Professional Documents
Culture Documents
إسود وردي لمصطفى ذكري
إسود وردي لمصطفى ذكري
يقول الكاتب األيرلندي صمويل بيكيت في إحدى رسائله" :الحظت أنني كنت دو ًما
قارئًا سيئًا ،غير منتبه بشكل ال يمكن عالجه ،أبحث عن شيء في مكان آخر .وأعتقد
أنه يمكنني القول ،بدون نية التناقض ،إن خبرات القراءة التي أثرت في بشكل أكبر
كانت تلك التي أرسلتني بشكل أفضل إلى هذا المكان اآلخر".
بعيدًا عن وصف بيكيت لنفسه بعدم االنتباه ،فنوعية رواية "إسود وردي" لمصطفى
ذكري ،الصادرة حديثًا عن دار الكرمة ،هي نوعية تنجح في إرسال قارئها طوال
الوقت إلى أماكن أخرى ،فتبتعد الرواية عن أن تكون ً
عمال مغلقًا على ذاته ،ينفصل
فيه القاريء عن العالم أو عن ثقافته السابقة لينغمس فيها ،وإنما هي دو ًما تحيله إلى
مشاعر وأعمال أدبية أخرى.
وأول تلك األعمال هنا هي أعمال مصطفى ذكري نفسه ،التي يستعين بها ذكري
كملهم لعمله الحالي ،وتتكرر في الرواية جمل وفقرات صادفها قاريء ذكري في
كتبه "مرآة ،"202و"الرسائل" ،واليوميات بجزئيها "على أطراف األصابع"
ضا ،فمسرحية بيكيت "في انتظار جودو" و"حطب معدة رأسي" .هذه سمة بيكيتية أي ً
ً
مثال استعانت بشكل كبير بأعمال بيكيت الروائية السابقة.
ضا في الرواية؛ يصف ذكري ضحكتي شخصيتي "سعد الدين يحضر نيتشه أي ً
عمران" ،و"عايدة الضمراني" في نهاية الرواية بالضحك ال َم ِرح النيتشوي .ال َم َرح
النيتشوي يتحقق في الرواية عن طريق تسمية الكتاب النادر الذي تدور حوله
األحداث بـ "خسوف كلي" وهو كتاب من تأليف "جاليليو جاليلي" وترجمة "عبود
شيخ األرض" .وأثناء استعادة الشخصيتين لذكرياتهما مع أمينة المكتبة التي كانا
يستعيران منها الكتاب ،أخذا صفحتين من الرواية يستعيدان فيهما أسماء بنات األمينة
"شيكو" و"بيكو" و"ريكو" .نحن هنا ال نتحدث عن عمل يتسم بالرصانة رغم عدم
يسره في القراءة ،وإنما عمل يتسم بالخفة والرغبة في الرقص النيتشوي.
يُخ َِرب ذكري أي محاولة إلضفاء األهمية على أحداث الرواية أو دوافع الشخصيات،
فحوار خالد وكريمة في بداية الرواية عن كتاب "خسوف كلي" ،يتخلله تحذير خالد
لكريمة من أن تناول الحلويات سيجعلها بدينة .وكذلك نقاش "حفظي" مع "قطة
العدوي" عن القضية المتورط فيه األخير ويتخلله حديث عن خواء ثالجة قطة.
ضا حاضر بقوة في الرواية ،بداية من طبيعة حديث شخصية "مجدي" مع كافكا أي ً
"كريمة" عن التنظيم الذي تقوم بعملية "تسليم شنطة" في إطاره ،فهو يشرح لها
طبيعة المؤسسة التي يعمالن لحسابها ملم ًحا إلى كونها مؤسسة بال شكل واضح
تسيطر على عمالئها" :يعني في أوامر مثال إنك تاخدي الشنطة وتسلميها لفالن
الفالني ،لكن إيه اللي يحصل لو ما عملتيش كده ..هنا الغموض ..المسألة مش مسألة
تهديد ..لكن الحقيقة إنه مفيش حاالت لعصيان أوامر في تاريخ التنظيم ..األدهى من
ده إن ُمنظرين كتير من أتباع التنظيم سدوا الثغرة ديه ..وقالوا إن التنظيم أو الهيئة أو
المؤسسة حطت في اعتباره من البداية احتمال العصيان أو الخطأ وسابت هامش كبير
من الفشل في كل عملية بتقوم فيها".
الكافكاوية حاضرة هنا في وصف تنظيم هالمي ،تتحرك بداخله كريمة .باإلضافة إلى
ذلك يحكي مجدي حكاية موظف خالف تعليمات مهمته ،وقرر أنه يجب أن يتلقى
العقاب ،فحصل على أحد عناوين المؤسسة وطلب الدخول ومنعه البواب .الموظف
في األصل لم يكن يعرف ما الذي يسأل عنه .وهذا يحيلنا مباشرة إلى أمثولة "أمام
القانون" التي حكاها القس لجوزيف ك .في رواية "المحاكمة" لكافكا ،عن الرجل
الواقف أمام بوابة القانون ويمنعه البواب من الدخول لسنوات ،رغم أننا نعرف في
النهاية أن هذه البوابة مخصصة له وحده.
الموظف في رواية ذكري كان شخصية ظهرت في الرواية وهو "قطة العدوي"،
ويحكي مشهد في الرواية عن خال "قطة" الذي يعرف أن ابن أخته متورط في قضية
ضا فعل
كبيرة ،ال مالمح واضحة لها ،فيقرر اصطحابه إلى محام كبير .العم كارل أي ً
الشيء نفسه في رواية "المحاكمة" عندما عرف بقضية جوزيف ك.
يشير ذكري في حوار له مع موقع بوابة التحرير ،أجراه محمد سرساوي ،أنه كتب
الرواية بأسلوب سينمائي .واإلحاالت السينمائية حاضرة بالفعل ،فالحوارات الثنائية،
التي تكرر فيها مشهد "الكافيه" ،تستدعي فيلم "قهوة وسجائر" للمخرج جيم
جارموش ،إلى جانب محاولة ذكري كتابة مشاهد جريمة قد تحيلنا لهيتشكوك ،وإن
كانت خالية من اإلثارة التي تحتويها تلك األفالم.
الرواية التي تستخدم الصورة وتصف األصوات بطريقة قريبة من المشاهد السينمائية
عا من التماسك الذي يتحقق بشكل ما في أفالم ذكري نفسها ،فالشخصيات ال تحمل نو ً
غير موجودة ،وال يربط بينها إال الكتاب الذي استعاروه في أوقات زمنية مختلفة.
وربما يرتبط هذا بسيطرة شعور "غياب االكتمال" في الرواية ،فنحن نعرف عن
"خالد" أنه "رجل بدايات عظيم" ولكنه يبدد طاقته في البداية ،بحيث ال تكون هناك
إمكانية لإلكمال ،أو الوصول للنهاية ،و"النهاية" هي الكلمة التي يعتبرها خالد غير
مالئمة ويطمح في كلمة أفضل .خالد في حديثه عن النقص وحمى البداية ال يبتعد
كثيرا عن شخصية ذكري نفسه ،خاصة أن حديث "رجل البدايات" مقتبس من أعمال
سابقة له ،ويكرره في يومياته.
إن كنا نتحدث عن كمية اإلحاالت من خارج الرواية فهذا ال يعني اختفاء ذكري
كروائي ،فذكري حاضر دائ ًما بعمله الكامل السابق .وإذا كنا نستدعي في الرواية
ضا،
أسماء مثل كافكا وبيكيت ونيتشه وهيتشكوك وجارموش ،فنحن نستدعي ذكري أي ً
ونتعامل معه ككاتب كبير ،بمعنى أن القاريء يحتاج إلى االطالع على أعماله السابقة
للتعاطي مع هذه الرواية.