You are on page 1of 100

‫مصادر المعرفة‬

‫• تعريفات‬
‫المعرفة‪ :‬مصطلح يدل على إدراك صور األشياء أو صفاتها أو‬
‫إدراك المعاني المجردة (مثل الصدق والحرية) سواء كان لها‬
‫وجود موضوعي أو في الذهن فقط‪.‬‬
‫• العلم‪ :‬حسب تعريف‪ 7‬أهل المنطق هو إدراك الشيء أو المعنى‬
‫على ما هو عليه في الواقع‪ ،‬أي أنه المعرفة الصحيحة التي‬
‫تتطابق فيه الصور‪7‬ة الذهنية للشيء مع واقع هذا الشيء‬
‫• الخبرة ‪ :Experience‬هي تراكم المعارف التي يكتسبها اإلنسان في‬
‫حياته عبر نشاطه الذاتي وتفاعله مع عناصر البيئة المحيطة به‪ ،‬فهي‬
‫مجموع المعارف العملية لكل فرد على حدة‪ ،‬وتعد لدى المدرسة‬
‫البراغماتية المصدر األساسي للمعرفة اإلنسانية‪.‬‬
‫• اليقين‪ :‬هو الجزم بأن معرفة الشخص ألمر ما هي مطابقة للواقع قطعا‬
‫(أي علم) مع وجود الدليل القاطع على ذلك‪ .‬واليقين يورث الطمأنينة في‬
‫القلب ألنه ال يحتمل وجود النقيض‪.‬‬
‫• االعتقاد‪ :‬هو الجزم بأن المعرفة مطابقة للواقع قطعا ولكن دون تقديم دليل‬
‫قاطع‪ ،‬وهذا هو “اإليمان”‪ .‬وفي حال كون االعتقاد خاطئا أصال فهو‬
‫“اعتقاد فاسد”‪ ،‬ولكنه قد يكون صحيحا بالرغم من عدم تقديم الدليل‪.‬‬
‫• الظن الراجح‪ :‬هو الذي يكون أقل وثوقية من اليقين‪ ،‬فتتراوح‬
‫نسبة الوثوق فيه ما بين ‪ %99‬و‪.%51‬‬
‫• الشك‪ :‬هو الذي تتساوى فيها االحتماالت تساويا ً تاماً‪ ،‬فال يكون‬
‫لبعضها ر‪7‬جحان على بعض‪ ،‬وتكون نسبة الوثوق فيه ‪.%50‬‬
‫• الظن المر‪7‬جوح‪ :‬هو الظن الوهمي‪ ،‬ويسمى “وهما ً”‪ ،‬وهو ما‬
‫كانت نسبة الوثوق فيه أقل من ‪ ،%50‬وإذا وصلت النسبة إلى‬
‫الصفر فهو باطل بيقين‪.‬‬
‫• هل المعرفة ممكنة؟‬
‫قبل بحثنا عن المعرفة وأدواتها‪ ،‬يجدر بنا التعرف على آراء الفالسفة في‬
‫إمكانية الوصول إلى المعرفة أوال‪ ،‬حيث اختلفت العقول كعادتها في‬
‫اإلجابة عن هذا السؤال إلى درجة تقديم أطروحات في غاية الغرابة‪.‬‬
‫• ربما كان السفسطائيون في اليونان هم أول من شكك في إمكانية تحصيل‬
‫المعرفة‪ ،‬وكانوا على ثالثة آراء‪ ،‬هي‪:‬‬
‫• ‪  -1‬الالأدرية‪ :‬هم الذين يش ّكون في إمكانية معرفة وجود األشياء‬
‫وخواصها‪ ،‬فهم يعتبرون أن التوصل إلى اليقين أمر مستحيل ويقدحون‬
‫في كون الحواس والعقل مصادر موثوقة للمعرفة‪ ،‬وهكذا يمتنعون عن‬
‫الجزم بأي شيء‪.‬‬
‫• ‪ -2‬ال ِعنادية‪ :‬هم الذين يقولون إن أي قضية بديهية أو نظرية ال‬
‫بد أن يكون هناك ما يعارضها‪ ،‬فيجزمون بأنه ال توجد حقائق‬
‫في الكون‪.‬‬
‫• ‪ -3‬ال ِعندية‪ :‬هم الذين أنكروا حقائق األشياء‪ ،‬وزعموا أنه ال‬
‫توجد حقيقة موضوعية‪ ،‬فما يراه أي شخص موجوداً فهو عنده‬
‫موجود‪ ،‬وال يصبح موجودا عند غيره حتى يراه‪ 7‬كذلك‪،‬‬
‫فالوجود والعدم والحق والباطل والمعايير كلها نسبية تتعلق بكل‬
‫شخص على حدة‪ ،‬وهو ما يلخصه بروتاغوراس بقوله‬
‫“اإلنسان هو معيار كل شيء”‪.‬‬
‫ومع أن النزعة الشكية انتشرت في اليونان وكادت أن تخرب •‬
‫العقول إال أن الفيلسوف سقراط تمكن من الرد عليهم وتسخيف‬
‫منهجهم‪ ،‬ثم تصدى لهم من بعده أفالطون وأرسطو‪ ،‬فأنقذوا‬
‫بالدهم من السقوط في العدمية‪ ،‬إذ يمكننا أن نتخيل مصير‪ 7‬أي‬
‫مجتمع ينتشر فيه هذا النوع من الشك الذي ينفي اليقين ويجعل‬
‫المعرفة أمرا مستحيال‪ ،‬بل ويترك معيار الحكم على األخالق‬
‫‪.‬والمعارف‪ 7‬إلى الفرد ذاته بنسبية مطلقة‬
‫• السفسطائية “‪”sophism‬‬
‫هي حركة فكرية انتشرت في اليونان‪ ،‬وتحديدا في مدينة أثينا‪ ،‬خالل النصف‬
‫األخير من القرن الخامس قبل الميالد‪ ،‬واشتهرت بنقل اهتمامات الفالسفة من‬
‫التأمل في القوانين الطبيعية والكونية إلى شؤون اإلنس‪7‬ان األخالقية والسياسية‪،‬‬
‫حيث كان اإلنسان موضع اهتمام األدباء وليس الفالسفة‪ ،‬وتزامن ذلك مع قيام‬
‫حروب دامية بين اليونان والفرس وبين أثينا وإسبرطة‪ ،‬وتزعزع الحكم‬
‫الديمقراطي األثيني‪ ،‬وتسلط األرستقراطيين على الحكم مما‪ 7‬جعل األخالق‬
‫والسياسة وحقوق الناس هي القضايا‪ 7‬المصيرية التي تستحق اهتمام الفالسفة‪.‬‬
‫• هنا ظهر فالسفة الجماعة السفسطائية‪ ،‬وعلى رأسها “بروتاغوراس”‬
‫سخروا من االهتمام بالقضايا الميتافيزيقية (الدينية‬
‫و”جورجياس”‪ ،‬الذين ِ‬
‫واألسطورية) وركزوا اهتمامهم على السياسة والفصاحة والنجاح الدنيوي‪،‬‬
‫وأصبح معيار الحق والعدل لديهم مرتبط بمدى قدرة اإلنسان على المناظرة‬
‫والجدل والمواهب الخطابية في إقناع الجماهير‪.‬‬
‫• في القرن السادس عشر‪ ،‬أعاد الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي م‪7‬ونتين‬
‫إحياء مذهب الشك‪ ،‬وكان له أثر كبير في إدخال الشك في فكر‬
‫الحداثة‪ ،‬حيث تأثر به بعض المفكرين الذين انتهى به‪7‬م الحال إلى‬
‫العدمية‪ ،‬ثم ط ّور الفيلسوف األسكتلندي ديفيد هيوم (توفي عام‬
‫‪1777‬م) فكرة الشك وقال إن المعرفة ليست مؤكدة بل مبنية على‬
‫تصور اإلنسان وإدراكه لألشياء‪.‬‬
‫• استبعد هيوم مفهوم المعرفة الفطرية والمبادئ العقلية (البديهيات)‬
‫وزعم أنه‪7‬ا مكتسبة من العادة والتجربة وليست فطرية‪ ،‬كما أنكر‬
‫الرابطة الضرورية بين السبب والمسبب (السببية) وحولها إلى رابطة‬
‫ظاهرية ناتجة عن األلفة والعادة‪ ،‬فيقول مثال إننا نعتقد بأن قطعة‬
‫الفحم تشتعل عندما تُلقى في النار ألننا اعتدنا على رؤية ذلك كلما‬
‫جربناه‪ ،‬ولكن ما الذي يضمن لنا أن التجربة ستنجح في المرة التالية؟‬
‫ومن الواضح أن نفي السببية يعني السقوط في نسبية مطلقة •‬
‫واستحالة الوصول إلى معرفة حقيقية أو يقينية‪ ،‬ما دفع بعدد‬
‫من كبار الفالسفة للرد على هيوم‪ ،‬وعلى رأسهم األلماني‬
‫إيمانويل كانط (توفي عام ‪1804‬م) الذي يُعتبر اليوم بمثابة‬
‫‪.‬المنقذ للعقل الغربي من السقوط في الشك العدمي‬
‫• وفي مناقشة طويلة ومعقدة‪ ،‬أقام كانط حجته على أن شكية هيوم‬
‫لن تؤدي إلى الشك في قيام عالم موضوعي بل إلى زعزعة‬
‫اعتقادنا بضرورة السببية فقط‪ ،‬فينبغي أن ننطلق من مسلّمة بوجود‬
‫تعاقب موضوعي بين الحوادث مستقال عن إدراكاتنا الحسية‪ ،‬ثم‬
‫نسأل‪ :‬كيف نميز بين التعاقب في أفكارنا والتعاقب في الحوادث‬
‫الموضوعية؟‬
‫• الرد على الشك الفلسفي‬
‫وللرد على الشكاك والريبيين‪ ،‬نقتبس بإيجاز من كتاب الدكتور‬
‫راجح الكردي “نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة” النقاط التالية‪:‬‬
‫• ‪ -1‬ركز الشكاك طعنهم في الحواس كمصدر وحيد للمعرفة وأنها أساس‬
‫البديهيات‪ ،‬وقد رد عليهم أفالطون بأن أخطاء الحواس ال يصح اإلستناد‬
‫إليها في إنكار العلم ألنه يمكن تصحيحها‪ ،‬سواء باستخدام حاسة أخرى أو‬
‫بالتجربة مع العقل والبرهان‪ .‬كما أنه من الممكن جدا تصحيح أخطاء‬
‫الحواس والتمييز بين حواس كل شخص على حدة بمنهج عقلي سليم‬
‫تمحص فيه الحقيقة‪ ،‬فما تقدمه الحواس المختلفة من نتائج قد تكون مختلفة‬
‫ولكنها ليست متناقضة‪ ،‬بينما يزعم الشكاك أنها متناقضة‪.‬‬
‫• ‪ -2‬اختالف اآلراء جائز ولكن اتفاق الناس على أمور أساسية من‬
‫البديهيات والمسلمات المعقولة والمبادىء ليس مستحيال‪ ،‬مثل االتفاق‬
‫على الفضائل األخالقية والحقائق الرياضية‪.‬‬
‫• ‪ -3‬هناك قضايا تتضح صحتها في العقل بمجرد تصورها بدون برهان‪،‬‬
‫وهي قضايا بديهية أولية ومطلقة‪ ،‬فمن ذا الذي ال يصدق أن الكل أكبر من‬
‫الجزء؟ ومن الذي يطلب دليال عليه؟‬
‫• أما الشك المط‪7‬لق‪ 7‬الذي ينفي إمكانية التعرف على الحقيقة نهائيا‪ ،‬فير ّد‬
‫عليه الدكتور الكردي بما يلي‪:‬‬
‫• ‪ -1‬إذا أراد الشاك إثبات مذهبه والبرهنة على صحة قوله فهذا يتط‪7‬لب‪7‬‬
‫منه االعتراف بأنه يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا‪ ،‬وهذا يناقض دعواه‬
‫بامتناع اليقين‪.‬‬
‫• ‪ -2‬الشاك إما أن يعلم وجوب‪ 7‬الشك في كل شيء و‪7‬هذا يعني أنه يعلم‬
‫علما يقينيا بأنه ينبغي أن يشك في كل شيء‪ ،‬ويعلم من ثم علما يقينيا‬
‫بأنه ال ينبغي الشك في كل شيء‪ ،‬وإما أن يعلم علما يقينيا ً أن مذهبه‬
‫راجح فقط‪ ،‬فلديه مرجح يأخذ به‪ .‬وإما أن يعترف بأنه ال يعلم علما يقينيا‬
‫وال راجحا وحينئذ فهو ال يضع الشك كمذهب‪ 7‬ويقر بالعجز‪.‬‬
‫• ‪ -3‬الشك نفسه يتضمن ثالث بديهيات يأبى العقل الشك فيها‪ ،‬وهي‪ :‬وجود‬
‫الذات المفكرة (ذات الشخص الشاك‪ 7‬نفسه فهو يعلم يقينا أنه موجود ويفكر)‪،‬‬
‫وعدم جواز التناقض (ألنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقين و‪7‬ما‬
‫اإلنسان… إلخ‪ ،‬فهو يقر أن اليقين غير الشك وأنه من غير المستطاع أن‬
‫يجمع بين اإلثبات والنفي معا)‪ ،‬وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة (فهو يعول على‬
‫عقله في طرح مذهبه)‪.‬‬
‫• يقول الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين إن الشك يستلزم مرجعاً‪ ،‬ما‬
‫يعني أن الشك المطلق لغو‪ ،‬فهو< استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها‬
‫الشخص< العادي عند المقارنة مع اليقين‪ .‬وعندما كان يتحدث هيوم عن‬
‫الشك مستخفا ً بوجود العالم المادي وبالمعرفة اإلنسانية فهو لم ينتبه إلى‬
‫أنه قد تعلّم الشك نفسه من لغة اإلنسان العادي‪ ،‬وكان عليه أن يستخ<دم لغة‬
‫أخرى خاصة ال يفهمها إال هو بناء على مفهومه المطلق للشك‪.‬‬
‫• الشك المنهجي‬
‫إذا كان الشك الفلسفي ‪-‬الذي تحدثنا عنه أعاله‪ -‬مذهبا مستقال‬
‫يقوم على إنكار المعرفة فإن الشك المنهجي يجعل من الشك‬
‫مجر‪7‬د وسيلة للوصول إلى اليقين‪ ،‬ويتطلب ذلك من الباحث أن‬
‫يجر‪7‬د عقله عن كل المعلومات واألفكار والمعارف‪ ،‬وينطلق‬
‫تدريجيا بالتأمل والتفكير‪ 7‬نحو اكتساب الحقائق المجردة‪.‬‬
‫• أوصى أرسطو (توفي عام ‪322‬ق‪.‬م) في وقت مبكر بضرور‪7‬ة‬
‫الشك المنهجي‪ ،‬وقال إن هناك عالقة ضرور‪7‬ية بين الشك‬
‫والمعرفة الصحيحة‪ ،‬ألن المعرفة التي تعقب الشك أقرب إلى‬
‫الصواب‪.‬‬
‫كان أبو حامد الغزالي (حجة اإلسالم المتوفى عام ‪1111‬م) أيضا من •‬
‫رواد هذا الشك‪ ،‬ففي كتاب “المنقذ من الض‪7‬الل” تحدث عن تجربته‬
‫مع الشك عندما بدأ بالشك في الحواس لعدم قدرتها على كشف‪ 7‬الكثير‬
‫من مظاهر الزيغ‪ ،‬ثم أخذ يشك في العقل نفسه إزاء نتيجة خوضه في‬
‫المناظرات الفكرية العميقة مع شتى التيارات الفكرية السائدة‪ ،‬حتى‬
‫وصل به األمر إلى المرض النفسي والجسدي (االكتئاب)‪ ،‬حيث كان‬
‫يعاني من صعوبة في الكالم وفقدان الشهية للطعام‪ ،‬واستمر على هذا‬
‫الحال ستة أشھر‪ ،‬ولم ينته إال بعد أن قذف هللا في صدره نور الحقيقة‪،‬‬
‫فاستعاد عقله الثقة بالبديهيات والحقائق األولى‪ ،‬ورجع إليه إيمانه‬
‫بالمحسوسات والمعقوالت‪ .‬وقد دفعته هذه التجربة إلى الميل نحو‬
‫الكشف الص‪7‬وفي بعد أن كان من المؤيدين للمنهج العقالني‪ ،‬لكن‬
‫‪.‬األرجح أن تخلى عن المنهج الصوفي في المرحلة األخيرة من حياته‬
‫• في القرن السابع عشر سار الفيلسوف الفر‪7‬نسي رينيه ديكارت‬
‫على خطا الغزالي‪ ،‬وقال إنه ينبغي علينا أن نطرح كل ما في‬
‫داخل عقلنا من معارف‪ ،‬ونشك في جميع طر‪7‬ق العلم وأساليبه‪،‬‬
‫حتى نصل إلى العقل مجردا خالصا‪ .‬وقد مارس بنفسه هذا‬
‫النهج في التأمل وطرح االعتقاد بوجود كل شيء‪ ،‬حتى وصل‬
‫إلى حقيقة واحدة يجب اإليمان بها وهي أنه يفكر‪ ،‬واستنتج‬
‫منها المقولة األولى للمعرفة “أنا أفكر‪ ،7‬إذن أنا موجود”‪ ،‬ثم‬
‫استنتج من تلك الحقيقة حقيقة وجود هللا وبقية الحقائق األخرى‪.‬‬
‫• طبيعة المعرفة‬
‫بعد االنتهاء من نقض الشك الفلسفي المطلق‪ ،‬واالعتقاد‬
‫بإمكانية المعرفة واليقين‪ ،‬تفرعت مذاهب الفالسفة في طبيعة‬
‫معر‪7‬فة اإلنسان لألشياء وكيفية إدراكه لها إلى تيارين رئيسين‪،‬‬
‫ثم حاول البعض إنشاء تيار توفيقي ثالث‪ ،‬ونوجزها بما يلي‪:‬‬
‫• ‪ -1‬الواقعية‪ :‬هو تيار يشمل مذاهب عديدة‪ ،‬وتعتقد جميعها بوجود عالم‬
‫خارجي للموضوعات (األشياء) مستقل عن الذات العارفة (اإلنسان)‪،‬‬
‫فمعرفة العقل لألشياء مطابقة لالشياء كما هي في الواقع‪ ،‬وهذا يعني‬
‫أن المعرفة هي الصورة المنعكسة للعالم الخارجي في العقل‪.‬‬
‫• ومن مذاهب هذا التيار االعتقاد بصحة إدراك الحواس بشكل تام‪ ،‬وهو‬
‫ما ثبت خطؤه بالتجربة‪ ،‬فالحواس قد تكون خادعة أحيانا مثل خدعة‬
‫السراب‪.‬‬
‫• ومن مذاهبه أيضا الواقعية النقدية التي تخفف من غلو االعتقاد بصحة‬
‫مدركات الحواس وترى أن المعرفة ليست مطابقة لهذه المدركات بل‬
‫هي صورة معدلة في العقل‪ ،‬وهذا هو مذهب “الوضعية” الذي يرفع‬
‫من قيمة العلم التجريبي ويجعل الفكر مجرد انعكاس للوجود المادي‪.‬‬
‫• ‪ -2‬المثالية‪ :‬أصحاب هذا التيار ال يرون وجودا إال للفكر‬
‫وتصوراته‪ ،‬فالمادة واألشياء كلها تابعة لما يفكر به العقل‪ ،‬وال‬
‫وجود للشيء إذا لم يدركه العقل‪ ،‬حتى أصبح العالم‬
‫الموضوعي لدى بعضهم مجرد أفكار وخواطر‪ ،7‬وهو تطر‪7‬ف‬
‫غير منطقي وتنكره التجربة‪ ،‬فهناك أشياء موجودة في الكون‬
‫وال يدركها أي عقل‪ ،‬وهناك أشياء كانت موجودة منذ ماليين‬
‫السنين ولم تُدرك إال في وقت متأخر‪ ،‬ما دفعهم إلى القول إن‬
‫تلك األشياء كانت موجودة في “عقل إلهي” ثم استقبلها العقل‬
‫البشري منه‪.‬‬
‫• إيمانويل كانط‬
‫• ‪ -3‬التيار‪ 7‬النقدي‪ :‬وضع الفيلسوف األلماني إيمانويل كانط‬
‫مذهبا نقديا للتوفيق بين الواقعية والمثالية‪ ،‬فميز بين الظواهر‬
‫العقلية السابقة على التجربة وبين الظواهر التي تكتسب‬
‫بالحواس‪ ،‬وقال إن المعرفة ال تكتسب إال بالحس والعقل معا‪،‬‬
‫فنحن ال نعرف‪ 7‬األشياء كما هي بل كما تظهر لنا فقط‪،‬‬
‫ومعرفتها تتم عبر‪ 7‬نقلها بالحواس إلى الذهن ثم مطابقتها‬
‫للمقوالت والمبادئ العقلية‪.‬‬
‫• منذ بداية القرن التاسع عشر‪ ،‬أصبح مذهب كانط بمثابة المرجع‬
‫األساسي للفكر الغربي‪ ،‬حيث أعاد للعقل بعض التوازن باتخاذه‬
‫موقفا وسطيا واالعتقاد بوجود مبادئ فطرية وضرورية في العقل‪،‬‬
‫لكن مذهبه لم يتمكن من إلغاء النظرة الوضعية ألنه جعل استخدام‬
‫المبادئ الفطرية في غير المحسوس أمراً مستحيالً‪ ،‬مما جعل إدراك‬
‫العقل للحقائق الجزئية بمثابة حقيقة كلية‪ ،‬فقد ميّز كانط بين ما أسماه‬
‫بالعقل النظري والعقل العملي‪ ،‬وأنكر قدرة العقل النظري (الخالص)‬
‫على الوصول إلى “معرفة راسخة للحق العلوي”‪ ،‬فالعقل حسب‬
‫رأيه ال ينتج معرفة ما لم يتصل باألشياء المادية والتجارب الحسية‬
‫التي تم ُّد ه بالمادة والمضمون عبر قوة الفهم‪ ،‬ومع ذلك فقد رأى كانط‬
‫أنه ال بد من االعتقاد بوجود إله ويوم آخر لتأسيس فعل أخالقي‪.‬‬
‫• وهذا يعني أن كانط لم يكن متوازنا ووسطيا بالفعل‪ ،‬بل أعطى‬
‫المادة قيمة أكبر ولم يعترف بقيمة المبادئ الفطرية العقلية إال‬
‫بشكل تابع للمادة‪ ،‬حتى لم يجد مبرر‪7‬ا لوجود اإلله إال من حيث‬
‫الضرورة لتبرير األخالق‪ ،‬وهكذا أصبح الدين في العقل‬
‫الغر‪7‬بي مسألة نفسية ذاتية خارجة عن مفهوم الحقائق‪،‬‬
‫وأصبحت الوقائع تابعة لمصلحة اإلنسان بدالً من اعتماد العقل‬
‫للبحث عن حقائق األشياء [انظر مقال‪ ‬البراغماتية]‪.‬‬
‫• والمفارقة أن العقل الغر‪7‬بي الوضعي‪ ،‬الذي يعتقد أن المعرفة‬
‫الدينية تحتاج إلى إيمان غيبي غير عقالني‪ ،‬ال ينتبه إلى أن‬
‫معر‪7‬فته الوضعية المادية ليست أقل غيبية‪ ،‬فهو يجزم بمر‪7‬جعية‬
‫المادة وحدها دون بر‪7‬هان مع أنها مجر‪7‬د خيار واحد من بين‬
‫خيار‪7‬ات أخرى ممكنة‪.‬‬
‫• ويجدر بالذكر أن المذاهب الحداثية كلها فقدت الكثير من‬
‫بريقها في القر‪7‬ن العشر‪7‬ين مع ظهور‪ 7‬تيار‪7‬ات ما بعد الحداثة‬
‫وفيزياء الكم‪ ،‬بما فيها المذهب النقدي لكانط‪ ،‬حيث أدرك‬
‫الكثيرون أن األسس التي صاغت المعرفة الغربية نشأت داخل‬
‫حركة تاريخية متأثرة بتسلط الكنيسة السياسي ومحاربتها‬
‫للعلم‪ ،‬وهناك اعتقاد شائع اليوم بين فالسفة العلم والعلماء‬
‫التجريبيين أن المعرفة الكلية مستحيلة‪ ،‬وأن المعرفة العلمية‬
‫المادية ليست يقينية‪.‬‬
‫• مصادر المعرفة‬
‫بعد استعادة اإلنسان ثقته بإمكانية التوصل إلى المعر‪7‬فة‪ ،‬سيجد‬
‫نفسه أمام عدة تيارات فكرية يؤمن كل منها بأولوية أحد‬
‫المصادر أو الوسائل المؤدية للمعر‪7‬فة‪ ،‬فهناك من يرى أن‬
‫المعرفة ال تتحقق إال بوسيلة واحدة‪ ،‬وهناك من يؤمن بمصادر‬
‫أخرى غير أنه يثق بواحدة منها للتوصل إلى اليقين‪.‬‬
‫• وسنتحدث فيما يلي عن خمسة مصادر رئيسة للمعرفة‪ ،‬وهي‬
‫اإللهام والحدس والكشف‪ ،‬العقل‪ ،‬الحس‪ ،‬اإلجماع‪ ،‬والوحي‪.‬‬
‫ويجدر بالذكر أن مدارس الفلسفة الحداثية وما بعد الحداثية‬
‫والعلماء التجر‪7‬يبيون ال يعترفون بالوحي والكشف‪ ،‬دون أن‬
‫يمنع ذلك عشرات الماليين في الغرب من التمسك بإيمانهم‬
‫بالوحي المسيحي‪-‬اليهودي وبالكشف على الطريقة الباطنية‬
‫الغنوصية‪ .‬وسنستعرض فيما موجزا لهذه المصادر الخمسة‪.‬‬
‫• المصدر األول‪ :‬اإللهام والحدس‬
‫اإللهام هو ما يلقيه اإلله في الروع‪ ،‬وبحسب المتصوفة فهو‬
‫اإليقاع في القلب من العلم غير‪ 7‬القائم على االستدالل‪ ،‬أما أتباع‬
‫المذاهب الباطنية الغنوصية الذين يؤمنون بوجود ما يسمى‬
‫بالعقل الفعال‪ ،‬مثل ابن سينا‪ ،‬فيقولون إن اإللهام هو ما يلقيه‬
‫العقل الفعال في نفس اإلنسان المؤيدة بشدة الصفاء‪.‬‬
‫• وحدوث اإللهام يسمى باإلشراق والكشف والذوق لدى‬
‫المتصوفة‪ ،‬أما الجزء البشري الذي يحدث فيه هذا اإلشراق‬
‫فيسمونه بالبصير‪7‬ة‪ ،‬وهو يرى حقائق األشياء وبواطنها كما‬
‫يرى البصر‪ 7‬ظواهر األشياء المادية‪.‬‬
‫• أما الحدس فهو االنتقال السريع للذهن من المبادئ إلى‬
‫المطالب‪ ،‬ويعرّفه ديكار‪7‬ت بأنه عمل عقلي يدرك به الذهن‬
‫حقيقة ما بشكل تام وبزمن واحد‪ ،‬أي بدون تدرج في‬
‫االستدالل‪ ،‬فهذا النوع من المعر‪7‬فة يحصل تلقائيا في الذهن‬
‫بمجرد تصور‪ 7‬أمر ما ودون استدالل منطقي‪ ،‬ويضرب أهل‬
‫المنطق على ذلك مثاال بقولهم إن مجرد رؤية أحدنا لشعاع‬
‫ضوء يتسلل من ثقب في جدار يدفع الذهن لالعتقاد مباشرة بأن‬
‫هناك مصدر‪7‬ا للضوء وراءه دون تفكير وال تأمل‪.‬‬
‫• هنر‪7‬ي برغسون‬
‫• أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (توفي عام ‪1941‬م)‬
‫فقد وضع مذهبا فلسفيا جديدا في القرن العشرين على مفهوم‬
‫الحدس‪ ،‬معتبر‪7‬ا أن الحدس عند اإلنسان يشبه الغريز‪7‬ة عند‬
‫الحيوان‪ ،‬وهو أمر ال يمكن التعبير عنه بالكلمات بل يجب‬
‫تذوقه ومعايشته واختباره من قبل كل شخص على حدة حتى‬
‫يكتسب به المعرفة‪ .‬وبما أنه فيلسوف‪ 7‬غربي من أصل يهودي‬
‫فلم يكن مياال إلى اإليمان باإلله المجرَّد بالرغم من أفكاره التي‬
‫تبدو صوفية للوهلة األولى‪ ،‬بل جعل الحدس معرفة منبثقة من‬
‫داخل اإلنسان وليست مصدرا للمعرفة التي تهبط عليه من‬
‫اإلله‪.‬‬
‫• كان هنري برغسون يرى أن الحياة انطلقت من خزان كبير‬
‫وانتشرت بين الكواكب‪ ،‬ثم اتخذت أشكاال متنوعة على شكل‬
‫مادي‪ ،‬ومن الواضح أن هذه الفكرة الميتافيزيقية (الغيبية)‬
‫لتفسير نشوء الكون والحياة ال يؤيدها أي دليل‪.‬‬
‫• يضع برغسون المادة والحياة في موقعين متقابلين‪ ،‬فالحياة انطالق وحرية‪،‬‬
‫والمادة سكون وخضوع للقوانين الفيزيائية‪ ،‬وكلما اكتسب الشيء قدرا أكبر من‬
‫الحياة كان أسمى‪ ،‬وهو ما يفسر‪ 7‬سمو اإلنسان على بقية الموجودات‪ ،‬وهو‬
‫يختلف عن التطوريين (أتباع نظرية داروين) في أن لكل كائن حي قدره‬
‫الخاص من الحياة والمادة منذ البداية‪ ،‬وإذا كان الحيوان يمتلك غريزة للتوصل‬
‫إلى معرفته الخاصة فإن اإلنسان يمتلك عقال بالمقابل‪ ،‬كما يمتلك أيضا وجدانا‬
‫أو بصيرة يتوصل بها إلى الحدس الذي‪ 7‬هو أسمى أنواع المعرفة‪.‬‬
‫• يضع برغسون أيضا الزمان والمكان في موقعين متقابلين‪ ،‬فالزمان متغير‬
‫وحر‪ ،‬والمكان جامد ومقيد‪ .‬والزمان هو الواقع الحقيقي وهو الحياة‪ ،‬وبما أن‬
‫الكائنات الحية تعيش‪ 7‬في حالة صيرورة دائمة باالنتقال من حال إلى آخر فإن‬
‫عالقتها بالزمان هي “الديمومة”‪.‬‬
‫• والتغير المستمر لألحياء هو حالة من التطور الخالق‪ ،‬وهذه‬
‫الحياة المبدعة هي اإلله نفسه برأيه‪ ،‬فهي التي توجد األشياء‬
‫وتتابع تتطورها‪ ،‬وهي نفسها في حالة تطور‪ .‬أما المعر‪7‬فة‬
‫الحقيقية لهذا الواقع الحي المتطور فهي الحدس‪ ،‬ألن العقل ال‬
‫يستطيع أن يدرك الحياة بخصوصيتها‪ ،‬وعلى كل حي أن‬
‫يندمج مع الحياة الباطنة ليتوصل إلى هذه المعرفة اليقينية‬
‫المطلقة‪.‬‬
‫• ويرى بعض المفكرين أن برغسون لم يأت بجديد‪ ،‬وأنه أعاد صياغة الباطنية‬
‫اليهودية (القبااله) في صورة جديدة تناسب العصر‪ ،‬وأنه تأثر أيضا بكل من‬
‫أفالطون وديكارت ومالبرانش‪ 7‬وباسكال [مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة‬
‫في فرنسا‪ ،‬ج‪ .‬بنروبي‪ ،‬تر‪7‬جمة عبد الرحمن بدوي‪ ،‬ص ‪.]176‬‬
‫• ويبدو أن طغيان االتجاه المادي في القرن التاسع عشر‪ 7‬على الفكر الغربي كان‬
‫له أكبر األثر في جنوح برغسون نحو الحدس‪ ،‬ليضع فلسفة معاصرة تعيد‬
‫االعتبار‪ 7‬للروح‪ ،‬إال أنه تطر‪7‬ف أيضا في اتجاهه الروحي كتطرف الوضعيين‬
‫في المادية‪ ،‬فألغى الواقع العملي وقلل من شأن المعرفة العقلية المجردة‪ ،‬كما أن‬
‫فلسفته ال تعدو قدر الفلسفات الغربية األخرى في تناولها للقضايا الميتافيزيقية‬
‫(الغيبية)‪ ،‬فالحدس ليس سوى‪ 7‬جزء من اإلنسان ومحدود بدائرتي المكان‬
‫والز‪7‬مان كمحدودية اإلنسان نفسه‪ ،‬ولن يستطيع تجاوزهما حتى في خياله‪.‬‬
‫• من جهة أخرى‪ ،‬ير‪7‬ى الباطنيون أن الحدس هو قبول اإللهام‬
‫الذي يلقيه العقل الفعال في النفس‪ ،‬ويرى المتصوفة أن الحدس‬
‫(الكشف )ال يتم إال بعد رياضة روحية ومجاهدة نفس بطرق‬
‫مدر‪7‬وسة وممنهجة‪ ،‬وهو ما اقتبسوه كما يبدو من الديانات‬
‫الباطنية كالهندوسية والبوذية‪ ،‬أما عند الفالسفة العقليين‬
‫فالحدس واإللهام مصطلحان لشيء واحد‪ ،‬وهو حسب رأيهم‬
‫المعرفة المباشر‪7‬ة دون استدالل وتجربة‪.‬‬
‫• ويؤمن الباطنيون والمتصوفة بأن البصيرة ال تعمل عملها‬
‫باكتساف المعرفة (سواء من اإلله أو العقل الفعال أو الحقيقة‬
‫الكونية) إال بعد االعتقاد بأن الجانب المادي من اإلنسان هو‬
‫عائق للروح والبصيرة‪ ،‬كما يعتقدون أن الحواس والعقل ال‬
‫تتوصل إال إلى حد معين من المعرفة ال يمكنها تجاوزه‪ ،‬وأن‬
‫الحقائق ال تُكتسب إال بالحدس واإللهام بعد القضاء على‬
‫المادية‪ .‬وقد يختلف‪ 7‬الباطني مع المتصوف في الطر‪7‬يقة لكن‬
‫الهدف واحد‪.‬‬
‫• هل يكفي الحدس للمعرفة؟‬
‫سنناقش في مقال “الصوفية” مبدأ اإللهام كمصدر رئيس للمعرفة‬
‫في مجال العقائد والشرائع لدى المتصوفة المسلمين‪ ،‬ونكتفي هنا‬
‫بتوضيح ما يراه ابن تيمية من أن اإللهام مصدر معتبر‪ ،‬وأن إنكار‬
‫كونه طريقا من طرق المعرفة هو خطأ يماثل خطأ الذين جعلوا‬
‫طريقا شرعيا على اإلطالق‪ ،‬فيقول إن مذهب السنة الوسطي هو‬
‫أن يكون اإللهام في األحكام الشرعية محصورا بما لم تأت فيه أدلة‬
‫شرعية نقلية أو عقلية‪ ،‬فيكون اإللهام هنا من باب الترجيح والفهم‬
‫المنضبطين بالقواعد المتفق عليها [فتاوى ابن تيمية ‪،]10/473‬‬
‫وهذا الفهم هو ما تؤيده حوادث اإللهام التي وقعت للصحابة‬
‫والتابعين‪ ،‬وتدخل فيه الكرامات التي ال تخالف النص‪.‬‬
‫• أما أهم االنتقادات الموجهة للحدس واإللهام كمصدر للمعرفة فنوجزها‬
‫في النقاط التالية‪:‬‬
‫• ‪ -1‬البصيرة لدى اإلشراقيين ليست سوى إحدى ملَكات اإلنسان‪ ،‬فهي‬
‫محدودة القدرة والمدى وال يمكن بأي حال أن تحصر العلوم بها‪.‬‬
‫• ‪ -2‬حتى في حال عدم اعتماد البصيرة مصدرا وحيدا‪ ،‬واالكتفاء‬
‫بالقول إنها المصدر الرئيس للمعرفة‪ ،‬فليس هناك أي ضمان لسالمة‬
‫البصيرة من الزيغ والضالل‪ ،‬فالمعرفة المستفادة من الكشف تخص‬
‫صاحبها فقط وال يمكنه شرحها وال نقلها لآلخرين فضال عن إثباته‬
‫صحتها لهم‪.‬‬
‫• ‪ -3‬يعترف كبار اإلشراقيين بأن إلهاماتهم جاءت متاثرة بثقافتهم‬
‫العامة‪ ،‬فكان فالسفة اإلشراق في اليونان ومصر يرون في‬
‫مكاشفاتهم ما يؤيد أساطيرهم الوثنية‪ ،‬وهو ما حدث أيضا‬
‫لفالسفة اإلشراق المسلمين (مثل الفارابي وابن سينا) الذين كانوا‬
‫يشاهدون ما يسمى بالعقول العشرة التي اقتبسوها من نظرية‬
‫الفيض اليونانية [انظر مقال‪ ‬الباطنية]‪ ،‬بينما يرى المتصوفة‬
‫المسلمون ما يوافق عقيدتهم أثناء استغراقهم في الذكر‪ ،‬فلو‬
‫كانت البصيرة مجردة عن هوى النفس وتأثيرات الثقافة كان‬
‫ينبغي أال ترى إال الحقيقة المجردة التي يشترك فيها كل البشر‪.‬‬
‫• ‪ -4‬ليس هناك أي ضمان عقلي أو نقلي أو حتى كش‪7‬في يثبت لنا أن ما يستقر‬
‫في نفس اإلنسان من مكاشفات هو من مصدر موثوق‪ ،‬سواء كا‪7‬ن إلهًا أو حقيقة‬
‫كونية أو الزمان الحيوي (لدى برغسون) أو حتى خيال اإلنسان وأوهامه‪ ،‬فما‬
‫الذي يمنع أن تكون الجهة التي تتصل بالعقل الباطن لإلنسان هي شيطان‬
‫خبيث؟‬
‫• وفي اإلسالم نصوص صريحة تحذر من اللبس الذي قد يحدث لدى البعض‬
‫في الخلط بين اإللهام الرباني ووساوس الشياطين وأوهام العقل الباطن‪ ،‬فيقول‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم “الرؤيا ثالثة‪ :‬رؤيا من هللا‪ ،‬ورؤيا تحزين من‬
‫الشيطان‪ ،‬ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة” [صحيح البخاري‪:‬‬
‫‪ ،8/72‬صحيح مسلم ‪ ،]4/1773‬وسيأتي تفصيل هذا النقد في ظل المفهوم‬
‫اإلسالمي ضمن مقال “الصوفية“‪.‬‬
‫• ‪ -5‬بدأت تظهر في العقود األخيرة ادعاءات كثيرة من قبل شخصيات باطنية‬
‫غربية تزعم أنها تتصل بالتخاطر مع كائنات فضائية‪ ،‬وأقيمت بناء على هذه‬
‫المزاعم أديان ومذاهب و‪7‬تيارات فكرية يتبعها الماليين من الناس‪ ،‬ومن أهم‬
‫المنظّرين لهذه الفكرة البريطاني ديفيد آيك‪ 7‬الذي زعم في كتابه “السر األكبر”‬
‫وجود كائنات فضائية من الزواحف العاقلة تعيش تحت قشرة األرض وأنها‬
‫تسيطر على البشر بطرق عدة‪ ،‬وقال إن الكثير من تفاصيل هبوط الكائنات‬
‫إلى األرض قد تلقاه باإلشراق الباطني الذي يتلقاه منها مباشرة‪ ،‬ودون أن‬
‫يقدم أي دليل على صحة وجود هذا اإلشراق الذي لم يختبره أحد سواه‪ ،‬ودون‬
‫أن يثبت لنفسه ‪-‬فضال عن غيره‪ -‬أن تلك اإلشراقات التي يتلقاها صحيحة‬
‫وصادقة فعال وليست من قِبل شياطين يعبثون به‪.‬‬
‫• المصدر الثاني‪ :‬العقل‬
‫يصنف العقل لدى الفالسفة القدماء إلى صنفين‪ :‬األول‬
‫غريز‪7‬ي‪ ،‬وهو الملَكة التي يعلم بها اإلنسان الضروريات‪ ،‬فهو‬
‫غريز‪7‬ة تمتلك علوما أولية أو مبادئ ثابتة‪ .‬أما الثاني فهو‬
‫ُمكتسب‪ ،‬وهو الذي يفهم به اإلنسان ويفكر‪.7‬‬
‫• ويتفق الفالسفة الحداثيون مع هذا التصنيف‪ ،‬فيقول الفيلسوف‬
‫الفرنسي أندريه الالند إن العقل ينقسم إلى عقل منشئ وعقل‬
‫ُمنشأ‪ ،‬فاألول قوة فطرية تجريدية ثابتة‪ ،‬أما الثاني فيتكون على‬
‫يد األول بعد إعداد طويل‪ ،‬وبتراكم الحقائق المكتسبة‬
‫والمقوالت التي كرسها االستعمال والقيم المقبولة من قبل‬
‫المجتمع‪[ .‬المعجم الفلسفي‪.]2/87 :‬‬
‫إسبينوزا‬ ‫•‬
‫• وبحسب اعتبار بعض الفالسفة ألولوية العقل‪ ،‬ظهر المذهب العقلي الذي ُوجد‬
‫داخل الكثير من األديان‪ ،‬ففي المسيحية واليهودية يؤمن العقليون ‪-‬مثل‬
‫سبينوزا وشتراوس‪ -‬بأن العقل مقياس لحقائق الوحي‪ ،‬في مقابل أتباع مذهب‬
‫خوارق الطبيعة الذين يرون أن حقائق الوحي ال يمكن عرضها على العقل‬
‫ألنها ليست في متناوله‪ .‬وفي اإلسالم نجد أيضا أن المعتزلة والفالسفة‬
‫يصرون على بنا‪7‬ء عقيدة قائمة على العقل ورفض ما يرونه مناقضا له مما‬
‫يرد في الوحي من نصوص‪ ،‬بينما يقول أهل الحديث وعلماء الكالم إن النقل‬
‫أولى من العقل عند التعارض‪ ،‬كما يؤكد من تخصص منهم في العقائد أنه ليس‬
‫هناك تعارض أصال‪ ،‬وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه المشهور “درء‬
‫تعارض العقل والنقل”‪.‬‬
‫• أما أتباع المذهب العقلي من العلمانيين فال يلتفتون إلى الوحي‪،‬‬
‫ويجعلون المفاضلة بين العقل والحس والحدس فقط‪ ،‬بحيث‬
‫يكون العقل هو األولى باليقين‪ ،‬أو يكون هو المصدر الوحيد‬
‫للمعرفة‪.‬‬
‫• وعند دراسة أقوال ومناقشات هذه المذاهب‪ ،‬نرى أن مفهوم العقليين للعقل‬
‫ليس خاصا بالعقل الغريزي بل يتعلق بالعقل المكتسب‪ ،‬فهو عقل تشكل في‬
‫ظل التأثيرات الثقافية لكل عصر‪ ،‬حيث نرى أن العقليين داخل األديان‬
‫اليهودية والمسيحية واإلسالمية متأثرين بالمنطق اليوناني وفلسفته العقلية‪،‬‬
‫بينما يتشكل عقل المعاصرين بما أحدثته الثورة العلمية من اكتشافات‪.‬‬
‫• األوليات العقلية‬
‫تنقسم األوليات إلى قسمين‪ ،‬األول هو التصورات‪ :‬وهي اإلدراكات البسيطة‬
‫مثل اللون والحرارة‪ ،‬والمركبة مثل تصور جبل من ذهب‪ .‬والثاني هو‬
‫التصديقات‪ :‬وهي اإلدركات التي تنطوي على حكم‪ ،‬أي تتضمن نسبة بين‬
‫طرفين‪ ،‬مثل قولنا إن النار محرقة‪.‬‬
‫• ويؤ‪7‬من بعض أتباع المذهب‪ 7‬العقلي بأن األصول األو‪7‬لى للمعرفة تعود‬
‫كلها إلى التصو‪7‬رات‪ ،‬بينما يؤ‪7‬من آخرو‪7‬ن من العقليين بأنها تعود‬
‫للتصديقات‪ ،7‬حيث‪ 7‬يرى الفريق اآلخر‪ 7‬أن التصورات قد تكون مجرد‬
‫خواطر‪ 7‬ووساو‪7‬س و‪7‬ليست مبادئ أولية‪.‬‬
‫• و‪7‬يقول الفالسفة إن العقل مفطو‪7‬ر على أربعة مبادئ أولية‪ ،‬تنبثق منها‬
‫المبادئ األخرى‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬مبدأ الهو‪7‬ية‪ :‬الشيء ال يكو‪7‬ن غيره‪ ،‬وبلغة المنط‪7‬ق يقال “ما هو هو‪،7‬‬
‫وما ليس هو‪ 7‬ليس هو”‪.‬‬
‫• ‪ -2‬مبدأ عدم التناقض‪ :‬الشيء الواحد ال يمكن أن يكو‪7‬ن وأال يكون في‬
‫وقت واحد‪.‬‬
‫• ‪ -3‬مبدأ نفي الثالث (الوسط المرفوع)‪ :‬أي شيء هو إما (أ) أو‬
‫ليس (أ) وال يمكن أن يكون ال هذا وال ذاك‪ ،‬فمثال إما أن يكون‬
‫العدد زوجيا أو فرديا وال يمكن أن يكون إال أحدهما‪.‬‬
‫• ‪ -4‬مبدأ العلية ‪:‬ال يمكن أن يحدث شيء دون علة محددة‪ ،‬سواء‬
‫كانت علة واحدة كافية للتفسير أو باالشتراك مع علل أخرى‪.‬‬
‫• تتصف المبادئ األولية بصفتين رئيستين هما‪:‬‬
‫‪ -1‬الفطرية‪ :‬فالعقل البشري يولد وهي مفطور عليها‪ ،‬وقد‬
‫تغيب عنه بفعل التربية أو الغفلة أو لقلة الذكاء‪ ،‬لكن تذكير‬
‫العقل بها يساعد على استحضارها والتيقن بصحتها‪ ،‬وهذا‬
‫يستلزم أيضا أن تكون بدهية فهي بارزة في العقل دون مقدمات‬
‫وبراهين‪ ،‬ويصفها بعض الفالسفة أيضا بأنها قبلية وأولية ألنها‬
‫ال تحتاج إلى تجربة تؤكدها‪.‬‬
‫• ‪ -2‬العمومية‪ :‬حيث يرى العقليون أن تلك المبادئ معروفة لدى كل العقول‪،‬‬
‫فكان ديكارت يقول إن العقل أحسن األشياء توزعا بين الناس بالتساوي‪ ،‬حتى‬
‫جعل معيار الحقيقة هو وضوحها في الذهن‪ ،‬وهو ما قاله أيضا بعض علماء‬
‫الكالم المسلمين من األشاعرة والمعتزلة‪ ،‬لكن آخرين يرون أن الناس يتفاوتون‬
‫في العقول‪ ،‬فيقول الغزالي “أما األصل وهو الغريزة فالتفاوت فيه ال سبيل إلى‬
‫جحده” [إحياء علوم الدين ‪ ،]1/88‬ويرى ابن تيمية أيضا أن المبادئ‪ 7‬الفطرية قد‬
‫تضمر في العقل بسبب تفاوت الناس في قوة الذهن مثل تفاوتهم في قوة البدن‪.‬‬
‫ويمكن القول إن هذا التفاوت ال يعني أن المبادئ نفسها نسبية في داللتها على‬
‫الحقيقة بل من حيث‪ 7‬صلة الناس بها‪ ،‬وذلك نظرا لتفاوت قدراتهم العقلية وغفلة‬
‫بعضهم‪ ،‬فال يمكن لعقل سليم أن ينكر مثال أن النقيضين ال يجتمعان‪.‬‬
‫• هل يكفي العقل وحده؟‬
‫اختلفت آراء العقليين بحسب الثقافة السائدة على مر العصور‪ ،‬فعندما سادت‪7‬‬
‫ثقافة الباطنية في الهند وفارس وبعض المناطق اليونانية كان الكهنة يزعمون‬
‫عدم الحاجة للوحي‪ ،‬على اعتبار أن العقل الذي يتلقى الفيض من اإلله (الحقيقة‬
‫الكونية بحسب‪ 7‬مفهومهم) في غنى عن تلقي المعرفة نفسها بالوحي المباشر على‬
‫يد األنبياء‪ ،‬وتأثر بهذا المفهوم الفالسفة العقليون الذين نشأوا في البيئة نفسها‪،‬‬
‫كما لحق بهم بعض فالسفة اإلسالم مثل الطبيب الرازي المتوفى عام ‪313‬هـ‪.‬‬
‫• ومن األمثلة المشهورة لهذا المنهج في البيئة اإلسالمية‪ ،‬رواية “حي بن يقظان”‬
‫للفيلسوف األندلسي ابن طفيل‪ ،‬التي تحكي قصة طفل ينشأ وحيدا في جزيرة‬
‫نائية‪ ،‬حيث‪ 7‬يبدأ بالتأمل في ذاته وفي الكون والحقائق الوجودية دون تربية وال‬
‫توجيه‪ ،‬فيصل إلى المعرفة بعقله دون حاجة للوحي‪.‬‬
‫• وعندما بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية العقلية وشبيهتها اإلسالمية إلى اللغات األوروبية‬
‫ظهرت أفكار مماثلة لدى األوروبيين‪ ،‬فاعتبر سبينوزا أن العقل أوثق من الوحي ألن‬
‫دالئل صدقه متضمنة فيه بينما يحتاج الوحي إلى المعجزة إلثبات صدقه‪ ،‬كما سار‬
‫اليبنتز على نفس النهج‪ ،‬وحاول االثنان في القرن السابع عشر إقامة دين جديد تحت‬
‫مسمى دين الطبيعة‪ ،‬بحيث يُحتكم فيه إلى العقل دون الوحي‪ ،‬ثم دعم الفيلسوف األلماني‬
‫إيمانويل كانط هذا التوجه في القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫ديكارت‬ ‫•‬
‫• ويبدو أن الفالسفة العقليين في عصر النهضة األوروبية كانوا يسعون إلى رد االعتبار‬
‫للعقل ضمن صراعهم مع كهنوت الكاثوليكية من جانب‪ ،‬وضمن صراعهم أيضا مع‬
‫فالسفة المذهب الحسي‪ ،‬ولكن ديكارت نفسه (وهو رائد هذا المذهب) اعترف بأن هناك‬
‫حقائق ميتافزيقية (غيبية )ال يمكن للعقل الخوض فيها‪ ،‬ثم جاء أتباعه من بعده ليحصروا‬
‫المعرفة في العقل وحده‪.‬‬
‫• لم يكن هناك فصل آنذاك بين الفلسفة وعلوم االجتماع والنفس والطب‪ ،‬ما سمح‬
‫للعقليين بمنح العقل تلك المنزلة العالية‪ ،‬لكن الكثير من الدراسات االجتماعية‬
‫التي ظهرت في القرن العشرين أكدت أن الفطرة ال يمكن أن تبقى مصونة عن‬
‫الزيف بعد وقوعها تحت تأثير الوراثة والبيئة [محمد تقي األميني‪ ،‬عصر‬
‫اإللحاد‪ ،‬ص‪ ،]74‬فمن شبه المستحيل التوصل إلى نتائج عقلية مجر‪7‬دة في‬
‫العلوم الضر‪7‬ورية التي تقوم على األوليات العقلية (الفطر‪7‬ة)‪ ،‬وهو ما يؤكده‬
‫الفليسوف األلماني كولبه بقوله “إنه من الصعب أن نضع حدا فاصال بين‬
‫األحكام األولية للعقل وبين األحكام المكتسبة من التجربة”‪.‬‬
‫• وصعوبة تجرد العقل البشري تنبع من طبيعة اإلنسان‪ ،‬حيث يستحيل عليه‬
‫التحول إلى آلة صماء كأجهزة الحاسوب المبرمجة على التسلسل المنطقي‪،‬‬
‫فالتداخل بين العقل والنفس هو جوهر اإلنسان منذ بدء خلقه‪.‬‬
‫• كما أن وضع منهج معرفي متكامل للعقل من خالل العقل نفسه‬
‫أمر متعذر‪ ،‬فال يمكن لآللة أن تدرك ذاتها والمؤثرات المحيطة‬
‫بها على وجه التمام‪ ،‬وأن تحدد بدقة حدود قدر‪7‬اتها ومنتهاها‪ ،‬ثم‬
‫تضع منهجا يضبط عملها ويصحح مسار‪7‬ها فيه دون حاجة‬
‫لمرشد خارجي‪ .‬لذا اضطر ديكارت منذ بداية وضعه لمنهج‬
‫المعرفة العقلي أن يسلّم بوجود إله خالق ومرشد كخطوة‬
‫ضرورية وتلقائية بعد تسليمه بالحقيقة األولى‪ ،‬وهي أن يعقل‬
‫ذاته‪ ،‬وكأن العقل ال يستطيع أن يخطو خطوته الثانية دون‬
‫مصدر علوي يستند عليه‪.‬‬
‫• نتيجة لذلك‪ ،‬تعاني جميع المناهج العقلية من عيوب ونواقص ال تزال تظهر عمليا بعد‬
‫إخضاعها للتطبيق‪ ،‬ومن أبرزها منطق أرسطو الذي تعرض للنقد على يد عدد من‬
‫كبار العلماء المسلمين قبل أن يُنقد الحقا في أوروبا‪ ،‬ومن أبرزهم ابن تيمية الذي أبرز‬
‫في كتابه “الرد على المنطقيين” عجز المنطق عن التوصل إلى حقائق يقينية في‬
‫الميتافيزيقيا‪ ،‬فاالستدالل بالقياس ينطلق من المقدمة الكلية إلى النتائج‪ ،‬مع أن الكلي ال‬
‫يدل إال على القدر المشترك من األشياء الكلية‪ ،‬بينما تكون قضايا العقيدة معيّنة وال‬
‫يمكن للقياس الكلي أن يدل عليها‪.‬‬
‫• ومن عيوب المنطق أيضا “قياس الغائب على الشاهد”‪ ،‬فمن خالل البحث في العلة‬
‫المشتركة بينهما يمكن فقط للعقل أن يستنتج الحقائق‪ ،‬وهذا يؤدي إلى قياس اإلله على‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهو افتراض غير مبرر أصال‪ .‬يقول ابن تيمية إنه ال يجوز أن يدخل اإلله‬
‫مع غيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها‪ ،‬وعندما فعل علماء الكالم والفالسفة ذلك‬
‫تناقضت أدلتهم ولم تبلغ اليقين‪.‬‬
‫• وهذا القصور في المنهج‪ ،‬وفي األداة نفسها (العقل)‪ ،‬تظهر آثاره في كل الفلسفات العقلية التي بحثت في‬
‫اإللهيات والميافيزيقيا بال استثناء‪ ،‬بل نجده واضحا أيضا في المدارس العقلية التي نشأت داخل األديان‪،‬‬
‫سواء لدى علماء الكالم (المتكلمين) والفالسفة المسلمين أو لدى فالسفة الالهوت المسيحي في القرون‬
‫الوسطى‪ ،‬حتى تراجع بعضهم عن التزام المنهج العقلي كله في اإللهيات بعد أن بلغ غايته في البحث‬
‫والتبحر‪ ،‬مثل الرازي واآلمدي والشهرستاني والغزالي‪.‬‬
‫• ويُنقل عن أفضل الدين الخونجي (توفي عام ‪646‬هـ) قوله “أموت وما عرفت شيئا”‪ ،‬كما ينقل عن معاصره‬
‫شمس الدين الخسروشاهي أنه قال عند موته “وهللا ما أدري ما أعتقد”‪ ،‬وقد سبقهما بذلك سقراط عندما قال‬
‫ال أعرف سوى شيء واحد‪ ،‬وهو أني ال أعرف شيئا” [العقيدة الطحاوية‪ ،‬ص ‪.]228-227‬‬ ‫“‬
‫• ومع ذلك‪ ،‬فال نقول إن العقل أداة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬بل ينبغي التفريق بين وجود حقائق‬
‫العقيدة وبين كنهها وتفاصيلها وما هي عليه‪ ،‬فالعقل قادر على إثبات وجود الحقائق الكبرى والبرهنة عليها‪،‬‬
‫لكن التخبط يبدأ عندما يخوض في محاولة تعقل الكيفيات التي تكون عليها الحقائق الغيبية ألنها غائبة عنه‬
‫وعن الحواس‪ ،‬وال يستطيع النفاذ إلى عوالمها المفارقة للزمان والمكان مهما اشتط به الخيال‪ ،‬لذا قال‬
‫الرسول محمد صلى هللا عليه وسلم بعد أن أثبت للناس وجود الخالق وصفاته “تفكروا في آالء هللا‪ ،‬وال‬
‫تفكروا في ذاته فتهلكوا” [صححه األلباني]‪ ،‬وهذا ليس َحجرا على العقل بل حفظ له من الخوض في ما ال‬
‫يقدر عليه‪.‬‬
‫• المصدر الثالث‪ :‬الحس والتجربة‬
‫يفرق علماء المنطق بين القضايا الحسية التي يجزم العقل بوجودها لمجرد‬
‫تصورها‪ ،‬مثل وجود الشمس عند اإلحساس بحرارتها أو رؤية ضيائها‪ ،‬وبين‬
‫القضايا التجريبية التي يدخل فيها الحس ولكنها تتطلب المزيد من المالحظة‬
‫والتجربة‪.‬‬
‫• والمذهب الحسي في الفلسفة هو الذي يقول أتبا‪7‬عه إن المعرفة محصورة بما‬
‫تتلقاه الحواس الخمس‪ ،‬فكل التصورات العقلية مقتبسة من المعلومات التي‬
‫تقدمها له الحواس‪ ،‬أما المنهج التجريبي فيقول أصحابه إن التجربة هي‬
‫المصدر الوحيد للمعرفة من خالل توظيف المد َركات الحسية في التجربة‪،‬‬
‫ومن المعلوم أن التجربة تتطلب تدخل الباحث في الموضوع الختباره وال‬
‫تكتفي بالمالحظة‪.‬‬
‫• ابتدأ التيار الحسي بالظهور‪ 7‬في اليونان على يد أبيقور خالل‬
‫القرن الثالث قبل الميالد‪ ،‬ووافقه على ذلك الرواقيون الذين‬
‫حصروا المعر‪7‬فة بالحس مع أنهم لم ينفوا فاعلية العقل تماما‪.‬‬
‫• وفي أوروبا‪ ،‬تأثر الفيلسوف اإلنجليزي روجر بيكون (توفي‬
‫عام ‪1349‬م) بأفكار الحسن بن الهيثم وابن رشد بعد ترجمتها‪،‬‬
‫وحاول نقل المنهج العلمي التجريبي عن ابن الهيثم (توفي عام‬
‫‪1040‬م) رغم ر‪7‬فض الكنيسة له‪ ،‬ثم تبنى هذا االتجاه من بعده‬
‫فرانسيس بيكون‪.‬‬
‫• ويعد الفيلسوف اإلنجليزي جون لوك (توفي عام ‪1704‬م) من رواد المذهب الحسي‪،‬‬
‫حيث انطلق في وضع نظريته للمعرفة دون االلتفات إلى ما أقره ديكارت ومعظم‬
‫الفالسفة من ثنائية النفس والجسم‪ ،‬وأنكر وجود الفطرة واألوليات العقلية بناء على‬
‫مالحظته لتنوع الخبرات البشرية‪ ،‬فقال إن ما هو فطري لدى البعض ليس كذلك لدى‬
‫البعض اآلخر‪ ،‬وهكذا أخذ يبحث في انعكاس المعرفة على الذهن من إحساسات‬
‫وإدراكات وأفكار وكلمات‪ ،‬وانتهى إلى القول إن العقل البشري يولد كصفحة بيضاء‬
‫خالية من أي عالمات موروثة أو فطرية‪ ،‬ثم تكتب عليها الخبرة التجريبية ما تتلقاه من‬
‫المعرفة من خالل الحواس‪.‬‬
‫• ظهر ديفيد هيوم بعد وفاة لوك ليأخذ المذهب الحسي إلى غايته القصوى‪ ،‬فأنكر فاعلية‬
‫العقل تماما حتى وصل إلى الشك كما ذكرنا في موضع سابق من هذا المقال‪ ،‬فبعد أن‬
‫كان لوك يعترف بأن للعقل دور في المضاهاة والجمع والتجريد للمعرفة التي يتلقاها‬
‫عن الحس لم يقر هيوم بأي دور للعقل بل جعه مجرد موطن لالنفعاالت الحسية‪.‬‬
‫• وفي أواخر القرن الثامن عشر‪ ،‬وضع أوغست كونت الفلسفة الوضعية على أساس الثقة‬
‫المطلقة بالعلم التجريبي‪ ،‬فقد ساد في تلك المرحلة االعتقاد بأن اإلنسان بلغ ذروة التقدم مع‬
‫تكاثر االختراعات واالكتشافات بأسرع وتيرة عرفها التاريخ‪ ،‬ما دفع بأنصار هذا المذهب إلى‬
‫االعتقاد بأن العلم التجريبي هو المصدر المعرفي الوحيد الذي سيجيب على كل األسئلة‪.‬‬
‫• تصور كونت أن البشرية تطورت طوال تاريخها عبر ثالث مراحل‪ ،‬األولى هي المرحلة‬
‫الالهوتية التي كان اإلنسان يفسر فيها ظواهر الطبيعة بإعادتها إلى موجودات غيبية‪ ،‬سواء‬
‫كانت إلها ً واحدا أو عدة آلهة‪ ،‬والثانية هي المرحلة الميتافيزيقية التي صار اإلنسان يتوهم فيها‬
‫وجود علل ذاتية داخل الظواهر بدال من اآللهة‪ ،‬وفي المرحلة الثالثة صار اإلنسان يفسر كل‬
‫شيء بمنطق العلم التجريبي‪.‬‬
‫• وقد رد كثير من الفالسفة على هذه النظرية بأنها مجردة من البرهان التجريبي أصال‪ ،‬فهي‬
‫ليست سوى رواية ميتافيزيقية لتطور المجتمعات البشرية‪ ،‬واستقراء التاريخ يثبت عكسها‪،‬‬
‫فاألوضاع الثالثة التي تخيل أنها مراحل متعاقبة ما زالت قائمة حتى اليوم‪ ،‬وكانت متعايشة‬
‫أيضا في مراحل قديمة من التاريخ‪.‬‬
‫• تفسير مبدأ العلية واالستقراء‬
‫يقول العقليون إن السببية (العلية) مبدأ فطري كلي‪ ،‬فهو‬
‫موجود في العقل بالفطر‪7‬ة ويمكن تعميمه على كل التجارب‬
‫واألحداث في الكون بحيث يجز‪7‬م العقل بأن لكل حادثة سببا‬
‫ولكل معلول علة‪ ،‬لكن الحسيين انقسموا في تفسير‪ 7‬العلة إلى‬
‫ثالثة اتجاهات‪ ،‬هي‪:‬‬
‫• ‪ -1‬اتجاه الفيلسوف اإلنجليزي جون ستيوارت ميل الذي آمن بمبدأ‬
‫السببية والعلية إال أنه ر ّده إلى الحس والتجربة بدال من العقل‪ ،‬فرأى أن‬
‫اإلنسان يتعلم من التجربة أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها أسباب‬
‫وعلل‪ ،‬واعتبر هذا االرتباط ضروريا مع أن الضرورة ال ينبغي أن‬
‫تكون إال بالعقل‪ ،‬وهو يرفض منح العقل أي فاعلية‪ .‬وقد وافقته الفلسفة‬
‫الماركسية المادية في هذا التفسير‪.‬‬
‫• ‪ -2‬االتجاه الذي أخذ به فالسفة الوضعية المنطقية يرى أن تعميم‬
‫االستقراء ال يعطي حكما يقينيا‪ ،‬فتكرار التجربة والحوادث ال يتجاوز‬
‫دوره تقديم احتمال بالوصول إلى النتيجة المطلوبة‪ ،‬مثل احتراق‬
‫الخشب كلما تعرض للنار‪.‬‬
‫• ‪ -3‬رأي هيوم الذي ينفي أي قيمة موضوعية لالستقراء‪،‬‬
‫والذي يعتبر أن الربط بين العلة والمعلول مجرد انطباع نفسي‬
‫ناشئ عن العادة دون أي ضرورة‪ ،‬فالسببية بين النار واحتراق‬
‫الخشب ليست ضرورية وال حتمية بل موجودة داخل نفوسنا‬
‫بسبب تكر‪7‬ار‪ 7‬العادة‪ .‬وقد سبقه الغز‪7‬الي إلى القول بهذا الرأي‪،‬‬
‫كما أخذ به علماء النفس في المدرسة السلوكية الحديثة‪.‬‬
‫• هل تكفي الحواس والتجربة مصدرا للمعرفة؟‬
‫ال يمكن لنا أن نسلّم للتجريبيين بحصر مصدر تصورات العقل كلها بالحس والتجربة‪،‬‬
‫فقد يتصور الذهن تصورات مفارقة للمادة تماما مثل الوحدة والكثرة‪ ،‬لكن هذا ال يعني‬
‫بالمقابل أنها تصورات عقلية محضة‪ ،‬ألنها ليست من البديهيات‪ ،‬بل هي نتيجة لتفاعل‬
‫الحس والعقل‪.‬‬
‫• ويظهر خلل الحسية التجريبية أكثر في مجال الميتافيزيقيا واألخالق‪ ،‬فقد رد أصحاب‬
‫هذا المذهب كل األخالق إلى التجربة وحاولوا دراستها سلوكيا كما يدرس العالم‬
‫المخبري أي ظاهرة طبيعية‪ ،‬إال أنهم لم يتمكنوا من تقديم تفسير مقنع‪ ،‬فالشكاك هيوم‬
‫اعتبر أن األحكام األخالقية ال تعبر عن حقيقة موضوعية بل تنشأ عن مشاعر‬
‫االستحسان واالستياء‪ ،‬ودون أن يقدم تفسيرا مقنعا ألصل هذه المشاعر‪ .‬وعندما حاول‬
‫الماركسيون ربط األخالق باالقتصاد والصراع الطبقي داسوا على قيم العدالة تماما‬
‫وح ّولوا اإلنسان إلى جزء مسحوق في آلة المجتمع الجارفة‪.‬‬
‫جون لوك‬ ‫•‬
‫• ويبدو أن جون لوك قد وضع كل أتباع المذهب العقلي في خانة واحدة واعتقد أنهم يرون‬
‫المبادئ العقلية صورة عن عالم ال ُمثل الخيالي الذي تخيله أفالطون‪ ،‬حيث كان األخير يفترض‬
‫أن اإلنسان يحتاج فقط إلى تذكر الحقائق بعد والدته ألنها موجودة كلها في عقله‪ ،‬لكن معظم‬
‫العقليين كانوا يعترفون بدور اإلدراكات الحسية بعد أن تعود إلى األصول الثابتة في العقل‪،‬‬
‫لتتحول إلى معرفة علمية‪.‬‬
‫• من جهة ثانية‪ ،‬ينتقد التجريبيون الخطأ الذي يقع فيه بعض العقليين عندما يخلطون بين العقل‬
‫الغريزي والعقل المكتسب (سبق توضيحهما)‪ ،‬وهو الخطأ الذي بدأ في اليونان وانتقل إلى‬
‫الكثير من المتكلمين والفالسفة المسلمين عندما اعتبر كل منهم أن مذهبه هو العقيدة الصحيحة‬
‫التي يتوافق فيها العقل والنقل‪ .‬وإذا كان هؤالء قد ظنوا أن العقل كله غريزي‪ 7‬فقد رد عليهم‬
‫التجريبيون باتخاذ الموقف المعاكس والقول بأن العقل كله مكتسب‪ ،‬ومن ثم فهو يتأثر بالبيئة‬
‫والمشاعر والخواطر النفسية‪ ،‬وال يستحق أن يكون مصدرا للمعرفة‪ .‬والواقع أن كال الرأيين‬
‫تطرف في موقفه‪.‬‬
‫• ومن نتائج هذا التط‪7‬رف المادي المتصاعد حتى بداية القرن العشرين‪،‬‬
‫ساد في الغرب االعتقاد بأن اإلنسان نفسه ليس سوى مادة متطورة‪،‬‬
‫فبعد أن وضعت الحسية التجريبية في عصر النهضة اإلنسان بمركز‬
‫الكون ليحتل موقع اإلله نفسه‪ ،‬انزلق اإلنسان المادي تدريجيا تحت‬
‫ضغ‪7‬ط االكتشاف المتزايد ألسرار الكون المادي‪ ،‬لتصبح المادة هي‬
‫األساس والمركز‪ ،‬ويتحول اإلنسان إلى موضوع تافه وهام‪7‬شي‪ ،‬حتى‬
‫ظهرت مدارس ما بعد الحداثة التي أنكرت كل مصادر المعرفة‬
‫الع‪7‬قلية والحسية وأعلنت نهاية المدارس الفلسفية الك‪7‬برى والعودة إلى‬
‫شك السفسطة‪ ،‬وهي نتيجة طبيعية لتفكيك اإلنسان وتشييئه (تحويله‬
‫إلى شيء مادي)‪.‬‬
‫• والالفت أن الحسيين والتجريبيين في عصر النهضة كانوا يؤمنون‬
‫بالميتافيزيقا وبوجود هللا‪ ،‬بل كان بعضهم من رجال الدين مثل جورج‬
‫باركلي (توفي عام ‪ ،)1753‬إال أن حص‪7‬رهم للمعرفة بالحواس فتح‬
‫الباب أمام الوضعيين والماركسيين إلى حصر الوجود كله بالمادة‪،‬‬
‫وإذا كان موقف الحسيين األوائل مجرد افتراض فلسفي ولم يرق إلى‬
‫درجة العلم؛ فلن يجد الوضعيون والماركسيون والماديون دليال علميا‬
‫على إنكار وجود الغيبيات [انظر مقال “هللا وجود“]‪.‬‬
‫• هل يجيب العلم التجريبي على كل األسئلة؟‬
‫• شهدت بداية القرن العشرين ثورات علمية هائلة‪ ،‬ومن أبرزها نظرية النسبية أللبرت أينشتاين‪ ،‬ثم‬
‫مجموعة نظريات شكلت مفهوما جديدا للفيزياء تحت مسمى الك ّم (كوانتم)‪ ،‬فضال عن التطور في‬
‫الطب وعلوم األحياء‪ ،‬وكان لهذه الفتوحات وآثارها العملية التكنولوجية دور كبير في ظهور العالِم‬
‫التجريبي في صورة خارقة وكأنه الوحيد القادر على اإلجابة على األسئلة الوجودية بدال من‬
‫الفالسفة‪ ،‬فضال عن “رجال الدين”‪ ،‬لذا طالب العالم الفرنسي المعروف لويس باستور السلطات‬
‫برعاية المؤسسات العلمية بصفتها “مؤسسات مقدسة” وقال إنها ستكون “معابد المستقبل”‪ ،‬كما‬
‫وافقه على ذلك الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي عندما قال “إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم‬
‫هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم” [دي نوي‪ ،‬مصير اإلنسان‪ ،1967 ،‬ص‪.]275‬‬
‫• يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر ستيفن هوكنغ في كتابه التصميم العظيم “الفلسفة ماتت…‬
‫وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة االكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة” [ص ‪ ،]13‬ويقول‬
‫الفيزيائي األميركي لورنس كراوس “إن الفلسفة حقل يذكرني لألسف بالنكتة القديمة لوودي آلن‬
‫(ممثل كوميدي)‪ :‬أولئك الذين ال يستطيعون أن يفعلوا شيئا يد ّرسون‪ ،‬والذين ال يستطيعون أن‬
‫يدرّسوا يدرّسون الرياضة”‪.‬‬
‫• وبالرغم من إنكار الكثير من العلماء ‪-‬الذين يحظون باالحتفاء اإلعالمي‪-‬‬
‫أهمية الفلسفة وتنديدهم بها‪ ،‬فإن نظرياتهم الكبرى تقوم أساسا على مواقف‬
‫أيديولوجية مفلسفة‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬يقول الفلكي البريطاني كارل ساغان‬
‫في افتتاحية برنامجه “الكون” ‪- Cosmos‬الذي‪ 7‬حقق أعلى نسب المشاهدات‬
‫ال يوجد ولم يوجد ولن يوجد شيء سوى‬ ‫بدعم من شبكة بي‪.‬بي‪.‬سي‪ -‬إنه “‬
‫الكون (أي المادة فقط)”‪ ،‬وهذا تعبير فلسفي وليس تصريحا علميا‪ ،‬فليس في‬
‫وسع العلم التجريبي أصال أن يجري تجربة مادية تنفي وجو‪7‬د عوالم أو‪7‬‬
‫كائنات غير مادية طالما أنها ال تخضع ألدواته‪ ،‬ومقولة ساغان هي تعبير‬
‫صريح عن جوهر الفلسفة الطبيعية‪ ،‬والتي يع ّرفها ستيرلنغ المبرت بأنها‬
‫موقف فلسفي ومنهج تجريبي يعتبر أن الوجود محكوم بعوامل عشوائية‬
‫داخل نظام شامل في الطبيعة‪.‬‬
‫• يقول عالم الوراثة في جامعة هارفارد ريتشارد ليونتن إن “استعدادنا لقبول‬
‫المزاعم العلمية التي تخالف الحس السليم هو مفتاح فهم الصراع الحقيقي‬
‫بين العلم وما هو ميتافيزيقي (غيبي)‪ ،‬فنحن نميل إلى صف العلم رغم ما‬
‫يشوب بعض أفكاره من عبث… والمجتمع العلمي يتسامح مع القصص التي‬
‫تُقبل دون برهان ألننا ملتزمون مسبقا بالفلسفة المادية‪ ،‬فمناهج العلم ال‬
‫تجبرنا على قبول تفسير مادي للعالم بل التزامنا البديهي بالمادية هو الذي‬
‫يجبرنا على إنتاج تفسيرات مادية مهما كانت مناقضة للحدس” [العلم‬
‫ووجود هللا‪ ،‬ص ‪ ،.]62‬وليس هناك ما هو أوضح من هذا االعتراف بتعصب‬
‫العلماء الماديين للفلسفة المادية على أساس أيديولوجي بحت‪.‬‬
‫هوكنغ‬ ‫•‬
‫• ومن نتائج تبني هذه الفلسفة ‪-‬المنكرة للتفلسف أصال‪ -‬أن‬
‫التصورات الفلسفية للكثير من العلماء التجريبيين لم تعد تجد أي‬
‫حرج في خرق المنطق‪ ،‬وهو ما يؤكده االقتباس السابق عن ليونتن‬
‫نفسه‪ ،‬كما يقول هوكنغ “إن الكثير من المفاهيم العلمية الحديثة‬
‫تخالف‪ 7‬المنطق السليم المبني على التجربة اليومية‪ ،‬أما طبيعة الكون‬
‫فتكشف‪ 7‬عن نفسها من خالل عجائب التكنولوجيا” [التصميم‬
‫العظيم‪ ،‬ص ‪ ،]15‬كما يكرر الفيزيائي ميشيو كاكو في صفحات‬
‫عدة من كتابه “فيزياء المستحيل” أن نظرية الكم تغير قوانين العقل‪7‬‬
‫األساسية‪ ،‬وإلى درجة إسقاط مفهوم المستحيل من الوجود‪.‬‬
‫• ويأتي اإلشكال أوال من خرق نظرية النسبية لما هو مألوف ومعتاد‪ ،‬فقد كان يُعتقد أن الزمن‬
‫ثابت كوني ال يتأثر بأي عامل من العوامل‪ ،‬لكن المعادالت الرياضية أثبتت أن سرعة‬
‫الضوء هي الثابتة وأن الزمن نسبي‪ ،‬فعندما يتحرك جسم ما بسرعة كبيرة جدا فإن الزمن‬
‫الخاص به يتمدد (يتباطأ)‪ ،‬فمثال تقيس الساعة الموضوعة على صاروخ خارق السرعة مدة‬
‫زمنية أقصر مما تقيسه ساعة أخرى على األرض مثال‪ ،‬وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال‬
‫أحد‪ ،‬وقد أثبتته التجارب العملية بالفعل‪.‬‬
‫• ونتيجة لذلك بدأ كتّاب الخيال العلمي بالتجرؤ على خرق المنطق وطرح رؤى خيالية‪،‬‬
‫فظهرت روايات السفر عبر الزمن كنوع من الخيال ثم لحق بهم الفيزيائيون النظريون (فئة‬
‫من العلماء تدرس اآلثار الفلسفية للعلم) على اعتبار أن الرياضيات ال تنكر تلك التخيالت‪،‬‬
‫وظهرت معضالت فلسفية في العديد من الكتب العلمية “الرصينة” لتتساءل ما الذي سيحدث‬
‫إذا عاد شخص بالزمن إلى الوراء وقتل والده مثال‪ ،‬فهذا يعني أنه لن يُخلق أصال‪ ،‬ثم ظهرت‬
‫نظريات عدة لمناقشة هذه المشكلة دون أن ينتبه كثير من العلماء إلى التناقض العقلي في هذه‬
‫العودة إلى الماضي‪.‬‬
‫• والحقيقة أن نظرية النسبية العامة ليست معنية بما هو أبعد من دراسة تباطؤ‪7‬‬
‫مرور الزمن على اﻟﺠسم اﻟﻤتحرك‪ 7‬بالنسبة ﻟﺠسم آخر ثابت‪ ،‬وهي ال تتعلق‬
‫بالبنية اﻟﻤادية ﻟلجسم اﻟﻤتحرك كما هو اﻟﺤال ﻓﻲ نظرية الكم‪ ،‬ومن ث ّم فإن‬
‫“منحنى الزمكان” ليس أكثر من مفهوم مثاﻟﻲ تخيلي‪ ،‬وتعبير “انحنائه ”ال‬
‫يعني أكثر من انحناء مسار حركة الجسم مع تمدد الزمن اﻟﻤقاس عليه بالنسبة‬
‫إﻟﻰ ﻤراقب خارجه‪ ،‬وحتى ﻓﻲ حال انغالق منحنى الزمكان فهذا ال يعني أن‬
‫يدخل اﻟﺠسم ﻓﻲ مرحلة زمنية سابقة‪ ،‬بل غاية األمر أن يعود للتحرك ﻓﻲ خط‬
‫سيره من النقطة التي انغلق عندها اﻟﻤسار مع االستمرار ﻓﻲ تباطؤ تغير‬
‫حركته إﻟﻰ درجة االنعدام والدخول ﻓﻲ حالة “التفردية اﻟﻤركزية” التي ال‬
‫يمكن اختبارها ﺗﺠريبياً‪ ،‬فضالً عن ثبوت استحالة تحقق هذا االنغالق‬
‫فيزيائيا ً‪.‬‬
‫• وعندما ظهرت فيزياء الكم التي تدرس أبسط عناصر الوجود على المستوى دون‬
‫الذري (مكونات الذرة) كان فهمها أكثر صعوبة‪ ،‬لكن غموضها المشابه لغموض‬
‫النسبية دفع بعض العلماء للمضي في وضع المزيد من السيناريوهات الخيالية‪.‬‬
‫فيقول جون ويلر “إذا لم تكن حائرا إزاء مكانيكا الكم فإنك لم تفهمها”‪ ،‬ويؤيده‬
‫روجر بينروس بقوله إن “ميكانيكا الكم ال معنى لها إطالقا”‪ ،‬كما يقول ريتشارد‬
‫فينمان “يمكن القول بثقة إنه ال أحد على اإلطالق يمكنه أن يفهم فيزياء الكم”‪.‬‬
‫• ومن األمثلة التي يطرحها الفيزيائيون لنقض المنطق العقلي أن تجارب فيزياء‬
‫الكم أثبتت إمكانية وجود اإللكترون في مكانين في وقت واحد‪ ،‬وهذا يخالف‬
‫بوضوح أحد أهم مبادئ العقل األولية‪ .‬وأن اإللكترونات والف‪7‬وتونات وغيرها من‬
‫المكونات تبدي سلوكا مغايرا في التجارب‪ ،‬فتبدو أحيانا في صورة جسيمات بينما‬
‫تظهر على أنها موجات في أحيان أخرى‪.‬‬
‫• والجواب أنه لم يثبت أصال أن اإللكترون يوجد فعال في مكانين‬
‫معا كما هو حال األجسام التي نعرفها‪ ،‬بل تظهر التجارب أن‬
‫هذا الكائن الذي ال يُمكن أن يُرى بأي مجهر حتى اآلن (ألنه‬
‫أصغر من الموجة الضوئية) والذي يبدي سلوكا متقلبا بين‬
‫الجسيمات والموجات يترك أثرا في مكانين معا‪ ،‬كما أن فيزياء‬
‫الكم تنص وفقا لنظرية عدم التأكد على أنه ال يمكن فصل عملية‬
‫المشاهدة عن سلوك ال ُمشاهَد‪ ،‬فاإللكترون يتأثر برصدنا له أثناء‬
‫خضوعه للتجربة وال يقدم لنا سلوكا طبيعيا‪ ،‬فلسنا متأكدين إذن‬
‫من حقيقة نقضه للمنطق عندما نرصد سلوكه العجيب‪.‬‬
‫• ومن المغالطات التي نتجت عن سوء فهم فيزياء الكم وجود‬
‫تعارض بين السببية وميكانيكا الكم‪ ،‬والحقيقة أن السببية‬
‫موجودة أيضا في العالم دون الذري‪ ،‬لكن الجسيمات الذرية ال‬
‫تقدم ردود الفعل المتوقعة دائما بل يكون سلوكها قائما ضمن‬
‫احتماالت الدوال الموجية‪ ،‬حيث يقول الفيزيائي األلماني‬
‫ماكس بورن في كتابه “ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ” إن‬
‫فيزياء الكم ال تنقض السببية بل الحتمية فقط‪ ،‬أي أن كل‬
‫الموجودات –حتى دون الذرية‪ -‬تخضع للسببية واالطراد ‪.‬‬
‫• ويبدو أن تزامن الفتوحات العلمية وظهور نتائجها التكنولوجية مع سقوط‬
‫النظريات الفلسفية الكبرى في عالم ما بعد الحداثة قد شجع العلماء على‬
‫تجاوز لعب دور الفالسفة إلى النكوص للسفسطة والشكوكية العدمية‪ ،‬حتى‬
‫دعا كثير منهم إلى اعتبار صورة العالم عند اإلنسان العادي صورة وهمية‪،‬‬
‫مثل قول العالم البريطاني آرثر إدينغتون إن تصور الرجل العادي للمنضدة‬
‫يختلف عن تصور العا ِلم لها‪ ،‬فاألول يراها جسما له لون وملمس وشكل‬
‫وصالبة وثبات مكاني وديمومة زمنية‪ ،‬بينما يراها العا ِلم مجموعة ذرات‬
‫بينها خالء وتصدر عنها شحنات كهربية خاطفة‪ .‬لكن الخلط بين اللغة التي‬
‫تستخدم استخداما سلي ًما للتعبير عن األشياء التي نتعامل معها وبين اللغة‬
‫المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية لن يؤدي سوى إلى الفوضى‪.‬‬
‫• ومن األمثلة المشهورة على القصور الفلسفي لدى بعض كبار‬
‫الفيزيائيين‪ ،‬نذكر النظرية التي طرحها النمساوي إرفين شرودنغر لقطة‬
‫نضعها (فرضيا) في صندوق مغلق‪ ،‬ومعها عداد غايغر (لحساب‬
‫اإلشعاع) وكمية من مادة مشعة‪ ،‬بحيث يكون احتمال تحلل ذرة واحدة‬
‫خالل ساعة ممكنا وغير مؤكد‪ ،‬فإذا تحللت الذرة سيطرق عداد غايغر‬
‫مطرقة تكسر زجاجة تحتوي غازا خانقا فيقتل القطة‪ ،‬ويقول شرودنغر‬
‫إننا لن نعرف وضع القطة حتى نفتح الصندوق بعد ساعة‪ ،‬وهي قبل ذلك‬
‫من وجهة نظر ميكانيكا الكم تعتبر في حالة مركبة من الحياة والموت‪،‬‬
‫أي أنها تجمع حالتين متناقضتين‪ .‬واعتبر علماء الفيزياء النظرية هذا‬
‫المثال بمثابة “دليل” على اجتماع النقيضين‪ ،‬وهذه سفسطة‪.‬‬
‫• يقول أليستر راي في كتابه “فيزياء الكوانتم‪ :‬حقيقة أم خيال؟” إن‬
‫القارئ عندما يقرأ أن فيزياء الكوانتم تقول بأن القطة نصف حية‬
‫ونصف ميتة‪ ،‬سيستنتج أن هذه سخافة تافهة‪ ،‬وسيلقي بالكتاب‬
‫وينسى كل هذا الجنون‪ .‬والحقيقة أن استعارة المصطلحات‬
‫والمفاهيم من عالم ما دون الذرة لضرب األمثلة على العالم‬
‫المحسوس هو أصل المشكلة‪ ،‬فالفيزيائي بالكاد يستطيع أن‬
‫يرصد آثار سلوك الجسيمات غير المرئية فتبدو له في لحظة ما‬
‫وكأنها تجمع نقيضين‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أنها كذلك في الحقيقة‬
‫[فيزياء الكوانتم‪ :‬حقيقة أم خيال؟‪ ،‬مركز براهين‪ ،‬ص ‪.]126‬‬
‫• ويسعى بعض فالسفة العلم المعاصرين اليوم إلى تبني اتجاه‬
‫يدعى باألداتية‪ ،‬يطالبون من خالله بإعادة النظر‪ 7‬ﻓﻲ الكثير من‬
‫التصورات العلمية الناشئة عن نقل المفاهيم الرياضية اﻟﻤجردة‬
‫إلى الحقائق المتشخصة على أرض الواقع‪ ،‬مثل تخيل “نسيج‬
‫الزمكان” على هيئة حقيقية يمكن لها أن تنحني وتتداخل‪.‬‬
‫• وبالنتيجة‪ ،‬إذا حاولنا اإلجابة على سؤال هذه الفقرة “هل يجيب العلم على كل‬
‫األسئلة؟” فسنوجز الجواب بنقطتين‪:‬‬
‫• النقطة األولى‪ :‬المالحظة العلمية ليست مستقلة‪ ،‬حيث أثبت العالم فرنسي بيير دويم أن‬
‫التجربة الفيزيائية ليست مجرد مالحظة‪ ،‬بل هي أيضا تأويل للظاهرة التي تدرسها‪،‬‬
‫ويقول مؤلف “نظريات العلم” آالن شالمرز إن ما يالحظه العالِم يتوقف في جانب‬
‫كبير منه على تجربته الماضية ومعارفه [شالمرز‪ ،‬نظريات العلم‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬ص‬
‫‪ .]36‬كما أن وضع الفرضيات لتأويل الظواهر الفيزيائية يخضع بدوره في الكثير من‬
‫األحيان لخلفية الباحث وتوقعاته‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬كان الفيزيائي ماكس بورن يقر‬
‫بأن ما أنجزه في حقل اكتشافات المكونات الذرية كان مجرد تعميمات فلسفية ال‬
‫فيزيائية‪ ،‬وما زالت الفرضيات المعتمدة اليوم لفهم عالم الذرة غير مثبتة تجريبيا إال‬
‫أنها مقبولة كأحد التأويالت الممكنة‪ ،‬واألمر ذاته ينطبق على نظرية التطور‬
‫الدارويني‪.‬‬
‫• واالستقر‪7‬اء مبدأ فطر‪7‬ي‪ ،‬وتبريره فطري‪ ،‬لكن تحديد لحظة‬
‫االنتقال من الخاص إلى العام قابل للخطأ‪ ،‬والكثير من العلماء‬
‫المعاصرين يرفضون ذلك بسبب سوء فهمهم لمعنى الفطرة‪،‬‬
‫فغالبية كتب فلسفة العلوم ال تناقش التبرير الفطري أصال‪ ،‬فهو‬
‫أمر مستبعد من العلم المادي التجريبي‪ ،‬وهو خلل في مفهوم‬
‫“المعقولية” أو التأسيس لها‪[ .‬اإلجماع اإلنساني‪ ،‬ص ‪.]139‬‬
‫• ويقول جون هو‪7‬ت “عند نقطة معينة في س‪7‬لسلة التحقق‪ 7‬من كل فرضية‪،‬‬
‫ال بد من قفزة إيمانية تُعد مكونا أساسيا في العملية‪ ،‬و‪7‬عنصر الثقة هو‬
‫عنصر أساسي في كل بحث‪ 7‬بش‪7‬ري عن الحقيقة‪ ،‬و‪7‬إن و‪7‬جدت‪ 7‬نفسك تشك‬
‫فيما قلتُه اآلن فهذا ألنك في هذه اللحظة بالذات‪ 7‬تثق في عقلك بما يكفي‬
‫للتعبير عن شكك في كالمي‪ ،‬فال يمكنك التخلص من الثقة في عقلك‬
‫حتى عندما تساو‪7‬رك الشكو‪7‬ك‪ ،‬وأنت ال تط‪7‬رح أسئلتك النقدية إال ألنك‬
‫تؤمن بأن الحق يستحق البحث‪ ،7‬فاإليمان بهذا المعنى‪ ،‬وليس بمعنى‬
‫الخيال الجامح‪ ،‬يكمن في جذور‪ 7‬كل دين حقيقي‪ ،‬و‪7‬كذلك في جذور‬
‫العلم… و‪7‬هذا يؤكد أن محاوالت اإللحاد الجديد لتخليص الوعي البشري‬
‫من اإليمان هي مجرد محاو‪7‬لة عبثية” [العلم وو‪7‬جو‪7‬د هللا‪ ،‬ص ‪.]107‬‬
‫• وبما أن العلم التجر‪7‬يبي قائم على المالحظة والتجريب‬
‫واالستقر‪7‬اء ثم تعميم النتائج على الظواهر الكونية‪ ،‬فهو إذن‬
‫قائم على االحتمال‪ ،‬حيث ال يمكن للعالِم أن يجزم بأن الشمس‬
‫ستشر‪7‬ق غدا كما كانت تشرق كل يوم‪ ،‬ويقول بول ديفيز إن‬
‫التقدم العلمي يتطلب “فعال إيمانيا” لالعتقاد بوجود انتظام في‬
‫الطبيعة‪ ،‬كما يقول الفيلسوف اإلنجليزي ر‪7‬وجر تريغ “من أجل‬
‫أن يتولى العلم مهمة تقديم التفسيرات لجميع األشياء فنحن‬
‫بحاجة إلى ما يبرر لنا الوثوق بالعلم” [‪Rationality and‬‬
‫‪.]Science, p. 9‬‬
‫• “مع أن التزوير مخالف ألهداف العلم كنشاط ثقافي‪ ،‬إال أنه متوطن‬
‫بنيويًا في العلم المؤسس لمجتمعاتنا المعاصرة”‪.‬‬
‫أستاذة علم االجتماع دينا فينشتاين‪.‬‬
‫• كما يؤكد مبدأ “عدم اليقين” للفيزيائي فيرنر هايزنبرغ استحالة الحصول‬
‫على نتائج دقيقة مئة بالمئة عند دراسة خاصيتين معا لشيء واحد من بين‬
‫جملة خواص كمومية‪ ،‬أي أن معرفتنا للعالم ستبقى منقوصة حتما‪.‬‬
‫• وبالرغم من جنوح خيال ميشيو كاكو في كتابه “فيزياء المستحيل” نحو‬
‫ما يشبه تأليه العقل البشري‪ ،‬فإنه يعترف بأن “نظرية الكم مبنية على‬
‫رمال من المصادفة والحظ واالحتماالت‪ ،‬وأنها ال تعطي أجوبة محددة”‬
‫[العلم ووجود هللا‪ ،‬ص‪.]276‬‬
‫• يعتبر الكثير من العلماء اليوم أن العلم هو الطريق الوحيد للحق وأنه قادر على تفسير كل‬
‫شيء‪ ،‬وهذا ليس سوى موقف أيديولوجي مسبق اصطلح الفالسفة المعاصرون على تسميته‬
‫بالمذهب العلمي ‪ ،scientism‬فليس هناك دليل علمي يثبت أن الوجود مادي بحت وأن‬
‫التجربة هي المصدر الوحيد الكتشافه‪.‬‬
‫• يقول الفيلسوف البريطاني برتراند َرسل إن كل ما ال يمكن للعلم اكتشافه ال يمكن للبشرية أن‬
‫تعرفه‪ ،‬وهذه عبارة متناقضة‪ ،‬فكيف عرف َرسل ذلك طالما أن عبارته ليست مثبتة علميا‬
‫أصال؟ ما يعني أنها ليست صحيحة بنا ًء على موقفه نفسه‪[ ‬العلم ووجود هللا‪ ،‬ص‪.]106‬‬
‫• النقطة الثانية‪ :‬حتى إذا اعتبرنا أن الرياضيات هي المصدر العلمي الموثوق لألجوبة على‬
‫األسئلة الوجودية‪ ،‬طالما أن المالحظة الفيزيائية ليست نزيهة بالمطلق‪ ،‬فقد أثبت النمساوي‬
‫كيرت غودل في عام ‪1931‬م أن هناك مقوالت صادقة في الرياضيات ال يمكن البرهنة عليها‪،‬‬
‫فعلى سبيل المثال ما زالت حدسية غولدباخ الموضوعة منذ عام ‪1742‬م غير مبرهنة‪ ،‬وبات‬
‫الرياضيون يؤمنون اليوم بأن حلم فيثاغورس بفهم العالم كله عبر األرقام والحساب مستحيل‪.‬‬
‫• واستنتج األمريكي المعاصر فريمان دايسون من نظرية “عدم االكتمال” لغودل أن عالم الفيزياء والفلك‬
‫غير قابلين لالكتمال أيضا‪ ،‬فمهما ابتعدنا في المستقبل فسيكون هناك دائما أشياء جديدة تحدث‬
‫ومعلومات ترد وعوالم جديدة تُكتشف‪ .‬ويلخص الفلكي جون بارو هذه الحقيقة بقوله إن العلم مبني على‬
‫الرياضيات‪ ،‬وال يمكن للرياضيات أن تكتشف الحقيقة كلها‪ ،‬فال يمكن للعلم أن يكتشف الحقائق كلها‪.‬‬
‫• لذلك اقتنع هوكنغ أخيرا باستحالة اكتشاف “نظرية كل شيء” التي تجمع النسبية مع الكم وتلخص كل‬
‫المالحظ‬
‫ِ‬ ‫ظواهر الوجود في معادلة واحدة‪ ،‬فاألمر ال يتعلق بنقص األدوات وضيق الوقت فقط‪ ،‬بل ألن‬
‫(الباحث) سيظل أبدا جزءا من الكون نفسه ومن موضوع البحث‪ ،‬ولن يصبح “إلها ً” منفصال عن الكون‬
‫ليكتشفه على حقيقته التامة‪.‬‬
‫• يقول البروفسور بيتر مد ّور في كتابه “نصائح لعالم شاب”‪ :‬إن أسرع طريقة يسيء بها العالِم إلى‬
‫سمعته هي أن يصرح بكل جرأة ودون مبرر بأن العلم يعرف أو سيكتشف قريبا األجوبة على كل‬
‫األسئلة‪ ،‬وأن األسئلة التي ال تقبل األجوبة العلمية هي أسئلة زائفة وساذجة… لكن محدودية العلم تتضح‬
‫في عجزه عن اإلجابة على األسئلة البدائية الوجودية‪ ،‬مثل البحث في كيفية بدء الخلق وغاية الوجود‬
‫ومغزى الحياة‪.]Advice To A Young  Scientist, harper & row, 1979, p. 31[ .‬‬
‫• ويقول في كتابه “حدود العلم”‪ :‬من المحتمل أن هناك أسئلة يعجز العلم عن تقديم إجابات عنها نظرا‬
‫لمحدوديته‪ ،‬كما ال يمكن ألي تطور علمي متوقع أن يؤهله لذلك‪ .‬إنها األسئلة التي يطرحها األطفال‪،‬‬
‫واألسئلة النهائية لكارل بوبر‪ ،‬ولدي أيضا أسئلة من قبيل‪ :‬كيف بدأت األشياء‪ ،‬لماذا نحن موجودون‬
‫هنا؟ من أي شيء تم خلقنا؟ ما هي غاية الحياة؟… فليس في وسع العلم أن يجيب على اسئلة تتعلق‬
‫ببدايات األشياء ونهاياتها‪ ،‬والذي يجيب عليها هو الميتافيزيقيا واألدب والدين‪The Limits of[ .‬‬
‫‪.]Science, Oxford, 1984, p. 60‬‬
‫• المصدر الرابع‪ :‬اإلجماع‬
‫ربما ال تعتبر الكثير من المراجع اإلجماع اإلنساني بمثابة مصدر مستقل للمعرفة‪ ،‬إال أننا ارتأينا‬
‫تخصيصه كمصدر على أساس بعض األبحاث الحديثة التي تعطي المجتمع دورا جوهريا في بلورة‬
‫المعطيات الحسية والنفسية التي يتلقاها اإلنسان منذ طفولته لتتحول إلى معرفة‪.‬‬
‫• اهتم المفكر اإلسالمي ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميالدي بالمعنى االجتماعي لتعريف‬
‫“ العادة اإلنسانية الصحيحة”‪ ،‬فكان يرى أن تصحيحها يستند إلى انتشارها بين كافة المجتمعات‬
‫البشرية‪ ،‬وكونها عادة نفسية واجتماعية أصيلة في البشر‪ ،‬فضال عن تعبيرها عن حاجة ضرورية‪.‬‬
‫• وعندما أعاد هيوم نشر فلسفة الشك السفسطائية في القرن الثامن عشر‬
‫الميالدي‪ ،‬تصدى له الفيلسوف األسكتلندي توماس ريد وأكد أن إجماع األمم من‬
‫العامة والمتعلمين ينبغي أن يكون له على األقل سلطان كبير‪ ،‬إال إذا استطعنا أن‬
‫نثبت وجود تحيز ما من العموم إلجماع ما‪ ،‬فاألصل في اإلجماع أن يكون‬
‫مبررا بنفسه وأن المشكك هو الذي ينبغي أن يثبت وجود التحيز‪.‬‬
‫• واعتبر ريد أن خصائص المشتركات‪ 7‬اإلنسانية هي‪ :‬اإلدراك بالحدس‪ ،‬الميل‬
‫النفسي للتصديق بها في بنية اإلنسان‪ ،‬الشعور بالحيرة عند الشك فيها‪ ،‬وأن‬
‫تكون ضرورية للتعامل مع العالم بنجاح‪.‬‬
‫• وأيضا تصدى كانط لشكية هيوم كما أسلفنا أعاله‪ ،‬ورأى أن التعاقب‪7‬‬
‫الموضوعي ناشئ عن مبدأ عقلي أولي‪ ،‬فأعطى بذلك لما أسماه بالعقل الفعال‬
‫دورا جوهريا في المعرفة‪.‬‬
‫• وفي بداية القرن العشرين أحيا الفيلسوف البريطاني جورج مور فلسفة ريد وانتصر‬
‫للفطرة السليمة‪ ،‬كما تصدى لمن يشكك بوجود العالم الخارجي بمناقشات شهيرة‪،‬‬
‫ومن أشهر ردوده عليهم‪ :‬حين أرفع يدي إلى أعلى وأقول‪ :‬هذه يد‪ ،‬ثم أرفع يدي‬
‫األخرى وأقول‪ :‬هذه يد أخرى‪ ،‬فبذلك أكون قد برهنت على وجود العالم الخارجي‪.‬‬
‫جون سيرل (‪)FranksValli‬‬ ‫•‬
‫• ثم أصدر الفيلسوف األمريكي جون سيرل كتاب “العقل واللغة والمجتمع” الذي يعد‬
‫من أهم الكتب المتخصصة في االنتصار لموقف اإلنسان العادي‪ ،‬وقال فيه إن معيار‬
‫المواقف التلقائية هو الثبات البشري العام على التمسك بها خالل التاريخ الطويل‬
‫المليء بالدواعي الكاشفة للحقيقة‪ ،‬فطالما أن هذه القضايا لم تُكذب مطلقا فهذه قيمة‬
‫موضوعية‪ ،‬كما اعتبر أن المواقف التلقائية سابقة على أي رؤية ذوقية فهي تتمتع‬
‫بالكثير من الموضوعية‪.‬‬
‫• ويعد الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (توفي عام ‪1951‬م) من أهم المفكرين الذين لفتوا النظر‬
‫إلى أهمية المجتمع في تكوين المعرفة من خالل دراساته في اللغة‪ ،‬وقد أكدت العديد من الدراسات‬
‫النفسية واالجتماعية الحديثة نظريته‪ ،‬فكان ينكر إمكان تمييز المعطيات الحسية والحاالت النفسية‬
‫دون ربط مجتمعي لكل حالة بلفظ معين‪ ،‬فاإلنسان يتعرف على نفسه وعلى العالم من خالل عالقة‬
‫إشارية موضوعية‪ ،‬ومن المستحيل عليه أن ينشئ لغة خاصة به من خالل المعطيات الحسية‪.‬‬
‫والمعيار األصلي هو الجماعة ال الذات‪ ،‬فالجماعة توفر له المعرفة الصحيحة بعالقات واضحة‬
‫ورمزية بشكل أفضل بكثير من المعيار الفردي الذي يفهم به الطفل الوليد قبل أن يتعلم اللغة‪. ،‬‬
‫• وبحسب فتغنشتاين فنحن نتصور األلم من خالل اللغة‪ ،‬وبدون لغة سنتألم دون وعي باأللم‪.‬‬
‫وبالخالصة فال يمكن الحديث عن أي “معقولية للعالم” بدون قواعد معيارية نكتسبها من الجماعة‪،‬‬
‫وال يمكن ألحد أن ينشئ لغة خاصة به (استبطان) دون استناد إلى معايير عامة يفهمها الناس‪.‬‬
‫• ويقول فيلسوف العلم األميركي المعاصر إرنست ناغل إن اللغة التي نستخدمها لوصف تجاربنا‬
‫المباشرة هي اللغة المعتادة للتواصل االجتماعي‪ ،‬فتطابق المباني اللغوية األساسية في كافة‬
‫المجتمعات مع اختالف التجارب والمناخ والمعتقدات يبرهن على أن هناك بنية إنسانية عامة‪.‬‬
‫• وهذا يعني أن الم‪7‬جتم‪7‬ع ه‪7‬و الذي يحدد شروط معرفتنا‪ ،‬ويوجه حواسنا منذ طفولتنا لنرى الع‪7‬الم‬
‫ك‪7‬ما نراه‪ ،‬والحاجة النفسية العميقة (الفطرية) هي التي تدفع الطفل‪ 7‬للمسارعة في اتباع القواعد‬
‫اإلنسانية العامة وتعلم طرق التصنيف اإلنساني واإليمان باطراد الحوادث‪ .‬وقد لخ‪7‬ص ناغل‬
‫شروط تحقق الفطرة في نقطتين‪ :‬أن تكون شرطا للعبة الجماعة البشرية‪ ،‬وأن تعبر عن حاجة‬
‫اجتماعية ونفسية‪.‬‬
‫• ويستنتج العالم البريطاني “ألفرد جول‪ 7‬آير” أن حواس اإلنسان ليست خاصة به بل محكوم‪7‬ة‬
‫بالتجربة الجماعية الع‪7‬امة‪ ،‬ولذلك ال نقول عن شيء إنه قابل‪ 7‬لإلدراك إال إذا كان من الممك‪7‬ن‬
‫وصفه من خالل م‪7‬جم‪7‬وعة أشخاص‪ 7‬على األقل [‪.]The problem of knowledge, p.85‬‬
‫• وبناء على هذه المعطيات الحديثة‪ ،‬يمك‪7‬ن أن نجري بع‪7‬ض التعديالت على نظرية كانط بشأن‬
‫“العقل الفعال” التي تع‪7‬رضنا لها سابقا‪ ،‬فقد كان يرى أن المبدأ الكلي الضروري ال يصدر عن‬
‫حس خالص أو م‪7‬عطيات حسية بل هو من طبيع‪7‬ة الع‪7‬قل اإلنساني الفردي‪ ،‬والتجارب الحديثة‬
‫تثبت أن القاعدة ال يمكن أن تنشأ من عقل‪ 7‬واحد ولو كان فعاال‪ ،‬وأن الطفل ال يكتسب اللغة من‬
‫ذاته بل في إطار اجتماعي تقبله الغريزة بمجرد االحتكاك بالقواعد‪.‬‬
‫• ومن الخطأ الخلط بين مغالطة االحتكام إلى األكثرية [انظر مقال‪ ‬المغالطات المنطقية]‬
‫وبين استنباط البنية الطبيعية إلدراك البشر من خالل اتفاقهم الفطري رغم اختالف‬
‫الظروف والعادات بين المجتمعات‪.‬‬
‫• ‪ ‬‬
‫• المصدر الخامس‪ :‬الوحي‬
‫يع ّرف ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” الوحي بأنه أصل يدل على إلقاء علم من‬
‫أحد لغيره‪ ،‬وقيّده البعض بأنه خفي وسريع‪ .‬ونجد في القرآن الكريم صورا للوحي ال‬
‫تتقيد بالمعنى الديني‪ ،‬فهو يشمل اإللهام الغريزي للحيوان‪{ :‬وأوحى ربك إلى النحل}‬
‫[النحل‪ ،]67 :‬واإللهام الفطري لإلنسان‪{ :‬وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه}‬
‫[القصص‪ ،]7 :‬واإلشارة السريعة من شخص ألشخاص آخرين‪{ :‬فخرج على قومه من‬
‫المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا} [مريم‪ ،]11 :‬ووسوسة الشياطين‪{ :‬وإن الشياطين‬
‫ليوحون إلى أوليائهم} [األنعام‪.]121 :‬‬
‫• لكن المقصود بالوحي هنا هو الذي يوحي به هللا إلى أنبيائه‬
‫ورسله‪{ :‬وأوحي إلي هذا القرآن ألنذركم به} [األنعام‪،]19 :‬‬
‫وهو الوسيلة التي أبلغ هللا بها رسله برسالتهم وطالبهم بتبليغها‬
‫للناس‪{ :‬إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده}‬
‫[النساء‪.]163 :‬‬
‫• وإذا تجاوز اإلنسان مرحلة الشك وآمن بوجود هللا‪ ،‬سواء عن طريق العقل أو الكشف‪،‬‬
‫أو بالتحقق من صدق األنبياء ومعجزاتهم‪ ،‬فمن البدهي أن يعتبر الوحي اإللهي أعلى‬
‫درجات مصادر المعرفة‪ ،‬وأن يعتبر كل ما يصدر عنه بمثابة العلم اليقيني‪ .‬وبما أننا ما‬
‫نزال في بداية طريق البحث عن الحقيقة فسنؤجل الحديث عن ضرورة اللجوء إلى‬
‫الوحي بعد أن نتحقق من وجود هللا أوالً‪ ،‬ثم سنتعرض في مقال “نبوة محمد” وما يليه‬
‫لتفاصيل هذا المصدر المعرفي‪.‬‬
‫• وما يهمنا بالدرجة األولى في مصدرية الوحي للمعرفة هو الجانب الميتافيزيقي‪ ،‬فبعد‬
‫أن ثبت لنا عجز العقل عن الخوض في عوالم الغيب‪ ،‬وعدم امتالكنا ألي برهان يضمن‬
‫صدور المكاشفات الحدسية ‪-‬بشأن الغيبيات‪ -‬عن مصدر موثوق‪ ،‬واستحالة التوصل‬
‫إلى العالم الغيبي بالحواس ألنه مفارق للحس أصال‪ ،‬وعجز التجربة والرياضيات عن‬
‫اإلحاطة بحقائق الكون المادي نفسه فضال عن العالم الغيبي‪ ،‬فلن يبقى لدينا سوى‬
‫اللجوء إلى الوحي بعد التحقق من صدق نسبته إلى هللا‪.‬‬
‫• مواقف الفالسفة من الوحي‬
‫إذا اعتبرنا اليونان مهداً للفلسفة‪ ،‬فسنبدأ عرضنا التاريخي من مواقف فالسفتها تجاه‬
‫الوحي‪ ،‬وسيأتي ذكر نشأة األديان واألساطير هناك في مقال‪ ‬الوثنية‪ ،‬ونكتفي هنا‬
‫باإلشارة إلى أن ما وصلنا من تراث فالسفة اليونان قد ال يدل في الظاهر على أن‬
‫الوحي بلغهم في ظل سيادة األساطير على المشهد‪ ،‬ولذلك لم يصلنا من تراثهم‬
‫الفلسفي شيء عن البحث في مسألة الوحي‪ ،‬سواء في المرحلة العقالنية األولى على‬
‫يد طاليس وأنكسيماندر‪ ،‬أو في مرحلة السفسطة‪ ،‬أو حتى في مرحلة سقراط ومن‬
‫بعده ممن أعادوا االعتبار للعقل‪ ،‬وذلك بالرغم من إيمانهم بوجود إله خالق من‬
‫منطلق الضرورة العقلية‪ .‬لكن التحقيق يرجح أن األساطير اإلغريقية نفسها لم تكن‬
‫سوى تحريف لرسالة الوحي‪ ،‬حتى انقلبت المالئكة إلى آلهة تسكن جبل األوليمب‪،‬‬
‫ومع ذلك فاألثر الباقي في تراث الفالسفة يبدو خاليا من آثار الوحي ألنه لم يبق لديهم‬
‫منه شيء‪.‬‬
‫• وقد أدى افتقار اإلغريق للوحي إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية‪،‬‬
‫فيقال إن سقراط ناقش مع مجموعة من أتباع فيثاغورس قضية خلود النفس‬
‫البشرية‪ ،‬حيث حاولوا أن يدافعوا عن نظريتهم في التناسخ انطالقا من‬
‫خلفيتهم الباطنية‪ ،‬فاثبت لهم سقراط تهافت النظرية‪ ،‬فاقترحوا القول‬
‫بخلودها بعد موت الجسد‪ ،‬فناقشهم أيضا في هذا الطرح ولم يتمكنوا من‬
‫البرهنة عليه‪ ،‬وعندئذ سكت الجميع برهة‪ ،‬وقال أحدهم ويدعى سيمياس إن‬
‫العلم بحقائق هذه األمور ممتنع أو عسير جدا‪ ،‬ومن الجبن اليأس في البحث‬
‫حتى الوصول إلى آخر حدود العقل‪ ،‬وإذا لم نستوثق من الحق فعلينا أن‬
‫نكتشف الدليل األقوى ما دام أنه ال سبيل لنا إلى بلوغ اليقين بالوحي اإللهي‬
‫[يوسف كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ص‪.]91‬‬
‫• وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا‪ ،‬ر‪7‬أى قسم من الفالسفة‬
‫أن الفلسفة والدين متغايران وال يمكن جمعهما‪ ،‬وأن الدين ال‬
‫يُعتنق إال باإليمان األعمى دون تعقل‪ ،‬بينما رأى غالبية فالسفة‬
‫القر‪7‬ون الوسطى أن الوحي والعقل كالهما من هللا فال يمكن أن‬
‫يتعارضا‪ ،‬وقالوا إن ما جاء في األناجيل من غيبيات ال يمكن‬
‫للعقل أن يدركه بنفسه‪ ،‬فعليه أن يص ّدق به كما جاء في تلك‬
‫الكتب‪.‬‬
‫• وفي القرن الثالث عشر بدأت فلسفة أرسطو العقالنية باالنتشار‪ ،‬واستفاد منها القديس اإليطالي توما‬
‫أالكويني في محاولة إثبات ما جاء في األناجيل بالمنطق‪ ،‬ثم ظهر من الفالسفة من يقدم العقل على‬
‫النقل ويرى أنه في حال تعارضهما فال بد أن يكون العقل هو األولى‪ ،‬ومن هؤالء جون سكوت‬
‫وآالن ديليل‪ .‬وعندما انطلق عص‪7‬ر النهضة في القرن الرابع عشر كان الفالسفة قد حسموا أمرهم في‬
‫الفصل بين الفلسفة والالهوت‪ ،‬واعتبروا أن “الوحي” مناقض للعقل وال يدعمه الدليل العلمي‪.‬‬
‫• ويجدر بالذكر هنا أن الوحي الذي كان موضع البحث لم يكن هو إنجيل عيسى عليه السالم‪ ،‬بل‬
‫مجموعة األناجيل األربعة التي أقرها مجمع نيقية في القرن الرابع الميالدي‪ 7،‬وقد فقد فالسفة عصر‬
‫النهضة الثقة بها عندما شرعوا في نقدها تاريخيا وتبين لهم احتواؤها على الكثير من التناقضات‪،‬‬
‫فضال عن عدم وجود أي دليل على صحة نسبتها إلى عيسى نفسه [انظر مقال‪ ‬المسيحية]‪ ،‬لذا أقر‬
‫بعض الفالسفة في القرن السابع عشر وما بعده ‪-‬مثل سبينوزا‪ -‬بأن هناك وحيا نزل بالفعل على‬
‫النبيين موسى وعيسى عليهما السالم إال أن الكتاب المقدس المعترف به من قبل الكنيسة ليس سوى‬
‫نسخة محرفة‪ ،‬بينما قرر فالسفة نزعة “التنوير” التخلي عن اإليمان بالوحي واالكتفاء بمصدرية‬
‫العقل أو الحس أو الحدس‪.‬‬
‫• ومن الواضح أن نقد فالسفة الغرب للوحي صادر عن اعتقادهم بأنه يقتصر فقط على الكتاب‬
‫المقدس بعهديه القديم والجديد‪ ،‬بينما ال يكاد يتعرض أحدهم للقرآن في بحثه‪ ،‬وقد وضعوا األديان‬
‫كلها في سلة واحدة من خالل منظورهم للدين من زاوية تراثهم اليهودي‪-‬المسيحي فقط‪ ،‬ولم‬
‫يميزوا بين القرآن وغيره النطالقهم في دراسته ‪-‬إن فعلوا‪ -‬من أبحاث المستشرقين الذين أقر‬
‫معظمهم أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصال‪.‬‬
‫• وفيما يتعلق باإلسالم‪ ،‬فسنبحث في مقال مستقل مرجعية‪ ‬الوحي اإلسالمي‪ ‬ومصداقية نسبته إلى‬
‫هللا‪ ،‬ونكتفي هنا في سياق العرض التاريخي باإلشارة إلى أن مواقف فالسفة اإلسالم من مصدرية‬
‫الوحي للمعرفة تنوعت كتنوع المواقف في أوروبا‪ ،‬فكان المعتزلة يحاولون إثبات حقائق الوحي‬
‫بأدوات المنطق مع تقديم العقل عند “التعارض” مع النقل‪ ،‬بينما كان األشاعرة يستخدمون األدوات‬
‫نفسها إلثبات عدم التعارض‪ ،‬كما وضع ابن رشد كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة‬
‫من االتصال” إلثبات توافق العقل والنقل من خالل مفهومه الخاص للعقل والذي يقتصر على‬
‫المنطق األرسطي‪ ،‬ثم وضع ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميالدي كتاب “درء تعارض العقل‬
‫والنقل” ليثبت أيضا عدم التعارض ولكن دون قصر العقل على فلسفة أرسطو‬

You might also like