يشري إىل أن قيمة واحدة لـ‪ G‬قد تكون كافية لكل يشء‪).‬‬
‫عىل أية حال‪ ،‬من خالل معرفة املسافة بني القمر واألرض‪ ،‬ورسعة القمر حول األرض‪،‬‬
‫ميكنك إدخال قانون نيوتن وتحديد حاصل رضب ‪ G‬يف كتلة األرض‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإىل أن تعرف‬
‫قيمة ‪ G‬بشكل مستقل‪ ،‬لن تتمكن من استخالص كتلة األرض من هذا‪ .‬وهكذا‪ ،‬كان كافنديش‬
‫أيضً ا‪ ،‬أول من حدد قيمة ‪ ،G‬بعد ‪ 150‬عا ًما من اقرتاح نيوتن له‪ ،‬أول من متكن من تحديد كتلة‬
‫األرض‪( .‬يبدو األخري أكرث إثارةً‪ ،‬وكذلك عنوانه)‪.‬‬
‫مل نستفد من إدراك كافنديش الذيك لقيمة الصحافة الجيدة فحسب‪ ،‬بل أيضً ا من التقنية‬
‫التي ابتكرها لوزن األرض بدفعه قانون نيوتن إىل أقىص حد ممكن‪ .‬التي ما تزال تستخدم‬
‫اليوم‪ .‬تأيت أفضل قياسات لدينا لكتلة الشمس من نفس اإلجراء متا ًما‪ ،‬باستخدام املسافات‬
‫والرسعات املدارية املعروفة لكل كوكب‪ .‬يف الواقع‪ ،‬هذا اإلجراء جيد ج ًدا لدرجة أنه ميكننا‪ ،‬من‬
‫حيث املبدأ‪ ،‬قياس كتلة الشمس بدقة تصل إىل جزء من املليون‪ ،‬بنا ًء عىل البيانات الكوكبية‬
‫املوجودة‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬فإن ثابت نيوتن ‪ G‬هو أسوأ ثابت أسايس تم قياسه يف الطبيعة‪ .‬نحن‬

‫‪72‬‬
‫نعرفه بدقة جزء واحد فقط من ‪ 100,000‬أو نحو ذلك‪ .‬وبالتايل فإن معرفتنا بكتلة الشمس‬
‫تقترص عىل هذه الدقة‪.‬‬
‫بالتبعية‪ ،‬إن عدم يقيننا بشدة الجاذبية الدقيقة ال يحد من قدرتنا عىل قياس كتلة‬
‫الشمس فحسب‪ ،‬بل يحد أيضً ا من قدرتنا عىل سرب أصغر وأكرب املقاييس يف الكون‪ .‬ألنه‪ ،‬كًّم‬
‫سرنى‪ ،‬يتبني أنه عىل املقاييس الصغرية‪ ،‬أقل من نحو مليون من البوصة‪ ،‬ال منلك مسبا ًرا‬
‫رشا يوضح أن الجاذبية تترصف كًّم وصفها نيوتن‪ ،‬وما إذا كانت االنحرافات عن قانون‬
‫مبا ً‬
‫نيوتن للجاذبية قد توجد عىل هذه املقاييس وهو ما ميكن أن يلقي الضوء عىل احتًّمل وجود‬
‫أبعاد إضافية‪ ،‬إىل جانب األبعاد الثالثية للفضاء التي نعرفها ونحبها‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬عندما تسري األمور عىل ما يرام‪ ،‬ال تتوقف‪ .‬تدور شمسنا (وبالتايل نظامنا‬
‫الشميس) حول الحافة الخارجية ملجرة درب التبانة‪ ،‬ولذا ميكننا استخدام بعد الشمس املعروف‬
‫عن مركز املجرة (‪ 25,000‬سنة ضوئية تقري ًبا) ورسعتها املدارية املعروفة (‪ 150‬ميل‪/‬ثانية‬
‫تقري ًبا)‪ ،‬لـ«وزن» املجرة‪ .‬عندما نفعل ذلك‪ ،‬نجد أن كتلة املواد املحصورة داخل مدارنا تعادل‬
‫مئة مليار كتلة شمسية تقري ًبا‪ .‬وهذا أمر مشجع‪ ،‬ألن إجًّميل الضوء املنبعث من مجرتنا يعادل‬
‫تقري ًبا الضوء املنبعث من نحو مئة مليار نجم يشبه شمسنا بشكل أو بآخر‪( .‬توفر هاتان‬
‫املالحظتان األساس املنطقي لبياين السابق الذي يشري إىل وجود نحو مئة مليار نجم يف‬
‫مجرتنا)‪.‬‬
‫يحدث يشء رائع عندما نحاول توسيع هذا القياس من خالل رصد رسعة األجسام‬
‫وبدال من االنخفاض‪ ،‬كًّم ينبغي أن يحدث لو‬
‫املوجودة يف أماكن أبعد وأبعد عن مركز مجرتنا‪ً .‬‬
‫كانت كل كتلة مجرتنا مركزة يف املنطقة التي توجد بها النجوم املرصودة‪ ،‬تظل هذه الرسعة‬
‫ثابتةً‪ .‬يشري هذا إىل وجود كتلة أكرث بكثري خارج املنطقة التي تلمع فيها النجوم‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫تشري التقديرات الحالية إىل وجود ما ال يقل عن عرشة أضعاف ما تراه العني من األشياء! عالو ًة‬
‫عىل ذلك‪ ،‬فإن املالحظات املًّمثلة لحركات النجوم يف املجرات األخرى تشري جميعها إىل نفس‬
‫اليشء‪ .‬إن توسيع قانون نيوتن ليستخدم الحركة املرصودة للمجرات نفسها وسط مجموعات‬
‫وعناقيد املجرات يؤكد هذه الفكرة‪ .‬عندما نستخدم قانون نيوتن لوزن الكون‪ ،‬نجد أن ما ال يقل‬
‫عن ‪ %90‬من املادة فيه «مظلمة»‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫إن املالحظات التي تشري إىل أن الكتلة املجمعة يف الكون تهيمن عليها كًّم يبدو ما‬
‫نسميه املادة املظلمة هي صميم أحد أكرث األلغاز إثار ًة وتتب ًعا يف الفيزياء الحديثة‪ .‬سيتطلب‬
‫األمر كتابًا كامالً ليصف الجهود املبذولة لتحديد ماهية هذه األشياء وصفًا كاف ًيا (وبالصدفة‪،‬‬
‫كتبت كتابًا بالفعل)‪ .‬مع ذلك‪ ،‬أريد هنا أن أطلعكم عليها فقط وأن أوضح أن مشكلة البحث‬
‫الحديثة للغاية هذه تنبع من استغالل نفس التحليل متا ًما الذي استخدمه كافنديش منذ أكرث‬
‫من قرنني من الزمن لوزن األرض ألول مرة‪.‬‬
‫عند هذه النقطة‪ ،‬قد متيل إىل التساؤل عن سبب اعتقادنا أنه ميكننا دفع قانون نيوتن‬
‫حتى هذا الحد‪ .‬ففي النهاية‪ ،‬إن املطالبة بوجود مصدر جديد بالكامل للًّمدة غري املضيئة مللء‬
‫بدال من ذلك أن قانون نيوتن للجاذبية ال ينطبق‬
‫الكون تبدو أم ًرا مبالغًا فيه‪ .‬ملاذا ال نفرتض ً‬
‫عىل املقاييس املجرية واألكرب؟ رغم أن بعض الفيزيائيني اقرتحوا هذا االحتًّمل تحدي ًدا‪ ،‬آمل أن‬
‫تساعد حججي حتى هذه النقطة يف جعل سبب اعتقاد الفيزيائيون أن افرتاض كون مملوء‬
‫باملادة املظلمة أكرث تحفظًا من استبعاد قانون نيوتن أكرث قابلي ًة للفهم‪ .‬عملت الجاذبية‬
‫النيوتونية بشكل مثايل حتى اآلن لتفسري حركة كل يشء حرف ًيا تحت الشمس‪ .‬وليس لدينا أي‬
‫سبب لالعتقاد بأنها قد ال تنطبق عىل املقاييس األكرب‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬هناك تقليد متميز يف‬
‫فمثال‪ ،‬بعد اكتشاف كوكب أورانوس‪،‬‬
‫ً‬ ‫التغلب عىل التحديات األخرى املحتملة لقانون نيوتن‪.‬‬
‫أُدرك أن حركة هذا الجسم‪ ،‬أبعد جسم معروف عن الشمس يف نظامنا الشميس املعروف آنذاك‪،‬‬
‫ال ميكن متثيلها بالجاذبية النيوتونية القامئة عىل جذب الشمس والكواكب األخرى‪ .‬هل ميكن‬
‫أن تكون هذه أول إشارة إىل انهيار القانون العاملي؟ نعم‪ ،‬ولكن كان من األسهل افرتاض أن‬
‫حركته املرصودة قد تتأثر ببعض األجسام «املظلمة» غري املرئية حتى اآلن‪ .‬حددت الحسابات‬
‫الدقيقة باستخدام قانون نيوتن‪ ،‬التي أجريت يف القرن الثامن عرش‪ ،‬أين ميكن توجد مثل هذه‬
‫األجسام‪ .‬وعندما وجهت التلسكوبات نحو هذه املنطقة‪ ،‬رسعان ما اكتشف كوكب نبتون‪ .‬أدت‬
‫املالحظات الالحقة املًّمثلة لحركة نبتون إىل اكتشاف بلوتو صدف ًة يف عام ‪.1930‬‬
‫يشري مثال سابق إىل فائدة االلتزام بقانون ناجح‪ .‬يف أغلب األحيان‪ ،‬ميكن أن تؤدي‬
‫مواجهة التحديات الواضحة ملثل هذا القانون إىل اكتشافات فيزيائية جديدة ومثرية غري‬
‫فمثال‪ ،‬يف القرن السابع عرش‪ ،‬الحظ عامل الفلك الدمناريك‬
‫ً‬ ‫مرتبطة مبارش ًة بالقانون نفسه‪.‬‬
‫أويل رومر حركة أقًّمر املشرتي واكتشف حقيق ًة غريبةً‪ .‬ويف وقت معني من السنة‪ ،‬تعود‬

‫‪74‬‬
‫األقًّمر للظهور من خلف املشرتي قبل أربع دقائق تقري ًبا من املوعد املتوقع بتطبيق قانون‬
‫فشال‬
‫نيوتن مبارشةً‪ .‬وبعد ستة أشهر‪ ،‬تتأخر األقًّمر أربع دقائق‪ .‬استنتج رومر أن هذا مل يكن ً‬
‫رشا عىل حقيقة أن الضوء ينتقل برسعة محدودة‪ .‬رمبا تتذكر أن‬
‫لقانون نيوتن‪ ،‬وإمنا كان مؤ ً‬
‫الضوء يجتاز املسافة بني األرض والشمس يف نحو مثاين دقائق‪ .‬وهكذا‪ ،‬يف وقت معني من‬
‫السنة‪ ،‬تكون األرض أقرب إىل املشرتي بثًّمين «دقائق ضوئية» مًّم هي عليه عندما تكون عىل‬
‫الجانب اآلخر من مدارها حول الشمس‪ .‬وهذا يفرس فارق الثًّمن دقائق يف توقيت مدارات أقًّمر‬
‫املشرتي‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬متكن رومر بالفعل من تقدير رسعة الضوء بدقة‪ ،‬قبل أكرث من ‪200‬‬
‫عام من قياسها مبارشةً‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬رغم أننا مل نكن نعرف أنه ميكننا االستمرار يف وزن مناطق أكرب وأكرب من‬
‫الكون كًّم كنا قد وزنا األرض والشمس بالفعل‪ ،‬كان القيام بذلك هو الرهان األفضل‪ .‬ويوفر‬
‫أيضً ا أعظم أمل للتقدم‪ .‬قد تكون مالحظة حاسمة واحدة كافي ًة لدحض نظرية يف الفيزياء‪.‬‬
‫حاسًّم‪ .‬ميكن‬
‫ً‬ ‫ولكن الحركة املرصودة لألجسام يف مجرتنا وغريها من املجرات ليست اختبا ًرا‬
‫تفسريها بوجود املادة املظلمة‪ ،‬التي يوجد اآلن دعم متزامن لها يأيت من مجموعة حجج مستقلة‬
‫حول تكوين البنى واسعة النطاق يف الكون‪ .‬ستخربنا املالحظات اإلضافية ما إذا كانت مثابرتنا‬
‫العنيدة قامئ ًة عىل أسس سليمة‪ ،‬وبذلك قد نكتشف مًّم يتكون معظم الكون‪.‬‬
‫رسائال عديد ًة بعد تأليف الكتاب عن املادة املظلمة من أفراد كانوا مقتنعني بأن‬
‫ً‬ ‫تلقيت‬
‫حاسًّم لنظرياتهم الجديدة الجريئة‪ ،‬التي زعموا أن‬
‫ً‬ ‫دعًّم‬
‫ً‬ ‫املالحظات التي وصفتها قدمت‬
‫«املتخصصون» كانوا ضيقي األفق للغاية لدراستها‪ .‬أمتنى أن أمتكن من إقناعهم بأن االنفتاح‬
‫العقيل يف الفيزياء ينطوي عىل والء عنيد ألفكار مثبتة جي ًدا حتى يوجد دليل قاطع عىل‬
‫رضورة تجاوزها‪ .‬فمعظم الثورات الحيوية يف هذا القرن مل تعتمد عىل نبذ األفكار القدمية‬
‫بقدر ما اعتمدت عىل محاولة استيعابها واستخدام الحكمة الناتجة عنها يف مواجهة األلغاز‬
‫التجريبية أو النظرية القامئة‪ .‬وعىل حد تعبري فاينًّمن مر ًة أخرى‪ ،‬وهو نفسه أحد أكرث علًّمء‬
‫‪9‬‬
‫الفيزياء أصال ًة يف عرصنا‪« :‬اإلبداع العلمي هو خيال مقيد»‪.‬‬
‫لنتأمل الثورة األكرث شهر ًة رمبا يف الفيزياء يف هذا القرن‪ :‬تطوير آينشتاين لنظرية‬
‫النسبية الخاصة‪ .‬بينًّم ال ميكن إنكار أن نتيجة النسبية الخاصة تفرض مراجع ًة كامل ًة ملفاهيمنا‬
‫عن املكان والزمن‪ ،‬فإن أصل هذه الفكرة كان محاول ًة أقل طمو ً‬
‫حا لجعل قانونني فيزيائيني‬

‫‪75‬‬
‫مثبتني متسقني‪ .‬يف الواقع‪ ،‬كان الدافع الكامل لتحليل آينشتاين هو محاولة إعادة صياغة‬
‫الفيزياء الحديثة يف قالب يستوعب مبدأ النسبية لغاليليو‪ ،‬الذي طور قبل نحو ثالمثئة عام‪.‬‬
‫عند النظر إليه بهذه الطريقة‪ ،‬ميكن تأطري املنطق وراء نظرية أينشتاين بكل بساطة‪ .‬زعم‬
‫غاليليو أن وجود الحركة املنتظمة يتطلب أن تكون قوانني الفيزياء‪ ،‬كًّم يقيسها مراقب متحرك‬
‫حركة منتظمة –مبا يف ذلك املراقب الثابت– متطابقة‪ .‬ينطوي هذا عىل نتيجة مفاجئة‪ :‬من‬
‫املستحيل إجراء أي تجربة تثبت بشكل قاطع أنك يف حالة سكون‪ .‬ميكن ألي مراقب يتحرك‬
‫برسعة ثابتة بالنسبة إىل أي مراقب آخر أن يدعي أنه يف حالة سكون واآلخر متحرك‪ .‬ال ميكن‬
‫ألي تجربة ميكن إجراؤها أن متيز أيهًّم متحرك‪ .‬لقد مررنا جمي ًعا بهذه التجربة‪ .‬عندما تشاهد‬
‫القطار عىل املسار التايل من املسار الذي ستغادره‪ ،‬يكون من الصعب أحيانًا يف البداية معرفة‬
‫أي القطارين يتحرك‪( .‬بالطبع‪ ،‬إذا كنت مساف ًرا بالقطار يف الواليات املتحدة‪ ،‬فرسعان ما يصبح‬
‫سهال‪ .‬ما عليك سوى االنتظار حتى تشعر باملطبات‪).‬‬
‫ً‬ ‫األمر‬
‫رمبا كان التطور الرئييس لفيزياء القرن التاسع عرش هو وضع جيمس كالرك‬
‫ماكسويل‪ ،‬عامل الفيزياء النظرية املتميز يف عرصه‪ ،‬اللمسات األخرية عىل نظرية‬
‫كهرومغناطيسية كاملة‪ ،‬نظرية ترشح بشكل متسق جميع الظواهر الفيزيائية التي تحكم‬
‫حياتنا اآلن – من أصل التيارات الكهربائية إىل القوانني الكامنة وراء املولدات واملحركات‪.‬‬
‫وكانت مفخرة هذه النظرية هي أنها «تنبأت» بوجوب وجود الضوء‪ ،‬كًّم سأبني‪.‬‬
‫وخصوصا العامل‬
‫ً‬ ‫إن أعًّمل الفيزيائيني اآلخرين يف الجزء األول من القرن التاسع عرش‪،‬‬
‫الربيطاين مايكل فاراداي –تلميذ سابق يف مجال تجليد الكتب ترقى ليصبح مدي ًرا للمركز‬
‫الرئييس للعلوم الربيطانية‪ ،‬املعهد املليك– أنشأت عالق ًة رائع ًة بني القوى الكهربائية‬
‫واملغناطيسية‪ .‬ويف بداية القرن‪ ،‬بدا أن هاتني القوتني‪ ،‬املعروفتني جي ًدا لدى فالسفة الطبيعة‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬له دامئًا «قطبان»‪،‬‬
‫كانتا مختلفتني‪ .‬يف الواقع‪ ،‬للوهلة األوىل‪ ،‬إنهًّم كذلك‪ .‬فاملغناطيس‪ً ،‬‬
‫شًّميل وجنويب‪ .‬تجذب األقطاب الشًّملية األقطاب الجنوبية والعكس صحيح‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا‬
‫قطعت املغناطيس إىل نصفني‪ ،‬فلن تنتج قط ًبا شًّمل ًيا أو جنوب ًيا معزوالً ‪ .‬ستنتج مغناطيسني‬
‫حجًّم‪ ،‬لكل منهًّم قطبني‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬تأيت الشحنة الكهربائية يف نوعني‪،‬‬
‫ً‬ ‫جديدين أصغر‬
‫سًّمهًّم بن فرانكلني موج ًبا وسال ًبا‪ .‬تجذب الشحنات السالبة الشحنات املوجبة والعكس‬
‫صحيح‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬عىل عكس املغناطيس‪ ،‬ميكن عزل الشحنات املوجبة والسالبة بسهولة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫عىل مدار النصف األول من القرن‪ ،‬بدأت تظهر روابط جديدة بني الكهرباء‬
‫واملغناطيسية‪ .‬يف البداية‪ ،‬ثبت أن املجاالت املغناطيسية‪ ،‬أي املغناطيسات‪ ،‬ميكن أن تنشأ عن‬
‫طريق تحريك الشحنات الكهربائية‪ ،‬أي التيارات‪ .‬بعد ذلك تبني أن املغناطيس من شأنه أن‬
‫يحرف حركة الشحنة الكهربائية املتحركة‪ .‬ويف مفاجأة أكرب بكثري‪ ،‬تبني (بواسطة فاراداي‪،‬‬
‫وبشكل مستقل بواسطة الفيزيايئ األمرييك جوزيف هرني) أن املغناطيس املتحرك ميكنه يف‬
‫الواقع خلق مجال كهربايئ والتسبب يف تدفق التيار‪.‬‬
‫مثة قصة مثرية لالهتًّمم مرتبطة باألخرية‪ ،‬وال أستطيع مقاومة رسدها (خاص ًة يف هذه‬
‫األوقات من النقاش السيايس حول متويل مشاريع مثل امل ُصادم الفائق فائق التوصيل‪ ،‬الذي‬
‫سأتحدث عنه الحقًا)‪ .‬كان فاراداي‪ ،‬بصفته مدي ًرا للمعهد املليك‪ ،‬يجري بحثًا «رصفًا» — أي‬
‫أنه كان يحاول اكتشاف الطبيعة األساسية للقوى الكهربائية واملغناطيسية‪ ،‬وليس بالرضورة‬
‫مهًّم‪،‬‬
‫البحث عن تطبيقات تقنية محتملة‪( .‬كان هذا رمبا قبل العرص الذي كان هذا التمييز فيه ً‬
‫بكل األحوال)‪ .‬ولكن يف الواقع‪ ،‬أصبحت كل التقنية الحديثة ممكن ًة بفضل هذا البحث‪ :‬املبدأ‬
‫وراء توليد كل الطاقة الكهربائية اليوم‪ ،‬واملبادئ وراء مفهوم املحرك الكهربايئ‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫خالل فرتة عمل فاراداي كمدير للمعهد املليك‪ ،‬زار رئيس وزراء إنجلرتا مختربه‪ ،‬الذي أعرب‬
‫عن أسفه لهذا البحث املجرد وتساءل عالني ًة عًّم إذا كان مثة أي فائدة عىل اإلطالق لهذه الحيل‬
‫املبنية يف املخترب‪ .‬فأجاب فاراداي فوريًا بأن هذه النتائج مهمة للغاية‪ ،‬مهمة ج ًدا لدرجة أن‬
‫حكومة جاللة امللكة ستفرض عليها رضيبة يو ًما ما! لقد كان محقًا‪.‬‬
‫وبالعودة إىل نقطة تحول هذا التاريخ‪ ،‬بحلول منتصف القرن التاسع عرش كان من‬
‫الواضح أن هناك عالقة أساسية ما بني الكهرباء واملغناطيسية‪ ،‬ولكن مل تكن هناك صورة‬
‫موحدة لهاتني الظاهرتني متاح ًة بعد‪ .‬كانت مساهمة ماكسويل العظيمة هي توحيد القوى‬
‫الكهربائية واملغناطيسية يف نظرية واحدة – إلظهار أن هاتني القوتني املختلفتني كانتا يف‬
‫الحقيقة مجرد وجهني مختلفني لعملة واحدة‪ .‬عىل وجه الخصوص‪ ،‬وسع ماكسويل النتائج‬
‫السابقة ليجادل بشكل عام للغاية بأن أي مجال كهربايئ متغري سيخلق مجاالً مغناطيس ًيا‪،‬‬
‫مثال‪،‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬فإن أي مجال مغناطييس متغري سيخلق مجاالً كهربائ ًيا‪ .‬وهكذا‪ ،‬إذا قست‪ً ،‬‬
‫شحنة كهربائية يف حالة السكون‪ ،‬ستقيس مجاالً كهربائ ًيا‪ .‬إذا مررت بنفس الشحنة‪ ،‬ستقيس‬

‫‪77‬‬
‫مجاال مغناطيس ًيا‪ .‬ما تراه يعتمد عىل حالتك الحركية‪ .‬فاملجال الكهربايئ لشخص ما هو‬
‫ً‬ ‫أيضً ا‬
‫مجال مغناطييس لشخص آخر‪ .‬إنهًّم يف الحقيقة مجرد جانبان مختلفان لنفس اليشء!‬
‫وبقدر ما كانت هذه النتيجة مثري ًة لالهتًّمم للفلسفة الطبيعية‪ ،‬وجدت نتيجة أخرى‬
‫كانت رمبا أكرث أهميةً‪ .‬إذا هززت شحنة كهربائية ألعىل وألسفل‪ ،‬فسأنتج مجاالً مغناطيس ًيا‬
‫بسبب الحركة املتغرية للشحنة‪ .‬إذا كانت حركة الشحنة نفسها تتغري باستمرار‪ ،‬سأنتج يف‬
‫ريا‪ .‬وهذا املجال املغناطييس املتغري سينتج بدوره مجاالً كهربائ ًيا‬
‫مجاال مغناطيس ًيا متغ ً‬
‫ً‬ ‫الواقع‬
‫ريا‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬سيتحرك االضطراب أو‬
‫مجاال مغناطيس ًيا متغ ً‬
‫ً‬ ‫ريا‪ ،‬والذي بدوره سينتج‬
‫متغ ً‬
‫املوجة «الكهرومغناطيسية» نحو الخارج‪ .‬هذه نتيجة رائعة‪ .‬ولعل األكرث روع ًة هو حقيقة أن‬
‫ماكسويل متكن من حساب مدى الرسعة التي يجب أن يتحرك بها هذا االضطراب‪ ،‬مستن ًدا فقط‬
‫إىل الشدة املقاسة للقوى الكهربائية واملغناطيسية بني الشحنات الساكنة واملتحركة‪ .‬النتيجة؟‬
‫يجب أن تنترش موجة املجاالت الكهربائية واملغناطيسية املتحركة برسعة مطابقة لرسعة انتقال‬
‫الضوء‪ .‬وليس مستغربًا‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬أن يتبني أن الضوء ليس سوى موجة كهرومغناطيسية‪،‬‬
‫تعيني رسعتها بداللة ثابتني أساسيني يف الطبيعة‪ :‬شدة القوة الكهربائية بني الجسيًّمت‬
‫املشحونة وشدة القوة املغناطيسية بني املغناطيسات‪.‬‬
‫ال ميكنني املبالغة يف التأكيد عىل مدى أهمية هذا التطور للفيزياء‪ .‬لقد لعبت طبيعة‬
‫الضوء دو ًرا يف جميع التطورات الرئيسية يف الفيزياء يف هذا القرن‪ .‬يف الوقت الحايل أريد‬
‫الرتكيز عىل تطور واحد فقط‪ .‬كان أينشتاين بالطبع عىل دراية بنتائج ماكسويل حول‬
‫الكهرومغناطيسية‪ .‬ويعود له الفضل الكبري أيضً ا إلدراكه بوضوح أنها تتضمن مفارقة أساسية‬
‫تهدد باإلطاحة بفكرة النسبية الغاليلية‪.‬‬
‫أخربنا غاليليو أن قوانني الفيزياء يجب أن تكون مستقلة عن املكان الذي تقاس فيه‪،‬‬
‫مثال‪ ،‬أحدهًّم يف مخترب‬
‫طاملا أنك يف حالة حركة منتظمة‪ .‬وهكذا‪ ،‬ينبغي ملراقبني مختلفني‪ً ،‬‬
‫عىل منت قارب عائم برسعة ثابتة يف اتجاه مجرى النهر واآلخر يف مخترب مثبت عىل الشاطئ‪،‬‬
‫قياس شدة القوة الكهربائية بني الشحنات الكهربائية الثابتة املوجودة عىل بعد مرت واحد يف‬
‫مختربهًّم لتكون نفس الشدة متا ًما‪ .‬وباملثل‪ ،‬يجب قياس القوة بني مغناطيسني عىل بعد مرت‬
‫واحد لتكون هي نفسها برصف النظر عن املخترب الذي تقاس فيه‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬يخربنا ماكسويل أننا إذا هززنا شحنة ألعىل وألسفل‪ ،‬فسننتج دامئًا‬
‫موجة كهرومغناطيسية تتحرك بعي ًدا عنا برسعة تحددها قوانني الكهرومغناطيسية‪ .‬وبالتايل‪،‬‬
‫سريى املراقب املوجود عىل القارب الذي يهز شحنة ما موجة كهرومغناطيسية تنتقل بعي ًدا‬
‫بهذه الرسعة‪ .‬وباملثل‪ ،‬سينتج املراقب املوجود عىل األرض والذي يهز شحنة ما موجة‬
‫كهرومغناطيسية تتحرك بعي ًدا عنه بهذه الرسعة‪ .‬الطريقة الوحيدة التي ميكن بها أن تكون‬
‫هاتان الجملتان متسقتني ظاهريًا هي أن يقيس املراقب عىل األرض املوجة الكهرومغناطيسية‬
‫التي ينتجها املراقب املوجود عىل القارب لتكون لها رسعة مختلفة عن املوجة التي ينتجها هو‬
‫عىل األرض‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬كًّم أدرك أينشتاين‪ ،‬كانت هناك مشكلة يف ذلك‪ .‬لنفرتض أنني «أركب» بجوار‬
‫موجة ضوئية‪ ،‬مثلًّم اقرتح‪ ،‬برسعة هذه املوجة تقري ًبا‪ .‬أتخيل نفيس يف حالة سكون‪ ،‬وعندما‬
‫حقال كهربائ ًيا‬
‫أنظر إىل بقعة ثابتة بجواري‪ ،‬تنتقل عربها موجة كهرومغناطيسية ببطء‪ ،‬أرى ً‬
‫ريا يف تلك البقعة‪ .‬يخربين ماكسويل أن هذه املجاالت املتغرية يجب أن تولد‬
‫ومغناطيس ًيا متغ ً‬
‫موجة كهرومغناطيسية تنتقل نحو الخارج برسعة تحددها قوانني الفيزياء‪ ،‬ولكن بدالً من ذلك‬
‫كل ما أراه هو موجة تتحرك ببطء بجانبي‪.‬‬
‫وهكذا واجه أينشتاين املشكلة الواضحة التالية‪ .‬إما التخيل عن مبدأ النسبية‪ ،‬الذي يبدو‬
‫أنه يجعل الفيزياء ممكنة بالقول إن قوانني الفيزياء مستقلة عن املكان الذي تقاس فيه‪ ،‬طاملا‬
‫أنك يف حالة حركة منتظمة؛ أو التخيل عن نظرية ماكسويل الجميلة يف الكهرومغناطيسية‬
‫وبدال‬
‫واملوجات الكهرومغناطيسية‪ .‬ويف خطوة ثورية حقيقية‪ ،‬اختار أال يتخىل عن أي منهًّم‪ً .‬‬
‫من ذلك‪ ،‬ومع علمه بأن هذه األفكار األساسية كانت معقولة للغاية بحيث ال ميكن أن تكون‬
‫خاطئة‪ ،‬اتخذ قرا ًرا جريئًا بأنه يجب عىل املرء أن يفكر يف تغيري مفهومي املكان والزمن نفسهًّم‬
‫ملعرفة ما إذا كان ميكن تلبية هذين املطلبني املتناقضني ظاهريًا يف نفس الوقت‪.‬‬
‫كان حله بسيطًا للغاية‪ .‬الطريقة الوحيدة التي ميكن فيها أن يكون كل من غاليليو‬
‫وماكسويل عىل صواب يف نفس الوقت هي أن يقيس كال املراقبني رسعة املوجات‬
‫الكهرومغناطيسية التي ولدوها بأنفسهم لتكون القيمة التي تنبأ بها ماكسويل‪ ،‬وقياس رسعة‬
‫املوجات التي ولدها نظريهًّم لتكون نفس هذه الرسعة أيضً ا‪ .‬وهكذا‪ ،‬هذا ما يجب أن يحدث!‬

‫‪79‬‬
‫طفال يف سيارة‬
‫قد ال يبدو هذا املطلب غري ًبا‪ ،‬لكن فكر للحظة فيًّم يقرتحه‪ .‬إذا شاهدت ً‬
‫متر بجانبي وهو يتقيأ‪ ،‬فسأقيس رسعة القيء بالنسبة يل لتكون رسعة السيارة‪ ،‬مثالً ‪ 60‬ميالً‬
‫مثال‪ 5 ،‬أقدام يف الثانية‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫يف الساعة‪ ،‬باإلضافة إىل رسعة القيء بالنسبة للسيارة‪ً ،‬‬
‫فإن األم الجالسة يف املقعد األمامي للسيارة ستقيس رسعة القيء بالنسبة لها لتكون األخرية‬
‫فقط‪ ،‬أي ‪ 5‬أقدام يف الثانية‪ .‬ولكن‪ ،‬أخربين أينشتاين أنه لو سلط الطفل شعاع ليزر عىل والدته‬
‫بدال من القيء ستكون النتيجة مختلفةً‪ .‬يبدو أن النسبية الخاصة تتطلب أن أقيس رسعة شعاع‬
‫ً‬
‫الضوء بالنسبة يل لتكون الرسعة التي حسبها ماكسويل‪ ،‬وليس هذه الرسعة باإلضافة إىل ‪60‬‬
‫ميال يف الساعة‪ .‬وباملثل‪ ،‬ستقيس والدة الطفل أيضً ا نفس الرسعة‪.‬‬
‫ً‬
‫الطريقة الوحيدة ليكون هذا ممكنًا هي أن «تضبط» قياساتنا للمكان والزمن نفسها‬
‫بطريقة ما بحيث يقيس كل منا نفس الرسعة‪ .‬ففي النهاية‪ ،‬تقاس الرسعة بتحديد املسافة التي‬
‫يقطعها يشء ما خالل فرتة زمنية محددة‪ .‬إذا كانت املسطرة املوجودة يف السيارة املستخدمة‬
‫لقياس املسافة «تنكمش» بالنسبة إىل مسطريت‪ ،‬أو كانت الساعة التي تدق لقياس الوقت‬
‫تتباطأ بالنسبة إىل ساعتي‪ ،‬فسيكون ممكنًا لكلينا أن نسجل نفس الرسعة لشعاع الضوء‪ .‬يف‬
‫الواقع‪ ،‬تقول نظرية أينشتاين أن كال األمرين يحدثان! وعالو ًة عىل ذلك‪ ،‬تنص عىل أن األمور‬
‫متبادلة متا ًما‪ .‬أي‪ ،‬بالنسبة للمرأة يف السيارة‪« ،‬تنكمش» مسطريت وتتباطأ وساعتي بالنسبة‬
‫لها!‬
‫تبدو هذه الترصيحات سخيف ًة للغاية لدرجة أنه ال أحد يصدقها عند القراءة األوىل‪ .‬يف‬
‫تفصيال بكثري للتحقق من جميع مضامني ادعاء أينشتاين بأن‬
‫ً‬ ‫تحليال أكرث‬
‫ً‬ ‫الواقع‪ ،‬يتطلب األمر‬
‫رسعة الضوء يجب أن تقاس لتكون متساوية لجميع املراقبني وحل كل التناقضات الظاهرة‬
‫التي تفرتضها‪ .‬ومن هذه مضامني‪ ،‬الحقائق املقاسة اآلن التي تشري إىل أن الساعات املتحركة‬
‫تتباطأ‪ ،‬وأن الجسيًّمت املتحركة تبدو أكرث ضخامة‪ ،‬وأن رسعة الضوء هي الحد األقىص للرسعة‬
‫– فال يشء مادي ميكنه التحرك أرسع‪ .‬تنجم هذه منطق ًيا من التأكيد األول‪ .‬يف حني أن‬
‫أينشتاين يستحق بال شك الثناء عىل امتالكه الشجاعة والثبات ملتابعة كل هذه التبعات‪ ،‬لكن‬
‫املهمة الصعبة حقًا كانت التوصل إىل ادعائه حول ثبات الضوء يف املقام األول‪ .‬إنها شهادة‬
‫عىل جرأته وإبداعه‪ ،‬ليس ألنه اختار التخلص من القوانني القامئة التي نجحت بوضوح‪ ،‬بل‬
‫ألنه وجد طريقة مبتكرة للعيش يف إطارها‪ .‬مبدع ج ًدا‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬يبدو جنون ًيا‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫سأعود يف الفصل التايل إىل طريقة عرض نظرية أينشتاين بحيث تبدو أقل جنونًا‪ .‬لكن‬
‫أريد اآلن أن أترك هذا مبثابة تذكري ألي شخص أراد استخدام االدعاء القائل‪« :‬لقد قالوا إن‬
‫أينشتاين كان مجنونًا أيضً ا!» لتأكيد أفكارهم‪ :‬ما مل يفعله أينشتاين تحدي ًدا هو االدعاء بأن‬
‫قوانني الفيزياء املثبتة التي سبقته كانت خاطئة‪ .‬وإمنا أظهر أنها تعني يشء مل يقدر من قبل‪.‬‬
‫لقد فرضت نظرية النسبية الخاصة‪ ،‬إىل جانب ميكانيكا الكم‪ ،‬مراجعات عىل صورتنا‬
‫البديهية للواقع بشكل أعمق من أي تطورات أخرى يف القرن العرشين‪ .‬بني النظريتني‪ ،‬اهتزت‬
‫معقوال من خالل تغيري كيفية فهمنا لتلك الركائز التي يقوم عليها إدراكنا‪:‬‬
‫ً‬ ‫أسس ما نعتربه عاد ًة‬
‫مكرسا الستيعاب مضامني هذه‬
‫ً‬ ‫املكان والزمن واملادة‪ .‬وإىل حد كبري‪ ،‬كان باقي هذا القرن‬
‫التغيريات‪ .‬تطلب هذا يف بعض األحيان نفس القدر من النباهة وااللتزام مببادئ الفيزياء املثبتة‬
‫الذي كان مطلوبًا لتطوير النظريات نفسها‪ .‬إليكم مثال عىل ذلك يتعلق باالقرتان الدقيق بني‬
‫ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة‪ ،‬وهو ما أرشت إليه يف مناقشتي الجتًّمع شيلرت آيالند‪ :‬خلق‬
‫أزواج الجسيًّمت والجسيًّمت املضادة من العدم‪.‬‬
‫رغم أنني ذكرت ميكانيكا الكم عدة مرات‪ ،‬لكنني مل أناقش مبادئها بأي تفصيل بعد‪،‬‬
‫ومثة سبب وجيه لذلك‪ .‬كان الطريق إىل اكتشافها أقل مبارش ًة بكثري من الطريق إىل النسبية‪،‬‬
‫وإن الظواهر التي تنطبق عليها –يف عامل الفيزياء الذرية ودون الذرية– أقل شهرة أيضً ا‪ .‬رغم‬
‫ذلك‪ ،‬ومع استقرار األمور‪ ،‬ندرك اآلن أن ميكانيكا الكم مستمدة أيضً ا من تأكيد واحد بسيط –‬
‫يبدو مجنونًا أيضً ا‪ .‬إذا رميت كرة يف الهواء وأمسكها كلبي عىل بعد ‪ 20‬قد ًما‪ ،‬فيمكنني مشاهدة‬
‫الكرة أثناء انتقالها والتأكد من أن املسار الذي تتبعه هو املسار الذي تنبأت به امليكانيكا‬
‫الغاليلية‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬مع نقصان املسافات وأوقات االنتقال‪ ،‬يختفي هذا التأكد ببطء‪ .‬تؤكد قوانني‬
‫ميكانيكا الكم أنه إذا انتقل جسم ما من النقطة أ إىل النقطة ب‪ ،‬فال ميكنك الجزم بأنه يعرب‬
‫قط ًعا أي نقطة معينة بينهًّم!‬
‫إن الرد الطبيعي عىل هذا االدعاء هو أنه ميكن دحضه فوريًا‪ .‬ميكنني أن تسليط ضوء‬
‫عىل الجسم ورؤية أين يذهب! إذا سلطت «ضوء» بني أ و ب‪ ،‬ميكنك اكتشاف الجسم‪،‬‬
‫فمثال‪ ،‬إذا وضعت سلسلة من كواشف اإللكرتون‬
‫ً‬ ‫كاإللكرتون‪ ،‬يف نقطة معينة‪ ،‬ج‪ ،‬بني االثنني‪.‬‬
‫عىل طول خط يفصل بني أ و ب‪ ،‬سينقر واح ًدا منها فقط أثناء مرور الجسيم‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫إذًا ماذا يحدث للتأكيد األصيل إذا كان بإمكاين عىل ما يبدو دحضه بسهولة؟ حسنًا‪،‬‬
‫الطبيعة دقيقة‪ .‬ميكنني بالتأكيد اكتشاف مرور جسيم مثل اإللكرتون‪ ،‬ولكن ال ميكنني فعل‬
‫فمثال‪ ،‬إذا أرسلت شعا ًعا من اإللكرتونات نحو شاشة فسفورية‪ ،‬كشاشة‬
‫ً‬ ‫ذلك دون عقاب!‬
‫التلفزيون‪ ،‬ستيضء مناطق من الشاشة عند اصطدامها بها‪ .‬ميكنني بعد ذلك وضع حاجز يف‬
‫الطريق إىل الشاشة مع شقني ضيقني متجاورين أمام الشعاع‪ ،‬بحيث ال بد من أن متر‬
‫اإللكرتونات عرب أحدهًّم أو اآلخر للوصول إىل الشاشة‪ .‬لتحديد عرب أي منهًّم مير كل إلكرتون‬
‫فردي‪ ،‬ميكنني تثبيت كاشف عند كل شق‪ .‬ليحدث حينها اليشء األروع‪ .‬إذا مل أقس اإللكرتونات‬
‫أثناء مرورها عرب الشقني‪ ،‬أرى منطًا واح ًدا عىل الشاشة‪ .‬إذا قستها واح ًدا تلو اآلخر‪ ،‬ألمتكن‬
‫من التأكد من املسار الذي يتبعه كل منها‪ ،‬يتغري النمط الذي أراه عىل الشاشة‪ .‬إن إجراء القياس‬
‫يغري النتيجة! وبالتايل‪ ،‬بينًّم ميكنني التأكيد بثقة عىل أن كل إلكرتون أكتشفه مير يف الواقع‬
‫عرب أحد الشقني‪ ،‬ال ميكنني التوصل بهذا إىل أي استنتاج بشأن اإللكرتونات التي ال أكتشفها‪،‬‬
‫التي يتضح أن لها سلوكًا مختلفًا‪.‬‬
‫يعتمد مثل هذا السلوك عىل حقيقة أن قوانني ميكانيكا الكم تتطلب عند مستوى أسايس‬
‫فمثال‪ ،‬مثة حد مطلق لقدرتنا عىل قياس‬
‫ً‬ ‫معني عدم يقني متأصل يف قياس العمليات الطبيعية‪.‬‬
‫موضع جسيم متحرك ويف نفس الوقت معرفة رسعته (وبالتايل إىل أين يتجه)‪ .‬كلًّم قست‬
‫أحدها بدقة أكرب‪ ،‬قلت دقة معرفة اآلخر‪ .‬إن عملية القياس‪ ،‬ألنها تخل بالنظام‪ ،‬تغريه‪ .‬يف‬
‫املقاييس البرشية العادية‪ ،‬تكون هذه االضطرابات صغرية ج ًدا بحيث ال تالحظ‪ .‬لكن يف‬
‫املقاييس الذرية‪ ،‬ميكن أن تصبح مهمة‪ .‬حصلت ميكانيكا الكم عىل اسمها ألنها تستند إىل فكرة‬
‫أن الطاقة ال ميكن نقلها بكميات صغرية عىل نحو اعتباطي‪ ،‬وإمنا تأيت يف مضاعفات لبعض‬
‫أصغر «الكميات» أو ‪( quanta‬من األملانية)‪ .‬هذا الكم األصغر يشبه طاقات الجسيًّمت يف‬
‫األنظمة الذرية‪ ،‬وبالتايل عندما نحاول قياس مثل هذه الجسيًّمت‪ ،‬نضطر دامئًا للقيام بذلك‬
‫عن طريق السًّمح بنقل بعض اإلشارات التي تكون بنفس مقدار طاقتها األولية‪ .‬بعد النقل‪،‬‬
‫ستتغري طاقة النظام‪ ،‬وكذلك حركات الجسيًّمت املعنية‪ .‬إذا قست نظام ما لفرتة طويلة ج ًدا‪،‬‬
‫فإن متوسط طاقة النظام سيظل ثاب ًتا إىل حد ما‪ ،‬حتى لو تغري فجأ ًة من وقت آلخر خالل‬
‫عملية القياس‪ .‬وهكذا نصل إىل «عالقة عدم يقني» أخرى شهرية‪ :‬كلًّم أردت قياس طاقة نظام‬
‫ما بدقة أكرب‪ ،‬طالت مدة قياسه‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫تشكل عالقات عدم اليقني هذه جوهر السلوك امليكانييك الكمومي‪ .‬لقد وضحها ألول‬
‫مرة الفيزيايئ األملاين فرينر هايزنربغ‪ ،‬أحد مؤسيس نظرية ميكانيكا الكم‪ .‬كان هايزنربغ‪ ،‬مثل‬
‫غريه من العباقرة الذين شاركوا يف تطوير هذه النظرية خالل عرشينيات وثالثينيات القرن‬
‫العرشين‪ ،‬فيزيائ ًيا رائ ًعا‪ .‬يرص بعض زماليئ عىل أنه يأيت يف املرتبة الثانية بعد أينشتاين يف‬
‫تأثريه عىل الفيزياء يف هذا القرن‪ .‬ولكن لسوء الحظ‪ ،‬فإن سمعة هايزنربغ الشعبية مشوهة‬
‫اليوم إىل حد ما ألنه ظل شخصي ًة علمي ًة بارز ًة حتى يف أيام أملانيا النازية‪ .‬ليس واض ًحا عىل‬
‫اإلطالق أنه دعم علنًا النظام النازي أو مجهوده الحريب‪ .‬ولكنه‪ ،‬عىل نقيض عدد من زمالئه‪،‬‬
‫مل يعمل بنشاط ضده‪ .‬عىل أية حال‪ ،‬فإن عمله يف ميكانيكا الكم –وخاص ًة توضيحه ملبدأ عدم‬
‫غري إىل األبد الطريقة التي نفهم بها العامل الفيزيايئ‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬مل تؤثر أي‬
‫اليقني– ّ‬
‫نتيجة فيزيائية عىل األرجح يف هذا القرن بهذه القوة عىل الفلسفة‪.‬‬
‫افرتضت امليكانيكا النيوتونية حتمية كاملة‪ .‬تشري قوانني امليكانيكا إىل أنه ميكن للمرء‪،‬‬
‫من حيث املبدأ‪ ،‬التنبؤ متا ًما بالسلوك املستقبيل لنظام من الجسيًّمت (مبا يف ذلك الجسيًّمت‬
‫املكونة للدماغ البرشي) مع معرفة كافية مبواقع وحركات جميع الجسيًّمت يف أي وقت‪ .‬غريت‬
‫عالقات عدم اليقني يف ميكانيكا الكم كل ذلك فجأةً‪ .‬فإذا أخذ املرء لقطة تعطي معلومات دقيق ًة‬
‫عن مواقع جميع الجسيًّمت يف نظام ما‪ ،‬فإنه يخاطر بفقدان جميع املعلومات حول املكان‬
‫الذي تتجه إليه تلك الجسيًّمت‪ .‬مع هذه الخسارة الواضحة يف الحتمية –مل يعد املرء قاد ًرا عىل‬
‫تقديم تنبؤات دقيقة متا ًما حول السلوك املستقبيل لجميع األنظمة‪ ،‬حتى من حيث املبدأ– جاءت‬
‫اإلرادة الحرة‪ ،‬عىل األقل يف أذهان الكثري من الناس‪.‬‬
‫يف حني أن مبادئ ميكانيكا الكم أثارت حًّمس العديد من غري الفيزيائيني‪ ،‬وخاص ًة‬
‫الفالسفة‪ ،‬فمن الجدير باملالحظة أن جميع املضامني الفلسفية مليكانيكا الكم ذات تأثري ضئيل‬
‫ج ًدا‪ ،‬إن وجد‪ ،‬عىل الفيزياء‪ .‬كل ما يجب عىل الفيزيائيني مراعاته هو قواعد اللعبة‪ .‬والقواعد‬
‫هي أن عدم اليقني يف القياسات متأصل يف الطبيعة وقابل للحساب‪ .‬مثة طرق عديدة ملحاولة‬
‫وصف أصل عدم اليقني هذا‪ ،‬ولكن كالعادة‪ ،‬فإن الطرق الوحيدة املتسقة متا ًما (وهناك‪،‬‬
‫كالعادة‪ ،‬عدد من الطرق املختلفة ولكن املتكافئة) هي طرق رياضية‪ .‬توجد صيغة رياضية‬
‫واحدة قابلة للتصور بشكل خاص‪ ،‬ويعود الفضل فيها إىل ريتشارد فاينًّمن دون سواه‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫كانت إحدى أعظم مساهًّمت فاينًّمن يف الفيزياء هي إعادة تفسري قوانني ميكانيكا‬
‫الكم فيًّم يتعلق مبا يعرف يف الرياضيات بتكامالت املسار عىل غرار مبدأ فريما للضوء الذي‬
‫ناقشته يف الفصل السابق‪ .‬إن ما بدأ كمخطط حسايب «مجرد» أثر اآلن عىل الطريقة التي‬
‫يتصور بها جيل كامل من الفيزيائيني ما يفعلونه‪ .‬حتى أنه قدم خدع ًة رياضي ًة تسمى «الزمن‬
‫التخييل»‪ ،‬التي أشار إليها ستيفن هوكينغ يف كتابه الشهري تاريخ موجز للزمن‪.‬‬
‫توفر تكامالت املسار لفاينًّمن قواعد لحساب العمليات الفيزيائية يف ميكانيكا الكم‪،‬‬
‫وهي تسري عىل هذا النحو‪ .‬عند تحرك جسيم من نقطة أ إىل نقطة ب‪ ،‬تخيل جميع املسارات‬
‫املمكنة التي ميكن أن يسلكها‪:‬‬

‫يربط املرء بكل مسار نوع من االحتًّملية بأن يسلكه الجسيم‪ .‬الجزء الصعب هو حساب‬
‫االحتًّملية املرتبطة مبسار معني‪ ،‬وهذا هو الغرض من جميع األدوات الرياضية مثل الزمن‬
‫التخييل‪ .‬لكن هذا ليس ما يهمني هنا‪ .‬بالنسبة األجسام العيانية (التي تكون كبرية مقارن ًة‬
‫احتًّمال‬
‫ً‬ ‫باملقياس الذي تصبح فيه التأثريات الكمومية مهمةً) يجد املرء أن مسا ًرا واح ًدا هو األكرث‬
‫بشكل ساحق مقارن ًة بأي مسار آخر‪ ،‬وميكن تجاهل جميع املسارات األخرى‪ .‬هذا هو املسار‬
‫الذي تتنبأ به قوانني امليكانيكا الكالسيكية‪ ،‬وهذا يفرس سبب وصف قوانني الحركة املرصودة‬
‫لألجسام العيانية بشكل جيد للغاية بواسطة امليكانيكا الكالسيكية‪ .‬ولكن بالنسبة للجسيًّمت‬
‫ريا عن‬
‫املتحركة عىل املقاييس حيث ميكن مليكانيكا الكم تقديم تنبؤات مختلفة اختالفًا كب ً‬
‫امليكانيكا الكالسيكية‪ ،‬قد توجد عدة مسارات مختلفة محتملة بنفس القدر‪ .‬يف هذه الحالة‪،‬‬
‫سيعتمد االحتًّمل النهايئ النتقال جسيم من أ إىل ب عىل النظر يف أكرث من مسار محتمل‪.‬‬
‫جسيًّم يبدأ من أ سينتهي عند ب‪ K‬يعتمد عىل‬
‫ً‬ ‫اآلن‪ ،‬يتبني أن هذا االحتًّمل النهايئ‪ K‬بأن‬
‫مجموع «االحتًّمالت» الفردية لجميع املسارات املمكنة‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫أساسا عن امليكانيكا الكالسيكية هو أن هذه‬ ‫ً‬ ‫ما يجعل ميكانيكا الكم مختلفة‬
‫«االحتًّمالت» كًّم تم حسابها تحمل اختالفًا أساس ًيا واح ًدا عن االحتًّمالت الفيزيائية الفعلية كًّم‬
‫نع ّرفها عادةً‪ .‬بينًّم تكون االحتًّمالت العادية موجبة دامئًا‪ ،‬ميكن أن تكون «احتًّمالت» املسارات‬
‫الفردية يف ميكانيكا الكم سالبة‪ ،‬أو حتى «تخيلية»‪ ،‬أي رقم مربعه سالب! (إذا كنت ال تحب‬
‫التفكري يف االحتًّمالت التخيلية‪ ،‬ميكنك التخلص من هذه امليزة بتخيل عامل يكون فيه «الزمن»‬
‫رقًّم تخيل ًيا‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬ميكن كتابة جميع االحتًّمالت كأرقام موجبة‪ .‬ومن هنا جاء‬
‫ً‬
‫مصطلح زمن تخييل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال يلزم مزيد من الرشح لهذه املشكلة هنا‪ .‬الزمن التخييل هو‬
‫مجرد تركيب ريايض مصمم ملساعدتنا يف التعامل مع رياضيات ميكانيكا الكم‪ ،‬وليس أكرث‪).‬‬
‫ال توجد مشكلة يف حساب االحتًّمل الفيزيايئ الفعيل النهايئ النتقال الجسيم من أ إىل ب‪،‬‬
‫ألنه بعد جمع «االحتًّمالت» امليكانيكية الكمومية الفردية لكل مسار‪ ،‬تطلب قوانني ميكانيكا‬
‫الكم تربيع النتيجة بطريقة يكون فيها االحتًّمل الفيزيايئ الفعيل دامئًا عد ًدا موج ًبا‪.‬‬
‫النقطة املهمة يف هذا كله هي أنني أستطيع أن أفكر يف «االحتًّمالت» املرتبطة مبسارين‬
‫مختلفني‪ ،‬كل منهًّم‪ ،‬عندما يؤخذ عىل حدة‪ ،‬قد يؤدي إىل احتًّمل نهايئ غري صفري‪ ،‬ولكن‬
‫عند جمعهًّم م ًعا‪ ،‬يُلغيان ليعطيا نتيجة صفرية‪ .‬وهذا هو بالضبط ما ميكن أن يحدث‬
‫لإللكرتونات التي تنتقل إىل الشاشة الفوسفورية عرب الشقني‪ .‬إذا نظرت إىل نقطة معينة عىل‬
‫الشاشة‪ ،‬وغطيت أحد الشقني‪ ،‬أجد أن هناك احتًّمالً غري صفري التخاذ اإللكرتون مسا ًرا من أ‬
‫إىل ب عرب هذا الشق ووصوله إىل الشاشة‪:‬‬

‫وباملثل‪ ،‬هناك احتًّمل غري صفري النتقاله من أ إىل ب إذا غطيت الشق اآلخر‪:‬‬

‫‪85‬‬
‫ولكن‪ ،‬إذا سمحت بكال املسارين املحتملني‪ ،‬فإن االحتًّمل النهايئ لالنتقال من أ إىل ب‪،‬‬
‫بنا ًء عىل مجموع «االحتًّمالت» امليكانيكية الكمومية لكل مسار‪ ،‬ميكن أن يكون صف ًرا‪:‬‬

‫التجسيد الفيزيايئ لهذا بسيط‪ .‬إذا غطيت أيًا من الشقني‪ ،‬سأرى نقطة ساطعة تظهر‬
‫عىل الشاشة عند النقطة ب عندما أرسل اإللكرتونات عربه واحد تلو اآلخر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا تركت‬
‫حا‪ ،‬تظل الشاشة مظلم ًة عند ب‪ .‬فرغم أن إلكرتونًا واح ًدا فقط ينتقل إىل الشاشة‬
‫كليهًّم مفتو ً‬
‫يف كل مرة‪ ،‬فإن احتًّمل الوصول إىل ب يعتمد عىل توفر كال املسارين‪ ،‬كًّم لو أن اإللكرتون‬
‫«مير عرب» كال الشقني بطريقة ما! عندما نتحقق ملعرفة ما إذا كان هذا هو الحال‪ ،‬بوضع كاشف‬
‫عىل كل من الشقني‪ ،‬نجد أن اإللكرتونات متر عرب أحدهًّم أو اآلخر‪ ،‬لكن النقطة ب اآلن ساطعة!‬
‫إن اكتشاف اإللكرتون‪ ،‬وإجباره عىل فضح وجوده‪ ،‬أو االختيار إن شئت‪ ،‬له نفس تأثري إغالق‬
‫أحد الشقني‪ :‬إنه يغري القواعد!‬
‫لقد تحملت عناء وصف ذلك بيشء من التفصيل‪ ،‬ليس فقط لتعريفكم بظاهرة أساسية‬
‫للطريقة التي يوجد بها العامل عند املقاييس الذرية‪ .‬وإمنا أريد أن أصف كيف تفرض علينا‪،‬‬
‫بالتمسك بإرصار بهذه النتيجة الجامحة واملثبتة‪ ،‬ومبضامني النسبية الخاصة‪ ،‬تبعات كان من‬
‫الصعب حتى عىل أولئك الذين تنبأوا بها ألول مرة قبولها‪ .‬لكن الفيزياء تتقدم بدفع النظريات‬
‫املثبتة إىل أقىص الحدود‪ ،‬وليس بالتخيل عنها ملجرد أن األمور تزداد صعوبةً‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫إن كنا نعتقد أن اإللكرتونات‪ ،‬أثناء انتقالها‪« ،‬تستكشف» جميع املسارات املتاحة لها‪،‬‬
‫منيع ًة ضد قدرتنا عىل مراقبتها‪ ،‬فيجب أن نقبل احتًّمل أن تكون بعض هذه املسارات‬
‫«مستحيلةً» لو كانت قابلة للقياس‪ .‬وعىل وجه الخصوص‪ ،‬نظ ًرا ألن حتى القياسات الدقيقة‬
‫املتكررة ملوضع الجسيم يف أوقات متتالية ال ميكنها تحديد رسعته بشكل مؤكد بني هذه‬
‫األوقات‪ ،‬وفقًا ملبدأ عدم اليقني‪ ،‬فقد يكون ممكنًا أن يتحرك الجسيم برسعة أكرب من رسعة‬
‫الضوء ألوقات قصرية ج ًدا‪ .‬اآلن‪ ،‬إحدى التبعات األساسية للعالقة الخاصة بني املكان والزمن‬
‫التي اقرتحها أينشتاين –أذكرك‪ ،‬للتوفيق بني الثبات املطلوب لرسعة الضوء لجميع املراقبني–‬
‫هي أنه ال ميكن قياس أي يشء ينتقل برسعة أكرب من رسعة الضوء‪.‬‬
‫وصلنا اآلن إىل السؤال الشهري‪ :‬لو سقطت شجرة يف الغابة ومل يكن هناك من يسمعها‪،‬‬
‫فهل تصدر صوتًا؟ أو‪ ،‬رمبا أكرث صلة بهذا النقاش‪ :‬لو انتقل جسيم أويل رسعته املتوسطة‬
‫املقاسة أقل من رسعة الضوء مؤقتًا برسعة أكرب من رسعة الضوء لفرتة قصرية ج ًدا بحيث ال‬
‫ميكنني قياسها مبارشةً‪ ،‬فهل ميكن أن يكون لهذا أي تبعات ملحوظة؟ الجواب نعم يف‬
‫الحالتني‪.‬‬
‫تربط النسبية الخاصة املكان والزمن ارتباطًا وثيقًا لدرجة أنها تقيد الرسعات‪ ،‬التي‬
‫تربط املسافة املقطوعة بزمن معني‪ .‬إنها نتيجة حتمية للروابط الجديدة بني املكان والزمن التي‬
‫فرضتها النسبية‪ ،‬ألنه لو تم قياس جسم ينتقل برسعة أكرب من رسعة الضوء بواسطة مجموعة‬
‫واحدة من املراقبني‪ ،‬ميكن قياسه من قبل مراقبني آخرين بأنه يرجع يف الزمن! هذا أحد األسباب‬
‫مثال‪ ،‬كًّم يعرف جميع كتاب الخيال العلمي‪،‬‬
‫التي متنع مثل هذا االنتقال (وإال ستنتهك السببية‪ً ،‬‬
‫ميكن أن تحدث مثل هذه االحتًّمالت غري املقبولة‪ ،‬مثل إطالق النار عىل جديت قبل أن أولد!)!‬
‫تبدو ميكانيكا الكم وكأنها تشري إىل أن الجسيًّمت ميكنها‪ ،‬من حيث املبدأ‪ ،‬االنتقال أرسع من‬
‫الضوء لفرتات قصرية ج ًدا لدرجة أنني ال أستطيع قياس رسعتها‪ .‬طاملا أنني ال ميكنني قياس‬
‫هذه الرسعات مبارشةً‪ ،‬فليس هناك انتهاك عميل للنسبية الخاصة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا كان من‬
‫املفرتض أن تظل النظرية الكمومية متوافق ًة مع النسبية الخاصة‪ ،‬فيجب أن تكون هذه‬
‫الجسيًّمت قادرةً‪ ،‬خالل هذه الفرتات‪ ،‬حتى لو مل أمتكن من قياسها‪ ،‬عىل الترصف كًّم لو كانت‬
‫تنتقل إىل الوراء يف الزمن‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫ماذا يعني هذا عمل ًيا؟ حسنًا‪ ،‬دعونا نرسم مسار اإللكرتون كًّم يراه مراقب افرتايض قد‬
‫يشاهد هذه القفزة اللحظية يف الزمن‪:‬‬

‫إذا كان هذا املراقب يسجل مالحظاته يف اللحظات الثالث املرقمة ‪ ،3 ،2 ،1‬سيقيس‬
‫جسيًّم واح ًدا عند ‪ .3‬بعبار ٍة‬
‫ً‬ ‫جسيًّم واح ًدا يف اللحظة ‪ ،1‬وثالثة جسيًّمت يف ‪ ،2‬ومر ًة أخرى‬
‫ً‬
‫أخرى‪ ،‬إن عدد الجسيًّمت املوجودة يف أي وقت لن يكون ثاب ًتا! قد يكون هناك أحيانًا إلكرتون‬
‫يتحرك يف طريقه املرح‪ ،‬ويف أوقات أخرى قد يكون هذا اإللكرتون مصحوبًا باثنني آخرين‪،‬‬
‫رغم أن أحدهًّم يبدو أنه يرجع يف الزمن‪.‬‬
‫ولكن ماذا يعني أن نقول إن اإللكرتون يرجع يف الزمن؟ حسنًا‪ ،‬أعرف أن الجسيم هو‬
‫إلكرتون من خالل قياس كتلته وشحنته الكهربائية‪ ،‬التي تكون سالبة‪ .‬ميثل اإللكرتون الذي‬
‫ينتقل من املوضع ب يف وقت معني إىل املوضع أ يف وقت سابق تدفق الشحنة السالبة من‬
‫اليسار إىل اليمني عند رجوعي يف الزمن‪ .‬بالنسبة للمراقب الذي يتقدم يف الزمن‪ ،‬كًّم يفعل‬
‫املراقبون عادةً‪ ،‬يسجل ذلك عىل أنه تدفق للشحنة املوجبة من اليمني إىل اليسار‪ .‬وبالتايل‪،‬‬
‫سيقيس مراقبنا بالفعل ثالثة جسيًّمت موجودة يف األوقات بني ‪ 1‬و‪ ،3‬وكلها ستبدو وكأنها‬
‫تتقدم يف الزمن‪ ،‬لكن أحد هذه الجسيًّمت‪ ،‬الذي سيكون له نفس كتلة اإللكرتون‪ ،‬سيكون له‬
‫شحنة موجبة‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬تصور سلسلة األحداث يف املخطط السابق عىل النحو التايل‪:‬‬

‫‪88‬‬
‫ومن وجهة النظر هذه‪ ،‬تبدو الصورة أقل غراب ًة بعض اليشء‪ .‬يف اللحظة ‪ ،1‬يرى املراقب‬
‫إلكرتونًا يتحرك من اليسار إىل اليمني‪ .‬يف املوضع أ‪ ،‬يف وقت ما بني ‪ 1‬و‪ ،2‬يرى املراقب فجأ ًة‬
‫جا إضاف ًيا من الجسيًّمت يظهر من العدم‪ .‬يتحرك أحد الجسيمني‪ ،‬ذو الشحنة املوجبة‪ ،‬نحو‬
‫زو ً‬
‫اليسار‪ ،‬واآلخر ذو الشحنة السالبة‪ ،‬يتحرك نحو اليمني‪ .‬وبعد مرور بعض الوقت‪ ،‬يف املوضع‬
‫ب‪ ،‬يصطدم الجسيم املوجب الشحنة باإللكرتون األصيل ويختفيان‪ ،‬تاركني فقط اإللكرتون‬
‫«الجديد» مستم ًرا يف التحرك يف طريقه املرح من اليسار إىل اليمني‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬كًّم قلت‪ ،‬ال ميكن ألي مراقب قياس رسعة اإللكرتون األصيل خالل الفرتة الزمنية‬
‫بني ‪ 1‬و‪ ،3‬وبالتايل ال ميكن ألي مراقب فيزيايئ أن يقيس مبارش ًة هذا «الخلق» التلقايئ‬
‫الظاهري للجسيًّمت من العدم‪ ،‬متا ًما كًّم لن يتمكن أي مراقب أب ًدا من قياس أن الجسيم األصيل‬
‫ينتقل أرسع من الضوء‪ .‬ولكن سواء كنا قادرين عىل قياسه مبارش ًة أم مل نكن‪ ،‬إذا كانت قوانني‬
‫ميكانيكا الكم تسمح بهذا االحتًّمل‪ ،‬فيجب‪ ،‬إذا أريد لها أن تكون متسق ًة مع النسبية الخاصة‪،‬‬
‫أن تسمح بالخلق والتدمري التلقايئ ألزواج الجسيًّمت عىل مقاييس زمنية قصرية لدرجة أننا‬
‫ال نستطيع قياس وجودها مبارشةً‪ .‬نسمي هذه الجسيًّمت جسيًّمت افرتاضي ًة‪ .‬وكًّم بينت يف‬
‫الفصل األول‪ ،‬قد ال تكون العمليات مثل تلك املوضحة أعاله قابلة للمالحظة مبارشةً‪ ،‬لكنها ترتك‬
‫بصمة غري مبارشة عىل العمليات التي ميكن مالحظتها مبارشةً‪ ،‬والتي متكن بيته وزمالؤه من‬
‫حسابها‪.‬‬
‫كتبت املعادلة التي دمجت قوانني ميكانيكا الكم كًّم تنطبق عىل اإللكرتونات مع النسبية‬
‫الخاصة ألول مرة يف عام ‪ 1928‬بواسطة الفيزيايئ الربيطاين قليل الكالم بول أدريان موريس‬
‫ديراك‪ ،‬أحد أفراد املجموعة التي ساعدت يف اكتشاف قوانني ميكانيكا الكم قبل عدة سنوات‪،‬‬
‫والذي أصبح يف النهاية أستاذًا لوكاسيًا للرياضيات‪ ،‬منصب شغله اآلن هوكينغ وشغله نيوتن‬

‫‪89‬‬
‫سابقًا‪ .‬هذه النظرية املركبة‪ ،‬التي تسمى الكهروديناميكا الكمومية‪ ،‬والتي شكلت موضوع‬
‫اجتًّمع شيلرت آيالند الشهري‪ ،‬مل تفهم بالكامل إال بعد عرشين عا ًما تقري ًبا‪ ،‬وذلك بفضل عمل‬
‫فاينًّمن وآخرين‪.‬‬
‫ال ميكن أن يكون هناك فيزيائيان أكرث اختالفًا من ديراك وفاينًّمن‪ .‬فبقدر ما كان‬
‫فاينًّمن منفت ًحا‪ ،‬كان ديراك منطويًا‪ .‬كان بول االبن األوسط ملعلم سويرسي للغة الفرنسية يف‬
‫بريستول‪ ،‬إنجلرتا‪ ،‬أُجرب بول الشاب عىل اتباع قاعدة والده يف مخاطبته بالفرنسية ح ً‬
‫رصا‪،‬‬
‫حتى يتعلم الصبي تلك اللغة‪ .‬ومبا أن بول مل يستطع التعبريعن نفسه جي ًدا بالفرنسية‪ ،‬اختار‬
‫التزام الصمت‪ ،‬ورافقه هذا امليل بقية حياته‪ .‬يقال (وقد يكون صحي ًحا) أن نيلز بور‪ ،‬أشهر‬
‫فيزيايئ يف عرصه‪ ،‬ومدير املعهد يف كوبنهاغن الذي قصده ديراك للعمل فيه بعد حصوله عىل‬
‫الدكتوراه من كامربيدج‪ ،‬ذهب لزيارة اللورد رذرفورد‪ ،‬الفيزيايئ الربيطاين‪ ،‬بعد وقت من‬
‫وصول ديراك‪ .‬واشتىك من هذا الباحث الشاب الجديد الذي مل يقل شيئًا منذ وصوله‪ .‬رد‬
‫رذرفورد برسد قصة عىل بور تقول‪ :‬دخل رجل متج ًرا يريد رشاء ببغاء‪ .‬فعرض له البائع ثالثة‬
‫طيور‪ .‬األول رائع باللونني األصفر واألبيض‪ ،‬ويعرف ‪ 300‬كلمة‪ .‬وعندما سأل عن السعر أجاب‬
‫املوظف ‪ 5000‬دوالر‪ .‬وكان الطائر الثاين ملونًا أكرث من األول‪ ،‬ويتحدث جي ًدا بأربع لغات!‬
‫سأل الرجل مجد ًدا عن السعر‪ ،‬فقيل له إنه ميكن رشاء هذا الطائر بـ‪ 25‬ألف دوالر‪ .‬ثم الحظ‬
‫جالسا يف قفصه‪ .‬فسأل املوظف عن عدد‬
‫ً‬ ‫الرجل الطائر الثالث‪ ،‬الذي كان أشعثًا إىل حد ما‪،‬‬
‫اللغات األجنبية التي يستطيع هذا الطائر التحدث بها‪ ،‬فقيل له‪« :‬ال يشء»‪ .‬شعر الرجل‬
‫بالحرص عىل املال‪ ،‬وسأل برتقب عن مثن هذا الطائر‪ .‬وكان الرد «‪ 100‬ألف دوالر»‪ .‬فقال‬
‫ملًّم بقدر الثاين‪ .‬فكيف بحق‬
‫الرجل مذهوالً ‪« :‬ماذا؟ هذا الطائر ليس ملونًا بقدر األول‪ ،‬وليس ً‬
‫السًّمء ترى أنه من املناسب أن يكلف هذا القدر من املال؟ فابتسم املوظف بأدب وأجاب‪ :‬هذا‬
‫الطائر يفكر!»‬
‫عىل أي حال‪ ،‬مل يكن ديراك ممن ميارسون الفيزياء عن طريق التخيل‪ .‬لقد شعر براحة‬
‫أكرب مع املعادالت‪ ،‬ومل يكتشف العالقة الرائعة التي تصف بشكل صحيح السلوك امليكانييك‬
‫الكمومي والنسبية الخاصة لإللكرتونات إال بعد العمل عىل مجموعة معادالت لعدة سنوات‪.‬‬
‫ورسعان ما اتضح أن هذه املعادلة ال تتنبأ بإمكانية وجود رشيك موجب لإللكرتون فحسب‪،‬‬

‫‪90‬‬
‫والذي ميكن أن يوجد كجسيم «افرتايض» ينتج كجزء من زوج افرتايض من الجسيًّمت‪ ،‬وإمنا‬
‫بوجوب قدرة هذا الجسم الجديد أيضً ا عىل الوجود مبفرده كجسيم حقيقي مبعزل عن غريه‪.‬‬
‫آنذاك‪ ،‬كان الجسيم الوحيد موجب الشحنة املعروف يف الطبيعة هو الربوتون‪ .‬افرتض‬
‫ديراك وزمالؤه‪ ،‬الذين رأوا أن معادلته تنبأت بشكل صحيح بعدد من السًّمت غري املفرسة‬
‫ريا عن األرثوذكسية القامئة‪ ،‬أن الربوتون يجب‬
‫للظواهر الذرية ولكنهم مل يرغبوا يف االبتعاد كث ً‬
‫أن يكون الجسيم املوجب الذي تنبأت به النظرية‪ .‬كانت املشكلة الوحيدة هي أن الربوتون كان‬
‫أثقل بنحو ‪ 2,000‬مرة من اإللكرتون‪ ،‬يف حني أن التفسري األكرث سذاج ًة لنظرية ديراك هو أن‬
‫الجسيم املوجب يجب أن يكون له نفس كتلة اإللكرتون‪.‬‬
‫مثاال حيث فرضت علينا نظريتان معروفتان ومدروستان جي ًدا عن العامل‬
‫كان هذا ً‬
‫الفيزيايئ‪ ،‬عندما دفعتا إىل أقىص حدودهًّم‪ ،‬استنتاجات متناقضة‪ ،‬متا ًما كًّم فعلت النسبية‬
‫لتوحيد أفكار غاليليو مع الكهرومغناطيسية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وعىل عكس أينشتاين‪ ،‬مل يكن‬
‫الفيزيائيون يف عام ‪ 1928‬مستعدين متا ًما للمطالبة بظواهر جديدة للتحقق من أفكارهم‪ .‬مل‬
‫يكن ذلك حتى عام ‪ ،1932‬عندما اكتشف الفيزيايئ التجريبي األمرييك كارل أندرسون‪،‬‬
‫صدفةً‪ ،‬أثناء مراقبة األشعة الكونية –جسيًّمت عالية الطاقة ترضب األرض باستمرار ويرتاوح‬
‫أصلها من التوهجات الشمسية القريبة إىل النجوم املنفجرة يف املجرات البعيدة– شذوذًا يف‬
‫بياناته‪ .‬مل ميكن تفسري هذا الشذوذ إال بوجود جسيم جديد موجب الشحنة كتلته أقرب بكثري‬
‫إىل كتلة اإللكرتون من الربوتون‪ .‬وهكذا اكتشف «البوزيرتون»‪« ،‬الجسيم املضاد» لإللكرتون‬
‫الذي تنبأت به نظرية ديراك‪ .‬نعلم اآلن أن نفس قوانني ميكانيكا الكم والنسبية تخربنا أنه‬
‫مقابل كل جسيم مشحون يف الطبيعة‪ ،‬يجب أن يوجد جسيم مضاد مسا ٍو له بالكتلة ومعاكس‬
‫بالشحنة كهربائية‪.‬‬
‫متأمال خجله يف قبول مضامني عمله يف دمج النسبية الخاصة‬
‫ً‬ ‫يقال إن ديراك‪،‬‬
‫وميكانيكا الكم‪ ،‬أدىل بأحد ترصيحاته النادرة‪« :‬كانت معادلتي أذىك مني!» لذا‪ ،‬فإن هديف‬
‫أيضً ا من طرح هذه القصة هو التوضيح مر ًة أخرى كيف أن أبرز النتائج يف الفيزياء ال تنشأ‬
‫غال ًبا من نبذ األفكار والتقنيات القامئة‪ ،‬بل من دفعها بجرأة إىل أقىص حد ممكن – ومن ثم‬
‫التحيل بالشجاعة لالستكشاف املضامني‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫أعتقد أنني دفعت بفكرة دفع األفكار إىل أقىص حد ممكن‪ .‬لكن ال أقصد بعنونة هذا‬
‫الفصل «رسقة فكرية إبداعية»‪ ،‬توسيع األفكار القدمية إىل أقىص حدودها فحسب؛ أعني أيضً ا‬
‫فمثال‪ ،‬ال نعرف سوى أربع‬
‫ً‬ ‫نسخها بالكامل! تستمر الطبيعة حيثًّم اتجهنا يف تكرار نفسها‪.‬‬
‫قوى يف الطبيعة –القوى الشديدة والضعيفة والكهرومغناطيسية والجاذبية– وكل منها‬
‫موجودة يف صورة أي من القوى األخرى‪ .‬لنبدأ بقانون الجاذبية لنيوتن‪ .‬القوة الوحيدة بعيدة‬
‫غري‬
‫املدى يف الطبيعة‪ ،‬القوة بني الجسيًّمت املشحونة‪ ،‬تبدأ كنسخة مبارشة من الجاذبية‪ّ .‬‬
‫«الكتلة» إىل «الشحنة الكهربائية» وهذا كل يشء عمو ًما‪ .‬فالصورة الكالسيكية لإللكرتون الذي‬
‫يدور حول الربوتون لتكوين أبسط ذرة‪ ،‬الهيدروجني‪ ،‬مطابقة لصورة القمر الذي يدور حول‬
‫األرض‪ .‬تختلف شدة التآثرات متا ًما‪ ،‬ويفرس هذا اختالف الحجم يف املسألة‪ ،‬ولكن خالف ذلك‪،‬‬
‫تنطبق جميع النتائج املبنية لوصف حركة الكواكب حول الشمس يف هذه الحالة‪ .‬نجد أن مدة‬
‫دوران اإللكرتون حول الربوتون ‪-15 10‬ثانية تقري ًبا‪ ،‬مقابل شهر واحد للقمر حول األرض‪.‬‬
‫وحتى هذه املالحظة املبارشة مفيدة‪ .‬إن تردد الضوء املريئ املنبعث من الذرات هو رتبة ‪10‬‬
‫‪15‬‬

‫دورة يف الثانية‪ ،‬ما يشري بقوة إىل أن اإللكرتون الذي يدور حول الذرة له عالقة بانبعاث‬
‫الضوء‪ ،‬كًّم هو الحال بالفعل‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬مثة اختالفات مهمة تجعل القوة الكهربائية أغنى من الجاذبية‪ .‬تأيت الشحنة‬
‫الكهربائية بنوعني مختلفني‪ :‬موجبة وسالبة‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ميكن أن تكون القوى الكهربائية منفرة‬
‫وكذلك جاذبة‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬هناك حقيقة مفادها أن الشحنات الكهربائية املتحركة‬
‫تتعرض لقوة مغناطيسية‪ .‬كًّم رشحت سابقاً يؤدي ذلك إىل وجود الضوء‪ ،‬كموجة‬
‫كهرومغناطيسية مولدة بواسطة الشحنات املتحركة‪ .‬ومن ثم فإن نظرية الكهرومغناطيسية‪،‬‬
‫التي تتحد فيها كل هذه الظواهر‪ ،‬تكون مبثابة منوذج للتآثرات الضعيفة بني الجسيًّمت يف‬
‫النوى املسؤولة عن معظم التفاعالت النووية‪ .‬كانت النظريات متشابهة لدرجة أنه أُدرك يف‬
‫تعميًّم‬
‫ً‬ ‫النهاية إمكانية توحيدها م ًعا يف نظرية واحدة‪ ،‬التي كانت يف حد ذاتها‬
‫للكهرومغناطيسية‪ .‬شُ كلت القوة الرابعة‪ ،‬القوة الشديدة بني الكواركات التي تك ّون الربوتونات‬
‫والنيوترونات‪ ،‬عىل غرار الكهرومغناطيسية أيضً ا‪ .‬وينعكس هذا يف اسمها‪ ،‬الديناميكا اللونية‬
‫ريا‪ ،‬مع الخربة املكتسبة من هذه‬‫الكمومية‪ ،‬سليلة الديناميكا الكهربائية الكمومية‪ .‬وأخ ً‬
‫النظريات ميكننا العودة إىل الجاذبية النيوتونية وتعميمها‪ ،‬وها نحن نصل إىل النسبية العامة‬

‫‪92‬‬
‫ألينشتاين‪ .‬وكًّم قال الفيزيايئ شيلدون غالشو‪ ،‬إن الفيزياء‪ ،‬مثل األوروبوروس‪ ،‬الثعبان الذي‬
‫يأكل ذيله‪ ،‬تعود إىل نقطة البداية‪.‬‬
‫أريد أن أنهي هذا الفصل مبثال محدد يوضح بيان ًيا مدى قوة الروابط بني مجاالت‬
‫الفيزياء املختلفة كل ًيا‪ .‬يتعلق مبصادم الهادرونات الكبري (‪ ،)LHC‬مرسع جسيًّمت ضخم‬
‫اكتمل بناؤه يف عام ‪ 2007‬بتكلفة إجًّملية ترتاوح بني ‪ 5‬إىل ‪ 10‬مليارات دوالر‪.‬‬
‫أي شخص زار موقع مخترب فيزياء الجسيًّمت الكبرية قد شهد معنى كلًّمت‬
‫الفيزيايئ‪/‬املعلم املتميز فييك فايسكوبف‪ ،‬الذي وصف هذه املرافق بأنها ككاتدرائيات القرن‬
‫العرشين القوطية‪ .‬من حيث الحجم والتعقيد‪ ،‬متثل هذه املشاريع‪ ،‬بحجمها وتعقيدها‪ ،‬يف‬
‫القرن العرشين ما كانت متثله مشاريع الكنائس الهندسية الضخمة يف القرنني الحادي عرش‬
‫والثاين عرش (رغم أنني أشك يف أنها ستدوم مثلها)‪ .‬يقع مصادم الهادرونات الكبري عىل عمق‬
‫رتا‪ ،‬مع‬
‫نحو ‪ 100‬قدم تحت الريف السويرسي والفرنيس‪ ،‬يف دائرة كبرية مبحيط ‪ 27‬كيلوم ً‬
‫أكرث من ‪ 6,000‬مغناطيس فائق التوصيل لتوجيه تيارين من الربوتونات يف اتجاهني‬
‫متعاكسني حول النفق‪ ،‬ما يتسبب يف اصطدامهًّم ببعضها بطاقة تبلغ ‪ 7,000‬ضعف كتلتها‬
‫السكونية‪ .‬ميكن أن ينتج عن كل اصطدام يف املتوسط أكرث من ألف جسيم‪ ،‬وميكن أن يحدث‬
‫ما يصل إىل ‪ 600‬مليون تصادم يف الثانية‪.‬‬
‫الغرض من هذه اآللة العمالقة هو محاولة اكتشاف أصل «الكتلة» يف الطبيعة‪ .‬ال منلك‬
‫أي فكرة حاليًا عن سبب امتالك الجسيًّمت األولية كتلتها‪ ،‬وملاذا بعضها أثقل من البعض اآلخر‪،‬‬
‫وملاذا بعضها‪ ،‬مثل النيوترينوات‪ ،‬خفيفة ج ًدا‪ .‬يشري عدد من الحجج النظرية القوية إىل أن‬
‫مفتاح هذا اللغز ميكن سربه يف الطاقات التي ميكن الوصول إليها يف مصادم الهادرونات‬
‫الكبري‪.‬‬
‫أساسا عىل املغناطيسات فائقة‬
‫ً‬ ‫يعتمد نجاح مصادم الهادرونات الكبري (‪)LHC‬‬
‫التوصيل العديدة التي تشكل «محركه» املركزي‪ ،‬مغناطيسات سيكون بناؤها دون التربيد إىل‬
‫مستحيال أو عىل‬
‫ً‬ ‫درجات حرارة منخفضة للغاية بحيث تصبح األسالك فيها فائقة التوصيل‪،‬‬
‫األقل مكلفًا للغاية‪ .‬لفهم سبب مالءمة ظاهرة التوصيل الفائق‪ ،‬التي تجعل مصادم الهادرونات‬
‫الكبري ممك ًنا تقن ًيا‪ ،‬ألسباب أعمق بكثري‪ ،‬علينا أن نرجع يف الزمن نحو مثانني عا ًما إىل مخترب‬
‫يف اليدن بهولندا‪ ،‬حيث اكتشف الفيزيايئ التجريبي الهولندي املميز إتش كامرلينغ أونس‬

‫‪93‬‬
‫الظاهرة املذهلة التي نسميها اآلن التوصيل الفائق‪ .‬كان أونس يربد معدن الزئبق إىل درجة‬
‫حرارة منخفضة يف مختربه لفحص خصائصه‪ .‬عندما تربد أي مادة‪ ،‬تنخفض مقاومتها لتدفق‬
‫أساسا إىل انخفاض حركة الذرات والجزيئات يف املادة التي‬
‫ً‬ ‫التيار الكهربايئ‪ ،‬ويرجع ذلك‬
‫متيل إىل منع تدفق التيار‪ .‬ولكن‪ ،‬عندما برد أونس الزئبق إىل ‪ 270‬درجة (مئوية) تحت الصفر‪،‬‬
‫الحظ شيئًا غري متوقع‪ :‬اختفت املقاومة الكهربائية متا ًما! ال أقصد أن املقاومة كانت ضئيل ًة؛‬
‫أقصد أنه مل تكن هناك أي مقاومة‪ .‬مبجرد بدء التيار‪ ،‬سيستمر التدفق دون تغيري لفرتات طويلة‬
‫ج ًدا يف ملف من هذه املواد‪ ،‬حتى بعد إزالة مصدر الطاقة الذي بدأ تدفق التيار‪ .‬أثبت أونس‬
‫هذه الحقيقة بشكل مثري بحمله حلقة من األسالك فائقة التوصيل التي تحتوي عىل تيار مستمر‬
‫من منزله يف اليدن إىل كامربيدج‪ ،‬إنجلرتا‪.‬‬
‫ريا لالهتًّمم لنصف قرن تقري ًبا حتى طور الفيزيائيون جون‬
‫ظل التوصيل الفائق لغ ًزا مث ً‬
‫باردين وليون كوبر وجي روبرت رشيفر نظري ًة مجهري ًة كامل ًة تفرس الظاهرة يف عام ‪.1957‬‬
‫كان باردين قد قدم بالفعل مساهم ًة مهم ًة يف العلم الحديث والتكنولوجيا بكونه مخرت ًعا‬
‫مشاركًا للرتانزستور‪ ،‬أساس جميع األجهزة اإللكرتونية الحديثة‪ .‬وكانت جائزة نوبل يف‬
‫الفيزياء التي تقاسمها باردين مع كوبر ورشيفر يف عام ‪ 1972‬عن عملهم يف مجال املوصلية‬
‫الفائقة هي الثانية له‪( .‬قرأت ذات مرة رسالة شكوى إىل مجلة فيزيائية أشارت إىل الحقيقة‬
‫الالذعة أنه عند وفاة باردين –الفائز الوحيد بجائزيت نوبل يف نفس املجال واملخرتع املشارك‬
‫لجهاز غري الطريقة التي يعمل بها العامل – يف عام ‪ ،1992‬بالكاد ذكر عىل التلفزيون‪ .‬سيكون‬
‫لطيفًا لو متكن الناس من ربط املتعة التي يحصلون عليها من املسجالت‪ ،‬والتلفزيونات‪،‬‬
‫واأللعاب‪ ،‬والحواسيب التي تعمل بالرتانزستور باألفكار التي أنتجها أشخاص مثل باردين)‪.‬‬
‫إن الفكرة الرئيسية التي أدت إىل نظرية التوصيل الفائق اقرتحها يف الواقع الفيزيايئ‬
‫فريتز لندن يف عام ‪ .1950‬اقرتح أن هذا السلوك الغريب كان نتيجة لظواهر ميكانيكية‬
‫كمومية‪ ،‬تؤثر عاد ًة يف السلوك عىل مقاييس صغرية ج ًدا فحسب‪ ،‬ومتتد فجأ ًة إىل مقاييس‬
‫عيانية‪ .‬كان األمر كًّم لو أن جميع اإللكرتونات يف املوصل التي تساهم عاد ًة يف التيار املتدفق‬
‫عند ربط هذا املوصل مبصدر طاقة‪ ،‬تعمل فجأ ُة كتكوين واحد «متسق» بسلوك تحكمه قوانني‬
‫ميكانيكا الكم التي تتحكم باإللكرتونات الفردية أكرث من القوانني الكالسيكية التي تحكم عاد ًة‬
‫األجسام العيانية‪ .‬إذا كانت جميع اإللكرتونات التي توصل التيار تعمل كتكوين واحد ميتد عىل‬

‫‪94‬‬
‫طول املوصل‪ ،‬فال ميكن اعتبار تدفق التيار نات ًجا عن حركة اإللكرتونات الفردية التي قد ترتد‬
‫عن العوائق أثناء تحركها‪ ،‬منتج ًة مقاومة لحركتها‪ .‬وإمنا‪ ،‬يسمح هذا التكوين املتسق‪ ،‬الذي ميتد‬
‫عرب املادة‪ ،‬بنقل الشحنة من خالله‪ .‬يبدو كأن هذا التكوين يتوافق يف إحدى الحاالت مع‬
‫مجموعة كاملة من اإللكرتونات الساكنة‪ .‬ويف حالة أخرى‪ ،‬مستقرة ومستقلة عن الزمن‪ ،‬يتوافق‬
‫التكوين مع مجموعة كاملة من اإللكرتونات املتحركة بشكل منتظم‪.‬‬
‫ال ميكن أن تحدث هذه الظاهرة بأكملها إال بسبب خاصية مهمة يف ميكانيكا الكم‪ .‬نظ ًرا‬
‫ألن كمية الطاقة التي ميكن نقلها من أو إىل نظام محدود الحجم توجد فقط بكميات منفصلة‪،‬‬
‫أو «كًّمت»‪ ،‬فإن مجموعة حاالت الطاقة املحتملة ألي جسيم يف نظام محدود تقلل يف ميكانيكا‬
‫الكم من مجموعة مستمرة إىل مجموعة منفصلة‪ .‬وذلك ألن الجزيئات ال ميكنها تغيري طاقتها‬
‫إال عن طريق امتصاص الطاقة‪ .‬لكن إذا كان ال ميكن امتصاص الطاقة إال بكميات منفصلة‪،‬‬
‫فإن مجموعة الطاقات املحتملة التي ميكن أن متتلكها الجسيًّمت ستكون أيضً ا منفصلة‪ .‬اآلن‪،‬‬
‫ماذا يحدث إذا كان لديك مجموعة كاملة من الجسيًّمت يف صندوق؟ إذا وجدت العديد من‬
‫حاالت الطاقة املختلفة املحتملة للجسيًّمت‪ ،‬فمن املتوقع أن يشغل كل منها حالة منفصلة‬
‫مختلفة‪ ،‬يف املتوسط‪ .‬لكن يف بعض األحيان‪ ،‬يف ظل ظروف خاصة للغاية‪ ،‬ميكن أن ترغب‬
‫جميع الجسيًّمت يف شغل حالة واحدة‪.‬‬
‫فيلًّم كوميديًا يف سينًّم‬
‫لفهم كيفية حدوث ذلك‪ ،‬فكّر يف التجربة املألوفة التالية‪ :‬تشاهد ً‬
‫مزدحمة وتجده مضحكًا للغاية‪ .‬ثم تستأجر الفيديو ملشاهدته يف املنزل مبفردك‪ ،‬ويصبح الفيلم‬
‫معد‪ .‬عندما يبدأ شخص بجانبك بالضحك بصوت عا ٍل‪ ،‬يصعب‬ ‫بالكاد مضحك‪ .‬السبب؟ الضحك ٍ‬
‫عدم الضحك معه‪ .‬وكلًّم زاد عدد األشخاص الذين يضحكون من حولك‪ ،‬زادت صعوبة عدم‬
‫االنضًّمم إليهم‪.‬‬
‫ميكن أن يكون النظري الفيزيايئ لهذه الظاهرة فعاالً بالنسبة للجسيًّمت املوجودة يف‬
‫الصندوق‪ .‬لنفرتض أنه يف تكوين معني‪ ،‬ميكن أن ينجذب جسيًّمن يف الصندوق لبعضهًّم‬
‫البعض‪ ،‬وبالتايل تقليل طاقتهًّم اإلجًّملية من خالل التواجد م ًعا‪ .‬ومبجرد قيام الجسيًّمن‬
‫بذلك‪ ،‬قد يكون من األفضل من ناحية الطاقة أن ينضم جسيم متفرج ثالث إىل الحزمة‪ .‬اآلن‪،‬‬
‫لنفرتض أن هذا النوع من الجذب ال يحدث إال إذا كانت الجسيًّمت يف تكوين واحد من جميع‬
‫التكوينات املمكنة التي ميكن أن متتلكها‪ .‬ميكنك تخمني ما سيحدث‪ .‬إذا شغلت الجسيًّمت‬

‫‪95‬‬
‫عشوائ ًيا‪ ،‬فرسعان ما ستتكثف جميعها يف نفس الحالة الكمومية‪ .‬وهكذا‪ ،‬تُشكل «مكثفات»‬
‫متسقة‪.‬‬
‫ولكن مثة املزيد‪ .‬نظ ًرا ألن الحاالت الكمومية املختلفة يف نظام ما تقسم إىل مستويات‬
‫منفصلة‪ ،‬مبجرد أن تتكثف جميع الجسيًّمت يف هذا النظام يف حالة واحدة‪ ،‬ميكن أن يكون‬
‫هناك «فجوة» كبرية يف الطاقة الكلية بني هذه الحالة وحالة النظام بأكمله حيث‪ ،‬لنقل‪ ،‬يتحرك‬
‫جسيم واحد بشكل مستقل ويظل الباقي مجم ًعا‪ .‬هذا هو الوضع بالضبط يف املوصل الفائق‪.‬‬
‫رغم أن اإللكرتونات مشحونة بشحنة سالبة‪ ،‬وبالتايل تتنافر مع اإللكرتونات األخرى‪ ،‬ولكن قد‬
‫يكون هناك جاذبية صغرية متبقية بني اإللكرتونات داخل املادة بسبب وجود جميع الذرات يف‬
‫الحالة الصلبة‪ .‬وهذا بدوره ميكن أن يتسبب يف اقرتان اإللكرتونات م ًعا ثم تكثيفها يف تكوين‬
‫كمومي واحد متسق‪ .‬اآلن‪ ،‬لنفرتض أنني وصلت هذا النظام بأكمله ببطارية‪ .‬تريد جميع‬
‫اإللكرتونات التحرك م ًعا يف وجود القوة الكهربائية‪ .‬فإذا تنحى أي منها عن عائق ما‪ ،‬يعرقل‬
‫حركته‪ ،‬سيتعني عليه تغيري حالته الكمومية يف نفس الوقت‪ .‬ولكن هناك «حاجز طاقة» مينع‬
‫ذلك‪ ،‬ألن اإللكرتون مرتبط ارتباطًا وثيقًا بجميع رشكائه‪ .‬وهكذا‪ ،‬تتحرك جميع اإللكرتونات م ًعا‬
‫يف طريقها املرح‪ ،‬متجنب ًة العوائق وال تنتج أي مقاومة‪.‬‬
‫ومن خالل السلوك االستثنايئ لهذه التكتالت اإللكرتونية فحسب‪ ،‬ميكنك أن تخمن أنه‬
‫ستكون هناك خصائص أخرى للًّمدة تتغري يف هذه الحالة فائقة التوصيل‪ .‬تدعى إحدى هذه‬
‫الخصائص تأثري مايسرن‪ ،‬نسب ًة إىل الفيزيايئ األملاين ف‪ .‬مايسرن‪ ،‬الذي اكتشفه يف عام‬
‫موصال فائقًا قرب مغناطيس‪ ،‬فإن املادة فائقة التوصيل ستبذل‬
‫ً‬ ‫‪ .1933‬وجد أنه إذا وضعت‬
‫قصارى جهدها «لطرد» املجال املغناطييس الذي سببه املغناطيس‪ .‬أعني بذلك أن اإللكرتونات‬
‫يف املادة سرتتب نفسها بطريقة تلغي املجال املغناطييس الخارجي متا ًما ويظل صف ًرا داخل‬
‫املادة‪ .‬للقيام بذلك‪ ،‬يجب إنشاء مجاالت مغناطيسية صغرية عىل سطح املادة إللغاء املجال‬
‫املغناطييس الخارجي‪ .‬وبالتايل‪ ،‬إذا قربت املادة من القطب الشًّميل ملغناطيس‪ ،‬ستنشأ جميع‬
‫أنواع األقطاب الشًّملية الصغرية عىل سطح املادة لصد الحقل األويل‪ .‬ميكن أن يكون هذا‬
‫دراماتيك ًيا للغاية‪ .‬إذا أخذت مادة غري فائقة التوصيل ووضعتها عىل مغناطيس‪ ،‬فقد تبقى‬
‫هناك دون تغيري‪ .‬إذا بردت النظام بأكمله بحيث تصبح املادة فائقة التوصيل‪ ،‬سرتتفع فجأة‬

‫‪96‬‬
‫و«تطفو» فوق املغناطيس بسبب جميع املجاالت املغناطيسية الصغرية التي نشأت عىل السطح‬
‫والتي تصد الحقل املغناطييس األويل‪.‬‬
‫مثة طريقة أخرى لوصف هذه الظاهرة‪ .‬فالضوء‪ ،‬كًّم أرشت سابقًا‪ ،‬ليس سوى موجة‬
‫كهرومغناطيسية‪ .‬حرك شحنةً‪ ،‬وسيؤدي التغيري يف املجالني الكهربايئ واملغناطييس إىل‬
‫إنشاء موجة ضوئية تنتقل نحو الخارج‪ .‬تنتقل املوجة الضوئية برسعة الضوء ألن ديناميكيات‬
‫الكهرومغناطيسية تجعل الطاقة التي تحملها املوجة الضوئية غري مرتبطة بأي «كتلة»‪ .‬بعبار ٍة‬
‫أخرى‪ ،‬إن األجسام امليكانيكية الكمومية املجهرية التي تتوافق عند املقاييس الصغرية مع ما‬
‫نسميه موجة كهرومغناطيسية عند املقاييس العيانية‪ ،‬والتي تسمى فوتونات‪ ،‬ال كتلة لها‪.‬‬
‫يرجع السبب يف عدم متكن الحقول املغناطيسية من دخول املوصل الفائق إىل أنه عندما‬
‫تدخل الفوتونات املوافقة لهذا املجال العياين إىل الداخل وتنتقل عرب خلفية جميع اإللكرتونات‬
‫يف حالتها املتسقة‪ ،‬تتغري خصائص هذه الفوتونات نفسها‪ .‬تترصف كًّم لو كان لديها كتلة!‬
‫الوضع مشابه للطريقة التي تترصف بها عندما تتزلج عىل الرصيف‪ ،‬مقارن ًة بالتزلج يف الطني‪.‬‬
‫تنتج لزوجة الطني مقاومة أكرب بكثري لحركتك‪ .‬وبالتايل‪ ،‬إذا كان دفعك أحدهم‪ ،‬ستترصف كًّم‬
‫لو كنت «أثقل» بكثري يف الطني مقارن ًة بالرصيف – مبعنى أنه سيكون دفعك أصعب بكثري‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬تجد هذه الفوتونات صعوبة أكرب يف االنتشار يف املوصل الفائق‪ ،‬بسبب كتلتها الفعالة‬
‫يف هذه املادة‪ .‬والنتيجة هي أنها ال تذهب بعي ًدا‪ ،‬وال يخرتق املجال املغناطييس املادة‪.‬‬
‫ريا للحديث عن كيفية ارتباط كل هذا باملصادم فائق التوصيل‪ .‬قلت‬
‫نحن مستعدون أخ ً‬
‫إنني آمل أن تكتشف هذه اآللة سبب امتالك جميع الجسيًّمت األولية كتلة‪ .‬قبل قراءة الصفحات‬
‫القليلة السابقة‪ ،‬كنت تعتقد رمبا أنه ال ميكن أن يكون هناك موضوعان أكرث انفصاالً ‪ ،‬ولكن‬
‫يف الواقع يحتمل أن يكون حل لغز الجسيًّمت األولية مطابقًا للسبب الذي يجعل املواد فائقة‬
‫التوصيل تطرد املجاالت املغناطيسية‪.‬‬
‫قلت سابقًا إن الكهرومغناطيسية كانت مبثابة منوذج للقوة التي تتحكم يف التفاعالت‬
‫النووية يف الطبيعة مثل تلك التي تغذي الشمس‪ ،‬التي تسمى القوة «الضعيفة»‪ .‬والسبب هو‬
‫أن اإلطار الريايض للقوتني متطابق تقري ًبا‪ ،‬باستثناء اختالف واحد مهم‪ .‬الفوتون‪ ،‬الكيان‬
‫الكمومي املوافق للموجات الكهرومغناطيسية‪ ،‬التي تنقل القوى الكهرومغناطيسية‪ ،‬عديم‬
‫الكتلة‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬فإن الجسيًّمت التي تنقل القوة الضعيفة ليست كذلك‪ .‬ولهذا السبب‬

‫‪97‬‬
‫تعد القوة الضعيفة بني الربوتونات والنيوترونات داخل النواة قصرية املدى للغاية‪ ،‬وال يتم‬
‫الشعور بهذه القوة أب ًدا خارج النواة‪ ،‬بينًّم ميكن الشعور بالقوى الكهربائية واملغناطيسية عىل‬
‫مسافات كبرية‪.‬‬
‫مبجرد أن أدرك الفيزيائيون هذه الحقيقة‪ ،‬مل ميض وقت طويل حتى يبدأوا يف التساؤل‬
‫مسؤوال عن هذا االختالف‪ .‬تقرتح نفس الفيزياء املسؤولة عن السلوك‬
‫ً‬ ‫عًّم ميكن أن يكون‬
‫الغريب للموصالت الفائقة إجاب ًة محتملةً‪ .‬لقد وصفت بالفعل كيف أن عامل فيزياء الجسيًّمت‬
‫األولية‪ ،‬حيث تعمل النسبية الخاصة وميكانيكا الكم م ًعا‪ ،‬ذو سلوك غريب خاص به‪.‬‬
‫وخصوصا‪ ،‬قلت إن املساحة الفارغة ال يجب أن تكون فارغة حقًا‪ .‬وميكن ملؤها بأزواج‬
‫ً‬
‫الجسيًّمت االفرتاضية‪ ،‬التي تظهر تلقائ ًيا ثم تختفي‪ ،‬برسعة كبرية ج ًدا بحيث ال ميكن‬
‫اكتشافها‪ .‬ووصفت أيضً ا يف الفصل األول كيف ميكن لهذه الجسيًّمت االفرتاضية أن تؤثر عىل‬
‫العمليات املرصودة‪ ،‬مثل انزياح المب‪.‬‬
‫حان الوقت اآلن لربط األمور م ًعا‪ .‬إذا كان للجسيًّمت االفرتاضية تأثريات دقيقة عىل‬
‫العمليات الفيزيائية‪ ،‬فهل ميكن أن يكون لها تأثري أكرث دراماتيكي ًة عىل خصائص الجسيًّمت‬
‫األولية املقاسة؟ تخيل أن نو ًعا جدي ًدا من الجسيًّمت موجود يف الطبيعة ينجذب بشدة إىل‬
‫الجسيًّمت من نفس النوع‪ .‬إذا ظهر زوج واحد من هذه الجسيًّمت يف الوجود‪ ،‬كًّم هو الحال‬
‫مع الجسيًّمت االفرتاضية عادةً‪ ،‬فإنه يكلف طاقة‪ ،‬لذلك يجب أن تختفي الجسيًّمت برسعة إذا‬
‫أردنا عدم انتهاك الطاقة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا انجذبت هذه الجسيًّمت إىل بعضها البعض‪ ،‬فقد يكون‬
‫من املفيد من ناحية الطاقة ليس فقط ظهور زوج واحد‪ ،‬وإمنا زوجان‪ .‬ولكن إذا كان زوجان‬
‫أفضل من واحد‪ ،‬فلًّمذا ليس ثالثة؟ وهكذا دواليك‪ .‬ميكن‪ ،‬إذا رتبت جاذبية هذه الجسيًّمت‬
‫بشكل صحيح‪ ،‬أن يكون إجًّميل الطاقة املطلوبة لنظام متسق مكون من العديد من هذه‬
‫الجسيًّمت أقل يف الواقع من ذلك املطلوب لنظام ال توجد فيه مثل هذه الجسيًّمت‪ .‬يف هذه‬
‫الحالة‪ ،‬ماذا سيحدث؟ نتوقع أن تولد هذه الحالة املتسقة من الجسيًّمت تلقائ ًيا يف الطبيعة‪.‬‬
‫سيمتلئ «الفراغ» بخلفية متسقة من الجسيًّمت يف حالة كمومية واحدة خاصة‪.‬‬
‫ماذا سيكون تأثري هذه الظاهرة؟ حس ًنا‪ ،‬ال نتوقع بالرضورة مراقبة الجسيًّمت الفردية‬
‫يف الخلفية‪ ،‬ألن إنتاج جسيم حقيقي يتحرك مبفرده قد يتطلب قد ًرا ال يصدق من الطاقة‪ ،‬متا ًما‬

‫‪98‬‬
‫كالطاقة الالزمة ملحاولة طرد إلكرتون من تكوينه املتًّمسك يف املوصل الفائق‪ .‬بدالً من ذلك‪،‬‬
‫عندما تتحرك الجسيًّمت وسط هذه الخلفية‪ ،‬نتوقع أن تتأثر خصائصها‪.‬‬
‫إذا رتبنا هذه الخلفية للتآثر مع الجسيًّمت التي تنقل القوة الضعيفة‪ ،‬التي تسمى‬
‫جسيًّمت ‪ W‬و‪ ،Z‬وليس مع الفوتونات‪ ،‬فقد نأمل أن يؤدي ذلك إىل ترصف جسيًّمت ‪ W‬و‪Z‬‬
‫بشكل فعال كًّم لو كان لديهًّم كتلة كبرية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن السبب الحقيقي وراء ترصف القوة‬
‫الضعيفة بشكل مختلف متا ًما عن الكهرومغناطيسية ال يرجع إىل أي اختالف جوهري‪ ،‬بل إىل‬
‫هذه الخلفية املتًّمسكة العاملية التي تتحرك عربها هذه الجسيًّمت‪.‬‬
‫قد يبدو هذا التشبيه االفرتايض بني ما يحدث للمجاالت املغناطيسية يف املوصل الفائق‬
‫وما يحدد الخصائص األساسية لـ«الطبيعة» رائ ًعا إىل حد يصعب تصديقه‪ ،‬لكنه يفرس كل‬
‫تجربة أجريت حتى اآلن‪ .‬يف عام ‪ ،1984‬اكتشفت جسيًّمت ‪ W‬و‪ Z‬ومنذ ذلك الحني تم التحقيق‬
‫فيها بالتفصيل‪ .‬تتوافق خصائصها متا ًما مع ما ميكن توقعه إذا نشأت هذه الخصائص بسبب‬
‫اآللية التي وصفتها هنا‪.‬‬
‫ما هي الخطوة التالية إذن؟ حسنًا‪ ،‬ماذا عن كتل الجسيًّمت العادية‪ ،‬مثل الربوتونات‬
‫واإللكرتونات؟ هل ميكننا أن نأمل يف فهمها أيضً ا‪ ،‬باعتبارها ناتجة عن تآثراتها مع هذه الحالة‬
‫الكمية املوحدة واملتسقة التي متأل الفضاء الفارغ؟ إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فإن أصل جميع كتل‬
‫الجسيًّمت سيكون نفسه‪ .‬كيف ميكننا معرفة ذلك عىل وجه اليقني؟ األمر بسيط‪ :‬من خالل‬
‫خلق الجسيًّمت‪ ،‬التي تسمى جسيًّمت هيغز‪ ،‬عىل اسم الفيزيايئ اإلسكتلندي بيرت هيغز‪ ،‬التي‬
‫يفرتض أن تتكثف يف الفضاء الفارغ لبدء اللعبة بأكملها‪ .‬يقال عاد ًة إن املهمة املركزية للمصادم‬
‫الفائق التوصيل هي اكتشاف جسيم هيغز‪ .‬وتخربنا نفس التنبؤات النظرية التي تكشف جي ًدا‬
‫عن خصائص جسيًّمت ‪ W‬و‪ Z‬أن جسيم هيغز‪ ،‬إذا كان موجو ًدا‪ ،‬يجب أن تكون كتلته ضمن‬
‫عامل ‪ 5‬أو نحو ذلك من هذه الجسيًّمت‪ ،‬وهذا النطاق هو ما تم اختيار تصميم مصادم‬
‫الهادرونات الكبري الستكشافه‪.‬‬
‫جسيًّم أول ًيا أساس ًيا‪ ،‬مثل‬
‫ً‬ ‫يجب أن أقول إن هذه الصورة ال تتطلب أن يكون جسيم هيغز‬
‫اإللكرتون أو الربوتون‪ .‬ميكن أن يكون أن جسيم هيغز مكونًا من أزواج من الجسيًّمت األخرى‪،‬‬
‫مثل أزواج اإللكرتونات التي ترتبط ببعضها لتشكل حالة فائقة التوصيل يف املادة‪ .‬وملاذا يوجد‬
‫جسيم هيغز‪ ،‬إذا كان موجو ًدا؟ هل هناك نظرية أكرث أساسي ًة تفرس وجوده‪ ،‬إىل جانب وجود‬

‫‪99‬‬
‫اإللكرتونات‪ ،‬والكواركات‪ ،‬والفوتونات‪ ،‬وجسيًّمت ‪ W‬و‪Z‬؟ لن نتمكن من اإلجابة عىل هذه‬
‫األسئلة إال من خالل إجراء التجارب ملعرفة ذلك‪.‬‬
‫أنا شخص ًيا ال أرى كيف ميكن ألي شخص أال يشعر بالذهول من هذه االزدواجية املذهلة‬
‫بني فيزياء املوصلية الفائقة وما قد يفرس أصل كل الكتلة يف الكون‪ .‬لكن تقدير هذا التوحيد‬
‫الفكري املذهل والرغبة يف دفع املال للتعرف عليه أمران مختلفان‪ .‬ففي النهاية‪ ،‬سيكلف بناء‬
‫مصادم الهادرونات الكبري ما يصل إىل ‪ 10‬مليارات دوالر موزعة عىل عرش سنوات‪ .‬وال يعترب‬
‫السؤال الحقيقي حول ما إذا كان ينبغي بناء مصادم الهادرونات الكبري سؤاالً علم ًيا – فال‬
‫ميكن ألي فرد مطلع جي ًدا أن يشك يف جدوى املرشوع العلمية‪ .‬إنه سؤال سيايس‪ :‬هل نستطيع‬
‫أن نجعله أولوية يف وقت يتسم مبحدودية املوارد؟‬
‫كًّم أكدت يف بداية هذا الكتاب‪ ،‬أعتقد أن املربر الرئييس لتقدم املعرفة املحتمل يف‬
‫ريا عن مرافق‬
‫امل ُصادم الفائق فائق التوصيل ثقايف‪ ،‬وليس تكنولوجي‪ .‬نحن ال نتحدث كث ً‬
‫السباكة يف اليونان القدمية‪ ،‬لكننا نتذكر املثل الفلسفية والعلمية التي نشأت هناك‪ .‬ترسبت‬
‫هذه األفكار عرب ثقافتنا الشعبية‪ ،‬ما ساعد يف تشكيل املؤسسات التي نستخدمها لحكم أنفسنا‬
‫واألساليب التي نستخدمها لتعليم شبابنا‪ .‬إن جسيم هيغز‪ ،‬إذا اكتشف‪ ،‬لن يغري حياتنا اليومية‪.‬‬
‫لكنني واثق من أن الصورة التي ينتمي إليها ستؤثر عىل األجيال القادمة‪ ،‬ولو من خالل إثارة‬
‫فضول بعض الشباب‪ ،‬لتدفعهم رمبا إىل اختيار مهنة يف مجال العلوم أو التقنية‪ .‬وأذكر هنا‬
‫ترصي ًحا منسوبًا إىل روبرت ويلسون‪ ،‬املدير األول ملنشأة فريميالب الكبرية التي تضم حاليًا‬
‫أعىل معجل للطاقة يف العامل‪ .‬عندما ُسئل عًّم إذا كانت هذه املنشأة ستساهم يف الدفاع‬
‫الوطني‪ ،‬قيل إنه أجاب‪« :‬ال‪ ،‬لكنها ستساعد يف إبقاء هذا البلد بل ًدا يستحق الدفاع عنه»‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫وقائع خفية‬

‫علينا أال نتوقف عن االكتشاف‬


‫ونهاية كل استكشافنا‬
‫ستكون أن نصل إىل حيث انطلقنا‬
‫وأن نعرف املكان ألول مرة‬

‫– ت‪ .‬س‪ .‬إليوت‪« ،‬ليتل غيددينغ»‪ ،‬أربع رباعيات‬


‫تستيقظ يف صباح جليدي وتنظر من النافذة‪ .‬ولكنك ال ترى أي يشء مألوف‪ .‬العامل ميلء‬
‫باألمناط الغريبة‪ .‬تحتاج ثاني ًة لتدرك أنك ترى صقي ًعا عىل النافذة‪ ،‬التي تركزك عينك عليها‬
‫فجأةً‪ .‬ثم تبدأ األمناط الدقيقة التي تعكس ضوء الشمس بخلب لبك‪.‬‬
‫تسميها متاحف العلوم تجربة «آها»‪ .‬ورمبا يكون للمتصوفني اسم آخر لها‪ .‬إن إعادة‬
‫الرتتيب هذه للعامل‪ ،‬هذا الشكل أو «الغشتالت»‪ ،‬عندما تندمج صور بيانات متباينة م ًعا لتشكيل‬
‫منط جديد‪ ،‬ليجعلك ترى نفس األشياء القدمية من جديد عىل ضوء جديد كل ًيا‪ ،‬يكاد يعرف‬
‫التقدم يف الفيزياء‪ .‬يف كل مرة كشفنا فيها عن طبقة أخرى‪ ،‬كنا نكتشف أن ما كان خف ًيا غال ًبا‬
‫ما كان قنا ًعا لبساطة كامنة‪ .‬اإلشارة املعتادة؟ األشياء التي ال متتلك رابطًا ظاهريًا ميكن إدراكها‬
‫عىل أنها اليشء نفسه‪.‬‬
‫التطورات الكربى يف فيزياء القرن العرشين تتبع هذا التقليد‪ ،‬من اكتشافات آينشتاين‬
‫املدهشة عن املكان‪ ،‬والزمان‪ ،‬والكون‪ ،‬إىل أهمية وصف كيفية غليان عصيدة الشوفان‪ .‬وخالل‬
‫مناقشة هذه «الوقائع الخفية»‪ ،‬ال أريد االنغًّمس يف الحجج الفلسفية عن الطبيعة النهائية‬
‫للواقع‪ .‬هذا نقاش من النوع الذي عاد ًة ما يؤكد نظريت العامة عن الفلسفة‪ ،‬والتي كان أفضل‬
‫من أجاد وصفها فيلسوف وممنطق القرن العرشين لودفيغ فيتغنشتاين‪« :‬معظم األطروحات‬
‫‪1‬‬
‫واألسئلة التي كتبتها عن األمور الفلسفية ليست خاطئةً‪ ،‬ولكنها بال معنى»‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫مثال‪ ،‬كًّم فعل أفالطون‪ ،‬عًّم إذا كان هناك واقع خارجي‪ ،‬بوجود مستقل عن‬
‫فالتساؤل‪ً ،‬‬
‫قدرتنا عىل قياسه‪ ،‬ميكن أن يؤدي إىل نقاشات مطولة ال أكرث‪ .‬وبقويل هذا‪ ،‬فأنا ال أريد أن‬
‫أستخدم فكر ًة طورها أفالطون يف تشبيه الكهف الشهري الخاص به – ويعود ذلك جزئ ًيا إىل‬
‫أنه يظهرين مبظهر املثقف‪ ،‬ولكن األهم من ذلك‪ ،‬ألن البناء عليه يسمح يل بتقديم تشبيه خاص‬
‫يب‪.‬‬
‫شبه أفالطون مكاننا يف الصورة األكرب لألشياء بشخص يعيش يف كهف‪ ،‬تشكل كل‬
‫صورته عن الواقع صور –ظالل األشياء الواقعة عىل الجدران– «األجسام الواقعية» املوجودة‬
‫لألبد يف ضوء النهار‪ ،‬وراء نظرة الشخص‪ .‬وقد جادل بأننا‪ ،‬أيضً ا‪ ،‬كذلك الشخص يف الكهف‪،‬‬
‫محكوم علينا بأال نستطيع سوى خدش سطح الواقع من خالل ما تتيحه لنا حواسنا‪.‬‬
‫ميكن للمرء تصور الصعوبات املتأصلة يف حياة حبيسة الكهف‪ .‬فأفضل ما ميكن‬
‫للظالل أن تقدمه هو انعكاس سيئ للعامل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ميكن للمرء أيضً ا أن يتخيل لحظات‬
‫اإللهام‪ .‬لنقل إنه يف كل مساء أحد قبل أن تغرب الشمس‪ ،‬ينعكس الظل التايل عىل الجدار‪:‬‬

‫بدال عنه‪:‬‬
‫ويف مساء كل اثنني‪ ،‬تظهر الصورة هذه ً‬

‫وعىل رغم شبهها الكبري بالبقرة‪ ،‬فإن هذه يف الحقيقة صورة يشء آخر‪ .‬ويف كل‬
‫أسبوع تظهر نفس الصور عىل الجدار‪ ،‬لتتغري عىل الدوام وتعود للظهور بانتظام كعقارب‬
‫ريا يف صباح اثنني‪ ،‬وبعد أن تستيقظ قبل الوقت املعتاد‪ ،‬تسمع الحبيسة أيضً ا صوت‬
‫الساعة‪ .‬أخ ً‬
‫شاحنة مع قرقعة معدن‪ .‬وألنها امرأة ذات خيال غري عادي‪ ،‬مصحوب مبوهبة رياضية‪ ،‬فقد‬
‫خطرت لبالها رؤية جديدة فجأة‪ :‬فهذان مل يكونا جسمني مختلفان‪ ،‬بعد كل يشء! بل كانا‬
‫اليشء نفسه‪ .‬بإضافة بعد جديد لخيالها‪ ،‬أمكنها تصور الجسم الحقيقي املمدد‪ ،‬وهو سلة‬
‫مهمالت‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫فعند وقوفها عىل طولها يف مساء األحد‪ ،‬مع انخفاض الشمس وراءها مبارشةً‪ ،‬تلقي‬
‫ظل مستطيل‪ .‬ويف االثنني‪ ،‬بعد إلقائها جان ًبا من قبل جامعي املهمالت‪ ،‬فهي تلقي ظل دائرة‪.‬‬
‫ميكن لجسم ثاليث األبعاد‪ ،‬عند رؤيته من زوايا مختلفة‪ ،‬أن يلقي مبساقط ثنائية األبعاد شديدة‬
‫االختالف‪ .‬وبقفزة اإللهام هذه‪ ،‬مل تحل األحجية وحسب بل أمكن فهم عدة ظواهر اآلن عىل أنها‬
‫متثل مجرد انعكاسات مختلفة لليشء نفسه‪.‬‬
‫وبسبب إعادات متوضع كهذه‪ ،‬ال تتقدم كعجالت يف عجالت؛ ليس بالرضورة أن تؤدي‬
‫دقة التفاصيل إىل تعقيد أكرب‪ .‬يف أحيان أكرث‪ ،‬تعكس اكتشافات جديدة تحوالت مفاجئة يف‬
‫اإلدراك كًّم يف مثال الكهف‪ .‬تربط الوقائع الخفية عند كشفها أحيانًا أفكا ًرا كانت متباينة‪ ،‬ما‬
‫يخلق أقل من األكرث‪ .‬أحيانًا‪ ،‬بدل ذلك‪ ،‬فإنها تربط بني كميات فيزيائية كانت متباينة وبذلك‬
‫تفتح املجال ملساحات جديدة من التساؤل والفهم‪.‬‬
‫كنت قد قدمت التوحيد الذي شكل انطالقة حقبة الفيزياء املعارصة‪ :‬اإلنجاز الفكري‬
‫الذي توج به جيمس كلريك ماكسويل يف القرن التاسع عرش‪ ،‬ونظرية الكهرومغناطيسية‪،‬‬
‫ومعها‪« ،‬التنبؤ» بوجود الضوء‪ .‬من املالئم أن يف قصة سفر التكوين‪ ،‬قد خلق الضوء قبل أي‬
‫يشء آخر‪ .‬كان أيضً ا بوابة الفيزياء املعارصة‪ .‬أدى السلوك الغريب للضوء بآينشتاين إىل أن‬
‫يفرتض وجود عالقة جديدة بني املكان والزمان‪ .‬وقد أدى أيضً ا مبؤسيس ميكانيك الكم إىل‬
‫إعادة اخرتاع قواعد السلوك عىل املستويات الصغرية‪ ،‬لتسمح باحتًّمل كون األمواج والجسيًّمت‬
‫ريا‪ ،‬شكلت النظرية الكمومية للضوء التي اكتملت يف منتصف ذاك‬
‫أحيانًا اليشء نفسه‪ .‬أخ ً‬
‫القرن أساس فهمنا الحايل لكل القوى املعروفة يف الطبيعة‪ ،‬مبا فيها التوحيد الرائع بني‬
‫الكهرومغناطيسية والتآثر الضعيف يف آخر خمسة وعرشين عا ًما‪ .‬بدأ فهم الضوء نفسه مع‬

‫‪103‬‬
‫اإلدراك األبسط بأن قوتني شديديت االختالف‪ ،‬الكهرباء واملغناطيسية‪ ،‬كانتا يف الحقيقة اليشء‬
‫الواحد نفسه‪.‬‬
‫كنت قد رسمت الخطوط العريضة الكتشافات فاراداي وهرني التي أسست للروابط بني‬
‫الكهرباء واملغناطيسية‪ ،‬ولكنني ال أظن أن هذه تعطيكم فكر ًة مبارش ًة عن عمق أو أصل هذه‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬تظهر تجربة فكرية بشكل مبارش كيف أن الكهرباء‬
‫الرابطة بالقدر الذي أوده‪ً .‬‬
‫واملغناطيسية يف الحقيقة جانبان مختلفان من اليشء نفسه‪ .‬عىل قدر معرفتي‪ ،‬فإن هذه‬
‫التجربة الفكرية مل تجر فعل ًيا قبل االكتشافات التجريبية التي أدت إىل الرؤى‪ ،‬ولكن‪ ،‬باألثر‬
‫الرجعي‪ ،‬فإنها شديدة البساطة‪.‬‬
‫التجارب الفكرية جزء أسايس من إجراء الفيزياء ألنها تسمح للمرء بأن «يشهد» األحداث‬
‫من منظورات مختلفة يف الوقت نفسه‪ .‬قد تذكرون فيلم كوروساوا الكالسييك روشومون‪،‬‬
‫والذي يعرض فيه حدث واحد عدة مرات ويفرس بشكل منفصل من قبل كل من األشخاص‬
‫رشا جدي ًدا الستشفاف عالقة أوسع‪ ،‬رمبا تكون أكرث‬
‫الحارضين‪ .‬يعطينا كل منظور مختلف مؤ ً‬
‫موضوعيةً‪ ،‬بني األحداث‪ .‬وألن من املستحيل عىل راصد واحد أن ميتلك نقطتي منظور يف‬
‫ريا عىل‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬فإن الفيزيائيني يستغلون التجارب الفكرية من النوع الذي سأصفه‪ ،‬س ً‬
‫نهج بدأه غاليليو وأتقنه إىل حد الكًّمل آينشتاين‪.‬‬
‫وإلجراء التجربة الفكرية هذه‪ ،‬هناك حقيقتان يجب إدراكهًّم‪ .‬األوىل أن القوة الوحيدة‬
‫التي يشعر بها جسيم ذو شحنة يف السكون‪ ،‬عدا الجاذبية‪ ،‬هي القوة الكهربائية‪ .‬ميكن وضع‬
‫جاهال ما يوجد جانبه‪ .‬من‬
‫ً‬ ‫أقوى مغناطيس يف العامل جانب هذا الجسيم ولن يحرك ساكنًا‪،‬‬
‫جهة أخرى‪ ،‬فعند تحريك جسيم مشحون يف وجود مغناطيس‪ ،‬فإن الجسيم سيشهد قوة تغري‬
‫حركته‪ .‬وهذه تدعى قوة لورنتز‪ ،‬نسب ًة إىل الفيزيايئ الهولندي هرنيك لورينتز‪ ،‬الذي اقرتب من‬
‫صياغة النسبية الخاصة قبل آينشتاين‪ .‬ولها شكل من أغرب ما يكون‪ .‬إذا تحرك جسيم مشحون‬
‫أفقيًا بني قطبي مغناطيس‪ ،‬كًّم يظهر ادناه‪ ،‬فإن القوة عىل الجسيم ستكون باتجاه األعىل‪،‬‬
‫عمودي ًة عىل حركته األصلية‪:‬‬

‫‪104‬‬
‫هاتان امليزتان العامتان كافيتان ليسمحا لنا بإظهار أن قوة كهربائي ًة لشخص هي قوة‬
‫مغناطيسية آلخر‪ .‬لذلك فإن الكهرباء واملغناطيسية مرتبطان ببعضهًّم كارتباط الدائرة‬
‫واملستطيل عىل جدار الكهف‪ .‬ولرؤية ذلك‪ ،‬لنأخذ الجسيم يف الشكل السابق‪ .‬إذا كنا نرصده‬
‫يف املخرب‪ ،‬ونراقبه يتحرك وينحرف‪ ،‬نعلم أن القوة املؤثرة عليه هي قوة لورنتز املغناطيسية‪.‬‬
‫ولكن لنتصور بدل ذلك أننا يف مخرب ينتقل برسعة ثابته مع الجسيم‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬لن يكون‬
‫الجسيم متحركًا بالنسبة لنا‪ ،‬ولكن املغناطيس سيكون‪ .‬فسيكون ما نراه بدل ما سبق‪:‬‬

‫ألن الجسيم املشحون يف السكون ال ميكن أن يتحسس لغري قوة كهربائية‪ ،‬فإن القوة‬
‫املؤثرة عىل الجسيم يف هذا اإلطار ال بد أن تكون كهربائي ًة‪ .‬أيضً ا‪ ،‬لقد علمنا منذ غاليليو أن‬
‫قوانني الفيزياء يجب أن تبدو نفسها ألي راصدين يتحركان برسعة نسبية ثابتة‪ .‬بالتايل‪ ،‬ال‬
‫طريقة إلثبات‪ ،‬بشكل مطلق‪ ،‬أن الجسيم هو الذي يتحرك واملغانط هي الساكنة‪ ،‬أو العكس‪ .‬بل‬
‫باألحرى‪ ،‬ميكننا فقط استنتاج أن الجسيم واملغانط تتحرك بالنسبة لبعضها‪ .‬ولكننا رأينا للتو‬
‫أنه يف اإلطار التي تكون فيه املغانط ساكن ًة والجسيم متحركًا‪ ،‬ينحرف الجسيم باتجاه األعىل‬
‫بسبب القوة املغناطيسية‪ .‬يف اإلطار اآلخر‪ ،‬الذي يكون فيه الجسيم يف وضع السكون‪ ،‬ال بد‬

‫‪105‬‬
‫أن تعزى هذه الحركة باتجاه األعىل إىل قوة كهربائية‪ .‬كًّم هو موعود‪ ،‬فإن القوة املغناطيسية‬
‫لشخص هي القوة الكهربائية آلخر‪ .‬الكهرباء واملغناطيسية هًّم «الظالن» املختلفان لقوة‬
‫واحدة‪ ،‬وهي الكهرومغناطيسية‪ ،‬حسب رؤيتها من نقاط منظور مختلفة‪ ،‬ما يعتمد عىل وضع‬
‫الحركة النسبية لكم!‬
‫أريد تال ًيا القفز إىل الحارض‪ ،‬لرؤية كيف يبدو تطور أحدث بكثري للفيزياء –والذي‬
‫حدث خالل آخر خمس وعرشين سن ًة والذي ملحت له يف نهاية الفصل األخري– تحت هذا‬
‫الضوء‪ .‬عندما ناقشت العالقة املفاجئة بني املوصلية الفائقة واملصادم الفائق‪ ،‬وصفت كيف‬
‫للمرء أن يفهم أصل الكتلة نفسها عىل أنه «حادث عريض» لظروفنا املحدودة‪ .‬بالتحديد‪ ،‬فإننا‬
‫نربط الكتلة ببعض الجسيًّمت دون غريها بسبب حقيقة أننا قد نكون نعيش يف «حقل» خلفية‬
‫كوين «يؤخر» حركتها بشكل متييزي بحيث يجعلها تبدو ثقيلة‪ .‬أذكركم بأن اليشء نفسه‬
‫بالضبط يحدث للضوء يف موصل فائق‪ .‬إذا كنا نعيش داخل موصل فائق‪ ،‬فسنظن بأن حامل‬
‫الضوء‪ ،‬الفوتون‪ ،‬ذو كتلة‪ .‬وألننا ال نعيش كذلك‪ ،‬فإننا نفهم أن السبب الوحيد لكون الفوتون‬
‫يبدو ذا كتلة يف موصل فائق هو تفاعالته مع حالة املادة املحددة هناك‪.‬‬
‫وهنا تكمن النكتة‪ .‬فكوننا عالقني يف كهف مجازي‪ ،‬كموصل فائق‪ ،‬كيف ميكننا أن نقفز‬
‫فعال خارج عامل تجربتنا املحدود بطريقة قد توحد الظواهر‬
‫قفزة اإللهام إلدراك ما يوجد ً‬
‫املتنوعة والتي تبدو غري مرتبطة فيًّم عدا ذلك؟ ال أظن أن هناك أي قاعدة عاملية‪ ،‬ولكن عندما‬
‫فعال‪ ،‬يصبح كل يشء جليًا بوضوح يجعلنا نعرف أننا قد قفزنا القفزة الصحيحة‪.‬‬
‫نقفز القفزة ً‬
‫بدأت هذه القفزة يف أواخر خمسينيات القرن العرشين‪ ،‬وانتهت يف بدايات سبعينياته‬
‫يف فيزياء الجسيًّمت‪ .‬لقد اتضح ببطء أن النظرية التي وصلت إىل الكًّمل بعد النقاشات يف‬
‫جزيرة شيلرت‪ ،‬التي تناولت ميكانيك الكم للكهرومغناطيسية‪ ،‬رمبا تشكل أيضً ا أساس نظرية‬
‫الكم للقوى األخرى املعروفة يف الطبيعة‪ .‬وكًّم أرشت مسبقًا‪ ،‬فإن اإلطارات الرياضية وراء كل‬
‫من الكهرومغناطيسية والتآثرات الضعيفة املسؤولة عن معظم التفاعالت النووية شديدة‬
‫التشابه‪ .‬الفرق الوحيد هو أن الجسيًّمت التي تنقل القوة الضعيفة ثقيلة‪ ،‬بينًّم الفوتون‪ ،‬حامل‬
‫الكهرومغناطيسية‪ ،‬عديم الكتلة‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬لقد أظهر شيلدون غالشو يف ‪ 1961‬أن هاتني‬
‫القوتني املختلفتني قد توحدان يف الحقيقة يف نظرية واحدة تكون فيها القوتان‬
‫الكهرومغناطيسية والضعيفة مظهرين ميثالن اليشء نفسه‪ ،‬ولكن ملشكلة الفرق الشاسع يف‬

‫‪106‬‬
‫الكتلة بني الجسيًّمت التي تنقل هاتني القوتني‪ ،‬الفوتون من جهة وجسيًّمت دبليو وزد من‬
‫جهة أخرى‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬ما أن أدرك بأن املكان نفسه ميكن أن يؤدي دور موصل فائق‪ ،‬مبعنى أن «حقل»‬
‫اقرتح‪ ،‬يف عام‬
‫خلفية ميكن أن يجعل الجسيًّمت فعل ًيا «تترصف» وكأنها ذات كتلة‪ ،‬رسعان ما ُ‬
‫‪ ،1967‬من قبل ستيفن وينربغ و‪ ،‬بشكل مستقل‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬أن هذا هو بالضبط ما يحدث‬
‫لجسيًّمت دبليو وزد‪ ،‬كًّم وصفت يف نهاية الفصل األخري‪.‬‬
‫ما يهم هنا ليس أن آلي ًة إلعطاء جسيًّمت دبليو وزد كتل ًة قد اكتشفت‪ ،‬ولكن أنه يف غياب‬
‫آلية من هذا النوع‪ ،‬فقد أصبح اآلن مفهو ًما أن القوتني الضعيفة والكهرومغناطيسية مجرد‬
‫مظهرين للنظرية الفيزيائية نفسها وراءهًّم‪ .‬من جديد‪ ،‬فإن الفرق امللحوظ املرصود بني‬
‫القوتني يف الطبيعة حادث عريض نتيجة وضعنا‪ .‬فلو مل نكن نعيش يف فضاء مملوء بالحالة‬
‫املتجانسة املناسبة من الجسيًّمت‪ ،‬لكان التآثر الضعيف والكهرومغناطييس ليبدوا وكأنهًّم‬
‫اليشء نفسه‪ .‬بشكل ما متكننا‪ ،‬من انعكاسات متباينة عىل الجدار‪ ،‬من اكتشاف الوحدة الكامنة‬
‫املوجودة وراء الدليل املبارش لحواسنا‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،1971‬أظهر الفيزيايئ الهولندي جريارد توفت‪ ،‬الذي كان حينها طالب‬
‫دراسات عليا‪ ،‬أن اآللية املقرتحة إلعطاء جسيًّمت دبليو وجسيًّمت زد كتل ًة كانت متوافق ًة‬
‫رياضيًا وفيزيائيًا‪ .‬يف ‪ ،1979‬منح كل من غالشو‪ ،‬وعبد السالم‪ ،‬ووينربغ جائزة نوبل عن‬
‫نظريتهم‪ ،‬ويف ‪ ،1984‬اكتشفت الجسيًّمت التي تحمل القوة الضعيفة‪ ،‬جسيًّمت دبليو وزد‪،‬‬
‫تجريبيًا يف مرسع كبري يف املركز األورويب لألبحاث النووية (سرين) يف جنيف‪ ،‬بكتلها‬
‫ريا‪ ،‬يف عام ‪ ،1999‬منح توفت نفسه‪ ،‬إىل جانب املرشف عىل أطروحته‪،‬‬ ‫املتوقعة‪ .‬وأخ ً‬
‫مارتينوس فيلتًّمن‪ ،‬جائزة نوبل عن عملهًّم األصيل الذي أظهر أن نظرية غالشو‪-‬وينربغ‪-‬‬
‫سالم كانت معقول ًة يف نهاية األمر‪.‬‬
‫هذه ليست النتيجة الوحيدة لهذا املنظور الجديد‪ .‬إن نجاح رؤية كل من القوتني‬
‫الضعيفة والكهرومغناطيسية يف إطار واحد يحايك ويوسع يف آن واحد نظرية الكم‬
‫«البسيطة» للكهرومغناطيسية شكل حاف ًزا لدراسة ما إذا كانت كل القوى يف الطبيعة ميكن أن‬
‫تقع ضمن هذا اإلطار‪ .‬إن نظرية التآثرات القوية‪ ،‬التي طورت وأكدت بعد االكتشاف النظري‬
‫للحرية املتقاربة التي وصفتها يف الفصل ‪ ،1‬لها نفس الشكل العام‪ ،‬املعروف باسم نظرية‬

‫‪107‬‬
‫«القياس»‪ .‬حتى هذا االسم له تاريخ محفور يف فكرة النظر إىل القوى املختلفة بوصفها ظواهر‬
‫مختلفة للفيزياء الكامنة نفسها‪ .‬بالعودة إىل عام ‪ ،1918‬استخدم الفيزيايئ‪/‬الريايض هريمان‬
‫ويل واح ًدا من التشابهات العديدة بني الجاذبية والكهرومغناطيسية القرتاح إمكانية توحيدهًّم‬
‫يف نظرية واحدة‪ .‬وقد أسمى امليزة التي تربط بينهًّم نظرية القياس –نسب ًة إىل حقيقة أنه يف‬
‫النسبية العامة‪ ،‬كًّم سرنى قري ًبا‪ ،‬فإن القياس‪ ،‬أو مقياس الطول‪ ،‬للمساطر املوضعية‬
‫املستخدمة من قبل راصدين مختلفني قد تختلف بشكل اعتباطي دون التأثري عىل الطبيعة‬
‫الكامنة للقوة الثقالية‪ .‬وميكن تطبيق تغيري مًّمثل رياض ًيا عىل الطريقة التي يقيس بها‬
‫راصدون مختلفون الشحنة الكهربائية يف نظرية الكهرومغناطيسية‪ .‬مل ينجح اقرتاح ويل‪،‬‬
‫الذي ربط بني الكهرومغناطيسية الكالسيكية والجاذبية‪ ،‬بشكله األصيل‪ .‬ولكن‪ ،‬اتضح أن‬
‫قانونه الريايض سيلعب دو ًرا بارزًا يف النظرية الكمومية للكهرومغناطيسية‪ ،‬وهذه هي‬
‫الخاصية املشرتكة يف نظريات التآثرات الضعيفة والقوية‪ .‬واتضح أيضً ا أنها عىل صلة قريبة‬
‫بالكثري من الجهود الحالية لتطوير نظرية كمومية للجاذبية وتوحيدها مع القوى املعروفة‬
‫األخرى‪.‬‬
‫أصبحت النظرية «الكهروضعيفة»‪ ،‬كًّم أصبحت تعرف اآلن‪ ،‬إىل جانب نظرية التآثر‬
‫القوي املبنية عىل الحرية املتقاربة‪ ،‬م ًعا تشكالن ما يعرف بالنموذج املعياري يف فيزياء‬
‫الجسيًّمت‪ .‬كل التجارب املوجودة التي أجريت يف آخر عرشين سنة كانت عىل اتفاق تام مع‬
‫تنبؤات هذه النظريات‪ .‬كل ما يبقى إلمتام توحيد التآثرين الضعيف والكهرومغناطييس عىل‬
‫وجه التحديد هو اكتشاف الطبيعة الدقيقة للحالة الكمومية الخلفية املتجانسة التي تحيط بنا‬
‫والتي نعتقد أنها تعطي الكتلة لجسيًّمت دبليو وجسيًّمت زد‪ .‬نريد أيضً ا أن نعرف ما إذا كانت‬
‫هذه الظاهرة نفسها هي املسؤولة عن إعطاء الكتل لكل الجسيًّمت األخرى املرصودة يف‬
‫الطبيعة‪ .‬وهذا ما نأمل أن يستطيع مصادم الهادرونات الكبري أن يفعله من أجلنا‪.‬‬
‫وكوين فيزيائ ًيا نظريًا‪ ،‬فًّم أيرس ما تثريين هذه الوقائع الخفية املدهشة‪ ،‬التي تكاد‬
‫تكون باطنية‪ ،‬يف عامل فيزياء الجسيًّمت‪ .‬ولكنني أعلم من محادثايت مع زوجتي بأنها تبدو‬
‫شديدة البعد عن الحياة اليومية ملعظم الناس فال يثارون بها‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإنها يف الحقيقة‬
‫مرتبطة مبارش ًة بوجودنا‪ .‬إذا مل تكن الجسيًّمت املعروفة متتلك الكتل التي متتلكها بالضبط‪،‬‬
‫مع كون النيوترون أثقل بجزء واحد من األلف من الربوتون‪ ،‬ملا كانت الحياة كًّم نعرفها ممكنة‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫إن حقيقة أن الربوتون أخف من النيوترون تعني أن الربوتون مستقر‪ ،‬عىل األقل عىل املقياس‬
‫الزمني للعمر الحايل للكون‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن الهيدروجني‪ ،‬املتكون من بروتون وحيد وإلكرتون‬
‫وحيد وهو العنرص األكرث وفر ًة يف الكون باإلضافة إىل كونه وقود النجوم كشمسنا وأساس‬
‫الجزيئات العضوية‪ ،‬مستقر‪ .‬إضاف ًة إىل ذلك‪ ،‬فلو كان فرق الكتلة بني النيوترون والربوتون‬
‫مختلفًا‪ ،‬لكان هذا غري التوازن الحساس يف بدايات الكون والذي أنتج كل العنارص الخفيفة‬
‫التي نراها‪ .‬ساهم هذا املزيج من العنارص الخفيفة يف تطور أول النجوم التي تشكلت‪ ،‬وهذا مل‬
‫يساهم يف تشكل شمسنا بعد ‪ 5‬مليارات إىل ‪ 10‬مليارات عام وحسب‪ ،‬بل أنتج أيضً ا كل املادة‬
‫املوجودة يف أجسامنا‪ .‬دامئًا ما أدهشتني حقيقة أن كل ذرة يف جسمنا تشكلت يف فرن محرتق‬
‫يف نجم بعيد متفجر! بهذا املعنى املبارش‪ ،‬فنحن كلنا أبناء نجوم‪ .‬ويف عرق متصل‪ ،‬يف نواة‬
‫شمسنا‪ ،‬فإن فرق الكتلة بني الجسيًّمت األولية هو ما يحدد معدل التفاعالت املنتجة للطاقة‬
‫ريا‪ ،‬إن كتل هذه الجسيًّمت األولية التي تجتمع م ًعا إلنتاج القراءات‬
‫التي تغذي وجودنا بذاته‪ .‬أخ ً‬
‫عىل ميزان حًّممنا الذي يخىش الكثري منا الوقوف عليه‪.‬‬
‫ومهًّم بلغت قوة الرابطة بني عامل الجسيًّمت وعاملنا‪ ،‬فإن تقدم فيزياء القرن العرشين‬
‫مل يقترص عىل تقديم آفاق جديدة فقط لظواهر تتجاوز إدراكنا املبارش‪ .‬أريد العودة‪ ،‬عىل‬
‫مراحل‪ ،‬من نهايات مستويات القياس التي كنت أناقشها إىل املستويات األكرث ألفة لنا‪.‬‬
‫ال يشء مبارش أكرث من إدراكنا للزمان واملكان‪ .‬فهو يشكل جز ًءا مفصليًا يف تطور‬
‫الوعي اإلنساين‪ .‬تصنف محددات معروفة ملراحل السلوك الحيواين حسب تغريات اإلدراك‬
‫املكاين والزماين‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬متيش الهريرة بال خشية فوق حفرة مغطاة بالزجاج‬
‫الشبيك (البليكسيغالس) حتى عمر معني تبدأ فيه الحيوانات بإدراك مدى خطورة وجود‬
‫مساحة فارغة تحت أقدامها‪ .‬لذا فهو أمر مدهش أن نكتشف‪ ،‬يف بداية القرن العرشين‪ ،‬أن‬
‫الزمان واملكان عىل صلة حميمة ببعضهًّم بطريقة مل نظنها يو ًما‪ .‬قلة من يعرتضون عىل كون‬
‫اكتشاف ألربت آينشتاين لهذه الصلة من خالل نظريتيه الخاصة والعامة للنسبية أحد أبرز‬
‫اإلنجازات الفكرية لعرصنا‪ .‬وباألثر الرجعي‪ ،‬من الواضح أن قفزاته االستنتاجية كانت مدهشة‬
‫الشبه لساكن الكهف يف مثالنا‪.‬‬
‫كًّم ناقشت‪ ،‬أسس آينشتاين نظرية النسبية الخاصة به عىل الرغبة باملحافظة عىل‬
‫االتساق مع نظرية ماكسويل الكهرومغناطيسية‪ .‬يف هذه النظرية األخرية‪ ،‬أذكركم أن رسعة‬

‫‪109‬‬
‫الضوء ميكن اشتقاقها بديه ًيا بالنسبة لثابتني أساسيني يف الطبيعة‪ :‬شدة القوة الكهربائية‬
‫بني شحنتني وشدة القوة املغناطيسية بني مغناطيسني‪ .‬تشري النسبية الغاليلية إىل أن هذين‬
‫يجب أن يكونا بنفس القيمة بالنسبة ألي راصدين ينتقالن برسعة ثابتة بالنسبة لبعضهًّم‪.‬‬
‫ولكن هذا يعني أن كل الراصدين يجب أن يقيسوا رسعة الضوء بنفس القيمة‪ ،‬بغض النظر عن‬
‫رسعاتهم (الثابتة) أو رسعة مصدر الضوء‪ .‬بالتايل‪ ،‬وصل آينشتاين إىل فرضيته األساسية عن‬
‫النسبية‪ :‬رسعة الضوء يف الفراغ ثابت كوين‪ ،‬مستقل عن رسعة املصدر أو الراصد‪.‬‬
‫ويف حال مل تكن سخافة هذه الفرضية بالنسبة للفطرة واضحة للقارئ بشكل تام‪،‬‬
‫مثاال آخر عىل ما يعنيه ذلك‪ .‬للسيطرة عىل البيت األبيض يف هذا الزمان‪ ،‬يبدو أن‬
‫ألقدم لكم ً‬
‫من الرضوري للحزب السيايس الرابح أن يظهر أنه يغطي بالوسط‪ ،‬بينًّم الحزب اآلخر إما عىل‬
‫ميني الوسط أو يساره‪ .‬لذا يكون هناك بعض التشكيك عندما يدعي الحزبان‪ ،‬قبل االنتخابات‪،‬‬
‫كال منهًّم قد سيطر عىل الوسط‪ .‬إن فرضية آينشتاين‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬تجعل ادعا ًء كهذا‬
‫أن ً‬
‫ممكنًا!‬
‫تخيلوا راصدين يف حركة نسبية ميران ببعضهًّم يف لحظة إشعال أحدهًّم ملفتاح‬
‫الضوء‪ .‬تنتقل حزمة كروية الشكل يف كل االتجاهات إلضاءة العتمة‪ .‬ينتقل الضوء برسعة‬
‫جا من املصدر‪ ،‬ولكنه يفعل‬
‫شديدة إىل درجة عدم إدراكنا عاد ًة الستغراقه أي زمن لالنتقال خار ً‬
‫ذلك‪ .‬الراصدة أ‪ ،‬يف حالة سكون بالنسبة ملصباح الضوء‪ ،‬ترى التايل بعد إشعال الضوء بقليل‪:‬‬

‫سرتى نفسها يف مركز الكرة الضوئية‪ ،‬وسيكون الراصد ب‪ ،‬الذي يتحرك إىل اليمني‬
‫بالنسبة لها‪ ،‬قد تحرك ملسافة ما يف الوقت الذي استغرقه الضوء للوصول إىل موقعه الحايل‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫جا كًّم لو كان‬
‫الراصد ب‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬سيقيس أشعة الضوء تلك نفسها كأنها تنتقل خار ً‬
‫جا بالنسبة له‪ ،‬حسب‬
‫لها رسعة ثابتة بالنسبة له وبالتايل وكأنها تنتقل نفس املسافة خار ً‬
‫فرضية آينشتاين‪ .‬وبالتايل فسريى نفسه وكأنه مركز الكرة‪ ،‬بينًّم تتحرك أ إىل يسار املركز‪.‬‬

‫كال من الراصدين سيدعي أنه مركز الكرة‪ .‬يخربنا حدسنا أن هذا‬


‫بكلًّمت أخرى‪ ،‬فإن ً‬
‫كال من البطلني فعالً يف املركز! ال‬
‫مستحيل‪ .‬ولكن‪ ،‬عىل عكس السياسة‪ ،‬يف هذه الحالة فإن ً‬
‫بد أن يكونا إن كان آينشتاين محقًا‪.‬‬
‫كيف ميكن لذلك أن يكون؟ فقط لو كان كل من الراصدين بطريقة ما يقيس الزمان‬
‫واملكان بشكل مختلف عن اآلخر‪ .‬إذن عندما تقيس الراصدة أن املسافة بينها وبني كل النقاط‬
‫عىل سطح كرة الضوء نفسها واملسافة بني الراصد اآلخر وبني الكرة أقل يف أحد االتجاهات‬
‫وأكرب يف اآلخر‪ ،‬ميكن للراصد اآلخر أن يقيس هذه األشياء نفسها ويصل إىل إجابات مختلفة‪.‬‬
‫إن إطالق الزمان واملكان حل محله إطالق رسعة الضوء‪ .‬هذا ممكن‪ ،‬ويف الحقيقة فإن كل‬
‫التناقضات التي متطرنا بها النسبية ممكنة‪ ،‬ألن معلوماتنا عن األحداث البعيدة غري مبارشة‪ .‬ال‬
‫ميكننا أن نكون هنا وهناك يف الوقت نفسه‪ .‬الطريقة الوحيدة ملعرفة ما يحدث هناك اآلن هو‬
‫مثال‪ .‬ولكننا إن تلقيناها اآلن‪ ،‬فال بد أنها قد أرسلت حينذاك‪.‬‬
‫استقبال إشارة ما‪ ،‬كشعاع ضوء ً‬
‫لسنا معتادين عىل التفكري بهذه الطريقة‪ ،‬ألن رسعة الضوء كبرية إىل حد أن حدسنا‬
‫يخربنا أن األحداث القريبة التي نراها اآلن تحدث بالفعل اآلن‪ .‬ولكن هذا مجرد مصادفة نتيجة‬
‫ظرفنا‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فهي مصادفة منترشة إىل درجة أن لوال اسرتشاد آينشتاين باملشاكل األساسية‬
‫مستحيال أن يستطيع أن «يرى» ما وراء‬
‫ً‬ ‫للكهرومغناطيسية يف التفكري يف الضوء‪ ،‬لرمبا كان‬
‫انعكاس الكهف الذي نسميه اآلن‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫عندما أخذ صورة بكامريتكم الخاصة‪ ،‬فأنتم معتادون عىل تصورها كلقطة يف الزمن‪:‬‬
‫هذه لحظة قفز الكلب عىل لييل بينًّم كانت ترقص‪ .‬ولكن‪ ،‬ليس هذا صحي ًحا متا ًما‪ .‬فهي متثل‬
‫لحظةً‪ ،‬ولكن ليس يف الزمن‪ .‬إن الضوء الذي تستقبله الكامريا عند لحظة تسجيل الفيلم‬
‫للصورة يف نقاط مختلفة من الفيلم كان قد أرسل يف أوقات مختلفة‪ ،‬إذ تظهر هذه النقاط‬
‫أوال‪ .‬بالتايل‪ ،‬فإن الصورة ليست رشيح ًة يف‬
‫األشياء األبعد عن الكامريا وهي ترسل الضوء ً‬
‫الزمن‪ ،‬بل‪ ،‬باألحرى‪ ،‬مجموعة من الرشائح يف املكان يف أزمان مختلفة‪.‬‬
‫إن طبيعة املكان هذه «الشبيهة بالزمان» ال تدرك عاد ًة بسبب اختالف املقاييس البرشية‬
‫مثال‪ ،‬يف جزء من مئة من الثانية‪ ،‬وهو الطول الزمني‬
‫للمكان عن املقاييس البرشية للزمان‪ً .‬‬
‫رتا‪ ،‬أو ما يكاد يعادل مسافة عرض الواليات‬
‫للقطة تقليدية‪ ،‬ينتقل الضوء نحو ‪ 3,000‬كيلوم ً‬
‫املتحدة! مع ذلك‪ ،‬ومع أن الكامريا ليس لها عمق حقل كهذا‪ ،‬فإن اآلن‪ ،‬الذي تلتقطه صورة‬
‫فوتوغرافية‪ ،‬ليس مطلقًا بأي شكل‪ .‬فهو فريد متعلق بالراصد الذي يلتقط الصورة‪ .‬هو ميثل‬
‫«اآلن وهنا» و«هناك وحينذاك» لكل راصد مختلف‪ .‬فقط أولئك الراصدون املوجودون يف هنا‬
‫نفسها ميكنهم أن يشهدوا اآلن ذاته‪.‬‬
‫تخربنا النسبية‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬إن الراصدين املتحركني بالنسبة لبعضهًّم ال ميكن أن‬
‫يشهدا نفس اآلن‪ ،‬حتى لو كان كالهًّم هنا يف نفس اللحظة‪ .‬وهذا ألن إدراكهًّم ملا هو «هناك‬
‫مثاال‪ .‬وبينًّم ال أنوي هنا ترجيع كل املحارضات املعتادة يف‬
‫وحينذاك» مختلف‪ .‬ألقدم لكم ً‬
‫النصوص األساسية عن النسبية‪ ،‬فإنني سأستخدم هنا مثاالً معروفًا ألنه يعود إىل آينشتاين‪،‬‬
‫مثاال أفضل‪ .‬لنقل إن راصدين عىل قطارين مختلفني‪ ،‬يتحركان عىل سكتني‬
‫وألنني مل أر قط ً‬
‫متوازيتني برسعة ثابتة بالنسبة لبعضهًّم‪ .‬ال يهم من يتحرك فعليًا‪ ،‬ألن ال طريقة ملعرفة ذلك‬
‫حقًا‪ ،‬باملعنى املطلق‪ ،‬بأي حال‪ .‬لنقل إنه يف لحظة عبور هذين الراصدين‪ ،‬الذي يوجد كل منهًّم‬
‫يف مركز قطاره‪ ،‬من بعضهًّم‪ ،‬يلمع الربق‪ .‬وزياد ًة عىل ذلك‪ ،‬لنقل إنه يربق مرتني‪ ،‬مر ًة عند‬
‫مقدمة القطارين ومر ًة عند نهايتهًّم‪ .‬لنأخذ منظور الراصد أ لحظة رؤيته ملوجات الضوء بسبب‬
‫ملعتي الربق‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫مبا أنه يرى ملعتي الربق بنفس الوقت من طريف القطار‪ ،‬وهو يف مركز قطاره‪ ،‬فلن‬
‫يكون أمامه خيار سوى أن يعترب أن اللمعتني حدثتا يف الوقت نفسه متا ًما‪ ،‬الذي قد يسميه‬
‫اآلن مع أنه يف الحقيقة كان حينذاك‪ .‬زياد ًة عىل ذلك‪ ،‬مبا أن الراصد ب اآلن عىل ميني أ‪ ،‬فإن‬
‫ب سريى ملعة الربق اليميني قبل أن يرى ملعة الربق اليساري‪.‬‬
‫ال يزعج هذا أح ًدا يف العادة‪ ،‬ألننا جمي ًعا نعزو الفرق يف زمن الرصد بالنسبة للراصد ب‬
‫لحقيقة أنه كان يتحرك باتجاه أحد منبعي الضوء مبتع ًدا عن اآلخر‪ .‬ولكن‪ ،‬يخربنا آينشتاين أنه‬
‫من املستحيل عىل ب أن يرصد هذا األثر‪ .‬إن رسعة كل من شعاعي الضوء تجاهه سيكون نفسه‬
‫كًّم لو كان ال يتحرك عىل اإلطالق‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن ب سوف «يرصد» ما ييل‪:‬‬

‫من هنا‪ ،‬سيستنتج ب –بسبب (أ) أنه يرى ملعة برق قبل اآلخر‪( ،‬ب) أن الضوء كان قد‬
‫أرسل من طريف القطار الذي يجلس يف مركزه‪( ،‬ج) ألن الضوء ينتقل بنفس الرسعة يف كال‬
‫فعال! ال توجد‬
‫االتجاهني– أن الربق اليميني حدث قبل اليساري‪ .‬وبالنسبة له‪ ،‬فإن ذلك حدث ً‬
‫تجربة ميكن ألي من أ أو ب أن يجريها تشري إىل العكس‪ .‬كل من أ وب سيتفق عىل حقيقة أن‬
‫ب رأى ملعة الربق األمين قبل األيرس (ال ميكن أن يختلفا فيًّم يحدث يف نقطة واحدة يف املكان‬
‫يف لحظة واحدة)‪ ،‬ولكن سيكون لكل منهًّم تفسري مختلف‪ .‬كل تفسري سيكون أساس اآلن‬

‫‪113‬‬
‫الخاص بكل شخص‪ .‬لذا ال بد لهذين اآلنني أن يكونا مختلفني‪ .‬األحداث البعيدة املتزامنة‬
‫بالنسبة لراصد ال يجب بالرضورة أن تكون متزامنة بالنسبة لراصد آخر‪.‬‬
‫أدى النوع نفسه من التجارب الفكرية بآينشتاين إىل إظهار أن وجهني آخرين لصورتنا‬
‫عن املكان املطلق والزمان املطلق يجب أن ينبثقا بالنسبة لراصدين متحركني بالنسبة لبعضهًّم‪.‬‬
‫سوف «يرصد» أ أن ساعة ب تتحرك ببطء‪ ،‬وسوف «يرصد» ب أن ساعة أ تتحرك ببطء‪ .‬زيادة‬
‫عىل ذلك‪ ،‬فإن أ سوف «يرصد» أن قطار ب أقرص من قطاره‪ ،‬و«يرصد» ب أن قطار أ أقرص من‬
‫قطاره‪.‬‬
‫وحتى ال يظن القارئ أن هذه مجرد تناقضات إدراك‪ ،‬لنوضح أنها ليست كذلك‪ .‬سوف‬
‫يقيس كل راصد مرور الزمن عىل أنه مختلف وسوف يقيس األطوال عىل أنها مختلفة‪ .‬ومبا أن‬
‫القياس‪ ،‬يف الفيزياء‪ ،‬هو ما يحدد الواقع‪ ،‬وألننا ال نكرتث للوقائع التي تتعدى القياس‪ ،‬فإن‬
‫هذا يعني أن هذه األشياء تحدث فعليًا‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬فهي تحدث يوم ًيا بطرق ميكننا قياسها‪.‬‬
‫األشعة الكونية التي تهطل عىل األرض كل ثانية من الفضاء تحتوي عىل جسيًّمت ذات طاقات‬
‫شديدة االرتفاع‪ ،‬تنتقل برسعات قريبة ج ًدا من رسعة الضوء‪ .‬وعندما تصطدم بالغالف الجوي‬
‫العلوي‪ ،‬فهي ترتطم بنوى ذرات يف الهواء و*تتفكك* لشالل من الجسيًّمت األولية األخرى‪،‬‬
‫واألخف‪ .‬وأحد أكرث الجسيًّمت التي تنتج بهذه الطريقة شيو ًعا يدعى امليوون‪ .‬وهذا الجسيم‬
‫يطابق فرضيًا اإللكرتونات املألوفة التي تكون األجزاء الخارجية من الذرات‪ ،‬إال أنه أثقل‪ .‬نحن‬
‫ال نعرف حاليًا سبب وجود نسخة طبق األصل عن اإللكرتون‪ ،‬ما أدى بالفيزيايئ األمرييك‬
‫البارز آي‪ .‬آي‪ .‬رايب إىل االعرتاض‪* :‬من طلب هذا؟* عند اكتشاف امليوون‪ .‬بأي حال‪ ،‬فإن‬
‫امليوون‪ ،‬وألنه أثقل من اإللكرتون‪ ،‬ميكن أن يتفكك إىل إلكرتون وجسيمي نيوترينو‪ .‬وقد قسنا‬
‫العمر الزمني لهذه العملية يف املخترب ووجدنا أن للميوونات عم ًرا زمنيًا يبلغ نحو جزء من‬
‫املليون من الثانية‪ .‬يجب عىل جسيم عمره الزمني جزء من املليون من الثانية يسري برسعة‬
‫رتا قبل أن يتفكك‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن امليوونات التي تنتج يف الغالف‬
‫الضوء أن ينتقل نحو ‪ ٣٠٠‬م ً‬
‫الجوي العلوي أال تصل قط إىل األرض‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فهي الشكل السائد من األشعة الكونية (إىل‬
‫جانب الفوتونات واإللكرتونات) الذي يصل بالفعل!‬
‫تفرس النسبية هذه املعضلة‪ .‬فإن *ساعة* امليوون تسري ببطء باملقارنة مع ساعتنا‪ ،‬ألن‬
‫امليوون يسري قرب رسعة الضوء‪ .‬لذلك‪ ،‬ففي إطاره الخاص‪ ،‬يتفكك امليوون بشكل متوسط‬

‫‪114‬‬
‫خالل بضع أجزاء من املليون من الثانية‪ .‬ولكن‪ ،‬حسب اقرتاب امليوون من رسعة الضوء خالل‬
‫هذه الفرتة القصرية يف إطاره الزمني‪ ،‬رمبا متر بضع ثوانٍ يف إطارنا املرجعي عىل األرض‪.‬‬
‫إن الزمن يتباطأ حقًا لألجسام املتحركة‪.‬‬
‫وال أستطيع مقاومة ترككم مع معضلة أخرى (مفضلتي!) تشري إىل مدى ما قد تبلغه‬
‫هذه اآلثار من واقعية‪ ،‬مع التأكيد بنفس الوقت عىل مدى شخصية مفهومنا عن الواقع‪ .‬لنقل‬
‫رسا‬
‫إن لديكم سيارة أمريكية كبرية‪ ،‬جديدة تريدون التباهي بها من خالل قيادتها برسعة تبلغ ك ً‬
‫معت ًدا به من رسعة الضوء إىل كراجي‪ .‬اآلن فإن سيارتكم‪ ،‬يف حال السكون‪ ،‬بطول ‪ 12‬قد ًما‪.‬‬
‫كراجي أيضً ا بطول ‪ 12‬قد ًما‪ .‬ولكن‪ ،‬إذا كنتم تتحركون برسعة كبرية‪ ،‬فإنني سأقيس أن‬
‫سيارتكم طولها فقط‪ ،‬لنقل‪ 8 ،‬أقدام‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ال يجب أن يكون هناك مشكلة يف دخول‬
‫سيارتكم يف كراجي للحظة قصرية قبل أن تصطدموا بالجدار الخلفي أو أفتح أنا بابًا يف خلف‬
‫الكراج ألسمح لكم بالخروج‪ .‬أما أنتم‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬فسرتون أنني أنا وكراجي منر من جانبكم‬
‫برسعة شديدة ولذلك فإن كراجي بالنسبة لكم بطول ‪ 8‬أقدام فقط‪ ،‬بينًّم سيارتكم ما تزال‬
‫بطول ‪ 12‬قد ًما‪ .‬بالتايل‪ ،‬فمن املستحيل أن تتسع سيارتكم يف كراجي‪.‬‬
‫فعال أن أغلق باب‬
‫كال منا عىل حق‪ .‬ميكنني ً‬
‫إن املعجز يف هذه املعضلة‪ ،‬من جديد‪ ،‬أن ً‬
‫كراجي عليكم وأبقيكم يف كراجي للحظة‪ .‬أما أنتم‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬فستشعرون باالصطدام‬
‫بالجدار الخلفي قبل أن أغلق الباب‪.‬‬
‫ال ميكن أن يكون يشء واقعيًا أكرث ألي من الطرفني‪ ،‬ولكن كًّم ترون‪ ،‬فإن الواقع يف‬
‫هذه الحالة يف عني الناظر‪ .‬النقطة هي أن اآلن لكل شخص ذايت بالنسبة لألحداث البعيدة‪.‬‬
‫يرص السائق أن مقدمة سيارته اآلن تالمس الجدار الخلفي للكراج بينًّم تربز خلفية سيارته من‬
‫حا‪ ،‬بينًّم يرص صاحب الكراج أن الجدار األمامي اآلن مغلق‬
‫الباب األمامي‪ ،‬الذي ما يزال مفتو ً‬
‫ومقدمة السيارة مل تصل بعد إىل الجدار الخلفي‪.‬‬
‫إذا كان اآلن الخاص بكم غري اآلن الخاص يب وثانيتكم غري ثانيتي‪ ،‬وإنشكم غري إنيش‪،‬‬
‫فهل من يشء ما يزال بإمكاننا االعتًّمد عليه؟ الجواب هو نعم‪ ،‬وهو يتصل بالروابط الجديدة‬
‫بني املكان والزمان التي تكشفها النسبية‪ .‬لقد سبق أن وصفت كيف أنه مبجرد أخذ رسعة‬
‫الضوء املنتهية بالحسبان‪ ،‬فإن املكان يكتسب صف ًة زمانية‪ .‬ولكن هذه األمثلة تدفع هذه الفكرة‬
‫إىل حد أبعد‪ .‬إذ ميكن ملسافة شخص يف املكان‪ ،‬كاملسافة بني طريف قطار مقاس ًة يف اللحظة‬

‫‪115‬‬
‫نفسها‪ ،‬أن تشمل لشخص آخر أيضً ا مساف ًة يف الزمن‪ .‬سيرص الشخص اآلخر أن القياسات‬
‫نفسها قد أجريت يف الحقيقة يف أزمنة مختلفة‪ .‬بكالم آخر‪ ،‬ميكن أن يكون «مكان» شخص‬
‫«زمان» شخص آخر‪.‬‬
‫باألثر الرجعي‪ ،‬ليس ذلك مفاجئًا‪ .‬إن ثبات الضوء يربط الزمان واملكان بطريقة مل يكونا‬
‫يرتبطان بها من قبل‪ .‬لتقاس الرسعة –واملعطاة بقيمة املسافة املقطوعة يف خالل زمن ثابت–‬
‫عىل أنها نفسها لراصدين مختلفني بينهًّم حركة نسبية‪ ،‬يجب أن تتغري قياسات كل من الزمان‬
‫واملكان م ًعا بني الراصدين‪ .‬هناك فعالً ما هو مطلق‪ ،‬ولكنه ال يتمثل بالزمان لوحده‪ ،‬وال املكان‬
‫لوحده‪ .‬بل يجب أن يشمل مزي ًجا من االثنني‪ .‬وليس صع ًبا إيجاد ما هو هذا املطلق‪ .‬إن املسافة‬
‫التي يقطعها شعاع ضوء برسعة ‪ c‬لفرتة زمنية ‪ t‬هي ‪ .d=ct‬لو قاس كل الراصدين اآلخرين‬
‫الرسعة نفسها ‪ c‬لشعاع الضوء‪ ،‬فإن األزمنة لديهم ’‪ t‬واملسافات لديهم ’‪ d‬يجب أن تكون بحيث‬
‫تحقق ’‪ .d’=ct‬ولنكتبها بصيغة مرموقة أكرث‪ ،‬برتبيع هذه العالقات‪ ،‬فإن الكمية ‪s2=c2t2-‬‬
‫‪ d2=c2t‘2-d‘2‬يجب أن تساوي الصفر ويجب بالتايل أن تكون نفسها لجميع الراصدين‪ .‬وهذا‬
‫مفتاح ميكنه أن يضع صورتنا عن الزمان واملكان يف تشبيه مبارش لقفزة البصرية املعرفية‬
‫لساكن الكهف الذي تطرقنا إليه‪.‬‬
‫تصوروا الظالل التي تلقيها مسطرة عىل جدار الكهف‪ .‬يف إحدى الحاالت‪ ،‬ميكن رؤية‬
‫هذا‪:‬‬

‫ويف حالة أخرى‪ ،‬ميكن أن تلقي املسطرة بظل يبدو هكذا‪:‬‬

‫بالنسبة لرجل الكهف املسكني‪ ،‬فإن األطوال املحددة لن تكون ثابتة‪ .‬كيف ذلك؟ نحن‪،‬‬
‫الذين ليس علينا أن نكتفي باملساقط ثنائية األبعاد بل نعيش يف فراغ ثاليث األبعاد‪ ،‬ميكننا أن‬
‫نهتدي لسبيلنا حول املشكلة‪ .‬فبالنظر إىل املسطرة من األعىل‪ ،‬ميكننا أن نرى أنه يف الحالتني‬
‫املختلفتني كانت املسطرة يف الوضعني الظاهرين أدناه‪:‬‬

‫‪116‬‬
‫يف املرة الثانية‪ ،‬أديرت‪ .‬نعلم أن هذا الدوران ال يغري طول املسطرة ولكنه يغري فقط‬
‫مثال‪ ،‬كان هناك راصدان مختلفان يرون الظالل‬
‫«مركبة» طولها الساقطة عىل الجدار‪ .‬إذا‪ً ،‬‬
‫الساقطة بزوايا قامئة‪ ،‬لكان للمسطرة املدارة مساقط االطوال كًّم يف الشكل‪:‬‬

‫إذا كان الطول الفعيل للمسطرة ‪ ،L‬يخربنا فيثاغورس بأن ‪ .L2=x2+y2‬بالتايل‪ ،‬فحتى‬
‫عند تغري الطولني املفردين ‪ x‬و‪ y‬لكل من الراصدين‪ ،‬فإن الجمع بينهًّم سيظل ثاب ًتا دامئًا‪.‬‬
‫بالنسبة لراصد يقيس جهة ‪ ،y‬سيكون امتداد املسطرة األصلية صف ًرا‪ ،‬بينًّم يكون لآلخر أعظم ًيا‬
‫بجهة ‪ .x‬بينًّم يكون للمسطرة املدارة امتداد غري صفري عىل املحور ‪ y‬ولكنها ذات امتداد أقرص‬
‫عىل ‪.x‬‬
‫هذا مشابه بشكل ملحوظ لسلوك الزمان واملكان لراصدين بينهًّم حركة نسبية‪ .‬قد يبدو‬
‫قطار يتحرك برسعة كبرية أقرص بالنسبة يل‪ ،‬ولكنه سيكون لديه يشء من االمتداد «الزمني»–‬
‫أي‪ ،‬لن تبدو الساعتان عىل طريف القطار متزامنتني بالنسبة يل إذا كانا كذلك بالنسبة للراصد‬

‫‪117‬‬
‫عىل القطار‪ .‬واألهم‪ ،‬أن الكمية ‪ s‬تحايك الطول املكاين ‪ L‬يف مثال الكهف‪ .‬لنذكر أن ‪ s‬كانت‬
‫معرفة عىل أنها املسافة «الزمكانية» ‪ .s2=c2t2-d2‬وهي متثل مزي ًجا من مسافتني منفصلتني‬
‫يف الزمان واملكان بني األحداث‪ ،‬وهي دو ًما تساوي الصفر بني نقطتني يف الزمكان عىل مسار‬
‫أي شعاع ضوء‪ ،‬بغض النظر عن حقيقة أن الراصدين املختلفني إذا كان بني كل زوج منهم‬
‫قيًّم فردية مختلفة لكل من ‪ d‬و‪ t‬للمسافات الفردية يف الزمان واملكان‬
‫حركة نسبية سيعينون ً‬
‫بني النقطتني اللتني يقيسونهًّم‪ .‬ويتضح أنه حتى لو مل تكن هاتان النقطتان مرتبطتني بشعاع‬
‫ضوء ولكنهًّم متثالن أي نقطتني زمكانيتني يفصل بينهًّم طول ‪ d‬وزمن ‪ t‬لراصد واحد‪ ،‬فإن‬
‫املزيج ‪( s‬الذي مل يعد من الرضوري أن يكون مساويًا للصفر) سيكون نفسه لكل الراصدين‪،‬‬
‫مجد ًدا بغض النظر عن حقيقة أن الفواصل الزمنية واملكانية املنفصلة املقاسة املختلفة قد‬
‫تختلف من راصد آلخر‪.‬‬
‫بالتايل‪ ،‬هناك حقًا يف الزمان واملكان يشء مطلق‪ :‬الكمية ‪ .s‬وهي متثل بالنسبة‬
‫للراصدين املتحركني بالنسبة لبعضهم ما متثله ‪ L‬بالنسبة للراصدين الدائرين بالنسبة‬
‫لبعضهًّم‪ .‬أي هي الطول «الزمكاين»‪ .‬لذا فإن أفضل وصف لعاملنا الذي نعيش فيه هو أنه‬
‫فضاء رباعي األبعاد‪ :‬األبعاد الثالثة املكانية و«بعد» الزمان متزاوجة بنفس قدر (وإن مل يكن‬
‫بالطريقة نفسها بالضبط) تزاوج البعدين ‪ x‬و‪ y‬أعاله‪ .‬وتعطينا الحركة مساقط مختلفة لهذا‬
‫الفضاء رباعي األبعاد عىل رشيحة ثالثية األبعاد ندعوها اآلن‪ ،‬متا ًما كًّم يعطي التدوير مساقط‬
‫مختلفة لجسم ثاليث األبعاد عىل الجدار ثنايئ األبعاد للكهف! كان آلينشتاين‪ ،‬مع بصريته‬
‫املبنية عىل إرصاره عىل ثبات الضوء‪ ،‬فضل فعل ما بالكاد يحلم به أي منا‪ .‬لقد هرب من قيود‬
‫كهفنا ليلمح ألول مرة واق ًعا خفيًا وراء طرفنا اإلنساين املحدود‪ ،‬متا ًما كًّم فعل ساكن الكهف‬
‫يف مثالنا حني اكتشف أن الدائرة واملستطيل انعكاسان للجسم نفسه‪.‬‬
‫ولكيال ننكر فضله‪ ،‬فإن آينشتاين مل يتوقف عند هذا الحد‪ .‬مل تكن الصورة مكتمل ًة بعد‪.‬‬
‫دليال له‪ .‬كل الراصدين املتحركني برسعات نسبية ثابتة يرصدون أن‬
‫استخدم من جديد الضوء ً‬
‫لشعاع الضوء نفس الرسعة ‪ c‬بالنسبة لكل منهم‪ ،‬وبالتايل ال ميكن ألي منهم أن يثبت أنه هو‬
‫الثابت واآلخرون متحركون‪ .‬الحركة نسبية‪ .‬ولكن ماذا لو مل يكونوا يتحركون برسعة ثابتة؟‬
‫ماذا لو تسارع أحدهم؟ هل سيتفق الجميع يف هذه الحالة بال شك عىل أن الغريب بينهم هو‬
‫املتسارع‪ ،‬مبا فيهم هذا الراصد الوحيد؟ الكتشاف بعض ما يف هذه القضايا‪ ،‬فكر آيننشتاين‬

‫‪118‬‬
‫بتجربة خضناها جمي ًعا‪ .‬عندما تكونون يف املصعد‪ ،‬كيف تعرفون متى بدأ بالحركة وبأي‬
‫اتجاه؟ حسنًا‪ ،‬إن بدأ بالحركة إىل األعىل‪ ،‬تشعرون بثقل لحظي؛ وإن تحرك لألسفل‪ ،‬تشعرون‬
‫بخفة لحظية‪ .‬ولكن كيف تعلمون أنه تحرك بالفعل‪ ،‬وليست الجاذبية هي التي ازدادت فجأة؟‬
‫الجواب هو‪ ،‬أنتم ال تعلمون‪ .‬ال يوجد تجربة واحدة ميكن إجراؤها يف مصعد مغلق‬
‫إلخباركم ما إذا كنتم تتسارعون أو أنكم يف حقل جاذبية أقوى‪ .‬ميكننا أن نجعل األمر أبسط‬
‫حتى‪ .‬لنضع املصعد يف فضا ٍء خا ٍل‪ ،‬بال أرض حوله‪ .‬عندما يكون املصعد يف حال السكون‪ ،‬أو‬
‫يتحرك برسعة ثابتة‪ ،‬فال يشء يسحبكم باتجاه أرضيته‪ .‬ولكن‪ ،‬إن تسارع املصعد باتجاه‬
‫قليال بيشء من القوة لتجعلكم تتسارعون مع‬
‫األعىل‪ ،‬فإن األرضية ستدفعكم إىل األعىل ً‬
‫املصعد‪ .‬فستشعرون وأنتم يف املصعد بأنكم تدفعون باتجاه األرضية‪ .‬وإن كان يف أيديكم كرة‬
‫وتركتموها‪ ،‬فهي سوف «تسقط» باتجاه األرضية‪ .‬ملاذا؟ ألنكم إن كنتم يف البداية يف حال‬
‫سكون‪ ،‬فهي ستحاول البقاء عىل تلك الحال‪ ،‬حسب قانون غاليليو‪ .‬ولكن األرضية‪ ،‬من جهتها‪،‬‬
‫ستتسارع باتجاه األعىل‪ ،‬باتجاهها‪ .‬من وجهة نظركم‪ ،‬وأنتم تتسارعون مع املصعد‪ ،‬فإن الكرة‬
‫سوف تسقط إىل األسفل‪ .‬إضاف ًة إىل ذلك‪ ،‬فإن هذه الحجة مستقلة عن كتلة الكرة‪ .‬إذا كان‬
‫لديكم ست كرات‪ ،‬لكل منها كتلة مختلفة‪ ،‬فهي سوف «تقع» جمي ًعا بنفس التسارع‪ .‬من جديد‪،‬‬
‫فإن هذا ألن األرضية هي التي تتسارع فعليًا إىل األعىل باتجاه الكرات جميعها بنفس املعدل‪.‬‬
‫لو كان غاليليو معكم يف املصعد نفسه‪ ،‬فسوف يقسم أنه عىل كوكب األرض‪ .‬كل ما‬
‫أمىض حياته املهنية يف إثبات أنه طريقة سلوك األجسام عىل سطح األرض سيكون نفسه‬
‫بالنسبة لألجسام يف املصعد‪ .‬إذن‪ ،‬بينًّم أدرك غاليليو أن قوانني الفيزياء يجب أن تكون نفسها‬
‫لكل الراصدين املتحركني برسعة ثابتة‪ ،‬أدرك آينشتاين أن قوانني الفيزياء متطابقة بالنسبة‬
‫للراصدين املتحركني بتسارع ثابت من جهة‪ ،‬وأولئك املوجودين يف حقل ثقايل ثابت من جهة‬
‫أخرى‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬فقد حاجج بأنه حتى التسارع نسبي‪ .‬تسارع شخص هو جاذبية‬
‫شخص آخر‪.‬‬
‫من جديد‪ ،‬فقد اسرتق آينشتاين النظر إىل ما وراء الكهف‪ .‬لو كان ميكن «خلق» الجاذبية‬
‫يف مصعد‪ ،‬لرمبا كنا جمي ًعا يف مصعد مجازي‪ .‬رمبا كان ما ندعوه جاذبي ًة يتعلق يف الحقيقة‬
‫بالنقطة التي ننظر منها‪ .‬ولكن ما املميز يف هذه النقطة؟ نحن عىل كوكب األرض‪ ،‬كتلة ضخمة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫رمبا أمكن رؤية ما نراه قو ًة بيننا وبني كتلة األرض عىل أنها قوة ناتجة من يشء تفعله هذه‬
‫الكتلة يف محيطنا‪ ،‬يف الزمان واملكان‪.‬‬
‫ولحل هذه األحجية‪ ،‬عاد آينشتاين إىل الضوء‪ .‬كان قد أظهر للتو أن ثبات الضوء هو ما‬
‫يحدد كيف يحاك الزمان واملكان م ًعا‪ .‬ماذا ميكن لشعاع ضوء أن يفعله يف املصعد املتسارع‬
‫يف املكان؟ حسنًا‪ ،‬بالنسبة لراصد خارجي‪ ،‬سيميض يف خط مستقيم برسعة ثابتة‪ .‬ولكن داخل‬
‫املصعد‪ ،‬الذي يتسارع إىل األعىل خالل هذا الوقت‪ ،‬فإن مسار شعاع الضوء سيبدو هكذا‪:‬‬

‫يف إطار املصعد‪ ،‬سيبدو أن الضوء ينحني لألسفل‪ ،‬ألن املصعد يتسارع إىل األعىل‬
‫مبتع ًدا عنه! بكلًّمت أخرى‪ ،‬سيبدو أنه يقع‪ .‬إذن‪ ،‬لو كان عىل مصعدنا املتسارع أن يكون نفس‬
‫مصعد ساكن يف حقل جاذبية‪ ،‬عىل الضوء أن ينحني أيضً ا يف حقل ثقايل! وليس هذا مفاجئًا‬
‫فعال أن الكتلة والطاقة متكافئان وتبادليان‪ .‬تزيد‬
‫ج ًدا يف الحقيقة‪ .‬كان آينشتاين قد أظهر ً‬
‫طاقة شعاع الضوء كتلة الجسم الذي ميتصه‪ .‬وبشكل مشابه‪ ،‬فإن كتلة جسم يشع ضو ًءا‬
‫تتناقص مبقدار يتناسب مع طاقة اإلشعاع‪ .‬لذلك‪ ،‬إذا كان الضوء يحمل طاقةً‪ ،‬فإن بإمكانه‬
‫الترصف كًّم لو كان ذا كتلة‪ .‬وكل األجسام ذات الكتلة تقع يف الحقل الثقايل‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هناك مشكلة أساسية يف هذه الفكرة‪ .‬الكرة التي تقع‪ ،‬تتسارع! تتغري رسعتها‬
‫مع موقعها‪ .‬ولكن‪ ،‬فإن ثبات رسعة الضوء هو الركيزة التي بنيت عليها النسبية الخاصة‪.‬‬
‫العقيدة األساسية للنسبية الخاصة هي أن الضوء ينتقل برسعة ثابتة لكل الراصدين‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن رسعة كل منهم بالنسبة لشعاع الضوء كًّم يراه شخص آخر‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن راص ًدا‬
‫يف الجزء األيرس العلوي من املصعد يراقب دخول الضوء يتوقع أن يقيس رسعة الضوء عىل‬

‫‪120‬‬
‫أنها ‪ ،c‬ولكن كذلك سيفعل راصد يف الجزء السفيل األمين‪ ،‬وهو يقيس رسعة الضوء أثناء‬
‫خروجه من املصعد‪ .‬ال يهم أن الراصد األدىن يتحرك برسعة أعىل عند رؤيته الضوء من الراصد‬
‫األول عند قياسه‪ .‬كيف ميكننا املواءمة بني هذه النتيجة وحقيقة أن الضوء ينحني عامل ًيا ويجب‬
‫بالتايل أنه «يقع»؟ عالوة عىل ذلك‪ ،‬مبا أن آينشتاين اقرتح أنني إذا كنت يف حقل ثقايل فسأرى‬
‫ما سأراه لو كنت يف مصعد متسارع‪ ،‬إذن‪ ،‬فأنا يف حالة سكون‪ ،‬ولكن يف حقل ثقايل‪ ،‬فسيقع‬
‫الضوء أيضً ا‪ .‬ميكن حدوث هذا فقط لو كانت رسعة الضوء تتغري عامل ًيا حسب املكان‪.‬‬
‫هناك طريقة وحيدة ميكن للضوء فيها أن ينحني ويتسارع عامل ًيا بينًّم ينتقل بخطوط‬
‫مستقيمة وتقاس رسعته لكل راصد يف كل نقطة عىل أنه ينتقل برسعة ‪ .c‬يجب أن تتغري‬
‫مساطر وساعات الراصدين املختلفني‪ ،‬اآلن يف إطار واحد –تلم الخاصة مبصعد متسارع‪ ،‬أو‬
‫الخاصة بالراصد الساكن يف حقل ثقايل– حسب املوضع!‬
‫ماذا يحدث للمعنى العاملي للمكان والزمان إذا حدث يشء من هذا القبيل؟ حسنًا‪ ،‬ميكننا‬
‫الحصول عىل فكرة جيدة بالعودة إىل كهفنا‪ .‬لنأخذ الصورة التالية‪ ،‬والتي تظهر مسار طائرة‬
‫من نيويورك إىل بومباي كًّم تظهر عىل جدار مسطح عىل الكهف‪:‬‬

‫كيف ميكننا أن نجعل هذا املسار املنحني يظهر محل ًيا كخط مستقيم‪ ،‬مع تحرك الطائرة‬
‫برسعة ثابتة؟ من الطرق السًّمح ألطوال املساطر بأن تتغري أثناء تحركها عىل السطح‪ ،‬بحيث‬
‫تقاس غرينالند‪ ،‬التي تبدو يف هذه الصورة أكرب من كل أوروبا بكثري‪ ،‬تقاس يف الحقيقة عىل‬
‫أوال حجم غرينالند وهو هناك ثم يعود لقياس حجم أوروبا‬
‫أنها أصغر من قبل راصد يقيس ً‬
‫بنفس املسطرة حني يكون عندها‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫قد يبدو من الجنون اقرتاح حل من هذا القبيل‪ ،‬عىل األقل بالنسبة للشخص يف الكهف‪.‬‬
‫ولكننا نعلم ما وراء ذلك‪ .‬الحل يف الحقيقة يكافئ إدراك أن السطح الذي رسمت عليه الصورة‬
‫هو‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬منح ٍن‪ .‬السطح يف الحقيقة كرة‪ ،‬أسقطت عىل مست ٍو مسطح‪ .‬بهذه الطريقة‪،‬‬
‫متتد املسافات القريبة من القطب يف املسقط بالنسبة للمسافات الحقيقية املقاسة عىل سطح‬
‫األرض‪ .‬وبالنظر إليها ككرة‪ ،‬وهو ما ميكننا فعله بفضل منظورنا ثاليث األبعاد‪ ،‬نتحرر‪ .‬املسار‬
‫الظاهر أعاله هو يف الحقيقة خط عرض‪ ،‬وهو خط مستقيم مرسوم عىل الكرة وهو أقرص‬
‫مسافة بني النقطتني‪ .‬تتبع طائرة تطري برسعة ثابتة يف مسار مستقيم بني هاتني النقطتني‬
‫منحن ًيا كهذا بالفعل‪.‬‬
‫ما االستنتاج الذي نستخلصه من هذا؟ لو أردنا أن نكون متسقني‪ ،‬علينا أن ندرك بأن‬
‫القواعد التي أسسناها إلطار متسارع‪ ،‬أو إلطار يوجد فيه حقل ثقايل‪ ،‬ليست غري معقولة بل‬
‫مكافئة الشرتاط كون الزمكان منحنيًا! ملاذا ال ميكننا الشعور بهذا االنحناء بشكل مبارش إن‬
‫كان موجو ًدا؟ ألننا نحصل دامئًا عىل نظرة محلية للمكان من منطور نقطة واحدة‪ .‬األمر كًّم‬
‫لو كنا حرش ًة تعيش يف كنساس‪ .‬يبدو عاملها‪ ،‬الذي يتكون من السطح ثنايئ األبعاد الذي‬
‫تزحف عليه‪ ،‬مسط ًحا كلوح‪ .‬فقط من خالل السًّمح ألنفسنا برفاهية مكاملة هذا السطح يف‬
‫إطار ثاليث األبعاد ميكننا بشكل مبارش تصور مدارنا‪ .‬وبشكل مشابه‪ ،‬إذا أردنا أن نتصور‬
‫بشكل مبارش منحنيًا للمكان ثاليث األبعاد‪ ،‬فعلينا إدخاله يف إطار رباعي األبعاد‪ ،‬وتصور هذا‬
‫مستحيل بالنسبة لنا كاستحالته عىل حرشة ترتبط حياتها بسطح األرض‪ ،‬والفضاء ثاليث‬
‫األبعاد خارج تجربتها املبارشة‪.‬‬
‫بهذا املعنى‪ ،‬كان آينشتاين كريستوفر كولومبوس القرن العرشين‪ .‬جادل كولومبوس‬
‫بأن األرض كروية الشكل‪ .‬إلدراك ذلك الواقع الخفي‪ ،‬جادل بأن بإمكانه اإلبحار إىل الغرب‬
‫والعودة من الرشق‪ .‬آينشتاين‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬جادل بأنه لرؤية أن فضاءنا ثاليث األبعاد ميكن‬
‫أن يكون منحن ًيا‪ ،‬عىل املرء فقط أن يتتبع سلوك شعاع الضوء يف حقل ثقايل‪ .‬هذا سمح له‬
‫أوال‪ ،‬يجب أن ينحني الضوء عندما يقرتب من‬
‫باقرتاح ثالث اختبارات كالسيكية لفرضيته‪ً .‬‬
‫الشمس مبقدار ضعفي ما لو كان فقط «يقع» يف فضاء مسطح‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬املدار اإلهليجي حول‬
‫الشمس بالنسبة لكوكب عطارد يجب أن يتغري توجهه‪ ،‬أو يستبق مداره‪ ،‬مبقدار ضئيل ج ًدا كل‬

‫‪122‬‬
‫مبنى طويل‬
‫ً‬ ‫عام‪ ،‬بسبب االنحناء الضئيل للفضاء قرب الشمس‪ .‬ثالثًا‪ ،‬تسري الساعات يف أدىن‬
‫بشكل أبطأ من أعاله‪.‬‬
‫كان معروفًا استباق مدار عطارد منذ زمن طويل‪ ،‬واتضح أن هذا املعدل كان مساويًا‬
‫ريا مبقدار التنبؤ‬
‫متا ًما لحسابات آينشتاين‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن تفسري يشء سبق رؤيته ليس مث ً‬
‫بيشء جديد كل ًيا‪ .‬وكان تنبؤا آينشتاين اآلخران يف النسبية العامة من هذا الصنف األخري‪ .‬ففي‬
‫عام ‪ ،1919‬سجلت بعثة يقودها السري آرثر ستانيل إيدنغتون إىل أمريكا الجنوبية لرصد‬
‫خسوف شميس كامل أن النجوم قرب الشمس التي ميكن رصدها يف الظالم كانت منحازة عن‬
‫حيث يتوقع أن تكون باملقدار الذي تنبأ به آينشتاين متا ًما‪ .‬بالتايل بدا أن أشعة الضوء تتبع‬
‫اسًّم عىل كل لسان! مل يكن حتى أربعني سنة‬
‫مسارات منحنية قرب الشمس‪ ،‬وأصبح آينشتاين ً‬
‫الحقة إىل أن أجري االختبار الكالسييك الثالث الذي اقرتحه آينشتاين‪ ،‬يف قبو مخترب الفيزياء‬
‫يف هارفرد من بني كل األماكن‪ .‬أظهر روبرت باوند وجورج ريبكا أن تواتر الضوء املنتج يف‬
‫القبو كان قياسه مختلفًا عنه عند استقبال حزمة الضوء يف أعىل املبنى‪ .‬كان انحياز التواتر‪،‬‬
‫وإن كان شديد الضآلة‪ ،‬أيضً ا متا ًما باملقدار الذي يتنبأ آينشتاين بأن ساع ًة تدق بهذا التواتر‬
‫تحيد به بني االرتفاعني املختلفني‪.‬‬
‫من وجهة نظر النسبية العامة‪ ،‬ميكن التفكري باملسارات املنحنية واملتسارعة التي تتبعها‬
‫أجسام يف حقل ثقايل‪ ،‬مبا فيها الضوء‪ ،‬عىل أنها ظواهر النحناء الفضاء الخفي‪ .‬من جديد‪،‬‬
‫من املفيد التفكري بتشبيه ثنايئ األبعاد‪ .‬لنأخذ املسقط ثنايئ األبعاد لجسم يدور بشكل حلزوين‬
‫نحو جسم أكرب‪ ،‬كًّم يظهر عىل جدار الكهف‪:‬‬

‫‪123‬‬
‫ميكننا فرض وجود قوة بني الجسمني لتفسري ذلك‪ .‬أو ميكننا تخيل أن السطح الحقيقي‬
‫الذي تحدث عليه هذه الحركة منحنٍ ‪ ،‬كًّم ميكننا أن نتصور يف إطار ثاليث األبعاد‪ .‬ال يشعر‬
‫مستقيًّم عىل هذا السطح املنحني‪:‬‬
‫ً‬ ‫الجسم بأي قوة من الكرة األكرب‪ ،‬بل يتبع مسا ًرا‬

‫بهذه الطريقة‪ ،‬جادل آينشتاين بأن قوة الجاذبية التي نقيسها بني جسمني ذوي كتلة‬
‫ميكن أن نعتربها بدل ذلك نتيج ًة لحقيقة أن وجود كتلة يسبب انحنا ًء يف الفضاء املحيط‪ ،‬وأن‬
‫األجسام التي تنتقل يف هذا الفضاء ال تتعدى أن تتبع مسارات مستقيمة يف زمكان منحنٍ ‪ ،‬ما‬

‫‪124‬‬
‫ينتج مسارات منحنية‪ .‬هناك بالتايل تغذية راجعة جديرة باملالحظة بني وجود املادة وانحناء‬
‫الزمكان‪ ،‬وهي من جديد تذكرة باألوروبوروس‪ ،‬األفعى التي تأكل نفسها‪ .‬يحكم انحناء الفضاء‬
‫حركة املادة‪ ،‬التي يحكم متوضعها الناتج بدوره انحناء الفضاء‪ .‬إن هذه التغذية الراجعة بني‬
‫املادة واالنحناء هي ما يجعل النسبية العامة يف التعامل أعقد بكثري من جاذبية نيوتن‪ ،‬حيث‬
‫الخلفية التي تتحرك فيها األجسام ثابتة‪.‬‬
‫ريا إىل حد أن آثاره ال ميكن استشعارها‪ ،‬وهذا أحد‬
‫عاد ًة ما يكون انحناء الفضاء صغ ً‬
‫أسباب كون مفهوم الفضاء املنحني يبدو غري ًبا لنا‪ .‬خالل انتقاله من نيويورك إىل لوس‬
‫أنجلوس‪ ،‬ينحني شعاع الضوء مبقدار نحو ميليمرت واحد فقط بسبب انحناء الفضاء الذي‬
‫مثال‪ ،‬يف املستعر‬
‫تسببه كتلة األرض‪ .‬ولكن‪ ،‬هناك أوقات‪ ،‬ترتاكم فيها حتى اآلثار الصغرية‪ً .‬‬
‫األعظم عام ‪ 1987‬الذي أرشت إليه سابقًا كان من بني املشاهدات الفلكية األكرث إثار ًة يف هذا‬
‫القرن‪ .‬ولكن‪ ،‬ميكن للمرء أن يحسب بسهولة –ويف الواقع‪ ،‬بلغت املفاجأة بهذه النتيجة يب‬
‫وأحد الزمالء أن كتبنا ورق ًة بحثي ًة عن أهميتها– أن االنحناء الضئيل الذي مر عربه الضوء من‬
‫مستعر ‪ 1987‬األعظم أثناء انتقاله من أحد أطراف مجرتنا إىل اآلخر وصوالً إلينا كان كاف ًيا‬
‫لتأخري وصوله إىل حد تسعة أشهر! لوال النسبية العامة وانحناء الفضاء‪ ،‬لشاهدنا مستعر‬
‫‪ 1987‬األعظم يف عام ‪!1986‬‬
‫أكرب ساحة تجارب ألفكار آينشتاين هي الكون ذاته‪ .‬ال تخربنا النسبية العامة عن انحناء‬
‫الفضاء حول الكتل املحلية وحسب بل تشري ضمنًا إىل أن الرتكيبة الهندسية للكون بأكمله‬
‫تحكمها املادة فيه‪ .‬لو كانت الكثافة الوسطية كافية للكتلة‪ ،‬لكان انحناء الفضاء كافيًا النحناء‬
‫الفضاء يف النهاية عىل نفسه يف محاكاة ثالثية األبعاد للسطح ثنايئ األبعاد للكرة‪ .‬األهم من‬
‫ذلك‪ ،‬يتضح أنه يف هذه الحالة يتوقف الكون يف النهاية عن التوسع ويعود لالنكًّمش يف‬
‫«انسحاق عظيم»‪ ،‬عكس االنفجار العظيم‪.‬‬
‫هناك ما هو مذهل يف كون «مغلق»‪ ،‬كًّم ميكن تسمية كون عايل الكثافة كهذا‪ .‬أذكر أول‬
‫مرة تعلمت فيها ذلك إذ كنت طال ًبا يف الثانوية حني سمعت محارضة عامل الفيزياء الكونية‬
‫ثوماس غولد‪ ،‬وقد الزمني ذلك منذ تلك اللحظة‪ .‬يف عامل ينغلق عىل نفسه‪ ،‬ستعود أشعة الضوء‬
‫–التي‪ ،‬بالطبع‪ ،‬تنتقل يف خطوط مستقيمة يف هذا الفضاء– يف النهاية إىل حيث انطلقت‪،‬‬
‫متا ًما كخطوط الطول والعرض عىل سطح األرض‪ .‬بالتايل‪ ،‬ال ميكن للضوء أن يهرب أب ًدا إىل‬

‫‪125‬‬
‫الالنهاية‪ .‬اآلن‪ ،‬عندما يحدث يشء من هذا القبيل عىل نطاق أصغر‪ ،‬أي‪ ،‬عندما يكون للجسم‬
‫كثافة مرتفعة إىل درجة أن حتى الضوء ال ميكن أن يهرب من سطحه‪ ،‬ندعوه ثق ًبا أسود‪ .‬إذا‬
‫كان كوننا مغلقًا‪ ،‬فنحن يف الحقيقة نعيش يف ثقب أسود! ليس عىل اإلطالق كًّم كنتم‬
‫تتوقعون‪ ،‬وال كفيلم ديزين! ذلك ألنه‪ ،‬مع كرب األنظمة أكرث فأكرث‪ ،‬تصبح الكثافة املتوسطة‬
‫املطلوبة إلنتاج ثقب أسود أصغر فأصغر‪ .‬يكون ثقب أسود بكتلة الشمس بقطر نحو كيلومرت‬
‫حني تشكله يف البداية‪ ،‬بكثافة متوسطة تبلغ عدة أطنان للسنتيمرت املكعب‪ .‬أما ثقب أسود‬
‫بكتلة كوننا املريئ‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬فسيكون قد تشكل يف البداية بحجم قريب من الكون املريئ‬
‫وكثافة متوسطة قدرها نحو ‪ 29-10‬غرا ًما يف السنتيمرت املكعب!‬
‫أما املعرفة الحالية‪ ،‬فتقرتح أننا ال نعيش يف ثقب أسود‪ .‬منذ أوائل مثانينيات القرن‬
‫العرشين آمن معظم املنظرين‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬أن الكثافة املتوسطة للفضاء كانت بحيث أن الكون‬
‫بالكاد عىل الحد بني كون مغلق‪ ،‬ينغلق عىل نفسه وسينهار يف الحالة العامة‪ ،‬وكون مفتوح‪،‬‬
‫وهو النهايئ وسيستمر عمو ًما يف التوسع بال توقف لألبد‪ .‬الحالة الحرجة هذه‪ ،‬والتي تدعى‬
‫الكون «املسطح»‪ ،‬النهائية أيضً ا يف البعد املكاين‪ ،‬وإذا كان الجذب الثقايل يأيت من املادة‪،‬‬
‫فسوف يستمر بالتوسع إىل األبد‪ ،‬مع تباطؤ التوسع دون أن يتوقف بشكل نهايئ أب ًدا‪ .‬مبا أن‬
‫كونًا مسط ًحا يتطلب نحو ‪ 100‬ضعف املادة املرئية يف كل النجوم واملجرات التي نراها‪ ،‬فقد‬
‫أصبح املنظرون يتوقعون أن حتى ‪ 99‬باملئة من الكون مكون من مادة مظلمة‪ ،‬ال تراها‬
‫التلسكوبات‪ ،‬كًّم وصفت يف الفصل ‪ ،3‬رغم أن املادة املظلمة املستنتجة من وزن املجرات‬
‫والعناقيد املجرية كانت أصغر بنحو ثالث مرات من القدر املطلوب لكون مسطح‪.‬‬
‫كيف ميكننا أن نعرف إن كان هذا الفرض صحي ًحا؟ من الطرق محاولة تحديد الكثافة‬
‫رشا‬ ‫الكلية للًّمدة حول املجرات وعناقيد املجرات‪ ،‬كًّم وصفت يف الفصل ‪ ،3‬ما مل ِ‬
‫يعط مؤ ً‬
‫رشا إىل كون مسطح‪ .‬هناك طريقة أخرى‪ ،‬عىل األقل من حيث املبدأ‪ ،‬تحايك جوهريًا أن‬
‫مبا ً‬
‫تحاول حرشة ذكية يف كنساس تحديد ما إذا كانت األرض كروي ًة دون الدوران حولها ودون‬
‫مغادرة سطحها‪ .‬حتى لو مل تستطع هذه الحرشة تصور الكرة يف عقلها‪ ،‬كًّم ال ميكننا تصور‬
‫انحناء الفضاء ثاليث األبعاد يف عقولنا‪ ،‬فقد تتصورها من خالل تعميم تجربة ثنائية األبعاد‪.‬‬
‫هناك قياسات هندسية ميكن إجراؤها عىل سطح األرض ال تناسب إال كون هذا السطح كرويًا‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬أخربنا إقليدس قبل أكرث من عرشين قرنًا أن مجموع ثالث زوايا يف أي مثلث مرسوم عىل‬
‫ً‬

‫‪126‬‬
‫ورقة ‪ .°180‬إذا رسمت مثلثًا أحد زواياه ‪ ،°90‬فإن مجموع الزاويتني األخريني يجب أن يساوي‬
‫‪ .°90‬إذن يجب أن تكون كل من هاتني الزاويتني أقل من ‪ ،°90‬كًّم يظهر يف الحالتني أدناه‪:‬‬

‫ولكن‪ ،‬هذا ال يصح سوى عىل ورقة مسطحة‪ .‬فعىل سطح كرة‪ ،‬ميكنني أن أرسم مثلثًا‬
‫تكون فيه كل زاوية تساوي ‪ !°90‬ببساطة برسم خط عىل خط االستواء‪ ،‬ثم الصعود عىل خط‬
‫طول حتى القطب الشًّميل‪ ،‬ثم رسم ‪ °90‬والعودة عىل خط طول آخر إىل خط االستواء‪:‬‬

‫بشكل مشابه‪ ،‬قد تتذكرون أن محيط الدائرة ذات نصف القطر ‪ r‬يساوي 𝑟𝜋‪ .2‬من‬
‫األسهل فهم هذا إن نظرنا إىل الكرة من الخارج‪:‬‬

‫‪127‬‬
‫لو مددنا مثلثات كبرية‪ ،‬أو دوائر كبرية‪ ،‬عىل سطح األرض‪ ،‬ميكننا استخدام االنحرافات‬
‫من تنبؤات إقليدس لقياس انحنائها وسنستنتج أنها كرة‪ .‬كًّم ميكن أن نرى من الرسوم‪ ،‬ولكن‪،‬‬
‫حتى تنتج انحرافات معتربة عن تنبؤات السطح املسطح إلقليدس‪ ،‬فيجب أن نحصل عىل أرقام‬
‫شديدة الكرب‪ ،‬باملقارنة مع حجم الكرة األرضية‪ .‬ميكننا بشكل مشابه استشعار الشكل الهنديس‬
‫دال من استخدام محيط الدوائر‪ ،‬وهي طريقة جيدة لرسم انحناءات‬
‫لفضائنا ثاليث األبعاد‪ .‬ب ً‬
‫سطح ثنايئ األبعاد‪ ،‬ميكننا أن نستخدم عوض ذلك مساحة أو حجم الكرات‪ .‬لو أخذنا كرة‬
‫كبرية مبا يكفي ذات قطر ‪ r‬متمركزة عىل موقع األرض‪ ،‬فإن الحجم داخل هذه الكرة سينحرف‬
‫عن تنبؤ إقليدس إذا كان فضاؤنا ثاليث األبعاد منحرفًا‪.‬‬
‫كيف ميكننا أن نقيس حجم كرة أبعادها كرس غري مهمل بالنسبة للكون املريئ؟ حسنًا‪،‬‬
‫لو افرتضنا أن حجم أي منطقة متناسب طر ًدا مع العدد الكيل للمجرات داخل تلك املنطقة‪ ،‬فكل‬
‫ما يجب أن نفعله‪ ،‬من حيث املبدأ‪ ،‬هو عد املجرات كتابع للمسافة‪ .‬لو كان الفضاء منحنيًا‪ ،‬فيجب‬
‫جرب هذا‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬يف ‪ 1986‬من قبل‬
‫أن نستطيع استشعار انحراف عن تنبؤ إقليدس‪ُ .‬‬
‫عاملي فضاء شابني كانا حينذاك يف برينستون‪ ،‬إ‪ .‬لوه وإ‪ .‬سبيالر‪ ،‬وكانت النتائج التي أعلناها‬
‫تزعم تقديم دليل ألول مرة عىل أن الكون مسطح‪ ،‬كًّم نتوقع نحن كفيزيائيني نظريني‪ .‬لألسف‪،‬‬
‫فقد ظهر بعد إعالنهًّم عن نتائجهًّم بقليل بأن حاالت شك‪ ،‬تعود بشكل أسايس لحقيقة أن‬
‫املجرات تتطور يف الزمن وتندمج‪ ،‬تجعل من املستحيل استخدام البيانات التي كانت متاح ًة‬
‫حينها للوصول إىل أي استنتاج حاسم‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫من الطرق األخرى الستشعار الشكل الهنديس للكون قياس الزاوية التي يغطيها جسم‬
‫مثال‪ ،‬من الواضح‬
‫معروف كمسطرة مرفوعة أمام عينك مبسافة معروفة‪ .‬عىل مست ٍو مسطح‪ً ،‬‬
‫أن هذه الزاوية تستمر باالنخفاض مع ابتعاد املسطرة أكرث فأكرث‪:‬‬

‫بينًّم‪ ،‬عىل كرة‪ ،‬ال يجب بالرضورة أن تكون هذه هي الحالة‪:‬‬

‫يف بدايات تسعينيات القرن العرشين أجريت دراسة للزاوية التي تغطيها أجسام‬
‫مضغوطة ج ًدا يف مراكز مجرات بعيدة مقاسة بتلسكوبات راديوية حتى مسافات تبلغ نحو‬
‫نصف حجم الكون املريئ‪ .‬كان سلوك هذه الزاوية مع تزايد املسافات من جديد متا ًما ما يتوقع‬
‫يف كون مسطح‪ .‬أظهرنا أنا وزميل يل أن هذا االختبار فيه أيضً ا شكوك محتملة بسبب احتًّمل‬
‫التطور الكوين عرب الزمن لألجسام املرصودة‪.‬‬
‫يف ‪ 1998‬ظهرت فرصة مختلفة متا ًما وغري متوقعة الستخدام هذا اإلجراء تحدي ًدا‬
‫لتحديد الشكل الهنديس للكون‪ ،‬بنا ًء عىل قياسات ما يعرف بإشعاع الخلفية الكونية امليكروي‬
‫(يس يب إم)‪ ،‬التوهج الناتج عن االنفجار العظيم‪.‬‬
‫يأتينا هذا اإلشعاع‪ ،‬الذي قيس ألول مرة يف عام ‪ ،1965‬من كل االتجاهات وهو ينتقل‬
‫عرب الفضاء بال إعاقة إىل حد كبري لنحو ‪ 14‬مليار سنة‪ .‬كانت آخر مرة يتفاعل فيها هذا اإلشعاع‬
‫بشكل معتد به مع املادة عندما كان عمر الكون ‪ 100,000‬عام فقط وكانت درجة حرارته أعىل‬
‫بنحو ‪ 3,000‬درجة فوق الصفر املطلق يف مقياس كلفن‪ .‬كنتيجة لذلك‪ ،‬فعندما نرصد هذا‬

‫‪129‬‬
‫اإلشعاع اليوم يعطينا «صورةً» لسطح كروي‪ ،‬عندما تفاعل اإلشعاع مع املادة آلخر مرة‪ ،‬عىل‬
‫بعد أكرث من ‪ 14‬مليار سنة ضوئية‪.‬‬
‫يوفر هذا السطح الكروي طريق ًة مثالي ًة الستخدام الطريقة الهندسية املوصوفة سابقًا‪،‬‬
‫إذا أمكن املرء فقط إيجاد نوع من «املسطرة» عىل السطح الذي ميكننا قياس حجمه الزاوي‪.‬‬
‫لحسن الحظ فقد وفرت لنا الطبيعة مسطرة كهذه بفضل الجاذبية‪ .‬مبا أن ثقالة املادة دو ًما‬
‫جاذبة‪ ،‬فإن أي كتلة مادية ستنهار نحو الداخل إال إذا منعها نوع من الضغط من ذلك‪ .‬قبل أن‬
‫برد الكون إىل ما دون ‪ 3,000‬درجة اتضح أن املادة‪ ،‬عىل شكل هيدروجني بشكل رئييس‪،‬‬
‫شكال من الضغط كان ليمنع أي‬
‫ً‬ ‫كانت مؤين ًة بالكامل وتفاعلت بقوة مع اإلشعاع‪ .‬شكل هذا‬
‫كتلة مادية حتى حجم معني من االنهيار‪.‬‬
‫ملاذا حتى حد معني فقط؟ حسنًا‪ ،‬عندما كان عمر الكون فقط ‪ 100,000‬عام‪ ،‬كان ميكن‬
‫ألي شعاع ضوء أن ينتقل نحو ‪ 100,000‬سنة ضوئية فقط‪ .‬مبا أن ال معلومة ميكنها االنتقال‬
‫أرسع من الضوء‪ ،‬فال الضغط وال حتى الجذب الثقايل املوضعي أمكنهًّم أن يؤثرا عىل الكتل‬
‫األوىل من املادة ذات األبعاد األكرب من نحو ‪ 100,000‬سنة ضوئية‪ .‬ما أن برد الكون إىل ما‬
‫دون ‪ 3,000‬درجة‪ ،‬وأصبحت املادة حيادية‪ ،‬هبط ضغط اإلشعاع عىل املادة إىل نحو الصفر‪،‬‬
‫وأمكن الكتل املادية أن تبدأ باالنهيار‪ ،‬مع كون أوىل الكتل التي تنهار هي تلك التي مل تكن تتأثر‬
‫بضغط اإلشعاع‪ ،‬أي‪ ،‬تلك الكتل التي كانت أبعادها نحو ‪ 100,000‬سنة ضوئيًا‪.‬‬
‫بقياس إشعاع الخلفية الكونية امليكروي ومحاولة رصد هذه الكتل وتحديد حجمها‬
‫ريا يف عام ‪ 1998‬محاولة‬
‫الزاوي‪ ،‬مبعرفة حجمها املادي الذايت‪ ،‬أمكن الفيزيائيني الكونيني أخ ً‬
‫ريا‪ .‬وكانت اإلجابة (انظر الشكل أدناه)‪ ،‬رمبا مبا‬
‫حد الشكل الهنديس للكون بشكل مبارش أخ ً‬
‫يدعو للدهشة‪ ،‬بالضبط ما كان املنظرون يتخيلون أنها كان يجب أن تكون‪ .‬يبدو أننا‪ ،‬بدقة‬
‫كبرية إىل حد معقول‪ ،‬نعيش يف كون مسطح‪.‬‬
‫تظهر الصورة العلوية صور ًة بألوان غري حقيقية إلشعاع الخلفية الكونية امليكروي يف‬
‫منطقة صغرية من السًّمء كًّم رصدها مسبار بومريانغ لألمواج امليكروية‪ ،‬املطلق يف القطب‬
‫الجنويب يف ‪ .1998‬يف األسفل ثالث صور مولدة بالحاسوب تظهر الحجم املتوسط لتفاوتات‬
‫حا (ميني) أو مسط ًحا (الوسط)‪.‬‬
‫درجات الحرارة املتوقعة لو كان الكون مغلقًا (يسار) أو مفتو ً‬

‫‪130‬‬
‫ولكن‪ ،‬يف الوقت نفسه أظهرت التحديدات املبارشة للمحتوى املادي الكيل املصاحب‬
‫للمجرات والعناقيد املجرية‪ ،‬مبا فيها املادة املظلمة‪ ،‬بشكل قطعي أنه يشكل فقط ‪ 30‬باملئة من‬
‫الكثافة الطاقية الكلية املطلوبة للحصول عىل كون مسطح‪ .‬الجدير بالذكر‪ ،‬أن نسبة ‪ 70‬باملئة‬
‫الغامضة املفقودة هي بالضبط ما يقرتح وجوده يف الفضاء الخايل لتفسري تسارع الكون‬
‫املوصوف يف الفصل السابق‪ .‬كل البيانات تتًّمسك إذا كنا نعيش يف كون عجيب تحتجب فيه‬
‫‪ 99‬باملئة من الطاقة الكلية عن النظر‪ ،‬مع ‪ 30‬باملئة منها عىل شكل ‪ ،‬مع ‪ 30‬باملئة منها عىل‬
‫شكل مادة مظلمة ونحو ‪ 70‬باملئة عىل شكل طاقة مظلمة‪ ،‬بشكل متوزع يف الفضاء الخايل!‬
‫من البديع كم تطور فهمنا للزمان واملكان منذ فك آينشتاين الروابط الخفية بينهًّم ألول‬
‫مرة‪ .‬نحن نفهم اآلن أن الكون يف تجربتنا رباعي األبعاد يف الحقيقة‪ ،‬يجب فيه عىل كل راصد‬
‫أو راصدة أن يحدد أو تحدد اآلن الخاص به أو بها‪ ،‬وبفعل ذلك‪ ،‬أن يقسم الزمكان لكيانات‬
‫منفصلة ندركها عىل أنها الزمان واملكان‪ .‬علينا أن نفهم أن الزمان واملكان أيضً ا مرتبطان بشكل‬
‫ال ميكن فصله عن املادة والطاقة‪ ،‬وأن انحناء الزمكان قرب األجسام ذات الكتلة فيًّم نرصده‬
‫عىل أنه جاذبية‪ .‬وقد قسنا للتو انحناء كوننا‪ ،‬مسلطني ضو ًءا جدي ًدا عىل تكوينه وتطوره‬
‫املستقبيل‪ .‬قد نعيش يف كهف مجازي‪ ،‬ولكن الظالل عىل الجدار قد وفرت حتى اآلن أدل ًة‬
‫سديدة عن وجود روابط جديدة رائعة تجعلنا أكرث قدرة عىل فهم الكون والتنبؤ به يف النهاية‪.‬‬
‫قبل أن أتعمق‪ ،‬أريد العودة إىل عامل الظواهر اليومية إلنهاء هذا الفصل‪ .‬لقد وعدت‬
‫بأمثلة أقرب إلينا‪ ،‬ورغم أنني بدأت بيشء ببساطة الزمان واملكان‪ ،‬فقد انتهى يب املطاف أن‬
‫تحدثت عن الكون ككل‪ .‬ولكن الروابط الخفية ال تكمن منتظر ًة تبسيط صورتنا عن الكون يف‬

‫‪131‬‬
‫أقىص املقاييس امليكروية والكبرية وحسب‪ .‬حتى عندما كانت تصنع االكتشافات الكربى عن‬
‫املكان والزمان واملادة التي وصفتها يف هذا الفصل‪ ،‬فقد اكتشفت روابط جديدة عن طبيعة‬
‫مثال‪ ،‬وبينها من االختالف ما بني املاء والحديد‪ .‬كًّم سأصف يف الفصل‬
‫مواد غريبة كالشوفان ً‬
‫األخري‪ ،‬بينًّم يشكل موضوع هذه االكتشافات موضوع الفيزياء اليومية‪ ،‬فإن التبعات تشمل‬
‫تعيري طريقة تصورنا عن البحث عن النظرية «النهائية»‪.‬‬
‫تبدو املواد اليومية بالغة التعقيد‪ .‬ال بد من ذلك ألنها تختلف بشكل واسع يف سلوكها‪.‬‬
‫من أسباب كون الهندسة الكيميائية وعلم املواد مجاالت بذلك الغنى‪ ،‬وكون الصناعة تدعم‬
‫أبحاث املواد بشكل بارز‪ ،‬هو أن املواد ميكن تصميمها لتحقيق نحو أي خاصية ميكن طلبها‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬وهي‬
‫أحيانًا تطور املواد الجديدة بالصدفة‪ .‬بدأت املوصلية الفائقة مرتفعة الحرارة‪ً ،‬‬
‫موضوع اهتًّمم شديد حال ًيا‪ ،‬وكأنها صدفة خيميائية من قبل باحثني يف مختربات آي يب إم‬
‫كانا يبحثان يف مجموعة جديدة من املواد عىل أمل إيجاد موصل فائق جديد‪ ،‬ولكن دون أسباب‬
‫نظرية قوية تدعم طريقتهًّم‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬تطور املواد‪ ،‬ويف أغلب األحيان‪ ،‬بنا ًء عىل مزيج‬
‫مثال‪ ،‬وهو العنرص األسايس يف‬
‫من الخربة التجريبية والتوجيه النظري‪ .‬أطلق السيليكون‪ً ،‬‬
‫األجهزة شبه املوصلة التي تدير حواسيبنا (وحيواتنا) مجاالً بحث ًيا للبحث عن مواد جديدة‬
‫بخواص قد تكون أكرث مالءم ًة لتطبيقات معينة ألنصاف النواقل‪.‬‬
‫حتى أبسط املواد وأكرثها انتشا ًرا تبدي أكرث السلوكات غراب ًة‪ .‬سأذكر دامئًا أستاذ‬
‫الفيزياء يف الثانوية وهو يخربين‪ ،‬ساخ ًرا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن هناك شيئني يف الفيزياء يثبتان وجود‬
‫اإلله‪ .‬األول‪ ،‬املاء الذي‪ ،‬رمبا وحده من بني كل املواد‪ ،‬يتمدد عند تجمده‪ .‬لو مل تكن هذه الخاصية‬
‫الغريبة كذلك‪ ،‬لتجمدت البحريات من األدىن إىل األعىل بدل من األعىل إىل األسفل‪ .‬مل تكن‬
‫األسًّمك لتنجو من الشتاء‪ ،‬وما كانت الحياة كًّم نعرفها أن تتطور عىل األرجح‪ .‬تاليًا‪ ،‬أشار إىل‬
‫حقيقة أن «معامل التوسع» –أي‪ ،‬مقدار متدد املادة عند تسخينها– يكاد يكون نفسه لإلسمنت‬
‫والفوالذ‪ .‬لو مل تكن الحالة كذلك‪ ،‬ملا كانت األبنية الكبرية الحديثة ممكن ًة ألنها ستتعرض يف‬
‫يل أن أعرتف أنني وجدت املثال الثاين أقل إقنا ًعا‪ ،‬ألنني متأكد أنه‬
‫الصيف والشتاء للتحنيب‪( .‬ع ّ‬
‫لو مل يكن للفوالذ واإلسمنت نفس معامل التوسع‪ ،‬لطورت مواد بناء أخرى تحقق ذلك)‪.‬‬
‫بالعودة إىل مثالنا األول‪ ،‬فإن حقيقة أن املاء‪ ،‬والذي قد يكون أكرث مادة شيو ًعا عىل‬
‫األرض‪ ،‬يتفاعل بشكل مختلف عن معظم املواد األخرى عند تجمده حقيقة مثرية‪ .‬يف الواقع‪،‬‬

‫‪132‬‬
‫جا لكيفية تغري‬
‫بعي ًدا عن حقيقة أن املاء يتمدد عند تجمده‪ ،‬فهو يوفر بكل معنى آخر أمنوذ ً‬
‫املواد عند تغري الظروف الفيزيايئ الخارجية‪ .‬عند درجات الحرارة املوجودة عىل األرض‪ ،‬يتجمد‬
‫«تحوال طوريًا» ألن طور املادة يتغري – من‬
‫ً‬ ‫املاء ويتبخر‪ .‬يدعى كل تحول كهذا يف الطبيعة‬
‫الصلب إىل السائل إىل الغاز‪ .‬من العدل القول إننا لو فهمنا األطوار والظروف التي تحكم‬
‫التحوالت الطورية ألي مادة‪ ،‬علينا فهم معظم الفيزياء األساسية‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬ما يجعل هذا األمر صع ًبا بشكل خاص هو أنه يف منطقة التحول الطوري‪ ،‬تبدو‬
‫املادة يف أعقد شكل لها‪ .‬عند غليان املاء‪ ،‬تدوم تيارات إيدي املضطربة‪ ،‬وتفقع الفقاعات بشكل‬
‫انفجاري من السطح‪ .‬ولكن‪ ،‬غال ًبا ما تكمن يف التعقيد بذور النظام‪ .‬بينًّم قد تبدو البقرة‬
‫معقد ًة بشكل يفقد األمل‪ ،‬فقد رأينا كيف تحكم حجج القياس البسيطة عد ًدا ملحوظًا من‬
‫خصائصها دون أن تتطلب منا تذكر كل التفاصيل‪ .‬وبشكل مشابه‪ ،‬ال ميكننا أن نأمل أب ًدا أن‬
‫نصف بشكل محدد تشكل كل فقاعة يف وعاء من املاء املغيل‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ميكننا تحديد عدة مزايا‬
‫مثال‪ ،‬عند درجة حرارة وضغط معينني‪ ،‬وأن نخترب سلوكها‬
‫عامة تحرض دامئًا عندما يغيل املاء‪ً ،‬‬
‫القيايس‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬عند الضغط الجوي العياري‪ ،‬عندما يكون املاء عند درجة الغليان‪،‬‬
‫ريا من املادة مختا ًرا بشكل عشوايئ‪ .‬ميكننا أن نطرح عىل أنفسنا‬
‫حجًّم صغ ً‬
‫ً‬ ‫ميكننا أن ندرس‬
‫السؤال التايل‪ :‬هل ستكون هذه املنطقة يف داخل فقاعة‪ ،‬أم داخل املاء‪ ،‬أم لن تكون أيًا من‬
‫مثال‪ ،‬من الواضح أنه من غري‬
‫الحالتني؟ عىل مقاييس صغرية‪ ،‬تكون األمور شديدة التعقيد‪ً .‬‬
‫املنطقي وصف جزيء ماء واحد بأنه غازي أو سائل‪ .‬هذا ألن متوضع العديد‪ ،‬العديد من‬
‫مثال– هو ما مييز الغاز عن السائل‪ .‬من‬
‫الجزيئات –كم تقرتب من بعضها بشكل وسطي‪ً ،‬‬
‫الواضح أيضً ا أنه من غري املنطقي وصف مجموعة صغرية من الجزيئات املتحركة عىل أنها يف‬
‫حالة سائل أو بخار‪ .‬وذلك ألنها بينًّم تتحرك وتتصادم‪ ،‬ميكننا تخيل أنه يف أوقات ما يكون‬
‫جزء معتد به من الجزيئات بعيد مبا يكفي عن بعضه البعض لتصنيفه كبخار‪ .‬ويف أوقات‬
‫سائال‪ .‬بينًّم‪ ،‬ما أن نصل إىل‬
‫ً‬ ‫أخرى‪ ،‬قد تكون الجزيئات قريبة من بعضها مبا يكفي العتبارها‬
‫كاف من الجزيئات‪ ،‬يصبح من املنطقي أن نسأل ما‬ ‫منطقة من حجم معني‪ ،‬تحتوي عىل عدد ٍ‬
‫إذا كانت عىل شكل سائل أم غاز‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫عندما يغيل املاء يف ظروف عيارية‪ ،‬توجد فقاعات بخار املاء والسائل م ًعا‪ .‬بالتايل يقال‬
‫إن املاء يخضع لتحول من «الرتبة األوىل» عند درجة الغليان‪ °212 ،‬فهرنهايت عند مستوى‬
‫سطح البحر‪ .‬ستستقر عينة عيانية بعد وقت ٍ‬
‫كاف متا ًما عند درجة الغليان وميكن تصنيفها‬
‫بشكل ال لبس فيه عىل أنها إما يف حالة سائلة أو غازية‪ .‬كل منهًّم ممكن يف درجة الحرارة‬
‫هذه بالضبط‪ .‬عند درجة حرارة أقل بكثري‪ ،‬ستستقر العينة دامئًا يف الحالة السائلة؛ وعند درجة‬
‫حرارة أعىل بقليل‪ ،‬ستستقر عىل شكل بخار‪.‬‬
‫عىل الرغم من التعقيد الدقيق للتحوالت املوضعية التي تحدث عند تحول املاء من السائل‬
‫إىل الغاز عند درجة حرارة الغليان‪ ،‬هناك مقياس حجمي مميز‪ ،‬عند ضغط محدد‪ ،‬من املعقول‬
‫عنده سؤال ما الحالة التي يكون فيها املاء‪ .‬بالنسبة لكل األحجام األصغر من هذا املقياس‪،‬‬
‫تحدث اهتزازات موضعية يف الكثافة بشكل رسيع يخفي التًّميز بني حالتي السائل والغاز‪.‬‬
‫بالنسبة لألحجام األكرب من لك‪ ،‬ترتاوح الكثافة الوسطية مبقدار ضئيل مبا يكفي لكون هذه‬
‫العينة املعتربة متتلك إما خصائص الغاز أو السائل‪.‬‬
‫قد يكون من املفاجئ أن نظا ًما معق ًدا كهذا فيه هذا التجانس‪ .‬هذا نتيجة حقيقة أن كل‬
‫نقطة من املاء تحتوي عىل عدد كبري من الجزيئات‪ .‬بينًّم قد تترصف مجموعات صغرية منها‬
‫بشكل غريب األطوار‪ ،‬فإن منها الكثري من الجزيئات التي تسلك سلوكًا وسطيًا إىل درجة أن‬
‫القلة التي تترصف بشكل منحرف ال تشكل فارقًا‪ .‬األمر مشابه للناس‪ ،‬عىل ما أفرتض‪ .‬فبأخذ‬
‫الناس كأفراد‪ ،‬لكل شخص أسبابه الخاصة للتصويت ملرشح سيايس‪ .‬يحرض بعض الناس حتى‬
‫قوائم بأشخاص غري مرشحني ألشخاص محليني مختارين‪ .‬ولكن‪ ،‬هناك منا ما يكفي‪ ،‬بحيث‬
‫حتى لو جرى التالعب باآلالت اإللكرتونية الحديثة‪ ،‬أو ظهرت األخطاء نتيجة عدم اكتًّمل‬
‫الثقوب عىل أوراق التصويت‪ ،‬أو محطات التلفاز عىل أساس استطالعات رأي الخارجني من‬
‫صناديق التصويت‪ ،‬ما يزال بإمكاننا التنبؤ برسعة من سريبح وأن يكون تنبؤنا صحي ًحا غالبًا‪.‬‬
‫بشكل وسطي‪ ،‬فإن كل اختالفاتنا تلغي بعضها‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬أن نسأل ما إذا كان القياس‬
‫باكتشاف نظام خفي كهذا‪ ،‬ميكننا استغالله‪ .‬ميكننا‪ً ،‬‬
‫الذي يصبح عنده التمييز بني املاء والسائل ذا معنى يتغري عند تغيري مزيج الضغط ودرجة‬
‫الحرارة الذي يغيل املاء عنده‪ .‬عندما نزيد الضغط‪ ،‬وبالتايل نقلص الفارق بني كثافة بخار املاء‬
‫وسائل املاء‪ ،‬تزداد درجة الحرارة التي يغيل عندها املاء‪ .‬لو حققنا اآلن درجة الحرارة الجديدة‬

‫‪134‬‬
‫هذه‪ ،‬نجد‪ ،‬كًّم ميكنكم أن تتوقعوا بعد التفكري باألمر‪ ،‬أنه بسبب أن الفرق يف الكثافة بني‬
‫البخار والسائل أصغر‪ ،‬فإن املناطق التي ترتاوح بني الحالتني عند درجة حرارة الغليان تتزايد‪.‬‬
‫لو استمرينا بزيادة الضغط‪ ،‬نجد أنه عند تقاطع معني للضغط ودرجة الحرارة‪ ،‬يدعى‬
‫القيمة الحرجة‪ ،‬يفشل التمييز بني الغاز والسائل يف اكتساب أي معنى عىل اإلطالق‪ ،‬حتى يف‬
‫عينة النهائية‪ .‬عىل كل املقاييس‪ ،‬تحدث تفاوتات يف الكثافة كبرية مبا يكفي لجعل تصنيف‬
‫مستحيال‪ .‬قبل درجة الحرارة هذه بقليل‪ ،‬تكون كثافة املادة‬
‫ً‬ ‫املادة املعتربة كسائل أو غاز أم ًرا‬
‫مناسب ًة للسائل‪ ،‬وفوقها بقليل‪ ،‬تكون مناسب ًة للغاز‪ .‬ولكن عند درجة الحرارة الحرجة هذه‪ ،‬ال‬
‫يكون املاء أيًا منهًّم أو يكون كليهًّم م ًعا‪ ،‬حسب وجهة نظرك‪.‬‬
‫التموضع املحدد للًّمء عند النقطة الحرجة مذهل‪ .‬عىل كل املقاييس‪ ،‬تبدو املادة نفسها‬
‫متا ًما‪ .‬املادة «تشابه نفسها» بزيادة املقياس الذي تدرسونه‪ .‬لو كان لكم التقاط صورة عالية‬
‫التكبري ملنطقة صغرية‪ ،‬مع متثيل اختالفات الكثافة باختالفات يف اللون‪ ،‬فهي ستبدو كصورة‬
‫مأخوذة عند تكبري عادي‪ ،‬بنفس أنواع التباينات ولكن بتمثيل املناطق املدروسة ألحجام أكرب‬
‫بكثري‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬يف املاء عند النقطة الحرجة‪ ،‬تحدث ظاهرة تدعى الربيق الحرج‪ .‬وألن‬
‫التفاوتات يف الكثافة تحدث عىل كل املقاييس‪ ،‬فإن هذه التفاوتات تنرش ضو ًءا من كل األطوال‬
‫املوجية‪ ،‬وال يعود املاء صافيًا فجأة‪ ،‬بل يصبح ضبابيًا‪.‬‬
‫متًّمثال عىل كل‬
‫ً‬ ‫ذهاال يف حالة املاء هذه‪ .‬ألنه يبدو إىل حد ما‬
‫بل هناك حتى يشء أكرث إ ً‬
‫املقاييس –ما يدعى الالتباين املقيايس– فإن طبيعة البنية املجهرية للًّمء (أي‪ ،‬حقيقة أن‬
‫جزيئات املاء مصنوعة من ذريت هيدروجني وذرة أكسجني) ال تعود ذات صلة‪ .‬كل ما مييز‬
‫مثال‪ ،‬أن يحدد املناطق ذات الفائض القليل‬
‫النظام يف النقطة الحرجة هو الكثافة‪ .‬ميكن للمرء‪ً ،‬‬
‫يف الكثافة بوسم ‪ 1+‬واملناطق ذات العجز بوسم ‪ .1-‬ولكل النوايا واألغراض‪ ،‬يبدو املاء عىل‬
‫أي قياس عندها تخطيطيًا عىل هذا النحو تقريبًا‪:‬‬

‫‪135‬‬
‫هذا أكرث من مجرد تبسيط صوري‪ .‬إن حقيقة أن املاء ميكن متييزه فيزيائ ًيا عىل كل‬
‫املقاييس فقط بدرجة الحرية الفعالة الوحيدة هذه‪ ،‬التي ميكن أن تأخذ هاتني القيمتني‪ ،‬تحدد‬
‫متا ًما طبيعة التحول الطوري يف املنطقة الخاصة بالنقطة الحرجة هذه‪ .‬هذا يعني أن التحول‬
‫الطوري بني السائل والغاز للًّمء يصبح مطابقًا متا ًما للتحول الطوري يف أي مادة أخرى‪،‬‬
‫والتي ميكن عند النقطة الحرجة الخاصة بها وصفها بسلسلة من إشارات ‪.1±‬‬
‫مثال‪ ،‬لنأخذ الحديد‪ .‬قلة من الناس ميكن أن تخطئ بني كتلة من الحديد وبني كأس ماء‪.‬‬
‫ً‬
‫اآلن‪ ،‬أي شخص يلعب باملغانط يعلم‪ ،‬أن الحديد ميكن مغنطته يف وجود مغناطيس‪ .‬ما يحدث‬
‫كال من ذرات الحديد مغناطيس صغري‪ ،‬بقطب جنويب وشًّميل‪.‬‬
‫عىل املقياس املجهري هو أن ً‬
‫يف الظروف العادية‪ ،‬عند عدم وجود مغانط أخرى قريبة‪ ،‬تصطف ذرات الحديد هذه بشكل‬
‫عشوايئ‪ ،‬بحيث تلغي حقولها املغناطيسية الفردية بعضً ا لعدم إنتاج حقل مغناطييس عياين‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬عند تأثري مغناطيس خارجي‪ ،‬تصطف كل املغانط الذرية يف الحديد باتجاه الحقل‬
‫مغناطيسا حديديًا عيان ًيا‪ .‬لو كان الحقل املغناطييس يشري إىل األعىل‪،‬‬
‫ً‬ ‫الخارجي نفسه‪ ،‬ما ينتج‬
‫فكذلك ستفعل كل املغانط الذرية يف الحديد‪ .‬ولو اتجه إىل األسفل‪ ،‬فهي ستتجه كذلك إىل‬
‫األسفل‪.‬‬
‫اآلن لنأخذ قطع ًة مثالي ًة من الحديد‪ ،‬تقيد املغانط الذرية فيها لتشري فقط إىل األعىل أو‬
‫األسفل‪ ،‬ولكن دون أي اتجاه آخر‪ .‬عند درجات حرارة منخفضة‪ ،‬إذا حرض حقل مغناطييس‬
‫خارجي يبدأ قيم ًة ما تشري إىل األعىل‪ ،‬تصطف كل املغانط الذرية بهذا االتجاه‪ .‬ولكن إذا تناقص‬
‫الحقل الخارجي إىل الصفر‪ ،‬فلن مييل عىل املغانط الذرية إىل أي اتجاه تشري‪ .‬يتضح أن من‬

‫‪136‬‬
‫املرجح طاق ًيا وسط ًيا لكل منها أن تشري إىل االتجاه نفسه الذي تشري به الذرات األخرى‪ ،‬ولكن‬
‫االتجاه الذي تختاره عشوايئ‪ .‬قد تشري إما إىل األعىل أو األسفل‪ .‬هذا يعني أن مغناطيس ًيا‬
‫حدي ًدا كهذا قد يكون له تحول طوري‪ .‬بينًّم يصل الحقل الخارجي إىل الصفر‪ ،‬فإن املغانط‬
‫الذرية الصغرية التي كانت تتبع هذا الحقل ميكنها اآلن‪ ،‬بسبب اهتزاز حراري عشوايئ ما‪ ،‬أن‬
‫تصطف بشكل عشوايئ إىل األسفل عىل امتداد العينة‪.‬‬
‫رياض ًيا‪ ،‬يبدأ هذا مبحاكاة حالة املاء‪ .‬بتعويض «يشري إىل األعىل» محل «فائض كثافة»‬
‫و«يشري إىل األسفل محل «عجز كثافة»‪ .‬متا ًما كًّم يف حالة املاء‪ ،‬يجد املرء أنه ملغناطيس كهذا‬
‫عند عدم وجود حقل مغناطييس خارجي‪ ،‬هناك مقياس مميز بحيث لو فحص املرء العينة عىل‬
‫مقاييس أصغر منه‪ ،‬يظل من املمكن أن تتغري جهة االهتزازات الحرارية يف االتجاه الذي تشري‬
‫ٍ‬
‫صاف‪ .‬عىل‬ ‫إليه املغانط‪ .‬فسيكون من املستحيل القول إن املنطقة لها أي توجه مغناطييس‬
‫مقاييس أكرب من هذا‪ /‬لن تكون االهتزازات الحرارية قادرة عىل التسبب بتغيري التوجه‬
‫املغناطييس الوسطي وسيظل ثابتًا‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬فبينًّم يزيد املرء درجة الحرارة مع اإلبقاء‬
‫عىل صفرية الحقل املغناطييس الخارجي‪ ،‬فسيكون للعينة نقطة حرجة‪ .‬عند هذه النقطة‪،‬‬
‫ستحافظ تغريات االتجاه عىل مدى العينة بأكملها عىل نفسها بذات الطريقة عىل كل املقاييس‪،‬‬
‫بحيث يكون من غري املجدي محاولة تصنيف الجسم حسب توجه مغانطه الذرية‪ ،‬حتى يف‬
‫عينة النهائية‪.‬‬
‫ومغناطيسا كهذا نفس اليشء بالضبط‪.‬‬
‫ً‬ ‫ما يهم هنا هو أنه‪ ،‬عند النقطة الحرجة‪ ،‬فإن املاء‬
‫حقيقة أن البنية املجهرية الفعلية لالثنني مختلفة متا ًما غري مهمة إطالقًا‪ .‬ألن التباينات يف‬
‫املادة عند النقطة الحرجة تتميز بدرجتي حرية فقط –أعىل وأسفل‪ ،‬أو فائض الكثافة‬
‫ومنخفض الكثافة– عىل كل املقاييس‪ ،‬حتى تلك األكرب بكثري من املقاييس املجهرية‪ ،‬ال تتحسس‬
‫سائال‬
‫ً‬ ‫الفيزياء للفروق املجهرية‪ .‬سلوك املاء وهو يقرتب من نقطته الحرجة‪ ،‬املعلمة مبا إذا كان‬
‫أو غازًا‪ ،‬مطابق متا ًما لسلوك املغناطيس‪ ،‬املعلم مبا إذا كانت نقاط حقله متجهة لألعىل أو‬
‫األسفل‪ .‬أي قياس ميكنكم أخذه ألحد النظامني سيكون مطابقًا متا ًما للنظام اآلخر‪.‬‬
‫حقيقة أن بإمكاننا استخدام خصائص املقاييس ألنظمة مختلفة‪ ،‬يف هذه الحالة‬
‫التباينها املقيايس قرب النقطة الحرجة‪ ،‬إليجاد التجانس والرتابة فيًّم يبدو سوى ذلك وض ًعا‬
‫بالغ التعقيد من أعظم نجاحات ما أصبح يعرف بفيزياء املادة املكثفة‪ .‬هذه املقاربة‪ ،‬التي أحدثت‬

‫‪137‬‬
‫ثور ًة يف كيفية فهمنا لفيزياء الجسيًّمت‪ ،‬كان روادها يف ستينيات وسبعينيات القرن العرشين‬
‫مايكل فيرش وكينث ويلسون يف كورنيل وليو كادانوف يف جامعة شيكاغو‪ .‬استوردت األفكار‬
‫املطورة يف هذا االكتشاف عىل امتداد الفيزياء حيثًّم كانت تظهر التعقيدات الخاصة باملقياس‪.‬‬
‫منح ويلسون جائزة نوبل يف عام ‪ 1982‬عن تحقيقاته يف إمكانية تطبيق هذه األساليب لفهم‬
‫ليس سلوك املاء وحده بل أيضً ا الجسيًّمت األولية‪ ،‬كًّم سأصف يف الفصل األخري‪ .‬ما يهم هنا‬
‫هو كيف كشفوا عن الوحدة الكامنة املصاحبة للعامل املادي املتنوع واملعقد الذي نتعامل معه‬
‫بشكل يومي‪ .‬ليس عىل املقاييس دون املجهرية الخاصة بالجسيًّمت األولية وال املقاييس التي‬
‫قد تكون النهائية للكون وحدها ميكن للروابط الخفية أن تبسط الواقع‪ .‬فكروا بذلك يف كل مرة‬
‫يصفر إبريق الشاي‪ ،‬أو يف املرة التالية التي تستيقظون فيها وترون رقاقات الثلج عىل النافذة‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫الجزء الثالث‬
‫مبادئ‬

‫‪139‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫البحث عن التناظر‬

‫«هل مثة نقطة أخرى ترغب بلفت انتباهي إليها؟»‬


‫«إىل حادثة الكلب الغريبة يف الليل»‬
‫«مل يفعل الكلب شيئًا يف الليل»‬
‫قال شريلوك هوملز‪« :‬كانت تلك الحادثة الغريبة»‪.‬‬
‫– السري آرثر كونان دويل‬

‫عندما يفكر الفنان يف التناظرات‪ ،‬قد يفكر يف احتًّمالت ال نهاية لها‪ ،‬مثل رقاقات الثلج‪ ،‬أو‬
‫األملاس‪ ،‬أو انعكاسات سطح الربكة‪ .‬أما الفيزيايئ إذا فكّر يف التناظر‪ ،‬يفكر يف املستحيالت‬
‫الالمتناهية‪ .‬إن اكتشاف ما يحدث ليس الدافع الحقيقي خلف الفيزياء‪ ،‬بل اكتشاف ما ال يحدث‪.‬‬
‫الكون مكان كبري‪ ،‬والتجربة علمتنا أن كل ما ميكن حدوثه يحدث‪ .‬ما يعطي الكون نظامه‬
‫حقيقة أننا نستطيع البت بدقة مطلقة بعدم حدوث بعض األشياء أب ًدا‪ .‬قد يتصادم نجًّمن مر ًة‬
‫واحد ًة فقط كل مليون سنة يف كل مجرة‪ ،‬وهو أمر يبدو ناد ًرا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا جمعنا كل املجرات‬
‫املعروفة‪ ،‬فإن ذلك يعني عدة آالف من هذه األحداث سنويًا يف الكون املريئ‪ .‬عىل أي حال‪،‬‬
‫ميكنك االنتظار ‪ 10‬مليارات سنة ولن تلمح أب ًدا كر ًة تسقط عىل األرض‪ .‬هذا هو النظام‪.‬‬
‫والتناظر ميثل األداة املفاهيمية األهم يف الفيزياء الحديثة تحدي ًدا ألنه يوضح تلك األشياء التي‬
‫ال تتغري أو ال ميكن أن تحدث‪.‬‬

‫إن التناظرات يف الطبيعة مسؤولة عن توجيه الفيزيائيني بطريقتني مهمتني‪ :‬تقييد‬


‫االحتًّمالت الوافرة‪ ،‬وتحديد الطريقة الصحيحة لوصف تلك املتبقية‪ .‬ماذا نعني عندما نقول إن‬
‫مثاال‪ ،‬متتلك ما قد يسميه عامل الرياضيات تناظ ًرا‬
‫شيئًا ميلك تناظ ًرا معينًا؟ خذ ندفة الثلج ً‬
‫سداس ًي ا‪ .‬يعني هذا أنك تستطيع اإلمساك بها من أي زاوية من الزوايا الست املختلفة‪ ،‬وستبدو‬
‫متطابق ًة متا ًما‪ .‬مل يتغري يشء‪ .‬اآلن‪ ،‬لنأخذ مثاالً أكرث تطرفًا ولكنه مألوف‪ .‬تخيل بقرة باعتبارها‬
‫رأسا‬
‫كرة! ملاذا كرة؟ ألنها أكرث ما يسعنا التفكري به تناسقًا‪ .‬قم بأي دوران؛ اقلبها يف املرآة‪ ،‬أو ً‬

‫‪140‬‬
‫عىل عقب‪ ،‬وستظل تبدو كًّم هي‪ .‬مل يتغري يشء! ولكن مبا يفيدنا هذا؟ حسنًا‪ ،‬ألن ال دورانًا أو‬
‫انقالبًا ميكنه التأثري يف الكرة‪ ،‬فإن الوصف الكامل لهذا الكائن ُمختزل إىل متغري واحد‪ ،‬وهو‬
‫نصف القطر‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬أمكننا وصف التغريات يف خصائصه من طريق قياس هذا املتغري‬
‫الواحد فحسب‪ .‬إن هذه امليزة عامة‪ :‬كلًّم كان اليشء أكرث تناسقًا‪ ،‬قل عدد املتغريات الالزمة‬
‫لوصفه بالكامل‪.‬‬

‫ال ميكنني أن أبالغ يف الحديث عن أهمية هذه امليزة‪ ،‬وسأثني عليها أكرث يف وقت الحق‪.‬‬
‫حال ًيا‪ ،‬من املهم الرتكيز عىل الكيفية التي متنع بها التناظرات التغيري‪ .‬أحد أكرث األشياء إثار ًة‬
‫للدهشة يف العامل‪ ،‬كًّم أشار شريلوك هوملز لواتسون الحائر‪ ،‬حقيقة أن بعض األشياء ال تحدث‪.‬‬
‫ال تبدأ الكرات يف االرتداد تلقائ ًيا إىل أعىل الدرج‪ ،‬وال تلتقط نفسها وتتدحرج يف الردهة‪ .‬ال‬
‫تسخن أحواض املاء تلقائ ًيا‪ ،‬وال يرتفع الن ّواس يف الدورة الثانية أعىل مًّم كان عليه يف الدورة‬
‫األوىل‪ .‬كل هذه امليزات نابعة من تناظرات الطبيعة‪.‬‬

‫بدأت أعًّمل الفيزيائيني الرياضيني الكالسيكيني يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش‬
‫باالعرتاف بهذه الحقيقة‪ ،‬مثل أعًّمل جوزيف لويس الغرانج يف فرنسا‪ ،‬والسري ويليام روان‬
‫هاملتون يف إنجلرتا‪ ،‬اللذين أطّرا ميكانيكا نيوتن يف إطار ريايض أكرث عمومي ًة واتساقًا‪.‬‬
‫أمثرت أعًّملهًّم يف النصف األول من هذا القرن عىل يد عاملة الرياضيات األملانية الالمعة إميي‬
‫نويرث‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬فإن ذكائها الشديد مل يساعدها يف عامل الرجال؛ أُلغي منصبها املؤقت وغري‬
‫املدفوع يف قسم الرياضيات املتميز يف جامعة غوتنغن مبوجب قوانني معادية للسامية عام‬
‫‪ – 1933‬رغم الدعم الذي تلقته من أعظم عامل رياضيات يف ذلك الوقت‪ ،‬ديفيد هيلربت‪( .‬الذي‬
‫جادل أمام أعضاء هيئة التدريس يف غوتنغن‪ ،‬دون جدوى‪ ،‬بأنهم جزء من جامعة ال مؤسسة‬
‫استحًّمم‪ .‬من املؤسف أن كليات الجامعة مل تكن أب ًدا مصد ًرا للوعي االجتًّمعي)‪.‬‬

‫يف نظرية تحمل اسمها‪ ،‬أظهرت نويرث نتيج ًة رياضية ذات أهمية كبرية للفيزياء‪ .‬وبعد‬
‫أساسا عىل‬
‫ً‬ ‫تلك الواقعة‪ ،‬تبدو نظرية نويرث معقول ًة إىل حد كبري‪ .‬تسري صياغتها يف الفيزياء‬
‫النحو التايل‪ :‬إذا كانت املعادالت التي تحكم السلوك الدينامييك لنظام فيزيايئ ال تتغري عند‬

‫‪141‬‬
‫تطبيق تحول ما عىل النظام‪ ،‬فيجب أن توجد كمية فيزيائية ما تكون محفوظ ًة يف حد ذاتها‬
‫لكل تحول من هذا القبيل‪ ،‬مبعنى أنها ال تتغري مبرور الوقت‪.‬‬

‫يساعد هذا االكتشاف البسيط عىل تفسري أحد أبرز املفاهيم التي يساء فهمها يف العلوم‬
‫الشعبية (مبا فيها العديد من النصوص الجامعية) ألنه يساعد عىل توضيح سبب استحالة‬
‫مثال‪ ،‬االخرتاع املفضل للعلًّمء غريبي األطوار‪ .‬كًّم‬
‫بعض األشياء‪ .‬فكّر يف آالت الحركة األبدية ً‬
‫خدعوا لالستثًّمر فيها‪.‬‬
‫رشحت يف الفصل األول‪ ،‬قد تكون متطورة ج ًدا‪ ،‬والعديد من العقالء ُ‬

‫ميثل قانون حفظ الطاقة السبب النموذجي لفشل معظم اآلالت من هذا النوع يف العمل‪.‬‬
‫وحتى دون تعريفها بدقة‪ ،‬ميلك معظم الناس فكر ًة بديهي ًة جيد ًة إىل حد ما عن ماهية الطاقة‪،‬‬
‫إذ إن رشح سبب استحالة وجود مثل هذه اآلالت رشح سهل نسب ًيا‪ .‬تأمل مر ًة أخرى األداة‬
‫الغريبة املوضحة يف الصفحة ‪ .12‬وكًّم وصفت هناك‪ ،‬بعد دورة كاملة واحدة‪ ،‬سيعود كل جزء‬
‫من أجزائها إىل موضعه األصيل؛ فإذا كان يف حالة سكون يف بداية الدورة‪ ،‬يجب أن يكون يف‬
‫حالة سكون عند نهايتها‪ .‬وإال سيختزن طاق ًة إضافي ًة يف نهاية الدورة عًّم كانت عليه يف‬
‫البداية‪ .‬ال بد من إنتاج الطاقة يف مكان ما؛ ومبا أن شيئًا مل يتغري يف اآللة‪ ،‬فال ميكن إنتاج أي‬
‫طاقة‪.‬‬

‫لكن املخرتع العنيد قد يقول يل‪« :‬كيف أعرف يقينًا أن الطاقة محفوظة؟ ما الذي يجعل‬
‫هذا القانون ممي ًزا حتى ال ميكن انتهاكه؟ قد تدعم جميع التجارب الحالية هذه الفكرة‪ ،‬ولكن‬
‫رمبا توجد طريقة للتغلب عليها‪ .‬سابقًا‪ ،‬ظنوا أن آينشتاين كان مجنونًا أيضً ا!»‪.‬‬

‫مثة بعض املزايا يف هذا االعرتاض‪ .‬ال ينبغي لنا تصديق يشء عىل أساس اإلميان‪ .‬وهكذا‬
‫تخرب هذه الكتب كلها الطالب الجامعيني أن الطاقة محفوظة (وحتى أنهم يستفيدون منها)‪.‬‬
‫يُقال إن هذا قانون عاملي للطبيعة‪ ،‬ينطبق عىل الطاقة بجميع أشكالها‪ .‬ولكن يف حني أن هذه‬
‫خاصية مفيدة ج ًدا للطبيعة‪ ،‬فإن سؤال ملاذا؟ يبقى السؤال املهم‪ .‬أعطتنا إميي نويرث اإلجابة‪،‬‬
‫ويخيب أميل بسبب عدم اكرتاث العديد من النصوص الفيزيائية بالذهاب إىل هذا الحد‪ .‬إن مل‬
‫ترشح سبب وجود مثل هذه الخاصية الرائعة‪ ،‬ستتعزز فكرة اعتًّمد الفيزياء عىل مجموعة من‬
‫القواعد الغامضة عالية الدرجة‪ ،‬يجب حفظها وال يطالها إال مجموعة محددة‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫فلًّمذا الطاقة محفوظة؟ تخربنا نظرية نويرث أن السبب مرتبط بتناظر يف الطبيعة‪.‬‬
‫وأذكرك أن تناظر الطبيعة يخربنا أن تطبيق بعض التحوالت‪ ،‬لن يغري بقاء كل يشء عىل حاله‪.‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬يرتبط حفظ الطاقة بالتناظر نفسه الذي يجعل الفيزياء ممكنة‪ .‬نعتقد أن قوانني‬
‫الطبيعة ستكون نفسها غ ًدا كًّم هي اليوم‪ .‬إذا مل يكن األمر كذلك‪ ،‬سيتعني علينا الحصول عىل‬
‫نص فيزيايئ مختلف لكل يوم من أيام األسبوع‪.‬‬

‫لذلك نعتقد‪ ،‬وهذا افرتاض إىل حد ما –ولكنه‪ ،‬كًّم سأبني‪ ،‬افرتاض قابل لالختبار– أن‬
‫جميع قوانني الطبيعة ثابتة‪ ،‬أي أنها ظلت دون تغيري‪ ،‬يف ظل الرتجمة الزمنية؛ هذه طريقة‬
‫رائعة للقول إنها نفسها بغض النظر عن وقت قياسها‪ .‬لكننا إذا قبلنا هذا يف الوقت الحايل‪،‬‬
‫حاسًّم (أي رياض ًيا) لزوم وجود كمية‪ ،‬ميكن أن نطلق عليها طاقة‪،‬‬
‫ً‬ ‫فيمكننا أن نبني تبيانًا‬
‫تكون ثابت ًة مبرور الوقت‪ .‬وهكذا‪ ،‬مع اكتشاف قوانني جديدة للطبيعة‪ ،‬ال داعي للقلق يف كل‬
‫تغري املبادئ‬
‫مرحلة من حدوث انتهاك ما لقانون حفظ الطاقة‪ .‬كل ما علينا أن نفرتضه هو عدم ّ‬
‫الفيزيائية األساسية مبرور الوقت‪.‬‬

‫أوال‪ ،‬ميكننا التأكد من أن الطاقة محفوظة بالفعل‪.‬‬


‫كيف ميكننا إذن اختبار افرتاضاتنا؟ ً‬
‫هذا وحده قد ال يرضيك أو يريض ذاك املخرتع‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬مثة طريقة أخرى‪ .‬ميكننا التحقق‬
‫من القوانني نفسها مبرور الوقت لرنى أن توقعاتها ال تختلف‪ .‬وهذا يكفي لضًّمن حفظ‬
‫الطاقة‪ .‬لكن برصف النظر عن هذه الطريقة الجديدة الختباره‪ ،‬تعلمنا شيئًا أكرث أهمية؛ تعلمنا‬
‫أن التخيل عن حفظ الطاقة يعادل اختالف توقعاتها؛ اختيارنا التخيل عن حفظ الطاقة يعني‬
‫اختيارنا االعتقاد بتغري قوانني الطبيعة مع مرور الوقت‪.‬‬

‫رمبا ليس من السخافة التساؤل عن تطور قوانني الطبيعة املحتمل مبرور الوقت‪ ،‬وفق‬
‫مقياس زمني ما عىل أقل تقدير‪ .‬فالكون نفسه يف نهاية املطاف يتوسع ويتغري‪ ،‬ورمبا صياغة‬
‫القوانني الفيزيائية الدقيقة تكون مرتبط ًة بطريقة أو بأخرى بحالة الكون املريئ‪ .‬يف الواقع‪،‬‬
‫اقرتح ديراك هذه الفكرة يف ثالثينيات القرن العرشين‪ .‬مثة أرقام كبرية ومتنوعة متيز الكون‬
‫املريئ‪ ،‬مثل عمره‪ ،‬وحجمه‪ ،‬وعدد الجسيًّمت األولية فيه‪ ،‬وما إىل ذلك‪ .‬مثة أيضً ا بعض األرقام‬
‫الصغرية ذات األهمية‪ ،‬مثل قوة الجاذبية‪ .‬اقرتح ديراك أن قوة الجاذبية رمبا تختلف مع توسع‬

‫‪143‬‬
‫ريا طبيع ًيا سبب ضعف‬
‫الكون‪ ،‬وتصبح أضعف مبرور الوقت! اعتقد أن هذا قد يفرس تفس ً‬
‫الجاذبية اليوم مقارن ًة بالقوى األخرى يف الطبيعة‪ .‬الكون قديم!‬

‫أُجريت منذ اقرتاح ديراك اختبارات عديدة مبارشة وغري مبارشة للتحقق من تغري قوة‬
‫الجاذبية‪ ،‬وكذلك تغري قوة القوى األخرى يف الطبيعة مبرور الوقت‪ .‬يف الواقع‪ُ ،‬وضعت حدود‬
‫فيزيائية فلكية وأرضية صارمة للغاية عىل اختالف الثوابت األساسية‪ ،‬ومل يُالحظ أي دليل‬
‫قاطع عىل االختالف‪ .‬ادعت إحدى املجموعات امتالك أدلة‪ ،‬بنا ًء عىل مالحظات طيف الضوء‬
‫من مصادر بعيدة‪ ،‬عىل اختالف محتمل مبقدار جزء واحد من ‪ 100,000‬يف قوة‬
‫الكهرومغناطيسية عىل مدى العرشة مليارات سنة املاضية‪ ،‬ولكنه ادعاء يبقى يف الوقت‬
‫الحارض بال تأكيد مستقل‪ ،‬تأكيد سهل وفق العديد من الفيزيائيني بسبب التفاعالت الذرية‬
‫املعقدة التي يجب أخذها بعني االعتبار‪ .‬وعىل جبهات أخرى‪ ،‬فإن مالحظات وفرة العنارص‬
‫الخفيفة التي نشأت يف االنفجار األعظم مقارن ًة بالتنبؤات النظرية التي حصلنا عليها باستخدام‬
‫مثال إىل‬
‫الثوابت األساسية الحالية يف الحسابات متثّل مالحظات جيد ًة مبا فيه الكفاية لإلشارة ً‬
‫أن قوة الجاذبية ال ميكنها أن تتغري بأكرث من نحو ‪ %20‬خالل ‪ 10‬مليارات سنة أو نحو ذلك‬
‫منذ أن كان عمر الكون ثاني ًة واحد ًة فقط! وعليه‪ ،‬فإن الجاذبية حسب معلوماتنا ال تتغري مع‬
‫مرور الوقت‪.‬‬

‫عىل أي حال‪ ،‬حتى لو كانت صياغة القوانني الفيزيائية الدقيقة مرتبط ًة بطريقة ما بحالة الكون‬
‫املريئ‪ ،‬فإننا نتوقع أن تظل املبادئ الفيزيائية األساسية التي تربط االثنني م ًعا ثابتة‪ .‬يف هذه‬
‫تعميًّم يبقيها محفوظة‪ .‬نحن دامئًا أحرار‬
‫ً‬ ‫الحالة‪ ،‬سيبقى ممكنًا دامئًا تعميم تعريفنا للطاقة‬
‫يف تعميم ما نعنيه بالطاقة مع ظهور مبادئ فيزيائية جديدة عىل مقاييس أكرب أو أصغر‪ .‬لكن‬
‫هذا اليشء‪ ،‬الذي ميكننا أن نسميه الطاقة‪ ،‬يظل محفوظًا‪ ،‬طاملا أن هذه املبادئ ال تتغري مع‬
‫مرور الوقت‪.‬‬

‫لقد أتيحت لنا بالفعل مناسبات عدة ملراجعة مفهومنا للطاقة‪ .‬واملثال األوضح هنا يتعلق‬
‫بنظريات آينشتاين العامة والخاصة للنسبية‪ .‬وأذكرك أن هذه تشري ضم ًنا إىل أن املراقبني‬

‫‪144‬‬
‫املختلفني قد يقيسون الكميات األساسية قياسات مختلفة‪ ،‬لكنها قياسات صالحة بالقدر نفسه‪.‬‬
‫ونتيجة ذلك‪ ،‬يجب اعتبار هذه القياسات نسبي ًة إىل مراقب محدد وليس كعالمات مطلقة‪.‬‬

‫يجب علينا اآلن‪ ،‬عند محاولة فهم الكون ككل‪ ،‬أو فهم أي نظام تصبح فيه تأثريات‬
‫الجاذبية قوية‪ ،‬استخدام تعميم الطاقة املتوافق مع انحناء الزمكان‪ .‬ولكننا إذا نظرنا إىل‬
‫ديناميكيات الكون عىل مقاييس صغرية مقارنة بحجم الكون املريئ‪ ،‬نجد أن تأثريات االنحناء‬
‫تصبح صغرية‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬يُختزل التعريف املناسب للطاقة إىل شكله التقليدي‪ .‬وهذا‬
‫بدوره يقدم مثاالً عىل مدى قوة حفظ الطاقة‪ ،‬حتى عىل املقاييس الكونية‪ .‬إن حفظ الطاقة هو‬
‫الذي يحدد مصري الكون‪ ،‬كًّم أصفه اآلن‪.‬‬

‫يقال‪« :‬ما طار طري وارتفع إال كًّم طار وقع»‪ .‬هذا خاطئ بالطبع‪ ،‬مثله مثل العديد من‬
‫األقوال القدمية‪ .‬نحن نعلم من تجربتنا مع املركبات الفضائية أن إطالق يشء ما إىل أعىل من‬
‫سطح األرض حتى ال يسقط مرة أخرى أمر ممكن‪ .‬يف الواقع‪ ،‬نحتاج إىل رسعة متجهة كونية‬
‫(الرسعة نفسها لجميع األجسام) من أجل الهروب من جاذبية األرض‪( .‬لو مل يكن األمر كذلك‪،‬‬
‫لكانت بعثات أبولو إىل القمر أكرث صعوبة‪ .‬وتصميم املركبة الفضائية سيأخذ يف االعتبار‬
‫مثال)‪ .‬إن حفظ الطاقة مسؤول عن وجود رسعة الهروب (اإلفالت)‬
‫حا وزن كل رائد فضاء ً‬
‫وضو ً‬
‫الكونية‪.‬‬

‫ميكننا تعريف طاقة أي جسم يتحرك يف جاذبية األرض بداللة جزأين‪ .‬يعتمد األول عىل‬
‫رسعة الجسم؛ كلًّم زادت رسعته‪ ،‬زادت كمية طاقة الحركة هذه‪ ،‬التي تسمى الطاقة الحركية‬
‫‪ ،kinetic energy‬من الكلمة اليونانية ‪ kinetic‬التي تعني حركة‪ .‬وطاقة األجسام الساكنة‬
‫الحركية تساوي الصفر‪ .‬يسمى الجزء الثاين من الطاقة التي ميكن أن ميتلكها الجسم يف مجال‬
‫الجاذبية الطاقة الكامنة ‪ .potential energy‬إذا كان البيانو الكبري معلقًا بحبل عىل ارتفاع‬
‫خمسة عرش طابقًا‪ ،‬فإننا نعلم أن فيه القدرة عىل إحداث رضر كبري‪ .‬كلًّم ارتفع يشء ما‪ ،‬زادت‬
‫الطاقة الكامنة فيه‪ ،‬ألن العواقب أكرب رمبا يف حال سقوطه‪.‬‬

‫تُع ّد الطاقة الكامنة لألجسام املنفصلة جي ًدا كمي ًة سلبية‪ .‬هذه مجرد اتفاقية‪ ،‬ولكن‬
‫املنطق خلفها هو التايل‪ :‬يُع ّرف الجسم الساكن املوجود عىل مسافة ال نهائية من األرض أو أي‬

‫‪145‬‬
‫جسم ضخم آخر بطاقة جاذبية صفرية املحصلة‪ .‬ومبا أن الطاقة الحركية ملثل هذا الجسم‬
‫تساوي صف ًرا‪ ،‬فإن طاقته الكامنة يجب أن تكون صف ًرا أيضً ا‪ .‬ولكن مبا أن طاقة األشياء الكامنة‬
‫تتناقص كلًّم اقرتبت أكرث فأكرث من بعضها –كًّم يحدث يف حالة البيانو عندما يقرتب من‬
‫األرض– فإن هذه الطاقة يجب أن تصبح أكرث سلبي ًة عندما تجتمع األشياء م ًعا‪.‬‬

‫إذا التزمنا بهذه االتفاقية‪ ،‬فإن جزأي طاقة الجاذبية ألي جسم يتحرك بالقرب من سطح‬
‫األرض لهًّم إشارتني متعارضتني – واحدة موجبة واألخرى سالبة‪ .‬ميكننا بعد ذلك أن نسأل‬
‫عن مجموعهًّم‪ :‬أكرب من الصفر أم أصغر منه‪ .‬هذه القضية الحاسمة‪ .‬ألن الطاقة إذا كانت‬
‫محفوظة‪ ،‬فإن الجسم الذي يبدأ بطاقة جاذبية إجًّملية سلبية لن يتمكن أب ًدا من الهروب دون‬
‫العودة‪ .‬ومبجرد أن يبتعد إىل ما ال نهاية‪ ،‬حتى لو تباطأ حتى توقف‪ ،‬فسيكون إجًّميل طاقته‬
‫صف ًرا‪ ،‬كًّم وصفت أعاله‪ .‬وهذا بالطبع أكرب من أي قيمة سالبة‪ ،‬وعليه إذا بدأ إجًّميل الطاقة‬
‫بالسالب‪ ،‬فال ميكن أب ًدا أن يصبح موج ًبا‪ ،‬أو حتى صف ًرا‪ ،‬إال إذا أضفت طاق ًة بطريقة أو بأخرى‪.‬‬
‫إن الرسعة التي تكون فيها الطاقة الحركية األولية (املوجبة) مساوي ًة متا ًما للطاقة الكامنة‬
‫(السالبة)‪ ،‬إذ يكون إجًّميل الطاقة األولية صف ًرا‪ ،‬هي رسعة اإلفالت ‪ .escape velocity‬ميكن‬
‫ملثل هذا الجسم‪ ،‬من حيث املبدأ‪ ،‬الهروب دون العودة‪ .‬ومبا أن كال شكيل الطاقة يعتمد‬
‫بالطريقة نفسها عىل كتلة الجسم‪ ،‬فإن رسعة اإلفالت ال تعتمد عىل الكتلة‪ .‬فمن سطح األرض‬
‫مثال‪ ،‬تبلغ رسعة اإلفالت نحو ‪ 10‬كيلومرتات يف الثانية‪ ،‬أو نحو ‪ 20‬ألف ميل يف الساعة‪.‬‬
‫ً‬

‫إذا كان الكون متناحيًا –متساوي الخواص يف جميع االتجاهات– فإن توسع الكون إىل‬
‫األبد من عدمه يعادل استمرار مجموعة متوسطة من املجرات املنفصلة جي ًدا بالتحرك بعي ًدا عن‬
‫بعضها إىل أجل غري مسمى من عدمه‪ .‬وباستثناء مصادر الطاقة الجديدة والغريبة‪ ،‬مثل طاقة‬
‫الفضاء الفارغ‪ ،‬التي سنتناولها بعد قليل‪ ،‬فإن هذا مطابق للتساؤل حول هبوط الكرة املقذوفة‬
‫من األرض من عدمه‪ .‬يف هذه الحالة‪ ،‬إذا كانت رسعة املجرات النسبية‪ ،‬بسبب توسع الخلفية‪،‬‬
‫كبري ًة مبا يكفي للتغلب عىل الطاقة الكامنة السلبية بسبب تجاذبها املتبادل‪ ،‬فسوف تتابع‬
‫املجرات التحرك بعي ًدا‪ .‬إذا كانت طاقتها الحركية متوازن ًة متا ًما مع طاقتها الكامنة‪ ،‬سيكون‬
‫إجًّميل طاقة الجاذبية صف ًرا‪ .‬ستستمر املجرات بعد ذلك يف التحرك بعي ًدا عن بعضها إىل األبد‪،‬‬
‫لكنها ستتباطأ مبرور الوقت‪ ،‬ولن تتوقف أب ًدا حتى تصبح (أو ما تبقى منها) بعيد ًة عن بعضها‬

‫‪146‬‬
‫بع ًدا ال نهائ ًيا‪ .‬لو تذكرون وصفي لكون مسطح نعتقد أننا نعيش فيه؛ هكذا وصفته‪ .‬وعليه‪ ،‬إذا‬
‫كنا نعيش يف كون مسطح اليوم‪ ،‬فإن إجًّميل طاقة (الجاذبية) الكون بأكمله صفري‪ .‬وهذه‬
‫مذهال للغاية‪.‬‬
‫ً‬ ‫قيمة خاصة‪ ،‬وأحد األسباب التي تجعل الكون املسطح‬

‫أبديت تحفظًا مفاده أن الحجج املذكورة أعاله بُنيت عىل االفرتاض املعقول القائل بعدم‬
‫وجود مصادر جديدة غريبة للطاقة يف الكون‪ ،‬مثل طاقة الفضاء الفارغ‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬رأينا‬
‫أن هذا االفرتاض املعقول غري صحيح يف الواقع‪ .‬ميكن املرء االستغناء عن ذلك‪ ،‬ولكن ما يعنيه‬
‫غري كل يشء‪ ،‬فعندها تنتهي كل الرهانات‪ :‬ميكن الكون املفتوح االنهيار‪ ،‬وميكن الكون‬
‫هذا ت ّ‬
‫املغلق التوسع األبدي‪ ،‬اعتًّم ًدا عىل إشارة عنرص الطاقة اإلضايف هذا وحجمه‪ .‬ولكن هذا ال‬
‫أساسا‪ ،‬ألن حساب الطاقة حسابًا صحي ًحا سيظل يحدد مستقبل الكون‪.‬‬
‫ً‬ ‫يحدث‬

‫مثال الكون الذي يبدو أننا نعيش فيه‪ ،‬وهو مسطح‪ ،‬ما يعني أن إجًّميل طاقة‬
‫لنأخذ ً‬
‫جاذبيته صفري‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يبدو أن الجزء األكرب من هذه الطاقة موجود يف الفضاء الفارغ‪.‬‬
‫يف هذه الحالة سوف يتوسع الكون املرصود إىل األبد‪ ،‬مع استمرار معدل التوسع يف الزيادة‬
‫بدال من التناقص كًّم أوضحنا سابقًا بالنسبة إىل الكون املسطح‪ .‬ما الذي تغري؟ حسنًا‪ ،‬ألن‬
‫ً‬
‫طاقة الفضاء الفارغ تنافر الجاذبية‪ ،‬اتضح أن إجًّميل الطاقة املوجودة يف أي منطقة متوسعة‬
‫وبدال من ذلك‪ ،‬فإن الكون يؤثر يف هذه املنطقة يف أثناء توسعه‪ .‬ويعني هذا‬
‫ً‬ ‫ال يظل ثابتًا‪.‬‬
‫العمل اإلضايف استمرار ضخ طاقة إضافية يف الكون املتوسع‪ ،‬ما يسمح لها بالتسارع رغم أن‬
‫إجًّميل طاقة الجاذبية يظل صف ًرا‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬فإن نهاية الكون بانفجار أو بأنني صامت من عدمها مسألة تقررها الطاقة‪ ،‬غريب ًة‬
‫أخ ً‬
‫كانت أو غري ذلك‪ .‬إن اإلجابة عىل أحد األسئلة األكرث عمقًا يف الوجود البرشي –كيف سينتهي‬
‫الكون؟– ممكنة من طريق قياس رسعة توسع مجموعة معينة من املجرات‪ ،‬وقياس كتلتها‬
‫ريا تقرير توافر «الطاقة املظلمة» املحتملة وطبيعتها‪ .‬لن نعرف العملة التي‬
‫اإلجًّملية‪ ،‬وأخ ً‬
‫ستحكم حسابات الطاقة حتى نكتشف طبيعة الطاقة املظلمة الغامضة التي تشكل حال ًيا ‪%70‬‬
‫من طاقة الكون‪ .‬لكن مصري الكون غري املحدد حال ًيا سيغدو يف نهاية املطاف مجرد مسألة‬
‫حسابات طاقة بسيطة‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫***‬

‫مثة تناظر آخر للطبيعة يسري جن ًبا إىل جنب مع ثبات الرتجمة الزمنية‪ .‬فكًّم أن قوانني الطبيعة‬
‫ال تعتمد عىل الزمان الذي تقيسها فيه‪ ،‬فال ينبغي لها االعتًّمد عىل املكان الذي تقيسها فيه‪.‬‬
‫وكًّم أوضحت لبعض الطالب‪ ،‬إن مل يكن األمر كذلك‪ ،‬فسنحتاج إىل فصل درايس متهيدي يف‬
‫الفيزياء‪ ،‬ليس فقط يف كل جامعة ولكن يف كل مبنى!‬

‫إن نتيجة هذا التناظر يف الطبيعة وجود كمية محفوظة تسمى الزخم‪ ،‬يعرفها معظمكم‬
‫باسم العطالة – حقيقة أن األشياء التي بدأت تتحرك متيل إىل االستمرار يف الحركة واألشياء‬
‫التي ما تزال ثابت ًة تظل عىل هذا النحو‪ .‬إن مبدأ حفظ الزخم هو املبدأ الكامن وراء مالحظة‬
‫غاليليو استمرار األجسام بتحركها برسعة ثابتة ما مل تؤثر فيها بعض القوى الخارجية‪ .‬أطلق‬
‫ديكارت عىل الزخم اسم «كمية الحركة»‪ ،‬واقرتح بداي ًة كونه ثابتًا يف الكون‪« ،‬معطى من الله»‪.‬‬
‫نحن نفهم اليوم أن هذا التأكيد عىل رضورة حفظ الزخم صحيح‪ ،‬تحدي ًدا ألن قوانني الفيزياء‬
‫ال تتغري من مكان إىل آخر‪.‬‬

‫لكن هذا الفهم مل يكن دامئًا بهذا الوضوح‪ .‬يف الواقع‪ ،‬م ّرت فرتات يف ثالثينيات القرن‬
‫العرشين بدا فيها أن االستغناء عن مبدأ حفظ الزخم وارد‪ ،‬عىل مستوى الجسيًّمت األولية‪.‬‬
‫إليكم السبب‪ :‬ينص قانون حفظ الزخم عىل أن نظا ًما ما لو كان يف حالة سكون وانكرس فجأ ًة‬
‫إىل عدة قطع –كًّم هو الحال عندما تنفجر قنبلة– فمن غري املمكن أن تتطاير القطع جميعها‬
‫يف االتجاه نفسه‪ .‬من املؤكد أن هذا واضح بديهيًا‪ ،‬لكن حفظ الزخم يوضح ذلك من طريق‬
‫اشرتاط بقاء الزخم األويل صف ًرا‪ ،‬كًّم هو الحال يف نظام ساكن‪ ،‬طاملا مل تؤثر أي قوة خارجية‬
‫فيه‪ .‬إن الطريقة الوحيدة حتى يصبح الزخم صف ًرا بعدها وجود مقابل لكل قطعة تحلق يف‬
‫اتجاه واحد‪ :‬قطعة تحلق يف االتجاه املعاكس‪ .‬وذلك ألن الزخم‪ ،‬عىل عكس الطاقة‪ ،‬كمية‬
‫اتجاهية تشبه الرسعة املتجهة‪ .‬وعليه‪ ،‬ال ميكن إلغاء الزخم غري الصفري الذي يحمله جسيم‬
‫واحد إال من طريق زخم غري صفري يف االتجاه املعاكس‪.‬‬

‫يكون النيوترون‪ ،‬أحد الجسيًّمت األولية التي تشكل نواة الذرات‪ ،‬غري مستقر عند عزله‬
‫متحلال إىل بروتون وإلكرتون ميكن اكتشافهًّم‬
‫ً‬ ‫ومن ثم سوف يضمحل يف غضون ‪ 10‬دقائق‪،‬‬

‫‪148‬‬
‫ألنهًّم يحمالن شحنات كهربائية (متساوية ومتعاكسة)‪ .‬وعليه‪ ،‬ميكن املرء مالحظة املسارات‬
‫التالية يف الكاشف بعد اضمحالل نيوترون كان يف حالة سكون يف البداية‪:‬‬

‫لكن قانون حفظ الزخم يخربنا أن الربوتون واإللكرتون‪ ،‬كًّم هو الحال يف القنبلة‪ ،‬ال‬
‫ينبغي لهًّم التطاير ميينًا م ًعا؛ يجب عىل أحدهًّم الذهاب يسا ًرا‪ .‬بدالً من ذلك‪ ،‬عىل األقل أحيانًا‪،‬‬
‫لُوحظ التكوين يف املخطط أعاله‪ .‬ومن هنا يُطرح السؤال‪ :‬أال ينطبق قانون حفظ الزخم عىل‬
‫الجسيًّمت األولية؟ إذ إن أح ًدا مل يفهم حينها طبيعة القوة املسؤولة عن اضمحالل النيوترونات‬
‫يف املقام األول‪ .‬لكن فكرة التخيل عن قانون الحفظ هذا (وكذلك قانون حفظ الطاقة‪ ،‬الذي‬
‫جرى انتهاكه أيضً ا عىل ما يبدو يف هذه املالحظات) مل تكن فكر ًة مستساغة‪ ،‬لدرجة أن‬
‫فولفغا نغ باويل‪ ،‬أحد أبرز علًّمء الفيزياء النظرية يف ذلك الوقت‪ ،‬اقرتح احتًّمالً آخر؛ اقرتح‬
‫احتًّملية يتم فيها إنتاج جسيم غري قابل لالكتشاف يف اضمحالل النيوترونات إضاف ًة إىل إنتاج‬
‫الربوتون واإللكرتون‪ .‬وهذا ممكن يف حال كان الجسيم محاي ًدا إلكرتون ًيا‪ ،‬إذ ال ميكن اكتشافه‬
‫يف أجهزة الكشف القياسية للجسيًّمت املشحونة‪ .‬ويجب أيضً ا أن يكون خفيفًا ج ًدا‪ ،‬ألن‬
‫مجموع كتل الربوتون واإللكرتون يساوي تقري ًبا كتلة النيوترون‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬أطلق فريمي‪،‬‬
‫زميل باويل اإليطايل‪ ،‬عىل هذا الجسيم اسم نيوترينو‪ ،‬مصطلح إيطايل يعني «نيوترون‬
‫صغري»‪ .‬إنه الجسيم نفسه الذي تحدثت عنه سابقًا يف التفاعالت النووية التي تزود الشمس‬
‫بالطاقة‪ .‬إذا أنتج اضمحالل النيوترونات النيوترينو‪ ،‬قد يلغي اتجاه زخمه زخم الجسيمني‬
‫اآلخرين‪:‬‬

‫‪149‬‬
‫إن اخرتاع جسيم غري مكتشف سابقًا ليس أم ًرا يُستخف به‪ ،‬وال باويل شخص يُستخف‬
‫به‪ .‬قدم باويل إسهامات مهم ًة يف الفيزياء‪ ،‬ال سيًّم «مبدأ استبعاد باويل»‪ ،‬الذي يحكم طريقة‬
‫سلوك اإللكرتونات يف الذرات‪ .‬كان لهذا العبقري منساوي املولد أيضً ا شخصية مخيفة‪ .‬اشتهر‬
‫بعادته مبقاطعة املحارضات التي حرضها وأخذ الطباشري من يد املتحدث إذا ظن أن حديثه بال‬
‫حا جي ًدا يف‬
‫قيمة‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬فإن فكرة التخيل عن الزخم وحفظ الطاقة‪ ،‬التي نجحت نجا ً‬
‫كل مكان آخر يف الفيزياء‪ ،‬بدت أكرث تطرفًا بكثري مًّم اقرتحه – يف ظل روح االنتحال اإلبداعي‬
‫التي ناقشتها سابقًا‪ .‬لذلك أصبح النيوترينو جز ًءا ثاب ًتا من الفيزياء قبل فرتة طويلة من‬
‫مالحظته تجريب ًيا عام ‪ ،1956‬وقبل أن يصبح جز ًءا قياس ًيا من الفيزياء الفلكية‪.‬‬

‫واليوم‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬سنكون أكرث ترد ًدا يف التخيل عن مبدأ حفظ الزخم‪ ،‬حتى عىل‬
‫هذه املقاييس الصغرية‪ ،‬ألننا ندرك أنه نتيجة تناظر أسايس حقيقي يف الطبيعة‪ .‬وما مل نتوقع‬
‫أن تعتمد قوانني الطبيعة الديناميكية الجديدة بطريقة أو بأخرى عىل املكان‪ ،‬يبقى مبدأ حفظ‬
‫الزخم صال ًحا وميكننا االعتًّمد عليه‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬فإنه ال ينطبق فقط عىل املقاييس دون‬
‫الذرية‪ .‬إنه جزء أسايس من فهم األنشطة البرشية مثل البيسبول أو التزلج أو القيادة أو الكتابة‪.‬‬
‫يف أي نظام معزول عن تأثريات القوى خارجية‪ ،‬يظل زخم هذا النظام محفوظًا‪ ،‬أي يظل ثابتًا‬
‫طوال الوقت‪.‬‬

‫أين نستطيع إيجاد مثل هذه األنظمة املعزولة؟ الجواب يف أي مكان تختاره! يوجد رسم‬
‫كاريكاتوري مشهور يظهر عاملني يجلسان عىل سبورة مليئة باملعادالت‪ ،‬ويقول أحدهًّم لآلخر‪:‬‬
‫«نعم‪ ،‬لكنني ال أعتقد أن رسم مربع حولها يجعلها نظري ًة موحدة»‪ .‬قد يكون هذا صحي ًحا‪،‬‬
‫ولكن كل ما عليك فعله لتعريف النظام هو رسم مربع وهمي حوله‪ .‬تكمن الحيلة يف اختيار‬
‫املربع املناسب‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫انظر يف املثال التايل‪ :‬اصطدمت بجدار من الطوب بسيارتك‪ .‬اآلن ارسم مرب ًعا حول‬
‫السيارة‪ ،‬وس ّمي هذا نظا ًما‪ .‬إن رسعة سيارتك املتحركة يف األساس كانت رسع ًة ثابتةً؛ كان زخم‬
‫السيارة ثابتًا‪ .‬وفجأ ًة يأيت الجدار ويوقفك‪ .‬ومبا أن زخمك يتغري إىل الصفر بحلول الوقت الذي‬
‫تصبح عنده يف حالة راحة‪ ،‬فال بد أن يؤثر الجدار بقوة يف نظامك‪ ،‬أي السيارة‪ .‬يجب أن يبذل‬
‫الجدار قو ًة معين ًة إليقافك‪ ،‬اعتًّم ًدا عىل رسعتك األولية‪.‬‬

‫بعد ذلك‪ ،‬ارسم مرب ًعا حول السيارة والجدار‪ .‬ويف هذا النظام الجديد‪ ،‬ال تبدو أي قوى‬
‫خارجية فاعلة موجودةً‪ .‬يبدو أن الجدار هو العامل الوحيد املؤثر فيك‪ ،‬وأنك العامل الوحيد‬
‫املؤثر يف الجدار‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬ماذا يحدث عندما تصطدم؟ حسنًا‪ ،‬إذا مل تؤثر أي قوى‬
‫خارجية يف هذا النظام‪ ،‬فحفظ الزخم واجب‪ ،‬أي يجب أن يظل ثابتًا‪ .‬يف البداية‪ ،‬كنت تتحرك‬
‫بقدر من الزخم‪ ،‬وكان الجدار يف حالة سكون وزخم صفري‪ .‬بعد االصطدام‪ ،‬يبدو أنك والجدار‬
‫يف حالة راحة‪ .‬ماذا حدث للزخم؟ ال بد أن يذهب إىل مكان ما‪ .‬إن اختفاءه املفرتض هنا ال يعني‬
‫إال أن املربع املرسوم ما يزال غري كايف‪ ،‬أي أن نظامك والجدار ليسا معزولني حقًا‪ .‬إن الجدار‬
‫مرتكز عىل األرض‪ .‬ومن الواضح إذن أن حفظ الزخم يف هذا االصطدام غري ممكن إال إذا كان‬
‫زخم األرض نفسه الزخم الذي تحركت به سيارتك يف البداية‪ .‬وعليه فإن النظام املعزول حقًا‬
‫يتكون منك‪ ،‬والجدار‪ ،‬واألرض‪ .‬ومبا أن األرض أكرب بكثري من سيارتك‪ ،‬فليس من الرضوري‬
‫ريا لتأخذ هذا الزخم‪ ،‬ولكن حركتها مع ذلك يجب أن تتغري! لذا‪ ،‬يف املرة القادمة‬
‫أن تتحرك كث ً‬
‫التي يخربك فيها شخص ما أن األرض تحركت‪ ،‬تأكد أنها تحركت بالفعل!‬

‫***‬

‫إن البحث عن التناظر هو ما يحرك الفيزياء‪ .‬يف الواقع‪ ،‬كل الحقائق املخفية التي جرت‬
‫مناقشتها يف الفصل األخري هدفها الكشف عن تناظرات جديدة للكون‪ .‬تسمى تلك التي‬
‫حا بتناظرات‬
‫وصفتها مثل حفظ الطاقة والزخم تناظرات الزمان واملكان‪ ،‬الرتباطها وضو ً‬
‫الطبيعة الزمانية واملكانية‪ ،‬ولتمييزها عن تلك غري املرتبطة بها‪ .‬وعليه تغدو هذه التناظرات‬
‫مرتبط ًة ارتباطًا تكامل ًيا بنظرية النسبية الخاصة آلينشتاين‪ .‬وألن النسبية تعادل بني الزمان‬
‫واملكان‪ ،‬فإنها تكشف عن تناظر جديد بني االثنني‪ .‬إذ تربطهًّم م ًعا يف كيان واحد جديد‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫الزمكان‪ ،‬الذي يحمل يف طياته مجموع ًة من التناظرات غري املوجودة إذا بحثنا يف املكان‬
‫منفصال‪ .‬يف الواقع‪ ،‬إن ثبات رسعة الضوء يف حد ذاته إشارة إىل تناظر جديد‬
‫ً‬ ‫والزمان بحثًا‬
‫يف الطبيعة يربط بني املكان والزمان‪.‬‬

‫لقد رأينا كيف تجعل الحركة قوانني الفيزياء ثابت ًة عرب توفري اتصال جديد بني املكان‬
‫والزمان‪ .‬يظل «طول» زمكاين رباعي األبعاد ثابتًا يف ظل الحركة املنتظمة‪ ،‬متا ًما كًّم يظل‬
‫طول مكاين ثاليث األبعاد ثابتًا يف ظل الدوران‪ .‬إن هذا التناظر يف الطبيعة دون ارتباط املكان‬
‫والزمان ببعضهًّم‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن الرتجًّمت املكانية البحتة والرتجًّمت الزمانية البحتة‪ ،‬املسؤولة‬
‫بحد ذاتها عن حفظ الزخم والطاقة عىل التوايل‪ ،‬يجب أن تكون مرتبطة م ًعا‪ .‬حقيقة أن حفظ‬
‫الطاقة والزخم ليسا ظاهرتني منفصلتني نتيجة من نتائج النسبية الخاصة‪ .‬إنهًّم م ًعا جزء من‬
‫كمية واحدة تسمى «زخم الطاقة»‪ .‬إن حفظ هذه الكمية الفردية –الذي يتطلب يف الواقع إعادة‬
‫تعريف جزئية لكل من الطاقة والزخم عىل حدة‪ ،‬إذ إن تعريفهًّم تم تقليديًا يف سياق قوانني‬
‫نيوتن – يصبح نتيج ًة وحيد ًة لثوابت عامل يرتبط فيه املكان والزمان ببعضها‪ .‬وبهذا املعنى‪،‬‬
‫تخربنا النسبية الخاصة بيشء جديد‪ :‬الزمكان هو أننا ال نستطيع حفظ الطاقة دون حفظ‬
‫الزخم والعكس صحيح‪.‬‬

‫مثة تناظر زمكاين آخر مل أرش إليه حتى اآلن إال إشار ًة غري مبارشة‪ ،‬وهو مرتبط بالتناظر‬
‫املؤدي إىل حفظ زخم الطاقة يف النسبية الخاصة‪ ،‬لكنه أكرث ألف ًة ألنه يتعلق بثالثة أبعاد ال‬
‫أربعة‪ .‬يتضمن تناظر الطبيعة يف ظل الدوران يف الفضاء‪ .‬لقد وصفت كيف يستطيع املراقبون‬
‫املختلفون رؤية جوانب مختلفة لجسم جرى تدويره‪ ،‬لكننا نعلم أن الكميات األساسية‪ ،‬مثل‬
‫الطول اإلجًّميل‪ ،‬تظل دون تغيري يف ظل هذا الدوران‪ .‬إن ثبات القوانني الفيزيائية عندما أقوم‬
‫مثال‬
‫بتدوير مختربي لإلشارة إىل اتجاه مختلف هو تناظر حاسم يف الطبيعة‪ .‬فنحن ال نتوقع ً‬
‫أن تفضل الطبيعة منهجيًا اتجا ًها محد ًدا يف الفضاء‪ .‬يجب أن تكون جميع االتجاهات متطابقة‬
‫فيًّم يتعلق بالقوانني األساسية‪.‬‬

‫تعني حقيقة ثبات القوانني الفيزيائية يف أثناء الدوران وجود كمية مرتبطة يتم حفظها‪.‬‬
‫ويرتبط الزخم بثبات الطبيعة يف سياق الرتجًّمت املكانية‪ ،‬بينًّم ترتبط هذه الكمية الجديدة‬

‫‪152‬‬
‫بثبات الطبيعة تحت االنتقال الزاوي‪ .‬ولهذا السبب يطلق عليه اسم الزخم الزاوي‪ .‬مثل الزخم‪،‬‬
‫مهًّم يف العمليات التي ترتاوح من املقاييس الذرية وصوالً إىل‬
‫يلعب حفظ الزخم الزاوي دو ًرا ً‬
‫املقاييس البرشية‪ .‬إن حفظ الزخم الزاوي واجب بالنسبة إىل نظام معزول‪ .‬يف الواقع‪ ،‬يكفينا‬
‫يف أي مثال عىل حفظ الزخم استبدال «املسافة» بكلمة «الزاوية» و«الرسعة» بكلمة «الرسعة‬
‫الزاوية» لنعرث عىل بعض أمثلة حفظ الزخم الزاوي‪ .‬هذا مظهر رئييس لالنتحال اإلبداعي‪.‬‬

‫مثاال؛ عندما تصطدم سياريت بسيارة أخرى كانت يف حالة سكون‪ ،‬وتعلق مصدات‬
‫هاك ً‬
‫السيارتني ببعضها بحيث تتحرك السيارتان م ًعا‪ ،‬فإن املجموعة ستتحرك حرك ًة أبطأ من حركة‬
‫سياريت وحدها يف األصل‪ .‬هذه نتيجة كالسيكية لحفظ الزخم‪ .‬يجب أن يبقى زخم النظام‬
‫املدمج للسيارتني نفسه بعد االصطدام كًّم كان قبله‪ .‬ومبا أن الكتلة املجمعة للنظام أكرب من‬
‫كتلة الجسم األصيل املتحرك‪ ،‬يجب أن يتحرك الجسم املدمج حرك ًة أبطأ ليحافظ عىل الزخم‪.‬‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬تخيل متزلج ًة عىل الجليد تدور برسعة كبرية وذراعاها مالصقة‬
‫جانبيها‪ .‬عندما تباعد ذراعيها إىل الخارج‪ ،‬يتباطأ دورانها‪ ،‬كًّم لو كانت ساحرةً؛ هذه نتيجة‬
‫لحفظ الزخم الزاوي‪ ،‬متا ًما كًّم كان املثال السابق نتيجة لحفظ الزخم‪ .‬وفيًّم يتعلق بالتدوير‬
‫والرسعات الزاوية‪ ،‬فإن الجسم ذا نصف القطر األكرب يترصف متا ًما مثل الجسم ذي الكتلة‬
‫األكرب‪ .‬وعليه‪ ،‬سيزيد رفع ذراعيها نصف قطر جسم املتزلجة الدوارة‪ .‬متا ًما كًّم تتحرك‬
‫السيارتان م ًعا حرك ًة أبطأ من سيارة واحدة طاملا مل تؤثر أي قوة خارجية يف النظام‪ ،‬سوف‬
‫تدور املتزلجة ذات نصف القطر املتزايد دورانًا أبطأ من دورانها مع نصف قطر أصغر‪ ،‬طاملا‬
‫أن ال قوة خارجية تؤثر فيها‪ .‬بدالً من ذلك‪ ،‬تستطيع املتزلجة التي تبدأ الدوران ببطء وذراعيها‬
‫ممدودتني أن تزيد رسعة دورانها زياد ًة كبري ًة من طريق تقريب ذراعيها نحو الجسم‪ .‬وهكذا‬
‫تُربح امليداليات األوملبية‪.‬‬

‫توجد كميات أخرى محفوظة يف الطبيعة تنشأ من تناظرات أخرى غري تناظرات‬
‫الزمكان‪ ،‬مثل الشحنة الكهربائية‪ .‬سأعود إىل هذه الحقًا‪ .‬أما حال ًيا‪ ،‬أريد املتابعة يف وجه غريب‬
‫من أوجه ثبات الطبيعة الدوراين‪ ،‬وجه سيسمح يل باستعراض جانب واسع االنتشار من‬
‫فمثال‪ ،‬مع أن قوانني الحركة األساسية ثابتة دوران ًيا –أي ال يوجد اتجاه‬
‫ً‬ ‫التناظر ال يظهر دامئًا‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫مفضل تختاره القوانني التي تحكم الديناميكيات– فالعامل ليس كذلك‪ .‬ولو كان كذلك‪ ،‬ملا‬
‫استطعنا إعطاء االتجاهات إىل متجر البقالة‪ .‬يبدو اليسار مختلفًا عن اليمني‪ ،‬والشًّمل مختلفًا‬
‫عن الجنوب‪ ،‬وأعىل مختلفًا عن أسفل‪.‬‬

‫من السهل علينا ع ّد هذه مجرد حوادث لظروفنا‪ ،‬ألن هذا بالضبط ما هي عليه‪ .‬لو كنا‬
‫يف مكان آخر‪ ،‬لرمبا كانت الفروق بني اليسار واليمني‪ ،‬والشًّمل والجنوب‪ ،‬مختلفة متا ًما‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬تبقى حقيقة أن حادثًا يف ظروفنا ميكنه حجب تناظر أسايس للعامل إحدى أهم األفكار‬
‫التي توجه الفيزياء الحديثة‪ .‬لتحقيق التقدم‪ ،‬واالستفادة من قوة مثل هذه التناظرات‪ ،‬علينا أن‬
‫ننظر تحت الغطاء‪.‬‬

‫ترتبط العديد من األمثلة الكالسيكية عىل الحقائق املخفية التي ناقشتها يف الفصل‬
‫األخري بفكرة إمكانية حجب التناظر‪ .‬تحمل هذه الفكرة االسم املخيف كرس التناظر التلقايئ‪،‬‬
‫وقد واجهناها بالفعل يف عدد من األشكال املختلفة‪.‬‬

‫من األمثلة الجيدة عىل ذلك سلوك املغناطيسات املجهرية املوجودة يف قطعة من الحديد؛‬
‫فكرة ناقشتها يف نهاية الفصل األخري‪ .‬عند درجة حرارة منخفضة‪ ،‬حيث ال مجال مغناطييس‬
‫خارجي مطبق عىل هذه املغناطيسات‪ ،‬فمن املفضل طاق ًيا أن تصطف جميعها يف اتجاه ما‪،‬‬
‫لكن اتجاه اصطفافها يقرره اختيار عشوايئ‪ .‬ال يوجد يشء يف الفيزياء األساسية‬
‫للكهرومغناطيسية يختار اتجا ًها واح ًدا عىل حساب آخر‪ ،‬وال يوجد تنبؤ مسبق ميكنه تحديد‬
‫االتجاه املختار بدقة‪ .‬ولكن االختيار متى حدث‪ ،‬يصبح هذا االتجاه ممي ًزا للغاية‪ .‬إن الحرشة‬
‫الحساسة للمجاالت املغناطيسية والتي تعيش داخل مثل هذا املغناطيس ستنمو عىل افرتاض‬
‫اختالف «الشًّمل» اختالفًا جوهريًا عن بقية االتجاهات؛ هذا اتجاه اصطفاف املغناطيسات‬
‫املجهرية‪.‬‬

‫تكمن خدعة الفيزياء يف تجاوز الظروف الخاصة واملقرتنة رمبا بوجودنا‪ ،‬ومحاولة‬
‫النظر إىل ما هو أبعد منها‪ .‬يف كل حالة أعرفها‪ ،‬يعني هذا البحث عن التناظرات الحقيقية يف‬
‫العامل‪ .‬ويف حالة املغناطيس‪ ،‬يعني هذا اكتشاف أن املعادالت التي تحكم املغناطيس كانت ثابت ًة‬
‫يف أثناء الدوران‪ ،‬وأن الشًّمل ميكنه الدوران ليصبح جنوبًا وستظل الفيزياء كًّم هي‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫يُعد توحيد التفاعالت الضعيفة والكهرومغناطيسية مثاالً منوذج ًيا عىل ما سبق‪.‬‬
‫فالفيزياء األساسية هنا ال تفرق بني الفوتون عديم الكتلة والجسيم زد الضخم للغاية‪ .‬يف‬
‫الواقع‪ ،‬مثة تناظر يف الديناميكيات األساسية التي ميكن مبوجبها تحويل زد إىل فوتون مع‬
‫بقاء كل يشء كًّم هو متا ًما‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬يف العامل الذي نعيش فيه‪ ،‬أنتجت الفيزياء األساسية‬
‫نفسها تطبيقًا محد ًدا‪ ،‬وهو حل املعادالت –«متكثف» الجسيًّمت التي تشغل مساحة فارغة–‬
‫حيث يترصف الفوتون وجسيم زد بصورة مختلفة متا ًما‪.‬‬

‫رياض ًيا‪ ،‬ميكن ترجمة هذه النتائج إىل ما ييل‪ :‬ال يلزم أن يكون حل معادلة رياضية‬
‫معني ثابتًا يف ظل مجموعة التحوالت نفسها التي تكون مبوجبها املعادلة األساسية ثابتة‪ .‬إن‬
‫أي تطبيق محدد لنظام ريايض أسايس‪ ،‬مثل اإلدراك الذي نراه عندما ننظر حولنا يف الغرفة‪،‬‬
‫قد يؤدي إىل كرس التناظر األسايس املرتبط به‪ .‬تأمل املثال الذي ابتكره الفيزيايئ عبد السالم‪،‬‬
‫أحد الحائزين عىل جائزة نوبل عن عمله يف توحيد الكهرومغناطيسية والتفاعل الضعيف‪:‬‬
‫عندما تجلس عىل طاولة عشاء دائرية‪ ،‬تكون متناظر ًة متا ًما‪ .‬كأسا النبيذ عىل اليمني واليسار‬
‫متساويان‪ ،‬وال يشء سوى آداب السلوك (التي ال أستطيع تذكرها أب ًدا) يحدد أي كأس لك‪ .‬فور‬
‫اختيارك أحدهًّم –ولنقل‪ ،‬الذي عىل اليمني– يصبح اختيار الجميع ثابتًا‪ ،‬إن أرادوا واح ًدا‪.‬‬
‫حقيقة أننا نعيش يف إدراك محدد مًّم يكون رمبا عد ًدا ال نهائيًا من االحتًّمالت حقيقة عاملية‬
‫من حقائق الحياة‪ .‬وإلعادة صياغة عبارة روسو‪ُ :‬ولد العامل ح ًرا‪ ،‬لكنه مقيد بالسالسل يف كل‬
‫مكان!‬

‫ملاذا علينا االهتًّمم بالتناظرات يف الطبيعة‪ ،‬حتى تلك غري الواضحة؟ هل هي محض‬
‫نشوة جًّملية غريبة متتع الفيزيائيني‪ ،‬كأنها نوع من االستمناء الفكري؟ رمبا هذا صحيح‬
‫جزئيًا‪ ،‬ولكن مثة أيضً ا سبب آخر‪ .‬التناظرات‪ ،‬حتى تلك التي ال تظهر مبارشةً‪ ،‬ميكنها أن تحدد‬
‫متا ًما الكميات الفيزيائية التي تنشأ يف وصف الطبيعة‪ ،‬إضاف ًة إىل العالقات الديناميكية بينها‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬قد يكون التناظر هو الفيزياء‪ .‬ويف التحليل النهايئ‪ ،‬قد ال يوجد يشء آخر‪.‬‬

‫مثال يف فكرة أن الطاقة والزخم –النتائج املبارشة لتناظرين يف الزمكان– يقدمان‬


‫تأمل ً‬
‫م ًعا وصفًا للحركة يعادل متا ًما جميع قوانني نيوتن التي تصف حركة األجسام يف مجال‬

‫‪155‬‬
‫مثال– تتبع هذين املبدأين‪ .‬والتناظر‬
‫جاذبية األرض‪ .‬كل الديناميكيات –القوة املنتجة للتسارع ً‬
‫يحدد حتى طبيعة القوى األساسية نفسها‪ ،‬كًّم سأصفها قري ًبا‪.‬‬

‫يحدد لنا التناظر املتغريات الرضورية لوصف العامل‪ .‬مبجرد االنتهاء من ذلك‪ ،‬يصبح كل‬
‫يشء آخر ثابت‪ .‬خذ مثايل املفضل مرة أخرى‪ :‬الكرة‪ .‬عندما أمثل البقرة ككرة‪ ،‬فأنا أقول إن‬
‫العمليات الفيزيائية الوحيدة التي نحتاجها ستعتمد عىل نصف قطر البقرة‪ .‬أي يشء يعتمد‬
‫رصاح ًة عىل موقع زاوي محدد يجب أن يكون زائ ًدا عن الحاجة‪ ،‬ألن جميع املواقع الزاوية يف‬
‫نصف قطر معني متطابقة‪ .‬أدى التناظر الكبري للكرة إىل تقليص مشكلة الوجود املحتمل لعدد‬
‫كبري من املعلًّمت إىل مشكلة ذات معلمة واحدة‪ :‬نصف القطر‪.‬‬

‫ميكننا عكس األحداث هنا‪ .‬إذا متكنا من عزل تلك املتغريات الرضورية لوضع وصف‬
‫مناسب لعمليات فيزيائية معينة‪ ،‬رمبا نقدر‪ ،‬إذا كنا أذكياء‪ ،‬عىل العمل باالتجاه املعاكس‬
‫لتخمني التناظرات الجوهرية املعنية‪ ،‬والتي تحدد بدورها جميع القوانني التي تحكم العملية‪.‬‬
‫وبهذا املعنى فإننا نتبع مرة أخرى خطى غاليليو‪ .‬تذكر أنه أوضح لنا أن تعلّم كيفية تحرك‬
‫األشياء وحده يعادل معرفة سبب تحركها‪ .‬أوضحت تعريفات الرسعة املتجهة والتسارع ما هو‬
‫رضوري لتحديد سلوك األجسام املتحركة الدينامييك‪ .‬نحن نخطو خطو ًة صغري ًة إضافي ًة نحو‬
‫األمام عندما نفرتض أن القوانني التي تحكم مثل هذا السلوك ال يوضحها عزل املتغريات ذات‬
‫الصلة فحسب؛ بل إن هذه املتغريات وحدها تحدد كل يشء آخر‪.‬‬

‫دعونا نعود إىل وصف فاينًّمن الطبيعة باعتبارها لعبة شطرنج عظيمة تلعبها اآللهة‪،‬‬
‫ويرشفنا مشاهدتها‪ .‬ما نسميه الفيزياء األساسية ميثل قواعد اللعبة‪ ،‬وفهم هذه القواعد هدفنا‪.‬‬
‫ادعى فاينًّمن أن فهم هذه القواعد هو كل ما ميكننا أن نأمل بفعله عندما ندعي «فهم» الطبيعة‪.‬‬
‫أعتقد أننا قادرون اآلن عىل خطو خطوة أخرى إىل األمام‪ .‬نعتقد أن هذه القواعد ميكن تحديدها‬
‫بالكامل مبجرد استكشاف تكوين «اللوحة» و«القطع» التي تُلعب بها اللعبة وتناظراتها‪ .‬وهكذا‬
‫فإن فهم الطبيعة‪ ،‬أي فهم قواعدها‪ ،‬يعادل فهم تناظراتها‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫إن هذا ادعاء كبري‪ ،‬ندعيه مع يشء من التعميم الكبري‪ .‬ومبا أنني أتوقعك اآلن مرتبكًا‬
‫حا‪ .‬ويف هذه العملية‪ ،‬آمل أن‬
‫ومشككًا‪ ،‬أريد أن أستعرض بعض األمثلة لجعل األمور أكرث وضو ً‬
‫أعطي فكرة عن كيفية تقدم الفيزياء‪.‬‬

‫أوالً‪ ،‬اسمحوا يل أن أصف هذه األفكار يف سياق تشبيه فاينًّمن‪ .‬رقعة الشطرنج جسم‬
‫متناظر إىل حد ما‪ .‬يتكرر منط اللوحة بعد مسافة واحدة يف أي اتجاه‪ .‬وهي مصنوعة من‬
‫لونني‪ ،‬وإذا قمنا بتبديلهًّم‪ ،‬يبقى النمط متطابقًا‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬فإن حقيقة احتوائها عىل ‪8‬‬
‫× ‪ 8‬مربعات تسمح بالفصل الطبيعي إىل نصفني‪ ،‬وميكن تبادلهًّم أيضً ا دون تغيري مظهر‬
‫اللوحة‪.‬‬

‫مثال ميكن لعبها عىل مثل‬


‫ال يكفي هذا وحده لتحديد لعبة الشطرنج‪ ،‬ألن لعبة الداما ً‬
‫هذه اللوحة‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬عندما أضيف إىل ذلك حقيقة وجود ستة عرش قطعة عىل كل جانب‬
‫من جوانب رقعة الشطرنج‪ ،‬مثانية منها متطابقة‪ ،‬ومن بني القطع األخرى ثالث مجموعات من‬
‫قطعتني متطابقتني‪ ،‬إضاف ًة إىل قطعتني منفردتني‪ ،‬تصبح األمور أكرث تقيي ًدا بكثري‪ .‬يصبح‬
‫مثال استخدام تناظر االنعكاس للوحة لوضع القطع الثالث مع رشكاء‬
‫من الطبيعي هنا ً‬
‫متطابقني –الرخ‪ ،‬والفارس‪ ،‬والفيل– يف منط صورة معكوسة حول مركز اللوحة‪ .‬ثم تتكرر‬
‫ازدواجية اللوحة بوجود اللونني الخاصني بالخصمني‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬فإن مجموعة الحركات‬
‫لجميع قطع الشطرنج تتوافق مع أبسط مجموعة من الحركات التي يسمح بها تخطيط اللوحة‪.‬‬
‫إن مطالبة القطعة بالتحرك بلون واحد فقط يقيد الحركة باألقطار‪ ،‬كًّم هو الحال بالنسبة إىل‬
‫رصا يف املساحة املجاورة ذات اللون‬
‫الفيل‪ .‬إن السًّمح للبيدق بأخذ القطعة عند وجودها ح ً‬
‫نفسه يتطلب أيضً ا األخذ القطري‪ ،‬وهكذا‪ .‬رغم أنني ال أدعي أن هذا دليل قاطع عىل أن لعبة‬
‫الشطرنج ثابتة كليًا من طريق تناظر اللوحة والقطع‪ ،‬يبقى جدي ًرا بالذكر وجود نسخة واحدة‬
‫من اللعبة باقية حتى اليوم‪ .‬أتوقع لو أن نس ًخا أخرى قابل ًة للتطبيق موجودة اليوم‪ ،‬لكانت‬
‫ستظل رائجةً‪.‬‬

‫قد ترغب بتسلية نفسك بطرح السؤال ذاته عن رياضتك املفضلة‪ .‬هل ستكون كرة القدم‬
‫نفسها إذا مل تُلعب عىل ملعب مساحته ‪ 100‬ياردة مقسمة إىل أقسام يقيس كل منها ‪10‬‬

‫‪157‬‬
‫ياردات؟ وأهم من ذلك‪ ،‬إىل أي مدى تعتمد القواعد عىل تناظرات الفريق الذي يلعب؟ ماذا عن‬
‫لعبة البيسبول؟ يبدو ملعب البيسبول جز ًءا أساس ًيا من اللعبة‪ .‬لو ض ّم امللعب خمس قواعد‬
‫مرتبة عىل شكل خًّميس‪ ،‬فهل ستحتاج إىل أربع كرات خارجة؟‬

‫ملاذا يقترص الحديث عىل الرياضة؟ ما مدى تحديد قوانني الدولة من طريق هيئة‬
‫املرشعني؟ ولطرح السؤال الذي طرحه العديد من األشخاص القلقني بشأن اإلنفاق العسكري‬
‫يف الواليات املتحدة‪ :‬إىل أي حد مييل التخطيط الدفاعي وجود أربع قوات مسلحة مختلفة‪:‬‬
‫القوات الجوية‪ ،‬والجيش‪ ،‬والبحرية‪ ،‬ومشاة البحرية؟‬

‫بالعودة إىل الفيزياء‪ ،‬أريد أن أصف كيف تستطيع التناظرات‪ ،‬حتى تلك غري الواضحة‪،‬‬
‫أن تث ّبت شكل القوانني الفيزيائية املعروفة‪ .‬سأبدأ بقانون الحفظ الوحيد الذي مل أناقشه بعد‬
‫مع أنه يؤدي دو ًرا أساس ًيا يف الفيزياء‪ :‬قانون حفظ الشحنة‪ .‬يبدو أن جميع العمليات يف‬
‫الطبيعة تحافظ عىل الشحنة – أي أن وجود شحنة سالبة صافية واحدة يف بداية أي عملية‬
‫يعني وجود شحنة سالبة صافية واحدة يف نهايتها‪ ،‬بغض النظر عن مدى تعقيد هذه العملية‪.‬‬
‫ميكن خاللها إنشاء جسيًّمت مشحونة عديدة أو تدمريها‪ ،‬رشط حدوث هذا يف أزواج من‬
‫الشحنات املوجبة والسالبة‪ ،‬فتكون بذلك الشحنة اإلجًّملية يف أي لحظة مساوي ًة تلك املوجودة‬
‫يف البداية وتلك املوجودة يف النهاية‪.‬‬

‫نحن نعرف‪ ،‬وفقًا لنظرية نويرث‪ ،‬أن قانون الحفظ العاملي هذا نتاج تناظر عاملي‪ :‬ميكننا‬
‫تحويل جميع الشحنات املوجبة يف العامل إىل شحنات سالبة‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬ولن يتغري‬
‫يشء يف العامل‪ .‬وهذا يعادل حقًا القول بأن تسمية موجب وسالب تسمية اعتباطية‪ ،‬وأننا ال‬
‫نتبع سوى العرف عندما نصف إلكرتونًا بسالب الشحنة وبروتونًا مبوجبها‪.‬‬

‫يف الواقع‪ ،‬فإن التناظر املسؤول عن حفظ الشحنة يشبه يف جوهره تناظر الزمكان‬
‫مثال جميع املساطر يف الكون يف وقت‬
‫الذي ناقشته فيًّم يتعلق بالنسبية العامة‪ .‬فإذا غرينا ً‬
‫واحد‪ ،‬إذ يصبح ما كان بوص ًة واحد ًة سابقًا يساوي بوصتني‪ ،‬فإننا نتوقع أن تبدو قوانني‬
‫الفيزياء كًّم هي‪ .‬قد تتغري الثوابت األساسية املختلفة يف القيمة للتعويض عن التغري يف‬
‫الحجم‪ ،‬ولكن شي ًئا لن يتغري بخالف ذلك‪ .‬وهذا يعادل عبارة أننا أحرار يف استخدام أي نظام‬

‫‪158‬‬
‫من الوحدات نريده لوصف العمليات الفيزيائية‪ .‬قد نستخدم األميال والرطل يف الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬وميكن كل دولة متقدمة أخرى يف العامل استخدام الكيلومرتات والكيلوغرامات‪.‬‬
‫وبرصف النظر عن اإلزعاج الناتج عن التحويل‪ ،‬فإن قوانني الفيزياء نفسها يف الواليات املتحدة‬
‫كًّم هي يف بقية العامل‪.‬‬

‫ولكن ماذا لو اخرتت تغيري طول املساطر مبقادير مختلفة من نقطة إىل أخرى؟ ما‬
‫يحدث بعد ذلك؟ حسنًا‪ ،‬أخربنا آينشتاين أن ال خطأ يف هذا اإلجراء‪ .‬وأنه يعني فقط معادلة‬
‫القوانني التي تحكم حركة الجسيًّمت يف مثل هذا العامل لتلك الناتجة عن وجود بعض مجاالت‬
‫الجاذبية‪.‬‬

‫ما تخربنا به النسبية العامة إذن هو وجود تناظر عام للطبيعة ال يسمح لنا بتغيري‬
‫تعريف الطول من نقطة إىل أخرى إال إذا سمحنا نحن أيضً ا بوجود يشء مثل مجال الجاذبية‪.‬‬
‫يف هذه الحالة‪ ،‬ميكننا التعويض عن التغريات املحلية يف الطول من طريق إدخال مجال‬
‫الجاذبية‪ .‬بدالً من ذلك‪ ،‬رمبا ميكننا إيجاد وصف عاملي يظل فيه الطول ثابتًا من نقطة إىل‬
‫أخرى‪ ،‬ومن ثم ال يلزم وجود مجال جاذبية‪ .‬هذا التناظر‪ ،‬الذي يسمى ثبات اإلحداثيات العامة‬
‫‪ ،general-coordinate invariance‬يحدد متا ًما النظرية التي نسميها النسبية العامة‪.‬‬
‫ويعني أن نظام اإلحداثيات الذي نستخدمه لوصف املكان والزمان نظام اعتباطي بحد ذاته‪،‬‬
‫متا ًما مثل الوحدات التي نستخدمها لوصف املسافة‪ .‬مثة فرق موجود عمو ًما‪ .‬قد تكون أنظمة‬
‫اإلحداثيات املختلفة متكافئة‪ ،‬ولكن التحويل بينها إذا اختلف محليًا –أي إذا اختلفت األطوال‬
‫القياسية من نقطة إىل أخرى– سوف يتطلب أيضً ا إدخال مجال جاذبية لبعض املراقبني من‬
‫أجل بقاء حركة األجسام املتوقعة كًّم هي‪ .‬النقطة املهمة‪ :‬يف العامل الغريب الذي اخرتت فيه‬
‫تغيري تعريف الطول من نقطة إىل أخرى‪ ،‬سيبدو مسار الجسم املتحرك تحت تأثري أي قوة‬
‫مستقيًّم‪ .‬لقد وصفت هذا سابقًا يف مثال الطائرة املسافرة حول العامل‬
‫ً‬ ‫أخرى منحنيًا‪ ،‬وليس‬
‫كًّم يراها شخص ينظر إىل املسقط عىل خريطة مسطحة‪ .‬ميكنني أن أفرس هذا‪ ،‬وأن أظل متفقًا‬
‫مع قواعد غاليليو‪ ،‬فقط إذا سمحت لقوة واضحة أن تعمل يف هذا اإلطار الجديد‪ .‬هذه قوة‬
‫الجاذبية‪ .‬ومن ثم ميكن القول إن شكل الجاذبية ناتج عن ثبات اإلحداثيات العامة للطبيعة‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫ال يعني هذا أن الجاذبية من نسج خيالنا‪ .‬تخربنا النسبية العامة أن الكتلة تحني الفضاء‪.‬‬
‫يف هذه الحالة‪ ،‬جميع أنظمة اإلحداثيات التي ميكننا اختيارها ستفرس هذا االنحناء بطريقة أو‬
‫بأخرى‪ .‬قد يكون من املمكن محل ًيا االستغناء عن مجال الجاذبية – أي أن املراقب الساقط بحرية‬
‫لن «يشعر» بأي قوة تؤثر فيه‪ ،‬متا ًما كًّم يسقط رواد الفضاء الذين يدورون حول األرض بحرية‬
‫وال يشعرون بالجاذبية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن مسارات املراقبني املختلفني الذين يسقطون سقوطًا ح ًرا‬
‫سوف تنحني بالنسبة لبعضها‪ ،‬وهذه عالمة عىل أن الفضاء منحني‪ .‬ميكننا اختيار أي إطار‬
‫مرجعي نرغب به‪ .‬ثبته يف كوكب األرض‪ ،‬وسوف نخترب قوة الجاذبية‪ .‬قد ال يتمكن املراقبون‬
‫الذين يسقطون بحرية من ذلك‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬ستعكس ديناميكيات الجسيًّمت يف كلتا‬
‫الحالتني انحناء الفضاء األسايس‪ ،‬وهو انحناء حقيقي ناجم عن وجود املادة‪ .‬رمبا يكون مجال‬
‫الجاذبية «خيال ًيا» مبعنى أن االختيار املناسب لإلحداثيات يخلصنا منه يف كل مكان‪ ،‬لكن هذا‬
‫غري ممكن إال إذا كان الفضاء األسايس مسط ًحا متا ًما‪ ،‬ما يعني عدم وجود مادة حوله‪ .‬أحد‬
‫األمثلة عىل ذلك نظام اإلحداثيات الدوار‪ ،‬كًّم قد تجده إذا وقفت مقابل الحائط يف إحدى جوالت‬
‫الكرنفال حيث تدور غرفة أسطوانية كبرية ويتم دفعك باتجاه الخارج‪ .‬داخل غرفة الدوران‪ ،‬قد‬
‫تتخيل وجود مجال جاذبية يسحبك إىل الخارج‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ال توجد كتلة تعمل كمصدر ملثل‬
‫هذا املجال‪ ،‬كًّم تفعل األرض بالنسبة ملجال جاذبيتنا‪ .‬يدرك هؤالء املراقبون أن ما ميكن أن‬
‫نسميه مجال الجاذبية ال يتعدى كونه حادثًا نتيجة اختيار يسء لنظام اإلحداثيات؛ النظام‬
‫املثبت يف الغرفة الدوارة‪ .‬االنحناء حقيقي‪ ،‬أما مجال الجاذبية موضوعي‪.‬‬

‫بدأت بالحديث عن الشحنة الكهربائية وانتهى يب األمر أتحدث عن الجاذبية‪ .‬واآلن أريد‬
‫أن أفعل بالشحنة الكهربائية ما فعلته بالطول يف الزمكان‪ .‬هل مثة يف الطبيعة تناظر يسمح‬
‫يل محليًا باختيار اصطالحي الخاص بالشحنة الكهربائية بصورة تعسفية مع الحفاظ عىل‬
‫تنبؤات قوانني الفيزياء كًّم هي؟ اإلجابة نعم‪ ،‬ولكن فقط إذا ُوجد مجال آخر يف الطبيعة يؤثر‬
‫يف الجسيًّمت التي ميكنها «التعويض» عن اختياري املحيل للشحنة بالطريقة نفسها التي‬
‫«يعوض» بها مجال الجاذبية االختيار املتغري اعتباط ًيا لنظام اإلحداثيات‪.‬‬

‫إن املجال الناتج عن هذا التناظر يف الطبيعة ليس املجال الكهرومغناطييس نفسه‪ ،‬كًّم‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬يؤدي هذا املجال دور انحناء الزمكان‪ .‬فهو موجود دامئًا إذا كانت‬
‫قد تتخيل‪ً .‬‬

‫‪160‬‬
‫الشحنة قريبة‪ ،‬متا ًما كًّم يكون انحناء الفضاء موجو ًدا دامئًا إذا كانت الكتلة موجودة‪ .‬هذا ليس‬
‫مجاال تعسف ًيا؛ فثمة مجال آخر‪ ،‬يتعلق باملجال الكهرومغناطييس‪ ،‬يؤدي دو ًرا مشاب ًها ملجال‬
‫ً‬
‫الجاذبية‪ .‬يُسمى هذا املجال كمون املتجه ‪ vector potential‬يف الكهرومغناطيسية‪.‬‬

‫هذا التناظر الغريب يف الطبيعة‪ ،‬الذي يسمح يل بتغيري تعريفي للشحنة أو الطول‬
‫محل ًيا عىل حساب إدخال قوى إضافية‪ ،‬يسمى تناظر املقياس ‪ ،gauge symmetry‬وقد أرشت‬
‫إليه باختصار يف فصل سابق‪ .‬مثّل وجوده‪ ،‬بأشكال مختلفة‪ ،‬يف النسبية العامة‬
‫والكهرومغناطيسية‪ ،‬السبب خلف تقديم هريمان فايل هذا التناظر ومحاولة توحيد االثنني‪.‬‬
‫تبني أن األمر أكرث عمومية‪ ،‬كًّم سرنى‪ .‬ما أريد التأكيد عليه هو أن مثل هذا التناظر (‪ )1‬يتطلب‬
‫وجود قوى مختلفة يف الطبيعة‪ ،‬و(‪ )2‬يخربنا ما الكميات التي تعد «فيزيائيةً» حقًا ومييزها‬
‫عن تلك األخطاء الناتجة عن اختيار اإلطار املرجعي‪ .‬مثلًّم تكون املتغريات الزاوية يف الكرة‬
‫زائدة عن الحاجة إذا اعتمد كل يشء عىل نصف قطر الكرة فقط‪ ،‬فإن مقياس تناظر الطبيعة‬
‫يخربنا إىل حد ما أن املجاالت الكهرومغناطيسية وانحناء الزمكان فيزيائية وأن مجاالت‬
‫الجاذبية وكمونات املتجهات تعتمد عىل املراقب‪.‬‬

‫إن اللغة الغريبة لقياس التناظر ستكون تحذلقًا رياض ًيا ال أكرث إذا انحرص استخدامها‬
‫يف وصف األشياء بعد وقوعها‪ .‬ففي نهاية املطاف‪ ،‬كانت الكهرومغناطيسية والجاذبية‬
‫مهًّم آثاره يف بقية‬
‫فهًّم جي ًدا قبل اقرتاح تناظر املقياس‪ .‬ما يجعل تناظر املقياس ً‬
‫مفهومتان ً‬
‫الفيزياء‪ ،‬إذ اكتشفنا يف السنوات الخمس والعرشين املاضية أن جميع القوى املعروفة يف‬
‫الطبيعة تنتج عن تناظرات مقياس‪ .‬وهذا بدوره سمح لنا ببناء فهم جديد ألشياء مل نفهمها‬
‫سابقًا‪ .‬إن البحث عن تناظر مقياس مرتبط بهذه القوى سمح للفيزيائيني بالتمييز بني الكميات‬
‫الفيزيائية ذات الصلة والكامنة وراء هذه القوى‪.‬‬

‫من الخصائص العامة لتناظر املقياس لزوم وجود مجال ما ميكنه التأثري يف مسافات‬
‫طويلة‪ ،‬ويرتبط بالقدرة عىل التعويض عن الحرية يف تغيري تعريف خصائص معينة‬
‫للجسيًّمت أو الزمكان من نقطة إىل أخرى عرب مسافات طويلة دون تغيري الفيزياء األساسية‪.‬‬
‫ويف حالة النسبية العامة‪ ،‬يتجىل ذلك يف مجال الجاذبية؛ ويف الكهرومغناطيسية‪ ،‬يتجىل ذلك‬

‫‪161‬‬
‫يف املجاالت الكهربائية واملغناطيسية (التي تنتج يف حد ذاتها عن كمونات املتجهات)‪ .‬لكن‬
‫التفاعل الضعيف بني الجسيًّمت يف النواة ال يحدث إال عىل مسافات قصرية ج ًدا‪ .‬كيف ميكن‬
‫أن تكون مرتبط ًة بتناظر املقياس األسايس للطبيعة؟‬

‫الجواب هو أن هذا التناظر «ينكرس تلقائ ًيا»‪ .‬إن كثافة الجسيًّمت يف خلفية الفضاء‬
‫الفارغ نفسها التي تتسبب يف ظهور جسيم زد ضخم‪ ،‬يف حني أن الفوتون الناقل‬
‫الكهرومغناطيسية يظل عديم الكتلة‪ ،‬توفر أيضً ا خلفي ًة ميكنها االستجابة فيزيائ ًيا للشحنة‬
‫الضعيفة لجسم ما‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬مل يعد املرء ح ًرا يف تغيري ما يعنيه محل ًيا بالشحنات الضعيفة‬
‫املوجبة والسالبة‪ ،‬ومن ثم فإن مقياس التناظر‪ ،‬الذي أمكن لوال ذلك وجوده‪ ،‬ليس واض ًحا‪ .‬يبدو‬
‫مجاال كهربائ ًيا خلف ًيا موجود يف الكون‪ .‬سيظهر يف هذه الحالة فرق كبري بني‬
‫ً‬ ‫األمر كأن‬
‫الشحنات املوجبة والسالبة‪ ،‬إذ إن نو ًعا واح ًدا من الشحنات سينجذب إىل هذا املجال بينًّم يتنافر‬
‫النوع اآلخر معه‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن التمييز بني الشحنة املوجبة والسالبة لن يكون اعتباط ًيا بعد اآلن‪.‬‬
‫سيتم اآلن حجب تناظر الطبيعة األسايس هذا‪.‬‬

‫ما يلفت النظر هنا هو أن تناظرات املقياس املكسورة تلقائ ًيا ليست محجوب ًة متا ًما‪ .‬وكًّم‬
‫وصفت‪ ،‬فإن تأثري «متكثف» الجسيًّمت يف خلفية الفضاء الفارغ جعل جسيًّمت دابليو وزد‬
‫تبدو ثقيلة‪ ،‬مع الحفاظ عىل الفوتون عديم الكتلة‪ .‬ومن ثم فإن بصمة نظرية املقياس املكسور‬
‫وجود جسيًّمت ثقيلة‪ ،‬تنقل قوى ال ميكنها التأثري إال يف مسافات قصرية – ما يسمى بالقوى‬
‫قصرية املدى‪ .‬إن رس اكتشاف مثل هذا التناظر األسايس املكسور هو النظر إىل القوى قصرية‬
‫املدى واستكشاف أوجه التشابه مع القوى طويلة املدى‪ ،‬وهي القوى التي ميكنها التأثري يف‬
‫مسافات طويلة‪ ،‬مثل الجاذبية والكهرومغناطيسية‪ .‬وهكذا بالضبط‪« ،‬فُهم» التفاعل الضعيف‪،‬‬
‫باملعنى اإلرشادي عىل األقل‪ ،‬عىل أنه ابن عم الديناميكا الكهربائية الكمومية‪ ،‬النظرية الكمومية‬
‫للكهرومغناطيسية‪.‬‬

‫طور فاينًّمن وموري جيلًّمن نظرية ظاهراتية وضعا فيها التفاعل الضعيف يف‬
‫التشكيل نفسه مع الكهرومغناطيسية من أجل استكشاف ما سيحدث‪ .‬ويف غضون عقد من‬
‫كال من الكهرومغناطيسية والتفاعل الضعيف بصفة نظريات‬
‫حدت ً‬
‫الزمان‪ُ ،‬وضعت نظرية و ّ‬

‫‪162‬‬
‫مقياس‪ ،‬وتضمنت تنبؤات جوهرية كان أحدها وجوب وجود جزء واحد من القوة الضعيفة مل‬
‫يُالحظ من قبل‪ .‬مل تتضمن النظرية تفاعالت تخلط شحنة الجسيًّمت‪ ،‬مثل تلك التي تأخذ‬
‫نيوترونًا محاي ًدا وتسمح له بالتحلل إىل بروتون موجب وإلكرتون سالب‪ .‬بل سمحت بتفاعالت‬
‫من شأنها أن تبقي شحنات الجسيًّمت كًّم هي‪ ،‬متا ًما كًّم تستطيع القوة الكهربائية أن تؤثر‬
‫يف اإللكرتونات دون تغيري شحنتها‪ .‬كان هذا «التفاعل املحايد» مبثابة تنبؤ أسايس للنظرية‬
‫ريا بشكل ال لبس فيه يف السبعينيات‪ .‬رمبا كانت هذه أول حالة اكتشاف تناظر‬
‫التي اعتُمدت أخ ً‬
‫تنبأ بوجود قوة جديدة‪ ،‬بدالً من تسميتها بعد فوات األوان‪.‬‬

‫يُعزى ضعف التفاعل الضعيف إىل أن تناظر املقياس املرتبط به ينكرس تلقائياً‪ .‬وهكذا‬
‫– عىل مقاييس الطول األكرب من متوسط املسافة بني الجسيًّمت يف متكثفات الخلفية املؤثرة‬
‫يف خصائص جسيًّمت زد و دابليو– تبدو هذه الجسيًّمت ثقيلة ج ًدا وتخمد التفاعالت التي‬
‫تتوسطها‪ .‬إذا ُوجدت تناظرات مقياس جديدة أخرى يف الطبيعة كُرست تلقائ ًيا عىل نطاقات‬
‫مسافات أصغر‪ ،‬رمبا تكون القوى املعنية أضعف من أن تُكتشف بعد؛ رمبا موجودة بأعداد ال‬
‫متناهية‪ ،‬ورمبا غري موجودة‪.‬‬

‫وهكذا يغدو مناس ًبا التساؤل‪ :‬هل يجب أن تنتج جميع القوى يف الطبيعة عن تناظرات‬
‫مقياس‪ ،‬حتى لو كُرست تلقائيًا‪ .‬أال يوجد سبب آخر لوجود القوة؟ ليس لدينا حتى اآلن فهم‬
‫كامل لهذه املسألة‪ ،‬لكننا نعتقد أن اإلجابة عىل األرجح هي عدم وجود أسباب أخرى‪ .‬وكًّم‬
‫ترون‪ ،‬فإن جميع النظريات التي ال تتضمن مثل هذا التناظر نظريات «مريضة» رياضيًا‪ ،‬أو‬
‫غري متسقة يف مضمونها‪ .‬فور حساب التأثريات امليكانيكية الكمومية حسابًا صحي ًحا‪ ،‬يبدو‬
‫واجبًا إدخال عدد ال حرص له من املعلًّمت الفيزيائية يف هذه النظريات لوصفها عىل نحو‬
‫مناسب‪ .‬أي نظرية ذات عدد ال نهايئ من املعلًّمت ليست نظري ًة عىل اإلطالق! يعمل مقياس‬
‫التناظر عىل تقييد عدد املتغريات الالزمة لوصف الفيزياء‪ ،‬بنفس الطريقة التي يعمل بها‬
‫التناظر الكروي عىل تحديد عدد املتغريات الالزمة لوصف البقرة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن ما يبدو مطلوبًا‬
‫للحفاظ عىل القوى املختلفة سليم ًة رياض ًيا وفيزيائ ًيا هو التناظر نفسه املسؤول عن وجودها‬
‫يف املقام األول‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫هذا هو السبب الكامن خلف هوس فيزيائيي الجسيًّمت بالتناظر‪ .‬عىل املستوى‬
‫األسايس‪ ،‬ال تصف التناظرات الكون فحسب؛ إنها تحدد ما هو ممكن‪ ،‬أي ماهية الفيزياء‪ .‬مل‬
‫تختلف التوجهات يف كرس التناظر التلقايئ حتى اآلن‪ .‬ميكن التناظرات املكسورة عىل املقاييس‬
‫العيانية أن تتجىل عىل مقاييس أصغر‪ .‬ومع استمرارنا يف استكشاف مقاييس أصغر من أي‬
‫وقت مىض‪ ،‬يستمر الكون بالظهور مبظهر أكرث تناسقًا‪ .‬إذا أراد املرء أن يفرض املفاهيم‬
‫اإلنسانية للبساطة والجًّمل عىل الطبيعة‪ ،‬فال بد أن يكون هذا تجليها‪ .‬النظام يعني التناظر‪.‬‬

‫لقد أوصلتنا اعتبارات التناظر إىل أقىص حدود معرفتنا بالعامل‪ .‬لكنها بدأت يف‬
‫السنوات العرشين املاضية تقري ًبا تدفعنا أبعد منها‪ ،‬إذ صارع الفيزيائيون الستكشاف‬
‫التناظرات التي تحدد رمبا سبب ترصف الكون يف مقياسه األسايس وفق الطريقة التي‬
‫يترصف بها‪ ،‬وما إذا كانت التناظرات املرصودة يف الطبيعة ستجربنا عىل تبني مفهوم جديد‬
‫متا ًما للواقع املادي‪.‬‬

‫ينبع الدافع جزئ ًيا من العالقة ذاتها بني الكهرومغناطيسية والجاذبية التي ناقشتها للتو‬
‫وذكرتها يف سياق محاولة هريمان فايل التوحيد‪ .‬إن االعرتاف بنشأة القوتني كلتيهًّم من تناظر‬
‫مرض للغاية‪ ،‬ولكن مع ذلك يبقى فرق أسايس بني االثنني موجو ًدا‪ .‬ترتبط‬ ‫ٍ‬ ‫محيل للطبيعة أمر‬
‫الجاذبية بتناظر الفضاء‪ ،‬يف حني أن الكهرومغناطيسية والقوى الطبيعية األخرى املعروفة‬
‫ليست مرتبط ًة به‪ .‬والقوة التي نشعر بها كجاذبية تعكس انحنا ًءا أساسيًا للفضاء‪ ،‬بينًّم ما‬
‫نشعر به ككهرومغناطيسية ال يعكس اليشء نفسه‪ .‬تناول عامل الرياضيات البولندي الشاب‪،‬‬
‫ثيودور كالوتسا‪ ،‬هذا االختالف عام ‪ ،1919‬حيث اقرتح احتًّملية وجود بعد آخر للفضاء‪،‬‬
‫يتجاوز األبعاد الثالثة التي نختربها مبارشة‪ .‬هل ميكن أن تنتج الكهرومغناطيسية عن انحناء‬
‫أسايس يف بعد إضايف غري ملحوظ للفضاء؟‬

‫رائع أن اإلجابة كانت نعم‪ .‬كًّم تأكّد بعد عدة سنوات بصورة مستقلة عىل يد الفيزيايئ‬
‫خامسا‪ ،‬بُعد اقرتح كالين إمكانية التفافه يف دائرة‬
‫ً‬ ‫السويدي أوسكار كالين‪ ،‬إذا أضفنا بُع ًدا‬
‫صغرية صغ ًرا يجعل اكتشافه بأي تجارب موجودة غري ممكن‪ ،‬يغدو ممك ًنا أن تنتج‬
‫الكهرومغناطيسية والجاذبية رباعية األبعاد من نظرية أساسية خًّمسية األبعاد ذات تناظرات‬

‫‪164‬‬
‫خًّمسية األبعاد‪ ،‬إذ إن االنحناء يف األبعاد األربعة التي الحظناها من شأنه أن ينتج ما نالحظه‬
‫كجاذبية‪ ،‬واالنحناء يف البعد الخامس ميكن أن ينتج ما نالحظه ككهرومغناطيسية‪.‬‬

‫قد تعتقد أن شهرة كالوتسا وكالين مع مثل هذه النتيجة الرائعة كانت ستضاهي شهرة‬
‫آينشتاين وديراك‪ ،‬لكن نظريتهًّم‪ ،‬رغم جًّملها‪ ،‬قد تنبأت أيضً ا بنوع إضايف من قوة الجاذبية‬
‫حظ‪ ،‬وعليه ال ميكن أفكارهًّم كًّم صاغوها أن تكون صحيحة‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬ظل توحيد‬
‫غري ُمال َ‬
‫كالوتسا‪-‬كالين يف أذهان املنظرين مع انكشاف بقية فيزياء القرن العرشين‪.‬‬

‫يف السبعينيات والثًّمنينيات‪ ،‬عندما أصبح واض ًحا أن جميع القوى األخرى يف الطبيعة‪،‬‬
‫مثل الكهرومغناطيسية‪ ،‬تُوصف بتناظرات املقياس‪ ،‬عاد الفيزيائيون إىل الرشب من كأس‬
‫آينشتاين املقدسة وتوحيد قوى الطبيعة جميعها‪ ،‬مبا فيها الجاذبية‪ ،‬يف نظرية واحدة‪.‬‬

‫إن رسد القصة املناسب ملا حدث يتطلب كتابًا كامالً؛ لحسن الحظ كتبت واح ًدا مؤخ ًرا‪،‬‬
‫كًّم فعل عدد كبري من اآلخرين‪ .‬ويكفي القول إن الفيزيائيني اقرتحوا عام ‪ 1984‬توسيع‬
‫الزمكان الخاص بنا‪ ،‬ال ب ُبعد واحد فقط‪ ،‬بل بستة أبعاد إضافية عىل األقل‪ ،‬ليصبح ممكنًا‬
‫تضمني جميع التناظرات املرصودة واملرتبطة بجميع القوى املرصودة يف الطبيعة‪ ،‬مبا فيها‬
‫الجاذبية‪ ،‬بطريقة بدت أيضً ا سامح ًة بتطوير نظرية كمومية متسقة للجاذبية‪ ،‬وهذا ما‬
‫استعىص حتى اليوم عىل كل املحاوالت‪ .‬أصبحت «النظرية» الناتجة تعرف باسم نظرية األوتار‬
‫الفائقة ‪ ،Superstring theory‬ألنها استندت جزئيًا إىل افرتاض أن جميع الجسيًّمت التي‬
‫نالحظها يف الطبيعة تتكون يف الواقع من أشياء تشبه األوتار ميكنها االهتزاز يف األبعاد‬
‫اإلضافية‪.‬‬

‫شهدت نظرية األوتار نجاحات وإخفاقات عىل مدى العقدين املاضيني‪ ،‬والحًّمس األويل‬
‫الذي شهدته الثًّمنينات خف بريقه ألننا أدركنا أن املرء عىل ما يبدو ال يستطيع كتابة نظرية‬
‫أوتار واحدة تتنبأ استثنائيًا بوجود أي يشء مثل عاملنا‪ ،‬وأدركنا أننا رمبا بحاجة إىل أنواع أكرث‬
‫تعقي ًدا من التناظرات الرياضية لجعل النظرية متسقة‪ ،‬وهكذا فحتى فكرة األوتار األساسية‬
‫نفسها رمبا محض وهم‪ ،‬واألشياء األكرث أساسية شيئ آخر‪ .‬يف الواقع‪ ،‬كًّم سأعود يف نهاية‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬فإن فشل نظرية األوتار يف التنبؤ بأي يشء يشبه كوننا دفع مؤخ ًرا بعض‬

‫‪165‬‬
‫املنظرين إىل اقرتاح إمكانية عدم وجود تفسري فيزيايئ أسايس لسبب كون الكون عىل ما هو‬
‫عليه‪ ..‬قد يكون الكون مجرد حادث بيئي!‬

‫مل أطرح أفكار نظرية األوتار واألبعاد اإلضافية هنا بغرض الثناء وال التفنيد‪ .‬ومن املؤكد‬
‫أن الجدل مل يُحسم بعد يف كل هذه القضايا‪ .‬ما يه ّم إدراكه هو أن ما يدفع املنظرين اليوم‬
‫الستكشاف هذه العوامل الجديدة االفرتاضية هو البحث عن التناظر‪ .‬أطلق أحد علًّمء الفيزياء‬
‫عىل الجًّمل املرتبط بتناظرات األبعاد اإلضافية اسم «أناقة»‪ .‬سيجيبنا الوقت عن سؤال ماهية‬
‫هذا الجًّمل‪ :‬هل هو حقًا جًّمل الطبيعة أم أن السبب يف عني الناظر‪.‬‬

‫مر ًة أخرى‪ ،‬اسرتسلت يف الظواهر الواقعة عىل حدود الطاقة العالية‪ .‬مثة أيضً ا أمثلة‬
‫عديدة حول كيفية تحكم التناظرات يف السلوك الدينامييك لعاملنا اليومي‪ ،‬دون ارتباط هذه‬
‫األمثلة بوجود قوى جديدة يف الطبيعة‪ .‬دعونا نعود إليها‪.‬‬

‫حتى عام ‪ 1950‬تقري ًبا‪ ،‬مثّلت خصائص املواد مثل البلورات أوضح مواضع تجيل‬
‫التناظر يف الفيزياء‪ .‬مثل رقعة شطرنج فاينًّمن‪ ،‬تحوي البلورات منطًا متناظ ًرا من الذرات‬
‫املوجودة عىل شبكة بلورية صلبة‪ .‬وهذا النمط هو ما يعطينا األمناط الجميلة يف األسطح‬
‫البلورية مثل أسطح األملاس واألحجار الكرمية األخرى‪ .‬وفيًّم يتعلق أكرث بالفيزياء‪ ،‬فإن حركات‬
‫الشحنات اإللكرتونية داخل شبكة بلورية‪ ،‬مثل حركات البيادق يف لعبة الشطرنج‪ ،‬ميكن‬
‫فمثال‪ ،‬حقيقة تكرر النمط الشبيك بدورية معينة يف‬
‫ً‬ ‫تحديدها بالكامل عرب تناظرات الشبكة‪.‬‬
‫الفضاء تحدد النطاق املحتمل لزخم اإللكرتونات املتحركة داخل الشبكة‪ .‬وذلك ألن دورية املادة‬
‫داخل الشبكة تعني تقييد االنتقال مبسافة قصوى معينة قبل أن تبدو األشياء كًّم هي متا ًما‪،‬‬
‫ما يعادل عدم إجراء أي انتقال عىل اإلطالق‪ .‬أعلم أن هذا يبدو مثل يشء قد تقرأه يف أليس يف‬
‫بالد العجائب‪ ،‬لكنه ذو تأثري كبري‪ .‬نظ ًرا إىل ارتباط الزمن بتناظر القوانني الفيزيائية يف ظل‬
‫االنتقاالت يف الفضاء‪ ،‬فإن تقييد الحجم الفعال للفضاء بهذا النوع من الدورية يقيد نطاق‬
‫الزخم املتاح الذي ميكن أن تحمله الجسيًّمت‪.‬‬

‫تقف هذه الحقيقة الوحيدة خلف طبيعة علوم اإللكرتونيات الدقيقة الحديثة كلها‪ .‬إذا‬
‫وضعت اإللكرتونات داخل بنية بلورية‪ ،‬ستكون حرية حركتها محدود ًة ضمن نطاق معني من‬

‫‪166‬‬
‫الزخم‪ .‬وهذا يعني بدوره نطاقًا ثابتًا من الطاقات أيضً ا‪ .‬اعتًّم ًدا عىل كيمياء الذرات والجزيئات‬
‫املوجودة يف الشبكة البلورية‪ ،‬قد تكون اإللكرتونات املوجودة يف مجال الطاقة هذا مرتبط ًة‬
‫بالذرات الفردية وال تكون حرة الحركة‪ .‬ال توصل املادة الكهرباء بسهولة إال يف حالة توافق هذا‬
‫«النطاق» من العزم والطاقات املتاحة مع مجال طاقة فيه اإللكرتونات حرة التحرك‪ .‬يف أشباه‬
‫املوصالت الحديثة مثل السيليكون‪ ،‬ميكن من طريق إضافة كثافة معينة من الشوائب املؤثرة‬
‫يف مجال طاقة اإللكرتونات املرتبط بالذرات تيسري حدوث تغيريات حساسة للغاية يف‬
‫موصلية املواد مع تغري الظروف الخارجية‪.‬‬

‫قد ترتبط مثل هذه الحجج يف الواقع بأكرب لغز يف فيزياء املادة املكثفة الحديثة‪ .‬بني‬
‫عامي ‪ ،1911‬سنة اكتشاف أونس املوصلية الفائقة يف الزئبق‪ ،‬و‪ ،1987‬مل يُعرث عىل أي مادة‬
‫تصبح فائقة التوصيل عند درجات حرارة أعىل من ‪ 20‬درجة فوق الصفر املطلق‪ .‬كان العثور‬
‫عىل مثل هذه املادة مبثابة الجائزة الكربى يف هذا املوضوع منذ فرتة طويلة‪ .‬إذا أمكن إيجاد‬
‫مثال‪ ،‬فقد تحدث ثورة يف التكنولوجيا‪ .‬إذا أمكن‬
‫يشء فائق التوصيل يف درجة حرارة الغرفة ً‬
‫التغلب عىل املقاومة بصورة كاملة دون الحاجة إىل أنظمة تربيد معقدة‪ ،‬فإن مجموعة جديدة‬
‫كاملة من األجهزة الكهربائية ستصبح عملية‪ .‬عام ‪ ،1987‬كًّم ذكرت سابقًا‪ ،‬اكتشف عاملان‬
‫يعمالن لدى رشكة ‪ IBM‬بالصدفة ماد ًة أصبحت فائقة التوصيل عند درجة حرارة ‪ 35‬درجة‬
‫فوق الصفر املطلق‪ .‬ورسعان ما جرى البحث يف مواد أخرى مًّمثلة‪ ،‬وحتى اآلن تم الكشف عن‬
‫مواد تصبح فائقة التوصيل عند درجة حرارة تزيد عن ‪ 100‬درجة فوق الصفر املطلق‪ .‬ما يزال‬
‫هذا بعي ًدا كل البعد عن املوصلية الفائقة يف درجة حرارة الغرفة‪ ،‬لكنه أعىل من نقطة غليان‬
‫النيرتوجني السائل‪ ،‬الذي ميكن إنتاجه تجاريًا بتكلفة رخيصة نسبيًا‪ .‬إذا أمكن تحسني هذا‬
‫الجيل الجديد من املوصالت الفائقة «عالية الحرارة» ومعالجتها وتحويلها إىل أسالك‪ ،‬فقد‬
‫نكون عىل عتبة مجال جديد متا ًما من التكنولوجيا‪.‬‬

‫ما يفاجئنا بشأن هذه املوصالت الفائقة الجديدة هو أنها ال تشبه بأي شكل من األشكال‬
‫املواد فائقة التوصيل املوجودة مسبقًا‪ .‬يف الواقع‪ ،‬تتطلب املوصلية الفائقة يف هذه املواد إدخال‬
‫أساسا عازل يف حالته الطبيعية‪ ،‬أي ال توصل الكهرباء عىل‬
‫ً‬ ‫الشوائب فيها‪ ،‬والعديد منها‬
‫اإلطالق‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫رغم الجهد املحموم الذي بذله آالف الفيزيائيني‪ ،‬ال يوجد حتى اآلن فهم واضح للموصلية‬
‫الفائقة يف درجات الحرارة العالية‪ .‬لكن أول ما ركزوا عليه كان تناظر الشبكة البلورية يف هذه‬
‫املواد‪ ،‬التي يبدو أن لها ترتي ًبا محد ًدا تحدي ًدا جي ًدا‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬فهي مصنوعة من طبقات‬
‫منفصلة من الذرات التي تبدو كأنها مستقلة عن بعضها‪ .‬ميكن أن يتدفق التيار مبحاذاة هذه‬
‫الطبقات ثنائية األبعاد‪ ،‬وال يتدفق عموديًا‪ .‬ويبقى أن نرى‪ :‬هل تعطينا التناظرات املحددة‬
‫للموصالت الفائقة يف درجات الحرارة العالية شكل التفاعالت املؤدية إىل حالة موصلية فائقة‬
‫عيانية لإللكرتونات؟ إذا كانت يف التاريخ عربة‪ ،‬فهذا أفضل رهان‪.‬‬

‫سواء أحدثت هذه التناظرات الشبكية ثور ًة يف التكنولوجيا الكهربائية أو مل تُحدث‪ ،‬فقد‬
‫أسهمت بالفعل يف تثوير علم األحياء‪ .‬حصل السري ويليام براغ وابنه السري لورانس براغ عىل‬
‫جائزة نوبل عام ‪ 1905‬الكتشافهًّم الرائع‪ .‬إذا ُسلّطت األشعة السينية‪ ،‬ذات طول املوجة املًّمثل‬
‫للمسافة بني الذرات يف شبكة بلورية منتظمة‪ ،‬عىل مثل هذه املواد‪ ،‬فإن األشعة السينية املتناثرة‬
‫منتظًّم عىل شاشة الكشف‪ .‬ميكن إرجاع طبيعة النمط مبارش ًة إىل تناظر الشبكة‪.‬‬
‫ً‬ ‫تشكل منطًا‬
‫وبهذه الطريقة‪ ،‬قدم علم البلوريات باألشعة السينية‪ ،‬كًّم أصبح معروفًا‪ ،‬أدا ًة قوي ًة الستكشاف‬
‫تكوين الذرات الحيزي يف املواد‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬استكشاف بنية األنظمة الجزيئية الكبرية التي قد‬
‫لعل البيانات البلورية باألشعة السينية التي‬
‫تضم عرشات آالف الذرات املصفوفة بانتظام‪ّ .‬‬
‫فرسها واتسون وكريك وزمالؤهًّم‪ ،‬والتي أدت إىل اكتشاف منط الحلزون املزدوج للحمض‬
‫النووي‪ ،‬أشهر تطبيقات هذه التقنية‪ .‬مل تقترص فيزياء املواد عىل التطورات التكنولوجية‪ ،‬بل‬
‫قدمت رمبا أكرث العالقات الحميمية املعروفة بني التناظر والديناميكيات‪ ،‬من طريق الفهم‬
‫الحديث للتحوالت الطورية‪ .‬سبق أن وصفت كيف ملواد مختلفة متا ًما أن تسلك نفس السلوك‬
‫الفعال با لقرب من قيمة حرجة معينة لبعض املعلًّمت مثل درجة الحرارة أو املجاالت‬
‫املغناطيسية؛ ألن الفيزياء الدقيقة األكرث تفصيالً تفقد أهمتيها عند النقطة الحرجة‪ ،‬ويتوىل‬
‫التناظر املسؤولية‪.‬‬

‫يترصف املاء واملغناطيس الحديدي عند نقطتيهًّم الحرجة بالطريقة نفسها لسببني‬
‫مرتبطني‪ .‬أوالً‪ ،‬أذكرك أن عند هذه النقطة الحرجة تحدث تقلبات صغرية متزامنة عىل املقاييس‬
‫مثال‪ ،‬مهًّم كان املقياس‪ ،‬إن كنا نشاهد ما ًء أو بخار ماء‪ .‬ومبا‬
‫جميعها‪ ،‬لذلك يستحيل أن نف ّرق ً‬

‫‪168‬‬
‫أن املادة تبدو متشابهة عىل جميع املستويات‪ ،‬فإن الخصائص الفيزيائية الدقيقة املحلية‪ ،‬مثل‬
‫حتًّم بال أهمية‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬ولهذا السبب‪ ،‬فإن كل ما‬
‫التكوين الذري املحدد لجزيء املاء‪ ،‬ستصبح ً‬
‫يلزم لتوصيف تكوين املاء كثافته‪ :‬هل املنطقة قيد النظر مفرطة الكثافة أم منخفضة الكثافة؟‬
‫ميكن توصيف املاء بالرقمني نفسهًّم‪ 1+ ،‬أو ‪ ،1-‬اللذين ميكننا استخدامهًّم لتحديد نسق‬
‫املغناطيسات املجهرية داخل الحديد‪.‬‬

‫ترتبط هاتان امليزتان الحاسمتان ارتباطًا تكامل ًيا بفكرة التناظر‪ .‬لقد أصبح املاء‪،‬‬
‫واملغناطيس الحديدي عند نقاطهًّم الحرجة‪ ،‬مثل رقعة الشطرنج‪ .‬مثة درجتان من الحرية‬
‫ميكن تضمينها‪ :‬األسود مع األبيض‪ ،‬والكثافة الزائدة مع الكثافة املنخفضة‪ ،‬وأعىل مع أسفل‪.‬‬
‫مل يكن رضوريًا سري األمور عىل هذا النحو‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ميكن أن تتضمن املعلمة األساسية‬
‫التي تصف الحاالت املحتملة للنظام بالقرب من نقطته الحرجة مجموع ًة أكرب من االحتًّمالت‪،‬‬
‫مثل اإلشارة إىل أي مكان حول دائرة‪ ،‬كًّم قد تفعل املغناطيسات املجهرية يف مادة غري مقيدة‬
‫بإشارة أعىل وأسفل‪ .‬مثل هذه املادة‪ ،‬يف نقطتها الحرجة‪ ،‬قد تبدو بشكل تخطيطي كًّم ييل‪:‬‬

‫قد تتخيل أن الخصائص األساسية ملثل هذه املادة عندما تقرتب من النقطة الحرجة‬
‫ستختلف عن املاء أو املغناطيس الحديدي املثايل الذي جرت مقارنته باملاء‪ ،‬وقد تتخيل أنك‬
‫ستكون عىل صواب‪ .‬ولكن ما الفرق الرئييس بني هذه الصورة وتلك املوضحة يف الصفحة‬
‫‪ 168‬بالنسبة للمياه عند النقطة الحرجة؟ إنها مجموعة القيم املحتملة للمعلمة التي تصف‬
‫الكثافة االنتقالية‪ ،‬واتجاه املجال املغناطييس‪ ،‬وما إىل ذلك‪ .‬وما الذي مييز هذه املجموعة من‬

‫‪169‬‬
‫القيم املمكنة؟ التناظر األسايس لـ«معلمة الرتتيب»‪ ،‬التي تصف التغيري يف «ترتيب» املادة‪ .‬هل‬
‫ميكن أن تأخذ أي قيمة عىل دائرة‪ ،‬أو مربع‪ ،‬أو خط‪ ،‬أو كرة؟‬

‫وبهذه الطريقة‪ ،‬يحدد التناظر الديناميكيات مر ًة أخرى‪ .‬تُح َّدد طبيعة تحول الطور عند‬
‫النقطة الحرجة بالكامل وفق طبيعة معلمة الرتتيب‪ ،‬ومعلمة الرتتيب هذه مقيدة بتناظراتها‪.‬‬
‫مًّمثال عندما متر‬
‫ً‬ ‫كل املواد ذات معلمة الرتتيب ومجموعة التناظرات نفسها تسلك سلوكًا‬
‫كامال‪.‬‬
‫ً‬ ‫مبرحلة انتقالية عند النقطة الحرجة‪ .‬ومر ًة أخرى‪ ،‬يحدد التناظر الفيزياء تحدي ًدا‬

‫يف الواقع‪ ،‬يسمح لنا استخدام التناظر هكذا بإقامة عالقة قوية بني فيزياء املواد وفيزياء‬
‫مثاال عىل كرس التناظر التلقايئ‪ .‬ميكن ملعلمة‬
‫الجسيًّمت األولية‪ .‬ألن الصورة أعاله ليست إال ً‬
‫الرتتيب التي تصف اتجاه املجاالت املغناطيسية املحلية يف الصورة السابقة أن تأخذ أي قيمة‬
‫عىل الدائرة‪ .‬إنها متلك التناظر الدائري‪ .‬وفور اختيار قيمة معينة‪ ،‬يف منطقة ما‪ ،‬فإنها «تكرس»‬
‫هذا التناظر من طريق اختيار مظهر واحد محدد من بني االحتًّمالت كلها‪ .‬يف املثال أعاله‪ ،‬عند‬
‫النقطة الحرجة‪ ،‬تتقلب هذه القيمة باستمرار‪ ،‬بغض النظر عن املقياس الذي تستخدمه‬
‫لقياسها‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬بعي ًدا عن النقطة الحرجة‪ ،‬سوف يهدأ النظام وصوالً إىل تكوين واحد‬
‫محتمل عىل مقاييس كبرية مبا فيه الكفاية‪ ،‬مثل تكوين املاء يف الحالة السائلة‪ ،‬أو اتجاه جميع‬
‫املغناطيسات إىل األعىل‪ ،‬أو اتجاه جميع املغناطيسات إىل الرشق‪ ،‬وهكذا‪ .‬يف فيزياء الجسيًّمت‬
‫األولية‪ ،‬نصف تكوين الحالة القاعية للكون‪« ،‬الفراغ»‪ ،‬باستخدام خصائص أي تكوين متًّمسك‬
‫للحقول األولية ذات القيمة الثابتة يف هذه الحالة‪ .‬ومعلًّمت الرتتيب هنا هي الحقول األولية‬
‫نفسها؛ إذا هدأت هذه إىل قيمة غري صفرية يف الفضاء الفارغ‪ ،‬سوف تسلك الجسيًّمت‬
‫املتفاعلة مع هذه املجاالت سلوكًا مختلفًا عن الجسيًّمت التي ال تتفاعل‪ .‬لقد كُرس التناظر‬
‫املوجود مسبقًا والذي رمبا ُوجد بني جسيًّمت أولية مختلفة‪.‬‬

‫نتيج ًة لذلك‪ ،‬نتوقع أن يختفي كرس التناظر التلقايئ الذي مييز الطبيعة كًّم نالحظها‬
‫اليوم عىل نطاقات صغرية مبا فيه الكفاية – حيث تتقلب معامالت الرتتيب‪ ،‬أي حقول الخلفية‪،‬‬
‫تقلبات كبرية‪ ،‬ومن ثم ال ميكنها عىل أي حال تغيري خصائص حركة الجسيًّمت عىل مثل هذه‬
‫املقاييس الصغرية‪ .‬عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬نعتقد أيضً ا أن كرس التناظر التلقايئ اختفى يف مرحلة‬

‫‪170‬‬
‫مبكرة ج ًدا من متدد االنفجار العظيم حيث كان الكون ساخنًا ج ًدا‪ .‬إن النوع نفسه من التحول‬
‫الطوري الذي مييز متيع املاء مع تغري درجة الحرارة بالقرب من النقطة الحرجة ميكنه يف‬
‫الواقع الحدوث لحالة الكون القاعية‪ .‬عند درجة حرارة عالية مبا يكفي‪ ،‬قد تصبح التناظرات‬
‫واضحة ألن معامالت الرتتيب‪ ،‬الحقول األولية يف الطبيعة‪ ،‬ال ميكنها أن تهدأ لتصل قيمها عند‬
‫درجات الحرارة املنخفضة‪ .‬وكًّم أن التناظرات توجه املاء خالل تحوالته الطورية‪ ،‬ميكن أن‬
‫توجه تناظرات الطبيعة الكون يف تحوالته‪ .‬نحن نعتقد أن مقابل كل تناظر ينكرس تلقائ ًيا عىل‬
‫املقاييس األولية اليوم‪ ،‬كان مثة مرحلة طورية «كونية» مرتبطة بكرسه يف وقت مبكر مبا فيه‬
‫الكفاية‪ .‬يُك ّرس جزء كبري من علم الكونيات اليوم الستكشاف اآلثار املرتتبة عىل مثل هذه‬
‫التحوالت‪ ،‬التي يحكمها التناظر مرة أخرى‪.‬‬

‫بالعودة إىل األرض‪ ،‬يؤدي التناظر دو ًرا أقوى يف التحوالت الطورية التي تحكم سلوك‬
‫املواد العادية‪ .‬لقد رأينا أن تناظر معاملة ترتيب املاء‪ ،‬أو املغناطيس‪ ،‬أو دقيق الشوفان‪ ،‬أو أي‬
‫يشء آخر‪ ،‬ميكنه أن يحدد متا ًما سلوك هذه املواد عند نقاطها الحرجة‪ .‬ولكن رمبا يكون أقوى‬
‫تناظر معروف يف الطبيعة هو الذي يحكم قدرتنا عىل وصف هذه التحوالت‪ .‬وهذا التناظر‪،‬‬
‫الذي أدى دو ًرا منذ بداية هذا الكتاب‪ ،‬هو ثبات املقياس ‪.scale invariance‬‬

‫إن أساس القدرة عىل الربط بني مواد متنوعة مثل املغناطيس واملاء عند نقاطها الحرجة‬
‫حقيقة أن التقلبات تحدث عىل جميع املقاييس‪ .‬تصبح املادة ثابتة الحجم‪ :‬تبدو متشابه ًة عىل‬
‫جميع املقاييس‪ .‬هذه خاصية مميزة ج ًدا لدرجة أن األبقار الكروية ال متلكها! تذكر أنني متكنت‬
‫من اإلدالء ببيانايت الشاملة حول طبيعة علم األحياء من طريق تقيص كروية سلوك األبقار‬
‫عندما تغري حجمها‪ .‬إذا ظلت الفيزياء ذات الصلة ثابت ًة عىل نطاق واسع‪ ،‬فسيتم السًّمح‬
‫باألبقار ذات الحجم التعسفي‪ .‬لكن هذا ال يحدث‪ ،‬ألن مادة األبقار ال تتغري كثافتها مع زيادة‬
‫حجم البقرة‪ .‬سيكون هذا جوهريًا لبقاء الكميات ثابتةً‪ ،‬مثل الضغط عىل سطح بطن البقرة‬
‫ليظل كًّم هو‪ ،‬وجوهري للبقرة الخارقة لنمو رقبتها بتناسب ثابت مع حجمها‪.‬‬

‫لكن املواد عند النقطة الحرجة من تحول طوري تكون ثابتة الحجم‪ .‬إن الرسوم البيانية‬
‫التخطيطية للمياه واملغناطيس مثل التي رسمتها لحظ ًيا متيز النظام متا ًما عىل جميع املقاييس‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫لو استخدمت مجه ًرا ذو قوة تحليل أعىل‪ ،‬لرأيت النوع نفسه من توزع التقلبات‪ .‬ولهذا السبب‪،‬‬
‫خاصا ج ًدا ج ًدا من النًّمذج ميكنه وحده وصف مثل هذا النظام وصفًا صحي ًحا‬
‫ً‬ ‫فإن نو ًعا‬
‫بالقرب من نقطته الحرجة‪ .‬أصبحت الرياضيات املثرية ملثل هذه النًّمذج محط اهتًّمم أعداد‬
‫مثال تصنيف جميع‬
‫كبرية من علًّمء الرياضيات والفيزياء يف السنوات األخرية‪ .‬إذا متكن املرء ً‬
‫النًّمذج املمكنة ذات ثبات املقياس‪ ،‬يغدو ممكنًا تصنيف جميع الظواهر الحرجة املحتملة يف‬
‫الطبيعة‪ .‬إن ثبات املقياس إحدى أعقد ظواهر الطبيعة‪ ،‬عىل املستوى املجهري عىل األقل‪،‬‬
‫وميكن التنبؤ بها متا ًما وعليه فهمها عىل األقل من منظور فيزيايئ‪ .‬يُذكر أن العديد من املهتمني‬
‫بثبات املقياس كانوا‪ ،‬أو ما زالوا علًّمء فيزياء الجسيًّمت‪ .‬وذلك لوجود سبب لإلميان‪ ،‬كًّم آمل‬
‫أن أوضح يف الفصل التايل‪ ،‬بأن نظرية كل يشء ‪ ،Theory of Everything‬بافرتاض وجود‬
‫مثل هذه النظريات‪ ،‬ترتكز رمبا عىل ثبات املقياس‪.‬‬

‫أريد العودة‪ ،‬يف نهاية هذا الفصل‪ ،‬إىل بعض املالحظات اإلضافية حول املكان الذي‬
‫يقودنا إليه التناظر‪ .‬وكًّم أرشت يف مقدمتي عن نظرية األوتار‪ ،‬فإن هذا‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬واحد من‬
‫املجاالت القليلة التي ميكن املرء فيها إلقاء نظرة خاطفة عىل أصول أبرز ما وصل إليه التقدم‬
‫العلم ي‪ ،‬حيث تتحول النًّمذج الفكرية وتظهر وقائع جديدة‪ .‬هذا هو املكان الذي ميكنني فيه‬
‫الحديث عن األشياء تحت السيطرة‪ ،‬وتلك الخارجة عنها أيضً ا؛ كًّم وصفت سابقًا يف هذا‬
‫الفصل‪ ،‬فإن األسئلة التي يطرحها الفيزيائيون حول الطبيعة غالبًا ما تسرتشد بالتناظرات التي‬
‫ال نفهمها متا ًما‪ .‬اسمحوا يل أن أقدم لكم بعض األمثلة امللموسة عىل ذلك‪.‬‬

‫ما فعلته طوال هذا الفصل كان وضع افرتاضات ضمنية حول الطبيعة تبدو موثوق ًة ال‬
‫مثال بأنها مصدر‬
‫غبار عليها‪ .‬ال ينبغي للطبيعة أن تهتم أين أو متى نختار وصفها‪ ،‬إذا وصفناها ً‬
‫أهم قيدين عىل العامل املادي‪ :‬حفظ الطاقة والزخم‪ .‬إضاف ًة إىل ذلك‪ ،‬يف حني أنني أستطيع‬
‫عاد ًة التمييز بني يدي اليمنى من اليرسى‪ ،‬يبدو أن الطبيعة ال تهتم بأي منهًّم‪ .‬هل يختلف‬
‫الحال يف فيزياء العامل الذي ننظر إليه يف املرآة؟ قد يبدو الجواب املعقول ال‪ .‬عىل أي حال‪،‬‬
‫ريا عام ‪ .1956‬اقرتح اثنان من املنظرين األمريكيني من‬
‫ريا كب ً‬
‫تغري تصورنا ملا هو معقول تغ ً‬
‫أصل صيني املستحيل من أجل تفسري ظاهرة محرية تتعلق بالتحلل النووي‪ :‬رمبا تستطيع‬
‫الطبيعة نفسها التمييز بني اليمني واليسار! جرى اختبار هذا االقرتاح برسعة‪ .‬وقد لُوحظ تحلل‬

‫‪172‬‬
‫نيوترون داخل نواة كوبالت أنتج إلكرتونًا صاد ًرا ونيوترينو‪ ،‬إضاف ًة إىل اتجاه مجاله‬
‫حفظ الثبات من اليسار إىل اليمني‪ ،‬فاملفرتض أن تتوزع‬‫املغناطييس املحيل اتجا ًها معينًا‪ .‬إذا ُ‬
‫اإللكرتونات إىل اليمني واليسار بنفس القدر وسط ًيا‪ .‬بدالً من ذلك‪ُ ،‬وجد أن التوزيع غري‬
‫متناظر‪ .‬والتكافؤ‪ ،‬أو التناظر بني اليسار واليمني‪ ،‬مل يكن من سًّمت التفاعالت الضعيفة التي‬
‫حكمت هذا التحول!‬

‫وضع هذا مجتمع الفيزياء بحالة صدمة تامة‪ .‬والفيزيائيان تشني نينغ يانغ‪ ،‬وتسونغ‬
‫داو يل‪ ،‬حصال عىل جائزة نوبل يف غضون عام من توقعهًّم‪ .‬أصبح انتهاك التكافؤ ‪Parity‬‬
‫‪ ،violation‬كًّم يُعرف اليوم‪ ،‬جز ًءا ال يتجزأ من نظرية التفاعل الضعيف‪ ،‬ولهذا السبب ميتلك‬
‫النيوترينو‪ ،‬وحده من بني الجسيًّمت يف الطبيعة الحساسة لهذا التفاعل فقط (عىل حد علمنا)‪،‬‬
‫سم ًة مميز ًة للغاية‪ .‬تترصف الجسيًّمت مثل النيوترينوات‪ ،‬وكذلك اإللكرتونات والربوتونات‬
‫والنيوترونات‪ ،‬كًّم لو كانت «تدور»‪ ،‬مبعنى أنها تترصف يف تفاعالتها مثل قمم صغرية أو‬
‫جريوسكوبات‪ .‬يف حالة اإللكرتونات والربوتونات املشحونة‪ ،‬فإن هذا الدوران يجعلها تترصف‬
‫مثل مغناطيس صغري‪ ،‬له قطب شًّميل وجنويب‪ .‬ويف حالة إلكرتون يتحرك حرك ًة محاذية‪،‬‬
‫فإن اتجاه مجاله املغناطييس الداخيل يكون عشوائ ًيا يف األساس‪ .‬قد ال يكون للنيوترينو‬
‫املحايد مجال مغناطييس داخيل‪ ،‬لكن دورانه ما يزال يشري إىل اتجاه ما‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فمن‬
‫خصائص انتهاك التكافؤ للتفاعالت الضعيفة أن النيوترينوات التي يدل دورانها عىل اتجاه‬
‫حركتها نفسه وحدها تنبعث أو متُ تص يف أثناء العمليات التي يتوسطها هذا التفاعل‪ .‬ونحن‬
‫نسمي مثل هذه النيوترينوات «يساريةً»‪ ،‬لسبب وجيه واحد مفاده ارتباط هذه الخاصية ارتباطًا‬
‫وثيقًا بـ«اليدوية» املالحظة يف توزيع الجسيًّمت املنبعثة أثناء االضمحالل النووي‪.‬‬

‫ليس لدينا أي فكرة عن وجود النيوترينوات «اليمنى» يف الطبيعة من عدمه‪ .‬إن ُوجدت‪،‬‬
‫فال داعي للتفاعل عرب التفاعل الضعيف‪ ،‬لذلك قد ال نعلم بوجودها‪ .‬لكن هذا ال يعني أنها غري‬
‫موجودة‪ .‬ميكننا أن نبني‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬أن النيوترينوات إن مل تكن عدمية الكتلة متا ًما‪ ،‬مثل‬
‫الفوتونات‪ ،‬يصبح وجود النيوترينوات اليمنى عايل االحتًّمل‪ .‬إذا ُوجد بالفعل أن أي نيوترينو‬
‫ذي كتلة غري صفرية‪ ،‬سيمثل إشار ًة مبارش ًة إىل الحاجة إىل فيزياء جديدة‪ ،‬مبا يتجاوز النموذج‬
‫املعياري‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬مثة اهتًّمم كبري بالتجارب الحالية للكشف عن النيوترينوات املنبعثة‬

‫‪173‬‬
‫من قلب الشمس‪ .‬لقد ثبت أن النقص امللحوظ يف هذه النيوترينوات‪ ،‬إذا كان حقيق ًيا‪ ،‬فإن‬
‫وجود كتلة نيوترينو غري صفرية سيمثل إحدى أبرز املصادر املحتملة ملثل هذا النقص‪ .‬وهذا‬
‫بدوره لو إذا كان هذا صحي ًحا‪ ،‬سنفتح نافذ ًة جديد ًة متا ًما عىل العامل‪ .‬إن انتهاك التكافؤ‪ ،‬الذي‬
‫صدم العامل ليصبح اليوم جز ًءا أساس ًيا من منوذجنا له‪ ،‬قد يوجهنا يف االتجاه الصحيح للبحث‬
‫عن قوانني الطبيعة األكرث جوهرية‪.‬‬

‫بعد وقت قصري من اكتشاف انتهاك التكافؤ‪ ،‬لُوحظ غياب تناظر واضح آخر يف‬
‫الطبيعة‪ :‬التناظر بني الجسيًّمت وجسيًّمتها املضادة‪ .‬اعتُقد سابقًا‪ ،‬أننا إذا استبدلنا بجميع‬
‫الجسيًّمت يف العامل جسيًّمتها املضادة‪ ،‬فسيكون العامل نفسه نظ ًرا إىل تطابق الجسيًّمت‬
‫مثال‪.‬‬
‫املضادة يف جميع النواحي مع نظرياتها من الجسيًّمت‪ ،‬باستثناء شحنتها الكهربائية ً‬
‫لكن األمر يف الواقع ليس بهذه البساطة‪ ،‬ألن بعض الجسيًّمت ذات الجسيًّمت املضادة املميزة‬
‫محايدة كهربائ ًيا‪ ،‬وال ميكن متييزها عن نظرياتها املضادة إال من طريق مالحظة كيفية‬
‫اضمحالل كل منها‪ .‬اكتُشف عام ‪ 1964‬أن أحد هذه الجسيًّمت‪ ،‬يسمى جسيم كاون املحايد‪،‬‬
‫اضمحالال ال يتوافق مع تناظر الجسيًّمت ومضادات الجسيًّمت‪ .‬مر ًة أخرى‪ ،‬يبدو أن‬
‫ً‬ ‫يضمحل‬
‫التفاعل الضعيف هو الجاين‪ .‬تم قياس التفاعل القوي بني الكواركات التي تشكل الكاونات‬
‫مستقال للتقيد بتناظرات التكافؤ والتبادل بني الجسيًّمت ومضادات الجسيًّمت بدقة‬
‫ً‬ ‫قياسا‬
‫ً‬
‫عالية‪.‬‬

‫عىل أي حال‪ ،‬أثبت جريارد هوفت عام ‪ ،1976‬يف واحدة من اكتشافاته النظرية العديدة‬
‫الرائدة‪ ،‬أن ما بات النظرية املقبولة للتفاعل القوي‪ ،‬الديناميكا اللونية الكمومية‪ ،‬يجب أن ينتهك‬
‫كال من التكافؤ والتناظر بني الجسيًّمت ومضادات الجسيًّمت‪ .‬جرى تقديم‬
‫يف الواقع ً‬
‫مقرتحات نظرية ذكية عديدة للتوفيق بني الحفظ الواضح املالحظ للجسيًّمت ومضاداتها يف‬
‫التفاعل القوي مع نتيجة هوفت‪ .‬وحتى اآلن‪ ،‬ال منلك أدىن فكرة عن صحة أي منها‪ .‬ولعل أكرث‬
‫إثار ًة احتًّمل وجود جسيًّمت أولية جديدة تسمى األكسيونات ‪ ،axions‬التي إن وجدت‪ ،‬قد‬
‫تكون املادة املظلمة التي تهيمن عىل كتلة الكون‪ .‬وإذا اك ُتشفت عىل هذا النحو‪ ،‬فقد حققنا‬
‫أوال تعلمنا أساسيات حول الفيزياء املجهرية‪ ،‬وثان ًيا‪ ،‬تحديدنا التطور‬
‫اكتشافني عميقني؛ ً‬
‫املستقبيل للكون‪ .‬إذا توصلنا إىل مثل هذا االكتشاف‪ ،‬فستكون اعتبارات التناظر منارة الطريق‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫مثة تناظرات أخرى يف الطبيعة موجودة‪ ،‬أو غري موجودة‪ ،‬ألسباب ال نفهمها‪ .‬إنها متثل‬
‫ماد ًة للبحث النظري الحديث‪ .‬تثري مثل هذه املشكالت األسئلة الرئيسية املعلقة يف فيزياء‬
‫الجسيًّمت األولية‪ :‬ملاذا توجد مجموعتان أو «عائلتان» متميزتان أخريان من الجسيًّمت األولية‬
‫تشبه الجسيًّمت املألوفة التي تشكل املادة العادية‪ ،‬باستثناء أن هذه الجسيًّمت األخرى كلها‬
‫أثقل بكثري؟ ملاذا تختلف الكتل داخل كل عائلة؟ ملاذا تختلف «مقاييس» التفاعل الضعيف‬
‫والجاذبية؟ أصبح من تقاليد الفيزيائيني وضع هذه األسئلة يف إطار التناظر‪ ،‬وليس غري‬
‫معقول أن نتوقع‪ ،‬استنا ًدا إىل كل خربتنا حتى اآلن‪ ،‬أن اإلجابات ستكون ضمن هذا اإلطار‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫الفصل السادس‬
‫العلم بحر ال ينضب‬

‫لسنا ندعي أن الصورة التي نرسمها هي الحقيقة الكاملة‪ ،‬إمنا تشبهها فحسب‪.‬‬
‫— فيكتور هوغو‪ ،‬البؤساء‬

‫يعجبني أحد مشاهد أفالم وودي آلن‪ ،‬إذ يزور رجل مهووس مبعنى الحياة‬
‫واملوت والديه‪ ،‬ويرتبك ويرصخ طل ًبا للنصح‪ .‬عندها ينظر والده إىل األعىل‬
‫قائال‪« :‬ال تسألني عن معنى الحياة‪ .‬فأنا ال أعرف حتى كيف تعمل‬
‫ويشتيك ً‬
‫املحمصة!»‬

‫بالنسبة يل فقد شددتُ يف هذا الكتاب‪ ،‬لكن رمبا ليس بنفس القدر من‬
‫اإلقناع‪ ،‬عىل العالقة القوية بني املسائل الغيبية أحيانًا التي تعنى بأحدث‬
‫التطورات وفيزياء الظواهر اليومية‪ .‬لذا يبدو من املناسب أن أركز يف هذا‬
‫الفصل األخري عىل الكيفية التي يدفعنا بها هذا االرتباط نحو االكتشافات‬
‫املرتقبة يف القرن الواحد والعرشين‪ .‬إذ إن األفكار التي ناقشتُها –وأقصد تلك‬
‫التي انبثقت من االجتًّمع الصغري يف شيلرت آيالند منذ خمسني عا ًما تقري ًبا–‬
‫أحدثَت ثورة يف العالقة بني أية اكتشافات مستقبلية محتملة ونظرياتنا الحالية‪.‬‬

‫رمبا كانت النتيجة هي عملية إعادة التنظيم األكرث عم ًقا وحداثة يف‬
‫رؤيتنا للعامل والتي حصلت خالل العرص الحديث‪ .‬وما زالت فكرة «اإلجابة‬
‫النهائية» إىل حد كبري مسألة تحيز شخيص‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد قادتنا الفيزياء‬
‫الحديثة إىل عتبة فهم السبب‪ ،‬عىل األقل بشكل مبارش‪ ،‬ال يهم ح ًقا‪.‬‬

‫والسؤال الرئييس الذي أريد أن أتناوله هنا هو‪ :‬ما الذي يوجه تفكرينا‬
‫ج ّل هذا الكتاب أصف كيف ص َقل‬
‫قضيت ُ‬
‫ُ‬ ‫حول مستقبل الفيزياء‪ ،‬وملاذا؟ لقد‬
‫الفيزيائيون أدواتهم لبناء فهمنا الحايل للعامل‪ ،‬وذلك ألسباب من أهمها أن هذه‬
‫األدوات عىل وجه التحديد هي ما سيوجه نهجنا الحايل تجاه تلك األشياء التي‬

‫‪176‬‬
‫مل نفهمها بعد‪ .‬لذا‪ ،‬فإن املناقشة التالية تعيدين إىل نقطة البداية‪ ،‬عند التقريب‬
‫والنطاق‪ ،‬وسننتهي حيث بدأنا‪.‬‬

‫طاملا مل تكتمل تلك النظرية القامئة‪ ،‬فسيكون هناك مستقبل للفيزياء‪.‬‬


‫حا‪ ،‬من املفيد أن نسأل ما هي خصائص النظرية‬ ‫لتكوين نظرة أكرث وضو ً‬
‫الفيزيائية الكاملة إن وجدت‪ .‬الجواب واضح‪ :‬تكون النظرية مكتملة إذا تم‬
‫التنبؤ بدقة بجميع الظواهر التي طُورت للتنبؤ بها‪ .‬ولكن هل مثل هذه النظرية‬
‫«صحيحة» بالرضورة؟ واألهم من ذلك‪ ،‬هل النظرية الصحيحة كاملة‬
‫بالرضورة؟ عىل سبيل املثال‪ ،‬هل قانون نيوتن للجاذبية صحيح؟ إنه يتنبأ بدقة‬
‫ملحوظة بحركة الكواكب حول الشمس وحركة القمر حول األرض‪ .‬وميكن‬
‫استخدامه لوزن الشمس إىل ما يقرب من جزء واحد يف املليون‪ .‬عالو ًة عىل‬
‫كاف لحساب حركة املقذوفات بالقرب من سطح األرض بدقة‬‫ذلك‪ ،‬قانون نيوتن ٍ‬
‫أفضل من جزء واحد يف ‪ 100‬مليون‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فنحن نعلم اآلن أن انحناء شعاع‬
‫الضوء بالقرب من األرض يبلغ ضعف املقدار الذي ميكن توقعه باستخدام‬
‫قانون نيوتن‪ .‬ونتوصل إىل التنبؤ الصحيح بدالً من ذلك باستخدام النسبية‬
‫العامة‪ ،‬التي تعمم قانون نيوتن وتُختزل إليه يف حاالت ِ‬
‫صغر مجال الجاذبية‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬فإن قانون نيوتن العاملي للجاذبية غري مكتمل‪ .‬لكن هل هذا يعني أنه‬
‫غري صحيح؟‬

‫بناء عىل املناقشة السابقة‪ ،‬قد تبدو اإلجابة واضحة‪ .‬ففي نهاية املطاف‪،‬‬
‫ميكننا قياس االنحرافات عن قانون نيوتن‪ .‬لكن من ناحية أخرى‪ ،‬إذا كانت كل‬
‫املالحظات التي قد نشاهدها مبارشة يف حياتنا تتوافق مع تنبؤات قانون نيوتن‪،‬‬
‫فهو بالتأكيد صحيح لجميع املقاصد واألغراض‪ .‬حتى نتجاوز هذه الجزئية‬
‫بدال من ذلك أننا نحدد الحقيقة العلمية لتشمل فقط تلك‬
‫التقنية‪ ،‬لنفرتض ً‬
‫األفكار التي تتوافق متا ًما مع كل ما نعرفه عن العامل‪ .‬من املؤكد أن قانون نيوتن‬
‫ال يل ّبي هذا املعيار‪ .‬لكنه كان كذلك حتى أواخر القرن التاسع عرش عىل األقل‪.‬‬
‫فهل كان صحيحا حينها؟ وهل الحقيقة العلمية مرتبطة بالزمن؟‬

‫‪177‬‬
‫قد تقول‪ ،‬خاصة إذا كنت محام ًيا‪ ،‬إن صياغة تعريفي الثاين أيضً ا سيئة‪.‬‬
‫إذ ينبغي يل أن أزيل عبارة «كل ما نعرفه» وأستبدلها رمبا بعبارة «كل ما هو‬
‫موجود»‪ ،‬وبذلك يكون التفسري ال لَبس فيه‪ .‬ولكن ذلك عديم الفائدة أيضً ا! فقد‬
‫أصبح فلسف ًة وال ميكن اختباره‪ .‬ولن ندري قط إن كنا نعرف كل ما هو موجود‬
‫أم ال‪ ،‬إذ إننا لن نحيط مبا ال نعرفه! طب ًعا ال ميكن التغلب عىل هذه املشكلة‪،‬‬
‫ولكن لها آثار مهمة ال تحظى بالتقدير يف كثري من األحيان‪ .‬يتمثل أحد املبادئ‬
‫األساسية للعلم يف أننا ال نستطيع أب ًدا إثبات صحة يشء ما؛ ميكننا فقط إثبات‬
‫عدم صحته‪ .‬هذه فكرة مهمة ج ًدا‪ ،‬وهي أساس كل تقدم علمي‪ .‬فبمجرد أن نجد‬
‫مثاال تختلف فيه النظرية املعمول بها آلالف السنني مع املالحظة‪ ،‬عندها ندرك‬
‫ً‬
‫وجوب التعديل‪ ،‬إما بإضافة بيانات جديدة أو بوضع نظرية جديدة‪ .‬ال مكان‬
‫للجدال هنا‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬مثة قضية أعمق مدفونة هنا‪ ،‬آمل أن تكون أقل داللة‪ ،‬وهي‬
‫القضية التي أريد الرتكيز عليها‪ .‬ماذا يعني أن نقول‪ ،‬حتى من حيث املبدأ‪ ،‬إن‬
‫هذه النظرية أو تلك هي النظرية الصحيحة؟ لننظر إىل نظرية الديناميكا‬
‫الكهربائية الكمومية (‪ ،)QED‬التي اكتملت بعد االجتًّمع يف شيلرت آيالند يف‬
‫العام ‪ .1947‬قبل ذلك بعرشين عا ًما تقريبًا‪ ،‬كان ديراك الشاب قد كتب معادلته‬
‫أسلفت‪ ،‬هذه املعادلة‬
‫ُ‬ ‫النسبية للحركة امليكانيكية الكمومية لإللكرتون‪ .‬إمنا كًّم‬
‫ريا صحي ًحا لكل ما كان معروفًا عن اإللكرتونات طَرحت عد ًدا‬
‫التي قدمت تفس ً‬
‫من املشكالت التي ُعقد اجتًّمع شيلرت آيالند ملعالجتها‪ .‬وتتابعت التناقضات‬
‫الرياضية املربكة‪ .‬ق ّدم عمل فاينًّمن وشفينغر وتوموناغا يف نهاية املطاف‬
‫طريقة متسقة للتعامل مع هذه املشكالت والوصول إىل تنبؤات ذات معنى‬
‫تتوافق كل ًيا مع جميع البيانات‪ .‬كانت كل القياسات التي أُجريت لتأثُر‬
‫اإللكرتونات والضوء لعقود تلت اجتًّمع شيلرت آيالند متفقة متا ًما مع تنبؤات‬
‫هذه النظرية‪ .‬يف الواقع‪ ،‬إنها النظرية األفضل اختبا ًرا يف العامل‪ .‬وقد قورنت‬
‫الحسابات النظرية بقياسات تجريبية فائقة الحساسية‪ ،‬وأصبح التوافق اآلن‬

‫‪178‬‬
‫أفضل بـ‪ 9‬منازل عرشية يف بعض الحاالت! لن نتوصل إىل نظرية أكرث دقة‬
‫من هذه وال يف األحالم‪.‬‬
‫إذًا هل نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية هي نظرية تأثُر‬
‫فمثال نحن نعلم أنه إذا أخذنا بعني االعتبار‬
‫اإللكرتونات والفوتونات؟ بالطبع ال‪ً .‬‬
‫العمليات التي تتم بوجود طاقات عالية مبا فيه الكفاية والتي تتضمن جسيًّمت‬
‫(دبليو) و (زد) الثقيلة‪ ،‬عندها تصبح نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية‬
‫جز ًءا من نظرية أكرب‪ ،‬وهي نظرية «الكهروضعيفة»‪ .‬يف هذه املرحلة‪ ،‬ال تكون‬
‫نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية وحدها كاملة‪.‬‬
‫ليس يف ذلك خطأ‪ .‬فحتى لو مل تكن جسيًّمت دبليو وزد موجودة وكانت‬
‫القوة الكهرومغناطيسية هي القوة الوحيدة التي نعرفها يف الطبيعة إىل جانب‬
‫الجاذبية‪ ،‬فال نستطيع أن نسمي نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية باسم‬
‫نظرية اإللكرتونات والفوتونات‪ .‬ألن ما تعلمناه يف السنوات الالحقة الجتًّمع‬
‫شيلرت آيالند هو أن هذا البيان‪ ،‬بدون مزيد من التأهيل‪ ،‬ليس له معنى فيزيايئ‪.‬‬
‫لقد علَّمنا دمج النسبية وميكانيكا الكم‪ ،‬والذي كانت نظرية الديناميكا‬
‫الكهربائية الكمومية أول مثال ناجح لها‪ ،‬أن كل نظرية مثل نظرية الديناميكا‬
‫الكهربائية الكمومية لها معنى بقدر ما نربط نطاق األبعاد بكل تنبؤ‪ .‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬من املفيد أن نقول إن نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية هي نظرية‬
‫تأثُر اإللكرتون والفوتون التي تحدث عىل مسافة ‪ 10-10‬سنتيمرتات عىل‬
‫سبيل املثال‪ .‬وعىل هذا النطاق‪ ،‬فإن جزيئات دبليو وزد ليس لها تأثري مبارش‪.‬‬
‫قد يبدو هذا التمييز مثل تصيّد األخطاء يف الوقت الحايل‪ ،‬ولكن ثق يب‪ ،‬فهو‬
‫ليس كذلك‪.‬‬
‫يف الفصل األول‪ ،‬شددتُ عىل رضورة ربط األبعاد والنطاق بالقياسات‬
‫الفيزيائية‪ .‬لقد بدأ االعرتاف بالحاجة إىل ربط نطاقات الطول أو الطاقة‬
‫بالنظرية الفيزيائية بشكل جدي عندما أت ّم هانز بيته التقريب الذي سمح له‬
‫بحساب انزياح المب بعد اجتًّمع شيلرت آيالند بخمسة أيام‪ .‬تذكر أن بيته كان‬

‫‪179‬‬
‫قاد ًرا عىل تحويل عملية حسابية صعبة إىل تنبؤ باستخدام املنطق الفيزيايئ‬
‫كأساس لتجاهل التأثريات التي مل يفهمها‪.‬‬
‫تذكر ما كان بيته ضده‪ .‬تشري النسبية وميكانيكا الكم إىل إمكانية‬
‫«انبثاق» الجسيًّمت تلقائ ًيا من الفضاء الفارغ ثم اختفائها رسي ًعا‪ ،‬طاملا أنها‬
‫تفعل ذلك لفرتة قصرية ج ًدا بحيث ال ميكن قياسها بشكل مبارش‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫فإن الهدف األسايس من حساب تحول المب هو إثبات إمكانية تأثري هذه‬
‫الجسيًّمت عىل الخصائص القابلة للقياس للجسيًّمت العادية‪ ،‬مثل اإللكرتون‬
‫املوجود يف ذرة الهيدروجني‪ .‬لكن املشكلة هي أن تأثريات جميع الجسيًّمت‬
‫االفرتاضية املحتملة‪ ،‬ذات الطاقات العالية عشوائ ًيا‪ ،‬جعلت حساب خصائص‬
‫اإللكرتون أم ًرا مستعص ًيا رياض ًيا‪ .‬يعتقد بيته أنه إذا كانت النظرية معقولة‬
‫بطريقة ما‪ ،‬فإن تأثري الجسيًّمت االفرتاضية ذات الطاقة العالية عشوائ ًيا والتي‬
‫تعمل عىل فرتات زمنية قصرية ج ًدا ينبغي تجاهله‪ .‬ومل يكن يعرف يف ذلك‬
‫الوقت كيفية التعامل مع النظرية الكاملة‪ ،‬لذا فقد استبعد تأثريات هذه‬
‫ريا‪ ،‬وهذا ما كان‪.‬‬
‫الجسيًّمت االفرتاضية عالية الطاقة وتأ ّمل خ ً‬
‫عندما اكتشف فاينًّمن‪ ،‬وشفينغر‪ ،‬وتوموناغا كيفية التعامل مع النظرية‬
‫الكاملة‪ ،‬وجدوا أن تأثريات الجسيًّمت االفرتاضية عالية الطاقة ميكن بالفعل‬
‫تجاهلها باستمرار‪ .‬وقدمت النظرية إجابات منطقية مثل أية نظرية منطقية‬
‫أخرى‪ .‬ففي املحصلة‪ ،‬إذا كانت التأثريات عىل النطاقات الزمنية واملسافية‬
‫متناهية الصغر كبري ًة مقارنة بالنطاقات الذرية التي يتم قياسها‪ ،‬فلن يكون‬
‫هناك أمل يف دراسة الفيزياء‪ .‬هذا يشبه القول إننا إذا أردنا فهم حركة كرة‬
‫البيسبول‪ ،‬فعلينا أن نتتبع بالتفصيل القوى املؤثرة عىل املستوى الجزيئي خالل‬
‫كل جزء من مليون جزء من الثانية من حركتها‪.‬‬
‫تضمنت الفيزياء منذ أيام غاليليو تجاهل املعلومات غري ذات الصلة‪ ،‬وهي‬
‫حقيقة أكدتُها أيضً ا يف الفصل األول‪ .‬وهذا صحيح حتى يف الحسابات الدقيقة‬
‫للغاية‪ .‬فكر يف مثال كرة البيسبول مرة أخرى‪ .‬حتى لو حسبنا حركتها ألقرب‬
‫ملليمرت‪ ،‬فًّم نزال نفرتض أننا نستطيع التعامل معها ككرة بيسبول‪ .‬يف الواقع‪،‬‬

‫‪180‬‬
‫هي عبارة عن مزيج من حوايل ‪ 2410‬ذرة‪ ،‬يؤدي كل منها العديد من االهتزازات‬
‫والدورات املعقدة أثناء طريان الكرة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فمن الخصائص األساسية‬
‫لقوانني نيوتن أننا نستطيع أخذ جسم معقد عشوائ ًيا وتقسيم حركته إىل‬
‫جزأين‪ )1( :‬حركة «مركز الكتلة» التي يتم تحديدها من خالل متوسط موضع‬
‫جميع الكتل الفردية قيد النظر‪ ،‬و(‪ )2‬حركة جميع األجسام الفردية حول مركز‬
‫الكتلة‪ .‬الحظ أنه ليس من الرضوري وقوع مركز الكتلة حيث توجد أية كتلة‬
‫فعلية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يقع مركز كتلة قطعة الدونات يف املركز مبارشةً‪ ،‬حيث‬
‫يوجد الثقب! وإذا أردنا رمي قطعة الدونات يف الهواء‪ ،‬فقد تدور وتدور بطرق‬
‫معقدة‪ ،‬لكن مركز الكتلة‪ ،‬أي ثقب الدونات‪ ،‬سيتبع الحركة املكافئة البسيطة التي‬
‫أوضحها غاليليو ألول مرة‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬عندما ندرس حركة الكرات أو الدونات وفقا لقوانني نيوتن‪ ،‬فإننا‬
‫يف الواقع ندرس ما نسميه اآلن نظرية فعالة‪ .‬يجب أن تكون النظري ُة األكرث‬
‫اكتًّمال نظري َة الكواركات واإللكرتونات‪ ،‬أو عىل األقل نظرية الذرات‪ .‬لكننا‬
‫ً‬
‫قادرون عىل جمع كل هذه املستويات الحرة التي ال عالقة لها باملوضوع يف‬
‫يشء نسميه كرة‪ ،‬ونعني بها مركز كتلة الكرة‪ .‬تتضمن قوانني حركة جميع‬
‫األجسام العيانية نظري ًة فعالة لحركة مركز كتلتها وما حوله‪.‬‬
‫كل ما نحتاجه هو النظرية الفعالة لحركة الكرة‪ ،‬وميكننا اإلفادة منها‬
‫بدرجة كبرية بحيث منيل إىل اعتبارها أساسية‪ .‬ما سأناقشه اآلن هو أن جميع‬
‫نظريات الطبيعة‪ ،‬عىل األقل تلك التي تصف الفيزياء حاليًا‪ ،‬هي بالرضورة‬
‫نظريات فعالة‪ .‬فعندما تضع إحداها تُقيص غريها يف الوقت ذاته‪.‬‬
‫اتّضحت فائدة النظريات الفعالة يف ميكانيكا الكم يف وقت مبكر‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يف القياس الذري لحركة مركز كتلة الكرة التي تحدثت عنها ت ًوا‪،‬‬
‫تتمثل إحدى الطرق الكالسيكية لفهم سلوك الجزيئات يف ميكانيكا الكم –‬
‫والتي تعود إىل عرشينيات القرن العرشين عىل األقل– بفصل الجزيئات إىل‬
‫درجات حرية «رسيعة» و«بطيئة»‪ .‬ومبا أن نوى الجزيئات ثقيلة ج ًدا‪،‬‬
‫ستتضمن استجابتها للقوى الجزيئية تباي ًنا أصغر وأبطأ من اإللكرتونات التي‬

‫‪181‬‬
‫تدور حولها برسعة عىل سبيل املثال‪ .‬وبالتايل ميكننا اتباع إجراء مثل هذا للتنبؤ‬
‫أوال‪ ،‬تخيل أن النوى ثابتة وغري متغرية‪ ،‬ثم احسب حركة‬
‫بخصائصها‪ً .‬‬
‫اإللكرتونات حول هذه األجسام الثابتة‪ .‬عندها‪ ،‬طاملا أن النوى تتحرك ببطء‪،‬‬
‫فمن غري املتوقع أن تؤثر هذه الحركة بشكل كبري عىل تكوين اإللكرتونات‪.‬‬
‫ستتبع مجموعة اإللكرتونات املدمجة حرك َة النوى بسالسة‪ ،‬والتي بدورها‬
‫ستتأثر فقط مبتوسط تكوين اإللكرتون‪ .‬وبالتايل فإن تأثري اإللكرتونات‬
‫الفردية «ينفصل» عن حركة النواة‪ .‬ميكننا بعد ذلك وصف نظرية فعالة للحركة‬
‫النووية تتبع بوضوح درجات الحرية النووية فقط وتستبدل جميع اإللكرتونات‬
‫الفردية بكمية واحدة متثل متوسط تكوين الشحنة‪ .‬يُطلق عىل هذا التقريب‬
‫الكالسييك يف ميكانيكا الكم اسم نظرية بورن‪-‬أوبنهامير‪ ،‬عىل اسم‬
‫الفيزيائ َيني املشهورين اللذين اقرتحاها ألول مرة‪ ،‬وهًّم ماكس بورن وروبرت‬
‫أوبنهامير‪ .‬وهذا يشبه متا ًما وصف حركة الكرة مبجرد تت ّبع مركز كتلة الكرة‪،‬‬
‫باإلضافة رمبا إىل الحركة ال َجمعية لجميع الذرات حول مركز الكتلة‪ ،‬أي‬
‫الطريقة التي تدور بها الكرة‪.‬‬
‫وصفت كيفية‬
‫ُ‬ ‫مثاال آخر أحدث يتعلق باملوصلية الفائقة‪ .‬لقد‬
‫ً‬ ‫لنأخذ‬
‫ارتباط أزواج اإللكرتونات م ًعا يف املوصل الفائق لتشكل تكوينًا متًّمس ًكا‪ .‬يف‬
‫مثل هذه الحالة‪ ،‬ال نحتاج إىل وصف املادة من خالل تتبّع جميع اإللكرتونات‬
‫منفردة‪ .‬ومبا أننا نحتاج الكثري من الطاقة لنتسبب بانحراف إلكرتون فردي عن‬
‫النمط الجًّمعي‪ ،‬فيمكننا تجاهل الجسيًّمت الفردية بشكل فعال‪ .‬بدالً من ذلك‪،‬‬
‫ميكننا بناء نظرية فعالة من حيث كمية واحدة فقط تصف التكوين املتًّمسك‪.‬‬
‫تَستنسخ هذه النظرية‪ ،‬التي اقرتحها لندن يف الثالثينات وطورها الفيزيائيان‬
‫السوفييتيان النداو وجينسبريغ يف العام ‪ ،1950‬بطريقة صحيحة جميع‬
‫السًّمت العيانية الرئيسية للمواد فائقة التوصيل –مبا يف ذلك تأثري مايسرن‬
‫بالغ األهمية‪ ،‬الذي يجعل الفوتونات تترصف مثل أجسام ضخمة داخل‬
‫املوصالت الفائقة‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫لقد أرشتُ سابقًا إىل أن فصل املشكلة إىل متغريات ذات صلة وغري ذات‬
‫صلة ليس أسلوبًا جدي ًدا يف حد ذاته‪ .‬بَيد أن التكامل بني ميكانيكا الكم‬
‫والنسبية أدى إىل رضورة إزالة املتغريات غري ذات الصلة‪ .‬من أجل حساب نتائج‬
‫أية عملية فيزيائية مجهرية قابلة للقياس‪ ،‬علينا تجاهل عدد ال حرص له من‬
‫قليال منها فحسب‪.‬‬
‫الكميات وليس عد ًدا ً‬
‫لحسن الحظ‪ ،‬أثبت اإلجراء الذي بدأه فاينًّمن وآخرون أنه ميكن تجاهل‬
‫هذه األمور دون أن يشكل ذلك أية مشكلة‪.‬‬
‫حا‪ .‬لنأخذ‬
‫سأحاول وصف هذه النقطة الرئيسية يف سياق أكرث وضو ً‬
‫بعني االعتبار «اصطدام» إلكرتونني‪ .‬بحسب الكهرومغناطيسية الكالسيكية‪،‬‬
‫فإن اإللكرتونني سيتنافران‪ .‬إذا كان اإللكرتونان يتحركان يف البداية ببطء‬
‫شديد‪ ،‬فلن يقرتبا أب ًدا من بعضها‪ ،‬وقد تكون التفاسري الكالسيكية كافية‬
‫لتحديد سلوكهًّم النهايئ بشكل صحيح‪ .‬لكن إذا كانا يتحركان برسعة كافية‬
‫يف البداية ليقرتبا من بعضها‪ ،‬تصبح تفاسري ميكانيكا الكم عىل املقياس الذري‬
‫رضورية‪.‬‬
‫ما الذي «يراه» اإللكرتون عندما يتفاعل مع املجال الكهربايئ إللكرتون‬
‫آخر؟ يحمل كل إلكرتون الكثري من األثقال بسبب وجود أزواج افرتاضية من‬
‫الجسيًّمت والجسيًّمت املضادة التي تنبثق من الفراغ‪ .‬تلك الجسيًّمت املوجبة‬
‫التي تخرج للحظات من الفراغ سوف تنجذب إىل اإللكرتون‪ ،‬يف حني تُنبذ‬
‫رشكائها السالبة‪ .‬وهكذا‪ ،‬يحمل اإللكرتون بطريقة ما «سحابة» من الجسيًّمت‬
‫االفرتاضية حوله‪ .‬ومبا أن معظم هذه الجسيًّمت تنبثق من الفراغ لفرتة قصرية‬
‫للغاية وتنتقل ملسافة صغرية للغاية‪ ،‬تكون هذه السحابة معظم الوقت صغرية‬
‫ج ًدا‪ .‬ميكننا جمع تأثري جميع الجسيًّمت االفرتاضية عىل مسافات كبرية‬
‫ببساطة عن طريق «قياس» شحنة اإللكرتون‪ .‬وبذلك‪ ،‬فإننا نجمع يف رقم واحد‬
‫الجوانب املعقدة املحتملة للمجال الكهربايئ بسبب الجسيًّمت االفرتاضية التي‬
‫َ‬
‫قد تحيط باإللكرتون‪ .‬وهذا «يحدد» شحنة اإللكرتون التي نراها مكتوبة يف‬
‫الكتب املدرسية‪ .‬هذه هي الشحنة الفعالة التي نقيسها عىل مسافات كبرية يف‬

‫‪183‬‬
‫جهاز باملخترب‪ ،‬من خالل فحص حركة اإللكرتون يف جهاز تلفزيون‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬عند تطبيق مجال خارجي‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬ال تعترب كمية شحنة اإللكرتون أساسية إال بقدر ما تصف‬
‫قاسا عىل مقياس معني! وإذا أرسلنا إلكرتونًا آخر أقرب إىل‬
‫اإللكرتون ُم ً‬
‫مييض بعض الوقت يف أطراف هذه السحابة من‬ ‫اإللكرتون األول‪ ،‬فقد ُ‬
‫الجسيًّمت االفرتاضية ويسرب شحن ًة مختلفة بشكل فعال يف الداخل‪ .‬من حيث‬
‫املبدأ‪ ،‬هذا مثال عىل نفس نوع التأثري مثل انزياح المب‪ .‬ميكن أن تؤثر‬
‫الجسيًّمت االفرتاضية عىل الخصائص امل ُقاسة للجسيًّمت الحقيقية‪ .‬املهم هنا‬
‫هو أنها تؤثر عىل عدد من الخصائص مثل شحنة اإللكرتون بشكل مختلف‬
‫اعتًّم ًدا عىل النطاق الذي تقيسها به‪.‬‬
‫إذا طرحنا أسئلة مناسبة للتجارب التي تُجرى عىل نطاق طول معني أو‬
‫أكرب‪ ،‬والتي تتضمن إلكرتونات تتحرك بطاقة أصغر من كمية معينة‪ ،‬حينها‬
‫ميكننا كتابة نظرية فعالة كاملة تتنبأ بكل قياس‪ .‬ستكون هذه النظرية هي‬
‫نظرية الديناميكا الكهربائية الكمومية مع معا ِمالت حرة مناسبة‪ ،‬وشحنة‬
‫اإللكرتون‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬والتي تم تثبيتها اآلن لتكون مناسبة لنطاق التجربة‪،‬‬
‫وفقًا ملا تحدده نتائج التجربة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تتجاهل كل هذه الحسابات بالرضورة‬
‫كمي ًة ال حرص لها من املعلومات‪ ،‬وهي تلك املعلومات املتعلقة بالعمليات‬
‫االفرتاضية التي تعمل عىل نطاقات أصغر مًّم ميكن لقياساتنا التحقق منه‪.‬‬
‫قد يبدو من غري املعقول أن نتجاهل هذا القدر الكبري من املعلومات‪ ،‬وقد‬
‫بدا األمر كذلك لبعض الوقت حتى بالنسبة للفيزيائيني الذين اخرتعوا هذا‬
‫اإلجراء‪ .‬لكن بعد التفكري‪ ،‬إذا أردنا دراسة الفيزياء‪ ،‬فهذا ما يجب أن يكون‪ .‬ففي‬
‫نهاية املطاف‪ ،‬قد ال تكون املعلومات التي نتجاهلها صحيحة! يتضمن كل قياس‬
‫يف العالَم نطاقًا معي ًنا للطول أو الطاقة‪ .‬ويتم تحديد نظرياتنا أيضً ا من خالل‬
‫نطاق الظواهر الفيزيائية التي ميكننا فحصها‪ .‬قد تتنبأ هذه النظريات‬
‫مبجموعة ال حرص لها من األشياء بنطاقات بعيدة عن متناولنا يف أي وقت‪،‬‬
‫ولكن ملاذا علينا أن نصدق أيًا منها إىل أن نقيسها؟ سيكون من الرائع أن تكون‬

‫‪184‬‬
‫النظرية املصممة لرشح تأثر اإللكرتونات بالضوء صحيحة متا ًما يف جميع‬
‫وصوال إىل نطاقات أصغر بكثري من أي يشء نعرفه حال ًيا‪ .‬قد يكون‬
‫ً‬ ‫تنبؤاتها‪،‬‬
‫هذا هو الحال‪ ،‬ولكن يف كلتا الحالتني‪ ،‬هل ميكننا أن نتوقع أن تكون صحة‬
‫النظرية عىل النطاقات التي ميكننا التحقق منها اآلن رهينة لقدرتها املحتملة‬
‫عىل تفسري كل يشء عىل نطاقات أصغر؟ بالتأكيد ال‪ .‬لكن يف هذه الحالة‪ ،‬من‬
‫األفضل أن تكون جميع العمليات الغريبة‪ ،‬التي تنبأت النظرية بحدوثها عىل‬
‫ري ذات صلة بتنبؤاتها‬
‫نطاقات أصغر بكثري مًّم ميكننا التحقيق فيه اآلن‪ ،‬غ َ‬
‫للمقارنة مع التجارب الحالية‪ ،‬وذلك عىل وجه التحديد ألن لدينا كل األسباب‬
‫لالعتقاد بأن هذه العمليات الغريبة ميكن بسهولة أن تكون بقايا خيالية لدفع‬
‫النظرية إىل ما هو أبعد من مجال تطبيقها‪ .‬إذا كان ال بد من أن تكون النظرية‬
‫صحيحة عىل جميع النطاقات لإلجابة عىل سؤال حول ما يحدث عىل نطاق ما‬
‫ثابت‪ ،‬فسيتعني علينا أن نعرف نظرية كل يشء قبل أن نتمكن من تطوير نظرية‬
‫يشء ما‪.‬‬
‫يف مواجهة هذا الوضع‪ ،‬كيف ميكننا أن نعرف ما إذا كانت النظرية‬
‫«أساسية» – أي ما إذا كان لديها أمل يف أن تكون صحيحة عىل جميع‬
‫النطاقات؟ يف الحقيقة‪ ،‬ال ميكننا ذلك‪ .‬يجب النظر إىل جميع النظريات‬
‫الفيزيائية التي نعرفها عىل أنها نظريات فعالة عىل وجه التحديد ألنه يتعني‬
‫علينا تجاهل تأثريات الظواهر الكمومية الجديدة املحتملة التي قد تحدث عىل‬
‫نطاقات صغرية ج ًدا من أجل إجراء حسابات لتحديد ما تتنبأ به النظرية عىل‬
‫نطاقات أكرب ميكن قياسها حاليًا‪.‬‬
‫ولكن كًّم هو الحال يف كثري من األحيان‪ ،‬فإن هذا النقص الواضح هو‬
‫يف الحقيقة نعمة‪ .‬فكًّم تنبأنا متا ًما يف بداية هذا الكتاب مبا يجب أن تكون‬
‫عليه خصائص البقرة الخارقة من خالل التوسع يف خصائص األبقار املعروفة‪،‬‬
‫تشري حقيقة اعتًّمد قوانيننا الفيزيائية عىل الحجم إىل إمكانية قدرتنا عىل‬
‫التنبؤ بكيفية تطورها أيضً ا بينًّم نستكشف نطاقات أصغر يف الطبيعة‪ .‬إذًا‬

‫‪185‬‬
‫ميكن أن تعطي فيزياء اليوم إشارة واضحة لفيزياء الغد! يف الواقع‪ ،‬ميكننا‬
‫حتى التنبؤ مسبقًا عندما تكون هناك حاجة إىل اكتشاف جديد‪.‬‬
‫عندما تتنبأ نظرية فيزيائية ما بالهراء أو تصبح غري قابلة لإلدارة رياض ًيا‬
‫عندما تؤخذ يف االعتبار تأثريات العمليات امليكانيكية الكمومية االفرتاضية‬
‫األصغر نطاقًا‪ ،‬فإننا نعتقد أن هناك عمليات فيزيائية جديدة يجب أن تدخل عىل‬
‫نطاق ما «لعالج» هذا السلوك‪ .‬وإن تطور النظرية الحديثة للتأثر الضعيف هو‬
‫مثال عىل ذلك‪ .‬وضع إنريكو فريمي يف العام ‪ 1934‬نظرية تصف اضمحالل‬
‫«بيتا» للنيوترون إىل بروتون وإلكرتون ونيوترينو –وهو االضمحالل الضعيف‬
‫النموذجي‪ .‬كانت نظرية فريمي مبنية عىل التجربة‪ ،‬وكانت متفقة مع كل‬
‫املعطيات املعروفة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن التأثر «الفعال» الذي كُتب لتفسري اضمحالل‬
‫مخصصا‪ ،‬ألنه مل يكن مبن ًيا عىل أية‬
‫ً‬ ‫النيوترون إىل ثالث جسيًّمت أخرى كان‬
‫مبادئ فيزيائية أساسية أخرى تتجاوز اتفاقه مع التجربة‪.‬‬
‫مبجرد فهم الديناميكا الكهربائية الكمومية‪ ،‬اتضح أن تأثُر فريمي‬
‫الضعيف يختلف بشكل أسايس يف طبيعته عن الديناميكا الكهربائية‬
‫الكمومية‪ .‬عندما ذهبنا إىل ما هو أبعد من اضمحالل بيتا البسيط‪ ،‬الستكشاف‬
‫ما ميكن أن تتنبأ النظرية بحدوثه عىل نطاقات أصغر‪ ،‬واجهنا مشاكل‪.‬‬
‫فالعمليات االفرتاضية التي ميكن أن تحدث عىل نطاقات أصغر مبئات املرات‬
‫من حجم النيوترون من شأنها أن تجعل تنبؤات النظرية غري قابلة لإلدارة‬
‫مبجرد محاولة التنبؤ بنتائج التجارب املحتملة عىل مثل هذه النطاقات‪.‬‬
‫مل تكن هذه املشكلة موجودة‪ ،‬ألنه مل تكن هناك تجارب قادرة بشكل‬
‫مبارش عىل استكشاف مثل هذه النطاقات ألكرث من خمسني عا ًما بعد اخرتاع‬
‫فريمي منو َذجه‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بدأ املنظرون قبل ذلك بوقت طويل يف استكشاف‬
‫الطرق املمكنة لتوسيع منوذج فريمي وعالج مشكالته‪ .‬كانت الخطوة األوىل‬
‫للتغلب عىل هذه املشكلة واضحة‪ .‬ميكننا حساب نطاق املسافة الذي تبدأ عنده‬
‫املشاكل الشديدة يف تنبؤات النظرية‪ .‬يعترب هذا النطاق أصغر من حجم‬
‫النيوترون بحوايل ‪ 100‬مرة‪ ،‬وهو أصغر بكثري من أي نطاق ميكن الوصول‬

‫‪186‬‬
‫إليه يف أية منشأة موجودة آنذاك‪ .‬كانت أبسط طريقة لعالج املشكلة هي‬
‫االفرتاض أنه ميكن أن تصبح بعض العمليات الفيزيائية الجديدة‪ ،‬التي مل يتم‬
‫التنبؤ بها يف سياق نظرية فريمي وحدها‪ ،‬مهم ًة عىل هذا النطاق (وليس عىل‬
‫نطاق أكرب)‪ ،‬وميكنها بطريقة أو بأخرى مواجهة السلوك السيئ للعمليات‬
‫االفرتاضية يف نظرية فريمي‪ .‬وكان االحتًّمل األكرث مبارشة هو إدخال جسيًّمت‬
‫افرتاضية جديدة كتلتها حوايل ‪ 100‬مرة كتلة النيوترون‪ ،‬األمر الذي من شأنه‬
‫أن يجعل النظرية أفضل‪ .‬ونظ ًرا ألن هذه الجسيًّمت كانت ضخمة ج ًدا‪ ،‬فيمكن‬
‫إنتاجها كجسيًّمت افرتاضية فقط لفرتات قصرية ج ًدا‪ ،‬وبالتايل ال ميكنها‬
‫التحرك إال عىل نطاقات مسافات صغرية ج ًدا‪ .‬ستعطي هذه النظري ُة الجديدة‬
‫نتائج مًّمثلة لنظرية فريمي‪ ،‬طاملا أُجريت التجارب عىل نطاقات ال تستكشف‬
‫َ‬
‫بنية التأثُر‪ ،‬أي عىل نطاقات أكرب من املسافة التي تقطعها الجسيًّمت‬
‫االفرتاضية الضخمة‪.‬‬
‫لقد رأينا أن البوزيرتونات‪ ،‬التي كان من املتوقع وجودها كجزء من أزواج‬
‫جزيئات افرتاضية يف الديناميكا الكهربائية الكمومية‪ ،‬موجودة أيضً ا‬
‫كجسيًّمت حقيقية قابلة للقياس‪ ،‬رشيطة وجود ما يكفي من الطاقة لتكوينها‪.‬‬
‫وكذلك األمر بالنسبة للجسيًّمت االفرتاضية فائقة الثقل الجديدة التي يُتوقع‬
‫وجودها من أجل عالج نظرية فريمي‪ .‬وهذه هي جسيًّمت دبليو وزد فائقة‬
‫ريا بشكل مبارش كأجسام حقيقية يف مرسع جسيًّمت‬
‫الثقل التي اكتُشفت أخ ً‬
‫عايل الطاقة بُني يف جنيف يف العام ‪ ،1984‬بعد خمسة وعرشين عا ًما تقريبًا‬
‫من الحديث عنها نظريًا ألول مرة‪.‬‬
‫كًّم قلت‪ ،‬تُشكل جسيًّمت دبليو وزد جز ًءا مًّم يُعرف حاليًا بالنموذج‬
‫القيايس لفيزياء الجسيًّمت الذي يصف القوى الالتجاذبية الثالثة يف الطبيعة‪:‬‬
‫وهي القوى القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية‪ .‬قد تكون هذه النظرية‬
‫«أساسية»‪ ،‬إذ ال يشء مًّم يتعلق بالعمليات االفرتاضية املحتملة بنطاقات طولية‬
‫صغرية ج ًدا والتي يُتوقع حدوثها يف النظرية يتطلب بشكل مبارش عمليات‬
‫جديدة تتجاوز تلك املتوقعة يف النظرية عىل هذه النطاقات‪ .‬وعليه‪ ،‬ميكن أن‬

‫‪187‬‬
‫تكون هذه النظرية كاملة عىل هذا النحو الذي ال يصدقه أحد‪ .‬وعىل نفس‬
‫املنوال‪ ،‬ال يشء مينع وجود فيزياء جديدة تعمل عىل نطاقات طول صغرية ج ًدا‪.‬‬
‫بل إن هناك حج ًجا نظرية قوية أخرى تشري إىل صحة ذلك‪ ،‬كًّم سأوضح‪.‬‬
‫يف حني تدلنا نظريات مثل نظرية فريمي‪ ،‬التي تعترب «مريضة»‪،‬‬
‫بوضوح عىل الحاجة إىل فيزياء جديدة‪ ،‬ميكن لنظريات مثل النموذج القيايس‪،‬‬
‫التي ال تعترب كذلك‪ ،‬أن تدلنا أيضً ا عىل األمر ذاته‪ ،‬ببساطة ألن صياغتها تعتمد‬
‫عىل النطاق –أي أنها تعتمد بشكل جوهري عىل النطاق الذي نجري فيه‬
‫التجارب لقياس معاملها األساسية‪ .‬ومع دمج العمليات التي تتضمن جسيًّمت‬
‫افرتاضية تعمل عىل نطاقات أصغر من أي وقت مىض من أجل املقارنة مع‬
‫نتائج التجارب األكرث حساسية‪ ،‬فمن املتوقع أن تتغري قيمة هذه املع ِلًّمت‪،‬‬
‫بطريقة ميكن التنبؤ بها! ولهذا السبب‪ ،‬فإن خصائص اإللكرتون الذي يشارك‬
‫يف العملية الذرية ضمن النطاقات الذرية ليست بالضبط نفس خصائص‬
‫اإللكرتون الذي يتأثر بنواة الذرة عىل النطاقات النووية األصغر بكثري‪ .‬لكن‬
‫األهم من ذلك هو أن الفرق قابل للحساب!‬
‫هذه نتيجة مهمة‪ .‬ففي حني يتعني علينا التخيل عن فكرة وجود منوذج‬
‫قيايس واحد ونظرية واحدة غري قابلة للخرق ومناسبة عىل جميع النطاقات‪،‬‬
‫فإننا نكتسب بذلك سلسلة متواصلة من النظريات الفعالة‪ ،‬بحيث يكون كل منها‬
‫مناسبًا للتطبيق يف نطاق مختلف‪ ،‬وكلها مرتابطة بطريقة قابلة للحساب‪.‬‬
‫وللحصول عىل نظرية منوذج قيايس دقيقة ميكننا أن نحدد بالضبط مدى تغري‬
‫قوانني الفيزياء مع تغري النطاق!‬
‫يعود أساس هذه الرؤية الرائعة التي وصفتها‪ ،‬حول اعتًّمد الفيزياء عىل‬
‫النطاق‪ ،‬إىل عمل كني ويلسون الحاصل عىل جائزة نوبل بسببها‪ ،‬ويرجع‬
‫تاريخها إىل ستينيات القرن العرشين‪ .‬وقد اعتمدت نشأتها عىل دراسة فيزياء‬
‫املواد بقدر ما اعتمدت عىل فيزياء الجسيًّمت‪ .‬ذكرنا أن السلوك القيايس للمواد‬
‫هو امليزة األساسية التي تسمح لنا بتحديد خصائصها حني تقرتب من مرحلة‬
‫انتقالية‪ .‬فقد كانت مناقشتي ملا يحدث عند غليان املاء‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬مبنية‬

‫‪188‬‬
‫عىل كيفية تغري وصف املادة عند تغيري نطاق مالحظتنا لها‪ .‬فإذا ع ِمدنا إىل‬
‫مالحظة املاء يف حالته السائلة عىل نطاق بالغ الصغر‪ ،‬ميكننا اكتشاف التقلبات‬
‫التي تجعل كثافته الداخلية تعادل قيمتها يف الحالة الغازية‪ .‬وكلًّم تم حساب‬
‫املتوسط عىل نطاقات أكرب وأكرب‪ ،‬نجد أن الكثافة تستقر عند قيمتها السائلة‬
‫مبجرد وصولنا إىل نطاقه املميز‪.‬‬

‫ماذا نفعل عندما نقوم بحساب املتوسط عىل نطاقات أكرب؟ إننا نستثني‬
‫من حساب املتوسط تأثري الظواهر األصغر نطاقًا‪ ،‬والتي ميكننا تجاهل‬
‫تفاصيلها إذا كان كل ما يهمنا هو الخصائص املرئية للًّمء السائل‪ .‬لكن إذا كانت‬
‫لدينا نظرية أساسية للمياه –نظرية ميكن أن تشمل السلوك عىل نطاق صغري–‬
‫فيمكننا محاولة إجراء حساب دقيق لكيفية اختالف مالحظاتنا حسب النطاق‬
‫بدمج تأثريات التقلبات عىل النطاقات األصغر‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬ميكن حساب‬
‫جميع خصائص املواد بالقرب من نقطة حرجة حيث يصبح السلوك القيايس‬
‫مهًّم للغاية كًّم قلت‪ .‬وترسي التقنيات املطبقة عىل املواد العادية أيضً ا‬
‫للًّمدة ً‬
‫عىل وصف القوى األساسية يف الطبيعة‪ .‬إذ تحتوي نظريات مثل الديناميكا‬
‫الكهربائية الكمومية عىل أصول االعتًّمد عىل نطاقها الخاص‪.‬‬

‫أبواب عامل جديد كليًا من الفيزياء متا ًما كًّم‬


‫َ‬ ‫يفتح االهتًّمم بالنطاق‬
‫حصل عندما طبقناه ألول مرة يف سياق بقرتنا الكروية يف بداية هذا الكتاب‪.‬‬

‫وبالعودة إىل هذا املثال‪ ،‬ميكننا حقيق ًة أن نرى مثاالً عمليًا واض ًحا عىل‬
‫أوال‪ :‬إذا حددتُ كثافة جلد البقرة العادية وقوته بالتجربة‪ ،‬فيمكنني معرفة‬
‫ذلك‪ً .‬‬
‫كثافة جلد البقرة الخارقة التي تبلغ ضعف حجم البقرة الكروية‪ .‬كًّم ميكنني‬
‫عالوة عىل ذلك التنبؤ بنتائج أية قياسات ستجرى عىل مثل هذه البقرة الخارقة‪.‬‬

‫فهل نظرية البقرة الكروية نظرية شاملة لألبقار؟ مل نتمكن أب ًدا من‬
‫إثبات أنها من املسلًّّمت‪ ،‬ولكن توجد ثالث طرق مختلفة ملعرفة أنها ليست كذلك‬
‫أو أن هذا االحتًّمل غري وارد‪ )1( :‬إن كانت النظرية ذاتها تتنبأ بنتائج غري‬

‫‪189‬‬
‫منطقية عىل نطاق معني‪ )2( ،‬إن كانت النظرية تشري بوضوح إىل وجود ما‬
‫هو أبسط من الكرة وميكنه أداء الوظيفة ذاتها‪ )3( ،‬قابلية إجرائنا تجربة عىل‬
‫نطاق محدد لتمييز السًّمت غري املتوقعة يف هذه النظرية‪ .‬وإليكم مثاالً عىل‬
‫هذه التجربة‪ :‬لنفرتض أنني رميت قطعة ملح عىل بقرة كروية‪ .‬املتوقع هو أن‬
‫يرتد امللح عنها‪:‬‬

‫لكن يف الحقيقة هناك جهة يف البقرة إذا رميت قطعة امللح نحوها فإنها‬
‫لن ترتد‪ .‬وسنكتشف سمة مل تؤخذ بعني االعتبار يف النظرية األصلية‪ ،‬وهي‬
‫فتحة الفم‪.‬‬

‫وعىل املنوال ذاته يوفر استكشاف مدى اعتًّمد قوانني الطبيعة عىل‬
‫النطاق آليات حاسمة للبحث عن قوانني فيزياء أساسية جديدة‪ .‬كان عريض‬
‫التاريخي املوجز للتأثر الضعيف أحد األمثلة الكالسيكية‪ .‬سأصف اآلن بعض‬
‫القوانني األخرى األكرث حداثة‪.‬‬

‫تتبع قوانني القياس يف الفيزياء األساسية نه ًجا إما تنازليًا أو تصاعديًا‪.‬‬

‫وكال التقنيتني فاعلتان يف الفيزياء عىل عكس االقتصاد! إذ ميكننا‬


‫استكشاف النظريات التي نفهمها ضمن املقاييس الطويلة املتاحة لرنى تطورها‬
‫عرب تقليلنا لنطاقها سعيًا الستكشاف رؤى جديدة‪ .‬وميكننا بدالً من ذلك اخرتاع‬
‫نظريات تتعلق بأطوال نطاقات أصغر بكثري مًّم ميكننا سربه اآلن يف املخترب‬
‫وتوسيع نطاقها‪ ،‬مع حساب متوسط النطاقات الصغرية بشكل منهجي‪ ،‬لرنى‬

‫‪190‬‬
‫ما ميكنها التنبؤ به حول العمليات الفيزيائية عىل النطاقات التي نستطيع‬
‫قياسها اآلن‪.‬‬

‫وصفت يف الفصل‬
‫ُ‬ ‫يشمل هذان النهجان نطاق البحث عىل الحدود اليوم‪.‬‬
‫الثاين كيفية اكتشاف نظرية التأثر القوي الذي يربط الكواركات داخل‬
‫الربوتونات والنيوترونات‪ ،‬وقد كان لفكرة الحرية املتقاربة دور أسايس فيها‪.‬‬
‫أما الديناميكا اللونية الكمومية‪ ،‬أو نظرية التأثر القوي‪ ،‬فتختلف عن الديناميكا‬
‫الكهربائية الكمومية يف جانب أسايس واحد‪ :‬اختالف تأثري الجسيًّمت‬
‫االفرتاضية يف النطاقات الصغرية عىل تطور مقاييس النظرية‪ .‬ففي الديناميكا‬
‫الكهربائية الكمومية‪ ،‬يتمثل تأثري سحابة الجسيًّمت االفرتاضية التي تحيط‬
‫باإللكرتون يف «حًّمية» شحنته الكهربائية إىل حد ما من املراقب البعيد‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬إذا فحصنا اإللكرتون عن كثَب فسنجد أن الشحنة التي نقيسها تزداد‬
‫فعاال عن القيمة التي سنقيسها لو فحصناه من الجانب اآلخر من الغرفة‪.‬‬
‫ازديا ًدا ً‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬ميكن أن تترصف الديناميكا اللونية الكمومية (فقط‬
‫النظريات املشابهة للديناميكا اللونية الكمومية) بطريقة معاكسة متا ًما‪ ،‬وهذه‬
‫هي املفاجأة التي اكتشفها غروس‪ ،‬وفيلتشيك‪ ،‬وبوليتزر‪ .‬فعندما تفحص تأثرات‬
‫الكواركات التي تقرتب أكرث فأكرث من بعضها البعض‪ ،‬تصبح الشحنة القوية‬
‫الفعالة التي تشعر بها أضعف‪ .‬وتزيد كل سحابة جزيئات افرتاضية من‬
‫تأثرياتها مع املراقبني البعيدين زيادة فعالة‪ .‬وكلًّم تعمقت أكرث داخل هذه‬
‫السحابة‪ ،‬تكتشف أن قوة التأثر القوي فيًّم بني الكواركات تصبح أضعف!‬

‫كًّم أننا إن استخدمنا نظري ًة تصف بدقة تأثرات الكواركات عىل مسافات‬
‫صغرية‪ ،‬فسنتمكن من محاولة رؤية طريقة تغري األشياء حسب النطاق مع‬
‫زيادتنا النطاق‪ .‬وحني نصل إىل حجم الربوتون والنيوترون‪ ،‬سنأمل أن نتمكن‬
‫من حساب متوسط جميع الكواركات الفردية والتوصل إىل نظرية فعالة‬
‫للربوتونات والنيوترونات فقط‪ .‬لكن نظ ًرا للقوة الشديدة لتأثرات الكواركات يف‬
‫هذا النطاق‪ ،‬مل يتمكن أحد حتى اآلن من تنفيذها بشكل مبارش‪ ،‬وذلك عىل الرغم‬

‫‪191‬‬
‫من تخصيص أجهزة حاسوب كبرية لهذه املهمة‪ ،‬وقد أسفرت حتى اآلن عن‬
‫نتائج تتوافق مع املالحظات‪.‬‬

‫جة املتعلقة بحجم النطاق املطبق عىل‬


‫إن النجاح الكبري الذي حققته املحا ّ‬
‫التأثر القوي يف أوائل السبعينيات قد شجع الفيزيائيني عىل قلب هذه الحجج‪،‬‬
‫والنظر يف نطاقات أصغر من تلك التي ميكن فحصها باستخدام الطاقة املتاحة‬
‫يف املختربات الحالية‪ .‬وكانوا بذلك يتبعون خطى ليف النداو‪ ،‬النظري‬
‫السوفييتي للعامل األمرييك فاينًّمن‪ .‬أثبت هذا الفيزيايئ العبقري بحلول‬
‫خمسينيات القرن العرشين بالفعل حقيقة ازدياد الشحنة الكهربائية عىل‬
‫اإللكرتونات ازديا ًدا فعاالَ عند تقليل نطاق مسافة استكشاف اإللكرتون‪ .‬وقد‬
‫كشف يف الواقع أنه يف حال استمرت العمليات وفق ما تتنبأ به الديناميكا‬
‫الكهربائية الكمومية لكن عىل نطاق أصغر مًّم ميكن تصوره‪ ،‬فإن الشحنة‬
‫الكهربائية الفعالة عىل اإللكرتون ستصبح كبرية للغاية‪ .‬لرمبا كانت تلك هي‬
‫اإلشارة األوىل‪ ،‬عىل الرغم من أنها مل تعترب كذلك يف حينها‪ ،‬إىل أن الديناميكا‬
‫الكهربائية الكمومية تحتاج إىل تغيري‪ ،‬بصفتها نظرية معزولة‪ ،‬قبل أن تطبق‬
‫عىل مثل هذه النطاقات الصغرية‪.‬‬

‫تزداد قوة الديناميكا الكهربائية الكمومية مع زيادة نطاق الطاقة‪ ،‬بينًّم‬


‫تصبح الديناميكا اللونية الكمومية أضعف‪ .‬وتقع قوة التأثر الضعيفة يف‬
‫املنتصف‪ .‬أجرى هوارد جورجي‪ ،‬وهيلني كوين‪ ،‬وستيفن واينربغ عملية حسابية‬
‫بحلول العام ‪1975‬غريت تصورنا لحدود الطاقة العالية‪ .‬فقد استكشفوا سلوك‬
‫التأثرات القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية بحسب النطاق‪ ،‬يف ظل‬
‫افرتاضات مختلفة حول أشكال الفيزياء الجديدة التي قد تظهر مع زيادة نطاق‬
‫الطاقة‪ ،‬وتوصلوا لنتيجة باهرة‪ .‬كان من املعقول متا ًما أن قوة التأثرات األساسية‬
‫الثالثة ميكن أن تصبح متطابقة عىل نطاق مسافة أصغر مبقدار خمسة عرش‬
‫قيمة أسية تقري ًبا من أي فحص أجري يف املخترب سابقًا‪ .‬وهذا هو بالضبط ما‬
‫ميكن توقعه إذا ظهر تناظر جديد بوضوح يف هذا النطاق‪ ،‬وهو ما سريبط كل‬

‫‪192‬‬
‫هذه التفاعالت‪ .‬هذه هي الفكرة التي اقرتحها شيلدون غالشو إىل جانب‬
‫جورجي بشكل مستقل‪ .‬تتالءم فكرة ازدياد تناظر الكون عند استكشاف‬
‫مقاييس أصغر فأصغر مع هذا االكتشاف متا ًما‪ .‬لقد بدأ عرص النظريات املوحدة‬
‫الكربى‪ ،‬التي تنشأ فيها جميع تأثرات الطبيعة‪ ،‬باستثناء الجاذبية‪ ،‬من تأثر‬
‫واحد عند نطاقات صغرية مبا فيه الكفاية‪.‬‬

‫لقد مرت قرابة عرشين عا ًما‪ ،‬وما زلنا نفتقر إىل أي دليل مبارش آخر عىل‬
‫صحة هذا االستقراء املذهل بخصوص النطاق‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فإن القياسات الدقيقة الحديثة لقوة جميع القوى يف مرافق‬
‫دعًّم إضاف ًيا الحتًّمل تطابقها جمي ًعا عند نطاق‬
‫املختربات الحالية قد وفرت ً‬
‫واحد‪ .‬ولكن املثري لالهتًّمم أن ذلك لن يحصل ما مل نقم بتكملة النموذج‬
‫القيايس الحايل بقواعد فيزياء جديدة لن ميكن التوصل الستنتاجها بطريقة‬
‫طبيعية إذا افرتضنا وجود تناظر جديد يف الطبيعة يسمى التناظر الفائق‪.‬‬

‫يربط التناظر الفائق بني الجسيًّمت األولية املختلفة يف الطبيعة بطرق‬


‫جديدة‪ .‬لقد اتضح أن الجسيًّمت األولية ميكن تصنيفها إىل نوعني مختلفني‪:‬‬
‫إما «فرميونات» أو «بوزونات»‪ .‬يقوم التصنيف األول‪ ،‬املسمى تيمنًا بإنريكو‬
‫فريمي‪ ،‬بوصف الجسيًّمت التي يقاس زخمها الزاوي امليكانييك الكمومي‬
‫مبضاعفات نصف عدد صحيح لبعض الوحدات األساسية‪ ،‬ونحن نسميها‬
‫جسيًّمت غزل [فرميون ‪ ]1/2‬وما إىل ذلك‪ .‬أما الثاين‪ ،‬والذي ُسمي باسم‬
‫الفيزيايئ الهندي ساتيندرا ناث بوز‪ ،‬فيصف الجسيًّمت التي يقاس زخمها‬
‫الزاوي امليكانييك الكمومي مبضاعفات صحيحة‪ ،‬ونطلق عليها جسيًّمت الغزل‬
‫‪.1‬‬

‫لقد اتضح أن البوزونات والفرميونات تترصف بطرق مختلفة متا ًما‪.‬‬


‫مثال‪ ،‬هي فرميونات‪ ،‬مسؤول ًة عن الكيمياء‬
‫تُعترب حقيقة أن اإللكرتونات‪ً ،‬‬
‫بأكملها‪ ،‬إذ ال ميكن لفرميونني التواجد يف الحالة الكمومية ذاتها بالضبط ويف‬

‫‪193‬‬
‫املكان ذاته‪ ،‬كًّم بني فولفغانغ باويل ألول مرة‪ .‬وهكذا‪ ،‬عندما نضيف إلكرتونات‬
‫إىل الذرات‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يجب أن تشغل اإللكرتونات مستويات طاقة‬
‫متزايدة بشكل تدريجي‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬ميكن للبوزونات أن تتواجد يف الحالة الكمومية ذاتها‬


‫واملكان ذاته‪ ،‬بل إن هذا هو التكوين املفضل لديهم‪ ،‬والذي يسمى «تكثيف بوز»‪،‬‬
‫فمثال‪ ،‬يُتصور أن الحقول الخلفية التي‬
‫ً‬ ‫إذا سمحت الظروف به يف الواقع‪.‬‬
‫يفرتض أنها تكرس التناظرات األساسية يف الكون بشكل عفوي هي مكثفات‬
‫بوز‪ .‬ابتكر التجريبيون مكثفات بوز يف املخترب يف اآلونة األخرية‪ ،‬ويف ظل‬
‫ظروف خاصة ج ًدا‪ ،‬وهي مصنوعة من تكوينات تتألف من مئات أو آالف‬
‫الذرات‪ .‬واملأمول من ذلك هو أن تؤدي هذه التكوينات الخاصة ج ًدا إىل تقنيات‬
‫جديدة‪ ،‬إذ حاز أول املجربني الذين أنتجوا هذه التكوينات عىل جائزة نوبل منذ‬
‫عدة سنوات‪.‬‬

‫ورغم االختالف التام البادي بني البوزونات والفرميونات‪ ،‬فالتناظر‬


‫الفائق هو تناظر جديد محتمل يف الطبيعة يربط بني البوزونات والفرميونات‪،‬‬
‫مثال بوجوب أن يكون لكل جسيم فرميوين يف الطبيعة جسيم بوزوين‬
‫ويتنبأ ً‬
‫مقابل له بنفس الكتلة والشحنة وما إىل ذلك‪ .‬قد تالحظ عند هذه النقطة اآلن‬
‫أن هذه ليست حالة ملحوظة بوضوح يف الطبيعة‪ .‬ومع ذلك ميكنك اآلن أيضً ا‬
‫توقع ردي‪ :‬إذا كان التناظر الفائق تناظ ًرا مكسو ًرا‪ ،‬فقد يتبني أن «الرشكاء‬
‫الفائقني» الفرميونيني والبوزونيني للجسيًّمت العادية التي نالحظها يف‬
‫الطبيعة قد يكونون ثقيلني ج ًدا لدرجة مل متكّن من اكتشافهم بعد عرب إنتاجها‬
‫يف املرسعات‪.‬‬

‫فًّم هو الدافع املحتمل إذًا إلدخال تناظر ريايض جديد يف الطبيعة ال‬
‫يظهر فيًّم نالحظه؟ إن إدخال هذا التناظر‪ ،‬شأنه شأن النموذج القيايس‪ ،‬ميكن‬
‫أن يحل بعض التناقضات يف النظريات املوجودة مسبقًا‪ .‬إن الدافع الكامل‬

‫‪194‬‬
‫الفرتاض وجود تناظر فائق مكسور يف نظرية الجسيًّمت معقد ج ًدا يف الواقع‬
‫فعل ذلك مجد ًدا وبشكل مطول يف‬
‫حاولت ُ‬
‫ُ‬ ‫بحيث ال ميكن إنصافه هنا‪ ،‬وقد‬
‫كتاب حديث‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬كان أحد األسباب املنطقية الرئيسية هو أن هذا التناظر‬
‫قد يساعد يف تفسري السبب وراء صغر مقياس القوة الكهروضعيفة إىل حد‬
‫كبري أمام مقياس الجاذبية‪.‬‬

‫ومهًّم يكن الحال‪ ،‬يظل من املذهل أنه إذا افرتضنا وجود التناظر الفائق‬
‫قليال من‬
‫باعتباره تناظ ًرا جدي ًدا يف الطبيعة يتم كرسه عىل نطاق مسافة أصغر ً‬
‫النطاق الكهروضعيف‪ ،‬فإن دمج مجموعة من الجسيًّمت الثقيلة الجديدة التي‬
‫ال بد لها أن توجد يف حساباتنا لقوة القوى املعروفة يف الطبيعة سيؤدي‬
‫لتطابقها يف القوة عند نطاق واحد أصغر بستة عرش قيمة أسية تقري ًبا من‬
‫حجم الربوتون‪.‬‬

‫وسواء صحت هذه الفكرة أم ال‪ ،‬فإن هذه النتيجة قد وجهت عقول علًّمء‬
‫الفيزياء النظرية والتجريبية‪ ،‬أكرث من أي نتيجة أخرى يف فرتة ما بعد الحرب‪،‬‬
‫نحو استكشاف إمكانية وجود فيزياء جديدة مبقاييس مختلفة إىل حد كبري عن‬
‫تلك التي ال يزال بإمكاننا قياسها مبارشة يف املخترب‪ .‬وكانت النتائج مختلطة‬
‫حسب رأيي‪ .‬لقد تضاءلت العالقة الوثيقة السابقة بني النظرية والتجربة إىل‬
‫حد ما‪ ،‬والتي لطاملا حكمت تقدم فيزياء الجسيًّمت (بل كل الفيزياء الباقية يف‬
‫الواقع)‪ ،‬حتى مع زيادة املخاطرة بسبب التفات الفيزيائيني إىل احتًّمل توحيد‬
‫جميع القوى يف الطبيعة‪ ،‬مبا فيها الجاذبية‪.‬‬

‫يحرينا لفرت ٍة معترب ٍة من‬ ‫يف الفيزياء نطاق شاسع عايل الطاقة ما ّ‬
‫انفك ّ‬
‫هذا القرن‪ .‬ليست نظرية التأثر الضعيف التي وضعها فريمي النظرية األساسية‬
‫الوحيدة التي تعاين من قصور واضح عند الطاقات العالية والنطاقات‬
‫الصغرية‪ ،‬فنظرية النسبية العامة مثال آخر عىل ذلك‪ .‬تنشأ مشاكل عديدة عندما‬
‫نحاول دمج ميكانيكا الكم مع الجاذبية‪ .‬وأهم هذه املشاكل هي أن تأثريات‬

‫‪195‬‬
‫الجسيًّمت االفرتاضية يف تأثرات الجاذبية تخرج عن السيطرة عند نطاق أصغر‬
‫بحوايل تسعة عرش قيمة أسية من حجم الربوتون‪ .‬ال يبدو أن نظرية الجاذبية‬
‫ميكن أن تكون نظرية كمومية أساسية يف وضعها الحايل مثلها مثل نظرية‬
‫فريمي‪ .‬ومن املفرتض أن تؤدي بعض جوانب الفيزياء الجديدة دو ًرا يف تغيري‬
‫سلوك النظرية عند هذه النطاقات الصغرية‪.‬‬

‫وتعترب نظرية األوتار حال ًيا املرشح األكرث شعبية لهذه الفيزياء الجديدة‪.‬‬
‫إذ ميكن لطبيعة الجسيًّمت الشبيهة باألوتار يف هذه النظرية أن تغري طريقة‬
‫إجراء الحسابات الرياضية عند النطاق الذي قد تتسبب فيه الجسيًّمت‬
‫االفرتاضية يف انهيار الجاذبية بصفتها نظرية كمومية‪ ،‬مًّم يؤدي إىل ترويض‬
‫يصبح لوال ذلك ال نهائيات خارجة عن السيطرة‪ ،‬إذ أن الجاذبية نفسها‬
‫َ‬ ‫ما كان لِ‬
‫تنشأ بشكل طبيعي يف النظرية األساسية لألوتار‪ .‬املشكلة الوحيدة هي أن‬
‫األوتار ذاتها ال معنى لها ككائنات كمومية يف أربعة أبعاد‪ ،‬ونحتاج إىل عرشة‬
‫أو أحد عرش بع ًدا عىل األقل للوصول إىل نظرية متسقة‪ ،‬ستة أو سبعة منها غري‬
‫مرئية حتى اآلن‪.‬‬

‫عندما ظهرت نظرية األوتار ألول مرة‪ُ ،‬وصفت بأنها نظرية كل يشء‪ ،‬أو‬
‫نهاية الفيزياء‪ ،‬إن شئنا استخدام مصطلحات أكرث صلة باملناقشة الحالية‪ .‬لقد‬
‫كان من املفرتض لهذه النظرية أن تصبح أساسية بحق وقابلة للتطبيق عىل‬
‫جميع النطاقات‪ .‬وقد تؤدي التناظرات الجديدة إىل توقف اعتًّمد النظرية عىل‬
‫النطاق‪ ،‬لتصبح النظرية كاملة حقًا‪ ،‬وال تستبدل أب ًدا بنظرية أكرث أساسية عند‬
‫النطاقات األصغر‪ ،‬وبذلك تختزل قوانني الفيزياء إىل تلك املعروفة عند النطاقات‬
‫األكرب‪.‬‬

‫اعرتى الشك العديد منا عند طرح هذه االدعاءات‪ ،‬وقد ثبتت صحة‬
‫شكوكنا حتى اآلن‪ .‬اتضح اآلن أنه حتى األوتار نفسها يف الواقع قد تكون‬
‫كائنات فعالة ميكن استبدالها بأشياء أخرى أساسية أكرث وتعمل يف أبعاد أعىل‪،‬‬

‫‪196‬‬
‫يف سياق النًّمذج الرياضية قيد البحث حال ًيا‪ .‬وحتى بعد عرشين عا ًما من‬
‫الجهود الشاقة التي بذلها بعض أملع املنظرين يف العامل‪ ،‬مل يُح َرز تقدم يذكر‪.‬‬

‫تظل نظرية األوتار مبثابة أمل نظري أكرث من كونها نظرية فعلية‪ ،‬وال‬
‫يوجد أي دليل عىل اإلطالق يثبت أن لنظرية األوتار أية عالقة بالطبيعة سوى‬
‫الدوافع النظرية التي وصفتها أعاله‪.‬‬

‫ينبغي ألية نظرية تشمل كل يشء أن تحل السؤال األسايس الذي كان‬
‫محور اهتًّمم آينشتاين واهتًّممي‪ :‬هل هناك خيارات يف الكون؟ وعىل وجه‬
‫التحديد‪ :‬هل توجد مجموعة واحدة فقط من القوانني الفيزيائية املتسقة التي‬
‫رقًّم واح ًدا‪،‬‬
‫ترتابط م ًعا بشكل متناغم‪ ،‬بحيث إذا تغري رقم واحد‪ ،‬حتى ولو كان ً‬
‫فسينهار الرصح بأكمله؟ من املؤكد أن ذلك هو األمل الذي قاد الفيزياء لعدة‬
‫مئات من السنني والذي روج له منظرو األوتار يف األيام األوىل‪ :‬األمل الكبري‬
‫يف التفسري الدقيق لسبب وجود الكون عىل ما هو عليه‪ ،‬وملاذا يجب أن يكون‬
‫عىل هذا النحو‪.‬‬

‫يوجد احتًّمل آخر‪ ،‬وهو ما يلجأ إليه العديد من أنصار نظرية األوتار عىل‬
‫نحو ملحوظ‪ ،‬يف حني يتضح أن نظريتهم ليست فريدة من نوعها عىل اإلطالق‪.‬‬
‫فحتى أبسط التساؤالت عن عامل األوتار تكشف بوضوح االحتًّمل املرجح‬
‫لوجود أي يشء يحل محل نظرية األوتار‪ ،‬وأن أيًا كان قد يفرس كيف تصبح‬
‫تلك األبعاد الستة أو السبعة اإلضافية غري مرئية بالنسبة لنا‪ ،‬فمن املحتمل أن‬
‫يكون هناك ما ال يقل عن ‪ 10500‬احتًّمل ألكوان ذات أربعة أبعاد مختلفة‬
‫بالنتيجة‪ ،‬وقد يكون لكل منها قوانينه الفيزيائية الخاصة‪ .‬وبدالً من وصف‬
‫السبب الذي يجعل الكون يبدو هكذا‪ ،‬تع ِمد نظرية األوتار إىل عكس ذلك تقريبًا‪.‬‬
‫فهي تدل عىل أن الكون يجب أن يبدو مختلفًا متا ًما يف العموم!‬

‫مثل هذا السيناريو يدفع العلًّمء إىل افرتاض يطمح يف تفسري سبب‬
‫امتياز الكون الذي نعيش فيه بالخصائص التي ميتلكها‪ :‬والسبب هو أننا نعيش‬

‫‪197‬‬
‫فيه! ميكن أن نقول عىل وجه التحديد إن الحياة رمبا لن تكون ممكنة إال ضمن‬
‫مجموعة فرعية صغرية ج ًدا من هذه األكوان املحتملة العديدة واملختلفة التي‬
‫ميكن أن توجد جميعها يف مناطق منفصلة من املكان والزمان‪ .‬يف هذه الحالة‬
‫لن تكون األكوان التي يوجد فيها فيزيائيون ميكنهم طرح أسئلة حول أكوانهم‬
‫سوى أكوان تشبه كوننا إىل حد كبري‪.‬‬

‫إذا كانت هذه الفكرة‪ ،‬التي ارتقى بها البعض إىل مستوى «املبدأ»‪ ،‬والتي‬
‫تسمى «املبدأ األنرثويب»‪ ،‬تبدو يف نظرك وكأنها انسحاب‪ ،‬فينبغي لها أن تكون‬
‫فعال‪ ،‬لكنها قد تكون صحيحةً‪ ،‬ويف هذه الحالة لن تكون‬
‫كذلك‪ ،‬ألنها كذلك ً‬
‫قوانني الفيزياء سوى حادث بيئي‪.‬‬

‫لكني ال أريد أن أنهي هذا الكتاب بالتكهنات حول نظرية كل يشء وال‬
‫حتى نظرية العدمية‪ .‬االحتًّمل الوارد أيضً ا هو أن يكون البحث عن حقيقة‬
‫كونية مفهو ًما خاطئًا‪ .‬قد يوجد عدد ال نهايئ من القوانني الفيزيائية يف انتظار‬
‫اكتشافها بينًّم نواصل سرب أقىص النطاقات‪ .‬والفكرة األساسية هي أن ذلك ال‬
‫يهم حقًا!‬

‫لقد تعلمنا أننا قادرون عىل مًّمرسة الفيزياء يف عامل من النظريات‬


‫الفعالة التي تعزل الظواهر التي نفهمها عن تلك التي مل نكتشفها بعد‪ ،‬ويجب‬
‫علينا الرتكيز عىل ذلك يف الوقت الحارض‪ .‬وحتى لو تبني أن نظرية األوتار هي‬
‫ضئيال ج ًدا‪ .‬وحتى لو فرست‬
‫ً‬ ‫نظرية تشمل كل يشء سيظل ما تغطيه يف الواقع‬
‫الطاقة املظلمة‪ ،‬ولن تفعل‪ ،‬فلن تكون ذات فائدة كبرية يف محاولة فهم كيفية‬
‫هضم األبقار للطعام أو حتى السبب يف حجمها الكبري‪.‬‬

‫ال تتطلب الحقيقة العلمية توقع أساسية النظريات التي نعمل بها حقًا‪.‬‬
‫ومن هذا املنطلق نجد أن الفيزياء ال تزال فعل ًيا تسرتشد بوضوح باملبادئ ذاتها‬
‫التي قدمها غاليليو قبل ‪ 400‬عام‪ ،‬وباملبادئ التي قدمتها يف البداية ويف جميع‬
‫أنحاء هذا الكتاب‪ .‬تتضمن جميع نظرياتنا الرائعة عن الطبيعة تقديرات تقريبية‬

‫‪198‬‬
‫نستخدمها دون غضاضة‪ ،‬ونستدل بها متجاهلني ما ال عالقة له باملوضوع‪ .‬وهو‬
‫ما يتم توجيهه عمو ًما من خالل النظر يف الطبيعة البعدية للكميات الفيزيائية‪،‬‬
‫والتي تحدد نطاق املشكالت التي نهتم بها وغريها مًّم ميكننا تجاهله بأمان‪.‬‬
‫إننا نحاول طوال الوقت تطبيق ما قد نجح بالفعل عىل املواقف الجديدة بأسلوب‬
‫إبداعي‪ .‬واكتشفنا من خالل القيام بذلك عامل ًا مخف ًيا رائ ًعا يوجد خارج نطاق‬
‫حواسنا البرشية املحدودة‪ ،‬وهو عامل أبسط وأكرث تناسقًا بكثري‪ .‬ويف كل مكان‬
‫ننظر إليه حتى اآلن نظل نرى األبقار الكروية تحيط بنا‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫مالحظات‬

1 Galileo Galilei, Dialogues Concerning Two New Sciences, trans.


Henry Crew and Alfonso de Salvio (New York: Dover, 1954; original ed.,
1914), pp. 67, 64.

2 James Clerk Maxwell, The Scientific Papers of James Clerk


Maxwell, ed. W.D. Niven (New York: Dover, 1965).

3 Discoveries and Opinions of Galileo, trans. Stillman Drake (New


York: Anchor Books, 1990).

4 Richard Feynman, The Character of Physical Law (Cambridge,


Mass.: MIT Press, 1965).

5 Robertson Davies, Fifth Business (Toronto: Macmillan, 1970).

6 Richard P. Feynman, Robert B. Layton, and Matthew Sands, The


Feynman Lectures on Physics, vol. 2 (Reading, Mass.: Addison-Wesley,
1965).

7 Galilei, Dialogues Concerning Two New Sciences, p. 153.

8 Ibid., p. 166.

9 Feynman, The Character of Physical Law.

10 Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus (London:


Routledge and Kegan Paul, 1958).

200
A translation of “Fear of Physics: A Guide for the Perplexed”© [1993] Lawrence M.
Krauss.

You might also like