Professional Documents
Culture Documents
• تعريفات
المعرفة :مصطلح يدل على إدراك صور األشياء أو صفاتها أو
إدراك المعاني المجردة (مثل الصدق والحرية) سواء كان لها
وجود موضوعي أو في الذهن فقط.
• العلم :حسب تعريف 7أهل المنطق هو إدراك الشيء أو المعنى
على ما هو عليه في الواقع ،أي أنه المعرفة الصحيحة التي
تتطابق فيه الصور7ة الذهنية للشيء مع واقع هذا الشيء
• الخبرة :Experienceهي تراكم المعارف التي يكتسبها اإلنسان في
حياته عبر نشاطه الذاتي وتفاعله مع عناصر البيئة المحيطة به ،فهي
مجموع المعارف العملية لكل فرد على حدة ،وتعد لدى المدرسة
البراغماتية المصدر األساسي للمعرفة اإلنسانية.
• اليقين :هو الجزم بأن معرفة الشخص ألمر ما هي مطابقة للواقع قطعا
(أي علم) مع وجود الدليل القاطع على ذلك .واليقين يورث الطمأنينة في
القلب ألنه ال يحتمل وجود النقيض.
• االعتقاد :هو الجزم بأن المعرفة مطابقة للواقع قطعا ولكن دون تقديم دليل
قاطع ،وهذا هو “اإليمان” .وفي حال كون االعتقاد خاطئا أصال فهو
“اعتقاد فاسد” ،ولكنه قد يكون صحيحا بالرغم من عدم تقديم الدليل.
• الظن الراجح :هو الذي يكون أقل وثوقية من اليقين ،فتتراوح
نسبة الوثوق فيه ما بين %99و.%51
• الشك :هو الذي تتساوى فيها االحتماالت تساويا ً تاماً ،فال يكون
لبعضها ر7جحان على بعض ،وتكون نسبة الوثوق فيه .%50
• الظن المر7جوح :هو الظن الوهمي ،ويسمى “وهما ً” ،وهو ما
كانت نسبة الوثوق فيه أقل من ،%50وإذا وصلت النسبة إلى
الصفر فهو باطل بيقين.
• هل المعرفة ممكنة؟
قبل بحثنا عن المعرفة وأدواتها ،يجدر بنا التعرف على آراء الفالسفة في
إمكانية الوصول إلى المعرفة أوال ،حيث اختلفت العقول كعادتها في
اإلجابة عن هذا السؤال إلى درجة تقديم أطروحات في غاية الغرابة.
• ربما كان السفسطائيون في اليونان هم أول من شكك في إمكانية تحصيل
المعرفة ،وكانوا على ثالثة آراء ،هي:
• -1الالأدرية :هم الذين يش ّكون في إمكانية معرفة وجود األشياء
وخواصها ،فهم يعتبرون أن التوصل إلى اليقين أمر مستحيل ويقدحون
في كون الحواس والعقل مصادر موثوقة للمعرفة ،وهكذا يمتنعون عن
الجزم بأي شيء.
• -2ال ِعنادية :هم الذين يقولون إن أي قضية بديهية أو نظرية ال
بد أن يكون هناك ما يعارضها ،فيجزمون بأنه ال توجد حقائق
في الكون.
• -3ال ِعندية :هم الذين أنكروا حقائق األشياء ،وزعموا أنه ال
توجد حقيقة موضوعية ،فما يراه أي شخص موجوداً فهو عنده
موجود ،وال يصبح موجودا عند غيره حتى يراه 7كذلك،
فالوجود والعدم والحق والباطل والمعايير كلها نسبية تتعلق بكل
شخص على حدة ،وهو ما يلخصه بروتاغوراس بقوله
“اإلنسان هو معيار كل شيء”.
ومع أن النزعة الشكية انتشرت في اليونان وكادت أن تخرب •
العقول إال أن الفيلسوف سقراط تمكن من الرد عليهم وتسخيف
منهجهم ،ثم تصدى لهم من بعده أفالطون وأرسطو ،فأنقذوا
بالدهم من السقوط في العدمية ،إذ يمكننا أن نتخيل مصير 7أي
مجتمع ينتشر فيه هذا النوع من الشك الذي ينفي اليقين ويجعل
المعرفة أمرا مستحيال ،بل ويترك معيار الحكم على األخالق
.والمعارف 7إلى الفرد ذاته بنسبية مطلقة
• السفسطائية “”sophism
هي حركة فكرية انتشرت في اليونان ،وتحديدا في مدينة أثينا ،خالل النصف
األخير من القرن الخامس قبل الميالد ،واشتهرت بنقل اهتمامات الفالسفة من
التأمل في القوانين الطبيعية والكونية إلى شؤون اإلنس7ان األخالقية والسياسية،
حيث كان اإلنسان موضع اهتمام األدباء وليس الفالسفة ،وتزامن ذلك مع قيام
حروب دامية بين اليونان والفرس وبين أثينا وإسبرطة ،وتزعزع الحكم
الديمقراطي األثيني ،وتسلط األرستقراطيين على الحكم مما 7جعل األخالق
والسياسة وحقوق الناس هي القضايا 7المصيرية التي تستحق اهتمام الفالسفة.
• هنا ظهر فالسفة الجماعة السفسطائية ،وعلى رأسها “بروتاغوراس”
سخروا من االهتمام بالقضايا الميتافيزيقية (الدينية
و”جورجياس” ،الذين ِ
واألسطورية) وركزوا اهتمامهم على السياسة والفصاحة والنجاح الدنيوي،
وأصبح معيار الحق والعدل لديهم مرتبط بمدى قدرة اإلنسان على المناظرة
والجدل والمواهب الخطابية في إقناع الجماهير.
• في القرن السادس عشر ،أعاد الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي م7ونتين
إحياء مذهب الشك ،وكان له أثر كبير في إدخال الشك في فكر
الحداثة ،حيث تأثر به بعض المفكرين الذين انتهى به7م الحال إلى
العدمية ،ثم ط ّور الفيلسوف األسكتلندي ديفيد هيوم (توفي عام
1777م) فكرة الشك وقال إن المعرفة ليست مؤكدة بل مبنية على
تصور اإلنسان وإدراكه لألشياء.
• استبعد هيوم مفهوم المعرفة الفطرية والمبادئ العقلية (البديهيات)
وزعم أنه7ا مكتسبة من العادة والتجربة وليست فطرية ،كما أنكر
الرابطة الضرورية بين السبب والمسبب (السببية) وحولها إلى رابطة
ظاهرية ناتجة عن األلفة والعادة ،فيقول مثال إننا نعتقد بأن قطعة
الفحم تشتعل عندما تُلقى في النار ألننا اعتدنا على رؤية ذلك كلما
جربناه ،ولكن ما الذي يضمن لنا أن التجربة ستنجح في المرة التالية؟
ومن الواضح أن نفي السببية يعني السقوط في نسبية مطلقة •
واستحالة الوصول إلى معرفة حقيقية أو يقينية ،ما دفع بعدد
من كبار الفالسفة للرد على هيوم ،وعلى رأسهم األلماني
إيمانويل كانط (توفي عام 1804م) الذي يُعتبر اليوم بمثابة
.المنقذ للعقل الغربي من السقوط في الشك العدمي
• وفي مناقشة طويلة ومعقدة ،أقام كانط حجته على أن شكية هيوم
لن تؤدي إلى الشك في قيام عالم موضوعي بل إلى زعزعة
اعتقادنا بضرورة السببية فقط ،فينبغي أن ننطلق من مسلّمة بوجود
تعاقب موضوعي بين الحوادث مستقال عن إدراكاتنا الحسية ،ثم
نسأل :كيف نميز بين التعاقب في أفكارنا والتعاقب في الحوادث
الموضوعية؟
• الرد على الشك الفلسفي
وللرد على الشكاك والريبيين ،نقتبس بإيجاز من كتاب الدكتور
راجح الكردي “نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة” النقاط التالية:
• -1ركز الشكاك طعنهم في الحواس كمصدر وحيد للمعرفة وأنها أساس
البديهيات ،وقد رد عليهم أفالطون بأن أخطاء الحواس ال يصح اإلستناد
إليها في إنكار العلم ألنه يمكن تصحيحها ،سواء باستخدام حاسة أخرى أو
بالتجربة مع العقل والبرهان .كما أنه من الممكن جدا تصحيح أخطاء
الحواس والتمييز بين حواس كل شخص على حدة بمنهج عقلي سليم
تمحص فيه الحقيقة ،فما تقدمه الحواس المختلفة من نتائج قد تكون مختلفة
ولكنها ليست متناقضة ،بينما يزعم الشكاك أنها متناقضة.
• -2اختالف اآلراء جائز ولكن اتفاق الناس على أمور أساسية من
البديهيات والمسلمات المعقولة والمبادىء ليس مستحيال ،مثل االتفاق
على الفضائل األخالقية والحقائق الرياضية.
• -3هناك قضايا تتضح صحتها في العقل بمجرد تصورها بدون برهان،
وهي قضايا بديهية أولية ومطلقة ،فمن ذا الذي ال يصدق أن الكل أكبر من
الجزء؟ ومن الذي يطلب دليال عليه؟
• أما الشك المط7لق 7الذي ينفي إمكانية التعرف على الحقيقة نهائيا ،فير ّد
عليه الدكتور الكردي بما يلي:
• -1إذا أراد الشاك إثبات مذهبه والبرهنة على صحة قوله فهذا يتط7لب7
منه االعتراف بأنه يستطيع أن يعلم شيئا علما يقينيا ،وهذا يناقض دعواه
بامتناع اليقين.
• -2الشاك إما أن يعلم وجوب 7الشك في كل شيء و7هذا يعني أنه يعلم
علما يقينيا بأنه ينبغي أن يشك في كل شيء ،ويعلم من ثم علما يقينيا
بأنه ال ينبغي الشك في كل شيء ،وإما أن يعلم علما يقينيا ً أن مذهبه
راجح فقط ،فلديه مرجح يأخذ به .وإما أن يعترف بأنه ال يعلم علما يقينيا
وال راجحا وحينئذ فهو ال يضع الشك كمذهب 7ويقر بالعجز.
• -3الشك نفسه يتضمن ثالث بديهيات يأبى العقل الشك فيها ،وهي :وجود
الذات المفكرة (ذات الشخص الشاك 7نفسه فهو يعلم يقينا أنه موجود ويفكر)،
وعدم جواز التناقض (ألنه يعلم ما الشك وما العلم وما الجهل وما اليقين و7ما
اإلنسان… إلخ ،فهو يقر أن اليقين غير الشك وأنه من غير المستطاع أن
يجمع بين اإلثبات والنفي معا) ،وكفاية العقل لمعرفة الحقيقة (فهو يعول على
عقله في طرح مذهبه).
• يقول الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين إن الشك يستلزم مرجعاً ،ما
يعني أن الشك المطلق لغو ،فهو< استخدام خاطئ لكلمة الشك التي يستخدمها
الشخص< العادي عند المقارنة مع اليقين .وعندما كان يتحدث هيوم عن
الشك مستخفا ً بوجود العالم المادي وبالمعرفة اإلنسانية فهو لم ينتبه إلى
أنه قد تعلّم الشك نفسه من لغة اإلنسان العادي ،وكان عليه أن يستخ<دم لغة
أخرى خاصة ال يفهمها إال هو بناء على مفهومه المطلق للشك.
• الشك المنهجي
إذا كان الشك الفلسفي -الذي تحدثنا عنه أعاله -مذهبا مستقال
يقوم على إنكار المعرفة فإن الشك المنهجي يجعل من الشك
مجر7د وسيلة للوصول إلى اليقين ،ويتطلب ذلك من الباحث أن
يجر7د عقله عن كل المعلومات واألفكار والمعارف ،وينطلق
تدريجيا بالتأمل والتفكير 7نحو اكتساب الحقائق المجردة.
• أوصى أرسطو (توفي عام 322ق.م) في وقت مبكر بضرور7ة
الشك المنهجي ،وقال إن هناك عالقة ضرور7ية بين الشك
والمعرفة الصحيحة ،ألن المعرفة التي تعقب الشك أقرب إلى
الصواب.
كان أبو حامد الغزالي (حجة اإلسالم المتوفى عام 1111م) أيضا من •
رواد هذا الشك ،ففي كتاب “المنقذ من الض7الل” تحدث عن تجربته
مع الشك عندما بدأ بالشك في الحواس لعدم قدرتها على كشف 7الكثير
من مظاهر الزيغ ،ثم أخذ يشك في العقل نفسه إزاء نتيجة خوضه في
المناظرات الفكرية العميقة مع شتى التيارات الفكرية السائدة ،حتى
وصل به األمر إلى المرض النفسي والجسدي (االكتئاب) ،حيث كان
يعاني من صعوبة في الكالم وفقدان الشهية للطعام ،واستمر على هذا
الحال ستة أشھر ،ولم ينته إال بعد أن قذف هللا في صدره نور الحقيقة،
فاستعاد عقله الثقة بالبديهيات والحقائق األولى ،ورجع إليه إيمانه
بالمحسوسات والمعقوالت .وقد دفعته هذه التجربة إلى الميل نحو
الكشف الص7وفي بعد أن كان من المؤيدين للمنهج العقالني ،لكن
.األرجح أن تخلى عن المنهج الصوفي في المرحلة األخيرة من حياته
• في القرن السابع عشر سار الفيلسوف الفر7نسي رينيه ديكارت
على خطا الغزالي ،وقال إنه ينبغي علينا أن نطرح كل ما في
داخل عقلنا من معارف ،ونشك في جميع طر7ق العلم وأساليبه،
حتى نصل إلى العقل مجردا خالصا .وقد مارس بنفسه هذا
النهج في التأمل وطرح االعتقاد بوجود كل شيء ،حتى وصل
إلى حقيقة واحدة يجب اإليمان بها وهي أنه يفكر ،واستنتج
منها المقولة األولى للمعرفة “أنا أفكر ،7إذن أنا موجود” ،ثم
استنتج من تلك الحقيقة حقيقة وجود هللا وبقية الحقائق األخرى.
• طبيعة المعرفة
بعد االنتهاء من نقض الشك الفلسفي المطلق ،واالعتقاد
بإمكانية المعرفة واليقين ،تفرعت مذاهب الفالسفة في طبيعة
معر7فة اإلنسان لألشياء وكيفية إدراكه لها إلى تيارين رئيسين،
ثم حاول البعض إنشاء تيار توفيقي ثالث ،ونوجزها بما يلي:
• -1الواقعية :هو تيار يشمل مذاهب عديدة ،وتعتقد جميعها بوجود عالم
خارجي للموضوعات (األشياء) مستقل عن الذات العارفة (اإلنسان)،
فمعرفة العقل لألشياء مطابقة لالشياء كما هي في الواقع ،وهذا يعني
أن المعرفة هي الصورة المنعكسة للعالم الخارجي في العقل.
• ومن مذاهب هذا التيار االعتقاد بصحة إدراك الحواس بشكل تام ،وهو
ما ثبت خطؤه بالتجربة ،فالحواس قد تكون خادعة أحيانا مثل خدعة
السراب.
• ومن مذاهبه أيضا الواقعية النقدية التي تخفف من غلو االعتقاد بصحة
مدركات الحواس وترى أن المعرفة ليست مطابقة لهذه المدركات بل
هي صورة معدلة في العقل ،وهذا هو مذهب “الوضعية” الذي يرفع
من قيمة العلم التجريبي ويجعل الفكر مجرد انعكاس للوجود المادي.
• -2المثالية :أصحاب هذا التيار ال يرون وجودا إال للفكر
وتصوراته ،فالمادة واألشياء كلها تابعة لما يفكر به العقل ،وال
وجود للشيء إذا لم يدركه العقل ،حتى أصبح العالم
الموضوعي لدى بعضهم مجرد أفكار وخواطر ،7وهو تطر7ف
غير منطقي وتنكره التجربة ،فهناك أشياء موجودة في الكون
وال يدركها أي عقل ،وهناك أشياء كانت موجودة منذ ماليين
السنين ولم تُدرك إال في وقت متأخر ،ما دفعهم إلى القول إن
تلك األشياء كانت موجودة في “عقل إلهي” ثم استقبلها العقل
البشري منه.
• إيمانويل كانط
• -3التيار 7النقدي :وضع الفيلسوف األلماني إيمانويل كانط
مذهبا نقديا للتوفيق بين الواقعية والمثالية ،فميز بين الظواهر
العقلية السابقة على التجربة وبين الظواهر التي تكتسب
بالحواس ،وقال إن المعرفة ال تكتسب إال بالحس والعقل معا،
فنحن ال نعرف 7األشياء كما هي بل كما تظهر لنا فقط،
ومعرفتها تتم عبر 7نقلها بالحواس إلى الذهن ثم مطابقتها
للمقوالت والمبادئ العقلية.
• منذ بداية القرن التاسع عشر ،أصبح مذهب كانط بمثابة المرجع
األساسي للفكر الغربي ،حيث أعاد للعقل بعض التوازن باتخاذه
موقفا وسطيا واالعتقاد بوجود مبادئ فطرية وضرورية في العقل،
لكن مذهبه لم يتمكن من إلغاء النظرة الوضعية ألنه جعل استخدام
المبادئ الفطرية في غير المحسوس أمراً مستحيالً ،مما جعل إدراك
العقل للحقائق الجزئية بمثابة حقيقة كلية ،فقد ميّز كانط بين ما أسماه
بالعقل النظري والعقل العملي ،وأنكر قدرة العقل النظري (الخالص)
على الوصول إلى “معرفة راسخة للحق العلوي” ،فالعقل حسب
رأيه ال ينتج معرفة ما لم يتصل باألشياء المادية والتجارب الحسية
التي تم ُّد ه بالمادة والمضمون عبر قوة الفهم ،ومع ذلك فقد رأى كانط
أنه ال بد من االعتقاد بوجود إله ويوم آخر لتأسيس فعل أخالقي.
• وهذا يعني أن كانط لم يكن متوازنا ووسطيا بالفعل ،بل أعطى
المادة قيمة أكبر ولم يعترف بقيمة المبادئ الفطرية العقلية إال
بشكل تابع للمادة ،حتى لم يجد مبرر7ا لوجود اإلله إال من حيث
الضرورة لتبرير األخالق ،وهكذا أصبح الدين في العقل
الغر7بي مسألة نفسية ذاتية خارجة عن مفهوم الحقائق،
وأصبحت الوقائع تابعة لمصلحة اإلنسان بدالً من اعتماد العقل
للبحث عن حقائق األشياء [انظر مقال البراغماتية].
• والمفارقة أن العقل الغر7بي الوضعي ،الذي يعتقد أن المعرفة
الدينية تحتاج إلى إيمان غيبي غير عقالني ،ال ينتبه إلى أن
معر7فته الوضعية المادية ليست أقل غيبية ،فهو يجزم بمر7جعية
المادة وحدها دون بر7هان مع أنها مجر7د خيار واحد من بين
خيار7ات أخرى ممكنة.
• ويجدر بالذكر أن المذاهب الحداثية كلها فقدت الكثير من
بريقها في القر7ن العشر7ين مع ظهور 7تيار7ات ما بعد الحداثة
وفيزياء الكم ،بما فيها المذهب النقدي لكانط ،حيث أدرك
الكثيرون أن األسس التي صاغت المعرفة الغربية نشأت داخل
حركة تاريخية متأثرة بتسلط الكنيسة السياسي ومحاربتها
للعلم ،وهناك اعتقاد شائع اليوم بين فالسفة العلم والعلماء
التجريبيين أن المعرفة الكلية مستحيلة ،وأن المعرفة العلمية
المادية ليست يقينية.
• مصادر المعرفة
بعد استعادة اإلنسان ثقته بإمكانية التوصل إلى المعر7فة ،سيجد
نفسه أمام عدة تيارات فكرية يؤمن كل منها بأولوية أحد
المصادر أو الوسائل المؤدية للمعر7فة ،فهناك من يرى أن
المعرفة ال تتحقق إال بوسيلة واحدة ،وهناك من يؤمن بمصادر
أخرى غير أنه يثق بواحدة منها للتوصل إلى اليقين.
• وسنتحدث فيما يلي عن خمسة مصادر رئيسة للمعرفة ،وهي
اإللهام والحدس والكشف ،العقل ،الحس ،اإلجماع ،والوحي.
ويجدر بالذكر أن مدارس الفلسفة الحداثية وما بعد الحداثية
والعلماء التجر7يبيون ال يعترفون بالوحي والكشف ،دون أن
يمنع ذلك عشرات الماليين في الغرب من التمسك بإيمانهم
بالوحي المسيحي-اليهودي وبالكشف على الطريقة الباطنية
الغنوصية .وسنستعرض فيما موجزا لهذه المصادر الخمسة.
• المصدر األول :اإللهام والحدس
اإللهام هو ما يلقيه اإلله في الروع ،وبحسب المتصوفة فهو
اإليقاع في القلب من العلم غير 7القائم على االستدالل ،أما أتباع
المذاهب الباطنية الغنوصية الذين يؤمنون بوجود ما يسمى
بالعقل الفعال ،مثل ابن سينا ،فيقولون إن اإللهام هو ما يلقيه
العقل الفعال في نفس اإلنسان المؤيدة بشدة الصفاء.
• وحدوث اإللهام يسمى باإلشراق والكشف والذوق لدى
المتصوفة ،أما الجزء البشري الذي يحدث فيه هذا اإلشراق
فيسمونه بالبصير7ة ،وهو يرى حقائق األشياء وبواطنها كما
يرى البصر 7ظواهر األشياء المادية.
• أما الحدس فهو االنتقال السريع للذهن من المبادئ إلى
المطالب ،ويعرّفه ديكار7ت بأنه عمل عقلي يدرك به الذهن
حقيقة ما بشكل تام وبزمن واحد ،أي بدون تدرج في
االستدالل ،فهذا النوع من المعر7فة يحصل تلقائيا في الذهن
بمجرد تصور 7أمر ما ودون استدالل منطقي ،ويضرب أهل
المنطق على ذلك مثاال بقولهم إن مجرد رؤية أحدنا لشعاع
ضوء يتسلل من ثقب في جدار يدفع الذهن لالعتقاد مباشرة بأن
هناك مصدر7ا للضوء وراءه دون تفكير وال تأمل.
• هنر7ي برغسون
• أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (توفي عام 1941م)
فقد وضع مذهبا فلسفيا جديدا في القرن العشرين على مفهوم
الحدس ،معتبر7ا أن الحدس عند اإلنسان يشبه الغريز7ة عند
الحيوان ،وهو أمر ال يمكن التعبير عنه بالكلمات بل يجب
تذوقه ومعايشته واختباره من قبل كل شخص على حدة حتى
يكتسب به المعرفة .وبما أنه فيلسوف 7غربي من أصل يهودي
فلم يكن مياال إلى اإليمان باإلله المجرَّد بالرغم من أفكاره التي
تبدو صوفية للوهلة األولى ،بل جعل الحدس معرفة منبثقة من
داخل اإلنسان وليست مصدرا للمعرفة التي تهبط عليه من
اإلله.
• كان هنري برغسون يرى أن الحياة انطلقت من خزان كبير
وانتشرت بين الكواكب ،ثم اتخذت أشكاال متنوعة على شكل
مادي ،ومن الواضح أن هذه الفكرة الميتافيزيقية (الغيبية)
لتفسير نشوء الكون والحياة ال يؤيدها أي دليل.
• يضع برغسون المادة والحياة في موقعين متقابلين ،فالحياة انطالق وحرية،
والمادة سكون وخضوع للقوانين الفيزيائية ،وكلما اكتسب الشيء قدرا أكبر من
الحياة كان أسمى ،وهو ما يفسر 7سمو اإلنسان على بقية الموجودات ،وهو
يختلف عن التطوريين (أتباع نظرية داروين) في أن لكل كائن حي قدره
الخاص من الحياة والمادة منذ البداية ،وإذا كان الحيوان يمتلك غريزة للتوصل
إلى معرفته الخاصة فإن اإلنسان يمتلك عقال بالمقابل ،كما يمتلك أيضا وجدانا
أو بصيرة يتوصل بها إلى الحدس الذي 7هو أسمى أنواع المعرفة.
• يضع برغسون أيضا الزمان والمكان في موقعين متقابلين ،فالزمان متغير
وحر ،والمكان جامد ومقيد .والزمان هو الواقع الحقيقي وهو الحياة ،وبما أن
الكائنات الحية تعيش 7في حالة صيرورة دائمة باالنتقال من حال إلى آخر فإن
عالقتها بالزمان هي “الديمومة”.
• والتغير المستمر لألحياء هو حالة من التطور الخالق ،وهذه
الحياة المبدعة هي اإلله نفسه برأيه ،فهي التي توجد األشياء
وتتابع تتطورها ،وهي نفسها في حالة تطور .أما المعر7فة
الحقيقية لهذا الواقع الحي المتطور فهي الحدس ،ألن العقل ال
يستطيع أن يدرك الحياة بخصوصيتها ،وعلى كل حي أن
يندمج مع الحياة الباطنة ليتوصل إلى هذه المعرفة اليقينية
المطلقة.
• ويرى بعض المفكرين أن برغسون لم يأت بجديد ،وأنه أعاد صياغة الباطنية
اليهودية (القبااله) في صورة جديدة تناسب العصر ،وأنه تأثر أيضا بكل من
أفالطون وديكارت ومالبرانش 7وباسكال [مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة
في فرنسا ،ج .بنروبي ،تر7جمة عبد الرحمن بدوي ،ص .]176
• ويبدو أن طغيان االتجاه المادي في القرن التاسع عشر 7على الفكر الغربي كان
له أكبر األثر في جنوح برغسون نحو الحدس ،ليضع فلسفة معاصرة تعيد
االعتبار 7للروح ،إال أنه تطر7ف أيضا في اتجاهه الروحي كتطرف الوضعيين
في المادية ،فألغى الواقع العملي وقلل من شأن المعرفة العقلية المجردة ،كما أن
فلسفته ال تعدو قدر الفلسفات الغربية األخرى في تناولها للقضايا الميتافيزيقية
(الغيبية) ،فالحدس ليس سوى 7جزء من اإلنسان ومحدود بدائرتي المكان
والز7مان كمحدودية اإلنسان نفسه ،ولن يستطيع تجاوزهما حتى في خياله.
• من جهة أخرى ،ير7ى الباطنيون أن الحدس هو قبول اإللهام
الذي يلقيه العقل الفعال في النفس ،ويرى المتصوفة أن الحدس
(الكشف )ال يتم إال بعد رياضة روحية ومجاهدة نفس بطرق
مدر7وسة وممنهجة ،وهو ما اقتبسوه كما يبدو من الديانات
الباطنية كالهندوسية والبوذية ،أما عند الفالسفة العقليين
فالحدس واإللهام مصطلحان لشيء واحد ،وهو حسب رأيهم
المعرفة المباشر7ة دون استدالل وتجربة.
• ويؤمن الباطنيون والمتصوفة بأن البصيرة ال تعمل عملها
باكتساف المعرفة (سواء من اإلله أو العقل الفعال أو الحقيقة
الكونية) إال بعد االعتقاد بأن الجانب المادي من اإلنسان هو
عائق للروح والبصيرة ،كما يعتقدون أن الحواس والعقل ال
تتوصل إال إلى حد معين من المعرفة ال يمكنها تجاوزه ،وأن
الحقائق ال تُكتسب إال بالحدس واإللهام بعد القضاء على
المادية .وقد يختلف 7الباطني مع المتصوف في الطر7يقة لكن
الهدف واحد.
• هل يكفي الحدس للمعرفة؟
سنناقش في مقال “الصوفية” مبدأ اإللهام كمصدر رئيس للمعرفة
في مجال العقائد والشرائع لدى المتصوفة المسلمين ،ونكتفي هنا
بتوضيح ما يراه ابن تيمية من أن اإللهام مصدر معتبر ،وأن إنكار
كونه طريقا من طرق المعرفة هو خطأ يماثل خطأ الذين جعلوا
طريقا شرعيا على اإلطالق ،فيقول إن مذهب السنة الوسطي هو
أن يكون اإللهام في األحكام الشرعية محصورا بما لم تأت فيه أدلة
شرعية نقلية أو عقلية ،فيكون اإللهام هنا من باب الترجيح والفهم
المنضبطين بالقواعد المتفق عليها [فتاوى ابن تيمية ،]10/473
وهذا الفهم هو ما تؤيده حوادث اإللهام التي وقعت للصحابة
والتابعين ،وتدخل فيه الكرامات التي ال تخالف النص.
• أما أهم االنتقادات الموجهة للحدس واإللهام كمصدر للمعرفة فنوجزها
في النقاط التالية:
• -1البصيرة لدى اإلشراقيين ليست سوى إحدى ملَكات اإلنسان ،فهي
محدودة القدرة والمدى وال يمكن بأي حال أن تحصر العلوم بها.
• -2حتى في حال عدم اعتماد البصيرة مصدرا وحيدا ،واالكتفاء
بالقول إنها المصدر الرئيس للمعرفة ،فليس هناك أي ضمان لسالمة
البصيرة من الزيغ والضالل ،فالمعرفة المستفادة من الكشف تخص
صاحبها فقط وال يمكنه شرحها وال نقلها لآلخرين فضال عن إثباته
صحتها لهم.
• -3يعترف كبار اإلشراقيين بأن إلهاماتهم جاءت متاثرة بثقافتهم
العامة ،فكان فالسفة اإلشراق في اليونان ومصر يرون في
مكاشفاتهم ما يؤيد أساطيرهم الوثنية ،وهو ما حدث أيضا
لفالسفة اإلشراق المسلمين (مثل الفارابي وابن سينا) الذين كانوا
يشاهدون ما يسمى بالعقول العشرة التي اقتبسوها من نظرية
الفيض اليونانية [انظر مقال الباطنية] ،بينما يرى المتصوفة
المسلمون ما يوافق عقيدتهم أثناء استغراقهم في الذكر ،فلو
كانت البصيرة مجردة عن هوى النفس وتأثيرات الثقافة كان
ينبغي أال ترى إال الحقيقة المجردة التي يشترك فيها كل البشر.
• -4ليس هناك أي ضمان عقلي أو نقلي أو حتى كش7في يثبت لنا أن ما يستقر
في نفس اإلنسان من مكاشفات هو من مصدر موثوق ،سواء كا7ن إلهًا أو حقيقة
كونية أو الزمان الحيوي (لدى برغسون) أو حتى خيال اإلنسان وأوهامه ،فما
الذي يمنع أن تكون الجهة التي تتصل بالعقل الباطن لإلنسان هي شيطان
خبيث؟
• وفي اإلسالم نصوص صريحة تحذر من اللبس الذي قد يحدث لدى البعض
في الخلط بين اإللهام الرباني ووساوس الشياطين وأوهام العقل الباطن ،فيقول
النبي صلى هللا عليه وسلم “الرؤيا ثالثة :رؤيا من هللا ،ورؤيا تحزين من
الشيطان ،ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة” [صحيح البخاري:
،8/72صحيح مسلم ،]4/1773وسيأتي تفصيل هذا النقد في ظل المفهوم
اإلسالمي ضمن مقال “الصوفية“.
• -5بدأت تظهر في العقود األخيرة ادعاءات كثيرة من قبل شخصيات باطنية
غربية تزعم أنها تتصل بالتخاطر مع كائنات فضائية ،وأقيمت بناء على هذه
المزاعم أديان ومذاهب و7تيارات فكرية يتبعها الماليين من الناس ،ومن أهم
المنظّرين لهذه الفكرة البريطاني ديفيد آيك 7الذي زعم في كتابه “السر األكبر”
وجود كائنات فضائية من الزواحف العاقلة تعيش تحت قشرة األرض وأنها
تسيطر على البشر بطرق عدة ،وقال إن الكثير من تفاصيل هبوط الكائنات
إلى األرض قد تلقاه باإلشراق الباطني الذي يتلقاه منها مباشرة ،ودون أن
يقدم أي دليل على صحة وجود هذا اإلشراق الذي لم يختبره أحد سواه ،ودون
أن يثبت لنفسه -فضال عن غيره -أن تلك اإلشراقات التي يتلقاها صحيحة
وصادقة فعال وليست من قِبل شياطين يعبثون به.
• المصدر الثاني :العقل
يصنف العقل لدى الفالسفة القدماء إلى صنفين :األول
غريز7ي ،وهو الملَكة التي يعلم بها اإلنسان الضروريات ،فهو
غريز7ة تمتلك علوما أولية أو مبادئ ثابتة .أما الثاني فهو
ُمكتسب ،وهو الذي يفهم به اإلنسان ويفكر.7
• ويتفق الفالسفة الحداثيون مع هذا التصنيف ،فيقول الفيلسوف
الفرنسي أندريه الالند إن العقل ينقسم إلى عقل منشئ وعقل
ُمنشأ ،فاألول قوة فطرية تجريدية ثابتة ،أما الثاني فيتكون على
يد األول بعد إعداد طويل ،وبتراكم الحقائق المكتسبة
والمقوالت التي كرسها االستعمال والقيم المقبولة من قبل
المجتمع[ .المعجم الفلسفي.]2/87 :
إسبينوزا •
• وبحسب اعتبار بعض الفالسفة ألولوية العقل ،ظهر المذهب العقلي الذي ُوجد
داخل الكثير من األديان ،ففي المسيحية واليهودية يؤمن العقليون -مثل
سبينوزا وشتراوس -بأن العقل مقياس لحقائق الوحي ،في مقابل أتباع مذهب
خوارق الطبيعة الذين يرون أن حقائق الوحي ال يمكن عرضها على العقل
ألنها ليست في متناوله .وفي اإلسالم نجد أيضا أن المعتزلة والفالسفة
يصرون على بنا7ء عقيدة قائمة على العقل ورفض ما يرونه مناقضا له مما
يرد في الوحي من نصوص ،بينما يقول أهل الحديث وعلماء الكالم إن النقل
أولى من العقل عند التعارض ،كما يؤكد من تخصص منهم في العقائد أنه ليس
هناك تعارض أصال ،وهذا ما قرره ابن تيمية في كتابه المشهور “درء
تعارض العقل والنقل”.
• أما أتباع المذهب العقلي من العلمانيين فال يلتفتون إلى الوحي،
ويجعلون المفاضلة بين العقل والحس والحدس فقط ،بحيث
يكون العقل هو األولى باليقين ،أو يكون هو المصدر الوحيد
للمعرفة.
• وعند دراسة أقوال ومناقشات هذه المذاهب ،نرى أن مفهوم العقليين للعقل
ليس خاصا بالعقل الغريزي بل يتعلق بالعقل المكتسب ،فهو عقل تشكل في
ظل التأثيرات الثقافية لكل عصر ،حيث نرى أن العقليين داخل األديان
اليهودية والمسيحية واإلسالمية متأثرين بالمنطق اليوناني وفلسفته العقلية،
بينما يتشكل عقل المعاصرين بما أحدثته الثورة العلمية من اكتشافات.
• األوليات العقلية
تنقسم األوليات إلى قسمين ،األول هو التصورات :وهي اإلدراكات البسيطة
مثل اللون والحرارة ،والمركبة مثل تصور جبل من ذهب .والثاني هو
التصديقات :وهي اإلدركات التي تنطوي على حكم ،أي تتضمن نسبة بين
طرفين ،مثل قولنا إن النار محرقة.
• ويؤ7من بعض أتباع المذهب 7العقلي بأن األصول األو7لى للمعرفة تعود
كلها إلى التصو7رات ،بينما يؤ7من آخرو7ن من العقليين بأنها تعود
للتصديقات ،7حيث 7يرى الفريق اآلخر 7أن التصورات قد تكون مجرد
خواطر 7ووساو7س و7ليست مبادئ أولية.
• و7يقول الفالسفة إن العقل مفطو7ر على أربعة مبادئ أولية ،تنبثق منها
المبادئ األخرى ،وهي:
-1مبدأ الهو7ية :الشيء ال يكو7ن غيره ،وبلغة المنط7ق يقال “ما هو هو،7
وما ليس هو 7ليس هو”.
• -2مبدأ عدم التناقض :الشيء الواحد ال يمكن أن يكو7ن وأال يكون في
وقت واحد.
• -3مبدأ نفي الثالث (الوسط المرفوع) :أي شيء هو إما (أ) أو
ليس (أ) وال يمكن أن يكون ال هذا وال ذاك ،فمثال إما أن يكون
العدد زوجيا أو فرديا وال يمكن أن يكون إال أحدهما.
• -4مبدأ العلية :ال يمكن أن يحدث شيء دون علة محددة ،سواء
كانت علة واحدة كافية للتفسير أو باالشتراك مع علل أخرى.
• تتصف المبادئ األولية بصفتين رئيستين هما:
-1الفطرية :فالعقل البشري يولد وهي مفطور عليها ،وقد
تغيب عنه بفعل التربية أو الغفلة أو لقلة الذكاء ،لكن تذكير
العقل بها يساعد على استحضارها والتيقن بصحتها ،وهذا
يستلزم أيضا أن تكون بدهية فهي بارزة في العقل دون مقدمات
وبراهين ،ويصفها بعض الفالسفة أيضا بأنها قبلية وأولية ألنها
ال تحتاج إلى تجربة تؤكدها.
• -2العمومية :حيث يرى العقليون أن تلك المبادئ معروفة لدى كل العقول،
فكان ديكارت يقول إن العقل أحسن األشياء توزعا بين الناس بالتساوي ،حتى
جعل معيار الحقيقة هو وضوحها في الذهن ،وهو ما قاله أيضا بعض علماء
الكالم المسلمين من األشاعرة والمعتزلة ،لكن آخرين يرون أن الناس يتفاوتون
في العقول ،فيقول الغزالي “أما األصل وهو الغريزة فالتفاوت فيه ال سبيل إلى
جحده” [إحياء علوم الدين ،]1/88ويرى ابن تيمية أيضا أن المبادئ 7الفطرية قد
تضمر في العقل بسبب تفاوت الناس في قوة الذهن مثل تفاوتهم في قوة البدن.
ويمكن القول إن هذا التفاوت ال يعني أن المبادئ نفسها نسبية في داللتها على
الحقيقة بل من حيث 7صلة الناس بها ،وذلك نظرا لتفاوت قدراتهم العقلية وغفلة
بعضهم ،فال يمكن لعقل سليم أن ينكر مثال أن النقيضين ال يجتمعان.
• هل يكفي العقل وحده؟
اختلفت آراء العقليين بحسب الثقافة السائدة على مر العصور ،فعندما سادت7
ثقافة الباطنية في الهند وفارس وبعض المناطق اليونانية كان الكهنة يزعمون
عدم الحاجة للوحي ،على اعتبار أن العقل الذي يتلقى الفيض من اإلله (الحقيقة
الكونية بحسب 7مفهومهم) في غنى عن تلقي المعرفة نفسها بالوحي المباشر على
يد األنبياء ،وتأثر بهذا المفهوم الفالسفة العقليون الذين نشأوا في البيئة نفسها،
كما لحق بهم بعض فالسفة اإلسالم مثل الطبيب الرازي المتوفى عام 313هـ.
• ومن األمثلة المشهورة لهذا المنهج في البيئة اإلسالمية ،رواية “حي بن يقظان”
للفيلسوف األندلسي ابن طفيل ،التي تحكي قصة طفل ينشأ وحيدا في جزيرة
نائية ،حيث 7يبدأ بالتأمل في ذاته وفي الكون والحقائق الوجودية دون تربية وال
توجيه ،فيصل إلى المعرفة بعقله دون حاجة للوحي.
• وعندما بدأت ترجمة الفلسفة اليونانية العقلية وشبيهتها اإلسالمية إلى اللغات األوروبية
ظهرت أفكار مماثلة لدى األوروبيين ،فاعتبر سبينوزا أن العقل أوثق من الوحي ألن
دالئل صدقه متضمنة فيه بينما يحتاج الوحي إلى المعجزة إلثبات صدقه ،كما سار
اليبنتز على نفس النهج ،وحاول االثنان في القرن السابع عشر إقامة دين جديد تحت
مسمى دين الطبيعة ،بحيث يُحتكم فيه إلى العقل دون الوحي ،ثم دعم الفيلسوف األلماني
إيمانويل كانط هذا التوجه في القرن التاسع عشر.
ديكارت •
• ويبدو أن الفالسفة العقليين في عصر النهضة األوروبية كانوا يسعون إلى رد االعتبار
للعقل ضمن صراعهم مع كهنوت الكاثوليكية من جانب ،وضمن صراعهم أيضا مع
فالسفة المذهب الحسي ،ولكن ديكارت نفسه (وهو رائد هذا المذهب) اعترف بأن هناك
حقائق ميتافزيقية (غيبية )ال يمكن للعقل الخوض فيها ،ثم جاء أتباعه من بعده ليحصروا
المعرفة في العقل وحده.
• لم يكن هناك فصل آنذاك بين الفلسفة وعلوم االجتماع والنفس والطب ،ما سمح
للعقليين بمنح العقل تلك المنزلة العالية ،لكن الكثير من الدراسات االجتماعية
التي ظهرت في القرن العشرين أكدت أن الفطرة ال يمكن أن تبقى مصونة عن
الزيف بعد وقوعها تحت تأثير الوراثة والبيئة [محمد تقي األميني ،عصر
اإللحاد ،ص ،]74فمن شبه المستحيل التوصل إلى نتائج عقلية مجر7دة في
العلوم الضر7ورية التي تقوم على األوليات العقلية (الفطر7ة) ،وهو ما يؤكده
الفليسوف األلماني كولبه بقوله “إنه من الصعب أن نضع حدا فاصال بين
األحكام األولية للعقل وبين األحكام المكتسبة من التجربة”.
• وصعوبة تجرد العقل البشري تنبع من طبيعة اإلنسان ،حيث يستحيل عليه
التحول إلى آلة صماء كأجهزة الحاسوب المبرمجة على التسلسل المنطقي،
فالتداخل بين العقل والنفس هو جوهر اإلنسان منذ بدء خلقه.
• كما أن وضع منهج معرفي متكامل للعقل من خالل العقل نفسه
أمر متعذر ،فال يمكن لآللة أن تدرك ذاتها والمؤثرات المحيطة
بها على وجه التمام ،وأن تحدد بدقة حدود قدر7اتها ومنتهاها ،ثم
تضع منهجا يضبط عملها ويصحح مسار7ها فيه دون حاجة
لمرشد خارجي .لذا اضطر ديكارت منذ بداية وضعه لمنهج
المعرفة العقلي أن يسلّم بوجود إله خالق ومرشد كخطوة
ضرورية وتلقائية بعد تسليمه بالحقيقة األولى ،وهي أن يعقل
ذاته ،وكأن العقل ال يستطيع أن يخطو خطوته الثانية دون
مصدر علوي يستند عليه.
• نتيجة لذلك ،تعاني جميع المناهج العقلية من عيوب ونواقص ال تزال تظهر عمليا بعد
إخضاعها للتطبيق ،ومن أبرزها منطق أرسطو الذي تعرض للنقد على يد عدد من
كبار العلماء المسلمين قبل أن يُنقد الحقا في أوروبا ،ومن أبرزهم ابن تيمية الذي أبرز
في كتابه “الرد على المنطقيين” عجز المنطق عن التوصل إلى حقائق يقينية في
الميتافيزيقيا ،فاالستدالل بالقياس ينطلق من المقدمة الكلية إلى النتائج ،مع أن الكلي ال
يدل إال على القدر المشترك من األشياء الكلية ،بينما تكون قضايا العقيدة معيّنة وال
يمكن للقياس الكلي أن يدل عليها.
• ومن عيوب المنطق أيضا “قياس الغائب على الشاهد” ،فمن خالل البحث في العلة
المشتركة بينهما يمكن فقط للعقل أن يستنتج الحقائق ،وهذا يؤدي إلى قياس اإلله على
اإلنسان ،وهو افتراض غير مبرر أصال .يقول ابن تيمية إنه ال يجوز أن يدخل اإلله
مع غيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها ،وعندما فعل علماء الكالم والفالسفة ذلك
تناقضت أدلتهم ولم تبلغ اليقين.
• وهذا القصور في المنهج ،وفي األداة نفسها (العقل) ،تظهر آثاره في كل الفلسفات العقلية التي بحثت في
اإللهيات والميافيزيقيا بال استثناء ،بل نجده واضحا أيضا في المدارس العقلية التي نشأت داخل األديان،
سواء لدى علماء الكالم (المتكلمين) والفالسفة المسلمين أو لدى فالسفة الالهوت المسيحي في القرون
الوسطى ،حتى تراجع بعضهم عن التزام المنهج العقلي كله في اإللهيات بعد أن بلغ غايته في البحث
والتبحر ،مثل الرازي واآلمدي والشهرستاني والغزالي.
• ويُنقل عن أفضل الدين الخونجي (توفي عام 646هـ) قوله “أموت وما عرفت شيئا” ،كما ينقل عن معاصره
شمس الدين الخسروشاهي أنه قال عند موته “وهللا ما أدري ما أعتقد” ،وقد سبقهما بذلك سقراط عندما قال
ال أعرف سوى شيء واحد ،وهو أني ال أعرف شيئا” [العقيدة الطحاوية ،ص .]228-227 “
• ومع ذلك ،فال نقول إن العقل أداة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة ،بل ينبغي التفريق بين وجود حقائق
العقيدة وبين كنهها وتفاصيلها وما هي عليه ،فالعقل قادر على إثبات وجود الحقائق الكبرى والبرهنة عليها،
لكن التخبط يبدأ عندما يخوض في محاولة تعقل الكيفيات التي تكون عليها الحقائق الغيبية ألنها غائبة عنه
وعن الحواس ،وال يستطيع النفاذ إلى عوالمها المفارقة للزمان والمكان مهما اشتط به الخيال ،لذا قال
الرسول محمد صلى هللا عليه وسلم بعد أن أثبت للناس وجود الخالق وصفاته “تفكروا في آالء هللا ،وال
تفكروا في ذاته فتهلكوا” [صححه األلباني] ،وهذا ليس َحجرا على العقل بل حفظ له من الخوض في ما ال
يقدر عليه.
• المصدر الثالث :الحس والتجربة
يفرق علماء المنطق بين القضايا الحسية التي يجزم العقل بوجودها لمجرد
تصورها ،مثل وجود الشمس عند اإلحساس بحرارتها أو رؤية ضيائها ،وبين
القضايا التجريبية التي يدخل فيها الحس ولكنها تتطلب المزيد من المالحظة
والتجربة.
• والمذهب الحسي في الفلسفة هو الذي يقول أتبا7عه إن المعرفة محصورة بما
تتلقاه الحواس الخمس ،فكل التصورات العقلية مقتبسة من المعلومات التي
تقدمها له الحواس ،أما المنهج التجريبي فيقول أصحابه إن التجربة هي
المصدر الوحيد للمعرفة من خالل توظيف المد َركات الحسية في التجربة،
ومن المعلوم أن التجربة تتطلب تدخل الباحث في الموضوع الختباره وال
تكتفي بالمالحظة.
• ابتدأ التيار الحسي بالظهور 7في اليونان على يد أبيقور خالل
القرن الثالث قبل الميالد ،ووافقه على ذلك الرواقيون الذين
حصروا المعر7فة بالحس مع أنهم لم ينفوا فاعلية العقل تماما.
• وفي أوروبا ،تأثر الفيلسوف اإلنجليزي روجر بيكون (توفي
عام 1349م) بأفكار الحسن بن الهيثم وابن رشد بعد ترجمتها،
وحاول نقل المنهج العلمي التجريبي عن ابن الهيثم (توفي عام
1040م) رغم ر7فض الكنيسة له ،ثم تبنى هذا االتجاه من بعده
فرانسيس بيكون.
• ويعد الفيلسوف اإلنجليزي جون لوك (توفي عام 1704م) من رواد المذهب الحسي،
حيث انطلق في وضع نظريته للمعرفة دون االلتفات إلى ما أقره ديكارت ومعظم
الفالسفة من ثنائية النفس والجسم ،وأنكر وجود الفطرة واألوليات العقلية بناء على
مالحظته لتنوع الخبرات البشرية ،فقال إن ما هو فطري لدى البعض ليس كذلك لدى
البعض اآلخر ،وهكذا أخذ يبحث في انعكاس المعرفة على الذهن من إحساسات
وإدراكات وأفكار وكلمات ،وانتهى إلى القول إن العقل البشري يولد كصفحة بيضاء
خالية من أي عالمات موروثة أو فطرية ،ثم تكتب عليها الخبرة التجريبية ما تتلقاه من
المعرفة من خالل الحواس.
• ظهر ديفيد هيوم بعد وفاة لوك ليأخذ المذهب الحسي إلى غايته القصوى ،فأنكر فاعلية
العقل تماما حتى وصل إلى الشك كما ذكرنا في موضع سابق من هذا المقال ،فبعد أن
كان لوك يعترف بأن للعقل دور في المضاهاة والجمع والتجريد للمعرفة التي يتلقاها
عن الحس لم يقر هيوم بأي دور للعقل بل جعه مجرد موطن لالنفعاالت الحسية.
• وفي أواخر القرن الثامن عشر ،وضع أوغست كونت الفلسفة الوضعية على أساس الثقة
المطلقة بالعلم التجريبي ،فقد ساد في تلك المرحلة االعتقاد بأن اإلنسان بلغ ذروة التقدم مع
تكاثر االختراعات واالكتشافات بأسرع وتيرة عرفها التاريخ ،ما دفع بأنصار هذا المذهب إلى
االعتقاد بأن العلم التجريبي هو المصدر المعرفي الوحيد الذي سيجيب على كل األسئلة.
• تصور كونت أن البشرية تطورت طوال تاريخها عبر ثالث مراحل ،األولى هي المرحلة
الالهوتية التي كان اإلنسان يفسر فيها ظواهر الطبيعة بإعادتها إلى موجودات غيبية ،سواء
كانت إلها ً واحدا أو عدة آلهة ،والثانية هي المرحلة الميتافيزيقية التي صار اإلنسان يتوهم فيها
وجود علل ذاتية داخل الظواهر بدال من اآللهة ،وفي المرحلة الثالثة صار اإلنسان يفسر كل
شيء بمنطق العلم التجريبي.
• وقد رد كثير من الفالسفة على هذه النظرية بأنها مجردة من البرهان التجريبي أصال ،فهي
ليست سوى رواية ميتافيزيقية لتطور المجتمعات البشرية ،واستقراء التاريخ يثبت عكسها،
فاألوضاع الثالثة التي تخيل أنها مراحل متعاقبة ما زالت قائمة حتى اليوم ،وكانت متعايشة
أيضا في مراحل قديمة من التاريخ.
• تفسير مبدأ العلية واالستقراء
يقول العقليون إن السببية (العلية) مبدأ فطري كلي ،فهو
موجود في العقل بالفطر7ة ويمكن تعميمه على كل التجارب
واألحداث في الكون بحيث يجز7م العقل بأن لكل حادثة سببا
ولكل معلول علة ،لكن الحسيين انقسموا في تفسير 7العلة إلى
ثالثة اتجاهات ،هي:
• -1اتجاه الفيلسوف اإلنجليزي جون ستيوارت ميل الذي آمن بمبدأ
السببية والعلية إال أنه ر ّده إلى الحس والتجربة بدال من العقل ،فرأى أن
اإلنسان يتعلم من التجربة أن كل حادثة في الطبيعة تسبقها أسباب
وعلل ،واعتبر هذا االرتباط ضروريا مع أن الضرورة ال ينبغي أن
تكون إال بالعقل ،وهو يرفض منح العقل أي فاعلية .وقد وافقته الفلسفة
الماركسية المادية في هذا التفسير.
• -2االتجاه الذي أخذ به فالسفة الوضعية المنطقية يرى أن تعميم
االستقراء ال يعطي حكما يقينيا ،فتكرار التجربة والحوادث ال يتجاوز
دوره تقديم احتمال بالوصول إلى النتيجة المطلوبة ،مثل احتراق
الخشب كلما تعرض للنار.
• -3رأي هيوم الذي ينفي أي قيمة موضوعية لالستقراء،
والذي يعتبر أن الربط بين العلة والمعلول مجرد انطباع نفسي
ناشئ عن العادة دون أي ضرورة ،فالسببية بين النار واحتراق
الخشب ليست ضرورية وال حتمية بل موجودة داخل نفوسنا
بسبب تكر7ار 7العادة .وقد سبقه الغز7الي إلى القول بهذا الرأي،
كما أخذ به علماء النفس في المدرسة السلوكية الحديثة.
• هل تكفي الحواس والتجربة مصدرا للمعرفة؟
ال يمكن لنا أن نسلّم للتجريبيين بحصر مصدر تصورات العقل كلها بالحس والتجربة،
فقد يتصور الذهن تصورات مفارقة للمادة تماما مثل الوحدة والكثرة ،لكن هذا ال يعني
بالمقابل أنها تصورات عقلية محضة ،ألنها ليست من البديهيات ،بل هي نتيجة لتفاعل
الحس والعقل.
• ويظهر خلل الحسية التجريبية أكثر في مجال الميتافيزيقيا واألخالق ،فقد رد أصحاب
هذا المذهب كل األخالق إلى التجربة وحاولوا دراستها سلوكيا كما يدرس العالم
المخبري أي ظاهرة طبيعية ،إال أنهم لم يتمكنوا من تقديم تفسير مقنع ،فالشكاك هيوم
اعتبر أن األحكام األخالقية ال تعبر عن حقيقة موضوعية بل تنشأ عن مشاعر
االستحسان واالستياء ،ودون أن يقدم تفسيرا مقنعا ألصل هذه المشاعر .وعندما حاول
الماركسيون ربط األخالق باالقتصاد والصراع الطبقي داسوا على قيم العدالة تماما
وح ّولوا اإلنسان إلى جزء مسحوق في آلة المجتمع الجارفة.
جون لوك •
• ويبدو أن جون لوك قد وضع كل أتباع المذهب العقلي في خانة واحدة واعتقد أنهم يرون
المبادئ العقلية صورة عن عالم ال ُمثل الخيالي الذي تخيله أفالطون ،حيث كان األخير يفترض
أن اإلنسان يحتاج فقط إلى تذكر الحقائق بعد والدته ألنها موجودة كلها في عقله ،لكن معظم
العقليين كانوا يعترفون بدور اإلدراكات الحسية بعد أن تعود إلى األصول الثابتة في العقل،
لتتحول إلى معرفة علمية.
• من جهة ثانية ،ينتقد التجريبيون الخطأ الذي يقع فيه بعض العقليين عندما يخلطون بين العقل
الغريزي والعقل المكتسب (سبق توضيحهما) ،وهو الخطأ الذي بدأ في اليونان وانتقل إلى
الكثير من المتكلمين والفالسفة المسلمين عندما اعتبر كل منهم أن مذهبه هو العقيدة الصحيحة
التي يتوافق فيها العقل والنقل .وإذا كان هؤالء قد ظنوا أن العقل كله غريزي 7فقد رد عليهم
التجريبيون باتخاذ الموقف المعاكس والقول بأن العقل كله مكتسب ،ومن ثم فهو يتأثر بالبيئة
والمشاعر والخواطر النفسية ،وال يستحق أن يكون مصدرا للمعرفة .والواقع أن كال الرأيين
تطرف في موقفه.
• ومن نتائج هذا التط7رف المادي المتصاعد حتى بداية القرن العشرين،
ساد في الغرب االعتقاد بأن اإلنسان نفسه ليس سوى مادة متطورة،
فبعد أن وضعت الحسية التجريبية في عصر النهضة اإلنسان بمركز
الكون ليحتل موقع اإلله نفسه ،انزلق اإلنسان المادي تدريجيا تحت
ضغ7ط االكتشاف المتزايد ألسرار الكون المادي ،لتصبح المادة هي
األساس والمركز ،ويتحول اإلنسان إلى موضوع تافه وهام7شي ،حتى
ظهرت مدارس ما بعد الحداثة التي أنكرت كل مصادر المعرفة
الع7قلية والحسية وأعلنت نهاية المدارس الفلسفية الك7برى والعودة إلى
شك السفسطة ،وهي نتيجة طبيعية لتفكيك اإلنسان وتشييئه (تحويله
إلى شيء مادي).
• والالفت أن الحسيين والتجريبيين في عصر النهضة كانوا يؤمنون
بالميتافيزيقا وبوجود هللا ،بل كان بعضهم من رجال الدين مثل جورج
باركلي (توفي عام ،)1753إال أن حص7رهم للمعرفة بالحواس فتح
الباب أمام الوضعيين والماركسيين إلى حصر الوجود كله بالمادة،
وإذا كان موقف الحسيين األوائل مجرد افتراض فلسفي ولم يرق إلى
درجة العلم؛ فلن يجد الوضعيون والماركسيون والماديون دليال علميا
على إنكار وجود الغيبيات [انظر مقال “هللا وجود“].
• هل يجيب العلم التجريبي على كل األسئلة؟
• شهدت بداية القرن العشرين ثورات علمية هائلة ،ومن أبرزها نظرية النسبية أللبرت أينشتاين ،ثم
مجموعة نظريات شكلت مفهوما جديدا للفيزياء تحت مسمى الك ّم (كوانتم) ،فضال عن التطور في
الطب وعلوم األحياء ،وكان لهذه الفتوحات وآثارها العملية التكنولوجية دور كبير في ظهور العالِم
التجريبي في صورة خارقة وكأنه الوحيد القادر على اإلجابة على األسئلة الوجودية بدال من
الفالسفة ،فضال عن “رجال الدين” ،لذا طالب العالم الفرنسي المعروف لويس باستور السلطات
برعاية المؤسسات العلمية بصفتها “مؤسسات مقدسة” وقال إنها ستكون “معابد المستقبل” ،كما
وافقه على ذلك الفيلسوف الفرنسي ليكومت دي نوي عندما قال “إن ثقة الناس بعلماء الطبيعة اليوم
هي ثقتهم بالكهنة في العهد القديم” [دي نوي ،مصير اإلنسان ،1967 ،ص.]275
• يقول الفيزيائي البريطاني المعاصر ستيفن هوكنغ في كتابه التصميم العظيم “الفلسفة ماتت…
وعلماء الطبيعة باتوا هم حملة شعلة االكتشاف في رحلتنا نحو المعرفة” [ص ،]13ويقول
الفيزيائي األميركي لورنس كراوس “إن الفلسفة حقل يذكرني لألسف بالنكتة القديمة لوودي آلن
(ممثل كوميدي) :أولئك الذين ال يستطيعون أن يفعلوا شيئا يد ّرسون ،والذين ال يستطيعون أن
يدرّسوا يدرّسون الرياضة”.
• وبالرغم من إنكار الكثير من العلماء -الذين يحظون باالحتفاء اإلعالمي-
أهمية الفلسفة وتنديدهم بها ،فإن نظرياتهم الكبرى تقوم أساسا على مواقف
أيديولوجية مفلسفة .فعلى سبيل المثال ،يقول الفلكي البريطاني كارل ساغان
في افتتاحية برنامجه “الكون” - Cosmosالذي 7حقق أعلى نسب المشاهدات
ال يوجد ولم يوجد ولن يوجد شيء سوى بدعم من شبكة بي.بي.سي -إنه “
الكون (أي المادة فقط)” ،وهذا تعبير فلسفي وليس تصريحا علميا ،فليس في
وسع العلم التجريبي أصال أن يجري تجربة مادية تنفي وجو7د عوالم أو7
كائنات غير مادية طالما أنها ال تخضع ألدواته ،ومقولة ساغان هي تعبير
صريح عن جوهر الفلسفة الطبيعية ،والتي يع ّرفها ستيرلنغ المبرت بأنها
موقف فلسفي ومنهج تجريبي يعتبر أن الوجود محكوم بعوامل عشوائية
داخل نظام شامل في الطبيعة.
• يقول عالم الوراثة في جامعة هارفارد ريتشارد ليونتن إن “استعدادنا لقبول
المزاعم العلمية التي تخالف الحس السليم هو مفتاح فهم الصراع الحقيقي
بين العلم وما هو ميتافيزيقي (غيبي) ،فنحن نميل إلى صف العلم رغم ما
يشوب بعض أفكاره من عبث… والمجتمع العلمي يتسامح مع القصص التي
تُقبل دون برهان ألننا ملتزمون مسبقا بالفلسفة المادية ،فمناهج العلم ال
تجبرنا على قبول تفسير مادي للعالم بل التزامنا البديهي بالمادية هو الذي
يجبرنا على إنتاج تفسيرات مادية مهما كانت مناقضة للحدس” [العلم
ووجود هللا ،ص ،.]62وليس هناك ما هو أوضح من هذا االعتراف بتعصب
العلماء الماديين للفلسفة المادية على أساس أيديولوجي بحت.
هوكنغ •
• ومن نتائج تبني هذه الفلسفة -المنكرة للتفلسف أصال -أن
التصورات الفلسفية للكثير من العلماء التجريبيين لم تعد تجد أي
حرج في خرق المنطق ،وهو ما يؤكده االقتباس السابق عن ليونتن
نفسه ،كما يقول هوكنغ “إن الكثير من المفاهيم العلمية الحديثة
تخالف 7المنطق السليم المبني على التجربة اليومية ،أما طبيعة الكون
فتكشف 7عن نفسها من خالل عجائب التكنولوجيا” [التصميم
العظيم ،ص ،]15كما يكرر الفيزيائي ميشيو كاكو في صفحات
عدة من كتابه “فيزياء المستحيل” أن نظرية الكم تغير قوانين العقل7
األساسية ،وإلى درجة إسقاط مفهوم المستحيل من الوجود.
• ويأتي اإلشكال أوال من خرق نظرية النسبية لما هو مألوف ومعتاد ،فقد كان يُعتقد أن الزمن
ثابت كوني ال يتأثر بأي عامل من العوامل ،لكن المعادالت الرياضية أثبتت أن سرعة
الضوء هي الثابتة وأن الزمن نسبي ،فعندما يتحرك جسم ما بسرعة كبيرة جدا فإن الزمن
الخاص به يتمدد (يتباطأ) ،فمثال تقيس الساعة الموضوعة على صاروخ خارق السرعة مدة
زمنية أقصر مما تقيسه ساعة أخرى على األرض مثال ،وهذا أمر لم يكن ليخطر على بال
أحد ،وقد أثبتته التجارب العملية بالفعل.
• ونتيجة لذلك بدأ كتّاب الخيال العلمي بالتجرؤ على خرق المنطق وطرح رؤى خيالية،
فظهرت روايات السفر عبر الزمن كنوع من الخيال ثم لحق بهم الفيزيائيون النظريون (فئة
من العلماء تدرس اآلثار الفلسفية للعلم) على اعتبار أن الرياضيات ال تنكر تلك التخيالت،
وظهرت معضالت فلسفية في العديد من الكتب العلمية “الرصينة” لتتساءل ما الذي سيحدث
إذا عاد شخص بالزمن إلى الوراء وقتل والده مثال ،فهذا يعني أنه لن يُخلق أصال ،ثم ظهرت
نظريات عدة لمناقشة هذه المشكلة دون أن ينتبه كثير من العلماء إلى التناقض العقلي في هذه
العودة إلى الماضي.
• والحقيقة أن نظرية النسبية العامة ليست معنية بما هو أبعد من دراسة تباطؤ7
مرور الزمن على اﻟﺠسم اﻟﻤتحرك 7بالنسبة ﻟﺠسم آخر ثابت ،وهي ال تتعلق
بالبنية اﻟﻤادية ﻟلجسم اﻟﻤتحرك كما هو اﻟﺤال ﻓﻲ نظرية الكم ،ومن ث ّم فإن
“منحنى الزمكان” ليس أكثر من مفهوم مثاﻟﻲ تخيلي ،وتعبير “انحنائه ”ال
يعني أكثر من انحناء مسار حركة الجسم مع تمدد الزمن اﻟﻤقاس عليه بالنسبة
إﻟﻰ ﻤراقب خارجه ،وحتى ﻓﻲ حال انغالق منحنى الزمكان فهذا ال يعني أن
يدخل اﻟﺠسم ﻓﻲ مرحلة زمنية سابقة ،بل غاية األمر أن يعود للتحرك ﻓﻲ خط
سيره من النقطة التي انغلق عندها اﻟﻤسار مع االستمرار ﻓﻲ تباطؤ تغير
حركته إﻟﻰ درجة االنعدام والدخول ﻓﻲ حالة “التفردية اﻟﻤركزية” التي ال
يمكن اختبارها ﺗﺠريبياً ،فضالً عن ثبوت استحالة تحقق هذا االنغالق
فيزيائيا ً.
• وعندما ظهرت فيزياء الكم التي تدرس أبسط عناصر الوجود على المستوى دون
الذري (مكونات الذرة) كان فهمها أكثر صعوبة ،لكن غموضها المشابه لغموض
النسبية دفع بعض العلماء للمضي في وضع المزيد من السيناريوهات الخيالية.
فيقول جون ويلر “إذا لم تكن حائرا إزاء مكانيكا الكم فإنك لم تفهمها” ،ويؤيده
روجر بينروس بقوله إن “ميكانيكا الكم ال معنى لها إطالقا” ،كما يقول ريتشارد
فينمان “يمكن القول بثقة إنه ال أحد على اإلطالق يمكنه أن يفهم فيزياء الكم”.
• ومن األمثلة التي يطرحها الفيزيائيون لنقض المنطق العقلي أن تجارب فيزياء
الكم أثبتت إمكانية وجود اإللكترون في مكانين في وقت واحد ،وهذا يخالف
بوضوح أحد أهم مبادئ العقل األولية .وأن اإللكترونات والف7وتونات وغيرها من
المكونات تبدي سلوكا مغايرا في التجارب ،فتبدو أحيانا في صورة جسيمات بينما
تظهر على أنها موجات في أحيان أخرى.
• والجواب أنه لم يثبت أصال أن اإللكترون يوجد فعال في مكانين
معا كما هو حال األجسام التي نعرفها ،بل تظهر التجارب أن
هذا الكائن الذي ال يُمكن أن يُرى بأي مجهر حتى اآلن (ألنه
أصغر من الموجة الضوئية) والذي يبدي سلوكا متقلبا بين
الجسيمات والموجات يترك أثرا في مكانين معا ،كما أن فيزياء
الكم تنص وفقا لنظرية عدم التأكد على أنه ال يمكن فصل عملية
المشاهدة عن سلوك ال ُمشاهَد ،فاإللكترون يتأثر برصدنا له أثناء
خضوعه للتجربة وال يقدم لنا سلوكا طبيعيا ،فلسنا متأكدين إذن
من حقيقة نقضه للمنطق عندما نرصد سلوكه العجيب.
• ومن المغالطات التي نتجت عن سوء فهم فيزياء الكم وجود
تعارض بين السببية وميكانيكا الكم ،والحقيقة أن السببية
موجودة أيضا في العالم دون الذري ،لكن الجسيمات الذرية ال
تقدم ردود الفعل المتوقعة دائما بل يكون سلوكها قائما ضمن
احتماالت الدوال الموجية ،حيث يقول الفيزيائي األلماني
ماكس بورن في كتابه “ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ” إن
فيزياء الكم ال تنقض السببية بل الحتمية فقط ،أي أن كل
الموجودات –حتى دون الذرية -تخضع للسببية واالطراد .
• ويبدو أن تزامن الفتوحات العلمية وظهور نتائجها التكنولوجية مع سقوط
النظريات الفلسفية الكبرى في عالم ما بعد الحداثة قد شجع العلماء على
تجاوز لعب دور الفالسفة إلى النكوص للسفسطة والشكوكية العدمية ،حتى
دعا كثير منهم إلى اعتبار صورة العالم عند اإلنسان العادي صورة وهمية،
مثل قول العالم البريطاني آرثر إدينغتون إن تصور الرجل العادي للمنضدة
يختلف عن تصور العا ِلم لها ،فاألول يراها جسما له لون وملمس وشكل
وصالبة وثبات مكاني وديمومة زمنية ،بينما يراها العا ِلم مجموعة ذرات
بينها خالء وتصدر عنها شحنات كهربية خاطفة .لكن الخلط بين اللغة التي
تستخدم استخداما سلي ًما للتعبير عن األشياء التي نتعامل معها وبين اللغة
المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية لن يؤدي سوى إلى الفوضى.
• ومن األمثلة المشهورة على القصور الفلسفي لدى بعض كبار
الفيزيائيين ،نذكر النظرية التي طرحها النمساوي إرفين شرودنغر لقطة
نضعها (فرضيا) في صندوق مغلق ،ومعها عداد غايغر (لحساب
اإلشعاع) وكمية من مادة مشعة ،بحيث يكون احتمال تحلل ذرة واحدة
خالل ساعة ممكنا وغير مؤكد ،فإذا تحللت الذرة سيطرق عداد غايغر
مطرقة تكسر زجاجة تحتوي غازا خانقا فيقتل القطة ،ويقول شرودنغر
إننا لن نعرف وضع القطة حتى نفتح الصندوق بعد ساعة ،وهي قبل ذلك
من وجهة نظر ميكانيكا الكم تعتبر في حالة مركبة من الحياة والموت،
أي أنها تجمع حالتين متناقضتين .واعتبر علماء الفيزياء النظرية هذا
المثال بمثابة “دليل” على اجتماع النقيضين ،وهذه سفسطة.
• يقول أليستر راي في كتابه “فيزياء الكوانتم :حقيقة أم خيال؟” إن
القارئ عندما يقرأ أن فيزياء الكوانتم تقول بأن القطة نصف حية
ونصف ميتة ،سيستنتج أن هذه سخافة تافهة ،وسيلقي بالكتاب
وينسى كل هذا الجنون .والحقيقة أن استعارة المصطلحات
والمفاهيم من عالم ما دون الذرة لضرب األمثلة على العالم
المحسوس هو أصل المشكلة ،فالفيزيائي بالكاد يستطيع أن
يرصد آثار سلوك الجسيمات غير المرئية فتبدو له في لحظة ما
وكأنها تجمع نقيضين ،ولكن هذا ال يعني أنها كذلك في الحقيقة
[فيزياء الكوانتم :حقيقة أم خيال؟ ،مركز براهين ،ص .]126
• ويسعى بعض فالسفة العلم المعاصرين اليوم إلى تبني اتجاه
يدعى باألداتية ،يطالبون من خالله بإعادة النظر 7ﻓﻲ الكثير من
التصورات العلمية الناشئة عن نقل المفاهيم الرياضية اﻟﻤجردة
إلى الحقائق المتشخصة على أرض الواقع ،مثل تخيل “نسيج
الزمكان” على هيئة حقيقية يمكن لها أن تنحني وتتداخل.
• وبالنتيجة ،إذا حاولنا اإلجابة على سؤال هذه الفقرة “هل يجيب العلم على كل
األسئلة؟” فسنوجز الجواب بنقطتين:
• النقطة األولى :المالحظة العلمية ليست مستقلة ،حيث أثبت العالم فرنسي بيير دويم أن
التجربة الفيزيائية ليست مجرد مالحظة ،بل هي أيضا تأويل للظاهرة التي تدرسها،
ويقول مؤلف “نظريات العلم” آالن شالمرز إن ما يالحظه العالِم يتوقف في جانب
كبير منه على تجربته الماضية ومعارفه [شالمرز ،نظريات العلم ،دار توبقال ،ص
.]36كما أن وضع الفرضيات لتأويل الظواهر الفيزيائية يخضع بدوره في الكثير من
األحيان لخلفية الباحث وتوقعاته .فعلى سبيل المثال ،كان الفيزيائي ماكس بورن يقر
بأن ما أنجزه في حقل اكتشافات المكونات الذرية كان مجرد تعميمات فلسفية ال
فيزيائية ،وما زالت الفرضيات المعتمدة اليوم لفهم عالم الذرة غير مثبتة تجريبيا إال
أنها مقبولة كأحد التأويالت الممكنة ،واألمر ذاته ينطبق على نظرية التطور
الدارويني.
• واالستقر7اء مبدأ فطر7ي ،وتبريره فطري ،لكن تحديد لحظة
االنتقال من الخاص إلى العام قابل للخطأ ،والكثير من العلماء
المعاصرين يرفضون ذلك بسبب سوء فهمهم لمعنى الفطرة،
فغالبية كتب فلسفة العلوم ال تناقش التبرير الفطري أصال ،فهو
أمر مستبعد من العلم المادي التجريبي ،وهو خلل في مفهوم
“المعقولية” أو التأسيس لها[ .اإلجماع اإلنساني ،ص .]139
• ويقول جون هو7ت “عند نقطة معينة في س7لسلة التحقق 7من كل فرضية،
ال بد من قفزة إيمانية تُعد مكونا أساسيا في العملية ،و7عنصر الثقة هو
عنصر أساسي في كل بحث 7بش7ري عن الحقيقة ،و7إن و7جدت 7نفسك تشك
فيما قلتُه اآلن فهذا ألنك في هذه اللحظة بالذات 7تثق في عقلك بما يكفي
للتعبير عن شكك في كالمي ،فال يمكنك التخلص من الثقة في عقلك
حتى عندما تساو7رك الشكو7ك ،وأنت ال تط7رح أسئلتك النقدية إال ألنك
تؤمن بأن الحق يستحق البحث ،7فاإليمان بهذا المعنى ،وليس بمعنى
الخيال الجامح ،يكمن في جذور 7كل دين حقيقي ،و7كذلك في جذور
العلم… و7هذا يؤكد أن محاوالت اإللحاد الجديد لتخليص الوعي البشري
من اإليمان هي مجرد محاو7لة عبثية” [العلم وو7جو7د هللا ،ص .]107
• وبما أن العلم التجر7يبي قائم على المالحظة والتجريب
واالستقر7اء ثم تعميم النتائج على الظواهر الكونية ،فهو إذن
قائم على االحتمال ،حيث ال يمكن للعالِم أن يجزم بأن الشمس
ستشر7ق غدا كما كانت تشرق كل يوم ،ويقول بول ديفيز إن
التقدم العلمي يتطلب “فعال إيمانيا” لالعتقاد بوجود انتظام في
الطبيعة ،كما يقول الفيلسوف اإلنجليزي ر7وجر تريغ “من أجل
أن يتولى العلم مهمة تقديم التفسيرات لجميع األشياء فنحن
بحاجة إلى ما يبرر لنا الوثوق بالعلم” [Rationality and
.]Science, p. 9
• “مع أن التزوير مخالف ألهداف العلم كنشاط ثقافي ،إال أنه متوطن
بنيويًا في العلم المؤسس لمجتمعاتنا المعاصرة”.
أستاذة علم االجتماع دينا فينشتاين.
• كما يؤكد مبدأ “عدم اليقين” للفيزيائي فيرنر هايزنبرغ استحالة الحصول
على نتائج دقيقة مئة بالمئة عند دراسة خاصيتين معا لشيء واحد من بين
جملة خواص كمومية ،أي أن معرفتنا للعالم ستبقى منقوصة حتما.
• وبالرغم من جنوح خيال ميشيو كاكو في كتابه “فيزياء المستحيل” نحو
ما يشبه تأليه العقل البشري ،فإنه يعترف بأن “نظرية الكم مبنية على
رمال من المصادفة والحظ واالحتماالت ،وأنها ال تعطي أجوبة محددة”
[العلم ووجود هللا ،ص.]276
• يعتبر الكثير من العلماء اليوم أن العلم هو الطريق الوحيد للحق وأنه قادر على تفسير كل
شيء ،وهذا ليس سوى موقف أيديولوجي مسبق اصطلح الفالسفة المعاصرون على تسميته
بالمذهب العلمي ،scientismفليس هناك دليل علمي يثبت أن الوجود مادي بحت وأن
التجربة هي المصدر الوحيد الكتشافه.
• يقول الفيلسوف البريطاني برتراند َرسل إن كل ما ال يمكن للعلم اكتشافه ال يمكن للبشرية أن
تعرفه ،وهذه عبارة متناقضة ،فكيف عرف َرسل ذلك طالما أن عبارته ليست مثبتة علميا
أصال؟ ما يعني أنها ليست صحيحة بنا ًء على موقفه نفسه[ العلم ووجود هللا ،ص.]106
• النقطة الثانية :حتى إذا اعتبرنا أن الرياضيات هي المصدر العلمي الموثوق لألجوبة على
األسئلة الوجودية ،طالما أن المالحظة الفيزيائية ليست نزيهة بالمطلق ،فقد أثبت النمساوي
كيرت غودل في عام 1931م أن هناك مقوالت صادقة في الرياضيات ال يمكن البرهنة عليها،
فعلى سبيل المثال ما زالت حدسية غولدباخ الموضوعة منذ عام 1742م غير مبرهنة ،وبات
الرياضيون يؤمنون اليوم بأن حلم فيثاغورس بفهم العالم كله عبر األرقام والحساب مستحيل.
• واستنتج األمريكي المعاصر فريمان دايسون من نظرية “عدم االكتمال” لغودل أن عالم الفيزياء والفلك
غير قابلين لالكتمال أيضا ،فمهما ابتعدنا في المستقبل فسيكون هناك دائما أشياء جديدة تحدث
ومعلومات ترد وعوالم جديدة تُكتشف .ويلخص الفلكي جون بارو هذه الحقيقة بقوله إن العلم مبني على
الرياضيات ،وال يمكن للرياضيات أن تكتشف الحقيقة كلها ،فال يمكن للعلم أن يكتشف الحقائق كلها.
• لذلك اقتنع هوكنغ أخيرا باستحالة اكتشاف “نظرية كل شيء” التي تجمع النسبية مع الكم وتلخص كل
المالحظ
ِ ظواهر الوجود في معادلة واحدة ،فاألمر ال يتعلق بنقص األدوات وضيق الوقت فقط ،بل ألن
(الباحث) سيظل أبدا جزءا من الكون نفسه ومن موضوع البحث ،ولن يصبح “إلها ً” منفصال عن الكون
ليكتشفه على حقيقته التامة.
• يقول البروفسور بيتر مد ّور في كتابه “نصائح لعالم شاب” :إن أسرع طريقة يسيء بها العالِم إلى
سمعته هي أن يصرح بكل جرأة ودون مبرر بأن العلم يعرف أو سيكتشف قريبا األجوبة على كل
األسئلة ،وأن األسئلة التي ال تقبل األجوبة العلمية هي أسئلة زائفة وساذجة… لكن محدودية العلم تتضح
في عجزه عن اإلجابة على األسئلة البدائية الوجودية ،مثل البحث في كيفية بدء الخلق وغاية الوجود
ومغزى الحياة.]Advice To A Young Scientist, harper & row, 1979, p. 31[ .
• ويقول في كتابه “حدود العلم” :من المحتمل أن هناك أسئلة يعجز العلم عن تقديم إجابات عنها نظرا
لمحدوديته ،كما ال يمكن ألي تطور علمي متوقع أن يؤهله لذلك .إنها األسئلة التي يطرحها األطفال،
واألسئلة النهائية لكارل بوبر ،ولدي أيضا أسئلة من قبيل :كيف بدأت األشياء ،لماذا نحن موجودون
هنا؟ من أي شيء تم خلقنا؟ ما هي غاية الحياة؟… فليس في وسع العلم أن يجيب على اسئلة تتعلق
ببدايات األشياء ونهاياتها ،والذي يجيب عليها هو الميتافيزيقيا واألدب والدينThe Limits of[ .
.]Science, Oxford, 1984, p. 60
• المصدر الرابع :اإلجماع
ربما ال تعتبر الكثير من المراجع اإلجماع اإلنساني بمثابة مصدر مستقل للمعرفة ،إال أننا ارتأينا
تخصيصه كمصدر على أساس بعض األبحاث الحديثة التي تعطي المجتمع دورا جوهريا في بلورة
المعطيات الحسية والنفسية التي يتلقاها اإلنسان منذ طفولته لتتحول إلى معرفة.
• اهتم المفكر اإلسالمي ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميالدي بالمعنى االجتماعي لتعريف
“ العادة اإلنسانية الصحيحة” ،فكان يرى أن تصحيحها يستند إلى انتشارها بين كافة المجتمعات
البشرية ،وكونها عادة نفسية واجتماعية أصيلة في البشر ،فضال عن تعبيرها عن حاجة ضرورية.
• وعندما أعاد هيوم نشر فلسفة الشك السفسطائية في القرن الثامن عشر
الميالدي ،تصدى له الفيلسوف األسكتلندي توماس ريد وأكد أن إجماع األمم من
العامة والمتعلمين ينبغي أن يكون له على األقل سلطان كبير ،إال إذا استطعنا أن
نثبت وجود تحيز ما من العموم إلجماع ما ،فاألصل في اإلجماع أن يكون
مبررا بنفسه وأن المشكك هو الذي ينبغي أن يثبت وجود التحيز.
• واعتبر ريد أن خصائص المشتركات 7اإلنسانية هي :اإلدراك بالحدس ،الميل
النفسي للتصديق بها في بنية اإلنسان ،الشعور بالحيرة عند الشك فيها ،وأن
تكون ضرورية للتعامل مع العالم بنجاح.
• وأيضا تصدى كانط لشكية هيوم كما أسلفنا أعاله ،ورأى أن التعاقب7
الموضوعي ناشئ عن مبدأ عقلي أولي ،فأعطى بذلك لما أسماه بالعقل الفعال
دورا جوهريا في المعرفة.
• وفي بداية القرن العشرين أحيا الفيلسوف البريطاني جورج مور فلسفة ريد وانتصر
للفطرة السليمة ،كما تصدى لمن يشكك بوجود العالم الخارجي بمناقشات شهيرة،
ومن أشهر ردوده عليهم :حين أرفع يدي إلى أعلى وأقول :هذه يد ،ثم أرفع يدي
األخرى وأقول :هذه يد أخرى ،فبذلك أكون قد برهنت على وجود العالم الخارجي.
جون سيرل ()FranksValli •
• ثم أصدر الفيلسوف األمريكي جون سيرل كتاب “العقل واللغة والمجتمع” الذي يعد
من أهم الكتب المتخصصة في االنتصار لموقف اإلنسان العادي ،وقال فيه إن معيار
المواقف التلقائية هو الثبات البشري العام على التمسك بها خالل التاريخ الطويل
المليء بالدواعي الكاشفة للحقيقة ،فطالما أن هذه القضايا لم تُكذب مطلقا فهذه قيمة
موضوعية ،كما اعتبر أن المواقف التلقائية سابقة على أي رؤية ذوقية فهي تتمتع
بالكثير من الموضوعية.
• ويعد الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (توفي عام 1951م) من أهم المفكرين الذين لفتوا النظر
إلى أهمية المجتمع في تكوين المعرفة من خالل دراساته في اللغة ،وقد أكدت العديد من الدراسات
النفسية واالجتماعية الحديثة نظريته ،فكان ينكر إمكان تمييز المعطيات الحسية والحاالت النفسية
دون ربط مجتمعي لكل حالة بلفظ معين ،فاإلنسان يتعرف على نفسه وعلى العالم من خالل عالقة
إشارية موضوعية ،ومن المستحيل عليه أن ينشئ لغة خاصة به من خالل المعطيات الحسية.
والمعيار األصلي هو الجماعة ال الذات ،فالجماعة توفر له المعرفة الصحيحة بعالقات واضحة
ورمزية بشكل أفضل بكثير من المعيار الفردي الذي يفهم به الطفل الوليد قبل أن يتعلم اللغة. ،
• وبحسب فتغنشتاين فنحن نتصور األلم من خالل اللغة ،وبدون لغة سنتألم دون وعي باأللم.
وبالخالصة فال يمكن الحديث عن أي “معقولية للعالم” بدون قواعد معيارية نكتسبها من الجماعة،
وال يمكن ألحد أن ينشئ لغة خاصة به (استبطان) دون استناد إلى معايير عامة يفهمها الناس.
• ويقول فيلسوف العلم األميركي المعاصر إرنست ناغل إن اللغة التي نستخدمها لوصف تجاربنا
المباشرة هي اللغة المعتادة للتواصل االجتماعي ،فتطابق المباني اللغوية األساسية في كافة
المجتمعات مع اختالف التجارب والمناخ والمعتقدات يبرهن على أن هناك بنية إنسانية عامة.
• وهذا يعني أن الم7جتم7ع ه7و الذي يحدد شروط معرفتنا ،ويوجه حواسنا منذ طفولتنا لنرى الع7الم
ك7ما نراه ،والحاجة النفسية العميقة (الفطرية) هي التي تدفع الطفل 7للمسارعة في اتباع القواعد
اإلنسانية العامة وتعلم طرق التصنيف اإلنساني واإليمان باطراد الحوادث .وقد لخ7ص ناغل
شروط تحقق الفطرة في نقطتين :أن تكون شرطا للعبة الجماعة البشرية ،وأن تعبر عن حاجة
اجتماعية ونفسية.
• ويستنتج العالم البريطاني “ألفرد جول 7آير” أن حواس اإلنسان ليست خاصة به بل محكوم7ة
بالتجربة الجماعية الع7امة ،ولذلك ال نقول عن شيء إنه قابل 7لإلدراك إال إذا كان من الممك7ن
وصفه من خالل م7جم7وعة أشخاص 7على األقل [.]The problem of knowledge, p.85
• وبناء على هذه المعطيات الحديثة ،يمك7ن أن نجري بع7ض التعديالت على نظرية كانط بشأن
“العقل الفعال” التي تع7رضنا لها سابقا ،فقد كان يرى أن المبدأ الكلي الضروري ال يصدر عن
حس خالص أو م7عطيات حسية بل هو من طبيع7ة الع7قل اإلنساني الفردي ،والتجارب الحديثة
تثبت أن القاعدة ال يمكن أن تنشأ من عقل 7واحد ولو كان فعاال ،وأن الطفل ال يكتسب اللغة من
ذاته بل في إطار اجتماعي تقبله الغريزة بمجرد االحتكاك بالقواعد.
• ومن الخطأ الخلط بين مغالطة االحتكام إلى األكثرية [انظر مقال المغالطات المنطقية]
وبين استنباط البنية الطبيعية إلدراك البشر من خالل اتفاقهم الفطري رغم اختالف
الظروف والعادات بين المجتمعات.
•
• المصدر الخامس :الوحي
يع ّرف ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” الوحي بأنه أصل يدل على إلقاء علم من
أحد لغيره ،وقيّده البعض بأنه خفي وسريع .ونجد في القرآن الكريم صورا للوحي ال
تتقيد بالمعنى الديني ،فهو يشمل اإللهام الغريزي للحيوان{ :وأوحى ربك إلى النحل}
[النحل ،]67 :واإللهام الفطري لإلنسان{ :وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه}
[القصص ،]7 :واإلشارة السريعة من شخص ألشخاص آخرين{ :فخرج على قومه من
المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا} [مريم ،]11 :ووسوسة الشياطين{ :وإن الشياطين
ليوحون إلى أوليائهم} [األنعام.]121 :
• لكن المقصود بالوحي هنا هو الذي يوحي به هللا إلى أنبيائه
ورسله{ :وأوحي إلي هذا القرآن ألنذركم به} [األنعام،]19 :
وهو الوسيلة التي أبلغ هللا بها رسله برسالتهم وطالبهم بتبليغها
للناس{ :إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده}
[النساء.]163 :
• وإذا تجاوز اإلنسان مرحلة الشك وآمن بوجود هللا ،سواء عن طريق العقل أو الكشف،
أو بالتحقق من صدق األنبياء ومعجزاتهم ،فمن البدهي أن يعتبر الوحي اإللهي أعلى
درجات مصادر المعرفة ،وأن يعتبر كل ما يصدر عنه بمثابة العلم اليقيني .وبما أننا ما
نزال في بداية طريق البحث عن الحقيقة فسنؤجل الحديث عن ضرورة اللجوء إلى
الوحي بعد أن نتحقق من وجود هللا أوالً ،ثم سنتعرض في مقال “نبوة محمد” وما يليه
لتفاصيل هذا المصدر المعرفي.
• وما يهمنا بالدرجة األولى في مصدرية الوحي للمعرفة هو الجانب الميتافيزيقي ،فبعد
أن ثبت لنا عجز العقل عن الخوض في عوالم الغيب ،وعدم امتالكنا ألي برهان يضمن
صدور المكاشفات الحدسية -بشأن الغيبيات -عن مصدر موثوق ،واستحالة التوصل
إلى العالم الغيبي بالحواس ألنه مفارق للحس أصال ،وعجز التجربة والرياضيات عن
اإلحاطة بحقائق الكون المادي نفسه فضال عن العالم الغيبي ،فلن يبقى لدينا سوى
اللجوء إلى الوحي بعد التحقق من صدق نسبته إلى هللا.
• مواقف الفالسفة من الوحي
إذا اعتبرنا اليونان مهداً للفلسفة ،فسنبدأ عرضنا التاريخي من مواقف فالسفتها تجاه
الوحي ،وسيأتي ذكر نشأة األديان واألساطير هناك في مقال الوثنية ،ونكتفي هنا
باإلشارة إلى أن ما وصلنا من تراث فالسفة اليونان قد ال يدل في الظاهر على أن
الوحي بلغهم في ظل سيادة األساطير على المشهد ،ولذلك لم يصلنا من تراثهم
الفلسفي شيء عن البحث في مسألة الوحي ،سواء في المرحلة العقالنية األولى على
يد طاليس وأنكسيماندر ،أو في مرحلة السفسطة ،أو حتى في مرحلة سقراط ومن
بعده ممن أعادوا االعتبار للعقل ،وذلك بالرغم من إيمانهم بوجود إله خالق من
منطلق الضرورة العقلية .لكن التحقيق يرجح أن األساطير اإلغريقية نفسها لم تكن
سوى تحريف لرسالة الوحي ،حتى انقلبت المالئكة إلى آلهة تسكن جبل األوليمب،
ومع ذلك فاألثر الباقي في تراث الفالسفة يبدو خاليا من آثار الوحي ألنه لم يبق لديهم
منه شيء.
• وقد أدى افتقار اإلغريق للوحي إلى تخبط واضح في المسائل الميتافيزيقية،
فيقال إن سقراط ناقش مع مجموعة من أتباع فيثاغورس قضية خلود النفس
البشرية ،حيث حاولوا أن يدافعوا عن نظريتهم في التناسخ انطالقا من
خلفيتهم الباطنية ،فاثبت لهم سقراط تهافت النظرية ،فاقترحوا القول
بخلودها بعد موت الجسد ،فناقشهم أيضا في هذا الطرح ولم يتمكنوا من
البرهنة عليه ،وعندئذ سكت الجميع برهة ،وقال أحدهم ويدعى سيمياس إن
العلم بحقائق هذه األمور ممتنع أو عسير جدا ،ومن الجبن اليأس في البحث
حتى الوصول إلى آخر حدود العقل ،وإذا لم نستوثق من الحق فعلينا أن
نكتشف الدليل األقوى ما دام أنه ال سبيل لنا إلى بلوغ اليقين بالوحي اإللهي
[يوسف كرم ،تاريخ الفلسفة اليونانية ،ص.]91
• وعندما انتشرت المسيحية في أوروبا ،ر7أى قسم من الفالسفة
أن الفلسفة والدين متغايران وال يمكن جمعهما ،وأن الدين ال
يُعتنق إال باإليمان األعمى دون تعقل ،بينما رأى غالبية فالسفة
القر7ون الوسطى أن الوحي والعقل كالهما من هللا فال يمكن أن
يتعارضا ،وقالوا إن ما جاء في األناجيل من غيبيات ال يمكن
للعقل أن يدركه بنفسه ،فعليه أن يص ّدق به كما جاء في تلك
الكتب.
• وفي القرن الثالث عشر بدأت فلسفة أرسطو العقالنية باالنتشار ،واستفاد منها القديس اإليطالي توما
أالكويني في محاولة إثبات ما جاء في األناجيل بالمنطق ،ثم ظهر من الفالسفة من يقدم العقل على
النقل ويرى أنه في حال تعارضهما فال بد أن يكون العقل هو األولى ،ومن هؤالء جون سكوت
وآالن ديليل .وعندما انطلق عص7ر النهضة في القرن الرابع عشر كان الفالسفة قد حسموا أمرهم في
الفصل بين الفلسفة والالهوت ،واعتبروا أن “الوحي” مناقض للعقل وال يدعمه الدليل العلمي.
• ويجدر بالذكر هنا أن الوحي الذي كان موضع البحث لم يكن هو إنجيل عيسى عليه السالم ،بل
مجموعة األناجيل األربعة التي أقرها مجمع نيقية في القرن الرابع الميالدي 7،وقد فقد فالسفة عصر
النهضة الثقة بها عندما شرعوا في نقدها تاريخيا وتبين لهم احتواؤها على الكثير من التناقضات،
فضال عن عدم وجود أي دليل على صحة نسبتها إلى عيسى نفسه [انظر مقال المسيحية] ،لذا أقر
بعض الفالسفة في القرن السابع عشر وما بعده -مثل سبينوزا -بأن هناك وحيا نزل بالفعل على
النبيين موسى وعيسى عليهما السالم إال أن الكتاب المقدس المعترف به من قبل الكنيسة ليس سوى
نسخة محرفة ،بينما قرر فالسفة نزعة “التنوير” التخلي عن اإليمان بالوحي واالكتفاء بمصدرية
العقل أو الحس أو الحدس.
• ومن الواضح أن نقد فالسفة الغرب للوحي صادر عن اعتقادهم بأنه يقتصر فقط على الكتاب
المقدس بعهديه القديم والجديد ،بينما ال يكاد يتعرض أحدهم للقرآن في بحثه ،وقد وضعوا األديان
كلها في سلة واحدة من خالل منظورهم للدين من زاوية تراثهم اليهودي-المسيحي فقط ،ولم
يميزوا بين القرآن وغيره النطالقهم في دراسته -إن فعلوا -من أبحاث المستشرقين الذين أقر
معظمهم أن القرآن ليس وحيا إلهيا أصال.
• وفيما يتعلق باإلسالم ،فسنبحث في مقال مستقل مرجعية الوحي اإلسالمي ومصداقية نسبته إلى
هللا ،ونكتفي هنا في سياق العرض التاريخي باإلشارة إلى أن مواقف فالسفة اإلسالم من مصدرية
الوحي للمعرفة تنوعت كتنوع المواقف في أوروبا ،فكان المعتزلة يحاولون إثبات حقائق الوحي
بأدوات المنطق مع تقديم العقل عند “التعارض” مع النقل ،بينما كان األشاعرة يستخدمون األدوات
نفسها إلثبات عدم التعارض ،كما وضع ابن رشد كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة
من االتصال” إلثبات توافق العقل والنقل من خالل مفهومه الخاص للعقل والذي يقتصر على
المنطق األرسطي ،ثم وضع ابن تيمية في القرن الرابع عشر الميالدي كتاب “درء تعارض العقل
والنقل” ليثبت أيضا عدم التعارض ولكن دون قصر العقل على فلسفة أرسطو