You are on page 1of 283

‫الموسوعة الفقهية ‪ /‬الجزء السادس والعشرون‬

‫شرط *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرط بسكون الرّاء لغةً ‪ :‬إلزام الشّيء والتزامه ‪ ،‬ويجمع على شروط ‪ ،‬وبمعنى الشّرط‬ ‫‪1‬‬

‫الشّريطة وجمعها الشّرائط ‪ .‬والشّرَط بفتح الرّاء معناه العلمة ويجمع على أشراط ومنه أشراط‬
‫السّاعة أي علماتها ‪.‬‬
‫وهو في الصطلح ‪ :‬ما يلزم من عدمه العدم ‪ ،‬ول يلزم من وجوده وجود ول عدم لذاته ‪.‬‬
‫وعرّفه البيضاويّ في المنهاج بأنّه ‪ :‬ما يتوقّف عليه تأثير المؤثّر ل وجوده ‪ ،‬ومثّل له‬
‫بالحصان‪ ،‬فإنّ تأثير الزّنا في الرّجم متوقّف عليه كما ذكر السنويّ ‪ ،‬وأمّا نفس الزّنا فل ‪ ،‬لنّ‬
‫البكر قد تزني ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الرّكن ‪:‬‬
‫ي الّذي‬
‫‪ -‬ركن الشّيء في الصطلح ‪ :‬ما ل وجود لذلك الشّيء إلّ به ‪ ،‬وهو الجزء الذّات ّ‬ ‫‪2‬‬

‫تتركّب الماهيّة منه ومن غيره بحيث يتوقّف قيامها عليه ‪.‬‬
‫ن الشّرط يكون خارجا عن الماهيّة ‪ ،‬والرّكن يكون داخلً فيها‬
‫والفرق بينه وبين الشّرط ‪ :‬هو أ ّ‬
‫فهما متباينان ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬السّبب ‪:‬‬
‫‪ -‬السّبب في الصطلح ‪ :‬ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫فالسّبب والشّرط يلزم من عدمهما العدم ‪ .‬ولكنّ السّبب يلزم من وجوده الوجود ول يلزم من‬
‫وجود الشّرط الوجود ‪ ،‬كصلة الظّهر سببها زوال الشّمس وشرطها الطّهارة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المانع ‪:‬‬
‫‪ -‬ومعناه في الصطلح كما ذكر القرافيّ في الفروق ‪ :‬هو ما يلزم من وجوده العدم ول يلزم‬ ‫‪4‬‬

‫من عدمه وجود ول عدم لذاته ‪ ،‬فهو بهذا المعنى عكس الشّرط لنّ الشّرط ما يلزم من عدمه‬
‫العدم ول يلزم من وجوده وجود ول عدم لذاته ‪.‬‬
‫وقال ابن السّبكيّ ‪ :‬المانع ‪ :‬هو الوصف الوجوديّ الظّاهر المنضبط المعرّف نقيض الحكم كالبوّة‬
‫في القصاص ‪.‬‬
‫والتّفصيل في مصطلح ( مانع ) ‪.‬‬
‫تقسيمات الشّرط ‪:‬‬
‫ينقسم الشّرط إلى ما يلي ‪:‬‬
‫الوّل ‪ -‬الشّرط المحض ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو ما يمتنع بتخلّفه وجود العلّة فإذا وجد وجدت العلّة فيصير الوجود مضافا إلى الشّرط‬ ‫‪5‬‬

‫دون الوجوب ‪ ،‬مثاله اشتراط الطّهارة للصّلة واشتراط الرّهن في البيع ‪.‬‬
‫ثمّ ينقسم الشّرط المحض إلى قسمين ‪ :‬شروط شرعيّة ‪ ،‬وشروط جعليّة ‪.‬‬
‫فالشّروط الشّرعيّة هي الّتي اشترطها الشّارع إمّا للوجوب كالبلوغ لوجوب الصّلة وغيرها من‬
‫صحّة كاشتراط الطّهارة للصّلة ‪ .‬وإمّا للنعقاد كاشتراط الهليّة لنعقاد‬
‫المور التّكليفيّة ‪ ،‬وإمّا لل ّ‬
‫التّصرّف وصلحيّة المحلّ ولورود العقد عليه ‪ .‬وإمّا للّزوم كاشتراط عدم الخيار في لزوم البيع ‪،‬‬
‫وإمّا لنفاذ اشتراط الولية وما في معناها لنفاذ التّصرّف ‪.‬‬
‫ويلزم من عدم أيّ شرط من هذه الشّروط عدم الحكم المشروط له فإذا فقد شرط من شروط‬
‫صحّة عدم صحّة‬
‫الوجوب لزم عدم وجوب الفعل على المكلّف ويلزم من عدم شرط من شروط ال ّ‬
‫الفعل وهكذا ‪ ،‬ويلزم من عدم شرط من شروط النعقاد بطلن التّصرّف بحيث ل يترتّب عليه أي‬
‫حكم ‪.‬‬
‫‪ -6‬وأمّا الشّروط الجعليّة فهي الشّروط الّتي يشترطها المكلّف في العقود وغيرها كالطّلق‬
‫والعتاق والوصيّة وهو نوعان شرط تعليقيّ مثل إن دخلت الدّار فأنت طالق ‪ ،‬وينظر تفصيله في‬
‫( تعليق ) ‪ ،‬وشرط تقييديّ مثل وقفت على أولدي من كان منهم طالبا للعلم ‪.‬‬
‫وهذه الشّروط الجعليّة تنقسم من حيث اعتبارها إلى ثلثة أنواع ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬شرط ل ينافي الشّرع ‪ :‬بل هو مكمّل للشّروط وذلك كما لو اشترط المقرض على المقترض‬
‫رهنا أو كفيلً ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬شرط غير ملئم للمشروط ‪ :‬بل هو مناف لمقتضاه ‪ ،‬كما لو اشترط الزّوج في عقد الزّواج‬
‫أن ل ينفق على الزّوجة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬شرط ل ينافي الشّرع ما شرط فيه وفيه مصلحة لحد العاقدين أو كليهما أو لغيرهما ولكنّ‬
‫العقد ل يقتضيه فل تعرف ملءمته أو عدم ملءمته للعقد وذلك كما لو باع منزلً على أن يسكنه‬
‫البائع مثلً فتر ًة معلومةً أو يسكنه فلن الجنبيّ ‪.‬‬
‫وهذا الشّرط محلّ خلف ‪ .‬وتفصيله في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫القسم الثّاني ‪ :‬شرط هو في حكم العلل ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو شرط ل تعارضه علّة تصلح أن يضاف الحكم إليها فيضاف الحكم إليه ‪ ،‬لنّ الشّرط‬ ‫‪7‬‬

‫يتعلّق به الوجود دون الوجوب فصار شبيها بالعلل ‪ ،‬والعلل أصول لكنّها لمّا لم تكن عللً بذواتها‬
‫استقام أن تخلفها الشّروط ‪ ،‬ومثاله حفر البئر ‪ ،‬فعلّة السّقوط هي الثّقل لكنّ الرض مانع من‬
‫السّقوط فإزالة المانع بالحفر صار شرطا وهذه العلّة ل تصلح لضافة الحكم إليها " وهو‬
‫ن الثّقل أمر طبيعيّ والمشي مباح فل يصلحان لضافة الضّمان إليهما ‪ ،‬فيضاف إلى‬
‫الضّمان" ل ّ‬
‫ن صاحبه متعدّ لنّ الضّمان فيما إذا حفر في غير ملكه بخلف ما إذا أوقع نفسه ‪.‬‬
‫الشّرط ل ّ‬
‫القسم الثّالث ‪ :‬شرط له حكم السباب ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو شرط حصل بعد حصوله فعل فاعل مختار غير منسوب ذلك الفعل إلى الشّرط كما إذا‬ ‫‪8‬‬

‫ن الح ّل لمّا سبق النّفور الّذي هو‬


‫حلّ قيد صيد حتّى نفر ل يضمن عند الحنفيّة خلفا لمحمّد ‪ ،‬فإ ّ‬
‫علّة التّلف صار كالسّبب فإنّه يتقدّم على صورة العلّة والشّرط يتأخّر عنها ‪.‬‬
‫القسم الرّابع ‪ :‬شرط اسما ل حكما ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو ما يفتقر الحكم إلى وجوده ول يوجد عند وجوده ‪ ،‬فمن حيث التّوقّف عليه سمّي‬ ‫‪9‬‬

‫شرطا ‪ ،‬ومن حيث عدم وجود الحكم عنده ل يكون شرطا حكما ‪.‬‬
‫ويفهم ممّا ذكره فخر السلم أنّه عبارة عن أوّل الشّرطين اللّذين يضاف إلى آخرهما الحكم فإنّ‬
‫ن حكم الشّرط أن يضاف الوجود إليه‬
‫ن أوّلهما شرط اسما ل حكما ‪ ،‬ل ّ‬
‫كلّ حكم تعلّق بشرطين فإ ّ‬
‫وذلك مضاف إلى آخرهما فلم يكن الوّل شرطا حكما بل اسما ‪.‬‬
‫القسم الخامس ‪ :‬شرط هو بمعنى العلمة الخالصة ‪:‬‬
‫‪ -‬وذلك كالحصان في باب الزّنا وإنّما كان الحصان علمةً لنّ حكم الشّرط أن يمنع انعقاد‬ ‫‪10‬‬

‫العلّة إلى أن يوجد الشّرط وهذا ل يكون في الزّنا بحال ‪.‬‬


‫ن الحصان إذا ثبت كان معرّفا‬
‫لنّ الزّنا إذا وجد لم يتوقّف حكمه على إحصان يحدث بعده ‪ ،‬لك ّ‬
‫لحكم الزّنا فأمّا أن يوجد الزّنا بصورته فيتوقّف انعقاد علّة على وجود الحصان فل يثبت أنّه‬
‫علمة وليس بشرط فلم يصلح عّلةً للوجود ول للوجوب ولذلك لم يجعل له حكم العلل بحال ‪.‬‬
‫ولذلك ل يضمن شهود الحصان إذا رجعوا على حال أي سواء رجعوا وحدهم أم رجعوا مع‬
‫شهود الزّنا ‪.‬‬
‫ما يختصّ به الشّرط الجعليّ بقسميه المعلّق والمقيّد ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط لصحّة التّعليق أمور منها ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫أن يكون المعلّق عليه أمرا معدوما على خطر الوجود أي متردّدا بين أن يكون وأن ل يكون‪،‬‬
‫وأن يكون أمرا يرجى الوقوف على وجوده ‪ ،‬وأن ل يوجد فاصل أجنبيّ بين الشّرط والجزاء‪.‬‬
‫وأن يكون المعلّق عليه أمرا مستقبلً بخلف الماضي فإنّه ل مدخل له في التّعليق‪ .‬وأن ل يقصد‬
‫بالتّعليق المجازاة فلو سبّته بما يؤذيه فقال إن كنت كما قلت فأنت طالق تنجّز الطّلق سواء كان‬
‫الزّوج كما قالت أو لم يكن لنّ الزّوج في الغالب ل يريد إلّ إيذاءها بالطّلق ‪ ،‬وأن يوجد رابط‬
‫حيث كان الجزاء مؤخّرا وإلّ تنجّز ‪ ،‬وأن يكون الّذي يصدر منه التّعليق مالكا للتّنجيز أي قادرا‬
‫على التّنجيز وهذا المر فيه خلف ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪12/‬‬ ‫ج‬ ‫‪29‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪28/‬‬ ‫ينظر في ( تعليق ف‬
‫ما يختصّ به الشّرط المقيّد ‪:‬‬
‫يختصّ الشّرط المقيّد بأمرين ‪:‬‬
‫‪ -‬الوّل ‪ :‬كونه أمرا زائدا على أصل التّصرّف ‪ .‬فقد صرّح الزّركشيّ في قواعده بأنّ الشّرط‬ ‫‪12‬‬

‫ما جزم فيه بالصل ‪ -‬أي أصل الفعل ‪ -‬وشرط فيه أمرا آخر ‪.‬‬
‫ن الشّرط‬
‫ي في حاشيته على ابن نجيم ‪ :‬أ ّ‬
‫ل ويظهر ذلك ممّا قاله الحمو ّ‬
‫الثّاني ‪ :‬كونه أمرا مستقب ً‬
‫التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة ‪.‬‬
‫ي أنّ التّعليق ما دخل على أصل‬
‫هذا والفرق بين شرط التّعليق وشرط التّقييد كما ذكر الزّركش ّ‬
‫الفعل بأداته كإن وإذا ‪ ،‬والشّرط ما جزم فيه بالصل وشرط فيه أمرا آخر ‪.‬‬
‫وقال الحمويّ ‪ :‬وإن شئت فقل في الفرق إنّ التّعليق ترتيب أمر لم يوجد على أمر يوجد بإن‬
‫أوإحدى أخواتها والشّرط التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة ‪.‬‬
‫ما يعرف به الشّرط ‪:‬‬
‫‪ -‬يعرف الشّرط بصيغته بأن دخل في الكلم حرف من حروف الشّرط فكان الفعل الّذي دخل‬ ‫‪13‬‬

‫عليه شرطا ‪ ،‬وصيغه كما ذكر المديّ في الحكام كثيرة وهي إن الخفيفة ‪ ،‬وإذا ‪ ،‬ومن‪ ،‬وما ‪،‬‬
‫ومهما ‪ ،‬وحيثما ‪ ،‬وأينما ‪ ،‬وإذ ما ‪ ،‬وأمّ هذه الصّيغ " إن " الشّرطيّة ‪.‬‬
‫ويعرف الشّرط أيضا بدللته أي بالمعنى بأن يكون الوّل أي من الكلم سببا للثّاني كقوله ‪:‬‬
‫المرأة الّتي أتزوّج طالق ثلثا ‪ ،‬فإنّه مبتدأ متضمّن لمعنى الشّرط ‪ .‬والوّل يستلزم الثّاني ألبتّة‬
‫دون العكس ‪ ،‬لوقوع الوصف ‪ -‬وهو وصف التّزوّج ‪ -‬في النّكرة فيعمّ ‪.‬‬
‫ولو وقع الوصف في المعيّن كما في قوله ‪ :‬هذه المرأة الّتي أتزوّجها طالق لما صلح دللةً على‬
‫ن الوصف في المعيّن لغو فبقي قوله ‪ :‬هذه المرأة طالق فيلغو في الجنبيّة ‪ ،‬ونصّ‬
‫الشّرط ‪ ،‬ل ّ‬
‫الشّرط يجمع المعيّن وغيره حتّى لو قال إن تزوّجت هذه المرأة أو امرأةً طلقت إذا تزوّج بها ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك محلّه كتب الصول ‪.‬‬
‫الثر المترتّب على تعليق الحكم بالشّرط ‪:‬‬
‫‪ -‬يذكر الصوليّون مسألةً هام ًة وهي أنّ تعليق الحكم بالشّرط هل يمنع السّبب عن السّببيّة‬ ‫‪14‬‬

‫أو يمنع الحكم عن الثّبوت فقط ل السّبب عن النعقاد ‪.‬‬


‫)‪.‬‬ ‫‪30/‬‬ ‫وينظر الخلف في هذه المسألة في مصطلح ( تعليق ف‬
‫ول يقع شيء عند وجود الشّرط ‪ .‬وتفصيل ذلك في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫التّخصيص بالشّرط ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرط من المخصّصات المتّصلة ومن أحكامه أنّه يخرج من الكلم ‪ ،‬ما لوله لدخل فيه ‪،‬‬ ‫‪15‬‬

‫وتفصيله في الملحق الصوليّ ‪.‬‬


‫الستدلل بمفهوم الشّرط ‪:‬‬
‫‪ -‬تعليق الحكم على الشّرط بكلمة " إن " أو غيرها من الشّروط اللّغويّة كما في قوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪16‬‬

‫حمْ َلهُنّ } ‪.‬‬


‫ن َ‬
‫ضعْ َ‬
‫ن حَتّى يَ َ‬
‫ح ْملٍ َفأَنفِقُوا عَلَ ْيهِ ّ‬
‫{ َوإِن كُنّ أُولتِ َ‬
‫فيه أربعة أمور ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬ثبوت المشروط عند ثبوت الشّرط ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬دللة " إن " عليه ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬عدم المشروط عند عدم الشّرط ‪.‬‬
‫الرّابع ‪ :‬دللة " إن " عليه ‪.‬‬
‫فالثّلثة الول ل خلف فيها ‪ ،‬وأمّا المر الرّابع وهو دللة " إن " على عدم المشروط عند عدم‬
‫الشّرط فهو محلّ الخلف وتفصيله في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫طهّرُواْ } يقتضي‬
‫والمر المعلّق بالشّرط يقتضي التّكرار كما في قوله تعالى ‪َ { :‬وإِن كُنتُمْ جُنُبا فَا ّ‬
‫ن المر المطلق يقتضي التّكرار‪.‬‬
‫تكرّر المأمور به عند تكرّر شرطه بناءً على القول بأ ّ‬
‫وأمّا على القول بأنّ المر المطلق ل يقتضي التّكرار ول يدفعه ففي كونه يقتضي التّكرار هنا من‬
‫جهة اللّفظ ل من جهة القياس أو ل يقتضيه ل من جهة اللّفظ ول من جهة القياس أو ل يقتضيه‬
‫من جهة اللّفظ ويقتضيه من جهة القياس خلف وينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫أثر الشّرط الجعليّ التّعليقيّ على التّصرّفات ‪:‬‬
‫‪ -‬يظهر أثر الشّرط الجعليّ التّعليقيّ في التّصرّفات مثل الجارة والبيع والخلع والصّلح‬ ‫‪17‬‬

‫والقسمة والمزارعة والمساقاة ‪ ،‬والمضاربة والنّكاح ‪ ،‬والبراء والوقف ‪ ،‬والحجر والرّجعة‬


‫وغير ذلك كما هو مبيّن في مصطلح ( تعليق ) ‪.‬‬
‫أثر الشّرط التّقييديّ على التّصرّفات ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا قيّد التّصرّف بشرط فل يخلو هذا الشّرط إمّا أن يكون صحيحا وإمّا أن يكون فاسدا أو‬ ‫‪18‬‬

‫باطلً ‪.‬‬
‫فإن كان الشّرط صحيحًا كما لو اشترط في البقرة كونها حلوبا فالعقد جائز لنّ المشروط صفة‬
‫للمعقود عليه أو الثّمن ‪ ،‬وهي صفة محضة ل يتصوّر انقلبها أصلً ول يكون لها حصّة من‬
‫ل أو فاسدا كما لو اشترى ناقةً على أن تضع حملها بعد‬
‫الثّمن بحال ‪ .‬وإن كان الشّرط باط ً‬
‫شهرين كان البيع فاسدا ‪.‬‬
‫قال في الفتاوى الهنديّة ‪ :‬وجملة ما ل يصحّ تعليقه بالشّرط ويبطل بالشّروط الفاسدة ثلثة عشر‪:‬‬
‫البيع والقسمة والجارة والرّجعة والصّلح عن مال والبراء عن الدّين والحجر عن المأذون‬
‫وعزل الوكيل في رواية شرح الطّحاويّ وتعليق إيجاب العتكاف بالشّروط والمزارعة والمعاملة‬
‫والقرار والوقف في رواية ‪.‬‬
‫ن الشّرط التّقييديّ ثلثة‬
‫هذا وقد ذهب الحنفيّة وهم الّذين يفرّقون بين الفساد والبطلن إلى أ ّ‬
‫أقسام ‪ :‬صحيح وفاسد وباطل ‪.‬‬
‫وذهب غيرهم من الفقهاء وهم الّذين ل يفرّقون بين الفساد والبطلن ويقولون ‪ :‬إنّهما واحد إلى‬
‫أنّه قسمان ‪ :‬صحيح وباطل أو صحيح وفاسد ‪.‬‬
‫الشّرط الصّحيح ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ضابطه ‪:‬‬
‫‪ -‬ضابطه عند الحنفيّة ‪ :‬اشتراط صفة قائمة بمحلّ العقد وقت صدوره أو اشتراط ما يقتضيه‬ ‫‪19‬‬

‫العقد أو ما يلئم مقتضاه أو اشتراط ما ورد في الشّرع دليل بجواز اشتراطه أو اشتراط ما جرى‬
‫عليه التّعامل ‪.‬‬
‫وضابطه عند المالكيّة ‪ :‬اشتراط صفة قائمة بمحلّ العقد وقت صدوره أو اشتراط ما يقتضيه‬
‫العقد أو اشتراط ما ل يقتضيه العقد ول ينافيه ‪.‬‬
‫وضابطه عند الشّافعيّة ‪ :‬اشتراط صفة قائمة بمحلّ العقد وقت صدوره أو اشتراط ما يقتضيه‬
‫العقد أو اشتراط ما يحقّق مصلحةً مشروعةً للعاقد أو اشتراط العتق لتشوّف الشّارع إليه ‪.‬‬
‫وضابطه عند الحنابلة ‪ :‬اشتراط صفة قائمة بمحلّ العقد وقت صدوره أو اشتراط ما يقتضيه‬
‫العقد أو يؤكّد مقتضاه أو اشتراط ما أجاز الشّارع اشتراطه أو اشتراط ما يحقّق مصلحةً للعاقد ‪،‬‬
‫وفيما يلي تفصيل ذلك ‪:‬‬
‫ب ‪ -‬أنواعه ‪:‬‬
‫‪ -‬النّوع الوّل ‪ :‬اشتراط صفة قائمة بمح ّل التّصرّف وقت صدوره وهذا النّوع متّفق على‬ ‫‪20‬‬

‫جوازه عند الفقهاء ‪ ،‬فإن فات هذا الشّرط يكون للمشتري الخيار لفوات وصف مرغوب فيه‬
‫كاشتراط كون البقرة المشتراة حلوبا ‪.‬‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬اشتراط ما يقتضيه العقد وجوازه أيضا محلّ اتّفاق عند الفقهاء لنّه بمثابة تأكيد ‪،‬‬
‫ن هذا الشّرط من‬
‫حلّ‬
‫ومن أمثلته ما لو اشترط في الشّراء التّسليم إلى المشتري فإنّ البيع يص ّ‬
‫مقتضيات العقد ‪ ،‬ومنها أيضا اشتراط الرّدّ بالعيب وردّ العوض فإنّها أمور لزمة ل تنافي العقد‬
‫بل هي من مقتضياته ‪.‬‬
‫النّوع الثّالث ‪ :‬اشتراط ما يلئم مقتضى العقد وهذه عبارة الحنفيّة ‪.‬‬
‫قال صاحب البدائع فهذا ل يقتضيه العقد ولكنّه يلئم مقتضاه فهو ل يفسد العقد وإنّما هو مقرّر‬
‫لحكم العقد من حيث المعنى مؤكّد إيّاه فيلحق بالشّرط الّذي هو من مقتضيات العقد ‪.‬‬
‫وعبارة المالكيّة اشتراط ما يلئم مقتضى العقد ول ينافيه ‪.‬‬
‫وعبارة الشّافعيّة والحنابلة اشتراط ما ل يقتضيه إطلق العقد لكنّه يلئمه ومحقّق مصلحةً للعاقد‬
‫ومثاله ما لو باع على أن يعطيه المشتري بالثّمن رهنا أو كفيلً والرّهن معلوم والكفيل حاضر‬
‫جاز ذلك استحسانا عند الحنفيّة وهو جائز أيضا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫النّوع الرّابع ‪ :‬اشتراط ما ورد في الشّرع دليل بجوازه ‪.‬‬
‫النّوع الخامس ‪ :‬اشتراط ما جرى عليه التّعامل بين النّاس وقد ذكر هذا النّوع الحنفيّة سوى‬
‫زفر‪ ،‬وهو ممّا ل يقتضيه العقد ول يلئم مقتضاه لكن للنّاس فيه تعامل ‪.‬‬
‫ن هذا الشّرط‬
‫ل على أن يحذوها البائع أو جرابا على أن يخرزه له خفّا فإ ّ‬
‫ومثاله إذا اشترى نع ً‬
‫جائز لنّ النّاس تعاملوا به في البيع كما تعاملوا بالستصناع فسقط القياس بعدم الجواز بتعامل‬
‫النّاس ‪.‬‬
‫النّوع السّادس ‪ :‬اشتراط البائع نفعا مباحا معلوما ‪ ،‬وهذا عند الحنابلة ومن أمثلته ما لو باع‬
‫دارا واشترط على المشتري أن يسكنها شهرا ‪.‬‬
‫الشّرط الفاسد أو الباطل ‪:‬‬
‫‪ -‬هو ضربان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬ما يفسد العقد ويبطله ‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬ما يبقى التّصرّف معه صحيحا‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫الضّرب الوّل ‪ :‬ما يفسد العقد ويبطله ‪.‬‬


‫أ ‪ -‬ضابطه ‪:‬‬
‫‪ -‬ضابط هذا الضّرب عند الحنفيّة ‪ :‬اشتراط أمر يؤدّي إلى غرر غير يسير أو اشتراط أمر‬ ‫‪22‬‬

‫محظور أو اشتراط ما ل يقتضيه العقد وفيه منفعة لحد المتعاقدين أو للمعقود عليه ول يلئم‬
‫مقتضى العقد ول ممّا جرى عليه التّعامل بين النّاس ول ممّا ورد في الشّرع دليل بجوازه ‪.‬‬
‫وضابطه عند المالكيّة ‪ :‬اشتراط أمر محظور أو أمر يؤدّي إلى غرر أو اشتراط ما ينافي مقتضى‬
‫العقد ‪.‬‬
‫وضابطه عند الشّافعيّة ‪ :‬اشتراط أمر لم يرد في الشّرع أو اشتراط أمر يخالف مقتضى العقد أو‬
‫اشتراط أمر يؤدّي إلى جهالة ‪.‬‬
‫وضابطه عند الحنابلة ‪ :‬اشتراط عقدين في عقد أو اشتراط شرطين في عقد واحد أو اشتراط ما‬
‫يخالف المقصود من العقد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أنواعه ‪:‬‬
‫‪ -‬لهذا الضّرب سبعة أنواع تؤخذ من ضوابطه ‪:‬‬ ‫‪23‬‬
‫النّوع الوّل ‪ :‬اشتراط أمر يؤدّي إلى غرر غير يسير ‪ ،‬وهذا النّوع ذكره الحنفيّة والمالكيّة ‪.‬‬
‫ومثاله عند الحنفيّة ما لو اشترى ناقةً على أنّها حامل لنّه يحتمل الوجود والعدم ول يمكن‬
‫الوقوف عليه للحال فكان في وجوده غرر فيوجب فساد البيع ‪.‬‬
‫ومثّل له المالكيّة بعسب فحل يستأجر على إعقاق النثى حتّى تحمل فل يصحّ لما فيه من الجهالة‬
‫ولنّه يؤدّي إلى غبن صاحب النثى إن تعجّل حملها وإلى غبن صاحب الفحل إن تأخّر الحمل ‪.‬‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬اشتراط أمر محظور ‪.‬‬
‫النّوع الثّالث ‪ :‬اشتراط أمر يخالف الشّرع ‪.‬‬
‫النّوع الرّابع ‪ :‬اشتراط ما يخالف أو يناقض مقتضى العقد أو ينافي المقصود منه ومثاله ما لو‬
‫باع دارا بشرط أن يسكنها مدّ ًة بطل البيع ‪ ،‬أو شرط أن ل يبيعها ‪ .‬لم يصحّ ‪ ،‬أو تزوّج امرأةً‬
‫على أن ل تحلّ له لم يصحّ النّكاح لشتراط ما ينافيه ‪.‬‬
‫النّوع الخامس ‪ :‬اشتراط ما يؤدّي إلى جهالة ‪ ،‬ومن أمثلة هذا النّوع ما لو باع شيئا بثمن إلى‬
‫نتاج النّتاج فهذا البيع ل يصحّ لما فيه من الجهالة في الجل ‪.‬‬
‫النّوع السّادس ‪ :‬اشتراط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدا آخر أو اشتراط البائع شرطا يعلّق‬
‫عليه البيع ومثاله كما في كشّاف القناع ما لو اشترط عليه سلفا أي سلما أو قرضا بيعا أو إجارةً‬
‫أو شركةً أو صرف الثّمن أو صرف غيره أو غير الثّمن فاشتراط هذا الشّرط يبطل البيع كما‬
‫ي عنه ‪.‬‬
‫صرّح الحنابلة لكونه من قبيل بيعتين في بيعة المنه ّ‬
‫والنّهي يقتضي الفساد وكقوله بعتك إن جئتني بكذا أو بعتك إن رضي فلن فل يصحّ البيع لنّ‬
‫مقتضى البيع نقل الملك حال التّبايع والشّرط هنا يمنعه ‪.‬‬
‫النّوع السّابع ‪ :‬اشتراط ما ل يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو للمشتري وليس ممّا جرى به‬
‫التّعامل بين النّاس نحو ما إذا باع دارا على أن يسكنها البائع شهرا ثمّ يسلّمها إليه أو أرضا‬
‫على أن يزرعها سنةً أو دا ّبةً على أن يركبها شهرا أو ثوبا على أن يلبسه أسبوعا أو على أن‬
‫يقرضه المشتري قرضا أو على أن يهب له هبةً أو يزوّج ابنته منه أو يبيع منه كذا ونحو ذلك‬
‫أو اشترى ثوبا على أن يخيطه البائع قميصا أو حنطةً على أن يطحنها ونحو ذلك ‪.‬‬
‫فالبيع في هذا كلّه فاسد كما صرّح الحنفيّة لنّ زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون ربا لنّها‬
‫زيادة ل يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الرّبا والبيع الّذي فيه الرّبا أو الّذي فيه شبهة‬
‫الرّبا فاسد ‪.‬‬
‫الضّرب الثّاني من ضربي الشّرط الفاسد ‪:‬‬
‫ن المشترط أسقطه أو يبقى التّصرّف معه صحيحا‬
‫‪ -‬هو ما يبقى التّصرّف معه صحيحا إمّا ل ّ‬ ‫‪24‬‬

‫سواء أسقطه المشترط أو لم يسقطه ‪.‬‬


‫ن هذا الضّرب قسمان ‪:‬‬
‫وبهذا يتبيّن أ ّ‬
‫‪ -‬أحدهما ‪ :‬ما يحكم معه بصحّة التّصرّف إذا أسقطه المشترط ‪ ،‬وقد ذكره المالكيّة في‬ ‫‪25‬‬

‫أقسام الشّرط الباطل ‪ .‬وضابطه عندهم اشتراط أمر يناقض المقصود من البيع أو يخلّ بالثّمن‬
‫فيه أو يؤدّي إلى غرر في الهبة ‪ ،‬فأنواعه على هذا ثلثة ‪:‬‬
‫النّوع الوّل ‪ :‬اشتراط أمر ينافي المقصود من البيع كأن يشترط البائع على المشتري أن ل يبيع‬
‫ن البيع يصحّ ‪.‬‬
‫ن هذا الشّرط إذا أسقطه المشترط فإ ّ‬
‫أو ل يهب ‪ ،‬ونحو ذلك فإ ّ‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬اشتراط أمر يخلّ بالثّمن بأن يؤدّي إلى جهالة فيه بزيادة إن كان شرط السّلف من‬
‫ن النتفاع بالسّلف من‬
‫المشتري أو نقص إن كان من البائع كبيع وشرط سلف من أحدهما ل ّ‬
‫جملة الثّمن أو المثمّن وهو مجهول فهذا الشّرط إن حذفه المشترط صحّ العقد ‪.‬‬
‫النّوع الثّالث ‪ :‬اشتراط أمر يؤدّي إلى غرر ومثاله في الهبة ما لو دفع إلى آخر فرسا ليغزو‬
‫عليه سنين وشرط الواهب أن ينفق الموهوب له عليه أي الفرس في تلك السّنين ثمّ تكون‬
‫الفرس ملكا للمدفوع له فل يجوز ذلك للغرر ‪.‬‬
‫‪ -‬القسم الثّاني ‪ :‬ما يحكم معه بصحّة التّصرّف سواء أسقطه المشترط أو لم يسقطه ‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫وهذا القسم يتناول الشّروط الباطلة الّتي تسقط ويصحّ معها التّصرّف عند الحنفيّة والشّروط‬
‫الباطلة الّتي يصحّ معها التّصرّف عند المالكيّة والشّروط الفاسدة الّتي يصحّ معها التّصرّف عند‬
‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وقد سبقت ضوابط ذلك ‪.‬‬
‫وأنواعه ما يأتي ‪:‬‬
‫‪ -‬النّوع الوّل ‪ :‬ذكره الحنفيّة وهو اشتراط ما ل يقتضيه العقد ول يلئم مقتضاه ولم يرد‬ ‫‪27‬‬

‫شرع ول عرف بجوازه وليس فيه منفعة لحد المتعاقدين أو للمعقود عليه من أهل الستحقاق ‪.‬‬
‫ومثاله كما في البدائع لو شرط أحد المزارعين في المزارعة على أن ل يبيع الخر نصيبه ول‬
‫ن هذا الشّرط ل منفعة فيه لحد فل يوجب الفساد وهذا‬
‫يهبه فالمزارعة جائزة والشّرط باطل ‪ .‬ل ّ‬
‫لنّ فساد البيع في مثل هذه الشّروط لتضمّنها الرّبا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد ل‬
‫يقابلها عوض ولم يوجد في هذا الشّرط لنّه ل منفعة فيه لحد إلّ أنّه شرط فاسد في نفسه لكنّه‬
‫ل يؤثّر في العقد فالعقد جائز والشّرط باطل ‪.‬‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬ذكره المالكيّة وهو اشتراط البراءة من العيوب أو من الستحقاق ‪ ،‬فإذا باع‬
‫عرضا أو حيوانا على البراءة من العيوب ثمّ اطّلع المشتري على عيب قديم فيه كان له ردّه ول‬
‫عبرة بشرط البراءة ‪.‬‬
‫النّوع الثّالث ‪ :‬اشتراط ما يخالف أو ينافي مقتضى العقد دون الخلل بمقصوده وهذا النّوع ذكره‬
‫المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫ومن أمثلته عند المالكيّة ما لو اشترط ربّ الوديعة على المودع ضمانها فل ضمان عليه إذا‬
‫تلفت في محلّ ل ضمان عليه فيه ‪ ،‬لنّ يد المودع يد أمانة فل يضمن إلّ بالتّعدّي الوديعة من‬
‫المانات فل يضمن إذا تلفت في هذه الحالة فيلغى الشّرط وتصحّ الوديعة ‪.‬‬
‫ومن أمثلته عند الشّافعيّة ما لو قال ‪ :‬أعمرتك هذه الدّار سن ًة فعلى الجديد لو قال مع قوله ‪:‬‬
‫أعمرتكها فإذا متّ عادت إليّ أو إلى وارثي فكذا هي هبة وإعمار صحيح في الصحّ وبه قطع‬
‫الكثرون كما في الرّوضة فيلغو ذكر الشّرط ‪.‬‬
‫ومن أمثلته عند الحنابلة ما لو اشترط أن ل خسارة عليه أو شرط أنّه متى نفق المبيع وإلّ ردّه‬
‫فهذا الشّرط ل يبطل البيع ‪.‬‬
‫النّوع الرّابع ‪ :‬اشتراط أمر يؤدّي إلى جهالة أو أمر غير مشروع كما لو باع بقرةً وشرط أن تدرّ‬
‫كلّ يوم صاعًا فإنّ ذلك ل يصحّ لعدم القدرة عليه ولعدم انضباطه ‪.‬‬

‫شرع من قبلنا *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرع ‪ ،‬والشّريعة ‪ ،‬والشّرعة في اللّغة ‪ :‬الطّريق الظّاهر الّذي يوصل منه إلى الماء ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫يقال‪ :‬شرعت البل شرعا وشروعا ‪ :‬إذا وردت الماء ‪.‬‬


‫والشّرع في الصطلح ‪ :‬ما سنّه اللّه لعباده من الدّين وأمرهم باتّباعه ‪.‬‬
‫" ومن قبلنا " هم النبياء المرسلون قبل نبيّنا إلى المم السّابقة ‪.‬‬
‫فشرع من قبلنا هو ‪ :‬ما جاء به الرّسل من الشّرائع إلى المم الّتي أرسلوا إليها قبل مبعث‬
‫النّبيّ‪ .‬وحدة الشّرائع السّماويّة ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرائع السّماويّة كلّها من مصدر واحد ‪ ،‬وهو اللّه سبحانه وتعالى ‪ ،‬فهي لهذا متّحدة‬ ‫‪2‬‬

‫الصول ‪ .‬فل تختلف في أصول الدّين ‪ ،‬كوحدانيّة اللّه ‪ ،‬ووجوب إخلص العبادة له ‪ .‬واليمان‬
‫بالبعث ‪ ،‬والجنّة ‪ ،‬والنّار ‪ ،‬والملئكة ‪ ،‬وغير ذلك من أصول الدّين ‪.‬‬
‫ك َومَا وَصّيْنَا ِبهِ‬
‫ع َلكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّى ِب ِه نُوحا وَالّذِي َأ ْوحَيْنَا إِلَيْ َ‬
‫قال اللّه تعالى لنبيّه ‪ { :‬شَرَ َ‬
‫ن أَقِيمُوا الدّينَ وَل تَ َتفَرّقُوا فِيهِ } ‪.‬‬
‫إِبْرَاهِيمَ َومُوسَى وَعِيسَى أَ ْ‬
‫اختلف الشّرائع في الفروع ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرائع السّماويّة قد تختلف في الحكام الفرعيّة حسب اختلف الزّمن والبيئات ‪ ،‬وبسبب‬ ‫‪3‬‬

‫ظروف وملبسات خاصّة بأمّة من المم فتحرّم بعض أمور على أمّة لسباب خاصّة بها ‪.‬‬
‫كما حرّم على اليهود بعض أجزاء الحيوان ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي‬
‫حوَايَا َأوْ مَا اخْتَ َلطَ‬
‫ظهُورُ ُهمَا َأوِ ا ْل َ‬
‫ت ُ‬
‫حمَلَ ْ‬
‫شحُومَ ُهمَا ِإلّ مَا َ‬
‫ح ّرمْنَا عَلَ ْي ِهمْ ُ‬
‫ن الْ َبقَرِ وَا ْلغَنَمِ َ‬
‫ظفُرٍ َومِ َ‬
‫ُ‬
‫ِب َعظْمٍ }‪ .‬ولكن هل نحن متعبّدون بفروع شرع من قبلنا من المم ؟ اختلف علماء الصول‬
‫والفقه في ذلك‪ .‬وهل كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يتعبّد قبل المبعث بشرع أحد من النبياء ؟‬
‫منهم من قال ‪ :‬كان يتعبّد ‪ ،‬ومنهم من نفى ذلك ‪.‬‬
‫ن ما هو من الشّرائع السّابقة وإن ورد ما يدلّ‬
‫وبناءً على هذا الختلف الصوليّ والكلميّ فإ ّ‬
‫على إقراره فهو شرع لنا وإن ورد ما يدلّ على نسخه فليس شرعا لنا بالتّفاق ‪.‬‬
‫وإن سكت شرعنا عن إقراره ونسخه فقد اختلف الفقهاء في ذلك ‪:‬‬
‫فذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى أنّه شرع لنا ‪ ،‬ثابت الحكم علينا ‪ ،‬إذا قصّه اللّه علينا‬
‫في القرآن من غير إنكار ‪ ،‬ول تقرير ‪ ،‬فل نأخذ من أحبارهم ول من كتبهم ‪.‬‬
‫حجّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِي َم عَلَى َقوْمهِ } ‪ ،‬إلى قوله ‪ { :‬فَ ِبهُدَا ُهمُ‬
‫ك ُ‬
‫واحتجّوا بقوله تعالى ‪ { :‬وَتِلْ َ‬
‫اقْتَدِهْ}‪.‬‬
‫ن اتّبِعْ مِّل َة إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا } ‪.‬‬
‫ك أَ ِ‬
‫وقوله تعالى ‪ُ { :‬ثمّ َأ ْوحَيْنَا إِلَيْ َ‬
‫ن شرع من قبلنا من النبياء شرع لنا ‪ ،‬وهي وإن لم‬
‫وقالوا ‪ :‬إ نّ هذه اليات وغيرها تدلّ على أ ّ‬
‫ي صلى ال عل يه و سلم فإنّ ها قد‬
‫ت كن لزم ًة ل نا بن فس ورود ها في تلك الشّري عة ق بل مب عث النّب ّ‬
‫صارت شريعةً لنا بورودها على شريعتنا ولزمنا أحكامها ‪ .‬بنا ًء على هذا استدلّوا بها على آراء‬
‫فقهيّة ذهبوا إليها ‪:‬‬
‫ن ال ّنفْسَ بِال ّنفْسِ } على وجوب قتل‬
‫فقد استدلّ الحنفيّة بقوله تعالى ‪َ { :‬وكَتَبْنَا عَلَ ْي ِهمْ فِيهَا أَ ّ‬
‫ي ‪ ،‬واستدلّوا بقوله تعالى حكايةً عن نبيّ اللّه صالح عليه السلم ‪ {:‬قَالَ هَذِ ِه نَا َقةٌ‬
‫المسلم بال ّذمّ ّ‬
‫ن اللّه تعالى أخبر عن‬
‫ب َي ْومٍ ّمعْلُومٍ } ‪ .‬على جواز قسم الشّرب باليّام ‪ ،‬ل ّ‬
‫شرْبٌ وَ َل ُكمْ شِرْ ُ‬
‫ّلهَا ِ‬
‫نبيّه صالح بذلك ولم يعقبه بالنّسخ فصارت شريعةً لنا مبتدأةً ‪.‬‬
‫سوّلَتْ َل ُكمْ أَن ُفسُ ُكمْ َأمْرا } ‪ .‬حكايةً‬
‫واستدلّ المالكيّة على جواز الحكم بالمارة بقوله تعالى ‪َ { :‬ب ْل َ‬
‫ي اللّه يعقوب عليه الصلة والسلم ردّا على قول إخوة يوسف ‪ { :‬إِنّا ذَهَبْنَا َنسْتَبِقُ‬
‫عن نب ّ‬
‫وَتَ َركْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَ َأكَ َلهُ الذّئْبُ } ‪.‬‬
‫وبنوا على ذلك أحكاما كثير ًة ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬لو وجد ميّت في دار السلم ‪ ،‬وهو غير مختون وعليه زنّار فل يدفن في مقابر‬
‫المسلمين‪ ،‬استنادا إلى هذه المارة ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة في القول الصحّ عندهم ‪ :‬إنّ شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ‪ ،‬وإن ورد في‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم لمّا بعث معاذا إلى اليمن قال له ‪» :‬‬
‫شرعنا ما يقرّره ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫كيف تقضي؟ فأجابه ‪ :‬أقضي بما في كتاب اللّه ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن لم يكن في كتاب اللّه ؟ قال ‪ :‬فبسنّة‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬قال ‪ :‬فإن لم يكن في سنّة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ؟‬
‫قال ‪ :‬أجتهد رأيي « ‪.‬‬
‫ولم يذ كر شرع من قبل نا فزكّاه النّبيّ صلى ال عل يه و سلم و صوّبه ‪ ،‬فلو كان ذلك من مدارك‬
‫الحكام لما جاز العدول إلى الجتهاد إلّ بعد العجز عنه ‪.‬‬
‫وتفصيل الموضوع وأدلّة المختلفين يرجع إليه في الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫شرقاء *‬
‫انظر ‪ :‬أضحيّة‬

‫شرْك *‬
‫ِ‬
‫انظر ‪ :‬إشراك ‪ ،‬اشتراك‬

‫الشّركة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّركة بكسر فسكون ‪ ،‬كنعمة أو بفتح فكسر ‪ ،‬ككلمة ‪ -‬ويجوز مع الفتح أيضا إسكان‬ ‫‪1‬‬

‫الرّاء ‪ -‬اسم مصدر شرك ‪ ،‬كعلم ‪ :‬يقال ‪ :‬شرك الرّجل الرّجل في البيع والميراث يشركه شركا‬
‫وشركةً ‪ ،‬خلط نصيبه بنصيبه ‪ ،‬أو اختلط نصيباهما ‪.‬‬
‫فالشّركة إذن ‪ :‬خلط النّصيبين واختلطهما ‪ ،‬والعقد الّذي يتمّ بسببه خلط المالين حقيقةً أو حكما‬
‫‪ -‬لصحّة تصرّف كلّ خليط في مال صاحبه ‪ -‬يسمّى شركةً تجوّزا ‪ ،‬من إطلق اسم المسبّب‬
‫وإرادة السّبب ‪.‬‬
‫وأمّا في الصطلح الفقهيّ ‪ :‬فالشّركة قسمان ‪ :‬شركة ملك وشركة عقد ‪.‬‬
‫أمّا شركة العقد فسيأتي الكلم عليها في قسمها الخاصّ بها ‪.‬‬
‫وأمّا شركة الملك فهي أن يختصّ اثنان فصاعدا بشيء واحد ‪ ،‬أو ما هو في حكمه ‪.‬‬
‫والّذي في حكم الشّيء الواحد هو المتعدّد المختلط بحيث يتعذّر أو يتعسّر تفريقه لتتميّز أنصباؤه‪.‬‬
‫سواء في ذلك العين والدّين وغيرهما ‪ .‬فالدّار الواحدة ‪ ،‬أو الرض الواحدة ‪ ،‬مثلً تثبت فيها‬
‫ي سبب آخر من أسباب‬
‫شركة الملك بين اثنين إذا اشترياها أو ورثاها أو انتقلت إليهما بأ ّ‬
‫الملك ‪ ،‬كالهبة والوصيّة والصّدقة ‪.‬‬
‫وكذلك الردبّان من القمح أو أحدهما من القمح والخر من الشّعير ‪ ،‬أو الكيسان من الدّنانير‬
‫سكّة الواحدة ‪ ،‬يخلطان معا طواعيةً أو اضطرارا كإن انفتق الكيسان المتجاوران ‪.‬‬
‫ذات ال ّ‬
‫وقد أنكر بعضهم وقوع شركة الملك في الدّيون ‪ ،‬لنّ الدّين وصف شرعيّ في ال ّذمّة ‪ ،‬فل يملك‬
‫وتمليكه ممّن هو عليه ‪ ،‬هو في حقيقة المر ‪ ،‬إسقاط ل تمليك ‪.‬‬
‫ق أنّه يملك ‪ ،‬قالوا ‪ :‬بدليل أنّ ما يقبضه أحد الدّائنين عن حصّته من الدّين المشترك‬
‫ولكنّ الح ّ‬
‫يكون مشتركا بين الدّائنين ‪ ،‬حتّى ليتعذّر التّخلّص من هذه الشّركة إلّ بإعمال الحيلة كأن يهب‬
‫المدين لقابض قدر نصيبه ما قبضه ‪ ،‬ويبرئه القابض من حصّته في الدّين ‪.‬‬
‫أمّا غير الدّين والعين ‪ ،‬فكحقّ صاحبي الدّار في حفظ نحو الثّوب تلقيه فيها الرّيح فإنّه حقّ‬
‫مشترك بينهما شركة ملك ‪ ،‬إذ يملكه كلهما ‪.‬‬
‫وليس يخالف أحد من أهل الفقه خلفا يذكر في ثبوت شركة الملك ‪ ،‬على هذا النّحو الّذي ذكره‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬وإن لم يصرّح بعضهم باسمها بل يتعمّد كثير منهم أن يجمعوها في تعريف واحد مع‬
‫شركة العقد ‪ ،‬كما فعل بعض الشّافعيّة ‪ ،‬إذ عرّف الشّركة مطلقا بأنّها ‪ :‬ثبوت الحقّ في شيء‬
‫لثنين فأكثر على جهة الشّيوع ‪.‬‬
‫وبعض المالكيّة إذ عرّفها كذلك بأنّها ‪ :‬تقرّر متموّل بين مالكين فأكثر ‪.‬‬
‫تقسيم شركة الملك ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬إلى شركة دين ‪ ،‬وشركة غيره ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬فشركة الدّين ‪ :‬أن يكون الدّين مستحقّا لثنين فأكثر ‪ :‬كمائة دينار في ذمّة تاجر تجزئةً‬ ‫‪2‬‬

‫لصحاب الشّركة الّتي يعاملها ‪.‬‬


‫ق أو المنفعة ‪ :‬كما هو الحال‬
‫ب ‪ -‬وشركة غير الدّين ‪ :‬هي الشّركة الحاصلة في العين أو الح ّ‬
‫ق شفعة‬
‫بالنّسبة للسّيّارات أو المنسوجات أو ‪ ...‬المأكولت في المتجر المشترك ‪ ،‬وبالنّسبة لح ّ‬
‫الشّريكين فيما باعه ثالثهما ‪ ،‬وحقّ سكنى الدّار أو زراعة الرض لمستأجريها على الشّيوع ول‬
‫خلف لحد من فقهاء المذاهب في صحّة هذا التّقسيم ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬إلى اختياريّة ‪ ،‬واضطراريّة " جبريّة " ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬فالختياريّة ‪ :‬هي الّتي تكون بإرادة الشّريكين أو الشّركاء ‪ :‬سواء بواسطة عقد أم‬ ‫‪3‬‬

‫بدونه ‪ ،‬وسواء وقع العقد مشتركا منذ بدايته ‪ ،‬أم طرأ عليه اشتراكهما ‪ ،‬أم طرأ الشتراك في‬
‫المال بعد العقد ‪.‬‬
‫فمثال ما كان بواسطة عقد مشترك منذ البدء ‪ ،‬ما لو اشترى اثنان دا ّبةً للجرّ أو الرّكوب ‪ ،‬أو‬
‫بضاع ًة يتّجران فيها ‪ .‬وكالشّراء قبول هبة شيء من ذلك ‪ ،‬أو غيره ‪ ،‬أو الوصيّة أو التّصدّق‬
‫به‪ .‬ومثال ما كان بواسطة عقد طرأ اشتراكه أو اشتراكه في المال بعده ‪ ،‬أن يقع الشّراء أو‬
‫قبول الهبة أو الوصيّة من واحد ‪ ،‬ثمّ يشرك معه آخر ‪ ،‬فيقبل الخر الشّركة ‪ -‬بعوض أو بدونه‬
‫‪ .‬ومثال ما كان بدون عقد ما لو خلط اثنان ماليهما ‪ ،‬وما لو اصطاد اثنان صيدا بشرك نصباه ‪،‬‬
‫أو أحييا أرضا مواتا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬والضطراريّة ‪ ،‬أو الجبريّة ‪ :‬هي الّتي تكون دون إرادة أحد من الشّريكين أو الشّركاء ‪:‬‬
‫كما لو انفتقت الكياس ‪ ،‬واختلط ما فيها ممّا يعسر ‪ -‬إن لم يتعذّر ‪ -‬فصل بعضه عن بعض‬
‫لتتميّز أنصباؤه ‪ ،‬كبعض الحبوب ‪.‬‬
‫ن الخالط يملك‬
‫أمّا إذا وقع الخلط بفعل أحد الشّركاء ‪ ،‬دون إذن باقيهم ‪ ،‬فقد قال ابن عابدين ‪ :‬إ ّ‬
‫ما خلطه بمال نفسه ‪ ،‬ويكون مضمونا عليه بالمثل لتعدّيه ‪ ،‬أي فل شركة ‪.‬‬
‫وهذا الّذي تقدّم ل خلف فيه إلّ في مثل مسألة ‪ :‬تملّك شخص مال غيره بمجرّد الستبداد بخلطه‬
‫بمال نفسه ‪ ،‬بحيث ل يتميّزان ‪ ،‬أو يشقّ ويعسر تمييزهما ‪ ،‬فقد قال الحنفيّة ‪ :‬إنّه يملكه بذلك‬
‫ويثبت في ذمّته للخر بدله ‪ ،‬وقال بذلك ابن القاسم ‪ ،‬ومعه جماهير المالكيّة ‪ ،‬والقاضي من‬
‫ي اعتمده أكثر المتأخّرين من‬
‫الحنابلة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّه قياس المذهب ‪ ،‬وهو أحد أقوال الشّافع ّ‬
‫أصحابه ‪ ،‬بعد أن قيّدوه في الوجه بامتناع التّصرّف فيما ملك بالخلط ‪ ،‬حتّى يؤدّي بدله‬
‫لصاحبه‪ ،‬لنّ الّذي ملكه كذلك ‪ ،‬لو كان ملكه بمعاوضة رضائيّة لم يجز له التّصرّف فيه حتّى‬
‫يرضى صاحبه بذمّته ‪ ،‬فأولى إذا ملكه بدون رضاه ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬ويجعل المال مشتركا ‪ :‬كما هو أحد‬
‫ومن فقهاء المذاهب الثّلثة ‪ ،‬من ينكر هذا التّملّك القسر ّ‬
‫ي ‪ ،‬وأطال في النتصار له ‪ ،‬وعليه أشهب من المالكيّة ‪،‬‬
‫ي السّبك ّ‬
‫أقوال الشّافعيّ ‪ ،‬واختاره التّق ّ‬
‫وجماهير متأخّري الحنابلة ‪.‬‬
‫أحكام شركة الملك ‪:‬‬
‫ن كلّ واحد من الشّريكين أو الشّركاء في شركة الملك أجنبيّ بالنّسبة لنصيب الخر‪.‬‬
‫‪ -‬الصل أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫لنّ هذه الشّركة ل تتضمّن وكالةً ما ‪ ،‬ثمّ ل ملك لشريك ما في نصيب شريكه ‪ ،‬ول ولية له‬
‫عليه من أيّ طريق آخر ‪ .‬والمسوّغ للتّصرّف إنّما هو الملك أو الولية وهذا ما ل يمكن تطرّق‬
‫الخلف إليه ‪.‬‬
‫ويترتّب على ذلك ما يلي ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬ليس لشريك الملك في نصيب شريكه شيء من التّصرّفات التّعاقديّة ‪ :‬كالبيع ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫ل ‪ ،‬أو‬
‫والجارة ‪ ،‬والعارة وغيرها ‪ ،‬إلّ أن يكون ذلك بإذن شريكه هذا ‪ .‬فإذا تعدّى فآجر ‪ ،‬مث ً‬
‫أعار العين المشتركة فتلفت في يد المستأجر أو المستعير ‪ ،‬فلشريكه تضمينه حصّته وهذا أيضا‬
‫ممّا ل خلف فيه ‪.‬‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬لكلّ شريك في شركة الملك أن يبيع نصيبه لشريكه ‪ ،‬أو يخرجه إليه عن ملكه على‬ ‫‪6‬‬

‫أيّ نحو ‪ ،‬ولو بوصيّة ‪ ،‬إ ّل أنّ المشترك ل يوهب دون قسمة ‪ ،‬ما لم يكن غير قابل لها ‪.‬‬
‫وسيأتي استثناء حالة الضّرر ‪ .‬هكذا قرّره الحنفيّة ‪.‬‬
‫وهو في الجملة محلّ وفاق إلّ أنّ هبة المشاع سائغة عند جماهير أهل العلم بإطلق ‪ :‬كما قرّره‬
‫المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫والحنفيّة على أنّ هبة المشاع ل تجوز ‪ -‬بمعنى عدم إثبات ملك ناجز ‪ -‬فالهبة صحيحة ‪ ،‬ولكن‬
‫يتوقّف الملك على الفراز ثمّ التّسليم ‪.‬‬
‫ن للشّريك أن يبيع نصيبه لغير شريكه ‪ -‬في غير حالة‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أ ّ‬ ‫‪7‬‬

‫الضّرر التية ‪ -‬بدون إذن منه ‪ ،‬واستثنى الحنفيّة حال ًة واحدةً ‪ :‬هي حالة اختلط المالين دون‬
‫شيوع ‪ ،‬لبقاء كلّ مال على ملك صاحبه ‪ ،‬وإن عسر تمييزه ‪ ،‬أو تعذّر ‪ :‬سواء كان اختلطا‬
‫عفويّا ‪ ،‬أم نتيجة خلط مقصود من جانب الشّركاء ‪ .‬ففي هذه الحالة ‪ :‬أي حالة اختلط المالين‬
‫دون شيوع ‪ :‬ل ب ّد من إذن الشّريك لشريكه ليصحّ بيعه لغيره ‪ ،‬ما دام المال شركةً بينهما لم‬
‫يقسم بعد ‪.‬‬
‫وسرّ التّفرقة في الحكم بين هذه الحالة ‪ ،‬حيث تتوقّف صحّة البيع لغير الشّريك على إذنه ‪ ،‬وبين‬
‫غيرها ‪ ،‬حيث ل يوجد هذا التّوقّف ‪ ،‬أنّه في حالة شيوع المال بين الشّريكين بسبب إرثهما إيّاه‪،‬‬
‫أو وقوع شركتهما فيه بسبب آخر يقتضي هذا الشّيوع ‪ :‬كشرائهما إيّاه معا ‪ ،‬أو إشراك أحدهما‬
‫صاحبه فيه بحصّة شائعة يكون كلّ جزء في المال المشترك ‪ -‬مهما دقّ وصغر ‪ -‬مشتركا بين‬
‫الشّركاء ‪ ،‬وبيع النّصيب الشّائع جائز للشّريك ولغيره ‪ ،‬إذ ل مانع من تسليمه وتسلّمه فإنّ‬
‫الفراز ليس من شرائط التّسليم ‪ ،‬ومن ثمّ فل نزاع في صحّة بيع الحصّة الشّائعة فيما ل يقبل‬
‫القسمة ذاتا كالدّابّة ‪ ،‬والبيت الصّغير إلّ أنّه إذا سلّم البائع العين المشتركة كلّها ‪ ،‬دون إذن‬
‫شريكه ‪ ،‬كان كالغاصب ‪ ،‬والمشتري منه كغاصب الغاصب ‪ ،‬بالنّسبة لحصّة الشّريك الّذي لم‬
‫يبع‪ :‬حتّى إذا تلفت العين كان للّذي لم يبع حقّ الرّجوع بضمان حصّته على أيّ الشّخصين شاء ‪:‬‬
‫البائع أو المشتري ‪ ،‬ثمّ إذا رجع على المشتري ‪ ،‬يرجع المشتري على البائع ‪.‬‬
‫أمّا النّصيب غير الشّائع في شركة الملك ‪ ،‬فباق على ملك صاحبه ‪ ،‬إلّ أنّه التبس بغيره أو‬
‫تعسّر فصله ‪ .‬وهذا اللتباس أو التّعسّر ل يمنع القدرة على تسليمه إلى الشّريك ‪ ،‬إذا باعه‬
‫إيّاه ‪ ،‬ولكنّه يمنع هذه القدرة وينافيها إذا باع النّصيب لجنبيّ عن الشّركة ‪ ،‬دون إذن شريكه ‪،‬‬
‫إذ ل يمكن تسليمه أو تسلّمه ‪ ،‬إلّ مخلوطا بنصيب هذا الشّريك ‪ ،‬فيتوقّف على إذنه ‪.‬‬
‫ل بميراث أو غيره ل يجوز‬
‫ي المالكيّ في الذّخيرة ‪ :‬إذا كانا شريكين في حيوان مث ً‬
‫وقال القراف ّ‬
‫لحدهما أن يتصرّف إلّ بإذن شريكه ‪ :‬فلو باع نصيبه وسلّم الجميع للمشتري بغير إذن شريكه ‪،‬‬
‫كان ضامنا على مقتضى القواعد ‪ .‬لنّ أحسن أحواله أن يكون كالمودع في المانة ‪ ،‬وهذا إذا‬
‫وضع يد الجنبيّ يضمن لتعدّيه ‪ ،‬ول يلزم عدم صحّة البيع ‪ ،‬لعدم قدرته على التّسليم ‪ :‬لنّه إن‬
‫كان شريكه حاضرا ‪ ،‬سلم البيع له ‪ ،‬وتقع الخصومة بينه وبين المشتري ‪ ،‬أو غائبا ‪ ،‬رفع أمره‬
‫إلى الحاكم ‪ ،‬ويأذن له في البيع ووضع مال الغائب تحت يده ‪.‬‬
‫حالة الضّرر ‪:‬‬
‫‪ -‬بيع الحصّة الشّائعة في البناء أو الغراس ‪ ،‬أو الثّمر أو الزّرع ‪ ،‬ل يجوز ‪ .‬ويعنون بيع‬ ‫‪8‬‬

‫الحصّة في ذلك منفردةً عن الرض الّتي هي فيها ‪.‬‬


‫أمّا بالنّسبة للبناء والغراس ‪ :‬فإنّه إن شرط هدم البناء ‪ ،‬وقلع الغراس ‪ ،‬فل يتأتّى دون هدم‬
‫وقلع حصّة الشّريك الّذي لم يبع ‪ -‬لمكان الشّيوع ‪ -‬وذلك ضرر ل يجوز ‪ .‬ولنّ شرط بقائهما‬
‫إنّما هو شرط منفعة لحد المتعاقدين زائدة عن مقتضى البيع ‪ ،‬فيكون شرطا فاسدا في نفسه ‪،‬‬
‫مفسدا للعقد أيضا ‪ ،‬لمكان الرّبا ‪ ،‬إذ هي زيادة عريّة عن العوض ‪.‬‬
‫وأمّا بالنّسبة للثّمر أو الزّرع ‪ :‬فإذا لم يبلغ أوان قطعه فبدون إذن الشّريك ل يصحّ بيع الحصّة‬
‫لجنبيّ ‪ ،‬للحوق الضّرر به حينئذ ‪ ،‬إذ سيطالب المشتري بقطع ما اشتراه ‪ ،‬ول سبيل إليه إلّ‬
‫بقطع حصّة هذا الشّريك ‪.‬‬
‫‪ -‬د ‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه في حضور الشّريك ‪ ،‬ل ينتفع شريكه الخر بالمال المشترك إلّ‬ ‫‪9‬‬

‫ي‪.‬‬
‫بإذنه ‪ ،‬لنّه بدون الذن يكون غصبا ‪ ،‬ويدخل في الذن ‪ :‬الذن العرف ّ‬
‫فإذا ركب الشّريك الدّابّة المشتركة ‪ ،‬أو حمل عليها ‪ ،‬بدون إذن شريكه فتلفت أو هزلت ونقصت‬
‫قيمتها ‪ ،‬ضمن حصّة ‪ .‬شريكه في حال التّلف ‪ ،‬وضمن نقص قيمتها في حالة الهزال ‪.‬‬
‫وإذا زرع الرض المشتركة ‪ ،‬أو بنى فيها ‪ ،‬وشريكه حاضر ‪ ،‬دون إذن منه ‪ ،‬طبّقت أحكام‬
‫الغصب ‪ :‬فتنقسم الرض بينهما ‪ ،‬وعليه قلع ما وقع في نصيب شريكه ‪ ،‬وضمان نقص أرضه ‪.‬‬
‫إلّ أن يكون الزّرع قد أدرك أو كاد ‪ ،‬فليس عليه حينئذ إلّ ضمان نقصان الرض ‪ ،‬دون قلع‬
‫الزّرع وليس للشّريك الخر أن يدفع إلى الّذي زرع الرض المشتركة نصف البذر ‪ ،‬على أن‬
‫يكون الزّرع بينهما لنّه بيع معدوم إن كان الزّرع لم ينبت بعد ‪ ،‬وإلّ فل بأس بذلك ‪ ،‬كما أنّه‬
‫ليس له أيضا أن يصرّ على قلع الزّرع متى كانت القسمة ممكنةً ‪.‬‬
‫وهنا للشّافعيّة ضابط حسن ‪ :‬الشّريك أمين إن لم يستعمل المشترك ‪ ،‬أو استعمله مناوبةً ‪ -‬لنّها‬
‫إجارة فاسدة ‪ -‬وإلّ ‪ :‬فإن استعمله بإذن شريكه فعاريّة ‪ ،‬أو بدون إذنه فغصب ‪ .‬ومن الستعمال‬
‫حلب الدّابّة اللّبون ‪.‬‬
‫‪ -‬هـ – في حالة غيبة الشّريك أو موته ‪ ،‬يكون لشريكه الحاضر أن ينتفع بالمشترك انتفاعا‬ ‫‪10‬‬

‫ل يضرّ به ‪.‬‬
‫‪ -‬و ‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا احتاج المال المشترك إلى النّفقة ‪ -‬سواء للتّعمير ‪ ،‬أم‬ ‫‪11‬‬

‫لغيره‪ -‬كبناء ما تخرّب ‪ ،‬وإصلح ما وهى ‪ ،‬وإطعام الحيوانات ‪ ،‬ولكن نشب النّزاع بين‬
‫ن المال إمّا قابل‬
‫الشّركاء‪ :‬فأراد بعضهم النفاق ‪ ،‬وأبى الخرون ‪ -‬ففي الحكم تفصيل ‪ ،‬ل ّ‬
‫للقسمة أو غير قابل ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ففي القابل للقسمة ‪ :‬كالدّار الفسيحة ‪ ،‬والحوانيت المعدّة للستغلل والحيوانات المتعدّدة ‪،‬‬
‫ل إجبار على الممتنع ‪ ،‬ولكن يقسم المال ليقوم بإصلح ماله والنفاق عليه من شاء ‪ ،‬اللّهمّ إلّ‬
‫أن يكون الممتنع ‪ ،‬على خلف المصلحة ‪ ،‬وصيّا أو ناظر وقف ‪ -‬كما في دار مشتركة بين‬
‫ل ‪ -‬فإنّه يجبر ‪ ،‬لنّ تصرّفه منوط بالمصلحة ‪.‬‬
‫وقفين مث ً‬
‫ل للقسمة ‪ ،‬أجبر الشّريك على المشاركة في النّفقة ‪ ،‬لنّ‬
‫ب ‪ -‬وإن لم يكن المال المشترك قاب ً‬
‫ق شريكه في النتفاع بماله وذلك كما في نفقة دابّة واحدة ‪ ،‬أو كري نهر ‪ ،‬أو‬
‫امتناعه مفوّت لح ّ‬
‫ي ‪ ،‬أو سفينة ‪ ،‬أو حائط ل ينقسم لضيق عرصته ‪ -‬موضع‬
‫مرمّة قناة أو بئر ‪ ،‬أو إصلح آلة ر ّ‬
‫ن متأخّري الحنفيّة‬
‫بنائه ‪ -‬أو لحمولة عليه ‪ ،‬إلّ أن تكون الحمولة كلّها لغير طالب العمارة إلّ أ ّ‬
‫ن الجدار الواسع العرصة ملحق هنا بما ل ينقسم ‪ ،‬لتضرّر الشّريك فيه بعدم‬
‫مالوا إلى القول ‪ :‬بأ ّ‬
‫المشاركة في إصلحه وترميمه ‪.‬‬
‫ن الشّريك إذا أصرّ على‬
‫والمالكيّة يوافقون الحنفيّة موافقةً تكاد تكون تا ّمةً ‪ ،‬ويزيدون أ ّ‬
‫المتناع ‪ ،‬فإنّ القاضي يبيع عليه حصّته كلّها لمن يقوم بالنّفقة اللزمة ‪ .‬ولم يجتزئوا ببيع ما‬
‫يكفي لسداد هذه النّفقة ‪ ،‬منعا لضرر تكثير الشّركاء ‪ ،‬ول بإجبار الشّريك القادر على النّفقة‬
‫وحده ‪ ،‬دون لجوء إلى البيع ‪ -‬كما لم يلجأوا إليه في الحصّة الّتي هي وقف ‪ ،‬ومنعوه إذا كان‬
‫ثمّت ما يغني عنه ‪ :‬من ريع لها متجمّع ‪ ،‬أو أجرة متاحة بسبب وجود راغب في الستئجار‬
‫بأجرة معجّلة مثلً‪ -‬مع أنّه قد قيل عندهم بكلّ من هذا وذاك ‪.‬‬
‫أمّا حيث ل يوجد ما يغني في الحصّة الموقوفة عن البيع ‪ ،‬فإنّها تباع كلّها ‪ -‬كغير الموقوفة ‪-‬‬
‫منعا لكثرة اليدي ‪ ،‬كما استدركه النّفراويّ على بعض شرّاح خليل ‪ ،‬ولم يجعلوا الوقف مانعا‬
‫من البيع إلّ إذا كان المشترك جميعه وقفا ‪ ،‬وحينئذ يقوم الطّالب بالنّفقة اللزمة ‪ ،‬ثمّ يستوفي ما‬
‫يخصّ الحصّة الخرى من غلّتها ‪.‬‬
‫ومع ما تقدّم فإنّ المالكيّة ل يرون إجبار الشّريك إذا امتنع عن الصلح الّذي ليس فيه نفع‬
‫محقّق‪ :‬وقد مثّلوه بإصلح العيون والبار ‪ ،‬حتّى لقد رفضوا قول من قال منهم بالجبار إذا كان‬
‫على هذه العيون أو البار زرع ‪ ،‬أو شجر فيه ثمر مؤبّر ‪ .‬ورأوا أن يقوم بالصلح الشّريك‬
‫الّذي يريده ‪ ،‬ثمّ يحول بين الشّريك الممتنع وبين كمّيّة الماء الزّائدة الّتي نتجت من عمليّة‬
‫الصلح إلى أن يستوفي منه ما يخصّه من النّفقات ‪ ،‬ولو ظلّ كذلك الدّهر كلّه ‪.‬‬
‫نعم سياق كلم المالكيّة هنا في غير الحيوان ‪ ،‬لكنّهم نصّوا ‪ -‬في موضعه ‪ -‬على ما يفيد أنّ‬
‫الحيوان ل يختلف حكمه ‪ :‬ذلك أنّهم جعلوا للقاضي السّلطة نفسها إذا كان الحيوان ملكا خاصّا ‪،‬‬
‫وامتنع مالكه عن النفاق عليه ‪ ،‬غاية المر أنّهم زادوا إعطاء المالك خيار ذبح ما يجوز ذبحه‬
‫من الحيوان حتّى إذا رفض هذا وذاك أيضا ناب عنه القاضي ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة في نفقة الحيوان المشترك إلى نحو ما تقدّم عن الحنفيّة والمالكيّة ‪.‬‬
‫ي وأحمد قولن ‪:‬‬
‫أمّا في غير الحيوان ‪ ،‬فلكلّ من الشّافع ّ‬
‫قول بإجبار الشّريك على التّعمير والنفاق مع شريكه ‪ ،‬دفعا للضّرر ‪ ،‬وصيانةً للملك عن‬
‫التّعطيل ‪ ،‬وهذا هو الّذي اعتمده الحنابلة وكثير من الشّافعيّة ‪ :‬كالغزاليّ وابن الصّلح ‪.‬‬
‫وقول بعدم الجبار لنّ الممتنع يتضرّر بالنّفقة أيضا ‪ ،‬والضّرر ل يزال بالضّرر ‪ ،‬مع أنّه قد‬
‫يكون له عذر ‪ ،‬أو وجهة نظر ‪ ،‬ث ّم كلّ ما ليست له روح فليست له في نفسه حرمة يستحقّ‬
‫النفاق من أجلها ‪ ،‬ول في تعطيله إضاعة مال محرّمة شرعا ‪ ،‬إذ ل يعدّون التّرك من هذه‬
‫الضاعة ‪ ،‬بل ل ب ّد من فعل إيجابيّ ‪ :‬كأن يقذف الشّخص بمتاعه إلى البحر ‪ .‬وهذا هو الّذي‬
‫اعتمده الشّافعيّة ‪ ،‬وقال ابن قدامة ‪ :‬إنّه أقوى دليلً ‪ ،‬وإن كان الجوريّ من الشّافعيّة يستثني‬
‫النّبات ويلحقه بالحيوان ‪.‬‬
‫ن المر يوكّل إلى القاضي ‪ :‬فإن لم ير من الشّريك‬
‫ومن الشّافعيّة من جمع بين القولين ‪ ،‬بأ ّ‬
‫الممتنع إلّ العناد أجبره ‪ ،‬وإلّ فل ‪.‬‬
‫رجوع الشّريك على شريكه بما أنفق ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا استقلّ بالنّفقة أحد الشّريكين فيما ينقسم ‪ ،‬دون إذن شريكه ‪،‬‬ ‫‪12‬‬

‫فمتبرّع ل رجوع له على شريكه بما أنفق ‪ -‬ل مثلً ول قيمةً ‪ ،‬لنّ له بالقسمة مندوحةً عن‬
‫ذلك‪ .‬إلّ أنّهم ذكروا أنّه لو خاف تلف المال المشترك ‪ ،‬أو نقصانه ‪ ،‬إذا لم ينفق عليه لنقله من‬
‫مكانه ‪ -‬كما لو تعطّلت الشّاحنة بالمال المشترك في مكان مخوف ‪ ،‬كبادية مثلً ‪ -‬فإنّه ينفق‬
‫على نقله‪ ،‬ويرجع بما أنفق على شريكه ‪.‬‬
‫أمّا فيما ل ينقسم ‪ :‬فقد أطلق ابن نجيم في " الشباه " القول برجوع المنفق على شريكه ‪ ،‬وأنّه‬
‫‪ -‬إن أمكن ‪ -‬يؤجّر العين ويستوفي من أجرتها مثل النّفقة الّتي أنفقها ‪ -‬إن كان قد أنفق بإذن‬
‫القاضي ‪ -‬أو قيمة ما أجراه من أوجه الصلح إن لم يكن بإذن القاضي ‪.‬‬
‫والشّريك الّذي يستقلّ بالنفاق على المشترك ‪ ،‬دون إذن شريكه ودون إذن من القاضي ‪ ،‬ل‬
‫يستحقّ الرّجوع على شريكه بشيء ممّا أنفق ‪ ،‬عند الشّافعيّة لنّه حينئذ متبرّع ‪ ،‬حتّى في‬
‫موضع الجبار على المشاركة في النّفقة ‪ ،‬قياسا على الّذي يقضي دين غيره بغير إذنه ‪ ،‬وهو‬
‫كذلك أيضا عند الحنابلة ‪ ،‬إلّ في حالة الجبار على المشاركة ‪ ،‬إذا أنفق الشّريك بقصد الرّجوع‬
‫على شريكه ‪ ،‬بنا ًء على إحدى الرّوايتين عندهم في الّذي يقضي دون غيره بغير إذنه ‪ -‬أعنى‬
‫رواية استحقاقه الرّجوع ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬لو عمّر أحد الشّركاء الرّحى المشتركة بإذن شركائه أو مع سكوتهم استحقّ‬
‫الرّجوع بحصصهم ممّا أنفقه في ذممهم ‪ ،‬وإن كان إنفاقه مع إبائهم فل يستحقّ الرّجوع بشيء‬
‫في ذممهم ولكن يستوفي من الغلّة ثمّ ما يفضل من الغلّة فهو لهم جميعا ‪.‬‬
‫الدّين المشترك ‪:‬‬
‫‪ -‬هو كلّ دين وجب بسبب واحد لشريكين فأكثر ‪ .‬كما لو باع الشّريكان دارا مشتركةً بينهما‬ ‫‪13‬‬

‫بعقد واحد دون تحديد ثمن لكلّ منهما ‪ ،‬أمّا لو تعدّدت الصّفقة الموجبة للدّين حقيقةً ‪ ،‬أو حكما‬
‫اختلف السّبب ‪ ،‬وانتفى الشتراك في الدّين ‪ :‬وذلك كالدّين الّذي استحقّ على مشتر واحد ثمنا‬
‫لعين واحدة كدار ‪ ،‬أو قطعة أرض يملكها اثنان ما دام كلّ منهما قد باع نصيبه بعقد مستقلّ ‪،‬‬
‫وإن أخذ على المشتري بعد ذلك صكّا واحدا بجميع الدّين ‪ .‬فهذا دين غير مشترك ‪ ،‬لنّه وجب‬
‫بسببين ‪ .‬ل بسبب واحد حقيق ًة وحكما ‪ ،‬برغم اتّحاد المبيع والمشتري والصّكّ ‪ .‬فل سبيل لحد‬
‫البائعين على الخر ‪ ،‬إذا تقاضى من الدّين شيئا ‪.‬‬
‫ومن الدّين المشترك أيضا كلّ دين وجب بسبب واحد لشريكين فأكثر ‪ .‬وهو ما كان عوضا عن‬
‫مالين غير مشتركين ‪ ،‬إلّ أنّه استحقّ عنهما بصفقة واحدة ‪ :‬كدار لهذا ودار لذاك ‪ ،‬باعاهما معا‬
‫في عقد واحد بثمن إجماليّ لهما ‪ ،‬دون أن يميّز فيه ثمن كلّ على حدة ‪ ،‬ل ببيان مقدار‬
‫ن مثل‬
‫‪ -‬كستّمائة لهذا وأربعمائة لذاك ‪ -‬ول بتحديد صفة ‪ ،‬كنقود فضّيّة لهذا وذهبيّة لذاك ‪ ،‬ل ّ‬
‫هذا التّمييز ينافي اتّحاد الصّفقة ‪ :‬بدليل أنّ للمشتري حينئذ أن يقبل البيع في نصيب واحد ‪،‬‬
‫ويرفضه في نصيب الخر ‪ ،‬معتذرا بأنّ هذا الثّمن أو ذاك الوصف ل يناسبه ‪.‬‬
‫ويترتّب على عدم اتّحاد الصّفقة أن ل يكون الدّين مشتركا ‪ .‬إلّ أنّه في حالة التّمييز ببيان‬
‫تفاضل الستحقاقين ‪ ،‬إذا زال التّفاضل باستيفاء الزّيادة عاد الدّين مشتركا ‪.‬‬
‫وزاد صاحب النّهاية أنّه ينبغي اشتراط أن ل يكون التّمييز في المقدار أو الصّفة قائما أصلً ‪،‬‬
‫وإن لم يتعرّض له في العقد ‪.‬‬
‫قبض الدّين المشترك ‪:‬‬
‫ن كلّ‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة في رواية ‪ ،‬وهو مقتضى مذهب المالكيّة إلى أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫ل ‪ ،‬إذا قبض أحدهما منه شيئا ‪ -‬ولو كان المؤدّي كفيل المدين ‪ ،‬أو‬
‫دين مشترك بين اثنين مث ً‬
‫محالً عليه من قبله فهو مقبوض عن الدّين المشترك ‪ ،‬فيكون مشتركا ‪ ،‬وللّذي لم يقبض ‪-‬‬
‫ويسمّونه الشّريك السّاكت ‪ -‬أن يرجع على القابض ‪ ،‬بنسبة حصّته في الدّين ‪ ،‬كما أنّ له أن‬
‫يترك للقابض ما قبض ليتملّكه ‪ ،‬ويرجع هو بحصّته فيه على المدين رجوعا مقيّدا بعدم التّوى ‪،‬‬
‫حتّى إذا تويت على المدين ‪ ،‬كأن مات مفلّسا ‪ ،‬عاد بها على القابض ‪ ،‬إذ لم يسلّم له ما كان‬
‫يرجو سلمته ‪ ،‬وشرط السّلمة في مثله مفهوم عرفا ‪.‬‬
‫وسواء في ذلك كلّه كان الدّين دين معاوضة كألف هي ثمن دار بين الشّريكين ‪ ،‬أم دين إتلف ‪،‬‬
‫كما لو كانت اللف قيمة زرع لهما ضمنه قالعه أو محرقه ‪ ،‬أم غيرهما ‪ ،‬كما لو كانت ميراثا‬
‫ورثاه عن مورّث واحد ‪ ،‬أو بدل قرض أقرضاه من مال مشترك بينهما ‪.‬‬
‫ن ما يقبضه أحد الشّريكين يعتبر مقبوضا عن الدّين المشترك ‪ ،‬فذلك أنّه ل يمكن أن يكون‬
‫أمّا أ ّ‬
‫مقبوضا عن حصّة القابض وحده ‪ ،‬إلّ إذا وقعت قسمة الدّين بين الدّائنين ‪ ،‬وهذا لم يحصل ‪،‬‬
‫ول يمكن أن يحصل ‪ ،‬لمعنيين ‪:‬‬
‫ن ما في ال ّذمّة ل يمكن تمييز بعضه من بعض ‪ .‬وهذه هي حقيقة القسمة ‪ ،‬فل‬
‫‪ -‬أوّلهما ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪15‬‬

‫تتصوّر في الدّين إذن ‪.‬‬


‫ن القسمة ل تخلو من معنى المعاوضة ‪ ،‬لنّ كلّ جزء فرضناه في المال المشترك ‪،‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أ ّ‬
‫مهما صغر ‪ ،‬فهو مشترك بين الشّريكين ‪ .‬فلو صحّحناها بالنّسبة للدّين الّذي في ال ّذمّة ‪ ،‬لكان‬
‫ل من الشّريكين اشترى ما وقع في نصيبه من ملك صاحبه في الدّين ‪ ،‬بما تركه‬
‫معنى ذلك أنّ ك ً‬
‫له من ملكه هو ‪ ،‬وهذا ممتنع ‪ ،‬لنّه من قبيل بيع الدّين لغير من هو عليه ‪.‬‬
‫وأمّا أنّ للشّريك السّاكت ‪ -‬الّذي لم يقبض ‪ -‬أن يرجع على المدين ‪ ،‬فلنّ دينه في ذمّة هذا‬
‫المدين ‪ ،‬وليست لهذا المدين ولية دفعه لغيره ‪ ،‬فل يسقط بهذا الدّفع ‪ .‬إلّ أنّه إذا رجع الشّريك‬
‫على القابض ابتداءً ‪ ،‬كان عين حقّه فيما قبضه ‪ ،‬لنّ الدّين ل يتعيّن إلّ بالقبض ‪ :‬فليس للقابض‬
‫أن يمنعه منه ‪ ،‬ويعطيه من غيره سواء كان المقبوض مثل الدّين أم أجود أم أردأ ‪ ،‬لنّه ما دام‬
‫الجنس واحدا فاختلف الوصف بالجودة والرّداءة ل ينافي أنّ القبض عن الدّين ‪ :‬ولذا يجبر‬
‫الدّائن على قبول الجود ‪ ،‬فإذا فات المقبوض عند القابض بسبب ما كضياع ‪ ،‬أو تلف ‪ ،‬أو دفعه‬
‫للغير في معاوضة ‪ ،‬أو ضمان ‪ ،‬أو تبرّع ‪ ،‬فإنّه ‪ -‬في غير حالة تلفه بيد القابض دون تعدّ‬
‫ق هذا الشّريك إذن أن يضمّنه إيّاها ‪ .‬وفي‬
‫منه‪ -‬يكون قد فوّت على شريكه حصّته فيه ‪ ،‬ومن ح ّ‬
‫حالة عدم التّعدّي ل تضمين ‪ ،‬ولكن يكون الفوات كلّه على القابض ‪ ،‬ونصيب الشّريك السّاكت‬
‫في الدّين يظ ّل كاملً في ذمّة المدين ‪.‬‬
‫أمّا إذا رجع الشّريك على القابض بعد تواء حقّه عند الغريم ‪ -‬المدين ‪ -‬فليس له إلّ مثل هذا‬
‫الحقّ في ذمّة القابض ‪ ،‬دينا كسائر الدّيون ‪ ،‬لنّه كان قد أسقط تعلّق حقّه بعين المقبوض ‪ ،‬إذ‬
‫خلّى بين القابض وبين تملّكه ‪ ،‬وعدل إلى مطالبة الغريم ‪.‬‬
‫ثمّ بعد أن يقبض الشّريك حصّته في المقبوض من القابض ‪ ،‬يكون ما بقي في ذمّة المدين بينهما‬
‫كلّ بقدر ما بقي له ‪ ،‬وهي نفس نسبة حقّيهما في الدّين الصليّ ‪.‬‬
‫هذا الحكم ‪ ،‬أعني كون ما يقبضه أحد الشّريكين من الدّين شركةً بينهما أطلقه أبو حنيفة ‪:‬‬
‫سواء أجّل أحد الشّريكين حصّته في الدّين أم لم يؤجّل ‪ ،‬لنّ هذا التّأجيل من أحدهما لغو عنده ‪،‬‬
‫إذ هو يتضمّن القسمة ‪ -‬بدليل أنّ الحالّ غير المؤجّل ‪ ،‬وصفا كما هو ظاهر ‪ ،‬وحكما ‪ ،‬لمتناع‬
‫المطالبة بالمؤجّل دون الحالّ ‪.‬‬
‫ن التّأجيل يمنع المطالبة فإن أجّل أحدهما نصيبه‬
‫وذهب أبو يوسف وهو رواية عن محمّد إلى أ ّ‬
‫استقلّ القابض بما قبض خلل الجل إلى أن يحلّ ‪ ،‬لنّ الجل يمنع المطالبة ‪.‬‬
‫ذلك أنّ هذا التّأجيل صحيح عندهما ‪ ،‬إذ هو تصرّف المالك في خالص ملكه ‪ ،‬فينفذ قياسا على‬
‫البراء ‪ ،‬بل ليس هو إلّ إبرا ًء مؤقّتا ‪ ،‬فيعتبر بالمطلق ‪ .‬فإذا ح ّل الجل ‪ ،‬اعتبر كأن لم يكن ‪ ،‬ثمّ‬
‫إن كان الشّريك الخر قد قبض من الدّين شيئا رجع عليه هذا بحصّته فيه ‪ ،‬إن كانت باقي ًة ‪ ،‬وإلّ‬
‫ضمّنه إيّاها ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة لمن أخّر حصّته من الدّين الحالّ أن يشارك من لم يؤخّر فيما يقبضه من الدّين ‪،‬‬
‫واستثنوا ما إذا كان القبض بإذن الشّريك ‪ ،‬وتلف المقبوض ‪ ،‬ولم يحلّ الجل بعد ‪.‬‬
‫والّذي يؤخذ من تقرير ابن رجب في قواعده لمذهب الحنابلة ‪ -‬وهو الّذي اختاره ابن تيميّة ‪-‬‬
‫ص على ذلك بصريح العبارة ‪،‬‬
‫ص ًة ‪ ،‬بل منهم من ن ّ‬
‫أنّهم يجعلون ما يقبضه أحد الشّريكين له خا ّ‬
‫كما فعل القاضي ‪.‬‬
‫ما يقوم مقام القبض ‪ " :‬ما يعادل الوفاء " ‪:‬‬
‫ن هذه منها ما يقوم مقام القبض من‬
‫‪ -‬هناك أشياء تعادل الوفاء بالدّين ‪ ،‬كلً أو بعضا ‪ .‬إلّ أ ّ‬ ‫‪16‬‬

‫دائن بعينه ‪ ،‬لنّه اقتضاء للدّين معنىً ‪ :‬كما لو سقط الدّين عن ذمّة مدينه بطريق المقاصّة بدين‬
‫له ل حق ‪ -‬كأن باع المد ين الدّائن ‪ ،‬أو آجره ‪ ،‬أو أقر ضه شيئا ‪ ،‬صالحه عن دي نه بش يء ما ‪،‬‬
‫أو رهنـه بـه رهنا فتلف عنده ‪ ،‬أو أتلف له الدّائن شيئا ‪ ،‬أو غصـبه إيّاه فهلك عنده ‪ ،‬أو فوّت‬
‫عليه عينا اشتراها منه شراءً فاسدا ‪ ،‬بتلفها أو خروجها من يده ‪.‬‬
‫ومنهـا مـا يقوم مقام القباض والقضاء ‪ ،‬ل القبـض والقتضاء ‪ :‬كمـا لو سـقط الدّيـن عـن ذمّة‬
‫ن الدّينين إذا التقيا قصاصا يكون الثّاني قضا ًء للوّل ‪ ،‬لنّ‬
‫المدين بدين له سابق ‪ ،‬إذ القاعدة ‪ :‬أ ّ‬
‫ثمـ أتلفـه عليـك قبـل أن‬
‫الوّل كان واجـب القضاء قبله ‪ -‬كمـا لو اشتريـت منـه شيئا وقبضتـه ‪ّ ،‬‬
‫يستوفي ثمنه ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬بل هو بمثا بة التلف ‪ :‬كه بة الدّ ين والبراء م نه ‪ ،‬أو ل يس‬
‫ومن ها ما ل مقا صّة ف يه أ ص ً‬
‫بإتلف ‪ ،‬ولكن ل ي سلّم للمو في به ما يحتمل الشّركة ف يه ‪ :‬ك ما لو سقط الدّ ين عن ذمّة المرأة‬
‫ل أو‬
‫ق الق صاص بجعله بدل صلح عن جنا ية الع مد ‪ -‬قت ً‬
‫بجعله مهرا ل ها ‪ ،‬أو عن ذمّة م ستح ّ‬
‫ن الع قد في هذ ين الموضع ين و قع على ن فس الدّ ين ‪-‬‬
‫غيره‪ ،‬ك ما لو ش جّ المد ين موضحةً ‪ :‬ل ّ‬
‫فملك بعينه ‪ ،‬ثمّ سقط ‪ -‬ل على شيء في ذمّة الزّوج أو الجاني ‪ ،‬حتّى تقع المقاصّة ‪ ،‬ويصدق‬
‫ن ب ضع‬
‫أنّه قد سلّم لكلّ منه ما ما يق بل الشّر كة ‪ ،‬و هو ما التزماه في ذمّتيه ما ‪ :‬و من البيّن أ ّ‬
‫المرأة ‪ ،‬وسقوط القصاص عن الجاني ‪ ،‬كلهما ل يقبل الشّركة ‪.‬‬
‫ن المنف عة لي ست من قب يل‬
‫و قد روي عن محمّد م ثل ذلك في الجارة إذا قيّدت بن فس الدّ ين ‪ ،‬ل ّ‬
‫المال المطلق ‪.‬‬
‫وقد صرّح الحنفيّة بأنّه إذا استوفى أحد الشّريكين نصيبه في الدّين المشترك بينه وبين آخر ‪،‬‬
‫فإنـ شريكـه ل يسـتحقّ الرّجوع عليـه ‪ -‬بمعنـى أن يخيّر بيـن هذا الرّجوع‬
‫بأحـد هذه الوجوه ‪ّ ،‬‬
‫والرّجوع على الدّ ين ‪ -‬إلّ في ما هو لو اقتضاه وق بض في المع نى ‪ ،‬ح يث ي سلّم للقا بض ش يء‬
‫يقبل الشّركة ‪ ،‬ل فيما هو قضاء أو إتلف ‪.‬‬
‫إلّ أ نّ الرّجوع في حالة ال صّلح ‪ -‬وقوا مه الم سامحة والتّغا ضي ‪ -‬يختلف ع نه في ما عداه ممّا‬
‫يعت مد المماك سة والتّشا حّ ‪ :‬كالب يع والجارة ‪ :‬فإ نّ في حالة الب يع مثلً ‪ ،‬يكون للشّر يك بالنّ صف‬
‫أن يرجـع بالرّبـع على شري كه الّذي اشترى بن صيبه شيئا مـن المديـن ‪ ،‬وأن يلزمـه بذلك ‪ ،‬إذ ل‬
‫ن الظّاهر أنّه استوفى حقّه ‪ ،‬فإنّ شأن المشتري أن ل يدّخر‬
‫غبن فيه على المشتري ‪ ،‬نظرا إلى أ ّ‬
‫وسـعا فـي الحصـول على مـا يعادل أو يفوق الثّمـن الّذي يدفعـه ‪ .‬ول شأن للشّريـك الرّاجـع بمـا‬
‫ص بين هذا الثّمن وما يساويه‬
‫اشتراه شريكه ‪ ،‬لنّه إنّما اشتراه بثمن في ذمّته ‪ ،‬ث مّ وقع التّقا ّ‬
‫مـن الدّيـن فـي ذمّة المديـن البائع ‪ -‬نعـم إذا تراضيـا على أن يجعل هذا المشترى بينهمـا فذلك‬
‫ن الشّريك الرّاجع اشترى نصفه بربع الدّين الّذي استحقّه على‬
‫لهما ‪ ،‬وهي صفقة مستقلّة ‪ :‬كأ ّ‬
‫المشتري ‪.‬‬
‫أمّا في حالة ال صّلح ‪ ،‬فإنّه إذا رجع الشّريك على شريكه الّذي صالح عن نصيبه بشيء ما ‪ ،‬لم‬
‫يملك إلزامـه بربـع الدّيـن ‪ ،‬لنّه قـد يكون أكثـر ممّا حصـل عليـه بطريـق الصـّلح ‪ ،‬لبنائه على‬
‫الم سامحة كما قل نا ‪ .‬بل يكون للشّريك ال صّالح الخيار بين إعطائه ر بع الدّ ين ‪ ،‬وإعطائه ن صف‬
‫الشّيء الّذي صالح عليه ‪.‬‬
‫إذا أبرأ أحد الدّائنين مدينهما من بعض ح صّته في الدّين المشترك ‪ ،‬لم يبق له في ذمّته إ ّل باقي‬
‫ن قسمته بينهما ‪ -‬إذا‬
‫حصّته ‪ ،‬وللخر حصّته كاملةً ‪ :‬فإذا وقع لهما قبض شيء من الدّين ‪ ،‬فإ ّ‬
‫تأخّرت عن البراء ‪ -‬تكون على هذه النّسبة ‪ :‬أي نسبة ما بقي للمبرئ إلى تمام ح صّة الخر ‪،‬‬
‫أو كما يقولون ‪ :‬تكون القسمة على ما بقي من السّهام ‪.‬‬
‫ويستوي أن يكون البراء قبل القبض أو بعده ‪ -‬لصحّة البراء بعد القبض ‪ .‬فإذا كان الدّين ألفا‬
‫مثلً ‪ ،‬لك ّل وا حد منه ما خم سمائة ‪ ،‬فأبرأ أحده ما المد ين من مائة ‪ ،‬ف ما ب قي لل مبرئ إنّ ما هو‬
‫أربعة أخماس ما لصاحبه ‪ ،‬فتكون قسمة ما يقبضه على هذه النّسبة ‪.‬‬
‫صحّة ‪ ،‬ل نّ حقّيهما‬
‫أمّا إذا وقع هذا البراء بعد القسمة على التّساوي ‪ ،‬فالقسمة ماضية على ال ّ‬
‫عندها كانا متساويين ‪ ،‬ثمّ يرجع المدين على مبرئه بالمائة الّتي أبرئ منها وهذا موضع وفاق ‪،‬‬
‫إلّ أنّ صحّة البراء بعد القبض ممّا تفرّد به الحنفيّة ‪.‬‬

‫شركة العقد *‬
‫تعريفها ‪:‬‬
‫‪ -‬عرّف الحنفيّة شركة العقد بأنّها ‪ :‬عقد بين المتشاركين في الصل والرّبح ‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫كذا نقلوه عن صاحب الجوهرة ‪.‬‬


‫ب المال إنّما‬
‫وقيد " المتشاركين في الصل " يخرج المضاربة ‪ ،‬لنّ التّشارك فيها بين العامل ور ّ‬
‫هو في الرّبح ‪ ،‬دون الصل ‪ ،‬كما هو واضح ‪.‬‬
‫وعرّف الحنابلة شركة العقد بأنّها ‪ :‬اجتماع في تصرّف ‪ ،‬وهو مع ذلك ل يشمل المضاربة ‪ ،‬الّتي‬
‫هي عندهم من أقسام الشّركة ‪ ،‬وقريب منه تعريف بعض الشّافعيّة بأنّها ‪ :‬عقد يثبت به حقّ‬
‫شائع في شيء لمتعدّد ‪.‬‬
‫وعرّفها ابن عرفة بقوله ‪ :‬بيع مالك كلّ بعضه ببعض كلّ الخر ‪ ،‬موجب صحّة تصرّفهما في‬
‫الجميع ‪.‬‬
‫وشركة العقد بأنواعها الثّلثة ‪ -‬أموال وأعمال ووجوه ‪ -‬جائزة سواء أكانت عنانا أم مفاوضةً ‪.‬‬
‫دليل مشروعيّة الشّركة ‪:‬‬
‫‪ -‬ثبتت مشروعيّة شركة العنان ‪ :‬بالكتاب ‪ ،‬والسّنّة ‪ ،‬والجماع ‪ ،‬والمعقول ‪:‬‬ ‫‪18‬‬

‫أ ‪ -‬الكتاب ‪:‬‬
‫عمِلُوا‬
‫علَى َبعْضٍ إِل الّذِينَ آمَنُوا وَ َ‬
‫ضهُمْ َ‬
‫ن ا ْلخُ َلطَاء لَيَ ْبغِي َبعْ ُ‬
‫ن كَثِيرا مّ ْ‬
‫قوله تعالى ‪َ { :‬وإِ ّ‬
‫الصّا ِلحَاتِ َوقَلِيلٌ مّا ُهمْ } ‪.‬‬
‫ن هذا إلى شركة الملك أدنى ‪ .‬ث مّ هو قول داود لبيان شريعته ‪ ،‬ول‬
‫والخلطاء هم الشّركاء ‪ .‬ولك ّ‬
‫يلزم اسـتمرارها ‪ .‬كذا قال ابـن الهمام ‪ -‬على خلف قاعدة الحنفيّة فـي شرع مـن قبلنـا ‪ :‬فلعلّه‬
‫تساهل فيه لنّه علوة في الرّدّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬السّنّة ‪:‬‬
‫ي صلى ال‬
‫أولً ‪ :‬الحديث القدسيّ المرويّ عن أبي هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬يرفعه إلى النّب ّ‬
‫ن اللّه يقول ‪ :‬أنا ثالث الشّريكين ‪ ،‬ما لم يخن أحدهما صاحبه ‪ ،‬فإذا خانه‬
‫عليه وسلم ‪ »:‬إ ّ‬
‫خرجت من بينهما « ‪.‬‬
‫ي في أوّل السلم في‬
‫ي ‪ ،‬أنّه كان شريك النّب ّ‬
‫ثانيا ‪ :‬حديث السّائب بن أبي السّائب المخزوم ّ‬
‫التّجارة ‪ ،‬فلمّا كان يوم الفتح ‪ ،‬قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬مرحبا بأخي وشريكي ‪ ،‬ل‬
‫يداري ول يماري « ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬حديث أبي المنهال عند أحمد ‪ » :‬أنّ زيد بن أرقم ‪ ،‬والبراء بن عازب ‪ ،‬كانا شريكين ‪،‬‬
‫ن ما كان بنقد فأجيزوه ‪،‬‬
‫ضةً بنقد ونسيئة ‪ ،‬فبلغ النّبيّ صلى ال عليه وسلم فأمرهما أ ّ‬
‫فاشتريا ف ّ‬
‫وما كان بنسيئة فردّوه « وهو بمعناه عند البخاريّ وفي لفظه ‪ » :‬ما كان يدا بيد فخذوه وما‬
‫كان نسيئةً فردّوه « ‪.‬‬
‫وف يه تقر ير صريح ‪ .‬وهذا م ثل وا حد من تقريرات كثيرة ل مر ية في ها على الجملة ‪ ،‬ل نّ أك ثر‬
‫ن التّعا مل‬
‫ع مل القوم ‪ ،‬في صدر الدّعوة ‪ ،‬كان التّجارة والمشار كة في ها ‪ ،‬ولذا يقول الكمال ‪ :‬إ ّ‬
‫ي صلى ال عل يه و سلم وهل ّم جرّا ‪ ،‬متّصل ل يحتاج فيه إلى إثبات حد يث‬
‫بالشّركة من لدن النّب ّ‬
‫بعينه ‪ ،‬وهو قول صاحب الهداية ‪ :‬أنّه صلى ال عليه وسلم بعث والنّاس يتعاملون بها فقرّرهم‬
‫عليها ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الجماع ‪:‬‬
‫فقد كان النّاس وما زالوا ‪ ،‬يتعاملون بها في كلّ زمان ومكان ‪ ،‬وفقهاء المصار شهود ‪ ،‬فل‬
‫يرتفع صوت بنكير ‪.‬‬
‫د ‪ -‬المعقول ‪:‬‬
‫ن شركة العنان طريق من طرق استثمار المال وتنميته ‪ ،‬تمسّ إليه حاجة النّاس ‪ ،‬قلّت‬
‫فإ ّ‬
‫أموالهم أو كثرت ‪ ،‬كما هو مشاهد ملموس ‪ ،‬حتّى لقد كادت الشّركات التّجاريّة الكبرى ‪ ،‬الّتي‬
‫يستحيل عادةً على تاجر واحد تكوينها ‪ ،‬أن تكون طابع هذا العصر الّذي نعيش فيه ‪ .‬هذا من‬
‫جانب ‪ ،‬ومن الجانب الخر ‪ ،‬ليس في تطبيق شركة العنان شيء ينبو بشرعيّتها ‪ :‬فما هي في‬
‫حقيقة المر سوى ضرب من الوكالة إذ حلّ شريك وكيل عن شريكه ‪.‬‬
‫والوكالة ل نزاع في شرعيّتها إذا انفردت ‪ ،‬فكانت من واحد لخر ‪ ،‬فكذا إذا تعدّدت ‪ ،‬فكانت من‬
‫كلّ واحد لصاحبه ‪ :‬أعني أنّه وجد المقتضي وانتفى المانع ‪ -‬كما يقولون ‪ ،‬وإذا كانت تتضمّن‬
‫وكالةً في مجهول ‪ ،‬فهذا شيء يغتفر في ضمن الشّركة ‪ ،‬لنّه تبع ل مقصود ‪ ،‬والشّيء يغتفر‬
‫فيه تبعا ما ل يغتفر استقللً ‪.‬‬
‫ص ثابت وإنّما أجازها الحنفيّة واستدلّوا‬
‫وأمّا المفاوضة من شركة الموال فليس في جوازها ن ّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬فاوضوا ‪ ،‬فإنّه أعظم للبركة « وهو غير معروف في‬
‫بأ ّ‬
‫شيء من كتب الحديث ‪.‬‬
‫ج في جوازها بالبراءة الصليّة ‪ :‬فالصل الجواز ‪ ،‬حتّى يقوم دليل المنع ‪ -‬ول دليل ‪.‬‬
‫وقد يحت ّ‬
‫‪ -‬ومنعها الشّافعيّة لتضمّنها الوكالة في مجهول ‪ ،‬والكفالة بمجهول لمجهول ‪ ،‬وكلهما باطل‬ ‫‪19‬‬

‫على انفراد ‪ ،‬فما تضمّنهما معا أشدّ بطلنا ‪.‬‬


‫‪ -‬وأمّا شركتا العمال والوجوه فتجوز عند الحنفيّة والحنابلة خلفا للشّافعيّة ‪ ،‬وكذا المالكيّة‬ ‫‪20‬‬

‫صةً ‪.‬‬
‫في شركة الوجوه خا ّ‬
‫ويستدلّ للجواز بما يلي ‪:‬‬
‫صحّة ‪ ،‬حتّى يقوم دليل الفساد ‪ ،‬ول دليل ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬بالبراءة الصليّة ‪ :‬فالصل في العقود كلّها ال ّ‬
‫ي من كلّ شريك‬
‫ثانيا ‪ :‬أنّ الحاجة داعية إليهما ‪ ،‬وتصحيحهما ممكن بطريق التّوكيل الضّمن ّ‬
‫لشريكه ‪ ،‬ليقع تصرّف كلّ واحد والرّبح المترتّب عليه للجميع ‪ ،‬فل معنى للحكم ببطلنهما ‪.‬‬
‫وأمّا عند الشّافعيّة فإنّ شركة العمال وشركة الوجوه ‪ ،‬باطلتان لعدم المال المشترك فيهما‬
‫وللغرر في شركة العمال ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى بطلن شركة الوجوه لنّها من باب الضّمان بجعل ومن باب السّلف الّذي يجرّ‬
‫نفعا وسمّوها شركة الذّمم ‪.‬‬
‫تقسيم شركة العقد باعتبار محلّها ‪:‬‬
‫‪ -‬تنقسم الشّركة بهذا العتبار إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬ ‫‪21‬‬

‫أ ‪ -‬شركة أموال ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬شركة أعمال ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬شركة وجوه ‪.‬‬
‫ذلك أنّه إذا كان رأس مال الشّركة نقودا ‪ ،‬كانت شركة أموال ‪ ،‬وإن كان العمل للغير كانت شركة‬
‫أعمال ‪ -‬شركة صنائع ‪ -‬وتسمّى أيضا شركة أبدان ‪.‬‬
‫وتسمّى كذلك شركة التّقبّل ‪ :‬لنّ التّقبّل قد يكون ممّن ل يقدر على القيام بأيّ عمل للغير سوى‬
‫التّقبّل نفسه ‪ ،‬ومع ذلك تحصل به هذه الشّركة ‪ ،‬لنّه ملزم لشريكه القادر ‪ ،‬فهما شريكان‬
‫بالتّقبّل‪.‬‬
‫أمّا إذا كان ما تقوم الشّركة عليه ما للشّريكين أو للشّركاء من وجاهة عند النّاس ومنزلة تصلح‬
‫للستغلل ‪ ،‬فالشّركة شركة وجوه ‪ .‬ولعدم رأس المال فيها ‪ ،‬وغلبة وقوعها بين المعدمين‬
‫تسمّى ‪ :‬شركة المفاليس ‪.‬‬
‫هذا على الجمال ‪ .‬أمّا التّفصيل ‪:‬‬
‫‪ -‬فشركة الموال ‪ :‬عقد بين اثنين فأكثر ‪ ،‬على أن يتّجروا في رأس مال لهم ‪ ،‬ويكون الرّبح‬ ‫‪22‬‬

‫بينهم بنسبة معلومة ‪ .‬سواء علم مقدار رأس المال عند العقد أم ل ‪ ،‬لنّه يعلم عند الشّراء ‪،‬‬
‫وسواء شرطوا أن يشركوا جميعا في كلّ شراء وبيع ‪ ،‬أم شرطوا أن ينفرد كلّ واحد بصفقاته ‪،‬‬
‫أم أطلقوا ‪ .‬وليس حتما أن يقع العقد بلفظ التّجارة ‪ ،‬بل يكفي معناها ‪ :‬كأن يقول الشّريكان ‪:‬‬
‫اشتركنا في مالنا هذا ‪ ،‬على أن نشتري ونبيع ‪ ،‬ونقسم الرّبح مناصفةً ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا شركة العمال ‪ :‬فهي ‪ :‬أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يتقبّلوا نوعا معيّنا من العمل‬ ‫‪23‬‬

‫أو أكثر أو غير معيّن لكنّه عامّ ‪ ،‬وأن تكون الجرة بينهم بنسبة معلومة ‪ ،‬وذلك كالخياطة ‪،‬‬
‫صحّيّة أو كلّ ما يتقبّل ‪ ،‬فل ب ّد من التّعاقد قبل التّقبّل‬
‫والصّباغة ‪ ،‬والبناء ‪ ،‬وتركيب الدوات ال ّ‬
‫ل ‪ ،‬دون تعاقد سابق على الشّركة ‪ ،‬لم يكونوا شركاء ‪ :‬وعلى كلّ‬
‫فلو تقبّل ثلثة أشخاص عم ً‬
‫منهم ثلث العمل ‪ ،‬فإن قام بالعمل كلّه أحدهم كان متبرّعا بما زاد على الثّلث ‪ ،‬فل يستحقّ ‪-‬‬
‫قضاءً ‪ -‬سوى ثلث الجرة ‪.‬‬
‫ول ب ّد أيضا أن يكون التّقبّل حقّا لكلّ شريك وإن وقع التّفاق على أن يباشره منهم واحد بعينه ‪،‬‬
‫ي في المحيط ‪ :‬لو قال صاحب ال ّدكّان أنا أتقبّل ‪ ،‬ول تتقبّل‬
‫ويعمل الخر ‪ .‬ولذا يقول السّرخس ّ‬
‫أنت‪ ،‬وأطرح عليك تعمل بالنّصف ‪ ،‬ل يجوز ‪.‬‬
‫ومن هنا يقول ابن عابدين ‪ :‬الشّرط عدم نفي التّقبّل عن أحدهما ‪ ،‬ل التّنصيص على تقبّل كلّ‬
‫منهما ‪ ،‬ول على عملهما ‪ ،‬لنّه إذا اشتركا على أن يتقبّل أحدهما ويعمل الخر ‪ ،‬بل نفي ‪ ،‬كان‬
‫لكلّ منهما التّقبّل والعمل ‪ ،‬لتضمّن الشّركة الوكالة ‪ .‬هذا قول الحنفيّة ‪ ،‬ومثله في الجملة‬
‫للحنابلة‪ ،‬لكنّهم أضافوا الشتراك في تملّك المباحات ‪.‬‬
‫وقد نصّ الحنفيّة على أنّ شركة البدان نوعان ‪:‬‬
‫النّوع الوّل ‪ :‬شركة مقيّدة ببعض العمال ‪ ،‬دون بعض ‪ ،‬كنجارة ‪ ،‬أو حدادة ‪ ،‬اتّفق العملن أم‬
‫اختلفا ‪.‬‬
‫والنّوع الثّاني ‪ :‬شركة مطلقة ‪ ،‬لم تقيّد بذلك ‪ :‬كأن يتّفقا على الشتراك في أجرة ما يعملنه من‬
‫أيّ نوع ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا شركة الوجوه ‪ :‬فهي أن يتعاقد اثنان فأكثر ‪ ،‬بدون ذكر رأس مال ‪ ،‬على أن يشتريا‬ ‫‪24‬‬

‫نسيئةً ويبيعا نقدا ‪ ،‬ويقتسما الرّبح بينهما بنسبة ضمانهما للثّمن ‪ .‬وكذلك هي عند القاضي ‪،‬‬
‫وابن عقيل من الحنابلة ‪ ،‬إذ جعل الرّبح فيها على قدر الملك ‪ ،‬لئلّ يلزم ربح ما لم يضمن ‪.‬‬
‫ولكنّ جماهيرهم جعلوا الرّبح فيها على ما تشارط الشّريكان ‪ ،‬كشركة العنان ‪ :‬لنّ فيها مثلها‬
‫عملً وغيره ‪ ،‬سيّما مع ملحظة تفاوت الشّريكين في المهارة التّجاريّة ‪ ،‬والوجاهة عند النّاس ‪.‬‬
‫بل نظر ابن قدامة إلى مآل أمرها ‪ ،‬فأنكر خلوّها من المال ‪.‬‬
‫ص بها إن شاء اللّه ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا المضاربة ‪ :‬فسيأتي تعريفها وأحكامها في بحثها الخا ّ‬ ‫‪25‬‬

‫( انظر ‪ :‬مضاربة ) ‪.‬‬


‫تقسيم شركة العقد باعتبار التّساوي والتّفاوت ‪:‬‬
‫‪ -‬والمراد التّساوي والتّفاوت في أمور خمسة ‪:‬‬ ‫‪26‬‬

‫أ ‪ -‬رأس مال الشّركة ‪ :‬الشّامل لكلّ مال للشّريكين صالح للشّركة " نقود " ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬كلّ تصرّف تجاريّ في رأس مال الشّركة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الرّبح ‪.‬‬
‫د ‪ -‬كفالة ما يلزم كلً من الشّريكين من دين التّجارة ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬أهليّة التّصرّف ‪.‬‬
‫وتنقسم شركة العقد بهذا العتبار إلى قسمين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬شركة مفاوضة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬شركة عنان ‪.‬‬
‫‪ -‬وشركة المفاوضة عند الحنفيّة هي ‪ :‬الّتي يتوافر فيها تساوي الشّركاء في هذه المور‬ ‫‪27‬‬

‫ن شركة المفاوضة من العقود الجائزة من‬


‫الخمسة ‪ ،‬من ابتداء الشّركة إلى انتهائها ‪ ،‬ل ّ‬
‫الطّرفين‪ ،‬لكلّ منهما فسخها متى شاء ‪ ،‬فأعطي دوامها حكم ابتدائها ‪ ،‬وشرطت فيه المساواة‬
‫أيضا ‪ .‬وسيأتي في الشّرائط شرح هذه المور الخمسة في بيان واف إن شاء اللّه ‪.‬‬
‫وشركة العنان ‪ -‬بكسر العين وفتحها ‪ -‬هي الّتي ل يوجد فيها هذا التّساوي ‪ :‬بأن لم يوجد‬
‫أصلً‪ ،‬أو وجد عند العقد وزال بعده ‪ :‬كأن كان المالن متساويين عند العقد ث ّم ارتفعت قيمة‬
‫ن الشّركة تنقلب عنانا بمجرّد [ هذا الرتفاع ] ‪ ،‬وهل تبطل الكفالة ؟ ‪..‬‬
‫أحدهما قبل الشّراء ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الظّاهر نعم ‪ ،‬لنّها كفالة لمجهول ‪ ،‬فل تصحّ إ ّل ضمنا ‪ ،‬والعنان ل تتضمّن الكفالة ‪ ،‬فتكون فيها‬
‫صحّة ‪ ،‬ولعلّ وجهه أنّها‬
‫ن الّذي في الخانيّة هو ال ّ‬
‫مقصودةً وهي مقصودة ل تصحّ لمجهول ‪ ،‬لك ّ‬
‫في الشّركة تبع على كلّ حال ‪ ،‬ولو صرّح بها ‪.‬‬
‫ولم يشترط المالكيّة المساواة في هذه المور الخمسة لصحّة المفاوضة ‪ .‬بل كلّ ما عندهم من‬
‫ل من الشّريكين في شركة المفاوضة‬
‫الفرق بين طبيعتي شركة المفاوضة وشركة العنان ‪ ،‬أنّ ك ً‬
‫يطلق التّصرّف لشريكه ول يحوجه إلى مراجعته وأخذ موافقته في كلّ تصرّف من تصرّفاته‬
‫للشّركة ‪ ،‬بخلف العنان ‪ ،‬فإنّها ل بدّ فيها من ذلك ‪.‬‬
‫أمّا الحنابلة فللمفاوضة عندهم معنيان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الشّركات الربع مجتمعةً ‪ :‬العنان ‪ ،‬والمضاربة ‪ ،‬والبدان ‪ ،‬والوجوه ‪ :‬فإذا فوّض كلّ‬
‫من الشّريكين لصاحبه المضاربة وتصرّفات سائر هذه الشّركات صحّت الشّركة ‪ ،‬لنّها مجموع‬
‫شركات صحيحة ‪ ،‬ويكون الرّبح على ما شرطاه ‪ ،‬والخسارة بقدر المالين ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أن يشترك اثنان فصاعدا في كلّ ما يثبت لهما وعليهما ‪ .‬وهذا صحيح أيضا لكن‬
‫بشريطة أن ل يدخل فيه كسبا نادرا ول غرام ًة ‪ ،‬وإلّ اختصّ كلّ شريك بما يستفيده من مال‬
‫نفسه أو عمله ‪ ،‬وبما يلزمه من ضمانات فكلّ نفس { َلهَا مَا َكسَبَتْ وَعَلَ ْيهَا مَا اكْ َتسَبَتْ } ‪.‬‬
‫مثال الكسب النّادر ‪ :‬اللّقطة والرّكاز والميراث ‪.‬‬
‫ومثال الغرامات ‪ :‬ما يلزم بكفالة ‪ ،‬أو غصب ‪ ،‬أو جناية ‪ ،‬أو تلف عاريّة ‪.‬‬
‫وهذا النّوع لم يشترط فيه الحنابلة تساوي المالين ‪ ،‬ول تساوي الشّريكين في أهليّة التّصرّف ‪.‬‬
‫تقسيم شركة العقد باعتبار العموم والخصوص ‪:‬‬
‫‪ -‬يقسم الحنفيّة الشّركة بهذا العتبار إلى ‪:‬‬ ‫‪28‬‬

‫أ ‪ -‬مطلقة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬مقيّدة ‪.‬‬
‫فالمطلقة ‪ :‬هي الّتي لم تقيّد بشرط جعليّ أملته إرادة شريك أو أكثر ‪ :‬بأن تقيّد بشيء من‬
‫المتاجر دون شيء ‪ ،‬ول زمان دون زمان ‪ ،‬ول مكان دون مكان ‪ ،‬ول ببعض الشخاص دون‬
‫بعض إلخ كأن اشترك الشّريكان في كلّ أنواع التّجارة وأطلقا فلم يتعرّضا لكثر من هذا الطلق‬
‫ي وغيره يكون في شركة العنان ‪ .‬أمّا في شركة المفاوضة فل ب ّد من الطلق في‬
‫بشقّيه ‪ :‬الزّمان ّ‬
‫جميع أنواع التّجارات ‪ ،‬كما هو صريح الهداية ‪ ،‬وإن كان في البحر الرّائق أنّها قد تكون مقيّدةً‬
‫ي احتمال من احتمالتها ‪ ،‬وليس بحتم ‪.‬‬
‫بنوع من أنواع التّجارات ‪ .‬والطلق الزّمان ّ‬
‫والمقيّدة ‪ :‬هي الّتي قيّدت بذلك ‪ :‬كالّتي تقيّد ببعض الشياء أو الزمان أو المكنة ‪ ،‬كأن تقيّد‬
‫بالحبوب أو المنسوجات أو السّيّارات أو البقالت ‪ ،‬أو تقيّد بموسم قطن هذا العام ‪ ،‬أو ببلد هذه‬
‫المحافظة ‪ .‬والتّقييد ببعض المتاجر دون بعض ‪ ،‬ل يتأتّى في شركة المفاوضة ‪ ،‬أمّا التّقييد‬
‫ببعض الوقات دون بعض فيكون فيها وفي العنان ‪.‬‬
‫وتنوّع الشّركة إلى مطلقة ومقيّدة ‪ ،‬بما فيها المقيّدة بالزّمان ‪ ،‬يوجد في سائر المذاهب الفقهيّة ‪،‬‬
‫ص عليه الشّافعيّة ‪ ،‬أنّه يجوز تقييد تصرّف أحد الشّريكين ‪ ،‬وإطلق تصرّف الخر ‪ .‬إلّ‬
‫وممّا ين ّ‬
‫أنّه حكي عن بعض أهل الفقه أنّه ل ب ّد أن يعيّن لكلّ شريك نطاق تصرّفه ‪ ،‬ويحتمل كلم بعض‬
‫المالكيّة إبطال الشّركة بالتّأقيت ‪ ،‬وإن كان الظّاهر عندهم أيضا صحّة الشّركة مع عدم لزوم‬
‫الجل‪.‬‬
‫شركة الجبر ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا نوع انفرد المالكيّة بإثباته ‪ ،‬وتمسّكوا فيه بقضاء عمر ‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫وحدّها بعضهم بأنّها ‪ :‬استحقاق شخص الدّخول مع مشتري سلعة لنفسه من سوقها المعدّ لها ‪،‬‬
‫على وجه مخصوص ‪.‬‬
‫وسيتّضح باستعراض شرائطها ‪:‬‬
‫فقد ذكروا لها سبع شرائط ‪:‬‬
‫صةً بالسّلعة وهي ‪:‬‬
‫ثلثةً خا ّ‬
‫أ ‪ -‬أن تشترى بسوقها المع ّد لبيعها ‪ ،‬ل بدار اتّفاقا ‪ ،‬ول بزقاق ‪ ،‬نافذ أو غير نافذ ‪ ،‬على‬
‫المعتمد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون شراؤها للتّجارة ‪ ،‬ويصدّق المشتري في نفي ذلك بيمينه ‪ ،‬إلّ أن تكذّبه قرائن‬
‫الحوال ‪ :‬ككثرة ما يدّعي شراءه للقنية أو العرس مثلً ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن تكون التّجارة المقصودة بالشّراء في نفس بلد الشّراء ‪ ،‬ل في مكان آخر ‪ ،‬ولو جدّ‬
‫قريب ‪.‬‬
‫صةً بالشّريك المقحم ‪:‬‬
‫وثلثةً خا ّ‬
‫أ ‪ -‬أن يحضر الشّراء ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن ل يزايد على المشتري ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن يكون من تجّار السّلعة المشتراة ‪.‬‬
‫واعتمدوا أنّه ل يشترط أن يكون من تجّار هذا السّوق ‪.‬‬
‫وشريطةً واحدةً في الشّاري ‪ :‬أن ل يبيّن لمن حضر من ال ّتجّار أنّه يريد الستئثار بالسّلعة ‪ ،‬ول‬
‫يقبل الشّركة فيها ‪ ،‬فمن شاء أن يزايد فليفعل ‪.‬‬
‫فإذا توافرت هذه الشّرائط جميعها ثبت حقّ الجبار على الشّركة لمن حضر من ال ّتجّار ‪ ،‬مهما‬
‫طال المد ‪ ،‬ما دامت السّلعة المشتراة باقيةً ‪.‬‬
‫ويسجن الشّاري حتّى يقبل الشّركة إذا امتنع منها ‪ .‬وهناك احتمال آخر بسقوط هذا الحقّ بمضيّ‬
‫سنة كالشّفعة ‪.‬‬
‫أمّا الشّاري ‪ ،‬فليس له مع توافر الشّرائط إجبار من حضر من ال ّتجّار على مشاركته في السّلعة‬
‫لسبب ما ‪ -‬كتحقّق الخسارة أو توقّعها ‪ -‬إلّ إذا قالوا له أثناء السّوم ‪ :‬أشركنا ‪ ،‬فأجاب ‪ :‬بنعم‬
‫أو سكت ‪.‬‬
‫والمتبادر من كلمهم تنزيل قول ال ّتجّار ‪ :‬أشركنا ‪ -‬مع إجابة بنعم ‪ -‬منزلة حضورهم الشّراء ‪:‬‬
‫فل يضير إذن انصرافهم قبل إتمام الصّفقة ‪ .‬بخلف ما إذا خرج بالصّمت عن " ل ونعم " إلّ أنّ‬
‫من حقّهم حينئذ أن يحلّفوه ‪ :‬ما اشترى عليهم ‪.‬‬
‫صيغة عقد الشّركة ‪:‬‬
‫‪ -‬تنعقد الشّركة باليجاب والقبول ‪:‬‬ ‫‪30‬‬
‫مثال ذلك في شركة العنان في الموال ‪ :‬أن يقول شخص لخر ‪ :‬شاركتك في ألف دينار‬
‫مناصفةً‪ ،‬على أن نتّجر بها ويكون الرّبح بيننا مناصف ًة كذلك ‪ :‬ويطلق ‪ ،‬أو يقيّد التّجار بنوع‬
‫من أنواع التّجارة ‪ ،‬كتجارة المنسوجات الصّوفيّة ‪ ،‬أو المنسوجات مطلقا ‪ ،‬فيقبل الخر ‪.‬‬
‫ومثاله في شركة المفاوضة في الموال ‪ :‬أن يقول شخص لخر ‪ -‬وهما حرّان بالغان مسلمان‬
‫أو ذمّيّان ‪ -‬شاركتك في كلّ نقودي ونقدك ‪ -‬ونقود هذا تساوي نقود ذاك ‪ -‬على أن نتّجر بها‬
‫في جميع أنواع التّجارة ‪ ،‬وكلّ واحد منّا كفيل عن الخر بديون التّجارة ‪ ،‬فيقبل الخر ‪.‬‬
‫‪ -‬وتقوم دللة الفعل مقام دللة اللّفظ ‪ .‬فلو أنّ شخصا ما أخرج جميع ما يملك من نقد ‪،‬‬ ‫‪31‬‬

‫وقال لخر ‪ :‬أخرج مثل هذا واشتر ‪ ،‬وما رزق اللّه من ربح فهو بيننا على التّساوي أو لك فيه‬
‫الثّلثان ولي الثّلث ‪ ،‬فلم يتكلّم الخر ‪ ،‬ولكنّه أخذ وأعطى وفعل كما أشار صاحبه ‪ ،‬فهذه شركة‬
‫عنان صحيحة ‪.‬‬
‫ومثل ذلك يجيء أيضا في شركة المفاوضة ‪ :‬كأن يخرج هذا كلّ ما يملك من النّقود ‪ ،‬ويقول‬
‫لصاحبه الّذي ل يملك من النّقود إ ّل مثل هذا القدر ‪ :‬أخرج مثل هذا ‪ ،‬على أن نتّجر بمجموع‬
‫المالين في جميع أنواع التّجارات ‪ ،‬والرّبح بيننا على سواء ‪ ،‬وكلّ واحد منّا كفيل عن الخر‬
‫بديون التّجارة ‪ ،‬فل يتكلّم صاحبه هذا ‪ ،‬وإنّما يفعل مثل ما أشار ‪ .‬هذا مذهب الحنفيّة ‪.‬‬
‫‪ -‬والكتفاء بدللة الفعل ‪ ،‬هو أيضا مذهب المالكيّة والحنابلة ‪ .‬إذ هم ل يعتبرون في الصّيغة‬ ‫‪32‬‬

‫هنا إلّ ما يدلّ على الذن عرفا ‪ ،‬ولو لم يكن من قبيل اللفاظ أو ما يجري مجراها ‪ ،‬كالكتابة‬
‫وإشارة الخرس المفهمة ‪.‬‬
‫ص المالكيّة على أنّه لو قال أحد اثنين للخر ‪ :‬شاركني ‪ ،‬فرضي بالسّكوت ‪ ،‬كفى ‪ ،‬وأنّه‬
‫ولذا ين ّ‬
‫يكفي خلط المالين ‪ ،‬أو الشّروع في أعمال التّجارة للشّركة ‪.‬‬
‫ص الحنابلة على أنّه يكفي أن يتكلّما في الشّركة ‪ ،‬ثمّ يحضرا المال عن قرب ‪ ،‬ويشرعا‬
‫كما ين ّ‬
‫في العمل ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ل تغني دللة الفعل عن اللّفظ أو ما في معناه ‪ ،‬لنّ الصل حفظ الموال على‬
‫أربابها ‪ ،‬فل ينتقل عنه إ ّل بدللة لها فضل قوّة ‪ ،‬حتّى لقد ضعّف الشّافعيّة وجها عندهم بانعقاد‬
‫الشّركة بلفظ ‪ " :‬اشتركنا " لدللته عرفا على الذن في التّصرّف ‪ ،‬ورأوا أن ل كفاية فيه حتّى‬
‫يقترن بالذن في التّصرّف من الجانبين ‪ ،‬لحتمال أن يكون إخبارا عن شركة ماضية ‪ ،‬أو عن‬
‫شركة ملك قائمة ل تصرّف فيها ‪ .‬وهم يصحّحون انعقادها شركة عنان بلفظ المفاوضة ‪ ،‬إذا‬
‫اقترن بنيّة العنان ‪ ،‬وإلّ فلغو ‪ ،‬إذ ل مفاوضة عندهم ‪ :‬وغاية ما يصلح له لفظها عندهم أن‬
‫يكون كناية عنان ‪ ،‬بناءً على صحّة العقود بالكنايات ‪.‬‬
‫‪ -‬ومثال شركة المفاوضة في التّقبّل ‪ :‬أن يقول شخص لخر ‪ -‬وكلهما من أهل الكفالة ‪-‬‬ ‫‪33‬‬

‫شاركتك في تقبّل جميع العمال ‪ ،‬أو في هذه الحرفة ‪ -‬خياطةً ‪ ،‬أو نجار ًة ‪ ،‬أو حدادةً ‪ ،‬مثلً ‪-‬‬
‫على أن يتقبّل كلّ منّا العمال ‪ ،‬وأن أكون أنا وأنت سواءً في ضمان العمل وفي الرّبح‬
‫ل كفيل عن الخر فيما يلزمه بسبب الشّركة ‪ ،‬فيقبل الخر ‪ .‬فإذا وقع‬
‫نكً‬
‫والخسران‪ ،‬وفي أ ّ‬
‫التّعاقد مع اختلل قيد ممّا ورد في هذه الصّيغة ‪ ،‬فالشّركة شركة عنان ‪ ،‬إلّ أنّه ل بدّ أن يكون‬
‫الشّريكان من أهل الوكالة كما ل يخفى ‪.‬‬
‫‪ -‬ومثال شركة المفاوضة في الوجوه ‪ :‬أن يقول شخص لخر ‪ -‬وكلهما من أهل الكفالة ‪-‬‬ ‫‪34‬‬

‫شاركتك على أن نتّجر أنا وأنت بالشّراء نسيئةً والبيع نقدا ‪ ،‬مع التّساوي في كلّ شيء نشتريه‬
‫وفي ثمنه وربحه ‪ ،‬وكفالة كلّ ما يلزم الخر من ديون التّجارة وما يجري مجراها ‪ ،‬فيقبل‬
‫الخر‪ .‬وإذا اختلّ شيء ممّا ورد في هذه الصّيغة من قيود ‪ ،‬فالشّركة شركة عنان ‪ ،‬إ ّل أنّه ل بدّ‬
‫فيها على كلّ حال من أن يكون الشّريكان من أهل الوكالة ‪ ،‬وأن يكون الرّبح بينهما بنسبة‬
‫ضمانهما الثّمن ‪ ،‬كما سيجيء في الشّرائط بيانه ‪.‬‬
‫لنـ لفظهـا علم على تمام المسـاواة فـي أمـر‬
‫وإن قال أحدهمـا لصـاحبه فاوضتـك فقبـل كفـى ‪ّ ،‬‬
‫الشّركة‪ ،‬فإذا ذكراه تثبت أحكامها إقامةً للّفظ مقام المعنى ‪.‬‬
‫شروط شركة العقد ‪:‬‬
‫الشّروط العامّة ‪:‬‬
‫ص نوعا دون نوع من أنواع الشّركة الرّئيسيّة الثّلثة " شركة الموال‬
‫‪ -‬وهي تلك الّتي ل تخ ّ‬ ‫‪35‬‬

‫‪ ،‬وشركة العمال ‪ ،‬وشركة الوجوه " ‪.‬‬


‫وهذه الشّروط العامّة تتنوّع أنواعا ‪:‬‬
‫النّوع الوّل ‪ :‬في كلّ من شركتي المفاوضة والعنان ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬قابليّة الوكالة ‪:‬‬
‫‪ -‬ويمكن تفسيرها بأمرين ‪:‬‬ ‫‪36‬‬

‫أ ‪ -‬قابليّة التّصرّف المتعاقد عليه للوكالة ‪ ،‬ليتحقّق مقصود الشّركة ‪ ،‬وهو الشتراك في الرّبح‪،‬‬
‫ل عن صاحبه في نصف ما تصرّف فيه ‪،‬‬
‫لنّ سبيل ذلك أن يكون كلّ واحد من الشّريكين وكي ً‬
‫ص بكلّ ربحه ‪ ،‬والمتصرّف عن الغير ل‬
‫وأصيلً في نصفه الخر ‪ ،‬وإلّ فالصيل في الكلّ يخت ّ‬
‫يتصرّف إلّ بولية أو وكالة ‪ ،‬والفرض أن ل ولية ‪ ،‬فلم يبق إ ّل الوكالة ‪.‬‬
‫فالحتشاش والحتطاب والصطياد والتّكدّي ‪ ،‬أعمال ل تصحّ الشّركة فيها ‪ ،‬لعدم قبولها‬
‫الوكالة ‪ ،‬إذ الملك فيها يقع لمن باشر السّبب ‪ -‬وهو الخذ ‪ -‬شأن المباحات كلّها ‪ ،‬فقد جعل‬
‫الشّارع سبب الملك فيها هو سبق اليد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أهليّة كلّ شريك للتّوكيل والتّوكّل ‪ ،‬لنّه وكيل في أحد النّصفين ‪ ،‬أصيل في الخر ‪ ،‬فل‬
‫تصحّ الشّركة من الصّبيّ غير المأذون في التّجارة ‪ ،‬والمعتوه الّذي ل يعقل ‪.‬‬
‫ن الجميع مطبقون على أنّ الشّركة تتضمّن الوكالة ‪.‬‬
‫‪ -‬وهذا الشّرط بشقّيه موضع وفاق ‪ .‬ل ّ‬ ‫‪37‬‬

‫ولكنّ الخلف يقع في طريق التّطبيق ‪ :‬فمثلً ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬المباحات ‪ :‬ل يراها الحنفيّة ممّا يقبل الوكالة ‪ ،‬بينما هي عند غيرهم ممّا يقبلها ‪.‬‬
‫ولذا مثّل المالكيّة لشركة البدان بشركة الصّيّادين في الصّيد ‪ ،‬والحفّارين في البحث عن‬
‫المعادن‪ ،‬كشركات النّفط القائمة الن ‪ ،‬وأبرز الحنابلة الشّركة في تحصيل المباحات ‪ ،‬حتّى‬
‫جعلوها نوعا متميّزا من شركة العمال ‪.‬‬
‫ي المحجور الشّركة في مال‬
‫ب ‪ -‬شركة وليّ المحجور ‪ :‬وينصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ لول ّ‬
‫محجوره ‪ ،‬لنّه يجوز له أن يضارب بهذا المال ‪ ،‬مع أنّ المضارب يذهب بجزء من نمائه ‪،‬‬
‫فأولى أن تجوز الشّركة حيث يكون ربحه كلّه موفّرا عليه ‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل تقريرهم أنّه إذا مات أحد الشّريكين ‪ ،‬وورثه محجور عليه ‪ ،‬فإنّه يجب على‬
‫وليّه أن يستمرّ في الشّركة إذا رأى المصلحة في ذلك ‪ ،‬ومن شريطتها أن يكون الشّريك‬
‫المتصرّف أمينا|ً ‪ ،‬فلو تبيّن عدم هذه المانة ‪ ،‬وضاع المال ‪ ،‬كان الضّمان على الوليّ ‪،‬‬
‫لتقصيره بعدم البحث ‪.‬‬
‫ثمّ ل يخفى أنّ اعتبار الهليّتين ‪ :‬أهليّة التّوكيل ‪ ،‬وأهليّة التّوكّل ‪ ،‬إنّما هو حيث يكون العمل لكل‬
‫الشّريكين ‪ .‬أمّا إذا كان لحدهما فحسب ‪ -‬وذلك عند الحنفيّة ل يكون إلّ في شركة العنان ‪-‬‬
‫فالشّريطة هي أهليّة الذن للتّوكيل ‪ ،‬وأهليّة المأذون للتّوكّل ‪.‬‬
‫ح أن يكون الذن أعمى ‪ ،‬وإن كان ل بدّ أن‬
‫ص الشّافعيّة على أنّه في هذه الحالة ‪ ،‬يص ّ‬
‫ولذا ين ّ‬
‫يوكّل في خلط المالين ‪ ،‬أمّا المأذون فل بدّ أن يكون بصيرا ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أن يكون الرّبح معلوما بالنّسبة ‪:‬‬
‫‪ -‬أي أن تكون حصّة كلّ شريك من الرّبح محدّدةً بجزء شائع منه معلوم النّسبة إلى جملته ‪:‬‬ ‫‪38‬‬

‫كنصفه ‪.‬‬
‫فإذا ت ّم العقد على أن يكون للشّريك حصّة في الرّبح من غير بيان مقدار ‪ ،‬كان عقدا فاسدا ‪ ،‬لنّ‬
‫الرّبح هو مقصود الشّركة فتفسد بجهالته ‪ ،‬كالعوض والمعوّض في البيع والجارة ‪.‬‬
‫وكذلك إذا علم مقدار حصّة الشّريك في الرّبح ‪ ،‬ولكن جهلت نسبتها إلى جملته ‪ :‬كمائة أو أكثر‬
‫ن هذا قد يؤدّي إلى خلف مقتضى العقد ‪ -‬أعني الشتراك في الرّبح ‪ -‬فقد ل يحصل‬
‫أو أقلّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫منه إلّ ما جعل لحد الشّركاء ‪ ،‬فيقع ملكا خاصّا لواحد ‪ ،‬ل شركة فيه لسواه ‪.‬‬
‫بل قالوا إنّ هذا يقطع الشّركة لنّ المشروط إذا كان هو ك ّل المتحصّل من الرّبح ‪ ،‬تحوّلت‬
‫الشّركة إلى قرض ممّن لم يصب شيئا من الرّبح ‪ ،‬أو إبضاع من الخر ‪.‬‬
‫فإذا جعل للشّريك أجر معلوم المقدار من خارج مال الشّركة ‪ :‬كخمسين أو مائة دينار كلّ شهر ‪،‬‬
‫ن الشّركة صحيحة ‪ ،‬والشّرط باطل ‪.‬‬
‫فقد نقلوا في الهنديّة عن المحيط أ ّ‬
‫‪ -‬وهذا الشّرط موضع وفاق ‪ .‬وقد حكى ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن ل شركة مع‬ ‫‪39‬‬

‫اشتراط مقدار معيّن من الرّبح ‪ -‬كمائة ‪ -‬لحد الشّريكين سواء اقتصر على اشتراط هذا المقدار‬
‫المعيّن لحدهما ‪ ،‬أم جعل زيادةً على النّسبة المشروطة له من الرّبح ‪ ،‬أم انتقص من هذه‬
‫ن ذلك في الحوال كلّها قد يفضي إلى اختصاص أحدهما بالرّبح ‪ ،‬وهو خلف موضوع‬
‫النّسبة‪ ،‬ل ّ‬
‫الشّركة ‪ ،‬أو ‪ -‬كما عبّر الحنفيّة ‪ -‬قاطع لها ‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل ‪ ،‬ما لو شرط لحدهما ربح عين معيّنة أو مبهمة من أعيان الشّركة ‪ -‬كهذا‬
‫الثّوب أو أحد هذين الثّوبين ‪ -‬أو ربح سفرة كذلك ‪ -‬كهذه السّفرة إلى باريس ‪ ،‬أو هي أو الّتي‬
‫تليها إلى لندن ‪ -‬أو ربح هذا الشّهر أو هذه السّنة ‪.‬‬
‫ونصّ الحنابلة على أنّ من هذا القبيل أيضا ‪ ،‬أن يقول أحد الشّريكين للخر ‪ :‬لك ربح النّصف ‪،‬‬
‫لنّه يؤدّي إلى أن يستأثر واحد بشيء من الرّبح ‪ ،‬زاعما أنّه من عمله في النّصف الخر ‪.‬‬
‫خلفا لمن ذهب إلى أنّ ربح النّصف هو نصف الرّبح ‪.‬‬
‫صةً ‪:‬‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬في شركة المفاوضة خا ّ‬
‫فتنعقد عنانا إذا اختلّ شرط منه ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬أهليّة الكفالة ‪:‬‬
‫ن كلّ واحد منهما بمنزلة الكفيل عن صاحبه‬
‫‪ -‬وهذا شرط الحنفيّة في كلّ من الشّريكين ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪40‬‬

‫فيما يجب من دين التّجارة أو ما يجري مجراها ‪ ،‬كالقتراض إذ كلّ ما يلزم أحدهما من هذا‬
‫القبيل يلزم الخر ‪.‬‬
‫فمن لم تتوافر فيه شروط هذه الهليّة ‪ -‬من بلوغ وعقل ‪ -‬لم تصحّ منه شركة المفاوضة ‪ ،‬ولو‬
‫ن الكفالة‬
‫فعلها الصّغير بإذن وليّه ‪ ،‬لنّ المانع ذاتيّ ‪ ،‬إذ هو ليس من أهل التّبرّعات ول ّ‬
‫المقصودة هنا هي كفالة كلّ شريك جميع ما يلزم الخر من الدّيون النفة الذّكر ‪.‬‬
‫ومن هنا يمنع محمّد شركة المفاوضة من المريض مرض الموت ‪ ،‬ومن في معناه ‪ -‬كالمرتدّ ‪-‬‬
‫لنّ كفالته إنّما تكون في حدود ثلث تركته ‪ ،‬والكفالة في شركة المفاوضة غير محدودة ‪.‬‬
‫وأمّا الّذين وافقوا الحنفيّة في أصل القول بشركة المفاوضة ‪ ،‬وخالفوهم في التّفصيل ‪ -‬وهم‬
‫المالكيّة والحنابلة ‪ -‬فلم يبنوها على الكفالة ‪ ،‬واكتفوا بما فيها من معنى الوكالة ‪ :‬فليس على‬
‫الشّريك فيها عندهم ضمان غرامات لزمت شريكه دون أن يأذن هو في أسبابها ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬يشترط أبو حنيفة ومحمّد التّساوي في أهليّة التّصرّف ‪:‬‬
‫‪ -‬فتصحّ بين الحرّين الكبيرين ‪ ،‬اللّذين يعتنقان دينا واحدا ‪ -‬كمسلمين ونصرانيّين ‪ -‬أو ما‬ ‫‪41‬‬

‫هو في حكم الدّين الواحد ‪ -‬كذمّيّين ‪ ،‬ولو كان أحدهما كتابيّا والخر مجوسيّا ‪ ،‬إذ الكفر كلّه ملّة‬
‫واحدة ‪ .‬ول تصحّ شركة المفاوضة بين ح ّر ومملوك ‪ ،‬ولو مكاتبا أو مأذونا في التّجارة ‪ ،‬ول‬
‫بين بالغ وصبيّ ‪ ،‬ول بين مسلم وكافر ‪ ،‬لختلل هذه الشّريطة ‪ ،‬إذ المملوك والصّبيّ محجور‬
‫عليهما ‪ ،‬بخلف الح ّر البالغ ‪ ،‬والكافر يسعه أن يشتري الخمر والخنزير ويبيعها ‪ ،‬ول كذلك‬
‫المسلم ‪.‬‬
‫أمّا أبو يوسف فيكتفي بالتّساوي في أهليّة الوكالة والكفالة ‪ ،‬ول يعتدّ بتفاوت الهليّة فيما‬
‫عداهما‪ ،‬ولذا فهو يصحّح شركة المفاوضة بين المسلم وال ّذمّيّ ‪ ،‬قياسا على المفاوضة بين‬
‫الكتابيّ والمجوسيّ ‪ ،‬فإنّها تصحّ برغم التّفاوت في أهليّة التّصرّف ‪ ،‬بعد التّساوي في أهليّة‬
‫الوكالة والكفالة ‪ ،‬ول يرى أبو يوسف فرقا ‪ ،‬إ ّل من حيث الكراهة ‪ ،‬فإنّه يكره الشّركة بين‬
‫المسلم والكافر ‪ ،‬لنّ الكافر ل يهتدي إلى وجوه التّصرّفات المشروعة في السلم ‪ ،‬وإن اهتدى‬
‫فإنّه ل يتحرّز من غيرها كالرّبا وما إليه ‪ ،‬فيتورّط المسلم بمشاركته في كلّ ما ل يحلّ ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة كراهة الشّركة بين المسلم والكافر ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬فنفوا الكراهة بشرط أن ل يتصرّف الكافر إلّ بحضور شريكه المسلم ‪،‬‬
‫لنّ ارتكابه المحظورات الشّرعيّة في تصرّفاته للشّركة يؤمن حينئذ ‪ .‬ث ّم ما ل يحضره منها‬
‫شريكه المسلم ‪ ،‬وتبيّن وقوعه على غير وجهه من الوجهة السلميّة ‪ -‬كعقود الرّبا ‪ ،‬وشراء‬
‫الخمر والميتة ‪ -‬فقد نصّ الحنابلة على أنّه ‪ -‬مع فساده ‪ -‬يكون فيه الضّمان على الكافر ‪ .‬وما‬
‫لم يتبيّن فالصل فيه الحلّ ‪.‬‬
‫واحتجّوا للجواز بأنّه صلوات ال عليه عامل أهل خيبر ‪ -‬وهم يهود ‪ -‬بنصف ما يخرج منها‬
‫وهذه شركة ‪ ،‬وابتاع طعاما من يهوديّ بالمدينة ‪ ،‬ورهنه درعه ‪ ،‬ومات وهي مرهونة ‪ ،‬وهذه‬
‫معاملة ‪.‬‬
‫ك الشّريك المسلم في عمل‬
‫ول يبدو في كلم المالكيّة خلف عن هذا ‪ ،‬إلّ أنّهم قالوا ‪ :‬إذا ش ّ‬
‫شريكه الكافر بالرّبا استحبّ له التّصدّق بالرّبح ‪ ،‬وإذا شكّ في عمله بالخمر استحبّ له التّصدّق‬
‫بالجميع ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أن ل يشترط العمل على أحد الشّريكين ‪:‬‬
‫‪ -‬فلو شرط العمل على أحد المتفاوضين بطلت الشّركة عند الحنفيّة ‪ .‬لنّ هذا تصريح بما‬ ‫‪42‬‬

‫ينافي طبيعة المفاوضة من المساواة فيما يمكن الشتراك فيه من أصول التّصرّفات ‪.‬‬
‫وللمالكيّة شيء قريب من هذا ‪ ،‬إذ شرطوا ‪ -‬في شركة الموال مطلقا ‪ -‬أن يكون العمل بقدر‬
‫المالين ‪ ،‬أي عمل كلّ واحد من الشّريكين بقدر ماله ‪ :‬إن كان له النّصف في رأس المال فعليه‬
‫النّصف في العمل ‪ ،‬أو الثّلثان فعليه الثّلثان ‪ ،‬وهكذا بحيث إذا شرط خلف ذلك ‪ :‬كأن جعل ثلثا‬
‫العمل أو ثلثه على الشّريك بالنّصف ‪ ،‬كانت الشّركة فاسدةً ‪ ،‬والرّبح على قدر المالين ‪ ،‬ويرجع‬
‫كلّ من الشّريكين على الخر بما يستحقّه عنده من أجرة ‪ .‬أمّا إذا وقعت الزّيادة في العمل تبرّعا‬
‫من أحد الشّريكين دون أن تكون مشروطةً عليه ‪ ،‬فل بأس ‪ ،‬إذ ذلك تفضّل منه وإحسان ‪.‬‬
‫شروط خاصّة بشركة الموال مطلقا ‪:‬‬
‫أي سواء كانت شركة مفاوضة أم شركة عنان ‪:‬‬
‫الشّرط الوّل ‪:‬‬
‫أن يكون رأس المال عينا ‪ ،‬ل دينا ‪:‬‬
‫ن التّجارة الّتي بها يحصل مقصود الشّركة وهو الرّبح ‪ ،‬ل تكون بالدّين ‪ .‬فجعله رأس‬
‫‪-‬لّ‬ ‫‪43‬‬

‫مال الشّركة مناف لمقصودها ‪.‬‬


‫الشّرط الثّاني ‪:‬‬
‫أن يكون المال من الثمان ‪:‬‬
‫‪ -‬سواء أكان من النّقدين ‪ ،‬أعني الذّهب والفضّة المضروبين ‪ ،‬أم الفلوس النّافقة أم الذّهب‬ ‫‪44‬‬

‫والفضّة غير المضروبين ‪ .‬إذا جرى بها التّعامل وعلى هذا استق ّر الفقه الحنفيّ ‪.‬‬
‫والعروض كلّها ‪ -‬وهي ما عدا النّقدين من العيان ‪ -‬ل تصلح رأس مال شركة ول حصّة فيه‬
‫لشريك ‪ .‬ولو كانت مكيلً أو موزونا أو عدديّا متقاربا ‪ ،‬في ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة ‪ ،‬ومعه‬
‫أبو يوسف وبعض الحنابلة ‪.‬‬
‫وذهب محمّد وجماهير الشّافعيّة إلى التّفرقة بين نوعين من العروض ‪:‬‬
‫النّوع الوّل ‪ :‬المكيل والموزون والعدديّ المتقارب ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬سائر العروض ‪.‬‬
‫ي والمتقوّم ‪ ،‬فمنعوا انعقاد الشّركة في النّوع الثّاني بإطلق ‪،‬‬
‫وبعبارة أخرى ‪ :‬فرّقوا بين المثل ّ‬
‫وأجازوها في النّوع الوّل ‪ ،‬بعد الخلط مع اتّحاد الجنس ‪ ،‬ذهابا إلى أنّ هذا النّوع ليس من‬
‫العروض المحضة ‪ ،‬وإنّما هو عرض من وجه ‪ -‬لنّه يتعيّن بالتّعيين ‪ ،‬ثمن من وجه ‪ -‬لنّه‬
‫يصحّ الشّراء به دينا في ال ّذمّة ‪ ،‬شأن الثمان ‪ ،‬فناسب أن يعمل فيه بكل الشّبهين ‪ ،‬كلّ في‬
‫حال‪ ،‬فأعمل الشّبه بالعروض قبل الخلط ‪ ،‬ومنع انعقاد الشّركة فيه حينئذ ‪ ،‬والشّبه بالثمان‬
‫ن شركة الملك تتحقّق بالخلط ‪ ،‬فيعتضد بها جانب شركة‬
‫بعده ‪ ،‬فصحّحت إذ ذاك الشّركة فيه ‪ ،‬ل ّ‬
‫العقد ‪ ،‬وإنّما قصر التّصحيح على حالة اتّحاد الجنس ‪ ،‬لنّ الخلط بغير الجنس ‪ -‬كخلط القمح‬
‫بالشّعير ‪ ،‬والزّيت بالسّمن ‪ -‬يخرج المثليّ عن مثليّته ‪ ،‬وهذا يؤدّي إلى جهالة الصل والرّبح‬
‫والمنازعة عند القسمة ‪ ،‬لمكان الحاجة إلى تقويمه إذ ذاك لمعرفة مقداره والتّقويم حزر وتخمين‬
‫‪ ،‬ويختلف باختلف المقوّمين ‪ ،‬بخلف المثليّ فإنّه يحصل مثله ‪.‬‬
‫وذهب أكثر الحنابلة وبعض الشّافعيّة إلى اشتراط أن يكون رأس المال من النّقد المضروب ‪.‬‬
‫بأيّة سكّة ‪ ،‬ويصرّح ابن قدامة من الحنابلة بأن ل تسامح في شيء من الغشّ إلّ أن يكون في‬
‫حدود القدر الضّروريّ الّذي ل غنى لصناعة النّقد عنه ‪.‬‬
‫ضةً ‪.‬‬
‫ح الشّركة عندهم إذا أخرج كلّ واحد من الشّركاء ذهبا أو ف ّ‬
‫وأمّا المالكيّة ‪ :‬فتص ّ‬
‫ضةً وأخرج الثّاني مثل ذلك ‪.‬‬
‫كما تصحّ إذا أخرج أحدهما ذهبا وف ّ‬
‫وتصحّ أيضا عندهم بعين من جانب وعرض من الخر ‪ ،‬أو بعرض من كلّ منهما سواء اتّفقا في‬
‫الجنس أو اختلفا ‪.‬‬
‫ول تصحّ عندهم بذهب من أحد الجانبين وفضّة من الجانب الخر ‪ ،‬ولو عجّل كلّ منهما ما‬
‫أخرجه لصاحبه ‪ ،‬وذلك لجتماع شركة وصرف ‪ ،‬ول تصحّ بطعامين وإن اتّفقا في القدر‬
‫والصّفة‪ .‬وذهب ابن أبي ليلى إلى تصحيح الشّركة بالعروض مطلقا ‪ ،‬ويعتمد في القسمة قيمتها‬
‫عند العقد‪ .‬وهي رواية عن أحمد ‪ ،‬اعتمدها من أصحابه أبو بكر وأبو الخطّاب ‪ ،‬إذ ليس في‬
‫تصحيحها بالعروض على هذا النّحو إخلل بمقصود الشّركة ‪ ،‬فليس مقصودها إلّ جواز تصرّف‬
‫الشّريكين في المالين ‪ ،‬ثمّ اقتسام الرّبح ‪ ،‬وهذا كما يكون بالثمان ‪ ،‬يكون بغيرها ‪.‬‬
‫واستأنسوا لذلك باعتبار قيمة عروض التّجارة عند تقدير نصاب زكاتها ‪.‬‬
‫الشّرط الثّالث ‪:‬‬
‫أن يكون رأس المال حاضرا ‪:‬‬
‫ي ‪ :‬إنّما يشترط الحضور عند‬
‫‪ -‬اشترط الحنفيّة أن يكون رأس المال حاضرا ‪ ،‬قال الكاسان ّ‬ ‫‪45‬‬

‫ن هذا كاف في حصول المقصود ‪ ،‬وهو التّجار ابتغاء الرّبح ‪ ،‬ولذا فالّذي‬
‫الشّراء ل عند العقد ل ّ‬
‫يدفع ألفا إلى آخر ‪ ،‬على أن يضمّ إليها مثلها ‪ ،‬ويتّجر ويكون الرّبح بينهما ‪ ،‬يكون قد عاقده‬
‫عقد شركة صحيحة ‪ ،‬إذا فعل الخر ذلك ‪ ،‬وإن كان هذا الخر ل يستطيع إشراكه في الخسارة‬
‫إلّ إذا أقام البيّنة على أنّه فعل ما اتّفقا عليه ‪.‬‬
‫هكذا قرّره الكاسانيّ ‪ ،‬والكمال بن الهمام ‪ ،‬وجاراهما ابن عابدين وعبارة الهنديّة ‪ ،‬عن الخانيّة‬
‫وخزانة المفتين ‪ ،‬أنّ الشّرط هو أن يكون المال حاضرا عند العقد أو عند الشّراء ‪.‬‬
‫فل تصحّ الشّركة بمال غائب في الحالين ‪ :‬عند العقد وعند الشّراء ‪.‬‬
‫واشترط الحنابلة حضور المالين عند العقد قياسا لذلك على المضاربة ‪ ،‬ويرون أنّ حضور‬
‫المالين عند العقد هو الّذي يقرّر معنى الشّركة ‪ ،‬إذ يتيح الشّروع في تصريف أعمالها على‬
‫الفور ‪ ،‬ول يتراخى بمقصودها ‪ ،‬لكنّهم يقولون إذا عقدت الشّركة بمال غائب أو دين في ال ّذمّة ‪،‬‬
‫وأحضر المال وشرع الشّريكان في التّصرّف فيه تصرّف الشّركاء ‪ ،‬فإنّ الشّركة تنعقد بهذا‬
‫التّصرّف نفسه‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فقد فسّر الخرشيّ كلم خليل بما يفيد اشتراط حضور رأس المال ‪ ،‬أو ما هو بمثابة‬
‫حضوره ‪ ،‬إلّ أنّه قصر ذلك على رأس مال هو نقد ‪ :‬فذكر أنّه إذا غاب نقد أحد الشّريكين ‪ ،‬فإنّ‬
‫ح ‪ ،‬إلّ إن كانت غيبته قريب ًة ‪ ،‬ومع ذلك لم يقع التّفاق على البدء في أعمال‬
‫الشّركة ل تص ّ‬
‫التّجارة قبل حضوره ‪.‬‬
‫فإذا كانـت غيبتـه بعيدةً ‪ ،‬أو قريبةً واتّفـق على الشّروع فـي التّجارة قبـل حضوره ‪ ،‬أو غاب‬
‫فإنـ الشّركـة حينئذ ل تكون صـحيحةً ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النّقدان كلهمـا ‪ -‬نقدا الشّريكيـن ‪ -‬ولو غيبةً قريبةً ‪،‬‬
‫ومنهـم مـن ح ّد البعـد بمسـيرة أربعـة أيّام ‪ ،‬ومنهـم مـن حدّه بمسـيرة عشرة أيّام ‪ ،‬واسـتق ّر بـه‬
‫الخرشيّ ‪ .‬ولكنّ الخرشيّ أشار إلى تفسير آخر ‪ ،‬يجعل هذا الشّرط شرط لزوم ‪ ،‬ل شرط صحّة ‪.‬‬
‫الشّرط الرّابع ‪:‬الخلط ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يشترط الحنفيّة ول الحنابلة في شركة الموال خلط المالين ‪.‬‬ ‫‪46‬‬

‫أمّا المالكيّة ‪ ،‬فالصّواب أنّه عندهم ليس بشرط صحّة أصلً ‪ ،‬بل ول بشرط لزوم عند ابن القاسم‬
‫ومعه أكثرهم ‪ ،‬لنّ الشّركة تلزم عندهم ‪ -‬خلفا لبن رشد ‪ -‬بمجرّد العقد ‪ ،‬أي بمجرّد تمام‬
‫الصّيغة ‪ ،‬ولو بلفظ ‪ " :‬اشتركنا " أو ما يدلّ على هذا المعنى أيّة دللة ‪ :‬قول ّي ًة أو فعل ّيةً ‪ .‬وإنّما‬
‫هو شرط ضمان المال على الشّريكين ‪ :‬فما تلف قبله ‪ ،‬إنّما يتلف من ضمان صاحبه ‪ .‬والشّركة‬
‫ماضية في الباقي ‪ ،‬فما اشتري به فللشّركة وفق شروط عقدها ‪ ،‬إ ّل أن يكون صاحب المال‬
‫الباقي هو الّذي اشتراه بعد علمه بتلف مال شريكه ‪ ،‬ولم يرد شريكه مشاركته ‪ ،‬أو ادّعى هو‬
‫صةً ‪ ،‬على أنّ شرط الخلط عند المالكيّة خاصّ‬
‫أنّه إنّما اشتراه لنفسه ‪ ،‬فإنّه يكون لشاريه خا ّ‬
‫ن الخلط ‪ ،‬ليس حتما أن‬
‫بالمثليّات أمّا العروض القيميّة ‪ ،‬فل يتوقّف ضمانها على خلطها ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫يكون حقيقيّا بحيث ل يتميّز المالن ‪ ،‬فيما قرّره ابن القاسم ‪ ،‬وجرى عليه الكثرون ‪ ،‬بل يكفي‬
‫ي ‪ :‬بأن يجعل المالن في حوز شخص واحد ‪ ،‬أو في حوز الشّريكين معا ‪ ،‬كأن‬
‫الخلط الحكم ّ‬
‫يوضع المالن منفصلين في دكّان وبيد واحد من الشّريكين مفتاح له أو يوضع كلّ مال في‬
‫حافظة على حدة ‪ ،‬وتسلّم الحافظتان إلى أحد الشّريكين أو إلى صرّاف محلّهما أو أيّ أمين‬
‫يختارانه ‪ .‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬إذا لم يخلط المالن فل شركة ‪ .‬وكذلك إذا خلطا وبقيا متميّزين ‪،‬‬
‫لختلف الجنس كنقود بلدين بسكّتين أو نقود ذهبيّة وفضّيّة ‪ ،‬أو الوصف كنقود قديمة وجديدة‬
‫لنّ بقاء التّمايز يجعل الخلط كل خلط ‪ .‬وإذن يكون لكلّ واحد من والشّريكين ربح ماله‬
‫ووضيعته ‪ ،‬أي خسارته ‪ ،‬وإذا هلك أحد المالين قبل الخلط هلك من ضمان صاحبه فحسب ‪ ،‬ول‬
‫رجوع له على الخر بشيء ‪ ،‬وهم ل يعتدّون بالخلط بعد العقد ‪ ،‬وإن كان منهم من يتسامح إذا‬
‫وقع الخلط بعد العقد قبل انفضاض مجلسه ‪ :‬فيحتاج الشّريكان إلى تجديد الذن في التّصرّف بعد‬
‫ن المال يرثه اثنان أو يشتريانه أو يوهب لهما ‪ ،‬يكون‬
‫الخلط المتراخي ومن البيّن بنفسه أ ّ‬
‫بطبيعته مخلوطا أبلغ خلط ‪ ،‬ولو كان من العروض القيميّة ‪.‬‬
‫شروط خاصّة بشركة المفاوضة في الموال ‪:‬‬
‫وهي شروط إذا اختلّت كانت الشّركة عنانا ‪:‬‬
‫الشّرط الوّل ‪:‬‬
‫اشترط الحنفيّة المساواة في رأس المال ‪:‬‬
‫‪ -‬ويعتبر ابتداءً وانتهاءً فل بدّ من قيام المساواة ما دامت الشّركة في رأس المال قائمةً‬ ‫‪47‬‬

‫ن الشّركة عقد غير لزم ‪ ،‬لكلّ من الشّريكين‬


‫كألف دينار من هذا ‪ ،‬وألف دينار من ذاك ‪ ،‬ل ّ‬
‫فسخه متى شاء ‪ ،‬فصارت كالمتجدّدة كلّ ساعة ‪ ،‬والتحق استمرارها بابتدائها في اشتراط‬
‫المساواة بمقتضى اسمها " مفاوضة " فإذا اتّفق ‪ ،‬بعد عقد الشّركة على التّساوي ‪ ،‬أن ملك أحد‬
‫الشّريكين ‪ ،‬بإرث أو غيره ولو صدق ًة ‪ ،‬ما تصحّ فيه الشّركة ‪ -‬وهو الثمان ‪ -‬وقبضه ‪ ،‬فإنّ‬
‫المفاوضة تبطل ‪ ،‬وتنقلب عنانا لفوات المساواة ‪ .‬أمّا إذا ملك ما ل تصحّ فيه الشّركة كالعروض‬
‫ن هذا ل ينافي المساواة فيما يصلح رأس مال للشّركة ‪ ،‬فل‬
‫‪ ،‬عقار ّي ًة أو غيرها ‪ ،‬وكالدّيون فإ ّ‬
‫ينافي استمرار المفاوضة إلّ إذا قبض الدّيون أثمانا فحينئذ تحصل المنافاة وتبطل المفاوضة ‪.‬‬
‫وتتحوّل عنانا ‪.‬‬
‫ول يخلّ بهذه المساواة ‪ -‬في أشهر الرّوايتين عن أبي حنيفة ‪ -‬اختلف النّوع ‪ :‬كنقود ذهبيّة‬
‫لهذا وفضّيّة لذاك ‪ ،‬إذا استويا في القيمة ‪ ،‬فإذا زادت قيمة حصّة أحدهما خرجت الشّركة عن‬
‫المفاوضة إلى العنان ‪ ،‬إلّ أن تكون الزّيادة قد طرأت بعد الشّراء بالحصّتين ‪ ،‬أو إحداهما ‪.‬‬
‫لنّ الشّركة في الحالة الولى ‪ :‬قد انتقلت من رأس المال إلى ما اشتري به ‪ ،‬فلم يجتمع في‬
‫ن نصف‬
‫رأس المال شركة وتفاوت ‪ ،‬وفي الحالة الثّانية تكون الحصّة الباقية كأنّها بينهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫ق على صاحبها ‪ ،‬وقلّما يتّفق الشّراء بالحصّتين جميعا ‪ ،‬فاقتضى‬
‫ثمن ما اشتري مستح ّ‬
‫الستحسان ‪ ،‬تفاديا للحرج ‪ ،‬إلحاقها بالحالة الولى ‪ ،‬وإن كان القياس فساد المفاوضة فيها ‪.‬‬
‫أنـ المالكيّة والحنابلة ل يشترطون المسـاواة بيـن الشّريكيـن فـي رأس المال لصـحّة‬
‫وقـد تقدّم ّ‬
‫المفاوضة ‪.‬‬
‫الشّرط الثّاني ‪:‬‬
‫شمول رأس المال لكلّ ما يصلح له من مال الشّريكين ‪:‬‬
‫‪ -‬وقد تقدّم أنّ الثمان وحدها هي الصّالحة لذلك عند الحنفيّة ‪ ،‬إذا كانت عينا ل دينا ‪،‬‬ ‫‪48‬‬

‫حاضر ًة ل غائبةً ‪ -‬سواء أكانت أثمانا بأصل الخلقة أم بجريان التّعامل ‪.‬‬
‫فإذا كان لحد الشّريكين شيء من ذلك آثر بقاءه خارج رأس المال ‪ -‬ولو لم يكن بيده ‪ ،‬كأن‬
‫كان وديعةً عند غيره ‪ -‬فالشّركة عنان ‪ ،‬ل مفاوضة لعدم صدق اسمها إذ ذاك ‪.‬‬
‫ص أحد الشّريكين منه بما شاء لنّه ل‬
‫أمّا ما خرج عن هذا النّمط ‪ ،‬فل يضير المفاوضة أن يخت ّ‬
‫يقبل الشّركة ‪ ،‬فأشبه اختصاص أحدهما بزوجة أو أولد ‪ ،‬فليحتفظ لنفسه بما أحبّ من العروض‬
‫" بالمع نى الشّا مل للمثل يّ ‪ -‬على ما ف يه من نزاع محمّد ‪ -‬والعقار " ‪ ،‬أو الدّيون أو النّقود‬
‫الغائبـة ‪ -‬مـا دامـت كذلك ‪ -‬فإذا قبـض الدّيـن نقودا ‪ ،‬أو حضرت النّقود الغائبـة ‪ ،‬تحوّلت‬
‫المفاوضة إلى عنان ‪ ،‬لما تقدّم من اشتراط استمرار المساواة ‪.‬‬
‫الشّرط الثّالث ‪:‬‬
‫إطلق التّصرّف لكلّ شريك في جميع أنواع التّجارة ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو شرط عند الحنفيّة ‪ .‬فيتّجر كلّ شريك في أيّ نوع أراد ‪ ،‬قلّ أو كثر ‪ ،‬سهل أو عسر‪،‬‬ ‫‪49‬‬

‫أنـ الشّريكيـن تشارطـا على أن يتقيّدا همـا أو أحدهمـا ببعـض أنواع‬


‫رخـص أو غل ‪ .‬حتّى لو ّ‬
‫التّجارات ‪ -‬كأن ل يتّجرا في الحا صلت الزّراعيّة ‪ ،‬أو اللت الميكانيكيّة ‪ ،‬أو أن يتّ جر أحده ما‬
‫لنـ المفاوضـة‬
‫فـي هذه دون تلك ‪ ،‬والخـر بالعكـس ‪ -‬لم تكـن الشّركـة مفاوضةً ‪ ،‬بـل عنانا ‪ّ ،‬‬
‫تقتضي تفويض الرّأي في كلّ ما يصلح للتّجار فيه ‪ ،‬وعدم التّقييد بنوع دون نوع ‪ ،‬كما صرّح‬
‫به صاحب الهداية ‪.‬‬
‫ن المالكيّة ينوّعون‬
‫وشرط إطلق التّصرّف لكل الشّريكين غير مقرّر عند المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬ل ّ‬
‫المفاوضة إلى عامّة ‪ :‬لم تقيّد بنوع من أنواع المتاجر دون نوع ‪ ،‬وخاصّة ‪ :‬بخلفها ‪.‬‬
‫ل لجم يع‬
‫ك ما أ نّ الحنابلة يئول كلم هم إلى م ثل هذا ‪ ،‬لنّ هم ‪ -‬وإن كانوا يقرّون من ها نوعا شام ً‬
‫أنواع التّصـرّفات ‪ -‬فإنّهـم يقرّرون نوعا آخـر يمكـن أن يقيّد فيـه الشّركاء بعضهـم بعضا بقيود‬
‫بعينها ‪.‬‬
‫شروط خاصّة بشركة العمال ‪:‬‬
‫الشّرط الوّل ‪ :‬أن يكون محلّها عملً ‪:‬‬
‫ن العمل هو رأس المال في شركة العمال ‪ ،‬فإذا لم يكن من أحد الشّريكين عمل ‪ ،‬لم‬
‫‪-‬لّ‬ ‫‪50‬‬

‫ح الشّركة ‪ .‬ولكن يكفي لتحقّق هذا العمل أن يتعاقدا على التّقبّل ‪ :‬سواء أجعل التّقبّل لكليهما‬
‫تص ّ‬
‫أم لحدهما عمليّا ‪ ،‬وإن كان للخر أيضا نظريّا أي من حقّه ‪ -‬بمقتضى عقد الشّركة ‪ -‬أن يتقبّل‬
‫العمال المتّفق على تقبّل نوعها ‪ -‬إذ كلّ شريك بمقتضى عقد الشّركة وكيل عن شريكه في هذا‬
‫التّقبّل ‪ ،‬وإن لم يح سن الع مل المتقبّل ‪ -‬لكنّه ‪ ،‬ل مر ما ‪ ،‬ترك التّقبّل لشري كه ‪ ،‬فربّ ما كان ذلك‬
‫أجدى على الشّركة والشّريكين ‪ .‬حتّى لو أنّه شاء بعد هذا التّرك ‪ ،‬أن يمارس حقّه في التّقبّل ‪،‬‬
‫لم يكن لشريكه أن يمنعه ‪ ،‬فإذا تقبّل العمل أحد الشّريكين بعد قيام الشّركة وقام به وحده ‪ -‬كأن‬
‫تقبّل الثّوب للخيا طة ‪ ،‬وقط عه وخا طه ‪ -‬فال جر بي نه وب ين شري كه منا صفةً ‪ ،‬إن كا نت الشّر كة‬
‫مفاوضةً ‪ ،‬وعلى ما اتّف قا إن كا نت عنانا ‪ .‬ذلك أ نّ التّقبّل و قع عنه ما ‪ -‬إذ شطره عن الشّر يك‬
‫ال خر بطر يق الوكالة ‪ -‬و صار الع مل مضمونا عليه ما ب عد التّقبّل ‪ :‬فانفراد أحده ما به إعا نة‬
‫متبرّع بها بالنّسبة لما كان منه على شريكه ‪ ،‬والخراج بالضّمان ‪.‬‬
‫ومـن أمثلة الشّركـة الفاسـدة الّتـي خلت مـن عمـل أحـد الشّريكيـن ‪ :‬شركـة قصـارة يتّفـق فيهـا‬
‫الشّريكان أن يقدّم أحدهمـا آلة القصـارة ‪ ،‬ويقوم الخـر بالعمـل كلّه ‪ :‬تقبّلً وإنجازا ‪ ،‬ول شأن‬
‫للوّل ب عد ‪ ،‬إ ّل في اقت سام الرّ بح ‪ .‬ولف ساد هذه الشّر كة ‪ ،‬تكون الجرة للعا مل ‪ ،‬لنّ ها ا ستحقّت‬
‫بعمله ‪ ،‬وعليه لصاحب اللة أجرة مثل آلته ‪.‬‬
‫وقد نصّ الحنفيّة على فساد هذه الصّورة مع تصريحهم ‪ -‬كالحنابلة ‪ -‬بصحّة شركة القصارة ‪-‬‬
‫وغيرها من سائر ال صّناعات ‪ -‬على أن يعمل الشّريكان بآلة أحدهما ‪ ،‬في بيت الخر ‪ ،‬وتكون‬
‫الجرة بينهما ‪ ،‬لنّها بدل عن العمل ‪ ،‬ل عن آلته ومكانه ‪ ،‬وكلّ ما في المر ‪ ،‬أ نّ أحدهما أعان‬
‫متبرّعا بنصف اللة ‪ ،‬وأعان الخر بنصف المكان ‪ ،‬نعم إن فسدت الشّركة قسم ما حصل لهما‬
‫على قدر أجر عملهما ‪ ،‬وأجر الدّار واللة ونحوهما ممّا قدّمه كلّ شريك ‪ ،‬ن صّ عليه الحنابلة ‪.‬‬
‫‪ -‬وكون الشّريك في شركة العمال ‪ ،‬يستحقّ ح صّته في الرّبح ‪ ،‬ولو لم يعمل ‪ ،‬هو مبدأ‬ ‫‪51‬‬

‫مقرّر أيضا عند الحنابلة ‪.‬‬


‫ن منهم ‪ -‬كابن قدامة ‪ -‬من يبدي احتمال أن يحرم من ح صّته في الرّبح من يترك العمل‬
‫على أ ّ‬
‫بل عذر ‪ ،‬لخلله بما شرط على نفسه ‪.‬‬
‫ن الشّريك يخت صّ بما يتقبّله‬
‫وممّا قرّره المالكيّة ‪ -‬وإن لم يصرّحوا بأ نّ فيه فسخا للشّركة ‪ -‬أ ّ‬
‫من أعمال الشّركة ‪ -‬بعد طول مرض شريكه ‪ ،‬أو طول غيبته ‪ -‬ضمانا ‪ ،‬وعملً ‪ ،‬وأجرة عمل‬
‫‪ .‬بخلف ما تقبّله في حضوره صحيحا أو بعد غيبته أو مرضه لفترة وجيزة ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا اللة ‪ ،‬فإ نّ المالكيّة يعتبرونها متمّمةً للعمل ‪ .‬فل بدّ أن تكون مساويةً لح صّة الشّريك‬ ‫‪52‬‬

‫في العمل ‪ :‬بحيث ل يجوز أن يشرط عليه تقديم ثلثي اللة على حين أ نّ ح صّته في العمل هي‬
‫ن ذلك يف سد الشّركة‬
‫الثّلث أو النّ صف ‪ ،‬دون أن يح سب ح ساب هذه الزّيادة في صلب العقد ‪ ،‬فإ ّ‬
‫للتّفاوت ب ين الرّ بح والع مل نظرا إلى تكملة العتباريّة ‪ ،‬وإن كان يم كن التّجاوز عن فرق ي سير‬
‫يتبرّع به في العقد ‪ ،‬أمّا التّبرّع بعد العقد ‪ ،‬فل ح ّد له ‪ .‬فكيف إذا قدّم أحد الشّريكين آلة العمل‬
‫كلّ ها مجّانا في الع قد ؟ على أ نّ غ ير سحنون و صحبه – من المالكيّة – ل يكتفون بهذا ‪ .‬بل‬
‫يشترطون أن تكون اللة بيـن الشّريكيـن شركـة ملك – إمّا ملك ع ين ‪ ،‬أو ملك منفعـة ‪ ،‬أو ملك‬
‫صةً‬
‫عين من جا نب وملك منفعة من ال خر – كما إذا كانت ملكا لحدهما ولكنّه أجّر لشريكه ح ّ‬
‫ص ‪ ،‬إلّ أنّه ما تكار يا‬
‫من ها ت ساوي ح صّته في الع مل ‪ ،‬أو كا نت لكلّ منه ما آلة هي ملك له خا ّ‬
‫ن ابن القاسم ليحتّم أن يكونا في ضمان‬
‫بعض هذه ببعض تلك في حدود النّسبة المطلوبة ‪ .‬بل إ ّ‬
‫اللة سواءً ‪ ،‬فل يسوغ أن تكون بينهما بملك رقبة لحدهما ‪ ،‬وملك منفعة للخر ‪.‬‬
‫وأكثر الحنابلة يوافقون على الحكم بالفساد في حالة اشتراط العمل على واحد منهم بعينه ‪ .‬لكن‬
‫ص أح مد والوزاع يّ في من د فع دابّ ته إلى آ خر‬
‫صحّة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّه قياس ن ّ‬
‫اختار ا بن قدا مة ال ّ‬
‫ليعمل عليها والكسب بينهما ‪ .‬وجرى عليه ابن تيميّة ‪.‬‬
‫والشّافعيّة يطلقون القول بالفساد ‪ :‬سواء اشترط العمل على الجميع أم على بعض دون بعض ‪،‬‬
‫لنّ هذه أموال متمايزة فل يمكن أن تجمعها شركة صحيحة ‪ .‬فتطبّق أحكام الشّركة الفاسدة ‪.‬‬
‫الشّرط الثّاني ‪:‬‬
‫أن يكون العمل المشترك فيه يمكن استحقاقه بعقد الجارة ‪:‬‬
‫‪ -‬كالنّساجة والصّباغة والخياطة وكالصّياغة والحدادة والنّجارة ‪ ،‬وكتعليم الكتابة أو الحساب‬ ‫‪53‬‬

‫أو الطّ بّ أو الهند سة أو العلوم الدبيّة ‪ -‬وكذلك ‪ ،‬على ما أف تى به المتأخّرون ا ستحسانا تعل يم‬
‫القرآن والفقه والحديث وسائر العلوم الشّرعيّة ‪ -‬وإن كان الصل فيها عدم صحّة الجارة عليها‬
‫كسائر القرب ‪.‬‬
‫أمّا ما ل ي ستحقّ بع قد الجارة ‪ ،‬فل ت صحّ ف يه شر كة العمال ‪ .‬وهذا ينت ظم جم يع المحظورات‬
‫الشّرعيّة ‪ :‬كالنّياحة على الموتى ‪ ،‬والغاني الخليعة وقراءة القرآن بالنغام المخلّة بصحّة الداء‬
‫ل تضيع العلوم الشّرعيّة ‪،‬‬
‫‪ -‬كما ينتظم جميع القرب ‪ -‬عدا ما استثناه المتأخّرون للضّرورة ‪ ،‬لئ ّ‬
‫أو تتعطّل الشّعائر الدّينيّة ‪ :‬كالمامة والذان وتعليم القرآن ‪ .‬فل يصحّ التّعاقد على إنشاء شركة‬
‫ن الشّهادة من محظورات‬
‫ح شركة الشّهود ‪ ،‬ل ّ‬
‫وعّاظ تعظ النّاس وتذكّرهم بالجرة ‪ ،‬وكذلك ل تص ّ‬
‫الشّرع إن كانـت زورا ‪ ،‬ومـن القربات أو الفرائض إن كانـت حقّا ‪ ،‬سـواء فـي ذلك التّحمّـل‬
‫والداء ‪ ،‬على ما هو مفصّل في موضعه ‪.‬‬
‫شرط خاصّ بشركة الوجوه ‪:‬‬
‫‪ -‬اشترط الحنفيّة وكذلك القاضي وابن عقيل من الحنابلة ‪ :‬أن يكون الرّبح بين الشّريكين‬ ‫‪54‬‬

‫بنسبة ضمانهما الثّمن ‪ ،‬وضمانهما الثّمن ‪ :‬إنّما هو بنسبة حصصهما فيما يشتريانه معا ‪ ،‬أو كلّ‬
‫على انفراد ‪ .‬ومقدار هذه الحصص يتبع الشّرط الّذي وقع التّشارط عليه عند عقد الشّركة ‪.‬‬
‫فمن الجائز المشروع أن يتعاقدا في شركة الوجوه على أن يكون كلّ ما يشتريانه أو يشتريه‬
‫أحدهما بينهما مناصفةً ‪ ،‬أو على التّفاوت المعلوم أيّما كان ‪ ،‬كأن يكون لحدهما الثّلث أو‬
‫الرّبع ‪ ،‬أو أكثر من ذلك أو أقلّ ‪ ،‬وللخر الثّلثان أو الثّلثة الرباع إلخ ‪ .‬وإذ كان معلوما أنّ‬
‫شركة المفاوضة ل تكون إلّ على التّساوي في الرّبح عند الحنفيّة ‪ ،‬فإنّه يجب هنا أن تكون على‬
‫التّساوي في حصص المشتري وثمنه أيضا ‪.‬‬
‫فإذا شرط لحد الشّريكين في الرّبح أكثر أو أقلّ ممّا عليه من الضّمان فهو شرط باطل ل أثر‬
‫له ‪ ،‬ويظلّ الرّبح بينهما بنسبة ضمانهما ‪ ،‬لنّه ل يوجد في هذه الشّركة سبب لستحقاق الرّبح‬
‫ق بالمال أو العمل أو الضّمان ‪ ،‬كما‬
‫سوى الضّمان ‪ ،‬فيتقدّر بقدره ‪ .‬ذلك أنّ الرّبح إنّما يستح ّ‬
‫سيجيء في الحكام ‪ ،‬ول مال هنا ول عمل ‪ ،‬فيتعيّن أن يكون الرّبح بسبب الضّمان ‪ ،‬وإذن‬
‫تكون قسمته بحسبه ‪ .‬لئلّ يلزم ربح ما لم يضمن ‪.‬‬
‫لنـ‬
‫أنـ الرّبـح فـي شركـة الوجوه يكون على حسـب مـا اتّفقـا عليـه ‪ّ ،‬‬
‫والمذهـب عنـد الحنابلة ّ‬
‫ـا يتفاوت كمّا ‪ ،‬ويختلف‬
‫ـل يتفاوت كيفا ‪ ،‬كمـ‬
‫ـة وجوه يتّجران ‪ ،‬والتّجارة عمـ‬
‫ـن شركـ‬
‫الشّريكيـ‬
‫باختلف القائميـن بـه نشاطا وخـبرةً ‪ -‬فالعدالة أن تترك الحرّيّـة للمتعاقديـن ليقدّرا كلّ حالة‬
‫بحسبها‪ -‬حتّى إذا اقتضت التّفاوت في الرّبح ‪ ،‬لم يكن عليهما من حرج في التّشارط عليه وفق‬
‫ما يريان ‪ .‬نظيره ‪ ،‬لنفس هذا المدرك ‪ ،‬شركات العنان الخرى ‪ ،‬والمضاربة ‪ ،‬إذ يكفي فيهما أن‬
‫يكون الرّبح بين مستحقّيه بنسبة معلومة ‪ ،‬على التّساوي أو التّفاوت ‪ ،‬بالغا ما بلغ هذا التّفاوت‬
‫‪.‬‬
‫أحكام الشّركة والثار المترتّبة عليها ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬أحكام عامّة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الشتراك في الصل والغلّة ‪:‬‬
‫‪ -‬حكم شركة العقد صيرورة المعقود عليه ‪ ،‬وما يستفاد به مشتركا بينهما ‪ -‬أي العاقدين‪.-‬‬ ‫‪55‬‬

‫ب ‪ -‬عدم لزوم العقد ‪:‬‬


‫‪ -‬وهذا متّفق عليه عند غير المالكيّة ‪ .‬فلكلّ واحد من الشّريكين أن يستقلّ بفسخ الشّركة ‪،‬‬ ‫‪56‬‬

‫رضي الخر أم أبى ‪ ،‬حضر أم غاب ‪ ،‬كان نقودا أم عروضا ‪.‬‬


‫لكنّ الفسخ ل ينفد عند الحنفيّة إلّ من حين علم الخر به ‪ ،‬لما فيه من عزله عمّا كان له من‬
‫التّصرّفات بمقتضى عقد الشّركة ‪ ،‬وهو عزل قصديّ آثره الفاسخ باختياره ‪ ،‬فل يسلّط على‬
‫الضرار بغيره ‪.‬‬
‫أمّا الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬فلم يشترطوا علم الشّريك بالفسخ ‪ ،‬كما في عزل الوكيل ‪.‬‬
‫نعم شرط الطّحاويّ ‪ ،‬وأيّده الزّيلعيّ من الحنفيّة ‪ -‬ومعهما ابن رشد المالكيّ وحفيده وبعض‬
‫ن هذا‬
‫الحنابلة ‪ -‬أن يكون المال ناضّا ل عروضا ‪ ،‬وإلّ فالشّركة باقية ‪ ،‬والفسخ لغ ‪ .‬إلّ أ ّ‬
‫البعض من الحنابلة ل يلغون الفسخ ‪ ،‬وإنّما يوقفونه إلى النّضوض ‪ ،‬فيظلّ لكلّ من الشّريكين‬
‫عندهم التّصرّف في مال الشّركة من أجل نضوضه ‪ ،‬حتّى يتمّ ‪ ،‬وليس لهما أي تصرّف آخر ‪،‬‬
‫كالرّهن أو الحوالة أو البيع بغير النّقد الّذي ينضّ به المال ‪.‬‬
‫ويعدّ من قبيل الفسخ ‪ ،‬أن يقول الشّريك لشريكه ‪ :‬ل أعمل معك في الشّركة ‪ .‬فإذا تصرّف الخر‬
‫في مال الشّركة بعد هذا ‪ ،‬فهو ضامن لحصّة شريكه في هذا المال عند الفسخ ‪ :‬مثلً في‬
‫المثليّ ‪ ،‬وقيم ًة في المتقوّم ‪.‬‬
‫‪ -‬وبناءً على عدم اشتراط النّضوض ‪ ،‬إذا اتّفق أن كان المال عروضا عندما انتهت الشّركة‪،‬‬ ‫‪57‬‬

‫ن للشّريكين أن يفعل ما يريانه ‪ :‬من قسمته ‪ ،‬أو بيعه وقسمة ثمنه ‪ .‬فإن اختلفا ‪ ،‬فأراد‬
‫فإ ّ‬
‫أحدهما القسمة ‪ ،‬وآثر الخر البيع ‪ ،‬أجيب طالب القسمة ‪ ،‬لنّها تحقّق لكلّ منهما ما يستحقّه‬
‫أصلً وربحا ‪ ،‬دون حاجة إلى تكلّف مزيد من التّصرّفات ‪ .‬ومن هنا يفارق الشّريك المضارب ‪،‬‬
‫إذ المضارب إنّما يظهر حقّه بالبيع ‪ .‬فإذا طلبه أجيب إليه ‪ .‬هكذا قرّره الحنابلة ‪.‬‬
‫ن عقد الشّركة عقد لزم ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ -‬عدا ابن رشد وحفيده ومن تابعهما ‪ -‬فعندهم أ ّ‬
‫ض المال ‪ ،‬أو يتمّ العمل الّذي تقبّل ‪ ،‬وقد استظهر بعض الحنابلة‬
‫ويستمرّ هذا اللّزوم إلى أن ين ّ‬
‫القول عندهم أيضا بلزوم شركة العمال بعد التّقبّل ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬يد الشّريك يد أمانة ‪:‬‬
‫ن يد الشّريك يد أمانة بالنّسبة لمال الشّركة ‪ ،‬أيّا كان نوعها ‪.‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪58‬‬

‫لنّه كالوديعة مال مقبوض بإذن مالكه ‪ ،‬ل ليستوفي بدله ‪ ،‬ول يستوثق به ‪.‬‬
‫والقاعدة في المانات أنّها ل تضمن إلّ بالتّعدّي أو التّقصير ‪ ،‬وإذن فما لم يتعدّ الشّريك أو‬
‫يقصّر‪ ،‬فإنّه ل يضمن حصّة شريكه ‪ ،‬ولو ضاع مال الشّركة أو تلف ‪.‬‬
‫ويصدّق بيمينه في مقدار الرّبح والخسارة ‪ ،‬وضياع المال أو تلفه كلً أو بعضا ‪ ،‬ودعوى دفعه‬
‫إلى شريكه ‪.‬‬
‫م ‪ -‬ومن النّتائج المترتّبة على أمانة الشّريك ‪ ،‬وقبول قوله بيمينه في مقدار الرّبح والخسارة‬ ‫‪58‬‬

‫‪ ،‬والذّاهب والمتبقّي ‪ ،‬أنّه ‪ -‬كسائر المناء ‪ ،‬مثل الوصيّ وناظر الوقف ‪ -‬ل يلزمه أن يقدّم‬
‫حسابا مفصّلً ‪ .‬فحسبه أن يقول على الجمال ‪ :‬لم يبق عندي من رأس مال الشّركة إلّ كذا‪ ،‬أو‬
‫تجشّمت من الخسارة كذا ‪ ،‬أو لم أصب من الرّبح إلّ كذا ‪ .‬فإن قبل منه فذاك ‪ ،‬وإلّ حلف ‪ ،‬ول‬
‫مزيد ‪.‬‬
‫هكذا أفتى قارئ الهداية ‪ ،‬وأطلق الفتوى ولكنّهم قيّدوها من النّاحية القضائيّة بما إذا كان المين‬
‫معروفا بالمانة في واقع المر ‪ ،‬وإلّ فإنّه يطالب بالتّفصيل ويهدّده القاضي إن لم يفعل ‪ .‬بيد أنّه‬
‫إن أص ّر على الجمال فل سبيل عليه وراء يمينه ‪.‬‬
‫ن الشّريك إذا ادّعيت عليه خيانة فالصل عدمها ‪.‬‬
‫وهكذا يقول الشّافعيّة ‪ ،‬إذ ينصّون على أ ّ‬
‫ومن التّعدّي ‪ :‬مخالفة نهي شريكه ‪ ،‬فإنّ كلّ ما للشّريك فعله من كيفيّات التّصرّف إذا نهاه عنه‬
‫شريكه امتنع عليه ‪ ،‬فإذا خالفه ضمن حصّة شريكه ‪ ،‬كما لو قال له ‪ :‬ل تركب البحر بمال‬
‫التّجارة ‪ ،‬فركب ‪ ،‬أو ل تبع إلّ نقدا ‪ ،‬فباع نسيئةً ‪.‬‬
‫وهذا هو الّذي قرّره الحنابلة ‪ :‬إذ يقولون ‪ :‬إن لم يكن للشّريك بيع النّسيئة فباعه ‪ ،‬كان البيع‬
‫ي موقوف ‪ ،‬فيكون موقوفا ‪ ،‬وإن‬
‫باطلً ‪ ،‬لنّه وقع بل إذن ‪ -‬إلّ إذا جرينا على أنّ بيع الفضول ّ‬
‫صحّة مع الضّمان ‪ -‬إلّ أنّه ضمان الثّمن ‪ ،‬بخلفه في قول‬
‫ي ‪ -‬منهم ال ّ‬
‫كان ظاهر كلم الخرق ّ‬
‫البطلن ‪ ،‬فإنّه ضمان القيمة ‪ ،‬ويحتمل أن يكون الضّمان هو ضمان القيمة على كلّ حال ‪ ،‬لنّه‬
‫لم يفت من المال سواها ‪.‬‬
‫ومن التّعدّي أن يحمل نصيب شريكه حتّى يموت ‪ ،‬فإن مات دون أن يبيّن حال نصيب شريكه ‪:‬‬
‫هل استوفاه شريكه ‪ ،‬أو ضاع ‪ ،‬أو تلف بتعدّ ‪ ،‬أو بدونه ‪ ،‬أم ل ؟ وهل هو عين عنده أم عند‬
‫غيره أم ديون على النّاس ؟ فإنّه إذن يكون مضمونا عليه في مال تركته ‪ ،‬إلّ إذا عرفه‬
‫الوارث ‪ ،‬وبرهن على معرفته إيّاه ‪ ،‬وبيّن بما ينفي ضمانه ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬أن ل يبيّن حال المانة ‪ ،‬وكان‬
‫وهذا هو مفاد قول ابن نجيم في الشباه ‪ :‬ومعنى موته مجهّ ً‬
‫يعلم أنّ وارثه ل يعلمها ‪.‬‬
‫وقد عبّر الشّافعيّة والحنابلة عن التّجهيل المذكور بترك اليصاء ‪ .‬لكنّهم فيه أشدّ من الحنفيّة ‪:‬‬
‫إذ ل يعفي الشّريك من الضّمان عندهم أن يوصي إلى وارثه بما لديه لشريكه ‪ ،‬بل ل ب ّد أن‬
‫تكون الوصيّة إلى القاضي ‪ ،‬فإن لم يكن فإلى أمين مع الشهاد عليها ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فكالحنفيّة إلّ أنّهم يسقطون الضّمان بمضيّ عشر سنين ‪ ،‬ويقولون يحمل على أنّه‬
‫ر ّد المال ‪ ،‬إذا كان أخذه بدون بيّنة توثيق ‪.‬‬
‫د ‪ -‬استحقاق الرّبح ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يستحقّ الرّبح إلّ بالمال أو العمل أو الضّمان ‪ ،‬فهو يستحقّ بالمال ‪ ،‬لنّه نماؤه فيكون‬ ‫‪59‬‬

‫لمالكه ‪ .‬ومن هنا استحقّه ربّ المال في ربح المضاربة ‪.‬‬


‫ق بالعمل حين يكون العمل سببه ‪ :‬كنصيب المضارب في ربح المضاربة ‪ ،‬اعتبارا‬
‫وهو يستح ّ‬
‫بالجارة ‪.‬‬
‫ويستحقّ بالضّمان كما في شركة الوجوه ‪.‬‬
‫لقوله صلوات اللّه وسلمه عليه ‪ » :‬الخراج بالضّمان « أو ‪ »:‬الغلّة بالضّمان « أي من ضمن‬
‫شيئا فله غلّته ‪ .‬ولذا ساغ للشّخص أن يتقبّل العمل من العمال كخياطة ثوب ‪ -‬ويتعهّد بإنجازه‬
‫لقاء أجر معلوم ثمّ يتّفق مع آخر على القيام بهذا العمل بأجر أق ّل من الجر الوّل ‪ ،‬ويربح هو‬
‫فرق ما بينهما حل ًل طيّبا ‪ -‬لمجرّد أنّه ضمن العمل ‪ ،‬دون أن يقوم به ‪ :‬وعسى أن ل يكون له‬
‫ل‪.‬‬
‫مال أص ً‬
‫فإذا لم يوجد أحد هذه السباب الثّلثة ‪ ،‬الّتي ل يستحقّ الرّبح إلّ بواحد منها ‪ ،‬لم يكن ثمّ سبيل‬
‫إليه ‪ .‬ولذا ل يستقيم أن يقول شخص لخر ‪ :‬تصرّف في مالك على أن يكون الرّبح لي ‪ ،‬أو‬
‫على أن يكون الرّبح بيننا ‪ ،‬فإن هذا عبث من العبث عند جميع أهل الفقه ‪ ،‬والرّبح كلّه لربّ‬
‫المال دون مزاحم ‪.‬‬
‫‪ -‬وفي شركتي الموال ‪ -‬المفاوضة والعنان ‪ -‬مال وعمل عادةً ‪.‬‬ ‫‪60‬‬

‫والرّبح في شركة المفاوضة دائما على التّساوي كما علمناه ‪ .‬أمّا في شركة العنان ‪ :‬فالرّبح‬
‫بحسب المالين ‪ ،‬إذا رأى الشّريكان إغفال النّظر إلى العمل ‪ ،‬ولهما أن يجعل لشرط العمل قسطا‬
‫من الرّبح يستأثر به ‪ -‬زائدا عمّا يستحقّه في الرّبح بمقتضى حصّته في رأس المال ‪ -‬من شرط‬
‫عليه أن يعمل في الشّركة ‪ ،‬لئلّ يكون قد استحقّه بل مال ول عمل ول ضمان ‪ ،‬سواء أشرط‬
‫ن المناط هو‬
‫على شريكه أن يعمل أيضا أم ل ‪ ،‬وسواء عمل هو بمقتضى الشّرط أم ل ‪ ،‬ل ّ‬
‫اشتراط العمل ‪ ،‬ل وجوده ‪.‬‬
‫ومن هنا كان سائغا في شركة العنان أن يتساوى المالن ويتفاضل الشّريكان في الرّبح ‪ ،‬وأن‬
‫يتفاضل المالن ويتساوى الرّبحان ‪ ،‬على نحو ما وضعنا ل بإطلق ‪ ،‬ول حين ل يتعرّض لشرط‬
‫العمل ‪ ،‬وإلّ فالشّرط باطل ‪ ،‬والرّبح بحسب المالين ‪.‬‬
‫أمّا الخسارة فهي أبدا بقدر المالين لنّها جزء ذاهب من المال ‪ ،‬فيتقدّر بقدره ‪.‬‬
‫وقال صاحب النّهر من الحنفيّة ‪ " :‬اعلم أنّهما إذا شرطا العمل عليهما ‪ :‬إن تساويا ما ًل وتفاوتا‬
‫ربحا ‪ ،‬جاز عند علمائنا الثّلثة ‪ ،‬خلفا لزفر ‪ ،‬والرّبح بينهما على ما شرطا ‪ ،‬وإن عمل أحدهما‬
‫فقط ‪ .‬وإن شرطاه على أحدهما ‪ :‬فإن شرطا الرّبح بينهما بقدر رأس مالهما جاز ‪ ،‬ويكون مال‬
‫الّذي ل عمل له بضاعة عند العامل ‪ ،‬له ربحه وعليه وضيعته ‪ ،‬وإن شرطا الرّبح للعامل ‪ -‬أكثر‬
‫من رأس ماله ‪ -‬جاز أيضا على الشّرط ‪ .‬ويكون مال الدّافع عند العامل مضاربةً ‪ ،‬ولو شرطا‬
‫الرّبح للدّافع ‪ -‬أكثر من رأس ماله ‪ -‬ل يصحّ الشّرط ‪ ،‬ويكون مال الدّافع عند العامل بضاعةً ‪:‬‬
‫لكلّ واحد منهما ربح ماله والوضيعة بينهما على قدر رأس مالهما أبدا " ‪.‬‬
‫‪ -‬وقاعدة الرّبح عند المالكيّة والشّافعيّة أنّه ‪ -‬كالخسارة ‪ -‬ل بدّ أن يكون بقدر المالين ‪ ،‬فلو‬ ‫‪61‬‬

‫وقع التّشارط على خلف ذلك كان العقد نفسه باطلً ‪.‬‬
‫أمّا عند الحنابلة ‪ :‬فالرّبح بقدر المالين ما لم يشترط خلفه ‪ ،‬فيعمل بمقتضى الشّرط ‪.‬‬
‫وتفرّد بعض متأخّري الحنابلة بموافقة الحنفيّة تمام الموافقة ‪ :‬فالرّبح عندهم بقدر المالين إلّ أن‬
‫تشترط الزّيادة لعامل فيصحّ الشّرط حينئذ ‪.‬‬
‫ويضيف المالكيّة اشتراط أن يكون العمل أيضا بقدر المالين ‪ .‬وإلّ فسدت الشّركة ‪ :‬كما لو كانت‬
‫حصّة أحدهما في رأس المال مائةً ‪ ،‬وحصّة الخر مائتين ‪ ،‬وتعاقدا على التّساوي في العمل ‪.‬‬
‫فإن وضعا هذه الشّركة موضع التّنفيذ ‪ ،‬استحقّ الشّريك بالثّلث الرّجوع على الخر بسدس‬
‫صحّة يجوز للشّريك أن يتبرّع بشيء من‬
‫عمله‪ ،‬أي بأجرة مثل ذلك ‪ .‬نعم بعد تمام العقد على ال ّ‬
‫العمل ‪ ،‬أو بالعمل كلّه ‪.‬‬
‫ح أن يكون من واحد‬
‫ن العمل في شركة العنان يص ّ‬
‫أمّا في المذاهب الخرى ‪ ،‬فهم مصرّحون بأ ّ‬
‫‪-‬على معنى أن يأذن أحد الشّريكين للخر في التّصرّف ‪ ،‬دون العكس ‪ -‬فيتصرّف المأذون في‬
‫ح أن يشترط عليه‬
‫جميع مال الشّركة ‪ ،‬ول يتصرّف الذن إلّ في مال نفسه ‪ -‬إن شاء ‪ -‬ول يص ّ‬
‫عدم التّصرّف في مال نفسه ‪ ،‬بل إنّ هذا الشّرط ليبطل العقد نفسه ‪ -‬لما فيه من الحجر على‬
‫المالك في ملكه ‪ -‬أمّا أن يتعهّد هو بأن ل يعمل ويشرط ذلك على نفسه فالحنابلة يصحّحون‬
‫اشتراط أن يكون العمل مقصورا على أحدهما ‪ :‬ثمّ إن جعلت له لقاء عمله زيادة في الرّبح عمّا‬
‫يستحقّه بحصّته في المال ‪ ،‬فإنّها تكون شركة عنان ومضاربة ‪ ،‬وإن جعل الرّبح بقدر المالين ‪،‬‬
‫دون زيادة ‪ ،‬لم تكن شركةً ‪ ،‬بل تكون إبضاعا ‪ ،‬وإن جعلت الزّيادة لغير العامل ‪ ،‬بطل الشّرط في‬
‫الصحّ ‪ ،‬أي وكانت إبضاعا أيضا ‪ ،‬كما هو قضيّة كلمهم إلّ أنّ في كلم ابن قدامة التّصريح‬
‫ن شركة العنان تقتضي الشتراك في العمل ‪.‬‬
‫بأ ّ‬
‫أحكام مشتركة بين المفاوضة والعنان ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّولً ‪ :‬صحّتهما مع اختلف جنس رأس المال ووصفه ‪:‬‬ ‫‪62‬‬

‫ومتى اتّفق في تقدير بعض أهل الخبرة تساوي المالين ‪ ،‬فهذا كاف لتتحقّق الشّريطة المطلوبة ‪.‬‬
‫ول يشترط الحنفيّة في المفاوضة ول في العنان اتّحاد جنس رأس المال ول وصفه ‪ .‬فتصحّان‬
‫مع اختلف جنس المالين ‪ -‬سواء قدّرا على التّساوي أم على التّفاوت ‪ ،‬مهما تكن درجة هذا‬
‫التّفاوت‪ ،‬أم لم يقدّرا عند العقد ‪ ،‬وتصحّ بخلف الجنس ‪ :‬كدنانير من أحدهما ‪ ،‬ودراهم من‬
‫الخر‪ ،‬وبخلف الوصف ‪ :‬كبيض وسود ‪ -‬وإن تفاوتت قيمتها ‪.‬‬
‫ص ًة ‪ ،‬وهذا عند جماهيرهم‬
‫وصرّح المالكيّة باشتراط اتّحاد الجنس دون الوصف ‪ ،‬في النّقود خا ّ‬
‫خلفا لشهب وسحنون ‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬صحّتهما مع عدم خلط المالين ‪:‬‬ ‫‪63‬‬

‫وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة خلفا للشّافعيّة كما تقدّم ‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ :‬صحّتهما مع عدم تسليم المالين ‪:‬‬ ‫‪64‬‬

‫ل يشترط لصحّة المفاوضة أو العنان ‪ ،‬أن يخلّي كلّ شريك بين ماله وشريكه ‪ ،‬بخلف‬
‫المضاربة‪ ،‬إذ تتوقّف صحّتها على تسليم المال إلى المضارب كما سيجيء ‪.‬‬
‫‪ -‬رابعا ‪ :‬لكلّ من الشّريكين أن يبيع نقدا ونسيئةً ‪:‬‬ ‫‪65‬‬

‫لكلّ من الشّريكين أن يبيع ويشتري مساومةً ومرابحةً وتولي ًة ومواضعةً ‪ ،‬وكيف رأى المصلحة‬
‫لنّ هذا عادة ال ّتجّار ‪ ،‬وله أن يقبض المبيع والثّمن ويقبضهما ويخاصم بالدّين ويطالب به‬
‫ويحيله ويحتال ويردّ بالعيب فيما وليه هو ‪ ،‬وفيما ولي صاحبه ‪ ،‬وأمّا البيع نسيئةً فقد ذهب‬
‫الحنفيّة إلى أنّ لكلّ من الشّريكين أن يبيع ويشتري نسيئةً لجريان عادة ال ّتجّار بهذا وذاك كيفما‬
‫اتّفق ‪ ،‬وليس في عقد الشّركة ما يمنع من تحكيم هذه العادة ‪ .‬ذلك أنّ ما تضمّنه هذا العقد من‬
‫الذن في التّصرّف ‪ ،‬وقع مطلقا ‪ ،‬كما هو المفروض ‪.‬‬
‫ولو تشارطا في عقد الشّركة على أن يبيعا نقدا ل نسيئةً ‪ ،‬أو نسيئةً ل نقدا ‪ ،‬أو ‪ -‬في شركة‬
‫العنان ‪ -‬أن يبيع أحدهما نقدا والخر نسيئ ًة ‪ ،‬كانا على شرطهما ‪ .‬بل لو تراضيا على مثل هذه‬
‫القيود بعد العقد ‪ ،‬وجب اللتزام بذلك ‪ ،‬وكذا لو نهى أحدهما شريكه ‪ -‬في شركة العنان ‪ -‬أن‬
‫يبيع على نحو من النحاء بعينه ‪ -‬كأن نهاه أن يبيع نسيئ ًة ‪ ،‬أو عن أن يبيع نقدا ‪ ،‬لمتنع عليه‬
‫أن يفعل ما نهي عنه ‪ -‬حتّى لو أنّه خالف ‪ ،‬لكان ضامنا حصّة شريكه ‪.‬‬
‫ن بيعه هذا نافذ في حصّة‬
‫ولذا أفتى ابن نجيم في الّذي يبيع نسيئةً بعد ما نهاه شريكه ‪ ،‬بأ ّ‬
‫نفسه‪ ،‬موقوف على الجازة في حصّة شريكه ‪ :‬بحيث يبطل إن لم يجز ‪ .‬أي ث ّم يكون في الفوات‬
‫الضّمان ‪.‬‬
‫وعلى وزان البيع نقدا ونسيئةً ‪ ،‬يقال في الشّراء نقدا ونسيئةً ‪ ،‬فإنّهما ل يختلفان من هذه‬
‫النّاحية ‪ ،‬وإن اختلفا من ناحية أخرى ‪ :‬إذ إنّه في المفاوضة يكون الشّراء دائما للشّركة ‪ -‬فيما‬
‫عدا الحاجات الخاصّة لكل الشّريكين ‪ -‬أمّا في شركة العنان ‪ ،‬فليس هو كذلك دائما ‪ ،‬كما‬
‫سيجيء ‪.‬‬
‫نعم في فتاوى قاضي خان ‪ :‬أنّه لو اشترى أحد شريكي المفاوضة طعاما نسيئةً ‪ -‬أي بثمن‬
‫ن الثّمن يكون عليهما ‪ ،‬بخلف ما لو فعل ذلك أحد شريكي العنان ‪ -‬إذ يكون الثّمن‬
‫مؤجّل ‪ -‬فإ ّ‬
‫صةً ‪ ،‬وأنّه لو باع أحد شريكي المفاوضة طعامه بعقد سلم ‪ ،‬فإنّه يكون عقدا جائزا على‬
‫عليه خا ّ‬
‫شريكه ‪.‬‬
‫والمالكيّة والحنابلة كالحنفيّة ‪ ،‬في أنّ لكلّ شريك أن يبيع ويشتري نقدا ونسيئةً ‪ ،‬إلّ أنّهم ل‬
‫يفرّقون بين مفاوضة وعنان ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة وبعض الحنابلة إلى عدم جواز البيع نسيئةً ‪ ،‬لما فيه من الغرر ‪ ،‬وتعريض‬
‫أموال الشّركة للضّياع ‪ -‬ما لم يأذن سائر الشّركاء وأقوى الحتمالين عند الشّافعيّة ‪ ،‬إذا وقع‬
‫الذن في مطلق نسيئة أو بصيغة عموم ‪ :‬كبع كيف شئت ‪ -‬أن يحمل على الجل المتعارف ‪ ،‬ل‬
‫غيره كعشر سنين ‪.‬‬
‫ن لكلّ من الشّريكين أن يوكّل في‬
‫‪ -‬خامسا ‪ :‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة إلى أ ّ‬ ‫‪66‬‬

‫البيع والشّراء وسائر التّصرّفات ‪ :‬كاستئجار أجير أو دابّة أو عربة أو صانع أو بيطار لشيء من‬
‫تجارتهما ‪ ،‬وكالنفاق في مصالح الشّركة ‪ .‬على أنّه يجوز للشّريك الخر أن يعزل الوكيل الّذي‬
‫وكّله شريكه ‪ ،‬متى ما شاء ‪ ،‬شأن وكيل الوكيل ‪.‬‬
‫ق التّوكيل بدون إذن شريكه ‪ ،‬لنّه إنّما‬
‫وذهب الشّافعيّة وأكثر الحنابلة إلى أنّه ليس للشّريك ح ّ‬
‫ارتضى تصرّفه هو ‪ .‬وقاعدتهم ‪ " :‬أنّ من ل يعمل إلّ بإذن ل يوكّل إلّ بإذن " ‪.‬‬
‫‪ -‬سادسا ‪ :‬لكلّ من الشّريكين أن يستأجر من يعمل للشّركة ‪ :‬سواء في إصلح مالها ‪-‬‬ ‫‪67‬‬

‫كعلج دوابّها ‪ ،‬وتركيب آلتها ‪ -‬أم في حراسته وحفظه ‪ ،‬أم في التّجار به ‪ ،‬أم في غير ذلك ‪،‬‬
‫ويمضي ذلك على شريكه ‪ ،‬لنّ عادة ال ّتجّار قد جرت بالستئجار في كلّ ما يعود نفعه على‬
‫تجاراتهم ‪.‬‬
‫‪ -‬سابعا ‪ :‬الشّريك الّذي يؤجّر نفسه لمن تكون أجرته ؟ تكون أجرته للشّركة ‪ ،‬ما لم يكن قد‬ ‫‪68‬‬

‫صةً ‪ .‬وكالخدمة في العنان ما هو بمعناها ‪.‬‬


‫أجّر نفسه للخدمة ‪ ،‬فحينئذ تكون به خا ّ‬
‫أمّا بالنّسبة لشركة المفاوضة ‪ ،‬فهذا هو صريح ما نقلوه عن التتارخانية ‪ -‬إذ تقول ‪ " :‬ولو أجّر‬
‫أحد المتفاوضين نفسه ‪ ،‬لحفظ شيء ‪ ،‬أو خياطة ثوب ‪ ،‬أو عمل من العمال ‪ ،‬فالجر بينهما ‪.‬‬
‫صةً ‪،‬‬
‫وكذلك كلّ كسب اكتسبه أحدهما ‪ ،‬فالجر بينهما ‪ .‬ولو آجر نفسه للخدمة ‪ .‬فالجر له خا ّ‬
‫وهو مأخوذ من البدائع ‪ ،‬وقد علّل الكاسانيّ استثناء الخدمة بأنّ ‪ :‬الشّريك فيها إنّما يملك التّقبّل‬
‫على نفسه ‪ ،‬دون شريكه ‪ ،‬بخلفه فيما عداها ‪ -‬فإذا التزم بالخدمة وقام بها ‪ ،‬فقد وفّى بما‬
‫ص ًة ‪ ،‬وإذا تقبّل عملً ما غير الخدمة ‪ ،‬والتزم به ‪ ،‬فإنّ‬
‫صةً ‪ ،‬فتكون الجرة كذلك له خا ّ‬
‫لزمه خا ّ‬
‫هذا التّقبّل واللتزام يكون على كل الشّريكين ‪ ،‬لنّه يقبل الشّركة ‪ -‬فإذا انفرد أحدهما بالعمل‬
‫الملتزم‪ ،‬وقع العمل عنهما ‪ :‬وكان الّذي عمل متبرّعا بحصّة شريكه فيه ‪ ،‬فتكون الجرة بينهما "‬
‫‪.‬‬
‫وليس لشريك المفاوضة ول لشريك العنان ‪ ،‬أن يؤجّر نفسه لعمل من أعمال تجارتهما ‪ ،‬ثمّ‬
‫يختصّ بأجرته ‪ -‬إلّ أن يؤذن له في ذلك إذنا صريحا ‪ ،‬لنّه ل يملك أن يغيّر مقتضى الشّركة ‪،‬‬
‫دون صريح الرّضا من شريكه ‪ -‬كما قرّره الكمال بن الهمام وغيره ‪.‬‬
‫ن الشّريك يختصّ بأجرة عمله خارج الشّركة ‪ ،‬ولو كان من‬
‫والمقرّر عند المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬أ ّ‬
‫جنس عملها ‪ -‬كما لو أخذ مالً يضارب به في نفس نوع تجارة الشّركة " المنسوجات مثلً "‬
‫غاية ما هناك ‪ ،‬أنّه إذا شغل بذلك عن العمل في الشّركة ‪ ،‬فل بدّ من إذن شريكه ‪ -‬حتّى يكون‬
‫هذا الذن بمثابة التّبرّع له بعمله ذاك ‪ .‬وإلّ كان لهذا الشّريك أن يرجع عليه بأجرة مثل ما عمل‬
‫عنه ‪.‬‬
‫‪ -‬ثامنا ‪ :‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة إلى أنّ لكلّ من الشّريكين أن يدفع مال‬ ‫‪69‬‬

‫ن المضاربة أضعف من الشّركة ‪ ،‬والقوى يستتبع الضعف ‪.‬‬


‫الشّركة إلى أجنبيّ مضاربةً ‪ ،‬ل ّ‬
‫ص بها ربّ المال ‪ ،‬وهي في الشّركة على‬
‫ن الخسارة فيها يخت ّ‬
‫وإنّما كانت المضاربة أضعف ‪ .‬ل ّ‬
‫الشّريكين بقدر المالين ‪ ،‬وفي المضاربة الفاسدة ليس للمضارب شيء من الرّبح ‪ ،‬أمّا في‬
‫الشّركة الفاسدة فالرّبح بين الشّريكين بقدر ماليهما ‪ ،‬ثمّ مقتضى الشّركة الشتراك في الصل‬
‫والرّبح ‪ ،‬ومقتضى المضاربة الشتراك في الرّبح دون الصل ‪.‬‬
‫إلّ أنّ المالكيّة يزيدون لجواز المضاربة قيد اتّساع المال ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة الّذين ل يجيزون للشّريك التّوكيل والستئجار للتّجارة بدون إذن‬
‫شريكه إلى منعه من دفع مال الشّركة إلى أجنبيّ مضاربةً ‪.‬‬
‫ن له أن يتركه‬
‫ن لكلّ من الشّريكين أن يودع مال الشّركة ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ -‬تاسعا ‪ :‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬ ‫‪70‬‬

‫ن اليداع‬
‫في عهدة حارس يستأجره لحفظه ‪ ،‬فلن يكون له ذلك بدون أجر أجدر وأولى ‪ .‬على أ ّ‬
‫من مصالح التّجارة ‪ ،‬إذ تتّقى به السّرقات ‪ ،‬وأخطار الطّريق وغير الطّريق ‪.‬‬
‫أمّا غير الحنفيّة ‪ ،‬فل يرون للشّريك أن يودع ‪ ،‬إلّ إذا دعت إلى ذلك حاجة به ‪ ،‬إذ المال قد‬
‫يضيع باليداع ‪ .‬حتّى لو أنّه أودع من غير حاجة ‪ ،‬فضاع المال ضمنه ‪.‬‬
‫‪ -‬عاشرا ‪ :‬ذهب أبو حنيفة ومحمّد والحنابلة إلى أنّ لكلّ من الشّريكين أن يسافر بمال‬ ‫‪71‬‬

‫الشّركة دون إذن شريكه إذا أمن الطّريق لنّ المفروض أنّ الشّركة أطلقت ‪ ،‬ولم تقيّد بمكان ‪.‬‬
‫فالذن بالتّصرّف الصّادر في ضمنها لكلّ شريك هو على هذا الطلق ‪ ،‬إذ ل يخرج المطلق عن‬
‫شقّة أو بعيدها ‪ ،‬وأن‬
‫إطلقه إلّ بدليل ‪ ،‬ول دليل ‪ ،‬ويستوي بعد ذلك أن يكون السّفر قريب ال ّ‬
‫يكون المال خفيف المحمل أو ثقيله ‪ ،‬على خلف في كلّ من هذا وذاك ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة وأبو يوسف إلى أنّه ليس للشّريك أن يسافر بمال الشّركة إلّ بإذن صريح أو‬
‫ي ‪ ،‬ما لو عقدت الشّركة على ظهر سفينة ‪ ،‬ثمّ استمرّت‬
‫عرفيّ أو ضرورة ‪ .‬ومن الذن العرف ّ‬
‫الرّحلة إلى المقصد ‪ .‬ومن الضّرورة ‪ ،‬جلء أهل البلد عنه لكارثة ‪ ،‬أو فرارا من زحف العدوّ‬
‫القاهر ‪ .‬فإذا خالف الشّريك ‪ ،‬فسافر سفرا غير مسموح به ‪ ،‬كان عليه ضمان حصّة شريكه ‪-‬‬
‫لو ضاع المال ‪ -‬لكنّه لو باع شيئا مضى بيعه ‪ :‬دون أيّ تناف بين هذا ‪ ،‬وبين ثبوت ضمانه ‪.‬‬
‫وكذا المالكيّة في شركة العنان ‪ .‬أمّا شريك المفاوضة فليس مقيّدا إلّ برعاية المصلحة ‪.‬‬
‫‪ -‬حادي عشر ‪ :‬يرى الحنفيّة أنّ لك ّل من الشّريكين أن يقايل فيما بيع من مال الشّركة ‪:‬‬ ‫‪72‬‬

‫سواء أكان هو البائع أم شريكه ‪ .‬لنّ القالة شراء في المعنى ‪ ،‬وهو يملك شراء ما باعه ‪ ،‬أو‬
‫باعه شريكه ‪.‬‬
‫وهذا أيضا هو مذهب المالكيّة ‪ ،‬والمعتمد عند الحنابلة ‪ -‬ولو بنا ًء على أنّ القالة فسخ ‪ :‬على‬
‫أحد احتمالين ‪ -‬اعتبارا بالرّدّ بالعيب ‪ .‬إلّ أنّهم قيّدوه بالمصلحة ‪ ،‬كما لو خيف عجز المشتري‬
‫عن الوفاء بالثّمن ‪ ،‬أو تبيّن وقوع غبن على الشّركة ‪.‬‬
‫‪ -‬ثاني عشر ‪ :‬ليس لحد الشّريكين إتلف مال الشّركة أو التّبرّع به ‪ ،‬لنّ المقصود بالشّركة‬ ‫‪73‬‬

‫التّوصّل إلى الرّبح ‪ .‬فما لم يكن ثمّة إذن صريح من الشّريك الخر ‪ ،‬ل يملك أحد الشّريكين أن‬
‫ل أو كثيرا ‪ .‬إذ الهبة محض تبرّع ‪ ،‬والقراض تبرّع‬
‫يهب ‪ ،‬أو يقرض من مال الشّركة ‪ ،‬قلي ً‬
‫ابتداءً ‪ ،‬لنّه إعطاء المال دون تنجّز عوض في الحال ‪ .‬فإذا فعل ‪ ،‬فل جواز لفعله على شريكه‬
‫إلّ بإذن صريح ‪ ،‬وإنّما ينفذ في حصّة نفسه ل غير ‪.‬‬
‫ن المتأخّرين أدخلوا بعض المستثنيات على امتناع الهبة ‪ :‬إذ أجازوها في اللّحم‬
‫‪ -‬إلّ أ ّ‬ ‫‪74‬‬

‫والخبز والفاكهة ‪ ،‬وما يجري هذا المجرى ممّا يتهاداه النّاس ‪ ،‬ويتسامحون فيه ‪.‬‬
‫جاء في الهنديّة ‪ " :‬له أن يهدي من مال المفاوضة ‪ ،‬ويتّخذ دعوةً منه ‪ .‬ولم يقدّر بشيء ‪.‬‬
‫والصّحيح أنّه منصرف إلى المتعارف ‪ :‬وهو ما ل يعدّه ال ّتجّار سرفا " ‪.‬‬
‫كما أنّهم لم يعتمدوا طريقة أبي يوسف في عدم التّفرقة بين هبة الشّريك الّذي تولّى البيع ‪ ،‬لثمن‬
‫ن الّذي‬
‫ما باع ‪ .‬أو إبرائه منه ‪ ،‬وبين هبة الشّريك الخر أو إبرائه ‪ .‬ورأوا خلفا لبي يوسف أ ّ‬
‫تولّى البيع ‪ ،‬لو وهب المشتري ثمن ما باعه أو أبرأه منه ‪ ،‬نفذ على شريكه ‪ ،‬ويرجع عليه‬
‫شريكه بحصّته ‪ ،‬كوكيل البيع إذا فعل ذلك حيث ينفذ ‪ ،‬ويرجع عليه موكّله ‪.‬‬
‫‪ -‬والحكم كذلك عند المالكيّة أيضا ‪ .‬إ ّل أنّهم يقيّدون البراء المسموح به بكونه حطّا من‬ ‫‪75‬‬

‫بعض الثّمن ‪ ،‬ويطلقونه بعد ذلك ‪ ،‬فيستوي أن يقع من متولّي العقد أو من الشّريك الخر ‪ .‬كما‬
‫أنّهم يضبطون التّبرّعات المسموح بها للشّريك على العموم بما يقرّه العرف وفق ما يتناسب مع‬
‫ي إذا استألف النّاس‬
‫المركز الماليّ للشّركة ‪ .‬وهذا مبدأ عامّ ينتظم الهدايا ‪ ،‬والمآدب ‪ ،‬والعوار ّ‬
‫ترغيبا لهم في التّعامل مع الشّركة ‪.‬‬
‫وللحنابلة نحو منه ‪ .‬إلّ أنّهم أقلّ توسّعا في هذا الباب ‪ ،‬وأكثر تقيّدا بمراعاة فائدة الشّركة ‪.‬‬
‫ن العقد بينهما‬
‫‪ -‬ثالث عشر ‪ :‬ليس لحد الشّريكين أن يؤدّي زكاة مال الخر إ ّل بإذنه ‪ :‬ل ّ‬ ‫‪76‬‬

‫على التّجارة ‪ ،‬والزّكاة ليست منها ‪ .‬ثمّ إنّها بدون إذن ربّ المال ل تقع الموقع ‪ ،‬لعدم صحّتها‬
‫بدون نيّة ‪ ،‬فتلتحق بالتّبرّعات ‪ ،‬وهو ل يملك التّبرّع بمال شريكه ‪ .‬فإذا أذن له شريكه فذاك ‪.‬‬
‫‪ -‬رابع عشر ‪ :‬ليس لحد الشّريكين أن يخلط مال الشّركة بمال له خاصّ دون إذن شريكه ‪:‬‬ ‫‪77‬‬

‫لنّ الخلط يستتبع إيجاب حقوق ‪ ،‬وقيودا على حرّيّة التّصرّف ‪ .‬فل يسلّط أحد الشّريكين عليه ‪،‬‬
‫ص على ذلك الحنفيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫لئلّ يتجاوز حدود ما رضي به صاحب المال ن ّ‬
‫‪ -‬تنبيه ‪ :‬الذن العامّ من الشّريك ‪ -‬كقوله لشريكه ‪ :‬تصرّف كما ترى ‪ -‬يغني غناء الذن‬ ‫‪78‬‬

‫الخاصّ في كلّ ما هو من قبيل ما يقع في التّجارة كالرّهن والرتهان والسّفر ‪ ،‬والخلط بالمال‬
‫الخاصّ ‪ ،‬وشركة المال مع أجنبيّ ‪ .‬فمن منع شيئا من ذلك إلّ بالذن ‪ ،‬كفى فيه عنده الذن‬
‫العامّ‪.‬‬
‫ولكنّ هذا الذن العامّ ل غناء فيه بالنّسبة للهبة ‪ ،‬والقرض ‪ ،‬وكلّ ما يعدّ إتلفا للمال ‪ ،‬أو تمليكا‬
‫له بغير عوض ‪ .‬بل ل بدّ من الذن الصّريح في هذا النّوع من التّصرّفات ‪ ،‬لينفذ على الشّركة ‪.‬‬
‫صرّح بهذا الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‬
‫أحكام خاصّة بشركة المفاوضة ‪:‬‬
‫ن شريكي المفاوضة شخص واحد حكما في أحكام التّجارة‬
‫‪ -‬تتلخّص هذه الحكام في أ ّ‬ ‫‪79‬‬

‫ن شركة المفاوضة تتضمّن وكالةً‬


‫وتوابعها ‪ -‬وإن كانا اثنين حقيقةً ‪ -‬والسّرّ في هذا ‪ ،‬أ ّ‬
‫وكفالةً ‪ ،‬إذ كلّ من الشّريكين فيها وكيل عن الخر فيما يجب له ‪ ،‬وكفيل عنه فيما يجب عليه ‪.‬‬
‫ويتفرّع على هذا الصل العامّ ‪ ،‬فروع ونتائج شتّى ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّولً ‪ :‬كلّ ما اشتراه أحدهما فهو للشّركة إلّ حوائجه وحوائج أهله الساسيّة ‪:‬‬ ‫‪80‬‬

‫ن ك ّل ما اشتراه فهو للشّركة ‪ ،‬فذلك أنّ مقتضى عقد شركة المفاوضة المساواة في كلّ ما‬
‫أمّا أ ّ‬
‫يصحّ الشتراك فيه ‪ ،‬وتدخله عقود التّجارة ‪ .‬ومن ذلك الجارة ‪ ،‬لنّها شراء منفعة ‪ :‬فما‬
‫ص على ذلك الحنفيّة ‪.‬‬
‫استأجره أحدهما فهو للشّركة أيضا ‪ .‬ن ّ‬
‫وأمّا استثناء الحوائج الساسيّة ‪ ،‬فلنّ العرف قاض باستثنائها ‪ .‬إذ من المعلوم أنّ هذه تبعة تقع‬
‫على عاتق كلّ شريك لخاصّة نفسه وأهله ‪ ،‬دون أن يتحمّل معه شريكه في ذلك غرما ‪،‬‬
‫ص بهذه الحوائج الساسيّة مشتريها ‪ -‬وإن‬
‫والمشروط عرفا ‪ ،‬كالمشروط بصريح العبارة ‪ .‬فيخت ّ‬
‫ض النّظر عن هذه القرينة ‪ ،‬ممّا ينتظمه عقد شركة المفاوضة ‪ ،‬إذ هي من نوع‬
‫كانت ‪ ،‬عند غ ّ‬
‫ما يتّجر فيه ‪ ،‬ويقبل الشّركة ‪ .‬ومن الحاجات الساسيّة ‪ -‬وإن كانت صالحةً للشّركة ‪ ،‬إذ شراء‬
‫المنافع ممّا يقبلها ‪ -‬بيت يستأجر للسّكنى ‪ ،‬وعربة أو سفينة أو طائرة أو دابّة تستأجر للرّكوب‬
‫أو الحمل من أجل المصلحة الخاصّة ‪ :‬كالحجّ ‪ ،‬وقضاء وقت الجازات بعيدا عن العمل ‪ ،‬وحمل‬
‫المتعة الخاصّة ‪.‬‬
‫ن الحاجات الساسيّة يتحمّل مشتريها ثمنها كلّه ‪ ،‬لمكان اختصاصه بها ‪ ،‬ولذا ‪ ،‬لو‬
‫وفرق آخر فإ ّ‬
‫أدّى ثمنها من مال الشّركة كان لشريكه أن يرجع عليه بحصّته في هذا الثّمن ‪.‬‬
‫‪ -‬ويرى متأخّرو المالكيّة أنّ نفقة الشّريك المفاوض الخاصّة به شخصيّا ‪ -‬من أجل طعامه‬ ‫‪81‬‬

‫وشرابه ‪ ،‬ولباسه ‪ ،‬وتنقّلته ‪ -‬تلغى مطلقا ‪ ،‬ول تدخل في الحساب إذا أنفقها من مال الشّركة ‪.‬‬
‫سواء تساوت حصّتا الشّريكين ‪ ،‬ونفقاتهما ‪ ،‬وسعر بلديهما ‪ -‬إن اختلفا ‪ -‬أم ل ‪ .‬ثمّ علّلوا ذلك‬
‫بأنّها نفقات يسيرة عادةً ‪ ،‬أو داخلة في التّجارة ‪.‬‬
‫أمّا نفقة أسرة الشّريك فيشترط للغاء حسابها أن تتقارب السرتان عدد أفراد ‪ ،‬ومستوىً‬
‫اجتماعيّا ‪ ،‬وإلّ دخلت في الحساب ‪ :‬فأيّهما أخذ من مال الشّركة فوق نسبة حصّته ‪ ،‬رجع عليه‬
‫شريكه بحصّته فيما أنفق والشّريك المفاوض مصدّق عند المالكيّة في دعوى الشّراء لنفسه‬
‫ولعياله ‪ .‬فيما يليق ‪ ،‬من الطّعام والشّراب والكسوة ‪ ،‬دون سائر العروض والعقار ‪.‬‬
‫– ثانيا ‪ :‬إقرار الشّريك بدين على شريك المفاوضة ‪:‬‬ ‫‪82‬‬

‫ما لزم أ حد الشّريك ين في المفاو ضة من د ين التّجارة ‪ ،‬أو ما يجري مجرا ها ‪ .‬يلزم ال خر ‪،‬‬
‫ويك في إقراره بالدّ ين ليترتّب عل يه لزو مه للمقرّ بمقت ضى إقراره ‪ ،‬ث مّ لزو مه لشري كه بمقت ضى‬
‫كفالته ‪ .‬وهذا عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ص المالكيّة على أنّ ذلك خاصّ بالقرار بالدّين أثناء قيام الشّركة ‪ .‬أمّا في القرار بعين‬
‫‪ -‬ون ّ‬ ‫‪83‬‬

‫‪ -‬كودي عة ور هن ‪ -‬أو بد ين ل كن ب عد انتهاء الشّر كة ‪ ،‬فإنّ ما تلزم المقرّ ح صّته من الع ين أو‬
‫ثمـ هـو بالنّسـبة لحصـّة شريكـه مجرّد شاهـد ‪ .‬وللمقرّ له أن يحلف مـع هذا الشّاهـد ‪،‬‬
‫الدّيـن‪ّ ،‬‬
‫ويستحقّ حصّة الشّريك أيضا ‪.‬‬
‫وع ند الحنابلة ‪ ،‬في شر كة العنان ‪ ،‬قول بقبول إقرار الشّر يك بالدّ ين والع ين على الشّر كة ‪ ،‬ما‬
‫دامت قائم ًة ‪ ،‬ومنهم من اختاره فيجيء بالولى في شركة المفاوضة ‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ :‬حقوق العقد الّذي يتوله أحدهما في مال الشّركة ‪ ،‬مستوية بالنّسبة إليهما ‪ .‬بل‬ ‫‪84‬‬

‫خلف بين القائلين بالمفاوضة ‪.‬‬


‫مثال ذلك ‪ :‬الرّ ّد بالعيب ‪ ،‬والرّجوع بالثّمن عند الستحقاق ‪ ،‬والمطالبة بتسليم المبيع أو الثّمن ‪،‬‬
‫وقبضهما وإقباضهما ‪ :‬سواء كان ذلك كلّه لهما أم عليهما ‪ .‬فإذا اشترى أحدهما شيئا للشّركة ‪،‬‬
‫فإنـ ذلك لن يكون مقصـورا عليـه ‪ ،‬بـل‬
‫وأراد أن يمارس شيئا مـن هذه الحقوق ‪ ،‬لقيام سـببه ‪ّ ،‬‬
‫لشريكه أن يقوم به أيضا ‪ ،‬وكذلك ما هو في معنى الشّراء ‪.‬‬
‫أيـ‬
‫والّذي يشتري سـلعةً مـن سـلع الشّركـة ثمّـ يجـد بهـا عيبا ‪ ،‬يكون مـن حقّه أن يردّهـا على ّ‬
‫الشّريك ين شاء ‪ ،‬وإذا ا ستحقّت عنده ل خر ‪ -‬كأن تبيّن أنّ ها مغ صوبة أو م سروقة ‪ -‬كان له أن‬
‫يطالب بثمن ها ‪ ،‬الّذي دف عه ‪ ،‬أيّه ما شاء ولو لم ي كن هو الّذي با شر ع قد الب يع ‪ ،‬أو تولّى ق بض‬
‫ن له ع ند بداية ال صّفقة أن يطالب من شاء منه ما بتسليم ال سّلعة ولو لم يكن هو‬
‫الثّ من ‪ .‬ك ما أ ّ‬
‫الّذي باعها ‪ .‬ولكلّ منهما أن يقبض الثّمن ‪ ،‬ويقوم بالتّسليم المطلوب ‪ ،‬أو يقبضه أحدهما ويسلّم‬
‫الخر ‪ ،‬أو بالعكس ‪ ،‬أمّا لو باع أحدهما شيئا من أشيائه الخا صّة وآجره ‪ ،‬فحقوق العقد خا صّة‬
‫به ‪ .‬فليس للّذي يشتري منه مثلً أن يطالب شريكه بتسليم المبيع ‪ ،‬ول لهذا الشّريك أن يطالب‬
‫المشتري بالثّمن ‪.‬‬
‫‪ -‬رابعا ‪ :‬تصرّف المفاوض نافذ عليه وعلى شريكه في كلّ ما يعود على مال الشّركة نفعه ‪:‬‬ ‫‪85‬‬

‫سواء أكان من أعمال التّجارة وملحقاتها أم من غير ذلك ‪.‬‬


‫وهذا الحكم موضع وفاق بين القائلين بالمفاوضة وهم الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫و صرّح المالكيّة بأ نّ كلّ ت صرّف يجا في الم صلحة يقوم به أ حد الشّريك ين ‪ ،‬بل إذن سابق من‬
‫شري كه ‪ ،‬يتوقّف نفاذه على الشّر كة ‪ ،‬على إجاز ته اللح قة ‪ .‬فإن لم ي جز ‪ ،‬ن فذ على المت صرّف‬
‫ل ولّى بأصل الثّمن شخصا أجنبيّا صفقةً عقدها هو أو‬
‫وحده ‪ ،‬وضمن ح قّ شريكه ‪ .‬فلو أنّه مث ً‬
‫شريكه يقدّر ربحها بخمسين في المائة ‪ :‬فإنّ شريكه إن لم يجزه ‪ ،‬يرجع عليه بخمسة وعشرين‬
‫لنـ المحاباة كالت ّبرّع ‪ .‬إلّ أن يكون الدّافـع إلى هذه‬
‫ّ‬ ‫بالمائة ‪ -‬إن كانـت الشّركـة بالنّصـف ‪-‬‬
‫المحاباة تألّف عميل ذي خطر لمصلحة الشّركة ‪.‬‬
‫‪ -‬خامسا ‪ :‬بيع المفاوض ممّن تردّ شهادته له صحيح نافذ عند الحنفيّة أي على الشّركة ‪.‬‬ ‫‪86‬‬

‫ن المتفاوض ين كش خص وا حد ‪ .‬بخلف شري كي العنان ‪ ،‬فإ نّ‬


‫ول تأث ير ه نا لته مة المحاباة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل منهما وكيل عن الخر ‪ ،‬ومواضع التّهمة مستثناة من الوكالت عند أبي حنيفة إلّ‬
‫غايتها أنّ ك ً‬
‫إذا قيل للوكيل ‪ :‬عامل من شئت ‪ ،‬فيصحّ التّعامل بمثل القيمة ‪ .‬ويكتفي ال صّاحبان بإيجاب مثل‬
‫القيمة لتصحيح التّعامل الّذي لم يبلغه ‪ ،‬بكلّ حال ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أ نّ تصرّف الشّريك المفاوض ينفذ بل إذن شريكه إذا كان في حدود مصلحة‬
‫الشّركة فل بأس لديهم إذن بالبيع في موضع تهمة المحاباة ‪ .‬ما دامت المحاباة لم تثبت فعلً ‪.‬‬
‫مشاركة المفاوض لشخص ثالث ‪:‬‬
‫‪ -‬للمفاوض أن يشارك شركة عنان ‪ :‬وينفذ ذلك على شريكه ‪ ،‬أحبّ أم كره ‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫لنّ شركة العنان دون شركة المفاوضة ‪ ،‬فل محذور في أن تصحّ في ضمنها ‪ ،‬وتقع تبعا لها ‪،‬‬
‫كما صحّت المضاربة تبعا للشّركة مطلقا ‪ :‬بأن يضارب أحد الشّريكين ثالثا بمال الشّركة ‪ .‬وهذا‬
‫هو مذهب الصّاحبين ‪.‬‬
‫ح شركة المفاوضة تبعا لشركة المفاوضة ‪ :‬أي ألّ يصحّ لحد‬
‫ومقتضى تعليله هذا أن ل تص ّ‬
‫شريكي المفاوضة ‪ -‬بدون إذن شريكه ‪ -‬أن يفاوض ثالثا ‪ ،‬لنّ الشّيء ل يستتبع مثله ‪ .‬وهذا‬
‫هو الّذي جرى عليه أبو يوسف ‪ .‬واعتمده المتأخّرون ‪ ،‬إلّ أنّهم فسّروا عدم صحّة المفاوضة‬
‫من المفاوض بأنّها تنعقد عنانا ‪ ،‬وما يخصّ الّذي أحدثها ‪ -‬ولو مع من تردّ شهادته له ‪ -‬من‬
‫ربحها‪ ،‬يكون بينه وبين شريكه الوّل ‪.‬‬
‫ولم ير محمّد بن الحسن مانعا من أن يفاوض المفاوض أمّا أبو حنيفة في رواية الحسن فلم‬
‫يجعل للمفاوض أن يفاوض ‪ ،‬ول أن يشارك شركة عنان ‪ ،‬لنّه في كليهما تغيير مقتضى العقد‬
‫الّذي تمّت به الشّركة الولى ‪ ،‬إذ يوجب للشّريك الجديد حقّا في مال الشّركة لم يكن ‪ ،‬وذلك ل‬
‫يجوز بدون تراضي الشّركاء ‪.‬‬
‫وظاهر كلم الحنابلة وفاق أبي حنيفة ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فقد جعلوا للمفاوض أن يفاوض ‪ ،‬أو يعقد أيّة شركة أخرى ‪ -‬في بعض مال‬
‫الشّركة‪ ،‬ل في جميعه ‪ ،‬ول بدّ أن يكون هذا البعض على التّعيين ل على الشّيوع ‪ ،‬كما لو أفرد‬
‫ي بمائة دينار مثلها ‪ ،‬وجعل يتّجران في المائتين‬
‫مائة دينار من مال الشّركة ‪ ،‬وجاء الجنب ّ‬
‫جميعا ‪ ،‬ول شأن لهذا الجنبيّ بسائر مال الشّركة الولى ‪.‬‬
‫أحكام خاصّة بشركة العنان ‪:‬‬
‫ن الشّريك الّذي ليس بيده شيء‬
‫‪ -‬أ ّولً ‪ :‬ليس كلّ ما يشتريه أحد الشّريكين يكون للشّركة ‪ :‬ل ّ‬ ‫‪88‬‬

‫من رأس مال الشّركة ‪ ،‬ل يستطيع أن يشتري لها شيئا ما بغير إذن شريكه ‪ .‬بل يكون ما‬
‫يشتريه حينئذ لنفسه ‪ ،‬أو لمن أراد أن يشتري له بطريق مشروع خارج الشّركة ‪ .‬ول يمكن أن‬
‫يكون للشّركة لنّه نوع من الستدانة ‪ ،‬واستدانة شريك العنان ل تجوز إلّ بإذن شريكه لما فيها‬
‫من تجاوز مقدار رأس المال المتّفق عليه ‪.‬‬
‫ض ل يفي‬
‫كذلك الشّريك الّذي كلّ ما بيده من مال الشّركة عروض ‪ -‬غير نقد ‪ -‬أو معها نا ّ‬
‫بالثّمن ‪ ،‬ل تمضي للشّركة صفقته المشتراة بالنّقد ‪ -‬أعني الثمان ‪ -‬وأيضا الشّريك الّذي‬
‫يشتري للشّركة نوعا آخر غير النّوع الّذي انحصرت فيه تجارة الشّركة بمقتضى عقدها ‪ ،‬ل‬
‫يكون للشّركة شيء ممّا اشتراه ‪ :‬كالّذي يشتري أرزا ‪ ،‬وتجارة الشّركة إنّما هي في القطن ‪ ،‬أو‬
‫بالعكس ‪.‬‬
‫ومعنى ذلك كلّه أنّ ما يشتريه شريك العنان بل إذن خاصّ من شريكه ل يكون للشّركة إلّ بثلث‬
‫شرائط ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون بيده من مال الشّركة ما يكفي لسداد ثمن ما اشتراه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون هذا الّذي بيده ناضّا ‪ ،‬ل عروضا ‪ ،‬إذا اشترى بنقود ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن يكون ما اشتراه من جنس تجارة الشّركة ‪ .‬ويؤخذ ممّا أسلفنا شريطة رابعة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن ل يكون شريكه قد أذن له صراحةً في الختصاص بالسّلعة ‪.‬‬
‫فإذا توافرت هذه الشّرائط الربع ‪ ،‬وقع الشّراء للشّركة ‪ ،‬ولو ادّعى الشّريك أنّه إنّما اشترى‬
‫لنفسه ‪ ،‬أو حتّى أشهد بذلك عند شرائه ‪ ،‬لنّه ل يستطيع إخراج نفسه من الوكالة دون علم‬
‫شريكه ‪ .‬هذا مذهب الحنفيّة ‪.‬‬
‫‪ -‬ول توجد مثل هذه الشّرائط في المذاهب الخرى ‪ ،‬عدا قول للحنابلة ‪ ،‬هنا وفي شركة‬ ‫‪89‬‬

‫الوجوه ‪ ،‬يرفض ادّعاء الشّريك الشّراء لنفسه ‪ ،‬ولكنّهم اعتمدوا فيهما تصديقه بيمينه وهو في‬
‫ص الشّافعيّة وعلّلوه بأنّه أمين يدّعي ممكنا ل يعلم إلّ من قبله ‪ ،‬ولول إمكان تصريحه‬
‫العنان ن ّ‬
‫بنيّته عند الشّراء والشهاد على ذلك ‪ ،‬لصدّق بل يمين ‪ ،‬بل عبارة الشّافعيّة أنّه يصدّق في‬
‫دعوى الشّراء لنفسه ولو رابحا ‪ ،‬وفي دعوى الشّراء للشّركة ولو خاسرا ‪ .‬إلّ أنّه ل يصدّق‬
‫ن الظّاهر أنّه اشترى‬
‫عندهم في دعوى الشّراء للشّركة إذا أراد أن ير ّد حصّته وحدها بعيب ‪ ،‬ل ّ‬
‫لنفسه ‪ ،‬فل يمكّن من تفريق الصّفقة على البائع ‪ .‬نعم إن صدّقه البائع في دعوى الشّراء‬
‫للشّركة‪ ،‬كان له عند الشّافعيّة تفريق الصّفقة ‪ ،‬وردّ حصّته وحدها ‪ ،‬لنّه ‪ -‬بالنّسبة إليها ‪-‬‬
‫أصيل ‪ ،‬وبالنّسبة إلى حصّة شريكه وكيل ‪ ،‬فكان عقده الواحد بمثابة عقدين أمّا المالكيّة فإنّهم‬
‫يصدّقون الشّريك في دعوى الشّراء لنفسه في الشّركات عدا شركة الجبر بين الورثة ‪.‬‬
‫وإنّما نصّوا عليه في شركة المفاوضة ‪ ،‬وقصروه فيها على ما يليق بالشّريك وأهله ‪ :‬من الطّعام‬
‫والشّراب واللّباس ‪ ،‬دون سائر العروض والعقار والحيوان ‪.‬‬
‫ن الدّين الّذي يلزم أحد الشّريكين ل يؤخذ به الخر ‪ :‬لنّ شركة‬
‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬ ‫‪90‬‬

‫العنان تنعقد على الوكالة ل غير ‪ ،‬إ ّل إذا صرّح فيها بالتّضامن ‪ -‬كما ذكره في الخانيّة ‪ -‬وإن‬
‫استظهر الكمال بن الهمام بطلن الكفالة حينئذ ‪ ،‬لنّها كفالة لمجهول ‪ ،‬والكفالة الصّريحة ل‬
‫تصحّ له ‪.‬‬
‫‪ -‬ومذهب الحنابلة عدم قبول إقرار شريك العنان بدين أو عين على الشّركة ‪ ،‬لنّه مأذون في‬ ‫‪91‬‬

‫التّجارة ل غير ‪ ،‬والقرار ليس من التّجارة في شيء ‪ -‬وإنّما يقبل على نفسه في حصّته هو‬
‫وحده ‪ .‬هكذا أطلقوه ‪ ،‬من غير تفصيل بين أن يكون المال بيده أو ل ‪ -‬إلّ أن يكون الدّين من‬
‫توابع التّجارة ‪ ،‬كثمن شيء اشتري للشّركة ‪ ،‬وكأجرة دلل وحمّال ومخزّن وحارس ‪ ،‬لنّه إذن‬
‫كتسليم المبيع ‪ ،‬أو إقباض الثّمن ‪ .‬وهذا التّفصيل ليس عند الحنفيّة ‪ ،‬وإنّما ذكره الحنابلة ربّما‬
‫للجابة عمّا تعلّق به القاضي من الحنابلة ‪ -‬في ذهابه إلى قبول إقرار الشّريك على الشّركة‬
‫ن للشّريك أن يشتري ول يسلّم الثّمن في المجلس ‪ ،‬فلو لم يقبل إقراره‬
‫مطلقا ‪ -‬إذ يقول ‪ " :‬إ ّ‬
‫بالثّمن لضاعت أموال النّاس ‪ ،‬وامتنعوا من معاملته " ‪.‬‬
‫وحكاه عنه صاحب النصاف ‪ ،‬وقال إنّه الصّواب ‪.‬‬
‫ن حقوق العقد الّذي يتوله أحد الشّريكين ‪ ،‬قاصرة عليه ‪ ،‬لنّه‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ :‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬ ‫‪92‬‬

‫ما دام الفرض أن ل كفالة ‪ ،‬فإنّ حقوق العقد إنّما تكون للعاقد ‪ .‬فإذا باع أحدهما شيئا من مال‬
‫الشّركة أو آجره ‪ ،‬فهذا هو الّذي يقبض الثّمن أو الجرة ‪ ،‬ويطالب بتسليم المبيع أو العين‬
‫المؤجّرة ‪ ،‬ويخاصم عند الخلف ‪ :‬فتقام عليه البيّنة أو يقيمها ‪ .‬وتطلب منه اليمين أو يطلبها ‪.‬‬
‫أمّا شريكه فهو والجنبيّ سواء بالنّسبة إلى هذه الحقوق ‪ :‬ليس له ول عليه منها شيء ‪.‬‬
‫وكذلك في حالة ما إذا اشترى أحدهما شيئا للشّركة أو استأجره ‪ :‬فإنّه ‪ ،‬دون شريكه ‪ ،‬هو الّذي‬
‫تتوجّه عليه المطالبة بالثّمن أو الجرة ‪ ،‬وهو الّذي يطالب بالتّسليم ويتولّى القبض ‪ ،‬وتقع‬
‫الخصومة في ذلك له وعليه ‪ .‬ثمّ إذا دفع من مال نفسه رجع على شريكه بحصّته فيما دفع ‪،‬‬
‫لنّه وكيل هذا الشّريك فيما يخصّه من الصّفقة ‪.‬‬
‫وهكذا عند الرّدّ بالعيب ‪ ،‬وعند الرّجوع بالستحقاق ‪ :‬إنّما يكون ذلك للّذي تولّى العقد أو عليه ‪.‬‬
‫ول شأن للشّريك الخر فيه ‪.‬‬
‫‪ -‬والرّهن من مال الشّركة ‪ ،‬والرتهان به ‪ ،‬من توابع حقوق العقد ‪ ،‬لنّ الرّهن بمثابة‬ ‫‪93‬‬

‫القباض ‪ ،‬والرتهان بمثابة القبض ‪.‬‬


‫فبدون إذن العاقد ‪ -‬كالمشتري في حالة الرّهن ‪ ،‬والبائع في حالة الرتهان ‪ -‬ل يجوز لغيره أن‬
‫يرهن أو يرتهن ‪ ،‬ولو كان قد شارك في العقد الّذي أوجب الدّين ‪ .‬ذلك لنّ في الرّهن توفية دين‬
‫الشّريك الخر من ماله ‪ -‬إذ فرض الكلم في رهن عين من أعيان الشّركة ‪ -‬ول يملك أحد أن‬
‫يوفّي دين غيره من مال ذلك الغير بدون إذنه ‪ ،‬وفي الرتهان استيفاء حصّة الشّريك الخر الّتي‬
‫وجبت له بمقتضى عقده هو ‪ -‬استقل ًل أو مشاركةً ‪ -‬وذلك ل يملكه غيره بدون إذنه أيضا ‪.‬‬
‫وصرّح المالكيّة بأن ليس لحد شريكي العنان أن يستب ّد بفعل شيء في الشّركة إلّ بإذن شريكه‬
‫ومعرفته ‪.‬‬
‫وأمّا الحنابلة فيقول ابن قدامة في المغني ‪ " :‬وله ‪ -‬أي ‪ :‬لكلّ من شريكي العنان ‪ -‬أن يقبض‬
‫المبيع والثّمن ‪ ،‬ويقبضهما ‪ ،‬ويخاصم في الدّين ‪ ،‬ويطالب به ‪ ،‬ويحيل ويحتال ‪ ،‬وير ّد بالعيب‬
‫ص العاقد " ‪.‬‬
‫ن حقوق العقد ل تخ ّ‬
‫فيما وليه هو ‪ ،‬وفيما ولي صاحبه ‪ ..‬ل ّ‬
‫ونصّ الشّافعيّة على جواز انفراد أحد شريكي العنان بالرّدّ بالعيب ‪.‬‬
‫– رابعا ‪ :‬ما ينفذ فيه تصرّف شريك العنان على شريكه ‪:‬‬ ‫‪94‬‬

‫يختصـ بالتّجارة ‪ :‬فإذا‬


‫ّ‬ ‫أنـ نفاذ تصـرّف شريـك العنان على شريكـه‬
‫ذهـب جمهور الفقهاء إلى ّ‬
‫غصب شريك العنان شيئا أو أتلفه ‪ ،‬فإنّه يخت صّ بضمانه ‪ ،‬ول يشركه فيه شريكه ‪ .‬بخلف ما‬
‫إذا اشترى شيئا للشّركة ‪ -‬شراءً صحيحا ‪ -‬وهو يملك الح قّ في شرائه بمقتضى عقد ها ‪ ،‬فإنّه‬
‫ينفذ شراؤه على نفسه ‪ ،‬وعلى شريكه ‪ :‬وله الرّجوع على هذا الشّريك بحصّته في الثّمن لو أدّاه‬
‫من مال نفسه ‪ .‬بل لو كان الشّراء فاسدا ‪ ،‬فتلف عنده ما اشتراه ‪ ،‬فإنّه ل يتحمّل ضمانه وحده‬
‫‪ ،‬بل يشركه فيه شريكه ‪ ،‬على النّسبة الّتي بينهما في رأس مال تجارتهما ‪.‬‬
‫أمّا أبو يوسف ‪ ،‬فإنّه يكتفي ‪ ،‬لنفاذ تصرّف شريك العنان على شريكه بعود نفعه على مال‬
‫الشّركة ‪ ،‬كشريك المفاوضة ‪.‬‬
‫وقد ذكر في المبسوط ‪ :‬أنّ العاريّة يستعيرها أحد شريكي العنان لغرض من أغراضه الخاصّة‬
‫صةً به ‪ .‬فيضمن شريكه لو استعملها ‪ .‬بخلف ما لو استعارها‬
‫‪ -‬كحمل طعام أهله ‪ -‬تكون خا ّ‬
‫من أجل الشّركة ‪ -‬كحمل سلعة من سلعها ‪ -‬فإنّها تكون عار ّي ًة مشتركةً ‪ ،‬كما لو كانا استعاراها‬
‫معا ‪ ،‬حتّى لو حمل عليها الخر مثل تلك السّلعة فتلفت ‪ ،‬فل ضمان ‪.‬‬
‫‪ -‬بيع شريك العنان بأق ّل من ثمن المثل ‪:‬‬ ‫‪95‬‬

‫ص الشّافعيّة على أنّ الشّريك ل يبيع ول يشتري بالغبن الفاحش ‪ .‬فإن فعل صحّ العقد في‬
‫ن ّ‬
‫صةً ‪ ،‬وللمشتري أو البائع الخيار ‪ .‬إلّ أن يكون الشّريك قد اشترى بثمن في ال ّذمّة ‪،‬‬
‫نصيبه خا ّ‬
‫ص ًة ‪ ،‬ل للشّركة ‪ .‬وقالوا ليس للشّريك البيع‬
‫فيصحّ العقد في الجميع ‪ ،‬ويقع الشّراء للمشتري خا ّ‬
‫ل ‪ ،‬ثمّ ظهر هذا الرّاغب في مدّة‬
‫بثمن المثل ‪ -‬إذا كان ثمّ راغب بأكثر ‪ -‬حتّى إنّه لو باع فع ً‬
‫الخيار ‪ ،‬كان عليه أن يفسخ العقد وإلّ انفسخ تلقائيّا ‪.‬‬
‫‪ -‬مشاركة شريك العنان لغير شريكه ‪:‬‬ ‫‪96‬‬

‫ن الشّيء ل‬
‫ليس لحد شريكي العنان أن يشارك بغير إذن شريكه ‪ ،‬ل مفاوضةً ول عنانا ‪ .‬ل ّ‬
‫يستتبع مثله ‪ ،‬فكيف بما هو فوقه ‪ .‬لكنّه إذا كان ل يملك أن يشارك ‪ ،‬فإنّه يملك أن يوكّل ‪ ،‬فإذا‬
‫شارك بطلت الشّركة ‪ ،‬ولكن ل يلزم من بطلن الشّركة بطلن الوكالة الّتي في ضمنها ‪ ،‬إذ ل‬
‫يلزم من بطلن الخصّ بطلن العمّ ‪ .‬هذا عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫‪ -‬وكلم الشّافعيّة والحنابلة عامّ في منع دفع شيء من مال الشّركة إلى أجنبيّ ليعمل فيه ‪،‬‬ ‫‪97‬‬

‫دون إذن سائر الشّركاء ‪ -‬ولو كان ذلك خدمةً للشّركة ولو بل مقابل ‪ :‬وهو البضاع ‪ -‬لنّ‬
‫الرّضا في عقد الشّركة إنّما وقع قاصرا على يد الشّريك وتصرّفه هو ‪ ،‬دون تصرّف أحد سواه‬
‫‪ .‬فهو شبيه بما لو أراد أن يخرج نفسه من الشّركة ويحلّ غيره محلّه ‪.‬‬
‫أحكام شركتي العمال والوجوه ‪:‬‬
‫‪ -‬هاتان الشّركتان ل تخرجان عن أن تكونا مفاوضةً أو عنانا ‪ .‬فتطبّق فيهما أحكام‬ ‫‪98‬‬

‫المفاوضة في الموال إن كانتا من قبيل المفاوضة ‪ ،‬وأحكام العنان في الموال إن كانتا من قبيل‬
‫العنان ‪ .‬وإذا أطلقت أيّتهما فهي عنان ‪ ،‬كما هو الصل دائما ‪.‬‬
‫إلّ أنّ شركة العنان في العمال تأخذ دائما حكم شركة المفاوضة في مسألتين ‪:‬‬
‫المسألة الولى ‪ :‬تقبّل أحد الشّريكين ملزم لهما على التّضامن كما لو كانا شخصا واحدا ‪ -‬وإن‬
‫لم يلزم أحدا منهما أن يعمل بنفسه ‪ ،‬ما لم يشرط ذلك صاحب العمل ‪ .‬فبدون هذا الشّرط يستوي‬
‫أن يعمله هو ‪ ،‬أو يعمله شريكه ‪ ،‬أو غيرهما ‪ -‬كأن يستأجرا ‪ ،‬هما أو أحدهما ‪ ،‬من يقوم به ‪.‬‬
‫إذ المشروط مطلق العمل أمّا مع هذا الشّرط من صاحب العمل فيتبع الشّرط ‪ ،‬لكن تظلّ المسألة‬
‫ن هذا الشّرط ل يعفي من لم يؤخذ عليه من‬
‫كما هي من حيث إلزام الشّريكين على التّضامن ‪ ،‬فإ ّ‬
‫المطالبة ‪ ،‬بحكم الضّمان ‪.‬‬
‫نعم هو يفيد تقييد حقّ مطالبته ‪ -‬ما دام ليس هو المتقبّل ‪ -‬بمدّة استمرار الشّركة ‪ ،‬وأمّا إذا‬
‫خل التّقبّل من هذا الشّرط ‪ ،‬فإنّ الضّمان يستم ّر بعد انحلل الشّركة ‪.‬‬
‫ويترتّب على هذا الصل أنّ ‪:‬‬
‫ل أيّ الشّريكين شاء ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬لصاحب العمل أن يطالب به كام ً‬
‫ب ‪ -‬لك ّل من الشّريكين أن يطالب صاحب العمل بالجرة كاملةً ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تبرأ ذمّة صاحب العمل من الجرة بدفعها إلى أيّ الشّريكين شاء ‪.‬‬
‫وهذا الحكم عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫المسألة الثّانية ‪ :‬ما تلف ‪ ،‬أو تعيّب ‪ ،‬ممّا يعمل فيه الشّريكان ‪ ،‬بسبب أحدهما ‪ ،‬فضمانه‬
‫عليهما‪ .‬ولصاحب العمل أن يطالب بهذا الضّمان أيّهما شاء ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة‬
‫والحنابلة ‪ .‬وصرّح الحنابلة بأنّ الضّمان المشترك مقيّد بكونه من غير تفريط المتسبّب فيه ‪،‬‬
‫وإلّ اقتصر الضّمان عليه ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا فيما عدا هاتين المسألتين ‪ ،‬فعنان شركة العمال كعنان غيرها عند الحنفيّة ‪ ،‬ولذا‬ ‫‪99‬‬

‫ينصّون على اختلف حكم القرار في شركة العمال باختلف نوعيها من مفاوضة وعنان ‪ .‬ذلك‬
‫أنّه إذا أق ّر شريك العمال بدين ما من ثمن شيء مستهلك ‪ -‬كصابون أو أيّ منظّف آخر أو غير‬
‫منظّف ‪ -‬أو من أجر عمّال أو أجرة دكّان عن مدّة مضت ‪ ،‬وكذّبه شريكه ‪ ،‬فإنّه يصدّق على‬
‫ن المقرّ‬
‫شريكه إذا كانت شركة مفاوضة ‪ ،‬ول يصدّق إلّ ببيّنة إذا كانت شركة عنان ‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫ل له ‪ ،‬وهو كذلك في المفاوضة ‪،‬‬
‫يلزمه إقراره ‪ ،‬ثمّ ل يؤخذ شريكه بهذا القرار إلّ إذا كان كفي ً‬
‫ول كفالة في العنان ‪ ،‬إذا أطلقت عن التّقييد بها ‪ .‬أمّا القرار بالدّين قبل استهلك المبيع أو قبل‬
‫انقضاء مدّة الجارة ‪ ،‬فماض على الشّركة بإطلق ل فرق بين عنان ومفاوضة ‪.‬‬
‫كذلك لو ادّعى مدّع شيئا ممّا يعملن فيه ‪ ،‬كثوب ‪ ،‬فأقرّ به أحدهما وأنكر الخر ‪ ،‬ل يصدّق‬
‫المقرّ على صاحبه إلّ في المفاوضة ‪ ،‬خلفا لبي يوسف الّذي ترك هنا القياس إلى الستحسان‬
‫وقال ‪ :‬إنّ إقراره ماض على الشّركة في العنان أيضا ‪ ،‬إلحاقا لها بالمفاوضة في محلّ العمل ‪،‬‬
‫كما ألحقت بها في التّضامن والجرة ‪.‬‬
‫والمالكيّة يقولون في شريكي العمال ‪ :‬إنّهما كشخص واحد ‪ .‬فمقتضى هذا الصل العامّ قبول‬
‫أقارير كلّ منهما ‪ ،‬ونفاذها عليهما بإطلق ‪ ،‬ل فرق بين عنان ومفاوضة ‪ ،‬ول بين دين وعين ‪،‬‬
‫وأمّا الحنابلة ‪ ،‬فإنّما يمضون عليهما إقرار أحدهما إذا كان بشيء في يده ‪ ،‬لنّ اليد له ‪ ،‬وإلّ‬
‫فل‪ ،‬لنتفاء اليد ‪.‬‬
‫قسمة الكسب بين شريكي العمل وتحمّلهما الخسارة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والحنابلة وبعض المالكيّة إلى أنّ كسب الشّركة يكون بين الشّريكين على ما‬ ‫‪100‬‬

‫شرطا في عنان شركة العمال ‪ ،‬دون نظر إلى اتّساق الشّرط أو عدم اتّساقه مع شرط العمل‬
‫على كل الشّريكين ‪ .‬وقد تقدّم تعليل ذلك ‪ ،‬وتوجيه مخالفته لقسمة الرّبح في شركة الوجوه ‪.‬‬
‫وهذا أصل مطّرد سواء عمل الشّريكان أم أحدهما ‪ ،‬وسواء كان امتناع الممتنع عن العمل لعذر‬
‫ن العامل معين للخر ‪ ،‬والشّرط مطلق العمل ‪.‬‬
‫‪ -‬كسفر أو مرض ‪ -‬أم لغيره ‪ ،‬ككسل وتعال ‪ ،‬ل ّ‬
‫ولذا ل مانع من الستئجار عليه ‪ ،‬أو حتّى الستعانة المجّانيّة ‪ .‬فإذا لم يتعرّضا لشرط العمل‬
‫ن هذا هو الصل ‪ ،‬فل يعدل عنه إلّ‬
‫بنسبة معيّنة ‪ ،‬فهو على نسبة الرّبح الّتي تشارطاها ‪ ،‬ل ّ‬
‫بنصّ صريح ‪ :‬أمّا الخسارة الوضعيّة في شركة العمال ‪ ،‬فل تكون إلّ بقدر ضمان العمل ‪ -‬أي‬
‫ن الخسارة في شركة الموال دائما بقدر‬
‫بقدر ما شرط على كل الشّريكين من العمل ‪ -‬كما أ ّ‬
‫المالين ‪ ،‬إذ العمل هنا كالمال هناك ‪ .‬ولذا لو تشارطا على أن يكون على أحدهما ثلثا العمل‬
‫وعلى الخر الثّلث فحسب ‪ ،‬والخسارة بينهما نصفان ‪ ،‬فالشّرط باطل فيما يتعلّق بالخسارة ‪،‬‬
‫وهي بينهما على النّسبة الّتي تشارطاها في العمل نفسه ‪.‬‬
‫وينصّ الحنابلة على أنّ حالة الطلق تحمل على التّساوي في العمل والجرة ‪ :‬كالجعالة ‪ ،‬إذ ل‬
‫مرجّح ‪.‬‬
‫أمّا جماهير المالكيّة ‪ ،‬فيتحتّم عندهم أن يكون الرّبح بين شريكي العمال بقدر عمليهما ‪ ،‬ول‬
‫يتجاوز إلّ عن فرق يسير ‪ .‬هذا في عقد الشّركة ‪ ،‬أمّا بعده ‪ ،‬فل حرج على متبرّع إن تبرّع ‪،‬‬
‫ولو بالعمل كلّه ‪ .‬فإذا وقع العقد على تفاوت النّسبة بين العملين والنّسبة بين الرّبحين تفاوتا‬
‫فاحشا ‪ ،‬فإنّه يكون عقدا فاسدا عند المالكيّة ‪ ،‬ويرجع كل الشّريكين على صاحبه بما عمل عنه ‪.‬‬
‫لكنّ المالكيّة يقرنون هذا التّشدّد بالتّسامح في ربح ما يعمله الشّريك ‪ ،‬في غير أوقات عمل‬
‫صةً ‪ ،‬كما فعلوا في شركة الموال ‪.‬‬
‫الشّركة ‪ ،‬إذ يجعلونه له خا ّ‬
‫‪ -‬تنبيه ‪ :‬ليس من شرائط شركة العمال اتّحاد نوع العمل ول مكانه عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو‬ ‫‪101‬‬

‫الصّحيح عند الحنابلة ‪ ،‬خلفا لزفر ‪ -‬في رواية تصحيحه شركة التّقبّل ‪ -‬لنّ المقصود بالشّركة‬
‫وهو تحصيل الرّبح ‪ ،‬يتأتّى مع اتّحاد نوع العمل ومع اختلفه كما يتأتّى مع وحدة المكان ومع‬
‫تعدّده ‪.‬‬
‫‪ -‬والمالكيّة وأبو الخطّاب ‪ ،‬من الحنابلة ‪ ،‬يشترطون اتّحاد نوع العمل وإن كان المالكيّة‬ ‫‪102‬‬

‫ينزّلون تلزم العملين وتوقّف أحدهما على الخر ‪ ،‬منزلة اتّحادهما ‪ :‬كإعداد الخيوط ونسجها ‪،‬‬
‫وسبك الذّهب والفضّة وصياغتهما ‪ .‬بل منهم من يشترط تساوي الشّريكين في درجة إجادة‬
‫الصّنعة أو العمل ‪ .‬والسّ ّر في هذا التّشدّد كلّه ‪ ،‬هو الفرار من أن يأكل أحد الشّريكين ثمرة كدّ‬
‫الخر ونتاج عمله ‪ .‬وقد ألزمهم ابن قدامة بأنّه لو قال أحدهما ‪ :‬أنا أتقبّل وأنت تعمل ‪ ،‬صحّت‬
‫الشّركة ‪ ،‬مع اختلف العملين ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا اتّحاد المكان فإنّ اشتراطه هو مذهب المدوّنة ‪ .‬ولكنّ متأخّري المالكيّة اعتمدوا خلفه‬ ‫‪103‬‬

‫‪ ،‬وأوّلوا ما في المدوّنة على ما إذا كان رواج العمل في المكانين ليس واحدا ‪ -‬حذرا من أن‬
‫ل عنه في‬
‫يأكل أحد الشّريكين كسب الخر ‪ -‬أو على ما إذا كان العمل في أحد المكانين مستق ً‬
‫ن الشّريكين ل يتعاونان فيما يتقبّله ك ّل منهما بمكان عمله ‪ ،‬أو كما يقولون ‪:‬‬
‫الخر ‪ :‬بمعنى أ ّ‬
‫" إذا لم تجل يد أحدهما فيما هو بيد الخر " ‪.‬‬
‫ونصّوا على إهدار النّظر إلى الصّنعة إذا كان المقصود هو التّجارة ‪.‬‬
‫الشّركة الفاسدة ‪:‬‬
‫صحّة ‪ ،‬كأهليّة التّوكيل والتّوكّل‬
‫‪ -‬الشّركة الفاسدة ‪ :‬هي الّتي لم تتوافر فيها إحدى شرائط ال ّ‬ ‫‪104‬‬

‫‪ ،‬وقابليّة المح ّل للوكالة ‪ ،‬وكون الرّبح بين الشّريكين بنسبة معلومة ‪.‬‬
‫وقد ذكر الفقهاء أمثلةً للشّركة الفاسدة ‪ .‬فمن ذلك ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّولً ‪ :‬الشّركة في تحصيل المباحات العامّة ‪:‬‬ ‫‪105‬‬

‫كالشّركة في الحتطاب ‪ ،‬والحتشاش ‪ ،‬والصطياد ‪ ،‬واستقاء الماء ‪ ،‬واجتناء الثّمار الجبليّة ‪،‬‬
‫واستخراج ما في بطن الرض المباحة من نفط ‪ ،‬أو معدن خلقيّ كالذّهب والحديد والنّحاس أو‬
‫كنز جاهليّ ‪ ،‬وصنع لبن أو آجرّ من طين غير مملوك ‪ ،‬فهذه الشّركة فاسدة عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّها‬
‫تتضمّن الوكالة ‪ ،‬والمحلّ هنا غير قابل للوكالة ‪ ،‬فإنّ الّذي تسبق يده إلى المباح يملكه ‪ ،‬مهما‬
‫يكن قصده ‪ ،‬فل يمكن توكيله في أخذه لغيره ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان الطّين ‪ -‬ومثله سهلة الزّجاج ‪ -‬مملوكا ‪ ،‬فاشترك اثنان على أن يشترياه ‪ ،‬ويطبخاه‬
‫ويبيعاه ‪ ،‬فهذه شركة صحيحة ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬فقد صحّحوا الشّركة في تحصيل المباحات بإطلق ‪.‬‬ ‫‪106‬‬

‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬يقع كثيرا أن تكون دابّة أو عربة مشتركة بين اثنين ‪ ،‬فيسلّمها أحدهما إلى الخر‪،‬‬ ‫‪107‬‬

‫على أن يؤجّرها ويعمل عليها ‪ ،‬ويكون له ثلثا الرّبح ‪ ،‬وللّذي ل يعمل الثّلث فحسب ‪ .‬وهي‬
‫شركة فاسدة عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وابن عقيل والقاضي من الحنابلة ‪ ،‬لنّ رأس‬
‫مالها منفعة ‪ ،‬والمنفعة ملحقة بالعروض ‪.‬‬
‫فيكون الدّخل بينهما بنسبة ملكهما ‪ ،‬وللّذي كان يعمل أجرة مثل عمله ‪ ،‬بالغةً ما بلغت ‪.‬‬
‫ن العمل فيما يحمل وهو‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬ول يشبه العمل في المشترك حتّى نقول ‪ :‬ل أجر له ل ّ‬
‫لغيرهما ‪.‬‬
‫‪ -‬وهذه المسألة شبيهة بمسألة الدّابّة أو العربة تكون لواحد من النّاس ‪ ،‬فيدفعها إلى آخر‬ ‫‪108‬‬

‫ليعمل عليها ‪ ،‬والجرة بينهما بنسبة معلومة يتّفقان عليها ‪ ،‬وقد نصّ أحمد والوزاعيّ على‬
‫صحّتها ‪ ،‬اعتبارا بصحّة المزارعة عندهما ‪ .‬وهكذا كلّ عين تنمى بالعمل فيها يصحّ دفعها‬
‫ببعض نمائها ‪.‬‬
‫وهذا كلّه عند جماهير أهل العلم فاسد ‪ ،‬لشدّة الغرر والجهالة ‪ :‬فمع الحنفيّة على فساد هذا كلّه‬
‫المالكيّة والشّافعيّة ومن الحنابلة ‪ :‬ابن عقيل دون تردّد ‪ ،‬والقاضي في بعض احتمالته ‪.‬‬
‫طحّان « يعني ‪ :‬طحن كمّيّة من الحبّ بشيء من‬
‫وقد يستأنس لهم بحديث النّهي ‪ » :‬عن قفيز ال ّ‬
‫طحينها ‪ ،‬وإذن فمثل ذلك إجارة فاسدة ‪ ،‬ل محمل له سوى ذلك ‪ ،‬فيكون الرّبح في مسألة الدّابّة‬
‫أو العربة لصاحبهما ‪ ،‬لنّ العوض إنّما استحقّ بالحمل الّذي وقع منهما ‪ ،‬وليس للعامل إلّ أجرة‬
‫مثله ‪.‬‬
‫وقد كان أقرب ما يخطر بالبال لتصحيحه إلحاقه بالمضاربة ‪ ،‬ولكنّ المضاربة ل تكون في‬
‫العروض ثمّ هي تجارة ‪ ،‬والعمل هنا ليس من التّجارة في شيء ‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ :‬وكثيرا ما يقع أيضا في شركات البهائم ‪ ،‬أن يكون لرجل بقرة ‪ ،‬فيدفعها إلى آخر‬ ‫‪109‬‬

‫ليتعهّدها بالعلف والرّعاية ‪ ،‬على أن يكون الكسب الحاصل بينهما بنسبة ما كنصفين ‪ .‬وهذه‬
‫أيضا شركة فاسدة ل تدخل في شركة الموال ‪ ،‬إذ ليس فيها أثمان يتّجر بها ‪ ،‬ول في شركة‬
‫التّقبّل ‪ ،‬أو الوجوه ‪ ،‬كما هو واضح ‪ .‬والكسب الحاصل إنّما هو نماء ملك أحد الشّريكين ‪ -‬وهو‬
‫صاحب البقر‪ -‬فيكون له ‪ ،‬وليس للخر إ ّل قيمة علفه وأجرة مثل عمله ‪.‬‬
‫ومثل ذلك دود الق ّز ‪ ،‬يدفعه مالكه إلى شخص آخر ‪ ،‬ليتعهّده علفا وخدمةً ‪ ،‬والكسب بينهما ‪،‬‬
‫وكذلك الدّجاجة على أن يكون بيضها نصفين ‪ -‬مثلً ‪ -‬قالوا ‪ :‬والحيلة أن يبيع نصف الصل أو‬
‫ثلثه مثلً بثمن معلوم ‪ ،‬مهما ق ّل ‪ ،‬فما حصل منه بعد ذلك فهو بينهما على هذه النّسبة ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد عرفنا نصّ أحمد والوزاعيّ في ذلك ‪ ،‬وقضيّته تصحيح هذه الشّركات كلّها ‪ -‬شأن‬ ‫‪110‬‬

‫كلّ عين تنمي بالعمل فيها ‪ -‬كما عرفنا أنّ جماهير أهل العلم ل يوافقونهما ‪ ،‬حتّى قال بعض‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬على القادر أن يمنع من ذلك ‪ ،‬لما فيه من بالغ الضّرر ‪.‬‬
‫ي ذلك أنّهم يصحّحون الشّركة بين‬
‫ن المالكيّة ذكروا هنا فرعا يشبه التّجاه الحنبل ّ‬
‫‪ -‬بيد أ ّ‬ ‫‪111‬‬

‫اثنين ‪ ،‬يأتي أحدهما بطائر ذكر ‪ ،‬ويأتي الخر بطائر أنثى ‪ -‬كلهما من نوع الطّيور الّتي يشرك‬
‫ذكورها وإناثها في الحضانة ‪ ،‬كالحمام ‪ -‬ويزوّجان هذه لهذا ‪ ،‬على أن تكون فراخهما بينهما‬
‫على سواء ‪ ،‬وعلى كلّ منهما نفقة طائره ‪ -‬إ ّل أن يتبرّع بها الخر ‪ -‬وضمانه إذا هلك ‪.‬‬
‫والعلّة ‪ -‬كما يشعر سياقهم ‪ -‬أنّ هذه أعيان تنمى من غير طريق التّجارة ‪ ،‬فتنزّل منزلة ما‬
‫ينمى بالتّجارة ‪.‬‬
‫أحكام الشّركة الفاسدة ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّولً ‪ :‬أنّها ل تفيد الشّريك ما تفيده الشّركة الصّحيحة من تصرّفات هكذا قرّره الحنفيّة ‪.‬‬ ‫‪112‬‬

‫ولمّا كانت الشّركة عند الشّافعيّة ليست عقدا مستقلً ‪ ،‬بل وكالة كسائر الوكالت ‪ ،‬فإنّهم يقولون‬
‫‪ :‬تنفذ تصرّفات الشّريكين في الشّركة الفاسدة ‪ ،‬لبقاء الذن ‪ ،‬ومثله للحنابلة ‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه في الشّركة الّتي لها مال يكون دخلها للعامل وحده ‪ .‬ففي‬ ‫‪113‬‬

‫الشّركة لتحصيل شيء من المباحات العامّة ‪ ،‬إذا أخذه أحدهما ‪ ،‬ولم يعمل الخر شيئا لعانته ‪،‬‬
‫فهو للّذي أخذه ‪ ،‬لنّه الّذي باشر سبب الملك ‪ ،‬ول شيء لشريكه ‪ .‬وإذا أخذاه معا ‪ ،‬فهو بينهما‬
‫نصفين ‪ ،‬لنّهما اشتركا في مباشرة سبب الملك ‪ ،‬فإذا باعاه ‪ -‬وقد علمت نسبة ما حصل لكلّ‬
‫ي ككيل الماء‬
‫ي كالحطب والحشيش ‪ ،‬ومعيار المثل في المثل ّ‬
‫منهما ‪ ،‬باعتبار القيمة في القيم ّ‬
‫ووزن المعدن ‪ -‬فالثّمن بينهما على هذه النّسبة ‪ ،‬وإن جهلت النّسبة ‪ ،‬فدعوى كلّ واحد منهما‬
‫مصدّقة في حدود النّصف ‪ ،‬لنّها إذن ل تخالف الظّاهر ‪ ،‬إذ هما حصّله معا ‪ ،‬وكان بأيديهما ‪،‬‬
‫فالظّاهر أنّهما فيه سواء ‪.‬‬
‫أمّا دعوى أحدهما فيما زاد على النّصف ‪ ،‬فل تقبل إلّ ببيّنة ‪ ،‬لنّها خلف الظّاهر ‪.‬‬
‫ل كان أم غيره ‪ -‬كأن‬
‫وإذا أخذ الشّيء المباح أحدهما ‪ ،‬وأعانه الخر بما ل يعتبر أخذا ‪ -‬عم ً‬
‫قلعه ‪ ،‬وجمعه الخر ‪ ،‬أو قلعه وجمعه وربطه هو ‪ ،‬وحمله الخر ‪ ،‬أو استقى الماء ‪ ،‬وقدّم‬
‫الخر المزادة أو الفنطاس أو البغل أو العربة لحمله ‪ ،‬فهو كلّه للّذي أخذه ‪ ،‬وليس عليه للّذي‬
‫أعان ‪ ،‬بنحو ما ذكرنا ‪ ،‬إلّ أجرة مثله أو مثل آلته بالغةً ما بلغت ‪ ،‬لنّه استوفى منافعه بعقد‬
‫فاسد ‪.‬‬
‫‪ -‬والمالكيّة والشّافعيّة يوافقون في حالة انفراد أحد الشّريكين بالعمل ‪ .‬أمّا في حالة وقوع‬ ‫‪114‬‬

‫العمل من الشّريكين فإنّهم يفرّقون بين ثلث حالت ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬تمايز العملين ‪ .‬فيكون لكلّ كسبه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬اختلط العملين ‪ ،‬لكن بحيث ل تلتبس نسبة أحدهما إلى الخر ‪ .‬فالكسب على هذه النّسبة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬اختلط العملين ‪ ،‬بحيث تلتبس نسبتهما ‪ .‬وهنا يخالفون الحنفيّة ‪ ،‬ويبدون احتمالين ‪:‬‬
‫الحتمال الوّل ‪ :‬التّساوي في الكسب ‪ ،‬لنّه الصل ‪ .‬وهذا هو ظاهر كلم المالكيّة ‪.‬‬
‫الحتمال الثّاني ‪ :‬تركهما حتّى يصطلحا ‪.‬‬
‫وهناك موضع خلف آخر ‪ :‬فإنّ المباحات الّتي يحصّلها أحد الشّريكين على انفراد ‪ -‬في حالة‬
‫الشّركة لتحصيل المباحات ‪ -‬تكون بينه وبين شريكه ‪ ،‬ما دام الفرض أنّه قد حصّلها بهذه النّيّة‬
‫بنا ًء على صحّة النّيابة في تحصيل المباحات ‪ :‬وهو ما عليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّ الرّبح في حالة عمل الشّريكين ‪ ،‬يقسم بالتّساوي ‪ ،‬إذ الفرض أنّ سبب‬
‫الستحقاق ‪ ،‬وهو العمل ‪ ،‬مشترك ‪ ،‬ثمّ يرجع كلّ شريك على شريكه بأجرة ما عمل له ‪ :‬أي‬
‫بنصف أجرة عمله في الشّركة الثّنائيّة ‪ ،‬وثلثي أجرة عمله في الشّركة الثّلثيّة ‪ ،‬وثلثة أرباع‬
‫أجرة عمله في الشّركة الرّباعيّة ‪ ،‬وهكذا دواليك ‪.‬‬
‫إلّ أنّ الشّريف أبا جعفر ‪ ،‬منهم ‪ ،‬يذهب في شركة الموال إلى التّسوية بين الشّركة الصّحيحة‬
‫والفاسدة في قسمة الرّبح ‪ :‬فإن شرطا شيئا فهما على ما شرطاه ‪ ،‬لنّ عقد الشّركة يصحّ على‬
‫الجهالة ‪ ،‬فيثبت المسمّى في فاسده كالنّكاح ‪.‬‬
‫‪ -‬وشركة الوجوه ‪ ،‬هي عند المالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬من قبيل الشّركة الفاسدة الّتي ل مال فيها‬ ‫‪115‬‬

‫‪ ،‬ولها عندهم ثلث صور ‪:‬‬


‫الصّورة الولى ‪ :‬أن يتّفق اثنان فصاعدا على أنّ كلّ ما يشتريه أحدهما بدين في ذمّته يكون‬
‫الخر شريكا له فيه ‪ ،‬والرّبح بينهما ‪ .‬ومن المالكيّة من يميّز هذه الصّورة باسم شركة الذّمم ‪.‬‬
‫ص ًة ‪ ،‬له ربحه وعليه وضيعته ومعنى‬
‫ويرى الشّافعيّة أنّ ما يشتريه كلّ منهما يكون لنفسه خا ّ‬
‫ذلك أنّ ما يشتريانه معا ‪ ،‬يكون مشتركا بينهما شركة ملك ‪ ،‬حسب شروط العقد ‪.‬‬
‫ولكنّ المالكيّة يقولون ‪ :‬بل ‪ -‬برغم الفساد ‪ -‬يكون بينهما ما يشتريانه معا أو يشتريه أحدهما ‪،‬‬
‫على ما شرطاه ‪.‬‬
‫ل من المالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬على هذا التّصوير ‪ ،‬إنّما يبني على خلوّ المسألة من‬
‫ويلحظ أنّ ك ً‬
‫توكيل ك ّل من الشّريكين الخر في الشّراء له ‪ .‬فلو وجد هذا التّوكيل ‪ ،‬فقد نصّ بعض المتأخّرين‬
‫جدّا من الشّافعيّة على أنّ الشّركة تكون شركة عنان صحيحةً بشرط بيان النّسبة الّتي يكون‬
‫ص الشّريك الّذي لم يتولّ الشّراء‬
‫عليها الرّبح بينهما ‪ -‬إن لم يعلم قدر المالين ‪ -‬وإذن فما يخ ّ‬
‫من الثّمن ‪ ،‬يكون دينا عليه ‪.‬‬
‫أمّا التّوكيل ‪ -‬أو الذن ‪ -‬بشراء شيء معيّن لهما بثمن معلوم ‪ ،‬فهذا صحيح ‪ ،‬ويؤدّي إلى‬
‫شركة ملك ل خفاء بها عند الجميع ‪ ،‬كما لو اشترياه معا بدين عليهما ‪ ،‬قال المالكيّة وبعض‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬ول يطالب البائع كلّ شريك إلّ بحصّته من الثّمن ‪ ،‬ما لم يشرط عليه الضّمان عن‬
‫شريكه ‪ ،‬والّذي اعتمده الشّافعيّة في مثله تنزيل الوكيل منزلة الضّامن ‪.‬‬
‫الصّورة الثّانية ‪ :‬أن يتّفق وجيه وخامل على أن يشتري الوجيه ويبيع الخامل ‪ .‬وفيها يكون ما‬
‫صةً ‪ .‬والخامل ليس إلّ عامل جعالة فاسدة لجهالة العوض ‪ ،‬فيستحقّ أجرة‬
‫يشتريه الوجيه له خا ّ‬
‫مثل عمله على الوجيه ‪ ،‬كما قرّره الشّافعيّة ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ ،‬فلم يختلف الحكم الّذي أعطوه لهذه الصّورة عن الّذي أعطوه للصّورة الولى ‪ ،‬إلّ‬
‫ص على رجوع ك ّل من الشّريكين على الخر بما عمل عنه ‪ .‬وقد نازع فيه بعضهم ‪ ،‬ومال‬
‫بالنّ ّ‬
‫إلى تصحيح الشّركة ‪.‬‬
‫الصّورة الثّالثة ‪ :‬أن يعمل الوجيه للخامل في ماله ‪ ،‬دون أن يسلّم المال إليه ‪ ،‬أو تقتصر مهمّة‬
‫الوجيه على أن يبيع مال الخامل ‪ ،‬ولو أسلمه إليه ‪.‬‬
‫وقد ذكر الشّافعيّة أنّ هذه الصّورة بشقّيها مضاربة فاسدة ‪ ،‬إمّا لكون رأس المال ليس نقدا ‪،‬‬
‫وإمّا لعدم تسليمه للمضارب ‪ .‬فيكون للمضارب أجرة مثله ل غير ولم يعرض المالكيّة للشّقّ‬
‫ق الثّاني موافقون على أنّه للعامل أجرة مثله ‪ ،‬إلّ أنّهم سمّوها‬
‫الوّل من التّصوير ‪ ،‬وهم في الشّ ّ‬
‫ش ‪ ،‬إن كانت السّلعة قائمةً ‪ ،‬وإلّ فعليه القلّ من‬
‫جعلً وزادوا أنّ للمشتري الخيار ‪ ،‬لمكان الغ ّ‬
‫ثمنها ‪ ،‬وقيمتها ‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ :‬حيث المال من أحد الشّريكين وفسدت الشّركة ليّ سبب فالدّخل له وللخر أجرة‬ ‫‪116‬‬

‫مثله عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّ الدّخل نماء الملك ‪ ،‬كما قالوه في المزارعة الفاسدة ‪ ،‬إذ يتبع الزّرع‬
‫البذر‪.‬‬
‫فلو عهد شخص يملك بيوتا أو عربات أو دوابّ إلى آخر ليقوم على تأجيرها ‪ ،‬وتكون الجرة‬
‫بينهما ‪ ،‬فليس لهذا الخر إلّ أجرة مثله ‪ ،‬والدّخل كلّه للمالك ‪ .‬كما أنّه لو احتاج شخص يريد‬
‫أن يبيع بضاعته في السّوق إلى عربة أو دابّة تنقلها ‪ ،‬فلم يقبل صاحب العربة أو الدّابّة أن‬
‫يعطيه إيّاها إ ّل بشرط أن يكون له نصف الرّبح فإنّ هذا الشّرط يكون لغوا ‪ ،‬والشّركة فاسدة ‪،‬‬
‫والرّبح كلّه لصاحب البضاعة ‪ ،‬لنّه نماء ملكه ‪ ،‬وليس لصاحب الدّابّة أو العربة إلّ أجرة‬
‫مثلها ‪ ،‬لستيفاء منافعها بعقد فاسد ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند غير الحنفيّة كذلك وهو أنّ الرّبح تبع للمال ‪.‬‬ ‫‪117‬‬

‫ولذا يقول الشّافعيّة ‪ :‬لو أنّ ثلث ًة اشتركوا ‪ ،‬أحدهم بماله ‪ ،‬والثّاني بشراء سلعة بهذا المال ‪،‬‬
‫والثّالث ببيع هذه السّلعة ‪ ،‬على أن يكون الرّبح بينهم يكون الرّبح لصاحب المال ‪ ،‬وليس عليه‬
‫لكلّ من شريكيه سوى أجرة مثل عمله ‪.‬‬
‫‪ -‬رابعا ‪ :‬اتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان المال من الشّريكين فالدّخل بينهما بقدر المالين كما‬ ‫‪118‬‬

‫صةً مجهولةً ‪ .‬وكما لو كان لحد اثنين‬


‫لو كانت حصّة كلّ من الشّريكين في ربح شركة أموال ح ّ‬
‫شاحنة وللخر سيّارة ركوب ‪ ،‬فاتّفقا على أن يؤجّر كلّ منهما ما يخصّه وما يخصّ الخر ‪ ،‬وما‬
‫ن هذه الشّركة فاسدة ‪ ،‬إذ خلصتها‬
‫حصل من الدّخل بينهما على سواء ‪ ،‬أو بنسبة معلومة ‪ -‬فإ ّ‬
‫ل منهما قال للخر ‪ :‬بع منافع هذا الشّيء الّذي تملكه ‪ ،‬ومنافع هذا الّذي أملكه ‪ ،‬على أن‬
‫أنّ ك ً‬
‫يكون ثمن هذه وتلك قسمةً بيننا بنسبة كذا ‪ -‬وليس هذا إلّ تحصيل الرّبح من مال الغير‪ ،‬دون‬
‫عمل ول ضمان ‪ ،‬والرّبح ل يكون إلّ بمال أو عمل أو ضمان ‪ ،‬لكن إذا وضعت هذه الشّركة‬
‫الفاسدة موضع التّنفيذ فإن أجّرا السّيّارتين كلّ منهما بأجر معلوم فلكلّ منهما أجر ملكه وإن أجّرا‬
‫السّيّارتين صفقةً واحدةً ‪ ،‬بأجرة معلومة في عمل معلوم ‪ ،‬فهي إجارة صحيحة ‪ ،‬والجرة‬
‫المتحصّلة إنّما تقسم بينهما على مثل أجرة ما يملكه كلّ منهما ‪ ،‬كما يقسم الثّمن على قيمة‬
‫المبيعين المختلفين ‪ .‬ل على ما تشارطا ‪ ،‬لنّ الشّرط في ضمن الشّركة الفاسدة لغو ‪ ،‬ل اعتداد‬
‫به ‪.‬‬
‫‪ -‬وهذا الحكم الّذي أخذه هذا القسم ‪ -‬حيث المال من الشّريكين ‪ -‬كقاعدة عامّة ‪ ،‬هو‬ ‫‪119‬‬

‫مذهب جماهير أهل العلم ‪.‬‬


‫فقد أطبق عليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يرجع كلّ شريك على شريكه الخر‬
‫بأجرة مثل ما عمل له ‪ ،‬إلّ أن يكون متبرّعا ‪.‬‬
‫غير أنّ المالكيّة واقفون أبدا مع أصلهم الّذي أصّلوه في المزارعة ‪ ،‬كما أسلفناه وجروا على‬
‫سننه كلّما كان له مجال ولذا نجدهم يقولون ‪ -‬فيما لو اشترك ثلثة ‪ :‬أحدهم بداره ‪ ،‬والثّاني‬
‫بدابّته ‪ ،‬والثّالث برحاه ‪ ،‬على أن يتولّى عمل الطّحن واحد منهم بعينه ‪ ،‬وليكن صاحب الدّابّة ‪-‬‬
‫أنّ الغلّة كلّها تكون للّذي انفرد بالعمل ‪ ،‬وعليه للخرين أجرة مثل ما قدّموا ‪ .‬وهو مسلك ل يكاد‬
‫يسلكه سواهم ‪ .‬ومثال ذلك مسألة الشّاحنة وسيّارة الرّكوب ‪ ،‬إذا انفرد أحد الشّريكين بالعمل ‪.‬‬
‫ثمّ قد يقع الخلف أيضا من الخرين في طريق التّطبيق ‪ :‬فقد نصّ الحنابلة كما ذكر ابن قدامة‬
‫ن الشّريكين لو تقبّل عمل شيء معلوم إلى مكان معلوم في ذمّتهما ‪،‬‬
‫في مسألة الدّابّتين ‪ ،‬على أ ّ‬
‫ثمّ حمل على الدّابّتين أو على غيرهما ‪ ،‬فإنّها تكون شركةً صحيحةً ‪ ،‬والجرة بينهما على ما‬
‫صحّة من عقد تقبّل عامّ بين‬
‫ن أصول الحنابلة ل تساعده ‪ ،‬إذ ل بدّ عندهم لل ّ‬
‫شرطاه مع أ ّ‬
‫الشّريكين سابق على هذا التّقبّل الّذي ذكره ابن قدامة على أنّ ابن قدامة عاد فأبدى احتمال‬
‫تصحيح الشّركة على شرطها ‪ ،‬حتّى في حالة ما إذا أجّر الشّريكان الدّابّتين إجارة عين قياسا‬
‫على صحّة الشّركة عندهم في تحصيل المباحات ‪.‬‬
‫ملحق ‪:‬‬
‫‪ -‬في الشّركة الفاسدة ‪ ،‬كيف يطالب البائع بثمن ما باعه من أحد شريكيها ‪ ،‬إذا غاب‬ ‫‪120‬‬

‫أحدهما وحضر الخر ؟‬


‫يقول المالكيّة إنّ الحوال ثلثة ‪:‬‬
‫الحالة الولى ‪ :‬أن يكون البائع يعلم فساد الشّركة ‪ ،‬فل يكون له حقّ مطالبة الشّريك الحاضر إلّ‬
‫بحصّته في الثّمن ‪.‬‬
‫الحالة الثّانية ‪ :‬أن يكون البائع يعلم بالشّركة ‪ ،‬ول يعلم بفسادها ‪ ،‬وحينئذ يكون له حقّ مطالبة‬
‫الشّريك الحاضر ‪ ،‬بجميع الثّمن ‪ ،‬ولو لم يكن هو الّذي اشترى منه ‪.‬‬
‫الحالة الثّالثة ‪ :‬أن يكون ل يعلم بالشّركة نفسها ‪ ،‬وفي هذه الحالة إن كان الشّريك الحاضر هو‬
‫الّذي اشترى منه ‪ ،‬طالبه بجميع الثّمن ‪ ،‬لنّه لم يتعاقد معه على أنّه وكيل لغيره في النّصف ‪،‬‬
‫وإن لم يكن هو الّذي اشترى منه ‪ ،‬فإنّما يطالبه بحصّة في الثّمن ل غير ‪ ،‬لنّه لم يملك إلّ مقابل‬
‫هذه الحصّة من السّلعة ‪.‬‬
‫هكذا حكوه عن اللّخميّ والّذي ذكره الخرشيّ خلفه ‪ ،‬فانظره إن شئت ‪.‬‬
‫أسباب انتهاء الشّركة ‪:‬‬
‫السباب العامّة ‪:‬‬
‫أسباب النتهاء العامّة هي الّتي ل تخصّ شركةً دون شركة ‪ ،‬بل تجيء في جميع أنواع الشّركات‬
‫وهي ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّولً ‪ :‬فسخ أحد الشّريكين ‪ ،‬وقد سلف الكلم على هذا ‪ ،‬عند الكلم على عدم لزوم العقد‪.‬‬ ‫‪121‬‬

‫ن إنكار أحدهما الشّركة بمثابة فسخها ‪ ،‬حتّى إنّه لو وقع ‪،‬‬


‫ص الحنفيّة على أ ّ‬
‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬ن ّ‬ ‫‪122‬‬

‫لمتنع على الشّريك الخر ‪ ،‬بعد علمه به ‪ ،‬وعلى المنكر نفسه التّصرّف في حصّة شريكه من‬
‫مال الشّركة ‪ .‬فإذا تصرّف فيها كان عليه ضمانها ‪ ،‬كالغاصب وله ربحها وعليه خسارتها ‪ ،‬لنّه‬
‫تصرّف بغير إذن صاحبها ‪ ،‬وإن كان ل يطيب له الرّبح عند أبي حنيفة ومحمّد ‪ ،‬فيتصدّق به ‪.‬‬
‫وقد نصّ الشّافعيّة خلفا للحنابلة على البطلن بالنكار في الوكالة ‪ ،‬إذا كان النكار متعمّدا ول‬
‫يرمي به إلى غرض آخر ‪ -‬كصيانة مال الوكالة من أن تناله يد ظالم غاشم ‪ -‬والشّركة عندهم‬
‫ليست إ ّل وكالةً ‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ :‬جنون أحدهما جنونا مطبقا ‪ .‬وهو ل يصير مطبقا إ ّل بعد أن يستم ّر شهرا أو سنةً‬ ‫‪123‬‬

‫كاملةً ‪ ،‬على خلف عند الحنفيّة ‪ .‬فل تنتهي الشّركة إلّ إذا مضت هذه المدّة بعد ابتدائه ‪.‬‬
‫وإنّما تبطل الشّركة ‪ ،‬لنّها تعتمد الوكالة ول تنفكّ عنها ‪ ،‬والوكالة تبطل بالجنون المطبق ‪،‬‬
‫لسلبه الهليّة ‪.‬‬
‫ص على هذا‬
‫ويعود هنا في تصرّف الشّريك الخر في حصّة المجنون ما سلف في النكار ون ّ‬
‫المبطل أيضا الشّافعيّة والحنابلة دون تقييد بمدّة ‪.‬‬
‫‪ -‬رابعا ‪ :‬موت أحدهما ‪ ،‬لنّ الموت مبطل للوكالة ‪ ،‬والوكالة الضّمنيّة جزء من ماهيّة‬ ‫‪124‬‬

‫ك عنها ابتدا ًء ول بقا ًء ‪ ،‬ضرورة الحاجة إلى ثبوت واستمرار ولية التّصرّف لكل‬
‫الشّركة ل تنف ّ‬
‫الشّريكين عن الخر ‪ ،‬منذ قيام الشّركة إلى انتهائها ‪ .‬إلّ أنّ بطلن الشّركة في الموال‬
‫بالموت ‪ ،‬ل يتوقّف على علم الشّريك به ‪ ،‬لنّه عزل حكميّ غير مقصود ل يمكن تقديمه‬
‫وتأخيره ‪ ،‬إذ بمجرّد الموت ينتقل شرعا ملك مال الميّت إلى ورثته ‪ ،‬فل يمكن إيقاف ما نفّذه‬
‫الشّرع ‪.‬‬
‫وإنّما تبطل الشّركة بالموت بالنّسبة للميّت ‪ .‬فإذا لم يكن له سوى شريك واحد لم يبق شيء من‬
‫الشّركة بالضّرورة ‪ ،‬أمّا إذا كان له أكثر من شريك ‪ ،‬فإنّ شركة الباقين على قيد الحياة باقية ‪.‬‬
‫ونصّ على هذا المبطل أيضا الشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫‪ -‬ويقرّر الشّافعيّة والحنابلة أنّ للوارث الرّشيد الخيار بين القسمة واستئناف الشّركة ‪ ،‬وأنّ‬ ‫‪125‬‬

‫على وليّ الوارث غير الرّشيد ‪ ،‬أو وليّ الشّريك الّذي انتهت الشّركة بجنونه ‪ ،‬أن يختار من‬
‫هذين المرين أصلحهما لمحجوره ‪ .‬نعم إن كان على التّركة دين ‪ ،‬أو فيها وصيّة لغير معيّن ‪،‬‬
‫توقّف جواز استئناف الشّركة على قضائهما ‪ ،‬ولو من خارج التّركة ‪ ،‬لنّهما يتعلّقان بالتّركة‬
‫ح الشّركة فيه ‪.‬‬
‫تعلّق الرّهن ‪ ،‬والمرهون ل تص ّ‬
‫والموصى له المعيّن بمثابة الوارث في ذلك كلّه ‪ ،‬ويعتبر كأحد الورثة عند التّعدّد ‪.‬‬
‫وفي استئناف الشّركة يكتفي الشّافعيّة بصيغة التّقرير ‪ ،‬وإن كان في بعض عباراتهم ما يفيد‬
‫قصر هذا الكتفاء على ما إذا كان مال الشّركة عروضا ‪.‬‬
‫‪ -‬خامسا ‪ :‬ذهب الحنفيّة إلى أنّ القضاء بلحاق أحدهما بدار الحرب مرتدّا تنتهي به الشّركة‬ ‫‪126‬‬

‫ي‪.‬‬
‫لنّه بهذا يصير من أهل دار الحرب ‪ ،‬والقضاء به عندهم موت حكم ّ‬
‫بل يرى أبو حنيفة أنّه بالقضاء المذكور يتبيّن أنّ هذا الموت الحكميّ كان من حين الرّدّة فإذا‬
‫بطلت الشّركة بهذا السّبب ‪ ،‬ثمّ عاد الشّريك مسلما ‪ ،‬فل جدوى بالنّسبة للشّركة ‪ ،‬فقد بطلت‬
‫وقضي المر ‪.‬‬
‫أمّا الرّدّة بدون هذا القضاء ‪ -‬سواء اقترنت باللّحاق بدار الحرب أم ل ‪ -‬فإنّما يترتّب عليها‬
‫إيقاف الشّركة ‪ ،‬حتّى إذا رجع المرت ّد إلى السلم عادت سيرتها الولى ‪ ،‬وإن مات أو قتل ‪،‬‬
‫تبيّن بطلنها من حين الرّدّة ‪.‬‬
‫‪ -‬سادسا ‪ :‬مخالفة شروط العقد ‪ :‬كما لو تجاوز الشّريك حدود المكان الّذي قيّدت به إ ّل أنّ‬ ‫‪127‬‬

‫البطلن يكون بمقدار المخالفة كلّيّا أو جزئيّا ‪ ،‬فمثال المخالفة الكلّيّة ما لو نهى أحد الشّريكين‬
‫الخر عن الخروج بالبضاعة ‪ ،‬فخرج بها ‪.‬‬
‫ومثال المخالفة الجزئيّة ‪ :‬أن يبيع نسيئةً ول يجيزه شريكه ‪ ،‬فيبطل البيع في حصّة الشّريك ‪،‬‬
‫وينفذ في حصّة البائع ‪ ،‬وفي هذه الحصّة تبطل الشّركة حينئذ ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا المالكيّة فل يرتّبون على مخالفة شروط العقد ‪ ،‬بل وطبيعته ‪ ،‬إلّ إعطاء الشّريك‬ ‫‪128‬‬

‫الخر حقّ ر ّد التّصرّف الّذي وقعت به المخالفة ‪ ،‬وتضمين المخالف ‪ ،‬إن ضاع المال بسبب‬
‫مخالفته ‪ .‬فقد نصّوا على ذلك فيما إذا استبدّ بالتّصرّف شريك العنان ‪ ،‬لنّها تقتضي عدم استبداد‬
‫شريك بالتّصرّف للشّركة ‪ ،‬دون مراجعة شريكه وكذا عند الحنفيّة وهو المفهوم من تصرّف‬
‫الشّافعيّة بإزاء بيع الشّريك نسيئةً دون إذن شريكه ‪ ،‬باعتباره عندهم ل يستمدّ حقّ البيع نسيئةً‬
‫من طبيعة عقد الشّركة ‪.‬‬
‫‪ -‬سابعا ‪ :‬ذكر الشّافعيّة والحنابلة من المبطلت ‪ :‬طروّ الحجر على أحد الشّريكين بسفه ‪.‬‬ ‫‪129‬‬

‫وزاد الشّافعيّة الحجر للفلس إلّ أنّه مبطل جزئيّ بالنّسبة للفلس ‪ ،‬بمعنى أنّه ل ينفذ من المفلّس‬
‫بعد الحجر عليه أي تصرّف سلبه الحجر إيّاه ‪.‬‬
‫ومن قواعد الشّافعيّة أنّ البيع والشّراء في ال ّذمّة ينفذان من المفلّس ‪.‬‬
‫ي إلّ في الوصيّة والتّدبير ‪ .‬فعلى هذا إذا باع المفلّس أو‬
‫أمّا السّفيه ‪ ،‬فل يصحّ له تصرّف مال ّ‬
‫شريكه شيئا من مال الشّركة نفذ في نصيب غير المفلّس وإذا اشترى المفلّس للشّركة في ذمّته‬
‫نفذ عليها عندهم ‪.‬‬
‫السباب الخاصّة ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ّولً ‪ :‬هلك المال في شركة الموال عند الحنفيّة ‪ :‬وصورته أن يهلك المالن ‪ ،‬أعني مال‬ ‫‪130‬‬

‫كلّ من الشّريكين ‪ -‬سواء كان ذلك قبل الشّراء بمال الشّركة أم بعده ‪ -‬أو يهلك مال أحدهما قبل‬
‫الشّراء بشيء من مال الشّركة ‪ .‬والشّقّ الثّاني من التّرديد ل يتصوّر إلّ إذا كان مال هذا الحد‬
‫متميّزا من مال الخر ‪ ،‬لختلف الجنس ‪ ،‬أو لعدم الختلط ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان المالن من جنس واحد وقد خلطا ‪ ،‬فإنّ ما يهلك منهما يهلك على الشّريكين كليهما‬
‫ن الّذي هلك هو مال هذا دون ذاك ‪ -‬وما بقي فعلى الشّركة ‪.‬‬
‫‪ -‬إذ ل يمكن القطع بأ ّ‬
‫والسّرّ في بطلن الشّركة بهلك المال ‪ ،‬أنّه عندما يهلك مال الشّركة كلّه يكون قد هلك محلّ‬
‫العقد المتعيّن له ‪ ،‬والعقد يبطل بفوات محلّه ‪ ،‬كالبيع إذا هلك المبيع ‪ .‬وإنّما تعيّن الهالك هنا‬
‫ن الثمان ‪ -‬وإن كانت ل تتعيّن في المعاوضات لئلّ تخرج عن طبيعة الثّمنيّة ‪،‬‬
‫محلً للعقد ل ّ‬
‫وتصير سلعةً مقصود ًة بذاتها ‪ -‬فإنّها تتعيّن في غيرها ‪ ،‬كالهبة والوصيّة ‪ -‬من كلّ عقد ل‬
‫يكون بإزائها فيه عوض ‪ .‬وهذه هي طبيعة الشّركة ‪.‬‬
‫فإذا بطلت الشّركة بهلك أحد المالين قبل الشّراء ‪ ،‬فالمال الخر خالص لصاحبه ‪ ،‬وما يشتريه‬
‫ص ًة ل سبيل لمن هلك ماله عليه ‪ ،‬ل من طريق الشّركة ‪ ،‬لما علم من‬
‫به بعد يكون له خا ّ‬
‫ن بطلن الشّركة يستتبع بطلنها ‪،‬‬
‫بطلنها ‪ ،‬ول من طريق الوكالة الّتي كانت في ضمنها ‪ ،‬ل ّ‬
‫وإن لم تكن بلفظ الوكالة فحينئذ يكون ما يشتريه صاحب المال الباقي مشتركا بحكم الوكالة ‪،‬‬
‫لنّ الوكالة الصّريحة ل تبطل ببطلن الشّركة ‪ .‬ويرجع على شريكه بحصّة من الثّمن ‪ .‬لكنّها‬
‫إذن شركة ملك‪ ،‬إذ ل عقد شركة بينهما ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب الحنابلة إلى أنّ هلك أحد المالين على الشّركة بإطلق ‪ ،‬والباقي بل هلك للشّركة‬ ‫‪131‬‬

‫ن المال يقسم بكلمة ‪،‬‬


‫كذلك ‪ ،‬لنّهم يحكمون باشتراك المالين بمجرّد عقد الشّركة ‪ ،‬ويقولون إ ّ‬
‫كما في الخرص ‪ ،‬فل غرو أن يشترك فيه بكلمة ‪ ،‬كما في الشّركة ‪.‬‬
‫فإذا كانت الشّركة بالمال مناصفةً ‪ ،‬اقتضى مجرّد عقدها ثبوت الملك لكلّ من الشّريكين في نصف‬
‫مال صاحبه وتوسّط المالكيّة في معتمدهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنّ هلك أحد المالين قبل خلطهما ‪ ،‬ولو‬
‫ص ًة ‪ ،‬ل من ضمان الشّركة ‪ -‬ومع ذلك تبقى الشّركة‬
‫خلطا حكميّا ‪ ،‬يكون من ضمان صاحبه خا ّ‬
‫‪ :‬بحيث يكون ما يشترى بالمال الباقي لها ‪ ،‬وعلى الشّريك الّذي تلف ماله حصّته في الثّمن ‪-‬‬
‫إلّ أن يكون الشّراء بعد علم المشتري بهلك المال الخر ولم يرده للشّركة الشّريك الّذي هلك‬
‫ماله ‪ ،‬أو أراده ولكن ادّعى الخر أنّه اشتراه لنفسه ‪ :‬فحينئذ يكون لصاحب المال الباقي وحده‬
‫‪.‬‬
‫ن مقتضى جعلهم الخلط من شرائط صحّة‬
‫أمّا الشّافعيّة ‪ ،‬فلم أر لهم في ذلك كلما صريحا ‪ .‬ولك ّ‬
‫الشّركة بطلن الشّركة ‪ ،‬بهلك أحد المالين فيما عداه أو هلك المالين جميعا ‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬فوات التّساوي في شركة المفاوضة ‪ :‬سواء كان الفائت هو التّساوي في رأس‬ ‫‪132‬‬

‫المال ‪ ،‬أم في أهليّة التّصرّف ‪ ،‬وإذا بطلت المفاوضة بهذا أو ذاك ‪ ،‬انقلبت عنانا ‪ ،‬لعدم اشتراط‬
‫المساواة في العنان ‪ ،‬كما هو معلوم ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬انتهاء المدّة في الشّركة المؤقّتة وقد تقدّم أنّ التّأقيت صحيح عند سائر الفقهاء عدا‬
‫الطّحاويّ من الحنفيّة ‪.‬‬

‫شروع *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّروع مصدر شرع ‪ .‬يقال ‪ :‬شرعت في المر أشرع شروعا ‪ ،‬أخذت فيه ‪ ،‬وشرعت في‬ ‫‪1‬‬

‫الماء شروعا شربت بكفّيك أو دخلت فيه ‪ ،‬وشرعت المال ‪ -‬أي البل ‪ -‬أشرعه ‪ :‬أوردته‬
‫الشّريعة ‪ ،‬وشرع الباب إلى الطّابق شروعا ‪ :‬اتّصل به ‪ ،‬وطريق شارع يسلكه النّاس عا ّمةً ‪،‬‬
‫وأشرعت الجناح إلى الطّريق ‪ :‬وضعته ‪.‬‬
‫ومنه ‪ :‬شرع اللّه الدّين ‪ ،‬أي سنّه وبيّنه ‪ ،‬ومنه الشّريعة وهي ما شرعه اللّه لعباده من العقائد‬
‫والحكام ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالشّروع ‪:‬‬
‫الشّروع في العبادات ‪:‬‬
‫ن الشّروع في العبادات يتحقّق بالفعل مقرونا بالنّيّة حقيقةً أو حكما‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫بحسب كلّ عبادة ‪ ،‬فعلى سبيل المثال يكون الشّروع في الصّلة بتكبيرة الحرام مقرونةً بالنّيّة ‪،‬‬
‫والصّوم يكون الشّروع فيه بالنّيّة والمساك ‪.‬‬
‫( انظر مصطلح ‪ :‬عبادة ‪ ،‬نيّة ‪ ،‬صلة ‪ ،‬صوم ‪ ،‬حجّ ‪ ،‬جهاد ‪ ،‬ذكر ) ‪.‬‬
‫الشّروع في المعاملت ‪:‬‬
‫‪ -‬يتحقّق الشّروع في المعاملت ‪ :‬بالقول ‪ ،‬أو ما يقوم مقامه وينوب عنه من ‪ :‬المعاطاة عند‬ ‫‪3‬‬

‫من يقول بها ‪ ،‬أو الكتابة ‪ ،‬أو الشارة ‪.‬‬


‫ول تعدّ النّيّة هنا شروعا في البيع ‪ ،‬أو النّكاح ‪ ،‬أو الجارة ‪ ،‬أو الهبة ‪ ،‬أو الوقف ‪ ،‬أو‬
‫الوصيّة ‪ ،‬أو العاريّة ‪ ،‬أو غيرها من أصناف المعاملت ‪ ،‬لنّنا ل نعلم القصد المنويّ ‪ .‬فهذه‬
‫المعاملت مبنيّة على اليجاب والقبول ‪ ،‬فإيجاب الموجب بقوله ‪ " :‬بعتك كذا وكذا " شروع في‬
‫البيع ‪ ،‬فإذا قبل البائع هذا اليجاب تمّ البيع ‪.‬‬
‫الشّروع في الجنايات ‪:‬‬
‫‪ -‬يتحقّق الشّروع في الجنايات والحدود ‪ :‬بالفعل ل بالقول ‪ ،‬ول بالنّيّة ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ما يجب إتمامه بالشّروع ‪:‬‬


‫م ‪ -‬ما أوجبه اللّه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬على المكلّف ‪ ،‬إذا شرع فيه وجب عليه إتمامه‬ ‫‪4‬‬

‫باتّفاق‪ ،‬ول يجوز له قطعه أو النصراف عنه إلّ بعد إتمامه ‪.‬‬
‫ويستثنى من ذلك حالة الضّرورة الّتي تمنع من إتمامه ‪ ،‬كأن ينتقض وضوء المصلّي ‪ ،‬أو يغمى‬
‫عليه ‪ ،‬أو تحيض المرأة أثناء الصّلة ‪ ،‬أو غير ذلك ممّا يعوق المكلّف عن التمام ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ( استئناف ‪ ،‬حيض ‪ ،‬صلة ) ‪.‬‬
‫ومثل الصّلة ك ّل مفروض من ‪ :‬صيام أو زكاة ‪ ،‬أو حجّ ‪ ،‬إذا شرع فيه وجب إتمامه ‪ ،‬ويأثم‬
‫بتركه ‪ ،‬وقد يجلب عليه العقاب في الدّنيا ‪ ،‬كالكفّارة لمن أفطر متعمّدا في رمضان بدون عذر ‪،‬‬
‫ولزوم الهدي لمن أفسد حجّه أو عمرته ‪ ،‬وإعادتهما في العام القابل أمر لزم متعلّق بذمّته ‪.‬‬
‫قال الزّركشيّ ‪ :‬أمّا الشّارع في فرض الكفاية ‪ ،‬إذا أراد قطعه فإن كان يلزم من قطعه بطلن ما‬
‫مضى من الفعل حرم كصلة الجنازة ‪ ،‬وإلّ فإن لم تفت بقطعه المصلحة المقصودة للشّارع ‪ ،‬بل‬
‫حصلت بتمامها ‪ ،‬كما إذا شرع في إنقاذ غريق ثمّ حضر آخر لنقاذه جاز قطعا ‪.‬‬
‫نعم ذكروا في اللّقيط أنّ من التقط ليس له نقله إلى غيره ‪ ،‬وإن حصل المقصود ‪ ،‬لكن ل على‬
‫ح أنّ له القطع أيضا ‪ ،‬كالمصلّي في جماعة ينفرد ‪ ،‬وإن قلنا الجماعة فرض‬
‫التّمام ‪ ،‬والص ّ‬
‫ن بعضه ل يرتبط‬
‫ن قطعه له ل يجب به بطلن ما عرفه أ ّولً ‪ ،‬ل ّ‬
‫كفاية‪ ،‬والشّارع في العلم فإ ّ‬
‫ببعض ‪ ،‬وفرض الكفاية قائم بغيره ‪ ،‬فالصّور ثلثة ‪:‬‬
‫قطع يبطل الماضي فيبطل قطعا ‪ ،‬وقطع ل يبطله ول يفوّت الشّاهد فيجوز قطعا ‪ ،‬وقطع ل يبطل‬
‫أصل المقصود ‪ ،‬ولكن يبطل أمرا مقصودا على الجملة ‪ ،‬ففيه خلف ‪.‬‬
‫قال الفتوحيّ من الحنابلة ‪ :‬يتعيّن فرض الكفاية بالشّروع فيه ‪ ،‬ويجب إتمامه على الظهر‬
‫ويؤخذ لزومه بالشّروع من مسألة حفظ القرآن ‪ ،‬فإنّه يحرم ترك الحفظ بعد الشّروع فيه على‬
‫الصّحيح من المذهب ‪ ،‬وفي وجه يكره ‪.‬‬
‫‪ -5‬أمّا ما ندب إليه الشّارع من السّنن فإن كان حجّا أو عمرةً وشرع فيهما وجب عليه التمام‬
‫حجّ وَالْ ُعمْرَ َة لِّلهِ } ‪ .‬وإن كان غيرهما فإتمامه بعد الشّروع‬
‫باتّفاق ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬وأَ ِتمّواْ ا ْل َ‬
‫فيه محلّ خلف ‪:‬‬
‫عمَا َل ُكمْ } فما‬
‫فذهب الحنفيّة إلى أنّ من شرع في نفل لزمه إتمامه لقوله تعالى ‪ { :‬وَل تُ ْبطِلُوا أَ ْ‬
‫ن العمل صار حقّا للّه ‪ ،‬ول سبيل إلى حفظه إلّ‬
‫أدّاه وجب صيانته وحفظه عن البطال ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالتزام الباقي ‪ ،‬فوجب التمام ضرور ًة ‪.‬‬
‫فإن خرج منه بدون عذر ‪ ،‬لزمه القضاء ‪ ،‬وعليه الثم ‪ ،‬والعقاب على تركه ‪ ،‬وإن خرج منه‬
‫لعذر لزمه القضاء ‪ .‬فأصبحت النّافلة عندهم واجبا بعد الشّروع ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ من خرج من النّفل بعذر ‪ ،‬فل قضاء عليه ‪ ،‬ومن خرج من غير عذر ‪،‬‬
‫فعليه القضاء ‪.‬‬
‫ي فيه ‪ ،‬ول يجب عليه القضاء إذا لم‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا شرع في النّفل لم يلزمه المض ّ‬
‫ن النّفل لمّا شرع غير لزم قبل الشّروع ‪ ،‬وجب أن يبقى كذلك بعد الشّروع ‪ ،‬لنّ‬
‫يتمّه ‪ ،‬ل ّ‬
‫حقيقة الشّرع ل تتغيّر بالشّروع ولو أتمّه صار مؤدّيا للنّفل ‪ ،‬ل مسقطا للوجوب ‪ .‬أمّا لو شرع‬
‫في صوم نفل فنذر إتمامه ‪ ،‬لزمه على الصّحيح ‪.‬‬
‫ب له البقاء فيه ‪ ،‬وإن خرج منه ل إثم عليه ‪،‬‬
‫ن من شرع في النّفل يستح ّ‬
‫وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫ول يجب عليه القضاء ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا قراءة القرآن الكريم ‪ :‬إذا شرع المكلّف فيها ‪ ،‬فيكره قطعها لمكالمة النّاس ‪ ،‬فل ينبغي‬ ‫‪6‬‬

‫أن يؤثر كلمه على قراءة القرآن ‪.‬‬


‫وقد ورد عن ابن عمر رضي ال تعالى عنهما ‪ » :‬أنّه كان إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتّى يفرغ‬
‫منه«‪.‬‬
‫وأمّا الحائض والنّفساء فإنّهما إذا شرعتا في قراءة القرآن الكريم ‪ ،‬ناسي ًة إحداهما أنّها حائض ‪،‬‬
‫والخرى أنّها نفساء ‪ ،‬فل يجب عليهما الستمرار في القراءة ‪ ،‬بل يجب عليهما القطع ‪.‬‬
‫أمّا المستحاضة ‪ ،‬ومن به عذر ‪ ،‬كسلس البول وغيره ‪ ،‬فإنّه إذا توضّأ أحدهما للصّلة ‪ ،‬فيجوز‬
‫له أن يقرأ القرآن ‪ ،‬فإذا شرع في قراءة متوضّئا ‪ ،‬فل يقطع ندبا ‪ ،‬ول يجب عليه إتمام السّورة‬
‫أو الحزب من القرآن الكريم ‪.‬‬
‫أمّا إذا شرع المكلّف الّذي ل يمنعه مانع من قراءة القرآن الكريم ‪ ،‬ثمّ ترك القراءة لضرورة‬
‫طرأت عليه ‪ -‬كخروج ريح ‪ ،‬أو حصر بول ‪ -‬فله عدم إتمام ما قرأ وينتهي إلى حيث يقف ‪،‬‬
‫وإذا تركه ل لضرورة ‪ ،‬فل عليه إلّ أن يتخيّر الوقف ‪ ،‬بانتهاء ما يتعلّق بما يقرأ ‪ ،‬فلو كان يقرأ‬
‫في قصّة موسى ‪ ،‬أو هود أو أهل الكهف ‪ ،‬فليتمّها ندبا حتّى ل يكون كلمه مبتورا ‪ ،‬وحتّى‬
‫تكتمل في رأسه الموعظة ‪.‬‬
‫أمّا إذا شرع في غير قراءة القرآن الكريم ‪ -‬كورد من الوراد ‪ ،‬أو ما يسمّى بالذّكر الجماعيّ أو‬
‫الفرديّ ‪ -‬فل يطالب بإتمامه ‪ ،‬لنّه غير ملزم به ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا المباح ‪ :‬إذا شرع فيه المكلّف فإتمامه وعدمه سواء ‪ ،‬ل نّ اللّه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬ ‫‪7‬‬

‫خيّر المكلّف بين فعله وتركه ‪.‬‬


‫الشّروع في العقود ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬عقد البيع ‪:‬‬
‫‪ -‬البيع إيجاب وقبول ‪ ،‬فإن حصل اليجاب كان شروعا في البيع ‪ ،‬فإن وافقه القبول كان‬ ‫‪8‬‬

‫إتماما للبيع ‪ .‬فإن رجع الموجب في إيجابه ‪ ،‬قبل صدور القبول ‪ ،‬يكون رجوعا عن الشّروع في‬
‫البيع فإن صدر القبول قبل عود الموجب تمّ البيع ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ( إيجاب ‪ ،‬وبيع ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الهبة ‪:‬‬
‫‪ -‬يكون الشّروع في الهبة بلفظ ‪ :‬وهبت ‪ ،‬وأعطيت ‪ ،‬ونحلت ‪ ،‬ول تتمّ إلّ بالقبض عند‬ ‫‪9‬‬

‫جمهور الفقهاء ول تلزم بالشّروع ‪.‬‬


‫وانظر مصطلح ( هبة ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الوقف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّروع في الوقف يكون بلفظ ‪ :‬وقفت ‪ ،‬وحبست ‪ ،‬فمن أتى بكلمة منهما ‪ ،‬كان شارعا‬ ‫‪10‬‬

‫في الوقف ‪ ،‬ولزمه لعدم احتمال غيرهما عند جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫وذهب أبو حنيفة ‪ :‬إلى أنّ الوقف ل يلزم بمجرّده ‪ ،‬وللواقف الرّجوع فيه ‪ ،‬إ ّل أن يوصي به بعد‬
‫موته فيلزم ‪ ،‬أو يحكم بلزومه حاكم ‪.‬‬
‫وخالفه صاحباه ‪ ،‬فقال بلزومه ‪ ،‬وأنّه ينقل الملك ‪ ،‬ول يقف لزومه على القبض ‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد ‪ :‬إنّه ل يلزم إلّ بالقبض ‪ ،‬وإخراج الوقف له عن يده ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ( وقف ) ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬الوصيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّروع في الوصيّة يقع بالقول أو الكتابة ‪ ،‬كأن يوصي لشخص معيّن أو غير معيّن وتتمّ‬ ‫‪11‬‬

‫ويلزم بقبول الموصى له المعيّن بعد وفاة الموصي ‪.‬‬


‫انظر مصطلح ( وصيّة ) ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬العاريّة ‪:‬‬
‫‪ -‬يكون الشّروع فيها كسائر العقود المنضبطة باليجاب والقبول ‪ ،‬فيكون اليجاب بقوله ‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫أعرتك كذا شروعا في العارة ‪ ،‬ويكون القبول فيها إتماما لعقد العاريّة ‪ ،‬فبه يتمّ العقد ‪ ،‬ولكلّ‬
‫من المعير والمستعير الرّجوع قبل صدور القبول ‪ ،‬وقبل القبض أيضا برفض أخذها ‪ ،‬وله‬
‫الرّجوع بعد ذلك لنّها عقد جائز من الطّرفين عند الجمهور ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬إعارة ) ‪.‬‬
‫الشّروع بدون إذن فيما يحتاج إلى إذن ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّروع في العبادات المفروضة ل يحتاج إلى إذن ‪ ،‬إذ إنّ فرضيّتها على المكلّفين ل‬ ‫‪13‬‬

‫يقتضي إذنا من أحد ‪.‬‬


‫ق من له الحقّ‬
‫أمّا العبادات غير المفروضة ‪ ،‬والمعاملت ‪ ،‬فقد أوجب الشّارع الذن فيها لح ّ‬
‫ي على الصّغير والسّفيه ‪.‬‬
‫على المكلّف ‪ ،‬كحقّ الزّوج على زوجته ‪ ،‬وحقّ الول ّ‬
‫فأعطى للزّوج أن تستأذنه زوجته في فعل بعض النّوافل من العبادات فإذا لم يأذن لها ‪ ،‬ولم‬
‫ج تطوّعا ‪ ،‬بدون إذن زوجها ‪ ،‬فللزّوج أن‬
‫تطعه‪ ،‬كان له منعها ‪ ،‬فإذا شرعت المرأة في الح ّ‬
‫يحلّلها ‪ ،‬وعليها القضاء ‪.‬‬
‫وكذا إذا شرعت في صيام نفل بدون إذنه ‪ ،‬له أن يفطّرها ‪ ،‬لخبر الصّحيحين ‪ » :‬ل يحلّ للمرأة‬
‫أن تصوم وزوجها شاهد إلّ بإذنه « ‪.‬‬

‫شرُوق *‬
‫ُ‬
‫انظر ‪ :‬طلوع‬

‫شطرنج *‬
‫انظر ‪ :‬لعب‬
‫شَعَائر *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّعائر ‪ :‬جمع شعيرة ‪ :‬وهي العلمة ‪ :‬مأخوذ من الشعار الّذي هو العلم ‪ ،‬ومنه شعار‬ ‫‪1‬‬

‫الحرب وهو ما يسم العساكر علم ًة ينصبونها ليعرف الرّجل رفقته ‪.‬‬
‫وإذا أضيفت شعائر إلى اللّه تعالى فهي ‪ :‬أعلم دينه الّتي شرعها اللّه فكلّ شيء كان علما من‬
‫أعلم طاعته فهو من شعائر اللّه ‪.‬‬
‫والصطلح الشّرعيّ في شعائر اللّه ل يخرج عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫فكلّ ما كان من أعلم دين اللّه وطاعته تعالى فهو من شعائر اللّه ‪ ،‬فالصّلة ‪ ،‬والصّوم والزّكاة‬
‫ج ومناسكه ومواقيته ‪ ،‬وإقامة الجماعة والجمعة في مجاميع المسلمين في البلدان والقرى‬
‫والح ّ‬
‫من شعائر اللّه ‪ ،‬ومن أعلم طاعته ‪ .‬والذان وإقامة المساجد والدّفاع عن بيضة المسلمين‬
‫شعَآئِ ِر الّلهِ } ‪.‬‬
‫صفَا وَا ْلمَ ْروَةَ مِن َ‬
‫ن ال ّ‬
‫بالجهاد في سبيل اللّه من شعائر اللّه ‪ .‬قال تعالى ‪ { :‬إِ ّ‬
‫والية بعد المر بالصّلة ‪ ،‬والزّكاة في أكثر من آية من السّورة وبعد ذكر الصّبر والقتل في‬
‫سبيل اللّه ‪ -‬وهو الجهاد لقامة دين اللّه ‪ -‬تفيد أنّ السّعي بين الصّفا والمروة من جملة شعائر‬
‫اللّه ‪ ،‬أي أعلم دينه ‪.‬‬
‫شعَائِرِ الّلهِ } ‪.‬‬
‫جعَلْنَاهَا َلكُم مّن َ‬
‫وكذلك قوله تعالى ‪ { :‬وَالْبُدْنَ َ‬
‫شعَائِ َر الّلهِ فَإِ ّنهَا مِن َت ْقوَى ا ْلقُلُوبِ } ‪ ،‬أي معالم دين‬
‫وكذلك المراد في قوله تعالى ‪َ { :‬ومَن ُي َعظّمْ َ‬
‫اللّه ‪ ،‬وطاعته ‪ .‬وتعظيمها ‪ :‬أداؤها على الوجه المطلوب شرعا ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬المراد منها العبادات المتعلّقة بأعمال النّسك ‪ ،‬ومواضعها ‪ ،‬وزمنها ‪.‬‬
‫صةً ‪ .‬وتعظيمها ‪ :‬استسمانها ‪ .‬قاله ابن عبّاس ‪ .‬والشعار عليها ‪:‬‬
‫وقيل ‪ :‬المراد منها الهدي خا ّ‬
‫جعل علمة على سنامها ‪ ،‬بأن يعلّم بالمدية ليعرف أنّها هدي فيكون ذلك علما على إحرام‬
‫صاحبها وعلى أنّه قد جعلها هديا لبيت اللّه الحرام فل يتعرّض لها ‪.‬‬
‫شهْ َر ا ْلحَرَامَ } ‪.‬‬
‫شعَآئِرَ الّل ِه َولَ ال ّ‬
‫ن آمَنُواْ َل ُتحِلّواْ َ‬
‫قال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب على المسلمين إقامة شعائر السلم الظّاهرة ‪ ،‬وإظهارها ‪ ،‬فرضا كانت الشّعيرة أم‬ ‫‪2‬‬

‫غير فرض ‪.‬‬


‫وعلى هذا إن اتّفق أهل محلّة أو بلد أو قرية من المسلمين على ترك شعيرة من شعائر السلم‬
‫الظّاهرة قوتلوا ‪ ،‬فرضا كانت الشّعيرة أو س ّن ًة مؤكّدةً ‪ ،‬كالجماعة في الصّلة المفروضة والذان‬
‫لها ‪ .‬وصلة العيدين وغير ذلك من شعائر السلم الظّاهرة ‪.‬‬
‫لنّ ترك شعائر اللّه يدلّ على التّهاون في طاعة اللّه ‪ ،‬واتّباع أوامره ‪.‬‬
‫هذا ومن شعائر السلم مناسك الحجّ كالحرام والطّواف والسّعي والوقوف بعرفة والمزدلفة‬
‫ومنىً وذبح الهدي وغير ذلك من أعمال الحجّ الظّاهرة ‪ ،‬ومن الشّعائر في غير الحجّ ‪ :‬الذان ‪،‬‬
‫والقامة ‪ ،‬وصلة الجماعة ‪ ،‬والجمعة والعيدين ‪ ،‬والجهاد وغير ذلك ‪.‬‬
‫وتنظر أحكام كلّ منها في مصطلحه من الموسوعة ‪.‬‬

‫شِعَار *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّعار من الثّياب هو ما ولي جسد النسان دون ما سواه من الثّياب ‪ .‬سمّي بذلك لمماسّته‬ ‫‪1‬‬

‫الشّعر ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬النصار شعار والنّاس دثار « ‪ .‬يصفهم‬
‫وفي الحديث أنّ النّب ّ‬
‫بالمودّة والقرب ‪.‬‬
‫والشّعار أيضا ما يشعر النسان به نفسه في الحرب ‪ ،‬وشعار العساكر ‪ ،‬أن يسموا لها علمةً‬
‫ينصبونها ليعرف الرّجل بها رفقته ‪ ،‬والشّعار أيضا علمة القوم في الحرب وهو ما ينادون به‬
‫ن شعار رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أمت أمت «‬
‫ليعرف بعضهم بعضا ‪ ،‬وفي الحديث ‪ » :‬أ ّ‬
‫ي ‪ :‬ول أرى مشاعر الحجّ إ ّل من‬
‫‪ .‬وأشعر القوم ‪ :‬نادوا بشعارهم ‪ .‬والشّعار العلمة قال الصمع ّ‬
‫هذا لنّها علمات له ‪.‬‬
‫والشّعار عنـد الفقهاء العلمـة الظّاهرة المميّزة ‪ .‬والشّعار مـن الثّياب هـو مـا يلي شعـر الجسـد‬
‫ويكون تحت الدّثار ‪ .‬فالدّثار ل يلقي الجسد والشّعار بخلفه ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّشبّه بشعار الكفّار ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أ نّ التّشبّه بغير المسلمين في اللّباس الّذي يميّزهم عن المسلمين‬ ‫‪2‬‬

‫كالزّنّار ونحوه ‪ ،‬والّذي هو شعار لهم يتميّزون عن المسلمين ‪ ،‬يحكم بكفر فاعله ظاهرا إن فعله‬
‫في بلد ال سلم ‪ ،‬وكان فعله على سبيل الم يل إلى الكفّار ‪ ،‬أي ‪ :‬في أحكام الدّن يا ‪ ،‬إلّ إذا كان‬
‫الفعل لضرورة الحرّ أو البرد أو الخديعة في الحرب أو الكراه من العدوّ ‪.‬‬
‫فلوعلم بعد ذلك أنّه لبسه ل لعتقاد حقيقة الكفر لم يحكم بكفره فيما بينه وبين اللّه تعالى ‪،‬‬
‫وذلك لما روى ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من تشبّه بقوم فهو‬
‫ن اللّباس الخاصّ بالكفّار علمة الكفر ‪ ،‬والستدلل بالعلمة والحكم بما دلّت عليه‬
‫منهم « ‪ .‬ول ّ‬
‫مقرّر في الشّرع والعقل ‪.‬‬
‫ولمزيد من التّفصيل ( ر ‪ :‬تشبّه ‪ ،‬ف ‪ 4‬وألبسة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لباس ما يكون شعارا للشّهرة ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو اللّباس المخالف للعادة عند أهل البلدة بحيث يشتهر لبسه عند النّاس ويشيرون إليه ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫وهذا مكروه شرعا ‪ ،‬لحديث ابن عمر قال ‪ ،‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من لبس‬
‫ثوب شهرة في الدّنيا ‪ ،‬ألبسه اللّه ثوب مذلّة يوم القيامة ‪ ،‬ثمّ ألهب فيه نارا « ‪.‬‬
‫ولكونه سببا إلى حمل النّاس على الغيبة ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪136/ 6‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪16‬‬ ‫وللتّفصيل ( ر ‪ :‬ألبسة ‪ .‬ف‬
‫ج ‪ -‬استعمال آلة من شعار شربة الخمر ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف أهل العلم في المعازف ‪ ،‬والمعتمد عند أكثرهم أنّه يحرم استعمال آلة من شعار‬ ‫‪4‬‬

‫الشّربة كطنبور وعود ‪ ،‬وجدك وصنج ومزمار عراقيّ وسائر أنواع الوتار والمزامير ‪ ،‬لنّ‬
‫اللّذّة الحاصلة منها تدعو إلى فساد كشرب الخمر ل سيّما من قرب عهده بها ‪ ،‬ولنّها شعار‬
‫الفسقة والتّشبّه بهم حرام ‪ ،‬وخرج من سمعها بغير قصد ‪.‬‬
‫( و ر ‪ :‬سماع ‪ ،‬ملهي ) ‪.‬‬

‫شَعْر وصُوف و َوبَر *‬


‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّعر لغةً ‪ :‬نبتة الجسم ممّا ليس بصوف ول وبر للنسان وغيره ‪ ،‬وفي المعجم الوسيط‬ ‫‪1‬‬

‫الشّعر زوائد خيطيّة تظهر على جلد النسان وغيره من الثّدييّات ويقابله الرّيش في الطّيور‬
‫والخراشيف في الزّواحف ‪ ،‬والقشور في السماك ‪ ،‬وجمعه أشعار وشعور ‪.‬‬
‫ي إذا كان كثير شعر الرّأس والجسد ‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬رجل أشعر وشعر وشعران ّ‬
‫ص منه ‪ ،‬والصّوف للضّأن ‪ ،‬كالشّعر للمعز ‪ ،‬والوبر‬
‫والصّوف ما يكون للضّأن وما أشبهه أخ ّ‬
‫للبل ‪.‬‬
‫والوبر ما ينبت على جلود البل والرانب ونحوها ‪ ،‬والجمع أوبار ‪ ،‬ويقال جمل وبر وأوبر إذا‬
‫كان كثير الوبر ‪ ،‬والنّاقة وبرة ووبراء ‪.‬‬
‫ص الجناح من بين سائره ‪.‬‬
‫والرّيش ما يكون على أجسام الطّيور وأجنحتها ‪ .‬وقد يخ ّ‬
‫والفرو ‪ :‬جلود بعض الحيوان كالدّببة والثّعالب تدبغ ويتّخذ منها ملبس للدّفء وللزّينة وجمعه‬
‫فراء ‪.‬‬
‫حكم شعر النسان ‪:‬‬
‫ل أم منفصلً ‪ ،‬واستدلّوا لطهارته‬
‫‪ -‬شعر النسان طاهر حيّا أو ميّتا ‪ ،‬سواء أكان الشّعر متّص ً‬ ‫‪2‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين النّاس « ‪.‬‬
‫بأنّ ‪ »:‬النّب ّ‬
‫ن الدميّ مكرّم لقوله‬
‫واتّفق الفقهاء على عدم جواز النتفاع بشعر الدميّ بيعا واستعمالً ‪ ،‬ل ّ‬
‫سبحانه وتعالى ‪ { :‬وَ َلقَدْ كَ ّرمْنَا بَنِي آ َدمَ } ‪.‬‬
‫فل يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهانا مبتذلً ‪.‬‬
‫شعر الحيوان الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى طهارة شعر الميتة إذا كانت طاهرةً حال الحياة ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫وانفرد المالكيّة بالقول بطهارة شعر الخنزير لنّه طاهر حال الحياة ‪ ،‬وهذا إذا ج ّز جزّا ولم‬
‫ن أصوله نجسة ‪ ،‬وأعله طاهر ‪.‬‬
‫ينتف‪ .‬فإن نتف فإ ّ‬
‫صوَا ِفهَا َوَأوْبَارِهَا َوَأشْعَا ِرهَا أَثَاثا َومَتَاعا إِلَى حِينٍ } ‪.‬‬
‫ن أَ ْ‬
‫واستدلّوا بقوله سبحانه وتعالى ‪َ { :‬ومِ ْ‬
‫والية سيقت للمتنان ‪ ،‬فالظّاهر شمولها الموت والحياة ‪.‬‬
‫وبحديث ميمونة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ » : -‬أنّ الرّسول صلى ال عليه وسلم قال في شاة ميمونة‬
‫حين مرّ بها ‪ :‬إنّما حرم أكلها « ‪ .‬وفي لفظ ‪ » :‬إنّما حرم عليكم لحمها ورخّص لكم في مسكها‬
‫« أي جلدها ‪.‬‬
‫واستدلّوا من المعقول بأنّ المعهود في الميتة حال الحياة الطّهارة ‪ ،‬وإنّما يؤثّر الموت النّجاسة‬
‫فيما تحلّه الحياة ‪ ،‬والشّعور ل تحلّها الحياة ‪ .‬فل يحلّها الموت ‪ ،‬وإذا لم يحلّها وجب الحكم ببقاء‬
‫ي المعهود لعدم المزيل ‪.‬‬
‫الوصف الشّرع ّ‬
‫ن ما ل تحلّه الحياة ‪ -‬لنّه ل يحسّ ول يتألّم ‪ -‬ل تلحقه‬
‫فالصل في طهارة شعر الميتة أ ّ‬
‫النّجاسة بالموت ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى نجاسة شعر الميتة إلّ ما يطهر جلده بالدّباغ ودبغ ‪ ،‬وكذلك الشّعر المنفصل‬
‫من الحيوان غير المأكول وهو حيّ ‪.‬‬
‫ت عَلَ ْي ُكمُ ا ْلمَيْ َتةُ } ‪ .‬وهو عامّ في الشّعر وغيره ‪ .‬والميتة‬
‫واستدلّوا لذلك بقوله تعالى ‪ { :‬حُ ّرمَ ْ‬
‫اسم لما فارقته الرّوح بجميع أجزائه بدون تذكية شرعيّة ‪ ،‬وهذه الية خاصّة في تحريم الميتة‬
‫وعامّة في الشّعر وغيره ‪ ،‬وهي راجحة في دللتها على الية الولى وهو قوله تعالى ‪َ { :‬ومِنْ‬
‫ن قوله تعالى ‪ { :‬حُ ّرمَتْ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلمَيْ َتةُ}‬
‫صوَا ِفهَا َوَأوْبَارِهَا َوَأشْعَا ِرهَا أَثَاثًا َومَتَاعًا إِلَى حِينٍ } ‪ .‬ل ّ‬
‫أَ ْ‬
‫ورد لبيان المحرّمات والية الولى وردت للمتنان ‪.‬‬
‫واستدلّوا من المعقول بأنّ كلّ حيوان ينجس بالموت ينجس شعره وصوفه ‪.‬‬
‫شعر الميت ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬شعر رأس الرّجل الميت ‪:‬‬
‫ن حلق الشّعر‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى عدم جواز حلق شعر رأس الميت ول تسريحه ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪4‬‬

‫يكون للزّينة أو للنّسك والميت ل نسك عليه ول يزيّن ‪.‬‬


‫وعن عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬أنّها مرّت بقوم يسرّحون شعر ميت فنهتهم عن ذلك وقالت ‪:‬‬
‫علم تنصّون ميّتكم ‪ .‬أي ‪ :‬ل تسرّحوا رأسه بالمشط ‪ ،‬لنّه يقطع الشّعر وينتفه ‪ ،‬وعبّرت‬
‫بتنصّون وهو الخذ بالنّاصية ‪ ،‬أي منها ‪ ،‬تنفيرا عنه ويدلّ لعدم الجواز القياس على الختان‬
‫حيث يختن الحيّ ول يختن الميّت ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة في المختار والمالكيّة إلى جواز حلق شعر رأس الميت مع الكراهة وقيّد‬
‫الشّافعيّة في المشهور عندهم الجواز بما إذا كان من عادة الميّت حلقه أمّا إذا كان ل يعتاد ذلك‬
‫ن الشّعر من أجزاء‬
‫بأن كان ذا جمّة فل يحلق بل خلف عندهم ‪ ،‬واستدلّوا لما ذهبوا إليه بأ ّ‬
‫ح عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫الميّت ‪ ،‬وأجزاؤه محترمة ‪ ،‬فل تنتهك بهذا ‪ ،‬ولم يص ّ‬
‫والصّحابة في هذا شيء فكره فعله ‪.‬‬
‫وللشّافعيّة قولن آخران ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أنّه ل يكره ول يستحبّ ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬أنّه يستحبّ ‪ ،‬وفي اللّحية والشّارب تفصيل ينظر في‬
‫( شارب ‪ ،‬ولحية ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬شعر رأس المرأة الميّتة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق جمهور الفقهاء على استحباب ضفر شعر المرأة ثلث ضفائر ‪ ،‬قرنيها وناصيتها ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫ويسدل خلفها عند الجمهور ‪ ،‬وعند الحنفيّة يجعل على صدرها ويجعل ضفيرتين فوق القميص‬
‫تحت اللّفافة ‪ ،‬لنّه في حال حياتها يجعل وراء ظهرها للزّينة ‪ ،‬وبعد الموت ربّما انتشر الكفن ‪،‬‬
‫فيجعل على صدرها ‪.‬‬
‫ن جعلن رأس‬
‫ودليل استحباب ضفر شعر المرأة ما روت أمّ عطيّة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ » -‬أنّه ّ‬
‫بنت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ثلثة قرون ‪ ،‬نقضنه ثمّ غسلنه ثمّ جعلنه ثلثة قرون « ‪،‬‬
‫وورد في رواية أخرى ‪ » :‬أنّهنّ ألقينها خلفها « ‪.‬‬
‫والصل أن ل يفعل في الميّت شيء من جنس القرب إلّ بإذن من الشّرع محقّق ‪ ،‬فالظّاهر إطلع‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم على ما فعلت وتقريره له ‪.‬‬
‫وجاء في رواية ‪ » :‬اغسلنها ثلثا أو خمسا أو أكثر من ذلك « ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬شعر سائر البدن من الميّت كاللّحية والشّارب وشعر البط والعانة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة في المختار إلى كراهة حلق غير ما يحرم حلقه حال الحياة ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫وللشّافعيّة قولن آخران ‪:‬‬


‫الوّل ‪ :‬أنّه ل يكره ول يستحبّ ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬أنّه يستحبّ ‪ .‬ودليل الكراهة ما تقدّم في كراهة حلق‬
‫شعر الرّأس ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول إلى أنّ هذه الشّعور إذا أزيلت أنّها تص ّر وتض ّم مع‬
‫الميّت في كفنه ويدفن ‪.‬‬
‫وللشّافعيّة في قول آخر ‪ :‬أنّ المستحبّ أن ل تدفن معه بل توارى في الرض في غير القبر ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى تحريم حلق اللّحية وكذا تحريم حلق شعر العانة من الميّت لما فيه من لمس‬
‫ن أخذ شعر‬
‫العورة وربّما احتاج إلى نظرها ‪ ،‬والنّظر محرّم فل يرتكب من أجل مندوب ‪ ،‬ويس ّ‬
‫ص الشّارب ‪.‬‬
‫البط وق ّ‬
‫مسح الشّعر في الوضوء ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والحنابلة إلى وجوب مسح جميع شعر الرّأس في الوضوء وحده من منابت‬ ‫‪7‬‬

‫الشّعر المعتاد من المقدّم إلى نقرة القفا مع مسح شعر صدغيه فما فوق العظم النّاشئ من‬
‫ن الواجب أن يمسح ما يقع عليه اسم المسح ولو قلّ فل يتقدّر‬
‫الوجه‪ .‬وذهب الشّافعيّة إلى أ ّ‬
‫وجوبه بشيء بل يكفي فيه ما يمكن ‪.‬‬
‫ن المفروض في المسح هو مسح مقدار النّاصية وهو ربع الرّأس لما روى‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم توضّأ ومسح على ناصيته وخفّيه « ‪.‬‬
‫المغيرة بن شعبة ‪ » :‬أنّ النّب ّ‬
‫وتفصيل ذلك وبيان الدلّة ينظر في مصطلح ( وضوء ) ‪.‬‬
‫نقض الوضوء بلمس الشّعر ‪:‬‬
‫ن الوضوء ل ينقض بلمس الشّعر ‪ ،‬لنّه ل يقصد‬
‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة في الصحّ والحنابلة إلى أ ّ‬ ‫‪8‬‬

‫ذلك للشّهوة غالبا ‪ ،‬وإنّما تحصل اللّذّة وتثور الشّهوة عند التقاء البشرتين للحساس ‪.‬‬
‫ويستحبّ أن يتوضّأ من لمس الشّعر والسّنّ والظّفر وفي قول عند الشّافعيّة مقابل الصحّ ‪:‬‬
‫ينتقض وضوء الرّجل بلمس شعر المرأة لنّ الشّعر له حكم البدن في الحلّ بالنّكاح ووجوب‬
‫غسله بالجنابة ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ الوضوء ينتقض بلمس الشّعر لمن يلت ّذ به إن قصد اللّذّة من ذكر أو أنثى‬
‫‪ .‬ول ينتقض الوضوء إذا كان اللّمس بحائل خفيف أو كثيف ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى عدم نقص الوضوء بلمس الشّعر بنا ًء على أصلهم في عدم النّقض بالمسّ‬
‫مطلقا ما لم ينزل ‪.‬‬
‫غسل شعر الرّأس من الجناية ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على وجوب تعميم شعر الرّأس بالماء ظاهره وباطنه للذّكر والنثى مسترسلً‬ ‫‪9‬‬

‫كان أو غيره ‪.‬‬


‫ن تحت كلّ شعرة جنابةً فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشر « ‪.‬‬
‫لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إ ّ‬
‫ي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬من ترك موضع شعرة‬
‫وعن عل ّ‬
‫من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النّار « قال عليّ ‪ :‬فمن ثمّ عاديت رأسي ‪ ،‬وكان يجزّ‬
‫شعره ‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في حكم نقض ضفائر المرأة في الغسل ‪:‬‬
‫فذهب الجمهور ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬وهو قول بعض الحنابلة ‪ :‬إلى أنّه ل يجب‬
‫على المرأة نقض الضّفر إن كان الماء يصل إلى أصول شعرها من غير نقض ‪ ،‬فإن لم يصل إلّ‬
‫بالنّقض لزمها نقضه ‪ ،‬وسواء في ذلك غسل الجنابة وغسل الحيض والنّفاس ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّي‬
‫واستدلّوا بما جاء في بعض ألفاظ حديث أمّ سلمة أنّها قالت للنّب ّ‬
‫امرأة أشدّ ضفر رأسي ‪ ،‬أفأنقضه للحيض وللجنابة ؟ قال ‪ » :‬ل ‪ .‬إنّما يكفيك أن تحثي على‬
‫رأسك ثلث حثيات ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين « ‪.‬‬
‫و هو صريح في ن في الوجوب و قد أخرج م سلم في صحيحه حد يث أ مّ سلمة ‪ -‬بثل ثة ألفاظ ‪:‬‬
‫إفراد ذكر الجنابة وإفراد ذكر الحيض ‪ ،‬والجمع بينهما ‪.‬‬
‫وحمل الجمهور هذه الحاديث على وصول الماء إلى أصول الشّعر بدليل ما ثبت من وجوب‬
‫إيصال الماء إلى أصول الشّعر والبشرة جمعا بين الدلّة ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى وجوب نقض المرأة شعرها في غسل الحيض والنّفاس ‪ .‬ول يجب في غسل‬
‫الجنابة إذا روت أصول شعرها ‪ ،‬ولم يكن مشدودا بخيوط كثيرة تمنع وصول الماء إلى البشرة‬
‫أو إلى باطن الشّعر ‪ ،‬والنّقض مطلقا مستحبّ عن بعض الحنابلة ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال لها ‪ » :‬إذا‬
‫واستدلّ الحنابلة بحديث عائشة رضي ال عنها أنّ النّب ّ‬
‫كنت حائضا خذي ماءك وسدرك وامتشطي « ‪ .‬ول يكون المشط إلّ في شعر غير مضفور ‪.‬‬
‫وللبخاريّ ‪ » :‬انفضي شعرك وامتشطي « ‪.‬‬
‫ن الصل وجوب نقض الشّعر لتحقّق وصول‬
‫وعند ابن ماجه ‪ » :‬انفضي شعرك واغتسلي « ل ّ‬
‫ق نقض الشّعر ‪.‬‬
‫الماء إلى ما يجب غسله وعفي عنه في غسل الجنابة لنّه يكثر فيش ّ‬
‫حلق شعر المولود ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الجمهور ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى استحباب حلق شعر رأس المولود‬ ‫‪10‬‬

‫ض ًة عند الحنابلة ‪.‬‬


‫ضةً عند المالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وف ّ‬
‫يوم السّابع ‪ ،‬والتّصدّق بزنة شعره ذهبا أو ف ّ‬
‫وإن لم يحلق تحرّى وتصدّق به ‪ .‬ويكون الحلق بعد ذبح العقيقة ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال لفاطمة لمّا ولدت الحسن ‪ :‬احلقي رأسه‬
‫كما ورد ‪ » :‬أنّ النّب ّ‬
‫ض ًة على المساكين والوفاض « ‪.‬‬
‫وتصدّقي بزنة شعره ف ّ‬
‫ن حلق شعر المولود مباح ‪ ،‬ليس بسنّة ول واجب ‪ ،‬وذلك على أصلهم في‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫أنّ العقيقة مباحة ‪ ،‬لنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال ‪ » :‬ل يحبّ اللّه‬
‫العقوق ‪ .‬من أحبّ أن ينسك عن ولده فلينسك عنه عن الغلم شاتين مكافأتاه وعن الجارية شاةً‬
‫« وهذا ينفي كون العقيقة س ّنةً لنّه صلى ال عليه وسلم علّق العقّ بالمشيئة وهذا أمارة الباحة‬
‫ن العقيقة كانت من الفضائل فعلها‬
‫‪ .‬وفي قول للحنفيّة أنّها مكروهة لنّها نسخت بالضحيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫المسلمون في أوّل السلم فنسخت بالضحيّة ‪ ،‬فمتى نسخ الفضل ل يبقى إلّ الكراهة ‪.‬‬
‫النّظر إلى شعر المرأة الجنبيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على عدم جواز النّظر إلى شعر المرأة الجنبيّة ‪ ،‬كما ل يجوز لها إبداؤه‬ ‫‪11‬‬

‫للجانب عنها ‪.‬‬


‫وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى القول بعدم جواز النّظر إليه وإن كان منفصلً ‪.‬‬
‫بيع الشّعر والصّوف ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الجمهور ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى عدم جواز بيع الصّوف على ظهر‬ ‫‪12‬‬

‫الغنم ‪ ،‬لحديث ابن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ » : -‬نهي أن تباع ثمرة حتّى تطعم ول صوف‬
‫على ظهر ول لبن في ضرع « ‪.‬‬
‫ولنّ الصّوف متّصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه‪ ،‬ولنّ الصّوف على الظّهر قبل‬
‫الجزّ ليس بمال متقوّم في نفسه لنّه بمنزلة وصف الحيوان لقيامه به كسائر أوصافه ‪ .‬وهو‬
‫غير مقصود من الشّاة فل يفرد بالبيع ‪ ،‬ولنّه ينبت من أسفل ساعةً فساعةً فيختلط المبيع بغيره‬
‫بحيث يتعذّر التّمييز ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى جواز بيع الصّوف على ظهر الغنم بالجزز تحرّيا ‪ ،‬وبالوزن مع رؤية الغنم‬
‫على أن ل يتأخّر الج ّز أكثر من نصف شهر ‪.‬‬
‫السّلم في الصّوف ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز بيع الصّوف سلما بالوزن ل بالجزز وذلك‬ ‫‪13‬‬

‫لختلف الجزز بالصّغر والكبر ‪ -‬عند المالكيّة ‪ -‬ويجب بيان نوع الصّوف وأصله من ذكر أو‬
‫ن صوف الناث أنعم ‪ ،‬ويذكر لونه ووقته هل هو خريفيّ أو ربيعيّ ‪ ،‬وطوله وقصره‬
‫أنثى ل ّ‬
‫ووزنه ول يقبل إلّ من ّقىً من الشّعر ونحوه ‪ ،‬كالشّوك ويجوز اشتراط غسله ‪.‬‬
‫وصل الشّعر ‪:‬‬
‫ي ‪ .‬سواء في ذلك المزوّجة وغيرها‬
‫‪ -‬يحرم وصل شعر المرأة بشعر نجس أو بشعر آدم ّ‬ ‫‪14‬‬

‫وسواء بإذن الزّوج أو بغير إذنه ‪ .‬وللحنفيّة قول بالكراهة ‪.‬‬


‫وذلك لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة‬
‫«‪ .‬واللّعنة على الشّيء تدلّ على تحريمه ‪ ،‬وعلّة التّحريم ما فيه من التّدليس والتّلبيس بتغيّر‬
‫خلق اللّه ‪.‬‬
‫والواصلة الّتي تصل شعرها بشعر من امرأة أخرى والّتي يوصل شعرها بشعر آخر زورا ‪،‬‬
‫ي لكرامته ‪ ،‬والصل أن‬
‫والمستوصلة الّتي يوصل لها ذلك بطلبها ‪ .‬لحرمة النتفاع بشعر الدم ّ‬
‫يدفن شعره إذا انفصل ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان الوصل بغير شعر الدميّ وهو طاهر ‪:‬‬
‫فذهب الشّافعيّة على الصّحيح إلى حرمة الوصل إن لم تكن ذات زوج وعلى القول الثّاني يكره ‪.‬‬
‫أمّا إن كانت ذات زوج فثلثة أوجه ‪:‬‬
‫أصحّها ‪ :‬إن وصلت بإذنه جاز وإلّ حرم ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬يحرم مطلقا ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬ل يحرم ول يكره مطلقا ‪.‬‬
‫ي تتّخذه‬
‫وذهب الحنفيّة وهو المنقول عن أبي يوسف إلى أنّه يرخّص للمرأة في غير شعر الدم ّ‬
‫لتزيد قرونها ‪.‬‬
‫واستدلّوا بما روي عن عائشة رضي ال عنها أنّها قالت ‪ :‬ليست الواصلة بالّتي تعنون ‪ ،‬ول‬
‫بأس أن تعرى المرأة عن الشّعر فتصل قرنا من قرونها بصوف أسود وإنّما الواصلة الّتي تكون‬
‫بغيّا في شبيبتها فإذا أسنّت وصلتها بالقيادة ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى عدم التّفريق في التّحريم بين الوصل بالشّعر وبغيره ‪.‬‬
‫ويرى الحنابلة تحريم وصل الشّعر بشعر سواء كان شعر آدميّ أو شعر غيره ‪ .‬وسواء كان‬
‫بإذن الزّوج أو من غير إذنه ‪ .‬قالوا ول بأس بما تش ّد به المرأة شعرها أي من غير الشّعر‬
‫للحاجة ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬ل تصل المرأة برأسها الشّعر ول القرامل ول الصّوف ‪.‬‬
‫عقص الشّعر ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على كراهة عقص الشّعر في الصّلة ‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫والعقص هو شدّ ضفيرة الشّعر حول الرّأس كما تفعله النّساء أو يجمع الشّعر فيعقد في مؤخّرة‬
‫الرّأس ‪.‬‬
‫وهو مكروه كراهة تنزيه ‪ .‬فلو صلّى كذلك فصلته صحيحة ‪ ،‬حكى ابن المنذر وجوب العادة‬
‫فيه عن الحسن البصريّ ‪.‬‬
‫ودليل الكراهة ما رواه مسلم من حديث ابن عبّاس رضي ال عنه أنّه رأى عبد اللّه بن الحارث‬
‫يصلّي ورأسه معقوص من ورائه فقام وجعل يحلّه ‪ ،‬فلمّا انصرف أقبل إلى ابن عبّاس فقال ‪:‬‬
‫مالك ورأسي ؟ فقال ‪ :‬إنّي سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ » :‬إنّما مثل هذا مثل‬
‫الّذي يصلّي وهو مكتوف « وفي حديث آخر ‪ » :‬ذاك كفل الشّيطان « ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ‪ ..‬ول نكفت الثّياب والشّعر‬
‫«‪ .‬والحكمة في النّهي عنه ‪ ،‬أنّ الشّعر يسجد مع المصلّي ولهذا مثّله في الحديث بالّذي يصلّي‬
‫وهو مكتوف ‪.‬‬
‫والجمهور على أنّ النّهي شامل لكلّ من صلّى كذلك ‪ ،‬سواء تعمّده للصّلة أم كان كذلك قبل‬
‫الصّلة وفعلها لمعنىً آخر وصلّى على حاله بغير ضرورة ‪.‬‬
‫ويدلّ له إطلق الحاديث الصّحيحة وهو ظاهر المنقول عن الصّحابة ‪ ،‬وقال مالك ‪ :‬النّهي‬
‫مختصّ بمن فعل ذلك للصّلة ‪.‬‬
‫وينظر بقيّة الحكام المتعلّقة بالشّعر في المصطلحات التية ‪ ( :‬إحرام ‪ ،‬وترجيل ‪ ،‬وتنمّص ‪،‬‬
‫وإحداد ‪ ،‬واختضاب ‪ ،‬وتسويد ‪ ،‬حلق ‪ ،‬وديات ) ‪.‬‬
‫العناية بشعر النسان الحيّ ‪:‬‬
‫ب ترجيل الشّعر لما رواه أبو هريرة رضي ال عنه مرفوعا ‪ » :‬من كان له شعر‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪16‬‬

‫فليكرمه « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم كان يحبّ التّرجيل فقد روت عائشة رضي ال عنها ‪ » :‬أنّ‬
‫ولنّ النّب ّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يصغي إليّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجّله وأنا حائض‬
‫«‪ .‬ويستحبّ التّيامن في التّرجيل ‪ ،‬ويسنّ الغباب فيه ‪ ،‬والكثار منه مكروه ‪.‬‬
‫ف الدّهن ثمّ يدهن ثانيا ‪ ،‬وقيل يدهن‬
‫كما يستحبّ دهن الشّعر غبّا وهو أن يدهن ثمّ يترك حتّى يج ّ‬
‫يوما ويوما ل ‪.‬‬
‫وللتّفصيل انظر مصطلحات ‪ ( :‬إدهان ‪ ،‬وامتشاط ‪ ،‬وترجيل ) ‪.‬‬
‫حكم شعر الحيوان الحيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬شعر الحيوان الحيّ إمّا أن يكون من مأكول اللّحم أو غير مأكول اللّحم ‪ ،‬وفي كلّ حالة إمّا‬ ‫‪17‬‬

‫أن يكون متّصلً به أو منفصلً عنه ‪.‬‬


‫ي فقد اتّفق الفقهاء على‬
‫‪ -‬أمّا شعر الحيوان المأكول اللّحم المتّصل به إذا أخذ منه وهو ح ّ‬ ‫‪18‬‬

‫صوَا ِفهَا َوَأوْبَارِهَا َوَأشْعَا ِرهَا أَثَاثا َومَتَاعا‬


‫ن أَ ْ‬
‫طهارته ‪ ،‬ومثله الصّوف والوبر لقوله تعالى ‪َ { :‬ومِ ْ‬
‫إِلَى حِينٍ } والية سيقت للمتنان وهي عامّة في المتّصل والمنفصل ويأتي الخلف في شمولها‬
‫بشعر الحيوان الميّت ‪.‬‬
‫ي لمسيس الحاجة‬
‫وأجمعت المّة على طهارة شعر الحيوان المأكول اللّحم إذا جزّ منه وهو ح ّ‬
‫إليه في الملبس والمفارش لنّه ليس في شعر المذكّيات كفاية لحاجة النّاس ‪.‬‬
‫أمّا شعر الحيوان المأكول اللّحم المنفصل عنه في الحياة ‪:‬‬
‫فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى طهارته إذا جزّ جزّا ‪ .‬أمّا إذا نتف فأصوله الّتي فيها الدّسومة‬
‫ي فهو ميّت إلّ إذا كان ل تحلّه الحياة كالشّعر والصّوف‬
‫نجسة‪ ،‬والصل عندهم أنّ ما أبين من ح ّ‬
‫والوبر فهو طاهر ‪.‬‬
‫ن أصوله تكون نجسةً ‪.‬‬
‫واشترط المالكيّة أن يجزّ جزّا بخلف ما نتف نتفا فإ ّ‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى طهارته إذا جزّ واستدلّوا بالية والجماع المتقدّمين ‪.‬‬
‫قال إمام الحرمين وغيره ‪ :‬وكان القياس نجاسته كسائر أجزاء الحيوان المنفصلة في الحياة‬
‫ولكن أجمعت المّة على طهارتها ‪.‬‬
‫أمّا إذا انفصل شعر الحيوان المأكول اللّحم في حياته بنفسه أو نتف ففيه أوجه ‪:‬‬
‫الصّحيح منها أنّه طاهر لنّه في معنى الج ّز ‪ ،‬وإن كان مكروها ‪ ،‬والج ّز في الشّعر كالذّبح ‪ ،‬في‬
‫الحيوان ولو ذبح الحيوان لم ينجس ‪ ،‬فكذلك إذا ج ّز شعره ‪.‬‬
‫ن ما أبين من حيّ فهو ميّت ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬إنّه نجس سواء انفصل بنفسه أو بنتف ل ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ودليل هذه القاعدة ‪ :‬حديث أبي واقد اللّيثيّ رضي ال عنه قال ‪ :‬قدم النّب ّ‬
‫‪ .‬المدينة وهم يجبّون أسنمة البل ويقطعون أليات الغنم ‪ ،‬فقال ‪ » :‬ما قطع من البهيمة وهي‬
‫حيّة فهو ميتة « ‪.‬‬
‫غير أنّ الشّافعيّة استثنوا الشّعر للجماع على طهارته لحاجة النّاس إليه وقصر الحنفيّة‬
‫والمالكيّة الحديث على ما تحلّه الحياة ولذا استثنوا الشّعر ‪.‬‬
‫ن شعر كلّ حيوان كبقيّة أجزائه ما كان طاهرا فشعره طاهر ‪ ،‬وما‬
‫وعند الحنابلة على المذهب أ ّ‬
‫كان نجسا فشعره نجس ‪ ،‬ل فرق بين حالة الحياة وحالة الموت ‪.‬‬
‫وفي رواية أنّه نجس ‪ ،‬وفي أخرى طاهر ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا شعر الحيوان غير مأكول اللّحم المتّصل به فاتّفق الفقهاء على طهارته ‪ ،‬واستثنى‬ ‫‪19‬‬

‫الحنفيّة الخنزير واستثنى الشّافعيّة والحنابلة الخنزير والكلب لنّ عينهما نجسة ‪.‬‬
‫ن الصل عندهم أنّ كلّ حيّ طاهر ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فذهبوا إلى طهارة الكلب والخنزير ل ّ‬
‫ن ما أبين من‬
‫أمّا شعر المنفصل عنه ‪ ،‬فعند الحنفيّة والمالكيّة هو طاهر بناءً على ما تقدّم من أ ّ‬
‫حيّ فهو ميّت ‪ ،‬إلّ ما ل تحلّه الحياة كالشّعر ‪ .‬ويستثنى من ذلك ما كان نجس العين كالخنزير‬
‫عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فهو طاهر عندهم إذا جزّ ‪ ،‬ل إذا نتف ‪.‬‬
‫ينظر في تفصيل أحكام شعر الخنزير مصطلح ‪ ( :‬خنزير ف ‪. ) 7‬‬
‫ن ما أبين من حيّ فهو ميّت ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى نجاسته ل ّ‬
‫ن حكمه حكم بقيّة أجزائه ‪ ،‬فما كان طاهرا فشعره طاهر وما كان‬
‫وعند الحنابلة على المذهب أ ّ‬
‫نجسا فشعره نجس ‪.‬‬
‫ن شعر الكلب والخنزير وما تولّد منهما طاهر ‪.‬‬
‫وفي رواية عن أحمد اختارها ابن تيميّة أ ّ‬

‫شِعْر *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّعر في اللّغة ‪ :‬العلم ‪ ،‬يقال ‪ :‬شعر به كنصر وكرم شعرا وشعرا إذا علم به وفطن له‬ ‫‪1‬‬

‫وعقله ‪ ،‬وليت شعري ‪ :‬أي ليت علمي ‪ .‬وفي الحديث ‪ » :‬ليت شعري ما صنع فلن « أي ليت‬
‫علمي حاضر أو محيط بما صنع ‪.‬‬
‫شعِ ُركُمْ أَ ّنهَا إِذَا جَاءتْ لَ‬
‫وأشعره المر وأشعره به ‪ :‬أعلمه إيّاه ‪ ،‬وفي التّنزيل ‪َ { :‬ومَا ُي ْ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ} أي ‪ :‬وما يدريكم ‪.‬‬
‫وغلب الشّعر على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية ‪ ،‬وحدّه ‪ :‬ما تركّب تركّبا متعاضدا وكان‬
‫مق ّفىً موزونا مقصودا به ذلك ‪.‬‬
‫والشّعر في الصطلح ‪ :‬الكلم المقفّى الموزون على سبيل القصد ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬النّثر ‪:‬‬
‫‪ -‬النّثر هو ‪ :‬الكلم المتفرّق من غير قافية أو وزن ‪ ،‬من نثر الشّيء إذا رماه متفرّقا ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وهو قسيم الشّعر‬


‫ب ‪ -‬السّجع ‪:‬‬
‫‪ -‬السّجع هو ‪ :‬تواطؤ الفاصلتين من النّثر على حرف واحد في الخر ‪ ،‬يقال ‪ :‬سجع الرّجل‬ ‫‪3‬‬

‫كلمه ‪ :‬إذا جعل لكلمه فواصل كقوافي الشّعر ولم يكن موزونا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الرّجز ‪:‬‬
‫– الرّجز ‪ :‬ضرب من الشّعر عند الكثر ‪ ،‬سمّي بذلك لتقارب أجزائه وقلّة حروفه واضطراب‬ ‫‪4‬‬

‫اللّسان به ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنّ الرّجز ليس بشعر وإنّما هو أنصاف أبيات أو أثلث ‪ ،‬ولنّه يقال لقائله راجز ل‬
‫شاعر‪ .‬د ‪ -‬الحداء ‪:‬‬
‫‪ -‬الحداء ‪ - :‬بض مّ الحاء وكسرها وتخفيف الدّال المهملتين ‪ ،‬يمدّ ويقصر ‪ -‬هو سوق البل‬ ‫‪5‬‬

‫بضرب مخصوص من الغناء ‪.‬‬


‫والحداء في الغالب إنّما يكون بالرّجز ‪ ،‬وقد يكون بغيره من الشّعر ‪.‬‬
‫هـ – الغناء ‪:‬‬
‫– الغناء ‪ :‬التّطريب والتّرنّم بالكلم الموزون وغيره ‪ ،‬يكون مصحوبا بالموسيقى وغير‬ ‫‪6‬‬

‫مصحوب ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم تعلّم الشّعر وإنشائه وإنشاده وغير ذلك من مسائله على التّفصيل التّالي‬
‫‪ :‬أ ّولً ‪ :‬إنشاء الشّعر وإنشاده واستماعه ‪:‬‬
‫‪ -‬قال ابن قدامة ‪ :‬ليس في إباحة الشّعر خلف ‪ ،‬وقد قاله الصّحابة والعلماء ‪ ،‬والحاجة تدعو‬ ‫‪7‬‬

‫إليه لمعرفة اللّغة العربيّة ‪ ،‬والستشهاد به في التّفسير ‪ ،‬وتعرّف معاني كلم اللّه تعالى وكلم‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم ويستدلّ به أيضا على النّسب والتّاريخ وأيّام العرب ‪ ،‬يقال ‪ :‬الشّعر‬
‫ديوان العرب ‪.‬‬
‫وقال ابن العربيّ ‪ :‬الشّعر نوع من الكلم ‪ ،‬قال الشّافعيّ ‪ :‬حسنه كحسن الكلم ‪ ،‬وقبيحه كقبيحه‬
‫‪ :‬يعني أنّ الشّعر ليس يكره لذاته وإنّما يكره لمتضمّناته ‪.‬‬
‫وقال النّوويّ ‪ :‬قال العلماء كا ّفةً ‪ :‬الشّعر مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه ‪ ،‬وهو كلم حسنه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم الشّعر واستنشده‪،‬‬
‫حسن وقبيحه قبيح ‪ ،‬وهذا هو الصّواب ‪ ،‬فقد سمع النّب ّ‬
‫وأمر به حسّان بن ثابت رضي ال تعالى عنه في هجاء المشركين ‪ ،‬وأنشده أصحابه بحضرته‬
‫في السفار وغيرها ‪ ،‬وأنشده الخلفاء وأئمّة الصّحابة وفضلء السّلف ‪ ،‬ولم ينكره أحد منهم‬
‫على إطلقه ‪ ،‬وإنّما أنكروا المذموم منه وهو الفحش ونحوه ‪.‬‬
‫وقال ابن حجر ‪ :‬الّذي يتحصّل من كلم العلماء في حدّ الشّعر الجائز أنّه إذا لم يكثر منه في‬
‫المسجد ‪ ،‬وخل عن هجو وعن الغراق في المدح والكذب المحض والغزل الحرام ‪ ،‬فإنّه يكون‬
‫جائزا ‪.‬‬
‫ونقل ابن عبد الب ّر الجماع على جوازه إذا كان كذلك ‪ ،‬واستدلّ بأحاديث وبما أنشد بحضرة‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم أو استنشده ولم ينكره ‪ ،‬وقد جمع ابن سيّد النّاس مجلّدا في أسماء‬
‫ص ًة ‪ ،‬وأخرج‬
‫ي صلى ال عليه وسلم خا ّ‬
‫من نقل عنه من الصّحابة شيء من شعر متعلّق بالنّب ّ‬
‫البخاريّ في الدب المفرد عن عائشة رضي ال تعالى عنها أنّها كانت تقول ‪ :‬الشّعر منه حسن‬
‫ومنه قبيح ‪ ،‬خذ الحسن ودع القبيح ‪ ،‬ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة‬
‫ي في الدب المفرد أيضا من حديث عبد اللّه بن عمرو رضي‬
‫فيها أربعون بيتا ‪ ،‬وأخرج البخار ّ‬
‫ال تعالى عنهما مرفوعا بلفظ ‪ » :‬الشّعر بمنزلة الكلم ‪ ،‬حسنه كحسن الكلم ‪ ،‬وقبيحه كقبيح‬
‫الكلم « ‪ .‬وروى مسلم عن عمرو بن الشّريد عن أبيه قال ‪ » :‬ردفت رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم يوما فقال ‪ :‬هل معك من شعر أميّة بن أبي الصّلت شيء ؟ قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬هيه‬
‫فأنشدته بيتا فقال ‪ :‬هيه ثمّ أنشدته بيتا فقال ‪ :‬هيه حتّى أنشدته مائة بيت « ‪.‬‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬وفي هذا دليل على حفظ الشعار والعتناء بها إذا تضمّنت الحكم والمعاني‬
‫المستحسنة شرعا وطبعا ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم من شعر أميّة لنّه كان حكيما ‪ ،‬وقال صلى ال عليه‬
‫وإنّما استكثر النّب ّ‬
‫وسلم ‪ » :‬كاد أميّة بن أبي الصّلت أن يسلم « ‪.‬‬
‫ولمّا أراد العبّاس رضي ال تعالى عنه مدح رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بأبيات من الشّعر‬
‫قال صلى ال عليه وسلم له ‪ » :‬هات ‪ ،‬ل يفضض اللّه فاك « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم دخل مكّة في عمرة‬
‫وعن أنس بن مالك رضي ال تعالى عنه أنّ النّب ّ‬
‫القضاء وعبد اللّه بن رواحة رضي ال تعالى عنه بين يديه يمشي وهو يقول ‪:‬‬
‫خلّوا بني الكفّار عن سبيله‬
‫اليوم نضربكم على تنزيله‬
‫ضربا يزيل الهام عن مقيله‬
‫ويذهل الخليل عن خليله‬
‫فقال عمر ‪ :‬يا ابن رواحة ‪ ،‬في حرم اللّه وبين يدي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ؟ فقال‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬خلّ عنه يا عمر ‪ ،‬فلهي أسرع فيهم من نضح النّبل « ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إنّ من‬
‫ي بن كعب رضي ال تعالى عنه أ ّ‬
‫وروى أب ّ‬
‫الشّعر حكمةً « ‪.‬‬
‫وبهذا يتبيّن أنّه ل وجه لقول من حرّم الشّعر مطلقا أو قال بكراهته ‪.‬‬
‫‪ -‬قال جمهور الفقهاء ‪ :‬فقد يكون فرضا كما نقل ابن عابدين عن الشّهاب الخفاجيّ قال ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫معرفة شعر أهل الجاهليّة والمخضرمين ‪ -‬وهم من أدرك الجاهليّة والسلم ‪ -‬والسلميّين‬
‫روايةً ودرايةً فرض كفاية عند فقهاء السلم ‪ ،‬لنّ به تثبت قواعد العربيّة الّتي بها يعلم الكتاب‬
‫والسّنّة المتوقّف على معرفتهما الحكام الّتي يتميّز بها الحلل من الحرام ‪ ،‬وكلمهم وإن جاز‬
‫فيه الخطأ في المعاني فل يجوز فيه الخطأ في اللفاظ وتركيب المباني ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد يكون مندوبا ‪ ،‬وذلك إذا تضمّن ذكر اللّه تعالى أو حمده أو الثّناء عليه ‪ ،‬أو ذكر رسوله‬ ‫‪9‬‬

‫ب عنه ‪ ،‬أو ذكر أصحابه أو مدحهم ‪ ،‬أو‬


‫صلى ال عليه وسلم أو الصّلة عليه أو مدحه أو الذّ ّ‬
‫ذكر المتّقين وصفاتهم وأعمالهم ‪ ،‬أو كان في الوعظ والحكم أو التّحذير من المعاصي أو الحثّ‬
‫على الطّاعات ومكارم الخلق ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد يكون الشّعر حراما إذا كان في لفظه ما ل يحلّ كوصف الخمر المهيّج لها ‪ ،‬أو هجاء‬ ‫‪10‬‬

‫مسلم أو ذمّيّ ‪ ،‬أو مجاوزة الحدّ والكذب في الشّعر ‪ ،‬بحيث ل يمكن حمله على المبالغة ‪ ،‬أو‬
‫التّشبيب بمعيّن من أمرد أو امرأة غير حليلة ‪ ،‬أو كان ممّا يقال على الملهي ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد يكون الشّعر مكروها وللمذاهب في ذلك تفصيل ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫فعند الحنفيّة أنّ المكروه من الشّعر ما داوم عليه الشّخص وجعله صناع ًة له حتّى غلب عليه‬
‫وشغله عن ذكر اللّه تعالى وعن العلوم الشّرعيّة ‪ ،‬وما كان من الشّعر في وصف الخدود‬
‫والقدود والشّعور ‪ ،‬وكذلك تكره قراءة ما كان فيه ذكر الفسق والخمر ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يكره الكثار من الشّعر غير المحتاج إليه لقلّة سلمة فاعله من التّجاوز في‬
‫الكلم لنّ غالبه مشتمل على مبالغات ‪ ،‬روى ابن القاسم عن مالك أنّه سئل عن إنشاد الشّعر‬
‫شعْرَ َومَا يَن َبغِي َلهُ } ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬ل تكثرنّ منه فمن عيبه أنّ اللّه تعالى يقول ‪َ { :‬ومَا عَّلمْنَا ُه ال ّ‬
‫ن عمر بن الخطّاب رضي ال عنه كتب إلى أبي موسى الشعريّ أن اجمع‬
‫قال ‪ :‬ولقد بلغني أ ّ‬
‫الشّعراء قبلك ‪ ،‬وسلهم عن الشّعر ‪ ،‬وهل بقي معهم معرفة ‪ ،‬وأحضر لبيدا ذلك ‪ ،‬فجمعهم‬
‫فسألهم‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنّا لنعرفه ونقوله ‪ ،‬وسأل لبيدا فقال ‪ :‬ما قلت بيت شعر منذ سمعت اللّه عزّ‬
‫وجلّ يقول ‪ { :‬الم ‪ ،‬ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ لَ رَيْبَ فِيهِ } ‪.‬‬
‫وقال ابن العربيّ ‪ :‬من المذموم في الشّعر التّكلّم من الباطل بما لم يفعله المرء رغبةً في تسلية‬
‫النّفس وتحسين القول ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يكره أن يشبّب من حليلته بما حقّه الخفاء ‪ ،‬وذلك ما لم تتأذّ بإظهاره وإلّ‬
‫حرم‪ .‬وقال الحنابلة ‪ :‬يكره من الشّعر الهجاء والشّعر الرّقيق الّذي يشبّب بالنّساء ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد يكون الشّعر مباحا وهو الصل في الشّعر ‪ .‬ونصوص فقهاء المذاهب في ذلك الحكم‬ ‫‪12‬‬

‫متقاربة ‪:‬‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬اليسير من الشّعر ل بأس به إذا قصد به إظهار النّكات والتّشابيه الفائقة والمعاني‬
‫الرّائقة ‪ ،‬وما كان من الشّعر في ذكر الطلل والزمان والمم فمباح ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يباح إنشاد الشّعر وإنشاؤه ما لم يكثر منه فيكره ‪ ،‬إلّ في الشعار الّتي يحتاج‬
‫إليها في الستدلل ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يباح إنشاء الشّعر وإنشاده واستماعه ما لم يتضمّن ما يمنعه أو يقتضيه اتّباعا‬
‫للسّلف والخلف ‪ ،‬ولنّه صلى ال عليه وسلم كان له شعراء يصغي إليهم كحسّان بن ثابت وعبد‬
‫اللّه بن رواحة وكعب بن مالك رضي ال تعالى عنهم ‪ ،‬ولنّه صلى ال عليه وسلم استنشد من‬
‫حكَم وأمثال وتذكير بالبعث ولهذا قال‬
‫ن أكثر شعره ِ‬
‫شعر أميّة ابن أبي الصّلت مائة بيت ‪ ،‬أي ل ّ‬
‫ن من الشّعر حكمةً‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬كاد أن يسلم « ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إ ّ‬
‫«‪ .‬وقال ابن قدامة ‪ :‬ليس في إباحة الشّعر خلف ‪ ،‬وقد قاله الصّحابة والعلماء ‪ ،‬والحاجة تدعو‬
‫إليه‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تعلّم الشّعر ‪:‬‬
‫ث على شرّ أو ما يدعو‬
‫ن تعلّم الشّعر مباح إن لم يكن فيه سخف أو ح ّ‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪13‬‬

‫إلى حظره ‪.‬‬


‫وتعلّم بعض الشّعر يكون فرض كفاية عند الحنفيّة كما نقل ابن عابدين عن الشّهاب الخفاجيّ ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل نزاع في جواز تعلّم الشعار الّتي يذكرها المصنّفون للستدلل بها ‪.‬‬
‫ونصّ الحنابلة على أنّه يصحّ استئجار لتعليم نحو شعر مباح ويجوز أخذ الجر عليه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬منع النّبيّ صلى ال عليه وسلم من الشّعر ‪:‬‬
‫‪ -‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء ‪ ،‬وقد أوتي صلى ال عليه‬ ‫‪14‬‬

‫وسلم جوامع الكلم ‪ ،‬ولكنّه صلى ال عليه وسلم حجب عنه الشّعر لما كان اللّه سبحانه وتعالى‬
‫قد ادّخره له من فصاحة القرآن وإعجازه دللةً على صدقه ‪ ،‬كما سلب عنه الكتابة وأبقاه على‬
‫ن أنّه قوي‬
‫حكم المّيّة تحقيقا لهذه الحالة وتأكيدا ‪ ،‬ولئلّ تدخل الشّبهة على من أرسل إليه فيظ ّ‬
‫على القرآن بما في طبعه من القوّة على الشّعر ‪.‬‬
‫ن مّبِينٌ } ‪.‬‬
‫شعْ َر َومَا يَن َبغِي َلهُ إِنْ ُهوَ إِل ِذكْ ٌر وَ ُقرْآ ٌ‬
‫عّلمْنَاهُ ال ّ‬
‫قال اللّه تعالى ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫‪ -‬وقد اختلف في جواز تمثّل النّبيّ صلى ال عليه وسلم بشيء من الشّعر وإنشاده حاكيا عن‬ ‫‪15‬‬

‫غيره ‪ ،‬والصّحيح جوازه لما روى المقدام بن شريح عن أبيه قال ‪ :‬قلت لعائشة ‪ :‬أكان رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشّعر ؟ قالت ‪ » :‬كان يتمثّل بشعر ابن أبي رواحة‬
‫ويتمثّل ويقول ويأتيك بالخبار من لم تزوّد « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬أصدق كلمة‬
‫وروى أبو هريرة رضي ال تعالى عنه عن النّب ّ‬
‫قالها شاعر كلمة لبيد أل كلّ شيء ما خل اللّه باطل « ‪.‬‬
‫وإصابة النّبيّ صلى ال عليه وسلم وزن الشّعر ل يوجب أنّه يعلم الشّعر ‪ ،‬وكذلك ما يأتي من‬
‫نثر كلمه ممّا يدخل في وزن كقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬هل أنت إلّ أصبع دميت وفي‬
‫سبيل اللّه ما لقيت « ‪.‬‬
‫وقول صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أنا النّبيّ ل كذب أنا ابن عبد المطّلب « ‪.‬‬
‫فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن الكريم كقوله تعالى ‪ { :‬لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّى تُنفِقُواْ ِممّا‬
‫ُتحِبّونَ}‪.‬‬
‫ن الّلهِ َوفَ ْتحٌ َقرِيبٌ } ‪.‬‬
‫صرٌ مّ َ‬
‫وقوله سبحانه ‪ { :‬نَ ْ‬
‫جوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ } إلى غير ذلك من اليات ‪ ،‬وليس هذا شعرا‬
‫ن كَا ْل َ‬
‫وقوله ع ّز وجلّ ‪َ {:‬وجِفَا ٍ‬
‫ول في معناه ‪ ،‬ول يلزم من ذلك أن يكون النّبيّ صلى ال عليه وسلم عالما بالشّعر ول شاعرا ‪،‬‬
‫ي ‪ ،‬ل توجب أن يكون القائل‬
‫لنّ إصابة القافيتين من الرّجز وغيره من غير قصد كما قال القرطب ّ‬
‫ن من خاط خيطا ل يكون خيّاطا ‪ ،‬قال أبو إسحاق‬
‫عالما بالشّعر ول يسمّى شاعرا ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫شعْرَ } وما علّمناه أن يشعر ‪ ،‬أي ما جعلناه شاعرا ‪ ،‬وهذا ل‬
‫ال ّزجّاج‪ :‬معنى { َومَا عَّلمْنَا ُه ال ّ‬
‫يمنع أن ينشد شيئا من الشّعر ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬إنشاد الشّعر في المسجد ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ العبرة بمضمون الشّعر ‪ ،‬فإن كان حسنا جاز إنشاده في‬ ‫‪16‬‬

‫المسجد وإلّ فل ‪.‬‬


‫ي في شرح معاني الثار ‪ »:‬أنّه صلى ال عليه وسلم نهى أن‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬أخرج الطّحاو ّ‬
‫تنشد الشعار في المسجد ‪ ،‬وأن يباع فيه السّلع ‪ ،‬وأن يتحلّق فيه قبل الصّلة « ثمّ وفّق بينه‬
‫وبين ما ورد ‪ » :‬أنّه صلى ال عليه وسلم وضع لحسّان منبرا ينشد عليه الشّعر « بحمل الوّل‬
‫على ما كانت قريش تهجوه به ‪ ،‬أو على ما يغلب على المسجد حتّى يكون أكثر من فيه متشاغلً‬
‫به ‪ ،‬وكذلك النّهي عن البيع فيه هو الّذي يغلب عليه حتّى يكون كالسّوق لنّه صلى ال عليه‬
‫وسلم لم ينه عليّا عن خصف النّعل فيه ‪ .‬مع أنّه لو اجتمع النّاس لخصف النّعال فيه كره ‪،‬‬
‫فكذلك البيع وإنشاد الشّعر والتّحلّق قبل الصّلة فما غلب عليه كره وما ل فل ‪ .‬وهذا نظير ما‬
‫قاله القرطبيّ ‪.‬‬
‫ونقل الزّركشيّ عن النّوويّ أنّه ينبغي ألّ ينشد في المسجد شعر ليس فيه مدح للسلم ول حثّ‬
‫على مكارم الخلق ونحوه ‪ ،‬فإن كان لغير ذلك حرم ‪.‬‬
‫ونقل عن الصّيمريّ قوله ‪ :‬كره قوم إنشاد الشّعر في المساجد وليس ذلك عندنا بمكروه ‪ ،‬وقد‬
‫كان حسّان بن ثابت ينشد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم الشّعر في المسجد ‪ ،‬وأنشده كعب بن‬
‫ن هذا‬
‫زهير قصيدتين في المسجد ‪ ،‬لكن ل يكثر منه في المسجد ‪ ،‬قال الزّركشيّ ‪ :‬والظّاهر أ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫محمول على الشّعر المباح أو المرغّب في الخرة أو المتعلّق بمدح النّب ّ‬
‫ي ‪ :‬لعلّ الحديث في المنع‬
‫وذكر بعض مناقبه ومآثره ل مطلق الشّعر ‪ ،‬وقال الماورديّ والرّويان ّ‬
‫من إنشاد الشّعر في المسجد محمول على ما فيه هجو أو مدح بغير حقّ ‪ ،‬فإنّه عليه الصلة‬
‫والسلم مدح وأنشد مدحه في المسجد فلم يمنع منه ‪ ،‬وقال ابن بطّال ‪ :‬لعلّه كان فيما يتشاغل‬
‫النّاس به حتّى يكون كلّ من في المسجد يغلب عليه ‪.‬‬
‫وقال الرّحيبانيّ ‪ :‬يباح في المسجد إنشاد شعر مباح لحديث جابر بن سمرة قال ‪ » :‬شهدت النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أكثر من مائة مرّة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشّعر وأشياء من أمر‬
‫الجاهليّة فربّما تبسّم معهم « ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬إنشاد المحرم الشّعر ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز للمحرم إنشاد الشّعر الّذي يجوز للحلل إنشاده ‪ ،‬فيجوز للمحرم إنشاد الشّعر الّذي‬ ‫‪17‬‬

‫ن أبا هريرة رضي ال تعالى عنه عنه أنشد مثل‬


‫فيه وصف المرأة بما ل فحش فيه ‪ ،‬وقد روي أ ّ‬
‫ذلك وهو محرم ‪ ،‬وروى أبو العالية قال ‪ :‬كنت أمشي مع ابن عبّاس وهو محرم ‪ ،‬وهو يرتجز‬
‫ن يمشين بنا هميا ‪ ...‬إلخ ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أترفث وأنت محرم ؟ قال ‪ :‬إنّما الرّفث ما‬
‫بالبل ويقول ‪ :‬وه ّ‬
‫روجع به النّساء ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬كتابة البسملة قبل الشّعر ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه يسنّ ذكر " بسم اللّه الرّحمن الرّحيم " في ابتداء جميع الفعال‬ ‫‪18‬‬

‫ي ‪ » :‬كلّ أمر ذي بال‬


‫والقوال غير المحظورة ‪ ،‬وفي ابتداء الكتب والرّسائل ‪ ،‬عملً بقول النّب ّ‬
‫ل يبدأ فيه ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم فهو أقطع « أي ‪ :‬ناقص غير تا ّم ‪ ،‬فيكون قليل البركة ‪.‬‬
‫ونقل ابن الحكم ‪ -‬كما قال البهوتيّ ‪ -‬أنّ البسملة ل تكتب أمام الشّعر ول معه ‪ ،‬وذكر الشّعبيّ‬
‫أنّهم كانوا يكرهونه ‪ ،‬قال القاضي ‪ :‬لنّه يشوبه الكذب والهجو غالبا ‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬جعل تعليم الشّعر صداقا ‪:‬‬
‫ح جعل تعليم الشّعر للمرأة صداقا لها إذا كان ممّا يحلّ تعلّمه ‪،‬‬
‫‪ -‬نصّ الشّافعيّة على أنّه يص ّ‬ ‫‪19‬‬

‫وفيه كلفة بحيث تصحّ الجارة عليه ‪ ،‬وقد سئل المزنيّ عن صحّة جعل الصّداق شعرا فقال ‪:‬‬
‫يجوز إن كان مثل قول القائل وهو أبو الدّرداء النصاريّ ‪:‬‬
‫يريد المرء أن يعطى مناه‬
‫ويأبى اللّه إلّ ما أرادا‬
‫يقول المرء فائدتي وزادي‬
‫وتقوى اللّه أعظم ما استفادا‬

‫ثامنا ‪ :‬القطع بسرقة كتب الشّعر ‪:‬‬


‫‪ -‬نصّ الشّافعيّة على أنّه يجب القطع بسرقة كتب التّفسير والحديث والفقه ‪ ،‬وكذا الشّعر‬ ‫‪20‬‬

‫الّذي يحلّ النتفاع به ‪ ،‬وما ل يحلّ النتفاع به ل قطع فيه ‪ ،‬إلّ أن يبلغ الجلد والقرطاس نصابا‬
‫وللتّفصيل ( ر ‪ :‬سرقة ) ‪.‬‬
‫تاسعا ‪ :‬الحدّ بما جاء في الشّعر ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء فيما إذا اعترف الشّاعر في شعره بما يوجب حدّا ‪ ،‬هل يقام عليه الحدّ أم ل‬ ‫‪21‬‬

‫؟‬
‫فذهب البعض إلى أنّه يقام عليه الحدّ بهذا العتراف ‪.‬‬
‫وذهب الكثرون إلى أنّه ل يقام عليه الحدّ ‪ ،‬لنّ الشّاعر قد يبالغ في شعره حتّى تصل به‬
‫المبالغة إلى الكذب وادّعاء ما لم يحدث ونسبته إلى نفسه ‪ ،‬رغبةً في تسلية النّفس وتحسين‬
‫ي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس رضي ال تعالى عنهما في قوله تعالى ‪{ :‬‬
‫القول ‪ ،‬روى عل ّ‬
‫ن ‪َ ،‬وأَنّ ُهمْ َيقُولُونَ مَا ل َي ْفعَلُونَ } قال‬
‫وَالشّعَرَاء يَتّ ِب ُعهُمُ ا ْلغَاوُونَ ‪ ،‬أَ َلمْ َترَ أَ ّن ُهمْ فِي ُكلّ وَادٍ َيهِيمُو َ‬
‫‪ :‬أكثر قولهم يكذبون فيه ‪ ،‬وعقّب ابن كثير بقوله ‪ :‬وهذا الّذي قاله ابن عبّاس رضي ال عنه‬
‫هو الواقع في نفس المر ‪ ،‬فإنّ الشّعراء يتبجّحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ول عنهم ‪،‬‬
‫فيتكثّرون بما ليس لهم ‪.‬‬
‫وقد روي عن عمر رضي ال عنه أنّه سمع شعرا للنّعمان بن عديّ بن نضلة يعترف فيه بشرب‬
‫ط ‪ ،‬وما فعلت شيئا ممّا قلت ‪ ،‬وما‬
‫الخمر ‪ ،‬فلمّا سأله قال ‪ :‬واللّه يا أمير المومنين ما شربتها ق ّ‬
‫ذاك الشّعر إلّ فضل ًة من القول ‪ ،‬وشيء طفح على لساني ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬أظنّ ذلك ‪ ،‬ولكن واللّه‬
‫ل أبدا وقد قلت ما قلت ‪ ،‬فلم يذكر أنّه حدّه على الشّراب وقد ضمّنه شعره ‪ ،‬لنّ‬
‫ل تعمل لي عم ً‬
‫الشّعراء يقولون ما ل يفعلون ولكن ذمّه عمر رضي ال عنه ولمه على ذلك وعزله به ‪.‬‬
‫عاشرا ‪ :‬التّكسّب بالشّعر ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب بعضه الفقهاء إلى أنّ التّكسّب بالشّعر من المكاسب الخبيثة ومن السّحت الحرام ‪،‬‬ ‫‪22‬‬

‫لنّ ما يدفع إلى الشّاعر إنّما يدفع إليه عاد ًة لقطع لسانه ‪ ،‬والشّاعر الّذي يكون كذلك إنّما هو‬
‫شيطان لما في الصّحيح عن أبي سعيد الخدريّ ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬بينا نحن‬
‫نسير مع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد ‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫خذوا الشّيطان « ‪ .‬قال القرطبيّ ‪ :‬قال علماؤنا ‪ :‬وإنّما فعل النّبيّ صلى ال عليه وسلم هذا مع‬
‫هذا الشّاعر لما علم من حاله ‪ ،‬فلعلّه كان ممّن قد عرف أنّه اتّخذ الشّعر طريقا للتّكسّب ‪ ،‬فيفرط‬
‫في المدح إذا أعطي ‪ ،‬وفي الهجو وال ّذمّ إذا منع ‪ ،‬فيؤذي النّاس في أموالهم وأعراضهم ‪ ،‬ول‬
‫ن من كان على مثل هذه الحالة ‪ ،‬فكلّ ما يكتسبه بالشّعر حرام ‪ ،‬وكلّ ما يقوله من‬
‫خلف في أ ّ‬
‫ذلك حرام عليه ‪ ،‬ول يحلّ الصغاء إليه ‪ ،‬بل يجب النكار عليه ‪ ،‬فإن لم يمكن ذلك لمن خاف‬
‫من لسانه قطعا تعيّن عليه أن يداريه بما استطاع ‪ ،‬ويدافعه بما أمكن ‪ ،‬ول يحلّ له أن يعطي‬
‫شيئا ابتداءً ‪ ،‬لنّ ذلك عون على المعصية ‪ ،‬فإن لم يجد بدّا من ذلك أعطاه بنيّة وقاية العرض ‪،‬‬
‫فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقةً ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم كان يعطي الشّعراء ولمن يخاف لسانه ‪،‬‬
‫ي أنّ النّب ّ‬
‫ي الحنف ّ‬
‫وذكر الحصكف ّ‬
‫ونقل ابن عابدين ما ورد عن عكرمة مرسلً قال ‪ :‬أتى شاعر النّبيّ صلى ال عليه وسلم فقال ‪:‬‬
‫» يا بلل ‪ ،‬اقطع عنّي لسانه فأعطاه أربعين درهما « ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وقال عديّ بن أرطاة لعمر بن عبد العزيز ‪ :‬يا أمير المومنين ‪ ،‬إ ّ‬
‫وسلم قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكلّ مسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬ومن مدحه ؟ قال ‪ :‬عبّاس بن مرداس‬
‫السّلميّ فكساه حّلةً قطع بها لسانه ‪.‬‬
‫أمّا الشّاعر الّذي يؤمن شرّه ‪ ،‬ول يعطى مداراةً له وقطعا للسانه ‪ ،‬فالظّاهر أنّ ما يدفع إليه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم دفع بردته إلى كعب بن زهير رضي ال عنه لمّا امتدحه‬
‫حلل‪ ،‬لنّ النّب ّ‬
‫بقصيدته المشهورة ‪.‬‬
‫ولمّا استخلف عمر بن عبد العزيز وفد عليه الشّعراء كما كانوا يفدون على الخلفاء قبله ‪،‬‬
‫فأقاموا ببابه أيّاما ل يأذن لهم بالدّخول ‪ ،‬حتّى قدم عديّ بن أرطاة وكانت له مكانة ‪ ،‬فتعرّض له‬
‫جرير وطلب شفاعته ‪ ،‬فاستأذن لهم ‪ ،‬فلم يأذن إلّ لجرير ‪ ،‬فلمّا مثل بين يديه قال له ‪ :‬اتّق اللّه‬
‫ول تقل إلّ حقّا ‪ ،‬فمدحه بأبيات ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬يا جرير ‪ ،‬لقد ولّيت هذا المر وما أملك إلّ‬
‫ثلثمائة ‪ ،‬فمائة أخذها عبد اللّه ‪ ،‬ومائة أخذتها أمّ عبد اللّه ‪ ،‬يا غلم ‪ :‬أعطه المائة الثّالثة ‪،‬‬
‫ب مال كسبته إليّ ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬واللّه يا أمير المؤمنين ‪ ،‬إنّها لح ّ‬
‫حادي عشر ‪ :‬شهادة الشّاعر ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى قبول شهادة الشّاعر الّذي ل يرتكب بشعره محرّما أو ما يخلّ بالمروءة‪،‬‬ ‫‪23‬‬

‫فإن ارتكب ذلك ففي ر ّد شهادته به تفصيل ‪:‬‬


‫قال الحنفيّة ‪ :‬من كثر إنشاده وإنشاؤه حين تنزل به مهمّاته ويجعله مكسبةً له تنقض مروءته‬
‫وتر ّد شهادته ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬تجوز شهادة الشّاعر إذا كان ل يرتكب بشعره محرّما ‪ ،‬وإلّ امتنعت شهادته ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬تر ّد شهادة الشّاعر إذا هجا معصوم الدّم ‪ -‬مسلما أو ذمّيّا ‪ -‬بما يفسق به ‪،‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ن » النّب ّ‬
‫بخلف الحربيّ فل يحرم هجاؤه ‪ ،‬ول تردّ شهادة الشّاعر بهجائه ‪ ،‬ل ّ‬
‫وسلم أمر حسّان بن ثابت رضي ال تعالى عنه بهجاء الكفّار « ‪.‬‬
‫وظاهر كلمهم جواز هجو الكافر المعيّن ‪ ،‬وعليه فيفارق عدم جواز لعنه بأ نّ اللّعن البعاد من‬
‫الخير ‪ ،‬ولعِنه ل يتحقّق بعده منه فقد يختم له بخير ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬تردّ شهادة الشّاعر كذلك إذا شبّب بامرأة معيّنة بأن ذكر صفاتها من نحو حسن وطول‬
‫وغير ذلك ‪ ،‬لما فيه من اليذاء ‪ ،‬وكذلك إذا هتك السّتر ووصف أعضاءها الباطنة بما حقّه‬
‫الخفاء ولو كان من حليلته ‪ ،‬ومثل المرأة في ذلك المرد إذا صرّح بعشقه ‪ ،‬فإذا لم يعيّن‬
‫الشّاعر من يشبّب به فل إثم عليه لنّ التّشبيب صنعة ‪ ،‬وغرض الشّاعر تحسين صنعته ل‬
‫ن بعض الشّعراء قد ينصبون قرائن‬
‫تحقيق المذكور فيه ‪ ،‬فليس ذكر شخص مجهول تعيينا ‪ ،‬لك ّ‬
‫تدلّ على تعيين المشبّب به ‪ ،‬وعندئذ يكون التّشبيب مع هذه القرائن في حكم التّشبيب بمعيّن ‪.‬‬
‫وتر ّد شهادة الشّاعر كذلك عند الشّافعيّة إن أكثر الكذب في شعره ‪ ،‬وجاوز في ذلك الحدّ بحيث ل‬
‫يمكن حمله على المبالغة ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬الشّاعر متى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمةً‬
‫ن شهادته تردّ ‪ ،‬وسواء قذف بنفسه أو بغيره ‪.‬‬
‫فإ ّ‬

‫شَعِير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّعير جنس من الحبوب معروف واحدته شعيرة ‪ ،‬وهو نبات عشبيّ حبّيّ دون البرّ في‬ ‫‪1‬‬

‫الغذاء ‪.‬‬
‫الحكام الّتي تتعلّق بالشّعير ‪:‬‬
‫وردت أحكام الشّعير في مواضع مختلفة منها ‪:‬‬
‫الزّكاة ‪:‬‬
‫‪ -‬فالشّعير من الحبوب الّتي تجب فيها الزّكاة إذا بلغت النّصاب بإجماع الفقهاء لقوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ن آمَنُواْ أَن ِفقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا َكسَبْ ُتمْ َو ِممّا َأخْ َرجْنَا َلكُم مّنَ الَرْضِ } ‪ .‬الية ‪.‬‬
‫{ يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل تأخذوا الصّدقة إلّ من هذه الربعة ‪ :‬الشّعير والحنطة‬
‫والزّبيب والتّمر « ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عل يه و سلم ‪ » :‬في ما سقت ال سّماء والعيون أو كان عثريّا الع شر و ما سقي‬
‫بالنّضح نصف العشر « ‪.‬‬
‫وذ هب الشّافعيّة إلى أنّه ل يض مّ الشّع ير إلى غيره كالقمح وال سّلت لنّها أجناس ثلثة مختلفة ‪.‬‬
‫ن الشّعير يض مّ إلى ال سّلت ‪ ،‬فهما عندهم صنفان من جنس واحد ول يض مّ‬
‫وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫إلى القمح ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ الشّعير والسّلت والقمح أصناف من جنس واحد يضمّ بعضه إلى بعض‬
‫لتكميل النّصاب ‪.‬‬
‫ول ترد هذه المسألة عند أبي حنيفة لنّه ل يشترط النّصاب في الخارج من الرض لوجوب‬
‫الزّكاة‪ ،‬بل تجب الزّكاة عنده في القليل والكثير ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪102‬‬ ‫راجع التّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬زكاة ف‬
‫زكاة الفطر ‪:‬‬
‫ن الشّعير من الحبوب الّتي يجوز أن تؤدّى منها زكاة الفطر وأنّ‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫المجزئ منه هو صاع لقول ابن عمر رضي ال عنهما ‪ » :‬فرض رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحرّ والذّكر والنثى والصّغير‬
‫والكبير من المسلمين ‪ ،‬وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج النّاس إلى الصّلة « ‪.‬‬
‫وعن أبي سعيد الخدريّ رضي ال عنه قال ‪ » :‬كنّا نعطيها ‪ -‬أي زكاة الفطر ‪ -‬في زمان النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم صاعا من طعام ‪ ،‬أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير ‪ ،‬أو صاعا من‬
‫زبيب « ‪ .‬الحديث ‪.‬‬
‫راجع التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬زكاة الفطر ) ‪.‬‬
‫في البيع ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يدخل في مطلق بيع الرض ما هو مزروع فيها من الشّعير والحنطة وسائر الزّروع وكلّ‬ ‫‪4‬‬

‫ما يؤخذ بقلع أو قطع دفعةً واحدةً ‪ ،‬لنّه ليس للدّوام فأشبه منقولت الدّار ‪.‬‬
‫التّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬بيع ) ‪.‬‬
‫في الرّبا ‪:‬‬
‫ن الشّعير من الموال الرّبويّة الّتي يحرم بيعها بمثلها إلّ بشرط الحلول‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪5‬‬

‫والمماثلة والتّقابض قبل التّفرّق ‪.‬‬


‫ل جاز التّفاضل ‪ ،‬واشترط الحلول والتّقابض قبل التّفرّق لقوله‬
‫وإذا بيعت بجنس آخر كالتّمر مث ً‬
‫ل بمثل ‪ ،‬والتّمر بالتّمر‬
‫ل بمثل ‪ ،‬والفضّة بالفضّة مث ً‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الذّهب بالذّهب مث ً‬
‫ل بمثل ‪ ،‬والشّعير بالشّعير مثلً بمثل ‪ ،‬فمن‬
‫مثلً بمثل ‪ ،‬والبرّ بالب ّر مثلً بمثل والملح بالملح مث ً‬
‫زاد أو ازداد فقد أربى ‪ ،‬بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يدا بيد ‪ ،‬وبيعوا البرّ بالتّمر كيف شئتم‬
‫يدا بيد ‪ ،‬وبيعوا الشّعير بالتّمر كيف شئتم يدا بيد « ‪.‬‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة ‪ ،‬والبرّ بالب ّر ‪ ،‬والشّعير‬
‫بالشّعير‪ ،‬والتّمر بالتّمر ‪ ،‬والملح بالملح مثلً بمثل سوا ًء بسواء يدا بيد ‪ ،‬فإذا اختلفت هذه‬
‫الجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد « ‪.‬‬

‫شِغَار *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّغار بكسر الشّين لغةً ‪ :‬نكاح كان في الجاهليّة ‪ ،‬وهو أن يزوّج الرّجل آخر امرأةً على‬ ‫‪1‬‬

‫أن يزوّجه الخر امرأ ًة أخرى بغير مهر ‪ ،‬وصداق كلّ منهما بضع الخرى ‪.‬‬
‫وخصّ بعضهم به القرائب فقال ‪ :‬ل يكون الشّغار إلّ أن تنكحه وليّتك على أن ينكحك وليّته ‪.‬‬
‫وسمّي شغارا إمّا تشبيها برفع الكلب رجله ليبول في القبح ‪ ،‬قال الصمعيّ ‪ :‬الشّغار الرّفع فكأنّ‬
‫كلّ واحد منهما رفع رجله للخر عمّا يريد ‪.‬‬
‫وإمّا لخلوّه عن المهر لقولهم ‪ :‬شغر البلد إذا خل ‪ .‬وشاغر الرّجل الرّجل أي زوّج كلّ واحد‬
‫ن بضع كلّ واحدة صداق الخرى ول مهر سوى ذلك ‪ ،‬وكان سائغا في‬
‫صاحبه حريمته ‪ ،‬على أ ّ‬
‫الجاهليّة ‪.‬‬
‫ن مهر كلّ‬
‫والشّغار في الصطلح ‪ :‬أن يزوّج الرّجل وليّته على أن يزوّجه الخر وليّته على أ ّ‬
‫منهما بضع الخرى ‪ .‬وهذا تعريفه عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬الشّغار أن يزوّجه وليّته على أن يزوّجه الخر وليّته ‪ ،‬سواء جعل مهر كلّ‬
‫منهما بضع الخرى أو سكت عن المهر أو شرطا نفيه ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬صريح الشّغار أن يقول زوّجتك مولّيتي على أن تزوّجني مولّيتك ول يذكران‬
‫مهرا‪ .‬وأمّا إن قال ‪ :‬زوّجتك مولّيتي بكذا مهرا على أن تزوّجني وليّتك بكذا فهو وجه الشّغار ‪،‬‬
‫لنّه شغار من وجه دون وجه ‪ ،‬فمن حيث إنّه سمّى لكلّ واحدة مهرا فليس بشغار ‪ ،‬ومن حيث‬
‫إنّه شرط تزوّج إحداهما بالخرى فهو شعار ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫أورد الفقهاء أحكام الشّغار في كتاب النّكاح والصّداق ولكونهم اختلفوا في تعريفه الشّرعيّ‬
‫وبعض مسائله التّفصيليّة ‪ ،‬نذكر تفصيل الحكم في كلّ مذهب على حدة ‪:‬‬
‫ن نكاح الشّغار ‪ :‬هو أن يزوّج الرّجل الرّجل حريمته على أن يزوّجه‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫الخر حريمته ‪ -‬ابنته أو أخته أو أمته ‪ -‬على أن يكون بضع كلّ واحدة منهما صداقا للخرى ل‬
‫مهر سوى ذلك ‪.‬‬
‫وهذا النّكاح عندهم صحيح لنّه مؤبّد أدخل فيه شرط فاسد ‪ -‬وهو أن يكون بضع ك ّل واحدة‬
‫منهما صداقا للخرى ‪ -‬والنّكاح ل يبطله الشّروط الفاسدة ‪ ،‬كما إذا تزوّجها على أن يطلّقها أو‬
‫نحو ذلك ‪.‬‬
‫وتكون التّسمية فاسد ًة لنّ البضع ليس بمال ‪ ،‬فل يصلح أن يكون مهرا بل يجب لكلّ منهما مهر‬
‫المثل كما لو تزوّجها على خمر أو خنزير ‪.‬‬
‫والنّهي عن نكاح الشّغار الوارد في حديث ابن عمر رضي ال عنهما ‪ » :‬نهى رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم أن تنكح المرأة بالمرأة ليس لواحدة منهما مهر « محمول عندهم على الكراهة ‪.‬‬
‫ويشترط لتحقّق معنى الشّغار أن يجعل بضع كلّ منهما صداقا للخرى مع القبول من الخر فإن‬
‫لم يقل ذلك ول معناه ‪ ،‬بل قال ‪ :‬زوّجتك بنتي على أن تزوّجني بنتك ‪ ،‬فقبل الخر أو قال ‪ :‬على‬
‫أن يكون بضع بنتي صداقا لبنتك فلم يقبل الخر بل زوّجه بنته ولم يجعلها صداقا ‪ ،‬لم يكن‬
‫شغارا وإنّما نكاحا صحيحا باتّفاق ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب المالكيّة إلى أنّ صريح الشّغار هو أن يقول الرّجل للرّجل ‪ :‬زوّجني بنتك أو أختك أو‬ ‫‪3‬‬

‫أمتك على أن أزوّجك بنتي أو أختي مع جعل تزويج كلّ منهما مهرا للخرى ‪ .‬فهذا النّكاح فاسد‬
‫يفسخ قبل البناء وبعد البناء أبدًا ‪ ،‬ولكلّ منهما بعد البناء صداق المثل ‪.‬‬
‫وإن سمّى لواحدة منهما مهرا دون الخرى كأن يقول ‪ :‬زوّجني بنتك بمائة من الدّنانير مثلً على‬
‫أن أزوّجك بنتي فالنّكاح فاسد أيضا ‪ ،‬ويفسخ نكاح من لم يسمّ لها صداق قبل البناء وبعد البناء‬
‫أبدا ‪ ،‬ولها بعد البناء صداق مثلها ‪ .‬أمّا المسمّى لها الصّداق فيفسخ نكاحها قبل البناء ويمضي‬
‫بعد البناء بالكثر من المسمّى وصداق المثل ‪ ،‬ويسمّى هذا النّكاح بمركب الشّغار عندهم ‪.‬‬
‫وإن سمّى لكلّ واحدة منهما مهرا كأن يقول ‪ :‬زوّجني بنتك ونحوها بمائة من الدّنانير مثلً على‬
‫شرط أن أزوّجك ابنتي أو أختي أو أمتي بمائة من الدّنانير أو أقلّ أو أكثر فهذا النّكاح فاسد كذلك‬
‫يفسخ قبل البناء ويمضي بعد البناء بالكثر من المسمّى وصداق المثل ‪ ،‬ويسمّى هذا النّوع وجه‬
‫الشّغار ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب الشّافعيّة إلى أنّ نكاح الشّغار ‪ -‬وهو قول الرّجل للرّجل زوّجتك بنتي أو نحوها على‬ ‫‪4‬‬

‫أن تزوّجني بنتك أو نحوها وبضع كلّ واحدة منهما صداق الخرى ‪ ،‬فيقبل الخر ذلك كأن يقول‬
‫‪ :‬تزوّجت بنتك وزوّجتك بنتي على ما ذكرت ‪ -‬باطل للحديث الصّحيح عن ابن عمر رضي ال‬
‫عنهما قال ‪ » :‬نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن الشّغار ‪ ،‬والشّغار أن يزوّج الرّجل‬
‫ابنته على أن يزوّجه الخر ابنته وليس بينهما صداق « ‪.‬‬
‫ولمعنى الشتراك في البضع حيث جعله مورد النّكاح وصداقا لخرى فأشبه تزويج واحدة من‬
‫اثنين ‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬علّة البطلن ‪ ،‬التّعليق والتّوقّف الموجود في هذا النّكاح ‪ ،‬وقيل لخلوّه من المهر‬
‫‪ .‬فإن لم يجعل البضع صداقا بأن سكت عنه كقوله ‪ :‬زوّجتك بنتي على أن تزوّجني بنتك فالصحّ‬
‫صحّة لعدم التّشريك في البضع ولنّه ليس فيه إ ّل شرط عقد في عقد وذلك ل يفسد النّكاح‬
‫ال ّ‬
‫ويجب لكلّ واحدة منهما مهر المثل ‪.‬‬
‫ح النّكاح‬
‫فعلى هذا لو قال ‪ :‬زوّجتك ابنتي على أن تزوّجني ابنتك وبضع ابنتك صداق لبنتي ص ّ‬
‫الوّل وبطل النّكاح الثّاني ‪.‬‬
‫ح الثّاني ‪.‬‬
‫ولو قال ‪ :‬وبضع ابنتي صداق لبنتك بطل الوّل وص ّ‬
‫ح النّكاح في الصّور المذكورة لما فيها من‬
‫وعلى الوجه الثّاني ‪ -‬وهو مقابل الصحّ ‪ -‬ل يص ّ‬
‫معنى التّعليق والتّوقّف ‪.‬‬
‫ولو سمّيا مالً مع جعل البضع صداقا كأن يقول ‪ :‬زوّجتك بنتي بألف من الدّنانير مثلً على أن‬
‫تزوّجني بنتك بألف كذلك وبضع كلّ واحدة منهما صداق للخرى ‪ ،‬أو يقول ‪ :‬زوّجتك بنتي على‬
‫ح بطلن هذا‬
‫أن تزوّجني بنتك ويكون بضع كلّ واحدة منهما وألف درهم صداقا للخرى ‪ ،‬فالص ّ‬
‫النّكاح لوجود التّشريك فيه ‪.‬‬
‫وكذا إذا سمّيا لحداهما مهرا دون الخرى كأن يقول ‪ :‬زوّجتك بنتي بألف درهم على أن تزوّجني‬
‫ح بطلنه أيضا لوجود معنى التّشريك فيه ‪.‬‬
‫بنتك وبضع كلّ واحدة منهما صداق للخرى فالص ّ‬
‫وعلى الوجه الثّاني ‪ -‬وهو مقابل الصحّ ‪ -‬يصحّ النّكاح في هذه الصّور لنّه ليس على تفسير‬
‫صورة الشّغار ولنّه لم يخل عن المهر ‪.‬‬
‫ومن صور الشّغار عند الشّافعيّة أن يقول ‪ :‬زوّجتك ابنتي على أن تزوّج ابني ابنتك وبضع كلّ‬
‫واحدة منهما صداق الخرى ‪.‬‬
‫ل ابنته وصداق البنت بضع المطلّقة فزوّجه على ذلك ‪،‬‬
‫ولو طلّق امرأته على أن يزوّجه زيد مث ً‬
‫صحّ التّزويج بمهر المثل ‪ ،‬لفساد المسمّى ووقع الطّلق على المطلّقة ‪.‬‬
‫ن الشّغار ‪ -‬وهو أن يزوّج شخص وليّته لشخص على أن يزوّجه الخر‬
‫‪ -5‬وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬نهى عن الشّغار « ‪.‬‬
‫وليّته ‪ -‬نكاح فاسد ‪ ،‬لما ورد من أنّ النّب ّ‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل جلب ول جنب ول شغار في السلم « ‪.‬‬
‫ح ‪ ،‬ك ما لو قال ‪ :‬بع ني ثو بك على أن‬
‫ولنّه ج عل كلّ وا حد من العقد ين سلفا في ال خر فلم ي ص ّ‬
‫ن صداق كلّ واحدة منهما بضع الخرى ‪ ،‬أو لم يقل‬
‫أبيعك ثوبي ‪ .‬ول فرق بين أن يقول ‪ :‬على أ ّ‬
‫ذلك بأن سكتا ع نه أو شر طا نف يه ‪ ،‬وكذا لو جعل ب ضع كلّ واحدة منه ما ودرا هم معلومةً مهرا‬
‫للخرى ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وليس فساد نكاح الشّغار من قبل التّسمية الفاسدة ‪ ،‬بل من جهة أنّه وقفه على شرط‬
‫فاسد ‪ ،‬أو لنّه شرط تمليك البضع لغير الزّوج ‪ ،‬فإنّه جعل تزويجه إيّاها مهرا للخرى فكأنّه‬
‫ملّكه إيّاها بشرط انتزاعها منه ‪.‬‬
‫فإن سمّيا لكلّ واحدة منهما مهرا كأن يقول ‪ :‬زوّجتك ابنتي على أن تزوّجني ابنتك ومهر كلّ‬
‫واحدة منهما مائة درهم ‪ ،‬أو قال ‪ :‬ومهر ابنتي مائة ومهر ابنتك خمسون درهما أو أقلّ أو أكثر‬
‫صحّ النّكاح بالمسمّى ‪ ،‬وهو المذهب كما هو منصوص المام أحمد ‪ ،‬لنّه لم يحصل في هذا‬
‫العقد تشريك وإنّما حصل فيه شرط فاسد فبطل الشّرط وصحّ النّكاح ‪.‬‬
‫وقال الخرقيّ ‪ :‬هذا النّكاح باطل للنّهي الّذي ورد في الحديث الصّحيح عن نكاح الشّغار ‪ ،‬ولنّه‬
‫ح‪.‬‬
‫شرط نكاح إحداهما لنكاح الخرى فلم يص ّ‬
‫ن في نكاحها تسميةً‬
‫ح نكاح من سمّي لها ‪ ،‬ل ّ‬
‫وإن سمّيا المهر لحداهما دون الخرى ص ّ‬
‫وشرطا‪ .‬فصحّت التّسمية وبطل الشّرط دون الخرى الّتي لم يس ّم لها مهر فنكاحها باطل ‪ ،‬لنّه‬
‫خل من صداق سوى نكاح الخرى ‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بفساد النّكاحين لنّه فسد في إحداهما فيفسد في الخرى ‪.‬‬
‫راجع التّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬نكاح ‪ ،‬مهر ‪ ،‬صداق ) ‪.‬‬

‫شغل ال ّذمّة *‬
‫انظر ‪ ( :‬اشتغال ال ّذمّة ‪ ،‬ذمّة) ‪.‬‬

‫شَفَاعة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّفاعة في اللّغة ‪ :‬من شفع إلى فلن في المر شفعا ‪ ،‬وشفاع ًة طالبه بوسيلة ‪ ،‬أو ذمام ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫أو هي التّوسّط بالقول في وصول شخص إلى منفعة دنيويّة أو أخرويّة أو إلى خلص من مضرّة‬
‫كذلك ‪.‬‬
‫أو هي سؤال التّجاوز عن الذّنوب من الّذي وقع الجناية في حقّه ‪.‬‬
‫ي طلب منه أن يشفّع فشفّعته أي قبلت شفاعته ‪.‬‬
‫واستشفع بفلن إل ّ‬
‫‪ -‬والشّفاعة إن كانت إلى اللّه فهي الدّعاء للمشفوع له ‪ ،‬ففي الثر ‪ » :‬من دعا لخيه بظهر‬ ‫‪2‬‬

‫الغيب قال الملك الموكّل به ‪ :‬ولك بمثل « ‪.‬‬


‫وإن كانت إلى النّاس فهي كلم الشّفيع في حاجة يطلبها لغيره إلى من يستطيع قضاءها كالملك‬
‫مثلً ‪.‬‬
‫ول يخرج اصطلح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الغاثة ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو من أغاث المكروب إغاثةً ومغوثةً ‪ :‬أي فرّج عنه ونصره في حالة الشّدّة ‪ .‬فكلّ من‬ ‫‪3‬‬

‫الشّفاعة والغاثة معونة للطّالب‬


‫ب ‪ -‬التّوسّل ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو التّقرّب يقال ‪ :‬توسّلت إلى اللّه بالعمل وتوسّل بفلن إلى كذا ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫الحكام المتعلّقة بالشّفاعة ‪:‬‬


‫الشّفاعة قسمان ‪ :‬شفاعة حسنة ‪ ،‬وشفاعة سيّئة ‪.‬‬
‫الشّفاعة الحسنة ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬الشّفاعة الحسنة ‪ :‬وهي ‪ :‬أن يشفع الشّفيع لزالة ضرر أو رفع مظلمة عن مظلوم ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫أو ج ّر منفعة إلى مستحقّ ليس في جرّها ضرر ول ضرار ‪ ،‬فهذه مرغوب فيها مأمور بها ‪ ،‬قال‬
‫اللّه تعالى ‪ { :‬وَ َتعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَال ّت ْقوَى } ‪.‬‬
‫حسَ َنةً َيكُن ّل ُه نَصِيبٌ‬
‫ع ًة َ‬
‫شفَا َ‬
‫شفَعْ َ‬
‫وللشّفيع نصيب في أجرها وثوابها قال اللّه تعالى ‪ { :‬مّن َي ْ‬
‫مّ ْنهَا} ويندرج فيها دعاء المسلم لخيه المسلم عن ظهر الغيب ‪.‬‬
‫سيّئة ‪:‬‬
‫الشّفاعة ال ّ‬
‫ق أو‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬الشّفاعة السّيّئة هي ‪ :‬أن يشفع في إسقاط حدّ بعد بلوغه السّلطان أو هضم ح ّ‬ ‫‪5‬‬

‫إعطائه لغير مستحقّه ‪ ،‬وهو منهيّ عنه لنّه تعاون على الثم والعدوان ‪ .‬قال تعالى ‪َ { :‬ولَ‬
‫عةً سَيّ َئ ًة َيكُن‬
‫شفَا َ‬
‫شفَعْ َ‬
‫َتعَاوَنُواْ عَلَى الِ ْثمِ } وللشّفيع في هذا كفل من الثم ‪ .‬قال تعالى ‪َ { :‬ومَن َي ْ‬
‫ّلهُ ِك ْفلٌ مّ ْنهَا } الية ‪.‬‬
‫ن الشّفاعة الحسنة هي ‪ :‬ما كانت فيما استحسنه الشّرع ‪ ،‬وال سّيّئة فيما كرهه‬
‫والضّابط العامّ ‪ :‬أ ّ‬
‫وحرّمه ‪.‬‬
‫والشّفاعة تكون في الخرة وفي الدّنيا ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬الشّفاعة في الخرة ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع أهل السّنّة ‪ ،‬والجماعة على وقوع الشّفاعة في الخرة ووجوب اليمان بها ‪ .‬لصريح‬ ‫‪6‬‬

‫ي َلهُ َق ْولً } ‪.‬‬


‫ن وَرَضِ َ‬
‫حمَ ُ‬
‫ن أَذِنَ َلهُ ال ّر ْ‬
‫ع ُة إِل مَ ْ‬
‫قوله تعالى ‪َ { :‬ي ْومَئِ ٍذ ل تَنفَ ُع الشّفَا َ‬
‫ن ارْتَضَى } ‪.‬‬
‫ن إِل ِلمَ ِ‬
‫ش َفعُو َ‬
‫وقال ع ّز من قائل ‪ { :‬وَل َي ْ‬
‫وقـد جاءت الحاديـث الّتـي بلغـت بمجموعهـا حدّ التّواتـر بصـحّة الشّفاعـة فـي الخرة لمذنـبي‬
‫المسلمين ‪ ،‬فيشفع له من يأذن له الرّحمن من النبياء والملئكة وصالحي المؤمنين ‪.‬‬
‫جاء في حد يث الشّفاعـة ‪ » :‬فيقول اللّه ع ّز وجلّ ‪ :‬شف عت الملئكـة ‪ ،‬وشفـع النّبيّون ‪ ،‬وشفـع‬
‫المؤمنون ‪ ،‬ولم يبق إلّ أرحم الرّاحمين فيقبض قبض ًة من النّار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا‬
‫قطّ ‪ ..‬إلخ « ‪.‬‬
‫‪ -‬قال العلماء ‪ :‬الشّفاعة في الخرة خمسة أقسام ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫أوّلهـا ‪ :‬مختصـّة بنبيّنـا صـلى ال عليـه وسـلم وهـي ‪ :‬الراحـة مـن هول الموقـف ‪ ،‬وتعجيـل‬
‫الحساب ‪ ،‬وهي ‪ :‬الشّفاعة العظمى ‪.‬‬
‫ثانيها ‪ :‬في إدخال قوم الجنّة بغير حساب ‪ ،‬وهذه أيضا خاصّة بنبيّنا صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ثالثها ‪ :‬الشّفاعة لقوم استوجبوا النّار فيشفع فيهم نبيّنا ‪ ،‬ومن شاء اللّه تعالى ‪.‬‬
‫رابع ها ‪ :‬في من د خل النّار من المذ نبين ‪ :‬ف قد جاءت الحاد يث بإخراج هم من النّار بشفا عة نبيّ نا‬
‫صلى ال عليه وسلم والملئكة وإخوانهم من المؤمنين ‪.‬‬
‫خامسها ‪ :‬في زيادة الدّرجات في الجنّة لهلها ‪.‬‬
‫‪ -8‬ويجوز للنسان أن يسأل اللّه أن يرزقه شفاعة الحبيب محمّد صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وقال النّوويّ في شرح صحيح مسلم ‪ :‬قال القاضي عياض ‪ " :‬قد عرف بالنّقل المستفيض سؤال‬
‫السّلف الصّالح ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬شفاعة نبيّنا صلى ال عليه وسلم ورغبتهم فيها ‪ ،‬وعلى‬
‫هذا ل يلتفت إلى من قال ‪ :‬إنّه يكره أن يسأل النسان اللّه تعالى ‪ :‬أن يرزقه شفاعة نبيّنا صلى‬
‫ال عليه وسلم لكونها ل تكون إلّ للمذنبين ‪ ،‬لنّ الشّفاعة قد تكون لتخفيف الحساب ‪ ،‬وزيادة‬
‫الدّرجات ‪ .‬ث ّم كلّ عاقل ‪ :‬معترف بالتّقصير محتاج إلى العفو غير معتدّ بعمله مشفق من أن‬
‫يكون من الهالكين ‪ .‬ويلزم هذا القائل أل يدعو بالمغفرة ‪ ،‬والرّحمة لنّها لصحاب الذّنوب " ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الشّفاعة في الدّنيا ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الشّفاعة في الحدّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في تحريم الشّفاعة في حدّ من حدود اللّه بعد بلوغه إلى الحاكم‬ ‫‪9‬‬

‫لقوله صلى ال عليه وسلم لسامة لمّا كلّمه في شأن المخزوميّة الّتي سرقت ‪ » :‬أتشفع في حدّ‬
‫من حدود اللّه ؟ ‪ .‬ثمّ قام فاختطب ثمّ قال ‪ :‬إنّما أهلك الّذين من قبلكم ‪ :‬أنّهم كانوا إذا سرق فيهم‬
‫الشّريف تركوه وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ ‪ ،‬وأيم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمّد‬
‫سرقت لقطعت يدها « ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من حالت شفاعته دون ح ّد من حدود اللّه فقد ضادّ اللّه « ‪.‬‬
‫ولنّ الحدّ إذا بلغ الحاكم وثبت عنده وجب إقامته والسّعي لترك واجب أمر بالمنكر ‪ ،‬واستظهر‬
‫بعض الحنفيّة جواز الشّفاعة عند الرّافع له بعد وصولها إلى الحاكم وقبل الثّبوت عنده ‪.‬‬
‫ن الشّرط والحرس‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬وكذلك ل تجوز الشّفاعة إذا بلغ الحدّ الشّرط والحرس ل ّ‬
‫بمنزلة الحاكم ‪.‬‬
‫أمّا قبل بلوغه إلى من ذكر فتجوز الشّفاعة فيه لما ورد أنّ الزّبير بن العوّام مرّ عليه بسارق‬
‫فتشفّع له ‪ ،‬قالوا ‪ :‬أتشفع لسارق ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬ما لم يؤت به إلى المام ‪ ،‬فإذا أتي به إلى المام‬
‫فل عفا اللّه عنه إن عفا عنه ‪.‬‬
‫قال المالكيّة ‪ :‬إلّ إذا كان المشفوع فيه من الشرار الّذين مردوا على ارتكاب المعاصي الّتي‬
‫توجب الحدّ ‪ ،‬فل يجوز الشّفاعة فيه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الشّفاعة في التّعازير ‪:‬‬
‫‪ -‬أمّا التّعازير ‪ :‬فيجوز فيها الشّفاعة بلغت الحاكم أم ل ‪ ،‬بل يستحبّ ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫قال المالكيّة ‪ :‬إذا لم يكن المشفوع له صاحب شرّ ‪.‬‬


‫الشّفاعة إلى ولة المور ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّفاعة إلى ولة المور إن كانت في حاجة المسلمين فهي مستحبّة ‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫حسَ َنةً } الية ‪.‬‬


‫عةً َ‬
‫شفَا َ‬
‫شفَ ْع َ‬
‫لقوله تعالى ‪ { :‬مّن َي ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم كان إذا‬
‫ولما في الصّحيحين عن أبي موسى رضي ال عنه ‪ » :‬أنّ النّب ّ‬
‫أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال ‪ :‬اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان نبيّه ما‬
‫أحبّ«‪.‬‬
‫أخذ الهديّة على الشّفاعة ‪:‬‬
‫‪ -‬إن أهدى المشفوع له هد ّيةً لمن يشفع له عند السّلطان ‪ ،‬ونحوه من أرباب الولية فإن‬ ‫‪12‬‬

‫كانت الشّفاعة لطلب محظور ‪ ،‬أو إسقاط حقّ أو معونة على ظلم ‪ ،‬أو تقديمه في ولية على‬
‫غيره ممّن هو أولى بها منه ‪ ،‬فقبولها حرام بالتّفاق ‪ ،‬وإن كانت لرفع مظلمة عن المشفوع له‬
‫ق له أو توليته وليةً يستحقّها ‪ ،‬فإن شرط الهديّة على المشفوع له فقبولها حرام‬
‫أو إيصال ح ّ‬
‫أيضا ‪ .‬وإن قال المشفوع له ‪ :‬هذه الهديّة جزاء شفاعتك فقبولها حرام كذلك ‪ .‬أمّا إن لم يشرط‬
‫الشّافع ولم يذكر المهدي أنّها جزاء فإن كان يهدى له قبل الشّفاعة ‪.‬‬
‫فقال الشّافعيّة ‪ :‬ل يكره له القبول ‪ ،‬وإلّ كره إلّ أن يكافئه عليها فإن كافأه عليها لم يكره ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل يجوز للشّافع أخذ هديّة بحال من الحوال ‪ ،‬لنّها كالجرة ‪ ،‬والشّفاعة الحسنة‬
‫من المصالح العامّة فيحرم أخذ شيء في مقابلها ‪ .‬أمّا الباذل فله أن يبذل في ذلك ما يتوصّل به‬
‫إلى حقّه ‪ .‬وهو المنقول عن السّلف والئمّة ‪.‬‬
‫الستشفاع إلى اللّه تعالى بأهل الصّلح ‪:‬‬
‫‪ -‬الستشفاع بالعمال الصّالحة وبالنّبيّ صلى ال عليه وسلم وبأهل الصّلح هو من التّوسّل‪،‬‬ ‫‪13‬‬

‫وينظر حكمه في ‪ ( :‬توسّل ) ‪.‬‬

‫شُ ْفرُ العَين *‬


‫انظر ‪ ( :‬قصاص ‪ ،‬ديات ‪ ،‬حكومة عدل ) ‪.‬‬

‫شُ ْفرُ ال َفرْج *‬


‫انظر ‪ ( :‬قصاص ‪ ،‬ديات ‪ ،‬حكومة عدل ) ‪.‬‬

‫شَفْع *‬
‫انظر ‪ ( :‬نوافل ‪ ،‬تطوّع ) ‪.‬‬

‫شُفْعَة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّفعة بضمّ الشّين وسكون الفاء اسم مصدر بمعنى التّملّك ‪ ،‬وتأتي أيضا اسما للملك‬ ‫‪1‬‬

‫ي‪.‬‬
‫المشفوع كما قال الفيّوم ّ‬
‫وهي من الشّفع الّذي هو ضدّ الوتر ‪ ،‬لما فيه من ضمّ عدد إلى عدد أو شيء إلى شيء ‪ ،‬يقال ‪:‬‬
‫شفع الرّجل الرّجل شفعا إذا كان فردا فصار له ثانيا وشفع الشّيء شفعا ضمّ مثله إليه وجعله‬
‫زوجا ‪.‬‬
‫وفي الصطلح عرّفها الفقهاء بأنّها ‪ :‬تمليك البقعة جبرا على المشتري بما قام عليه ‪ .‬أو هي‬
‫حقّ تملّك قهريّ يثبت للشّريك القديم على الحادث فيما ملك بعوض ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬البيع الجبريّ ‪:‬‬
‫‪ -‬البيع الجبريّ في اصطلح الفقهاء هو ‪ :‬البيع الحاصل من مكره بحقّ ‪ ،‬أو البيع عليه نيابةً‬ ‫‪2‬‬

‫ق وجب عليه ‪ ،‬أو لدفع ضرر ‪ ،‬أو لتحقيق مصلحة عامّة ‪.‬‬
‫عنه ‪ ،‬ليفاء ح ّ‬
‫ي أعمّ من الشّفعة ‪.‬‬
‫فالبيع الجبر ّ‬
‫ب ‪ -‬التّولية ‪:‬‬
‫‪ -‬التّولية في الصطلح هي ‪ :‬بيع ما ملكه بمثل ما قام عليه ‪ ،‬وكلّ من بيع التّولية والشّفعة‬ ‫‪3‬‬

‫بيع بمثل ما اشترى ويختلفان من وجوه أخرى ‪.‬‬


‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّفعة حقّ ثابت بالسّنّة والجماع ولصاحبه المطالبة به أو تركه ‪ ،‬لكن قال الشّبراملّسي ‪-‬‬ ‫‪4‬‬

‫من الشّافعيّة ‪ -‬إن ترتّب على ترك الشّفعة معصية ‪ -‬كأن يكون المشتري مشهورا بالفسق‬
‫والفجور ‪ -‬فينبغي أن يكون الخذ بها مستحبّا بل واجبا إن تعيّن طريقا لدفع ما يريده المشتري‬
‫من الفجور ‪.‬‬
‫واستدلّوا من السّنّة بحديث جابر بن عبد اللّه ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬قال ‪ » :‬قضى رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم بالشّفعة في كلّ ما لم يقسم ‪ ،‬فإذا وقعت الحدود ‪ ،‬وصرّفت الطّرق ‪ ،‬فل‬
‫شفعة « وفي رواية أخرى قال جابر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ » : -‬قضى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بالشّفعة في كلّ شركة لم تقسم ربعة أو حائط ‪ ،‬ل يحلّ له أن يبيع حتّى يؤذن شريكه فإن‬
‫شاء أخذ وإن شاء ترك ‪ ،‬فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحقّ به « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬جار الدّار أحقّ بالدّار « ‪.‬‬
‫وعن سمرة عن النّب ّ‬
‫وقال ابن المنذر ‪ :‬أجمع أهل العلم على إثبات الشّفعة للشّريك الّذي لم يقاسم فيما بيع من أرض‬
‫أو دار أو حائط ‪.‬‬
‫حكمة مشروعيّة الشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬لمّا كانت الشّركة منشأ الضّرر في الغالب وكان الخلطاء كثيرا ما يبغي بعضهم على بعض‬ ‫‪5‬‬

‫شرع اللّه سبحانه وتعالى رفع هذا الضّرر بأحد طريقين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬بالقسمة تارةً وانفراد كلّ من الشّريكين بنصيبه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وبالشّفعة تارةً أخرى وانفراد أحد الشّريكين بالجملة إذا لم يكن على الخر ضرر في ذلك ‪.‬‬
‫ق به من الجنبيّ وهو يصل إلى غرضه من‬
‫فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أح ّ‬
‫ي ويزول عنه ضرر الشّركة‬
‫العوض من أيّهما كان فكان الشّريك أحقّ بدفع العوض من الجنب ّ‬
‫ول يتضرّر البائع لنّه يصل إلى حقّه من الثّمن وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الحكام‬
‫المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد ‪ .‬كما قال ابن القيّم ‪.‬‬
‫وحكمة مشروعيّة الشّفعة كما ذكر الشّافعيّة ‪ ،‬دفع ضرر مؤنة القسمة واستحداث المرافق‬
‫وغيرها كمنور ومصعد وبالوعة في الحصّة الصّائرة إليه ‪ ،‬وقيل ضرر سوء المشاركة ‪.‬‬
‫أسباب الشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على ثبوت الشّفعة للشّريك الّذي له حصّة شائعة في نفس العقار المبيع ما لم‬ ‫‪6‬‬

‫يقسم ‪.‬‬
‫واختلفوا في التّصال بالجوار وحقوق المبيع فاعتبرهما الحنفيّة من أسباب الشّفعة خلفا‬
‫لجمهور الفقهاء ‪ ،‬وتفصيل ذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫الشّفعة للشّريك على الشّيوع ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على جواز الشّفعة للشّريك الّذي له حصّة شائعة في ذات العقار المبيع ما دام‬ ‫‪7‬‬

‫لم يقاسم ‪.‬‬


‫‪4/‬‬ ‫وقد استدلّوا على ذلك بحديث جابر رضي ال عنه السّابق ف‬
‫الشّركة الّتي تكون محلً للشّفعة ‪:‬‬
‫ل للشّفعة على اتّجاهين ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في الشّركة الّتي تكون مح ً‬ ‫‪8‬‬

‫الوّل ‪ :‬ذهب مالك في إحدى روايتيه ‪ ،‬والشّافعيّ في الصحّ والحنابلة في ظاهر المذهب إلى أنّ‬
‫كلّ ما ل ينقسم ‪ -‬كالبئر ‪ ،‬والحمّام الصّغير ‪ ،‬والطّريق ‪ -‬ل شفعة فيه ‪.‬‬
‫لنّ إثبات الشّفعة فيما ل ينقسم يضرّ بالبائع لنّه ل يمكنه أن يتخلّص من إثبات الشّفعة في‬
‫نصيبه بالقسمة وقد يمتنع المشتري لجل الشّفيع فيتضرّر البائع وقد يمتنع البيع فتسقط الشّفعة‬
‫فيؤدّي إثباتها إلى نفيها ‪.‬‬
‫‪ -‬التّجاه الثّاني ‪ :‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬ومالك في الرّواية الثّانية ‪ ،‬والشّافعيّة في الصّحيح والحنابلة‬ ‫‪9‬‬

‫ن الشّفعة تجب في العقار سواء قبل القسمة أم لم يقبلها ‪.‬‬


‫في رواية إلى أ ّ‬
‫واستدلّوا على ذلك بعموم حديث جابر قال ‪ » :‬قضى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالشّفعة‬
‫في كلّ ما لم يقسم « ‪.‬‬
‫ولنّ الشّفعة إنّما شرعت لدفع الضّرر اللحق بالشّركة فتجوز فيما ل ينقسم ‪ ،‬فإذا كانا شريكين‬
‫في عين من العيان ‪ ،‬لم يكن دفع ضرر أحدهما بأولى من دفع ضرر الخر فإذا باع نصيبه كان‬
‫ي ‪ ،‬إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرّر صاحبه ‪ ،‬فإنّه يصل إلى‬
‫شريكه أحقّ به من الجنب ّ‬
‫حقّه من الثّمن ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع فيزول الضّرر عنهما جميعا ‪.‬‬
‫وقالوا أيضا ‪ :‬إنّ الضّرر بالشّركة فيما ل ينقسم أبلغ من الضّرر بالعقار الّذي يقبل القسمة ‪ ،‬فإذا‬
‫صةً‬
‫كان الشّارع مريدا لدفع الضّرر الدنى فالعلى أولى بالدّفع ‪ ،‬ولو كانت الحاديث مخت ّ‬
‫بالعقارات المقسومة فإثبات الشّفعة فيها تنبيه على ثبوتها فيما ل يقبل القسمة ‪.‬‬
‫الشّفعة في المنفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّركة المجيزة للشّفعة هي الشّركة في الملك فقط ‪ ،‬فتثبت الشّفعة للشّريك في رقبة العقار‬ ‫‪10‬‬

‫‪.‬‬
‫أمّا الشّركة في ملك المنفعة فل تثبت فيها الشّفعة عند الجمهور ‪ ،‬وفي قول لمالك للشّريك في‬
‫المنفعة المطالبة بالشّفعة أيضا ‪ .‬قال الشّيخ عليش ‪ " :‬ل شفعة لشريك في كراء ‪ ،‬فإن اكترى‬
‫شخصان دارا مثلً ث ّم أكرى أحدهما نصيبه من منفعتها فل شفعة فيه لشريكه على أحد قولي‬
‫مالك ‪ ،‬وله الشّفعة فيه على قوله الخر " ‪.‬‬
‫واشترط بعض المالكيّة للشّفعة في الكراء أن يكون ممّا ينقسم وأن يشفع ليسكن ‪.‬‬
‫شفعة الجار المالك والشّريك في حقّ من حقوق المبيع ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء كما سبق على ثبوت شفعة للشّريك الّذي له حصّة شائعة في ذات المبيع ما‬ ‫‪11‬‬

‫دام لم يقاسم ‪.‬‬


‫ق من حقوق المبيع ‪ ،‬ولهم في ذلك‬
‫ولكنّهم اختلفوا في ثبوتها للجار الملصق والشّريك في ح ّ‬
‫اتّجاهان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬ذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى عدم ثبوت الشّفعة للجار ول للشّريك في‬
‫حقوق البيع ‪ ،‬وبه قال ‪ :‬أهل المدينة وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيّب‬
‫وسليمان بن يسار والزّهريّ ويحيى النصاريّ وأبو الزّناد وربيعة والمغيرة بن عبد الرّحمن‬
‫ي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر ‪.‬‬
‫والوزاع ّ‬
‫واستدلّوا على ذلك بحديث جابر وفيه ‪ » :‬فإذا وقعت الحدود وصرفت الطّرق فل شفعة « ‪.‬‬
‫أنـ فـي صـدره إثبات الشّفعـة فـي غيـر المقسـوم ونفيهـا فـي‬
‫ووجـه الدّللة مـن هذا الحديـث ‪ّ :‬‬
‫ن كلمة إنّما لثبات المذكور ونفي ما عداه ‪ ،‬وآخره نفي الشّفعة عند وقوع الحدود‬
‫المقسوم‪ ،‬ل ّ‬
‫وصـرف الطّرق والحدود بيـن الجاريـن واقعـة والطّرق مصـروفة فكانـت الشّفعـة منف ّيةً فـي هذه‬
‫الحالة ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إذا كان الشّارع يقصد رفع الضّرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفعه عن المشتري ‪ .‬ول‬
‫يدفع ضرر الجار بإدخال الضّرر على المشتري ‪ ،‬فإنّ المشتري في حاجة إلى دار يسكنها هو‬
‫وعياله ‪ ،‬فإذا سلّط الجار على انتزاع داره منه أض ّر به ضررا بيّنا ‪ ،‬وأي دار اشتراها وله جار‬
‫فحاله معه هكذا ‪.‬‬
‫وتطلّبه دارا ل جار لها كالمتعذّر عليه ‪ ،‬فكان من تمام حكمة الشّارع أن أسقط الشّفعة بوقوع‬
‫الحدود وتصريف الطّرق لئلّ يضرّ النّاس بعضهم بعضا ‪ ،‬ويتعذّر على من أراد شراء دار لها‬
‫جار أن يتمّ له مقصوده ‪.‬‬
‫‪ -‬التّجاه الثّاني ‪ :‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬وابن شبرمة والثّوريّ وابن أبي ليلى إلى إثبات الشّفعة‬ ‫‪12‬‬

‫للجار الملصق والشّريك في حقّ من حقوق المبيع ‪ ،‬فسبب وجوب الشّفعة عندهم أحد شيئين ‪:‬‬
‫الشّركة أو الجوار ‪.‬‬
‫ثمّ الشّركة نوعان ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬شركة في ملك المبيع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬شركة في حقوقه ‪ ،‬كالشّرب والطّريق ‪.‬‬
‫ي ‪ " :‬الشّفعة واجبة للخليط في نفس المبيع ‪ ،‬ثمّ للخليط في حقّ المبيع كالشّرب‬
‫قال المرغينان ّ‬
‫والطّريق ‪ ،‬ثمّ للجار ‪.‬‬
‫واستدلّ هؤلء بحديث عمرو بن الشّريد قال ‪ " :‬وقفت على سعد بن أبي وقّاص ‪ ،‬فجاء المسور‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فقال‬
‫ي إذ جاء أبو رافع مولى النّب ّ‬
‫بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكب ّ‬
‫‪ :‬يا سعد ‪ ،‬ابتع منّي بيتي في دارك ‪ .‬فقال سعد ‪ :‬واللّه ما أبتاعهما فقال المسور ‪ :‬واللّه‬
‫لتبتاعنهما ‪ ،‬فقال سعد ‪ :‬واللّه ل أزيدك على أربعة آلف منجّمةً أو مقطّعةً ‪ ،‬قال أبو رافع ‪ :‬لقد‬
‫أعطيت بها خمسمائة دينار ولول أنّي سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ » :‬الجار‬
‫أحقّ بسقبه « ما أعطيتكها بأربعة آلف وأنا أعطى بها خمسمائة دينار فأعطاها إيّاه " ‪.‬‬
‫ق بسبب الجوار ‪ ،‬واستدلّوا بحديث جابر قال ‪ :‬قال‬
‫ففي هذا الحديث دليل على أنّ الشّفعة تستح ّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الجار أحقّ بشفعته ينتظر به وإن كان غائبا ‪ ،‬إذا كان طريقهما‬
‫واحدا « ‪.‬‬
‫وعن الشّريد بن سويد قال ‪ :‬قلت يا رسول اللّه ‪ » :‬أرضي ليس لحد فيها شركة ول قسمة إلّ‬
‫الجوار ‪ ،‬فقال ‪ :‬الجار أحقّ بسقبه « ‪.‬‬
‫واستدلّوا من المعقول بأنّه إذا كان الحكم بالشّفعة ثبت في الشّركة لفضائها إلى ضرر المجاورة‬
‫لنـ المقصـود دفـع ضرر المتأذّي بسـوء المجاورة‬
‫فحقيقـة المجاورة أولى بالثّبوت فيهـا ‪ ،‬وهذا ّ‬
‫على الدّوام وضرر التّأذّي ب سوء المجاورة على الدّوام باتّ صال أ حد الملك ين بال خر على و جه ل‬
‫يتأتّى الفصل فيه ‪.‬‬
‫والنّاس يتفاوتون في المجاورة حتّى يرغب في مجاورة بعض النّاس لحسن خلقه ويرغب عن‬
‫جوار البعض لسوء خلقه ‪ ،‬فلمّا كان الجار القديم يتأذّى بالجار الحادث على هذا الوجه ثبت له‬
‫حقّ الملك بالشّفعة دفعا لهذا الضّرر ‪.‬‬
‫شروط الشّفعة بالجوار ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى الحنفيّة أنّ الجوار سبب للشّفعة ولكنّهم لم يأخذوا بالجوار على عمومه ‪ ،‬بل‬ ‫‪13‬‬

‫اشترطوا لذلك أن تتحقّق الملصقة في أيّ جزء من أيّ ح ّد من الحدود ‪ ،‬سواء امتدّ مكان‬
‫الملصقة حتّى عمّ الح ّد أم قصر حتّى لو لم يتجاوز ‪.‬‬
‫فالملصق للمنزل والملصق لقصى الدّار سواء في استحقاق الشّفعة لنّ ملك كلّ ح ّد منهم‬
‫متّصل بالبيع ‪.‬‬
‫ن المعتبر في‬
‫أمّا الجار المحاذي فل شفعة له بالمجاورة سواء أكان أقرب بابا أم أبعد ‪ ،‬ل ّ‬
‫الشّفعة هو القرب واتّصال أحد الملكين بالخر وذلك في الجار الملصق دون الجار المحاذي فإنّ‬
‫بين الملكين طريقا نافذا ‪.‬‬
‫ن عائشة‬
‫وقال شريح ‪ :‬الشّفعة بالبواب ‪ ،‬فأقرب البواب إلى الدّار أحقّ بالشّفعة ‪ .‬لما ورد أ ّ‬
‫رضي ال عنها قالت ‪ » :‬يا رسول اللّه إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي ؟ قال ‪ :‬إلى أقربهما منك‬
‫بابا « ‪.‬‬
‫ن سوء المجاورة ل يتحقّق إذا لم يكن ملك‬
‫ول تثبت الشّفعة أيضا عند الحنفيّة للجار المقابل ‪ .‬ل ّ‬
‫أحدهما متّصلً بملك الخر ول شركة بينهما في حقوق الملك ‪.‬‬
‫وحقّ الشّفعة يثبت للجار الملصق ليترفّق به من حيث توسّع الملك والمرافق ‪ ،‬وهذا في الجار‬
‫الملصق يتحقّق لمكان جعل إحدى الدّارين من مرافق الدّار الخرى ‪.‬‬
‫ول يتحقّق ذلك في الجار المقابل لعدم إمكان جعل إحدى الدّارين من مرافق الدّار الخرى بطريق‬
‫نافذ بينهما ‪.‬‬
‫ولكن تثبت الشّفعة للجار المقابل إذا كانت الدّور كلّها في سكّة غير نافذة ‪ ،‬لمكان جعل بعضها‬
‫من مرافق البعض بأن تجعل الدّور كلّها دارا واحدةً ‪.‬‬
‫ول تثبت الشّفعة إلّ للجار المالك ‪ ،‬فل تثبت لجار السّكنى ‪ ،‬كالمستأجر والمستعير ‪ ،‬لنّ‬
‫المقصود دفع ضرر التّأذّي بسوء المجاورة على الدّوام وجوار السّكنى ليس بمستدام ‪ ،‬وضرر‬
‫التّأذّي بسوء المجاورة على الدّوام ‪ ،‬باتّصال أحد الملكين بالخر على وجه ل يتأتّى الفصل فيه ‪.‬‬
‫الشّفعة بين ملك الطّبقات ‪:‬‬
‫ق لهم الخذ بالشّفعة بسبب الجوار ‪.‬‬
‫م ‪ -‬ملك الطّبقات عند الحنفيّة متجاورون فيح ّ‬ ‫‪13‬‬

‫وإن لم يأخذ صاحب العلوّ السّفل بالشّفعة حتّى انهدم العلوّ فعلى قول أبي يوسف بطلت الشّفعة ‪،‬‬
‫لنّ التّصال بالجوار قد زال ‪ ،‬كما لو باع الّتي يشفع بها قبل الخذ ‪.‬‬
‫وعلى قول محمّد تجب الشّفعة ‪ ،‬لنّها ليست بسبب البناء بل بالقرار وحقّ القرار باق ‪.‬‬
‫سكّة فبيع الوسط تثبت الشّفعة للعلى‬
‫وإن كانت ثلثة أبيات بعضها فوق بعض وباب كلّ إلى ال ّ‬
‫ق التّعلّي‬
‫والسفل وإن بيع السفل أو العلى ‪ ،‬فالوسط أولى ‪ ،‬بما له من حقّ القرار ‪ ،‬لنّ ح ّ‬
‫يبقى على الدّوام ‪ ،‬وهو غير منقول فتستحقّ به الشّفعة كالعقار ‪.‬‬
‫ولو كان سفل بين رجلين عليه علوّ لحدهما مشترك بينه وبين آخر فباع هو السّفل والعلوّ كان‬
‫ن كلّ واحد منهما شريك في نفس المبيع‬
‫العلوّ لشريكه في العلوّ والسّفل لشريكه في السّفل ‪ ،‬ل ّ‬
‫ق الخر أو شريك في الحقّ إذا كان طريقهما واحدا ‪.‬‬
‫في حقّه وجار في ح ّ‬
‫ولو كان السّفل لرجل والعلوّ لخر فبيعت دار بجنبها فالشّفعة لهما ‪.‬‬
‫أركان الشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬أركان الشّفعة ثلثة ‪:‬‬ ‫‪14‬‬

‫أ ‪ -‬الشّفيع ‪ :‬وهو الخذ ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬والمأخوذ منه ‪ :‬وهو المشتري الّذي يكون العقار في حيازته ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المشفوع فيه ‪ :‬وهو العقار المأخوذ أي محلّ الشّفعة ‪.‬‬
‫ولكلّ ركن من هذه الركان شروط وأحكام تتعلّق بها كما سيأتي ‪.‬‬
‫الشّروط الواجب توافرها في الشّفيع ‪:‬‬
‫الشّرط الوّل ‪ :‬ملكيّة الشّفيع لما يشفع به ‪:‬‬
‫‪ -‬اشترط الفقهاء للخذ بالشّفعة أن يكون الشّفيع مالكا للعقار المشفوع به وقت شراء العقار‬ ‫‪15‬‬

‫ن سبب الستحقاق جواز الملك ‪ ،‬والسّبب إنّما ينعقد سببا عند وجود الشّرط ‪،‬‬
‫المشفوع فيه ‪ .‬ل ّ‬
‫والنعقاد أمر زائد على الوجود ‪.‬‬
‫قال الكاسانيّ ‪ :‬ل شفعة له بدار يسكنها بالجارة والعارة ول بدار باعها قبل الشّراء ول بدار‬
‫جعلها مسجدا ول بدار جعلها وقفا ‪.‬‬
‫وقد روي عن مالك جواز الشّفعة في الكراء كما سبق ‪.‬‬
‫الشّرط الثّاني ‪ :‬بقاء الملكيّة لحين الخذ بالشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن يبقى الشّفيع مالكا للعقار المشفوع به حتّى يمتلك العقار المشفوع فيه بالرّضاء أو‬ ‫‪16‬‬

‫بحكم القضاء ليتحقّق التّصال وقت البيع ‪.‬‬


‫الشّفعة للوقف ‪:‬‬
‫‪ -‬ل شفعة للوقف ل بشركة ول بجوار ‪ .‬فإذا بيع عقار مجاور لوقف ‪ ،‬أو كان المبيع بعضه‬ ‫‪17‬‬

‫ملك وبعضه وقف وبيع الملك فل شفعة للوقف ‪ ،‬ل لقيّمه ول للموقوف عليه ‪.‬‬
‫واشترط الفقهاء جميعا ألّ يتضمّن التّملّك بالشّفعة تفريق الصّفقة لنّ الشّفعة ل تقبل التّجزئة ‪.‬‬
‫وينبني على ذلك أنّه إذا كان المبيع قطعةً واحدةً والمشتري واحدا فل يجوز للشّفيع أن يطلب‬
‫بعض المبيع ويترك البعض الخر ‪ ،‬أمّا إذا كانت القطعة واحدةً ‪ ،‬وكان المشتري متعدّدا فيجوز‬
‫للشّفيع أن يطلب نصيب واحد أو أكثر أو يطلب الكلّ ‪ ،‬ول يعتبر هذا تجزئ ًة للشّفعة ‪ ،‬لنّ كلّ‬
‫واحد من الشّركاء مستقلّ بملكيّة نصيبه تمام الستقلل ‪ .‬وإذا كانت القطع متعدّدةً والمشتري‬
‫واحدا أخذ كلّ شفيع القطعة الّتي يشفع فيها ‪ ،‬فإن تعدّد المشترون أيضا فلكلّ شفيع أن يأخذ‬
‫نصيب بعضهم أو يأخذ الكلّ ويقدّر لكلّ قطعة ما يناسبها من الثّمن إن لم يكن مقدّرا في العقد ‪.‬‬
‫المشفوع منه ‪:‬‬
‫‪ -‬وتجوز الشّفعة على أيّ مشتر للعقار المبيع سواء أكان قريبا للبائع أم كان أجنبيّا عنه ‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫لعموم النّصوص المثبّتة للشّفعة ‪.‬‬


‫التّصرّفات الّتي تجوز فيها الشّفعة ‪:‬‬
‫ن التّصرّف المجيز للشّفعة هو عقد المعاوضة ‪ ،‬وهو البيع وما في‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪19‬‬

‫معناه ‪.‬‬
‫ن الخذ بالشّفعة يكون بمثل ما ملك‬
‫فل تثبت الشّفعة في الهبة والصّدقة والميراث والوصيّة ل ّ‬
‫فإذا انعدمت المعاوضة تعذّر الخذ بالشّفعة ‪.‬‬
‫ن الشّفعة تثبت في كلّ ملك انتقل بعوض أو بغير عوض كالهبة لغير‬
‫وحكي عن مالك في رواية أ ّ‬
‫الثّواب ‪ ،‬والصّدقة ‪ ،‬ما عدا الميراث فإنّه ل شفعة فيه باتّفاق ‪ .‬ووجه هذه الرّواية أنّها اعتبرت‬
‫الضّرر فقط ‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في المهر وأرش الجنايات والصّلح وبدل الخلع وما في معناها ‪:‬‬
‫ي إلى عدم ثبوت الشّفعة في هذه الموال لنّ‬
‫فذهب الحنفيّة والحنابلة في رواية صحّحها المرداو ّ‬
‫النّصّ ورد في البيع فقط وليست هذه التّصرّفات بمعنى البيع ‪ ،‬ولستحالة أن يتملّك الشّفيع بمثل‬
‫ما تملّك به هؤلء ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في رواية أخرى إلى ثبوت الشّفعة في هذه التّصرّفات قياسا‬
‫ن الصّحيح‬
‫ص الحنابلة على أ ّ‬
‫على البيع بجامع الشتراك في المعاوضة مع لحوق الضّرر ثمّ ن ّ‬
‫عندهم أنّه إذا ثبتت الشّفعة في هذه الحال فيأخذه الشّفيع بقيمته وفي قول ‪ :‬بقيمة مقابله ‪.‬‬
‫الهبة بشرط العوض ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الصحّ عند الشّافعيّة ‪ -‬إلى أنّه‬ ‫‪20‬‬

‫إذا كانت الهبة بشرط العوض ‪ ،‬فإن تقابضا وجبت الشّفعة ‪ ،‬لوجود معنى المعاوضة عند‬
‫التّقابض عند الحنفيّة ورأي للشّافعيّة ‪ ،‬وإن قبض أحدهما دون الخر فل شفعة عند أبي حنيفة‬
‫وأبي يوسف ومحمّد ‪ ،‬وعند زفر تجب الشّفعة بنفس العقد وهو الظهر عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫الشّفعة مع شرط الخيار ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه إن كان الخيار للبائع وحده أو للبائع والمشتري معا فل شفعة حتّى‬ ‫‪21‬‬

‫يجب البيع ‪ ،‬لنّهم اشترطوا لجواز الشّفعة زوال ملك البائع عن المبيع ‪.‬‬
‫وإذا كان الخيار للمشتري فقال الحنفيّة ‪ :‬تجب الشّفعة لنّ خياره ل يمنع زوال المبيع عن ملك‬
‫البائع وحقّ الشّفعة يقف عليه ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ :‬ل تجب الشّفعة ‪ ،‬لنّه غير لزم ‪ .‬لنّ بيع الخيار منحلّ على المشهور ‪ ،‬إلّ بعد‬
‫مضيّه ولزومه فتكون الشّفعة ‪.‬‬
‫وأمّا الشّافعيّة فقد قالوا ‪ :‬إن شرط الخيار للمشتري وحده فعلى القول بأنّ الملك له ففي أخذه‬
‫بالشّفعة قولن ‪:‬‬
‫ن المشتري لم يرض بلزوم العقد وفي الخذ إلزام وإثبات للعهدة عليه ‪.‬‬
‫الوّل ‪ :‬المنع ‪ ،‬ل ّ‬
‫والثّاني ‪ :‬وهو الظهر يؤخذ ‪ ،‬لنّه ل حقّ فيه إلّ للمشتري والشّفيع سلّط عليه بعد لزوم الملك‬
‫واستقراره فقبله أولى ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬ل تثبت الشّفعة قبل انقضاء الخيار كما قال المالكيّة ‪.‬‬
‫لنـ شرط الخيار للشّفيـع شرط‬
‫وقال الحنفي ّة ‪ :‬ولو شرط البائع الخيار للشّفيـع فل شفعـة له ‪ّ ،‬‬
‫لنفسه وأنّه يمنع وجوب الشّفعة ‪ ،‬فإن أجاز الشّفيع البيع جاز ول شفعة ‪ ،‬لنّ البيع تمّ من جهته‬
‫فصار كأنّه باع ابتدا ًء ‪ .‬وإن فسخ البيع فل شفعة له لنّ ملك البائع لم يزل ‪ ،‬والحيلة للشّفيع في‬
‫ي المدّة فتكون له الشّفعة ‪.‬‬
‫ذلك ألّ يفسخ ول يجيز حتّى يجيز البائع أو يجوّز البيع بمض ّ‬
‫الشّفعة في بعض أنواع البيوع ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬البيع بالمزاد العلنيّ ‪:‬‬
‫ي فمقتضى صيغ الفقهاء أنّهم ل يمنعون الشّفعة فيه لنّهم‬
‫‪ -‬إذا بيع العقار بالمزاد العلن ّ‬ ‫‪22‬‬

‫ذكروا شروطا للشّفعة إذا تحقّقت ثبتت الشّفعة للشّفيع ولم يستثنوا البيع بالمزايدة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ما بيع ليجعل مسجدا ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو قول أبي بكر من الحنابلة إلى أنّه إذا اتّخذ المشتري الدّار‬ ‫‪23‬‬

‫مسجدا ث ّم حضر الشّفيع كان له أن ينقض المسجد ويأخذ الدّار بالشّفعة في ظاهر الرّواية ‪.‬‬
‫ن المسجد يتحرّر عن حقوق العباد فيكون بمنزلة‬
‫وروي عن أبي حنيفة أنّه ليس له ذلك ‪ ،‬ل ّ‬
‫ق المرتهن ل يمنع حقّ الرّاهن‬
‫إعتاق العبد ‪ .‬وحقّ الشّفيع ل يكون أقوى من حقّ المرتهن ثمّ ح ّ‬
‫فكذلك حقّ الشّفيع ل يمنع صحّة جعل الدّار مسجدا ‪.‬‬
‫ن للشّفيع في هذه البقعة حقّا مقدّما على حقّ المشتري ‪ ،‬وذلك يمنع صحّة‬
‫ووجه ظاهر الرّواية أ ّ‬
‫جعله مسجدا ‪ ،‬لنّ المسجد يكون للّه تعالى خالصا ‪ ،‬أل ترى أنّه لو جعل جزءا شائعا من داره‬
‫مسجدا أو جعل وسط داره مسجدا لم يجز ذلك ‪ ،‬لنّه لم يصر خالصا للّه تعالى فكذلك ما فيه حقّ‬
‫الشّفعة إذا جعله مسجدا ‪ ،‬وهذا لنّه في معنى مسجد الضّرار لنّه قصد الضرار بالشّفيع من‬
‫حيث إبطال حقّه فإذا لم يصحّ ذلك كان للشّفيع أن يأخذ الدّار بالشّفعة ويرفع المشتري بناءه‬
‫المحدث ‪.‬‬
‫المال الّذي تثبت فيه الشّفعة ‪:‬‬
‫ن العقار وما في معناه من الموال الثّابتة تثبت فيه الشّفعة ‪.‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪24‬‬

‫وأمّا الموال المنقولة ففيها خلف يأتي بيانه ‪.‬‬


‫واستدلّوا على ثبوت الشّفعة في العقار ونحوه بحديث جابر رضي ال عنه قال ‪ » :‬قضى رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم بالشّفعة في كلّ شركة لم تقسم ربعة أو حائط « ‪.‬‬
‫ن الشّفعة في العقار ما وجبت لكونه ‪ :‬مسكنا ‪ ،‬وإنّما وجبت لخوف أذى الدّخيل وضرره على‬
‫وبأ ّ‬
‫سبيل الدّوام وذلك ل يتحقّق إلّ في العقار ‪.‬‬
‫وتجب الشّفعة في العقار أو ما في معناه وهو العلوّ ‪ ،‬سواء كان العقار ممّا يحتمل القسمة أو‬
‫ممّا ل يحتملها كالحمّام والرّحى والبئر ‪ ،‬والنّهر ‪ ،‬والعين ‪ ،‬والدّور الصّغار ‪ .‬وكلّ ما يتعلّق‬
‫بالعقار ممّا له ثبات واتّصال بالشّروط المتقدّم ذكرها ‪.‬‬
‫‪ -‬واختلف الفقهاء في ثبوت الشّفعة في المنقول على قولين ‪:‬‬ ‫‪25‬‬

‫القول الوّل ‪ :‬ل تثبت في المنقول وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬والصّحيح من مذهبي المالكيّة‬
‫والحنابلة ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وآله وسلم »‬
‫واستدلّوا على ذلك بحديث جابر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أ ّ‬
‫قضى بالشّفعة في كلّ ما لم يقسم ‪ ،‬فإذا وقعت الحدود وصرفت الطّرق فل شفعة « ‪.‬‬
‫ووجه الدّللة من هذا الحديث أنّ وقوع الحدود وتصريف الطّرق إنّما يكون في العقار دون‬
‫المنقول ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وآله وسلم قال ‪ » :‬ل شفعة إلّ في‬
‫عن أبي هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أنّ النّب ّ‬
‫دار أو عقار « ‪ ،‬وهذا يقتضي نفيها عن غير الدّار والعقار ممّا ل يتبعهما وهو المنقول ‪ ،‬وأمّا‬
‫ما يتبعهما فهو داخل في حكمها ‪.‬‬
‫ن الشّفعة إنّما شرعت لدفع الضّرر ‪ ،‬والضّرر في العقار يكثر جدّا فإنّه يحتاج الشّريك‬
‫قالوا ‪ :‬ول ّ‬
‫إلى إحداث المرافق ‪ ،‬وتغيير البنية وتضييق الواسع وتخريب العامر وسوء الجوار وغير ذلك‬
‫ص بالعقار بخلف المنقول ‪.‬‬
‫ممّا يخت ّ‬
‫وقالوا أيضا ‪ :‬الفرق بين المنقول وغيره أنّ الضّرر في غير المنقول يتأبّد بتأبّده وفي المنقول ل‬
‫يتأبّد فهو ضرر عارض فهو كالمكيل والموزون ‪.‬‬
‫‪ -‬القول الثّاني ‪ :‬تثبت الشّفعة في المنقول وهو رواية عن مالك وأحمد ‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫ي صلى ال عليه‬
‫ي عن جابر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أنّ النّب ّ‬
‫واستدلّوا على ذلك بما رواه البخار ّ‬
‫وسلم » قضى بالشّفعة في كلّ ما لم يقسم « ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬إنّـ الرّسـول صـلى ال عليـه وآله وسـلم أثبـت الشّفعـة فـي كلّ مـا لم يقسـم وهذا يتناول‬
‫ن " ما " من صيغ العموم فتثبت الشّفعة في المنقول كما هي ثابتة في العقار‬
‫العقار والمنقول ‪ .‬ل ّ‬
‫‪ .‬وقالوا ‪ :‬ول نّ الضّرر بالشّركة فيما ل ينقسم أبلغ من الضّرر بالعقار الّذي يقبل القسمة فإذا‬
‫كان الشّارع مريدا لدفع الضّرر الدنى فالعلى أولى بالدّفع ‪.‬‬
‫مراحل طلب الخذ بالشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬على الشّفيع أن يظهر رغبته بمجرّد علمه بالبيع بما يسمّيه الفقهاء طلب المواثبة ‪ ،‬ثمّ‬ ‫‪27‬‬

‫يؤكّد هذه الرّغبة ويعلنها ويسمّى هذا طلب التّقرير والشهاد ‪ ،‬فإذا لم تتمّ له الشّفعة تقدّم‬
‫للقضاء بما يسمّى بطلب الخصومة والتّملّك ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬طلب المواثبة ‪:‬‬
‫‪ -‬وقت هذا الطّلب هو وقت علم الشّفيع بالبيع ‪ ،‬وعلمه بالبيع قد يحصل بسماعه بالبيع‬ ‫‪28‬‬

‫بنفسه ‪ ،‬وقد يحصل بإخبار غيره له ‪.‬‬


‫واختلف الحنفيّة في اشتراط العدد والعدالة في المخبر ‪:‬‬
‫فقال أبو حنيفة ‪ :‬يشترط أحد هذين إمّا العدد في المخبر وهو رجلن أو رجل وامرأتان وإمّا‬
‫العدالة ‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف ومحمّد ‪ :‬ل يشترط فيه العدد ول العدالة ‪ ،‬فلو أخبره واحد بالشّفعة عدلً كان‬
‫أو فاسقا ‪ ،‬فسكت ولم يطلب على فور الخبر على رواية الصل أو لم يطلب في المجلس على‬
‫ن العدد والعدالة ل‬
‫رواية محمّد ‪ ،‬بطلت شفعته عندهما إذا ظهر كون الخبر صادقا ‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫يعتبران شرعا في المعاملت وهذا من باب المعاملة فل يشترط فيه العدد ول العدالة ‪.‬‬
‫ق الشّفيع يبطل لو لم‬
‫ن هذا إخبار فيه معنى اللزام ‪ .‬أل ترى أنّ ح ّ‬
‫ووجه قول أبي حنيفة ‪ :‬أ ّ‬
‫يطلب بعد الخبر فأشبه الشّهادة فيعتبر فيه أحد شرطي الشّهادة وهو العدد أو العدالة ‪.‬‬
‫‪ -‬وشرط طلب المواثبة أن يكون من فور العلم بالبيع ‪ .‬إذا كان قادرا عليه ‪ ،‬حتّى لو علم‬ ‫‪29‬‬

‫بالبيع وسكت عن الطّلب مع القدرة عليه بطل حقّ الشّفعة في رواية الصل ‪.‬‬
‫وروي عن محمّد أنّه على المجلس كخيار المخيّرة وخيار القبول ما لم يقم عن المجلس أو‬
‫ن هذا أصحّ‬
‫يتشاغل عن الطّلب بعمل آخر ل تبطل شفعته وله أن يطلب ‪ ،‬وذكر الكرخيّ أ ّ‬
‫ن حقّ الشّفعة ثبت نظرا للشّفيع دفعا للضّرر عنه فيحتاج إلى‬
‫الرّوايتين ‪ ،‬ووجه هذه الرّواية أ ّ‬
‫التّأمّل أنّ هذه الدّار هل تصلح بمثل هذا الثّمن وأنّه هل يتضرّر بجوار هذا المشتري فيأخذ‬
‫ح بدون العلم بالبيع ‪ ،‬والحاجة إلى التّأمّل شرط‬
‫بالشّفعة ‪ ،‬أم ل يتضرّر به فيترك ‪ .‬وهذا ل يص ّ‬
‫المجلس في جانب المخيّرة ‪ ،‬والقبول ‪ ،‬كذا هاهنا ‪.‬‬
‫ووجه رواية الصل ما روي أنّ الرّسول صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬الشّفعة كحلّ العقال «‬
‫ق يثبت على خلف القياس ‪ ،‬إذ الخذ بالشّفعة تملّك مال معصوم بغير إذن مالكه لخوف‬
‫ولنّه ح ّ‬
‫ضرر يحتمل الوجود والعدم فل يستقرّ إلّ بالطّلب على المواثبة ‪.‬‬
‫واستثنى الحنفيّة القائلون بوجوب المواثبة حالت يعذر فيها بالتّأخير كما إذا سمع بالبيع في حال‬
‫سماعه خطبة الجمعة أو سلّم على المشتري قبل طلب الشّفعة ونحو ذلك ‪.‬‬
‫وكذلك إذا كان هناك حائل بأن كان بينهما نهر مخوف ‪ ،‬أو أرض مسبعة ‪ ،‬أو غير ذلك من‬
‫الموانع ‪ ،‬ل تبطل شفعته بترك المواثبة إلى أن يزول الحائل ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب المالكيّة إلى أنّ الشّفعة ليست على الفور بل وقت وجوبها متّسع ‪ ،‬واختلف قول‬ ‫‪30‬‬

‫مالك في هذا الوقت هل هو محدود أم ل ؟ فمرّ ًة قال ‪ :‬هو غير محدود وأنّها ل تنقطع أبدا ‪ ،‬إلّ‬
‫أن يحدث المبتاع بناءً أو تغييرا كثيرا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت ‪ ،‬ومرّ ًة حدّد هذا الوقت‬
‫ن الخمسة العوام ل‬
‫بسنة ‪ ،‬وهو الشهر كما يقول ابن رشد وقيل أكثر من السّنة وقد قيل عنه إ ّ‬
‫تنقطع فيها الشّفعة ‪.‬‬
‫ن الشّفعة يجب طلبها على الفور لنّها حقّ ثبت لدفع الضّرر فكان‬
‫‪ -‬والظهر عند الشّافعيّة أ ّ‬ ‫‪31‬‬

‫على الفور كالرّ ّد بالعيب ‪ ،‬وهو موافق لرواية الصل والصّحيح من مذهب الحنابلة ‪ ،‬ومقابل‬
‫الظهر ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫ن حقّ الشّفعة مؤقّت بثلثة أيّام بعد المكنة ‪ ،‬فإن طلبها إلى ثلث كان على حقّه ‪ ،‬وإن‬
‫أحدها ‪ :‬أ ّ‬
‫مضت الثّلث قبل طلبه بطلت ‪.‬‬
‫والقول الثّاني ‪ :‬تمتدّ مدّ ًة تسع التّأمّل في مثل ذلك الشّقص ‪.‬‬
‫ن حقّ الشّفعة ممتدّ على التّأبيد ما لم يسقطه أو يعرّض بإسقاطه ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬أ ّ‬
‫وقد استثنى بعض الشّافعيّة عشر صور ل يشترط فيها الفور هي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬لو شرط الخيار للبائع أو لهما فإنّه ل يؤخذ بالشّفعة ما دام الخيار باقيا ‪.‬‬
‫ن له التّأخير لنتظار إدراك الزّرع حصاده على الصحّ ‪.‬‬
‫ب‪-‬إّ‬
‫ج ‪ -‬إذا أخبر بالبيع على غير ما وقع من زيادة في الثّمن فترك ثمّ تبيّن خلفه فحقّه باق ‪.‬‬
‫د ‪ -‬إذا كان أحد الشّفيعين غائبا فللحاضر انتظاره وتأخير الخذ إلى حضوره ‪.‬‬
‫هـ – إذا اشترى بمؤجّل ‪.‬‬
‫ن لي الشّفعة وهو ممّن يخفى عليه ذلك ‪.‬‬
‫و ‪ -‬لو قال ‪ :‬لم أعلم أ ّ‬
‫ز ‪ -‬لو قال العامّيّ ‪ :‬لم أعلم أنّ الشّفعة على الفور ‪ ،‬فإنّ المذهب هنا وفي الرّ ّد بالعيب قبول‬
‫قوله ‪.‬‬
‫ص عليه البويطيّ فقال ‪ :‬وإن كان في يد‬
‫ح ‪ -‬لو كان الشّقص الّذي يأخذ بسببه مغصوبا كما ن ّ‬
‫رجل شقص من دار فغصب على نصيبه ثمّ باع الخر نصيبه ثمّ رجع إليه فله الشّفعة ساعة‬
‫رجوعه إليه ‪ ،‬نقله البلقينيّ ‪.‬‬
‫ق الوليّ على التّراخي قطعا ‪،‬‬
‫ط ‪ -‬الشّفعة الّتي يأخذها الوليّ لليتيم ليست على الفور ‪ ،‬بل ح ّ‬
‫حتّى لو أخّرها أو عفا عنها لم يسقط لجل اليتيم ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬لو بلغه الشّراء بثمن مجهول فأخّر ليعلم ل يبطل ‪ ،‬قاله القاضي حسين ‪.‬‬
‫ق الشّفعة على الفور إن طالب بها ساعة يعلم بالبيع‬
‫نحّ‬
‫‪ -‬والصّحيح في مذهب الحنابلة ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪32‬‬

‫ن الشّفعة على‬
‫ص عليه أحمد في رواية أبي طالب ‪ ،‬وحكي عنه رواية ثانية أ ّ‬
‫وإلّ بطلت ‪ ،‬ن ّ‬
‫التّراخي ل تسقط ما لم يوجد منه ما يدلّ على الرّضى من عفو أو مطالبة بقسمة ونحو ذلك ‪.‬‬
‫وإن كان للشّفيع عذر يمنعه الطّلب مثل أن ل يعلم بالبيع فأخّر إلى أن علم وطالب ساعة علم أو‬
‫علم الشّفيع بالبيع ليلً فأخّر الطّلب إلى الصّبح أو أخّر الطّلب لشدّة جوع أو عطش حتّى يأكل‬
‫ويشرب ‪ ،‬أو أخّر الطّلب محدث لطهارة أو إغلق باب أو ليخرج من الحمّام أو ليقضي حاجته ‪،‬‬
‫أو ليؤذّن ويقيم ويأتي بالصّلة بسننها ‪ ،‬أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها ونحوه ‪ ،‬كمن علم‬
‫ن العادة تقديم هذه‬
‫وقد ضاع منه مال فأخّر الطّلب يلتمس ما سقط منه لم تسقط الشّفعة ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحوائج ونحوها على غيرها فل يكون الشتغال بها رضا بترك الشّفعة ‪ ،‬كما لو أمكنه أن يسرع‬
‫في مشيه أو يحرّك دابّته فلم يفعل ومضى على حسب عادته ‪ ،‬وهذا ما لم يكن المشتري حاضرا‬
‫عند الشّفيع في هذه الحوال ‪ ،‬فتسقط بتأخيره ‪ ،‬لنّه مع حضوره يمكنه مطالبته من غير اشتغال‬
‫عن أشغاله إلّ الصّلة فل تسقط الشّفعة بتأخير الطّلب للصّلة وسننها ‪ ،‬ولو مع حضور‬
‫ن العادة تأخير الكلم عن الصّلة ‪ ،‬وليس على الشّفيع تخفيف‬
‫المشتري عند الشّفيع ‪ ،‬ل ّ‬
‫الصّلة ‪ ،‬ول القتصار على أقلّ ما يجزئ في الصّلة ‪.‬‬
‫الشهاد على طلب المواثبة ‪:‬‬
‫‪ -‬الشهاد ليس بشرط لصحّة طلب المواثبة فلو لم يشهد صحّ طلبه فيما بينه وبين اللّه ‪،‬‬ ‫‪33‬‬

‫وإنّما الشهاد للظهار عند الخصومة على تقدير النكار ‪ ،‬لنّ من الجائز أنّ المشتري ل يصدّق‬
‫الشّفيع في الطّلب أو ل يصدّقه في الفور ويكون القول قوله فيحتاج إلى الظهار بالبيّنة عند‬
‫القاضي على تقدير عدم التّصديق ‪ ،‬ل أنّه شرط صحّة الطّلب ‪ ،‬هذا عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫قال الشّافعيّة إن كان للشّفيع عذر يمنع المطالبة ‪ ،‬فليوكّل في المطالبة أو يشهد على طلب‬
‫الشّفعة‪ ،‬فإن ترك المقدور عليه منها بطل حقّه في الظهر ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ‪ :‬تسقط الشّفعة بسيره إلى المشتري في طلبها بل إشهاد ‪ ،‬ول تسقط إن أخّر‬
‫ن الحنابلة يشترطون الشهاد لصحّة الطّلب ‪.‬‬
‫طلبه بعد الشهاد ‪ ،‬أي إ ّ‬
‫ويصحّ الطّلب بكلّ لفظ يفهم منه طلب الشّفعة كما لو قال ‪ :‬طلبت الشّفعة أو أطلبها أو أنا‬
‫طالبها‪ ،‬لنّ العتبار للمعنى ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬طلب التّقرير والشهاد ‪:‬‬
‫‪ -‬هذه المرحلة من المطالبة اختصّ بذكرها الحنفيّة فقالوا ‪ :‬يجب على الشّفيع بعد طلب‬ ‫‪34‬‬

‫المواثبة أن يشهد ويطلب التّقرير وطلب التّقرير ‪.‬‬


‫هو أن يشهد الشّفيع على البائع إن كان العقار المبيع في يده ‪ ،‬أو على المشتري وإن لم يكن‬
‫العقار في يده ‪ ،‬أو عند المبيع بأنّه طلب ويطلب فيه الشّفعة الن ‪.‬‬
‫والشّفيع محتاج إلى الشهاد لثباته عند القاضي ول يمكنه الشهاد ظاهرا على طلب المواثبة‬
‫لنّه على فور العلم بالشّراء ‪ -‬عند البعض ‪ -‬فيحتاج بعد ذلك إلى طلب الشهاد والتّقرير ‪.‬‬
‫‪ -‬ولبيان كيفيّته نقول ‪ :‬المبيع إمّا أن يكون في يد البائع وإمّا أن يكون في يد المشتري ‪،‬‬ ‫‪35‬‬

‫فإن كان في يد البائع فالشّفيع بالخيار إن شاء طلب من البائع ‪ ،‬وإن شاء طلب من المشتري‬
‫وإن شاء طلب عند المبيع ‪.‬‬
‫ن كلّ واحد منهما خصم البائع باليد والمشتري بالملك ‪ ،‬فصحّ‬
‫أمّا الطّلب من البائع والمشتري فل ّ‬
‫الطّلب من كلّ واحد منهما ‪.‬‬
‫ق متعلّق به ‪ ،‬فإن سكت عن الطّلب من أحد المتبايعين وعند‬
‫وأمّا الطّلب عند المبيع فلنّ الح ّ‬
‫المبيع مع القدرة عليه بطلت شفعته لنّه فرّط في الطّلب ‪.‬‬
‫وإن كان في يد المشتري فإن شاء طلب من المشتري وإن شاء عند المبيع ‪ ،‬ول يطلب من‬
‫البائع لنّه خرج من أن يكون خصما لزوال يده ول ملك له فصار بمنزلة الجنبيّ ‪.‬‬
‫هذا إذا كان قادرا على الطّلب من المشتري أو البائع أو عند المبيع ‪.‬‬
‫والشهاد على طلب التّقرير ليس بشرط لصحّته وإنّما هو لتوثيقه على تقدير النكار كما في‬
‫طلب المواثبة ‪ .‬وتسمية المبيع وتحديده ليست بشرط لصحّة الطّلب والشهاد في ظاهر الرّواية ‪،‬‬
‫ح إلّ بعد العلم والعقار ل يصير معلوما إلّ‬
‫وروي عن أبي يوسف أنّه شرط ‪ ،‬لنّ الطّلب ل يص ّ‬
‫بالتّحديد فل يصحّ الطّلب والشهاد بدونه ‪.‬‬
‫ي أنّه لوأتى بلفظ يدلّ‬
‫‪ -‬واختلفت عبارات مشايخ الحنفيّة في ألفاظ الطّلب ‪ ،‬وصحّح الكاسان ّ‬ ‫‪36‬‬

‫على الطّلب أيّ لفظ كان يكفي ‪ ،‬نحو أن يقول ‪ :‬ادّعيت الشّفعة أو سألت الشّفعة ونحو ذلك ممّا‬
‫ن الحاجة إلى الطّلب ‪ ،‬ومعنى الطّلب يتأدّى بكلّ لفظ يدلّ‬
‫يدلّ على الطّلب ‪ ،‬قال الكاسانيّ ‪ :‬ل ّ‬
‫عليه ‪ ،‬سواء أكان بلفظ الطّلب أم بغيره ‪ ،‬ومن صور هذا الطّلب ما ذكر في الهداية والكنز ‪،‬‬
‫وهي أن يقول الشّفيع ‪ :‬إنّ فلنا اشترى هذه الدّار وأنا شفيعها ‪ ،‬وقد كنت طلبت الشّفعة وأطلبها‬
‫الن فاشهدوا على ذلك ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا حكم هذا الطّلب عند الحنفيّة فهو استقرار الحقّ ‪ ،‬فالشّفيع إذا أتى بطلبين صحيحين‬ ‫‪37‬‬

‫‪-‬طلب المواثبة وطلب التّقرير ‪ -‬استق ّر الحقّ على وجه ل يبطل بتأخير المطالبة أمام القاضي‬
‫بالخذ بالشّفعة أبدا حتّى يسقطها بلسانه ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة وإحدى الرّوايتين عن أبي‬
‫يوسف‪ ،‬وفي رواية أخرى قال ‪ :‬إذا ترك المخاصمة إلى القاضي في زمان يقدر فيه على‬
‫المخاصمة بطلت شفعته ‪ ،‬ولم يؤقّت فيه وقتا ‪ ،‬وروي عنه أنّه قدّره بما يراه القاضي ‪ ،‬وقال‬
‫محمّد وزفر ‪ ،‬إذا مضى شهر بعد الطّلب ولم يطلب من غير عذر بطلت شفعته ‪ ،‬وهو رواية عن‬
‫أبي يوسف أيضا وبه أخذت المجلّة ‪.‬‬
‫ن حقّ الشّفعة ثبت لدفع الضّرر عن الشّفيع ول يجوز دفع الضّرر عن‬
‫وجه قول محمّد وزفر ‪ :‬أ ّ‬
‫النسان على وجه يتضمّن الضرار بغيره ‪ ،‬وفي إبقاء هذا الحقّ بعد تأخير الخصومة أبدا‬
‫إضرار بالمشتري ‪ ،‬لنّه ل يبني ول يغرس خوفا من النّقض والقلع فيتضرّر به ‪ ،‬فل ب ّد من‬
‫التّقدير بزمان ‪ ،‬وقدّر بالشّهر لنّه أدنى الجال ‪ ،‬فإذا مضى شهر ولم يطلب من غير عذر فقد‬
‫فرّط في الطّلب فتبطل شفعته ‪.‬‬
‫ن الحقّ متى ثبت لنسان ل‬
‫ن الحقّ للشّفيع قد ثبت بالطّلبين والصل أ ّ‬
‫ووجه قول أبي حنيفة ‪ ،‬أ ّ‬
‫يبطل إلّ بإبطاله ولم يوجد لنّ تأخير المطالبة منه ل يكون إبطالً ‪ ،‬كتأخير استيفاء القصاص‬
‫وسائر الدّيون ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬طلب الخصومة والتّملّك ‪:‬‬
‫‪ -‬طلب الخصومة والتّملّك هو طلب المخاصمة عند القاضي ‪ ،‬فيلزم أن يطلب الشّفيع ويدعى‬ ‫‪38‬‬

‫في حضور الحاكم بعد طلب التّقرير والشهاد ‪.‬‬


‫ول تسقط الشّفعة بتأخير هذا الطّلب عند أبي حنيفة ‪ ،‬وهو رواية عن أبي يوسف ‪ ،‬وقال محمّد‬
‫وزفر إن تركها شهرا بعد الشهاد بطلت ‪.‬‬
‫ول فرق في حقّ المشتري بين الحضر والسّفر ‪ ،‬ولو علم أنّه لم يكن في البلد قاض ل تبطل‬
‫شفعته بالتّأخير بالتّفاق ‪ .‬لنّه ل يتمكّن من الخصومة إلّ عند القاضي فكان عذرا ‪.‬‬
‫وإذا تقدّم الشّفيع إلى القاضي فادّعى الشّراء وطلب الشّفعة سأله القاضي فإن اعترف بملكه‬
‫ن اليد ظاهر محتمل فل تكفي لثبات الستحقاق ‪.‬‬
‫الّذي يشفع به ‪ ،‬وإلّ كلّفه بإقامة البيّنة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن المدّعي مالك للّذي ذكره ممّا يشفع به ‪،‬‬
‫فإن عجز عن البيّنة استحلف المشتري باللّه ما يعلم أ ّ‬
‫فإن نكل أو قامت للشّفيع بيّنة ثبت حقّه في المطالبة ‪ ،‬فبعد ذلك يسأل القاضي المدّعى عليه هل‬
‫ابتاع أم ل ؟ فإن أنكر البتياع قيل للشّفيع ‪ :‬أقم البيّنة لنّ الشّفعة ل تجب إ ّل بعد ثبوت البيع‬
‫وثبوته بالحجّة ‪ ،‬فإن عجز عنها استحلف المشتري باللّه ما ابتاع أو باللّه ما استحقّ عليه في‬
‫هذه الدّار شفعةً من الوجه الّذي ذكره ‪.‬‬
‫ول يلزم الشّفيع إحضار الثّمن وقت الدّعوى بل بعد القضاء ‪ ،‬فيجوز له المنازعة وإن لم يحضر‬
‫الثّمن إلى مجلس القضاء ‪.‬‬
‫الشّفعة لل ّذمّيّ على المسلم ‪:‬‬
‫ي ‪ ،‬واختلفوا في‬
‫ي على ال ّذمّ ّ‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على ثبوت الشّفعة للمسلم على ال ّذمّيّ ‪ ،‬ولل ّذمّ ّ‬ ‫‪39‬‬

‫ثبوتها لل ّذ ّميّ على المسلم ولهم في ذلك قولن ‪:‬‬


‫القول الوّل ‪ :‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬إلى ثبوتها لل ّذمّيّ على المسلم أيضا ‪.‬‬
‫واستدلّوا بعموم الحاديث الواردة في الشّفعة الّتي سبقت كحديث جابر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أنّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم » قضى بالشّفعة في كلّ شركة لم تقسم ‪ ،‬ربعة أو حائط ل يحلّ له أن‬
‫ق به « ‪.‬‬
‫يبيع حتّى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإذا باع ولم يؤذنه فهو أح ّ‬
‫وبالجماع لما روي عن شريح أنّه قضى بالشّفعة لل ّذمّيّ على المسلم وكتب بذلك إلى عمر بن‬
‫الخطّاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬فأجازه وأقرّه ‪ ،‬وكان ذلك في محضر من الصّحابة ولم ينكر أحد‬
‫منهم عليه فكان ذلك إجماعا ‪.‬‬
‫ي كالمسلم في السّبب والحكمة وهما اتّصال الملك بالشّركة أو الجوار ‪ ،‬ودفع الضّرر‬
‫ولنّ ال ّذمّ ّ‬
‫ي على المسلم ‪.‬‬
‫عن الشّريك أو الجار ‪ ،‬فكما جازت الشّفعة للمسلم على المسلم فكذلك تجوز لل ّذمّ ّ‬
‫القول الثّاني ‪ :‬ذهب الحنابلة إلى عدم ثبوتها لل ّذمّيّ على المسلم ‪ ،‬واستدلّوا على ذلك بما رواه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬ل‬
‫الدّارقطنيّ في كتاب العلل عن أنس رضي ال عنه عن النّب ّ‬
‫شفعة لنصرانيّ « ‪.‬‬
‫ن الشّريعة إنّما قصدت من وراء تشريع الشّفعة الرّفق بالشّفيع ‪ ،‬والرّفق ل يستحقّه إلّ من‬
‫وبأ ّ‬
‫ي لم يق ّر ب ها ولم يع مل بمقتضا ها فل ي ستحقّ الرّ فق المق صود‬
‫أق ّر ب ها وع مل بمقتضا ها وال ّذمّ ّ‬
‫بتشريع الشّفعة فل تثبت له على المسلم ‪.‬‬
‫وبأنّ في إثبات الشّفعة لل ّذمّيّ على المسلم تسليطا له عليه بالقهر والغلبة وذلك ممتنع بالتّفاق ‪.‬‬
‫تعدّد الشّفعاء وتزاحمهم ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬عند اتّحاد سبب الشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في كيفيّة توزيع المشفوع فيه على الشّفعاء عند اتّحاد سبب الشّفعة لكلّ‬ ‫‪40‬‬

‫منهم بأن كانوا جميعا من رتبة واحدة ‪ -‬أي شركاء مثلً ‪ -‬فذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬في‬
‫الظهر ‪ ،‬والحنابلة على الصّحيح من المذهب إلى أنّه إذا تعدّد الشّفعاء وزّعت الشّفعة عليهم‬
‫بقدر الحصص من الملك ‪ ،‬ل على عدد الرّءوس ‪ .‬ووجه ذلك عندهم ‪ ،‬أنّها مستحقّة بالملك‬
‫فقسّط على قدره كالجرة والثّمن ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة والشّافعيّة في قول ‪ :‬والحنابلة في قول ‪ ،‬إلى أنّها تقسم على عدد الرّءوس ل‬
‫على قدر الملك ‪.‬‬
‫ووجه ذلك أنّ السّبب في موضوع الشّركة أصل الشّركة ‪ ،‬وقد استويا فيه فيستويان في‬
‫الستحقاق ‪.‬‬
‫‪ -‬وكما يقسم المشفوع فيه على الشّركاء بالتّساوي عند الحنفيّة ‪ ،‬يقسم أيضا على الجيران‬ ‫‪41‬‬

‫بالتّساوي بصرف النّظر عن مقدار المجاورة ‪ ،‬فإذا كان لدار واحدة شفيعان جاران جوارهما‬
‫على التّفاوت بأن كان جوار أحدهما بخمسة أسداس الدّار وجوار الخر بسدسها ‪ ،‬كانت الشّفعة‬
‫بينهما نصفين لستوائهما في سبب الستحقاق ‪ ،‬وهو أصل الجوار ‪.‬‬
‫فالقاعدة عند الحنفيّة هي أنّ العبرة في السّبب أصل الشّركة ل قدرها ‪ ،‬وأصل الجوار ل قدره ‪،‬‬
‫وهذا يعمّ حال انفراد السباب واجتماعها ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬عند اختلف سبب الشّفعة ‪:‬‬
‫ن أسباب الشّفعة إذا اجتمعت يراعى فيها التّرتيب بين الشّفعاء فيقدّم‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬ ‫‪42‬‬

‫القوى فالقوى ‪ ،‬فيقدّم الشّريك في نفس المبيع على الخليط في حقّ المبيع ‪ ،‬ويقدّم الخليط في‬
‫حقّ المبيع على الجار الملصق لما روي عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪:‬‬
‫» الشّريك أحقّ من الخليط والخليط أحقّ من غيره « ولنّ المؤثّر في ثبوت حقّ الشّفعة هو دفع‬
‫ضرر الدّخيل وأذاه ‪ ،‬وسبب وصول الضّرر والذى هو التّصال ‪ ،‬والتّصال على هذه المراتب ‪،‬‬
‫فالتّصال بالشّركة في عين المبيع أقوى من التّصال بالخلط ‪ ،‬والتّصال بالخلط أقوى من‬
‫التّصال بالجوار ‪ ،‬والتّرجيح بقوّة التّأثير ترجيح صحيح ‪ .‬فإن سلّم الشّريك وجبت للخليط ‪.‬‬
‫وإن اجتمع خليطان يقدّم الخصّ على العمّ ‪ ،‬وإن سلّم الخليط وجبت للجار لما قلنا ‪ ،‬وهذا على‬
‫ظاهر الرّواية ‪ ،‬وروي عن أبي يوسف أنّه إذا سلّم الشّريك فل شفعة لغيره ‪.‬‬
‫فعلى ظاهر الرّواية ليس للمتأخّر حقّ إلّ إذا سلّم المتقدّم ‪ ،‬فإن سلّم فللمتأخّر أن يأخذ بالشّفعة ‪،‬‬
‫ق التّقدّم ‪.‬‬
‫ن للشّريك ح ّ‬
‫لنّ السّبب قد تقرّر في حقّ الكلّ إلّ أ ّ‬
‫ولكن بشرط أن يكون الجار طلب الشّفعة مع الشّريك إذا علم بالبيع ليمكنه الخذ إذا سلّم‬
‫الشّريك‪ ،‬فإن لم يطلب حتّى سلّم الشّريك فل يحقّ له بعد ذلك ‪.‬‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ل يثبتون الشّفعة إلّ للشّريك في الملك ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فل يتأتّى التّزاحم عندهم لنّهم وإن وافقوهم في ذلك ‪ ،‬إلّ أنّهم ذهبوا مذهبا آخر‬
‫فجعلوها للشّركاء في العقار دون ترتيب إذا ما كانوا في درجة واحدة ‪ ،‬وذلك عندما يكون كلّ‬
‫شريك أصلً في الشّركة ل خلفا فيها عن غيره ‪ .‬أمّا إذا كان بعضهم خلفا في الشّركة عن غيره‬
‫دون بعض فل تكون لهم على السّواء وإنّما يقدّم الشّريك في السّهم المباع بعضه على الشّريك‬
‫في أصل العقار ‪ ،‬ويظهر ذلك في الورثة ‪ ،‬فإذا كانت دار بين اثنين فمات أحدهما عن جدّتين ‪،‬‬
‫وزوجتين ‪ ،‬وشقيقتين ‪ ،‬فباعت إحدى هؤلء حظّها من الدّار كانت الشّفعة أ ّولً لشريكتها في‬
‫ل ‪ -‬أولى بما تبيع صاحبتها‬
‫السّهم دون بقيّة الورثة والشّريك الجنبيّ ‪ ،‬فتكون الجدّة ‪ -‬مث ً‬
‫‪ -‬وهي الجدّة الخرى ‪ -‬لشتراكهما في السّدس ‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة أيضا ‪ ،‬إن أعار شخص أرضه لقوم يبنون فيها أو يغرسون فيها ففعلوا ثمّ باع‬
‫أحدهم حظّه من البناء أو الشّجر قدّم الشّخص المعير على شركاء البائع في أخذ الحظّ المبيع‬
‫بقيمة نقضه منقوضا أو بثمنه الّذي بيع به فالخيار له عند ابن الحاجب ‪ ،‬هذا في العارة‬
‫المطلقة‪ ،‬وأمّا المقيّدة بزمن معلوم ولم ينقض فقال ابن رشد ‪ :‬إن باع أحدهم حظّه قبل انقضاء‬
‫ب الرض إن باعه على البقاء ‪ ،‬وإن باعه‬
‫أمد العارة على البقاء فلشريكه الشّفعة ول مقال لر ّ‬
‫على النّقض قدّم ربّ الرض ‪.‬‬
‫ب الرض أخذه‬
‫فإذا بنى رجلن في عرصة رجل بإذنه ‪ ،‬ثمّ باع أحدهما حصّته من النّقض فلر ّ‬
‫بالق ّل من قيمته مقلوعا أو من الثّمن الّذي باعه به ‪ ،‬فإن أبى فلشريكه الشّفعة للضّرر إذ هو‬
‫أصل الشّفعة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬مزاحمة المشتري الشّفيع لغيره من الشّفعاء ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كان المشتري شفيعا ‪ ،‬فإنّه يزاحم غيره من الشّفعاء بقوّة سببه ويزاحمونه كذلك بقوّة‬ ‫‪43‬‬

‫السّبب ويقاسمهم ويقاسمونه إذا كانوا من درجة واحدة ‪.‬‬


‫فالمشتري الشّفيع يقدّم على من دونه في سبب الشّفعة ‪ ،‬ويقدّم عليه من هو أعلى منه في‬
‫السّبب ‪.‬‬
‫وعلى هذا إذا تساوى المشتري مع الشّفعاء في الرّتبة فإنّه يكون شفيعا مثلهم فيشاركهم ول‬
‫يقدّم أحدهم على الخر بشيء ويقسم العقار المشفوع فيه على قدر رءوسهم عند الحنفيّة ‪،‬‬
‫وعلى قدر أملكهم عند غيرهم كما هو أصل كلّ منهم في تقسيم المشفوع فيه على الشّفعاء في‬
‫حالة ما إذا كان المشتري أجنبيّا ‪.‬‬
‫طريق التّملّك بالشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في كيفيّة التّملّك بالشّفعة ‪ ،‬فذهب الحنفيّة إلى أنّه ل يثبت الملك للشّفيع إلّ‬ ‫‪44‬‬

‫بتسليم المشتري بالتّراضي ‪ ،‬أو بقضاء القاضي ‪.‬‬


‫ن الخذ بتسليم المشتري برضاه ببدل يبذله الشّفيع‬
‫أمّا التّملّك بالتّسليم من المشتري فظاهر ‪ ،‬ل ّ‬
‫وهو الثّمن يفسّر الشّراء والشّراء تملّك ‪.‬‬
‫وأمّا قضاء القاضي فلنّه نقل للملك عن مالكه إلى غيره قهرا ‪ ،‬فافتقر إلى حكم الحاكم كأخذ‬
‫دينه‪ .‬وإذا قضى القاضي بالشّفعة وكان المبيع في يد البائع ‪ ،‬فقال بعض مشايخ الحنفيّة ‪ :‬البيع‬
‫ل ينتقض بل تتحوّل الصّفقة إلى الشّفيع ‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬ينتقض البيع الّذي جرى بين البائع والمشتري وينعقد للشّفيع بيع آخر ‪ ،‬وهو‬
‫المشهور ووجه من قال بالتّحوّل ‪ ،‬أنّ البيع لو انتقض لتعذّر الخذ بالشّفعة ‪ ،‬لنّ البيع من‬
‫شرائط وجوب الشّفعة فإذا انتقض لم يجب فتعذّر الخذ ‪.‬‬
‫ص كلم محمّد حيث قال ‪ :‬انتقض البيع فيما بين البائع والمشتري‬
‫ووجه من قال إنّه ينتقض ‪ ،‬ن ّ‬
‫وهذا نصّ في الباب ‪.‬‬
‫ن القاضي إذا قضى بالشّفعة قبل القبض فقد عجز المشتري عن قبض المبيع‬
‫ومن المعقول أ ّ‬
‫والعجز عن قبضه يوجب بطلن البيع لخلوّه عن الفائدة ‪ ،‬كما إذا هلك المبيع قبل القبض ‪.‬‬
‫ولنّ الملك قبل الخذ بالشّفعة للمشتري لوجود آثار الملك في حقّه ولو تحوّل الملك إلى الشّفيع‬
‫لم يثبت الملك للمشتري ‪.‬‬
‫‪ -‬وإن كان المبيع في يد المشتري أخذه منه ودفع الثّمن إلى المشتري ‪ ،‬والبيع الوّل‬ ‫‪45‬‬

‫ن استحقاق التّملّك وقع على المشتري فيجعل كأنّه اشترى منه ‪.‬‬
‫صحيح‪ ،‬ل ّ‬
‫ثمّ إذا أخذ الدّار من يد البائع يدفع الثّمن إلى البائع وكانت العهدة عليه ‪ ،‬ويستردّ المشتري‬
‫الثّمن من البائع إن كان قد نقد ‪.‬‬
‫وإن أخذها من يد المشتري دفع الثّمن إلى المشتري ‪ ،‬وكانت العهدة عليه ‪ ،‬لنّ العهدة هي من‬
‫الرّجوع بالثّمن عند الستحقاق فيكون على من قبضه ‪.‬‬
‫وروي عن أبي يوسف ‪ ،‬أنّ المشتري إذا كان نقد الثّمن ولم يقبض الدّار حتّى قضي للشّفيع‬
‫بمحضر منهما أنّ الشّفيع يأخذ الدّار من البائع وينقد الثّمن للمشتري والعهدة على المشتري ‪،‬‬
‫وإن كان لم ينقد دفع الشّفيع الثّمن إلى البائع ‪ ،‬والعهدة على البائع ‪.‬‬
‫‪ -‬وشرط جواز القضاء بالشّفعة عند الحنفيّة ‪ :‬حضور المقضيّ عليه ‪ ،‬لنّ القضاء على‬ ‫‪46‬‬

‫الغائب ل يجوز ‪ ،‬فإن كان المبيع في يد البائع فل ب ّد من حضور البائع والمشتري جميعا ‪ ،‬لنّ‬
‫كلّ واحد منهما خصم ‪ ،‬أمّا البائع فباليد ‪ ،‬وأمّا المشتري فبالملك فكان كلّ واحد منهما مقضيّا‬
‫ل يكون قضاءً على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر ‪.‬‬
‫عليه فيشترط حضورهما لئ ّ‬
‫وأمّا إن كان في يد المشتري فحضور البائع ليس بشرط ‪ ،‬ويكتفى بحضور المشتري لنّ البائع‬
‫خرج من أن يكون خصما لزوال ملكه ويده عن المبيع فصار كالجنبيّ ‪ ،‬وكذا حضور الشّفيع أو‬
‫وكيله شرط جواز القضاء له بالشّفعة ‪ ،‬لنّ القضاء على الغائب كما ل يجوز ‪ ،‬فالقضاء للغائب‬
‫ل يجوز أيضا ‪ ،‬ثمّ القاضي إذا قضى بالشّفعة يثبت الملك للشّفيع ول يقف ثبوت الملك له على‬
‫التّسليم ‪ ،‬لنّ الملك للشّفيع يثبت بمنزلة الشّراء ‪ ،‬والشّراء الصّحيح يوجب الملك بنفسه ‪.‬‬
‫‪ -‬ووقت القضاء بالشّفعة ‪ ،‬هو وقت المنازعة والمطالبة بها فإذا طالبه بها الشّفيع يقضي له‬ ‫‪47‬‬

‫القاضي بالشّفعة ‪ ،‬سواء أحضر الثّمن أم ل في ظاهر الرّواية ‪ ،‬وللمشتري أن يحبس الدّار حتّى‬
‫ق حبس المبيع لستيفاء الثّمن ‪ ،‬فإن أبى أن ينقد حبسه‬
‫يستوفي الثّمن من الشّفيع وللبائع ح ّ‬
‫ق واجب عليه ‪ ،‬فيحبسه ول ينقض الشّفعة ‪،‬‬
‫القاضي ‪ ،‬لنّه ظهر ظلمه بالمتناع من إيفاء ح ّ‬
‫وإن طلب أجلً أجّله يوما أو يومين أو ثلث ًة ‪ ،‬لنّه ل يمكنه النّقد للحال فيحتاج إلى مدّة يتمكّن‬
‫فيها من النّقد فيمهله ول يحبسه ‪ ،‬فإن مضى الجل ولم ينقد حبسه ‪.‬‬
‫وقال محمّد ‪ :‬ل ينبغي للقاضي أن يقضي بالشّفعة حتّى يحضر الشّفيع المال ‪ ،‬فإن طلب أجلً‬
‫أجّله يوما أو يومين أو ثلثة أيّام ولم يقض له بالشّفعة ‪ ،‬فإن قضى بالشّفعة ثمّ أبى الشّفيع أن‬
‫ينقد حبسه ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ الشّفيع يملك الشّقص بأحد أمور ثلثة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬حكم الحاكم له ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬دفع ثمن من الشّفيع للمشتري ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الشهاد بالخذ ولو في غيبة المشتري ‪ ،‬وقيل ل ب ّد أن يكون بحضوره ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬ل يشترط في التّملّك بالشّفعة حكم الحاكم ‪ ،‬ول إحضار الثّمن ‪ ،‬ول حضور‬
‫المشتري ول رضاه ‪ ،‬ول بدّ من جهة الشّفيع من لفظ ‪ ،‬كقوله ‪ :‬تملّكت ‪ ،‬أو اخترت الخذ‬
‫بالشّفعة ‪ ،‬أو أخذته بالشّفعة ‪ ،‬وما أشبهه ‪ ،‬وإلّ فهو من باب المعاطاة ‪ .‬ولو قال ‪ :‬أنا مطالب‬
‫بالشّفعة ‪ ،‬لم يحصل به التّملّك على الصحّ ‪ ،‬وبه قطع المتولّي ‪ .‬ولذلك قالوا ‪ :‬يعتبر في التّملّك‬
‫بها ‪ ،‬أن يكون الثّمن معلوما للشّفيع ‪ ،‬ولم يشترطوا ذلك في الطّلب ‪.‬‬
‫ثمّ ل يملك الشّفيع بمجرّد اللّفظ ‪ ،‬بل يعتبر معه أحد أمور ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يسلّم العوض إلى المشتري ‪ ،‬فيملك به إن استلمه ‪ ،‬وإلّ فيخلى بينه وبينه ‪ ،‬أو يرفع‬
‫المر إلى القاضي حتّى يلزمه التّسليم ‪ .‬قال النّوويّ ‪ :‬أو يقبض عنه القاضي ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أن يسلّم المشتري الشّقص ويرضى بكون الثّمن في ذمّة الشّفيع ‪ ،‬إلّ أن يبيع ‪ ،‬ولو‬
‫رضي بكون الثّمن في ذمّته ‪ ،‬ولم يسلّم الشّقص ‪ ،‬فوجهان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬ل يحصل الملك ‪ ،‬لنّ قول المشتري وعد ‪.‬‬
‫وأصحّهما ‪ :‬الحصول ‪ ،‬لنّه معاوضة ‪ ،‬والملك في المعاوضات ل يقف على القبض ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬أن يحضر مجلس القاضي ويثبت حقّه بالشّفعة ‪ ،‬ويختار التّملّك ‪ ،‬فيقضي القاضي له‬
‫بالشّفعة ‪ ،‬فوجهان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬ل يحصل الملك حتّى يقبض عوضه ‪ ،‬أو يرضى بتأخّره ‪ ،‬وأصحّهما ‪ :‬الحصول ‪.‬‬
‫وإذا ملك الشّفيع الشّقص بغير الطّريق الوّل ‪ ،‬لم يكن له أن يتسلّمه حتّى يؤدّي الثّمن ‪ ،‬وأن‬
‫يسلّمه المشتري قبل أداء الثّمن ول يلزمه أن يؤخّر حقّه بتأخير البائع حقّه ‪ .‬وإذا لم يكن الثّمن‬
‫حاضرا وقت التّملّك ‪ ،‬أمهل ثلثة أيّام ‪ .‬فإن انقضت ولم يحضره فسخ الحاكم تملّكه ‪ ،‬هكذا قاله‬
‫ابن سريج والجمهور ‪ .‬وقيل ‪ :‬إذا قصّر في الداء ‪ ،‬بطل حقّه ‪ .‬وإن لم يوجد ‪ ،‬رفع المر إلى‬
‫الحاكم وفسخ منه ‪.‬‬
‫ن الشّفيع يملك الشّقص بأخذه بكلّ لفظ يد ّل على أخذه ‪ ،‬بأن يقول قد أخذته‬
‫وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫بالثّمن أو تملّكته بالثّمن أو اخترت الخذ بالشّفعة ‪ ،‬ونحو ذلك إذا كان الثّمن والشّقص‬
‫معلومين ‪ ،‬ول يفتقر إلى حكم حاكم ‪.‬‬
‫وقال القاضي وأبو الخطّاب ‪ :‬يملكه بالمطالبة ‪ ،‬لنّ البيع السّابق سبب ‪ ،‬فإذا انضمّت إليه‬
‫المطالبة كان كاليجاب في البيع انض ّم إليه القبول ‪.‬‬
‫ص والجماع فلم يفتقر إلى حكم حاكم كالرّدّ بالعيب ‪.‬‬
‫ق الشّفعة ثبت بالنّ ّ‬
‫واستدلّوا بأنّ ح ّ‬
‫وعلى هذا فإنّه إذا قال قد أخذت الشّقص بالثّمن الّذي تمّ عليه العقد ‪ ،‬وهو عالم بقدره وبالمبيع‬
‫ن الشّقص يؤخذ قهرا والمقهور‬
‫صحّ الخذ ‪ ،‬وملك الشّقص ول خيار للشّفيع ول للمشتري ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل خيار له ‪ .‬والخذ قهرا ل خيار له أيضا ‪.‬‬
‫وإن كان الثّمن أو الشّقص مجهولً لم يملكه بذلك ‪ ،‬لنّه بيع في الحقيقة ‪ ،‬فيعتبر العلم‬
‫بالعوضين كسائر البيوع ‪ ،‬وله المطالبة بالشّفعة ‪ ،‬ثمّ يتعرّف مقدار الثّمن من المشتري أو من‬
‫غيره والمبيع فيأخذه بثمنه ويحتمل أنّ له الخذ مع جهالة الشّقص بناءً على بيع الغائب ‪.‬‬
‫البناء والغراس في المال المشفوع فيه ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء فيما إذا بنى المشتري في الرض المشفوع فيها أو غرس فيها ‪ ،‬ثمّ قضي‬ ‫‪48‬‬

‫للشّفيع بالشّفعة ‪ ،‬وسبب الختلف على ما قال ابن رشد هو تردّد تصرّف المشفوع عليه العالم‬
‫بوجوب الشّفعة عليه بين شبهة تصرّف الغاصب وتصرّف المشتري الّذي يطرأ عليه الستحقاق‬
‫وقد بنى في الرض وغرس وذلك أنّه وسط بينهما ‪.‬‬
‫فمن غلب عليه شبه الستحقاق لم يكن له أن يأخذ القيمة ‪ ،‬ومن غلب عليه شبه التّعدّي كان له‬
‫أن يأخذه بنقضه أو يعطيه قيمته منقوضا ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا بنى المشتري في الرض المشفوع فيها أو غرس ‪ ،‬ثمّ قضي للشّفيع‬
‫بالشّفعة فهو بالخيار ‪ ،‬إن شاء أخذها بالثّمن والبناء والغرس بقيمته مقلوعا ‪ ،‬وإن شاء أجبر‬
‫المشتري على قلعهما ‪ ،‬فيأخذ الرض فارغةً ‪ .‬وهذا هو جواب ظاهر الرّواية ‪.‬‬
‫ووجه ظاهر الرّواية ‪ :‬أنّه بنى في محلّ تعلّق به حقّ متأكّد للغير من غير تسليط من جهة من له‬
‫ق المشتري ‪ ،‬لنّه يتقدّم‬
‫ن حقّه أقوى من ح ّ‬
‫الحقّ فينقض كالرّاهن إذا بنى في المرهون ‪ ،‬وهذا ل ّ‬
‫عليه ‪ ،‬ولهذا ينقض بيعه وهبته وتصرّفاته ‪.‬‬
‫وروي عن أبي يوسف ‪ ،‬أنّه ل يجبر المشتري على القلع ويخيّر الشّفيع بين أن يأخذ بالثّمن‬
‫وقيمة البناء والغرس وبين أن يترك ‪ ،‬ووجه ذلك عنده أنّه محقّ في البناء ‪ ،‬لنّه بناه على أنّ‬
‫الدّار ملكه ‪ ،‬والتّكليف بالقلع من أحكام العدوان وصار كالموهوب له والمشتري شراءً فاسدا ‪،‬‬
‫ن في إيجاب القيمة دفع أعلى الضّررين‬
‫وكما إذا زرع المشتري فإنّه ل يكلّف القلع ‪ ،‬وهذا ل ّ‬
‫بتحمّل الدنى فيصار إليه ‪.‬‬
‫ن الستحسان عدم قلعه ‪ ،‬لنّ له نهايةً معلومةً ويبقى بالجر وليس‬
‫أمّا الزّرع فالقياس قلعه ولك ّ‬
‫فيه كثير ضرر ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا أحدث المشتري بنا ًء أو غرسا أو ما يشبه ذلك في الشّقص قبل قيام‬
‫الشّفيع ‪ ،‬ثمّ قام الشّفيع بطلب شفعته فل شفعة إلّ أن يعطى المشتري قيمة ما بنى وما غرس ‪.‬‬
‫وللمشتري الغلّة إلى وقت الخذ بالشّفعة لنّه في ضمانه قبل الخذ بها والغلّة بالضّمان ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا بنى المشتري أو غرس أو زرع في الشّقص المشفوع ثمّ علم الشّفيع‬
‫فله الخذ بالشّفعة وقلع بنائه وغرسه وزرعه مجّانا ل بحقّ الشّفعة ‪ ،‬ولكن لنّه شريك وأحد‬
‫الشّريكين إذا انفرد بهذه التّصرّفات في الرض المشتركة كان للخر أن يقلع مجّانا ‪.‬‬
‫وإن بنى المشتري وغرس في نصيبه بعد القسمة والتّمييز ثمّ علم الشّفيع لم يكن له قلعه‬
‫مجّانا ‪ ،‬لنّه بنى في ملكه الّذي ينفذ تصرّفه فيه فل يقلع مجّانا ‪.‬‬
‫فإن اختار المشتري قلع البناء أو الغراس فله ذلك ول يكلّف تسوية الرض ‪ .‬لنّه كان متصرّفا‬
‫في ملكه ‪ ،‬فإن حدث في الرض نقص فالشّفيع إمّا أن يأخذه على صفته ‪ ،‬وإمّا أن يترك ‪ ،‬فإن‬
‫لم يختر المشتري القلع ‪ ،‬فللشّفيع الخيار بين إبقاء ملكه في الرض بأجرة وبين تملّكه بقيمته‬
‫يوم الخذ ‪ ،‬وبين أن ينقضه ويغرم أرش النّقص ‪.‬‬
‫ولو كان قد زرع فيبقى زرعه إلى أن يدرك فيحصده ‪ ،‬وليس للشّفيع أن يطالبه بالجرة على‬
‫المشهور عندهم ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا بنى المشتري أو غرس أعطاه الشّفيع قيمة بنائه أو غرسه ‪ ،‬إ ّل أن‬
‫يشاء المشتري أن يأخذ بناءه وغراسه ‪ ،‬فله ذلك إذا لم يكن في أخذه ضرر ‪ .‬لنّه ملكه ‪ ،‬فإذا‬
‫قلعه فليس عليه تسوية الحفر ول نقص الرض ‪ ،‬ذكره القاضي ‪ ،‬لنّه غرس وبنى في ملكه ‪،‬‬
‫وما حدث من النّقص إنّما حدث في ملكه ‪ ،‬وذلك ل يقابله ثمن ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬أنّ عليه ضمان النّقص الحاصل بالقلع ‪ ،‬لنّه اشترط في قلع الغرس‬
‫وظاهر كلم الخرق ّ‬
‫والبناء عدم الضّرر ‪ ،‬وذلك لنّه نقص دخل على ملك غيره لجل تخليص ملكه فلزمه ضمانه ‪،‬‬
‫لنّ النّقص الحاصل بالقلع إنّما هو في ملك الشّفيع ‪ .‬فأمّا نقص الرض الحاصل بالغرس والبناء‬
‫فل يضمنه ‪.‬‬
‫فإن لم يختر المشتري القلع فالشّفيع بالخيار بين ثلثة أشياء ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ترك الشّفعة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬دفع قيمة الغراس والبناء فيملكه مع الرض ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬قلع الغرس والبناء ويضمن له ما نقص بالقلع ‪.‬‬
‫وإن زرع في الرض فللشّفيع الخذ بالشّفعة ويبقى زرع المشتري إلى أوان الحصاد ‪ ،‬لنّ‬
‫ن الشّفيع اشترى الرض وفيها زرع‬
‫ضرره ل يبقى ول أجرة عليه لنّه زرعه في ملكه ‪ ،‬ول ّ‬
‫للبائع مبقىً إلى الحصاد بل أجرة كغير المشفوع ‪ ،‬وإن كان في الشّجر ثمر ظاهر أثمر في ملك‬
‫المشتري فهو له مبقىً إلى الجذاذ كالزّرع ‪.‬‬
‫استحقاق المشفوع فيه للغير ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في عهدة الشّفيع أهي على المشتري أم على البائع ‪ .‬يعني إذا أخذ الشّفيع‬ ‫‪49‬‬

‫الشّقص فظهر مستحقّا ‪ ،‬فعلى من يرجع الثّمن ؟‬


‫فذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أخذ الشّفيع الشّقص فظهر مستحقّا فرجوعه‬
‫بالثّمن على المشتري ‪ ،‬ويرجع المشتري على البائع به ‪ .‬وإن وجده معيبا فله ردّه على‬
‫المشتري أو أخذ أرشه منه ‪ ،‬والمشتري ير ّد على البائع أو يأخذ الرش منه سواء قبض‬
‫الشّقص من المشتري أو من البائع فالعهدة عندهم على المشتري ‪.‬‬
‫ن الشّفعة مستحقّة بعد الشّراء وحصول الملك للمشتري ثمّ يزول الملك من‬
‫ووجه ذلك عندهم ‪ ،‬أ ّ‬
‫المشتري إلى الشّفيع بالثّمن فكانت العهدة عليه ‪ ،‬ولنّه ملكه من جهة المشتري بالثّمن فملك‬
‫ردّه عليه بالعيب كالمشتري في البيع الوّل ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ ،‬إلى أنّه إذا قضي للشّفيع بالعقار المشفوع فيه فأدّى ثمنه ثمّ استحقّ المبيع ‪،‬‬
‫فإن أدّاه للمشتري فعليه ضمانه سواء استحقّ قبل تسليمه إليه أو بعده ‪ ،‬وإن كان أدّاه للبائع‬
‫واستحقّ المبيع وهو في يده فعليه ضمان الثّمن للشّفيع ‪.‬‬
‫ويرجع الشّفيع بالثّمن فقط إن بنى أوغرس ثمّ استحقّت العين ‪ ،‬ول يرجع بقيمة البناء والغرس‬
‫على أحد لنّه ليس مقرّرا به ‪.‬‬
‫ن الحقّ ثبت له بإيجاب البائع فكان‬
‫ي ‪ :‬العهدة على البائع ‪ ،‬ل ّ‬
‫وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتّ ّ‬
‫رجوعه عليه كالمشتري ‪.‬‬
‫تبعة الهلك ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا هدم المشتري بناء الدّار المشفوعة أو هدمه غيره أو قلع‬ ‫‪50‬‬

‫الشجار الّتي كانت مغروسةً في الرض المشفوعة فإنّ الشّفيع يأخذ العرصة أو الرض بحصّتها‬
‫من الثّمن بأن يقسم الثّمن على قيمة العرصة أو الرض وقيمة البناء أو الشّجر وما خصّ‬
‫العرصة أو الرض منه يدفعه الشّفيع وتكون النقاض والخشاب للمشتري ‪.‬‬
‫وإذا تخرّبت الدّار المشفوعة أو جفّت أشجار البستان المشفوع بل تعدّي أحد عليها يأخذها‬
‫الشّفيع بالثّمن المسمّى ‪ ،‬فإن كان بها أنقاض أو خشب وأخذه المشتري تسقط حصّته من الثّمن‬
‫بأن يقسم الثّمن على قيمة الدّار أو البستان يوم العقد وقيمة النقاض والخشب يوم الخذ ‪ ،‬وإذا‬
‫تلف بعض الرض المشفوعة بغرق أو نحوه سقطت حصّة التّالف من أصل الثّمن ‪ ،‬وللشّفيع أن‬
‫يأخذ الرض مع الثّمر والزّرع بالثّمن الوّل إذا كان متّصلً ‪ ،‬فأمّا إذا زال التّصال ثمّ حضر‬
‫الشّفيع فل سبيل للشّفيع عليه وإن كانت عينه قائمةً سواء أكان الزّوال بآفة سماويّة أم بصنع‬
‫ن حقّ الشّفعة في هذه الشياء إنّما ثبت معدولً به عن القياس معلولً‬
‫المشتري أو الجنبيّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫بالتّبعيّة وقد زالت التّبعيّة بزوال التّصال فير ّد الحكم فيه إلى أصل القياس ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّه ل يضمن المشتري نقص الشّقص إذا طرأ عليه بعد الشّراء بل سبب منه‬
‫وإنّما بسبب سماويّ أو تغيّر سوق أو كان بسبب منه ولكنّه فعله لمصلحة كهدم لمصلحة من‬
‫غير بناء ‪ ،‬وسواء علم أنّ له شفيعا أم ل ‪ .‬فإن هدم ل لمصلحة ضمن ‪ ،‬فإن هدم وبنى فله‬
‫قيمته على الشّفيع قائما لعدم تعدّيه وتعتبر يوم المطالبة وله قيمة النّقص الوّل منقوضا يوم‬
‫الشّراء ‪ .‬وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن تعيّبت الدّار المشترى بعضها أخذ الشّفيع بكلّ الثّمن أو ترك‬
‫كتعيّبها بيد البائع ‪ ،‬وكذا لو انهدمت بل تلف لشيء منها ‪ ،‬فإن وقع تلف لبعضها فبالحصّة من‬
‫الثّمن يأخذ الباقي ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّه إن تلف الشّقص أو بعضه في يد المشتري فهو من ضمانه ‪ .‬لنّه ملكه‬
‫تلف في يده ‪ ،‬ثمّ إن أراد الشّفيع الخذ بعد تلف بعضه أخذ الموجود بحصّته من الثّمن سواء‬
‫أكان التّلف بفعل اللّه تعالى أم بفعل آدميّ ‪ ،‬وسواء أتلف باختيار المشتري كنقضه للبناء أم بغير‬
‫اختياره مثل أن انهدم ‪.‬‬
‫ثمّ إن كانت النقاض موجودةً أخذها مع العرصة بالحصّة وإن كانت معدومةً أخذ العرصة وما‬
‫بقي من البناء وهو قول الثّوريّ والعنبريّ ‪ ،‬ووجهه أنّه تعذّر على الشّفيع أخذ الجميع وقدر‬
‫على أخذ البعض فكان له بالحصّة من الثّمن كما لو تلف بفعل آدميّ سواه أو لو كان له شفيع‬
‫آخر ‪ .‬أو نقول ‪ :‬أخذ بعض ما دخل معه في العقد ‪ ،‬فأخذه بالحصّة كما لو كان معه سيف ‪.‬‬
‫وأمّا الضّرر فإنّما حصل بالتّلف ول صنع للشّفيع فيه والّذي يأخذه الشّفيع يؤدّي ثمنه فل يتضرّر‬
‫المشتري بأخذه ‪.‬‬
‫ن استحقاقه للشّفعة كان حال عقد البيع وفي تلك‬
‫وإنّما قالوا بأخذ النقاض وإن كانت منفصلةً ل ّ‬
‫الحال كان متّصلً اتّصالً ليس مآله إلى النفصال وانفصاله بعد ذلك ل يسقط حقّ الشّفعة ‪ .‬وإن‬
‫نقضت القيمة مع بقاء صورة المبيع مثل انشقاق الحائط وانهدام البناء ‪ ،‬وشعث الشّجر فليس له‬
‫ن هذه المعاني ل يقابلها الثّمن بخلف العيان ‪.‬‬
‫إلّ الخذ بجميع الثّمن أو التّرك ‪ .‬ل ّ‬
‫ميراث الشّفعة ‪:‬‬
‫ق الشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في ميراث ح ّ‬ ‫‪51‬‬

‫ق الشّفعة يورث ‪ ،‬فإذا مات الشّفيع ينتقل حقّ‬


‫فذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬إلى أنّ ح ّ‬
‫الشّفعة إلى ورثته ‪.‬‬
‫وقيّده الحنابلة بما إذا كان الشّفيع قد طالب بالشّفعة قبل موته ‪.‬‬
‫ووجه النتقال عندهم أنّه خيار ثابت لدفع الضّرر عن المال فورث كالرّدّ بالعيب ‪.‬‬
‫ق الخذ‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ ،‬إلى أنّه إذا مات الشّفيع بعد البيع وقبل الخذ بالشّفعة لم يكن لورثته ح ّ‬
‫ق الشّفعة ليس بمال وإنّما مجرّد‬
‫بها ‪ ،‬فتسقط الشّفعة بموت الشّفيع ول تنتقل إلى الورثة لنّ ح ّ‬
‫الرّأي والمشيئة وهما ل يبقيان بعد موت الشّفيع ولنّ ملك الشّفيع الّذي هو سبب الخذ بالشّفعة‬
‫قد زال بموته ‪ .‬أمّا إذا مات الشّفيع بعد قضاء القاضي له بالشّفعة أو بعد تسليم المشتري له بها‬
‫فلورثته أخذها بالشّفعة ‪.‬‬
‫ن المستحقّ باق ‪ ،‬وبموت المستحقّ عليه لم‬
‫وإذا مات المشتري والشّفيع حيّ فله الشّفعة ‪ ،‬ل ّ‬
‫يتغيّر الستحقاق ‪.‬‬
‫مسقطات الشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬تسقط الشّفعة بما يلي ‪:‬‬ ‫‪52‬‬

‫أ ّولً ‪ :‬ترك أحد الطّلبات الثّلثة في وقته وهي طلب المواثبة ‪ ،‬وطلب التّقرير والشهاد ‪ ،‬وطلب‬
‫الخصومة والتّملّك إذا ترك على الوجه المتقدّم ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬إذا طلب الشّفيع بعض العقار المبيع وكان قطعةً واحدةً والمشتري واحدا ‪ ،‬لنّ الشّفعة ل‬
‫تقبل التّجزئة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬موت الشّفيع عند الحنفيّة قبل الخذ بها رضا ًء أو قضا ًء سواء أكانت الوفاة قبل الطّلب أم‬
‫بعده ‪ .‬ول تورث عنه عندهم ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬البراء والتّنازل عن الشّفعة ‪ :‬فالبراء العامّ من الشّفيع يبطلها قضا ًء مطلقا ل ديان ًة إن‬
‫لم يعلم بها ‪.‬‬
‫وقد تكلّم الفقهاء في التّنازل عن الشّفعة بالتّفصيل كالتّالي ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تنازل الشّفيع عن حقّه في طلب الشّفعة سقط حقّه في طلبها ‪ ،‬والتّنازل هذا إمّا أن‬ ‫‪53‬‬

‫يكون صريحا وأمّا أن يكون ضمنيّا ‪ .‬فالتّنازل الصّريح نحو أن يقول الشّفيع ‪ :‬أبطلت الشّفعة أو‬
‫أسقطتها أو أبرأتك عنها ونحو ذلك ‪ ،‬لنّ الشّفعة خالص حقّه فيملك التّصرّف فيها استيفاءً‬
‫وإسقاطا كالبراء عن الدّين والعفو عن القصاص ونحو ذلك سواء علم الشّفيع بالبيع أم لم يعلم‬
‫بشرط أن يكون بعد البيع ‪.‬‬
‫أمّا التّنازل الضّمنيّ فهو أن يوجد من الشّفيع ما يدلّ على رضاه بالبيع وثبوت الملك للمشتري ‪،‬‬
‫ق الشّفعة إنّما يثبت له دفعا لضرر المشتري فإذا رضي بالشّراء أو بحكمه فقد رضي‬
‫لنّ ح ّ‬
‫بضرر جواره فل يستحقّ الدّفع بالشّفعة ‪.‬‬
‫وانظر مصطلح ( إسقاط ) ‪.‬‬
‫التّنازل عن الشّفعة قبل البيع ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا تنازل الشّفيع عن حقّه في طلب الشّفعة قبل بيع العقار‬ ‫‪54‬‬

‫المشفوع فيه لم يسقط حقّه في طلبها بعد البيع ‪ ،‬ل نّ هذا التّنازل إسقاط للح قّ ‪ ،‬وإسقاط الح قّ‬
‫قبل وجوبه ووجود سبب وجوبه محال ‪.‬‬
‫وقد روي عن أحمد ما يدلّ على أنّ الشّفعة تسقط بالتّنازل عنها قبل البيع ‪ ،‬فإنّ إسماعيل بن‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من كان بينه وبين أخيه‬
‫سعيد قال ‪ :‬قلت لحمد ‪ :‬ما معنى قول النّب ّ‬
‫ربعة فأراد بيعها فليعرضها عليه « ‪ .‬وقد جاء في الحديث ‪ » :‬ول يحلّ له إلّ أن يعرضها عليه‬
‫« إذا كانت الشّفعة ثابتةً له ؟ فقال ‪ :‬ما هو ببعيد من أن يكون على ذلك وألّ تكون له الشّفعة ‪،‬‬
‫وهذا قول الحكم والثّوريّ وأبي عبيد وأبي خيثمة وطائفة من أهل الحديث ‪.‬‬
‫واحتجّوا بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬من كان له شريك في ربعة أو نخل فليس له أن‬
‫يبيع حتّى يؤذن شريكه فإن رضي أخذ وإن كره ترك « ‪.‬‬
‫ق به « ‪ ،‬فمفهومه أنّه إذا باعه‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬فإذا باع ولم يؤذنه فهو أح ّ‬
‫بإذنه ل حقّ له ‪.‬‬
‫ولنّ الشّفعة تثبت في موضع الوفاق على خلف الصل لكونه يأخذ ملك المشتري من غير‬
‫رضائه ‪ ،‬ويجبره على المعاوضة به لدخوله مع البائع في العقد الّذي أساء فيه بإدخال الضّرر‬
‫على شريكه ‪ ،‬وتركه الحسان إليه في عرضه عليه وهذا المعنى معدوم هاهنا فإنّه قد عرضه‬
‫عليه ‪ ،‬وامتناعه من أخذه دليل على عدم الضّرر في حقّه ببيعه وإن كان فيه ضرر فهو أدخله‬
‫على نفسه فل يستحقّ الشّفعة كما لو أخّر المطالبة بعد البيع ‪.‬‬
‫التّنازل عن الشّفعة مقابل تعويض أو صلح عنها ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في جواز التّنازل عن الشّفعة مقابل تعويض يأخذه الشّفيع ‪:‬‬ ‫‪55‬‬

‫ح الصّلح عن الشّفعة على مال ‪ ،‬فلو صالح‬


‫فقال الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬ل يص ّ‬
‫ق الشّفعة ‪.‬‬
‫المشتري الشّفيع عن الشّفعة على مال لم يجز الصّلح ولم يثبت العوض ويبطل ح ّ‬
‫قال الشّافعيّة ‪ :‬تبطل شفعته إن علم بفساده ‪.‬‬
‫ق التّملّك ‪ ،‬وأنّه عبارة عن‬
‫ن الثّابت للشّفيع ح ّ‬
‫أمّا بطلن الصّلح فلنعدام ثبوت الحقّ في المحلّ ل ّ‬
‫ولية التّملّك وأنّها معنىً قائم بالشّفيع فلم يصحّ العتياض عنه فبطل الصّلح ولم يجب العوض ‪.‬‬
‫وأمّا بطلن حقّ الشّفيع في الشّفعة ‪ ،‬فلنّه أسقطه بالصّلح فالصّلح وإن لم يصحّ فإسقاط حقّ‬
‫ن صحّته ل تقف على العوض بل هو شيء من الموال ل يصلح عوضا عنه‬
‫الشّفعة صحيح ‪ ،‬ل ّ‬
‫فالتحق ذكر العوض بالعدم فصار كأنّه سلّم بل عوض ‪.‬‬
‫وذهب مالك إلى جواز الصّلح عن الشّفعة بعوض ‪ ،‬لنّه عوض عن إزالة الملك فجاز أخذ‬
‫العوض عنه ‪.‬‬
‫ن الشّفعة ل تسقط ‪ .‬لنّه لم يرض بإسقاطها‬
‫ح الصّلح ولك ّ‬
‫وقال القاضي من الحنابلة ‪ :‬ل يص ّ‬
‫وإنّما رضي بالمعاوضة عنها ولم تثبت المعاوضة فبقيت الشّفعة ‪.‬‬
‫التّنازل عن الشّفعة بعد طلبها ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز للشّفيع أن يتنازل عن حقّه في طلب الشّفعة بعد أن طلبها وقبل رضى المشتري أو‬ ‫‪56‬‬

‫حكم الحاكم له بها ‪ ،‬فإن ترك الشّفيع طلب الشّفعة أو باع حصّته الّتي يشفع بها بعد طلب‬
‫الشّفعة وقبل تملّكه المشفوع فيه بالقضاء أو الرّضا يسقط حقّه في الشّفعة لنّه يعدّ تنازلً منه‬
‫عن حقّه في طلبها قبل الحكم ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان التّنازل بعد الحكم له بها أو بعد رضاء المشتري بتسليم الشّفعة فليس له التّنازل ‪،‬‬
‫لنّه بذلك يكون ملك المشفوع فيه والملك ل يقبل السقاط ‪.‬‬
‫مساومة الشّفيع للمشتري ‪:‬‬
‫‪ -‬المساومة تعتبر تناز ًل عن الشّفعة فإذا سام الشّفيع الدّار من المشتري سقط حقّه في‬ ‫‪57‬‬

‫ن المساومة طلب تمليك بعقد جديد وهو دليل الرّضا بملك المتملّك ‪.‬‬
‫الشّفعة ل ّ‬
‫ق الشّفعة ممّا يبطل بصريح الرّضا فيبطل بدللة الرّضا أيضا ‪ ،‬والمساومة تعتبر تنازلً‬
‫ولنّ ح ّ‬
‫بطريق الدّللة ‪.‬‬

‫شَفَة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّفة في اللّغة واحدة الشّفتين ‪ ،‬وهما طبقا الفم من النسان ‪ ،‬وأصلها شفهة ‪ ،‬لنّ‬ ‫‪1‬‬

‫تصغيرها شفيهة ‪ .‬وقيل ‪ :‬أصلها شفو ‪ .‬قال الفيّوميّ نقلً عن الزهريّ ‪ :‬تجمع الشّفة على‬
‫شفهات وشفوات ‪ ،‬والهاء أقيس ‪ ،‬والواو أعمّ ‪.‬‬
‫ول تكون الشّفة إلّ من النسان ‪ ،‬أمّا سائر الحيوانات فتستعمل فيها كلمات أخرى ‪ ،‬كالمشفر‬
‫لذي الخفّ ‪ ،‬والجحفلة لذي الحافر ‪ ،‬والمنسر والمنقار لذي الجناح ‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫وفي الصطلح تطلق الشّفة على معنيين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬المعنى اللّغويّ ‪ ،‬أي ‪ :‬طبقة الفم من النسان ‪ ،‬وقد حدّها بعض الفقهاء بهذا المعنى أنّها‬
‫في عرض الوجه إلى الشّدقين ‪ ،‬وقيل ما يرتفع عند انطباق الفم ‪ .‬وفي الطّول إلى ما يستر‬
‫اللّثة‪ .‬والثّاني ‪ :‬شرب بني آدم والبهائم بالشّفاه دون سقي الزّرع ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬هذا أصله‬
‫‪ .‬والمراد استعمال بني آدم لدفع العطش أو للطّبخ أو الوضوء أو الغسل أو غسل الثّياب ‪،‬‬
‫ق البهائم الستعمال للعطش ونحوه ممّا يناسبها ‪.‬‬
‫ونحوها‪ ،‬والمراد به في ح ّ‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫الشّرب ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرب لغةً ‪ :‬نصيب من الماء ‪ ،‬وشرعا ‪ :‬نوبة النتفاع بالماء سقيا للزّراعة والدّوابّ ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫ب َي ْومٍ ّمعْلُومٍ } ‪.‬‬


‫شرْبٌ وَ َل ُكمْ شِرْ ُ‬
‫قال اللّه تعالى ‪ّ { :‬لهَا ِ‬
‫وعلى ذلك فالشّفة أخصّ من الشّرب لختصاصها بالحيوان دونه ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬حكم الشّفة بالمعنى الوّل ( عضو النسان ) ‪:‬‬
‫‪ -‬ذ كر الفقهاء أحكاما تتعلّق بالشّ فة بهذا المع نى في موضوع ين ‪ :‬غ سلها ح ين الوضوء‬ ‫‪3‬‬

‫والغسل ‪ ،‬والجناية عليها بالقطع أو إذهاب المنافع ‪.‬‬


‫أ ‪ -‬غسل الشّفتين حين الوضوء والغسل ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ ظاهر الشّفتين ‪ ،‬أي ما يظهر عند انضمامهما ضمّا طبيعيّا بغير تكلّف‬ ‫‪4‬‬

‫غسِلُو ْا ُوجُو َه ُكمْ } ‪.‬‬


‫جزء من الوجه ‪ ،‬فيجب غسلهما في الوضوء والغسل ‪ .‬لقوله تعالى ‪ { :‬فا ْ‬
‫أمّا ما ينكتم عند النضمام فهو تبع للفم ‪ ،‬فل يجب غسله في الوضوء عند جمهور الفقهاء‬
‫‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬بل يسنّ ‪.‬‬
‫ن غسل الفم والنف‬
‫وكذلك في الغسل عند المالكيّة والشّافعيّة ‪ .‬خلفا للحنفيّة ‪ ،‬حيث قالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫فرض في الغسل ‪.‬‬
‫أمّا الحنابلة فقد صرّحوا بأنّ الفم والنف من الوجه فتجب المضمضة والستنشاق في‬
‫الطّهارتين‪ :‬الصّغرى " الوضوء " ‪ ،‬والكبرى " الغسل " ‪.‬‬
‫وتفصيل الموضوع في مصطلحات ‪ ( :‬غسل ‪ ،‬مضمضة ‪ ،‬وضوء ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الجناية على الشّفتين ‪:‬‬
‫‪ -‬الجناية على الشّفتين إذا كانت عمدا يجب فيها القصاص عند جمهور الفقهاء إذا تحقّقت‬ ‫‪5‬‬

‫شروطه من المماثلة والمساواة ‪ ( .‬ر ‪ :‬قصاص ) ‪.‬‬


‫أمّا إذا كانت خط ًأ ففي قطع كلتا الشّفتين دية كاملة باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬لحديث عمرو بن حزم ‪:‬‬
‫» وفي الشّفتين الدّية « ‪.‬‬
‫ن العضو ين إذا‬
‫ن في ق طع كلّ واحدة منه ما ن صف الدّ ية من غ ير تفر يق ‪ ،‬ل ّ‬
‫والجمهور على أ ّ‬
‫وجبت فيهما دية ففي أحدهما نصف الدّية كاليدين والرّجلين ‪.‬‬
‫وفي رواية عند الحنابلة يجب في الشّفة العليا ثلث الدّية ‪ ،‬وفي السّفلى الثّلثان ‪ ،‬لنّ المنفعة بها‬
‫أعظم ‪ ،‬لنّها هي الّتي تتحرّك وتحفظ الرّيق والطّعام ‪.‬‬
‫وكما تجب الدّية في قطع الشّفتين تجب كذلك في إذهاب منافعهما ‪ ،‬بأن ضرب الشّفتين‬
‫فأشلّهما‪ ،‬أو تقلّصتا فلم تنطبقا على السنان ‪.‬‬
‫وتفصيل الموضوع في ‪ ( :‬ديات ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الشّفة بمعنى الشّرب ‪:‬‬
‫‪ -‬تعرّض الفقهاء لحكم الشّفة بمعنى شرب النسان والبهائم بالشّفاه عند بيان المنافع‬ ‫‪6‬‬

‫المشتركة ‪ ،‬وحقوق الرتفاق ‪ ،‬وقد قسم أكثر الفقهاء المياه باعتبار الشّرب إلى أربعة أقسام ‪،‬‬
‫قال الموصليّ الحنفيّ ‪:‬‬
‫المياه أنواع ‪ :‬الوّل ماء البحر ‪ ،‬وهو عامّ لجميع الخلق النتفاع به بالشّفة وسقي الراضي‬
‫وشقّ النهار ‪ ،‬ل يمنع أحد من شيء من ذلك كالنتفاع بالشّمس والهواء ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬الودية والنهار العظام كجيحون وسيحون والنّيل والفرات ودجلة ‪ .‬فالنّاس مشتركون‬
‫فيه في الشّفة وسقي الراضي ونصب الرحيّة والدّوالي إذا لم يض ّر بالعامّة ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬ما يجري في نهر خاصّ لقرية ‪ ،‬فلغيرهم فيه شركة في الشّفة ‪ ،‬وهو الشّرب والسّقي‬
‫للدّوابّ ‪ ،‬ولهم أخذ الماء للوضوء وغسل الثّياب والطّبخ ل غير ‪ .‬والبئر والحوض حكمهما حكم‬
‫ص‪.‬‬
‫النّهر الخا ّ‬
‫والرّابع ‪ :‬ما أحرز في جبّ ونحوه ‪ ،‬فليس لحد أن يأخذ منه شيئا بدون إذن صاحبه ‪ ،‬وله‬
‫بيعه‪ ،‬لنّه ملكه بالحراز ‪ ،‬ولو كانت البئر أو العين أو النّهر في ملك رجل كان له منع من يريد‬
‫الشّرب من الدّخول في ملكه إن كان يجد غيره بقربه في أرض مباحة ‪ .‬فإن لم يجد فإمّا أن‬
‫يتركه يأخذ بنفسه ‪ ،‬أو يخرج الماء إليه ‪ ،‬فإن منعه وهو يخاف العطش على نفسه أو مطيّته‬
‫فله أن يقاتله بالسّلح ‪ .‬وفي المحرز بالناء يقاتله بغير سلح ‪.‬‬
‫ومثله ما ذكره سائر الفقهاء مع تفصيل وخلف في بعض الفروع ‪ ،‬ينظر في مصطلح ( شرب ‪،‬‬
‫ومياه ) ‪.‬‬

‫شَفِيع *‬
‫انظر ‪ :‬شفعةً‬

‫شَقّ *‬
‫انظر ‪ :‬قبر‬

‫شُكْر *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّكر ‪ :‬مصدر شكرته وشكرت له أشكر شكرا وشكورا وشكرانا ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وهو عند أهل اللّغة ‪ :‬العتراف بالمعروف المسدى إليك ونشره والثّناء على فاعله ‪ .‬ول يكون‬
‫إلّ في مقابلة معروف ونعمة ‪ .‬وشكر النّعمة مقابل كفرها ‪ .‬قال اللّه تعالى في حكاية قول لقمان‬
‫حمِيدٌ } ‪.‬‬
‫ن الّلهَ غَنِيّ َ‬
‫سهِ َومَن َكفَرَ فَإِ ّ‬
‫شكُ ُر لِ َن ْف ِ‬
‫شكُرْ فَإِ ّنمَا َي ْ‬
‫‪َ { :‬ومَن َي ْ‬
‫والشّكر ‪ :‬هو ظهور أثر النّعمة على اللّسان والقلب والجوارح بأن يكون اللّسان مقرّا بالمعروف‬
‫مثنيا به ‪ ،‬ويكون القلب معترفا بالنّعمة ‪ ،‬وتكون الجوارح مستعملةً فيما يرضاه المشكور ‪ .‬على‬
‫حدّ قول الشّاعر ‪:‬‬
‫أفادتكم النّعماء منّي ثلث ًة‬
‫يدي ولساني والضّمير المحجّبا‬
‫والشّكر للّه في الصطلح ‪ :‬صرف العبد النّعم الّتي أنعم اللّه بها عليه في طاعته ‪ .‬أو فيما خلقت‬
‫له ‪ .‬وشكـر اللّه للعبـد معناه أنّه يزكـو عنده القليـل مـن العمـل فيضاعـف لعامله الجزاء ‪ .‬وفـي‬
‫الحد يث ‪ » :‬أ نّ رجلً رأى كلبا يأ كل الثّرى من الع طش ‪ ،‬فأ خذ الرّ جل خفّه فج عل يغرف له به‬
‫حتّى أرواه ‪ ،‬فشكر اللّه له ‪ ،‬فأدخله الجنّة « ‪ ،‬ولذا كان من أوصافه تعالى ‪ " :‬الشّكور " كما في‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬وَالّل ُه شَكُو ٌر حَلِيمٌ } ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬المدح ‪:‬‬
‫ي وغيره حتّى أنّ من رأى لؤلؤةً ذات حسن‬
‫‪ -‬المدح لغةً ‪ :‬حسن الثّناء ‪ .‬والمدح يكون للح ّ‬ ‫‪2‬‬

‫فوصفها بالحسن فقد مدحها ‪ ،‬والمدح على الحسان يكون قبله أو بعده ‪ ،‬ول يكون الشّكر إلّ‬
‫بعده ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الحمد ‪:‬‬
‫‪ -‬الحمد ‪ :‬هو الثّناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله على قصد التّعظيم ‪ ،‬ونقيض الحمد‬ ‫‪3‬‬

‫ال ّذمّ ‪.‬‬


‫فالحمد أعمّ من الشّكر من جهة أنّ الشّكر ل يكون إلّ على نعمة أسداها المشكور إلى الشّاكر‬
‫صةً ‪ ،‬والحمد يكون في مقابلة النعام على الشّاكر أو غيره ‪ ،‬ويكون في غير مقابلة نعمة‬
‫خا ّ‬
‫أصلً بل لمجرّد اتّصاف المحمود بالوصاف الحسنة والفضائل ‪ .‬فل يقال ‪ :‬شكرنا اللّه على‬
‫حكمته وعلمه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬حمدناه على ذلك ‪ ،‬كما هو محمود على إحسانه وفضله ‪ ،‬والشّكر أعمّ‬
‫ن الشّكر يكون باللّسان والقلب والجوارح ‪ ،‬والحمد ليس إلّ باللّسان ‪،‬‬
‫من الحمد من جهة أ ّ‬
‫فيجتمع الحمد والشّكر في الثّناء باللّسان على النّعمة ‪ ،‬وينفرد الحمد في الثّناء باللّسان على‬
‫الوصاف الذّاتيّة ونحوها ‪ ،‬وينفرد الشّكر فيما يكون بالقلب والجوارح ‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث ‪ » :‬الحمد رأس الشّكر فمن لم يحمد اللّه لم يشكره « ‪.‬‬
‫أحكام الشّكر ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّكر نوعان ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫شكر للّه تعالى ‪ ،‬وشكر لعباد اللّه ‪.‬‬


‫أوّلً ‪ :‬شكر اللّه تعالى ‪:‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬شكر اللّه تعالى على نعمه واجب شرعا من حيث الجملة ‪ ،‬فل يجوز تركه بالكلّيّة ‪.‬‬ ‫‪5‬‬
‫وقد استدلّ الحليميّ لذلك باليات الّتي فيها المر ‪ ،‬نحو قوله تعالى ‪ { :‬فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ‬
‫وَاشْكُرُواْ لِي َولَ َت ْكفُرُونِ } ‪.‬‬
‫وقوله سبحانه ‪ { :‬فَا ْذكُرُواْ آلء الّلهِ َلعَلّ ُكمْ ُتفْ ِلحُونَ } ‪.‬‬
‫ثمّ قال الحليميّ ‪ :‬فثبت بهاتين اليتين ونحوهما وجوب شكر اللّه تعالى على العباد لنعمه السّابغة‬
‫عليهم ‪.‬‬
‫ن َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ } قال ‪ :‬ومعلوم أنّ‬
‫ثمّ احتجّ للوجوب أيضا بقول اللّه تعالى ‪ُ { :‬ثمّ لَ ُتسْأَلُ ّ‬
‫المسألة عن النّعيم هي المسألة عن شكره ‪.‬‬
‫وقد اختلف في أنّ شكر اللّه تعالى على نعمه هل وجب بالعقل ثمّ جاء الشّرع مقرّرا لذلك أو لم‬
‫يجب إلّ بالشّرع ؟‬
‫فقد ذهب إلى الوّل معظم مشايخ الحنفيّة ونصّ صدر الشّريعة على أنّه مذهب الحنفيّة ‪ ،‬وإليه‬
‫ذهب المعتزلة أيضا ‪.‬‬
‫وذهب الشعريّة إلى أنّه لم يجب بمجرّد العقل ‪ ،‬لنّ العقل ل مجال له في أمور الخرة من إثبات‬
‫الثّواب والعقاب ‪ .‬وتنظر المسألة في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫وقال الرّازيّ عند قوله تعالى ‪ { :‬إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ ِإمّا شَاكِرا َوِإمّا َكفُورا } المراد من الشّاكر‬
‫الّذي يكون مقرّا معترفا بوجوب الشّكر عليه ‪ ،‬ومن الكفور الّذي ل يقرّ بذلك إمّا لنّه ينكر‬
‫الخالق أو لنّه ينكر وجوب شكره ‪.‬‬
‫والكثار من الشّكر مستحبّ ‪ .‬وللشّكر مواضع يندب فيها كحمد اللّه على الطّعام والشّراب‬
‫والملبس ‪.‬‬
‫وانظر ‪ ( :‬تحميد ) ‪.‬‬
‫فضل الشّكر ‪:‬‬
‫‪ -‬وردت الشّريعة بإثبات فضل الشّكر من أوجه كثيرة ‪ ،‬منها ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫أ ‪ -‬إنّ اللّه تعالى أثنى في كتابه على أهل الشّكر ووصف بذلك بعض خواصّ خلقه ‪ ،‬فقال‬
‫ن ا ْل ُمشْ ِركِينَ ‪ ،‬شَاكِرا لَ ْن ُع ِمهِ } ‪.‬‬
‫ن ُأ ّمةً قَانِتا لِّلهِ حَنِيفا وَ َلمْ َيكُ مِ َ‬
‫تعالى‪ { :‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَا َ‬
‫شكُورا } ‪.‬‬
‫وقال عن نوح عليه السلم ‪ { :‬إِ ّنهُ كَانَ عَبْدا َ‬
‫ن ُأمّهَا ِت ُكمْ‬
‫جكُم مّن ُبطُو ِ‬
‫ب ‪ -‬إنّه تعالى جعله الهدف من تفضّله بالنّعم ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬وَالّلهُ َأخْ َر َ‬
‫شكُرُونَ } ‪.‬‬
‫سمْعَ وَالَبْصَا َر وَالَفْئِدَةَ َلعَّل ُكمْ َت ْ‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ ا ْل ّ‬
‫ن شَيْئا َو َ‬
‫لَ َتعْ َلمُو َ‬
‫شكُرُونَ } ‪.‬‬
‫سخّرْنَاهَا َلكُ ْم َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫وقال في شأن تسخيره النعام ‪ { :‬كَذَلِكَ َ‬
‫ج ‪ -‬إنّه تعالى وعد الشّاكرين بأحسن الجزاء فقال ‪َ { :‬وسَ َنجْزِي الشّاكِرِينَ } وبيّن أنّه تعالى‬
‫وإن كان يحبّ الشّاكرين إلّ أنّه ل يعود عليه شيء من نفع شكرهم بل نفعه لهم ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬‬
‫حمِيدٌ } ‪.‬‬
‫ي َ‬
‫سهِ َومَن َكفَرَ َفإِنّ الّل َه غَنِ ّ‬
‫شكُرُ لِ َن ْف ِ‬
‫شكُرْ فَإِ ّنمَا َي ْ‬
‫َومَن َي ْ‬
‫شكَرْ ُتمْ لَزِيدَ ّن ُكمْ وَلَئِن َكفَرْ ُتمْ‬
‫د ‪ -‬إنّه جعله سببا للمزيد من النّعم ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬وإِذْ تَأَذّنَ رَ ّب ُكمْ لَئِن َ‬
‫إِنّ عَذَابِي َلشَدِيدٌ } ‪.‬‬
‫هـ – إنّه تعالى سمّى نفسه شاكرا شكورا ‪ ،‬بأن يقبل العمل القليل ويثني على فاعله ‪ ،‬قال‬
‫ع خَيْرا َفإِنّ الّل َه شَاكِ ٌر عَلِيمٌ } ‪.‬‬
‫طوّ َ‬
‫تعالى‪َ { :‬ومَن َت َ‬
‫شكُورٌ } ‪.‬‬
‫غفُورٌ َ‬
‫حسْنا إِنّ الّل َه َ‬
‫حسَ َنةً نّزِ ْد َلهُ فِيهَا ُ‬
‫ف َ‬
‫وقال ‪َ { :‬ومَن َيقْتَرِ ْ‬
‫ن عِبَا ِديَ‬
‫شكْرا وَقَلِي ٌل مّ ْ‬
‫عمَلُوا آ َل دَاوُودَ ُ‬
‫و ‪ -‬قلّة المتّصفين بكثرة الشّكر ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ { :‬ا ْ‬
‫ص اللّه تعالى ‪.‬‬
‫الشّكُورُ } قال ابن القيّم ‪ :‬قلّة أهل الشّكر في العالمين يدلّ على أنّهم خوا ّ‬
‫ز ‪ -‬ما ورد من دعاء ال صّالحين أن يلهم هم اللّه تعالى ش كر نع مه ع ند رؤيت ها كقول سليمان ‪:‬‬
‫ي وَعَلَى وَالِ َديّ } ‪.‬‬
‫ت عَلَ ّ‬
‫ن َأشْكُ َر ِن ْعمَتَكَ الّتِي أَنْ َعمْ َ‬
‫{ رَبّ َأوْزِعْنِي أَ ْ‬
‫ب اجعلني لك شكّارا « ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ر ّ‬
‫وورد أ ّ‬
‫وأو صى من يحبّه أن ي ستعين باللّه على شكره فقال ‪ » :‬يا معاذ واللّه إنّي لحبّك ‪ ..‬أو صيك يا‬
‫معاذ ‪ ،‬ل تدعنّ في دبر كلّ صلة تقول ‪ :‬اللّهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك « ‪.‬‬
‫شكُورٍ } في أربعة‬
‫ن اللّه تعالى قرن الشّكر بال صّبر فقال ‪ { :‬إِنّ فِي ذَِل كَ ليَا تٍ ّلكُ ّل صَبّا ٍر َ‬
‫ح‪-‬إّ‬
‫مواضع من القرآن ‪ ،‬فالشّكر على النّعم أو زوال النّقم ‪ ،‬وال صّبر عند زوال النّعم أو حلول البلء‬
‫‪ .‬ولنّ الصّبر على الطّاعة عين الشّكر عليها ‪.‬‬
‫وقد روي في الحديث ‪ » :‬اليمان نصفان فنصف في الصّبر ونصف في الشّكر « ‪.‬‬
‫وروي عن الشّعبيّ موقوفا ‪.‬‬
‫ما يكون عليه الشّكر ‪:‬‬
‫وهو ثلثة أنواع ‪:‬‬
‫‪ -‬الوّل ‪ :‬الشّكر للّه تعالى على نعمه الّتي أنعم بها على الشّاكر ‪ ،‬والعبد في كلّ أحواله إنّما‬ ‫‪7‬‬

‫هو في نعم اللّه تعالى ‪ ،‬وقد نبّه إلى ذلك بقوله ‪َ { :‬ومَا ِبكُم مّن ّن ْع َمةٍ َفمِنَ الّلهِ } وكثير من آيات‬
‫القرآن واردة في تعداد تلك النّعم بالتّفصيل ‪ ،‬وفي لفت النظار إلى وجوه اللّطف فيها ‪ ،‬وإلى‬
‫ن اللّه تعالى إنّما وضعها ليبتلي بها النسان هل يشكر أم يكفر ‪.‬‬
‫العتبار بها ‪ ،‬وبيان أ ّ‬
‫فمن ذلك نعمة خلق الرض فراشا والسّماء بنا ًء والشّمس ضياءً والقمر نورا وتقدير القوات في‬
‫الرض وإنزال المطر من السّماء شرابا وإنبات الزّرع فيها وسائر ما يصلح عليه بدن النسان ‪،‬‬
‫وخلق النعام وما جعله فيها للنّاس من منافع من لحمها ولبنها وأصوافها وأوبارها وأشعارها‬
‫وركوبها والتّجمّل بها ‪.‬‬
‫ومن ذلك نعمة خلق النسان في أحسن تقويم وخلق السماع والبصار والفئدة لتكون وسائل‬
‫للدراك ‪ ،‬وتعليم النسان البيان ‪.‬‬
‫ومن ذلك نعمة إرسال الرّسل وإنزال الكتب والدّللة على طرق اليمان ‪ .‬وهذه كلّها نعم عامّة لم‬
‫يخصّ بها مؤمن من كافر ‪.‬‬
‫ق والتّيسير للعمل الصّالح ‪ ،‬لنّ ذلك‬
‫ومنها نعم خاصّة وأعظمها التّوفيق لليمان والهتداء للح ّ‬
‫سبب للخلص من العذاب في الخرة والتّحصيل لنعم اللّه فيها ‪.‬‬
‫قال الحليميّ ‪ :‬وأولى النّعم بالشّكر نعمة اللّه تعالى على العبد باليمان والرشاد إلى الحقّ ‪،‬‬
‫والتّوفيق لقبوله ‪ ،‬لنّه هو الغرض الّذي ليس بتابع لما سواه ‪ ،‬وكلّ غرض سواه فهو تابع له ‪،‬‬
‫والتّيسير له نعمة عظيمة تقتضي الشّكر لها بالنتهاء عن المعاصي وإتباع اليمان حقوقه ‪ ،‬لنّ‬
‫اليمان باللّه عهد بينه وبين العبد ولكلّ عهد وفاء ‪ .‬وكلّ عبادة تتلو اليمان من فعل شيء فهو‬
‫شكر لنعم اللّه تعالى ‪ ،‬والتّيسير لكلّ شيء من ذلك نعمة يجب شكرها بالقلب واللّسان ‪.‬‬
‫‪ -8‬النّوع الثّاني ‪ :‬الشّكر على دفع النّقم سواء اندفعت عنه أو عن نحو ولده أو عموم المسلمين‬
‫وذلك كذهاب مرض أو انحسار طاعون أو عدوّ ‪ ،‬ونحوهما ممّا يخشى ضرره كغرق أو حريق‬
‫شكُورٌ } ‪.‬‬
‫حمْدُ لِّل ِه الّذِي أَذْهَبَ عَنّا ا ْلحَ َزنَ إِنّ رَبّنَا َل َغفُورٌ َ‬
‫ومنه قول أهل الجنّة ‪ { :‬ا ْل َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ليلة أسري به أتي بقدحين من‬
‫واحتجّ النّوويّ لذلك بحديث ‪ » :‬أنّ النّب ّ‬
‫خمر ولبن فنظر إليهما ‪ ،‬فأخذ اللّبن ‪ ،‬فقال له جبريل ‪ :‬الحمد للّه الّذي هداك للفطرة ‪ ،‬لو أخذت‬
‫الخمر لغوت أمّتك « ‪.‬‬
‫ن أن يحمد اللّه تعالى على العافية ‪ ،‬لما ورد ‪ » :‬أنّ‬
‫وإذا رأى السّليم مبتلىً في عقله وبدنه ‪ ،‬س ّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم سجد لرؤية زمن « ‪.‬‬
‫ن السّليم يقول ‪ » :‬الحمد للّه الّذي عافاني ممّا ابتلك به « ‪.‬‬
‫وورد أ ّ‬
‫النّوع الثّالث ‪ :‬الشّكر عند المكروهات من البلوى والمصائب واللم ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إذا مات ولد‬
‫‪ -‬وهو مشروع ‪ ،‬لحديث أبي موسى أنّ النّب ّ‬ ‫‪9‬‬

‫العبد قال اللّه لملئكته ‪ :‬قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون ‪ :‬نعم ‪ ،‬فيقول ‪ :‬قبضتم ثمرة فؤاده ؟‬
‫فيقولون ‪ :‬نعم ‪ .‬فيقول ‪ :‬ماذا قال عبدي ؟ فيقولون ‪ :‬حمدك واسترجع ‪ ،‬فيقول اللّه ‪ :‬ابنوا‬
‫لعبدي بيتا في الجنّة ‪ ،‬وسمّوه بيت الحمد « ‪.‬‬
‫ووجه الشّكر عليها ما فيها من تكفير الخطايا ورفع الدّرجات ‪ ،‬وما في الصّبر عليها من الجر ‪.‬‬
‫وقال ابـن القي ّم فـي توجيـه ذلك ‪ :‬يكون الشّكـر كظما للغيـظ الّذي أصـابه ‪ ،‬وسـترا للشّكوى ‪،‬‬
‫ورعاي ًة للدب ‪ ،‬وسلوكا لمسلك العلم ‪ ،‬لنّه شاكر للّه شكر من رضي بقضائه ‪.‬‬
‫ولذا صرّح الحنابلة أنّه يسنّ للمريض إن سئل عن حاله أن يحمد اللّه تعالى إذا أراد الشّكوى‬
‫إلى طبيب ‪ .‬قالوا ‪ :‬لحديث ابن مسعود مرفوعا ‪ » :‬إذا كان الشّكر قبل الشّكوى فليس بشاك « ‪.‬‬
‫قال البهوت يّ ‪ :‬وكان أحمد أ ّولً يحمد اللّه فقط فلمّا دخل عليه عبد الرّحمن طبيب ال سّنّة وحدّثه‬
‫الحديث عن بشر بن الحارث صار إذا سأله قال ‪ :‬أحمد اللّه إليك ‪ ،‬أجد كذا وكذا ‪.‬‬
‫ما يتحقّق به شكر اللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ -‬يتحقّق شكر اللّه تعالى على النّعمة بأمور ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫أوّلها ‪ :‬معرفة النّعمة ‪ ،‬بأن يعرف أنّها نعمة ‪ ،‬ويعرف قدرها ويعرف وجه كونها نعمةً‬
‫ويستحضرها في الذّهن ويميّزها ‪ ،‬إذ كثير من النّاس تحسن إليه وهو ل يدري ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم إلى معرفة قدر النّعم بقوله ‪ » :‬انظروا إلى من هو أسفل‬
‫وقد نبّه النّب ّ‬
‫منكم ول تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن ل تزدروا نعمة اللّه عليكم « ‪.‬‬
‫ن النّعم منه ‪ ،‬لم يتصوّر‬
‫والثّاني ‪ :‬معرفة أنّها من اللّه تعالى ‪ ،‬فمن لم يقرّ باللّه ‪ ،‬أو لم يقرّ بأ ّ‬
‫شكره له ‪ ،‬وإذا عرف أنّها من اللّه أحبّه عليها ‪.‬‬
‫ن وصولها إليه بغير استحقاق من‬
‫والثّالث ‪ :‬قبول النّعمة بإظهار الفقر والحاجة إليها ‪ ،‬ومعرفة أ ّ‬
‫العبد ول بذل ثمن بل بمحض فضل اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ن كتمانها كفران لها ‪ ،‬والثّناء إمّا عامّ‬
‫والرّابع ‪ :‬الثّناء على المنعم بها ‪ ،‬وعدم كتمانها فإ ّ‬
‫كوصفه تعالى بالجود والكرم والب ّر والحسان ‪ ،‬وإمّا خاصّ وهو التّحدّث بتلك النّعمة وإسناد‬
‫التّفضّل بها إلى المنعم بها ‪ ،‬وحمده عليها ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪َ { :‬وَأمّا بِ ِن ْع َمةِ رَبّكَ َفحَدّثْ } ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬التّحدّث بنعمة اللّه شكر وتركها كفر « ‪.‬‬
‫وقال النّب ّ‬
‫والخامس ‪ :‬ترك استعمالها فيما يكرهه المنعم بها ‪ ،‬والعمل بما يرضيه فيها ‪.‬‬
‫وال سّادس ‪ :‬فعل الطّاعات شكرا على النّعم ‪ ،‬كما يشير إليه قوله تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا النّا سُ اعْبُدُواْ‬
‫سمَاء بِنَاء }‬
‫جعَ َل َلكُ مُ الَ ْر ضَ فِرَاشا وَال ّ‬
‫ن ‪ ،‬الّذِي َ‬
‫ن مِن قَبْ ِلكُ مْ َلعَّلكُ مْ تَ ّتقُو َ‬
‫رَ ّبكُ مُ الّذِي خَ َل َقكُ مْ وَالّذِي َ‬
‫‪...‬الية ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قام حتّى تفطّرت قدماه ‪ .‬فقيل يا‬
‫وورد عن المغيرة بن شعبة ‪ » :‬أ ّ‬
‫رسول اللّه ‪ :‬أتتكلّف هذا وقد غفر لك ؟ قال ‪ :‬أفل أكون عبدا شكورا « ‪.‬‬
‫– وض ّد شكر النّعم الكفران بها ‪ ،‬وهو غير الكفر المخرج عن الملّة ‪ ،‬ويسمّيه العلماء " كفر‬ ‫‪11‬‬

‫النّعمة " ‪.‬‬


‫فمن وجوه الكفر بها أن ل يعرف النّعمة ‪ ،‬أو أن يبخسها حقّها من التّقدير ‪.‬‬
‫ومنها أن ينكر أنّها من اللّه تعالى ‪ ،‬أو ينسبها إلى غير المتفضّل بها كما يفعل أهل الشّرك إذ‬
‫يشكرون أندادهم وأصنامهم على ما أنعم به اللّه عليهم ‪ ،‬وكما في الحديث القدسيّ ‪ » :‬من قال‬
‫مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب « ‪.‬‬
‫ومنها أن يعتقد أنّه حصّل ما حصّل من النّعم بحوله وقوّته ‪ ،‬أو كما قال قارون ‪ { :‬إِ ّنمَا أُوتِي ُتهُ‬
‫عَلَى عِ ْلمٍ عِندِي } ‪.‬‬
‫ن ما حصل له من النّعم حصل باستحقاق له على اللّه ‪ ،‬ل من فضل اللّه عليه ‪.‬‬
‫ومنها أن يعتقد أ ّ‬
‫ومنها ‪ :‬ترك الثّناء بها على المنعم بها وترك التّحدّث بها ‪ ،‬وكذلك كتمانها بحيث ل يراها النّاس‬
‫ب أن يرى أثر نعمته على عبده « ‪.‬‬
‫ن اللّه يح ّ‬
‫لحديث ‪ » :‬إ ّ‬
‫ي هذا بأن ل يكون فيه احتياط لنفسه ‪.‬‬
‫وقيّد الحليم ّ‬
‫ومنها ‪ :‬التّعالي بها على سائر عباد اللّه والزّهو والمكاثرة والبغي والمفاخرة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬استعمالها في معصية اللّه تعالى ‪ ،‬ومنع الحقوق الشّرعيّة الواجبة فيها ‪.‬‬
‫الشّكر عند تجدّد النّعم ‪:‬‬
‫ب تجديد الشّكر عند تجدّد النّعم لفظا بالحمد والثّناء ‪ ،‬لما في الحديث ‪ » :‬إنّ اللّه‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪12‬‬

‫ليرضى عن العبد أن يأكل الكلة فيحمده عليها ‪ ،‬أو يشرب الشّربة فيحمده عليها « وفيه ‪:‬‬
‫» الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر « ‪.‬‬
‫و قد ورد في ال سّنّة ا ستحباب أذكار ب صيغ معيّ نة في ها التّحم يد ع ند ح صول ن عم معيّ نة ولمعر فة‬
‫ذلك ينظر مصطلح ‪ ( :‬تحميد ‪ ،‬وذكر ) ‪.‬‬
‫ويكون الشّكر على ذلك أيضا بفعل قربة من القرب ‪ ،‬وقد ذكر بعض الشّافعيّة من ذلك أن يصلّي‬
‫ركعتين أو يتصدّق مع سجود الشّكر أو دونه ‪.‬‬
‫ي ل يجوز التّقرّب إلى اللّه بصلة بنيّة الشّكر ‪.‬‬
‫وقال القليوب ّ‬
‫ومن ذلك أن يذبح ذبيحةً أو يصنع دعوةً ‪ ،‬وقد ذكر الفقهاء الدّعوات الّتي تصنع لما يتجدّد من‬
‫النّعم كالوكيرة الّتي تصنع للمسكن المتجدّد ‪ ،‬والنّقيعة الّتي تصنع لقدوم الغائب ‪ ،‬والحذّاق وهو‬
‫ما يصنع عند ختم الصّبيّ القرآن ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة ‪ ،‬وهو الرّاجح من مذهب الشّافعيّة ‪ ،‬أنّ هذه الدّعوات مستحبّة ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬وليس لهذه الدّعوات ‪ -‬يعني ما عدا وليمة العرس والعقيقة ‪ -‬فضيلة تختصّ‬
‫بها ‪ ،‬ولكن هي بمنزلة الدّعوة لغير سبب حادث ‪ ،‬فإذا قصد بها فاعلها شكر نعمة اللّه عليه ‪،‬‬
‫وإطعام إخوانه ‪ ،‬وبذل طعامه ‪ ،‬فله أجر ذلك إن شاء اللّه ‪.‬‬
‫وانظر مصطلح ‪ ( :‬دعوة ) ‪.‬‬
‫وإذا نذر النسان أن يصنع القربة عند تجدّد النّعمة واندفاع النّقمة فذلك نذر تبرّر ‪ ،‬وحكمه‬
‫وجوب الوفاء به ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ‪ ( :‬نذر ) ‪.‬‬
‫ن عند تجدّد النّعم واندفاع النّقم ممّا له وقع أن يسجد للّه تعالى عند حصول ذلك من‬
‫وممّا يس ّ‬
‫حيث ل يحتسب النسان وهذا قول الجمهور خلفا للمالكيّة ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬سجود الشّكر ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬شكر العباد على المعروف ‪:‬‬
‫‪ -‬شكر المنعم أمر لم يختلف العقلء في استحسانه ‪ .‬وكلّ منعم عليه ينبغي له الشّكر لمن‬ ‫‪13‬‬

‫أوله تلك النّعمة ولو كانت قليل ًة لحديث ‪ » :‬من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر‬
‫النّاس لم يشكر اللّه « ‪.‬‬
‫وحديث ‪ » :‬إنّ أشكر النّاس للّه أشكرهم للنّاس « ‪.‬‬
‫ي عنهم فالعبد أولى بأن يشكر لمن أحسن إليه ‪،‬‬
‫وإذا كان اللّه تعالى شكر المحسنين وهو غن ّ‬
‫شكُرْ لِي‬
‫وقد أمر اللّه تعالى بالشّكر للوالدين وقرن ذلك بالشّكر له لعظم فضلهما فقال ‪ { :‬أَنِ ا ْ‬
‫وَ ِلوَالِدَيْكَ } ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫والشّكر بالفعل هو الصل ‪ ،‬بأن يجزي بالمعروف معروفا ‪ ،‬قال النّب ّ‬
‫» من أولي نعمةً فليشكرها ‪ ،‬فإن لم يقدر فليظهر ثنا ًء حسنا « ‪.‬‬
‫قال الحليميّ ‪ :‬وهذا يد ّل على أنّ الشّكر المذكور في هذا الحديث أريد به الشّكر بالفعل ولول ذلك‬
‫ل كان الشّكر إحسانا مكان‬
‫لم يقل ‪ » :‬فإن لم يقدر فليظهر ثناءً حسنا « فإذا كانت النّعمة فع ً‬
‫إحسان ‪ ،‬فإن لم يتيسّر قام الذّكر الحسن والثّناء والبشر مقامه ‪.‬‬
‫وروي عن أنس ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬إنّ ناسا من المهاجرين قالوا ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬ما‬
‫رأينا قوما أحسن مواساةً في قليل ول أحسن بذلً من كثير منهم ‪ ،‬لقد كفونا المؤنة ‪ ،‬وأشركونا‬
‫في المهنة ‪ ،‬لقد خشينا أن يذهبوا بالجر كلّه ‪ ،‬فقال ‪ :‬أما ما دعوتهم وأثنيتم عليهم مكافأ ًة أو‬
‫شبه المكافأة « ‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪ » :‬من صنع إليه معروف فقال لفاعله ‪ :‬جزاك اللّه خيرا فقد أبلغ في الثّناء « ‪.‬‬
‫ومثله ما في الحديث أيضا ‪ » :‬من صنع إليكم معروفا فكافئوه ‪ ،‬فإن لم تجدوا ما تكافئونه‬
‫فادعوا له حتّى تروا أنّكم قد كافأتموه « ‪.‬‬
‫ن من أثنى فقد شكر ‪،‬‬
‫وفي رواية ‪ » :‬من أعطي عطا ًء فوجد فليجز به ‪ ،‬ومن لم يجد فليثن فإ ّ‬
‫ومن كتم فقد كفر « ‪.‬‬
‫استدعاء الشّكر من المنعم عليه ‪:‬‬
‫‪ -‬إنّه وإن كان الشّكر على المعروف مستحبّا إلّ أنّ طلب مسدي المعروف أن يشكر عليه‬ ‫‪14‬‬

‫صةً فيما من شأنه أن يعمل للّه ‪ ،‬ولذلك أثنى اللّه تعالى على من يحسن إلى‬
‫خلف الولى ‪ ،‬وخا ّ‬
‫طعَامَ عَلَى حُ ّب ِه ِمسْكِينا‬
‫ط ِعمُونَ ال ّ‬
‫الضّعفاء دون أن ينتظر منهم شكرا أو جزاءً قال تعالى ‪ { :‬وَ ُي ْ‬
‫شكُورا } ‪.‬‬
‫جزَاء وَل ُ‬
‫جهِ الّلهِ ل نُرِي ُد مِنكُمْ َ‬
‫ط ِع ُمكُمْ ِل َو ْ‬
‫وَيَتِيما َوَأسِيرا ‪ ،‬إِ ّنمَا ُن ْ‬
‫قال مجا هد و سعيد بن جبير ‪ :‬أ ما واللّه ما قالوه بأل سنتهم ول كن علم اللّه به من قلوب هم فأث نى‬
‫عليهم به ليرغب في ذلك راغب ولو أحبّ أن يحمد على المعروف لم يحرم ‪.‬‬
‫ي عند مروان بن الحكم ‪ ،‬فلمّا خرجا من عنده‬
‫وقد ورد أنّ زيد بن ثابت شهد لبي سعيد الخدر ّ‬
‫ق؟‬
‫قال له ‪ :‬أول تحمدني على ما شهدت الح ّ‬
‫قال الرّازيّ ‪ :‬الحسان إلى الغير إمّا أن يكون للّه تعالى وحده ‪ ،‬وإمّا أن يكون لغير اللّه تعالى ‪،‬‬
‫إمّا طلبا لمكافأة ‪ ،‬أو طلبا لحمد أو ثناء ‪ .‬وتار ًة يكون للّه تعالى ولغيره ‪.‬‬
‫والنّوع الوّل هو المقبول عند اللّه تعالى ‪ ،‬والخير هو الشّرك ‪ .‬أ هـ ‪.‬‬
‫وليس هو الشّرك المخرج عن الملّة بل هو الشّرك في القصد وهو يحبط العمل الّذي أشرك به ‪،‬‬
‫دون غيره ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى ل يقبل إلّ ما كان له خالصا ‪ .‬وأمّا إذا عمله طلبا للمكافأة أو الحمد‬
‫ن ذلك يكون رياءً ‪.‬‬
‫فله ما طلب ‪ ،‬وليس ذلك حراما إلّ أن يظهر أنّه للّه ويبطن خلف ذلك ‪ ،‬ل ّ‬
‫فإن أحبّ أن يشكر على ما لم يفعل من الخير لم يكن ذلك حراما خلفا لما يتبادر من قول اللّه‬
‫حسَبَ ّن ُهمْ‬
‫حمَدُواْ ِبمَا َل ْم َيفْعَلُواْ َفلَ َت ْ‬
‫ن ِبمَا أَتَواْ وّ ُيحِبّونَ أَن ُي ْ‬
‫ن الّذِينَ َيفْ َرحُو َ‬
‫حسَبَ ّ‬
‫تعالى ‪ { :‬لَ َت ْ‬
‫ِب َمفَازَةٍ مّنَ ا ْلعَذَابِ وَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فقد نزلت في المنافقين ‪.‬‬

‫شَكّ *‬
‫تعريفه ‪:‬‬
‫ك في المر وتشكّك إذا تردّد فيه بين‬
‫ك لغةً ‪ :‬نقيض اليقين وجمعه شكوك ‪ .‬يقال ش ّ‬
‫‪ -‬الشّ ّ‬ ‫‪1‬‬

‫شيئين ‪ ،‬سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الخر ‪.‬‬


‫ك ّممّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } أي غير مستيقن ‪ ،‬وهو يعمّ حالتي‬
‫قال اللّه تعالى ‪ { :‬فَإِن كُنتَ فِي شَ ّ‬
‫الستواء والرّجحان ‪.‬‬
‫ن مناسبته ترجع إلى وقت‬
‫وفي الحديث الشّريف ‪ » :‬نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم « قيل ‪ :‬إ ّ‬
‫ب أَرِنِي كَيْفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَ َلمْ ُت ْؤمِن قَالَ َبلَى‬
‫نزول قوله تعالى ‪َ { :‬وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّ‬
‫ك نبيّنا ‪ ،‬فقال رسول‬
‫ك إبراهيم ولم يش ّ‬
‫طمَئِنّ َقلْبِي } ‪ .‬حيث قال قوم ‪ -‬إذ ذاك ‪ -‬ش ّ‬
‫وَلَـكِن لّ َي ْ‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ -‬تواضعا منه وتقديما لبراهيم على نفسه ‪ » : -‬نحن أحقّ بالشّكّ‬
‫ك هو ؟ ‪.‬‬
‫من إبراهيم « أي أنا لم أشكّ مع أنّني دونه فكيف يش ّ‬
‫والشّكّ في اصطلح الفقهاء ‪ :‬استعمل في حالتي الستواء والرّجحان على النّحو الّذي استعملت‬
‫فيه هذه الكلمة لغةً فقالوا ‪ :‬من شكّ في الصّلة ‪ ،‬ومن شكّ في الطّلق ‪ ،‬أي من لم يستيقن ‪،‬‬
‫بقطع النّظر عن استواء الجانبين أو رجحان أحدهما ‪ .‬ومع هذا فقد فرّقوا بين الحالتين في‬
‫جزئيّات كثيرة ‪.‬‬
‫والشّكّ في اصطلح الصوليّين ‪ :‬هو استواء الطّرفين المتقابلين لوجود أمارتين متكافئتين في‬
‫الطّرفين أو لعدم المارة فيهما ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬اليقين ‪:‬‬
‫‪ -‬اليقين مصدر يقن المر ييقن إذا ثبت ووضح ‪ ،‬ويستعمل متعدّيا بنفسه وبالياء ‪ ،‬ويطلق ‪-‬‬ ‫‪2‬‬

‫لغةً ‪ -‬على العلم الحاصل عن نظر واستدلل ولهذا ل يسمّى علم اللّه يقينا ‪.‬‬
‫وهو عند علماء الصول ‪ :‬العتقاد الجازم المطابق للواقع الثّابت ‪ .‬فاليقين ض ّد الشّكّ ‪ .‬فيقال‬
‫ن العلم اعتقاد الشّيء على ما هو به على سبيل الثّقة ‪.‬‬
‫ك وعلم ل ّ‬
‫شكّ وتيقّن ول يقال ش ّ‬
‫ب ‪ -‬الشتباه ‪:‬‬
‫‪ -‬الشتباه هو مصدر اشتبه ‪ ،‬يقال ‪ :‬اشتبه الشّيئان وتشابها ‪ ،‬إذا أشبه كلّ واحد منهما‬ ‫‪3‬‬

‫الخر‪ ،‬كما يقال ‪ :‬اشتبه عليه المر أي اختلط والتبس لسبب من السباب أهمّها الشّكّ ‪ ،‬فالعلقة‬
‫ك سببا هامّا من أسباب الشتباه ‪.‬‬
‫بينهما ‪ -‬إذا ‪ -‬سببيّة حيث يعدّ الشّ ّ‬
‫كما قد يكون الشتباه سببا للشّكّ ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الظّنّ ‪:‬‬
‫ن مصدر ظنّ من باب قتل وهو خلف اليقين ‪ ،‬ويطلق عند الصوليّين على الطّرف‬
‫‪ -‬الظّ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫الرّاجح من الطّرفين ‪.‬‬


‫ن َيظُنّونَ أَ ّنهُم مّلَقُوا رَ ّب ِهمْ } ‪.‬‬
‫وقد يستعمل مجازا بمعنى اليقين كقوله تعالى ‪ { :‬الّذِي َ‬
‫ن والشّكّ ‪.‬‬
‫ن الفقهاء ل يفرّقون غالبا بين الظّ ّ‬
‫وقد تقدّم أ ّ‬
‫د ‪ -‬الوهم ‪:‬‬
‫‪ -‬الوهم مصدر وهم وهو عند الصوليّين طرف المرجوح من طرفي الشّكّ ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫وهو ما عبّر عنه الحمويّ ‪ -‬نقلً عن متأخّري الصوليّين ‪ -‬حيث قال ‪ :‬الوهم تجويز أمرين‬
‫أحدهما أضعف من الخر ‪.‬‬
‫والمتأكّد أنّه ل يرتقي لحداث اشتباه إذ " ل عبرة للتّوهّم " ‪ .‬وبناءً على ذلك ذكر الفقهاء أنّه ل‬
‫يثبت حكم شرعيّ استنادا على وهم ‪ ،‬ول يجوز تأخير الشّيء الثّابت بصورة قطعيّة بوهم طارئ‪.‬‬
‫ك باعتبار حكم الصل الّذي طرأ عليه ‪:‬‬
‫أقسام الشّ ّ‬
‫‪ -‬ينقسم الشّكّ ‪ -‬إجمالً ‪ -‬بهذا العتبار إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫ك طرأ على أصل حرام مثل أن يجد المسلم شا ًة مذبوحةً في بلد يقطنه مسلمون‬
‫القسم الوّل ‪ :‬ش ّ‬
‫ومجوس فل يحلّ له الكل منها حتّى يعلم أنّها ذكاة مسلم ‪ ،‬لنّ الصل فيها الحرمة ووقع الشّكّ‬
‫في الذّكاة المطلوبة شرعا ‪ ،‬فلو كان معظم سكّان البلد مسلمين جاز القدام عليها والكل منها‬
‫ل بالغالب المفيد للحلّيّة ‪.‬‬
‫عم ً‬
‫القسم الثّاني ‪ :‬شكّ طرأ على أصل مباح كما لو وجد المسلم ما ًء متغيّرا فله أن يتطهّر منه مع‬
‫احتمال أن يكون تغيّر بنجاسة ‪ ،‬أو طول مكث ‪ ،‬أو كثرة ورود السّباع عليه ونحو ذلك استنادا‬
‫ن اللّه تعالى لم يكلّف المؤمنين تجشّم البحث للكشف عن‬
‫إلى أنّ الصل طهارة المياه ‪ .‬مع العلم أ ّ‬
‫ن عمر بن الخطّاب ‪ -‬رضي ال تعالى‬
‫طهارته أو نجاسته تيسيرا عليهم ‪ ،‬حيث ورد في الثر أ ّ‬
‫عنه ‪ -‬خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬حتّى وردوا حوضا فقال‬
‫عمرو بن العاص لصاحب الحوض ‪ :‬يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السّباع ؟ فقال عمر ‪ :‬يا‬
‫صاحب الحوض ل تخبرنا ‪ ،‬فإنّا نرد على السّباع ‪ ،‬وترد علينا ‪.‬‬
‫وفيه أيضا ‪ :‬أنّ عمر بن الخطّاب نفسه كان مارّا مع صاحب له فسقط عليهما شيء من ميزاب ‪،‬‬
‫فقال صاحبه ‪ :‬يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس ؟ فقال عمر ‪ :‬يا صاحب الميزاب ل‬
‫تخبرنا ‪ ،‬ومضى ‪.‬‬
‫فإن اشتبه عليه ماء طاهر وماء نجس تحرّى ‪ ،‬فما أدّاه اجتهاده إلى طهارته توضّأ به ‪.‬‬
‫ك ل يعرف أصله مثل التّعامل مع شخص أكثر ماله حرام دون تمييز لهذا من‬
‫القسم الثّالث ‪ :‬ش ّ‬
‫ذاك لختلط النّوعين معا اختلطا يصعب تحديده ‪ ،‬فمثل هذا الشّخص ل تحرم مبايعته ول‬
‫ص الفقهاء على‬
‫التّعامل معه لمكان أن يكون المقابل حللً طيّبا ‪ ،‬ولكن رغم هذا الحتمال فقد ن ّ‬
‫كراهة التّعامل معه خوفا من الوقوع في الحرام ‪.‬‬
‫ب تركه بل يستحبّ فعله‬
‫كما نصّوا على أنّ " المشكوك في وجوبه ل يجب فعله ول يستح ّ‬
‫احتياطا " ‪.‬‬
‫أقسام الشّكّ بحسب الجماع على اعتباره وإلغائه ‪:‬‬
‫ن الشّكّ بهذا العتبار ينقسم أيضا إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫‪ -‬ذكر القرافيّ أ ّ‬ ‫‪7‬‬

‫ك في المذكّاة والميتة ‪ ،‬فالحكم تحريمهما معا ‪.‬‬


‫القسم الوّل ‪ :‬مجمع على اعتباره كالشّ ّ‬
‫القسم الثّاني ‪ :‬مجمع على إلغائه ‪ ،‬كمن شكّ هل طلّق أم ل ؟ فل شيء عليه ‪ ،‬وشكّه يعتبر لغوا‪.‬‬
‫القسم الثّالث ‪ :‬اختلف العلماء في جعله سببا ‪ ،‬كمن شك هل أحدث أم ل ؟ فقد اعتبره مالك دون‬
‫الشّافعيّ ‪.‬‬
‫ك هل طلّق ثلثا أم اثنتين ؟ ألزمه مالك الطّلقة المشكوك فيها خلفا للشّافعيّ وسيأتي‬
‫ومن ش ّ‬
‫تفصيله ‪.‬‬
‫الشّكّ ل يزيل اليقين ‪ ،‬أو " اليقين ل يزول بالشّكّ " أو " ل شكّ مع اليقين " ‪:‬‬
‫‪ -‬هذه القاعدة ‪ -‬على اختلف تراكيبها ‪ -‬من أمّهات القواعد الّتي عليها مدار الحكام الفقهيّة‬ ‫‪8‬‬

‫وقد قيل ‪ :‬إنّها تدخل في جميع أبواب الفقه ‪ ،‬والمسائل المخرّجة عنها من عبادات ومعاملت‬
‫تبلغ ثلثة أرباع علم الفقه ‪.‬‬
‫شكّ في الميراث ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -‬الميراث استحقاق وكلّ استحقاق ل يثبت إ ّل بثبوت أسبابه وتوفّر شروطه وانتفاء موانعه ‪،‬‬ ‫‪9‬‬

‫شكّ في طريقه وبالتّالي ل يتصوّر‬


‫ل ثبوت الستحقاق بال ّ‬
‫وهذه ل تثبت إلّ بيقين ‪ ،‬فل يتصوّر مث ً‬
‫ثبوت الميراث بالشّكّ ‪.‬‬
‫الشّكّ في الركان ‪:‬‬
‫‪ -‬أركان الشّيء هي أجزاء ماهيّته الّتي يتكوّن منها ‪ ،‬وهي الّتي تتوقّف صحّتها على توفّر‬ ‫‪10‬‬

‫شروطها ‪.‬‬
‫وأركان أيّ عبادة من العبادات يراد بها فرائضها الّتي ل ب ّد منها إذ ل فرق بين الرّكن والفرض‬
‫إلّ في الحجّ حيث تتميّز الركان فيه على الواجبات والفروض بعدم جبرها بالدّم ‪.‬‬
‫فمن شكّ في ركن من أركان العبادة أو في فرض من فرائضها ‪ ،‬هل أتى به أم ل ؟ فإنّه يبني‬
‫على اليقين المحقّق عنده ‪ ،‬ويأتي بما شكّ فيه ‪ ،‬ويسجد بعد السّلم سجدتين لحتمال أن يكون‬
‫قد فعل ما شكّ فيه ‪ ،‬فيكون ما أتى به بعد ذلك محض زيادة ‪ ،‬وقال ابن لبابة ‪ :‬يسجد قبل السّلم‬
‫ن هنا قولن داخل المذهب المالكيّ ‪ :‬منهم من اعتبرها كالشّكّ ومنهم من‬
‫‪ ،‬وفي غلبة الظّ ّ‬
‫اعتبرها كاليقين ‪.‬‬
‫وفيما تقدّم يقول الشّيخ ابن عاشر ‪ -‬صاحب المرشد المعين ‪: -‬‬
‫ك في ركن بنى على اليقين‬
‫من ش ّ‬
‫وليسجدوا البعديّ لكن قد يبين ‪.‬‬
‫قال الشّيخ محمّد بن أحمد ميّارة ‪ :‬ويقيّد كلم صاحب هذا النّظم بغير الموسوس أو كالمستنكح‬
‫ك هل صلّى ثلثا أو‬
‫ك فيه ‪ ،‬وشكّه كالعدم ويسجد بعد السّلم ‪ ،‬فإذا ش ّ‬
‫لنّ هذا ل يعتدّ بما ش ّ‬
‫أربعا بنى على الربع وسجد بعد السّلم ‪.‬‬
‫ن الشّكّ على قسمين ‪:‬‬
‫وإجمالً فإ ّ‬
‫مستنكح ‪ :‬أي يعتري صاحبه كثيرا وهو كالعدم لكنّه يسجد له بعد السّلم ‪ ،‬وغير مستنكح ‪ :‬وهو‬
‫الّذي يأتي بعد مدّة وحكمه وجوب البناء على اليقين ‪ ،‬وأنّ السّهو أيضا على قسمين ‪ :‬مستنكح‬
‫وغير مستنكح ‪.‬‬
‫راجع مصطلح ‪ ( :‬سهو ) من الموسوعة الفقهيّة ‪.‬‬
‫ن المنصوص لمالك أنّه يسلّم‬
‫وإنّ من شكّ في جلوسه هل كان في الشّفع أو في الوتر ؟ فإ ّ‬
‫ويسجد لسهوه ‪ ،‬ثمّ يوتر بواحدة لحتمال أن يكون أضاف ركعة الوتر إلى ركعتي الشّفع من غير‬
‫سلم فيصير قد صلّى الشّفع ثلثا ‪ ،‬ومن هنا طولب بالسّجود بعد السّلم ‪ ،‬وأنّ هذه المسألة –‬
‫أي مسألة الشّكّ في الرّكن – تتّفق في الحكم مع مسألة التّحقّق من الخلل بركن ففي الولى‬
‫يلغى الشّكّ ويبنى على اليقين مع السّجود بعد السّلم ‪ ،‬وفي الثّانية يجبر الرّكن ويقع السّجود‬
‫بعد السّلم ‪.‬‬
‫وإنّ الّذي يجمع هذا كلّه هو قولهم ‪ :‬الشّكّ في النّقصان كتحقّقه ‪ .‬ولذلك قال الونشريسيّ في‬
‫ك أصلّى ثلثا أم أربعا ؟ أتى برابعة أو شكّ في بعض أشواط‬
‫شرح هذه القاعدة ‪ :‬ومن ثمّ لو ش ّ‬
‫الطّواف أو السّعي أو شكّ هل أتى بالثّالثة أم ل ؟ بنى في جميع ذلك على اليقين ‪.‬‬
‫وتتمّم هذه القاعدة قاعدة أخرى نصّها ‪ :‬الشّكّ في الزّيادة كتحقّقها ‪ .‬كالشّكّ في حصول التّفاضل‬
‫في عقود الرّبا ‪ ،‬والشّكّ في عدد الطّلق ونحو ذلك ‪.‬‬
‫الشّكّ في السّبب ‪:‬‬
‫‪ -‬السّبب لغةً ‪ :‬هو الحبل أو الطّريق ثمّ استعير من الحبل ليد ّل على كلّ ما يتوصّل به إلى‬ ‫‪11‬‬

‫ت ِب ِهمُ ا َلسْبَابُ } أي العلئق الّتي ظنّوا أنّها ستوصّلهم إلى‬


‫شيء ‪ ،‬كقوله جلّ ذكره ‪ { :‬وَ َت َقطّعَ ْ‬
‫النّعيم ‪ ،‬ومنه الحديث الشّريف ‪ » :‬وإن كان رزقه في السباب « أي في طرق السّماء وأبوابها‬
‫‪ .‬وهو ‪ -‬في اصطلح الفقهاء والصوليّين ‪ -‬المر الّذي جعله الشّرع أمارةً لوجود الحكم وجعل‬
‫انتفاءه أمار ًة على عدم الحكم ‪.‬‬
‫وبناءً على هذا فإنّ السّبب ل ينعقد إلّ بجعل المشرّع له كذلك ‪.‬‬
‫وحتّى يكون السّبب واضح التّأثير ‪ -‬بجعل اللّه ‪ -‬ينبغي أن يكون متيقّنا إذ ل تأثير ول أثر‬
‫ك في أسباب الميراث بأنواعها ‪ .‬فإنّه مانع من حصول الميراث‬
‫لسبب مشكوك فيه ‪ ،‬وذلك كالشّ ّ‬
‫ك في دخول وقت‬
‫بالفعل إذ ل ميراث مع الشّكّ في سببه كما هو مقرّر ‪ .‬شأنه في ذلك شأن الشّ ّ‬
‫الظّهر أو وقت العصر ونحوهما من أسباب العبادات ‪.‬‬
‫وقد خصّص القرافيّ فرقا هامّا ميّز فيه بين قاعدة الشّكّ في السّبب وبين قاعدة السّبب في‬
‫الشّكّ‪ ،‬أشار في بدايته إلى أنّ هذا الموضوع قد أشكل أمره على جميع الفضلء ‪ ،‬وانبنى على‬
‫عدم تحريره إشكال آخر في مواضع ومسائل كثيرة حتّى خرق بعضهم الجماع فيها ‪.‬‬
‫ن الشّارع شرع الحكام وشرع لها‬
‫والقول الفصل في هذا الموضوع حسب رأي القرافيّ ‪ :‬أ ّ‬
‫أسبابا وجعل من جملة ما شرعه من السباب الشّكّ ‪ ،‬فشرعه ‪ -‬حيث شاء ‪ -‬في صور عديدة ‪:‬‬
‫ك في الجنبيّة وأخته‬
‫فإذا شكّ في الشّاة والميتة حرمتا معا ‪ ،‬وسبب التّحريم هو الشّكّ ‪ ،‬وإذا ش ّ‬
‫من الرّضاعة حرمتا معا ‪ ،‬وسبب التّحريم هو الشّكّ ‪ ،‬وإذا شكّ في عين الصّلة المنسيّة وجب‬
‫عليه خمس صلوات ‪ ،‬وسبب وجوب الخمس هو الشّكّ ‪ ،‬وإذا شكّ هل تطهّر أم ل ؟ وجب‬
‫الوضوء ‪ ،‬وسبب وجوبه هو الشّكّ ‪ ،‬وكذلك بقيّة النّظائر ‪.‬‬
‫ك في السّبب غير السّبب في الشّكّ ‪ :‬فالوّل يمنع التّقرّب ول يتقرّر معه حكم ‪ ،‬والثّاني ل‬
‫فالشّ ّ‬
‫يمنع التّقرّب وتتقرّر معه الحكام كما هو الحال في النّظائر السّابقة ‪.‬‬
‫ن صاحب الشّرع نصب الشّكّ سببا في جميع صوره بل في بعض الصّور بحسب ما‬
‫ول ندّعي أ ّ‬
‫ص ‪ ،‬وقد يلغي صاحب الشّرع الشّكّ فل يجعل فيه شيئا ‪ :‬كمن شكّ هل‬
‫يدلّ عليه الجماع أو النّ ّ‬
‫طلّق أم ل ‪ .‬فل شيء عليه ‪ ،‬والشّكّ لغو ‪ ،‬ومن شكّ في صلته هل سها أم ل ؟ فل شيء عليه‬
‫ك أجمع النّاس على عدم اعتباره فيها ‪ ،‬كما أجمعوا على‬
‫والشّكّ لغو ‪ .‬فهذه صور من الشّ ّ‬
‫اعتباره فيما تقدّم ذكره من تلك الصّور ‪.‬‬
‫ك هل أحدث أم ل ؟ فقد اعتبره مالك خلفا‬
‫وقسم ثالث اختلف العلماء في نصبه سببا ‪ :‬كمن ش ّ‬
‫ك هل طلّق ثلثا أم اثنتين ؟ ألزمه مالك الطّلقة المشكوك فيها خلفا للشّافعيّ ‪،‬‬
‫ي ‪ ،‬ومن ش ّ‬
‫للشّافع ّ‬
‫ك ما هي ؟ ألزمه مالك جميع اليمان ‪.‬‬
‫ومن حلف يمينا وش ّ‬
‫شكّ في الشّرط ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -‬الشّرَط ‪ -‬بفتحتين ‪ : -‬العلمة والجمع أشراط مثل سبب وأسباب ‪ ،‬ومنه أشراط السّاعة ‪،‬‬ ‫‪12‬‬

‫أي علماتها ودلئلها ‪.‬‬


‫والشّرْط ‪ -‬بسكون الرّاء ‪ -‬يجمع على شروط ‪ .‬تقول ‪ :‬شرط عليه شرطا واشترطت عليه ‪،‬‬
‫بمعنىً واحد عند أهل اللّغة ‪.‬‬
‫ي ل يتحقّق إلّ‬
‫أمّا الشّرط عند الفقهاء والصوليّين ‪ :‬فهو ما جعله الشّارع مكمّلً لمر شرع ّ‬
‫بوجوده ‪ :‬كالطّهارة ‪ ،‬جعلها اللّه تعالى مكمّلةً للصّلة فيما يقصد منها من تعظيمه سبحانه‬
‫وتعالى إذ الوقوف بين يديه تعالى مع الطّهارة الشّاملة للبدن والثّياب والمكان أكمل في معنى‬
‫الحترام والتّعظيم ‪ ،‬وبهذا الوضع ل تتحقّق الصّلة الشّرعيّة إلّ بها ‪ ،‬فالشّرط بهذا العتبار‬
‫يتوقّف عليه وجود الحكم وهو خارج عن المشروط ‪ ،‬ويلزم من عدمه عدم الحكم ‪ ،‬ول يلزم من‬
‫وجوده وجود الحكم ول عدمه ‪.‬‬
‫والشّكّ في الشّرط مانع من ترتّب المشروط ‪ ،‬وهو كذلك يوجب الشّكّ في المشروط ‪ .‬وبناءً على‬
‫ذلك وجب الوضوء على من تيقّن الطّهارة وشكّ في الحدث على المشهور عند المالكيّة ‪ ،‬وامتنع‬
‫ك في موت المورّث أو حياة الوارث ‪،‬‬
‫القصاص من الب في قتل ابنه ‪ .‬وامتنع الرث بالشّ ّ‬
‫ك في انتفاء المانع من الميراث ‪.‬‬
‫وبالشّ ّ‬
‫شكّ في المانع ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -‬المانع لغةً ‪ :‬الحائل ‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫أمّا المانع في الصطلح فقد عرّف بقولهم ‪ :‬هو ما يلزم من أجل وجوده العدم ‪ -‬أي عدم‬
‫الحكم‪ -‬ول يلزم من أجل عدمه وجود ول عدم ‪ .‬كقتل الوارث لمورّثه عمدا وعدوانا فإنّه يعدّ‬
‫مانعا من الميراث ‪ ،‬وإن تحقّق سببه وهو القرابة أو الزّوجيّة أو غيرهما ‪.‬‬
‫فإذا وقع الشّكّ في المانع فهل يؤثّر ذلك في الحكم ؟ انعقد الجماع على أنّ " الشّكّ في المانع ل‬
‫ك الحاصل في ارتداد زيد قبل وفاته أم‬
‫ن الشّكّ ملغىً بالجماع ‪ .‬ومن ثمّ ألغي الشّ ّ‬
‫أثر له " أي إ ّ‬
‫ل؟ وصحّ الرث منه استصحابا للصل الّذي هو السلم ‪ .‬كما ألغي الشّكّ في الطّلق ‪ ،‬بمعنى‬
‫ك هنا ل تأثير له وأنّ الواجب‬
‫شكّ الزّوج هل حصل منه الطّلق أم ل ؟ وقد سبق أنّ الشّ ّ‬
‫ن الشّكّ هنا كان من قبيل الشّكّ في حصول المانع وهو‬
‫استصحاب العصمة الثّابتة قبل الشّكّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫ك في الحدث عند تناول الشّكّ في‬
‫ملغىً وسيأتي التّفريق بين هذه المسألة وبين مسألة الشّ ّ‬
‫الطّهارة ‪.‬‬
‫وعلى هذا النّحو أيضا ألغي الشّكّ في العتاق والظّهار وحرمة الرّضاع وما إليها ‪.‬‬
‫قال الخطّابيّ ‪ -‬في خصوص الرّضاع ‪ : -‬هو من الموانع الّتي يمنع وجودها وجود الحكم ابتداءً‬
‫وانتهاءً ‪ ،‬فهو يمنع ابتداء النّكاح ويقطع استمراره ‪ -‬إذا طرأ عليه ‪ -‬فإذا وقع الشّكّ في‬
‫ن الحوط التّنزّه عن ذلك وقد‬
‫حصوله لم يؤثّر بناءً على قاعدة " الشّكّ ملغىً " وقد يقال ‪ :‬إ ّ‬
‫ذكروا أنّه ل ينبغي للشّخص أن يقدم إلّ على فرج مقطوع بحلّيّته ‪.‬‬
‫الشّكّ في الطّهارة ‪:‬‬
‫ب عليه الوضوء ‪ ،‬وإعادة‬
‫ك في الطّهارة يج ّ‬
‫ن من تيقّن الحدث وش ّ‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫الصّلة إن صلّى لنّ ال ّذمّة مشغولة فل تبرأ إلّ بيقين ‪ ،‬فإن تيقّن الطّهارة وشكّ في الحدث فل‬
‫ن الوضوء ل ينقض بالشّكّ عندهم لحديث عبد اللّه بن زيد‬
‫وضوء عليه عند جمهور الفقهاء ل ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم الرّجل يخيّل إليه أنّه يجد الشّيء في الصّلة ؟ فقال‬
‫قال ‪ » :‬شكي إلى النّب ّ‬
‫– صلى ال عليه وسلم ‪ : -‬ل ينصرف حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا « ‪.‬‬
‫ك في الحدث فعليه‬
‫وقال المالكيّة ‪ -‬في المشهور من المذهب ‪ : -‬من تيقّن الطّهارة ثمّ ش ّ‬
‫ك في أحد المتقابلين يوجب الشّكّ في‬
‫الوضوء وجوبا ‪ -‬وقيل ‪ :‬استحبابا ‪ -‬لما تقرّر من أنّ الشّ ّ‬
‫الخر ‪ ،‬إلّ أن يكون مستنكحا ‪ ،‬وعلى هذا يحمل الحديث ‪.‬‬
‫ك في السّابق منهما‬
‫وذكر الفقهاء في هذا الباب أيضا أنّ من تيقّن الطّهارة والحدث معا وش ّ‬
‫فعليه أن يعمل بضدّ ما قبلهما ‪ :‬فإن كان قبل ذلك محدثا فهو الن متطهّر ‪ ،‬لنّه تيقّن الطّهارة‬
‫ك في انتقاضها ‪ ،‬حيث ل يدري هل الحدث الثّاني قبلها أو بعدها ؟ وإن كان‬
‫بعد ذلك الحدث وش ّ‬
‫متطهّرا وكان يعتاد التّجديد فهو الن محدث لنّه متيقّن حدثا بعد تلك الطّهارة وشكّ في زواله‬
‫حيث ل يدري هل الطّهارة الثّانية متأخّرة عنه أم ل ؟ ‪.‬‬
‫ي ومن سلك سبيله‬
‫قال ابن عبد البرّ ‪ :‬مذهب الثّوريّ وأبي حنيفة وأصحابه والوزاعيّ والشّافع ّ‬
‫البناء على الصل حدثا كان أو طهارةً ‪ ،‬وهو قول أحمد بن حنبل ‪ ،‬وإسحاق وأبي ثور‬
‫ن من أيقن‬
‫والطّبريّ‪ ،‬وقال مالك ‪ :‬إن عرض له ذلك كثيرا فهو على وضوئه ‪ ،‬وأجمع العلماء أ ّ‬
‫ن عليه الوضوء فرضا وهذا يدلّ على أنّ‬
‫ن شكّه ل يفيد فائدةً وأ ّ‬
‫بالحدث وشكّ في الوضوء فإ ّ‬
‫الشّكّ عندهم ملغىً ‪ ،‬وأنّ العمل عندهم على اليقين ‪ ،‬وهذا أصل كبير في الفقه فتدبّره وقف عليه‬
‫‪ .‬ومن هذا القبيل ما جاء عن الفقهاء من أنّ المرأة إذا رأت دم الحيض ولم تدر وقت حصوله‬
‫ن حكمها حكم من رأى منيّا في ثوبه ولم يعلم وقت حصوله ‪ ،‬أي عليها أن تغتسل وتعيد‬
‫فإ ّ‬
‫الصّلة من آخر نومة ‪ ،‬وهذا أقلّ القوال تعقيدا وأكثرها وضوحا ‪.‬‬
‫ن حكم الحيض المشكوك فيه كحكم الحيض المتيقّن في ترك‬
‫وضابطه ما قاله ابن قدامة من أ ّ‬
‫العبادات ‪.‬‬
‫والمراد بالشّكّ في هذا الموضع ‪ -‬مطلق التّردّد ‪ -‬كما سبق في مفهومه عند الفقهاء سواء أكان‬
‫على السّواء أم كان أحد طرفيه أرجح ‪.‬‬
‫الشّكّ في الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الشّكّ في القبلة ‪:‬‬
‫ك في جهة الكعبة فعليه أن يسأل عنها العالمين بها من أهل المكان إن وجدوا وإلّ‬
‫‪ -‬من ش ّ‬ ‫‪15‬‬

‫فعليه بالتّحرّي والجتهاد لما رواه عامر بن ربيعة ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬كنّا مع‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ‪ ،‬فصلّى كلّ رجل منّا على‬
‫جهُ الّلهِ } « ‪.‬‬
‫حياله فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنّبيّ صلى ال عليه وسلم فنزل { فَأَيْ َنمَا ُتوَلّواْ فَ َثمّ َو ْ‬
‫ي بن أبي طالب رضي ال عنه ‪ -‬هي جهة قصده ‪.‬‬
‫وقبلة المتحرّي ‪ -‬كما ورد عن عل ّ‬
‫والصّلة الواحدة لجهة القصد هذه تجزئ المصلّي وتسقط عنه الطّلب لعجزه ‪ ،‬ويرى ابن عبد‬
‫ن الفضل له أن يصلّي لكلّ جهة من الجهات الربع أخذا بالحوط ‪ ،‬وذلك إذا كان شكّه‬
‫الحكم أ ّ‬
‫دائرا بينها أمّا إذا انحصر شكّه في ثلث جهات فقط مثلً فإنّ الرّابعة ل يصلّي إليها ‪ ،‬وقد اختار‬
‫ن المعتمد الوّل عند جمهور المالكيّة وغيرهم ‪.‬‬
‫اللّخميّ ما فضّله ابن عبد الحكم ‪ ،‬ولك ّ‬
‫ب ‪ -‬الشّكّ في دخول الوقت ‪:‬‬
‫ن الصل عدم دخوله ‪،‬‬
‫ك في دخول الوقت لم يصلّ حتّى يغلب على ظنّه دخوله ل ّ‬
‫‪ -‬من ش ّ‬ ‫‪16‬‬

‫ك فعليه العادة وإن وافق الوقت ‪ ،‬لعدم صحّة صلته مثلما هو المر فيمن‬
‫فإن صلّى مع الشّ ّ‬
‫اشتبهت عليه القبلة فصلّى من غير اجتهاد ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الشّكّ في الصّلة الفائتة ‪:‬‬
‫‪ -‬من فاتته صلة من يوم ما ‪ ،‬ول يدري أيّ صلة هي فعليه أن يعيد صلة يوم وليلة حتّى‬ ‫‪17‬‬

‫يخرج من عهدة الواجب بيقين ل بشكّ ‪.‬‬


‫د ‪ -‬الشّكّ في ركعة من ركعات الصّلة ‪:‬‬
‫ك في صلته فلم يدر أواحدةً صلّى أو اثنتين أو ثلثا أو أربعا ؟‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء فيمن ش ّ‬ ‫‪18‬‬

‫وقال مالك والشّافعيّ ‪ :‬يبني على اليقين ول يجزئه التّحرّي ‪ ،‬وروي مثل ذلك عن الثّوريّ‬
‫والطّبريّ ‪ ،‬واحتجّوا لذلك ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إذا شكّ أحدكم في‬
‫ي ‪ :‬أنّ النّب ّ‬
‫أ ّولً ‪ :‬بحديث أبي سعيد الخدر ّ‬
‫ك وليبن على ما استيقن ثمّ يسجد سجدتين‬
‫صلته فلم يدر كم صلّى أثلثا أم أربعا ؟ فليطرح الشّ ّ‬
‫قبل أن يسلّم ‪ .‬فإن كان صلّى خمسا ‪ ،‬شفعن له صلته ‪ ،‬وإن كان صلّى إتماما لربع كانتا‬
‫ترغيما للشّيطان « ‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬بالقاعدتين الفقهيّتين اللّتين في معنى الحاديث المشار إليها وغير ها ممّا يوجب البناء‬
‫على اليقين ‪ .‬وهما ‪:‬‬
‫ك"‪.‬‬
‫القاعدة الولى ‪ " :‬اليقين ل يزيله الشّ ّ‬
‫ك في النّقصان كتحقّقه " ‪.‬‬
‫والثّانية ‪ " :‬والشّ ّ‬
‫وقال أبو حنيفة إذا كان الشّكّ يحدث له لوّل مرّة بطلت صلته ولم يتح ّر وعليه أن يستقبل صلةً‬
‫جديدةً ‪ .‬وإن كان الشّكّ يعتاده ويتكرّر له يبني على غالب ظنّه بحكم التّحرّي ويقعد ويتشهّد بعد‬
‫كلّ ركعة يظنّها آخر صلته لئلّ يصير تاركا فرض القعدة ‪ ،‬فإن لم يقع له ظنّ بنى على القلّ ‪،‬‬
‫وقال الثّوريّ ‪ -‬في رواية عنه ‪ : -‬يتحرّى سواء كان ذلك أوّل مرّة أو لم يكن ‪.‬‬
‫وقال الوزاعيّ ‪ :‬يتحرّى ‪ ،‬قال ‪ :‬وإن نام في صلته فلم يدر كم صلّى ؟ استأنف ‪.‬‬
‫ك أجزأه سجدتا السّهو عن التّحرّي ‪،‬‬
‫وقال اللّيث بن سعد ‪ :‬إن كان هذا شيئا يلزمه ول يزال يش ّ‬
‫وعن البناء على اليقين ‪ ،‬وإن لم يكن شيئا يلزمه استأنف تلك الرّكعة بسجدتيها ‪.‬‬
‫ك على وجهين ‪ :‬اليقين والتّحرّي ‪ ،‬فمن رجع إلى اليقين ألغى الشّكّ‬
‫وقال أحمد بن حنبل ‪ :‬الشّ ّ‬
‫وسجد سجدتي السّهو قبل السّلم ‪ ،‬وإذا رجع إلى التّحرّي سجد سجدتي السّهو بعد السّلم ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إنّ‬
‫ودليله حديث أبي هريرة ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ -‬أ ّ‬
‫أحدكم إذا قام يصلّي جاء الشّيطان فلبّس عليه حتّى ل يدري كم صلّى ‪ ،‬فإذا وجد ذلك أحدكم‬
‫فليسجد سجدتين وهو جالس « ‪.‬‬
‫وحجّة من قال بالتّحرّي في هذا الموضوع حديث ابن مسعود ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ -‬قال ‪:‬‬
‫قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إذا شكّ أحدكم في صلته فليتح ّر الّذي يرى أنّه الصّواب‬
‫ثمّ ‪ -‬يعني ‪ -‬يسجد سجدتين ‪.‬‬ ‫«‬

‫الشّكّ في الزّكاة ‪:‬‬


‫شكّ في تأديتها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ال ّ‬
‫ن العمر كلّه وقت‬
‫ك رجل في الزّكاة فلم يدر أزكّى أم ل ؟ فالواجب عليه إخراجها ل ّ‬
‫‪ -‬لو ش ّ‬ ‫‪19‬‬

‫ك في الصّلة بعد خروج‬


‫لدائها ‪ ،‬ومن هنا يظهر الفرق بين صاحب هذه الحالة وبين من ش ّ‬
‫الوقت أصلّى أم ل ؟ حيث ذكروا ‪ -‬كما تقدّم ‪ -‬إعفاءه من العادة لنّها مؤقّتة والزّكاة بخلفها ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الشّكّ في تأدية كلّ الزّكاة أو بعضها ‪:‬‬
‫ل شكّ هل أدّى جميع ما عليه من الزّكاة أو‬
‫ن حادثةً وقعت مفادها ‪ :‬أنّ رج ً‬
‫‪ -‬ذكر ابن نجيم أ ّ‬ ‫‪20‬‬

‫ل ؟ حيث كان يؤدّي ما عليه متفرّقا من غير ضبط ‪ ،‬فتمّ إفتاؤه بلزوم العادة حيث لم يغلب على‬
‫ظنّه دفع قدر معيّن ‪ ،‬وهذا الحكم هو مقتضى القواعد لنّ الزّكاة ثابتة في ذمّته بيقين فل يخرج‬
‫عن العهدة بالشّكّ ‪.‬‬
‫ك في مصرف الزّكاة ‪:‬‬
‫ج ‪ -‬الشّ ّ‬
‫ن من دفعت إليه مصرف من مصارفها ولم يتحرّ ‪،‬‬
‫ك في أ ّ‬
‫‪ -‬إذا دفع المزكّي الزّكاة وهو شا ّ‬ ‫‪21‬‬

‫أو تحرّى ولم يظهر له أنّه مصرف ‪ ،‬فهو على الفساد إلّ إذا تبيّن له أنّه مصرف ‪ .‬بخلف ما‬
‫إذا دفعت باجتهاد وتحرّ لغير مستحقّ في الواقع كالغنيّ والكافر ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪233/ 23‬‬ ‫ج‬ ‫‪189‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪188‬‬ ‫ففيه تفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬زكاة ف‬
‫شكّ في الصّيام ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫أ ‪ -‬الشّكّ في دخول رمضان ‪:‬‬
‫ك المسلم في دخول رمضان في اليوم الموالي ليومه ولم يكن له أصل يبني عليه مثل‬
‫‪ -‬إذا ش ّ‬ ‫‪22‬‬

‫أن يكون ليلة الثّلثين من شعبان ولم يحل دون رؤية الهلل سحب ول غيوم ومع ذلك عزم أن‬
‫ن النّيّة‬
‫ح نيّته ول يجزئه صيام ذلك اليوم ل ّ‬
‫يصوم غدا باعتباره أوّل يوم من رمضان لم تص ّ‬
‫قصد تابع للعلم الحاصل بطرقه الشّرعيّة وحيث انتفى ذلك فل يصحّ قصده وهو رأي حمّاد‬
‫وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وابن المنذر لنّ الصّائم لم يجزم النّيّة بصومه من رمضان فلم‬
‫يصحّ كما لو لم يعلم إلّ بعد خروجه ‪.‬‬
‫وكذلك لو بنى على قول المنجّمين وأهل المعرفة بالحساب لم يصحّ صومه وإن كثرت إصابتهم‬
‫ي يجوز البناء عليه فكان وجوده كعدمه ‪.‬‬
‫لنّه ليس بدليل شرع ّ‬
‫ح إذا نواه من اللّيل ‪ -‬وكان المر كما قصد ‪ -‬لنّه نوى الصّيام‬
‫وقال الثّوريّ والوزاعيّ ‪ :‬يص ّ‬
‫ح كاليوم الثّاني ‪.‬‬
‫من اللّيل فص ّ‬
‫ي ما يوافق المذهبين ‪.‬‬
‫وروي عن الشّافع ّ‬
‫ب الشّكّ في دخول شوّال ‪:‬‬
‫ح النّيّة ليلة الثّلثين من رمضان رغم أنّ هناك احتما ًل في أن يكون من شوّال ‪ ،‬لنّ‬
‫‪ -‬تص ّ‬ ‫‪23‬‬

‫الصل بقاء رمضان وقد أمرنا بصومه بالقرآن والسّنّة لكن إذا قال المكلّف ‪ :‬إن كان غدا من‬
‫رمضان فأنا صائم وإن كان من شوّال فأنا مفطر فل يصحّ صومه على رأي بعضهم لنّه لم‬
‫يجزم بنيّة الصّيام والنّيّة قصد جازم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬تصحّ نيّته لنّ هذا شرط واقع والصل بقاء‬
‫رمضان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الشّكّ في طلوع الفجر ‪:‬‬
‫ك الصّائم في طلوع الفجر فالمستحبّ ألّ يأكل لحتمال أن يكون الفجر قد طلع ‪،‬‬
‫‪ -‬إذا ش ّ‬ ‫‪24‬‬

‫فيكون الكل إفسادا للصّوم ولذلك كان مدعوّا للخذ بالحوط لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬دع‬
‫ما يريبك إلى ما ل يريبك « ‪.‬‬
‫ولو أكل وهو شاكّ ‪ ،‬فل قضاء عليه عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لنّ فساد الصّوم محلّ‬
‫ك‪.‬‬
‫شكّ والصل استصحاب اللّيل حتّى يثبت النّهار وهذا ل يثبت بالشّ ّ‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬من أكل شاكّا في الفجر فعليه القضاء مع الحرمة رغم أنّ الصل بقاء اللّيل ‪،‬‬
‫هذا بالنّسبة لصوم الفرض ‪ ،‬أمّا صوم النّفل فقد سوّى بعضهم بينه وبين الفرض في القضاء‬
‫والحرمة وفرّق بينهما جماعة في الحرمة حيث قالوا بالكراهية ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الشّكّ في غروب الشّمس ‪:‬‬
‫ن الصل بقاء النّهار ‪،‬‬
‫كلّ‬
‫ك الصّائم في غروب الشّمس ل يصحّ له أن يفطر مع الشّ ّ‬
‫‪ -‬لو ش ّ‬ ‫‪25‬‬

‫ولو أفطر على شكّه دون أن يتبيّن الحال بعد ذلك فعليه القضاء اتّفاقا ‪ .‬والحرمة متّفق عليها‬
‫كذلك ‪.‬‬
‫ك في الغروب فمختلف‬
‫وعدم الكفّارة في الكل مع الشّكّ في الفجر متّفق عليه ‪ ،‬أمّا الكل مع الشّ ّ‬
‫في وجوب الكفّارة ف يه ‪ ،‬والمشهور عدم ها ‪ ،‬فإن أف طر معتقدا بقاء اللّ يل أو ح صول الغروب ث مّ‬
‫ك فعليه القضاء بل حرمة ‪.‬‬
‫طرأ الشّ ّ‬
‫الشّكّ في الحجّ ‪:‬‬
‫شكّ في نوع الحرام ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ال ّ‬
‫ك الحاجّ هل أحرم بالفراد أو بالتّمتّع أو بالقران وكلّ ذلك قبل الطّواف فعند أبي‬
‫‪ -‬إذا ش ّ‬ ‫‪26‬‬

‫حنيفة ومالك يصرفه إلى القران لجمعه بين النّسكين وهو مذهب الشّافعيّ في الجديد ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة له صرفه إلى أيّ نوع من أنواع الحرام المذكورة ‪ ،‬والمنصوص عن أحمد جعله‬
‫عمر ًة على سبيل الستحباب ‪ ،‬وقال الشّافعيّ في القديم ‪ :‬يتحرّى فيبني على غالب ظنّه لنّه من‬
‫شرائط العبادة فيدخله التّحرّي كالقبلة ‪.‬‬
‫وسبب الخلف مواقف الئمّة من فسخ الحجّ إلى العمرة ‪ ،‬فهو جائز عند الحنابلة ‪ ،‬وغير جائز‬
‫عند غيرهم ‪.‬‬
‫ن إدخال الحجّ على العمرة بعد‬
‫ك بعد الطّواف فإنّ صرفه ل يجوز إ ّل إلى العمرة ل ّ‬
‫وأمّا إن ش ّ‬
‫الطّواف مع ركعتيه غير جائز ‪.‬‬
‫شكّ في دخول ذي الحجّة ‪:‬‬
‫ب ‪ -‬ال ّ‬
‫ك النّاس في هلل ذي الحجّة فوقفوا بعرفة إن أكملوا عدّة ذي القعدة ثلثين يوما ثمّ‬
‫‪ -‬لو ش ّ‬ ‫‪27‬‬

‫شهد الشّهود أنّهم رأوا الهلل ليلة كذا ‪ ،‬وتبيّن أن يوم وقوفهم كان يوم النّحر فوقوفهم صحيح‬
‫وحجّتهم تامّة عند الئمّة الربعة ‪.‬‬
‫وذلك لما ورد أنّه ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬قال ‪ » :‬الصّوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون‬
‫والضحى يوم تضحّون « ‪.‬‬
‫وأضاف الحنفيّة أ نّ الح كم المذكور المتمثّل في صحّة الوقوف كان ا ستحسانا ل قيا سا ‪ .‬أمّا إذا‬
‫تـبيّن أنّهـم وقفوا فـي اليوم الثّامـن فل يجزيهـم وقوفهـم عنـد أكثـر أهـل العلم ‪ ،‬وهـو قول مالك‬
‫ي وأبي حنيفة وصاحبيه ‪.‬‬
‫واللّيث والوزاع ّ‬
‫والفرق بين الصّورتين ‪ :‬أنّ الّذين وقفوا يوم النّحر فعلوا ما تعبّدهم اللّه به على لسان نبيّه‬
‫صلى ال عليه وسلم من إكمال العدّة دون اجتهاد بخلف الّذين وقفوا في الثّامن فإنّ ذلك‬
‫باجتهادهم وقبولهم شهادة من ل يوثق به ‪.‬‬
‫شكّ في الطّواف ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫ك الحاجّ في عدد أشواط الطّواف بنى على اليقين ‪ ،‬قال ابن المنذر ‪ :‬وعلى هذا أجمع‬
‫‪ -‬إذا ش ّ‬ ‫‪28‬‬

‫كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم لنّها عبادة متى شكّ فيها وهو فيها بنى على اليقين كالصّلة ‪.‬‬
‫ك في النّقصان كتحقّقه ‪ .‬وإن أخبره ثقة بعد طوافه رجع إليه إذا كان عد ًل ‪ ،‬وإن شكّ‬
‫ولنّ الشّ ّ‬
‫ك في عدد الرّكعات بعد فراغه من الصّلة‬
‫في ذلك بعد فراغه من الطّواف لم يلتفت إليه كما لو ش ّ‬
‫‪.‬‬
‫ك في طوافه بعد ما ركع ركعتي الطّواف فليعد ليتمّ طوافه على اليقين ثمّ‬
‫وفي الموطّأ ‪ :‬من ش ّ‬
‫ليعد الرّكعتين لنّه ل صلة لطواف إلّ بعد إكمال السّبع ‪.‬‬
‫ك في شرط العبادة قبل الفراغ‬
‫ح طوافه ذلك لنّه ش ّ‬
‫وإذا شكّ في الطّهارة وهو في الطّواف لم يص ّ‬
‫ك في الطّهارة أثناء الصّلة ‪.‬‬
‫منها فأشبه ما لو ش ّ‬
‫شكّ في الذّبائح ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -‬من التبست عليه المذكّاة بالميتة حرمتا معا لحصول سبب التّحريم الّذي هو الشّكّ ‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫وكذلك لو رمى المسلم طريدةً بآلة صيد فسقطت في ماء وماتت والتبس عليه أمرها ‪ ،‬فل تؤكل‬
‫ك في المبيح ‪.‬‬
‫للشّ ّ‬
‫ك في ذابحها ل‬
‫ولو وجدت شاة مذبوحة ببلد فيه من تحلّ ذبيحته ومن ل تحلّ ذبيحته ووقع الشّ ّ‬
‫تحلّ إلّ إذا غلب على أهل البلد من تحلّ ذبيحتهم ‪.‬‬
‫شكّ في الطّلق ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -‬شكّ الزّوج في الطّلق ل يخلو من ثلث حالت ‪:‬‬ ‫‪30‬‬

‫الحالة الولى ‪ :‬أن يكون الشّكّ في وقوع أصل التّطليق ‪ ،‬أي شكّ هل طلّقها أم ل ؟ فل يقع‬
‫الطّلق في هذه الحالة بإجماع المّة ‪ ،‬واستدلّوا لذلك بأنّ النّكاح ثابت بيقين فل يزول بالشّكّ‬
‫ع ْلمٌ } ‪.‬‬
‫ك ِبهِ ِ‬
‫س لَ َ‬
‫لقوله تعالى ‪َ { :‬ولَ َتقْفُ مَا لَيْ َ‬
‫الحالة الثّانية ‪ :‬أن يقع الشّكّ في عدد الطّلق ‪ -‬مع تحقّق وقوعه ‪ -‬هل طلّقها واحدةً أو اثنتين‬
‫أو ثلثا ؟ لم تحلّ له – عند المالكيّة ‪ ،‬والخرقيّ من الحنابلة ‪ ،‬وبعض الشّافعيّة – إلّ بعد زوج‬
‫ل بقوله عليه الصلة والسلم ‪ » :‬دع ما يريبك إلى ما ل يريبك «‬
‫آخر لحتمال كونه ثلثا ‪ .‬عم ً‬
‫ويحكم بالق ّل عند أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد ‪ ،‬فإذا راجعها حلّت له على رأي هؤلء ‪.‬‬
‫الحالة الثّالثة ‪ :‬أن يقع الشّكّ في صفة الطّلق كأن يتردّد مثلً في كونها بائنةً أو رجع ّيةً ‪ ،‬وفي‬
‫هذه الحالة يحكم بالرّجعيّة لنّها أضعف الطّلقين فكان متيقّنا بها ‪.‬‬
‫وذكر الكاسانيّ ‪ -‬في هذا المعنى ‪ -‬أنّ الرّجل لو قال لزوجته ‪ :‬أنت طالق أقبح طلق فهو‬
‫رجعيّ عند أبي يوسف لنّ قوله ‪ :‬أقبح طلق يحتمل القبح الشّرعيّ وهو الكراهية الشّرعيّة ‪،‬‬
‫ويحتمل القبح الطّبيعيّ وهو الكراهية الطّبيعيّة ‪ ،‬والمراد بها أن يطلّقها في وقت يكره الطّلق‬
‫ي لنّ المطلّق‬
‫فيه طبعا ‪ ،‬فل تثبت البينونة فيه بالشّكّ ‪ ،‬وهو بائن عند محمّد بن الحسن الشّيبان ّ‬
‫قد وصف الطّلق بالقبح ‪ ،‬والطّلق القبيح هو الطّلق المنهيّ عنه ‪ ،‬وهو البائن ‪ ،‬ولذلك يقع‬
‫بائنا ‪.‬‬
‫الشّكّ في الرّضاع ‪:‬‬
‫‪ -‬الحتياط لنفي الرّيبة في البضاع متأكّد ويزداد المر تأكيدا إذا كان مختصّا بالمحارم ‪.‬‬ ‫‪31‬‬
‫ن الصل عدم الرّضاع في الصّورة‬
‫فلو شكّ في وجود الرّضاع أو في عدده بنى على اليقين ‪ ،‬ل ّ‬
‫الولى وعدم حصول المقدار المحرّم في الصّورة الثّانية إلّ أنّها تكون من الشّبهات وتركها أولى‬
‫لقوله ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ » : -‬من اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه « ‪.‬‬
‫ي أنّ الشّكّ فيما يقرب من هذا الموضوع وما ناظره قد يع ّد ‪ -‬في بعض الحالت ‪-‬‬
‫ويرى القراف ّ‬
‫ل ما لو شكّ الرّجل في أجنبيّة وأخته‬
‫من السباب الّتي تدعو إلى الحكم بالتّحريم ‪ ،‬من ذلك مث ً‬
‫من الرّضاع حرمتا عليه معا ‪.‬‬
‫شكّ في اليمين ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫ك في أصل اليمين هل وقعت أو ل ‪ :‬كشكّه في وقوع الحلف أو الحلف‬
‫‪ -‬إمّا أن يكون الشّ ّ‬ ‫‪32‬‬

‫ن الصل براءة ال ّذمّة واليقين ل يزول بالشّكّ‬


‫والحنث ‪ ،‬فل شيء على الشّاكّ في هذه الصّورة ل ّ‬
‫ك هل حلف بطلق أو عتق أو‬
‫‪ .‬وإمّا أن يكون الشّكّ في المحلوف به كما إذا حلف وحنث ‪ ،‬وش ّ‬
‫مشي إلى بيت اللّه تعالى ‪ ،‬أو صدقة ‪ ،‬فالواجب عليه في هذه الحالة وما ماثلها ‪ -‬عند‬
‫المالكيّة‪ -‬طلق نسائه وعتق رقيقه والمشي إلى مكّة والتّصدّق بثلث ماله ‪ ،‬وهو مأمور بذلك‬
‫كلّه على وجه الفتاء ل على وجه القضاء إذ الحالف ‪ -‬في رأيهم ‪ -‬يؤمر بإنفاذ اليمان‬
‫المشكوك فيها من غير قضاء ‪.‬‬
‫ن الطّلق والعتاق ل يقعان بالشّكّ ‪،‬‬
‫ويرى الحنفيّة أنّ الشّاكّ في هذه الصّورة ل شيء عليه ل ّ‬
‫ولنّ الكفّارة المترتّبة على الحلف باللّه ل تجب مع الشّكّ أيضا إذ الصل براءة ال ّذمّة ‪.‬‬
‫ك في القسم هل كان باللّه إذا تحقّق‬
‫ويضيفون إلى هذا الحلف إذا كان معلّقا بشرط معلوم مع الشّ ّ‬
‫الشّرط وكان الحالف مسلما ‪ ،‬لنّ الحلف بالطّلق والعتاق غير مشروع فيجب حمل المسلم على‬
‫التيان بالمشروع دون المحظور ‪.‬‬
‫الشّكّ في النّذر ‪:‬‬
‫ك النّاذر في نوع المنذور هل هو صلة أو صيام أو صدقة أو عتق ؟ تلزمه ‪ -‬عند‬
‫‪ -‬لو ش ّ‬ ‫‪33‬‬

‫ن الشّكّ في المنذور كعدم تسميته ‪.‬‬


‫جمهور الئمّة ‪ -‬كفّارة يمين ‪ ،‬ل ّ‬
‫الشّكّ في الوصيّة ‪:‬‬
‫ن ثلث ماله ألف مثلً فإذا‬
‫‪ -‬قال أبو حنيفة ‪ -‬في رجل أوصى بثلث ماله لرجل مس ّمىً وأخبر أ ّ‬ ‫‪34‬‬

‫ثلث ماله أكثر ممّا ذكر ‪ : -‬إنّ له الثّلث من جميع المال والتّسمية الّتي سمّى باطلة لنّها خطأ ‪،‬‬
‫والخطأ ل ينقض الوصيّة ول يكون رجوعا فيها ‪ ،‬ووافقه أبو يوسف في هذا الرّأي لنّه لمّا‬
‫أوصى بثلث ماله فقد أتى بوصيّة صحيحة حيث إنّ صحّتها ل تتوقّف على بيان المقدار الموصى‬
‫به فتقع الوصيّة صحيحةً بدونه ‪.‬‬
‫شكّ في الدّعوى ‪ ،‬أو محلّها ‪ ،‬أو محلّ الشّهادة ‪:‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬لو ادّعى شخص دينا على آخر وشكّ المدين في قدره ينبغي لزوم إخراج القدر‬ ‫‪35‬‬

‫المتيقّن ‪.‬‬
‫قال الحمويّ ‪ :‬قيل ‪ :‬الظّاهر أنّه ليس على سبيل الوجوب وإنّما هو على سبيل التّورّع والخذ‬
‫بالحوط لنّ الصل براءة ال ّذمّة ‪.‬‬
‫ك دائرا‬
‫والمراد بالقدر المتيقّن ‪ -‬في هذه الحالة وما ماثلها ‪ -‬هو أكثر المبلغين ‪ :‬فإذا كان الشّ ّ‬
‫بين عشرة وخمسة فالمتيقّن العشرة لدخول الخمسة فيها ‪ ،‬وبهذا العتبار يكون الكثر بالنّسبة‬
‫إلى القلّ متيقّنًا دائما رغم وقوع الشّكّ فيهما ‪.‬‬
‫ن المدين في هذه الحالة عليه أن يرضي خصمه ول يحلف خشية أن يقع‬
‫وذكر بعض الفقهاء ‪ :‬أ ّ‬
‫في الحرام ‪ ،‬وإن أص ّر خصمه على إحلفه حلف إن كان أكبر ظنّه أنّه مبطل ‪ ،‬أمّا إذا ترجّح‬
‫عنده أنّ صاحب الدّعوى محقّ فإنّه ل يحلف ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬لو اشترى أحد حيوانا أو متاعا ث ّم ادّعى أنّ به عيبا وأراد ردّه واختلف أهل الخبرة فقال‬
‫ن السّلمة هي الصل‬
‫بعضهم ‪ :‬هو عيب وقال بعضهم ‪ :‬ليس بعيب ‪ ،‬فليس للمشتري الرّ ّد ل ّ‬
‫المتيقّن فل يثبت العيب بالشّكّ ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬لو ادّعت المرأة عدم وصول النّفقة والكسوة المقرّرتين لها في مدّة معيّنة فالقول لها ‪ ،‬لنّ‬
‫الصل المتيقّن بقاؤها في ذمّة الزّوج وأمّا دعواه فمشكوك فيها ول يزول يقين بشكّ ‪.‬‬
‫ل فإنّه يجوز له أن يشهد على عليّ ‪،‬‬
‫د ‪ -‬إذا كان إنسان يعلم أنّ عليّا مدين لعمر بألف دينار مث ً‬
‫ك في جانب اليقين السّابق ‪.‬‬
‫وإن خامره الشّكّ في وفائها أو في البراء عنها إذ ل عبرة بالشّ ّ‬
‫الشّكّ في الشّهادة ‪:‬‬
‫ل ‪ -‬فيما أعلم أو فيما أظنّ ‪،‬‬
‫‪ -‬لو قال الشّاهد ‪ :‬أشهد بأنّ لفلن على فلن مائة دينار ‪ -‬مث ً‬ ‫‪36‬‬

‫ن ركن الشّهادة لفظ‬


‫أو حسب ظنّي لم تقبل شهادته للشّكّ الّذي داخلها من الزّيادة على لفظها ‪ ،‬ل ّ‬
‫أشهد ل غير لتضمّنه معنى الشّهادة والقسم والخبار للحال فكأنّه يقول ‪ :‬أقسم باللّه لقد اطّلعت‬
‫على ذلك وأنا أخبر به ‪ ،‬ومن أجل ذلك تعيّن لفظ أشهد ‪.‬‬
‫ن الشّهود لو شهدوا على امرأة بنكاح أو إقرار أو إبراء‬
‫وقد بيّن سحنون ‪ -‬من المالكيّة ‪ -‬أ ّ‬
‫وسأل الخصم إدخالها في نساء للتّعرّف عليها من بينهنّ فقالوا ‪ :‬شهدنا عليها عن معرفتها‬
‫بعينها ونسبها ول ندري هل نعرفها اليوم وقد تغيّرت حالها فل نتكلّف ذلك ‪ ،‬فل ب ّد والحالة هذه‬
‫ك ‪ ،‬أمّا لو قالوا ‪ :‬نخاف أن تكون تغيّرت ‪ ،‬فالواجب‬
‫من التّعرّف عليها وإلّ ردّت شهادتهم للشّ ّ‬
‫أن يقال لهم ‪ :‬إن شككتم وقد أيقنتم أنّها ابنة فلن وليس لفلن هذا إلّ بنت واحدة من حين‬
‫شهدوا عليها إلى اليوم جازت الشّهادة ‪ -‬في هذه الحالة ‪ -‬وقبلت ‪.‬‬
‫ك تسلب صفة العدالة للشّاهد ‪.‬‬
‫وممّا تجدر الشارة إليه أنّ المالكيّة يرون أنّ الشّهادة مع الشّ ّ‬
‫ك ‪ .‬ووضعوا قيودا لقبول‬
‫ومن أجل ذلك وغيره أكّد جميع الفقهاء أنّ المعاوضة ل تثبت بالشّ ّ‬
‫ك الّذي يمكن أن يداخلها ‪.‬‬
‫شهادة السّماع للشّ ّ‬
‫الشّكّ في النّسب ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬ك ّل مطلّقة عليها العدّة فنسب ولدها يثبت من الزّوج إلّ إذا علم يقينا أنّه ليس منه ‪،‬‬ ‫‪37‬‬

‫وهو أن تجيء به لكثر من سنتين وإنّما كان كذلك لنّ الطّلق قبل الدّخول يوجب انقطاع النّكاح‬
‫ل بيقين وما زال بيقين ل يثبت إلّ بيقين مثله فإذا‬
‫بجميع علئقه فكان النّكاح من كلّ وجه زائ ً‬
‫جاءت بولد لق ّل من ستّة أشهر من يوم الطّلق فقد تيقّنّا أنّ العلوق وجد في حال الفراش وإنّه‬
‫وطئها وهي حامل منه إذ ل يحتمل أن يكون بوطء بعد الطّلق لنّ المرأة ل تلد لقلّ من ستّة‬
‫أشهر فكان من وطء وجد على فراش الزّوج وكون العلوق في فراشه يوجب ثبوت النّسب منه ‪.‬‬
‫فإذا جاءت بولد لستّة أشهر فصاعدا لم يستيقن بكونه مولودا على الفراش لحتمال أن يكون‬
‫ل بيقين فل يثبت مع الشّكّ ‪.‬‬
‫بوطء بعد الطّلق والفراش كان زائ ً‬
‫ب ‪ -‬إذا ادّعى إنسان نسب لقيط ألحق به ‪ ،‬لنفراده بالدّعوى ‪ ،‬فإذا جاء آخر بعد ذلك وادّعاه‬
‫ك الّذي أحدثته دعوى الثّاني ‪ -‬لنّه حكم له به فل يزول‬
‫فلم يزل نسبه عن الوّل ‪ -‬رغم الشّ ّ‬
‫بمجرّد الدّعوى ‪ ،‬إلّ إذا شهد القائفون بأنّه للثّاني فالقول قولهم لنّ القيافة تعتبر بيّنةً في إلحاق‬
‫النّسب‪ .‬وإذا ادّعى اللّقيط اثنان فألحقه القائفون بهما صحّ ذلك شرعا وكان ابنهما يرثهما ميراث‬
‫ابن ويرثانه ميراث أب واحد ‪ ،‬وهذا الرّأي يروى عن عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالب وهو‬
‫قول أبي ثور ‪.‬‬
‫وقال أصحاب الرّأي يلحق بهما بمجرّد الدّعوى للثار الكثيرة الواردة في ذلك ‪.‬‬
‫ك ينتفع به المتّهم ‪:‬‬
‫شّ‬‫ال ّ‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه ‪ :‬تدرأ الحدود بالشّبهات ‪ .‬والصل في ذلك عن عائشة أمّ المؤمنين‬ ‫‪38‬‬

‫‪ -‬رضي ال تعالى عنها ‪ -‬قالت ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ادرءوا الحدود عن‬
‫المسلمين ما استطعتم ‪ ،‬فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ المام أن يخطئ في العفو خير من‬
‫أن يخطئ في العقوبة « ‪ ،‬وفي حديث آخر ‪ » :‬ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا « ‪.‬‬
‫وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ‪ :‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬تعافوا الحدود‬
‫فيما بينكم فما بلغني من حدّ فقد وجب « ‪.‬‬
‫وهذه القاعدة توجب أ ّولً ‪ :‬اعتماد اليقين ‪ -‬ما أمكن ‪ -‬في نسبة الجريمة إلى المتّهم ‪.‬‬
‫ن الشّكّ ‪ -‬مهما كانت نسبته ومهما كان محلّه ومهما كان طريقه ‪ -‬ينتفع به المتّهم‬
‫وثانيا ‪ :‬أ ّ‬
‫ن في إقامة الحدّ ‪ ،‬ومع‬
‫ن الدّليل يقوم ‪ -‬هناك ‪ -‬مفيدا للظّ ّ‬
‫فيدرأ عنه الح ّد ‪ ،‬يقول الشّاطبيّ ‪ :‬فإ ّ‬
‫ذلك فإذا عارضته شبهة وإن ضعفت ‪ -‬غلب ‪ -‬حكمها ودخل صاحبها في مرتبة العفو ‪.‬‬
‫ل أحبّ إلى‬
‫وثالثا ‪ :‬الخطأ في العفو أفضل شرعا من الخطأ في العقوبة حيث إنّ تبرئة المجرم فع ً‬
‫اللّه ورسوله من معاقبة البريء ‪.‬‬
‫وهذا المبدأ نجد تطبيقاته مبثوثةً في أقضية الصّحابة ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬وأقضية التّابعين‬
‫وفتاوى المجتهدين ‪ ،‬من ذلك ما حكم به عمر بن الخطّاب ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ -‬في قضيّة‬
‫المغيرة بن شعبة والي البصرة الّذي اتّهم بالزّنا مع امرأة أرملة كان يحسن إليها ‪ ،‬فاستدعى‬
‫ن الشّاهد الرّابع الّذي‬
‫الخليفة الوالي وشهود التّهمة فشهد ثلثة برؤية تنفيذ الجريمة ‪ ،‬ولك ّ‬
‫يكتمل به النّصاب قال ‪ :‬لم أر ما قال هؤلء بل رأيت ريبةً وسمعت نفسا عاليا ‪ ،‬ول أعرف ما‬
‫وراء ذلك‪ ،‬فأسقط عمر التّهمة عن المغيرة وحفظ له براءته وطهارته ‪ ،‬وعاقب الشّهود الثّلثة‬
‫عقوبة القذف ‪.‬‬
‫وعمر نفسه لم يقم حدّ السّرقة عام الرّمادة لنّه جعل من المجاعة العامّة قرينةً على الضطرار ‪،‬‬
‫والضطرار شبهة في السّرقة تمنع الحدّ عن السّارق بل تبيح له السّرقة في حدود الضّرورة ‪.‬‬
‫ن من أخذ من مال أبيه خفي ًة ظنّا منه أنّه يباح له ذلك ل حدّ عليه ‪ ،‬وأنّ من‬
‫وقد ذكر الئمّة أ ّ‬
‫جامع المطلّقة ثلثا في العدّة ظنّا منه أنّ ذلك يباح له ل حدّ عليه أيضا ‪.‬‬
‫ن ما يعرف بشبهة العقد يدرأ الحدّ بها ‪ ،‬فل حدّ ‪ -‬في رأيه ‪ -‬على‬
‫ونقل عن أبي حنيفة القول بأ ّ‬
‫من وطئ محرّمةً بعد العقد عليها وإن كان عالما بالحرمة ‪ :‬كوطء امرأة تزوّجها بل شهود مثلً‪،‬‬
‫وفي رأي الصّاحبين عليه الحدّ ‪ -‬إذا كان عالما بالحرمة ‪ -‬وهو المعتمد ‪.‬‬
‫الشّكّ ل تناط به الرّخص ‪ :‬أو الرّخص ل تناط بالشّكّ ‪:‬‬
‫ي الدّين السّبكيّ فرّعوا عليها الفروع‬
‫‪ -‬هو لفظ قاعدة فقهيّة ذكرها السّيوطيّ نقلً عن تق ّ‬ ‫‪39‬‬

‫التّالية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬وجوب غسل القدمين لمن شكّ في جواز المسح على الخفّين أو على الجوربين وما إلى‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ك في غسل إحدى رجليه وأدخلهما في الخفّين ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬ل يباح له المسح‬
‫ب ‪ -‬من ش ّ‬
‫عليهما‪.‬‬
‫ك في جواز القصر ‪ .‬ويمكن أن يكون ذلك في صور عديدة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وجوب التمام لمن ش ّ‬

‫شَلَل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ل أي أصيب بالشّلل أو يبس فبطلت حركته ‪ ،‬أو‬
‫‪ -‬الشّلل لغةً ‪ :‬مصدر شلّ العضو يشلّ شل ً‬ ‫‪1‬‬

‫ذهبت ‪ ،‬وذلك إذا فسدت عروقه أو ضعفت ‪.‬‬


‫ويقال ‪ :‬شلّ فلن ‪ .‬ويقال في الدّعاء للرّجل ‪ .‬ل شلّت يمينك ‪ .‬وفي الدّعاء عليه ‪ :‬شلّت يمينه ‪،‬‬
‫فهو أشلّ ‪ ،‬وهي شلء ‪ ،‬والجمع شلّ ‪.‬‬
‫والشّلل في الصطلح ‪ :‬فساد العضو وذهاب حركته ‪ ،‬ويكون العضو بهذه الحالة فاسد المنفعة ‪.‬‬
‫ول يشترط زوال الحسّ بالكلّيّة وإنّما الشّلل بطلن العمل ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالشّلل ‪:‬‬
‫يتعلّق بالشّلل جملة أحكام ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الوضوء ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة خلفا للحنفيّة إلى أنّ لمس الرّجل المرأة ينقض الوضوء‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫وقدّره المالكيّة والحنابلة بأن يكون اللّمس لشهوة ‪ .‬وكذا عندهم ينتقض الوضوء بمسّ الفرج ‪.‬‬
‫وسوّوا بين أن يكون العضو الملموس أو الملموس به صحيحا أو أشلّ ‪.‬‬
‫على تفصيل وخلف ينظر في مصطلح ‪ ( :‬حدث ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬صلة الشلّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يأتي المريض أو المصاب بالشّلل بأركان الصّلة الّتي يستطيعها عند جمهور الفقهاء لنّ‬ ‫‪3‬‬

‫العاجز عن الفعل ل يكلّف به ‪.‬‬


‫فإذا عجز عن القيام يصلّي قاعدا بركوع وسجود ‪ ،‬فإن عجز عن ذلك صلّى قاعدا باليماء ‪.‬‬
‫ن سقوط‬
‫ويجعل السّجود أخفض من الرّكوع ‪ ،‬فإن عجز عن القعود يستلقي ويومئ إيماءً ل ّ‬
‫الرّكن لمكان العذر فيتقدّر بقدر العذر ‪.‬‬
‫وروي عن عمران بن الحصين ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أنّه قال ‪ :‬مرضت فعادني رسول اللّه فقال ‪:‬‬
‫» صلّ قائما ‪ ،‬فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ‪ ،‬تومئ إيماءً « ‪.‬‬
‫وقال قاضيخان ‪ :‬تسقط عن المريض العاجز عن اليماء بالرّأس ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬صلة المريض ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الجناية الّتي تسبّب الشّلل ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في وجوب القصاص في الشّلل النّاشئ عن العتداء بالضّرب أو الجرح حيث‬ ‫‪4‬‬

‫زالت المنفعة مع بقاء العضو قائما ‪.‬‬


‫)‪.‬‬ ‫‪36‬‬ ‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬جناية على ما دون النّفس ف‬
‫د ‪ -‬أخذ العضو الصّحيح بالشلّ ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا جنى جان صحيح اليد على يد شلء فقطعها فل تقطع الصّحيحة بالشّلء وكذا إذا كان‬ ‫‪5‬‬

‫المقطوع رجلً أو لسانا أشلّ لعدم التّماثل وإن رضي الجاني فتجب حكومة عدل إلّ إذا كان‬
‫ن اليد أو الرّجل الشّلء ل نفع فيها سوى‬
‫المقطوع أذنا أو أنفا أشلّ فتجب دية العضو كاملةً ‪ .‬ل ّ‬
‫الجمال فل يؤخذ بها ما فيه نفع كالصّحيحة ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪43‬‬ ‫وينظر التّفصيل في ( ديات ف‬
‫هـ – أخذ العضو الشلّ بالصّحيح ‪:‬‬
‫– اتّفق الفقهاء على أنّه يؤخذ العضو الصّحيح بالصّحيح ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫واختلفوا في قطع العضو الشلّ بالصّحيح ‪:‬‬


‫ن المجنيّ عليه بالخيار إن شاء اقتصّ ‪ ،‬وذلك له ‪،‬‬
‫فذهب الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى أ ّ‬
‫ول شيء له غيره ‪ ،‬وإن شاء عفا ‪ ،‬وأخذ الدّية ‪.‬‬
‫ول تقطع إلّ إن قال أهل الخبرة والبصر ‪ :‬بأنّه ينقطع الدّم بالحسم ‪ ،‬أمّا إن قالوا ‪ :‬إنّ الدّم ل‬
‫ينقطع فل قصاص على ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وتجب دية يده ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ل تقطع يد الجاني إذا كانت شلء باليد الصّحيحة ‪ ،‬لعدم المماثلة ‪ ،‬وعليه العقل‬
‫أي‪ :‬الدّية ‪.‬‬
‫ن الشّلل علّة ‪ ،‬والعلل‬
‫وذهب الحنفيّة عدا زفر والمالكيّة إلى أنّ الشّلء ل تقطع بالشّلء ‪ ،‬ل ّ‬
‫يختلف تأثيرها في البدن ‪.‬‬
‫ن بعض الشّلل في يديهما يوجب اختلف أرشيهما ‪ ،‬وذلك يعرف بالحزر‬
‫وعلّل الحنفيّة ذلك ‪ :‬بأ ّ‬
‫والظّنّ ‪ ،‬فل تعرف المماثلة ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى أنّه تقطع الشّلء من يد أو رجل بشلء ولكنّ‬
‫شلّ ‪ ،‬أو كان شلل الجاني أكثر ولم يخف نزف الدّم ‪ ،‬وإلّ فل تقطع ‪.‬‬
‫محلّه إذا استويا في ال ّ‬
‫إلّ أنّ زفر من الحنفيّة قال ‪ :‬إن كانا سوا ًء ففيهما القصاص ‪ ،‬وإن كانت يد المقطوعة يده أقلّهما‬
‫ل فهو بالخيار ‪ ،‬إن شاء قطع وإن شاء ضمّنه الرش ‪ ،‬وإن كانت أكثر شللً ‪ ،‬فل قصاص‬
‫شل ً‬
‫وله أرش يده ‪.‬‬
‫‪ ،‬فقرة ‪-15/‬‬ ‫‪16/‬‬ ‫ولمزيد من التّفصيل ( ر ‪ :‬الموسوعة الفقهيّة ‪ :‬جناية على ما دون النّفس ج‬
‫)‪.‬‬ ‫‪71‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪ ،16‬ص‪70/‬‬

‫و ‪ -‬نكاح الشلّ ‪:‬‬


‫شلّ في غير‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه إن كان الزّوج عنّينا فللزّوجة الخيار ‪ .‬وعليه إن كان ال ّ‬ ‫‪7‬‬

‫عضو الذّكر فل يعدّ من عيوب النّكاح ‪ ،‬لنّه ل يفوّت الستمتاع ول يخشى تعدّيه ‪.‬‬
‫ص أو إجماع أو‬
‫ن الفسخ إنّما يثبت بن ّ‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬فلم يفسخ به النّكاح كالعمى والعرج ‪ ،‬ول ّ‬
‫قياس ول شيء هنا ‪.‬‬
‫ولمزيد من التّفصيل في مسألة العنّين راجع مصطلح ‪ ( :‬عنّين ونكاح ) ‪.‬‬

‫شِمَال *‬
‫انظر ‪ :‬يمين‬

‫شَمّ *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫شمّ في اللّغة ‪ :‬مصدر شممته أشمّه ‪ ،‬وشممته أشمّه شمّا ‪.‬‬
‫‪ -‬ال ّ‬ ‫‪1‬‬

‫س النف ‪ ،‬وإدراك الرّوائح ‪.‬‬


‫والشّمّ ‪ :‬ح ّ‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬تشمّم الشّيء واشتمّه ‪ :‬أدناه من أنفه ليجتذب رائحته ‪.‬‬
‫ول يخرج معنى اللّفظ في الصطلح عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الستنكاه ‪:‬‬
‫‪ -‬جاء في اللّسان ‪ :‬استنكهه ‪ :‬شمّ رائحة فمه ‪ ،‬والسم ‪ :‬النّكهة ‪ .‬ونكهته ‪ :‬شممت ريحه ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫وفي حديث قصّة ماعز السلميّ ‪ » :‬فقام رجل فاستنكهه « ‪ :‬أي شمّ نكهته ورائحة فمه ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫شمّ لجل الخصومات الواقعة في‬
‫ق الشّهود المأمورين بال ّ‬
‫شمّ قد يكون واجبا وذلك في ح ّ‬
‫‪ -‬ال ّ‬ ‫‪3‬‬

‫روائح المشموم حيث يقصد الرّ ّد بالعيب أو يقصد منع الرّدّ إذا حدث العيب عند المشتري ‪.‬‬
‫وكما في شمّ الشّهود فم السّكران لمعرفة رائحة الخمر ‪.‬‬
‫وقد يكون الشّ ّم حراما أو مكروها كش ّم الطّيب للمحرم بالحجّ أو العمرة عند من يقولون بذلك ‪.‬‬
‫وقد يكون مباحا كشمّ الزّهور والرّياحين المباحة والطّيب المباح ‪ .‬إلّ إذا كان طيبا تطيّبت به‬
‫امرأة أجنبيّة فيحرم تعمّد شمّه ‪.‬‬
‫شمّ الصّائم الطّيب ونحوه ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لو أدخل الصّائم إلى حلقه البخور وشمّ رائحته أفطر لمكان‬ ‫‪4‬‬

‫التّحرّز عنه ‪ .‬وإذا لم يصل إلى حلقه ل يفطر ‪ .‬أمّا لو شمّ هواءً فيه رائحة الورد ونحوه ممّا ل‬
‫جسم له فل يفطر عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫وكرهه المالكيّة ‪.‬‬
‫كما يكره عند الشّافعيّة شمّ الرّياحين ونحوها نهارا للصّائم لنّه من التّرفّه ولذلك يسنّ له تركه ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة إذا كان الطّيب مسحوقا كره شمّه لنّه ل يؤمن من شمّه أن يجذبه نفسه للحلق ‪،‬‬
‫ولذلك ل يكره شمّ الورد والعنبر والمسك غير المسحوق ‪.‬‬
‫شمّ المحرم الطّيب ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى كراهة شمّ الطّيب للمحرم ‪ .‬ول فرق عند المالكيّة بين الطّيب‬ ‫‪5‬‬

‫ي من المالكيّة ‪ :‬يحرم شمّ الطّيب المؤنّث ‪.‬‬


‫المذكّر والمؤنّث ‪ .‬وهو مذهب المدوّنة ‪ ،‬وقال الباج ّ‬
‫كذلك يكره عند الشّافعيّة شمّ الطّيب للمحرم ‪ ،‬لكن يؤخذ ممّا جاء في المهذّب وشرحه المجموع‬
‫أنّه يحرم شمّ ما يعتبر طيبا كالورد والمسك والكافور ‪.‬‬
‫واختلف في الرّيحان الفارسيّ والنّرجس والنّيلوفر ونحوه وفيه قولن ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬يجوز شمّها لما روي عن عثمان ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ -‬أنّه سئل عن المحرم ‪:‬‬
‫يدخل البستان ؟ فقال ‪ :‬نعم ويشمّ الرّيحان ‪ ،‬ولنّ هذه الشياء لها رائحة إذا كانت رطبةً فإذا‬
‫جفّت لم يكن لها رائحة ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬ل يجوز ‪ ،‬لنّه يراد للرّائحة فهو كالورد والزّعفران ‪.‬‬
‫وروى البيهقيّ بإسناده عن ابن عبّاس أنّه كان ل يرى بأسا للمحرم بشمّ الرّيحان ‪ ،‬وروى‬
‫ي عكسه عن ابن عمر وجابر فروى بإسنادين صحيحين أحدهما عن ابن عمر أنّه كان‬
‫البيهق ّ‬
‫يكره شمّ الرّيحان للمحرم ‪ ،‬والثّاني عن أبي الزّبير أنّه سمع جابرا يسأل عن الرّيحان أيشمّه‬
‫المحرم ‪ ،‬والطّيب والدّهن فقال ‪ :‬ل ‪.‬‬
‫ي والفواكه كال ّتفّاح والمشمش فيجوز‬
‫وأمّا ما يطلب للكل والتّداوي غالبا كالقرنفل والدّارصين ّ‬
‫أكله وشمّه لنّه ليس بطيب ‪.‬‬
‫ويجوز للمحرم عند الشّافعيّة الجلوس عند العطّار وفي موضع يبخّر لنّ في المنع من ذلك مش ّقةً‬
‫ولنّ ذلك ليس بتطيّب مقصود والمستحبّ أن يتوقّى ذلك إ ّل أن يكون في موضع قربة كالجلوس‬
‫ن الجلوس عندها قربة ‪.‬‬
‫عند الكعبة وهي تجمّر ‪ ،‬فل يكره ذلك ل ّ‬
‫وفصّل الحنابلة فقالوا ‪ :‬النّبات الّذي تستطاب رائحته على ثلثة أضرب ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬ما ل ينبت للطّيب ول يتّخذ منه كنبات الصّحراء من الشّيح والقيصوم والخزامى‬
‫والفواكه كلّها من الترجّ وال ّتفّاح ‪ ،‬وما ينبته الدميّون لغير قصد الطّيب كالحنّاء والعصفر فمباح‬
‫شمّه ول فدية فيه ول نعلم فيه خلفا إلّ ما روي عن ابن عمر أنّه كان يكره للمحرم أن يشمّ‬
‫شيئا من نبات الرض ‪.‬‬
‫ي والنّرجس ففيه وجهان‬
‫الثّاني ‪ :‬ما ينبته الدميّون للطّيب ول يتّخذ منه طيب كالرّيحان الفارس ّ‬
‫‪ :‬أحدهما يباح بغير فدية ‪ ،‬قاله عثمان بن عفّان وابن عبّاس والحسن ومجاهد وإسحاق رضي‬
‫ال عنهم ‪ .‬والخر يحرم شمّه ‪ ،‬فإن فعل فعليه الفدية ‪ ،‬وهو قول جابر وابن عمر وأبي ثور‬
‫رضي ال عنهم لنّه يتّخذ للطّيب فأشبه الورد وكلم أحمد يحتمل أنّه يكره ول يجب فيه شيء ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬ما ينبت للطّيب ويتّخذ منه طيب كالورد والبنفسج ففي شمّه الفدية ‪ ،‬وعن أحمد رواية‬
‫أخرى في الورد أنّه ل فدية عليه في شمّه لنّه زهر فشمّه كشمّ زهر سائر الشّجر ‪.‬‬
‫الجارة للشّمّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم جواز إجارة الشّيء كال ّتفّاح مثلً لشمّه لنّ الرّائحة عند‬ ‫‪6‬‬

‫الحنفيّة منفعة غير مقصودة ‪.‬‬


‫وقال المالكيّة ‪ :‬لنّها ل قيمة لها شرعا ‪.‬‬
‫شمّ لنّ المنفعة متقوّمة ‪.‬‬
‫وأجاز الشّافعيّة استئجار المسك والرّياحين لل ّ‬
‫وفرّق الحنابلة بين ما تتلف عينه وما ل تتلف ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬يجوز استئجار ما يبقى من الطّيب والصّندل وقطع الكافور والنّدّ لتشمّه المرضى‬
‫وغيرهم مدّةً ثمّ يردّها ‪ ،‬لنّها منفعة مباحة فأشبهت الوزن والتّحلّي ‪ .‬ثمّ قال ‪ :‬ول يصحّ‬
‫ي وأشباهه لشمّها ‪ ،‬لنّها‬
‫استئجار ما ل يبقى من الرّياحين كالورد والبنفسج والرّيحان الفارس ّ‬
‫تتلف عن قرب فأشبهت المطعومات ‪.‬‬
‫الجناية على حاسّة الشّمّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الجناية على حاسّة الشّمّ إمّا أن تكون عمدا أو خطأً ‪ .‬فإن كان عمدا كمن شجّ إنسانا فذهب‬ ‫‪7‬‬

‫شمّه فإنّه يقتصّ من الجاني بمثل ما فعل ‪ ،‬فإن ذهب بذلك شمّه فقد استوفى المجنيّ عليه حقّه ‪،‬‬
‫ش ّم بواسطة أهل الخبرة في ذلك ‪ ،‬فإن لم يمكن‬
‫شمّ فعل بالجاني ما يذهب ال ّ‬
‫وإن لم يذهب ال ّ‬
‫إذهاب الشّمّ إ ّل بجناية سقط القود ووجبت الدّية ‪.‬‬
‫وهذا عند المالكيّة والحنابلة وهو الصحّ عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫شمّ فلم يكن‬
‫وعند الحنفيّة تجب الدّية لنّه ل يمكن أن يضرب الجاني ضربا يذهب به حاسّة ال ّ‬
‫استيفاء المثل ممكنا فل يجب القصاص وتجب الدّية ‪ .‬وهو مقابل الصحّ عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫شمّ نتيجة ضرب أو جرح وقع خطأً ‪ ،‬أو كان الضّرب عمدا لكن كان‬
‫وإن كان إبطال حاسّة ال ّ‬
‫شمّ من المنخرين ‪ ،‬لنّه‬
‫الجرح ممّا ل يمكن القصاص فيه فتجب الدّية كامل ًة إذا كان إبطال ال ّ‬
‫ص بمنفعة فكان فيها الدّية كسائر الحواسّ ‪ ،‬قال ابن قدامة ‪ :‬ول نعلم في هذا خلفا‬
‫حاسّة تخت ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬وفي المشا ّم الدّية « ‪.‬‬
‫ولنّ في كتاب عمرو بن حزم عن النّب ّ‬
‫وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ‪ .‬ومقابل الصّحيح عند‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬تجب فيه حكومة لنّه ضعيف النّفع ‪.‬‬
‫شمّ وجب بقسطه من الدّية إذا‬
‫شمّ من أحد المنخرين ففيه نصف الدّية ‪ .‬وإن نقص ال ّ‬
‫وإذا زال ال ّ‬
‫أمكن معرفته وإلّ فحكومة يقدّرها الحاكم بالجتهاد ‪.‬‬
‫ش للطّيّب‬
‫شمّ امتحن في غفلته بالرّوائح الحادّة الطّيّبة والمنتنة ‪ ،‬فإن ه ّ‬
‫ومن ادّعى زوال ال ّ‬
‫وعبس لغيره فالقول قول الجاني بيمينه لظهور كذب المجنيّ عليه ‪ .‬وإن لم يتأثّر بالرّوائح‬
‫ي عليه ‪.‬‬
‫الحادّة ولم يبن منه ذلك ‪ ،‬فالقول قول المجن ّ‬
‫زاد الشّافعيّة ‪ :‬ويحلف لظهور صدقه ‪ ،‬ول يعرف إلّ من قبله ‪.‬‬
‫ي عليه نقص شمّه فالقول قوله مع يمينه عند الشّافعيّة والحنابلة لنّه ل يتوصّل‬
‫وإن ادّعى المجن ّ‬
‫إلى معرفة ذلك إلّ من جهته فقبل قوله فيه ‪ ،‬ويجب له من الدّية ما تخرجه الحكومة ‪.‬‬
‫وإن ذهب شمّه ثمّ عاد قبل أخذ الدّية سقطت وإن كان بعد أخذها ردّها لنّا تبيّنّا أنّه لم يكن‬
‫ذهب‪ .‬وإن رجي عود شمّه إلى مدّة انتظر إليها ‪.‬‬
‫شمّ وحده ‪.‬‬
‫هذا إذا ذهب ال ّ‬
‫ن الشّمّ في‬
‫أمّا إن قطع أنفه فذهب بذلك شمّه فعليه ديتان كما نصّ عليه الشّافعيّة والحنابلة ل ّ‬
‫غير النف فل تدخل أحدهما في الخر ‪.‬‬
‫شمّ في النف كالبصر مع العين ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬فيهما دية واحدة فيندرج ال ّ‬
‫إثبات شرب المسكر بشمّ الرّائحة ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في إثبات الشّرب الّذي يجب به الحدّ بشمّ رائحة الخمر في فم الشّارب ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫وتفصيل ذلك في ( أشربة ) ‪.‬‬

‫شنداخ *‬
‫انظر ‪ :‬إملك ‪ ،‬دعوة‬

‫شهَادَة *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني الشّهادة في اللّغة ‪ :‬الخبر القاطع ‪ ،‬والحضور والمعاينة والعلنية ‪ ،‬والقسم ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والقرار ‪ ،‬وكلمة التّوحيد ‪ ،‬والموت في سبيل اللّه ‪ .‬يقال ‪ :‬شهد بكذا إذا أخبر به وشهد كذا إذا‬
‫حضره ‪ ،‬أو عاينه إلى غير ذلك ‪.‬‬
‫وقد يعدّى الفعل ‪ -‬شهد ‪ -‬بالهمزة ‪ ،‬فيقال ‪ :‬أشهدته الشّيء إشهادا ‪ ،‬أو باللف ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫شاهدته مشاهدةً ‪ ،‬مثل عاينته وزنا ومعنىً ‪.‬‬
‫ص ْمهُ } ‪.‬‬
‫شهْرَ فَلْيَ ُ‬
‫شهِ َد مِنكُمُ ال ّ‬
‫ومن الشّهادة بمعنى الحضور ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬فمَن َ‬
‫قال القرطبيّ في تفسير هذه الية ‪ :‬وشهد بمعنى حضر ‪.‬‬
‫ن إِنَاثا‬
‫حمَ ِ‬
‫جعَلُوا ا ْلمَل ِئ َكةَ الّذِينَ ُهمْ عِبَادُ ال ّر ْ‬
‫ومن الشّهادة بمعنى المعاينة ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬و َ‬
‫شهَادَ ُتهُ ْم وَ ُيسْأَلُونَ } ‪ .‬قال الرّاغب الصفهانيّ في شرح معناها ‪ :‬وقوله ‪:‬‬
‫شهِدُوا خَ ْل َق ُهمْ سَ ُتكْتَبُ َ‬
‫َأ َ‬
‫شهِدُوا خَ ْلقَ ُهمْ } ‪ ،‬يعني مشاهدة البصر ‪.‬‬
‫{ َأ َ‬
‫شهَادَاتٍ بِالّلهِ إِ ّنهُ‬
‫شهَادَةُ َأحَدِ ِهمْ أَرْبَ ُع َ‬
‫ومن الشّهادة بمعنى القسم أو اليمين ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬ف َ‬
‫ن الصّادِقِينَ } ‪ .‬قال ابن منظور ‪ :‬الشّهادة معناها اليمين هاهنا ‪.‬‬
‫َلمِ َ‬
‫شهِدْنَا ِإلّ ِبمَا عَ ِلمْنَا } ‪.‬‬
‫ومن الشّهادة بمعنى الخبر القاطع ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫واستعمالها بهذا المعنى كثير ‪.‬‬
‫سهِمْ بِا ْلكُفْرِ } أي مقرّين فإنّ‬
‫ومن الشّهادة بمعنى القرار ‪ :‬قوله تعالى ‪ { :‬شَاهِدِينَ عَلَى أَن ُف ِ‬
‫الشّهادة على النّفس هي القرار ‪.‬‬
‫وتطلق الشّهادة أيضا على كلمة التّوحيد وهي قولنا ‪ :‬ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬وتسمّى العبارة ‪ :‬أشهد أن‬
‫ل إله إلّ اللّه وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله بالشّهادتين ‪.‬‬
‫ومعناهما هنا متفرّع عن مجموع المعنيين ‪ -‬الخبار والقرار ‪ ، -‬فإن معنى الشّهادة هنا هو‬
‫ن المعنى هو ‪:‬‬
‫العلم والبيان لمر قد علم والقرار العتراف به ‪ ،‬وقد نصّ ابن النباريّ على أ ّ‬
‫أعلم أن ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬وأبيّن أن ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬وأعلم وأبيّن أنّ محمّدا مبلّغ للخبار عن اللّه‬
‫ع ّز وجلّ ‪.‬‬
‫وسمّي النّطق بالشّهادتين بالتّشهّد ‪ ،‬وهو صيغة " تفعّل " من الشّهادة ‪.‬‬
‫وقد يطلق التّشهّد على التّحيّات الّتي تقرأ في آخر الصّلة ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يعلّمهم التّشهّد كما يعلّمهم‬
‫جاء في حديث ابن مسعود ‪ » :‬أ ّ‬
‫القرآن « ‪.‬‬
‫شهَادَةِ } أخرج ابن أبي حاتم عن‬
‫ومن الشّهادة بمعنى العلنية ‪ :‬قوله تعالى ‪ { :‬عَا ِلمُ ا ْلغَيْبِ وَال ّ‬
‫ابن عبّاس أنّه قال في معنى هذه الية ‪ :‬السّرّ والعلنية ‪.‬‬
‫علَ ْيهِم‬
‫ك مَ َع الّذِينَ أَ ْن َعمَ الّلهُ َ‬
‫ومن الشّهادة بمعنى الموت في سبيل اللّه ‪ :‬قوله تعالى ‪ { :‬فَُأوْلَـئِ َ‬
‫شهَدَاء وَالصّا ِلحِينَ } ‪ .‬فهو شهيد قد رزقه اللّه الشّهادة ‪ ،‬جمعه‬
‫مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَال ّ‬
‫شهداء‪.‬‬
‫وفي الصطلح الفقهيّ ‪ :‬استعمل الفقهاء لفظ الشّهادة في الخبار بحقّ للغير على النّفس ‪،‬‬
‫وبيان ذلك في مصطلح ‪ ( :‬إقرار ) ‪.‬‬
‫واستعملوا اللّفظ في الموت في سبيل اللّه وبيانه في مصطلح ‪ ( :‬شهيد ) ‪.‬‬
‫واستعملوه في القسم كما في اللّعان ‪ ،‬وبيانه في ‪ ( :‬اللّعان ) ‪.‬‬
‫ق للغير على الغير في مجلس القضاء ‪ ،‬وهو‬
‫كما استعمل الفقهاء لفظ الشّهادة في الخبار بح ّ‬
‫موضوع البحث في هذا المصطلح ‪.‬‬
‫واختلفوا في تعريف الشّهادة بهذا المعنى ‪:‬‬
‫ق بلفظ الشّهادة في مجلس القضاء ‪.‬‬
‫فعرّفها الكمال من الحنفيّة بأنّها ‪ :‬إخبار صدق لثبات ح ّ‬
‫وعرّفها الدّردير من المالكيّة ‪ :‬بأنّها إخبار حاكم من علم ليقضي بمقتضاه ‪.‬‬
‫ق للغير على الغير بلفظ أشهد ‪.‬‬
‫وعرّفها الجمل من الشّافعيّة بأنّها ‪ :‬إخبار بح ّ‬
‫ي من الحنابلة بأنّها ‪ :‬الخبار بما علمه بلفظ أشهد أو شهدت ‪.‬‬
‫وعرّفها الشّيبان ّ‬
‫ن الشّاهد يخبر عن ما‬
‫وتسميتها بالشّهادة إشارة إلى أنّها مأخوذة من المشاهدة المتيقّنة ‪ ،‬ل ّ‬
‫شاهده والشارة إليها بحديث ابن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬قال ‪ » :‬ذكر عند رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم الرّجل يشهد بشهادة ‪ ،‬فقال لي ‪ :‬يا ابن عبّاس ل تشهد إ ّل على ما يضيء‬
‫لك كضياء هذه الشّمس وأومأ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بيده إلى الشّمس « ‪.‬‬
‫ق في ما اختلف فيه ‪.‬‬
‫وتسمّى " بيّن ًة " أيضا ‪ ،‬لنّها تبيّن ما التبس وتكشف الح ّ‬
‫وهي إحدى الحجج الّتي تثبت بها الدّعوى ‪.‬‬
‫ألفاظ ذات صلة ‪:‬‬
‫القرار ‪:‬‬
‫‪ -‬القرار عند جمهور الفقهاء ‪ :‬الخبار عن ثبوت حقّ للغير على المخبر ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫الدّعوى ‪:‬‬
‫ق قبل الغير أو دفع الخصم عن حقّ‬
‫‪ -‬الدّعوى ‪ :‬قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب ح ّ‬ ‫‪3‬‬

‫نفسه ‪.‬‬
‫فيجمع كلً من القرار والدّعوى والشّهادة ‪ ،‬أنّها إخبارات ‪.‬‬
‫والفرق بينها ‪ :‬أنّ الخبار إن كان عن حقّ سابق على المخبر ‪ ،‬ويقتصر حكمه عليه فإقرار ‪،‬‬
‫وإن لم يقتصر ‪ ،‬فإمّا أن ل يكون للمخبر فيه نفع ‪ ،‬وإنّما هو إخبار عن حقّ لغيره على غيره‬
‫فهو الشّهادة ‪ ،‬وإمّا أن يكون للمخبر نفع فيه لنّه إخبار بحقّ له فهو الدّعوى ‪ ،‬انظر ‪:‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪67/ 6‬‬ ‫الموسوعة الفقهيّة مصطلح ‪ ( :‬إقرار‬
‫البيّنة ‪:‬‬
‫‪ -‬البيّنة ‪ :‬عرّفها الرّاغب بأنّها ‪ :‬الدّللة الواضحة عقل ّيةً أو محسوسةً ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫وعرّفها المجدويّ البركتيّ بأنّها ‪ :‬الحجّة القويّة والدّليل ‪.‬‬


‫وقال ابن القيّم ‪ :‬البيّنة في الشّرع ‪ :‬اسم لما يبيّن الحقّ ويظهره ‪ .‬وهي تار ًة تكون أربعة شهود‪،‬‬
‫وتار ًة ثلثةً بالنّصّ في بيّنة المفلّس ‪ ،‬وتارةً شاهدين وشاهدا واحدا وامرأةً واحدةً ونكولً ويمينا‬
‫أو خمسين يمينا أو أربعة أيمان ‪ ،‬وتكون شاهد الحال ‪ -‬أي القرائن ‪ -‬في صور كثيرة ‪.‬‬
‫وبذلك تكون البيّنة على هذا أعمّ من الشّهادة ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫شهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ }‪.‬‬
‫‪ -5‬تحمّل الشّهادة وأداؤها فرض على الكفاية ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬و َل يَأْبَ ال ّ‬
‫شهَادَةَ ِلّلهِ } ‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وأَقِيمُوا ال ّ‬
‫شهَادَةَ َومَن َيكْ ُت ْمهَا فَإِ ّنهُ آ ِثمٌ َقلْ ُبهُ } ‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬ولَ َتكْ ُتمُواْ ال ّ‬
‫ولنّ الشّهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر المانات ‪ .‬فإذا قام بها العدد الكافي ‪ -‬كما سيأتي ‪ -‬سقط‬
‫الثم عن الجماعة ‪ ،‬وإن امتنع الجميع أثموا كلّهم ‪.‬‬
‫وإنّما يأثم الممتنع إذا لم يتضرّر بالشّهادة ‪ ،‬وكانت شهادته تنفع ‪.‬‬
‫فإذا تضرّر في التّحمّل أو الداء ‪ ،‬أو كانت شهادته ل تنفع ‪ ،‬بأن كان ممّن ل تقبل شهادته ‪ ،‬أو‬
‫كان يحتاج إلى التّبذّل في التّزكية ونحوها ‪ ،‬لم يلزمه ذلك ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬و َل يُضَآ ّر كَاتِ بٌ َولَ‬
‫شهِيدٌ } ‪.‬‬
‫َ‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل ضرر ول ضرار « ‪.‬‬
‫وإن كان ممّن ل تقبل شهادته لم يجب عليه ‪ ،‬لنّ مقصود الشّهادة ل يحصل منه ‪.‬‬
‫و قد يكون تحمّل ها وأداؤ ها أو أحده ما فرضا عينيّا إذا لم ي كن هناك غ ير ذلك العدد من الشّهود‬
‫الّذي يحصل به الحكم ‪ ،‬وخيف ضياع الحقّ ‪.‬‬
‫وهذا الحكم هو في الشّهادة على حقوق العباد ‪ ،‬أمّا حقوق اللّه فتنظر في مصطلح ‪ ( :‬أداء ف‪/‬‬
‫) لبيان الخلف في أفضليّة الشّهادة أو السّتر ‪.‬‬ ‫‪340/‬‬ ‫‪ ،‬ج ‪ ، 2/‬ص‬ ‫‪26‬‬

‫مشروعيّة الشّهادة ‪:‬‬


‫‪ -‬ثبتت مشروعيّة الشّهادة بالكتاب والسّنّة والجماع والمعقول ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫جلٌ‬
‫ن من ّرجَا ِل ُكمْ فَإِن ّلمْ َيكُونَا َرجُلَيْنِ َف َر ُ‬
‫شهِيدَيْ ِ‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫أمّا الكتاب ‪ :‬فقوله تعالى ‪ { :‬وَاسْ َت ْ‬
‫شهَدَاء } ‪.‬‬
‫ن ال ّ‬
‫ن مِ َ‬
‫ضوْ َ‬
‫وَامْ َرأَتَانِ ِممّن تَرْ َ‬
‫وقوله ‪َ { :‬وَأشْهِدُوا َذ َويْ عَ ْد ٍل مّنكُمْ } ‪.‬‬
‫شهَادَةَ } ‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬ولَ َتكْ ُتمُواْ ال ّ‬
‫وأمّا السّنّة ‪ :‬فأحاديث كثيرة منها حديث وائل بن حجر ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ -‬أنّ النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم قال له ‪ » :‬شاهداك أو يمينه « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬البيّنة‬
‫وحديث عبد اللّه بن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬أنّ النّب ّ‬
‫على المدّعي واليمين على المدّعى عليه « والبيّنة هي الشّهادة ‪.‬‬
‫وقد انعقد الجماع على مشروعيّتها لثبات الدّعاوى ‪.‬‬
‫ن الحاجة داعية إليها لحصول التّجاحد بين النّاس ‪ ،‬فوجب الرّجوع إليها ‪.‬‬
‫أمّا المعقول ‪ :‬فل ّ‬
‫أركان الشّهادة ‪:‬‬
‫‪ -‬أركان الشّهادة عند الجمهور خمسة أمور ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫الشّاهد ‪ ،‬والمشهود له ‪ ،‬والمشهود عليه ‪ ،‬والمشهود به ‪ ،‬والصّيغة ‪.‬‬


‫ص ‪ ،‬وهو لفظ " أشهد " عندهم ‪.‬‬
‫وركنها عند الحنفيّة ‪ :‬اللّفظ الخا ّ‬
‫سبب أداء الشّهادة ‪:‬‬
‫ق المدّعي إذا لم‬
‫‪ -‬سبب أداء الشّهادة طلب المدّعي الشّهادة من الشّاهد ‪ ،‬أو خوف فوت ح ّ‬ ‫‪8‬‬

‫يعلم المدّعي كونه شاهدا ‪.‬‬


‫جيّة الشّهادة ‪:‬‬
‫حّ‬
‫ق ول توجبه ‪ .‬ولكن توجب على الحاكم أن يحكم‬
‫‪ -‬الشّهادة حجّة شرعيّة تظهر الح ّ‬ ‫‪9‬‬

‫بمقتضاها‪ .‬لنّها إذا استوفت شروطها مظهرة للحقّ والقاضي مأمور بالقضاء بالحقّ ‪.‬‬
‫شروط الشّهادة ‪:‬‬
‫‪ -‬للشّهادة نوعان من الشّروط ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫شروط تحمّل ‪ ،‬وشروط أدا ًء ‪.‬‬


‫فأمّا شروط التّحمّل ‪ :‬فمنها ‪:‬‬
‫ل وقت التّحمّل ‪ ،‬فل يصحّ تحمّلها من مجنون وصبيّ ل يعقل ‪ ،‬لنّ‬
‫‪ -‬أن يكون الشّاهد عاق ً‬ ‫‪11‬‬

‫تحمّل الشّهادة عبارة عن فهم الحادثة وضبطها ‪ ،‬ول يحصل ذلك إلّ بآلة الفهم والضّبط ‪ ،‬وهي‬
‫العقل ‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون بصيرا ‪ ،‬فل يصحّ التّحمّل من العمى عند الحنفيّة ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى صحّة تحمّله فيما يجري فيه التّسامع‬
‫إذا تيقّن الصّوت وقطع بأنّه صوت فلن ‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون التّحمّل عن علم ‪ ،‬أو عن معاينة للشّيء المشهود به بنفسه ل بغيره ‪ :‬لحديث‬ ‫‪13‬‬

‫ابن عبّاس رضي ال عنهما قال ‪ » :‬ذكر عند رسول اللّه صلى ال عليه وسلم الرّجل يشهد‬
‫بشهادة‪ ،‬فقال لي ‪ :‬يا ابن عبّاس ‪ ،‬ل تشهد إلّ على ما يضيء لك كضياء هذه الشّمس وأومأ‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بيده إلى الشّمس « ‪.‬‬
‫ول يتمّ ذلك إلّ بالعلم ‪ ،‬أو المعاينة ‪ ،‬إلّ فيما تصحّ فيه الشّهادة بالتّسامع ‪ ،‬كالنّكاح ‪ ،‬والنّسب ‪،‬‬
‫والموت ‪ ،‬وغير ذلك ممّا نصّ عليه الفقهاء ‪ .‬أمّا ما سوى ذلك فتشترط فيه المعاينة ‪.‬‬
‫ونصّ الفقهاء على أنّه ل يجوز للشّاهد أن يشهد بما رآه من خطّ نفسه إلّ إذا تذكّر ذلك وتيقّن‬
‫ن الخطّ يشبه الخطّ ‪ ،‬والختم يشبه الختم ‪ ،‬كثيرا ما يقع التّزوير ‪ ،‬فل معوّل إلّ على‬
‫منه ‪ ،‬ل ّ‬
‫التّذكّر ‪.‬‬
‫وذهب أبو يوسف ومحمّد إلى جواز شهادته على ما يجده من خطّ نفسه ‪.‬‬
‫وعن أحمد في ذلك روايتان ‪.‬‬
‫وهذه المسألة مبنيّة على مسألة القاضي يجد في ديوانه شيئا ل يحفظه ‪ ،‬كإقرار رجل أو شهادة‬
‫شهود ‪ ،‬أو صدور حكم منه وقد ختم بختمه ‪ ،‬فإنّه ل يقضي بذلك عند أبي حنيفة ‪ ،‬وعندهما‬
‫يقضي به ‪.‬‬
‫‪ -‬ول يشترط للتّحمّل ‪ :‬البلوغ ‪ ،‬والحرّيّة ‪ ،‬والسلم ‪ ،‬والعدالة ‪ ،‬حتّى لو كان الشّاهد وقت‬ ‫‪14‬‬

‫ي ‪ ،‬وأعتق العبد ‪ ،‬وأسلم‬


‫ل ‪ ،‬أو عبدا ‪ ،‬أو كافرا ‪ ،‬أو فاسقا ‪ ،‬ثمّ بلغ الصّب ّ‬
‫التّحمّل صبيّا عاق ً‬
‫الكافر ‪ ،‬وتاب الفاسق ‪ ،‬فشهدوا عند القاضي قبلت شهادتهم ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا شروط الداء ‪:‬‬ ‫‪15‬‬

‫فمنها ما يرجع إلى الشّاهد ‪.‬‬


‫ومنها ما يرجع إلى الشّهادة ‪.‬‬
‫ومنها ما يرجع إلى المشهود به ‪.‬‬
‫ومنها ما يرجع إلى النّصاب ‪ -‬أي عدد الشّهود ‪. -‬‬
‫أوّلً ‪ :‬ما يرجع إلى الشّاهد ‪:‬‬
‫ل للشّهادة ‪ ،‬وذلك بتوفّر شروطها فيه ‪.‬‬
‫أن يكون الشّاهد أه ً‬
‫ومن تلك الشّروط ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬البلوغ ‪:‬‬
‫شهِيدَيْنِ من ّرجَا ِلكُمْ فَإِن ّلمْ‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫ح شهادة الطفال والصّبيان لقوله تعالى ‪ { :‬وَاسْتَ ْ‬
‫‪ -‬فل تص ّ‬ ‫‪16‬‬

‫جلٌ وَامْ َرأَتَانِ } ‪.‬‬


‫َيكُونَا َرجُلَيْنِ َف َر ُ‬
‫وال صّبيّ ليس من الرّجال لقوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ » : -‬رفع القلم عن ثلثة ‪ :‬عن النّائم‬
‫حتّى يستيقظ ‪ ،‬وعن الصّغير حتّى يكبر ‪ ،‬وعن المجنون حتّى يعقل أو يفيق « ‪.‬‬
‫ولنّه إذا لم يؤمن على حفظ أمواله ‪ ،‬فلن ل يؤمن على حفظ حقوق غيره أولى ‪.‬‬
‫وذهب بعض المالكيّة وبعض الحنابلة إلى جواز شهادة الصّبيان فيما بينهم في الجراح والقتل‬
‫قبل أن يتفرّقوا ‪ ،‬وزاد المالكيّة ‪ :‬أن يتّفقوا في شهادتهم ‪ ،‬وأن ل يدخل بينهم كبير ‪ ،‬واختلف‬
‫في إناثهم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬العقل ‪:‬‬
‫ح شهادة غير العاقل إجماعا ‪ ،‬لنّه ل يعقل ما يقوله ول يصفه ‪.‬‬
‫‪ -‬فل تص ّ‬ ‫‪17‬‬

‫وسواء أذهب عقله بجنون أو سكر وذلك لنّه ليس بمحصّل ول تحصل الثّقة بقوله ‪ ،‬ولنّه ل‬
‫يأثم بكذبه في الجملة ‪ ،‬ول يتحرّز منه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الح ّريّة ‪:‬‬
‫‪ -‬فل تجوز شهادة من فيه رقّ عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬كسائر الوليات ‪ ،‬إذ في الشّهادات‬ ‫‪18‬‬

‫نفوذ قول على الغير ‪ ،‬وهو نوع ولية ‪ ،‬ولنّ من فيه رقّ مشتغل بخدمة سيّده فل يتفرّغ لداء‬
‫الشّهادة ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى قبول شهادته في كلّ شيء إلّ في الحدود والقصاص ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪81‬‬ ‫ص‬ ‫‪23‬‬ ‫قج‬
‫وانظر مصطلح ‪ ( :‬ر ّ‬
‫د ‪ -‬البصر ‪:‬‬
‫ح شهادة العمى عند الحنفيّة مطلقا ‪.‬‬
‫‪ -‬فل تص ّ‬ ‫‪19‬‬

‫ن طريق العلم بها البصر ‪ ،‬وكذا‬


‫وذهب الشّافعيّة إلى أنّه ل تصحّ شهادة العمى في الفعال ‪ ،‬ل ّ‬
‫في القوال إلّ فيما يثبت بالستفاضة ‪ ،‬لنّها مستندها السّماع وليس الرّؤية ‪ ،‬وإلّ في التّرجمة‬
‫بحضرة القاضي لنّه يفسّر ما سمعه ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة تجوز شهادته في القوال دون الفعال فيما ل يشتبه عليه من القوال إذا كان‬
‫فطنا‪ ،‬ول تشتبه عليه الصوات ‪ ،‬وتيقّن المشهود له ‪ ،‬والمشهود عليه ‪ ،‬فإن شكّ في شيء‬
‫منها فل تجوز شهادته ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة تجوز شهادة العمى إذا تيقّن الصّوت لنّه رجل عدل مقبول الرّواية فقبلت‬
‫شهادته كالبصير ‪ ،‬ولنّ السّمع أحد الحواسّ الّتي يحصل بها اليقين ‪ ،‬وقد يكون المشهود عليه‬
‫من ألفه العمى ‪ ،‬وكثرت صحبته له ‪ ،‬وعرف صوته يقينا ‪ ،‬فيجب أن تقبل شهادته ‪ ،‬فيما تيقّنه‬
‫كالبصير‪ ،‬ول سبيل إلى إنكار حصول اليقين في بعض الحوال ‪.‬‬
‫وذهب زفر من الحنفيّة ‪ -‬وهو رواية عن أبي حنيفة ‪ -‬إلى قبول شهادته فيما يجري فيه‬
‫التّسامع‪ ،‬لنّ الحاجة فيه إلى السّماع ‪ ،‬ول خلل فيه ‪.‬‬
‫ن العمى لو تحمّل شهادةً تحتاج إلى البصر ‪ ،‬وهو‬
‫وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫بصير ‪ ،‬ثمّ عمي فإن تحمّل على رجل معروف بالسم والنّسب يقرّ لرجل بهذه الصّفة ‪ ،‬فله أن‬
‫يشهد بعدما عمي ‪ ،‬وتقبل شهادته لحصول العلم ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك لم تقبل ‪.‬‬
‫ح أن يشهد به ‪.‬‬
‫ونصّ الحنابلة على أنّه إن تيقّن صوته لكثرة إلفه له ص ّ‬
‫وكذلك الحكم إن شهد عند الحاكم ‪ ،‬وهو بصير ‪ ،‬ثمّ عمي قبل الحكم بشهادته ‪ ،‬جاز الحكم بها‬
‫عندهم ‪ ،‬وعند أبي يوسف من الحنفيّة ‪ ،‬وذلك لنّه معنىً طرأ بعد أداء الشّهادة فل يمنع الحكم‬
‫بها ‪ ،‬كما لو مات الشّاهدان أو غابا بعد أداء الشّهادة ‪.‬‬
‫ن قيام الهليّة شرط‬
‫وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى عدم قبول شهادته في الحالتين السّابقتين ‪ ،‬ل ّ‬
‫جةً ‪.‬‬
‫وقت القضاء لتصير ح ّ‬
‫هـ – السلم ‪:‬‬
‫– الصل أن يكون الشّاهد مسلما فل تقبل شهادة الكفّار سواء أكانت الشّهادة على مسلم أم‬ ‫‪20‬‬

‫شهِيدَيْنِ من ّرجَا ِلكُمْ } ‪.‬‬


‫شهِدُواْ َ‬
‫على غير مسلم ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَاسْتَ ْ‬
‫وقوله ‪َ { :‬وَأشْهِدُوا َذ َويْ عَ ْد ٍل مّنكُمْ } ‪ .‬والكافر ليس بعدل وليس منّا ولنّه أفسق الفسّاق‬
‫ويكذب على اللّه تعالى فل يؤمن منه الكذب على خلقه ‪.‬‬
‫وعلى هذا الصل جرى مذهب المالكيّة والشّافعيّة والرّواية المشهورة عن أحمد ‪.‬‬
‫لكنّهم استثنوا من هذا الصل شهادة الكافر على المسلم في الوصيّة في السّفر فقد أجازوها عملً‬
‫ن ا ْلوَصِ ّيةِ اثْنَانِ َذوَا‬
‫شهَادَةُ بَيْ ِن ُكمْ إِذَا حَضَ َر أَحَ َد ُكمُ ا ْل َموْتُ حِي َ‬
‫بقوله تعالى ‪ { :‬يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َ‬
‫ن أَن ُتمْ ضَرَبْ ُتمْ فِي الَ ْرضِ َفأَصَابَ ْتكُم مّصِي َبةُ ا ْل َموْتِ } ‪.‬‬
‫ن غَ ْي ِركُمْ إِ ْ‬
‫خرَانِ مِ ْ‬
‫عَ ْدلٍ مّن ُكمْ َأوْ آ َ‬
‫وأجاز الحنفيّة شهادة ال ّذمّيّين بعضهم على بعض ‪ ،‬وإن اختلفت مللهم ‪ ،‬وشهادة الحربيّين على‬
‫أمثالهم ‪.‬‬
‫وأمّا المرت ّد فل تقبل شهادته مطلقا ‪.‬‬
‫و ‪ -‬النّطق ‪:‬‬
‫ح شهادة الخرس عند جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫‪ -‬فل تص ّ‬ ‫‪21‬‬

‫وذهب مالك إلى صحّة شهادته إذا عرفت إشارته ويرى الحنابلة قبول شهادة الخرس إذا أدّاها‬
‫بخطّه ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬العدالة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في اشتراط عدالة الشّهود لقوله تعالى ‪َ { :‬وَأشْهِدُوا َذ َويْ عَ ْدلٍ‬ ‫‪22‬‬

‫مّنكُمْ } ‪ .‬ولهذا ل تقبل شهادة الفاسق ‪.‬‬


‫والعدالة عرّفهـا المالكيّة بالمحافظـة الدّينيّة على اجتناب الكبائر وتوقّي الصـّغائر وأداء المانـة‬
‫وحسن المعاملة وأن يكون صلحه أكثر من فساده وهي شرط وجوب القبول ‪.‬‬
‫وعرّفها الحنابلة بالصّلح في الدّين وهو ‪ :‬أداء الفرائض برواتبها ‪ ،‬واجتناب الكبائر وعدم‬
‫الصرار على الصّغائر ‪ ،‬ويعتبر فيها أيضا استعمال المروءة بفعل ما يجمّله ويزيّنه ‪ ،‬وترك ما‬
‫يدلّسه ويشينه ‪.‬‬
‫واعتبر الشّافعيّة المروءة شرطا مستقلً ‪.‬‬
‫وينظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬عدالة ) ‪.‬‬
‫والعدالة شرط وجوب القبول على القاضي ل جوازه ‪ .‬فإذا توفّرت في الشّاهد وجب على القاضي‬
‫أن يأخذ بشهادته ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّ ‪ :‬إذا كان الغلب على الرّجل والظهر من أمره الطّاعة والمروءة قبلت شهادته ‪،‬‬
‫وإن كان الغلب على الرّجل والظهر من أمره المعصية وخلف المروءة ردّت شهادته ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬التّيقّظ ‪ :‬أو الضّبط ‪:‬‬
‫‪ -‬ل تقبل شهادة مغفّل ل يضبط أصلً أو غالبا لعدم التّوثّق بقوله ‪ ،‬أمّا من ل يضبط نادرا‬ ‫‪23‬‬

‫ن أحدا ل يسلم من ذلك ‪.‬‬


‫والغلب فيه الحفظ والضّبط فتقبل قطعا ‪ ،‬ل ّ‬
‫ط ‪ -‬ألّ يكون محدودا في قذف ‪:‬‬
‫شهَدَاء فَاجْلِدُو ُهمْ‬
‫ن ا ْل ُمحْصَنَاتِ ُثمّ َل ْم يَأْتُوا بِأَرْ َب َعةِ ُ‬
‫ن يَ ْرمُو َ‬
‫‪ -‬وذلك لقوله تعالى ‪ { :‬وَالّذِي َ‬ ‫‪24‬‬

‫شهَادَ ًة أَبَدا َوُأوْلَئِكَ ُه ُم ا ْلفَاسِقُونَ } ‪.‬‬


‫ن جَلْدَةً وَل َتقْبَلُوا َل ُهمْ َ‬
‫َثمَانِي َ‬
‫فإن تاب وأصلح ‪:‬‬
‫ن تَابُوا‬
‫فقد ذهب الجمهور إلى قبول شهادته لقوله تعالى بعد الية السّابقة مباشرةً ‪ { :‬إِل الّذِي َ‬
‫غفُورٌ ّرحِيمٌ } ‪.‬‬
‫ك َوأَصْ َلحُوا َفإِنّ الّل َه َ‬
‫مِن َبعْ ِد ذَلِ َ‬
‫وذهب الحنفيّة إلى عدم قبول شهادته ولو تاب ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل تقبل شهادة المحدود فيما ح ّد فيه وتقبل فيما عداه إن تاب ‪.‬‬
‫ومناط الخلف في هذه الية في ورود الستثناء بعد مذكورين أيشملهم كلّهم أم يعود إلى أقرب‬
‫مذكور ؟‬
‫فعند الحنفيّة أنّ الستثناء يعود إلى الخير وهو هنا التّوبة من الفسق فقط ‪.‬‬
‫وعند الجمهور يعود إلى جميع ما ذكر ‪.‬‬
‫واستدلّ الجمهور بقول عمر – رضي ال تعالى عنه – لمن جلده في شهادته على المغيرة بن‬
‫شعبة بقوله ‪ :‬تب أقبل شهادتك ‪.‬‬
‫وهي مسألة أصوليّة معروفة ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬الذّكورة في الشّهادة على الحدود والقصاص ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط الذّكورة في الشّهادة على الحدود والقصاص ‪.‬‬ ‫‪25‬‬

‫لما رواه مالك عن الزّهريّ ‪ :‬مضت السّنّة بأن ل شهادة للنّساء في الحدود والقصاص ‪.‬‬
‫ك ‪ -‬عدم التّهمة ‪:‬‬
‫‪ -‬للتّهمة أسباب منها ‪:‬‬ ‫‪26‬‬

‫أ ‪ -‬أن يجرّ بشهادته إلى نفسه نفعا أو يدفع ضرّا ‪ ،‬فل تقبل شهادة الوارث لمورّثه بجرح قبل‬
‫اندماله ‪ ،‬ول الضّامن للمضمون عنه بالداء ‪ ،‬ول البراء ‪ ،‬وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ل‬
‫تقبل شهادة أحد الزّوجين للخر وخالف في هذا الشّافعيّة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬البعضيّة ‪ :‬فل تقبل شهادة أصل لفرعه ‪ ،‬ول فرع لصله ‪ ،‬وتقبل شهادة أحدهما على‬
‫الخر‪.‬‬
‫ج ‪ -‬العداوة ‪ :‬فل تقبل شهادة عدوّ على عدوّه ‪ ،‬والمراد بالعداوة هنا ‪ ،‬العداوة الدّنيويّة ل‬
‫الدّينيّة ‪ ،‬فتقبل شهادة المسلم على الكافر ‪ ،‬والسّنّيّ على المبتدع ‪ ،‬وكذا من أبغض الفاسق‬
‫لفسقه ل تر ّد شهادته عليه والعداوة الّتي تر ّد بها الشّهادة أن تبلغ حدّا يتمنّى زوال نعمته ويفرح‬
‫لمصيبته ‪ ،‬ويحزن لمسرّته ‪ ،‬وذلك قد يكون من الجانبين وقد يكون من أحدهما ‪ ،‬فيخصّ بردّ‬
‫شهادته على الخر ‪ ،‬وتقبل شهادة العد ّو لعدوّه إذ ل تهمة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن يدفع بالشّهادة عن نفسه عار الكذب ‪ ،‬فإن شهد فاسق ور ّد القاضي شهادته ثمّ تاب‬
‫بشروط التّوبة فشهادته المستأنفة مقبولة بعد ذلك ‪ ،‬ولو أعاد تلك الشّهادة الّتي ردّت لم تقبل ‪.‬‬
‫هـ – الحرص على الشّهادة بالمبادرة من غير تقدّم دعوى ‪ ،‬وذلك في غير شهادة الحسبة ‪.‬‬
‫و – العصبيّة ‪ :‬فل تقبل شهادة من عرف بها وبالفراط في الحميّة كتعصّب قبيلة على قبيلة وإن‬
‫لم تبلغ رتبة العداوة ‪ .‬نصّ على ذلك الحنابلة ‪.‬‬
‫واستدلّوا لشتراط عدم التّهمة بقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل تجوز شهادة خائن ول خائنة‬
‫ول ذي غمر على أخيه ‪ ،‬ول تجوز شهادة القانع لهل البيت « ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ما يرجع من شروط الداء إلى الشّهادة نفسها ‪:‬‬
‫ومن ذلك ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬اشتراط وجود الدّعوى في الشّهادة على حقوق العباد من المدّعي أو نائبه ‪ .‬أمّا‬ ‫‪27‬‬

‫الشّهادة على حقوق اللّه تعالى فل يشترط فيها وجود الدّعوى على رأي جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬موافقتها للدّعوى ‪ -‬كما سيرد تفصيله ‪. -‬‬
‫ج ‪ -‬العدد في الشّهادة فيما يطّلع عليه الرّجال ‪.‬‬
‫د ‪ -‬اتّفاق الشّاهدين ‪ -‬كما سيرد تفصيله ‪. -‬‬
‫هـ – تعذّر حضور الصل – وهذا في الشّهادة على الشّهادة ‪ -‬كما سيأتي ‪.‬‬
‫و ‪ -‬أن تؤدّى بل فظ الشّهادة بأن يقول ‪ :‬أش هد بكذا وهذا قول الجمهور ‪ ،‬والظ هر ع ند المالكيّة‬
‫أنّه يك في ما يد ّل على ح صول علم الشّا هد كأن يقول ‪ :‬رأ يت كذا أو سمعت كذا ول يشترط أن‬
‫يقول ‪ :‬أشهد ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬ما يرجع من شروط الداء إلى المشهود به ‪:‬‬
‫يشترط في المشهود به ‪:‬‬
‫ن شرط صحّة قضاء‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬أن يكون معلوما ‪ ،‬فإن كانت الشّهادة بمجهول فل تقبل ‪ .‬وذلك ل ّ‬ ‫‪28‬‬

‫القاضي أن يكون المشهود به معلوما ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬كون المشهود به ما ًل أو منفعةً فل ب ّد أن يكون متقوّما شرعا ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬ما يرجع من شروط الداء إلى نصاب الشّهادة ‪:‬‬
‫‪ -‬يختلف عدد الشّهود في الشّهادات بحسب الموضوع المشهود به ‪:‬‬ ‫‪29‬‬

‫أ ‪ -‬من الشّهادات ما ل يقبل فيه أقلّ من أربعة رجال ‪ ،‬ل امرأة بينهم وذلك في الزّنا ‪ ،‬لقوله‬
‫شهَدَاء } الية ‪.‬‬
‫ت ُثمّ َلمْ يَأْتُوا بِ َأرْ َب َعةِ ُ‬
‫تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ َي ْرمُونَ ا ْل ُمحْصَنَا ِ‬
‫شهَدَاء } الية ‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬لوْل جَاؤُوا عَلَ ْيهِ ِبأَرْ َب َعةِ ُ‬
‫شهِدُواْ عَلَ ْيهِنّ أَرْبَع ًة مّنكُمْ } ‪.‬‬
‫حشَ َة مِن ّنسَآ ِئ ُكمْ فَاسْ َت ْ‬
‫ن ا ْلفَا ِ‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَاللّتِي يَأْتِي َ‬
‫ل أأمهله‬
‫وعن أبي هريرة ‪ » :‬أنّ سعد بن عبادة قال يا رسول اللّه إن وجدت مع امرأتي رج ً‬
‫حتّى آتي بأربعة شهداء ؟ قال ‪ :‬نعم « ‪.‬‬
‫ب – نصّ الحنابلة على أنّه إذا ادّعى من عرف بغنىً أنّه فقير لخذ زكاة فل ب ّد من شهادة ثلثة‬
‫رجال ‪ ،‬يشهدون له ‪ .‬لحديث قبيصة ‪ » :‬حتّى يقوم ثلثة من ذوي الحجا من قومه ‪ :‬لقد أصابت‬
‫فلنا فاقة « ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ومنها ما يقبل فيه شاهدان ل امرأة فيهما ‪ ،‬وهو ما سوى الزّنى من الحدود والقصاص ‪،‬‬
‫كالقطع في السّرقة ‪ ،‬وحدّ الحرابة ‪ ،‬والجلد في الخمر ‪ ،‬وهذا باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫ن ما يطّلع عليه الرّجال غالبا ‪ ،‬ممّا ليس بمال ول يقصد منه مال ‪:‬‬
‫وذهب جمهور الفقهاء إلى أ ّ‬
‫كالنّكاح ‪ ،‬والطّلق ‪ ،‬والرّجعة ‪ ،‬واليلء ‪ ،‬والظّهار ‪ ،‬والنّسب ‪ ،‬والسلم ‪ ،‬والرّدّة ‪ ،‬والجرح ‪،‬‬
‫والتّعديل ‪ ،‬والموت والعسار ‪ ،‬والوكالة ‪ ،‬والوصاية ‪ ،‬والشّهادة على الشّهادة ‪ ،‬ونحو ذلك ‪،‬‬
‫فإنّه يثبت عندهم بشهادة شاهدين ل امرأة فيهما ‪.‬‬
‫ودليلهم في ذلك أنّ اللّه تعالى نصّ على شهادة الرّجلين في الطّلق والرّجعة والوصيّة ‪.‬‬
‫شهِدُوا َذ َويْ‬
‫ن ِب َمعْرُوفٍ َأوْ فَارِقُو ُهنّ ِب َمعْرُوفٍ َوَأ ْ‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫فأمّا الطّلق والرّجعة فقوله تعالى ‪ { :‬فَ َأ ْم ِ‬
‫عَ ْدلٍ مّن ُكمْ } ‪.‬‬
‫وأمّا الوصيّة فقوله ‪ { :‬إِذَا حَضَرَ َأحَ َدكُ ُم ا ْل َموْتُ حِينَ ا ْلوَصِ ّي ِة اثْنَانِ َذوَا عَ ْدلٍ مّن ُكمْ } ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال في النّكاح ‪ » :‬ل نكاح إلّ بوليّ وشاهدي عدل « ‪.‬‬
‫وأنّ النّب ّ‬
‫ي أنّه قال ‪ :‬مضت السّنّة بأنّه ل تجوز شهادة النّساء في الحدود ول في‬
‫وروى مالك عن الزّهر ّ‬
‫النّكاح والطّلق ‪.‬‬
‫وقيس عليها ما شاركها في الشّرط المذكور ‪.‬‬
‫د ‪ -‬وقال الحنفيّة ‪ :‬ما يقبل فيه شاهدان ‪ ،‬أو شاهد وامرأتان هو ما سوى الحدود والقصاص‬
‫ق مالً أم غير مال ‪ ،‬كالنّكاح والطّلق والعتاق والوكالة والوصاية ‪.‬‬
‫سواء أكان الح ّ‬
‫جلٌ وَامْ َرأَتَانِ ِممّن‬
‫ن من ّرجَا ِل ُكمْ فَإِن ّلمْ َيكُونَا َرجُلَيْنِ َف َر ُ‬
‫شهِيدَيْ ِ‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫ودليله قوله تعالى ‪ { :‬وَاسْ َت ْ‬
‫شهَدَاء } ‪.‬‬
‫ن ال ّ‬
‫ن مِ َ‬
‫ضوْ َ‬
‫تَرْ َ‬
‫وقصـر الجمهور قبول شهادة الرّجليـن أو الرّجـل والمرأتيـن على مـا هـو مال أو بمعنـى المال ‪،‬‬
‫كالبيـع ‪ ،‬والقالة ‪ ،‬والحوالة ‪ ،‬والضّمان ‪ ،‬والحقوق الماليّة ‪ ،‬كالخيار ‪ ،‬والجـل ‪ ،‬وغيـر ذلك ‪.‬‬
‫وأجازوا فيه أن يثبت بشاهد واحد ويمين المدّعي ‪.‬‬
‫ودليلهم في ذلك ‪ » :‬أنّه صلى ال عليه وسلم قضى بيمين وشاهد « ‪.‬‬
‫ن القاضي إذا قضى بالشّا هد واليمين ل‬
‫ولم يجز الحنفيّة القضاء بالشّاهد واليم ين وذهبوا إلى أ ّ‬
‫ينفذ قضاؤه ‪ ،‬لنّ الثار الّتي وردت في هذا الشّأن ل تثبت عندهم ‪.‬‬
‫هـ – ومنها ما تقبل فيه شهادة النّساء منفردات ‪ ،‬وهو الولدة والستهلل والرّضاع ‪ ،‬وما ل‬
‫يجوز أن يطّلع عليه الرّجال الجانب من العيوب المستورة ‪.‬‬
‫ولكنّهم اختلفوا في العدد الّذي تثبت به هذه المور من النّساء على خمسة أقوال ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬ذهب الحسن البصريّ إلى أنّه تقبل في الولدة شهادة القابلة وحدها ‪ ،‬ول تقبل شهادة‬
‫غير القابلة إلّ مع غيرها ‪ .‬وهو مرويّ عن ابن عبّاس ‪ ،‬ورواية عن أحمد ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ذهب أبو حنيفة إلى أنّه تقبل في ذلك شهادة امرأة واحدة مسلمة حرّة عدلة قابلةً كانت‬
‫أو غيرها ‪ ،‬إ ّل ولدة المطلّقة فل تقبل فيها شهادة الواحدة استدللً بما روي عن حذيفة ‪ -‬رضي‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أجاز شهادة القابلة « ‪.‬‬
‫ال عنه ‪ » : -‬أ ّ‬
‫وبما روي عن عمر وعليّ ‪ -‬رضي ال تعالى عنهما ‪ -‬أنّهما أجازا شهادتها ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬ذهب مالك ‪ ،‬والحكم ‪ ،‬وابن شبرمة وابن أبي ليلى ‪ ،‬وأحمد في إحدى روايتيه إلى أنّه‬
‫ن مقام‬
‫تقبل في ذلك شهادة امرأتين ول يشترط أكثر من ذلك ‪ ،‬لنّهنّ لمّا قمن في انفراده ّ‬
‫الرّجال‪ ،‬وجب أن يقمن في العدد مقام الرّجال ‪ ،‬وأكثر عدد الرّجال اثنان ‪ ،‬فاقتضى أن يكون‬
‫أكثر عدد النّساء اثنتين ‪.‬‬
‫ي أنّه تقبل ثلث نسوة ‪ ،‬ول يقبل أق ّل منهنّ ‪ ،‬وهو مرويّ‬
‫الرّابع ‪ :‬هو ما حكي عن عثمان البتّ ّ‬
‫عن أنس ‪.‬‬
‫ن اللّه ضمّ شهادة المرأتين إلى الرّجل في الموضع الّذي ل ينفردن فيه فوجب أن‬
‫واستدلّ لذلك بأ ّ‬
‫يستبدل الرّجل بالمرأة في الموضع الّذي ينفردن فيه فيصرن ثلثا ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬ذهب الشّافعيّ وعطاء إلى أنّه ل يقبل في ذلك أق ّل من أربع نسوة ‪.‬‬
‫ن اللّه ع ّز وج ّل حيث أجاز الشّهادة انتهى بأقلّها إلى شاهدين ‪ ،‬أو شاهد‬
‫قال الشّافعيّ ‪ :‬ل ّ‬
‫وامرأتين ‪ ،‬فأقام الثّنتين مقام رجل ‪ ،‬حيث أجازهما فإذا أجاز المسلمون شهادة النّساء فيما يغيب‬
‫عن الرّجال لم يجز واللّه أعلم أن يجيزوها إلّ على أصل حكم اللّه ع ّز وجلّ في الشّهادات ‪،‬‬
‫فيجعلون كلّ امرأتين تقومان مقام رجل ‪ ،‬وإذا فعلوا لم يجز إلّ أربع ‪ ،‬وهكذا المعنى في كتاب‬
‫اللّه ‪ -‬عزّ ذكره ‪ -‬وما أجمع عليه المسلمون ‪.‬‬
‫و ‪ -‬ومنها ما تقبل فيه شهادة شاهد واحد ‪ ،‬فتقبل شهادة الشّاهد الواحد العدل بمفرده في إثبات‬
‫رؤية هلل رمضان استدللً بحديث ابن عمر ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬قال ‪ » :‬تراءى النّاس‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّي رأيته فصامه وأمر النّاس بصيامه « ‪.‬‬
‫الهلل ‪ ،‬فأخبرت النّب ّ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ي إلى النّب ّ‬
‫وبحديث ابن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬أنّه قال ‪ » :‬جاء أعراب ّ‬
‫ن محمّدا رسول‬
‫وسلم فقال ‪ :‬إنّي رأيت الهلل ‪ ،‬فقال ‪ :‬أتشهد أن ل إله إلّ اللّه ؟ وأتشهد أ ّ‬
‫اللّه ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬يا بلل أذّن في النّاس أن يصوموا غدا « ‪.‬‬
‫وهو أحد قولي الشّافع يّ والمشهور عن أحمد ‪ ،‬وبه قال الحنفيّة ‪ :‬إن كان بال سّماء علّة من غيم‬
‫أو غبار ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة والحنابلة أنّه تقبل شهادة الطّبيب الواحد في الشّجاج ‪ ،‬والبيطار في عيوب‬
‫الدّوابّ‪.‬‬
‫وقيّده المالكيّة بما إذا كان بتكليف من المام ‪.‬‬
‫وقيّده الحنابلة بما إذا لم يوجد غيره ‪.‬‬
‫حكم الشهاد ‪:‬‬
‫‪ -‬فرّق الفقهاء في وجوب الشهاد على العقود بين عقود النّكاح وغيرها ‪:‬‬ ‫‪30‬‬

‫فذهب جمهورهم إلى أنّ الشهاد على عقد النّكاح واجب وشرط في صحّته ‪ ،‬لقوله صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ » :‬ل نكاح إلّ بوليّ وشاهدي عدل « ‪.‬‬
‫وذهب مالك إلى أنّ الشهاد غير واجب إذا تمّ العلن ‪.‬‬
‫ضحّاك ‪ ،‬وسعيد بن‬
‫أمّا عقود البيوع ‪ ،‬فقد ذهب أبو موسى الشعريّ ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وال ّ‬
‫ن الشهاد واجب ‪.‬‬
‫المسيّب ‪ ،‬وجابر بن زيد ‪ ،‬ومجاهد إلى أ ّ‬
‫قال عطاء ‪َ :‬أشْهِد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم أو أقلّ من ذلك ‪،‬‬
‫شهِ ُدوْاْ إِذَا تَبَا َيعْتُمْ } ‪.‬‬
‫ن اللّه ع ّز وجلّ يقول ‪َ { :‬وَأ ْ‬
‫فإ ّ‬
‫وذهب كثير من الصّحابة والتّابعين ‪ ،‬وجمهور الفقهاء والمفسّرين ‪ ،‬إلى أنّ المر في قوله‬
‫تعالى‪َ { :‬وَأشْهِ ُد ْواْ إِذَا تَبَا َيعْ ُتمْ } للنّدب وليس للوجوب ‪ ،‬لورود الية الّتي بعدها وهي قوله ‪{ :‬‬
‫ضكُم َبعْضا َفلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَ َتهُ } ‪ .‬فدلّ ذلك على أنّ المر فيها محمول على‬
‫ن َأمِنَ َبعْ ُ‬
‫فَإِ ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم جمله واستثنى ظهره‬
‫الستحباب ‪ .‬ولما ورد عن جابر ‪ » :‬أنّه باع النّب ّ‬
‫إلى المدينة « ‪ .‬فدلّ ظاهر الحديث أنّه لم يشهد ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وأشهد ‪ ،‬وباع في أحيان أخرى واشترى ‪ ،‬ورهن درعه عند‬
‫وقد باع النّب ّ‬
‫يهوديّ ‪ ،‬ولم يشهد ‪.‬‬
‫ولو كان الشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرّهن لخوف المنازعة ‪.‬‬
‫ق ‪ ،‬وأمّا ما كثر فربّما‬
‫قال ابن عطيّة ‪ " :‬والوجوب في ذلك قلق ‪ ،‬أمّا في الدّقائق فصعب شا ّ‬
‫يقصد التّاجر الستئلف بترك الشهاد ‪ ،‬وقد يكون عاد ًة في بعض البلد ‪ ،‬وقد يستحى من العالم‬
‫والرّجل الكبير الموقّر فل يشهد عليه ‪ ،‬فيدخل ذلك كلّه في الئتمان ‪ ،‬ويبقى المر بالشهاد ندبا‬
‫لما فيه من المصلحة في الغلب ما لم يقع عذر يمنع منه " ‪.‬‬
‫مستند علم الشّاهد ‪:‬‬
‫شهِدَ بِا ْلحَقّ‬
‫‪ -‬الصل في الشّهادة أن تكون عن مشاهدة وعيان ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬إِل مَن َ‬ ‫‪31‬‬

‫وَ ُهمْ َيعْ َلمُونَ} ‪.‬‬


‫شهِدْنَا ِإلّ ِبمَا عَ ِلمْنَا } ‪.‬‬
‫وقوله تعالى حكايةً عن إخوة يوسف ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫ن الشّهادة تكون بالعلم ‪ ،‬ول تصحّ بغلبة الظّنّ ‪.‬‬
‫فأخبر سبحانه وتعالى أ ّ‬
‫ويستدلّ لذلك بحديث ابن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬قال ‪ » :‬ذكر عند رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم الرّجل يشهد بشهادة ‪ ،‬فقال لي ‪ :‬يا ابن عبّاس ل تشهد إلّ على ما يضيء لك‬
‫‪.‬‬ ‫«‬ ‫كضياء هذه الشّمس وأومأ رسول اللّه بيده إلى الشّمس‬
‫ن الشّهادة يجب أن يكون مستندها أقوى أسباب العلم وهي المشاهدة والعلم‬
‫وهذا يدلّ على أ ّ‬
‫اليقينيّ ‪.‬‬
‫لكنّ المور المشهود بها قد تتفاوت فيما بينها في تحصيل العلم بها ‪:‬‬
‫فمنها ما شأنه أن يعاينه الشّاهد كالقتل ‪ ،‬والسّرقة ‪ ،‬والغصب ‪ ،‬والرّضاع ‪ ،‬والزّنى ‪ ،‬وشرب‬
‫ح أن يشهد الشّاهد هذه المور إ ّل بالمعاينة ببصره ‪.‬‬
‫الخمر ‪ .‬فل يص ّ‬
‫ح للشّاهد أن يشهد بها إلّ بالسّماع والمعاينة ‪ ،‬وإليه ذهب الجمهور في عقود‬
‫فمنها أمور ل يص ّ‬
‫النّكاح ‪ ،‬والبيوع ‪ ،‬والجارات ‪ ،‬والطّلق ‪ ،‬لنّ الصوات قد تشتبه ‪ ،‬ويكتفي الحنابلة فيها‬
‫بالسّماع إذا عرف المتعاقدين يقينا وتيقّن أنّه كلمهما ‪.‬‬
‫ومنها ما يحصل علمه بها عن طريق سماع الخبار الشّائعة المتواترة والمستفيضة ‪ ،‬المرتبة‬
‫السّابقة يكون مصدرها سماعا مستفيضا لم يبلغ في استفاضته حدّ الولى ‪ ،‬وهذه المرتبة هي‬
‫المقصود بكلم الفقهاء عند إطلقهم الحديث على شهادة السّماع ‪ ،‬أو الشّهادة بالسّماع ‪ ،‬أو‬
‫بالتّسامع ‪ .‬وهي الّتي قالوا في تعريفها ‪ " :‬إنّها لقب لما يصرّح الشّاهد فيه باستناد شهادته‬
‫لسماع من غير معيّن فتخرج ‪ -‬بذلك ‪ -‬شهادة البتّ والنّقل " ‪.‬‬
‫وقد اتّفقوا على جواز اعتمادها قضاءً للضّرورة ‪ ،‬أو الحاجة في حالت خاصّة اختلفت كما‬
‫باختلف المذاهب في تحديد مواضع الحاجة ‪ ،‬وضبط القيود الّتي تعود إليها ‪ ،‬والثّابت عند‬
‫ن أكثر المذاهب السلميّة تسامحا في الخذ بها هو المذهب المالكيّ ‪.‬‬
‫الدّارسين أ ّ‬
‫وأفاض المالكيّة في القول فيها أكثر من غيرهم ‪ ،‬حيث بيّن غير واحد منهم أنّ النّظر في شهادة‬
‫السّامع يتناول الجوانب التّالية ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬الصّفة الّتي تؤدّى بها ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّاجح عند المالكيّة الّذي عليه المعوّل أن يقول الشّهود ‪ -‬عند تأديتها ‪ " : -‬سمعنا‬ ‫‪32‬‬

‫سماعا فاشيا من أهل العدالة وغيرهم أنّ هذه الدّار ‪ -‬مثلً ‪ -‬صدقة على بني فلن " ‪ ،‬أي ‪ :‬ل‬
‫بدّ من الجمع بين العدول ‪ ،‬وغير العدول في المنقول عنهم ‪ .‬ويرى بعضهم أنّ عليهم أن يقولوا‬
‫‪ " :‬إنّا لم نزل نسمع من الثّقات ‪ ،‬أو سمعنا سماعا فاشيا من أهل العدل " ‪.‬‬
‫وهو رأي مرجوح عندهم ‪ ،‬لنّ حصر مصدر سماعهم في الثّقات والعدول يخرجها من السّماع‬
‫إلى النّقل وهو موضوع آخر ‪.‬‬
‫قال ابن فرحون ‪ :‬ول يكون السّماع بأن يقولوا ‪ " :‬سمعنا من أقوام بأعيانهم " يسمّونهم أو‬
‫يعرفونهم ‪ ،‬إذ ليست ‪ -‬حينئذ ‪ -‬شهادة تسامع بل هي شهادة على شهادة ‪ ،‬فتخرج عن حدّ‬
‫شهادة السّماع ‪.‬‬
‫وظاهر المدوّنة الكتفاء بقولهم ‪ " :‬سمعنا سماعا فاشيا " ‪ .‬دون احتياج إلى إضافة " من الثّقات‬
‫وغيرهم " حيث ل عبرة بذكر كالنّسب ‪ ،‬والملك ‪ ،‬والموت ‪ ،‬والوقف ‪ .‬فيجوز للشّاهد أن يشهد‬
‫بها معتمدا على التّسامع ‪.‬‬
‫الشّهادة بالسّماع والتّسامع ‪:‬‬
‫الشّهادة بالتّسامع عند التّحقيق تنقسم إلى ثلث مراتب باعتبار درجة العلم الحاصل بها ‪:‬‬
‫المرتبة الولى ‪:‬‬
‫‪ -‬تفيد علما جازما مقطوعا به وهي المعبّر عنها ‪ :‬بشهادة السّماع المتواتر كالسّماع بوجود‬ ‫‪33‬‬

‫مكّة والمدينة وبغداد والقاهرة والقيروان ونحوها من المدن القديمة الّتي ثبت القطع بوجودها‬
‫سماعا عند كلّ من لم يشاهدها مشاهدةً مباشرةً فهذه عند حصولها تكون ‪ -‬من حيث وجوب‬
‫القبول والعتبار ‪ -‬بمنزلة الشّهادة إجماعا ‪.‬‬
‫المرتبة الثّانية ‪:‬‬
‫‪ -‬تفيد ظنّا قويّا يقرب من القطع وهي المعبّر عنها ‪ :‬بالستفاضة من الخلق الغفير ‪:‬‬ ‫‪34‬‬

‫ن نافعا مولى ابن عمر وأنّ عبد الرّحمن بن القاسم من أوثق من أخذ عن المام‬
‫كالشّهادة بأ ّ‬
‫مالك‪ ،‬وأنّ أبا يوسف يعتبر الصّاحب الوّل لبي حنيفة ‪ ،‬وقد ذهب الفقهاء إلى قبول هذه المرتبة‬
‫ووجوب العمل بمقتضاها من ذلك قولهم ‪ :‬إذا رؤي الهلل رؤي ًة مستفيض ًة من جمّ غفير وشاع‬
‫أمره بين أهل البلد لزم الفطر أو الصّوم من رآه ‪ ،‬ومن لم يره دون احتياج إلى شهادة عند‬
‫الحاكم ودون توقّف على إثبات تعديل نقلته ‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل أيضا استفاضة التّعديل والتّجريح عند الحكّام ‪ ،‬والمحكومين ‪:‬‬
‫فمن النّاس من ل يحتاج الحاكم إلى السّؤال عنه لستفاضة عدالته عنده سماعا ‪ ،‬ومنهم من ل‬
‫يسأل عنه لشتهار جرحته ‪ ،‬وإنّما يطالب بالكشف عمّن لم يشتهر ل بهذه ول بتلك ‪.‬‬
‫ن ابن أبي حازم شهد عند قاضي المدينة فقال له‬
‫وقد تناقل الفقهاء ‪ ،‬وأصحاب التّراجم ‪ ،‬أ ّ‬
‫ن عدالة ابن‬
‫القاضي ‪ :‬أمّا السم فاسم عدل ولكن من يعرف أنّك ابن أبي حازم ؟ فدلّ هذا على أ ّ‬
‫أبي حازم ل تحتاج إلى السّؤال عنها ‪ ،‬وهي مشهورة عند القاضي وغيره من النّاس مع أنّه ل‬
‫يعرف شخصه ‪.‬‬
‫المرتبة الثّالثة ‪:‬‬
‫‪ -‬تفيد ظنّا قويّا دون الظّنّ المذكور في العدول في المنقول عنهم خلفا لما يراه مطرّف‬ ‫‪35‬‬

‫وابن ماجشون ‪.‬‬


‫والثّاني ‪ :‬شروط قبولها ‪:‬‬
‫‪ -‬وأهمّها باختصار ‪:‬‬ ‫‪36‬‬

‫ص على أنّه ل يكتفى‬


‫أ ‪ -‬أن تكون من عدلين فأكثر ويكتفى بهما على المشهور ‪ ،‬خلفا لمن ن ّ‬
‫فيها إلّ بأربعة عدول ‪.‬‬
‫ي أو في القبيلة مائة‬
‫ل على السّماع وفي الح ّ‬
‫ب ‪ -‬السّلمة من الرّيب ‪ :‬فإن شهد ثلثة عدول مث ً‬
‫ن شهادتهم تردّ للرّيبة الّتي حفّت‬
‫رجل في مثل سنّهم ل يعرفون شيئا عن المشهود فيه ‪ ،‬فإ ّ‬
‫بها ‪ ،‬فإذا انتفت الرّيبة قبلت ‪ ،‬كما إذا شهد على أمر ما ‪ ،‬شيخان قد انقرض جيلهما ‪ ،‬فل تردّ‬
‫وإن لم يشهد بذلك غيرهما من أهل البلد وكذلك لو شهد عدلن طارئان باستفاضة موت ‪ ،‬أو‬
‫ولية ‪ ،‬أو عزل ‪ ،‬قد حدث ببلدهما وليس معهما ‪ -‬في الغربة ‪ -‬غيرهما ‪ ،‬فإنّ شهادتهما‬
‫مقبولة للغرض نفسه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن يكون السّماع فاشيا مستفيضا ‪ ،‬وهذا القدر محلّ اتّفاق بين الفقهاء داخل المذهب‬
‫المالكيّ وخارجه ‪ .‬إ ّل أنّهم قد اختلفوا كما تقدّم في إضافة ‪ " :‬من الثّقات وغيرهم " أو " من‬
‫الثّقات " فقط ‪ ،‬أو عدم إضافتهما ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن يحلف المشهود له ‪ :‬فل يقضي القاضي لحد بالشّهادة بالتّسامع إلّ بعد يمينه ‪ ،‬لحتمال‬
‫أن يكون أصل السّماع الّذي فشا وانتشر منقولً عن واحد ‪ ،‬والشّاهد الواحد ل ب ّد معه من‬
‫اليمين في الدّعاوى الماليّة ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬محالّها ‪:‬‬
‫أي ‪ :‬المواضع الّتي تقبل فيها شهادة السّماع ‪.‬‬
‫‪ -‬سلك فقهاء المالكيّة بالخصوص ‪ -‬لتحديد هذه المحالّ المرويّة في المذهب ‪ -‬ثلث طرق ‪:‬‬ ‫‪37‬‬

‫أحدها ‪ :‬للقاضي عبد الوهّاب الّذي يروي أنّها مختصّة بما ل يتغيّر حاله ‪ ،‬ول ينتقل الملك فيه ‪،‬‬
‫كالموت ‪ ،‬والنّسب ‪ ،‬والوقف ‪ ،‬ونصّ على قولين في النّكاح ‪.‬‬
‫الثّانية ‪ :‬لبن رشد الجدّ ‪ :‬حكى فيها أربعة أقوال ‪:‬‬
‫تقبل في كلّ شيء ‪ ،‬ل تقبل في شيء ‪ ،‬تقبل في كلّ شيء ما عدا النّسب ‪ ،‬والقضاء والنّكاح‬
‫والموت ‪ ،‬إذ من شأنها أن تستفيض استفاضةً يحصل بها القطع ل الظّنّ ‪ ،‬ورابع القوال عكس‬
‫السّابق ‪ ،‬ل تقبل إلّ في النّسب والقضاء ‪ ،‬والنّكاح والموت ‪.‬‬
‫والثّالثة ‪ :‬لبن شاس ‪ ،‬وابن الحاجب ‪ ،‬وجمهور الفقهاء قالوا ‪ :‬إنّها تجوز في مسائل معدودة ‪،‬‬
‫أوصلها بعضهم إلى عشرين ‪ ،‬وبعضهم إلى إحدى وعشرين ‪ ،‬وبعضهم إلى اثنتين وثلثين‬
‫وأنهاها أحدهم إلى تسع وأربعين ‪ .‬منها ‪ :‬النّكاح ‪ ،‬والحمل ‪ ،‬والولدة ‪ ،‬والرّضاع ‪ ،‬والنّسب ‪،‬‬
‫والموت ‪ ،‬والولء ‪ ،‬والحرّيّة ‪ ،‬والحباس ‪ ،‬والضّرر ‪ ،‬وتولية القاضي وعزله ‪ ،‬وترشيد‬
‫السّفيه ‪ ،‬والوصيّة ‪ ،‬وفي الصّدقات ‪ ،‬والحباس الّتي تقادم أمرها ‪ ،‬وطال زمانها ‪ ،‬وفي السلم‬
‫والرّدّة ‪ ،‬والعدالة ‪ ،‬والتّجريح ‪ ،‬والملك للحائز ‪.‬‬
‫أمّا بقيّة الئمّة فقد أجمعوا على صحّة شهادة التّسامع في النّسب والولدة للضّرورة ‪ ،‬قال ابن‬
‫المنذر ‪ :‬أمّا النّسب ‪ ،‬فل أعلم أحدًا من أهل العلم منع منه ‪ ،‬ولو منع ذلك لستحالت معرفة‬
‫الشّهادة به ‪ ،‬إذ ل سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ول تمكن المشاهدة فيه ‪ ،‬ولو اعتبرت المشاهدة‬
‫لما عرف أحد أباه ول أمّه ول أحدا من أقاربه ‪.‬‬
‫واختلفوا فيما وراء ذلك ‪ :‬فقال الحنابلة وبعض أصحاب الشّافعيّ ‪ :‬تجوز ‪ -‬بالضافة إلى‬
‫المسألتين الوليين ‪ -‬في تسعة أشياء ‪ :‬النّكاح ‪ ،‬والملك المطلق ‪ ،‬والوقف ومصرفه ‪ ،‬والموت ‪،‬‬
‫والعتق ‪ ،‬والولء ‪ ،‬والولية ‪ ،‬والعزل ‪ ،‬معلّلين رأيهم بأنّ هذه الشياء تتعذّر الشّهادة عليها‬
‫غالبا بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها ‪ ،‬فلو لم تقبل فيها الشّهادة بالتّسامع لدّى ذلك إلى الحرج‬
‫والمشقّة ‪ ،‬وتعطيل الحكام وضياع الحقوق ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬أنّها ل تقبل في الوقف ‪ ،‬والولء ‪ ،‬والعتق‬
‫ويرى البعض الخر من أصحاب الشّافع ّ‬
‫ن الشّهادة ممكنة فيها بالقطع حيث إنّها شهادة على عقد كبقيّة العقود ‪.‬‬
‫والزّوجيّة‪ ،‬ل ّ‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬ل تصحّ إلّ في النّكاح والموت والنّسب ‪ ،‬ول تقبل في الملك المطلق ‪ ،‬لنّ‬
‫الشّهادة فيه ل تخرج عن كونها شهاد ًة بمال ‪ ،‬وما دام المر كذلك فهو شبيه بالدّين ‪ ،‬والدّين ل‬
‫تقبل فيه شهادة السّماع ‪ ،‬وأمّا صاحباه فقد نصّا على قبولها في الولء مثل عكرمة مولى ابن‬
‫عبّاس ‪.‬‬
‫شهادة التّوسّم ‪:‬‬
‫‪ -‬قال ابن فرحون ‪ :‬التّوسّم مأخوذ من الوسم وهو التّأثير بحديدة في جلد البعير يكون علمةً‬ ‫‪38‬‬

‫يستدلّ بها ‪.‬‬


‫قال ابن حبيب في الواضحة قال لي مطرّف وابن الماجشون ‪ :‬في القوافل والرّفاق تمرّ بأمّهات‬
‫القرى والمدائن فتقع بينهم الخصومة عند حاكم القرية أو المدينة الّتي حلّوا بها ‪ ،‬أو مرّوا بها ‪،‬‬
‫ن مالكا وجميع أصحابه أجازوا شهادة من شهد منهم لبعضهم على بعض ‪ ،‬ممّن جمعه ذلك‬
‫فإ ّ‬
‫السّفر ‪ ،‬ووجهة تلك المرافقة وإن لم يعرفوا بعدالة ول سخطة إلّ على التّوسّم لهم بالحرّيّة‬
‫صةً من السلف والكرية ‪،‬‬
‫والعدالة وذلك فيما وقع بينهم من المعاملت في ذلك السّفر خا ّ‬
‫والبيوع ‪ ،‬والشربة ‪ ،‬كانوا من أهل بلد واحد ‪ ،‬أو من أهل بلدين متى كان المشهود عليه‬
‫والمشهود له من أهل القرية ‪ ،‬أو المدينة الّتي اختصموا فيها ‪ ،‬أو معروفا من غيرها إذا كان‬
‫ممّن جمعه وإيّاهم ذلك السّفر ‪ ،‬وكذلك تجوز شهادة بعضهم لبعض على كريّهم في كلّ ما عملوه‬
‫به وفيه وعليه في ذلك السّفر قال ‪ -‬أي ‪ :‬مطرّف وابن الماجشون ‪ : -‬وإنّما أجيزت شهادة‬
‫التّوسّم على وجه الضطرار مثل ما أجيزت شهادة النّساء وحدهنّ فيما ل يحضره الرّجال ‪ ،‬مثل‬
‫ق كان‬
‫ما أجيزت شهادة الصّبيان بينهم في الجراحات ‪ .‬قال ‪ :‬ول تجوز شهادة التّوسّم في كلّ ح ّ‬
‫ثابتا في دعواهم قبل سفرهم ‪ ،‬إلّ بالمعرفة والعدالة ‪.‬‬
‫قال ابن الماجشون ‪ :‬ول يمكّن المشهود عليه من تجريح هؤلء الشّهود ‪ ،‬لنّهم إنّما أجيزوا‬
‫على التّوسّم فليس فيهم جرحة إلّ أن يستريب الحاكم فيهم قبل حكمه بشهادتهم بسبب قطع يد ‪،‬‬
‫أو جلد في ظهر فليتثبّت في توسّمه ‪ ،‬فإن ظهر له انتفاء تلك الرّيبة ‪ ،‬وإلّ أسقطهم ‪ .‬قال ‪ :‬ولو‬
‫شهد شاهد وامرأة ‪ ،‬أو عدل ‪ ،‬وتوسّم فيهم أنّ هؤلء الّذين قبلوا بالتّوسّم عبيد أو مسخوطون ‪،‬‬
‫فإن كان قبل الحكم تثبّت في ذلك ‪ :‬وإن كان بعد الحكم بهم فل ير ّد شيء من ذلك إلّ أن يشهد‬
‫عدلن ‪ :‬أنّهما كانا عبدين أو مسخوطين قال ‪ :‬ول يقبل بعضهم على بعض في سرقة ‪ ،‬ول زنا ‪،‬‬
‫ول غصب ‪ ،‬ول تلصّص ‪ ،‬ول مشاتمة ‪ ،‬وإنّما أجيزت في المال في السّفر للضّرورة ‪.‬‬
‫قال ابن الفرس في أحكام القرآن ‪ ،‬وحكى ابن حبيب ذلك يعني شهادة التّوسّم عن مالك‬
‫وأصحابه‪ ،‬وهو خلف ظاهر قول ابن القاسم ‪ ،‬وروايته عن مالك أنّه ‪ ،‬لم يجز شهادة الغرباء‬
‫دون أن تعرف عدالتهم ‪ .‬انتهى ‪.‬‬
‫ن الّذي رواه ابن القاسم في الغرباء حيث ل تكون‬
‫ثمّ قال ابن فرحون ‪ :‬ويمكن الجمع بينهما أ ّ‬
‫ضرورة مثل شهادتهم في الحضر‬
‫أخذ الجرة على الشّهادة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ‪ :‬ل يح ّل للشّاهد أخذ الجرة على أدائه الشّهادة إذا تعيّنت‬ ‫‪39‬‬

‫شهَادَةَ ِلّلهِ } ‪.‬‬


‫عليه لنّ إقامتها فرض ‪ ،‬قال تعالى ‪َ { :‬وأَقِيمُوا ال ّ‬
‫أمّا إذا لم تتعيّن عليه ‪ ،‬وكان محتاجا ‪ ،‬وكان أداؤها يستدعي ترك عمله وتحمّل المشقّة ‪ ،‬فذهب‬
‫جمهور الفقهاء إلى ‪ :‬عدم جواز أخذ الجرة عليها ‪ ،‬لكن له أجرة الرّكوب إلى موضع الداء ‪.‬‬
‫شهِيدٌ } ‪.‬‬
‫قال تعالى ‪َ { :‬و َل يُضَآ ّر كَاتِبٌ َو َل َ‬
‫ـ إنفاق النسـان على عياله فرض‬
‫وذهـب بعـض الشّافعيّـة والحنابلة إلى ‪ :‬الجواز ‪ ،‬وذلك لن ّ‬
‫عيـن ‪ ،‬والشّهادة فرض كفايـة ‪ ،‬فل يشتغـل عـن فرض العيـن بفرض الكفايـة ‪ ،‬فإذا أخـذ الرّزق‬
‫جمع بين المرين ‪ .‬ولنّ الشّهادة وهي لم تتعيّن عليه يجوز أن يأخذ عليها أجرةً كما يجوز على‬
‫كتب الوثيقة ‪.‬‬
‫تعديل الشّهود ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في اشتراط العدالة في الشّاهد ‪ ،‬ول في اعتبار العدالة الحقيقيّة‬ ‫‪40‬‬

‫الحاصلة بالسّؤال والتّزكية ‪ ،‬ولكن اختلفوا في الكتفاء بالعدالة الظّاهرة ‪.‬‬


‫وفي تفصيل ذلك ينظر مصطلح ‪ ( :‬تزكية ) ‪.‬‬
‫تحليف الشّاهد اليمين ‪:‬‬
‫‪ -‬قال ابن القيّم ‪ :‬حكي عن ابن وضّاح ‪ ،‬وقاضي الجماعة بقرطبة ‪ ،‬وهو محمّد بن بشر ‪:‬‬ ‫‪41‬‬

‫ق " ‪ .‬وعن ابن وضّاح أنّه قال ‪ :‬أرى‬


‫أنّه حلّف شهودا في تركة " باللّه أنّ ما شهدوا به لح ّ‬
‫لفساد النّاس أن يحلّف الحاكم الشّهود ‪.‬‬
‫قال ابن القيّم ‪ :‬وهذا ليس ببعيد ‪ .‬وقد شرع اللّه سبحانه تحليف الشّاهدين إذا كانا من غير أهل‬
‫الملّة على الوصيّة في السّفر وكذا ‪ .‬قال ابن عبّاس بتحليف المرأة إذا شهدت في الرّضاع وهو‬
‫إحدى الرّوايتين عن أحمد قال القاضي ‪ :‬ل يحلف الشّاهد على أصلنا إلّ في موضعين وذكر‬
‫هذين الموضعين ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬قال شيخنا ‪ -‬يعني ابن تيميّة ‪ -‬هذان الموضعان قبل فيهما الكافر‬
‫والمرأة وحدها للضّرورة ‪ ،‬فقياسه أنّ كلّ من قبلت شهادته للضّرورة استحلف ‪.‬‬
‫قال ابن القيّم ‪ :‬وإذا كان للحاكم أن يفرّق الشّهود إذا ارتاب بهم فأولى أن يخلّفهم إذا ارتاب بهم‬
‫‪.‬‬
‫الشّهادة على الشّهادة ‪:‬‬
‫‪ -‬قد ل يستطيع الشّاهد المقبول الشّهادة أن يؤدّي الشّهادة بنفسه أمام القضاء ‪ ،‬لسفر ‪ ،‬أو‬ ‫‪42‬‬

‫مرض ‪ ،‬أو عذر من العذار ‪ ،‬فيشهد على شهادته شاهدين تتوفّر فيهما الصّفات الّتي تؤهّلهما‬
‫للشّهادة ‪ ،‬ويطلب منهما تحمّلها والدلء بها أمام القضاء ‪ ،‬فيقوم هذان الشّاهدان مقامه ‪ ،‬في‬
‫نقل تلك الشّهادة إلى مجلس القضاء بلفظها المخصوص في التّحمّل والداء ‪ ،‬لنّ الحاجة تدعو‬
‫إلى ذلك فل تقبل الشّهادة على الشّهادة إلّ عند تعذّر شهود الصل باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫ويشترط الشّافعيّة والحنابلة دوام تعذّر شهود الصل إلى حين صدور الحكم ‪ ،‬فمتى أمكنت شهادة‬
‫الصول قبل الحكم وقف الحكم على سماعها ‪ ،‬ولو بعد سماع شهادة الفروع ‪ ،‬لنّه قدر على‬
‫الصل فل يجوز الحكم بالبدل ‪.‬‬
‫وممّا يجيز للشّاهد أن يشهد على شهادته أن يخاف الموت فيضيع الحقّ ‪ .‬هذا على وجه العموم‪،‬‬
‫وإن كانت آراء الفقهاء متباينةً فيما يجوز من الشّهادة على الشّهادة وما ل يجوز ‪.‬‬
‫ن الشّهادة على الشّهادة جائزة في‬
‫فقد ذهب مالك ‪ ،‬وأبو ثور ‪ ،‬وهو أحد قولي الشّافعيّ ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫سائر المور ما ًل أو عقوبةً ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّها ‪ :‬جائزة في كلّ حقّ ل يسقط بشبهة ‪ ،‬فل تقبل فيما يندرئ‬
‫بالشّبهات كالحدود والقصاص ‪.‬‬
‫قال الحنفيّة وإنّما قلنا بذلك استحسانا ‪.‬‬
‫وجه القياس أنّها عبادة بدنيّة وليست حقّا للمشهود له والنّيابة ل تجزئ في العبادة البدنيّة ‪،‬‬
‫ووجه الستحسان أنّ الحاجة ماسّة إليها ‪ ،‬إذ شاهد الصل قد يعجز عن أداء الشّهادة لمرض أو‬
‫موت أو بعد مسافة ‪ ،‬فلو لم تجز الشّهادة على الشّهادة أدّى إلى ضياع الحقوق ‪ ،‬وصار كتاب‬
‫القاضي إلى القاضي ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى ‪ :‬جواز تحمّل الشّهادة على الشّهادة وأدائها ‪ ،‬وإلى قبول الشّهادة على‬
‫ن الصل‬
‫ن الحاجة تدعو إليها ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي عَ ْدلٍ مّن ُكمْ } ول ّ‬
‫شهِدُوا َذ َو ْ‬
‫الشّهادة لعموم قوله تعالى ‪َ { :‬وَأ ْ‬
‫ن الشّهادة حقّ لزم ‪ ،‬فيشهد عليها كسائر الحقوق ‪ ،‬ولنّها طريق يظهر الحقّ‬
‫قد يتعذّر ‪ ،‬ول ّ‬
‫كالقرار فيشهد عليها ‪ ،‬لكنّها إنّما تقبل في غير عقوبة مستحقّة للّه تعالى ‪ ،‬وغير إحصان ‪،‬‬
‫كالقارير ‪ ،‬والعقود ‪ ،‬والنّسوخ ‪ ،‬والرّضاع ‪ ،‬والولدة ‪ ،‬وعيوب النّساء ‪ .‬سواء في ذلك حقّ‬
‫ق اللّه تعالى كالزّكاة ‪ ،‬وتقبل في إثبات عقوبة الدميّ على المذهب كالقصاص ‪ ،‬وحدّ‬
‫الدميّ وح ّ‬
‫القذف ‪.‬‬
‫أمّا العقوبة المستحقّة للّه تعالى كالزّنى ‪ ،‬وشرب الخمر ‪ ،‬فل تقبل فيها الشّهادة على الشّهادة‬
‫على الظهر ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ‪ :‬إذا شهد شاهد واحد على شهادة أحد الشّاهدين ‪ ،‬وشهد‬ ‫‪43‬‬

‫آخر على شهادة الشّاهد الثّاني ‪ ،‬لم يجز ذلك ‪ ،‬لنّه إثبات قول بشهادة واحد ‪ .‬خلفا للحنابلة‬
‫فإنّهم يجوّزون الشّهادة على هذه الصّورة ‪.‬‬
‫وإن شهد شاهدان على شهادة شاهد ‪ ،‬ثمّ شهدا على شهادة الشّاهد الثّاني في القضيّة نفسها ‪،‬‬
‫فقد ذهب الحنفيّة والحنابلة ‪ -‬وهو قول عند الشّافعيّة ‪ -‬إلى جواز ذلك ‪.‬‬
‫مستدلّين بقول عليّ ‪ -‬رضي ال تعالى عنه ‪ : -‬ل يجوز على شهادة رجل إ ّل شهادة رجلين ‪.‬‬
‫والقول الثّاني ‪ :‬عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه يشترط لكلّ من الصلين اثنان ‪ ،‬لنّ شهادتهما على واحد‬
‫قائمة مقام شهادته ‪ ،‬فل تقوم مقام شهادة غيره ‪.‬‬
‫‪ -‬ول يصحّ تحمّل شهادة مردود الشّهادة ‪ ،‬لسقوطها ‪.‬‬ ‫‪44‬‬

‫ح تحمّل النّسوة للشّهادة على الشّهادة ‪ ،‬لنّ شهادة‬


‫وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه ‪ :‬ل يص ّ‬
‫الفرع تثبت الصل ل ما شهد به ‪ ،‬ولنّ التّحمّل ليس بمال ول المقصود منه المال ‪ ،‬وهو ممّا‬
‫يطّلع عليه الرّجال فلم يقبل فيه شهادة النّساء كالنّكاح ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى جواز شهادة النّساء على شهادة غيرهنّ ‪ ،‬فيما تجوز فيه شهادتهنّ ‪ ،‬إن كان‬
‫معهنّ رجل ‪ ،‬ومنع من ذلك أشهب ‪ ،‬وعبد الملك مطلقا ‪ ،‬وأجاز أصبغ نقل امرأتين عن امرأتين‬
‫فيما ينفردن به ‪.‬‬
‫قال ابن رشد ‪ :‬وقال ابن القاسم ‪ :‬ل يجزئ في ذلك إلّ رجل وامرأتان ‪ ،‬ول تجزئ فيه النّساء ‪،‬‬
‫ن الشّهادة ل تثبت إلّ‬
‫ول تجوز شهادة النّساء على شهادة رجل ‪ ،‬ولو كنّ ألفا ‪ ،‬إلّ مع رجل ‪ ،‬ل ّ‬
‫برجلين أو رجل وامرأتين ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة ‪ :‬إلى صحّة شهادة النّساء ‪ ،‬حيث يقبلن في أصل وفرع ‪ ،‬وفرع فرع ‪ ،‬لنّ‬
‫المقصود إثبات ما يشهد به الصول فدخل فيه النّساء ‪ ،‬فيقبل رجلن على رجل واحد وامرأتين ‪،‬‬
‫ويقبل رجل وامرأتان على مثلهم أو رجلين أصلين أو فرعين في المال وما يقصد به ‪ ،‬وتقبل‬
‫امرأة على امرأة فيما تقبل فيه المرأة ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا فسق الشّاهد الصيل أو ارتدّ ‪ ،‬أو نشأت عنده عداوة للمشهود عليه امتنع القاضي‬ ‫‪45‬‬

‫من قبول شهادة الفرع لسقوط شهادة الصل ‪ .‬ولو حدث الفسق أو الرّدّة بعد الشّهادة وقبل‬
‫الحكم امتنع الحكم ‪.‬‬
‫السترعاء في الشّهادة على الشّهادة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه يشترط السترعاء في الشّهادة على الشّهادة ‪ ،‬والسترعاء هو ‪:‬‬ ‫‪46‬‬

‫طلب الحفظ ‪ ،‬أي ‪ :‬بأن يقول شاهد الصل لشاهد الفرع ‪ :‬اشهد على شهادتي واحفظها ‪ ،‬فللفرع‬
‫ولمن سمعه يقول ذلك ‪ ،‬أن يشهد على شهادته ولو لم يخصّه بالسترعاء ‪ ،‬واستثنوا من ذلك‬
‫ما إذا سمع شاهد الفرع الصل شهادة الشّاهد الصل أمام القاضي ‪ ،‬فإنّه يجوز له أن يشهد على‬
‫شهادته وإن لم يسترعه ‪.‬‬
‫ق بأن يقول ‪ :‬أشهد‬
‫واستثنى الشّافعيّة والحنابلة أيضا ما إذا سمع الفرع الصل يذكر سبب الح ّ‬
‫أنّ لفلن على فلن ألفا من ثمن مبيع أو كقرض أو غير ذلك ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى عدم اشتراطه ‪ ،‬لنّ من سمع إقرار غيره حلّ له الشّهادة وإن لم يقل له‬
‫اشهد‪.‬‬
‫‪ -‬ويؤدّي شاهد الفرع شهادته على الصّفة الّتي تحمّلها من غير زيادة ول نقص ‪ ،‬فإن سمعه‬ ‫‪47‬‬

‫ق ذكره ‪ ،‬وإن سمعه يشهد عند الحاكم ذكره ‪ ،‬وإن‬


‫ق مضاف إلى سبب يوجب الح ّ‬
‫يشهد بح ّ‬
‫أشهده شاهد الصل على شهادته أو استرعاه ‪ ،‬قال ‪ :‬أشهد أنّ فلنا يشهد أنّ لفلن على فلن‬
‫كذا وأشهدني على شهادته وهكذا ‪.‬‬
‫ول يشترط أن يقوم شاهد الفرع بتعديل شاهد الصل ‪ ،‬ويقوم القاضي بالبحث عن العدالة ‪ ،‬فإن‬
‫عدّله الفرع وهو أهل للتّعديل جاز ذلك ‪.‬‬
‫وذهب محمّد بن الحسن ‪ ،‬إلى أنّه ل تقبل شهادة الفرع ما لم يعدّل شاهد الصل ‪ ،‬فإذا لم يعرف‬
‫عدالته لم ينقل الشّهادة عنه ‪.‬‬
‫ن التّحميل لم يثبت ‪ ،‬للتّعارض‬
‫وإن أنكر شهود الصل الشّهادة لم تقبل شهادة شهود الفرع ‪ ،‬ل ّ‬
‫بين الخبرين ‪.‬‬
‫‪ -‬أجاز المالكيّة القضاء بشهادة السترعاء على بعض التّصرّفات الّتي يقوم بها النسان‬ ‫‪48‬‬

‫اضطرارا ‪ ،‬كالطّلق والوقف والهبة ‪ ،‬والتّزويج ونحو ذلك ‪ ،‬وصورتها أن يكتب المسترعى كتابا‬
‫سرّا ‪ ،‬بأنّه إنّما يفعل هذا التّصرّف لمر يتخوّفه على نفسه ‪ ،‬أو ماله ‪ ،‬وأنّه يرجع فيما عقد عند‬
‫أمنه ممّا يتخوّفه ويشهد على ذلك شهود السترعاء ‪.‬‬
‫وقد أورد صاحب تبصرة الحكّام أمثلةً لما يقوله المسترعي ‪ ،‬في وثيقة السترعاء فيما تجوز‬
‫فيه شهادة السترعاء ‪ .‬فقال نقلً عن ابن العطّار ‪ :‬يصدّق المسترعى في الحبس ‪ -‬يعني الوقف‬
‫‪ -‬فيما يذكره من الوجوه الّتي يتوقّعها ويكتب في ذلك ‪ :‬أشهد فلن شهود هذا الكتاب بشهادة‬
‫استرعاء ‪ ،‬واستخفاء للشّهادة ‪ :‬أنّه متى عقد في داره بموضع كذا تحبيسا على بنيه أو على‬
‫أحد من النّاس فإنّما يفعله لمر يتوقّعه على نفسه ‪ ،‬أو على ماله المذكور ‪ ،‬وليمسكه على نفسه‬
‫ويرجع فيما عقد فيه عند أمنه ممّا تخوّفه ‪ ،‬وأنّه لم يرد بما عقده فيه وجه القربة ‪ ،‬ول وجه‬
‫الحبس بل لما يخشاه وأنّه غير ملتزم لما يعقده فيه من التّحبيس وأشهد عليه بذلك في تاريخ‬
‫كذا وكذا ‪.‬‬
‫وممّا ذكروه أيضا أنّه إذا خطب من هو قاهر لشخص بعض بناته فأنكحه المخطوب إليه ‪،‬‬
‫وأشهد شهود السترعاء سرّا ‪ :‬أنّي إنّما أفعله خوفا منه وهو ممّن يخاف عداوته ‪.‬‬
‫وأنّه إن شاء اختارها لنفسه لغير نكاح فأنكحه على ذلك فهو نكاح مفسوخ أبدا ‪.‬‬
‫وإذا بنى ظالم أو من يخاف شرّه غرف ًة محدثةً بإزاء دار رجل وفتح بابا يطّلع منه على ما في‬
‫ن سكوته عنه لخوفه منه على نفسه‬
‫داره على وجه الستطالة لقدرته ‪ ،‬وجاهه ‪ ،‬فيشهد الرّجل أ ّ‬
‫أن يضرّه أو يؤذيه ‪ ،‬وأنّه غير راض بذلك وأنّه قائم عليه بحقّه متى أمكنه ‪ ،‬وتشهد البيّنة‬
‫لمعرفتهم وأنّ المحدث لذلك ممّن يتّقى شرّه ‪ ،‬وينفعه ذلك متى قام بطلب حقّه ‪.‬‬
‫وفي أحكام ابن سهل ‪ :‬من له دار بينه وبين أخيه فباع أخوه جميعها ممّن يعلم اشتراكهما فيها‬
‫وله سلطان ‪ ،‬وقدرة ‪ ،‬وخاف ضرره إذا تكلّم في ذلك ‪ ،‬فاسترعى أنّ سكوته عن الكلم في‬
‫نصيبه وفي الشّفعة في نصيب أخيه لما يتوقّعه من تحامل المشتري عليه ‪ ،‬وإضراره به ‪ ،‬وأنّه‬
‫غير تارك لطلبه متى أمكنه ‪ .‬فإذا ذهبت التّقيّة ‪ ،‬وقام من فوره بهذه الوثيقة أثبتها ‪ ،‬وأثبت‬
‫الملك ‪ ،‬والشتراك ‪ ،‬وأعذر إلى أخيه وإلى المشتري ‪ ،‬قضي له بحقّه وبالشّفعة ‪.‬‬
‫ما يجوز السترعاء فيه ‪:‬‬
‫‪ -‬قال ابن فرحون من المالكيّة ‪ :‬يجوز السترعاء في التّصرّفات الّتي هي من باب التّطوّع ‪:‬‬ ‫‪49‬‬

‫كالطّلق ‪ ،‬والتّحبيس والهبة ‪ ،‬قال المالكيّة ‪ :‬ول يلزمه أن يفعل شيئا من ذلك ‪ ،‬وإن لم يعلم‬
‫السّبب إلّ بقوله ‪ ،‬مثل أن يشهد أنّي إن طلّقت فإنّي أطلّق خوفا من أمر أتوقّعه من جهة كذا ‪،‬‬
‫أو حلف بالطّلق وكان أشهد أنّي إن حلفت بالطّلق فإنّما هو لجل إكراه ونحو ذلك فهذا وما‬
‫ذكرناه معه ل يشترط فيهما معرفة الشّهود والسّبب المذكور ‪.‬‬
‫ول يجوز السترعاء في البيوع مثل أن يشهد قبل البيع أنّه راجع في البيع وأنّ بيعه لمر‬
‫ق للمبتاع إلّ أن‬
‫ن المبايعة خلف ما تطوّع به ‪ .‬وقد أخذ البائع فيه ثمنا ‪ ،‬وفي ذلك ح ّ‬
‫يتوقّعه‪ ،‬ل ّ‬
‫يعرف الشّهود الكراه على البيع أو الخافة فيجوز السترعاء إذا انعقد قبل البيع وتضمّن العقد‬
‫شهادة من يعرف الخافة والتّوقّع الّذي ذكره ‪.‬‬
‫الرّجوع عن الشّهادة ‪:‬‬
‫ن الشّاهدين إن رجعا عن شهادتهما ‪ ،‬فل يخلو رجوعهما أن يكون قبل‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪50‬‬

‫ن الحقّ إنّما‬
‫قضاء القاضي أو بعده ‪ ،‬فإن رجعا عن شهادتهما قبل الحكم سقطت شهادتهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫يثبت بالقضاء ‪ ،‬والقاضي ل يقضي بكلم متناقض ‪ ،‬ول ضمان عليهما ‪ ،‬لنّهما لم يتلفا شيئا‬
‫على المدّعي ‪ ،‬ول على المدّعى عليه ‪.‬‬
‫‪ -‬وإن رجعا بعد الحكم وقبل التّنفيذ ‪:‬‬ ‫‪51‬‬

‫فإن كان في حدّ أو قصاص لم يجز الستيفاء والتّنفيذ ‪ ،‬لنّ هذه الحقوق تسقط بالشّبهة ‪،‬‬
‫والرّجوع شبهة ظاهرة ‪ ،‬فلم يجز الستيفاء لقيام الشّبهة ‪.‬‬
‫ن القضاء قد تمّ ‪ ،‬وليس هذا ممّا يسقط بالشّبهة حتّى‬
‫وإن كان مالً أو عقدا استوفى المال ل ّ‬
‫يتأثّر بالرّجوع ‪ ،‬فل ينتقض الحكم ‪ .‬وعلى الشّهود ضمان ما أتلفوه بشهادتهم لقرارهم على‬
‫أنفسهم بسبب الضّمان ‪ ،‬ول يرجعون على المحكوم له ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا إن رجع الشّهود بعد تنفيذ الحكم ‪:‬‬ ‫‪52‬‬

‫فإنّه ل ينقض الحكم ‪ ،‬ول يجب على المشهود له ر ّد ما أخذه ‪ ،‬لنّه يحتمل أن يكونا صادقين ‪،‬‬
‫ويحتمل أن يكونا كاذبين ‪ ،‬وقد اقترن الحكم والستيفاء بأحد الحتمالين ‪ ،‬فل ينقض برجوع‬
‫محتمل ‪ ،‬وعلى الشّاهدين أن يضمنا ما أتلفاه بشهادتهما ‪.‬‬
‫فإن كان ما شهدا به يوجب القتل ‪ ،‬أو الحدّ ‪ ،‬أو القصاص ‪ :‬نظر ‪ ،‬فإن قال تعمّدنا ليقتل‬
‫بشهادتنا‪ ،‬وجب عليهما القود عند الشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة ‪ ،‬وبه قال ابن أبي ليلى‬
‫ي وأبو عبيد وابن شبرمة ‪.‬‬
‫والوزاع ّ‬
‫ي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬على رجل أنّه سرق فقطعه ‪ ،‬ثمّ‬
‫ن رجلين شهدا عند عل ّ‬
‫لما روى الشّعبيّ أ ّ‬
‫أتياه برجل آخر فقال ‪ :‬إنّا أخطأنا بالوّل ‪ ،‬وهذا السّارق ‪ ،‬فأبطل شهادتهما على الخر ‪،‬‬
‫وضمّنهما دية يد الوّل ‪ ،‬وقال ‪ :‬لو أعلم أنّكما تعمّدتما لقطعتكما ‪.‬‬
‫ولنّهما ألجآه إلى قتله بغير حقّ ‪ ،‬فلزمهما القود كما لو أكرهاه على قتله ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ ،‬وجمهور المالكيّة ‪ :‬إلى أنّه ل قود عليهما ‪ ،‬لنّهما لم يباشرا التلف ‪ ،‬فأشبها‬
‫سكّين ‪ ،‬إذا تلف بهما شيء ‪ ،‬وعليهما الدّية ‪.‬‬
‫حافر البئر ‪ ،‬وناصب ال ّ‬
‫وإن قال الشّهود ‪ :‬أخطأنا ‪ ،‬أو جهلنا كانت عليهم الدّية في أموالهم مخفّفةً مؤجّلةً ‪ ،‬ول تتحمّل‬
‫العاقلة عنهما شيئا ‪ ،‬لنّ العاقلة ل تحمل العتراف ‪.‬‬
‫وإن قالوا ‪ :‬تعمّدنا الشّهادة ولم نعلم أنّه يقتل وهم يجهلون قتله وجبت عليهم دية مغلّظة ‪ ،‬لما‬
‫فيه من العمد ‪ ،‬ومؤجّلة لما فيه من الخطأ ‪.‬‬
‫فإن قالوا ‪ :‬أخطأنا ‪ ،‬وجبت دية مخفّفة ‪ ،‬لنّه خطأ ول تحمله العاقلة لنّها وجبت باعترافهم ‪.‬‬
‫فإن اتّفقوا على أنّ بعضهم تعمّد وبعضهم أخطأ وجب على المخطئ قسطه من الدّية المخفّفة ‪،‬‬
‫وعلى المتعمّد قسطه من الدّية المغلّظة ‪ ،‬ول يجب عليهم القود لمشاركة المخطئ ‪.‬‬
‫وإن اختلفوا ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬تعمّدنا كلّنا ‪ ،‬وقال بعضهم أخطأنا كلّنا ‪ ،‬وجب على المقرّ بعمد‬
‫الجميع القود ‪ ،‬وعلى المق ّر بخطأ الجميع قسطه من الدّية المخفّفة ‪.‬‬
‫رجوع بعض الشّهود ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّه إذا رجع أحد الشّاهدين بعد الحكم وبعد استيفائه في شهادة‬ ‫‪53‬‬

‫نصابها شاهدان ضمن نصف المال أو نصف الدّية ‪ ،‬والعبرة لمن بقي ل لمن رجع ‪.‬‬
‫ولو رجع واحد من أصل أربعة شهود في شهادة نصابها شاهدان أيضا ‪ ،‬فل شيء عليه لبقاء‬
‫نصاب الشّهادة قائما ‪.‬‬
‫وكذا لو رجع اثنان منهم فل شيء عليهما ‪ ،‬لبقاء النّصاب ‪.‬‬
‫ولو رجع ثلثة منهم فعليهم نصف المال ‪ ،‬لبقاء شاهد واحد ‪ ،‬وهو شطر الشّهادة فيتحمّلون‬
‫شطر المال ‪.‬‬
‫ل وامرأتين غرمت الرّاجعة ربع المال ‪.‬‬
‫ولو رجعت امرأة وكان النّصاب رج ً‬
‫ولو شهد عشر نسوة ورجل واحد ‪ ،‬فرجع ثمان منهنّ فل شيء عليهنّ ‪ ،‬لبقاء نصاب الشّهادة ‪.‬‬
‫ولو رجع تسع منهنّ غرمن ربع المال ‪ ..‬وهكذا ‪.‬‬
‫ن كلّ موضع وجب الضّمان فيه على الشّهود بالرّجوع وجب أن يوزّع‬
‫وذهب الحنابلة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫بينهم على عددهم قلّوا أو كثروا ‪.‬‬
‫قال المام أحمد في رواية إسحاق بن منصور عنه ‪ :‬إنّه إذا شهد بشهادة ثمّ رجع وقد أتلف مالً‬
‫فإنّه ضامن بقدر ما كانوا في الشّهادة ‪ ،‬فإن كانوا اثنين فعليه النّصف ‪ ،‬وإن كانوا ثلثةً فعليه‬
‫الثّلث ‪ ،‬وعلى هذا لو كانوا عشر ًة فعليه العشر ‪ ،‬وسواء رجع وحده أو رجعوا جميعا ‪ ،‬وسواء‬
‫رجع الزّائد عن القدر الكافي في الشّهادة أو من ليس بزائد ‪ ،‬فلو شهد أربعة بالقصاص ‪ ،‬فرجع‬
‫واحد منهم ‪ ،‬وقال ‪ :‬عمدنا إلى قتله ‪ ،‬فعليه القصاص ‪ ،‬وإن قال ‪ :‬أخطأنا فعليه ربع الدّية ‪ ،‬وإن‬
‫رجع اثنان فعليهما القصاص ‪ ،‬أو نصف الدّية ‪.‬‬
‫وإن شهد ستّة بالزّنى على محصن فرجم بشهادتهم ثمّ رجع واحد فعليه القصاص أو سدس‬
‫الدّية‪ ،‬وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو ثلث الدّية ‪.‬‬
‫الختلف في الشّهادة ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّهادة إذا وافقت الدّعوى قبلت ‪ ،‬وإن خالفتها لم تقبل ; لنّ تقدّم الدّعوى في حقوق‬ ‫‪54‬‬

‫العباد شرط قبول الشّهادة ‪ ،‬وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها ‪.‬‬
‫وينبغي اتّفاق الشّاهدين فيما بينهما لتكمل الشّهادة ‪.‬‬
‫فإن شهد أحدهما أنّه غصبه دينارا ‪ ،‬وشهد الخر أنّه غصبه ثوبا ‪ :‬فل تكمل الشّهادة على واحد‬
‫من هذين ‪.‬‬
‫‪ -‬ويعتبر اتّفاق الشّاهدين في اللّفظ والمعنى عند أبي حنيفة ‪ .‬وذهب صاحباه أبو يوسف‬ ‫‪55‬‬

‫ومحمّد ‪ :‬إلى أنّ التّفاق في المعنى هو المعتبر ‪.‬‬


‫فإن شهد أحد الشّاهدين بألف والخر بألفين لم تقبل الشّهادة عنده ‪ ،‬لنّهما اختلفا لفظا ‪ ،‬وذلك‬
‫ن اللف ل يعبّر به عن اللفين ‪ ،‬بل هما‬
‫يدلّ على اختلف المعنى لنّه يستفاد باللّفظ ‪ ،‬وهذا ل ّ‬
‫جملتان متباينتان فحصل على كلّ واحد منهما شاهد واحد ‪ ،‬فصار كما إذا اختلف جنس المال ‪.‬‬
‫وعندهما تقبل على اللف إذا كان المدّعي يدّعي اللفين ‪.‬‬
‫وهو رأي الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة ‪ .‬لنّهما اتّفقا على اللف ‪ ،‬وتفرّد أحدهما بالزّيادة فيثبت‬
‫ما اجتمعا عليه دون ما تفرّد به أحدهما ‪ ،‬فصار كاللف واللف والخمسمائة ‪.‬‬
‫أمّا إذا شهد أحدهما بألف والخر بألف وخمسمائة والمدّعي يدّعي ألفا وخمسمائة ‪ :‬قبلت‬
‫الشّهادة على اللف عند الجميع حتّى عند أبي حنيفة لتّفاق الشّاهدين عليها لفظا ومعنىً ‪ ،‬لنّ‬
‫اللف والخمسمائة جملتان عطفت إحداهما على الخرى والعطف يقرّر الوّل ‪.‬‬
‫‪ -‬ومتى كانت الشّهادة على فعل فاختلف الشّاهدان في زمنه ‪ ،‬أو مكانه ‪ ،‬أو صفة له تدلّ‬ ‫‪56‬‬

‫على تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما ‪.‬‬


‫مثل أن يشهد أحدهما أنّه غصبه دينارا يوم السّبت ‪ ،‬ويشهد الخر أنّه غصبه دينارا يوم‬
‫الجمعة‪ ،‬أو يشهد أحدهما أنّه غصبه بدمشق ‪ ،‬ويشهد الخر أنّه غصبه بمصر ‪ ،‬أو يشهد‬
‫أحدهما أنّه غصبه ثوبا أبيض ويشهد الخر أنّه غصبه ثوبا أسود ‪ :‬فل تكمل الشّهادة ‪ ،‬لنّ كلّ‬
‫فعل لم يشهد به شاهدان ‪.‬‬
‫تعارض الشّهادات ‪:‬‬
‫‪ -‬قد يكون كلّ من الخصمين مدّعيا ويقيم على دعواه بيّن ًة ‪ -‬شهادةً ‪ -‬كاملةً ‪ ،‬فإمّا أن تكون‬ ‫‪57‬‬

‫الدّعوى في ملك مطلق أو في ملك مقيّد بذكر سبب التّملّك ‪.‬‬


‫فإن كانتا في ملك مطلق ‪ ،‬لم يذكر فيه سبب التّملّك ‪ ،‬ولم يبيّن في الدّعوى تاريخا على ما ذكره‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬فإمّا أن يكون الشّيء المدّعى به في يد أحدهما أو في يد غيرهما أو في يدهما معا ‪.‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬فإن كان الشّيء في يد أحدهما ‪ :‬فبيّنة الخارج أولى من بيّنة ذي اليد عند الحنفيّة‬ ‫‪58‬‬

‫‪ » :‬البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه«‬ ‫وهي الرّواية المشهورة عن أحمد لقوله‬
‫ى عليه ‪ ،‬فجعل جنس البيّنة في جانب‬
‫ولنّ المدّعي هو الّذي يدّعي ما في يد غيره وذو اليد مدّع ً‬
‫المدّعي ‪ ،‬وهو الّذي يدّعي ما في يد غيره ‪ ،‬وهو الخارج ‪ ،‬فتقبل بيّنته وتر ّد بيّنة اليد ‪ ،‬ولنّها‬
‫أكثر إثباتا ‪ ،‬لنّها تثبت الملك للخارج ‪ ،‬وبيّنة ذي اليد ل تثبته ‪ ،‬لنّ الملك ثابت له باليد ‪ ،‬وإذا‬
‫كانت أكثر إثباتا كانت أقوى ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬إلى ترجيح بيّنة ذي اليد ‪ ،‬لنّ البيّنتين متعارضتان ‪ ،‬فتبقى اليد دليلً‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم اختصم إليه رجلن‬
‫على الملك ‪ ،‬ودليلهم على ذلك ما روي ‪ » :‬أ ّ‬
‫في دابّة أو بعير ‪ ،‬فأقام كلّ واحد منهما البيّنة بأنّها له نتجها ‪ ،‬فقضى بها رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم للّذي هي في يده « ‪.‬‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬أمّا إذا كان الشّيء في يد غيرهما ‪:‬‬ ‫‪59‬‬

‫فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّه ينظر ‪ :‬إن ‪ :‬لم يؤرّخا وقتا ‪ ،‬قضي بالشّيء بينهما نصفين لستوائهما‬
‫في السّبب ‪ ،‬وكذا إذا أرّخا وقتا بعينه ‪ .‬وإذا أرخت إحداهما تاريخا أسبق من الثّانية ‪ :‬فالسبق‬
‫أولى ‪ ،‬لنّهما يعتبران خارجين ‪ ،‬لوجودها عند غيرهما ‪ ،‬فينطبق عليهما وصف " المدّعي "‬
‫فتسمع بيّنتهما ‪ ،‬ويحكم للسبق ‪ ،‬لنّ السبق يثبت الملكيّة في وقت ل ينازعه فيه أحد ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّه ‪ :‬إن تعذّر ترجيح إحدى البيّنتين بوجه من المرجّحات ‪ ،‬والحال أنّ‬
‫المتنازع فيه في يد غيرهما ‪ :‬سقطتا ‪ ،‬لتعارضهما ‪ ،‬وبقي المتنازع فيه بيد حائزه ‪ .‬وفي ذلك‬
‫صور متعدّدة ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّه إذا ادّعى كلّ منهما عينا وهي في يد ثالث ‪ ،‬وهو منكر ولم ينسبها‬
‫لحدهما ‪ ،‬وأقام كلّ منهما بيّنةً ‪ ،‬وكانتا مطلّقتي التّاريخ أو متّفقتيه ‪ ،‬أو إحداهما مطلقةً‬
‫والخرى مؤرّخةً ‪ :‬سقطت البيّنتان ‪ ،‬لتناقض موجبيهما ول مرجّح ‪ ،‬ويحلف صاحب اليد لكلّ‬
‫منهما يمينا ‪ .‬وفي قول ‪ :‬تستعمل البيّنتان ‪ ،‬وتنزع العين ممّن هي في يده ‪ ،‬وعلى هذا تقسم‬
‫بين المدّعيين مناصفةً في قول ‪ ،‬وفي قول آخر يقرع بينهما ‪ ،‬ويرجّح من خرجت قرعته ‪.‬‬
‫وفي قول ثالث ‪ :‬توقف حتّى يبين المر أو يصطلحا على شيء ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة ‪ :‬إلى أنّه إن أنكر الثّالث دعوى المدّعيين ‪ ،‬فقال ‪ :‬ليست لهما ول لحدهما ‪:‬‬
‫أقرع بين المدّعيين ‪ ،‬وإن كان لحدهما بيّنة ‪ :‬حكم له بها ‪ ،‬وإن كان لكلّ من المدّعيين بيّنة ‪:‬‬
‫تعارضتا لتساويهما في عدم اليد ‪ ،‬فتسقطان لعدم إمكان العمل بإحداهما ‪.‬‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬أمّا إذا كان الشّيء في يدهما معا ‪:‬‬ ‫‪60‬‬

‫فقد ذهب الحنفيّة إلى التّفصيل ‪ :‬فإن لم تؤرّخا تاريخا ‪ ،‬وكذا إذا أرّختا تاريخا معيّنا وكان‬
‫تاريخهما سوا ًء ‪ :‬قضي لكلّ واحد منهما بالنّصف الّذي في يد الخر ‪ ،‬لنّ كلّ واحد بالنّسبة لهذا‬
‫النّصف خارج فهو مدّع والبيّنة للمدّعي ‪.‬‬
‫وإن أرّخت إحداهما دون الخرى ‪ :‬قضي بينهما نصفين عند أبي حنيفة ومحمّد ‪ ،‬ول عبرة‬
‫بالتّاريخ للحتمال ‪ ،‬وعند أبي يوسف هو لصاحب التّاريخ ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى بقاء العين في أيديهما كما كانت على الصّحيح ‪ ،‬وهو تساقط البيّنتين ‪ ،‬إذ‬
‫ليس أحدهما بأولى بها من الخر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬تجعل بينهما على قول القسمة ‪ ،‬ول يجيء القول‬
‫بالوقف ‪ ،‬إذ ل معنى له ‪ ،‬وفي القرعة وجهان ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة ‪ :‬إلى أنّ المتنازعين إن كان لكلّ منهما بيّنة وتساوت البيّنتان من كلّ وجه ‪:‬‬
‫ن كلً منهما تنفي ما تثبته الخرى ‪ ،‬فل يمكن العمل بهما ‪ ،‬ول بإحداهما‬
‫تعارضتا وتساقطتا ‪ ،‬ل ّ‬
‫فتتساقطان ‪ ،‬ويصير المتنازعان كمن ل بيّنة له ‪ ،‬فيتحالفان ‪ ،‬ويتناصفان ما بأيديهما ‪.‬‬
‫وذهب بعض المالكيّة ‪ :‬إلى ترجيح إحداهما بزيادة العدالة في البيّنة الصليّة ل المزكّية ‪ ،‬وفي‬
‫رأي بعضهم ترجّح بزيادة العدد إذا أفادت الكثرة العلم ‪ ،‬بحيث تكون الكثرة جمعا يستحيل‬
‫تواطؤهم على الكذب ‪.‬‬
‫‪ -‬وإن كانتا في ملك مقيّد بسببه ‪:‬‬ ‫‪61‬‬

‫وذلك بأن يذكر الملك عن طريق الرث مثلً أو عن طريق الشّراء أو النّتاج ‪.‬‬
‫ففي الرث يقضى به للخارج ‪ ،‬إلّ إذا كانت إحداهما أسبق ‪ ،‬فيقضى به للسبق ‪.‬‬
‫أمّا إذا كانا خارجين ‪ ،‬بأن كان الشّيء عند غيرهما ‪ ،‬فيقسم الشّيء بينهما ‪ ،‬أو يقضى به‬
‫للسبق إذا ذكرا تاريخا ‪.‬‬
‫وفي الشّراء ‪ :‬إذا ادّعى كلّ واحد منهما الشّراء من صاحبه ول تاريخ لهما ‪ ،‬وكذا إن أرّخا‬
‫وتاريخهما سواء ‪ ،‬تعارضتا وسقطتا ‪ ،‬ويترك الشّيء للّذي في يده ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان أحدهما أسبق ‪ :‬فإنّه يقضى له ‪ ،‬وإذا ادّعيا الشّراء من شخص آخر يقضى لهما‬
‫بالشّيء نصفين ‪.‬‬
‫وفي النّتاج ‪ :‬بأن يذكر أنّ هذه النّاقة نتجت عنده ‪ ،‬أي ‪ :‬ولدت في ملكه ‪ ،‬فيكون صاحب اليد‬
‫أولى إذا لم يؤرّخا ‪ ،‬أو أرّخا وقتا واحدا ‪ ،‬لنّ النّتاج ل يتكرّر ‪.‬‬
‫ن رجلين اختصما في ناقة ‪ ،‬فقال ‪ :‬كلّ واحد منهما ‪ :‬نتجت هذه النّاقة عندي ‪.‬‬
‫لما روي ‪ » :‬أ ّ‬
‫وأقاما بيّن ًة فقضى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم للّذي هي في يده « ‪.‬‬
‫أمّا ما يتكرّر سببه ‪ ،‬كالبناء ‪ ،‬والنّسج ‪ ،‬والصّنع ‪ ،‬والغرس ‪ :‬فبيّنة الخارج أولى ‪.‬‬
‫أمّا إذا ذكر أحدهما الملك والخر النّتاج ‪ :‬فبيّنة النّتاج أولى لنّها تثبت أوّليّة الملك لصاحبه ‪.‬‬
‫وجاء في مجلّة الحكام العدليّة ما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إذا ادّعى أحد الشّخصين الملك بالستقلل وادّعى الخر الملك بالشتراك في مال ‪ ،‬والحال‬
‫ل منهما متصرّف أي ذو يد ‪ :‬فبيّنة الستقلل أولى ‪.‬‬
‫أنّ ك ً‬
‫ب ‪ -‬ترجّح بيّنة التّمليك على بيّنة العاريّة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ترجّح بيّنة البيع على بيّنة الهبة والرّهن والجارة وترجّح بيّنة الجارة على بيّنة الرّهن ‪.‬‬
‫صحّة على بيّنة مرض الموت ‪.‬‬
‫د ‪ -‬ترجّح بيّنة ال ّ‬
‫هـ ‪ -‬ترجّح بيّنة العقل على بيّنة الجنون أو العته ‪.‬‬
‫و ‪ -‬ترجّح بيّنة الحدوث على بيّنة القدم ‪.‬‬
‫كثرة العدد وقوّة عدالة الشّاهد ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا أقام ك ّل واحد من المتداعيين بيّنةً على ما ادّعاه ولم يكن بين البيّنتين من المرجّحات‬ ‫‪62‬‬

‫سوى كثرة إحداهما على الخرى بأن كانت الولى عشرة شهود وكانت الثّانية شاهدين فقط ‪ ،‬أو‬
‫ترجّحت إحداهما بزيادة العدالة بأن كانت أظهر زهدا وأوفر تحرّجا من الخرى ‪.‬‬
‫فهل تترجّح إحداهما على الخرى ؟ ‪.‬‬
‫ذهب بعض الفقهاء من المالكيّة إلى ترجيحها بزيادة العدد وقوّة العدالة ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو المذهب عند الشّافعيّة ‪ ،‬وقول جمهور المالكيّة ‪ :‬إلى أنّه ل يغلّب‬
‫الحكم بالبيّنة الزّائدة في العدد والعدالة وإنّما هما سواء ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى نصّ على عدد الشّهادة‬
‫ن من ّرجَا ِل ُكمْ } وبقوله ‪َ { :‬وَأشْهِدُوا َذ َويْ عَ ْد ٍل مّنكُمْ } ‪.‬‬
‫شهِيدَيْ ِ‬
‫شهِدُواْ َ‬
‫بقوله ‪ { :‬وَاسْ َت ْ‬
‫ص من الجتهاد في الزّيادة والنّقصان ‪ ،‬ولنّه لمّا جاز القتصار على الشّاهدين مع‬
‫فمنع النّ ّ‬
‫وجود من هو أكثر ‪ ،‬وعلى قبول العدل مع من هو أعدل ‪ ،‬دلّ على أنّه ل تأثير لزيادة العدد‬
‫وقوّة العدالة ‪.‬‬
‫شهادة البداد ‪:‬‬
‫‪ -‬البداد ‪ :‬هم المتفرّقون ‪ ،‬واحدهم بدّ ‪ ،‬من التّبديد ‪ ،‬لنّ الشّهود شهدوا في ذلك متفرّقين ‪،‬‬ ‫‪63‬‬

‫واحد هنا وآخر في موضع آخر ‪ ،‬وواحد اليوم وواحد غدا ‪ ،‬وواحد على معنىً ‪ ،‬وواحد على‬
‫معنىً آخر ‪.‬‬
‫قال المالكيّة ‪ :‬الّذين انفردوا ببيان أحكام هذه الشّهادة ‪ :‬تجوز شهادة البداد في النّكاح ‪ ،‬وهي‬
‫أن ل يجتمع الشّهود على شهادة الوليّ والزّوج ‪ ،‬بل إنّما عقدوا وتفرّقوا ‪ ،‬وقال كلّ واحد‬
‫لصاحبه ‪ " :‬أشهد من لقيت " هكذا فسّروه بناءً على المشهور من المذهب ‪ ،‬أنّ الشّهادة ليست‬
‫شرطا في صحّة العقد ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬واثنان على الزّوج ‪ ،‬واثنان على‬
‫فتتمّ عندهم بشهادة ستّة شهود ‪ :‬منهم اثنان على الول ّ‬
‫الزّوجة إن كانت ثيّبا ‪ .‬وفي البكر ذات الب تتمّ بأربعة ‪ :‬منهم شاهدان على الزّوج وشاهدان‬
‫على الوليّ ‪.‬‬
‫وأمّا إن أشهد كلّ واحد منهم الشّهود الّذين أشهدهم صاحبه مرّ ًة بعد مرّة فليست شهادة أبداد ‪.‬‬
‫ص ما شهد به‬
‫قال ابن الهنديّ ‪ :‬شهادة البداد ل تعمل شيئا ‪ ،‬إذا شهد كلّ واحد منهم بغير ن ّ‬
‫ص واحد ‪.‬‬
‫صاحبه ‪ ،‬وإن كان معنى جميع شهاداتهم واحدا ‪ ،‬حتّى يتّفق منهم شاهدان على ن ّ‬
‫لكن في المذهب خلف فيما قاله ابن الهنديّ ‪ ،‬ففي أحكام ابن سهل سئل مالك عن شاهدين شهد‬
‫أحدهما في منزل أنّه مسكن هذا ‪ ،‬وشهد آخر أنّه حيزه ‪ ،‬فقال خصمه ‪ :‬قد اختلفت شهادتهما ‪.‬‬
‫فقال مالك ‪ :‬مسكنه وحيزه شهادة واحدة ل تفترق ‪.‬‬
‫شهادة الستخفاء أو الستغفال ‪:‬‬
‫‪ -‬المستخفي هو الّذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع قراره ول يعلم به ‪ ،‬كأن يجحد‬ ‫‪64‬‬

‫الحقّ علنيةً ويق ّر به سرّا ‪ ،‬فيختبئ شاهدان في موضع ل يعلم بهما المقرّ ليسمعا إقراره ‪،‬‬
‫وليشهدا به من بعد ‪ ،‬فشهادتهما مقبولة عند جمهور الفقهاء ورواية عن أحمد ‪.‬‬
‫ن الحاجة تدعو إليه ‪.‬‬
‫وقيّده المالكيّة بما إذا كان المشهود عليه غير مخدوع ول خائن ل ّ‬
‫ن اللّه‬
‫وذهب بعضهم وهي الرّواية الثّانية عن أحمد ‪ :‬إلى أنّه ل تسمع شهادة المستخفي ‪ ،‬ل ّ‬
‫جسّسُوا }‬
‫تعالى يقول ‪ { :‬وَل َت َ‬
‫شهادة الزّور ‪:‬‬
‫‪ -‬شهادة الزّور من الكبائر ‪ .‬ول يجوز العمل بها ول تقبل شهادته فيما بعد لحديث أبي بكرة‬ ‫‪65‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أل أنبّئكم بأكبر الكبائر ثلثا قالوا ‪ :‬بلى يا رسول اللّه‬
‫قال ‪ :‬قال النّب ّ‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬الشراك باللّه ‪ ،‬وعقوق الوالدين ‪ -‬وجلس وكان متّكئا ‪ -‬فقال ‪ :‬أل وقول الزّور ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فما زال يكرّرها حتّى قلنا ‪ :‬ليته سكت « ‪.‬‬
‫ولنّ فيها رفع العدل ‪ ،‬وتحقيق الجور ‪.‬‬
‫فإذا أقرّ شخص أنّه شهد بزور أو قامت البيّنة على ذلك ‪ ،‬قال أبو حنيفة ‪ :‬يشهّر به في‬
‫السّوق ‪ ،‬إن كان من أهل السّوق أو في قومه أو محلّته بعد صلة العصر في مكان يجتمع فيه‬
‫النّاس ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إنّا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذّروا النّاس منه ‪.‬‬
‫ول يحبس ول يعزّر بالضّرب لتحقّق القصد وهو النزجار ‪.‬‬
‫وكان شريح يشهّره ول يضربه ‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف ومحمّد ‪ :‬نوجعه ضربا ونحبسه ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬للمام أن يعزّر شاهد الزّور بالضّرب أو الحبس أو الزّجر ‪ ،‬وإن رأى أن يشهّر‬
‫أمره فعل لما روي عن عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أنّه ضرب شاهد الزّور أربعين سوطا وسخّم‬
‫وجهه أي ‪ :‬سوّده ‪.‬‬
‫ولنّ هذه كبيرة يتعدّى ضررها إلى العباد ‪ ،‬وليس فيها حدّ مقدّر فيعزّر ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة والحنابلة ‪ :‬إلى تعزيره وضربه وأن يطاف به في المجالس ‪.‬‬
‫وعلى كلّ حال إذا ثبت زوره ردّت شهادته ‪ ،‬ونبّه النّاس على حقيقته ‪.‬‬
‫ي على شهادته كان باطلً لقول الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬اذكروا‬
‫ن الحكم المبن ّ‬
‫وتبيّن أ ّ‬
‫الفاسق بما فيه ليحذره النّاس « ‪.‬‬
‫والمسلمون وأهل ال ّذمّة في حكم شهادة الزّور سواء ‪ ،‬لقيام الهليّة في حقّهم جميعا فيما تعلّق‬
‫بشهادة الزّور ‪.‬‬
‫وإذا تاب شاهد الزّور ومضت على ذلك مدّة ظهرت فيها توبته ‪ ،‬وتبيّن صدقه وعدالته ‪ :‬قبلت‬
‫ي‪.‬‬
‫شهادته عند الحنابلة وبه قال أبو حنيفة والشّافع ّ‬
‫ن ذلك ل يؤمن منه ‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬ل تقبل شهادته أبدا ‪ ،‬ل ّ‬
‫شهادة الحسبة ‪:‬‬
‫‪ -‬يقصد بها أن يؤدّي الشّاهد شهاد ًة تحمّلها ابتدا ًء ل بطلب طالب ول بتقدّم دعوى ‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫ومعنى " حسبةً " أي احتسابا لوجه اللّه تعالى ‪.‬‬


‫وتقبل شهادة الحسبة في كلّ ما تمحّض حقّا للّه تعالى ‪ ،‬كالزّنى ‪ ،‬والشّرب والسّرقة ‪ ،‬وقطع‬
‫الطّريق ‪ ،‬والزّكاة ‪ ،‬والكفّارة ‪ ،‬والطّلق ‪ ،‬والستيلد ‪ ،‬والوقف على الفقراء وعامّة المسلمين‬
‫وغير ذلك من المور العامّة ‪.‬‬
‫انظر ‪ ( :‬حسبة ) ‪.‬‬

‫شهادة السترعاء *‬
‫انظر ‪ :‬استرعاء‬

‫شهادة الزّور *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬شهادة الزّور ‪ :‬مركّب إضافيّ يتكوّن من كلمتين هما ‪ :‬الشّهادة ‪ ،‬والزّور ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫أمّا الشّهادة في اللّغة ‪ ،‬فمن معانيها ‪ :‬البيان ‪ ،‬والظهار ‪ ،‬والحضور ‪ ،‬ومستندها المشاهدة إمّا‬
‫بالبصر أو بالبصيرة ‪.‬‬
‫وأمّا الزّور فهو الكذب والباطل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو شهادة الباطل ‪ ،‬يقال ‪ :‬رجل زور وقوم زور ‪ :‬أي‬
‫مموّه بكذب ‪.‬‬
‫وشهادة الزّور عند الفقهاء ‪ :‬هي الشّهادة بالكذب ليتوصّل بها إلى الباطل من إتلف نفس ‪ ،‬أو‬
‫أخذ مال ‪ ،‬أو تحليل حرام أو تحريم حلل ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن شهادة الزّور من أكبر الكبائر وأنّها محرّمة شرعا ‪ ،‬قد نهى‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫ن ا َلوْثَانِ‬
‫اللّه تعالى عنها في كتابه مع نهيه عن الوثان فقال اللّه تعالى ‪ { :‬فَاجْتَنِبُوا ال ّرجْسَ مِ َ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وَاجْتَنِبُوا َق ْولَ الزّورِ } ‪ ،‬وقد روي عن خريم بن فاتك السديّ ‪ » :‬أ ّ‬
‫وسلم صلّى صلة الصّبح فلمّا انصرف قام قائما ‪ ،‬فقال ‪ :‬عدلت شهادة الزّور الشراك باللّه ثلث‬
‫مرّات ث ّم تل هذه الية ‪ { :‬وَاجْتَنِبُوا َق ْولَ الزّورِ حُ َنفَاء لِّلهِ غَيْ َر ُمشْ ِركِينَ ِبهِ } « ‪.‬‬
‫وروى أبو بكرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ { :‬أل أنبّئكم بأكبر‬
‫الكبائر ؟ قلنا ‪ :‬بلى يا رسول اللّه ‪ ،‬قال ثلثا ‪ :‬الشراك باللّه ‪ ،‬وعقوق الوالدين – وكان متّكئا –‬
‫فقال ‪ :‬أل وقول الزّور ‪ ،‬وشهادة الزّور ‪ ،‬أل وقول الزّور ‪ ،‬وشهادة الزّور فما زال يقولها حتّى‬
‫قلت ‪ :‬ل يسكت « ‪.‬‬
‫وروي عن ابن عمر ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬لن تزول‬
‫قدما شاهد الزّور حتّى يوجب اللّه له النّار « ‪.‬‬
‫فمتى ثبت عند القاضي أو الحاكم عن رجل أنّه شهد بزور عمدا عزّره باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬مع‬
‫اختلفهم في كيفيّة التّعزير ‪ ،‬وسيأتي آراء الفقهاء فيها ‪.‬‬
‫بم تثبت شهادة الزّور ؟‬
‫ن شهادة الزّور ل تثبت إلّ بالقرار ‪ ،‬لنّه ل تتمكّن تهمة الكذب‬
‫– ذهب جمهور الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫في إقراره على نفسه ‪ ،‬أو بأن يشهد بما يقطع بكذبه ‪ :‬بأن يشهد على رجل بفعل في الشّام في‬
‫ن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق ‪ ،‬أو يشهد بقتل رجل وهو حيّ ‪ ،‬أو‬
‫وقت ‪ ،‬ويعلم أ ّ‬
‫أنّ هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلثة أعوام وسنّها أقلّ من ذلك ‪ ،‬أو يشهد على رجل أنّه فعل‬
‫شيئا في وقت وقد مات قبل ذلك ‪ ،‬أو لم يولد إ ّل بعده وأشباه هذا ممّا يتيقّن بكذبه ويعلم تعمّده‬
‫‪ -‬ول تثبت بالبيّنة ‪ ،‬لنّها نفي لشهادته ‪ ،‬والبيّنة حجّة للثبات دون النّفي ‪ ،‬وقد‬ ‫‪4‬‬ ‫لذلك ‪.‬‬
‫تعارضت البيّنتان فل يعزّر في تعارض البيّنتين ‪ ،‬أو ظهور فسقه أو غلطه في الشّهادة ‪ ،‬لنّ‬
‫الفسق ل يمنع الصّدق ‪ ،‬والتّعارض ل يعلم به كذب إحدى البيّنتين بعينها ‪ ،‬والغلط قد يعرض‬
‫خطَأْتُم ِبهِ‬
‫للصّادق العدل ول يتعمّده فيعفى عنه ‪ .‬وقد قال اللّه تعالى ‪ { :‬وَلَيْسَ عَلَ ْيكُ ْم جُنَاحٌ فِيمَا َأ ْ‬
‫وَ َلكِن مّا َت َعمّدَتْ قُلُو ُب ُكمْ } ‪.‬‬
‫قال الشّيرازيّ من الشّافعيّة وابن فرحون من المالكيّة ‪ :‬تثبت شهادة الزّور من ثلثة أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يقرّ أنّه شاهد زور ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن تقوم البيّنة أنّه شاهد زور ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬أن يشهد ما يقطع بكذبه ‪.‬‬
‫وإذا ثبت ذلك بالبيّنة فعليه العقوبة سواء أكان ذلك قبل الحكم أم بعده ‪.‬‬
‫كيفيّة عقوبة شاهد الزّور ‪:‬‬
‫‪ -‬لمّا كانت الشّريعة لم تقدّر عقوبةً محدّدةً لشاهد الزّور فإنّ هذه العقوبة هي التّعزير ‪ ،‬وقد‬ ‫‪5‬‬

‫اختلف الفقهاء في عقوبة شاهد الزّور من حيث تفصيلت هذه العقوبة ل من حيث مبدأ عقاب‬
‫شاهد الزّور بالتّعزير ‪ ،‬إذ أنّه ل خلف عند الفقهاء في تعزيره إذا ثبت عند الحاكم عن رجل أنّه‬
‫شهد بزور عمدا عزّره وجوبا وشهّر به ‪ ،‬روي ذلك عن عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬وبه قال‬
‫ي وابن أبي ليلى ‪.‬‬
‫شريح وسالم بن عبد اللّه والوزاع ّ‬
‫واختلفوا في كيفيّة التّعزير ‪ ،‬فقال الشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة ‪ :‬تأديب شاهد الزّور‬
‫مفوّض إلى رأي الحاكم إن رأى تعزيره بالجلد جلده ‪ ،‬وإن رأى أن يحبسه ‪ ،‬أو كشف رأسه‬
‫ي ‪ :‬ل يبلغ‬
‫وإهانته وتوبيخه فعل ذلك ‪ ،‬ول يزيد في جلده على عشر جلدات ‪ ،‬وقال الشّافع ّ‬
‫بالتّعزير أربعين سوطا ‪.‬‬
‫وأمّا كيفيّة التّشهير به بين النّاس ‪ :‬فإنّ الحاكم يوقفه في السّوق إن كان من أهل السّوق ‪ ،‬أو‬
‫محلّة قبيلته إن كان من أهل القبائل ‪ ،‬أو في مسجده إن كان من أهل المساجد ‪ ،‬ويقول الموكّل‬
‫به‪ :‬إنّ الحاكم يقرأ عليكم السّلم ويقول ‪ :‬هذا شاهد زور فاعرفوه ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم عن‬
‫‪ -6‬ول يسخّم وجه ‪ -‬أي يسوّده ‪ -‬لنّه مثلة ‪ ،‬وقد نهى النّب ّ‬
‫المثلة ‪ ،‬ول يركبه مقلوبا ‪ ،‬ول يكلّف الشّاهد أن ينادي على نفسه ‪ ،‬وفي الجملة ليس في هذا‬
‫تقدير شرعيّ فللحاكم أن يفعل ممّا يراه ‪ ،‬ما لم يخرج إلى مخالفة نصّ أو معنى نصّ ‪.‬‬
‫‪ -7‬وقال أبو يوسف ومحمّد وبعض المالكيّة ‪ :‬إذا ثبت عند القاضي أو الحاكم عن رجل أنّه شهد‬
‫بالزّور عوقب بالسّجن والضّرب ‪ ،‬ويطاف به في المجالس ‪ ،‬لما روي عن عمر ‪ -‬رضي ال‬
‫عنه‪ -‬أنّه ضرب شاهد زور أربعين سوطا وسخّم وجهه ‪.‬‬
‫وعن الوليد بن أبي مالك أنّ عمر رضي ال عنه كتب إلى عمّاله بالشّام ‪ :‬إذا أخذتم شاهد الزّور‬
‫فاجلدوه بضرب أربعين سوطا ‪ ،‬وسخّموا وجهه وطوّفوا به حتّى يعرفه النّاس ‪ ،‬ويحلق رأسه‬
‫ويطال حبسه ‪ ،‬لنّه أتى كبير ًة من الكبائر للحديث السّابق ‪.‬‬
‫س مِنَ ا َلوْثَانِ‬
‫وقد قرن اللّه تعالى بين شهادة الزّور وبين الشّرك ‪ ،‬فقال ‪ { :‬فَاجْتَنِبُوا ال ّرجْ َ‬
‫وَاجْتَنِبُوا َق ْولَ الزّورِ } ‪ ،‬ولنّ هذه الكبيرة يتعدّى ضررها إلى العباد بإتلف أنفسهم وأعراضهم‬
‫وأموالهم ‪.‬‬
‫م ‪ -‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬إذا أق ّر الشّاهد أنّه شهد زورا ‪ :‬يشهّر به في السواق إن كان سوقيّا ‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫أو بين قومه إن كان غير سوقيّ ‪ ،‬وذلك بعد صلة العصر في مكان تجمّع النّاس ‪ ،‬ويقول‬
‫المرسل معه ‪ :‬إنّا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه ‪ ،‬وحذّروه النّاس ‪ ،‬ول يعزّر بالضّرب أو‬
‫الحبس ‪ ،‬لنّ شريحا كان يشهّر شاهد الزّور ول يعزّره ‪ ،‬وكان قضاياه ل تخفى عن أصحاب‬
‫ن المقصود هو التّوصّل إلى‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ولم ينقل أنّه أنكر عليه منكر ‪ ،‬ول ّ‬
‫النزجار ‪ ،‬وهو يحصل بالتّشهير ‪ ،‬بل ربّما يكون أعظم عند النّاس من الضّرب ‪ ،‬فيكتفى به ‪،‬‬
‫والضّرب وإن كان مبالغةً في الزّجر لكنّه يقع مانعا عن الرّجوع فوجب التّخفيف نظرا إلى هذا‬
‫الوجه ‪.‬‬
‫وذكر الزّيلعيّ نقلً عن الحاكم أبي محمّد الكاتب ‪ :‬أنّ هذه المسألة على ثلثة أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يرجع على سبيل التّوبة والنّدامة ‪ ،‬فإنّه ل يعزّر بإجماع أئمّة الحنفيّة ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن يرجع من غير توبة ‪ ،‬وهو مصرّ على ما كان منه فإنّه يعزّر بإجماعهم ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬أن ل يعلم رجوعه بأيّ سبب فإنّه على الختلف الّذي ذكرنا ‪.‬‬
‫القضاء بشهادة الزّور ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف ومحمّد وزفر من‬ ‫‪8‬‬

‫الحنفيّة وإسحاق وأبو ثور ‪ :‬إلى أنّ قضاء الحاكم بشهادة الزّور ينفذ ظاهرا ل باطنا ‪ ،‬لنّ‬
‫شهادة الزّور حجّة ظاهرا ل باطنا فينفذ القضاء كذلك لنّ القضاء ينفذ بقدر الحجّة ‪ ،‬ول يزيل‬
‫ي له‬
‫شيئا عن صفته الشّرعيّة ‪ ،‬سواء العقود من النّكاح وغيره والفسوخ ‪ ،‬فل يحلّ للمقض ّ‬
‫بشهادة الزّور ما حكم له به من مال أو بضع أو غيرهما ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إنّما‬
‫ي ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ‪ ،‬فأقضي له على‬
‫أنا بشر ‪ ،‬وإنّكم تختصمون إل ّ‬
‫ق أخيه شيئا فل يأخذه فإنّما أقطع له قطعةً من النّار « ‪.‬‬
‫نحو ما أسمع ‪ ،‬فمن قضيت له من ح ّ‬
‫وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية ‪ :‬ينفذ قضاء بشهادة الزّور ظاهرا وباطنا في العقود والفسوخ‬
‫ل ‪ ،‬والقاضي غير عالم بزورهم ‪ ،‬لقول عليّ ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬لمرأة أقام‬
‫حيث كان المحلّ قاب ً‬
‫ي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬فقالت له ‪ :‬لم‬
‫عليها رجل بيّن ًة على أنّه تزوّجها ‪ ،‬فأنكرت فقضى له عل ّ‬
‫تزوّجني ؟ أما وقد قضيت عليّ فجدّد نكاحي ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل أجدّد نكاحك ‪ ،‬الشّاهدان زوّجاك ‪ ،‬فلو لم‬
‫ينعقد النّكاح بينهما باطنا بالقضاء لما امتنع من تجديد العقد عند طلبها ‪.‬‬
‫ن الفقهاء أجمعوا على أنّه‬
‫‪ -9‬وأمّا في الملك المرسلة ‪ -‬أي الّتي لم يذكر لها سبب معيّن ‪ -‬فإ ّ‬
‫ينفذ ظاهرا ل باطنا ‪ ،‬لنّ الملك ل بدّ له من سبب وليس بعض السباب بأولى من البعض‬
‫لتزاحمها فل يمكن إثبات السّبب سابقا على القضاء بطريق القتضاء ‪.‬‬
‫تضمين شهود الزّور ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬ولزم نقضه وبطلن ما‬
‫ن الشّهود شهدوا بالزّور ‪ ،‬تبيّن أنّ الحكم كان باط ً‬
‫‪ -‬متى علم أ ّ‬ ‫‪10‬‬

‫حكم به ‪ ،‬ويضمن شهود الزّور ما ترتّب على شهادتهم من ضمان ‪ .‬فإن كان المحكوم به مالً ‪:‬‬
‫ر ّد إلى صاحبه ‪ ،‬وإن كان إتلفا ‪ :‬فعلى الشّهود ضمانه ‪ ،‬لنّهم سبب إتلفه ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأشهب من المالكيّة ‪ :‬إلى وجوب القصاص على شهود الزّور إذا‬
‫شهدوا على رجل بما يوجب قتله ‪ ،‬كأن شهدوا عليه بقتل عمد عدوان أو بردّة أو بزنىً وهو‬
‫محصن ‪ ،‬فقتل الرّجل بشهادتهما ‪ ،‬ثمّ رجعا وأقرّا بتعمّد قتله ‪ ،‬وقال ‪ :‬تعمّدنا الشّهادة عليه‬
‫بالزّور ليقتل أو يقطع ‪ :‬فيجب القصاص عليهما ‪ ،‬لتعمّد القتل بتزوير الشّهادة ‪ ،‬لما روى‬
‫ي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬على رجل بالسّرقة فقطعه ثمّ عادا فقال‬
‫ن رجلين شهدا عند عل ّ‬
‫الشّعبيّ‪ :‬أ ّ‬
‫‪ :‬أخطأنا ‪ ،‬ليس هذا هو السّارق ‪ ،‬فقال عليّ ‪ :‬لو علمت أنّكما تعمّدتما لقطعتكما ‪ ،‬ول مخالف له‬
‫في الصّحابة فيكون إجماعا ‪ ،‬وإنّهما تسبّبا إلى قتله أو قطعه بما يفضي إليه غالبا فلزمهما‬
‫كالمكره ‪ .‬وبه قال ابن شبرمة ‪ ،‬وابن أبي ليلى ‪ ،‬والوزاعيّ ‪ ،‬وأبو عبيد ‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك الحكم إذا شهدوا زورا بما يوجب القطع قصاصا ‪ ،‬فقطع أو في سرقة لزمهما‬ ‫‪11‬‬

‫القطع‪ ،‬وإذا سرى أثر القطع إلى النّفس فعليهما القصاص في النّفس ‪ ،‬كما يجب القصاص على‬
‫القاضي إذا قضى زورا بالقصاص ‪ ،‬وكان يعلم بكذب الشّهود ‪.‬‬
‫وتجب عليهما الدّية المغلّظة إذا قال ‪ :‬تعمّدنا الشّهادة عليه ‪ ،‬ولم نعلم أنّه يقتل بهذا ‪ ،‬وكانا ممّا‬
‫يحتمل أن يجهل ذلك ‪ .‬وتجب الدّية في أموالهما لنّه شبه عمد ول تحمله العاقلة ‪ ،‬لنّه ثبت‬
‫باعترافهما والعاقلة ل تحمل العتراف ‪.‬‬
‫‪ -‬وإن رجع شهود القصاص أو شهود الح ّد بعد الحكم بشهادتهم وقبل الستيفاء ‪ ،‬لم يستوف‬ ‫‪12‬‬

‫ن المحكوم به عقوبة ل سبيل إلى جبرها إذا استوفيت بخلف المال ‪ ،‬ولنّ‬
‫القود ول الحدّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫رجوع الشّهود شبهة لحتمال صدقهم ‪ ،‬والقود والحدّ يدرآن بالشّبهة ‪ ،‬فينقض الحكم ‪ ،‬ول غرم‬
‫على الشّهود بل يعزّرون ‪.‬‬
‫ن الواجب بالعمد أحد شيئين وقد سقط أحدهما فتعيّن الخر ‪،‬‬
‫ووجبت دية قود للمشهود له ‪ ،‬ل ّ‬
‫ويرجع المشهود عليه بما غرمه من الدّية على الشّهود ‪.‬‬
‫ن القتل بشهادة‬
‫وذهب الحنفيّة والمالكيّة عدا أشهب ‪ :‬إلى أنّ الواجب هو الدّية ل القصاص ‪ ،‬ل ّ‬
‫الزّور قتل بالسّبب ‪ ،‬والقتل تسبّبا ل يساوي القتل مباشر ًة ‪ ،‬ولذا قصر أثره ‪ ،‬فوجبت به الدّية ل‬
‫القصاص ‪.‬‬
‫م ‪ -‬ويجب حدّ القذف على شهود الزّور إذا شهدوا بالزّنى ويقام عليهم الحدّ سواء تبيّن‬ ‫‪12‬‬

‫كذبهم قبل الستيفاء أو بعده ‪.‬‬


‫ويحدّون في الشّهادة بالزّنى ح ّد القذف أ ّولً ‪ ،‬ثمّ يقتلون إذا تبيّن كذبهم بعد استيفاء الحدّ بالرّجم‪.‬‬
‫وذلك عند الشّافعيّة ‪ ،‬لنّهم لم يقولوا بالتّداخل في هذه المسألة ‪ ،‬وأمّا عند الجمهور ‪ :‬فإن كان‬
‫في الحدود قتل فإنّه يكتفى به ‪ ،‬لقول ابن مسعود ‪ -‬رضي ال عنه ‪ : -‬ما كانت حدود فيها قتل‬
‫إلّ أحاط القتل بذلك كلّه ولنّه ل حاجة معه إلى الزّجر بغيره ‪ ،‬واستثنى المالكيّة من ذلك حدّ‬
‫القذف فقد ذكروا أنّه ل يدخل في القتل ‪ ،‬بل ل بدّ من استيفائه قبله ‪.‬‬
‫توبة شاهد الزّور ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو ثور ‪ :‬إلى أنّه إذا تاب شاهد الزّور وأتت على ذلك‬ ‫‪13‬‬

‫مدّة تظهر فيها توبته ‪ ،‬وتبيّن صدقه فيها وعدالته ‪ ،‬قبلت شهادته ‪.‬‬
‫ك َوأَصْ َلحُواْ } ‪.‬‬
‫ن تَابُواْ مِن َبعْدِ ذَلِ َ‬
‫لقوله تعالى ‪ِ { :‬إلّ الّذِي َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬التّائب من الذّنب كمن ل ذنب له « ‪.‬‬
‫ولنّ النّب ّ‬
‫ولنّه تائب من ذنبه ‪ ،‬فقبلت توبته كسائر التّائبين ‪.‬‬
‫ومدّة ظهور التّوبة عندهم سنة ‪ ،‬لنّه ل تظهر صحّة التّوبة في مدّة قريبة ‪ ،‬فكانت أولى المدد‬
‫بالتّقدير سنةً ‪ ،‬لنّه تمرّ فيها الفصول الربعة الّتي تهيج فيها الطّبائع وتتغيّر فيها الحوال ‪.‬‬
‫ي من الحنفيّة ‪ :‬مدّة ظهور التّوبة عند بعض الحنفيّة ستّة أشهر ‪ ،‬ثمّ قال ‪:‬‬
‫وقال البابرت ّ‬
‫والصّحيح أنّه مفوّض إلى رأي القاضي ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن كان ظاهر الصّلح حين شهد بالزّور ل تقبل له شهادة بعد ذلك لحتمال بقائه‬
‫على الحالة الّتي كان عليها ‪ ،‬وإن كان غير مظهر للصّلح حين الشّهادة ففي قبولها بعد ذلك إذا‬
‫ظهرت توبته قولن ‪.‬‬

‫شهادتان *‬
‫انظر ‪ :‬إسلم ‪ ،‬تلقين‬

‫شهْر *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّهر ‪ :‬الهلل ‪ ،‬سمّي به لشهرته ووضوحه ‪ ،‬ث ّم سمّيت اليّام به ‪ .‬وجمعه ‪ :‬شهور‬ ‫‪1‬‬

‫وأشهر ‪ ،‬وهو مأخوذ من الشّهرة وهي ‪ :‬النتشار ووضوح المر ‪ ،‬ومنه شهرت المر أشهره‬
‫شهرا وشهرةً فاشتهر أي ‪ :‬وضح ‪ ،‬وكذلك أشهرته وشهّرته تشهيرا ‪.‬‬
‫وأوّل الشّهر ‪ :‬من اليوم الوّل إلى السّادس عشر ‪ .‬وآخر الشّهر منه إلى الخر إلّ إذا كان تسعةً‬
‫ن أوّله حينئذ إلى وقت الزّوال من الخامس عشر ‪ ،‬وما بعده آخر الشّهر ‪.‬‬
‫وعشرين يوما ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ورأس الشّهر ‪ :‬اللّيلة الولى مع اليوم ‪.‬‬
‫وغرّة الشّهر ‪ :‬إلى انقضاء ثلثة أيّام ‪.‬‬
‫واختلفوا في الهلل فقيل ‪ :‬إنّه كالغرّة ‪ ،‬والصّحيح أنّه أوّل يوم ‪ ،‬وإن خفي فالثّاني ‪.‬‬
‫وسلخ الشّهر ‪ :‬اليوم الخير منه ‪.‬‬
‫شهُورِ‬
‫وفي الشّرع ‪ :‬المراد بالشّهر عند الطلق ‪ :‬الشّهر الهلليّ ‪ .‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬إِنّ عِدّ َة ال ّ‬
‫سمَاوَات وَالَ ْرضَ مِ ْنهَا أَرْ َب َعةٌ حُ ُرمٌ } ‪.‬‬
‫ق ال ّ‬
‫شهْرا فِي كِتَابِ الّل ِه َي ْومَ خَلَ َ‬
‫عشَ َر َ‬
‫عِن َد الّلهِ اثْنَا َ‬
‫ن الشهر الحرم معتبرة بالهلّة ‪.‬‬
‫ولم يختلف النّاس في أ ّ‬
‫ن الواجب تعليق الحكام من العبادات وغيرها ‪ ،‬إنّما يكون‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬هذه الية تدلّ على أ ّ‬
‫بالشّهور والسّنين الّتي تعرفها العرب ‪ ،‬دون الشّهور الّتي تعتبرها العجم والرّوم والقبط ‪ ،‬وإن‬
‫لم تزد ‪ -‬شهور سنواتهم ‪ -‬على اثني عشر شهرا لنّها مختلفة العداد ‪ :‬منها ما يزيد على‬
‫ثلثين يوما ‪ ،‬ومنها ما ينقص ‪ .‬وشهور العرب ل تزيد على ثلثين يوما ‪ ،‬وإن كان منها ما‬
‫ينقص ‪ .‬والّذي ينقص ليس يتعيّن له شهر ‪ ،‬وإنّما تفاوتها في النّقصان والتّمام على حسب‬
‫اختلف سير القمر في البروج ‪ .‬وورد في كتب الشّافعيّة استثناء من هذا الصل في بعض‬
‫المسائل ‪ ،‬كالشهر السّتّة المعتبرة في أقلّ الحمل ‪ ،‬يريدون بالشّهر فيها ثلثين يوما ول يعنون‬
‫به الشّهر الهلليّ ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالشّهر ‪:‬‬
‫أشهر الحجّ ‪:‬‬
‫ن أشهر الحجّ هي ‪ :‬شوّال ‪ ،‬وذو القعدة ‪ ،‬وعشر من ذي الحجّة ‪.‬‬
‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫وذهب المالكيّة إلى أنّ أشهر الحجّ هي ‪ :‬شوّال وذو القعدة وذو الحجّة ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪49/ 5‬‬ ‫وللتّفصيل ر ‪ ( :‬أشهر الحجّ ف ‪ 4 - 1‬ج‬
‫الشهر الحرم ‪:‬‬
‫شهُو ِر عِن َد الّلهِ اثْنَا‬
‫ن عِدّ َة ال ّ‬
‫‪ -‬الشهر الحرم ‪ :‬هي الّتي ورد ذكرها في قول اللّه تعالى ‪ { :‬إِ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫سمَاوَات وَالَرْضَ مِ ْنهَا أَرْ َب َعةٌ حُ ُرمٌ } والمراد بها ‪ :‬رجب‬


‫ق ال ّ‬
‫ب الّلهِ َي ْومَ خَلَ َ‬
‫شهْرا فِي كِتَا ِ‬
‫عشَ َر َ‬
‫َ‬
‫مضر ‪ ،‬وذو القعدة ‪ ،‬وذو الحجّة ‪ ،‬والمحرّم ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪50/ 5‬‬ ‫ج‬ ‫‪6‬‬ ‫وللتّفصيل ينظر ‪ ( :‬الشهر الحرم ف ‪- 1‬‬
‫العدّة بالشّهور ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا لم تكن من وجبت عليها العدّة ذات قرء لصغر أو يأس ‪ ،‬فإنّها تعتدّ بالشّهور ‪ ،‬لقول اللّه‬ ‫‪4‬‬

‫شهُرٍ وَاللئِي َلمْ‬


‫ن ا ْل َمحِيضِ مِن ّنسَا ِئ ُكمْ إِنِ ارْتَبْ ُتمْ َفعِدّ ُتهُنّ ثَل َث ُة َأ ْ‬
‫ن مِ َ‬
‫تعالى ‪ { :‬وَاللئِي يَ ِئسْ َ‬
‫َيحِضْنَ } ‪.‬‬
‫وذات القرء إذا ارتفع حيضها ل تدري ما رفعه اعتدّت بالشهر ‪.‬‬
‫واليسة ‪ ،‬وك ّل من توفّي عنها زوجها ول حمل بها قبل الدّخول أو بعده حرّةً أو أمةً عدّتها‬
‫سهِنّ أَرْ َب َعةَ‬
‫ن بِأَن ُف ِ‬
‫ن أَ ْزوَاجا يَتَرَبّصْ َ‬
‫ن مِن ُكمْ وَيَذَرُو َ‬
‫بالشّهور ‪ ،‬لقول اللّه تعالى ‪ { :‬وَالّذِينَ يُ َتوَ ّفوْ َ‬
‫شهُرٍ } ‪.‬‬
‫َأ ْ‬
‫وللفقهاء تفصيل في عدّة المطلّقة بالشهر ‪ ،‬وعدّة المتوفّى عنها زوجها ‪ ،‬وانتقال العدّة من‬
‫الشهر إلى القراء ‪ ،‬وانتقالها من القراء إلى الشهر ‪ :‬ينظر في ( عدّة ) ‪.‬‬
‫الجارة مشاهرةً ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا قال المؤجّر ‪ :‬آجرتك داري عشرين شهرا كلّ شهر بدرهم مثلً جاز العقد بغير خلف ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫ق الفسخ بحال ‪ ،‬لنّها‬


‫لنّ المدّة معلومة وأجرها معلوم وليس لواحد من المؤجّر والمستأجر ح ّ‬
‫مدّة واحدة فأشبه ما لو قال ‪ :‬آجرتك عشرين شهرا بعشرين درهما ‪.‬‬
‫أمّا إذا قال المؤجّر ‪ :‬آجرتك هذا كلّ شهر بدرهم ‪ .‬فقد اختلف الفقهاء في صحّة الجارة حسب‬
‫التّجاهات التّالية ‪:‬‬
‫ن الشّهر الوّل‬
‫ذهب الحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة وأبو ثور إلى ‪ :‬أنّ الجارة صحيحة إلّ أ ّ‬
‫تلزم الجارة فيه بإطلق العقد ‪ ،‬وما بعده من الشّهور يلزم العقد فيه بالتّلبّس به ‪ ،‬وهو السّكنى‬
‫في الدّار ‪.‬‬
‫واستدلّوا بأنّ عليّا ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬استقى لرجل من اليهود كلّ دلو بتمرة ‪ ،‬وجاء بالتّمر إلى‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم يأكل منه ‪ ،‬قال عليّ ‪ :‬كنت أدلو الدّلو وأشترطها جلد ًة ‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة ‪ » :‬أنّ رجلً من النصار قال ليهوديّ ‪ :‬أسقي نخلك ؟ قال ‪ :‬كلّ دلو بتمرة ‪.‬‬
‫واشترط النصاريّ أن ل يأخذها خدر ًة – عفنةً – ول تارزةً – يابسةً‪ -‬ول حشفةً ‪ .‬ول يأخذ إلّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم « ‪.‬‬
‫جلدةً فاستقى بنحو من صاعين ‪ ،‬فجاء به إلى النّب ّ‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬وهو نظير مسألتنا ‪ ،‬ولنّ شروعه في كلّ شهر مع ما تقدّم في العقد من‬
‫التّفاق على تقدير أجره والرّضا ببذله به جرى مجرى ابتداء العقد عليه وصار كالبيع بالمعاطاة‬
‫‪ .‬والمالكيّة وإن كانوا يقولون بصحّة الجارة في هذه الحالة إلّ أنّهم ل يعتبرون الجارة لزمةً‬
‫فلكلّ من المؤجّر والمستأجر عندهم ح ّل العقد عن نفسه متى شاء ‪ ،‬ول كلم للخر ‪.‬‬
‫والقول الصّحيح للشّافعيّة ولبي بكر عبد العزيز بن جعفر وأبي عبد اللّه بن حامد من الحنابلة ‪:‬‬
‫ن " كلّ " اسم للعدد ‪ ،‬فإذا لم يقدّره كان مبهما مجهولً فيكون فاسدا كما لو قال‬
‫أنّ العقد باطل ل ّ‬
‫‪ :‬آجرتك مدّةً أو شهرا ‪.‬‬
‫قال في الملء ‪ -‬وهو القول المقابل للصّحيح للشّافعيّة ‪ : -‬تصحّ الجارة في الشّهر الوّل ‪،‬‬
‫ح في المعلوم وبطل في‬
‫ن الشّهر الوّل معلوم وما زاد مجهول ‪ ،‬فص ّ‬
‫وتبطل فيما زاد ‪ ،‬ل ّ‬
‫المجهول‪ ،‬كما لو قال ‪ :‬آجرتك هذا الشّهر بدينار وما زاد بحسابه ‪.‬‬
‫المراد بالشّهر في الجارة ‪:‬‬
‫ن عقد الجارة إذا انطبق على أوّل الشّهر كان ذلك الشّهر وما بعده‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء أ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫بالهلّة ‪.‬‬
‫وإن لم ينطبق العقد على أوّل الشّهر تمّم المنكسر بالعدد من الخير ‪ ،‬ويحسب الثّاني بالهلّة ‪.‬‬
‫بهذا يقول الشّافعيّة والصّاحبان من الحنفيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة ‪ ،‬وهو ما يؤخذ من‬
‫عبارات المالكيّة في باب العدّة ‪.‬‬
‫ويرى أبو حنيفة والشّافعيّ في رواية ‪ -‬نقلها عنه ابن قدامة ‪ -‬وأحمد في رواية ‪ :‬أنّه يستوفى‬
‫الجميع بالعدد ‪ ،‬لنّ الشّهر الوّل يكمل باليّام من الثّاني ‪ ،‬فيصير أوّل الثّاني باليّام ‪ ،‬فيكمل‬
‫بالثّالث وهكذا ‪.‬‬
‫والظّاهر أنّ هذا الخلف يجري في كلّ ما يعتبر بالشهر ‪ ،‬كعدّة وفاة ‪ ،‬وصوم شهري كفّارة ‪،‬‬
‫ن هذه المسائل تساوي ما تقدّم معنىً ‪.‬‬
‫ومدّة خيار ‪ ،‬وأجل ثمن وسلم ل ّ‬

‫ش ْهرُ الحرام *‬
‫ال ّ‬
‫انظر ‪ :‬الشهر الحرم‬

‫ش ْهرُ رمضان *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬رمضان‬

‫شهْرَة *‬
‫ُ‬
‫انظر ‪ :‬تسامح ‪ ،‬ألبسة‬

‫ش ْهوَة *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّهوة لغةً ‪ :‬اشتياق النّفس إلى الشّيء ‪ ،‬والجمع ‪ :‬شهوات ‪ .‬وشيء شهيّ ‪ ،‬مثل لذيذ ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وزنا ومعنىً ‪.‬‬


‫واشتهاه وتشهّاه ‪ :‬أحبّه ورغب فيه ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬توقان النّفس إلى المستلذّات ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬الشّهوات عبارة عمّا يوافق النسان ويشتهيه ويلئمه ول يتّقيه ‪.‬‬
‫وقال القرطب ّ‬
‫ي‪:‬‬
‫وفي إعطاء النّفس حظّها من الشّهوات المباحة مذاهب حكاها الماورد ّ‬
‫أحدها ‪ :‬منعها وقهرها كي ل تطغى ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬إعطاؤها تحيّلً على نشاطها وبعثا لروحانيّتها ‪.‬‬
‫ن في إعطاء الكلّ سلطةً ‪ ،‬وفي المنع بلدةً ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬قال ‪ -‬وهو الشبه ‪ : -‬التّوسّط ‪ ،‬ل ّ‬
‫الحكام المتعلّقة بالشّهوة ‪:‬‬
‫نقض الوضوء باللّمس بشهوة ‪:‬‬
‫ن لمس المرأة غير المحرم بشهوة أو بغير شهوة غير ناقض‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫للوضوء‪ ،‬وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى ‪ :‬أنّه ينتقض الوضوء بمباشرة فاحشة استحسانا ‪،‬‬
‫وهي مسّ فرج أو دبر بذكر منتصب بل حائل يمنع حرارة الجسد ‪ ،‬أو مع وجود حائل رقيق ل‬
‫يمنع الحرارة‪.‬‬
‫وكما ينتقض وضوء الرّجل ينتقض وضوء المرأة كما في القنية ‪.‬‬
‫وقال محمّد بن الحسن ‪ :‬ل ينتقض الوضوء إلّ بخروج المذي ‪ ،‬وهو القياس ‪.‬‬
‫ووجه الستحسان ‪ :‬أنّ المباشرة الفاحشة ل تخلو عن خروج المذي غالبا ‪ ،‬والغالب كالمتحقّق ‪.‬‬
‫وفي مجمع النهر ‪ :‬قوله ‪ - :‬أي محمّد ‪ : -‬أقيس ‪ ،‬وقولهما ‪ :‬أحوط ‪.‬‬
‫ن لمس المتوضّئ البالغ لشخص يلتذّ بمثله عاد ًة ‪ -‬من ذكر أو‬
‫‪ -‬وذهب المالكيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫أنثى‪ -‬ينقض الوضوء ولو كان الملموس غير بالغ ‪ ،‬أو كان اللّمس لظفر أو شعر أو من فوق‬
‫حائل كثوب ‪ ،‬وظاهر المدوّنة سواء كان الحائل خفيفا يحسّ اللمس معه بطراوة البدن ‪ ،‬أم كان‬
‫كثيفا‪ ،‬وتأوّلها بعض المالكيّة بالخفيف ‪ ،‬ومحلّ الخلف بين الخفيف والكثيف ما لم يقبض ‪ ،‬فإن‬
‫قبض على شيء من الجسم نقض اتّفاقا ‪.‬‬
‫ومحلّ النّقض ‪ :‬إن قصد التّلذّذ بلمسه ‪ ،‬وإن لم تحصل له لذّة حال لمسه ‪ ،‬أو وجدها حال اللّمس‬
‫وإن لم يكن قاصدا لها ابتداءً ‪ .‬فإن لم يقصد ولم تحصل له لذّة فل نقض ولو وجدها بعد اللّمس‬
‫‪ .‬والملموس ‪ -‬إن بلغ ووجد اللّذّة أو قصدها ‪ -‬بأن مالت نفسه لن يلمسه غيره فلمسه ‪:‬‬
‫انتقض وضوءه ‪ ،‬لنّه صار في الحقيقة لمسا وملموسا ‪ ،‬فإن لم يكن بالغا فل نقض ‪ ،‬ولو قصد‬
‫ووجد ‪ .‬وأمّا القبلة في الفم فتنقض الوضوء مطلقا ‪ ،‬سواء قصد المقبّل اللّذّة أو وجدها ‪ ،‬أم‬
‫ل ‪ ،‬لنّها مظنّة اللّذّة بخلفها في غير الفم ‪ .‬وسواء في النّقض ‪ :‬المقبّل والمقبّل ‪ ،‬ولو وقعت‬
‫بإكراه أو استغفال ‪.‬‬
‫ول ينتقض الوضوء بلذّة من نظر أو فكر ولو أنعظ ‪ ،‬ول بلمس صغيرة ل تشتهى أو بهيمة ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التقاء بشرتي الرّجل والمرأة ينقض الوضوء ‪ ،‬ول فرق في ذلك‬ ‫‪4‬‬

‫بين أن يكون بشهوة أو إكراه ‪ ،‬أو نسيان ‪ ،‬أو يكون الرّجل ممسوح الذّكر ‪ ،‬أو خصيّا ‪ ،‬أو‬
‫عنّينا ‪ ،‬أو المرأة عجوزا شوهاء أو كافر ًة ‪.‬‬
‫واللّمس عندهم ‪ :‬الحسّ باليد ‪ ،‬والمعنى فيه أنّه مظنّة ثوران الشّهوة ‪ ،‬ومثله في ذلك باقي‬
‫ف لنّ‬
‫ص ببطن الك ّ‬
‫صور اللتقاء فألحقت به ‪ ،‬بخلف نقض الوضوء بمسّ الفرج ‪ ،‬فإنّه يخت ّ‬
‫المسّ إنّما يثير الشّهوة ببطن الكفّ ‪ ،‬واللّمس يثيرها به وبغيره ‪.‬‬
‫والمراد بالرّجل ‪ :‬الذّكر إذا بلغ حدّا يشتهي ل البالغ ‪.‬‬
‫وبالمرأة ‪ :‬النثى إذا صارت مشتهاةً ل البالغة ‪.‬‬
‫ول ينتقض الوضوء بلمس المحرم له بنسب أو رضاع أو مصاهرة ‪ ،‬ولو بشهوة في الظهر ‪،‬‬
‫لنّها ليست مظنّة الشّهوة بالنّسبة إليه ‪ ،‬كالرّجل ‪ .‬ومقابل الظهر ينتقض الوضوء لعموم قوله‬
‫تعالى ‪َ { :‬أوْ َل َمسْ ُتمُ ال ّنسَاء } ‪.‬‬
‫ل كان أو امرأةً كاللمس في نقض وضوئه في الظهر ‪ ،‬لستوائهما في لذّة‬
‫والملموس رج ً‬
‫اللّمس‪.‬‬
‫ول نقض بلمس الصّغيرة أو الصّغير إذا لم يبلغ كلّ منهما حدّا يشتهى عرفا ‪ .‬ول بلمس الشّعر‬
‫أو السّنّ أو الظّفر في الصحّ ‪.‬‬
‫ن من النّواقض للوضوء مسّ بشرة الذّكر بشرة أنثى لشهوة ‪ ،‬لقوله‬
‫‪ -5‬وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫تعالى ‪َ { :‬أوْ َل َمسْ ُتمُ ال ّنسَاء } ‪.‬‬
‫وأمّا كون اللّمس ل ينقض إلّ إذا كان لشهوة فللجمع بين الية والخبار ‪ .‬لنّه روي عن عائشة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ليلةً من الفراش فالتمسته ‪،‬‬
‫‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬قالت ‪ » :‬فقدت النّب ّ‬
‫فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان « ‪ .‬ونصبهما دليل على أنّه كان‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ورجلي‬
‫يصلّي ‪ ،‬وروي عنها أيضا أنّها قالت ‪ » :‬كنت أنام بين يدي النّب ّ‬
‫في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي « ‪.‬‬
‫ن المسّ ليس بحدث في نفسه ‪ ،‬وإنّما هو داع‬
‫والظّاهر أنّ غمزه رجليها كان من غير حائل ‪ .‬ول ّ‬
‫إلى الحدث ‪ ،‬فاعتبرت الحالة الّتي يدعو فيها إلى الحدث ‪ ،‬وهي حالة الشّهوة ‪.‬‬
‫س بشرتها بشرته لشهوة ‪ ،‬لنّها ملمسة تنقض الوضوء فاستوى فيها الذّكر‬
‫وينقض الوضوء م ّ‬
‫والنثى كالجماع ‪.‬‬
‫س النّاقض للوضوء ‪ :‬أن يكون من غير حائل ‪ ،‬لنّه مع الحائل لم يلمس‬
‫ويشترط في الم ّ‬
‫بشرتها‪ ،‬أشبه ما لو لمس ثيابها لشهوة ‪ ،‬والشّهوة ل توجب الوضوء بمجرّدها ‪.‬‬
‫ول ينقض مسّ الرّجل الطّفلة ‪ ،‬ول مسّ المرأة الطّفل ‪ .‬أي ‪ :‬من دون سبع سنوات ‪ ،‬ول‬
‫ينتقض وضوء ملموس بدنه ولو وجد منه شهوةً ‪ ،‬لنّه ل نصّ فيه ‪.‬‬
‫ن ما ينتقض بالتقاء‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشّهوة ‪ ،‬ل ّ‬
‫البشرتين ل فرق فيه بين اللمس والملموس ‪.‬‬
‫ول ينتقض وضوء بانتشار ذكر عن فكر وتكرار نظر ‪ ،‬ول بلمس شعر وظفر وسنّ ول المسّ‬
‫به‪ ،‬لنّه في حكم المنفصل ‪ ،‬ول مسّ عضو مقطوع لزوال حرمته ‪ ،‬ول ينتقض وضوء رجل‬
‫مسّ أمرد ولو بشهوة ‪ ،‬لعدم تناول الية له ‪ .‬ولنّه ليس محلً للشّهوة شرعا ‪.‬‬
‫ول ينتقض الوضوء بمسّ الرّجلِ الرّجلَ ‪ ،‬ول بمسّ المرأ ِة المرأةَ ولو بشهوة ‪.‬‬
‫وتفصيل ما تقدّم في مصطلح ‪ ( :‬وضوء ) ‪.‬‬
‫الشّهوة وأثرها في الصّوم ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬النزال بنظر أو فكر ‪:‬‬
‫ن إنزال المنيّ أو المذي عن نظر وفكر ل يبطل الصّيام ‪،‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫ومقابل الصحّ عند الشّافعيّة أنّه ‪ :‬إذا اعتاد النزال بالنّظر ‪ ،‬أو كرّر النّظر فأنزل يفسد الصّيام ‪.‬‬
‫ن إنزال المنيّ بالنّظر المستديم يفسد الصّوم ‪ ،‬لنّه إنزال بفعل‬
‫وذهب المالكيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أ ّ‬
‫يتلذّذ به ‪ ،‬ويمكن التّحرّز منه ‪.‬‬
‫وأمّا النزال عن فكر فيفسد الصّوم عند المالكيّة ‪ ،‬وعند الحنابلة ل يفسده لنّه ل يمكنه التّحرّز‬
‫عنه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬النزال عن قبلة أو مسّ أو معانقة ‪:‬‬
‫‪ -7‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ إنزال المنيّ باللّمس أو المعانقة أو القبلة يفسد الصّوم ‪ ،‬لنّه‬
‫إنزال بمباشرة فأشبه النزال بالجماع دون الفرج ‪.‬‬
‫أمّا إذا حصل من القبلة والمعانقة واللّمس إنزال مذي فل يفسد الصّوم عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪،‬‬
‫ويفسده عند المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬لنّه خارج تخلّله الشّهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصّوم كالمنيّ‪.‬‬
‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬صوم ) ‪.‬‬
‫الشّهوة وأثرها في الحجّ والعمرة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الجماع ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة فسد حجّه بإجماع العلماء وإذا وقع الجماع بعد الوقوف‬ ‫‪8‬‬

‫بعرفة وقبل التّحلّل الوّل فسد حجّه وعليه بدنة عند جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة‬
‫والحنابلة ‪. -‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى عدم فساد الحجّ وعليه أن يهدي بدن ًة ‪.‬‬
‫ن الجماع إذا وقع بعد التّحلّل الوّل ل يفسد الحجّ ‪.‬‬
‫واتّفق الفقهاء على أ ّ‬
‫)‪.‬‬ ‫‪193‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪191/ 2‬‬ ‫وقد سبق تفصيله في مصطلح ( إحرام ‪ :‬الموسوعة‬
‫ب ‪ -‬مقدّمات الجماع ‪:‬‬
‫‪ -‬اللّمس بشهوة والتّقبيل والمباشرة بغير جماع ‪ ،‬يجب على من فعل شيئا منها الدّم ‪ ،‬سواء‬ ‫‪9‬‬

‫أنزل أم لم ينزل ‪ ،‬وحجّه صحيح على تفصيل وخلف سبق في مصطلح ‪ ( :‬إحرام ‪ :‬الموسوعة‬
‫)‪.‬‬ ‫‪193‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪192/ 2‬‬

‫ج ‪ -‬النّظر والتّفكّر ‪:‬‬


‫‪ -‬النّظر أو التّفكّر بشهوة إذا أدّى إلى النزال ل يجب عليه شيء عند الحنفيّة والشّافعيّة‬ ‫‪10‬‬

‫خلفا للمالكيّة والحنابلة ‪.‬‬


‫)‪.‬‬ ‫‪193/ 2‬‬ ‫وتفصيل الخلف فيه سبق في مصطلح ‪ ( :‬إحرام ‪ :‬الموسوعة‬
‫النّظر بشهوة ‪:‬‬
‫نظر الرّجل للمرأة ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬إذا كانت زوجةً جاز للزّوج النّظر إلى جميع جسدها بشهوة ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫ب ‪ -‬إذا كانت المرأة ذات محرم فقد اختلف الفقهاء فيما يجوز نظر البالغ بل شهوة من محرمه‬
‫النثى ‪:‬‬
‫فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز النّظر إلى ما يظهر غالبا كالرّقبة والرّأس والكفّين والقدمين ‪،‬‬
‫ولم يجز الحنابلة النّظر إلى ما زاد على ذلك ‪.‬‬
‫وزاد الحنفيّة جواز النّظر إلى الصّدر والسّاقين والعضدين ‪ ،‬ولم يجيزوا النّظر إلى ظهرها‬
‫وبطنها‪ ،‬لنّه أدعى للشّهوة ‪.‬‬
‫وتوسّع الشّافعيّة فأجازوا النّظر إلى جميع جسدها إ ّل ما بين سرّتها وركبتها ‪ ،‬وأجازوا النّظر‬
‫إلى السّرّة والرّكبة ‪ ،‬لنّهما ليستا بعورة بالنّسبة لنظر المحرم ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فلم يجيزوا النّظر إلّ إلى وجهها ويديها دون سائر جسدها ‪.‬‬
‫هذا وقد اتّفقوا على حرمة النّظر بشهوة إلى محرمه النثى ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬إذا كانت المرأة أجنب ّيةً حرّ ًة فل يجوز النّظر إليها بشهوة مطلقا ‪ ،‬أو مع خوف الفتنة بل‬
‫خلف بين الفقهاء ‪.‬‬
‫ي إلى سائر بدن الجنبيّة الحرّة إلّ الوجه والكفّين‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أنّه ل يجوز نظر الجنب ّ‬
‫ن النّظر إلى مواضع الزّينة‬
‫ن َيغُضّوا ِمنْ أَبْصَا ِر ِهمْ } ‪ .‬إلّ أ ّ‬
‫لقوله تبارك وتعالى ‪ { :‬قُل لّ ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫ظهَرَ مِ ْنهَا }‬
‫ن إِل مَا َ‬
‫ص فيه بقوله تعالى ‪ { :‬وَل يُبْدِينَ زِينَ َتهُ ّ‬
‫الظّاهرة وهي الوجه والكفّان خ ّ‬
‫والمراد من الزّينة مواضعها ‪ ،‬ومواضع الزّينة الظّاهرة ‪ :‬الوجه والكفّان ‪ ،‬فالكحل زينة الوجه‬
‫والخاتم زينة الكفّ ‪ ،‬ولنّها تحتاج إلى البيع والشّراء والخذ والعطاء ‪ ،‬ول يمكنها ذلك عاد ًة إلّ‬
‫بكشف الوجه والكفّين ‪ ،‬فيح ّل لها الكشف ‪ ،‬وهذا قول أبي حنيفة ‪ ،‬وروى الحسن عن أبي حنيفة‬
‫أنّه يحلّ النّظر إلى القدمين ‪.‬‬
‫والمالكيّة كالحنفيّة في جواز النّظر إلى وجه الجنبيّة وكفّيها ‪ .‬أمّا النّظر إلى القدمين فل يجوز‬
‫عندهم ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يحرم نظر بالغ عاقل مختار ‪ ،‬ولو شيخا أو عاجزا عن الوطء أو مخنّثا‬
‫‪ -‬وهو المتشبّه بالنّساء ‪ -‬إلى عورة أجنبيّة حرّة كبيرة ‪ -‬وهي من بلغت حدّا تشتهى فيه‬
‫ن َيغُضّوا ِمنْ أَبْصَا ِر ِهمْ } والمراد بالعورة ‪ :‬ما عدا‬
‫للنّاظر بل خلف لقوله تعالى ‪ { :‬قُل لّ ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫الوجه والكفّين ‪.‬‬
‫وكذا يحرم عندهم ‪ :‬النّظر إلى الوجه والكفّين عند خوف فتنة تدعو إلى الختلء بها لجماع أو‬
‫مقدّماته بالجماع كما قال إمام الحرمين ‪.‬‬
‫وكذا يحرم عند الشّافعيّة النّظر إلى الوجه والكفّين عند المن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه‬
‫من غير شهوة على الصّحيح ‪ ،‬كذا في المنهاج للنّوويّ ‪.‬‬
‫ووجّهه إمام الحرمين باتّفاق المسلمين على منع النّساء من الخروج سافرات الوجوه ‪ ،‬وبأنّ‬
‫ن أَبْصَارِ ِهمْ }‬
‫النّظر مظنّة الفتنة ومحرّك للشّهوة ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪ { :‬قُل لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ َيغُضّوا مِ ْ‬
‫واللئق بمحاسن الشّريعة سدّ الباب والعراض عن تفاصيل الحوال كالخلوة بالجنبيّة ‪.‬‬
‫والوجه الثّاني عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه ل يحرم ‪ ،‬ونسبه إمام الحرمين لجمهور الشّافعيّة ‪ ،‬ونسبه‬
‫الشّيخان للكثرين ‪ ،‬وقال السنويّ في المهمّات ‪ :‬إنّه الصّواب لكون الكثرين عليه ‪ ،‬وقال‬
‫البلقينيّ ‪ :‬التّرجيح بقوّة المدرك ‪ ،‬والفتوى على ما في المنهاج ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى تحريم نظر الرّجل إلى جميع بدن الجنبيّة من غير سبب في ظاهر كلم‬
‫أحمد‪ .‬وقال القاضي ‪ :‬يحرم عليه النّظر إلى ما عدا الوجه والكفّين ‪ ،‬لنّه عورة ‪ ،‬ويباح له‬
‫النّظر إليهما مع الكراهة إذا أمن الفتنة ونظر لغير شهوة ‪.‬‬
‫هذا وقد اتّفق الفقهاء على أنّ النّظر إلى المرأة بشهوة حرام ‪ ،‬سواء أكانت محرما أم أجنب ّيةً‬
‫عدا زوجته ومن تحلّ له ‪.‬‬
‫ي إذا كان بشهوة ‪.‬‬
‫وكذا يحرم نظر الجنبيّة إلى الجنب ّ‬
‫اللّمس بشهوة ‪:‬‬
‫ن المسّ أبلغ من النّظر في إثارة الشّهوة ‪ ،‬وما حلّ‬
‫‪ -‬متى حرم النّظر حرم المسّ بشهوة ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪12‬‬

‫نظره من ذكر أو أنثى حلّ لمسه إذا أمن الشّهوة على نفسه وعليها ‪ ،‬وإن لم يأمن ذلك أو شكّ‬
‫فل يحلّ له النّظر واللّمس ‪.‬‬
‫س وجهها وكفّيها وإن أمن الشّهوة ‪ ،‬لنّه أغلظ من النّظر ‪.‬‬
‫أمّا الجنبيّة فل يحلّ م ّ‬
‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬لمس ومسّ ) ‪.‬‬
‫أثر الشّهوة في النّكاح ‪:‬‬
‫ن حرمة المصاهرة تثبت بالزّنى ‪.‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪13‬‬

‫ن اللّواط ل ينشر الحرمة ‪ ،‬لنّ المحرّمات‬


‫وزاد الحنابلة اللّواط في رواية ‪ .‬والصّحيح عندهم أ ّ‬
‫حلّ َلكُم مّا َورَاء‬
‫ن في التّحريم ‪ ،‬فيدخلن في عموم قوله تعالى ‪َ { :‬وُأ ِ‬
‫باللّواط غير منصوص عليه ّ‬
‫ذَ ِل ُكمْ } ‪.‬‬
‫ن حرمة المصاهرة كما تثبت بالزّنى تثبت بالمسّ والنّظر بشهوة ‪ .‬فيحرم‬
‫وذهب الحنفيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬
‫أصل ممسوسة بشهوة ولو لشعر على الرّأس بحائل ل يمنع الحرارة ‪ ،‬وكذا يحرم أصل ما‬
‫مسّته‪ .‬ويحرم أيضا نكاح أصل النّاظرة بشهوة إلى ذكر ‪ ،‬وأصل المنظور إلى فرجها بشهوة ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬زنىً ‪ ،‬لواط ‪ ،‬نظر ‪ ،‬نكاح ) والعبرة للشّهوة عند المسّ والنّظر ل‬
‫بعدهما ‪.‬‬
‫حدّ الشّهوة ‪:‬‬
‫‪ -‬ح ّد الشّهوة في النّظر والمسّ تحرّك اللة أو زيادة التّحرّك إن كان موجودا قبلها ‪ ،‬وبه‬ ‫‪14‬‬

‫يفتى عند الحنفيّة ‪.‬‬


‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬لواط ‪ ،‬ونكاح ) ‪.‬‬
‫أثر الشّهوة في الرّجعة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ -‬إلى أنّ الرّجعة تحصل بالقول‬ ‫‪15‬‬

‫س بشهوة ‪.‬‬
‫والفعل ‪ ،‬ويقصدون بالفعل ‪ :‬الوطء ومقدّماته ‪ ،‬ومقدّمات الوطء ل تخلو عن م ّ‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الرّجعة ل تحصل بالفعل كالوطء ومقدّماته ‪ .‬بل ل ب ّد فيها من القول‬
‫قياسا على عقد الزّواج فإنّه ل يصحّ إ ّل بالقول الدّالّ عليه ‪.‬‬
‫وتفصيل الخلف فيه في مصطلح ‪ ( :‬رجعة ) ‪.‬‬
‫كسر الشّهوة ‪:‬‬
‫‪ -‬من أراد الزّواج ولم يستطع ‪ ،‬يكسر شهوته بالصّوم لقوله عليه الصلة والسلم ‪ » :‬يا‬ ‫‪16‬‬

‫ض للبصر وأحصن للفرج ‪ ،‬ومن لم يستطع‬


‫معشر الشّباب من استطاع الباءة فليتزوّج ‪ ،‬فإنّه أغ ّ‬
‫فعليه بالصّوم ‪ ،‬فإنّه له وجاء « ‪.‬‬
‫فمن لم يجد أهبة النّكاح يكسرها بالصّوم ‪ ،‬ول يكسرها بنحو كافور بل يكره له ذلك ويكره أن‬
‫يحتال في قطع شهوته ‪ ،‬لنّه نوع من الخصاء ‪ ،‬إن غلب على الظّنّ أنّه ل يقطع الشّهوة بالكلّيّة‬
‫بل يفتّرها في الحال ‪ ،‬ولو أراد إعادتها باستعمال ضدّ الدوية لمكنه ذلك ‪ ،‬فإن كان يقطع‬
‫الشّهوة حرم ‪.‬‬
‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬نكاح ) ‪.‬‬

‫شهِيد *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫شهَادَةُ‬
‫‪ -‬الشّهيد لغةً ‪ :‬الحاضر ‪ .‬والشّاهد ‪ ،‬العالم الّذي يبيّن ما علمه ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪َ { :‬‬ ‫‪1‬‬

‫ضرَ َأحَ َدكُمُ } ‪.‬‬


‫بَيْ ِنكُمْ إِذَا حَ َ‬
‫والشّهيد من أسماء اللّه تعالى ‪ ،‬ومعناه المين في شهادته والحاضر ‪.‬‬
‫والشّهيد المقتول في سبيل اللّه ‪ ،‬والجمع شهداء ‪.‬‬
‫ن اللّه وملئكته شهدوا له بالجنّة ‪ .‬وقيل ‪ :‬لنّه يكون‬
‫ي سمّي الشّهيد شهيدا ل ّ‬
‫قال ابن النبار ّ‬
‫شهيدا على النّاس بأعمالهم ‪.‬‬
‫والشّهيد في اصطلح الفقهاء ‪ :‬من مات من المسلمين في قتال الكفّار وبسببه ‪.‬‬
‫ويلحق به في أمور الخرة أنواع يأتي بيانها ‪.‬‬
‫منزلة الشّهيد ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّهيد له منزلة عالية عند اللّه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يشهد بها القرآن الكريم في عدد من‬ ‫‪2‬‬

‫حسَبَنّ الّذِينَ قُ ِتلُواْ فِي سَبِيلِ الّل ِه َأمْوَاتا َب ْل َأحْيَاء عِندَ رَ ّبهِمْ‬
‫اليات منها ‪ :‬قوله تعالى ‪َ { :‬ولَ َت ْ‬
‫حقُواْ ِبهِم مّنْ خَ ْل ِف ِهمْ َألّ‬
‫ن ِبمَا آتَا ُهمُ الّل ُه مِن فَضْ ِل ِه وَ َيسْتَ ْبشِرُونَ بِالّذِينَ َلمْ يَ ْل َ‬
‫يُ ْرزَقُونَ ‪ ،‬فَ ِرحِي َ‬
‫ن الّلهَ َل يُضِي ُع َأجْرَ‬
‫ضلٍ َوأَ ّ‬
‫ن بِ ِن ْعمَ ٍة مّنَ الّل ِه وَفَ ْ‬
‫ن ‪َ ،‬يسْتَ ْبشِرُو َ‬
‫خوْفٌ عَلَ ْي ِهمْ َولَ ُهمْ َيحْزَنُو َ‬
‫َ‬
‫ن ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا بِالخِرَ ِة َومَن‬
‫ن َيشْرُو َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } ‪ .‬وقوله تعالى ‪ { :‬فَلْ ُيقَا ِتلْ فِي سَبِي ِل الّلهِ الّذِي َ‬
‫عظِيما } ‪.‬‬
‫سوْفَ ُنؤْتِيهِ َأجْرا َ‬
‫ُيقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ الّلهِ فَ ُيقْ َتلْ أَو َيغْلِبْ َف َ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ويشهد بهذه المنزلة الحاديث الصّحيحة منها ‪ :‬ما روى أنس بن مالك عن النّب ّ‬
‫ب أن يرجع إلى الدّنيا وله ما على الرض من شيء إلّ‬
‫وسلم قال ‪ » :‬ما أحد يدخل الجنّة يح ّ‬
‫الشّهيد يتمنّى أن يرجع إلى الدّنيا فيقتل عشر مرّات لما يرى من الكرامة « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬يشفع الشّهيد‬
‫وما روى أبو الدّرداء ‪ -‬رضي ال عنه عن النّب ّ‬
‫في سبعين من أهل بيته « ‪.‬‬
‫وفي حديث آخر ‪ » :‬للشّهيد عند اللّه ستّ خصال ‪ ،‬يغفر له في أوّل دفعة ‪ ،‬ويرى مقعده من‬
‫الجنّة ‪ ،‬ويجار من عذاب القبر ‪ ،‬ويأمن من الفزع الكبر ‪ ،‬ويوضع على رأسه تاج الوقار ‪،‬‬
‫الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها ‪ ،‬ويزوّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور ‪ ،‬ويشفع في‬
‫سبعين من أقاربه « ‪.‬‬
‫أقسام الشّهيد ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّهيد على ثلثة أقسام ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫الوّل شهيد الدّنيا والخرة ‪ ،‬والثّاني شهيد الدّنيا ‪ ،‬والثّالث شهيد الخرة ‪.‬‬
‫فشهيد الدّنيا والخرة هو الّذي يقتل في قتال مع الكفّار ‪ ،‬مقبلً غير مدبر ‪ ،‬لتكون كلمة اللّه هي‬
‫العليا ‪ ،‬وكلمة الّذين كفروا هي السّفلى ‪ ،‬دون غرض من أغراض الدّنيا ‪.‬‬
‫ل أتى النّبيّ صلى ال عليه‬
‫ففي الحديث عن أبي موسى ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬إنّ رج ً‬
‫وسلم فقال مستفهما ‪ :‬الرّجل يقاتل للمغنم ‪ ،‬والرّجل يقاتل للذّكر ‪ ،‬والرّجل يقاتل ليرى مكانه ‪،‬‬
‫فمن في سبيل اللّه ؟ قال عليه الصلة والسلم ‪ :‬من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا ‪ ،‬فهو في‬
‫سبيل اللّه « ‪.‬‬
‫أمّا شهيد الدّنيا ‪ :‬فهو من قتل في قتال مع الكفّار وقد غلّ في الغنيمة ‪ ،‬أو قاتل ريا ًء ‪ ،‬أو‬
‫لغرض من أغراض الدّنيا ‪.‬‬
‫وأمّا شهيد الخرة ‪ :‬فهو المقتول ظلما من غير قتال ‪ ،‬وكالميّت بداء البطن ‪ ،‬أو بالطّاعون ‪ ،‬أو‬
‫بالغرق ‪ ،‬وكالميّت في الغربة ‪ ،‬وكطالب العلم إذا مات في طلبه ‪ ،‬والنّفساء الّتي تموت في‬
‫طلقها‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫واستثني من الغريب العاصي بغربته ‪ ،‬ومن الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه‬
‫عدم السّلمة ‪ ،‬أو ركوبه لتيان معصية من المعاصي ‪ ،‬ومن الطّلق الحامل بزنىً ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬الشّهداء‬
‫فعن أبي هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أ ّ‬
‫خمسة ‪ :‬المطعون ‪ ،‬والمبطون ‪ ،‬والغرق ‪ ،‬وصاحب الهدم ‪ ،‬والشّهيد في سبيل اللّه « ‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬الطّاعون‬
‫شهادة لكلّ مسلم « ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬من قتل دون ماله فهو شهيد « ‪.‬‬
‫وفي حديث أ ّ‬
‫غسل الشّهيد والصّلة عليه ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّ شهيد المعترك ل يغسّل ‪ ،‬خلفا لما ذهب إليه الحسن‬ ‫‪4‬‬

‫البصريّ ‪ ،‬وسعيد بن المسيّب ‪ ،‬إذ قال بغسله ‪.‬‬


‫أمّا الصّلة عليه فيرى الحنفيّة وجوبها وهو ما قال به الخلل والثّوريّ ‪ ،‬وروي عن أحمد بن‬
‫حنبل القول باستحبابها ‪.‬‬
‫ويستدلّ الحنفيّة للزوم الصّلة بما روى ابن عبّاس وابن الزّبير ‪ » :‬أنّه عليه الصلة والسلم‬
‫صلّى على شهداء أحد ‪ ،‬وكان يؤتى بتسعة تسعة ‪ ،‬وحمزة عاشرهم ‪ ،‬فيصلّي عليهم ‪ .‬وقالوا ‪:‬‬
‫إنّه صلى ال عليه وسلم صلّى على غيرهم « ‪.‬‬
‫وعن شدّاد بن الهاد ‪ » :‬أنّ رجلً من العراب جاء إلى النّبيّ صلى ال عليه وسلم فآمن به‬
‫واتّبعه ثمّ قال ‪ :‬أهاجر معك ‪ .‬فأوصى به النّبيّ صلى ال عليه وسلم بعض أصحابه ‪ ،‬فلمّا كانت‬
‫ي صلى ال عليه وسلم سبيا فقسم وقسم له ‪ ،‬فأعطى أصحابه ما قسم له ‪،‬‬
‫غزوة ‪ ،‬غنم النّب ّ‬
‫ي صلى‬
‫وكان يرعى ظهرهم ‪ .‬فلمّا جاء دفعوه إليه فقال ‪ :‬ما هذا ؟ قالوا ‪ :‬قسم قسمه لك النّب ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬ما هذا ؟ قال ‪ :‬قسمته‬
‫ال عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النّب ّ‬
‫لك ‪ ،‬قال‪ :‬ما على هذا اتّبعتك ‪ ،‬ولكنّي اتّبعتك على أن أرمى إلى ههنا ‪ ،‬وأشار إلى حلقه ‪،‬‬
‫بسهم فأموت فأدخل الجنّة ‪ .‬فقال ‪ :‬إن تصدق اللّه يصدقك ‪ .‬فلبثوا قليلً ث ّم نهضوا في قتال‬
‫ي صلى ال عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار ‪ .‬فقال النّبيّ صلى ال‬
‫العدوّ فأتي به النّب ّ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫عليه وسلم‪ :‬أهو هو ؟ قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬صدق اللّه فصدقه ‪ .‬ث ّم كفّنه النّب ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ثمّ قدّمه فصلّى عليه فكان فيما ظهر من صلته ‪ :‬اللّهمّ‬
‫وسلم في جبّة النّب ّ‬
‫هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا ‪ ،‬أنا شهيد على ذلك « ‪.‬‬
‫وبما روي عن عقبة بن عامر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬إنّه عليه السلم خرج يوما فصلّى‬
‫على أهل أحد صلته على الميّت ثمّ انصرف إلى المنبر « ‪.‬‬
‫ن الصّلة على الميّت شرعت إكراما له ‪ ،‬والطّاهر من الذّنب ل يستغني عنها ‪ ،‬كالنّبيّ‬
‫وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫والصّبيّ ‪.‬‬
‫ص بعضهم على تحريمهما ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فيرون عدم غسله والصّلة عليه ‪ ،‬ون ّ‬
‫قال الشّافعيّة ‪ :‬يحرم غسل الشّهيد والصّلة عليه لنّه حيّ بنصّ القرآن ‪ ،‬ولما ورد عن جابر ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم ‪ ،‬ولم يغسّلوا ولم يصلّ عليهم « ‪.‬‬
‫» أنّ النّب ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم لم يص ّل عليهم وقال في قتلى أحد ‪:‬‬
‫وجاء من وجوه متواترة أنّ النّب ّ‬
‫» زمّلوهم بدمائهم « ‪.‬‬
‫ولعلّ ترك الغسل والصّلة على من قتله جماعة المشركين إرادة أن يلقوا اللّه جلّ وعزّ بكلومهم‬
‫ن ريح الكلم ريح المسك واللّون لون الدّم «‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أ ّ‬
‫لما جاء فيه عن النّب ّ‬
‫واستغنوا بكرامة اللّه جلّ وع ّز عن الصّلة لهم مع التّخفيف على من بقي من المسلمين لما‬
‫يكون فيمن قاتل بالزّحف من المشركين من الجراح وخوف عودة العدوّ ورجاء طلبهم وهمّهم‬
‫بأهليهم وهمّ أهليهم بهم ‪.‬‬
‫والحكمة في ذلك إبقاء أثر الشّهادة عليهم والتّعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬ليس شيء أحبّ إلى اللّه من قطرتين وأثرين‬
‫وورد عن النّب ّ‬
‫قطرة من دموع في خشية اللّه ‪ ،‬وقطرة دم تهراق في سبيل اللّه ‪ ،‬أمّا الثران فأثر في سبيل‬
‫اللّه‪ ،‬وأثر في فريضة من فرائض اللّه « ‪.‬‬
‫وجمهور الحنابلة يرون حرمة غسله ‪ ،‬وهي رواية عن المام أحمد ‪ ،‬غير أنّ منهم من يرى‬
‫كراهته ‪ ،‬أمّا الصّلة فل يصلّى عليه في أصحّ الرّوايتين لديهم ‪ .‬وفي رواية عندهم تجب الصّلة‬
‫عليه ‪ ،‬ومال إلى هذا بعض علمائهم منهم الخلل ‪ ،‬وأبو الخطّاب وأبو بكر بن عبد العزيز في‬
‫التّنبيه ‪.‬‬
‫ضابط الشّهيد الّذي ل يغسّل ول يصلّى عليه ‪:‬‬
‫ن ‪ :‬من قتله المشركون في القتال ‪ ،‬أو وجد ميّتا في مكان المعركة وبه‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪5‬‬

‫أثر جراحة أو دم ‪ ،‬ل يغسّل لقوله صلى ال عليه وسلم في شهداء أحد ‪ » :‬زمّلوهم بكلومهم‬
‫ودمائهم ول تغسّلوهم « ‪ ،‬ولم ينقل خلف في هذا إلّ ما روي عن الحسن ‪ ،‬وسعيد بن المسيّب‬
‫ن ك ّل مسلم مات بسبب قتال‬
‫‪ .‬واختلفوا في غير من ذكر ‪ ،‬فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬
‫الكفّار حال قيام القتال ل يغسّل ‪ ،‬سواء قتله كافر ‪ ،‬أو أصابه سلح مسلم خطأً ‪ ،‬أو عاد إليه‬
‫سلحه ‪ ،‬أو سقط عن دابّته ‪ ،‬أو رمحته دابّة فمات ‪ ،‬أو وجد قتيلً بعد المعركة ولم يعلم سبب‬
‫موته ‪ ،‬سواء كان عليه أثر دم أم ل ‪ ،‬ول فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة ‪ ،‬والح ّر والعبد ‪،‬‬
‫والبالغ والصّبيّ ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬يغسّل كلّ مسلم قتل بالحديد ظلما وهو طاهر بالغ ‪ ،‬ولم يجب عوض ماليّ في‬
‫قتله‪ ،‬فإن كان جنبا أو صبيّا ‪ ،‬أو وجب في قتله قصاص ‪ ،‬فإنّه يغسّل ‪ ،‬وإن وجد قتيلً في مكان‬
‫المعركة ‪ ،‬فإن ظهر فيه أثر لجراحة ‪ ،‬أو دم في موضع غير معتاد كالعين فل يغسّل ‪.‬‬
‫ولو خرج الدّم من موضع يخرج الدّم عادةً منه بغير آفة في الغالب كالنف ‪ ،‬والدّبر والذّكر‬
‫فيغسّل ‪.‬‬
‫والصل عندهم في غسل الشّهيد ‪ :‬أنّ كلّ من صار مقتولً في قتال أهل الحرب أو البغاة ‪ ،‬أو‬
‫قطّاع الطّريق ‪ ،‬بمعنىً مضاف إلى العدوّ كان شهيدا ‪ ،‬سواء بالمباشرة أو التّسبّب ‪ ،‬وكلّ من‬
‫صار مقتولً بمعنىً غير مضاف إلى العد ّو ل يكون شهيدا ‪ .‬فإن سقط من دابّته من غير تنفير‬
‫من العدوّ أو انفلتت دابّة مشرك وليس عليها أحد فوطئت مسلما ‪ ،‬أو رمى مسلم إلى العدوّ‬
‫فأصاب مسلما ‪ ،‬أو هرب المسلمون فألجأهم العدوّ إلى خندق ‪ ،‬أو نار ‪ ،‬أو جعل المسلمون‬
‫الحسك حولهم‪ ،‬فمشوا عليها ‪ ،‬في فرارهم ‪ ،‬أو هجومهم على الكفّار فماتوا يغسّلون ‪ ،‬وكذا إن‬
‫صعد مسلم حصنا للعدوّ ليفتح الباب للمسلمين ‪ ،‬فزلّت رجله فمات ‪ ،‬يغسّل ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل يغسّل الشّهيد سواء كان مكلّفا أو غيره إ ّل إن كان جنبا أو امرأةً حائضا أو‬
‫نفساء طهرت من حيضها ‪ ،‬أو نفاسها ‪ ،‬وإن سقط من دابّته أو وجد ميّتا ول أثر به ‪ ،‬أو سقط‬
‫من شاهق في القتال أو رفسته دابّة فمات منها ‪ ،‬أو عاد إليه سهمه فيها ‪ ،‬فالصّحيح في‬
‫المذهب في ذلك كلّه أنّه ‪ :‬يغسّل ‪ ،‬إذا لم يكن ذلك من فعل العدوّ ‪ ،‬ومن قتل مظلوما ‪ ،‬بأيّ سلح‬
‫قتل ‪ ،‬كقتيل اللّصوص ونحوه يلحق بشهيد المعركة ‪ ،‬فل يغسّل في أصحّ الرّوايتين عن أحمد ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ :‬يغسّل من قتله اللّصوص أو البغاة ‪ .‬أمّا من مات في غير ما ذكر‬
‫من الّذين ورد فيهم أنّهم شهداء ‪ :‬كالغريق ‪ ،‬والمبطون ‪ ،‬والمرأة الّتي ماتت في الولدة ‪ ،‬وغير‬
‫ذلك فإنّهم شهداء في الخرة ‪ ،‬ولكنّهم يغسّلون باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫إزالة النّجاسة عن الشّهيد ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه إذا كان على الشّهيد نجاسة غير دم الشّهادة‬ ‫‪6‬‬

‫تغسل عنه ‪ ،‬وإن أدّى ذلك إلى إزالة دم الشّهادة ‪ ،‬لنّها ليست من أثر العبادة ‪ ،‬وفي قول عند‬
‫الشّافعيّة ‪ ،‬ول تغسل النّجاسة إذا كانت تؤدّي إلى إزالة دم الشّهادة ‪.‬‬
‫ن النّجاسة تغسل عن الشّهيد عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫وسبق أ ّ‬
‫موت الشّهيد بجراحه في المعركة ‪:‬‬
‫‪ -‬المُرْ َتثّ ‪ :‬وهو من جرح في القتال ‪ ،‬وقد بقيت فيه حياة مستقرّة ثمّ مات يغسّل وإن قطع أنّ‬ ‫‪7‬‬

‫جراحته ستؤدّي إلى موته ‪.‬‬


‫وينظر التّفصيل في ‪ ( :‬ارتثاث ‪. ) 9/ 3‬‬
‫تكفين الشّهيد ‪:‬‬
‫‪ -‬شهيد القتال مع الكفّار ل يكفّن كسائر الموتى بل يدفن في ثيابه الّتي كانت عليه في المعركة‬ ‫‪8‬‬

‫بعد نزع آلة الحرب عنه ‪.‬‬


‫لحديث ‪ » :‬زمّلوهم بدمائهم « ‪ ،‬وفي رواية ‪ » :‬في ثيابهم « ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪14‬‬ ‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬تكفين ف‬
‫دفن الشّهيد ‪:‬‬
‫‪ -‬من السّنّة أن يدفن الشّهداء في مصارعهم ‪ ،‬ول ينقلون إلى مكان آخر ‪ ،‬فإنّ قوما من‬ ‫‪9‬‬

‫الصّحابة نقلوا قتلهم في واقعة أحد إلى المدينة ‪ ،‬فنادى منادي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫بالمر بر ّد القتلى إلى مصارعهم ‪.‬‬
‫فقد قال جابر ‪ » :‬فبينما أنا في ال ّنظّارين إذ جاءت عمّتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح ‪،‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه‬
‫فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا ‪ ،‬إذ لحق رجل ينادي ‪ ،‬أل إ ّ‬
‫وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت ‪ :‬فرجعنا بهما فدفنّاهما حيث‬
‫قتل ‪. « ..‬‬
‫دفن أكثر من شهيد في قبر واحد ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز دفن الرّجلين أو الثّلثة في القبر الواحد ‪ ،‬فإنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كان‬ ‫‪10‬‬

‫يجمع بين الرّجلين من قتلى أحد في قبر واحد ‪ ،‬ثمّ يقول ‪ » :‬أيّهم أكثر أخذًا للقرآن ؟ فإذا أشير‬
‫له إلى أحدهما قدّمه في اللّحد ‪ ،‬وقال ‪ :‬أنا شهيد على هؤلء يوم القيامة ‪ ،‬وأمر بدفنهم في‬
‫دمائهم ‪ ،‬ولم يصلّ عليهم ولم يغسّلهم « ‪.‬‬
‫ودفن عبد اللّه بن عمرو بن حرام وعمرو بن جموح في قبر واحد ‪ ،‬لما كان بينهما من‬
‫المحبّة ‪ ،‬إذ قال عليه الصلة والسلم ‪ » :‬ادفنوا هذين المتحابّين في الدّنيا في قبر واحد « ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪14‬‬ ‫وتفصيله في مصطلح ( دفن ف‬
‫شُورَى *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّورى لغةً ‪ :‬يقال ‪ :‬شاورته في المر واستشرته ‪ :‬راجعته لرى رأيه فيه ‪ ،‬واستشاره ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫طلب منه المشورة ‪ .‬وأشار عليه بالرّأي ‪ .‬وأشار يشير إذا وجّه الرّأي ‪ ،‬وأشار إليه باليد ‪:‬‬
‫أومأ‪ .‬اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الرّأي ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّأي ‪ :‬العقل والتّدبير والعتقاد ‪ ،‬ورجل ذو رأي أي ‪ :‬بصيرة وحذق بالمور ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ب ‪ -‬النّصيحة ‪:‬‬
‫‪ -‬النّصيحة ‪ :‬الخلص والصّدق والمشورة والعمل ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫نصحت لزيد ‪ ،‬أنصح نصحا ونصيحةً ‪ ،‬هذه اللّغة الفصيحة ‪.‬‬


‫وفي الحديث ‪ » :‬الدّين النّصيحة قالوا ‪ :‬لمن ؟ قال ‪ :‬للّه ولكتابه ولرسوله ولئمّة المسلمين‬
‫وعامّتهم « ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬للعلماء في حكم الشّورى ‪ -‬من حيث هي ‪ -‬رأيان ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫الوّل ‪ :‬الوجوب ‪ :‬وينسب هذا القول للنّوويّ ‪ ،‬وابن عطيّة ‪ ،‬وابن خويز منداد ‪ ،‬والرّازيّ ‪.‬‬
‫ع َزمْتَ فَ َت َوكّ ْل عَلَى الّل ِه إِنّ الّل َه ُيحِبّ‬
‫واستدلّوا بقوله تعالى ‪َ { :‬وشَاوِ ْر ُهمْ فِي ا َلمْرِ فَإِذَا َ‬
‫ا ْلمُ َتوَكّلِينَ} وظاهر المر في قوله تعالى ‪َ { :‬وشَاوِ ْر ُهمْ } يقتضي الوجوب ‪.‬‬
‫والمر للنّبيّ صلى ال عليه وسلم بالمشاورة ‪ ،‬أمر لمّته لتقتدي به ول تراها منقصةً ‪ ،‬كما‬
‫مدحهم سبحانه وتعالى في قوله‪َ { :‬وَأمْرُ ُهمْ شُورَى بَيْ َن ُهمْ } ‪.‬‬
‫قال ابن خويز منداد ‪ :‬واجب على الولة مشاورة العلماء فيما ل يعلمون ‪ ،‬وما أشكل عليهم من‬
‫أمور الدّين ‪ ،‬ووجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب ‪ ،‬ووجوه النّاس فيما يتعلّق بالمصالح ‪ ،‬ووجوه‬
‫الكتّاب والوزراء والعمّال ‪ ،‬فيما يتعلّق بمصالح البلد وعمارتها ‪.‬‬
‫قال ابن عطيّة ‪ :‬والشّورى من قواعد الشّريعة ‪ ،‬وعزائم الحكام ‪ ،‬ومن ل يستشير أهل العلم‬
‫والدّين فعزله واجب وهذا ممّا ل اختلف فيه ‪.‬‬
‫ول يصحّ اعتبار المر بالشّورى لمجرّد تطييب نفوس الصّحابة ‪ ،‬ولرفع أقدارهم ‪ ،‬لنّه لو كان‬
‫معلوما عندهم أنّ مشورتهم غير مقبولة وغير معمول عليها مع استفراغهم للجهد في استنباط‬
‫ما شوروا فيه ‪ ،‬لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ول رفع لقدارهم ‪ ،‬بل فيه إيحاشهم وإعلمهم‬
‫بعدم قبول مشورتهم ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬النّدب ‪ :‬وينسب هذا القول لقتادة ‪ ،‬وابن إسحاق ‪ ،‬والشّافعيّ ‪ ،‬والرّبيع ‪.‬‬
‫واستدلّوا بأنّ المعنى الّذي من أجله أمر النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن يشاور أصحابه في مكائد‬
‫الحروب ‪ ،‬وعند لقاء العدوّ ‪ ،‬هو تطييب لنفوسهم ‪ ،‬ورفع لقدارهم ‪ ،‬وتألّفهم على دينهم ‪ ،‬وإن‬
‫كان اللّه قد أغناه عن رأيهم بوحيه ‪.‬‬
‫ق عليهم ‪ ،‬فأمر اللّه تعالى نبيّه صلى ال‬
‫ولقد كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في المر ش ّ‬
‫عليه وسلم أن يشاورهم ليعرفوا إكرامه لهم فتذهب أضغانهم ‪ .‬فالمر في الية محمول على‬
‫النّدب كما في قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬البكر تستأمر « ولو أجبرها الب على النّكاح جاز‬
‫‪ .‬لكنّ الولى أن يستأمرها ‪ ،‬ويستشيرها تطييبا لنفسها ‪ ،‬فكذا هاهنا ‪.‬‬
‫حكم الشّورى في حقّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ن من الخصائص‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أ ّ‬
‫‪ -‬ذكر الفقهاء في سياق عدّهم لخصائص النّب ّ‬ ‫‪5‬‬

‫الواجبة في حقّه المشاورة في المر مع أهله وأصحابه لقوله تعالى ‪َ { :‬وشَاوِرْ ُهمْ فِي ا َلمْرِ }‬
‫ووجه اختصاصه صلى ال عليه وسلم بوجوب المشاورة ‪ -‬مع كونها واجبةً على غيره من‬
‫أولي المر ‪ -‬أنّه وجب عليه ذلك مع كمال علمه ومعرفته ‪.‬‬
‫والحكمة في مشورته صلى ال عليه وسلم لصحابه ‪ :‬أن يستنّ بها الحكّام بعده ‪ ،‬ل ليستفيد‬
‫منهم علما أو حكما ‪ .‬فقد كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم غنيّا عن مشورتهم بالوحي ‪ ،‬كما أنّ‬
‫في استشارتهم تطييبا لقلوبهم ‪ ،‬ورفعا لقدارهم ‪ ،‬وتألّفا لهم على دينهم ‪.‬‬
‫قال أبو هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ : -‬ما رأيت من النّاس أحدا أكثر مشورةً لصحابه من رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ص ‪ ،‬إذ‬
‫‪ -‬واتّفق الفقهاء على أنّ مح ّل مشاورته صلى ال عليه وسلم ل تكون فيما ورد فيه ن ّ‬ ‫‪6‬‬

‫التّشاور نوع من الجتهاد ول اجتهاد في مورد النّصّ ‪.‬‬


‫أمّا ما عدا ذلك ‪ :‬فإنّ مح ّل مشاورته صلى ال عليه وسلم إنّما هو في أخذ الرّأي في الحروب‬
‫وغيرها من المهمّات ممّا ليس فيه حكم بين النّاس ‪ ،‬وأمّا ما فيه حكم بين النّاس فل يشاور‬
‫ن اللّه‬
‫فيه‪ ،‬لنّه إنّما يلتمس العلم منه ‪ ،‬ول ينبغي لحد أن يكون أعلم منه ‪ ،‬بما أنزل عليه ل ّ‬
‫ك ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّز َل إِلَ ْي ِهمْ } ‪.‬‬
‫سبحانه وتعالى يقول ‪َ { :‬وأَنزَلْنَا إِلَيْ َ‬
‫أمّا في غ ير الحكام فربّ ما بلغ هم من العلم ممّا شاهدوه أو سمعوه ما لم يبلغ النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم استشار أصحابه في مهمّات المور‬
‫ن النّب ّ‬
‫ح في حوادث كثيرة أ ّ‬
‫وقد ص ّ‬
‫ممّا ليس فيه حكم ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم شاور أصحابه في أمر الذان وهو من أمور الدّين فعن ابن عمر‬
‫وأنّ النّب ّ‬
‫‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلة ليس‬
‫ينادى لها ‪ ،‬فتكلّموا يوما في ذلك ‪ ،‬فقال بعضهم اتّخذوا ناقوسا مثل ناقوس النّصارى ‪ ،‬وقال‬
‫بعضهم ‪ :‬بل بوقا مثل قرن اليهود ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬أول تبعثون رجلً ينادي بالصّلة ؟ فقال رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يا بلل قم فناد بالصّلة « ومن ذلك أنّه أراد مصالحة عيينة بن‬
‫ي والحارث بن عوف الم ّريّ ‪ ،‬حين حصره الحزاب في الخندق على أن يعطيهم‬
‫حصن الفزار ّ‬
‫ثلث ثمار المدينة ‪ ،‬ويرجعا بمن معهما من غطفان عنه ‪ ،‬فاستشار سعد بن معاذ ‪ ،‬وسعد بن‬
‫عبادة ‪ ،‬فقال له ‪ :‬يا رسول اللّه أمرا تحبّه فنصنعه أم شيئا أمرك اللّه به ل ب ّد لنا من العمل به‬
‫أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال ‪ :‬بل شيء أصنعه لكم ‪ ،‬فأشارا عليه ألّ يعطيهما فلم يعطهما شيئا ‪.‬‬
‫كما استشار في أسارى بدر ‪ ،‬فأشار أبو بكر ‪ :‬بالفداء ‪ ،‬وأشار عمر بالقتل ‪ ،‬فعمل النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم برأي أبي بكر رضي ال عنه ‪ ،‬وكان هذا قبل نزول آية النفال ‪ { :‬مَا كَانَ لِنَبِيّ‬
‫أَن َيكُونَ َلهُ َأسْرَى حَتّى يُ ْثخِنَ فِي الَرْضِ } ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم منزله ببدر قال له الحباب بن المنذر ‪ :‬يا رسول اللّه أرأيت‬
‫ولمّا نزل النّب ّ‬
‫هذا المنزل ؟ أمنزل أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدّمه ول نتأخّر عنه ؟ أم هو الرّأي والحرب‬
‫والمكيدة ؟ فقال ‪ :‬بل هو الرّأي والحرب والمكيدة ‪ ،‬قال ‪ :‬إنّ هذا ليس لنا بمنزل ‪ ،‬فانهض‬
‫بالنّاس ‪ ،‬حتّى نأتي أدنى منزل من القوم فننزله ثمّ نغور ما وراءه من القلب ‪ ،‬ونبني لك حوضا‬
‫فنمله ما ًء ‪ ،‬ثمّ نقاتل النّاس ‪ ،‬فنشرب ول يشربون ‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬لقد أشرت‬
‫بالرّأي ‪.‬‬
‫كما شاور النّبيّ صلى ال عليه وسلم عليّا وأسامة ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬في قصّة الفك ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ -‬وهو على المنبر ‪ » : -‬ما تشيرون عليّ‬
‫وجاء في الحديث أنّ النّب ّ‬
‫في قوم يسبّون أهلي ؟ ما علمت عليهم إلّ خيرا « وكان هذا قبل نزول براءة عائشة ‪ -‬رضي‬
‫ال عنها ‪ -‬في سورة النّور ‪.‬‬
‫الشّورى في القضاء ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّه يندب للقاضي أن يستشير فيما يعرض عليه من الوقائع‬ ‫‪7‬‬

‫الّتي يشكل عليه أمرها إذا لم يتبيّن له فيها الحكم ‪.‬‬


‫ومحلّ الشّورى في القضاء هو فيما اختلفت فيه أقوال الفقهاء ‪ ،‬وتعارضت فيه آراؤهم في‬
‫المسائل الدّاخلة في الجتهاد ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬فل مدخل للمشاورة فيه ‪.‬‬
‫ص ‪ ،‬أو إجماع ‪ ،‬أو قياس جل ّ‬
‫أمّا الحكم المعلوم بن ّ‬
‫ن القاضي يؤمر بألّ يقضي فيما سبيله الجتهاد إلّ بعد مشورة من‬
‫وفي قول عند المالكيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫يسوغ له الجتهاد ‪ ،‬إذا لم يكن القاضي من أهل الجتهاد ‪.‬‬
‫وعلى القول بالنّدب ‪ ،‬فإنّ القاضي ل يلزم بمشورة مستشاريه فإذا حكم باجتهاده فليس لحد أن‬
‫يعترض عليه لنّ في ذلك افتياتا عليه وإن خالف اجتهاده ‪ ،‬إلّ أن يحكم بما يخالف نصّا من‬
‫كتاب أو سنّة ‪ ،‬أو إجماعا ‪ ،‬وذلك لوجوب نقض حكمه في هذه الحالة ‪.‬‬
‫ويشاور القاضي الموافقين والمخالفين من الفقهاء ‪ ،‬ويسألهم عن حججهم ليقف على أدلّة كلّ‬
‫فريق فيكون اجتهاده أقرب إلى الصّواب ‪.‬‬
‫فإذا لم يقع اجتهاد القاضي على شيء ‪ ،‬وبقيت الحادثة مختلف ًة ومشكلةً ‪ ،‬كتب إلى فقهاء غير‬
‫مصره ‪ ،‬فالمشاورة بالكتاب سنّة قديمة في الحوادث الشّرعيّة‬
‫ما يلزم المستشار في مشورته ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬المستشار‬
‫‪ -‬على من استشير أن يصدق في مشورته لقول النّب ّ‬ ‫‪8‬‬

‫مؤتمن « ولقوله ‪ » :‬الدّين النّصيحة « ‪.‬‬


‫وسواء استشير في أمر نفسه أم في أمر غيره ‪ ،‬فيذكر المحاسن والمساوئ كما يذكر العيوب‬
‫الشّرعيّة والعيوب العرفيّة ‪.‬‬
‫ول يكون ذكر المساوئ من الغيبة المحرّمة إن قصد بذكرها النّصيحة ‪.‬‬
‫وهذا الحكم شامل في كلّ ما أريد الجتماع عليه ‪ ،‬كالنّكاح ‪ ،‬والسّفر ‪ ،‬والشّركة ‪ ،‬والمجاورة ‪،‬‬
‫وإيداع المانة ‪ ،‬والرّواية عنه ‪ ،‬والقراءة عليه ‪.‬‬
‫ولفقهاء المذاهب تفصيل في حكم ذكر المساوئ ‪ ،‬وفيما يلي بيانه ‪:‬‬
‫ذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز لمن استشاره الزّوج في التّزوّج بفلنة أن يذكر له ما يعلمه فيها من‬
‫العيوب ليحذره منها ‪ ،‬ويجوز لمن استشارته المرأة في التّزوّج بفلن أن يذكر لها ما يعلمه فيه‬
‫من العيوب لتحذر منه ‪.‬‬
‫ومحلّ جواز ذكر المساوئ للمستشار إذا كان هناك من يعرف حال المسئول عنه غير ذلك‬
‫المستشار ‪ ،‬وإلّ وجب عليه البيان ‪ ،‬لنّه من باب النّصيحة لخيه المسلم ‪ ،‬وفي قول آخر ‪:‬‬
‫يجب عليه ذكر المساوئ مطلقا ‪ ،‬كان هناك من يعرف تلك المساوئ غيره ‪ ،‬أم ل ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى وجوب ذكر المساوئ سواء استشير أو لم يستشر في النّكاح والمبيع‬
‫وغيرهما لكن بشرط سلمة العاقبة ‪ ،‬بأن يأمن الذّاكر على نفسه وماله وعرضه ‪.‬‬
‫وفي قول للشّافعيّة ‪ :‬أنّ من استشير في أمر نفسه وجب ذكر العيب إن كان ممّا يثبت به الخيار‬
‫ن ذكره ‪ ،‬وإلّ وجب عليه التّوبة منه ‪ ،‬وستر نفسه ‪.‬‬
‫كالعنّة وإلّ فإن لم يكن معصيةً كبخل فيس ّ‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬على من استشير في خاطب أو مخطوبة أن يذكر ما فيه من مساوئ أي عيوب‬
‫وغيرها ‪ ،‬ول يكون ذكر المساوئ غيبةً محرّمةً مع قصده بذكر ذلك النّصيحة لحديث ‪:‬‬
‫» المستشار مؤتمن « وحديث ‪ » :‬الدّين النّصيحة } وإن استشير في أمر نفسه بيّنه وجوبا‬
‫ح وخلقي شديد ونحوهما ‪.‬‬
‫كقوله‪ :‬عندي ش ّ‬
‫الشّورى في عقد المامة الكبرى ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز للمام أن يجعل الخلفة من بعده شورى بين عدد محصور يعيّنهم فيرتضون بعد‬ ‫‪9‬‬

‫موته ‪ -‬أو في حياته بإذنه ‪ -‬أحدهم كما جعل عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬المر شورى بين ستّة‬
‫من الصّحابة وهم ‪ :‬عليّ والزّبير وعثمان وعبد الرّحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وطلحة‬
‫‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬وارتضوا بالتّشاور بينهم على أن تكون الخلفة لعثمان من بينهم ‪.‬‬
‫وعقد المامة بهذه الطّريقة داخل في الستخلف إ ّل أنّه يكون لواحد بعينه ‪ ،‬وهنا يكون في عدد‬
‫محصور يعيّن الخليفة من بينهم بالتّشاور ‪.‬‬
‫والشّورى ليست شرطا في عقد المامة ‪.‬‬
‫ويجوز للمام أن ينفرد بعقد البيعة لمن أدّاه اجتهاده إلى صلحيّته ما لم يكن والدا ول ولدا ‪.‬‬
‫واختلف العلماء في اشتراط رضا أهل الختيار به ‪:‬‬
‫فمن العلماء من ذهب إلى أنّ رضا أهل الختيار شرط في لزوم بيعته لنّها حقّ يتعلّق بالمّة فلم‬
‫تلزمهم بيعته إلّ برضا أهل الختيار منهم ‪.‬‬
‫ن بيعة عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬لم‬
‫ومنهم من ذهب إلى عدم اعتبار رضا أهل الختيار ‪ ،‬ل ّ‬
‫تتوقّف على رضا الصّحابة ‪ ،‬ولنّ المام أحقّ بها ‪ ،‬فكان اختياره فيها أمضى ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان ولدا أو والدا فللعلماء في انفراد المام بعقد البيعة له دون استشارة ثلثة مذاهب ‪:‬‬
‫المذهب الوّل ‪:‬‬
‫ل صحّ منه‬
‫ل يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لحدهما حتّى يشاور فيه أهل الختيار ‪ ،‬فإذا رأوه أه ً‬
‫ن عقد البيعة تزكية تجري مجرى الشّهادة ‪ ،‬وتقليده على المّة يجري‬
‫حينئذ عقد البيعة له ‪ ،‬ل ّ‬
‫مجرى الحكم ‪ ،‬وهو ل يجوز أن يشهد لوالد ول لولد ‪ ،‬ول يحكم لواحد منهما للتّهمة العائدة إليه‬
‫بما جبل من الميل إليه ‪.‬‬
‫المذهب الثّاني ‪:‬‬
‫يجوز أن ينفرد بذلك ‪ ،‬لنّ أمره نافذ للمّة فيغلب حكم المنصب على حكم النّسب ‪ ،‬ول تجد‬
‫التّهمة طريقا للطّعن في أمانته ‪ ،‬فصار كأنّه عهد بالمامة إلى غير ولده ووالده ‪.‬‬
‫المذهب الثّالث ‪:‬‬
‫ن الميل إلى الولد أكثر وأقوى من الميل إلى‬
‫يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده ول يجوز لولده ل ّ‬
‫الوالد ‪.‬‬
‫شوْرة *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ضمّ ‪ :‬الهيئة‬
‫‪ -‬الشّورة في اللّغة ‪ :‬الحسن والجمال ‪ ،‬والهيئة ‪ ،‬واللّباس ‪ .‬وقيل ‪ :‬الشّورة بال ّ‬ ‫‪1‬‬

‫والجمال ‪ ،‬والشّورة بالفتح ‪ :‬اللّباس ‪ ،‬ففي الحديث ‪ » :‬أنّه أقبل رجل وعليه شورة حسنة « ‪.‬‬
‫ض ّم ‪ :‬الجمال والحسن ‪ ،‬كأنّه من الشّور وهو عرض الشّيء‬
‫قال ابن الثير ‪ :‬الشّورة بال ّ‬
‫وإظهاره‪ .‬ويقال لها أيضا ‪ :‬الشّارة وهي الهيئة ‪ ،‬وفي حديث ابن اللّتبيّة أنّه جاء بشوار كثير‬
‫قال ابن الثير‪ :‬الشّوار متاع البيت وفي الصطلح ‪ :‬الشّورة متاع البيت ‪ ،‬من فراش وغطاء ‪،‬‬
‫ولباس‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫الجهاز ‪:‬‬
‫‪ -‬الجهاز هو ‪ :‬ما تزفّ به المرأة إلى بيت الزّوجيّة من متاع ‪ ،‬أو يملّكها إيّاه زوجها ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬


‫‪ -‬يجب للزّوجة على زوجها كلّ ما تقوم به حياة النسان ‪ :‬من نفقة ‪ ،‬وكسوة ‪ ،‬وسائر ما‬ ‫‪3‬‬

‫يحتاج إليه النسان في حياته من المتاع ‪ :‬كالفراش ‪ ،‬والغطاء ‪ ،‬وسائر الدوات الّتي تحتاج‬
‫إليها‪ :‬كآلة الطّحن ‪ ،‬والطّبخ كالقدر ‪ ،‬وآنية الشّرب ‪ ،‬وغير ذلك ممّا ل يستغني عنه النسان ‪،‬‬
‫وهو ما عبّر عنه المالكيّة بالشّورة ‪ .‬وهذا مح ّل اتّفاق بين الفقهاء ‪.‬‬
‫ن بِا ْل َمعْرُوفِ } ‪.‬‬
‫سوَتُهُ ّ‬
‫ن َو ِك ْ‬
‫قال اللّه تعالى ‪ { :‬وَعلَى ا ْل َموْلُو ِد َلهُ رِزْ ُقهُ ّ‬
‫والية في الرّزق والكسوة ‪ ،‬ويقاس عليهما ما يحتاج إليه من المتاع ‪.‬‬
‫والتّفصيل في ‪ ( :‬نفقة ) ‪.‬‬
‫انتفاع الزّوج بشورة زوجته ‪:‬‬
‫‪ -‬قال جمهور الفقهاء ‪ :‬ليس للزّوج النتفاع بما تملكه الزّوجة من متاع كالفراش ‪ ،‬والواني‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫وغيرها بغير رضاها ‪ ،‬سواء ملّكها إيّاه هو ‪ ،‬أم ملكته من طريق آخر ‪ ،‬وسواء قبضت‬
‫الصّداق ‪ ،‬أم لم تقبضه ‪.‬‬
‫ق التّصرّف فيما تملكه بما أحبّت من الصّدقة ‪ ،‬والهبة ‪ ،‬والمعاوضة ‪ ،‬ما لم يعد ذلك‬
‫ولها ح ّ‬
‫عليها بضرر ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن قبضت الزّوجة صداقها فللزّوج التّمتّع بشورتها فيلبس من الثّياب ما يجوز له‬
‫لبسه ‪ ،‬وله النّوم على فراشها ‪ ،‬والنتفاع بسائر الدوات الّتي تملكها ‪ ،‬ولو بغير رضاها ‪.‬‬
‫سواء تمتّع بالشّورة معها أو وحده وتمتّعه بشورتها حقّ له ‪ ،‬فله منعها من التّصرّف بها بما‬
‫ق التّمتّع بها ‪.‬‬
‫يزيل الملك ‪ ،‬كالمعاوضة ‪ ،‬والهبة والصّدقة ‪ ،‬لنّ ذلك من شأنه أن يفوّت عليه ح ّ‬
‫أمّا إذا لم تقبض صداقها وإنّما تجهّزت من مالها فليس له عليها إلّ الحجر عن التّصرّف بما‬
‫يزيل الملك ‪ ،‬فله أن يمنعها من بيعها ‪ ،‬وهبتها ‪ ،‬والتّصدّق بها ‪ ،‬والتّبرّع بأكثر من الثّلث ‪.‬‬
‫والتّفصيل في ‪ ( :‬نفقة ) ‪.‬‬

‫شوْط *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬طواف ‪ ،‬سعي‬

‫شوّال *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫شوّال ‪ :‬هو أحد شهور السّنة القمريّة العربيّة ‪ ،‬الّذي يلي رمضان ‪ ،‬وهو‬
‫‪ -‬شوّال ‪ ،‬ويقال ‪ :‬ال ّ‬ ‫‪1‬‬

‫شهُرٌ ّمعْلُومَاتٌ } ‪.‬‬


‫حجّ َأ ْ‬
‫شهر عيد الفطر ‪ ،‬وأوّل أشهر الحجّ المذكورة في قوله تعالى ‪ { :‬ا ْل َ‬
‫الحكام المتعلّقة بشوّال ‪:‬‬
‫ستّ من شوّال ‪:‬‬
‫صيام ال ّ‬
‫‪ -‬ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ صيام ستّة أيّام من شوّال سنّة لحديث ‪ » :‬من صام رمضان ثمّ‬ ‫‪2‬‬

‫أتبعه ستّا من شوّال ‪ ،‬كان كصيام الدّهر « ‪.‬‬


‫وذهب آخرون إلى كراهة ذلك لئلّ يلحق العامّة برمضان ما ليس منه ‪.‬‬
‫وانظر التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬صوم التّطوّع ) ‪.‬‬
‫ما تثبت به رؤية هلل شوّال ‪:‬‬
‫‪ -‬يثبت هلل شوّال بإكمال عدّة رمضان ‪ ،‬واختلف العلماء في ما يثبت به هلل شوّال بغير‬ ‫‪3‬‬

‫ذلك ‪:‬‬
‫فذهب الكثرون ‪ :‬إلى أنّه ل يثبت بأق ّل من شاهدين عدلين ‪ ،‬وقال آخرون ‪ :‬يثبت بشهادة رجل‬
‫وامرأتين ‪ ،‬وقال البعض ‪ :‬يثبت بشهادة رجل واحد ‪.‬‬
‫وإذا كانت السّماء مصحيةً فقد رأى البعض أنّه ل بدّ من الرّؤية المستفيضة ‪.‬‬
‫وانظر مصطلح ‪ ( :‬رويّة الهلل ) ‪.‬‬
‫المنفرد برؤية هلل شوّال ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا انفرد واحد برؤية هلل شوّال ‪ ،‬لم يجز له الفطر إلّ أن يحصل له عذر يبيح الفطار‬ ‫‪4‬‬

‫كالسّفر ‪ ،‬أو المرض ‪ ،‬أو الحيض ‪ ،‬لحديث أبي هريرة يرفعه ‪ » :‬الصّوم يوم تصومون ‪،‬‬
‫والفطر يوم تفطرون ‪ ،‬والضحى يوم تضحّون « ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الفطر يوم يفطر‬
‫وعن عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬قالت ‪ :‬قال النّب ّ‬
‫النّاس ‪ ،‬والضحى يوم يضحّي النّاس « ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬فإن أفطر فعليه قضاء اليوم بل كفّارة ‪ ،‬وإن كان الرّائي المام أو القاضي ‪ ،‬ل‬
‫يخرج إلى المصلّى ‪ ،‬ول يأمر النّاس بالخروج ‪ ،‬ول يفطر الرّائي سرّا ول جهرا ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة والحنابلة ‪ :‬إن كان بمفازة ليس بقربه بلد وليس في جماعة ‪ :‬يبني على يقين‬
‫رؤيته فيفطر ‪ ،‬لنّه ل يتيقّن مخالفة الجماعة ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إذا رأى شخص هلل شوّال وحده لزمه الفطر ‪ ،‬ويندب أن يكون سرّا لقوله‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬وأفطروا لرؤيته « ‪.‬‬

‫شيْب *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬شعر ‪ ،‬اختضاب‬

‫شيْطَان *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬جنّ‬

‫شُيُوع *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّيوع مصدر شاع ‪ -‬يقال ‪ :‬شاع يشيع شيعا ‪ ،‬وشيعانا وشيوعا ‪ :‬إذا ظهر وانتشر ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫يقال ‪ :‬شاع الخبر شيوعا فهو شائع إذا ‪ :‬ذاع ‪ ،‬وانتشر ‪ ،‬وأشاعه إشاع ًة أطاره وأذاعه‬
‫وأظهره‪ .‬وفي هذا قولهم ‪ :‬نصيب فلن شائع في جميع الدّار ‪ ،‬أي ‪ :‬متّصل بكلّ جزء منها‬
‫ومشاع فيها ليس بمقسوم ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى في اصطلح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الخلط ‪:‬‬
‫‪ -‬الخلط ‪ :‬تداخل الشياء بعضها في بعض ‪ ،‬وقد يمكن التّمييز بعد ذلك كالحيوان ‪ ،‬وقد ل‬ ‫‪2‬‬

‫يمكن كالمائعات فيكون مزجا ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬الشّركة ‪:‬‬
‫‪ -‬وهي لغةً ‪ :‬الختلط على الشّيوع ‪ ،‬وشرعا ‪ :‬ثبوت الحقّ في الشّيء الواحد لشخصين‬ ‫‪3‬‬

‫فأكثر على وجه الشّيوع ‪ .‬وعبّر عنها صاحب المغني بأنّها اجتماع في استحقاق أو تصرّف ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫س أمنهم واستقرارهم ‪ ،‬حتّى‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬يحرم إشاعة أسرار المسلمين ‪ ،‬وأمورهم الدّاخليّة ممّا يم ّ‬ ‫‪4‬‬

‫ل يعلم العداء مواضع الضّعف فيهم ‪ ،‬فيستغلّوها أو قوّتهم فيتحصّنوا منهم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬كما يحرم إشاعة ما يمسّ أعراض النّاس وأسرارهم الخاصّة ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ‬
‫ن آمَنُوا َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدّنْيَا وَالخِرَةِ } ‪.‬‬
‫شةُ فِي الّذِي َ‬
‫ح َ‬
‫ُيحِبّونَ أَن َتشِيعَ ا ْلفَا ِ‬
‫انظر ‪ ( :‬إشاعة ‪ ،‬وإفشاء السّرّ ) ‪.‬‬
‫حكم ثبوت الجريمة بالشّيوع في النّاس ‪:‬‬
‫‪ -‬إن شاع في النّاس ‪ :‬أنّ فلنا سرق متاع فلن ‪ ،‬أو زنى بفلنة ‪ ،‬ل يقام الحدّ عليه بمجرّد‬ ‫‪5‬‬

‫الشّيوع ‪ ،‬بل ل بدّ من الثبات على الوجه الشّرعيّ ‪.‬‬


‫وينظر التّفصيل في ‪ ( :‬حدود ‪ ،‬وإثبات ) ‪.‬‬
‫الشّيوع في اللّوث ‪:‬‬
‫ن الشّيوع على ألسنة الخاصّة والعامّة ‪ ،‬بأنّ فلنا الّذي جهل قاتله ‪ ،‬قتله‬
‫‪ -‬قال الشّافعيّة ‪ :‬إ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫فلن هو لوث ‪ ،‬فيجوز لورثته أن يحلفوا أيمان القسامة على من قتل مورّثهم استنادا إلى شيوع‬
‫ذلك على ألسنة النّاس ‪.‬‬
‫بيع المشاع ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز بيع جزء مشاع في دار كالثّلث ونحوه ‪ ،‬وبيع صاع من‬ ‫‪7‬‬

‫صبرة متساوية الجزاء ‪ ،‬وبيع عشرة أسهم من مائة سهم ‪.‬‬


‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬بيع ) ‪.‬‬
‫قسمة المشاع ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب على الحاكم قسمة الملك المشاع بطلب الشّركاء ‪ ،‬أو بطلب بعضهم ‪ ،‬لنّ كلّ واحد من‬ ‫‪8‬‬

‫الشّركاء منتفع قبل القسمة بنصيب غيره ‪ ،‬فإذا طلب من الحاكم أن يمكّنه من النتفاع بنصيبه ‪،‬‬
‫ويمنع الغير من النتفاع به ‪ ،‬يجب على الحاكم إجابة طلبه ‪ ،‬إلّ إذا بطلت المنفعة المقصودة في‬
‫المقسوم بالقسمة ‪.‬‬
‫فإن كانت المنفعة المقصودة منه تفوت بالقسمة ‪ ،‬فل يجاب طلبهم القسمة عند الجمهور ‪ ،‬ول‬
‫يمكّنون من ذلك ولو تراضيا عليه إذا كانت المنفعة تبطل كلّ ّيةً ‪ ،‬لنّه سفه ‪ ،‬وإتلف مال بل‬
‫ضرورة ‪.‬‬
‫ن القاضي ل يمنع من أقدم‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إن اقتسموا بالتّراضي ل يمنع القاضي من ذلك ‪ ،‬ل ّ‬
‫على إتلف ماله بالحكم ‪.‬‬
‫والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬قسمة ) ‪.‬‬
‫زكاة المشاع ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا ملك اثنان فأكثر من أهل الزّكاة نصاب مال ممّا تجب فيه الزّكاة ملكا مشاعا كأن ورثاه ‪،‬‬ ‫‪9‬‬

‫أو اشترياه ‪ ،‬زكّياه كرجل واحد عند الجمهور ‪.‬‬


‫والتّفصيل في ‪ ( :‬خلطة ‪ ،‬زكاة ) ‪.‬‬
‫رهن المشاع ‪:‬‬
‫‪ -‬يصحّ رهن المشاع ‪ ،‬من عقار وحيوان ‪ ،‬كما يصحّ بيعه ‪ ،‬وهبته ‪ ،‬ووقفه ‪ ،‬سواء كان‬ ‫‪10‬‬

‫الباقي للرّاهن أو لغيره ‪ ،‬إذ ل ضرر على الشّريك ‪ ،‬لنّه يتعامل مع المرتهن كما كان يتعامل مع‬
‫الرّاهن ‪ ،‬وقبضه بقبض الجميع ‪ ،‬فيكون بالتّخلية في غير المنقول ‪ ،‬وبالنّقل في المنقول ‪ ،‬وإلى‬
‫هذا ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬ل يصحّ رهن المشاع ‪ ،‬لعدم كونه مميّزا ‪ ،‬وموجب الرّهن ‪ :‬الحبس الدّائم ما‬
‫بقي الدّين ‪ ،‬وبالمشاع يفوت الدّوام ‪ ،‬لنّه ل ب ّد من المهايأة فيصير كأنّه قال ‪ :‬رهنتك يوما دون‬
‫يوم ‪ .‬ول فرق بين أن يكون الشّيوع مقارنا أو طارئا ‪ ،‬رهن من شريكه أو من غيره ‪ ،‬لنّ‬
‫الشّريك يمسكه يوما رهنا ‪ ،‬ويوما يستخدمه ‪.‬‬
‫انظر ‪ ( :‬رهن ) ‪.‬‬
‫هبة المشاع ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى جواز هبة المشاع سواء في ذلك ما أمكن قسمته ‪ ،‬وما لم‬ ‫‪11‬‬

‫يمكن قسمته ‪ ،‬وسواء وهبه لشريكه أو لغيره ‪.‬‬


‫وقال الحنفيّة ‪ :‬ل يجوز هبة مشاع شيوعا مقارنا للعقد فيما ينقسم ولنّه ما من جزء من أجزاء‬
‫المشاع إلّ وللشّريك فيه ملك ‪ ،‬فل تصحّ هبته ‪ ،‬لنّ القبض الكامل غير ممكن ‪ ،‬وقيل يجوز‬
‫هبته لشريكه ‪ .‬أمّا إذا كان المشاع غير قابل للقسمة ‪ ،‬بحيث ل يبقى منتفعا به إذا قسم تجوز‬
‫هبته ‪ .‬وانظر ‪ ( :‬هبة ) ‪.‬‬
‫إجارة المشاع ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز إجارة المشاع للشّريك باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬أمّا إجارته لغير الشّريك فقد اختلف الفقهاء‬ ‫‪12‬‬

‫في صحّته ‪:‬‬


‫فذهب المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬إلى صحّة إجارة المشاع ‪ ،‬وهو قول الصّاحبين ‪ -‬أبي يوسف‬
‫ومحمّد‪ ، -‬ورواية عن أحمد ‪ ،‬لنّ الجارة أحد نوعي البيع ‪ ،‬فتجوز في المشاع ‪ ،‬كما تجوز في‬
‫بيع العيان ‪ ،‬والمشاع مقدور التّسليم بالمهايأة ‪ ،‬ولنّه عقد في ملكه ‪ ،‬يجوز مع شريكه فجاز‬
‫مع غيره كالبيع ‪ ،‬ولنّه يجوز إذا فعله الشّريكان معا فجاز لحدهما فعله في نصيبه منفردا‬
‫كالبيع‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة وزفر ‪ ،‬وهو القول الرّاجح عند الحنابلة ‪ :‬ل تجوز إجارة المشاع ‪ ،‬لنّه ل يقدر‬
‫على تسليمه فلم تصحّ إجارته كالمغصوب ‪.‬‬
‫ولنّه ل يقدر على تسليمه إلّ بتسليم نصيب شريكه ‪ ،‬ول ولية له على نصيب شريكه ‪.‬‬
‫وانظر ‪ ( :‬إجارة ) ‪.‬‬
‫وقف المشاع ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز وقف المشاع عند المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وأبي يوسف من الحنفيّة لما‬ ‫‪13‬‬

‫ورد عن ابن عمر ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ » : -‬أنّ عمر بن الخطّاب أصاب أرضا بخيبر ‪ ،‬فأتى‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم يستأمره فيها فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬إنّي أصبت أرضا بخيبر لم أصب‬
‫ط أنفس عندي منه ‪ ،‬فما تأمر به ؟ قال ‪ :‬إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫مالً ق ّ‬
‫فتصدّق بها عمر « أنّه ل يباع ‪ ،‬ول يوهب ‪ ،‬ول يورث ‪ ،‬وتصدّق بها في الفقراء ‪ ،‬وفي‬
‫القربى‪ ،‬وفي الرّقاب ‪ ،‬وفي سبيل اللّه ‪ ،‬وابن السّبيل ‪ ،‬والضّيف ‪.‬‬
‫ولنّه عقد يجوز على بعض الجملة مفرزا فجاز عليه مشاعا كالبيع ‪ ،‬وكالعرصة يجوز بيعها‬
‫ن الوقف تحبيس الصل ‪ ،‬وتسبيل المنفعة ‪ ،‬وهذا يحصل في المشاع‬
‫فجاز وقفها كالمفرزة ‪ ،‬ول ّ‬
‫كحصوله في المفرز ‪.‬‬
‫ح وقف المشاع فيما يقبل القسمة ‪ ،‬أمّا ما ل يقبل القسمة فيصحّ‬
‫وقال محمّد من الحنفيّة ‪ :‬ل يص ّ‬
‫وقفه اتّفاقا ‪.‬‬
‫انظر ‪ ( :‬وقف ) ‪.‬‬
‫الملك المشاع في عقار ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا ملك اثنان فأكثر عقارا ملكا مشاعا ‪ ،‬وباع أحدهما نصيبه لجنبيّ ‪ ،‬ثبت للخر حقّ‬ ‫‪14‬‬

‫الشّفعة ‪ ،‬وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪.‬‬


‫انظر ‪ ( :‬شفعة ) ‪.‬‬

‫صَائِل *‬
‫انظر ‪ ( :‬صيال ) ‪.‬‬

‫صَابِئة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّابئة لغةً ‪ :‬جمع الصّابئ ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫والصّابئ ‪ :‬من خرج من دين إلى دين ‪ .‬يقال ‪ :‬صبأ فلن يصبأ ‪ :‬إذا خرج من دينه ‪ ،‬وتقول‬
‫العرب ‪ :‬صبأت النّجوم إذا طلعت ‪.‬‬
‫وقد ورد ذكر الصّابئة في القرآن الكريم مع أهل الملل في ثلثة مواضع ‪ ،‬منها ‪ :‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫ع ِم َل صَالِحا‬
‫ن بِالّل ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ وَ َ‬
‫ن آمَ َ‬
‫ن مَ ْ‬
‫ن الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَى وَالصّابِئِي َ‬
‫{ إِ ّ‬
‫حزَنُونَ } ‪.‬‬
‫علَ ْي ِهمْ َولَ ُهمْ َي ْ‬
‫خوْفٌ َ‬
‫فَ َل ُهمْ َأجْرُ ُه ْم عِندَ رَ ّب ِهمْ َولَ َ‬
‫‪ -‬وقد اختلف العلماء في تعريف الصّابئة على أقوال هي ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫أ ‪ -‬أنّهم قوم كانوا على دين نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬نقله الرّاغب في مفرداته ‪.‬‬
‫ونقل ابن منظور عن اللّيث ‪ :‬هم قوم يشبه دينهم دين النّصارى ‪ ،‬إلّ أنّ قبلتهم نحو مهبّ‬
‫الجنوب ‪ ،‬يزعمون أنّهم على دين نوح وهم كاذبون ‪.‬‬
‫ي عن الخليل ‪.‬‬
‫ونقل قريبا منه القرطب ّ‬
‫ب ‪ -‬أنّهم صنف من النّصارى ألين منهم قولً ‪ .‬وهو مرويّ عن ابن عبّاس وبه قال أحمد في‬
‫رواية ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وقال السّ ّديّ وإسحاق بن راهويه ‪ :‬هم طائفة من أهل الكتاب لنّهم يقرؤون الزّبور ‪ ،‬وبه‬
‫قال أبو حنيفة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬قال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح ‪ :‬هم قوم تركّب دينهم بين اليهوديّة والمجوسيّة ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬وقيل ‪ :‬هم بين اليهود والنّصارى ‪.‬‬
‫و ‪ -‬وقال سعيد بن جبير ‪ :‬هم قوم بين النّصارى والمجوس ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬وقال الحسن أيضا وقتادة ‪ :‬هم قوم يعبدون الملئكة ‪ ،‬ويصلّون إلى القبلة ‪ ،‬ويقرؤون‬
‫الزّبور ‪ ،‬ويصلّون الخمس ‪ .‬رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنّهم‬
‫يعبدون الملئكة ‪ ،‬ونقل القرطبيّ ‪ :‬أنّهم موحّدون يعتقدون تأثير النّجوم ‪.‬‬
‫ي‪.‬‬
‫ح ‪ -‬وقيل ‪ :‬إنّهم قوم كانوا يقولون ‪ :‬ل إله إلّ اللّه ‪ ،‬وليس لهم عمل ول كتاب ول نب ّ‬
‫ط ‪ -‬وقال الصّاحبان من الحنفيّة ‪ :‬إنّهم ليسوا من أهل الكتاب ‪ ،‬لنّهم يعبدون الكواكب ‪ ،‬وعابد‬
‫الكوكب كعابد الوثن ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬وقال أحمد في رواية ثانية ‪ :‬إنّهم قوم من اليهود ‪ ،‬لنّهم يسبتون ‪.‬‬
‫مذاهب الفقهاء في حقيقة الصّابئة ‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حقيقة دين الصّابئة أهم من أهل الكتاب أم ل ‪ ،‬على أقوال ‪:‬‬
‫‪ -‬القول الوّل ‪ :‬أنّهم من أهل الكتاب ‪ ،‬وهذا قول أبي حنيفة وأحمد ‪ ،‬وقد جعلهم أبو حنيفة‬ ‫‪3‬‬

‫من أهل الكتاب ‪ ،‬لنّهم يقرؤون الزّبور ‪ ،‬ول يعبدون الكواكب ‪ ،‬ولكن يعظّمونها كتعظيم‬
‫المسلمين للكعبة في الستقبال إليها ‪.‬‬
‫وأمّا أحمد فقال في رواية ‪ :‬هم من النّصارى ‪ ،‬لنّهم يدينون بالنجيل واستدلّ لذلك بما نقل عن‬
‫ابن عبّاس ‪ ،‬وقال في رواية أخرى ‪ :‬هم من اليهود لنّهم يسبتون ‪ ،‬واستدلّ لذلك بما روي عن‬
‫عمر أنّه قال ‪ :‬إنّهم يسبتون ‪.‬‬
‫القول الثّاني ‪ :‬أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ‪.‬‬
‫قال القرطبيّ من المالكيّة ‪ :‬الّذي تحصّل من مذهبهم فيما ذكره بعض علمائنا ‪ :‬أنّهم موحّدون ‪،‬‬
‫يعتقدون تأثير النّجوم ‪ ،‬وأنّها فعّالة ‪ ،‬قال ‪ :‬ولهذا أفتى أبو سعيد الصطخريّ ‪ ،‬القاهر باللّه‬
‫بكفرهم ‪ ،‬حين سأله عنهم ‪ ،‬وهو قول أبي يوسف ومحمّد بن الحسن فيهم ‪ ،‬لنّهم يعبدون‬
‫الكواكب ‪ ،‬وعابد الكواكب كعابد الوثن ‪.‬‬
‫‪ -‬القول الثّالث ‪ :‬وهو للشّافعيّة ‪ ،‬فقد تردّدوا فيهم ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫قال النّوويّ ‪ :‬المذهب أنّهم إن خالفوا النّصارى في أصل دينهم فليسوا منهم ‪ ،‬وإلّ فهم منهم ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وهكذا نصّ عليه ‪ -‬أي نصّ عليه الشّافعيّ ‪ ، -‬وقيل ‪ :‬فيهم قولن ‪ :‬قال ‪ :‬وهذا إذا لم‬
‫يكفّرهم اليهود والنّصارى ‪ ،‬فإن كفّروهم لم يقرّوا قطعا ‪ .‬أي ‪ :‬لنّهم ل يكونون من أهل الكتاب‬
‫‪ .‬والمراد بأصل دينهم على ما في شرح المنهاج للمحلّيّ ‪ :‬عيسى والنجيل ‪ ،‬وما عدا ذلك فروع‬
‫‪ ،‬أي ‪ :‬إن كانوا يتّبعون عيسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ويؤمنون بالنجيل فهم من النّصارى ولو‬
‫خالفوا النّصارى في الفروع ‪ ،‬ما لم تكفّرهم النّصارى بالمخالفة في الفروع فإن كفّروهم فليسوا‬
‫منهم ‪ .‬وفي نهاية المحتاج ‪ :‬لو خالفوا النّصارى في أصل دينهم ولو احتمالً كأن نفوا الصّانع‬
‫أو عبدوا كوكبا حرم نساؤهم علينا ‪.‬‬
‫ن الصّابئة فرقتان متميّزتان ل تدخل إحداهما في الخرى وإن توافقتا في‬
‫‪ -5‬القول الرّابع ‪ :‬أ ّ‬
‫السم ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الفرقة الولى ‪ :‬هم الصّابئة الحرّانيّون ‪ -‬وسمّاهم ابن النّديم والشّهرستاني ‪ :‬الحرنانيين ‪-‬‬
‫وهم ‪ :‬قوم أقدم من النّصارى كانوا في زمن إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يعبدون الكواكب السّبعة ‪،‬‬
‫ن الفلك حيّ ناطق ‪.‬‬
‫ويضيفون التّأثير إليها ‪ ،‬ويزعمون أ ّ‬
‫قال الجصّاص من الحنفيّة ‪ :‬وهذه الفرقة تسمّت بالصّابئة ‪ ،‬وهم الفلسفة الحرّانيّون الّذين‬
‫بناحية حرّان ‪ ،‬وهم عبدة أوثان ‪ ،‬ول ينتمون إلى أحد من النبياء ‪ ،‬ول ينتحلون شيئا من كتب‬
‫اللّه ‪ ،‬فهؤلء ليسوا أهل كتاب ‪.‬‬
‫ن لهم سبعة هياكل بأسماء الزّهرة والمرّيخ والمشترى وزحل وغيرهما ‪.‬‬
‫وذكرهم المسعوديّ وأ ّ‬
‫وذكر أشياء من أحوالهم في زمانه ‪.‬‬
‫وكذلك ذكرهم الشّهرستانيّ وأطنب في بيان اعتقاداتهم وأحوالهم ‪.‬‬
‫وذكرهم ابن النّديم في فهرسته ‪ ،‬وذكر قراهم وأحوالهم ومعابدهم ‪ ،‬ونقل عن المؤلّفين النّصارى‬
‫أنّهم لم يكن اسمهم الصّابئة ‪ ،‬وأنّ المأمون مرّ بديار مضر فتلقّاه النّاس ‪ ،‬وفيهم جماعة من‬
‫الحرنانيين ‪ ،‬فأنكر المأمون زيّهم ‪ .‬فلمّا علم أنّهم ليسوا يهودا ول نصارى ول مجوسا أنظرهم‬
‫إلى رجوعه من سفرته ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن أنتم دخلتم في السلم ‪ ،‬أو في دين من هذه الديان الّتي‬
‫ذكرها اللّه في كتابه ‪ ،‬وإ ّل أمرت بقتلكم ‪ .‬ورحل عنهم إلى أرض الرّوم ‪ ،‬وهي رحلته الّتي مات‬
‫فيها ‪ .‬فمنهم من أسلم ‪ ،‬ومنهم من تنصّر ‪ ،‬وبقي منهم شرذمة على دينهم ‪ ،‬احتالوا بأن سمّوا‬
‫أنفسهم الصّابئة ‪ ،‬ليسلموا ويبقوا في ال ّذمّة ‪ .‬وهذا يقتضي أنّ هذه الطّائفة لم يكن اسمهم‬
‫الصّابئة أ ّولً ‪ ،‬وأنّهم تسمّوا بذلك في آخر عهد المأمون ‪.‬‬
‫وأفاد البيرونيّ ‪ :‬أنّ هذه النّحلة هي نحلة فلسفة اليونانيّين الّتي كانوا عليها قبل النّصرانيّة ‪،‬‬
‫وأنّ من فلسفتها ‪ :‬فيثاغورس ‪ ،‬وأغاذيمون ‪ ،‬وواليس ‪ ،‬وهرمس ‪ ،‬وكانت لهم هياكل بأسماء‬
‫الكواكب ‪ ،‬وأنّ اليونانيّين ‪ ،‬ومن بعدهم الرّومان ‪ ،‬كانوا على هذه النّحلة ‪ ،‬ثمّ لمّا غلبت‬
‫النّصرانيّة على بلد الرّوم واليونان وتنصّر أهل هذه النّحلة ‪ ،‬بقي عليها من أهل المشرق بقايا ‪،‬‬
‫هـ وهم ليسوا من‬ ‫‪228‬‬ ‫ولم يكن اسمهم الصّابئة ‪ ،‬وإنّما تسمّوا بذلك في عصر المأمون سنة‬
‫الصّابئة في الحقيقة ‪ ،‬بل حقيقة الصّابئة هم الفرقة الثّانية ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬والفرقة الثّانية ‪ :‬هم طائفة من أهل الكتاب لهم شبه بالنّصارى ‪.‬‬
‫قال الجصّاص ‪ :‬وهؤلء بنواحي كسكر والبطائح ‪ -‬من أرض العراق ‪ -‬وهم مع كونهم من‬
‫ن النّصارى فرق كثيرة ‪ ،‬منهم ‪:‬‬
‫النّصارى إ ّل أنّهم مخالفون لهم في كثير من ديانتهم ‪ ،‬ل ّ‬
‫المرقونيّون ‪ ،‬والريوسيّة ‪ ،‬والمارونيّة ‪ .‬والفرق الثّلث من النّسطوريّة ‪ ،‬والملكيّة ‪ ،‬واليعقوبيّة‬
‫يبرؤون منهم ويجرّمونهم ‪ .‬وهم ينتمون إلى يحيى وشيث ‪ .‬قال ‪ :‬والنّصارى تسمّيهم يوحانسيّة‬
‫‪ .‬أ هـ ‪.‬‬
‫قال الجصّاص ‪ :‬فمذهب أبي حنيفة في جعله الصّابئة من أهل الكتاب محمول على هؤلء ‪.‬‬
‫وأمّا البيرونيّ فيرى ‪ :‬أنّ هذه الفرقة الثّانية أصلها اليهود الّذين أسرهم بختنصّر ‪ ،‬وأجلهم من‬
‫أرض فلسطين إلى بابل من أرض العراق ‪ ،‬فلمّا أذن لهم كورش بالعودة إلى فلسطين تخلّف‬
‫بالعراق منهم طائفة وآثروا القامة في بابل ‪ ،‬ولم يكونوا في دينهم بمكان معتمد ‪ ،‬فسمعوا‬
‫أقاويل المجوس وصبوا إلى بعضها ‪ ،‬فامتزج مذهبهم من المجوسيّة واليهوديّة ‪ .‬قال ‪ :‬وهؤلء‬
‫هم الصّابئون بالحقيقة ‪ ،‬وإن كان السم أشهر بالفرقة الولى ‪ ،‬وكذا ميّز بين الفرقتين الرّمليّ‬
‫من الشّافعيّة ‪ ،‬وابن تيميّة من الحنابلة ‪ ،‬وابن القيّم ‪ ،‬وقال ابن الهمام ‪ :‬قيل في الصّابئة‬
‫الطّائفتان ‪ ،‬وهذه الفرقة الثّانية الّتي قال البعض إنّهم من النّصارى يسمّون " المندائيّين " ومنهم‬
‫الن بقايا في جنوب العراق ‪ ،‬وقد صدرت عنهم دراسات حديثة كشفت بعض ما عندهم ‪ ،‬ومنها‬
‫ما كتبه بعض كتّابهم ‪ ،‬وبعض من يعايشهم من المسلمين ‪ ،‬وترجمت بعض كتاباتهم الدّينيّة إلى‬
‫اللّغة العربيّة ‪ ،‬وفيها ‪ :‬أنّهم يؤمنون باللّه واليوم الخر ‪ ،‬وبالملئكة ‪ ،‬وببعض النبياء ‪ ،‬منهم ‪:‬‬
‫آدم ‪ ،‬وشيث ‪ ،‬ونوح ‪ ،‬وزكريّا ‪ ،‬ويحيى ‪ -‬عليهم السلم ‪ -‬ول يؤمنون بموسى ‪ ،‬ول‬
‫بالمسيح ‪ ،‬ول التّوراة ‪ ،‬ول النجيل ‪ ،‬ويؤمنون بالتّعميد ‪ .‬ولهم عبادات يعبدون اللّه بها ‪ :‬من‬
‫صلوات ‪ ،‬وزكاة ‪ ،‬وصوم ‪ ،‬وأعياد دينيّة ‪ ،‬ويغتسلون كلّ يوم مرّتين ‪ ،‬أو ثلثا ‪ ،‬ولذلك قد‬
‫يسمّون المغتسلة ‪ ،‬ويسمّون اللّه على الذّبائح ‪.‬‬
‫وأضاف ابن تيميّة فرقةً ثالثةً ‪ ،‬كانت قبل التّوراة والنجيل ‪ ،‬كانوا موحّدين ‪ ،‬قال ‪ :‬فهؤلء هم‬
‫ن آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ‬
‫الّذين أثنى اللّه تعالى عليهم بقوله تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِي َ‬
‫خوْفٌ عَلَ ْي ِهمْ َولَ ُهمْ‬
‫ع ِملَ صَالِحا َفَل ُهمْ َأجْرُ ُهمْ عِندَ رَ ّب ِهمْ َو َل َ‬
‫ن بِالّل ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَ َ‬
‫مَنْ آمَ َ‬
‫َيحْزَنُونَ} قال ‪ :‬فهؤلء كالمتّبعين لملّة إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬إمام الحنفاء قبل نزول التّوراة‬
‫والنجيل ‪ ،‬هم الّذين أثنى عليهم اللّه تعالى ‪.‬‬
‫ن الحرّانيّين المشركين لم يكونوا يتسمّون‬
‫على أنّ هذا التّقسيم للصّابئة إلى فرقتين ‪ ،‬ودعوى أ ّ‬
‫ك ‪ -‬وإن درج عليها بعض المؤرّخين‬
‫الصّابئة حتّى كان عهد المأمون ‪ ،‬دعوى هي موضوع ش ّ‬
‫وبعض الفقهاء ‪ -‬فإنّ كتب الحنفيّة ‪ ،‬تنسب إلى أبي حنيفة ‪ :‬أنّ الصّابئة الّذين يعظّمون الكواكب‬
‫السّبعة ليسوا مشركين ‪ ،‬بل هم أهل الكتاب ‪ ،‬لنّهم ل يعبدون تلك الكواكب ‪ ،‬بل يعظّمونها‬
‫كتعظيم المسلمين الكعبة ‪ ،‬وأنّ صاحبيه قال ‪ :‬بل هم كعبّاد الوثان وأبو حنيفة كان قبل المأمون‬
‫هـ ‪ .‬وكلمه وكلم صاحبيه منصبّ على الحرّانيّين ‪،‬‬ ‫‪218‬‬ ‫والمأمون سنة‬ ‫‪150‬‬ ‫فإنّه توفّي سنة‬
‫فإنّهم هم الّذين كانوا يعبدون الكواكب السّبعة ‪ ،‬ممّا يدلّ على أنّهم كانوا في زمانه مسمّين باسم‬
‫الصّابئة ‪ .‬ونصوص المؤرّخين مضطربة ‪ ،‬بعضها يد ّل على أنّهم فرقتان ‪ ،‬وبعضها على أنّهم‬
‫فرقة واحدة ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالصّابئة ‪:‬‬
‫‪ -‬ينطبق على الصّابئة الحكام الّتي تنطبق على الكفّار عا ّمةً ‪ :‬كتحريم نكاح الصّابئ للمسلمة‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫وكعدم صحّة العبادة منهم ‪ ،‬وعدم إقامتهم في جزيرة العرب ‪.‬‬


‫وأمّا الحكام الّتي تختصّ بأهل الكتاب ‪ :‬كجواز عقد ال ّذمّة لهم ‪ ،‬وأن يتزوّج المسلم من‬
‫نسائهم ‪ ،‬وأن يأكل من ذبائحهم ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في إجرائها عليهم تبعا لختلفهم في‬
‫حقيقة دينهم ‪ ،‬فمن اعتبرهم من أهل الكتاب ‪ ،‬أو لهم شبهة كتاب ‪ :‬أجرى عليهم الحكام الّتي‬
‫تختصّ بالكتابيّ ‪ ،‬أو من له شبهة كتاب ‪.‬‬
‫ومن اعتبرهم من غير أهل الكتاب ‪ ،‬وليس لهم شبهة كتاب ‪ :‬أجرى عليهم الحكام الّتي تنطبق‬
‫على المشركين ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في المصطلحات ‪ ( :‬أهل الكتاب ‪ ،‬أرض العرب ‪ ،‬جزية ) ‪.‬‬
‫إقرار الصّابئة في بلد السلم وضرب الجزية عليهم ‪:‬‬
‫‪ -‬أمّا جزيرة العرب ‪ :‬فل يجوز إقرار الصّابئين فيها ‪ ،‬كسائر الكفّار من المشركين وأهل‬ ‫‪7‬‬

‫الكتاب ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬لخرجن اليهود والنّصارى من جزيرة العرب ‪،‬‬
‫حتّى ل أدع إلّ مسلما « ‪.‬‬
‫وحديث عائشة ‪ :‬آخر ما عهد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل يترك في جزيرة العرب‬
‫دينان « وفي المراد بجزيرة العرب خلف ‪ ،‬وتفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬أرض العرب ) ‪.‬‬
‫وأمّا في خارج الجزيرة العربيّة من سائر بلد السلم ‪ :‬فقد اختلف في إقرار الصّابئة فيها على‬
‫أقوال ‪:‬‬
‫فذهب أبو حنيفة إلى جواز إقرارهم فيها ‪ ،‬وأخذ الجزية منهم بنا ًء على أنّهم نصارى ‪ ،‬وأنّ‬
‫تعظيمهم للكواكب ليس من باب العبادة لها ‪.‬‬
‫وقال صاحباه ‪ :‬ل تؤخذ منهم الجزية لنّهم يعبدون الكواكب كعبادة المشركين للصنام ‪.‬‬
‫ن الجزية يجوز أن تضرب على كلّ كافر ‪،‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬بجواز إقرارهم كذلك بناءً منهم على أ ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫كتابيّا كان أو غير كتاب ّ‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ :‬إلى أنّ الصّابئة يجوز أن تعقد لهم ال ّذمّة بالجزية ‪ ،‬على القول بأنّهم من‬
‫النّصارى ‪ ،‬إن وافقوهم في أصل دينهم ‪ ،‬ولو خالفوهم في فروعه ‪ ،‬ولم تكفّرهم النّصارى ‪ .‬أمّا‬
‫إن كفّرتهم اليهود والنّصارى لمخالفتهم في الفروع ‪ ،‬فقد قيل ‪ :‬يجوز أن يقرّوا بالجزية وإن لم‬
‫ن مبنى تحريم النّكاح ‪ ،‬الحتياط ‪ ،‬بخلف الجزية ‪.‬‬
‫تجز مناكحتهم ‪ ،‬ل ّ‬
‫وهذا التّردّد عند الشّافعيّة ‪ ،‬إنّما هو في الصّابئة المشابهة للنّصارى ‪ -‬وهم المسمّون‬
‫المندائيّين‪ ، -‬أمّا الصّابئة عبّاد الكواكب ‪ :‬فقد جزم الرّمليّ بأنّ الخلف ل يجري فيهم ‪ ،‬وأنّهم ل‬
‫يقرّون ببلد السلم ‪ .‬قال ‪ :‬ولذلك أفتى الصطخريّ والمحامليّ ‪ -‬الخليفة القاهر ‪ -‬بقتلهم ‪ ،‬لمّا‬
‫استفتى فيهم الفقهاء ‪ ،‬فبذلوا له مالً كثيرا فتركهم ‪.‬‬
‫ص أحمد على أنّهم جنس من النّصارى ‪:‬‬
‫والمعتمد عند الحنابلة ‪ :‬أنّ الجزية تؤخذ منهم ‪ ،‬لن ّ‬
‫ن الفلك حيّ ناطق ‪،‬‬
‫وروي عنه ‪ :‬أنّهم جنس من اليهود ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وروي عنه ‪ :‬أنّهم يقولون ‪ :‬إ ّ‬
‫وإنّ الكواكب السّبعة آلهة فهم كعبدة الوثان ‪ ،‬أي ‪ :‬فل تؤخذ منهم ‪.‬‬
‫ورجّح ابن القيّم القول الوّل ‪ ،‬قال ‪ :‬هذه المّة ‪ -‬يعني الصّابئة ‪ -‬فيهم ‪ :‬المؤمن باللّه وأسمائه‬
‫وصفاته وملئكته ورسله واليوم الخر ‪ ،‬وفيهم الكافر ‪ ،‬وفيهم الخذ من دين الرّسل ما وافق‬
‫عقولهم ‪ ،‬واستحسنوه فدانوا به ورضوه لنفسهم ‪ ،‬وعقد أمرهم أنّهم يأخذون بمحاسن ما عند‬
‫أهل الشّرائع بزعمهم ‪ ،‬ول يتعصّبون لملّة على ملّة ‪ ،‬والملل عندهم نواميس لمصالح العالم ‪،‬‬
‫فل معنى لمحاربة بعضهم بعضا ‪ ،‬بل يؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النّفوس ‪ ،‬وتتهذّب به‬
‫الخلق ‪ .‬قال ‪ :‬وبالجملة فالصّابئة أحسن حالً من المجوس ‪ .‬فأخذ الجزية من المجوس تنبيه‬
‫ن المجوس من أخبث المم دينا ومذهبا ‪ ،‬ول‬
‫على أخذها من الصّابئة بطريق الولى ‪ ،‬فإ ّ‬
‫يتمسّكون بكتاب ول ينتمون إلى ملّة ‪ ،‬فشرك الصّابئة إن لم يكن أخفّ منه فليس بأعظم منه ‪ .‬ا‬
‫هـ ‪.‬‬
‫دية الصّابئ ‪:‬‬
‫ي ‪ ،‬كدية المسلم سواء ‪ ،‬ويدخل في ذلك الصّابئة إن كانوا‬
‫ن دية ال ّذمّ ّ‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬ ‫‪8‬‬

‫أهل ذمّة ‪.‬‬


‫ن دية الصّابئ كدية النّصرانيّ ‪ ،‬ومقدارها ثلث دية المسلم ‪ ،‬وهذا إن وافق‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أ ّ‬
‫الصّابئ النّصارى في أصل دينهم ولو خالفه في الفروع ‪ ،‬ما لم يكفّره النّصارى ‪.‬‬
‫ن مقتضى الرّواية الّتي ذهبت إلى أنّهم من أهل‬
‫ولم يصرّح الحنابلة بحكمهم في مقدار الدّية ‪ ،‬لك ّ‬
‫الكتاب أن تكون دية الصّابئ نصف دية المسلم ‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬الثّلث ‪.‬‬
‫وعلى الرّواية الّتي ذهبت إلى أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ‪ :‬أن تكون ديته ثمانمائة درهم ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فلم نجد لديهم التّصريح بمقدار ديات الصّابئة ‪ ،‬وحيث إنّهم لم يجعلوهم كالنّصارى‬
‫في الذّبائح ونحوها ‪ ،‬فلذا يظهر أنّ دياتهم كدية المجوس ‪ ،‬وهي عند المالكيّة ثمانمائة درهم‬
‫للرّجل ‪ ،‬وأربعمائة درهم للمرأة ‪.‬‬
‫حكم ذبائح الصّابئة ‪ ،‬وحكم تزوّج نسائهم ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب أبو حنيفة إلى أنّه ‪ :‬للمسلم أن يأكل من ذبائح الصّابئة ‪ ،‬وأن يتزوّج من نسائهم ‪،‬‬ ‫‪9‬‬

‫بنا ًء على أنّهم ل يعبدون الكواكب ‪ ،‬وإنّما يعظّمونها كتعظيم المسلمين للكعبة ‪.‬‬
‫وقال صاحباه ‪ :‬هم من الزّنادقة والمشركين ‪ ،‬فل تحلّ نساؤهم ول ذبائحهم ‪.‬‬
‫ي على القول بحقيقة أمرهم ‪ ،‬فلو اتّفق على تفسيرهم اتّفق‬
‫قال ابن الهمام ‪ :‬الخلف بينهم مبن ّ‬
‫الحكم فيهم ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى تحريم ذبائح الصّابئة لشدّة مخالفتهم للنّصارى ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إن خالف الصّابئة النّصارى في أصل دينهم ‪ -‬أي اليمان بعيسى والنجيل ‪-‬‬
‫حرمت ذبائحهم ونساؤهم على المسلمين ‪ ،‬أمّا إن لم يخالفوهم في ذلك فل تحرم ذبائحهم‬
‫ونساؤهم علينا ‪ ،‬ما لم تكفّرهم النّصارى ‪ ،‬فإن كفّرهم النّصارى حرمت نساؤهم وذبائحهم ‪ ،‬كما‬
‫يحرم على المسلم ذبيحة المبتدع إن كانت بدعته مكفّرةً ‪.‬‬
‫وهذا الحكم المتردّد فيه هو غير الصّابئة عبّاد الكواكب ‪ ،‬وهم الحرّانيّة ‪ ،‬فإنّ هؤلء مجزوم‬
‫بكفرهم ‪ ،‬فل تحلّ مناكحتهم ول ذبائحهم قو ًل واحدا ‪ ،‬ول يجري فيهم الخلف المتقدّم ‪.‬‬
‫وفي رواية عند الحنابلة ‪ :‬الصّابئة من اليهود ‪ ،‬وفي أخرى ‪ :‬هم من النّصارى ‪ .‬فعلى هاتين‬
‫الرّوايتين ‪ :‬يجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ‪ .‬وفي رواية ثالثة ‪ :‬أنّهم يعبدون الكواكب ‪ ،‬فهم‬
‫كعبدة الوثان ‪.‬‬
‫وقف الصّابئة ‪:‬‬
‫‪ -‬قال ابن الهمام ‪ :‬الصّابئة إن كانوا دهر ّي ًة أي ‪ :‬يقولون ‪ { :‬مَا ُيهْ ِلكُنَا إِل الدّهْرُ } فهم‬ ‫‪10‬‬

‫ح من أوقاف‬
‫صنف من الزّنادقة ‪ ،‬وإن كانوا يقولون ‪ :‬بقول أهل الكتاب صحّ من أوقافهم ما يص ّ‬
‫ح على الفقراء ل على‬
‫ح من ذلك أن يكون قربةً عندنا وعندهم فيص ّ‬
‫أهل ال ّذمّة ‪ ،‬والّذي يص ّ‬
‫ب َيعِهم مثلً ‪.‬‬

‫صَابُون *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّابون ‪ :‬هو الّذي يغسل به الثّياب معروف ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ونقل عن ابن دريد وغيره ‪ :‬أنّه ليس من كلم العرب وهو مركّب من أحماض دهنيّة وبعض‬
‫القلويّات ‪ ،‬وتستعمل رغوته في التّنظيف والغسل ‪.‬‬
‫ما يتعلّق بالصّابون من أحكام ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬استعمال الصّابون المعمول من زيت نجس ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى الحنفيّة في القول المختار عند هم ‪ :‬أ نّ ال صّابون الم صنوع من الزّ يت النّ جس أو‬ ‫‪2‬‬

‫المتنجّس طاهـر ‪ ،‬فيجوز اسـتعماله والمعاملة بـه ‪ ،‬قال فـي الدّ ّر ‪ :‬ويطهـر زيـت تنجّس بجعله‬
‫ش بماء ن جس ل بأس بالخ بز ف يه ‪ ،‬وكط ين تنجّس فج عل‬
‫صابونا ‪ ،‬به يف تى للبلوى ‪ ،‬كتنّور ر ّ‬
‫م نه كوز ب عد جعله على النّار ‪ ،‬وقال ا بن عابد ين ‪ :‬هذه الم سألة قد فرّعو ها على قول محمّد ‪،‬‬
‫وعليه الفتوى للبلوى ‪ ،‬واختاره أكثر المشايخ خلفا لبي يوسف ‪.‬‬
‫والعلّة عند محمّد هي التّغيّر وانقلب الحقيقة ‪ ،‬ومقتضاه عدم اختصاص ذلك الحكم بالصّابون ‪،‬‬
‫فيدخل فيه كلّ ما كان فيه تغيّر وانقلب حقيقة ومثله ما في الفتح لبن الهمام ‪.‬‬
‫وأجاز الشّافعيّة كذلك النتفاع بالصّابون المعمول من زيت نجس ‪ ،‬لكنّهم لم يصرّحوا بطهارته ‪،‬‬
‫فقد جاء في أسنى المطالب نقلً عن المجموع ‪ :‬يجوز اتّخاذ الصّابون من الزّيت النّجس قال‬
‫ي ‪ :‬ويجوز استعماله في بدنه وثوبه ‪ ،‬كما صرّحوا بذلك ‪.‬‬
‫الرّمل ّ‬
‫ن الصل عندهم أنّه ل يطهر من‬
‫ثمّ قال ‪ :‬ثمّ يطهّرهما ويفهم منه ‪ :‬أنّه ما زال نجسا ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫نجس العين إلّ شيئان ‪ :‬خمر تخلّلت ‪ ،‬وجلد نجس بالموت إذا دبغ ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ :‬فقد فرّقوا بين النّجس والمتنجّس فقالوا ‪ :‬بجواز النتفاع بمتنجّس ‪ ،‬ل بنجس في‬
‫غير مسجد وأكل آدميّ ‪ ،‬فيستصبح عندهم بالزّيت المتنجّس في غير المسجد ‪ ،‬ويعمل منه‬
‫الصّابون ‪ ،‬وينتفع به في سائر وجوه النتفاع ‪.‬‬
‫والظّاهر من كلمهم ‪ :‬عدم جواز النتفاع بالصّابون المعمول من النّجس كشحم الميتة ‪ ،‬وإن‬
‫صرّح بعضهم بجواز الستصباح بشحم الميتة إذا تحفّظ منه ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل تطهر نجاسة باستحالة ول بنار ‪ ،‬فالصّابون المعمول من زيت نجس نجس ‪،‬‬
‫ودخان النّجاسة وغبارها نجس ‪ .‬وهذا ظاهر المذهب عندهم ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ويستخرج أن تطهر النّجاسات بالستحالة قياسا على الخمر إذا انقلبت ‪ ،‬وجلود‬
‫الميتة إذا دبغت ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الوضوء بماء الصّابون ‪:‬‬
‫ن ماء الصّابون إذا ذهبت رقّته وصار ثخينا ل يجوز التّوضّؤ به ‪ ،‬وإذا‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة ‪ :‬إلى أ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫بقيت رقّته ولطافته جاز قال ابن الهمام في تعليل الجواز ‪ :‬المخالط المغلوب ل يسلب الطلق ‪،‬‬
‫فوجب ترتيب حكم المطلق على الماء الّذي هو كذلك ‪ ،‬أي ‪ :‬جواز الوضوء به ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم يوم الفتح من قصعة فيها أثر العجين « ‪ ،‬والماء بذلك‬
‫وقد » اغتسل النّب ّ‬
‫يتغيّر ‪ ،‬ولم يعتبر المغلوبيّة ‪.‬‬
‫والصل عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّه إذا اختلط بالماء شيء يمكن حفظه منه ‪ -‬غير التّراب والملح ‪-‬‬
‫كالزّعفران ‪ ،‬والتّمر ‪ ،‬والدّقيق ‪ ،‬فتغيّر أحد أوصافه ‪ ،‬فإنّه ل يجوز الوضوء به ‪ ،‬لنّه زال عنه‬
‫إطلق اسم الماء ‪ .‬لكنّهم ذكروا في صفة التّغيّر ‪ :‬أنّه إن كان يسيرا ‪ ،‬بأن وقع فيه قليل من‬
‫ل ‪ ،‬بحيث ل يضاف إليه فوجهان ‪:‬‬
‫زعفران ‪ ،‬فاصفرّ قليلً أو صابون أو دقيق فابيضّ قلي ً‬
‫الصّحيح منهما ‪ :‬أنّه طهور لبقاء اسم الماء ‪ ،‬قال النّوويّ ‪ :‬وهو المختار ‪.‬‬
‫ومثله ما عند الحنابلة حيث قالوا ‪ :‬وما سقط في الماء من الباقلّ ‪ ،‬والحمّص ‪ ،‬والورد ‪،‬‬
‫والزّعفران وغيره من الطّاهرات ‪ ،‬وكان يسيرا ‪ ،‬فلم يوجد له طعم ول لون ول رائحة كثيرة‬
‫حتّى ينسب الماء إليه توضّأ به ‪.‬‬
‫وهذا إذا كان الصّابون معمولً من زيت طاهر ‪ .‬أمّا إذا كان مصنوعا من غير طاهر ‪ ،‬فكذلك‬
‫الحكم عند من يقول بطهارته كالحنفيّة ومن معهم ‪ ،‬أمّا من يقول ‪ :‬إنّ النّجس ل يطهر‬
‫باستحالته فل يجوز التّوضّؤ به ‪ ( .‬ر ‪ :‬ف ‪. ) 2‬‬
‫والظّاهر عند المالكيّة ‪ :‬أنّهم ل يجوّزون التّوضّؤ بماء الصّابون مطلقا ‪ ،‬سواء كان طاهرا أو‬
‫نجسا ‪ .‬حيث قالوا ‪ :‬ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه شيء طاهر ‪ ،‬فذلك الماء طاهر في نفسه‬
‫غير مطهّر لغيره ‪ ،‬فل يتوضّأ به ‪ ،‬ويستعمل في العادات ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬طهارة ومياه ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬استعمال المحرم للصّابون ‪:‬‬
‫ل عن الفتح ‪:‬‬
‫‪ -‬صرّح الحنفيّة ‪ :‬بأنّه ل بأس باستعمال المحرم الصّابون ‪ ،‬قال ابن عابدين نق ً‬ ‫‪4‬‬

‫لو غسل بالصّابون والحرض ل رواية فيه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ل شيء فيه ‪ ،‬لنّه ليس بطيب ول يقتل‬
‫‪ -‬أي الهوامّ ‪ -‬ثمّ قال ‪ :‬ومقتضى التّعليل عدم وجوب الدّم والصّدقة اتّفاقا ‪ ،‬ولذا قال في‬
‫الظّهيريّة ‪ :‬وأجمعوا أنّه ل شيء عليه ‪.‬‬
‫ن المحرم‬
‫وهذا هو المفهوم من كلم سائر الفقهاء في الصّابون العاديّ ‪ ،‬الّذي ل يعتبر طيبا ‪ ،‬ل ّ‬
‫إنّما يمنع من استعمال الطّيب ‪ ،‬ولم نجد لهم نصّا في الموضوع ‪.‬‬
‫وينظر في مصطلحي ‪ ( :‬تطيّب وإحرام ) ‪.‬‬

‫صَاع *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ضمّ ‪ -‬لغةً ‪ :‬مكيال يكال به ‪ ،‬وهو أربعة أمداد ‪.‬‬
‫‪ -‬الصّاع والصّواع ‪ -‬بالكسر وبال ّ‬ ‫‪1‬‬

‫وقال الدّاوديّ ‪ :‬معياره ل يختلف أربع حفنات بكفّي الرّجل الّذي ليس بعظيم الكفّين ول صغيرها‬
‫‪ .‬وقيل ‪ :‬هو إناء يشرب فيه ‪.‬‬
‫ول يخرج اصطلح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬المدّ ‪:‬‬
‫ضمّ ‪ :‬كيل ‪ ،‬وهو رطلن عند أهل العراق ‪ ،‬ورطل وثلث عند أهل الحجاز ‪.‬‬
‫‪ -‬المُدّ بال ّ‬ ‫‪2‬‬

‫وقال الفيروز آبادي ‪ :‬قيل ‪ :‬المدّ هو ملء كفّي النسان المتوسّط إذا ملهما وم ّد يده بهما ‪ ،‬وبه‬
‫سمّي مدّا ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬اتّفق الفقهاء على أنّ الم ّد يساوي ربع الصّاع ‪ ،‬فالم ّد من أجزاء الصّاع ‪ ،‬كما‬
‫ن المدّ والصّاع من وحدات الكيال الّتي تعلّقت بها كثير من الحكام الفقهيّة‬
‫اتّفقوا على أ ّ‬
‫المشهورة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الوسق ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ -‬الوَسق والوِسق ‪ :‬مكيلة معلومة ‪ ،‬وهو ستّون صاعا بصاع النّب ّ‬ ‫‪3‬‬

‫فالوسق على هذا الحساب مائة وستّون منّا ‪.‬‬


‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المنّ ‪:‬‬
‫ن بالفتح والتّشديد معيار قديم ‪ ،‬كان يكال به أو يوزن ‪ ،‬وقدره إذ ذاك رطلن بغداديّان ‪،‬‬
‫‪ -‬الم ّ‬ ‫‪4‬‬

‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬


‫د ‪ -‬الفرق ‪:‬‬
‫‪ -‬الفرق بفتحتين أو بسكون الرّاء ‪ :‬مكيال معروف بالمدينة وهو ستّة عشر رطلً ‪ ،‬والجمع‬ ‫‪5‬‬

‫فرقان ‪.‬‬
‫ن الفرق ثلثة آصع ‪،‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬قال أبو عبيد ‪ :‬ل اختلف بين النّاس أعلمه في ذلك أ ّ‬
‫ل‬
‫وهي ستّة عشر رط ً‬
‫هـ – الرّطل ‪:‬‬
‫– الرّطل ‪ :‬معيار يوزن به ‪ ،‬وهو بالبغداديّ اثنتا عشرة أوق ّيةً ‪ ،‬فيساوي مثقالً ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫قال الرّافع يّ ‪ :‬قال الفقهاء ‪ :‬وإذا أطلق الرّ طل في الفروع ‪ ،‬فالمراد به ر طل بغداد يّ ‪ ،‬والرّ طل‬
‫مكيال أيضا ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالصّاع ‪:‬‬
‫مقدار الصّاع ‪:‬‬
‫ن الصّاع ‪ :‬خمسة أرطال‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في مقدار الصّاع ‪ ،‬فذهب جمهور الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪7‬‬

‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬لكعب بن عجرة ‪ » :‬تصدّق بفرق‬


‫وثلث بالعراقيّ ‪ ،‬لما ورد أ ّ‬
‫بين ستّة مساكين « قال أبو عبيد ‪ :‬ول اختلف بين النّاس أعلمه في أنّ الفرق ثلثة آصع ‪،‬‬
‫والفرق ستّة عشر رطلً ‪ ،‬فثبت أنّ الصّاع خمسة أرطال وثلث ‪.‬‬
‫ن أبا يوسف حينما دخل المدينة سألهم عن الصّاع ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬خمسة أرطال وثلث ‪،‬‬
‫وروي ‪ :‬أ ّ‬
‫فطالبهم بالحجّة فقالوا ‪ :‬غدا ‪ ،‬فجاء من الغد سبعون شيخا كلّ واحد منهم أخذ صاعا تحت ردائه‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫فقال ‪ :‬صاعي ورثته عن أبي ‪ ،‬وورثه أبي عن جدّي ‪ ،‬حتّى انتهوا به إلى النّب ّ‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫والرّطل العراقيّ عندهم ‪ :‬مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ن أنس بن مالك قال ‪ » :‬كان النّب ّ‬
‫وقال أبو حنيفة ‪ :‬الصّاع ثمانية أرطال ل ّ‬
‫وسلم يتوضّأ بالمدّ وهو رطلن ‪ ،‬ويغتسل بالصّاع « ‪ ،‬فعلم من حديث أنس ‪ :‬أنّ مقدار المدّ‬
‫ن المدّ رطلن ‪ :‬يلزم أن يكون صاع رسول اللّه أربعة أمداد ‪ ،‬وهي ثمانية‬
‫رطلن ‪ .‬فإذا ثبت أ ّ‬
‫ن المدّ ربع صاع باتّفاق ‪.‬‬
‫أرطال ل ّ‬
‫والرّطل العراقيّ عند أبي حنيفة ‪ :‬عشرون أستارا ‪ ،‬والستار ‪ :‬ستّة دراهم ونصف‬
‫الغتسال بالصّاع ‪:‬‬
‫ن الغتسال بالصّاع مجزئ ‪ ،‬إذا حصل السباغ ‪.‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪8‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ليس في حصول الجزاء في المدّ في الوضوء ‪ ،‬والصّاع في الغسل خلف نعلمه‬
‫فإن أسبغ بدون الصّاع في الغسل أجزأه ذلك ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى أمر بالغسل وقد فعله ‪.‬‬
‫ن ‪ :‬الغتسال بالصّاع سنّة ‪ ،‬قال الشّافعيّة ‪ :‬يسنّ أن ل ينقص‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى أ ّ‬
‫ماء الغسل عن صاع تقريبا ‪ ،‬وهو أربعة أمداد فيمن اعتدل جسده ‪ ،‬لنّه صلى ال عليه وسلم‬
‫كان يوضّؤه المدّ ‪ ،‬ويغسّله الصّاع ‪.‬‬
‫أمّا من لم يعتدل جسده فيختلف زيادةً ونقصا ‪.‬‬
‫فعن أنس ‪ -‬رضي ال عنه ‪ » : -‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يغسّل ‪ -‬أو كان يغتسل ‪-‬‬
‫بالصّاع إلى خمسة أمداد ‪ ،‬ويتوضّأ بالمدّ « ‪.‬‬
‫ن قوما سألوا جابرا عن الغسل ‪ ،‬فقال ‪ :‬يكفيك صاع ‪ ،‬فقال رجل ‪ :‬ما يكفيني ‪ .‬فقال‬
‫وورد ‪ » :‬أ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم « ‪.‬‬
‫جابر ‪ :‬كان يكفي من هو أوفى شعرا منك وخير منك ‪ ،‬يعني النّب ّ‬
‫ص الحنفيّة والمالكيّة على سنّيّة الغتسال بالصّاع ‪.‬‬
‫ولم ين ّ‬
‫صدقة الفطر ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في تقدير صدقة الفطر بالصّاع ‪ ،‬فقال جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة‬ ‫‪9‬‬

‫والحنابلة ‪ :‬إنّ الواجب في صدقة الفطر ‪ -‬عن كلّ إنسان ‪ -‬صاع من البرّ أو الشّعير أو دقيقهما‬
‫أو التّمر ‪ ،‬أو الزّبيب ‪ ،‬فهم يرون عدم التّفريق بين جميع الصناف الّتي يخرج منها زكاة‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫الفطر ‪ ،‬لما روى ابن عمر ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ » : -‬أ ّ‬
‫فرض زكاة الفطر من رمضان على النّاس صاعا من تمر ‪ ،‬أو صاعا من شعير على كلّ حرّ‬
‫وعبد ‪ ،‬ذكر وأنثى من المسلمين « ‪.‬‬
‫ولما روى أبو سعيد الخدريّ ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬كنّا نخرج إذ كان فينا رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم زكاة الفطر ‪ ،‬عن كلّ صغير وكبير ‪ ،‬ح ّر أو مملوك صاعا من طعام ‪ ،‬أو‬
‫صاعا من أقط ‪ ،‬أو صاعا من شعير ‪ ،‬أو صاعا من تمر ‪ ،‬أو صاعا من زبيب « ‪.‬‬
‫ن الواجب إخراج صاع معاير بالصّاع الّذي كان‬
‫وقد نقل عن أبي الفرج الدّارميّ والبندنيجيّ ‪ :‬أ ّ‬
‫يخرج به زمن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وذلك الصّاع موجود ‪ ،‬ومن لم يجده وجب عليه‬
‫الستظهار بأن يخرج ما يتيقّن أنّه ل ينقصه عنه ‪.‬‬
‫ن الواجب في صدقة الفطر نصف صاع من حنطة وسويقه ‪ ،‬أو صاع من شعير‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫أو تمر ‪ ،‬لما روى ثعلبة بن صعير العذريّ أنّه قال ‪ :‬خطبنا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫فقال‪ » :‬أدّوا عن ك ّل حرّ وعبد نصف صاع من برّ أو صاعا من تمر ‪ ،‬أو صاعا من شعير « ‪.‬‬
‫وهو ما ذهب إليه سعيد بن المسيّب ‪ ،‬وعطاء ‪ ،‬وطاوس ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ‪،‬‬
‫وعروة بن الزّبير ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬أنّ عشرةً من الصّحابة ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬منهم أبو‬
‫وذكر الشّيخ أبو منصور الماتريد ّ‬
‫بكر‪ ،‬وعمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وعليّ ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬رووا عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫في صدقة الفطر نصف صاع من ب ّر ‪ ،‬واحتجّ بروايتهم ‪.‬‬
‫ن قيمة‬
‫واختلفت الرّواية عن أبي حنيفة في الزّبيب ‪ ،‬فذكر في الجامع الصّغير ‪ :‬نصف صاع ‪ ،‬ل ّ‬
‫الزّبيب تزيد عن قيمة الحنطة في العادة ‪ ،‬ث ّم اكتفى من الحنطة بنصف صاع ‪ ،‬فمن الزّبيب‬
‫أولى‪ .‬وروى الحسن ‪ ،‬وأسد بن عمرو ‪ ،‬عن أبي حنيفة ‪ :‬صاعا من زبيب ‪ ،‬وهو قول أبي‬
‫يوسف ومحمّد ‪ ،‬ووجه هذه الرّواية ما روي عن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال ‪ » :‬كنّا نخرج زكاة‬
‫الفطر إذ كان فينا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم صاعًا من تمر ‪ ،‬أو صاعًا من زبيب « ‪.‬‬
‫ولنّ الزّبيب ل يكون مثل الحنطة في التّغذّي ‪ ،‬بل يكون أنقص منها ‪ ،‬كالشّعير والتّمر ‪ ،‬فكان‬
‫التّقدير فيه بالصّاع ‪ ،‬كما في الشّعير والتّمر ‪.‬‬
‫ويجوز عند الحنفيّة ‪ :‬أداء صدقة الفطر في الفطرة الواحدة من جنسين أو أكثر ‪ ،‬فلو أدّى نصف‬
‫صاع شعير ‪ ،‬ونصف صاع تمر ‪ ،‬أو نصف صاع شعير وربع صاع من حنطة جاز ‪.‬‬
‫وهناك خلف وتفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬زكاة الفطر ) ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬ل يجزئ في الفطرة الواحدة صاع من جنسين ‪ ،‬سواء كان الجنسان متماثلين‬
‫أو أحدهما ممّا يجب والخر أعلى منه ‪ ،‬كما ل يجزئ في كفّارة اليمين أن يكسو خمسةً ويطعم‬
‫خمسةً ‪ ،‬لنّه مأمور بصاع ب ّر ‪ ،‬أو شعير ‪ ،‬أو غيرهما ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬لو جمع صاعا من التّمر ‪ ،‬والزّبيب ‪ ،‬والب ّر ‪ ،‬والشّعير ‪ ،‬والقط ‪ ،‬وأخرجه أجزأه‬
‫كما لو كان خالصا من أحدهما ‪.‬‬
‫ولم نعثر للمالكيّة على نصّ في ذلك ‪.‬‬

‫صبْح *‬
‫انظر ‪ :‬الصّلوات الخمس المفروضة ‪ ،‬وأوقات الصّلة ‪.‬‬

‫ص ْبرَة *‬
‫ُ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّبرة في اللّغة ‪ :‬الكومة من طعام أو غيره ‪ ،‬جمعها صُبَر ‪ ،‬كغرفة وغرف ‪ ،‬يقال ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫صةً ‪،‬‬
‫صبرت المتاع ‪ :‬إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض ‪ .‬وقيل ‪ :‬هي الكومة من الطّعام خا ّ‬
‫سواء أكانت مجهولة الكيل أو الوزن أم معلومتهما ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ما جمع من الطّعام بل كيل ول‬
‫وزن‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬قال سليمان الجمل ‪ :‬أطلقها الفقهاء على كلّ متماثل الجزاء ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫‪ -‬الجزاف ‪ -‬مثلّث الجيم ‪ -‬وهو بيع ما يكال ‪ ،‬أو يوزن ‪ ،‬أو يع ّد جملةً بل كيل ‪ ،‬ول وزن ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫ول عدّ ‪.‬‬


‫الحكام المتعلّقة بالصّبرة ‪:‬‬
‫بيع الصّبرة جزافًا ‪:‬‬
‫ح بيع الصّبرة جزافا وإن كانت مجهولة الكيل أو الوزن ‪ .‬فإن قال ‪ :‬بعتك هذه الصّبرة‬
‫‪ -‬يص ّ‬ ‫‪3‬‬

‫من الحنطة جاز ‪ ،‬وإن لم يعرف صيعانها ‪ ،‬لنّ غرر الجهالة ينتفي بالمشاهدة ‪.‬‬
‫كما يجوز بيع صاع من صبرة وبيع صبرة ‪ :‬كلّ صاع بدرهم ‪ ،‬وأراد في الصّورة الثّانية شراء‬
‫جميعها ‪ ،‬سواء أكانت معلومة الصّيعان أم ل ‪ ،‬لنّها إن كانت معلومة الصّيعان كانت معلومة‬
‫الجملة والتّفصيل ‪ .‬وإن كانت مجهولة الصّيعان كانت مجهولة الجملة ‪ ،‬معلومة التّفصيل ‪،‬‬
‫وجهل الجملة وحده ل يضرّ ‪.‬‬
‫وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء ‪ ،‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬إن باع صبر ًة ‪ :‬كلّ صاع بدرهم صحّ في‬
‫صاع ‪ ،‬قال ‪ :‬لنّ الثّمن مجهول وذلك مفسد للعقد ‪ ،‬غير أنّ القلّ معلوم فيجوز فيه للتّيقّن به ‪،‬‬
‫وما عداه مجهول فيفسد ‪ ،‬ويثبت له الخيار لتفرّق الصّفقة عليه ‪.‬‬
‫وقال صاحباه ‪ :‬يجوز في الكلّ ‪ ،‬لنّ المبيع معلوم بالشارة ‪ ،‬والمشار إليه ل يحتاج إلى معرفة‬
‫مقداره لجواز بيعه ‪ .‬أمّا إذا كاله في المجلس جاز بالجماع لزوال المانع قبل تقرّر الفساد ‪.‬‬
‫شروط جواز بيع الصّبرة جزافا ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في جواز بيع الصّبرة جزافا ما يلي ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫أ ‪ -‬أن ل يغشّ بائع الصّبرة ‪ ،‬بأن يجعلها على دكّة أو ربوة ‪ ،‬أو يجعل الرّديء منها أو المبلول‬
‫في باطنها ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬من غشّنا فليس منّا « فإذا وجد ذلك ‪ ،‬فإن علم أحد العاقدين ذلك بطل‬
‫العقد ‪ ،‬لمنع ذلك تخمين القدر فيكثر الغرر ‪ ،‬هذا إذا لم ير قبل الوضع فيه ‪ ،‬فإن رأى الصّبرة‬
‫ن أنّ المحلّ مستو‬
‫قبل الوضع صحّ البيع لحصول التّخمين ‪ ،‬وإن جهل كلّ منهما ذلك ‪ :‬بأن ظ ّ‬
‫فظهر خلفه خيّر من لحقه النّقص ‪ ،‬بين الفسخ ‪ ،‬والمضاء ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن تكون متساوية الجزاء ‪ .‬فإن اختلفت أجزاؤها لم يصحّ البيع ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن يرى المبيع جزافا حال العقد ‪ ،‬أو قبله إذا استم ّر على حاله إلى وقت العقد دون تغيّر ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن يجهل المتبايعان معا قدر الكيل أو الوزن ‪ ،‬فإن كان أحدهما يعلم القدر دون الخر فل‬
‫يصحّ ‪.‬‬
‫هـ – أن تستوي الرض الّتي يوضع عليها المبيع ‪ ،‬فإن لم تكن مستويةً ففيها التّفصيل‬
‫السّابق‪ .‬ر ‪ :‬مصطلح ‪ ( :‬بيع الجزاف ) ‪.‬‬
‫بيع الصّبرة إ ّل صاعا ‪:‬‬
‫‪ -‬إن باع الصّبرة إلّ صاعا ‪ ،‬فإن كانت معلومة الصّيعان صحّ البيع ونزّل على الشّيوع ‪ ،‬فإن‬ ‫‪5‬‬

‫ح ‪ ،‬لنّه‬
‫كانت عشرة آصع كان المبيع تسعة أعشارها ‪ ...‬أمّا إن كانت مجهولة الصّيعان فل يص ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم » نهى عن بيع الثّنيا « ‪ ،‬وزاد التّرمذيّ ‪ » :‬إلّ أن يعلم « ‪.‬‬
‫ولنّ المبيع هو ‪ :‬ما وراء الصّاع ‪ ،‬وهو مجهول لنّه خالطه أعيان أخرى ‪ ،‬ول يكفي مجرّد‬
‫التّخمين ‪ ،‬بل ل بدّ من إحاطة العيان بجميع جوانب المبيع ‪ ،‬وهذا لم يوجد وإن باع نصف‬
‫الصّبرة المشاهدة ‪ ،‬أو ثلثها ‪ ،‬أو غير ذلك من أجزائها المعلومة صحّ البيع بل خلف ‪ .‬وإن‬
‫قال‪ :‬بعتك بعض هذه الصّبرة ‪ ،‬أو نصيبا منها ‪ ،‬أو جزءا منها ‪ ،‬ما شئت ‪ ،‬ونحو هذا من‬
‫العبارات الّتي ليس فيها قدر معلوم ‪ ،‬فالبيع باطل للغرر ‪.‬‬
‫بيع صبرة بشرط أن يزيده صاعا أو ينقصه ‪:‬‬
‫‪ -‬إن باع صبر ًة ‪ :‬كلّ صاع بدرهم على أن يزيده أو ينقصه صاعا لم يصحّ ‪ ،‬لنّه إن أراد‬ ‫‪6‬‬

‫ح ‪ ،‬لنّه شرط عقد في عقد ‪.‬‬


‫الزّيادة على سبيل الهبة لم يص ّ‬
‫وإن أرادها على سبيل البيع لم يصحّ ‪ ،‬لنّه إن كان الصّاع مجهو ًل فهو بيع مجهول ‪ ،‬وإن كان‬
‫ح ‪ -‬أيضا ‪ -‬إذا كان من صبرة مجهولة الصّيعان ‪ ،‬لنّنا نجهل تفصيل الثّمن‬
‫معلوما لم يص ّ‬
‫وجملته ‪.‬‬
‫بيع صبرة وذكر جملتها ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا باع صبرةً وسمّى جملتها ‪ ،‬بأن قال ‪ :‬بعتك هذه الصّبرة على أنّها مائة قفيز بمائة‬ ‫‪7‬‬

‫ح العقد إن زادت على القدر‬


‫درهم‪ ،‬ثمّ وجدها ناقص ًة ‪ ،‬أو زائدةً ‪ :‬قال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ل يص ّ‬
‫المسمّى أو نقصت منه ‪ ،‬لتعذّر الجمع بين جملة الثّمن وتفصيله ‪ ،‬فكأنّه قال ‪ :‬بعتك قفيزا وشيئا‬
‫ل يعلمان قدره بدرهم لجهلهما كمّيّة قفزانها ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إن كانت ناقص ًة يأخذ الموجود بحصّته ‪ ،‬وإن شاء فسخ العقد لتفرّق الصّفقة وإن‬
‫زادت على القدر المسمّى فالزّيادة للبائع ‪ ،‬لنّها من المقدّرات فيتعلّق العقد بقدرها ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن باعا الصّبرة وحزراها ‪ ،‬أو وكّل من يحزرها ‪ -‬أي يخمّنها ‪ -‬فإن ظهر أنّها‬
‫كذلك فبها ‪ ،‬وإلّ فالخيار لمن لزمه الضّرر ‪.‬‬

‫صبغ *‬
‫انظر ‪ :‬اختضاب‬

‫صبيّ *‬
‫انظر ‪ :‬صغر‬
‫صحابيّ *‬
‫انظر ‪ :‬قول الصّحابيّ‬

‫حبَة *‬
‫صُ ْ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّحبة في اللّغة ‪ :‬الملزمة والمرافقة ‪ ،‬والمعاشرة ‪ .‬يقال ‪ :‬صحبه يصحبه صحبةً ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وصحابةً بالفتح وبالكسر ‪ :‬عاشره ورافقه ‪ ،‬ولزمه ‪.‬‬


‫وفي حديث قيلة ‪ :‬خرجت أبتغي الصّحابة إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫هذا مطلق الصّحبة لغةً ‪ .‬أمّا في الصطلح ‪ :‬فإذا أطلقوا الصّحبة ‪ ،‬فالمراد بها صحبة النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الرّفقة ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّفقة في اللّغة ‪ :‬مطلق الصّحبة في السّفر أو غيره ‪ ،‬يقال ‪ :‬رافق الرّجل صاحبه ‪ :‬وقيل‬ ‫‪2‬‬

‫ص من الصّحبة ‪.‬‬
‫صةً فهي أخ ّ‬
‫في السّفر خا ّ‬
‫ب ‪ -‬الصّداقة ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّداقة ‪ ،‬والمصادقة ‪ :‬المخالّة ‪ :‬بمعنىً واحد ‪ ،‬يقال ‪ :‬صادقته مصادق ًة وصداقةً ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص من الصّحبة ‪.‬‬
‫خاللته ‪ ،‬والصّداقة أخ ّ‬
‫الحكام المتعلّقة بالصّحبة ‪:‬‬
‫ما تثبت به الصّحبة ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف أهل العلم فيما تثبت به الصّحبة ‪ ،‬وفي مستحقّ اسم الصّحبة ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم مؤمنا به ‪ ،‬ومات على السلم‬


‫ن الصّحابيّ من لقي النّب ّ‬
‫قال بعضهم ‪ :‬إ ّ‬
‫وقال ابن حجر العسقلنيّ ‪ :‬هذا أصحّ ما وقفت عليه في ذلك ‪ .‬فيدخل فيمن لقيه ‪ :‬من طالت‬
‫مجالسته له ‪ ،‬ومن قصرت ‪ ،‬ومن روى عنه ‪ ،‬ومن لم يرو عنه ‪ ،‬ومن غزا معه ‪ ،‬ومن لم يغز‬
‫معه ‪ ،‬ومن رآه رؤيةً ولو من بعيد ‪ ،‬ومن لم يره لعارض ‪ ،‬كالعمى ‪.‬‬
‫ويخرج بقيد اليمان ‪ :‬من لقيه كافرا وإن أسلم فيما بعد ‪ ،‬إن لم يجتمع به مرّ ًة أخرى بعد‬
‫ي صلى ال‬
‫اليمان‪ ،‬كما يخرج بقيد الموت على اليمان ‪ :‬من ارت ّد عن السلم بعد صحبة النّب ّ‬
‫عليه وسلم ومات على الرّدّة فل يعدّ صحابيّا ‪.‬‬
‫وهل يشترط التّمييز عند الرّؤية ؟ منهم من اشترط ذلك ومنهم من لم يشترط ذلك ‪.‬‬
‫قال ابن حجر في فتح الباري ‪ :‬بعد أن توقّف في ذلك " وعمل من صنّف في الصّحابة يدلّ على‬
‫الثّاني " أي ‪ :‬عدم اشتراط التّمييز ‪.‬‬
‫ي صلى ال‬
‫ق اسم الصّحبة ‪ ،‬ول يعدّ في الصّحابة إ ّل من أقام مع النّب ّ‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬ل يستح ّ‬
‫عليه وسلم سنةً فصاعدا ‪ ،‬أو غزا معه غزوةً فصاعدا ‪ ،‬حكي هذا عن سعيد بن المسيّب ‪ ،‬وقال‬
‫ابن الصّلح ‪ :‬هذا إن صحّ ‪ :‬طريقة الصوليّين ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يشترط في صحّة الصّحبة ‪ :‬طول الجتماع والرّواية عنه معا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يشترط أحدهما ‪،‬‬
‫ي سنة على الجتماع ‪ ،‬وقال أصحاب هذا القول ‪ :‬لنّ‬
‫وقيل ‪ :‬يشترط الغزو معه ‪ ،‬أو مض ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم شرفا عظيما ل ينال إلّ باجتماع طويل يظهر فيه الخلق‬
‫لصحبة النّب ّ‬
‫المطبوع عليه الشّخص ‪ ،‬كالغزو المشتمل على السّفر الّذي هو قطعة من العذاب ‪ ،‬والسّنة‬
‫المشتملة على الفصول الربعة الّتي يختلف فيها المزاج ‪.‬‬
‫طرق إثبات الصّحبة ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّحبة تثبت بطرق ‪ :‬منها ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫ي‪.‬‬
‫أ ‪ -‬التّواتر بأنّه صحاب ّ‬
‫ب ‪ -‬ث ّم الستفاضة ‪ ،‬والشّهرة ‪ ،‬القاصرة عن التّواتر ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ثمّ بأن يروى عن أحد من الصّحابة أنّ فلنا له صحبة ‪ ،‬أو عن أحد التّابعين بناءً على‬
‫قبول التّزكية عن واحد ‪.‬‬
‫د ‪ -‬ثمّ بأن يقول هو إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة ‪ :‬أنا صحابيّ ‪ ،‬أمّا الشّرط الوّل ‪ :‬وهو‬
‫العدالة فجزم به المديّ وغيره ‪ ،‬لنّ قوله ‪ :‬أنا صحابيّ ‪ ،‬قبل ثبوت عدالته يلزم من قبول قوله‬
‫‪ :‬إثبات عدالته ‪ ،‬لنّ الصّحابة كلّهم عدول فيصير بمنزلة قول القائل ‪ :‬أنا عدل ‪ ،‬وذلك ل يقبل ‪.‬‬
‫ي صلى‬
‫ي مائة سنة وعشر سنين من هجرة النّب ّ‬
‫وأمّا الشّرط الثّاني ‪ :‬وهو المعاصرة فيعتبر بمض ّ‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم في آخر عمره لصحابه ‪ » :‬أرأيتكم ليلتكم هذه ؟‬
‫ن على رأس مائة سنة منها ل يبقى ممّن هو على ظهر الرض أحد « ‪.‬‬
‫فإ ّ‬
‫ن ذلك كان قبل موته صلى ال عليه وسلم بشهر « ‪.‬‬
‫وزاد مسلم من حديث جابر ‪ » :‬أ ّ‬
‫عدالة من ثبتت صحبته ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق أهل السّنّة ‪ :‬على أنّ جميع الصّحابة عدول ‪ ،‬ولم يخالف في ذلك إلّ شذوذ من‬ ‫‪6‬‬

‫المبتدعة ‪.‬‬
‫وهذه الخصّيصة للصّحابة بأسرهم ‪ ،‬ول يسأل عن عدالة أحد منهم ‪ ،‬بل ذلك أمر مفروغ منه ‪،‬‬
‫لكونهم على الطلق معدّلين بتعديل اللّه لهم وإخباره عن طهارتهم ‪ ،‬واختياره لهم بنصوص‬
‫القرآن ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬كُن ُتمْ خَيْ َر ُأ ّمةٍ ُأخْ ِرجَتْ لِلنّاسِ } الية ‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬اتّفق المفسّرون على أنّ الية واردة في أصحاب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫شهَدَاء عَلَى النّاسِ } ‪.‬‬
‫جعَلْنَاكُ ْم ُأ ّمةً َوسَطا لّ َتكُونُواْ ُ‬
‫وقال ع ّز من قائل ‪َ { :‬وكَذَلِكَ َ‬
‫ن َم َعهُ َأشِدّاء عَلَى ا ْلكُفّارِ } الية ‪.‬‬
‫حمّدٌ ّرسُولُ الّلهِ وَالّذِي َ‬
‫وقال تعالى ‪ّ { :‬م َ‬
‫وفي نصوص السّنّة الشّاهدة بذلك كثرة ‪ ،‬منها حديث ‪ :‬أبي سعيد المتّفق على صحّته ‪ :‬أنّ‬
‫ن أحدكم أنفق‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ل تسبّوا أصحابي فوالّذي نفسي بيده لو أ ّ‬
‫مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ‪ ،‬ول نصيفه « ‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬اللّه ‪ ،‬اللّه في أصحابي ل تتّخذوهم غرضا بعدي ‪ ،‬فمن أحبّهم‬
‫فبحبّي أحبّهم ‪ ،‬ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ‪ ،‬ومن آذاهم فقد أذاني ‪ ،‬ومن أذاني فقد أذى‬
‫اللّه‪ ،‬ومن آذى اللّه فيوشك أن يأخذه « ‪.‬‬
‫ن المّة مجمعة على تعديل جميع الصّحابة ‪ ،‬ومن لبس الفتن منهم‬
‫قال ابن الصّلح ‪ :‬ثمّ إ ّ‬
‫ن بهم ‪ ،‬ونظرا إلى ما تمهّد لهم‬
‫فكذلك‪ ،‬بإجماع العلماء الّذين يعتدّ بهم في الجماع ‪ ،‬إحسانا للظّ ّ‬
‫ن اللّه سبحانه وتعالى أتاح الجماع على ذلك لكونهم نقلة الشّريعة ‪.‬‬
‫من المآثر ‪ ،‬وكأ ّ‬
‫وجميع ما ذكرنا يقتضي القطع بتعديلهم ‪ ،‬ول يحتاجون مع تعديل اللّه ورسوله لهم إلى تعديل‬
‫أحد من النّاس ‪ ،‬ونقل ابن حجر عن الخطيب في " الكفاية " أنّه لو لم يرد من اللّه ورسوله فيهم‬
‫شيء ممّا ذكرناه لوجبت الحال الّتي كانوا عليها من الهجرة ‪ ،‬والجهاد ‪ ،‬ونصرة السلم ‪،‬‬
‫وبذل المهج والموال ‪ ،‬وقتل الباء ‪ ،‬والبناء ‪ ،‬والمناصحة في الدّين ‪ ،‬وقوّة اليمان واليقين ‪:‬‬
‫القطع بتعديلهم ‪ ،‬والعتقاد بنزاهتهم ‪ ،‬وأنّهم كا ّف ًة أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدّلين‬
‫الّذين يجيئون من بعدهم ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬هذا مذهب كافّة العلماء ‪ ،‬ومن يعتمد قوله ‪ ،‬وروى بسنده‬
‫إلى أبي زرعة الرّازيّ قال ‪ " :‬إذا رأيت الرّجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم فاعلم أنّه زنديق " ‪ ،‬ذلك أنّ الرّسول صلى ال عليه وسلم حقّ ‪ ،‬والقرآن حقّ ‪ ،‬وما‬
‫جاء به حقّ‪ ،‬وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصّحابة ‪ ،‬وهؤلء يريدون أن يجرّحوا شهودنا ‪ ،‬ليبطلوا‬
‫الكتاب والسّنّة‪ ،‬والجرح بهم أولى ‪ ،‬وهم زنادقة ‪.‬‬
‫إنكار صحبة من ثبتت صحبته بنصّ القرآن ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على تكفير من أنكر صحبة أبي بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬لرسول اللّه صلى ال‬ ‫‪7‬‬

‫ن إِنّ الّل َه َمعَنَا } ‪.‬‬


‫عليه وسلم ‪ .‬لما فيه من تكذيب قوله تعالى ‪ { :‬إِذْ َيقُولُ لِصَاحِ ِبهِ َل َتحْزَ ْ‬
‫واختلفوا في تكفير من أنكر صحبة غيره من الخلفاء الرّاشدين ‪ ،‬كعمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وعليّ ‪-‬‬
‫ن من أنكر صحبة سائر الصّحابة غير أبي بكر ل‬
‫رضي ال عنهم ‪ -‬فنصّ الشّافعيّة ‪ :‬على أ ّ‬
‫يكفر بهذا النكار ‪.‬‬
‫وهو مفهوم مذهب المالكيّة ‪ ،‬وهو مقتضى قول الحنفيّة ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولنّه يعرفها العامّ ‪ ،‬والخاصّ ‪،‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬يكفر لتكذيبه النّب ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وانعقد الجماع على ذلك ‪ ،‬فنافي صحبة أحدهم ‪ ،‬أو كلّهم مكذّب للنّب ّ‬
‫سبّ الصّحابة ‪:‬‬
‫ب الصّحابة ‪ ،‬أو واحدا منهم ‪ ،‬فإن نسب إليهم ما ل يقدح في عدالتهم ‪ ،‬أو في دينهم‬
‫‪ -‬من س ّ‬ ‫‪8‬‬

‫بأن يصف بعضهم ببخل ‪ ،‬أو جبن ‪ ،‬أو قلّة علم ‪ ،‬أو عدم الزّهد ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬فل يكفر باتّفاق‬
‫الفقهاء ‪ ،‬ولكنّه يستحقّ التّأديب ‪.‬‬
‫أمّا إن رماهم بما يقدح في دينهم أو عدالتهم كقذفهم ‪ :‬فقد اتّفق الفقهاء على تكفير من قذف‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بما برّأها‬
‫الصّدّيقة بنت الصّدّيق ‪ :‬عائشة ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬زوج النّب ّ‬
‫اللّه منه ‪ ،‬لنّه مكذّب لنصّ القرآن ‪.‬‬
‫ب أحد‬
‫أمّا بقيّة الصّحابة فقد اختلفوا في تكفير من سبّهم ‪ ،‬فقال الجمهور ‪ :‬ل يكفر بس ّ‬
‫الصّحابة ‪ ،‬ولو عائشة بغير ما برّأها اللّه منه ويكفر بتكفير جميع الصّحابة أو القول بأنّ‬
‫ن ذلك تكذيب لما‬
‫الصّحابة ارتدّوا جميعا بعد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أو أنّهم فسقوا ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن مضمون هذه المقالة‬
‫نصّ عليه القرآن في غير موضع من الرّضا عنهم ‪ ،‬والثّناء عليهم ‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪ :‬أنّ نقلة الكتاب ‪ ،‬والسّنّة كفّار ‪ ،‬أو فسقة ‪ ،‬وأنّ هذه المّة الّتي هي خير أمّة أخرجت ‪،‬‬
‫ن هذه المّة ش ّر المم ‪،‬‬
‫وخيرها القرن الوّل كان عامّتهم كفّارا ‪ ،‬أو فسّاقا ‪ ،‬ومضمون هذا ‪ :‬أ ّ‬
‫وأنّ سابقيها هم أشرارها ‪ ،‬وكفر من يقول هذا ممّا علم من الدّين بالضّرورة ‪.‬‬
‫وجاء في فتاوى قاضيخان ‪ :‬يجب إكفار من كفّر عثمان ‪ ،‬أو عليّا ‪ ،‬أو طلحة ‪ ،‬أو عائشة ‪ ،‬وكذا‬
‫ب الشّيخين أو يلعنهما ‪.‬‬
‫من يس ّ‬

‫صِحّة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ح والصّحاح ضدّ السّقم ‪ ،‬وهي أيضا ‪ :‬ذهاب المرض ‪.‬‬
‫صّ‬‫صحّة في اللّغة ‪ :‬وال ّ‬
‫‪ -‬ال ّ‬ ‫‪1‬‬

‫صحّة في البدن ‪ :‬حالة طبيعيّة تجري أفعاله معها على المجرى الطّبيعيّ ‪ ،‬وقد استعيرت‬
‫وال ّ‬
‫صحّة للمعاني فقيل ‪ :‬صحّت الصّلة إذا أسقطت القضاء ‪ ،‬وصحّ العقد إذا ترتّب عليه أثره ‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫وصحّ القول إذا طابق الواقع ‪ ،‬والصّحيح الحقّ ‪ :‬وهو خلف الباطل ‪.‬‬
‫صحّة عند الصوليّين من أقسام الحكم الوضعيّ ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬ال ّ‬
‫( ر ‪ :‬مصطلح حكم ف ‪. ) 4‬‬
‫صحّة ‪:‬‬
‫واختلف الصوليّون في تعريف ال ّ‬
‫صحّة عبارة عمّا وافق الشّرع وجب القضاء أو لم يجب ‪ ،‬ويشمل‬
‫ن ال ّ‬
‫فذهب الجمهور إلى أ ّ‬
‫عندهم العبادات والعقود ‪.‬‬
‫صحّة في العبادات ‪ :‬اندفاع وجوب القضاء ‪.‬‬
‫ن ال ّ‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫ففي تعريف الحنفيّة زيادة قيد ‪ ،‬إذ هي عندهم ‪ :‬موافقة أمر الشّارع على وجه يندفع به القضاء‬
‫‪ .‬وفي المعاملت ترتّب أثرها وهو ما شرعت من أجله ‪ ،‬كحلّ النتفاع في عقد البيع ‪،‬‬
‫والستمتاع في عقد النّكاح ‪.‬‬
‫وتظهر ثمرة الخلف بين التّعريفين فيمن صلّى ظانّا أنّه متطهّر ‪ ،‬ث ّم تبيّن أنّه محدث ‪ ،‬فتكون‬
‫صلته صحيحةً عند الجمهور ‪ ،‬لنّه وافق المر المتوجّه عليه في الحال ‪ ،‬وأمّا القضاء فوجوبه‬
‫صحّة وتكون هذه الصّلة غير صحيحة عند الحنفيّة لعدم‬
‫ق منه اسم ال ّ‬
‫بأمر متجدّد ‪ ،‬فل يشت ّ‬
‫اندفاع القضاء ‪.‬‬
‫صحّة ل تتحقّق إلّ بتحقيق المقصود الدّنيويّ من التّكليف وهو في العبادات‬
‫ووجه قولهم إنّ ال ّ‬
‫تفريغ ال ّذمّة ‪ ،‬وفي المعاملت بتحقيق الغراض المترتّبة على العقود ‪ ،‬والفسوخ ‪ ،‬كملك الرّقبة‬
‫في البيع ‪ ،‬وملك المتعة في النّكاح ‪ ،‬وملك المنفعة في الجارة ‪ ،‬والبينونة في الطّلق ‪.‬‬
‫وما لم يوصل إلى المقاصد الدّنيويّة يسمّى بطلنا وفسادا ‪.‬‬
‫وعند الفقهاء ‪ :‬الصّحيح في العبادات والمعاملت ما اجتمع أركانه وشرائطه حتّى يكون معتبرا‬
‫في حقّ الحكم ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الجزاء ‪:‬‬
‫‪ -‬الجزاء لغةً الكفاية والغناء ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬موافقة أمر الشّارع بأن يكون الفعل مستجمعا ما يتوقّف عليه من الشّروط عند‬
‫صحّة والجزاء مترادفان في الستعمال ‪،‬‬
‫الجمهور ‪ ،‬وزاد الحنفيّة أن يندفع بفعله القضاء ‪ ،‬فال ّ‬
‫صحّة ‪.‬‬
‫إلّ أنّ الجزاء أثر من آثار ال ّ‬
‫وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬إجزاء ف ‪. ) 1،2‬‬
‫ب ‪ -‬البطلن ‪:‬‬
‫‪ -‬البطلن لغةً الضّياع والخسران ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬يختلف تعريف البطلن تبعا للعبادات والمعاملت ‪.‬‬


‫فالبطلن في العبادات عدم اعتبار العبادة حتّى كأنّها لم تكن ‪ ،‬كما لو صلّى من غير وضوء ‪.‬‬
‫والبطلن في المعاملت عند الحنفيّة أن تقع المعاملة على وجه غير مشروع بأصله ول بوصفه‬
‫‪ .‬وعند الجمهور ‪ :‬البطلن هو الفساد بمعنى أن تقع المعاملة على وجه غير مشروع بأصله أو‬
‫بوصفه أو بهما ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬مصطلح بطلن ف ‪. ) 1‬‬
‫ج ‪ -‬الداء ‪:‬‬
‫‪ -‬الداء لغ ًة ‪ :‬اليصال ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬فعل بعض ‪ -‬وقيل كلّ ‪ -‬ما دخل وقته قبل خروجه ‪ ،‬واجبا كان أو مندوبا ‪.‬‬
‫د ‪ -‬القضاء ‪:‬‬
‫‪ -‬القضاء لغةً ‪ :‬الداء ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬ما فعل بعد خروج وقت أدائه استدراكا لما سبق لفعله مقتض ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬مصطلح أداء ف ‪. ) 1‬‬
‫صحّة ‪.‬‬
‫صحّة ‪ ،‬أنّهما يأتيان وصفا لل ّ‬
‫والصّلة بين كلّ من الداء والقضاء وبين ال ّ‬
‫ما يتعلّق بالصّحّة من أحكام ‪:‬‬
‫‪ -‬أهليّة النسان لداء التّكاليف الشّرعيّة تتعلّق بقدرتين ‪ :‬قدرة فهم الخطاب وذلك بالعقل ‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫وقدرة العمل به وهي بالبدن ‪.‬‬


‫ن له أثرا في نقص التّكليف وعدم تمامه ‪ ،‬لنّ‬
‫ولقد اعتبر المرض من عوارض الهليّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫المريض يترخّص برخص كثيرة شرعت للتّخفيف عنه ‪ ،‬كما يكون المرض في بعض الحوال‬
‫سببا للحجر على المريض مرض الموت ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪13‬‬ ‫( ر ‪ :‬أهليّة ف ‪ 9‬و ف‬
‫فإذا كان النسان صحيح البدن توجّه إليه التّكليف كاملً لتحقّق قدرته عليه ‪ ،‬وقد ذكر الفقهاء‬
‫جملةً من الحكام يشترط فيها صحّة البدن منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬يشترط في إمام الصّلة إذا كان يؤمّ الصحّاء أن يكون سالما من العذار ‪ ،‬كسلس البول ‪،‬‬
‫وانفلت الرّيح ‪ ،‬والجرح السّائل ‪ ،‬والرّعاف ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪10‬‬ ‫( ر ‪ :‬إمامة الصّلة ف‬
‫ب ‪ -‬ويشترط لوجوب الجهاد السّلمة من الضّرر ‪ ،‬فل يجب الجهاد على العاجز غير المستطيع‬
‫لنّ العجز ينفي الوجوب ‪ ،‬والمستطيع ‪ :‬هو الصّحيح في بدنه من المرض ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪21‬‬ ‫( ر ‪ :‬جهاد ف‬
‫ج ‪ -‬واتّفق الفقهاء على أنّه يشترط فيمن يتولّى المامة الكبرى أن يكون سليم الحواسّ‬
‫والعضاء ممّا يمنع استيفاء الحركة للنّهوض بمهامّ المامة ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪10‬‬ ‫( المامة الكبرى ف‬
‫د ‪ -‬ومن شروط وجوب الحجّ ‪ :‬الستطاعة ‪ ،‬ومنها صحّة البدن ‪ ،‬وسلمته من المراض‬
‫والعاهات الّتي تعوق عن الحجّ ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪19‬‬ ‫( ر ‪ :‬حجّ ف‬
‫ن نفسه مستوفاة فل فرق‬
‫هـ – ل تشترط صحّة البدن في إقامة حدّ الرّجم ‪ ،‬أو القصاص ‪ ،‬ل ّ‬
‫بين الصّحيح وبين المريض ‪.‬‬
‫أمّا الجلد فإن كان المرض ممّا يرجى برؤه فالجمهور على تأخير إقامة الحدّ ‪ ،‬والحنابلة على‬
‫عدم التّأخير ‪ .‬أمّا إن كان ممّا ل يرجى برؤه ‪ ،‬أو كان الجاني ضعيف الخلقة ل يحتمل السّياط ‪،‬‬
‫فيقام عليه الحدّ في الحال إذ ل غاية تنتظر ‪ ،‬ويشترط أن يضرب ضربا يؤمن معه التّلف ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪14‬‬ ‫( ر ‪ :‬حدود ف‬
‫و ‪ -‬ل يجوز للصّحيح أن يترخّص برخص المريض ‪ ،‬لنّها رخصة ثبتت تخفيفا عن المريض‬
‫لعذر المرض فتقتصر عليه ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪15‬‬ ‫( ر ‪ :‬رخصة ف‬
‫صحّة الحديث ‪:‬‬
‫‪ -‬عرّف المحدّثون الحديث الصّحيح بأنّه ‪ :‬ما اتّصل سنده بنقل الثّقة ‪ -‬وهو العدل الضّابط‬ ‫‪7‬‬

‫عن مثله ‪ -‬من غير شذوذ ول علّة ‪.‬‬


‫فيشترطون في صحّة الحديث خمسة شروط ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬اتّصال السّند ‪ ،‬فخرج الحديث المنقطع ‪ ،‬والمعضل ‪ ،‬والمعلّق ‪ ،‬والمدلّس ‪ ،‬والمرسل ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬عدالة الرّواة ‪ ،‬فخرج به رواية مجهول الحال ‪ ،‬أو العين أو المعروف بالضّعف ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬ضبط الرّواة ‪ ،‬وخرج به المغفّل كثير الخطأ ‪.‬‬
‫الرّابع ‪ :‬السّلمة من الشّذوذ ‪ ،‬وخرج به الحديث الشّاذّ ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬السّلمة من العلّة القادحة ‪ ،‬وخرج به الحديث المعلّ ‪.‬‬
‫وخالف في هذا الفقهاء والصوليّون ‪ ،‬فمدار الحديث الصّحيح عندهم على عدالة الرّواة ‪.‬‬
‫والعدالة عندهم ‪ :‬هي المشترطة في قبول الشّهادة على ما هو مقرّر في الفقه ‪.‬‬
‫ن كثيرا من العلل الّتي يعلّل بها‬
‫كما كان لهم نظر في اشتراط السّلمة من الشّذوذ والعلّة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫المحدّثون الحديث ‪ ،‬ل تجري على أصول الفقهاء ‪.‬‬
‫من ذلك ‪ :‬أنّه إذا أثبت الرّاوي عن شيخه شيئا فنفاه من هو أحفظ ‪ ،‬أو أكثر عددا ‪ ،‬أو أكثر‬
‫ملزم ًة منه ‪ .‬فإنّ الصوليّين يقدّمون رواية المثبت على النّافي ويقبلون الحديث ‪.‬‬
‫ن الشّذوذ عندهم ‪ :‬ما يخالف فيه الرّاوي في روايته من هو‬
‫أمّا المحدّثون فيسمّونه شاذّا ‪ ،‬ل ّ‬
‫أرجح منه عند تعذّر الجمع بين الرّوايتين ‪.‬‬
‫ن بعض الفقهاء قبل الحديث المرسل ‪ ،‬الّذي يقول فيه التّابعيّ ‪ :‬قال رسول اللّه‬
‫ومن ذلك ‪ :‬أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم كذا أو فعل كذا ‪.‬‬
‫ور ّد المحدّثون المرسل للجهل بحال المحذوف ‪ ،‬لنّه يحتمل أن يكون صحابيّا ‪ ،‬أو تابعيّا ‪ ،‬ول‬
‫حجّة في المجهول ‪.‬‬

‫صَحِيح *‬
‫انظر ‪ :‬صحّة‬

‫صَدَاق *‬
‫انظر ‪ :‬مهر‬

‫صَدَاقة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّداقة في اللّغة ‪ :‬مشتقّة من الصّدق في الودّ والنّصح ‪ ،‬يقال ‪ :‬صادقته مصادقةً‬ ‫‪1‬‬

‫وصداقا ‪ ،‬والسم الصّداقة أي ‪ :‬خاللته ‪.‬‬


‫وفي الصطلح ‪ :‬اتّفاق الضّمائر على المودّة ‪ ،‬فإذا أضمر كلّ واحد من الرّجلين مودّة صاحبه‬
‫فصار باطنه فيها كظاهره سمّيا صديقين ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصّحبة ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّحبة هي في اللّغة ‪ :‬العشرة الطّويلة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ب ‪ -‬الرّفقة ‪:‬‬
‫صةً‬
‫‪ -‬الرّفقة هي ‪ :‬الصّحبة في السّفر خا ّ‬ ‫‪3‬‬

‫الحكام المتعلّقة بالصّداقة ‪:‬‬


‫التّرغيب في الصّداقة ‪:‬‬
‫‪ -‬رغّبت الشّريعة في الصّداقة بين المسلمين ‪ ،‬وعبّرت عنها في الغالب بالخوّة في اللّه قال‬ ‫‪4‬‬

‫حرَجٌ وَلَا عَلَى‬


‫ج وَلَا عَلَى ا ْل َمرِيضِ َ‬
‫ج حَرَ ٌ‬
‫ج وَلَا عَلَى الَْأعْرَ ِ‬
‫عمَى حَرَ ٌ‬
‫س عَلَى الَْأ ْ‬
‫تعالى ‪ { :‬لَيْ َ‬
‫سكُ ْم أَن تَ ْأكُلُوا مِن بُيُو ِتكُمْ َأوْ بُيُوتِ آبَا ِئ ُكمْ } إلى قوله تعالى ‪َ { :‬أوْ صَدِيقِ ُكمْ } ‪.‬‬
‫أَن ُف ِ‬
‫وجاء في الثر ‪ " :‬المرء كثير بأخيه " ‪.‬‬
‫الكل في بيت الصديق ‪:‬‬
‫– صرّح الشافعيّة ‪ :‬أنّ للصَديق الكل في بيتِ صديقِه وبستانِه ‪ ،‬ونحوهما في حالِ غيبَتِه ‪،‬إذا‬ ‫‪5‬‬

‫علِم من حاله انّه ل يكر ُه ذلك منه ‪.‬‬


‫ي أنّه دخلَ دارهُ فإذا فيها حلقةٌ من أصدقائهِ ‪ ،‬وقد‬
‫وقال الزّمخشريُ ‪ :‬يُحكى عن الحسنِ البصر ّ‬
‫ب الطعمَة ‪ ،‬وهم مكبّون عليها يأكلونَ مِنها ‪ ،‬ف َتهَللت‬
‫استلّوا سللً من تحتِ سريره فيها أطاي َ‬
‫ك يقولُ ‪ :‬هكذا وجَدناهُم ‪ ،‬يري ُد أكابرَ الصّحاب ِة ومَن َلقِيَهم مِنَ‬
‫أساري ُر وجهِه سرورا ‪ ،‬وَضح َ‬
‫البَدريينَ ‪.‬‬
‫وقالَ الماورديّ ‪ :‬في جوازِ ذلك قَولنِ للعُلماءِ ‪:‬‬
‫ن الصّديقَ يأكلُ مِن منز ِل صَديقه فِي الولي َمةِ بل دعو ٍة دونَ غَيرها ‪.‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أ ّ‬
‫ن الطّعامُ حاضرا غيرَ مُح َرزٍ ‪ُ ،‬ثمّ اختلفُوا فِي‬
‫والثّانِي ‪ :‬أنّه يأكلُ فِي الولي َمةِ وغَيرها ‪ ،‬إذا كا َ‬
‫نسخِ ما تقدّم بع َد ثبوتِ حُكمهِ على قَولَين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنّه على ثبوتِه لَم يُنسَخ شَي ٌء منهُ ‪ ،‬وبهِ قالَ قتَادَة ‪.‬‬
‫ي صَلى‬
‫والقَولُ الثّانِي ‪ :‬أنّه مَنسوخٌ بقولهِ ‪ { :‬ل تَ ْدخُلُوا بُيُوتا غَيْ َر بُيُو ِت ُكمْ } الية ‪ ،‬وقَولِ النّب ّ‬
‫س مِنهُ « ‪.‬‬
‫الُ عليه وسلّم ‪ » :‬ل يحل مالُ امرِئ مسلمٍ إل بطيبِ نَف ٍ‬
‫ك قامَ ذلك‬
‫وجاءَ فِي تَفسيرِ قول ِه تَعالى ‪َ { :‬أوْ صَدِيقِ ُكمْ } أنّه إذا َدلّ ظاه ُر الحالِ على رِضا المال ِ‬
‫مقا َم الذنِ الصّريحِ ‪.‬‬
‫شهادة الصّديق لصديقه ‪:‬‬
‫‪ -‬تقبل شهادة الصّديق لصديقه في قول عامّة العلماء ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫إلّ أنّ الحنفيّة والمالكيّة قالوا ‪ :‬يشترط لقبول شهادة الصّديق لصديقه ‪ :‬ألّ تكون الصّداقة بينهما‬
‫متناهي ًة ‪ ،‬بحيث يتصرّف كلّ منهما في مال الخر ‪ ،‬وأن يبرز في العدالة ‪ ،‬وزاد المالكيّة ‪:‬‬
‫اشتراط ألّ يكون في عياله ‪ ،‬يأكل معهم ويسكن عندهم كأنّه من أفرادهم ‪.‬‬
‫( ر ‪ :‬مصطلح شهادة ) ‪.‬‬

‫صَدَقة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّدقة بفتح الدّال لغةً ‪ :‬ما يعطى على وجه التّقرّب إلى اللّه تعالى ل على وجه المكرمة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ويشمل هذا المعنى الزّكاة وصدقة التّطوّع ‪.‬‬


‫وفي الصطلح ‪ :‬تمليك في الحياة بغير عوض على وجه القربة إلى اللّه تعالى ‪ ،‬وهي تستعمل‬
‫بالمعنى اللّغويّ الشّامل ‪ ،‬فيقال للزّكاة ‪ :‬صدقة ‪ ،‬كما ورد في القرآن الكريم ‪ { :‬إِ ّنمَا الصّدَقَاتُ‬
‫لِ ْل ُفقَرَاء وَا ْل َمسَاكِينِ } الية ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬أي صدقة التّطوّع ‪.‬‬
‫ويقال للتّطوّع ‪ :‬صدقة كما ورد في كلم الفقهاء وتحلّ لغن ّ‬
‫يقول الرّاغب الصفهانيّ ‪ :‬الصّدقة ‪ :‬ما يخرجه النسان من ماله على وجه القربة كالزّكاة ‪ .‬لكنّ‬
‫الصّدقة في الصل تقال ‪ :‬للمتطوّع به ‪ ،‬والزّكاة تقال ‪ :‬للواجب ‪.‬‬
‫ص ًة ‪.‬‬
‫والغالب عند الفقهاء ‪ :‬استعمال هذه الكلمة في صدقة التّطوّع خا ّ‬
‫يقول الشّربينيّ ‪ :‬صدقة التّطوّع هي المرادة عند الطلق غالبا ويفهم هذا من كلم سائر الفقهاء‬
‫أيضا ‪ ،‬يقول الحطّاب ‪ :‬الهبة إن تمحّضت لثواب الخرة فهي الصّدقة ‪ ،‬ومثله ما قاله البعليّ‬
‫الحنبليّ في المطلع على أبواب المقنع ‪.‬‬
‫وفي وجه تسميتها صدق ًة يقول القليوبيّ ‪ :‬سمّيت بذلك لشعارها بصدق نيّة باذلها ‪ ،‬وهذا‬
‫المعنى الخير أي صدقة التّطوّع هو المقصود في هذا البحث عند الطلق ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد تطلق الصّدقة على الوقف ‪ ،‬ومن ذلك ما رواه البخاريّ عن ابن عمر ‪ -‬رضي ال‬ ‫‪2‬‬

‫عنهما ‪ :‬من حديث طويل أنّ عمر تصدّق بمال له على عهد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫وكان يقال له ‪ :‬ثمغ ‪ ...‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬تصدّق بأصله ‪ ،‬ل يباع ول‬
‫يوهب ‪ ،‬ول يورث ‪ ،‬ولكن ينفق ثمره « ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد تطلق الصّدقة ‪ :‬على كلّ نوع من المعروف ‪ ،‬ومن ذلك قول النّبيّ صلى ال عليه‬ ‫‪3‬‬

‫وسلم‪ » :‬كلّ معروف صدقة « ‪.‬‬


‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الهبة ‪ ،‬الهديّة ‪ ،‬العطيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬الهبة ‪ ،‬والهديّة ‪ ،‬والعطيّة ‪ ،‬كلّ منها تمليك بل عوض ‪ ،‬إلّ أنّه إذا كان هذا التّمليك لثواب‬ ‫‪4‬‬

‫الخرة فصدقة ‪ ،‬وإذا كان للمواصلة والوداد فهبة ‪ ،‬وإن قصد به الكرام فهديّة ‪ .‬فك ّل واحد من‬
‫هذه اللفاظ قسيم للخر ‪ .‬والعطيّة شاملة للجميع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬العاريّة ‪:‬‬
‫‪ -‬العاريّة ‪ :‬إباحة أو تمليك منفعة عين مع بقاء العين لصاحبها بشروط مخصوصة ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫ن الصّدقة تمليك عين ‪ ،‬والعاريّة إباحة أو تمليك‬


‫وعلى هذا فكلّ من الصّدقة والعاريّة تبرّع لك ّ‬
‫منفعة ‪ ،‬على خلف وتفصيل عند الفقهاء ‪ ،‬والصّدقة يمتنع الرّجوع فيها ‪ .‬كما سيأتي ‪.‬‬
‫والعاريّة ل بدّ فيها من ر ّد العين لمالكها بعد استيفاء منافعها ‪ ،‬كما هو مفصّل في مصطلح ‪:‬‬
‫( إعارة ) ‪.‬‬
‫حكمة مشروعيّة الصّدقة وفضلها ‪:‬‬
‫ن أداء الصّدقة من باب إعانة الضّعيف ‪ ،‬وإغاثة اللّهيف ‪ ،‬وإقدار العاجز ‪ ،‬وتقويته على‬
‫‪-‬إّ‬ ‫‪6‬‬

‫أداء ما افترض اللّه عليه من التّوحيد والعبادات ‪.‬‬


‫والصّدقة شكر للّه تعالى على نعمه ‪ ،‬وهي دليل لصحّة إيمان مؤدّيها وتصديقه ‪ ،‬ولهذا سمّيت‬
‫صدقةً ‪.‬‬
‫وقد ورد في فضل الصّدقة أحاديث منها ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم ل‬
‫أ ‪ -‬ما رواه أبو هريرة عن النّب ّ‬
‫ظلّ إلّ ظلّه ‪ « ..‬فذكر منهم ‪ » :‬رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه‬
‫« ب ‪ -‬ما رواه أبو هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ما‬
‫تصدّق أحد بصدقة من طيّب ول يقبل اللّه إ ّل الطّيّب ‪ ،‬إلّ أخذها الرّحمن بيمينه ‪ ،‬وإن كانت تمرةً‬
‫تربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله «‪.‬‬
‫أقسام الصّدقة ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّدقة أنواع ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫أ ‪ -‬صدقة مفروضة من جهة الشّرع على الموال ‪ ،‬وهي زكاة المال ‪ ،‬وتنظر أحكامها في‬
‫مصطلح ‪ ( :‬زكاة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬صدقة على البدان ‪ ،‬وتنظر أحكامها في مصطلح ‪ ( :‬زكاة الفطر ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬صدقة يفرضها الشّخص على نفسه ‪ ،‬وهي الصّدقة الواجبة بالنّذر ‪ ،‬وتنظر أحكامها في‪:‬‬
‫( نذر ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الصّدقات المفروضة حقّا للّه تعالى ‪ ،‬كالفدية ‪ ،‬والكفّارة ‪ ،‬وتنظر أحكامها في مصطلح ‪:‬‬
‫( فدية وكفّارة ) ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬صدقة التّطوّع ‪ ،‬ونبيّن أحكامها فيما يلي ‪:‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّدقة مسنونة ‪ ،‬ورد النّدب إليها في كثير من آيات القرآن الكريم ‪ ،‬وكثير من الحاديث‬ ‫‪8‬‬

‫النّبويّة الشّريفة ‪.‬‬


‫ضعَافا‬
‫ع َفهُ َلهُ أَ ْ‬
‫حسَنا فَيُضَا ِ‬
‫أمّا من القرآن الكريم فقوله تعالى ‪ { :‬مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ الّلهَ قَرْضا َ‬
‫سطُ َوإِلَ ْيهِ ُت ْرجَعُونَ } ‪.‬‬
‫كَثِيرَةً وَالّل ُه َيقْبِضُ وَيَ ْب ُ‬
‫يقول ابن العربيّ ‪ :‬جاء هذا الكلم في معرض النّدب والتّحضيض على إنفاق المال في ذات اللّه‬
‫تعالى على الفقراء والمحتاجين ‪ ،‬وفي سبيل اللّه بنصرة الدّين ‪.‬‬
‫سكُم مّنْ‬
‫حسَنا َومَا ُتقَ ّدمُوا لن ُف ِ‬
‫وقوله تعالى ‪َ { :‬وأَقِيمُوا الصّل َة وَآتُوا ال ّزكَا َة َوأَقْرِضُوا الّلهَ قَرْضا َ‬
‫ظمَ َأجْرا } ‪.‬‬
‫عَ‬‫خَيْرٍ َتجِدُو ُه عِندَ الّلهِ ُه َو خَيْرا َوأَ ْ‬
‫ن أبا الدّحداح لمّا جاء إلى‬
‫وأمّا من الحاديث فقد روي من حديث عبد اللّه بن مسعود ‪ » :‬أ ّ‬
‫ي اللّه ‪ ،‬أل أرى ربّنا يستقرض ممّا أعطانا لنفسنا ‪،‬‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم وقال ‪ :‬يا نب ّ‬
‫ي صلى ال‬
‫ولي أرضان ‪ :‬أرض بالعالية وأرض بالسّافلة ‪ ،‬وقد جعلت خيرهما صدقةً ‪ .‬فقال النّب ّ‬
‫عليه وسلم ‪ :‬كم عَذْق مذلّل لبي الدّحداح في الجنّة « ‪.‬‬
‫ومنها قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أيّما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه اللّه يوم القيامة‬
‫من ثمار الجنّة ‪ ،‬وأيّما مؤمن سقى مؤمنا على ظمأ سقاه اللّه يوم القيامة من الرّحيق المختوم ‪،‬‬
‫وأيّما مؤمن كسا مؤمنا على عري ‪ ،‬كساه اللّه من خضر الجنّة « ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬الصّدقة مستحبّة ‪ ،‬وفي شهر رمضان آكد ‪ ،‬وكذا عند المور المهمّة ‪ ،‬وعند‬
‫الكسوف ‪ ،‬وعند المرض ‪ ،‬والسّفر ‪ ،‬وبمكّة ‪ ،‬والمدينة ‪ ،‬وفي الغزو والحجّ ‪ ،‬والوقات‬
‫الفاضلة‪ ،‬كعشر ذي الحجّة ‪ ،‬وأيّام العيد ‪ ،‬ومثل ذلك ما قاله البهوتيّ وغيره من الفقهاء ‪.‬‬
‫ما يتعلّق بالصّدقة من أحكام ‪:‬‬
‫‪ -‬الكلم عن الصّدقة يستوجب التّطرّق للمور التّالية ‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫أ ‪ -‬المتصدّق ‪ :‬وهو ‪ ،‬من يدفع الصّدقة ويخرجها من ماله ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬المتصدّق عليه ‪ :‬وهو من يأخذ الصّدقة من الغير ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المتصدّق به ‪ :‬وهو المال الّذي يتطوّع بالتّصدّق به ‪.‬‬
‫د ‪ -‬النّيّة ‪ :‬وتفصيل ذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬المتصدّق ‪:‬‬
‫‪ -‬صدقة التّطوّع ‪ :‬تبرّع ‪ ،‬فيشترط فيها ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫ل بالغا رشيدا ‪ ،‬ذا ولية في التّصرّف ‪.‬‬


‫أ ‪ -‬أن يكون المتصدّق من أهل التّبرّع ‪ ،‬أي ‪ :‬عاق ً‬
‫وعلى ذلك فل تصحّ صدقة التّطوّع من الصّغير ‪ ،‬والمجنون ‪ ،‬والمحجور عليه بسفه أو دين أو‬
‫ل ‪ ،‬كما‬
‫غيرهما من أسباب الحجر ‪ ،‬أمّا الصّغير غير المميّز فإنّه ليس من أهل التّصرّف أص ً‬
‫صرّح به الفقهاء والصوليّون ‪.‬‬
‫وأمّا الصّغير المميّز ‪ :‬فإنّ الصّدقة منه تعتبر من التّصرّفات الضّارّة ضررا محضا ‪ ،‬وقد ذهب‬
‫الفقهاء إلى أنّ التّصرّفات الضّارّة ضررا دنيويّا ‪ ،‬والّتي يترتّب عليها خروج شيء من ملكه من‬
‫ح ‪ ،‬بل تقع باطلةً ‪ ،‬حتّى لو‬
‫غير مقابل ‪ ،‬كالهبة ‪ ،‬والصّدقة ‪ ،‬والوقف ‪ ،‬وسائر التّبرّعات ل تص ّ‬
‫ن إجازتهما في التّصرّفات الضّارّة لغية ‪ ،‬وقد استثنى المالكيّة ‪،‬‬
‫ي أو الوصيّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫أذن الول ّ‬
‫ي المميّز الّذي يعقل الوصيّة ‪.‬‬
‫والحنابلة ‪ ،‬وصيّة الصّب ّ‬
‫وأمّا المحجور عليهم للسّفه ‪ ،‬أو الفلس ‪ ،‬أو غيرهما فهم ممنوعون من التّصرّف فل تصحّ‬
‫منهم الصّدقة وهذا في الجملة ‪ ،‬وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬حجر ) ‪.‬‬
‫ح الصّدقة من‬
‫ح صدقة التّطوّع من الصّبيّ ‪ ،‬والمجنون ‪ ،‬والمحجور عليه ‪ ،‬ل تص ّ‬
‫وكما ل تص ّ‬
‫أموالهم من قبل أوليائهم نياب ًة عنهم ‪ ،‬لنّهم ل يملكون التّبرّع من أموال من تحت وليتهم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون مالكا للمال المتصدّق به ‪ ،‬أو وكيلً عنه ‪ ،‬فل تصحّ الصّدقة من مال الغير بل‬
‫وكالة ‪ .‬ومن فعل ذلك يضمن ما تصدّق به ‪ ،‬لنّه ضيّع مال الغير على صاحبه بغير إذنه ‪ ،‬يقول‬
‫ي ‪ :‬شرائط صحّة الهبة في الواهب ‪ :‬العقل ‪ ،‬والبلوغ ‪ ،‬والملك ‪.‬‬
‫التّمرتاش ّ‬
‫ن الصّدقة من القربات فتشترط فيها النّيّة ‪ ،‬وهي‬
‫ثمّ قال ‪ :‬والصّدقة كالهبة بجامع التّبرّع ول ّ‬
‫منتفية فيما إذا تصدّق من مال الغير دون إذنه ‪.‬‬
‫صدقة المرأة من مال زوجها ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للمرأة أن تتصدّق من بيت زوجها للسّائل وغيره بما أذن‬ ‫‪11‬‬

‫الزّوج صريحا ‪.‬‬


‫كما يجوز التّصدّق من مال الزّوج بما لم يأذن فيه ‪ ،‬ولم ينه عنه إذا كان يسيرا عند جمهور‬
‫الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو الرّاجح عند الحنابلة ‪. -‬‬
‫ويستدلّ الفقهاء على الجواز بما روت عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬قالت ‪ :‬قال رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة ‪ ،‬كان لها أجرها وله‬
‫مثله بما اكتسب ‪ ،‬ولها بما أنفقت ‪ ،‬وللخازن مثل ذلك ‪ ،‬من غير أن ينتقص من أجورهم شيئا «‬
‫ولم يذكر إذنا ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فقالت ‪ :‬يا نبيّ اللّه ‪،‬‬
‫وعن أسماء ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬أنّها جاءت النّب ّ‬
‫ي ؟ فقال ‪:‬‬
‫ليس لي شيء إ ّل ما أدخل عليّ الزّبير فهل عليّ جناح أن أرضخ ممّا يدخل عل ّ‬
‫» ارضخي ما استطعت ‪ ،‬ول توعي فيوعي اللّه عليك « ‪.‬‬
‫ي‪.‬‬
‫ولنّ الشّيء اليسير غير ممنوع عنه في العادة كما علّله المرغينانيّ والنّوويّ وابن العرب ّ‬
‫قال في الهداية ‪ :‬يجوز للمرأة أن تتصدّق من منزل زوجها بالشّيء اليسير ‪ ،‬كالرّغيف ونحوه ‪،‬‬
‫لنّ ذلك غير ممنوع عنه في العادة ومثله ما ذكره الحصكفيّ ‪.‬‬
‫ويقول النّوويّ في شرحه لصحيح مسلم ‪ :‬الذن ضربان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الذن الصّريح في النّفقة والصّدقة ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬الذن المفهوم من اطّراد العرف‬
‫والعادة ‪ ،‬كإعطاء السّائل كسرة ونحوها ممّا جرت العادة به ‪ ،‬واطّرد العرف فيه ‪ ،‬وعلم بالعرف‬
‫رضا الزّوج والمالك به ‪ ،‬فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلّم ‪.‬‬
‫ي حيث قال ‪ :‬ويحتمل عندي أن يكون محمولً على العادة ‪ .‬وأنّها إذا‬
‫ومثله ما حرّره ابن العرب ّ‬
‫علمت منه ‪ ،‬أنّه ل يكره العطاء والصّدقة فعلت من ذلك ما لم يجحف ‪ ،‬وعلى ذلك عادة النّاس ‪،‬‬
‫وهذا معنى قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬غير مفسدة « ‪.‬‬
‫ي يقوم مقام الذن الحقيقيّ ‪ ،‬فصار كأنّه قال لها ‪ :‬افعلي ‪.‬‬
‫ويقول ابن قدامة ‪ :‬الذن العرف ّ‬
‫هذا وفي الرّواية الثّانية عند الحنابلة ‪ :‬ل يجوز للمرأة التّصدّق من مال زوجها ولو كان يسيرا ‪،‬‬
‫لما روى أبو أمامة الباهليّ قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ { :‬ل تنفق‬
‫امرأة شيئا من بيت زوجها إلّ بإذن زوجها ‪ ،‬قيل ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ :‬ول الطّعام ؟ قال ‪ :‬ذاك‬
‫أفضل أموالنا « ‪.‬‬
‫لنـ الحاديـث فيهـا خاصـّة‬
‫قال ابـن قدامـة ‪ :‬والوّل ‪ -‬أي الجواز بالشّيـء اليسـير ‪ -‬أصـحّ ‪ّ ،‬‬
‫صحيحة ‪ ،‬والخاصّ يقدّم على العامّ ‪.‬‬
‫أمّا إذا منعها من الصّدقة من ماله ‪ ،‬ولم يكن العرف جاريا بذلك ‪ ،‬أو اضطرب العرف ‪ ،‬أو شكّت‬
‫في رضاه ‪ ،‬أو كان شخصا يشحّ بذلك ‪ ،‬لم يجز للمرأة وغيرها التّصدّق من ماله إلّ بصريح‬
‫إذنه‪ ،‬كما حقّقه النّوويّ وغيره ‪.‬‬
‫‪ -‬وما ذكر من حكم تصدّق المرأة من مال زوجها يطبّق على تصدّق الخازن من مال المالك‪،‬‬ ‫‪12‬‬

‫فقد ورد في حديث التّرمذيّ ‪ » :‬وللخازن مثل ذلك « أي ‪ :‬من الجر ‪ ،‬أي ‪ :‬إنّهما سواء في‬
‫المثوبة ‪ ،‬كلّ واحد منهما له أجر كامل ‪ ،‬كما قال ابن العربيّ ‪ ،‬أو معناه المشاركة في الجر‬
‫مطلقا ‪ ،‬لنّ المشارك في الطّاعة مشارك في الجر ‪ ،‬وإن كان أحدهما أكثر من الخر ‪ ،‬كما‬
‫حقّقه النّوويّ ‪.‬‬
‫تصدّق الزّوجة من مالها بأكثر من الثّلث ‪:‬‬
‫ن المرأة‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة وهو الرّاجح عند الحنابلة ‪ -‬إلى أ ّ‬ ‫‪13‬‬

‫ق التّصرّف في مالها ‪ ،‬بالتّبرّع ‪ ،‬أو المعاوضة ‪ ،‬سواء أكانت متزوّجةً ‪ ،‬أم‬


‫البالغة الرّشيدة لها ح ّ‬
‫غير متزوّجة ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالزّوجة ل تحتاج إلى إذن زوجها في التّصدّق من مالها ولو كان بأكثر من الثّلث‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال للنّساء ‪ » :‬تصدّقن ولو من‬
‫والدّليل على ذلك ما ثبت عن النّب ّ‬
‫ن بغير إذن‬
‫ن « ولم يسأل ولم يستفصل ‪ ،‬فلو كان ل ينفذ تصرّفه ّ‬
‫حليّكنّ ‪ ،‬فتصدّقن من حليّه ّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم بالصّدقة ‪ ،‬ول محالة أنّه كان فيهنّ من لها‬
‫أزواجهنّ لما أمره ّ‬
‫زوج ومن ل زوج لها ‪ ،‬كما حرّره السّبكيّ ‪.‬‬
‫ولنّ المرأة من أهل التّصرّف ‪ ،‬ول حقّ لزوجها في مالها ‪ ،‬فلم يملك الحجر عليها في التّصرّف‬
‫بجميعه ‪ ،‬كما علّله ابن قدامة ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬وهو رواية عند الحنابلة ‪ :‬يحجر على الزّوجة الحرّة الرّشيدة لزوجها البالغ‬
‫ي صلى ال‬
‫ن امرأة كعب بن مالك ‪ ،‬أتت النّب ّ‬
‫الرّشيد في تبرّع زاد على الثّلث ‪ ،‬وذلك لما ورد أ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل يجوز للمرأة عطيّة حتّى يأذن‬
‫عليه وسلم بحليّ لها ‪ ،‬فقال لها النّب ّ‬
‫زوجها ‪ ،‬فهل استأذنت كعبا ؟ فقالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬فبعث النّبيّ صلى ال عليه وسلم إلى كعب ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫هل أذنت لها أن تتصدّق بحليّها ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬فقبله رسول اللّه صلى ال عليه وسلم « ‪.‬‬
‫ي صلى‬
‫ولنّ المقصود من مالها التّجمّل به لزوجها ‪ ،‬والمال مقصود في زواجها ‪ ،‬حيث قال النّب ّ‬
‫ال عليه وسلم ‪ » :‬تنكح المرأة لربع ‪ :‬لمالها ‪ ،‬ولحسبها ‪ ،‬ولجمالها ‪ ،‬ولدينها « ‪.‬‬
‫والعادة أنّ الزّوج يزيد في مهرها من أجل مالها ويتبسّط فيه ‪ ،‬وينتفع به ‪ ،‬فتعلّق حقّ الزّوج‬
‫في مالها ومح ّل الحجر عليها في تبرّعها بزائد عن الثّلث من مالها إذا كان التّبرّع لغير زوجها ‪.‬‬
‫وأمّا له فلها أن تهب جميع مالها له ‪ ،‬ول اعتراض عليها في ذلك لحد ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬واتّفق الفقهاء على أنّ المريض مرض الموت ليس له أن يتصدّق من ماله بأكثر من‬
‫الثّلث ( ر ‪ :‬مرض الموت ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬المتصدّق عليه ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يشترط في المتصدّق عليه ما يشترط في المتصدّق ‪ ،‬من العقل ‪ ،‬والبلوغ ‪ ،‬والرّشد ‪،‬‬ ‫‪14‬‬

‫وأهليّة التّبرّع ‪ ،‬فيصحّ التّصدّق على الصّغير ‪ ،‬والمجنون ‪ ،‬والمحجور عليه بسفه ‪ ،‬أو إفلس‬
‫أو غيرهما ‪ ،‬لنّ الصّدقة عليهم نفع محض لهم ‪ ،‬فل تحتاج إلى إذن الولياء ‪.‬‬
‫وحيث إنّ الصّدقة تمليك بل عوض لثواب الخرة ‪ ،‬فهناك أشخاص ل تصحّ عليهم الصّدقة ‪،‬‬
‫وآخرون تصحّ عليهم ‪ ،‬وقد فصّل الفقهاء هذا الموضوع كالتّالي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصّدقة على النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء من المالكيّة ‪ ،‬وهو الظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬والصّحيح عند الحنابلة ‪:‬‬ ‫‪15‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم مثل صدقة الفريضة المتّفق على‬


‫أنّ صدقة التّطوّع كانت محرّمةً على النّب ّ‬
‫حرمتها ‪ ،‬وذلك صيان ًة لمنصبه الشّريف وقد روى أبو هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬كان‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬صدقة قال لصحابه ‪ :‬كلوا ‪ ،‬ولم‬
‫يأكل ‪ ،‬وإن قيل له ‪ :‬هديّة ضرب بيده فأكل معهم « ‪.‬‬
‫وعلى ذلك ‪ :‬فالصّدقة بالمعنى المعروف كانت محرّمةً على النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وقد‬
‫ي على ع ّز الخذ ‪،‬‬
‫أبدل اللّه تعالى رسوله بها الفيء الّذي يؤخذ على سبيل الغلبة والقهر المبن ّ‬
‫وذلّ المأخوذ منه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الصّدقة على آل النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء ‪ :‬على عدم جواز صدقة الفريضة على آل محمّد صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬ ‫‪16‬‬

‫ن الصّدقة ل تنبغي لل محمّد ‪ ،‬إنّما هي أوساخ النّاس « ‪.‬‬


‫لقوله عليه الصلة والسلم ‪ » :‬إ ّ‬
‫أمّا صدقة التّطوّع ‪ ،‬فالجمهور على جوازها عليهم ‪ .‬والبعض يقولون ‪ :‬بعدم الجواز ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪10‬‬ ‫وتفصيل الموضوع ينظر في مصطلح ‪ ( :‬آل ف ‪ 4‬و‬
‫ج ‪ -‬التّصدّق على ذوي القرابة والزواج ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز التّصدّق على القرباء ‪ ،‬والزواج صدقة التّطوّع ‪ ،‬بل‬ ‫‪17‬‬

‫ن التّصدّق عليهم ‪ ،‬ولهم أخذها ‪ ،‬ولو كانوا ممّن تجب نفقته على‬
‫صرّح بعضهم ‪ :‬بأنّه يس ّ‬
‫المتصدّق ‪ ،‬فعن أبي مسعود ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫» إذا أنفق الرّجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة « ‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الصّدقة على المسكين صدقة ‪ ،‬وعلى ذي الرّحم ثنتان ‪ :‬صدقة‬
‫وصلة « ‪.‬‬
‫قال الشّافعيّة ‪ :‬دفع الصّدقة لقريب أقرب فأقرب رحما ولو كان ممّن تجب عليه نفقته أفضل من‬
‫ن امرأتين‬
‫دفعها لغير القريب ‪ ،‬وللقريب غير القرب للحديث المتقدّم ‪ ،‬ولخبر الصّحيحين ‪ » :‬أ ّ‬
‫أتيتا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقالتا لبلل ‪ :‬سل لنا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم هل‬
‫يجزئ أن نتصدّق على أزواجنا ويتامى في حجورنا ؟ فقال ‪ :‬نعم لهما أجران ‪ :‬أجر القرابة ‪،‬‬
‫وأجر الصّدقة « ‪.‬‬
‫هذا وقد رتّب الشّافعيّة من يفضّل عليهم الصّدقة فقالوا ‪ :‬هي في القرب فالقرب ‪ ،‬وفي الشدّ‬
‫منهم عداوةً أفضل منها في غيره ‪ ،‬وذلك ليتألّف قلبه ‪ ،‬ولما فيه من مجانبة الرّياء وكسر‬
‫النّفس‪ ،‬وألحق بهم الزواج من الذّكور والناث ‪ ،‬ثمّ الرّحم غير المحرم ‪ ،‬كأولد العمّ والخال ‪.‬‬
‫ثمّ في القرب فالقرب رضاعا ‪ ،‬ثمّ مصاهر ًة ‪ ،‬ثمّ ول ًء ‪ ،‬ثمّ جوارا ‪ ،‬وقدّم الجار الجنبيّ على‬
‫قريب بعيد عن دار المتصدّق ‪ ،‬بحيث ل تنقل إليه الزّكاة ‪ ،‬ولو كان ببادية ‪.‬‬
‫ومثله ما عند الحنابلة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّصدّق على الفقراء والغنياء ‪:‬‬
‫ن الصّدقة تعطى للفقراء والمحتاجين ‪ ،‬وهذا هو الفضل ‪ ،‬كما صرّح به الفقهاء ‪.‬‬
‫‪ -‬الصل أ ّ‬ ‫‪18‬‬

‫سكِينا ذَا مَتْرَ َبةٍ } ‪.‬‬


‫وذلك لقوله تعالى ‪َ { :‬أ ْو ِم ْ‬
‫ي والفقير ‪.‬‬
‫ن صدقة التّطوّع كالهبة فتصحّ للغن ّ‬
‫واتّفقوا على أنّها تحلّ للغنيّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫ق بها الثّواب ‪ ،‬فقد يكون غنيّا يملك‬
‫قال السّرخسيّ ‪ :‬ثمّ التّصدّق على الغنيّ يكون قربةً يستح ّ‬
‫النّصاب ‪ ،‬وله عيال كثيرة ‪ ،‬والنّاس يتصدّقون على مثل هذا لنيل الثّواب ‪.‬‬
‫ن اللّه تعالى مدح المتعفّفين عن‬
‫ب للغنيّ التّنزّه عنها ‪ ،‬ويكره له التّعرّض لخذها ‪ ،‬ل ّ‬
‫لكن يستح ّ‬
‫ن التّ َعفّفِ } ‪.‬‬
‫حسَ ُبهُمُ ا ْلجَا ِه ُل أَغْنِيَاء مِ َ‬
‫السّؤال مع وجود حاجتهم ‪ ،‬فقال ‪َ { :‬ي ْ‬
‫ويكره له أخذها وإن لم يتعرّض لها ‪.‬‬
‫ويحرم عليه أخذها إن أظهر الفاقة ‪ ،‬كما يحرم أن يسأل ‪ ،‬ويستوي في ذلك الغنيّ بالمال ‪،‬‬
‫ي بالكسب ‪ ،‬لحديث ‪ » :‬من سأل النّاس أموالهم تكثّرا فإنّما يسأل جمرا ‪ ،‬فليستقلّ أو‬
‫والغن ّ‬
‫ليستكثر « أي ‪ :‬يعذّب به يوم القيامة ‪.‬‬
‫لكن نقل الرّمليّ عن ابن عبد السّلم أنّ الصّحيح من مذهب الشّافعيّ ‪ :‬جواز طلبها للغنيّ ‪،‬‬
‫ويحمل ال ّذمّ الوارد في الخبار على الطّلب من الزّكاة الواجبة ‪.‬‬
‫هـ – الصّدقة على الكافر ‪:‬‬
‫ن الصّدقة‬
‫– اختلف الفقهاء في جواز صدقة التّطوّع على الكافر ‪ ،‬وسبب الخلف ‪ :‬هو أ ّ‬ ‫‪19‬‬

‫تمليك لجل الثّواب ‪ ،‬وهل يثاب الشّخص بالنفاق على الكفّار ؟ ‪.‬‬
‫فقال الحنابلة ‪ :‬وهو المشهور عند الشّافعيّة ‪ ،‬والمنقول عن محمّد في السّير الكبير ‪ :‬إنّه يجوز‬
‫دفع صدقة التّطوّع للكفّار مطلقا ‪ ،‬سواء أكانوا من أهل ال ّذمّة أم من الحربيّين ؟ مستأمنين أم‬
‫سكِينا وَيَتِيما َوأَسِيرا }‬
‫طعَامَ عَلَى حُ ّبهِ ِم ْ‬
‫غير مستأمنين ‪ ،‬وذلك لعموم قوله تعالى ‪ { :‬وَ ُيطْ ِعمُونَ ال ّ‬
‫‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬ولم يكن السير يومئذ إلّ كافرا ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬في كلّ كبد رطبة أجر « ‪.‬‬
‫وقد ورد في حديث أسماء بنت أبي بكر ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬قالت ‪ » :‬قدمت عليّ أمّي وهي‬
‫مشركة في عهد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فاستفتيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫قلت ‪ :‬إنّ أمّي قدمت وهي راغبة ‪ ،‬أفأصل أمّي ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬صلي أمّك « ‪.‬‬
‫ولنّ صلة الرّحم محمودة في كلّ دين ‪ ،‬والهداء إلى الغير من مكارم الخلق ‪.‬‬
‫وفرّق الحصكفيّ في الدّرّ بين ال ّذمّيّ وغيره فقال ‪ :‬وجاز دفع غير الزّكاة وغير العشر والخراج‬
‫إلى ال ّذمّيّ ‪ -‬ولو واجبا ‪ -‬كنذر وكفّارة وفطرة خلفا لبي يوسف ‪.‬‬
‫ي ولو مستأمنا فجميع الصّدقات ل تجوز له ‪.‬‬
‫وأمّا الحرب ّ‬
‫ي من الشّافعيّة حيث قال ‪ :‬قضيّة إطلق حلّ الصّدقة للكافر ‪ ،‬أنّه ل‬
‫ويقرب منه ما ذكره الشّربين ّ‬
‫ي من أنّ ‪:‬‬
‫ي والوجه ما قاله الذرع ّ‬
‫فرق بين الحربيّ وغيره ‪ ،‬وهو ما في البيان عن الصّيمر ّ‬
‫هذا فيمن له عهد ‪ ،‬أو ذمّة أو قرابة أو يرجى إسلمه ‪ ،‬أو كان بأيدينا بأسر ونحوه ‪ .‬فإن كان‬
‫حربيّا ليس فيه شيء ممّا ذكر فل ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬المتصدّق به ‪:‬‬
‫ن الصّدقة تمليك بل‬
‫‪ -‬المتصدّق به هو ‪ :‬المال الّذي يعطى للفقير وذي الحاجة ‪ ،‬وحيث إ ّ‬ ‫‪20‬‬

‫عوض لجل ثواب الخرة ‪ ،‬فينبغي في المال المتصدّق به أن يكون من الحلل الطّيّب ‪ ،‬ول‬
‫يكون من الحرام أو ممّا فيه شبهة ‪ ،‬كما ينبغي أن يكون المتصدّق به مالً جيّدا ‪ ،‬ل رديئا ‪ ،‬حتّى‬
‫يحصل على خير البرّ وجزيل الثّواب ‪.‬‬
‫وقد بحث الفقهاء هذه الحكام ‪ ،‬وحكم التّصدّق من الموال الرّديئة والحرام كالتّالي ‪:‬‬
‫التّصدّق بالمال الحلل والحرام والمال المشتبه فيه ‪:‬‬
‫‪ -‬لقد حثّ السلم أن تكون الصّدقة من المال الحلل والطّيّب ‪ ،‬وأن تكون ممّا يحبّه‬ ‫‪21‬‬

‫المتصدّق ‪.‬‬
‫فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ » :‬ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب ‪ ،‬ول يقبل اللّه إلّ الطّيّب ‪ ،‬إلّ أخذها الرّحمن بيمينه ‪،‬‬
‫وإن كانت تمرةً فتربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل ‪ ،‬كما يربّي أحدكم فلوّه أو‬
‫فصيله « والمراد بالطّيّب هنا الحلل ‪ ،‬كما قال النّوويّ ‪.‬‬
‫وعنه أيضا ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬أيّها النّاس إنّ اللّه طيّب ل يقبل إلّ‬
‫س ُل كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ‬
‫طيّبًا ‪ ،‬وإنّ اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ‪ ،‬فقال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا ال ّر ُ‬
‫ت مَا‬
‫عمَلُوا صَالِحا إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ } وقال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُو ْا مِن طَيّبَا ِ‬
‫وَا ْ‬
‫ب ‪ ،‬ومطعمه‬
‫َرزَقْنَا ُكمْ } ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يم ّد يديه إلى السّماء يا ربّ يا ر ّ‬
‫حرام ‪ ،‬ومشربه حرام ‪ ،‬وملبسه حرام ‪ ،‬وغذّي بالحرام ‪ ،‬فأنّى يستجاب لذلك } ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬وهذا الحديث أحد الحاديث الّتي هي من قواعد السلم ومباني الحكام ‪ ...‬وفيه‬
‫الحثّ على النفاق من الحلل ‪ ،‬والنّهي عن النفاق من غيره ‪ .‬وفيه أنّ المشروب والمأكول‬
‫والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حللً خالصا ل شبهة فيه ‪.‬‬
‫وحذّر الحسينيّ في كفاية الخيار من أخذ مال فيه شبهة للتّصدّق به ‪ ،‬ونقل عن ابن عمر قوله ‪:‬‬
‫ي أن أتصدّق بمائة ألف درهم ثمّ بمائة ألف درهم حتّى بلغ‬
‫لن أردّ درهما من حرام أحبّ إل ّ‬
‫ستّمائة ألف ‪.‬‬
‫ب أن يختار الرّجل أحلّ ماله ‪ ،‬وأبعده عن الحرام والشّبهة فيتصدّق به ‪ ،‬كما‬
‫وعلى هذا فيستح ّ‬
‫حرّره النّوويّ ‪.‬‬
‫وإذا كان في عهدة المكلّف مال حرام ‪ ،‬فإن علم أصحابه وجب ردّه إليهم ‪ ،‬وإن لم يعلم أصحابه‬
‫يتصدّق به ‪.‬‬
‫ن المال المتصدّق به من النّجس أو الحرام كالغصب ‪،‬‬
‫أمّا الخذ أي ‪ :‬المتصدّق عليه فإن عرف أ ّ‬
‫ب له أن ل يأخذه ول يأكل منه ‪ .‬ومع ذلك فقد أجاز أكثر الفقهاء‬
‫أو السّرقة ‪ ،‬أو الغدر ‪ ،‬فيستح ّ‬
‫أخذه له مع الكراهة ‪.‬‬
‫يقول ابن عابدين ‪ :‬إذا كان عليه ديون ومظالم ل يعرف أربابها ‪ ،‬وأيس من معرفتهم ‪ ،‬فعليه‬
‫التّصدّق بقدرها من ماله ‪ ،‬وإن استغرقت جميع ماله ‪.‬‬
‫وقال ابن الهمام ‪ :‬يؤمر بالتّصدّق بالموال الّتي حصلت بالغدر ‪ ،‬كالمال المغصوب ‪.‬‬
‫قال الجمل من الشّافعيّة ‪ :‬لو تصدّق أو وهب أو أوصى بالنّجس صحّ على معنى نقل اليد ‪ ،‬ل‬
‫التّمليك ‪.‬‬
‫ن من بيده نحو غصوب ‪ ،‬أو رهون ‪ ،‬أو أمانات ‪ ،‬ل يعرف أربابها ‪ ،‬وأيس‬
‫وصرّح الحنابلة ‪ :‬بأ ّ‬
‫من معرفتهم ‪ ،‬فله الصّدقة بها منهم ‪ ،‬أي ‪ :‬من قبلهم ‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬يجب عليه التّصدّق ‪.‬‬
‫وكذلك الحكم في الدّيون الّتي جهل أربابها عند الحنابلة ‪.‬‬
‫أمّا الموال الّتي فيها شبهة فالولى البتعاد عنها ‪ ،‬ولهذا قال النّوويّ في التّصدّق بما فيه‬
‫شبهة‪ :‬إنّه مكروه ‪.‬‬
‫قد ورد في الحديث من قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الحلل بيّن ‪ ،‬والحرام بيّن ‪ ،‬وبينهما‬
‫مشبّهات ل يعلمها كثير من النّاس ‪ ،‬فمن اتّقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه ‪ ،‬ومن وقع في‬
‫الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه « ‪.‬‬
‫التّصدّق بالجيّد والرّديء ‪:‬‬
‫ب في الصّدقة أن يكون المتصدّق به أي ‪ :‬المال المعطى من أجود مال المتصدّق‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪22‬‬

‫وأحبّه إليه ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬لَن تَنَالُواْ الْبِ ّر حَتّى تُن ِفقُواْ ِممّا ُتحِبّونَ َومَا تُن ِفقُواْ مِن شَيْءٍ فَِإنّ‬
‫الّلهَ ِب ِه عَلِيمٌ } ‪.‬‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬والمعنى لن تكونوا أبرارا حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ‪ ،‬أي ‪ :‬نفائس الموال‬
‫وكرائمها‪ ،‬وكان السّلف ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬إذا أحبّوا شيئا جعلوه للّه تعالى ‪.‬‬
‫فقد ورد في حديث متّفق عليه ‪ » :‬أنّ أبا طلحة كان أكثر النصار بالمدينة ما ًل من نخل ‪ ،‬وكان‬
‫أحبّ أمواله إليه بيرحاء ‪ ،‬وكانت مستقبلة المسجد ‪ ،‬وكان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يدخلها‬
‫ويشرب من ماء فيها طيّب ‪ ،‬قال أنس ‪ -‬راوي الحديث ‪ -‬فلمّا أنزلت هذه الية ‪ { :‬لَن تَنَالُواْ‬
‫الْبِ ّر حَتّى تُنفِقُواْ ِممّا ُتحِبّونَ } قام أبو طلحة إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا‬
‫رسول اللّه إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول ‪ { :‬لَن تَنَالُواْ الْبِ ّر حَتّى تُن ِفقُواْ ِممّا ُتحِبّونَ } وإنّ أحبّ‬
‫أموالي إليّ بيرحاء ‪ ،‬وإنّها صدقة للّه ‪ ،‬أرجو برّها وذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث‬
‫أراك اللّه قال ‪ :‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬بخ ذلك مال رابح « ‪.‬‬
‫ل تصدّقت‬
‫وكان عمر بن عبد العزيز يشتري أعدالً من سكّر ويتصدّق بها ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬ه ّ‬
‫سكّر أحبّ إليّ فأردت أن أنفق ممّا أحبّ ‪.‬‬
‫بقيمتها؟ قال ‪ :‬لنّ ال ّ‬
‫والمراد بالية حصول كثرة الثّواب بالتّصدّق ممّا يحبّه ‪ .‬ول يلزم أن يكون المال المتصدّق به‬
‫كثيرا ‪ ،‬ويستحبّ التّصدّق ولو بشيء نزر ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪َ { :‬فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَرّ ٍة خَيْرا َيرَهُ }‬
‫وفي الحديث الصّحيح ‪ » :‬اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة « ‪.‬‬
‫ونهى اللّه سبحانه وتعالى عن التّصدّق بالرّديء من المال ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ‬
‫ن الَرْضِ َو َل تَ َي ّممُواْ ا ْلخَبِيثَ مِ ْنهُ تُن ِفقُونَ وَ َلسْتُم‬
‫ت مَا َكسَبْتُمْ َو ِممّا َأخْ َرجْنَا َلكُم مّ َ‬
‫أَن ِفقُواْ مِن طَيّبَا ِ‬
‫حمِيدٌ } أي ‪ :‬ل تتصدّقوا بالصّدقة من المال‬
‫ن الّلهَ غَنِيّ َ‬
‫بِآخِذِيهِ ِإلّ أَن ُت ْغمِضُواْ فِيهِ وَاعْ َلمُواْ أَ ّ‬
‫الخبيث ‪ ،‬ول تفعلوا مع اللّه ما ل ترضونه لنفسكم ‪.‬‬
‫ن الية في صدقة التّطوّع حيث قال ‪ :‬لو كانت في الفريضة لما قال ‪:‬‬
‫ورجّح ابن العربيّ ‪ :‬أ ّ‬
‫{ وَ َلسْتُم بِآخِذِيهِ } لنّ الرّديء والخبيث ل يجوز أخذه في الفرض بحال ‪ ،‬ل مع تقدير الغماض‬
‫ول مع عدمه ‪ ،‬وإنّما يؤخذ مع عدم الغماض في النّفل ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬والظّاهر من قول براء ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬أنّ الية في التّطوّع ‪ ،‬ندبوا إليه‬
‫وقال القرطب ّ‬
‫أن ل يتطوّعوا إلّ بممتاز جيّد وقد قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم في رجل علّق قنو حشف في‬
‫المسجد ‪ » :‬لو شاء ربّ هذه الصّدقة تصدّق بأطيب منها « ‪.‬‬
‫وقال ‪ » :‬إنّ ربّ هذه الصّدقة يأكل الحشف يوم القيامة « ‪.‬‬
‫التّصدّق بكلّ ماله ‪:‬‬
‫ب أن تكون الصّدقة بفاضل عن كفايته ‪ ،‬وكفاية من يمونه ‪ ،‬وإن تصدّق بما ينقص‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪23‬‬

‫مؤنة من يمونه أثم ‪ .‬ومن أراد التّصرّف بماله كلّه ‪ ،‬وهو يعلم من نفسه حسن التّوكّل والصّبر‬
‫عن المسألة فله ذلك ‪ ،‬وإلّ فل يجوز ‪.‬‬
‫ويكره لمن ل صبر له على الضّيق أن ينقص نفقة نفسه عن الكفاية التّامّة ‪.‬‬
‫وهذا ما صرّح به فقهاء الحنفيّة وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ النسان ما دام صحيحا رشيدا له التّبرّع‬
‫بجميع ماله على كلّ من أحبّ ‪.‬‬
‫قال في الرّسالة ‪ :‬ول بأس أن يتصدّق على الفقراء بماله كلّه للّه ‪.‬‬
‫لكن قال النّفراويّ ‪ :‬محلّ ندب التّصدّق بجميع المال أن يكون المتصدّق طيّب النّفس بعد الصّدقة‬
‫ن ما يرجوه في المستقبل مماثل لما تصدّق به في‬
‫بجميع ماله ‪ ،‬ل يندم على البقاء بل مال ‪ .‬وأ ّ‬
‫الحال ‪ ،‬وأن ل يكون يحتاج إليه في المستقبل لنفسه ‪ ،‬أو لمن تلزمه نفقته ‪ ،‬أو يندب النفاق‬
‫عليه ‪ ،‬وإ ّل لم يندب له ذلك بل يحرم عليه إن تحقّق الحاجة لمن تلزمه نفقته ‪ ،‬أو يكره إن‬
‫تيقّن الحاجة لمن يندب النفاق عليه ‪ ،‬لنّ الفضل أن يتصدّق بما يفضل عن حاجته ومؤنته ‪،‬‬
‫ومؤنة من ينفق عليه ‪.‬‬
‫ويقول ابن قدامة ‪ :‬الولى أن يتصدّق من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدّوام لقوله‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ » :‬خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنىً ‪ ،‬وابدأ بمن تعول « ولنّ نفقة‬
‫من يمونه واجبة والتّطوّع نافلة ‪ ،‬وتقديم النّفل على الفرض غير جائز ‪.‬‬
‫فإن كان الرّجل ل عيال له ‪ ،‬فأراد الصّدقة بجميع ماله وكان ذا مكسب ‪ ،‬أو كان واثقا من نفسه‬
‫يحسن التّوكّل والصّبر على الفقر والتّعفّف عن المسألة فحسن ‪ ،‬وروي عن عمر ‪ -‬رضي ال‬
‫عنه ‪ -‬قال ‪ » :‬أمرنا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن نتصدّق فوافق ذلك مالً عندي ‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ‪ ،‬فجئت بنصف مالي ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ :‬ما أبقيت لهلك ؟ قلت ‪ :‬مثله ‪ .‬قال ‪ :‬وأتى أبو بكر بك ّل ما عنده فقال له رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ :‬ما أبقيت لهلك ؟ قال ‪ :‬أبقيت لهم اللّه ورسوله ‪ ،‬فقلت ل أسابقك إلى شيء‬
‫بعده أبدا « ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬فهذا كان فضيلةً في حقّ أبي بكر الصّدّيق ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬لقوّة يقينه ‪،‬‬
‫وكمال إيمانه ‪ ،‬وكان أيضا تاجرا ذا مكسب ‪ ،‬فإن لم يوجد في المتصدّق أحد هذين كره له‬
‫التّصدّق بجميع ماله ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬يأتي أحدكم بما يملك ‪ ،‬ويقول هذه صدقة ‪ ،‬ثمّ يقعد‬
‫فقد قال النّب ّ‬
‫يستكفّ النّاس ‪ ،‬خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنىً « ‪ ،‬ولنّ النسان إذا أخرج جميع ماله ل‬
‫يأمن فتنة الفقر ‪ ،‬وشدّة نزاع النّفس إلى ما خرج منه فيندم ‪ ،‬فيذهب ماله ‪ ،‬ويبطل أجره ‪،‬‬
‫ويصير كلً على النّاس ‪.‬‬
‫ن ما يحتاج إليه لعياله ودينه ل يجوز له أن‬
‫واتّفق قول الشّافعيّة مع سائر الفقهاء في ‪ :‬أ ّ‬
‫يتصدّق به ‪ ،‬وإن فضل عن ذلك شيء ‪ ،‬فهل يستحبّ أن يتصدّق بجميع الفاضل ؟ فيه عندهم‬
‫أوجه ‪ ،‬أصحّها ‪ :‬إن صبر على الضّيق فنعم ‪ ،‬وإلّ فل بل يكره ذلك ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وعليه تحمل‬
‫الخبار المختلفة الظّاهر ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬ال ّنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّدقة قربة ‪ ،‬لنّها تمليك بل عوض ‪ ،‬لجل ثواب الخرة ‪ ،‬فل بدّ فيها من النّيّة ‪ ،‬وقد‬ ‫‪24‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬إنّما العمال بالنّيّات « ويستحبّ في‬


‫ورد في الحديث أنّ النّب ّ‬
‫الصّدقة أن ينوي المتصدّق ثوابها لجميع المؤمنين والمؤمنات ‪.‬‬
‫ن كلّ من أتى بعبادة ما سواء أكانت صل ًة أم صوما أم صدق ًة أم قراءةً ‪،‬‬
‫وقد ذكر بعض الفقهاء أ ّ‬
‫له أن يجعل ثوابه لغيره وإن نواها لنفسه ‪.‬‬
‫ل أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات ‪ ،‬لنّها تصل‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬والفضل لمن يتصدّق نف ً‬
‫إليهم ‪ ،‬ول ينقص من أجره شيء ‪.‬‬
‫وتفصيل أحكام النّيّة في مصطلح ‪ ( :‬نيّة ) ‪.‬‬
‫إخفاء صدقة التّطوّع ‪:‬‬
‫‪ -‬الفضل في صدقة التّطوّع أن تكون سرّا ‪ ،‬وهذا عند أكثر الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة ‪،‬‬ ‫‪25‬‬

‫والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وإن كانت تصحّ ويثاب عليها في العلن ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬إِن تُبْدُواْ‬
‫خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا الْ ُفقَرَاء َف ُهوَ خَيْ ٌر ّل ُكمْ وَ ُيكَفّ ُر عَنكُم مّن سَيّئَا ِتكُمْ وَالّلهُ‬
‫الصّدَقَاتِ فَ ِن ِعمّا هِيَ َوإِن ُت ْ‬
‫ن خَبِيرٌ } ‪.‬‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُو َ‬
‫وفي الحديث عن أبي هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬مرفوعا ‪ » :‬سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم ل‬
‫ظلّ إلّ ظلّه « وذكر منهم » رجلً تصدّق أخفى حتّى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه « ‪.‬‬
‫ولما روي أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬صنائع المعروف تقي مصارع السّوء ‪،‬‬
‫وصدقة السّ ّر تطفئ غضب الرّبّ ‪ ،‬وصلة الرّحم تزيد في العمر « ‪.‬‬
‫ولنّ السرار بالتّطوّع يخلو عن الرّياء والمنّ ‪ ،‬وإعطاء الصّدقة سرّا يراد به رضا اللّه سبحانه‬
‫وتعالى وحده ‪.‬‬
‫ونقل عن ابن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬قوله ‪ :‬صدقة السّرّ في التّطوّع أفضل من صدقة‬
‫العلنية بسبعين ضعفا ‪.‬‬
‫ن الحال في الصّدقة يختلف بحال المعطي لها والمعطى إيّاها‬
‫ي ‪ :‬والتّحقيق فيه أ ّ‬
‫قال ابن العرب ّ‬
‫والنّاس الشّاهدين لها ‪.‬‬
‫أمّا المعطي فله فائدة إظهار السّنّة وثواب القدوة ‪ ،‬وآفتها الرّياء ‪ ،‬والمنّ ‪ ،‬والذى ‪.‬‬
‫ن السّرّ أسلم له من احتقار النّاس له ‪ ،‬أو نسبته إلى أنّه أخذها مع الغنى‬
‫وأمّا المعطى إيّاها فإ ّ‬
‫وترك التّعفّف ‪.‬‬
‫وأمّا حال النّاس فالسّرّ عنهم أفضل من العلنية لهم ‪ ،‬من جهة أنّهم ربّما طعنوا على المعطي‬
‫ن هذا اليوم‬
‫لها بالرّياء ‪ ،‬وعلى الخذ لها بالستغناء ‪ ،‬ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصّدقة ‪ .‬لك ّ‬
‫قليل ويقول الخطيب ‪ :‬إن كان المتصدّق ممّن يقتدى به ‪ ،‬وأظهرها ليقتدى به من غير رياء ول‬
‫سمعة‪ ،‬فهو أفضل ‪.‬‬
‫ن إظهارها أفضل كصلة الفرض وسائر الفرائض ‪.‬‬
‫أمّا صدقة الفرض فل خلف أ ّ‬
‫ترك المنّ والذى ‪:‬‬
‫‪ -‬يحرم المنّ والذى بالصّدقة ‪ ،‬ويبطل الثّواب بذلك ‪ ،‬فقد نهى اللّه تعالى عن المنّ والذى ‪،‬‬ ‫‪26‬‬

‫ن وَالذَى‬
‫وجعلهما مبطلين للصّدقات حيث قال ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَ تُ ْبطِلُواْ صَ َدقَا ِتكُم بِا ْلمَ ّ‬
‫كَالّذِي يُنفِقُ مَا َلهُ رِئَاء النّاسِ } ‪.‬‬
‫وحثّ سبحانه وتعالى المنفقين في سبيل اللّه بعدم إتباع ما أنفقوا منّا ول أذىً فقال ‪ { :‬الّذِينَ‬
‫ن مَا أَن َفقُواُ مَنّا َولَ أَذىً ّل ُهمْ َأجْرُ ُه ْم عِندَ رَ ّب ِهمْ َولَ‬
‫ن َأمْوَا َل ُهمْ فِي سَبِيلِ الّل ِه ُثمّ لَ يُتْ ِبعُو َ‬
‫يُنفِقُو َ‬
‫خوْفٌ عَلَ ْي ِهمْ َولَ ُهمْ َيحْزَنُونَ } ‪.‬‬
‫َ‬
‫ن المنّ والذى في الصّدقة حرام يبطل الثّواب ‪.‬‬
‫ول خلف بين الفقهاء ‪ ،‬في أ ّ‬
‫قال القرطبيّ ‪ :‬عبّر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثّواب بالبطال ‪.‬‬
‫وقال الشّربينيّ ‪ :‬المنّ بالصّدقة حرام مبطل للجر للية السّابقة ‪ ،‬ولخبر مسلم ‪ » :‬ثلثة ل‬
‫يكلّمهم اللّه يوم القيامة ‪ ،‬ول ينظر إليهم ول يزكّيهم ‪ ،‬ولهم عذاب أليم ‪ .‬قال ‪ :‬فقرأها رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ثلث مرار ‪ .‬قال أبو ذرّ ‪ :‬خابوا وخسروا ‪ ،‬من هم يا رسول اللّه ؟‬
‫قال ‪ :‬المسبل ‪ ،‬والمنّان ‪ ،‬والمنفق سلعته بالحلف الكاذب « ‪.‬‬
‫وجعله البهوتيّ من الكبائر فقال ‪ :‬ويحرم المنّ بالصّدقة وغيرها ‪ ،‬وهو من الكبيرة ويبطل‬
‫الثّواب بذلك ‪.‬‬
‫ن السّيّئات ل تبطل الحسنات ‪،‬‬
‫وهل تبطل المعصية الطّاعة ؟ فيه خلف ‪ .‬قال القرطبيّ ‪ :‬العقيدة أ ّ‬
‫ول تحبطها ‪ .‬فالمنّ والذى في صدقة ل يبطل صدق ًة أخرى‬
‫التّصدّق في المسجد ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في حكم التّصدّق في المسجد ‪ ،‬وأكثرهم على جوازه مع الكراهة ‪ ،‬وبعضهم‬ ‫‪27‬‬

‫بيّنوا له شروطا ل يجوز بغيرها ‪.‬‬


‫قال ابن عابدين ‪ :‬ل يحلّ أن يسأل شيئا من له قوت يومه بالفعل أو بالقوّة ‪ ،‬كالصّحيح‬
‫المكتسب‪ ،‬ويأثم معطيه إن علم بحاله ‪ ،‬لنّه أعانه على المحرّم ‪ ،‬والمختار أنّ السّائل إذا كان ل‬
‫يمرّ بين يدي المصلّي ‪ ،‬ول يتخطّى الرّقاب ‪ ،‬ول يسأل إلحافا ‪ ،‬بل لمر ل ب ّد منه ‪ ،‬فل بأس‬
‫بالسّؤال والعطاء ‪ .‬ثمّ قال نقلً عن البزّازيّة ‪ :‬ول يجوز العطاء إذا لم يكونوا على تلك الصّفة‬
‫‪.‬‬
‫وما نقله القرطبيّ عن البراء بن عازب من تعليق رجل قنو حشف في المسجد يدلّ كذلك على‬
‫مطلق الجواز ‪ ،‬وإن كان لم يعتبر من الطّيّبات كما يدلّ على الجواز أيضا ما رواه أبو داود عن‬
‫عبد الرّحمن بن أبي بكر قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬هل منكم أحد أطعم‬
‫اليوم مسكينًا ؟ فقال أبو بكر ‪ :‬دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في يد عبد‬
‫الرّحمن فأخذتها فدفعتها إليه « ‪.‬‬
‫ويقول البهوتيّ ‪ :‬يكره سؤال الصّدقة في المسجد ‪ ،‬والتّصدّق عليه ‪ ،‬لنّه إعانة على المكروه ‪،‬‬
‫ثمّ يقول ‪ :‬ول يكره التّصدّق على غير السّائل ول على من سأل له الخطيب ‪.‬‬
‫وتفصيل الموضوع في مصطلح ‪ ( :‬مسجد )‬
‫الحوال والماكن الّتي تفضّل فيها الصّدقة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذكر الفقهاء الحالت والماكن الّتي تفضّل فيها الصّدقة ‪ ،‬ويكون أجرها أكثر من غيرها ‪،‬‬ ‫‪28‬‬

‫ومن هذه الحالت والماكن ما يأتي ‪:‬‬


‫قال الشّربينيّ الخطيب ‪ :‬دفع صدقة التّطوّع في رمضان أفضل من دفعها في غيره ‪ ،‬لما رواه‬
‫التّرمذيّ عن أنس ‪ -‬رضي ال عنه ‪ » : -‬سئل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أيّ الصّدقة‬
‫ن الفقراء فيه يضعفون ويعجزون عن الكسب بسبب‬
‫أفضل ؟ قال ‪ :‬صدقة في رمضان « ‪ .‬ول ّ‬
‫الصّوم ‪.‬‬
‫وتتأكّد في اليّام الفاضلة كعشر ذي الحجّة ‪ ،‬وأيّام العيد ‪ ،‬وكذا في الماكن الشّريفة ‪ ،‬كمكّة‬
‫والمدينة ‪ ،‬وفي الغزو ‪ ،‬والحجّ ‪ ،‬وعند المور المهمّة ‪ ،‬كالكسوف والمرض والسّفر ‪.‬‬
‫ي قوله ‪ :‬ول يفهم من هذا أنّ من أراد التّطوّع بصدقة ‪ ،‬أو برّ في رجب ‪ ،‬أو‬
‫ثمّ نقل عن الذرع ّ‬
‫ل ‪ ،‬أنّ الفضل له أن يؤخّره إلى رمضان أو غيره من الوقات الفاضلة ‪ ،‬بل المسارعة‬
‫شعبان مث ً‬
‫ن التّصدّق في رمضان وغيره من اليّام الفاضلة‬
‫إلى الصّدقة أفضل بل شكّ ‪ ،‬وإنّما المراد أ ّ‬
‫أعظم أجرا ممّا يقع في غيرها ‪.‬‬
‫طعَامٌ فِي‬
‫وزاد الحنابلة فقالوا ‪ :‬وفي أوقات الحاجة أفضل منها في غيرها لقوله تعالى ‪َ { :‬أوْ ِإ ْ‬
‫سغَ َبةٍ } ‪.‬‬
‫َي ْومٍ ذِي َم ْ‬
‫ن الحسنات تضاعف فيه ‪ ،‬ولنّ فيه إعانةً على أداء‬
‫وعلّل الحنابلة فضل الصّدقة في رمضان بأ ّ‬
‫الصّوم المفروض ‪ ،‬ومن فطّر صائما كان له أجر مثله ‪.‬‬
‫ويستحبّ استحبابا مؤكّدا ‪ ،‬التّوسيع على العيال ‪ ،‬والحسان إلى القارب والجيران في شهر‬
‫ن فيه ليلة القدر ‪ ،‬فهو أفضل ممّا عداه من اليّام‬
‫رمضان ‪ -‬ل سيّما في عشرة آخره ‪ ،‬ل ّ‬
‫الخرى‬
‫الرّجوع في الصّدقة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه ل يصحّ للمتصدّق أن يرجع في صدقته ‪ ،‬لنّ المقصود بالصّدقة‬ ‫‪29‬‬

‫الثّواب ‪ ،‬وقد حصل ‪ ،‬وإنّما الرّجوع يكون عند تمكّن الخلل فيما هو المقصود كما يقول‬
‫السّرخسيّ ‪.‬‬
‫ي أو فقير في أن ل رجوع فيها ‪ ،‬كما صرّح به فقهاء‬
‫ويستوي أن تكون الصّدقة على غن ّ‬
‫الحنفيّة‪.‬‬
‫وعمّم المالكيّة الحكم فقالوا ‪ :‬كلّ ما يكون لثواب الخرة ل رجوع فيها ‪ ،‬ولو من والد لولده‬
‫لكنّهم قالوا ‪ :‬للوالد أن يعتصر ما وهبه لبنه وذلك بشروط تذكر في ‪ ( :‬هبة ) ‪.‬‬
‫ونصوص الشّافعيّة والحنابلة تتّفق مع سائر الفقهاء في عدم صحّة رجوع المتصدّق في صدقته‬
‫أمّا الرّجوع في الهبة فتذكر أحكامها في مصطلح ‪ ( :‬هبة ) ‪.‬‬

‫صدقة الفطر *‬
‫انظر ‪ :‬زكاة الفطر‬
‫صَدِيد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬في اللّغة ‪ :‬صديد الجرح ‪ :‬ماؤه الرّقيق المختلط بالدّم قبل أن يغلظ فإن غلظ سمّي مِدّةً‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬بكسر الميم ‪. -‬‬


‫والصّديد في القرآن ‪ :‬ما يسيل من جلود أهل النّار ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫القيح ‪:‬‬
‫‪ -‬القيح ‪ :‬المدّة الخالصة الّتي ل يخالطها دم ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫الحكام الّتي تتعلّق بالصّديد ‪:‬‬


‫حكمه من حيث النّجاسة والطّهارة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّ الصّديد نجس كالدّم ‪ ،‬لنّه من الخبائث ‪ ،‬والطّباع السّليمة‬ ‫‪3‬‬

‫تستخبثه ‪.‬‬
‫انتقاض الوضوء به ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في انتقاض الوضوء بخروج الصّديد من الجرح ‪ ،‬فعند المالكيّة والشّافعيّة ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫ل ينتقض الوضوء بخروج الصّديد من الجرح ‪ ،‬لنّ النّجاسة الّتي تنقض الوضوء عندهم هي ‪:‬‬
‫ما خرجت من السّبيلين فقط ‪ ،‬أمّا ما يخرج من غير ذلك فل ينقض الوضوء ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم حرسا المسلمين في‬
‫واستدلّوا بما ورد ‪ » :‬أنّ رجلين من أصحاب النّب ّ‬
‫غزوة ذات الرّقاع ‪ ،‬فقام أحدهما يصلّي ‪ ،‬فرماه رجل من الكفّار بسهم فنزعه وصلّى ودمه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم به ولم ينكره « ‪.‬‬
‫يجري‪ ،‬وعلم النّب ّ‬
‫وعند الحنفيّة ‪ :‬ينتقض الوضوء بخروج النّجس من الدميّ الحيّ ‪ ،‬سواء كان من السّبيلين أو‬
‫ي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أنّه قال ‪ » :‬دخل رسول اللّه‬
‫من غير السّبيلين ‪ ،‬لحديث أبي أمامة الباهل ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم على صفيّة فقرّبت له عرقا فأكل فأتى المؤذّن فقال ‪ :‬الوضوء الوضوء ‪،‬‬
‫فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّما علينا الوضوء فيما يخرج وليس علينا فيما يدخل‬
‫«‪ ،‬علّق الحكم بكلّ ما يخرج ‪ ،‬أو بمطلق الخارج من غير اعتبار المخرج ‪ ،‬إلّ أنّ خروج الطّاهر‬
‫ليس بمراد فبقي خروج النّجس مرادا ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ { :‬من أصابه قيء ‪،‬‬
‫وعن عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬أ ّ‬
‫أو رعاف ‪ ،‬أو قلس ‪ ،‬أو مذي ‪ ،‬فلينصرف فليتوضّأ ‪ ،‬ثمّ ليبن على صلته وهو في ذلك ل‬
‫يتكلّم « ‪ ،‬والحديث حجّة في وجوب الوضوء بخروج النّجس من غير السّبيلين ‪.‬‬
‫وعنه صلى ال عليه وسلم أنّه قال لفاطمة بنت أبي حبيش لمّا استحيضت ‪ » :‬توضّئي فإنّه دم‬
‫عرق انفجر « ‪ ،‬أمرها بالوضوء وعلّل بانفجار دم العرق ل بالمرور على المخرج ‪ ،‬وعن تميم‬
‫الدّاريّ عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ » :‬الوضوء من كلّ دم سائل « ‪.‬‬
‫والخبار في هذا الباب وردت مورد الستفاضة ‪ ،‬حتّى ورد عن الصّحابة أنّهم قالوا مثل ذلك ‪،‬‬
‫ي ‪ ،‬وابن مسعود ‪ ،‬وابن عبّاس ‪.‬‬
‫منهم عمر ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وعل ّ‬
‫‪ -5‬وعلى ذلك إن سال الصّديد على رأس الجرح والقرح ينتقض الوضوء لوجود الحدث وخروج‬
‫النّجس ‪ ،‬وهو انتقال النّجس من الباطن إلى الظّاهر ‪ ،‬لكنّه ل ينقض إلّ إذا سال وهذا عند أبي‬
‫حنيفة وصاحبيه ‪ ،‬فلو ظهر الصّديد على رأس الجرح ولم يسل لم يكن حدثا ‪ ،‬لنّه إذا لم يسل‬
‫كان في محلّه إلّ أنّه كان مستترا بالجلدة ‪ ،‬وانشقاقها يوجب زوال السّترة ل زوال الصّديد عن‬
‫محلّه ‪ ،‬ول حكم للنّجس ما دام في محلّه ‪ ،‬فإذا سال عن رأس الجرح فقد انتقل عن محلّه فيعطى‬
‫له حكم النّجاسة ‪.‬‬
‫ن الحدث الحقيقيّ عنده هو‬
‫وعند زفر ‪ :‬ينتقض الوضوء سواء سال عن محلّه أم لم يسل ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي الحيّ ‪ ،‬وقد ظهر ‪ ،‬ولنّ ظهور النّجس اعتبر حدثا في السّبيلين ‪،‬‬
‫ظهور النّجس من الدم ّ‬
‫سال عن رأس المخرج أو لم يسل ‪ ،‬فكذا في غير السّبيلين ‪.‬‬
‫‪ -6‬والحنابلة كالحنفيّة في أنّ الصل انتقاض الوضوء بخروج النّجس من البدن ‪ ،‬سواء كان من‬
‫ن الّذي ينقض عندهم هو‬
‫السّبيلين أم من غير السّبيلين ‪ ،‬واستدلّوا بما استدلّ به الحنفيّة ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫الكثير من ذلك دون اليسير ‪ ،‬قال القاضي ‪ :‬اليسير ل ينقض روايةً واحدةً وهو المشهور عن‬
‫الصّحابة ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ ،‬قال ابن عبّاس في الدّم ‪ :‬إذا كان فاحشا فعليه العادة ‪ ،‬وابن أبي‬
‫أوفى بزق دما ثمّ قام فصلّى ‪ ،‬وابن عمر عصر بثرةً فخرج دم وصلّى ولم يتوضّأ ‪ ،‬قال أحمد ‪:‬‬
‫عدّة من الصّحابة تكلّموا فيه ‪.‬‬
‫وحدّ الكثير الّذي ينقض الوضوء في نصّ أحمد ‪ :‬هو ما فحش في نفس ك ّل أحد بحسبه ‪ ،‬واحتجّ‬
‫بقول ابن عبّاس ‪ :‬الفاحش ما فحش في قلبك ‪ ،‬قال الخلل ‪ :‬إنّه الّذي استقرّ عليه قوله ‪ ،‬قال‬
‫في الشّرح ‪ :‬لنّ اعتبار حال النسان بما يستفحشه غيره فيه حرج فيكون منفيّا ‪ ،‬وقال ابن‬
‫عقيل ‪ :‬إنّما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط النّاس ‪ ،‬ولو استخرج كثيره بقطنة نقض أيضا ‪،‬‬
‫لنّ الفرق بين ما خرج بنفسه أو بمعالجة ل أثر له في نقض الوضوء وعدمه ‪ ،‬وقد نقل عن‬
‫أحمد أنّه سئل ‪ :‬كم الكثير ؟ فقال ‪ :‬شبر في شبر ‪ ،‬وفي موضع قال ‪ :‬قدر الكفّ فاحش ‪ ،‬وفي‬
‫موضع قال ‪ :‬الّذي يوجب الوضوء من ذلك إذا كان مقدار ما يرفعه النسان بأصابعه الخمس من‬
‫القيح والصّديد والقيء فل بأس به ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إن كان مقدار عشرة أصابع ؟ فرآه كثيرا ‪.‬‬
‫صلة من تنجّس ثوبه أو بدنه بالصّديد ‪:‬‬
‫‪ -‬من المقرّر أنّ من شروط الصّلة ‪ :‬طهارة الثّوب ‪ ،‬والبدن ‪ ،‬والمكان من النّجاسة ‪ ،‬فإذا‬ ‫‪7‬‬

‫أصاب البدن أو الثّوب شيء من الصّديد فإنّه في الجملة يعفى عن اليسير وتجوز الصّلة به ‪،‬‬
‫لنّ النسان غالبا ل يسلم من مثل هذا ‪ ،‬ولنّه يشقّ التّحرّز منه ‪ ،‬وهذا باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫‪ -8‬لكنّهم اختلفوا في قدر اليسير المعفوّ عنه فهو عند الحنفيّة غير زفر قدر الدّرهم وما دونه ‪،‬‬
‫ن قليل النّجاسة وكثيرها سواء ‪.‬‬
‫فإن زاد لم تجز الصّلة به ‪ ،‬وقال زفر ‪ :‬ل يعفى عنه ‪ ،‬ل ّ‬
‫وكذلك عند المالكيّة يعفى عمّا دون الدّرهم ‪ ،‬أمّا قدر الدّرهم فقد قيل ‪ :‬إنّه من الكثير وقيل ‪ :‬إنّه‬
‫من القليل ‪.‬‬
‫ن النسان ل‬
‫وعند الشّافعيّة قيل ‪ :‬يعفى عن القليل والكثير على الرّاجح ما لم يكن بفعله ‪ ،‬ل ّ‬
‫يخلو منها غالبا ‪ ،‬فلو وجب الغسل في كلّ مرّة لشقّ عليه ذلك ‪ ،‬أمّا ما خرج منها بفعله فيعفى‬
‫عن قليله فقط ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يعفى عن اليسير فقط ‪ ،‬وهو القدر الّذي يتعافاه النّاس في العادة ‪ ،‬وعند‬
‫الحنابلة ‪ :‬اليسير المعفوّ عنه هو الّذي لم ينقض الوضوء ‪ ،‬أي ‪ :‬ما ل يفحش في النّفس ‪.‬‬

‫صَدِيق *‬
‫انظر ‪ :‬صداقة‬

‫صرافة *‬
‫انظر ‪ :‬صرف‬

‫صرَد *‬
‫ُ‬
‫انظر ‪ :‬أطعمة‬

‫صرَع *‬
‫َ‬
‫انظر ‪ :‬جنون‬

‫صرْف *‬
‫َ‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّرف في اللّغة ‪ :‬يأتي بمعان ‪ ،‬منها ‪ :‬ر ّد الشّيء عن الوجه ‪ ،‬يقال ‪ :‬صرفه يصرفه‬ ‫‪1‬‬

‫صرفا إذا ردّه وصرفت الرّجل عنّي فانصرف ‪.‬‬


‫ومنها ‪ :‬النفاق ‪ ،‬كقولك ‪ :‬صرفت المال ‪ ،‬أي ‪ :‬أنفقته ‪.‬‬
‫ومنها البيع ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬صرفت الذّهب بالدّراهم ‪ ،‬أي ‪ :‬بعته ‪ .‬واسم الفاعل من هذا صيرفيّ ‪،‬‬
‫وصيرف ‪ ،‬وصرّاف للمبالغة ‪.‬‬
‫ومنها الفضل والزّيادة ‪.‬‬
‫قال ابن فارس ‪ :‬الصّرف ‪ :‬فضل الدّرهم في الجودة على الدّرهم ‪ ،‬والدّينار على الدّينار ‪.‬‬
‫وفي الصطلح عرّفه جمهور الفقهاء ‪ ،‬بأنّه بيع الثّمن بالثّمن ‪ ،‬جنسا بجنس ‪ ،‬أو بغير جنس ‪،‬‬
‫فيشمل بيع الذّهب بالذّهب ‪ ،‬والفضّة بالفضّة ‪ ،‬كما يشمل بيع الذّهب بالفضّة ‪ ،‬والمراد بالثّمن ما‬
‫خلق للثّمنيّة ‪ ،‬فيدخل فيه بيع المصوغ بالمصوغ أو بالنّقد ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬سمّي بالصّرف للحاجة إلى النّقل في بدليه من يد إلى يد ‪ ،‬أو لنّه ل يطلب منه‬
‫قال المرغينان ّ‬
‫إلّ الزّيادة ‪ ،‬إذ ل ينتفع بعينه ‪ ،‬والصّرف هو الزّيادة ‪.‬‬
‫وعرّفه المالكيّة بأنّه بيع النّقد بنقد مغاير لنوعه ‪ ،‬كبيع الذّهب بالفضّة ‪ ،‬أمّا بيع النّقد بنقد‬
‫مثله ‪ ،‬كبيع الذّهب بالذّهب ‪ ،‬أو بيع الفضّة بالفضّة ‪ ،‬فسمّوه باسم آخر حيث قالوا ‪ :‬إن اتّحد‬
‫جنس العوضين ‪ ،‬فإن كان البيع بالوزن فهو المراطلة ‪ ،‬وإن كان بالعدد فهو المبادلة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬البيع ‪:‬‬
‫‪ -‬البيع بالمعنى العمّ ‪ :‬مبادلة المال بالمال بالتّراضي ‪ ،‬كما عرّفه الحنفيّة أو ‪ :‬عقد معاوضة‬ ‫‪2‬‬

‫على غير منافع ‪ ،‬كما قال المالكيّة أو ‪ :‬هو معاوضة ماليّة تفيد ملك عين أو منفعة على التّأبيد ‪،‬‬
‫كما عرّفه الشّافعيّة ‪ ،‬أو ‪ :‬هو مبادلة المال بالمال تمليكا وتملّكا كما عرّفه الحنابلة ‪.‬‬
‫وبهذا المعنى يشمل البيع الصّرف ‪ ،‬والسّلم ‪ ،‬والمقايضة ‪ ،‬والبيع المطلق ‪.‬‬
‫فالصّرف قسم من البيع بهذا المعنى ‪.‬‬
‫أمّا البيع بالمعنى الخصّ فهو في الجملة ‪ :‬عقد معاوضة على غير منافع ‪ ،‬أحد عوضيه غير‬
‫ذهب ول فضّة ‪.‬‬
‫وبهذا المعنى يكون البيع قسيما للصّرف ‪ ،‬وبما أنّ هذا القسم أشهر أنواع البيوع سمّي بالبيع‬
‫المطلق‬
‫ب ‪ -‬الرّبا ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّبا لغةً ‪ :‬الزّيادة ‪ ،‬وفي الصطلح عرّفه بعض الفقهاء بأنّه ‪ :‬فضل خال عن عوض‬ ‫‪3‬‬

‫ي مشروط لحد المتعاقدين في المعاوضة ‪ ،‬والصّلة بينهما أنّ الصّرف إذا اختلّت‬
‫بمعيار شرع ّ‬
‫شروطه يدخله الرّبا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬السّلم ‪:‬‬
‫‪ -‬السّلم هو ‪ :‬بيع شيء مؤجّل بثمن معجّل ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫د ‪ -‬المقايضة ‪:‬‬
‫‪ -‬المقايضة هي ‪ :‬بيع العين بالعين ‪ ،‬أي ‪ :‬مبادلة مال بمال غير النّقدين ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫مشروعيّة الصّرف ‪:‬‬


‫صحّة التية ‪ ،‬لنّه‬
‫‪ -‬بيع الثمان بعضها ببعض أي ‪ :‬الصّرف جائز إذا توافرت فيه شروط ال ّ‬ ‫‪6‬‬

‫نوع من أنواع البيوع كما تقدّم ‪.‬‬


‫حلّ الّلهُ الْبَ ْيعَ َوحَ ّرمَ الرّبَا } ‪.‬‬
‫وقد قال تعالى ‪َ { :‬وَأ َ‬
‫وقد ورد في مشروعيّته أحاديث صحيحة منها ‪:‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪» :‬‬
‫ما رواه عبادة بن الصّامت رضي ال عنه ‪ -‬أ ّ‬
‫الذّهب بالذّهب ‪ ،‬والفضّة بالفضّة ‪ ،‬والبرّ بالب ّر ‪ ،‬والشّعير بالشّعير ‪ ،‬والتّمر بالتّمر ‪ ،‬والملح‬
‫بالملح ‪ ،‬مثلً بمثل سوا ًء بسواء ‪ ،‬يدا بيد ‪ ،‬فإذا اختلفت هذه الصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان‬
‫ل بمثل الحديث ‪ ،‬والمراد به المماثلة‬
‫يدا بيد « أي ‪ :‬بيعوا الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة مث ً‬
‫في القدر ‪ ،‬ل في الصّورة ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬جيّدها ورديئها سواء « ‪.‬‬
‫ل بمثل ‪ ،‬ول تشفّوا بعضها على‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل تبيعوا الذّهب بالذّهب إلّ مث ً‬
‫بعض ‪ ،‬ول تبيعوا الورق بالورق إ ّل مثلً بمثل ‪ ،‬ول تشفّوا بعضها على بعض ول تبيعوا منها‬
‫غائبا بناجز « ‪.‬‬
‫إنـ عقـد الصـّرف بيـع الثمان بعضهـا ببعـض ‪ ،‬ول يقصـد بـه إلّ الزّيادة والفضـل دون‬
‫وحيـث ّ‬
‫النتفاع بع ين البدل في الغالب ‪ ،‬والرّ با كذلك ف يه زيادة وف ضل ‪ ،‬و ضع الفقهاء لجواز ال صّرف‬
‫شروطا تميّز الرّبا عن الصّرف ‪ ،‬وتمنع النّاس عن الوقوع في الرّبا ‪.‬‬
‫شروط الصّرف ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬تقابض البدلين ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في الصّرف تقابض البدلين من الجانبين في المجلس قبل‬ ‫‪7‬‬

‫افتراقهما ‪.‬‬
‫قال ابن المنذر ‪ :‬أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن‬
‫يتقابضا‪ ،‬أنّ الصّرف فاسد ‪.‬‬
‫والصل في ذلك قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الذّهب بالذّهب مثلً بمثل يدا بيد ‪ ،‬والفضّة‬
‫ل بمثل يدا بيد « ‪.‬‬
‫بالفضّة مث ً‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يدا بيد « ‪.‬‬
‫وقد نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن بيع الذّهب بالورق دينا ‪ ،‬ونهى أن يباع غائب بناجز ‪،‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الذّهب بالورق ربا إلّ هاء وهاء « ‪.‬‬
‫‪ -8‬والفتراق المانع من صحّة الصّرف هو افتراق العاقدين بأبدانهما عن مجلسهما ‪ ،‬فيأخذ هذا‬
‫في جهة ‪ ،‬وهذا في جهة أخرى ‪ ،‬أو يذهب أحدهما ويبقى الخر ‪ ،‬حتّى لو كانا في مجلسهما لم‬
‫يبرحا عنه لم يكونا مفترقين وإن طال مجلسهما ‪ ،‬لنعدام الفتراق بالبدان ‪ ،‬وكذا إذا قاما عن‬
‫صرّاف فتقابضا عنده ‪ ،‬ولم‬
‫مجلسهما فذهبا معا في جهة واحدة إلى منزل أحدهما أو إلى ال ّ‬
‫يفارق أحدهما صاحبه ‪ ،‬جاز عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬لنّ المجلس هنا كمجلس الخيار ‪ ،‬كما حرّره‬
‫الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وذكر الحنفيّة صورا أخرى أيضا ل تعتبر افتراقا بالبدان ‪ ،‬فيصحّ‬
‫فيها الصّرف كما إذا نام العاقدان في المجلس ‪ ،‬أو أغمي عليهما أو على أحدهما أو نحو ذلك‬
‫ول ب ّد في التّقابض من القبض الحقيقيّ ‪ ،‬فل تكفي الحوالة وإن حصل القبض بها في المجلس ‪.‬‬
‫‪ -9‬وهذا الشّرط أي ‪ :‬التّقابض معتبر في جميع أنواع الصّرف ‪ ،‬سواء أكان بيع الجنس بجنسه‪،‬‬
‫كبيع الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة ‪ ،‬أو بغير جنسه كبيع الذّهب بالفضّة ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فقد منعوا التّأخير في الصّرف مطلقا ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يحرم صرف مؤخّر إن كان التّأخير‬
‫طويلً ‪ ،‬كما يحرم إن كان قريبا من كل العاقدين ‪ ،‬أو من أحدهما مع فرقة بدن ‪.‬‬
‫ويمنع التّأخير عندهم ولو كان غلب ًة ‪ ،‬كأن يحول بينهما عدوّ أو سيل أو نحو ذلك ‪.‬‬
‫وقال ابن جزيّ ‪ :‬إن تفرّقا قبل التّقابض غلبةً فقولن ‪ :‬البطال والتّصحيح أمّا التّأخير اليسير‬
‫بدون فرقة بدن ففيه قولن ‪ :‬مذهب المدوّنة كراهته ‪ ،‬ومذهب الموّازيّة والعتبيّة جوازه ‪.‬‬
‫قال الدّردير ‪ :‬وأمّا دخول الصّيرفيّ حانوته لتقليب الدّراهم فقيل ‪ :‬بالكراهة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بالجواز ‪.‬‬
‫وكذلك دخوله الحانوت ليخرج منه الدّراهم ‪.‬‬
‫صرّاف دنانير بدراهم ‪ ،‬ويقول‬
‫وفي مواهب الجليل للحطّاب ‪ :‬سئل مالك عن الرّجل يصرف من ال ّ‬
‫له ‪ :‬اذهب بها فزنها عند الصّرّاف ‪ ،‬وأره وجوهها وهو قريب منه فقال ‪ :‬أمّا الشّيء القريب‬
‫فأرجو أن ل يكون به بأس ‪ ،‬وهو يشبه عندي ما لو قاما إليه جميعا ‪.‬‬
‫ونقل عن ابن رشد ‪ :‬أستخفّ ذلك للضّرورة الدّاعية ‪ ،‬إذ غالب النّاس ل يميّزون النّقود ‪ ،‬ولنّ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫التّقابض قد حصل بينهما قبل ذلك ‪ .‬فلم يكونا بفعلهما هذا مخالفين لقول النّب ّ‬
‫وسلم ‪ » :‬الذّهب بالورق ربا إلّ هاء وهاء « ولو كان هذا المقدار ل يسامح فيه في الصّرف‬
‫ن حَرَجٍ } ‪.‬‬
‫ن مِ ْ‬
‫ج َعلَ عَلَ ْي ُكمْ فِي الدّي ِ‬
‫لوقع النّاس بذلك في حرج شديد ‪ ،‬واللّه تعالى يقول ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫الوكالة بالقبض ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬إلى أنّه تصحّ الوكالة بالقبض في الصّرف ‪ ،‬فلو وكّل المتصارفان‬ ‫‪10‬‬

‫من يقبض لهما ‪ ،‬أو وكّل أحدهما من يقبض له ‪ ،‬فتقابض الوكيلن ‪ ،‬أو تقابض أحد‬
‫المتصارفين ووكيل الخر قبل تفرّق الموكّلين ‪ ،‬أو قبل تفرّق الموكّل والعاقد الثّاني الّذي لم يوكّل‬
‫جاز العقد ‪ ،‬وصحّ القبض ‪ ،‬لنّ قبض الوكيل كقبض موكّله ‪.‬‬
‫وإن افترق الموكّلن ‪ ،‬أو الموكّل والعاقد الثّاني قبل القبض ‪ ،‬بطل الصّرف ‪ ،‬افترق الوكيلن أو‬
‫ل فالمعتبر في الفتراق المخلّ للصّرف هو افتراق العاقدين ل الوكيلين فإذا عقد ووكّل غيره في‬
‫ح‪.‬‬
‫القبض ‪ ،‬وقبض الوكيل بحضرة موكّله في مجلس العقد ص ّ‬
‫وهذا عند جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو الرّاجح عند المالكيّة ‪. -‬‬
‫والقول الثّاني عند المالكيّة وهو المشهور ‪ :‬أنّه إن وكّل غيره في القبض بطل الصّرف ‪ ،‬ولو‬
‫قبض بحضرة موكّله ‪ ،‬لنّه مظنّة التّأخير ‪.‬‬
‫قبض بعض العوضين ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا حصل التّقابض في بعض الثّمن دون بعضه وافترقا بطل الصّرف فيما لم يقبض باتّفاق‬ ‫‪11‬‬

‫الفقهاء ‪ ،‬واختلفوا فيما حصل فيه التّقابض ‪ ،‬ولهم فيه اتّجاهان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬صحّة العقد فيما قبض وبطلنه فيما لم يقبض ‪ .‬وهذا رأي جمهور الفقهاء من الحنفيّة‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬وهو قول عند المالكيّة ووجه عند الحنابلة ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬بطلن العقد في الكلّ ‪ ،‬وهو قول عند المالكيّة ووجه آخر عند الحنابلة ‪.‬‬
‫وفيما يلي بعض المثلة والفروع الّتي ذكروها ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬ذكر الحنفيّة أنّه ‪ :‬لو باع إناء فضّة ‪ ،‬وقبض بعض ثمنه ‪ ،‬وافترقا ‪ ،‬صحّ فيما قبض‬ ‫‪12‬‬

‫والناء مشترك بينهما ‪ ،‬وبطل فيما لم يقبض ‪ ،‬سواء أباعه بفضّة أم بذهب ‪ ،‬لنّه صرف وهو‬
‫يبطل بالفتراق قبل القبض ‪ ،‬فيتقدّر الفساد بقدر ما لم يقبض ‪ ،‬ول يشيع لنّه طارئ ‪.‬‬
‫ول يكون هذا تفريق الصّفقة أيضا ‪ ،‬لنّ التّفريق من جهة الشّرع باشتراط القبض ‪ ،‬ل من جهة‬
‫العاقد ‪ ،‬كما حرّره الزّيلعيّ ‪.‬‬
‫وقال البابرتيّ في تعليله ‪ :‬تفريق الصّفقة قبل تمامها ل يجوز ‪ ،‬وهاهنا الصّفقة تامّة ‪ ،‬فل يكون‬
‫مانعا ‪.‬‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬ذكر المالكيّة أنّه إن انعقد بينهما الصّرف على أن يتأخّر منه شيء فسخ ‪ ،‬وإن عقدا‬ ‫‪13‬‬

‫على المناجزة ثمّ أخّر أحدهما عن صاحبه بشيء منه انتقض الصّرف فيما وقعت فيه النّظرة‬
‫باتّفاق ‪ .‬فإن كانت النّظرة في أقلّ من صرف دينار انتقض صرف دينار ‪ ،‬وإن كان أكثر من‬
‫صرف دينار انتقض صرف دينارين ‪ ،‬وإن كان في أكثر من دينارين انتقض صرف ثلثة‬
‫دنانير ‪ ،‬وهكذا أبدا ‪ ،‬وما وقع فيه التّناجز على اختلف كما ذكره الحطّاب ‪.‬‬
‫ومثله ذكره ابن رشد الحفيد ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬ومبنى الخلف في الصّفقة الواحدة يخالطها حرام‬
‫وحلل‪ ،‬هل تبطل الصّفقة كلّها أو الحرام منها فقط ؟‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬وذكر الشّافعيّة أنّه لو اشترى دينارا بعشرة دراهم من فضّة ‪ ،‬وأقبض للبائع منها‬ ‫‪14‬‬

‫خمسةً وتفرّقا بعد قبض الخمس فقط لم يبطل فيما قابلها ‪ .‬ويبطل في باقي المبيع ‪.‬‬
‫ولو استقرض من البائع خمسةً غيرها في المجلس ‪ ،‬وأعادها له في المجلس جاز ‪ .‬بخلف ما‬
‫ن العقد يبطل فيهما على المعتمد ‪.‬‬
‫لو استقرض منه تلك الخمسة فأعادها له ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ي من الحنابلة أنّه إن قبض البعض في السّلم والصّرف ‪ ،‬ثمّ افترقا قبل‬
‫‪ -‬د ‪ -‬وذكر البهوت ّ‬ ‫‪15‬‬

‫تقابض الباقي بطل العقد فيما لم يقبض فقط لفوات شرطه ‪.‬‬
‫وذكر ابن قدامة أنّه ‪ :‬لو صارف رجلً دينارا بعشرة دراهم وليس معه إلّ خمسة دراهم لم يجز‬
‫أن يفترقا قبل قبض العشرة كلّها ‪ .‬فإن قبض الخمسة وافترقا بطل الصّرف في نصف الدّينار ‪.‬‬
‫وهل يبطل في ما يقابل الخمسة المقبوضة ؟ على وجهين ‪ :‬بنا ًء على تفريق الصّفقة ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الخلوّ عن الخيار ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المذهب ‪ -‬أنّ الصّرف ل يصحّ مع‬ ‫‪16‬‬

‫ن القبض في هذا‬
‫خيار الشّرط ‪ .‬فإن شرط الخيار فيه لكل العاقدين أو لحدهما فسد الصّرف ‪ ،‬ل ّ‬
‫صحّة والخيار يمنع انعقاد العقد في حقّ الحكم ‪ ،‬فيمنع‬
‫العقد شرط صحّة ‪ ،‬أو شرط بقائه على ال ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫صحّة القبض كما قال الكاسان ّ‬
‫ح في الصّرف خيار الشّرط ‪ ،‬لنّه يمنع ثبوت الملك أو تمامه ‪ ،‬وذلك يخلّ‬
‫قال ابن الهمام ‪ ،‬ل يص ّ‬
‫بالقبض المشروط ‪ ،‬وهو القبض الّذي يحصل به التّعيين ‪.‬‬
‫لكنّ الحنفيّة قالوا ‪ :‬إذا أسقط الخيار في المجلس يعود العقد إلى الجواز ‪ ،‬لرتفاعه قبل تقرّره‬
‫خلفا لزفر ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬ل يبطل الصّرف بتخاير ‪ ،‬أي ‪ :‬باشتراط الخيار فيه كسائر الشّروط الفاسدة في‬
‫البيع ‪ ،‬فيصحّ العقد ويلزم بالتّفرّق ‪.‬‬
‫وهذا كلّه في خيار الشّرط ‪ ،‬بخلف خيار الرّؤية والعيب ‪ ،‬فإنّه ل يمنع الملك فل يمنع تمام‬
‫ن العقد ينعقد‬
‫ن الحنفيّة قالوا ‪ :‬ل يتصوّر في النّقد وسائر الدّيون خيار رؤية ‪ ،‬ل ّ‬
‫القبض ‪ .‬إلّ أ ّ‬
‫على مثلها ل عينها ‪ ،‬حتّى لو باعه هذا الدّينار بهذه الدّراهم ‪ ،‬لصاحب الدّينار أن يدفع غيره ‪.‬‬
‫وكذا لصاحب الدّراهم ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الخلوّ عن اشتراط الجل ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء في الجملة على أنّه ل يجوز في الصّرف إدخال الجل للعاقدين أو لحدهما‬ ‫‪17‬‬

‫فإن اشترطاه لهما ‪ ،‬أو لحدهما فسد الصّرف ‪ ،‬لنّ قبض البدلين مستحقّ قبل الفتراق ‪ ،‬والجل‬
‫يفوّت القبض المستحقّ بالعقد شرعا ‪ ،‬فيفسد العقد ‪.‬‬
‫وذكر الحنفيّة أنّه إن اشترط الجل ث ّم أبطل صاحب الجل أجله قبل الفتراق ‪ ،‬فنقد ما عليه ثمّ‬
‫افترقا عن تقابض ‪ ،‬ينقلب العقد جائزا عندهم ‪ ،‬خلفا لزفر ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّماثل ‪:‬‬
‫ص بنوع خاصّ من الصّرف ‪ ،‬وهو بيع أحد النّقدين بجنسه ‪.‬‬
‫‪ -‬وهذا الشّرط خا ّ‬ ‫‪18‬‬

‫فإذا بيع الذّهب بالذّهب ‪ ،‬أو الفضّة بالفضّة ‪ ،‬يجب فيه التّماثل في الوزن ‪ .‬وإن اختلفا في‬
‫الجودة‪ ،‬والصّياغة ونحوهما ‪ .‬وهذا باتّفاق الفقهاء ‪ .‬وسواء أكانت الزّيادة من جنسه أم من‬
‫جنس آخر أو من غيرهما ‪.‬‬
‫زاد الحنفيّة ‪ :‬ول اعتبار به عددا ‪ .‬والشّرط التّساوي في العلم ‪ ،‬ل بحسب نفس المر فقط ‪ ،‬فلو‬
‫لم يعلما التّساوي ‪ ،‬وكان في نفس المر متحقّقا لم يجز إلّ إذا ظهر في المجلس ‪.‬‬
‫والصل في ذلك قوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل تبيعوا الذّهب بالذّهب إلّ مثلً بمثل ول تبيعوا‬
‫ل بمثل ‪ ،‬ول تشفّوا بعضها على بعض ‪ ،‬ول تبيعوا منهما غائبا بناجز «‬
‫الفضّة بالفضّة إلّ مث ً‬
‫وسيأتي تفصيله في أنواع الصّرف ‪.‬‬
‫أنواع الصّرف ‪:‬‬
‫‪ -‬من المثلة والصّور الّتي ذكرها الفقهاء في باب الصّرف والحكام الّتي تتعلّق بكلّ صورة‪،‬‬ ‫‪19‬‬

‫يمكن تقسيم الصّرف إلى النواع التية ‪:‬‬


‫النّوع الوّل ‪ :‬بيع أحد النّقدين ‪ -‬الذّهب والفضّة ‪ -‬بجنسه ‪:‬‬
‫ل بمثل‬
‫ضةً بفضّة أو ذهبا بذهب يجب أن يكون يدا بيد مث ً‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه إذا باع ف ّ‬ ‫‪20‬‬

‫ل ‪ ،‬كما يحرم بيعه بجنسه نساءً وقد ورد في‬


‫في المقدار والوزن ‪ ،‬فيحرم بيع النّقد بجنسه تفاض ً‬
‫ذلك أحاديث كثيرة منها ‪:‬‬
‫ما روى عبادة بن الصّامت ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫» الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة ‪ ...‬مثلً بمثل يدا بيد « ‪.‬‬
‫ي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫ومنها ما رواه أبو سعيد الخدر ّ‬
‫وسلم‪ » :‬ل تبيعوا الذّهب بالذّهب إلّ مثلً بمثل ‪ ،‬ول تشفّوا بعضها على بعض ‪ .‬ول تبيعوا‬
‫ل بمثل ول تشفّوا بعضها على بعض ‪ ،‬ول تبيعوا غائبا بناجز « ‪.‬‬
‫الورق بالورق إلّ مث ً‬
‫وروى عثمان بن عفّان ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬ل‬
‫تبيعوا الدّينار بالدّينارين ول الدّرهم بالدّرهمين « ‪.‬‬
‫ل بمثل ‪،‬‬
‫ومنها حديث أبي هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬مرفوعا ‪ » :‬الذّهب بالذّهب وزنا بوزن مث ً‬
‫ل بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا « ‪.‬‬
‫والفضّة بالفضّة وزنا بوزن مث ً‬
‫‪ -‬ول اعتبار بالجودة والرّداءة في الذّهب والفضّة ‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم ‪ » :‬جيّدها‬ ‫‪21‬‬

‫ورديئها سواء « ‪.‬‬


‫واشترط الفقهاء أن يكون العاقدان على علم بمقدار العوضين ‪ ،‬وبالتّساوي بينهما ‪ ،‬فل يجوز‬
‫عندهم بيع النّقد بجنسه مجازفةً ‪ ،‬بأن لم يعلم العاقدان كمّيّة العوضين ‪ ،‬وإن كانا في نفس المر‬
‫صحّة إ ّل أنّ الحنفيّة قالوا ‪:‬‬
‫متساويين قالوا ‪ :‬وجهل التّساوي حالة العقد كعلم التّفاضل في منع ال ّ‬
‫إن باعها مجازفةً ثمّ وزنا في المجلس فظهرا متساويين يجوز ‪ ،‬لنّ ساعات المجلس كساعة‬
‫واحدة ‪ ،‬فصار كالعلم في ابتدائه ‪ ،‬بخلف ما لو ظهر التّساوي بعد الفتراق ‪ ،‬فإنّه ل يجوز‬
‫خلفا لزفر من الحنفيّة فإنّه يقول ‪ :‬الشّرط التّساوي ‪ ،‬وقد ثبت ‪ ،‬واشتراط العلم به زيادة بل‬
‫‪ -‬وجمهور الفقهاء على أنّه ل اعتبار بالصّياغة والصّناعة أيضا ‪ ،‬فيدخل في إطلق‬ ‫‪22‬‬ ‫دليل ‪.‬‬
‫المساواة المصوغ بالمصوغ ‪ ،‬والتّبر بالنية ‪ ،‬فعين الذّهب والفضّة وتبرهما ‪ ،‬ومضروبهما ‪،‬‬
‫وغير المضروب منهما ‪ ،‬والصّحيح منهما ‪ ،‬والمكسور كلّها سواء في جواز بيعها مع التّماثل‬
‫في المقدار ‪ ،‬وتحريمه مع التّفاضل ‪ ،‬حتّى لو باع آنية فضّة بفضّة ‪ ،‬أو آنية ذهب بذهب أحدهما‬
‫أثقل من الخر ل يجوز ‪ ،‬مع تفصيل عند المالكيّة يأتي بيانه والدّليل على ذلك ما ورد في حديث‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ » :‬الذّهب بالذّهب‬
‫عبادة بن الصّامت ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عن النّب ّ‬
‫تبرها وعينها ‪ ،‬والفضّة بالفضّة تبرها وعينها « ‪.‬‬
‫وما رواه أنس بن مالك ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ :‬أتي عمر بن الخطّاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪-‬‬
‫بإناء كسروانيّ قد أحكمت صياغته ‪ ،‬فبعثني به لبيعه ‪ ،‬فأعطيت وزنه وزيادةً ‪ ،‬فذكرت ذلك‬
‫لعمر فقال ‪ :‬أمّا الزّيادة فل ‪.‬‬
‫هذا عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة ‪.‬‬
‫وحكي عن أحمد رواية أخرى أنّه ل يجوز بيع الصّحاح بالمكسّرة ‪ ،‬ولنّ للصّناعة قيمةً ‪ ،‬بدليل‬
‫حالة التلف فيصير كأنّه ضمّ قيمة الصّناعة إلى الذّهب ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬إن قال لصائغ ‪ :‬صغ لي خاتما وزنه درهم ‪ ،‬وأعطيك مثل وزنه وأجرتك درهما‬
‫فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين ‪ ،‬وللصّائغ أخذ الدّرهمين أحدهما مقابلة الخاتم والثّاني أجرةً له‬
‫ي‪.‬‬
‫ومثله ما ذكره البهوت ّ‬
‫وقد تفرّد المالكيّة بتسمية بيع النّقد بجنسه المراطلة أو المبادلة ‪ ،‬فبيع العين بالعين عندهم ثلثة‬
‫أقسام ‪ :‬إمّا مراطلة ‪ ،‬إمّا مبادلة ‪ ،‬وإمّا صرف ‪.‬‬
‫فالمراطلة بيع النّقد بمثله وزنا ‪.‬‬
‫والمبادلة بيع النّقد بمثله عددا ‪.‬‬
‫والصّرف بيع الذّهب بالفضّة ‪ ،‬أو بيع أحدهما بفلوس ‪.‬‬
‫وقد صرّحوا في أكثر من موضع بحرمة التّفاضل في بيع العين بمثلها مطلقا ‪.‬‬
‫قال الدّردير ‪ :‬حرم في عين ربا فضل أي ‪ :‬زيادة ولو مناجز ًة إن اتّحد الجنس ‪ ،‬فل يجوز درهم‬
‫بدرهمين ‪ ،‬ول دينار بدينارين وفي رسالة ابن أبي زيد القيروانيّ ‪ :‬ومن الرّبا في غير النّسيئة‬
‫بيع الفضّة بالفضّة يدا بيد متفاضلً ‪ ،‬وكذلك الذّهب بالذّهب ‪.‬‬
‫وقال خليل ‪ :‬وحرم في نقد وطعام ربا فضل ونساء ‪.‬‬
‫وظاهر هذه العبارات يدلّ على حرمة المفاضلة في بيع العين بمثلها مطلقا ‪ ،‬ولو قلّت الزّيادة ‪،‬‬
‫لكنّهم أجازوا الزّيادة اليسيرة في ثلث مسائل ‪ ،‬كما حرّره النّفراويّ وغيره ‪:‬‬
‫‪ -‬الولى ‪ :‬المبادلة ‪:‬‬ ‫‪23‬‬

‫وهي بين العين بمثلها عددا ‪ ،‬حيث قالوا ‪ :‬تجوز المبادلة في الذّهب والفضّة بمثلهما إن تساويا‬
‫عددا ووزنا ‪ ،‬وجازت الزّيادة في مبادلة القليل من أحد النّقدين بشروط ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن تقع تلك المعاقدة على وجه المبادلة دون البيع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن تكون الدّراهم أو الدّنانير الّتي وقعت المبادلة فيها معدودةً ‪ ،‬أي ‪ :‬يتعامل بها عددا ل‬
‫وزنا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن تكون الدّراهم أو الدّنانير المبدّلة قليلةً دون سبعة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن تكون الزّيادة في أحد البدلين في الوزن ل في العدد ‪ ،‬فل بدّ أن يكون واحدا بواحد ‪ ،‬ل‬
‫واحدا باثنين ‪.‬‬
‫هـ – أن تكون الزّيادة في كلّ دينار أو درهم السّدس فأقلّ ‪.‬‬
‫قال الصّاويّ ‪ :‬هذا الشّرط ذكره ابن شاس ‪ ،‬وابن الحاجب ‪ ،‬وابن جماعة لكن قال في العباب ‪:‬‬
‫أكثر الشّيوخ ل يذكرون هذا الشّرط ‪ ،‬وقد جاء لفظ " السّدس " في المدوّنة ‪ ،‬وهو يحتمل للتّمثيل‬
‫والشّرطيّة ‪.‬‬
‫ومثله ما ذكره الدّسوقيّ ‪.‬‬
‫و ‪ -‬أن تقع على وجه المعروف ‪ ،‬أي ‪ :‬يقصد المعروف ‪ ،‬ل على وجه المبايعة والمغالبة ‪.‬‬
‫قال الدّسوقيّ ‪ :‬ول ب ّد في جواز المبادلة من كون الدّراهم أو الدّنانير مسكوكةً ‪.‬‬
‫سكّة أو ل يشترط ؟ قولن ‪ :‬والمعتمد عدم اشتراط اتّحادهما ‪.‬‬
‫وهل يشترط اتّحاد ال ّ‬
‫وذكر بعضهم أنّ ما يتعامل به عددا من غير المسكوك حكمه حكم المسكوك ‪ .‬واعتمده الصّاويّ‬
‫‪ -‬المسألة الثّانية ‪:‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪.‬‬
‫المسافر تكون معه العين غير مسكوكة ‪ ،‬ول تروج معه في المحلّ الّذي يسافر إليه ‪ ،‬فيجوز له‬
‫سكّة وإن لزم عليه الزّيادة ‪ ،‬لنّ‬
‫دفعها للسّكّاك ليدفع له بدلها مسكوكا ‪ ،‬ويجوز له دفع أجرة ال ّ‬
‫الجرة زيادة ‪ ،‬وعلى كونها عرضا تفرض مع العين عينا ‪.‬‬
‫وإنّما أجيزت للضّرورة ‪ ،‬لعدم تمكّن المسافر من السّفر عند تأخيره لضربها ‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الثّالثة ‪:‬‬ ‫‪25‬‬

‫الشّخص يكون معه الدّرهم الفضّة ‪ ،‬ويحتاج إلى نحو الغذاء ‪ ،‬فيجوز له أن يدفعه لنحو الزّيّات‬
‫ضةً ‪ ،‬حيث كان ذلك على وجه البيع ‪ ،‬أو عوض كراء‬
‫ويأخذ ببعضه طعاما ‪ ،‬وبالنّصف الخر ف ّ‬
‫بعد تمام العمل ‪ ،‬لوجوب تعجيل الجميع ‪ ،‬وكون المدفوع درهما فأق ّل ل أكثر ‪ ،‬وأن يكون‬
‫سكّة ‪ ،‬وأن‬
‫المأخوذ والمدفوع مسكوكين ‪ ،‬وأن يجري التّعامل بالمدفوع والمأخوذ ولو لم تتّحد ال ّ‬
‫يتّحدا في الرّواج ‪ ،‬وأن يتعجّل الدّرهم ومقابله من عين وما معها وهذا في المبادلة ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا المراطلة ‪ :‬وهي بيع عين بمثله أي ‪ :‬ذهب بذهب أو فضّة بفضّة وزنا بصنجة أو‬ ‫‪26‬‬

‫ل‪.‬‬
‫كفّتين فيشترط فيها التّساوي ‪ ،‬ول تغتفر فيها الزّيادة ولو قلي ً‬
‫‪ -‬وتجوز المراطلة عند المالكيّة إن كان أحد النّقدين كلّه أجود من جميع مقابله ‪ ،‬كدنانير‬ ‫‪27‬‬

‫مغربيّة تراطل بدنانير مصريّة أو إسكندريّة ‪ ،‬والفرض أنّ المغربيّة أجود من المصريّة ‪ ،‬وهي‬
‫أجود من السكندريّة ‪ ،‬أو يكون بعضه أجود والبعض الخر مساو لجميع الخر في الجودة ‪ ،‬ل‬
‫أن يكون بعض أحدهما أدنى من الخر ‪ ،‬وبعضه أجود منه ‪ ،‬كسكندريّة ومغربيّة تراطل‬
‫بمصريّة‪ ،‬فل يجوز لدوران الفضل بين الجانبين ‪.‬‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬بيع أحد النّقدين بالخر ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على جواز بيع أحد النّقدين بالخر متفاضلً في الوزن والعدد ‪ ،‬أو متساويا ‪،‬‬ ‫‪28‬‬

‫كما اتّفقوا على جواز بيع أحدهما بالخر جزافا ‪ ،‬بأن لم يعلم أحد العاقدين أو كلهما قدر ووزن‬
‫البدلين ‪ ،‬وذلك لعدم المجانسة ‪ ،‬وقد قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬بيعوا الذّهب بالذّهب‬
‫كيف شئتم يدا بيد « ‪.‬‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد « ‪.‬‬
‫لكن يشترط في هذا النّوع من الصّرف أيضا التّقابض في المجلس قبل الفتراق ‪ ،‬لحرمة ربا‬
‫النّساء في جميع أنواع الصّرف ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬الذّهب بالورق ربا إلّ هاء‬
‫وهاء « ‪.‬‬
‫قال ابن الهمام ‪ :‬معنى قوله ‪ " :‬ربا " أي ‪ :‬حرام واستثنى حالة التّقابض من الحرام بحصر الحلّ‬
‫فيها ‪ ،‬فينتفي الحلّ في كلّ حالة غيرها ‪ ،‬فيدخل في عموم المستثنى حالة التّفاضل والتّساوي‬
‫والمجازفة ‪ ،‬فيحلّ كلّ ذلك ‪.‬‬
‫وهذا هو النّوع الوحيد الّذي يسمّيه المالكيّة بالصّرف ‪.‬‬
‫القسم الثّالث ‪ :‬بيع النّقد بالنّقد ومع أحدهما أو كليهما شيء آخر ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا باع نقدا بنقد غير جنسه ومع أحدهما أو كليهما متاع ‪ ،‬كأن باع ذهبا بفضّة وثوب ‪ ،‬أو‬ ‫‪29‬‬

‫ح العقد‪،‬‬
‫سيفا محّلىً بذهب بفضّة ‪ ،‬أو بها ومعها متاع آخر ‪ ،‬وحصل التّقابض في المجلس ص ّ‬
‫ل أو متساويا ‪ ،‬لنّه من النّوع الثّاني في الحقيقة ‪ ،‬لختلف الجنسين ‪،‬‬
‫مجازف ًة كان أو متفاض ً‬
‫فيجوز فيه التّفاضل والمجازفة بشرط التّقابض في المجلس قبل الفتراق ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا إذا باع نقدا مع غيره بنقد من جنسه ‪ ،‬كفضّة بفضّة ومعها شيء ‪ ،‬كدرهمين بدرهم‬ ‫‪30‬‬

‫ومدّ عجوة ‪ ،‬أو كسيف محّلىً بالذّهب أو فضّة بثمن جنسه فقد اختلف الفقهاء في ذلك ‪:‬‬
‫فذهب الشّافعيّة والحنابلة في المذهب إلى أنّه ل يجوز بيع نقد بجنسه ومع أحدهما أو كليهما‬
‫شيء آخر ‪ ،‬فل يجوز بيع مدّ ودرهم بدرهمين ‪ ،‬أو بيع درهم وثوب ‪ .‬كما ل يجوز بيع شيء‬
‫محّلىً بذهب أو فضّة كسيف أو مصحف بجنس حليته ‪.‬‬
‫وهذه المسألة معروفة بمسألة ‪ " :‬م ّد عجوة " ‪.‬‬
‫واستدلّوا بما رواه فضالة بن عبيد قال ‪ » :‬أتي النّبيّ صلى ال عليه وسلم وهو بخيبر بقلدة‬
‫فيها خرز وذهب وهو من الغنائم تباع ‪ ،‬فأمر رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالذّهب الّذي في‬
‫القلدة فنزع وحده ‪ ،‬ثمّ قال لهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬الذّهب بالذّهب وزنا بوزن‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ » :‬ل حتّى تميّز بينهما « ‪.‬‬
‫«‪ ،‬وفي رواية قال النّب ّ‬
‫ن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس وجب أن ينقسم أحدهما‬
‫واستدلّوا من جهة المعنى بأ ّ‬
‫على الخر على قدر قيمة الخر في نفسه ‪ ،‬فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من العوض‬
‫فيؤدّي ذلك إلى المفاضلة أو الجهل بالمماثلة ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ ،‬وهو رواية عند الحنابلة ‪ ،‬يجوز بيع نقد مع غيره بنقد من جنسه بشرط أن يزيد‬
‫الثّمن ‪ -‬أي النّقد المفرد ‪ -‬على النّقد المضموم إليه ‪ .‬وإلّ بأن تساوى النّقدان ‪ ،‬أو كان النّقد‬
‫المفرد أقلّ بطل البيع ‪ ،‬لتحقّق التّفاضل المحرّم ‪ .‬وكذا إذا لم يدر الحال ‪ ،‬لحتمال المفاضلة‬
‫والرّبا‪.‬‬
‫فمن باع سيفا محّلىً بثمن أكثر من الحلية ‪ ،‬وكان الثّمن من جنس الحلية جاز ‪ ،‬وذلك لمقابلة‬
‫ض ًة ‪.‬‬
‫الحلية بمثلها ذهبا كانت أم ف ّ‬
‫صحّة لم يحمل على الفساد ‪.‬‬
‫والزّيادة بالنّصل والحمائل والجفن ‪ .‬والعقد إذا أمكن حمله على ال ّ‬
‫وإن باعه بأقلّ من قدر الحلية أو مثله ل يجوز ‪ ،‬لنّه ربا ‪ .‬ولنّه قبض قدر الحلية قبل‬
‫الفتراق‪ ،‬لنّه صرف ‪ ،‬فل بدّ من قبض البدلين في المجلس ‪.‬‬
‫ولو اشتراه بعشرين درهما ‪ ،‬والحلية عشرة دراهم فقبض منها عشرةً فهي في حصّة الحلية‬
‫صحّة ‪.‬‬
‫ل لتصرّفه على ال ّ‬
‫وإن لم يعيّنها ‪ ،‬حم ً‬
‫صحّة ‪ ،‬وقد يراد بالثنين أحدهما ‪ ،‬كقوله تعالى ‪:‬‬
‫وكذا إذا قال خذها من ثمنهما ‪ ،‬لنّ قصده ال ّ‬
‫{ َيخْ ُرجُ مِ ْن ُهمَا الّلؤُْلؤُ وَا ْلمَ ْرجَانُ } ‪.‬‬
‫فإن افترقا ل عن قبض بطل البيع فيهما إن كانت الحلية ل تتخلّص إلّ بضرر كجذع في سقف ‪،‬‬
‫وإن كانت تتخلّص بغير ضرر جاز في السّيف وبطل في الحلية ‪.‬‬
‫ضةً بفضّة أو ذهبا بذهب وأحدهما أقلّ ومع‬
‫‪ -‬ومن هذا الباب ما ذكر الحنفيّة أنّه لو تبايعا ف ّ‬ ‫‪31‬‬

‫أقلّهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الذّهب فإنّه يجوز من غير كراهة ‪ ،‬وإن لم تبلغ فيجوز مع‬
‫الكراهة ‪.‬‬
‫أمّا إذا لم يكن له قيمة كالتّراب فل يجوز البيع لتحقّق الرّبا ‪ ،‬إذ الزّيادة ل يقابلها عوض ‪.‬‬
‫ن في بيعه بصنفه بيع ذهب وعرض‬
‫‪ -‬أمّا المالكيّة فالصل عندهم في بيع المحلّى المنع ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪32‬‬

‫بذهب ‪ ،‬أو بيع فضّة وعرض بفضّة لكن رخّص فيه للضّرورة بشروط ثلثة وهي ‪:‬‬
‫‪ -‬أن تكون تحليته مباحا ‪ ،‬كسيف ومصحف ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬وأن تكون الحلية قد سمّرت على المحلّى بأن يكون في نزعها فساد أو غرم دراهم ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬وأن تكون الحلية قدر الثّلث فأقلّ ‪ ،‬لنّه تبع ‪ ،‬وهل يعتبر الثّلث بالقيمة أو بالوزن ؟ خلف ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫والمعتمد الوّل ‪.‬‬


‫ى بذهب بسبعين دينارا ذهبا ‪ ،‬وكان وزن حليته عشرين ولصياغتها تساوي‬
‫فإن بيع سيف محّل ً‬
‫ثلثين ‪ ،‬وقيمة النّصل وحده أربعون لم يجز على الوّل وجاز الثّاني ‪.‬‬
‫قال ابن رشد في تعليل قول المام مالك ‪ :‬صحّة بيع المحلّى إن كان فيه من الذّهب أو الفضّة‬
‫الثّلث فأق ّل ‪ ،‬إذا كانت الفضّة قليل ًة لم تكن مقصودةً في البيع ‪ .‬وصارت كأنّها هبة ‪.‬‬
‫النّوع الرّابع ‪ :‬بيع جملة من الدّراهم والدّنانير بجملة منها ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وزفر من الحنفيّة ‪ -‬إلى أنّه لو‬ ‫‪33‬‬

‫باع جملةً من الدّراهم والدّنانير بدراهم أو بدنانير ‪ ،‬أو بجملة من الدّراهم والدّنانير بطل العقد ‪.‬‬
‫واعتبر الشّافعيّة والحنابلة هذه المسألة فرع مسألة ‪ " :‬مدّ عجوة " ‪ ،‬وقالوا في علّة بطلنه إنّ‬
‫اشتمال أحد طرفي العقد أو كليهما على مالين مختلفين توزيع ما في الخر عليهما اعتبارا‬
‫بالقيمة ‪ ،‬وهذا يؤدّي إلى المفاضلة أو الجهل بالمماثلة كما تقدّم ‪ .‬والجهل بالمماثلة حقيقة‬
‫ن التّوزيع هو مقتضى العقد ‪ ،‬كما في بيع شقص مشفوع‬
‫المفاضلة في باب الرّبا قالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫وسيف بألف ‪ .‬وقيمة الشّقص مائة والسّيف خمسون ‪ ،‬فإنّ الشّفيع يأخذ الشّقص بثلثي القيمة ‪،‬‬
‫ولول التّوزيع لما صحّ ذلك ‪.‬‬
‫ن العقد إذا كان له مقتضىً حمل‬
‫ي ‪ :‬ول يترك التّوزيع وإن أدّى إلى بطلن البيع ‪ ،‬فإ ّ‬
‫قال السّبك ّ‬
‫عليه ‪ ،‬سواء أدّى إلى فساد العقد أو إلى صلحه ‪ ،‬كما إذا باع درهما بدرهمين ‪ ،‬ولمّا كان‬
‫ن أحد‬
‫مقتضى العقد مقابلة جميع الثّمن للثّمن حمل عليه وإن أدّى إلى فساده ‪ ،‬ولم يحمل على أ ّ‬
‫ح العقد ‪.‬‬
‫الدّرهمين هبة والخر ثمن ليص ّ‬
‫وصرّح المالكيّة بعدم جواز صرف ذهب وفضّة من جانب بمثلهما من جانب آخر ‪ .‬فقالوا ‪ :‬ل‬
‫يجوز أن يباع دينار ودرهم بدينار ودرهم ‪ ،‬لعدم تحقّق المماثلة باحتمال رغبة أحدهما في دينار‬
‫الخر ‪ ،‬فيقابله بديناره وبعض درهمه ‪ ،‬ويصير باقي درهمه في مقابلة درهم الخر ‪ .‬قالوا ‪ :‬إنّ‬
‫قاعدة المذهب سدّ الذّرائع فالفضل المتوهّم كالمحقّق ‪ ،‬وتوهّم الرّبا كتحقّقه ‪ ،‬فل يجوز أن يكون‬
‫مع أحد النّقدين أو مع كلّ منهما غير نوعه ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال الحنفيّة عدا زفر ‪ ،‬صحّ بيع درهمين ودينار بدرهم ودينارين ‪ ،‬ويجعل كلّ جنس‬ ‫‪34‬‬

‫مقابلً بخلف جنسه ‪ ،‬فيكون في الحقيقة بيع درهمين بدينارين ‪ ،‬وبيع درهم بدينار ‪ ،‬وهما‬
‫ح العقد ‪.‬‬
‫جنسان مختلفان ‪ ،‬ول يشترط التّساوي فيهما ‪ ،‬فيص ّ‬
‫وقالوا في توجيه صحّة هذا العقد إنّ في صرف الجنس إلى خلفه تصحيح العقد ‪ ،‬وإلى جنسه‬
‫ن العقد يقتضي‬
‫صحّة أولى ‪ ،‬ول ّ‬
‫فساده ‪ ،‬ول معارضة بين الفاسد والصّحيح ‪ ،‬فحمل العقد على ال ّ‬
‫مطلق المقابلة من غير أن يتعرّض لمقيّد ‪ ،‬ل مقابلة الكلّ بالكلّ بطريق الشّيوع ‪ ،‬ول مقابلة‬
‫الفرد من جنسه ول من خلف جنسه فيحمل على المقيّد المصحّح عند تعذّر العمل بالطلق ‪.‬‬
‫ن المقابلة المطلقة تحمل الفرد بالفرد ‪ ،‬كما في مقابلة الجنس بالجنس وإنّه‬
‫قال في الهداية ‪ :‬إ ّ‬
‫طريق متعيّن لتصحيحه ‪ ،‬فيحمل عليه تصحيحا لتصرّفه ‪.‬‬
‫ي في توجيهه ‪ :‬إنّهما قصدا الصّلة ظاهرا ‪ ،‬فيحمل عليه تحقيقا لقصدهما ودفعا‬
‫وقال الموصل ّ‬
‫لحاجتهما ‪.‬‬
‫‪ -‬ونظير هذه المسألة ما إذا باع أحد عشر بعشرة دراهم ودينار فيجوز عند الحنفيّة وتكون‬ ‫‪35‬‬

‫العشرة بمثلها ‪ ،‬والدّينار بالدّرهم ‪ ،‬لنّ شرط البيع في الدّراهم التّماثل وهو موجود ظاهرا ‪ ،‬إذ‬
‫الظّاهر من حال البائع إرادة هذا النّوع من المقابلة حملً على الصّلح ‪ ،‬وهو القدام على العقد‬
‫الجائز دون الفاسد ‪ ،‬فبقي الدّرهم بالدّينار ‪ ،‬وهو جائز أيضا ‪ ،‬لنّهما جنسان ‪ ،‬ول يعتبر‬
‫التّساوي بينهما ‪.‬‬
‫النّوع الخامس ‪ :‬الصّرف على ال ّذمّة أو في ال ّذمّة ‪:‬‬
‫لهذا النّوع من الصّرف عدّة صور ‪:‬‬
‫‪ -‬الولى ‪ :‬أن تشتري من رجل دراهم بدينار في مجلس ‪ ،‬ثمّ استقرضت أنت دينارا من رجل‬ ‫‪36‬‬

‫آخر إلى جانبك ‪ ،‬واستقرض هو الدّراهم من رجل إلى جانبه ‪ ،‬فدفعت إليه الدّينار وقبضت‬
‫الدّراهم ‪.‬‬
‫ح الصّرف إذا تقابضا في المجلس لنّ‬
‫فذهب الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬إلى أنّه ‪ :‬ص ّ‬
‫القبض في المجلس يجري مجرى القبض عند العقد ‪.‬‬
‫ح الصّرف عندهم إذا كان نقد أحدهما حاضرا واستقرض الخر ‪.‬‬
‫وكذلك يص ّ‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن تسلّفا فالعقد فاسد ‪ ،‬لنّ تسلّفهما مظنّة الطّول المخلّ بالتّقابض ‪ ،‬وإن تسلّف‬
‫أحدهما وطال فكذلك ‪ ،‬وإن لم يطل جاز عند ابن القاسم ‪ ،‬ولم يجزه أشهب ‪.‬‬
‫قال الحطّاب ‪ :‬ولقّبت المسألة بالصّرف على ال ّذمّة ‪.‬‬
‫‪ -‬الصّورة الثّانية ‪ :‬أن يكون لرجل في ذمّة رجل ذهب وللخر عليه دراهم مثلً ‪ ،‬فاصطرفا‬ ‫‪37‬‬

‫بما في ذمّتيهما ‪ .‬ولقّبت هذه المسألة بالصّرف في ال ّذمّة ‪.‬‬


‫فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز هذا النّوع من الصّرف ‪ ،‬وعلّلوا عدم الجواز بأنّه بيع‬
‫دين بدين ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬ول يجوز ذلك بالجماع ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه ‪ » :‬نهى عن بيع الكالئ بالكالئ « وفسّر ببيع‬
‫وقد روي عن النّب ّ‬
‫الدّين بالدّين ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال الحنفيّة ‪ :‬صحّ بيع من عليه عشرة دراهم دين بدينار ممّن له عليه ‪ ،‬أي من دائنه ‪،‬‬ ‫‪38‬‬

‫فإذا كان لرجل على آخر عشرة دراهم دين ‪ ،‬فباعه الّذي عليه العشرة دينارا بالعشرة الّتي‬
‫عليه‪ ،‬ودفع الدّينار إليه فهو جائز ‪.‬‬
‫وتقع المقاصّة بين العشرتين بنفس العقد ‪ ،‬ول تحتاج إلى موافقة أخرى ‪.‬‬
‫ووجه الجواز أنّه جعل ثمنه دراهم ل يجب قبضها ‪ ،‬ول تعيّنها بالقبض ‪ ،‬لنّ التّعيين للحتراز‬
‫عن الرّبا ‪ ،‬أي ‪ :‬ربا النّسيئة ‪ ،‬ول ربا في دين سقط ‪ ،‬وإنّما الرّبا في دين يقع الخطر في‬
‫عاقبته‪.‬‬
‫أمّا إذا باع المدين الدّينار بعشرة مطلقة أي ‪ :‬بغير ذكر " دين عليه " ودفع البائع الدّينار‬
‫للمشتري فيصحّ ذلك إذا توافقا على مقاصّة العشرة بالعشرة استحسانا عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫والقياس أنّه ل يجوز ‪ ،‬وهو قول زفر ‪ ،‬لكونه تصرّفا في بدل الصّرف قبل قبضه ‪ ،‬ووجه‬
‫الستحسان أنّه بالتّقابض انفسخ العقد الوّل وانعقد صرف آخر مضاف إلى الدّين ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد صرّح الحنفيّة بأنّه إذا كان الدّينان من جنسين أو متفاوتين في الوصف أو مؤجّلين أو‬
‫أحدهما حا ًل والخر مؤجّلً أو أحدهما غّل ًة والخر صحيحا فل تقع المقاصّة إلّ إذا تقاصّا أي ‪:‬‬
‫اتّفقا على المقاصّة ‪ ،‬كما نقله ابن عابدين عن الذّخيرة ‪ .‬وإذا اختلف الجنس وتقاصّا ‪ ،‬كما لو‬
‫كان له عليه مائة درهم وللمديون مائة دينار عليه تصير الدّراهم قصاصا بمائة من قيمة‬
‫الدّنانير‪ ،‬ويبقى لصاحب الدّنانير على صاحب الدّراهم ما بقي منها ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا المالكيّة فقد فصّلوا في الموضوع وقالوا ‪ :‬إن وقع صرف دين بدين فإن تأجّل الدّينان‬ ‫‪39‬‬

‫عليهما ‪ ،‬بأن كان لحدهما على الخر دنانير مؤجّلة وللخر عليه دراهم كذلك ‪ ،‬سواء اتّفق‬
‫الجلن أم اختلفا ‪ ،‬وتصارفا قبل حلولهما بأن أسقط كلّ واحد منهما ما له على الخر في نظير‬
‫إسقاط الخر ما له عليه فإنّه ل يجوز لنّه يكون من بيع الدّين كما قال ابن رشد ‪.‬‬
‫كذلك ل يجوز إن تأجّل من أحدهما وحلّ الخر ‪ .‬قال البيّ في وجه عدم الجواز ‪ :‬إنّ الحقّ في‬
‫أجل دين النّقد للمدين وحده ‪ ،‬وليس للدّائن أخذه قبل أجله بغير رضا المدين ‪ .‬فإن تأجّل فقد‬
‫اشترى كلّ منهما ما عليه على أن ل يستحقّه حتّى يحلّ أجله ‪ ،‬فيقضيه من نفسه فقد تأخّر قبض‬
‫كلّ منهما ما اشتراه بالصّرف عن عقده بمدّة الجل ‪ ،‬وإن تأجّل من أحدهما فقد اشترى المدين‬
‫ي أجله ‪ ،‬فيقضيه من نفسه ‪ ،‬فقد‬
‫ق قبضه إلّ بعد مض ّ‬
‫المؤجّل ما هو عليه على أنّه ل يستح ّ‬
‫تأخّر قبضه عن صرفه بمدّة الجل ‪.‬‬
‫هذا في الصّرف الّذي يكون عندهم بين دينين من نوعين ذهب وفضّة ‪ .‬ونظيره ما قالوه في‬
‫المقاصّة الّتي تكون بين دينين متّحدي النّوع والصّنف وتفصيل أحكام المقاصّة في مصطلحها ‪.‬‬
‫‪ -‬الصّورة الثّالثة ‪ :‬اقتضاء أحد النّقدين من الخر ‪ ،‬بأن كان لك على آخر دراهم فتأخذ منه‬ ‫‪40‬‬

‫دنانير ‪ ،‬أو كانت عليه دنانير فتأخذ منه دراهم بسعر يومها ‪.‬‬
‫وهذا جائز عند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو مذهب الشّافعيّة في الجديد ‪ ،‬بشرط قبض البدل في‬
‫المجلس ‪.‬‬
‫وذلك لحديث ابن عمر ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬قال ‪ » :‬أتيت النّبيّ صلى ال عليه وسلم في بيت‬
‫حفصة ‪ ،‬فقلت يا رسول اللّه رويدك أسألك ‪ ،‬إنّي أبيع البل بالبقيع ‪ ،‬فأبيع بالدّنانير وآخذ‬
‫الدّراهم‪ ،‬وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير ‪ ،‬وآخذ هذه من هذه ‪ ،‬وأعطي هذه من هذه ‪ ،‬فقال رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ل بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء « ‪.‬‬
‫وهذا يدلّ على جواز الستبدال عن الثّمن الثّابت في ال ّذمّة ‪.‬‬
‫ل‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬وتوقّف أحمد فيما إن كان المقضيّ في ال ّذمّة مؤجّ ً‬
‫ي لنّ‬
‫وقال القاضي وهذا يحتمل وجهين ‪ :‬أحدهما المنع ‪ ،‬وهو قول مالك ومشهور قولي الشّافع ّ‬
‫ما في ال ّذمّة ل يستحقّ قبضه ‪ ،‬فكان القبض ناجزا في أحدهما ‪ ،‬والنّاجز يأخذ قسطا من الثّمن ‪.‬‬
‫والخر الجواز وهو قول أبي حنيفة ‪ ،‬لنّه ثابت في ال ّذمّة بمنزلة المقبوض ‪ ،‬فكأنّه رضي‬
‫بتعجيل المؤجّل ‪.‬‬
‫ل لجل تأجيل‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬والصّحيح الجواز إذا قضاه بسعر يومها ‪ ،‬ولم يجعل للمقضيّ فض ً‬
‫ما في ال ّذمّة ‪.‬‬
‫النّوع السّادس ‪ :‬صرف الدّراهم والدّنانير المغشوشة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء في الجملة على جواز المعاملة بالدّراهم والدّنانير المغشوشة إن راجت نظرا‬ ‫‪41‬‬

‫للعرف ‪ ،‬أمّا إذا بيعت بعضها ببعض مصارف ًة فقد فصّلوا صورها وأحكامها على النّحو التّالي ‪:‬‬
‫ن ما غلب ذهبه أو فضّته حكمهما حكم الذّهب والفضّة الخالصين ‪ ،‬وذلك لنّ‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫النّقود ل تخلو عن قليل غشّ للنطباع ‪ ،‬فل يصحّ بيع الخالص به ‪ ،‬ول بيع بعضه ببعض إلّ‬
‫متساويا وزنا ‪.‬‬
‫ح بيعه بالخالص إن كان‬
‫وما غلب عليه الغشّ منهما ففي حكم العروض اعتبارا للغالب ‪ ،‬فص ّ‬
‫الخالص أكثر ممّا في المغشوش ‪ ،‬ليكون قدره بمثله والزّائد بالغشّ ‪ .‬ويجوز كذلك صرفه‬
‫ضةً كلّ واحد منهما إلى‬
‫بجنسه متفاضلً وزنا وعددا بصرف الجنس لخلفه ‪ ،‬أي ‪ :‬بأن يصرف ف ّ‬
‫ش الخر ‪ ،‬وذلك بشرط التّقابض قبل الفتراق ‪ ،‬لنّه صرف في البعض لوجود الفضّة أو‬
‫غ ّ‬
‫الذّهب من الجانبين ‪ ،‬ويشترط في ‪ -‬الغشّ أيضا ‪ ، -‬لنّه ل تمييز إلّ بضرر ‪.‬‬
‫وإن كان الخالص مثل المغشوش ‪ ،‬أو أق ّل منه ‪ ،‬أو ل يدرى فل يصحّ البيع للرّبا في الوّلين ‪،‬‬
‫ولحتماله في الثّالث ‪ ،‬وللشّبهة في الرّبا حكم الحقيقة ‪.‬‬
‫وهذا النّوع ‪ ،‬أي ‪ :‬الغالب الغشّ ل يتعيّن بالتّعيين إن راج ‪ ،‬لثمنيّته حينئذ ‪ ،‬لنّه بالصطلح‬
‫صار أثمانا ‪ ،‬فما دام ذلك الصطلح موجودا ل تبطل الثّمنيّة ‪ .‬وإن لم يرج تعيّن بالتّعيين‬
‫كالسّلعة ‪ ،‬لنّها في الصل سلعة وإنّما صارت أثمانا بالصطلح ‪ ،‬فإذا تركوا المعاملة بها رجعت‬
‫ح المبايعة والستقراض بما يروج من الغالب الغشّ وزنا وعددا ‪ ،‬أو‬
‫إلى أصلها‪ .‬قالوا ‪ :‬وص ّ‬
‫بهما عملً بالعرف ‪ .‬أمّا المتساوي غشّه وفضّته ‪ ،‬أو ذهبه فكغالب الفضّة أو الذّهب في التّبايع‬
‫والستقراض‪ ،‬فلم يجز إلّ الوزن بمنزلة الدّراهم الرّديئة إ ّل إذا أشار إليهما ‪ ،‬فيكون بيانا لقدرها‬
‫ووصفها ‪.‬‬
‫أمّا في الصّرف فحكم متساوي الغشّ والفضّة أو الذّهب حكم ما غلب غشّه فيصحّ بيعه بجنسه‬
‫بصرف الجنس إلى خلف جنسه ‪ ،‬أي ‪ :‬بأن يصرف ما في كلّ منهما من الغشّ إلى ما في الخر‬
‫من الفضّة ‪.‬‬
‫ل عن الخانيّة ‪ :‬إن‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬وظاهره جواز التّفاضل ‪ -‬هنا أيضا ‪ -‬لكن قال الزّيلعيّ نق ً‬
‫ض ًة ل يجوز التّفاضل ‪ ،‬وظاهره أنّه أراد به فيما إذا بيعت بجنسها ‪.‬‬
‫كان نصفها صفرا ونصفها ف ّ‬
‫ق الصّرف احتياطا ‪.‬‬
‫ن كلّها فضّة في ح ّ‬
‫ووجهه أنّ فضّتها لمّا لم تصر مغلوبةً جعلت كأ ّ‬
‫‪ -‬وذهب المالكيّة ‪ :‬إلى جواز بيع نقد مغشوش ‪ ،‬كدنانير فيها فضّة أو نحاس ‪ ،‬أو دراهم‬ ‫‪42‬‬

‫فيها نحاس بمغشوش مثله مراطلةً أو مبادل ًة ‪ .‬قال الحطّاب ‪ :‬ظاهره ولو لم يتساو غشّهما ‪،‬‬
‫وهو ظاهر كلم ابن رشد ‪ .‬وجاز بيع نقد مغشوش بخالص من الغشّ على القول الرّاجح من‬
‫كلم المدوّنة وغيرها ‪.‬‬
‫والظهر عند ابن رشد خلفه ‪ ،‬أي ‪ :‬منع بيع النّقد المغشوش بالنّقد الخالص من الغشّ ‪ ،‬ونقل‬
‫البيّ عن التّوضيح بعد ذكر الخلف ‪ :‬أنّهم إنّما تكلّموا في المغشوش الّذي ل يجري بين النّاس‬
‫‪ .‬ويؤخذ من كلمهم جواز بيع المغشوش بصنفه الخالص إذا كان يجري بين النّاس ‪.‬‬
‫ش به بأن يدّخره‬
‫ويشترط لجواز بيع المغشوش ‪ :‬أن يباع لمن يكسره ليصيّغه حليّا ‪ ،‬أو ل يغ ّ‬
‫لعاقبة مثلً ‪.‬‬
‫ويكره بيعه لمن ل يؤمن غشّه به ‪ :‬كالصّيارفة ‪ ،‬وفسخ بيعه ممّن يعلم أنّه يغشّ به إن كان‬
‫قائما وقدّر عليه إلّ أن يفوت المغشوش ‪.‬‬
‫ل كان أم كثيرا ‪ ،‬لنّه‬
‫‪ -‬أمّا الشّافعيّة فقالوا ‪ :‬الغشّ المخالط في الموزون ممنوع مطلقا ‪ ،‬قلي ً‬ ‫‪43‬‬

‫يظهر في الوزن ويمنع التّماثل ‪ .‬فل تباع فضّة خالصة بمغشوشة ‪ ،‬ول فضّة مغشوشة بفضّة‬
‫مغشوشة ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬ل يجوز بيع الخالصة بالمغشوشة ‪ ،‬وإن ق ّل الغشّ ‪ ،‬سواء أكان الغشّ ممّا قيمته‬
‫قال السّبك ّ‬
‫ش ممّا قيمته باقية فبيع الخالصة‬
‫باقية أم ل ‪ ،‬ل خلف بين الصحاب في ذلك ‪ ،‬لنّه إن كان الغ ّ‬
‫بالمغشوشة هو بيع فضّة بفضّة وشيء ‪ ،‬فصار كمسألة " مدّ عجوة " ‪.‬‬
‫ولنّ الفضّة هي المقصودة ‪ ،‬وهي مجهولة غير متميّزة ‪ ،‬فأشبه بيع تراب الصّاغة واللّبن‬
‫المشوب بالماء ‪.‬‬
‫وأمّا المغشوشة بغشّ ل قيمة له باقية فللجهل بالمماثلة ‪ ،‬أو تحقّق المفاضلة ‪ ،‬فل يجوز بيعها‬
‫بالخالصة ‪ ،‬ول بالمغشوشة مثلها ‪.‬‬
‫ي عن صاحب التّحفة في المغشوشة ‪ :‬أنّه يكره أخذها وإمساكها إذا كان النّقد الّذي‬
‫ونقل السّبك ّ‬
‫ن ذلك يتضمّن تغرير النّاس فلو كان جنس النّقد مغشوشا فل كراهة ‪.‬‬
‫في أيدي النّاس خالصا ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل مستهلكا بحيث ل يأخذ حظّا من‬
‫قال السّبكيّ ‪ :‬وأفاد الرّويانيّ ‪ -‬أيضا ‪ -‬أنّ الغشّ لو كان قلي ً‬
‫الورق فل تأثير له في إبطال البيع ‪ ،‬لنّ وجوده كعدمه ‪ .‬وقد قيل ‪ :‬يتعذّر طبع الفضّة إذا لم‬
‫يخالطها خلط من جوهر آخر ‪ ..‬قلت ‪ :‬وذلك صحيح ‪ ،‬وقد بلغني أنّ بعض البلد في هذا الزّمان‬
‫‪ -‬زمان السّبكيّ ‪ -‬ضربت الفضّة خالص ًة فتشقّقت ‪ ،‬فجعل فيها في كلّ ألف درهم مثقالً من‬
‫ذهب فانصلحت ‪ ،‬لكنّ مثل هذا إذا بيع ل يظهر في الميزان ما معه من الغشّ ‪.‬‬
‫وك ّل ما ذكر في الفضّة يأتي في الذّهب حرفا بحرف ‪.‬‬
‫‪ -‬وفصّل الحنابلة في بيع الثمان المغشوشة بمثلها بين ما يكون الغشّ فيه متساويا ومعلوم‬ ‫‪44‬‬

‫المقدار وما يكون الغشّ فيه غير متساو أو غير معلوم المقدار فقالوا بجواز بيع المغشوش‬
‫بمثله في الوّل وعدم جوازه في الثّاني ‪.‬‬
‫قال البهوتيّ ‪ :‬الثمان المغشوشة إذا بيعت بغيرها ‪ ،‬أي ‪ :‬بأثمان خالصة من جنسها لم يجز ‪،‬‬
‫للعلم بالتّفاضل ‪ ،‬وإن باع دينارا أو درهما مغشوشا بمثله ‪ ،‬والغشّ في الثّمن والمثمّن متفاوت ‪،‬‬
‫أو غير معلوم المقدار لم يجز ‪ ،‬لنّ الجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل ‪.‬‬
‫وإن علم التّساوي في الذّهب الّذي في الدّينار ‪ ،‬وعلم تساوي الغشّ الّذي فيهما جاز بيع أحدهما‬
‫بالخر ‪ ،‬لتماثلهما في المقصود وهو الذّهب ‪ ،‬وفي غيره ‪ ،‬أي ‪ :‬الغشّ وليست من مسألة " مدّ‬
‫عجوة " ‪ ،‬لكون الغشّ غير مقصود ‪ ،‬فكأنّه ل قيمة له كالملح في الخبز ‪.‬‬
‫ن النّقود تتعيّن بالتّعيين في العقود فيثبت الملك في أعيانها ‪،‬‬
‫والمشهور في مذهب الحنابلة ‪ :‬أ ّ‬
‫فعلى هذا إذا تبايعا ذهبا بفضّة فوجد أحدهما بما قبضه غشّا من غير جنس المبيع مثل ‪ :‬أن يجد‬
‫الدّراهم رصاصا ‪ ،‬أو نحاسا ‪ ،‬أو فيها شيء من ذلك فالصّرف باطل ‪ ،‬لنّه باعه غير ما سمّى‬
‫له‪ .‬وإذا كان العيب من جنسه مثل ‪ :‬كون الفضّة سوداء ‪ ،‬أو خشنةً ‪ ،‬أو سكّتها غير سكّة‬
‫السّلطان فالعقد صحيح ‪ ،‬والمشتري مخيّر بين المساك وبين فسخ العقد ‪.‬‬
‫النّوع السّابع ‪ :‬الصّرف بالفلوس ‪:‬‬
‫‪ -‬الفلوس هي النّحاس ‪ ،‬أو الحديد المضروب الّذي يتعامل بها ‪ .‬فهي المسكوك من غير‬ ‫‪45‬‬

‫الذّهب والفضّة ‪.‬‬


‫واتّفق الفقهاء على جواز البيع بالفلوس ‪ ،‬لنّها أموال متقوّمة معلومة ‪ ،‬فإن كانت كاسدةً يجب‬
‫تعيينها ‪ ،‬لنّها عروض ‪ ،‬وإن كانت نافقةً لم يجب لنّها من الثمان كالذّهب والفضّة ‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء فيما إذا صرفت الفلوس النّافقة بالدّراهم والدّنانير نسا ًء ‪ ،‬أو صرفت الفلوس‬
‫ل ‪ .‬ولهم في ذلك اتّجاهان ‪:‬‬
‫بالفلوس تفاض ً‬
‫التّجاه الوّل ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة والحنفيّة ‪ -‬عدا محمّد ‪ -‬والحنابلة في المشهور ‪ ،‬وهو قول القاضي في‬ ‫‪46‬‬

‫الجامع وابن عقيل والشّيرازيّ وصاحب المستوعب وغيرهم إلى ‪ :‬أنّه ل ربا في فلوس يتعامل‬
‫بها عددا ولو كانت نافقةً ‪ ،‬لخروجها عن الكيل والوزن ‪ ،‬وعدم ال ّنصّ والجماع في ذلك كما قال‬
‫البهوتيّ ‪ ،‬ولنّ علّة حرمة الرّبا في الذّهب والفضّة الثّمنيّة الغالبة الّتي يعبّر عنها ‪ -‬أيضا ‪-‬‬
‫بجوهريّة الثمان ‪ ،‬وهي منتفية عن الفلوس وإن راجت ‪ ،‬كما قال الشّافعيّة ‪.‬‬
‫واعتبر الشّافعيّة الفلوس من العروض وإن كانت نافقةً ‪ .‬ووجّهه الحنفيّة ‪ :‬بأنّ علّة الرّبا هي‬
‫القدر مع الجنس ‪ ،‬وهو الكيل أو الوزن المتّفق عند اتّحاد الجنس والمجانسة وإن وجدت هاهنا‬
‫ن الفلوس تباع بالعدد ‪ ،‬وهذا إذا وقع البيع بأعيانها ‪.‬‬
‫فلم يوجد القدر ل ّ‬
‫وعلى ذلك فيجوز بيع الفلوس بعضها ببعض متفاضلً ‪ ،‬كما يجوز بيع بيضة ببيضتين ‪ ،‬وجوزة‬
‫بجوزتين ‪ ،‬وسكّين بسكّينين ‪ ،‬ونحو ذلك إذا كان يدا بيد ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد فصّل الحنفيّة في الموضوع فقالوا ‪ :‬يجوز بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما عند أبي‬
‫حنيفة وأبي يوسف إذا لم يكن كلهما أو أحدهما دينا ‪ ،‬لنّ الثّمنيّة في حقّهما تثبت‬
‫باصطلحهما‪ ،‬إذ ل ولية للغير عليها ‪ ،‬فتبطل باصطلحهما ‪ ،‬وإذا بطلت الثّمنيّة تتعيّن‬
‫بالتّعيين ‪ ،‬ول يعود وزنيّا لبقاء الصطلح على العدّ ‪.‬‬
‫وقال محمّد ‪ :‬ل يجوز لنّ الثّمنيّة تثبت باصطلح الكلّ فل تبطل باصطلحهما ‪ ،‬وإذا بقيت أثمانا‬
‫ل تتعيّن ‪ ،‬فصار كما إذا كانا بغير أعيانهما كبيع الدّرهم بالدّرهمين ‪.‬‬
‫قال ابن الهمام ‪ :‬صور بيع الفلس بجنسه أربع ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬أن يبيع فلسا بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما فل يجوز ‪ ،‬لنّ الفلوس الرّائجة أمثال‬
‫متساوية ‪ -‬قطعا ‪ -‬لصطلح النّاس على سقوط قيمة الجودة منها ‪ ،‬فيكون أحدهما فضلً خاليا‬
‫مشروطا في العقد وهو الرّبا ‪.‬‬
‫الثّانية ‪ :‬أن يبيع فلسا بعينه بفلسين بغير عينهما فل يجوز ‪ -‬أيضا ‪ -‬وإلّ أمسك البائع الفلس‬
‫المعيّن وقبضه بعينه منه مع فلس آخر ‪ ،‬لستحقاقه فلسين في ذمّته ‪ ،‬فيرجع إليه عين ماله ‪،‬‬
‫ويبقى الفلس الخر خاليا عن العوض ‪.‬‬
‫الثّالثة ‪ :‬أن يبيع فلسين بأعيانهما بفلس بغير عينه فل يجوز كذلك ‪ ،‬لنّه لو جاز لقبض‬
‫المشتري الفلسين ‪ ،‬ودفع إليه أحدهما مكان ما استوجب عليه ‪ ،‬فيبقى الخر فضلً بل عوض‬
‫ق بعقد البيع ‪ ،‬وهذا إذا رضي بتسليم المبيع قبل قبض الثّمن ‪.‬‬
‫استح ّ‬
‫الرّابعة ‪ :‬أن يبيع فلسا بعينه بفلسين بعينهما ‪ ،‬فيجوز خلفا لمحمّد ‪.‬‬
‫التّجاه الثّاني ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة في الرّاجح عندهم ‪ -‬وهو رواية عند الحنابلة ‪ ،‬جزم بها أبو الخطّاب في‬ ‫‪47‬‬

‫خلفه ‪ ،‬وهو قول محمّد من الحنفيّة ‪ -‬إلى ‪ :‬أنّه ل يجوز بيع الفلوس بعضها ببعض متفاضلً‬
‫ول نسا ًء ‪ ،‬ول بيعها بالذّهب أو الفضّة نسا ًء ‪.‬‬
‫ففي المدوّنة ‪ :‬أرأيت إن اشتريت خاتم فضّة أو ذهب أو تبر ذهب بفلوس فافترقنا قبل أن‬
‫نتقابض؟ قال ‪ :‬ل يجوز لنّ مالكا قال ‪ :‬ل يجوز فلس بفلسين ول تجوز الفلوس بالذّهب‬
‫والفضّة ول بالدّنانير نظر ًة ‪.‬‬
‫ونقل ابن وهب عن يحيى بن سعيد وربيعة أنّهما كرها الفلوس بالفلوس بينهما فضل أو نظرة ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬إنّها صارت س ّكةً مثل سكّة الدّنانير والدّراهم وحمل بعضهم الكراهة على التّحريم ‪.‬‬
‫ن الفلوس أثمان فل يجوز بيعها بجنسها‬
‫واستدلّ الحنفيّة لقول محمّد بعدم الجواز ‪ -‬أيضا ‪ -‬بأ ّ‬
‫متفاضلً ‪ ،‬كالدّراهم والدّنانير ‪ ،‬ودللة الوصف عبارة عمّا تقدّر به ماليّة العيان ‪ ،‬وماليّة‬
‫العيان كما تقدّر بالدّراهم والدّنانير تقدّر بالفلوس ‪ -‬أيضا ‪ -‬فكانت أثمانا ‪ ،‬والثّمن ل يتعيّن‬
‫بالتّعيين عند الحنفيّة فالتحق التّعيين فيهما بالعدم ‪ .‬فل يجوز بيع فلس بفلسين بأعيانهما ‪ ،‬كما‬
‫ل يجوز بغير أعيانهما ‪ .‬ولنّها إذا كانت أثمانا فالواحد يقابل الواحد ‪ ،‬فبقي الخر فضل مال ل‬
‫ي‪.‬‬
‫يقابله عوض في عقد المعاوضة ‪ ،‬وهذا تفسير الرّبا ‪ ،‬كما حرّره الكاسان ّ‬
‫وقال ابن تيميّة ‪ :‬الظهر المنع من ذلك ‪ ،‬فإنّ الفلوس النّافقة يغلب عليها حكم الثمان ‪ ،‬وتجعل‬
‫معيارا لموال النّاس ‪ .‬ولهذا ينبغي للسّلطان أن يضرب لهم فلوسا تكون بقيمة العدل في‬
‫معاملتهم من غير ظلم لهم ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وتفصيل التّعامل بالفلوس وأحكامها في مصطلح ‪ ( :‬فلوس ) ‪.‬‬
‫ظهور عيب أو نقص في بدل الصّرف ‪:‬‬
‫ن الصّرف ل يقبل خيار الشّرط لنّ الخيار يمنع ثبوت الملك أو تمامه‪،‬‬
‫‪ -‬لقد سبق القول ‪ :‬بأ ّ‬ ‫‪48‬‬

‫وذلك مخلّ بالقبض المشروط ‪.‬‬


‫أمّا خيار العيب فل يمنع تمام العقد فيثبت في الصّرف ‪ ،‬لنّ السّلمة عن العيب مطلوبة عادةً‬
‫ففقدانها يوجب الخيار كسائر البياعات ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وللفقهاء في الموضوع تفصيل نذكره فيما يلي ‪:‬‬
‫ن بدل الصّرف إذا كان عينا فردّه بالعيب يفسخ العقد ‪ ،‬سواء أكان الرّدّ في‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫المجلس أو بعد الفتراق ‪ ،‬ويرجع على البائع بما نقد ‪ ،‬وإن كان دينا بأن وجد الدّراهم‬
‫المقبوضة زيوفا أو كاسدةً ‪ ،‬أو وجدها رائجةً في بعض التّجارات دون البعض ‪ -‬وذلك عيب عند‬
‫ي الصّرف ‪.‬‬
‫التّجارة ‪ -‬فردّها في المجلس ينفسخ العقد بالرّدّ ‪ ،‬حتّى لو استبدل مكانه مض ّ‬
‫وإن ردّها بعد الفتراق بطل الصّرف عند أبي حنيفة وزفر ‪ ،‬لحصول الفتراق ل عن قبض ‪،‬‬
‫وعند أبي يوسف ‪ ،‬ومحمّد ل يبطل إذا استبدل في مجلس الرّدّ ‪.‬‬
‫وإذا ظهر العيب في بعضه فر ّد المعيب في المردود انتقض الصّرف في المردود ‪ ،‬وبقي في‬
‫غيره‪ ،‬لرتفاع القبض فيه فقط ‪.‬‬
‫ومثله ما ذكره المالكيّة بعبارة مختلفة وتفصيل حيث قالوا ‪ :‬إن وجد أحدهما عيبا في دراهمه ‪،‬‬
‫أو دنانيره من نقص أو غشّ ‪ ،‬أو غير فضّة ول ذهب كرصاص ونحاس ‪ ،‬فإن كان بالحضرة‬
‫من غير مفارقة ول طول جاز له الرّضا وصحّ الصّرف وطلب التمام في النّاقص أو البدل في‬
‫الغشّ والرّصاص فيجبر عليه من أباه إن لم تعيّن الدّنانير والدّراهم من الجانبين ‪.‬‬
‫ح الصّرف ‪ ،‬وإ ّل نقض ‪،‬‬
‫وإن كان بعد مفارقة ‪ ،‬أو طول في المجلس فإن رضي بغير النّقص ص ّ‬
‫وأخذ ك ّل منهما ما خرج من يده ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو وقع الصّرف على العين على أنّها فضّة أو ذهب ‪ ،‬وخرج أحدهما أو كلهما‬
‫نحاسا بطل العقد ‪ ،‬لنّه بان أنّه غير ما عقد عليه ‪ ،‬وإن خرج بعضه نحاسا ‪ ،‬أو نحوه صحّ‬
‫العقد في الباقي دونه بالقسط ‪ ،‬ولصاحب الباقي الخيار بين الجازة والفسخ ‪ .‬وإن خرج كلّه أو‬
‫ن العقد ورد على عينه فل يتجاوزه الحقّ إلى غيره ‪.‬‬
‫بعضه معيبا تخيّر ولم يستبدل ‪ ،‬ل ّ‬
‫وإن وقع الصّرف على ما في ال ّذمّة فخرج أحدهما أو كلهما نحاسا قبل التّفرّق استبدل به ‪ .‬وإن‬
‫خرج نحاسا بعد التّفرّق بطل العقد لعدم التّقابض ‪ .‬وإن خرج كلّه أو بعضه معيبا استبدل في‬
‫ن الثمان تتعيّن بالتّعيين عندهم وسيأتي‬
‫مجلس الرّ ّد ‪ ،‬وإن فارق مجلس العقد ‪ .‬وهذا بناءً على أ ّ‬
‫تفصيله في الفقرة التّالية ‪.‬‬
‫ومثله ما ذكره الحنابلة حيث قالوا ‪ :‬إن ظهر عيب في جميع أحد العوضين ولو يسيرا من غير‬
‫جنسه كنحاس في الدّراهم والمسّ في الذّهب بطل العقد ‪ ،‬لنّه باعه غير ما سمّى له ‪ .‬وإن ظهر‬
‫في بعضه بطل العقد فيه فقط ‪ ،‬وهذا إذا كان الصّرف عينا بعين ‪ ،‬بأن يقول ‪ :‬بعتك هذه الدّراهم‬
‫بهذه الدّنانير ويشير إليهما وهما حاضران ‪ .‬والعيب من غير جنس المبيع كما قال ابن قدامة ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان من جنس المبيع مثل ‪ :‬كون الفضّة سوداء ‪ ،‬أو خشنةً ‪ ،‬فالعقد صحيح ‪ ،‬والمشتري‬
‫مخيّر بين المساك وبين فسخ العقد والرّ ّد ‪ ،‬وليس له البدل ‪ ،‬لنّ العقد واقع على عينه ‪ ،‬فإذا‬
‫أخذ غيره أخذ ما لم يشتر ‪.‬‬
‫وإن وقع العقد بغير عينه كأن يقول ‪ :‬بعتك دينارا مصريّا بعشرة دراهم يصحّ ‪ ،‬لكن ل ب ّد من‬
‫تعيينهما بالتّقابض في المجلس ‪ ،‬وإذا تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا قبل التّفرّق فله‬
‫ن العقد وقع على مطلق ل‬
‫المطالبة بالبدل ‪ ،‬سواء أكان العيب من جنسه أم من غير جنسه ‪ ،‬ل ّ‬
‫عيب فيه فله المطالبة بما وقع عليه العقد ‪ ،‬وإن رضيه بعيبه والعيب من جنسه جاز ‪ ،‬وإن أخذ‬
‫الرش فإن كان العوضان من جنس واحد لم يجز لفضائه إلى التّفاضل فيما يشترط فيه التّماثل ‪.‬‬
‫وإن كانا من جنسين جاز ‪.‬‬
‫تعيّن النّقود بالتّعيين في الصّرف ‪:‬‬
‫ن الدّراهم‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في المذهب ‪ -‬إلى ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪49‬‬

‫والدّنانير تتعيّن بالتّعيين بمعنى أنّه يثبت الملك بالعقد فيما عيّناه ‪ ،‬ويتعيّن عوضا فيه ‪ ،‬فل يجوز‬
‫استبداله كما في سائر العواض ‪ ،‬وإن خرج مغصوبا بطل العقد ‪ ،‬وهذا لنّ الدّراهم والدّنانير‬
‫عوض في عقد فيتعيّن بالتّعيين كسائر العواض ‪ ،‬ولنّ للمتبايعين غرضا في التّعيين ‪ ،‬فل بدّ‬
‫أن يكون له أثر ‪ ،‬ولهذا لو اشترى ذهبا بورق بعينهما فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا من جنسه‬
‫فله الخيار بين أن ير ّد أو يقبل ‪ ،‬وليس له البدل كما سبق ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة وكذا الحنابلة في رواية ‪ :‬إنّ الثمان النّقديّة ل تتعيّن بالتّعيين أي ‪ :‬إنّ البدلين في‬
‫الصّرف ل يتعيّنان بالتّعيين ‪ ،‬فلو تبايعا دراهم بدينار جاز أن يمسكا ما أشارا إليه في العقد‬
‫ويؤدّيا بدله قبل الفتراق ‪.‬‬
‫وذلك لنّ الثّمن في اللّغة اسم لما في ال ّذمّة كما نقل عن الفرّاء ‪ ،‬فلم يكن محتملً للتّعيين‬
‫بالشارة ‪ ،‬ولهذا يجوز إطلق الدّراهم والدّنانير في الصّرف بغير الشارة ‪.‬‬
‫وعلى ذلك يجوز إبدالها ‪ ،‬ول يبطل العقد بخروجها مغصوبةً ‪.‬‬

‫الموسوعة الفقهية ‪ /‬نهاية الجزء السادس والعشرين‬


‫******‬

You might also like