You are on page 1of 576

‫الن�سخة رقم ‪ - 14‬يخ�ص املوقع الإليكرتوين ‪1437/9/8 -‬هـ‬

‫ح ؛ د‪.‬عبداحلليم بن عبدالعزيز �أ�سمان مازي ‪1437 ،‬هـ‬


‫فهر�سة مكتبة امللك فهد الوطنية �أثناء الن�شر‬

‫مازي ‪ ،‬عبداحلليم بن عبدالعزيز‬


‫خمتارات من خطب اجلمعة التي �أعدها و�ألقاها ف�ضيلة ال�شيخ الأ�ستاذ الدكتور ‪ /‬عبد‬
‫ال�سالم بن حممد ال�شويعر ‪ / ،‬عبداحلليم بن عبدالعزيز مازي ‪ -‬املدينة املنورة ‪1437‬هـ‬

‫‪� 576‬ص ؛ ‪ 297 × 210‬مم‬

‫ردمك ‪978-603-02-1424-2 :‬‬

‫‪ -1‬خطب اجلمعة ‪ -2‬الوعظ والإر�شاد‬

‫العنوان‪ 7921 :‬ب�سر بن �سعد ‪ -‬مهزور ‪ -‬املدينة املنورة ‪3988 -42319‬‬

‫ديوي ‪:‬‬
‫رقم الإيداع ‪1437/6469 :‬‬
‫ردمك ‪978-603-02-1424-2 :‬‬

‫الطبعة الأوىل ( ‪1437‬هـ ‪2016-‬م)‬


#
‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫تقديم‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني وال�صالة وال�سالم على �سيد املر�سلني نبينا حممد‬
‫‪s‬وعلى �آله و�صحبه �أجمعني‪� ،‬أما بعد‬

‫فيقول اهلل عزوجل يف حمكم التنزيل‪:‬‬


‫هَّ‬
‫الل َو َذ ُروا ا ْل َب ْي َع َذ ِل ُك ْم َخ رْ ٌ‬
‫ي‬ ‫ } َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ �آَ َم ُنوا �إِ َذا ُنو ِد َي ِلل�صَّلاَ ِة ِمنْ َي ْو ِم الجْ ُ ُم َع ِة َف ْ‬
‫ا�س َع ْوا �إِ ىَل ِذ ْك ِر ِ‬
‫َل ُك ْم ِ�إنْ ُك ْنت ُْم َت ْع َل ُمونَ {‪ ،‬ويقول امل�صطفى ‪َ « :s‬خ رْ ُي َي ْو ٍم َط َل َع ْت َع َل ْي ِه ال�شَّ ْم ُ�س َي ْو ُم الجْ ُ ُم َع ِة » رواه م�سلم‪.‬‬

‫ وقال ر�سول اهلل‪�ِ « :s‬إنَّ ِمنْ �أَ ْف َ�ض ِل �أَ َّي ِام ُك ْم َي ْو َم الجْ ُ ُم َع ِة ِفي ِه ُخ ِلقَ �آ َد ُم‪َ ،‬و ِفي ِه ُق ِب َ�ض‪َ ،‬و ِفي ِه ال َّن ْف َخ ُة‪َ ،‬و ِفي ِه‬
‫و�ض ٌة َع َل َّى » رواه �أبو داود والن�سائي وابن ماجه‪.‬‬ ‫ال�صَّ ْع َق ُة َف�أَ ْك رِ ُثوا َع َل َّى ِمنَ ال�صَّ َال ِة ِفي ِه َف ِ�إنَّ َ�ص َال َت ُك ْم َم ْع ُر َ‬

‫ومن ف�ضائل يوم اجلمعة‪:‬‬


‫ •�أنه يوم عيد متكرر‪ :‬ف ُيكره �صومه منفرد ًا؛ خمالف ًة لليهود والن�صارى‪.‬‬

‫ •�أنه يوم املزيد‪ ،‬يتجلى اهلل فيه للم�ؤمني يف اجلنة‪ ،‬قال تعاىل } َو َل َد ْي َنا َم ِزي ٌد{ قال �أن�س ر�ضي اهلل عنه‬
‫(يتجلى لهم يف كل جمعة ) رواه البزار َوابن �أبي حامت والاللكائي‪.‬‬

‫ •�أنه خري الأيام قال ‪{ s‬خري يوم طلعت عليه ال�شم�س يوم اجلمعة}‬
‫�أن فيه �ساعة الإجابة‪ :‬قال‪ { :‬فيه �ساعة ال يوافقها عبد م�سلم‪ ،‬وهو قائم ُي�صلي ي�س�أل اهلل ‪ -‬تعاىل ‪� -‬شيئ ًا‬
‫�إال �أعطاه �إياه ) رواه البخاري وم�سلم‪.‬‬

‫ •ف�ضل الأعمال ال�صاحلة فيه‪ :‬قال ر�سول اهلل‪ { :s‬خم�س من عملهن يف يوم كتبه اهلل من �أهل اجلنة‪:‬‬
‫من عاد مري�ض ًا‪ ،‬و�شهد جنازة‪ ،‬و�صام يوم ًا‪ ،‬وراح �إىل اجلمعة‪ ،‬و�أعتق رقبة } رواه ابن حبان وقال‬
‫الهيثمي‪ :‬رجاله ثقات‪.‬‬

‫ا�ست ََطا َع‬ ‫ •�أنه يوم ُتكفر فيه ال�سيئات‪ :‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل ‪ { :s‬اَل َي ْغت َِ�س ُل َر ُج ٌل َي ْو َم الجْ ُ ُم َع ِة َو َيت ََط َّه ُر َما ْ‬
‫ِمنْ ُط ْه ٍر َو َي َّد ِهنُ ِمنْ د ُْه ِن ِه �أَ ْو مَ َي ُّ�س ِمنْ ِط ِ‬
‫يب َب ْي ِت ِه ُث َّم َي ْخ ُر ُج َفلاَ ُي َف ِّر ُق َبينْ َ ا ْث َنينْ ِ ُث َّم ُي َ�ص ِّلي َما ُك ِت َب َل ُه ُث َّم‬
‫الُ ْخ َرى } رواه البخاري‪.‬‬ ‫ال َم ُام ِ�إ اَّل ُغ ِف َر َل ُه َما َب ْي َن ُه َو َبينْ َ الجْ ُ ُم َع ِة ْ أ‬
‫ُي ْن ِ�ص ُت ِ�إ َذا َت َك َّل َم ِْ إ‬

‫ •�أن للما�شي �إىل اجلمعة �أجر عظيم‪ :‬قال ر�سول اهلل‪َ « :s‬منْ َغ َّ�س َل َي ْو َم الجْ ُ ُم َع ِة َو ْاغت ََ�س َل ُث َّم َب َّك َر َوا ْب َت َك َر‬
‫ا�س َت َم َع َو مَْل َي ْل ُغ َكانَ َل ُه ِب ُك ِّل ُخ ْط َو ٍة َع َم ُل َ�س َن ٍة �أَ ْج ُر ِ�ص َي ِام َها َو ِق َي ِام َها »‬
‫َو َم َ�شى َو مَْل َي ْر َك ْب َو َد َنا ِمنَ الإِ َم ِام َف ْ‬
‫رواه �أبو داود وابن ماجه وغريهما‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ •�أنّ اجلمعة �إىل اجلمعة كفارة ملا بينهما وزيادة ثالثة �أيام‪ :‬قال ر�سول اهلل‪َ « :s‬م ِن ْاغت ََ�س َل ُث َّم �أَتَى‬
‫الجْ ُ ُم َع َة َف َ�ص َّلى َما ُقدِّ َر َل ُه ُث َّم �أَ ْن َ�ص َت َحتَّى َي ْف ُر َغ ِمنْ ُخ ْط َب ِت ِه ُث َّم ُي َ�ص ِّل َى َم َع ُه ُغ ِف َر َل ُه َما َب ْي َن ُه َو َبينْ َ الجْ ُ ُم َع ِة‬
‫الأُ ْخ َرى َو َف�ضْ َل َث َال َث ِة �أَ َّي ٍام » رواه م�سلم‪.‬‬
‫ ‬
‫ ولي�س �إدراجي الأثا َر ال�سابقة‪ ،‬ح�صر ًا لكل ما ورد عن هذا اليوم العظيم‪ ،‬و�إمنا لت�أكيد �أن يوم اجلمعة‬
‫من الأيام الف�ضيلة‪ ،‬والتي يجب على املرء املحافظة على �أعمال اخلري والذكر فيها‪ ،‬ك�سب ًا للأجر واملثوبة من‬
‫اهلل عزوجل‪.‬‬

‫ ويجد املرء نف�سه حماط ًا بالعديد من اجلوامع التي تقام فيها �صالة اجلمعة يف حيه �أو الأحياء املجاورة‬
‫له‪ ،‬وذلك من ف�ضل اهلل ومنه علينا يف هذه البالد املباركة‪ ،‬فاحلمد هلل على عظيم نعمه‪ .‬وطلب ًا للأجر‪ ،‬ف�إن‬
‫املرء يبحث عن اجلوامع التي يجد فيها الراحة و ال�سكون‪� ،‬إ�ضافة �إىل البحث عن اخلطيب الذي ي�أ�سرك‬
‫ببليغ كالمه‪ ،‬وح�سن �إلقائه‪ ،‬وتنوع مو�ضوعات خطبه‪ ،‬دون �إطالة مملة‪ ،‬وال اختزال خمل‪.‬‬

‫ وقد تي�سر يل ولأ�سباب عديدة ( بف�ضل اهلل ) �أن �أ�صلي منذ �سنوات عديدة بع�ض اجلمع يف اجلامع‬
‫املعروف (بجامع امليداين ‪ -‬يف حي الورود ‪ -‬مبدينة الريا�ض)‪ ،‬وكان ممن يخطب فيه منذ �أعوام‪ ،‬ف�ضيلة‬
‫ال�شيخ الأ�ستاذ الدكتور ‪ /‬عبدال�سالم بن حممد ال�شويعر‪.‬‬

‫قصتي يف جمع هذه الخطب‪:‬‬

‫ •بد�أت يف جمع اخلطب منذ �أول جمعة بعد عيد الفطر املبارك عام ‪1434‬هـ عند عودتي �إىل الريا�ض‬
‫مع الأ�سرة من املدينة املنورة بعد ق�ضاء �شهر رم�ضان املبـارك يف مدينة احلبيب امل�صطفي �سـ ــيدنا‬
‫حممـ ــد‪s‬و�آله و�صحبه �أجمعني‪.‬‬

‫ •كنت �أحلظ �شخ�ص ًا (عرفت ا�سمه فيما بعد �أنه املهند�س ‪ /‬حممد �شعبان‪� ،‬شاب فل�سطيني يف الأربعينات‬
‫من عمره) يقوم ب�إلقاء املادة التي حتدث عنها ال�شيخ يف اخلطبة باللغة الإجنليزية‪( ،‬وما �شاء اهلل)‬
‫يتحدث هذا ال�شخ�ص بطالقة‪ ،‬ولغة اجنليزية �شبه �أ�صيلة‪ ،‬وح�صيلته من املفردات كبري‪ ،‬وخا�صة التي‬
‫يحتاج �إليها يف ترجمة بع�ض املعاين والكلمات ذات الدالالت ال�شرعية (�أو الدينية)‪ .‬كنت �أتعجب كيف‬
‫ي�سرتجع كل ما ذكر يف اخلطبة‪ ،‬ولي�س هناك وقت بينه وبني اخلطبة الأ�صلية‪ ،‬فقلت يف نف�سي لعله‬
‫ين�سق من قبل مع ال�شيخ‪ ،‬وقد الحظت �أن ابنه (علي ًا) يتقدم �إىل ال�شيخ بعد �أن يتحول عن ال�صالة �إىل‬

‫‪8‬‬
‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫امل�أمومني وي�صافحه ويتناول منه �شيئ ًا‪ ،‬هذا ال�شيء هو مذكرة اخلطبة التي كان ال�شيخ قد �ألقاها يف‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اخلطبة‪.‬‬

‫ •بعد االنتهاء من اخلطبة‪ ،‬وبعد وقت كاف للم�صلني لأداء ال�سنة البعدية‪ ،‬ي�أخذ مكانه يف اجلانب الأمين‬
‫للداخل �إىل امل�سجد يف اجلهة ال�شمالية‪ ،‬حيث املكان مهي�أ له مبيكرفون ومكرب لل�صوت‪ ،‬وترى كثري من‬
‫الإخوة من غري املتحدثني باللغة العربية‪ ،‬يتحلقون ب�شكل منتظم‪ ،‬ل�سماع مادة اخلطبة باللغة الإجنليزية‪.‬‬

‫ •توجهت بعد خطبة يوم اجلمعة بتاريخ ‪1434/10/9‬هـ‪� ،‬إىل ال�شيخ عبدال�سالم من �شدة ت�أثري بخطبته‬
‫ذلك اليوم وقبلته‪ ،‬ودعوت له بالتوفيق و�أخربته عن رغبتي يف احل�صول على الورقة التي كتب فيها‬
‫اخلطبة‪ ،‬فقال‪ ،‬لقد �أعطيتها لذلك ال�شخ�ص ( و�أ�شار �إىل املهند�س حممد �شعبان)‪.‬‬

‫ •ذهبت �إليه وا�ستمعت لرتجمة اخلطبة‪ ،‬وبعد �أن انتهى ا�ست�أذنته يف �أن �آخذ اخلطبة منه‪ ،‬ف�أعطاين‬
‫�إياها‪ ،‬و�شرط علي �أن �أعيدها يف نف�س اليوم قبل �صالة الع�صر‪ ،‬لأنه وعد �شخ�ص ًا �آخر بها‪ .‬فقلت له‪:‬‬
‫�أب�شر‪ ،‬وقد �أخذتها وعملت منها ن�سخة باملا�سح ال�ضوئي‪ ،‬ويف وقت �صالة الع�صر �أعدت اخلطبة يف‬
‫املكان الذي اتفقت عليه معه‪.‬‬

‫ •قررت جمع اخلطب‪ ،‬كلما تي�سر يل ذلك و�إدراجها يف كتيب و�أ�صبح (كتاب ًا بف�ضل اهلل �أوال و�أخري ًا)‪،‬‬
‫وهذه ق�صة جمع هذه اخلطب‪ ،‬والذي �أرجو �أن �أزيد يف مادته بخطب جديدة كلما تي�سر الأمر يل‪ .‬ويف‬
‫خاطري �أن �أ�ست�أذن من ال�شيخ عبدال�سالم يف طباعته‪ ،‬وقد فعلت ذلك يوم اجلمعة ‪1435/1/5‬ه��ـ‬
‫(املوافق ‪2013/11/8‬م)‪ ،‬حيث توجهت �إليه بعد الفراغ من ال�صالة‪ ،‬وحتدثت معه‪ ،‬و�أبديت له عن‬
‫رغبتي يف جمع اخلطب يف كتاب واحد‪ ،‬وكان يحاول ثني عزمي بقوله "ما لدي قليل‪ ،‬وهي جتميع من‬
‫كتاب و�أثر‪ ،‬و�آية وحديث لر�سول اهلل ‪ ،"s‬فقلت له‪ :‬قليلكم كثري عندنا‪ ،‬فرحب‪ ،‬وقال‪ :‬بكل �سرور‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫فقلت له‪ :‬لقد بد�أت يف جمعها‪ ،‬وو�صفت له ما �أفعله‪ ،‬فاقرتحت عليه �إن �أمكن �أن يبعث يل على الربيد‬
‫الإليكرتوين ن�سخة رقمية من خطبه‪.‬‬

‫ •ويلحظ تباعد كثري يف املدة التي ق�ضيتها لإخراج مادة هذا الكتاب‪ ،‬وال�سبب يف ذلك �أنني وبحمد من‬
‫اهلل وف�ضله انتقلت لل�سكن �إىل مدينة امل�صطفى �صلى اهلل عليه و�سلم منذ نهاية �شهر �شعبان عام‬
‫‪1435‬هـ‪.‬‬

‫ •يف بداية الكتاب قمت ب�إدراج اخلطب ح�سب تاريخ �إلقائها‪ ،‬ولكنني ال �أعلم تواريخ �إلقاء اخلطب الأخرية‬
‫التي زودين بها و�أنا يف املدينة املنورة‪ ،‬ولذلك قمت ب�إدراجها دون ذكر التاريخ‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ •�أود التنويه �إىل �أن اخلطب �إىل يوم اجلمعة ‪1435/7/17‬ه��ـ قد مت احل�صول عليها متفرقة و�أدرجت‬
‫ح�سب تاريخ �إلقائها‪ ،‬ولكن ال�شيخ ‪ -‬بارك اهلل فيه ويف علمه ‪ -‬قد زودين بباقي اخلطب دفعة واحدة‬
‫بتاريخ ‪1436/10/29‬هـ‪ ،‬وقد مت �إدراجها بعد تلك اجلمعة بدون ذكر تاريخ الإلقاء‪.‬‬

‫ •ومن املهم التنويه �إىل �أن املادة التي �أدرجت يف هذا الكتاب هي منت اخلطب‪� ،‬أما مقدمة ُكل خطبة‪،‬‬
‫والألفاظ التي دُرج على ذكرها يف اخلطبة والدعاء واخلطبة الثانية‪ ،‬ف�إن ال�شيخ يلقيها مبا�شرة عن‬
‫ظهر قلب‪ ،‬وهي من الآيات والأحاديث امل�أثورة‪ .‬وقد �أدرجت كامل اخلطبتني كما �ألقاها ف�ضيلته يف‬
‫خطبة يوم اجلمعة ‪1435/1/5‬هـ‪ ،‬وقد كررتها يف باقي اخلطب‪.‬‬

‫ •وقد �أخذ �صف الكتاب على برنامج (�إنديزاين) ومراجعة املحتوى‪ ،‬مدة تزيد عن ثالثة �أ�شهر‪ ،‬و �أود‬
‫يف هذه الوقفه الإ�شارة �إىل اجلهد والعمل الد�ؤوب من االبنة ‪ /‬خولة بنت حممد املغي�صيب (�أم �سما)‪،‬‬
‫وزوجها االبن ‪� /‬أ�سامة بن عبداحلليم مازي على ما قاما به من جهد‪ ،‬فبارك اهلل فيهما‪ .‬وال �أن�سى �أي�ض ًا‬
‫تقدمي �شكرى للمهند�س ‪ /‬جمال م�شايل على ا�ست�شاراته وجهوده يف �أعمال الإخراج والطباعة‪.‬‬

‫ •�أ�س�أل اهلل الأجر واملثوبة‪ ،‬و�أن يتقبل هذا العمل املتوا�ضع يف جمع هذه اخلطب املباركة يف هذا الكتاب‪،‬‬
‫و�أن يكون مفيد ًا ملن يحتاج �إليه من طلبة علم‪ ،‬وخطباء‪ ،‬ومهتمني‪ ،‬و�أن يجعله خال�صا لوجهه الكرمي‪،‬‬
‫و�أن يبارك لل�شيخ عبدال�سالم يف عمره وعلمه‪�،‬إنه تعايل �سميع جميب‪.‬‬

‫ •بد�أت يف جمع مادة الكتاب وترتيبه‪ ،‬من يوم اجلمعة‪1434/12/27 :‬ه��ـ‪ ،‬ومت الإنتهاء منه بف�ضل اهلل‬
‫وتوفيقه يوم اجلمعة ‪1437/8/6‬هـ‪.‬‬

‫هذا و�صلى اهلل على �سيدنا حممد‪ ،‬و�آخر دعوانا �أن احلمد هلل رب العاملني‬

‫د‪.‬عبدالحليم بن عبدالعزيز مازي‬


‫�أ�ستاذ م�شارك ‪ -‬متقاعد‬
‫ق�سم الهند�سة الكهربائية ‪ -‬جامعة امللك �سعود‬
‫العنوان الربيدي‪ - 7921 :‬ب�سر بن �سعد ‪ -‬مهزور املدينة املنورة ‪3988 -42319‬‬
‫ال�سكن‪ :‬فيال رقم ‪� 12‬شارع عاتقة بنت �أ�سيد ‪ -‬الإ�سكان اجلنوبي‬
‫جوال‪+966505485756 :‬‬
‫بريد �إليكرتوين‪abdulhalem.mazi@gmail.com :‬‬

‫‪10‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫‪11‬‬
‫فهرس املحتويات‬
‫الخطبة ‪:‬‬
‫املحتويات‬
‫عنوان‬
‫الفــــــهــــرس‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�صفحة‬ ‫املو�ضوع‬
‫‪7‬‬ ‫تقدمي ‪...........................................................................‬‬
‫‪17‬‬ ‫�أوي�سالقرين‪......................................................................‬‬
‫‪20‬‬ ‫ق�صة جمع القر�آن‪.................................................................‬‬
‫‪23‬‬ ‫الإمعة‪.............................................................................‬‬
‫‪26‬‬ ‫الت�سبيح قبل النوم‪................................................................‬‬
‫‪29‬‬ ‫بركةاملال‪.........................................................................‬‬
‫‪32‬‬ ‫مطلاحلقوق‪......................................................................‬‬
‫‪35‬‬ ‫�صوت النار و كالمها‪.................................................................‬‬
‫‪38‬‬ ‫الدورالثالثة‪......................................................................‬‬
‫‪41‬‬ ‫�أحكامالركوع‪.....................................................................‬‬
‫‪44‬‬ ‫اال�ستغناء عن النا�س‪..............................................................‬‬
‫‪47‬‬ ‫الزنا‪..............................................................................‬‬
‫‪50‬‬ ‫�أدنى �أهل اجلنة‪...................................................................‬‬
‫‪53‬‬ ‫�شهر�شعبان‪.......................................................................‬‬
‫‪56‬‬ ‫ق�صة ق�ضاء داوود و�سليمان عليهم ال�سالم‪.........................................‬‬
‫‪59‬‬ ‫العزم على الطاعة قبل رم�ضان‪....................................................‬‬
‫‪62‬‬ ‫االعت�صام بالكتاب وال�سنة ‪.......................................................‬‬
‫‪65‬‬ ‫ال�شفاعة‪..........................................................................‬‬
‫‪68‬‬ ‫الأمطارواملاء‪.....................................................................‬‬
‫‪71‬‬ ‫الو�صية‪...........................................................................‬‬
‫‪74‬‬ ‫�إعانة الأب ابنه على الرب‪.........................................................‬‬
‫‪77‬‬ ‫ربنا ال جتعلنا فتنة‪................................................................‬‬
‫‪80‬‬ ‫�أحاديث حذيفة يف املنافقني ‪.....................................................‬‬
‫‪83‬‬ ‫�آداب الطريق‪.....................................................................‬‬
‫‪87‬‬ ‫�أ�سماء اهلل احل�سنى ‪.............................................................‬‬
‫‪90‬‬ ‫�أعظم النعم ونعمة الأمن ‪........................................................‬‬
‫‪95‬‬ ‫�أمل ي�أن للذين �آمنوا‪...............................................................‬‬
‫‪98‬‬ ‫�أمرا�ض ال�شتاء (الزكام)‪.........................................................‬‬
‫‪101‬‬ ‫�إف�شاء ال�سر‪......................................................................‬‬
‫‪104‬‬ ‫�إن اهلل ي�أمر بالعدل والإح�سان‪....................................................‬‬
‫‪107‬‬ ‫اخ�شو�شنوا‪........................................................................‬‬
‫‪112‬‬ ‫ا�سم اهلل الأعظم‪.................................................................‬‬
‫‪115‬‬ ‫الأجر على املباحات‪.............................................................‬‬
‫‪118‬‬ ‫الأر�ض‪............................................................................‬‬
‫‪121‬‬ ‫الإ�سراء واملعراج‪.................................................................‬‬
‫‪124‬‬ ‫الإعجاب بالنف�س‪.................................................................‬‬
‫‪127‬‬ ‫الإميان بالر�سل‪..................................................................‬‬
‫‪130‬‬ ‫الإميان بالق�ضاء والقدر‪..........................................................‬‬

‫‪12‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الفــــــهــــرس‬ ‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫ال�صفحة‬ ‫املو�ضوع‬
‫‪133‬‬ ‫الإميانبالكتب‪....................................................................‬‬
‫‪136‬‬ ‫االبتداع يف الدين‪.................................................................‬‬
‫‪139‬‬ ‫اال�ستخارة‪.......................................................................‬‬
‫‪142‬‬ ‫اال�ست�شارة‪........................................................................‬‬
‫‪145‬‬ ‫االعتداء يف الدعاء‪................................................................‬‬
‫‪148‬‬ ‫االعرتافبالذنب‪.................................................................‬‬
‫‪151‬‬ ‫االقت�صاد يف املعي�شة‪..............................................................‬‬
‫‪154‬‬ ‫البعو�ض‪..........................................................................‬‬
‫‪157‬‬ ‫البكاء من خ�شية اهلل‪.............................................................‬‬
‫‪160‬‬ ‫التخا�صم يف النار‪.................................................................‬‬
‫‪163‬‬ ‫التدخني‪..........................................................................‬‬
‫‪166‬‬ ‫التع�صبالقبلي‪...................................................................‬‬
‫‪171‬‬ ‫التفا�ؤل وال�ش�ؤم‪...................................................................‬‬
‫‪174‬‬ ‫الثناء على اهلل‪...................................................................‬‬
‫‪177‬‬ ‫اجلنة‪.............................................................................‬‬
‫‪180‬‬ ‫احلروال�صيف‪....................................................................‬‬
‫‪183‬‬ ‫احل�سبلة‪..........................................................................‬‬
‫‪186‬‬ ‫احللم (يف رم�ضان)‪..............................................................‬‬
‫‪189‬‬ ‫احلوقلة‪...........................................................................‬‬
‫‪192‬‬ ‫احلياء‪............................................................................‬‬
‫‪195‬‬ ‫اخلوارج ‪........................................................................1‬‬
‫‪198‬‬ ‫اخلوارج ‪.......................................................................2‬‬
‫‪201‬‬ ‫الدجال‪...........................................................................‬‬
‫‪206‬‬ ‫الدعاءللوالدين‪...................................................................‬‬
‫‪209‬‬ ‫الدعاء و�سالمة ال�صدر‪...........................................................‬‬
‫‪212‬‬ ‫الدعاء‪............................................................................‬‬
‫‪215‬‬ ‫ال َّدين‪.............................................................................‬‬
‫‪218‬‬ ‫الربيع �آداب ال�سفر‪................................................................‬‬
‫‪221‬‬ ‫الر�شوة‪............................................................................‬‬
‫‪226‬‬ ‫الرياح‪.............................................................................‬‬
‫‪229‬‬ ‫الزالزلوالفي�ضانات‪..............................................................‬‬
‫‪232‬‬ ‫ال�سفرللخارج‪.....................................................................‬‬
‫‪235‬‬ ‫ال�سهر‪.............................................................................‬‬
‫‪238‬‬ ‫ال�شكوى هلل‪.......................................................................‬‬
‫‪241‬‬ ‫ال�صحابة‪.........................................................................‬‬
‫‪244‬‬ ‫ال�صالة على النبي‪................................................................‬‬
‫‪247‬‬ ‫الطالق‪............................................................................‬‬
‫‪250‬‬ ‫الع�شرة الزوجية‪..................................................................‬‬
‫‪253‬‬ ‫الع�ضل والعنو�سة‪.................................................................‬‬
‫‪256‬‬ ‫العني واحل�سد‪....................................................................‬‬
‫‪13‬‬
‫الفــــــهــــرس‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�صفحة‬ ‫املو�ضوع‬
‫‪259‬‬ ‫الغربة عن الوطن‪.................................................................‬‬
‫‪262‬‬ ‫الغالء‪.............................................................................‬‬
‫‪265‬‬ ‫الغيبة‪.............................................................................‬‬
‫‪268‬‬ ‫الفاحتة‪...........................................................................‬‬
‫‪271‬‬ ‫الف�ساد الإداري ‪................................................................1‬‬
‫‪276‬‬ ‫الف�ساد الإداري ‪................................................................2‬‬
‫‪279‬‬ ‫القنوات الف�ضائية‪................................................................‬‬
‫‪282‬‬ ‫القول على اهلل بغري علم‪..........................................................‬‬
‫‪285‬‬ ‫الكرب‪..............................................................................‬‬
‫‪288‬‬ ‫الكذب على النبي‪.................................................................‬‬
‫‪291‬‬ ‫الكذب‪............................................................................‬‬
‫‪294‬‬ ‫اللغة العربية‪......................................................................‬‬
‫‪297‬‬ ‫املحاربون هلل‪.....................................................................‬‬
‫‪300‬‬ ‫املر�ضوالأوبئة‪....................................................................‬‬
‫‪305‬‬ ‫املطلقات‪..........................................................................‬‬
‫‪308‬‬ ‫املظاهراالجتماعية‪...............................................................‬‬
‫‪311‬‬ ‫املغرم‪.............................................................................‬‬
‫‪314‬‬ ‫املالئكة‪...........................................................................‬‬
‫‪317‬‬ ‫املوت‪..............................................................................‬‬
‫‪320‬‬ ‫النحلة‪.............................................................................‬‬
‫‪323‬‬ ‫النفخ يف ال�صور‪...................................................................‬‬
‫‪326‬‬ ‫النهي عن اللعن‪...................................................................‬‬
‫‪329‬‬ ‫بناءالكعبة‪........................................................................‬‬
‫‪332‬‬ ‫بيعةالعقبة‪........................................................................‬‬
‫‪335‬‬ ‫تعامل النبي مع خادمه‪............................................................‬‬
‫‪338‬‬ ‫توقري الكبري‪......................................................................‬‬
‫‪341‬‬ ‫حب امل�ساكني‪.....................................................................‬‬
‫‪344‬‬ ‫حديث �أم زرع‪....................................................................‬‬
‫‪349‬‬ ‫حديث الغار‪.....................................................................‬‬
‫‪352‬‬ ‫حديث ر�ؤيا النبي‪.................................................................‬‬
‫‪355‬‬ ‫حرمة الكعبة وامل�سلم‪.............................................................‬‬
‫‪358‬‬ ‫حفظالقر�آن‪......................................................................‬‬
‫‪361‬‬ ‫حقوق الإن�سان‪....................................................................‬‬
‫‪364‬‬ ‫حقوق البنات‪.....................................................................‬‬
‫‪367‬‬ ‫حقوقاجلار‪.......................................................................‬‬
‫‪370‬‬ ‫حقوق الر�ضيع‪....................................................................‬‬
‫‪373‬‬ ‫حقوقالزوجني‪....................................................................‬‬
‫‪376‬‬ ‫حقوقالعمال‪......................................................................‬‬
‫‪379‬‬ ‫حكم داود‪........................................................................‬‬
‫‪14‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬ ‫الفــــهــــرس‬

‫ال�صفحة‬ ‫املو�ضوع‬
‫‪382‬‬ ‫حول الأ�سهم‪......................................................................‬‬
‫‪385‬‬ ‫ختم الأعمال باال�ستغفار‪..........................................................‬‬
‫‪388‬‬ ‫خريالنا�س‪........................................................................‬‬
‫‪391‬‬ ‫ر�أيت �أ�صحاب ر�سول‪.............................................................‬‬
‫‪394‬‬ ‫ر�سالة �إىل موظف‪................................................................‬‬
‫‪397‬‬ ‫ر�سالة للمعلم‪.....................................................................‬‬
‫‪400‬‬ ‫رفع اليدين بالدعاء‪...............................................................‬‬
‫‪403‬‬ ‫زيادةالرزق‪.......................................................................‬‬
‫‪408‬‬ ‫�سداد الدين وانظار املع�سر‪........................................................‬‬
‫‪411‬‬ ‫�سالمةال�صدر‪....................................................................‬‬
‫‪414‬‬ ‫�سليمان وال�شياطني‪...............................................................‬‬
‫‪417‬‬ ‫�سماهم يف وجوههم‪...............................................................‬‬
‫‪420‬‬ ‫�سورة الع�صر‪.....................................................................‬‬
‫‪425‬‬ ‫�سورةالغا�شية‪.....................................................................‬‬
‫‪430‬‬ ‫�سورة الكوثر‪......................................................................‬‬
‫‪433‬‬ ‫�سورة ي�س‪........................................................................‬‬
‫‪436‬‬ ‫�شرالنا�س‪.........................................................................‬‬
‫‪439‬‬ ‫�شرح و�صية زكريا‪.................................................................‬‬
‫‪442‬‬ ‫�صفات املنافقني‪..................................................................‬‬
‫‪445‬‬ ‫�صفاتعبادالرحمن‪..............................................................‬‬
‫‪448‬‬ ‫�صفةالنار‪.........................................................................‬‬
‫‪451‬‬ ‫�صفةالنبي‪........................................................................‬‬
‫‪455‬‬ ‫�صالح الآباء‪......................................................................‬‬
‫‪458‬‬ ‫�صالح الزوجة‪....................................................................‬‬
‫‪461‬‬ ‫�صلة الرحم‪.......................................................................‬‬
‫‪464‬‬ ‫ظلالعر�ش‪........................................................................‬‬
‫‪467‬‬ ‫عذابالقرب‪.......................................................................‬‬
‫‪470‬‬ ‫عقوقالوالدين‪....................................................................‬‬
‫‪473‬‬ ‫عي�سى ابن مرمي‪..................................................................‬‬
‫‪476‬‬ ‫ف�ضلالبنت‪.......................................................................‬‬
‫‪479‬‬ ‫ف�ضل الرباط‪.....................................................................‬‬
‫‪482‬‬ ‫ف�ضل امل�سن‪.......................................................................‬‬
‫‪485‬‬ ‫ق�صة �آدم‪........................................................................‬‬
‫‪488‬‬ ‫ق�صة �أ�صحاب الأخدود‪...........................................................‬‬
‫‪491‬‬ ‫ق�صة اخل�ضر‪.....................................................................‬‬
‫‪494‬‬ ‫ق�صة القرد‪.......................................................................‬‬
‫‪497‬‬ ‫ق�صة املزارع‪......................................................................‬‬
‫‪500‬‬ ‫ق�صة بر�صي�صا‪...................................................................‬‬
‫‪503‬‬ ‫ق�صةبلعام‪........................................................................‬‬
‫‪15‬‬
‫الفــــهــــرس‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�صفحة‬ ‫املو�ضوع‬
‫‪506‬‬ ‫ق�صة زكريا‪.......................................................................‬‬
‫‪509‬‬ ‫ق�صة قارون‪......................................................................‬‬
‫‪512‬‬ ‫ق�صة نوح‪........................................................................‬‬
‫‪515‬‬ ‫ق�صة يحيى ابن زكريا‪............................................................‬‬
‫‪518‬‬ ‫ق�ضاء احلاجات‪..................................................................‬‬
‫‪521‬‬ ‫كالب النار‪.......................................................................‬‬
‫‪524‬‬ ‫اليدري القاتل فيما قتل‪..........................................................‬‬
‫‪527‬‬ ‫لذة العبادة‪.......................................................................‬‬
‫‪530‬‬ ‫لزوم اجلماعة‪....................................................................‬‬
‫‪533‬‬ ‫لقمان‪............................................................................‬‬
‫‪536‬‬ ‫مقا�صد الزواج‪...................................................................‬‬
‫‪539‬‬ ‫مكاثرة املال‪......................................................................‬‬
‫‪542‬‬ ‫مكانة الر�سول‪..................................................................‬‬
‫‪546‬‬ ‫من �أ�سمائه القيوم‪................................................................‬‬
‫‪549‬‬ ‫موت الفج�أة‪......................................................................‬‬
‫‪552‬‬ ‫نعيم اجلنة‪.......................................................................‬‬
‫‪555‬‬ ‫وبنني �شهود ‪......................................................................‬‬
‫‪558‬‬ ‫وفاة النبي‪........................................................................‬‬
‫‪566‬‬ ‫ي�أجوج وم�أجوج‪...................................................................‬‬
‫‪566‬‬ ‫الفهر�س املو�ضوعي للخطب ‪....................................................‬‬
‫‪572‬‬ ‫�سرية موجزة عن ال�شيخ الأ�ستاذ الدكتور‪ /‬عبدال�سالم ال�شويعر ‪..................‬‬

‫‪16‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫أويس القرني‬ ‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ف�إن من عباد اهلل تعاىل من �آثر الآخرة على الأوىل‪ ،‬والباقية على الفانية‪ ،‬فباع مالذ احلياة بر�ضا اهلل‬
‫جل وعال‪ ،‬حتى ترك كثري ًا من املباحات لأجل ذلك‪ ،‬ناهيك عن مقاربة ما يغ�ضب اهلل وي�سخطه‪� ،‬أو الدنو مما‬ ‫َ‬
‫يكرهه �سبحانه }الذين يخ�شون ربهم بالغيب وهم من ال�ساعة ُم�شفقون{‪.‬‬

‫و �إن النظر يف �سري �أولئك ملما ين�شط املقل‪ ،‬وينبه الغافل‪ ،‬و ُي�سلي ملجد‪:‬‬
‫ت�شبهوا �إن مل تكونوا مثلهم‬ ‫ ‬
‫�إن الت�شبه بالكرام فالح‬ ‫ ‬
‫رجل مل ينل ف�ضل ُ�صحبة النبي ‪ ، s‬ومل ُيح�صل من الدنيا �شرف ًا وال ح�سب ًا‪ ،‬ومل ُ‬
‫يك ذا‬ ‫فمن �أولئك القوم ُ‬
‫ر�سم‬
‫ق�ضى فلم يبق من �أثره �شيء ال ٌُ‬ ‫مال وال زوج وال ولد‪ ،‬كاد �أن مي َّر كما م ََّرغ ُري ُه على ظهر هذه الب�سيطة ثم َ‬
‫وال خرب‪ ،‬لوال �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم نعته‪ ،‬و�أخرب ب�ش�أنه وملَّا َيره‪.‬‬

‫روى م�سلم ( يف �صحيحة ‪� )95/16‬أن النبي ‪s‬ذكر �أوي�س ًا القرين فقال عليه ال�صالة وال�سالم ( �إن خري‬
‫خطبة جديدة‬

‫التابعني رج ٌل ُيقال له (�أُوي�س) وله والدة هو بها ب ُّر‪ ،‬وكان به بيا�ض فمروه فلي�ستغفر لكم)‪ ،‬وقال عنه ‪:s‬‬
‫(ال يدع باليمن غ َري �أُ ٍّم له)‪.‬‬

‫أوي�س من �أ�صفياء اهلل وبررته‪ ،‬من ال�شعثة ر�ؤو�سهم‪ ،‬املغربة وجوههم‪ ،‬اخلم�صة بطونهم من ك�سب‬ ‫لقد كان � ٌ‬
‫احلالل‪ ،‬من الذين �إذا �أ�ست�أذنوا على الوالة مل ي�ؤذن لهم‪ ،‬و�إن خطبوا املتنعمات مل ينكحوا‪ ،‬و�إذا غابوا مل‬
‫يفقدوا‪ ،‬و�إذا ح�ضروا مل يدعو‪ ،‬و�إن طلعوا مل يفرح بطلعتهم‪ ،‬و�إن مر�ضوا مل يعادوا‪ ،‬و�إن ماتوا مل ُي�شهدوا‪.‬‬

‫�ضارب بذقنه‬
‫ٌ‬ ‫آدم �شديد الأدمة‪،‬‬ ‫جاء يف و�صفه �أنه � َ‬
‫أ�شهل ذا �صهوبة‪ ،‬بعيد ما بني املنكبني‪ ،‬م َعبد القامة‪ُ � ،‬‬
‫رام بب�صره �إىل مو�ضع �سجوده‪ ،‬وا�ض ٌع ميينه على �شماله يتلوا القر�آن‪ ،‬يبكي على نف�سه‪ ،‬ذو طمرين‬
‫�إىل �صدره‪ٍ ،‬‬
‫ومرتد ب��رداء �صوف‪ ،‬جمهول يف �أهل الأر���ض معروف يف �أهل ال�سماء‪ .‬قال‬‫ٍ‬ ‫ال ي�ؤبه به‪ ،‬متزر ب���إزار �صوف‪،‬‬
‫‪17‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أويس القرني‬

‫علقمة‪(:‬و�أما �أوي�س القرين ف�إن �أهله ظنوا �أنه جمنون‪ ،‬فبنوا له بيت ًا على باب دارهم فكانت ت�أتي عليهم ال�سنة‬
‫وال�سنون ال يرون له وجه ًا وكان طعامه مما يلتقط من النوى‪ ،‬ف�إذا �أم�سى باعه لإفطاره‪ ،‬و�إن �أ�صاب ح�شف ًة باعها‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫لإفطاره) [زهد ثمانية من التابعني �ص ‪.]74‬‬

‫روى م�سلم (‪ )95/16‬عن �أ�سري بن جابر قال ‪ :‬كان عمر بن اخلطاب �إذا �أتى عليه �أمدا ُد �أهل اليمن �س�ألهم‬
‫�أفيكم �أوي�س بنُ عامر‪ ،‬حتى �أتى على �أوي�س‪ ،‬فقال‪� :‬أنت �أوي�س بن عامر‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬من مراد ثم من َق َرن‪،‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فكان بك َب َر ٌ�ص فرب�أت منه �إال مو�ضع درهم‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬لك والدة‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪� :‬سمعت‬
‫ر�سول اهلل ‪ s‬يقول‪( :‬ي�أتي عليكم �أوي�س بن عامر مع �أمداد �أهل اليمن من مراد ثم من َق َرن كان به بر�ص‬
‫ا�ستطعت �أن ي�ستغفر لك فافعل)‪،‬‬
‫َ‬ ‫فرب�أ منه �إال مو�ضع درهم‪ ،‬له والدة هو بها بر‪ ،‬لو �أق�سم على اهلل لأبره ف�إن‬
‫أكتب لك �إىل عام ِلها‪،‬‬
‫قال عمر‪ :‬فا�ستغفر يل‪ ،‬فا�ستغفر له‪ ،‬فقال له عمر‪� :‬أين تريد؟ قال‪ :‬الكوفة‪ ،‬قال‪� :‬أال � ُ‬
‫حج رج ٌل من �أ�شرافهم فوافق عمر ف�س�أله‬ ‫أحب �إيل‪ ،‬قال‪ :‬فل َما كان من العام املقبل َّ‬
‫قال‪� :‬أكون يف غرباء النا�س � ُّ‬
‫رث البيت قليل ُ املتاع‪ ،‬قال عمر‪� :‬سمعت ر�سول اهلل ‪ s‬يقول‪( :‬ي�أتي عليكم �أوي�س بن‬ ‫عن �أوي�س‪ ،‬قال‪ :‬تركته َ‬
‫عامر مع �أمداد �أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به بر�ص فرب�أ منه �إال مو�ضع درهم‪ ،‬له والدة هو بها بر لو‬
‫الرجل �أوي�س ًا‪ ،‬فقال‪ :‬ا�ستغفر يل‪ ،‬قال � ٌ‬
‫أوي�س‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ا�ستطعت �أن ي�ستغفر لك فافعل) ف�أتى‬
‫َ‬ ‫�أق�سم على اهلل لأبره ف�إن‬
‫أحدث عهد ًا ب�سفر �صالح‬ ‫ُ‬
‫الرجل‪ :‬ا�ستغفر يل‪ ،‬قال �أوي�س‪� :‬أنت � ُ‬ ‫أحدث عهد ًا ب�سفر �صالح فا�ستغفر يل‪ ،‬قال‬‫�أنت � ُ‬
‫فا�ستغفر يل‪ ،‬قال‪ :‬لقيت عمر؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فا�ستغف َر له‪ .‬ففطن له النا�س فانطلق على وجهه‪.‬‬

‫قال �أ�سري بن جابر وك�سو ُت ُه بردة فكان كلما ر�آه �إن�سا ٌن قال من �أين لأوي�س هذه الربدة‪� ،‬أي اتهمه ُ‬
‫النا�س‬
‫ب�سرقتها‪ ،‬فقالوا‪ :‬انظروا �إىل هذا املرائي مل يزل يف الرجل حتى خدعه و �أخذ رداءه‪ ،‬قال �أ�سري‪ :‬فقلت �أال‬
‫ت�ستحيون مل ت�ؤذونه واهلل لقد عر�ضته عليه ف�أبى �أن يقبله [كما جاء عند احلاكم ‪.]456/3‬‬

‫عباد اهلل! لقد رفع ُ‬


‫اهلل عزوج َّل �أُوي�س ًا ب�أمرين‪� :‬أحدهما‪ِ :‬ب ُّره ب�أمه كما ثبت ذلك يف ال�صحيح �أنه �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم قال‪ ( :‬هو بها ب ّر)‪ ،‬وروى الإمام �أحمد } الزهد ‪ {414‬عن �أ�صبغ بن زيد قال‪� :‬إمنا منع �أوي�س ًا �أن يقدم‬
‫على النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ِب ُّر ُه ب�أمه‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬رفعه اهلل ب�إخال�صه و �إخفاء عمله وكمال توكله على ر ِّبه روى �أبو نعيم [احللية ‪� .]87/2‬أن �أوي�س ًا‬
‫كان �إذا �أم�سى يقول‪ :‬هذه ليلة الركوع فريكع حتى ي�صبح‪ ،‬وكان يقول �إذا �أم�سى‪ :‬هذه ليلة ال�سجود في�سجد‬
‫حتى ي�صبح‪ ،‬وكان �إذا �أم�سى ت�صدق مبا يف بيته من ف�ضل الطعام والثياب ثم يقول‪ :‬اللهم من مات جوع ًا فال‬
‫ت�ؤاخذين به‪ ،‬ومن مات عريان ًا فال ت�ؤاخذين به‪.‬‬

‫وروى احلاكم ‪� 458/3‬أن رج ًال من ُمراد �أتى �إىل �أوي�س القرين فقال‪ ( :‬ال�سالم عليكم)‪ ،‬فر ّد ال�سالم‪،‬‬
‫قال‪ (:‬كيف �أنتم يا �أوي�س) قال‪( :‬احلمد هلل)‪ ،‬قال‪( :‬كيف الزمان عليكم)‪ ،‬قال‪ ( :‬ال ت�س�أل الرجل �إذا �أم�سى‬

‫‪18‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أويس القرني‬

‫مل ي َر �أنه ي�صبح و�إذا �أ�صبح مل ير �أنه مي�سي يا �أخا ُمراد �إن املوت مل ُي ِبق مل�ؤمن فرح ًا‪ ،‬يا �أخا مراد �إن عرفانَ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫امل�ؤمن بحقوق اهلل مل تبق له ف�ضة و ال ذهب ًا‪ ،‬يا �أخا مراد �إن قيام امل�ؤمن ب�أمر اهلل مل يبق له �صديق ًا‪ ،‬و اهلل‬
‫�إنا لن�أمرهم باملعروف وننهاهم عن املنكر فيتخذوننا �أعداء‪ ،‬ويجدون على ذلك من الفا�سقني � ُ‬
‫أعول‪ ،‬حتى‬
‫واهلل لقد َيقذفوننا بالعظائم‪ ،‬و واهلل ال مينعني ذلك �أن �أقول باحلق)‪.‬‬

‫و َروى �أحم ُد يف الزهد و �أبو نعيم عن عبد اهلل بن �سلمة قال‪ :‬غزونا �أذربيجان زمن عمر بن اخلطاب‬
‫أوي�س فحملناه فلم ي�ستم�سك فمات‪ ،‬فنزلنا ف�إذا قرب‬
‫ر�ضي اهلل عنه ومعنا �أوي�س‪ ،‬فلما رجعنا مر�ض علينا � ٌ‬
‫حمفور‪ ،...‬فغ�سلناه وكفناه و�صلينا عليه ودفناه‪ ،‬فقال بع�ضنا لبع�ض‪ :‬لو رجعنا فع َّلمنا على قربه‪ ،‬فرجعنا‬
‫ف�إذا ال قبور و ال �أثر‪.‬‬
‫ين‪ ،‬وقد جعل يف حياته وموته موعظة‪ ،‬فال هو ال�ساعي‬ ‫أوي�س ال َق َر ّ‬
‫عباد اهلل! هذا ما �أ�ص ُّح ما ورد يف خ ٍرب � ٍ‬
‫اخلفي‪ ،‬وحينما مات �أخفى اهلل قربه‪ ،‬لكي ال يكون ذريع ُة جلهلة ِ‬
‫النا�س‬ ‫ّ‬ ‫لل�شهرة وال الباحث عنها‪ ،‬بل هو‬
‫فيفعلوا عنه منكر ًا‪� ،‬أو ي�شهروه ويق�صدوه‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار‬
‫على نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل‬
‫حق التقوى ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف‬
‫النار‪ ،‬و اعلموا عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول‬
‫اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته‬
‫ي�صلون على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا‬
‫ور�سولنا و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪،‬‬
‫اللهم �أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ‬
‫الأمة �أمة الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى‬
‫فيه عن املنكر يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم‬
‫وفق �إمامنا بتوفيقك و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪،‬‬
‫عن بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني‬
‫وامل�سلمات الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪،‬‬
‫فا�ستغفروه �إنه هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫قصة جمع القرآن‬ ‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫فمن ت�أمل يف حال القر�آن العظيم ف�إنه يرى عجب ًا ال ينق�ضي‪ ،‬و �إعجاز ًا ال ينتهي يف �شتى جماالته‪ :‬يف لفظه‬
‫ومبناه‪ ،‬وت�شريعه ومعناه‪ ،‬وق�ص�صه وخربه‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬ولننظر يف �إعجاز هذا الكتاب يف حفظه‪ ،‬ف�إن اهلل ج ّل‬
‫الذ ْك َر و�إ َّنا َل ُه لحَ َ ا ِف ُظونَ {‪.‬‬
‫�ش�أنه قد تك ّفل بحفظ كتابه ورعايته �إىل يوم القيامة‪ ،‬قال �سبحانه‪� } :‬إ َّنا َن ْحنُ َن ًّز ْلنا ِّ‬

‫الكتاب حمفوظ حفظ ًا �شديد ًا فقال �سبحانه‪ }:‬فال �أُق�سم مبواقع ال ُّن ُج ِوم‬ ‫ُ‬ ‫اهلل �سبحانه �أن هذا‬ ‫ ف�أق�سم ُ‬
‫نون { ال مَ َي ُّ�س ُه �إال المْ ُ َط َّه ُرون { َت ْن ِزي ٌل ِّمن َّر ِّب‬
‫كتاب َّم ْك ٍ‬
‫ٍ‬ ‫{ و�إ َّن ُه لق�س ٌم َّلو َت ْع َل ُمونَ عظيم { ِ�إ َّن ُه َل ُقرْ�آن َك ِر ٌ‬
‫مي { فيِ‬
‫ا ْل َعاملنيَ{‪.‬‬

‫اهلل نبيه حممد ًا‪ s‬بحفظ القر�آن يف �صدره كام ًال‪ ،‬وجم ِعه له‪ ،‬وبيان ِه ِمن بعده‪ ،‬فقال ‪ }:s‬ال‬ ‫ووعد ُ‬
‫تحُ َ ِّرك به ِل�سا َنك ِلت ْع َ‬
‫جل ِب ِه { �إنَّ علينا َج ْم َع ُه و ُقر�آنهُ{‪ ،‬قال ابن عبا�س ر�ضي اهلل عنه يف تف�سري الآية‪�( :‬إنَّ‬
‫جن ْم َع ُه يف �صدرك‪ ،‬و�أن تق َر َ�أ ُه) ‪[ .‬رواه البخاري]‪.‬‬ ‫علينا �أن َ‬
‫خطبة جديدة‬
‫حممد‪ ،s‬وكان عليه ال�صالة وال�سالم يحر�ص �أ ّمت احلر�ص على‬ ‫ٍ‬ ‫ فجمع اهلل هذا القر�آن يف �صدر‬
‫تعليمه ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم‪ ،‬امتثا ًال لأمر ر ِّبه �إذ قال‪ } :‬و ُقرْ�آنا َفر ْقنا ُه ِلتقر�أَ ُه على ال َّن ِ‬
‫ا�س َع َلى ُم ْك ٍث و َن َّز ْلنا ُه‬
‫َت ْنزيال{ فكان النبي ‪ s‬يعلمه ال�صحابة تعليم ًا دقيق ًا‪ ،‬قال ابن عمر ر�ضي اهلل عنه قال‪“ :‬كان ر�سول اهلل‪s‬‬
‫ُيع ّلمنا القر�آن” [رواه �أحمد]‪ ،‬وقال �أبو عبد الرحمن ال�سلمي‪ ( :‬حدثنا الذين كانوا ُيقر ِئوننا �أَنهم َي ْ�ست ْق ِرئون من‬
‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فكانوا �إذا تع ّلموا ع�شر �آيات مل ُيخ ِّلفوها حتى يعلموا مبا فيها من العمل‪ ،‬فتع ّلمنا‬
‫القر�آن والعمل به جميعا)‪.‬‬

‫ر�سول اهلل ‪� s‬أناب من يح�صله عنه‪ ،‬روى البخاري‬ ‫ وكانوا �إذا ُ�شغل �أحدهم عن حت�صيل القر�آن ِمن فيِ ِّ‬
‫نتناوب النزول‬
‫ُ‬ ‫(كنت �أنا وجا ٌر يل ِمن الأن�صار يف عوايل املدينة‪ ،‬وكنا‬
‫عن عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل عنه قال‪ُ :‬‬
‫نزلت جئ ُت ُه بخرب ذلك اليوم من الوحي وغريه‪ ،‬و�إذا نزل َ‬
‫فعل مثل‬ ‫على النبي ‪s‬ينزل يوم ًا و�أنزل يوم ًا‪ ،‬ف�إذا ُ‬
‫‪20‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة جمع القرآن‬

‫ذلك)‪ .‬وكان النبي ‪s‬يت�أكد من قراءة �أ�صحابه؛ قال ابن م�سعود ر�ضي اهلل عنه قال يل النبي �صلى اهلل عليه‬
‫حب �أن �أ�سمعه من غريي)‪.‬‬‫قلت‪ :‬اقر�أ عليك وعليك �أنزل؟ قال‪ ( :‬ف�إين �أُ ُّ‬
‫علي)‪ُ ،‬‬
‫و�سلم‪( :‬اقر�أ ّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ وقد كرث ال ُق ّراء الذين يحفظون القر�آن يف عهد النبي ‪ s‬حتى ُقتل منهم يوم بئر معونة �سبعون‪ ،‬وكان‬
‫دوي‪ .‬ومع حفظ ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم للقر�آن ف�إن النبي‬ ‫لقراءتهم يف م�سجد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ُّ‬
‫تاب للوحي ي�أمرهم بكتاب ِة الوحي �أ ّول ما ينزل‪ ،‬قال زيد بن ثابت‪ « :‬كنت‬ ‫‪ s‬كتب القر�آن يف ُ�صحف‪ ،‬وكان له ُك ٌ‬
‫فكتبت الوحي»[رواه �أبو داود]‪ ،‬ف�إذا ُكتب الوحي راجعه قال‬
‫ُ‬ ‫يل‬‫جار ر�سول اهلل ‪ s‬فكان �إذا نزل الوحي �أر�سل �إ َّ‬
‫علي‪ ،‬ف�إذا ْ‬
‫فرغت ‪ ،‬قال ‪ :‬اقر�أه‪،‬‬ ‫أكتب الوحي عند ر�سول اهلل‪s‬وهو ميلي َّ‬ ‫زيد بن ثابت ر�ضي اهلل عنه ‪ُ “:‬‬
‫كنت � ُ‬
‫ف�أقر�أه ‪ ،‬ف�إن كان فيه �سقط �أقامه”‪.‬‬
‫وعظم ‪ s‬ما ُكتبت عليه القر�آنُ ‪ ،‬ف�أمر �أال مي�سها �إال طاهر‪ ،‬و�أن ال ُي�سافر بها لأر�ض العدو‪ ،‬ل�ش ّدة‬‫ّ‬ ‫ ‬
‫مكتوب يف الرقاع‬
‫ُ‬ ‫احرتامها واالح�تراز من �ضياعها‪ ،‬ف َما مات النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إال والقر�آن ُكله‬
‫والأكتاف و ال ُع�سب وال ّلخاف ( وهي احلجارة)‪.‬‬

‫ ولكن مع كتابة القر�آن كام ًال يف هذه الو�سائل‪ ،‬وحفظه كام ًال يف �صدور ع�شرات الرجال‪� ،‬إال �أنه مل يكن‬
‫جمموع ًا يف مكان واحد‪ ،‬قال زيد بن ثابت ر�ضي اهلل عنه ‪ُ ( :‬قب�ض النبي ‪ s‬ومل يكن القر�آنُ ُجمع يف �شيء)‬
‫بع�ض �سوره‪ ،‬ثم تنقطع بنزول‬ ‫وال�سبب يف عدم جمعه ما كان يرت ّق ُب ُه النبي ‪s‬من تتابع الوحي حيث كانت تنزل ُ‬
‫�آيات �سورة �أخرى‪ ،‬ثم ي�ست�أنف الوحي �آيات ال�سورة الأوىل‪ ،‬وهكذا حتى كمل التنزيل ُقبيل وفاته ب�أ�شهر قليلة‪.‬‬

‫ فل ّما مات النبي ‪ s‬و ويل �أم َر امل�سلمني �أبو بكر ال�صديق ر�ضي اهلل عنه‪� ،‬أ�شار عليه ُعمر ر�ضي اهلل‬
‫واحد‪ ،‬خ�صو�ص ًا بعدما مات من ال ُقراء وحفظ ِة القر�آن الع�شرات يف حروب الردة‪.‬‬ ‫عنه بجمع القر�آن يف مو�ضع ٍ‬
‫يل �أبوبكر بعد مقتل �أهل اليمامة وعنده عمر فقال‬ ‫روى البخاري عن زيد بن ثابت ر�ضي اهلل عنه قال‪� :‬أر�سل �إ َّ‬
‫�أبو بكر‪� ( :‬إن عمر �أتاين فقال‪� :‬إن القتل قد ا�ستح ّر يوم اليمامة بالنا�س و�إين �أخ�شى �أن ي�ستحر القت ُل بال ُق َّراء‬
‫قلت لعمر‪ :‬كيف‬ ‫يف املواطن‪ ،‬فيذهب كثري من القر�آن �إال �أن جتمعوه‪ ،‬و�إين لأرى �أن جتمع القر�آن‪ .‬قال �أبو بكر ُ‬
‫�أفعل �شيئا مل يفعله ر�سول اهلل ‪ ،s‬فقال عمر‪ :‬هو واهلل خري‪ .‬فلم يزل عم ُر يراجعني فيه حتى �شرح اهلل لذلك‬
‫أيت الذي ر�أى عمر)‪.‬‬
‫�صدري‪ ،‬ور� ُ‬

‫كر ر�ضي اهلل عنه لذلك ف�أَمر به‪َ ،‬‬


‫فنعم العمل قام به يج ُد ثوابه عند اهلل‪ ،‬قال‬ ‫َ‬
‫ف�ش َر َح اهلل �صد َر �أبي َب ٍ‬ ‫ ‬
‫علي بن �أبي طالب ر�ضي اهلل عنه‪�( :‬أعظم النا�س �أجر ًايف امل�صاحف �أبو بكر‪� ،‬إن �أبا بكر كان �أول من جمعه بني‬
‫اللوحني) [�أبو عبيد يف ف�ضائل القر�آن و�صححه ابن كثري]‪ .‬فاختار �أبو بكر ر�ضي اهلل عنه لهذه املهمة اثنني هما ُعم ُر بن‬
‫اخلطاب‪ ،‬وزي ُد بن ثابت ر�ضي اهلل عنهم‪ ،‬فقال �أبو بكر لهما‪ ( :‬اقعدا على باب امل�سجد فمن جاءكما ب�شاهدين‬
‫على �شيء من كتاب اهلل فاكتباه) [رواه ابن �أبي داود يف كتاب امل�صاحف]‪.‬‬

‫واختُري زيد لأنه كان من ُكتّاب الوحي للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وكان حافظ ًا لكتاب اهلل َق َر�أَه على‬ ‫ ‬
‫‪21‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة جمع القرآن‬

‫النبي ‪ s‬كام ًال مرار ًا‪ ،‬قال �أبو عبد الرحمن ُ‬


‫ال�سلمي ر�ضي اهلل عنه‪ ( :‬قر�أ زيد بن ثابت على ر�سول اهلل ‪s‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫يف العام الذي توفاه اهلل فيه مرتني)‪.‬‬

‫�شاب‪ ،‬عاقل‪ ،‬وال نتهمك‪ ،‬كنت تكتب الوحي‬ ‫ قال زيد ر�ضي اهلل عنه ‪ ( :‬قال يل �أبو بكر‪� :‬إنك رجل ٌ‬
‫نقل جبل من اجلبال ما كان �أثقل علي مما‬ ‫لر�سول اهلل ‪ .s‬فتتبع القر�آن فاجمعه)‪ ،‬قال ‪( :‬فو اهلل لو كلفني َ‬
‫و�صدور الرجال‪.‬‬ ‫فتتبعت القر�آن �أجمعه من ال ِّرقاع والأكتاف والع�سب ُ‬‫ُ‬ ‫فقمت‬
‫�أمرين به من جمع القر�آن)‪ُ .‬‬
‫واحد‪ ،‬والإ�شهاد على ُكل �آي ٍة‬
‫مو�ضع ٍ‬
‫ٍ‬ ‫فالذي قام به ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم �إمنا هو كتاب ُة ما كان مكتوب ًا يف‬
‫عدد من ال�صحابة‬ ‫وح ْرف ُوجد مكتوب ًا بقراءة ال ُق ّراء واحلفاظ للقر�آن‪ ،‬ومل يقبلوا �آية �إال �أن تكون حمفوظ ًة من ٍ‬
‫َ‬
‫غري زيد‪ ،‬وح�ضور ال�شهود على �أنها ُكتبت بني يدي النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬قال يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب‪:‬‬
‫قال عمر‪َ ( :‬من كان تلقى من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �شيئ ًا من القر�آن فلي�أتنا به‪ ،‬وكانوا كتبوا ذلك يف‬
‫ال�صحف والألواح و الع�سب‪ ،‬وكان ال يقبل من �أحد �شيئا حتى ي�شهد �شهيدان)‪.‬‬

‫ وقد تعاون ال�صحابة معهم يف ذلك �أ�شد الأمر‪ ،‬قال ابن �شهاب‪ ( :‬ملا �أ�صيب امل�سلمون باليمامة فزع �أبو‬
‫بكر‪ ،‬وخاف �أن يذهب من القر�آن طائفة‪ ،‬ف�أقبل النا�س مبا كان معهم وعندهم‪ ،‬حتى جمع على عهد �أبي بكر‬
‫يف الورق)‪ .‬وقد ُجمع امل�صحف يف نحو خم�سة ع�شر �شهر ًا‪ .‬وكانت ال�صحف التي جمع فيها القر�آن عند �أبي بكر‬
‫حتى توفاه اهلل‪ ،‬ثم عند عمر حتى تو َّفاه اهلل‪ ،‬ثم عند حف�صة بنت ُعمر‪ ،‬ومل يكن منه �إال ن�سخة واحدة فقط‪.‬‬

‫ فلما كان يف عهد عثمان ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬ذكر له حذيفة ر�ضي اهلل عنه �أن النا�س توزعوا يف الأم�صار‪،‬‬
‫فرمبا حدث بينهم اختالف يف القر�آن لأنهم ال يعتمدون �إال على احلفظ فقط‪ ،‬ف�أ�شار عليه بكتابة امل�صحف �إىل‬
‫الأم�صار‪.‬‬

‫ فعهد عثمان ر�ضي اهلل عنه لزيد بن ثابت‪ ،‬وابن الزبري‪ ،‬و�سعيد بن العا�ص وكان �أ�شبه النا�س بلهجة‬
‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وعبد الرحمن بن احلارث ر�ضي اهلل عنه‪ .‬والثالثة الأخريون من قري�ش‪ ،‬ولذا قال‬
‫لهم عثمان ر�ضي اهلل عنه‪� ( :‬إذا اختلفتم �أنتم وزيد بن ثابت يف �شيء من القر�آن فاكتبوه بل�سان قري�ش ف�إمنا‬
‫نزل بل�سانهم)‪� ،‬أي طريقة ال ّر�سم‪ ،‬ال ِمن حيث الكلمات‪ .‬ثم ُن�سخ منه خم�س ُن�سخ �أر�سلت للأم�صار‪ ،‬وعنها َن�سخ‬
‫النا�س القر�آن‪ ،‬مع ما توارثوه من حفظه‪.‬‬‫ُ‬
‫ ‬
‫عباد اهلل! لقد �أخرب النبي ‪ s‬بوجود امل�صحف بني يدي النا�س يف �آخر الزمان‪ ،‬و�أثنى على الذين يعملون‬
‫أ�صبت و ُوفقت �أَ�شه ُد‬
‫ال�صحف يف امل�صحف جاءه �أبو هريرة فقال‪َ � :‬‬‫مبا فيه‪ ،‬ف ُروي �أنه ملا ن�سخ عثمان بن عفان ُّ‬
‫ل�سمعت ر�سول اهلل ‪ s‬يقول‪� ( :‬إن �أ�شد �أمتي يل حبا قوم ٌ ي�أتون من بعدي ي�ؤمنون بي‪ ،‬ومل يروين يعملون مبا‬
‫ُ‬
‫يف الورق املعلق)‪ .‬فقلت �أي َو َر ٍق؟ حتى ر�أيت امل�صاحف‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫األمعة‬ ‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ �إن احلمد هلل نحمده و ن�ستعينه ون�ستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من �شرور �أنف�سنا و�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من يهد اهلل‬
‫فال م�ضل له ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬وا�شهد �أن حممد ًا عبدُه‬
‫ور�سوله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتقوا اهلل حق تقاته وال متوتن �إال و�أنتم م�سلمون‪ ،‬يا�أيها النا�س اتقوا ربكم‬
‫الذي خلقكم من نف�س واحدة‪ ،‬وخلق منها زوجها وبث منهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتقو اهلل الذي ت�ساءلون‬
‫به والإرحام‪� ،‬إن اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتقوا اهلل وقولوا قو ًال �سديد ًا ي�صلح لكم �أعمالكم‬
‫‪ ،‬ويغفر لكم ذنوبكم‪ ،‬ومن يطع اهلل ور�سوله فقد فاز فوز ًا عظيم َا‪.‬‬

‫�أما بعد عباد اهلل ‪:‬‬

‫�صفات كثري ٍة يف ال�سلوك والتفكري‪ِ ،‬ومن هذه ال�صفات‪ :‬كونُ‬ ‫ٍ‬ ‫النبي ‪ s‬التحذي ُر من‬‫ فقد جاء عن ِّ‬
‫وح�سنه عن حذيفة ‪� ‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال تكونوا �إمع ًة)‪ .‬وجاء يف ٍ‬
‫حديث‬ ‫الرتمذي ّ‬
‫ُّ‬ ‫املرء (�إمع ًة)‪ ،‬فروى‬
‫�آخ َر �أنّ َمن كان �إمع ًة فقد هلك؛ فروى البيهقي من حديث �أبي بكرة ‪� ‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬اغ ُد عامل ًا‪� ،‬أو‬
‫ال�صنف اخلام�س الذي ح َّدث‬ ‫َ‬ ‫حاوي‪� :‬أنّ‬ ‫متعلم ًا‪� ،‬أو حمب ًا‪� ،‬أو م�ستمع ًا‪ ،‬وال تكن اخلام�س فتهلك)‪ .‬ذكر َّ‬
‫الط ُّ‬
‫عنه ر�سول اهلل ‪ s‬وذ ّمه وو�صفه بالهالك هو (الإمعة)‪ ،‬لقول ابن م�سعود ‪( :‬اغ ُد عامل ًا �أو متعلم ًا وال تغد‬
‫�إمع ًة في َما بني ذلك)‪.‬‬

‫ و(الإمع ُة) هو َمن ال ر�أي له وال َعزْ م‪ ،‬فيتابع ُك َّل �أحد على ر�أيه دون رو ّية‪ ،‬قال �أبو عبيد معمر بن املثنى‪:‬‬
‫(الإمعة الذي يقول‪� " :‬أنا مع النا�س " يعني يتابع ُك َّل � ٍ‬
‫أحد على ر�أيه وال يثبت على �شيء)‪.‬‬
‫ ‬
‫روى �أبو داود يف (الزهد) واخلرائطي �أن ابن م�سعود ‪ ‬قال‪« :‬الإمعة الذي يجري مع ُك ِّل ريح»‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫النبي ‪ s‬في َمن يتبع‬ ‫العرب يف اجلاهلية ُت�س ّمى َمن َي َت َب ُع غ َريه يف الوالئم �إمع ًة‪ُ ،‬ث ّم جعله ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ لقد كانت‬
‫ذهب‬
‫دعى �إىل الطعام ف َي ُ‬ ‫غ َريه يف �أمر الدين‪ ،‬قال ابن م�سعود‪( :‬كنا ندعو الإمعة يف اجلاهلية‪ :‬الذي ُي َ‬
‫الرجال‪ ،‬الذي مينح دي َنه غ َريه في َما َينتف ُع به ذلك الغري يف دُنياه‪ ،‬ويبقى‬ ‫َ‬ ‫معه ب�آخر‪ .‬وهو فيكم املح ِّق َب دي َنه‬
‫�إث ُمه عليه؛ كالرجل الذي ينتفع بطعام الغري ويعو ُد عا ُره على من جاء به)‪.‬‬
‫ ‬
‫النبي ‪ s‬وذ ّمه هو َمن ال ر�أي له وال َعزم‪ُ ،‬يوا ِفقُ ُك َّل � ٍ‬
‫أحد على ر�أيه‬ ‫عباد اهلل! �إنّ (الإمعة) الذي نهى عنه ّ‬
‫بال ر�ؤية وال حت�صيل برهان‪ ،‬ف ُيق ّلد ُك َّل م�شهور‪ ،‬ويتابع ك َّل ناعق‪ ،‬ويقول‪� :‬أنا معك‪.‬‬

‫ و� ّإن ِمن �أ�سو�أ �صور الإمعة‪ِ :‬من ُيق ّلد دينه غ َريه‪ ،‬في�ستم ُّر على بدع ٍة وخط�أ يف الدين وجد عليه‬
‫�آباءه و�أه َله‪ ،‬كما قال �أهل اجلاهلية‪�ِ } :‬إ َّنا َو َج ْد َنا �آ َباء َنا َع َلى ُ�أ َّم ٍة َو ِ�إ َّنا َع َلى �آ َثا ِر ِهم ُّم ْه َتدُونَ { و�أ ّما َمن اعترب‬

‫‪23‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلمعة‬

‫العبد بعبادة ر ِّبه‪ ،‬والإنابة‬ ‫الوحي من اهلل �آمر ًا َ‬ ‫ُّ‬ ‫وال�سنة و�أخذ احلقّ منهما ف�إ ّنه الفالح‪ ،‬فقد جاءنا‬ ‫بالكتاب ّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وممن كان‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و ِ�إ َذا ِق َيل َل ُه ُم ا َّت ِب ُعوا َما �أَنزَ َل هَّ ُ‬
‫الل َقا ُلو ْا َب ْل َن َّت ِب ُع َما‬ ‫�إليه‪ ،‬نابذ ًا اخلط�أ مهما كان ّ‬
‫�أَ ْل َف ْي َنا َع َل ْي ِه �آ َبا َء َنا �أَ َو َل ْو َكانَ �آ َبا�ؤُهُ ْم َال َي ْع ِق ُلونَ َ�ش ْيئ ًا َو َال َي ْه َتدُونَ { َو َم َث ُل ا َّل ِذينَ َك َف ُرو ْا َك َم َث ِل ا َّل ِذي َي ْن ِعقُ بمِ َ ا َال‬
‫َي ْ�س َم ُع ِ�إالَّ د َُعاء َو ِن َداء ُ�ص ٌّم ُب ْك ٌم ُع ْم ٌي َف ُه ْم َال َي ْع ِق ُلونَ {‪.‬‬

‫و�س َق َط املجتمع‪ ،‬وامله َّم�شني فيه‪ ،‬عندما يق ِّلد املر ُء‬


‫ ومن �سوء �صور الإمعة‪َ :‬من يق ّلد ُحثال َة القوم‪َ ،‬‬
‫و�شعرهم‪ ،‬وم�شي ِتهم‪ ،‬و�سائر ت�صرفاتهم‪ ،‬ف�إن ذلك م�ؤذ ٌن‬ ‫لب�سهم‪ِ ،‬‬ ‫املجتمعات‪ ،‬ويت�ش ّبه بن�شازِهم يف ِ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫�شواذ‬
‫بذهاب �شخ�صيته‪ ،‬وذوبان هيبته‪ ،‬و�ضعف �إرادته‪ ،‬وغلب ِة انهزامته‪.‬‬

‫قط املتاع‪ ،‬و�أ�سو�أ َمن يف املجتمع ف�إنه يد ُّل‬ ‫القوم ل ُق ِبل ِمن بع�ض الوجوه‪ ،‬و�أ ّما تقليدُه َ�س َ‬
‫ ولو �أنه ق ّلد ِع ْلي َة ِ‬
‫على �ضعف اله ّمة‪ ،‬وق ّلة العزمية‪.‬‬
‫ ‬
‫حتليالت‬
‫ٍ‬ ‫ و ِمن �صور الإمعة‪َ :‬من ُيك ِّر ُر ما َيتناوله النا�س ويتداولونه‪ :‬من �أخبا ٍر قد تَ�صد ُُق �أو ت ِ‬
‫َكذب‪� ،‬أو‬
‫النا�س‪ ،‬وذلك الإمع ًة‪.‬‬
‫النا�س �أنّ هذه الظنون حقائقَ لكرث ِة ما تناقلها ُ‬ ‫مظنون ٍة �أو متوهمة‪ ،‬حتى ليظنُّ �أغما ُر ِ‬

‫أوامره‪،‬‬
‫النا�س يف غفلتهم عن طاعة اهلل‪ ،‬ويحت ُّج بفع ِلهم على ترك � ِ‬ ‫ ومن �صور الإمعة‪ :‬من يتابع َ‬
‫ديدنه‪( :‬هكذا النا�س)‪ ،‬وهُ جرياه تقليدُهم وحمكاتهم‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و ِ�إن ُت ِط ْع �أَ ْك رَ َث َمن فيِ الأَ ْر ِ�ض‬
‫وح�سنه عن حذيفة ‪� ‬أن‬ ‫الرتمذي ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الظنَّ َو ِ�إنْ هُ ْم ِ�إالَّ َي ْخ ُر ُ�صونَ {‪ .‬روى‬ ‫وك َعن َ�س ِب ِيل هَّ ِ‬
‫الل ِ�إن َي َّت ِب ُعونَ ِ�إالَّ َّ‬ ‫ُي ِ�ضلُّ َ‬
‫وط ُنوا � َ‬
‫أنف�سكم‬ ‫النا�س �أح�س ّنا‪ ،‬و�إن ظلموا ظلمنا‪ ،‬ولكن ِّ‬ ‫ُ‬ ‫النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال تكونوا �إمع ًة‪ ،‬تقولون‪� :‬إنْ � َ‬
‫أح�سنَ‬
‫النا�س �أن حت�سنوا‪ ،‬و�إن �أ�سا�ؤوا �أن ال تظلموا)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أح�سنَ‬
‫�إن � َ‬

‫اهتديت‪ ،‬و�إن �ض َّل‬


‫ُ‬ ‫ وقال عبد اهلل بن م�سعود ‪( :‬ال يكونن �أحدكم �إمع ًة‪ ،‬يقول‪� :‬إن اهتدى ُ‬
‫النا�س‬
‫نف�سه �إن َك َف َر ُ‬
‫النا�س �أن ال يكفر)‪.‬‬ ‫�ضللت‪ِ ،‬ل ُي ِّ‬
‫وطنْ �أحدُكم َ‬ ‫النا�س ُ‬

‫بع�ضا‪ ،‬ولو َظ َه َر لهم َمن َي ّدعي النبو َة َمع معرف ِتهم‬ ‫أ�سراب طري يتبع ُ‬
‫بع�ضها ً‬ ‫ قال ابن قتيبة‪( :‬والنا�س � ُ‬
‫ر�سول اهلل خا ُمت الأنبياء‪� ،‬أو ظهر َمن ي ّدعي الربوبية ل َو َج َد على ذلك �أتباع ًا و�أ�شياع ًا)‪ .‬و�صدق رحمه‬
‫َ‬ ‫ب�أنّ‬
‫اهلل‪.‬‬
‫النا�س ال يتق ّيد ب�أوامر اهلل وال يحافظ على حدوده‪ ،‬فقام ِمن بينهم‬ ‫غالب ِ‬ ‫ عباد اهلل! �إذا ر�أى املر ُء َ‬
‫النا�س بال�صخب يف البيع‬‫لي�ؤدي ما فر�ض اهلل عليه فهو املمدوح على ل�سان ر�سول اهلل ‪ .s‬و�إذا ا�شتغل ُ‬
‫وال�صالة فل ّما نادى مناد ال�صالة تركهم املر ُء ُمنزوي ًا ُم�ص ّلي ًا فذاك الغريب‪.‬‬
‫وال�شراء وغفلوا عن الطاعة ّ‬

‫النا�س واقعني يف الإ�سراف والتبذير‪ُ ،‬مغ َر ِقني يف ال�شَّ كل ّيات‪ ،‬ف�أبى �إال َ‬
‫التقيد بالأوامر ال�شرع ّية‬ ‫ و�إذا كان ُ‬
‫و�إن عار�ضه النا�س فلي�س ب�إمعة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلمعة‬

‫ �إذا ر�أت املر�أ ُة �سائ َر الن�ساء حو َلها ال يتقيدن باحلجاب الواجب‪ ،‬ويت�ساهلن فيه‪ ،‬حتى تظنّ �أن فع َلهن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الأ�صل وهي اال�ستثناء‪ ،‬فال ترى يف دائر ِتها وحو َلها َمن َيك ُم ُل حجا ُبها‪ ،‬ومع ذلك تتقي ُد ب�أمر ر ّبها و�إن نظر‬
‫لها النا�س فتلك املمدوحة على ل�سان ر�سول اهلل ‪.s‬‬

‫ روى �أبو داود يف (الزهد) واخلرائطي �أن ابن م�سعود ‪ ‬قال‪« :‬ائتوا الأمر من تدبر‪ ،‬وال يكوننَّ �أحدُكم‬
‫�إمعة »‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما الإمعة ؟ قال‪« :‬الذي يجري مع ُك ِّل ريح»‪.‬‬

‫عباد اهلل ‪� ،‬أقول قويل هذا وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�سلمني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه هو الغفور الرحيم‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪:‬‬
‫التسبيح قبل النوم‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ �إن احلمد هلل نحمده و ن�ستعينه ون�ستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من �شرور �أنف�سنا و�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من يهد اهلل‬
‫فال م�ضل له ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬وا�شهد �أن حممد ًا عبدُه‬
‫ور�سوله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتقوا اهلل حق تقاته وال متوتن �إال و�أنتم م�سلمون‪ ،‬يا�أيها النا�س اتقوا ربكم‬
‫الذي خلقكم من نف�س واحدة‪ ،‬وخلق منها زوجها وبث منهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتقو اهلل الذي ت�ساءلون‬
‫به والإرحام‪� ،‬إن اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتقوا اهلل وقولوا قو ًال �سديد ًا ي�صلح لكم �أعمالكم‪،‬‬
‫ويغفر لكم ذنوبكم‪ ،‬ومن يطع اهلل ور�سوله فقد فاز فوز ًا عظيم َا‪.‬‬

‫ روى البخاري (وما بني القو�سني منه) وابن حبان عن علي ‪ ‬قال‪� :‬شكت يل فاطم ُة ‪ g‬من ّ‬
‫الطحني‪،‬‬
‫أتيت �أباك ف�س�ألتيه خادم ًا‪ .‬قال‪ :‬ف�أتت النبي ‪ s‬فلم ت�صادفه فرجعت مكا َنها [فذكرت ذلك لعائ�شة‬ ‫فقلت‪ :‬لو � ِ‬
‫ُ‬
‫‪ ،g‬فل ّما جاء �أخرب ُته عائ�شة]‪ ،‬ف�أتانا وعلينا قطيفة �إذا لب�سناها طو ًال خرجت منها جنوبنا و�إذا لب�سناها‬
‫َعر�ض ًا خرجت منها �أقدامنا ور�ؤو�سنا‪[ ،‬فذهبنا نقوم‪ ،‬فقال ‪( :s‬على مكانكما)‪ ،‬فجاء فقعد بيني وبينها‬
‫جئت فهل كانت لك حاجة ؟) قالت‪ :‬ال‪.‬‬ ‫حتى وجدتُ برد قدميه على بطني]‪ ،‬فقال ‪( :s‬يا فاطمة �أُخربت �أنك ِ‬
‫يل من الطحني‪ ،‬فقلت‪ :‬لو �أتيت �أباك ف�س�ألتيه خادم ًا‪ .‬فقال ‪�( :s‬أفال �أدلكما على ما هو خري‬ ‫قلت‪ :‬بلى �شكت �إ َّ‬
‫ُ‬
‫لكما من خادم ؟ [�إذا �أخذمتا م�ضاجعكما ف�س ِّب َحا ثالث ًا وثالثني‪ ،‬واحمدا ثالث ًا وثالثني‪ ،‬وكربا �أربع ًا وثالثني‬
‫فهو خري لكما من خادم])‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن معنى �أمر النبي ‪ s‬بهذا الذكر يف هذا املو�ضع وجع َله خري ًا من اخلادم‪ ،‬له معنيان‬
‫�صحيحان‪:‬‬

‫ري و�أبقى‪ ،‬ولذا ثبت عند �أهل‬ ‫اخلادم بالدنيا‪ ،‬والآخر ُة خ ٌ‬


‫ُ‬ ‫ �أحدهما‪� :‬أنّ املراد اخلري ّية الأخرو ّية‪� ،‬إذ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ال�سنن �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬خ�صلتان ال يح�صيهما رجل م�سلم �إال دخل اجلنة‪ ،‬وهما ي�سري‪ ،‬ومن يعمل بهما‬
‫قليل‪ ،‬ي�سبح اهلل يف دبر كل �صالة ع�شر ًا‪ ،‬ويكرب ع�شر ًا‪ ،‬ويحمد ع�شر ًا‪ ،‬فذلك خم�سون ومائة بالل�سان‪ ،‬و�ألف‬
‫فرا�شه �س َّبح وحمد وكبرَّ مائة‪ .‬فتلك مائة بالل�سان و� ٌ‬
‫ألف يف امليزان‪.‬‬ ‫وخم�سمائة يف امليزان ‪ ..‬و�إذا �أوى �إىل ِ‬
‫أحدكم ال�شيطانُ وهو‬
‫ف�أيكم يعمل يف اليوم �ألفني وخم�سمائة �سيئة ) قالوا‪ :‬وكيف ال يح�صيهما ؟ قال‪( :‬ي�أتي � َ‬
‫يف ال�صَّ الة فيقول‪ :‬اذكر كذا وكذا‪ ،‬حتى َّ‬
‫ينفك العب ُد ال َيعقل‪ ،‬وي�أتيه وهو يف م�ضجعه فال يزال ينومه حتى‬
‫ينام)‪.‬‬

‫ واملعنى الثاين‪� :‬أنّ اخلري ّية دنيوي ٌة ملا قال هذا الت�سبيح‪ ،‬فهذا الذك ُر خ ٌ‬
‫ري بالن�سبة ملا طلبته فاطمة ‪g‬‬
‫خادم يعينها على مهنتها‪ ،‬من ثالث جهات‪:‬‬ ‫من ٍ‬

‫‪26‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التسبيح قبل النوم‬

‫اخلادم عليها‪ ،‬قال ابن قيم‬


‫ُ‬ ‫عطي للم�س ِّبح قو ًة َيق ُد ُر بها على اخلدم ِة �أك َرث َّ‬
‫مما يقدر‬ ‫�أحدها‪� :‬أنّ اهلل تعاىل ُي ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫(الوابل ال�صيب)‪( :‬الذك ُر يعطي الذاك َر ق َّو ًة حتى �إنه ليفع ُل َمع الذكر ما مل يظن فع َله بدونه‪ ..‬فقيل‪� :‬أنّ َمن‬
‫خادم)‪.‬‬
‫يومه َما ُيغنيه َعن ٍ‬‫َداوم على (الذكر الذي ع ّلمه النبي ‪ s‬ابنته فاطمة قبل النوم) وجد قو ًة يف ِ‬

‫بنف�سه‬ ‫نومه ف�إ ّنه ُت�س َّه ُل الأمور عليه بحيث يكون ُ‬
‫فعل تلك الأعمال يف النهار ِ‬ ‫والثاين‪ :‬وقيل‪� :‬إنّ َمن �س ّبح قبل ِ‬
‫نومه‪.‬‬
‫�أ�سهل عليه من �أمره اخلادم بذلك‪ِ .‬ومن �أ ّول ذلك �سهوله ا�ستيقاظه ل�صالة الفجر وا�ستيقاظه من مطلق ِ‬

‫يعي ويتعب‬ ‫نومه ن�شيط ًا ولو �أجهد بد َنه َ‬


‫يومه ُك ّله‪ ،‬ومل َ‬ ‫ي�صبح من ِ‬
‫ُ‬ ‫والثالث‪ :‬وقيل‪� :‬إن َمن قال هذا الذكر ف�إ ّنه‬
‫يف تايل يومه‪ .‬قال �شيخ الإ�سالم ابن تيمية‪( :‬بلغنا �أنه من حافظ على هذه الكلمات مل ي�أخذه �إعيا ٌء فيما يعانيه‬
‫من �شغل وغريه) [الوابل ال�صيب]‪.‬‬

‫ال�سندي‪( :‬يف هذا احلديث �أنّ َمن واظب على ذلك الذكر عند النوم مل يعي؛ لأن‬
‫ وقال ال�شيخ حممد ِّ‬
‫فاطمة ‪ g‬ا�شتكت التعب من العمل‪ ،‬ف�أحالها على ذلك الذكر)‪.‬‬

‫فرا�شه �أتاه‬ ‫ُ‬


‫الرجل �إىل ِ‬ ‫ ويد ُّل لذلك ما جاء عند ابن حبان عن جابر ‪� ‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا �أ َوى‬
‫ملك و�شيطان‪ ،‬فيقول امللك‪ :‬اختم بخري‪ ،‬ويقول ال�شيطان‪ :‬اختم ب�شر‪ .‬ف�إن َذ َك َر اهلل‪ ،‬ثم نام باتت املالئكة‬
‫تكل�ؤه‪ .‬ف�إن ا�ستيقظ قال امللك‪ :‬افتح بخري‪ ،‬وقال ال�شيطان‪ :‬افتح ب�شر)‪.‬‬

‫ّ‬
‫فدل هذا احلديث على �أنّ َمن ختم ليله بخ ٍري وهو الت�سبيح والذكر‪ ،‬ف�إنّ امللك يقول له �إذا �أ�صبح‪( :‬افتح‬ ‫ ‬
‫بخري)‪ ،‬فيي�سر اهلل �أموره ويعينه عليها‪.‬‬

‫البدن‬
‫�ضعف ِ‬ ‫النوم �إمنا َ�سب ُبه ُ‬ ‫وال�سبب يف ترتيب ُك ّل هذه الآثار الدنيو ّية على هذا الذكر الي�سري‪� :‬أنّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫و�إجها ُد ُه‪ ،‬فهو عالمة نق�ص يف بدن الآدمي‪ ،‬ولذا تنزّه اهلل عنها؛ كما قال �سبحانه‪ }:‬هَّ ُ‬
‫الل َال �إِ َلـ َه �إِالَّ هُ َو الحْ َ ُّي‬
‫ال�س َما َو ِات َو َما فيِ الأَ ْر ِ�ض{‪ .‬ف�إذا �س ّبح العب ُد ر ّبه ونزهه و�أثنى عليه بل�سانه‬ ‫وم َال َت�أْ ُخ ُذ ُه ِ�س َن ٌة َو َال َن ْو ٌم َّل ُه َما فيِ َّ‬
‫ا ْل َق ُّي ُ‬
‫}الل َي َت َو َّفى الأَن ُف َ�س ِح َني‬ ‫يحفظ ُه ويهبه الق ّوة واحلياة‪ ،‬كما قال ج ّل وعال‪ :‬هَّ ُ‬ ‫وواط�أ قل ُبه ما ينطق ل�سانه ف�إنّ اهلل ُ‬
‫َم ْو ِت َها َوا َّل ِتي مَْل تمَ ُ ْت فيِ َم َن ِام َها َف ُي ْم ِ�س ُك ا َّل ِتي َق َ�ضى َع َل ْي َها المْ َ ْوتَ َو ُي ْر ِ�س ُل الأُ ْخ َرى ِ�إ ىَل �أَ َج ٍل ُم َ�س ًّمى ِ�إنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ٍات‬
‫ِّل َق ْو ٍم َي َت َف َّك ُرونَ {‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن ت�سبيح اهلل ثالث ًا وثالثني وحتميده ثالث ًا وثالثني‪ ،‬وتكبريه �أربع ًا وثالثني هُ نَّ كلمات ي�سرية‬
‫على الل�سان‪ ،‬بيد �أنّ �أجو َرهن كثرية‪� ،‬إذ لذكر اهلل �أث ٌر على العبد ال ُينكر‪ ،‬ويتع ّدى مداه �إىل حفظ ج�سده‪ ،‬وزيادة‬
‫ق ّوته‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التسبيح قبل النوم‬

‫القليل من القوم؛ كما جاء يف احلديث‪( :‬وهما ي�سري‪ ،‬ومن يعمل بهما قليل)‪.‬‬ ‫ولكن ال يقول هذه الكلمات �إال َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وذلك �أنَّ ال�شيطان ي�أتي �أحدهم فيلقي عليه النوم‪ ،‬و ُين�سيه ذك َرها‪ ،‬وال ي�ستم ّر عليها �إال املوقنون الأ�شداء‪،‬‬
‫علي ‪( :‬فما تركتها منذ �سمعتها من ر�سول اهلل ‪ .)s‬فقالوا له‪ :‬وال ليلة �صفني ؟ قال‪( :‬وال ليلة �صفني)‪.‬‬ ‫قال ٌّ‬

‫عباد اهلل ‪� ،‬أقول قويل هذا وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�سلمني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه هو الغفور الرحيم‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫بركة املال‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬بركة املال‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ �إن احلمد هلل نحمده و ن�ستعينه ون�ستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من �شرور �أنف�سنا و�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من يهد اهلل‬
‫فال م�ضل له ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬وا�شهد �أن حممد ًا عبدُه‬
‫ور�سوله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتقوا اهلل حق تقاته وال متوتن �إال و�أنتم م�سلمون‪ ،‬يا�أيها النا�س اتقوا ربكم‬
‫الذي خلقكم من نف�س واحدة‪ ،‬وخلق منها زوجها وبث منهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتقو اهلل الذي ت�ساءلون‬
‫به والإرحام‪� ،‬إن اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتقوا اهلل وقولوا قو ًال �سديد ًا ي�صلح لكم �أعمالكم‪،‬‬
‫ويغفر لكم ذنوبكم‪ ،‬ومن يطع اهلل ور�سوله فقد فاز فوز ًا عظيم َا‪.‬‬

‫معنوي يجعله اهلل يف املال‬


‫ٌّ‬ ‫أحد �إال و َي ْن ُ�شدها‪ .‬فالربك ُة ٌ‬
‫و�صف‬ ‫ ف�إن الربكة يف املال غاي ٌة ال ُك ُّل يرجوها‪ ،‬و�أمني ٌة ما ِمن � ٍ‬
‫طلب الربكة يف املال مطلب ًا �شرعي ًا مهما؛ فقد �أمر ُ‬
‫اهلل نب َّيه‬ ‫القليل كثري ًا‪ ،‬والكث ُري منتفع ًا به انتفاع ًا تام ًا‪ .‬لذا كان ُ‬
‫بحيث يكون ُ‬
‫النبي ‪ s‬يدعو‬ ‫نت َخ رْ ُي المْ ُ ِنز ِلنيَ{‪ ،‬وكان ُّ‬ ‫نوح ًا ‪� d‬أن ي�س�أل َ‬
‫اهلل الربكة فقال �سبحانه‪َ } :‬و ُقل َّر ِّب �أَ ِنز ْل ِني ُمنزَ ًال ُّم َبا َر ًكا َو�أَ َ‬
‫بالربكة ِومن دعائه ‪( :s‬اللهم بارك لنا فيما رزقتنا)‪.‬‬

‫ �إن الربكة يف املال عبا َد اهلل! لي�ست بكرثته ووفرته‪ ،‬ف�أنبيا ُء اهلل ور�س ُله مل يكن ُج ّلهم �أغنياء‪ ،‬ويف املقابل ف�إن قارونَ‬
‫و�سى َف َب َغى َع َل ْيهِ ْم َو�آ َت ْي َنا ُه ِمنَ ا ْل ُك ُنو ِز َما �إِنَّ َم َفاتحِ َ ُه َل َت ُنو ُء ِبا ْل ُع�صْ َب ِة‬
‫هلل كان ِمن �أغنى النا�س }�إِنَّ َقا ُرونَ َكانَ ِمن َق ْو ِم ُم َ‬ ‫عد َّو ا ِ‬
‫اهلل يف كتابه �أنه يزي ُد ال�ضَّ الني يف متاع الدنيا‪ ،‬وميددهم من ن�ضرتها وبهجتها ونعيمها ‪ُ ‬ق ْل َمن‬ ‫�أُو ا ْل ُق َّو ِة{‪ ،‬بل قد ذكر ُ‬
‫ليِ‬
‫َكانَ فيِ ال�ضَّ ال َل ِة َف ْل َي ْم ُد ْد َل ُه ال َّر ْح َمنُ َمدًّا‪.‬‬

‫ري ومنا ٌء من عند‬‫ فلي�ست الربك ُة هي ذاك املعنى املظنونَ وهو كرثة املال ومنا�ؤه فح�سب‪ .‬و�إمنا التربيك يف املال خ ٌ‬
‫يح�صر‪ ,‬ولذا ف�إنه ُيقال‬
‫ح�صى وال َ‬ ‫يح�س املر ُء ويكون من حيث ال َي�ش ُعر‪ ،‬وهي �شيء ال ُي َ‬
‫اهلل �سبحانه وتعاىل‪َ ,‬ي�ص ُد ُر ِمن حيث ال ُّ‬
‫املال‪ ،‬روت عائ�شة ‪� g‬أن النبي ‪ s‬ترك‬ ‫لكل ما ُي�شاهد منه زيادة غري حم�سو�سة‪� :‬إن فيه برك ًة‪ ،‬و�إليك هذا اخلرب يف بركة ٍ‬
‫لها طعام ًا من �شعري كانت ت�أك ُل منه بعد وفاته ‪ُ s‬مدة طويلة ومل ينته‪ ،‬فل ّما كالته فني بعدُ‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫والهم والنكد‪ ،‬ف�إذا‬


‫الغم ّ‬ ‫ذه ُب ُ‬
‫اهلل عنه به ّ‬ ‫جلملة ربح ًا ت�سع ُد به ُ‬
‫نف�سهُ‪ ،‬و ُي ِ‬ ‫ فالربكة �إذا كانت يف البي ِع َر َب َح �صاح ُب ُه يف ا ُ‬
‫�صح بد ُنهُ‪ ،‬و�إن �أطعمه‬
‫املال الذي ربحه يف هذه ال�صفقة املبارك ٍة‪ ،‬كان ا�ستخدا ُم ُه له فيه �أعظم اخلري‪ ،‬ف�إن �أكل منه ّ‬ ‫ا�ستخدم َ‬
‫�أبنا َءه ر�أى ِمن ب ّرهم و�صالحهم ما تق ّر به عينه‪ ،‬و�إن و�ضعه يف حاجته ق ّل ما تف�سد وتتعبه‪.‬‬
‫وح�سن ت�صريفها بع ُد ومنا�ؤه ولو كان قلي ًال‪ .‬كنمو الآدميني �إذا‬ ‫فاملق�صود من الربكة �إمنا هو راحة النف�س بهذا املال‪ُ ،‬‬
‫مر�ضي كخاليا ال�سرطان تتكاثر ب�سرعة بال فائدة‬ ‫ٌّ‬ ‫�صحته‪ ،‬و�أ ّما �إذا كان �سريع ًا ف�إمنا هو من ٌّو‬ ‫كان متتابع ًا ب َقد ِر ِه ف�إنه عالم ُة ّ‬
‫للج�سم‪.‬‬

‫بارك ل�صاحبها يف ما ِله‪ ،‬فح ّلت‬ ‫ عباد اهلل! لقد بينّ لنا النبي ‪� s‬أمور ًا �إذا حتققت كانت عالم ًة على �أن َ‬
‫اهلل تعاىل َ‬
‫فيه الربكة املرج ّوة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬بركة املال‬

‫لتعجب حينما ترى رجلني �أحدُهما �أُتي ما ًال‬


‫ُ‬ ‫ ‪ w‬فمِ نها �أن يقنع العب ُد مبا رزقه اهلل‪ ،‬و�أن ير�ضا بعطائه ج ّل وعال‪� ،‬إنك‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫حت�صل‬‫عنده‪ ،‬وال ّ‬ ‫عندهم‪ ،‬فال هو هن�أ مبا َ‬ ‫عظيم ًا وثرا ًء وا�سع ًا وما زالت ُ‬
‫نف�س ُه تتطلع ملا يف ِيد غ ِريه‪ ،‬وت�سرتق عي ُن ُه النظر ملا َ‬
‫را�ض ع ّما �أُتي‪ ،‬قان ٌع به‪ ،‬حام ٌد لر ّبه مثني عليه‪ ،‬فالثاين هو َمن ُبور َِك له يف‬
‫مبا عند غريه‪ .‬و�آخ ُر �أُتي من املال كفايته‪ ،‬فرتاه ٍ‬
‫ما ِله‪ ،‬والأول بعك�سه‪ ،‬ثبت �أن النبي ‪ s‬قال ‪�( :‬إن اهلل تبارك وتعاىل يبتلي عبده مبا �أعطاه‪ ،‬فمن ر�ضي مبا َق َ�س َم اهلل عز‬
‫وو�سعه‪ ،‬ومن مل ير�ض مل يبارك له فيه) (ال�سل�سلة ال�صحيحة (‪.)1658‬‬ ‫وجل له َبا َر َك اهلل له فيه َّ‬

‫عدم الطم ِع وال�شَّ َره‪ ،‬و�س� ِؤال النا�س تكرث ًا ففي �صحيح البخاري عن حكيم‬
‫ ومن القناع ِة الدالة على الربكة يف املال ُ‬
‫ر�سول اهلل ‪ s‬ف�أعطاين‪ ،‬ثم �س�ألته ف�أعطاين‪ ،‬ثم �س�ألته ف�أعطاين‪ ،‬ثم قال‪( :‬يا حكيم‪� ،‬إن هذا‬ ‫َ‬ ‫بن حزام‪ d‬قال‪� :‬س�ألتُ‬
‫نف�س مل ُيبارك له فيه‪ ،‬وكان كالذي ي� ُ‬
‫أكل وال‬ ‫املال خ�ضرة حلوة‪ ،‬فمن �أخذه ب�سخاوة نف�س ُبور َِك له فيه‪ ،‬ومن �أخذه ب� ِ‬
‫إ�شراف ٍ‬
‫ي�شبع‪ ،‬الي ُد العليا خري من اليد ال�سفلى)‪.‬‬

‫دخ ُل عليه �شي ٌء منه �إال ِمن‬ ‫ ‪ w‬ومن عالمات بركة املال‪ ،‬و�أ�سباب جلبه مع ًا �أن يحر�ص املر ُء على َم َ‬
‫دخل ما ِله‪ ،‬فال َي ُ‬
‫طريق حالل‪ ،‬يقول النبي ‪�( :s‬إن الدنيا حلوة خ�ضرة‪ ،‬فمن �أخذها بحقها بارك اهلل له فيها‪ ،‬ورب متخ ّو�ض يف مال اهلل‬ ‫ٍ‬
‫ور�سوله له النار يوم يلقاه) (ال�سل�سلة ال�صحيحة (‪)124/4‬‬

‫هلل يف العمل (�سوا ًء كان يف وظيف ٍة �أو �صنع ٍة �أو غريها) فرتاه ي�ؤديه كما �أُمر به‪ ،‬حمافظ ًا على وقته‬
‫ ف َمن �أ َّدى حقّ ا ِ‬
‫اهلل قبل ُك ِّل رقيب‪ ،‬و ُي�شهده �سبحانه قبل ُكل �شهيد‪ .‬ف�إنه �س ُيبارك له يف ماله وما �أكت�سبه؛ يقول ‪�( : s‬إن‬‫و�إنتاجيته‪ ،‬يراقب َ‬
‫اهلل يحب �إذا عمل �أحدكم عم ًال �أن يتقنه)‪.‬‬

‫ ف َمن �صدق يف بيعه و�شرائه‪ ،‬فلم يغ�ش فيه ومل ُيد ّل�س �سواء كان بائع ًا �أو �شاري ًا‪ُ ،‬م� ِّؤجر ًا �أو ُم�ست�أجرا‪ ،‬ف�إنه يكون بيع ًا‬
‫مبارك ًا وعقد ًا طيبا‪ ،‬يف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن َ�ص َد َق "البيعان" و َب َّينا ُبور َِك لهما يف بيعهما‪ ،‬و�إن َك َت َما و َك َذ َبا‬
‫احلرام منزوع الربكة‪ ،‬ممحوق الك�سب‪ ،‬ف َمن ك�سب ما ًال ِمن طريق ال َّربا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حمقت الربك ُة من بيعهما)‪ .‬ويف املقابل ف�إنّ املال‬
‫ات َو هَّ ُ‬
‫الل َال ُي ِح ُّب‬ ‫‪‬ي َحقُ هَّ ُ‬
‫الل ا ْل ِّر َبا َو ُي ْر ِبي ال�صَّ َد َق ِ‬ ‫فقد �آذن ُ‬
‫اهلل مبحق بركته ومنائه‪ ،‬وال يزيد �صاح َبه �إال غبن ًا‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ :‬مَْ‬
‫ُك َّل َك َّفا ٍر �أَ ِث ٍيم‪.‬‬

‫ناف لربكة ذاك البيع؛‬‫ال�سلعة ٍ‬


‫ال�سعر‪� ،‬أو حت�سني ّ‬ ‫ُ‬
‫احللف يف البي ِع لرفع ِّ‬ ‫ وكذا ُك ُّل ٍ‬
‫ك�سب حم ّر ٍم ميحق الربكة‪ ،‬لذا كان‬
‫ففي ال�صحيحني �أن النبي ‪( :s‬احللف منفقة لل�سلعة ممحقة للربكة)‪.‬و ُك ُّل �سوقٍ َيك ُرث فيه ّ‬
‫الغ�ش‪ ،‬والبلد التي يف�شو بها‬
‫جئت �أر�ض ًا ُيوفون‬
‫ال�سلف ينهون عن البقاء يف هذه ال�سوق‪ ،‬قال �سعيد بن امل�سيب‪�( :‬إذا َ‬ ‫التطفيف ال ُيبارك يف ربحها‪ ،‬وقد كان ّ‬
‫املكيال وامليزان ف�أق ُل ْل املُقام بها)‪.‬‬
‫َ‬ ‫املقام بها‪ ،‬و�إذا جئت �أر�ض ًا َي ُ‬
‫نق�صون‬ ‫أطل َ‬ ‫املكيال وامليزان ف� ْ‬

‫ ‪ w‬من �أ�سباب الربكة يف الطعام وال�شراب خ�صو�ص ًا ويف �سائر املال عموم ًا ذكر اهلل عليه و�س� ُؤال ا ِ‬
‫هلل بركته‪ ،‬وكان‬
‫النبي ‪ s‬ي�أكل طعام ًا يف �ست ٍة من �أ�صحابه‪ ،‬فجاء �أعرابي ف�أكله بلقمتني‪ ،‬فقال ر�سول اهلل ‪�( :s‬أما �إنه لو �سمى لكفاكم)‬
‫رواه الرتمذي عن عائ�شة‪ .g‬وهذا يدل على �أن الت�سمية من �أ�سباب الربكة يف الطعام‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬بركة املال‬

‫املال �أدا ُء حقِّ اهلل فيه‪ ،‬من الزكاة وال�صداقات ونحوها‪ ،‬ثبت يف �صحيح البخاري �أن النبي‬ ‫ ‪ w‬ومن �أ�سباب برك ِة ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫‪ s‬قال‪( :‬ما من يوم ي�صبح العباد فيه �إال ملكان ينزالن‪ ،‬فيقول �أحدهما‪ :‬اللهم �أعط منفقا خلفا‪ ،‬ويقول الآخر‪ :‬اللهم �أعط‬
‫مم�سكا تلف ًا)‪ ،‬ويف �صحيح م�سلم �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ما نق�صت �صدقة من مال)‪ْ � ،‬أي �أنّ ال�صدق َة ٌ‬
‫�سبب لزيادة املال‪َ .‬ومن‬
‫� ّأخر زكاته ماله ناهيك عن منعها بال ُكل ّية ف�إن ذلك يكون دافع ًا للربكة مك�سب ًا لف�ساد املال و�إن كرث‪ ،‬يقول ‪( : s‬ما خالطت‬
‫حلميدي‪( :‬وذلك ب�أن ي�ؤخرها عن وقتها)‪.‬‬ ‫الزكاة ما ًال �إال �أف�سدته) قال ا ُ‬

‫إ�سراف وخميل ٍة ميكن �أن ُي�ستغني‬ ‫ ‪ w‬ومن عالمات الربكة ُح�سن الإنفاق‪ ،‬وعدم الإ�سراف؛ ف�إنَّ َمن �أنفق ما َله يف � ٍ‬
‫عنها ب�أق ّل منها ف�إن ذلك دلي ٌل على ق ّلة بركة ماله‪ ،‬وقد �أ�شار لذلك ُّ‬
‫النبي ‪ s‬حينما قال‪�( :‬أنَّ ِمن مُْي ِن املر�أ ِة تي�س ُري ِخطب ِتها‪،‬‬
‫َوتي�سري َ�ص َداقها) ‪ .‬روى الإمام �أحمد والن�سائي‪ .d‬وقال ‪( : s‬خري ُكنَّ �أي�سر ُكنَّ ُم�ؤنة)‪ .‬ف ُك ّلما كان الزواج غ َري متك ّل ٍف‬
‫فيه‪ ،‬وال مغاىل يف تكاليفه ف�إنه يكون عالمة على الربكة فيه؛ كما بينه ‪.s‬‬

‫ وقد �أخربنا نبينا ‪� s‬أنّ ِمن �أ�سباب بركة املال َ‬


‫عدم اال�ستخفاف بقليله وحقريه‪ ،‬لذا كان لعق الأ�صابع والإنا ِء بعد‬
‫الأكل من �أ�سباب الربكة فيه‪ ،‬روى جابر ا �أن النبي ‪� s‬أمر بلعق الأ�صابع وال�صَّ ْح َفة وقال‪�( :‬إنكم ال تدرون يف �أي طعامكم‬
‫فالواجب على امل�سلم عدم �إف�ساد املال‪ ،‬فهو عالمة بركته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الربكة) رواه م�سلم‪.‬‬

‫بع�ض متقدمي الفقهاء (وهو ابن عطية احلموي) �صور ًة من �صور عدم الربكة يف املال وهي �أن بع�ض التجار‬ ‫ وذكر ُ‬
‫يبني م�سجد ًا ثم يبذل ما ًال جلي ًال يف تزويقه وجتميله وزخرفته‪ ،‬قال‪ :‬وهذا املال الذي بذله يف التزويق ال ُي� َؤج ُر عليه و�إمنا‬
‫ي�ؤجر على بناء امل�سجد فقط‪ ..‬و ُيقا�س على ذلك من باب �أوىل ك ُّل ما يبذ ُل ُه ال�شخ�ص وي�صرفه مما ال نفع له كبري من كماليات‬
‫وحت�سينيات ميكن اال�ستغناء عنها‪.‬‬

‫�إن �أعظم �أ�سباب الربكة يف املال ‪:‬‬


‫ ‪� w‬س�ؤال اهلل �إياها وقد كان النبي ‪ s‬ي�س�أل اهلل الربكة يف طعامه و�شرابه‪ ،‬وكذا �أنبياء اهلل من قبل‪.‬‬
‫ ‪ w‬ومن �أ�سباب الربكة عدم احلر�ص على اجلمع بل الإن�سان يبذل ال�سبب‪ ،‬واهلل هو املوفق؛ وقد قال النبي ‪s‬‬
‫ع�شرات العقود‪ ،‬فهو �إ ّما بائ ٌع‪� ،‬أو م�ش ٍرت‪� ،‬أو‬
‫ٍ‬ ‫لبع�ض �أزواجه (ال حت�صي فيح�صي اهلل عليك)‪ .‬ف�إن املرء غالب ًا يعقد يف اليوم‬
‫م�ست�أج ٌر‪� ،‬أو مكرتي‪� ،‬أو واهب‪� ،‬أو ُم�ستوهب‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫يقدم على هذه التعامالت وال يعلم م�آالتها‪ ،‬ففي بع�ضها يربع املر ُء وي�سعد مبا ك�سب ‪-‬ولو كان قلي ًال‪ ،-‬ويف غريها‬‫واملر ُء ُ‬
‫بغنب �إذ مل يتحقق له ما مل يتحقق لغريه‪ ،‬فيكون هذا البي ُع ‪-‬ولو ربح فيه‪�ُ -‬ش�ؤم ًا عليه‪،‬‬
‫ح�س ٍ‬‫بيع باعه‪� ،‬أو ُي ّ‬
‫يندم على ٍ‬
‫يخ�سر‪� ،‬أو ُ‬
‫و�سبب ًا النقبا�ض ِ‬
‫نف�سه وتك ّدر خاطره‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬مطل الحقوق‬
‫مطل الحقوق‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫احلقوق‪َ ،‬وم ْط ُل ِ‬
‫النا�س بها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تعطيل‬ ‫ عباد اهلل! ف�إن ِمن الأفعال املح ّرم ِة �شرع ًا‪ ،‬واملذموم ِة ُعرف ًا‪:‬‬
‫احلقوق لي�س هو من َعها‪ ،‬و�إمنا هو الت�أخ ُري يف ت�سليمها‪ ،‬وال َّن�س�أُ يف �أدائها‪ ،‬ومتدي ُد‬
‫ِ‬ ‫وت�أجي ُلهم ما َلهم‪� .‬إنَّ مطل‬
‫ُمد ِد املطالبة بها‪.‬‬

‫ و ُك َّل َما ثبت احلقُّ‪ ،‬واحتاجه �صاح ُبه‪ ،‬وت�ضرر بت�أخره لزم املبادة لأدائها‪ ،‬وعظم الإثم على املطل به‪،‬‬
‫احلقوق والت�أخ َري يف �أدائها ُظلم ًا وح ّرمها يف‬
‫ِ‬ ‫طل‬ ‫ف�س ّمى ُ‬
‫اهلل َم َ‬ ‫لذا جاءت ن�صو�ص الوحيني يف ذ ّم من فعل ذلك‪َ :‬‬
‫و�س �أَ ْم َوا ِل ُك ْم َال ت َْظ ِل ُمونَ َو َال ُت ْظ َل ُمونَ {‪ ،‬قال املف�سرون (كالثعلبي وابن عطية‬
‫كتابه‪ ،‬فقال ـ‪َ } :‬و ِ�إن ُت ْبت ُْم َف َل ُك ْم ُر ُ�ؤ ُ‬
‫مطل)‪ .‬فيكون معنى الآية �أن املر َء �إذا كان عليه دَينٌ فكما �أنه ال يجوز �شرع ًا �أن‬ ‫والقرطبي)‪�( :‬أي ال تَظ ِل ُمونَ يف ٍ‬
‫ال�سداد‪ ،‬ف�إنه يحرم عليه �أي�ض ًا �أن يت�أخر يف �أداء ال ّدين �إن كان قادر ًا على‬ ‫ُيظ َلم بجعل الربا عليه �إن ت�أخر يف َّ‬
‫الوفاء وهذا هو املطل املح ّرم‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫{‬
‫بالعذاب ال�شديد يوم القيامة؛ فقال ـ‪َ }:‬و ْي ٌل ِّل ْل ُم َط ِّف ِفني‬ ‫ِ‬ ‫ماطل احلقوق وم�ؤخ َر �سدا َدها‬ ‫ وتوع ّد اهلل َ‬
‫ا�س َي ْ�س َت ْو ُفون{ َو ِ�إ َذا َكا ُلوهُ ْم َ�أو َّو َز ُنوهُ ْم ُي ْخ ِ�س ُرونَ {‪ ،‬جاء يف (�صحيح البخاري) �أن‬ ‫ا َّل ِذينَ ِ�إ َذا ا ْكتَا ُلو ْا َع َلى ال َّن ِ‬
‫بالعذاب ال�شديد يوم القيام ِة‪ ،‬وال َو ِيل ا َملهول‪ ،‬يف ال�صحيحني‬ ‫ِ‬ ‫توع ٌد‬
‫ماطل ُم َ‬ ‫املُط ِّف َف‪ :‬هو الذي ال ُيوفيِ غ َريه‪ .‬واملُ َ‬
‫اهلل له النار‪َ ،‬و َح َّر َم عليه اجلنة)‪ ،‬قيل‪:‬‬ ‫أوج َب ُ‬ ‫م�سلم بيمينه فقد � َ‬
‫�أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪( :‬من اقتطع حق امرئ ٍ‬
‫ر�سول اهلل و�إن كان �شيئ ًا ي�سري ًا قال‪( :‬و�إن كان ق�ضيبا من �أراك)‪.‬‬ ‫يا َ‬
‫ وقد قيل‪:‬‬
‫ا�س‬ ‫اليوم بال ِق َ‬
‫ـ�سط ِ‬ ‫بت َي َداك َ‬ ‫َك َ�س ْ‬ ‫ ‬
‫يت َما‬ ‫ا�ص َغ َدا �إذا َو َف َ‬ ‫فخف ال ِق َ�ص َ‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫ا�س‬ ‫�أو ُمه ـ ِـط ـ ٍـع �أو مـ ـُق ـن ـِ ٍع ل ـلـ ـ َر ِ‬ ‫ ‬
‫�ص‬ ‫يف َمو ِق ٍف َما في ِه �إال �شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَ ِاخ ٌ‬ ‫ ‬
‫وح ــاكـ ـ ُم ُهم َ�شــدي ُد الب ِ‬
‫ـا�س‬ ‫نـ ــا ٌر َ‬ ‫و�سـ ــج ُن ُهم ‬‫أع�ضا�ؤهم فيه ال�شهو ُد ِ‬ ‫ � َ‬
‫فـ ـ َغ ـ َـدا ت ـ ـ�ؤ ِّديـ ــها مـ ـَع الإفـ ِ‬
‫ـال�س‬ ‫ـوق مع ال ِغنى ‬ ‫اليوم احلق ـ َ‬ ‫متط ْل َ‬ ‫ �إن ِ‬
‫‪32‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مطل الحقوق‬

‫ ُروي يف الأثر‪�( :‬أنه ال �أك َر َه للعبد يوم القيامة ِمن �أن يرى َمن يعرفه خ�شية �أن يطالبه مبظ َل َم ٍة َظ َل َم ُه بها‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫(من كانت عنده مظلمة لأخيه من عر�ضه �أو من �شيء فليتحلل منه اليوم‬ ‫و�صح عنه ‪� s‬أنه قال‪َ :‬‬ ‫يف الدنيا)‪َّ ،‬‬
‫من قبل �أن ال يكون دينار وال درهم �إن كان له عمل �صالح �أخذ منه بقدر مظلمته و�إن مل يكن له ح�سنات �أخذ من‬
‫�سيئات �صاحبه فحمل عليه ثم طرح يف النار)‪.‬‬

‫أوج َب ُ‬
‫اهلل عقوب ًة يف الدنيا َملن مطل احلقوق ( َر َوى الإمام �أحمد و�أبو داود‬ ‫ و�إ�ضاف ًة لعذاب الآخرة‪ ،‬فقد � َ‬
‫عن َعمرو بن ال�شريد عن �أبيه) �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ليَ ُّ الواجد ظل ٌم يحل عر�ضه وعقوبته)‪ .‬قال وكيع (راوي‬
‫يح ُّل العر�ض واملال‪،‬‬ ‫احلقوق من ُّ‬
‫الظلم املح َّرم الذي ِ‬ ‫ِ‬ ‫حب�سه «‪ .‬فمطل‬ ‫ُ‬
‫(عر�ضهُ) �شكواه‪ ،‬و(عقوبتُه) ُ‬ ‫احلديث)‪« :‬‬
‫وال�سلطاتُ يف البلد بالعقوبة املنا�سبة يف العر�ض بالت�شهري واحلب�س‪ ،‬ويف املال بالتَّعزير‬
‫ب�أن يعاقبه القا�ضي ُّ‬
‫بالغرامة ونحوها‪.‬‬

‫ملطل احلقوق‪َ ،‬و َل ِّيها‪ ،‬والت�أخ ِري يف �أدائها �صور ًا متعددة ُترى يف جمتمعنا‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫عباد اهلل! �إن ِ‬ ‫ ‬
‫‪ w‬ت�أخري �أجرة الأجراء عن وقتها‪ ،‬وعدم ت�سليم الرواتب للموظفني يف وقت ا�ستحقاقها‪ ،‬ومماطلتهم فيها‪ ،‬وفع ُل ذلك‬
‫لقهرمان له هل �أعطيت الرقيقَ قوتهم؟ قال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫بغري ُعذ ٍر ُظل ٌم و�إث ٌم عظي ٌم عند اهلل‪ ،‬روى م�سلم �أن عبد اهلل بن َعمر ٍو‪ d‬قال‬
‫ميلك قوتَهم)‪ .‬وروى البخاري عن �أبي‬ ‫يحب�س ع َّمن ُ‬‫أعطهم ف�إن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪َ ( :‬ك َفى املرء �إثم ًا �أن َ‬ ‫ال قال‪ :‬فانطلقْ ف� ْ‬
‫هريرة ‪� ‬أن النبي ‪ s‬قال‪ :‬قال اهلل عز وجل‪( :‬ثالثة �أنا خ�صمهم يوم القيامة َومن كنتُ َخ�صْ َمه َخ َ�صم ُتهُ؛ رج ٌل �أعطى‬
‫بي ثم غدر‪ ،‬ورجل باع حر ًا ف�أكل ثمنه‪ ،‬ورجل ا�ست�أجر �أجري ًا ا�ستوفى منه ومل يو ِّفه)‪.‬‬

‫‪ w‬ومن ذلك املطل املُح ّرم‪ :‬ت�أخري �سداد الديون احلا َّلة‪ ،‬مع القدرة على �سدادها‪ ،‬وا�ستطاعة وفائها‪� ،‬إما‬
‫بق�صد اال�ستفادة من الأموال قدر امل�ستطاع‪� ،‬أو ب�سبب التكا�سل‪ .‬ويدخل يف ذلك‬ ‫ِ‬ ‫بق�صد م�ضار ِة الدائن‪� ،‬أو‬
‫قر�ض‬
‫�صديق �أو قريب‪ ،‬ومهما كان �سب ُبها‪� ،‬سوا ًء كانت ب�سبب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جميع الديون؛ �سوا ًء كانت واجب ًة ٍّ‬
‫ملحل جتاري‪� ،‬أو‬
‫�أو مبايع ٍة �أو قيم ًة لإجار ِة عقا ٍر �أو بدن؛ لأنّ هذه ُك ّلها ديو ٌن ثبتت يف الذمة ُ‬
‫فيلزم املبادر ُة بوفائها‪� ،‬إذ الواجب‬
‫واال�ستعجال بق�ضا ِئه ولو كان ما ًال قلي ًال‪.‬‬
‫ُ‬ ‫على املُ�سلم املبادر ُة �إىل �سداد دينه‪،‬‬

‫‪ w‬ويدخل يف ذلك الت�أخري يف ر ِّد الأمانات واحلقوق التي على ال�شخ�ص‪ ،‬ف�إذا ا�ستو َد َع امر ٌء �آخ َر �شيئ ًا وطلبه‬
‫لزم املباد ُة يف �أدائه ووفائه‪.‬‬
‫ف�إنه َي ُ‬

‫إجراءات‬
‫ٍ‬ ‫‪ w‬عباد اهلل! �إنّ ِمن �صور املطل املح ّرم‪ :‬الت�أخ ُري يف ت�سليم احلقوق‪ ،‬حتى ُتر َف َع �إىل املحاكم وت�أخذ �‬
‫التداعي‪ ،‬مع �أن َمن عليه احلق يعلم يقين ًا �أن احلقّ عليه و�أنه غارم‪ .‬ويزيد بع�ض املتداعيني الأم َر �سو ًء ُّ‬
‫والظ َلم‬
‫حيف ًا بتطويل الق�ضايا وكرث ِة الت�أجيل فيها‪ ،‬ال ال�ستبان ِة احلق وال ال�ستظهاره‪ ،‬و�إمنا �إ�ضرار ًا بالغري‪ ،‬وك�سب ًا‬
‫للوقت‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مطل الحقوق‬

‫احلقوق عبا َد اهلل لي�س مق�صور ًا على املعاو�ضات املالية فح�سب‪ ،‬بل �إن �سائ َر احلقوق‬
‫ِ‬ ‫‪ w‬عباد اهلل! �إن مطل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫كذلك‪ .‬ف َمن مل يبذل النفقة الواجبة عليه َملن جتب له النفقة كالزوجة والأبناء وال َوا ِل َدين‪ ،‬وت� ُ‬
‫أجيل بذل املهر‬
‫الرجال � َّأخر مهر زوج ِته �سن َني طوا ًال مع �أنه يجب ت�سلي ُم ُه عند العقد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وال�صداق للزوجة مط ٌل حم ّر ٌم‪ ،‬وكم من‬

‫الزوج وكانت غ َري راغب ٍة فيه‪ ،‬ودخل امل�صلحون‬ ‫‪ِ w‬ومن �أقبح �صور ا َملطل مطل املر�أة ح ّقها بال ِف َر ِاق �إن كرهت َ‬
‫وها َكالمْ ُ َع َّل َق ِة َو ِ�إن ُت�صْ ِل ُحو ْا َو َت َّت ُقو ْا َف ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َكانَ َغ ُفور ًا َّر ِحيم ًا{‪،‬‬ ‫بينهما للإ�صالح فما نفع } َف َال تمَ ِ ي ُلو ْا ُك َّل المْ َ ْي ِل َفت ََذ ُر َ‬
‫فتجده ميتنع من تطليق زوجته م�ضار ًة ومط ًال ول ّي ًا وهو ظل ٌم‪ .‬واملر�أ ُة املُط ّلق ُة �إذا كانت حا�ضن ًة لولدها فمنعت‬ ‫ْ‬
‫�أباه من جمال�سته واالجتماع به ف�إن ذلك ِمن مطل احلقوق املح ّرم‪.‬‬

‫الت املُراجعني‪ ،‬وت�أخ ُر ُه يف ت�أديتها‪ ،‬رغب ًة يف ال ّدع ِة‪ ،‬وكراه ًة للعمل‪،‬‬ ‫املوظ ِف ملُ َع َام ِ‬ ‫‪ w‬ومن �صور املطل ت� ُ‬
‫أجيل َّ‬
‫حتى �أ�صبح من املحال يف بع�ض الدوائر �إجناز املعامل ِة يف وق ِتها‪.‬‬

‫ال�ص ُّم ال ُّد َعا َء �إِ َذا َما ُي َنذ ُرون{ َو َل ِئن‬ ‫�أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪ُ } :‬ق ْل �إِنمَّ َ ا �أُ ِنذ ُر ُكم ِبا ْل َو ْح ِي َوال َي ْ�س َم ُع ُّ‬
‫اب َر ِّب َك َل َي ُقو ُلنَّ َيا َو ْي َل َنا ِ�إ َّنا ُك َّنا َظالمِ ِ َني{ َو َن َ�ض ُع المْ َ َوازِينَ ا ْل ِق ْ�س َط ِل َي ْو ِم ا ْل ِق َي َام ِة َفال ُت ْظ َل ُم‬
‫َّم َّ�س ْت ُه ْم َن ْف َح ٌة ِّمنْ َع َذ ِ‬
‫َن ْف ٌ�س َ�ش ْي ًئا َو�إِن َكانَ ِم ْث َق َال َح َّب ٍة ِّمنْ َخ ْر َد ٍل �أَ َت ْي َنا ِب َها َو َك َفى ِب َنا َح ِا�س ِبنيَ{‪.‬‬

‫�أنتهت اخلطبة الأوىل ‪ ،‬ومن ثم اجلل�سة اخلفيفية بني اخلطبتني‪ ،‬و�أخري ًا اخلطبة الثانية ‪ ،‬ومن ثم ال�صالة‪،‬‬
‫بعدها ان�صرف الإمام �إىل امل�أمومني‬

‫وقفة من اخلطبة‪:‬‬

‫ كما هي العادة ‪ ،‬فقد قدم الأ�ستاذ ‪ /‬حممد �شعبان ‪ ،‬ترجمة (بت�صرف) ملو�ضوع خطبة هذه اجلمعة ‪،‬‬
‫و قد كان (كعادته‪ ،‬بارك اهلل فيه) يلتزم بالنقاط الأ�سا�سية الواردة يف اخلطبة ‪ ،‬ولكنه ي�ضيف �إليها ما ي�ساعد‬
‫احل�ضور يف فهم املو�ضوع ‪ ،‬ومن ذلك ما تطرق �إليه من كيفية ق�ضاء احلقوق بني العباد يوم احل�ساب‪.‬‬

‫ففي حياتنا هناك العمالت النقدية التي نتعامل بها ‪ ،‬وهي تختلف من دولة �إىل �أخرى ‪ ( ،‬ففي مملكة‬
‫البحرين مث ًال) يتعامل النا�س بالدينار البحريني ‪ ،‬ف�إذا اقرت�ض �شخ�ص بالريال يف ال�سعودية ‪ ،‬وطلب منه‬
‫ال�سداد يف البحرين ـ فقد ي�سدد ( بالدينار البحريني) بد ًال من الريال‪ ،‬مع ح�ساب �إختالف �صرف العملة‪.‬‬
‫�أما يف دار احل�ساب ‪ ،‬فكل �شىء يحول �إىل ( ح�سنات) �أو(�سيئات)‪ ،‬فالعملة هي الأعمال ( احل�سن منها ‪،‬‬
‫وال�سىء)‪ ،‬ويكون احل�ساب ‪� ،‬إما بالأخذ من ح�سنات اخل�صم �إىل موازين غرميه ‪� ،‬أو الأخذ من �سيئات‬
‫الغرمي وو�ضعها يف ميزان �أعمال اخل�صم‪ ،‬وهذه نقطة ت�ستحق الت�أمل والتفكر‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫صوت النار وكالمها‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬صوت النار وكالمها‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ال�س َاع ِة َ�ش ْي ٌء َع ِظي ٌم{ َي ْو َم َت َر ْو َن َها ت َْذ َه ُل‬
‫ ف�إن �أمر الآخرة �أم ٌر ع�صيب‪ ،‬و�ش�أ ُنها ج ُّد خطري }�إِنَّ َز ْلزَ َل َة َّ‬
‫اب هَّ ِ‬
‫الل‬ ‫ا�س ُ�س َكا َرى َو َما هُ م ِب ُ�س َكا َرى َو َل ِكنَّ َع َذ َ‬ ‫ُك ُّل ُم ْر ِ�ض َع ٍة َع َّما �أَ ْر َ�ض َع ْت َوت ََ�ض ُع ُك ُّل َذ ِات َح ْم ٍل َح ْم َل َها َو َت َرى ال َّن َ‬
‫عيت و ُوقيت وهُ ديت خرب ًا من �أخبار الآخر ِة وهو ًال من �أهوالها‪ ،‬حكاه اهلل يف كتابه مما‬ ‫إليك ُر ُ‬ ‫َ�ش ِدي ٌد{‪ .‬و� َ‬
‫تهاب قبل العني �أحيان ًا‪.‬‬ ‫وحت�سه الأع�ضاء‪ ،‬والأذنُ ُ‬ ‫ناهيك ع ّما تراه الأع ُني ُّ‬ ‫َ‬ ‫يتع ّلق َّ‬
‫بال�سمع‪،‬‬

‫ عباد اهلل! �إن ِمن �أ�شدِّ املواقف رهب ًة‪ ،‬و�أقواها هيب ًة يف عر�صات ذلك املقام‪ ،‬حينما يكون ُ‬
‫النا�س‬
‫جهنم َ�سوق ًا‪ ،‬ت�أتيهم وهم يف مكانهم‬ ‫�صعيد واحد‪ ،‬وقد طال انتظارهم ووقوفهم‪ ،‬فتُ�ساق �إليهم ُ‬ ‫جمموعني يف ٍ‬
‫في�شت ُّد خوفهم‪ ،‬ويزداد َكربهم؛ } َك َّال ِ�إ َذا ُد َّك ِت الأَ ْر ُ�ض َد ّك ًا َد ّك ًا{ َو َجاء َر ُّب َك َوالمْ َ َل ُك َ�ص ّف ًا َ�ص ّف ًا{ َو ِجي َء َي ْو َم ِئ ٍذ‬
‫الذ ْك َرى{‪.‬‬ ‫ن�سانُ َو�أَ َّنى َل ُه ِّ‬
‫ِب َج َه َّن َم َي ْو َم ِئ ٍذ َيت ََذ َّك ُر ا ِلإ َ‬

‫احل ْج ِم‪ ،‬تجُ َ ُّر ج ّر ًا‪ ،‬ب�سبعني‬


‫ظيم َ‬‫ يجا ُء بجنهم قد َ�س ّدت الآفاق ي�سوقها نح ٌو من خم�سة مليارات م َل ٍك َع ِ‬
‫�ألف زمام ًا‪[ ،‬روى م�سلم يف ال�صحيح ‪ 7343‬من حديث ابن م�سعود ‪� ]d‬أن النبي ‪ ‬قال‪« :‬ي�ؤتى بجهنم‬
‫والنا�س حينها قد �أنهكهم الوقوف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يومئذ لها �سبعون �ألف زمام‪ ،‬مع ُك ِّل ز َِم ٍام َ�سبعون � َ‬
‫ألف َم َل ٍك يج ُّرونها»‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫خلوف‪ ،‬وطال بهم االنتظار‪ ،‬و�أخذت منهم الظنون ُك َّل م�أخذ‪ ،‬فريون النا َر �أمامهم بهذا احلجم‬ ‫و�أتعبهم ا َ‬
‫}ط ْل ُع َها َك�أَ َّن ُه ُر�ؤُ ُ‬
‫و�س ال�شَّ َي ِاط ِني{‪.‬‬ ‫بع�ضها بع�ض ًا‪ِ ،‬‬
‫ويحط ُم نا ُرها َ‬ ‫العظيم‪ ،‬والهيئ ِة املرعبة‪ ،‬ي�أكل ُ‬

‫وط َال له ُبها‪َ ،‬‬


‫وتعاظ َم‬ ‫وج َل َب ًة ُم َر ِّو َع ًة‪ ،‬فت ََطاير �شر ُرها‪َ ،‬‬ ‫النا�س �أخرجت �صوت ًا عظيم ًا‪َ ،‬‬ ‫ ف�إذا ر�أت النا ُر َ‬
‫ال�س َاع ِة َو�أَ ْعت َْد َنا لمِ َن َك َّذ َب ِب َّ‬
‫ال�س َاع ِة َ�س ِعري ًا{ ِ�إ َذا‬ ‫وحن ِقها‪َ } ،‬ب ْل َك َّذ ُبوا ِب َّ‬
‫َحج ُمها‪ ،‬ف َي�سمعون منها َ�صوتَ تغ ُّي ِظها َ‬
‫اخلارج من ال�صَّ د ِر‬ ‫ِ‬ ‫نعم ي�سمعون �صوتَ زف ٍري كال�صوت‬ ‫َر�أَ ْت ُهم ِّمن َّم َك ٍان َب ِع ٍيد َ�س ِم ُعوا َل َها َت َغ ُّي ًظا َو َز ِفري ًا{‪َ ،‬‬
‫املكلوم غ�ضب ًا وتغيظ ًا‪.‬‬

‫حق ًا �إنه ل�صوتٌ يتف َّز ُع له اجللد‪ ،‬ويق�شع ُّر له ال�شَّ عر‪ ،‬وتطري منه �أفئدة اخلالئق جميع ًا‪ ،‬فالنا ُر ِمن‬ ‫ ‬

‫‪35‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صوت النار وكالمها‬

‫وت�شخ�ص‬
‫ُ‬ ‫النا�س خوف ًا‪،‬‬
‫فت�صمت ُ‬
‫ُ‬ ‫الرهيب املُر ِّوع‪،‬‬
‫َ‬ ‫�صد ُر هذا ال�صوت‬ ‫توقدها وغاي ِة االلتهاب فيها ُت ِ‬ ‫ِ�ش َّد ِة ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ر�س ٌل �إال َخ َّر على ُركبتيه من املهابة والعظمة‬ ‫املقام َم َل ٌك ُمق َّر ٌب‪ ،‬وال ٌّ‬
‫نبي ُم َ‬ ‫�أب�صا ُرهم‪ ،‬وال يبقى يف ذلك ِ‬
‫يوم القيامة جمع اهلل الأولني والآخرين يف �صعيد واحد ونزلت‬ ‫و ُمعاينة الأهوال؛ ُروي يف الأثر‪�( :‬إذا كان ُ‬
‫ألف زمام‬ ‫اهلل‪ :‬يا جربائيل ائتني بجهنم‪ ،‬في�أتي بها جربيل فتقاد ب�سبعني � َ‬ ‫املالئكة و�صارت �صفوفا فيقول ُ‬
‫حتى �إذا كانت من اخلالئق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها �أفئدة اخلالئق) قال ال�ضحاك‪�( :‬إنَّ‬
‫نف�سي‬‫رب ِ‬ ‫فرائ�صه يقول‪ِّ :‬‬
‫ُ‬ ‫ر�سل �إال وقع لركبتيه ترعد‬ ‫جلهنم زفر ًة يوم القيامة ال َيب َقى َم َل ٌك ُمق َّر ٌب وال ٌّ‬
‫نبي ُم َ‬ ‫َ‬
‫نف�سي)‪ .‬وقال عبداهلل بن عمرو ‪�( :‬إن جهنم لتزفر زفرة تن�ش ُّق منها قلوب الظلمة‪ ،‬ثم تزفر �أخرى‬
‫‪d‬‬
‫فيطريون يف الأر�ض حتى يقعوا على ر�ؤو�سهم)‪.‬‬

‫وحدهم‪ ،‬بل حتى اجلمادات؛ قال‬‫إن�س َ‬ ‫ عباد اهلل! �إن روعة ذلك ال�صوت‪ ،‬ومهابتَه وجاللتَه ال تخيف ال َ‬
‫ح�سي�س النار َ‬
‫وتغيظها وزف َريها و�شهي َقها �صرخت اجلبال كما‬ ‫َ‬ ‫ف�سم َع ْت‬
‫وهب بن منبه‪�( :‬إذا ُ�سريت اجلبال ِ‬
‫ت�صرخ الن�ساء ثم يرجع �أوائلها على �أواخرها يدق بع�ضها بع�ض ًا) [رواه الإمام �أحمد يف الزهد ‪.]373‬‬

‫تتكلم بعد ذلك الزفري والتغيظ‪ ،‬فتتكلم حني ُيل َقى �أه ُلها فيها؛ } َو ِل َّل ِذينَ َك َف ُروا ِب َر ِّب ِه ْم‬ ‫ والنا ُر عباد اهلل! ُ‬
‫اب َج َه َّن َم َو ِب ْئ َ�س المْ َ ِ�ص ُري{�إِ َذا �أُ ْل ُقوا ِفي َها َ�س ِم ُعوا َل َها َ�ش ِهيق ًا َو ِه َي َت ُفو ُر{ َت َكا ُد تمَ َ َّي ُز ِمنَ ا ْل َغ ْي ِظ ُك َّل َما �أُ ْل ِق َي‬ ‫َع َذ ُ‬
‫ِفي َها َف ْو ٌج َ�س َ�أ َل ُه ْم َخزَ َن ُت َها �أَ مَْل َي�أْ ِت ُك ْم َن ِذي ٌر{‪.‬‬

‫ٌ‬
‫وتغيظ وفوران‬ ‫ ف�صوتها ك�صوت فوران ال ِق ْدر وهو َيغلي‪� ،‬صوتٌ مزعج‪ ،‬وزجمرة مرعبة‪� ،‬شهي ٌق وزفري‪،‬‬
‫قول َه َل َع ًا‪�َ .‬ص ّح عن ابن عبا�س �أنه قال‪�( :‬إن العبد ليجر �إىل النار فت�شهق‬ ‫طي�ش معه ال ُع ُ‬ ‫القلوب َخو َف ًا‪ ،‬و ُت ُ‬
‫َ‬ ‫يب‬
‫ُي ِذ ُ‬
‫�إليه �شهق َة البغلة �إىل ال�شَّ عري ثم تزفر زفرة ال يبقى �أحد �إال خاف) [خرجه ابن جرير ‪ 187/18‬قال ابن‬
‫ف�صيح ُمبني‪ ،‬وما ذلك على اهلل‬
‫ٍ‬ ‫بل�سان‬
‫تتكلم النا ُر ٍ‬ ‫كثري(التف�سري ‪� )97/6‬إ�سناد �صحيح]‪ .‬ويف ذلك املقام ُ‬
‫ول لجِ َ َه َّن َم َه ِل ْام َتلأْ ِت َو َت ُق ُ‬
‫ول َه ْل ِمن َّم ِز ٍيد{‪.‬‬ ‫بعزيز؛ يقول �سبحانه‪َ } :‬ي ْو َم َن ُق ُ‬

‫رب العزة‬ ‫ ويف ال�صَّ حيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال تزال جهنم ُيلقى فيها وتقول‪ :‬هل من مزيد حتى ي�ضع ُّ‬
‫بع�ض فتقول‪ :‬قط قط بعزتك وكرمك)‪ .‬وروى الرتمذي �أن النبي ‪ s‬قال‪:‬‬ ‫بع�ضها �إىل ٍ‬‫قدمه‪ ،‬فينزوي ُ‬ ‫فيها َ‬
‫يوم القيامة عن ٌق من النار لها عينان تب�صران و�أذنان ت�سمعان ول�سا ٌن ينطق تقول‪� :‬إين ُو ِك ْل ُت بثالث ٍة‪،‬‬
‫(يخرج َ‬
‫بكل ج َّبار عنيد‪ ،‬وب ُك ِّل من دعا مع اهلل �إله ًا �آخر‪ ،‬وبامل�صورين)‪ .‬وما ذلك على اهلل بعزيز يف ذلك اليوم‪.‬‬

‫ب�صوت جهنم و�شد ِته‪ ،‬ويخ ّوفهم منه؛ روى م�سلم‬‫ِ‬ ‫ عباد اهلل! لقد كان النبي ‪ s‬يذ ِّكر �أ�صحا َبه ‪f‬‬
‫(‪ )7346‬عن �أبى هريرة قال كنا مع ر�سول اهلل ‪� s‬إذ �سمع جلبة فقال النبي ‪ « :s‬تدرون ما هذا »‪ .‬قال‬
‫قلنا اهلل ور�سوله �أعلم‪ .‬قال‪ « :‬هذا حجر رمى به يف النار منذ �سبعني خريفا فهو يهوى يف النار الآن حتى‬
‫انتهى �إىل قعرها »‪.‬‬
‫بعده يتذاكرون �صوتَها وغلظته لتلني قلو ُبهم‪ ،‬ويتقالوا عملهم؛ روى ابن �أبي �شيبة‬
‫ وكذا كان �أ�صحا ُبه ِمن ِ‬

‫‪36‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صوت النار وكالمها‬

‫كعب �صوت النار وزفرتها‪ ،‬فقال‪( :‬والذي نف�سي‬ ‫(‪� )93/8‬أن عمر بن اخلطاب ‪ d‬قال لكعب‪ :‬خ ّوفنا! فذكر ٌ‬
‫نبي‬
‫اهلل من ٍّ‬‫بيده! �إن النار لتقرب يوم القيامة لها زفري و�شهيق؛ حتى �إذا دنت وقربت زفرت زفرة ما خلق ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫نبي وك ُّل �صدِّ ٍيق و ُك ُّل �شهيد‪ “ :‬اللهم ال �أكلفك‬


‫�صديق وال �شهيد �إال وجثا لركبتيه �ساقطا حتى يقول ك ُّل ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫وال‬
‫لظننت �أن ال تنجو)‪ ،‬قال ُعمر ‪( :d‬واهلل‬ ‫َ‬ ‫اليوم �إال نف�سي “‪ ،‬ولو كان لك يا ابن اخلطاب عم ُل �سبعني نبي ًا‬
‫َّعظت قلو ُبهم بكالم اهلل وكالم ر�سو ِله‪ ،‬وغ ُريهم �آخرون ق ّلت‬ ‫�إن الأمر ل�شديد)‪� .‬أولئك �أقوام النت قلو ُبهم فات َ‬
‫يغي‪.‬‬
‫ما�صح عن ر�سول اهلل ‪ s‬فال ُي�ؤثر فيهم وال رِّ‬ ‫َّ‬ ‫طاعاتهم وق�ست قلوبهم‪ ،‬تتلى عليهم الآيات‪ ،‬و َي�سمعون‬

‫ذاب �أهل‬‫املح�شر‪ ،‬ثم َيزدا ُد َع ُ‬ ‫النا�س جميع ًا يف َ‬ ‫ عباد اهلل! �إن �سماع �صوت النار ورهبتَه ي�شرتك فيه ُ‬
‫أهل النار َ‬
‫والظ َل َم َة ب�صوت‬ ‫يخيف � َ‬ ‫النار ب�سماع �صوتها ُك ّل حني و�سماع �صوت املعذبني فيها‪ ،‬وكما �أن اهلل ُ‬
‫اهلل على �أهل اجلنة ب�أنهم ال ي�سمعون �صوت النا ِر‬ ‫نت ُ‬ ‫اهلل منه ُ�س ّكانَ اجلنة و�أه ّلها‪ ،‬وقد ام َّ‬ ‫جهنم‪ ،‬فقد �أ ّمن ُ‬
‫فقال �سبحانه‪�ِ } :‬إنَّ ا َّل ِذينَ َ�س َب َق ْت َل ُهم ِّم َّنا الحْ ُ ْ�س َنى �أُ ْو َل ِئ َك َع ْن َها ُم ْب َعدُونَ {ال َي ْ�س َم ُعونَ َح ِ�س َ‬
‫ي�س َها َوهُ ْم فيِ َما‬
‫ا�شْ َت َه ْت �أَن ُف ُ�س ُه ْم َخا ِلدُونَ {‪ .‬فهم ال ي�سمعون �صوتَ النار وحرك َة تلهبها �إذا نزلوا منازلهم من اجلنة تف�ض ًال‬
‫منه ج ّل وعال‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدور الثالثة‬
‫الدور الثالثة‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إن املرء �إذا تف ّكر يف حياته‪ ،‬ونظر يف م�آالته وجد �أنه �سيم ُّر ال حمالة بدور ثالث‪ ،‬وهنّ ‪ :‬الدار الدنيا‪،‬‬
‫ودار الربزخ بعد وفــاته‪ ،‬والـدار الآخـرة بعـد البـعـث‪ .‬وقـد ذكر اهلل هذا التـنقل بني هـذه الـدور فـقال �سبحانه‬
‫خروج من �سبيل{‪ .‬فيوم القيامة يعرتف‬ ‫فهل �إىل ٍ‬ ‫‪َ }:‬قا ُلوا َر َّبنا �أَ َمتَّنا ا ْثنت ِني و�أَحي ْيتَنا اثنتني فاعرتفنا بذ ُنوبنا ْ‬
‫النا�س جميع ًا بالدور الثالث؛ لأنهم عا�شوها وعرفوها؛ لذلك قالوا‪}:‬فاعرتفنا بذنوبنا فهل �إىل خروج من‬
‫�سبيل{ وما ذاك بنافعهم‪ ،‬و�أما من �أيقن بها يف الدنيا وعمل لها فهو امل�ؤمن حق ًا‪.‬‬

‫ عباد اهلل ! �إن البن �آدم ثالث َة دو ٍر خمتلف ًة يف هيئتها وكنهها وحقيقتها‪.‬‬
‫فالدار الأوىل‪ :‬هي احلياة الدنيا وهي حم ٌّل التكليف‪ ،‬ومق ُّر االمتحان‪ ،‬وهي �أق�صر الدور الثالثة �أمد ًا‪،‬‬
‫وعليها ُتبنى مكانة العبد يف الدور َ‬
‫بعدها‪.‬‬

‫برزخ (�أي فا�صلة‬


‫ثم تليها الدار الثانية‪ :‬دار الربزخ حينما ميوت ال�شخ�ص وتقب�ض روحه‪ ،‬فينتقل �إىل دا ٍر ٍ‬
‫بني الدنيا والآخرة)‪ ،‬وقد جاء عن النبي ‪� s‬أنه قال‪�( :‬إذا مات الرجل فقد قامت قيامته)‪� ،‬أي انتهت حياته‬ ‫خطبة جديدة‬
‫الدنيا‪ ،‬وانتقل حلياة �أخروية قبل الدار الآخرة‪ ،‬وهي دار الربزخ‪.‬‬

‫ويف هذه الدار يعذب املرء �أو ينعم؛ كما �صح النقل املتواتر عن النبي ‪ s‬يف عذاب القرب ونعيمه‪ ،‬وقد‬
‫قال اهلل عز وجل عن فرعون وقومه‪} :‬النار يعر�ضون عليها غدو ًا وع�شي ًا ويوم تقوم ال�ساعة �أدخلوا �آل فرعون‬
‫�أ�شد العذاب{‪ ،‬فذكر �أنهم يعذبون بالنار قبل قيام ال�ساعة‪� ،‬أي يف الربزخ ويف قبورهم‪ .‬وهذه الدار �أطول من‬
‫�سابقتها‪ ،‬ولكنها متر مر ًا �سريع ًا‪.‬‬

‫و�أما الدار الثالثة‪ :‬ف�إنه دار البقاء‪ ،‬والدار الآخرة‪ ،‬واملرء فيها �إما �إىل جنة و�إما �إىل نار‪ ،‬وال و�سط بني ذلك‪.‬‬
‫وهذه الدار هي الباقية‪ ،‬وما عداها منتهي‪ ،‬وهي �أطول الدور‪ ،‬و�أهمها‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدور الثالثة‬

‫ عباد اهلل ! لن �أ�صف اليوم هذه الدور‪ ،‬ولن �أذكر نعتها وما فيها‪ ،‬و�إمنا �س�أذكر وقفة ت�أمل واعتبار يف‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫مقدم املرء لهذه الدور وحالة عند ر�ؤيته لدار غري داره ال�سابقة‪ ،‬وما يكون فيه من وح�شة وهيبة‪ ،‬وما يعرتيه من‬
‫روع وخمافة‪ ،‬فهذه الأوقات الثالثة �أ�شد ما تكون على الإن�سان‪ ،‬حني ينتقل يف كل منها من عامل �إىل �آخر‪ ،‬ومن‬
‫لثان‪.‬‬
‫حال ٍ‬‫ٍ‬

‫ فاملرء ين�ش�أ �أو ًال يف الرحم حيث ال ب�صر يدركه‪ ،‬وال يد تناله‪ ،‬اعتاد طعام ًا يتناوله من غري فيه‪ ،‬ال يكدح‬
‫وال يعمل‪ ،‬حياته خمتلفة وحركته �ساكنة‪ ،‬ف�إذا خرج من بطن �أمه فقد دار ًا كان قد �ألفها‪ ،‬وحياة قد عرفها‪،‬‬
‫ً‬
‫�صارخا كهيئة اخلائف �إذ خرج من بني‬ ‫و�صار �إىل دا ٍر �أخرى ال يدري مابني يديه فيها‪ ،‬ولذلك وح�شة فلذا ي�ستهل‬
‫الأح�شاء وفارق لينها و�ضمها‪ ،‬وانتقل �إىل هذه الدار يكابد همومها وغمها‪ .‬وهذه هي �أول وح�شة يح�سها املرء‬
‫يف �أول الدور‪ .‬ثم �إذا فارق دار الدنيا بقب�ض روحه‪ ،‬انتقل من دار البناء �إىل عامل الربزخ (برزخ بينها وبني دار‬
‫القرار)‪ ،‬فما ترى �أحد ًا قد عاي�شها �إال وقد �شخ�ص ب�صره‪ ،‬وفغر فوه‪ ،‬ومد يديه‪ ،‬ك�أنه مقب ٌل على �شيءٍ ٍ‬
‫مهول‬
‫غريب‪.‬‬
‫ ‬
‫وهو كذلك ف�إن �أول من ي�أتيه يف م�ستقبل هذه الدار �صور ُة عمله �صاحل ًا كان �أو طاحل ًا‪ ،‬وقد ثبت يف (امل�سند)‬
‫�أن النبي ‪ s‬قال‪" :‬ال متنوا املوت‪ ،‬ف�إن هول املطلع �شدي ٌد"‪ ،‬وجاء عن عمر بن اخلطاب ر�ضي اهلل عنه �أنه‬
‫قال‪( :‬واهلل الذي ال �إله غريه لو �أن يل ما على الأر�ض من �صفراء وبي�ضاء الفتديت به من هول املطلع)‪ .‬وهذه‬
‫ثاين الدور‪.‬‬

‫ومقام‬
‫مل�شهد عظيم‪ٍ ،‬‬ ‫ثم يبقى يف دار الربزخ ما �شاء اهلل‪ ،‬ف�إذا نفخ يف ال�صور النفخة الثانية‪ ،‬وقام النا�س ٍ‬
‫مهيب‪ ،‬فذاك اليوم الذي قال اهلل فيه‪� } :‬إن زلزلة ال�ساعة �شي ٌء عظيم يوم ترونها تذهل كل مر�ضع ٍة عما‬
‫حمل حملها وترى النا�س �سكارى وما هم ب�سكارى ولكن عذاب اهلل �شدي ٌد{‪.‬‬‫�أر�ضعت وت�ضع كل ذات ٍ‬

‫عباد اهلل ! �إن العبد يف هذه املوا�ضع الثالث يقدم وحيد ًا فريد ًا ال يعلم ما �سيكون عليه حاله‪ ،‬وما ينتهي �إليه‬
‫فيها م�آله‪ ،‬فلهي �أ�شد الأوقات التي متر على العبد و�أظناها و�أوح�شها؛ قال �سفيان بن عيينه‪�( :‬أوح�ش ما يكون‬
‫اخللق يف ثالثة مواطن‪ :‬يوم يولد فريى نف�سه خارج ًا مما كان فيه‪ .‬ويوم ميوت فريى قوم ًا ما �شاهدهم قط‪.‬‬

‫حم�شر عظيم) وملا كانت هذه املواطن الثالث �أ�شد ما تكون على ابن �آدم �أمن‬‫ٍ‬ ‫ ويوم يبعث فريى نف�سه يف‬
‫اهلل �أنبياءه فيها‪ ،‬و�سالم عليهم‪ ،‬فقال عن يحيى‪} :‬و�سال ٌم عليه يوم ولد ويوم ميوت ويوم يبعث حي ًا{‪ ،‬و�أنطق‬
‫اهلل عي�سى يف مهده فقال‪}:‬وال�سالم علي يوم ولدت ويوم �أموت ويوم �أبعث حي ًا{‪ .‬ف�أكرث النا�س �أمن ًا يف هذه‬
‫املواطن �أنبياء اهلل �صلوات اهلل و�سالمه عليهم‪ ،‬ثم �أ�شبههم بهم هدى وامتثا ًال‪.‬‬

‫عباد اهلل! �إن مو�ضع ًا من هذه الأوقات الثالثة مررن ًا به جميع ًا ولكننا ن�سيناه‪ ،‬والثاين ر�أيناه يف عدد من‬
‫�أحبابنا ومعارفنا و�سيمر علينا‪ ،‬والثالث مل يحن وقته لأحد‪ ،‬وال يعلم ب�آنه �إال اهلل‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدور الثالثة‬

‫ ولقدجعل اهلل هذه املواطن بع�ضهامذكر ًا ببع�ض‪ ،‬كما قال �سبحانه‪ } :‬كما بد�أكم تعودون{‪ ،‬وقال‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�سبحانه‪} :‬اهلل الذي خلقكم من �ضعف ثم جعل من بعد �ضعف قوة ثم جعل من بعد قو ٍة �ضعف ًا و�شيب ًة يخلق‬
‫ما ي�شاء وهو العليم القدير{ويوم تقوم ال�ساعة يق�سم املجرمون ما لبثوا غري �ساع ٍة كذلك كانوا ي�ؤفكون{وقال‬
‫فيومئذ‬
‫ٍ‬ ‫{‬
‫الذين �أوتوا العلم والإميان لقد لبثتم يف كتاب اهلل �إىل يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم ال تعلمون‬
‫ال ينفع الذين ظلموا معذرتهم وال هم ي�ستعتبون{ولقد �ضربنا للنا�س يف هذا القر�آن من كل مثل ولئن جئتهم‬
‫ب�آية ليقولن الذين كفروا �إن �أنتم �إال مبطلون{‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته‬
‫ي�صلون على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا‬
‫ور�سولنا و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫ اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪،‬‬
‫اللهم �أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة‬
‫�أمة الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن‬
‫املنكر يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا‬
‫بتوفيقك و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫أحكام الركوع‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬أحكام الركوع‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫اهلل ال�صالة ُك َّلها ُركوع ًا ِمن ت�سمية‬ ‫ ف�إن (الركوع) ِمن �أركان ال�صالة التي ال ت�ص ُّح �إال به‪ ،‬ول�شرف هذا الفعل �س َّمى ُ‬
‫ال�سجود‬ ‫اهلل به يف الأمر َ‬
‫قبل ُّ‬ ‫ال ُك ِّل با�سم البع�ض ت�شريف ًا له؛ فقال اهلل تعاىل‪َ } :‬وا ْر َك ُعو ْا َم َع ال َّر ِاك ِعنيَ{‪ .‬ول�شرف الركو َع ابتد�أ ُ‬
‫و�سائر العبادات فقال جل وعال‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ا ْر َك ُعوا َو ْ‬
‫ا�س ُجدُوا َو ْاع ُبدُوا َر َّب ُك ْم َوا ْف َع ُلوا الخْ َ رْ َي َل َع َّل ُك ْم ُت ْف ِل ُحونَ {‪ .‬و�أظه ُر‬ ‫ِ‬
‫ال�س ُجو ِد{‪ .‬وال يتع ّبد‬ ‫وال�سجو ُد والقيام؛ كما قال �سبحانه‪َ } :‬و َط ِّه ْر َب ْي ِت َي ِل َّلطا ِئ ِف َني َوا ْل َقائِمِ َني َوال ُّر َّك ِع ُّ‬ ‫�شعائر ال�صَّ ال ِة‪ :‬الركو ُع َّ‬
‫اهلل بالركوع مفرد ًا‪ ،‬بل ال ُب ّد �أن يكون يف �صالة‪ ،‬بخالف ال�سجود ف�إن ُي�شرع مفرد ًا ك�سجود ال�شكر والتالوة‪.‬‬

‫ وقد َ�ش ُرف �أقو ٌم عند اهلل تعاىل بكرثة ركوعهم له �سبحانه‪ ،‬حتى غدا ذلك و�صف ًا الزم ًا لهم؛ يقول جل وعال‪�ِ } :‬إنمَّ َ ا‬
‫حممد ‪ s‬ور�ضي‬ ‫اب ٍ‬ ‫أ�صح ٍ‬ ‫َو ِل ُّي ُك ُم هَّ ُ‬
‫الل َو َر ُ�سو ُل ُه َوا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا ا َّل ِذينَ ُي ِقي ُمونَ ال�صَّ َال َة َو ُي�ؤْ ُتونَ ال َّز َكا َة َوهُ ْم َر ِاك ُعونَ {‪َ .‬و�أثنى على � َ‬
‫ول هَّ ِ‬
‫الل َوا َّل ِذينَ َم َع ُه �أَ ِ�ش َّداء َع َلى ا ْل ُك َّفا ِر ُر َح َماء َب ْي َن ُه ْم‬ ‫عنهم بركوعهم و�سجودهم لها؛ فقال �سبحانه وتعاىل‪} :‬محُّ َ َّم ٌد َّر ُ�س ُ‬
‫َت َراهُ ْم ُر َّك ًعا ُ�س َّجدً ا{‪.‬‬

‫ذم �سبحانه َمن َذ َّم لرتكهم هذه ال�شعرية العظيمة فقال �سبحانه‪َ } :‬و�إِ َذا ِق َيل َل ُه ُم ا ْر َك ُعوا ال َي ْر َك ُعونَ }‪.‬‬
‫ ويف املقابل َّ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ركوعه فلم يح�سنه‪ ،‬روى الإمام �أحمد ب�إ�سناد �صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪:‬‬ ‫النا�س من اختل�س من ِ‬ ‫وبينّ النبي ‪� s‬أن �أ�سوء ِ‬
‫(�أ�سو�أ النا�س �سرق ًة الذي ي�سرق من �صالته‪ ،‬ال يتم ركوعها وال �سجودها‪ ،‬وال خ�شوعها)‪ ،‬ويف رواية (ال يتم �صلبه يف الركوع‬
‫وال�سجود)‪.‬‬

‫أحكام الركوع وفق َه ُه لي�ستبني فع ُله‪،‬‬ ‫فحري باملُ ِ‬


‫�سلم �أن يتع َّلم � َ‬ ‫ٌّ‬ ‫ عباد اهلل! �إذا كان ذلك كذلك‪ ،‬والأم ُر بهذا الأهمية‬
‫و�صف الراكعني الذين �أثنى ُ‬
‫اهلل عليهم يف كتابه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ي�صدق عليهم ُ‬ ‫و َي ُ‬
‫عظ َم �أج ُره‪ ،‬ويكونَ ممَِّ ن‬

‫ ف�صفة الركوع الواجب املجزء الذي ال يجزئ �أق ّل منه �إال لعذر‪� :‬أن َي�ض َع املُ�ص ِّلي ك َّفيه َعلى ُركبتيه‪ ،‬مع َحني َظ ِ‬
‫هره‬
‫حال القيام‪ .‬وال ُيك َت َفى بر�ؤو�س الأ�صابع بل ال ُب َّد من ال َّر َاحتني‪ .‬والدليل على ذلك ما جاء عند الإمام �أحمد و�أبي داود من‬
‫وام ُد ْد ظه َرك)‪.‬‬
‫ف�ض ْع َراحتيك على ُركبتيك ْ‬ ‫ركعت َ‬
‫حديث رفاعة بن رافع ا �أنّ النبي ‪ s‬قال لل ُم�سيء �صالته‪( :‬و�إذا َ‬

‫‪41‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أحكام الركوع‬

‫ فهذا هو �أق ُّل قد ٍر يجز ُء به الركوع‪ ،‬وفائدة معرفته �أمران؛‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�أحدهما‪� :‬أن َمن مل يفعل ذلك مل ت�صح �صالته‪.‬‬
‫والثاين‪� :‬أن َمن دخل مع الإمام وهو راكع ففعل هذا القدر قبل �أن يرفع الإمام من الركوع فقد �أدرك الركعة‪.‬‬

‫ويجب �أن يقول املرء يف الركو ِع ولو م َّرة‪�( :‬سبحان ربي العظيم)؛ ملا روى عقبة بن عامر قال‪ :‬ملا نزلت‪َ } :‬ف َ�س ِّب ْح‬
‫ُ‬ ‫ ‬
‫ا�س ِم َر ِّب َك ا ْل َع ِظ ِيم{ قال النبي ‪( :s‬اجعلوها يف ركوعكم)‪ .‬وجاء يف بع�ض الروايات �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬سبحان ربي‬ ‫ِب ْ‬
‫العظيم وبحمده)‪ .‬فهاتان �صيغتان �صحيحتان‪.‬‬

‫ ويجب االطمئنانُ يف الركوع و�سائر �أركان ال�صالة؛ وذلك ب�أن يعود ُك ُّل ع�ضو �إىل مو�ضعه‪ ،‬يف ال�صحيحني �أن النبي‬
‫ت�صل ثالث ًا‪ ،‬حتى قال‪ :‬والذي بعثك باحلق ال �أح�سن غريها فعلمني‪.‬‬ ‫ف�صل ف�إنك مل ِّ‬
‫‪ s‬ر�أى رج ًال ُي�ص ِّلي‪ ،‬فقال له‪ :‬ارجع ِّ‬
‫فع ّلمه النبي ‪ ،s‬ومما قال له‪( :‬ثم ارك ْع حتى تطمئن راكع ًا)‪ .‬ويف �صحيح البخاري �أن حذيفة ا ر�أى رج ًال ال ُيت ُّم الركو َع‬
‫اهلل حممد ًا ‪ .)s‬فهذه الأمور الثالثة هي احل ُّد‬ ‫مت على غري الفطرة التي فطر ُ‬ ‫�صليت لو ُم َّت َّ‬
‫َ‬ ‫وال�سجود‪ ،‬فقال له‪( :‬ما‬
‫الواجب يف الركوع‪ :‬يف هيئته‪ ،‬واالطمئنان فيه‪ ،‬والت�سبيح ولو مرة‪.‬‬

‫ و�أ َّما الهيئة الكاملة للركوع (وهي ال�صفة امل�ستح َّبة)‪ :‬فهي ا�ستقام ُة الظهر وا�ستوا�ؤه‪ ،‬و�أن يكون ر� ُأ�س امل�صلي ب�إزاء‬
‫ر�سول اهلل ‪� s‬إذا ركع مل ي�شخ�ص ر�أ�سه ومل‬ ‫يخف�ضه‪ .‬ففي �صحيح م�سلم عن عائ�شة ‪ g‬قالت‪( :‬كان ُ‬ ‫ُ‬ ‫ظهره ال يرف ُع ُه وال‬
‫ِ‬
‫ال�ساعدي قال‪( :‬ر�أيتُ النبي ‪� s‬إذا َر َك َع �أم َكنَ يديه ِمن ُركبتيه ثم‬
‫ميد َّ‬‫البخاري عن �أبي ُح ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ُي َ�ص ّوبه ولكن بني ذلك)‪ .‬وروى‬
‫اب�صة بن معبد ‪ d‬قال‪( :‬ر�أيتُ ر�سول اهلل ‪ُ s‬ي�ص ِّلي ف َكانَ‬ ‫هَ َ�ص َر َظه َره)؛ �أي َج َذبه �إىل بطنه‪ .‬وروى ابنُ ماجه ِمن حديث َو َ‬
‫�إذا َر َك َع �س َّوى ظه َره حتى لو ُ�ص َّب عليه املا ُء ال�ستقر)‪.‬‬

‫بع�ض؛ ففي حديث �أبي حميد �أن‬


‫�ستحب �أن يجايف ع�ضديه عن جنبه يف الركوع فال يل�صقها و�إمنا يبعدهما عن ٍ‬
‫ كما ُي ُّ‬
‫النبي ‪ s‬و�ضع يديه على ركبتيه ك�أنه ٌ‬
‫قاب�ض عليهما و َوتَّر يديه فنحاهما عن جنبه‪.‬‬

‫وال�سنة �أن يرفعهما �إىل فروع �أذنيه �أو حذو‬


‫�ستحب للم�صلي �أن يرفع يديه عند تكبري الركوع وبعد الرفع منه‪ُّ ،‬‬
‫ و ُي ُّ‬
‫منكبيه؛ ففي ال�صحيحني �أن ابن عمر ب قال‪( :‬ر�أيتُ النبي ‪� s‬إذا افتتح ال�صالة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه‪ ،‬و�إذا �أراد‬
‫�أن يركع‪ ،‬وبعدما يرف ُع ر� َأ�سه من الركوع) وجاء هذا احلديث عن نحو ع�شرة من ال�صحابة ‪.d‬‬

‫ومما‬ ‫الت�سبيح يف الركوع ثالث ًا‪ ،‬ويجوز الزيادة عليها ٍ‬


‫لع�شر و�أكرث‪ّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ وي�ستحب الثنا ُء على اهلل تعاىل يف الركوع‪ ،‬وتكرا ُر‬
‫ورد عنه ‪ s‬من الثناء على اهلل تعاىل يف الركوع قو ُله‪�( :‬سبوح قدو�س رب املالئكة والروح) قالت عائ�شة ‪ :g‬كان النبي‬
‫‪ s‬يقوله يف ركوعه و�سجوده (رواه م�سلم)‪ .‬وعند �أبي داود من حديث عوف بن مالك �أن النبي ‪ s‬كان يقول يف ركوعه‪:‬‬
‫(�سبحان ذي اجلربوت وامللكوت والكربياء والعظمة)‪.‬‬

‫و ُيك َره الدعا ُء وقراءة القر�آن يف الركوع؛ لقول النبي ‪�( :s‬إين ُنهيتُ �أن �أقر�أ القر�آن راكع ًا �أو �ساجد ًا‪ .‬ف�أ َّما الركوع‬
‫ال�سجود ف�أكرثوا فيه من الدعاء ف َقمِ نٌ �أن ُي�ستجاب لكم)‪.‬‬
‫فعظموا فيه الرب‪ ،‬و�أ ّما ُّ‬
‫‪42‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أحكام الركوع‬

‫ ومل َيرد �أن النبي ‪ s‬دعا يف الركوع مطلق ًا �إال دعا ًء واحد ًا وهو قوله ‪�( :s‬سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�ستحب �إطال ُة الركوع �إذا مل تكن م�شق ٌة على ال�شخ�ص فقد كان من �صفة ركوع النبي ‪� s‬أنه نحو من ِ‬
‫قيامه بالقراءة‪.‬‬ ‫يل)‪ .‬و ُي ُّ‬

‫وي�ستحب �أن تكون َيداه ُم َف َّر َج ْتي ال َأ�صابع مو�ضوع ًة‬


‫ُّ‬ ‫قدمه‪.‬‬
‫�ستحب �أن يكون نظ ُر امل�صلي �إىل مو�ضع �سجود‪ ،‬وال ينظر �إىل ِ‬
‫و ُي ُّ‬
‫على ركبتيه‪ .‬ملا روى وائل بن ُح ْجر ‪ d‬قال‪ :‬كان النبي ‪� s‬إذا ركع ف َّرج �أ�صابعه‪ .‬وقال �أبو ُحميد‪( :‬ر�أيتُ النبي ‪� s‬إذا‬
‫ُ‬
‫املري�ض الذي ال ي�ستطيع الركوع ف�إنه يومئ بالركوع �إميا ًء‪� ،‬أو ي�أتي به ح�سب ا�ستطاعته‪.‬‬ ‫ركع �أمكن يديه من ركبتيه)‪ .‬و�أ َّما‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته‬
‫ي�صلون على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا‬
‫ور�سولنا و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫ اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪،‬‬
‫اللهم �أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة‬
‫�أمة الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن‬
‫املنكر يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا‬
‫بتوفيقك و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستغناء عن الناس‬
‫األستغناء عن الناس‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ �إن احلمد هلل نحمده و ن�ستعينه ون�ستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من �شرور �أنف�سنا و�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من يهد اهلل‬
‫فال م�ضل له ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬وا�شهد �أن حممد ًا عبدُه‬
‫ور�سوله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتقوا اهلل حق تقاته وال متوتن �إال و�أنتم م�سلمون‪ ،‬يا�أيها النا�س اتقوا ربكم‬
‫الذي خلقكم من نف�س واحدة‪ ،‬وخلق منها زوجها وبث منهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتقو اهلل الذي ت�ساءلون‬
‫به والإرحام‪� ،‬إن اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتقوا اهلل وقولوا قو ًال �سديد ًا ي�صلح لكم �أعمالكم‪،‬‬
‫ويغفر لكم ذنوبكم‪ ،‬ومن يطع اهلل ور�سوله فقد فاز فوز ًا عظيم َا‪.‬‬

‫�أما بعد عباد اهلل ‪:‬‬

‫ ف َما ُمدح رج ٌل مبدح ٍة بعد الدِّ ين �أرف َع ِمن و�صفه بعزّة النف�س و�أنفتها‪ ،‬فهي ُخ ّل ٌة ال تكون �إال ِل ِع ْلية القوم‪ ،‬ال ير�ضى‬
‫نف�س ُه عن �سفا�سف الأمور‪ ،‬وقد قيل‪( :‬عزيز النف�س ال يقدر على املهانة‪ ،‬واملُهان ال يقدر‬ ‫باملهانة وال يتعر�ض لأ�سبابها‪ ،‬وترتفع ُ‬
‫على عزة النف�س)‪.‬‬

‫ل�شرعه‪ ،‬يقول اهلل ج ّل وعال‪}:‬‬ ‫ عزّة النف�س ورفعتُها هي �صف ٌة جعلها اهلل لعباده امل�ؤمنني المتثالهم �أم َره و�إطاع ِتهم ِ‬
‫وَللِ هَّ ِ ا ْل ِع َّز ُة َو ِل َر ُ�سو ِل ِه َو ِل ْل ُم�ؤ ِْم ِننيَ{‪ .‬فامل�ؤمن عزي ٌز ب�إعزاز ا ِ‬
‫هلل له‪ ،‬و�إمنا ا�ستم ّد ع ّزتَه ِ‬
‫بنف�سه باعتما ِده على ر ّبه‪ ،‬وا�ستغنا ِئه به‬
‫عن ع ّما �سواه‪ ،‬قال احل�سن الب�صري‪( :‬ع ُّز امل�ؤمنني اال�ستغنا ُء ع َّما يف �أيدي النا�س)‪.‬‬

‫ فع ّز ُة النف�س احلقيقية هي اال�ستغناء عن النا�س‪ ،‬واالغتناء باهلل تعاىل‪ ،‬ولي�ست عزّة النف�س هي التكبرّ على العباد‪،‬‬
‫وعدم ُ�س�ؤالهم؛ قال ر�سول اهلل ‪�( :s‬أتاين جربيل‬‫وكمال الرفع ِة يف اال�ستغناء عن النا�س ِ‬ ‫َ‬ ‫�أو الرتفع ع ّما يفعلونه‪ ،‬فغاي ُة ال ِعزِّ‬
‫جمزي به‪ ،‬واعلم �أنَّ �شرف‬
‫ٌّ‬ ‫فقال‪ :‬يا حم َّمد‪ِ ،‬ع�شْ ما �شئت ف�إ َّنك م ِّيت‪ ،‬و�أَ ْح ِب ْب َمن �شئت ف�إ َّنك مفارقه‪ ،‬واع َم ْل َما َ‬
‫�شئت ف�إ َّنك‬
‫امل�ؤمن قيا ُمه بالليل‪ ،‬وعزُّه ا�ستغنا�ؤه عن النا�س) [رواه الطرباين وغريه وهو ح�سن ب�شواهده]‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ُ‬
‫جربيل عليه ال�سالم للنبي‪�s‬أنّ عزة امل�ؤمن با�ستغنائه عن النا�س‪ ،‬وغناه باهلل‪ ،‬و ُك ّلما ا�ستغنى العب ُد ع َّما يف‬ ‫ فبينّ‬
‫أنف�سهم‪ ،‬يف �سنن ابن ماجه �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ازهد يف الدنيا يحبك اهلل‪،‬‬ ‫نف�س ُه �أكرث‪ ،‬وعظم عزّه يف � ِ‬
‫النا�س عزّت ُ‬
‫�أيدي ِ‬
‫وازهد فيما يف �أيدي النا�س يحبوك)‪.‬‬

‫وحده ولو كان فقري ًا حمتاج ًا‪ ،‬فقال‬


‫خل ْلق‪ ،‬و�ألقى حاجته باهلل َ‬ ‫اهلل على َمن ا�ستغنى َعن ا َ‬ ‫ عباد اهلل! لقد �أثنى ُ‬
‫�سبحانه‪َ } :‬ت ْع ِر ُف ُهم ِب ِ�سي َماهُ ْم َال َي�سْ�أَ ُلونَ ال َّن َ‬
‫ا�س �إِلحْ َ ا ًفا{‪ .‬فعزيز النف�س �إذا �أ�صابته فاق ٌة �أنزلها بالغني اجلوا ِد الكرمي‪.‬‬

‫َومن ا�ستغنى عن النا�س توك ًال عليه �سبحانه‪ ،‬كفاه اهلل املُ�ؤن َة روى ال�شيخان �أن النبي‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫(من ي�ستعفف يع ُّفه اهلل‪،‬‬
‫ومن َي�ستغني ُيغنيه اهلل‪َ ،‬ومن يت�صبرَّ ي�صبرِّ ه اهلل)‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستغناء عن الناس‬

‫ عباد اهلل! لقد كان النبي ‪ s‬يو�صي �أ�صحا َبه كثري ًا بعدم �س�ؤال ِ‬
‫النا�س؛ َملا يورثه ال�س� ُؤال من املذ ّلة‪ ،‬ويف ِ‬
‫ترك ِه‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫يكت�سب ع ّز ًة و�أنف ًة و�إبا َء‪ ،‬ففي �صحيح م�سلم عن عوف بن مالك الأ�شجعى قال‪ :‬كنا عند ر�سول اهلل ‪ s‬ت�سعة �أو ثمانية �أو‬ ‫ُ‬
‫�سبعة‪ ،‬فقال‪�« :‬أال تبايعون ر�سول اهلل»‪ ،‬فب�سطنا �أيدينا‪ ،‬وقلنا‪ :‬قد بايعناك يا ر�سول اهلل فعالم نبايعك؟ قال‪ « :‬على �أن تعبدوا‬
‫وال�صلوات اخلم�س‪ ،‬وتطيعوا »‪ .‬و�أ�س َّر كلم ًة ومل يرفع بها �صوته‪ « :‬وال ت�س�ألوا النا�س �شيئ ًا »‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اهلل وال ت�شركوا به �شيئ ًا‬

‫(من‬
‫ وروى الإمام �أحمد (‪ )277/5‬و�أبو داود وابن ماجه (‪ )1837‬ب�إ�سناد �صحيح عن ثوبان ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫يتقبل يل بواحد ٍة �أتقبل له باجلنة)‪ ،‬فقال ثوبان‪� :‬أنا‪ .‬فقال ‪( :s‬ال ت�س�أل النا�س �شيئ ًا)‪ .‬فامتثل ال�صحاب ُة هذا الأمر غاية‬
‫بع�ض �أولئك النفر ي�سقط �سوط �أحدهم فما ي�س�أل �أحد ًا يناوله �إياه)‪.‬‬
‫االمتثال‪ ،‬قال عوف ا‪( :‬فلقد ر�أيت َ‬

‫أحد ناولنيه‪ ،‬حتى ينزل في�أخذه‪ .‬ويف (امل�سند ‪ )172/5‬عن �أبي ذ ٍر ‪d‬‬ ‫ وكان ثوبان يقع ُ‬
‫�سوطه وهو راكب فال يقول ل ٍ‬
‫ر�سول اهلل ‪ s‬فقال‪ :‬هل لك �إىل بيعة ولك اجلنة ؟ قلتُ ‪ :‬نعم وب�سطتُ يدي‪ .‬فقال ر�سول اهلل ‪ :s‬وهو ي�شرتط‪:‬‬‫قال‪ :‬دعاين ُ‬
‫(على �أن ال ت�س�أل النا�س �شيئ ًا)‪ ،‬قلتُ ‪ :‬نعم‪ .‬قال‪( :‬وال �سوطك �أن ي�سقط منك حتى تنزل �إليه فت�أخذه)‪.‬‬

‫ بل �أ�ش ُّد من ذلك‪ :‬ف�إن ال�صَّ حابة ي َن ُهوا عن ال�س�ؤال حتى للأعمال ال�صَّ احلة؛ روى ابن �أبي �شيبة‬
‫(‪� )523/6‬أن �أبا هريرة ‪ d‬قال‪�( :‬إذا �أردتَ اجلهاد فال ت�س�أل النا�س �شيئ ًا)‪ .‬وكذا ّ‬
‫احلج‪ ،‬وغريه‪.‬‬

‫ و�أع ُّز النا�س َن ْف َ�س ًا و�أغناهم باهلل هم �أنبيا�ؤه ج ّل وعال‪ ،‬فلم يكونوا ي�س�ألون �أحد ًا �إال اهلل؛ روى ابن �أبي‬
‫رب خلي ُلك ُيل َقى يف النار‪،‬‬
‫�ضجت عامة اخلليقة �إىل اهلل فقالوا‪ :‬يا ِّ‬‫حامت‪� :‬أنه ملا �أرادوا �أن ُيلقوا �إبراهيم يف النار َّ‬
‫�إئذن لنا فلنطفئ عنه‪ ،‬فقال عز وجل‪�( :‬إن ا�ستعان بكم ف�أعينوه و�إن ا�ستغاث بكم ف�أغيثوه‪ ،‬و�إال فدعوه)‪ ،‬فلم‬
‫ي�س�أل �أحد ًا �إال اهلل‪ ،‬فقال اهلل‪} :‬يا نار كوين برد ًا و�سالم ًا على �إبراهيم{‪.‬‬

‫إمام �أحم ُد يف (الزهد ‪ :)103‬عن احل�سن الب�صري قال‪ :‬قال نبي اهلل ‪( :s‬رحم اهلل يو�سف‬ ‫ وروى ال ُ‬
‫لوال كلم ُت ُه ما لبث يف ال�سجن طول ما لبث؛ قوله‪} :‬اذكرين عند ربك{) [�أي �أن �س�ؤاله �أحد ًا ِمن اخللق هو الذي‬
‫�أطال مكثه يف ال�سجن]‪ ،‬ثم جعل احل�سن يبكي‪ ،‬ويقول‪( :‬ونحن �إذا نزل بنا �أم ٌر فزعنا �إىل النا�س)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إنّ عزّة النف�س تتحقق ب�أمرين‪:‬‬


‫أحد �شيئ ًا بل ي�ستغني عنهم‪ ،‬وكان الإمام �أحمد مي ُّر‬
‫يطلب ِمن � ٍ‬ ‫�أحدهما‪ُ :‬‬
‫عمل املرء بيده‪ ،‬وا�شتغا ُل ُه ِ‬
‫لنف�سه‪ ،‬فال ُ‬
‫بال�سوق ف�إذا ر�أى من يبيع وي�شرتي قال‪( :‬ما �أح�سن اال�ستغناء عن النا�س)‪ ،‬وكان يقول‪( :‬اال�ستغناء عن النا�س‬
‫ُّ‬
‫بطلب العمل‪� ،‬أعجب �إلينا من اجللو�س وانتظار ما يف �أيدي النا�س) [احلث على التجارة للخالل ‪.]4‬‬

‫النا�س �إح�سان ًا وال م ّنة‪،‬‬ ‫ �إنّ حقيق َة عزيز النف�س َمن يكدح بيده‪ ،‬وي�أ ُكل ّ‬
‫مما �أعرق جبي َنه‪ ،‬ال ينتظر من ِ‬
‫نف�سه هواها‪ ،‬ويف حديث �شداد بن �أو�س ا مرفوع ًا‪( :‬العاجز من اتبع‬ ‫فلي�س عزي ُز ِ‬
‫النف�س َمن جل�س يف بي ِته و�أتبع َ‬
‫ح�سنه الرتمذي‪.‬‬ ‫نف�سه هواها ومتنى على اهلل) ّ‬

‫‪45‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستغناء عن الناس‬

‫والثاين‪ :‬بالقناعة مبا ُرزق املر ُء ِمن متاع الدنيا‪ ،‬قال ب�شر بن احلارث‪( :‬لو مل يكن يف القنوع �إال التمتع ِّ‬
‫بالعز‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫لكفى �صاحبه)‪.‬‬
‫ال�شافعي‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ قال‬
‫ناعه‬
‫ـوق ِق َ‬ ‫ومل َيكـ ْ‬
‫ـ�شف ملخلـ ٍ‬ ‫لزم القناعة‬ ‫عزي ُز النف�س َمن َ‬ ‫ ‬
‫ �أف ــادت ـنــي القــناع ـ ُة ك ـُ َّل عـ ـِز و� ُّأي غنى �أع ُّز ِمن القناعة‬

‫أحب َما عندهم‪ ،‬وتعلق قل ُبه بزهرتهم } َوال‬ ‫نف�سه مبا يف �أيدي النا�س و� َّ‬ ‫ لي�س عزيزَ النف�س َمن تعلقت ُ‬
‫ي َو�أَ ْب َقى{‪.‬‬
‫تمَ ُ دَّنَّ َع ْي َن ْي َك ِ�إ ىَل َما َم َّت ْع َنا ِب ِه �أَ ْز َواج ًا ِّم ْن ُه ْم َز ْه َر َة الحْ َ َيا ِة ال ُّدن َيا ِل َن ْف ِت َن ُه ْم ِفي ِه َو ِر ْز ُق َر ِّب َك َخ رْ ٌ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم �أ�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫الزنا‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الزنا‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ �إن احلمد هلل نحمده و ن�ستعينه ون�ستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من �شرور �أنف�سنا و�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من يهد اهلل‬
‫فال م�ضل له ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬وا�شهد �أن حممد ًا عبدُه‬
‫ور�سوله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتقوا اهلل حق تقاته وال متوتن �إال و�أنتم م�سلمون‪ ،‬يا�أيها النا�س اتقوا ربكم‬
‫الذي خلقكم من نف�س واحدة‪ ،‬وخلق منها زوجها وبث منهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتقو اهلل الذي ت�ساءلون‬
‫به والإرحام‪� ،‬إن اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتقوا اهلل وقولوا قو ًال �سديد ًا ي�صلح لكم �أعمالكم‪،‬‬
‫ويغفر لكم ذنوبكم‪ ،‬ومن يطع اهلل ور�سوله فقد فاز فوز ًا عظيم َا‪.‬‬

‫ فقد ثبت يف ال�صحيح �أنه ملا خ�سفت ال�شم�س يف عهد النبي ‪� s‬صلى ثم خطب فقال‪َ ( :‬يا ُ�أ َّم َة محُ َ َّم ٍد‬
‫الل �أَنْ َيزْنيِ َ َع ْب ُد ُه �أَ ْو َتزْنيِ َ �أَ َم ُت ُه َيا �أُ َّم َة محُ َ َّم ٍد َو هَّ ِ‬
‫الل َل ْو َت ْع َل ُمونَ َما �أَ ْع َل ُم َل َ�ض ِح ْكت ُْم‬ ‫الل َما ِمنْ �أَ َح ٍد �أَ ْغ رَ ُي ِمنْ هَّ ِ‬
‫َو هَّ ِ‬
‫َق ِليلاً َول َب َك ْيت ُْم َك ِث ًريا)‪.‬‬

‫أقبح وال �أ�سو ُء من‬ ‫بذنب هو �أ�شن ُع وال � ُ‬


‫أغلظ من الزنا‪ ،‬وال � ُ‬ ‫ نعم ِعباد اهلل! فما ُع�صي اهلل بعد ال�شرك ٍ‬
‫أخبث و�أجن�س الذنوب‪ ،‬لأنه‬‫ال�سفاح‪ ،‬ولذا غار �سبحانه �أن يزين عب ُد ُه �أو تزين �أمته‪ ،‬ذلكم �أن الزنا من � ِ‬ ‫ِّ‬
‫توحيده‪ ،‬ولذا ف�إن �أحظى النا�س بهذه النجا�سة �أكرثهم ِ�شركا‪ ،‬وكلما كان العب ُد �أعظم‬ ‫َ‬ ‫ُيف�سد القلب و ُي�ض ِع ُف‬
‫�إخال�ص ًا هلل كان منها �أبعد‪ .‬يف ال�صحيحني [من حديث �أبي هريرة‪�]d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬ال يزين الزاين‬
‫حني يزين وهو م�ؤمن)‪� .‬إن للزنا خا�صي ًة عجيب ًة يف �إبعاد القلب عن اهلل ‪ ،‬و�إغفا ِله عنه‪ ،‬و�إق�صائه عن جنابه‬
‫القلب به َب ُع َد ِمن اهلل‪� ،‬إذ ُ‬
‫اهلل ط ِّي ُب ال يقبل �إال َطيب ًا‪.‬‬ ‫ف�إذا ان�صبغ ُ‬

‫قوم �إال كرثت‬


‫ عباد اهلل! الزنا �ش�ؤم على �صاحبه‪ ،‬و�ش�ؤ ٌم على �أهل الزاين وجمتمعه‪ :‬فما ظهر الزنا يف ٍ‬
‫اهلل عليهم العذاب؛ كما قال ال�صادق امل�صدوق‪.s‬‬ ‫أمرا�ض والأوجاع‪ ،‬وف�شا فيهم املوت‪ ،‬و�س َّل َط ُ‬ ‫فيهم ال ُ‬
‫روى الإمام �أحمد ب�إ�سناد ح�سن عن ميمونة‪g‬قالت‪ :‬قال ر�سول اهلل‪( :s‬ال تزال �أمتي بخري ما مل يف�ش‬
‫خطبة جديدة‬

‫فيهم ولد الزنا‪ ،‬ف�إذا ف�شا فيهم ولد الزنا ف ُيو�شك �أن يعمهم اهلل بعذاب)‪ .‬ويف املوط�أ �أن ابن عبا�س ‪d‬قال‪:‬‬
‫(ما ظهر الغلول يف قوم قط �إال �أُلقي يف قلوبهم ال ُّرعب‪ ،‬وال ف�شا الزنا يف قوم قط �إال َك رُ َث فيهم املوت)‪ .‬وعند‬
‫ابن ماجه عن ابن عمر ‪�d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬يا مع�شر املهاجرين خم�س �إذا ابتليتم بهن‪ ،‬و�أعوذ باهلل �أن‬
‫تدركوهن‪ :‬مل تظهر الفاح�ش ُة يف َق ٍوم َق ُّط حتى ُيعل ُنوا بها �إال َف َ�شا فيهم الطاعونُ والأوجا ُع التي مل ت ُكن َم َ�ضت‬
‫يف �أ�سالفهم)‪.‬‬

‫ الزنا عباد اهلل! من �أكرب املوبقات‪ ،‬و�أ�شدِّ املهلكات‪ِ ،‬ومن �أبغ�ض الذنوب �إىل اهلل رب الربيات‪ .‬مفق ٌر‬
‫كره‪ ،‬م�سو ٌد لوجهه‪ ،‬فا�ض ٌح ملا �أ�سره يف الدنيا والآخرة‪ ،‬مظهر للفق ُر وامل�سكنة‪.‬‬ ‫ل�صاحبه‪ٌ ،‬‬
‫مهلك له‪ ،‬قاط ٌع ِل ِذ ِ‬
‫ويف احلديث‪�( :‬إذا ظهر الزنا ظهر الفقر وامل�سكنة) [رواه البزار ‪.]5383‬‬
‫ ‬

‫‪47‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الزنا‬

‫اهلل عز وجل يف الدنيا عقوب ًة هي �أ�ش ُّد وال �أنكى من عقوبة الزنا‪ ،‬ف�إن الزاين �إن كان حم�صن ًا‬ ‫ َما َج َع َل ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وغ ِّرب‬ ‫جم باحلجارة حتى ميوت من غري رحمة له وال �شفقة به‪ ،‬و�إن كان غ َري حم�صن ُجلد مائ َة جلد ٍة ُ‬ ‫ُر َ‬
‫اهلل بعدم الر�أفة بالزناة وال ال�شفقة عليهم‪ ،‬بل و�أمر ب�شهود‬ ‫عن بلده �سن ًة‪ ،‬وزياد ًة يف عذابه والنكال به �أمر ُ‬
‫عقوبتهم ت�شهري ًا بهم ونكا ًال من اهلل ولي�س ذلك يف غري الزنا؛ عقوب ًة لهم بنقي�ض فعلهم فحينما �أ�سروا‬
‫اج ِلدُوا ُك َّل َو ِاح ٍد ِّم ْن ُه َما ِم َئ َة َج ْل َد ٍة َوال َت�أْ ُخ ْذ ُكم ِب ِه َما‬
‫الذنب ف�ضحهم اهلل‪ ،‬قال �سبحانه‪} :‬الزَّا ِن َي ُة َوال َّزانيِ َف ْ‬
‫الل ِ�إن ُكنت ُْم ُت�ؤْ ِم ُنونَ ِب هَّ ِ‬
‫الل َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر َو ْل َي�شْ َه ْد َع َذا َب ُه َما َطا ِئ َف ٌة ِّمنَ المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني{‪.‬‬ ‫َر�أْ َف ٌة فيِ ِد ِين هَّ ِ‬

‫ ومن عقوبة الزاين يف الدنيا قبل الآخرة �أنه لي�س كف�ؤ ًا للم�ؤمنة املح�صنة العفيفة قال �سبحانه‪}:‬ال َّزانيِ‬
‫ال َي ِنك ُح �إالَّ َزا ِن َي ًة �أَ ْو ُم�شْ ِر َك ًة َوالزَّا ِن َي ُة ال َي ِنك ُح َها ِ�إالَّ َز ٍان �أَ ْو ُم�شْ ِر ٌك َو ُح ِّر َم َذ ِل َك َع َلى المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني{‪ .‬فالزنا يذهب‬
‫�سقط �شر َفه‪.‬‬ ‫حرم َة فاعله‪ ،‬و ُي ُ‬

‫�ستجاب دُعا�ؤه‪ ،‬وال ُيرفع ندا�ؤه؛ روى �أحمد عن عثمان بن �أبي العا�صي‪d‬عن ر�سول اهلل ‪s‬‬
‫ُ‬ ‫ الزاين ال ُي‬
‫قال‪( :‬تفتح �أبواب ال�سماء ن�صف الليل فينادي مناد هل من داع في�ستجاب له هل من �سائل فيعطى‪ ،‬هل من‬
‫مكروب فيفرج عنه فال يبقى م�سلم يدعو بدعوة �إال ا�ستجاب اهلل عز وجل له �إال زاني ٌة ت�سعى بفرجها)‪.‬‬
‫�سبب ل�سواد وجه الزاين وظلمته‪ ،‬وذهاب نوره وبهجته‪ ،‬وهو �سبب ما يعلوه من الك�آب ِة واملقت الذي‬ ‫والزنا ٌ‬
‫يبدو للناظرين‪ ،‬وال يخفى على املتو�سمني‪.‬‬

‫وعقوق الأبناء‪ ،‬وقطيع ِة الرحم‪،‬‬


‫ِ‬ ‫ ناهيك عن دوام َ‬
‫احلزَ ن‪ ،‬وف�شو املر�ض‪ ،‬وفقر القلب‪ ،‬و ِق َ�ص ِر ال ُع ُمر‪،‬‬
‫جل وعال‪ .‬ففي ال�صحيحني �أن النبي ‪s‬قال‪( :‬واهلل ما من‬ ‫أعظم منه َغ َ�ض ُب اجلبار َّ‬
‫وبعده و� َ‬‫و َق ْب َل ذلك َ‬
‫أحد �أغري من اهلل �أن يزين عبدُه �أو تزين �أمتُه)‪ .‬ف�شو الزنا م� ِؤذ ٌن بقيام ال�ساعة ودن ِّو �أجلها‪ ،‬قال ‪�( :s‬إن‬
‫� ٍ‬
‫من �أ�شراط ال�ساعة �أن يرفع العلم‪ ،‬ويكرث اجلهل‪ ،‬و َيك َرث الزنا‪ ،‬ويكرث �شرب اخلمر)‪.‬‬

‫عذب يف قربه قبل البعث يوم القيامة �أ�ش َّد العذاب و�أنكله ففي �صحيح البخاري‬ ‫ الزاين عباد اهلل ! ُي َّ‬
‫أيت الليلة رجلني �أتياين ف�أخرجاين �إىل �أر�ض مقد�سة [فذكر‬ ‫عن �سمرة بن جندب‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪ :‬ر� ُ‬
‫مثل ال ُّت ُن ُور �أعاله �ض ّي ٌق و�أ�سف ُله وا�سع يتو َّقد حتتَه نار ًا [ف�إذا فيه‬
‫احلديث �إىل �أن قال‪ ]:‬فانطلقنا �إىل ُث ْق ٍب َ‬
‫َل َغ ٌط و�أ�صوات‪ ،‬قال‪ :‬فاطلعنا فيه ف�إذا فيه رجا ٌل ون�ساء عرا ٌة و�إذا هم ي�أتيهم لهب ِمن �أ�سفل منهم] ف�إذا‬
‫ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا �أن يخرجوا‪ ،‬و�إذا �أُخمدت رجعوا فيها)‪ .‬ثم قال‪�( :s‬أما الرجال والن�ساء‬
‫العراة الذين هم يف مثل بناء التنور ف�إنهم الزناة والزواين)‪.‬‬

‫ ويف حديث �أبي �أمامة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬بينا �أنا نائم �أتاين رجالن ف�أخذا ب�ضبعي ف�أتيا بي جب ًال‬
‫وعر ًا فقاال ا�صعد فقلت �إين ال �أطيقه فقاال �إنا �سن�سهله لك ف�صعدت ‪ ،‬قال‪ :‬ثم انطلق بي ف�إذا �أنا بقوم �أ�شد‬
‫قلت‪ :‬من ه�ؤالء؟ قال‪ :‬ه�ؤالء الزانون)‪ .‬هذا ما يعذبون به‬ ‫�شيء انتفاخا و�أنتنه ريحا ك�أن ريحهم املراحي�ض‪ُ ،‬‬
‫قبل قيام ال�ساعة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الزنا‬

‫أقبحه؛ ففي �صحيح م�سلم عن �أبي هريرة �أن النبي‪s‬‬ ‫و�أما عذابهم يوم القيامة ف�أ�سو�أُ العذاب‪ ،‬و�أ�شن ُع ُه و� ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫قال‪( :‬ثالثة ال يكلمهم اهلل يوم القيامة‪ ،‬وال يزكيهم‪ ،‬وال ينظر �إليهم‪ ،‬ولهم عذاب �أليم‪[ :‬وذكر منهم] �شيخ ًا‬
‫زاني ًا)‪.‬‬

‫ الزاين (عباد اهلل!) متوع ٌد بعدم دخول اجلنة روى �أهل ال�سنن عن �أبي هريرة‪d‬قال‪� :‬سمعت النبي‬
‫قوم رج ًال لي�س منهم فلي�ست من اهلل يف �شيء‪ ،‬وال يدخلها اهلل جنته)‪.‬‬ ‫أدخلت على ٍ‬ ‫‪ s‬يقول‪�( :‬أميا امر�أة � ْ‬
‫كف للداللة على �شدة عذاب الزناة �إال �أن �أهل النار يت�أذون بعذاب الزناة وننت ريحهم لكفى؛ قال‬ ‫ولو مل َي ِ‬
‫‪�( :s‬إن ريح فروج �أهل الزنا لي�ؤذي �أهل النار)‪ ،‬وعن مكحول رفعه قال‪( :‬تر َّو َح �أه ُل النار برائح ٍة فيقولون‪:‬‬
‫نت ِمن هذه الرائحة‪ ،‬ف ُيقال‪ :‬هذه رائحة فروج الزناة)‪.‬‬ ‫ر َّبنا َما وجدنا ريح ًا منذ دخلنا النا َر �أن َ‬
‫�أقول قويل هذا و�أ�ستغفر اهلل يل ولكم ‪..‬‬

‫الخطبة الثانية‬
‫اهلل عن كل‬ ‫الز َنى �إِ َّن ُه َكانَ َف ِاح َ�ش ًة َو َ�ساء َ�س ِبي ًال{‪ .‬لقد نهى ُ‬
‫ عباد اهلل! يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و َال َت ْق َر ُبو ْا ِّ‬
‫�أنواع الزنا �سر ًا وجهر ًا‪ ،‬و�سوا ًء كان احرتاف ًا �أم جمرد نزوة‪ ،‬من م�سلمة �أو غريها‪ ،‬كما نهى عن اخلطوات‬
‫التي ت�سبقه وت�ؤدي �إليه من نحو املخادنة وامل�صادقة وقد �س َّوى اهلل يف ذلك بني الرجال والن�ساء فقال} َغ رْ َي‬
‫ُم َ�سا ِف ِح َني َو َال ُمت َِّخ ِذي �أَ ْخ َد ٍان{‪ ،‬وقال‪َ }:‬غ رْ َي ُم َ�سا ِف َح ٍات َو َال ُمت َِّخ َذ ِات �أخدان{‪.‬‬

‫ كما ح ّرم اهلل النظ َر املح ّرم‪ ،‬واخللوة بالأجنبية‪ ،‬وح ّرم جتمل املر�أة وتعطرها �أمام الرجال الأجانب‪،‬‬
‫قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)‪ .‬وعن عقبة‬ ‫فثبت عنه‪� s‬أنه قال‪�( :‬أميا امر�أة ا�ستعطرت فم َّر ْت على ٍ‬
‫بن عامر �أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪�( :‬إياكم والدخول على الن�ساء) فقال رجل من الأن�صار يا ر�سول اهلل فر�أيت‬
‫احلمو قال‪( :‬احلمو املوت)‪.‬‬
‫الل �إِ َله ًا � َآخ َر َوال َي ْق ُت ُلونَ ال َّن ْف َ�س ا َّل ِتي َح َّر َم هَّ ُ‬
‫الل‬ ‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ } :‬وا َّل ِذينَ ال َي ْد ُعونَ َم َع هَّ ِ‬
‫ِ�إالَّ ِبالحْ َ ِّق َوال َيزْ ُنونَ َو َمن َي ْف َع ْل َذ ِل َك َي ْلقَ �أَ َثام ًا{ ُي َ�ض َاع ْف َل ُه ا ْل َع َذ ُ‬
‫اب َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َو َي ْخ ُل ْد ِفي ِه ُم َهان ًا{ ِ�إالَّ َمن‬
‫الل َغ ُفور ًا َّر ِحيم ًا{‬ ‫الل َ�س ِّي َئا ِت ِه ْم َح َ�س َن ٍات َو َكانَ هَّ ُ‬
‫َاب َو� َآمنَ َو َع ِم َل َع َم ًال َ�صالحِ ًا َف�أُ ْو َل ِئ َك ُي َبدِّ ُل هَّ ُ‬
‫ت َ‬

‫ا�س َت ْغ َف ُرو ْا ِل ُذ ُنو ِب ِه ْم َو َمن‬ ‫ ويقول اهلل عز وجل‪َ } :‬وا َّل ِذينَ ِ�إ َذا َف َع ُلو ْا َف ِاح َ�ش ًة �أَ ْو َظ َل ُمو ْا �أَ ْن ُف َ�س ُه ْم َذ َك ُرو ْا هَّ َ‬
‫الل َف ْ‬
‫الل َو مَْل ُي ِ�ص ُّرو ْا َع َلى َما َف َع ُلو ْا َوهُ ْم َي ْع َل ُمونَ {�أُ ْو َلـ ِئ َك َجزَ �آ�ؤُهُ م َّم ْغ ِف َر ٌة ِّمن َّر ِّب ِه ْم َو َج َّناتٌ تجَْ ِري ِمن‬ ‫وب �إِالَّ هَّ ُ‬
‫َي ْغ ِف ُر ال ُّذ ُن َ‬
‫تحَْ ِت َها الأَ ْن َها ُر َخا ِل ِدينَ ِفي َها َو ِن ْع َم �أَ ْج ُر ا ْل َع ِام ِل َني{‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬أدنى أهل الجنة‬
‫أدنى أهل الجنة‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ �إن احلمد هلل نحمده و ن�ستعينه ون�ستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من �شرور �أنف�سنا و�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من يهد اهلل‬
‫فال م�ضل له ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬وا�شهد �أن حممد ًا عبدُه‬
‫ور�سوله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتقوا اهلل حق تقاته وال متوتن �إال و�أنتم م�سلمون‪ ،‬يا�أيها النا�س اتقوا ربكم‬
‫الذي خلقكم من نف�س واحدة‪ ،‬وخلق منها زوجها وبث منهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتقو اهلل الذي ت�ساءلون‬
‫به والإرحام‪� ،‬إن اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتقوا اهلل وقولوا قو ًال �سديد ًا ي�صلح لكم �أعمالكم‪،‬‬
‫ويغفر لكم ذنوبكم‪ ،‬ومن يطع اهلل ور�سوله فقد فاز فوز ًا عظيم َا‪.‬‬

‫ال�شي عندك ومل ت�ستطع الإحاطة به ‪ ،‬ف�إن �إيرادك لأدنى درجاته م�شع ٌر بعظيم‬ ‫عباد اهلل ! ف�إنه �إذا عظم ُ‬
‫�ش�أنه ‪ ،‬وجاللة قدره ‪ .‬و �إليك يا رعاك اهلل خرب �أدنى �أهل اجلنة منزلة فيها ‪ ،‬و �آخر دخو ًال لها‪ ،‬ف�إنَّ فيه خرب ًا‬
‫و عظة ‪.‬‬

‫ لقد �أخرب النبي ‪ s‬عن درجات �أهل اجلنة ‪ ،‬ف�أعالهم �أولهم لها دخو ًال‪ ،‬و �أدناهم �آخرهم بعد خروجهم‬
‫من النار ؛ يف �صحيح م�سلم ‪ :‬عن جابر ر�ضي اهلل عنه �أن النبي ‪ s‬قال ‪ ( :‬ينجو امل�ؤمون فتنجو �أول زمرة‬
‫وجوهُ م كال َقمر ليلة البدر �سبعون �ألف ًا ال يحا�سبون ‪ ،‬ثم الذين يلونهم ك�أ�ضواء جنم يف ال�سماء ‪ ،‬ثم كذلك ‪ .‬حتل‬
‫ال�شفاعة و ُي�ش َّف ُعون حتى يخرج من النار َمن قال ال �إله �إال اهلل وكان يف قلبه ِمن اخلري ما يزن َ�ش ِعرية ف ُيجعلون‬
‫ر�شون عليهم املاء حتى َينبتوا نبات ال�شيء يف ال�سيل ‪ ،‬ويذهب ُحرا ُقه )‪.‬‬ ‫بفناء اجلنة‪ ،‬و َيج َعل �أه ُل اجلنة َي ُّ‬

‫تف�ضل اهلل عليه بدعائه له‪ ،‬ففي �صحيح م�سلم من حديث‬ ‫ ثم ّبني ‪� s‬أنّ �آخر من يخرج من النار �إمنا ّ‬
‫�أن�س ر�ضي اهلل عنه �أن النبي ‪ s‬قال ‪( :‬يخرج من النار �أربع ٌة فيعر�ضون على اهلل ‪َ ،‬ف ُ‬
‫يلتفت �أحدهم فيقول ‪ْ � :‬أي‬ ‫خطبة جديدة‬
‫رب �إذ �أخرجتني منها فال تعدين فيها ‪ .‬فينجيه اهلل منها ) ‪.‬‬

‫وبينّ ‪ s‬كيف يكون عر�ض ذلك الرجل على اهلل ‪ ،‬يف �صحيح م�سلم عن �أبي ذر �أن النبي ‪ s‬قال ‪� ( :‬إين‬
‫لأعلم �آخر �أهل اجلنه دخو ًال و �آخر �أهل النار خروج ًا منها ‪ ،‬رجل ي�ؤتى به يوم القيامة ف ُيقال ‪ِ :‬‬
‫اعر ُ�ضوا عليه‬
‫�صغار ذنوبه وار َف ُعوا عنه كبا َرها ‪ .‬فتُعر�ض عليه �صغا ُر ذنوبه ف ُيقال ‪ :‬عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا و عملت‬
‫يوم كذا وكذا كذا و كذا‪ .‬فيقول ‪ :‬نعم ال ي�ستطيع �أن ينكر وهو م�شفق من كبار ذنوبه �أن تعر�ض عليه ‪ .‬ف ُيقال‬
‫له ‪ :‬ف�إن لك مكان كل �سيئة ح�سنة‪ .‬فيقول رب قد عملت �أ�شياء ال �أراها ها هنا ) ‪ .‬فلقد ر�أيت ر�سول اهلل ‪s‬‬
‫�ضحك حتى بدت نواجذه ‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أدنى أهل الجنة‬

‫ ف�إذا �أجناه اهلل من النار ُم ّثل له �شجرة ذات ظ ٌل فيجل�س حتتها ‪ ،‬ومل يدخل اجلنة ‪ ،‬يف �صحيح م�سلم‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫عن ابن م�سعود و �أبي ذر ‪� s‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪� ( :‬آخ ُر من يدخل اجلنة رج ٌل مي�شي م َّر ًَة ويكبو مره ‪،‬‬
‫وت�سف ُع ُه النار م ّره ‪ ،‬ف�إذا ما جاوزها التفت �إليها ‪ ،‬فقال ‪ :‬تبارك الذي جناين منك لقد �أعطاين اهلل �شيئ ًا‪ ،‬ما‬
‫أعطا ُه �أحدا من الأولني وال الآخرين ‪ .‬فترُ فع له �شجرة ( ويف رواية ‪ :‬ومثل له �شجرة ذات ظل) ‪ ،‬فيقول �أي ِّ‬
‫رب‬ ‫� َ‬
‫�أدنني ِمن هذه ال�شجرة فلأ�ستظل بظلها و �أ�شرب من مائها فيقول اهلل عز و جل ‪ :‬يا بن �آدم لعلى �إن �أعطيتكها‬
‫�س�ألتني غريها ؟ فيقول ‪ :‬ال يا رب‪ .‬و يعاهده �أن ال ي�س�أله غ َريها‪ ،‬ور ُّب ُه َيعذ ُر ُه لأنه يرى ما ال �صرب عليه ‪ ،‬فيدنيه‬
‫رب �أدنني ِمن هذه‬ ‫وي�شرب من مائها ‪ ،‬ثم ُتر َف ُع له �شجرة هي �أح�سنُ من الأوىل فيقول‪� :‬أي ِّ‬ ‫ُ‬ ‫منها َفي�ستظ َّل بظ ِلها‬
‫لأ�شرب من مائها و�أ�ستظ َّل بظلها ال �أ�س�أ ُل َك غريها‪ .‬فيقول ‪ :‬يا ابن �آدم �أمل تعاهدين �أن ال ت�س�ألني غ َريها‪ ،‬فيقول‬
‫لعلي �إن �أدنيتك منها ت�س�ألني غريها‪ .‬فيعاهده �أن ال َي�س�أله غريها ‪ ،‬ور ُّب ُه َيعذ ُر ُه لأنه يرى ما ال َ�ص َرب عليه‪ ،‬فيدنيه‬
‫وي�شرب من مائها ‪ ،‬ثم ُتر َف ُع له �شجرة عند باب اجلنة هي �أح�سنُ من الأولني‪ .‬فيقول �أي‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ي�ستظل بظ ِلها‬ ‫منها َف‬
‫أ�شرب من مائها ال �أ�س�أ ُل َك غريها‪ .‬فيقول‪ :‬يا ابن �آدم �أمل تعاهدين �أن ال‬ ‫رب �أدنني ِمن هذه لأ�ستظل بظلها و � َ‬ ‫ِّ‬
‫ألك غريها‪ .‬ور ُّب ُه َيعذ ُر ُه لأنه يرى ما ال َ�ص َرب عليه ‪ ،‬فيدنيه منها في�سمع‬ ‫ت�س�ألني غ َريها؟ بلى يا رب هذه ال �أ�س� َ‬
‫�أ�صواتَ �أهل اجلنة ‪ ،‬فيقول ‪� :‬أي رب �أدخلنيها‪ .‬فيقول‪ :‬يا ابن �آدم ما َي�صْ ِريني منك ‪� ،‬أ ُير�ضيك �أن �أعطيك‬
‫رب العاملني ) ‪ .‬ف�ضحك ابن م�سعود فقال فقال ‪� :‬أال‬ ‫أنت ُّ‬‫الدنيا ومث َلها معها‪ ،‬قال‪ :‬يا رب �أت�ستهزئ مني و � َ‬
‫مم ت�ضحك ؟ قال‪ :‬هكذا �ضحك ر�سول اهلل ‪ . s‬فقالوا ‪ :‬مم ت�ضحك يا ر�سول‬ ‫ت�س�ألوين مم �أ�ضحك ؟ فقالوا‪َّ :‬‬
‫رب العاملني حني قال ‪� :‬أت�ستهزئ منى و�أنت رب العاملني ‪ ،‬فيقول ‪:‬ف�إين ال �أ�ستهزئ منك‬ ‫اهلل ؟ قال‪( :‬من �ضحك َّ‬
‫ولكني على ما �أ�شاء قادر)‪.‬‬

‫ ف�إذا �أذن له بدخول اجلنة بعد ذلك ‪ ،‬ظن �أنها ملأى ‪ ،‬يف ال�صحيحني‪ :‬عن عبداهلل ر�ضي اهلل عنه �أن‬
‫النبي ‪ s‬قال ‪� ( :‬إين لأعلم �آخ َر �أهل النار خروج ًا منها‪ ،‬و�آخر �أهل اجلنة دخو ًال ‪ ،‬رج ٌل يخرج من النار حبو ًا‪،‬‬
‫فيقول اهلل ‪ :‬اذهب فادخل اجلنة ‪ ،‬في�أتيها ف ُيخ ًّي ُل �إليه �أنها ملأى‪ ،‬رَفيجع فيقول‪ :‬يارب وجدتها ملأى ‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫اذهب فادخل اجلنة ‪ ،‬ف�إن لك مثل الدنيا وع�شر َة �أمثالها ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ت�سخر بي ‪� - ،‬أو ت�ضحك مني – و �أنت‬
‫امللك؟‪ .‬فلقد ر�أيت ر�سول اهلل ‪� s‬ضحك حتى بدت نواجذه ‪ ،‬وكان يقول ‪ :‬ذاك �أدنى �أهل اجلنة منزلة)‪.‬‬

‫رب عجيب ‪ ،‬ف�إن له الدنيا وع�شرة‬


‫ عباد اهلل ! ذلك خ ُرب دخول �أهل اجلنة فيها ‪ ،‬و �أ ّما ما له فيها ‪ ،‬فهو خ ٌ‬
‫�أمثالها كما �سبق يف احلديث ال�صحيح ‪ ،‬و ُيقال له متنّ ‪ :‬ففي �صحيح م�سلم ‪ :‬عن �أبي هريرة �أن النبي ‪ s‬قال‪:‬‬
‫أحدكم من اجلنة �أن َيقول له متن! فيتمنى ويتمنى ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬هل متنيت ؟ فيقول ‪ :‬نعم ‪ .‬فيقول‬ ‫مقعد � ِ‬
‫( �إن ِ‬
‫له‪ :‬ف�إن لك ما متنيت ومث َله معه ) ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أدنى أهل الجنة‬

‫ ويف حديث �أبي �سعيد يف �صحيح م�سلم ‪ ( :‬ويذ ُّكره اهلل ‪ْ :‬‬
‫�سل كذا وكذا ‪ ،‬ف�إذا انقطعت به الأماين‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫قال اهلل ‪ :‬هو لك وع�شرة �أمثاله )‪ .‬قال ‪ : s‬ثم يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاه من احلور العني فتقوالن ‪:‬‬
‫احلمداهلل الذي �أحياك لنا و�أحيانا لك ‪ ،‬قال ‪ :‬فيقول ما �أُعطي �أحد مثل ما �أعطيت )‪.‬‬

‫ وعند الرتمذي عن ابن عمر �أنّ ر�سول اهلل ‪ s‬قال ‪� ( :‬إن �أدنى �أهل اجلنة منزلة ملن ينظر �إىل ِجنا ِنه‬
‫جهه ُغ ْد َوه و َع�شية‪ ،‬ثم‬ ‫و�سرر ِه م�سري َة � ِ‬
‫ألف �سنة‪ ،‬و �أكرمهم على اهلل من ينظر �إىل َو ِ‬ ‫وخدمه ُ‬‫نعيمه َ‬
‫أزواجه و ِ‬
‫و� ِ‬
‫قر�أ ر�سول اهلل ‪": s‬وجوه يومئذ نا�ضرة ناظرة" ‪ .‬وعند الرتمذي عن �أبي �سعيد اخلدري �أن النبي ‪ s‬قال ‪:‬‬
‫( �أدنى �أهل اجلنة الذي له ثمانون �ألف خادم واثنتان و�سبعون زوجة ‪ ،‬و ُتن�صب له ُقبة من ل�ؤل�ؤ وزبرجد و ياقوت‬
‫كما بني اجلابية �إىل �صنعاء)‪.‬‬

‫لق�صد‬
‫ٍ‬ ‫ عبداهلل ! �إن خرب�أدنى �أهل اجلنة عظيم ‪ ،‬وقد �س�أل عنه مو�سى عليه ال�سالم ر ّبه ج ّل و عال ‪،‬‬
‫عظيم‪ ،‬ففي �صحيح م�سلم ‪ :‬عن املغرية بن �شعبة ر�ضي اهلل قال ‪� " :‬س�أل مو�سى ر َّبه ما �أدنى �أهل اجلنة منزلة‬
‫(ويف لفظ‪� :‬إن مو�سى –عليه ال�سالم‪� -‬س�أل اهلل عز وجل عن �أخ�س �أهل اجلنة منها حظ ًا) ‪ ،‬قال ‪ :‬هو رجل‬
‫رب كيف ‪ ،‬وقد نزل النا�س منا َزلهم‬ ‫يجي ُء بعدما �أُدخل �أهل اجلنة اجلن َة ‪ ،‬ف ُيقال له ‪ :‬ادخل اجلنة‪ :‬فيقول ‪ْ � :‬أي ِّ‬
‫ر�ضيت رب ‪ .‬فيقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫و�أخذوا �أخذتهم ‪ ،‬ف ُيقال له‪� :‬أتر�ضى �أن يكون لك مثل ُم ْلك َم ِل ٍك من ُملوك الدنيا ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫رب‪ .‬فيقول ‪ :‬هذا لك وع�شرة �أمثاله ولك‬ ‫ر�ضيت ِّ‬
‫ُ‬ ‫لك ذلك‪ ،‬ومث ُله ‪ ،‬وم ُث ُله ‪ ،‬ومث ُله ‪ ،‬وم ُث ُله‪ .‬فقال يف اخلام�سة‬
‫غر�ست‬
‫ُ‬ ‫رب ف�أعالهم منزل ًة ‪ ،‬قال ‪� :‬أولئك الذي �أردتَ ‪،‬‬ ‫رب ‪ .‬قال ‪ِّ :‬‬‫ر�ضيت ِّ‬
‫ُ‬ ‫ما ا�شتهت ولذت عينك ‪ .‬فيقول‬
‫وختمت عليها فلم ت َر عني ومل ت�سمع �أذن و مل يخطر على قبل ب�شر"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كرامتَهم بيدي‬

‫واقر�أوا �إن �شئتم ‪َ } :‬فال َت ْع َل ُم َن ْف ٌ�س َّما �أُ ْخ ِف َي َل ُهم ِّمن ُق َّر ِة �أَعْينُ ٍ َجزَ اء بمِ َ ا َكا ُنوا َي ْع َم ُلونَ { ‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪52‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫شهر شعبان‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬شهر شعبان‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫الَ ْر َ�ض{‪.‬‬
‫ال�س َما َو ِات َو ْ أ‬ ‫َاب هَّ ِ‬
‫الل َي ْو َم َخ َلقَ َّ‬ ‫ال�ش ُهو ِر ِع ْن َد هَّ ِ‬
‫الل ا ْث َنا َع َ�ش َر َ�ش ْهر ًا فيِ ِكت ِ‬ ‫ فـ}�إِنَّ ِع َّد َة ُّ‬
‫ ومن هذه ال�شهور ال�شهر الذي �أظلنا وهو �شهر �شعبان‪ ,‬و�سمي بذلك لأن العرب كانوا يت�شبعون فيه �أي‬
‫يتفرقون لطلب املياه‪ ,‬حيث كانت العرب تن�س�أ الأ�شهر يف كل ثالث �سنوات ي�ؤخرونه �شهرا فغدا رم�ضان دائما‬
‫يف �شدة القي�ض فيكون هو و�شعبان يف ف�صل ال�صيف فيتفرق النا�س بحثا عن املاء‪ ,‬حتى �أبطل اهلل الن�س�أ يف‬
‫ال�شهور‪ ,‬كما قال �سبحانه‪�( :‬إمنا الن�سئ زيادة يف الكفر ي�ضل به الذين كفروا)‪ .‬وا�ستدار الزمان كهيئته يوم‬
‫خلق اهلل ال�سموات والأر�ض حينما حج النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فوافق ح�ساب النا�س ماعند اهلل عز وجل‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �شهر �شعبان �شهر فا�ضل لكنه �أقل ف�ضال من �شهر رجب و�شهر رم�ضان لذا يغفل عنه‬
‫النا�س‪ ,‬روى الن�سائي عن �أ�سامة بن زيد ر�ضي اهلل عنه قال‪ :‬قلت يار�سول اهلل مل �أرك ت�صوم من �شهر من‬
‫ال�شهور مات�صوم من �شعبان؟ فقال �صلى اهلل عليه و�سلم‪( :‬ذاك �شهر يغفل النا�س عنه بني رجب ورم�ضان‪ ,‬وهو‬
‫�شهر ترفع فيه االعمال �إىل رب العاملني ف�أحب �أن يرفع عملي و�أنا �صائم)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫لقد كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يجتهد يف �صيام هذا ال�شهر باخل�صو�ص فعن �أن�س بن مالك ر�ضي‬
‫اهلل عنه قال‪( :‬كان �أحب ال�صوم �إىل ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ال�صوم يف �شعبان)‪ .‬ومن �شدة مالزمته‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم على ال�صيام يف �شعبان وحمافظته عليه ماحكى �أزواجه وهن �أقرب النا�س �إليه �أنه كان‬
‫ي�صوم ال�شهر كله فعن عائ�شة ر�ضي اهلل عنها قالت‪( :‬مل يكن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ي�صوم �شهرا �أكرث من‬
‫�شعبان‪ ,‬كان ي�صوم �شعبان كله)‪.‬‬

‫رواه البخاري ويف رواية عند �أهل ال�سنن قالت‪( :‬مار�أيت النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف �شهر �أكرث‬ ‫ ‬

‫‪53‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬شهر شعبان‬

‫�صياما منه يف �شعبان‪ ,‬كان ي�صومه �إال قليال‪ ,‬بل كان ي�صومه كله) قال ابن املبارك‪ :‬هو جائز يف كالم العرب‪,‬‬
‫�إذا �صام �أكرث ال�شهر �أن يقال‪� :‬صام ال�شهر كله‪ .‬وتقول �أم �سلمه ر�ضي اهلل عنها‪( :‬ما ر�أيت ر�سول اهلل �صلى اهلل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫عليه و�سلم ي�صوم �شهرين متتابعني �إال �شعبان ورم�ضان)‪.‬‬

‫ واحلكمة يف تخ�صي�ص هذا ال�شهر بال�صيام �أمور‪ ,‬منها‪� :‬أن �صيام امل�سلم �شعبان نفال يكون ممهدا‬
‫وم�ساعدا له ل�صيام رم�ضان‪ ,‬فيكون كالتمرين على �صيام رم�ضان حتى اليدخل يف �صوم رم�ضان م�شقة وكلفة‪,‬‬
‫لذا ملا كان �شعبان كاملقدمة لرم�ضان ف�إنه يكون فيه �شئ مما يكون يف رم�ضان من ال�صيام وقراءة القر�آن‬
‫وال�صدقة‪ ,‬لذا قال غري واحد من ال�سلف‪� :‬شهر �شعبان �شهر القراء‪ .‬لكرثة قراءاتهم القر�آن فيه ومراجعة‬
‫احلفظ ا�ستعدادا ل�شهر رم�ضان‪ ,‬وكان عمرو بن قي�س املالئي �إذا دخل �شعبان �أغلق حانوته وتفرغ لقراءة‬
‫القر�آن‪.‬‬
‫وقيل يف حكمة �صيام �شعبان‪ :‬ليكون كال�سنن الرواتب لل�صلوات ف�إن ي�ستحب �صيام �شعبان قبل رم�ضان‬
‫و�إتباع رم�ضان ب�ست من �شوال‪ ,‬فكما �أن ال�سنن الرواتب �أف�ضل من التطوع املطلق بالن�سبة لل�صالة‪ ,‬فكذلك‬
‫يكون �صيام ماقبل رم�ضان وبعده مبا�شرة �أف�ضل من �صيام مابعد منه‪.‬‬

‫ومن احلكم �أي�ضا يف الإكثار من �صيام �شعبان ماجاء يف احلديث‪�( :‬إن �شعبان �شهر يغفل النا�س فيه عنه‪,‬‬
‫بني رجب ورم�ضان) و�أنه (�شهر ترفع الأعمال �إىل رب العاملني)‪.‬‬
‫فاهلل عز وجل يحب العبادة عندما يكون النا�س غافلني والهني ففي �صحيح م�سلم �أن النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم قال‪�( :‬أف�ضل العبادة العبادة يف هرج)‪� ,‬أي عند ان�شغالهم‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫عباد اهلل! �إن ال�صيام يف �شعبان على �أربع درجات‪:‬‬


‫�أولها‪� :‬صوم واجب‪ :‬وهذا ملن عليه ق�ضاء من رم�ضان‪ ,‬فيلزم من كان عليه �صوم واجب مل يق�ضه من رم�ضان‬
‫الفائت ان يق�ضيه يف هذا ال�شهر قبل دخول �شهر رم�ضان‪ ,‬لأنه اليجوز ت�أخري ق�ضاء الأيام التي �أفطرها املرء‬
‫من رم�ضان �إىل رم�ضان الذي يليه‪ ,‬قالت عائ�شة ر�ضي اهلل عنها‪( :‬كان يكون علي ال�صوم من رم�ضان فما‬
‫�أ�ستطيع �أن �أق�ضي �إال يف �شعبان)‪ ,‬ومن �أخر الق�ضاء �إىل رم�ضان التايل بدون عذر �أثم ولزمته الكفارة مع‬
‫الق�ضاء يطعم عن كل يوم م�سكينا‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬شهر شعبان‬

‫ثانيا‪ :‬و�صيام م�ستحب‪ :‬في�ستحب الإكثار من ال�صيام يف هذا ال�شهر من �أول��ه �إىل منتهاه ملا تقدم من‬
‫الأحاديث‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ثالثا‪ :‬و�صيام مكروه‪ :‬وذلك �إذا مل ي�صم امل�سلم �أول ال�شهر �إىل �أن انت�صف �شهر �شعبان ‪ ,‬ف�إنه منهي كراهة‬
‫عن �إفراد الن�صف الأخري فقط بال�صوم‪ ,‬ملا روى الرتمذي عن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه �أن النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم قال‪�( :‬إذا بقي ن�صف من �شعبان فال ت�صوموا)‪ .‬قال الرتمذي‪( :‬معنى هذا احلديث عند بع�ض �أهل‬
‫العلم �أن يكون الرجل مفطرا ف�إذا بقي من �شعبان �شئ �أخذ يف ال�صوم)‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬و�صوم حمرم‪ :‬فيمنع ويحرم تقدم رم�ضان بيوم �أو يومني ب�صوم �أيام ال�شك وهما �آخر يومني من �شهر‬
‫�شعبان‪ ,‬ملا ثبت يف ال�صحيحني �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قال‪( :‬التقدموا رم�ضان بيوم �أو يومني �إال من كان‬
‫ي�صوم �صوما فلي�صمه)‪� ,‬أي كان معتادا كمن يوم الإثنني واخلمي�س‪� ,‬أو يوما بعد يوم ونحو ذلك‪.‬‬

‫عباد اهلل ‪� :‬صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته‬
‫ي�صلون على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا‬
‫ور�سولنا و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫السالمداود وسليمان عليهما السالم‬
‫قضاء‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة قضاء داود وسليمان عليهما‬
‫قصة‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف���إن اهلل عز وج��ل حكى لنا عن �أنبيائه ق�ص�صا فيه عظة‪ ,‬وخ�بر‪ ,‬و�أم��ر �سبحانه باال�ستنان بهم‬
‫واالقتداء بهداهم‪ ,‬وقد �أمر نبينا الكرمي‪ s‬باالقتداء بهما}�أُ ْو َل ِئ َك ا َّل ِذينَ َه َدى اللهّ ُ َف ِب ُه َداهُ ُم ا ْقت َِد ْه{‪.‬ومن‬
‫هوالء االنبياء الذين �أمر اهلل باالقتداء بهم يف هذه الآية (داود و�سليمان ‪ ,)a‬فقال �سبحانه‪َ } :‬و ِمن ُذ ِّر َّي ِت ِه‬
‫ا�س ُك ٌّل‬ ‫و�سى َو َها ُرونَ َو َك َذ ِل َك نجَْ ِزي المْ ُ ْح ِ�س ِن َني{ َو َز َك ِر َّيا َو َي ْح َيى َو ِع َ‬
‫ي�سى َو ِ�إ ْل َي َ‬ ‫و�س َف َو ُم َ‬ ‫وب َو ُي ُ‬ ‫َدا ُوو َد َو ُ�س َل ْي َمانَ َو َ�أ ُّي َ‬
‫ِّمنَ ال�صَّ الحِ ِ َني{ َو ِ�إ ْ�س َم ِاع َيل َوا ْل َي َ�س َع َو ُيو ُن َ�س َو ُل ً‬
‫وطا َو ُك ًّال ف�ضَّ ْل َنا َع َلى ا ْل َعالمَ ِ َني{ َو ِمنْ �آ َبا ِئ ِه ْم َو ُذ ِّر َّيا ِت ِه ْم َو ِ�إ ْخ َوا ِن ِه ْم‬
‫اط ُّم ْ�س َت ِق ٍيم{ َذ ِل َك هُ َدى اللهّ ِ َي ْه ِدي ِب ِه َمن َي َ�شاء ِمنْ ِع َبا ِد ِه َو َل ْو �أَ�شْ َر ُكو ْا لحَ َ ِب َط‬ ‫َو ْاج َت َب ْي َناهُ ْم َو َه َد ْي َناهُ ْم �إِ ىَل ِ�ص َر ٍ‬
‫َاب َوالحْ ُ ْك َم َوال ُّن ُب َّو َة َف ِ�إن َي ْك ُف ْر ِب َها َه�ؤُالء َف َق ْد َو َّك ْل َنا ِب َها َق ْو ًما‬ ‫َع ْن ُهم َّما َكا ُنو ْا َي ْع َم ُلونَ {�أُ ْو َل ِئ َك ا َّل ِذينَ �آ َت ْي َناهُ ُم ا ْل ِكت َ‬
‫َّل ْي ُ�سو ْا ِب َها ِب َكا ِف ِرينَ {�أُ ْو َل ِئ َك ا َّل ِذينَ َه َدى اللهّ ُ َف ِب ُه َداهُ ُم ا ْقت َِد ْه{‪.‬‬

‫ وقد �أثنى اهلل عليهما بالعلم‪ ,‬ومعرفة الق�ضاء‪ ,‬واحلكم بني النا�س فقال �سبحانه‪َ } :‬و َل َق ْد �آ َت ْي َنا َدا ُوو َد‬ ‫خطبة جديدة‬
‫َو ُ�س َل ْي َمانَ ِع ْلم ًا َو َق اَال الحْ َ ْم ُد للِ هَّ ِ ا َّل ِذي َف�ضَّ َل َنا َع َلى َك ِث ٍري ِّمنْ ِع َبا ِد ِه المْ ُ�ؤْ ِم ِننيَ{‪ .‬وامنت اهلل على داود ب�إ�صابته للحق‬
‫اب{‪ .‬وف�صل اخلطاب هو ف�صله بني اخل�صوم‬ ‫فقال �سبحانه‪َ } :‬و َ�ش َد ْد َنا ُم ْل َك ُه َو�آ َت ْي َنا ُه الحْ ِ ْك َم َة َو َف�صْ َل الخْ ِ َط ِ‬
‫و�إ�صابته للحكم عند اهلل تعاىل‪ ,‬قال جماهد‪( :‬ف�صل اخلطاب) �إ�صابة الق�ضاء وفهمه)‬

‫ حتى روى �أنه عليه ال�سالم �أول من ق�ضى ب�أن البينة على املدعي واليمني على املدعى عليه‪ ,‬و�أنه �أول‬
‫من حكم بال�شهود والأميان‪.‬وقد ق�ص اهلل لنا من حكم �سليمان وداود عليهم ال�سالم بني النا�س‪ ,‬فقال �سبحانه‪:‬‬
‫} َو َدا ُو َد َو ُ�س َل ْي َمانَ ِ�إ ْذ َي ْح ُك َم ِان فيِ الحْ َ ْر ِث ِ�إ ْذ َن َف َ�ش ْت ِفي ِه َغ َن ُم ا ْل َق ْو ِم َو ُك َّنا لحِ ُ ْك ِم ِه ْم َ�ش ِاه ِدينَ { َف َف َّه ْم َن َاها ُ�س َل ْي َمانَ‬
‫َوكُلاًّ �آ َت ْي َنا ُح ْك ًما َو ِع ْل ًما{‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة قضاء داود وسليمان عليهما السالم‬

‫ ذكر �شريح القا�ضي وغري واحد من ال�سلف‪� :‬أن ه�ؤالء القوم كان لهم كرم وعنب‪ ,‬فنف�شت فيه غنم قوم‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�آخرين (�أي رعته بالليل ف�أكلت �شجرة بالكلية)‪ ,‬فتحاكموا �إىل داود‪a‬فحكم لأ�صحاب الكرم بقيمته‪ ,‬فلما‬
‫خرجوا على �سليمان‪ a‬قال‪ :‬مب حكم لكم نبي اهلل؟ فقالوا‪ :‬بكذا وكذا‪ .‬فقال‪�( :‬أما لو كنت �أنا ملا حكمت �إال‬
‫بت�سليم الغنم �إىل �أ�صحاب الكرم‪ ,‬في�ستغلونها نتاجا ودرا حتى ي�صلح �أ�صحاب الغنم كرم �أولئك‪ ,‬ويردوه �إىل ما‬
‫كان عليه ثم يت�سلموا غنمهم)‪ ,‬فبلغ داود عليه ال�سالم ذلك فحكم به‪.‬‬

‫ وقد جاء يف ال�سنة ق�ضية �أخرى حكم فيها داود و�سليمان عليهما ال�سالم‪ ,‬فقدم حكم �سليمان على‬
‫حكم داود‪ ,‬ففي ال�صحيحني عن �أبي هريرة‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬بينما امر�أتان معهما ابناهما �إذ عدا‬
‫الذئب ف�أخذ ابن �إحداهما‪ ,‬فتنازعتا يف الآخر‪ ,‬فقالت الكربى‪� :‬إمنا ذهب بابنك؟ وقالت ال�صغرى‪ :‬بل �إمنا‬
‫ذهب بابنك‪ .‬فتحاكمتا �إىل داود فحكم به للكربى‪ ,‬فخرجتا على �سليمان فقال‪ :‬ائتوين بال�سكني �أ�شقه ن�صفني‬
‫لكل واحدة منكما ن�صفه؟ فقالت ال�صغرى يرحمك اهلل هو ابنها‪ .‬فق�ضى به لها)‪.‬‬

‫ ففي هذه الق�ضيتني حكم نبيني من �أنبياء اهلل تعاىل الذين �شهد لهم اهلل بالعلم ومعرفة ف�صل اخلطاب‪,‬‬
‫ومع ذلك اختلفا يف احلكم‪ ,‬وكان الأ�صوب يف احلكم هو �سليمان ‪.a‬ون�أخذ من هذه الأق�ضية من نبيي اهلل‬
‫تعاىل عليهما ال�سالم التي حكاها اهلل وق�صها ر�سوله‪ ,s‬العديد من م�سائل الفقه‪:‬‬
‫۩ ۩فمن ذلك �أن املر�أ مطلوب منه حتري العدل والق�سط‪ ,‬ف�إن �أ�صاب بعد حتريه فبها ونعمت و�إن �أخط أ�‬
‫�أثيب على اجتهاده‪ ,‬قال احل�سن الب�صري (بعد ذكره الآية يف ق�صة داود و�سليمان)‪( :‬لوال هذه الآية‬
‫لر�أيت ان احلكام قد هلكوا‪ ,‬ولكن اهلل حمد هذا ب�صوابه و�أثنى على هذا باجتهاده)‪.‬‬

‫ وبذلك يعذر من اجتهد وبذل و�سعه ف�أخط�أ‪ ,‬قال ال�شيخ تقي الدين‪( :‬فهذان نبيان كرميان حكما‬
‫يف حكومة واحدة فخ�ص اهلل �أحدهما بفهمها مع ثنائه على كل منهما ب�أنه �آتاه حكما وعلما‪ ,‬فكذلك العلماء‬
‫املجتهدون ‪f‬للم�صيب منهم �أجران وللآخر �أجر وكل منهم مطيع هلل بح�سب ا�ستطاعته واليكلفه اهلل ماعجز‬
‫عن عمله)‪.‬‬

‫۩ ۩ومما ي�ؤخذ من هذه الآية‪� :‬أن حكم احلاكم الينق�ص مبثله ف�إن �سليمان‪ a‬حينما �سمع ق�ضاء �أبيه‪� ,‬أ�شار‬
‫بر�أيه‪ ,‬فلم يكن ر�أيه ق�ضاء حتى ق�ضى به داود عليه ال�سالم‪ ,‬و�أم�ضاه‪.‬‬

‫۩ ۩وي�ؤخذ من هذه الآية‪� :‬أن امل�سلم يعذر العامل �إذا �أخط�أ يف اجتهاده وجانب ال�صواب‪ ,‬فال يعنف عليه‬
‫واليذمه والي�شتمه‪ ,‬قال ال�شيخ تقي الدين‪( :‬اليجتمع على �ضاللة ولكن يكون عند بع�ضها من العلم‬
‫‪57‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة قضاء داود وسليمان عليهما السالم‬

‫والفهم مالي�س عند بع�ض والعلماء ورثة الأنبياء وقد قال تعاىل‪} :‬وداوود و�سليمان �إذ يحكمان يف‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫احلرث �إذ نف�شت فيه غنم القوم وكنا حلكمهم �شاهدين{ ففهمناها �سليمان وكال �آتينا حكما وعلما{‬
‫فهذان نبيان كرميان حكما يف ق�صة فخ�ص اهلل �أحدهما بالفهم ومل يعب الآخر بل �أثنى عليهما جميعا‬
‫باحلكم والعلم وهكذا حكم العلماء املجتهدين ورثة الأنبياء وخلفاء الر�سل العاملني بالكتاب)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته‬
‫ي�صلون على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا‬
‫ور�سولنا و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫ اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪،‬‬
‫اللهم �أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة‬
‫�أمة الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن‬
‫املنكر يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا‬
‫بتوفيقك و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫ اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن‬
‫‪ ،‬عن بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني‬
‫وامل�سلمات الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪،‬‬
‫فا�ستغفروه �إنه هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫العزم على الطاعة قبل رمضان‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العزم على الطاعة قبل رمضان‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إنه قد دنا رم�ضان اف�ضل �شهور العام‪ ,‬و�أكرثها عبادة‪ ,‬و�أ�شملها عفوا ومغفرا و�أجرا‪ .‬و�إن �أحرى ما‬
‫ت�ستقبل به هذا ال�شهر‪ ,‬ويبادر به قبيل ح�ضوره �أمران‪ :‬تعلم �أحكامه‪ ,‬والعزم على الطاعة فيه‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن امل�سلم �إذا ا�ستقبل هذا ال�شهر الكرمي بالعزم على الطاعة فيه‪ ,‬بالإكثار من قراءة‬
‫القر�آن‪ ,‬ولزوم امل�ساجد واالعتكاف فيها‪ ,‬والإكثار من ال�صدقات‪ ,‬وحفظ الل�سان واجلوارح‪ ,‬وغري ذلك من‬
‫الأعمال‪ ,‬وكان عزمه جادا‪ ,‬و�إرادته �صادقه‪ ,‬ف�إن ي�ؤجر ثالث مرات‪ ,‬في�ؤجر على نيته قبل العمل‪ ,‬ف�إن عجز عن‬
‫العمل �أعطي �أجر العاملني ولو مل يعمله‪ ,‬ف�إن عمل ماعزم عليه �ضعف له �أجره ا�ضعافا كثرية‪ ,‬روى ال�شيخان‬
‫من حديث �أبي هريرة ‪d‬ان الر�سول‪ s‬قال‪:‬؛ يقول اهلل عز وجل‪�( :‬إذا �أراد عبدي �أن يعمل �سيئة فال تكتبوها‬
‫عليه حتى يعملها‪ ,‬و�إذا �أراد �أن يعمل ح�سنة فلم يعملها فاكتبوها له ح�سنة‪ ,‬ف�إن عملها فاكتبوا له بع�شر �أمثالها‬
‫خطبة جديدة‬

‫�إىل �سبعمائة)‪.‬‬

‫ فما هم به العبد من القول احل�سن‪ ,‬والعمل الطيب ف�إمنا يكتب له به ح�سنة واحدة‪ ,‬ف�إذا �صارت قوال �أو‬
‫عمال كتب له بها ع�شر ح�سنات �إىل �سبعمائة �ضعف بح�سب �صدقه مع اهلل ومتابعته للر�سول‪s‬فكيف �إذا كان‬
‫العمل املهموم به يف رم�ضان ف�إن �أجره �أكرث مثوبة وال �شك‪.‬‬

‫ و�إمنا �شرط الأجر على النية ال�صاحلة‪� :‬أن يعزم املرء على الفعل عزما �صادقا‪ ,‬و�أن يحول بينه وبني‬
‫الفعل العذر وعدم اال�ستطاعة‪ ,‬كما يف خرب النبي‪s‬عندما دنا من املدينة راجعا من غزوة تبوك‪ ,‬فقال‪�( :‬إن‬
‫باملدينة �أقواما ما �سرمت م�سريا‪ ,‬وال قطعتم واديا �إال كانوا معكم)‪ ,‬قالوا‪ :‬يا ر�سول اهلل! وهم باملدينة؟ قال‪:‬‬
‫(وهم باملدينة‪ ,‬حب�سهم العذر)‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العزم على الطاعة قبل رمضان‬

‫ ف�أولئك املعذورون من ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم �أجروا �أجر املجاهدين الغازين لنيتهم اخلري و�إمنا‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫منعهم العذر‪ .‬وثبت عن النبي‪�s‬أنه قال‪( :‬مثل هذه الأمه كمثل �أربعة نفر‪ :‬رجل �آتاه اهلل ماال وعلما فهو يعمل‬
‫بعلمه يف ماله ينفقه يف حقه‪ ,‬ورجل �آتاه اهلل علما ومل ي�ؤته ماال‪ ,‬فهو يقول‪ :‬لو كان يل مثل هذا عملت فيه مثل‬
‫الذي يعمل)‪ ,‬قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪( :‬فهما يف الأجر �سواء)‪.‬‬

‫ فما منع هذا الرجل من النفقة �إال عدم ملك املال‪ ,‬ف�أثيب ثواب املت�صدقني‪ .‬وقد يكون املانع من العمل‬
‫املر�ض‪ ,‬ففي ال�صحيح �أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إذا مر�ض العبد �أو �سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما �صحيحا)‪.‬‬

‫ وقد يكون املانع من العمل غلبة العني بالنوم ففي حديث عائ�شة ‪� g‬أن ر�سول اهلل ‪s‬قال‪( :‬ما من‬
‫امرئ تكون له �صالة بليل يغلبه عليها نوم �إال كتب له �أجر �صالته‪ ,‬وكان نومه عليه �صدقه)‪ ,‬فالنية �أبلغ من‬
‫العمل‪ ,‬واخلري كله �إمنا يجمعه ح�سن النية‪ ,‬و�إن مل ين�صب العبد‪ .‬فكانت رحمته �سبحانه وتعاىل بعباده وا�سعة‪,‬‬
‫حني �أثابهم على نياتهم تف�ضال منه ومنة‪ .‬ف�صاحب نية اخلري الحق عامل اخلري بنيته‪ ,‬و�صاحب نية ال�شر الحق‬
‫�صاحب ال�شر بق�صده و�إرادته ورغبته‪.‬‬

‫ عباد اهلل! لذا ملا علم �أئمة الدين ذلك توا�صوا نية اخلري والعزم على املعروف‪ ,‬قيل‪� :‬إن رجال جاء ملكة‬
‫فطاف يف امل�سجد احلرام‪ ,‬وهو ي�س�أل من يدلني على عمل �أداوم عليه وير�ضي ربي؟ فقال له فقهاء احلرم‪ :‬جدد‬
‫العزم دائما على �أن تفعل اخلري‪ ,‬ف�إن لك �أجر اخلري مادمت ناويا فعله‪ .‬وقال عبد اهلل بن الإمام �أحمد لأبيه‬
‫يوما‪ :‬يا �أبت �أو�صني! فقال الإمام �أحمد‪( :‬يا بني �أنو اخلري‪ ,‬ف�إنك ال تزال بخري ما نويت اخلري)‪.‬‬

‫ فيالها من و�صية ما �أ�شد وقعها‪ ,‬وما �أعظم نفعها‪ ,‬و�صية عظيمة من �أب البنه‪� ,‬سهلة على امل�س�ؤول‪,‬‬
‫�سهلة الفهم واالمتثال على ال�سائل‪� ,‬إذ فاعلها ثوابه دائم م�ستمر لدوامها وا�ستمرارها‪ .‬فنعم ال�سبيل �إىل اخلري‬
‫نية اخلري‪ ,‬ونعم العزاء للعاجز عنه ق�صده‪ ,‬وال �شك �أن امل�ؤمن يتطلع لأعظم اخلري‪ ,‬و�أكرث الرب و�إن قل عمله‪,‬‬
‫فنيته �أعظم من فعله‪ ,‬ورغبته �أكرث من عمله‪ ,‬لذا يروى يف الأثر‪( :‬نية امل�ؤمن �أبلغ من عمله)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! لقد �أر�شدنا النبي‪�s‬إىل ا�ستح�ضار العزم على الطاعة‪ ,‬ونية فعل اخلري‪ ,‬وكيف �أن من نوى‬
‫رمبا نال �أجر العاملني وهو على فرا�شه‪ ,‬ف�إنه ملا فتح اهلل عز وجل مكة لنبيه حممد‪ ,s‬قال ‪( :s‬ال هجرة‬
‫بعد الفتح‪ ,‬ولكن جهاد ونية)‪ ,‬فبني ‪�s‬أن الهجرة قد انقطعت بفتح مكة فال هجرة بعد ذلك اليوم‪ ,‬ولكن ي�ؤجر‬
‫املرء �أجر املهاجرين �إذا جاهد‪ ,‬ونوى اخلري‪ ,‬فنية املرء فعل اخلري‪ ,‬وحر�صه على �أن يعمل بالطاعة ولو عجز‬
‫عنها تثيبه ثوابا عظيما‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العزم على الطاعة قبل رمضان‬

‫ عباد اهلل! ونحن على �أعتاب قدوم �شهر رم�ضان‪� ,‬شهر الطاعة والعبادة‪ ,‬فما من �شهر ي�شرع فيه من‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الأعمال ال�صاحلة ما ي�شرع يف هذا ال�شهر‪ ,‬وال يثاب عليها كما يثاب يف هذا ال�شهر‪ ,‬فلننو اخلري والرب‪ ,‬فلنعزم‬
‫على �صيامه وقيام لياليه‪ ,‬وختم القر�آن فيه ولو مرة‪ ,‬والإكثار من لزوم امل�ساجد ليال ونهارا‪ ,‬وحفظ الل�سان‬
‫واجلوارح عما يغ�ضب اهلل عز وجل‪.‬‬

‫ ومن عالمات �صدق العزم‪� ,‬س�ؤال اهلل الإعانة وال�سداد‪ ,‬وبذل الأ�سباب املعينة من تنظيم الوقت‬
‫ا�س َو َب ِّي َن ٍات ِّمنَ ا ْل ُه َدى َوا ْل ُف ْر َق ِان َف َمن‬ ‫}�ش ْه ُر َر َم َ�ضانَ ا َّل ِذ َي ُ�أ ِنز َل ِفي ِه ا ْل ُقرْ�آنُ هُ دً ى ِّلل َّن ِ‬ ‫والتخفف من الأ�شغال‪َ .‬‬
‫َ�ش ِه َد ِمن ُك ُم ال�شَّ ْه َر َف ْل َي ُ�ص ْم ُه َو َمن َكانَ َم ِري�ض ًا �أَ ْو َع َلى َ�س َف ٍر َف ِع َّد ٌة ِّمنْ �أَ َّي ٍام �أُ َخ َر ُي ِري ُد اللهّ ُ ِب ُك ُم ا ْل ُي ْ�س َر َو َال ُي ِري ُد ِب ُك ُم‬
‫ا ْل ُع ْ�س َر َو ِل ُت ْك ِم ُلو ْا ا ْل ِع َّد َة َو ِل ُت َكبرِّ ُ و ْا اللهّ َ َع َلى َما َه َدا ُك ْم َو َل َع َّل ُك ْم َت�شْ ُك ُرونَ {‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته‬
‫ي�صلون على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا‬
‫ور�سولنا و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫ اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪،‬‬
‫اللهم �أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة‬
‫�أمة الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن‬
‫املنكر يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا‬
‫بتوفيقك و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫ اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن‬
‫‪ ،‬عن بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني‬
‫وامل�سلمات الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪،‬‬
‫فا�ستغفروه �إنه هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعتصام بالكتاب والسنة‬
‫اإلعتصام بالكتاب والسنة‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ يقول اهلل عز وجل‪َ ( :‬و ْاعت َِ�ص ُموا ِب َح ْب ِل هَّ ِ‬
‫الل َج ِمي ًعا َو اَل َت َف َّر ُقوا)‪ ,‬واملراد بحبل اهلل تعاىل‪ :‬القر�آن‪ ,‬قال‬
‫ابن م�سعود‪( :d‬حبل اهلل هو كتابه)‪ .‬جيء به على �سبيل اال�ستعارة فكما �أن احلبل �سبب حل�صول املق�صود‬
‫من ال�سقي ونحوه‪ ,‬فكذا هو �سبب حل�صول املق�صود من الثواب والنجاة من العذاب‪.‬‬

‫ ومن االعت�صام بالكتاب‪ :‬العمل بال�سنة‪ :‬كما قال جل وعال‪َ ( :‬و َما َي ْن ِطقُ َع ِن ا ْل َه َوى{ ِ�إنْ هُ َو ِ�إ اَّل َو ْح ٌي‬
‫وحى)‪ ,‬فبني اهلل �أن مايقوله النبي‪� s‬إمنا هو بوحي من اهلل فال�سنة النبوية كلها بوحي من اهلل تعاىل‪ ,‬و�سمى‬ ‫ُي َ‬
‫الل َوالحْ ِ ْك َم ِة ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َكانَ‬ ‫ات هَّ ِ‬
‫اهلل ما يقوله النبي‪s‬حكمة فقال �سبحانه‪َ ( :‬و ْاذ ُك ْرنَ َما ُي ْت َلى فيِ ُب ُيو ِت ُكنَّ ِمنْ �آ َي ِ‬
‫َل ِطي ًفا َخ ِب ًريا)‪.‬‬
‫ فال ا�ستغناء للعبد ب�أحدهما عن الآخر روى �أحمد عن املقدام بن معد كرب‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪:‬‬
‫(يو�شك رجل منكم متكئا على �أريكته يحدث بحديث عني فيقول‪ :‬بيننا وبينكم كتاب اهلل‪ ,‬فما وجدنا فيه من‬
‫حالل ا�ستحللناه‪ ,‬وما وجدنا فيه من حرام حرمناه‪� ,‬أال و�إن ماحرم ر�سول اهلل‪s‬مثل الذي حرم اهلل عز‬
‫وجل)‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫ عباد اهلل! لقد �ألزم اهلل جل وعال النا�س مالزمة االمتثال للكتاب وال�سنة‪ ,‬فقال عز وجل‪َ } :‬و َمن‬
‫ول َف�أُ ْو َل ِئ َك َم َع ا َّل ِذينَ �أَ ْن َع َم اللهّ ُ َع َل ْي ِهم ِّمنَ ال َّن ِب ِّي َني َو ِّ‬
‫ال�صدِّ ي ِق َني َو ُّ‬
‫ال�ش َه َداء َوال�صَّ الحِ ِ َني َو َح ُ�سنَ‬ ‫ُي ِط ِع اللهّ َ َوال َّر ُ�س َ‬
‫�أُو َل ِئ َك َر ِفي ًقا{‪ ,‬قال �أبو جعفر الطربي‪( :‬طاعتهما بالت�سليم لأمرهما‪ ,‬و�إخال�ص الر�ضا بحكمهما‪ ,‬واالنتهاء �إىل‬
‫�أمرهما‪ ,‬واالنزجار عما نهيا عنه من مع�صية اهلل‪ ,‬فهو مع الذين انعم اهلل عليهم بهدايته‪ ,‬والتوفيق لطاعته يف‬
‫الدنيا‪ ,‬ويف الآخرة �إذا دخل اجلنة من �أنبيائه وال�صديقني)‪.‬‬
‫ وثبت يف (املوط�أ) عن �أبي هريرة‪� d‬أن النبي‪ s‬قال‪�( :‬إين تركت فيكم �شيئني‪ ,‬لن ت�ضلوا بعدهما‪,‬‬
‫كتاب اهلل و�سنتي‪ ,‬ولن يتفرقا حتى يردا علي احلو�ض)‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعتصام بالكتاب والسنة‬

‫عباد اهلل! �إن االاعت�صام بالكتاب وال�سنة ي�شمل �أمورا متعددة منها‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫َاب �أَنزَ ْل َنا ُه ِ�إ َل ْي َك ُم َبا َر ٌك‬


‫}كت ٌ‬‫‪ w‬التدبر فيهما‪ ,‬والنظر واالعتبار‪ ,‬والتفقه يف املعاين‪ ,‬يقول اهلل تعاىل‪ِ :‬‬
‫وب �أَ ْق َفا ُل َها{‪.‬‬ ‫اب{‪ ,‬ويقول جل وعال‪�}:‬أَ َفلاَ َيت ََد َّب ُرونَ ا ْل ُقرْ�آنَ �أَ ْم َع َلى ُق ُل ٍ‬ ‫ِّل َي َّد َّب ُروا �آ َيا ِت ِه َو ِل َيت ََذ َّك َر �أُ ْو ُلوا ْ أ‬
‫الَ ْل َب ِ‬

‫وك‬‫‪ w‬ومن االعت�صام بالكتاب وال�سنة التحاكم �إليهما‪ ,‬كما قال �سبحانه‪َ }:‬ال َو َر ِّب َك َال ُي�ؤْ ِم ُنونَ َحت ََّى ُي َح ِّك ُم َ‬
‫ِفي َما َ�ش َج َر َب ْي َن ُه ْم ُث َّم َال َي ِجدُو ْا فيِ �أَن ُف ِ�س ِه ْم َح َر ًجا ممَِّّ ا َق َ�ض ْي َت َو ُي َ�س ِّل ُمو ْا ت َْ�س ِلي ًما{‪ ,‬ويقول �سبحانه‪�( :‬أَ مَْل َت َر �إِ ىَل‬
‫وت َو َق ْد ُ�أ ِم ُرو ْا �أَن‬
‫الط ُاغ ِ‬ ‫ا َّل ِذينَ َيزْ ُع ُمونَ �أَ َّن ُه ْم � َآم ُنو ْا بمِ َ ا �أُ ِنز َل �إِ َل ْي َك َو َما �أُ ِنز َل ِمن َق ْب ِل َك ُي ِريدُونَ َ�أن َيت ََحا َك ُمو ْا �إِ ىَل َّ‬
‫َي ْك ُف ُرو ْا ِب ِه َو ُي ِري ُد ال�شَّ ْي َطانُ �أَن ُي ِ�ض َّل ُه ْم َ�ض َال ًال َبعِيدً ا{ َو ِ�إ َذا ِق َيل َل ُه ْم َت َعا َل ْو ْا ِ�إ ىَل َما �أَنزَ َل اللهّ ُ َو ِ�إ ىَل ال َّر ُ�س ِول َر�أَ ْي َت‬
‫نك ُ�صدُودًا )‪.‬‬ ‫المْ ُ َنا ِف ِق َني َي ُ�ص ُّدونَ َع َ‬

‫‪� w‬إن من االعت�صام بالكتاب وال�سنة الرجوع �إليهما يف التعامل‪ ,‬فما حرماه �أنكف عنه العبد‪ ,‬وما �أباحاه‬
‫عمل به‪� ,‬سواء يف بيعه و�شرائه‪� ,‬أو يف عقده و�إبرامه �أو يف تعامله مع النا�س‪ ,‬وما يفعل وما يذر‪.‬‬

‫‪ w‬ومن االعت�صام بالكتاب وال�سنة‪ :‬اجلزم ب�أن كل ما نزل بامل�سلمني ففيه حكم الزم يف الكتاب �أو ال�سنة‪,‬‬
‫يت َل ُك ُم‬‫�إما تف�صيال و�إما ت�أ�صيال‪ .‬كما قال جل وعال‪}:‬ا ْل َي ْو َم َ�أ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم ِدي َن ُك ْم َو�أَتمْ َ ْم ُت َع َل ْي ُك ْم ِن ْع َم ِتي َو َر ِ�ض ُ‬
‫ا�س‬‫َاب ِمن َ�ش ْيءٍ {‪ ,‬وقال‪َ }:‬و َل َق ْد َ�ص َّر ْف َنا فيِ َه َذا ا ْل ُقرْ� ِآن ِلل َّن ِ‬ ‫الكت ِ‬ ‫الإِ ْ�س َال َم ِدي ًنا{‪ .‬وقال �سبحانه‪َّ }:‬ما َف َّر ْط َنا فيِ ِ‬
‫ن�سانُ �أَ ْك رَ َث َ�ش ْيءٍ َج َد اًل{‪.‬‬ ‫ِمن ُك ِّل َم َث ٍل َو َكانَ ْ إِ‬
‫ال َ‬
‫ وثبت من حديث �أبي ذر �أنه قال‪ :‬تركنا ر�سول اهلل ‪s‬وما طائر يقلب جناحيه يف الهواء �إال وهو يذكر‬
‫لنا منه علما‪ ,‬قال فقال ر�سول اهلل‪( :s‬ما بقي �شيء يقرب من اجلنه‪ ,‬ويباعد من النار‪� ,‬إال وقد بني لكم)‪.‬‬
‫قال الإمام مالك‪( :‬من �أحدث يف هذه الأمة �شيئا مل يكن عليه �سلفها‪ ,‬فقد زعم �أن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم خان الر�سالة‪ ,‬لأن اهلل يقول‪( :‬اليوم �أكملت لكم دينكم) فما مل يكن يومئذ دينا فال يكون اليوم دينا)‪.‬‬

‫‪ w‬ومن االعت�صام بالكتاب وال�سنة‪ :‬الإمي��ان مبحكمها ومت�شابهها‪ ,‬ورد املحكم �إىل املت�شابه‪ ,‬يقول اهلل‬
‫َاب َو�أُ َخ ُر ُمت ََ�شا ِبهَاتٌ َف�أَ َّما ا َّل ِذينَ يف ُق ُلو ِب ِه ْم‬ ‫َاب ِم ْن ُه �آ َياتٌ محُّْ َك َماتٌ هُ نَّ �أُ ُّم ا ْل ِكت ِ‬ ‫تعاىل‪} :‬هُ َو ا َّل ِذ َي �أَنزَ َل َع َل ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫َز ْي ٌغ َف َي َّت ِب ُعونَ َما ت ََ�شا َب َه ِم ْن ُه ا ْب ِت َغاء ا ْل ِف ْت َن ِة َوا ْب ِت َغاء َت�أْ ِوي ِل ِه َو َما َي ْع َل ُم َت ْ�أ ِوي َل ُه ِ�إالَّ اللهّ ُ َوال َّر ِا�س ُخونَ فيِ ا ْل ِع ْل ِم َي ُقو ُلونَ � َآم َّنا‬
‫اب {‪.‬‬ ‫ِب ِه ُك ٌّل ِّمنْ ِع ِند َر ِّب َنا َو َما َي َّذ َّك ُر �إِالَّ �أُ ْو ُلو ْا الأ ْل َب ِ‬
‫ ويف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬تال هذه الآية ثم قال‪( :‬ف�إذا ر�أيت الذين يتبعون ما ت�شابه منه‪ ,‬ف�أولئك‬
‫الذين �سمى اهلل فاحذروهم)‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعتصام بالكتاب والسنة‬

‫‪ w‬ومن االعت�صام بالكتاب وال�سنة‪ :‬اعتماد فهم ال�صحابة وال�سلف فيهما‪ ,‬كما قال جل وعال‪َ } :‬و َمن ُي َ�شا ِق ِق‬
‫اءت َم ِ�ص ًريا{‪ ,‬وقوله‬ ‫ول ِمن َب ْع ِد َما َت َبينَّ َ َل ُه ا ْل ُه َدى َو َي َّت ِب ْع َغ رْ َي َ�س ِب ِيل المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني ُن َو ِّل ِه َما َت َو ىَّل َو ُن�صْ ِل ِه َج َه َّن َم َو َ�س ْ‬
‫ال َّر ُ�س َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫تعاىل‪�}:‬س ِب ِيل المْ ُ�ؤْ ِم ِننيَ{حتتمل العهد وامل�ؤمنون يف عهد التنزيل �إمنا هم ال�صحابة‪ ,‬وحتتمل بيان اجلن�س‪ ,‬ومل‬ ‫َ‬
‫يكن قط �إجماع واتفاق كحال ال�سلف يف القرون املف�ضلة الأوىل‪ ,‬و�إمنا حدث االفرتاق واالختالف بعدهم‪.‬‬
‫ وقد امتحن اهلل النا�س ب�إميان ال�صحابة وجعله في�صال بني احلق والباطل‪ ,‬لذا قال اهلل تعاىل‪َ }:‬ف�إِنْ‬
‫� َآم ُنو ْا بمِ ِ ْث ِل َما � َآمنتُم ِب ِه َف َق ِد ْاهت ََدو ْا وَّ�إِن َت َو َّل ْو ْا َف�إِنمَّ َ ا هُ ْم فيِ ِ�ش َق ٍاق{‪� ,‬أي �آمنوا مبثل ما �آمن به ال�صحابة‪ .f‬وقد‬
‫ال�سا ِب ُقونَ الأَ َّو ُلونَ ِمنَ المْ ُ َه ِاج ِرينَ َوالأَ َ‬
‫ن�صا ِر َوا َّل ِذينَ‬ ‫�أثنى اهلل على من تابعهم على طريقتهم فقال �سبحانه‪َ }:‬و َّ‬
‫ا َّت َب ُعوهُ م ِب ِ�إ ْح َ�س ٍان َّر ِ�ض َي اللهّ ُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ�ضو ْا َع ْن ُه َو�أَ َع َّد َل ُه ْم َج َّن ٍات تجَْ ِري تحَْ َت َها الأَ ْن َها ُر َخا ِل ِدينَ ِفي َها �أَ َبدً ا َذ ِل َك‬
‫ا ْل َف ْو ُز ا ْل َع ِظ ُيم{‪ .‬وثبت يف ال�سنن �أن النبي ‪s‬ذكر الفرقة الناجية وقال‪( :‬هي ما �أنا عليه اليوم و�أ�صحابي)‪.‬‬
‫‪ w‬ومن االعت�صام بال�سنة‪ :‬عدم التحديث �إال باحلديث ال�صحيح فثبت �أن النبي ‪s‬قال‪�( :‬سيكون يف �آخر‬
‫الزمان �أنا�س يحدثونكم ما مل ت�سمعوا �أنتم وال �آبا�ؤكم ف�إياكم �إياهم)‪ .‬ويف معنى ذلك اخلو�ض يف دين اهلل‬
‫تعاىل‪ ,‬والقول على اهلل بغري علم �سواء حترميا �أو �إباحة‪ ,‬بت�شديد �أو ت�سهيل‪ ,‬ب�إفراط �أو تفريط‪ ,‬وكالهما �سواء‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الشفاعة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الشفاعة‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن ال�شرع املعظم جاء مبعان عظيمة يف تعامل النا�س وتفا�صيل حياتهم‪ ,‬يعجب املطالع لها من عظيم‬
‫نعمة اهلل علينا بتف�صيله الأحكام ودقائق املعا�ش‪ ,‬وذاك م�صداق قول النبي‪( :s‬تركت فيكم مالن ت�ضلوا‬
‫بعده �إن اعت�صمتم به كتاب اهلل)‪.‬‬
‫ ومن تلكم الأحكام والآداب‪:‬‬
‫تف�صيل ال�شرع يف ال�شفاعة التي ي�شفعها ال�شخ�ص لغريه‪ ,‬ويتو�سط له فيها‪ .‬فهذه ال�شفاعة‪ ,‬متدح �أحيانا‪,‬‬
‫وتذم �أخرى‪ ,‬قال اهلل تعاىل‪( :‬من ي�شفع �شفاعة ح�سنة يكن له ن�صيب منها ومن ي�شفع �شفاعة �سيئة يكن له كفل‬
‫منها وكان اهلل على كل �شيء مقيتا)‪.‬‬
‫ فبني اهلل تعاىل يف هذه الآية �أن ال�شفاعة منها ماهو ح�سن ي�ؤجر عليه‪ ,‬ومنها ماهو �سيء ي�أثم به‪.‬‬
‫فال�شفاعة احل�سنة هي التي فيها ق�ضاء حاجة حمتاج‪ ,‬من غري �إ�ضرار ب�آخرين‪� ,‬أو كما قال بع�ض ال�سلف‪:‬‬
‫(ال�شفاعة التي يرد بها حقا �أو يرفع بها ظلما)‪ ,‬فمن �شفع يف رفع ظلم‪� ,‬أو يف �إي�صال احلاجة ملن الميكنه‬
‫�أن يتو�صل �إال بذلك‪� ,‬أو خلطبة وتزويج‪� ,‬أو لأجل عفو عن جناية‪� ,‬أو لإ�صالح بني متخا�صمني‪ ,‬او ل�صدقة على‬
‫حمتاج فذاك الذي ي�ؤجر �أجر املح�سنني‪ ,‬قال اهلل تعاىل‪( :‬الخري يف كثري من جنواهم �إال من �أمر ب�صدقة �أو‬
‫معروف �أو �إ�صالح بني النا�س ومن يفعل ذلك ابتغاء مر�ضات اهلل ف�سوف ن�ؤتيه �أجرا عظيما)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫من فعل ذلك ف�إن ي�ؤجر و�إن مل حتقق ال�شفاعة الغاية منها‪ ,‬قال احل�سن الب�صري‪( :‬من ي�شفع �شفاعة ح�سنة‬
‫كان له �أجرها و�إن مل ي�شفع ويتحقق ما رجاه‪ ,‬لأن اهلل يقول‪( :‬من ي�شفع �شفاعة ح�سنة يكن له ن�صيب منها)‬
‫ومل يقل‪ :‬ي�شفع)‪.‬‬
‫ فينبغي للعبد �أن ي�سعى يف �أمور اخلري �سواء �أثمرت مقا�صدها ونتائجها‪� ,‬أو ح�صل بع�ضها‪� ,‬أو مل يتم‬
‫منها �شئ‪ ,‬وكثري من النا�س ميتنع من ال�سعي فيها �إذا مل يعلم قبول �شفاعته‪ ,‬فيفوت على نف�سه خريا كثريا من‬
‫اهلل‪ ,‬ومعروفا عند �أخيه امل�سلم‪.‬‬
‫ ولذا كان النبي‪ s‬يحث �أ�صحابه على �أن ي�شفعوا عنده لفقري يعرفونه‪� ,‬أو �صاحب حاجة ليق�ضيها‪,‬‬
‫وتكون �شفاعتهم بالتعريف بحاجة املحتاج‪ ,‬والكالم بل�سانه‪ ,‬ف�إن �صاحب احلاجة رمبا حب�س احلياء منطقه‪,‬‬
‫ومنعه من الطلب‪ ,‬ففي ال�صحيحني عن �أبي مو�سى الأ�شعري‪ d‬قال كان الر�سول ‪�s‬إذا جاءه ال�سائل �أو طلبت‬

‫‪65‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الشفاعة‬

‫�إليه حاجة قال‪( :‬ا�شفعوا ت�ؤجروا‪ ,‬ويق�ضي اهلل على ل�سان نبيه �صلى اهلل عليه و�سلم ما �شاء)‪� .‬أي اليلزم �أن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫تتحقق نتائج �شفاعتكم‪.‬‬
‫ عباد اهلل! �أما النوع الثاين من ال�شفاعة التي قال اهلل عنها‪( :‬ومن ي�شفع �شفاعة �سيئة يكن له كفل منها‬
‫وكان اهلل على كل �شئ مقيتا)‪ ,‬قال قتادة‪( :‬الكفل‪ :‬الوزر والإثم)‪� ,‬أي �أن له �إثما ب�سبب �شفاعته ون�صيبا من‬
‫العقوبة ب�سبب �شفاعته‪.‬‬
‫ عباد اهلل! �إن ال�شفاعة ال�سيئة املذمومة يف كتاب اهلل هي التي فيها تفويت حلق �أمر اهلل به‪� ,‬أو فيه‬
‫�إ�ضرار ب�آدمي‪ ,‬لأن �ضررها �إذ ذاك �أ�شد من نفعها‪ ,‬ف�ضررها عام‪ ,‬ودفع ال�ضرر العام مقدم على جلب امل�صلحة‬
‫ال�شخ�صية‪.‬‬
‫ومن �صور ال�شفاعة املحرمة �شرعا‪:‬‬
‫‪1 .1‬ال�شفاعة يف تعطيل �إقامة حد من حدود اهلل تعاىل‪ ,‬ففي ال�صحيحني �أن �أ�سامة بن زيد‪ d‬ملا كلم النبي‬
‫‪ s‬يف �ش�أن املر�أة املخزومية التي �سرقت‪ ,‬قال ‪� ( :s‬أت�شفع يف حد من حدود اهلل؟) ثم قام فخطب‬
‫فقال‪�( :‬إمنا اهلك الذين قبلكم �أنهم كانوا �إذا �سرق ال�شريف تركوه‪ ,‬و�إذا �سرق فيهم ال�ضعيف �أقاموا‬
‫عليه احلد‪ ,‬و�أمي اهلل لو �أن فاطمة بنت حممد �سرقت لقطعت يدها)‪ .‬و�صح يف امل�سند من حديث ابن‬
‫عمر‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬من حالت �شفاعته دون حد من حدود اهلل عز وجل فقد �ضاد يف اهلل �أمره)‪.‬‬

‫‪ 2 .2‬ومن �صور ال�شفاعة املحرمة‪ :‬تقدمي �شخ�ص �أقل ت�أهيال على �آخر �أكرث ت�أهيال يف حق عام ي�شرتك‬
‫النا�س يف الأ�ستحقاق فيه‪ ,‬كحال يف وظائف القطاع العام �أو مايف حكمها‪ ,‬ف�إن النا�س �سوا�سية يف هذا‬
‫اال�ستحقاق فال يجوز تقدمي �أحد ملجرد �صداقة �أ قرابة‪ ,‬بل العربة باال�ستحقاق واجلدارة‪� .‬أما فيما‬
‫ميلكه ال�شخ�ص فله �أن يقدم فيه من ي�شاء‪ ,‬بخالف ما ا�ستخلف فيه وائتمن عليه من احلقوق العامة‪.‬‬
‫قال النووي‪( :‬امل�صرون على ف�سادهم‪ ,‬امل�ستهزئون يف باطلهم‪ ,‬فال جتوز ال�شفاعة لأمثالهم)‪.‬‬
‫‪ 3 .3‬ومن �صور ال�شفاعة املحرمة التي يغفل عنها كثريون‪� :‬أن يبذل ال�شخ�ص ماال لآخر لي�شفع له يف جهة‬
‫معينة لق�ضاء حاجته التي يريدها‪ ,‬ويعللون جواز ذلك لأنف�سهم ب�أن ال�شخ�ص املدفوع �إليه لي�س عامال‬
‫يف نف�س الدائرة‪ ,‬و�أنها من ال�شفاعة احل�سنة‪ .‬ويف احلقيقة �إمنا هي من ال�شفاعة ال�سيئة‪ ,‬وا�سمع يا‬
‫رعاك اهلل �إىل الن�ص من النبي الكرمي ‪ s‬على حترميها فقد روى �أبو داود ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي‬
‫�أمامة‪�d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬من �شفع لأخيه ب�شفاعة ف�أهدى له هدية عليها فقبلها فقد �أتى بابا عظيما‬
‫من �أبواب الربا)‪.‬‬
‫ ف�إن كان فقد حرم �أخذ الهدية من غري م�شارطة‪ ,‬فباالتفاق وامل�شارطة بينهما �أوىل‪ .‬وروى الطربي �أن‬
‫م�سروق‪�d‬شفع لرجل يف حاجة‪ ,‬ف�أهدى له هدية‪ ,‬فغ�ضب غ�ضبا �شديدا وقال‪( :‬لو علمت �أنك تفعل هذا‬
‫ماكلمت يف حاجتك‪ ,‬وال �أكلم فيما بقي من حاجتك)‪� ,‬سمعت ابن م�سعود‪d‬يقول‪( :‬من �شفع �شفاعة لريد‬

‫‪66‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الشفاعة‬

‫بها حقا �أو يرفع بها ظلما ف�أهدى له فقبل فهو �سحت)‪ ,‬فقيل له‪ :‬يا �أبا عبد الرحمن! ماكنا نرى ذلك �إال‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الأخذ على احلكم قال‪( :‬الأخذ على احلكم كفر)‪.‬‬

‫ قال �شيخ الإ�سالم ابن تيمية‪( :‬و�أما الهدية يف ال�شفاعة مثل �أن ي�شفع لرجل عند ويل �أمر لريفع عنه‬
‫مظلمة �أو يو�صل �إليه حقه وهو م�ستحق لذلك‪� ,‬أو يعطيه من املال املوقوف على الفقراء �أو غريهم وهو من �أهل‬
‫اال�ستحقاق ونحو هذه ال�شفاعة التي فيها �إعانة على فعل واجب �أو ترك حمرم فهذه �أي�ضا اليجوز فيها قبول‬
‫الهدية عليها)‪ .‬وقد حكى ابن فرحون الإجماع على �أنه اليجوز �أخذ الأجرة على اجلاه‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬األمطار واملاء‬
‫األمطار واملاء‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ف�إن اهلل تعاىل يف عباده �أ�سراري ال تدركها الأفكار‪ ,‬وله تعاىل �أحكام ال تنالها الأوهام‪ ,‬تختلف والعدل فيها‬
‫متفق‪ ,‬وتفرتق والف�ضل فيها جمتمع ومت�سق‪ ,‬ففي منحها نفائ�س امل�أمول‪ ,‬ويف حمنها م�صاقل العقول‪ ,‬ويف �أثناء‬
‫فوائدها حدائق الإنعام رائقة‪ ,‬وبني �أرجاء �سرائرها بوارق الإعذار والإنذار خافقة‪.‬‬

‫ فله تعاىل ق�ضايا واقعة بالعدل‪ ,‬وعطايا جامعة للف�ضل‪ ,‬ونعم يب�سطها �إذا �شاء �إنعاما وترفيها‪ ,‬ويقب�ضها‬
‫متى �أراد �إلهاما وتنبيها‪ ,‬يجعلها لقوم �صالحا وخريا‪ ,‬ولآخرين ف�سادا و�ضريا‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن من �آيات اهلل �أن �أر�سل الرياح من كنائنها‪ ,‬و�أخرجها من خزائنها‪ ,‬فجرت ذيولها‪ ,‬و�أجرت‬
‫خيولها‪ ,‬خافقة بنودها‪ ,‬متالحقة جنودها‪ ,‬ف�أثارت الغمام‪ ,‬وقادته بغري زمام‪ ,‬ف�أر�سل اهلل �سماء خم�ضلة‪,‬‬
‫مدرارا هاطلة‪ ,‬يدافع الودق منها الودق‪ ,‬ويحفز القطر منها القطر‪ ,‬فب�شرت كل �شامت‪ ,‬وهدت باملاء كل هائم‪,‬‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ف�أخ�صب لإمراعها املجدبون‪ ,‬وحيا بربكتها امل�سنتون (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وين�شر رحمته‬
‫وهو الويل احلميد)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن الإن�سان كان بدء خلق �أبيه �آدم من طني ماء وتراب فكان �أحوج مايحتاج �إىل ما منه‬
‫�أ�صله‪ ,‬وبه بد�ؤه وخلقه‪ ,‬بل ما من نف�س منفو�سة �إال وهي حمتاجة للماء (وجعلنا من املاء كل �شيء حي)‪ .‬فاملاء‬
‫حياة‪,‬وبه احلياة‪ ،‬ف�إذا رحم اهلل قوما �أر�سل عليهم الغيث و�أجرى لهم املاء‪ ,‬و�إذا غار ما�ؤهم وقل قطرهم‬
‫�ضاقت حياتهم وفقدوا معا�شهم‪( ,‬قل �أر�أيتم �إن �أ�صبح ما�ؤكم غورا فمن ي�أتيكم مباء معني)‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬األمطار واملاء‬

‫ فاملطر رحمة من اهلل يف �صحيح م�سلم عن عائ�شة ر�ضي اهلل عنها �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كان‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�إذا ر�أى مطرا قال‪( :‬رحمة)‪ ,‬فاملطر رحمة للبالد ب�أن اكت�ست الأر�ض خ�ضرة بعد غربة‪ ,‬ولب�ست بعد ال�شحوب‬
‫ن�ضرة وا�ستورقت الأ�شجار‪ ,‬وارتوت القيعان‪ .‬واملطر رحمة للقلوب فهي ناعمة بعد ب�ؤ�سها‪ ,‬وترى الوجوه �ضاحكة‬
‫بعد عبو�سها‪ ,‬و�آثار اجلزع عنها ممحوة‪ ,‬و�سور ال�شكر بفيها متلوة‪.‬‬

‫ واهلل ين�شي �سحابا تطمئن به النفو�س من قبل بل الأر�ض باملطر روى م�سلم عن �أن�س ر�ضي اهلل عنه‬
‫قال‪� :‬أ�صابنا مع ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم مطر‪ ,‬فح�سرر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم عن ثوبه حتى‬
‫�أ�صابه املطر‪ ,‬قال‪ :‬فقلنا‪ :‬يار�سول اهلل مل �صنعت هذا؟ قال‪� :‬إنه حديث عهد بربه عز وجل‪.‬‬

‫ لذا ا�ستحب عند نزول املطر ك�شف الر�أ�س له‪ ,‬و�إخراج املتاع لي�صيبه املطر‪ ,‬اقتداء بالنبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم‪ ,‬لأن اهلل جل وعال عال على خلقه‪ ,‬واملطر ينزل من علو فهو �أقرب �إليه تعاىل‪ ,‬وهو حديث عهد باهلل‬
‫تعاىل‪.‬والدعاء عند نزول الغيث من موا�ضع الإجابة‪ ,‬ومظنة اال�ستجابة‪ ,‬لأنه وقت رحمة اهلل واهلل يرجى يف‬
‫هذه اللحظات‪.‬‬
‫ عباد اهلل! �إن �إنزال املطر �آية من �آيات اهلل يذكر بها عباده ويرهبهم‪ .‬فاهلل ير�سل الغيث على �أقوام‬
‫فيكون عليهم وباال وهالكا يف دينهم فتارة يكون من باب الإمهال روي يف الأثر‪�( :‬إن اهلل ي�سوق روايا الأر�ض �إىل‬
‫�أقوام ال ي�شكرونه وال يذكرونه)‪.‬‬

‫ وتارة يهلكون يف دينهم ب�سبب ن�سبة الفعل لغريه تعاىل روى ال�شيخان �أن �صحابة ر�سول اهلل �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم مطروا يوما‪ ,‬فلما �أ�صبحوا قال النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ :‬قال اهلل تعاىل‪�( :‬أ�صبح من عبادي‬
‫م�ؤمن وكافر بي)‪ ,‬قال �صلى اهلل عليه و�سلم‪( :‬فمن قال‪ :‬مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر باهلل‪ ,‬ومن قال مطرنا‬
‫بف�ضل اهلل ورحمته فهو امل�ؤمن)‪.‬‬

‫ وجاء عند الن�سائي ‪( 1526‬عن �أبي �سعيد ر�ضي اهلل عنه) �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قال‪( :‬لو‬
‫�أم�سك اهلل عز و جل املطر عن عباده خم�س �سنني‪ ,‬ثم �أر�سله لأ�صبحت طائفة من النا�س كافرين يقولون‪� :‬سقينا‬
‫بنوء املجدح)‪.‬‬

‫ فالواجب على امل�سلم �أن ين�سب الف�ضل لباريه‪ ,‬والغيث ملن�شيه‪ ,‬فاخلري كله من اهلل عز و جل‪� ,‬أما ن�سبتها‬
‫للمو�سم والف�صول‪ ,‬والنجوم والأن��واء فهذا الي�صح بل هو قادح يف �إميان املرء‪ ,‬و�إمنا هي عالمات ومواقيت‬
‫جعلها اهلل تعاىل‪ ,‬فقدر �إنزال املطر يف وقتها‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬األمطار واملاء‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪،‬‬
‫اللهم �أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة‬
‫�أمة الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن‬
‫املنكر يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا‬
‫بتوفيقك و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫ اللهم �أجعله غيثا مغيثا هنيئا مريئا �سحا غدقا طبقا وا�سعا جملال نافعا غري �ضار‪ ,‬اللهم اجعلها �سقيا‬
‫رحمة‪ ,‬ال�سقيا عذاب والبالء وال هدم وال غرق اللهم ا�سق عبادك وبهائمك‪ ,‬وان�شر رحمتك‪ ,‬و�أحي بلدك امليت‪,‬‬
‫اللهم اجعله غيثا مباركا‪ ,‬حتيي به البالد‪ ,‬وترحم به العباد‪ ,‬وجتعله بالغا للحا�ضر والباد‪ ,‬حتيي به ما قد‬
‫مات‪ ,‬وترد به ما قد فات‪ ,‬وتنع�ش به ال�ضعيف من عبادك‪ ,‬وحيي به امليت من بالدك‪.‬‬

‫ اللهم اجعل ما �أنزلته قوة لنا على طاعتك وبالغا �إىل حني‪ ,‬اللهم �أنبت لنا الزرع‪ ,‬و�أدر لنا ال�ضرع‪,‬‬
‫و�أ�سقنا من بركاتك‪ ,‬و�أنزل علينا من بركات ال�سماء‪ ,‬و�أخرج لنا من بركات الأر�ض‪ .‬اللهم اك�شف ما بامل�سلمني‬
‫من الباليا‪ ,‬ف�إن بهم من اجلهد ما ال يك�شفه �إال �أنت‪ ,‬اللهم اك�شف ال�ضر عن املت�ضررين‪ ,‬والكرب عن املكروبني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الوصية‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الوصية‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن من الأحكام ال�شرعية التي ذكرها اهلل يف كتابه لقطع اخل�صومة‪ ,‬و�إبراء الذمة‪ ,‬وال�ستمرار الرب‬
‫بالنف�س بعد الوفاة‪ ,‬وح�سن النظر للأبناء ما �شرعه �سبحانه يف كتابة الو�صية يف احلياة ملا يفعل بعد الوفاة‪,‬‬
‫يقول ربنا جل وعال‪( :‬كتب عليكم �إذا ح�ضر �أحدكم املوت �إن ترك خريا الو�صية للوالدين والأقربني باملعروف‬
‫حقا على املتقني)‪ .‬فلأهمية هذه ال�شعرية العظيمة ذكرها اهلل يف كتابه‪ ,‬وف�صل �أحكامها وحث على فعلها‪.‬‬
‫ ففي الو�صية قطع للنزاع واخل�صومة و�إعطاء كل ذي حق حقه �إثباتا وتوثيقا وحفظا‪ .‬وفيها �إبراء لذمة‬
‫املتويف وحفظ لورثته وعياله‪ .‬روى ال�شيخان عن ابن عمر‪d‬قال �سمعت ر�سول اهلل ‪s‬يقول‪( :‬ما حق �إمرىء‬
‫م�سلم متر عليه ثالث ليال �إال و�صيته عنده) ‪ .‬قال ابن عمر‪ :‬فما مرت علي ثالث قط �إال و و�صيتي عندي‪.‬‬
‫ عباد اهلل! �إن م�شروعية الو�صية لي�س خا�صا مبن كرث ماله وطال‪ ,‬بل هي على كل �إمرء عنده مال �سواء‬
‫كان قليال �أو كثريا‪ ,‬بل وعلى من ال مال له‪ ,‬قال الزهري‪( :‬جعل اهلل الو�صية حقا مما قل لو كرث)‪ .‬وليعلم �أن ما‬
‫ي�شرع يف الو�صية ال يخلو من خم�سة �أمور‪ ,‬وكثري من النا�س ال يعلم ما تكون به الو�صية‪ ,‬وما يكتب فيها‪.‬‬
‫�أحدها‪� :‬إثبات ما على ال�شخ�ص من ديون والتزامات للعباد �أو هلل عز وجل‪.‬‬
‫ فيذكر املو�صي ما عليه من التزامات مالية لغريه من النا�س‪ ,‬ليتم �سداد دينه من ماله قبل ق�سم الرتكه‬
‫وتوزيعها بني الورثة‪� ,‬إذ نف�س امليت معلقة بدينه ما دام باقيا يف ذمته مل ي�سدد �أو يربءه �صاحبه‪ ,‬روى الرتمذي‬
‫خطبة جديدة‬

‫وغريه عن �أبي هريرة ‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬نف�س امل�ؤمن معلقة بدينه حتى يق�ضى عنه)‪.‬‬
‫ ويف هذا املعنى �أن يذكر ما عنده من �أمانات للنا�س عنده لكي ال يظن الورثة بعد ذلك �أنها من ماله‬
‫فيقت�سمونه ويبوء هو ب�إثمها‪ .‬ويت�أكد الو�صية بهذا الأمور حينما يكون احلق الذي عليه غري موثق وال مكتوب‪,‬‬
‫ك�أن ي�ستدين �شخ�ص من �آخر ماال وال كتابة بينهما‪� ,‬أو �أن يكون قد ظلمه او غ�صبه يف ذلك املال‪ ,‬فيجب عليه‬
‫حينئذ �أن يو�صي ويذكر يف و�صيته ذلك احلق الالزم عليه‪ ,‬وي�سمي امل�ستحق له‪.‬‬
‫ كما يبني املرء يف و�صيته ما عليه من دين هلل عز وجل وهي ثالثة �أمور �إما �أن تكون زكاة ت�أخر يف‬
‫�إخراجها‪� ,‬أو كفارات مالية او نذورا وجبت عليه مل ي�ؤدها‪ ,‬او �أنه مل يحج حجة الإ�سالم فيجب �إخراج زكاة‬
‫ماله‪ ,‬والكفارات والنذور املالية من تركته‪ ,‬ويحج عنه من ماله وجوبا �إن م�ستطيعا و�أخر احلج يف ال�صحيحني‬
‫�أن �إمر�أة جاءت للنبي‪s‬فقالت‪� :‬إن �أمي نذرت �أن حتج فماتت قبل �أن حتج ف�أحج عنها‪ ,‬قال‪( :s‬نعم حجي‬
‫عنها‪� ,‬أر�أي��ت لو كان على �أمك دين �أكنت قا�ضيته)‪ ,‬قالت‪ :‬نعم‪ ,‬قال‪( :‬فاق�ضوا اهلل الذي له ف�إن اهلل �أحق‬
‫بالوفاء)‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الوصية‬

‫وهذه الديون كلها ت�سدد من الرتكه‪ ,‬ف�إن �أمكن �سدادها منها و وفى بها فاحلمد هلل‪ ,‬و�إال �إن �أحب بع�ض ورثته‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫و �أوليائه �أن يتربع ب�سدادها وق�ضائها عن مورثهم فهذا من برهم به و�إح�سانهم �إليه بعد وفاته‪.‬‬

‫ الأمر الثاين‪ :‬مما تكون فيه الو�صية‪� :‬أن يذكر املرء ما ميلكه من مال وعقار ويف�صله يف و�صيته‪ ,‬وما‬
‫�أودع غريه من �أموال وما �أقر�ضهم �إياه‪ .‬ملا يف ذلك من حفظ حق ورثته من ال�ضياع واالعتداء‪ ,‬فكم من �أموال‬
‫قد ن�سيت و�ضاعت ونهبت و�أكلت ب�سبب عدم تقييد املرء ملا ميلكه وخ�صو�صا املال غري الظاهر‪.‬‬
‫ فلئن كان الأوائل يجدون �أمواال وذهبا مدفونا يف �أماكن متعددة وال يعلم دافنه لوفاته‪ ,‬ف�إن يف وقتنا‬
‫احلا�ضر �أمواال طائلة �أودعت يف ح�سابات �سرية يف بنوك حملية وخارجية مات �أربابها ومل يعلم بها الورثه فال‬
‫هم انتفعوا بها وال �صاحبها وال�سبب ترك االقتداء بالأوامر ال�شرعية‪ ,‬وما ي�صاحب الآدمي من طول الأمل‪.‬‬

‫ الأمر الثالث‪ :‬مما تكون الو�صية فيه‪ :‬الإي�صاء على الق�صر‪ .‬فيو�صى املرء بالق�صر من �أبنائه ممن كان‬
‫فاقدا لأهلية الأداء والت�صرف كال�صغار وفاقدي العقل يو�صي بهم ل�شخ�ص �أمني يكون م�س�ؤوال عن �أموالهم‬
‫وممتلكاتهم وال�صرف عليهم منها‪ .‬ويجوز �أن يكون الو�صي قريبا لهم �أو �أجنبيا عنهم‪ ,‬ويجوز �أن يكون رجال �أو‬
‫امر�أة‪ ,‬ومن ثم ال ينازع هذا الو�صي يف �إدارة الأموال �إال �إذا ثبت عدم �أمانته‪.‬‬
‫ ويدخل يف ذلك �أن يو�صي املتويف بوالية تزويج بناته ل�شخ�ص ما يكون هو وليهن والناظر على اختيار‬
‫الزوج ل�صالح لهن‪ .‬ويكون و�صية هنا مقدما على �سائر الأولياء‪ ,‬وهو الذي يعقد النكاح‪ ,‬ويجوز �أن يكون قريبا‬
‫�أو بعيدا‪ ,‬لكن يلزم �أن يكون و�صي التزويج ذكرا‪.‬‬

‫ الأمر الرابع مما تكون الو�صية فيه‪ :‬و�صية املرء بال�صدقة عنه من ماله فتجعل يف وقف �أو �أ�ضحية‬
‫و�سائر �أنواع الرب والإح�سان‪� ,‬أو يف �صدقة مقطوعة‪ .‬وهذا النوع جتري عليه �أحكام متعددة فقد يكون م�ستحبا‬
‫ملن ترك خريا وهو املال الذي يكفي �أبناءه من بعده ب�شرط �أن ال يتجاوز الو�صية الثلث‪.‬‬
‫ وتكون مكروهة �إن كان املال ال يكفي بنيه‪� ,‬أو كان يف حاجة للمال املوروث لهم‪ ,‬لقول النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم‪�( :‬إنك �إن تذر ورثتك �أغنياء خري من �أن ترتكهم عالة يتكففون النا�س)‪ .‬وتكون مباحة �إذا كانت يف‬
‫غري وجوه الرب من �سائر الت�صرفات املباحة‪ .‬وقد تكون ممنوعة �إذا كانت الو�صية لوارث �أو ب�أكرث من الثلث‪� .‬أو‬
‫كان فيها ظلم و�إثم‪ ,‬وال تنفذ حينئذ‪.‬‬
‫ وقد ا�ستحب عدد من ال�صحابة �أن تكون الو�صية بالربع‪ ,‬لقول النبي‪( :s‬والثلث كثري)‪ .‬قال ابن‬
‫عبا�س‪( :d‬وددت �أن النا�س غ�ضوا من الثلث �إىل الربع)‪ .‬وقال علي‪( :d‬لأن �أو�صي باخلم�س �أحب �إىل من‬
‫�أن �أو�صي بالربع‪ ,‬ولأن �أو�صي بالربع �أحب �إيل من �أن �أو�صي بالثلث)‪.‬‬
‫ و�أف�ضل من هذه الو�صية مثوبة عند اهلل و�أجرا �أن يكون التربع منجزا يف احلياة وحال القوة‪ ,‬روى‬
‫عبدالرزاق وعبد بن حميد عن قتادة �أن النبي‪�( :s‬أيها النا�س ابتاعوا �أنف�سكم من ربكم �إال �أنه لي�س المرئ‬
‫‪72‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الوصية‬

‫�شئ‪� ,‬أال ال �أعرف �أمر�أ بخل بحق اهلل فيه حتى �إذا ح�ضر املوت يوزع ماله ههنا وههنا)‪ .‬ويف ال�صحيحني �أن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫النبي‪s‬قال‪�( :‬أف�ضل ال�صدقة �أن تت�صدق و�أنت �صحيح �شحيح تخ�شى الفقر وت�أمل البقاء وال متهل حتى �إذا‬
‫بلغت احللقوم قلت‪ :‬لفال كذا ولفالن كذا وقد كان لفالن)‪.‬‬

‫ والأمر اخلام�س ‪ :‬يف الو�صية‪ :‬و�صية من بعده بتقوى اهلل تعاىل ون�صح الورثة مبا فيه �صالح دينهم‬
‫ومعا�شهم‪ ,‬قال ابن م�سعود‪( :d‬من �أراد �أن ينظر �إىل و�صية حممد‪s‬التى عليها خامتة‪ ,‬فليقر�أ تعاىل‪:‬‬
‫(قل تعالوا �أتل ما حرم ربكم عليكم �أال ت�شركوا به �شيئا وبالوالدين �إح�سانا وال تقتلوا �أوالدكم من �إمالق نحن‬
‫نرزقكم و�إياهم وال تقربوا الفواح�ش ما ظهر منها وما بطن وال تقتلوا النف�س التي حرم اهلل �إال باحلق ذلكم‬
‫و�صاكم به لعلكم تعقلون)‪ .‬ويف �صحيح البخاري �أن عمر بن اخلطاب‪�d‬أو�صى عند وفاته اخلليفة بعدة �أمور‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫إعانة األب إبنه على الرب‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬إعانة األب إبنه على الرب‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫فقد �أجمعت كلمة العقالء‪ ,‬واتفقت �آرا�ؤهم �أن �أعظم الرب بر الوالدين‪ ,‬و�أكمل اخللق ما كان معهم‪ ,‬و�أنه ما‬
‫ا�ستحق �أحد الإح�سان كهم‪ ,‬ال يجازون على �أعمالهم ولو مبلء الأر�ض برا‪ ,‬وال يوفون �شكرهم ولو �صرف العمر‬
‫كله لهم خدمة و�شكرا‪ .‬بيد �أن هذا الرب لي�س املخاطب به االبن وحده و�إمنا للوالدين دور يف جلبه ودفعه‪ ,‬فمنهما‬
‫وبهما يتحقق الرب ويتي�سر‪ ,‬وقد روى عند الطرباين مرفوعا‪�( :‬أعينوا �أوالدكم على الرب‪ ,‬فمن �شاء ا�ستخرج‬
‫العقوق من ولده)‪.‬‬

‫ �أي من رغب ان يكون ولده عاقا �صار كذلك‪ ,‬ومن رام بره ف�إنه متحقق له‪� ,‬إذا املرء يح�صد ما زرع‪,‬‬
‫وي�سقي بفيه مابيديه رفع‪ .‬بل رمبا �أجر الأبوان على �إعانتهما االبن على الرب‪� ,‬إذ النبي‪s‬قد دعاء بالرحمة‬
‫ملن �أعان ابنه على بره‪ .‬روى ال�شعبي عن النبي‪�s‬أنه قال‪" :‬رحم اهلل والدا �أعان ولده على بره"‪.‬‬

‫ فمن الأ�سباب املعينه على بر الأبناء بوالديهم دعاءهم لهم بال�صالح‪ ,‬و�أن يكونوا قرة عني‪ ,‬و�أعظم ما‬ ‫خطبة جديدة‬
‫تقر به العني يف الدنيا �أن يرى �أحد الوالدين ابنه بارا به حم�سنا و�إليه لذا ذكر اهلل من �صفات عباده ال�صاحلني‬
‫�أنهم يدعون بذلك قال �سبحانه‪َ } :‬وا َّل ِذينَ َي ُقو ُلونَ َر َّب َنا َه ْب َل َنا ِمنْ �أَ ْز َو ِاج َنا َو ُذ ِّر َّيا ِت َنا ُق َّر َة �أَعْينُ ٍ َو ْاج َع ْل َنا ِل ْل ُم َّت ِق َني‬
‫ِ�إ َم ًاما{‪ .‬وحكى اهلل �أن زكريا عليه ال�سالم‪}:‬هُ َنا ِل َك َد َعا َز َك ِر َّيا َر َّب ُه َق َال َر ِّب َه ْب ليِ ِمن َّل ُد ْن َك ُذ ِّر َّي ًة َط ِّي َب ًة ِ�إ َّن َك‬
‫َ�س ِمي ُع ال ُّد َعاء{‪ ,‬فرزق بيحيى وكان عليه وعلى نبينا ال�صالة وال�سالم من �أبر النا�س بوالديه قال عنه �سبحانه‪:‬‬
‫} َو َب ًّرا ِب َوا ِل َد ْي ِه َو مَْل َي ُكن َج َّبا ًرا َع ِ�ص ًّيا{‪.‬‬

‫ن�سانَ ِب َوا ِل َد ْي ِه ِ�إ ْح َ�سا ًنا َح َم َل ْت ُه �أُ ُّم ُه ُك ْرهً ا َو َو َ�ض َع ْت ُه‬ ‫ وت�أمل يا رعاك اهلل يف قول اهلل تعاىل‪َ }:‬و َو�صَّ ْي َنا ْ ِإ‬
‫ال َ‬
‫ُك ْرهً ا َو َح ْم ُل ُه َو ِف َ�صا ُل ُه ثَلاَ ُثونَ َ�ش ْه ًرا َحتَّى �إِ َذا َب َل َغ �أَ ُ�ش َّد ُه َو َب َل َغ َ�أ ْر َب ِع َني َ�س َن ًة َق َال َر ِّب َ�أ ْوز ِْع ِني َ�أنْ َ�أ�شْ ُك َر ِن ْع َمت ََك ا َّل ِتي‬
‫�أَ ْن َع ْم َت َع َل َّي َو َع َلى َوا ِل َد َّي َو�أَنْ �أَ ْع َم َل َ�صالحِ ً ا َت ْر َ�ضا ُه َو�أَ�صْ ِل ْح ليِ فيِ ُذ ِّر َّي ِتي{‪ ,‬فقد افتتح اهلل هذه الآية بالأمر برب‬
‫الوالدين وختمها بالدعاء للأبناء‪ ,‬مما يدلنا على �أن دعاء املرء اهلل (دبر ال�صلوات‪ ,‬ويف الأ�سحار واخللوات)‬
‫‪74‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬إعانة األب إبنه على الرب‬

‫�أن ي�صلح له يف ذريته من �أعظم الأ�سباب اجلالبه لربهم ور�شادهم‪ ,‬وقرة العني بهم دنيا و�أخرى‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ومن ذلك �أن يبذل الوالد الرب لوالديه هو‪ ,‬ف�إن املعروف كالدين �إن �أقر�ضته كان الوفاء ب�أهل بيتك‪ .‬فما‬
‫بر �أحد بوالديه وال �أح�سن �إليهما‪ ,‬وحتمل �ضعفهما‪ ,‬وعظم قدرهما‪ ,‬و�أخذ مب�شورتهما‪� ,‬إال قي�ض اهلل له �أبناء‬
‫به برره‪ ,‬وله طائعون‪ ,‬وب�أمره ممتثلون‪ ,‬روى الرتمذي عن �أن�س‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬ما وقر �شاب �شيخا �إال‬
‫قي�ض اهلل تعاىل له يف �سنه من يوقره)‪ .‬وما الظن �إن كان املوقر �أباه‪ ,‬ف�إنه �أجل و�أعظم‪.‬‬
‫�إن االبن �إذا ر�أى �أباه حم�سنا لأبويه‪ ,‬بارا بهم‪ ,‬ف�إن هذه ال�صوره اجلليله تبقى يف خميلته‪� ,‬إذ ال�صبي‬
‫الين�سى ف�إذا دار دوالب الزمن‪ ,‬ف�أ�صبح الأب هرما‪ ,‬واالبن جذعا تذكر ماعليه ن�شيء‪ ,‬وما ر�أى يف �صغره من‬
‫بر‪ ,‬ف�أح�سن لأبيه‪ ,‬ورد الدين الذي �أقر�ضه �أبوه لأبويه‪.‬‬
‫ وال�ضد بال�ضد فمن ر�آه �أحد والديه م�سيئا لأبويه غري حم�سن لهما يكيل لهم ال�سباب ولو يف ظهرهما‪,‬‬
‫ف�إنه على هذا ين�ش�أ‪ ,‬وت�شرب نف�سه القطيعة والعقوق وي�سقي من العني التي �سقى منها‪ ,‬وقد قيل‪( :‬كما تدين‬
‫تدان)‪ .‬روى الطرباين ب�إ�سناد ح�سن عن ابن عمر‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬بروا �آباءكم تربكم �أبنا�ؤكم‪ ,‬وعفوا‬
‫تعف ن�سا�ؤكم)‪.‬‬

‫ ومن �إعانة الآباء �أبناءهم على الرب‪� :‬صالح املرء يف نف�سه‪ ,‬واجتهاده بالطاعة‪ ,‬ف�إن اهلل مثيب ذاك‬
‫الطائع يف الآخرة فالحا‪ ,‬ويف الدنيا توفيقا وجناحا‪� ,‬أمل يقل اهلل تعاىل‪َ }:‬و َكانَ �أَ ُبوهُ َما َ�صالحِ ً ا{‪ .‬ف�صالح‬
‫الأبوين ينتقل للأبناء‪ ,‬ويرى �أثره فيهم‪.‬‬

‫ ومن �أجل الأ�سباب املعينة على الرب ح�سن تربية الأبناء‪ ,‬تن�ش�أتهم على العمل ال�صالح وحمبته‪ ,‬وعلى‬
‫كرائم الأخالق ومعاليها‪ ,‬ف�إن �أعظم مايحث املرء على اخللق الكرمي والعمل النبيل ما وقر يف قلبه من قناعة‬
‫ب�صحة ذلك الفعل ولزومه‪ ,‬وال �شك �أن �أجل واعظ و�أقواه‪ ,‬و�أقوى دافع للخري �إمنا هو الدين‪ .‬ف�إذا قر�أ االبن‬
‫ال�صالح قول اهلل تعاىل‪َ } :‬و َق َ�ضى َر ُّب َك �أَالَّ َت ْع ُبدُو ْا �إِالَّ �إِ َّيا ُه َو ِبا ْل َوا ِل َد ْي ِن �إِ ْح َ�سا ًنا �إِ َّما َي ْب ُل َغنَّ ِع َند َك ا ْل ِكبرَ َ �أَ َحدُهُ َما‬
‫�أَ ْو ِك َالهُ َما َف َال َت ُقل َّل ُه َم�آ �أُ ٍّف َو َال َت ْن َه ْرهُ َما َو ُقل َّل ُه َما َقو ًْال َك ِر ًميا{ َو ْاخ ِف�ضْ َل ُه َما َج َن َاح ال ُّذ ِّل ِمنَ ال َّر ْح َم ِة َو ُقل َّر ِّب‬
‫ا ْر َح ْم ُه َما َك َما َر َّب َيانيِ َ�ص ِغ ًريا{‪ .‬هملت عيناه‪ ,‬وتذكر حق والديه ولزوم برهما‪ ,‬و�أنه منهي عن الت�أفيف ناهيك‬
‫عن الأذية �أو النق�ص يف الإح�سان‪ ,‬فا�ستحقر كل ما قدمه لهما‪ .‬قال الأ�صمعي‪( :‬من مل حت�سن �إليه �صغريا فلن‬
‫يربك كبريا)‪.‬‬

‫ ومن الإعانة على الرب‪ :‬العدل بني الأوالد‪ ,‬وعدم التمييز بينهم‪ ,‬اليف عطية واليف معاملة‪ ,‬ويدل لذلك‬
‫حديث النعمان بن ثابت‪d‬حينما نحله �أبوه نحلة ف�أراد �أن ي�شهد النبي‪s‬عليها‪ ,‬ف�أبى النبي ‪ s‬وقال له‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬إعانة األب إبنه على الرب‬

‫(�أي�سرك �أن يكونوا يف الرب �إليك �سواء)‪ ,‬قال‪ :‬نعم‪ ,‬فقال النبي‪( :s‬فال �إذا)‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ والبع�ض عباد اهلل! مييز الذكور على حمبة البنات حمبة يف جن�س الذكور‪ ,‬والبع�ض بعك�سه فلغلبة‬
‫ال�شفقة بالبنات يقدمهن على الذكور فيجزل لهن العطية ويح�سن لهن ما ال يح�سن للذكور‪ .‬وكالهما خمطئ‬
‫خمالف لل�سنة‪ .‬جاء �أن عمر بن عبدالعزيز �ضم ابنا له وكان يحبه‪ ,‬فقال‪( :‬يافالن! �إين لأحبك وما �أ�ستطيع �أن‬
‫�أوثرك على �أخيك بلقمة)‪.‬‬

‫ ومن الأ�سباب املعينة على بر الأبناء‪ :‬ح�سن التعامل معهم‪ ,‬والإغ�ضاء على خطئهم وتنا�سية‪ ,‬و�إظهار‬
‫ال�سرور بربهم‪ ,‬وقبول هديتهم‪ ,‬والثناء عليهم باخلري‪ ,‬روى ابن �أبي الدنيا يف (العيال‪ )149‬عن �أبي عبد‬
‫اهلل احلنفي �أنه قال‪( :‬بر ولدك ف�إنه �أجدر �أن يربك‪ ,‬و�إنه من �شاء عق ولده)‪.‬ويدل لذلك ما روى احلاكم‬
‫(‪� )485/3‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬ثالث ي�صفني لك ود �أخيك‪ ,‬ت�سلم عليه �إذا لقيته‪ ,‬وتو�سع له يف املجل�س‪ ,‬وتدعوه‬
‫ب�أحب �أ�سمائه �إليه)‪.‬‬

‫ ومن �أهم من ي�صفى له الود من النا�س الولد مع والديه‪� .‬إن االبن لي�س قنا وال �أجريا‪ ,‬و�إمنا هو حم�سن‬
‫فال�سنة معاملته بالطيب واللني‪ .‬ومن اخلرب عن ال�صحابة يف ذلك ما روى البخاري يف (الأدب املفرد) �أن‬
‫�أبا هريرة ‪d‬كانت �أمه يف بيت وهو يف �آخر‪ ,‬فكان يقف على بابها ويقول‪ :‬ال�سالم عليك يا �أماه ورحمة اهلل‬
‫وبركاته‪ ,‬فتقول‪ :‬وعليك يابني‪ ,‬فيقول‪ :‬رحمك اهلل كما ربيتني �صغريا‪ ,‬فتقول‪ :‬رحمك اهلل كما بررتني كبريا‪.‬‬

‫ فما �أجمل �أن يدعو الوالد لولده‪ ,‬ويرتحم عليه‪ ,‬وما �أح�سن ثناء �أحد الوالدين على ابنه ب�أنه به بار‪ ,‬و�أنه‬
‫عليه را�ض‪ ,‬يظهر الفرح بر�ؤيته‪ ,‬والغبطة عند جمال�سته‪ ,‬وال�سرور بهديته ولو قلت‪ ,‬يداعب �أبنائه‪ ,‬ويغ�ضي عن‬
‫م�ساءلته‪ ,‬ف�إن العاقل من تغابى وتنا�سى‪ ,‬ولي�س من العقل املحا�سبة على دقائق الأمور و�سقط الكالم‪.‬‬

‫ �إن بع�ض الآباء لو حفر لهم �أبنا�ؤهم يف ال�صخر‪ ,‬وا�ستخرجوا لهم كنوز البحر‪ ,‬ما �سمعوا منهم كلمة‬
‫ثناء �أو �شكر‪ ,‬بل �إمنا ي�سمعون تبكيتا وت�أففا‪ ,‬و�إن �سلموا من املذمة فهم �سعداء‪ .‬ف�أين �أولئك من هدي امل�صطفى‬
‫‪ ,s‬والنف�س جلبت على حمبة الثناء واملجازاة على العمل‪ .‬ف�إف�ضال املرء على ابنه بالإح�سان والعطف‪ ,‬وال�شكر‬
‫واللطف هو من �إعانته على بره‪ ,‬جاء يف الأثر عن علي‪( :d‬رحم اهلل والدا �أعان ولده على بره بالإف�ضال‬
‫عليه)‪.‬‬
‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ ( :‬ر ِّب ْاج َع ْل ِني ُم ِق َيم ال�صَّ َال ِة َو ِمن ُذ ِّر َّي ِتي َر َّب َنا َو َت َق َّب ْل د َُعاء{ َر َّب َنا ْاغ ِف ْر‬
‫ليِ َو ِل َوا ِل َد َّي َو ِل ْل ُم�ؤْ ِم ِن َني َي ْو َم َي ُق ُ‬
‫وم الحْ ِ َ�س ُ‬
‫اب)‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫ربنا ال تجعلنا فتنة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬ربنا ال تجعلنا فتنة‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ �إن احلمد هلل نحمده و ن�ستعينه ون�ستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من �شرور �أنف�سنا و�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من يهد اهلل‬
‫فال م�ضل له ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬وا�شهد �أن حممد ًا عبدُه‬
‫ور�سوله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتقوا اهلل حق تقاته وال متوتن �إال و�أنتم م�سلمون‪ ،‬يا�أيها النا�س اتقوا ربكم‬
‫الذي خلقكم من نف�س واحدة‪ ،‬وخلق منها زوجها وبث منهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتقو اهلل الذي ت�ساءلون‬
‫به والإرحام‪� ،‬إن اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتقوا اهلل وقولوا قو ًال �سديد ًا ي�صلح لكم �أعمالكم‪،‬‬
‫ويغفر لكم ذنوبكم‪ ،‬ومن يطع اهلل ور�سوله فقد فاز فوز ًا عظيم َا‪.‬‬

‫�أما بعد عباد اهلل ‪:‬‬


‫احل َكم‪ ،‬روى ال�شيخان عن �أبي هريرة ‪d‬‬ ‫خ�ص اهلل نب َّيه حممد ًا ‪ s‬بجوامع ال َك ِلم‪ ،‬و�آتاه بدائ َع ِ‬
‫ فقد َّ‬
‫عثت بجوامع ال َك ِلم)‪ ،‬قال التابعي اجلليل حممد بن �شهاب الزهري‪( :‬جوامع الكلم فيما‬ ‫�أن النبي ‪s‬قال‪ُ ( :‬ب ُ‬
‫تب قب َله يف الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك)‪.‬‬ ‫بلغنا‪� :‬أنَّ اهلل يجمع له الأمو َر الكثرية التي كانت ُتكت َُب يف ال ُك ِ‬
‫وروى الإمام �أحمد عن عبد اهلل بن م�سعود ‪ d‬قال‪�( :‬إنَّ ر�سول اهلل ‪ُ s‬ع ِّلم فوا َحت اخلري وجوام َعه وخوامته)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن ِمن جوامع ال َك ِل ِم التي �أُتيها عليه ال�صالة ال�سالم‪ :‬جوام ُع الدعاء‪ ،‬و ُك ّم ُل ُج َم ِل َّ‬
‫الطلب‪،‬‬
‫ف�إن من الأدعي ِة �أدعي ًة عظيم َة ال�ش�أن‪ ،‬ت�شمل معاين جليلة‪ ،‬وحتوي �أغرا�ض ًا عظيمة‪ ،‬يف ُكليمات معدودة؛ ولذا‬
‫ُ�سميت هذه الأدعية بـ(جوامع الدعاء)‪ .‬وقد روى �أحمد و�أبو داود عن عائ�شة ‪ g‬قالت‪( :‬كان النبي ‪ُ s‬يعج ُبه‬
‫اجلوام ُع من الدعاءِ‪َ ،‬و َي َد ُع ما بني ذلك)‪.‬‬

‫إبراهيم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اهلل يف كتابه وع ّلمه �أنبيا َءه‪ ،‬ومن هذا الدعا ِء دعا ٌء دعا به �‬ ‫ و�إن �أج َّل الدعا ِء و�أكم َله ما ذكره ُ‬
‫ومو�سى �إ‪ ،‬وغريهم من عباد اهلل ال�صاحلني‪ .‬قال اهلل ع ّز وج ّل على ل�سان �إبراهيم ‪ ،a‬والذين معه‪َ } :‬ر َّب َنا ال‬
‫تجَْ َع ْل َنا ِف ْت َن ًة ِّل َّل ِذينَ َك َف ُروا{‪ ،‬ثم قال بعدها‪َ } :‬ل َق ْد َكانَ َل ُك ْم ِف ِيه ْم �أُ ْ�س َو ٌة َح َ�س َن ٌة لمِ َن َكانَ َي ْر ُجو هَّ َ‬
‫الل َوا ْل َي ْو َم ال ِآخ َر{‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫الظالمِ ِنيَ{‪� .‬إن هذه الدعو َة (عباد اهلل) هي‬ ‫ وقال مو�سى ‪ a‬والذين معه‪َ } :‬ر َّب َنا َال تجَْ َع ْل َنا ِف ْت َن ًة ِّل ْل َق ْو ِم َّ‬
‫قبل‪ ،‬وبها دعا َمن معهم ِمن امل�ؤمن‪ ،‬وبهم �أُمرنا �أن نقتدي ونهتدي بع ُد } َر َّب َنا َال تجَْ َع ْل َنا‬ ‫دعو ُة �أنبياء اهلل من ُ‬
‫ِف ْت َن ًة ِّل ْل َق ْو ِم َّ‬
‫الظالمِ ِنيَ{‪.‬‬

‫عظيم النفع‪ ،‬له ُ‬


‫دالئل ع ّدة‪ ،‬و�آثا ٌر متنوعة‪ ،‬بل �إن قو َله مع فهم معناه‬ ‫ �إن هذا الدعا َء دعا ٌء ُ‬
‫جليل املعنى‪ُ ،‬‬
‫(من ِ�ص ْد ِق الإميان �أن يتمنى العب ُد �أال يكون فتنة‬ ‫دلي ٌل على �صدق الإميان ِ‬
‫ومتام الإح�سان‪ .‬قال �شيخ الإ�سالم‪ِ :‬‬
‫لقوم ظاملني‪ ،‬ف�ض ًال عن �أن يكون فتنة لقوم م�ؤمنني)‪.‬‬
‫فدعاء العبد ر ّبه (ال جتعلني فتن ًة) �أي فاتن ًا وال مفتون ًا فهو دعا ٌء ب�أمرين �صحيحني وهذا من بالغة هذا‬
‫الكتاب العظيم‪ ،‬وما حوى من جوامع الكلم‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ربنا ال تجعلنا فتنة‬

‫خد ُع‬
‫عج ُب بدنياهم‪ ،‬وال ُي َ‬ ‫فت َّ‬
‫بالظاملني والكافرين‪ ،‬فال ُي َ‬ ‫العبد ر ّبه �أال ُي َنَ َ‬
‫ فالأمر الأ ّول‪ :‬هو دعا ٌء من ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫رب ال جتعلني مفتون ًا بالظاملني‪.‬‬
‫بطباعهم‪ ،‬وال َيدينُ َبدي ِنهم‪ ،‬فتكون (الفتن ُة) هنا مبعنى ا�سم املفعول �أي ِّ‬

‫أحب الأ�شياء �إليه �أفعا ُلهم‪،‬‬ ‫ُ‬


‫واالن�شغال مبحاكاتها‪ .‬فرتى � ُّ‬ ‫فمن �صور الفتنة بالكافرين‪ :‬الفتن ُة بدنياهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫و�أجم ُل اللبا�س عنده ُ‬
‫لبا�سهم‪ ،‬وخ ُري ال َّد ِّل عنده د ُّلهم وفعالهم‪.‬‬

‫وتنظيمهم دُنياهم‪ ،‬وتفننهم يف �سيا�ستهم‬ ‫ِ‬ ‫ �إن من امل�سلمني (عبا َد اهلل!) َمن ُفنت بالكافرين وح�ضار ِتهم‪،‬‬
‫ونظمهم‪ ،‬وتطور �صناعتهم‪ ،‬ف�أ�صبح مالزم ًا حل�ضارتهم مت�شبع ًا مببادئهم مغرت ًا بحياتهم‪ .‬ويحدو به ذلك �إىل‬
‫�أن ين�سب ما �أح�سنوا فيه �إىل كفرهم وبعدهم عن اهلل ع ّز وجل‪ ،‬ف ُيفتنَ َ يف دينه‪ ،‬و ُي�ش َب َع قل ُب ُه ذلك‪ ،‬فال هو الذي‬
‫�أح�سن دُنياه‪ ،‬وال َ�س ِل َم له ِدي ُنهُ‪ .‬و�أعظم الفتنة بالكافرين الفتن ُة ِبدينهم‪ ،‬والإكبا ُر ملبادئهم التي تخالف ما جاء‬
‫به ال�شر ُع وقرره الر�سول الكر ُمي ‪.s‬‬

‫ؤمن ر ّبه �أال يكون هو �سبب ًا لفتنة غريه‪ ،‬و�أن ال ي�أثم غ ُري ُه‬
‫ والأمر الثاين‪ :‬يف هذا الدعاء‪ :‬هو دعا ٌء من امل� ِ‬
‫الظاملون‪� .‬إذ املرء‬ ‫رب ال جتعلني فاتن ًا للآخرين َينفتنِ بي َّ‬ ‫ب�سببه‪ .‬فتكون (الفتنة) هنا مبعنى ا�سم الفاعل �أي ِّ‬
‫أحد �أو �إغوائه‪ ،‬وهذا‬ ‫�ضالل امل�ؤمنني‪ ،‬وامل�ؤمن يك َره �أن يكون �سبب ًا يف �إ�ضالل � ٍ‬
‫ُ‬ ‫نت به ال ُك ّفار‪ ،‬وقد ُيف ُ‬
‫نت به‬ ‫قد ُيف ُ‬
‫عالم ُة �صدق �إميا ِنه‪ .‬ولذلك �صور كثرية ي�شملها الدعاء‪:‬‬

‫فمن �صور افتتان الكافرين بامل�ؤمنني‪� :‬أن يت�سلطوا ويتغلبوا على امل�ؤمنني حتى يقول قائلهم‪( :‬لو كان‬ ‫‪ِ w‬‬
‫الإميانُ يحمي �أهله ما ُ�سلطنا عليهم وقهرناهم‪ ،‬ولو كان ه�ؤالء على احلق َما غلبانهم)‪ .‬فحينئذ يدعو امل�ؤمنُ‬
‫“رب ال متكنهم ِمن عذابنا‪ ،‬وال ت�سلطهم علينا‪ ،‬فيكون يف ذلك فتن ٌة لهم”‪[ .‬روى البخاري] عن جماهد‬ ‫ر ّبه‪ِّ :‬‬
‫يف قول اهلل تعاىل‪َ } :‬ر َّب َنا َال تجَْ َع ْل َنا ِف ْت َن ًة ِّل ْل َق ْو ِم َّ‬
‫الظالمِ ِنيَ{ قال‪( :‬ال ت�س ّلطهم علينا حتى َيفتنونا‪ ،‬ف َيفتَتنوا بنا)‪.‬‬

‫ُ‬
‫الباطل‪ ،‬ويت�س َّلط الطغا ُة يف فرت ٍة من الزمان‪،‬‬ ‫يتغلب‬
‫ال�صدور‪ ,‬حينما ُ‬ ‫ وهذه ال�شبهة كثري ًا ما حتيك يف ُّ‬
‫حيل يف َ�صنع ِتهم‪ ،‬ب�سطا َء يف تعليمهم (وذلك حلكم ٍة َيعل ُمها اهلل)‪ ،‬مع‬
‫فرتى امل�سلمني �ضعفا َء يف قوتهم‪ ،‬قليلي ٍ‬
‫�أن دينهم ي�أمر بالعلم‪ ،‬ويحثُّ على ال َك ْ�سب والتقدم‪.‬‬

‫ فامل�ؤمن مع �صربه على االبتالء‪ ,‬ال مينعه ذلك �أن يدعو َ‬


‫اهلل �أال ي�صيبه بال ٌء جتع ُل ُه فتن ًة ُ‬
‫و�شبه ًة حتيك‬
‫يف ال�صدور‪� ،‬إذ امل�ؤمن ال يتمنى لقاء العدو‪ ،‬وال يرجو �أن ُيع ّر�ض للفنت يف دينه‪ .‬فرتاه يدعو َ‬
‫اهلل بذلك‪ ،‬ويعمل‬
‫إميان‪ ،‬والكفا ُر‪.‬‬
‫مع هذا لرقي امل�سلمني وتقدمهم لكي ال ُيفنت بتخلف امل�سلمني �ضعفا ُء ال ِ‬

‫‪ِ w‬ومن الفتنة التي ي�ستعيذ منها امل�ؤمن يف هذا الدعاء‪� :‬أن يقول املر ُء قو ًال ال معنى له‪� ،‬أو ال �أهمية له‪� ،‬أو‬
‫اال�شتغال بذلك‪ ،‬وتطري بلفظه الأخبار‪ ،‬و ُي�ص َر ُف‬‫ُ‬ ‫ال لزوم له‪ ،‬ف َي�شتغل به كثري من العامة الذين َيغ ُل ُب عليهم‬

‫‪78‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ربنا ال تجعلنا فتنة‬

‫لأجله ِمن الأوقات التي لو ُ�صرفت يف �أوجه اخلري لنفع‪ ،‬و َكم ُيرى ذلك يف وقتنا يف انت�شار و�سائل التوا�صل‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫عر�ضه غيب ًة‬


‫‪ w‬وممِ ا ي�ستعيذ منه امل�ؤمن مما يدخل يف هذا الدعاء‪� :‬أن يكون فتن ًة لغريه ب�أن يقعوا يف ِ‬
‫ومنيم ًة‪ ،‬في�أثموا‪ ،‬فالعب ُد امل�ؤمن َي�س�أل َ‬
‫اهلل �أال َيفتنت به ظا ُمل فيظل ُم ُه في�أثم ذلك الظامل‪.‬‬

‫‪ w‬ومما َيدخل يف هذا الدعاء‪� :‬أن ُيخطئ املر ُء خط�أً (ولو من غري ٍ‬
‫ق�صد) ف َي�س َّ‬
‫نت به فئا ٌم ِمن النا�س‪ ،‬ك�أن‬
‫ينت�ص َر لبدع ٍة �أو ُيظ َه َر به ُمن َك ٌر‪� ،‬أو نحو ذلك‪ .‬فيكون فتن ًة للظاملني من امل�سلمني لأنف�سهم باملعا�صي والبدع‪.‬‬

‫مقا�صد و�آثارٍ‪ ،‬لذا ال غرو‬ ‫َ‬ ‫أجل ما احتوى عليه من‬ ‫أدق معانيه‪ ،‬وما � َّ‬ ‫ ف َما �أعجب هذا الدعاء العظيم‪ ،‬وما � َّ‬
‫�أن دعا به �أنبيا ُء اهلل‪ ،‬وع ّلمه ُ‬
‫اهلل عباده �أن يدعو به } َر َّب َنا ال تجَْ َع ْل َنا ِف ْت َن ًة ِّل َّل ِذينَ َك َف ُروا َو ْاغ ِف ْر َل َنا َر َّب َنا �إِ َّن َك �أَ َ‬
‫نت‬
‫ا ْل َع ِزي ُز الحْ َ ِك ُيم{‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬أحاديث حذيفة يف املنافقني‬
‫أحاديث حذيفة يف املنافقني‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ �إن احلمد هلل نحمده و ن�ستعينه ون�ستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من �شرور �أنف�سنا و�سيئات �أعمالنا‪ ،‬من يهد اهلل‬
‫فال م�ضل له ومن ي�ضلل فال هادي له‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له‪ ،‬وا�شهد �أن حممد ًا عبدُه‬
‫ور�سوله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتقوا اهلل حق تقاته وال متوتن �إال و�أنتم م�سلمون‪ ،‬يا�أيها النا�س اتقوا ربكم‬
‫الذي خلقكم من نف�س واحدة‪ ،‬وخلق منها زوجها وبث منهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتقو اهلل الذي ت�ساءلون‬
‫به والإرحام‪� ،‬إن اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتقوا اهلل وقولوا قو ًال �سديد ًا ي�صلح لكم �أعمالكم‪،‬‬
‫ويغفر لكم ذنوبكم‪ ،‬ومن يطع اهلل ور�سوله فقد فاز فوز ًا عظيم َا‪.‬‬

‫�أما بعد عباد اهلل ‪:‬‬

‫يوم القيامة } َب ِّ�ش ِر المْ ُ َنا ِف ِق َني‬ ‫النا�س عذاب ًا َ‬ ‫اهلل يف كتابه ِمن النفاق و�أه ِله‪ ،‬وبينّ �أنهم �أ�ش ُّد ِ‬ ‫ فقد ح ّذر ُ‬
‫ُون المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني �أَ َي ْب َت ُغونَ ِع َندهُ ُم ا ْل ِع َّز َة َف�إِنَّ ال ِع َّز َة للِهّ ِ‬
‫ِب�أَنَّ َل ُه ْم َع َذاب ًا �أَ ِليم ًا ا َّل ِذينَ َيت َِّخ ُذونَ ا ْل َكا ِف ِرينَ �أَ ْو ِل َياء ِمن د ِ‬
‫{‬

‫الل َج ِام ُع المْ ُ َنا ِف ِق َني َوا ْل َكا ِف ِرينَ فيِ َج َه َّن َم َج ِميع ًا{‪.‬‬ ‫َج ِميع ًا{‪ ،‬وقال �سبحانه‪�ِ } :‬إنَّ هَّ َ‬

‫ ولقد هاب ال�صحاب ُة ‪ f‬النفاق � َّأي هيبة‪ ،‬حتى كان �أحدهم �إذا فعل خط�أً لزم بيته يخ�شى �أن ينزّل ُ‬
‫اهلل‬
‫فيه قر�آن ًا ف ُيف�ضح‪ ،‬وزاد من خوفهم حتذير النبي ‪ s‬لهم حينما قال‪�( :‬أال �أخربكم مبا هو �أخوف عليكم عندي‬
‫من امل�سيح الدجال؟ ‪ ..‬ال�شرك اخلفي‪ ،‬يقوم الرجل ف ُي�ص ِّلي‪ ،‬ف ُيزَ ّينُ �صالتَه‪َ ،‬ملا َي َرى ِمن ِ‬
‫نظر رجل)‪.‬‬

‫النبي ‪s‬‬
‫العديد من �صفات املنافقني يف غري ما �آية‪ ،‬و�أو�ضح لنا ُّ‬
‫َ‬ ‫اهلل تعاىل لنا يف كتابه‬‫ وقد �أبان ُ‬
‫أعلم النا�س باملنافقني هو ُحذيف ُة بن اليمان ‪� ،d‬إذ‬
‫�أفعا َلهم يف غري ما حديث‪ .‬و�أ ّما َمن بعد النبي ‪ s‬ف�إن � َ‬
‫كان ‪� d‬س�أ ًَّال عن الفنت‪ ،‬عامل ًا ب�أو�صاف املنافقني؛ قال حذيف ُة‪( :‬كان النا�س ي�س�ألون ر�سول اهلل ‪ s‬عن اخلري‪،‬‬
‫وكنت �أ�س�أله عن ال�شر خماف َة �أن ُيدر َكني)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫و�سبب معرفته بهم �أن النبي ‪� s‬س ّمى له �أ�سما َء املنافقني‪ ،‬ف َع َر َف �أعيا َنهم‪َ ،‬‬
‫وخبرَ َ �أخال َقهم‪َّ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬
‫ح ّذر ِمن �أو�صافهم‪ .‬ولذا ُع ِر َف ُحذيف ُة ب�أنه �صاحب �س ِّر ر�سول اهلل ‪ .s‬وقد كان يف �إخباره ب�أ�سماء املنافقني‬
‫ِح َك ٌم متعددة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫�أن هوالء املنافقني �إذا راموا �إثارة فتنة‪� ،‬أو الت�صدي للكالم با�سم الدِّ ين‪� ،‬أو الرتقي ملواقع قياد ّي ٍة عند‬
‫يرق �أح ٌد منهم لوالية على امل�سلمني‪ ،‬بل وال لرواية حديث‬ ‫ف�ض ُحون و ُيع َلنُ �ش ُّرهم‪ ،‬ولذا مل َ‬
‫امل�سلمني‪ ،‬ف�إنهم �س ُي َ‬
‫عن النبي‪s‬؛ قال احلافط ابن حجر‪�( :‬إنه ال ُيع َلم �أن �أحد ًا ممن ُنبزَ بالنفاق روى حديث ًا واحد ًا عن النبي‬
‫‪.)s‬‬

‫‪80‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أحاديث حذيفة يف املنافقني‬

‫يفت �أح ٌد منهم‪� ،‬أو ير ِو حديث ًا‪� ،‬أو يتوىل‬


‫ ويف هذا ف�ضيل ٌة لأ�صحاب النبي ‪ s‬ور�ضي عنهم ف�إنه مل ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫النفاق؛ �إذ ال يرقى �أح ٌد لذلك �إال وحذيف ُة‬


‫ِ‬ ‫مكان ًا قيادي ًا �أو والية من الواليات �إال ويكون ذلك دلي ًال على براءته من‬
‫‪ d‬يرم ُق ُه ف�إن كان ِمن �أهل النفاق ب ّينه وحذر منه‪.‬‬

‫أحد َ�ص ّلوا عليه‪ ،‬و�إذا‬


‫ عباد اهلل! لقد كان كبا ُر ال�صَّ حابة ‪ f‬يتتبعون ُحذيف َة ‪ d‬ف�إذا ر�أوه َ�ص َّلى على � ٍ‬
‫قر�ص ُه حذيف ُة ك�أنه‬
‫رجل َف َ‬
‫أحد تركوا ال�صالة عليه‪ ،‬ف ُروي �أن ُعمر ‪� d‬أراد �أن ي�شهد جنازة ٍ‬ ‫ترك ال�صال َة على � ٍ‬
‫َ‬
‫(ن�شدتك باهلل هل َ�س َّماين لك‬ ‫اخلطاب ‪ d‬يقول حلذيفة‪:‬‬ ‫�أراد �أن ي�ص ّده عن ال�صَّ الة عليه‪ .‬وكان عم ُر بن َّ‬
‫ر�سول اهلل ‪ s‬منهم؟) فقال‪( :‬ال؛ وال �أز ِّكي بعدك �أحد ًا)‪� .‬أي ال �أُخرب �أحد ًا‪.‬‬
‫ُ‬

‫ينبئك مثل خبري‪ .‬قال‬ ‫بع�ض الآثار التي جاءت عنه ‪ s‬يف النفاق واملنافقني وال ُ‬ ‫و�إليك (يا رعاك اهلل) َ‬
‫وقلب �أج َر ُد فيه‬‫قلب املنافق‪ٌ ،‬‬ ‫لب ُم�ص َّف ٌح وذلك ُ‬ ‫قلب � ْأغ َل ٌف فذلك َق ُلب ال َكافر‪ ،‬و َق ٌ‬
‫حذيفة ‪( :d‬القلوب �أربعة‪ٌ ،‬‬
‫إميان فيه ك َم َث ِل َ�شج َر ٍة مي ّدها َما ٌء ط ِّيب َو َم َث ُل‬
‫لب فيه �إميا ٌن ونفا ٌق ف َم َث ُل ال ِ‬
‫زه ُر فذلك َق ُلب املُ�ؤمنُ ‪ ،‬و َق ٌ‬
‫ِ�س َرا ٌج ُي ِ‬
‫ر�ص ٍة ميدها قيح ودم ف�أيهما َعال عليه َغ َلب)‪.‬‬ ‫النفاق َم َث ُل َق َ‬
‫ِ‬

‫النا�س َمن يكون منافق ًا خال�ص ًا‪ ،‬و�أن منهم من يكون م�ؤمن ًا ال نفاق فيه‪ِ ،‬ومن النا�س َمن‬ ‫فبينّ حذيف ُة �أن ِمن ِ‬
‫و�سماعه املوعظ َة النافع َة كال�شَّ جرة �إذا جاءها املاء‬
‫ِ‬ ‫يكون يف قل ِبه �إميا ٌن ونفاق‪ ،‬فم ّرة يقوى �إميا ُن ُه بعم ِل ِه ال�صَّ ِ‬
‫الح‬
‫ر�ص ِة على اجل ْلد متتلئ دم ًا وقيح ًا‬
‫النفاق يف قل ِبه ب�سبب تق�صريه فيما �سبق كال َق َ‬ ‫ُ‬ ‫أزه َرت‪َ ،‬وم َّر ًة يغلب‬
‫اخ�ض ّرت و� َ‬
‫كخ ْلف ال َوعد‪ ،‬والكذب يف احلديث‬ ‫أعمال ِمن النفاق؛ ُ‬
‫بع�ض ال ِ‬‫النبي ‪َ s‬‬ ‫حتى تكاد تنفجر‪ .‬وهذا معنى َجعل ِّ‬
‫واخليانة يف الأمانة والت�أخر عن ال�صالة ونقرها كما ينقر الغراب يف الأر�ض‪.‬‬

‫نبت النفاق يف القلب‪ ،‬ويزي ُد من جذوته‪ ،‬و ُي ِنمي �شجرته‪ ،‬كما قال ابن م�سعود‬ ‫وبينّ ‪� s‬أنَّ ِمن الأعمال ما ُي ُ‬
‫اليوم مع�ش َر العرب‬ ‫نبت املا ُء الزر َع)‪ .‬لذا يقول حذيف ُة ‪�( :d‬إنكم َ‬ ‫‪( :d‬الغناء ينبت النفاق يف القلب كما ُي ُ‬
‫لت�أتون �أمور ًا �إنها لفي عهد ر�سول اهلل ‪ s‬النفاق على وجهه) [رواه �أحمد يف امل�سند ‪( .]391/5‬ويف امل�سند‬
‫‪َ )23312‬عنْ ُح َذ ْي َف َة ‪َ d‬ق َال‪�( :‬إِنْ َكانَ ال َّر ُج ُل َل َي َت َك َّل ُم با ْل َك ِل َم ِة َعلى َع ْه ِد ال َّن ِب ِّي ‪َ s‬ف َي ِ�ص ُري ِب َها ُم َنا ِف ًقا َو�إِنيِّ‬
‫َ ألَ ْ�س َم ُع َها ِمنْ �أَ َح ِد ُك ْم فيِ المْ َ ْق َع ِد ا ْل َو ِاح ِد �أَ ْر َب َع َم َّر ٍات)‪ِ .‬ومن �صفات املنافقني التي ذكرها ُحذيفة ‪�ِ ( : d‬إنَّ ِمنْ‬
‫ا�س المْ ُ َنا ِفقَ ا َّل ِذي ال َي رْت ُُك َوا َو ًا َوال �أَ ِل َف ًا‪َ ،‬ي ْل ِف ُت ُه َك َما َت ْل ِف ُت ا ْل َب َق َر ُة الخْ َ ال ِب ِل َ�سا ِن َها) [الفريابي‪.]42‬‬
‫�أَ ْق َر ِئ ال َّن ِ‬

‫فبينّ ‪�s‬أن املرء قد يكون منافق ًا مع كونه قارئ ًا للقر�آن جميد ًا له‪ ،‬بل �إن من �إجادته القراءة �أنه ال يرتك‬
‫َح ْر َف ًا من ال�ضَّ ْب ِط والدِّ َّقة‪ ،‬ولكنه ال َيع َم ُل مبا ع ِلم ف َي�ض ُّل‪ ،‬فك�أن هذا القارئ �أدىل بحفظه القر�آن و�إجادته تالوتَه‬
‫و�سئل حذيفة َمن املنافق؟ فقال‪:‬‬‫مداخل عظيم ًة و�أعظمها النفاق‪ُ .‬‬ ‫َ‬ ‫دخ ُل عليه ال�شيطانُ‬ ‫فظنَّ �أن هذا كافيه ف َي ُ‬
‫الم ‪َ ،‬وال َي ْع َم ُل ِب ِه)‪.‬‬
‫(ا َّل ِذي َي ِ�ص ُف الإِ ْ�س َ‬

‫‪81‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أحاديث حذيفة يف املنافقني‬

‫ فاملنافق ُيح�سن احلديث عن الإ�سالم‪ ،‬وعن مزاياه‪ ،‬ولكن �إذا جاء العمل ر�أيته �أق َّل ِ‬
‫النا�س فيه‪ ،‬و�أكرثهم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫تهاون ًا به‪ .‬وعندما حتدث عن املنافقني املت�أخرين بينّ حذيف ُة ‪� d‬ش ّرهم و�أثرهم‪ ،‬فقال‪( :‬املنافقون الذين‬
‫بينكم اليوم �أ�ش ُّر ِمن املنافقني الذين كانوا على عهد ر�سول اهلل)‪ ،‬قيل‪ :‬يا �أبا عبد اهلل كيف ذلك؟ قال‪�( :‬إن‬
‫�أولئك �أ�سروا نفاقهم و�إن ه�ؤالء �أعلنوه) [م�سند البزار ‪.]2870‬‬

‫ كما بينّ �أنهم يف �آخر الزمان �أكرث عدد ًا منهم يف �أ ّوله فروى �أبو نعيم (‪� )112‬أنه قيل حلذيفة ‪:d‬‬
‫يومئذ ُي�ست ََ�س ُّر به واليوم ُي�ستع َلنُ‬
‫املنافقون اليوم �أكرث �أم على عهد النبي ‪s‬؟ قال‪( :‬بل هم اليوم �أكرث‪ ،‬لأنه كان ٍ‬
‫به)‪ .‬وجاء �أنه ‪�َ s‬س ِم َع َر ُج ًال يقول‪ :‬اللهم �أهلك املنافقني! فقال‪( :‬يا ابن �أخي! لو هلك املنافقون ال�ستوح�شتم‬
‫ال�سالك)‪.‬‬ ‫يف طرقاتكم قل َة َّ‬

‫اهلل بهم الإ�سالم من جانب‪ ،‬وقد ُي َق َّوى‬ ‫ِومن عجيب الآثار عنه ‪� s‬أنه بينَّ �أن هوالء املنافقني قد ُيع ُّز ُ‬ ‫ ‬
‫بهم امل�سلمون يف العدد‪ ،‬فجاء �أن ُح َذ ْي َف َة ‪ d‬قال‪َ ( :‬ل ْو َه َل ُك املنافقون َما ا ْنت ََ�ص ْفت ُْم ِمنْ َع ُد ِو ُك ْم)[الفريابي ‪}57‬‬
‫�أي كنتم من الق ّلة بحيث يغلبكم عدوكم‪ ،‬وهذا م�أخوذ من قول النبي ‪�(:s‬إن اهلل لي�ؤيد هذا الدين بالرجل‬
‫الفاجر)‪.‬‬

‫ وبينّ لنا ُحذيف ُة ‪� d‬أن الطريق لإ�ضعاف النفاق من القلوب �إمنا يكون بالأمر باملعروف والنهي عن‬
‫املنكر‪ ،‬لذا كانت هاتان اخل�صلتان بغي�ضتني لأهل النفاق‪( ،‬ففي امل�سند ‪َ )23312‬عنْ ُح َذ ْي َف َة ‪َ t‬ق َال‪�ِ ( :‬إنْ َكانَ‬
‫ال َّر ُج ُل َل َي َت َك َّل ُم ِبا ْل َك ِل َم ِة َع َلى َع ْه ِد ال َّن ِب ِّي ‪َ s‬ف َي ِ�ص ُري ِب َها ُم َنا ِف ًقا َو ِ�إنيِّ َ ألَ ْ�س َم ُع َها ِمنْ �أَ َح ِد ُك ْم فيِ المْ َ ْق َع ِد ا ْل َو ِاح ِد �أَ ْر َب َع‬
‫ا�ضنَّ َع َلى الخْ َ رْ ِي �أَ ْو َل ُي ْ�س ِح َت َّن ُك ْم هَّ ُ‬
‫الل َج ِميع ًا ِب َع َذ ٍاب �أَ ْو َل ُي�ؤَ ِّم َرنَّ‬ ‫َم َّر ٍات‪َ ،‬ل َت�أْ ُم ُرنَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫وف َو َل َت ْن َه ُونَّ َعنْ المْ ُ ْن َك ِر َو َلت ََح ُّ‬
‫اب َل ُك ْم)‪.‬‬‫َع َل ْي ُك ْم ِ�ش َرا َر ُك ْم ُث َّم َي ْد ُعو ِخ َيا ُر ُك ْم َفلاَ ُي ْ�ست ََج ُ‬

‫اهلل عليه وعفا عنه‪ ،‬فقال‪َ ( :‬ل َق ْد َ�أ ْنزَ َل هَّ ُ‬


‫الل‬ ‫تاب تاب ُ‬ ‫ و�أخري ًا بينّ حذيف ُة ‪� d‬أن َمن �أ�صابه النفاق ف�إنه �إن َ‬
‫الل َع َل ْي ِه ْم)‪ .‬ف َمن عرف �أو�صاف النفاق واملنافقني فاجتنبها‬ ‫َاب هَّ ُ‬‫ال ِّن َف َاق َع َلى َق ْو ٍم َكا ُنوا َخ رْي ًا ِم ْن ُك ْم ُث َّم تَا ُبوا َفت َ‬
‫نف�سه‪ ،‬و�أكرث من اال�ستغفار والتوبة تاب اهلل عليه وجتاوز عن ذنبه‪ ،‬قال‬ ‫النفاق على ِ‬ ‫َ‬ ‫بعد الوقوع فيها‪ ،‬ومل ي� َأم ِن‬
‫ج ّل وعال‪�ِ } :‬إنَّ المْ ُ َنا ِف ِق َني فيِ ال َّد ْر ِك الأَ ْ�س َف ِل ِمنَ ال َّنا ِر َو َلن تجَ ِ َد َل ُه ْم َن ِ�صري ًا ِ�إالَّ ا َّل ِذينَ تَا ُبو ْا َو�أَ�صْ َل ُحو ْا َو ْاعت ََ�ص ُمو ْا‬
‫{‬

‫الل َو�أَ ْخ َل ُ�صو ْا ِدي َن ُه ْم للِهّ ِ َف�أُ ْو َلـ ِئ َك َم َع المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني َو َ�س ْو َف ُي�ؤْ ِت هَّ ُ‬
‫الل المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني �أَ ْجر ًا َع ِظيم ًا{‪.‬‬ ‫ِب هَّ ِ‬

‫‪82‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫آداب الطريق‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬آداب الطريق‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫وهذبها وق َّومها‪ ،‬وحثَّ عليها و�أمر مبالزمتها حتى قال ال ُ‬


‫إمام‬ ‫أخالق‪َّ ،‬‬
‫ ف�إن الإ�سالم قد راعى الآداب وال َ‬
‫مالك‪( :‬تـَع َّلم الأ َدب َق َبل �أن تتع َّل َم العلم)‪ ،‬وقال عبد اهلل بن املبارك‪( :‬ال َينبل ال َّرج ُل ٍ‬
‫بنوع ِمن العلم َما مل يز ّين‬ ‫ٌ‬
‫وحه ُ‬
‫وغ ُد ِّوه‪� :‬آداب �سلوك‬ ‫بحه َوم�سائه‪ ،‬و َر ِ‬ ‫َع َم َله بالأ َدب)‪ِ .‬ومن الآداب العامة التي تَع ُر�ض للمرء يف ُك ِّل ِ‬
‫يومه‪�ُ ،‬ص ِ‬
‫واجللو�س فيه‪ ،‬فلزم تعلُّم فقهها‪ ،‬والتخ ّلق ب�آدبها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الطريق‪،‬‬

‫ عباد اهلل! �إن للطريق �آداب ًا يجب التزا ُمها‪ ،‬و�أخال َق ًا يتحت َُّم التخلُّق بها لذا قال ‪ s‬يف حديث �أبي �سعيد‬
‫و�شوارعهم فروى الطرباين‬
‫ِ‬ ‫اخلدري ‪�( :d‬أعطوا الطريق ح َّقه)‪ .‬ونهى ‪َ s‬عن �أذية النا�س يف طرقاتهم‬
‫(من �آذى امل�سلمني يف ُطر ِقهم َو ْ‬
‫جبت عليه لعنتهم)‪.‬‬ ‫ح�سن عن حذيفة بن اليمان ‪� d‬أن النبي ‪َ :s‬‬ ‫ب�إ�سناد ٍ‬

‫ِومن �آداب الطريق َما ثبت يف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إياكم واجللو�س على الطرقات)‪ ،‬فقالوا‪:‬‬ ‫ ‬
‫َما لنا ُب ٌّد �إمنا هي جمال�س ُنا نتحدث فيها‪ ،‬قال‪( :‬ف�إذا �أبيتم �إال املجال�س ف�أعطوا الطريق حقها)‪ ،‬قالوا‪َ :‬وما ح ُّق‬
‫خطبة جديدة‬

‫وكف الأذى‪ ،‬ور ُّد ال�سالم‪ ،‬و�أم ٌر باملعروف ونهي عن املنكر)‪ .‬فهذه �آداب �أربعة‬‫الطريق؟ قال‪( :‬غ� ُّض الب�صر‪ُّ ،‬‬
‫ذكرها امل�صطفى ‪.s‬‬

‫غ�ض الب�صر‪ ..‬ولي�س املراد به �إقفال العني عن النظر‪ ،‬وال �إطراق الر�أ�س �إىل الأر�ض‪،‬‬ ‫‪ w‬ف�أ َّو ُلها و ُمبتد�ؤها ُّ‬
‫وعدم �إر�سا ِله طليقَ ال َعنان‪ ،‬يلتهم الغاديات والرائحات‪،‬‬ ‫خف�ض ُه ُ‬ ‫غ�ض الب�صر ُ‬ ‫فلي�س ذا مبراد وال مب�ستطاع‪ ،‬و�إمنا ُّ‬
‫وج ُه ْم َذ ِل َك �أَ ْز َكى‬‫قال اهلل عز وجل خماطب ًا الرجال والن�ساء‪ُ } :‬قل ِّل ْل ُم�ؤْ ِم ِن َني َي ُغ ُّ�ضوا ِمنْ �أَ ْب َ�صا ِر ِه ْم َو َي ْح َف ُظوا ُف ُر َ‬
‫ات َي ْغ ُ�ض�ضْ نَ ِمنْ �أَ ْب َ�صا ِر ِهنَّ َو َي ْح َف ْظنَ ُف ُر َ‬
‫وجهُنَّ َوال ُي ْب ِدينَ زِي َن َتهُنَّ‬ ‫ري بمِ َ ا َي�صْ َن ُعونَ { َو ُقل ِّل ْل ُم�ؤْ ِم َن ِ‬ ‫َل ُه ْم �إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َخ ِب ٌ‬
‫�إِالَّ َما َظ َه َر ِم ْن َها{‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬آداب الطريق‬

‫بغ�ض الب�صر والإغظاء منه‪ .‬ويف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪:‬‬ ‫الرجال والن�ساء مع ًا ِّ‬
‫َ‬ ‫ف�أم َر ُ‬
‫اهلل يف كتابه‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫حظ ُه من الزنا �أدرك ذلك ال حمالة‪ ،‬فزنا العني النظر‪ ،‬وزنا الل�سان املنطق‪ ،‬والنف�س متنى‬ ‫( ُكتب على ابن �آدم ُّ‬
‫وت�شتهي‪ ،‬والفرج ي�صدق ذلك ويكذبه)‪ .‬وال يح ُّل للرجل �أن ينظر �إىل عورة الرجل ففي �صحيح م�سلم �أن النبي‬
‫‪ s‬قال‪( :‬ال ينظر الرجل �إىل عورة الرجل‪ ،‬وال تنظر املر�أة �إىل عورة املر�أة)‪.‬‬

‫وغ�ض الب�صر عباد اهلل! مينح القلب �إ�شراق ًا ونور ًا َيظهر يف الوجه وعلى �سائر اجلوارح؛ ولهذا ذكر‬ ‫ُّ‬ ‫ ‬
‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َم َث ُل ُنو ِر ِه َك ِم�شْ َكا ٍة ِفي َها ِم�صْ َبا ٌح المْ ِ�صْ َب ُاح فيِ‬ ‫بغ�ض الب�صر‪ :‬هَّ ُ‬
‫}الل ُنو ُر َّ‬ ‫اهلل �آي َة النور بعد الأمر ِّ‬
‫اج ُة َك�أَ َّن َها َك ْو َك ٌب ُد ِّر ٌّي ُيو َق ُد ِمن َ�ش َج َر ٍة ُّم َبا َر َك ٍة َز ْيتُو ِن ٍة الَّ َ�ش ْر ِق َّي ٍة َوال َغ ْر ِب َّي ٍة َي َكا ُد َز ْي ُت َها ُي ِ�ضي ُء َو َل ْو مَْل‬ ‫ُز َج َ‬
‫اج ٍة الز َُّج َ‬
‫الل ِب ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َع ِلي ٌم{‪.‬‬ ‫ا�س َو هَّ ُ‬
‫الل الأَ ْم َث َال ِلل َّن ِ‬ ‫الل ِل ُنو ِر ِه َمن َي َ�شاء َو َي�ضْ ِر ُب هَّ ُ‬ ‫تمَْ َ�س ْ�س ُه َنا ٌر ُّنو ٌر َع َلى ُنو ٍر َي ْه ِدي هَّ ُ‬

‫يورث ثبات ًا يف القلب‪ ،‬و�سرور ًا ل�صاحبه‪ ،‬وان�شرح ًا دائم ًا‪ ،‬ور�ض ًا باملق�سوم؛‬
‫وغ�ض الب�صر عن احلرام ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ ‬
‫روى احلاكم (امل�ستدرك‪ )314/4‬عن ابن م�سعود مرفوع ًا‪( :‬النظرة �سهم م�سموم من �سهام �إبلي�س من تركها‬
‫خمافة اهلل �أعطاه اهلل �إميان ًا يجد حالوته يف قلبه)‪.‬‬

‫ ويف املقابل �أُمرت املر�أة بالت�سرت عند اخلروج من بيتها وعدم �إبداء الزينة يف الطرقات والأ�سواق‬
‫(فروى �أهل ال�سنن �أبو داود والن�سائي والرتمذي و�صححه) عن �أبي مو�سى ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬كل عني‬
‫زانية‪ ،‬واملر�أة �إذا ا�ستعطرت فمرت باملجل�س فهي كذا وكذا يعني زانية)‪.‬‬

‫النبي ‪ s‬الن�سا َء عند امل�شي يف الطريق بلزوم احلياء وعدم خمالطة الرجال فروى �أبو داود‬ ‫ بل �أم َر ُّ‬
‫ُ‬
‫الرجال مع‬ ‫(‪ )5272‬عن �أبي �أ�سيد الأن�صاري ‪� d‬أنه �سمع النبي ‪ s‬وهو خارج من امل�سجد وقد اختلط‬
‫الن�ساء يف الطريق فقال ر�سول اهلل ‪ s‬للن�ساء‪ِ ( :‬ا�س َت�أخرن ف�إنه لي�س ل ُكنَّ �أن حتت َِ�ضنَّ الطريق‪َ ،‬علي ُكنَّ َ‬
‫بحا َّف ِ‬
‫ات‬
‫َل�صقُ باجلدار حتى �إن ثو َبها ليتع َّلقُ باجلدا ِر من ل�صو ِقها به"‪.‬‬ ‫َّ‬
‫الطريق)‪ ،‬قال �أبو �أ�سيد ‪" :d‬فكانت املر�أ ُة ت َ‬
‫وهذا كمال االمتثال هلل ور�سوله ‪.s‬‬

‫يكف املر ُء �أذاه عن املارة فال يجل�س حيث ي�ض ِّيق عليهم الطريق‪� ،‬أو‬ ‫كف الأذى‪ .‬وذلك ب�أن َّ‬ ‫‪ w‬والأدب الثاين‪ُّ :‬‬
‫ك�ش ُف ما ُيري ُد َ�سرتَه‪.‬‬
‫بجلو�سه عليه �أو حيث َي ِ‬
‫ِ‬ ‫منزل َمن يت� َّأذى‬
‫أمام ِ‬
‫بجلو�سه وموقف �سيار ِته‪� ،‬أو � َ‬
‫ِ‬ ‫باب ف ُيت�أذى‬
‫على ٍ‬

‫بع�ضهم عن‬ ‫كف الأذى الواجب‪� :‬إماط ُة ما يت�أذى به النا�س من الطريق‪ُّ ،‬‬
‫وكف �أذى النا�س ِ‬ ‫ َو ِمن �صور ِّ‬
‫وحفظ الل�سان واجلوارح عن �أذية املارة‪ .‬جاء �أن معاذ بن جبل ‪ d‬كان مي�شي ورجل‬ ‫ُ‬ ‫إ�صالح بينهم‪،‬‬
‫بع�ض بال ِ‬ ‫ٍ‬
‫(من‬
‫�سمعت ر�سول اهلل ‪ s‬يقول‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫معه‪ ،‬فرفع معا ٌذ َح َجر ًا ِمن الطريق فقال له �صاح ُبه‪َ :‬ما هذا؟ فقال معاذ‪:‬‬
‫رفع حجر ًا ِمن َّ‬
‫الطريق ُكتبت َله َح َ�سنة َومن َكانت له ح�سنة َد َخل اجلنة) رواه الطرباين ورواته ثقات‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬آداب الطريق‬

‫يعط‬‫النا�س يف ُطرقا ِتهم فلها �صور و�أ�شكال؛ ف ّمن َ�س َّد الطريق لإقام ِة وليمة �أو دعوة ف�إنه مل ِ‬
‫ و�أ َّما �أذية ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫النا�س وي�س ّد‬


‫ي�صح له الوقوف في�ؤذي َ‬ ‫فيقف حيث ال ّ‬ ‫مبوقف َ�سيار ِته ُ‬‫ِ‬ ‫الطريق ح ّقه‪ ،‬ومث ُل ُه الذي ي�س ّد الطريق‬
‫أحد‪ ،‬لكنه يريد راح َة ِ‬
‫نف�سه ب�إزعاج غ ِريه‪ ،‬وخمالف ِة �سنة‬ ‫الطريقَ ‪ ،‬ولو ابتعد قلي ًال لوجد مكان ًا رحب ًا دون �أذ ّية ل ٍ‬
‫نبيه ‪.s‬‬

‫ ومن َج َل َ�س بب�ضاع ِته على قارعة الطريق للبيع ف�ض َّيق الطريق و�س َّد الر�صيف ف�إنه مل يكف �أذاه‪ ،‬والثالثُ‬
‫ال�ص َغا َر والكبار فع ًال‬
‫دخنُ يف وجوه القوم حتى �إذا انتهى �ألقى �أعقاب دُخا ِنه يف قارعة الطريق ف�آذى ِّ‬ ‫الذي ُي ِّ‬
‫أمرا�ض واال�ستقزاز‬ ‫و�ضر ِرهم‪ُ ،‬م�س ّبب ًا ال َ‬ ‫و�أثر ًا‪ .‬وراب ٌع ُيلقي نفايا ِته و� َ‬
‫أو�ساغه يف الطريق غ َري � ٍآبه ب�أذي ِة النا�س َ‬
‫النفايات �إىل مو�ضعها‬
‫ِ‬ ‫والأذية للم�سلمني‪ ،‬وال فرق �شرع ًا يف ذلك بني قليل ما رمى وكثريه‪ ،‬ولو �أنه � ّأخر رمي‬
‫لأُجر َ‬
‫و�س ِل َم ِمن الإثم‪.‬‬

‫ و�أعظم الأذى يف الطريق االقتطاع منه وت�ضييقه على املارة‪ .‬ففي ال�صحيحني عن �أبي �سلمة �أنه كانت‬
‫(من ظلم‬ ‫اجتنب الأر�ض ف�إن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫بينه وبني �أنا�س خ�صومة فذكر لعائ�شة ‪ g‬فقالت‪ :‬يا �أبا �سلمة‬
‫قيد �شرب من الأر�ض ط ِّو َقه ِمن َ�سبع �أر�ضني)‪ .‬ف َمن اقتطع �شرب ًا من �أر�ض امل�سلمني �أو مرت ًا ف�أحلقها ِ‬
‫مبلكه ف�إنه‬
‫أمر عظيم يوم القيامة وما هو بقادر عليه‪.‬‬ ‫متوع ٌد ب� ٍ‬

‫ال�سالم‪ .‬واملراد بذلك ن�شره بني النا�س ليحيوا �سنتَه‪ ،‬قال ابن عمر ‪�( :d‬إذا‬ ‫‪ w‬والأدب الثالث‪� :‬إف�شاء َّ‬
‫�سلمت ف�أ�سمع ف�إنها حتية من عند اهلل)‪ .‬روى م�سلم (يف ال�صحيح ‪ )54‬عن �أبي هريرة قال �أن النبي ‪ s‬قال‪:‬‬ ‫َ‬
‫(ال تدخلون اجلنة حتى ت�ؤمنوا وال ت�ؤمنوا حتى حتابوا �أوال �أدلكم على �شيء �إذا فعلتموه حتاببتم �أف�شوا ال�سالم‬
‫ا�سم اهلل تعاىل و�إف�شا�ؤه ذك ٌر له ج َّل وعال روى البخاري يف (الأدب املفرد) عن �أن�س قال‪ :‬قال‬
‫الم ُ‬
‫فال�س ُ‬
‫بينكم)‪َّ .‬‬
‫النبي ‪�( :s‬إن ال�سالم ا�سم من �أ�سماء اهلل و�ضعه اهلل يف الأر�ض ف�أف�شوا ال�سالم بينكم)‪ .‬و�صاح ُبه ٌ‬
‫قريب من‬
‫اهلل تعاىل روى �أبو داود عن �أبي �أمامة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال (�إن �أوىل النا�س باهلل من بد�أهم بال�سالم)‪ . ،‬وهو‬
‫ودليل �إلفهم وحمبتهم ومودتهم؛ �أخرج البخاري يف (الأدب) عن عائ�شة �أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪:‬‬ ‫�شعا ُر امل�سلمني ُ‬
‫(ما َح َ�سدتكم اليهو ُد على �شيء ما ح�سدتكم على ال�سالم والت�أمني)‪.‬‬‫َ‬

‫عدم �إف�شاء ال�سالم بني النا�س يف الطرقات وكون ال�سالم‬


‫ومن عالمات �آخر الزمان و�أ�شراط ال�ساعة ُ‬
‫ال�سالم‬
‫للمعرفة فقط �أخرج البخاري يف (الأدب املفرد) ب�سند �صحيح عن ابن م�سعود �أنه م َّر برجل فقال‪َّ :‬‬
‫ال�سالم فيه للمعرفة) وروي‬
‫عليك يا �أبا عبد الرحمن‪ ،‬فر َّد عليه ثم قال‪�( :‬إنه �سي�أتي على النا�س زمان يكون َّ‬
‫مرفوع ًا‪.‬‬

‫‪ w‬والأدب الرابع‪ :‬الأمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬والتذكري بالأوامر ال�شَّ رعية والآداب املرعية‪ .‬وتنبيه‬
‫الغافل عنها‪ ،‬وتذكري النا�سي لها‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬آداب الطريق‬

‫اليوم مت�أدبني ب�أدب النبي ‪ s‬يف الطريق‪ ،‬فنحفظ �أب�صارنا ونغ�ضها عن النظر‬ ‫ عباد اهلل ! لنكن ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫واجلنان فال ن�س ُّد طريق ًا مبوقف خاطئ وال ن�ؤذي م�سلم ًا بقياد ٍة‬
‫الل�سان ِ‬
‫ِ‬ ‫احلرام‪ُّ .‬‬
‫ونكف �أذنا عن النا�س �أذى‬
‫نعرف‪ِ ،‬من علية القوم‬ ‫متهورة �أو كالم بذيء‪ .‬ونف�شي ال�سالم وال َك ِلم الطيب بني النا�س َمن عرفنا َومن ال ِ‬
‫وغريهم فالكل �سواء‪ .‬ثم ن�أمر باملعروف واخلري وننهى عن املنكر ونبد�أ ب�أنف�سنا َومن نعول فنذكر �أهلنا بواجب‬
‫احلياء وال�سرت واحلجاب وترك التعطر يف الطريق‪.‬‬ ‫اهلل عليهم من َ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫أسماء اهلل الحسنى‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬أسماء اهلل الحسنى‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫عم بربه و�أجزل‪ ،‬الرحيم الذي �أمت �إح�سانه على‬ ‫ احلم ُد هلل الذي �سرت ب�سرته و�أجمل‪ ،‬ال�شكور الذي َّ‬
‫امل�ؤمنني و�أكمل‪ ،‬الكرمي الذي يكفي بح�سن ت�أييده َمن على كرمه ع َّول‪ ،‬الواحد الأحد الفرد ال�صمد الأول‪،‬‬
‫صري املدب ُر اخلب ُري املتك َّل ُم ال‬
‫العليم القدي ُر ال�سمي ُع الب� ُ‬
‫احلي ُ‬ ‫املنفرد بالعز والكمال فال ينق�ص عزُّه وال يتحول‪ُّ ،‬‬
‫كم ُحك ُمه‪ ،‬والأمر �أم ُره فعليه املع َّول‪َ ،‬من و َّف َق ُه خلدم ِته و� َّأهله لقربه فقد جاد عليه وتف�ضَّ ل‪،‬‬ ‫ُي�س�أل ع َّما يفعل‪ ،‬ا ُ‬
‫حل ُ‬
‫َومن �أبعده عن بابه و�ص ّده عن دعائه فقد حت ّول‪ .‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أ�شهد �أنّ حممد ًا عبدُه ور�سوله ‪..s‬‬
‫�أ َّما بعد !‬

‫ ف�إن اهلل تعاىل خلق الدنيا دار زوال‪ ،‬وحم َّل قلق وانتقال‪ ،‬وجعل �أه َلها فيها عر�ض ًا للفناء‪ ،‬ومقا�سا ِة‬
‫ال�شدة والبالء‪ ،‬ف�شاب حياتهم فيها باملوت‪ ،‬وبقاءهم بح�سرة الفوت‪ .‬وجعل �أو�صافهم فيها مت�ضادة‪ ،‬فقرن‬
‫بال�سقم‪.‬‬ ‫ق َّوتهم بال�ضَّ عف‪ ،‬وقدرتهم بالعجز‪ ،‬و�شبا َبهم بامل�شيب‪ ،‬وعزَّهم بال ُّذل‪ ،‬وغناهم بالفقر‪ ،‬و�صحتهم ُّ‬
‫وقد�سه؛ فله قو ٌة بال �ضعف‪ ،‬وقدر ٌة بال عجز‪ ،‬وحيا ٌة بال موت‪ ،‬وع ٌّز‬ ‫لنف�سه ِ‬ ‫ال�صفات و كما ِلها ِ‬ ‫وا�ست�أثر بانفراد ّ‬
‫حل�سنى‪ ،‬تبارك ر ُّبنا وتعاىل؛ } َل ْي َ�س َك ِم ْث ِل ِه َ�ش ْي ٌء‬ ‫وغنى بال فقر‪ ،‬وكذلك �سائر �صفاته ال ُعلى‪ ،‬و�أ�سمائه ا ُ‬ ‫بال ُذل‪ً ،‬‬
‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َي ْب ُ�س ُط ال ِّر ْز َق لمِ َن َي َ�شاء َو َي ْق ِد ُر �إِ َّن ُه ِب ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َع ِلي ٌم{‪.‬‬
‫ال�س ِمي ُع ال َب ِ�ص ُري { َل ُه َم َقا ِلي ُد َّ‬
‫َوهُ َو َّ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ �أ�سما ُء اهلل و�صفا ُته �أ�سما ُء عظمة وكمال‪ ،‬و�صفاتُ متام َو�إج�لال‪ ،‬و�أ�سما�ؤه تعاىل دال ٌة على �صفات‬
‫العلم ب�أ�سماء اهلل تعاىل ا ُ‬
‫حل�سنى و�صفاته‬ ‫أ�شرف العلوم ُ‬ ‫كما ِله‪ ،‬فهي �أ�سماء وهي �صفاتٌ فلذا كانت ُح�سنى‪ .‬و� ُ‬
‫ال ُعلى لتعلقها ب�أ�شرف معلوم وهو اهلل �سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫ا�سم له �سبحانه‪ .‬وما يف‬ ‫ والناظر يف كتاب اهلل يجد �أنه ال تكاد تخلو �آي ٌة من �آياته ِمن ذكر �صف ٍة �أو ٍ‬
‫مما فيه ِمن ذكر اجلنة والنار والأحكام‪ .‬والآيات املت�ضمنة‬ ‫القر�آن من ذكر �أ�سماء اهلل و�صفاته و�أفعا ِله �أك ُرث َّ‬
‫لذكر �أ�سماء اهلل و�صفاته �أعظم قدر ًا من �آيات املعاد والأحكام؛ ف�أعظم �آية يف القر�آن هي �آية الكر�سي املت�ضمنة‬
‫بي‪:‬‬‫لذلك؛ [كما ثبت يف ال�صحيح �أن النبي ‪ s‬قال لأُ ِّبي بن كعب ‪� d‬أتدري �أي �آية يف كتاب اهلل �أعظم ؟ قال �أُ ٌّ‬
‫وم{ ف�ضرب بيده يف �صدره وقال‪( :‬ليهنك العلم �أبا املنذر)] و�أف�ضل �سور ٍة �سور ُة‬ ‫هَّ ُ‬
‫}الل َال ِ�إ َلـ َه ِ�إالَّ هُ َو الحْ َ ُّي ا ْل َق ُّي ُ‬

‫‪87‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أسماء اهلل الحسنى‬

‫الفاحتة وهي � ِّأم القر�آن ن�صفها يف متجيد اهلل [ففي �صحيح البخاري عن �أبي �سعيد بن املُع َّلى ‪ d‬قال‪ :‬قال يل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�سور يف القر�آن قبل �أن تخرج من امل�سجد)‪ ،‬ثم �أخذ بيدي فلما‬ ‫ر�سول اهلل ‪( :s‬لأع ِّل َمنك �سورة هي � ُ‬
‫أعظم ُّ‬
‫�أراد �أن يخرج قلت له‪� :‬أمل تقل لأعلمنك �سور ًة هي � ُ‬
‫أعظم �سور ٍة يف القر�آن‪ ،‬قال ‪( :s‬احلمد هلل رب العاملني‬
‫هي ال�سبع املثاين والقر�آن العظيم الذي �أوتيته)]‪.‬‬

‫ال�سو ُر‬
‫�صفات اهلل‪ .‬فهذه ُّ‬
‫ِ‬ ‫{تعد ُل ُثلثَ القر�آن ملا فيها ِمن‬ ‫وثبت يف ال�صحيح عنه‪�s‬أن} ُق ْل هُ َو هَّ ُ‬
‫الل �أَ َح ٌد ِ‬
‫والآياتُ ك ّلها يف تعديد �صفات اهلل تعاىل والثناء عليه لذا َف َ�ض َل ْت غ َريها‪.‬‬

‫ عباد ّ‬
‫اهلل �إن �أ�سما َء اهلل و�صفا ِته ال ُيحيط بها �إال هو �سبحانه‪ ،‬لذا كان من دعاء النبي ‪�( :s‬أ�س�ألك‬
‫ا�سم هو لك �سميت به نف�سك‪� ،‬أو �أنزلتَه يف كتابك‪� ،‬أو علمته �أحد ًا من خلقك‪� ،‬أو ا�ست�أثرتَ به يف علم الغيب‬
‫بكل ٍ‬
‫عندك)‪.‬‬

‫نف�سه ف�أظهره َملن �شاء من مالئكته‬‫ فبينّ هذا احلديث �أنّ �أ�سماء اهلل تعاىل ثالثة �أق�سام‪ :‬ق�س ٌم �س َّمى به َ‬
‫�أو غريهم ومل َينزل به كتا ُبه‪ ،‬وق�سم � َ‬
‫أنزل به كتا َبه فتع َّرف به �إىل عباده‪ ،‬وق�سم ا�ست�أثر به يف علم غيبه فلم ُيط ِلع‬
‫عليه �أحد ًا من خلقه‪ ،‬ولهذا قال‪( :‬ا�ست�أثرتَ به)‪� ،‬أي انفردتَ بعلمه [بدائع الفوائد ‪.]171/1‬‬

‫ِومن هذه الأ�سماء التي تع ّرف ُ‬


‫اهلل بها �إىل عباده‪َ ،‬ما �أنزله يف كتابه ووردت يف ُ�سنة نب ّيه ‪ s‬وهي ت�سع ٌة‬ ‫ ‬
‫وت�سعني ا�سم ًا باخل�صو�ص‪ ،‬يف ال�صحيحني عن �أبي هريرة ‪� d‬أنّ النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن هلل ت�سع ًة وت�سعني ا�سم ًا‪،‬‬
‫مائ ٌة �إال واحد ًا ِمن �أح�صاها دخل اجلنة)‪.‬‬

‫�صحيح تعدادها‪ ،‬قال ابن الأمري ال�صَّ ن َعاين‪( :‬اتفق احلفاظ من �أئمة‬
‫ٍ‬ ‫حديث‬
‫و هذه الأ�سماء مل ي� ِأت يف ٍ‬
‫وال�سنة‪ ،‬لذا ف�إن‬
‫احلديث �أن �سردها �إدراج من بع�ض الرواة)‪ ،‬و�إمنا هي مبثوثة يف ن�صو�ص الوحيني من الكتاب ّ‬
‫امل�ؤمنَ ال ميكن �أن يعرفها �إال �أنّ يكرث من قراءة كتاب اهلل ج ّل وعال‪ ،‬ومعرف ِة �سنة نب ّيه ‪.s‬‬

‫نف�سه به و�إن كان معناه �صحيح ًا‪ ،‬قال‬


‫ي�سم اهلل َ‬ ‫ وال يجوز لل�شخ�ص كائن ًا من كان �أن ُي�س ّمي اهلل ٍ‬
‫با�سم مل ّ‬
‫نف�سه �أو �أخرب به عن نف�سه‬
‫ابن حزم الأندل�سي‪( :‬ال يجوز �أن ُي�س َّمى اهلل تعاىل وال �أن يخرب عنه �إال مبا �س ّمى به َ‬
‫�صح به �إجماع جميع �أهل الإ�سالم املتيقن وال مزيد‪ ،‬وحتى و�إن كان املعنى‬ ‫يف كتابه �أو على ل�سان ر�سوله‪�s‬أو َّ‬
‫�صحيحا فال يجوز �أن ُيط َلق عليه تعاىل ال َّلفظ)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إنّ �إح�صاء �أ�سماء اهلل يكون‪ :‬مبعرفتها من كالمه ج ّل وعال و َوحيه لنب ّيه ‪َ ،s‬و َع ِ‬
‫قل َمعناها‬
‫إميان بها‪َ ،‬و َعدِّ ها وا�ستيفائها حفظ ًا‪ ،‬ودعا ِء ِ‬
‫العبد ر َّبه بها‪ ،‬و�أن ي�ستجمع قل َبه عند دعائه بها‪،‬‬ ‫والتفكر فيها‪ ،‬وال ِ‬
‫ِ‬
‫جلدر‪.‬‬‫وثنائه عليه بجميعها‪ .‬فذاك هو حم�صيها على احلقيقة‪ ،‬ال �سر ُد الأ�سماء الواردة وتعليقها على ا ُ‬

‫‪88‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أسماء اهلل الحسنى‬

‫بع�ض �أهل العلم (بدائع الفوائد البن القيم ‪ 163/1‬بت�صرف)‪�( :‬إح�صاء �أ�سماء اهلل احل�سنى‬ ‫ قال ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫والعلم بها �أ�ص ٌل للعلم ب ُكل معلوم؛ لأن َما عداه �سبحانه �إ َّما خل ٌق له �أو �أمر‪ .‬فاخللق ب�إيجاده وخل ِقه‪ .‬والأمر كله‬
‫ُ‬
‫م�صلحة وحكمة ورحمة ولطف و�إح�سان)‪.‬‬

‫عباد اهلل! �إن عناية العبد ب�صفات اهلل تعاىل و�أ�سمائه ومعرفتُه بها له �أثر كبري عليه‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬ ‫ ‬

‫۩ ۩�أنها �سبب ملحبة اهلل للعبد‪ ،‬فثبت يف ال�صَّ حيح �أن النبي ‪ s‬ب�شَّ ر الذي كان يقر�أ �سورة ال�صمد ويقول‪:‬‬
‫(�إين لأحبها لأنها �صفة الرحمن)‪ ،‬فب�شره ب�أن اهلل يح ُّبه‪ ،‬فبينَّ ‪� s‬أن اهلل تعاىل ُي ِح ُب َمن ُي ِح ُّب ِذك َر‬
‫�صفا ِته ج َّل وعال‪.‬‬

‫�سبب لدخول اجلنة‪ ،‬ففي ال�صحيحني عن �أبي هريرة ‪� d‬أن النبي‬‫۩ ۩كما �إنَّ معرفة هذه الأ�سما ِء القد�سي ِة ٌ‬
‫‪ s‬قال‪�( :‬إن هلل ت�سع ًة وت�سعني ا�سم ًا‪ ،‬مائة �إال واحد ًا من �أح�صاها دخل اجلنة)‪.‬‬

‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أنّ العلم ب�أ�سماء اهلل جل ثنا�ؤه و�صفا ِته‪ ،‬ومعرف َة معانيها يحدث خ�شي ًة ورهبة يف قلب العبد‪،‬‬
‫الل ِمنْ ِع َبا ِد ِه ا ْل ُع َل َماء ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َع ِزي ٌز َغ ُفو ٌر{‪ .‬فالذين يخ�شون اهلل على‬ ‫لذا قال اهلل تعاىل‪�ِ } :‬إنمَّ َ ا َي ْخ َ�شى هَّ َ‬
‫احلقيقة هم العاملون به �سبحانه‪ ،‬ب�أ�سمائه و�صفاته‪ ،‬وب�أمره ونهيه‪ ،‬وخ ِربه و وعيده‪ ،‬لذا ختم هذه الآية‬
‫با�سمني من �أ�سمائه ج ّل وعال‪( :‬العزيزُ‪ ،‬والغفور)‪.‬‬

‫ف َمن عرف �أنّ َ‬


‫اهلل ب ُك ِّل �شيءٍ عليم‪ ،‬و�أنه ال تخفى عليه خافية من �أعمال العباد وي�ؤمن بذلك ف�إنه �أ�ش ُّد خوف ًا‬
‫ممن ال يعلم ذلك‪.‬‬

‫َومن يعلم (�أن اهلل ال يعجزه �شيء)‪( ،‬وهو على كل �شيء قدير) يكون �أتقى هلل ممن ال يعلم‪ ،‬و�أخ ُ‬
‫��وف‪،‬‬
‫و�أرجى‪ .‬و�إذا قال‪( :‬يا رحمن يا رحيم) تذكر �صفة الرحمة‪ ،‬واعتقد �أنها من �صفات اهلل تعاىل‪ ،‬فريجو رحمته‪،‬‬
‫وال يي�أ�س من مغفرته‪.‬‬

‫(ال�سميع الب�صري)‪ .‬علم �أنه يراه وي�سمعه‪ ،‬و�أنه ال تخفى عليه خافية‪ ،‬فيخافه يف �سره وعلنه‪،‬‬
‫و�إذا قر�أ َّ‬
‫ويراقبه يف كافة �أحواله‪.‬‬

‫و�إذا دعا بـ‪( :‬يا رزاق)‪ .‬اعتقد �أنه �سبحانه املتكفل برزقه ي�سوقه �إليه يف وقته‪ ،‬فيثق بوعده ويعلم �أنه ال رازق‬
‫له �سواه‪ ،‬فيقطع الرجاء مما ب�أيدي املخلوقني‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫أعظم النعم ونعمة األمن‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬أعظم النعم ونعمة األمن‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫وها{‪.‬‬ ‫الل َال تحُْ ُ�ص َ‬‫ ف�إن نعم اهلل على عباده كثري ٌة ال تحُ �صى‪ ،‬ومتوافر ٌة ال ميكنُ ع ّدها } �إِن َت ُع ُّدو ْا ِن ْع َم َة هَّ ِ‬
‫أعظم ال ِّنعم و�أج َّل‬‫�شك وال ريب �أن � َ‬ ‫بع�ض و�أوىل‪ .‬وال َّ‬ ‫أهم من ٍ‬ ‫و�إن نع َم ُه �سبحانه على عباده متفاوتة‪ ،‬فبع�ضها � ّ‬
‫لإ َمي ِان ِ�إن‬ ‫النعم ال ّدينية بالهداية للحق‪ ،‬وتي�سري العمل له } َب ِل هَّ ُ‬
‫الل مَ ُينُّ َع َل ْي ُك ْم �أَنْ َه َدا ُك ْم ِل ِ‬ ‫امل ِنن على الإطالق ُ‬
‫ُكنت ُْم َ�صا ِد ِق َني {‪.‬‬

‫العاقل لدرجات ال ِّنعم‪،‬‬


‫ِ‬ ‫ و�أ ّما ال ّنعم الدنيوية ف�إن اهلل قد فا�ضل بينها‪ ،‬وفارق بني درجاتها‪ ،‬و�إن معرف َة‬
‫أهمها و�أوالها تفيدُه �أمرين‪:‬‬
‫و� ِ‬

‫أهم ال ِّنعم ف�إنه يعلم �أنه قد حيزت له الدنيا‪ .‬و�أن ما فاته منها �إمنا هو ف�ض ٌل‬ ‫۩ ۩�أحدهما‪� :‬أنه �إذا ُر َ‬
‫زق � ّ‬
‫نف�س ُه مبا َق َ�سم اهلل له‪ ،‬ويطمئنُ قل ُبهُ‪ ،‬وال يحزن على ما فاته ِمن متا ِع الدنيا‬
‫ونافلة‪ .‬فحني ذاك تطيب ُ‬
‫وزهرتها‪ ،‬وهذا معنى قول النبي ‪( :s‬انظروا �إىل من هو �أ�سفل منكم‪ ،‬وال تنظروا �إىل من هو فوقكم‬
‫ف�إنه �أجد ُر �أن ال تزدروا نعمة اهلل عليكم) [رواه الرتمذي و�صححه وابن ماجه]‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫َ‬
‫والفر�ض‬ ‫عند املرء هذه امل�صالح‪ ،‬وتلك ال ِّنعم‪ ،‬ف�إنه ُيقدِّ م الأهم على املهم‪،‬‬
‫۩ ۩الثاين‪� :‬أنه �إذا تعار�ضت َ‬
‫أ�صل على الفرع‪ .‬فيكون قد و�ضع الأمور يف مو�ضعها‪ ،‬وزانها مبيزان العقل‪ .‬فال ُي�ض ّيع‬ ‫على ال َّنفل‪ ،‬وال َ‬
‫النعم َة الأهم ِمن � ْأج ِل حت�صيل ما دونها‬

‫ثالث ِن َع ٍم هي �أَ َج ُّل نعم الدنيا للعبد‪ ،‬و�أك ُرثها حاج ًة‬
‫عجيب َ‬ ‫حديث ٍ‬ ‫النبي ‪ s‬يف ٍ‬ ‫ عباد اهلل! لقد ذكر لنا ُّ‬
‫هلل عليه‪ ،‬و�أن يزن الأمور‬ ‫له وم�سا�س ًا به‪ .‬حقي ٌق َمبن ت�أ ّمل هذا احلديث‪ ،‬و َن َظ َر فيه َن َظر املعترب �أن َي ِعر َف ِن َعم ا ِ‬
‫(من �أ�صبح منكم �آمن ًا يف‬ ‫ق�سط عند ا�شتباهها روى الرتمذي وح�سنه وابن ماجه �أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬ ‫مبيزان ٍ‬
‫يومه فك�أمنا حيزت له الدنيا)‪.‬‬ ‫ج�سده‪ ،‬عنده قوتُ ِ‬ ‫ِ�سربه‪ُ ،‬معافى يف ِ‬

‫‪90‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أعظم النعم ونعمة األمن‬

‫إنعام ف�إمنا هو‬ ‫الطالب لها‪ ،‬ف�إنّ ُك ّل ٍ‬


‫مال و� ٍ‬ ‫عم اهلل‪،‬‬
‫حري �أن يت�أ ّمله النا�ش ُد ل ِن ِ‬
‫ هذا احلديث عباد اهلل! ٌّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ُ‬
‫ف�ض ٌل بعد هذه الثالث؛ م ْل ِكه قوتَه‪ ،‬و�صح ِته يف بد ِنه‪ ،‬و�أم ِنه يف �سر ِبه‪ .‬فقد ذكر ‪� s‬أن َمن اجتمعت له هذه‬
‫نعم الدنيا بحافريها‪ ،‬مهما فاته منها‪.‬‬ ‫الثالث النعم فقد ُجمعت له ُ‬

‫إ�سالم والقوتُ للفتَى‬


‫ �إذا اجتمع ال ُ‬
‫�صحيحا ج�س ُمه وهو يف �أَ َمنْ‬‫ً‬ ‫وكان‬ ‫ ‬
‫فقد ملك الدنيــا جميع ًا وحــازهـا‬ ‫ ‬
‫وح ـ ٌّق علـ ـيـه ال�ش ـكـ ُر لــله ذي ا َمل ْنن‬ ‫ ‬

‫نف�س ُه و َيهن�أ‬
‫يومه ف�إنه تطمئن ُ‬
‫يومه‪ ،‬ف�إن املر َء �إذا َو َج َد قوتَ ِ‬ ‫۩ ۩ف�أ ّول هذه ال ِّنعم �أن يكون املر ُء مالك ًا ِ‬
‫لقوت ِ‬
‫بعي�شه‪ .‬ولي�س املق�صو ُد مكاثر َة املال وكنزَ ه وجم َعه‪ ،‬و�إمنا ُ‬
‫املال املكنوز يف علم اهلل؛ قد ينتفع به العبدُ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وقد ي�أخذه وارثه‪ ،‬وقد ت�أتيه �آف ٌة فتُذهبه‪ ،‬يف �صحيح م�سلم �أن النبي ‪ s‬قال‪ « :‬يقول ابن �آدم‪ :‬مايل‬
‫أكلت ف�أفنيت‪� ،‬أو لب�ست ف�أبليت‪� ،‬أو ت�صدقت ف�أم�ضيت »‪ .‬ولذا‬ ‫مايل‪ .‬وهل لك يا ابن �آدم من مالك �إال ما � َ‬
‫خ�ص النبي ‪ s‬قوتَ اليوم ب�أنه النعمة العظيمة املهمة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫أعظم ال ِّنعم الدنيو ّية‪ .‬ف�إذا �أنعم اهلل على‬ ‫ال�صح ُة يف البدن‪ .‬ف�إن ال�صح َة يف ِ‬
‫البدن � ُ‬ ‫ّ‬ ‫۩ ۩وثاين �أعظم ال ِّنعم‪:‬‬
‫ب�صحة بد ِنه وعافيته ِمن الأ�سقام‪ ،‬ف�إن غ َريها ِمن ال ِّنعم نف ٌل‪ ،‬حتى �إن العقالء ليمتنعون ِمن تناول‬
‫عبد ّ‬ ‫ٍ‬
‫بع�ض املالذ وال ِّنعم حفظ ًا لهذه النعم ِة وحماي ًة لها‪ .‬والأحمقُ َمن �أتلف ّ‬
‫�صحته و�أذهب ق ّوته لأجل ل ّذ ٍة‬
‫لطعام �أو �شراب‪ .‬وال غرو بعد ذلك �أن يكون دعا ُء النبي ‪ s‬ر ّبه ب�أن يعافيه يف بدنه؛ لأنها ِمن‬ ‫ٍ‬ ‫حالي ٍة‬
‫�أعظم نعم الدنيا‪.‬‬

‫۩ ۩وثالثُ �أعظم نعم الدنيا (�إن مل تكن هي �أعظمها على الإطالق)‪ :‬نعم ُة الأمن يف ِّ‬
‫ال�س ْرب‪ ،‬ف�أن َي� َأمنَ املر ُء‬
‫أعظم نعم ٍة ينعم بها الكر ُمي على‬ ‫هلل � ُ‬
‫نف�سه و�أه ِله وما ِله‪ ،‬لهي وا ِ‬
‫مقامه ومبيته‪ ،‬على ِ‬
‫يف بي ِت ِه وطري ِقه‪ ،‬ويف ِ‬
‫العباد‪.‬‬

‫جدت ف�إنه ال َط ْع َم لها‪ ،‬ال َيهن�أ فاق ُد ال ِ‬


‫أمن بنوم‪،‬‬ ‫عم الدنيو ّي ُة الباقية‪ ،‬و�إن ُو ْ‬
‫عند فقد الأمن تزول ال ِّن ُ‬
‫ �إنه َ‬
‫ُ‬
‫اخلوف‬ ‫أعجب ما يف الإن�سان قل ُب ُه �إن نا َل ُه‬
‫علي ‪ُ �( :d‬‬ ‫بحديث‪ ،‬وال ين�شط لتجارة‪ ،‬قال ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫وال يلت ّذ بطعام‪ ،‬وال ي�سعد‬
‫ف�ضحه اجلزع)‪.‬‬ ‫حلزن‪ ،‬و�إن �أ�صابته م�صيبة َ‬ ‫�شغ َله ا ُ‬

‫أر�ض ُت ِق ُلهُ‪ ،‬ال يجد يف‬


‫يف‪ ،‬ال �سما ٌء ُتظ ُلهُ‪ ،‬وال � َ‬
‫ال�س ٌ‬ ‫ٌ‬
‫الطيف‪ ،‬و�إذا انت َب َه راعه َ‬ ‫ َمن فقد الأمنَ ‪� :‬إذا نام ها َله‬
‫اخل�ضرا ِء َم�صعد ًا‪ ،‬وال يف الغربا ِء َمقعد ًا‪ ،‬طار قل ُبه من ال َو َجل‪ ،‬وتوقع �سو َء الأجل‪ .‬و�صدق َمن قال‪( :‬ال َع َ‬
‫ي�ش‬
‫خلائف)‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أعظم النعم ونعمة األمن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل عليه ال�سالم ملا �أراد �أن يدعو لبنيه كان �أ ّول ما دعا به �أن دعا لهم بالأمن‬ ‫خليل ا ِ‬ ‫إبراهيم َ‬ ‫َ‬ ‫ لذا ف�إن �‬
‫يف وطنهم فقال‪َ } :‬ر ِّب ْاج َع ْل َه َـذا ا ْل َب َل َد � ِآمن ًا َو ْاج ُن ْب ِني َو َب ِن َّي �أَن َّن ْع ُب َد الأَ�صْ َن َام {؛ وكان ر�سول اهلل ‪ s‬يدعو َ‬
‫اهلل‬
‫ج ّل وعال بالأمن فكان �إذا ر�أى الهالل قال‪( :‬اللهم �أه ّله علينا بالأمن والإميان)‪.‬‬

‫ ذلكم (عباد اهلل!) لأن املر َء �إذا � ِأمنَ يف �سر ِبه �أدى عبادة ر ّبه‪ ،‬و�سعى يف منا ِء جتارته وماله‪ ،‬و�سعد‬
‫النا�س �سرور ًا الآمن‪ ،‬قد �أبدله هَّ ُ‬
‫الل بح ِّر اخلوف َب ْر َد الأمن‪ ،‬ال يلتفت وراء ُه‬ ‫يف نها ِره ومل يحمل َه ّم لي ِله‪ ،‬ف�أد َو ُم ِ‬
‫ُ‬
‫ا�ستيحا�ش ُه ‪ ،‬و�سكن َر ْو ُع ُه ‪ ،‬و�أمنت ُ‬
‫نف�سه‪.‬‬ ‫خماف ًة‪ ،‬وال يخ�شى �أمامه �آف ًة‪ ،‬قد �آمن �سر ُبهُ‪َ ،‬‬
‫وع ُذ َب ِ�شر ُبهُ‪ ،‬وزال‬

‫قري�ش ذ َّكرهم ب�أهم نعمتني على عمومهم‪ ،‬وهما نعمة الأمن‪ ،‬والرخاء}‬ ‫نت على ٍ‬ ‫اهلل �أن مي ّ‬ ‫ وملّا �أراد ُ‬
‫نت ُ‬
‫اهلل على الأمم قب َلهم من‬ ‫َف ْل َي ْع ُبدُوا َر َّب َه َذا ا ْل َب ْي ِت{ا َّل ِذي �أَ ْط َع َم ُهم ِّمن ُج ٍوع َو� َآم َن ُهم ِّمنْ َخ ْو ٍف {‪ ،‬وكذا ام ّ‬
‫�أُ ّمن؛ كثمود‪ ،‬و�أخوة يو�سف‪ ،‬و�سب�أ وغريهم‪.‬‬
‫أعظم‬
‫وعدم الإخالل بها؛ لأنها � ُ‬
‫حلفظها ومنائها ِ‬ ‫ �إن املر َء (عباد اهلل!) �إذا ع َر َف هذه ال ِّنعم �سعى ِ‬
‫اهلل رفع احلديد َة على املُ�سلم تخويف ًا‪ ،‬ونهى عن �إتالف املال و�إف�ساده ولو كان قلي ًال‪ ،‬وقد ّ‬
‫�صح‬ ‫ال ِّنعم‪ .‬لذا ح ّرم ُ‬
‫مل�سلم �أن ُير ّوع م�سلم ًا) [رواه الإمام �أحمد]‪.‬‬ ‫عن النبي ‪� s‬أنه قال‪( :‬ال يح ّل ٍ‬

‫(من �أراد بحبوحة اجلنة‬ ‫اهلل باجتماع الكلمة‪ ،‬ولزوم اجلماعة؛ روى الرتمذي �أن النبي ‪s‬قال‪َ :‬‬ ‫ و� َأم َر ُ‬
‫أبعد)نعم! �إن املُفا ِر َق للجماع ِة يكون �أقرب لل�شيطان‬
‫َ‬ ‫فليلزم اجلماع َة ف�إن ال�شيطان مع الواحد‪ ،‬ومن االثنني �‬
‫أبعد عن �أمر الرحمن وطاعته‪ ،‬ولذا جاء يف احلديث (عند الرتمذي)‪�( :‬إن لل�شيطان لمََّة ‪�-‬أي‬ ‫وو�سو�س ِته‪ ،‬و� َ‬
‫ُقرب‪ -‬بابن �آدم ولل َم َل ِك ملّة‪ .‬ف�أما مل ُة ال�شيطان ف�إيعاد بال�شر وتكذيب باحلق)‪ .‬فال�شيطان يعد بال�ش ّر ويحثُّ على‬
‫اخلوف ويطرد الأمن‪.‬‬

‫النا�س ُجرم ًا ِمن �سعى لإزالة الأمن‪ ،‬وبثِّ اخلوف‪ ،‬ون�شر الف�ساد‪ ،‬و�إتالف الأموال؛ قال معاوية ‪:d‬‬‫أعظم ِ‬ ‫� ُ‬
‫تف�سد املعي�ش َة‪ ،‬وتكدِّ ر ال ِّنعمة‪ُ ،‬‬
‫وتورث اال�ستئ�صال)‪.‬‬ ‫(�إ ّياكم والفتن َة‪ ،‬فال ته ّموا بها‪ ،‬ف�إنها ِ‬

‫وف َوالجْ ُ و ِع َو َن ْق ٍ�ص ِّمنَ الأَ َم َو ِال َوالأن ُف ِ�س‬


‫وانظر ‪-‬يا رعاك اهلل‪ -‬لقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و َل َن ْب ُل َو َّن ُك ْم ِب َ�ش ْيءٍ ِّمنَ الخْ َ ِ‬
‫َوال َّث َم َر ِات َو َب ِّ�ش ِر ال�صَّ ا ِب ِرينَ {‪ .‬وكيف �أن اهلل تعاىل بينّ �أنّ �أ�ش ّد البالء يكون بذهاب �أحد هذه النعم الثالث‪،‬‬
‫وبد�أ ب�أ�ش ّدها على النف�س‪ ،‬و�أكرثها �أثر ًا يف النا�س‪ ،‬وهو ذهاب �أمنهم وتبدل حالهم‪ ،‬ف�إن يف ذهابه �أ�ش َّد االبتال ِء‬
‫ُ‬
‫وال�ض ّر‪.‬‬

‫بارك اهلل يل ولكم يف القر�آن العظيم‪ ،‬ونفعنا مبا فيه من الآيات والذكر احلكيم‪� ،‬أقول قويل هذا وا�ستغفر‬
‫اهلل يل ولكم ول�سائر امل�سلمني‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أعظم النعم ونعمة األمن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫بعده �أ ّما بعد‪..‬‬
‫احلمد هلل وحده وال�صالة وال�سالم على َمن ال نبي َ‬

‫ عباد اهلل! ف�إن اهلل ع ّز وج ّل قد بينّ �سبب ًا مهم ًا حلفظ الأمن‪ ،‬ورعايته ودميومته‪� ،‬أال وهو الت�أك ُد ِمن نقل‬
‫الأخبار‪ ،‬والتوثق فيها‪ ،‬وعدم �إ�شاعتها وبثها �إن كانت م�سبب ًة للخوف �أو ال َو َجل؛ فقال �سبحانه‪َ } :‬و�إِ َذا َجاءهُ ْم‬
‫�أَ ْم ٌر ِّمنَ الأَ ْم ِن �أَ ِو الخْ َ ْو ِف �أَ َذ ُاعو ْا ِب ِه َو َل ْو َر ُّدو ُه ِ�إ ىَل ال َّر ُ�س ِول َو ِ�إ ىَل �أُوْليِ الأَ ْم ِر ِم ْن ُه ْم َل َع ِل َم ُه ا َّل ِذينَ َي ْ�ستَن ِب ُطو َن ُه ِم ْن ُه ْم{‪.‬‬

‫للنا�س وتروي ٌع لهم ف�إن ذلك من �صفات املنافقني‪ .‬قال‬ ‫ٌ‬


‫تخويف ِ‬ ‫ فبينّ اهلل تعاىل �أن َمن ن�شر ًا خرب ًا فيه‬
‫ابن كثري‪( :‬هذا �إنكار على من ُيبا ِدر �إىل الأمور قبل حتققها‪ ،‬فيخرب بها و ُيف�شيها وين�شرها وقد ال يكون لها‬
‫�صحة)‪.‬‬

‫وقال علي بن �أبي طالب ‪( :d‬العامل للفاح�شة والذي ُي�شيع بها يف الإثم �سواء) [رواه البخاري يف (الأدب‬
‫املفرد)]‪.‬‬

‫ومن هذا الباب حر�ص ال�سلف رحمهم ُ‬


‫اهلل على عدم الوقوع يف هذا الباب‪ ،‬فها هو التابعي اجلليل القا�ضي‬
‫ُ�شريح الذي واله الق�ضا َء عم ُر وعثمان وعلي ‪ f‬كان يقول‪َ :‬‬
‫(ما �أخربتُ وال ا�ستخربتُ منذ كانت الفتنة)‪.‬‬

‫وقال ميمون بن مهران‪َ ( :‬لبثَ ُ�شري ٌح ت�سع �سنني ال َي�ستخ ُرب وال يخرب)‪ .‬ومثله جاء عن �إبراهيم النخعي [رواه‬
‫�أبو عمرو الداين يف ال�سنن ‪.]451/2‬‬

‫وال�سبب يف ذلك �أن �أعظم الفتنة فتن ُة الل�سان؛ كما قال ابن عبا�س ‪�(d‬إمنا الفتنة بالل�سان‪ ،‬ولي�ست باليد)‪.‬‬

‫هج ُ�أريقت‪ ،‬و�أَ ٍ‬


‫موال ا�ستبيحت ب�سبب كلم ٍة قيلت ال يعلم �صاح ُبها �أث َرها ‪ ،‬وقد قال‬ ‫ف َكم ِمن ر�ؤو�س َطارت‪ ،‬و ُم ٍ‬
‫كب النا�س يف النار على وجوههم �إال ح�صائد �أل�سنتهم)‪.‬‬ ‫النبي الكرمي ‪( :s‬وهل ُي ُّ‬

‫اللهم احفظ لنا ديننا ‪ ،‬و�أدم علينا الأمن والأمان يف بالدنا ‪ ،‬و�سائر بالد امل�سلمني‪.‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫‪93‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أعظم النعم ونعمة األمن‬

‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الم يأن للذين آمنوا‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬ألم يأن للذين آمنوا‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ يقول ربنا جل وعال‪� } :‬أَ مَْل َي�أْ ِن ِل َّل ِذينَ � َآم ُنوا �أَن ت َْخ َ�ش َع ُق ُلو ُب ُه ْم ِل ِذ ْك ِر هَّ ِ‬
‫الل َو َما َنزَ َل ِمنَ الحْ َ ِّق َوال َي ُكو ُنوا‬
‫ري ِّم ْن ُه ْم َف ِا�س ُقونَ {‪.‬‬ ‫َكا َّل ِذينَ �أُو ُتوا ا ْل ِكت َ‬
‫َاب ِمن َق ْب ُل َف َط َال َع َل ْي ِه ُم الأَ َم ُد َف َق َ�س ْت ُق ُلو ُب ُه ْم َو َك ِث ٌ‬

‫ عاتب اهلل جل وعال بهذه الآية عبا َده امل�ؤمنني ليتذكروه ويخ�شعوا له‪ ،‬وال يركنوا للحياة الدنيا‪ ،‬فكم من‬
‫أ�صحاب ر�سول اهلل ‪ s‬املدين َة‬
‫ُ‬ ‫حي قتلته‪ ،‬وكم ِمن ُم�ؤمن �أغوته‪ ،‬و َكم ِمن طائع هلل �ألهته؛ قال الأعم�ش‪ :‬ملا قدم �‬ ‫ٍّ‬
‫ُ‬
‫�أ�صابوا ِمن لني العي�ش ورفاهي ِته ما �أ�صابوا ففرتوا عن بع�ض ما كانوا عليه‪ ،‬ف ُعوتبوا ف�أنزل اهلل يف ذلك‪� } :‬أَ مَْل‬
‫الل{‪ .‬و�أخرج م�سلم عن ابن م�سعود ‪ d‬قال‪( :‬ما كان بني �إ�سالمنا‬ ‫َي�أْ ِن ِل َّل ِذينَ � َآم ُنوا �أَن ت َْخ َ�ش َع ُق ُلو ُب ُه ْم ِل ِذ ْك ِر هَّ ِ‬
‫وبني �أن عاتبنا اهلل بهذه الآية �إال �أرب َع �سنني)‪.‬‬

‫ثالث ع�شر َة �سنة ِمن نزول‬ ‫ قال ابنُ عبا�س‪�( :‬إن اهلل ا�ستبط�أ قلوب املهاجرين فعاتبهم على ر�أ�س َ‬
‫القر�آن؛ فقال‪� } :‬أَ مَْل َي ْ�أ ِن ِل َّل ِذينَ � َآم ُنوا �أَن ت َْخ َ�ش َع ُق ُلو ُب ُه ْم ِل ِذ ْك ِر هَّ ِ‬
‫الل َو َما َنزَ َل ِمنَ الحْ َ ِّق َوال َي ُكو ُنوا َكا َّل ِذينَ �أُو ُتوا‬
‫ري ِّم ْن ُه ْم َف ِا�س ُقونَ {‪.‬‬ ‫َاب ِمن َق ْب ُل َف َط َال َع َل ْي ِه ُم الأَ َم ُد َف َق َ�س ْت ُق ُلو ُب ُه ْم َو َك ِث ٌ‬
‫ا ْل ِكت َ‬
‫خطبة جديدة‬

‫و�س َما ِع‬ ‫ � ْأي �أَ َما َحانَ لل ُم�ؤمن َني �أن َ‬
‫تخ�ش َع قلو ُب ُهم لذكر اهلل‪ ،‬وكتابه العظيم‪ ،‬فتلني عند الذكر واملوعظة‪َ ،‬‬
‫ال ُقر�آن‪ ،‬فتفه ُمه وتنقا ُد له‪ ،‬وت�سمع له وتطيعه‪ ،‬فتمتثل �أمره‪ ،‬وجتتنب نهيه‪ ،‬وتقف عند حدوده‪ ،‬وتت�أمل يف معانيه‪،‬‬
‫مواعظه فتنزجر‪ .‬فتلزم طاعة الكرمي‪ ،‬وجتانب مع�صيتَه‪ ،‬وحتا�سب نف�سها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وتنظر يف ق�ص�صه فتعترب‪ ،‬وتقر�أ‬
‫قلب غافل �سمع نداء اهلل ف�أجاب‪ ،‬وكم من‬ ‫وت�ستدرك ما فاتها‪ ،‬وتتوب عما اقرتفت‪ ،‬وت�أوب مما ز َّلت‪ .‬فكم من ٍ‬
‫كالم مواله قل َبه ف�أناب‪.‬‬
‫عبد ال ٍه طرق ُ‬ ‫ٍ‬

‫�صح بذلك اخل ُرب عن النبي ‪،s‬‬‫ ف�إن القلوب بني �أ�صبعني من �أ�صابع الرحمن يقلبها كيف ي�شاء؛ كما َّ‬
‫َ‬
‫الرجل ليعمل بعمل �أهل اجلنة حتى ال يكون بينه وبينها‬ ‫واملرء ب�آخر عمله‪ ،‬والأعمال باخلواتيم‪ ،‬قال ‪�( :s‬إن‬
‫�إال ذراع ف َي�سبق عليه الكتاب فيعمل بعمل �أهل النار فيدخلها‪ ،‬و�إن الرجل ليعمل بعمل �أهل النار حتى ال يكون‬
‫بينه وبينها �إال ذراع في�سبق عليه الكتاب فيعمل بعمل �أهل اجلنة فيدخلها)‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ألم يأن للذين آمنوا‬

‫ وروى الإمام �أحم ُد عن عبد اهلل بن عمرو ‪� d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪�ِ ( :‬إنَّ ِل ُك ِّل َع َم ٍل ِ�ش َّر ًة‪َ ،‬و ِل ُك ِّل ِ�ش َّر ٍة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫َف رْ َت ٌة‪َ ،‬ف َمنْ َكا َن ْت َف رْ َت ُت ُه ِ�إ ىَل ُ�س َّن ِتي َف َق ْد �أَ ْف َل َح‪َ ،‬و َمنْ َكا َن ْت َف رْ َت ُت ُه ِ�إ ىَل َغ رْ ِي َذ ِل َك َف َق ْد َه َل َك)‪.‬‬

‫ لقد كان للم�ؤمنني وال�صاحلني يف كتاب اهلل ِع�ضة‪ ،‬يحملون ك َّل �آية عليهم‪ ،‬وينزلونها على حالهم؛‬
‫فيقر�أون بت�أمل وتدبر وخ�شوع و�إنابة؛ قال ابن عبا�س ب‪ :‬ملا نزلت } �أمل ي�أن للذين �آمنوا �أن تخ�شع قلوبهم لذكر‬
‫اهلل { �أقبل ُ‬
‫بع�ضنا على بع�ض‪َّ � :‬أي �شيء �أحدثنا؟ �أي �شيء �صنعنا؟‪ .‬وكان ابن عمر ‪� d‬إذا تال هذه الآية }�أمل‬
‫ي�أن للذين �آمنوا �أن تخ�شع قلوبهم لذكر اهلل{‪ ،‬قال‪( :‬بلى يا رب‪ ،‬بلى يا رب)‪.‬‬

‫ وروى �أبو نعيم يف (احللية ‪ )305/1‬عن نافع قال كان ابن عمر ‪� d‬إذا قر�أ }�أَ مَْل َي ْ�أ ِن ِل َّل ِذينَ � َآم ُنوا �أَن‬
‫ت َْخ َ�ش َع ُق ُلو ُب ُه ْم ِل ِذ ْك ِر هَّ ِ‬
‫الل{ بكى حتى يغلبه البكاء‪.‬‬

‫البيهقي يف (ال�شعب ‪ )468/5‬عن الف�ضل بن مو�سى قال كان الف�ضيل بن عيا�ض �شاطر ًا يقطع‬ ‫ُّ‬ ‫ وروى‬
‫�سبب توبته �أنه بينما هو يرتقي اجلدران �إليها �إذ �سمع تالي ًا يتلو }�أمل ي�أن للذين �آمنوا �أن تخ�شع‬
‫الطريق وكان ُ‬
‫رب قد �آن)‪ ،‬فرجع ف�آواه الليل �إىل َخ ِربة و�إذا فيها �سابلة‪ ،‬فقال‬ ‫قلوبهم لذكر اهلل {‪ ،‬فلما �سمعها قال‪( :‬بلى يا ِّ‬
‫بع�ضهم‪ :‬نرحتل‪ .‬وقال بع�ضهم‪ :‬حتى ن�صبح ف�إن ُف�ضي ًال على الطريق يقطعه علينا‪ .‬قال‪ :‬ففكرتُ وقلت‪�( :‬أنا‬
‫�أ�سعى بالليل يف املعا�صي وقو ٌم ِمن امل�سلمني ها هنا يخافونني‪ ،‬وما �أُرى َ‬
‫اهلل �ساقني �إليهم �إال لأرتدع‪ .‬اللهم �إين‬
‫نف�سه رحمه اهلل‪.‬‬‫البيت احلرام)‪ .‬ف�صدق مع ِ‬ ‫قد تبت �إليك وجعلت توبتي جماورة ِ‬

‫الَ َم ُد َف َق َ�س ْت ُق ُلو ُب ُه ْم َو َك ِث ٌ‬


‫ري‬ ‫َاب ِمن َق ْب ُل َف َط َال َع َل ْي ِه ُم ْ أ‬ ‫ ثم قال عز وجل‪َ } :‬و اَل َي ُكو ُنوا َكا َّل ِذينَ �أُو ُتوا ا ْل ِكت َ‬
‫الكتاب ِمن قبلهم من اليهود والن�صارى؛‬ ‫َ‬ ‫ِّم ْن ُه ْم َف ِا�س ُقونَ { فنهى اهلل تعاىل امل�ؤمنني �أن يت�ش َّبهوا بالذين ُح ِّم ُلوا‬
‫كتاب اهلل الذي ب�أيدهم‪ ،‬وا�شرتوا به ثمنا قليال‪ ،‬ونبذوه وراء ظهورهم‪ ،‬و�أقبلوا على‬ ‫ملا تطاول عليهم الأمد ب َّد ُلوا َ‬
‫أقوال امل�ؤتفكة‪ .‬وق َّل ُدوا الرجال يف دين اهلل‪ ،‬واتخذوا �أحبارهم ورهبانهم �أرباب ًا من دون اهلل‪،‬‬ ‫الآراء املختلفة‪ ،‬وال ِ‬
‫ري ِّم ْن ُه ْم َف ِا�س ُقونَ { فا�سقون‬ ‫عد وال وعيد‪َ } ،‬و َك ِث ٌ‬ ‫فعند ذلك ق�ست قلو ُبهم‪ ،‬فال يقبلون موعظ ًة‪ ،‬وال تلني قلوبهم ب َو ٍ‬
‫يف �أعمالهم‪ ،‬فقلوبهم قا�سية و�أعمالهم فا�سدة‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ } :‬ف ِب َما َن ْق ِ�ض ِهم ِّمي َثا َق ُه ْم َلع َّناهُ ْم َو َج َع ْل َنا ُق ُلو َب ُه ْم‬
‫ا�ض ِع ِه َو َن ُ�سو ْا َح ًّظا ممَِّّ ا ُذ ِّك ُرو ْا ِب ِه { ولهذا نهى اهلل امل�ؤمنني �أن يت�شبهوا بهم يف �شيء‬ ‫َق ِا�س َي ًة ُي َح ِّر ُفونَ ا ْل َك ِل َم َعن َّم َو ِ‬
‫من الأمور الأ�صلية والفرعية‪.‬‬

‫ات َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُلونَ {‪ .‬فيه �إ�شارة‬ ‫ثم قال عز وجل‪ْ } :‬اع َل ُموا �أَنَّ هَّ َ‬
‫الل ُي ْح ِيي الأَ ْر َ�ض َب ْع َد َم ْو ِت َها َق ْد َب َّي َّنا َل ُك ُم الآ َي ِ‬
‫�إىل �أن اهلل عز وجل يلني القلوب بعد ق�سوتها‪ ،‬ويهدي احليارى بعد �ضاللتها‪ ،‬ويف ِّر ُج الكروب بعد �شدتها‪،‬‬
‫أر�ض امليتة املجدبة الهامدة بالغيث الهتَّال الوابل‪ ،‬كذلك يحيي القلوب ويلينها برباهني القر�آن‬ ‫فكما يحيي ال َ‬
‫والدالئل‪ ،‬فيلينها بالإميان والهدى بعد ق�سوتها بالذنوب واملعا�صي فيولج �إليها النور بعد �أن كانت مقفلة ال ي�صل‬
‫الَ ْر َ�ض َب ْع َد َم ْو ِت َها َو َك َذ ِل َك ُت ْخ َر ُجونَ {‪،‬‬
‫�إليها الوا�صل } ُي ْخ ِر ُج الحْ َ َّي ِمنَ المْ َ ِّي ِت َو ُي ْخ ِر ُج المْ َ ِّي َت ِمنَ الحْ َ ِّي َو ُي ْح ِيي ْ أ‬
‫ف�سبحان الهادي ملن ي�شاء بعد ال�ضالل‪ ،‬وامل�ضل ملن �أراد بعد الكمال‪ ،‬الذي هو ملا ي�شاء فعال‪ ،‬وهو احلكيم العدل‬
‫يف جميع الفعال‪ ،‬اللطيف اخلبري الكبري املتعال‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ألم يأن للذين آمنوا‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬أمراض الشتاء (الزكام)‬
‫أمراض الشتاء (الزكام)‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫م�ضي‪ ..‬بتبدل الأحوال‪ ،‬وتق ّلب الف�صول والأيام؛ فالليل‬ ‫ فقد جرى َ�سننَ ُ اهلل الكوين‪ ،‬وتقدي ُر ُه يف خل ِقه ا َمل ِ‬
‫�صب ثم جدب و ِق ٌّل وهكذا‪ .‬يقول ربنا جل وعال‪� } :‬أَ مَْل َت َر �أَنَّ‬ ‫وخ ٌ‬ ‫وال�شتا ُء يتبع ال�صَّ يف‪ ،‬ح ٌّر ثم قر‪َ ،‬‬ ‫يعقبه النهار‪ِّ ،‬‬
‫ال�س َماء ِمن ِج َب ٍال ِفي َها‬ ‫الل ُيزْ ِجي َ�س َحا ًبا ُث َّم ُي�ؤَ ِّل ُف َب ْي َن ُه ُث َّم َي ْج َع ُل ُه ُر َك ًاما َفترَ َى ا ْل َو ْد َق َي ْخ ُر ُج ِمنْ ِخال ِل ِه َو ُي َن ِّز ُل ِمنَ َّ‬ ‫هَّ َ‬
‫يب ِب ِه َمن َي َ�شاء َو َي�صْ ِر ُف ُه َعن َّمن َي َ�شاء َي َكا ُد َ�س َنا َب ْر ِق ِه َي ْذ َه ُب ِبالأَ ْب َ�صار{ ُي َق ِّل ُب هَّ ُ‬
‫الل ال َّل ْي َل َوال َّن َها َر‬ ‫ِمن َب َر ٍد َف ُي ِ�ص ُ‬
‫�إِنَّ فيِ َذ ِل َك َل ِع رْ َب ًة ِّ ألُوْليِ الأَ ْب َ�صا ِر{‪.‬‬

‫تغي اجلو‪،‬‬‫ِومن تقدير اهلل عز وجل ما يكون يف بع�ض املوا�سم من انت�شار بع�ض الأمرا�ض والأدواء ب�سبب رُّ‬
‫وتب ُّدله‪ ..‬كالزكام‪ ،‬وما يف معناه‪.‬‬
‫بع�ض الآداب ال�شرعية واملعاين املرع ّية يف التعامل مع مثل هذه الأمرا�ض‬ ‫�شرعنا املط َّهر ُ‬
‫وقد جاء يف ِ‬
‫�صيب �أحد ًا‬
‫فمن تلكم الآداب‪� ..‬أنه ُي�ستحب للمرء �إذا �أ�صيب ب�شيء من ذلك �أن يتو َّقى �أن ال ُي َ‬‫وامل�صابني بها‪ِ ..‬‬
‫من �إخوا ِنه امل�سلمني ف َيت�أذى بذلك‪ ،‬بل يحر�ص املر ُء على �أن َيتخذ ِمن الأ�سباب َما يحفظ عن �أخيه امل�سلم‬
‫ٌ‬
‫ممر�ض على ُم ِ�ص ٍّح)‪.‬‬ ‫الإ�صاب َة بالعدوى؛ ويد ُّل لذلك ما ثبت يف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال ُيو َرد‬ ‫خطبة جديدة‬
‫وقد جاءت ُ‬
‫بع�ض الأحكام والآداب ملراعاة ذلك لكي ال تنتقل العدوى‪:‬‬

‫النبي ‪ s‬كان �إذا عط�س و�ضع َيده‬


‫فمن ذلك الأمر بتغطية الفم عند العطا�س فعن �أبي هريرة ‪� d‬أن َّ‬ ‫۩۩ ِ‬
‫�أو ثوبه على فيه‪ ،‬وخف�ض بها �صوته (رواه �أبو داود والرتمذي و�صححه)‪.‬‬

‫۩ ۩ ِومن ذلك نهيه ‪ s‬عن النفخ يف الإناء‪ ،‬فال يجوز النفخ يف الإناء ملِا يف ذلك من تقذيره‪.‬‬

‫النهي عن ال�شرب ِمن فيِ ِّ ِّ‬


‫ال�س َقاء ملا يف ذلك من تقذير املاء ونقل العدوى فيه؛ ففي ال�صحيحني‬ ‫۩ ۩ومن ذلك ُ‬
‫�أن �أبا �سعيد اخلدري ‪ d‬قال‪( :‬نهى ر�سول اهلل ‪ s‬عن اختناث الأ�سقية �أن ُي�شرب من �أفواهها)‪ ،‬ويف‬

‫‪98‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أمراض الشتاء (الزكام)‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�صحيح البخاري عن �أبي هريرة ‪�( d‬أن النبي ‪ s‬نهى �أن ُي�ش َرب ِمن يف ال�سقاء)‪.‬‬
‫ وعدم �أذية النا�س بالنخامة يف طريقهم وجمامعهم ففي �صحيح م�سلم (‪ )641‬عن �أبي هريرة ‪� d‬أن‬
‫ا�س �أَ ْو ِفى‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫الل‪َ ،‬ق َال‪« :‬ا َّل ِذى َيت ََخ َّلى ِفى َط ِر ِيق ال َّن ِ‬ ‫النبي ‪ s‬قال‪« :‬ا َّت ُقوا ال َّل َّعا َنينْ ِ »‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬و َما ال َّل َّعا َن ِان َيا َر ُ�س َ‬
‫ِظ ِّل ِه ْم»‪.‬‬

‫ ومع ذلك بينَّ ال�شرع �أنه يجب على املرء التوكل على اهلل تعاىل‪ ،‬وليعلم �أن انتقال الأمرا�ض �إمنا هو‬
‫إمرا�ضه ملر�ض‪ ،‬و�إن مل يقدر ُ‬
‫اهلل ذلك فلن يكون فهما‬ ‫أ�سباب ك َّلها ُ‬
‫واهلل مقدِّ ٌر � َ‬ ‫بق�ضاء اهلل وقدره‪ ،‬فلو فعل ال َ‬
‫�صار‪( :‬و�أعلم �أن النا�س لو اجتمعوا على �أن ي�ضروك ب�شيء‪.)..‬‬

‫نفي العتقاد اجلاهلية �أن املر�ض ُيعدي‬ ‫ وهذا معنى قول امل�صطفى ‪( :s‬ال َع ْد َوى وال طرية)؛ فهو ٌّ‬
‫ينف النبي ‪ s‬ح�صول ال�ضر ِر بفعل اهلل وتقديره‪ ،‬فبعلمه وتقديره ُ‬
‫املر�ض وال�شفاء‪ .‬قال �إبراهيم‬ ‫بطبعه‪ ،‬ومل ِ‬
‫‪َ } :a‬وا َّل ِذي هُ َو ُي ْط ِع ُم ِني َو َي ْ�س ِق ِني{ َو ِ�إ َذا َم ِر�ضْ ُت َف ُه َو َي�شْ ِف ِني{ َوا َّل ِذي مُ ِيي ُت ِني ُث َّم ُي ْح ِي ِني{‪.‬‬

‫عباد اهلل! لقد جاء ال�شرع ب�آداب لل ُعطا�س متعددة؛ وقد ثبت يف �صحيح البخاري �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن اهلل‬
‫يحب ال ُعطا�س ويكره التثا�ؤب) ‪.‬‬

‫ب�صوت ي�سمعه ِمن بجواره بعد‬


‫ٍ‬ ‫۩ ۩ ِومن تلك الآداب �أن املرء �إذا عط�س ف�إنه يحمد اهلل‪ ،‬و�صيغته �أن يقول‬
‫ُعطا�سه‪( :‬احلمد هلل)‪� ،‬أو (احلمد هلل رب العاملني)؛ وكال اللفظني وارد عن النبي ‪.s‬‬

‫العاط�س؛ ملا ثبت يف‬


‫ُ‬ ‫ويجب على َمن ح�ض َره �أن ي�شمته ب�أن يقول‪( :‬يرحمك اهلل)‪ ،‬ب�شرط �أن يحمد َ‬
‫اهلل‬
‫والت�شميت‬
‫ُ‬ ‫م�سلم مرفوع ًا‪�( :‬إذا عط�س �أحدُكم فحمد اهلل ف�شمتوه‪ ،‬ف�إن مل يحمد اهلل فال ت�شمتوه)‪.‬‬
‫�صحيح ٍ‬
‫واجب على َمن كان بجانبه ملا ثبت يف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ح ُّق امل�سلم على امل�سلم خم�س‪ ..‬وذكره‬
‫ٌ‬
‫منها ت�شميت العاط�س)‪.‬‬

‫تعاط�س عند النبي‬


‫ُ‬ ‫بواجب‪ ،‬وقد كانت يهو ُد‬
‫ٍ‬ ‫ و�أ َّما غري املُ�سلم ف�إنه �إذا عط�س ُي�ش َّمت ولكن ذلك لي�س‬
‫تعاط�س عند النبي ‪ s‬رجاء �أن يقول لها‪ :‬يرحمكم‬‫ُ‬ ‫‪ ،s‬ليدعو لهم‪ ،‬فروى �أبو داود (‪� )5038‬أن اليهو َد كانت‬
‫العاط�س بعد ذلك بقوله‪( :‬يهديكم اهلل وي�صلح بالكم) ويف‬
‫ُ‬ ‫اهلل‪ ،‬فكان يقول‪ :‬يهديكم اهلل وي�صلح بالكم‪.‬ثم ير ُّد‬
‫�صحيح البخاري �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا عط�س �أحدُكم فليقل‪ :‬احلمد هلل‪ ،‬وليقل �أخوه �أو �صاحبه‪ :‬يرحمك اهلل‪،‬‬
‫ف�إذا قال‪ :‬يرحمك اهلل‪ ،‬فليقل له‪ :‬يهديكم اهلل وي�صلح بالكم)‪.‬‬

‫�ستحب �أن ُي�ش َّمت بعد حمد اهلل املرة الأوىل‪ ،‬وبعد حمده اهلل املرة‬
‫طا�س من املرء‪ ،‬ف�إنه ُي ُّ‬
‫ ف�إن تكرر ال ُع ُ‬
‫فال�سنة �أن ُيقال له‪�( :‬شفاك اهلل)؛ ملا ثبت عند �أبي داود �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬ش َّمت‬
‫الثانية‪ ،‬ف�إن حمد اهلل الثالثة ُّ‬

‫‪99‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬أمراض الشتاء (الزكام)‬

‫�أخاك ثالث ًا فما زاد فهو مزكوم)‪ ،‬ويف �صحيح م�سلم عن �سلمة بن الأكوع ‪� d‬أنه �سمع النبي ‪ s‬وعط�س رج ٌل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫عنده‪ ،‬فقال له‪ :‬يرحمك اهلل‪ ،‬ثم عط�س �أخرى فقال له ر�سول اهلل ‪ :s‬الرجل مزكوم‪ .‬ويف رواية عند ابن ماجه‬‫َ‬
‫�أنه عط�س ثالث ًا ف�شمته مرتني وترك الثالثة‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫إفشاء السر‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬إفشاء السر‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َوالجْ ِ َب ِال َف�أَ َبينْ َ �أَن َي ْح ِم ْل َن َها َو�أَ�شْ َف ْقنَ‬
‫ فيقول اهلل ع ّز وجل‪�} :‬إِ َّنا َع َر�ضْ َنا الأَ َما َن َة َع َلى َّ‬
‫ن�سانُ �إِ َّن ُه َكانَ َظ ُل ًوما َج ُهو ًال{‪� ،‬إن الأمانة التي حتملها الإن�سانُ عام ٌة ت�شمل �أمانة الدين‪ ،‬و�أمانة‬ ‫ِم ْن َها َو َح َم َل َها الإِ َ‬
‫املال‪ ،‬و�أمانة العر�ض‪ ،‬و�أمانة الل�سان‪ ،‬وغ َريها‪.‬‬

‫ �أال و�إنَّ من �أمانة الل�سان التي ُي�س�أل عنها املر ُء يوم القيامة‪� ،‬أمان ُة حفظ ِّ‬
‫ال�سر وكتما ِنه يقول اهلل عز‬
‫وجل‪َ } :‬و�أَ ْو ُفو ْا ِبا ْل َع ْه ِد �إِنَّ ا ْل َع ْه َد َكانَ َم�سْ�ؤُو ًال{‪ ،‬قال احل�سن الب�صري (ال�صمت البن �أبي الدنيا ‪�( :)404‬إن من‬
‫اخليانة �أن حتدِّ ث ب�س ِّر �أخيك)‪ .‬فحفظ ال�س ِّر �ش�أنه عظيم‪ ،‬و�إف�شا�ؤه خيان ٌة للعهد الذي �أُخذ على املرء‪ ،‬وهو‬
‫نق�ص يف مروءة الناقل وق ّل ٌة يف عق ِله‪ .‬قال الأحنف بن قي�س‪( :‬املروءة كتمانُ ِّ‬
‫ال�سر‪ ،‬والبع ُد من ال�شر)‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫قلب الأحمق يف ِفيه‪ ،‬ول�سانَ العاقل يف‬ ‫ �إنّ من كمال عقل الرجل كتما َنه لل�سر َ‬
‫وحفظه له‪ ،‬وقد قيل‪�( :‬إن َ‬
‫أنت يف كتم‬
‫حفظه وعدم �إف�شائه‪ ،‬قيل لبع�ضهم‪ :‬كيف � َ‬
‫قلبه)‪ .‬وما زال العقالء يتفاخرون بكتم ال�س ِّر واملبالغة يف ِ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ال�سر؟ فقال‪�( :‬أ�سرتُه‪ ،‬و�أ�سرت �أين �أ�سرته)‪.‬‬

‫املتكلم ب�أن حدي َثه ِ�س ٌّر‪ ،‬ما دامت‬


‫ُ‬ ‫ عباد اهلل! لقد بالغ ال�شر ُع يف احلثِّ على كتم ال�س ِّر‪ ،‬حتى و�إن مل َي َّ‬
‫ن�ص‬
‫وعدم رفع ال�صوت دلي ٌل على �سرية احلديث روى‬ ‫دالل ُة احلال تد ُّل على ذلك‪ ،‬فالتفات الرجل‪ ،‬و�إ�سرا ُر ُه بحديثه‪ُ ،‬‬
‫�أبو داود والرتمذي �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا حدث الرج ُل احلديثَ ثم التفت فهي �أمانة)‪.‬‬

‫جمل�سه اخلا�ص ما ال ُي ُ‬
‫قال يف املجال�س العامة‪ ،‬فقد ُيقال فيها ما َيكره �إف�شا َءه‪ ،‬فيكون‬ ‫ واملر ُء يقول يف ِ‬
‫املقول �إذ ذاك �سر ًا؛ روى عبد الرزاق مر�س ًال �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إمنا يتجال�س املتجال�سان بالأمانة‪ ،‬فال يح ُّل‬
‫أحد �أن ُيف�شي على �صاحبه ما يك َره)‪.‬‬
‫ل ٍ‬

‫عباد اهلل! جاء يف احلديث (ا�ستعينوا على ق�ضاء حوائجكم بالكتمان)‪ ،‬ويف رواية (ف�إن ُك َّل ذي نعمة‬ ‫ ‬
‫‪101‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬إفشاء السر‬

‫نف�سه ما يخ�شى �إ�شاعتَه‬ ‫ُ‬


‫الت�صرف يف احلال �أن يكتم املر ُء يف ِ‬ ‫وح�سن‬
‫حم�سود)‪� ،‬إن من متام الب�صرية يف الأمر‪ُ ،‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫أحد فلمته على �إف�شائه‪ ،‬وكيف �ألومه وقد‬‫و�ضعت �سري عند � ٍ‬
‫ُ‬ ‫ويك َره تداو َله‪ ،‬لذا قال عمرو بن العا�ص ‪( :d‬ما‬
‫�ضقت به ذرع ًا حيث �أ�ستودعتُه �إياه)‪.‬‬
‫ُ‬

‫نا�صح ‪ ،‬فليتح َّر له َمن ي�أمت ُن ُه‬


‫ ولكن ِمن الأ�سرار ما ال ي�ستغني فيه املر ُء عن مطالع ِة �صديق‪ ،‬وم�شور ِة ٍ‬
‫وي�ستودعه �إياه‪ ،‬فلي�س ُك ُّل من كان على الأموال �أمين ًا كان على الأ�سرار �أمين ًا‪ ،‬ول ُيعنى �أن ال يحدِّ َث ب�أمره‬
‫ُ‬ ‫عليه‪،‬‬
‫أعرابي البن له‪�( :‬إن �س َّرك من‬ ‫َ‬
‫العاقل من النا�س‪ ،‬قال � ٌّ‬ ‫املهم الذي ي�ستلزم الكتمان و ُيخ�شى عليه من الظهور �إال‬
‫ِّ‬
‫َدي ِْنك‪ ،‬فال ت�ض ْعه �إال عند من تثق به)‪.‬‬

‫خوا�ص �أ�صحابه‪ ،‬ك�أبي بكر ال�صديق‪ ،‬وابن م�سعود‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أمره �إال‬
‫النبي ‪ s‬ال ُيخرب ب�س ِّره وخا�ص ِة � ِ‬
‫ وكان ُّ‬
‫زواجه بحف�صة‪ ،‬وعلم به �أبو بكر ال�صديق ‪،d‬‬ ‫نف�سه َ‬
‫وحذيفة ‪ d‬ويف ال�صحيح �أن النبي ‪ s‬عندما � َأ�س َّر يف ِ‬
‫فكتمه ومل يخرب به �أباها ُعمر حتى ذكره النبي ‪.s‬‬
‫ وكان ابن م�سعود ا ُي�س َّمى ب�صاحب �س ِّر ر�سول اهلل ‪ ،s‬وكذا حذيفة‪ ،‬ويف البخاري (‪� )5931‬أن �أن�س ًا‬
‫يل النبي ‪� s‬سر ًا‪ ،‬فما �أخربتُ به �أحد ًا َ‬
‫بعده‪ ،‬ولقد �س�ألتني �أمي فما �أخربتها به)‪.‬‬ ‫قال‪�( :‬أ�س َّر �إ َّ‬

‫ حري با َملرء �أن يعتني باختيار ُجل�سائه وانتقائهم فال ُيجا ِل ُ�س من ينقل حديثه‪� ،‬أو قد يفه ُم ُه على غري‬
‫وجهه؛ روى البخاري (يف الأدب املفرد ‪� )582‬أن عمر بن اخلطاب ورج ًال من الأن�صار كانا جال�سني‪ ،‬فجاء عبد‬ ‫ِ‬
‫ل�ست‬
‫نحب من يرفع حديثنا‪ ،‬فقال له عبد الرحمن‪ُ :‬‬ ‫عبد القاري‪ ،‬فجل�س �إليهما‪ ،‬فقال ُعمر‪� :‬إنا ال ُّ‬‫الرحمن بن ٍ‬
‫�أُ ُ‬
‫جال�س �أولئك يا �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬فقال عمر‪ :‬بلى فجال�س هذا وهذا وال ترفع حديثنا‪.‬‬

‫وزوجه من عالق ِة‬ ‫ �إن ِمن �أعظم الأ�سرار حق ًا بالكتمان‪ ،‬ولزوم ًا بعدم �إظها ِرها‪ :‬ما يكون بني املرء ِ‬
‫ودقائق �ش�أنه‪ ،‬ول ُرمبا َح َد َث َخ َط�أٌ �أو ٌ‬
‫نق�ص‬ ‫ِ‬ ‫أمره‪،‬‬ ‫ت�ستلزم �أن يط ّلع ُك ُّل ٍ‬
‫واحد منهما على بواطن الآخر‪ ،‬وخا�ص ِة � ِ‬
‫وقوعه بني النا�س‪.‬‬
‫وال ُب َّد من ِ‬

‫�ستنق�ص ِخ ْل َق ًة �أو ُخ ُلق ًا عالني ًة‪ ،‬وال‬


‫ُ‬ ‫الزوج ه ّن ًة‪� ،‬أو عيب ًا �سرتَه ومل ُيف�شْ ه‪ ،‬فال يذكر معايب ًا‪ ،‬وال َي‬
‫ ف�إن َو َج َد ُ‬
‫يظا{‪.‬‬ ‫وزوج ُه التي �أخذها بعهد اهلل وميثاقه } َو�أَ َخ ْذنَ ِمن ُكم ِّمي َثا ًقا َغ ِل ً‬ ‫ولده‪ُ ،‬‬ ‫ف�شي �أمر ًا كان م�ستور ًا‪ ،‬فهي �أ ُّم ِ‬
‫ُي ِ‬
‫ت�ستنق�ص منه فع ًال؛ يف �صحيح م�سلم (‪ 1437‬عن‬ ‫ُ‬ ‫وكذا املر�أ ُة مع زوجها ال ُتف�شي له �سر ًا‪ ،‬وال تذكر فيه َعيب ًا‪ ،‬وال‬
‫الرجل ُيف�ضي �إىل‬ ‫ُ‬ ‫عند اهلل منزل ًة يوم القيامة‬ ‫النا�س َ‬
‫�أبي �سعيد اخلدري ‪� )d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إنَّ من �أ�ش ِّر ِ‬
‫امر�أته‪ ،‬و ُتف�ضي �إليه‪ ،‬ثم ين�شر �أحدهما �س ّر �صاحبه)‪.‬‬

‫ �إن بع�ض الرجال والن�ساء يجعلون ديدنهم احلديث يف �أزواجهم؛ ف�إذا حدثت خ�صوم ٌة �أو نزاع �أظهرا‬
‫املخبو َء‪ ،‬وك�شفا ما �سرتته ُجدُر البيوت‪ ،‬فتك ّلم ُك ٌل يف �صاحبه‪ ،‬وتنا�سيا ما كان بينهما من معروف وع�شرة‪،‬‬
‫وتغافال قبل ذلك عن عهد اهلل وميثاقه الذي �أُخذ عليهما بالزواج؛ وذاك احلديثُ غ ُري جائز‪ ،‬واملر�أة يف ذلك‬
‫عنده‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫�أكرث؛ روى الإمام �أحم ُد عن �أ�سماء بنت يزيد �أنها كانت عند النبي ‪ s‬والرجال والن�ساء قعود َ‬
‫‪102‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬إفشاء السر‬

‫لع ّل رج ًال يقول ما فعل �أه ُله‪ ،‬ولعل امر�أ ًة تخرب ما ْ‬


‫فعلت مع زوجها‪ ،‬ف�أرم القوم (�أي �سكتوا)‪ ،‬فقالت �أ�سماء‪� :‬إي‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫واهلل يا ر�سول اهلل �إنهم ليفعلون و�إنهن ليفعلن‪ ،‬قال ‪( :s‬فال تفعلوا ف�إمنا مثل ذلك مثل �شيطان لقي �شيطانه‬
‫فغ�شيها والنا�س ينظرون)‪.‬‬

‫أحق الأ�سرار ما ُي�ؤمتن عليه املر ُء يف عم ِله من �أ�سرا ٍر مُي َن ُع من �إف�شائها �إما بداللة املقال‪� ،‬أو بداللة‬
‫ومن � ِّ‬
‫علي ُ‬
‫ر�سول اهلل ‪s‬‬ ‫ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪� :‬أتى َّ‬‫خادم ِ‬ ‫م�سلم �أن �أن�س ًا ‪َ d‬‬‫احلال ملا فيها من ال�ضرر‪ .‬ويف �صحيح ٍ‬
‫جئت‪ ،‬قالت‪ :‬ما حب�سك؟‬ ‫ُ‬
‫و�أنا �ألعب مع الغلمان‪ ،‬قال‪ :‬ف�س ّلم علينا وبعثني �إىل حاجة ف�أبط�أتُ على �أمي‪ ،‬فلما ُ‬
‫قلت‪� :‬إنها �س ّر‪ .‬قالت‪ :‬ال حتدثنَّ ب�س ِّر ر�سول اهلل ‪�s‬أحد ًا‪.‬‬‫قلت‪ :‬بعثني ر�سول اهلل ‪ s‬حلاج ٍة‪ ،‬قالت‪ :‬ما حاجته؟ ُ‬ ‫ُ‬

‫ني يف وظيفته ال يجوز له الإخبار ب�أ�سرارها وال �إف�شا�ؤها‪ ،‬والطبيب م�ؤتمَ َ نٌ يف وظيفته فال‬ ‫ فاملوظف �أم ٌ‬
‫خوا�ص‬
‫ِ‬ ‫واخلادم م�ؤمتنٌ يحرم عليه الإخبا ُر مبا يعل ُم ُه من‬
‫ُ‬ ‫ُيخرب مبا ر�آه من �أ�سرا ٍر يكره املري�ض الإخبا َر بها‪،‬‬
‫واحل�سبة م�ؤمتنون فال يح ُّل لهم �أن يظهروا‬
‫عنده من داخ ِله وحاجياته‪ ،‬ورجال الأمن ِ‬ ‫خمدومه وما يطل ُع عليه َ‬‫ِ‬
‫ما �أطلعوا عليه من �أ�سرار النا�س وخباياهم‪ ،‬وهكذا ُك ٌّل بح�سبه‪.‬‬

‫ روى ابن �أبي الدنيا (يف ال�صمت ‪� )407‬أن معاوية ‪� d‬أ�س َّر للوليد بن ُعتبة حديث ًا‪ ،‬فجاء الولي ُد لأبيه‬
‫يل حديث ًا َوما �أُراه ُيط َوى عنك‪ ،‬فقال �أبوه‪ :‬فال حتدثني به ف�إن َمن كتم‬ ‫فقال‪ :‬يا �أبتاه �إن �أمري امل�ؤمنني �أ�س ّر �إ َّ‬
‫حب �أن ال َ‬
‫تذلل ل�سا َنك ب�أحاديث ال�سر‪.‬‬ ‫�س ّره كان اخليا ُر له‪ ،‬ومن �أف�شاه كان اخليا ُر عليه‪ ،‬و�إين �أُ ُّ‬

‫ �إن من احلديث ما لي�س ب�سر‪ ،‬فال يح ُّل كت ُم ُه ولو ا�ستُحفظه املرء‪ ،‬وال يجوز فيه �إال الإعالن َملن يرفع‬
‫أنف�سهم روى �أبو داود (‪ )4869‬عن‬ ‫ال�سوء فيه‪ ،‬وذلكم ما كان فيه من اعتداء على �أموال النا�س و�أعرا�ضهم و� ِ‬
‫دم حرام‪� ،‬أو فرج حرام‪،‬‬ ‫جابر بن عبد اهلل ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬املجال�س بالأمانة �إال ثالث ُة جمال�س‪ُ ،‬‬
‫�سفك ٍ‬
‫�أو اقتطا ُع مال بغري حق)‪.‬‬

‫حق ف�إن من االنت�صار‬ ‫أحد‪� ،‬أو يظلمه‪� ،‬أو يقتطع �شيئ ًا من ماله بغري ِّ‬
‫ ف َمن ع ِلم ب�أن �أحد ًا �سيبغي على � ِ‬
‫وعدم ال�سكوت عنه‪ ،‬وقد قال النبي ‪�( :s‬أن�صر �أخاك ظامل ًا �أو‬ ‫لهما جميع ًا‪ ،‬الإخبا ُر بهذا البغي والظلم‪ُ ،‬‬
‫مظلوما)‪.‬‬

‫�أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ } :‬و�أَ ْو ُفو ْا ِبا ْل َع ْه ِد �إِنَّ ا ْل َع ْه َد َكانَ َم�سْ�ؤُو ًال{‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬إن اهلل يأمر بالعدل واإلحسان‬
‫إن اهلل يأمر بالعدل واإلحسان‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ فيقول اهلل جل وعال‪�} :‬إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َي�أْ ُم ُر ِبا ْل َع ْد ِل َو ْ إِ‬
‫ال ْح َ�س ِان َو�إِيتَا ِء ِذي ا ْل ُق ْر َبى َو َي ْن َهى َع ِن ا ْل َف ْح َ�شا ِء َوالمْ ُ ْن َك ِر‬
‫الَ مْ َيانَ َب ْع َد َت ْو ِك ِيد َها َو َق ْد َج َع ْلت ُُم هَّ َ‬
‫الل‬ ‫الل �إِ َذا َع َاهدْتمُْ َو اَل َت ْن ُق ُ�ضوا ْ أ‬ ‫َوا ْل َب ْغ ِي َي ِع ُظ ُك ْم َل َع َّل ُك ْم ت ََذ َّك ُرونَ * َو�أَ ْو ُفوا ِب َع ْه ِد هَّ ِ‬
‫َع َل ْي ُك ْم َك ِفيلاً �إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َي ْع َل ُم َما َت ْف َع ُلونَ {‪.‬‬

‫ فهذه الآية العظيمة جمعت اخلري كله‪ ،‬وحوت �أجمع املعاين و�أكملها‪ ،‬و�أمرت بال�صفات �أمتها و�أح�سنها؛‬
‫قال احل�سن الب�صري‪( :‬مل ترتك هذه الآية خريا �إال �أمرت به وال �شرا �إال نهت عنه)‪ .‬وقال قتادة يف هذه الآية‪:‬‬
‫(لي�س من خلق ح�سن كان �أهل اجلاهلية يعملون به وي�ستح�سنونه �إال �أمر اهلل به‪ ،‬ولي�س من ُخ ٍلق �سيءٍ كانوا‬
‫اهلل عنه‪ ،‬و�إمنا نهى عن �سفا�سف الأخالق ومذامها)‪.‬‬ ‫يتعايرونه بينهم �إال نهى ُ‬

‫ ما �أحوجنا �إىل �أن نت�أمل كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬فن�أخذ من ُعبابه الذي ال يزخر‪ ،‬ون�ستقي من معينه الذي‬
‫ال ين�ضب‪ ،‬ونت�أمل يف معانيه ومقا�صده العظيمة اجلليلة‪ ،‬فهذه الآية ال�شامل َكم طرقت �سمعنا من مرات‪ ،‬وكم‬
‫قر�أناها من ك َّرات‪ ،‬فقد كان ال�صحاب ُة والتابعون واخلطباء بعدهم يتلونها يف ُخطب اجلمعة والعيد‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫ وا�سمع يا رعاك اهلل �إىل هاتني الق�صتني اللتني وقعتا يف عهد النبي ‪ s‬لرجلني �سمعا هذا الآية فت�أمال‬
‫معناها وعقاله‪ ،‬ف�أما �أحدهما ف�سمعها فوعاها قلبه و�أخذت مبجامع قلبه ولكنه مل ي�ؤمن بها‪ ،‬فما نفعه ذلك‪.‬‬
‫روى عكرم ُة مر�س ًال يف ق�صة الوليد بن املغرية �أنه قال لر�سول اهلل‪s‬اقر�أ علي فقر�أ عليه }�إِنَّ اللهّ َ َي�أْ ُم ُر ِبا ْل َع ْد ِل‬
‫َوالإِ ْح َ�س ِان َو ِ�إيتَاء ِذي ا ْل ُق ْر َبى َو َي ْن َهى َع ِن ا ْل َف ْح َ�شاء َوالمْ ُن َك ِر َوا ْل َب ْغ ِي َي ِع ُظ ُك ْم َل َع َّل ُك ْم ت ََذ َّك ُرونَ {‪ ،‬قال �أعد‪ ،‬ف�أعاد‬
‫النبي ‪ ،s‬فقال‪ :‬واهلل �إن له حلالوة‪ ،‬و�إن عليه لطالوة‪ ،‬و�إن �أعاله ملثمر‪ ،‬و�إن �أ�سفله ملغدق‪ ،‬وما يقول هذا ب�شر‪،‬‬
‫هلل‬
‫�صيد ِه مني‪ ،‬وال ب�أ�شعار اجلن‪ ،‬وا ِ‬ ‫أعلم بالأ�شعار مني‪ ،‬وال �أعلم ب َر ْجزه وال َب َق ِ‬ ‫وقال لقومه‪ :‬واهلل ما فيكم رجل � ُ‬
‫ما ُي�شب ُه هذا الذي يقول �شيئ ًا من هذا‪ ،‬واهلل �إن ِلقو ِله الذي يقول حالوة‪ ،‬و�إن عليه لطالوة‪ ،‬و�إنه ملثم ٌر �أعاله‪،‬‬
‫مغد ٌق �أ�سفله‪ ،‬و�إنه ليعلو وما ُيع َلى‪ ،‬و�إنه ل َيحطم ما حتته‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬إن اهلل يأمر بالعدل واإلحسان‬

‫ و�أما الرجل الآخر فقد كانت هذه الآية �سبب ًا لهدايته و�إميانه ُروينا عن ابن عبا�س ‪ d‬قال بينما النبي‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫‪ s‬بفناء بيته مبكة جال�س �إذ مر به عثمان بن مظعون فك�شر �إىل النبي ‪ s‬فقال له النبي ‪� s‬أال جتل�س قال‬
‫بلى فجل�س النبي ‪ s‬م�ستقبله فبينما هو يحدثه �إذ �شخ�ص النبي ‪ s‬بب�صره �إىل ال�سماء فقال �أتاين ر�سول‬
‫اهلل �آنفا يعني جربيل و�أنت جال�س‪ ،‬قال‪ :‬فما قال لك؟‪ ،‬قال‪�} :‬إن اهلل ي�أمر بالعدل والإح�سان و�إيتاء ذي القربى‬
‫وينهى عن الفح�شاء واملنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} قال عثمان‪ :‬فذلك حني ا�ستقر الإميان يف قلبي‬
‫و�أحببت حممدا‪[ .‬رواه �أحمد والبخاري يف (الأدب)]‪.‬‬

‫ لذا كانت هذه الآية ِمن �أجمع �آيات القر�آن و�أ�شملها قال ابن م�سعود ‪�( :d‬إن �أجمع �آية يف القر�آن يف‬
‫�سورة النحل } ِ�إنَّ اللهّ َ َي�أْ ُم ُر ِبا ْل َع ْد ِل َوا ِلإ ْح َ�س ِان{‪ .‬رواه ابن جرير‪ .‬و�أخرج البيهقي [يف �شعب الإميان‪ ]162/1‬عن‬
‫احل�سن ‪� d‬أنه قر�أ هذه الآية }�إِنَّ اللهّ َ َي�أْ ُم ُر ِبا ْل َع ْد ِل َوالإِ ْح َ�س ِان{ �إىل �آخرها ثم وقف فقال‪�( :‬إن اهلل عز وجل‬
‫العدل والإح�سانُ من طاعة اهلل �شيئ ًا �إال جمعه‪ ،‬وال‬
‫جمع لكم اخلري كله وال�شر كله يف �آية واحدة فواهلل ما ترك ُ‬
‫والبغي من مع�صية اهلل �شيئا �إال جمعه)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ترك الفح�شا ُء واملنك ُر‬

‫ُ‬
‫فالعدل به قامت ال�سموات‬ ‫ال ْح َ�س ِان َو�إِيتَا ِء ِذي ا ْل ُق ْر َبى{‪.‬‬ ‫ يقول اهلل جل وعال‪�} :‬إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َي�أْ ُم ُر ِبا ْل َع ْد ِل َو ْ إِ‬
‫العدل بني الرعية‪ ،‬والعدل بني املر�ؤ�سني‪ ،‬والعدل بني الأوالد والزوجات‪ ،‬والعدل يف القول والفعل والر�أي‬ ‫والأر�ض ُ‬
‫هو مما ي�أمر ُ‬
‫اهلل به‪.‬‬

‫فالعدل يز ِّينُ للنف�س الإن�صاف ويحبب �إليها موافقة احلق‪ ،‬ومن �أَ َج ِّل الإن�صاف الإقرا ُر َمبن �أنعم علينا‬
‫ُ‬ ‫ ‬
‫بنعمته �سبحانه وال�شك ُر له على �إف�ضاله‪ ،‬وتولي ُة احلمد �أهله‪ .‬قال �أبو بكر بن العربي‪ :‬العدل بني العبد وربه‬
‫بامتثال �أوامره واجتناب مناهيه‪ ،‬وبني العبد وبني نف�سه مبزيد الطاعات وتوقي ال�شبهات وال�شهوات‪ ،‬وبني العبد‬
‫وبني غريه بالإن�صاف‪ ،‬روى �أحمد والرتمذي عن �أبي �سعيد اخلدري ‪ d‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل ‪�( :s‬إن �أحب‬
‫النا�س �إىل اهلل يوم القيامة و�أقربهم منه جمل�سا �إمام عادل و�إن �أبغ�ض النا�س �إىل اهلل يوم القيامة و�أ�شدهم‬
‫عذابا �إمام جائر)‪.‬‬

‫احل َ�سنَ َ�شرع ًا َ‬


‫واحل َ�سنَ‬ ‫احل َ�سن �ض ُّد ال َقبيح فيتناول َ‬
‫إح�سان‪ ،‬والإح�سانُ هو فعل َ‬
‫ و�أمر اهلل تعاىل بال ِ‬
‫ُعر َفا‪ ،‬ويف �صحيح م�سلم من حديث �شداد بن �أو�س �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن اهلل تعاىل كتب الإح�سان على كل‬
‫�شيء ف�إذا قتلتم ف�أح�سنوا القتلة و�إذا ذبحتم ف�أح�سنوا الذبحة‪ ،‬وليحد �أحدكم �شفرته ولريح ذبيحته) قال ابن‬
‫كل �شيء بح�سبه فالإح�سان‬ ‫رجب‪ :‬وهذا احلديث يدل على وجوب الإح�سان يف كل �شيء من الأعمال لكنَّ �إح�سانَ ِّ‬
‫يف الإتيان بالواجبات الإتيانُ بها على وجه كمال واجباتها‪.‬‬

‫حل ُرمات االنتهاء عنها وترك ظاهرها وباطنها كما قال تعاىل‪َ }:‬و َذ ُرو ْا َظ ِاه َر الإِ ْث ِم‬
‫ والإح�سانُ يف ترك ا ُ‬
‫َو َب ِاط َنهُ{‪ .‬و�أما الإح�سان يف ال�صرب على املق َّدرات ف�أن ي�أتي بال�صرب عليها على وجهه من غري ت�سخط وال َجزَ ع‪.‬‬
‫القيام مبا �أوجب اهلل من حقوق ذلك كله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والإح�سان الواجب يف معاملة اخللق ومعا�شرتهم‬

‫‪105‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬إن اهلل يأمر بالعدل واإلحسان‬

‫والإح�سان الواجب يف والية اخللق و�سيا�ستهم القيام بواجبات الوالية كلها‪ .‬والإح�سان يف قتل ما يجوز قتله‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫من النا�س والدواب �إزهاق نف�سه على �أ�سرع الوجوه و�أ�سهلها و�أرجاها من غري زيادة يف التعذيب ف�إنه �إيالم ال‬
‫حاجة �إليه‪.‬‬

‫} َو َي ْن َهى َع ِن ا ْل َف ْح َ�شاء{ وهو الزنا‪ ،‬و} َوالمْ ُن َك ِر{ �أي جميع الأمور املُنكرة يف ال�شرع والعرف‪َ } ،‬وا ْل َب ْغ ِي{ وهو‬
‫الكرب والظلم والتعدي على الآخرين‪ .‬ثم ختم الآية بقوله‪َ } :‬ي ِع ُظ ُك ْم َل َع َّل ُك ْم ت ََذ َّك ُرونَ { �أي يذكركم �أيها النا�س‬ ‫ِ‬
‫ر ُّبكم لتتذكروا فتنيبوا �إىل �أمره ونهيه وتعرفوا احلق لأهله‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫إخشوشنوا‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اخشوشنوا‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إن �أ�صدق الو�صايا و�أنفعها َما خرج من القلب‪ ،‬وكان قائ ُلها �صادق ًا فيها ذا جتربة وحنكة‪ ،‬مريد ًا‬
‫وال�صالح له‪ .‬و�إين ذاك ٌر و�صي ًة عظيم ًة قائ ُلها رج ٌل من ُعظما ِء الرجال ونوادرهم‪ ،‬فهو ُجذميها‬
‫َ‬ ‫للمو�صى‪،‬‬
‫النفع َ‬
‫املحنك‪ ،‬ورائدها الأ َّول‪.‬‬

‫�صحيح (وا�صله يف �صحيح م�سلم) عن‬ ‫ٍ‬ ‫ روى البيهقي يف (ال�سنن الكربى ‪ ،)212/2‬وابن حبان ب�إ�سناد‬
‫كتاب عمر بن اخلطاب ‪ d‬فذكر فيها و�صية وكان مما فيها‪�( :‬أما بعد ! فتمعددوا‬ ‫�أبى عثمان النهدى قال‪� :‬أتانا ُ‬
‫واخ�شو�شنوا‪ ،‬واخلولقوا‪ ،‬وام�شوا حفاة‪ ،‬واقطعوا ال َّركب‪ ،‬وانزوا على اخليل ُنز ّو ًا‪ ،‬وارموا الأغرا�ض وام�شوا ما‬
‫بينها‪..‬وعليكم بلبا�س �أبيكم �إ�سماعيل‪ ،‬و�إياكم والتنعم وزى العجم وعليكم بال�شم�س ف�إنها حمام العرب)‪.‬‬

‫ ويف رواية عند عبد الرزاق (‪� )435/10‬أنه قال‪( :‬فرقوا عن املنية‪ ،‬واجعلوا الر�أ�س ر�أ�سني‪ ،‬وال َت ِل ُّثوا‬
‫عجزَ ة‪ ،‬و�أ�صلحوا مثاويكم‪ ،‬و�أخيفوا احليات قبل �أن تخيفكم)‪.‬‬
‫َبدا ِر َم َ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ ويف رواية عند املعافى بن زكريا يف (الزهد ‪� )201‬أن عمر كتب �إىل عامله بال�شام‪� « :‬أن ُم ْر َمن ِق َب َل َك‬
‫ال�ص ُلب‪ ،‬وال جتاو ُرهم‬ ‫�أن ينت�ضلوا‪ ،‬ويحتفوا‪ ،‬ويتمعددوا‪ ،‬وي�أتزروا‪ ،‬ويرتدوا‪ ،‬وي�ؤدبوا اخليل‪ ،‬وال ُير َف ُع فيهم ُّ‬
‫اخلنازير‪ ،‬وال َيق ُعدُوا على مائدة ُي�شرب عليها اخلمر‪ ،‬وال يدخلوا احلمام �إال ب�إزار‪ ،‬و�إياكم و�أخالق العجم »‪.‬‬

‫ون�صائح �أَ َبو ّية كتبها ُعمر بن اخلطاب ‪� d‬إىل الآفاق وبثها فيهم لين� أش�‬
‫ُ‬ ‫ عباد اهلل ! هذه و�صايا ُعمر ّية‪،‬‬
‫�صح‬‫�صح عن النبي ‪�s‬أنه قال‪( :‬اقتدوا بالذين من بعدي)‪ .‬وقد ّ‬ ‫و�سنة‪ ،‬وتوفيق و�سداد‪ .‬وقد َّ‬ ‫النا�س على هُ َدىً ُ‬
‫ُ‬
‫عنه ‪� s‬أنه قال‪( :‬لو كان يف �أُمتي حم َّد ُثونَ ل َكان ُعمر)‪ ،‬لذا كان ُعم ُر ‪ d‬موفق ًا يف مقو ِله ومنطوقه؛ وقد ُروي‬
‫عند الرتمذي‪�( :‬إن اهلل جعل احلقّ على ل�سان ُعمر)‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اخشوشنوا‬

‫ فما �أحرى هذه الو�صايا �أن تكون �سنن ًا لنا يف تربية �أبنائنا وتن�ش�أتهم وتعليمهم‪ ،‬و�أن تكون م�سلك ًا لنا يف‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫َ‬
‫لنعرف �أثرها و�أ�صلها‪:‬‬ ‫وقفات ي�سري ًة‬
‫تدبري حياتنا؛ ولنقف مع هذه الو�صايا ال ُعمرية ٍ‬

‫الرتف والرتف ُه مذمومان يف الرجال‪،‬‬ ‫فمن و�صيته �أن قال ‪( :d‬اخ�شو�شنوا)؛ �أي عليكم باخل�شونة؛ �إذ ُ‬ ‫‪ِ w‬‬
‫مدح للن�ساء‪ ،‬لذا يقول اهلل ع ّز وجل عنهن‪�} :‬أَ َو َمن‬ ‫و�صف ٍ‬ ‫قط بنعوم ٍة وال بنعمة‪ ،‬و�إمنا هو ُ‬ ‫فال مُي َد ٌح رج ٌل ُّ‬
‫ُي َن�شَّ�أُ فيِ الحْ ِ ْل َي ِة َوهُ َو فيِ الخْ ِ َ�ص ِام َغ رْ ُي ُم ِب ٍني{؛ قال الألو�سي‪( :‬والآية ظاهرة يف �أن الن�شو َر يف الزين ِة‪ ،‬والنعوم َة‬
‫احل َجال‪ ،‬فعلى الرجل �أن يجتنب ذلك وي�أنف منه‬ ‫ِمن املعايب واملذام [يف الرجال]‪ ،‬و�أنه من �صفات ربات ِ‬
‫نف�سه فليزينها بلبا�س التقوى)‪.‬‬‫بنف�سه عنه‪ ،‬ويعي�ش كما قال عمر ‪ ،d‬و�إن �أراد �أن ُيز ِّينَ َ‬ ‫و َير َبا ِ‬

‫النا�س الرتفه بعد كرثة املال وفيو�ضه بني �أيديهم �إثر الفتوحات الإ�سالمية‬ ‫خاف ُعم ُر على ِ‬ ‫ عباد اهلل! لقد َ‬
‫خالف هدي النبي ‪ s‬وامل�ؤمنني معه‪ ،‬وقد ذكر اهلل‬ ‫لأ�صقاع املعمورة؛ ذلكم �أن الرت ّف َه الزائد والتنعم املبالغ فيه ُ‬
‫ول هَّ ِ‬
‫الل َوا َّل ِذينَ َم َع ُه‬ ‫تنعم وال تر ّفه يقول اهلل ج ّل وعال‪} :‬محُّ َ َّم ٌد َّر ُ�س ُ‬ ‫�أنه و�صفهم يف الإجنيل ب�أنهم لي�سوا ب�أهل ٍ‬
‫الل َو ِر�ضْ َوا ًنا ِ�سي َماهُ ْم فيِ ُو ُج ِ‬
‫وه ِهم ِّمنْ‬ ‫�أَ ِ�ش َّداء َع َلى ا ْل ُك َّفا ِر ُر َح َماء َب ْي َن ُه ْم َت َراهُ ْم ُر َّك ًعا ُ�س َّجدً ا َي ْب َت ُغونَ َف�ضْ ًال ِّمنَ هَّ ِ‬
‫ا�س َت َوى َع َلى ُ�سو ِق ِه‬ ‫جن ِيل َكزَ ْر ٍع �أَ ْخ َر َج َ�شطْ�أَ ُه َف�آ َز َر ُه َف ْ‬
‫ا�س َت ْغ َل َظ َف ْ‬ ‫ال�س ُجو ِد َذ ِل َك َم َث ُل ُه ْم فيِ ال َّت ْو َرا ِة َو َم َث ُل ُه ْم فيِ ا ِلإ ِ‬ ‫�أَ َث ِر ُّ‬
‫اهلل �أن‬‫يظ ِب ِه ُم ا ْل ُك َّفا َر{‪ .‬فهم قد ا�ستغلظوا وا�ستووا على �سوقهم ي�ش ُّد بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬ف�أبان ُ‬ ‫ُي ْع ِج ُب ال ُّز َّرا َع ِل َي ِغ َ‬
‫امل�شركني �إمنا ُيره ُبهم من امل�سلمني ا�ستغالظهم (�أي تق�شفهم و�شدتهم)‪ ،‬وم�ؤازر ُة بع�ضهم بع�ض ًا‪.‬‬

‫وترك الرتف‪ ،‬فعن عن‬


‫بالتق�شف ِ‬
‫ِ‬ ‫ وقد �أمرنا النبي ‪� s‬أن نقتدي ب�أ�صحابه عموم ًا‪ ،‬ومن ذلك هديهم‬
‫حذيفة ‪ d‬مرفوعا (اقتدوا باللذين من بعدي �أبي بكر وعمر واقتدوا بهدي عمار ‪ ،‬ومت�سكوا بعهد عبد اهلل بن‬
‫م�سعود قلت‪ :‬ما هدي عمار ؟ قال‪ :‬التق�شف والت�شمي�س) [رواه الرتمذي وح�سنه]‪.‬‬

‫معاذ رفعه‪�( :‬إياكم التنعم ف�إن عباد اهلل لي�سوا باملتنعمني)‪ .‬فقوله ‪( :d‬اخ�شو�شنوا)‬
‫ وروى �أحمد عن ٍ‬
‫�أي اتركوا الرتفه يف حياتكم‪ ،‬ومعاملتكم‪ ،‬وقد ُروي بلفظ (واخ�شو�شبوا)‪ ،‬قال �أبو � َ‬
‫إ�سحاق احلربي‪� :‬أي كلوا‬
‫الغليظ من الطعام‪.‬‬

‫ُ‬
‫التو�سط فال يكون‬ ‫أرخ�ص الثياب و�أق ِّلها‪ ،‬و�إمنا هو‬
‫ب�س � ِ‬‫لي�س ِل ْب َ�س املُ َر َّق َع‪َ ،‬وال ِل َ‬
‫ واملق�صود برتك الرتفه َ‬
‫املر ُء مبالغ ًا يف لبا�سه وال يف طريقته يف احلياة لذا ثبت عن النبي ‪� s‬أنه قال‪ « :‬ال َب َذاذ ُة من الإميان »‪ ،‬قال‬
‫�سفيانُ –را ٍو احلديث‪( :-‬يعني التجوز يف امللب�س واملطعم ونحو ذا)‪.‬‬

‫‪ w‬ومن و�صية ُعمر تلك قوله‪( :‬واحتفوا)؛ �أي ام�شوا ُح َفا ًة‪ ،‬وهذه داخلة يف اال�ستخ�شان؛ وقد كان النبي ‪s‬‬
‫يحتفي �أحيان ًا‪ ،‬وي�أمر باحلفاء‪ ،‬والأكرث من حاله ‪� s‬أنه كان مي�شي منتع ًال‪ .‬وقد روى البزار ب�إ�سناد رجال‬

‫‪108‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اخشوشنوا‬

‫ثقات عن ابن عمر ر�ضي اهلل عنهما قال‪( :‬كان ر�سول اهلل ‪ s‬مي�شي حافيا وناعال)‪ ،‬وروى �أبو داود عن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ف�ضالة بن عبيد ‪� d‬أنه ملا كان �أمري ًا مب�صر قال له بع�ض �أ�صحابه‪ :‬ال �أرى عليك حذاء‪ ،‬قال‪ :‬كان النبي ‪s‬‬
‫ي�أمرنا �أن نحتفي �أحيانا‪.‬‬
‫أحدكم ال َيد ِري لع َّله �س ُيب َت َلى »‪.‬‬
‫وقال ابن عمر‪ « :‬احتفوا‪ ،‬وام�شوا؛ ف�إن � َ‬

‫‪ w‬ومن و�صية ُعمر ‪ d‬قو ُله‪( :‬متعددوا)؛ ومعناها �أي ت�شبهوا َمب ْع ِد بن عدنان وهو ج ُّد العرب و�إليه ينتهي‬
‫ن�سب النبي ‪.s‬‬
‫ُ‬

‫قال �أهل العلم‪ :‬والت�شبه مبعد بن عدنان يكون يف ثالثة �أمور‪:‬‬


‫وغ َل َظ‪.‬‬
‫�شب َ‬
‫‪� 1 .1‬أحدها‪ :‬يف تق�شفه وتركه التنعم‪ ،‬لذا ف�إن العرب تقول‪( :‬متعدد الغالم) �إذا َّ‬

‫لبا�سه‪ .‬وي�شهد له ما يف احلديث الآخر‪( :‬عليكم بال ِّلب�سة‬


‫‪2 .2‬واملعنى الثاين‪ :‬التمعدد يكون بالت�شبه به يف ِ‬
‫ب�س لبا�س العرب‪ ،‬واحلر�ص عليه قدر امل�ستطاع‪ ،‬وتن�شئ ُة‬‫فال�سنة ِل ُ‬
‫املعدية)؛ �أي الزموا لبا�س العرب‪ُّ .‬‬
‫الأبناء على حمبته ولزومه؛ لذا قال ُعمر يف و�صيته ال�سابقة‪( :‬عليكم بلبا�س �أبيكم �إ�سماعيل‪ ،‬و�إياكم‬
‫والتنعم وزى العجم)‪.‬‬

‫وكالمه العربي وعدم حديثه بال ُعجمه؛ لذا ف�إن‬


‫ِ‬ ‫مبعد بن عدنان يف َف َ�صاح ِته‬
‫‪3 .3‬واملعنى الثالث‪ :‬الت�شبه ِ‬
‫بل�سان َم ٍعد وبيانه‪ .‬فتع ّلم البيان واللغة من الدِّ ين‪ .‬وقد جاء يف الأثر‪� ( :‬أف�ضل العجم‬
‫ٍ‬ ‫العرب تفتخر‬
‫�أ�شبههم بالعرب‪ ،‬و�شر العرب �أ�شبههم بالعجم )‪.‬‬

‫‪ w‬ومن و�صيته ‪ d‬تلك قو ُلهُ‪( :‬وعليكم بال�شم�س ف�إنها حمام العرب)‪ .‬فمن الطباع العربية الأ�صيلة �أنهم‬
‫ال ي�أنفون من ال�شم�س‪ ،‬وال يت�أففون من اجللو�س حتتها ف�إن بال َدهم �أقوى البالد �شم�س ًا‪ ،‬و�أحرها قي�ض ًا‪،‬‬
‫و�أ�ش ّدها رم�ضاء‪.‬‬

‫�صح ٌة للبدن فهي ُ‬


‫حمام العرب بها يعرقون وت�ص ُّح �أبدانهم كما قال ُعمر‪ .‬وب�سببها اكت�سبوا‬ ‫ ويف �شدتها ّ‬
‫الأُدمة يف اللون والتي تغنوا بها وا�ستح�سنوها‪ ،‬ويف حديث حذيفة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬اقتدوا بهدي عمار)‬
‫قال حذيف ُة‪( :‬هدي ع ّمار كان التق�شف والت�شمي�س)‪.‬‬

‫ ولي�س املق�صود بالت�شم�س مالزمة ال�شم�س‪ ،‬وترك الظل‪ ،‬ف�إن هذا منهي عنه؛ كما يف حديث �أبي‬
‫�إ�سرائيل‪ ،‬و�إمنا املق�صود النهي عن الرتفع عن اجللو�س واملرور حتت ال�شم�س �صيفا ًء و�شتا ًء خوف ًا من �إ�سمرار‬
‫ال�سحنة ف�إن هذا من الرتفه املذموم‪.‬‬
‫الب�شرة‪� ،‬أو تغري ِّ‬

‫ • وقوله ‪( :d‬واجعلوا الر�أ�س ر�أ�سني)‪ ،‬قال ابن الأثري‪� :‬أي ا�شرتيتم �شيئ ًا من احليوان �أو غ َريه‪ ،‬فال ُتغالوا‬
‫يف الثمن‪ ،‬وا�شرتوا بثمن الر�أ�س الواحد ر�أ�سني‪ ،‬فان مات الواحد بقي الآخر‪ ،‬فك�أنكم قد فرقتم مالكم‬
‫عن املنية‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اخشوشنوا‬

‫ • وقوله‪( :‬ال تلثوا ب�أر�ض معجزة) �أي ال تقيموا يف مو�ضع تعجزون فيه عن الك�سب‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ • وقوله ‪( :d‬و�أخيفوا الهوام قبل �أن تخيفكم)‪ .‬فيه احلثُّ على املبادرة �إىل ال�شجاعة يف قتل الدواب‬
‫جلنب منها‪ .‬وهذا موافق حلديث النبي ‪� s‬إذ قال‪( :‬خم�س فوا�سق يقتلن يف احلل‬ ‫وعدم اخلوف وا ُ‬
‫واحلرم؛ وذكر منها احلية‪ ،‬والعقرب‪ ،‬والف�أرة)‪.‬‬

‫وبع�ض النا�س ُ‬
‫يخاف من قتل الوزغ‪ ،‬وتخي ُف ُه �صغار احل�شرات‪ ،‬فما �ضنك �إن ر�أى ح ّية‪� ،‬أو عقرب‪ .‬ف�إن ُر ِّب َي‬
‫على املبادرة �إىل قتلها زال ُرها ُبها من قلبه‪ ،‬فلم يخفها‪.‬‬

‫ • وقوله ‪ُ ( :d‬م ْر من ِقب َل َك �أن ال يدخلوا احلمام �إال ب�إزار‪ ،‬و�إياكم و�أخالق العجم) فيه بيان �أهمية تربية‬
‫الأبناء على �سرت العورة‪ ،‬ولزوم تغطيتها‪ ،‬و�أن يلزموا الإزار حتى يف مكان املُ ّ‬
‫�ستحم �إذ كان هناك من‬
‫ال�سرة �إىل الركبة‪ ،‬و�أن ال يت�أثر املُ ُ‬
‫�سلم ب�أخالق الأعاجم الذين‬ ‫يراه والإزار كما هو معلوم يغطي ما بني ُّ‬
‫يك�شفون عوراتهم ويت�ساهلون فيها‪ ،‬كما ُيرى يف حمامات ال�سباحة‪ ،‬وعلى �شواطئ البحار‪.‬‬

‫ال�ص ُلب‪ ،‬وال جتاو ُرهم اخلنازير‪ ،‬و�أن ال َيق ُعدُوا على مائدة ُي�ش َر ُب‬
‫‪ w‬ومن و�صيته ‪( :d‬وال ُير َف ُع فيهم ُّ‬
‫ممن جل�س على مائدة ُيدار‬ ‫خل ْمر)‪ .‬وي�شهد لذلك ما روى �أبو داود �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬أنا بريء َّ‬ ‫عليها ا َ‬
‫عليها اخلمر)‪.‬‬

‫مكان فيه‬
‫نف�سه �أن ال يجل�س على مائد ٍة فيها خمر‪� ،‬أو على مقهى يقد ُمهُ‪ ،‬وال ميكث يف ٍ‬
‫امل�سلم َ‬
‫ُ‬ ‫ فيوطن‬
‫ُ�صلبانُ الن�صارى‪ .‬ف�إن ذلك �أقوى للإميان‪ ،‬و�أظهر للعزة‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫‪110‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اخشوشنوا‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اسم اهلل األعظم‬
‫إسم اهلل األعظم‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ف�إن هلل تعاىل �أ�سما ًء تَ�س ّمى بها �سبحانه‪ ،‬و�أمر عبا َده �أن يدعوه بها‪ ،‬ووعدهم �إذ ذاك بالإجابة؛ فقال‬
‫�سبحانه‪َ } :‬وللِهّ ِ الأَ ْ�س َماء الحْ ُ ْ�س َنى َفا ْد ُعو ُه ِب َها{‪ .‬و�أ�سما ُء اهلل تعاىل التي �س ّمى بها َ‬
‫نف�سه ب�سائر اللغات �أنواع‪:‬‬
‫فمنها ما ع ّلمه بع�ض خل ِقه ومنها مامل ُيط ِلع عليه �أحد ًا‪ ،‬ف�إن له �سبحانه �أ�سما َء كثري ًة ال يعلمها �إال هو؛ ففي‬
‫دعاء النبي ‪�( :s‬أ�س�ألك بكل ا�سم هو لك �سميت به نف�سك �أو �أنزلته يف كتابك‪� ،‬أو علمته �أحد ًا من خلقك‪،‬‬
‫�أو ا�ست�أثرت به يف علم الغيب عندك) [رواه الإمام �أحمد ‪.]391/1‬‬

‫وقارئ القر� ِآن والعا ُمل ُّ‬


‫بال�سن ِة النبوي ِة‬ ‫ فقد ُع ِّلم ُ‬
‫بع�ض اخللق من �أ�سما ِء اهلل ما ال َيعل ُم ُه غ ُريهم؛ فالفقي ُه ُ‬
‫َيعل َمان ِمن �أ�سماء اهلل تعاىل ما ال يعلمه غريهم لعلمهم بوحي اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ و�أ ّما غري العال بالكتاب وال�سنة فلي�س له ذلك؛ �إذ �أ�سماء ُ‬
‫اهلل تعاىل توقيفي ٌة ال يجوز االجتها ُد فيها‪ ،‬وال‬ ‫مِ‬
‫هلل‬ ‫التخ ُّر�ص يف ا�ستخراجها‪ ،‬وانظر لقول النبي ‪( :s‬ع َّلم َت ُه �أحد ًا من خلقك) كيف �أن هذا َ‬
‫العلم ب�أ�سما ِء ا ِ‬
‫أتباعهم‬ ‫بع�ض ُّ‬
‫الط ُرق َّية و� ُ‬ ‫ال ُب َّد �أن يكون ِمن اهلل وبوحيه‪ ،‬ومعلوم �أن الوحي قد انقطع مبوته ‪ .s‬فما يعتقده ُ‬
‫و�شرع ِه يف �شيء‪.‬‬
‫من ت�سمية اهلل مبا مل َي�شرع ُيعلم �أنها لي�س من دين اهلل ِ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫أعظم �إذا دُعي به �سبحانه � َأجاب‪ ،‬و�إذا ُ�سئل‬ ‫ عباد اهلل! لقد جا َء عن النبي ‪� s‬أن هلل ج َّل وعال ا�سم ًا � َ‬
‫به �أعطى‪ .‬فالدعاء بهذا اال�سم له ف�ضيلته التي �أبانها النبي ‪ s‬با�ستجابته �سبحانه وتعاىل الدعاء به‪،‬‬
‫و�إعطائه ال�س�ؤال فقط َملن �صدق يف الدعاء و�أتى ب�شرائطه‪ ،‬ولي�س معناه �أن َمن َع ِل َمه و َد َعا َ‬
‫اهلل به فال ُب َّد �أن‬
‫كفره �أو �إميانه‪ ،‬ولي�س معناه �أنه �إذا ُت ِلي على �شيء قل َبه عن حقيقته‪� ،‬أو �أنه‬ ‫بغ�ض النظر عن ِ‬ ‫ُي�ستجاب له‪ِّ ،‬‬
‫ُيفتح به املغلقات‪ ،‬و ُيخ َرق به العادات‪ ،‬ويكون لعارفه ِمن اخلوا�ص ما لي�س لغريه من النا�س‪.‬‬

‫ حتى لقد زعم بع�ض الدجالني قدمي ًا وحديث ًا (للأ�سف) �أن َمن تال هذا اال�سم على ورق ُق ِلب نقد ًا‪،‬‬
‫والطرق ّية معرفتَهم بهذا اال�سم حتى تطيعهم اجلن‬ ‫�أو على َح َج ٍر ُق ِل َب َذهب ًا‪ ،‬وقد ا َّد َعى ُ‬
‫بع�ض الدجالني ُ‬
‫�ضعيف العقل َ‬
‫قليل التمييز اعتقد �أنه ح ٌّق وتع َّلق قل ُب ُه بذلك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫�سخرون لهم‪ ،‬ف�إذا اتفق �أن كان ال�سامع لذلك‬ ‫و ُي ّ‬

‫‪112‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اسم اهلل األعظم‬

‫نف�سه نو ٌع ِمن الرعب واملخافة‪ .‬فجعلوا لذلك هال ًة يف قلوب العامة‪ُ ،‬ي ِّ‬
‫عظمون من خاللها ه�ؤالء‬ ‫وح َ�ص َل يف ِ‬
‫َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫مدعي الوالية خوف ًا ورهب ًة من دعائهم باال�سم الأعظم الذي انفردوا مبعرفته‪.‬‬

‫النا�س ‪-‬حتى‬
‫هلل الأعظم وقد خفي على �سائر ِ‬ ‫اجلهل �أن ي ّدعي �أقوا ٌم �أنهم يعلمون ا�سم ا ِ‬
‫ِ‬ ‫غرائب‬
‫ِ‬ ‫ �إن ِمن‬
‫ال�صحابة‪� -‬إال هم‪ ،‬وذلك ال ينطلي �إال على اجلهلة من النا�س‪� .‬إن ا�سم اهلل الأعظم (عباد اهلل) لي�س �شيئ ًا‬
‫خمف ّي ًا �أو غيب ّي ًا مل يعلمه �أحد‪ ،‬بل قد �أو�ضحه النبي ‪ s‬يف غري ما حديث‪.‬‬

‫ف�صح عنه ‪� s‬أن ا�سم اهلل الأعظم هو‪:‬‬


‫ّ‬ ‫‪w‬‬
‫(الأحد ال�صمد الذي مل يلد ومل يولد ومل يكن له كفوا �أحد) فروى �أبو داود والرتمذي عن بريدة ‪d‬‬ ‫ ‬
‫�أن ر�سول اهلل ‪� s‬سمع رجال يقول‪" :‬اللهم �إين �أ�س�ألك ب�أين �أ�شهد �أنك �أنت اهلل ال �إله �إال �أنت الأحد ال�صمد‬
‫الذي مل يلد ومل يولد ومل يكن له كفوا �أحد" فقال‪( :‬لقد �س�ألت اهلل باال�سم الذي �إذا �سئل به �أعطى و�إذا‬
‫لفظ عند �أبي داود‪( :‬لقد �س�ألت اهلل با�سمه الأعظم)‪.‬‬ ‫دعي به �أجاب)‪ ،‬ويف ٍ‬

‫۩ ۩وجاء �أن اال�سم الأعظم (احلي القيوم) فقد روى ابن ماجه والطرباين ب�إ�سناد ح�سن عن �أَ ِبي �أُ َم َام َة ‪d‬‬
‫الذي �إِ َذا د ُِعي ِب ِه �أَ َج َ‬
‫اب يف ُ�س َو ٍر َث ٍ‬
‫الث ‪ ،‬ال َب َق َر ِة َو� ِآل ِع ْم َرانَ َوطه)‪،‬‬ ‫هلل الأَ ْع َظ ُم ِ‬ ‫�أَن ال َّن ِبي ‪ s‬قال‪ْ :‬‬
‫(ا�س ُم ا ِ‬
‫وم ال َت�أْ ُخ ُذ ُه ِ�س َن ٌة َوال َن ْو ٌم{‪ُ ،‬‬
‫}اهلل‬ ‫قال القا�سم‪ :‬فالتم�ستُها �إنه احلي القيوم ُ‬
‫}اهلل ال �إِ َل َه �إِال هُ َو َ‬
‫احل ُّي ال َق ُّي ُ‬
‫اب َمنْ َح َم َل ُظلم ًا{‪.‬‬ ‫وم{‪َ } ،‬و َع َن ِت ال ُو ُجو ُه ِل َلح ِّي ال َق ُّي ِوم َو َق ْد َخ َ‬ ‫ال �إِ َل َه �إِال هُ َو َ‬
‫احل ُّي ال َق ُّي ُ‬

‫۩ ۩وورد �أي�ض ًا �أن اال�سم اهلل الأعظم هو الرحمن الرحيم‪ ،‬فروى �أبو داود والرتمذي وح�سنه عن �أَ ْ�س َما َء ِب ْن ِت‬
‫هلل الأَ ْع َظ ُم يف َها َتينْ ِ الآ َي َتينْ ِ ‪َ } :‬و ِ�إ َل ُه ُك ْم ِ�إ َل ٌه َو ِاح ٌد ال ِ�إ َل َه‬ ‫َي ِز َيد ر�ضي اهلل عنها ‪� ،‬أَنَّ ال َّن ِبي‪َ s‬ق َال‪ْ :‬‬
‫(ا�س ُم ا ِ‬
‫وم{)‪.‬‬ ‫احلي ال َق ُّي ُ‬ ‫ِ�إال هُ َو ال َّر ْح َمنُ ال َّر ِح ُيم{‪َ ،‬و َفاتحِ َ ِة � ِآل ِع ْم َرانَ ‪} :‬امل ُ‬
‫اهلل ال ِ�إ َل َه ِ�إال هُ َو َ‬

‫ وجاء �أنه (احلنان املنان بديع ال�سماوات والأر�ض ذو اجلالل والإكرام) فروى �أحمد و�أبو داود وابن‬
‫حبان عن �أن�س ‪� d‬أنه كان مع ر�سول اهلل‪s‬جال�س ًا ورج ٌل ُي�ص ِّلي ثم دعا‪ " :‬اللهم �إين �أ�س�ألك ب�أن لك احلمد‬
‫ال �إله �إال �أنت احلنان املنان بديع ال�سماوات والأر�ض يا ذا اجلالل والإكرام يا حي يا قيوم"‪ ،‬فقال ‪( :s‬لقد‬
‫با�سمه العظيم الذي �إذا دُعي به �أجاب و�إذا �سئل به �أعطى)‪.‬‬
‫اهلل ِ‬ ‫دعا َ‬

‫ وبذلك يتبينّ لنا �أن ا�سم اهلل لي�س حم�صور ًا يف ا�سم واحد دون ما عداه‪ ،‬قال الإمام الطربي‪( :‬اختلفت‬
‫الآثار يف تعيني اال�سم الأعظم والذي عندي �أن الأقوال ك َّلها �صحيحة �إذ مل يرد يف خرب منها �أنه اال�سم‬
‫الأعظم وال �شيء �أعظم منه؛ فك�أنه تعاىل يقول كل ا�سم من �أ�سمائي يجوز و�صفه بكونه �أعظم فريجع �إىل‬
‫معنى عظيم) �إ‪.‬هـ‪.‬‬

‫أعظم هو ما جمع فيه الداعي بني �أمرين‪:‬‬


‫هلل ال ِ‬
‫با�سم ا ِ‬
‫‪ w‬وعلى ذلك ف�إن الدعاء ِ‬

‫‪113‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اسم اهلل األعظم‬

‫الغني‪،‬‬
‫وحال الداعي‪ ،‬فا�سم اهلل الأعظم يف حال الفقر‪ّ :‬‬ ‫اال�سم ال�شي َء املدع َّو به َ‬
‫ُ‬ ‫‪1 .1‬الأمر الأول‪� :‬أن ُيوا ِفقَ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫القوي‪ ،‬ويف حال اجلهل‪ :‬العليم‪ ،‬ويف حال ال�سعي والك�سب‪ :‬الرزاق‪ ،‬وهكذا ك ُّل ا�سم هو‬
‫ويف حال ال�ضعف ّ‬
‫الأعظم يف مو�ضعه‪ ،‬على ح�سب حالة العبد وما ينفعه‪.‬‬

‫هلل تعاىل دعوا ب�أ�سماء خمتلفة فا�ستجيب لهم بح�سب حالهم‪ ،‬فزكريا ‪ a‬ملّا �س�أل‬ ‫ ولذا جند �أنبياء ا ِ‬
‫الولد وكان خمتلي ًا‪� ،‬س�أل با�سم ال�سميع } َق َال َر ِّب َه ْب ليِ ِمن َّل ُد ْن َك ُذ ِّر َّي ًة َط ِّي َب ًة ِ�إ َّن َك َ�س ِمي ُع ال ُّد َعاء{‪.‬‬
‫اهلل َ‬‫َ‬

‫ وملّا �س�أل �سليمانُ ‪ a‬ر ّبه املُلك وال�سلطان �س�أل با�سم الوهاب‪َ } :‬ق َال َر ِّب ْاغ ِف ْر ليِ َو َه ْب ليِ ُم ْلك ًا الَّ‬
‫َين َب ِغي لأَ َح ٍد ِّمنْ َب ْع ِدي �إِ َّن َك �أَ َ‬
‫نت ا ْل َو َّه ُ‬
‫اب{‪ .‬‬

‫دعو عند �س� ِؤال الرحمة فيقول‪َ } :‬و ُقل َّر ِّب ْاغ ِف ـ ْر َوا ْر َحـ ـ ْـم َو�أَن َ��ت َخ رْ ُي‬ ‫ و�أَ َم�� َر ُ‬
‫اهلل نب ّيه حم َّم َد ًا �أن َي ُ‬
‫ال َّر ِاح ِم َني {‪ .‬وغري ذلك كثري يف كتاب اهلل‪.‬‬

‫‪2 .2‬والأمر الثاين‪� :‬أن يدعو العب ُد ر ّبه ب�أكرث من ا�سم ويبتهل �إليه ج ّل وعال متفكر ًا ب�أ�سمائه َج ّل وعال‪،‬‬
‫فعظمة �أ�سماء اهلل تعاىل حت�صل بجمع بع�ض الأ�سماء لبع�ضها يف ال ُّدعاء‪� ،‬إذ اقرتانها كما ٌل فيها فوق‬
‫يخ�صه ف�إذا اقرتنت يف الدعاء زاد كمالها‪ ،‬ومن هنا ثبت عن النبي ‪s‬‬ ‫ا�سم منها معنى ُّ‬ ‫كمالها‪ ،‬ولكل ٍ‬
‫ا�سم اهلل الأعظم‪ ،‬وكذلك (الرحمن الرحيم)‪ ،‬وكذا (احلنان املنان)‪،‬‬ ‫القيوم) هو َ‬ ‫َّ‬ ‫(احلي‬
‫َّ‬ ‫�أنه جعل‬
‫معان عظا ٌم ي�ست�شعرها العب ُد امل�ؤمن‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬
‫(وذو اجلالل والإكرام) وغريها فعند الإ�ضافة تظه ُر ٍ‬
‫كتاب‪� ،‬أو يقر�أها من قرطا�س‪.‬‬
‫�إذا دعا بها من قل ِبه ومل يتلها من ٍ‬

‫وهذا معنى قول اهلل تعاىل‪َ } :‬وللِهّ ِ الأَ ْ�س َماء الحْ ُ ْ�س َنى َفا ْد ُعو ُه ِب َها{‪.‬‬

‫با�سم من �أ�سماء اهلل تعاىل ف ُي�ستجاب له‪ ،‬ثم يدعو به ُبع ُد يف‬
‫ وعلى ذلك ف�إن املرء قد يدعو يف م�س�ألة ٍ‬
‫غري هذا املو�ضع‪� ،‬أو يدعو به غ ُريه فال ُي�ستجاب له‪ ،‬الختالف احلال وال�شخ�ص‪� .‬أخرج �أبو نعيم عن �أبي‬
‫قلت‪ :‬نعم!‪ ،‬قال‪:‬‬‫ألت بع�ض امل�شايخ عن ا�سم اهلل الأعظم؟ قال‪ :‬تعرف قلبك؟ ُ‬ ‫�سليمان الداراين قال‪� :‬س� ُ‬
‫ف�س ْل اهلل حاجتَك فذاك ا�سم اهلل الأعظم)‪.‬‬
‫(ف�إذا ر�أيته قد �أقبل و َر َّق َ‬

‫ عباد اهلل! وبذلك يظهر لنا خط�أُ َمن يدعو بغري ال�سماء الواردة يف الكتاب ّ‬
‫وال�سنة ف�إ ّنها �أحرى �أ�سباب‬
‫اال�ستجابة‪ ،‬وفيها اال�سم الأعظم‪.‬‬

‫خط�أُ ما يدعو به بع�ض النا�س ِمن قوله‪�( :‬أ�س�ألك با�سمك الأعظم الذي �إذا دُعيت به �أجبت و�إذا‬ ‫ وكذلك َ‬
‫ُ�سئلت به �أعطيت) �أنه لي�س �س�ؤا ًال موافق ًا للمعنى ال�شرعي‪ ،‬بل �إن مق�صو َد ال�شَّ رع االجتها ُد يف الدعاء ب�أ�سماء‬
‫اهلل تعاىل جميعها‪ ،‬دون تخ�صي�ص ا�سم منها دون غريه‪ ،‬واختيار الأن�سب منها حلال الداعي‪ ،‬والدعاء‬
‫املطلوب‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫األجر على املباحات‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬األجر على املباحات‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إنه مهما اجتهد املر ُء يف العبادات املح�ضة و�أعطاها من وقته ف�إنها تبقى معدود ًة حم�صورة؛ �إذ للعبد‬
‫ُقدرة حمددة ال ميكنه جتاوزها‪ ،‬كما �أن له متطلبات ج�سدية‪ ،‬واحتياجات فطرية‪ ،‬وعليه واجبات اجتماعية‬
‫ال ُب َّد ِمن جميئه بها‪ ،‬و�إعطا ِئها جزء ًا كبري ًا من وقته‪.‬‬

‫الدرجات ال ُع َلى ِمن اجلنة �إال املع ّمرون وخ�صو�ص ًا ِمن‬


‫ِ‬ ‫ ولو كان الأج ُر على كرثة العبادة وطولها َملا َحاز‬
‫الرجل منهم كان �أم ّد ُعمر ًا‪ ،‬و�أقوى بدن ًا‪ ،‬و�أ�ص َرب على العبادة‪.‬‬
‫َ‬ ‫الأمم ال�سابقة؛ لأن‬

‫ ولكن اهلل َن َظ َر لهذه الأمة نظرة رحمة فخفف عنها الأحمال‪ ،‬وو�ضع عنها الآ�صار‪ ،‬و�ضاعف لها املثوبة‬
‫على العمل القليل‪.‬‬

‫رجل ا�ست�أجر‬‫ يف �صحيح البخاري عن ابن عمر ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬مث ُلكم ومث ُل �أهل الكتابني كمثل ٍ‬
‫�أُجراء فقال‪َ :‬من َيعمل يل من غدوة �إىل ن�صف النهار على قرياط‪ .‬فعملت اليهود‪ ،‬ثم قال‪َ :‬من يعمل يل من‬
‫خطبة جديدة‬

‫ن�صف النهار �إىل �صالة الع�صر على قرياط‪ .‬فعملت الن�صارى‪ ،‬ثم قال‪َ :‬من يعمل يل ِمن الع�صر �إىل �أن‬
‫تغيب ال�شم�س على قرياطني‪ .‬ف�أنتم هم‪ .‬فغ�ضبت اليهود والن�صارى فقالوا‪ :‬ما لنا �أك ُرث عم ًال و�أق ُّل عطا ًء؟‬
‫قال‪ :‬هل نق�صتكم من حقكم؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فذلك ف�ضلي �أوتيه من �أ�شاء)‪.‬‬

‫ ولذا فقد فتح الرب الرحيم للم�سابقني يف اخلريات‪ ،‬احلري�صني على عايل الدرجات �أمور ًا ميكنهم من‬
‫خاللها تو�سيع دائرة تقربهم‪ ،‬ورفعة درجتهم‪ ،‬ولعل من �أبرزها ما يلي‪:‬‬

‫۩ ۩احلر�ص على العمل ال�صالح يف موا�سم اخلريات؛ كيوم اجلمعة‪ ،‬و�شهر رم�ضان‪ ،‬وليلة القدر‪ ،‬وع�شر ذي‬
‫ي ِّمنْ �أَ ْل ِف َ�ش ْه ٍر{‪.‬‬
‫م�ضاعف } َل ْي َل ُة ا ْل َق ْد ِر َخ رْ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫احلجة‪ .‬ف�إن العمل ال�صالح يف هذه الأيام‬

‫‪115‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬األجر على املباحات‬

‫اهلل بنعمائه لهذه املوا�سم و�أ�ض ّل عنها غ َرينا يف ال�صحيح �أن النبي ‪ s‬ق��ال‪( :‬نحن‬‫ وقد هدانا ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الآخرون ال�سابقون يوم القيامة‪� ،‬أوتوا الكتاب ِمن قبلنا و�أوتيناه ِمن بعدهم‪ ،‬فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه‬
‫(�أي اجلمعة) فهدانا اهلل فغدا لليهود وبعد غد للن�صارى)‪.‬‬

‫۩ ۩ومن ذلك �أن اهلل ع ّز وجل يرفع درج َة َمن �شاء من عباده ب�سبب بالء ي�صيبه‪� ،‬أو حمن ٍة تنزل به؛ �إن �صبرَ َ‬
‫واحت�سب‪ ،‬ومل يتجزّع على �أقدار اهلل‪ ،‬ويت�سخط عليها‪ .‬وقد روى ابن حبان يف �صحيحه عن �أبي هريرة‬
‫زال ُ‬
‫اهلل يبتليه مبا‬ ‫هلل املنزل ُة فما يبلغها ٍ‬
‫بعمل‪ ،‬فال َي ُ‬ ‫‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن الرجل لتكون له عند ا ِ‬
‫َيك َره حتى ُيب ّل َغه �إياها)‪.‬‬

‫العبد امل�ؤمنَ على فع ِله للمباحات التي يفعلها‬ ‫أعظم �أجر ًا و�أهون عم ًال)‪� :‬أن اهلل يثيب َ‬
‫۩ ۩ومن ذلك (بل و� ُ‬
‫ثاب املر ُء َعليها �إال بن َّي ِة رجا ِء الأجر على فعلها من‬
‫يف يومه وليلته‪� ،‬إن احت�سب الأجر يف عملها‪ ،‬ف�إنه ال ُي ُ‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬كما دل على ذلك قوله ‪�« : s‬إذا �أنفق امل�سلم نفقة على �أهله وهو يحت�سبها كانت له �صدقة»‪،‬‬
‫وقوله ‪ s‬ل�سعد بن �أبي وقا�ص ‪�« :d‬إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اهلل �إال �أُجرت عليها‪ ،‬حتى ما‬
‫جتعل يف فم امر�أتك»‪.‬‬

‫ثاب عليه‪ ،‬وقد ن ّبه النبي ‪ s‬على هذا بقوله‪:‬‬ ‫ فاملباح ‪�-‬إذا ُق�صد به وجه اهلل تعاىل‪� -‬صار طاع ًة ُي ُ‬
‫حظوظه ال ُّدنيوية‪ ،‬ف�إذا و�ضع اللقمة‬
‫ِ‬ ‫أخ�ص‬
‫«حتى اللقمة جتعلها يف فيِ ِ امر�أتك»؛ لأن زوجة الإن�سان هي ِمن � ِّ‬
‫يف ِفيها؛ ف�إمنا يكون ذلك يف العادة عند املالعبة واملالطفة املباحة؛ فهذه احلالة �أبع ُد الأ�شياء عن الطاعة‬
‫و�أمور الآخرة‪ ،‬ومع هذا ف�أخرب ‪� s‬أنه �إذا ق�صد بهذه اللقمة وجه اهلل تعاىل ح�صل له الأجر بذلك؛ فغ ُري‬
‫هذه احلالة �أوْىل بح�صول الأجر �إذا �أراد وجه اهلل تعاىل‪.‬‬

‫ثاب عليها �إن َف َع َلها ِمن غري ُظ ٍلم َ‬


‫وجور‪،‬‬ ‫العبد املعتادة‪ ،‬وت�صرفا ِته اليومية ف�إنه ُي ُ‬ ‫أعمال ِ‬ ‫ وهكذا ُك ُّل � ِ‬
‫م�سلم عن �أبي ذر ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪� « :‬إن ِّ‬
‫بكل ت�سبيح ٍة �صدقة‪،‬‬ ‫قا�صد ًا بها مق�صد ًا ح�سنا‪ ،‬يف �صحيح ٍ‬
‫و ُك ِّل تكبرية �صدقة‪ ،‬و ُك ِّل حتميد ٍة َ�ص َدقة‪ ،‬و ُك ِّل تَهليل ٍة َ�ص َدقة‪ ،‬و�أم ٌر باملعروف �صدق ٌة‪ ،‬ونهي عن منكر �صدقة‪،‬‬
‫أحدكم �صدقة »‪ .‬قالوا‪ :‬يا ر�سول اهلل �أي�أتي �أحدُنا �شهوته ويكون له فيها �أجر ؟ قال‪�« :‬أر�أيتم لو‬ ‫ويف ُب�ض ِع � ِ‬
‫و�ضعها يف حرام �أكان عليه فيها وزر‪ ،‬فكذلك �إذا و�ضعها يف احلالل كان له �أجر»‪.‬‬

‫ وهكذا ُك ُّل �أفعال ابن �آدم املباح ِة �إذا ق�صد بها العفاف‪ ،‬واالنكفاف عن احلرام‪ ،‬واحت�سب بفعلها �أداء‬
‫ما �أمره اهلل‪ ،‬واال�ستعانة على طاعة اهلل ف�إنه ي�ؤجر عليها‪ ،‬قال معاذ بن جبل ‪ d‬حني �سئل‪ :‬كيف تقر�أ؟‬
‫ق�ضيت ُجزئي من النوم‪ ،‬ف�أقر�أ ما كتب اهلل يل‪ ،‬ف�أحت�سب نومتي كما‬ ‫ُ‬ ‫فقال‪�« :‬أنام �أول الليل‪ ،‬ف�أقوم وقد‬
‫�أحت�سب قومتي»‪� ،‬أي‪� :‬أنه يرجو الأجر يف ترويح نف�سه بالنوم؛ ليكون �أن�شط عند القيام بالعبادة‪ ،‬وعن زيد‬
‫ال�شامي قال‪�( :‬إين لأُ ُّ‬
‫حب �أن تكون يل ني ٌة يف ُك ِّل َ�شيء‪ ،‬حتى يف الطعام وال�شراب)‪ ،‬وعنه قال‪( :‬ان ِو يف ِّ‬
‫كل‬
‫�شيءٍ تريده اخلري‪ ،‬حتى خروجك �إىل القمامة)‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬األجر على املباحات‬

‫ فيا من تريد تو�سيع دائرة ُق ُرباتك‪ ،‬والإكثار من �أجورك �أرد �إر�ضاء اهلل ـ تعاىل ـ مبا ت�أتي من الأمور‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫املباحة والأعمال املعتادة؛ ف�إن املرء ي� َؤجر عليها متى جعلها و�سيلة لطاعة واجبة �أو مندوبة �أو تكمي ًال ل�شيء‬
‫منهما‪.‬‬

‫اهلل �أكرب‪ ،‬اهلل �أكرب‪ .‬اهلل �أكرب‪ ،‬اهلل �أكرب‪ .‬اهلل �أكرب‪ ،‬اهلل �أكرب‪ .‬اهلل �أكرب‪ ،‬اهلل �أكرب‪ .‬اهلل �أكرب ال �إله �إال‬ ‫ ‬
‫اهلل‪.‬‬

‫فرحهم‬
‫الفرح وال�سرور‪ ،‬فهم م�أجورن على ِ‬
‫النا�س َ‬
‫يوم عيد‪ ،‬وهذا اليوم ُيظهر فيه ُ‬ ‫ عباد اهلل! و�إننا يف ِ‬
‫فيه وما يفعلونه ِمن املباحات وذلك من ف�ضله اهلل تعاىل‪ ،‬و�إح�سانه ورحمته بنا‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬األرض‬
‫األرض‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ف�إن للإن�سان مع الأر�ض عالق َة ابتداءٍ وانتهاء؛ يقول اهلل تعاىل‪ِ } :‬م ْن َها َخ َل ْق َنا ُك ْم َو ِفي َها ُن ِعي ُد ُك ْم‬ ‫ ‬
‫َو ِم ْن َها ُن ْخ ِر ُج ُك ْم تَا َر ًة �أُ ْخ َرى{‪.‬‬

‫والتنقيب عن �أ�سرارها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫والبحث يف �أغوارها‬‫ِ‬ ‫بالنظر يف هذه الأر�ض واالعتبا ِر فيها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ لقد �أمر ُ‬
‫اهلل عبا َده‬
‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض{‪ ،‬وقال ج َّل وعال‪} :‬وَفيِ‬ ‫والعلم لتح�صيل خرياتها؛ فقال �سبحانه‪ُ } :‬ق ِل ُ‬
‫انظ ُرو ْا َم َاذا فيِ َّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الأَ ْر ِ�ض �آ َياتٌ ِّل ْل ُمو ِق ِن َني{ وَفيِ �أن ُف ِ�س ُك ْم �أ َفال ُت ْب ِ�ص ُرونَ {‪.‬‬

‫ال�سقف و�أنه بال عمد �آي ًة ِمن‬ ‫ِ‬ ‫اهلل عبا ِده بهذا‬ ‫اهلل ال�سماء َ�سقف ًا للأر�ض تظلُّها‪ ،‬وذ ّكر ُ‬ ‫ عبا َد اهلل! جعل ُ‬
‫ال�س َما َو ِات ِب َغ رْ ِي َع َم ٍد َت َر ْو َن َها َو�أَ ْل َقى فيِ الأَ ْر ِ�ض َر َو ِا�س َي {‪ ،‬حفظ اهلل الأر�ض �أن ي�سقط عليها �شي ٌء‬ ‫}خ َلقَ َّ‬ ‫اهلل َ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬
‫مم�سكها }�أَ مَْل َت َر �أَنَّ الل َ�س َّخ َر َل ُكم َّما فيِ الأَ ْر ِ�ض َوا ْل ُف ْل َك تجَْ ِري‬ ‫ِ‬ ‫ال�سماء؛ من كواكبها وجنومها ف�سبحان‬ ‫من َّ‬
‫وف َّر ِحي ٌم{‪.‬‬‫ا�س َل َر�ؤُ ٌ‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬
‫ال�س َماء �أَن َت َق َع َع َلى الأَ ْر ِ�ضِ �إالَّ ِب ِ�إ ْذ ِن ِه ِ�إنَّ الل ِبال َّن ِ‬
‫فيِ ا ْل َب ْح ِر ِب�أَ ْم ِر ِه َو مُْي ِ�س ُك َّ‬

‫أر�ض وال متيد } َو َج َع ْل َنا‬


‫روا�سي‪ ،‬فهي جبال را�سيات‪ُ ،‬مر�سيات لكي ال متيل ال ُ‬ ‫َ‬ ‫اهلل يف الأر�ض جبا ًال‬ ‫ خلق ُ‬
‫فيِ الأَ ْر ِ�ض َر َو ِا�س َي �أَن تمَ ِ َيد ِب ِه ْم َو َج َع ْل َنا ِفي َها ِف َج ً‬
‫اجا ُ�س ُب ًال َل َع َّل ُه ْم َي ْه َتدُونَ {‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫أر�ض �أنهار ًا و�أوجد فيها �أودية وبحار ًا‪ ،‬و�أجرى فيها املا َء َعذب ًا و ُ�أجاج ًا } َوهُ َو ا َّل ِذي َم َّد الأَ ْر َ�ض‬ ‫و�شقَّ يف ال ِ‬
‫َو َج َع َل ِفي َها َر َو ِا�س َي َو َ�أ ْن َها ًرا{‪.‬‬

‫قل انتفا ُع‬ ‫أر�ض َ�ص َف ًا ال جت َم ُع املا َء َّ‬ ‫اجتماعه‪ ،‬ف�إن كانت ال ُ‬ ‫ِ‬ ‫ الأر�ض (عباد اهلل!) خزائنُ املاء‪ ،‬ومكامنُ‬
‫ال�س َماء بمِ َ اء ُّم ْن َه ِم ٍر* َو َف َّج ْر َنا الأَ ْر َ�ض ُع ُيو ًنا َفا ْل َت َقى المْ َاء َع َلى �أَ ْم ٍر َق ْد‬ ‫ال�سماء } َف َفت َْح َنا �أَ ْب َو َ‬
‫اب َّ‬ ‫النا�س مبا ِء َّ‬
‫ِ‬
‫ُق ِد َر{‪.‬‬

‫اهلل فيها ِمن ُكل زوج‬ ‫أنبت ُ‬ ‫ و�إذا نزل ال َق ْط ُر ِمن ال�سماء‪� ،‬أزهرت الأر�ض و�أين َعت‪ ،‬و�أخ�ص َبت و�أزه َرت‪ ،‬ف� َ‬
‫بهيج‪ ،‬فكانت حيا ًة بعد موت‪ ،‬ف� ُّأي عربة �أعظم من تلك َملن نظر } َو هَّ ُ‬
‫الل �أَنزَ َل ِمنَ ا ْل َّ�س َماء َماء َف�أَ ْح َيا ِب ِه‬
‫الأَ ْر َ�ض َب ْع َد َم ْو ِت َها �إِنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ًة ِّل َق ْو ٍم َي ْ�س َم ُعونَ {‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬األرض‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ا�س َف َي ْم ُكثُ فيِ الأَ ْر ِ‬


‫���ض َك َذ ِل َك‬ ‫ فالأر�ض ‪-‬عباد اهلل‪َ -‬م َق ُّر اخلري‪ ،‬وم�ستق ُّر النفع } َو�أَمَّ��ا َما َين َف ُع ال َّن َ‬
‫َي�ضْ ِر ُب هَّ ُ‬
‫الل الأَ ْم َث َال{‪.‬‬

‫نبت ال َّز ْرع‪ ،‬فمنه ما هو قوت‪ ،‬ومنه ما هو فاكهة‪ ،‬ومنه ما هو دوا ٌء‪ ،‬ومنه ما هو داء } َو�آ َي ٌة َّل ُه ُم‬ ‫أر�ض َم ُ‬ ‫ ال ُ‬
‫اب َو َف َّج ْر َنا ِفي َها‬‫الأَ ْر ُ�ض المْ َ ْي َت ُة �أ ْح َي ْي َن َاها َو�أ ْخ َر ْج َنا ِم ْن َها َح ًّبا َف ِم ْن ُه َي ْ�أ ُك ُلونَ * َو َج َع ْل َنا ِفي َها َج َّن ٍات ِمن َّن ِخ ٍيل َو�أ ْع َن ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِمنْ ا ْل ُع ُي ِون* ِل َي�أْ ُك ُلوا ِمن َث َم ِر ِه َو َما َع ِم َل ْت ُه �أَ ْي ِد ِيه ْم َ�أ َفال َي�شْ ُك ُرونَ * ُ�س ْب َحانَ ا َّل ِذي َخ َلقَ الأَ ْز َو َاج ُك َّل َها ممَِّ ا ُتن ِب ُت‬
‫الأَ ْر ُ�ض َو ِمنْ �أَن ُف ِ�س ِه ْم وَممَِّ ا ال َي ْع َل ُمونَ {‪.‬‬

‫تنبت يف الأر�ض الواحدة‬ ‫ينبت من الأر�ض �أزوا ٌج �شتى‪ ،‬و�أ�صناف متعددة‪ ،‬فعجب ًا من هذه الأر�ض ُ‬ ‫ فما ُ‬
‫أر�ضها واحد ٌة و�سقيها واحد }وَفيِ الأَ ْر ِ�ض ِق َط ٌع ُّمت ََجا ِو َراتٌ َو َج َّناتٌ ِّمنْ �أَ ْع َن ٍ‬
‫اب َو َز ْر ٌع‬ ‫املحا�صيل املتغايرة‪ ،‬و� ُ‬ ‫َ‬
‫َو َن ِخي ٌل ِ�ص ْن َوا ٌن َو َغ رْ ُي ِ�ص ْن َو ٍان ُي ْ�س َقى بمِ َ اء َو ِاح ٍد َو ُن َف ِّ�ض ُل َب ْع َ�ض َها َع َلى َب ْع ٍ�ض فيِ الأُ ُك ِل ِ�إنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ٍات ِّل َق ْو ٍم‬
‫َي ْع ِق ُلونَ {‪.‬‬

‫آدمي دا َره‪ ،‬ويعم ُره من �أجزائها فهي ُتك ُّنه حي ًا وت�ض ُّمه َميت ًا } َو َبوَّ�أَ ُك ْم فيِ الأَ ْر ِ�ض‬ ‫ على الأر�ض يبني ال ُّ‬
‫َتت َِّخ ُذونَ ِمن ُ�س ُهو ِل َها ُق ُ�صو ًرا َو َت ْن ِح ُتونَ الجْ ِ َب َال ُب ُيو ًتا َف ْاذ ُك ُرو ْا �آالء هَّ ِ‬
‫الل َو َال َت ْع َث ْوا فيِ الأَ ْر ِ�ض ُم ْف ِ�س ِدينَ {‪.‬‬

‫اهلل هذه الأر�ض َومن عليها للإن�سان‪ ،‬و�سخرها له فهي طوع بنا ِنه‪ ،‬ومنها �أُك ُل ُه‬ ‫ عباد اهلل! لقد خلق ُ‬
‫وفيها َمقا ُمه؛ فقال �سبحانه‪} :‬هُ َو ا َّل ِذي َخ َلقَ َل ُكم َّما فيِ الأَ ْر ِ�ض َج ِميع ًا{‪ .‬وقال �سبحانه‪َ } :‬و َ�س َّخ َر َل ُكم َّما‬
‫}ج ِمي ًعا‬ ‫ال�س َما َو ِات َو َما فيِ الأَ ْر ِ�ض َج ِمي ًعا ِّم ْن ُه ِ�إنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ٍات َّل َق ْو ٍم َي َت َف َّك ُرونَ {‪ ،‬وت�أمل يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫فيِ َّ‬
‫نت على عباده بت�سخريه جمي َع َما على الأر�ض للآدميني‪ ،‬و�أن هذا الت�سخري وهذا‬ ‫ِّم ْنهُ{‪ .‬ف�إنه �سبحانه ام ّ‬
‫الإح�سان ِم ْن ُه �سبحانه ِم َّن ًة و�إنعام ًا‪.‬‬

‫ فلذا ف�إنه ال ي�ستح ُّق �أح ٌد �أن ُيعبد غ ُريه ج ّل وعال وال ُي�شكره �سواه‪ ،‬وقد خاف َ‬
‫وخ ِ�سر ِمن ن�سب هذا‬
‫الت�سخري يف الكون ل ٍإله غ ِري اهلل �سوا ًء كان وثن ًا �أو غ َريه‪ ،‬وخاب وخ�سر َمن ظنّ �أن هذا الكون وهذا الت�سخري‬
‫وحدهم‪ ،‬و�إمنا هو من اهلل ف�ض ًال ِوم ّنة‪.‬‬‫�إمنا هو بفعل الآدميني َ‬

‫مم متطاولة‪،‬‬ ‫ عباد اهلل! �إنّ ِمن عظيم ال ِعظ ِة يف هذه الأر�ض �أنها حملت �أجيا ًال كثرية‪ ،‬و َو ِط َء ثراها �أ ٌ‬
‫الل ُت ِنك ُرونَ * �أَ َف َل ْم‬ ‫ات هَّ ِ‬ ‫فمنهم املح�سنُ ومنهم امل�سيء‪ ،‬وفيهم املتغ ِّل ُب وفيهم ال�ضعيف } َو ُي ِري ُك ْم �آ َيا ِت ِه َف�أَ َّي �آ َي ِ‬
‫نظ ُروا َك ْي َف َكانَ َعا ِق َب ُة ا َّل ِذينَ ِمن َق ْب ِل ِه ْم َكا ُنوا �أَ ْك رَ َث ِم ْن ُه ْم َو�أَ َ�ش َّد ُق َّو ًة َو�آ َثا ًرا فيِ الأَ ْر ِ�ض‬
‫َي ِ�س ُريوا فيِ الأَ ْر ِ�ض َف َي ُ‬
‫و�س َك َنها َعق َبهم‪.‬‬ ‫بعدهم‪َ ،‬‬ ‫َف َما �أَ ْغ َنى َع ْن ُهم َّما َكا ُنوا َي ْك ِ�س ُبونَ {‪ .‬فهل �أعترب ب�أولئك َمن ورثها ِمن ِ‬
‫بع�ضهم بع�ض ًا يف الأر�ض } َو�إِ ْذ َق َال َر ُّب َك ِل ْل َم َال ِئ َك ِة �إِنيِّ‬ ‫النا�س خالئف يف الأر�ض ُ‬
‫يخلف ُ‬ ‫اهلل َ‬ ‫ لقد جعل ُ‬
‫نا�س َد َر�سوا فخلفهم �آخرون‪ ،‬و ُيخطيء ِمن يظنّ �أنّ معنى الآية �أنّ‬ ‫َج ِاع ٌل فيِ الأَ ْر ِ�ض َخ ِلي َف ًة{‪ ،‬ف ُك ّلما �سكنها ٌ‬
‫�صحيح كما قرره �أهل العلم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الإن�سان خليف ٌة هلل يف الأر�ض فهذا املعنى غري‬

‫‪119‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬األرض‬

‫ و�إنّ �أحقَّ النا�س باخلالفة يف الأر�ض‪ ،‬و�أوفاهم ِذ َمام ًا‪ ،‬و�أ�صد َقهم َعهد ًا َمن َح َك َم بالعدل‪ ،‬وابتعد عن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وحكم ًة وعلم ًا } َيا َدا ُوو ُد �إِ َّنا‬ ‫نف�سه وما ُوليِّ ‪ ،‬وت�أمل يف قول اهلل تعاىل لداود ‪ a‬وقد �آتاه ُ‬
‫اهلل ُملك ًا ِ‬ ‫اجلور يف ِ‬ ‫َ‬
‫ا�س ِبالحْ َ ِّق َوال َت َّت ِب ِع ا ْل َه َوى َف ُي ِ�ض َّل َك َعن َ�س ِب ِيل هَّ ِ‬
‫الل �إِنَّ ا َّل ِذينَ َي ِ�ضلُّونَ‬ ‫اح ُكم َبينْ َ ال َّن ِ‬ ‫اك َخ ِلي َف ًة فيِ الأَ ْر ِ�ض َف ْ‬
‫َج َع ْل َن َ‬
‫اب{‪.‬‬ ‫اب َ�ش ِدي ٌد بمِ َ ا َن ُ�سوا َي ْو َم الحْ ِ َ�س ِ‬ ‫َعن َ�س ِب ِيل هَّ ِ‬
‫الل َل ُه ْم َع َذ ٌ‬

‫فجاجها }هُ َو ا َّل ِذي َج َع َل‬


‫أر�ض لبني �آدم لي�ستفيدوا منها‪ ،‬و َي�سعوا فيها‪ ،‬و َي�ضربوا َ‬ ‫اهلل �أنه ذ َّل َل ال َ‬ ‫ وبينّ ُ‬
‫والبال } َيا ِع َبا ِد َي‬
‫ِ‬ ‫َل ُك ُم الأَ ْر َ�ض َذ ُلو ًال َف ْام ُ�شوا فيِ َم َن ِاك ِب َها َو ُك ُلوا ِمن ِّر ْز ِق ِه َو�إِ َل ْي ِه ال ُّن ُ�شو ُر{‪ ،‬ففيها �سع ُة ال ِّرزق‬
‫ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ِ�إنَّ �أَ ْر ِ�ضي َو ِا�س َع ٌة َف ِ�إ َّي َاي َف ْاع ُبد ِ‬
‫ُون{‪.‬‬

‫ ف َمن َظ َل َم وبغى‪� ،‬أو جار واعتدى ف�إنه خان العهد‪ ،‬و�أف�سد يف الأر�ض } َو ِ�إ ْذ َق َال َر ُّب َك ِل ْل َم َال ِئ َك ِة ِ�إنيِّ َج ِاع ٌل‬
‫فيِ الأَ ْر ِ�ض َخ ِلي َف ًة َقا ُلو ْا �أَتجَْ َع ُل ِفي َها َمن ُي ْف ِ�س ُد ِفي َها َو َي ْ�س ِف ُك الدِّ َما َء َو َن ْحنُ ُن َ�س ِّب ُح ِب َح ْم ِد َك َو ُن َقدِّ ُ�س َل َك َق َال ِ�إنيِّ‬
‫�أَ ْع َل ُم َما َال َت ْع َل ُمونَ {‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اإلسراء واملعراج‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلسراء و املعراج‬

‫الخطبة األوىل‪ ( :‬التقديم املعتاد ‪: ) ......‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ف�إن من الآيات العظام التي �أُعطيها النبي ‪ s‬وذكرها اهلل ع ّز وجل يف كتابه واقع َة الإ�سراء واملعراج‪،‬‬
‫�إذ �أُ�سري بج�سد النبي ‪� s‬إىل بيت املقد�س‪ ،‬ثم ُعرج به �إىل ال�سماء ال�سابعة حتى �سمع �صوت �صريف‬
‫الأقالم‪ ،‬ودخل اجلنة ونظر فيها‪ ،‬وك ّلمه ر ُبه من غري ترجمان ففر�ض عليه ال�صال َة خم�س ًا‪ ،‬و�أعطاه خواتيم‬
‫البقرة‪ ،‬ور�أى وخاطب الأنبيا َء يف َم�سراه ِومعراجه‪ ،‬ثم عاد �إىل فرا�شه يف مكة وملّا يزل دافئ ًا بعده‪ .‬يقول اهلل‬
‫}�س ْب َحانَ ا َّل ِذي �أَ ْ�س َرى ِب َع ْب ِد ِه َل ْي ًال ِّمنَ المْ َ ْ�س ِج ِد الحْ َ َر ِام ِ�إ ىَل المْ َ ْ�س ِج ِد الأَ ْق َ�صى ا َّل ِذي َبا َر ْك َنا َح ْو َل ُه ِل رُ ِن َي ُه‬
‫عز وجل‪ُ :‬‬
‫ال�س ِمي ُع ال َب ِ�ص ُري{‪.‬‬ ‫ِمنْ �آ َيا ِت َنا ِ�إ َّن ُه هُ َو َّ‬

‫ يقول ‪( :s‬فرج عن �سقف بيتي و�أنا مبكة‪ ،‬فنزل جربيل ففرج �صدري‪ ،‬ثم غ�سله مباء زمزم‪ ،‬ثم جاء‬
‫بط�ست من ذهب ممتلىء حكمة و�إمي�أنا ف�أفرغه يف �صدري‪ ،‬ثم �أطبقه)(رواه البخاري)‪[ ،‬ويف لفظ عند‬
‫�أحمد] قال ‪( :s‬فا�ستُخرج قلبي‪ ،‬ف�أتيت بط�ست من ذهب مملوءة �إميانا وحكمة فغ�سل قلبي ثم ح�شي‪ ،‬ثم‬
‫�أعيد)‪.‬‬

‫أبي�ض طوي ٌل فوق احلمال دون البغل‪ ،‬ي�ضع حافره عند‬‫ روى م�سلم قال ‪ :s‬و�أُتيت بالرباق وهو دابة � ُ‬
‫منتهى طرفه قال‪ :‬فركبته حتى �أتيت بيت املقد�س‪ ،‬فربطته باحللقة التي يربط بها الأنبياء ثم دخلت امل�سجد‬
‫ف�صليت فيه ركعتني‪ ،‬ثم خرجت فجاءين جربيل ب�أناء من خمر و�أناء من لنب فاخرتت اللنب‪ ،‬فقال جربيل‪:‬‬
‫اخرتت الفطرة‪.‬‬

‫ ثم عرج بنا �إىل ال�سماء الدنيا‪ ،‬فا�ستفتح جربيل؛ فقيل من �أنت؟ قال‪ :‬جربيل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‬
‫حممد‪ .‬قيل‪ :‬وقد بعث �إليه؟ قال‪ :‬بعث �إليه‪ :‬ففتح لنا ف�إذا �أنا ب�آدم‪ ،‬فرحب بي ودعا يل بخري (ويف رواية‬
‫يف البخاري‪ :‬فلما فتح علونا ال�سماء الدنيا ف�إذا برجل قاعد‪ ،‬على ميينه �أ�سودة‪ ،‬وعلى ي�ساره �أ�سودة‪� ،‬إذا‬
‫خطبة جديدة‬

‫نظر قبل ميينه �ضحك‪ ،‬و�إذا نظر قبل �شماله بكى‪ ،‬فقال‪ :‬مرحبا بالنبي ال�صالح واالبن ال�صالح‪ ،‬قلت‬
‫الَ���سْ�� ِو َد ُة عن ميينه و�شماله ن�سم بنيه‪ ،‬ف�أهل اليمني منهم �أهل‬
‫جلربيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬هذا �آدم‪ ،‬وهذه ْ أ‬
‫والَ ْ�س ِو َد ُة التي عن �شماله �أهل النار ف�إذا نظر عن ميينه �ضحك‪ ،‬و�إذا نظر قبل �شماله بكى)‪.‬‬
‫اجلنة‪ ْ ،‬أ‬

‫ ثم عرج بنا �إىل ال�سماء الثانية فا�ستفتح جربيل‪ ،‬فقيل‪َ :‬من �أنت؟ فقال‪ :‬جربيل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪:‬‬
‫حممد‪ .‬قيل‪ :‬قد بعث �إليه؟ قال‪ :‬بعث �إليه‪ .‬ففتح لنا ف�إذا �أنا بابنى اخلالة عي�س بن مرمي ويحيى بن زكريا‪،‬‬
‫فرحبا بي ودعوا يل بخري‪.‬‬

‫ ثم ُعرج بنا �إىل ال�سماء الثالثة‪ ،‬فا�ستفتح جربيل‪ ،‬فقيل‪ :‬من �أنت؟ فقال‪ :‬جربيل‪ :‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪:‬‬
‫حممد‪ .‬قيل‪ :‬وقد بعث �إليه؟ قال‪ :‬قد بعث �إليه‪ .‬ففتح لنا‪ ،‬ف�إذا �أنا بيو�سف و�إذا هو قد �أعطي َ�ش ْط َر ا ُ‬
‫حل�سن‪،‬‬
‫فرحب بي و َد َعا يل بخري‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلسراء و املعراج‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ ثم ُعرج بنا �إىل ال�سماء الرابعة‪ :‬فا�ستفتح جربيل‪ ،‬قيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬جربيل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪:‬‬
‫حممد‪ .‬قيل‪ :‬وقد بعث �إليه؟ قال‪ :‬قد بعث اهلل �إليه‪ .‬ففتح لنا‪ ،‬ف�إذا �أنا ب�إدري�س‪ ،‬فرحب بي ودعا يل بخري‪.‬‬
‫ ثم عرج بنا �إىل ال�سماء اخلام�سة فا�ستفتح جربيل‪ ،‬قيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬جربيل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪:‬‬
‫حممد‪ .‬قيل‪ :‬وقد بعث �إليه؟ قال‪ :‬قد بعث �إليه‪ .‬ففتح لنا ف�إذا �أنا بهارون‪ ،‬فرحب بي ودعا يل بخري‪.‬‬
‫ ‬
‫ ثم عرج بنا �إىل ال�سماء ال�ساد�سة‪ ،‬فا�ستفتح جربيل‪ ،‬قيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬جربيل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك؟ قال‪:‬‬
‫حممد‪ .‬قيل‪ :‬وقد بعث �إليه؟ قال‪ :‬قد بعث �إليه‪ .‬ففتح لنا‪ ،‬ف�إذا �أنا مبو�سى فرحب بي ودعا يل بخري‪( .‬ويف‬
‫النبي ‪ s‬قال‪ :‬فلما جتاوزت مو�سى بكى‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما يبكيك؟ قال‪� :‬أبكي لأن غالم ًا‬ ‫رواية عند �أحمد‪� :‬أن َّ‬
‫يدخل اجلن َة من �أُم ِته �أك ُرث ممن يدخلها من �أمتي)‪.‬‬
‫ُبعث بعدي ُ‬

‫ ثم ُعرج بنا �إىل ال�سماء ال�سابعة‪ ،‬فا�ستفتح جربيل‪ ،‬فقيل‪ :‬من هذا؟ قال‪ :‬جربيل‪ .‬قيل‪ :‬ومن معك‪ .‬قال‪:‬‬
‫حممد‪ .‬قيل‪ :‬وقد بعث �إليه؟ قال‪ :‬قد بعث �إليه‪ .‬ففتح لنا ف�إذا �أنا ب�إبراهيم ُم�سند ًا ظه َره �إىل البيت املعمور‪،‬‬
‫و�إذا هو يدخ ُل ُه َّ‬
‫كل يوم �سبعون �ألف ملك ال يعودون �إليه‪.‬‬

‫ (يف البخاري‪ :‬ثم ُعرج بي حتى ظهرت مل�ستوى �أ�سمع فيه �صريف الأقالم)‪ ،‬ثم ُذ ِه َب بي �إىل �سدرة‬
‫دخلت اجلنة ف�إذا فيها حبائل‬‫املنتهى ف�إذا ورقها ك�آذان الفيل‪ ،‬و�إذا ثمرها كالقالل (يف البخاري‪ :‬ثم �أُ ُ‬
‫تغيت ف َما �أح ٌد ِمن خلق اهلل ي�ستطيع �أن‬
‫الل�ؤل�ؤ‪ ،‬و�إذا تربها امل�سك)‪ ،‬قال‪ :‬فلما غ�شيها من �أمر اهلل ما غ�شي رَّ‬
‫َينعتَها من ُح�سنها‪.‬‬

‫علي خم�سني �صالة يف كل يوم وليلة‪ ،‬ف َن ُ‬


‫زلت حتى انتهيت �إىل‬ ‫أوحى �إ َّ‬
‫يل َما �أوحى‪ ،‬ففر�ض ّ‬ ‫ قال ‪ :s‬ف� َ‬
‫مو�سى فقال‪ :‬ما فر�ض ربك على �أمتك؟ قلت‪ :‬خم�سني �صالة‪ .‬قال‪ :‬ارجع �إىل ربك فا�س�أله التخفيف ف�إن‬
‫�أمتك ال يطيقون ذلك‪ ،‬ف�إين قد بلوتُ بني �إ�سرائيل وخربتهم‪ ،‬قال‪ :‬فرجعت �إىل ربي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رب خفف‬
‫عن �أمتي فحط عني خم�سا‪ .‬فرجعت �إىل مو�سى فقلت‪َ :‬ح َّط عني خم�س ًا‪ .‬قال‪� :‬إن �أمتك ال يطيقون ذلك‬
‫فارجع �إىل ربك ف�س�أله التخفيف‪ .‬قال‪ :‬فلم �أزل �أرجع بني ربي وبني مو�سى حتى قال‪ :‬يا حممد �إنهن خم�س‬
‫�صلوات لكل يوم وليلة لكل �صالة ع�شر فتلك خم�سون �صالة ومن هم بح�سنة فلم يعملها كتبت له ح�سنة ف�إن‬
‫عملها كتبت له ع�شرا‪ ،‬ومن هم ب�سيئة فلم يعملها مل ُتكتَب �شيئ ًا‪ ،‬ف�إن عملها كتبت �سيئة واحدة‪ .‬فنزلت‬
‫رجعت �إىل ربي حتى‬
‫ُ‬ ‫حتى انتهيت �إىل مو�سى فاخربته‪ ،‬فقال‪ :‬ارجع �إىل ربك فا�س�أله التخفيف‪ .‬فقلت‪ :‬قد‬
‫ا�ستحييت منه‪.‬‬
‫ُ‬

‫ [ويف امل�سند ‪� ]28/5‬أن النبي ‪ s‬قال‪ :‬لمََّا َكانَ َل ْي َل ُة �أُ ْ�س ِر َي ِبي َو�أَ�صْ َب ْح ُت بمِ َ َّك َة َف ِظ ْع ُت ِب�أَ ْم ِري َو َع َر ْف ُت‬
‫الل �أَ ُبو َج ْه ٍل َف َجا َء َحتَّى َج َل َ�س ِ�إ َل ْي ِه‪َ ،‬ف َق َال‬ ‫ا�س ُم َك ِّذ ِب َّي‪َ ،‬ف َق َع َد ُم ْعت َِز ًال َح ِزين ًا‪َ ،‬ق َال ابن عبا�س‪َ :‬ف َم َّر َع ُد ُّو هَّ ِ‬ ‫�أَنَّ ال َّن َ‬
‫الل ‪َ :s‬ن َع ْم َق َال‪َ :‬ما هُ َو َق َال‪� :‬إِ َّن ُه �أُ ْ�س ِر َي ِبي ال َّل ْي َل َة َق َال‪� :‬إِ ىَل‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫َل ُه َكالمْ ُ ْ�س َت ْه ِز ِئ‪َ :‬ه ْل َكانَ ِمنْ َ�ش ْيءٍ ؟ َف َق َال َر ُ�س ُ‬
‫�أَ ْينَ ؟ َق َال‪� :‬إِ ىَل َب ْي ِت المْ َ ْق ِد ِ�س‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬ث َّم �أَ�صْ َب ْح َت َبينْ َ َظ ْه َرا َن ْي َنا؟ َق َال‪َ :‬ن َع ْم َق َال‪َ :‬ف َل ْم ُي ِر �أَ َّن ُه ُي َك ِّذ ُب ُه مخَ َ ا َف َة �أَنْ‬

‫‪122‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلسراء و املعراج‬

‫الل ‪:s‬‬ ‫ول هَّ ِ‬


‫َي ْج َح َد ُه الحْ َ ِديثَ �إِ َذا َد َعا َق ْو َم ُه �إِ َل ْي ِه َق َال‪� :‬أَ َر�أَ ْي َت �إِنْ َد َع ْوتُ َق ْو َم َك تحُ َ دِّ ُث ُه ْم َما َح َّد ْث َت ِني َف َق َال‪َ :‬ر ُ�س ُ‬
‫َن َع ْم َف َق َال‪َ :‬ه َّيا َم ْع َ�ش َر َب ِني َك ْع ِب ْب ِن ُل�ؤَ ٍّي َق َال َفا ْن َت َف َ�ض ْت �إِ َل ْي ِه المْ َ َجا ِل ُ�س َو َجا ُءوا َحتَّى َج َل ُ�سوا �إِ َل ْي ِه َما َق َال‪َ :‬حدِّ ثْ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الل ‪�ِ :s‬إنيِّ �أُ ْ�س ِر َي ِبي ال َّل ْي َل َة َقا ُلوا‪�ِ :‬إ ىَل �أَ ْينَ ُق ْل ُت‪�ِ :‬إ ىَل َب ْي ِت المْ َ ْق ِد ِ�س َقا ُلوا‪ُ :‬ث َّم‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫َق ْو َم َك بمِ َ ا َح َّد ْث َت ِني َف َق َال َر ُ�س ُ‬
‫�أَ�صْ َب ْح َت َبينْ َ َظ ْه َرا َن ْي َنا َق َال‪َ :‬ن َع ْم َق َال‪َ :‬ف ِمنْ َبينْ ِ ُم َ�ص ِّف ٍق َو ِمنْ َبينْ ِ َو ِ‬
‫ا�ض ٍع َي َد ُه َع َلى َر�أْ ِ�س ِه ُم َت َع ِّجب ًا ِل ْل َك ِذ ِب َز َع َم‪،‬‬
‫ول‬ ‫َقا ُلوا‪َ :‬و َه ْل ت َْ�ست َِطي ُع �أَنْ َت ْن َع َت َل َنا المْ َ ْ�س ِج َد وَفيِ ا ْل َق ْو ِم َمنْ َق ْد َ�سا َف َر ِ�إ ىَل َذ ِل َك ا ْل َب َل ِد َو َر�أَى المْ َ ْ�س ِج َد‪َ ،‬ف َق َال َر ُ�س ُ‬
‫الل ‪َ s‬ف َذ َه ْب ُت �أَ ْن َع ُت‪َ ،‬ف َما ِز ْل ُت �أَ ْن َع ُت َحتَّى ا ْل َت َب َ�س َع َل َّي َب ْع ُ�ض ال َّن ْع ِت َق َال َف ِجي َء ِبالمْ َ ْ�س ِج ِد َو�أَ َنا �أَ ْن ُظ ُر َحتَّى ُو ِ�ض َع‬ ‫هَّ ِ‬
‫اب‪.‬‬ ‫دُونَ َدا ِر ُع َق ْي ٍل َف َن َع ُّت ُه َو�أَ َنا �أَ ْن ُظ ُر �إِ َل ْي ِه َف َق َال ا ْل َق ْو ُم‪� :‬أَ َّما ال َّن ْع ُت َف َو هَّ ِ‬
‫الل َل َق ْد �أَ َ�ص َ‬

‫ فقال‪� :‬إن من �آية ما �أقول لكم �أين َ َق ْد َم َر ْرتُ َب ِع ٍري َل ُك ْم بمِ َ ْو ِ�ض ِع َك َذا َو َك َذا‪َ ،‬ق ْد َ�أ َ�ضلُّوا َب ِعري ًا َل ُه ْم بمِ َ َك ِان‬
‫َك َذا َو َك َذا‪َ ،‬و�أَ َنا ُم َ�س رِّ ُيهُ ْم َل ُك ْم َي ْن ِز ُلونَ ِب َك َذا َو َك َذا‪ُ ،‬ث َّم َي�أْ ُتو َن ُك ْم َي ْو َم َك َذا َو َك َذا َي ْق ُد ُم ُه ْم َج َم ٌل �أَ َد ٌم‪َ ،‬ع َل ْي ِه َم ْ�س ٌح‬
‫ا�س َي ْن ُظ ُرونَ ‪َ ،‬حتَّى َكانَ َق ِريب ًا ِمنْ ِن�صْ ِف ال َّن َها ِر‬ ‫�أَ ْ�س َو ُد َو ِغ َرا َزت َِان َ�س ْو َدا َو ِان‪َ ،‬ف َل َّما َكانَ َذ ِل َك ا ْل َي ْو ُم َ�أ�شْ َر َف ال َّن ُ‬
‫نا�س‪ :‬نحن ال ن�صدق حممد ًا مبا‬ ‫هلل ‪ ،s‬فقال ٌ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫َحتَّى �أَ ْق َب َل ِت ا ْل ِع ُري‪َ ،‬ي ْق ُد ُم ُه ْم َذ ِل َك الجْ َ َم ُل َكا َّل ِذي َو َ�ص َف َر ُ�س ُ‬
‫ف�ضرب اهلل رقا َبهم مع �أبي جهل[رواه الطرباين]‬ ‫َ‬ ‫يقول فارتدوا كفار ًا ‪،‬‬
‫ عباد َ‬
‫اهلل! �إن ق�ص َة الإ�سراء واملعراج؛ كما في�ص ًال بني الت�صدق والتكذيب‪ ،‬فقد كفر بها َمن كفر فقتل‬
‫كافر ًا‪ ،‬وارت ّد من ارت ّد فهلك‪ ،‬ويف املقابل ف�إن َمن �ص ّدق بها‪ ،‬و�آمن فقد جنا يف امل�ستدرك عن عائ�شة ‪g‬‬
‫قالت‪ :‬ملا �أُ�سري بالنبي ‪� s‬إىل امل�سجد الأق�صى �أ�صبح يتحدث النا�س بذلك فارت َّد نا�س ممن كان �آمنوا به‬
‫و�صدقوه و�سعي رجال من امل�شركني �إىل �أبي بكر ‪ d‬فقالوا‪ :‬هل لك �إىل �صاحبك يزعم �أنه �أ�سري به الليلة‬
‫�إىل بيت املقد�س؟ قال‪� :‬أو قال ذلك؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬لئن قال ذلك لقد �صدق‪ ،‬قالوا‪� :‬أو ت�صدقه �أنه ذهب‬
‫الليلة �إىل بيت املقد�س وجاء قبل �أن ي�صبح؟ فقال‪ :‬نعم �إين لأ�صدقه ما هو �أبعد من ذلك �أ�صدقه يف خرب‬
‫ال�سماء يف غدوة �أو روحة فلذلك ُ�س ِّمي �أبا بكر ال�صديق ‪.d‬‬

‫ال�صديق‪ ،‬و�إميان امل�ؤمنني بهذه الق�صة ثالث وقفات‪:‬‬ ‫‪ w‬ولنا مع ت�صديق ِّ‬
‫ال�سنة‪ ،‬و�إن �أبته العقول‬ ‫و�صحت به ُّ‬ ‫‪�1 .1‬إحداها‪� :‬أن حقيقة الإميان الت�صديق الكامل مبا جاء يف كتاب اهلل ّ‬
‫القا�صرة ابتدا ًء‪َ } ،‬و َما َكانَ لمِ ُ�ؤْ ِم ٍن َوال ُم�ؤْ ِم َن ٍة ِ�إ َذا َق َ�ضى هَّ ُ‬
‫الل َو َر ُ�سو ُل ُه �أَ ْمر ًا َ�أن َي ُكونَ َل ُه ُم الخْ ِ رَ َي ُة ِمنْ‬
‫�أَ ْم ِر ِه ْم{‪ ،‬وي�ستوي يف ذلك اخل ُرب والأمر‪ ،‬في�صدق العب ُد بالأخبار ال�سابقة والالحقة‪ ،‬وميتثل الأوامر‬
‫ويجتنب الزواجر‪.‬‬
‫‪2 .2‬الثاين‪� :‬أن ال�صديق قال‪( :‬لئن قال ذلك فلقد �صدق)‪ ،‬فال�صحاب ُة �آمنوا مبا جاء عن ر�سول اهلل ‪s‬‬
‫�صرف لها عن ظواهرها‪ ،‬بل ن�ؤمن مبا جاء عن ر�سول اهلل كما‬ ‫أويل ملعانيها‪� ،‬أو ٍ‬ ‫على ظاهرها من غري ت� ٍ‬
‫جاء عن ر�سول اهلل‪ ،‬على مراد ر�سول اهلل‪.‬‬
‫وعك�سه لي�س من كمال الت�صديق؛ ف َمن �أ ّول الن�صو�ص وح ّرفها‪ ،‬فقد قيل‪� :‬إن �إ�سراء النبي ‪s‬‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫�إمنا كان بروحه دون ج�سده‪ ،‬ويف هذا معار�ضة للإعجاز يف الق�صة‪ ،‬وخمالف ٌة لظاهر الن�ص‪.‬‬
‫‪3 .3‬والأمر الثالث‪� :‬أن ال�صحاب َة كانوا ي�ؤمنون بالوقائع‪ ،‬وال يعظمون الأيام التي وقعت فيها ‪..‬‬

‫‪123‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اإلعجاب بالنفس‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعجاب بالنفس‬

‫ ‬
‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫بنف�سه‪ ،‬وتعظي َمه لها‪ ،‬وهي املُهلكة؛ جاء عن‬
‫العجب ِ‬
‫َ‬ ‫آدم‪� :‬إدخا َل ُه‬
‫ ف�إنّ ِمن مداخل ال�شيطان على ابن � َ‬
‫بنف�سه‪ُ ،‬‬
‫و�ش ٌّح مطاع‪ ،‬وهوى متبع) [رواه البغوي وفيه‬ ‫إعجاب املرء ِ‬ ‫ابن عبا�س ب مرفوع ًا‪( :‬املهلكات ثالث � ُ‬
‫�ضعف]‪.‬‬

‫مذهب لر�أيه وعقله‪ ،‬قال معاوية ا‪�( :‬آفة العقل‬


‫ٌ‬ ‫إعجاب بالنف�س ُمه ِل ٌك ل�صاحبه‪ ،‬مف�س ٌد لعمله‪،‬‬
‫ �إن ال َ‬
‫بنف�سه يبع ُد ُه عن اهلل ويبغ�ضه خلل ِق ُه قال علي ا‪( :‬ال وح�شة �أ�شد من العجب)‪.‬‬
‫وعجب املرء ِ‬
‫ال ُعجب)‪ُ .‬‬

‫ عباد اهلل! ال ُعجب ما اجتمع فيه �أمران‪� :‬أن يرى ال�شخ�ص �أن ما عنده لي�س عند غريه‪ ،‬و�أن ين�سب هذا‬
‫الأمر لنف�سه‪ ،‬وال يع ُّده منح ًة من اهلل‪.‬‬

‫ُ�سئل عبد اهلل بن املبارك ما الكرب ؟ فقال‪�( :‬أن تزدري النا�س)‪ ،‬قيل‪ :‬وما ال ُعجب ؟ قال‪�( :‬أن ترى‬ ‫ ‬
‫عندك �شيئا لي�س عند غريك‪ ،‬وال �أعلم يف امل�صلني �شيئ ًا �ش َّر من ال ُعجب)‪.‬‬

‫الكرب و�سب ُبه‪ ،‬وقد قال ‪( :s‬ال يدخل اجلنة َمن يف قلبه مثقال ذرة من ِكرب)‬ ‫بالنف�س قرينُ ِ‬
‫ِ‬ ‫ �إذ ال ُعجب‬ ‫خطبة جديدة‬
‫وغ َل َب عليه‪َ ،‬م َلأ ِ‬
‫الك ُرب قل َبه‪،‬‬ ‫أول درجات ال َب َطر والتكبرّ ‪ ،‬ف�إنْ متادى به ُعجبه ِ‬
‫بنف�سه َ‬ ‫[رواه م�سلم]‪ ،‬وهو � ُ‬
‫فزادت ال ّذر ُة ذرات‪ ،‬وملأت ب َن ْك ِتها الأ�سو ِد القلب‪ ،‬ومن وقع يف الكرب غمط َ‬
‫النا�س ح ّقهم‬ ‫ْ‬ ‫وا�ستملك فك َره‪،‬‬
‫ومنعهم ما ا�ستح ّقوه‪.‬‬

‫باب‬ ‫ونعت العاتني‪ ،‬ف َما هلك َمن َه َل َك �إال وقد دخ َله ال ُع ُ‬
‫جب ِمن ٍ‬ ‫جب �صف ُة اجلبارين‪ُ ،‬‬
‫ عباد اهلل! �إنّ ال ُع َ‬
‫�أو �آخر‪.‬‬

‫جب قد يكون بالرَّ�أي فال َي�سمع حينذاك نا�صح ًا‪ ،‬فيكون �شبيه ًا بفرعون �إذ قال‪َ } :‬ما ُ�أ ِري ُك ْم ِ�إالَّ َما‬ ‫۩ ۩فال ُع ُ‬
‫�أَ َرى َو َما �أَ ْه ِدي ُك ْم ِ�إالَّ َ�س ِب َيل ال َّر َ�شا ِد{‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعجاب بالنفس‬

‫فرح به و َيف�سق؛ فيكون كقارون �إذا قال‪�ِ } :‬إنمَّ َ ا �أُو ِتي ُت ُه َع َلى ِع ْل ٍم ِع ِندي{‪،‬‬ ‫۩ ۩وقد يكون ُعجب ًا باملال ف َي ُ‬
‫وها ِ�إ َّنا بمِ َ ا �أُ ْر ِ�س ْلتُم ِب ِه‬
‫وكذا ُك ُّل مرت ٍَف ُمت َكبرّ ٍ قال تعاىل‪َ } :‬و َما �أَ ْر َ�س ْل َنا فيِ َق ْر َي ٍة ِّمن َّن ِذ ٍير ِ�إالَّ َق َال ُم رْ َت ُف َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫َكا ِف ُرونَ (*) َو َقا ُلوا َن ْحنُ �أَ ْك رَ ُث �أَ ْم َوا ًال َو�أَوْالد ًا َو َما َن ْحنُ بمِ ُ َع َّذ ِبنيَ{‪.‬‬

‫ممن هو دونه فيزدريه؛ فيكون‬ ‫واجلاه وال�شرف‪ ،‬فال يقبل م ّدعيه ّ‬ ‫واحل َ�سب َ‬
‫جب بال َّن َ�س ِب َ‬
‫۩ ۩ وقد يكون ال ُع ُ‬
‫كالوليد بن املغرية و�صناديد قري�ش �إذ قالوا‪َ } :‬لوْال ُن ِّز َل َه َذا ا ْل ُقرْ�آنُ َع َلى َر ُج ٍل ِّمنَ ا ْل َق ْر َي َتينْ ِ َع ِظ ٍيم{‪.‬‬

‫جب بالق ّوة والغلبة والتمكني؛ فيكون كقوم عاد‪ ،‬فقال اهلل عنهم‪َ } :‬ف�أَ َّما َعا ٌد َف ْ‬
‫ا�س َتكْبرَ ُ وا‬ ‫۩ ۩ وقد يكون ال ُع ُ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬
‫فيِ الأَ ْر ِ�ض ِب َغ رْ ِي الحْ َ ِّق َو َقا ُلوا َمنْ �أَ َ�ش ُّد ِم َّنا ُق َّو ًة �أَ َو مَْل َي َر ْوا �أَنَّ الل ا َّل ِذي َخ َل َق ُه ْم هُ َو �أَ َ�ش ُّد ِم ْن ُه ْم ُق َّو ًة َو َكا ُنوا‬
‫ِب�آ َيا ِت َنا َي ْج َحدُونَ {‪.‬‬

‫ب�سبب طاعة فعلها العبد‪ ،‬فيكون هذا مدخ ًال لل�شيطان على ابن �آدم‬ ‫۩ ۩ بل قد يكون ال ُعجب واال�ستكبا ُر ٍ‬
‫هلل واجتها ِده يف العبادة مي�س ٌم ي�سم‬ ‫بنف�سه يف طاعتها ِ‬ ‫النبي ‪� s‬أنّ �إعجاب املرء ِ‬ ‫فيهلكه‪ ،‬وقد ذكر ُّ‬
‫حبط عم َله‪ ،‬فعن �أن�س بن مالك‪d‬قال‪ :‬كان يف عهد ر�سول اهلل ‪s‬رج ٌل‬ ‫النا�س ل ُي َ‬
‫بع�ض ِ‬ ‫به ال�شيطان َ‬
‫با�سمه‪ ،‬فلم يعر ْفه وو�صفناه ب�صف ِته فلم يعرفه‪ ،‬فبينما‬
‫ُيعجبنا تعب ُّده واجتهاده فذكرناه لر�سول اهلل ‪ِ s‬‬
‫وجهه َ�س ْف َع ٌة ِمن‬
‫رجل على ِ‬ ‫الرجل‪ ،‬فقلنا‪ :‬هو هذا !‪ ،‬فقال‪�( :‬إنكم لتخربون عن ٍ‬ ‫ُ‬ ‫نحن كذلك �إذا َط َل َع‬
‫قلت‬
‫اهلل‪ ،‬هل َ‬ ‫الرجل حتى وقف عليهم‪ ،‬فلم ُي�س ِّلم فقال له ر�سول اهلل ‪( :s‬ن�شد ُت َك َ‬‫ُ‬ ‫ال�شيطان)‪ ،‬ف�أقبل‬
‫ري مني)‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم نعم‪[ .‬رواه ‪.]..‬‬‫أف�ضل مني وخ ٌ‬ ‫وقفت على املجل�س َما يف القوم �أح ٌد � ُ‬ ‫حني َ‬

‫لرجل من �إخوانه‪�( :‬إياك وال ُعجب ف�إنه � ُ‬


‫أخوف َما‬ ‫ وهذا ال ُعجب ِمن �أخطر �أنواعه؛ وكتب بع�ض احلكماء ٍ‬
‫واملعج ُب كاملم ِّ‬
‫نت على اهلل مبا هو � ىَأول باملنة فيه)‪.‬‬ ‫�أخاف عليك ‪َ ،‬‬

‫بنف�سه بر�أيه وماله وح�سبه و�شرفه‪ ،‬و�أ ّداه �إعجا ُبه‬


‫عجب ِ‬ ‫حذر النبي‪ِ s‬من جمال�سة َمن �أُ ِ‬
‫ عباد اهلل! لقد َّ‬
‫أيت ُ�ش ّح ًا ُمطاع ًا وهوى‬
‫بها �إىل غمط النا�س حقهم‪ ،‬والرتفع عليهم مبا ال ي�ستحقّ ترفع ًا‪ ،‬قال ‪�( :s‬إذا ر� َ‬
‫متبع ًا‪ ،‬ودُنيا ُم�ؤ َثرة‪ ،‬و� َ‬
‫إعجاب ك َّل ذي ر�أي بر�أيه فعليك نف�سك ودع �أمر العوام )[رواه �أبو داود والرتمذي]‪.‬‬

‫ويف املقابل دلنا النبي‪�s‬إىل �أمور تنفي هذا الفعل عن النف�س‪ ،‬وتطرده عنها‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫الك رْب والعجب دائم ًا‪ ،‬ومن ذلك دعا�ؤه‪:s‬‬ ‫۩ ۩ اال�ستعاذة باهلل منه‪ ،‬وقد كان النبي‪s‬ي�ستعيذ باهلل من ِ‬
‫الك رْب)‪.‬‬
‫ونفخه‪ ،‬ونفثه‪ .‬قال‪ :‬فنفخه ِ‬ ‫مزه‪ِ ،‬‬ ‫(اللهم �إين �أعوذ بك من ال�شيطان ِمن َه ِ‬
‫وذكر م�ساوئهم‪ ،‬ف�إنّ ذلك من عالمات ال ُع ْجب‪ ،‬و�أ�سبا ِبه‬ ‫۩ ۩ ومن ذلك‪ :‬العناية بعدم ا�ستنقا�ص النا�س‪ِ ،‬‬
‫اجلالبة له‪ ،‬وقد جاء يف احلديث‪�( :‬إذا قال الرجل‪ :‬هلك النا�س‪ ،‬فهو �أهل ُكهم)؛ قال اخلطابي‪( :‬معناه‬
‫ال يزال الرجل ي�سب النا�س ويذكر م�ساويهم ‪ ..‬ف�أداه ذلك �إىل ال ُع ْجب بنف�سه‪ ،‬ور�ؤيته �أنَّ له ف�ض ًال عليهم‬
‫و�أنه خري منهم فيهلك)‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعجاب بالنفس‬

‫۩ ۩ ومن ذلك‪� :‬أنّ ال�سلف كانوا ُيحذرون من �أ�سباب ال ُعجب‪ ،‬ولو مل تكن مبا�شر ًة‪ ،‬فعن �سليم بن حنظلة قال‪:‬‬
‫بينا نحن حول �أُ ِّبي بن كعب‪d‬من�شي خلفه �إذ ر�آه عمر‪d‬فعاله بال ُّدرة‪ ،‬فقال‪� :‬أنظر يا �أمري امل�ؤمنني ما‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ت�صنع؟ فقال‪�( :‬إنّ هذا ذل ٌة للتابع وفتن ٌة للمتبوع)‪.‬‬

‫ملب�س وهيئ ٍة‪ ،‬بل د�أبه التوا�ضع‪،‬‬‫ فامل�ؤمن يبتعد عن ُكل ما قد ي�ؤدي �إىل �إيقاع ال ُعجب يف نف�سه من ٍ‬
‫أحد‪� ،‬أو‬ ‫النا�س ُك ّلهم مهما اختلفت �أحوالهم ومعي�شتُهم‪ ،‬ال ي� ُ‬
‫أنف من ُم�ؤا َك َلة � ٍ‬ ‫و�سجيته التذلل هلل‪ ،‬يخالط َ‬
‫جمال�س ِته‪� ،‬أو حمادث ِته وممازح ِته‪ ،‬وال َي�ستنق�ص �أحد ًا ب� ٍ‬
‫أمر ف�ض ّله اهلل عليه‪ ،‬ف َلله قاد ٌر على �أن ينزعها منك‬
‫الكرب وال ُعجب‪ ،‬ويعلم �أنها مدخ ٌل‬ ‫نف�سه مر ًة بعد �أخرى‪ ،‬وي�ستعيذ باهلل من �ش ّر ِ‬
‫ويجعلها يف الآخر‪ ،‬ويحا�سب َ‬
‫عظي ٌم من مداخل ال�شيطان على القلوب ومي�س ٌم ي�سم به الوجوه‪ ،‬ف َمن وقع فيه نفرت منه القلوب‪ ،‬وا�ستحقّ‬
‫غ�ضب اهلل ج ّل وعال‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالرسل‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اإليمان بالرسل‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫واال�ست�سالم واالنقياد �إليه‬


‫ِ‬ ‫الت�سليم‬
‫ِ‬ ‫كمال‬
‫�صدق ِ‬
‫ولوازم ِ‬
‫ِ‬ ‫�صح ِة الإميان باهلل َّ‬
‫جل وعال‪،‬‬ ‫�شرائط ّ‬
‫ِ‬ ‫ ف�إن ِمن‬
‫�سبحانه‪:‬‬

‫إميان ب ُر�س ِله عليهم ال�سالم‪ ،‬وال يت ُّم �إ�سال ٌم‬ ‫هلل بال � ٍ‬
‫ ‪ w‬الإميانُ ب ُر�س ِله و�أنبيائه‪،‬فال ي�ص ُّح �إميا ٌن با ِ‬
‫وتعزيرهم } ِل ُت�ؤْ ِم ُنوا ِب هَّ ِ‬
‫الل َو َر ُ�سو ِل ِه َو ُت َع ِّز ُرو ُه‬ ‫ِ‬ ‫ُون اعتقا ِد نبوتهم جميع ًا‪ ،‬وتوق ِري مكان ِتهم‪ ،‬ون�صر ِتهم‬ ‫ِمن د ِ‬
‫َو ُت َو ِّق ُرو ُه{‪.‬‬

‫ول بمِ َ ا �أُ ِنز َل �إِ َل ْي ِه ِمن َّر ِّب ِه َوالمْ ُ�ؤْ ِم ُنونَ ُك ٌّل � َآمنَ ِب هَّ ِ‬
‫الل َو َملآ ِئ َك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َو ُر ُ�س ِل ِه‬ ‫ يقول اهلل جل وعال‪َ �} :‬آمنَ ال َّر ُ�س ُ‬
‫َال ُن َف ِّر ُق َبينْ َ �أَ َح ٍد ِّمن ُّر ُ�س ِل ِه َو َقا ُلو ْا َ�س ِم ْع َنا َو�أَ َط ْع َنا ُغ ْف َرا َن َك َر َّب َنا َو�إِ َل ْي َك المْ َ ِ�ص ُري{‪َ } ،‬وا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ِب هَّ ِ‬
‫الل َو ُر ُ�س ِل ِه‬
‫ال�صدِّ ي ُقونَ {‪ِ .‬ومن َج َح َد �أو َك َف َر بال ُّر ُ�س ِل َفال �إميانَ له؛ } َو َمن َي ْك ُف ْر ِب هَّ ِ‬
‫الل َو َم َال ِئ َك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َو ُر ُ�س ِل ِه‬ ‫�أُ ْو َل ِئ َك هُ ُم ِّ‬
‫َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر َف َق ْد َ�ض َّل َ�ض َال ًال َبعِيدً ا{‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫أر�شدهم �إىل �صالحهم يف معا�شهم‬ ‫ ‪� w‬إن الإمي��ان بهم �إمي��ا ٌن َمبن ع َّرف اخللقَ بربهم ودينهم‪ ،‬و� َ‬
‫حل َّجة والربهان؛ قال ج َّل وعال‪ُّ } :‬ر ُ�س ًال‬ ‫ومعادهم‪ ،‬وكان وا�سط ًة يف تبليغ كالم ربهم‪ ،‬ف�أقام اهلل به ا ُ‬
‫الل َع ِزيزً ا َح ِكي ًما{‪ ،‬ولكي اليكون ل ٍ‬
‫أحد‬ ‫الل ُح َّج ٌة َب ْع َد ال ُّر ُ�س ِل َو َكانَ هَّ ُ‬
‫ا�س َع َلى هَّ ِ‬ ‫ُّم َب ِّ�ش ِرينَ َو ُم ِنذرِينَ ِل َئ َّال َي ُكونَ ِلل َّن ِ‬
‫من النا�س عذ ٌر بعدم الإميان } َو َل ْو �أَ َّنا �أَ ْه َل ْك َناهُ م ِب َع َذ ٍاب ِّمن َق ْب ِل ِه َل َقا ُلوا َر َّب َنا َلوْال �أَ ْر َ�س ْل َت �إِ َل ْي َنا َر ُ�سو ًال َف َن َّت ِب َع‬
‫أحب �إليه العذر من اهلل ِمن‬ ‫أحد � ُّ‬ ‫�آ َيا ِت َك ِمن َق ْب ِل �أَن َّن ِذ َّل َو َن ْخزَ ى{‪ ،‬ويف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال � َ‬
‫�أجل ذلك بعث النبيني مب�شرين ومنذرين)‪.‬‬

‫بواحد منهم كف ٌر باجلميع‪ ،‬فال �إميان َملن َج َح َد‬ ‫�ستلزم الإميانَ بجميعهم‪ ،‬والكف ُر ٍ‬ ‫أحدهم َي ُ‬ ‫ ‪ w‬الإميان ب� ِ‬
‫ين بدي ِنه َما مل‬ ‫يهودي �أو ن�صرا ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫إ�سماعيل �أو �إ�سحاق‪ ،‬كما ال َينف ُع �إميانُ‬ ‫َ‬ ‫إبراهيم �أو �‬
‫َ‬ ‫ي�سى �أو �‬ ‫نب َّو َة ُم َ‬
‫و�سى �أو ِع َ‬
‫الل َو ُر ُ�س ِل ِه َو ُي ِريدُونَ �أَن ُي َف ِّر ُقو ْا َبينْ َ هَّ ِ‬
‫الل َو ُر ُ�س ِل ِه‬ ‫مبحمد ‪s‬؛ يقول ُ‬
‫اهلل �سبحانه‪�} :‬إِنَّ ا َّل ِذينَ َي ْك ُف ُرونَ ِب هَّ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُي�ؤمن‬

‫‪127‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالرسل‬

‫َوي ُقو ُلونَ ُن�ؤْ ِمنُ ِب َب ْع ٍ�ض َو َن ْك ُف ُر ِب َب ْع ٍ�ض َو ُي ِريدُونَ �أَن َيت َِّخ ُذو ْا َبينْ َ َذ ِل َك َ�س ِبي ًال{ �أُ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم ا ْل َكا ِف ُرونَ َح ًّقا َو�أَ ْعت َْد َنا‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ِل ْل َكا ِف ِرينَ َع َذا ًبا ُّم ِهي ًنا{ َوا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا ِب هَّ ِ‬
‫الل َو ُر ُ�س ِل ِه َو مَْل ُي َف ِّر ُقو ْا َبينْ َ �أَ َح ٍد ِّم ْن ُه ْم �أُ ْو َلـ ِئ َك َ�س ْو َف ُي�ؤْ ِت ِيه ْم �أُ ُجو َرهُ ْم‬
‫يهودي وال ن�صراين ثم ال ُي� ِؤمنُ بي �إال دخل النار)‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫الل َغ ُفو ًرا َّر ِحي ًما{‪ .‬ويقول ‪( :s‬ال َي�سم ُع بي‬ ‫َو َكانَ هَّ ُ‬

‫اهلل بخ�صي�صة الر�سالة ونور النبوة قال تعاىل‪ُ } :‬ق ْل ُ�س ْب َحانَ َر ِّبي َه ْل‬ ‫ ‪ w‬ن�ؤمن ب�أنهم َب�ش ٌر خ�صَّ هم ُ‬
‫وحي ِ�إ َل ْي ِه ْم َفا�سْ�أَ ُلو ْا �أَ ْه َل ِّ‬
‫الذ ْك ِر ِ�إن‬ ‫نت �إَالَّ َب َ�ش ًرا َّر ُ�سو ًال{‪ ،‬وقال جل وعال‪َ } :‬و َما �أَ ْر َ�س ْل َنا َق ْب َل َك ِ�إالَّ ِر َجا ًال ُّن ِ‬ ‫ُك ُ‬
‫الط َع َام َو َما َكا ُنوا َخا ِل ِدينَ { فهم رجا ٌل لي�سوا مالئك ًة وال‬ ‫ُكنت ُْم َال َت ْع َل ُمونَ { َو َما َج َع ْل َناهُ ْم َج َ�سدً ا الَّ َي�أْ ُك ُلونَ َّ‬
‫خملوقات نورانية و�إمنا رجال غلبت عليهم �آدميتهم‪.‬‬

‫ و�أن ب�شريتهم تلك �صف ٌة الزمة لهم‪ ،‬فال يعلمون الغيب‪ ،‬وال يقدرون على �شيء من الآيات �إال ب�إذن اهلل‬
‫ال ا ْل َغ ْي ِب َفال ُي ْظ ِه ُر َع َلى َغ ْي ِب ِه �أَ َحدً ا{ ِ�إالَّ َم ِن ا ْرت ََ�ضى ِمن َّر ُ�س ٍول َف ِ�إ َّن ُه‬ ‫}ع مِ ُ‬ ‫وتف�ضله؛ يقول اهلل ج ّل وعال‪َ :‬‬
‫اط بمِ َ ا َل َد ْي ِه ْم َو�أَ ْح َ�صى ُك َّل َ�ش ْيءٍ‬ ‫االت َر ِّب ِه ْم َو�أَ َح َ‬
‫َي ْ�س ُل ُك ِمن َبينْ ِ َي َد ْي ِه َو ِمنْ َخ ْل ِف ِه َر َ�صدً ا{ ِل َي ْع َل َم �أَن َق ْد َ�أ ْب َل ُغوا ِر َ�س ِ‬
‫نت �أَ ْع َل ُم ا ْل َغ ْي َب َال ْ�س َت ْك رَْثتُ‬ ‫ملحمد ‪ُ } :s‬قل الَّ �أَ ْم ِل ُك ِل َن ْف ِ�سي َن ْف ًعا َو َال َ�ض ًّرا �إِالَّ َما َ�شاء هَّ ُ‬
‫الل َو َل ْو ُك ُ‬ ‫َع َددًا{‪ .‬وقال ٍ‬
‫ري ِّل َق ْو ٍم ُي�ؤْ ِم ُنونَ {‪.‬‬ ‫َ‬
‫ال�سو ُء �إِنْ �أ َن ْا �إِالَّ َن ِذي ٌر َو َب ِ�ش ٌ‬
‫ِمنَ الخْ َ رْ ِي َو َما َم َّ�س ِن َي ُّ‬

‫و�صفو ُتهم‪ ،‬اختارهم اهلل للنبوة وف�ض َّلهم‬ ‫الب�شر ف ُهم ِخري ُة النا�س َ‬ ‫ ‪ w‬ون�ؤمن ب�أنهم ُم�صطفون ِمن َ‬
‫أف�ضل العمل؛ كما قال �سبحانه‪} :‬‬ ‫بالر�سالة وم َّيزهم بالوحي‪ ،‬ليقوموا ب�أداء الر�سالة و�إبالغ ال ّدين وذلك � ُ‬
‫}الل �أَ ْع َل ُم َح ْيثُ َي ْج َع ُل ِر َ�سا َل َتهُ{‪ .‬وقال �سبحانه‪:‬‬ ‫َو َل َق ِد اخْترَْ َناهُ ْم َع َلى ِع ْلم َع َلى ا ْل َعالمَ ِنيَ{‪ ،‬ويقول ج َّل وعال‪ :‬هَّ ُ‬
‫ٍ‬
‫هَّ‬
‫الل َو ُر ُ�س ِل ِه َو ِ�إن ُت�ؤْ ِم ُنو ْا‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫} َو َما َكانَ هَّ ُ‬
‫الل ِل ُي ْط ِل َع ُك ْم َع َلى ا ْل َغ ْي ِب َو َل ِكنَّ الل َي ْج َت ِبي ِمن ُّر ُ�س ِل ِه َمن َي َ�شاء َف� ِآم ُنو ْا ِب ِ‬
‫َو َت َّت ُقو ْا َف َل ُك ْم �أَ ْج ٌر َع ِظي ٌم{‪.‬‬

‫ ‪ w‬ن�ؤمن ب�أن دينهم واح ٌد جاءوا جميع ًا لتقرير الإميان باهلل و�إفراده بالعبادة } َو َما �أَ ْر َ�س ْل َنا ِمن َق ْب ِل َك‬
‫ُون{‪ ،‬ويقول ‪( :s‬نحن معا�شر الأنبياء �أوال ُد عالت دي ُننا‬ ‫وحي �إِ َل ْي ِه �أَ َّن ُه ال �إِ َل َه �إِالَّ �أَ َنا َف ْاع ُبد ِ‬ ‫ِمن َّر ُ�س ٍول �إِالَّ ُن ِ‬
‫ي�سى ا ْبنَ‬‫الل َيا ِع َ‬ ‫امل�شاهد والقبور؛ } َو�إِ ْذ َق َال هَّ ُ‬ ‫بال�شرك‪ ،‬ال بتثليث‪ ،‬وال بتعظيم َ‬ ‫قل �أح ٌد منهم ِّ‬ ‫واح ٌد) ف َل ْم َي ْ‬
‫ول َما َل ْي َ�س ليِ ِب َحقٍّ‬ ‫الل َق َال ُ�س ْب َحا َن َك َما َي ُكونُ ليِ �أَنْ �أَ ُق َ‬ ‫ُون هَّ ِ‬
‫ا�س ات َِّخ ُذونيِ َو�أُ ِّم َي �إِ َلـهَينْ ِ ِمن د ِ‬ ‫نت ُق َلت ِلل َّن ِ‬‫َمرْيمَ َ �أَ�أَ َ‬
‫وب{ َما ُق ْل ُت َل ُه ْم ِ�إالَّ َما‬ ‫نت ُق ْل ُت ُه َف َق ْد َع ِل ْم َت ُه َت ْع َل ُم َما فيِ َن ْف ِ�سي َو َال �أَ ْع َل ُم َما فيِ َن ْف ِ�س َك ِ�إ َّن َك �أَ َ‬
‫نت َع َّال ُم ا ْل ُغ ُي ِ‬ ‫ِ�إن ُك ُ‬
‫الل َر ِّبي َو َر َّب ُك ْم{‪ ،‬وقال ‪( :s‬لعنة اهلل على اليهود والن�صارى اتخذوا قبور �أنبيائهم‬ ‫�أَ َم ْر َت ِني ِب ِه �أَ ِن ْاع ُبدُو ْا هَّ َ‬
‫م�ساجد)‪.‬‬

‫ ‪ w‬ن�ؤمن بع�صمتهم يف تبليغ الر�سالة فلم َيز ْد � َأح ٌد منهم فيها َ�شيئ ًا ومل ينق�صْ ه‪ ،‬بل كلُّهم �أ َّدى َما‬
‫�أُ ِم َر به فب َّل ُغوا الر�سالة و�أدوا الأمانة ون�صحوا الأمة وجاهدوا يف اهلل حقَّ جهاده �صلوات اهلل و�سالمه عليهم‬
‫ول َب ِّل ْغ َما �أُ ِنز َل ِ�إ َل ْي َك ِمن َّر ِّب َك َو ِ�إن مَّْل َت ْف َع ْل َف َما َب َّل ْغ َت ِر َ�سا َل َت ُه َو هَّ ُ‬
‫الل َي ْع ِ�ص ُم َك ِمنَ‬ ‫جميع ًا؛ } َيا �أَ ُّي َها ال َّر ُ�س ُ‬
‫ا�س{‪.‬‬ ‫ال َّن ِ‬
‫‪128‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالرسل‬

‫عدد �أر�س َلهم اهلل لهداية النا�س يف م�شارق الأر�ض ومغاربها كما قال �سبحانه‪} :‬‬ ‫ ‪ w‬ن�ؤمن ب�أنهم ذوو ٍ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ح�سنه بع�ض‬ ‫َو ِ�إن ِّمنْ �أُ َّم ٍة ِ�إالَّ خال ِفي َها َن ِذي ٌر{‪ ،‬روى الإمام �أحم ُد وابن حبان من حديث �أبي ذر ‪d‬ب�إ�سناد َّ‬
‫�أهل العلم �أنه قال‪ :‬يا ر�سول اهلل كم وفى ِعد ُة الأنبياء ؟ فقال ‪( :s‬مائة �ألف و�أربع ٌة وع�شرون �ألف ًا‪ ،‬الر�سل‬
‫من ذلك ثالثمائة وخم�سة ع�شر جم ًا غفري ًا)‪.‬‬

‫اهلل ِمن الأنبياء يف القر�آن خم�س ًة وع�شرين‪ ،‬ومل َيذ ُكر غ َريهم حلكمة �أرادها اهلل } َو َل َق ْد‬ ‫ وقد �س َّمى ُ‬
‫�أَ ْر َ�س ْل َنا ُر ُ�س ًال ِّمن َق ْب ِل َك ِم ْن ُهم َّمن َق َ�ص�صْ َنا َع َل ْي َك َو ِم ْن ُهم َّمن مَّْل َن ْق ُ�ص ْ�ص َع َل ْي َك َو َما َكانَ ِل َر ُ�س ٍول َ�أنْ َي�أْ ِت َي ِب�آ َي ٍة‬
‫الل َف�إِ َذا َجاء �أَ ْم ُر هَّ ِ‬
‫الل ُق ِ�ض َي ِبالحْ َ ِّق َو َخ ِ�س َر هُ َنا ِل َك المْ ُ ْب ِط ُلونَ {‪.‬‬ ‫�إِالَّ ِب�إِ ْذ ِن هَّ ِ‬

‫أحب �إىل اهلل و�أدنى منزلة‪ِ } :‬ت ْل َك ال ُّر ُ�س ُل َف�ضَّ ْل َنا‬
‫بع�ض و� ُّ‬
‫أف�ضل ِمن ٍ‬ ‫بع�ضهم � ُ‬ ‫ و�أن هوالء الأنبيا ِء وال ُّر�سل ُ‬
‫ُ‬ ‫َب ْع َ�ض ُه ْم َع َلى َب ْع ٍ�ض ِّم ْن ُهم َّمن َك َّل َم هَّ‬
‫الل َو َر َف َع َب ْع َ�ض ُه ْم َد َر َج ٍات{‪.‬‬

‫�صاحب املقام‬
‫ُ‬ ‫ و�أف�ض ُلهم عند اهلل‪ ،‬و�أعالهم منزل ًة‪ ،‬و�أكرثهم تبيع ًا يوم القيامة حمم ٌد ‪ ،s‬فهو‬
‫املحمود‪ ،‬واللوا ِء املمدود‪ ،‬واملنزل ِة العالية‪� .‬أ ّو ُل ِمن يدخل اجلنة ويقر ُع بابها‪ ،‬و� ُ‬
‫أول َمن ُيب َعثُ بعد النفخ يف‬
‫ال�شفاعة العظمى يوم القيامة للخليفة جميع ًا‪ ،‬قال ‪�( :s‬أنا �سيد ولد �آدم يوم القيامة وال فخر)‪.‬‬ ‫ال�صور‪ ،‬له ُّ‬
‫ُّ‬

‫بعده وال �شر ٌع وال ت�شري ٌع غ َريه‬ ‫مبحمد ‪ ،s‬فهو خاتمَ الأنبياء واملر�سلني ‪ ،‬فال َّ‬
‫نبي َ‬ ‫ٍ‬ ‫‪ w‬ون�ؤمن بختم الر�سالة‬
‫وختمت ال ِّر�سال ُة مببعثه‪ ،‬و ُك ِّمل الأنبياء به �صلوات اهلل‬
‫ال�س َماء مبوته‪ُ ،‬‬
‫ال�ساعة‪ ،‬انقطع الوحي من َّ‬
‫�إىل قيام َّ‬
‫و�سالمه عليه‪.‬‬
‫ن�ص ُر ُه َو ُر ُ�س َل ُه ِبا ْل َغ ْي ِب ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َق ِو ٌّي َع ِزيزٌ{‪،‬‬ ‫أعظم الن�صرة } َو ِل َي ْع َل َم هَّ ُ‬
‫الل َمن َي ُ‬ ‫ن�صر ُة �أنبياء اهلل � ُ‬ ‫ ‬
‫ح�سان‪:‬‬
‫والذب عن عر�ضهم؛ كما قال َّ‬ ‫ب�شرعهم ودينهم‪ِّ ،‬‬ ‫هلل تكون بالإميان بهم‪ ،‬والت�صديق ِ‬ ‫ون�صرت ُر ُ�س ِل ا ِ‬

‫(ف�إنَّ �أَبي َو َوا ِل َد ُه َو ِع ْر ِ�ضي ‪ِ ...‬ل ِع ْر ِ�ض حم َّم ٍد ِم ْن ُك ْم ِو َقا ُء)‬

‫‪129‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالقضاء و القدر‬
‫اإليمان بالقضاء والقدر‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫أعجزَ املتكلمني الأواخر‪َ ،‬ما قال فيه �أح ٌد مقال ًة من ِ‬


‫نف�سه �إال و�أخط�أ‪،‬‬ ‫حي الفال�سف َة الأوائل‪ ،‬و� َ‬‫ ف�س�ؤا ٌل رَّ‬
‫احلق و�ض َّل الطريق‪..‬‬ ‫ب�شري يف ت�صو ِره ِّ‬
‫وحل م�شك ِل ِه �إال وجانب ِّ‬ ‫وال اجتهد عق ٌل ٌّ‬
‫لفظه‪ ،‬عظي ٌم جوا ُبهُ‪ ،‬كان وما زال م�ض ّلة �أفهام‪ ،‬ومز ّلة �أقدام �إال َمن وف ّقه اهلل‬‫ري يف ِ‬ ‫ �إنه �س�ؤا ٌل ي�س ٌ‬
‫ّ‬
‫وا�ستدل عليه بكالم اهلل ع ّز وجل ووحيه‪.‬‬

‫�سي‪ ،‬هل هو جمبرَ ٌ على الفعل‬ ‫خمي �أم ُم رّ‬ ‫ ذلكم ال�س� ُؤال هو ال�س� ُؤال عن الق�ضاء وال َق َدر‪ ،‬وهل الإن�سان رّ ٌ‬
‫رام املرء �أن يتتبع ما قيل يف ذلك‬ ‫حمية‪ .‬ولو َ‬ ‫�أم قاد ٌر عليه ؟؟ وما يتفر ُع عن هذا ال�س�ؤال من �أ�سئلة كثرية رِّ‬
‫وجدل وقيل وقال‪ ،‬لطال املُقام وت�شتت البال؛ ولكن �إمنا اخل ُري ُكلُّ ُه يف كتاب اهلل ع ّز وجل‪َ }:‬وات ُْل‬ ‫خو�ض ٍ‬ ‫من ٍ‬
‫َاب َر ِّب َك ال ُم َبدِّ َل ِل َك ِل َما ِت ِه َو َلن تجَ ِ َد ِمن دُو ِن ِه ُم ْلت ََحدً ا{‬ ‫َما �أُ ِ‬
‫وح َي ِ�إ َل ْي َك ِمن ِكت ِ‬

‫ قال �أبو املظفر ال�سمعاين‪�( :‬سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب وال�سنة‪ ،‬دون حم�ض القيا�س‬
‫والعقل‪ ،‬ف َمن َع َدل عن التوقيف فيه �ض ّل وتاه يف بحار احلرية‪ ،‬ومل يبلغ �شفاء العني‪ ،‬وال ما يطمئن به القلب؛‬
‫اخت�ص اهلل العليم اخلبري به‪ ،‬و�ضرب دونه الأ�ستار‪ ،‬وحجب عن عقول‬ ‫َّ‬ ‫لأن القدر �س ُّر من �أ�سرار اهلل تعاىل‬ ‫خطبة جديدة‬
‫اخللق ومعارفهم ملا علمه من احلكمة‪ ،‬فلم ُيع ِلمه نبيا مر�سال‪ ،‬وال م َلك ًا مقربا)‪.‬‬

‫ لقد �أمرنا النبي ‪ s‬بالإم�ساك عن اخلو�ض يف القدر‪ ،‬فروى الطرباين و�أبو نعيم �أن النبي ‪ s‬قال‪:‬‬
‫(�إذا ُذكر القدر ف�أم�سكوا)‪.‬‬

‫ �إن اخلو�ض يف القدر‪ ،‬والتنق َري عنه‪ ،‬والبحث فيه مما ال يح�سن بامل�سلم‪ ،‬فهو �س ُّر من �س ِّر اهلل‪�ُ ،‬سئل ابن‬
‫عمر ‪ d‬عن القدر فقال‪�( :‬شي ٌء �أراد اهلل �أن ال يطلعكم عليه‪ ،‬فال تريدوا من اهلل ما �أبى عليكم) [ال�شريعة‬
‫للآجري ‪� .]532‬إن البحث يف م�سائل القدر عالم ُة �سوءٍ روى البخاري (يف التاريخ الكبري ‪� )300/8‬أن النبي‬
‫‪ s‬قال‪( :‬ما �أ�شركت �أُمة ُّ‬
‫قط �إال كان بدو �إ�شراكها التكذيب بالقدر)‪.‬‬
‫اهلل بالإميان بالقدر خريه و�ش ّره‪ ،‬ومل ن�ؤمر بالبحث يف حقيقته‪ .‬فالإميان بالق�ضاء‬ ‫ عباد اهلل ! لقد �أَمرنا ُ‬

‫‪130‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالقضاء و القدر‬

‫النبي ‪( :s‬الإمي��ان �أن ت�ؤمن باهلل‬


‫والقدر ركنٌ من �أركان الدين والإمي��ان‪ ،‬ال ي�ص ُّح �إميان بدونه‪ ،‬يقول ُّ‬
‫ومالئكته وكتبه ور�سله واليوم الآخر وبالقدر خ ِريه و�ش ِّره)‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫امل�سلم �أن ما ُقدِّ ر كان‪ ،‬وما مل ُيق َّدر مل يكن‪ ،‬و�إذا عمل العبد بطاعة اهلل تعاىل علم �أنها بتوفيق‬
‫ُ‬ ‫ يعلم‬
‫ندم على ذلك‪ ،‬وعلم �أنها مبقدو ٍر جرى عليه‪،‬‬
‫منه ‪�-‬سبحانه‪ -‬له‪ ،‬في�شكره على ذلك‪ ،‬و�إذا عمل مبع�صيته َ‬
‫نف�سه‪ ،‬وا�ستغفر اهلل‪ .‬فالقد ُر خ ُريه و�ش ّره واق ٌع من اهلل مبقدور جرى‪ُ ،‬ي�ض ُّل من ي�شاء ويهدي من ي�شاء‪،‬‬
‫فذ ّم َ‬
‫ال ُي�س�أل ع ّما يفعل وهم ُي�س�ألون‪.‬‬

‫ فامل�ؤمن يعتق ُد في َما م�ضى ِمن �أفعال‪ ،‬وما جرى من �أقدار �أنها بق�ضاء اهلل وقد ِره وب�أمره الكوين }�أَ َال َل ُه‬
‫الخْ َ ْلقُ َوالأَ ْم ُر َت َبا َر َك هَّ ُ‬
‫الل َر ُّب ا ْل َعالمَ ِنيَ{‪ ،‬فيورثه ذلك طم�أنين ًة و�سكونا‪ ،‬وهد�أ ًة ويقينا‪ ،‬فال يجزع وال ي�سخط‪ ،‬بل ي�صرب‬
‫ذلك‪.‬فاهلل علم بهذه الأمور‪ ،‬وكتبها‪ ،‬و�شاءها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وير�ضا ويفو�ض �أمر �إىل اهلل والنا�س بني ٍّ‬
‫مقل وم�ستك ٍرث يف‬
‫و�أوجدها‪.‬‬

‫ يف �صحيح م�سلم (‪ 2653‬عن عبد اهلل بن عمرو ‪� )d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬كتب اهلل مقادير اخلالئق‬
‫ُك ِّلها قبل �أن يخلق ال�سموات والأر�ض بخم�سني �ألف �سنة)‪ .‬ويف البخاري تعليق ًا �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬يا �أبا‬
‫الق)‪.‬‬
‫أنت ٍ‬ ‫هريرة! قد َّ‬
‫جف القلم مبا � َ‬

‫ وهذا هو حقيقة الإميان بالقدر لذا ملّا ُ�سئل النبي ‪ s‬عن الإميان بالقدر قال‪( :‬ال يذوق عب ٌد طعم‬
‫الإميان حتى يعلم �أن ما �أ�صابه مل يكن ليخط�أه‪ ،‬و�أن ما �أخط�أه مل يكن لي�صيبه‪ ،‬وي�ؤمن بالقدر خريه و�شره)‪ .‬يقول اهلل‬
‫ع ّز وجل‪َ } :‬و َكانَ �أَ ْم ُر هَّ ِ‬
‫الل َق َد ًرا َّم ْقدُو ًرا{‪ ،‬ويقول‪�} :‬إِ َّنا ُك َّل َ�ش ْيءٍ َخ َل ْق َنا ُه ِب َق َدرٍ{‪.‬‬

‫ و�أ ّما يف امل�ستقبل وما �سيكون فيه فال يحت ُّج املر ُء بالقدر بل يعمل ويجتهد فيما فيه �صالح دينه ودنياه‪،‬‬
‫عدم العمل ف�إن ال�سماء ال متطر ذهب ًا وال ف�ض ًة‪ ،‬وال ُيرزق املر ُء ذري ًة من غ ِري زواج‪ ،‬وال‬
‫�إذ من نق�ص العقل ُ‬
‫اهلل من هداية ونحوها ويرتك العمل دلي ٌل على غوايته؛ لذا‬ ‫ي�شبع من تناول طعام‪ ،‬فاحتجاج املرء مبا ق ّدره ُ‬
‫أمر قد ُفرغ‬ ‫ثبت يف �صحيح ُم�سلم (‪ ،2648‬واللفظ للإمام �أحمد عن جابر ‪� )d‬أن النبي ‪�ُ s‬سئل‪ُ � :‬‬
‫أنعمل ل ٍ‬
‫أمر قد ُفرغ منه)‪ ،‬فقيل‪ :‬يا ر�سول اهلل ففيم العمل �إذا؟ فقال ‪( :s‬اعملوا‬ ‫أمر ن�أتَنفه؟ فقال ‪( :s‬ل ٍ‬
‫منه‪� ،‬أو � ٍ‬
‫ُكل عامل مي�سر لعمله)‪.‬‬

‫وروى ابن وهب (يف القدر رقم ‪� )20‬أن عمر بن اخلطاب ‪� d‬س�أل النبي ‪ s‬عن القدر‪ ،‬ف�أجابه مبثل‬
‫ما �سبق‪ ،‬ف�س�أله هل ُتنال الدرجة بغري عمل‪ ،‬فقال ‪( :s‬بل ال ينال �إال بالعمل)‪ ،‬فقال عمر ‪�( :d‬إذا‬
‫جنتهد)‪ ،‬ثم قر�أ ‪َ } :s‬ف�أَ َّما َمن �أَ ْع َطى َوا َّت َقى{ َو َ�ص َّد َق ِبالحْ ُ ْ�س َنى{ َف َ�س ُن َي ِّ�س ُر ُه ِل ْل ُي ْ�س َرى{ َو�أَ َّما َمن َب ِخ َل‬
‫ا�س َت ْغ َنى{ َو َك َّذ َب ِبالحْ ُ ْ�س َنى{ َف َ�س ُن َي ِّ�س ُر ُه ِل ْل ُع ْ�س َرى{‪.‬‬
‫َو ْ‬
‫ �إن النا�س طرفان وو�سط؛ فذهب قو ٌم �إىل �أنه لي�س للإن�سان �إراد ٌة وال اختيار‪ ،‬فرف ُعه َيده لي�س ب�إرادته‪،‬‬
‫َ‬
‫العقول ال�سليمة‪،‬‬ ‫وخف�ضه لها بدون اختياره‪ ،‬فهو كال ِّري�شة يف الهواء‪ ،‬واللوح يف املاء‪ .‬وه�ؤالء جرب ّي ٌة �ضا ُّدوا‬ ‫ُ‬

‫‪131‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالقضاء و القدر‬

‫وكفى يف بطالن قو ِلهم عدم قبوله يف العقول‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ب�ضدِّ هم ف َكانوا َقدر ّي ًة فزعوا �أنَّ الأمر �أُنف‪ ،‬و�أنهم هم القادرون على جميع ت�صرفاتهم‪ ،‬و�أن اهلل‬ ‫ وقو ٌم ِ‬
‫�صح عنه‪( :‬القدرية جمو�س هذه‬ ‫غري قادر عليها‪ ،‬وهوالء هم الذين ح ّذر منهم النبي ‪ s‬فقال عنهم فيما ّ‬
‫الأمة)‪.‬‬
‫ فالعب ُد لي�س م�سري ًا على �إطالق‪ ،‬وال خمري ًا ب�إطالق‪ ،‬بل هو مري ٌد وفاعل } َو َه َد ْي َنا ُه ال َّن ْج َد ْي ِن{‪ ،‬وال‬
‫يخرج ذلك عن علم اهلل و�إرادته وم�شيئته‪.‬‬
‫الل َكانَ َع ِلي ًما َح ِكي ًما{‬ ‫}�إِنَّ َه ِذ ِه ت َْذ ِك َر ٌة َف َمن َ�شاء ات ََّخ َذ �إِ ىَل َر ِّب ِه َ�س ِبي ًال{ َو َما ت ََ�شا�ؤُونَ �إِالَّ �أَن َي َ�شاء هَّ ُ‬
‫الل �إِنَّ هَّ َ‬

‫} ِ�إنْ هُ َو ِ�إالَّ ِذ ْك ٌر ِّل ْل َعالمَ ِ َني{ لمِ َن َ�شاء ِمن ُك ْم �أَن َي ْ�س َت ِق َيم{ َو َما ت ََ�شا�ؤُونَ ِ�إالَّ �أَن َي َ�شاء هَّ ُ‬
‫الل َر ُّب ا ْل َعالمَ ِنيَ{‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اإليمان بالكتب‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالكتب‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫جل وعال الإميانُ بال ُكتب التي �أنزلها اهلل ج َّل وعال‪ ،‬قال اهلل ج َّل وعال‪} :‬‬ ‫ ف�إن ِمن �أركان الإميان‪ ،‬ولوازم الإميان به َّ‬
‫ول بمِ َ ا �أُ ِنز َل �إِ َل ْي ِه ِمن َّر ِّب ِه َوالمْ ُ�ؤ ِْم ُنونَ ُك ٌّل � َآمنَ ِب هَّ ِ‬
‫الل َو َملآ ِئ َك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َو ُر ُ�س ِل ِه{‪.‬‬ ‫� َآمنَ ال َّر ُ�س ُ‬

‫اهلل على مرمي عليها ال�سالم ب�إميانها ب ُكتب اهلل تعاىل فقال �سبحانه عنها‪َ } :‬و َ�ص َّد َق ْت ِب َك ِل َم ِ‬
‫ات‬ ‫ و�أثنى ُ‬
‫َر ِّب َها َو ُك ُت ِب ِه َو َكا َن ْت ِمنَ ا ْل َقا ِن ِتنيَ{‪.‬‬

‫وخ�سرا ٌن عظيم فقال �سبحانه‪َ } :‬و َمن َي ْك ُف ْر ِب هَّ ِ‬


‫الل‬ ‫هلل تعاىل �ضال ٌل مبنيٌ‪ُ ،‬‬ ‫ وبينَّ �سبحانه �أن الكفر ب ُكتب ا ِ‬
‫َو َم َال ِئ َك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َو ُر ُ�س ِل ِه َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر َف َق ْد َ�ض َّل َ�ض َال ًال َبعِيدً ا{‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن الإميان املُجمل ب ُكتب اهلل تعاىل يقت�ضي �أمور ًا �أربع‪ ،‬ف َمن مل ُي ِقر ب� ٍّأي منها فلي�س مب� ٍ‬
‫ؤمن‬
‫بال ُكتُب التي �أنزلها اهلل‪:‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫الظ ُل َم ِ‬
‫ات ِ�إ ىَل‬ ‫َاب �أَنزَ ْل َنا ُه ِ�إ َل ْي َك ِلت ُْخ ِر َج ال َّن َ‬
‫ا�س ِمنَ ُّ‬ ‫‪�1 .1‬أحدها‪ :‬الإميانُ ب�أنها جميع ًا من عند اهلل تعاىل‪ِ :‬‬
‫}كت ٌ‬
‫اط ا ْل َع ِز ِيز الحْ َ ِم ِيد{‪ ،‬و�أنه �سبحانه تك ّلم بها‪ ،‬و�أنها لي�ست خملوقة‪.‬‬ ‫ال ُّنو ِر ِب ِ�إ ْذ ِن َر ِّب ِه ْم ِ�إ ىَل ِ�ص َر ِ‬
‫‪2 .2‬الثاين‪ :‬الإميان َمبا �س ّمى ُ‬
‫اهلل لنا منها‪ ،‬وقد �س ّمى اهلل لنا يف كتابه منها �أربع ًة غري القر�آن؛ وهي‪ :‬التوراة‪،‬‬
‫والإجنيل‪ ،‬والزبور‪ ،‬و�صحف �إبراهيم‪ ،‬و�إنكا ُر �شيءٍ من هذه ال ُكتب �إنكا ٌر ل ٍ‬
‫آيات يف كتاب اهلل َّ‬
‫جل وعال‪.‬‬

‫َاب ِبالحْ َ ِّق ُم َ�صدِّ ق ًا لمِّ َا َبينْ َ َي َد ْي ِه َو�أَنزَ َل‬ ‫ قال �سبحانه‪ } :‬هَّ ُ‬
‫الل ال ِ�إ َلـ َه ِ�إالَّ هُ َو الحْ َ ُّي ا ْل َق ُّي ُ‬
‫وم{ َنز ََّل َع َل ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫ا�س َو�أَنزَ َل ا ْل ُف ْر َقانَ {‪،‬‬ ‫جن َيل{ ِمن َق ْب ُل هُ دً ى ِّلل َّن ِ‬
‫ال َّت ْو َرا َة َوالإِ ِ‬

‫‪133‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالكتب‬

‫ال�ص ُح ِف الأُول{ ُ�ص ُح ِف ِ�إ ْب َر ِاه َيم َو ُم َ‬


‫و�سى{‪ ،‬وقال‪َ } :‬و َل َق ْد َك َت ْب َنا فيِ ال َّز ُبو ِر ِمن َب ْع ِد‬ ‫وقال‪�ِ } :‬إنَّ َه َذا َل ِفي ُّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الذ ْك ِر �أَنَّ الأَ ْر َ�ض َي ِر ُث َها ِع َبا ِد َي ال�صَّ الحِ ُ ونَ {‪.‬‬
‫ِّ‬

‫ف�ضل َمن �شاء من ُر�سله ب�إتيانه كتاب ًا من عنده �سبحانه؛ كما قال ج ّل وعال‪َ } :‬و َل َق ْد َف�ضَّ ْل َنا َب ْع َ�ض‬ ‫ واهلل ُي ّ‬
‫ال َّن ِب ِّي َني َع َلى َب ْع ٍ�ض َو�آ َت ْي َنا َدا ُوو َد َز ُبو ًرا{‪.‬‬

‫إجنيل التي ب�أيدي �أهل‬ ‫‪3 .3‬الأمر الثالث‪� :‬أنه يجب على املُ�سلم التيقن الكامل والقط ُع التام ب�أن التوراة وال َ‬
‫}منَ ا َّل ِذينَ َهادُو ْا ُي َح ِّر ُفونَ ا ْل َك ِل َم َعن َّم َو ِ‬
‫ا�ض ِع ِه{‪.‬‬ ‫الكتاب الآن �أنها حم ّرف ٌة ومب ّدلة؛ يقول اهلل ع ّز وجل‪ِّ :‬‬

‫اهلل بحفظه قال �سبحانه‪� } :‬إِ َّنا َن ْحنُ َن َّز ْل َنا‬ ‫حتريف؛ فقد تك ّفل ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ق�ص وال تبدي ٌل وال‬ ‫ والقر�آن مل يعرته َن ٌ‬
‫الذ ْك َر َو�إِ َّنا َل ُه لحَ َ ا ِف ُظونَ {‪ ،‬يف حني �أُوكل حفظ الكتب ال�سابقة لأهلها ف�ضاعت } �إِ َّنا �أَنزَ ْل َنا ال َّت ْو َرا َة ِفي َها هُ دً ى‬ ‫ِّ‬
‫َاب هَّ ِ‬
‫الل َو َكا ُنو ْا‬ ‫ا�ست ُْح ِف ُظو ْا ِمن ِكت ِ‬ ‫َو ُنو ٌر َي ْح ُك ُم ِب َها ال َّن ِب ُّيونَ ا َّل ِذينَ �أَ ْ�س َل ُمو ْا ِل َّل ِذينَ َهادُو ْا َوال َّر َّبا ِن ُّيونَ َوالأَ ْح َبا ُر بمِ َ ا ْ‬
‫َع َل ْي ِه ُ�ش َه َداء{‪.‬‬

‫هلل تعاىل‪،‬‬
‫تب املح ّرف ِة املكذوب ِة على ا ِ‬ ‫ وعلى ذلك فال يجو ُز ملُ�س ِل ٍم �أن َي ُ‬
‫نظ َر نظ َر ت�أ ّم ٍل واعتبا ٍر يف هذه ال ُك ِ‬
‫أهل الكتب فقر�أه‬ ‫بع�ض � ِ‬‫بكتاب �أ�صابه ِمن ِ‬
‫النبي ‪ٍ s‬‬ ‫اب ‪� d‬أتى َّ‬ ‫وال �أن َيقتنيها‪ ،‬ويف امل�سند �أن ُعم َر بنَ َّ‬
‫اخلط ِ‬
‫فغ�ض‪ ،‬فقال‪�( :‬أمتهوكون فيها يا ابن اخلطاب؟ والذي نف�سي بيده لقد جئتكم بها بي�ضا َء نق َّية ال تَ�س�ألوهم‬ ‫النبي ‪ِ s‬‬ ‫ُّ‬
‫بباطل فت�صدقوا به‪ ،‬والذي نف�سي بيده لو �أن مو�سى ‪ a‬كان حي ًا ما‬ ‫َعن �شيء فيخربوكم بحقٍّ فتُكذبوا به �أو ٍ‬
‫و�سعه �إال �أن يتبعني)‪.‬‬

‫‪4 .4‬الأمر الرابع‪� :‬أن ندينَ اهلل تعاىل ب�أن هذا الدينَ نا�س ٌخ للأديان التي قب َله‪ ،‬و�أن هذا القر�آنَ نا�س ٌخ للكتب‬
‫كتب اهلل تعاىل على الإطالق‪ ،‬و�أعظ ُمها �إعجاز ًا وبيان ًا‪.‬‬ ‫املنزلة قب َله‪ ،‬و�أنه � ُ‬
‫أف�ضل ِ‬

‫هلل فيه َنب�أُ َما َكانَ قب َلكم‪،‬‬


‫(كتاب ا ِ‬
‫ُ‬ ‫النبي ‪ s‬قال‪:‬‬
‫علي ‪� d‬أن َّ‬ ‫ روى الرتمذي عن احلارث الأعور عن ِّ‬
‫وحكم ما بينكم‪ ،‬وهو الف�صل لي�س بالهزل‪ ،‬من تركه من جبار ق�صمه اهلل‪ ،‬ومن اتبع الهدى‬ ‫بعدكم‪ُ ،‬‬‫وخ ُرب َما َ‬
‫فيغريه �أ�ضله اهلل‪ ،‬هو حبل اهلل املتني‪ ،‬وهو الذكر العظيم‪ ،‬وهو ال�صراط امل�ستقيم‪ ،‬وهو الذي ال تزيغ فيه‬
‫الأهواء‪ ،‬وال تلتب�س به الأ�شياء‪ ،‬وال ي�شبع منه العلماء‪ ،‬وال َيخْ َلقُ على طول الرد‪ ،‬وال تنق�ضي عجائ ُبهُ‪ ،‬هو الذي تناهى‬
‫اجلنُّ حني �سمعته �أن قالوا‪�ِ } :‬إ َّنا َ�سمِ ْع َنا ُقرْ�آ ًنا َع َج ًبا{ َي ْه ِدي ِ�إ ىَل ال ُّر�شْ ِد َف� َآم َّنا ِب ِه َو َلن ُّن�شْ ِر َك ِب َر ِّب َنا �أَ َحدً ا{‪ ،‬من قال به‬
‫�صراط م�ستقيم)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫�صدق‪ ،‬ومن عمل به �أُجر‪ ،‬ومن حكم به عدل‪ ،‬ومن اعت�صم به هُ دي �إىل‬
‫ عباد َ‬
‫اهلل! ك ّلما كان املر ُء �أ�ش َّد �إميان ًا بكتاب اهلل تعاىل كلما كان �أكرث تعظيم ًا له بقراءته‪ ،‬وحفظه‪،‬‬
‫والعمل به‪ .‬فال يت ُّم الإميان بهذا الكتاب �إال بالإكثار من قراءته والعناية به‪ ،‬وقطع الأوقات باالن�شغال والعمل‬
‫به‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإليمان بالكتب‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬االبتداع يف الدين‬
‫اإلبتداع يف الدين‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫اهلل تعاىل قد خلق اخللق وغاير بينهم‪ ،‬وباينَ �أفعالهم ومنازلهم‪ .‬فهم فريقان بني �شقي و�سعيد‪ ،‬وم�ؤمن‬ ‫ف�إن َ‬
‫}م َث ُل ا ْل َف ِري َقينْ ِ َكالأَ ْع َمى َوالأَ َ�ص ِّم‬
‫وكافر قال تعاىل‪َ } :‬ف ِري ًقا َه َدى َو َف ِري ًقا َحقَّ َع َل ْي ِه ُم ال�ضَّ َال َل ُة{‪ ،‬وقال‪َ :‬‬
‫ال�س ِمي ِع َه ْل َي ْ�س َت ِو َي ِان َم َث ًال �أَ َف َال ت ََذ َّك ُرونَ {‪.‬‬
‫َوا ْل َب ِ�ص ِري َو َّ‬

‫اهلل عن حكمته يف املغايرة بني النا�س يف امل�آل‪ ،‬وا�ستحقاق اجلنة والنار‪ ،‬فقال �سبحانه‪} :‬‬ ‫ وقد �أبان ُ‬
‫ُنذ َر �أُ َّم ا ْل ُق َرى َو َمنْ َح ْو َل َها َو ُت ِنذ َر َي ْو َم الجْ َ ْم ِع ال َر ْي َب ِفي ِه َف ِري ٌق فيِ الجْ َ َّن ِة‬
‫َو َك َذ ِل َك �أَ ْو َح ْي َنا �إِ َل ْي َك ُقرْ�آ ًنا َع َر ِب ًّيا ِّلت ِ‬
‫الظالمِ ُونَ َما َل ُهم ِّمن‬ ‫ال�س ِعري{ َو َل ْو َ�شا َء هَّ ُ‬
‫الل لجَ َ َع َل ُه ْم �أُ َّم ًة َو ِاح َد ًة َو َل ِكن ُي ْد ِخ ُل َمن َي َ�شاء فيِ َر ْح َم ِت ِه َو َّ‬ ‫َو َف ِري ٌق فيِ َّ‬
‫َوليِ ٍّ َوال َن ِ�ص ٍري{‪.‬‬

‫ فالنا�س ال ي�ستوون‪ ،‬وال يت�ساوون عند اهلل منزل ًة ومثوبة‪ ،‬ومكان ًة ومكان ًا }ال َي ْ�س َت ِوي �أَ�صْ َح ُ‬
‫اب ال َّنا ِر‬
‫يث‬ ‫الط ِّي ُب َو َل ْو �أَ ْع َج َب َك َك رْ َث ُة الخْ َ ِب ِ‬ ‫اب الجْ َ َّن ِة �أَ�صْ َح ُ‬
‫اب الجْ َ َّن ِة هُ ُم ا ْل َفا ِئ ُزونَ {‪ُ } .‬قل الَّ َي ْ�س َت ِوي الخْ َ ِبيثُ َو َّ‬ ‫َو�أَ�صْ َح ُ‬
‫اب َل َع َّل ُك ْم ُت ْف ِل ُحونَ {‪.‬‬ ‫َفا َّت ُقو ْا هَّ َ‬
‫الل َيا �أُوْليِ الأَ ْل َب ِ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫درجات متفاوتة‬
‫ٍ‬ ‫ال�س ْع َد درجات‪ ،‬وال�شَّ قا َء َد َر َكات‪ .‬ف�أه ُل اجلنة على‬
‫ وكما �أنهم بني �شقي و�سعيد‪ ،‬ف�إن ُ‬
‫أهل اجلنة منزل ًة و�أقلُّهم حا ًال له ِمن الدنيا �أ�ضعا ُفها يف ال�صحيحني عن ابن م�سعود‬ ‫َ‬
‫ومنازل متغايرة ف�أدنى � ِ‬
‫أهل اجلنة دخوال اجلنة‪ ،‬رج ٌل‬ ‫‪� d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪�( :‬إين لأعلم �آخر �أهل النار خروجا منها‪ ،‬و�آخ َر � ِ‬
‫يخرج من النار َح ْبوا فيقول اهلل تبارك وتعاىل له‪ :‬اذهب فادخل اجلنة في�أتيها ف ُيخ َّيل �إليه �أنها ملأى‪،‬‬
‫رب َوجد ُتها َملأى‪ ،‬فيقول اهلل تبارك وتعاىل‪ :‬له اذهب فادخل اجلنة‪ ،‬قال‪ :‬في�أتيها فيخيل‬ ‫فريجع فيقول‪ :‬يا ِّ‬
‫�إليه �أنها ملأى‪ ،‬فريجع فيقول‪ :‬يا رب وجدتها ملأى فيقول اهلل له‪ :‬اذهب فادخل اجلنة ف�إن لك َ‬
‫مثل الدنيا‪،‬‬
‫وع�شر َة �أمثالها‪ ..‬قال فكان يقال ذاك �أدنى �أهل اجلنة منزلة)‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االبتداع يف الدين‬

‫ و�أ ّما �أعلى اجلنة فالفردو�س الأعلى ويف ال�صحيح البخاري عن �أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫تفجر �أنهار‬
‫�س�ألتم اهلل فا�س�ألوه الفردو�س‪ ،‬ف�إنه �أو�سط اجلنة‪ ،‬و�أعلى اجلنة‪ ،‬وفوقه عر�ش الرحمن‪ ،‬ومنه َّ‬
‫اجلنة)‪ .‬و�إن َ‬
‫اللفظ ليعجز‪ ،‬والبيانَ ليك ُّل عن و�صفها ونعتها‪.‬‬

‫منازل كثرية‪ ،‬ومراتب متعددة روى الإمام �أحمد عن عبادة بن ال�صامت �أن النبي‬ ‫ُ‬ ‫ وبني تلك املنزلتني‬
‫‪ s‬قال‪( :‬اجلنة مائة درجة ما بني كل درجتني منهما كما بني ال�سماء والأر�ض الفردو�س �أعالها درجة منها‬
‫تفجر �أنهار اجلنة الأربعة ومن فوقها يكون العر�ش و�إذا �س�ألتم اهلل فا�س�ألوه الفردو�س)‪.‬‬

‫ ينظر الأدنى للأعلى فيها وبينهم كما بني النجوم والأر�ض روى ال�شيخان عن �أبي �سعيد اخلدري ‪� d‬أن‬
‫الكوكب ال ُّد ِّر َّي الغاب َر يف الأفق‬
‫َ‬ ‫أهل الغرف من فوقهم كما ترتاءون‬ ‫النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن �أهل اجلنة يرتاءون � َ‬
‫منازل الأنبيا ِء ال يبلغها غريهم‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ِمن امل�شرق �أو املغرب لتفا�ضل ما بينهم)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا ر�سول اهلل تلك‬
‫(بلى والذي نف�سي بيده رجا ٌل �آمنوا باهلل و�صدقوا املر�سلني)‪.‬‬

‫حممد‬
‫ٍ‬ ‫ عباد اهلل ! �إن �أعلى اجلن ِة منزل ًة هي (الو�سيلة) وهي منزل ٌة خ�صَّ ها ُ‬
‫اهلل لأكرم خل ِقه و�أ�شر ِفهم‬
‫‪ s‬روى �أهل ال�سنن عن عبد اهلل بن عمرو �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬سلوا يل الو�سيلة ف�إنها منزلة يف اجلنة ال‬
‫تنبغي �إال لعبد من عباد اهلل و�أرجو �أن �أكون �أنا)‪.‬‬

‫أقرب �إىل درجته يف اجلنة و�أدنى �إليه‪ ،‬ف�أعلى النا�س درج ًة‬
‫ وكلما كان املرء به �أ�شبه‪ ،‬وبهديه �أهدى كان � َ‬
‫يف اجلنة �أ�شبههم به م�سالك ًا ‪.s‬‬

‫ روى الإمام �أحمد ب�إ�سناد رجاله ثقات عن �أبو ذر ‪d‬قال‪� :‬سمعت ر�سول اهلل ‪ s‬يقول‪�( :‬إن �أقربكم‬
‫مني جمل�س ًا يوم القيامة َمن خرج من الدنيا كهيئته يوم ترك ُت ُه فيها)‪ ،‬قال �أبو ذر‪( :‬و�إين واهلل ما �أحدثت بعده‬
‫�شيئا وما منكم من �أحد �إال وقد ت�شبث فيها ب�شيء)‪.‬‬

‫رام الرفعة يف اجلنة والعل َّو فيها فيلزم طريقة امل�صطفى ‪ s‬فيحذو حذوه‪ ،‬وي�ستنهج �سبي َله‪،‬‬ ‫ فمن َ‬
‫مناهجه‪ ،‬ويت�أ�سى به ويقتا�س‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و َ�أنَّ َه َـذا ِ�ص َر ِاطي ُم ْ�س َت ِقي ًما َفا َّت ِب ُعو ُه َو َال َت َّت ِب ُعو ْا ُّ‬
‫ال�س ُب َل‬ ‫َ‬ ‫وي�سلك‬
‫ال�س ُبل البد َع وال�شبهات)[ابن جرير ‪.]88/8‬‬ ‫َف َت َف َّر َق ِب ُك ْم َعن َ�س ِبي ِل ِه{ قال جماهد‪( :‬وال تتبعوا ُّ‬

‫طريق امل�صطفى ‪ s‬ابتدا ُع‬ ‫ال�سوي ِ‬


‫ِّ‬ ‫الطريق‬
‫ِ‬ ‫أعظم ما ُيب ِع ُد عن طريق اخلري‪ ،‬ويجايف ب�صاحبه عن‬
‫ ف� ُ‬
‫البد ِع واملُحدثات‪ ،‬والتع ُّبد �إليه ج َّل وعال مبا مل يفعله النبي ‪ s‬وال �أ�صحابه لذا كان النبي ‪ s‬يحذر ِمن‬
‫ذلك دائم ًا �إذا خطب‪ ،‬ويبني �أن االبتداع يف الدين ُيبع ُد عن هديه ‪ s‬فروى م�سل ٌم عن جابر ‪ d‬قال‪ :‬كان‬
‫ر�سول اهلل ‪� s‬إذا َخ َط َب قال‪�( :‬أما بعد ! ف�إن خري احلديث ُ‬
‫كتاب اهلل‪ ،‬وخ َري الهدي هدي حممد‪ ،‬و�إن �ش َّر‬
‫وكل حمدثة‪ ،‬وك َّل بدعة �ضاللة)‪ .‬ويف رواية عند الن�سائي‪َّ :‬‬
‫(وكل �ضاللة يف النار)‪.‬‬ ‫الأمور حمدثاتها‪َّ ،‬‬

‫‪137‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االبتداع يف الدين‬

‫رب العاملني ِمن �ش ِّر الأمور املبعد ِة عن هديه ‪ s‬كما نطق‬


‫ فاالبتداع يف الدين‪ ،‬والتعب ُد مبا مل ي�شرعه ُّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫بذلك ‪ a‬وكرر‪.‬‬

‫ قال حذيفة ‪( :d‬كل عبادة مل يتعبد بها �أ�صحاب ر�سول اهلل ‪ s‬فال تتعبدوا بها‪ ،‬ف�إن الأول مل يد ْع‬
‫لل ِآخر مقا ًال‪ ،‬فاتقوا اهلل يا مع�شر ال ُق َّراء‪ ،‬خذوا طريقَ َمن كان قبلكم)‪.‬‬

‫ع�ض ًا من امل�سلمني‪ ،‬راغبي اخلري وحمبيه‪ ،‬راجي‬‫أخذه الكم ُد ُك َّل م�أخذ حينما َي َرى َب َ‬
‫ و�إن املرء ل َيحزن‪ ،‬وي� ُ‬
‫اهلل بعبادات حمدثة‪ ،‬وطرائقَ مبتدعة مل ي�شرعها اهلل وال ر�سوله ‪،s‬‬ ‫رحمة اهلل تعاىل وجنتَه وقد تعبدوا َ‬
‫يغ�ضب َ‬
‫اهلل وال ير�ضيه‪ ،‬وميقته وال يح ُّبه جه ًال‬ ‫ُ‬ ‫فتنق�ضي �أعمارهم‪ ،‬وتتفلت �أيامهم‪ ،‬وي�صرفوا �أموالهم فيما‬
‫النا�س ح�سنة)‪ .‬ولهذا قال ر�سول اهلل ‪( :s‬من عمل‬ ‫وغفلة؛ قال ابن عمر ‪( :d‬كل بدعة �ضاللة و�إن ر�آها ُ‬
‫عمال لي�س عليه �أمرنا فهو رد) رواه م�سلم‪.‬‬

‫ قال اهلل ع َّز وجل‪} :‬ا َّل ِذي َخ َلقَ المْ َ ْوتَ َوالحْ َ َيا َة ِل َي ْب ُل َو ُك ْم �أَ ُّي ُك ْم �أَ ْح َ�سنُ َع َم ًال{‪ ،‬قال الف�ضيل بن عيا�ض‪:‬‬
‫أخل�صه و�أ�صو ُبه‪� ،‬إن العمل �إذا كان خال�ص ًا ومل يكن �صوابا مل ُيق َبل‪ ،‬و�إذا كان �صواب ًا ومل‬ ‫(�أح�سنُ العمل؛ � ُ‬
‫يكن خال�ص ًا مل يقبل حتى يكون خال�صا و�صوابا قال‪ :‬واخلال�ص �إذا كان هلل عز وجل‪ ،‬وال�صواب �إذا كان‬
‫على ال�سنة)‪.‬‬

‫ وذلك الإح�سانُ هو اال�ستم�ساك بالعروة الوثقى قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و َمن ُي ْ�س ِل ْم َو ْج َه ُه ِ�إ ىَل هَّ ِ‬
‫الل َوهُ َو محُْ ِ�سنٌ‬
‫ا�س َت ْم َ�س َك ِبا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْث َقى َو ِ�إ ىَل هَّ ِ‬
‫الل َعا ِق َب ُة الأُ ُمو ِر{‪.‬‬ ‫َف َق ِد ْ‬

‫قا�صد‬
‫ٍ‬ ‫فمن‬
‫��رب من ر�ضوانه‪ِ ،‬‬ ‫إعمال هي لغ�ضب اهلل �أق ُ‬‫هده‪ ،‬و�أَ َك�� َّل بد َنه يف � ٍ‬
‫ َكم ِمن امل�سلمني ج َّد ُج َ‬
‫ُ‬
‫يحتفل باملوالد ويحيي لياليها كما‬ ‫للأ�ضرحة والقبور يدعو عندها‪ ،‬ويطوف حولها‪ ،‬ويتم�سح بعتباتها‪ ،‬و�آخ ُر‬
‫لو كانت ليايل ُعر�س‪ ،‬وثالثٌ َج َعل ل�سا َنه مط َّي ًة للحلف بغري اهلل بنبي �أو �صالح‪.‬‬

‫هلل ِمن غري طري ِقه‪ ،‬ويرغبون العل َّو يف جنته وما �سلكوا �سبيله‪ ،‬قال ابن‬
‫ �إن �أولئك يرجون ر�ضوان ا ِ‬
‫ري من اجتهاد يف بدعة)‪.‬‬‫م�سعود ‪( :d‬اقت�صاد يف �سنة‪ ،‬خ ٌ‬

‫ قال اهلل ع َّز وجل‪ُ } :‬ق ْل َه ْل ُن َن ِّب ُئ ُك ْم ِبالأَ ْخ َ�س ِرينَ �أَ ْع َما ًال{ا َّل ِذينَ َ�ض َّل َ�س ْع ُي ُه ْم فيِ الحْ َ َيا ِة ال ُّد ْن َيا َوهُ ْم‬
‫َي ْح َ�س ُبونَ �أَ َّن ُه ْم ُي ْح ِ�س ُنونَ ُ�ص ْن ًعا{‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اإلستخارة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستخارة‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫حري�ص على حت�صي ِله‪ ،‬وا�ستيعابه وتكمي ِله؛ كما قال ر ُّبه َّ‬
‫جل وعال‪َ } :‬و ِ�إ َّن ُه‬ ‫ٌ‬ ‫حمب للخري‪،‬‬
‫ف�إن الإن�سان بطب ِع ِه ٌّ‬
‫لحِ ُ ِّب الخْ َ رْ ِي َل َ�ش ِدي ٌد{‪.‬‬

‫وتوفيق و�ضدِّ ه؛‬


‫ٍ‬ ‫ربح وخ�سارة‪،‬‬ ‫ونتائج ت�صرفاته؛ من ٍ‬ ‫َ‬ ‫�شك ُل على املرء‪ :‬معرف ُت ُه م� َآل �أفعا ِله‬ ‫ِومن �أعظم َما ُي ِ‬ ‫ ‬
‫نت �أَ ْع َل ُم‬ ‫حممد ‪ُ } s‬قل الَّ �أَ ْم ِل ُك ِل َن ْف ِ�سي َن ْف ًعا َو َال َ�ض ًّرا ِ�إالَّ َما َ�شاء هَّ ُ‬
‫الل َو َل ْو ُك ُ‬ ‫ٍ‬ ‫وجل لنبيه‬ ‫لذا يقول اهلل ع َّز َّ‬
‫لل�سن ِة‬‫الغيب لأعددتُ َّ‬ ‫أعلم َ‬‫كنت � ُ‬ ‫ال�سو ُء{ قيل يف تف�سريه‪ْ �( :‬أي َو ُلو ُ‬ ‫ا ْل َغ ْي َب َال ْ�س َت ْك رَْثتُ ِمنَ الخْ َ رْ ِي َو َما َم َّ�س ِن َي ُّ‬
‫لعرفت الغال َء من الرخ�ص وا�ستعددت له يف الرخ�ص) [الطربي ‪.]143/9‬‬ ‫ال�سن ِة املخ�صبة‪َ ،‬و ُ‬ ‫املجدب ِة ِمن َّ‬

‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض‬


‫اخت�ص بعلم الغيب } ُقل الَّ َي ْع َل ُم َمن فيِ َّ‬ ‫هلل البالغ ُة �أنه َ‬
‫وحده َمن َّ‬ ‫ وقد اقت�ضت حكم ُة ا ِ‬
‫الل َو َما َي�شْ ُع ُرونَ �أَ َّيانَ ُي ْب َع ُثونَ {‪ ،‬وقال �سبحانه‪َ } :‬و َما َكانَ هَّ ُ‬
‫الل ِل ُي ْط ِل َع ُك ْم َع َلى ا ْل َغ ْي ِب{‪.‬‬ ‫ا ْل َغ ْي َب �إِالَّ هَّ ُ‬

‫أحدهم حاج ٌة؛ من ٍ‬


‫�سفر �أو زواج �أو بيع ونحوه‪َ ،‬ق َ�ص َد‬ ‫ وكان �أهل اجلاهلية يف جاهليتهم �إذا َع َن َت ل ِ‬
‫قداحها‪ ،‬لتخرج قرعتُه �أمي�ضي يف فعله �أم ال ؟‬‫الأزالم فا�ستق�سم بها‪ ،‬و�ضرب َ‬
‫ فجاء الإ�سالم بهد ما كان عليه �أهل اجلاهلية ِمن َز ْج ِر الطري واال�ستق�سام بالأزالم‪ ،‬وع َّو�ض ُ‬
‫اهلل �أم َة‬
‫خطبة جديدة‬

‫وا�ستعالم جليل �أر�شدنا �إليه نبينا ‪s‬؛ �أال وهو (دعاء اال�ستخارة)‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عظيم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫حممد ‪ s‬بدعاءٍ‬
‫ٍ‬

‫أعلم‬ ‫ُ‬
‫تفوي�ض االختيار �إليه �سبحانه‪ ،‬ف�إنه ال ُ‬ ‫اخل َري ِة يف الأمور من اهلل‪ ،‬وحقيقتُها‬ ‫طلب ِ‬ ‫ فاال�ستخارة ُ‬
‫فاخلائب َمن مل يظفر مبطلوبه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بخريها للعبد‪ ،‬والقاد ُر على ما هو خري ملُ�ست َِخريه‪ ،‬فال يخ ِّي ُب �أم َله‪،‬‬
‫ وقد روى الإمام �أحمد (‪ )168/1‬ب�إ�سناد ح�سن [قاله ابن حجر يف الفتح ‪ ]184/11‬عن �سعد بن �أبى‬
‫(من �سعادة ابن �آدم ا�ستخارته اهلل‪ِ ،‬ومن �سعادة ابن �آدم ر�ضاه مبا ق�ضاه‬ ‫وقا�ص ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪ِ :‬‬
‫اهلل‪ ،‬ومن �شقوة ابن �آدم تر ُك ُه ا�ستخارة اهلل‪ ،‬ومن �شقوة ابن �آدم ُ‬
‫�سخطه مبا ق�ضى اهلل عز وجل)‪.‬‬

‫ و ُروي عند الطرباين (يف املعجم ال�صغري ‪ ،980‬والأو�سط‪ )6627‬من حديث �أن�س بن مالك ‪َ :d‬‬
‫(ما‬
‫خاب من ا�ستخار‪ ،‬وال ِندم َمن ا�ست�شار‪ ،‬وال عال َمن اقت�صد)‪ .‬وقد قيل‪( :‬ا�ستخر اهلل يف ال�سماء يخر لك‬
‫بعلمه يف الق�ضاء)‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستخارة‬

‫ هذا الدعاء لي�س من امل�ضنون به على �أح ٍ��د‪ ،‬بل كان النبي‪s‬يع ّلمه ال�صحابة جميعا‪ ،‬يف �صحيح‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫جابر ‪ d‬قال‪ :‬كان ر�سول اهلل ‪ s‬يعلمنا اال�ستخارة يف الأمور كما يعلمنا ال�سورة من القر�آن‬ ‫البخاري عن ٍ‬
‫ُ‬
‫أ�ستخريك بعلمك‪،‬‬ ‫يقول‪�( :‬إذا هم �أحدكم بالأمر فلريكع ركعتني من غري الفري�ضة‪ ،‬ثم ليقل‪( :‬اللهم �إين �‬
‫و�أ�ستقدرك بقدرتك‪ ،‬و�أ�س�ألك من ف�ضلك العظيم‪ ،‬ف�إنك تقدر وال �أقدر‪ ،‬وتعلم وال �أعلم و�أنت عالم الغيوب‪،‬‬
‫اللهم �إن كنت تعلم �أن هذا الأمر خري يل يف ديني ومعا�شي‪ ،‬وعاقبة �أمري ‪�-‬أو قال‪ :‬عاجل �أمري و�آجله‪ -‬فاقدره يل‪،‬‬
‫وي�سره يل‪ ،‬ثم بارك يل فيه‪ ،‬و�إن كنت تعلم �أن هذا الأمر �ش ٌّر يل يف ديني ومعا�شي‪ ،‬وعاقبة �أمري ‪�-‬أو قال‪ :‬يف عاجل �أمري‬
‫و�آجله‪ -‬فا�صرفه عني وا�صرفني عنه‪ ،‬واقدر يل اخلري حيث كان‪ ،‬ثم �أر�ضني به) قال‪ :‬وي�سمي حاجته)‪.‬‬
‫فوائد؛ منها‪� :‬أن القر�آن واال�ستخارة كالهما‬‫ عباد اهلل! �إن يف ت�شبيه اال�ستخارة بال�سورة من القر�آن َ‬
‫�سلم �أن َيعتني بحفظ لفظها‪ ،‬ومنها‪� :‬أنهما ُتقر�أن بج ْم ِع القلب‬ ‫بوحي من اهلل تعاىل‪ .‬ومنها‪� :‬أنه يلزم املُ َ‬
‫فت عليه قلو ُبكم‪ ،‬ف�إذا اختلفت فقوموا عنه) رواه‬ ‫النبي ‪( :s‬اقرءوا القر�آن ما ائ َت َل ْ‬
‫وا�ستح�ضاره؛ كما قال ُّ‬
‫البخاري‪ .‬فال ينتفع باال�ستخارة �إال َمن دعا بح�ضور قلبه ويقني مبعناه‪.‬‬

‫ وقو ُله‪( :‬يف الأمور ك ِّلها) يعني يف دقيق الأمور وجليلها‪� ،‬صغريها وكبريها ال ف ْرق؛ �إذ ُ‬
‫يجب على امل�ؤمن‬
‫ر ُّد الأمو ِر ُك ِّلها �إىل اهلل عز وجل‪ ،‬والترب�ؤ من احلول والقوة �إال به‪.‬‬
‫ِومن فقه اال�ستخارة و�آدابها‪:‬‬ ‫ ‬
‫ال�سنة �أن تكون بعد ركعتني من غري الفري�ضة‪ ،‬والأف�ضل �أن تكون هاتان الركعتان خم�صو�صتني‬ ‫۩ ۩ �أن ِمن ُّ‬
‫باال�ستخارة فقط ِومن �أجلها‪ ،‬ويجوز �أن يجعلها بعد ال�سنن الرواتب �أو غريها من ال�سنن‪.‬‬

‫ال�سالم من النافلة �إذا �ص ّلى على النبي ‪� ،s‬أو بعد �سالمه منها ولكن يف هذه‬
‫۩ ۩ ويدعو �إن �شاء قبل ّ‬
‫�ستحب رفع اليدين عند دعائه‪.‬‬
‫احلالة ُي ُّ‬

‫امل�سلم قبل الدعاء بحمد اهلل والثناء عليه فقد روى الإمام‬
‫ُ‬ ‫�ستح ُّب �أن َي َبد�أ‬
‫۩ ۩ ِومن فقه اال�ستخارة‪� :‬أنه ُي َ‬
‫�أحمد (‪ ،)423/5‬وابن حبان (‪ )4040‬عن �أبي �أيوب الأن�صاري ‪� d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪ :‬اكت ُْم‬
‫تب ُ‬
‫اهلل لك‪ ،‬ثم �أحمد ر َّبك وجمده‪ ،‬ثم ُقل‪( :‬اللهم‬ ‫أح�سنْ ُو�ضو َءك‪ ،‬ثم ِّ‬
‫�صل َما َك َ‬ ‫اخلط َب َة‪ ،‬ثم تو�ضَّ�أ ف� ِ‬
‫ِ‬
‫�إنك تقدر وال �أقدر وتعلم وال �أعلم و�أنت عالم الغيوب ف�إن ر�أيت يف فالنة ت�سميها با�سمها خريا يل يف‬
‫ديني ودنياي و�آخرتي فاقدرها يل و�إن كان غ ُريها خريا يل منها يف ديني ودنياي و�آخرتي فاق�ض يل‬
‫ذلك)‪.‬‬

‫يحب املُ ِّلحني بالدعاء‪ ،‬وقد ُروي يف‬


‫�ستحب تكرارها؛ لأنه دعا ٌء واهلل ُّ‬
‫۩ ۩ ِومن فقه اال�ستخارة و�سننها‪� :‬أنه ُي ُّ‬
‫ال�سني وغريه‪.‬‬
‫ذلك �أثر عن �أن�س ‪ d‬عند ابن ُّ‬

‫يك حافظ ًا‬


‫بن�ص الدعاء كما يف حديث جابر‪ ،‬ف�إن مل ُ‬ ‫۩ ۩ ِومن �أحكام اال�ستخارة‪� :‬أنّ الأف�ضل �أن ي�أتي ّ‬
‫الرتمذي‬
‫ُّ‬ ‫للدعاء ف�إنه َي�ص ُّح �أن يقت�صر على طلب اخلري ِة فقط ب�أن يقول‪( :‬اللهم اخ ْرت يل) فقط‪ ،‬فروى‬
‫من حديث �أبي بكر ال�صديق ‪�( :d‬أن النبي ‪ s‬كان �إذا �أراد �أمر ًا قال‪" :‬اللهم ِخ ْر يل‪ ،‬واخرت يل ")‪.‬‬
‫قال الرتمذي‪( :‬هذا حديث غريب ال نعرفه �إال من حديث زنفل وهو �ضعيف عند �أهل احلديث)‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستخارة‬

‫ عباد اهلل ! لقد كان لل�صاحلني والعارفني مع اال�ستخارة �ش�أن ًا عجيب ًا؛ فهذا الإمام البخاري يحكي عن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫فت هذا الكتاب‬ ‫نف�سه‪�( :‬ص َّن ُ‬ ‫نف�سه �أنه َما و�ضع حديث ًا يف كتابه ال�صحيح �إال وقد ا�ستخار َ‬
‫اهلل فيه‪ ،‬فقال عنه ِ‬ ‫ِ‬
‫وتيقنت �صحته)‪.‬‬
‫ُ‬ ‫و�صليت ركعتني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أدخلت فيه حديث ًا �إال بعدما ا�ستخرتُ اهلل تعاىل‬
‫يف امل�سجد احلرام وما � ُ‬
‫وكتا ُب ُه يحوي �أك َرث ِمن �أربعة �آالف حديث فكم ركع ًة �صالها رحمه اهلل‪.‬‬
‫ وها هو حممد بن جرير الطربي �إمام املف�سرين وعمدتهم يقول‪( :‬ا�ستخرتُ اهلل و�س�ألته العون على‬
‫ما نويته من ت�صنيف التف�سري قبل �أن �أعمله ثالث �سنني ف�أعانني)[ال�سري ‪ ]274/14‬فكان كتا ُبهما عمد ًة‬
‫و�أ�سا�س ًا ملن بعدهما‪.‬‬

‫ وكتب عم ُر بن اخلطاب ‪ d‬يف اجلد والكاللة كتاب ًا فمكث ي�ستخري اهلل يقول‪( :‬اللهم �إن علمت خري ًا‬
‫ف�أم�ضه)‪ ،‬حتى �إذا ُطعنَ َد َعا بالكتاب ف ُمحي‪ ،‬وقال‪�( :‬إين كنت كتبت يف اجلد والكاللة كتاب ًا‪ُ ،‬‬
‫وكنت ا�ستخرتُ‬
‫أيت �أن �أتر َككم على ما كنتم عليه)‪.‬‬‫اهلل فيه فر� ُ‬
‫ وجاء عن بع�ض ال�سلف �أنه كان �إذا �أراد �أن يكتب الفتوى ا�ستخار َ‬
‫اهلل تعاىل وقر�أ �آيات من القر�آن ودعا‬
‫و�س�أل الإجابة [التدوين ‪.]110/4‬‬

‫بلد ولو كانوا على ركابهم؛ (روى ابن ع�ساكر يف تاريخ‬‫ بل كانوا ي�ستخريون يف �أ�سفارهم قبل دخول � َّأي ٍ‬
‫أقبلت مع �أن�س بن مالك ‪ِ d‬من ال�شام فكان ُي�ص ِّلي على حماره‬‫دم�شق ‪ )315/9‬عن �أن�س بن �سريين قال � ُ‬
‫�أين ما توجه به تطوع ًا حتى �أتينا �أطط ًا‪ ،‬و�أ�صبحت الأر�ض غدائر‪ ،‬فا�ستخار ربه وا�ستقبل القبلة و�ص َّلى على‬
‫حماره‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‬
‫ �إن البع�ض يظن �أن اال�ستخارة �سي�أتي بعدها ر�ؤيا يراها ال�شخ�ص‪� ،‬أو عالم ٌة ك�أن يفتح القر�آنَ �أو كتاب ًا‬
‫فيج ُد فيه ما يد ُله على املُ ِ�ض ِّي يف الفعل �أو تركه؛ فرتاه يق�ص ُد النوم بعد اال�ستخارة لريى ر�ؤيا‪� ،‬أو يعم ُد �إىل‬
‫وال�سبب يف هذا اخلط�أ ظنُّ �أن اال�ستخارة ا�ستخبار ِمن اهلل تعاىل‪ .‬وهذا غ ُري مراد بل اال�ستخارة‬
‫امل�صحف لينظر فيه؛ َّ‬
‫رب تعلم �أن يف هذا الأمر �صالح ًا فاكتبه يل وي�سره يل وبارك يل فيه)‪.‬‬‫كنت يا ِّ‬‫طلب خري الأمرين‪ ،‬فالداعي يقول‪�( :‬إن َ‬
‫ومل يقل‪ْ �( :‬أرح نف�سي �إليه‪ ،‬وال �أرين فيه ر�ؤيا‪� ،‬أو �أخربين عن هذا الأمر)‪.‬‬

‫ (قال بع�ض �أهل العلم في�ض الباري ‪ )247/2‬وقد نبه العلماء قدمي ًا وحديث ًا على �أنه ال ُي�شرتط يف‬
‫يحدث يف قل ِبه جنوح ًا‬
‫ُ‬ ‫اال�ستخارة �أن يرى امل�ستخري ر�ؤيا‪� ،‬أو يكلمه ُمتك ِّلم‪� ،‬أو ُيل َقى يف َر ِ‬
‫وعه �شيء‪� ،‬أو �أن اهلل‬
‫�أو مي ًال �إىل جانب ين�شرح به �صد ُره وي�ستقر عليه‪ .‬ولو كان كذلك لع َّلمه فيه �أن يدعو ر َّبه ب�أن ي�صرف ُ‬
‫اهلل‬
‫قل َبه �إىل الأ�صلح‪ ،‬ولي�س فيه ذلك‪ ،‬و�إمنا �أن ي�صرف عنه ال�سوء ويقدر له اخلري حيث كان‪.‬‬

‫ قال ابن الزملكاين‪�( :‬إذا �ص َّلى الإن�سانُ َركعتي اال�ستخارة ل ٍ‬


‫أمر فليفعل بعدها ما بدا له �سواء ان�شرحت‬
‫نف�سه‪ ،‬ولي�س يف احلديث ما يدل على ا�شرتاط ان�شراح‬
‫نف�سه له �أم ال‪ ،‬ف�إن فيه اخل َري و�إن مل تن�شرح له ُ‬‫ُ‬
‫النف�س)‪.‬‬
‫‪141‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستشارة‬
‫اإلستشارة‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ف�إن ِمن الآداب ال�شرعية �آداب ًا تتعلق بطريق التفكري‪ُ ،‬‬
‫وح�سن التدبري‪ ،‬قبل اتخاذ الر�أي والإقدام على الفعل‪،‬‬
‫أدب جاء يف كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬وورد احلثُّ عليه يف �سنة امل�صطفى ‪s‬؛ �أال وهو امل�شاورة‬ ‫ومن هذه الآداب � ٌ‬
‫ُ‬
‫واال�ست�شارة‪ .‬ف�إن املرء (ذكر ًا �أو �أنثى) �إذا �أقدم على �أمر وعزم على فعل‪ ،‬ف�إنه ُي ُّ‬
‫�ستحب له امل�شاورة فيه‪ ،‬ثم‬
‫ا�ستخارة اهلل‪ ،‬ثم التوكل عليه ج ّل وعال والإقدام‪.‬‬

‫ وقد ورد الأمر بهذا الأدب الفا�ضل يف كتاب اهلل ع ّز وجل‪ ،‬فقال �سبحانه خماطب ًا نب ّيه ‪َ } :s‬و َ�شا ِو ْرهُ ْم‬
‫الل ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل ُي ِح ُّب المْ ُ َت َو ِّك ِلنيَ{؛ قال النووي‪( :‬هذه الآية ُتغني عن ُكل �شيء‬ ‫فيِ الأَ ْم ِر َف ِ�إ َذا َعزَ ْم َت َف َت َو َّك ْل َع َلى هَّ ِ‬
‫اهلل �سبحانه وتعاىل يف كتابه �أم��ر ًا جلي ًا نب َّيه ‪ s‬بامل�شاورة مع �أنه �أكمل اخللق فما الظن‬ ‫ف�إنه �إذا �أمر ُ‬
‫بغريه)‪.‬‬

‫أيت �أحد ًا قط �أك َرث م�شاور ًة لأ�صحابه من ر�سول‬


‫ وقد كان النبي ‪ُ s‬يكرث امل�شاورة قال �أبو هريرة‪( :‬ما ر� ُ‬
‫اهلل ‪[ )s‬رواه الرتمذي ‪ 375/5‬معلقا بغري �إ�سناد‪ ،‬وو�صله عبد الرزاق ‪ ،330/5‬قال ابن حجر‪ :‬رجاله‬
‫ثقات �إال �أنه منقطع]‪.‬‬

‫مطلب‬
‫وتنقيحه مبالقحة الفهوم‪ٌ ،‬‬ ‫َ‬ ‫والفكر من االنفراد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ عباد اهلل! �إن امل�شاورة يف الأمر‪ ،‬وحتري َر الر�أي‬ ‫خطبة جديدة‬
‫النا�س عق ًال‪ ،‬و�أمتهم ر�أي ًا‪،‬‬
‫�شرعي‪ ،‬قال ابن عطية‪( :‬ال�شورى من قواعد الإ�سالم‪ ،‬وعزائم الأحكام)‪ .‬ف�أكمل ِ‬
‫وحده‪ ،‬وال و�شقي عن‬ ‫و�أقربهم ا�ستنان ًا بالنبي ‪ s‬يف ذلك َمن �شاور غ َريه‪ ،‬و�سمع منهم‪ ،‬فما �سعد �أح ٌد بر�أيه َ‬
‫م�شورة غريه‪ ،‬وقد قيل‪:‬‬
‫�شــاور �ســواك �إذا ناب ـتــك نائــب ٌة‬ ‫ ‬
‫نت ِمن �أهل ا َمل�شورات‬ ‫يوم ًا وان ُك َ‬ ‫ ‬
‫ني تل َقى كفاح ًا َمن ن�أى ودنا‬‫فال َع ُ‬ ‫ ‬
‫وال ت ــرى نـ ـ ـف ــ�سـ ـه ـ ــا �إال بـ ـمــر�آة‬ ‫ ‬
‫الرجل الذي هو رج ٌل فرج ٌل له عقل‬ ‫ُ‬ ‫رجل‪ ،‬وال �شيء‪ ،‬ف�أما‬ ‫ون�صف ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ قال قتادة‪( :‬الرجال ثالثة رج ٌل‪،‬‬
‫رجل فرج ٌل له عق ٌل ور� ٌأي َيعمل به وهو ال ُي�شا ِور‪ ،‬و�أما الذي‬ ‫ن�صف ٍ‬ ‫ور� ٌأي َيع َم ُل به وهو ُي َ�شا ِور‪ ،‬و�أما الذي هو ُ‬
‫هو ال �شيء فرجل له عقل ولي�س له ر�أي يعمل به وهو ال ي�شاور) [رواه اخلطيب (يف تلخي�ص املت�شابه)]‬

‫‪142‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستشارة‬

‫آداب تتعلق بامل�ست�شري‪ ،‬واملُ�شري‪ :‬ف�أ ّما امل�ست�شري‪:‬‬


‫وهنا ‪-‬عباد اهلل‪ٌ � -‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�ستحب �أن ال ُي�شاور �إال َمن َيثقُ بدينه‪ ،‬وخربته‪ ،‬ويعلم حذ َقه و�صدق ن�صيحته‪ ،‬وكمال َو َر ِعه‬ ‫۩ ۩ ف�إنه ُي ُّ‬
‫ي�ستفهم ُك َّل جلي�س؛ قال الإمام‬
‫ُ‬ ‫و�شفق ِته‪ .‬فيحر�ص على �أن يختار َمن ُي�شاوره‪ ،‬فال ُي�شاور ُك ُّل ُمال َقى‪ ،‬وال‬
‫ال�شافعي‪ُ ( :‬ي�شاور من جمع بني العلم والأمانة) [�سنن البيهقي ‪.]111/10‬‬

‫أقرب لل�صَّ واب‪ ،‬ولأن النف�س‬


‫�شخ�ص؛ لأن ر� َأي اجلماع ِة � ُ‬
‫ٍ‬ ‫�ستحب �أن ُي�شاور �أك َرث من‬
‫۩ ۩ ومن الآداب �أنه ُي ّ‬
‫تطمئن وت�سكن لر�أيهم‪.‬‬
‫۩ ۩ ومن الآداب �أن يع ِّرف بهد ِفه من ذلك الأمر‪ ،‬و ُيبينِّ َملن ا�ست�شاره َما فيه من م�صلحة ومف�سدة �إن علم‬
‫�شيئ ًا من ذلك؛ لأن الآراء تختلف يف ال�شيء الواحد بح�سب املق�صود منه والباعث �إليه‪.‬‬

‫۩ ۩ومن الآداب �أنه يح�سن بامل�ست�شري �أن يظهر للم�شري �أن ر�أ َيه مقبو ٌل و�أنه �سيعمل به‪ ،‬لأن امل�شري �إذا علم‬
‫وح�سن الإ�شارة‪ ،‬بخالف ما �إذا علم �أن املق�صود‬ ‫�أن من ا�ست�شاره �سيعمل ب�إ�شارته زاد يف حم�ض الن�صح ُ‬
‫�إمنا هو ا�ستبانة الر�أي من غري عمل فرمبا حمله ذلك على الت�ساهل يف الأمر‪.‬‬

‫فمنها‪:‬‬
‫ ‪ w‬و�أ ّما الآداب املتعلقة بامل�شري الذي ا�ستُ�شري‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫الرجل احلديثَ ثم التفت‬ ‫۩ ۩�إن الواجب عليه �أن يكون حافظ ًا لل�سر غري ٍ‬
‫مف�ش له ويف احلديث‪�( :‬إذا حدث‬
‫فهي �أمانة)‪.‬‬

‫۩ ۩ �أنه يجب عليه �أن ُي�شري مبا يرى فيه اخلري‪ ،‬ف�إن َج ِهل �أو حار د ّله على غ ِريه ممن ُيح�سن الإ�شارة واملعرفة‬
‫ويكون ذا ر�أي‪� .‬إذ الواجب على امل�شري �أن يتقي َ‬
‫اهلل تعاىل و�أن ال ي�شري �إال بحقٍّ �أو مبا يعلم ف�إنها �أمانة‪� ،‬إن علم بينّ ‪،‬‬
‫و�إن جهل �سكت؛ وقد روى البيهقي (‪ )347/5‬من حديث جابر ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا ا�ستن�صح �أحدُكم �أخاه‬
‫يح ُة‪ ،‬قالوا‪ :‬ملن يا ر�سول اللهّ ؟‬
‫الداري ‪�d‬أن ر�سول اللهّ ‪ s‬قال‪( :‬الدّينُ ال َّن ِ�ص َ‬ ‫ّ‬ ‫فلين�صحه)‪ .‬روى م�سلم عن متيم‬ ‫ْ‬
‫قال‪ :‬للِ هَّ ِ ِوكتا ِب ِه َو َر ُ�سو ِل ِه و�أئ َّم ِة املُ ْ�سلِمِ َني َوعا َّم ِت ِه ْم)‪.‬‬

‫وروى �أهل ال�سنن عن �أبي هريرة ‪�d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬املُ ْ�ستَ�شا ُر ُم�ؤْتمَ َ نٌ )‪.‬‬ ‫ ‬

‫۩ ۩ ومن �أدب امل�شري �أن َيع َل َم �أنه ال َيلزَ ُم ال ُ‬


‫أخذ بر�أيه‪ ،‬فال يغ�ضب �إن مل ي�ؤخذ بر�أيه‪ ،‬وال يت َّربم ِمن عدم‬
‫ترجيح ر�أيه‪ ،‬ف�إمنا هي ا�ست�شارة ولي�ست �أمر ًا‪.‬‬

‫۩ ۩ ومن �آدابه‪� :‬أن ال ُي ِبدي الر�أي �إال �إذا ُطلب منه‪ ،‬ف�إن الإ�شارة بالر�أي ال تقع موقعها �إال �إذا كانت بعد‬
‫ي�ستخف بها املقابل �أو ال يلقي لها با ًال؛ وقد جاء �أن ابا بكر ال�صديق‬
‫َّ‬ ‫طلب‪ ،‬وما ابتد�أ بها �صاح ُبها فقد‬
‫‪ d‬قال‪( :‬لوال �أنك ت�ست�شرينا ما تكلمنا) [رواه قوم ال�سنة يف احلجة ‪]461/2‬‬

‫عباد اهلل! �إن امل�شاورة ملعرفة ِّ‬


‫احلق باالجتهاد‪ ،‬ف�إن ات�ضح له الر�أي عمل به‪ ،‬و�إال �أخره حتى يت�ضح له‬ ‫ ‬
‫‪143‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االستشارة‬

‫[�شرح الزرك�شي على اخلرقي ‪]253/7‬فاال�ست�شارة �إمنا تنف ُع �صاحب العقل الراجح‪ ،‬والر�أي ال�سديد‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ فلي�س املق�صود من اال�ست�شارة التقليد واملتابعة العمياء لل ُم�شار‪ ،‬و�إمنا هي �ض ُّم ر� ٍّأي لر�أي‪ .‬كما �أن‬
‫البع�ض يكون جاه ًال بالأمر الذي يرغب نظره‪ ،‬فا�ست�شارته‬ ‫اال�ست�شارة ال ترفع جه ًال‪ ،‬وال تك�سب معدوم ًا‪ .‬ف�إن َ‬
‫أمر ال يعلمه‪ ،‬فيلزمه �أو ًال �أن يتعلم هذا الأمر‪ ،‬ثم ي�ست�شري فيه‪.‬‬
‫لغريه �إمنا هي ُحكم على � ٍ‬

‫ كما �أنها ال تق�ضي على الرتدد‪ ،‬ف�إن بع�ض ًا من النا�س يغلب عليه الرتدد يف كثري من �ش�أنه‪ ،‬ولرمبا �ألأمر‬
‫أبلج وا�ضح ًا‪ ،‬ولكنَّ طبعه الرتدد ِ‬
‫وجب ّلته التي ن�ش�أ عليها عدم العزم‪.‬‬ ‫الذي َي�ست�شري فيه كان � َ‬
‫وقد قال الأول‪:‬‬
‫كنت ذا ر� ٍأي ف ُكن ذا عزمي ٍة‬
‫ �إن َ‬
‫ف�إن ف�ساد الر�أي �أن ترتددا‬ ‫ ‬
‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ �إن املرء �إذا ا�ست�شار غ َريه بالآداب ال�سابقة ف�إنها عالم ُة خري ّية وفالح‪ُ ،‬روي عند الطرباين (يف املعجم‬
‫(ما خاب من ا�ستخار‪،‬‬
‫ال�صغري ‪ ،980‬والأو�سط‪ 6627‬من حديث �أن�س بن مالك ‪� )d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫وال ِندم َمن ا�ست�شار‪ ،‬وال عال َمن اقت�صد)‪.‬‬

‫ومن الفوائد املتحققة َملن عمل بال�سنة يف اال�ست�شارة وال�شورى‪:‬‬ ‫‪w‬‬

‫۩ ۩�أحدها‪� :‬أنه تفكري بعقول‪ ،‬و�شخ ٌذ حلجى الرجال‪ ،‬فكما يرى املر ُء بالب�صر ما ال َي َرى الآخر‪ ،‬فكذا ر� ُأي‬
‫امل�شورة ف�إنه رمبا ر�أى فيها امل�شا َو ُر ما مل ي َر غ ُري ُه؛ قال علي ‪( :d‬اال�ست�شارة عني الهداية‪ ،‬وقد خاطر‬
‫بعقل غرينا يعني بامل�شاورة) [رواه ابن‬‫من ا�ستغنى بر�أيه) [الآداب ‪ .]322/1‬وقال زائدة‪�( :‬إمنا نعي�ش ِ‬
‫�أبي الدنيا]‪.‬‬

‫حم�ض َق َدرٍ‪ ،‬فلم َي ُل ْم َ‬


‫نف�سه على‬ ‫۩ ۩ومن فوائد امل�شاورة‪� :‬أن امل�شا ِور �إذا مل ينجح �أم ُر ُه ع ِل َم �أن امتناع النجاح ُ‬
‫اخلط�أ؛ لأنه بذل ال�سبب و�شاور ذوي االخت�صا�ص‪ ،‬ولكن �أم َر َ‬
‫اهلل �أنفذ‪.‬‬

‫۩ ۩ومن فوائدها‪ :‬ج ُرب خاطر امل�ست�شار‪ ،‬ورف ُع قدره‪ ،‬حني يعلم �أ ّنه قد �أُخذ ر�أ ُيه‪ ،‬وا�ستُ�شرف فه ُمهُ‪ ،‬قال ابن عالن [نتائج‬
‫الأفكار ‪( :]290/6‬ومنهج العرب وعادتهم اال�ست�شارة يف الأمور‪ ،‬و�إذا مل ُي�شاور �أح ٌد منهم وقع يف نف�سه‬
‫�شيء مِ َل مل ُي�شا َور‪ ،‬وا�ستب ّد عليهم برتك امل�شاورة)‪.‬‬

‫علي والزبري فقد جاء عند البيهقي يف (االعتقاد ‪� )351‬أنهما قاال‪( :‬ما غ�ضبنا �إال �أنا‬ ‫ وهذا ما كان من ٍّ‬
‫�أُخرنا عن امل�شاورة و�إنا نرى �أن �أبا بكر �أحقَّ النا�س بها بعد ر�سول اهلل ‪� s‬إنه ل�صاحب الغار وثاين اثنني و�إنا لنعرف‬
‫�شرفه وكربه ولقد �أمره ر�سول اهلل ‪ s‬بال�صالة بالنا�س وهو حي)‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اإلعتداء يف الدعاء‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬االعتداء يف الدعاء‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ومو�سم القربات‪�ُ ،‬شرع فيه العدي ُد من الأعمال ال�صاحلة‪ ،‬وت�أكدت فيه‬
‫ُ‬ ‫ ف�إن رم�ضانَ �شه ُر الطاعات‪،‬‬
‫‪.‬ومن الأعمال التي تت�أك ُد يف �شهر رم�ضان الإكثار من دعاء اهلل ج َّل وعال‪ ،‬والت�ضرع �إليه‪ ،‬و�س�ؤاله خريي‬
‫ِ‬
‫الدنيا والآخرة‪.‬‬

‫و�سطها قوله‬ ‫وفر�ضه يف رم�ضان يف �سورة البقرة َّ‬ ‫آيات ال�صيام َ‬ ‫ ولذا ف�إن اهلل ج ّل وعال حينما ذكر � ِ‬
‫يب �أُ ِج ُ‬
‫يب َد ْع َو َة ال َّدا ِع �إِ َذا َد َع ِان َف ْل َي ْ�ست َِجي ُبو ْا ليِ َو ْل ُي ْ�ؤ ِم ُنو ْا ِبي َل َع َّل ُه ْم‬ ‫تعاىل‪َ } :‬و�إِ َذا َ�س َ�أ َل َك ِع َبا ِدي َع ِّني َف ِ�إنيِّ َق ِر ٌ‬
‫َي ْر ُ�شدُونَ {مما يدلنا على �أن الدعاء مق�صو ٌد يف هذه الأيام‪ُ ،‬ترجى �إجابته‪ .‬وقد روى الرتمذي �أن النبي ‪s‬‬
‫قال‪( :‬ثالث ٌة ال ترد دعوتهم‪ ،‬وذكر منهم‪ :‬ال�صائم حتى ُيفطر‪ ،)..‬وروى ابن ماجه �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن‬
‫لل�صائم عند فطره لدعو ًة ما ُترد)‪.‬‬

‫وقد َّ‬
‫دل النبي ‪ s‬النا�س �إىل الإكثار من الدعاء يف هذا ال�شهر الف�ضيل؛ ففي حديث �سلمان ‪d‬‬ ‫ ‬
‫مرفوع ًا‪( :‬فا�ستكرثوا فيه من خ�صلتني تر�ضون بها ر َّبكم‪ ،‬وخ�صلتني ال غنى لكم عنهما؛ ف�أما اخل�صلتان‬
‫اللتان تر�ضون بهما ربكم ف�شهادة �أن ال �إله �إال اهلل‪ ،‬واال�ستغفار‪ .‬و�أما اخل�صلتان التي ال غنى بكم عنهما‬
‫فت�س�ألون اهلل اجلنة‪ ،‬وتعوذون به من النار)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ وليكرث ا َملر ُء من الدعاء واالبتهال‪ ،‬وااللتجاء وال يف هذه الليايل‪ ،‬و� ُ‬


‫أعظم ال�س�ؤال فيها �س�ؤال اهلل العفو؛‬
‫وافقت ليلة‬
‫ُ‬ ‫قلت يا ر�سول اهلل �إن‬
‫روى �أحمد والرتمذي و�صححه والن�سائي وابن ماجه عن عائ�شة ‪ g‬قالت‪ُ :‬‬
‫القدر فما �أقول قال‪( :‬قويل اللهم �إنك عفو حتب العفو فاعف عني)‪.‬‬

‫أحب من امل�سلمني‪ ،‬وقد‬ ‫ واملُ�سلم ي�س�أل اهلل ما �شاء من دقيق الأمور وجليلها‪ ،‬وعاجلها و�آجلها‪ ،‬له و َملن � َّ‬
‫إ�سناد �صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا �س�أل �أحدُكم فليكرث‪ ،‬ف�إمنا ي�س�أل ر َّبه)‪ ،‬وقال �أبو‬
‫روى ابن حبان ب� ٍ‬
‫ني على‬‫(جدوا بالدعاء‪ ،‬ف�إنه من يكرث قرع الباب يو�شك �أن ُيفتح له)‪ .‬وعن حذيفة ‪ d‬قال‪( :‬لي�أت َّ‬ ‫الدرداء‪ِ :‬‬
‫النا�س زما ٌن ال ينجو فيه �إال َمن دعا بدعاءٍ كدعاء الغريق)‪.‬‬

‫عباد اهلل! غ َري �أن اهلل ج ّل وعال حينما �أمرنا بالدعاء‪ ،‬نهانا عن االعتداء فيه‪ ،‬فقال �سبحانه وتعاىل‪:‬‬ ‫ ‬

‫‪145‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االعتداء يف الدعاء‬

‫} ا ْد ُعو ْا َر َّب ُك ْم ت ََ�ض ُّرع ًا َو ُخ ْف َي ًة ِ�إ َّن ُه َال ُي ِح ُّب المْ ُ ْعت َِدينَ {‪ .‬قال ابن َع َّبا�س ‪�ِ ( :d‬إ َّن ُه ال ُي ِح ّب المْ ُ ْعت َِدينَ فيِ ال ُّد َعاء‬
‫َوال فيِ َغ رْيه)‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ فاهلل ج ّل وعال ال ُي ِح ّب َمنْ ِا ْعت ََدى َفت ََجا َو َز َح ّده ا َّل ِذي َح َّد ُه ِل ِع َبا ِد ِه فيِ د َُعا ِئ ِه َو َم�سْ�أ َلته َر ّبه‪ ،‬فكان االعتدا ُء‬
‫يف الدعا ِء مانع ًا من قبو ِله و�إجابته‪ .‬قال ابن تيمية‪( :‬ال ُّد َعا ُء لي�س ُكلُّ ُه جائز ًا‪ ،‬بل فيه ُع ْد َوا ٌن محُ َ َّرم‪ ،‬وا َمل�شْ ُرو ُع‬
‫اظ‪ ،‬وتَا َر ًة يف ا َمل َعانيِ ‪ ،‬كما َف َّ�س َر ال�صحابة ذلك)‪.‬‬ ‫ال ُع ْد َوانَ فيه‪ ،‬و�أن ال ُع ْد َوانَ َي ُكونُ تَا َرة ً ِب َك رْ َث ِة الأ ْل َف ِ‬

‫و�إليك بع�ض ًا ِمن �أنواع االعتداء يف الدعاء التي ب ّينها �أهل العلم للحذر منها‪ ،‬واالبتعاد عنها‪:‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫فمن االعتداء بالدعاء‪� :‬س�ؤال الأمر املح ّرم �شرع ًا‪ .‬ك�س�ؤال اهلل الإعان َة على املح ّرمات‪� ،‬أو �س�ؤا ِله قطيع ًة‬ ‫۩۩ ِ‬
‫�صح عن النبي ‪� s‬أنه قال‪َ « :‬ما �أح ٌد يدعو بدعاء �إال‬ ‫مل�سلم �أو ماله‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬وقد َّ‬ ‫لرحم‪� ،‬أو �إهالك ًا ٍ‬
‫ال�سوء مث َله َما مل يدع ب�إثم �أو بقطيعة رحم »‪.‬‬ ‫كف عنه من ُّ‬ ‫�آتاه اهلل ما �س�أل �أو َّ‬

‫۩ ۩ ِومن �صور االعتدا ِء يف الدعاء‪ :‬االعتدا ُء يف املطلوب‪ :‬وذلك ب�س�ؤال ما ال ميكن �شرع ًا‪� ،‬أو عق ًال �أو عاد ًة‪.‬‬
‫قال �شيخ الإ�سالم‪َ ( :‬و ِمنْ اِال ْع ِت َدا ِء فيِ ال ُّد َعا ِء ‪� :‬أَنْ َي�سْ�أَ َل ا ْل َع ْب ُد َما مَْل َي ُكنْ ال َّر ُّب ِل َي ْف َع َل ُه ‪ِ .‬م ْث ُل ‪� :‬أَنْ َي�سْ�أَ َل ُه‬
‫الَ ْن ِب َيا ِء َو َل ْي َ�س ِم ْن ُه ْم �أَ ْو المْ َ ْغ ِف َر َة ِل ْل ُم�شْ ِر ِك َني َو َن ْح َو َذ ِل َك ‪� .‬أَ ْو َي�سْ�أَ َل ُه َما ِفي ِه َم ْع ِ�ص َي ُة هَّ ِ‬
‫الل َك ِ�إ َعا َن ِت ِه َع َلى‬ ‫َم َناز َِل ْ أ‬
‫وق َوا ْل ِع�صْ َي ِان)‪.‬‬ ‫ا ْل ُك ْف ِر َوا ْل ُف ُ�س ِ‬

‫ وقال ابن القيم‪ُ ( :‬ك ُّل �س� ٍؤال يناق�ض حكمه اهلل �أو يت�ضمن مناق�ضة �شرعه و�أمره �أو يت�ضمن خالف ما‬
‫�أخرب به فهو اعتداء ال يحبه اهلل وال يحب �سائ َله)‪.‬‬

‫۩ ۩ ِومن �صور االعتداء يف الدعاء‪ :‬االعتدا ُء يف الطلب‪ :‬وهو �س�ؤال دقائق الأمور‪ ،‬وجزئياتها‪.‬‬

‫ روى ابن ماجه (‪� )3864‬أن عبد اهلل بن معفل �سمع ابنه يقول‪( :‬اللهم �إين �أ�س�ألك الق�صر الأبي�ض عن‬
‫ميني اجلنة �إذا دخلتها)‪ ،‬فقال‪ْ �( :‬أي ُبني �سل اهلل اجلنة وعد به من النار‪ .‬ف�إين �سمعت ر�سول اهلل ‪ s‬يقول‪:‬‬
‫(�سيكون قوم يعتدون يف الدعاء)‪.‬‬

‫ فبني ‪� d‬أن �س�ؤال اجلزئيات يف الدعاء‪ ،‬ودقائق الأمور �أنها من االعتداء فيه‪ ،‬و�أن الواجب على ِ‬
‫امل�سلم‬
‫�أن يدعو بجوامع الكلم‪ ،‬دون تخ�صي�ص جلزئيات الأم��ور‪ .‬ولذلك حكم ٌة وهو �أن َمن �س�أل دقائق الأمور‬
‫وتف�صيالتها‪ ،‬قد ي�أتيه املطلوب بدون هذه التف�صيالت الدقيقة فال يقوى �إميانه بر ِّبه ويقينه بوعده‪ ،‬بخالف‬
‫َمن �س�أل الأمور جممل ًة مع �س�ؤال َ‬
‫اهلل اختيار الأكمل منها ف�إنه يكون �أكرث يقين ًا و�أح�سنَ ظن ًا بر ّبه‪.‬‬

‫ول هَّ ِ‬
‫الل ‪s‬‬ ‫لذا كان �أف�ضل الدعاء و�أجم ُع ُه ما كان من جوامع الك ِلم‪ .‬قالت عائ�شة ‪( :g‬كان َر ُ�س ُ‬ ‫ ‬
‫َي ْ�ست َِح ُّب الجْ َ َو ِام َع ِمنْ ال ُّد َعا ِء َو َي َد ُع َما ِ�س َوى َذ ِل َك) [رواه �أبو داود]‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االعتداء يف الدعاء‬

‫۩ ۩ ِومن �صور االعتداء يف الدعاء‪ :‬التق ّعر يف الكالم‪ ،‬والت�ش ّدق فيه‪ ،‬قال القرطبي‪( :‬االعتداء يف الدعاء‬
‫وال�س َّن ِة؛ َف َيت ََخ رْ َي �ألفاظا ُم ْف ِق َر ٍة وكلمات ُم َّ�س َج َع ٍة قد وجدها يف كراري�س‬
‫َاب ُّ‬
‫الكت ِ‬
‫هو‪� :‬أن َي ْد ُعو مبا لي�س يف ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ال �أ�صل لها وال ُم َع َو ٍل عليها‪ ،‬فيجعلها �شعاره ويرتك ما َد َعا به ر�سوله عليه ال�سالم‪ ،‬و ُك ُّل هذا مَْي َن ُع ِمنْ‬
‫ِا ْ�ست ََجا َب ِة ال ُّد َعاء)‪.‬‬

‫۩ ۩ومن �صور االعتداء يف الدعاء‪ :‬االعتدا ُء برفع ال�صوت الزائد‪ ،‬وحتريك اليدين عند الدعاء‪ ،‬قال ابن‬
‫(من االعتداء رفع ال�صوت يف الدعاء والنداء يف الدعاء وال�صياح)‪ ،‬وكان زيد بن �أ�سلم َي َر َى �أن‬ ‫جريح‪ِ :‬‬
‫َ‬
‫اجل ْه َر بال ُّد َعا ِء ِا ْع ِت َدا ٌء‪.‬‬

‫۩ ۩وك��ذا التلحني الزائد يف الدعا ِء هو من االعتداء فيه‪ ،‬لأن ُي�شعل عن التفكر يف املعاين �إىل الت�أثر‬
‫(ما تعارفه النا�س يف هذه الأزمان‬ ‫بالأ�صوات‪ ،‬قال ابن ال ُهمام من فقهاء احلنفية يف القرن ال�سابع‪َ :‬‬
‫ال�ص َي ِاح‪ ،‬واال�شتغال ِبت َْح ِري َر ِات ال َّن َغ ِم �إظهار ًا لل�صناعة ال َّن َغ ِم َي ِة‪ ،‬ال �إ َق َام ًة‬ ‫يط‪ ،‬واملبالغة يف ِّ‬ ‫من ال َّت ْم ِط ِ‬
‫اب النا�س به‪ ،‬فك�أنه‬ ‫ات َا ْل َردِّ‪ ،‬وهذا معلوم �إن كان َق�صْ ُد ُه � ْإع َج َ‬
‫للعب ُو ِد َّي ِة‪ ،‬ف�إنه ال َي ْقت َِ�ضي الإجابة‪ ،‬بل هو من ُم ْقت ََ�ض َي ِ‬
‫قال‪ْ :‬اع َج ُبوا ِمنْ ُح ْ�س ِن َ�ص ْو ِتي وتحَْ ِر ِيري)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعرتاف بالذنب‬
‫اإلعرتاف بالذنب‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ ‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ي�سلم ِمنها‪� ،‬إن �سلم من كبارها مل َي� َأمن ِمن ُغبارها‪ .‬جاء‬ ‫ٌ‬
‫مقارف للذنوب‪ ،‬ال يكاد ُ‬ ‫خط�أٌ‪،‬‬
‫ ف�إن ابني �آد ٌم ّ‬
‫مذنب �إال من عافيت)‪.‬‬
‫يف احلديث القد�سي �أن اهلل عز وجل يقول‪( :‬يا عبادي كلكم ٌ‬

‫بيد �أنّ النا�س يختلفون يف نوع الذنب‬ ‫آدمي �إال وقد �أذنب‪ ،‬ولكن َ‬
‫اهلل َيعفو ويغفر َملن �شاء‪َ .‬‬ ‫ ف َما ِمن � ٍّ‬
‫فمن النا�س َمن يقع يف �أعظمها وهو ال�شرك‪ِ ،‬ومنهم من يقع يف املوبقات‪ ،‬ومنهم من يقع يف الكبائر‪،‬‬
‫وكرثته‪ِ .‬‬
‫وال يكاد ي�سلم من ال�صغائر �أحد‪.‬‬

‫�سرف يف املع�صية‪ ،‬ويكرث منها‪� ،‬أو يجاهر بها‪ِ ،‬ومن النا�س َمن يكون دون ذلك‪.‬‬ ‫ كما �أنّ ِمن النا�س َمن ُي ِ‬
‫ ف�إذا عرف العب ُد ذلك‪ ،‬اعرتف بذنبه وتذكره و�أق ّر به‪ ،‬واملرادً‪ :‬االعرتاف به بني يدي اهلل‪ ،‬ولي�س �أمام‬
‫اهلل‪ ،‬ودعا ِئه‪َ ،‬‬
‫وحال حما�سبة النف�س‪.‬‬ ‫النا�س بالتحدث �أمامهم‪ ،‬و�إمنا يف مناجته َ‬

‫النف�س �إذا طالعت عي َبها‪ ،‬و�أق ّرت بذنبها‪ ،‬ورجعت �إىل ر ّبها معرتف ًة‪� ،‬أوجب ذلك لها ُ‬
‫الذ َّل‬ ‫ عباد اهلل! �إن َ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫نف�سه �إال ُمفل�س ًا مفتقر ًا‬ ‫واالنك�سار للواحد القهار‪ ،‬و�أجل�أتها للتوبة واالفتقار للعزيز الغفار‪ ،‬فال َيرى املر ُء َ‬
‫هلل‪ ،‬وال يرى لها حا ًال وال َمقام ًا وال َ�سبب ًا تتع ّلق به �إال مغفر َة اهلل ورحمتَه‪ ،‬فال عمل ُيدليِ به‪ ،‬وال و�سيل َة مينُّ‬
‫دخول َمن َك َ�س َر الفق ُر وامل�سكن ُة‬
‫إفال�س املح�ض َ‬‫ال�ص ْرف‪ ،‬وال ِ‬‫دخ ُل على اهلل تعاىل ِمن باب االفتقار ِّ‬ ‫بها‪ ،‬بل َي ُ‬
‫قل َبه‪ ،‬حتى و�صلت تلك الك�سرة �إىل �سويدائه فان�صدع و�شملته ِمن كل جهاته‪.‬‬

‫فلكل ذر ٍة من ذرات ج�سده الظاهرة والباطنة فاق ٌة تام ٌة و�ضرور ٌة كاملة �إىل ربه تبارك وتعاىل‪ ،‬و�أنه �إن‬ ‫ِّ‬
‫وخ ِ�س َر َخ َ�سار ًة ال جترب �إال �أن َيعود ُ‬
‫اهلل تعاىل عليه ويتداركه برحمته‪.‬‬ ‫تخلى عنه طرف َة عني َه َل َك َ‬

‫�سبب ملغفرة ذنبه وحم ِوه‪ ،‬يقول اهلل ج ّل‬ ‫ عباد اهلل! �إن اعرتاف العبد بذنبه‪ ،‬و�إقرا َره به بني يدي ر ّبه ٌ‬
‫َ‬ ‫ُوب َع َل ْي ِه ْم �إِنَّ هَّ‬
‫الل َغ ُفو ٌر‬ ‫ُ‬
‫وعال‪َ } :‬و� َآخ ُرونَ اعْترَ َ ُفو ْا ِب ُذ ُنو ِب ِه ْم َخ َل ُطو ْا َع َم ًال َ�صالحِ ًا َو� َآخ َر َ�س ِّيئ ًا َع َ�سى اهلل �أَن َيت َ‬
‫َّر ِحي ٌم{‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعرتاف بالذنب‬

‫اهلل اعرتافهم بذنبهم �سبب ًا ملغفرة ذنوبهم �إن عملوا �صاحل ًا‪ .‬لذا كان النبي ‪ s‬يق ّدم بني يدي‬ ‫ فجعل ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫دعائه اعرتاف ًا بذنبه‪ ،‬قال ‪َ :s‬‬


‫(من قال حني ُي�صبح �أو حني مي�سي‪ :‬اللهم �أنت ربي ال�إله �إال �أنت خلقتني و�أنا‬
‫عبدُك و�أنا على عهدك ووعدك ما ا�ستطعت �أعوذ بك من �شر ما �صنعت‪� ،‬أبوء لك بنعمتك‪ ،‬و�أبوء بذنبي‪،‬‬
‫فاغفر يل �إنه ال يغفر الذنوب �إال �أنت فمات من يومه �أو من ليلته دخل اجلنة)‪ .‬وقوله ‪�( :s‬أبوء بذنبي) �أي‬
‫�أق ُّر به و�أعرتف‪ ،‬وقد �س ّمى النبي ‪ s‬هذا الدعاء ب�س ّيد اال�ستغفار‪.‬‬

‫�شرط قبول التوبة‪ ،‬فال ت�ص ُّح توب ٌة �إال بثالثة �شروط‪ ،‬الإقر ُار بالذنب والندم عليه‪،‬‬
‫ �إن االعرتاف بالذنب ُ‬
‫العزم على عدم العودة �إليه‪ .‬فاالعرتاف بالذنب والإقرار به �شرط �صحة التوبة‪َ ،‬ومن مل‬ ‫ثم الإقالع عنه‪ ،‬ثم ُ‬
‫يعرتف بذنبه وتق�صريه فلي�س بتائب‪.‬‬

‫�سبب لقبول العبادات‪ِ ،‬ومن �أج ِّلها الدعاء‪ ،‬ف َمن ق ّدم بني يدي اهلل اعرتاف ًا بنعمته‬
‫ االعرتاف بالذنب ٌ‬
‫عليه �سبحانه‪ ،‬و�إقرار ًا بذنبه وتق�صريه جتاهه‪ ،‬معرتف ًا بهذا وذاك‪ ،‬ف�إن ذلك �أحرى ب�إجابة دعائه‪ ،‬روى‬
‫الرتمذي ب�إ�سناد �صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬دعوة ذي النون �إذا دعا وهو يف بطن احلوت‪ :‬ال �إله �إال �أنت‬
‫قط �إال ا�ستجاب ُ‬
‫اهلل له)‪.‬‬ ‫�سبحانك �إين كنت من الظاملني‪ .‬ف�إنه مل يدع بها رج ٌل م�سل ٌم يف �شيءٍ ُّ‬

‫الل ‪َ :s‬ع ِّل ْم ِني د َُعا ًء �أَ ْد ُعو ِب ِه فيِ َ�صال ِتي‪.‬‬ ‫ال�صدِّ ِيق ‪� d‬أَ َّن ُه َق َال ِل َر ُ�س ِول هَّ ِ‬ ‫ ويف ال�صحيحني عن �أَ ِبي َب ْك ٍر ِّ‬
‫وب �إالَّ �أَ ْن َت‪َ ،‬ف ْاغ ِف ْر ليِ َم ْغ ِف َر ًة ِمنْ ِع ْن ِد َك‪،‬‬ ‫َق َال‪ُ ( :‬ق ْل‪ :‬ال َّل ُه َّم �إنيِّ َظ َل ْم ُت َن ْف ِ�سي ُظ ْلم ًا َك ِث َري ًا‪َ ،‬وال َي ْغ ِف ُر ال ُّذ ُن َ‬
‫َوا ْر َح ْم ِني �إ َّن َك �أَ ْن َت ا ْل َغ ُفو ُر ال َّر ِح ُيم)‪ .‬فع ّلم النبي ‪� s‬صاح َبه �أن يقول يف �صالته هذا الدعاء الذي يت�ض ّمن‬
‫الإقرار بالذنب‪ ،‬واالعرتاف به‪.‬‬

‫ عباد اهلل! لقد �أق ّر �أنبيا ُء اهلل كلُّهم بالذنب بني يدي ر ّبهم‪ ،‬وكذا د� ُأب امل�ؤمنني‪ ،‬يف �صحيح م�سلم عن‬
‫(وجهت وجهي للذي فطر ال�سماوات‬ ‫علي بن �أبي طالب ‪� d‬أن ر�سول ‪ s‬كان �إذا قام �إىل ال�صالة قال‪َّ :‬‬
‫والأر�ض حنيف ًا وما �أنا من امل�شركني‪� ،‬إن �صالتي ون�سكي وحمياي ومماتي هلل رب العاملني ال �شريك له وبذلك‬
‫واعرتفت بذنبي‬
‫ُ‬ ‫�أمرت و�أنا من امل�سلمني‪ .‬اللهم! �أنت امللك ال �إله �إال �أنت‪� ،‬أنت ربي و�أنا عبدك ظلمت نف�سي‬
‫ف�أغفر يل ذنوبي جميع ًا �إنه ال يغفر الذنوب �إال �أنت‪.)..‬‬

‫ ويف املُقابل ف�إن عدم االعرتاف بالذنب د� ُأب �أهل النفاق‪ ،‬قال ال�شيخ تقي الدين‪َ :‬‬
‫(من مل يعرتف بذنبه‬
‫كان من املنافقني‪ ..‬لأنه باعرتافه يخرج عن ح ّد النفاق لأن املنافق هو الذي ي�ستبطن الكفر وال يظهره)‪.‬‬

‫نف�سه‪ ،‬وال ُيق ُّر بخطيئته‪ ،‬يلتم�س املعاذير‪،‬‬ ‫ فرتى َمن هذه �صف ُتهُ‪ :‬يعمل الذنب بعد الذنب‪ ،‬وال ُيراجع َ‬
‫و ُيكاب ُر عن اخلط�أ‪ ،‬ويرت ّفع عن الإنابة والإقرار لر ّبه‪َ } ،‬و�إِ َذا ِق َيل َل ُه ات َِّق هَّ َ‬
‫الل �أَ َخ َذ ْت ُه ا ْل ِع َّز ُة ِبالإِ ْث ِم َف َح ْ�س ُب ُه‬
‫َج َه َّن ُم َو َل ِب ْئ َ�س المْ ِ َهادُ{‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اإلعرتاف بالذنب‬

‫اهلل على قلوبهم ال َيعرت ُفون بذنب‪ ،‬وال ُيق ُّرون مبع�صية‪ ،‬حتى وهُ م ُينا َق ُ�شون‬ ‫ ف�أهل املعا�صي الذين َختم ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�س َل َم َما ُك َّنا َن ْع َم ُل ِمن ُ�سوءٍ َب َلى �إِنَّ هَّ َ‬
‫الل‬ ‫احل�ساب‪ ،‬قال اهلل‪} :‬ا َّل ِذينَ َت َت َو َّفاهُ ُم المْ َال ِئ َك ُة َظالمِ ِي �أَن ُف ِ�س ِه ْم َف�أَ ْل َق ُو ْا َّ‬
‫َع ِلي ٌم بمِ َ ا ُكنت ُْم َت ْع َم ُلونَ {‪ ،‬فكابروا وعاندوا و�أنكروا �أنهم يعملون ال�سو َء واخلط�أ‪.‬‬

‫ وهوالء لن يعرتفوا بذنبوهم حتى يروا عذاب جهنم عيان ًا‪ ،‬ويت�أكدوا ِمن وقوعهم فيها‪ ،‬فيعرتفون رجا َء‬
‫اخلروج منها } َقا ُلوا َر َّب َنا �أَ َم َّت َنا ا ْث َن َتينْ ِ َو�أَ ْح َي ْي َت َنا ا ْث َن َتينْ ِ َفاعْترَ َ ْف َنا ِب ُذ ُنو ِب َنا َف َه ْل �إِ ىَل ُخ ُر ٍوج ِّمن َ�س ِب ٍيل{؛ �أي فهل‬
‫�سنخرج من النار بهذا االعرتاف بذنب‪ ،‬و�أ ّنى ذلك وقد ت� ّأخر‪.‬‬ ‫ُ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اإلقتصاد يف املعيشة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬االقتصاد يف املعيشة‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫آدمي له فقال �سبحانه‪َ } :‬و�إِ َّن ُه لحِ ُ ِّب الخْ َ رْ ِي َل َ�ش ِدي ٌد{‪ ،‬وام َّ‬
‫نت‬ ‫املال خري ًا‪ ،‬وبينّ �ش ّدة ُح ِّب ال ِّ‬
‫اهلل َ‬‫ فلقد �سمى ُ‬
‫الغني ال�شاك ُر الباذل ب�أدنى درج ٍة‬ ‫على نبينا حممد ‪ s‬به فقال �سبحانه‪َ } :‬و َو َج َد َك َعا ِئ ًال َف�أَ ْغ َنى{‪ ،‬فلي�س ُّ‬
‫الكفاف عن النا�س‪ ،‬واال�ستغنا َء عنهم لكفى به‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِمن الفقري ال�صابر املحت�سب‪ .‬ولو مل يكن يف املال ف�ض ٌل �إال‬
‫قال �سفيان الثوري‪( :‬املال يف هذا الزمان �سال ٌح)‪.‬‬
‫ ‬
‫يجب عليه فيه حقو ٌق متعددة‪:‬‬ ‫روطه‪ ،‬ف َمن وهبه اهلل تعاىل ما ًال‪ ،‬ف�إنه ُ‬ ‫و�ش َ‬ ‫لوازم ُه ُ‬
‫َ‬ ‫بيد �أن لك ّل �شيءٍ‬
‫َ‬ ‫ ‬
‫ِمن �أداء حقّ اهلل فيه‪ ،‬وعدم منع زكاته‪ ،‬ولزوم النفقة َملن وجبت نفقتهم من القرابات‪ ،‬ومعاونة املُ ِ‬
‫�سلم‬
‫ال�س ِب ِيل َو َال ُت َب ِّذ ْر‬
‫اهلل هذه احلقوق فقال‪َ } :‬و� ِآت َذا ا ْل ُق ْر َبى َح َّق ُه َوالمْ ِْ�س ِك َني َوا ْبنَ َّ‬ ‫واملحتاج وغري ذلك‪ ،‬وقد ذ َك َر ُ‬
‫ِ‬
‫َت ْب ِذير ًا{‪.‬‬

‫ولزوم االقت�صا ِد يف ت�صريفة‪ ،‬ف�إن‬


‫عدم الإ�سراف فيه‪َ ،‬‬ ‫جتب يف املال َ‬ ‫ عباد اهلل! �إنّ ِمن احلقوق التي ُ‬
‫إ�سراف والتبذي ُر �إمنا يكون بو�سو�سة ال�شياطني لي�ص ّد ابن �آدم؛‬ ‫وال�ش َّح �صف ٌة ال تكون يف امل�ؤمنني‪ ،‬وال ُ‬ ‫خل ُّ‬ ‫ال ُب َ‬
‫خطبة جديدة‬

‫يقول اهلل تعاىل‪�ِ }:‬إنَّ المْ ُ َب ِّذرِينَ َكا ُنو ْا ِ�إ ْخ َوانَ ال�شَّ َي ِاط ِني َو َكانَ ال�شَّ ْي َطانُ ِل َر ِّب ِه َك ُفور ًا{‪.‬‬

‫و�سط بني هذين‪ ،‬فال هو بامل�سرف وال باملقرتّ‪ ،‬وهذا ما ذكره اهلل يف كتابه فقال �سـ ــبحان ـ ـ ــه‪:‬‬ ‫ وامل�ؤمن ٌ‬
‫} َو َال تجَْ َع ْل َي َد َك َم ْغ ُلو َل ًة ِ�إ ىَل ُع ُن ِق َك َو َال َت ْب ُ�س ْط َها ُك َّل ا ْل َب ْ�س ِط َف َت ْق ُع َد َم ُلوم ًا محَّْ ُ�سور ًا{} َيا َب ِني �آ َد َم ُخ ُذو ْا‬
‫زِي َن َت ُك ْم ِع َند ُك ِّل َم ْ�س ِج ٍد و ُك ُلو ْا َوا�شْ َر ُبو ْا َو َال ُت ْ�س ِر ُفو ْا ِ�إ َّن ُه َال ُي ِح ُّب المْ ُ ْ�س ِر ِفنيَ* ُق ْل َمنْ َح َّر َم زِي َن َة هَّ ِ‬
‫الل ا َّل ِت َي �أَ ْخ َر َج‬
‫ات ِمنَ ال ِّر ْز ِق{‪.‬‬ ‫ِل ِع َبا ِد ِه َوا ْل َّط ِّي َب ِ‬

‫ ف�أمر بالتز ّين‪ ،‬ونهى عن ال�س ّرف‪ ،‬ثم بني م ّرة �أخرى �أن التنعم بالطيبات لي�س من ال�سرف‪ ،‬فالتو�سط‬
‫بني الأمرين هو العقل‪ ،‬وهو متام الفقه والفهم‪ ،‬يف امل�سند �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬من فقه الرجل رف ُق ُه يف‬
‫َمعي�شته)‪.‬‬
‫للنبي ‪،s‬‬ ‫إ�سراف والتبذير لي�سا ِمن الدين‪ ،‬وال توافقان �أوام�� َره‪ ،‬واملُ ُ‬
‫�سرف لي�س بكامل االتبا ِع ِّ‬ ‫ فال ُ‬
‫‪151‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االقتصاد يف املعيشة‬

‫املباح يف ح ّقه �إىل حم َّر ٍم ي� ُأثم عليه‪ ،‬فقد ذكر الفقهاء �أن ِمن املباحات ما َي�ستحي ُل �إىل ا ُ‬
‫حلرمة �إذا‬ ‫نقلب ُ‬ ‫و َي ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ُق�صد بها املُباها ُة والتّ�صنع‪ ،‬و�أدت �إىل الإ�سراف‪ ،‬والأحاديث يف ذلك كثرية جد ًا منها �أن النبي ‪ s‬نهى‬
‫ق�ص ُد بها املُبا َرا ُة و�إظها ُر ال ِغ َنى وال ُف َ‬
‫ح�ش فيه على‬ ‫عن طعام املُ َت َبا ِرين‪� ،‬أي �أنه نهى عن ح�ضور ال َوليمة التي ُي َ‬
‫الغري‪ ،‬فك�أنهم يت�سابقون يف الإ�سراف والتبذير‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن الإ�سراف يف زماننا حت ّول من كونه �سلوك ًا فردي ًا �إىل كونه ظاهرة عامة بني املجتمع‪ ،‬فلم‬
‫إ�سراف خا�ص ًا باملو�سرين وحدهم‪ ،‬بل الك ُّل فيه �سواء فتجده ُي�سرف يف الكماليات ولو ٍ‬
‫بقر�ض‪ .‬وقد‬ ‫َيعد ال ُ‬
‫ال�شراء بو�سائله الدعائية‪ ،‬وت�سهيالت يف الدفع‬ ‫مرغبات يف ِّ‬ ‫دعا لذلك ما انتجتُه �سمة احليا ِة الع�صرية من ّ‬
‫بطاقات ائتماني ًة ل َي َ‬
‫قرت�ض بها و َي�شرتي ال�سل َع اال�ستهالكي َة الكمالية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫حتى لتج ُد يف جيب اجلميع‬

‫مكان (يف ال�شارع وال�سيارة وال�صحيفة والبيت) لتتوىل فتح �شهية‬ ‫ و�أ�صبحت الإعالناتُ التجارية يف ُكل ٍ‬
‫ال�سل َع املُع َلن عنها ف�سيكون غري �سعيد‪ ،‬وغري ف ّعال‪،‬‬
‫امل�ستهلك لال�ستهالك‪ ،‬وتلقي يف روعه �أنه �إذا مل َي�ستهلك ِّ‬
‫و�سيظهر مبظهر غري الئق‪.‬‬

‫البع�ض ي�ستدين ‪-‬ال لي�أكل �أو ي�سكن‪ -‬و�إمنا ليلبي رغبته ورغبة �أ�سرته يف ال�سفر للخارج‪� ،‬أو‬ ‫ُ‬ ‫ و�أ�صبح‬
‫لإقامة حفلة زواج البنه �أو ابنته تليق بواقع النا�س ونظرتهم! ومث ُل ُه ُيقال يف نوع الأثاث واملر َكب ونحوه‬

‫ �إن الإ�سالم (عباد اهلل !) يحثّ امل�سلمني ال على اال�ستهالك و�إمنا على اال�ستغناء عن الأ�شياء بدل اال�ستغناء‬
‫تب�صر �إىل الإ�سراف فيها‪ ،‬وهدر الأموال فيما‬
‫بها حتى ال ت�ستعبدهم املادة ويكونون �أ�سريين لها؛ ومن�ساقني بال �إرادة وال ُّ‬
‫ال ينفع تقليد ًا للغري‪.‬‬

‫إ�سراف املذموم َة عاد ًة ما تكون عند َمن يرزقه اهلل ما ًال‪� ،‬أو يجاور ذاك الغني‪� ،‬أو ُي�صاهر‬ ‫ �إن خ�صل َة ال ِ‬
‫ن�ش َ�أ‬
‫اهلل من الإ�سراف عند عند ورود املال و�إقباله كحال َح َ�صا ِد الزرع فقال‪َ } :‬وهُ َو ا َّل ِذي �أَ َ‬ ‫ال�س ِر َّي‪ ،‬وقد ح ّذر ُ‬ ‫َ‬
‫و�ش ٍات َوال َّن ْخ َل َوال َّز ْر َع مخُْ َت ِلف ًا �أُ ُك ُل ُه َوال َّز ْي ُتونَ َوال ُّر َّمانَ ُمت ََ�شا ِبه ًا َو َغ رْ َي ُمت ََ�شا ِب ٍه ُك ُلو ْا‬
‫و�ش ٍات َو َغ رْ َي َم ْع ُر َ‬ ‫َج َّن ٍات َّم ْع ُر َ‬
‫ِمن َث َم ِر ِه ِ�إ َذا �أَ ْث َم َر َو�آ ُتو ْا َح َّق ُه َي ْو َم َح َ�صا ِد ِه َو َال ُت ْ�س ِر ُفو ْا ِ�إ َّن ُه َال ُي ِح ُّب المْ ُ ْ�س ِر ِفنيَ{‪.‬‬

‫فالواجب على امل�سلم �أال يغ ّرت ب�إقبال الدنيا عليه بالإ�سراف يف �صرفها وتبذيرها ِمن غري ِ‬
‫موج ٍب‪ ،‬و�إن‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫أحب �إىل اهلل ِمن ال َوفر ِة يف املال مع الإ�سراف‪ ،‬قال عمر ‪( :d‬اخلرق‬‫ري و� ُّ‬‫وح�سن تدبري خ ٌ‬
‫باقت�صاد ُ‬
‫ٍ‬ ‫فقر ًا‬
‫أخوف عندي عليكم من ال َعوز‪ ،‬ال يق ُّل �شي ٌء مع الإ�صالح وال يبقى �شيء على الف�ساد)‪ .‬وذلك �أن‬
‫يف املعي�شة � ُ‬
‫للرب جل وعال‪ ،‬ومف�س ٌد للدنيا‪.‬‬‫نغ�ضب ٍّ‬
‫ٌ‬ ‫الإ�سراف‬

‫�سبب لإذهاب النعمة‪ ،‬وحلول النقمة‪ُ ،‬روي عند الإمام �أحمد من حديث ابن‬ ‫ نعم �إن التبذي َر وال َ‬
‫إ�سراف ٌ‬
‫م�سعود ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ما عال من اقت�صد)‪ .‬قال ُ�ش ّراح احلديث‪�( :‬أي ما افتقر وال َجا َر َمن �أنفَقَ‬
‫َق�صْ َد ًا ومل َيتجاوز �إىل الإ�سراف)‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬االقتصاد يف املعيشة‬

‫وعدم الإ�سراف فيها هو ِمن �شكر اهلل تعاىل‪ِ ،‬ومن �أ�سباب حفظها وعدم زوالها‬
‫ فاالقت�صا ُد يف املعي�شة ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫كما ب ّينه النبي ‪ s‬يف هذا احلديث‪.‬‬

‫ وقد امتثل ال�صحابة ‪ f‬ذلك �أكمل االمتثال‪ ،‬ف�إن �أ ّم امل�ؤمنني ميمونة ـ ‪ s‬ـ �أب�صرت ح َّب َة ُر َّم ٍان يف‬
‫الأر�ض �أخذتها وقالت‪�« :‬إن اهلل ال يحب الف�ساد»‪ .‬والتقط �أبو الدرداء ‪ d‬ح َّب ًا منثور ًا يف غرفة له‪ ،‬وقال‪�« :‬إن‬
‫ِمن فقه الرجل ِرف َقه يف معي�ش ِته»‪.‬‬

‫ ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬البعوض‬
‫البعوض‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬

‫ومما �ضرب اهلل املثل به‪ :‬البعو�ض‪ ،‬فقال �سبحانه‪:‬‬ ‫فقد �ضرب اهلل يف كتابه الأمثال لعباده‪ ،‬ليتفكروا ويت�أملوا‪ّ ،‬‬
‫و�ض ًة َف َما َف ْو َق َها َف�أَ َّما ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا َف َي ْع َل ُمونَ �أَ َّن ُه الحْ َ ُّق ِمن َّر ِّب ِه ْم َو�أَ َّما‬ ‫} ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َال َي ْ�ست َْح ِيي �أَن َي�ضْ ِر َب َم َث ًال َّما َب ُع َ‬
‫الل ِب َه َـذا َم َث ًال ُي ِ�ض ُّل ِب ِه َك ِثري ًا َو َي ْه ِدي ِب ِه َك ِثري ًا َو َما ُي ِ�ض ُّل ِب ِه �إِالَّ ا ْل َف ِا�س ِقنيَ{‪.‬‬ ‫ا َّل ِذينَ َك َف ُرو ْا َف َي ُقو ُلونَ َم َاذا �أَ َرا َد هَّ ُ‬
‫وقوله تعاىل‪َ } :‬ف َما َف ْو َق َها{ �أي يف ال�صغر �أو فوقها يف الكرب ف�سبحان اهلل‪.‬‬

‫أ�ضعف َخ ْل ِق اهلل و� ِ‬
‫أ�صغر الكائنات املرئية‪ ،‬ال ي�أبه به �أحد‪ ،‬يخرج فج�أ ًة ويذهب‬ ‫ �إن البعو�ض عباد اهلل من � ِ‬
‫فج�أة‪ ،‬ومع ذلك ذكره اهلل يف كتابه العظيم َم َث ًال عظ ًة وعربة؛ �أخرج �أبو ال�شيخ يف العظمة عن �أبي هريرة‬
‫‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�« :‬إن اهلل لو �أغفل �شيئا لأغفل الذرة واخلردلة والبعو�ضة»‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن يف خلق البعو�ض لآية ففيها من دقيق ال�صنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإن�سان �أن يحيط‬
‫بو�صفه‪ ،‬فعلى �صغر حجمها‪ ،‬ودقة ج�سمها‪� ،‬إال �أنّ يف خلقتها لآية‪ ،‬ف�إن فيها ذكر ًا و�أنثى ولذا �أمر اهلل بت�أ ّمل‬ ‫خطبة جديدة‬
‫الذ َك َر َوالأُن َثى{‪.‬‬
‫ذلك فقال‪َ } :‬و َما َخ َلقَ َّ‬

‫أرجل‪ ..‬ثم �إن � َ‬


‫أعمل فيها‬ ‫فم وعني و�أجنحة و� ٍ‬‫خل ْلق‪ ،‬ذا ٍ‬ ‫ ولو كبرّ املرء �صورتها لر�أى فيها حيوان ًا ّ‬
‫�سوى ا َ‬
‫وجوارح لل�سمع والب�صر وال�شم والذوق‪ .‬ف�سبحان‬
‫َ‬ ‫مب�ض َع َه حتت املجهر لر�أى لها �أجهز ًة لله�ضم والتنف�س‬
‫�أح�سن اخلالقني‪.‬‬

‫ روى الإمام �أحمد �أن النبي ‪ s‬قال‪ :‬قال اهلل عز وجل‪« :‬ومن �أظلم ممن يخلق كخلقي فليخلقوا بعو�ضة‪،‬‬
‫�أو ليخلقوا ذرة»‪.‬‬

‫واهلل �سبحانه وتعاىل يعلم ويرى دبيب النملة ال�سوداء يف الليلة الظلماء على ال�صخرة ال�صَّ َّماء َ‬
‫حتت‬ ‫ ‬

‫‪154‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬البعوض‬

‫ال�سمك يف املاء‪ ،‬وتن َّق ُل البعو�ض يف الهواء‪ ،‬ويرى مناط عروق البعو�ض والذر‪،‬‬
‫أر���ض الغرباءِ‪ ،‬وحرك َة َّ‬
‫ال ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وجريان القوت واملاء يف العروق والأغ�صان‪ ،‬مهما د َّقت وغم�ضت‪ ،‬وما هو �أدق من ذلك بكثري مما ا�ست�أثر‬
‫بعلمه ال �إله �إال هو اللطيف اخلبري املحيط عل ُمه بال�سابق والالحق واحلايل والواجب وامل�ستحيل واملمكن‪.‬‬

‫واملخلوقات فيها ال تزن عند اهلل جناح‬ ‫ِ‬ ‫ عباد اهلل! و�إنّ هذه الدنيا جمي َعها بجبالها و�أنها ِرها وكنوزِها‬
‫بعو�ضة‪ ،‬وروى الرتمذي َعنْ َ�س ْه ِل ْب ِن َ�س ْع ٍد ‪� ،d‬أن النبي ‪ s‬قال‪َ « :‬ل ْو َكا َن ِت ال ُّد ْن َيا َت ْع ِد ُل ِع ْن َد ا ِ‬
‫هلل َج َن َاح‬
‫و�ض ٍة َما َ�س َقى َكا ِف ًرا ِم ْن َها َ�ش ْر َب َة َماءٍ »‪.‬‬
‫َب ُع َ‬

‫ وليعلم امل��ر ُء �أن طاعته هلل �إمنا هي مل�صلحة نف�سه‪ ،‬وال تزيد اهلل عز وجل يف ملكه �شيئ ًا ولو جناح‬
‫ول هَّ ُ‬
‫الل َت َع ىَال‪َ :‬ل ْو �أَنَّ �أَ َّو َل ُك ْم َو� ِآخ َر ُك ْم َو َح َّي ُك ْم‬ ‫بعو�ضة‪ ،‬روى الرتمذي عن �أَ ِبي َذ ٍّر ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪« :‬ي ُق ُ‬
‫و�ض ٍة‪َ ،‬و َل ْو‬‫َو َم ِّي َت ُك ْم َو َر ْط َب ُك ْم َو َيا ِب َ�س ُك ْم ْاج َت َم ُعوا َع َلى �أَ ْت َقى َق ْل ِب َع ْب ٍد ِمنْ ِع َبا ِدي َما َزا َد َذ ِل َك فيِ ُم ْل ِكي َج َن َاح َب ُع َ‬
‫�أَنَّ �أَ َّو َل ُك ْم َو� ِآخ َر ُك ْم َو َح َّي ُك ْم َو َم ِّي َت ُك ْم َو َر ْط َب ُك ْم َو َيا ِب َ�س ُك ْم ْاج َت َم ُعوا َع َلى �أَ�شْ َقى َق ْل ِب َع ْب ٍد ِمنْ ِع َبا ِدي َما َن َق َ�ص َذ ِل َك‬
‫و�ض ٍة»‪.‬‬ ‫ِمنْ ُم ْل ِكي َج َن َاح َب ُع َ‬
‫ ولذا ف�إن الكافر ال يزن عند اهلل هذا اجلناح روى ال�شيخان‪ :‬عن �أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�« :‬إنه‬
‫لي�أتي الرجل العظيم ال�سمني يوم القيامة ال يزن عند اهلل جناح بعو�ضة وقال اقرءوا‪َ } :‬فال ُن ِق ُيم َل ُه ْم َي ْو َم‬
‫ا ْل ِق َي َام ِة َو ْزن ًا{»‪ .‬بخالف امل�ؤمن ف�إن امليزان يثقل به يوم القيامة‪.‬‬

‫وينكت فيه‪ ،‬روى‬ ‫ُ‬ ‫ عباد اهلل! ال ي�ستحقرنّ م�ؤمنٌ ذنب ًا‪ ،‬ولو كان قلي ًال كجناح بعو�ض ٍة ف�إنه ي�ؤ ّثر يف القلب‪،‬‬
‫جل َه ِن ِّي ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪«َ :‬ما َح َل َف َحا ِل ٌف ِب هَّ ِ‬
‫الل مَ ِي َني َ�ص رْ ٍب‪َ ،‬ف�أَ ْد َخ َل‬ ‫هلل ْب ِن �أُ َن ْي ٍ�س ا ُ‬ ‫الرتمذي َعنْ َع ْب ِد ا ِ‬
‫و�ض ٍة ِ�إالَّ ُج ِع َل ْت ُن ْك َت ًة فيِ َق ْل ِب ِه ِ�إ ىَل َي ْو ِم ال ِق َي َام ِة»‪.‬‬
‫ِفي َها ِم ْث َل َج َن ِاح َب ُع َ‬

‫ عباد اهلل! و�إن يف موت البعو�ض لآية ف�إنها ال متوت �إال بقدر اهلل و�إرادته‪ُ ،‬روي عند ابن �أبي حامت �أن‬
‫روح بعو�ض ٍة ما قدرتُ على ذلك حتى يكون‬ ‫ملك املوت قال للنبي ‪« :s‬واللهّ يا حممد لو �أين �أردتُ �أن �أقب�ض َ‬
‫َ‬
‫اللهّ هو الآمر بقب�ضها»‪.‬‬
‫ فامل�ؤمن �إذا علم ذلك ا�ستيقن وعد اهلل‪ ،‬و�آمن بق�ضائه يف دقيق الأمور قبل عظيمها‪.‬‬
‫ عباد اهلل! وعلى �ضعف البعو�ضة وحقارتها‪ ،‬فقد � ّ‬
‫أذل اهلل بها املتكبريين‪ ،‬و�أهلك اهلل بها بع�ض اجلبابرة‪،‬‬
‫وقد قيل‪� :‬إن الطري الأبابيل التي �أهلك اهلل بها �أبرهة ومن معه هي البعو�ض‪.‬‬

‫ ومن جبابرة الأر�ض‪ :‬منرود قيل �إن بعو�ض ًة دخلت يف �أذنه ف�صار ي�ضرب على دماغه حتى هلك بذلك‪.‬‬
‫جاء يف قول اهلل تعاىل‪َ } :‬و�أَ َتاهُ ُم ا ْل َع َذ ُ‬
‫اب ِمنْ َح ْيثُ َال َي�شْ ُع ُرونَ { قال ابن عبا�س‪« :‬يعني البعو�ضة التي �أهلك‬
‫اهلل تعاىل بها النمرود الكنعاين»‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬البعوض‬

‫ختن�صر الذي ملك الأر�ض ُك ّلها ذكر حممد بن �إ�سحاق‪� :‬أ ّنه �إمنا مات ببعو�ضة �أر�سلها‬
‫ ومن اجلبابرة‪ُ :‬ب ّ‬
‫اهلل عليه [العظمة لأبي ال�شيخ]‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫أف�س َد عليه راحتَه‪ ،‬ومن َعه نومه‪،‬‬ ‫أعجب من ذلك‪ :‬ف�إنّ املرء ليت�أذى من طنني البعو�ض وملّا ّ‬
‫مي�سه‪ ،‬ولرمبا � َ‬ ‫بل � ُ‬
‫ويرى �أ ّنه �أثقل عليه من عظيم اجلبال‪ ،‬مع �صغر حجمه و�ضالة ج�سمه‪.‬‬

‫ا�س ُ�ض ِر َب َم َث ٌل َف ْ‬
‫ا�ست َِم ُعوا َل ُه ِ�إنَّ ا َّل ِذينَ ت َْد ُعونَ ِمن د ِ‬
‫ُون‬ ‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬
‫اب َ�ش ْيئ ًا الَّ َي ْ�ستَن ِق ُذو ُه ِم ْن ُه َ�ض ُع َف َّ‬
‫الطا ِل ُب َوالمْ َ ْط ُل ُ‬
‫وب* َما‬ ‫هَّ ِ‬
‫الل َلن َي ْخ ُل ُقوا ُذ َباب ًا َو َل ِو ْاج َت َم ُعوا َل ُه َو ِ�إن َي ْ�س ُل ْب ُه ُم ال ُّذ َب ُ‬
‫الل َل َق ِو ٌّي َع ِزيزٌ{‪.‬‬ ‫الل َحقَّ َق ْد ِر ِه ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫َق َد ُروا هَّ َ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫البكاء من خشية اهلل‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬البكاء من خشية اهلل‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ فما قطر ٌة �أع ُّز على الرجل من دمعته‪ ،‬ف�إن دمعته عزيزة عليه‪ ،‬غالي ٌة َ‬
‫عنده‪ ،‬حار ٌة يف جوفه‪ ،‬لكنَّ منها‬
‫عنده حظ ًا كبري ًا‪� ،‬إنها دمع ٌة مل ت َر حرج ًا �أن تفي�ض يف تلك‬
‫دمع ًة تقع عند اهلل موقع ًا عظيم ًا‪ ،‬وينال بها َ‬
‫املواقف امل�ؤثرة‪ ،‬والأحوال ذات العربة‪ .‬روى الرتمذي و�صححه [رقم ‪� ]1633‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال يلج النار‬
‫رج ٌل بكى من خ�شية اهلل حتى يعود اللنب يف ال�ضرع)‪.‬‬

‫أحب �إىل اهلل من‬ ‫ وروى الرتمذي [‪ ]1669‬من حديث �أبي �أمامة ‪� d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬لي�س �شيء � َّ‬
‫دموع من خ�شية اهلل‪ ،‬وقطر ُة ٍ‬
‫دم تهراق يف �سبيل اهلل‪ .‬و�أ ّما الأثران‪:‬‬ ‫قطرتني و�أثرين‪ .‬فالقطرتان؛ قطرة من ٍ‬
‫ف�أثر يف �سبيل اهلل‪ ،‬و�أثر يف فري�ضة من فرائ�ض اهلل)‪.‬‬

‫كنفخ فيها‬ ‫ عباد اهلل! �إن جذوة الإمي��ان يزيدها ال ُبكا ُء َذ َك��ا ًء‪ ،‬وما اختالج القلب عند اخل�شوع �إال ٍ‬
‫هلل تعاىل لأهل العلم‪َ } :‬و َي ِخ ُّرونَ ِللأَ ْذ َق ِان َي ْب ُكونَ‬ ‫يزيد الإميانَ وهج ًا ونور ًا؛ وت�أ ّمل يا رعاك اهلل يف و�صف ا ِ‬
‫وعا{‪ ،‬وكيف �أنه جعل البكاء عند تالوة القر�آن من �صفات الأنبياء �إذ قال �سبحانه‪�} :‬أُ ْو َل ِئ َك‬ ‫َو َي ِزيدُهُ ْم ُخ ُ�ش ً‬
‫ا َّل ِذينَ �أَ ْن َع َم هَّ ُ‬
‫الل َع َل ْي ِهم ِّمنَ ال َّن ِب ِّي َني ِمن ُذ ِّر َّي ِة �آ َد َم وَممَِّ نْ َح َم ْل َنا َم َع ُن ٍوح َو ِمن ُذ ِّر َّي ِة �إِ ْب َر ِاه َيم َو�إِ ْ�س َرا ِئ َيل وَممَِّ نْ‬
‫خطبة جديدة‬

‫َه َد ْي َنا َو ْاج َت َب ْي َنا �إِ َذا ُت ْت َلى َع َل ْي ِه ْم �آ َياتُ ال َّر ْح َمن َخ ُّروا ُ�س َّجدً ا َو ُب ِك ًّيا{‪.‬‬

‫بال�سجود‪� ،‬إذ البكاء الذي يحبه اهلل ما كان �إثر طاعة‪،‬‬


‫اهلل يف هاتني الآيتني البكا َء ُّ‬‫ وانظر كيف قرن ُ‬
‫ولي�س وليد موقف‪� ،‬أو ت�أثر �ساعة‪ ،‬كما �أنَّ البكاء احلقَّ هو ما كان خف ّي ًا ال يعلم به �أحد كحال ال�سجود؛ فكم‬
‫نحيب لأجل �سماع النا�س؛ يقول احل�سن الب�صري‪�( :‬إن العينني لتبكيان و�إن‬ ‫باك‪ ،‬وكم ِمن ٍ‬ ‫ِمن بكاءٍ ل ُيقال ٍ‬
‫القلب لي�شهد عليهما بالكذب)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! وقد انت�صف �شه ُر رم�ضان ‪ ..‬وقد قر�أ كثري منا فيه �أحزاب ًا من القر�آن‪ ،‬و�صلى ليايل متعدد ًة‬
‫قيام ًا هلل‪ ،‬وامتنع من الطعام وال�شراب �صيام ًا له‪ ،‬وت�ص ّدق من ُح ِّر ماله وما ُحبب �إليه جم ُع ُه رجاء ما عند‬
‫اهلل‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬البكاء من خشية اهلل‬

‫ لكن هل م ّرت على �أحدنا دمع ٌة رقراق ٌة يف ليلة مظلم ٍة مل يعلم بها �أحد‪ ..‬حينما خال ِ‬
‫بنف�سه‪ ،‬وحا�سبها‪،‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ففا�ضت عي ُن ُه وهو على فرا�شه ومل يعلم به �ضجيعه‪� .‬أو وهو �ساج ٌد بني يدي مواله يناجيه ويناديه‪ ،‬ويدعوه‬
‫ويرجوه‪.‬‬

‫إنعامه وف�ض َله‪ ،‬وتف َّكر يف جوده و�إح�سانه‪ ،‬وت�أ ّمل يف �أ�سمائه ا ُ‬
‫حل�سنى و�صفاته‬ ‫ َمن منا ذكر َ‬
‫اهلل و�آال َءه‪ ،‬و� َ‬
‫اهلل يف قلبه‪ ،‬فانهمرت عيناه؛ وجريتا‪ ..‬يف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬سبعة يظلهم اهلل‬ ‫فعظم َ‬
‫ال ُعال‪َّ ،‬‬
‫يف ظلة ‪-‬وذكر منهم‪ -‬رج ًال ذكر اهلل خالي ًا ففا�ضت عيناه)‪.‬‬

‫ َمن �سمع حديث ًا عن اجلنة وروحها وريحانها َوما �أُع ّد فيها للمح�سنني فبكى } َو ِ�إ َذا َ�س ِم ُعو ْا َما ُ�أ ِنز َل ِ�إ ىَل‬
‫ي�ض ِمنَ ال َّد ْم ِع ممَِّ ا َع َر ُفو ْا ِمنَ الحْ َ ِّق َي ُقو ُلونَ َر َّب َنا � َآم َّنا َفا ْك ُت ْب َنا َم َع ال�شَّ ِاه ِدينَ { َو َما‬ ‫ال َّر ُ�س ِول َت َرى �أَ ْع ُي َن ُه ْم َت ِف ُ‬
‫الل َو َما َجاء َنا ِمنَ الحْ َ ِّق َو َن ْط َم ُع �أَن ُي ْد ِخ َل َنا َر َّب َنا َم َع ا ْل َق ْو ِم ال�صَّ الحِ ِ نيَ{‪.‬‬ ‫َل َنا َال ُن�ؤْ ِمنُ ِب هَّ ِ‬

‫ قال �أبو عمر الكندي �أحد التابعني‪( :‬بلغنا �أنه من بكى �شوق ًا �إىل اجلنة �أ�سكنه اهلل �إياه‪ ،‬ومن بكى خوف ًا‬
‫من النار �أعاذه اهلل منها)‪.‬‬

‫ناج وهالك ففا�ضت عيناه‪،‬‬


‫ َمن ِمنا ذكر النار وهول مطلعها‪ ،‬وحتم املرور على ال�صراط فوقها فبني ٍ‬
‫جاء �أن �أبا مو�سى الأ�شعري ‪ d‬خطب النا�س بالب�صرة فذكر يف خطبته النار‪ ،‬فبكى حتى �سقطت دموعه‬
‫يومئذ بكا ًء �شديد ًا‪.‬‬
‫على املنرب‪ ،‬وبكى النا�س ٍ‬

‫قليل والدرب طويل‪ ،‬ولن يدخل اجلنة �أح ٌد بعمله وال النبي‬ ‫ َمن نظر يف عمله وتقا ّله‪ ،‬وع َرف �أن الزاد َ‬
‫‪ ،s‬فبكى على ما فاته من الطاعات‪ ،‬وما ه ّمل من القربات؛ } َو َال َع َلى ا َّل ِذينَ ِ�إ َذا َما �أَ َت ْو َك ِلت َْح ِم َل ُه ْم ُق ْل َت‬
‫ي�ض ِمنَ ال َّد ْم ِع َحزَ ًنا �أَالَّ َي ِجدُو ْا َما ُين ِف ُقونَ {‬
‫َال �أَ ِج ُد َما �أَ ْح ِم ُل ُك ْم َع َل ْي ِه َت َو َّلو ْا وَّ�أَ ْع ُي ُن ُه ْم َت ِف ُ‬

‫الرتمذي �أن‬
‫ُّ‬ ‫بقلب ك�سري‪ ،‬وعني ذليلة‪ ،‬ووجه ُمط�أط�أٍ حيا ًء‪ ،‬روى‬
‫ َمن بكى على ذنبه‪ ،‬حينما يتجه لربه ٍ‬
‫رج ًال �س�أل النبي ‪ :s‬ما النجاة؟ فقال‪�( :‬أم�سك عليك ل�سانك‪ ،‬ولي�سعك بيتُك‪ ،‬وابك على خطيئتك)‪.‬‬

‫ من �سمع �سري ال�صاحلني‪ ،‬وخرب الأولني فت�سللت الدموع من عينيه‪ ،‬ف َك ْم ِمن قلب ذاكر‪� ،‬إذا ُذكر �س َري‬
‫الأوائل حت ّرك �إذ الأرواح جنود جمندة ما تعرف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف‪ ،‬قال علقمة بن وقا�ص‪:‬‬
‫ن�شيجه من وراء‬
‫�سمعت َ‬‫ُ‬ ‫�صليت خلف عمر بن اخلطاب فقر�أ �سورة يو�سف‪ ،‬فكان �إذا �أتى على ذكر يو�سف‬ ‫ُ‬
‫ال�صفوف‪.‬‬

‫وعده ووعيده‪ ،‬وخربه وق�ص�صه‪ ،‬وتوحيد اهلل وعظمته؛ يف ال�صحيح �أن‬ ‫هلل وبكى عند ِ‬
‫ َمن قر�أ كتاب ا ِ‬
‫علي‪ ،‬فقال‪� :‬أقر�أ عليك وعليك �أُنزل؟ فقال ‪�( :s‬إين � ُّ‬
‫أحب �أن �أ�سمعه‬ ‫النبي ‪ s‬قال البن م�سعود ‪ d‬اقر�أ َّ‬

‫‪158‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬البكاء من خشية اهلل‬

‫بلغت‪َ } :‬ف َك ْي َف ِ�إ َذا ِج ْئ َنا ِمن ُك ِّل �أ َّم ٍة ِب َ�ش ِه ٍيد َو ِج ْئ َنا ِب َك َع َلى‬
‫من غريي)‪ ،‬فقر�أت عليه �سورة الن�ساء حتى �إذا ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫َهـ�ؤُالء َ�ش ِهيدً ا{‪ ،‬قال‪ :‬ح�سبك‪ ،‬ف�إذا عيناه فا�ضت من الدمع‪.‬‬
‫ وقال احل�سن‪( :‬مل يزل النا�س يبكون عند الذكر وقراءة القر�آن)‪َ .‬من �صدق يف دعائه وع ِل َم �أن َ‬
‫اهلل‬
‫وقا�ض حاجتَه فرتقرقت دمعتُه هيبة ال�ست�شعار ذلك املوقف‪ ،‬و�إجالل املدعو‪.‬‬‫وجميب دعوته‪ٍ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫�سام ٌع �صوته‪،‬‬
‫طلبت لديه خري ًا فلم‬ ‫َ‬
‫جفونك بالدموع من خ�شية اهلل‪ ،‬فق َّل َمن َ‬ ‫قال احل�سن‪ِّ :‬‬
‫(رطب ل�سانك بذكر اهلل‪ ،‬وندِّ‬
‫تدركه)‪.‬‬

‫م�سجد‬
‫ٍ‬ ‫إيا�س بن معاوية و�أبوه �إىل‬
‫نف�سه ويفت�ش يف قلبه؛ دخل � ُ‬
‫فلياجع َ‬ ‫عند تلك املوا�ضع رُ‬‫يبك َ‬ ‫َومن مل ِ‬ ‫ ‬
‫وفيه واعظ يع�ض فلم يبقَ �أح ٌد من القوم �إال بكي غري �إيا�س و�أبيه‪ ،‬فلما تفرقوا قال معاوية بن قرة ‪ d‬وكان‬
‫�صحابي ًا البنه‪�( :‬أ ُترانا �ش َّر �أهل هذا املجل�س)‪.‬‬

‫ �إن البكاء خ�شية وخوف ًا وفرق ًا من اهلل‪ ،‬و�شوق ًا وحمب ًة هلل‪ ،‬و�إجال ًال و�إعظام ًا له �سبحانه‪ ،‬ورجا ًء وطمع ًا‬
‫بف�ضل اهلل عالم ُة ُح�سن الإميان ولني القلب وقلة الذنب قال مكحول‪�( :‬أر ُّق النا�س قلوب ًا �أقلهم ذنوب ًا)‪.‬‬

‫ وال�ض ُّد بال�ضدِّ فكلما كرث الذنب‪ ،‬وق�سا القلب‪ ،‬وابتعد عن اهلل ق َّلت دمعتُه يف ال�س ِّر هلل‪ ،‬وجفت عي ُنه‬
‫من البكاء له �سبحانه؛ } ُث َّم َق َ�س ْت ُق ُلو ُب ُكم ِّمن َب ْع ِد َذ ِل َك َف ِه َي َكالحْ ِ َجا َر ِة �أَ ْو �أَ َ�ش ُّد َق ْ�س َو ًة َو�إِنَّ ِمنَ الحْ ِ َجا َر ِة لمَ َا‬
‫الل َو َما هَّ ُ‬
‫الل ِب َغا ِف ٍل َع َّما‬ ‫َي َت َف َّج ُر ِم ْن ُه الأَ ْن َها ُر َو�إِنَّ ِم ْن َها لمَ َا َي�شَّ قَّقُ َف َي ْخ ُر ُج ِم ْن ُه المْ َاء َو�إِنَّ ِم ْن َها لمَ َا َي ْه ِب ُط ِمنْ َخ�شْ َي ِة هَّ ِ‬
‫َت ْع َم ُلونَ {‬

‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪� } :‬أَ مَْل َي�أْ ِن ِل َّل ِذينَ � َآم ُنوا �أَن ت َْخ َ�ش َع ُق ُلو ُب ُه ْم ِل ِذ ْك ِر هَّ ِ‬
‫الل َو َما َنزَ َل ِمنَ الحْ َ ِّق‬
‫ري ِّم ْن ُه ْم َف ِا�س ُقونَ { ْاع َل ُموا �أَنَّ‬
‫َاب ِمن َق ْب ُل َف َط َال َع َل ْي ِه ُم الأَ َم ُد َف َق َ�س ْت ُق ُلو ُب ُه ْم َو َك ِث ٌ‬ ‫َوال َي ُكو ُنوا َكا َّل ِذينَ �أُو ُتوا ا ْل ِكت َ‬
‫ات َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُلونَ {‬ ‫هَّ َ‬
‫الل ُي ْح ِيي الأَ ْر َ�ض َب ْع َد َم ْو ِت َها َق ْد َب َّي َّنا َل ُك ُم الآ َي ِ‬

‫‪159‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫التخاصم يف النار‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬التخاصم يف النار‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ُ‬
‫ ف�إن �أهل النار �إذا دخولها‪ ،‬وعلموا �أن ال منا�ص لهم منها‪ ،‬و�أنهم ال رجعة لهم ف َي�أوبوا‪ ،‬وال توب َة لهم‬
‫وغ ّ�ص ٍة ُم�ؤمل ٍة لهم ب�سبب ما هو فيه‪ ،‬فيزداد عذابهم عذاب ًا‪ ،‬و�أملهم‬
‫تنفعهم فيتوبوا‪� ،‬أح�سوا بح�سر ٍة عظيم ٍة‪ُ ،‬‬
‫�ش ّد ًة وعناء ًا‪ .‬ف�إذ ذاك يتخا�صمون ويتجادلون و ُك ٌّل يرمي اخلط�أَ على �صاح ِبه وما ذاك بنافعهم عند اهلل‬
‫�شيئ ًا‪.‬‬

‫خا�ص ُم املر ُء خلي َله‪ ،‬و ُيعا ِدي �صاح َبه الذي �أخل�ص له يف‬ ‫املواقف يف ذلك اليوم حينما ُي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ �إن ِمن �أ�شدِّ‬
‫الدنيا } الأَ ِخ َّالء َي ْو َم ِئ ٍذ َب ْع ُ�ض ُه ْم ِل َب ْع ٍ�ض َع ُد ٌّو �إِالَّ المْ ُ َّت ِقنيَ{‪ ،‬يرتاجعون الكالم‪ ،‬ويتقاذفون التُّهم‪ ،‬ويترب�أُ ُك ٌّل‬
‫من الآخر } َو َل ْو َت َرى ِ�إ ِذ َّ‬
‫الظالمِ ُونَ َم ْو ُقو ُفونَ ِع َند َر ِّب ِه ْم َي ْر ِج ُع َب ْع ُ�ض ُه ْم ِ�إ ىَل َب ْع ٍ�ض ا ْل َق ْو َل{‪.‬‬
‫بعده مث َله يترب�أٌ‬ ‫يغ�ضب اجل ّبا ُر جل وعال غ�ضب ًا مل يغ�ضب قب َله مث َله‪ ،‬ولن يغ�ضب َ‬ ‫ُ‬ ‫ يف ذلك امل�ش َهد حينما‬
‫ال�س َماء َكالمْ ُ ْه ِل{ َو َت ُكونُ الجْ ِ َب ُال َكا ْل ِع ْه ِن{ َوال‬ ‫ُك ٌّل من معار ِف ِه وذويه‪ ،‬و ُك ِّل ما يظنُّ �أنه مغويه؛ } َي ْو َم َت ُكونُ َّ‬
‫اب َي ْو ِم ِئ ٍذ ِب َب ِني ِه{ َو َ�ص ِاح َب ِت ِه َو َ�أ ِخي ِه{ َو َف ِ�صي َل ِت ِه‬‫َي�س َْ�أ ُل َح ِمي ٌم َح ِميم ًا{ ُي َب�صَّ ُرو َن ُه ْم َي َو ُّد المْ ُ ْج ِر ُم َل ْو َي ْفت َِدي ِمنْ َع َذ ِ‬
‫نجي ِه{‪.‬‬ ‫ا َّل ِتي ُت�ؤْوي ِه{ َو َمن فيِ الأَ ْر ِ�ض َج ِميع ًا ُث َّم ُي ِ‬

‫ يف ذلك اليوم ت�أتي املعبوداتُ وامل�ؤ َّل َهاتُ فتترب�أ من ُع َّبادها والعاكفني عليها } َو�إِ َذا َر�أى ا َّل ِذينَ �أَ�شْ َر ُكو ْا‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ُ�ش َر َكاءهُ ْم َقا ُلو ْا َر َّب َنا َهـ�ؤُالء ُ�ش َر َك�آ�ؤُ َنا ا َّل ِذينَ ُك َّنا َن ْد ُع ْو ِمن دُو ِن َك َف�أ ْل َق ْوا �إِ َل ْي ِه ُم ا ْل َق ْو َل �إِ َّن ُك ْم َل َك ِاذ ُبونَ {‪.‬‬

‫وحلف بهم وطيف بقبورهم‬ ‫هلل فا�ستغيث بهم ُ‬ ‫ ممن ي�أتي يف ذلك اليوم ال�صاحلون ا َّلذين دُعوا من دون ا ِ‬
‫ا�س ات َِّخ ُذونيِ َو�أُ ِّم َي‬ ‫نت ُق َلت ِلل َّن ِ‬ ‫ي�سى ا ْبنَ َمرْيمَ َ �أَ�أَ َ‬ ‫وتربك ب�آثارهم يترب�أون ممن فعل ذلك‪َ } ،‬و ِ�إ ْذ َق َال هَّ ُ‬
‫الل َيا ِع َ‬
‫ول َما َل ْي َ�س ليِ ِب َحقٍّ ِ�إن ُك ُ‬
‫نت ُق ْل ُت ُه َف َق ْد َع ِل ْم َت ُه َت ْع َل ُم َما فيِ‬ ‫الل َق َال ُ�س ْب َحا َن َك َما َي ُكونُ ليِ �أَنْ �أَ ُق َ‬ ‫ُون هَّ ِ‬
‫ِ�إ َلـهَينْ ِ ِمن د ِ‬
‫وب{‪.‬‬ ‫َن ْف ِ�سي َو َال �أَ ْع َل ُم َما فيِ َن ْف ِ�س َك ِ�إ َّن َك �أَ َ‬
‫نت َع َّال ُم ا ْل ُغ ُي ِ‬

‫ وكما ترب�أت املعبودات‪ ،‬تن ّدم امل�شركون‪ ،‬وحت�سروا على تركهم عبادة اهلل تعاىل ال�ستعباد هوالء } َو ِق َيل‬
‫ن�ص ُرو َن ُك ْم �أَ ْو َينت َِ�ص ُرونَ { َف ُك ْب ِك ُبوا ِفي َها هُ ْم َوا ْل َغا ُوونَ { َو ُج ُنو ُد‬ ‫ُون هَّ ِ‬
‫الل َه ْل َي ُ‬ ‫َل ُه ْم �أَ ْينَ َما ُكنت ُْم َت ْع ُبدُونَ { ِمن د ِ‬
‫ني{‬ ‫الل ُّم ِب ٍني{ ِ�إ ْذ ُن َ�س ِّوي ُكم ِب َر ِّب ا ْل َعالمَ ِ َ‬
‫َالل ِ�إن ُك َّنا َل ِفي َ�ض ٍ‬ ‫ي�س َ �أ ْج َم ُعونَ { َقا ُلوا َوهُ ْم ِفي َها َي ْخت َِ�ص ُمونَ { ت هَّ ِ‬
‫ِ�إ ْب ِل َ‬

‫‪160‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التخاصم يف النار‬

‫َو َما �أَ َ�ض َّل َنا �إِالَّ المْ ُ ْج ِر ُمونَ { َف َما َل َنا ِمن َ�شا ِف ِع َني{ َوال َ�ص ِد ٍيق َح ِم ٍيم{ َف َل ْو �أَنَّ َل َنا َك َّر ًة َف َن ُكونَ ِمنَ المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني{ �إِنَّ‬
‫فيِ َذ ِل َك لآ َي ًة َو َما َكانَ �أَ ْك رَ ُثهُ م ُّم�ؤْ ِم ِننيَ{‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫نظري الإحلاد‪ ،‬ور�ؤو�س الفتن ِة‪،‬‬ ‫يتخا�صم (يف ذلك اليوم) الأتبا ُع مع د َُعا ِة ال ِغواية‪ ،‬و ُم ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ وانظر كيف‬
‫عد عن اهلل مبقا ِلهم ومقاالتهم‪ ،‬قال �سبحانه‪:‬‬ ‫ال�سو َء‪ ،‬وه ّونوا عليهم ال ُب َ‬ ‫وم�شيعي الفاح�شة‪ ،‬الذين زينوا لهم ُّ‬
‫ا�ص ُرونَ { َب ْل هُ ُم ا ْل َي ْو َم ُم ْ�ست َْ�س ِل ُمونَ { َو�أَ ْق َب َل َب ْع ُ�ض ُه ْم َع َلى َب ْع ٍ�ض َيت ََ�ساء ُلونَ { َقا ُلوا ِ�إ َّن ُك ْم ُكنت ُْم‬ ‫} َما َل ُك ْم ال َت َن َ‬
‫َت�أْ ُتو َن َنا َع ِن ا ْل َي ِم ِني{ َقا ُلوا َبل مَّْل َت ُكو ُنوا ُم�ؤْ ِم ِن َني{ َو َما َكانَ َل َنا َع َل ْي ُكم ِّمن ُ�س ْل َط ٍان َب ْل ُكنت ُْم َق ْوم ًا َط ِاغ َني{ َف َحقَّ‬
‫اب ُم�شْترَ ِ ُكونَ {‪.‬‬‫َع َل ْي َنا َق ْو ُل َر ِّب َنا �إِ َّنا َل َذا ِئ ُقونَ { َف�أَ ْغ َو ْي َنا ُك ْم �إِ َّنا ُك َّنا َغا ِوينَ { َف�إِ َّن ُه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ فيِ ا ْل َع َذ ِ‬

‫النا�س مع ُكربائهم‪ ،‬وفقرا�ؤهم مع �أغنيائهم‪ ،‬وعامتُهم مع �سا�س ِتهم‪،‬‬ ‫يتخا�صم �ضعف ُة ِ‬ ‫ُ‬ ‫ يف يوم احل�سرة‬
‫للِهّ‬
‫ُيل ُقون عليهم بالتَّب َعة‪ ،‬ويتهمونهم �أنهم َمن حال بينهم وبني الإميان } َو َب َر ُزو ْا ِ َج ِميع ًا َف َق َال ُّ‬
‫ال�ض َع َفاء ِل َّل ِذينَ‬
‫الل ِمن َ�ش ْيءٍ َقا ُلو ْا َل ْو َه َدا َنا هَّ ُ‬
‫الل َل َه َد ْي َنا ُك ْم َ�س َواء‬ ‫اب هَّ ِ‬
‫ا�س َتكْبرَ ُ و ْا �إِ َّنا ُك َّنا َل ُك ْم َت َبع ًا َف َه ْل �أَنتُم ُّم ْغ ُنونَ َع َّنا ِمنْ َع َذ ِ‬
‫ْ‬
‫ي�ص{‪.‬‬ ‫َع َل ْي َن�آ �أَ َج ِز ْع َنا �أَ ْم َ�صبرَْ َنا َما َل َنا ِمن محَّ ِ ٍ‬

‫ وقال �سبحانه‪َ } :‬و َل ْو َت َرى �إِ ِذ َّ‬


‫الظالمِ ُونَ َم ْو ُقو ُفونَ ِع َند َر ِّب ِه ْم َي ْر ِج ُع َب ْع ُ�ض ُه ْم �إِ ىَل َب ْع ٍ�ض ا ْل َق ْو َل َي ُق ُ‬
‫ول ا َّل ِذينَ‬
‫ا�س ُت�ضْ ِع ُفوا �أَ َن ْحنُ َ�ص َد ْد َنا ُك ْم َع ِن‬ ‫ا�س َتكْبرَ ُ وا َلوْال �أَنت ُْم َل ُك َّنا ُم�ؤْ ِم ِن َني{ َق َال ا َّل ِذينَ ْ‬
‫ا�س َتكْبرَ ُ وا ِل َّل ِذينَ ْ‬ ‫ا�س ُت�ضْ ِع ُفوا ِل َّل ِذينَ ْ‬
‫ْ‬
‫ا�س َتكْبرَ ُ وا َب ْل َم ْك ُر ال َّل ْي ِل َوال َّن َها ِر �إِ ْذ َت�أْ ُم ُرو َن َنا �أَن‬ ‫ا ْل ُه َدى َب ْع َد �إِ ْذ َجاء ُكم َب ْل ُكنتُم مجُّْ ِر ِم َني{ َو َق َال ا َّل ِذينَ ْ‬
‫ا�س ُت�ضْ ِع ُفوا ِل َّل ِذينَ ْ‬
‫الل فيِ �أَ ْع َن ِاق ا َّل ِذينَ َك َف ُروا هَ ْل ُي ْجزَ ْونَ �إِالَّ َما َكا ُنوا‬ ‫اب َو َج َع ْل َنا الأَ ْغ َ‬ ‫َّن ْك ُف َر ِب هَّ ِ‬
‫الل َونجَْ َع َل َل ُه �أَ َنداد ًا َو�أَ َ�س ُّروا ال َّن َد َام َة لمََّا َر�أَ ُوا ا ْل َع َذ َ‬
‫َي ْع َم ُلونَ { َو َما �أَ ْر َ�س ْل َنا فيِ َق ْر َي ٍة ِّمن َّن ِذ ٍير �إِالَّ َق َال ُم رْ َت ُفوهَ ا �إِ َّنا بمِ َ ا �أُ ْر ِ�س ْلتُم ِب ِه َكا ِف ُرونَ { َو َقا ُلوا َن ْحنُ َ�أ ْك رَ ُث �أَ ْم َوا ًال َو�أَوْالد ًا َو َما‬
‫َن ْحنُ بمِ ُ َع َّذ ِبنيَ{‬

‫�ضالل بني الب�شر‪ ،‬ويحاجهم ب�أن غوايتهم �إمنا هي منهم‪ ،‬ولي�س منه؛ }‬ ‫َ‬ ‫يخا�صم‬
‫نف�سه ِ‬ ‫ بل �إن ال�شيطانَ َ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬
‫َو َق َال ال�شَّ ْي َطانُ لمََّا ُق ِ�ض َي الأَ ْم ُر �إِنَّ الل َو َع َد ُك ْم َو ْع َد الحْ َ ِّق َو َو َعد ُّت ُك ْم َف�أَ ْخ َل ْف ُت ُك ْم َو َما َكانَ ليِ َ َع َل ْي ُكم ِّمن ُ�س ْل َط ٍان‬
‫ا�ست ََج ْبت ُْم ليِ َف َال َت ُلو ُمونيِ َو ُلو ُمو ْا �أَن ُف َ�س ُكم َّما �أَ َن ْا بمِ ُ �صْ ِر ِخ ُك ْم َو َما �أَنت ُْم بمِ ُ �صْ ِر ِخ َّي �إِنيِّ َك َف ْرتُ‬
‫�إِالَّ �أَن َد َع ْو ُت ُك ْم َف ْ‬
‫اب �أَ ِلي ٌم{‬ ‫بمِ َ �آ �أَ�شْ َر ْك ُت ُم ِون ِمن َق ْب ُل ِ�إنَّ َّ‬
‫الظالمِ ِ َني َل ُه ْم َع َذ ٌ‬

‫عج ُب منه‪ ،‬حينما ُيخا�صم املرء �أع�ضا َءه و�أجزاء ج�سده‪،‬‬ ‫ بل هناك يف ذلك اليوم جمادل ٌة وخ�صا ٌم ُي َ‬
‫ظه ُر ما ظنَّ خفا َءه واال�سرتا َر به فال‬ ‫فحينما ي�ستنطق اهلل هذه الأع�ضاء فت�شه ُد عليه‪ ،‬وتنطق مبا عمل‪ ،‬و ُت ِ‬
‫الل �إِ ىَل ال َّنا ِر َف ُه ْم ُيو َز ُعونَ { َحتَّى �إِ َذا‬ ‫اهلل وهذه الأع�ضاء �شاهد ٌة بفعله } َو َي ْو َم ُي ْح َ�ش ُر �أَ ْع َداء هَّ ِ‬ ‫عال به �إال ُ‬
‫مِ‬
‫وها َ�ش ِه َد َع َل ْي ِه ْم َ�س ْم ُع ُه ْم َو�أَ ْب َ�صا ُرهُ ْم َو ُج ُلودُهُ ْم بمِ َ ا َكا ُنوا َي ْع َم ُلونَ { َو َقا ُلوا لجِ ُ ُلو ِد ِه ْم مِ َل َ�ش ِهدتمُّْ َع َل ْي َنا‬ ‫َما َجا�ؤُ َ‬
‫نطقَ ُك َّل َ�ش ْيءٍ َوهُ َو َخ َل َق ُك ْم �أَ َّو َل َم َّر ٍة َو�إِ َل ْي ِه ُت ْر َج ُعونَ { َو َما ُكنت ُْم ت َْ�س َتترِ ُونَ �أَنْ َي�شْ َه َد‬‫الل ا َّل ِذي �أَ َ‬ ‫نط َق َنا هَّ ُ‬ ‫َقا ُلوا �أَ َ‬
‫َع َل ْي ُك ْم َ�س ْم ُع ُك ْم َوال �أَ ْب َ�صا ُر ُك ْم َوال ُج ُلو ُد ُك ْم َو َل ِكن َظ َننت ُْم �أَنَّ هَّ َ‬
‫الل ال َي ْع َل ُم َك ِثري ًا ممَِّّ ا َت ْع َم ُلونَ { َو َذ ِل ُك ْم َظ ُّن ُك ُم ا َّل ِذي‬
‫َظ َننتُم ِب َر ِّب ُك ْم �أَ ْر َدا ُك ْم َف�أَ�صْ َب ْحتُم ِّمنْ الخْ َ ِا�س ِرينَ * َف ِ�إن َي�صْبرِ ُ وا َفال َّنا ُر َم ْث ًوى َّل ُه ْم َو ِ�إن َي ْ�س َت ْع ِت ُبوا َف َما هُ م ِّمنَ‬
‫المْ ُ ْع َت ِبنيَ{‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التخاصم يف النار‬

‫الل ‪َ s‬ف َ�ض ِح َك َف َق َال‪َ :‬‬


‫«ه ْل ت َْد ُرونَ‬ ‫ روى م�سلم يف ال�صحيح (‪َ )7629‬عنْ �أَ َن ِ�س ‪َ d‬ق َال ُك َّنا ِع ْن َد َر ُ�س ِول هَّ ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ول‪َ :‬يا َر ِّب �أَ مَْل تجُ ِ ْرين ِمنَ‬ ‫أ�ضحك ِمنْ مخُ َ َ‬
‫اط َب ِة ا ْل َع ْب ِد َر َّب ُه َي ُق ُ‬ ‫الل َو َر ُ�سو ُل ُه �أَ ْع َل ُم‪َ .‬ق َال‪ُ �« :‬‬ ‫ممَِّ �أَ�ضْ َح ُك»‪ .‬ف ُق ْل َنا هَّ ُ‬
‫ول اهلل تبارك وتعاىل‪:‬‬ ‫ول العبدُ‪َ :‬ف ِ�إنيِّ َال �أُ ِجي ُز َع َلى َن ْف ِ�سي ِ�إالَّ َ�ش ِاهدً ا ِم ِّني‪َ ،‬ف َي ُق ُ‬ ‫ول اهلل‪َ :‬ب َلى‪َ .‬ف َي ُق ُ‬ ‫ُّ‬
‫الظ ْل ِم؟ ف َي ُق ُ‬
‫َك َفى ِب َن ْف ِ�س َك ا ْل َي ْو َم َع َل ْي َك َ�ش ِهيدً ا َو ِبا ْل ِك َر ِام ا ْل َكا ِت ِب َني ُ�ش ُهودًا‪َ ،‬ق َال ‪َ :s‬ف ُي ْخت َُم َع َلى ِفي ِه‪َ ،‬ف ُي َق ُال لأَ ْر َكا ِن ِه ُا ْن ُط ِقي‪.‬‬
‫ول ُب ْعدً ا َل ُكنَّ َو ُ�س ْح ًقا‪َ .‬ف َع ْن ُكنَّ ُك ْن ُت �أُ َن ِ‬
‫ا�ض ُل»‪.‬‬ ‫َق َال‪َ :‬ف َت ْن ِطقُ ِب�أَ ْع َما ِل ِه‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬ث َّم ُي َخ َّلى َب ْي َن ُه َو َبينْ َ ا ْل َك َال ِم‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َي ُق ُ‬

‫{‬ ‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم } َه َذا َو ِ�إنَّ ِل َّلط ِاغ َني َل َ�ش َّر َم� ٍآب{ َج َه َّن َم َي�صْ َل ْو َن َها َف ِب ْئ َ�س المْ ِ َها ُد‬
‫َه َذا َف ْل َي ُذو ُقو ُه َح ِمي ٌم َو َغ َّ�سا ٌق{ َو� َآخ ُر ِمن َ�ش ْك ِل ِه َ�أ ْز َوا ٌج{ َه َذا َف ْو ٌج ُّم ْقت َِح ٌم َّم َع ُك ْم ال َم ْر َحب ًا ِب ِه ْم �إِ َّن ُه ْم َ�صا ُلوا‬
‫ال َّنا ِر{ َقا ُلوا َب ْل �أَنت ُْم ال َم ْر َحب ًا ِب ُك ْم �أَنت ُْم َق َّد ْم ُت ُمو ُه َل َنا َف ِب ْئ َ�س ا ْل َق َرا ُر{ َقا ُلوا َر َّب َنا َمن َق َّد َم َل َنا َه َذا َف ِز ْد ُه َع َذاب ًا‬
‫ِ�ض ْعف ًا فيِ ال َّنا ِر{ َو َقا ُلوا َما َل َنا ال َن َرى ِر َجا ًال ُك َّنا َن ُعدُّهُ م ِّمنَ الأَ�شْ َرا ِر{ �أَت ََّخ ْذ َناهُ ْم ِ�س ْخ ِر ّي ًا �أَ ْم َز َاغ ْت َع ْن ُه ُم‬
‫ا�ص ُم �أَ ْه ِل ال َّنا ِر{‪.‬‬ ‫الأَ ْب َ�صا ُر{ �إِنَّ َذ ِل َك لحَ َ ٌّق ت ََخ ُ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫التدخني‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬التدخني‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ودليل التوفيق‪ ،‬وعالم ِة حكم ِة ال�شخ�ص ورجاح ِة تفكريه نظ ُره يف م�آالت الأمور‪،‬‬ ‫ ف�إن ِمن كمال العقل‪ِ ،‬‬
‫املهدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتفك ُره يف نتائج الأفعال وعواقبها‪ .‬ف�إن �آث َر الغاي َة على الو�سيل ِة‪ ،‬والباقية على املا�ضية فذاك املو َّفق‬

‫و�سقما ل ُع َّد ذلك ُجنون ًا‪ .‬ولو ُاخربنا عن‬ ‫ عباد اهلل! �إن ُذكر لنا �أن امر�أً َ‬
‫بذل ما َله لي�شرتي به َم َر َ�ض ًا ُ‬
‫�شخ�ص ج َم َع ما َله ثم �أح َر َقه التفق اجلمي ُع على �أن ذلك َ�س َفهٌ‪ .‬ولو َ�سمعنا عن �آخ َر َي ْط ِلي َ‬
‫نف�سه بالروائح‬ ‫ٍ‬
‫ل�س ِّمي �أحمق جاه ًال‪.‬‬
‫الكريهة املُن ِّفرة ويبذل لذلك املال ُ‬

‫النا�س على احلر�ص عليه‬ ‫َ‬


‫وجمال ال�صورة �أم ٌر يتفق ُ‬ ‫وطيب الرائحة‪،‬‬
‫وحفظ املال‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ �أنّ �صح َة البدن‪،‬‬
‫وال�سعي لتح�صيله ‪-‬ولو ببذل املال‪ .-‬ف�أ َّما حت�صيل �ضدِّ ها والبحثُ عنه ف�إنه مما اتفق على تركه العقالء‪،‬‬
‫ُ‬
‫ين�ساق حلت ِفه بظلفه‪ ،‬وي�سعى ل�شراء منيته مباله‪.‬‬ ‫ذمه الألباء‪� ،‬إذ‬
‫و�أجمع على ِّ‬

‫خان ُ‬
‫وبذل املال يف �شرائه واملتاجر ِة فيه‪ .‬و�إن ِمن‬ ‫رب ال ُّد ِ‬‫ري من النا�س ُ�ش ُ‬‫ عباد اهلل! �إن مما ُب ِل َي به كث ٌ‬
‫االخت�صا�ص قد اتفقت كلمتُهم على‬
‫ِ‬ ‫ات ال ُّثبوت‪ ،‬وبدا ِئ ِه العقول �أن للأمرا�ض �أ�سباب ًا جالب ًة له‪ ،‬و�إن �أهل‬ ‫ُم�س ّل َم ِ‬
‫مقرب للكثري من �أخطر الأ�سقام‪� ،‬إذ يحتوي‬ ‫جالب للعديد من الأمرا�ض‪ٌ ،‬‬ ‫خان م�ض ٌّر بال�صحة‪ٌ ،‬‬ ‫�أن ُ�شرب ال ُّد ِ‬
‫مر َ�ضة‪ ،‬لذا ترى يف بالد الغرب (ومنهم بد�أ التدخني و�إليهم يعود التحذير‬ ‫على العديد من املواد املُ ِ�ض َّر ِة واملُ ِ‬
‫خطبة جديدة‬

‫حكم لهم الق�ضا ُء بالتعوي�ض‪ ،‬ومينعونه يف الأماكن‬ ‫منه) يحاربون هذه الآفة‪ ،‬ويرفعون عليها الدعاوى و َي ُ‬
‫العامة‪.‬‬

‫ات َو ُي َح ِّر ُم َع َل ْي ِه ُم الخْ َ َب�آ ِئثَ {‪� ،‬أو لي�س‬ ‫كتاب اهلل وقد قال ج َّل وعال فيه‪َ } :‬و ُي ِح ُّل َل ُه ُم َّ‬
‫الط ِّي َب ِ‬ ‫ وعندنا ُ‬
‫ووجهه و�أ�سنانه‪� ،‬ألي�س‬ ‫الدخانُ خبيث ًا يف رائحته يف ِّيف املدخن وثو ِبه‪� ،‬ألي�س خبيث ًا يف � ِأثره على يدي املدخن ِ‬
‫خبيث ًا فيما ي�سببه من الأمرا�ض والأدواء؟‬
‫بلى! و�أ ُمي اهلل �إنه لكذلك‪ .‬و�أك ُرث من ذلك �أن فيه ت�ضييع ًا للمال‪ ،‬و�أذي ًة للم�سلمني واملالئكة‪ ،‬وتنفري ًا من‬
‫ُ�صحب ِة الأخيار‪.‬‬
‫ لذا اتفقت كلم ُة كث ٍري من الفقهاء على حترمي تناول ال ُّدخان‪ ،‬ومن �أوائلهم ال�شيخ مرعي بن يو�سف‬
‫ال َك ْرمي املقد�سي ثم امل�صري (املتوفى �سنة ‪1033‬هـ) ف�إنه �أ ّلف كتاب ًا قبل �أكرث من �أربعمائة عام عن الدخان‬
‫منربي ًا لتحرميه والتحذير منه‪ ،‬هذا ومل ي�ستنب لهم من �ضرره ما ا�ستبان لأهل زماننا‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التدخني‬

‫�صح عن النبي ‪� s‬أنه قال‪( :‬الإثم ما حاك يف �صدرك وكرهت �أن يطلع عليه النا�س) �إن‬ ‫ �أخي املدخن! َّ‬
‫املجال�س املحرتم َة‬ ‫هم بالتدخني ف�إنه يخفيه عن كرماء القوم‪ ،‬ويحفظ‬ ‫كثري ًا من املدخنني ذوي املروءات �إذا َّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫َ‬
‫دخن ُي�شابهه‬
‫عند ُم ٍ‬ ‫عنه‪ ،‬و َي�ستحي ِمن فعله عند َمن ُي ِكنُّ لهم ال َ‬
‫إجالل والتوقري‪ .‬فال تراه ُيدخن �إال م�سترت ًا‪� ،‬أو َ‬
‫يف فعله‪� ،‬أو عند َمن يرى �أنه دونه ممن يجر�ؤ عليه‪.‬‬

‫(ا�ستفت‬
‫ِ‬ ‫النفو�س له‪ ،‬وهذا معنى قول النبي ‪:s‬‬
‫ِ‬ ‫ وهذه دالل ٌة �صريح ٌة على حتر ِمي هذا الفعل‪ ،‬وا�ستنكا ِر‬
‫قلبك و�إن �أفتاك املفتون)‪.‬‬

‫اهلل ال يخلق �شر ًا حم�ض ًا‪ ،‬ف َما ِمن �شيءٍ �إال وفيه فائد ٌة و�ضرر‪� ،‬أمل يقل اهلل تعاىل‪} :‬‬ ‫دخن! �إن َ‬ ‫ �أخي املُ ِّ‬
‫ا�س َو ِ�إ ْث ُم ُه َم�آ �أَكْبرَ ُ ِمن َّن ْف ِع ِه َما{‪.‬‬ ‫َي�س َْ�أ ُلو َن َك َع ِن الخْ َ ْم ِر َوالمْ َ ْي ِ�س ِر ُق ْل ِف ِيه َما ِ�إ ْث ٌم َك ِب ٌ‬
‫ري َو َم َنا ِف ُع ِلل َّن ِ‬

‫عليك مبا ُيز ّي ُن ُه ِمن مناف َع للتدخني‪ ،‬وما ُي�ضخ ُم ُه من �صعوبة الإقالع عنه‪،‬‬ ‫ فال يكن لل�شيطان مدخ ٌل َ‬
‫دخن‪ ،‬ولو طر�أ عليك ه ٌّم �أو غ ٌّم ف�إن َ‬
‫اهلل‬ ‫متوهم ٌة‪ ،‬ف�إن املر َء ميكنه �أن ُيف ِّك َر و ُير ِّكزَ بدون �أن ُي ِّ‬
‫ف�إنها يف الغالب َّ‬
‫مبخفف ذلك‪ ،‬و�إمنا هو التوهم‪ .‬و�إال لو كان الأمر‬
‫ٍ‬ ‫الهم ويزيل ذلك الغم بو�سائل متعددة‪ ،‬ولي�س التدخني‬ ‫يخفف ذلك ِّ‬
‫بالت�شهي والأوهام لزعم �شارب اخلمر ومتعاطي املخدرات امل�صلحة يف ذلك!‬

‫ عباد اهلل! �إن بع�ض املدخنني ي�ضيف الثم التدخني �آثام ًا �أُخ��رى‪ ،‬ف�تراه يرمي � َ‬
‫أعقاب �سجائره يف‬
‫الطرقات واملمرات‪ ،‬ولرمبا قذفها غري عابئ بها يف مكان �سريع اال�شتعال ف�آذى غريه �أذى عظيم ًا‪.‬‬

‫وحده‬
‫ وبع�ض املدخنني ي�ضيف لإثمه � َإثم �أذية امل�سلم‪ ،‬فرتاه يدخن يف الأماكن املغلق ِة والعامة‪ ،‬وك�أنها له َ‬
‫النا�س �إال املدخنني َيك َر ُه رائحة الدخان ويت�أذى منها‪ ،‬كما‬
‫فغالب ِ‬‫ومل يرا ِع �شعو َر الآخرين وال الذوق العام‪ُ ،‬‬
‫ال�صدور‪ ،‬وكم ِمن َ�ص ٍّف يف ال�صالة ا�ضطرب َح ْب ُل ُه ب�سبب رائحة م�ستكره ٍة‬ ‫�أن دُخانه يزكم الأنوف وي�ؤذي ُّ‬
‫دخن ف�أ�صابت اجلميع بالتقزز واال�شمئزاز‪ ،‬وكانت �سبب ًا يف �إحلاق الأذى ُّ‬
‫وال�ض ِّر بعباد اهلل‬ ‫خرجت من فم ُم ٍ‬
‫ذنب جنوه �إال جماورة هذه املدخن‪ .‬ويف ال�صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن املالئكة تت�أذى مما يت�أذى منه‬ ‫دون ٍ‬
‫بنو �آدم)‪.‬‬

‫آذيت غ َريك‬ ‫نف�سك ُ‬


‫فاهلل ح�سيبك‪ ،‬و�إن � َ‬ ‫نت م�ؤذي ًا َ‬
‫�سمعت عن التدخني ال�سلبي ف�إن ُك َ‬
‫َ‬ ‫ وقطع ًا �أنك قد‬
‫أذنت بذنب عظيم‪ .‬وقد جاء يف الأثر‪�( :‬إذا بليتم فا�سترتوا)‪ .‬ف�إن ُك َ‬
‫نت ممن ابتلي بالتدخني فا�سترت‬ ‫فقد � َ‬
‫به‪ ،‬ف�إنه �أهونُ ال�شَّ رين‪.‬‬

‫وقريب‬
‫ٍ‬ ‫تلميذ‬
‫ممن ي�سنت بك ِمن ٍ‬ ‫ �أخي املدخن! احذر �أن تكون قدو ًة �سيئ ًة لأبنائك َومن يقتدي بك َّ‬
‫(من �سنّ ُ�سنة ح�سن ًة فله �أجرها و�أجر من عمل‬
‫ونحوهم‪ ،‬وقد جاء يف احلديث ال�صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫بها �إىل يوم القيامة‪ ،‬ومن �سن �سنة �سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها �إىل يوم القيامة)‪.‬‬

‫ �إن نفو�س النا�شئة قابل ٌة للتطويع‪ ،‬وجمبول ٌة على التقليد واملحاكاة ف�إن ر�أى االبنُ �أباه مدخن ًا‪� ،‬أو �أخاه �أو‬
‫‪164‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التدخني‬

‫عدم كراه ِته‪ ،‬بل رمبا ر�أه ح�سن ًا!! كيف ال ؟ وكل فت ًا ب�أبيه معجب وبه ي�س ٌ‬
‫نت‪.‬‬ ‫مع ّلمه ف�إنه ُت�ش َر ُب ُ‬
‫نف�س ُه ُ‬
‫وقد قال الأول‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وين�ش�أ نا�شئ الفتيان فينا‬ ‫ ‬


‫على ماكان عوده �أبوه‬ ‫ ‬
‫ �إن التدخني عادة �سيئة حني يعرفها الرجال‪ ،‬فكيف يكون قبحها حني يتعودها الأطفال‪.‬‬

‫ِومن االثم يف هذا الباب‪َ :‬من �أعان على �إف�شائه وانت�شاره‪ ،‬فيا عبد اهلل! ال تكن عون ًا لل�شيطان على‬ ‫ ‬
‫�أخيك ف�إياك �أن ُت�شارك يف هذا املكروه بيع ًا‪� ،‬أو توزيع ًا‪� ،‬أو ترويج ًا ودعاية‪.‬‬
‫قوم � َ‬
‫أكل‬ ‫ وقد ثبت عند الإمام �أحمد و�أبي داود ب�إ�سناد �صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن اهلل �إذا ح َّرم على ٍ‬
‫�شيءٍ حرم عليهم ثم َنه)‪.‬‬
‫أمر حم ّرم ف�إنه ي�أثم مثل �صاحبه؛ كما قال يف اخلمر‪( :‬لعن اهلل‬ ‫ وقد بينّ النبي ‪� s‬أن َمن �شارك يف � ٍ‬
‫اخلمر ولعن �شاربها و�ساقيها وعا�صرها ومعت�صرها وبائعها ومبتاعها وحاملها واملحمولة �إليه و�آكل ثمنها)‬
‫رواه �أحمد و�أبو داود ب�إ�سناد �صحيح‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬التعصب القبلي‬
‫التعصب القبلي‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫ُ‬
‫مما �أَ َم َر اهلل به يقول اهلل ج َّل وعال‪:‬‬
‫االنت�ساب لل ِأب واجلدِّ َّ‬ ‫َ‬ ‫ف�إن‬
‫الل{‪ ،‬ويقول ‪َ ( :s‬ل َعنَ ُ‬
‫اهلل َمن ا َّد َعى لغري �أبيه)‪ .‬وقد كان النبي ‪s‬‬ ‫}ا ْد ُعوهُ ْم لآ َبا ِئ ِه ْم هُ َو �أَ ْق َ�س ُط ِع َند هَّ ِ‬
‫يذكر ن�س َبه فكان يرجت ُز ويقول‪:‬‬
‫ �أنا ابن عبد املط ِلب‬ ‫كذب‬
‫ �أنا النبي ال ِ‬

‫وما �أنكرها وال �ألغاها‪ ،‬فقد كان النبي ‪s‬‬


‫واحلر�ص عليها‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ وقد جاء ال�شَّ ر ُع باملحافظة على ال ِ‬
‫أن�ساب‬
‫�إذا جاءه الوف ُد قال‪ :‬ممن القوم؟ وكان يحي ُل على �أبي بكر ال�صديق‪ d‬يف معرفة الأن�ساب‪.‬‬

‫ ف َمعرف ُة الإن�سان لقبيلته‪ ،‬وانت�سا ُب ُه لها‪ ،‬وحمافظته على ن�سبه ال ُيذ ُّم يف الدين‪ ،‬وال مُينع؛ بل جاء‪:‬‬
‫وع ِّلق مبعرفة الن�سب عد ٌد ِمن الأحكام كوالية النكاح‪ ،‬و�أَ َميان‬
‫(تع َّلموا من �أن�سابكم ما ت�صلون به �أرحامكم)‪ُ ،‬‬
‫وع ْق ِل دية اخلط�أ‪ ،‬ونحوه‪.‬‬
‫والتع�صيب يف املرياث‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ال َق َ�سامة‪،‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫أ�صل العرب‪َ ،‬‬
‫وبي�ضتُه‪ ،‬ففي �صحيح البخاري �أن ُعمر بن‬ ‫ بل كانت الو�ص ّية ببوادي الأع��راب؛ لأنهم � ُ‬
‫اخلطاب ‪� d‬أو�صى قبل موته بعدما ُطعن فكان مما قال‪�( :‬أو�صي اخلليفة بعدي بالأعراب خري ًا ف�إنهم‬
‫أ�صل العرب ومادة الإ�سالم)‪ .‬قال القا�ضي عيا�ض (م�شارق الأنوار ‪( :)375/1‬مادة الإ�سالم �أي ميدونه‬ ‫� ُ‬
‫جيو�شه �إذا احتاجوا �إليهم‪ ،‬وميدونه �أي�ض ًا مبا ي�ؤخذ منهم من �صدقاتهم)‪.‬‬
‫ويعينونه ويكرثون َ‬

‫وورعه‪ ،‬فيكون داخ ًال يف‬


‫قول �أو فعل �أه ُل ُه وع�شريته‪ ،‬ال دي ُنه ُ‬ ‫ و َك ْم ِمن امرءٍ �إمنا َح َج َب ُه عن ٍ‬
‫فاح�ش من ٍ‬
‫النبي ‪� s‬أن املنت�سبني للعرب يف‬
‫(عجبت لأقوام يقادون �إىل اجلنة بال�سال�سل)‪ .‬وقد �أخرب ُّ‬‫ُ‬ ‫قول النبي ‪:s‬‬
‫آخر الزمان يكونون ق ّلة؛ ففي �صحيح م�سلم �أن �أم �شريك قالت للنبي ‪( :s‬ف�أين العرب يومئذ) قال‪( :‬هم‬ ‫� ِ‬
‫قليل)‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التعصب القبلي‬

‫ا�س ِ�إ َّنا َخ َل ْق َنا ُكم ِّمن َذ َك ٍر َو�أُن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل‬
‫اهلل تعاىل‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬ ‫ وقبل ذلك ُك ِّله يقول ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ري{‪.‬‬ ‫الل َع ِلي ٌم َخ ِب ٌ‬ ‫الل �أَ ْت َقا ُك ْم ِ�إنَّ هَّ َ‬


‫ِل َت َعا َر ُفوا ِ�إنَّ �أَ ْك َر َم ُك ْم ِع َند هَّ ِ‬

‫التعارف‪ ،‬ال التنا ُكر والتفاخر‪ ،‬روى البخاري يف (الأدب‬ ‫ُ‬ ‫أن�ساب �إمنا هو‬ ‫اهلل �أن فائد َة معرف ِة ال ِ‬ ‫ فق�ضى ُ‬
‫املفرد) �أن عبد اهلل بن عبا�س ‪ d‬قال‪( :‬ال �أرى �أحدً ا يعمل بهذه الآية‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬
‫ا�س ِ�إ َّنا َخ َل ْق َنا ُك ْم ِمنْ‬
‫الل �أَ ْت َقا ُك ْم{‪ ،‬فيقول الرجل للرجل‪� :‬أنا �أكرم‬ ‫َذ َك ٍر َو�أُن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا ِ�إنَّ َ�أ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد هَّ ِ‬
‫منك‪ ،‬فلي�س �أح ٌد �أكرم من �أحد �إالَّ بتقوى اهلل)‪.‬‬

‫(من‬ ‫أحد بن�سب ُمطلق ًا‪ ،‬ويف ال�صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫ف�ضل �أحد ًا على � ٍ‬ ‫ عباد اهلل! �إن ال�شر َع مل ُي ّ‬
‫بط�أ به عم ُل ُه مل ُي�سرع به ن�سبه)‪ .‬قال �شيخ الإ�سالم [الفتاوى الكربى ‪( :]173/1‬لي�س يف كتاب اهلل �آي ٌة‬ ‫ّ‬
‫واحد ٌة مَيدح فيها �أحد ًا بن�سبه‪ ،‬وال َيذم �أحد ًا بن�سبه‪ ،‬و�إمنا ميدح بالإميان والتقوى ويذم بالكفر والف�سوق‬
‫والع�صيان)‪.‬‬

‫التع�صب للقبيلة والتفاخ ُر بها‪ ،‬روى الإمام �أحمد ب�إ�سناد ح�سن عن‬ ‫ُ‬ ‫ �إن املذموم يف ال�شر ُع ِمن ذلك �إمنا هو‬
‫ب�سباب على �أحد‪ ،‬و�إنمَّ ا �أنتم ولد �آدم‪َ ،‬ط ُّف ال�صَّ ا ِع مل متل�ؤوه‬
‫ٍ‬ ‫عقبة بن عامر ‪� d‬أن النبي ‪�( :s‬إنَّ �أن�سابكم هذه لي�ست‬
‫عمل �صالح)‪.‬‬ ‫أحد على �أحد ف�ضل �إالَّ بالدين �أو ٍ‬ ‫‪�-‬أي بع�ضكم قريب من بع�ض يف الن�سب‪ ،-‬لي�س ل ٍ‬

‫بل�سان ولهجة‪،‬‬
‫وال�س ْبق �إمنا هو بالدين والعمل ال�صالح‪ ،‬لقد �أعزَّنا اهلل بالإ�سالم‪ ،‬ال ٍ‬ ‫َ‬
‫الف�ضل َّ‬ ‫ نعم ! �إن‬
‫بقوم �أو ع�شرية‪ ،‬و�إمنا بالإ�سالم فقط ُعرفنا‪ ،‬وبه‬
‫وبن�سب‪ ،‬وال ب�إقليم وال وطن‪ ،‬وال ٍ‬
‫وال بلون وجن�س‪ ،‬وال ب ِعرق َ‬
‫نع َرف �إىل قيام ال�ساعة‪ .‬و�إنَّ َمن ابتغى العزة يف غري الإ�سالم ف�إنَّ ّ‬
‫الذل وال�صغار م�آله وال ُبد‪.‬‬

‫ روى احلاكم و�صححه �أن عمر بن اخلطاب خرج �إىل ال�شام ومعه �أبو ُعبيدة بن اجلراح‪ ،‬ف�أتوا على‬
‫خما�ضة وعمر على ناقة‪ ،‬فنزل عنها‪ ،‬وخلع ُخ َّفيه‪ ،‬فو�ضعهما على عاتقه‪ ،‬و�أخذ بزمام ناقته فخا�ض بها‬
‫املخا�ضة‪ ،‬فقال �أبو عبيدة‪ :‬يا �أمري امل�ؤمنني‪� ،‬أ�أنت تفعل هذا؟! تخلع خ َّفيك‪ ،‬وت�ضعهما على عاتقك‪ ،‬وت�أخذ بزمام ناقتك‪،‬‬
‫وتخو�ض بها املخا�ضة؟! ما ي�س ُّرين �أنَّ �أهل البلد ا�ست�شرفوك‪ ،‬فقال عمر‪�( :‬أ َّوه! لو يقل ذا غريك �أبا عبيدة جعلته نكا ًال‬
‫قوم ف�أعزَّنا اهلل بالإ�سالم‪ ،‬فمهما نطلب الع َّز بغري ما �أعزَّنا اهلل به �أذ َّلنا اهلل)‪.‬‬ ‫لأ َّمة حم َّمد ‪� ،s‬إ َّنا ك َّنا � َّ‬
‫أذل ٍ‬

‫ قال قتادة بن دعامة ال�سدو�سي‪ :‬يف تف�سري قول اهلل تعاىل‪َ } :‬و ْاذ ُك ُرو ْا ِن ْع َم َة هَّ ِ‬
‫الل َع َل ْي ُك ْم ِ�إ ْذ ُكنت ُْم �أَ ْع َداء‬
‫َف�أَ َّل َف َبينْ َ ُق ُلو ِب ُك ْم َف�أَ�صْ َب ْحتُم ِب ِن ْع َم ِت ِه ِ�إ ْخ َوا ًنا َو ُكنت ُْم َع َل َى َ�ش َفا ُح ْف َر ٍة ِّمنَ ال َّنا ِر َف َ�أن َق َذ ُكم ِّم ْن َها{‪( :‬كان هذا‬
‫أجوع ُه ُبطون ًا بني فكي � ِ‬
‫أ�سد‬ ‫أذل النا�س ذ ًال‪ ،‬و�أ�شقاه عي�ش ًا‪ ،‬و�أبينه َ�ضالل ًة‪ ،‬و�أعراه ُجلود ًا‪ ،‬و� ُ‬ ‫احلي من العرب � َّ‬ ‫ُّ‬
‫ا�ش �شق ّي ًا‪َ ،‬ومن َمات ُردِّي‬ ‫فار�س والروم‪ ،‬ال واهلل ما يف بال ِدهم يومئذ �شيء ُي ْح َ�سدون عليه‪َ ،‬من عا�ش منهم َع َ‬ ‫ٍ‬
‫�إىل النار‪ ،‬ي�ؤ َك ُلونَ وال َي�أ ُك ُلون‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التعصب القبلي‬

‫أ�ضعف �ش�أن ًا ِمنهم‪ ،‬حتى َجا َء‬


‫حظ ًا و� َ‬
‫حا�ضر الأر�ض كانوا فيها �أ�صغ َر َّ‬
‫ِ‬ ‫ واهلل‪ ،‬ما نعلم َقبي ًال يومئذ ِمن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الكتاب‪ ،‬وم َّكن به يف البالد‪ ،‬وو�سع به يف الرزق‪ ،‬وجعلكم ملوك ًا ‪ ،‬وبالإ�سالم‬
‫َ‬ ‫اهلل عز وجل بالإ�سالم فو َّرثكم به‬
‫اهلل ما ر�أيتم‪ ،‬فا�شكروا نعمتَه‪ ،‬ف�إن ربكم منع ٌم يحب ال�شَّ اكرين‪ ،‬و�إن �أهل ال�شكر يف مزيد من اهلل)‬‫�أعطى ُ‬
‫[رواه الطربي]‪.‬‬

‫ نعم! �إن اخلريية في َمن دان بالإ�سالم وعمل ب�أحكامه وهُ داه كائن ًا َمن كان‪ ،‬عن كرز بن علقمة اخلزاعي‬
‫‪ d‬قال‪ :‬قال رجل‪ :‬يا ر�سول اهلل‪ ،‬هل للإ�سالم من منتهى؟ قال ‪( :s‬نعم‪� ،‬أميا �أه ُل بيت من العرب �أو‬
‫اهلل بهم خري ًا �أدخل عليهم الإ�سالم)‪ ،‬قال‪ :‬ثم َمه؟ قال‪( :‬ثم تقع الفنت ك�أنها ُّ‬
‫الظلل)‪ ،‬قال‬ ‫العجم �أرا َد ُ‬
‫بيده ثم تعودون فيها �أَ َ�ساو َد ُ�ص َّبا‪ ،‬ي�ضرب‬
‫الأعرابي‪ :‬كال واهلل �إن �شاء اهلل‪ ،‬قال ‪( :s‬بلى‪ ،‬والذي نف�سي ِ‬
‫بع�ضكم رقاب بع�ض) رواه �أحمد واحلاكم ب�سند �صحيح‪.‬‬

‫عباد اهلل ! �إن للتع�صب املذموم يف ال�شر ِع �صور ًا ُكلُّها داخلة يف الذم‪:‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫‪1 .1‬فمنها‪ :‬الفخر بالآباء‪ ،‬والتعظيم والتفخيم لأفعالهم وم�آثرهم؛ قال ‪( :s‬لينته َّني �أق��وا ٌم َيفتخرون‬
‫اخلرا َء‬
‫جل ْع ِل الذي َيدهده ِ‬ ‫فحم جهنم‪� ،‬أو ليكوننّ �أهون على اهلل ِمن ا ُ‬
‫ب�آبائهم الذين ماتوا‪� ،‬إمنا هم ُ‬
‫أذهب عنكم ُع ِّب َّية اجلاهلية وفخ َرها بالآباء‪� ،‬إمنا هو م�ؤمن تقي وفاجر �شقي‪ .‬النا�س‬ ‫ب�أنفه‪� .‬إن َ‬
‫اهلل قد � َ‬
‫كلهم بنو �آدم‪ ،‬و�آدم خلق من تراب) رواه الرتمذي و�أبو داود ‪ ،5117‬و�أحمد‪.‬‬

‫ ويف �صحيح م�سلم عن عيا�ض بن حمار ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪� ( :‬إن اهلل �أوحى �إيل �أن توا�ضعوا حتى ال يفخر‬
‫�أحد على �أحد وال يب ِغي �أح ٌد على �أحد)‪.‬‬

‫ �إن العزة ال ُتكت�سب باالنت�ساب للترُ ب‪ ،‬وال للأموات‪� ،‬إمنا تلك حيلة العاجز‪ ،‬ومنتهى ُقدرة ال�ضَّ عيف‪،‬‬
‫ّ‬
‫ي�ستدل به على مفخر ٍة ي�شدو بها‪� ،‬أو‬ ‫فرتاه َين ُب ُ�ش يف َمقرب ِة التاريخ‪ ،‬و َيبحثُ يف ركام ال َق َ�ص�ص والأخبار َما‬
‫جمد يتمنطق به‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫إمام �أحمد (‪ )128/5‬ب�إ�سناد �صحيح عن �أبي بن كعب ‪ d‬قال‪ :‬انت�سب رجالن على عهد ر�سول‬ ‫ روى ال ُ‬
‫أنت ال �أُ َّم لك‪ .‬فقال ر�سول اهلل ‪( :s‬انت�سب رجالن على‬ ‫اهلل ‪ s‬فقال �أحدهما‪� :‬أنا فالن بن فالن‪ ،‬فمن � َ‬
‫عهد مو�سى ‪ ،a‬فقال �أحدهما‪� :‬أنا فالن ابن فالن حتى ت�سعة‪ ،‬فمن �أنت ال �أم لك؟ قال‪� :‬أنا فالن ابن فالن‬
‫ابن الإ�سالم‪ ،‬قال‪ :‬ف�أوحى اهلل �إىل مو�سى‪� :a‬أن هذين املنت�سبني‪� ،‬أما �أنت �أيها املنتمي �إىل ت�سعة من النار‪،‬‬
‫ف�أنت عا�شرهم‪ ،‬و�أما �أنت يا هذا املنت�سب �إىل اثنني يف اجلنة ف�أنت ثالثهما يف اجلنة)‪.‬‬

‫أن�ساب‪ ،‬وا�ستنقا�ص الآخرين‪ ،‬وعي ُبهم وذ ُّمهم ال ل�شيء �إال‬‫‪2 .2‬ومن ال�صور املذمومة للتع�صب؛ الطعن يف ال َ‬
‫وعر ِقه‪ .‬ويف َ�صحيح ُم�سلم �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬أربع يف �أمتي من �أمر اجلاهلية ال‬ ‫لكونهم لي�سوا مث َله � ِأومن ِ‬
‫جن�سه ِ‬

‫‪168‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التعصب القبلي‬

‫أن�ساب‪.)...‬و�صح عنه ‪� s‬أنه قال‪( :‬بح�سب امرئ من ال�ش ِّر‬


‫َّ‬ ‫أح�ساب والطعن يف ال‬
‫يرتكونهن‪ :‬الفخر يف ال َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�أن يحتقر �أخاه امل�سلم)‪.‬‬

‫الف �أَ ْل ِ�س َن ِت ُك ْم‬ ‫����ض َو ْاخ ِت ُ‬ ‫ال�س َم َو ِات َوالأَ ْر ِ‬


‫ وت�أمل يارعاك اهلل يف قوله اهلل تعاىل‪َ } :‬و ِم��نْ �آ َيا ِت ِه َخ ْلقُ َّ‬
‫اهلل تعاىل اختالف �ألواننا و�أل�سنتنا �آي ًة من �آياته‪ ،‬و�إذا كان من �ش�أن �آيات اهلل �أن‬ ‫َو�أَ ْل َوا ِن ُك ْم{‪ ،‬فقد جعل ُ‬
‫عر ِقه �إنمَّ ا يطعن يف �آيات اهلل تعاىل‪ ،‬وقد قال‬ ‫لون غ ِريه �أو يف ل�سانه و ُلغ ِته �أو ِ‬ ‫تعظم وحترتم‪ ،‬فالطاعن يف ِ‬ ‫َّ‬
‫الل َف ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل‬ ‫ات هَّ ِ‬
‫الل َع َل ْي ُك ْم{‪ ،‬وقال‪َ } :‬و َمنْ َي ْك ُف ْر ِب�آ َي ِ‬‫الل هُ ُز ًوا َو ْاذ ُك ُروا ِن ْع َم َة هَّ ِ‬
‫ات هَّ ِ‬
‫اهلل تعاىل‪َ } :‬وال َتت َِّخ ُذوا �آ َي ِ‬
‫اب{‪.‬‬ ‫َ�س ِري ُع الحْ ِ َ�س ِ‬

‫مظلوم و�إمنا تع�صب ًا وحم ّية؛ كتب‬ ‫ٍ‬ ‫‪ِ 3 .3‬ومن �صور التع�صب املذمومة؛ التداعي بالقبيلة وال ِع ْرق‪ ،‬ال لن�صرة‬
‫عمر بن اخلطاب �إىل �أمراء الأجناد‪�( :‬إذا تداعت القبائـل فا�ضربوهم بال�سيف حتَّى ي�صريوا �إىل دعوة‬
‫و�صف كان يف الكافرين يقول اهلل تعاىل‪�ِ } :‬إ ْذ َج َع َل ا َّل ِذينَ َك َف ُروا‬‫الإ�سالم) [رواه ابن �أبي �شيبة]‪ .‬وهذا ٌ‬
‫فيِ ُق ُلو ِب ِه ُم الحْ َ ِم َّي َة َح ِم َّي َة الجْ َ ِاه ِل َّي ِة{‪.‬‬

‫(من دعا بدعوى اجلاهلية‬ ‫النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬


‫إ�سناد �صحيح عن احلارث الأ�شعري �أن ِّ‬ ‫ وروى الإمام �أحمد ب� ٍ‬
‫فهو من جثاء جهنم)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا ر�سول اهلل‪ ،‬و�إن �صام و�ص ّلى؟ قال‪( :‬و�إن �صام و�ص َّلى وزعم �أ َّنه م�سلم‪،‬‬
‫فادعوا امل�سلمني ب�أ�سمائهم؛ مبا �س َّماهم اهلل عز وجل به‪ :‬امل�سلمني امل�ؤمنني عباد اهلل)‪.‬‬

‫النبي ‪ s‬وقد ثاب معه نا�س من املهاجرين حتَّى كرثوا‪،‬‬ ‫ ويف ال�صحيحني عن جابر ‪ d‬قال‪ :‬غزونا مع ِّ‬
‫أن�صاري غ�ضب ًا �شديد ًا‪ ،‬حتَّى تداعوا‪ ،‬فقال‬
‫ُّ‬ ‫اب َف َك َ�س َع �أن�صار ًّيا‪ِ ،‬‬
‫فغ�ض َب ال‬ ‫وكان من املهاجرين رجل ُل َع ٌ‬
‫املهاجري‪ :‬يا َللمهاجرين‪ ،‬فخرج ُّ‬
‫النبي ‪ s‬فقال‪( :‬ما بال دعوى اجلاهل َّية؟‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫أن�صاري‪ :‬يا َلل َ‬
‫أن�صار‪ ،‬وقال‬ ‫ُّ‬ ‫ال‬
‫ثم قال‪ :‬دعوها ف�إ َّنها خبيثة)‪.‬‬

‫‪4 .4‬الأمر الرابع ِمن �صور التع�صب املذموم‪� ،‬أن ُيقدِّ م املر ُء َقبي َله و�أه َله على غ ِريهم يف ِّ‬
‫احلق العام‪ ،‬فرتاه‬
‫عمل و ي�ؤخر َعمر ًا ال لكون الأول الأجد َر والأف�ضل و�إمنا لكونه ابنَ قبيلته �أو‬ ‫ُيقدِّ م زيد ًا يف وظيف ٍة �أو ٍ‬
‫َب َل ِد َّيه‪ ..‬ويف ذلك من خيانة الأمانة و�إي�ساد الأمر لغري �أه ِله‪ ،‬وقد روى �أبو داود ب� ٍ‬
‫إ�سناد �صحيح عن عبد اهلل بن م�سعود‬
‫(من ن�صر قومه على غري احلق فهو كالبعري الذي ردِّي ـ �أي‪� :‬سقط يف البئر ـ‪ ،‬فهو ينزع ـ‬ ‫�أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫�أي‪ :‬يحاول اخلروج ـ َبذ َنبه)‪.‬‬

‫هلل ! لي�س من املذموم حمبة القرابة ومودتهم فتلك جب ّلة ب�شرية؛ قال اهلل عز وجل عن نبيه‪} :‬‬ ‫ عباد ا ِ‬
‫ُقل الَّ �أَ�سْ�أَ ُل ُك ْم َع َل ْي ِه �أَ ْج ًرا ِ�إالَّ المْ َ َو َّد َة فيِ ا ْل ُق ْر َبى{‪ ..‬كما �أن �إح�سان املرء لقرابته وب ُّرهم ِمن ما ِله هو اخلا�ص‪ ،‬ال‬
‫عنده ذلك ِمن �أف�ضل ال�صدقة؛ كما قال النبي ‪�( :s‬صدقتك على قرابتك‬ ‫ِمن املال العام الذي ُجعل �أمان ًة َ‬
‫�صدق ٌة و�صلة)‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التعصب القبلي‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫النبي ‪�( :s‬إنَّ ال�شيطان قد يئ�س �أن يعبده امل�صلون‪ ،‬ولكن يف التحري�ش بينهم) رواه‬
‫ عباد اهلل ! يقول ِّ‬
‫�أحمد وم�سلم‪.‬‬

‫ �إن تفريق ال�شيطان بني بني �آدم بالتع�صب ال يقت�ص ُر على التع�صب القبلي‪ ،‬بل يتعداه فرتى بع�ض ًا‬
‫ويتع�صب‬
‫ُ‬ ‫بع�ض لأجل اختالف املنطقة‪� ،‬أو الدولة‪� ،‬أو اللغة‪� ،‬أو ال ِع ْرق ونحو ذلك‪ُ ..‬ك ٌّل يفخر َمبا �أوتي‪،‬‬
‫يتع�صب على ٍ‬
‫ُ‬
‫لعر ِقه ولونه و�أ�ص ِله‪ ،‬ف�أحدهم عربي‪ ،‬والآخ ُر �أمازيغي‪ ،‬والثالث ُكردي‪ ،‬ورابعق فار�سي‪ ..‬ثم يفخ ُر ُك ٌّل على َمن معه ِمن �أهل‬
‫جن�سه‪ ،‬بل رمبا فخر املر ُء على �أخيه ابن �أبيه الختالف بينهم يف اخلئولة‪.‬‬ ‫ِ‬

‫ و ُكلُّه من عمل ال�شيطان‪ ،‬ذكر بع�ض رواة �أخبار الأدب قال‪ُ � :‬‬
‫أدركت �سفهاء مكة يت�سا ُّبون ويتع�صبون‬
‫لبطونهم التي ينت�سبون �إليها فال يربحون حتى تكون بينهم اجلراح وال�شجاج طوال �أيام بني �أمية‪ ،‬ثم ملَّا‬
‫�صارت دولة بني العبا�س �صارت الع�صبية مبكة بني احلناطني واجلزارين [الأغاين لل�صبهاين]‪.‬‬

‫جن�س �أو‬
‫بلد �أو ٍ‬ ‫ يقول �شيخ الإ�سالم ابن تيمية‪( :‬ك ُّل ما خرج عن دعوى الإ�سالم والقر�آن من ٍ‬
‫ن�سب �أو ٍ‬
‫مذهب �أو طريق ٍة فهو ِمن عزاء اجلاهلية‪ ،‬بل ملا اخت�صم مهاجري و�أن�صاري فقال املهاجري‪ :‬يا َللمهاجرين‪،‬‬
‫ٍ‬
‫غ�ض َب الر�سو ُّل ‪ s‬لذلك غ�ضب ًا �شديد ًا فقال‪�( :‬أبدعوى اجلاهلية و�أنا بني‬
‫وقال الأن�صاري‪ :‬يا َللأن�صار‪ِ ،‬‬
‫�أظهركم)‪.‬‬

‫البيان وال َق َلم‪ ،‬من ال�شعرا ِء واملتكلمني‪ ،‬و ُكتاب ال�صحف والكتب والإنرتنت �أث ُرهُ م‬ ‫ عباد اهلل ! �إن ِل َذوي ِ‬
‫الأك ُرب يف �إحياء �أوا ِر مثل هذه الع�صبيات‪ ،‬و�إذكا ِء نارها‪� ،‬أو �إطفائها وتهد�أتها‪ ،‬لذا يقول النبي ‪�ِ ( :s‬إنَّ‬
‫�سر َها‪َ ،‬و َر ُج ٌل ان َت َفى ِمن �أَ ِبي ِه َو َز َّنى �أُ َّمهُ) [رواه البيهقي‬
‫ا�س ِفر َي ًة َل َر ُج ٌل َه َجا َر ُج ًال َف َه َجا ال َق ِبي َل َة ِب�أَ ِ‬ ‫�أَ َ‬
‫عظ َم ال َّن ِ‬
‫‪.]241/10‬‬
‫�أال فليتقي َ‬
‫اهلل ك ُّل فيما �أُوتي‪..‬‬

‫‪170‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التفاؤل والشؤم‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫التفاؤل والشؤم‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫نبي مر�س ٌل يعلمه‪،‬‬ ‫اخت�ص بعلم الغيب وجعله من خ�صائ�ص ربوبيته‪ ،‬ودالئل �ألوهيته‪ ،‬فال ٌّ‬ ‫ف�إن اهلل تعاىل قد َّ‬
‫وال َم َل ٌك مق َّر ٌب َي َّطل ُع َعليه �إال من �شاء اهلل مبا �شاء؛ } َو ِع َند ُه َم َفاتحِ ُ ا ْل َغ ْي ِب َال َي ْع َل ُم َها �إِالَّ هُ َو َو َي ْع َل ُم َما فيِ الْبرَ ِّ‬
‫َاب ُّم ِب ٍني{‪،‬‬ ‫ات الأَ ْر ِ�ض َو َال َر ْط ٍب َو َال َيا ِب ٍ�س ِ�إالَّ فيِ ِكت ٍ‬ ‫َوا ْل َب ْح ِر َو َما ت َْ�س ُق ُط ِمن َو َر َق ٍة ِ�إالَّ َي ْع َل ُم َها َو َال َح َّب ٍة فيِ ُظ ُل َم ِ‬
‫نت �أَ ْع َل ُم ا ْل َغ ْي َب َال ْ�س َت ْك رَْثتُ‬
‫الل ِل ُي ْط ِل َع ُك ْم َع َلى ا ْل َغ ْي ِب{‪ ،‬وقال للنبي ‪َ } :s‬و َل ْو ُك ُ‬ ‫وقال جل وعال‪َ }:‬و َما َكانَ هَّ ُ‬
‫ال�سو ُء{‪.‬‬ ‫ِمنَ الخْ َ رْ ِي َو َما َم َّ�س ِن َي ُّ‬

‫ ولكن النف�س الب�شرية بطبعها حمب ٌة ملعرفة َما يكون‪ ،‬ومت�شوف ٌة لالطالع عليه وحتققه‪ ،‬وخ�صو�ص ًا ما‬
‫َ‬
‫بو�سائل منعها ال�شَّ رعُ؛ ك�س�ؤال‬ ‫كان متعلق ًا بال ِّر ْزق والظفر‪ ،‬وقد كانت العرب يف اجلاهلية ت�سعى ملعرفة ذلك‬
‫الكهنة والعرافني‪ ،‬واال�ستق�سام بالأزالم‪ ،‬والتطري والت�شا�ؤم‪ ،‬وقد كان بع�ض عقالء اجلاهلية ُي ِنك ُر التط َري‪،‬‬
‫و َيتم َّد ُح برتكه قال �أحدهم‪:‬‬
‫واق وحا ْمت‬
‫وكنت ال �أغدو على ٍ‬
‫ولقد غدوتُ ُ‬ ‫ ‬
‫أ�شائم‬
‫أيامن والأيامنُ كال ْ‬ ‫أ�شائم كال ِ‬ ‫ف�إذا ال ُ‬ ‫ ‬
‫وقال �آخر‪:‬‬
‫الزجر والطري والكهان كلهم‬ ‫ ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ُم�ض ِّللونَ ودُون ال َغ ِ‬


‫يب �أق َف ُال‪.‬‬ ‫ ‬
‫وكان �أكرثهم يتطريون ويعتمدون على هذه الأمور‪ ،‬فت�ص ُّح معهم �أحيانَ كثرية لتزيني ال�شيطان ذلك‪.‬‬
‫ فجاء ال�شرع املطهر بهدم هذه الأمور كلها‪ ،‬فنهى عن �إتيان الكهنة والعرافني و�س�ؤالهم‪ ،‬ونهى عن‬
‫عمل فيقرع بينها فما �صارت عليه القرعة‬ ‫�سفر �أو ٍ‬ ‫اال�ستق�سام بالأزالم ك�أن ينوي ال�شخ�ص الإقدام على ٍ‬
‫�أم�ضاه‪ ،‬ونهى عن التطري والت�شا�ؤم وبني النبي ‪� s‬أن هذه الأمور الثالثة �شرك قاد ٌح يف التوحيد ممن‬
‫الدرجات العالء من‬‫ِ‬ ‫إ�سناد رجا ُله ثقاتٌ عن �أبي الدرداء ‪ d‬رفعه‪( :‬لن ينال‬ ‫يفعلها‪ ،‬ف�أخرج الطرباين ب� ٍ‬
‫تك َّهن �أو ا�ست�سقم �أو رجع من �سفر تطريا)‪ .‬و�أخرج �أبو داود والرتمذي و�صححه عن ابن م�سعود ‪� d‬أنَّ‬
‫النبي‪ s‬قال‪( :‬الطرية �شرك)‪.‬‬
‫التطي يف �أمة حممد ‪ s‬قد تَفعل �شيئ ًا منه وتعتقد به‪ ،‬روى‬ ‫ وقد بقيت بقايا ِمن تلك َ‬
‫اجلهال ِة وذلك رّ‬
‫عبد الرزاق عن �إ�سماعيل بن �أمية �أر�سله مرفوعا‪( :‬ثالث ٌة ال َي�سلم منهن �أحد الطرية‪ ،‬والظن‪ ،‬واحل�سد؛‬
‫ظننت فال تحُ ّققْ )‪.‬‬
‫ف�إذا تطريت فال ترجع‪ ،‬و�إذا ح�سدت فال َت ْب ِغ‪ ،‬و�إذا َ‬
‫‪171‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التفاؤل والشؤم‬

‫ فمن �صور التطري التي ُترى بني امل�سلمني التط ُري ب�شهر �صفر‪ ،‬فرتى � َ‬
‫أحدكم ال ُين�شئ يف هذا ال�شهر‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ربم جتار ًة‪ ،‬ونحو ذلك وهذا مما نهى عنه ال�شرع ثبت عنه ‪� s‬أنه قال‪( :‬ال‬ ‫َ�سفر ًا‪ ،‬وال َيعق ُد زواج ًا‪ ،‬وال ُي ُ‬
‫ِطرية‪ ،‬وال هام َة وال َ�ص َفر)‪.‬‬
‫ُ‬
‫يخالف حديث النبي ‪ s‬و�أمره‪ ،‬ويوافق‬ ‫ ف َمن ت�شاءم بهذا ال�شه َر �أو غ َريه ويظن �أنه �شه ٌر م�ش�ؤ ٌم ف�إمنا‬
‫عمل �أهل اجلاهلية‪.‬‬

‫بع�ض امل�سلمني‪:‬‬ ‫ ‪ w‬ومن �صور التطري التي يقع بها ُ‬


‫�شخ�ص قد ابتاله ُ‬
‫اهلل ب�شيءٍ ِمن العيوب يف بدنه‪ ،‬فرتاه �إذ‬ ‫ٍ‬ ‫۩ ۩ ت�شا� ُؤم بع�ضهم �إذا بد�أ يومه بر�ؤية �صور ٍة َيكرهها؛ كر�ؤي ِة‬
‫يوم �ش� ٍؤم فتَ�سو ُء �أخال ُقه‪ ،‬و َي�ضيق َع َط ُنه‪ ،‬ولرمبا رجع عن �أمره الذي يريد‬ ‫ذاك خبيثَ النف�س يظنُّ �أن َ‬
‫يومه هذا ُ‬
‫�إم�ضا َءه فامتنع من البيع وال�شراء �إن كان تاجر ًا‪� ،‬أو �أخر �صف َة بي ِعه وجتار ِته ليوم �آخر ليذهب ُ‬
‫يوم �ش� ِؤمه‬
‫كما زعم‪.‬‬
‫خل ُلق‪ ،‬و�ضيق النف�س �أن ين�سب ك َّل ُ�سوء يراه يف يومه ذاك �إىل امل�شهد الذي ر�آه يف‬ ‫ بل يزيد على ُ�سوء ا ُ‬
‫اهلل تعاىل‪.‬‬‫�صبحه؛ وك�أن املقدِّ ر للأمور هذه ال�صو ُر ولي�س ُ‬

‫۩ ۩ ومن �صوره �أي�ض ًا ما يفعله بع�ض التجار من تعليق كث ٍري من �أمور جتارته على ما ُي�س َّمى (باال�ستفتاح) يف‬
‫ال�شخ�ص الذي يظنه مبارك ًا في�ستفتح‬
‫ِ‬ ‫ب�شخ�ص َيظنه َم�ش�ؤم ًا‪ ،‬ويبحثُ عن‬
‫ٍ‬ ‫اال�ستفتاح‬
‫َ‬ ‫البيع فرتاه ال َي ُ‬
‫قبل‬
‫ري من التجار من �أن يبد�أ َ‬
‫يومه يف التجارة (�أو ي�ستفتح كما يقال)‬ ‫بتخفي�ض يف ال�سعر‪ ،‬وميتنع كث ٌ‬
‫ٍ‬ ‫به ولو‬
‫بخ�سارة فرتاه ال يرد َمبيع ًا يف �أول يومه حتى ي�ستفتح مبال‪ ،‬وتراه ال يدفع �أجرة ل ٍ‬
‫أحد حتى ي�ستفتح لكي ال يكون هذا‬
‫البذل منه عالم َة �ش�ؤم وخ�سارة عليه‪.‬‬‫ُ‬

‫ا�ستخراج الف�أل من امل�صحف ب�أن يفتح املرء امل�صحف ف�إن وافقت عينة كلم َة‬ ‫ُ‬ ‫الطرية �أي�ض ًا‬
‫۩ ۩ ويف معنى ِّ‬
‫جائز وهو نوع من اال�ستق�سام بالأزالم‪ ،‬بل �أ�سو ُء‬ ‫خري �أم�ضى فع َله‪ ،‬و�إن وافقت غريها �أحجم‪ .‬فهذا غ ُري ٍ‬
‫لأنه قد يخرج له ما ال يريد ف ُي�ؤ ِدي ذلك �إىل الت�شا�ؤم بالقران‪.‬‬
‫ وقد كان �أهل اجلاهلية ي�ستق�سمون بالألزالم وهي قداح يكون يف بع�ضها (افعل) ويف بع�ضها (ال تفعل)‬
‫والثالث ال �شيء فيه‪ ،‬فان خرج الذي فيه (افعل) م�شى وان خرج الذي فيه (ال تفعل) رجع وان خرج الذي‬
‫ال �شيء فيه �أعاد اال�ستق�سام‪ ،‬يقول ج ّل وعال‪َ } :‬و َ�أن ت َْ�س َت ْق ِ�س ُمو ْا ِبالأَز َْال ِم َذ ِل ُك ْم ِف ْ�سقٌ{‪.‬‬

‫ ‪ w‬وال �شك �أن كل هذه الأفعال وغ َريها مما جرى جمراها مما نهى ال�شارع عنها وزجر‪ .‬وقد دلنا‬
‫النبي ‪� s‬إىل الطريق الذي يتخ َّل ُ�ص به املر ُء من هذه الأمور‪:‬‬
‫ُّ‬
‫بعده عن نف�سه‪ ,‬و�أن يتذكر �أن َ‬
‫اهلل مقد ُر الأمور‬ ‫‪1 .1‬ف�أولها‪� :‬أن ميتنع امل��ر ُء ِمن التطري والت�شا�ؤم و�أن ُي َ‬
‫أر�ض بخم�سني �ألف �س ــنة‪ ،‬قال َج ّل وعال‪:‬‬
‫موات وال َ‬‫ال�س ِ‬ ‫وخالقها‪ ،‬و�أن الرزق والقدر حمددان َ‬
‫قبل َخ ِلق َّ‬
‫ُ‬
‫ويجعل قل َبه متوك ًال عليه‬ ‫امل�سلم على اهلل و َيعتم ُد عليه‪ ،‬و َي�صد ُُق يف ذلك‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فيتوكل‬ ‫} َطا ِئ ُر ُك ْم ِع َند هَّ ِ‬
‫الل{‪.‬‬
‫�سبحانه بال ُكل َّية‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬التفاؤل والشؤم‬

‫فليم�ض �إىل ما �أراد وال يرجع‪ ،‬قال ‪( :s‬ف�إذا تطريت‬ ‫ِ‬ ‫وجد املرء �شيئ ًا ِمن ذلك يف ِ‬
‫نف�سه‬ ‫‪2 .2‬وثاني ًا‪� :‬أ ّنه �إن َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫فال ترجع)‪ .‬وروى ابن عدي ب�سند لني عن �أبي هريرة ‪ d‬مرفوعا‪�( :‬إذا تطريمت ف�أم�ضوا وعلى اهلل‬
‫تطي‪ ،‬ولكن اهلل يذهبه بالتوكل)‪.‬‬ ‫فتوكلوا)‪.‬ويقول ابن م�سعود ‪َ (:d‬ما منا �إال رَّ‬
‫‪3 .3‬وثالث ًا‪� :‬أن يقول ما ورد‪ ،‬فقد روى البيهقي عن ابن عمرو ‪ d‬قال‪َ :‬‬
‫(من َع َر َ�ض له ِمن هذه ِّ‬
‫الطري ِة َ�شي ٌء‬
‫فليقل‪ :‬اللهم ال َط رْ َي �إال َطريك‪ ،‬وال خري �إال خ ُريك‪ ،‬وال �إله غريك)‪.‬‬
‫وح�سن الظن باهلل ج ّل وعال‪ ،‬وقد كان ُّ‬
‫النبي‬ ‫ال�ش�ؤم‪ :‬احلر�ص على الف�أل ُ‬ ‫‪4 .4‬رابع ًا‪� :‬أنّ ِمن �أعظم َما ُيط َر ُد به ُّ‬
‫‪ُ s‬يعجبه الف�أل‪ ،‬وهو ما ين�شرح له �صدره كالكلمة الطيبة‪ ،‬ففي ال�صحيح‪( :‬ال طرية‪ ،‬وخ ُريها ال َف�أل)‪،‬‬
‫أحب ال َف�أل ال�صَّ الح)‪ ،‬قيل‪ :‬يا َ‬
‫ر�سول اهلل! َوما الف�أل ؟ قال‪:‬‬ ‫ويف رواي ٍة‪( :‬ويعجبني الف�أل)‪ ،‬ويف رواية‪( :‬و� ُّ‬
‫(الكلمة ال�صاحلة ي�سمعها �أحدكم)‪ ،‬فكان النبي ‪ s‬يتف�آل بالأ�سماء فعندما ر�أى �سهيل بن عمرو قال‬
‫‪�( :s‬سهل �أمركم)‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫مري�ض‪ ،‬و�سمع‪ " :‬يا �سامل يا غامن �أو يا عافية "‪ ،‬فيتف�آل بهذه‬ ‫ وكذا املُ�س ِلم �إذا خرج َ‬
‫ل�س َف ٍر �أو �إىل عيادة ٍ‬
‫الألفاظ‪.‬‬
‫ وهذا م�شرو ٌع �إذا مل يق�صد ال�سماع‪ .‬و�أ َّما �إذا ق�صد �سماع الف�أل‪ ،‬وق�صد االبتعاد عن غريه من الأ�سماء‬
‫ل َيعمل على َما ي�سمع من خري �أو �شر فال يجوز‪ ،‬لأ ّنه من االزالم املحرمة التي كانت تفعلها اجلاهلية‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬
‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬
‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬
‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الثناء على اهلل‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الثناء على اهلل‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ روى البخاري يف (�صحيحه) عن عبد اهلل بن عمرو مرفوع ًا �أن النبي ‪ s‬قال ‪( :‬ال �شيء � َّ‬
‫أحب �إال اهلل‬
‫املدح من اهلل)‪.‬‬
‫أحب �إليه ُ‬
‫نف�سه) ‪ .‬ويف رواية يف ال�صحيحني ‪( :‬ما �أح ٌد � ُّ‬
‫من املدح‪ ،‬ولذا مدح َ‬

‫وقال له الأ�سود بن �سريع‪ :‬يا ر�سول اهلل �إين حمدت ربي مبحامد‪ .‬فقال‪�( :‬إن ربك يحب احلمد)‪.‬‬ ‫ ‬

‫كم َل الثناء عليه ج ّل وعال‪ ،‬ففي �صحيح‬


‫ عباد اهلل! �إ ّنه مهما �أثنى العب ُد على اهلل تعاىل‪ ،‬ف�إنه لن ُي ِ‬
‫م�سلم �أنّ النبي‪s‬كان يدعو يف الليل يف �سجوده فيقول‪ « :‬اللهم �أعوذ بر�ضاك من �سخطك ومبعافاتك من‬ ‫ٍ‬
‫أثنيت على نف�سك »‪.‬‬
‫عقوبتك‪ ،‬و�أعوذ بك منك ال �أح�صى ثناء عليك‪� ،‬أنت كما � َ‬

‫‪ w‬ففي هذا الدعاء البليغ اجلليل �أمران‪:‬‬ ‫ ‬


‫ �أحدهما‪� :‬أنّ العبد مهما �أطنب يف الثناء و�أطال فيه ف�إ ّنه لن يبلغ �إح�صاء ثناء اهلل تعاىل‪ ،‬فهو �سبحانه‬
‫مالك‪( :‬مل �أح�صر نعمتك و�إح�سانك‬‫ح�صي ثناء عليه‪ .‬قال ٌ‬ ‫املثني على نف�سه‪ ،‬و�أف�ضل َخل ِقه حمم ٌد ‪s‬ال ُي ِ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫والثناء بها عليك و�إن اجتهدتُ يف الثنا)‪.‬‬

‫ فالنبي ‪ s‬يقول‪ :‬و�إن اجتهدتُ يف الثناء عليك فلن �أح�صي نعمك وثناءك و�إح�سانك‪ .‬وهذا معنى قول‬
‫الل َحقَّ َق ْد ِر ِه ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َل َق ِو ٌّي َع ِزيزٌ{‪.‬‬ ‫اهلل تعاىل‪َ } :‬ما َق َد ُروا هَّ َ‬

‫نف�سه ج ّل وعال‪ ،‬وهذا معنى قول النبي غ‪« :‬‬


‫الثاين‪� :‬أنّ �أكمل ما ُيثنى به على اهلل تعاىل هو ما �أثنى به على ِ‬
‫حمد العباد له‪،‬‬
‫أعظم ِمن ِ‬
‫لنف�س ِه � ُ‬
‫حمد العباد له‪ ،‬وحم ُد ُه ِ‬
‫يحب َ‬‫�أنت كما �أثنيت على نف�سك »‪ .‬فهو �سبحانه ُّ‬
‫ويحب ثنا َءهم عليه وثنا�ؤه على نف�سه �أعظم من ثنائهم عليه‪.‬‬
‫ُّ‬

‫‪174‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الثناء على اهلل‬

‫ قال حافظ املغرب �أبو عمر ابن عبد الرب‪ « :‬قوله‪�( :‬أنت كما �أثنيت على نف�سك) دلي ٌل على �أنه ال ُيبلغ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫نف�سه‪ ،‬ومن و�صفه بغري ما و�صف به نف�سه فقد قال بغري علم ف�إنه لي�س كمثله �شيء وال‬ ‫و�صف ِ‬
‫يف و�ص ِفه �إىل ِ‬
‫ي�شبهه �شيء وهو خالق كل �شيء وهو بكل �شيء عليم »‪.‬‬

‫وحمد له �أن ُيو�صف مبا و�صف به نف�سه يف كتابه‪� ،‬أو �أوحى به �إىل نب ّيه غ‪ ،‬وهو‬‫ ف�أعظم ثناءٍ على اهلل ٍ‬
‫الذي رتّب اهلل عليه دخول اجلنة‪ ،‬يف ال�صحيحني �أن النبي ‪s‬قال‪� « :‬إن هلل ت�سع ًة وت�سعني ا�سم ًا مائ ًة �إال‬
‫واحدا من �أح�صاها دخل اجلنة »‪ .‬ومعنى �أح�صاها �أي علمها‪ ،‬ودعا بها‪.‬‬

‫بال�سنة‪ ،‬لي�س داعي ًا‬


‫أحد �أن يثني على اهلل كمال الثناء �إال �أن يكون عامل ًا بالكتاب عامل ًا ُّ‬
‫ فال ميكن ل ٍ‬
‫أو�صاف يجتهد فيها‪ ،‬بل �أف�ضل الثناء على اهلل ما �أثنى على نف�سه به‪.‬‬
‫ب�أ�سماءٍ يخرتعها‪ ،‬وال � ٍ‬

‫ق�صة �شفاعة‬ ‫ ولذا ف�إن النبي ‪ s‬يوم القيامة يف �ش ّدة الكرب �إمنا يدعو مبا ع ّلمه ر ّبه يف ال�صحيح يف ّ‬
‫النبي ‪ s‬للخلق قال‪َ ( :‬ف�إِ َذا َر َ�أ ْي ُت َر ِّبي َو َق ْع ُت َ�س ِاجدً ا َف َي َد ُع ِني َما َ�شا َء ُ‬
‫اهلل‪ُ ،‬ث َّم ُي َق ُال‪ :‬ا ْر َف ْع َر�أْ َ�س َك َو َ�س ْل ُت ْع َطهْ‪،‬‬
‫َو ُق ْل ُي ْ�س َم ْع‪َ ،‬وا�شْ َف ْع ُت َ�ش َّف ْع‪َ ،‬ف�أَ ْر َف ُع َر�أْ ِ�سي‪َ ،‬ف�أَ ْح َم ُد ُه ِبت َْح ِم ٍيد ُي َع ِّل ُم ِني ِه‪ُ ،‬ث َّم َ�أ�شْ َف ُع)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن الثناء على اهلل يت�أكد يف موا�ضع‪ ،‬ومنها حال الركوع‪ ،‬يف �صحيح م�سلم عن ابن عبا�س ب‬
‫يت �أَنْ �أَ ْق َر�أَ ا ْل ُقرْ�آنَ َر ِاك ًعا �أَ ْو َ�س ِاجدً ا َف�أَ َّما ال ُّر ُكو ُع َف َع ِّظ ُموا ِفي ِه ال َّر َّب َع َّز َو َج َّل َو�أَ َّما‬
‫�أن النبي ‪ s‬قال‪�ِ « :‬إنيِّ ُن ِه ُ‬
‫اب َل ُك ْم »‪.‬‬ ‫اجت َِهدُوا فيِ ال ُّد َعا ِء َف َق ِمنٌ �أَنْ ُي ْ�ست ََج َ‬
‫ال�س ُجو ُد َف ْ‬
‫ُّ‬

‫ وقد �أمر النبي ‪ s‬بالإكثار من الباقيات ال�صاحلات‪ ،‬وهُ نّ من الثناء على اهلل تعاىل‪ ،‬ففي امل�سند‬
‫إ�سناد �صحيح عن �أبي �سعيد اخلدري ت �أن النبي ‪ s‬قال‪ :‬ا�ستكرثوا من الباقيات ال�صاحلات‪ ،‬قيل‪ :‬وما‬ ‫ب� ٍ‬
‫هي يا ر�سول اهلل ؟ قال‪( :‬التكبري ‪ ،‬والتهليل ‪ ،‬والت�سبيح ‪ ،‬والتحميد ‪ ،‬وال حول وال قوة �إال باهلل)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫‪175‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الثناء على اهلل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الجنة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الجنة‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ات �أَنَّ َل ُه ْم َج َّن ٍات تجَْ ِري ِمن تحَْ ِت َها الأَ ْن َها ُر ُك َّل َما‬ ‫ فيقول اهلل تعاىل‪َ }:‬و َب ِّ�ش ِر ا َّل ِذين � َآم ُنو ْا َو َع ِم ُلو ْا ال�صَّ الحِ َ ِ‬
‫ُر ِز ُقو ْا ِم ْن َها ِمن َث َم َر ٍة ِّر ْزق ًا َقا ُلو ْا َه َـذا ا َّل ِذي ُر ِز ْق َنا ِمن َق ْب ُل َو�أُ ُتو ْا ِب ِه ُمت ََ�شا ِبه ًا َو َل ُه ْم ِفي َها �أَ ْز َوا ٌج ُّم َط َّه َر ٌة َوهُ ْم‬
‫ات َ�س ُن ْد ِخ ُل ُه ْم َج َّن ٍات تجَْ ِري ِمن تحَْ ِت َها الأَ ْن َها ُر َخا ِل ِدينَ‬ ‫ِفي َها َخا ِلدُونَ {‪َ } ،‬وا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا َو َع ِم ُلو ْا ال�صَّ الحِ َ ِ‬
‫وها ِب َ�س َال ٍم‬ ‫ِفي َها �أَ َبدً ا َّل ُه ْم ِفي َها �أَ ْز َوا ٌج ُّم َط َّه َر ٌة َو ُن ْد ِخ ُل ُه ْم ِظـ ًّال َظ ِلي ًال{‪�} ،‬إِنَّ المْ ُ َّت ِق َني فيِ َج َّن ٍات َو ُع ُي ٍون{ ا ْد ُخ ُل َ‬
‫� ِآم ِن َني{ َو َنزَ ْع َنا َما فيِ ُ�صدُو ِر ِهم ِّمنْ ِغ ٍّل ِ�إ ْخ َوا ًنا َع َلى ُ�س ُر ٍر ُّم َت َقا ِب ِل َني{ َال مَ َي ُّ�س ُه ْم ِفي َها َن َ�ص ٌب َو َما هُ م ِّم ْن َها‬
‫ا�س ُه ْم ِفي َها َح ِري ٌر{ َو َقا ُلوا‬ ‫}ج َّناتُ َع ْد ٍن َي ْد ُخ ُلو َن َها ُي َح َّل ْونَ ِفي َها ِمنْ �أَ َ�سا ِو َر ِمن َذ َه ٍب َو ُل�ؤْ ُل�ؤًا َو ِل َب ُ‬ ‫بمِ ُ ْخ َر ِجنيَ{‪َ ،‬‬
‫الحْ َ ْم ُد للِ هَّ ِ ا َّل ِذي �أَ ْذ َه َب َع َّنا الحْ َ زَ نَ ِ�إنَّ َر َّب َنا َل َغ ُفو ٌر َ�ش ُكو ٌر{ ا َّل ِذي �أَ َح َّل َنا َدا َر المْ ُ َق َام ِة ِمن َف�ضْ ِل ِه ال مَ َي ُّ�س َنا ِفي َها‬
‫َب ٍق‬ ‫وب{‪�} ،‬إِنَّ المْ ُ َّت ِق َني فيِ َم َق ٍام �أَ ِم ٍني{ فيِ َج َّن ٍات َو ُع ُي ٍون{ َي ْل َب ُ�سونَ ِمن ُ�سند ٍُ�س َو�إِ ْ�ست رْ َ‬ ‫َن َ�ص ٌب َوال مَ َي ُّ�س َنا ِفي َها ُل ُغ ٌ‬
‫ُّم َت َقا ِب ِل َني{ َك َذ ِل َك َو َز َّو ْج َناهُ م ِب ُحو ٍر ِع ٍني{ َي ْد ُعونَ ِفي َها ِب ُك ِّل َف ِاك َه ٍة � ِآم ِن َني{ال َي ُذو ُقونَ ِفي َها المْ َ ْوتَ ِ�إالَّ المْ َ ْو َت َة‬
‫��ك هُ و ا ْل َفو ُز ا ْلعظيم{‪} ،‬وال�ساب ُقونَ ال�ساب ُقونَ {‬
‫َّ ِ‬ ‫َ َّ ِ‬ ‫اب الجْ َ ِح ِيم{ َف�ضْ ًال ِّمن َّر ِّب َ��ك َذ ِل َ َ ْ َ ِ ُ‬ ‫الأُ ىَول َو َو َقاهُ ْم َع َ��ذ َ‬
‫ات ال َّن ِع ِيم{ ُث َّل ٌة ِّمنَ الأَ َّو ِل َني{ َو َق ِلي ٌل ِّمنَ ال ِآخ ِرينَ { َع َلى ُ�س ُر ٍر َّم ْو ُ�ضو َن ٍة{ ُم َّت ِك ِئ َني‬ ‫�أُ ْو َل ِئ َك المْ ُ َق َّر ُبونَ { فيِ َج َّن ِ‬
‫خطبة جديدة‬

‫وف َع َل ْي ِه ْم ِو ْل َدا ٌن مخُّ َ َّلدُونَ { ِب�أَ ْك َو ٍاب َو�أَ َبا ِريقَ َو َك�أْ ٍ�س ِّمن َّم ِع ٍني{ ال ُي َ�ص َّد ُعونَ َع ْن َها َوال‬ ‫َع َل ْي َها ُم َت َقا ِب ِل َني{ َي ُط ُ‬
‫ني{ َك�أَ ْم َث ِال اللُّ�ؤْ ُل�ؤِ المْ َ ْك ُن ِون{ َجزَ اء‬ ‫ُي ِنز ُفونَ { َو َف ِاك َه ٍة ممَِّّ ا َيت ََخ رَّ ُيونَ { َولحَْ ِم َط رْ ٍي ممَِّّ ا َي�شْ َت ُهونَ { َو ُحو ٌر ِع ٌ‬
‫اب‬ ‫اب ا ْل َي ِم ِني َما �أَ�صْ َح ُ‬ ‫الما{ َو�أَ�صْ َح ُ‬ ‫الما َ�س ً‬ ‫بمِ َ ا َكا ُنوا َي ْع َم ُلونَ { ال َي ْ�س َم ُعونَ ِفي َها َل ْغ ًوا َوال َت�أْ ِثي ًما{ ِ�إالَّ ِقي ًال َ�س ً‬
‫وع ٍة َوال‬ ‫وب{ َو َف ِاك َه ٍة َك ِث َري ٍة{ الَّ َم ْق ُط َ‬ ‫ن�ضود{ َو ِظ ٍّل ممَّْ دُود{ َو َماء َّم ْ�س ُك ٍ‬ ‫ا ْل َي ِم ِني{ فيِ ِ�س ْد ٍر مخَّْ ُ�ضود{ َو َط ْل ٍح َّم ُ‬
‫اب ا ْل َي ِم ِني{‪.‬‬ ‫ن�شاء{ َف َج َع ْل َناهُ نَّ َ�أ ْب َكا ًرا{ ُع ُر ًبا َ�أ ْت َرا ًبا{ ِّ ألَ�صْ َح ِ‬ ‫وع ٍة{ ِ�إ َّنا �أَ َ‬
‫ن�ش ْ�أ َناهُ نَّ ِ�إ َ‬ ‫وع ٍة{ َو ُف ُر ٍ�ش َّم ْر ُف َ‬ ‫ممَْ ُن َ‬

‫ ما �أ�شرف َمن �أكرمه املوىل الكرمي‪ ،‬وما �أج َّل من �أثنى عليه العزيز الرحيم‪ ،‬وما �أعلى من َم ُ‬
‫دح ُه يف‬
‫الكالم العظيم‪ ،‬وما �أ�سعد من خ�صه بالت�شريف والتعظيم‪ ،‬وما �أقرب من �أهلخ للفوز والتقدمي‪.‬‬
‫ ‬

‫‪177‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الجنة‬

‫ ُن ِّعموا يف الدنيا بالإخال�ص يف الطاعة وفازوا يوم القيامة بالربح يف الب�ضاعة‪ ،‬وتنزهوا عن التق�صري‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫والغفلة والإ�ضاعة‪ ،‬فلب�سوا ثياب التقى‪ ،‬وتزيوا بزي �أهل العقول والنهى‪ ،‬طاملا تعبت �أبدانهم بني اجلوع‬
‫وال�سهر‪ ،‬وكفت جوارحهم عن اللهو والأ�شر‪ ،‬وحب�سوا �أعرا�ضهم عن الكالم والنظر‪ ،‬وانتهوا عما نهاهم عنه‬
‫موالهم وامتثلوا ما �أمر‪ ،‬وا�ستعدوا من الزاد ما ي�صلح لل�سفر‪.‬‬

‫ يف ال�صحيحني عن �أبي هريرة‪ d‬عن النبي ‪ s‬قال اهلل تعاىل‪�( :‬أعددتُ لعبادي ال�صاحلني ما ال‬
‫عني ر�أت‪ ،‬وال �أذن �سمعت وال خطر عل قلب ب�شر) م�صداق ذلك يف كتاب اهلل عز وجل‪َ } :‬فال َت ْع َل ُم َن ْف ٌ�س‬
‫َّما �أُ ْخ ِف َي َل ُهم ِّمن ُق َّر ِة �أَعْينُ ٍ َجزَ اء بمِ َ ا َكا ُنوا َي ْع َم ُلونَ {‪ ،‬قال حممد بن كعب‪�( :‬إنهم يا هذا �أخفوا هلل عمال‪،‬‬
‫ف�أخفى لهم ثواب ًا‪ ،‬فلو قد قدموا عليه �أق َّر تلك الأعني)‪.‬‬

‫ وروى م�سلم �أن مو�سى‪a‬قال‪( :‬يا رب �أخربين عن �أدنى �أهل اجلنة منزال؟ قال‪ :‬نعم هو رجل يجيء‬
‫بعدما نزل النا�س يف منازلهم و�أخذوا �أخذاتهم‪ ،‬فيقال له‪ :‬ادخل اجلنة‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رب كيف �أدخلها وقد‬
‫نزل النا�س منازلهم و�أخذوا �أخذاتهم ؟ فيقال‪� :‬أما تر�ضى �أن يكون لك مثل ما كان مللك من ملوك الدنيا ؟‬
‫فيقول‪ :‬ر�ضيت ربي‪ .‬فيقول‪ :‬ف�إن لك مثله‪ ،‬ومثله‪ ،‬ومثله‪ ،‬ومثله‪ ،‬ومثله وعقد �سفيان راوي احلديث �أ�صابعه‬
‫ر�ضيت ربي‪ ،‬فيقول‪ :‬ف�إن لك ما ا�شتهت نف�سك ولذت عينك‪ ،‬فيقول‪ :‬ر�ضيت ربي ر�ضيت‬ ‫ُ‬ ‫اخلم�سة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ربي‪ .‬قال مو�سى‪ :‬يا رب ف�أخربين عن �أعلى �أهل اجلنة منزل ًة‪ ،‬قال‪ :‬نعم �أولئك الذين �أردت‪ ،‬و�س�أخربك‬
‫غر�ست كرامتهم بيدي‪ ،‬وختمت عليها‪ ،‬فلم تر عني ومل ت�سمع �أذن ومل يخطر على قلب ب�شر)‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عنهم‪،‬‬

‫ ف�إذا كانت تلك عي�شة �أدانهم يف تلك الق�صور العالية‪ ،‬والعي�شة ال�صافية‪ ،‬والقطوف الدانية‪ ،‬والولدان‬
‫بهم يحفون‪ ،‬وبني �أيديهم يقفون‪ ،‬وقد �أمنوا مما كانوا يخافون‪ ،‬وباحلور العني يف خيام الل�ؤل�ؤ يتنعمون‪،‬‬
‫وعلى �أ�سرة الذهب والف�ضة يتزاورون‪ ،‬وبالوجوه النا�ضرة يتقابلون‪ ،‬فما ظنك ب�أعالهم‪ ،‬وقد اخت�ص اهلل‬
‫ب�إنعامهم‪ ،‬وغر�س كرامتهم بيده‪ ،‬و�أخفاها لهم احتفا ًء بهم‪.‬‬

‫ روى ال�شيخان من حديث �أبي هريرة ‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪�( :‬أول زمرة تلج اجلنة �صورتهم على �صورة‬
‫القمر ليلة البدر ال يب�صقون فيها وال ميتخطون وال يتغوطون‪� ،‬آنيتهم فيها الذهب‪� ،‬أم�شاطهم من الذهب‬
‫والف�ضة‪ ،‬وجمامرهم الألوة‪ ،‬ور�شحهم امل�سك‪ ،‬ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ �سوقهما من وراء اللحم‬
‫من احل�سن‪ ،‬ال اختالف بينهم وال تباغ�ض قلوبهم قلب رجل واحد ي�سبحون اهلل بكرة وع�شيا)‪.‬‬

‫ وروى الرتمذي من حديث �أبي هريرة ‪ d‬قال‪ :‬قلنا يا ر�سول اهلل اجلنة ما بنا�ؤها ؟ قال‪( :‬لبنة من‬
‫ف�ضة ولبنة من ذهب ومالطها امل�سك الأذفر‪ ،‬وح�صبا�ؤها الل�ؤل�ؤ والياقوت وتربتها الزعفران من دخلها ينعم‬
‫وال يي�أ�س ويخلد وال ميوت ال تبلى ثيابهم وال يفنى �شبابهم)‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الجنة‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الحر والصيف‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحر والصيف‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫أيامه } َو ِمنْ �آ َيا ِت ِه ال َّل ْي ُل َوال َّن َها ُر‬
‫تقليب لي ِله ونها ِره‪ ،‬وت�ص ُّرم ف�صو ِله و� ِ‬ ‫ف�إن ِمن �أ�سرار اهلل يف الكون و�آياته فيه ُ‬
‫اجل ْمر‪ ،‬كما َج َرت �سن ُة‬ ‫لهب َ‬ ‫مهرير لهاجر ٍة ُت ُ‬‫يف حار‪ِ ،‬ومن َب ْر ٍد َز ٍ‬ ‫فمن ِ�ش َتاءٍ َقا ٍّر �إىل َ�ص ٍ‬ ‫َوال�شَّ ْم ُ�س َوا ْل َق َم ُر{‪ِ ،‬‬
‫والط َباع } َو ِمنْ �آ َيا ِت ِه َخ ْلقُ‬ ‫ال�س ْح َنات ِّ‬
‫وح َّدة‪ ،‬مما ُي�ؤَثر يف اختالف َّ‬ ‫اهلل �أن تختلف البلدانُ يف احلر ِ�ش ّد ًة ِ‬
‫الف �أَ ْل ِ�س َن ِت ُك ْم َو�أَ ْل َوا ِن ُك ْم ِ�إنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ٍات ِّل ْل َعالمِ ِنيَ{‪.‬‬
‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َو ْاخ ِت ُ‬
‫َّ‬

‫ عباد اهلل! َع َج َب ًا ل ِ‬
‫أمر املُ� ِؤمن �إنَّ �أم َره ُك َّل ُه َخري فهو يف ال َب� َأ�ساء َم�أجو ٌر‪ ،‬ويف ال�ضَّ راء َمربور‪ ،‬له �أعما ٌل‬
‫يف النها ِر َيعم ُلها فيه‪ ،‬وله يف الليل طاعات خ�صَّ ها به‪ ،‬وكذا هو يف احل ّر والربد مع ًا ُم َث ٌ‬
‫اب وَمحُ ِ�سنٌ ‪ .‬فال�شتاء‬
‫وال�صيف جماهد ٌة وم�صابرة‪ .‬ولي�س ذلك لغري امل�ؤمن‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫غنيم ٌة باردة‪،‬‬

‫مثال ذكره النبي ‪ s‬يف ال�صيف لو متثله املر ُء وا�ستذكره لهانت عليه الدنيا؛‬ ‫هلل �إىل ٍ‬ ‫ وانظر يا رعاك ا ِ‬
‫صري‬
‫روى �أحمد ‪ 2744‬واحلاكم و�صححه عن ابن عبا�س ‪ d‬قال‪ :‬دخل عم ُر‪ d‬على النبي ‪ s‬وهو على َح� ٍ‬
‫را�ش ًا �أوث َر ِمن هذا‪ ،‬فقال ‪( :s‬ما يل وللدنيا‪ ،‬وما للدنيا‬
‫ر�سول اهلل لو اتخذتَ ِف َ‬ ‫قد �أ َّث َر يف جنبه‪ ،‬فقال‪ :‬يا َ‬
‫�صائف فا�ستظ َّل حتت �شجرة �ساع ًة ثم‬
‫ٍ‬ ‫يوم‬
‫كراكب �سار يف ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ومايل‪ ،‬والذي نف�سي بيده ما َم َث ِلي َوم َث ُل الدنيا �إال‬
‫راح وتركها)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫امل�سافر املُ ِ‬
‫رحتل‪ ،‬ال ي� ُ‬
‫أخذ من الدنيا �إال ُبلغتَه‪ ،‬فال َيق�ص ُد التَّن ُع َم‬ ‫ِ‬ ‫هلل �إال ك َم َثل‬
‫ال�صادق مع ا ِ‬
‫ِ‬ ‫ ف َما مثل‬
‫يوم �صائف �إمنا َي�ستظ ُّل �ساع ًة ثم يرحل‪.‬‬ ‫لذا ِته وال َيبحثُ عنه؛ حا ُل ُه ِ‬
‫كحال املُ َ�سا ِفر يف ٍ‬

‫ �إن امل�ؤمن –عباد اهلل‪� -‬إذا جاءه احل ُّر‪ ،‬ولفحته نفحاته و�سمو ُمه‪ .‬تذ َّك َر �أمرين‪ ،‬ف�أُجر على التف ّكر‬
‫النا�س ِمن �ش ّدة احل ِّر ال ُيقا َرن‬
‫وح َّرها‪ ،‬فما ُي ِح ُّ�سه ُ‬ ‫فيح جهنم ولهي َبها َ‬ ‫فيها والتذكر؛ فيتذكر �أو ًال بهذا احل ِّر َ‬
‫(ا�شتكت النا ُر �إىل‬
‫ْ‬ ‫النبي ‪s‬قال‪:‬‬ ‫اهلل منها‪ ،‬وما هو �إال ك َن َف ٍ�س لها‪ ،‬يف �صحيح البخاري �أن َّ‬ ‫بجهنم �أعاذنا ُ‬
‫أكل بع�ضي بع�ض ًا‪ ،‬ف�أذن لها ب َن َف َ�سني َن َف ٍ�س يف ِّ‬
‫ال�شتاء‪ ،‬و َن َف ٍ�س يف ال�صَّ يف‪ ،‬فهو �أ�ش ُّد َما‬ ‫رب � َ‬‫ر ِّبها‪ ،‬فقالت‪ :‬يا ِّ‬
‫جتدونَ ِمن احل ِّر‪ ،‬و�أ�ش ُّد ما جتدون من الزمهرير)‪.‬‬

‫تكييف اجلو وتلطي ِفه‪،‬‬ ‫ َو َث َّم ف�إن امل�ؤمن َيتَذ ّك ُر َبع ُد ِن َع َم ا ِ‬


‫هلل َعليه َمبا ُي ّ�سر له من و�سائل ال َّراح ِة وال َّرفاهية َو ِ‬
‫أوجد ما ُيحفظ به الطعام‪.‬‬ ‫اهلل له من تربيد املاء و� َ‬ ‫�سخر ُ‬ ‫وما ّ‬
‫‪180‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحر والصيف‬

‫العي�ش لو مل تكن هذه الأجهز ُة موجود ًة‪ ،‬و�إنها لنعم ٌة � ُّأي نعمة َملن تف َّكر فيها و�أمعن‬ ‫نت�صو َر َ‬ ‫ وكيف لنا �أن ّ‬
‫هَّ‬ ‫َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ن�سانَ َل َظ ُلو ٌم َك َّفا ٌر{‪.‬‬ ‫الل َال تحُْ ُ�ص َ‬


‫وها �إِنَّ الإِ َ‬ ‫النظر والت�أ ُّمل‪َ } :‬و�آتَا ُكم ِّمن ُك ِّل َما َ�س�أ ْل ُت ُمو ُه َو ِ�إن َت ُع ُّدو ْا ِن ْع َم َة ِ‬

‫الل َج َع َل َل ُكم ممَِّّ ا َخ َلقَ‬ ‫ولبا�س ونحوه فقال �سبحانه‪َ }:‬و هَّ ُ‬ ‫ظالل ٍ‬ ‫اهلل بالتف ُّكر فيما يقي املر َء احل َّر من ٍ‬ ‫ لقد �أَ َم َر ُ‬
‫ِظ َال ًال َو َج َع َل َل ُكم ِّمنَ الجْ ِ َب ِال �أَ ْك َنا ًنا َو َج َع َل َل ُك ْم َ�س َرا ِب َيل َت ِقي ُك ُم الحْ َ َّر َو َ�س َرا ِب َيل َت ِقي ُكم َب�أْ َ�س ُك ْم َك َذ ِل َك ُي ِت ُّم ِن ْع َم َت ُه‬
‫َع َل ْي ُك ْم َل َع َّل ُك ْم ُت ْ�س ِل ُمونَ {‪ .‬وقد ذكر اهلل تعاىل �أن النا�س �س ُي�س�ألون عن النعيم الذي هُ ْم فيه‪ ،‬حتى نعم َة املا ِء‬
‫البارد‪ ،‬يقول �سبحانه‪ُ } :‬ث َّم َلتُ�س َْ�أ ُلنَّ َي ْو َم ِئ ٍذ َع ِن ال َّن ِع ِيم{ ُروي �أن ابن عمر ب قال عن هذه االية‪( :‬لتُ�س�ألنّ عن‬
‫املاء البارد)‪.‬‬

‫إ�سراف فيها‪ ،‬ف�إن‬


‫وحفظها بعدم ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِومن �شكر هذه ال ّنعم تذكرها‪ ،‬وحم ُد ا ِ‬
‫هلل الكر ِمي املن ِع ِم عليها‪،‬‬ ‫ ‬
‫مما ذ ّمه ال�شرع ون َهى عنه �أ�ش َّد ال َّنهي‪ ،‬يقول اهلل عز‬ ‫الإ�سراف يف ا�ستهالك الكهربا ِء واملياه ِمن غ ِري حاج ٍة َّ‬
‫النبي ‪ s‬عن الإ�سراف يف املاء ولو كان‬ ‫وجل‪ } :‬و ُك ُلو ْا َوا�شْ َر ُبو ْا َو َال ُت ْ�س ِر ُفو ْا ِ�إ َّن ُه َال ُي ِح ُّب المْ ُ ْ�س ِر ِفنيَ{‪ ،‬بل نهى ُّ‬
‫كنت على‬ ‫ري يفي بحاجته و َيزيد‪ ،‬فثبت عند ابن ماجه �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال ُت�سرف ولو َ‬ ‫عند املرء ما ٌء كث ٌ‬
‫وع َوزِه‪ ،‬وال ل ُبخ ِله‬
‫وامللب�س ال حلاجته وفقره َ‬
‫ِ‬ ‫أكل‬
‫يرتك الإ�سراف يف املاء والكهرباء‪ ،‬وامل� ِ‬ ‫نهر جارٍ)‪ .‬فامل�ؤمن ُ‬
‫و�ش ِّح ِيده‪ ،‬و�إمنا ا�ستجاب ًة لأمر ر ِّبه الكرمي وت�سليم ًا لأمره قبل ُك ِّل �شيء‪.‬‬ ‫ُ‬

‫ ‪ w‬عباد اهلل ! �إن يف �شرعنا �آداب ًا يح�سن فع ُلها يف احلر و�شد ِته‪ ،‬واال�ستنانُ بها في مثل هذا املو�سم‪..‬‬
‫فمن هذه الآداب‪:‬‬
‫م�شروع يف ذاته؛ ملا يف ذلك ِمن‬
‫ٍ‬ ‫ال�شم�س واملكثَ حتت �أ�شعتها ِمن غري حاج ٍة �أم ٌر غ ُري‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫الوقوف يف‬ ‫۩ ۩�أن‬
‫حموج‪ ،‬يف ال�صحيح �أن النبي ‪ s‬بينا‬ ‫أمرا�ض وتعب من غ ِري ٍ‬ ‫ال�ضرر على ال�شخ�ص الحتمال �إ�صابته ب� ٍ‬ ‫ّ‬
‫ف�س�أل عنه‪ ،‬فقالوا‪� :‬أبو �إ�سرائيل َن َذ َر �أن يقوم وال يقعــد وال ي�سـ ــتظل‪،‬‬
‫برجل قائم‪َ ،‬‬ ‫هو يخطب �إذا هو ٍ‬
‫فقال‪ُ ( :s‬م ُروه فل َيتك َّلم ول َي�ستَظ َّل)‪..‬‬

‫ح�سن �إليهم بالتخفيف عنهم بعدم العمل حتت‬ ‫ ف َمن كان حتت َيده �أُجرا ُء وعما ٌل فل َيتق َ‬
‫اهلل فيهم‪ ،‬ول ُي ِ‬
‫بنف�سه باملكث حتتها فمن باب �أوىل و�أحرى الإ�ضرار بغريه‬
‫ال�شم�س‪ ،‬وكما �أن ال�شخ�ص ممنوع من الإ�ضرار ِ‬
‫ممن �أُمر بالإح�سان �إليهم‪.‬‬
‫ّ‬

‫والتنعم املبالغ فيه مكرو ٌه يف ال�شرع‪ ،‬فعدم ر�ؤي ِة ال�شَّ ِ‬


‫خ�ص لل�شم�س‬ ‫َ‬ ‫ ويف املقابل ف�إن الرفاهي َة الزائدة‬
‫داخل الأبنيه خ�شي ًة من الت�أذي بال�شم�س َمكرو ٌه وخ�صو�ص ًا للرجال‪ ،‬ملا يح�سن يف‬ ‫الدائم َ‬
‫ُ‬ ‫مطلق ًا‪ ،‬ومك ُثه‬
‫الرجل من اخل�شونة وعدم التنعم الزائد‪ ،‬وقد روى �أبو عوانة ب�إ�سناد �صحيح (قاله النووي �شرح م�سلم‬
‫وزي الأعاجم‪ ،‬وعليكم بال�شَّ ِ‬
‫م�س ف�إنها ح َّم ُام ال َعرب‪ ،‬ومتعددوا‬ ‫والتنعم َّ‬
‫َ‬ ‫‪� )47/14‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إياكم‬
‫واخ�شو�شنوا)‬

‫وملَّا ر�أى عمر بن عبد العزيز قوم ًا يف جنازة قد هربوا من ال�شم�س �إىل الظل وتوقوا الغبار‪ ،‬بكى و�أن�شد‪:‬‬ ‫ ‬

‫‪181‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحر والصيف‬

‫ال�شم�س جبهتَه �أو الغبا ُر يخاف ال�شَّ ـيـنَ وال�شـَّ َع َثا‬ ‫ُ‬ ‫من كان حني ت�صيب‬ ‫ ‬
‫يومـ ًا َراغ َم ًا َج َدثــا‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وف َي�س ُكنُ َ‬ ‫ف�س َ‬ ‫َ‬ ‫الظـ ـ َّل َكــي ُيــب ِقي َب�شـَا�ش ـ َته ‬
‫وي ـَ�أ َلـ ُـف ِ‬ ‫ ‬
‫حتت الرثى يف َغ ِّمها ال َّل َب َثا‬ ‫طيل َ‬ ‫ُي ُ‬ ‫يف ِظـ ـ ِّـل م ـُق ـ ِفر ٍة غ ـَب ــرا َء ُم ـظ ــلم ـ ٍ ة‬ ‫ ‬
‫ق َبـْ َـل ال ـ ـ َّر َدى لــم تـ ـُخ ـْ َل ـ ِقي َعبـ َثا‬ ‫جتــهزي بجــهاز تــبلغني به يا نف ــ�س ‬ ‫ ‬
‫�ستحب للمرء االغت�سال والتنظف لإزال�� ِة �آثار التع ُّرق‬ ‫۩ ۩ ومن الآداب املتعلقة بال�صيف ويف احلر‪� :‬أنه ُي ُّ‬
‫�سلم �أن َيغت�سل يف ُك ِّل �سبعة‬ ‫و�إذهاب رائحة العطن‪ ،‬ففي ال�صحيحني �أن النبي‪ s‬قال‪( :‬ح ٌّق على ُك ِّل ُم ٍ‬
‫�سبوع للنظافة‬‫أيام يوم ًا َيغ�سل فيه ر� َأ�سه وج�سده)‪ .‬فهذا احلديث عا ٌم‪ ،‬ف ُي�شرع للم�سلم �أن يغت�سل يف ُكل �أُ ٍ‬ ‫� ٍ‬
‫على الأقل‪.‬‬

‫التطيب و�إظهار الروائح احل�سنة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا يف �أماكن االجتماع العامة؛ كامل�ساجد‬


‫ُ‬ ‫�ستحب‬
‫ كما ُي ُّ‬
‫ونحوها‪ ،‬ف�إن ال�شَّ رع يحثُّ دائم ًا على النظافة يف الثوب والبدن‪ ،‬وملا كان بع�ض الأعراب ي�أتي �إىل م�سجد‬
‫النبي ‪ s‬وقد غلبته رائحة العرق بعد مهنته �أمرهم النبي ‪ s‬باالغت�سال‪ ،‬يف (�صحيح م�سلم ‪� )847‬أن‬
‫عمل ومل يكن لهم ُكفاة فكانوا يكون لهم َت َف ٌل فقيل لهم‪ :‬لو اغت�سلتم يوم‬
‫عائ�شة لقالت‪( :‬كان النا�س �أهل ٍ‬
‫اجلمعة)‪ .‬يف رواية قالت‪( :‬كان النا�س َينتابون اجلمعة من منازلهم في�أتون يف ال َع َباء وي�صيبهم الغبار‬
‫ر�سول اهلل ‪� s‬إن�سا ٌن منهم وهو عندي فقال ‪ :s‬لو �أنكم تطهرمت ليومكم هذا)‪.‬‬‫فتخرج منهم الريح‪ ،‬ف�أتى َ‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬

‫وغلبت املر َء حمب ُة‬‫ْ‬ ‫وبعده عن النفاق‪ ،‬ف�إنه �إذا ا�شت ّد احل ُّر‬
‫�صدق �إميا ِنه َ‬ ‫ ف�إن احل َّر ٌّ‬
‫حمك ملعرف ِة املر ِء َ‬
‫الظل متعتَه‪ ،‬ثم دعاه منادي الطاعة بال�صَّ الة فخرج من ذلك ِّ‬
‫الظل‬ ‫كن وال َّدعة ووجد يف ِّ‬ ‫وال�س ِ‬
‫الراح ِة َّ‬
‫ال�صيف َو ْج َه ُه قا�صد ًا‬
‫ِ‬ ‫للم�سجد‪ ،‬ومن ذلك املكان البارد َ�سائر ًا يف الطرقات وقد َغ َل َب ُ‬
‫لهيب ال�شم�س ول ْف ُح‬
‫�صائف ف�إن ح َّق ًا هلل‬
‫ٍ‬ ‫يوم‬
‫هلل يف ٍ‬ ‫(من َي ُ‬
‫عط�ش ِ‬ ‫بيت اهلل جميب ًا ندا َءه فذاك عالم ِة خريية يف املرء يف احلديث‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫يوم ال َع َط ِ�ش الأكرب) [رواه احلاكم ‪ 5968‬و�صححه]‪.‬‬ ‫�أن ُي�سق َيه َ‬

‫نف�سه ففيه َ�ش َب ٌه باملنافقني الذين ُي�ؤثرون ال َّراح َة‬ ‫وال�ض ُّد بال�ضدِّ ف�إن �آث َر راحتَه‪َ ،‬و َغل َب ُه َهواه ومت َّكنت ِمنه ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ ‬
‫ُ‬
‫ق�ص اهلل علينا حا َلهم فقال �سبحانه‪َ } :‬و َقا ُلو ْا َال تَن ِف ُرو ْا‬
‫واخلمول على البذل واال�ستجاب ِة‪ .‬وقد َّ‬ ‫َ‬ ‫الطاعة‪،‬‬ ‫على َّ‬
‫فيِ الحْ َ ِّر ُق ْل َنا ُر َج َه َّن َم �أَ َ�ش ُّد َح ًّرا َّل ْو َكا ُنوا َي ْف َق ُهون{‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحسبلة‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الحسبلة‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬


‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ألوف منه‪ ،‬و�إن ِمن الدعاء دعا ًء يحوي جوامع املعاين فيجتمع له القلب‪،‬‬ ‫ ف�إن ِمن ال َك ِل ِم كلم ًة ُتغ ِني عن � ٍ‬
‫الل �أَ َال ِب ِذ ْك ِر هَّ ِ‬
‫الل ت َْط َم ِئنُّ‬ ‫وتطمئن به النف�س‪ ،‬وين�شرح به اخلاطر‪} .‬ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا َوت َْط َم ِئنُّ ُق ُلو ُب ُهم ِب ِذ ْك ِر هَّ ِ‬
‫وب{‪.‬‬‫ا ْل ُق ُل ُ‬
‫وال�صعب �سه ًال‪ ،‬ف ّرق ُ‬
‫اهلل‬ ‫َ‬ ‫جللمو َد ل ِّين ًا‪،‬‬
‫ و�إين ذاك ٌر كلم ًة عظي ٌم وقعها‪ ،‬جلي ٌل نف ُعها‪ ،‬جعلت النا َر برد ًا‪ ،‬وا ُ‬
‫اجل ْمع‪ ،‬وج َم َع بها القلوب وثبتها‪� .‬إنها احل�سبل ُة قول العبد امل�ؤمن‪( :‬ح�سبي اهلل ونعم الوكيل)‪ ،‬دعو ُة‬ ‫لقائلها َ‬
‫وحممد و�أمته‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫إبراهيم وبنيه‬
‫َ‬ ‫�‬

‫نبي اهلل �إبراهيم ‪ a‬با�ستح�ضار قلب ومعرف ٍة ملعناها‪ ،‬فجعل ُ‬


‫اهلل النار عليه برد ًا و�سالم ًا‪ ،‬روى‬ ‫ قالها ُّ‬
‫البخاري (يف �صحيحه ‪ )49/6‬عن ابن عبا�س ‪ d‬قال‪( :‬كان �آخ َر قول �إبراهيم حني �ألقي يف النار ح�سبي‬
‫اهلل ونعم الوكيل)‪.‬‬

‫�ضجت عامة اخلليقة �إىل اهلل فقالوا‪ :‬يا‬


‫ وروى ابن �أبي حامت‪� :‬أنه ملا �أرادوا �أن يلقوا �إبراهيم يف النار َّ‬
‫رب خلي ُلك ُيل َقى يف النار‪� ،‬إئذن لنا فلنطفئ عنه‪ ،‬فقال عز وجل‪�( :‬إن ا�ستعان بكم ف�أعينوه و�إن ا�ستغاث بكم‬‫ِّ‬
‫ف�أغيثوه‪ ،‬و�إال فدعوه)‪ ،‬وجاء َم َل ُك ال َق ْطر فقال‪( :‬يا رب خليلك يلقى يف النار ف�أذن يل ف�أطفئ النار بقطرة‬
‫خطبة جديدة‬

‫واحدة)‪ .‬فقال اهلل‪( :‬هو خليلي و�أنا �إلهه‪ ،‬لي�س له �إله غريي‪ ،‬ف�إن ا�ستغاث بك ف�أغثه‪ ،‬و�إال فدعه)‪ .‬فلما �ألقي‬
‫�إبراهيم يف النار قال اهلل تبارك وتعاىل‪} :‬يا نار كوين برد ًا و�سالم ًا على �إبراهيم{‪.‬‬

‫جموعهم‪ ،‬و�سار النا�س بحديث‬‫جيو�شهم‪ ،‬وا�صطفت ُ‬ ‫ وهذه الكلمة قالها حمم ٌد ‪ s‬حني جمع امل�شركون َ‬
‫وف�ض جمعهم‪ ،‬و�س ّلم نبيه‬ ‫فكف ُ‬
‫اهلل عنه ب� َأ�سهم‪ّ ،‬‬ ‫اجتماعهم‪ ،‬ف�أكرثوا القيل والقال‪ ،‬والتخويف والرتهيب‪َّ ،‬‬
‫النبي‪ s‬ما ًال �آخر من جتارة [كما قال ابن عبا�س فيما رواه البيهقي يف الدالئل]‪.‬‬
‫و�أ�صحا َبه‪ ،‬وربح ُّ‬

‫ يف البخاري عن ابن عبا�س ‪ d‬قال‪( :‬ح�سبنا اهلل ونعم الوكيل قالها �إبراهيم ‪ a‬حني �أُلقي يف النار‪،‬‬
‫وقالها حممد ‪ s‬حني قالوا‪� :‬إن النا�س قد جمعوا لكم فاخ�شوهم‪ ،‬فزادهم �إميان ًا‪ ،‬وقالوا‪ :‬ح�سبنا اهلل ونعم‬
‫الوكيل)‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحسبلة‬

‫معان عظام ًا‪ ،‬ففيها تو�س ٌل بثالث ِة �أ�سماءٍ من �أ�سمائه تعاىل‪،‬‬‫ عباد اهلل! �إن هذه اللفظة املخت�صرة حوت ٍ‬
‫املخت�ص به والذي ال َي�شْ ُر ُك ُه فيه �أح ٌد فلفظ ُة (اهلل) م�شتق ٌة من الإالهي ِة فهو ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اهلل امل�ستح ُّق‬ ‫ِّ‬ ‫هلل)‬
‫ا�سم (ا ِ‬
‫ففيها ُ‬
‫نوع من �أنواع العبادة‪ ،‬وال ُي�ش َرك يف‬ ‫وحده‪ .‬ال ُي�ش َرك معه �شي ٌء يف ِ�ص َفا ِته‪ ،‬وال ُي�ش َرك َمع ُه يف � ِّأي ٍ‬
‫للعبادة َ‬
‫اال�سم ال قب ُل وال بعد‪،‬‬
‫عبادة القلوب من التوكل واال�ستعانة وتفوي�ض الأمر‪ ،‬كما �أنه مل َي�شْ ُر ْك ُه �أح ٌد يف هذا ِ‬
‫وال ُيط َلق على �شيءٍ من معبودات النا�س الباطلة‪ ،‬حتى قيل‪� :‬إن هذا اال�سم هو ا�سم اهلل الأعظم‪.‬‬

‫ثان هلل تعاىل وهو احل�سيب؛ يقول اهلل‬ ‫امل�سلم با�سم ٍ‬‫ُ‬ ‫ ويف هذه الكلمة (ح�سبي اهلل ونعم الوكيل) يتو�سل‬
‫ع َّز وجل} َو َك َفى ِب هَّ ِ‬
‫الل َح ِ�سيب ًا{‪.‬‬
‫فاحل�سيب هو الكايف الذي كفى عبا َده جمي َع ما �أهمهم من �أمور دنياهم ودينهم‪ ،‬املي�سر لهم ُك َّل ما‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫يحتاجونه‪ ،‬الدافع عنه ما ي�ضرهم وما يخافونه } �أَ َل ْي َ�س هَّ ُ‬
‫الل ِب َك ٍ‬
‫اف َع ْب َد ُه َو ُي َخ ِّو ُفو َن َك ِبا َّل ِذينَ ِمن دُو ِن ِه َو َمن‬
‫الل َف َما َل ُه ِمنْ َه ٍاد{‪.‬‬ ‫ُي�ضْ ِل ِل هَّ ُ‬

‫واحل�سيب ج ّل وعال يكفي عبا َده املتوكلني عليه كفاي ًة خا�ص ًة مغاير ًة لغريهم قال ج ّل وعال‪َ } :‬و َمن‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫ُ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬
‫الل َف ُه َو َح ْ�س ُب ُه �إِنَّ الل َبا ِل ُغ �أ ْم ِر ِه َق ْد َج َع َل الل ِل ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َق ْدر ًا{‪.‬‬‫هَّ‬
‫َي َت َو َّك ْل َع َلى ِ‬

‫ قال ابن القيم (بدائع الفوائد ‪( :)766/2‬والتوكل على اهلل من �أقوى الأ�سباب التي يدفع بها العب ُد ما‬
‫خل ْل ِق وظلمهم وعدوانهم‪ ،‬وهو من �أقوى الأ�سباب يف ذلك؛ ف�إن اهلل ح�س ُب ُه �أي كافيه‪ ،‬ومن‬ ‫ال يطيقُ من �أذى ا َ‬
‫كان ُ‬
‫اهلل كافيه وواقيه فال مطمع فيه لعد ِّوه‪ ،‬وال ي�ض ُّر ُه �إال �أذى ال ُب َّد منه؛ كاحل ِّر والربد واجلوع والعط�ش‪،‬‬
‫و�أ ّما �أن ي�ض َّره مبا يبلغ منه مرا َده فال يكون �أبد ًا‪ ،‬وفر ٌق بني الأذى الذي هو يف الظاهر �إيذا ٌء له وهو يف‬
‫بنف�سه‪ ،‬وبني ال�ضرر الذي ُيت�ش َّفى به منه ‪ ...‬فلو توكل العب ُد على اهلل تعاىل‬ ‫احلقيقة �إح�سا ٌن �إليه و�إ�ضرار ِ‬
‫حقَّ تو ُّك ِله وكادته ال�سموات والأر�ض ومن فيهن جلعل له خمرج ًا من ذلك وكفاه ون�صره) �إ‪.‬هـ‪.‬‬

‫ي�ستبطئ كفاية اهلل ف�إن اهلل‬ ‫ُ‬ ‫ والعب ُد املتوكل على اهلل حق ًا ويرجو كفايته و�أن يكون اهلل ح�سي َبه ف�إنه ال‬
‫الل َف ُه َو َح ْ�س ُب ُه ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َبا ِل ُغ �أَ ْم ِر ِه َق ْد‬ ‫أمره يف الوقت الذي ق ّدره له‪ ،‬ولذا قال �سبحانه‪َ } :‬و َمن َي َت َو َّك ْل َع َلى هَّ ِ‬
‫بال ُغ � ِ‬
‫الل ِل ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َق ْدر ًا{؛ �أي وقت ًا ال يتعداه فهو ي�سوقه �إىل وقته الذي ق ّدره له‪ ،‬فال ي�ستعجل املتوك ُل ويقول‪:‬‬ ‫َج َع َل هَّ ُ‬
‫فاهلل بال ُغ �أمره يف وقته الذي ق ّدره له [�إعالم املوقعني‬ ‫توكلت ودعوتُ فلم �أ َر �شيئ ًا ومل حت�صل يل الكفاية‪ُ ،‬‬
‫قد ُ‬
‫‪]161/4‬‬

‫تو�سل با�سمه تعاىل وهو (الوكيل)‪،‬‬‫عم ال َوكيل) �أن َّ‬ ‫(ح ْ�سبي ُ‬
‫اهلل َو ِن َ‬ ‫يتو�سل به َمن قال‪َ :‬‬
‫واال�سم الثالث الذي َّ‬
‫فاهلل وكي ٌل على ُكل �شيءٍ متكف ٌل برزقهم و�أقواتهم قائ ٌم بتدبري �ش�ؤون حياتهم م�صرف لأمورهم} َو هَّ ُ‬
‫الل َع َلى‬
‫ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َو ِكي ٌل{‪.‬‬
‫ُ‬
‫واهلل وكي ٌل للم�ؤمنني املتوكلني عليه } َر ُّب المْ َ�شْ ِر ِق َوالمْ َ ْغ ِر ِب ال �إِ َل َه �إِالَّ هُ َو َفات َِّخ ْذ ُه َو ِكي ًال{‪ ،‬وقال �سبحانه}‬ ‫ ‬
‫عم الكايف‬ ‫ُ‬ ‫هَّ‬
‫الل َو ِكي ًال{‪ ،‬وحكى عن امل�ؤمنني } َو َقا ُلو ْا َح ْ�س ُب َنا الل َو ِن ْع َم ا ْل َو ِك ُيل{ �أي ِن َ‬ ‫هَّ‬ ‫هَّ‬
‫َو َت َو َّك ْل َع َلى ِ‬
‫الل َو َك َفى ِب ِ‬
‫القائم ب�ش� ِأن َمن تو ّكل عليه‪ .‬ونهى �أن ُيتخذ وكي ٌل �سواه } �أَالَّ َتت َِّخ ُذو ْا‬ ‫ِ‬ ‫واحلافظ َملن اعت�صم به‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ملن التج�أ �إليه‪،‬‬
‫ِمن ُدونيِ َو ِكي ًال{‪.‬‬ ‫‪184‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحسبلة‬

‫أكرم باهلل وكي ًال‪ ،‬ال ُخلف لوعده‪ ،‬وال منتهى لف�ض ِله‪،‬‬ ‫أنعم و� ِ‬
‫ وت�أ ّمل يف قول العبد‪( :‬ونعم الوكيل)‪ْ � ،‬أي � َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وال راد لأمر‪ .‬مما يد ُّل على �أن امل�ؤمن �إذا قالها متيق ًا بها‪ ،‬م�صدق ًا ملعناها‪ ،‬ف�إنه يزدا ُد �إميان ًا على �إميانه‪،‬‬
‫ويقوى يقينه وتوكله واعتقادُه‪.‬‬

‫ ثم جعل اهلل جزا َء من قال هذه الكلم ِة العظيمة �أن �أعقبهم �سبحانه ب�أربع خ�صال‪� :‬أعطاهم النعمة‪،‬‬
‫و�أجزل لهم الف�ضل‪ ،‬و�صرف عنهم ال�سوء‪ ،‬و�أتبعهم ال ِّر َ�ضا ف َر�ضَّ اهم َعنه و َر ِ�ضي عنهم [القرطبي ‪]282/4‬‬
‫الل َو َف�ضْ ٍل مَّْل مَْي َ�س ْ�س ُه ْم ُ�سو ٌء َوا َّت َب ُعو ْا ِر�ضْ َوانَ هَّ ِ‬
‫الل‬ ‫} َو َقا ُلو ْا َح ْ�س ُب َنا هَّ ُ‬
‫الل َو ِن ْع َم ا ْل َو ِك ُيل{ َفان َق َل ُبو ْا ِب ِن ْع َم ٍة ِّمنَ هَّ ِ‬
‫الل ُذو َف�ضْ ٍل َع ِظ ٍيم{‪.‬‬ ‫َو هَّ ُ‬

‫النبي ‪ s‬ي�أمر بقولها عند ُكل �صعب‪،‬‬ ‫ عباد اهلل! �إن هذه الكلمة كلم ٌة جليلة الوقع‪ ،‬عظيمة النفع‪ .‬كان ُّ‬
‫وحال ُك ِّل خوف ولو كان م�ستقبلي ًا؛ ُروي يف الأثر [رواه ابن مردويه مرفوع ًا ب� ٍ‬
‫إ�سناد فيه �ضعف]‪�( :‬إذا وقعتم‬ ‫َ‬
‫يف الأمر العظيم فقولوا‪ :‬ح�سبنا اهلل ونعم الوكيل)‪ .‬و ُروى ب�إ�سناد فيه �ضعف عند �أبي نعيم عن �شداد بن‬
‫(من قال‪ :‬ح�سبي اهلل ونعم الوكيل � ِأمنَ من‬
‫كل خائف)‪ .‬وقيل‪َ :‬‬‫�أو�س مرفوع ًا‪( :‬ح�سبي اهلل ونعم الوكيل �أمانُ ِّ‬
‫كيد النا�س)‪.‬‬

‫ال�صور؛ روى الإمام �أحمد والن�سائي عن‬ ‫ بل �إن هذه الكلمة تنفع قائلها عند قيام ال�ساعة‪ ،‬وبعد النفخ يف ُّ‬
‫ال�صور قد التقم ال َق ْرنَ و�أ�ص َغى ب�سم ِعه َو َح َنى بجبه ِته‬
‫و�صاحب ُّ‬
‫ُ‬ ‫�أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪( :s‬كيف �أن َع ُم‬
‫نتظ ُر َمتى ُي� َؤمر ف َينفَخُ )‪ ،‬قالوا‪ :‬يا ر�سول اهلل كيف نقول؟ قال ‪( :‬قولوا‪ :‬ح�سبنا اهلل ونعم الوكيل على اهلل‬‫َي ِ‬
‫توكلنا)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ روى الإمام �أحمد (‪ ،)624‬و�أبو داود (‪ ،)3627‬والن�سائي (‪ )626‬عن عوف بن مالك ‪� d‬أن النبي ‪s‬‬
‫علي الرجل‪،‬‬ ‫ق�ضى بني رجلني‪ ،‬فقال املق�ضي عليه ملا �أدبر‪ :‬ح�سبي اهلل ونعم الوكيل‪ ،‬فقال النبي ‪ :s‬ردوا َّ‬
‫قلت‪ :‬ح�سبي اهلل ونعم الوكيل‪ .‬فقال النبي ‪�( :s‬إن اهلل يلوم على العجز‪ ،‬ولكن عليك بال َك ْي ِ�س‬
‫قلت؟ قال‪ُ :‬‬
‫فقال‪ :‬ما َ‬
‫ف�إذا غلبك �أمر فقل‪ :‬ح�سبي اهلل ونعم الوكيل)‪.‬‬

‫ �أن احل�سبل َة ال تنفع عاجز ًا غري ٍ‬


‫عامل‪ ،‬الذي يظهر التو ّكل‪ ،‬و�إمنا هو متواكل‪ ،‬فهذا مل يعلم َمعنى التوكل‪ ،‬وال‬
‫معنى (ح�سبي اهلل ونعم الوكيل)‪ .‬لذا قال النبي ‪�( :s‬إن اهلل يلوم على العجز)‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحلم (يف رمضان)‬
‫الحلم (يف رمضان)‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ ‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫فاحلليم ال يندم على فعل‬
‫ُ‬ ‫أحب الأخالق �إىل اهلل تعاىل التي يتخ ّلق بها املرء �أن يكون حليم ًا‪،‬‬
‫ ف�إن من � َّ‬
‫بت�صرف‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫ويحفظ لكل امر�أ ح َّقه‪ ،‬ال ُي�ستف ُّز بكلمة‪ ،‬وال يحمقُ‬ ‫كالمه‪،‬‬
‫فعله‪ ،‬وال يجهل على َمن �أ�ساء �إليه‪ ،‬يزن َ‬
‫يندم عليه �أو ُينق�صه يف عني العقالء‪.‬‬

‫أ�شج �أ�شج عبد القي�س‪�« :‬إن‬


‫ فقد ثبت يف �صحيح م�سلم (‪ )126‬عن ابن عبا�س ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪ :‬لل ِّ‬
‫فيك خ�صلتني يحبهما اهلل‪ ،‬احللم والأناة»‪.‬‬

‫ �إذ ال يكون املر ُء حليم ًا حتى جتتمع فيه خ�صا ٌل جليل ٌة من اخلري‪ ،‬فال يحلم املر ُء �إال �أن يكون متوا�ضع ًا‪،‬‬
‫عفيف الل�سان ف�إن اهلل يبغ�ض الفاح�ش‬ ‫عنده م�ؤثر ًا اخلري‪َ ،‬‬‫نف�سه‪ ،‬وال تعاظم‪ ،‬كرمي ًا مبا يف ِيده وما َ‬
‫ال ِك رْ َب يف ِ‬
‫البذيء‪ ،‬ل َني العريكة‪ ،‬ط ّيب اجلانب‪َ ،‬‬
‫�سهل االنقياد‪ ،‬كرمي النف�س‪� ،‬سخي الروح‪.‬‬

‫ وبعد ذلك كيف ال يكون احللم ُخلق ًا حمبوب ًا هلل تعاىل‪ ،‬لذا قال تعاىل‪ُ } :‬كو ُنوا َر َّبا ِن ِّينيَ{ قال ابن‬
‫حل َل َما ُء ال ُف َق َها ُء)‪.‬‬
‫عبا�س‪( :‬الربانيون ا ُ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫خل�صلتني‬ ‫ عباد اهلل! لقد �أمر اهلل عباد �أن يكونوا حلماء عاملني ب�أحكام ال�شرع‪ ،‬مما يدلنا على �أن هاتني ا َ‬
‫ميكن اكت�سابها وحت�صيلها بفعل العبد‪ ،‬وهذا ما جاء به الأثر عن النبي ‪ s‬فقد ُروي عند الدارقطني‬
‫والطرباين مرفوع ًا‪�( :‬إمنا العلم بالتعلم و �إمنا احللم بالتحلم‪َ ،‬ومن يتح َّر اخل َري ُي َ‬
‫عطه‪َ ،‬ومن َيت َِّق ال�شَّ َر‬
‫ُيو َقه)‪.‬‬

‫احل ْلم بتحلمه وم�صاحبته احللماء‬


‫ فبينّ النبي ‪ s‬يف هذا احلديث �أن العبد �إن اجتهد يف حت�صيل ِ‬
‫و�سماع �أخبارهم ف�إنه يكون كذلك‪ ،‬و�أنه بح�سب حتريه لهذا اخلري وحر�صه عليه يكت�سبه ويتح�صل له‪ ،‬وها‬
‫هو حليم العرب يف زمانه ال ُ‬
‫أحنف بن قي�س يقول‪( :‬واهلل ما �أنا بحليم ولكني �أحتامل)‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحلم (يف رمضان)‬

‫ وال�ض ُّد بال�ضد ف�إن توارث املر ُء اجلهالة‪ ،‬وتفاخر باحلماقة‪ ،‬و�إظهار الفتوة والقوة‪ ،‬ففرح بغ�ضبه‪،‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وح ِم َد �آثا َرها‪ ،‬وا�ستح�سن جهالتها ف�إنه يزدا ُد حمق ًا‪ ،‬ويبعد عن �أبواب احللم الذي يحبه اهلل تعاىل‪ ،‬كما‬
‫َ‬
‫توارث عن �أهل اجلاهلية الأوىل قو َلهم‪:‬‬
‫ �أال ال يجهلن �أحد علينا‬
‫فنجهل فوق جهل اجلاهلينا‪.‬‬ ‫ ‬

‫ عباد اهلل! و�إن من �أعظم الفر�ص لتع ِّلم احل ِلم‪ ،‬واكت�ساب هذه اخل�صلة العظيم التي يحبها اهلل ور�سو ُله‪،‬‬
‫وارخ يا رعاك اهلل �سم َعك وا�ص ِغ‬ ‫وقت �صيام املرء‪ ،‬ونهار �إم�ساكه عن الطعام‪ِ .‬‬ ‫وال تكون �إال يف خيار اخللق‪َ ،‬‬
‫بقلبك لهذا احلديث العظيم الذي نكاد نحفظه من كرثة ما ن�سمعه وخ�صو�ص ًا يف مثل هذه الأيام‪ ،‬ففي‬
‫«ال�ص َي ُام ُج َّن ٌة‬
‫ال�صحيحني (البخاري ‪ ،1904‬م�سلم ‪ ) 2759‬من حديث �أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪ِّ :‬‬
‫َو ِ�إ َذا َكانَ َي ْو ُم َ�ص ْو ِم َ�أ َح ِد ُك ْم َفلاَ َي ْر ُفثْ َو اَل َي�صْ َخ ْب‪َ ،‬ف ِ�إنْ َ�سا َّب ُه �أَ َح ٌد َ�أ ْو َقا َت َل ُه َف ْل َي ُق ْل ِ�إنيِّ ْام ُر�ؤٌ َ�صا ِئ ٌم»‪.‬‬

‫ملتب�س عليه خط�ؤه‪ ،‬ثم يزيد‬ ‫ٍ‬ ‫ ففي �ش ّدة اجلوع‪ ،‬ومنتهى التعب‪ ،‬ي�أتيك َمن ُيخطئ عليك عامد ًا غري‬
‫على خط ِئه ب�أن ُي�ساببك برفع ال�صَّ وت‪ ،‬ثم يزيد على ال�سباب بال�شتيمة بالأذية ب�سيء القول وقبيحه‪ ،‬ومع‬
‫اجتماع هذه الأمور يقول النبي ‪[ :s‬البخاري ‪ ،1904‬م�سلم ‪�ِ « ]2759‬إ َذا َكانَ َي ْو ُم َ�ص ْو ِم �أَ َح ِد ُك ْم َفلاَ َي ْر ُفثْ‬
‫َو اَل َي�صْ َخ ْب‪َ ،‬ف ِ�إنْ َ�سا َّب ُه �أَ َح ٌد َ�أ ْو َقا َت َل ُه َف ْل َي ُق ْل ِ�إنيِّ ْام ُر�ؤٌ َ�صا ِئ ٌم»‪.‬‬

‫النبي الكرمي ‪َ s‬من �أُذي مبثل هذا الفعل يف مثل هذا اليوم بثالثة �أ�شياء‪:‬‬ ‫ ‪ w‬ف�أمر ُّ‬
‫۩ ۩�أحدها‪� :‬أن ال ير َّد عليه بال�سوء ولو كان مخُ ط�أً عليه ( َفلاَ َي ْر ُفثْ َو اَل َي�صْ َخ ْب)‪،‬‬

‫۩ ۩والأمر الثاين‪� :‬أن يجيبه ب�أن يقول‪�« :‬إِنيِّ ْام ُر�ؤٌ َ�صا ِئ ٌم» لي�صرف املو�ضوع عن وجهته ف َكم ِمن ِم َراءٍ زاد‬
‫اخل�صومة و�أذكاها‪.‬‬

‫۩ ۩ثم �أمر ب�أمر ثالث‪ :‬وهو �أن يحاول �أن يخفف من ِح ّدة غ�ضبه وانفعاله عن �سماع �سيء القول من قبيله‬
‫وذلك ب�أن يجل�س �إن كان قائم ًا‪� ،‬أو يتو�ض�أ‪ ،‬فقد جاء يف بع�ض روايات احلديث [رواه ابن خزمية] �أن‬
‫�ساب و�أنت �صائم ف�إن �سابك �أح ٌد فقل �إين �صائم‪ ،‬و�إن كنت قائم ًا فاجل�س)‪.‬‬
‫النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال ُت َّ‬

‫ عباد اهلل! �إن امر�أً يفعل هذه الت�صرفات يف هذا املوقف‪ ،‬لهو و�أ ُمي اهلل منتهى ِ‬
‫احل ْلم‪ ،‬وغاية الأناة‪،‬‬
‫�شك‪ -‬طبع احللم يف حاله ُك ِّلها‪ ،‬وينال به ر�ضا‬
‫و�أعلى درجات مكارم الأخالق‪ ،‬و�أن فع َله هذا ُمك�س ُب ُه ‪-‬وال َّ‬
‫اهلل عنه �أر�ضى عنه اخلالئق‪.‬‬‫الرب‪َ ،‬ومن ر�ضي ُ‬

‫�ضعف فاعلم �أن احللم �سي ُد الأخالق وال ي�ستطيعه �إال �أقوياء الرجال ( َل ْي َ�س‬ ‫ فيا َمن ظنَّ �أن احللم ٌ‬
‫ال�ص َر َع ِة �إِنمَّ َ ا ال�شَّ ِدي ُد ا َّل ِذي مَْي ِل ُك َن ْف َ�س ُه ِع ْن َد ا ْل َغ َ�ض ِب)‪ ،‬ويا َمن َز َع َم �أن باحللم فواتَ ح ِّقه فاعلم‬
‫ال�شَّ ِدي ُد ِب ُّ‬

‫‪187‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحلم (يف رمضان)‬

‫(من التم�س ر�ضاء اهلل ب�سخط النا�س كفاه اهلل م�ؤنة النا�س‪،‬‬‫�أنه به تنال العاقب َة ور�ضا اهلل وحمب ُة النا�س َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫َومن التم�س ر�ضاء النا�س ب�سخط اهلل وكله اهلل �إىل النا�س)‪.‬‬

‫ُ‬
‫املوظف‬ ‫موظف �أتاه مراج ٌع فرفع‬
‫ٍ‬ ‫ �أين نحنُ عن تروي�ض �أنف�سنا على احللم‪ ،‬وال�صفح‪ ،‬والتجاوز‪َ ،‬كم ِمن‬
‫عليه �صوتَه و�أ�ساء معه الأدب‪ ،‬وكم ِمن �سائق مركب ٍة رمبا �أخط�أ عليه �سائ ٌق �آخر فكال له ِمن قامو�س ال�شتائم‬
‫وال�سباب ما تثقل عن �سماعه اجلبال‪ ،‬و َكم من متبايعني اخت�صما فو�صل بهم الأم ُر �إىل التطاول على الآخر‪،‬‬
‫بارود �أُوقدت‬
‫زوجه ما �إن تخرج كلم ٌة من �أحدهم �إال ويثور لها الآخ ُر وك�أنه برميل ٍ‬
‫والزوج مع ِ‬
‫ُ‬ ‫بل ال ُأخ مع �أخيه‬
‫فيه النار‪� ،‬إىل غري ذلك من املواقف وال َق�ص�ص‪ ،‬وما جت ُّر �إليه من الت�صرفات التي يندم عليها �صاحبها‪.‬‬

‫ �أين تلك الت�صرفات مما �أمرنا به �شرعنا احلكيم من احللم وال�صفح‪ ،‬والعفو وعظم الغي�ض‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الحوقلة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحوقلة‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ري من الأنام عنه غافلون‪،‬‬ ‫ فكن ٌز من كنوز اجلنة �أُنزل لأهل الدنيا‪ُ ،‬‬
‫وخ َّ�ص به املوفقون من العباد‪ ،‬كث ٌ‬
‫روى ال�شيخان عن �أبي مو�سى الأ�شعري ‪� :d‬أن النبي ‪ s‬قال له‪�( :‬أال �أدلك على كلم ٍة هي كن ٌز من كنوز‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ .‬قال‪( :‬ال حول وال ق َّوة �إال باهلل كن ٌز من كنوز اجلنة)‪.‬‬
‫اجلنة؟)‪ُ ،‬‬

‫ فهذه الكلمة لعظم مكانتها غدت كنز ًا من كنوز اجلنة حيثُ �أن قائلها ينال يف الدنيا بع�ض بركتها‪،‬‬
‫و ُي َّد َخر ل�صاحبها من الثواب ما يقع موقع الكنز من الفرح بر�ؤيته‪ ،‬وادخاره‪ ،‬والتمتع به بعدُ‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن لهذه الكلمة �سر ًا عظيم ًا‪ ،‬و�أثر ًا عجيب ًا‪ ،‬وف�ض ًال عند اهلل كبري ًا‪ .‬ف�أ ّما ف�ضلها‪ :‬فقد ذكرها‬
‫ي ِع َند َر ِّب َك َث َوا ًبا‬ ‫اهلل يف كتابه فقال ج ّل وعال‪َ }:‬و َي ِزي ُد هَّ ُ‬
‫الل ا َّل ِذينَ ْاهت ََد ْوا هُ دً ى َوا ْل َبا ِق َياتُ ال�صَّ الحِ َ اتُ َخ رْ ٌ‬
‫�صح عن غري واحد من ال�صحابة و ُروي مرفوع ًا �أن الباقيات ال�صاحلات هي‪( :‬ال �إله �إال‬ ‫َو َخ رْ ٌ‬
‫ي َّم َر ًّدا{‪ ،‬وقد َّ‬
‫اهلل واهلل �أكرب و�سبحان اهلل‪ ،‬وال حول وال قوة �إال باهلل)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ فانظر يا رعاك اهلل كيف �أن اهلل تعاىل بينّ �أن اهلل يزيد الذين اهتدوا هُ دى وتوفيق ًا ب�سبب حمبته لهم‪،‬‬
‫فريتقون يف ال ُهدى وال�صالح و�أعمال اخلريات‪ ،‬و�أن ِمن خري ما يرتقي به العباد عنده �سبحانه ذك َره ج ّل‬
‫وعال بهذه ال ُكليمات‪ ،‬ف َمن هُ دي لقول هذه الكلمات فهو املهتدي بتوفيق اهلل له‪.‬‬

‫أحب الكالم هلل ج ّل وعال ثبت يف امل�سند (‪ ،)158/2‬والرتمذي (‪ )346‬عن عبد اهلل‬ ‫۩ ۩وهذه الكلمات من � ِّ‬
‫بن عمرو ‪� d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬ما على الأر�ض رج ٌل يقول‪ :‬ال �إله �إال اهلل‪ ،‬واهلل �أكرب‪ ،‬و�سبحان اهلل‪،‬‬
‫رت عنه ذنو ُب ُه ولو كانت �أك َرث ِمن َز ِبد البحر)‪.‬‬
‫واحلمد هلل‪ ،‬وال حول وال ق ّوة �إال باهلل �إال ُك ّف ْ‬

‫را�س يف اجلنة‪ ،‬روى �أحمد (‪ )418/5‬ب�إ�سناد �صحيح‬‫۩ ۩(ال حول وال قوة �إال باهلل) َمن قالها ُغر�ست له ِغ ٌ‬
‫�أن النبي ‪ s‬م ّر ليلة �أُ�سري به على �إبراهيم ‪ ،a‬فقال‪( :‬يا حممد! ُمر �أمتك �أن يكرثوا من غرا�س‬
‫اجلنة‪ ،‬قال‪ :‬وما غرا�س اجلنة؟ قال‪ :‬ال حول وال قوة �إال باهلل)‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحوقلة‬

‫۩ ۩من قال هذه الكلمة ر َّد اهلل عليه بالت�صديق روى الرتمذي (‪ )3430‬وح�سنه �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا قال‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫العبد‪ :‬ال �إله �إال اهلل وال حول وال قوة �إال باهلل قال اهلل تعاىل‪�َ :‬ص َد َق عبدي ال �إله �إال �أنا‪ ،‬وال حول وال قوة‬
‫�إال بي)‪ .‬ثم قال ‪( :s‬من ُرزقهن عند موته مل مت�سه النار)‪.‬‬

‫قال ابن القيم (الوابل ال�صيب �ص ‪( :)160‬الذاكر يخرب عن اهلل تعاىل ب�أو�صاف كماله ونعوت جالله‪ ،‬ف�إذا‬
‫�أخرب بها العب ُد �ص َّدقه ر ُّبه‪ ،‬ومن �ص َّد َقه ُ‬
‫اهلل مل يح�شره مع الكاذبني‪ ،‬و ُرجي له �أن ُيح�شر مع ال�صادقني)‪.‬‬

‫ ‪ w‬و�أ ّما �أثر هذه الكلمة‪ ،‬ف�إن لها �أثر ًا عظيم ًا‪:‬‬
‫مال كانت له حفظ ًا و�صون ًا‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و َلوْال �إِ ْذ َد َخ ْل َت َج َّنت ََك ُق ْل َت َما َ�شاء هَّ ُ‬
‫الل ال‬ ‫۩ ۩ف َمن قالها على ٍ‬
‫الل{‪ .‬لذا ف�إنه ُيو َر ُد بهذه الكلمة العظيمة على املال والولد فيحفظهم اهلل بحفظه‪.‬‬ ‫ُق َّو َة �إِالَّ ِب هَّ ِ‬

‫و�شديدها‪ُ ،‬روي �أن ابن ًا لعوف بن مالك الأ�شجعي‬


‫َ‬ ‫ي�سر اهلل عليه ع�س َري الأمور‬
‫۩ ۩ومن �أثرها �أن َمن قالها ّ‬
‫للنبي ‪ ،s‬فقال‪ :‬ما ت�أمرين ؟ قال ‪�( :s‬آمرك �أن ت�ستكرث من ال حول‬ ‫عوف ِّ‬‫�أُ�سر فجزعت �أُ ُمه‪ ،‬فجا َء ٌ‬
‫وال قوة �إال باهلل)‪ ،‬فقالت‪ِ :‬نعم ما �أمرك‪ ،‬فجعال ُيكرثان منها‪ ،‬فتغ ّفل عنه العدو فا�ستاق غنمهم فجاء‬
‫إ�سناد فيه �ضعف)‪.‬‬
‫به �إىل �أبيه‪(.‬رواه ابن �أبي حامت ب� ٍ‬

‫قال حبيب بن م�سلمة‪( :‬كان ُي�ستحب �إذا ُلقي عدو �أو ا�ستُه�ض ح�صن قول ال حول وال قوة �إال باهلل العلي‬
‫العظيم‪ ،‬و�أنهم ناه�ضوا يوم ًا ح�صن ًا للروم فعجزوا عنهم‪ ،‬فقالها امل�سلمون فان�صدع احل�صن) (رواه ابن ع�ساكر‬
‫‪.)77/22‬‬

‫امل�سلم امل�ؤذن يقول‪( :‬حي على ال�صالة) فيقول جميب ًا‪ :‬ال حول وال قوة �إال باهلل‪ ،‬و�إذا‬
‫ُ‬ ‫۩ ۩لذا ُ�سنّ �إذا �سمع‬
‫�سمعه يقول‪( :‬حي على الفالح) قال‪ :‬ال حول وال قوة �إال باهلل‪ .‬ملا يف هذه الكلمة من الإعانة‪ ،‬وطلب‬
‫جل وعال‪.‬‬‫اال�ستعانة من اهلل َّ‬

‫�ستحب قولها عند اخلروج من البيت؛ قال ‪( :s‬من قال �إذا خرج من بيته‪( :‬ب�سم اهلل ُ‬
‫توكلت على‬ ‫۩ ۩و ُي ُّ‬
‫اهلل الحول وال قوة �إال باهلل) ُيقال له‪ُ :‬كفيت و ُوقيت‪ ،‬وهُ ديت‪ ،‬وتنحى عنه ال�شيطان) رواه الرتمذي‬
‫و�صححه‪.‬‬

‫تح�صل �أجرها تا ّم ًا �إذا واط�أ ُ‬


‫القلب الل�سانَ فيها‪،‬‬ ‫ عباد اهلل ! هذه الكلمة اجلليلة �إمنا ُينال ف�ضلها و َي ّ‬
‫ومقا�صدها‪ ..‬لذا ح�سن بيان معنى هذه الكلمة العظيمة‪ ،‬وداللتها‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫و�ش ِهد الذاك ُر معان َيها‬

‫العمل �إال باهلل‪ ،‬وال ق ّو َة لنا على ِ‬


‫ترك‬ ‫ قال ابن عبا�س ‪( :d‬ال حول وال قوة �إال باهلل؛ �أي ال حول بنا على ِ‬
‫املع�صية �إال باهلل)‪ .‬فمعنى هذه الكلمة �أنه ال حول لنا يف دفع �شر‪ ،‬وال قوة لنا يف حت�صيل خري �إال باهلل‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحوقلة‬

‫إ�سناد قوي (قاله ابن حجر يف فتح الباري ‪� )501/11‬أن النبي ‪�( :s‬إذا قال العبد ال‬ ‫ وروى احلاكم ب� ٍ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫حول وال قوة �إال باهلل‪ ،‬قال اهلل‪� :‬أ�س َل َم وا�ست�سلم)‪.‬‬

‫ نعم ! هذه الكلمة هي غاية اال�ست�سالم هلل تعاىل‪ ،‬والر�ضوخ �إليه‪ ،‬والت�سليم بقوته و ُقدرته‪ ،‬ف َيعلم املر ُء‬
‫}ما َق َد ُروا هَّ َ‬
‫الل َحقَّ َق ْد ِر ِه �إِنَّ‬ ‫�ضع َفه عند قوة اهلل‪ ،‬وعجزَ ه عند �إرادته مواله‪ ،‬وقلة حيلته عند حول اهلل َ‬
‫وطو ِله َ‬
‫هَّ َ‬
‫الل َل َق ِو ٌّي َع ِزيزٌ{‪.‬‬

‫�صدق بحاج ِته له �سبحانه‪ ،‬وا�ستمدا ِده من قوته وقدرته‪ ،‬فال حت ُّو ٌل للعبد من مع�صية �إىل‬ ‫ فيق ُّر �إقرا َر ٍ‬
‫كمال وزياد ٍة �إال باهلل‪ ،‬وال قو َة‬ ‫نق�صان �إىل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وهن �إىل قوة‪ ،‬وال من‬ ‫مر�ض �إىل �صحة‪ ،‬وال من ٍ‬ ‫طاعة‪ ،‬وال من ٍ‬
‫وحتقيق غاية من غاياته �إال باهلل اجلليل‪ ،‬فما �شاء اهلل كان‪َ ،‬وما مل ي�ش�أ‬ ‫ِ‬ ‫للعبد على القيام ب�ش� ٍأن من �ش�ؤونه‪،‬‬
‫عنده‪ ،‬و�أمو ُر اخلالئق معقود ٌة بق�ضا ِئه وقدره‪ ،‬ي�ص ُّرفها‬ ‫ومفاتيح اخل ِري واجلو ِد َ‬ ‫ُ‬ ‫مل يكن‪ ،‬ف�أز ّم ُة الأمو ِر بيده‪،‬‬
‫كمه‪ ،‬ف َما �شا َء كان ك َما �شا َء متى ي�شاء على‬ ‫حل ِ‬ ‫كيف ي�شاء‪ ،‬ويق�ضي فيها مبا �أراد‪ ،‬ال را َّد لق�ضائه‪ ،‬وال ُمع ِّق َب ُ‬
‫وامللك واحلمد‪ ،‬والدنيا والآخرة‪،‬‬ ‫ما َي�شا ُء من غري زيادة وال نق�ص‪ ،‬وال تقدم وال ت� ّأخر‪ ،‬له اخللق والأمر‪ُ ،‬‬
‫�شملت قدر ُت ُه ُك َّل �شيء }�إِنمَّ َ ا �أَ ْم ُر ُه �إِ َذا �أَ َرا َد َ�ش ْي ًئا �أَنْ َي ُق َ‬
‫ول َل ُه ُكنْ َف َي ُكونُ { َف ُ�س ْب َحانَ ا َّل ِذي ِب َي ِد ِه َم َل ُكوتُ ُك ِّل َ�ش ْيءٍ‬
‫َو�إِ َل ْي ِه ُت ْر َج ُعونَ {‪.‬‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬

‫ �أن على ُكل ٍ‬


‫م�سلم �أن يعتني بهذه الكلمة‪ ،‬ويهتم بها غاية االهتمام‪ ،‬و�أن ُيكرث من قولها لعظم ف�ضلها‬
‫عند اهلل‪ ،‬وكرثة ثوابها عنده‪ ،‬وملا يرتتب عليها من خريات متنوعة وف�ضائل متعددة يف الدنيا والآخرة‪.‬‬

‫ �إن من النا�س عباد اهلل من يخطئ يف ا�ستعمال احلوقلة‪ ،‬فيجعلها كلمة ا�سرتجاع‪ ،‬وال يفهم منها معنى‬
‫اال�ستعانة؛ قال �شيخ الإ�سالم (اال�ستقامة ‪( :)81/2‬ال حول وال قوة �إال باهلل كلمة ا�ستعانة ال كلمة ا�سرتجاع‪،‬‬
‫وكثري من النا�س يقولها عند امل�صائب مبنزلة اال�سرتجاع‪ ،‬ويقولها جزع ًا ال �صرب ًا)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! فلنت�أ ّمل يف معنى هذه الكلم ِة وداللتها ن ُفزْ ب�أجرها وثوابها‪ ،‬ف�إنها كلم ُة ا�ستعان ٍة تكون قبل‬
‫ا�سرتجاع بعد نزول القدر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫العمل‪ ،‬ولي�ست كلم َة‬

‫ ولتكن هُ جريانا (ال حول وال قوة �إال باهلل العلي العظيم) ف�إنه ُيحمل بها الأثقال‪ ،‬و ُيكابد الأهوال‪ ،‬و ُينال‬
‫رفي ُع الأحوال‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الحياء‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحياء‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫أجل الأخالق و�أف�ضلها و�أعظمها قدر ًا و�أكرثها نفع ًا‪ ،‬به ين�أى املرء عن الرذائل‪ ،‬ويحتجز‬
‫۩ ۩فاحلياء ِمن � ِّ‬
‫ال�سقوط �إىل �سفا�سف الأعمال‪َ ،‬و َحمْ�أ ِة الذنوب‪ ،‬كما �أنه من �أقوى البواعث على الف�ضائل وارتياد‬
‫عن ُّ‬
‫معايل الأمور‪.‬‬

‫وال�صور ُة‬
‫والدم ُّ‬
‫اللحم ُ‬
‫عنده فلي�س فيه من الإن�سانية �إال ُ‬
‫ بل هو من خ�صائ�ص الإن�سانية‪ ،‬ف َمن ال حياء َ‬
‫تهجم على ما ت�شتهي‪ ،‬وت�أكل ما تهوى دُونَ حياء‪.‬‬
‫الظاهرة‪ ،‬كما �أنه لي�س معه من اخلري �شيء‪ .‬فهو كالبهيمة ُ‬

‫۩ ۩احليا ُء (عبا َد اهلل!) ُم�شت ٌق من احلياة‪ ،‬فهو احليا ُة ا�سم ًا ومعنى وحقيقة‪ ،‬ف� ُ‬
‫أكمل النا�س حيا ًة �أكم ُلهم‬
‫حيا ًء‪ ،‬ونق�صان حياء املرء من نق�صان حياته‪ ،‬ف�إن الروح �إذا ماتت مل تحُ �سَّ مبا ي�ؤملُها من القبائح فال‬
‫ت�ستحي منها‪.‬‬

‫۩ ۩احلياء ُكلُّه خري‪ ،‬وال ي� ِأت �إال باخلري‪ ،‬وال يكون معه �إال اخلري؛ يف ال�صحيحني عن عمران بن ا ُ‬
‫حل�صني‬ ‫خطبة جديدة‬
‫‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬احلياء ال ي�أتي �إال بخري)‪.‬‬

‫أحد حاجة‪ ،‬ولوال احلياء‬


‫ق�ض ل ٍ‬ ‫۩ ۩لوال احلياء مل ُي ْق َر َ�ضيف‪ ،‬ومل ُي َ‬
‫وف بوعد‪ ،‬ولوال احلياء مل ُت�ؤ َّد �أمانة‪ ،‬ومل تـُ َ‬
‫والقبيح فتج َّنبه‪ ،‬ولوال احلياء ما ُ�سرتت عورة‪ ،‬وال امتُنع ِمن فاح�شة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اجلميل ف�آثره‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫ما حت َّرى‬

‫ كثري من النا�س لوال احلياء ال��ذي فيه (�إمَّ��ا من اخلالق �أو من اخلالئق) مل ي���ؤ ِّد �شيئ ًا من الأم��ور‬
‫املفرت�ضة عليه‪ ،‬ومل َي ْر َع َملخ ُل ٍوق ح َّق ًا‪ ،‬ومل َي ِ�ص ْل له َرحم ًا‪ ،‬وال َب َّر والدا‪.‬‬
‫َ‬

‫ُ�سئل ابن �سريين عن الرجل يتبع اجلنازة ال يتبعها ِح�سبة‪ ،‬و�إمنا حيا ًء من �أهلها �أله يف ذلك �أجر؟‬ ‫ ‬
‫فقال‪( :‬بل له �أجران؛ �أجر ال�صالة على �أخيه‪ ،‬و�أج ٌر ل�صلته احلي)‪ .‬فاملر ُء ي�ؤجر على حيائه من النا�س‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحياء‬

‫اهلل عليه باحلياء فقد ُجمع له اخل ُري كلُّه؛ قال اهلل تعاىل‪َ } :‬يا َب ِني �آ َد َم َق ْد �أَنزَ ْل َنا َع َل ْي ُك ْم ِل َب ً‬
‫ا�سا‬ ‫ َمن �أن َع َم ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫جلهني‪( :‬لبا�س التقوى احلياء)‪.‬‬ ‫ا�س ال َّت ْق َو َى َذ ِل َك َخ رْ ٌ‬


‫ي{ قال َم ْع َب ٌد ا ُ‬ ‫ُي َوا ِري َ�سوْ�آ ِت ُك ْم َو ِر ً‬
‫ي�شا َو ِل َب ُ‬

‫وطيب ذكر ِه �إمنا يكون باحلياء؛ روى الرتمذي �أن النبي ‪s‬‬
‫عده وهنا َءه‪َ ،‬‬ ‫ �إن َزينَ املر ِء وجما َله‪ُ ،‬‬
‫و�س َ‬
‫قال‪(:‬ما كان احلياء يف �شيء �إال زانه‪ ،‬وما كان ال ُفح�ش يف �شيء �إال �شانه)‪.‬‬
‫َ‬
‫اقب ُ‬
‫اهلل تعاىل‬ ‫ح�ش يف املر ِء َعيب‪ ،‬قال ُ‬
‫مالك بن دينار‪( :‬ما َع َ‬ ‫احلياء َ�شني‪ ،‬وال ُف ُ‬
‫ وال�ض ُّد بال�ض َّد فنزع َ‬
‫قلب ًا ب�أ�ش َّد ِمن �أن ُي�س ِل َب ِمنه احلياء)‪.‬‬

‫تـَقلـَّ َب يف الأمـو ِر َك َما َي َ�شا ُء‬ ‫ �إذا ُرزق الفتى َوج َه ًا َو َق َاح ً ا‬
‫تـُعــالـ ُـج ـ ُه بــه ف ــيه غـ ـَنــا ُء‬ ‫َولــم َيـ ُـك لــل َّدواء وال لـ�شيءٍ ‬ ‫ ‬
‫وبني ُركوب ـ ـِها �إال احل ـَ ــيا ُء‬ ‫و ُر َّب قبــيح ـ ٍة مـا حال بيني ‬ ‫ ‬
‫ف َكــان هــو الدوا ُء ـلها ولكنْ �إذا ذهب احليا ُء فال َدوا ُء‬ ‫ ‬

‫قول النبي ‪�( :s‬إن مما �أدرك النا�س من كالم النبوة الأوىل �إذا‬ ‫وبعده‪ ،‬و�أج ُّل منه و� َ‬
‫أ�صدق؛ ُ‬ ‫ وقبل ذلك َ‬
‫ت�ستح فا�صنع ما �شئت)‪.‬‬
‫مل ِ‬

‫۩ ۩ احلياء ُخ ُلق الأنبياء؛ ففي �صحيح البخاري من حديث �أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن مو�سى‬
‫‪ a‬كان رج ًال حيي ًا �ستري ًا‪ ،‬ال ُيرى �شيء من جلده ا�ستحياء)‪ ،‬ويف ال�صحيحني من حديث �أبي �سعيد‬
‫اخلدري ‪ d‬قال‪( :‬كان ر�سول اهلل ‪� s‬أ�ش َّد حيا ًء من العذراء يف خدرها‪ ،‬ف�إذا ر�أى �شيئ ًا يكرهه عرفناه‬
‫يف وجهه)‪.‬‬

‫وهو ُخ ُلقُ هذا الدِّ ين‪ ،‬و�شعار املُ�سلمني املُتَّب ِعني؛ َروى ابن ماجه ب�إ�سناد �صحيح عن �أن�س ‪� d‬أن النبي ‪s‬‬
‫قال‪�( :‬إن لكل ِد ٍين ُخ ُلقا‪ُ ،‬‬
‫وخلق الإ�سالم احلياء)‪.‬‬

‫قط هي �أب َهى وال � َ‬


‫أجمل وال‬ ‫۩ ۩ حيا ُء املر�أة َزي ُنها وجما ُلها‪ ،‬وهو ِح ْليتُها ونو ُرها‪ ،‬وما تز َّينت فتا ٌة بزينة ُّ‬
‫�أن�ض َر ِمن احلياء؛ قال اهلل تعاىل يف ق�صة �صاحب مدين مع مو�سى ‪َ } :a‬ف َجاء ْت ُه ِ�إ ْح َداهُ َما تمَْ ِ�شي َع َلى‬
‫لفع من الن�ساء خ َّراج ٍة والج ٍة‪ ،‬ولكن جاءت ُم�سترت ًة قد و�ضعت ُك َّم‬ ‫ب�س ٍ‬ ‫(لي�ست َ‬
‫ْ‬ ‫ا�س ِت ْح َياء{قال عم ُر ‪:d‬‬ ‫ْ‬
‫رعها على َوجهها ا�ستحيا ًء)‪.‬‬ ‫ِد ِ‬

‫دحت املر�أ ُة يف اجلاهلية والإ�سالم؛ قال ال�شَّ نفري‪:‬‬


‫وباحلياء ُم َ‬

‫على �أُ ِّمها و�إن تحُ دِّ ْث َك َت ْب ِل ِت‬ ‫ ‬ ‫ن�سي ًا ُّ‬


‫تق�ص ُه‬ ‫ك�أنَّ لها يف الأر�ض ْ‬ ‫ ‬

‫‪193‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الحياء‬

‫فمدح امر�أ ًة ب�أنها ال ترفع ر�أ�سها ك�أنها تطلب �شيئ ًا من الأر�ض‪ ،‬و�إن تحُ دثت تقطع احلديث وال تتمه ل�شدة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫حيائها‪.‬‬

‫كمال احليا ِء من بيت النبوة‪ ،‬يدخ ُل‬‫ وهاهي الزهراء ِب�ض ُع ر�سول اهلل ‪ s‬فاطم ُة بنت حممد ‪ g‬ورثت َ‬
‫زوجها علي بن‬ ‫عليها ر�سول اهلل ‪ s‬فيجل�س عند ر�أ�سها‪ ،‬فتُدخل ر� َأ�سها يف اللفاع حيا ًء من �أبيها‪ .‬و َي�س�ألها ُ‬
‫ري للمر�أة ؟ فقالت‪�( :‬أن ال ترى الرجال وال يروها)‪ .‬وزوجها مثلها ف�إنه ر�أى‬ ‫�أبي طالب ‪ :d‬يا فاطم ُة َما خ ٌ‬
‫رتك �أحدُكم امر�أتَه تخرج‬‫حيا َء فاطم َة و�أبيها فاكت�سبه‪ ،‬وقد كان علي ‪d‬يقول‪�( :‬أال تَ�ستحون! �أال تغارون! َي ُ‬
‫َنظ ُر �إليهم و َي ُ‬
‫نظرون �إليها)‪.‬‬ ‫بني الرجال ت ُ‬

‫و�صالح مرج ٍو منه؛ قال بع�ض الأوائل‪�( :‬إذا نظرت �إىل ال�صبي‬ ‫ٍ‬ ‫۩ ۩ احلياء يف ال�صبي عالم ُة جنابة فيه‪،‬‬
‫فوجدته م�ستحيي ًا ُمطرق ًا بطر ِفه �إىل الأر�ض غ َري و ّقاح الوجه‪ ،‬وال حمدق ًا �إليك‪ ،‬فهو �أول دليل جنابته‪،‬‬
‫أح�ست باجلميل والقبيح)‪.‬‬ ‫نف�سه قد � َّ‬ ‫وال�شاه ُد لك على �أن َ‬

‫بلغت خم�س ع�شرة‬ ‫لزوم َ‬


‫احلياء؛ قال َعمرو بن ُعقبة‪ :‬ملا ُ‬ ‫ وقد كان ِمن و�صية عقالء العرب لأبنائهم ُ‬
‫ال�صبا‪ ،‬فالزم احلياء تكن من �أهله‪ ،‬وال ترتكه فتبني‬
‫�سنة‪ ،‬قال يل �أبي‪( :‬يا بني قد تقطعت عنك �شرائ ُع ِّ‬
‫منه)‪.‬‬

‫وح�سن عم ِله؛ يف ال�صحيحني عن‬‫وكمال �أفعاله‪ُ ،‬‬


‫ِ‬ ‫الفتي الكب ِري عالم ُة �إميانه وتقواه‪،‬‬
‫۩ ۩ احليا ُء يف الرجل ِّ‬
‫�أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬الإميان ب�ضع و�ستون �شعبة واحلياء �شعبة من الإميان)‪ .‬وروى ابنُ‬
‫حبان عن �أبي بكرة ‪ d‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل ‪( :s‬البذاء من اجلفاء واجلفاء يف النار واحلياء من‬
‫الإميان والإميان يف اجلنة)‪.‬‬

‫النبي ‪ s‬قال‪( :‬احلياء والإميان ُق ِر َنا َجميع ًا ف�إذا ُرفع �أح ُدهما ُرفع‬ ‫احلاكم عن ابن عمر ‪� d‬أن َّ‬
‫ُ‬ ‫ و َر َوى‬
‫ال�شراح‪( :‬ك�أنهما َر ِ�ضيعا ِلبانَ ثدي تقا�سما على �أن ال يفرتقا) [في�ض القدير ‪.]426/3‬‬ ‫الآخر)‪ .‬قال بع�ض ُّ‬
‫النظام ذهب َما فيه)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وقال �سليمان بن داود ‪( :a‬احلياء نظام الإميان ف�إذا انح َّل‬

‫يحب‬
‫حيي �ستري‪ُّ ،‬‬ ‫ وت�أمل يا رعاك اهلل فيما روى يعلى بن �أمية ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن اهلل تعاىل ٌ‬
‫ال�سرت واحلياء)‪( .‬ف َمن وافق اهلل يف �صفة من �صفاته قادته تلك ال�صفة �إليه بزمامها‪ ،‬و�أدخلته على ر ِّبه‪،‬‬
‫ِّ‬
‫و�أدنته وقربته من رحمته‪ ،‬و�صريته حمبوب ًا له‪ ،‬ف�إنه ُ�سبحانه رحي ٌم يحب الرحماء‪ ،‬كرمي يحب الكرماء‪،‬‬
‫عليم يحب العلماء‪ ،‬قوي يحب امل�ؤمن القوي وهو �أحب �إليه من امل�ؤمن ال�ضعيف‪ ،‬جميل يحب اجلمال‪ ،‬وتر‬
‫ال�سرت والت�سرت) [قاله ابن القيم]‪.‬‬
‫حيي يحب �أهل احلياء‪� ،‬ستِّري يحب �أهل ِّ‬
‫يحب �أهل الوتر‪ٌّ ،‬‬

‫‪194‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الخوارج‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الخوارج‬

‫ ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫قل َه ْل ُن َن ِّب ُئ ُك ْم ِبالأَ ْخ َ�س ِرينَ �أَ ْع َما ًال{ ا َّل ِذينَ َ�ض َّل َ�س ْع ُي ُه ْم فيِ الحْ َ َيا ِة ال ُّد ْن َيا َوهُ ْم َي ْح َ�س ُبونَ‬‫ قال اهلل تعاىل‪ْ } :‬‬
‫�أَ َّن ُه ْم ُي ْح ِ�س ُنونَ ُ�ص ْن ًعا{ �أُو َل ِئ َك ا َّل ِذينَ َك َف ُروا ِب�آ َي ِ‬
‫ات َر ِّب ِه ْم َو ِل َقا ِئ ِه َف َح ِب َط ْت َ�أ ْع َما ُل ُه ْم َفال ُن ِق ُيم َل ُه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‬
‫َو ْز ًنا{‬

‫العمل وهو يظنُّ �أنه حم�سنٌ وقد َ‬


‫حبط �سعيهُ)‪،‬‬ ‫يعمل َ‬‫النا�س َمن ُ‬
‫ قال القرطبي‪( :‬فيه دالل ٌة على �أنَّ ِمن ِ‬
‫قال علي بن �أبي طالب ‪( :d‬الأخ�سرون �أعما ًال هم اخلوارج)‪.‬‬

‫مو�سى ‪ d‬قال‪ :‬حدثنا ر�سول اهلل ‪�( :s‬إن بني يدي ال�ساعة لهرجا‪ ...‬لي�س‬ ‫ وروى ابن ماجه عن �أبي َ‬
‫بع�ضكم بع�ض ًا حتى َيقت َُل الرج ُل جا َره وابنَ ع ِّمه وذا قرابته‪ ،‬فقال بع�ض القوم‪:‬‬ ‫بقتل املُ�شركني‪ ،‬ولكن َي ُ‬
‫قتل ُ‬ ‫ِ‬
‫عقول �أكرث ذلك الزمان‪ ،‬ويخلف له‬‫ر�سول اهلل ومعنا عقو ُلنا ذلك اليوم‪ ،‬فقال ر�سول اهلل ‪( :s‬ال تُنزَ ُع ُ‬‫يا َ‬
‫هباء من النا�س ال عقول لهم)‪ ،‬قال �أبو مو�سى الأ�شعري‪ :‬و�أمي اهلل �إين لأظنها مدركتي و�إياكم و�أمي اهلل مايل‬
‫خطبة جديدة‬

‫ولكم منها خمرج �إن �أدركتنا فيما عهد �إلينا ر�آه ‪� s‬إال �أن نخرج كما دخلنا فيها‪.‬‬

‫وعظيم‬
‫َ‬ ‫ عباد اهلل ! لقد �أخرب ال�صادق امل�صدوق عن خروج اخلوارج‪ ،‬و �أنب�أ عن ظهورهم‪ ،‬وبينَّ َ �ش َّرهم‬
‫بعدهم‪ ،‬فهو �ش�ؤم �أينما حلُّوا؛ ُ�ش�ؤ ُمهم على البالد والعباد عظيم؛ �إن‬ ‫وحذر منهم �أ�صحا ُبه َمن َ‬ ‫فتن ِتهم‪َّ ،‬‬
‫و�شب َعهم ُجوع ًا‪ ،‬بل ِ‬
‫وعزَّهم ذال‪ ،‬و�سلطا َنهم �إىل ز َوال‪.‬‬ ‫أر�ض ح َّو ُلوا �أم َنها خوف ًا‪َ ،‬‬
‫ُوجدوا يف � ٍ‬

‫ لذلك ثبت عند �أحمد عن النعمان بن ب�شري ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬اجلماعة رحمة‪ ،‬والفرقة عذاب)‪.‬‬
‫أظنك واهلل‬ ‫أحنف بن قي�س رج ٌل ِمن اخلوارج فذكر الوايل وعا َبه‪ ،‬فقال له ال ُ‬
‫أحنف‪َ �( :‬‬ ‫ ووقف بجانب ال ِ‬
‫يا فالن و�أ�صحابك �ستدخلون علينا ذ ًال وبالء عظيم ًا)‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الخوارج‬

‫ وقال �أبو حازم‪( :‬ال يزال هذا الدِّ ينُ عزيز ًا منيع ًا َما مل تقع هذه الأه��واء يف ُّ‬
‫ال�سلطان)‪ .‬يعني ر�أي‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫أنف�سهم‪ ،‬وز َّينَ لهم ال�شيطانُ ُ�سو َء �أعمالهم؛ فقتلوا امل�سلمني‪ ،‬وا�ستباحوا بي�ضة‬
‫اخلوارج‪ .‬نعم هم قوم ظلموا � َ‬
‫الدين‪ ،‬وتطاولوا على �أعرا�ض امل�ؤمنني و�إمامهم‪.‬‬

‫ظه ُرون �إنكا َر‬ ‫ ُيظهرونَ تق�شف ًا و ُزهد ًا‪ ،‬وت�شدد ًا وغلوا‪ ،‬ميرقون من الدين كما ميرق َّ‬
‫ال�سهم من ال َّرمية‪ُ ،‬ي ِ‬
‫املنكر وال�شد َة فيه َيظنونها ِدين ًا‪ ،‬وهي الفتن ُة والف�ساد‪� ،‬أنكر �أو ُلهم على عثمان ‪ d‬وقتلوه‪ ،‬وخرجوا على‬
‫نبي بدعوى‬ ‫ب�صحابي وال ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫وحاربوه‪ ،‬بل كان والدهم وقدوتهم �أنك َر على النبي ‪ s‬فع َله‪ ،‬فلم ير�ضوا‬ ‫َع ِل ٍّي ‪َ d‬‬
‫العدل‪..‬‬

‫�شم َر‬ ‫َ‬


‫حملوق الر�أ�س ُم ِّ‬ ‫�شر َف ال َوجنتني نا�شزَ اجلبهة كثَّ اللحية‬ ‫ ففي ال�صحيح �أن رج ًال غائ َر ال َعينني ُم ِ‬
‫ُ‬
‫الرجل‪،‬‬ ‫أهل الأر�ض �أن يتقي اهلل)‪ ،‬ثم ىَّول‬ ‫الإزار قال‪ :‬يا ر�سول اهلل اتق اهلل‪ ،‬فقال ‪( :s‬ويلك �أَ ِو ُ‬
‫ل�ست �أحقَّ � ِ‬
‫أ�ضرب عن َقه‪ ،‬فقال ‪( :s‬ال لع َّل ُه �أن يكونَ ُي�ص ِّلي)‪ ،‬قال خال ٌد‪َ :‬و َكم‬ ‫فقال خالد بن الوليد‪ :‬يا ر�سول اهلل �أال � ُ‬
‫يقول بل�سانه َما لي�س يف قلبه‪ ،‬فقال ر�سول اهلل ‪�( :s‬إين مل �أُومر �أن �أُن ِّق َب َعن قلوب النا�س‪ ،‬وال‬ ‫ِمن ُم َ�ص ٍّل ُ‬
‫كتاب‬
‫يخرج من ِ�ضئ�ضئي هذا قو ٌم يتلونَ َ‬ ‫قف فقال‪�( :‬إنه ُ‬ ‫�أ�شقَّ بطونهم) قال الراوي‪ :‬ثم نظر ‪� s‬إليه وهو ُم ٍ‬
‫هم من ال َّرم َّية‪ ،‬لئن �أدركتُهم لأقتل َّنهم قتل‬ ‫ال�س ُ‬ ‫اهلل َرط َب ًا ال يجاوز حناج َرهم ميرقونَ ِمن الدِّ ينَ ك َما ُ‬
‫ميرق َّ‬
‫ثمود)‪.‬‬

‫طرف من العلم‪،‬‬ ‫عندهم ٌ‬ ‫وحتمي�س للنا�س و �إث��ار ٍة للفتنة‪َ ،‬‬


‫ٍ‬ ‫��وارج ذوو ف�صاح ٍة َو َبيان‪،‬‬
‫ عبا َد اهلل ! اخل ُ‬
‫ولذاق ٌة يف الل�سان‪ ،‬ولجَ َ لجة عند البيان واخل�صام؛ روى �أحمد و�أبو داود ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي �سعيد اخلدري‬
‫و�أن�س بن مالك �أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪�( :‬سيكون يف �أمتي اختالف وفرقة قو ٌم يح�سنون َ‬
‫القيل َو ُي�سيئون الفعل‪،‬‬
‫ال�سهم من ال َّرمية ال يرجعون حتى يرت َّد على فوقه‪،‬‬ ‫يقر�ؤون القر�آن ال يجاوز تراقيهم ميرقون من الدِّ ين َ‬
‫مروق َّ‬
‫هم �ش ُّر اخللق واخلليق ِة ُطو َبى ملن قت َلهم َوقتلوه يدعون �إىل كتاب اهلل ولي�سوا منه يف �شيء من قاتلهم كان �أوىل باهلل‬
‫منهم)‪.‬‬

‫�سمعت َ‬
‫ر�سول اهلل ‪ s‬يقول‪�( :‬سيخرج يف �آخر الزمان قوم �أحداث الأ�سنان �سفهاء‬ ‫ُ‬ ‫ وعن علي ‪ d‬قال‪:‬‬
‫قول الربية َيقر�أون القر�آن ال يجاوز حناج َرهم‪ ،‬ميرقون من الدين كما ميرق‬ ‫الأحالم يقولون ِمن َخري ِ‬
‫ال�سهم من الرمية ف�إذا لقيتموهم فاقتلوهم ف�إن يف قتلهم �أجرا ملن قتلهم ثم اهلل يوم القيامة)‪.‬‬

‫ وقد قال النبي ‪ ( s‬و ال َب َذاء و البيان �شعبتان من النفاق )[رواه الإمام �أحمد (‪ ،)269/5‬و احلاكم‬
‫يف (امل�ستدرك ‪ )9/1‬و قال‪ " :‬هذا حديث �صحيح على �شرط ال�شيخني‪ ،‬و مل يخرجاه‪ ،‬و قد احتجا برواته‬
‫عن �آخرهم "‪ .‬و وافقه الذهبي]‪ .‬وقد اجتمعتا فيهم بذاءة يف الل�سان‪ ،‬وذالقة فيه‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الخوارج‬

‫ د�أبهم دائم ًا ت�سمية �أعمالهم وف�سا ِدهم وبغيهم جها َد ًا‪ ،‬ذكر الطربي يف تاريخه �أن َ‬
‫بع�ض اخلوارج جمع‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫حمد َ‬
‫اهلل و�أثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪�( :‬أ َّما بعد ف�إن اهلل َكت ََب علينا اجلها َد فم َّنا َمن ق�ضى نحبه ومنا‬ ‫�أ�صحا َبه ثم ِ‬
‫من ينتظر و�أولئك هم الأبرار الفائزون بفعلهم‪ ،‬فمن كان منكم يريد اهلل وثوابه فلي�سلك �سبيل �أ�صحابه)‪.‬‬

‫ ال َي َرونَ مل�سلم ُحرم ًة‪ ،‬وال لإمام طاعة َما مل يكن معهم‪ِ ،‬ومن حزبهم‪ .‬فنعوذ باهلل من احلور بعد الكور‪.‬‬
‫ ويقول جل وعال‪� } :‬أَ َف َمن ُز ِّينَ َل ُه ُ�سو ُء َع َم ِل ِه َف َر�آ ُه َح َ�س ًنا َف�إِنَّ هَّ َ‬
‫الل ُي ِ�ض ُّل َمن َي َ�شاء َو َي ْه ِدي َمن َي َ�شاء َفال‬
‫الل َع ِلي ٌم بمِ َ ا َي�صْ َن ُعونَ {‪.‬‬ ‫ت َْذ َه ْب َن ْف ُ�س َك َع َل ْي ِه ْم َح َ�س َر ٍات ِ�إنَّ هَّ َ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الخوارج ‪2‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الخوارج ‪2‬‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫النا�س قوم ًا ال يتعظون بقول (ولو كان من ن�صو�ص الكتاب وال�سنة)‪ ،‬وال يرعون ُحرم َة مكان وال‬
‫ ف�إن من ِ‬
‫أحد (ولو كان ولي ًا لأمر)‪.‬‬
‫زمان (ولو كان �شهر رم�ضان)‪ ،‬وال يحفظون ح َّق ًا ل ٍ‬

‫ وقد ثبت يف البخاري �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ثَلاَ َث ٌة �أَ َنا َخ�صْ ُم ُه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َو َمنْ ُك ْن ُت َخ�صْ َم ُه َخ َ�ص ْم ُت ُه‬
‫َر ُج ٌل �أَ ْع َطى ِبي ُث َّم َغ َد َر)‪.‬‬
‫ �أولئك �أقوا ٌم كفروا نعم َة اهلل وخانوا العهود واملواثيق‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل‪�} :‬إِنَّ هَّ َ‬
‫الل ُي َدا ِف ُع َع ِن ا َّل ِذينَ‬
‫الل ال ُي ِح ُّب ُك َّل َخ َّو ٍان َك ُفورٍ{‪ ،‬ف َمن كفر النعم َة وخان العهد وخفر الذمام ف�إنه اهلل ال يح ّبه‪ ،‬و�إن‬‫� َآم ُنوا �إِنَّ هَّ َ‬
‫ُ‬
‫وحافظهم بكرمه وم ِّنه‪.‬‬ ‫كيده يف نحره‪ ،‬و�إن اهلل مداف ٌع عن امل�ؤمنني‬ ‫اهلل را ٌد َ‬

‫نف�سه الغدر‪،‬‬ ‫خلبث‪ ،‬فزُرع يف ِ‬ ‫أح�سنت لأحدهم و�أكرمتَه‪ ،‬ف�إنه قد ورث الل� َؤم‪ ،‬ور�ضعه بهذا الفكر ا ُ‬
‫ مهما � َ‬
‫فكنت � ُأج ُّ�س‬
‫حمه‪ُ ،‬‬‫وحببت �إليه اخليانة‪ ،‬قال عثمان بن عفان‪�( :‬أال تعج ُبون لفالن (�أحد اخلوارج) �ضممتُه ل َر ِ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫بطنه ِمن الليل �أنظر �أجائ ٌع هو �أم �شبعان‪ ،‬ثم هو ي�سعى يف خلعي و�سفك دمي! اللهم فاجزه جزاء من كفر‬
‫النعمة و َف َجر)‪.‬‬

‫قوم خرجوا خمالفني للم�سلمني‪ ،‬نا�صبني لراية اخلالف واخلروج‪،‬‬ ‫ عبد اهلل! �إن تعجب فاعجب من ٍ‬
‫أيت فيه تكفري ًا للم�سلمني‪ ،‬وتفريقا لكلمتهم‪،‬‬
‫ت�سم ُع مبد�أ كالمهم فتح�س ُبهم على هدى‪ ،‬ف�إذا �أمتوا ك َالمهم ر� َ‬
‫نق�ض املواثيق‪ ،‬و�إف�ساد ًا لأمر الدين‪ ،‬وطعن ًا يف والة الأمور الذين �أمر اهلل ور�سو ُله ‪ s‬باالجتماع‬
‫وحث ًا على ِ‬
‫عليهم‪.‬‬

‫�صحابي وابن �صحابي وهو عبد اهلل بن خباب ‪ ،d‬فقد �أتوه يف منز ِله‪ ،‬وكان‬
‫ٍّ‬ ‫ وا�سمع لق�صتهم مع‬
‫منز ُله على َ�ش ِّط النهر‪ ،‬ف�أخرجوه من منزله وقالوا‪ :‬حدثنا بحديث حدثك به �أبوك �سمعه من ر�سول اهلل‬

‫‪198‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الخوارج ‪2‬‬

‫‪ ،s‬فحدثهم بحديث ال يوافق هواهم ومذهبهم‪ ،‬فقدموه فذبحوه كما ُتذ َبح ال�شاة‪ ،‬ف�سال د ُمه يف املاء‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫نخل كثري الثمر‪،‬‬‫ال�شراك‪ ،‬و�أخرجوا � َّأم ولده ف�شقوا عما يف بطنها‪ ،‬ثم خرجوا من عنده ونزلوا حتت ٍ‬ ‫مثل ِّ‬
‫ف�سقطت ُر َطب ٌة‪ ،‬ف�أخذها �أح ُدهم فقذف بها يف فيه‪ ،‬فقال له �أحد رفاقه‪� :‬أت�أكلها بغري ح ِّلها وبغري ثمن‪،‬‬
‫َ‬
‫فلفظها من فيه‪.‬‬

‫رجل من ال�صحابة‪ ،‬وقتل �أم ولده‪ ،‬وبقر بطنها‪ ،‬وهذا د�أبهم‬‫ تورعوا عن �أكل متره‪ ،‬وما ترددوا يف قتل ٍ‬
‫ف�إنهم ي�أخذون من الدين رتو�ش ًا‪ ،‬ويهدمون منه �أركان ًا‪.‬‬

‫ لقد و�صفهم النبي ‪ � s‬مّأيا و�صف وحذر منهم غاية التحذير‪ ،‬ففي ال�صحيح �أن �أبا �سعيد اخلدري‬
‫‪ d‬قال‪� :‬سمعت النبي ‪s‬يقول‪( :‬يخرج يف هذه الأمة (قال �أبو �سعيد ‪ :d‬ومل يقل منها) قوم حتقرون‬
‫�صالتكم مع �صالتهم يقرءون القر�آن ال يجاوز حلوقهم �أو حناجرهم ميرقون من الدين مروق ال�سهم من‬
‫الرمية)‪.‬‬
‫ قال امل��ازري‪� :‬إن النبي ‪ s‬قال‪( :‬يخرج يف هذه الأم��ة‪ ،‬ومل يقل (منها) قوم حت ِقرون �صالتكم مع‬
‫�صالتهم)‪ ،‬وهذا يد ُّل على �أنهم لي�سوا من �أمة حممد ‪ ،s‬و�أنهم مهما انت�سبوا �إليه ف�إنهم خمالفون لهديه‬
‫و�سنته وما �أمر به ولو ت�سموا با�سم الدين‪.‬‬

‫��وارج باقون يف هذه الأمة �إىل قيام ال�ساعة‪ ،‬و�أنهم ال‬ ‫ عباد اهلل! لقد �أخرب النبي الكرمي ‪�s‬أن اخل َ‬
‫يزالون يخرجون يف ُكل زمان؛ فقد ثبت يف امل�سند �أن النبي ‪ s‬قال‪ :‬اَ‬
‫(ل َيزَ ا ُلونَ َي ْخ ُر ُجونَ َحتَّى َي ْخ ُر َج‬
‫� ِآخ ُرهُ ْم َم َع ال َّد َّج ِال َف ِ�إ َذا َل ِقي ُت ُموهُ ْم َفا ْق ُت ُلوهُ ْم هُ ْم َ�ش ُّر الخْ َ ْل ِق َوالخْ َ ِلي َق ِة)‪.‬‬

‫حروري �أبد ًا)‬


‫ٌّ‬ ‫ وملّا قاتلهم ٌّ‬
‫علي ‪� d‬أ�ش ّد القتال يف النهروان‪ ،‬قال رجل معه‪( :‬واهلل ال يخرج بعد اليوم‬
‫(م ْه ال تقل هذا فو الذي فلق احلبة وبر�أ الن�سمة �إنهم لفي �أ�صالب الرجال و�أرحام الن�ساء‬
‫علي ‪َ :d‬‬
‫فقال ٌّ‬
‫وال يزالون يخرجون)‪.‬‬

‫علي ‪ d‬ف�إنه بني الفينة والأخرى تط ُّل على امل�سلمني فتن ُة اخلوارج بر�أ�سها الكريه‪،‬‬ ‫ و�صدق ‪ ،s‬وب َّر ٌّ‬
‫وجرم ت�صرفاتهم يف عدد من بالد امل�سلمني ما تق�شع ُّر له �أبدان‬ ‫ورائحتها املنتنة‪ ،‬فن�سمع من �سوء �أفعالهم ُ‬
‫مقيا�س ينظرون‪ ،‬فلي�س يحكمهم �شرعٌ‪ ،‬وال ي�ضبطهم‬ ‫ٍ‬ ‫وجتعل الناظر حائر ًا ب� ِّأي ٍ‬
‫عقل يفكرون‪ ،‬وب� ِّأي‬ ‫ُ‬ ‫العقالء‪،‬‬
‫عقل وال ر�أي‪ ،‬و�إمنا ا�ستزلهم ال�شيطان‪ ،‬وتالعبت بهم �أيدي اجلهلة‪.‬‬

‫ اللهم �أحفظ علينا �أمن بالدنا‪ ،‬واكفنا �ش َّر َمن �أرادنا فيه ب�سوء‪ ،‬اللهم من �أرادنا و�أراد بالدنا وحكامنا‬
‫و�أهلنا وديننا ب�سوء‪ ،‬اللهم فا�شغله بنف�سه واجعل كيده يف نحره‪ ،‬واك�شف �سرته‪ ،‬واف�ضح �أمره‪ ،‬واجعل تدبريه‬
‫تدمريه يا رب العاملني‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الخوارج ‪2‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫الدجال‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدجال‬

‫ ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ فقد روى عبد اهلل بن الإمام �أحمد يف (زوائد امل�سند ‪ )71/4‬ب�إ�سناد رجاله ثقات من حديث ال�صعب‬
‫النا�س عن ذكره‪ ،‬وحتى ترتك الأئم ُة ذكره‬
‫بن جثامة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال يخرج الدجال حتى يذهل ُ‬
‫على املنابر)‪.‬‬

‫أعظم وال حمن ٌة �أك ُرب من الدجال؛ قال ‪�( :s‬إنه مل تكن فتنة‬
‫ عباد اهلل! مل ولن مي ّر على بني �آدم فتن ٌة � ُ‬
‫يف الأر�ض منذ �أن ذر�أ ُ‬
‫اهلل ذرية �آدم �أعظم من فتنة الدجال)‪ ...‬نعم! هو �ش ُّر غائب َينت ََظر‪ ،‬و�أعظم فتنة‬
‫تنزل بالب�شر‪.‬‬

‫النبي ‪ s‬يحذر منه ِومن فتنته‪ ،‬قال النوا�س بن �سمعان ‪( :d‬ذكر ُ‬


‫ر�سول اهلل ‪ s‬ذاتَ غدا ٍة‬ ‫ َما فتئ ُّ‬
‫ال َّدجال‪ ،‬فخف�ض فيه ورفع حتى ظنناه يف طائفة النخل) رواه م�سلم‪ ،‬وعن �أبي �أمامة‪ d‬قال‪ :‬خطبنا ُ‬
‫ر�سول‬
‫اهلل ‪s‬فكان �أك ُرث خطبته حديث ًا ح َّدثناه عن ال ّدجال وحذرناه رواه ابن ماجه‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫لل�صغار والكبار مع ًا روى ابن ماجه �أن عبد‬‫ ولقد كان ال�سلف ال�صالح يعنون بتذاكر �أخبار الدجال ِّ‬
‫الرحمن املحاربي قال‪( :‬ينبغي �أن ُيد َفع هذا احلديث (�أي حديث الدجال) �إىل امل�ؤدب حتى يع ِّلمه ال�صبيان‬
‫يف ال ُكتَّاب)‪.‬‬

‫َوما ا�ستحقر �أح ٌد �ش�أنه �إال ُبلي به �سمع ابنُ م�سعود ‪� d‬أ�صحابه يذكرون الدجال فقال �أحدهم‪ :‬لو َخ َر َج‬ ‫ ‬
‫ابل ال�شتكيتُم‬‫ل�ضربناه بالنعال‪ ،‬فغ�ضب ابن م�سعود وقال‪( :‬لفتنة ال ّدجال �أعظم من ذلك واهلل لو خرج يف َب َ‬ ‫َ‬
‫احلفاء) من �سرعة ذهابهم �إليه‪.‬‬

‫العلم بنعته؛ وقد جاء ن امل�ؤمنني‬ ‫ عباد اهلل! �إن ِمن �أعظم َما يع�صم ُ‬
‫اهلل به املر�أ من فتن ِة الدجال ُ‬
‫النبي ‪.s‬‬
‫يعرفونه بالنعت الذي ذكره لهم ُّ‬
‫‪201‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدجال‬

‫قومه‪ ،‬لقد �أنذ َره‬


‫ روى البخاري �أن النبي ‪s‬ذكر الدجال فقال‪�( :‬إين لأنذركموه‪ ،‬وما من نبي �إال �أنذره َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫أقول لكم قو ًال مل يقله ٌّ‬
‫نبي لقومه تعلمون �أنه �أعور واهلل لي�س ب�أعور)‪.‬‬ ‫قومه‪ ،‬ولكني �س� ُ‬
‫نو ٌح َ‬

‫ لقد ذكر لنا النبي ‪� s‬صفتَه ونعته فهو رج ٌل من بني �آدم على ِخل َق ِتهم َ‬
‫وهيئتهم غري �أنه �أعو ُر العني‬
‫أفح ُج‪� ،‬أزه ُر‬
‫صري الطول � َ‬ ‫اليمنى ك�أنّ عي َنه عنب ٌة طافية‪ ،‬و�أنه �شع َره جع ٌد ٌ‬
‫قطط‪ ،‬وبعي ُد ما بني املنكبني‪ ،‬ق� ُ‬
‫مكتوب بني عينيه (كافر) يقر�أها ُكل م�ؤمن وم�ؤمنة تهجاها النبي ‪.s‬‬‫ٌ‬ ‫مائ ٌل للبيا�ض‪ ،‬و�أنه‬

‫يخرج الدجال على حني ِغ َّرة َ‬


‫وغفل ٍة من النا�س عنه‪ ،‬ويف �صحيح م�سلم �أنه يكون قبل خروجه‬ ‫ عباد اهلل! ُ‬
‫وذهاب ما ِء َعني ُزغر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وعدم �إثمار نخل بي�سان‪،‬‬ ‫عالماتٌ منها ُ‬
‫جفاف بحرية طرب ّية‪ُ ،‬‬

‫ال�سماء يف ال�سنة الأوىل �أن حتب�س ثلثَ‬ ‫ وروى ابن ماجه �أن قبل خروجه َ‬
‫ثالث �سنني �شداد‪ ،‬ي�أم ُر اهلل َّ‬
‫قطرها وي�أمر الأر�ض فتحب�س ثلث نباتها‪ ،‬ثم ي�أمر ال�سماء يف الثانية �أن حتب�س ثلثي قطرها وي�أمر الأر�ض‬
‫فتحب�س ثلثي نباتها‪ ،‬ثم ي�أمر ُ‬
‫اهلل ال�سماء يف ال�سنة الثالث فتح ِب ُ�س مط َرها ُك َّله فال تقطر قطرة‪ ،‬وي�أمر‬
‫الأر�ض فتحب�س نباتها فال تنبت خ�ضراء‪ ،‬فال تبقى ذاتُ ظ َل ٍف �إال هلكت �إال ما �شاء اهلل‪.‬‬

‫امل�شرق‪ ،‬فيتبعه من يهود �أ�صبهان �سبعون �ألف ًا (�صحيح م�سلم)‪ِ ،‬ومن فتنته �أنه‬
‫حينئذ ِمن ِق َبل ِ‬
‫ٍ‬ ‫ ف َيخ ُر ُج‬
‫آخر الز ََّمان َقو ٌم َيق َر�ؤون القر�آن‬
‫(يخرج يف � ِ‬
‫ُ‬ ‫أنا�س ُق َّرا ُء للقر�آن �سيماهم التدين يقول ُّ‬
‫النبي ‪:s‬‬ ‫ِمن �أتباعه � ٌ‬
‫ال يجاوز تراقيهم ميرقون من الإ�سالم كما ميرق ال�سهم من الرمية �سيماهم التحليق‪ ،‬ال يزالون يخرجون‬
‫حتى يخرج �آخرهم مع امل�سيح الدجال) رواه �أهل ال�سنن‪.‬‬

‫ال�سماء �أن تمُ ِطر فتمطر‪ ،‬وي�أمر‬


‫القوم فيدعوهم في�ستجيبون له وي�ؤمنون به‪ ،‬في�أمر َّ‬
‫۩ ۩ ِمن فتنته �أنه ي�أتي َ‬
‫أطول ما كانت ُذرى‪ ،‬و�أ�سبغة �ضروع ًا‪،‬‬
‫أر�ض �أن تنبت فتنبت‪ ،‬وتروح عليهم �سارحتهم (�أي بهائمهم) � َ‬
‫ال َ‬
‫و�أم ُّده خوا�صر‪ .‬ثم ي�أتي القوم فيدعوهم فريدون عليه قو َله فين�صرف عنهم في�صبحون ممحلني ما‬
‫ب�أيديهم �شيء‪.‬‬

‫كنوزك‪ ،‬فينطلق فتتبعه كنو ُزها كيعا�سيب النخل‪.‬‬


‫ِ‬ ‫۩ ۩ ِومن فتنته �أنه مي ُّر با َ‬
‫خل ْرب ِة فيقول لها‪� :‬أخرجي‬

‫۩ ۩ومن فتنته �أنه يدعو رج ًال ممتلئ ًا في�ضربه َّ‬


‫بال�سيف فيقطعه جزلتني رمي َة الغر�ض (�أي ن�صفني ب�ضربة‬
‫واحدة) ثم يدعوه ف ُيقبل الرج ُل يتهلل وجهه ي�ضحك‪.‬‬

‫أحييت لك �أباك و�أ ّمك �أت�ؤمن بي‪ ،‬فيتثمل ال�شيطان‬


‫۩ ۩ومن فتنته �أن ي�أتي الرجل فيقول له‪� :‬أر�أي��ت �إن � ُ‬
‫أحييت‬
‫أعرابي‪ :‬فيقول له �أر�أيت �إن � ُ‬
‫ب�صورة �أبيه و� ِّأمه فيقوالن له‪� :‬أتبع هذا الرجل ف�إنه ر ُّبك‪ .‬وي�أتي ال َّ‬
‫لك ناقتك �أت�ؤمن بي‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدجال‬

‫۩ ۩معه جنة ونار يف البخاري �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن مع الدجال �إذا خرج ما ًء ونار ًا‪ ،‬ف�أ َّما الذي يرى النا�س‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�أنها النار فماء بارد‪ ،‬و�أما الذي يرى النا�س �أنه ماء بارد فنار حترق‪ ،‬فمن �أدرك منكم فليقع يف الذي‬
‫يرى �أنها نار ف�إنه عذب بارد)‪.‬‬

‫الدجال �أربعني يوم ًا؛ يو ٌم ك�سنة‪ ،‬ويوم ك�شهر‪ ،‬ويوم كاجلمعة‪ ،‬و�سائر �أيامه مت ُّر الباقية �سريع ًا‪ .‬ال‬
‫ُ‬ ‫ ميكث‬
‫بيت وبر يف الأر�ض �إال ع ِلم‬ ‫بيت مدر وال ُ‬ ‫قدم يف الأر�ض �إال وط�أها‪ ،‬ودخلته فتنته‪ ،‬فال ي�سلم منه ُ‬ ‫يد ُع موطئ ٍ‬
‫إ�سراعه يف الأر�ض كالغيث �إذا ا�ستدبرته الريح)‪.‬‬
‫به وافتنت ب�أمره‪� ،‬إال مكة وطيبة‪ ،‬يقول النبي ‪ُ �( :s‬‬

‫ يتتابع النا�س يف الوقوع يف فتنته �إذ معه املال والق ّوة‪ ،‬قال ابن م�سعود ا‪( :‬حتى �إن الرجل ليق ُّيد �أه َله �إىل‬
‫�سارية يف بي ِته خ�شية �أن يخرجوا �إليه من عظيم فتنته)‪.‬‬

‫ فيف ُّر النا�س منه يف اجلبال وال�شعاب ويح�صرون (�صحيح م�سلم)‪ ،‬ثم ي�أتي املدينة قا�صد ًا �إخرابها‬
‫امل�سيح ِمن ِق َب ِل امل�شرق ه ّم ُت ُه املدينة حتى ينزل ُد َبر �أُ ُح ٍ��د‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫�سجد النبي ‪ s‬قال ‪( :s‬ي�أتي‬
‫وه َدم َم ِ‬
‫َ‬
‫ت�صر ُف املالئكة وجهه قبل ال�شام وهنالك يهلك) [رواه م�سلم] ويف رواية يف البخاري‪( :‬ال يدخل املدينة‬ ‫ِ‬
‫رعب امل�سيح الدجال‪ ،‬لها يومئذ �سبعة �أبواب على كل باب ملكان)‪.‬‬
‫خر ُج ُ‬
‫اهلل كل كافر‬ ‫حما�ص َر ًا املدينة‪( ،‬فرتجف املدينة ب�أهلها َ‬
‫ثالث رجفات ف ُي ِ‬ ‫ فيمكث يف بع�ض �سباخها ِ‬
‫و�صنعه و�إمنا هي فتنة من اهلل ج َّل وعال‪ ،‬فال‬ ‫ومنافق) [رواه البخاري]�إذ ظنوا �أن ذلك من عمل الدجال ُ‬
‫يبقى يف املدينة �إال امل�ؤمنون في�ضيق الأمر بهم وي�شتد عليهم وقد ق َّلت ُم�ؤنتهم وزادهم‪ ،‬فيقول رج ٌل منهم‪:‬‬
‫و�شك فيه؛ قال �أبو �سعيد‪ :d‬حدثنا ر�سول‬ ‫التبا�س ّ‬
‫ٍ‬ ‫لأخرجنَّ �إىل ذلكم الرجل لأنظر يف �ش�أنه َملا يكون من‬
‫بع�ض ال�سباخ التي باملدينة‪،‬‬‫اهلل ‪ s‬قال‪ :‬ي�أتي الدجال وهو حم َّر ٌم عليه �أن يدخل نقاب املدينة فينزل َ‬
‫م�سالح الدجال فيقولون‪ :‬له �أين‬
‫ُ‬ ‫فيخرج �إليه يومئذ رج ٌل هو خ ُري النا�س �أو ِمن خري النا�س‪ ،‬فتلقاه امل�سا ِل ُح‬
‫تعمد؟ فيقول‪� :‬أعم ُد �إىل هذا الذي خرج‪ .‬فيقولون له‪� :‬أو ما ت�ؤمن بربنا؟ فيقول‪َ :‬ما بربنا َخ َفاء‪ .‬فيقولون‪:‬‬
‫اقتلوه‪.‬‬

‫ فيقول بع�ضهم لبع�ض‪� :‬ألي�س قد نهاكم ر ُّبكم �أن تقتلوا �أحد ًا دونه‪ .‬قال‪ :‬فينطلقون به �إىل ال َّدجال‪.‬‬
‫ُ‬
‫ر�سول اهلل ‪s‬‬ ‫فحينما يراه امل�ؤمنُ (ويقر�أ ما بني عينيه) يقول‪� :‬أ�شهد �أنك الدجال الذي حدثنا عنك‬
‫حديثه‪ ،‬ويقول للنا�س‪ :‬يا �أيها النا�س هذا الدجال الذي ذكر ر�سول اهلل‪ .‬في�أمر الدجال به ف ُي�ش َبح فيقول‪:‬‬
‫و�سع ظه ُره وبط ُنه �ضرب ًا‪ ،‬قال‪ :‬فيقول �أو ما ت�ؤمن بي قال فيقول‪� :‬أنت امل�سيح الكذاب‪.‬‬ ‫و�شجوه" ف ُي َ‬
‫"خذوه ّ‬
‫جال بني القطعتني‪ ،‬ثم يقول‬ ‫قال‪ :‬ف ُي� َؤم ُر به في�ؤ�شر باملئ�شار ِمن َمفر ِقه حتى َيفرق بني رجليه‪ ،‬ثم مي�شي ال ّد ُ‬
‫له‪ :‬قم في�ستوي قائم ًا‪ ،‬ثم يقول له‪� :‬أت�ؤمن بي‪ .‬فيقول‪ :‬ما ازددتُ فيك �إال ب�صرية‪ ،‬ثم يقول‪ :‬يا �أيها النا�س �إنه‬
‫ليذبحه ف ُيجعل ما بني رقب ِته �إىل ُترقوته نحا�س ًا فال ي�ستطيع‬ ‫ُ‬
‫الدجال َ‬ ‫أحد من النا�س‪ .‬في�أخذه‬‫ال يفعل بعدي ب� ٍ‬

‫‪203‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدجال‬

‫فيح�سب النا�س �إمنا قذفه �إىل النار‪ ،‬و�إمنا �أُلقي يف اجلنة فقال‬
‫ُ‬ ‫�إليه �سبي ًال‪ ،‬في�أخذ بيديه ورجليه فيقذف به‪،‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ر�سول اهلل ‪( :s‬هذا �أعظم النا�س �شهادة عند رب العاملني)‪.‬‬

‫اهلل امل�سيح بن مرمي ‪a‬فينزل عند املنارة البي�ضاء �شرقي دم�شق وا�ضع ًا كفيه‬ ‫ فبنما هو كذلك �إذ بعث ُ‬
‫على �أجنحة ملكني �إذا ط�أط�أ ر� َأ�سه ّ‬
‫قطر‪ ،‬و�إذا رفعه حت َّدر منه ُجمان كالل�ؤل�ؤ في�أم امل�سلمني يف �صالتهم‪،‬‬
‫الدجال‪ ،‬فيف ُّر منه فيقول عي�سى بن مرمي‪� :‬إن اهلل �أمرين بقتله فيدركه بباب ُل ٍّد ف�إذا ر�آه ذاب كما‬
‫َ‬ ‫ويطلب‬
‫دمه يف حربته‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يذوب امللح يف املاء‪ ،‬فلو تركه النذاب حتى يهلك‪ ،‬ولكن يقتله اهلل بيده فرييهم َ‬

‫ عباد اهلل ! لقد كان نب ُّينا ‪ s‬ي�ستعيذ باهلل من فتنة الدجال يف ُكل �صالة ي�صليها ففي ال�صحيحني‬
‫البخاري وم�سلم �أن عائ�شة ‪ g‬قالت‪( :‬كان ر�سول اهلل ‪ s‬يدعو يف ال�صالة ال َّلهم �إين �أعوذ بك من عذاب‬
‫القرب و�أعوذ بك من فتنة امل�سيح الدجال و�أعوذ بك من فتنة املحيا واملمات)‪.‬‬

‫ ويف �صحيح م�سلم �أن طاوو�س بن كي�سان �أحد التابعني كان ي�أمر ابنه �إذا مل يد ُع بهذا الدعاء �أن يعيد‬
‫َ�صالته‪.‬‬

‫والعمل وال�صالح والدعاء بال َع ْو ِذ‬


‫ِ‬ ‫مما يع�صم اهلل به املر َء من فتنة الدجال بعد الإميان به �سبحانه‪،‬‬
‫ و�إن ّ‬
‫(من حفظ ع�شر �آيات‬ ‫منه‪ ،‬قراء ُة �سورة الكهف ففي �صحيح م�سلم عن �أبي الدرداء ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫من �أول �سورة الكهف ُع ِ�صم من الدجال)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫‪204‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدجال‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الدعاء للوالدين‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء للوالدين‬

‫ ‬
‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫الولوج ِمن جميعها‪ ،‬واجلري‬ ‫ِ‬ ‫امل�سلم على‬
‫ُ‬ ‫يحر�ص‬
‫ُ‬ ‫ومداخل خمتلفة‬ ‫َ‬ ‫بالوالدين �أبواب ًا متعددة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ َف�إن لل ِّرب‬
‫هلل ع َّز وج َّل مبغفر ِة ذنبهما‬ ‫أعظم �أبواب ال ِّرب بهما‪ ،‬و�أنف ِعه لهما‪ ،‬ال ّدعا ُء واالبتهال �إىل ا ِ‬ ‫يف َم َ�سالكها‪ِ .‬ومن � ِ‬
‫وحميه والعفو عنهما‪.‬‬
‫اهلل ج َّل وعال �أمر ًا الزم ًا حتم ًا ب�أن ندعو لآبائنا و�أمها ِتنا يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و ْاخ ِف�ضْ َل ُه َما‬ ‫ وقد �أمرنا ُ‬
‫َج َن َاح ال ُّذ ِّل ِمنَ ال َّر ْح َم ِة َو ُقل َّر ِّب ا ْر َح ْم ُه َما َك َما َر َّب َيانيِ َ�ص ِغ ًريا{‪ .‬قال قتاد ُة‪}( :‬وقل ربي ارحمهما كما ربياين‬
‫هلل و�أدبه) [تف�سري ابن جرير ‪ .]67/15‬وقال ابن عبد‬ ‫�صغريا{ هكذا ُعلمتم‪ ،‬وبهذا �أُمرمت‪ ،‬خذوا تعليم ا ِ‬
‫إكرامهما يف حياتهما‪ ،‬والدعا ِء لهما‬ ‫اهلل يف هذه الآية الأبنا َء ب ِّرب الآباء‪ ،‬و� ِ‬ ‫الرب (اال�ستذكار ‪�( :)526/7‬أمر ُ‬
‫بعد وفاتهما)‪.‬‬
‫(من �صنع لكم معروف ًا فكافئوه‪ ،‬ف�إن مل جتدوا ما‬ ‫ال�سنن �أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬ ‫ عبا َد اهلل ! ثبت عند �أهل ُّ‬
‫ُ‬
‫معروف �أبيه و�أ ّمه؛‬ ‫ُ‬ ‫ملخلوق على العبد‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫معروف‬
‫ٍ‬ ‫تكافئونه‪ ،‬فادعوا له حتى تروا �أنكم كاف�أمتوه)‪ .‬و�إن �أعظم‬
‫ُ‬
‫}ح َم َل ْت ُه �أ ُّم ُه َو ْه ًنا‬
‫�سبب وجو ِده يف هذه احلياة‪ ،‬ولهما الف�ضل يف رعايته ومنوه وتعليمه والنفقة عليه؛ َ‬ ‫فهما ُ‬
‫متعب �أُ َّمه‪،‬‬
‫}ح َم َل ْت ُه �أُ ُّم ُه ُك ْرهً ا َو َو َ�ض َع ْت ُه ُك ْرهً ا َو َح ْم ُل ُه َو ِف َ�صا ُل ُه َثال ُثونَ َ�ش ْه ًرا{‪ ،‬فهو يف حم ِله ٌ‬
‫َع َلى َو ْه ٍن{‪َ ،‬‬
‫ولي�س َمن ر�أى ك َمن �سمع‪.‬‬ ‫عذاب عليها‪ ،‬وتربيتُه ورعاي ُت ُه م�س�ؤولي ٌة َو َه ٌّم عظيمان على والديه‪َ ،‬‬ ‫وو�ض ُع ُه ٌ‬
‫ وقد �أمر اهلل ب�شكر الوالدين فقال‪�} :‬أَ ِن ا�شْ ُك ْر ليِ َو ِل َوا ِل َد ْي َك{‪ ،‬و�إن املر َء ال ي�ستطيع توفية ح ِّقهم‬ ‫ُ‬
‫(من �ص َّلى‬ ‫بع�ضه‪ ،‬وما ُي َكاف�أون �إال بال ُّدعاء والثناء‪ .‬قال ُ�سفيانُ بن عيينة‪َ :‬‬ ‫ولو �أراده‪ ،‬وال �سداد دينهم وال َ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ال�صلوات اخلم�س فقد َ�ش َكر اهلل‪َ ،‬ومن دعا لوالديه عقبهما فقد �شكر ح َّقهما)‪ ،‬وهذا ما فهمه �أ�صحاب‬
‫يقف‬‫بيت وهو يف �آخر‪ ،‬فكان ُ‬ ‫النبي ‪ s‬فروى البخاري يف (الأدب املفرد) �أنّ �أبا هريرة ‪ d‬كانت �أُ ُّمه يف ٍ‬
‫رحمك اهلل كما‬ ‫ِ‬ ‫ال�سالم عليك يا �أماه ورحمة اهلل وبركاته‪ ،‬فتقول‪ :‬وعليك يا ُبني‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫على بابها ويقول‪َّ :‬‬
‫رحمك اهلل كما بررتني كبري ًا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ربيتني �صغري ًا‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫ �إنَّ ِمن �أب ِّر الرب بالوالدين و�أنف ِعه‪ ،‬الدعا َء لهم وخ�صو�ص ًا بعد موتهم‪ ،‬واال�ستمرا َر على ذلك واملواظب َة‬
‫لنف�سه �إال دعا لهما‪ ،‬وال يرفع يديه هلل �إال وقد ذكرهما؛ ُروي عند ابن �أبي �شيبة‬ ‫عليه‪ ،‬فال يدعو امل��ر ُء ِ‬
‫لنف�سك‪.‬‬ ‫بعد ال ِّرب �أن ت�ص ِّلي عليهما مع �صالتك)‪� ،‬أي تدعو لهما مع دعائك ِ‬ ‫(‪ )59/3‬مرفوع ًا‪�( :‬إن ِمن ال ِّرب َ‬
‫لنف�سه‪ ،‬قال عامر بن عبد‬ ‫ حتى لقد َب َل َغ ِمن ب ِّر بع�ض الأوائل �أنه ين�شغل بالدعاء لوالديه عن الدعاء ِ‬
‫اهلل حاج ًة بعد موت �أبي �إال لأبي �إال بعد �سنة) [م�سائل �صالح بن الإمام �أحمد‬ ‫ألت َ‬ ‫اهلل بن الزبري‪( :‬ما �س� ُ‬
‫أعظم َع َم ٍل ُي َبذ ُل لهما‪ ،‬وهو �أف�ض ُل عند‬ ‫امليت بعد وفاته‪ ،‬و� ُ‬ ‫أجل َما َينتف ُع به ُ‬ ‫للوالدين ِمن � ِّ‬ ‫‪]293/2‬والدعا ُء َ‬

‫‪206‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء للوالدين‬

‫اهلل من ال�صَّ دقة واحلج عنهما؛ ويد ُّل لذلك ما روى ال�شيخان البخاري وم�سلم �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا مات‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ابن �آدم انقطع عمله �إال من ثالث وذكر منها‪ ..‬ولد �صالح يدعو له)‪.‬‬
‫النبي ‪ s‬ذكر يف هذا احلديث ال ُّدعا َء مبقام التحدث عن العمل فكان هذا‬ ‫ قال بع�ض �أهل العلم‪� :‬إن َّ‬
‫أف�ضل من �أداء ال ُعمرة واحلج‬ ‫أف�ضل من ال�صَّ دقة عنهما‪ ،‬و� ُ‬‫دلي ًال على �أن الدعا َء للوالدين بعد موتهما � ُ‬
‫النبي ‪ s‬ال ميكن �أن َي ِعدل عن الأف�ضل �إىل املف�ضول‪ ،‬بل ال ُب َّد �أن ُيبينّ َ‬
‫وقراء ِة القر�آن و�إهدائه لهما؛ لأن َّ‬
‫أف�ضل و ُيبينِّ جواز املف�ضول‪ ،‬وقد بينَّ يف هذا احلديث َما هو الأف�ضل وهو‬ ‫عليه ال�صَّ الة وال�سالم ما هو ال ُ‬
‫الدعا ُء لهما‪.‬‬
‫إ�سناد‬
‫ والآباء والأمهاتُ و�إن كانوا �صاحلني ف�إنهم ينتفعون بدعاء �أبنائهم لهم‪ ،‬وقد روى الإمام �أحم ُد ب� ٍ‬
‫رب �أ َّنى يل هذه ؟‬ ‫ال�صالح لترُ َف ُع له الدرجة يف اجلنة فيقول‪ :‬يا ِّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الرجل‬ ‫�صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن‬ ‫ٍ‬
‫ف ُيقال‪ :‬با�ستغفار َو ِلد َك لك)‪.‬‬

‫اهلل يف القر�آن �أن من‬ ‫اهلل عنهم‪ ،‬فذكر ُ‬ ‫هلل ور�س ِله الذي حكاه ُ‬ ‫ لقد كان الدعا ُء لل َوا ِل َدين ِمن دعاء �أنبيا ِء ا ِ‬
‫نوح و�إبراهيم عليهما ال�سالم‪َ } :‬ر ِّب ْاغ ِف ْر ليِ َو ِل َوا ِل َد َّي{‪ .‬ونب ُّينا حم َّم ٌد ‪ s‬ملَّا َر�أَى ذلك �أ�ست�أذن ر َّبه‬ ‫دعاء ٍ‬
‫}ما َكانَ ِلل َّن ِب ِّي َوا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا �أَن َي ْ�س َت ْغ ِف ُرو ْا‬ ‫ُ‬
‫يدع َو لوالديه‪ ،‬وي�ستغف َر لهما‪ ،‬فلم ي�أذن اهلل له و�أنزل �سبحانه‪َ :‬‬ ‫�أن ُ‬
‫اب الجْ َ ِح ِيم{‪.‬‬‫ِل ْل ُم�شْ ِر ِك َني َو َل ْو َكا ُنو ْا �أُوْليِ ُق ْر َبى ِمن َب ْع ِد َما َت َبينَّ َ َل ُه ْم �أَ َّن ُه ْم �أَ�صْ َح ُ‬

‫ عباد اهلل! وكما �أنّ ِمن عظيم الدعاء للميت الدعا َء له باملغفرة والرحمة والتجاوز‪ ،‬ف�إنَّ ِمن �أعظم‬
‫ال�سنة وقد كان �أبو هريرة ‪ِ d‬من �أب ِّر النا�س ب�أُ ِّمه وله يف‬
‫و�سلوك طريق ُّ‬ ‫ِ‬ ‫الدعا ِء للأحياء الدعا َء لهم بالهداية‬
‫أجل ِبره بها دعا�ؤه لها بالهداية ودعوتها للإ�سالم‪،‬‬ ‫�ص غريب ال يكاد فيها يجارى وال ُي َبا َرى‪ ،‬ومن � ِّ‬ ‫ذلك َق َ�ص ٌ‬
‫كنت �أدعو �أمي �إىل الإ�سالم وهي م�شركة فدعوتها يوم ًا ف�أ�سمعتني يف‬ ‫فروى م�سلم �أن �أبا هريرة ‪ d‬قال‪ُ :‬‬
‫اهلل �أن يهدي � َّأم �أبي‬ ‫فقلت‪ :‬يا ر�سول اهلل اد ُع َ‬
‫أتيت ر�سول اهلل ‪ s‬و�أنا �أبكي‪ُ ،‬‬ ‫ر�سول اهلل ‪ s‬ما �أكره‪ ،‬ف� ُ‬
‫هلل ر فلما‬ ‫نبي ا ِ‬‫فخرجت م�ستب�شر ًا بدعوة ِّ‬
‫ُ‬ ‫اهد �أم �أبي هُ ريرة)‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫هريرة‪ .‬فقال ر�سول اهلل ‪( :s‬اللهم ِ‬
‫و�سمعت‬
‫ُ‬ ‫ف�سم َع ْت ُ�أمي َخ�شْ َف قدمي‪ ،‬فقالت‪ :‬مكانك يا �أبا هرير َة‬ ‫جئت ف�صرتُ �إىل الباب ف�إذا هو جمافى َ‬ ‫ُ‬
‫وعجلت عن خمارها‪ ،‬ف َف َتح ْت الباب ثم قالت‪ :‬يا �أبا هريرة‬ ‫درعها ّ‬ ‫خ�ضخ�ضة املاء‪ ،‬قال‪ :‬فاغت ََ�س ْلت و َل َ‬
‫ب�س ْت َ‬
‫ر�سول اهلل ‪ s‬ف�أتيته و�أنا �أبكي من‬ ‫فرجعت �إىل ِ‬‫ُ‬ ‫�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممد ًا عبده ور�سوله‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فقلت‪ :‬يا ر�سول اهلل �أب�ش ْر قد ا�ستجاب اهلل دعوتك وهدى �أم �أبي هريرة‪ ،‬فحمد اهلل و�أثنى عليه وقال‬ ‫الفرح‪ُ ،‬‬
‫اهلل �أن يحببني و�أمي �إىل عبا ِده امل�ؤمنني ويحببهم �إلينا‪ ،‬فقال ر�سول‬ ‫قلت‪ :‬يا ر�سول اهلل ! اد ُع َ‬ ‫خري ًا‪ .‬قال ُ‬
‫بيدك هذا يعني �أبا هريرة و�أُ َّمه �إىل عبادك امل�ؤمنني وح ِّب ْب �إليهم امل�ؤمنني) قال �أبو‬ ‫اهلل ‪( :s‬اللهم ح ِّبب ُع َ‬
‫هريرة‪( :‬فما ُخلق م�ؤمنٌ َي�س َم ُع بي وال يراين �إال �أح َّبني)‪ .‬فر�ضي ُ‬
‫اهلل عنه و�أر�ضاه ورحمه و�أُ َّمه ف�إننا نح ُّبه‬
‫حممد ‪.s‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫م�صداق دعو ِة‬ ‫و�أ َّمه‬

‫عند اهلل ومغفر ًة ورفع ًة يف الدرجات يف الآخرة‪،‬‬


‫ عباد اهلل ! واالبنُ ينتف ُع كذلك بدعائه لوالديه مثوب ًة َ‬
‫و ُي َع َّج ُل له اخل ُري يف الدنيا قبل الآخرة جاء يف الأثر‪�( :‬إذا ترك العب ُد الدعا َء للوالدين ف�إنه ينقط ُع عن ِ‬
‫الولد‬

‫‪207‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء للوالدين‬

‫الرزق يف الدنيا) [رواه احلاكم والديلمي من حديث �أن�س]‪ ،‬فالدعاء للوالدين واال�ستغفا ُر لهما من الأ�سباب‬
‫ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�صح احلديث‪.‬‬
‫وتقديره �إن َّ‬
‫ِ‬ ‫اجلالبة للرزق ب�أمر اهلل تعاىل‬

‫ اللهم اغفر لوالدينا وارحمهما‪ ،‬وا�شفهما و�ألب�سهما ثوب العافية‪ ،‬واختم لهما باملغفرة‪ ،‬اللهم ال جتعل‬
‫لهما ذنب ًا �إال غفرته‪ ،‬وال ه ّما �إال فرجته‪ ،‬وال حاجة من حوائج الدنيا هي لك ر�ضا ولهما فيها �صالح �إال‬
‫ق�ضيتها ‪ ,‬اللهم وال جتعل لهما حاجة عند �أحد غريك‪ ،‬اللهم و �أقر �أعينهما مبا يتمنياه لنا يف الدنيا‪ ،‬اللهم‬
‫اجعل �أوقاتهما بذكرك معمورة‪ ،‬و�أ�سعدهما بتقواك‪ ،‬وارزقهما اجلنة وما يقربهما �إليها من قول �أو عمل‪،‬‬
‫وباعد بينهما وبني النار وبني ما يقربهما �إليها من قول �أو عمل‪.‬‬

‫ اللهم و�أعنا على برهما حتى ير�ضيا عنا فرت�ضى‪ ،‬و�أعنا على الإح�سان �إليهما يف كربهما‪ ،‬ور�ضهم‬
‫علينا‪ ،‬وال تتوافهما �إال وهما را�ضيان ع َّنا متام الر�ضى‪ ،‬و�أعنا على خدمتهما كما يبغي لهما علينا‪ ،‬واجعلنا‬
‫بارين طائعني لهما‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الدعاء وسالمة الصدر‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء وسالمة الصدر‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫منح وكنوز‪ .‬الدعا ُء �سال ٌح عند املُل ّمات‪ ،‬و�أُن�س يف اخللوات‪ ،‬ومناجا ٌة‬ ‫ فكم للدعاء من �أ�سرار‪ ،‬وفيه ِمن ٍ‬
‫غوث َمن ال غوث له‪ ،‬وملج�أُ َمن ُغ ِّل َقت دونه الأبواب‪ ،‬وطريقُ َمن ُ�س ّدت �أ ّم َامه الدروب‪،‬‬
‫لرب الربيات‪ .‬الدعا ُء ُ‬
‫َ‬
‫وخ َيا ُر َمن �أعجزته احليلة‪.‬‬

‫للدرجات‪� .‬إن املرء �إذا دعا ف�إمنا‬ ‫ِ‬ ‫مك�سب للأجر‪ ،‬راف ٌع‬ ‫ٌ‬ ‫مغي للقدر‪،‬‬ ‫ن�س للقلب‪ ،‬وتفري ٌج للهم‪ ،‬رّ ٌ‬ ‫ الدعا ُء �أُ ٌ‬
‫وكا�شف الغم‪ ،‬جميب امل�ضطرين‪ ،‬ومعطي ال�سائلني }�أَ َّمن ُي ِج ُ‬
‫يب المْ ُ�ضْ َط َّر ِ�إ َذا َد َعا ُه‬ ‫َ‬ ‫فارج الهم‪،‬‬ ‫اهلل‪َ ،‬‬ ‫يدعو َ‬
‫ال�سو َء َو َي ْج َع ُل ُك ْم ُخ َل َفاء الأَ ْر ِ�ضَ �أ ِ�إ َل ٌه َّم َع هَّ ِ‬
‫الل َق ِلي ًال َّما ت ََذ َّك ُرونَ {‪.‬‬ ‫َو َي ْك ِ�ش ُف ُّ‬

‫ عباد اهلل! �إن للدعاء �أ�سرار ًا عجيبة‪ ،‬ومنح ًا جليلة‪ ،‬وما ُ‬


‫قبول الدعاء و�إجاب ُة الرجاء ور ُّد ال�ش ِّر �إال‬
‫م�سلم يدعو بدعو ٍة لي�س فيها �أثم وال‬ ‫(ما ِمن ٍ‬ ‫�أحدها‪ .‬بالدعاء يعظم الأجر‪ ،‬و ُيغفر الذنب قال النبي ‪َ :s‬‬
‫تعجل له دعو ُته‪ ،‬و�إ َّما �أن َي ّدخرها له يف الآخرة‪ ،‬و�إ ّما �أن‬
‫قطيعة رحم �إال �أعطاه اهلل بها �إحدى ثالث‪� :‬إما �أن َّ‬
‫ال�سوء مث َلها‪ .‬قالوا‪� :‬إذا نكرث‪ .‬قال‪ :‬اهلل �أكرث)‪.‬‬
‫ي�صرف عنه من ُّ‬
‫خطبة جديدة‬

‫بعده �أُن�س قال بع�ض ال�سلف‪�( :‬إنه ليكون يل �إىل اهلل حاجة ف�أدعوه‬
‫ وبالدعاء ي�أن�س العب ُد مبواله �أُن�س ًا ما َ‬
‫فيفتح يل من لذيذ معرفته وحالوة مناجاته ما ال �أحب منه �أن يعجل ق�ضاء حاجتي �أن ين�صرف عني ذلك‬
‫لأن النف�س ال تريد �إال حظها)‪.‬‬

‫أل�ست ت�شتكي ملوالك وخال ِقك قال يعقوب ‪�}:a‬إِنمَّ َ ا �أَ�شْ ُكو َب ِّثي َو ُحزْنيِ‬‫الهم و َيرتَفع‪َ � ،‬‬
‫ وبالدعاء يزول ّ‬
‫الل َما َال َت ْع َل ُمونَ {‪.‬و�إين ذاك ٌر اليوم �سر ًا عجيب ًا من �أ�سرار الدعاء يغفل عنه الكثريون‪،‬‬ ‫الل َو�أَ ْع َل ُم ِمنَ هَّ ِ‬
‫�إِ ىَل هَّ ِ‬
‫نف�سه فدعا‪ ،‬ثم ت�أ ّمل يف �أثر دعائه بعدُ‪.‬‬
‫وال يعلم ب�أثره �إال َمن غالب َ‬

‫أرواح‬
‫وترحمت عليه ‪ ..‬وال ُ‬
‫َ‬ ‫عباد اهلل! �إن الدعا َء هدي ُة الأرواح‪� ،‬ألي�س �إذا مات امليت و�أردتَ �أن ُتهديه دعوتَ له‬
‫جمبول ٌة على حم ّب ِة َمن �أهدى �إليها‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء وسالمة الصدر‬

‫ نعم عبا َد اهلل! ف�إن َمن دعا لغ ِريه ف�إن اهلل يطرح يف قلبيهما (الداعي واملدعو له) حمب ًة و�أُلفة‪ ،‬ويقلب‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ُ‬
‫اهلل العداوة ر�أفة‪ ،‬ناهيك َعن ما يكون ب�إجابة الدعاء‪ .‬ف�إنه ال يدعو رج ٌل لأخ َر �إال وقد ط ّهر قل َبه من ِّ‬
‫الغل‬
‫عليه‪ ،‬واحل�سد‪ ،‬و�سوء الظن به‪ ،‬ف�إذا غالب املر ُء هواه وخالف ال�شيطان فدعا َملن �أ�ساء �إليه �أو خالفه بالهداية‬
‫واملغفر ِة والرحمة‪� ،‬أزال ُ‬
‫اهلل ما يف قل ِبه نح َوه؛ لأن العداوة �إمنا ُيذكيها ال�شيطان‪ ،‬والرحمة م�شتق ٌة من ا�سم‬
‫الرحمن‪.‬‬

‫ ويف املُقابل ف�إن املدع ّو له مع كرثة الإهدا ِء له بالدعاء يف ظهر الغيب متيل ُ‬
‫نف�سه َملن �أهداها والنفو�س‬
‫غل عليه‪ ،‬ولو فت�ش‬ ‫نف�سه ان�شراح ًا لآخ َر َ‬
‫وعدم ٍّ‬ ‫جمبولة على حمبة َمن �أح�سنَ �إليها‪ ،‬ف َك ْم ِمن امرءٍ يرى من ِ‬
‫لوجد �س ّرها هذا الدعاء‪.‬‬

‫۩ ۩فاملر ُء مع قرابته �إذا جنوا عليه‪� ،‬أو �أخط�أوا‪� ،‬أو ق�صروا‪� ،‬أو قطعوا‪ .‬ف�إن ال�شيطان يذكي العداوة بينهم‪،‬‬
‫املال وكرثة اخل ِري‬
‫و�صالح الذر ّي ِة ومنا ِء ِ‬
‫ِ‬ ‫ويزدها‪ ،‬وينفخ يف جذوتها‪ .‬ف�إذا دعا املر ُء لقرابته بالهداي ِة‬
‫وغري ذلك زال ما يف القلوب‪ ،‬ويف حديث حذيفة ‪ d‬عندما ا�شتكى له ِمن ذراب��ة ل�سانه على �أهله‬
‫أنت من اال�ستغفار؟)‪.‬‬‫وقرابته د ّله النبي ‪� s‬إىل الدعاء لهم وقال‪ ( :‬ف�أين � َ‬
‫۩ ۩وعالقة املر ِء مع ويل �أمره‪ ،‬رمبا �شابها ما ي�شوبها ِمن �سوء الظن‪ ،‬والتق�صري‪ ،‬واخلط�أ‪ .‬ف�إذا دعا املر ُء َ‬
‫اهلل‬
‫ب�صالح َمن واله ُ‬
‫اهلل الأمر‪ ،‬و� ّألح بالطلب يف ذلك كان ذلك �سبب ًا يف �إزالة ما يف النفو�س‪ ،‬وتطهريها‪ .‬لذا‬
‫جاء يف احلديث‪( :‬خري �أمرائكم الذين حتبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم و�شرار �آمرائكم‬
‫الذين تبغ�ضونهم ويبغ�ضونكم وتلعونهم ويلعنونكم)‪ .‬فال غرو بعد ذلك �أن نرى ال�صحاب َة ‪f‬يعنون‬
‫غاية العناية بالدعا ِء َملن واله اهلل الأمر والأمارة‪ ،‬فثبت عن �أبي مو�سى الأ�شعري ‪� d‬أنه كان �إذا خطب دعا‬
‫يف ختامها خللفاء امل�سلمني‪.‬‬

‫ وقال الف�ضيل بن عيا�ض‪( :‬لو كانت يل دعوة م�ستجابة مل �أجعلها �إال يف �إمام لأنه �إذا �صلح الإمام �أمن‬
‫وعدم تفرقها‪،‬‬
‫ال�سنة لأنهم يحبون احتا َد الكلم ِة َ‬ ‫البالد والعباد)‪ .‬لذا كان الدعا ُء لويل الأمر عالم ًة لأهل ّ‬
‫(من �سيما �أهل البدع‬
‫بهاري‪ِ :‬‬
‫ُّ‬ ‫يدعون للأُلفة ويكرهون الفرقة‪ ،‬يحبون الإ�صالح ويكرهون الف�ساد‪ ،‬قال البرَ‬
‫الدعاء على والة الأمور‪ ،‬ومن �سيما �أهل ال�سنة الدعاء لوالة الأمور)‪.‬‬

‫طائفي‪ ،‬ف�إن ِمن �أعظم ما ُيزي ُل‬


‫ٍّ‬ ‫ب�سبب‬
‫دنيوي على مال وغريه‪� ،‬أو ٍ‬ ‫ّ‬ ‫۩ ۩�إذا اخت َلف املر ُء مع غ ِريه ٍ‬
‫ب�سبب‬
‫العداوة الدنيو ّية النا�شئة الدعاء لهم بالهداي ِة‪ ،‬وال َّر�شاد‪ ،‬لذا ف�إن النبي ‪ s‬عندما جاءه الطفيل بن‬
‫َعمرو ‪ d‬ي�شتكي ظلم قبيلته دو�س وع�صيانها و�إبائها الدخول يف الإ�سالم‪ ،‬فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل اد ُع اهلل‬
‫النا�س �أنه �سيدعو عليهم وقالوا‪ :‬هلكت دو�س‪ .‬فما هو �إال �أن رفع يديه ‪ s‬وقال‪( :‬اللهم‬ ‫ُ‬ ‫عليها‪ .‬فظنَّ‬
‫اهد دو�سا و� ِأت بهم)‪ .‬ويف �صحيح البخاري �أي�ض ًا عن عبد اهلل بن م�سعود ‪ d‬قال‪( :‬ك�أين �أنظر �إىل‬
‫النبي ‪ s‬يحكي نبي ًا من الأنبياء �ضربه قومه ف�أدموه وهو مي�سح الدم عن وجهه ويقول اللهم اغفر‬
‫لقومي ف�إنهم ال يعلمون)‪.‬‬
‫‪210‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء وسالمة الصدر‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الدعاء‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ احلمد هلل امل�ستحمد �إىل خلقه بلطيف �صنعه‪ ،‬ال ِّرب بعباده‪ ،‬العاطف عليهم بف�ضله‪ ،‬موئل امل�ؤمنني‬
‫وموالهم‪ ،‬وكهف الآيبني به وملجئهم‪ ،‬الذي �أمر بالدعاء‪ ،‬وجعله و�سيل َة الرجاء‪ ،‬فكل من خلقه يفزع �إليه‪،‬‬
‫لطيف مل تخف عليه م�ضمرات القلوب‪ ،‬فيف�صح له عنها‬ ‫ويعول عند الكوارث واحلوادث عليه‪� ،‬سبحانه من ٍ‬
‫بنطق بيان‪ ،‬ومل ت�سترت دونه م�ضمنات الغيوب‪ .‬وال�صَّ الة وال�سالم على نبينا حممد �شاهد ال�صدق لدين‬
‫احلق‪ ،‬دليل العباد �إىل �سبيل الر�شاد‪ ،‬وعلى �آله الطيبني‪ ،‬و�أ�صحابه املنتخبني �أما بعد‪:‬‬

‫إمام �أحمد عن �أبي هريرة ‪d‬‬ ‫ فيقول اهلل عز وجل‪َ } :‬و َق َال َر ُّب ُك ُم ا ْد ُعونيِ �أَ ْ�ست َِج ْب َل ُك ْم {‪ ،‬و َر َوى ال ُ‬
‫(ما من م�ؤمن ين�صب وجهه هلل عز وجل‪ ،‬ي�س�أله م�س�ألة �إال �أعطاه �إياه �إما عجلها له‬ ‫�أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫يف الدنيا‪ ،‬و�إما ادخرها له يف الآخرة ما مل يعجل‪ ،‬قالوا‪ :‬وما عجلته ؟ قال‪ :‬يقول‪ :‬دعوت‪ ،‬دعوت‪ ،‬فال �أراه‬
‫ي�ستجاب يل)‪.‬‬

‫ فالدعاء هو �إظهار االفتقار هلل تعاىل‪ ،‬والترب�ؤ من احلول والقوة‪ ،‬وهو �سمة العبودية‪ ،‬وا�ست�شعا ُر الذلة‬
‫الب�شرية‪ ،‬وفيه معنى الثناء على اهلل‪ ،‬و�إ�ضافة اجلود والكرم �إليه؛ ولذلك قال النبي ‪( :s‬الدعاء هو‬
‫العبادة) �أي �أنه ُم َ‬
‫عظ ُم العبادة‪ ،‬و�أف�ض ُلها‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫ والدعاء واجب فبه يدفع اهلل البالء‪ ،‬ويرد الق�ضاء‪ ،‬وقد �صح �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال يرد الق�ضاء �إال‬
‫الدعاء)‪ .‬فكم من نبي وتقي �ضاقت به الكربه‪ ،‬وا�شتدت به الغمة فدعا اهلل وناداه‪ ،‬وابتهل �إليه وناجاه‪،‬‬
‫فا�ستجاب له ر ُّبه ف�أجناه‪ ،‬وجاءه الأمر من اهلل بالفرج‪.‬‬

‫ وروى ابن �أبي حامت يف التف�سري �أنه ملا �أرادوا �أن يلقوا �إبراهيم يف النار �ضجت عامة اخلليقة �إىل اهلل‬
‫فقالوا‪ :‬يا رب خليلك يلقى يف النار‪� ،‬إئذن لنا فلنطفئ عنه‪ ،‬فقال عز وجل‪� :‬إن ا�ستعان بكم ف�أعينوه و�إن‬
‫ا�ستغاث بكم ف�أغيثوه‪ ،‬و�إال فدعوه‪.‬‬

‫ وجاء ملك القطر فقال‪ :‬يا رب خليلك يلقى يف النار ف�أذن يل ف�أطفئ النار بقطرة واحدة‪ .‬فقال اهلل‪:‬‬
‫هو خليلي و�أنا �إلهه‪ ،‬لي�س له �إله غريي‪ ،‬ف�إن ا�ستغاث بك ف�أغثه‪ ،‬و�إال فدعه‪ .‬فلما �ألقي �إبراهيم يف النار قال‬
‫‪212‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء‬

‫اهلل تبارك وتعاىل‪} :‬يا نار كوين برد ًا و�سالم ًا على �إبراهيم{‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اب َل ُك ْم �أَنيِّ ممُ ِ ُّد ُكم ِب�أَ ْل ٍف ِّمنَ المْ َلآ ِئ َك ِة ُم ْر ِد ِفنيَ{‬‫ا�ست ََج َ‬‫ وجاء يف قول اهلل تعاىل }�إِ ْذ ت َْ�س َت ِغي ُثونَ َر َّب ُك ْم َف ْ‬
‫عن بكر بن عبد اهلل‪ :‬دعا زكريا ربه يف جوف الليل الأو�سط وهو �ساجد‪ ،‬فناداه‪ :‬يا رب يا رب يا رب‪ ،‬وقد‬
‫خنقته العربة‪ ،‬ودموعه حتدر‪ ،‬وقد نامت العيون‪ ،‬ومل ُيع ِلن البكاء‪ ،‬اختفاء بخلوته‪ ،‬فلما كرر النداء �أجابه‬
‫ربه‪� :‬سلني �أعطك‪ ،‬ف�س�أله‪ ،‬ف�أعطاه‪ ،‬فقال‪َ } :‬ق َال َر ِّب ِ�إنيِّ َو َهنَ ا ْل َع ْظ ُم ِم ِّني َوا�شْ َت َع َل الرَّ�أْ ُ�س َ�ش ْي ًبا َو مَْل �أَ ُكن‬
‫ا�س ُم ُه َي ْح َيى مَْل نجَْ َعل َّل ُه ِمن َق ْب ُل َ�س ِم ًّيا{‪.‬‬ ‫الم ْ‬ ‫ِبد َُعا ِئ َك َر ِّب َ�ش ِق ًّيا{‪ ،‬فقال اهلل له‪�} :‬إِ َّنا ُن َب ِّ�ش ُر َك ِب ُغ ٍ‬

‫ وهاهو عبد اهلل ور�سوله �أيوب ‪ a‬وقد ابتاله تعاىل من ال�ضر يف ج�سده وماله وولده حتى مل يبق من‬
‫ج�سده مغرز �إبرة �سليما �سوى قلبه ومل يبق له من الدنيا �شيء ي�ستعني به على مر�ضه‪ ،‬وهان على النا�س‬
‫فرتكوه جميعا‪� ،‬إال زوجتَه حفظت وده لإميانها باهلل تعاىل ور�سوله فكانت تخدم النا�س بالأجرة وتطعمه‬
‫وتخدمه نحوا من ثماين ع�شرة �سنة وقد كانت من قبل ذلك يف مال جزيل و�أوالد و�سعة طائلة يف الدنيا‬
‫ف�سلب جميع ذلك حتى �آل به احلال �إىل �أن �أُلقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه املدة بكمالها‪ ،‬ورف�ضه‬ ‫ُ‬
‫القريب والبعيد �سوى زوجته ر�ضي اهلل عنها ف�إنها كانت ال تفارقه �صباحا وم�ساء �إال ب�سبب املعي�شة‪..‬‬

‫ فلما طال املطال وا�شتد احلال وانتهى القدر ومت الأجل املقدر ت�ضرع �إىل رب العاملني و�إله املر�سلني‬
‫��وب �إِ ْذ َنا َدى َر َّب ُه َ�أنيِّ َم َّ�س ِن َي‬ ‫فقال �إين م�سني ال�ضر و�أنت �أرحم الراحمني قال تعاىل‪َ } :‬و ْاذ ُك�� ْر َع ْب َد َنا �أَ ُّي َ‬
‫��ذاب يف مايل وولدي فعند ذلك ا�ستجاب له �أرحم‬ ‫بن�ص ٍب يف بدين وع ٍ‬ ‫ال�شَّ ْي َطانُ ِب ُن�صْ ٍب َو َع َ��ذ ٍاب{ قال ُ‬
‫مقامه وان يرك�ض الأر�ض برجله ففعل ف�أنبع اهلل تعاىل عينا و�أمره �أن يغت�سل‬ ‫الراحمني و�أمره �أن يقوم من ِ‬
‫منها ف�أذهب جميع ما كان يف بدنه من الأذى ثم �أمره ف�ضرب الأر�ض يف مكان �آخرى ف�أنبع له عينا �أخرى‬
‫و�أمره �أن ي�شرب منها ف�أذهب جميع ما كان يف باطنه من ال�سوء وتكاملت العافية ظاهــرا وباطنا ولهـ ــذا‬
‫اب{ َو َو َه ْب َنا َل ُه َ�أ ْه َل ُه َو ِم ْث َل ُهم َّم َع ُه ْم َر ْح َم ًة ِّمن ـ ـ ـَّا‬
‫قال تبارك وتعــاىل } ا ْر ُك�ضْ ِب ِر ْج ِل َك َه َذا ُم ْغت ََ�س ٌل َبا ِر ٌد َو َ�ش َر ٌ‬
‫اب {‪.‬‬ ‫َو ِذ ْك َرى لأُوْليِ الأَ ْل َب ِ‬

‫ روى ابن جرير �أن�س بن مالك ‪ d‬قال �إن ر�سول اهلل ‪ s‬قال �إن نبي اهلل �أيوب ‪ a‬لبث به بال�ؤه‬
‫ثماين ع�شرة �سنة فرف�ضه القريب والبعيد �إال رجلني كانا من �أخ�ص اخوانه به كانا يغدوان �إليه ويروحان‬
‫فقال �أحدهما ل�صاحبه تعلم واهلل لقد �أذنب �أيوب ذنبا ما �أذنبه �أحد من العاملني قال له �صاحبه وما ذاك‬
‫قال منذ ثماين ع�شرة �سنة مل يرحمه اهلل تعاىل فيك�شف ما به فلما راحا �إليه مل ي�صرب الرجل حتى ذكر‬
‫ذلك له فقال �أيوب ‪ a‬ال �أدري ما �أن اهلل عز وجل يعلم �أين كنت �أمر على الرجلني يتنازعان فيذكران اهلل‬
‫تعاىل ف�أرجع �إىل بيتي ف�أكفر عنهما كراهية �أن يذكر اهلل تعاىل �إال يف حق‪ ،‬قال وكان يخرج �إىل حاجته ف�إذا‬
‫ق�ضاها �أم�سكت امر�أته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم �أبط�أ عليها ف�أوحى اهلل تبارك وتعاىل �إىل �أيوب‬
‫‪� a‬أن ارك�ض برجلك هذا مغت�سل بارد و�شراب فا�ستبط�أته فالتفتت تنظر ف�أقبل عليها قد �أذهب اهلل ما به‬
‫من البالء وهو على �أح�سن ما كان فلما ر�أته قالت �أي بارك اهلل فيك هل ر�أيت نبي اهلل هذا املبتلى فواهلل‬
‫القدير على ذلك ما ر�أيت رجال �أ�شبه به منك �إذ كان �صحيحا قال ف�إين �أنا هو قال وكان له �أندران �أندر‬

‫‪213‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدعاء‬

‫للقمح و�أندر لل�شعري فبعث اهلل تعاىل �سحابتني فلما كانت �إحداهما على �أندر القمح �أفرغت فيه الذهب حتى‬
‫فا�ض و�أفرغت الأخرى يف �أندر ال�شعري‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ا�ست ََج ْب َنا َل ُه َف َك َ�ش ْف َنا َما ِب ِه ِمن ُ�ض ٍّر‬ ‫نت �أَ ْر َح ُم ال َّر ِاح ِمني{ َف ْ‬ ‫ال�ض ُّر َو�أَ َ‬
‫وب ِ�إ ْذ َنا َدى َر َّب ُه �أَنيِّ َم َّ�س ِن َي ُّ‬ ‫ } َو�أَ ُّي َ‬
‫ي�س َو َذا ا ْل ِك ْف ِل ُك ٌّل ِّمنَ‬ ‫َو�آ َت ْي َنا ُه �أَ ْه َل ُه َو ِم ْث َل ُهم َّم َع ُه ْم َر ْح َم ًة ِّمنْ ِع ِند َنا َو ِذكْ�� َرى ِل ْل َعا ِب ِدينَ { َو�إِ ْ�س َم ِاع َيل َو ِ�إ ْد ِر َ‬
‫ا�ض ًبا َف َظنَّ �أَن َّلن َّن ْق ِد َر‬ ‫ال�صَّ ا ِب ِرينَ { َو�أَ ْد َخ ْل َناهُ ْم فيِ َر ْح َم ِت َنا ِ�إ َّن ُهم ِّمنَ ال�صَّ الحِ ِ ني{ َو َذا ال ُّن ِون ِ�إذ َّذ َه َب ُم َغ ِ‬
‫ا�ست ََج ْب َنا َل ُه َونجََّ ْي َنا ُه ِمنَ ا ْل َغ ِّم‬
‫الظالمِ ِ َني{ َف ْ‬‫نت ِمنَ َّ‬ ‫نت ُ�س ْب َحا َن َك ِ�إنيِّ ُك ُ‬ ‫ات �أَن الَّ ِ�إ َل َه ِ�إالَّ �أَ َ‬
‫الظ ُل َم ِ‬
‫َع َل ْي ِه َف َنا َدى فيِ ُّ‬
‫ا�ست ََج ْب َنا َل ُه َو َو َه ْب َنا‬
‫نت َخ رْ ُي ا ْل َوا ِر ِث َني{ َف ْ‬ ‫نجي المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني{ َو َز َك ِر َّيا �إِ ْذ َنا َدى َر َّب ُه َر ِّب ال ت ََذرْنيِ َف ْردًا َو�أَ َ‬‫َو َك َذ ِل َك ُن ِ‬
‫َل ُه َي ْح َيى َو�أَ�صْ َل ْح َنا َل ُه َز ْو َج ُه ِ�إ َّن ُه ْم َكا ُنوا ُي َ�سا ِر ُعونَ فيِ الخْ َ رْ َي ِات َو َي ْد ُعو َن َنا َر َغ ًبا َو َر َه ًبا َو َكا ُنوا َل َنا َخ ِا�ش ِعنيَ{‪.‬‬

‫ ملا كان يوم بدر نظر ر�سول اهلل ‪ s‬امل�شركني وهم �ألف و�أ�صحابه ثالثمائة وت�سعة ع�شر رج ًال‪ ،‬فا�ستقبل‬
‫النبي ‪ s‬القبلة ومد يديه فجعل يهتف بربه‪ :‬اللهم �أجنز يل ما وعدتني‪ ،‬اللهم �آتني ما وعدتني‪ ،‬اللهم �إن‬
‫تهلك هذه الع�صابة من �أهل الإ�سالم ال تعبد يف الأر�ض‪ ،‬فما زال يهتف بربه‪ ،‬ماد ًا يديه م�ستقبل القبلة‪ ،‬حتى‬
‫�سقط ردا�ؤه عن منكبيه‪ ،‬ف�أتاه �أبو بكر ف�أخذ رداءه‪ ،‬ف�ألقاه على منكبيه‪ ،‬ثم التزمه من ورائه‪ ،‬فقال‪ :‬يا نبي‬
‫اب َل ُك ْم َ�أنيِّ‬ ‫اهلل‪ ،‬كفاك منا�شدتك ربك ف�إنه �سينجز لك ما وعدك‪ ،‬ف�أنزل اهلل‪� } :‬إِ ْذ ت َْ�س َت ِغي ُثونَ َر َّب ُك ْم َف ْ‬
‫ا�ست ََج َ‬
‫ممُ ِ ُّد ُكم ِب�أَ ْل ٍف ِّمنَ المْ َلآ ِئ َك ِة ُم ْر ِد ِفنيَ{‪.‬‬

‫ وروى ابن ب�شكوال عن الليث بن �سعد قال‪ :‬بلغني �أن زيد بن حارثة اكرتى من رجل بغلة �إىل الطائف‪،‬‬
‫وا�شرتط عليه الكراء �أن ينزله حيث �شاء‪ ،‬فمر به‪ ،‬قال‪ :‬فمال بي �إىل خربة‪ ،‬فقال‪ :‬انزل‪ .‬فنزل‪ ،‬ف�إذا يف‬
‫�صل فقد �صلى قبلك هوالء‪ ،‬فلم‬
‫اخلربة قتلى كثرية‪ .‬قال‪ :‬فلما �أراد �أن يقتله‪ .‬قال‪ :‬دعني �أ�صلي ركعتني‪ .‬قال‪ِ :‬‬
‫تنفعهم �صالتهم �شيئ ًا‪ .‬قال‪ :‬فلما �صليت �أتاين ليقتلني‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬يا �أرحم الراحمني‪ .‬قال‪ :‬ف�سمع �صوت ًا‪:‬‬
‫ال تقتله‪ .‬قال‪ :‬فهاب ذلك ال�صوت‪ ،‬فخرج يطلب‪ ،‬فلم ير �شيئ ًا‪ ،‬فرجع �إيل‪ ،‬فناديت‪ :‬يا �أرحم الراحمني‪ ،‬فعل‬
‫ذلك ثالث ًا‪ .‬ف�إذا انا بفار�س يف يده حربة حديد يف ر�أ�سها �شعلة من نار‪ ،‬فطعنه بها‪ ،‬ف�أنفذه من ظهره‪ ،‬فوقع‬
‫ميت ًا‪.‬‬

‫ ثم قال يل‪ :‬ملا دعوت املرة الأوىل يا �أرحم الراحمني كنت يف ال�سماء ال�سابعة‪ ،‬فلما دعوت يف املرة‬
‫كنت يف ال�سماء الدنيا‪ ،‬فلما دعوت يف املرة الثالثة يا �أرحم الراحمني �أتيتك‪.‬‬
‫الثانية يا �أرحم الراحمني ُ‬

‫ت�أ َّمل فيك ما �صنع الدعاء‬ ‫ �أتهــز�أ بــالدعــاء و تـزدريـه ‬


‫لهــا �أمــد وللأمــد انق�ضا ُء‬ ‫�سهام الليل ال تخطي ولكن ‬ ‫ ‬
‫وير�سلــها �إذا نفـذ الق�ضا ُء‬ ‫فيم�سكها �إذا ما �شاء حكم ‬ ‫ ‬

‫ اللهم اجعلنا ممن ا�ستغاث بك ف�أغثته‪ ،‬ودعاك ف�أجبته‪ ،‬وت�ضرع �إليه فرحمته‪ ،‬وتوكل عليك فكفيته‪،‬‬
‫وا�ستع�صم بك فع�صمته‪ ،‬ووثق بك فحميته‪ ،‬وا�ستهداك فهديته‪ ،‬وانقطع �إليك ف�آويته‪ ،‬وا�ستن�صر بك‬
‫فن�صرته‪ ،‬وتاب �إليك فقبلت توبته‪ ،‬و�أناب �إليك فرحمت عربته‪ ،‬واجعلنا اللهم لنعمائك من ال�شاكرين‪،‬‬
‫وادخلنا يف رحمتك و�أنت �أرحم الراحمني‪.‬‬ ‫‪214‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫الدين‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدَّين‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إن اهلل تعاىل ملا ق�سم الأرزاق بني عباده جعلهم متفاوتني ومتباينني فقال يف حمكم التنزيل‪َ } :‬ن ْحنُ‬
‫َق َ�س ْم َنا َب ْي َن ُهم َّم ِع َ‬
‫ي�ش َت ُه ْم فيِ الحْ َ َيا ِة ال ُّد ْن َيا َو َر َف ْع َنا َب ْع َ�ض ُه ْم َف ْو َق َب ْع ٍ�ض َد َر َج ٍات{ فكان فيهم ُّ‬
‫الغني والفقري‪،‬‬
‫فالغني لي�شكر‪ ،‬والفقري لي�صرب ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وال�صحيح وال�سقيم‪ ،‬ليبتلي اهلل الغني والفقري مع ًا؛‬ ‫ُ‬ ‫واملكتفي واملحتاج‪،‬‬

‫ روى عبد اهلل بن �أحمد يف زوائد امل�سند (‪ )135/5‬عن �أ ُب ِّي بن كعب ‪ d‬يف قول اهلل عز وجل }و�إذ �أخذ‬
‫ربك من بني �آدم من ظهورهم ذريتهم و�أ�شهدهم على �أنف�سهم{‪ ،‬قال‪ :‬جمعهم فجعلهم �أرواح ًا‪ ،‬ثم �ص َّو َرهم‬
‫أل�ست بربكم‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى‪ ..،‬قال‪:‬‬‫فا�ستنطقهم فتكلموا ثم �أخذ عليهم العهد وامليثاق و�أ�شهدهم على �أنف�سهم � ُ‬
‫يت بني‬ ‫رب لوال �س َّو َ‬
‫نظ ُر �إليهم فر�أى الغنى والفقري‪ ،‬وح�سنَ ال�صورة ودون ذلك فقال‪ِّ :‬‬‫و ُرفع عليهم �آدم ُي ُ‬
‫أحببت �أن �أُ�شكر‪ .‬فاملفا�ضلة بني العبادة يف الأموال والأنف�س والأوالد ُيراد منه �شكر اهلل‬
‫عبادك‪ ،‬قال‪� :‬إين � ُ‬
‫قول اهلل تعاىل‪} :‬وجعلنا بع�ضكم لبع�ض‬ ‫وم�صد ُاق ذلك ُ‬
‫َ‬ ‫عز وج َّل ومعرفة نعمته‪ ،‬وااللتجاء �إليه عند ال�شدة‪.‬‬
‫فتنة �أت�صربون وكان ربك ب�صريا{‪.‬‬

‫ وملَّ��ا كان النا�س متفاوتني يف الأرزاق كان �أه��ل الزمن الأول يتوا�سون بينهم ويتعا�ضدون‪ ،‬فرتاهم‬
‫خطبة جديدة‬

‫بع�ضهم بع�ض ًا يف زا ِده وقوته و�إن َّ‬


‫�شح؛ ففي ال�صحيحني �أن النبي ‪s‬‬ ‫ي�شرتكون يف مالهم و�إن َق َّل‪ ،‬ويوا�سي ُ‬
‫طعام عيالهم باملدينة جمعوا ما كان عندهم يف ثوب واحد ثم‬ ‫قال‪�( :‬إن الأ�شعريني �إذا �أرملوا يف الغزو �أو ق َّل ُ‬
‫اقت�سموه بينهم يف �إناء واحد بال�سوية)‪ ،‬ثم قال ‪( :s‬فهم مني و�أنا منهم)‪.‬‬

‫امل�سلم �أخاه‪ ،‬فيك�شف �ضيقتَه ويق�ضي حاجته غ َري الزكاة والنفقة الواجبة‬
‫ُ‬ ‫ِومن الأمور التي يوا�سي بها‬ ‫ ‬
‫ثواب اهلل عز وجل ما عنده؛ وقد ورد يف الرتغيب‬ ‫َ‬
‫القر�ض احل�سن بدون زيادة وال ربا وال ربح‪ ،‬رجا َء ِ‬ ‫�إقرا�ضه‬
‫أن�س مرفوع ًا‪( :‬قر�ض ال�شيء خري من �صدقته)‪،‬‬ ‫يف ذلك ما روى البيهقي (ال�سنن ‪ )354/5‬ب�إ�سناد ح�سن عن � ٍ‬
‫وروى ابن ماجه وابن حبان و�صححه �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ما من م�سلم يقر�ض م�سلم ًا قر�ض ًا مرتني �إال كان‬
‫ك�صدقتها مرة)‪.‬‬
‫�صح النهي عن اال�ستدانة وثبت النقل عن امل�صطفى ‪s‬بالت�شديد فيها �إال يف �أ�ضيق احلاالت‬ ‫ ويف املقابل َّ‬
‫و�أحوجها؛ فروى الإمام �أحمد ب�إ�سناد ح�سن من حديث عقبة بن عامر اجلهني ‪� d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪:‬‬
‫‪215‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدَّين‬

‫(ال تخيفوا �أنف�سكم‪ ،‬فقيل‪ :‬يا ر�سول اهلل وما نخيف �أنف�سنا‪ ،‬قال‪ :‬ال َّدين)‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ وروى احلاكم (‪ )2212‬عن حممد بن جح�ش ‪ d‬قال‪ :‬كان ر�سول اهلل ‪ s‬قاعدا حيث تو�ضع اجلنائز‪،‬‬
‫فرفع ر� َأ�سه ِق َب َل ال�سماء ثم خف�ض ب�ص َره فو�ضع يده على جبهته‪ ،‬فقال �سبحان اهلل �سبحان اهلل ما �أنزل اهلل‬
‫فقلت يا ر�سول اهلل ما الت�شديد‬
‫ألت ر�سول اهلل ‪ُ s‬‬ ‫من الت�شديد‪ ،‬قال فعرفنا و�سكتنا حتى �إذا كان الغد �س� ُ‬
‫نف�س حممد بيده لو قتل رجل يف �سبيل اهلل ثم عا�ش وعليه دين ما دخل‬ ‫الذي نزل‪ ،‬قال‪( :‬يف ال َّدين والذي ُ‬
‫اجلنة حتى يق�ضي دينه هذا)‪.‬‬

‫ ويف �صحيح م�سلم عن �أبي قتادة ‪�d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قام فيهم فذكر لهم �أن اجلها َد يف �سبيل‬
‫أيت �إن ُق ُ‬
‫تلت يف �سبيل اهلل ُتك َّف ُر عني‬ ‫اهلل والإميانَ باهلل � ُ‬
‫أف�ضل الأعمال‪ ،‬فقام رجل فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل �أر� َ‬
‫قتلت يف �سبيل اهلل و�أن َ��ت �صابر حمت�سب مقب ٌل غري مدبر‪ ،‬ثم‬ ‫خطاياي فقال له ر�سول اهلل ‪ :s‬نعم �إن َ‬
‫�أعادها النبي ‪ s‬وقال‪� :‬إال ال َّدين ف�إن جربيل ‪ a‬قال يل ذلك‪.‬‬

‫ وعن �أبي مو�سى الأ�شعري ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن �أعظم الذنوب عند اهلل �أن يلقاه بها عب ٌد بعد‬
‫الكبائر التي نهى اهلل عنها �أن ميوت رجل وعليه دين ال يدع له ق�ضاء) [رواه ‪ ]..‬و َر َوى الرتمذي وغريه عن‬
‫�أبي هريرة �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬نف�س امل�ؤمن مع َّل َق ٌة َبدين ِه حتى ُيق�ضى عنه)‬

‫ لذا كان النبي ‪ s‬يكرث من اال�ستعاذة من ال َّدين وغلبته‪ ،‬روى البخاري عن �أن�س بن مالك ‪d‬قال‪:‬‬
‫كنت �أخدم ر�سول اهلل ‪ ،s‬فكنت �أ�سمعه كثريا يقول‪( :‬اللهم �إين �أعوذ بك من الهم واحلزن والعجز والك�سل‬
‫ُ‬
‫والبخل واجلنب و�ضلع الدين وغلبة الرجال)‪.‬‬

‫ وكان من دعاء النبي ‪ s‬عند النوم ما ثبت يف �صحيح م�سلم �أنه كان ي�أمر فاطم َة وجرير ًا و�أبا هريرة‬
‫وغريهم من ال�صحابة �أن يقولوا عند النوم‪( :‬اللهم رب ال�سماوات ورب الأر�ض ورب العر�ش العظيم ربنا‬
‫ورب كل �شيء فالق احلب والنوى ومنزل التوراة والإجنيل والفرقان �أعوذ بك من �شر كل �شيء �أنت �آخذ‬
‫بنا�صيته اللهم �أنت الأول فلي�س قبلك �شيء و�أنت الآخر فلي�س بعدك �شيء و�أنت الظاهر فلي�س فوقك �شيء‬
‫و�أنت الباطن فلي�س دونك �شيء اق�ض عنا الدين و�أغننا من الفقر)‪.‬‬

‫ وعن �أبي �سعيد اخلدري ‪ d‬قال دخل ر�سول اهلل‪ s‬ذات يوم امل�سجد ف�إذا هو برجل من الأن�صار‬
‫يقال له �أبو �أمامة فقال يا �أبا �أمامة ما يل �أراك جال�سا يف امل�سجد يف غري وقت ال�صالة قال هموم لزمتني‬
‫وديون يا ر�سول اهلل قال‪�( :‬أفال �أعلمك كالما �إذا �أنت قلته �أذهب اهلل عز وجل ه َّم َك وق�ضى عنك دينك)‪،‬‬
‫قال قلت بلى يا ر�سول اهلل‪ ،‬قال‪( :‬قل �إذا �أ�صبحت و�إذا �أم�سيت‪ :‬اللهم �إين �أعوذ بك من الهم واحلزن و�أعوذ‬
‫بك من العجز والك�سل و�أعوذ بك من اجلنب والبخل و�أعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)‪ ،‬قال ففعلت‬
‫ذلك‪ ،‬ف�أذهب اهلل عز وجل همي وق�ضى عني ديني‪.‬وقال ُعمر بن اخلطاب ‪�( :d‬إياكم وال ّدين ف�إن �أ ّوله ه ٌّم‬
‫و�آخره حرب)‪.‬‬
‫‪216‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الدَّين‬

‫ عبد اهلل! و�إن املرء ليعجب حينما ي�سمع هذا الهدي النبوي الكرمي والوحي الإالهي من خالق اخللق‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫والعال بحالهم ثم ينظر يف حال بع�ض النا�س ممن يت�سابق لالقرتا�ض من امل�صارف‬ ‫مَ ِ‬ ‫ور َّزا ِقهم ومد ِّبرهم‬
‫و�شركات التق�سيط والأف��راد ال ل�ضرورة ملحة وال حاجة مهمة‪ ،‬و�إمنا ليتكاثر بالتح�سينيات والكماليات‪،‬‬
‫�ستقر�ض لي�شرتي �سيار ًة فارهة‪� ،‬أو رِّ‬
‫ليغي �أثاث منز ِله‬ ‫ُ‬ ‫ف�أحدهم َي‬

‫ ويف ال�صحيحني عن �أ�سماء ‪� g‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬املت�شبع مبا مل َ‬


‫يعط كالب�س ثوبي زورا)‪ ،‬و�آخ ُر‬
‫�سبب ل�سعادته يف زواجه وقد روى الإمام �أحمد عن عائ�شة‬‫فل ُعر�س كبري‪ ،‬ظن ًا �أن هذا ٌ‬‫يقرت�ض ليقيم َح َ‬
‫‪� g‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬خريكن �أي�سركن م�ؤنة)‪ .‬وثالثٌ وراب ٌع يف ق�ص�ص و�أ�سباب متقاربة يجمعها التفاخر‬
‫والتبذير واملباهاة والإ�سراف‪.‬‬

‫ُث َّم بعد ذلك ت َرى املتد ِّين منهم يتتبع املفتني‪ ،‬و ُي َ�سائ ُل عن ُحكمها ع َّله �أن يجد َمن يجيزها له‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الربيع آداب السفر‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الربيع آداب السفر‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫اهلل ع َّز وجل‪َ } :‬و ِمنْ �آ َيا ِت ِه �أَ َّن َك َت َرى الأَ ْر َ�ض َخ ِا�ش َع ًة َف�إِ َذا �أَنزَ ْل َنا َع َل ْي َها المْ َاء ْاه َتز َّْت َو َر َب ْت �إِنَّ ا َّل ِذي‬ ‫فيقول ُ‬
‫�أَ ْح َي َاها لمَ ُ ْح ِيي المْ َ ْوتَى �إِ َّن ُه َع َلى ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َق ِدي ٌر{‬

‫اهلل بالتفكر يف الأر�ض‪� ،‬إذا ت� مَّ َأيت من القطر‪ ،‬و ُمنعت ال َغيث‪ ،‬ووجدت ل ُفقدا ِنه م�سَّ اجلدب؛‬ ‫ ف�أمر ُ‬
‫قحط ًة ال نباتَ عليها‪ ،‬مالزم ًة للخ�شوع وامل�سكنة‪ُ .‬مت ُّد ناظريك فيها‬ ‫ثياب امل�سكنة‪ُ ،‬م َ‬‫فت�صبح كاملح َّد ِة‪ ،‬الب�س ًة َ‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫ح�س ًا‪ ،‬وال ترى �أثر ًا‪ .‬ف�إذا ن�شر اهلل رحمتَه‪ ،‬و�أبدى �آثا َرها‪.‬‬
‫فال ترى �إال جبا ًال ُمقفرة‪ ،‬و�أترب ًة متناثرة‪ ،‬ال ت�سمع َّ‬

‫ا�صح ال�صَّ حاري‪ ،‬فتحركت به جوام ُد اجلالمد‪ ،‬فلب�س اجل ُّو َم ْط ِر َفه الأدكن‪،‬‬ ‫أر�سل ال َق ْطر على َ�ص َح ِ‬ ‫ ف� َ‬
‫أر�ض قد اكت�ست ُحلال‬ ‫وامتلأت الأودي ُة �أنهار ًا بعدما كانت معاب َر‪ ،‬ور� َ‬
‫أيت َم ِّي َت الزرع قد عا�ش بال َق ْطر‪ ،‬وال َ‬
‫أ�صوات ُك َّل َما َر َّق و َراق‪ ،‬و َكم يف التعا�شيب من تعاجيب‪،‬‬
‫يحا‪َ ،‬وتَ�س َم ُع ِمن ال ِ‬ ‫من الز َّْه ِر‪ ،‬ومل ْأت اجل َّو َعب َق ًا و ِر َ‬
‫أرواح‪ ،‬وتن ِّف�س عن النفو�س‪..‬‬ ‫ُتر ِّوح ال َ‬

‫ال�س َماء َك ْي َف‬ ‫قول اهلل ع َّز وجل‪ :‬هَّ ُ‬


‫}الل ا َّل ِذي ُي ْر ِ�س ُل ال ِّر َي َاح َف ُت ِث ُري َ�س َحا ًبا َف َي ْب ُ�س ُط ُه فيِ َّ‬ ‫ فحني ذاك تذ َّكر َ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫اب ِب ِه َمن َي َ�شاء ِمنْ ِع َبا ِد ِه ِ�إ َذا هُ ْم َي ْ�س َت ْب ِ�ش ُرونَ { َو ِ�إن‬ ‫َي َ�شاء َو َي ْج َع ُل ُه ِك َ�س ًفا َفترَ َى ا ْل َو ْد َق َي ْخ ُر ُج ِمنْ ِخال ِل ِه َف�إِ َذا �أَ َ�ص َ‬
‫انظ ْر ِ�إ ىَل �آ َثا ِر َر ْحم ِة هَّ ِ‬
‫الل َك ْي َف ُي ْح ِيي الأَ ْر َ�ض َب ْع َد َم ْو ِت َها ِ�إنَّ‬ ‫َكا ُنوا ِمن َق ْب ِل �أَن ُي َنز ََّل َع َل ْي ِهم ِّمن َق ْب ِل ِه لمَ ُ ْب ِل ِ�س َني{ َف ُ‬
‫َذ ِل َك لمَ ُ ْح ِيي المْ َ ْوتَى َوهُ َو َع َلى ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َق ِدي ٌر{‪.‬‬

‫وقت فرا ٍغ وقلة‬


‫واجتماعه يف ِ‬
‫ِ‬ ‫اهلل على النا�س بعموم الغيث واملطر‪،‬‬ ‫ عباد اهلل! يف هذه الأيام وقد َمنَّ ُ‬
‫إنعامه‪.‬‬
‫تطلب النزهة‪ ،‬ور�ؤية �آثا ِر رحمة اهلل وجو ِده و� ِ‬ ‫ُ�شغل‪ ..‬ف�إن َ‬
‫النف�س ُ‬
‫ ‬
‫جتم َو َع ّلله َ‬
‫ب�شيءٍ ِمن ا َمل َر ِح‬ ‫َّ‬ ‫ �أ ِف ْد َ‬
‫طبعك املكدو َد باجلدِّ راح ً ة‬

‫‪218‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الربيع آداب السفر‬

‫إ�سناد جيد‪ ،‬ورواه �أحمد عن �أبي هريرة موفوع ًا ب� ٍ‬


‫إ�سناد‬ ‫ وقد روى عبد الرزاق [‪ 434/11‬عن عمر ب� ٍ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�ضعيف] �أن عمر بن اخلطاب ‪ d‬قال‪َ :‬‬


‫(�سافروا ت�صحوا)‪.‬‬

‫�صح ًة وق َّوة‪ ،‬ف�إذا جمع معها املر ُء تف ُّكر ًا يف‬ ‫ وذاك َملا يف اال�ستجمام ِ‬
‫املباح ِمن راح ٍة للقلب والف�ؤاد‪ ،‬تزيدُه َّ‬
‫نعم اهلل وجو ِده و�إح�سا ِنه‪ .‬و�إ�ستنان ًا بالآداب النبوية وامتثا ًال للأوامر ال�شرعية كانت �سفر ُته طاع ًة‪ ،‬ونزهتُه‬
‫قرب ًة‪ ..‬وذلك ف�ضل اهلل ي�ؤته َمن ي�شاء‪.‬‬

‫ال�سنة العدي ُد من الآداب والأحكام َملن يبتغي �سفر ًا‪� ،‬أو َي ِ‬


‫ق�صد �سياح ًة‬ ‫ ‪ w‬عباد اهلل! لقد جاء يف ُّ‬
‫وترحا ًال ِ‬
‫فمن هذه الآداب والأوامر‪.‬‬

‫يحر�ص املر ُء على فعل الفرائ�ض ال�شرعية‪ ،‬و�أهمها ال�صال ُة يف وقتها فال َح�ضَّ يف الإ�سالم َملن �ض َّيع‬ ‫َ‬ ‫۩ ۩ �أن‬
‫مطل ٌع عليه‪ ،‬عا ٌمل �س َّره َوما �أك َّنه‪َ } :‬و َي ْع َل ُم َما‬ ‫َ‬
‫االنكفاف عن املح َّرمات وليعلم املر ُء �أن اهلل َّ‬ ‫ُ‬ ‫ال�صالة‪ .‬كذا‬
‫َ‬ ‫فيِ الْبرَ ِّ َوا ْل َب ْح ِر َو َما ت َْ�س ُق ُط ِمن َو َر َق ٍة �إِالَّ َي ْع َل ُم َها َو َال َح َّب ٍة فيِ ُظ ُل َم ِ‬
‫ات الأ ْر ِ�ض َو َال َر ْط ٍب َو َال َيا ِب ٍ�س �إِالَّ فيِ ِكت ٍ‬
‫َاب‬
‫ُّم ِب ٍني{ َوهُ َو ا َّل ِذي َي َت َو َّفا ُكم ِبال َّل ْي ِل َو َي ْع َل ُم َما َج َر ْحتُم ِبال َّن َها ِر{‪.‬‬

‫فر وعدم العزم عليه �إال بعد ِر�ضاهما‪ ،‬روى �أهل ال�سنن‬
‫ال�س ِ‬
‫۩ ۩ ِومن تلكم الآداب لزوم �أخذ �إذن الوالدين يف َّ‬
‫جئت �أبايعك على الهجرة وتركت‬ ‫عن عبد اهلل بن عمرو ‪� d‬أن رجل جاء �إىل ر�سول اهلل ‪ s‬فقال‪ُ :‬‬
‫�أبوي َيبكيان فقال‪( :‬ارجع �إليهما ف�أ�ضحكهما كما �أبكيتهما)‪ .‬وروى �أبو داود عن �أبي �سعيد اخلدري ‪d‬‬
‫�أن رج ًال هاجر �إىل ر�سول اهلل ‪ s‬من اليمن فقال‪ :‬هل لك �أح ٌد باليمن ؟ قال‪� :‬أبواي قال‪�( :‬أذنا لك؟)‬
‫قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪( :‬ارجع �إليهما فا�ست�أذنهما ف�إن �أذنا لك فجاهد و�إال فربهما)‪.‬‬

‫َّ‬
‫وا�ستقل عن والديه �أن هذا الأدب قد َ�س َق َط عنه ولي�س الزم ًا عليه‪ ،‬ولي�س‬ ‫ والبع�ض عبا َد َ‬
‫اهلل يظنُّ �أنه �إذا تز َّوج‬
‫ذلك كذلك‪ ،‬بل رمبا كان مت�أكد ًا هنا �أي�ض ًا مراعا ًة جلانب الوالدين وح ِّقهما‪.‬‬

‫ال�سفر للتنزه ونح ِوه �إن كان يف ذلك ت�ضييع ًا للأهل من زوجة وولد‪ .‬فقد روى الن�سائي‬ ‫ وكذا ال يجوز َّ‬
‫(‪ )9176‬عن عبد اهلل بن عمرو �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬كفى باملرء �إثم ًا �أن ُي َ�ض ِّي َع َمن يعول)‪.‬‬

‫ومما جاء يف هذا ما روى‬ ‫۩ ۩ ِومن الآداب �أنه ي�ستحب للمرء �أن يودِّع �أه َله ووالديه َوجريانه و�أ�صدقاءه‪ّ .‬‬
‫الرتمذي وح�سنه عن �سامل �أن عبد اهلل بن عمر ‪ d‬كان يقول للرجل �إذا �أراد �سفر ًا‪� :‬أدنُ مني �أودعك‬
‫كما كان ر�سول اهلل ‪ s‬يودعنا‪ ،‬فيقول‪( :‬ا�ستود ُع اهلل دينك و�أمانتك وخواتيم عملك)‪.‬‬

‫�ستحب ال ُبكور يف ال�سفر‪ .‬فعن �صخر العامري ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬اللهم بارك لأمتي‬ ‫۩ ۩ ومن ذلك �أنه ُي ُّ‬
‫يف بكورها وكان �إذا بعث جي�ش ًا �أو َ�سر َّية بعثهم يف �أول النهار وكان �صخر تاجرا فكان يبعث جتارته �أول‬

‫‪219‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الربيع آداب السفر‬

‫النهار ف�أثرى وكرث ماله) رواه �أبو داود والرتمذي وقال حديث ح�سن‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫۩ ۩ ِومن ذلك �أنه يلزم املُ َ‬
‫�سلم ال ُ‬
‫أخذ بو�سائل ال�سالم ِة‪ ,‬و�أ�سبابها املختلفة وقد جاء بخ�صو�ص ذلك �أم ٌر‬
‫الطريق يف ال�سفر خ�شي ًة من احلوادث؛ ففي �صحيح م�سلم عن‬ ‫متنوعة؛ منها النهي عن النوم على جال َّ‬
‫�أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا ع َّر�ستم فاجتنبوا الطريق ف�إنها طرق الدواب وم�أوى الهوام‬
‫بالليل)‪ .‬ويف رواية �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إياكم والتعري�س على جواد الطريق وال�صالة عليها ف�إنها م�أوى‬
‫احليات وال�سباع وق�ضاء احلاجة عليها ف�إنها من املالعن) [رواه ابن ماجه عن جابر‪ ،‬قال ابن عبد الرب‬
‫التمهيد ‪ :156/24‬هذا احلديث ي�ستند من وجوه كثرية وهي �أحاديث �شتى حمفوظة]‪.‬‬

‫النوم للجماعة جمتمعني‪ ،‬و ُكره تفرقهم‬


‫ُحب ُ‬ ‫۩ ۩كما جاء النهي عن النوم يف بطون الأودية وال�شعاب‪ ،‬وا�ست َّ‬
‫لغري حاجة؛ روى �أبو داود ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي ثعلبة اخل�شني ‪ d‬قال‪ :‬كان النا�س �إذا نزلوا منزال‬
‫تفرقوا يف ال�شعاب والأودية فقال ر�سول اهلل ‪�( :s‬إن تفرقكم يف هذه ال�شعاب والأودية �إمنا ذلكم من‬
‫ان�ضم بع�ضهم �إىل بع�ض حتى ُيقال لو ُب�سط عليهم ثوب لعمهم)‪.‬‬
‫ال�شيطان فلم ينزلوا بعد ذلك منزال �إال َّ‬

‫وحده وخ�صو�ص ًا يف الرباري؛ حلديث ابن‬


‫�سفره جماع ًة و�أن ال ي�سافر َ‬
‫۩ ۩ كما ُي�ستحب للمرء �أن ُيرافق يف ِ‬
‫عمر ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬لو �أن النا�س يعلمون من الوحدة ما �أعلم ما �سار ركب بليل وحده) رواه‬
‫البخاري‪.‬‬

‫۩ ۩ كذا ف�إن امل�ساف َر ال ين�سى ذكر اهلل والدعاء‪ ،‬فللخروج من املنزل دعا ٌء يدعو به‪ ،‬و�إذا �صعد ثن َّية �أو جب ًال‬
‫كبرَّ ‪ ،‬و�إذا هبط وادي ًا �س َّبح‪� ،‬أو جنَّ عليه الليل‪� ،‬أو نزل منز ًال دعا‪ ،‬وكذا �إذا قفل لأه ِله راجع ًا ذكر دعا ًء‬
‫ثابت عنه ‪.s‬‬ ‫و ُك ُّل ذلك ٌ‬

‫ُ‬
‫(ثالث‬ ‫ بل ُي�ستحب له �أن َيدعو يف �سفره يف كثري من الأوقات لأن دعوته جمابة؛ وقد جاء يف احلديث‪:‬‬
‫��وات ُم�ستجاباتٌ ال �شك فيهن دعوة املظلوم ودعوة امل�سافر ودعوة الوالد على الولد) [رواه �أبو داود‬
‫دع ٍ‬
‫والرتمذي وح�سنه عن �أبي هريرة ‪.]d‬‬

‫�سفره �أن يهديهم‪ ،‬و�أعظم الأهل حق ًا الوالدان؛ وقد ُروي‬


‫قدم على �أهله قاف ًال من ِ‬ ‫۩ ۩ ويح�سنُ با َملرء �إذا ِ‬
‫يف ال�أثر‪�( :‬إذا قدم �أحدكم من �سفره فل ُي ِ‬
‫هد �إىل �أه ِله ول ُيطر ْفهم ولو كانت حجارة )[رواه الدارقطني ‪ 300/2‬من‬
‫حديث عائ�شة مرفوع ًا وهو �ضعيف جد ًا]‪.‬‬

‫۩ ۩ ولتحذر املر�أة املُ�سلم ُة ِمن خمالفة �أمر النبي الكرمي ‪( :s‬ال يحل المر�أة ت�ؤمن باهلل واليوم الآخر‬
‫ت�سافر م�سرية يوم وليلة �إال مع ذي حمرم)[رواه ال�شيخان من حديث �أبي هريرة ‪]d‬‬

‫‪220‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الرشوة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الرشوة‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫أهل ال�سطوة‬ ‫ ف�إن اهلل عز وجل �إذا ت�أذن لقوم بالهالك‪ ،‬ولأمرهم بالدبور‪ ،‬وحلالهم بالذلة والهوان �أمر � َ‬
‫فف�سقوا وبغوا؛ وت�سلطوا على �ضعفائهم‪ ،‬ف�أخذوا الر�شوة‪ ،‬و�أكلوا ال�سحت؛ كما قال جل َّ وعال‪َ } :‬و�إِ َذا �أَ َر ْد َنا‬
‫ون ِمن‬ ‫�أَن ُّن ْه ِل َك َق ْر َي ًة �أَ َم ْر َنا ُم رْ َت ِفي َها َف َف َ�س ُقو ْا ِفي َها َف َحقَّ َع َل ْي َها ا ْل َق ْو ُل َف َد َّم ْر َن َاها ت َْد ِم ًريا{ َو َك ْم �أَ ْه َل ْك َنا ِمنَ ا ْل ُق ُر ِ‬
‫وب ِع َبا ِد ِه َخ ِب ًَريا َب ِ�ص ًريا{ َّمن َكانَ ُي ِري ُد ا ْل َع ِاج َل َة َع َّج ْل َنا َل ُه ِفي َها َما َن َ�شاء لمِ َن ُّن ِري ُد‬ ‫َب ْع ِد ُن ٍوح َو َك َفى ِب َر ِّب َك ِب ُذ ُن ِ‬
‫الها َم ْذ ُم ًوما َّم ْد ُحو ًرا{ َو َمنْ �أَ َرا َد ال ِآخ َر َة َو َ�س َعى َل َها َ�س ْع َي َها َوهُ َو ُم�ؤْ ِمنٌ َف ُ�أو َل ِئ َك َكانَ‬ ‫ُث َّم َج َع ْل َنا َل ُه َج َه َّن َم َي�صْ َ‬
‫َ�س ْع ُي ُهم َّم�شْ ُكو ًرا{ ُك ًّال نمُّ ِ ُّد َهـ�ؤُالء َو َهـ�ؤُالء ِمنْ َع َطاء َر ِّب َك َو َما َكانَ َع َطاء َر ِّب َك محَْ ُظو ًرا{‪.‬‬

‫ال�ضعيف‬
‫ِ‬ ‫وع ُل َّوا‪ ،‬وت�سلط ًا وبغيا‪ ،‬ف�أخذوا َ‬
‫مال‬ ‫ ف�إذا جترَّ�أ امل�سرفون ف�أكلوا �أموال النا�س بالباطل ظلما ُ‬
‫يح ُّل غ�ضب اهلل‪ ،‬وتنزل لعنتُه‬ ‫ومال الغافل بال�سرقة والنهب فعند ذلك ِ‬ ‫املحتاج بال ِّر�شوة‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫بالغ�صب‪َ ،‬‬
‫ومال‬
‫الل َمن َّل َع َن ُه هَّ ُ‬
‫الل َو َغ ِ�ض َب‬ ‫قال اهلل جل وعال يف �ش�أن بني �إ�سرائيل‪ُ } :‬ق ْل َه ْل �أُ َن ِّب ُئ ُكم ِب َ�ش ٍّر ِّمن َذ ِل َك َم ُثو َب ًة ِع َند هَّ ِ‬
‫ال�س ِب ِيل{‪ ،‬ثم �أبان‬ ‫الط ُاغوتَ �أُ ْو َلـ ِئ َك َ�ش ٌّر َّم َكان ًا َو�أَ َ�ض ُّل َعن َ�س َواء َّ‬ ‫َع َل ْي ِه َو َج َع َل ِم ْن ُه ُم ا ْل ِق َر َد َة َوالخْ َ َنازِي َر َو َع َب َد َّ‬
‫�سبحانه عن �سبب غ�ضبه‪ ،‬ولعنته فقال‪َ } :‬و َت َرى َك ِث ًريا ِّم ْن ُه ْم ُي َ�سا ِر ُعونَ فيِ ا ِلإ ْث ِم َوا ْل ُع ْد َو ِان َو َ�أ ْك ِل ِه ُم ُّ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ال�س ْح َت‬
‫َل ِب ْئ َ�س َما َكا ُنو ْا َي ْع َم ُلونَ {‪ ،‬و�أكل ال�سحت هو �أخذ الر�شوة‪ ،‬و�إمنا قيل للر�شوة ُ�سحت ًا ت�شبيها لها بالكلب اجلائع‬
‫الطعام‪ ،‬ثم عاتب ُ‬
‫اهلل‬ ‫�سحوت املعدة ِمن ال�شَّ ره �إىل َّ‬ ‫مال مثل َم ِ‬ ‫ك�أن املرت�شي من �شره ِه �إىل �أخذ َما ُيعطاه من ٍ‬
‫َ‬
‫أهل العلم والطاع ِة على َع َدم الإنكار عليهم ونهيهم عن املنكر فقال‪َ } :‬لو َْال َي ْنهَاهُ ُم ال َّر َّبا ِن ُّيونَ َوالأ ْح َبا ُر َعن‬ ‫� َ‬
‫ال�س ْح َت َل ِب ْئ َ�س َما َكا ُنو ْا َي�صْ َن ُعونَ {‪.‬‬ ‫َق ْو ِل ِه ُم الإِ ْث َم َو�أَ ْك ِل ِه ُم ُّ‬

‫حكم اهلل يف الأمم ال�سابقة واملل ِة الأوىل‪ ،‬وقد قال النبي ‪َ ( :s‬د َّب �إليكم دا ُء الأمم‬
‫ عباد اهلل! ذالكم ُ‬
‫قب َلكم)‪ .‬و�أ َّما يف �شريعتنا الغ َّرا‪ ،‬ودي ِننا الذي ارت�ضاه ُ‬
‫اهلل لنا‪ ،‬وبه خ�صَّ نا من دون الأمم‪ ،‬ف�إن �آكل ال ِّر َ�شا‬
‫ملعو ٌن على ل�سان ر�سول اهلل ‪ s‬روى �أهل ال�سنن ب�إ�سناد �صحيح عن عبد اهلل بن عمرو ‪�d‬أن النبي ‪s‬‬
‫قال‪( :‬لعن اهلل الرا�شي واملرت�شي)‪ .‬و�آكل ال ِّر ِ�شا حمكو ٌم عليه بدخول النار فروى الطرباين �أن النبي ‪s‬‬
‫قال‪(:‬الرا�شي واملرت�شي يف النار)‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الرشوة‬

‫ وروى ابن �أبي �شيبة وابن �سعد يف (الطبقات) �أن معاذ بن جبل ‪ d‬جاء من اليمن بعد وفاة النبي‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫‪ s‬فوافى ال�سنة التي حج فيها عمر بن اخلطاب وقد �أنابه �أبو بكر ‪ d‬على احلج فالتقيا يوم الرتوية مبنى‬
‫وعزَّى ُك ُّل واحد منهما �صاحبه بر�سول اهلل ‪ s‬ثم �أخلدا �إىل الأر�ض يتحدثان فر�أى عم ُر عند ٍ‬
‫معاذ‬ ‫فاعتنقا‪َ ،‬‬
‫غلمان ًا‪ ،‬فقال‪( :‬ما ه�ؤالء يا �أبا عبد الرحمن)‪ ،‬قال‪� :‬أ�صبتهم يف وجهي هذا ‪�-‬أي يف �سفرتي هذه‪ ،-‬قال عم ُر‪:‬‬
‫ِمن �أي وجه؟ قال‪ُ :‬اهدُوا �إيل و ُا ُ‬
‫كرمت بهم‪ ،‬فقال عم ُر‪ :‬اذك ْرهم لأبي بكر‪ ،‬فقال معاذ‪َ :‬ما ذكري هذا لأبي‬
‫بكر‪.‬‬

‫ فنام معا ٌذ فر�أى يف النوم ك�أنه على �شفري النار‪َ ،‬و ُعم ُر �آخذ بحجزته ِمن ورائه مينعه �أن يقع يف النار‪،‬‬
‫فقد َم معاذ فذكرهم لأبي بكر ف�س َّوغه �أبو بكر ذلك‪ ،‬ثم �أعتقهم‬ ‫ففزع معاذ فقال‪ :‬هذا ما �أمرين به عمر‪ِ .‬‬
‫معاذ‪.‬‬

‫�سبب لرمي املرت�شي يف النار على �صورة خبيثة‪ ،‬وهيئة م�ستقبحة‪ ،‬روى احلاكم‬ ‫ والر�شو ُة ‪-‬عباد اهلل‪ٌ -‬‬
‫فح َك َم بينهم مبا �أح ُّبوا �أو كرهوا ِجيء به‬
‫(من ويل على ع�شرة َ‬
‫عن ابن عبا�س ‪� d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫يوم القيامة مغلولة يداه �إىل عنقه‪ ،‬ف�إن حكم مبا �أنزل اهلل ومل يرت�ش يف حكمة ومل يحف فك اهلل عنه يوم‬
‫القيامة يوم ال غل �إال غله‪ ،‬و�إن حكم بغري ما �أنزل اهلل تعاىل وارت�شى يف حكمة وحابى ُ�ش َّدت ي�ساره �إىل ميينه‬
‫ورمي به يف جهنم فلم يبلغ قعرها خم�سمائة عام)‪.‬‬

‫ واملرت�شي ي� ِأت يوم القيامة حام ًال ما ارت�شاه على ظهره‪ ،‬ليزداد ه ُمه هم ًا‪ ،‬و�شد ُتـه �ضنكا‪ ،‬ف ُيف�ضح على‬
‫امللأ‪ ،‬ويهتك �سرتُه روى ال�شيخان عن �أبي حميد ال�ساعدي قال ا�ستعمل ر�سول اهلل ‪ s‬رجال من الأ�سد يقال‬
‫له بن اللتبية على �صدقات بني �سليم فلما جاء حا�سبه قال هذا لكم وهذا يل �أهدي يل قال فقام ر�سول اهلل‬
‫عامل �أبع ُث ُه فيقول‪ :‬هذا لكم وهذا �أُهدي يل‪� ،‬أفال قعد‬
‫(ما َب ُال ٍ‬
‫‪ s‬على املنرب فحمد اهلل و�أثنى عليه وقال‪َ :‬‬
‫نال �أح ٌد منكم منها �شيئ ًا‬
‫بيده ال َي ُ‬
‫حممد ِ‬
‫نف�س ٍ‬ ‫يف بيت �أبيه �أو يف بيت �أُ ِّمه حتى َينظر � َ‬
‫أيهدى �إليه �أم ال‪ ،‬والذي ُ‬
‫بغري حقه �إال جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعري له رغاء �أو بقرة لها خوار �أو �شاة تيعر ثم رفع يديه‬
‫حتى ر�أينا بيا�ض �إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت‪ ،‬اللهم هل بلغت‪ ،‬اللهم هل بلغت)‪ .‬ثالث ًا‪.‬‬

‫�سبب لغلب ِة العدو‪ ،‬والهزمي ِة واخلذالن‪ ،‬ونزول الرعب يف القلوب‪ ،‬والهوان عند‬‫ والر�شوة –عباد اهلل‪ٌ -‬‬
‫النا�س؛ فروى الإمام �أحمد عن عمرو بن العا�ص �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ما من قوم يظهر فيهم الربا �إال �أخذوا‬
‫بال�سنة‪ ،‬وما من قوم يظهر فيهم ال ِّر�شا �إال �أخذوا بالرعب)‪.‬‬
‫َّ‬

‫ لذا ملّا عرف ال�صاحلون خطورة الر�شوة هابوها واجتنبوها‪ ،‬وعلموا �ش�ؤمها عليهم‪ ،‬وعلى �أهلهم‪ ،‬بل‬
‫وعلى النا�س جميع ًا فرتكوا طريقها وما ُيق ِّر ُب لها‪ ،‬ف�أحدهم يرتك الوالية خ�شية الوقوع يف احلرام روى‬
‫الإمام �أحمد و�أبو داود عن عدي بن عمرية الكندي قال‪ :‬قال ر�سول اهلل ‪( :s‬يا �أيها النا�س من عمل منكم‬
‫لنا على عمل فكتمنا منه خميطا فما فوقه فهو غ ٌّل ي�أتي به يوم القيامة) قال فقام رجل من الأن�صار �أ�سو ُد‬

‫‪222‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الرشوة‬

‫ك�أين انظر �إليه وهو �سعد بن عبادة قال‪ :‬يا ر�سول اهلل �أقبل عني عملك فقال‪( :‬وما ذاك) قال‪� :‬سمعتك تقول‬
‫كذا وكذا‪ ،‬قال‪( :‬و�أنا �أقول ذلك الآن من ا�ستعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثريه فما �أوتي منه �أخذه وما‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫نهى عنه انتهى)‪.‬‬


‫ ‬
‫أمر ي�س ٍري خ�شي َة الوقع يف احلرام فيف�سد عليه دي ُنه ودنياه؛ قال‬
‫و�آخر �أبى �أن يدفع �أقل القليل من املال ل ٍ‬ ‫ ‬
‫�إبراهيم بن عثمان‪ :‬كنت مع عمر بن �أبي �سلمة ‪ d‬عند عبد العزيز بن مروان قال فك�أنه �أبط�أ يف الدخول‬
‫عليه فذكرت ذلك له فقال ما �أنكرتُ من �صاحبي �شيئا ولكن البواب �س�ألني �شيئا‪ .‬قال قلت‪ :‬ف�أعطه قال‪ :‬ما‬
‫بي ما �أعطيه ولكنه بلغني �أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال لعن اهلل الرا�شي واملرت�شي ف�أنا �أكره �أن �أعطيه �شيئا لذلك‪.‬‬

‫ وثالثٌ من �صحابة ر�سول اهلل ‪ s‬متنى املوت ملا ر�أى كرثة الر�شوة‪ ،‬وانت�شارها روى الإم��ام �أحمد‬
‫واحلاكم وغريهم عن ُعليم قال‪ :‬كنا جلو�س ًا على �سطح معنا رجل من �أ�صحاب النبي ٌ‬
‫عب�س الغفاري والنا�س‬
‫يخرجون يف الطاعون فقال عب�س‪ :‬يا طاعون خذين ثالث ًا يقولها‪ ،‬فقال له عليم‪ :‬مل تقول هذا �أمل يقل ر�سول‬
‫اهلل ‪( :s‬ال يتمنى �أحدكم املوت ف�إنه عند انقطاع عمله وال يرد في�ستعتب) فقال �إين �سمعت ر�سول اهلل ‪s‬‬
‫يقول‪( :‬بادروا باملوت �ستا �إمرة ال�سفهاء‪ ،‬وكرثة ال�شرط‪ ،‬وبيع احلكم‪ ،‬وا�ستخفافا بالدم‪ ،‬وقطيعة الرحم‪،‬‬
‫ون�شوا يتخذون القر�آن مزامري يقدمون الرجل يغنيهم و�إن كان �أقل منهم فقها)‪.‬‬

‫ و�آخ ُر ترك قبول الهدايا و�أخذ العطايا خوف ًا من الوقوع يف احلرام روى البخاري �أن عمر بن عبد العزيز‬
‫ملا ويل اخلالفة ال يقبل الهدايا ويقول‪( :‬كانت الهدية يف زمن النبي ‪ s‬هدية‪ ،‬واليوم ر�شوة)‪.‬‬

‫ بارك اهلل يل ولكم يف القر�آن العظيم ونفعنا مبا فيه من الآي��ات والذكر احلكيم �أقول ما ت�سمعون‬
‫و�أ�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�سلمني فا�ستغفروه �إنه هو الغفور الرحيم‬

‫ويفت يف ع�ضدها‪ ،‬فال قيام لأمة‪،‬‬


‫ومر�ض فتَّاك ينخر يف ج�سد الأمة‪ُّ ،‬‬‫ٌ‬ ‫ عباد اهلل! الر�شوة دا ٌء ع�ضال‪،‬‬
‫وال عزة‪ ،‬وال ن�صر وال متكني ودا ُء الر�شوة ينت�شر بني �أبنائها‪ ،‬وي�ست�شري يف �أو�ساطهم با�سم الهدية تارة‪،‬‬
‫وال ُع ُمو َلة تارة �أخرى‪ ،‬وغريها من امل�سميات‪.‬‬

‫رائ�ش ي�سعى للتو�سط‬


‫آخذ للر�شوة وظامل لنف�سه‪ِ ،‬ومن ٍ‬ ‫را�ش َي ُ‬
‫بذل املال ليتو�صل مل�أربه‪ِ ،‬ومن ُمرت�شي � ٍ‬ ‫فمن ٍ‬
‫ِ‬ ‫ ‬
‫بينهم‪ ،‬وكلهم يف الإثم �سواء وم�شرتكون يف اللعنة على ل�سان ر�سول اهلل ‪s‬ورابعهم ال�ساكت عن الإنكار‬
‫واملقر لهم بفعلهم فهو �شريكهم يف الإثم‪ ،‬ونظريهم يف العقوبة‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن اخليانة العظمى‪ ،‬واجلرمية ال ُّنكرى حينما ي�أخذ امل�س�ؤول ر�شوة �أو يطلب عطية لأداء عمله‬
‫الواجب عليه‪ ،‬والذي جعله اهلل م�ستخلف ًا فيه‪ ،‬وقد �أخذ الأجرة عليه‪ ،‬فقد ُر ِّوينا عن �أبو الأ�سود املالكي عن‬

‫‪223‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الرشوة‬

‫�أبيه عن جده قال قال ر�سول اهلل ‪�( :s‬إن من �أخون اخليانة جتارة الوايل يف رعيته) رواه ابن �أبي عا�صم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫والطرباين‪ .‬فهال قعد يف بيت �أبيه �أو �أمه ليهدى �إليه كما قال النبي ‪.s‬‬
‫ عباد اهلل! �إن انت�شار الر�شوة‪ ،‬و�إقرارها يف النا�س وعدم �إنكارها دليل على ف�ساد الزمان ودنوا ال�ساعة؛‬
‫جاء يف الأثر (�إذا دخلت الر�شوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة)‪.‬‬

‫ قال من�صور الفقيه‪:‬‬


‫ �إذا ر�شوة من باب بيت ت َّقح َمت‬
‫لــتدخــل فيه والأمــانة ف ـيــه‬ ‫ ‬
‫�سعت هــربا منــها وولــت ك�أنـها‬ ‫ ‬
‫حليم تنحى عن جوار �سفيه‬ ‫ ‬
‫ وقد ثبت يف ال�صحيح عن �أبي هريرة قال بينما النبي ‪ s‬يف جمل�س يحدث القوم جاءه �أعرابي فقال‪:‬‬
‫متى ال�ساعة؟ حتى �إذا ق�ضى حديثه قال‪� :‬أين �أُراه ال�سائل عن ال�ساعة قال‪ :‬ها �أنا يا ر�سول اهلل قال‪�( :‬إذا‬
‫ُ�ض ِّيعت الأمان ُة فانتظر ال�ساعة)‪ ،‬قال‪ :‬كيف �إ�ضاعتُها؟ قال‪�( :‬إذا و�سد الأمر �إىل غري �أهله فانتظر ال�ساعة)‪.‬‬

‫ وروى البخاري عن حذيفة‪ d‬قال حدثنا ر�سول اهلل ‪ s‬حديثني ر�أيت �أحدهما و�أنا �أنتظر الآخر‪�( :‬إن‬
‫الأمانة نزلت يف جذر قلوب الرجال ثم علموا من القر�آن ثم علموا من ال�سنة)‪ ،‬وحدثنا عن رفعها قال‪ :‬ينام‬
‫الرجل النوم َة فتقب�ض الأمانة من قلبه فيظل �أث ُرها مثل �أثر الوكت‪ ،‬ثم ينام النومة فتُقب�ض ف َيب َقى �أثرها‬
‫مثل املجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فرتاه منتربا ولي�س فيه �شيء‪ ،‬في�صبح النا�س يتبايعون فال يكاد‬ ‫ُ‬
‫�أحدهم ي�ؤدي الأمانة‪ ،‬فيقال‪� :‬إن يف بني فالن رجال �أمينا‪ ،‬و ُيقال للرجل‪ :‬ما �أعقله وما �أظرفه وما �أجلده وما‬
‫يف قلبه مثقال حبة خردل من �إميان)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫‪224‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الرشوة‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الرياح‬
‫الرياح‬

‫مقدمة الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬
‫ ف�إن هلل ع ّز وجل ُجند ًا ُي�سخرهم‪ ،‬ي�أمترون ب�أمره‪ ،‬وينتهون بنهيه‪ ،‬ملأوا ال�سموات والأر�ضني فال يح�صي‬
‫أمره‪ ،‬ورهنُ طلبه } َب ِدي ُع‬ ‫الل َع ِلي ًما َح ِكي ًما{‪ ،‬فهم طو ُع � ِ‬ ‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َو َكانَ هَّ ُ‬ ‫ع ّدهم �إال هو؛ }وَللِ هَّ ِ ُج ُنو ُد َّ‬
‫متناه َية؛ لأنَّ قدرته �سبحانه‬ ‫ول َل ُه ُكن َف َي ُكونُ {‪ ،‬فله جنو ٌد غ ُري ِ‬ ‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َو ِ�إ َذا َق َ�ضى َ �أ ْمر ًا َف ِ�إنمَّ َ ا َي ُق ُ‬
‫َّ‬
‫أر�ضه و�سمائه‪ ،‬وهوائه وما ِئه‪ ،‬و َب ّره وبحره‪ ،‬و�شم�سه وقمره‪،‬‬ ‫إن�سه وج ّنه‪ ،‬و� ِ‬ ‫وتعاىل غري منتهية‪ ،‬الكون كلُّه ب� ِ‬
‫أمره‪� ،‬سبحانه مي�سك‬ ‫وكل ما فيه من خملوقاته‪ ،‬ما ع ِلمنا منه وما مل نع َلم كلُّها َّ‬
‫م�سخر ٌة ب� ِ‬ ‫وجنومه‪ِّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وكواكبه‬
‫الل َف َما َل ُه ِمن ُّم ْك ِرم �إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َي ْف َع ُل َما َي َ�شاء{‪،‬‬ ‫ما ي�شاء ع ّمن ي�شاء‪ ،‬وير�سل َما ي�شاء �إىل َمن ي�شاء } َو َمن ُي ِه ِن هَّ ُ‬
‫ٍ‬
‫} ُي َع ِّذ ُب َمن َي َ�شاء َو َي ْر َح ُم َمن َي َ�شاء َو ِ�إ َل ْي ِه ُت ْق َل ُبونَ {‪} ،‬ال ُي�سْ�أَ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َوهُ ْم ُي�سْ�أَ ُلونَ {‪.‬‬

‫�سحاب ولقاح‬ ‫ٍ‬ ‫أمره ج َّل َو َعال هذه الرياح وما حتم ُله من‬ ‫ ومن ُج ِنده الطائع ِة له �سبحانه‪ ،‬امل�ؤمتر ِة ب� ِ‬
‫وتراب‪ ،‬ونعمة �أو عذاب‪ ،‬فهي ُت�ساق ب�أمره‪ ،‬وجتري بقدره } َو َما َي ْع َل ُم ُج ُنو َد َر ِّب َك �إِالَّ هُ َو{‪ ،‬ف�إن �شاء اهلل‬
‫ولقاحا لل�سحاب‪ ،‬فكانت مب�شرات بني يدي رحمته ونزول نعمته‪َ } ،‬و ِمنْ �آ َيا ِت ِه‬ ‫�صريَّ َها رحم ًة‪ ،‬فجعلها َر َخا ًء ً‬
‫�أَنْ ُي ْر ِ�س َل ال ِّر َي َاح ُم َب ِّ�ش َر ٍات َو ِل ُي ِذي َق ُك ْم ِمنْ َر ْح َم ِت ِه{‪ ،‬و�إذا �شاء اهلل جعل هذه الريح نقمة ونكاال‪ ،‬فكانت‬
‫�صر�صرا عا�صفا وعذابا عقيم ًا }وَفيِ َع ٍاد ِ�إ ْذ �أَ ْر َ�س ْل َنا َع َل ْي ِه ُم ال ِّر َيح ا ْل َع ِق َيم* َما ت ََذ ُر ِمنْ َ�ش ْيءٍ �أَت َْت َع َل ْي ِه ِ�إالَّ‬
‫َج َع َل ْت ُه َكال َّر ِم ِيم{‪.‬‬

‫ا�ص َف ِ‬
‫ات‬ ‫ عباد اهلل! لقد �أق�سم اهلل بالريح الطيبة‪ ،‬وريح العذاب فقال �سبحانه‪َ } :‬والمْ ُ ْر َ�س ِ‬
‫الت ُع ْر ًفا{ َفا ْل َع ِ‬
‫َع�صْ ًفا{ َوال َّن ِا�ش َر ِات َن�شْ ًرا{‪ ،‬وذلك ليعلم امل�ؤمن ما يف هذه الريح من نعمة‪ ،‬وما قد حتمله من بالء ونقمة‪،‬‬
‫فيتذكر ويعترب‪ ،‬ويرجع ويت�أمل‪.‬‬

‫ فالريح الطيبة ير�سلها اهلل �أحيان ًا ن�صر ًا للم�ؤمنني } َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ْاذ ُك ُروا ِن ْع َم َة هَّ ِ‬
‫الل َع َل ْي ُك ْم ِ�إ ْذ‬
‫الل بمِ َ ا َت ْع َم ُلونَ َب ِ�ص ًريا{‪ .‬وذلك يوم اخلندق‬ ‫يحا َو ُج ُنودًا مَّْل َت َر ْو َها َو َكانَ هَّ ُ‬
‫َجاء ْت ُك ْم ُج ُنو ٌد َف�أَ ْر َ�س ْل َنا َع َل ْي ِه ْم ِر ً‬
‫ال�ضر‪ ،‬وزلزلوا زلزاال �شديد ًا‪ ،‬وزاغت الأب�صار‪ ،‬وبلغت القلوب احلناجر‪ ،‬ف�أر�سل ُ‬
‫خطبة جديدة‬
‫اهلل على‬ ‫�إذ ا�شت ّد بالنا�س ُ‬
‫قري�ش ريح ًا عاتية قلعت خيامهم و�أطف�أت نارهم وكف�أت قدورهم‪ ،‬فارحتلوا بع ُد �صاغرين متفرقني‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫ ويف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪ُ ( :‬ن�صرتُ بال�صَّ با‪ ،‬و�أُ ْ‬


‫هلكت عا ٌد بال ّدبور) وال�صَّ با‪ :‬هي الريح‬
‫ال�شرقية‪ ،‬والدبور‪ :‬الريح الغربية‪.‬‬

‫الريح ل�سليمان ‪ a‬تخدمه وت�أمتر ب�أمره } َو ِل ُ�س َل ْي َمانَ ال ِّر َيح ُغ ُد ُّو َها َ�ش ْه ٌر َو َر َو ُاح َها َ�ش ْه ٌر‬
‫اهلل َ‬ ‫ وقد �سخر ُ‬
‫َو�أَ َ�س ْل َنا َل ُه َعينْ َ ا ْل ِق ْط ِر{‪.‬‬

‫وبالرياح ُي�ساق الغيث‪ ،‬وتل َّق ُح الزروع‪ ،‬وجتري الفلك يف البحر } َوهُ َو ا َّل ِذي ُي ْر ِ�س ُل ال ِّر َي َاح ُب�شْ ًرا َبينْ َ َي َد ْي‬ ‫ ‬

‫‪226‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الرياح‬

‫َر ْح َم ِت ِه َحتَّى ِ�إ َذا �أَ َق َّل ْت َ�س َحا ًبا ِث َقا ًال ُ�س ْق َنا ُه ِل َب َل ٍد َّم ِّي ٍت َف�أَنزَ ْل َنا ِب ِه المْ َاء َف�أَ ْخ َر ْج َنا ِب ِه ِمن ُك ِّل ال َّث َم َر ِات{‪ ،‬ويقول‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ال�س َماء َماء َف�أَ ْ�س َق ْي َنا ُك ُمو ُه َو َما َ�أنت ُْم َل ُه ِب َخا ِز ِننيَ{‪.‬‬ ‫�سبحانه‪َ } :‬و َ�أ ْر َ�س ْل َنا ال ِّر َي َاح َل َوا ِق َح َف�أَنزَ ْل َنا ِمنَ َّ‬

‫الم{ ِ�إن َي َ�ش�أْ ُي ْ�س ِك ِن ال ِّر َيح َف َي ْظ َل ْلنَ َر َو ِاك َد‬ ‫َ‬
‫ �إن �سكنت الريح فنقمة } َو ِمنْ �آ َيا ِت ِه الجْ َ َوا ِر فيِ ا ْل َب ْح ِر َكالأ ْع ِ‬
‫َع َلى َظ ْه ِر ِه ِ�إنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ٍات ِّل ُك ِّل َ�ص َّبا ٍر َ�ش ُكورٍ{‪.‬‬

‫ا�س َتكْبرَ ُ وا فيِ الأَ ْر ِ�ض ِب َغ رْ ِي‬ ‫ و�إن هاجت وماجت فعذاب وبلية‪ ،‬لقد �أهلك اهلل عاد ًا بالريح } َف�أَ َّما َعا ٌد َف ْ‬
‫الل ا َّل ِذي َخ َل َق ُه ْم هُ َو �أَ َ ُّ ِ ُ ْ َّ َ‬
‫�شد م ْنهم ُقو ًة و َكا ُنوا ب�آيات َنا يجحدُونَ {‬
‫ِ َ ِ َْ َ‬ ‫الحْ َ ِّق َو َقا ُلوا َمنْ �أَ َ�ش ُّد ِم َّنا ُق َّو ًة �أَ َو مَْل َي َر ْوا �أَنَّ هَّ َ‬
‫اب ال ِآخ َر ِة‬ ‫يحا َ�ص ْر َ�ص ًرا فيِ �أَ َّي ٍام َّن ِح َ�س ٍات ِّل ُن ِذي َق ُه ْم َع َذ َ‬
‫اب الخْ ِ زْ ِي فيِ الحْ َ َيا ِة ال ُّد ْن َيا َو َل َع َذ ُ‬ ‫َف�أَ ْر َ�س ْل َنا َع َل ْي ِه ْم ِر ً‬
‫ن�ص ُرونَ {‬ ‫�أَ ْخزَ ى َوهُ ْم ال ُي َ‬

‫يحا َ�ص ْر َ�ص ًرا فيِ َي ْو ِم َن ْح ٍ�س‬ ‫ وقال �سبحانه‪َ } :‬ك َّذ َب ْت َعا ٌد َف َك ْي َف َكانَ َع َذا ِبي َو ُن ُذ ِر{ �إِ َّنا �أَ ْر َ�س ْل َنا َع َل ْي ِه ْم ِر ً‬
‫ا�س َك�أَ َّن ُه ْم �أَ ْع َجا ُز َنخْ ٍل ُّمن َق ِع ٍر{ َف َك ْي َف َكانَ َع َذا ِبي َو ُن ُ��ذرِ{‪َ } ،‬و َ�أمَّ��ا َعا ٌد َف�أُ ْه ِل ُكوا ِب ِر ٍيح َ�ص ْر َ�ص ٍر‬ ‫ُّم ْ�ست َِم ٍّر{ت ِ‬
‫َنز ُع ال َّن َ‬
‫َعا ِت َي ٍة{ َ�س َّخ َرهَ ا َع َل ْيهِ ْم َ�س ْب َع َل َي ٍال َو َث َما ِن َي َة �أَ َّي ٍام ُح ُ�س ًوما َفترَ َى ا ْل َق ْو َم ِفي َها َ�ص ْر َعى َك�أَ َّن ُه ْم َ�أ ْع َجا ُز َنخْ ٍل َخا ِو َي ٍة{ َف َه ْل َت َرى َل ُهم‬
‫ِّمن َبا ِق َي ٍة{‬

‫اهلل عنهم قو َلهم عندما ر�أوا الريح قادم ًة �إليهم ومقبل ًة عليهم } َف َل َّما َر�أَ ْو ُه َعا ِر ً�ضا ُّم ْ�س َت ْق ِب َل‬ ‫ وقد حكى ُ‬
‫اب �أَ ِلي ٌم{ ُت َد ِّم ُر ُك َّل َ�ش ْيءٍ ِب َ�أ ْم ِر َر ِّب َها‬
‫ا�س َت ْع َج ْلتُم ِب ِه ِري ٌح ِفي َها َع َذ ٌ‬ ‫�أَ ْو ِد َي ِت ِه ْم َقا ُلوا َه َذا َعا ِر ٌ�ض ممُّْ ِط ُر َنا َب ْل هُ َو َما ْ‬
‫َف�أَ�صْ َب ُحوا ال ُي َرى �إِالَّ َم َ�س ِاك ُن ُه ْم َك َذ ِل َك نجَْ ِزي ا ْل َق ْو َم المْ ُ ْج ِر ِم َني{ َو َل َق ْد َم َّك َّناهُ ْم ِفي َما �إِن َّم َّك َّنا ُك ْم ِفي ِه َو َج َع ْل َنا‬
‫َل ُه ْم َ�س ْم ًعا َو َ�أ ْب َ�صا ًرا َو�أَ ْف ِئ َد ًة َف َما �أَ ْغ َنى َع ْن ُه ْم َ�س ْم ُع ُه ْم َوال �أَ ْب َ�صا ُرهُ ْم َوال َ�أ ْف ِئ َد ُت ُهم ِّمن َ�ش ْيءٍ �إِ ْذ َكا ُنوا َي ْج َحدُونَ‬
‫ات َل َع َّل ُه ْم‬ ‫الل َو َح َاق ِب ِهم َّما َكا ُنوا ِب ِه َي ْ�س َت ْه ِز�ؤُون{ َو َل َق ْد �أَ ْه َل ْك َنا َما َح ْو َل ُكم ِّمنَ ا ْل ُق َرى َو َ�ص َّر ْف َنا الآ َي ِ‬ ‫ات هَّ ِ‬ ‫ِب�آ َي ِ‬
‫َي ْر ِج ُعونَ {‪.‬‬

‫ لقد كان النبي ‪� s‬إذا ر�أى ريح ًا خاف‪ ،‬وتذكر �ش�أنها‪ ،‬ومن ُعذب بها روى م�سلم عن عائ�شة ‪ g‬قالت‪:‬‬
‫فعرفت‬
‫ْ‬ ‫تغي لونه‪ ،‬ودخل وخرج‪ ،‬و�أقبل و�أدبر‪ ،‬ف�إذا �أَمطرت ُ�س ِّر َي عنه‪،‬‬ ‫كان النبي ‪� s‬إذا ت ََخ َّي َل ِت ال�سماء رّ‬
‫ذلك عائ�شة ‪ g‬ف�س�ألته‪ ،‬فقال ر�سول اهلل ‪( :s‬لعله ـ يا عائ�شة ـ كما قال قوم عاد‪َ } :‬ف َل َّما َر�أَ ْو ُه َعا ِر ً�ضا‬
‫ُم ْ�س َت ْق ِب َل �أَ ْو ِد َي ِت ِه ْم َقا ُلوا َه َذا َعا ِر ٌ�ض ممُْ ِط ُر َنا{)‪.‬‬

‫ �إن امل�ؤمن �إذا ع�صفت الريح‪ ،‬وه َّبت بغربتها و�سمومها؛ تذ َّكر عذاب من ُعذب من الأوائل بها‪ ،‬فلم‬
‫جماعات وفردان ًا‪ .‬ولي�س العذاب بالريح خا�ص ًا‬ ‫ٍ‬ ‫ي�أمن �أن ُي�ص ّبح �أو مُي ّ�سى‪ ،‬وكم �أُهلك من النا�س بالرياح‬
‫نفو�س‪ ،‬و�أتلفت من زروع‪ ،‬و�أبادت من �أموال؛ }�أَ َف�أَ ِمنَ �أَ ْه ُل ا ْل ُق َرى‬ ‫باجلماعة‪ ،‬و�إمنا بالأفراد فكم �أهلكت من ٍ‬
‫�أَن َي ْ�أ ِت َي ُه ْم َب�أْ ُ�س َنا َب َيات ًا َوهُ ْم َن�آ ِئ ُمونَ { �أَ َو �أَ ِمنَ �أَ ْه ُل ا ْل ُق َرى �أَن َي�أْ ِت َي ُه ْم َب ْ�أ ُ�س َنا ُ�ض ًحى َوهُ ْم َي ْل َع ُبونَ { �أَ َف�أَ ِم ُنو ْا َم ْك َر‬
‫الل َف َال َي�أْ َمنُ َم ْك َر هَّ ِ‬
‫الل ِ�إالَّ ا ْل َق ْو ُم الخْ َ ِا�س ُرونَ {‪.‬‬ ‫هَّ ِ‬

‫‪227‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الرياح‬

‫فما هي �إال حلظات‪ ،‬فينك�شف ال َق َدر‪ ،‬ويظهر املخبوء‪ ،‬بتقدير اهلل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ول�ست ت�أمن عند ال�صحو فـاجئ ًة * من العوا�صف فيها اخلوف والهلع‬ ‫ ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ لقد تهدد اهلل عبا َده بالريح وخ ّوفهم بها فقال �سبحانه‪� } :‬أ ْم �أ ِمنت ُْم �أن ُي ِع َيد ُك ْم ِفي ِه تَا َر ًة �أ ْخ َرى َف رُْي ِ�س َل‬ ‫ُ‬
‫َع َل ْي ُك ْم َق ِا�صفا ِّمنَ ال ِّر ِيح َف ُيغ ِْر َق ُكم بمِ َ ا َك َفرْتمُْ ُث َّم َال تجَ ِ دُو ْا َل ُك ْم َع َل ْي َنا ِب ِه َت ِبي ًعا{‪.‬‬

‫هلل على تبديل الأحوال من حال �إىل حال‪،‬‬ ‫ �إن امل�ؤمن عباد اهلل! ليتذكر بتقلب اجلو‪ ،‬وتغري حا ِله ُقدر َة ا ِ‬
‫فما هي �إال ملحة بالب�صر فينقلب ال�صفو كدر ًا‪ ،‬وال�صحو غربا‪ .‬وكذا تقوم ال�ساعة ف�إنها تقوم فج�أة‪ ،‬فتبغت‬
‫النا�س‪ ،‬وت�أتيهم على غ ّرة } َب ْل َت�أْ ِت ِيهم َب ْغ َت ًة َف َت ْب َه ُت ُه ْم َفال َي ْ�ست َِطي ُعونَ َر َّد َها َوال هُ ْم ُي َ‬
‫نظ ُرونَ {‪.‬‬

‫أقوام ر�أوا يف �أنف�سهم عظم ًة وا�ستكبار ًا‪،‬‬


‫ عباد اهلل! لقد �أراد اهلل �أن يحثو بهذه الريح الرتاب يف وجوه � ٍ‬
‫فا�ستحقروا النا�س وغمطوهم ح ّقهم‪ ،‬وك�أنهم خلقوا من غري طينتهم‪� ،‬أو �أنهم �سيدفنون يف غري تربهم‪،‬‬
‫الرتاب يف وجوههم يف الدنيا ليعتربوا ويتذكروا حا َلهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ف�أ�س َّفهم‬

‫جعل اهلل هذا الغبار قذ ًا يف عيونهم‪ ،‬و�شج ًا يف حلوقهم‪ ،‬وح�شوجة يف �صدورهم ليعلموا ُقدرة اهلل عليهم‪،‬‬
‫وهوان َخ ْلقهم‪ ،‬و�ضعف بنيتهم‪ ،‬وقد ت�أذن اهلل �أنّ من تكبرّ وتغطر�س وجتبرّ فله الهوان يف الدنيا والآخرة‪.‬‬
‫ } هَّ ُ‬
‫الل ا َّل ِذي ُي ْر ِ�س ُل ال ِّر َي َاح َف ُت ِث ُري َ�س َحا ًبا َف َي ْب ُ�س ُط ُه فيِ َّ‬
‫ال�س َماء َك ْي َف َي َ�شاء َو َي ْج َع ُل ُه ِك َ�س ًفا َفترَ َى ا ْل َو ْد َق َي ْخ ُر ُج‬
‫اب ِب ِه َمن َي َ�شاء ِمنْ ِع َبا ِد ِه �إِ َذا هُ ْم َي ْ�س َت ْب ِ�ش ُرونَ { َو�إِن َكا ُنوا ِمن َق ْب ِل �أَن ُي َنز ََّل َع َل ْي ِهم ِّمن‬ ‫ِمنْ ِخال ِل ِه َف�إِ َذا �أَ َ�ص َ‬
‫انظ ْر ِ�إ ىَل �آ َثا ِر َر ْحم ِة هَّ ِ‬
‫الل َك ْي َف ُي ْح ِيي الأَ ْر َ�ض َب ْع َد َم ْو ِت َها ِ�إنَّ َذ ِل َك لمَ ُ ْح ِيي المْ َ ْوتَى َوهُ َو َع َلى ُك ِّل‬ ‫َق ْب ِل ِه لمَ ُ ْب ِل ِ�سني{ َف ُ‬
‫َ�ش ْيءٍ َق ِدي ٌر{‬

‫ عباد اهلل ! �إن الواجب على امل�سلم �إذا ر�أى ريح ًا �أن يهتدي بهدي النبي ‪ ،s‬فيت�أمل يف حاله �أو ًال‪،‬‬
‫ويرجع وينيب‪ ،‬ويتذكر حال املعذبني من الأوائل بها‪ ،‬وما �سيكون عليه ال�ش�أن يف �آخر الزمان‪ .‬وما �أكرث العرب‬
‫يحا َف َر�أَ ْو ُه ُم�صْ َف ًّرا َّل َظلُّوا ِمن َب ْع ِد ِه َي ْك ُف ُرونَ {‬
‫وما �أقل االعتبار؛ } َو َلئِنْ �أَ ْر َ�س ْل َنا ِر ً‬

‫ كما ُي�سن للم�سلم �أن يدعو مبا ورد عند هبوبها؛ فقد روى م�سلم يف �صحيحه عن عائ�شة ‪ g‬قالت‪ :‬كان‬
‫ر�سول اهلل ‪� s‬إذا َع َ�ص ِفت الريح قال‪( :‬اللهم �إين �أ�س�ألك خريها وخري ما فيها وخري ما �أُ ِ‬
‫ر�سلت به‪ ،‬و�أعوذ‬
‫بك من �شرها و�ش ّر ما فيها و�شر ما �أُ ِ‬
‫ر�سلت به)‪.‬‬

‫ كما ال يجوز �سب الريح وال لع ُنها‪ ،‬روى الإمام �أحمد ب�سند ح�سن �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال ت�سبوا الريح‪،‬‬
‫ف�إنها ت�أتي بالرحمة والعذاب‪ ،‬ولكن �سلوا اهلل خريها وتعوذوا من �شرها)‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الزالزل والفيضانات‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الزالزل والفيضانات‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫خللقَ لطاعته‪ ،‬ف�إن امتثلوا �أم َره‪ ،‬ولزموا �شرعه فقد اهتدوا‪،‬‬ ‫ف�إن اهلل تعاىل قد َخ َلقَ العبا َد لعباد ِته‪ ،‬و� َ‬
‫أوجد ا َ‬
‫آيات تذكري ًا‪ ،‬وتخوفيا }‬ ‫ر�سل اهلل ال ِ‬ ‫و�إن �أ�ضاعوا ال�سبيل‪ ،‬و�سلكوا ُبن َّيات الطريق فقد هلكوا‪ .‬فحني ذاك ُي ُ‬
‫ات �إِ اَّل ت َْخ ِوي ًفا{‪ ،‬ليعترب املعتربون‪ ،‬ويرجع املنيبون قال �سبحانه‪َ } :‬و َل َق ْد �أَ ْه َل ْك َنا َما َح ْو َل ُك ْم ِمنَ‬ ‫َو َما ُن ْر ِ�س ُل ِب ْالآ َي ِ‬
‫ات َل َع َّل ُه ْم َي ْر ِج ُعونَ {‪.‬‬ ‫ا ْل ُق َرى َو َ�ص َّر ْف َنا ْ آ‬
‫ال َي ِ‬

‫وفان وال َغ َر ِق‪،‬‬‫الط ِ‬ ‫إر�سال ُّ‬‫جل وعال التي ير�س ُلها على َخل ِق ِه تخويف ًا لهم‪ ،‬وتذكري ًا َو ِعرب ًة‪ُ � ،‬‬ ‫ ومن �آياته َّ‬
‫الطو َفانَ َوالجْ َ َرا َد َوا ْل ُق َّم َل َوال�ضَّ َفا ِد َع‬ ‫الزالزل والرباكني؛ قال تعاىل عن قوم فرعون‪َ } :‬ف�أَ ْر َ�س ْل َنا َع َل ْي ِه ُم ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َوكرث ُة‬
‫بالغرق وال ِّريح فقال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ا�س َتكْبرَ ُ وا َو َكا ُنوا َق ْو ًما مجُْ ِر ِمنيَ{‪ ،‬وخ َّوف �سبحانه من التعذيب‬ ‫َوال َّد َم �آ َي ٍات ُم َف�صَّلاَ ٍت َف ْ‬
‫ا�صفا ِّمنَ ال ِّر ِيح َف ُي ْغ ِر َق ُكم بمِ َ ا َك َفرْتمُْ ُث َّم َال تجَ ِ دُو ْا َل ُك ْم‬ ‫}�أَ ْم �أَ ِمنت ُْم َ�أن ُي ِع َيد ُك ْم ِفي ِه تَا َر ًة �أُ ْخ َرى َف رُْي ِ�س َل َع َل ْي ُك ْم َق ِ‬
‫َع َل ْي َنا ِب ِه َت ِبي ًعا{‪.‬‬

‫ؤمن معها �أربع وقفات‪:‬‬ ‫َ‬


‫وزالزل مروع ٍة‪ ..‬للم� ِ‬ ‫وفي�ضانات ُم ِغرق ٍة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫صري ُم َد ّمرة‪،‬‬
‫وهذه الآيات من �إعا� َ‬ ‫‪w‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫‪�1 .1‬أحدها‪� :‬أن هذه الكوارث الطبيعية والآفات ال�سماوية بتقدير العزيز العليم؛ } َو َخ َلقَ ُك َّل َ�ش ْيءٍ َف َق َّد َر ُه‬
‫ول َل ُه ُكنْ‬ ‫بعلمه }�إِنمَّ َ ا �أَ ْم ُر ُه �إِ َذا �أَ َرا َد َ�ش ْي ًئا �أَنْ َي ُق َ‬
‫َت ْق ِدي ًرا{‪ ،‬فالكون ي�سري ب�أمره‪ ،‬وال يقع فيه �شي ٌء �إال ِ‬
‫بح�ساب‬
‫ٍ‬ ‫َف َي ُكونُ { َف ُ�س ْب َحانَ ا َّل ِذي ِب َي ِد ِه َم َل ُكوتُ ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َو ِ�إ َل ْي ِه ُت ْر َج ُعونَ {‪ .‬وهذه الآيات واحلوادث جتري‬
‫مق ّد ٍر دقيق؛ }�إِ َّنا ُك َّل َ�ش ْيءٍ َخ َل ْق َنا ُه ِب َق َد ٍر{ َو َما �أَ ْم ُر َنا �إِالَّ َو ِاح َد ٌة َك َل ْم ٍح ِبا ْل َب َ�ص ِر{‪.‬‬
‫ؤمن املتع َّقل ‪َ ،‬و ِع َ�ض ًة للمتَّقي املتف ِّكر } َك َذ ِل َك ُي َبينِّ ُ هَّ ُ‬
‫الل‬ ‫‪2 .2‬الأمر الثاين‪� :‬أن هذه الآيات جعلها ُ‬
‫اهلل تذكر ًة لل ُم� ِ‬
‫ات َل َع َّل ُك ْم َت َت َف َّك ُرونَ {‪.‬‬ ‫َل ُك ُم ْ آ‬
‫ال َي ِ‬
‫ ‬
‫ال َياتُ َوال ُّن ُذ ُر َعنْ َق ْو ٍم اَل ُي�ؤْ ِم ُنونَ {‪.‬‬
‫ويف املقابل فهي غري نافعة للغافل‪ ،‬وغ ُري مغنية لالهي } َو َما ُت ْغ ِني ْ آ‬ ‫ ‬

‫‪229‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الزالزل والفيضانات‬

‫ات ُث َّم هُ ْم َي�صْ ِد ُفونَ {‪.‬‬ ‫وع َمى قال �سبحانه }ا ْن ُظ ْر َك ْي َف ُن َ�ص ِّر ُف ْ آ‬
‫ال َي ِ‬ ‫وجه ًال َ‬
‫فما تزيدهم الآيات �إال غفل ًة َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ لذا ف�إن النبي ‪ s‬ملَّا ر�أى �آية خ�سوف القمر خرج �إىل امل�سجد يج ُّر رداءه‪ ،‬وكان �إذا ر�أى خميل ًة رَّ َ‬
‫تغي‬
‫وجهه ودخل وخرج و�أقبل و�أدبر ف�إذا �أمطرت ُ�س ِّري عنه‪ ،‬فذكر ذلك له فقال‪( :‬ما �آمنه �أن يكون كما قال‬
‫اهلل‪َ } :‬ف َل َّما َر�أَ ْو ُه َعا ِر ً�ضا ُّم ْ�س َت ْق ِب َل �أَ ْو ِد َي ِت ِه ْم َقا ُلوا َه َذا َعا ِر ٌ�ض ممُّْ ِط ُر َنا َب ْل هُ َو َما ْ‬
‫ا�س َت ْع َج ْلتُم ِب ِه ِري ٌح ِفي َها َع َذ ٌ‬
‫اب‬
‫�أَ ِلي ٌم{ [رواه البخاري]‪.‬‬

‫ فيتذك ُر املر ُء نعم َة اهلل عليه �إذ مل ُي َ�صب‪ ،‬و�سيتذكر �آالءه جل وعال با�ستقامة احلال‪�} :‬أَ َو مَْل َي َر ْوا �أَ َّنا‬
‫َج َع ْل َنا َح َر ًما � ِآم ًنا َو ُيت ََخ َّط ُف ال َّن ُ‬
‫ا�س ِمنْ َح ْو ِل ِه ْم{‬

‫ال�ساعة َواقرتابها‪ ،‬ودلي ًال على ت�ص ُّر ِم‬ ‫آيات تنبيه ًا على دُنو َّ‬ ‫بع�ض هذه ال ِ‬ ‫‪3 .3‬الأمر الثالث‪� :‬أن اهلل َج َع َل َ‬
‫أيامها ولياليها‪ ،‬وعالم ًة �أي�ض ًا على ف�ش ِّو املعا�صي‪..‬‬ ‫� ِ‬
‫ويتقارب‬
‫ُ‬ ‫ روى البخاري �أبي هريرة ‪� d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪( :‬ال تقوم ال�ساعة حتى‪ ..‬تك ُرث الزالزل‪،‬‬
‫رب املال َمن َيق َب ُل‬ ‫الزمان‪ ،‬وتظهر الفنت‪ ،‬ويكرث الهرج وهو القتل‪ ،‬وحتى يكرث فيكم املال فيفي�ض حتى َي ِه َّم َّ‬
‫النا�س يف البنيان‪ ،‬وحتى مير‬ ‫تطاول ُ‬ ‫عر�ض ُه فيقول الذي يعر�ضه عليه ال �أرب يل به‪ ،‬وحتى َي َ‬ ‫َ�صدقته وحتى َي َ‬
‫الرجل بقرب الرجل فيقول يا ليتني مكانه‪ ،‬وحتى تطلع ال�شم�س من مغربها ف�إذا طلعت ور�آها النا�س �آمنوا‬
‫�أجمعون فذلك حني } َال َين َف ُع َن ْف ً�سا �إِ َميا ُن َها مَْل َت ُكنْ � َآم َن ْت ِمن َق ْب ُل �أَ ْو َك َ�س َب ْت فيِ �إِ َميا ِن َها َخ رْ ًيا{‪َ ،‬و َل َ‬
‫تقومنَّ‬
‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫َ‬
‫ان�صرف‬ ‫ال�ساعة وقد‬ ‫ال�ساع ُة وقد ن�شر الرجالن ثو َبهما بينهما فال َيتباي َعانه وال َيطويانه‪ ،‬ولتقومنَّ َّ‬ ‫َّ‬
‫حو�ضه فال َي�س ِقي فيه‪ ،‬ولتقومنَّ ال�ساع ُة وقد رفع �أَ ْك َلتَه‬ ‫ال�ساع ُة وهو َيليط َ‬ ‫قح ِته فال َيط َع ُمهُ‪ ،‬ولتقومنَّ َّ‬ ‫ب َلبنَ ِ َل َ‬
‫�إىل ِفيه فال ْ‬
‫يط َع ْمها)‪.‬‬

‫وان�صراف للدنيا و�إغفال‬


‫ٍ‬ ‫الزمان يكونون يف له ٍو َو َغفل ٍة‪،‬‬ ‫آخر َ‬ ‫النا�س يف � ِ‬
‫النبي الكر ُمي ‪� s‬أن َ‬ ‫ُّ‬ ‫ فبينَّ‬
‫للآخرة‪ ،‬ولت�أتينهم الآي ُة تلو �أخ ِتها فال َيزي ُدون يف طاعة‪ ،‬وال ينتهون عن َمع�صية‪ ،‬و�إمنا هم يف ان�شغالهم يف‬
‫دنياهم جمع ًا و�إقبا ًال‪ ،‬وان�صراف عن الآخرة َق ْل َب ًا َو َقا َلب ًا‪.‬‬

‫ال�شم�س والقمر �آيتان من �آيات اهلل‪،..‬‬


‫َ‬ ‫النبي ‪ s‬فزع لل�صَّ الة ثم قال‪�( :‬إن‬ ‫ وملا َخ َ�س َف القم ُر على َعهد ِّ‬
‫ف�إذا ر�أيتم ذلك فادعوا اهلل وكربوا َو َ�صلُّوا وت�صدقوا ثم قال‪ :‬يا �أُ َّمة حممد واهلل َما ِمن � ٍ‬
‫أحد �أغ ُري من اهلل‬
‫�أن يزين عب ُد ُه �أو تزين �أمتُه‪ ،‬يا �أُ َّم َة حم َّم ٍد واهلل لو تعلمون ما �أعلم ل�ضحكتم قليال ولبكيتم كثريا)‪.‬‬

‫ات‬
‫انتهاك ُح ُر َم ِ‬
‫ِ‬ ‫آيات ال َكونية التي ُير�س ُلها ُ‬
‫اهلل‪ .‬وبني‬ ‫النبي ‪ s‬بني ال ِ‬ ‫ فانظر يا رعاك اهلل كيف َر َب َط ُّ‬
‫هلل ِمن الزنا‪ ،‬والفاح�شة‪َ ،‬و ُمبارز ِة اهلل باملعا�صي واملوبقات و�أ�ش ُّدها ال�شرك باهلل‪ ،‬روى البخاري عن �أبي‬ ‫ا ِ‬
‫خلم َر َوا َمل َع َ‬
‫ازف‪،‬‬ ‫احلري َر َوا َ‬ ‫مالك الأ�شعري �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ل َيكوننَّ ِمن �أُ َّمتي �أقوا ٌم ي�ستحلون ِ‬
‫احل َر َو َ‬

‫‪230‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الزالزل والفيضانات‬

‫ب�سارح ٍة لهم (�أي ما�شية) َي�أتيهم الفق ُري حلاج ٍة‪،‬‬


‫عال) َيروح عليهم َ‬ ‫جبل ٍ‬ ‫جنب َع َل ٍم (�أي ٍ‬
‫َولينزلنَّ �أقوا ٌم �إىل ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫فيقولوا‪ :‬ارجع �إلينا غدا‪ .‬فيب ّيتُهم ُ‬


‫اهلل َو َي�ض ُع ال َع َل َم‪.)..‬‬

‫واط َل َع َعليها‪ ،‬وما �أخفى �أح ٌد َمع�صية‬ ‫اهلل َّ‬‫هلل الذي ال �إله غ ُريه ما �أ�س َّر �أح ٌد َ�سرير ًة �إال وقد علمها ُ‬ ‫ ووا ِ‬
‫الفت�ضح كثريون‪ ،‬ولوال رحم ُة اهلل ومنتُه وحل ُمه لأنزل عقوبتَه‬ ‫َ‬ ‫�إال واهلل مراق ُبهُ‪ ،‬ولوال رحمة اهلل ومن ُت ُه َو ِ�س ُرت ُه‬
‫ولعجل بهما؛ } َو َلوْال �أَ َج ٌل ُّم َ�س ًّمى لجَ َ اءهُ ُم ا ْل َع َذ ُ‬
‫اب َو َل َي�أْ ِت َي َّن ُهم َب ْغ َت ًة َوهُ ْم ال َي�شْ ُع ُرونَ {‪َ } ،‬و َلو َْال َك ِل َم ٌة‬ ‫وبال َءه‪َّ ،‬‬
‫َ�س َب َق ْت ِمن َّر ِّب َك َل ُق ِ�ض َي َب ْي َن ُه ْم{‪.‬‬
‫ فما نزل بال ٌء �إال بذنب‪ ،‬وال ُرف ٌع �إال با�ستغفار وتوبة؛ قال اهلل جل وعال‪َ } :‬و َما َكانَ هَّ ُ‬
‫الل ُم َع ِّذ َب ُه ْم َوهُ ْم‬
‫َي ْ�س َت ْغ ِف ُرونَ {‪.‬‬

‫‪4 .4‬الأمر الرابع‪� :‬أن هذه الآيات رحم ٌة للم�ؤمن؛ ففيها يتف ُّكر ويتذكر‪ ،‬وبها ينيب ويرجع‪ ،‬ف�إن �أُ�صيب وابتلي‬
‫أجره ورفع ًة يف درجته وتكفري ًا خلطيئته؛ ولي�س ذلك لغري امل�ؤمن؛ روى البخاري والدارمي‬ ‫كان زياد ًة يف � ِ‬
‫آيات بركة‪ ،‬و�أنتم‬
‫أ�صحاب حممد ‪ s‬نع ُّد ال ِ‬‫ُ‬ ‫بخ�سف فقال‪( :‬كنا �‬
‫ٍ‬ ‫واللفظ له �أن ابن م�سعود ‪� d‬سمع‬
‫تعدونها تخويف ًا) قال ابن حجر (‪ " :)591/6‬ف�أنكر عليهم ع َّد جميع اخلوارق تخويف ًا‪ ،‬و�إال فلي�س جمي ُع‬
‫اخلوارق بركة "‪.‬‬

‫رحوم ٌة‬
‫ وم�صداق ذلك َما َر َوى �أحم ُد وغ ُريه عن �أبي مو�سى ‪� d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪�( :‬أمتي �أ َّم ٌة َم ُ‬
‫ُ‬
‫الزالزل والقتل)‪.‬‬ ‫لي�س عليها يف الآخرة عذاب‪� ،‬إمنا عذا ُبها يف الدنيا‬

‫دخلت على عائ�شة‪ g‬ورج ٌل معي‪ ،‬فقال‬ ‫نعيم بن ح َّم ٍاد يف (الفنت)‪ :‬عن �أن�س بن مالك ‪ d‬قال ُ‬ ‫ روى ُ‬
‫فقلت لها‪ :‬حدثينا يا � َّأم‬ ‫الرجل‪ :‬يا �أم امل�ؤمنني حدثينا عن الزلزل ِة ! ف�أع َر َ�ض ْت عنه بوجهها‪ ،‬قال �أن�س‪ُ :‬‬
‫عثت حني ُتبعث َ‬
‫وذلك‬ ‫ومت َحزين ًا‪َ ،‬و ُب َ‬
‫�شت َحزين ًا‪َّ ،‬‬ ‫امل�ؤمنني عن الزلزلة ! فقالت‪ :‬يا �أن�س ! �إن حدثت َُك عنها ِع َ‬
‫بيت َزوجها ْ‬
‫هتكت َما بينها‬ ‫حلزنُ يف قلبك‪ ،‬فقال‪ :‬يا �أماه حدثينا ! فقالت‪� :‬إن املر�أة �إذا خلعت ثيا َبها يف غ ِري ِ‬ ‫ا ُ‬
‫خلمو َر‬ ‫الزنا‪َ ،‬و َ�شربوا ا ُ‬
‫ا�ستفحا يف ِّ‬
‫َ‬ ‫وب َني اهلل ِمن ِح َجاب‪ ،‬ف�إن تط َّيبت لغ ِري زوجها كان عليها نا ٌر َو َ�شنا ٌر‪ ،‬ف�إذا‬
‫أر�ض‪ :‬تزلزيل بهم‪.‬‬ ‫املعازف َغا َر ُ‬
‫اهلل يف َ�س َما ِئه فقال لل ِ‬ ‫َ‬ ‫َم َع َهذا‪َ ،‬و َ�ض َربوا‬
‫ ف�إن تابوا ونزعوا و�إال هدمها ُ‬
‫اهلل عليهم‪ .‬فقال �أن�س‪ :‬عقوب ًة لهم‪ .‬قالت‪ :‬بل رحم ًة وبرك ًة وموعظ ًة‬
‫بعد ر�سول اهلل ‪� s‬أنا‬‫�سمعت حديث ًا َ‬
‫ُ‬ ‫وعذاب ًا على الكافرين‪ .‬فقال �أن�س‪ :d‬ما‬ ‫للم�ؤمنني‪ ،‬ونكا ًال َ‬
‫و�س َ‬
‫خط ًة َ‬
‫أعي�ش فرح ًا‪ ،‬و�أموتُ فرح ًا‪ ،‬و�أبعثُ حني �أبعثُ وذلك ُ‬
‫الفرح يف قلبي‪.‬‬ ‫�أ�ش ُّد به فرح ًا مني بهذا احلديث بل � ُ‬

‫‪231‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫السفر للخارج‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬السفر للخارج‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫واحد �أحدهما يكون‬ ‫مركب ٍ‬ ‫ف�إن لل�سفر �أغرا�ض ًا متعددة‪ ،‬و�أهداف ًا متنوعة‪ ،‬فرتى الرجلني ُي�سافران على ٍ‬
‫ذها ُبه وعودته وتع ُب ُه ون�ص ُب ُه �أجر ًا عند اهلل ومثوبة‪.‬‬
‫�صح يف احلديث‬ ‫خروجه �إىل عودته واملالئك ُة تكتب عليه ال�سيئات وجتمع له اخلطيئات‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ والآخ ُر من‬
‫وعط�شها وجريها وعرقها و�أرواثها‬ ‫ُ‬ ‫(اخليل ثالثة‪ ،‬فمن ارتبطها يف �سبيل اهلل كان �شبعها وجوعها ور ُّيها‬
‫للجمال فلي�س له �إال ذاك‪َ ،‬ومن ارتبطها فخر ًا وريا ًء كان‬ ‫و�أبوالها �أجر ًا يف ميزانه يوم القيامة‪ ،‬ومن ارتبطها َ‬
‫مثل الأول (�شبعها وجوعها وريها وعط�شها وجريها وعرقها و�أرواثها و�أبوالها) ِوزر ًا يف ميزانه يوم القيامة)‪.‬‬
‫ق�صد‬
‫والتنقل والرتحال‪ .‬لي�س حديثي اليوم م َع َمن َ‬ ‫َ‬ ‫ عباد اهلل! �إن يل اليوم حديث ًا مع َمن نوى ّ‬
‫ال�سفر‪،‬‬
‫�شك‪،‬‬ ‫رحم وقرابة‪� ،‬إذ ب ُّر ُه ظاه ٌر وعم ُله �صال ٌح وال ّ‬ ‫م�سجد النبي ‪� ،s‬أو �صلة ٍ‬ ‫ِ‬ ‫كالبيت احلرام �أو‬ ‫ِ‬ ‫طاع ًة ب�سفره‬
‫رجى دُعا�ؤه و ُيز ّود بالدعاء باحلفظ َروى �أبو داود والرتمذي ب�إ�سناد ُح ِّ�سن �أنَّ عمر بن اخلطاب‬ ‫ومث ُل ُه �إمنا ُي َ‬
‫النبي ‪ s‬يف ال ُعمرة‪ ،‬ف�أذن يل‪ ،‬وقال‪( :‬ال تن�سنا يا �أخي من دعائك)‪.‬‬ ‫أذنت َّ‬ ‫‪ d‬قال‪� :‬أ�ست� ُ‬
‫التخفف من‬ ‫َ‬ ‫أعن َمن جمع متاعه وحمل �أثقاله قا�صد ًا �سفر ًا حم ّرم ًا‪ ،‬فهو مري ٌد من ِ‬
‫�سفره‬ ‫ كما مل � ِ‬
‫احلرام قبل‬ ‫َ‬ ‫واالنغما�س يف احلرام؛ تراه ينوي‬ ‫َ‬ ‫واالنف�ساخ ِمن العمل ال�صالح‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أوامره ونواهيه‪،‬‬ ‫ِرب َق ِة الدين‪ ،‬و� ِ‬
‫�سك ٍر‪ ،‬ومعا�شر ًة بحرام‪ ،‬و ُمقامر ًة‪ ،‬ولهو ًا وعبث ًا‪ ،‬يت�ساهل �أن �أو�س َع ُ‬
‫اهلل‬ ‫رب ُم ِ‬ ‫�سفره ُ�ش َ‬‫ق�ص ُد من ِ‬ ‫أمد‪َ ،‬ي ِ‬ ‫ال�سفر ب� ٍ‬ ‫َّ‬
‫إنعامه‪ُ ،‬ينفق‬ ‫كره على مزيد � ِ‬ ‫و�ش ِ‬ ‫حمد اهلل ُ‬ ‫التنقل‪ ،‬وقد ُمن َعه �آخرون‪ ،‬فبد ًال من ِ‬ ‫ِ‬ ‫َعليه ِرز َقه‪ ،‬و َي ّ�س َر له � َ‬
‫أ�سباب‬
‫واهلل رائه ومطل ٌع على �س ِّره وجنواه‪.‬‬ ‫النا�س بال ُبعد عنهم والن�أي عن بلدهم‪ُ ،‬‬ ‫املال يف احلرام‪ ،‬ي�ستخفي عن ِ‬
‫ ف�أذكره بقول اهلل تعاىل‪�} :‬أَ مَْل َي ْع َل ْم ِب�أَنَّ هَّ َ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ا�ص َي ٍة َك ِاذ َب ٍة‬ ‫الل َي َرى{ َك َّال َل ِئن مَّْل َين َت ِه َل َن ْ�س َف ًعا ِبال َّن ِ‬
‫ا�ص َي ِة{ َن ِ‬
‫َخ ِاط َئ ٍة{ َف ْل َي ْد ُع َنا ِد َيه{ َ�س َن ْد ُع ال َّز َبا ِن َي َة{‪.‬‬
‫مره‪ .‬لي�س حديثي‬ ‫قد ُع ِ‬
‫فوات �أوانها‪ ،‬و�إنحالل ِع ِ‬ ‫قبل ِ‬ ‫دعى له بالهداية‪ ،‬و ُيرجى له التوبة َ‬ ‫ومثل هذا ُي َ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫لقوم ق�صدوا �أمر ًا مباح ًا وهو ال�سف ُر َق�صْ َد اال�ستجمام‪ ،‬واال�سرتخاءِ‪ ،‬وراح ِة‬ ‫لهوالء وال لأولئك‪ ،‬و�إمنا حديثي ٍ‬
‫والتنفي�س عن النف�س والأهل والولد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫البال‪،‬‬
‫ ‬
‫ال�سفر‪ ،‬وقد كان من هدي النبي ‪� s‬أن يو�صي �أ�صحا َبه قبل‬ ‫‪ w‬فلأولئك �أذ ّك ُر ب�أمور من باب الو�ص ّية قبل َّ‬
‫ال�سفر‪ ،‬وهذه بع�ض و�صاياه ‪ s‬للم�سافرين‪:‬‬

‫‪232‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬السفر للخارج‬

‫۩ ۩ف�أ ّول ما ُيو�صى به‪ :‬الو�صي ُة بالفرائ�ض واملحافظة على ال�شعائر‪ ،‬و�أعظمها توحي ُد اهلل‪َ ،‬ر َوى عب ُد بن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ُحميد �أن رج ًال دخل على النبي ‪ s‬فقال‪� :‬إين �أري ُد �أن اللحوق ب�أهلي ف�أو�صني‪ ،‬فقال ‪( :s‬ال ت�شرك‬
‫باهلل �شيئ ًا و�إن ُق َ‬
‫طعت �أو ُحرقت)‪.‬‬
‫عندها واال�ستغاث ُة بها‪ ،‬مما يقدح يف‬ ‫التوحيد زيار ُة الأ�ضرح ِة واملراقد وال�صال ُة َ‬
‫ِ‬ ‫ �إنَّ مما يقدح يف‬
‫تعظيم الأ�صنام كبوذا ونحوه و�شرا�ؤها واقتنا�ؤها‪ ،‬ومما يقدح يف التوحيد �إتيان ال�سحرة وال ُكهان‬‫ُ‬ ‫التوحيد‬
‫ِ‬
‫وقارئي ال َب ْخ ِت و�س�ؤا ُلهم والنظ ُر ل�سحرهم‪.‬‬

‫۩ ۩ ِومن �أعظم الو�ص ّي ِة للم�سافر الو�صي ُة بال�صَّ الة‪ ،‬فهي عمود الدين و�أُ�سه املتني‪ ،‬ويف املحافظة عليها‬
‫�صالح الدنيا والآخرة‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و�أَ ِق ِم ال�صَّ ال َة ِ�إنَّ ال�صَّ ال َة َت ْن َهى َع ِن ا ْل َف ْح َ�شاء َوالمْ ُن َك ِر َو َل ِذ ْك ُر‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫هَّ‬ ‫هَّ ِ‬
‫الل �أَكْبرَ ُ َوالل َي ْع َل ُم َما َت�صْ َن ُعونَ {‪.‬‬
‫وح�سنه عن �أبي هريرة ‪�d‬أن رج ًال قال‪ :‬يا ر�سول اهلل �إين �أريد �أن �أُ�سافر ف�أو�صني‪،‬‬ ‫ روى الرتمذي ّ‬
‫هلل والتكب ِري على ُك ِّل َ�ش َر ٍف)‪.‬‬ ‫فقال ‪( :s‬عليك بتقوى ا ِ‬
‫�إن بع�ض امل�سافرين مت ُّر عليه الأوقات �سريع ًة متتابعة‪ ،‬فرمبا فاتته ال�صَّ ال ُة تلو �أختها غفل ًة وتهاون ًا‪� ..‬إن‬
‫نف�سه وما ِله و�أه ِله‪ ،‬يف‬ ‫وحفظ يف �سفره يف ِ‬ ‫و�سدد و�أُعني‪ُ ،‬‬ ‫امل�سافر َ �إذا جعل ال�صال َة �أك َرب ه ِّمه و�أعظ َمه ُوفق ُ‬
‫(من �ص َّلى الفج َر فهو يف ذ َّم ِة اهلل)‪ ،‬واملر ُء يف �سفره بل ويف ح�ضره � ُ‬
‫أحوج‬ ‫�صحيح م�سلم �أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫ما يكون للحفظ‪.‬‬

‫قومه؛ و�إمنا ُيح َكم‬ ‫ُ‬


‫ومبعوث ِ‬ ‫ر�سول �أُ ّم ِته؛‬
‫احلر�ص على الآداب العامة ف�إن املر َء ُ‬‫ُ‬ ‫۩ ۩ومما ُيو�صى به املُ�سافر‬
‫عا�شر ِته‪.‬ف َك ْم من الأُمم‬
‫على ال ُك ِّل ِمن ر�ؤية البع�ض و ُم َ‬
‫وطيب الأخالق‪.‬‬‫�سن التعامل ِ‬ ‫وال�شعوب �إمنا دخلت يف الإ�سالم ب�سبب ُح ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ ‬

‫ر�سول اهلل �إين �أُريد �سفر ًا ف�أو�صني‪،‬‬ ‫ روى �أبو نعيم (احللية ‪� )378/4‬أن �أبا ذ ٍّر الغفاري ‪ d‬قال‪ :‬يا َ‬
‫بخ ٍلق ح�سن)‪ .‬وجاء �أن رج ًال‬ ‫نت و�أتبع احل�سنة ال�سيئة متحها‪ ،‬وخالق النا�س ُ‬‫(اتق اهلل حيثما ُك َ‬
‫فقال ‪ِّ :s‬‬
‫�أتى عبد اهلل بن عمرو ‪ d‬ي�س�أله الو�صية قبل �سفره‪ ،‬فكان مما �أو�صاه به �أن قال‪( :‬ال ت� ِؤذ جار ًا وال ِذم ّي ًا وال‬
‫ت�سب �إمام ًا)‪.‬‬
‫َّ‬
‫واالن�ضباط‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الت�صرف‪،‬‬
‫ِ‬ ‫�سن‬
‫وح ِ‬ ‫بطيب ا ُ‬
‫خل ِلق‪ُ ،‬‬ ‫�سلم على امتثال و�صية ر�سول اهلل ‪ِ s‬‬ ‫فليحر ْ�ص املُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ ‬
‫أعراف و�أنظم ِة البال ِد التي هو زائ ٌر لها‪ ،‬و�إتيان البيوت من �أبوابها‪ ،‬وعدم التحايل ودف ِع ال ِّر�شا‪� ،‬أو‬
‫ومراعا ِة � ِ‬
‫فعل َما ُي�ستحى منه‪.‬‬

‫اجللو�س على موائد ا َ‬


‫خلمر‪ ،‬ويف الأماكن التي ُتق ّدم‬ ‫ِ‬ ‫يجب على امل�ؤمن �إذا كان م�سافر ًا احلذ ُر من‬
‫۩ ۩ومما ُ‬
‫و�صححه‬ ‫فيها �سوا ًء من املقاهي �أو املطاعم ونحوها‪ ،‬ولو مل ي�شربه �أو ُيجا ِل�س َمن ي�شربه‪ ،‬روى احلاكم ّ‬
‫(من كان ي�ؤمن باهلل واليوم الآخر فال يجل�س على مائدة ُيدا ُر‬‫النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬‫من حديث جابر ‪� d‬أن َّ‬
‫عليها اخلمر)‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬السفر للخارج‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫التربج يف اللبا�س والتخفف منه‪ .‬روى �أهل‬ ‫ِ‬ ‫هلل تعاىل‪ ،‬واحلذ ُر مما ُيغ�ض ُب ُه من‬‫ويلزم امل�ؤمن َة تقوى ا ِ‬
‫۩۩ ُ‬
‫�سمعت‬
‫ُ‬ ‫حم�ص �أو من �أهل ال�شام دخلن على عائ�شة ‪ g‬فقالت‪:‬‬ ‫ال�سنن ب�إ�سناد �صحيح �أن ن�سا ًء من �أهل ٍ‬
‫النبي ‪ s‬يقول‪( :‬ما من امر�أ ٍة ت�ضع ثيابها يف غري بيت زوجها �إال هتكت ال�سرت بينها وبني ربها)‪.‬‬
‫ال�سرت؟؛ �إال الف�ضح َة يف الدنيا والآخرة عياذ ًا باهلل‪.‬‬ ‫ وما ُيرجى ممن هُ َ‬
‫تك ما بينه وبني ر ِّبه من ِّ‬

‫عامها ُك َّله لكنها �إذا‬


‫النف�س وي�ؤملها �أن ترى امر�أة عفيف ًة مت�سرتة‪ ،‬مخُ َّدر ًة َ‬
‫ (عباد اهلل!) �إنّ مما يح ُّز يف ِ‬
‫مالب�س غ َري حمت�شم ٍة‪،‬‬
‫َ‬ ‫وغ َف َل ول ُّيها عنها‪ ،‬فلب�ست‬
‫�سافرت ب�ض َع �أيام تغافلت عن حجابها وتنا�ست �سرتها‪َ ،‬‬
‫أنت‬
‫ذمتك و� َ‬ ‫فلتتق َ‬
‫اهلل املر�أ ُة‪ ،‬وليت ِّقه ول ُّيها ف�إنّ ابنتك وزوجتَك يف ِ‬ ‫وال �ساتر ٍة ملا �أوجب ُ‬
‫اهلل �سرتَه يف كتابه‪� ،‬أال ِ‬
‫ُم َ�ساء ٌل عنهم يوم القيامة }�أمل يعلم ب�أن اهلل يرى{‪.‬‬

‫قومه حينما يرى �أقوم ًا �أُخ َر فاقوهم ب� ٍ‬


‫أمر �أو ب�آخر ف ُرمبا‬ ‫نف�سه‪ ،‬ويحتق ُر َ‬ ‫ُ‬
‫ي�ست�ضعف َ‬ ‫هلل!‬ ‫ �إن َ‬
‫البع�ض عباد ا ِ‬
‫الواجب على‬
‫َ‬ ‫لبا�سهم ترخ�ص ًا‪ ،‬وخ�شي ًة من ال�شَّ ماتة واملذ ّمة‪ ،‬واحل ُّق �أن‬
‫بع�ض �ش�أنهم‪ ،‬وق ّلدهم يف ِ‬
‫جاراهم يف ِ‬
‫بنف�سه وبدينه‪ ،‬ق ّوي ال�شخ�ص ّية‪ ،‬كامل الثقة؛ جاء رج ٌل للح�سن الب�صري‪ ،‬فقال‪� :‬إين‬ ‫املرء �أن يكون عزيز ًا ِ‬
‫فحفظت و�صيته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الرجل‪:‬‬ ‫نت ف�أع َّز اهلل ُيعزّك)‪ ،‬قال‬‫لبالد ف�أو�صني‪ ،‬فقال احل�سن‪( :‬حيثُ ما ُك َ‬
‫�أريد ال�سفر ٍ‬
‫فما كان بتلك البالد �أح ٌد �أع َّز مني حتى ُ‬
‫رجعت [احللية الأولياء ‪.]152/2‬‬

‫ال�سفر النظ ُر �إىل ال�صور املح ّرمة‪ ،‬والأج�سا ِد غ ِري املحت�شمة؛ واهلل‬ ‫البع�ض َح َال َّ‬ ‫ُ‬ ‫ت�ساهل فيه‬ ‫۩ ۩ومما ُي َ‬
‫اللَ‬
‫وج ُه ْم َذ ِل َك َ�أ ْز َكى َل ُه ْم �إِنَّ هَّ‬ ‫َ‬
‫مو�صيك وقائل لك‪ُ } :‬قل ِّل ْل ُم�ؤْ ِم ِن َني َي ُغ ُّ�ضوا ِمنْ �أ ْب َ�صا ِر ِه ْم َو َي ْح َف ُظوا ُف ُر َ‬
‫ات َي ْغ ُ�ض�ضْ نَ ِمنْ �أَ ْب َ�صا ِر ِهنَّ َو َي ْح َف ْظنَ ُف ُر َ‬
‫وجهُنَّ َوال ُي ْب ِدينَ زِي َن َتهُنَّ ِ�إالَّ َما‬ ‫ري بمِ َ ا َي�صْ َن ُعونَ { َو ُقل ِّل ْل ُم�ؤْ ِم َن ِ‬
‫َخ ِب ٌ‬
‫َظ َه َر ِم ْن َها َو ْل َي�ضْ ِر ْبنَ ِب ُخ ُم ِر ِهنَّ َع َلى ُج ُيو ِب ِهنَّ {‪.‬‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬


‫ولنف�سك عليك حق ًا)‪.‬‬
‫النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن لأهلك عليك حق ًا‪ِ ،‬‬
‫فقد ثبت عند الرتمذي و�أبي داود �أن َّ‬ ‫ ‬

‫عامها ُك ّله‪ ،‬يف مراعاة‬ ‫أهل مث ُل ذلك‪ ،‬فكم تعبت الزوج ُة َ‬ ‫حتب اال�ستجمام والراحة‪ ،‬فال ُ‬ ‫ فكما �أن النف�س ُّ‬
‫واالهتمام به‪ ،‬وكذا الأبناء ف�إنهم يحتاجون �إىل توجيه �أبيهم و�إح�سانه‪ ،‬كما‬ ‫ِ‬ ‫وحفظ الزوج‬‫الأبناء ومتابعتهم ِ‬
‫عط ُك َّل‬ ‫ِّ‬
‫واحلق عليه‪ ،‬ول ُي ِ‬ ‫والدي املرء َيتط َّلعان �إىل ب ّره و�إثاب ِته‪ .‬فال يكن املر ُء �أناني ًا‪ ،‬وال متنا�سي ًا للف�ضل‬
‫�أن َ‬
‫ذي حقٍّ ح ّقه‪ ،‬ليتذ ّكر قول النبي ‪( :s‬كفى باملرء �إثم ًا �أن ي�ضيع من يعول)‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫السهر‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬السهر‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫العديد من العادات‪ ،‬مِ َ‬
‫ول ال يكون ذلك‬ ‫ِ‬ ‫ف�إن ال�شريعة الإ�سالمية جاءت بتقومي كث ٍري من ال�سلوكيات‪ ،‬وتعديل‬
‫كذلك‪ ،‬واهلل تعاىل خلق اخللق وهو الأعلم بالأ�صلح لهم‪ ،‬و�أمر ب�أوامر وبها يتحقق �صالحهم؛ كما قال تعاىل‪:‬‬
‫}�أَ َال َل ُه الخْ َ ْلقُ َوالأَ ْم ُر َت َبا َر َك هَّ ُ‬
‫الل َر ُّب ا ْل َعالمَ ِنيَ{‪.‬‬

‫م�صالح دينية ودنيوية كبرية َملن‬


‫ُ‬ ‫اليوم �أمر ًا جاءت به �أحاديثُ متعدد ٌة عن النبي ‪ ،s‬وفيها‬
‫ و�إين ذاك ٌر َ‬
‫نوم النهار‪.‬‬
‫هر يف الليل‪ ،‬مع ِ‬
‫ال�س ِ‬
‫نظر يف هذا الأمر؛ �إال وهو كراهة ّ‬

‫اهلل النوم �سبات ًا للنا�س‪ ،‬وجعل الليل لهم َخ َري َ�س ٍ‬


‫كن ولبا�س‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬وهُ َو‬ ‫ عباد اهلل! لقد جعل ُ‬
‫ا َّل ِذي َج َع َل َل ُك ُم ال َّل ْي َل ِل َبا�س ًا َوال َّن ْو َم ُ�س َبات ًا َو َج َع َل ال َّن َها َر ُن ُ�شور ًا{‪.‬‬

‫ وكان من هدي النبي ‪- s‬وهو خ ُري هدي و�أكم ُله‪ُ -‬‬


‫النوم � َ‬
‫أول الليل‪ ،‬وعدم ال�سهر‪ ،‬قالت عائ�شة ‪:g‬‬
‫( َكانَ ‪َ s‬ي َن ُام �أَ َّو َل ال َّل ْي ِل َو ُي ْح ِيى � ِآخ َر ُه) [رواه م�سلم]‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫وال�سمر بعد الع�شاء‪ ،‬قالت عائ�شة ‪(g‬ما نام ر�سول اهلل ‪ s‬قبل الع�شاء‬ ‫ ومل يكن من هديه ‪ s‬ال�سهر ّ‬
‫وال �سمر بعدها) [رواه ابن ماجه ب�إ�سناد �صحيح]‪ ،‬وحني �سمعت ‪ g‬ابن �أختها ُعروة بن الزبري يتح َّدث بعد‬
‫أيت ر�سول اهلل ‪ s‬راقدً ا قط قبلها وال متحدث ًا بعدها‪،‬‬
‫الع�شاء قالت‪( :‬ما هذا احلديث بعد ال َعتَمة؟! ما ر� ُ‬
‫�إما م�صل ًيا فيغنم �أو راقدً ا في�سلم)‪[ .‬رواه عبد الرزاق ‪.]2137‬‬

‫ عباد اهلل! ومع مالزمة النبي ‪ g‬للنوم بعد الع�شاء‪ ،‬ف�إ ّنه كره للم�سلمني ال�سه َر وال�سمر َ‬
‫بعده‪ ،‬فعن �أبي‬
‫برزة الأ�سلمي ‪�( :d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬كان يكره النوم قبل الع�شاء واحلديث بعدها)‪ .‬رواه ال�شيخان‪.‬‬
‫عيب ال�سهر وذ ّمه‪ ،‬روى الإمام �أحمد وابن ماجه ب�إ�سناد ج ّيد عن ابن‬‫ وثبت عنه ‪ s‬يف غري ما حديث ُ‬

‫‪235‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬السهر‬

‫ال�س َمر بعد الع�شاء)؛ �أي‪ :‬عابه وذمه‪.‬‬


‫م�سعود ‪ d‬قال‪( :‬جدب �إلينا النبي ‪َّ s‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ وعن جابر بن عبد اهلل‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إياك وال�سمر بعد هد�أة الليل‪ ،‬ف�إنكم ال تدرون ما ي�أتي‬
‫اهلل من خلقه) رواه احلاكم و�صححه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ ‬
‫فئام كثري من النا�س عاد ًة معتادة‪ ،‬و�أمر ًا غري م�ستغ َرب‪ ،‬ف�أ�صبحوا ُيطيلون‬
‫ال�سهر عند ٍ‬ ‫عباد اهلل! لقد �أ�صبح ّ‬
‫بع�ض من النا�س رجا ًال ون�سا ًء �أن يت�أخروا يف ح�ضور املنا�سبات‪،‬‬ ‫وال�سمر‪ ،‬حتى �أ�صبح من عادات ٍ‬ ‫الأُن�س ّ‬
‫و ُين�سئون ال َع َ�شاء ويطيلون ّ‬
‫ال�سهر‪.‬‬
‫ ‬
‫ويف ذلك خمالف ٌة لهدي النبي ‪s‬و�أمره‪ ،‬وهدي �أ�صحابه ‪ ،f‬جاء �أنّ ُعمر بن اخلطاب ‪ d‬كان ي�ضرب‬
‫ونوما �آخ َره؟)‪.‬‬ ‫النا�س على ال�سهر‪ ،‬ويقول‪�( :‬أ�سم ًرا � َ‬
‫أول الليل ً‬

‫ ‪ w‬عباد اهلل! �إن يف �سهر الليل‪ ،‬ومداومة َّ‬


‫ال�س َمر فيه‪ ،‬وت�أخر النوم مفا�سد كثرية‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫بحجر‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫۩ ۩ �إ�ضاع ُة �صالة الفجر �أو ت�أخ ُريها‪ ،‬روى البخاري �أنَّ النبي ‪ s‬ر�أى رج ًال يك�سر ر�أ�سه‬
‫(�أما الذي يثلغ ر�أ�سه ـ �أي‪ :‬يك�سر وي�شج ـ باحلجر ف�إنه ي�أخذ القر�آن فريف�ضه وينام عن ال�صالة املكتوبة)‪.‬‬

‫ وقد �أنكر عمر بن اخلطاب‪ d‬على الذي �أحيا الليل بال�صالة ثم غلبته عيناه ونام عن �صالة الفجر‪،‬‬
‫وقال عمر له‪( :‬لأن �أ�شهد �صالة ال�صبح يف اجلماعة �أحب �إ ّ‬
‫يل من �أن �أقوم ليلة) [رواه مالك]‪ .‬وهذا في َمن‬
‫مباح �أوىل بالذ ّم‪.‬‬
‫فمن ق�ضاه يف ٍ‬
‫�سهر الليل يف عبادة‪ِ ،‬‬

‫اكت�ساب وعمل‪ ،‬فقد يقع من‬


‫ٌ‬ ‫۩ ۩ ِومن مفا�سده‪� :‬أنّ غالب ما يكون بعد الع�شاء �إمنا هو �سم ٌر وحديث‪ ،‬ال‬
‫ال�شخ�ص غيبة لأخيه‪� ،‬أو وقيع ٌة فيه‪ ،‬روى ٌ‬
‫مالك ابن ح ّبان عن عروة بن الزبري قال‪� :‬سمعتني عائ�شة ‪g‬‬
‫و�أنا �أتكلم بعد الع�شاء‪ ،‬فقالت‪( :‬يا عروة �أال تريح ُكتَّابك؟ ف�إن ر�سول اهلل ‪ s‬مل يكن ُ‬
‫ينام قبلها‪ ،‬وال‬
‫يتحدث بعدها)‪.‬‬

‫۩ ۩ ومن مفا�سده‪� :‬أنّ �ساهر الليل يف ّوت الوقت املبارك‪ ،‬وقد ثبت عند �أبي داود �أنّ النبي ‪s‬قال‪ « :‬اللهم‬
‫فال�صبح هو وقت الربكة‪ ،‬جاء �أنّ �أحد ال�صحابة وهو �صخر بن وداعة ‪ d‬كان‬ ‫بارك لأمتي يف ُبكو ِرها »‪ُّ ،‬‬
‫رج ًال تاجر ًا وكان يبعث جتارته من �أول النهار ف�أثرى وكرث ماله‪ .‬ور�أى عبد اهلل بن عبا�س ‪d‬ابن ًا له‬
‫نائم ًا نومة ُّ‬
‫ال�ص ْب َح ِة‪ ،‬فقال له‪( :‬قم‪� ،‬أتنام يف ال�ساعة التي ُت َّ‬
‫ق�س ُم فيها الأرزاق)‪.‬‬

‫ونف�سه‪� ،‬إذ املداومة على‬


‫آدمي ِ‬ ‫ال�سهر من م�ضا َر جل�سم ال ِّ‬‫۩ ۩ و�إن من نافلة القول الإخبا ُر عن ما ي�سببه ُّ‬
‫النوم عند احلاجة‬
‫ال�سهر له �آثاره النف�سية واجل�سدية التي ال تخفى على ال�شخ�ص‪ ،‬ففي مدافعة املرء َ‬
‫�إليه ومت ُّنعه منه عند هجومه عليه �ضرر عليه‪ ،‬ويكفي �أن نعلم �أن َمن يتعب نف�سي ًا �أو ُي�شغل ذهنه ف�إنه ال‬

‫‪236‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬السهر‬

‫ينام الليل‪ ،‬فالعالقة بني نوم الليل واحلالة النف�سية عالقة عك�س ّية‪ .‬وقد روى الدارمي عن ثوبان ‪� d‬أن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن هذا ال�سهر ُجه ٌد و ُث ْقل)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! وترتفع الكراهة �إذا ُوجدت احلاجة لل�سهر؛ م�سامرة ال�ضيف والأهل‪ ،‬ويف العلم واخلري؛ قاله‬
‫(ال�س َمر لثالثة‪ :‬لعرو�س‪� ،‬أو م�سافر‪� ،‬أو متهجد بالقر�آن‬
‫البخاري‪ ،‬روى �أبو يعلى عن عائ�شة ‪� g‬أنها قالت‪َّ :‬‬
‫من الليل)‪.‬‬

‫ا�س َو َل ِكنَّ �أَ ْك رَ َث ال َّن ِ‬


‫ا�س‬ ‫الل َل ُذو َف�ضْ ٍل َع َلى ال َّن ِ‬ ‫هَّ ُ‬
‫}الل ا َّل ِذي َج َع َل َل ُك ُم ال َّل ْي َل ِلت َْ�س ُك ُنوا ِفي ِه َوال َّن َها َر ُم ْب ِ�صر ًا �إِنَّ هَّ َ‬ ‫ ‬
‫ال َي�شْ ُك ُرونَ { َذ ِل ُك ُم هَّ ُ‬
‫الل َر ُّب ُك ْم َخا ِلقُ ُك ِّل َ�ش ْيءٍ الَّ ِ�إ َل َه ِ�إالَّ هُ َو َف�أَ َّنى ُت�ؤْ َف ُكونَ {‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الشكوى هلل‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الشكوى هلل‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬ ‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إن �أحقَّ من ُ�شكي �إليه ُ‬


‫احلال هو اهلل �سبحانه‪ ،‬و�أرجى َمن ُبثَّ له ما يف النف�س هو �سبحانه‪ ،‬و� ُ‬
‫أقرب َمن‬
‫ُنودي ف�أجاب‪ ،‬و�أوىل َمن ُيخ�ض ُع له و ُيناب هو �سبحانه‪.‬‬

‫ �إذا �ضاقت باملرء دنياه‪ ،‬وا�شت َّد عليه �أم ُر ُه‪ ،‬وا�ستغلقت �أبوابها‪ ،‬وا�ستحكمت حلقاتها‪ ،‬فال ي�شكونَّ �أم َره‬
‫وح�سن امل�آل �شيئ ًا عظيم ًا‪.‬‬
‫حينئذ �سيج ُد من راحة البال‪ ،‬ومتام احلال‪ُ ،‬‬‫�إال هلل‪ .‬ف�إنه ٍ‬

‫أعظم من الدعاء الذي يدعو به‪ ،‬نقل ابن مفلح عن بع�ض �أهل العلم �أنه‬ ‫ بل لرمبا َو َج َد ِمن الأُن�س باهلل � َ‬
‫قال‪�( :‬إنه ليكون يل �إىل اهلل حاجة‪ ،‬ف�أدعوه ف ُيفت َُح يل ِمن لذيذ معرفته‪ ،‬وحالو ِة مناجاته َما ال �أحب منه �أن‬
‫حظها)‪.‬‬‫عجل ق�ضا ُء حاجتي حتى ال َين�صرف عني ذلك؛ لأن النف�س ال تريد �إال َّ‬ ‫ُي َّ‬

‫وعدمت امل�ساعد‪ ،‬وعجزتَ عن املعا�ضد‪ ،‬فال تلقي ركابك �إال له‪ ،‬وال‬
‫َ‬ ‫و�ضعفت قو ُت ُك‪،‬‬
‫ �إذا ق ّلت حيلتُك‪َ ،‬‬
‫تنزل حاجتَك �إال به‪ ،‬ا�شت َِك له اخلالئقَ فهو باريها‪ ،‬واذكر له ال�ضرائ َر والنوازل فهو مق ّدرها‪ ،‬فال فرج �إال‬
‫منه‪ ،‬وال جناة �إال به �سبحانه‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ُ‬
‫وم�سلك ال�صاحلني‪ ،‬ومنهج العقالء‪ ،‬ودرب‬ ‫وحده هي طريقة الأنبياء‪،‬‬
‫هلل تعاىل َ‬
‫ عباد اهلل! �إن ال�شكوى ِ‬
‫املنيبني‪.‬‬

‫الل َو�أَ ْع َل ُم ِمنَ هَّ ِ‬


‫الل‬ ‫ولده‪ ،‬وعدم ب�ص َره‪َ } :‬ق َال ِ�إنمَّ َ ا �أَ�شْ ُكو َب ِّثي َو ُحزْنيِ ِ�إ ىَل هَّ ِ‬
‫ ا�سمع ليعقوب ‪ a‬حينما فقد َ‬
‫َما َال َت ْع َل ُمونَ {‪.‬‬
‫ ‬
‫ كان عمر بن اخلطاب ‪ d‬يقر�أ يف الفجر فم َّر بهذه الآية يف قراءته‪�} :‬إِنمَّ َ ا �أَ�شْ ُكو َب ِّثي َو ُحزْنيِ �إِ ىَل هَّ ِ‬
‫الل‬
‫الل َما َال َت ْع َل ُمونَ {‪ ،‬فبكى ‪s‬حتى �سمع ن�شيجه من �آخر ال�صفوف‪.‬‬ ‫َو�أَ ْع َل ُم ِمنَ هَّ ِ‬

‫‪238‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الشكوى هلل‬

‫رب خلي ُلك ُيل َقى‬


‫�ضجت عامة اخلليقة �إىل اهلل فقالوا‪ :‬يا ِّ‬ ‫ وملّا �أجمع ُ‬
‫النا�س �أن يلقوا �إبراهيم‪ a‬يف النار َّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫يف النار‪� ،‬إئذن لنا فلنطفئ عنه‪ ،‬فقال عز وجل‪�( :‬إن ا�ستعان بكم ف�أعينوه و�إن ا�ستغاث بكم ف�أغيثوه‪ ،‬و�إال‬
‫فدعوه)‪ ،‬وجاء َم َل ُك ال َق ْطر فقال‪( :‬يا رب خليلك يلقى يف النار ف�أذن يل ف�أطفئ النار بقطرة واحدة)‪ .‬فقال‬
‫اهلل‪( :‬هو خليلي و�أنا �إلهه‪ ،‬لي�س له �إله غريي‪ ،‬ف�إن ا�ستغاث بك ف�أغثه‪ ،‬و�إال فدعه)‪ .‬فلما �ألقي �إبراهيم ‪a‬‬
‫يف النار قال اهلل تبارك وتعاىل‪} :‬يا نار كوين برد ًا و�سالم ًا على �إبراهيم{‪.‬‬

‫النبي ‪ ،s‬وفعلوا به ما فعلوا دعا اهلل وجناه وناداه فقال‪( :‬اللهم �إليك �أ�شكو‬
‫الطائف َّ‬
‫ِ‬ ‫ وحينما �آذى �أهل‬
‫أنت ربي‪ ،‬اللهم �إىل َمن تكلني؟ �إىل‬
‫رب امل�ست�ضعفني‪ ،‬و� َ‬‫�ضعف قوتي‪ ،‬وقل َة حيلتي‪ ،‬وهواين على النا�س‪� ،‬أنت ُّ‬
‫َ‬
‫بعيد يتجمني‪� ،‬أم �إىل عد ٍو ملكته �أمري‪� ،‬إن مل يكن بك غ�ضب علي فال �أبايل‪ ،‬غري �أن عافيتك �أو�س ُع يل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫�سخطك �أو َّ‬
‫يحل‬ ‫و�ص َل َح عليه �أمر الدنيا والآخرة �أن َينزل بي ُ‬
‫�أعوذ بنور وجهك الذي �أ�شرقت به الظلمات‪َ ،‬‬
‫علي غ�ض ُبك‪ ،‬لك ال ُعتبى حتى تر�ضى‪ ،‬فال حول وال حول وال قوة �إال بك)‪.‬‬

‫ وكان من دعاء �أخيه مو�سى ‪ a‬حينما �ضاق عليه الأمر‪ ،‬وان�س َّد عليه ُقدرة اخلالئق‪ ،‬فر�آى البحر � َ‬
‫أمامه‬
‫متالطما‪ ،‬والعد َّو خل َفه ُمدركا‪ ،‬فم َّد يديه هلل وقال‪( :‬اللهم لك احلمد‪ ،‬و�إليك امل�شتكى‪ ،‬و�أنت املُ�ستعان‪ ،‬وبك‬
‫املُ�ستغاث‪ ،‬وعليك التكالن‪ ،‬وال حول وال قوة �إال بك)‪.‬‬

‫ ف َما �أج َمل هذا الدعاء‪ ،‬وما �أح ّقه ب�أن ُيحفظ‪ ،‬و�أن يت�أ ّمل فيه و ُينظر‪ ،‬و�أن ُيدعى به‪ ،‬وال ُيرتك بحال‪ ،‬فال‬
‫النبي ‪� s‬أ�صحابه‪ ،‬روى الطرباين (املعجم الأو�سط ‪)3394‬‬ ‫غرو بعد ذلك �أن ُيع ّل َمه ُّ‬

‫ عن عبد اهلل بن م�سعود‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬أال �أعلمكم الكلمات التي تكلم بها ُمو�سى ‪a‬حني‬
‫جاوز البحر ببني �إ�سرائيل) فقال ال�صحابة‪ :‬بلى يا ر�سول اهلل‪ ،‬قال‪( :‬قولوا‪( :‬اللهم لك احلمد‪ ،‬و�إليك‬
‫امل�شتكى‪ ،‬و�أنت امل�ستعان‪ ،‬وال حول وال قوة �إال باهلل العظيم)‪،‬‬

‫ قال ابن م�سعود‪ :‬ما تركتهن منذ �سمعتهن من ر�سول اهلل ‪ s‬وقال �شقيق (الراوي عنه)‪ :‬ما تركتهن‬
‫منذ �سمعتهن من عبد اهلل‪ ،‬وقال الأعم�ش‪ :‬فما تركتهن منذ �سمعتهن من �شقيق‪.‬‬

‫العبد كلما قوي طمعه يف ف�ضل اهلل ورحمته‪ ،‬وقوي رجا�ؤه لق�ضاء حاجته ودفع �ضرورته‪ ،‬زادت‬ ‫ �إن َ‬
‫وحريته مما �سواه‪ .‬وكلما زاد تعلقه باهلل �أعر�ض قل ُب ُه عن الطلب من غري اهلل ّ‬
‫ممن هو يف �ضعف‬ ‫عبوديته له‪ُ ،‬‬
‫وب ِع َبا ِد ِه َخ ِبري ًا{‪.‬‬
‫�أو �إىل �ضعف } َو َت َو َّك ْل َع َلى الحْ َ ِّي ا َّل ِذي ال مَ ُيوتُ َو َ�س ِّب ْح ِب َح ْم ِد ِه َو َك َفى ِب ِه ِب ُذ ُن ِ‬

‫ و ُك ُّل َمن ع َّلق قلبه باملخلوقني �أن َين�ص ُروه �أو َيرزقوه �أو �أن َيهدوه خ�ضع قل ُب ُه لهم و�صار فيه من العبودية‬
‫لهم بقدر ذلك‪ ،‬و�إن كان يف الظاهر رئي�س ًا لهم ومت�صرف ًا بهم‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الشكوى هلل‬

‫أحد‬
‫أحد ِمن اخلالئق‪ ،‬و�إمنا �أنزلوها باخلالق‪ ،‬ومل ي�شتكوا ل ٍ‬ ‫ �إن �أنبياء اهلل تعاىل مل ينزلوا �شكواهم ب� ٍ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ِمن امل�أمورين‪ ،‬و�إمنا �شكوها للآمر �سبحانه‪ ،‬فامل�شتكي طالب بل�سان احلال �إزال َة ما ي�ضره �أو ح�صول ما‬
‫ان�ص ْب* َوِ�إ ىَل َر ِّب َك َفا ْر َغ ْب{‪،‬‬
‫ينفعه‪ ،‬والعبد م�أمور �أن ي�س�أل ربه دون خلقه‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ } :‬ف ِ�إ َذا َف َر ْغ َت َف َ‬
‫ويف احلديث �أن النبي ‪ s‬قال البن عبا�س‪�( :‬إذا �س�ألت فا�س�أل اهلل‪ ،‬و�إذا ا�ستعنت فا�ستعن باهلل)‪.‬‬

‫ لقد َب َل َغ ِمن �ش�أن بع�ض ال�صاحلني �أنه يرتك ما يظنُّ �أنه �شكوى َ‬
‫للخ ْلق مع �أن ما تركه جائ ٌز لكنه يريد‬
‫�أن يكمل �أج ُر ُه وال يتعلق قل ُب ُه بغري اهلل؛ قرئ على الإمام �أحمد يف مر�ض موته �أن طاوو�س بن كي�سان كره �أنني‬
‫املر�ض وقال‪� :‬إنه �شكوى‪ .‬فما �أنّ حتى مات‪.‬‬

‫ن�ص ْر ُك ُم هَّ ُ‬
‫الل َف َال َغا ِل َب‬ ‫الل ُي ِح ُّب المْ ُ َت َو ِّك ِلني{ �إِن َي ُ‬ ‫الل �إِنَّ هَّ َ‬
‫ �أعوذ اهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ } :‬ف َت َو َّك ْل َع َلى هَّ ِ‬
‫ن�ص ُر ُكم ِّمن َب ْع ِد ِه َو َع َلى هَّ ِ‬
‫الل َف ْل َي َت َو ِّك ِل المْ ُ�ؤْ ِم ُنونَ {‪.‬‬ ‫َل ُك ْم َو�إِن َي ْخ ُذ ْل ُك ْم َف َمن َذا ا َّل ِذي َي ُ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الصحابة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الصحابة‬

‫ ‬
‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫احلباء؛ ِومن ذلك �أن اخت�صَّ ه‬‫ال�صفات‪ ،‬وحباه ب�أكرم ِ‬ ‫خ�ص نبيه و�صف َّيه حممد ًا ‪ s‬ب�أكمل ِّ‬ ‫ف�إن اهلل قد َّ‬
‫ب�صحاب ٍة جعلهم خ َري �أُم ِته‪ ،‬وال�سابقني �إىل ت�صدي ِقه وتبعيته‪ ،‬واملجاهدين بني يديه‪ ،‬والباذلني َ‬
‫نفو�سهم‬
‫النبي‪ s‬وتلك‬‫النا�س ب ُر�ؤيا ِّ‬ ‫تقرب ًا �إليه‪ ،‬والناقلني ُ‬
‫ل�س َّنته وق�ضاياه‪ ،‬واملقتدين ب�أفعا ِله ومزاياه‪ُ .‬ف ِّ�ض ُلوا على ِ‬
‫و�سبقوهم بالت�صدق والإميان به �إذا النا�س كافرون م�شركون وتلك �سابق ٌة ال ُتلحق‪.‬‬ ‫َف�ضيل ٌة ال ُتدرك‪َ ،‬‬

‫والنا�س كلُّهم له �أعدا ُء متوافرون وذاك جم ٌد ال‬


‫ُ‬ ‫وعر�ضه َوما جا َء به‬
‫ِ‬ ‫نف�سه‬
‫ �آزروه ون�صروه وذبوا َعن ِ‬
‫ُيقا َرب‪ُ .‬ث َّم نقلوا دي َنه وحدي َثه‪ ،‬و�سمتَه و َد َّل ِه‪ ،‬وو�صفه ونعتَه حتى مل تبقَ �شاذ ٌة وال فاذة‪ ،‬وال �صغري ٌة وال كبرية‬
‫وها وحفظوها ونقلوها فلهم امل َّن ُة على النا�س بعد ذلك وال ريب‪ .‬فال خ َري �إال وقد �سبقوا �إليه َمن‬ ‫عنه �إال َو َع َ‬
‫هدهم‪.‬‬ ‫ف�ضل �إال َوقد ا�ستفرغوا فيه ُج َ‬ ‫بعدهم‪ ،‬وال َ‬

‫ فجمي ُع هذا الدِّ ين َراج ٌع �إىل نق ِلهم وتعليمهم‪ ،‬ومت َّل َق ًى ِمن جهتهم ب�إبالغهم وتفهيمهم‪ ،‬فلهم ُ‬
‫مثل �أجو ِر‬
‫ُك ِّل َمن اهتدى ب�شيءٍ من ذلك على م َّر الأزمان‪ ،‬وذلك ف�ضل اهلل ي�ؤتيه َمن ي�شاء َّ‬
‫بالط ْو ِل والإح�سان‪.‬‬

‫أولئك هم َ�صحاب ُة ر�سول اهلل ‪ s‬وحواريوه‪ُ ،‬‬ ‫ َعباد اهلل! � َ‬


‫خطبة جديدة‬

‫وعيبتُه‪،‬‬
‫وجل�سا�ؤه وم�صطفوه‪ ،‬فهم بطانتُه َ‬
‫و ُوزرا�ؤه و�أ�صها ُره‪ ،‬النا�س ِ�شعار وهم الدثار‪ .‬فهم خ ُري القرون‪ ،‬وخ ُري �أم ٍة �أخرجت للنا�س‪ ،‬ثبتت عدال ُة‬
‫ل�صحب ِة نب ّيه ون�صر ِته‪ ،‬وال‬ ‫ممن ارت�ضاه ُ‬
‫اهلل ُ‬ ‫هلل ع َّز وجل عليهم وثناء ر�سو ِله ‪ ،s‬وال � ْأع َد َل َّ‬
‫جميعهم بثناء ا ِ‬
‫أف�ضل ِمن ذلك‪ ،‬وال َ‬
‫تعيدل �أكمل منه‪.‬‬ ‫تزك َي َة � ُ‬

‫ فال�صَّ حابة ‪َ f‬خ ُل َ�صت ن َّيا ُتهم‪َ ،‬‬


‫وح�سنت �أعما ُلهم‪ ،‬فك ُّل َمن نظر �إليهم �أعجبوه يف َ�سم ِتهم وهديهم‪،‬‬
‫هلل‬
‫قال مالك رحمه اهلل‪" :‬بلغني �أن الن�صارى كانوا �إذا ر�أوا ال�صَّ حابة ‪ f‬الذين فتحوا ال�شام يقولون‪ :‬وا ِ‬
‫ري من احلواريني "‪.‬‬
‫له�ؤالء خ ٌ‬

‫َو َ�صد ُقوا يف ذلك ف�إن هذه الأم َة ُمعظ َّم ٌة يف ال ُك ِ‬


‫تب املُتقدِّ مة‪ ،‬و�أعظم هذه الأمة و�أف�ض ُلها �أ�صحاب ر�سول‬ ‫ ‬
‫بذكرهم يف ال ُكتب املنزلة‪ ،‬والأخبار املتداولة؛ قال ُ‬
‫اهلل ع َّز وجل‪} :‬‬ ‫اهلل تبارك وتعاىل ِ‬ ‫اهلل ‪َ ،s‬وقد ن َّو َه ُ‬

‫‪241‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الصحابة‬

‫الل َوا َّل ِذينَ َم َع ُه �أَ ِ�ش َّدا ُء َع َلى ا ْل ُك َّفا ِر ُر َح َما ُء َب ْي َن ُه ْم َت َراهُ ْم ُر َّك ًعا ُ�س َّجدً ا َي ْب َت ُغونَ َف�ضْ ًال ِّمنَ هَّ ِ‬
‫الل‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫محُّ َ َّم ٌد َّر ُ�س ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫جن ِيل َكزَ ْر ٍع �أَ ْخ َر َج‬
‫ال�س ُجو ِد َذ ِل َك َم َث ُل ُه ْم فيِ ال َّت ْو َرا ِة َو َم َث ُل ُه ْم فيِ ا ِلإ ِ‬ ‫وه ِهم ِّمنْ �أَ َث ِر ُّ‬ ‫َو ِر�ضْ َوا ًنا ِ�سي َماهُ ْم فيِ ُو ُج ِ‬
‫يظ ِب ِه ُم ا ْل ُك َّفا َر َو َع َد هَّ ُ‬
‫الل ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا َو َع ِم ُلوا‬ ‫ا�س َت َوى َع َلى ُ�سو ِق ِه ُي ْع ِج ُب ال ُّز َّرا َع ِل َي ِغ َ‬ ‫َ�شط َْ�أ ُه َف�آ َز َر ُه َف ْ‬
‫ا�س َت ْغ َل َظ َف ْ‬
‫ات ِم ْن ُهم َّم ْغ ِف َر ًة َو�أَ ْج ًرا َع ِظي ًما{‪.‬‬ ‫ال�صَّ الحِ َ ِ‬

‫ فهم مذكورون يف التوراة بالرحم ِة بينهم وال�شد ِة على �أعدائهم‪َ ،‬ومذكورون يف الإجنيل ب�أنهم كالزَّرع‬
‫�شب وطال‪ ،‬فا�ست َوى على ُ�سو ِقه‪ ،‬يعجب الزُّراع‬ ‫َ‬
‫فا�ستغلظ �أي َّ‬ ‫الذي �أخرج َ�شطْ�أ ُه �أي ِف َ‬
‫راخه‪ ،‬ف�آزره �أي �ش َّده‪،‬‬
‫أ�صحاب ر�سول اهلل ‪� s‬آزروه و�أيدوه ون�صروه فهم معه كال�شطء مع الزَّرع‬ ‫ُ‬ ‫ليغيظ بهم الكفار‪� ،‬أي فكذلك �‬
‫ويعجب الزراع‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َيغيظ ُ‬
‫اهلل بهم ال ُكفار‬

‫اهلل َمنزل ًة َ�سامية‪ ،‬ف�أح َّلهم ِر�ضوانه‪َ ،‬و َ�ش َّرفهم بالذكر يف كتابه فهو يتلى � َأبد ال َّدهر وما‬ ‫ َوقد �أنزلهم ُ‬
‫ال�سا ِب ُقونَ الأَ َّو ُلونَ ِمنَ المْ ُ َه ِاج ِرينَ َوالأَ َ‬
‫ن�صا ِر َوا َّل ِذينَ ا َّت َب ُعوهُ م ِب ِ�إ ْح َ�س ٍان َّر ِ�ض َي‬ ‫جرى لي ٌل ونهار قال �سبحانه‪َ } :‬و َّ‬
‫هَّ ُ‬
‫الل َع ْن ُه ْم َو َر ُ�ضو ْا َع ْن ُه َو�أَ َع َّد َل ُه ْم َج َّن ٍات تجَْ ِري تحَْ َت َها الأَ ْن َها ُر َخا ِل ِدينَ ِفي َها �أَ َبدً ا َذ ِل َك ا ْل َف ْو ُز ا ْل َع ِظ ُيم{‪.‬‬

‫ال�سابقني الأولني من املهاجرين والأن�صار والذين اتبعوهم واقتدوا‬ ‫ ف�أخرب ُ‬


‫اهلل تعاىل ب�أنه ر�ضي عن َّ‬
‫إخال�ص هلل ومتابع ٍة لر�سو ِله ‪َ } s‬ف�إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َال َي ْر َ�ضى َع ِن ا ْل َق ْو ِم ا ْل َف ِا�س ِقنيَ{‪.‬‬ ‫بهم ب�إح�سان العمل ب� ٍ‬

‫ قال البيهقي (ال�شعب ‪( :)190/2‬ف�إذا ُا ِنز ُلوا هذه املنزل َة ا�ستح ُّقوا على جماع ِة امل�سلمني �أن يحبوهم‬
‫وواجب على العبد �أن يحب َمن‬
‫ٌ‬ ‫أحد �أح َّبهُ‪،‬‬
‫ويتقربوا �إىل اهلل عز وجل مبحبتهم لأن اهلل تعاىل �إذا ر�ضي عن � ٍ‬
‫يح ُب ُه مواله)‪.‬‬

‫اهلل عليهم من الف�ضل فقال �سبحانه‪} :‬ال َي ْ�س َت ِوي‬ ‫بعدهم مبا منَّ ُ‬ ‫اهلل ج َّل وعال �أنه لن يلحق �أح ٌد َ‬ ‫ وبينَّ ُ‬
‫ِمن ُكم َّمنْ �أَنفَقَ ِمن َق ْب ِل ا ْل َفت ِْح َو َقات ََل �أُ ْو َل ِئ َك �أَ ْع َظ ُم َد َر َج ًة ِّمنَ ا َّل ِذينَ �أَن َف ُقوا ِمن َب ْع ُد َو َقا َت ُلوا َو ُك ًّال َو َع َد هَّ ُ‬
‫الل‬
‫الحْ ُ ْ�س َنى{‪.‬‬

‫ وحكم �سبحانه ب�أنهم م�ؤمنون حق ًا و�صادقون ومفلحون‪ ،‬ن�صروا اهلل ور�سو َله‪ ،‬ال ُ�ش ُّح يف قلوبهم وال ِغ َّل‪،‬‬
‫اج ُرو ْا َو َج َاهدُو ْا فيِ َ�س ِب ِيل هَّ ِ‬
‫الل َوا َّل ِذينَ �آ َوو ْا َّو َن َ�ص ُرو ْا �أُو َلـ ِئ َك‬ ‫و�أنه مغفور لهم؛ فقال �سبحانه‪َ } :‬وا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا َو َه َ‬
‫مي{‪.‬‬ ‫هُ ُم المْ ُ�ؤْ ِم ُنونَ َح ًّقا َّل ُهم َّم ْغ ِف َر ٌة َو ِر ْز ٌق َك ِر ٌ‬

‫ وقال‪ِ } :‬ل ْل ُف َق َراء المْ ُ َه ِاج ِرينَ ا َّل ِذينَ �أُ ْخ ِر ُجوا ِمن ِديا ِر ِه ْم َو�أَ ْم َوا ِل ِه ْم َي ْب َت ُغونَ َف�ضْ ًال ِّمنَ هَّ ِ‬
‫الل َو ِر�ضْ َوا ًنا‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه �أُ ْو َل ِئ َك هُ ُم ال�صَّ ا ِد ُقونَ { َوا َّل ِذينَ َت َبوَّ�ؤُوا ال َّدا َر َوا ِلإ َميانَ ِمن َق ْب ِل ِه ْم ُي ِح ُّبونَ َمنْ َه َ‬
‫اج َر‬ ‫ن�ص ُرونَ هَّ َ‬ ‫َو َي ُ‬
‫وق‬‫ا�ص ٌة َو َمن ُي َ‬ ‫اج ًة ممَِّّ ا �أُو ُتوا َو ُي�ؤْ ِث ُرونَ َع َلى �أَن ُف ِ�س ِه ْم َو َل ْو َكانَ ِب ِه ْم َخ َ�ص َ‬ ‫ِ�إ َل ْي ِه ْم َوال َي ِجدُونَ فيِ ُ�صدُو ِر ِه ْم َح َ‬
‫ُ�ش َّح َن ْف ِ�س ِه َف ُ�أ ْو َل ِئ َك هُ ُم المْ ُ ْف ِل ُحونَ { َوا َّل ِذينَ َجا�ؤُو ِمن َب ْع ِد ِه ْم َي ُقو ُلونَ َر َّب َنا ْاغ ِف ْر َل َنا َولإِ ْخ َوا ِن َنا ا َّل ِذينَ َ�س َب ُقو َنا‬
‫وف َّر ِحي ٌم{‬‫ِبالإِ َمي ِان َوال تجَْ َع ْل فيِ ُق ُلو ِب َنا ِغ ًّال ِّل َّل ِذينَ � َآم ُنوا َر َّب َنا �إِ َّن َك َر�ؤُ ٌ‬

‫‪242‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الصحابة‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫قال ابن عبا�س ملا قر�أ هذه الآية‪� " :‬أمر اهلل باال�ستغفار لأ�صحاب حم َّم ٍد ‪ s‬وهو َيعلم ما �سيفعلون "‪.‬‬ ‫ ‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬ ‫ ‬

‫ عباد اهلل ! �إن ُح َّب ال�صَّ َحابة ِمن الإميان‪ ،‬روى ال�شيخان عن �أن�س ‪�d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬آي ُة ال ِ‬
‫إميان‬
‫عتقد ف�ضائ َلهم‪ ،‬ويعرتف لهم بها‪َ ،‬ويعرف ل ُك ِّل ذي‬ ‫فح ُّبهم �أن َي َ‬
‫ُح ُّب الأن�صار‪ ،‬و�آية النفاق بغ�ض الأن�صار) ُ‬
‫َحقٍّ منهم ح َّقه‪ ،‬ولكل ذي ِغ َن ًا يف الإ�سالم منهم ِغ َناه‪ ،‬ولكل ذي منزله عند ر�سول اهلل ‪ s‬منزلتَه‪ ،‬وين�شر‬
‫حما�س َنهم‪ ،‬ويدعو باخلري لهم‪ ،‬ويقتدي مبا جاء يف �أبواب الدِّ ين عنهم‪ ،‬وال يتت َّبع زال ِتهم َو َه َفوا ِتهم‪ ،‬وي�سكت‬
‫عما ال تقع �ضرورة �إىل اخلو�ض فيه مما كان بينهم‪.‬‬

‫هلل ‪،s‬‬ ‫ر�سول ا ِ‬‫مما ي�ؤذي َ‬ ‫ وليعلم املُ�سلم �أن الوقيع َة فيهم والبحثَ عن نقائ�صهم والغ�ضَّ ِمن مكانتهم َّ‬
‫هلل يف �أ�صحابي‪ ،‬ال تتخذوهم‬ ‫(اهلل َا َ‬ ‫فروى الإمام �أحمد والرتمذي عن عبد اهلل بن املغفل �أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫أبغ�ضهم‪َ ،‬ومن �آذاهم فقد �آذاين‪ ،‬ومن‬ ‫أبغ�ضهم فببغ�ضي � َ‬ ‫َغ َر َ�ض ًا بعدي‪ ،‬ف َمن �أح َّبهم فبحبي �أح َّبهم‪َ ،‬ومن � َ‬
‫�آذاين فقد �آذى اهلل ومن �آذى اهلل يو�شك �أن ي�أخذه) وذلك قول اهلل تعاىل‪�} :‬إِنَّ ا َّل ِذينَ ُي�ؤْ ُذونَ هَّ َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه‬
‫الل فيِ ال ُّد ْن َيا َوال ِآخ َر ِة َو�أَ َع َّد َل ُه ْم َع َذا ًبا ُّم ِهي ًنا{ َوا َّل ِذينَ ُي�ؤْ ُذونَ المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني َوالمْ ُ�ؤْ ِم َن ِ‬
‫ات ِب َغ رْ ِي َما ا ْكت ََ�س ُبوا َف َق ِد‬ ‫َل َع َن ُه ُم هَّ ُ‬
‫ْاح َت َم ُلوا ُب ْهتَا ًنا َو ِ�إ ْث ًما ُّم ِبي ًنا{‪.‬‬

‫حلرمة واملكانة �آل بيت النبي ‪ s‬وقرابتُه؛ روى الرتمذي �أنه ‪ s‬قال‪( :‬يا �أيها النا�س َمن‬ ‫ ومث ُلهم يف ا ُ‬
‫النبي‬
‫عمي فقد �آذاين‪� ،‬إمنا َع ُم الرجل ِ�صنو �أبيه) يعني العبا�س بن عبد املطلب ‪ d‬ويف ال�صحيحني �أن َّ‬ ‫�آذى ِّ‬
‫لمت يف �أهل بيتي‬
‫‪s‬قال‪( :‬يا مع�ش َر امل�سلمني من يعذرين من رجل قد بلغني �أذاه يف �أهل بيتي ف َواهلل ما َع ُ‬
‫�إال خري ًا) وذلك ملا تكلم ر�أ�س النفاق عبد اهلل بن �أُبي يف �أم امل�ؤمنني عائ�شة ‪ ،g‬ف�س ّمى النبي ‪ s‬الكالم‬
‫يف �أزواجه �أذي ًة له يف �أهل بيته‪.‬‬

‫عباد اهلل! �إن ِمن املنق�ص ِة البحثُ عن َم َعايب الف�ضالء‪ ،‬وتتب ُع عرثا ِتهم‪ .‬ناهيك عن الوقيعة فيهم‪.‬‬ ‫ ‬

‫ ف َما ظنك َمبن كان له القدح املُع َّلى‪ ،‬واملكان الأ�سمى‪ ،‬ف َما ا�ستظ َّل باخل�ضراء‪ ،‬وال ا�ستق َّل ال َغربا َء قو ٌم‬
‫هم �أ�صدق لهج ًة‪ ،‬و�أوفى ذمام ًا‪ ،‬و�أعلى مقام ًا بعد الأنبياء منهم؛ كما �أخرب بذلك الر�سول الكرمي ‪.s‬‬

‫ قال ابنُ عمر‪( :d‬ال ت�سبوا �أ�صحاب حممد فلمقام �أحدهم �ساعة خري من عمل � ِ‬
‫أحدكم ُعم َره)‪ .‬وروى‬
‫ُم�سلم يف ال�صَّ حيح عن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪ ( :‬الت�سبوا �أ�صحابي فوالذي نف�سي بيده لو �أن �أحدكم‬
‫ر�سول اهلل‪s‬‬
‫أ�صحاب ِ‬‫ِ‬ ‫�أنفق مثل �أحد ذهبا ما �أدرك مد �أحدهم وال ن�صيفه)‪ .‬فتع�س ًا ل ٍ‬
‫أقوام جعلوا مذ ّمة �‬
‫واخلو�ض يف �أعرا�ضهم لهم م�سلك ًا‪.‬‬
‫َ‬ ‫ديدنن ًا‪،‬‬

‫‪243‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الصالة على النبي‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الصالة على النبي‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ فيقول اهلل تعاىل‪�ِ } :‬إنَّ هَّ َ‬
‫الل َو َملاَ ِئ َك َت ُه ُي َ�صلُّونَ َع َلى ال َّن ِب ِّي َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ �آَ َم ُنوا َ�صلُّوا َع َل ْي ِه َو َ�س ِّل ُموا ت َْ�س ِلي ًما{‪.‬‬
‫ومعنى �صالة اهلل ع ّز وجل على النبي ‪� :s‬أي ثنا�ؤه عليه عند املالئكة‪ ،‬و�صالة املالئكة على النبي ‪� s‬أي‬
‫اهلل عليه‪.‬‬ ‫دعا�ؤهم له ب�أن يثني ُ‬

‫ال�صالة على النبي ‪ :s‬تعظيم اهلل له يف الدنيا ب�إعالء ذكره‪ ،‬و�إظها ِر دينه‪ ،‬و�إبقا ِء �شريع ِته‪،‬‬ ‫ ويكون �أثر ّ‬
‫اهلل له ذلك‪.‬‬ ‫ويف الآخرة ب�إجزال مثوبته‪ ،‬وت�شفي ِعه يف �أمته‪ ،‬و�إبداء ف�ضيل ِته باملقام املحمود‪ .‬واملالئكة ت�س�أل َ‬
‫ و�أ ّما �صالة امل�ؤمنني عليه التي �أمر اهلل بها يف قوله تعاىل‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ �آَ َم ُنوا َ�صلُّوا َع َل ْي ِه َو َ�س ِّل ُموا‬
‫اهلل عليه ويرفع قد َره‪.‬‬ ‫ت َْ�س ِلي ًما{‪� ،‬أي ادعوا ر َّبكم (�أيها امل�ؤمنون) �أن ُي�ص ّلي ُ‬

‫النبي ‪� ،s‬إذ ال�سالم ا�س ٌم من �أ�سماء‬ ‫ و�أ ّما معنى ت�سليمنا على النبي ‪ s‬فمعناه �س�ؤال اهلل �أن ُي�س ِّلم َّ‬
‫وذكره‬ ‫اهلل تعاىل‪ ،‬ف�إذا قال امل�ؤمن‪( :‬اللهم �س ِّلم على حممد) فك�أمنا قال‪ :‬اللهم اكتب ٍ‬
‫ملحمد يف دعوته و�أم ِته ِ‬
‫أيام ُعلُّو ًا‪ ،‬و�أمتُه تكاثر ًا‪ ،‬وذك ُره ارتفاع ًا‪ .‬ف�صالة املر ِء‬ ‫ال�سالم َة ِمن ُك ِّل ٍ‬
‫نق�ص‪ ،‬فتَزدا ُد دعو ُته على مم ِّر ال ِ‬ ‫َّ‬
‫على نبينا حممد ‪ ،s‬هو الدعاء برفعة هذا الدين‪ ،‬وعل ّو �ش�أنه‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ري‪ِ ،‬ومن ذلك‪:‬‬ ‫النبي الكرمي ‪ s‬ف�ض ٌل عظي ٌم و�أج ٌر كب ٌ‬
‫ ‪ w‬عباد اهلل! لقد ورد يف ال�صَّ الة على ِّ‬
‫اهلل عليه ع�شر ًا؛ ففي �صحيح م�سلم عن �أبي هريرة ‪�d‬أن النبي‬ ‫۩ ۩�أن من �ص َّلى على النبي ‪ s‬م ّرة �ص ّلى ُ‬
‫فاهلل يثني على من �صلى على نب ّيه‪ ،‬و ُيح�سنُ‬ ‫علي واحدة �صلى اهلل عليه ع�شر ًا)‪ُ .‬‬
‫‪ s‬قال‪( :‬من �ص َّلى َّ‬
‫ذكره يف ملأ �أخري‪.‬‬

‫ومتحى عنه َع�ش ُر َ�سيئات‪،‬‬ ‫النبي ‪ُ s‬تكتَب له ب ُك ِّل َ�صال ٍة ع�ش ُر َح ٍ‬


‫�سنات‪َ ،‬‬ ‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن املُ�ص ِّلي علي ِّ‬
‫علي من �أمتي �صالة خمل�ص ًا من قلبه‬
‫(من �ص ّلى َّ‬
‫روى الن�سائي عن �أبي ُبردة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫�ص َّلى ُ‬
‫اهلل عليه بها ع�ش َر �صلوات‪ ،‬ورف َعه بها ع�ش َر درجات‪ ،‬وكتب له بها ع�ش َر ح�سنات‪ ،‬وحما عنه ع�ش َر‬
‫�سيئات)‪.‬‬
‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن َمن كان مكرث ًا من ال�صالة على النبي ‪ s‬ف�إنه ِمن �أوىل النا�س منزل ًة به ‪ s‬يوم‬
‫‪244‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الصالة على النبي‬

‫م�سعود ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن �أوىل النا�س بي يوم القيامة‬


‫ٍ‬ ‫القيامة‪ ،‬روى الرتمذي وح�سنه عن ابن‬
‫علي �صالة)‪.‬‬
‫�أكرثهم َّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫عطى عطا ًء عظيم ًا‪ ،‬و ُيكفى �شر ًا ج�سيم ًا؛ فقد‬
‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن َمن َ�ص َّلى على النبي ‪ s‬و�أك َرث منه ف�إنه ُي َ‬
‫قلت‪ :‬يا ر�سول اهلل �إين �أك ُرث ال�صَّ ال َة عليك فكم �أجعل لك من‬ ‫روى الرتمذي عن �أُ ِّبي بن كعب‪d‬قال‪ُ :‬‬
‫قلت‪ :‬الربع‪ .‬قال‪( :‬ما �شئت ف�إن زدت فهو خري‬ ‫�صالتي (�أي من دعائي لنف�سي)؟ فقال‪( :‬ما �شئت) قال ُ‬
‫(ما �شئت ف�إن‬‫قلت‪ :‬فالثلثني‪ .‬قال‪َ :‬‬ ‫قلت‪ :‬الن�صف‪ .‬قال‪( :‬ما �شئت ف�إن زدت فهو خري لك)‪ ،‬قال‪ُ :‬‬ ‫لك) ُ‬
‫قلت‪� :‬أجعل لك �صالتي ك َّلها‪ ،‬قال‪�( :‬إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك)‪.‬‬ ‫زدت فهو خري لك)‪ُ ،‬‬

‫صري يف حقَّ النف�س‪� :‬أن ُيذ َكر عليه ال�صَّ ال ُة َّ‬


‫وال�سالم ثم ال‬ ‫ عباد اهلل! �إن ِمن اجلفاء بالنبي ‪ ،s‬والتق� ِ‬
‫علي)‪ .‬و� ُّأي‬ ‫ُي�ص َّلى عليه‪ ،‬وقد روى الرتمذي والن�سائي �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬البخيل من ذكرت عنده فلم ِّ‬
‫ي�صل َّ‬
‫بخل �أ�ش ُّد ِمن البخل ب ُكليمات ق�صريه تنفع قائلها‪ ،‬وال تنق�صه �شيئ ًا‪.‬‬
‫ٍ‬

‫علي خطئ طريق اجل ّنة)‪.‬‬


‫(من ن�سي ال�صَّ الة َّ‬
‫بل َر َوى ابنُ ماجه �أنه عليه ال�صالة وال�سالم قال‪َ :‬‬ ‫ ‬

‫ عباد اهلل! هذه �أ�ص ُّح الأحاديث الواردة يف ف�ضل ال�صَّ الة على النبي الكرمي ‪ ،s‬وفيها حتفي ٌز للم�سلم‬
‫وترغيب‪ ،‬وفيها غني ٌة عن الأحاديث املو�ضوعة واملكذوبة التي متتلئ بها الكتب ومواقع الإنرتنت‪.‬‬

‫فالواجب على املُ�سلم �إذا ح ّدث بالف�ضائل‪� ،‬أن يكتفي بامل�شروع الوارد‪ ،‬و ُيعر�ض عن املو�ضوع املكذوب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ ‬
‫النا�س بينهم �صيغ ًة مع ّين ًة‬ ‫ففي الأول كفاية ُ‬
‫وغنية‪ ،‬ويف الثاين �إثم و ُبهت‪� .‬إذا يعجب املر ُء حينما يرتا�سل ُ‬
‫لل�صالة على النبي ‪ s‬ويزعمون �أنّ لها ف�ض ًال‪،‬‬

‫وع ِل َمها هوالء‪� ،‬إن الواجب على امل�سلم �إذا �أراد الأجر �أن ُي�ص ِّلي على‬
‫ ولو كان كذلك َملا �أخفاها النبي ‪َ s‬‬
‫ال�صيغ املبتدعة والتي متتلئ بها بع�ض ال ُكتب ككتاب (دالئل اخلريات)‬ ‫النبي‪ s‬بال�صيغة التي وردت‪ ،‬و�أ ّما ِّ‬
‫مث ًال‪ ،‬وك�صالة الفاحت وغريها‪ ،‬ف�إنها غري م�شروع ٍة مطلق ًا‪ ،‬بل ُرمبا كان قائلها للإثم �أقرب عياذ ًا باهلل‪.‬‬

‫ �إمنا �أف�ضل �صيغ ال�صالة على النبي ‪ s‬هي ال�صَّ الة الإبراهيمية التي ع ّلمها النبي ‪� s‬صحابته‪ ،‬ففي‬
‫ال�صحيح عن ب�شري بن �سعد‪ d‬قال‪� :‬أمرنا ُ‬
‫اهلل تعاىل �أن ن�ص ِّلي عليك يا ر�سول اهلل‪ ،‬فكيف ُن�ص ِّلي عليك؟‬
‫�صل على حممد‬ ‫قال‪ :‬ف�سكت ر�سول اهلل ‪s‬حتى متنينا �أنه مل َي�س�أ ْله‪ ،‬ثم قال ر�سول اهلل ‪ s‬قولوا « ال ّلهم ِّ‬
‫حممد وعلى �آل حممد كما باركت على �آل �إبراهيم‬ ‫ٍ‬ ‫وعلى �آل حممد كما �صليت على �آل �إبراهيم وبارك على‬
‫يف العاملني �إنك حميد جميد»‪.‬‬

‫جز ُئ عن هذه ال�صيغ ِة ال�صيغ ُة املخت�صرة ب�أن يقول املر ُء‪�( :‬ص ّلى اهلل عليه و�سلم)‪� ،‬أو (عليه ال�صالة‬ ‫ و ُي ِ‬
‫َ‬
‫وال�سالم)؛ لأنها ظاهر الآية وهي قوله تعاىل‪َ } :‬يا �أ ُّي َها ا َّل ِذينَ �آَ َم ُنوا َ�صلُّوا َع َل ْي ِه َو َ�س ِّل ُموا ت َْ�س ِلي ًما{‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الصالة على النبي‬

‫ وقد ُك ِره –كما قال النووي وغريه‪� :-‬إفرا ُد ال�صَّ الة على النبي ‪ s‬دون ال�سالم؛ لأن اهلل �أمر بهما مع ًا‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�صالة جمموعان يف التحيات ثم ال�صالة على النبي ‪.s‬‬ ‫وهما يف ّ‬

‫كتب ال�صَّ الة على النبي ‪� s‬إذا ورد ذك ُره يف الكتب‪ ،‬و�أن ال يخت�صرها‬
‫ و�إن مما ي�ؤجر عليه املرء �أن َي َ‬
‫بحرف �أو ب�ضعة ُحروف‪.‬‬

‫ومما يرتا�سله بع�ض النا�س بينهم‪ :‬احلثُّ على ال�صَّ الة عليه ‪ٍ s‬‬
‫بعدد معينّ كمائ ٍة �أو �ألف‪ ،‬ويزعم‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫مر�سلها �أنّ لها �أجر ًا‪ ،‬و�إمنا هو االفرتاء على اهلل ِ‬
‫و�شرعه‪ ،‬فاملرء يدعو اهلل وي�صلي على نبيه ‪ s‬من غري‬
‫بف�ضل مل يردا يف الن�صو�ص ال�شرع ّية‪.‬‬
‫تخ�صي�ص بعدد‪ ،‬وال تقييد ٍ‬
‫} ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َو َمال ِئ َك َت ُه ُي َ�صلُّونَ َع َلى ال َّن ِب ِّي َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا َ�صلُّوا َع َل ْي ِه َو َ�س ِّل ُموا ت َْ�س ِليم ًا{‬ ‫ ‬
‫ •‬
‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الطالق‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الطالق‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إنّ من الت�صرفات التي �أباحها ال�شر ُع عند احلاجة �إليها‪ :‬الفرق ُة بني الزوجني بالطالق‪ ،‬ف�إباحة‬
‫إطالق و�إمنا �إباح ٌة مق ّيد ٌة باحلاجة‪ ،‬و�إال ف�إنه ُينهى عن الطالق �إ ّما كراه ًة �أو حترمي ًا‪،‬‬
‫الطالق لي�ست على � ٍ‬
‫�سمعت النبي ‪ s‬يقول‪( :‬ما � َّ‬
‫أحل‬ ‫ُ‬ ‫إ�سناد جيد عن حمارب بن دثار �أن ابن عمر‪ d‬قال ‪:‬‬ ‫وقد روى �أبو داود ب� ٍ‬
‫ُ‬
‫اهلل �شيئ ًا � َ‬
‫أبغ�ض �إليه ِمن الطالق)‪.‬‬

‫لل�شيطان‪ ،‬حري�ص ًا على �إيقاع العباد فيه‪،‬‬ ‫ وما كان مبغو�ض ًا للرحمان ج ّل وعال ف�إنه يكون حمبوب ًا ّ‬
‫ي�س َي َ�ض ُع َع ْر َ�ش ُه َع َلى المْ َا ِء ُث َّم َي ْب َعثُ َ�س َرا َيا ُه َف�أَ ْد َناهُ ْم‬ ‫يف �صحيح م�سلم (‪� )7284‬أن النبي ‪s‬قال‪�ِ « :‬إنَّ ِ�إ ْب ِل َ‬
‫ول‪َ :‬ما َ�ص َن ْع َت َ�ش ْيئ ًا‪َ .‬ق َال‪ُ :‬ث َّم َي ِجي ُء‬ ‫ول‪َ :‬ف َع ْل ُت َك َذا َو َك َذا‪َ ،‬ف َي ُق ُ‬ ‫ِم ْن ُه َم ْن ِز َل ًة �أَ ْع َظ ُم ُه ْم ِف ْت َن ًة‪َ ،‬ي ِجي ُء �أَ َحدُهُ ْم َف َي ُق ُ‬
‫ول‪ِ :‬ن ْع َم �أَ ْن َت »‪.‬‬‫ول‪َ :‬ما َت َر ْك ُت ُه َحتَّى َف َّر ْق ُت َب ْي َن ُه َو َبينْ َ ْام َر�أَ ِت ِه‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف ُي ْد ِني ِه ِم ْنهُ‪ ،‬و َي ْلت َِز ُمهُ‪َ ،‬و َي ُق ُ‬
‫�أَ َحدُهُ ْم‪َ ،‬ف َي ُق ُ‬

‫رغ ُب فيه؛ َملا فيه من فتح �أبواب‬‫أعظم الفنت و�أك ُرث ما ُي�سعد ال�شيطان و َي َ‬ ‫َ‬
‫الطالق � ُ‬ ‫ فبينّ النبي ‪�s‬أن‬
‫وحل قيد الع�صمة‪ ،‬ففيه من املفا�سد الكثرية التي يرغب بها ال�شيطان‪ِ ،‬من �إدخال‬ ‫ال�ش ّر‪ ،‬و َقطع ال َو�صلة‪ِّ ،‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫فئام من امل�سلمني‪َ ،‬وما يكون ِمن �ضر ٍر‬


‫والهم على الآدمي‪ ،‬وما يرتتب عليه من خ�صومات وعداوات بني ٍ‬ ‫الغم ِّ‬ ‫ّ‬
‫على الأبناء يف معا�شهم وتربيتهم وحياتهم‪ ،‬وغري ذلك من الأمور‪.‬‬

‫والت�ساهل يف �إطالقه؛ روى ابن‬


‫ِ‬ ‫النقل م�شدد ًا يف النهي عن التو�سع يف الطالق من غ ِري موجب‪،‬‬
‫ لذا جاء ُ‬
‫ماجه ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي مو�سى ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ما بال �أقوام يلعبون بحدود اهلل وي�ستهزئون‬
‫راجعتك)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫طلقتك‬
‫ِ‬ ‫راجعتك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫طلقتك‬
‫ِ‬ ‫ب�آياته‪،‬‬

‫مبغو�ض عند اهلل وما ُ�شرع �إال‬


‫ٌ‬ ‫ فذ ّم النبي ‪ s‬الذين يت�ساهلون بالطالق‪ ،‬وال يبالون به‪� ،‬إذ الطالق‬
‫حلاجة النا�س‪ ،‬فح ُّده �أن ال َي�أتي الإن�سان به �إال عند احلاجة فالإكثار منه بال حاجة من قلة املباالة باحلد‪،‬‬

‫‪247‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الطالق‬

‫لذا �س ّماهم ‪s‬العبني بحدود اهلل‪ ،‬وم�ستهزئني ب�آياته؛ �إذ يف كتاب اهلل الت�شديد على �أمر الطالق والأمر‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اك‬ ‫بالإم�ساك باملعروف �أو الت�سريح ب�إح�سان‪ ،‬وقد جعلها اهلل حدود ًا‪ ،‬فقال �سبحانه‪َّ :‬‬
‫}الط َال ُق َم َّرت َِان َف�إِ ْم َ�س ٌ‬
‫وف �أَ ْو ت َْ�س ِري ٌح ِب ِ�إ ْح َ�س ٍان َو َال َي ِح ُّل َل ُك ْم �أَن َت�أْ ُخ ُذو ْا ممَِّ ا �آ َت ْي ُت ُموهُ نَّ َ�ش ْيئ ًا ِ�إالَّ �أَن َي َخا َفا �أَالَّ ُي ِقي َما ُحدُو َد هَّ ِ‬
‫الل‬ ‫بمِ َ ْع ُر ٍ‬
‫ُوها َو َمن َي َت َع َّد ُحدُو َد‬ ‫هَّ‬
‫الل َف َال َت ْع َتد َ‬
‫الل َف َال ُج َن َاح َع َل ْي ِه َما ِفي َما ا ْفت ََد ْت ِب ِه ِت ْل َك ُحدُو ُد ِ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬
‫َف�إِنْ ِخ ْفت ُْم �أالَّ ُي ِقي َما ُحدُو َد ِ‬
‫هَّ ِ‬
‫الل َف�أُ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم َّ‬
‫الظالمِ ُونَ {‪.‬‬

‫ ولذا ف�إن الذي يت�ساهل يف الطالق و ُموج ِبه هو من �شرار اخللق و�أبعدهم عن الهدي‪ ،‬قال َدا ُو َد ْب ِن �أَ ِبي‬
‫ا�س َف َو َج ْدتُ َ�أ َح َدهُ ْم ُي َط ِّلقُ ْام َر�أَ َت ُه َع َلى َ�ش ْيءٍ ال ُي َ�سا ِوي َ�ش ِع َري ًة)‪.‬‬
‫(جا َل ْ�س ُت ِ�ش َرا َر ال َّن ِ‬
‫ِه ْن ٍد‪َ :‬‬

‫وعدم الت�سرع فيه‪ ،‬لذا َ�ش َر َع كثري ًا من الأحكام‬


‫‪ w‬عباد اهلل! لقد حر�ص ال�شر ُع على التقليل من الطالق‪ِ ،‬‬
‫التف�صيلية ت�ؤكد هذا املبد�أ وتقرره‪:‬‬
‫فمن جانب الزوج �أُمر بالرتوي بالطالق‪ ،‬ونهي عن التعجل فيه‪ ،‬ولذا جاء النهي عن �إيقاعه يف �أوقات‬ ‫۩۩ ِ‬
‫حمددة؛ حال احلي�ض‪ ،‬وحال الطهر الذي ُجومعت فيه‪ ،‬فينتظر الزواج حتى تنق�ضي هذه الأوقات ثم‬
‫بعده‪ ،‬ف�إن �أوقعه فيه �أُمر وجوب ًا باملراجعة‪ ،‬ليكون � َ‬
‫أمهل له و�أكرث رو ّية فيه‪.‬‬ ‫ُيوقع الطالق َ‬

‫عدم تطليقه زوجته وت�سرعه فيه‪ ،‬ففي ال�صحيح �أن‬ ‫ال�سنة �أن ِمن �صفات الرجل الكرمي ُ‬
‫ وقد جاء يف ّ‬
‫لك ك�أبي زرع لأم زرع غري �أين ال �أط ّلق)‪.‬‬
‫النبي ‪ s‬قال لعائ�شة ‪�( :g‬أنا ِ‬

‫فمن �صفات الكمال يف الرجل عدم تهديده املر�أة بالطالق‪ ،‬وتخويفها به‪ ،‬و�إرهابها بلفظته‪ ،‬ومل يكن‬
‫ِ‬ ‫ ‬
‫بطالق ونحوه‪ .‬بل هذه �صفة ل�ؤماء النا�س و�شرارهم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫من هدي النبي ‪ s‬تهديد زوجته‬

‫۩ ۩ ِومن ذلك �أ ّنه ‪s‬بني �أنّ �آخر العالج مل�شاكل الزوجية ّ‬


‫الطالق‪ ،‬فقال‪( :‬وك�س ُرها طال ُقها)‪ ،‬فالطالق‬
‫�إمنا ُي�صار �إليه �إذا مل يبقَ ح ّل‪ ،‬ومل ي�صلح احلال‪.‬‬

‫بالطالق والتلفظ به ولو هز ًال؛ فقال ‪( :s‬ثالث جدهن‬‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن النبي ‪ s‬نهى عن الكالم َّ‬
‫مريد‬
‫املتكلم بهذه العقود غ ُري ٍ‬
‫ُ‬ ‫جد وهزلهن جد‪ ،‬النكاح‪ ،‬والطالق‪ ،‬والرجعة)‪ .‬قال �شيخ الإ�سالم‪(:‬‬
‫متالعب بحدوده)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫م�ستهزئ ب�آيات اهلل تعاىل‬ ‫حلقائقها وما ُ�شرعت له‬

‫۩ ۩ويف جانب الزوجة‪ُ :‬نهيت املر�أة �أنّ تطلب من زوجها الطالق �إال ُ‬
‫ل�ض ٍّر �أ�صابها‪ ،‬روى �أهل ال�سنن (واللفظ‬
‫البن ماجه) ب�إ�سناد �صحيح �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬أميا امر�أة �س�ألت زوجها الطالق يف غري ما ب�أ�س فحرام‬
‫عليها ريح اجلنة)‪.‬‬

‫ق�صر يف مطلوب‪ ،‬ف�إنّ �أ ّول ما تبد�أ به‬‫ وبع�ض الن�ساء ُت�ساوم زوجها على الطالق ف�إذا طلبت حاج ًة‪� ،‬أو ّ‬
‫�أن تطلب الطالق‪ ،‬وهي كاذب ٌة يف طلبها غ ُري راغب ٍة فيه حقيق ًة‪ ،‬ف�إذا وقع طال ُقها ف�إنها �أ ّو ُل ٍ‬
‫نادم عليه‪ ،‬ولذا‬
‫‪248‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الطالق‬

‫ظه ُر خالف ما تبطن فعند �أحمد والن�سائي �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬املنتزعات‬ ‫�س ّماها النبي ‪ s‬منافق ًة لأنها ُت ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫واملختلعات هن املنافقات)‪� ،‬أي نفاق الكذب وهو الأ�صغر‪ ،‬ولي�س النفاق الأكرب املخرج من امل ّلة‪.‬‬

‫۩ ۩ومن ذلك �أنّ النبي ‪ s‬نهى املر�أة �أنّ تطلب من زوجها �أن ُيط ّلق زوجته الأخرى‪ ،‬ففي ال�صحيحني �أن‬
‫النبي ‪s‬قال‪( :‬ال ت�س�أل املر�أة طالق �أختها لتكف�أ ما يف �إنائها)‪ ،‬ويف رواية‪( :‬نهى �أن ت�شرتط املر�أة‬
‫طالق �أختها)‪.‬‬

‫ فكما ال يجوز للمر�أة �أن تطلب طالق نف�سها �إال حلاجة‪ ،‬فال يجوز لها �أن تطلب طالق �ضرتها‪� ،‬سوا ًء‬
‫كان هذا ال�شرط قبل الزواج ك�أن ت�شرتط الزوجة الثانية �أن يطلق الأوىل‪� ،‬أو بعد الزواج ك�أن تطلب الزوجة‬
‫الأوىل طالق الثانية‪ ،‬وكله منهي عنه على ل�سان ر�سول اهلل ‪.s‬‬

‫الزوج على امر�أته‪ ،‬وذلك ب�أن ي�أت ثالثٌ‬‫وتخبيب ِ‬


‫َ‬ ‫۩ ۩ومن ذلك �أنّ ال�شرع ح ّرم تخبيب املر�أة على زوجها‪،‬‬
‫ف ُيف�سد ما بني الزوجني من الع�شرة‪ ،‬ويذكر امل�ساوئ والعيوب‪ ،‬فروى �أبو داود �أن النبي ‪ s‬قال‪َ « :‬ل ْي َ�س‬
‫ِم َّنا َمنْ َخ َّب َب ْام َر�أَ ًة َع َلى َز ْو ِج َها»‪.‬‬

‫عنده زوجه �صاحلة يف ُخلقها ودينها‪ ،‬وعار�ضتها �أُ ّمه ف�أمرته بطالقها ف�إنها ال‬ ‫ بل �إن الرجل �إذا كانت َ‬
‫الوالدين‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫(طالق املر�أ ِة ال�صاحل ِة لي�س من ب ِّر‬ ‫يطلقها ولي�س ذات من الرب يف �شيء‪ ،‬قال �إ�سحاق بن راهوية‪:‬‬
‫يف �شيءٍ )‪.‬‬

‫ ويف املُقابل حثّ ال�شرع على الإ�صالح بني الزوجني‪ ،‬ور�أب ال�صدع بينهم‪ ،‬و�إزالة ال�ضغينة الواقعة يف‬
‫وف �أَ ْو ِ�إ�صْ َال ٍح َبينْ َ ال َّن ِ‬
‫ا�س َو َمن َي ْف َع ْل َذ ِل َك‬ ‫نفو�سهما }الَّ َخ رْ َي فيِ َك ِث ٍري ِّمن نجَّْ َواهُ ْم ِ�إالَّ َمنْ �أَ َم َر ِب َ�ص َد َق ٍة �أَ ْو َم ْع ُر ٍ‬
‫ات هَّ ِ‬
‫الل َف َ�س ْو َف ُن�ؤْ ِتي ِه �أَ ْجر ًا َع ِظيم ًا{‪.‬‬ ‫ا ْب َت َغاء َم ْر َ�ض ِ‬

‫‪249‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫العشرة الزوجية‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬العشرة الزوجية‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫ولطيف ف�ض ِله و�ش�أ ِنه َما َج َع َل �سبحانه ِمن ُ�ألف ِة بني الزوجني‪ ،‬والتي ُك َّلما‬ ‫ِ‬ ‫فمن عجيب َخ ْلق اهلل و� ِ‬
‫أمره‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫قبل �أجنبي ًة‬ ‫زوجه مع �أنها كانت ُ‬ ‫رباطها‪ ،‬ف�أقرب النا�س للمرء ُ‬ ‫طال عهدُها وامت َّد �أمدُها َق ِوي �إ�صا ُرها و�أ�شت َّد ُ‬
‫اهلل عز وجل �أم َر الزواج جع َل ُه �آي ًة ِمن �آياته وقرنها ب�آيتني عظيمتني من �آياته �آية َخ ْل ِق الإن�سان‬ ‫عنه؛ وملا َذ َكر ُ‬
‫من تراب و�آي ِة خلق ال�سموات والأر�ض؛ فقال �سبحانه‪َ } :‬و ِمنْ �آ َيا ِت ِه �أَنْ َخ َلقَ َل ُكم ِّمنْ �أَن ُف ِ�س ُك ْم �أَ ْز َو ًاجا ِّلت َْ�س ُك ُنوا‬
‫أعظم مما بني‬ ‫وحني � ُ‬ ‫ِ�إ َل ْي َها َو َج َع َل َب ْي َن ُكم مَّ�� َو َّد ًة َو َر ْح َم ًة ِ�إنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ٍات ِّل َق ْو ٍم َي َت َف َّك ُرونَ { فال �أُلف َة بني ُر َ‬
‫َّوجني‪ ،‬وال عالق َة هي �أقوى و�أج ُّل مما بينهما‪.‬‬ ‫الز َ‬

‫أحد الزوجني ُخ ِلق الآخر‪} :‬هُ َو ا َّل ِذي‬ ‫فمن � ِ‬‫ون�صيف َج�سده ابتدا ًء وم�آ ًال‪ِ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ق�سيم ُروح َزوجه‪،‬‬ ‫الزوج ُ‬ ‫ بل ُ‬
‫َخ َل َق ُكم ِّمن َّن ْف ٍ�س َو ِاح َد ٍة َو َج َع َل ِم ْن َها َز ْو َج َها{‪ ،‬وم�آ ُله لل َآخ ِر يف حياته �سكن ًا ومعي�شة } َو هَّ ُ‬
‫الل َج َع َل َل ُكم ِّمنْ‬
‫�أَن ُف ِ�س ُك ْم َ�أ ْز َو ًاجا{‪.‬‬

‫أ�سباب ال�ستدامة هذا احلياة الزوجية‪ ،‬وا�ستقرارها‬ ‫َ‬


‫و�سائل و� ٍ‬ ‫ عباد َ‬
‫اهلل! لقد جاء ال�شرع احلكيم بذكر‬
‫ودميومتها على خ ِري وجه؛ كيف ال؟ وهو دينُ فطر ٍة‪ ،‬وفطر ُة ا ِ‬
‫هلل التي فطر النا�س عليها هي الزواج والنكاح‪،‬‬
‫دون ال ِبغاء وال�سفاح‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫وطيب احلديث معها؛ روى ال�شيخان عن �أبي‬


‫وبذل املعروف لها‪ِ ،‬‬ ‫النبي ‪ s‬بالإح�سان للمر�أة‪ِ ،‬‬ ‫ لقد �أم َر ُّ‬
‫هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ا�ستو�صوا بالن�ساء خري ًا)‪ ،‬وروى �أبو داود والن�سائي عن جابر ‪� d‬أن الر�سول‬
‫فروجهن بكلم ِة اهلل)‪.‬‬ ‫‪ s‬قال‪( :‬اتقوا َ‬
‫اهلل يف الن�ساء ف�إنكم �أخذمتوهن ب�أمان ِة اهلل‪ ،‬وا�ستحللتم َ‬

‫ وروى الإمام �أحمد وابن ماجه عن �أبي هريرة �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬اللهم �إين �أُ َح ِّر ُج حقَّ ال�ضَّ عيفني‬
‫اليتيم واملر�أة)‪ .‬لقد كرر النبي ‪ s‬و�أعاد بالو�صية باملر�أة زوج ًة و�أُم ًا و ُ�أخت ًا وبنت ًا خري ًا‪.‬‬
‫َ‬

‫بذكر هدي النبي ‪ s‬يف بي ِته‬ ‫والناظ ُر يف هديه ‪ s‬يف ذلك يرى �أمر ًا عظيم ًا جلي ًال‪ ،‬وقد �أمر ُ‬
‫اهلل ِ‬ ‫ ‬

‫‪250‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العشرة الزوجية‬

‫الل َوالحْ ِ ْك َم ِة ِ�إنَّ هَّ َ‬


‫الل َكانَ َل ِطي ًفا‬ ‫ات هَّ ِ‬
‫فقال �سبحانه خماطب ًا �أزواج النبي‪َ } :‬و ْاذ ُك ْرنَ َما ُي ْت َلى فيِ ُب ُيو ِت ُكنَّ ِمنْ �آ َي ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫َخ ِب ًريا{‪.‬‬

‫النبي ‪ s‬يف �أه ِله‪ ،‬قالت‪�( :‬أال تقر�أ القر�آنَ كان ُخل ُقه‬ ‫ئلت عن ُخ ُل ِق ِّ‬‫ يف �صحيح ُم�سل ٌم �أن عائ�شة ‪ g‬ملّا ُ�س ْ‬
‫خل ُلق و�أ ِّمته و�أح�س ِنه‪ ،‬والناظ ُر يف ِ�سريته وهديه يرى ذلك‬ ‫النبي ‪ s‬مع زوجاته ِمن �أعظم ا ُ‬ ‫فخ ُلقُ ِّ‬
‫القر�آن)‪ُ .‬‬
‫فيو�ض هديه ‪ s‬يف احلياة الزوجية‪ ،‬روى م�سلم عن �أبي‬ ‫غي�ض من ِ‬ ‫يان‪.‬و�سنقف مع حديث واحد هو ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ر�أي ال َع‬
‫هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ال َي ْف ُر ُك م�ؤمنٌ م�ؤمن ًة‪� ،‬إن َك ِره منها ُخ ُلق ًا َر ِ�ضي منها �آخر)‪.‬‬

‫كاف يف �إزال ٍة كث ٍري من ال�شحناء بني الأزواج‪ ،‬ورف ِع ما يكون بينهما من اخلالف‬
‫وحده ٍ‬‫ �إن هذا احلديث َ‬
‫ال�صحب ِة ب�أهن�أ حياة و�أمتها‪.‬‬
‫ودوام ُّ‬
‫حل�سن الع�شرة باملعروف ِ‬ ‫ُ‬
‫والعمل به ِمن �أكرب ال َّدواعي ُ‬ ‫وال�شقاق‪،‬‬
‫ِ‬
‫الرجل �أن َيلحظ ما يف زوجته من الأخالق الكرمية والطباع احل�سنة والأمو ِر التي‬ ‫َ‬ ‫النبي ‪s‬‬
‫ فقد �أمر ُّ‬
‫تنا�س ُبهُ‪ ،‬فيتذك ُرها دائم ًا ويجعلها يف مقابل ِة ما َك ِره منها‪.‬‬

‫واتباعه ثالث ٌة �أق�سام‪ ،‬طرفان وو�سط‪ .‬ف�أعالهم‪ ،‬و�أ�سعدهم يف‬ ‫ِ‬ ‫ والنا�س يف اقتفا ِء هذا الهدي العظيم‬
‫وجه‪ ،‬وغ�ضَّ عن م�ساوئها بال ُكل َّية بل وتنا�ساها‬ ‫أخالق احل�سن َة واملحا�سنَ الفا�ضل َة يف َز ِ‬
‫حياته‪َ :‬من حلظ ال َ‬
‫أ�سعد النا�س حيا ًة مع �أه ِله‪ ،‬و�أقر ُبهم امتثا ًال ُ‬
‫ل�س َّن ِة َنبيه ‪.s‬‬ ‫ك�أن مل ت ُكن‪ ،‬فهذا ِمن � ِ‬

‫وح�سنه عن عائ�شة ‪� g‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪�( :‬إن من �أكمل امل�ؤمنني �إميانا �أح�سنهم‬ ‫ وقد َروى الرتمذي َّ‬
‫التغافل عن اخلط�أ وتنا�سيه‪.‬‬‫ِ‬ ‫لطف �أ�ش َّد من‬ ‫ُخ ُلق ًا و�ألطفهم ب�أهله)‪ .‬ولي�س ُخ ُل ٌق � َ‬
‫أكرم من الكرم‪ ،‬وال ٌ‬

‫ يف حديث �أم زرع‪� :‬أنَّ امر�أة مدحت زوجها فقالت‪( :‬زوجي �إن دخل َف ِهد‪ ،‬و�إن خرج �أَ ِ�سد‪ ،‬وال ي�س�أل عما‬
‫زوجها وو�صفته بالغفلة عند دخول البيت (كال َف ْه ِد)‪ ،‬و�أنه �إذا خرج على النا�س كان �أم ُره‬ ‫َع َهد)‪ ،‬فمدحت َ‬
‫جلر�أ ِة والإقدام كالأ�سد‪ ،‬ال َي�س� ُأل عما َع َهد من متاع البيت فهو �شديد الكرم كثري التغا�ضي ال يتفقد‬ ‫�أ�ش َّد يف ا ُ‬
‫�سام ُح‬
‫ما ذهب من ماله‪ ،‬و�إذا جاء ب�شيء لبيته ال َي�س�أل عنه بعد ذلك وال يلتفت �إىل ما يرى من املعايب بل ُي ِ‬
‫غ�ضي‪ .‬واملت�صف بذلك هو �أ�سعد الثالث ِة يف حياته‪ ،‬و�أكم ُلهم توفيق ًا‪.‬‬
‫و ُي ِ‬

‫القوم توفيق ًا و�سعادة‪ ،‬و�أخالق ًا ونب ًال‪َ :‬من عك�س الق�ضية‪ ،‬ف�أهدر املحا�سن مهما كانت وغ�ضَّ‬ ‫ و�أق ُّل ِ‬
‫وعظم امل�ساوئ مهما َ�ص ُغرت وتت ّب َعها وت�ص ّيدها‪ ،‬ثم جعلها َن�صْ َب عينيه‪ ،‬وحديثه يف ُك ِّل �أوقاته‬
‫طرفه عنها‪َّ ،‬‬
‫القليل كثري ًا‪ ،‬وال�سهل‬ ‫فج َع َل َ‬
‫نون َوت�أويالت َغريبة �إمنا �أوحاها له توهمه وظ ُّنه‪َ ،‬‬
‫بظ ٍ‬‫مع زوجه‪ ،‬بل ُرمبا ب�سطها ُ‬
‫زوجه من ُكل جانب‪ ،‬ولو نظر �إىل ِ‬
‫نف�سه‬ ‫َ‬
‫الكمال يف ِ‬ ‫رجو‬ ‫�صعب ًا؛ كما هو حال ِ‬
‫بع�ض النا�س للأ�سف‪ ،‬فرتاه َي ُ‬
‫َقيم َحا ُلهُ‪.‬‬
‫لوجدها ناق�ص ًة غري كاملة يف جوانب �أكرث‪ .‬فال تكاد ت�ص ُفو َحيا ُة َمن فعل ذلك وال ت�ست ُ‬

‫وجل نب َيه وال�صَّ احلني ِمن عبا ِده �أن ال َي�ش َغلوا � َ‬
‫أنف�سهم بالتطلع �إىل َما يف‬ ‫ وت�أ ّمل يا موفقُ يف �أَ ْم ِر ا ِ‬
‫هلل ع َّز َّ‬
‫م�ستفيد وال‬
‫ٍ‬ ‫حال غ ِريهم‪ ،‬ف�إنه َ‬
‫فاعل ذلك غ ُري‬ ‫�أيدي النا�س ِمن زهر ِة الدنيا وبهج ِتها‪ ،‬ثم يقي�سون حا َلهم �إىل ِ‬
‫‪251‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العشرة الزوجية‬

‫خلاطر و�إمنا ذلك فتن ٌة له‪ ،‬قال �سبحانه‪َ } :‬وال تمَ ُ دَّنَّ َع ْي َن ْي َك‬ ‫واحلرية وت�شتت البال وا َ‬ ‫يجني فاع ُل ُه غ َري ال َه ِّم َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ي َو�أَ ْب َقى{‪.‬‬
‫�إِ ىَل َما َم َّت ْع َنا ِب ِه �أَ ْز َو ًاجا ِّم ْن ُه ْم َز ْه َر َة الحْ َ َيا ِة ال ُّدن َيا ِل َن ْف ِت َن ُه ْم ِفي ِه َو ِر ْز ُق َر ِّب َك َخ رْ ٌ‬

‫ُ‬
‫حتدث‬ ‫أجمل الن�سا ِء و�أكم َل ُهنّ ‪� ،‬أم�شقهن قوم ًا و�أمتهن منطق ًا‪ ،‬ال‬
‫زوج ُه � َ‬
‫ وبع�ض النا�س يرجو �أن تكون ُ‬
‫منها ز ّلة‪ ،‬وال تطر�أ عليها غفلة‪ ،‬كامل ٌة يف حركتها و�سكونها‪ ،‬ولفظها ود ّلها‪ ،‬ولو نظر لعلم �أن ذاك حما ٌل‬
‫حتق ُقه ال يوج ُد �إال يف الأذهان‪.‬‬

‫فرح ال�شيطان‪ ،‬ويب ُغ�ضه الرحمان النزا ُع بني الزوجني والفراق بينهما‪ ،‬ففي َ�صحيح‬ ‫هلل! �إن ممِ ا ُي ِ‬
‫ عبا َد ا ِ‬
‫�سلم عن جابر ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن �إبلي�س ي�ضع َ‬
‫عر�شه على املاء‪ ،‬ثم يبعث �سراياه‪ ،‬ف�أدناهم منه‬ ‫ُم ٍ‬
‫�صنعت �شيئ ًا‪ ،‬قال‪ :‬ثم يجي ُء �أحدهم‬
‫َ‬ ‫منزل ًة �أعظ ُم ُهم فتن ًة‪ ،‬يجي ُء �أحدُهم فيقول‪ُ :‬‬
‫فعلت كذا وكذا‪ ،‬فيقول‪َ :‬ما‬
‫أنت‪ ،‬فيلتزمه)‪.‬‬ ‫قت بي َنه وبني امر�أته‪ ،‬قال‪ :‬فيدنيه � ُ‬
‫إبلي�س منه ويقول‪ :‬نعم � َ‬ ‫فيقول‪َ :‬ما تركته حتى ف َّر ُ‬

‫ ويف املُقابل روى �أبو داود من حديث املحارب بن دثار عن ابن عمر �أن النبي ‪ s‬قال‪ُ �( :‬‬
‫أبغ�ض احلالل‬
‫�إىل اهلل الطالق)‪.‬‬

‫ َوالق�سم الثالث من �أولئك الثالثة العاملني باحلديث وهو يف الو�سط‪َ :‬من حلظ الأمرين ووازن بني‬
‫ال�سنة‪،‬‬ ‫من�صف لك َّنه قد ُح ِرم كمال ا ُ‬
‫خللق وتطبيق ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫املحا�سن وامل�ساوئ‪ ،‬وعامل زوجتـَه مبقت�ضى ذلك‪ ،‬فهذا‬
‫وفقد كثري ًا من راحة البال‪.‬‬

‫وح ْ�س ُب الفا�ضل �أن ُتع َّد معاي ُبهُ‪ ،‬وتوط ُني النف�س على ال�صرب على‬
‫ال�صفات يف الزوجة متعذر‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ وكمال‬
‫النبي‬
‫�سن معا�شرتهم ِمن �أعظم الأ�سباب الدينية والدنيوية التي َي�سعدون بها؛ يقول ُّ‬ ‫وح ِ‬‫�أخالق النا�س‪ُ ،‬‬
‫الكرمي ‪( :s‬امل�ؤمن الذي يخا ِلط النا�س وي�صرب على �أذاهم �أعظم �أجر ًا ِمن امل�ؤمن الذي ال يخالط النا�س‬
‫وال ي�صرب على �أذاهم) [رواه الرتمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر ‪ .]d‬ومن �أوْىل من ُي�صبرَ عليه‬
‫أحب ممن ال ي�صرب‪.‬‬ ‫هلل و� ُّ‬
‫ري عند ا ِ‬
‫الزوج مع زوجه وهذا خ ٌ‬

‫الزوج �إذا ت�أ َّم َل �إىل َما يف زوجته من الأخالق واملحا�سن التي يح ُّبها (و�أجلُّها ال ّدينُ واال�ستقامة مع‬
‫ �إن َ‬
‫و�سو ِء ِع�شرتها ر�آه �شيئ ًا واحد ًا �أو اثنني يف‬
‫ال�سبب الذي دعاه �إىل الت�ضجر منها ُ‬ ‫الع َّفة واحلياء)‪ ،‬ثم نظر �إىل َّ‬
‫مما ُي ِح ُّب وي�ستح�سن‪ ،‬ف�إذا كان من�صف ًا غ�ضَّ الطرف عن م�ساوئها ال�ضمحاللها يف بحر‬ ‫مقابل �أ�شيا َء �أك َرث َّ‬
‫ِ‬
‫لتعديل َما‬
‫ِ‬ ‫�سعت املر�أة‬
‫احلقوق الواجبة بني الزوجني‪ ،‬ورمبا بعد ذلك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ال�صحبة‪ ،‬و ُت�ؤ َّدى‬
‫املحا�سن‪ ،‬وبذا تدوم ُّ‬
‫كره منها �أو تبدي ِله‪.‬‬‫ِ‬

‫وف َف�إِن َك ِر ْه ُت ُموهُ نَّ َف َع َ�سى �أَن َت ْك َرهُ و ْا َ�ش ْي ًئا َو َي ْج َع َل‬
‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم } َو َع ِا�ش ُروهُ نَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫الل ِفي ِه َخ رْ ًيا َك ِث ًريا{‪� ...‬أقول قويل هذا وا�ستغفر اهلل يل ولكم‬ ‫هَّ ُ‬

‫‪252‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العضل والعنوسة‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫العضل والعنوسة‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ممن ُتظنُّ ُن�صرته وتحُ ُ‬
‫�سب �إعانته‬ ‫رح ًا يف ال ُف�ؤاد‪ ،‬ما كان �صادر ًا َّ‬ ‫الظلم وقع ًا يف النفو�س‪ ،‬و�أنكاه ُج َ‬ ‫�إن �أ�ش َّد ِ‬
‫و ُيرجى ب ُّره‪ ،‬ف�إذا به َيق ِل ُب َظه َر امل َِجن‪ ،‬ويلب�س ِج ْل َد ال َّن ِمر‪ ،‬ف ُي ِبد ُل الإعان َة ظلم ًا‪ ،‬وال ُّن�صر َة ُخذالن ًا‪:‬‬
‫وظلم ذوي القربى �أ�شد م�ضا�ضة‬ ‫ ‬
‫على النف�س من وقع احل�سام املهند‬ ‫ ‬
‫القريب �أ�ش َّد رحم ٍة ور�أف ٍة ومو ّدة بقريبه‪� .‬إن ظلم القريب‬ ‫ُ‬ ‫ مع �أن العاد َة اجلاري َة واملظن َة الغالبة �أن يكون‬
‫لقريبه له �صو ٌر متعددة و�أ�شكال متنوعة‪ ،‬فتارة يكون يف املال و ُمتعل ِقه‪ ،‬وتارة يكون بالل�سان و�سطوته‪ ،‬وتار ًة‬
‫احلقوق و�إنكار الواجبات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يكون مبنع‬

‫ و�إين ذاك ٌر �صور ًة ِمن ُظلم ذوي القربى َو َر َد حتر ُمي ُه يف كتاب اهلل ع ّز وج ّل و�سنة ر�سوله ‪ُ ،s‬‬
‫و�شدد يف‬
‫ابن �أو زوج �سابق)‪.‬‬ ‫قريب (� ٍأب �أو �أُ ٍّم �أو � ٍأخ �أو � ٍ‬
‫أخت �أو ٍ‬ ‫يل ٍ‬ ‫املنع منه �إال وهو الع�ضل؛ �إذ الع�ض ُل ال يكون �إال ِمن و ٍّ‬

‫�سلك ِمن م�سالك َّ‬


‫الظ َل َم ِة الذين ي�ستغ ّلون حيا َء املر�أة وخج َلها وبراءتَها َو ُح ْ�سنَ‬ ‫الع�ضل ‪-‬عباد اهلل‪َ -‬م ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫مزيد مال‪� ،‬أو معاندة‪ .‬ال يفعل‬ ‫طمع يف ِ‬ ‫ظ ّنها و�سالم َة ن َّيتها‪ ،‬وما ذلك �إال لع�صب َّي ٍة َجاهل َّية‪� ،‬أو حم َّي ٍة قبل َّية‪� ،‬أو ٍ‬
‫�ضعيف يف الديانة‪� ،‬أو َمن اجتمعت فيه هذه الأمور‬ ‫ٌ‬ ‫عقل‪� ،‬أو قا�ص ٌر يف التفكري‪� ،‬أو‬ ‫ين‪� ،‬أو ُ‬
‫قليل ٍ‬ ‫َ‬
‫الع�ضل �إال �أنا ٌّ‬
‫خطبة جديدة‬

‫كلُّها‪.‬‬

‫ َما �أ�ش َّد �أثر الع�ضل يف نف�س املر�أة‪ ،‬وما �أنكاه يف ف�ؤادها؛ فهو من ٌع ِمن حقٍّ كف َل ُه له ال�شر ُع والفطرة‪ ،‬و�أم ٌر‬
‫ُيع ُّد من �ضروريات احلياة ولوازمها‪� .‬إن من النا�س (وهم ق ّلة) َمن َظ َل َم بنتَه‪ ،‬و�أذاقها �أمل ًا َ‬
‫وح�سر ًة بت�أخري‬
‫خل َّطاب عليها‪.‬‬
‫زواجها‪ ،‬وتفويت ا ُ‬

‫خل ّطاب الأكفاء ال ل�سبب م�شروع‪ ،‬و�إمنا لتعليالت �أوهى من بيوت العنكبوت‪ ،‬وي�شرتك يف‬ ‫ فع�ضلها ب َر َّد ا ُ‬
‫ذلك الآباء والأمهات مع ًا فكم ِمن �أُم تزعم الر�أفة بابنتها فرت ُّد خطابها َومن يرغب بها‪ ،‬وقد روى الرتمذي‬
‫(‪ )1084‬وابن ماجه (‪ )1967‬عن �أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا َخ َط َب �إليكم َمن تر�ضون دي َنه‬
‫وخ ُل َقه فز ِّو ُجوه �إال تفعلوا تكن فتنة يف الأر�ض وف�ساد عري�ض)‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪253‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العضل والعنوسة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�سقطت‬
‫ْ‬ ‫ وقد جعل ال�شر ُع للمر�أة خمرج ًا من ع�ضل وليها ف�إنه �إذا امتنع من تزويج موليته ْ‬
‫بكفءٍ ر�ضيته‬
‫بعده الأح��قّ فالأحق‪� ،‬أو انتقلت �إىل الق�ضاء فزُوجت هناك؛ لقول النبي ‪( :s‬ف�إن‬ ‫واليتُه‪ ،‬وانتق َلت َملن َ‬
‫يل له) �أخرجه الرتمذي من حديث عائ�شة ‪ g‬وقال‪" :‬حديث ح�سن"‪.‬‬ ‫يل َمن ال و ّ‬
‫ا�شتجروا فال�سلطان و ّ‬

‫خلطاب من غري �سبب �صحيح �صار فا�سق ًا ودخل عليه‬


‫يل ر ّد ا ُ‬
‫ كما ذكر �أهل العلم �أنه �إذا تك ّرر ِمن الو ّ‬
‫النق�ص يف دينه و�إميانه‪.‬‬
‫ُ‬

‫وغ�صْ َب ًا؛ جري ًا وراء التقاليد والأعراف‬


‫�شخ�ص بعينه َق�صْ ر ًا َ‬
‫ٍ‬ ‫۩ ۩�إن ِمن الع�ضل ُظلم املر�أة بتزويجها من‬
‫املخالفة لل�شَّ رع‪ ،‬مع �أنها ال ترغب به‪.‬‬

‫۩ ۩روى الن�سائي عن عائ�شة ‪ g‬قالت‪ :‬جاءت فتا ٌة �إىل ر�سول اهلل ‪s‬فقالت‪ :‬يا ر�سول اهلل �إن �أبي ز َّوجني‬
‫ابنَ �أخيه لريفع بي خ�سي�سته‪ ،‬فجعل النبي ‪ s‬الأم َر �إليها‪ ،‬قالت‪( :‬ف�إين قد �أجزت ما �صنع �أبي‪ ،‬ولكن‬
‫�أردت �أن �أُع ِل َم �أللن�سا ِء ِمن ال ِ‬
‫أمر �شيء)‪.‬‬

‫۩ ۩عباد اهلل! �إن ث َّم َة ت�صرفاتٌ ِمن بع�ض النا�س قد ت�ؤدِّي �إىل ع�ضل الن�ساء وحرمانهن من الزواج و�صرف‬
‫للخ ّطاب‪ ،‬فيتعاظم عليهم يف‬ ‫يل امل��ر�أة وا�ستكبا ُره و�إظهار الأنفة ُ‬ ‫خلطاب عنهن‪ ،‬من ذلك تعزُّز و ّ‬ ‫ا ُ‬
‫ُ‬
‫الرجال عن التق ُّدم خلطبة ابنته �أو موليته‪ ،‬ل�ش ّدته وجت ُّهم‬ ‫النظرات‪ ،‬ويرت ّفع عنهم يف احلديث‪ ،‬ف َيبتع ُد‬
‫وجاهه وثرا ِئه‪ ،‬يقول �شيخ الإ�سالم ابن تيمية رحمه اهلل‪" :‬ومن �صور‬ ‫ومركزه ِ‬
‫ِ‬ ‫بنف�سه‬
‫وجهه واغرتا ِره ِ‬
‫اخلطاب من خطبة املر�أة ل�ش ّدة ول ِّيها "‪.‬‬ ‫الع�ضل �أن ميتنع َّ‬

‫ب�شروط �صعبة‪ ،‬لي�س فيها م�صلح ٌة‬


‫ٍ‬ ‫خل ّطاب الإيغال يف تعليق الزواج‬
‫۩ ۩ومن الأ�سباب امل�ؤدية �إىل �صرف ا ُ‬
‫ٌ‬
‫�شروط �صارف ٌة كا�شرتاط ت�أخري الدخول �إىل انتهاء الدرا�سة وهي طويل ٌة‪� ،‬أو‬ ‫ب ِّين ٌة للزوجني‪ ،‬و�إمنا هي‬
‫َ‬
‫م�صاريف واحتفاالت بهيئة مع ّينة‪.‬‬ ‫ا�شرتاط‬

‫عباداهلل!�إنمن�صورالع�ضْ لاملح ّرم َماجاءيفقولاهللعزوجل‪َ }:‬و�إِ َذا َط َّل ْقت ُُمال ِّن َ�سا َء َف َب َل ْغنَ �أَ َج َلهُنَّ‬ ‫۩ ۩ ‬
‫وف{‪ ،‬ف�إذا ُط ِّلقت املر�أة �أق َّل من ثالث‬ ‫َف َال َت ْع ُ�ض ُلوهُ نَّ �أَن َي ِنك ْحنَ �أَ ْز َو َاجهُنَّ �إِ َذا َت َر َ‬
‫ا�ض ْو ْا َب ْي َن ُهم ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫بعقد جديد‬ ‫زوجها الذي ط َّلقها يف العودة �إليها ٍ‬ ‫ورغب ُ‬ ‫طلقات ثم انتهت ع ّدتها وبانت بينون ًة �صغرى ِ‬
‫التم�س ُك ببع�ض‬ ‫ورغبت �أن ترجع �إليه‪َّ ،‬ثم قام ول ُّيها مبنعها من ذلك من غري �سبب �صحيح‪ ،‬مل مين ْعه �إال ُّ‬ ‫ِ‬
‫روا�سب اجلاهلية والعناد املج ّرد ف�إنه يكون عا�ض ًال �آثم ًا‪ ،‬فاع ًال لكبرية من كبائر الذنوب‬

‫الع�ضل من الأبناء ذكور ًا و�إناث ًا‪ ،‬ب�أن مين َع االبنُ �أُ َّمه ِمن الزواج �إذا جاءها كف�ؤها‬
‫ُ‬ ‫۩ ۩عباد اهلل! وقد يكون‬
‫�ضحت بزهرة �شبابها‪ ،‬وبذلت ُعم َرها لرتبية �أبنائها ف�إذا فقدتَ‬ ‫وخ ُل ُقه‪ ،‬فهذه الأم ّ‬
‫ر�ضى دي ُن ُه ُ‬
‫َومن ُي َ‬
‫لنف�سها‪ ،‬وا�ستمرار ًا لباقي حياتها‪ ،‬وال يجوز‬‫بعد ذلك حفظ ًا ِ‬ ‫طالق‪ ،‬فيح ُّق لها �أن تتزوج َ‬
‫مبوت �أو ٍ‬‫�أباهم ٍ‬
‫‪254‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العضل والعنوسة‬

‫الزواج بحجج واهية‪.‬‬


‫ِ‬ ‫لأبنائها ذكور ًا �أو �إناث ًا منعها من‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫نف�سهُ‪ ،‬ك َما جاء يف قول اهلل عز وجل‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا َال‬ ‫۩ ۩عباد اهلل! وقد يكون العا�ضل هو الزوج ُ‬
‫َي ِح ُّل َل ُك ْم �أَن ت َِر ُثو ْا ال ِّن َ�ساء َك ْره ًا َو َال َت ْع ُ�ض ُلوهُ نَّ ِلت َْذ َه ُبو ْا ِب َب ْع ِ�ض َما �آ َت ْي ُت ُموهُ نَّ {‪ ،‬ومعنى ذلك �أن ي�ض ّيق‬
‫والق�سم وح�سن الع�شرة‪،‬‬ ‫كرهها‪ ،‬وي�سيء ع�شرتَها‪� ،‬أو مينعها من ح ِّقها يف النفقة ْ‬ ‫الزوج على زوجته �إذا َ‬ ‫ُ‬
‫نف�سها مبال وخمالعة‪ ،‬وبهذا‬ ‫و�سب‪ ،‬ك ّل ذلك من �أجل �أن تفتدي َ‬ ‫ب�ضرب ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وقد ي�صاحب ذلك �إيذا ٌء ج�سدي‬
‫الع�ضل اللئيم والأ�سلوب الكريه ي�سرتجع ه�ؤالء الأزواج اللُّ�ؤما ُء َما دفعو ُه ِمن مهور‪ ،‬ورمبا ا�سرت ُّدوا �أك َرث‬
‫و�سحت وظلم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مما دفعوا‪ ،‬فك ّل ما �أخذوه بغري وجه حقٍّ من هذا الطريق فهو حرام‬ ‫َّ‬
‫۩ ۩ومن �صور ع�ضل بع�ض الرجال ملطلقته �أن يهددها ب�أنها �إذا تزوجت ف�سي�أخذ �أوالدها منها‪ ،‬فتمتنع من‬
‫الزوجات رغب ًة يف حفظ �أبنائها وهذا ع�ضل الأزواج املح ّرم‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ ف�إن ِمن الن�ساء فئ ًة �أخر�س احليا ُء ل�سانها عن ال�شكوى‪� ،‬صرخاتها مكتومة يف �أعماق جروح قلبها‪،‬‬
‫حت�سب ُعم َرها ف�أيا ُمها‬
‫ُ‬ ‫تعي�ش �صراع ًا مع نف�سها يف جمتمعها‪ ،‬تبيت مع القلق واحلزن‪ ،‬وي�ؤرقها اله ُّم والفكر‪،‬‬
‫َغالية‪ ،‬و�شهو ُرها �أغلى‪ ،‬ك ُّل يوم تغرب فيه ال�شم�س تتب ّدد �أحال ٌم لها بحيا ٍة �سعيدة‪ ،‬وتت�أمل خوف ًا من دخول‬
‫و�سك ِنها‪.‬‬
‫بوابة ال َُعنو�سة‪ ،‬مل تنعم بالأمومة وحنانها‪ ،‬والزوج َّي ِة َ‬

‫ب�شروط َوهمية يف اختيا ِر َزوجها‪ ،‬و�أخ��رى �آث��رت التعليم على بناء الأ�سرة‪ ،‬ف ُفجئت‬
‫ٍ‬ ‫ ُب��ددت حيا ُتها‬
‫ب�إعرا�ض الأزواج عنها لتقدم ِ�س ِّنها‪ ،‬وما قيمة ال�شهادة مع احلرمان من الزوج والأبناء‪.‬‬

‫الزواج املبك َر �إغال ٌق لتلك البوابة احلزينة‪ ،‬وقد تزوج النبي ‪ s‬عائ�شة ‪ g‬وهي تلعب يف �أرجوحة‬
‫َ‬ ‫ �إن‬
‫لها‪ ،‬وهي بنت ت�سع �سنني‪ ،‬و�صغر �سنها مل يحجزها عن الزواج ب�أعظم الرجال‪ ،‬وحتمل مهام بيت النبوة‬
‫أحب ن�سا ِئ ِه �إليه عليه ال�صالة وال�سالم‪.‬‬
‫وواجباته وحقوقه‪ ،‬بل كانت تلك ال�صغرية هي � َّ‬

‫ فلنتخذ من �شريعتنا واقع ًا لنا‪ ،‬ل َي َ‬


‫�سعد الفتيان والفتيات بزواجهم يف �سن مبكرة‪ ،‬وتي�سري �أموره لينه�ض‬
‫واحلكم �آكد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ألزم‬
‫املجتمع وي�سلم من االنحراف‪ ،‬ومع بزوغ الفنت وجتددها يكون الأم ُر � َ‬

‫ �إن الواجب على الويل لي�س جم ّرد �أن يتلفظ بعقد النكاح‪ ،‬و�إمنا ح ّري به �أن يجتهد بالبحث عن ُكفئ‬
‫ملوليته‪ ،‬و�أن يبذل وقته‪ ،‬وما َله يف ذلك‪ ،‬ف ُي�ساعد مبا ِله موليته يف زواجها �أمل يقل اهلل‪�} :‬أَ ْو َي ْع ُف َو ا َّل ِذي ِب َي ِد ِه‬
‫ُع ْق َد ُة ال ِّن َك ِاح{ وقد قيل‪� :‬إن الذي بيده عقدة النكاح هو ويل املر�أة‪.‬‬

‫ عباد اهلل! لقد �أو�صى ال�شَّ ر ُع و�أك َّد باملر�أة خري ًا؛ فروى البخاري �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ا�ستو�صوا بالن�ساء‬
‫خري ًا)‪ .‬وروى الإمام �أحم ُد وابنُ ماجه �أنه ‪s‬قال‪( :‬اللهم �إين �أحرج حق ال�ضعيفني اليتيم واملر�أة)‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫العني و الحسد‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬العني والحسد‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ ‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫وال�سقم يف هذه الدنيا يف �أحايني كثرية‪ ،‬وهذه الأمرا�ض‬ ‫آدم َ‬
‫املر�ض ُّ‬ ‫ ف�إن اهلل �سبحانه قد ق ّدر على ابن � َ‬
‫التي ُي�صاب بها املر ُء على ثالثة �أنواع؛‬

‫اكتئاب وو�سوا�س ونحوها‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫ فهي �إ ّما �أن تكون �أمرا�ض ًا ُع�ضو َّي ًة حم�سو�س ًا �أث ُرها‪�.‬أو �أمرا�ض ًا نف�س ّي ًة من‬
‫أ�سباب وو�سائل كالعقاقري والعالج ال�سلوكي‪.‬‬ ‫وهذان النوعان ي�شفي اهلل منها ب� ٍ‬

‫ والنوع الثالث من الأمرا�ض ما ُي�س ّمى بالأمرا�ض الروحية وهي التي ُت�صيب َ‬
‫الروح كالع ِني وال�سحر‪.‬‬
‫�صحت فيه نحو من ع�شرة �أحاديث عن النبي ‪ ،s‬ففي ال�صحيحني عن �أبي هريرة‬ ‫وت�أث ُري العني يف الآدميني ّ‬
‫‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬العني حق)‪ .‬ومعنى قوله ‪� s‬إنها حق‪� :‬أي �أن الإ�صابة بها ثابتة موجودة‪ ،‬و�أن لها‬
‫ت�أثري ًا يف النفو�س‪.‬‬

‫ ف�إنكار الع ِني مطلق ًا �أم ٌر ت�أباه الن�صو�ص ال�شرعية املت�ضافرة عنه ‪ ،s‬وقد �أُثبتت يف كتاب اهلل عز وجل‬
‫فقال �سبحانه‪َ } :‬و ِ�إن َي َكا ُد ا َّل ِذينَ َك َف ُروا َل ُيزْ ِل ُقو َن َك ِب َ�أ ْب َ�صا ِر ِه ْم لمََّا َ�س ِم ُعوا ِّ‬
‫الذ ْك َر َو َي ُقو ُلونَ ِ�إ َّن ُه لمَ َ ْج ُنونٌ{‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫‪ w‬لقد �أمر ال�شرع بخ�صو�ص العني بثالثة �أ�شياء‪:‬‬


‫�صح �أن النبي ‪ s‬كان ي�أمر امل�سلمني باال�ستعاذة من العني‪ ،‬فروى‬ ‫۩ ۩ف�أمر �أو ًال‪ :‬باال�ستعاذة منها‪ ،‬فقد َّ‬
‫ابن ماجه (‪ )3508‬عن عائ�شة �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬ا�ستعيذوا باهلل‪ ،‬ف�إن العني حق)‪ .‬ف َمن ا�ستعاذ باهلل‬
‫ُحفظ منها ب�أمر اهلل تعاىل‪ ،‬فال حافظ من العني �إال �أمر اهلل ال خرزة زرقاء‪ ،‬وال ُحر ٌز تع ّلق‪ ،‬وال ٌّ‬
‫كف‬
‫مب�سوطة‪.‬‬

‫ُ‬
‫ي�ستعيذ باهلل منها‪ ،‬و�إن �أعظم ما يتع ّوذ به منها قراء ُة �سورتي املعوذتني‪ ،‬فهما كافيتان‬ ‫ لقد كان هو ‪s‬‬
‫يف حفظ املر ِء من العني‪ ،‬وبال�شفاء منها [روى الرتمذي ‪ ،2058‬وابن ماجه ‪ ]3511‬عن �أبي �سعيد ‪d‬قال‪:‬‬
‫(كان ر�سول اهلل ‪ s‬يتعود من اجلان‪ ،‬وعني الإن�س‪ ،‬فلما نزل املعوذتان �أخذهما‪ ،‬وترك ما �سوى ذلك)‪.‬‬
‫‪256‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العني والحسد‬

‫۩ ۩و�أمر ال�شر ُع ثاني ًا‪َ :‬من يرى عند غ ِريه خري ًا �أن يذكر َ‬
‫اهلل تعاىل و�أن ُي ِّربك‪ ،‬قال اهلل ع َّز َّ‬
‫وجل‪َ } :‬و َلوْال ِ�إ ْذ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الل{وقد ثبت يف (امل�سند ‪� )15700‬أن النبي ‪s‬قال‪�( :‬إذا‬ ‫َد َخ ْل َت َج َّنت ََك ُق ْل َت َما َ�شاء هَّ ُ‬
‫الل ال ُق َّو َة ِ�إالَّ ِب هَّ ِ‬
‫ر�أى �أحدكم من �أخيه �أو من نف�سه �أو من ماله ما يعجبه فليربكه ف�إن العني حق)‪.‬‬

‫نف�سه‪[ ،‬روى ابن ماجه ‪ 3512‬ب�إ�سناد �صحيح عن عائ�شة‬ ‫۩ ۩و�أباح ال�شرع ثالث ًا‪َ :‬ملن �أُ�صيب بالعني ب�أن يرقي َ‬
‫‪�( ]g‬أن النبي ‪� s‬أمرها �أن ت�سرتقي من العني)‪ .‬ويف ال�صحيحني عن �أم �سلمة ‪� g‬أن النبي ‪ s‬ر�أى‬
‫يف بيتها جاري ًة يف وجهها َ�سفعة [�أي ُ�صفر ًة و�شحوب ًا] فقال‪( :‬ا�سرتقوا لها ف�إن بها النظرة)‪.‬‬

‫ وال�صحابة ‪� f‬إمنا كانوا يرقون بالقر�آن فرقى �أبو �سعيد ‪ d‬بالفاحتة‪ ،‬ورقت عائ�شة النبي ‪s‬‬
‫باملعوذتني‪ ،‬وعندما ُ�سحر النبي‪ُ s‬قر�أت عليها املعوذتان ف�شفي‪.‬‬

‫[يف امل�سند ‪� ]15700‬أن رج ًال من �أ�صحاب النبي ‪�s‬أ�صابته عني فدعا له النبي ‪s‬فقال‪( :‬اللهم �أذهب‬
‫عنه ح َّرها وبر َدها وو�ص َبها) ف�شفاه اهلل بالدعاء‪.‬‬

‫ مل ُيجز ال�شر ُع من ال ُّرقى �إال ما كان بكتاب اهلل تعاىل‪� ،‬أو من الأدعية باللغة العربية‪ .‬وال يجوز تعليق‬
‫حل ُجب‪ ،‬وال التمائم‪ ،‬وال اال�ستعانة بامل�شعوذين والدجالني‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و�أَ َّن ُه َكانَ ِر َجا ٌل‬ ‫حل ُرز‪ ،‬وال ا ُ‬ ‫ا ُ‬
‫وذونَ ِب ِر َج ٍال ِّمنَ الجْ ِ نِّ َفزَ ادُوهُ ْم َر َهق ًا{‪.‬‬
‫ن�س َي ُع ُ‬
‫ِّمنَ ا ِلإ ِ‬

‫اهلل قد حكم وق�ضى �أن من ي�ستعني بالدجالني وامل�شعوذين ف�إنه يزداد رهق ًا يف الدنيا والآخرة‪،‬‬ ‫ ف�إن كان ُ‬
‫فالعجب ُك ُّل العجب ممن يق�صد هوالء‪ ،‬فيدفع �إليهم �أموا َله‪ ،‬ويخ�س ُر دينه‪ ،‬وامل�صيبة ُكلُّها �إن كان ذلك با�سم‬
‫الدين‪.‬‬

‫والكذب عمام َة املتدينني‪ ،‬فرنى رقا ًة ومعاجلني‬


‫ُ‬ ‫جلباب الدِّ ين‪،‬‬
‫َ‬ ‫لب�س ال َّد َج ُل‬
‫ �إن من م�صائب الزمان �أن ُي َ‬
‫ومر�ضهم ليكت�سبون عر�ض ًا من‬
‫يزعمون التدين‪ ،‬وهم بني الفجور والكذب‪ ،‬ي�ستغلون حاج َة النا�س و�ضع َفهم َ‬
‫الدنيا زائل‪ .‬وانظر للإمام مالك رحمه اهلل كيف غ�ضب من فعل بع�ض ال ُّرقاة يف زمانه وع ّدة بدع ًة‪ ،‬فقد‬
‫قيل له ‪.) ..... ( :‬‬

‫زاعم �أنه يجوز‬


‫راق ب�أدعية �شرك ّية‪ِ ،‬ومن ٍ‬
‫فمن ٍ‬‫ فكيف لو ر�أى حال رقاة زماننا لقال فيهم �أ�ش َّد من ذلك‪ِ ،‬‬
‫متاجر بدين اهلل يبيع ما ي�سميها ُر َق ًا ب�أغلى الأثمان‪ ،‬وقد ُحكي الإجماع على ُحرمة‬
‫ٍ‬ ‫ح ُّل ال�سحر بال�سحر‪ ،‬ومن‬
‫�أخذ الأُجرة على ال ُّر َقى‪.‬‬

‫�صفات‬
‫ٍ‬ ‫نف�سه‪ ،‬وقد جاء يف ال�صحيح �أن النبي ‪ s‬ذكر‬‫ �إن �أف�ضل الرقية عباد اهلل! �أن يرقي امل�سلم َ‬
‫املتوكلني على اهلل حقّ التوكل‪ ،‬فذكر منهم �أنهم ال ي�سرتقون‪� ،‬أي ال يطلبون الرقية من غريه‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬العني والحسد‬

‫ كما جاء يف بع�ض الأحاديث بيانُ بع�ض �أ�سباب زوال �أثرها‪ ،‬ففي �صحيح م�سلم (‪ )5831‬عن ابن عبا�س‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�أن النبي ‪ s‬قال‪ « :‬العني حق ولو كان �شيء �سابق القدر �سبقته العني و�إذا ا�ستغ�سلتم فاغ�سلوا »‪ .‬ويف �سنن‬
‫�أبي داود (‪َ )3882‬عنْ َعا ِئ َ�ش َة ‪َ g‬قا َل ْت‪َ « :‬كانَ ُي�ؤْ َم ُر ا ْل َعا ِئنُ َف َي َت َو�ضَّ�أُ ُث َّم َي ْغت َِ�س ُل ِم ْن ُه المْ َ ِع ُني »‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ �إن العني حقٌّ‪ ،‬ولكنَّ بع�ض النا�س جعلها وهم ًا يتوهمه‪ ،‬وهاج�س ًا يعي�ش معه لي َله ونهاره‪ ،‬فرتاه يفعل‬
‫الأقل والأ�سو�أ لي�س تزهد ًا لي�ؤجر و�إمنا خوف ًا من العني‪ ،‬ويكرث من الذهاب للرقاة ال ل�سماع القر�آن وتعلمه‬
‫وبعد ذلك تراه منكف�أً على ِ‬
‫نف�سه يظنُّ ُك ّل نغز ٍة عين ًا وكل �إخفاق ٍة ح�سد ًا‪ ،‬يتوهم‬ ‫لي�ؤجر و�إمنا وج ًال من العني‪َ ،‬‬
‫وي�شك يف ُك ِّل قريب‪.‬‬
‫املر�ض‪ ،‬ويتخ ّوف الغد‪ ،‬فال يهن�أ بعي�ش‪ُّ ،‬‬

‫ �إن َمن هذه حا ُله ف�إنه ُي َ‬


‫نظ ُر �إليه بعني ال�شَّ ف َقة فلي�س ذلك من دين اهلل يف �شيءٍ و�إمنا هي �أوها ٌم يف‬
‫نف�سه‪ ،‬زادها و�أذكى �أوارها م ّدعو الرقية وجتا ُر القراءة‪.‬‬ ‫ِ‬

‫ �إن االعتقاد يف العني واحل�سد مما ي�ضعف الإميان باهلل‪ ،‬ويقلل من التوكل عليه حينما ين�سب املر ُء ُك ّل‬
‫�ض ٍّر �أ�صابه لها‪ ،‬فيرتك ربطها ب�أ�سبابها الطبيعية‪ ،‬فحني ذاك يتعلق بالأوهام‪ ،‬وي�ضعف �إميانه بالق�ضاء‬
‫والقدر‪.‬‬

‫ روى م�سلم (‪ )5831‬عن ابن عبا�س �أن النبي ‪ s‬قال‪« :‬العني حق ولو كان �شيء �سابق القدر �سبقته‬
‫العني»‪ .‬فبينّ النبي ‪� s‬أن العني بتقدير من العزيز احلكيم‪ ،‬فال يقع �شيء من النظرة والعني �إال ح�سب ما‬
‫قد َّره �سبحانه وتعاىل‪ ،‬و�سبق بها عل ُمهُ‪ ،‬وال يقع �ضر ُر العني وال غريها �إال بقدر اهلل تعاىل‪.‬‬

‫ وبذا يكون امل�سلم متعلق ًا باهلل تعاىل فقط‪ ،‬ال يخاف عائن ًا‪ ،‬وال يرجو راقي ًا‪ ،‬ف�إن كانت بق�ضاء اهلل ف�إن‬
‫احلفظ منها‪ ،‬وال�شفاء يكون مبا �شرعه اهلل تعاىل‪ ،‬ال ب�أوهام مكذوبة‪ ،‬وال بتمائم �شركية‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الغربة عن الوطن‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغربة عن الوطن‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫حتنُّ �إليها كما حتنُّ املر�ض ُع‬ ‫النفو�س ُجبلت �أن تكونَ لأوطانها م�شتاقة‪ ،‬و�إىل مو ِلدها ت َّواقة‪ِ ،‬‬‫َ‬ ‫ ف�إن‬
‫لر�ضيعها‪ ،‬فمهما جت ّلد املُغ ِرتب وت�صبرّ ‪ ،‬ومهما اغتنى يف ُغربته و�أث َرى‪ ،‬ومهما ّ‬
‫تب�سم و� َأبدى‪ ،‬ف�إنه وال ُب َّد‬
‫ُمتذك ٌر ل ُغربته ون�أيه‪َ ،‬حا ٌن لوطنه و�أه ِله‪.‬‬

‫غريب و�إن �أبدى جتلُّ َده‬


‫َما ِمن ٍ‬ ‫ ‬
‫عند ال ُغرب ِة ال َو َطنا‬
‫ �إال تذ َّك َر َ‬

‫ عباد اهلل! �إن ال َّنقل َة ُمث َلة‪ ،‬وال ُغرب ُة ُكر َبة‪ ،‬و�إن لل ُفر َقة ُ‬
‫حلر َقة‪ .‬ف�إذا اجتمعت الثالث‪ :‬نقل ٌة عن البلد‪،‬‬
‫وغرب ٌة ع ّمن ي�أ َلف‪ ،‬وفرق ٌة للأهل‪ .‬ف�إنها جممع ال ُك َر َب‪ ،‬حتى قال ُ‬
‫بع�ضهم‪( :‬لو كان للفراق �صور ٌة لراعت‬ ‫ُ‬
‫وجلم ُر ال َغ َ�ضا �أق ُّل توهج ًا من نا ِره)‪.‬‬
‫القلوب وه َّدت اجلبال‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫خطبة جديدة‬

‫أو�ش َك ْت ‪ ...‬منه املدام ُع �أن تَفي�ض ِعالال )‬


‫الغريب �إذا تذ ّكر � َ‬
‫َ‬ ‫( �إنّ‬ ‫ ‬

‫كتب بع�ض َمن اغرتب عن �أهله لهم‪:‬‬

‫الوطن‬
‫ِ‬ ‫النازح‬
‫ِ‬ ‫البعيد‬
‫ِ‬ ‫للغريب‬
‫ِ‬ ‫َمن‬ ‫ ‬
‫الهم َو َ‬
‫احلزَ ِن‬ ‫َمن للأ�سـ ِري �أ�س ِري ِّ‬ ‫ ‬
‫َاح َل ـ ُه‬
‫ـريب الذي ال ُم�سرت َ‬ ‫َمن للغـ ِ‬ ‫ ‬
‫الح ـ ٌّـظ ِمن ال َو َ�س ِن‬
‫ِمن ال ُه ـ ُم ِوم َو َ‬ ‫ ‬
‫خ َّلى الــبال َد َوقد َكانت َل ُه َوطـ ـ َنا ‬ ‫ ‬
‫ ال خ َري يف ُك ِّل َم ٍ‬
‫�شغول َعن ال َو َط ِن‬
‫‪259‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغربة عن الوطن‬

‫مغرتب‬
‫ٍ‬ ‫عي�ش َن ِ‬
‫ائي ال َّدا ِر‬ ‫ ال َخ َري يف ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ي�أوي �إىل اله ـ ِّـم كا َمل�صـ ـ ُفو ِد يف َق ـ َر ِن‬ ‫ ‬
‫�ستمع‬
‫�سن ُم ٍ‬ ‫أهل َك ْم نا َبني ِمن ُح ِ‬ ‫يا � ُ‬ ‫ ‬
‫منك ـ ـُ ٍم َو َفارقت ـُ ُه ِمن منـ ـ ٍ‬
‫ـظر َح�سـ ـَ ِن‬ ‫ ‬
‫ـام َبعـ َـد ُكــم‬ ‫َوكـ ْـم جتـ ـ َّرع ـ ُـت ل ـ ـلأيـ ِ‬ ‫ ‬
‫البدن‬
‫أزعج ْت روحي عن ِ‬ ‫رع ٍة � َ‬ ‫ِمن َج َ‬ ‫ ‬
‫ ‬
‫ُ‬
‫البلد نكا ًال‪ ،‬بل �س ّماه اهلل َعذاب ًا َو َ�ص رّيه‬ ‫ عباد اهلل! لقد جعل اهلل الن� َأي َعن الدار ُعقوب ًة‪ ،‬واجلال َء عن ِ‬ ‫ُ‬
‫اب‬ ‫جل وعال‪َ } :‬و َلوْال �أَن َكت ََب هَّ ُ‬
‫الل َع َل ْي ِه ُم الجْ َ ال َء َل َع َّذ َب ُه ْم فيِ ال ُّد ْن َيا َو َل ُه ْم فيِ ال ِآخ َر ِة َع َذ ُ‬ ‫مما مُيت ََحنُ به؛ فقال َّ‬
‫ّ‬
‫ال َّنا ِر{‪.‬‬

‫ وقال �سبحانه‪َ } :‬و َل ْو �أَ َّنا َك َت ْب َنا َع َل ْي ِه ْم �أَ ِن ا ْق ُت ُلو ْا َ�أن ُف َ�س ُك ْم َ�أ ِو ْاخ ُر ُجو ْا ِمن ِد َيا ِر ُكم َّما َف َع ُلو ُه ِ�إالَّ َق ِلي ٌل ِّم ْن ُه ْم{‪،‬‬
‫اجلال َء عن الوطن بالقتل يف �ش ّدة النكاية وقو ِة العذاب‪.‬‬ ‫ف َق َرنَ ُ‬
‫اهلل ع َّز وجل َ‬

‫بلده و ُيخ َرج منها‪ ،‬فالزاين ُيعا َق ُب ب�أن ُيج َلد‬


‫�شرع ُه اهلل عقوب ًة َملن �أذنب من عبا ِده �أن ُيغ َّر َب عن ِ‬
‫ومما َ‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫مائ َة جلد ٍة و ُيغ ّرب عن بلده عام ًا كام ًال‪.‬‬

‫النا�س �أجر ًا َمن تغ ّرب عن �أه ِله ون�أى عن بلده ُم َهاجر ًا‬ ‫أعظم ِ‬ ‫ ول�ش ّدة َو ْق ِع التغ ّرب على النف�س‪ ،‬كان ِمن � ِ‬
‫هلل ور�سوله ‪ ،s‬فهم املهاجرون الأوائل مع ر�سول اهلل ‪� s‬صحبوه وهاجروه معه وانتقلوا ب�أمره } َوا َّل ِذينَ‬
‫اج ُرو ْا َو َج َاهدُو ْا فيِ َ�س ِب ِيل هَّ ِ‬
‫الل َوا َّل ِذينَ �آ َوو ْا َّو َن َ�ص ُرو ْا �أُو َلـ ِئ َك هُ ُم المْ ُ�ؤْ ِم ُنونَ َح ّق ًا َّل ُهم َّم ْغ ِف َر ٌة َو ِر ْز ٌق‬ ‫� َآم ُنو ْا َو َه َ‬
‫مي{‪.‬‬ ‫َك ِر ٌ‬

‫هلل ع ّز وج ّل‬ ‫ ومل ّا فتح اهلل مك َة للم�سلمني انقطعت الهجرة‪( ،‬فال هجرة بعد الفتح)‪ .‬ولكن بقي �أم ُر ا ِ‬
‫بالتغ ُّرب عن البلد َملن ملْ َي�ستطع �إظها َر �شعائر دي ِنه يف بلد؛ فقال �سبحانه‪�ِ } :‬إنَّ ا َّل ِذينَ َت َو َّفاهُ ُم المْ َلآ ِئ َك ُة‬
‫َظالمِ ِي �أَ ْن ُف ِ�س ِه ْم َقا ُلو ْا ِف َيم ُكنت ُْم َقا ُلو ْا ُك َّنا ُم ْ�س َت�ضْ َع ِف َني فيِ الأَ ْر ِ�ض َقا ْل َو ْا �أَ مَْل َت ُكنْ �أَ ْر ُ�ض هَّ ِ‬
‫الل َو ِا�س َع ًة َف ُت َه ِاج ُرو ْا‬
‫ِفي َها{‪.‬‬

‫احلال كذلك‪ ،‬جاء الأم ُر بالو�ص ّية بالغريب خري ًا‪� ،‬إذ ه ُّمه خمتلف‪ ،‬وفك ُره م�شتت‪ ،‬بعي ٌد عن‬
‫ُ‬ ‫ وملّا كان‬
‫وتزويده ُبلغتَه‪ ،‬قال �أبو عمرو ال�شيباين‪�( :‬أُ ِ‬
‫و�صي‬ ‫ِ‬ ‫إكرام ِوفادته‪،‬‬ ‫�أهله‪ ،‬فاق ٌد البنائه‪ ،‬ف�أُمر بال ِ‬
‫إح�سان �إليه‪ ،‬و� ِ‬
‫بنو �إ�سرائيل يف التوراة‪ :‬ا�ستو�صوا مبن يقدم عليكم من غري �أهل بالدكم من الغرباء خري ًا)‪.‬‬

‫ وقد جعل اهلل يف كتابه للغريب الذي انقطع عن �أهله‪ ،‬وال مال يف يده يو�صله �إليهم ح ّق ًا يف املال و�سهم ًا‬
‫يف الزكاة‪ ،‬و�س ّماه ابن ال�سبيل؛ فقال �سبحانه‪�} :‬إِنمَّ َ ا ال�صَّ َد َقاتُ ِل ْل ُف َق َراء َوالمْ َ َ�س ِاك ِني َوا ْل َع ِام ِل َني َع َل ْي َها َوالمْ ُ�ؤَ َّل َف ِة ُق ُلو ُب ُه ْم‬
‫الل َع ِلي ٌم َح ِكي ٌم{‪.‬‬ ‫الل َو هَّ ُ‬
‫ي�ض ًة ِّمنَ هَّ ِ‬ ‫ال�س ِب ِيل َف ِر َ‬ ‫وَفيِ ال ِّر َق ِاب َوا ْل َغا ِر ِم َني وَفيِ َ�س ِب ِيل هَّ ِ‬
‫الل َوا ْب ِن َّ‬

‫‪260‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغربة عن الوطن‬

‫ بل �أُمر بالإح�سان باخل�صو�ص للغرباء من طلبة العلم فروى ابن ماجه عن �أبي �سعيد اخلدري ‪� d‬أن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إن النا�س لكم تَب ٌع‪ ،‬و�أنهم �سي�أتونكم ِمن �أقطار الأر�ض يتفقهون يف الدين‪ ،‬ف�إذا جاءوكم‬
‫فا�ستو�صوا بهم خري ًا)‪.‬‬

‫لقومه ُمع ّلم ًا و ُمر�شد ًا‪ ،‬وقد حثَّ‬ ‫أعظم الغرباء �أجر ًا َمن تغ ّرب لطلب العلم والتفقه يف الدِّ ين‪ ،‬ل َيعو َد ِ‬ ‫�إذ ِمن � ِ‬
‫اهلل ج ّل وعال على رحلتهم وغربتهم؛ فقال �سبحانه‪َ } :‬ف َلو َْال َن َف َر ِمن ُك ِّل ِف ْر َق ٍة ِّم ْن ُه ْم َط�آ ِئ َف ٌة ِّل َي َت َف َّق ُهو ْا فيِ الدِّ ِين‬
‫َو ِل ُي ِنذ ُرو ْا َق ْو َم ُه ْم ِ�إ َذا َر َج ُعو ْا ِ�إ َل ْي ِه ْم َل َع َّل ُه ْم َي ْح َذ ُرونَ {‪.‬‬

‫�صح عن ُعمر ‪� d‬أنه قال‪( :‬ال َت ِل ُّثوا‬


‫التغرب لأجل طلب الرزق؛ فقد َّ‬ ‫ُ‬ ‫ومما جاء اعتبار ال ُغربة لأجله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ ‬
‫أر�ض غ ِريها فاهلل ُيقدِّ ُر ال َ‬
‫أرزاق‬ ‫أر�ض تعجزون فيها عن الك�سب‪ ،‬بل انتقلوا �إىل � ٍ‬ ‫عجزَ ة)؛ �أي ال تبقوا يف � ٍ‬‫َبدا ِر َم َ‬
‫بحك َم ٍة َيرت�ضيها �سبحانه‪ ،‬فقد يكون رزق املر ِء يف بقع ٍة دون �أُخرى‪.‬‬

‫اهلل يف كتابه هوالء الذين َيغرتبون لأجل طلب الرزق؛ فقال �سبحانه‪َ } :‬و� َآخ ُرونَ َي�ضْ ِر ُبونَ فيِ‬ ‫ وقد ذكر ُ‬
‫الل{‪ْ � .‬أي بالتّجارة ونحوها‪ .‬وقال بع�ض احلكماء‪( :‬اطلبوا الرزق يف البعد‪ ،‬ف�إنكم‬ ‫الأَ ْر ِ�ض َي ْب َت ُغونَ ِمن َف�ضْ ِل هَّ ِ‬
‫�إن مل تك�سبوا ما ًال غنمتم عق ًال كثري ًا)‪.‬‬

‫آداب كثري ٌة َملن تغ ّرب ون�أى‪ِ ،‬ومن ذلك‪:‬‬


‫ ‪ w‬عباد اهلل! لقد جاء يف �شرعنا � ٌ‬
‫۩ ۩�أن النبي ‪� s‬أم��ر بعد الإطالة يف الغيبة عن الأه��ل‪ ،‬فمهما �أمكن امل��رء الرجوع لأهله فل َي ُعد‪ ،‬وفا ًء‬
‫أحدكم‬‫ال�سف ُر قطع ٌة من العذاب‪ ،‬مينع � َ‬ ‫بحقو ِقهم‪ ،‬وراح ًة لباله‪ ،‬يف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال‪َّ « :‬‬
‫وطعامه و�شرا َبه‪ ،‬ف�إذا ق�ضى �أحدُكم ُنهمته من ِ‬
‫وجهه فليعجل �إىل �أهله »‪.‬‬ ‫َ‬ ‫نومه‬
‫َ‬

‫مطلوب‬
‫ٌ‬ ‫أدب بالآداب العامة‪ ،‬والتق ّيد بها‪ .‬واملُ�سلم عموم ًا‬
‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن يحر�ص املرء حال اغرتابه بالت� ُ‬
‫�صالح‬
‫حا�سب بالهفوة‪� ،‬إن �أح�سن ُ�سرت ُ‬ ‫ال�س َ‬
‫قط ُة‪ ،‬و ُي ُ‬ ‫منه ذلك يف ُكل حال‪ ،‬ولكن الغريب �آكد‪� ،‬إذ تع ُّد عليه َ‬
‫فع ِله‪ ،‬و�إن �أ�سا َء �أُذي َع ُ�سو ُء عم ِله‪.‬‬

‫وقد قال ال�شاعر يف الزمان الأ ّول‪:‬‬

‫حطت ركائ ُبه ذلي ُل‬ ‫ �إنّ الغــريـب بحــيث مــا ‪ّ . . .‬‬
‫وي ـ ُد الــغريب قــ�صــري ٌة ‪ . . .‬ول�س ــا ُنه �أبــد ًا ُ‬
‫كليل‬ ‫ ‬
‫وتـ ـ ــراه ح ـ ـيــث ر�أي ـتــه ‪� . . .‬أبد ًا ولي�س له خلي ُل‬ ‫ ‬
‫بع�ضهم ‪ . . .‬بع�ض ًا ونا�صره ُ‬
‫قليل‬ ‫ا�س ين�صر ُ‬ ‫وال ّن ُ‬ ‫ ‬

‫‪261‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الغالء‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغالء‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫بتقدير‬
‫ِ‬ ‫أع�صار‪ ،‬و�إمنا هو‬
‫أم�صار وال َ‬‫اختالف ال َ‬‫ِ‬ ‫ ف�إن ارتفاع �أ�سعار ال�سلع وانخفا�ضها �أم ٌر َط َب ِع ٌّي َع َلى‬
‫ال�سوق وت�ضخم العملة‬
‫ِ‬ ‫أمره‪ ،‬فال تظ ُّل الأ�سعا ُر على طريق ٍة واحد ٍة و�إمنا تتق َّل ُب نتيج ًة لعوامل‬ ‫هلل تعاىل و� ِ‬
‫ا ِ‬
‫واختالف العر�ض والطلب ونحو ذلك ‪..‬‬

‫ فالغالء بارتفاع الأ�سعار وال ُّرخ�ص بانخفا�ضها هما من اهلل وبتقديره وم�شيئته‪ ،‬لكن هو �سبحانه قد‬
‫جعل بع�ض �أفعال العباد �سبب ًا يف بع�ض احلوادث؛ فارتفاع الأ�سعار قد يكون ب�سبب ظلم العباد‪ ،‬وانخفا�ضها‬
‫قد يكون ب�سبب �إح�سان بع�ضهم‪ ،‬وقد يكون �سببها ق َّلة ما يخلقه اهلل تعاىل ‪.‬‬

‫ر�سول اهلل ‪ ،s‬فقالوا‪ :‬يا ر�سول اهلل َ�س ِّعر لنا‪،‬‬ ‫عهد ِ‬ ‫ روى �أهل ال�سنن عن �أن�س‪ d‬قال ‪ :‬غال ال�سع ُر على ِ‬
‫أرجو �أن �أل َقى َر ّبي ولي�س �أح ٌد يط ُلبني مبظل َم ٍة يف‬
‫فقال‪�( :‬إنَّ اهلل هو امل�س ِّعر القاب�ض البا�سط الرزاق‪ ،‬و�إين ل ُ‬
‫مال)‬
‫دم وال ٍ‬ ‫ٍ‬

‫قوم بال َغالء‬ ‫ُ‬ ‫ غال ُء الأ�سعار –عباد اهلل‪ -‬عقوب ٌة كان النبي ‪s‬‬
‫ي�ستعيذ باهلل تعاىل ِمنها ‪َ ..‬و َد َعا على ٍ‬
‫وق َّلة املعي�شة؛ ففي ال�صحيح �أن النبي‪s‬كان يدعو يف القنوت ‪( :‬اللهم �أ ِجن امل�ست�ضعفني من امل�ؤمنني‪ ،‬اللهم‬
‫وال�سني جم ُع َ�سن ٍة وهي ال َغالء؛ ف�إن النا�س �إذا نزل‬
‫أتك على ُم�ضر‪ ،‬اللهم �سنني ك�سني يو�سف)؛ ِّ‬ ‫ا�ش ُدد وط� َ‬
‫بهم الغالء ُ�شغلوا به وا�ست�ضروا ‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫وقوعه‪ ،‬ومينع ا�شتدا َده‪ ..‬فيحرم‬ ‫ عباد اهلل لقد وجد يف الت�شريع الإ�سالمي َما يحارب الغالء عند ِ‬
‫النبي ‪ s‬قال ‪( :‬ال يحتكر �إال خاطئ)‪ ،‬و�ألزم ال�شر ُع َمن‬ ‫االحتكار للأقوات يف الغالء ففي ال�صحيح �أن َّ‬
‫الطعام من‬
‫ُ‬ ‫ف�ض ُل َعن قو ِته �أن يخرجه للبيع عند �ش َّدة الغالء [فتح الباري ‪ ،]130/6‬و�أن ال ُيخ َرج‬ ‫عنده ما َي ُ‬
‫َ‬
‫ي�ض ُّر ب�أه ِله [اال�ستذكار ‪� .]273/8‬إىل غري ذلك من التدابري االحرتازية‪،‬‬ ‫بلد �إىل غ ِريه �إذا كان ذلك ُ‬‫�سوق ٍ‬
‫ِ‬
‫والعالجية لوقوع الغالء يف الأ�سعار‪.‬‬
‫ ف�إذا نزل بالعبد امل�ؤمن �شي ٌء من ذلك فالواجب عليه التوك ُل على اهلل تعاىل وليع َلم �أن اهلل تعاىل هو‬
‫الرزاق ف ُرمبا كان الغالء امتحان ًا من اهلل تعاىل وابتالء } َو َن ْب ُلو ُكم ِبال�شَّ ِّر َوالخْ َ رْ ِي ِف ْت َن ًة َو�إِ َل ْي َنا ُت ْر َج ُعونَ { ‪.‬‬

‫جاء قو ٌم لأبي حازم رحمه اهلل فقالوا ‪( :‬يا �أبا حازم �أما ترى قد غال ال�سعر)‪ ،‬فقال ‪( :‬وما يغمكم من‬ ‫ ‬
‫‪262‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغالء‬

‫ذلك �إن الذي يرزقنا يف الرخ�ص هو الذي يرزقنا يف الغالء) [حلية الأولياء ‪. ]239/3‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ال�سلع لعموم امل�سلمني؛ روى الإمام �أحمد و�أبو‬


‫ وعليه �أن يلتجئ �إىل اهلل بالدعاء برخ�ص الأ�سعار‪ ،‬ووفرة ِّ‬
‫داود عن �أبي هريرة ‪� d‬أن ال�سعر غال يف عهد ر�سول اهلل ‪ s‬فجاء رجل ي�شتكي لر�سول اهلل ‪ ،s‬فقال‪:s‬‬
‫أدعو ‪ ...‬واهلل يخ ِف�ض وير َفع ‪.)..‬‬
‫( بل � ُ‬

‫املحتاج ويعي ُنهُ‪ ،‬ويكون �سبب ًا يف‬


‫َ‬ ‫وي�ستحب للم�سلم �أن يكون عون ًا لأخيه املُ�سلم عند حاجته ف َيتف َّق ُد‬
‫ُّ‬ ‫ ‬
‫التخفيف عنه‪ ،‬يف ال�صحيحني �أن النبي ‪ s‬قال ‪�( :‬إن الأ�شعريني �إذا �أرملوا يف الغزو �أو ق َّل طعام عيالهم‬
‫واحد ثم اقت�سموه بينهم بال�سوية‪ ،‬فهم مني و�أنا منهم)‪.‬‬ ‫عندهم يف ثوب ٍ‬ ‫باملدينة جمعوا ما كان َ‬

‫ قال ابن �أبي حامت الرازي ‪ :‬وقع عندنا الغالء‪ ،‬ف�أنفذ بع�ض �أ�صدقائي حبوب ًا وقال ‪ :‬ا�شرت يل بها دار ًا‪،‬‬
‫ر�ضيت‬
‫ُ‬ ‫وكتبت �إليه ‪ :‬ا�شرتيت لك بها ق�صر ًا يف اجلنة‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫فبعته بع�شرين �ألفا‪ ،‬ف�أنفقتها على الفقراء‪،‬‬
‫[تذكرة احلفاظ ‪. ]831/3‬‬

‫رحمه و�أهل‬ ‫اهلل عليه يف رز ِقه و�أنعم عليه فيه يجب عليه �أن يتفقد �إخوا َنه وجريانه وذوي ِ‬ ‫ �إن امر ًء �أو�س َع ُ‬
‫أحد منهم }‬ ‫نق�ص �أو غ�ضا�ض ٌة على � ٍ‬ ‫بلده‪ِ ،‬من غري �س� ٍؤال منهم �أو ا�ستجداء ‪ ..‬ف�إنه ال ُب َّد و�أن يكون هناك ٌ‬ ‫ِ‬
‫الل َال َي ْ�ست َِطي ُعونَ َ�ض ْر ًبا فيِ الأَ ْر ِ�ض َي ْح َ�س ُب ُه ُم الجْ َ ِاه ُل �أَ ْغ ِن َياء ِمنَ ال َّت َع ُّف ِف‬ ‫ح�ص ُرو ْا فيِ َ�س ِب ِيل هَّ ِ‬ ‫ِل ْل ُف َق َراء ا َّل ِذينَ �أُ ِ‬
‫الل ِب ِه َع ِلي ٌم{‪..‬‬ ‫ا�س ِ �إلحْ َ ا ًفا َو َما ُتن ِف ُقو ْا ِمنْ َخ رْ ٍي َف ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫َت ْع ِر ُف ُهم ِب ِ�سي َماهُ ْم َال َي�س َْ�أ ُلونَ ال َّن َ‬

‫وال�س� ِؤال والتحري روى احلاكم‬


‫البحث ُّ‬
‫ِ‬ ‫أحد حمتا ٌج‪ ،‬و�أن ال ُك َّل �أغنياء فليعلم �أنه ق�صَّ ر يف‬
‫ ف�إن ظنَّ �أن ال � َ‬
‫(‪ )184/4‬و�صححه �أن النبي ‪s‬قال ‪( :‬لي�س امل�ؤمن الذي يبيت وجا ُره �إىل جنبه جائع) ‪.‬‬

‫ال�س َلع ‪ ..‬فينبغي لل ُم�سلم �أن يكونَ ذا �ش َف َقة و�إح�سان‪ ،‬ال‬


‫ وكلم ٌة لأرباب التجا ِر ومالكي العقار وبائعي ِّ‬
‫ك�سب‪ ،‬ال يهتبل حاج َة �إخوانه لريه َقهم مبا َي�شقّ عليهم‪ ،‬بل يراعي َ‬
‫حقوق الأخ َّوة‬ ‫ربح‪ ،‬وال يبالغ يف ٍ‬ ‫يغايل يف ٍ‬
‫َ‬
‫ر�سول اهلل‬ ‫احمة يف املعاملة‪ ،‬ف َعن جابر بن عبد اهلل ‪� d‬أنَّ‬ ‫الإ�سالم ّية‪ ،‬وقد ح َّث َنا ال�شا ِر ُع احلكيم على َ‬
‫امل�س َ‬
‫البخاري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(رحم اهلل رج ًال ً‬
‫�سمحا �إذا باع و�إذا ا�شترَ ى و�إذا اقت ََ�ضى) �أخرجه‬ ‫‪ s‬قال‪ِ :‬‬

‫ربحه‪ ،‬وتكرث �أمواله من غري نظر حلال �إخوانه‪،‬‬ ‫ُ‬


‫ال�صادق ال يفرح بغالء الأ�سعار ليزداد ُ‬ ‫ وامل�ؤمنُ التاج ُر‬
‫دل ُ‬
‫اهلل عليها ‪..‬‬ ‫ين �أن علي ًا ‪ d‬قال ‪�( :‬إن �سيد التجار رج ٌل لزم التجار َة التي َّ‬
‫ُروي عند �أبي ال�شيخ الأ�صبها ِّ‬
‫وال يتمنَّ للم�ؤمنني الغالء)‪.‬‬
‫ لذا قال الإمام �أحمد‪( :‬ينبغي للرجل �إذا ا�شرتى �شيئ ًا من قوت امل�سلمني �أن ُي ِ‬
‫ح�سن ن ّيتَه‪ ،‬وال يتمنى‬
‫الغالء) [م�سائل �صالح ‪.]237/2‬‬

‫ وروى �أحم ُد (‪ )27/5‬عن معقل بن ي�سار ‪� d‬أن ر�سول ال‪ s‬قال ‪َ :‬‬
‫(من دخل يف �شيءٍ ِمن �أ�سعار‬
‫يوم القيامة) �أخرجه �أحمد ‪ .‬وروى‬ ‫امل�سلمني ل ُيغ ِل َيه عليهم ف�إنَّ ح ًّقا على اهلل �أن ُيق ِع َده ٍ‬
‫بعظم من النار َ‬
‫‪263‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغالء‬

‫البيهقي (‪� )30/6‬أن النبي ‪ s‬قال ‪( :‬من احت َكر يريد �أن يغايل بها على امل�سلمني فهو خاطئ وقد برئت‬
‫منه الذمة) ‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫القلوب‬
‫ِ‬ ‫وترك ا�ستغاللهم ال يف َع ُله �إال ذوو‬
‫ا�ص الأ�سعار على امل�س ِلمني وو�ض َع الإجحاف بهم َ‬ ‫رخ َ‬‫ �إنَّ ِ�إ َ‬
‫وعودون بالربك ِة يف �أرزاقهم وال�سع ِة يف‬ ‫الرحيمة‪ ،‬التي ام َتلأت َعد ًال ِ‬
‫و�صد ًقا وتق ًوى و�إح�سا ًنا ‪� ..‬أولئك هُ ُم ا َمل ُ‬
‫أبدانهم وال�سعادة يف نفو�سهم ‪.‬‬ ‫وال�صح ِة يف � ِ‬
‫�أموالهم ِّ‬

‫حموج فرتاه يزيد يف �سعر‬ ‫بب ٍ‬ ‫ليعجب ممِ ن يزي ُد على النا�س يف �أ�سعار �ضرورياتهم ِمن غ ِري َ�س ٍ‬
‫ُ‬ ‫ �إن املر َء‬
‫م�ستودعه قبل ارتفاع �سعرها‪� ،‬أو يرف ُع �سعر �إيجار عقا ِره ال ُ‬
‫حل َّج ٍة �إال ارتفاع الأ�سعار‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عنده يف‬‫الب�ضاعة وهي َ‬
‫مع �أنه مل َيبذل يف بنائها ال�سعر الغايل‪ ،‬م�ستغ ًال حاج َة �أخيه املُ�س ِلم وا�ضطرا َره ‪ ..‬وقد قال النبي ‪( : s‬من‬
‫م�سلم كرب ًة ن َّف�س اهلل عنه كرب ًة من كرب يوم القيامة) ‪.‬‬
‫ن َّف�س عن ٍ‬
‫عند اهلل ع َّز وجل } َو َمن ُي َ‬
‫وق‬ ‫وعدم املغالة ذاتي ًا ِمن املُ�س ِلم ِ‬
‫نف�سه؛ ابتغا َء َما َ‬ ‫ وليكن دافعنا للم�ساحم ِة ِ‬
‫ُ�ش َّح َن ْف ِ�س ِه َف ُ�أ ْو َل ِئ َك هُ ُم المْ ُ ْف ِل ُحونَ { ‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪264‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الغيبة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغيبة‬

‫ ‬
‫الخطبة األوىل ‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫الظنِّ �إِنَّ َب ْع َ�ض َّ‬


‫الظنِّ �إِ ْث ٌم َوال تجَ َ َّ�س ُ�سوا َوال‬ ‫ فيقول اهلل تعاىل ‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ْاج َت ِن ُبوا َك ِث ًريا ِّمنَ َّ‬
‫اب َّر ِحي ٌم{‪.‬‬ ‫الل َت َّو ٌ‬‫الل �إِنَّ هَّ َ‬
‫َي ْغتَب َّب ْع ُ�ض ُكم َب ْع ً�ضا �أَ ُي ِح ُّب �أَ َح ُد ُك ْم َ�أن َي�أْ ُك َل لحَْ َم �أَ ِخي ِه َم ْيتًا َف َك ِر ْه ُت ُمو ُه َوا َّت ُقوا هَّ َ‬

‫ال�س َمر‪ ،‬فال يحلو‬ ‫مر�ض اجتماعي متف�شي‪ ،‬فهو عند البع�ض فاكه ُة املجال�س‪ ،‬و�أُ ُ‬
‫ن�س َّ‬ ‫ الغيبة عباد اهلل ! ٌ‬
‫حديثٌ بدونها‪ ،‬وال جت ُم ُل املجا ِل�س �إال بها‪.‬‬

‫ري ف َعن �أبي بكرة ‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال يف خطبته‬ ‫هلل عظيم‪ ،‬وجر ُمها كب ٌ‬
‫عند ا ِ‬
‫ ولكن يف املقابل �إث ُمها َ‬
‫يف حجة الوداع ‪�( :‬إن دماءكم و�أموالكم و�أعرا�ضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا يف �شهركم هذا يف‬
‫بلدكم هذا �أال هل بلغت) رواه البخاري وم�سلم‪ ،‬و�أخرج ابنُ �أبي الدنيا يف كتاب (ذم الغيبة) والبيهقي عن‬
‫�أن�س ‪ d‬قال خطبنا ر�سول اهلل‪ s‬فذكر �أمر الربا َّ‬
‫وعظم �ش�أنه فقال ‪�( :‬إن الدرهم ي�صيبه الرجل من الربا‬
‫�أعظم عند اهلل يف اخلطيئة من �ست وثالثني زنية يزنيها الرجل و�إن �أربى الربا عر�ض الرجل امل�سلم) ‪.‬‬

‫ و�أخرج �أحمد و�أبو داود عن �أن�س ‪ d‬قال ‪ :‬قال ر�سول اهلل ‪( : s‬ملا ُعرج بي مررت بقوم لهم �أظفار‬
‫خطبة جديدة‬

‫من نحا�س يخم�شون وجوههم و�صدورهم فقلت من ه�ؤالء يا جربيل قال ه�ؤالء الذين ي�أكلون حلوم النا�س‬
‫ويقعون يف �أعرا�ضهم) ‪.‬‬

‫ؤان�س جمال�س ًا‪� ،‬أو‬


‫بع�ض كالمه‪ ،‬ويتج َّو ُز فيه‪ ،‬ل ُي َ�سامر �صديق ًا‪� ،‬أو لي� َ‬
‫ عبا َد اهلل! �إن البع�ض يت�ساهل يف ِ‬
‫ليخرج �ضغينة قلبه فيظنُّ حدي َثه جائز ًا مباح ًا وهو يف احلقيقة حرام ُم�أثـِّم‪َ ،‬روى الإمام �أحمد عن �أبي‬
‫هريرة ‪� d‬أنه �سمع ر�سول اهلل ‪ s‬يقول ‪� ( :‬إن العبد يتكلم بالكلمة يزل بها يف النار �أبعد ما بني امل�شرق‬
‫واملغرب) ‪.‬‬

‫امل�سلم مبا يك َره �أن ُيذكر عنه و ُينقل؛ �أخرج �أبو داود والرتمذي‬
‫َ‬ ‫ فالغيب ُة املح َّرمة �أن يذكر املُ�س ِل ُم �أخاه‬
‫و�صححه عن �أبي هريرة قال قيل يا ر�سول اهلل ما الغيبة قال‪(:‬ذكرك �أخاك مبا يكره) قال يا ر�سول اهلل‬
‫�أر�أيت �إن كان يف �أخي ما �أقول قال‪�(:‬إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و�إن مل يكن فيه ما تقول فقد بهته)‪.‬‬
‫‪265‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغيبة‬

‫ قال ال�ضحاك ‪ :‬الغيبة �أن يقول للرجل من َخ ْل ِف ِه ‪ " :‬هو كذا " ُي ِ�سي ُء الثناء عليه‪ ،‬ويذكر عي َبه وذ َّمه‪ ،‬على‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�سبيل الت�شفي‪� ،‬أو املذمة‪� ،‬أو اال�ستهزاء‪� ،‬أو غري ذلك من املقا�صد ‪.‬‬

‫ قال قتادة قال ‪ُ :‬ذكر لنا �أن الغيبة �أن تذكر �أخاك مبا ي�شينه وتعيبه مبا فيه ف�إن �أنت كذبت عليه فذاك البهتان‬
‫يقول كما �أنت كاره لو وجدتَ جيف ًة ممدودة �أن ت�أكل منها فكذلك ف�أكره حلمها وهو حي ‪.‬‬

‫ وانظر يا رعاك اهلل �إىل هذه املواقف الرتبوية التعليمية التي ع َّلم بها النبي ‪� s‬أ�صحا َبه خطور َة‬
‫الغيبة‪ ،‬مع ُي ْ�س ِر ما قالوه يف مقايي�س كثري منا؛ فروى البخاري يف (الأدب) ب�سند �صحيح عن �أبي هريرة �أن‬
‫تدع ُه‬ ‫جم �سمع النبي ‪ s‬رجلني يقول �أحدهما ل�صاحبه �أمل تر �إىل هذا الذي َ�س َرت ُ‬
‫اهلل عليه‪ ،‬ف َل ْم ْ‬ ‫ماعزا ملا ُر َ‬
‫ف�سا َر النبي ‪ ،s‬ثم مر بجيفة حمار فقال ‪�( :‬أين فالن وفالن انزال فكال من‬ ‫جم الكلب‪َ ،‬‬‫نف�سه حتى ُرجم َر َ‬‫ُ‬
‫جيفة هذا احلمار)‪ ،‬فقاال ‪ :‬وهل ي�ؤكل هذا‪ ،‬قال ‪( :‬ف�إنكما �أكلتكما من �أخيكما �آنف ًا �أ�ش َّد �أكال منه والذي‬
‫نف�سي بيده �إنه الآن لفي �أنهار اجلنة ينغم�س فيها) ‪.‬‬

‫قلت للنبي ‪ : s‬ح�س ُب َك من �صفية كذا وكذا‪- ،‬قال بع�ض الرواة تعني ق�صرية‪-‬‬ ‫ وعن عائ�شة‪g‬قالت ُ‬
‫حكيت‬ ‫وحكيت له �إن�سان ًا‪ ،‬فقال ‪( :‬ما � ُّ‬
‫أحب �أن ِ‬ ‫ُ‬ ‫قلت كلم ًة لو ُم َ‬
‫زجت مبا ِء البحر ملزجته)‪ ،‬قالت ‪:‬‬ ‫فقال ‪( :‬لقد ِ‬
‫يل �إن�سان ًا و�أن يل كذا وكذا) رواه �أبو داود والرتمذي و�صححه ‪.‬‬

‫ظهر فقال النبي ‪ s‬لزينب ‪:‬‬ ‫ري ل�صفية بنت ُحيي وعند زينب ُ‬
‫ف�ضل ٍ‬ ‫ وعن عائ�شة ‪ g‬قالت ‪ :‬اعتل بع ٌ‬
‫(�أعطيها بعريا)‪ ،‬فقالت �أنا �أعطي تلك اليهودية‪ ،‬فغ�ضب ر�سول اهلل ‪ s‬فهجرها ذا احلجة واملح َّرم َ‬
‫وبع�ض‬
‫�صفر ‪ .‬رواه �أبو داود ‪.‬‬

‫ وكذا ال�صاحلون ِمن بع ُد حري�صون على حفظ �أل�سنتهم من الغيبة ولو تقالها الإن�سان‪ ،‬ف�أخرج عبد بن‬
‫حميد عن حممد بن �سريين �أنه ُذكر عنده رج ٌل فقال ذاك الأ�سود‪ ،‬قال ‪� :‬أ�ستغفر اهلل �أراين قد اغتبته ‪.‬‬

‫ عباد اهلل ! �إن الواجب على امل�سلم ن�صر ُة �أخيه امل�سلم بالذب عن عر�ضه‪ ،‬والرتف ِع عن اخلو�ض فيه‪،‬‬
‫واالنت�صار له؛ �أخرج البخاري يف الأدب عن ابن م�سعود قال من ُاغتيب عنده م�ؤمن فن�صره جزاه اهلل بها‬
‫خريا يف الدنيا والآخرة‪ ،‬ومن ُاغتيب عنده فلم ين�صره جزاه اهلل بها يف الدنيا والآخرة �شرا‪ ،‬وما التقم �أح ٌد‬
‫ُلقمة �شر ًا من اغتياب م�ؤمن �إن قال فيه ما َيعلم فقد اغتابه ومن قال فيه ما ال يعلم فقد بهته ‪.‬‬
‫ ‬
‫(من ر َّد عن عر�ض �أخيه ر َّد‬
‫ و�أخرج �أحمد والرتمذي وح�سنه عن �أبي الدرداء ‪d‬عن النبي ‪ s‬قال ‪َ :‬‬
‫اهلل عن وجهه نار جهنم)‪ .‬وروي �أن بع�ض ال�سلف ال�صاحلني زار �أخا له وذكر له عن بع�ض �إخوانه �شيئا‬
‫واتهمت‬
‫َ‬ ‫�ضت �إ َّ‬
‫يل �أخي‪ ،‬و�شغلت قلبي ب�سببه‪،‬‬ ‫أطلت ال َغيبة‪ ،‬و�أتيتني بثالث جنايات ‪ :‬ب َّغ َ‬
‫يكرهه فقال له يا �أخي � َ‬
‫نف�سك الأمينة ‪.‬‬
‫َ‬

‫‪266‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الغيبة‬

‫ وكان بع�ضهم يقول ‪ :‬من �أخربك ب�شتم عن �أخيك فهو ال�شامت لك ‪ .‬وقبل ذلك كان النبي ‪ s‬يقول ‪( :‬ال‬
‫ُيب ِل ُغني �أح ٌد عن � ٍ‬
‫أحد ِمن �أ�صحابي �شيئا ف�إين �أحب �أن �أخرج �إليكم و�أنا �سليم ال�صدر) رواه �أحمد و�أبو داود‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫والرتمذي ‪.‬‬

‫�سكت البت َة ف�إ َّما‬ ‫ُ‬


‫ا�شتغال الل�سان بالذكر‪ ،‬ف�إن الل�سانَ ال َي ُ‬ ‫الفكاك من الغيبة‬
‫ِ‬ ‫أ�سباب‬
‫ عباد اهلل! �إن ِمن � ِ‬
‫ل�سانُ ذاكر‪ ،‬و�إما ل�سا ٌن الغ وال ُب َّد من �أحدهما فهي النف�س �إن مل ت�شغلها باحلق �شغلتك بالباطل وهو القلب‬
‫�إن مل ت�سكنه حمب ُة اهلل عز وجل �سكنه حمبة املخلوقني وال بد‪ ،‬وهو الل�سان �إن مل ت�شغله بالذكر �شغلك باللغو‬
‫وما هو حم�سوب عليك وال بد‪ ،‬فاخرت لنف�سك �إحدى اخلطتني وانزلها يف �إحدى املنزلتني‪.‬‬

‫ �أما كفارة الغيبة ‪ :‬ف ُيذكر عن النبي ‪� s‬أن كفارة الغيبة �أن ت�ستغفر ملن اغتبته تقول ‪ :‬اللهم اغفر لنا‬
‫وله ‪َ .‬ذ َك َره البيهقي يف (الدعوات الكبري) وقال يف �إ�سناده �ضعف ‪ .‬وال�صحيح عن العلماء �أنه ال يحتاج‬
‫املغتاب �إىل �إعالم �أخيه بالغيبة بل يكفيه اال�ستغفار له‪ ،‬وذكره مبحا�سن ما فيه يف املواطن التي اغتابه فيها‪.‬‬
‫ُ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الفاتحة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفاتحة‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫الف�ضل َما لي�س لغ ِريها من‬


‫ِ‬ ‫إنزال ُ�سور ٍة عظيم ٍة ُك َّل ال ِعظم‪ ،‬فيها ِمن‬
‫النبي ‪ s‬ب� ِ‬
‫جربيل ‪َّ a‬‬ ‫ُ‬ ‫ فقد ب�شَّ ر‬
‫واحل َكم‪.‬‬
‫ال َك ِلم‪ ،‬كافي ٌة �شافي ٌة‪� ،‬شامل ٌة للمعاين ِ‬

‫النبي ‪� s‬سمع نقي�ض ًا ِمن فوقه‪ ،‬فرفع ر� َأ�سه‪،‬‬


‫عند ِّ‬ ‫ُ‬
‫جربيل قاع ٌد َ‬ ‫َروى م�سلم عن ابن عبا�س ب قال‪ :‬بينما‬
‫باب ِمن ال�سماء ُفتح اليوم مل ُيفتَح ُّ‬
‫قط �إال اليوم)‪ ،‬فنزل منه َم َل ٌك‪ ،‬فقال جربيل‪( :‬هذا َم َل ٌك‬ ‫فقال‪( :‬هذا ٌ‬
‫نبي قب َل َك؛ فاحتة‬ ‫َنزَ َل �إىل الأر�ض مل َي ِنزل ُّ‬
‫قط �إال اليوم)‪ ،‬ف�س َّلم وقال‪�( :‬أب�شر بنورين �أوتيتَهما مل ُي�ؤتهما ٌّ‬
‫الكتاب‪ ،‬وخواتيم �سورة البقرة لن تقر�أ بحرف منهما �إال �أعطيته)‪.‬‬
‫ عبا َد اهلل! �أنزل ُ‬
‫اهلل مائ ًة و�أربع َة ُكتب‪ ،‬وجم َع معانيها يف التوراة والإجنيل والقر�آن‪ ،‬وجمع معاين هذه‬
‫الكتب الثالثة يف القر�آن‪ ،‬وجمع معاين القر�آن يف املُف�صَّ ل‪ ،‬وجمع معاين املُف�صَّ ل يف �سورة الفاحتة [مدارج‬
‫ال�سالكني ‪ ]74/1‬روى الرتمذي و�صححه عن �أُ ِّبي بن كعب ‪� d‬أن النبي ‪s‬قال له‪ :‬كيف تقر�أ يف ال�صَّ الة‬
‫قال‪ :‬فقر�أ �أم القر�آن فقال ر�سول اهلل ‪( :s‬والذي نف�سي بيده ما �أُنزلت يف التوراة وال يف الإجنيل وال يف‬ ‫خطبة جديدة‬
‫الزَّبور وال يف ال ُفرقان مث ُلها‪ ،‬و�إنها �سب ٌع من املثاين والقر�آن العظيم الذي �أعطيته)‪.‬‬

‫اهلل تبارك وتعاىل جميع معاين القر�آن يف �سورة الفاحتة‪ ،‬فهي �أ ُّم الكتاب؛ لرجوع معاين‬ ‫ فقد جمع ُ‬
‫القر�آن كله �إليها‪ .‬روى احلاكم و�صححه والبيهقي عن ابن عبا�س ‪� d‬أنه قال‪( :‬فاحتة الكتاب ا�ستثناها ُ‬
‫اهلل‬
‫لأُ َّم ِة حم َّم ٍد‪ ،‬فرفعها يف �أُ ِّم الكتاب فدخرها لهم حتى �أخرجها ومل يعطها �أحد ًا قب َله)‪.‬‬

‫خط ًا‪ ،‬وبها تفتتح ال�صالة قراء ًة‪.‬وهي ّ‬


‫ال�سبع املثاين } َو َل َق ْد‬ ‫اهلل بها القر�آن العزيز َّ‬ ‫ وهي الفاحتة افتتح ُ‬
‫و�سميت �سبع ًا ِمن املثاين؛ لأنها �سب ُع �آيات ُتثنى يف ُكل �صالة‬ ‫اك َ�س ْب ًعا ِّمنَ المْ َ َثانيِ َوا ْل ُقرْ�آنَ ا ْل َع ِظ َيم{‪ُ ،‬‬
‫�آ َت ْي َن َ‬
‫وتكرر؛ قاله ابن عبا�س‪ ،‬فال ت�ص ُّح �صال ٌة ال ُيقر�أ فيها بفاحتة الكتاب‪ ،‬وال تتلى فيها؛ روى الإمام �أحمد عن‬
‫(من �ص َّلى َ�صال ًة مل َيق َر�أ فيها ب�أم الكتاب فهي ِخدا ٌج غ ُري متام)‪.‬‬
‫�أبي هريرة ‪� d‬أن النبي ‪s‬قال‪َ :‬‬
‫‪268‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفاتحة‬

‫اهلل يف احلديث القد�سي �صال ًة؛ فروى م�سل ٌم عن �أبي‬ ‫ وهي ُت�س ّمى بال�صَّ الة؛ لأنها دعا ٌء‪ .‬وقد �س َّماها ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ق�سمت ال�صالة بيني وبني عبدي ن�صفني ولعبدي ما �س�أل ف�إذا‬ ‫ُ‬ ‫هريرة ‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬قال اهلل تعاىل‬
‫الرحيم{ قال اهلل‬
‫ِ‬ ‫}الرحمن‬
‫ِ‬ ‫قال العبد }احلمد هلل رب العاملني{ قال اهلل تعاىل‪ :‬حمدين عبدي‪ ،‬و�إذا قال‬
‫جم َدين عبدي وف َّو َ�ض �إ َّ‬
‫يل‪ ،‬ف�إذا قال‪�} :‬إياك‬ ‫}مالك يوم الدين{‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫ِ‬ ‫علي عبدي‪ ،‬و�إذا قال‪:‬‬ ‫تعاىل‪� :‬أثنى َّ‬
‫نعبد و�إياك ن�ستعني{ قال‪ :‬هذا بيني وبني عبدي ولعبدي ما �س�أل‪ ،‬ف�إذا قال‪} :‬اهدنا ال�صراط امل�ستقيم‬
‫�صراط الذين �أنعمت عليهم غري املغ�ضوب عليهم وال ال�ضالني{‪ ،‬قال‪ :‬هذا لعبدي ولعبدي ما �س�أل)‪.‬‬

‫لنف�سه‪،‬‬
‫دعو به العب ُد ِ‬ ‫ٌ‬
‫ون�صف دعا ٌء َي ُ‬ ‫ ف�إذا ت�أمل املر ُء ذلك‪ ،‬وعلم �أن هذه ال�سورة ن�صفان؛ ٌ‬
‫ن�صف هلل‪،‬‬
‫دعو به ويكرره يف ُك ِّل ركعة‪ ،‬و�أنه �سبحانه‬ ‫وت�أ َّمل �أن الذي ع َّلمه هذا الدعا َء هو ُ‬
‫اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬و�أم َره �أن َي ُ‬
‫وكرمه َ�ض ِمنَ �إجاب َة هذا ال ُّدعاء �إذا َد َعاه به ب�إخال�ص وح�ضور قلب‪ ..‬تبني للمر ِء ما �أ�ضاع �أكرث‬
‫من ف�ض ِله ِ‬
‫النا�س من اخلري‪.‬‬

‫�سبب ملغفرة الذنوب وحموها؛ ففي ال�صحيحني عن �أبي هريرة �أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إذا �أ َّمن‬ ‫ الفاحت ُة ٌ‬
‫إمام ف�أمنوا ف�إنه من وافق ت�أمينه ت�أمني املالئكة غفر له ما تقدم من ذنبه)‪.‬‬
‫ال ُ‬

‫ وهي الفا�ضلة‪ ،‬لأنها �أف�ضل �سور القر�آن‪ ،‬بل �أف�ضل الكالم املنزَّل يف الكتب ال�سماوية جميع ًا؛ روى‬
‫ر�سول اهلل ‪ s‬فلم �أُج ْبه فقلت‪:‬‬
‫كنت �أ�صلي يف امل�سجد فدعاين ُ‬ ‫البخاري عن �أبي �سعيد بن املُع ّلى ‪d‬قال‪ُ :‬‬
‫يار�سول اهلل �إين كنت �أ�صلي فقال‪� :‬أمل يقل اهلل }ا�ستجيبوا هلل وللر�سول �إذا دعاكم ملا يحييكم{‪ ،‬ثم قال‬
‫تخرج ِمن امل�سجد‪ ،‬ثم �أخذ بيدي‪ ،‬فلما �أراد �أن‬
‫ال�سور يف القر�آن قبل �أن َ‬ ‫يل‪ :‬لأعلم َّن َك �سور ًة هي � ُ‬
‫أعظم ُّ‬
‫تقل لأعلمنك �سورة هي �أعظم �سورة يف القر�آن؟‪ ،‬قال‪( :‬احلمد هلل رب العاملني هي ال�سبع‬ ‫قلت له‪� :‬أمل ْ‬
‫يخرج‪ُ ،‬‬
‫املثاين‪ ،‬والقر�آنُ العظيم الذي �أوتيته)‪.‬‬
‫ ‬
‫ هذه ال�سورة هي الكافية؛ لأنها تكفي ع َّما �سواها‪ ،‬وال يكفي غ ُريها عنها؛ روى احلاكم (‪ )867‬و�صححه‬
‫عن عبادة بن ال�صامت ‪�d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬أ ُّم القر�آن عو�ض ِمن غريها‪ ،‬ولي�س غ ُريها منها ِعو�ض)‪.‬‬
‫ وهذه ال�سورة هي ال�شافية ففيها ال�شفاء والدواء‪ ،‬روى �أبو ال�شيخ والبيهقي ب�إ�سناد ج ِّيد عن �أبي �سعيد‬
‫ال�سم)‪.‬‬
‫و�أبي هريرة ر�ضي اهلل عنهما �أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬فاحتة الكتاب �شفا ٌء من ُّ‬

‫ وقد ذكر النبي ‪� s‬أنه بها ُير َقى املري�ض واملت َعب؛ يف ال�صحيحني عن �أبي �سعيد اخلدري ‪� d‬أن النبي‬
‫‪ s‬قال له‪( :‬وما كان يدريه �أن الفاحتة ُرقية)؛ وذلك عندما َر َقى �أبو �سعيد بها اللدي َغ َ‬
‫ف�ش َفا ُه اهلل‪ .‬و�سبب‬
‫نفع هذه ال�سورة �أنها ا�شتملت على العبادة‪ ،‬واال�ستعانة‪ ،‬والتوكل‪ ،‬وااللتجاء‪.‬‬

‫أتعالج بها‪ُ � ،‬‬


‫آخذ‬ ‫فكنت � ُ‬‫الطبيب والدواء‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫وقت مبكة َ�س َق ْم ُت فيه‪َ ،‬و َفقدتُ‬
‫ قال ابن القيم‪( :‬ولقد م َّر بي ٌ‬
‫َ�شرب ًة من َماء زمزم و�أقر�ؤها عليها ِمرار ًا‪ ،‬ثم �أ�شر ُبهُ‪ ،‬فوجدتُ بذلك البرُ َء التام‪ ،‬ثم �صرتُ اعتم ُد ذلك عند‬
‫كثري من الأوجاع‪ ،‬ف�أنتفع بها غاية االنتفاع)‪.‬‬
‫‪269‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفاتحة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفساد اإلداري‬
‫الفساد اإلداري‬

‫ ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ف�إن نبينا حممد ًا ‪s‬مات وقد تركنا على املحجة البي�ضاء ليلها كنهارها ال يزيغ عنها �إال هالك‪ ،‬فما ترك‬
‫بيان و�أكم َله‪.‬‬
‫�شاذ ًة وال فاذة‪ ،‬وال �صغري ًة وال كبرية‪ ،‬مما فيه �صالح الدنيا والآخرة �إال بينها و�أو�ضحها �أ َّمت ٍ‬

‫والعامل مع ًا �إذا‬ ‫ُ‬ ‫العمل‬


‫ ومن الأمور التي �أو�ضحها ما يتعلق بح�سن ال�سيا�سة‪ ،‬وجودة الإدارة‪ ،‬ف َر ُّب ِ‬
‫ا�ست�شعرا الأوامر ال�شرعية والآداب النبوية املرعية من كونهما م�ستخلفني يف مكان العمل‪ ،‬و�أن اهلل �سائ ٌل ُك ًال‬
‫عن ُكل �صغرية وكبرية مما بني يديه من الأمانة � ُأعني برعايتها ومراعاتها؟ } َو ُو ِ�ض َع ا ْل ِكت ُ‬
‫َاب َفترَ َى المْ ُ ْج ِر ِم َني‬
‫َاب ال ُي َغا ِد ُر َ�ص ِغ َري ًة َوال َك ِب َري ًة �إِالَّ �أَ ْح َ�ص َاها َو َو َجدُوا َما َع ِم ُلوا‬
‫ُم�شْ ِف ِق َني ممَِّ ا ِفي ِه َو َي ُقو ُلونَ َيا َو ْي َل َت َنا َم ِال َه َذا ا ْل ِكت ِ‬
‫ا�ض ًرا َوال َي ْظ ِل ُم َر ُّب َك �أَ َحدً ا{‪.‬‬ ‫َح ِ‬

‫ وروى ال�شيخان من حديث ابن عمر ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬كلكم راع وكلكم م�س�ؤول عن رعيته الإمام‬
‫راع وم�س�ؤول عن رعيته والرجل راع يف �أهله وهو م�س�ؤول عن رعيته واملر�أة راعية يف بيت زوجها وم�س�ؤولة عن‬
‫خطبة جديدة‬

‫رعيتها واخلادم راع يف مال �سيده وم�س�ؤول عن رعيته‪ ،‬والرجل راع يف مال �أبيه وم�س�ؤول عن رعيته وكلكم‬
‫راع وم�س�ؤول عن رعيته)‪.‬‬

‫ وتعظم الأمانة‪ ،‬ويزداد خطرها �إن كان العمل متعلق ًا بعموم النا�س‪ ،‬بحيث كان املر ُء ي�شغل وظيف ًة عامة‬
‫ففي �صحيح م�سلم من حديث عائ�شة ‪�g‬أن النبي‪s‬قال‪(:‬اللهم من ويل من �أمر �أمتي �شيئا ف�شق عليهم‬
‫فا�شقق عليه‪ ،‬ومن ويل من �أمر �أمتي �شيئا فرفق بهم فارفق به )‪.‬وقد ُر ِّوينا عن �أبي الأ�سود املالكي عن‬
‫�أبيه عن جده قال قال ر�سول اهلل‪�( :s‬إن من �أخون اخليانة جتارة الوايل يف رعيته)رواه ابن �أبي عا�صم‬
‫والطرباين‪.‬‬

‫ ف�إذا ا�ست�شعر امل�ؤمن ذلك‪ ،‬وتذكر ما �أعده اهلل َملن �أح�سن عمله و�أتقنه‪ ،‬فلم يخدع ومل يغ�ش ومل يف ِّرط‪،‬‬
‫فج َّد واجتهد و�ش َّمر وعمل قال ‪� ( :s‬إن اهلل يحب �إذا عمل �أحدكم عم ًال �أن يتقنه ) [رواه �أبو يعلى يف‬
‫‪271‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفساد اإلداري‬

‫(امل�سند ‪ ،)349/7‬والطرباين يف (املعجم الأو�سط ‪ )897‬من حديث عائ�شة ‪ .]g‬ويف ال�صحيحني عن ابن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫عمر ‪�d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪� ( :‬إن العبد �إذا ن�صح �سيده و�أح�سن عبادة ربه كان له �أج ُره مرتني)‪.‬‬

‫ ثم يت�أمل فيما ورد عن امل�صطفى ‪ s‬يف احلثِّ على الأمانة ليطيب الرزق ويبارك له فيه روى الإمام‬
‫�أحمد والرتمذي عن كعب بن عجرة ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال له‪ ( :‬يا كعب �إنه ال يربو حلم نبت من �سحت �إال‬
‫كانت النار �أوىل به )‪.‬‬

‫ ثم َيتع َلم احلالل واحلرام يف عمله‪ ،‬ليحذر احلرام ويجتنبه ويحاذره‪ .‬فيحذر الوقوع يف الر�شوة وقد‬
‫وح َك َم على �آكلها وموكلها بالنار‪ ،‬روى �أهل ال�سنن ب�إ�سناد‬
‫لعن النبي ‪ s‬الرا�شي‪ ،‬واملرت�شي‪ ،‬والرائ�ش‪َ ،‬‬
‫�صحيح عن عبد اهلل بن عمرو ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪( :‬لعن اهلل الرا�شي واملرت�شي)‪.‬‬

‫ ويحذر ال�سرقة واالختال�س‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و َمن َي ْغ ُل ْل َي�أْ ِت بمِ َ ا َغ َّل َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة ُث َّم ُت َو َّفى ُك ُّل َن ْف ٍ�س‬
‫َّما َك َ�س َب ْت َوهُ ْم َال ُي ْظ َل ُمونَ {‪ .‬وروى الإمام �أحمد عن عمر بن اخلطاب ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إنه من غ َّل‬
‫بعريا �أو �شاة �أتى به يحمله يوم القيامة)‪ .‬ويجتنب الوقوع يف ال�شبهات �أو الدنو منها ف�إنها بريد احلرام قال‬
‫‪ ( :s‬احلالل بني واحلرام بني وبينهما �أمور م�شتبهات فمن اتقى ال�شبهات فقد ا�سترب�أ لدينه وعر�ضه )‪.‬‬

‫ و�أخرج ابن �أبي الدنيا عن احل�سن قال‪( :‬ما زالت التقوى باملتقني حتى تركوا كثريا من احلالل خماف َة‬
‫احلرام)‪ ،‬و�أخرج الإمام �أحمد يف الزهد وابن �أبي الدنيا عن �أبي الدرداء قال‪( :‬متام التقوى �أن يتقي اهلل‬
‫العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة‪ ،‬وحتى يرتك بع�ض ما يرى �أنه حالل خ�شية �أن يكون حراما يكون حجابا‬
‫بينه وبني احلرام)‪ .‬وقال ميمون بن مهران‪( :‬ال ي�سلم للرجل احلالل حتى يجعل بينه وبني احلرام حاجزا‬
‫من احلالل)‪.‬‬

‫ عباد اهلل ! �أال و�إن من �أ�شنع �صور الف�ساد الإداري‪ ،‬و�أب�شع مظاهر خيانة الأمانة قبول العامل للر�شوة‬
‫أخذه لها‪ ،‬وهي �صفة اليهود فهم �آكلون للربا �آخذون للر�شوة‪ .‬فمن فعل �شيئ ًا من ذلك فهو �شبي ُههم ومقت ٌد‬ ‫و� ُ‬
‫ب�سننهم‪.‬‬ ‫بهم و ُم�س ٌّ‬
‫نت َ‬

‫ عباد اهلل ! وللر�شوة �صور متعددة‪ ،‬و�أ�شكال متنوع ٌة حتدث للنا�س فكلما ابتعدوا عن طريق ربهم و�سلكوا‬
‫م�سلك ًا غري م�سلك النبي الكرمي ‪ ،s‬كلما تفننوا يف الت�سميات وامل�سميات‪ ،‬وقد قال الإمام مالك‪( :‬يحدث‬
‫للنا�س �أق�ضية على نحو ما �أحدثوا من الفجور)‪.‬‬

‫ فمن �أ�شكال الر�شوة �أن يدفع ال�شخ�ص ما ًال لي�أخذ حق ًا لي�س له‪ ،‬فهذه �أ�شنع �صور الر�شوة و�أقبحها؛‬
‫ال�س ِري يف (الزهد) عن م�سروق قال �س�ألت بن‬ ‫بذل الر�شوة‪ ،‬والظلم‪ ،‬والكذب؛ روى هناد بن َّ‬ ‫لأنه َجمع بني ِ‬
‫م�سعود عن ال�سحت �أهو الر�شا يف احلكم فقال ال من مل يحكم مبا �أنزل اهلل فهو كافر ومن مل يحكم مبا �أنزل‬

‫‪272‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفساد اإلداري‬

‫اهلل فهو ظامل ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل فهو فا�سق ولكن ال�سحت ي�ستعينك الرجل على املظلمة فتعينه‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫عليها فيهدي لك الهدية فتقبلها‪.‬‬

‫ ومن �أ�شكال الر�شوة �أن يدفع ال�شخ�ص ما ًال ليخالف نظام ًا مو�ضوع ًا‪� ،‬أو �شرط ًا حمدد ًا َو َ�ض َع ُه �أه ُل‬
‫االخت�صا�ص للتنظيم وامل�صلحة‪� .‬أو �أن يدفع ما ًال ل�شخ�ص من �أجل �إلغاء غرامة مالية عليه فهذا حرام؛ لأن‬
‫�صاحبها جمع بني الر�شوة وخمالفة �أوامر ويل الأمر وقد قال النبي ‪( :s‬ا�سمع واطع و�إن �أخذ مالك وجلد‬
‫ظهرك)‪ ،‬فيجب ال�سمع والطاعة و�إن كان فيه يف الظاهر �أثرة على ال�شخ�ص وغنب‪ ،‬وهذه الأنظمة ُيح�سب‬
‫فيها �أمنا و�ضعت مل�صلح ٍة ُمق َّدرة من جهة االخت�صا�ص‪ ،‬وامل�صالح معتربة ومنظور لها �شرع ًا‪.‬‬

‫أر�ض ونحو‬‫ ومن �صور الر�شوة‪� :‬أن يدفع ما ًال لي�ستعجل حق ًا له‪ ،‬كنقل يف وظيفة‪� ،‬أو ترقية‪� ،‬أو منحة � ٍ‬
‫املال لي�ستعجل يف �إخراجه‪،‬‬ ‫خروجه يحتاج �إىل زمن وانتظار‪ ،‬ف َيدفع َ‬
‫َ‬ ‫ذلك‪ ،‬فقد يكون احل ُّق ثابت ًا له‪ ،‬ولكنَّ‬
‫ن�ص عليه الفقهاء‪ ،‬قال �إبراهيم بن عثمان‬ ‫�أو ل ُيق َّدم على غريه من امل�ستحقني‪ ،‬وهو حرام بال �شك؛ كما َّ‬
‫بن عبد الرحمن بن عوف‪ :‬كنت مع عمر بن �أبي �سلمة ‪ d‬عند عبد العزيز بن مروان‪ ،‬قال فك�أنه �أبط�أ يف‬
‫الدخول عليه فذكرت ذلك له فقال ما �أنكرتُ من �صاحبي �شيئا ولكن البواب �س�ألني �شيئا‪ .‬قال قلت‪ :‬ف�أعطه‬
‫قال‪ :‬ما بي ما �أعطيه ولكنه بلغني �أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال لعن اهلل الرا�شي واملرت�شي ف�أنا �أكره �أن �أعطيه �شيئا‬
‫لذلك‪.‬‬

‫وخدمات مقابل العمل املطلوب ك�أن ُتق َّدم للموظف ت�سهيالت‬


‫ٍ‬ ‫ ومن �صور الر�شوة �أن يقدِّ م َ‬
‫بدل املال مناف َع‬
‫�أو تخفي�ضات يف حمال جتارية �أو هدايا عينية‪ .‬و ال �شك �أن هذه الأمور وغريها مما ُيعترب ما ًال عند فقهاء‬
‫ال�شريعة؛ لأنهم يعدون املال كل ما يكون له قيمة عند النا�س وميكن املعاو�ضة عليه‪.‬‬

‫ ومن �صور الر�شوة املنت�شرة التي يغفل عنها العديد من النا�س �أن يبذل ال�شخ�ص ما ًال لآخر لي�شفع له‬
‫يف جه ٍة معينة لق�ضاء حاجته التي يريدها‪ ،‬ويعللون جواز ذلك لأنف�سهم ب�أن ال�شخ�ص املدفوع �إليه املال لي�س‬
‫عام ًال يف نف�س الدائرة‪ ،‬و�أنها من ال�شفاعة احل�سنة‪.‬‬

‫ ويف احلقيقة �إمنا هي من ال�شفاعة ال�سيئة قال اهلل تعاىل‪َّ } :‬من َي�شْ َف ْع َ�ش َف َاع ًة َح َ�س َن ًة َي ُكن َّل ُه َن ِ�ص ٌ‬
‫يب‬
‫ِّم ْن َها َو َمن َي�شْ َف ْع َ�ش َف َاع ًة َ�س ِّي َئ ًة َي ُكن َّل ُه ِك ْف ٌل ِّم ْن َها َو َكانَ هَّ ُ‬
‫الل َع َلى ُك ِّل َ�ش ْيءٍ ُّم ِقيتًا {‪.‬‬

‫ وا�سمع يا رعاك اهلل �إىل الن�ص من النبي الكرمي ‪ s‬على حترمي ذلك فقد روى �أبو داود ب�إ�سناد ح�سن‬
‫عن �أبي �أمامة ‪� d‬أن النبي ‪s‬قال‪ ( :‬من �شفع لأخيه ب�شفاعة ف�أهدى له هدية عليها فقبلها فقد �أتى بابا‬
‫عظيما من �أبواب الربا )‪.‬‬

‫ وروى الطربي �أن م�سروق‪�d‬شفع لرجل يف حاجة‪ ،‬ف�أهدى له هدية‪ ،‬فغ�ضب غ�ضبا �شديدا وقال‪( :‬لو‬
‫�سمعت ابن م�سعود ‪ d‬يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫كلمت يف حاجتك وال �أكلم فيما بقي من حاجتك)‪،‬‬
‫علمت �أنك تفعل هذا ما ُ‬
‫ُ‬
‫‪273‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفساد اإلداري‬

‫(من �شفع �شفاعة لريد بها حقا �أو يرفع بها ظلما ف�أهدي له فقبل فهو �سحت)‪ ،‬فقيل له يا �أبا عبد الرحمن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ما كنا نرى ذلك �إال الأخذ على احلكم قال‪( :‬الأخذ على احلكم كفر)‪.‬‬

‫لرجل عند ويل �أمر لريفع عنه‬


‫ قال �شيخ الإ�سالم ابن تيمية‪ ( :‬و�أما الهدية يف ال�شفاعة مثل �أن ي�شفع ٍ‬
‫مظلمة �أو يو�صل �إليه حقه وهو م�ستحق لذلك‪� ،‬أو يعطيه من املال املوقوف على الفقراء �أو غريهم وهو من‬
‫�أهل اال�ستحقاق ونحو هذه ال�شفاعة التي فيها �إعانة على فعل واجب �أو ترك حمرم فهذه �أي�ضا ال يجوز فيها‬
‫قبول الهدية عليها )‪ .‬وقد حكى ابن فرحون الإجماع على �أنه ال يجوز �أخذ الأجرة على اجلاه‪.‬‬

‫حممد ‪ ،s‬وع�ضوا عليه بالنواجذ؛ ف�إنه ال�صراط امل�ستقيم‬‫ٍ‬ ‫ فاتقوا اهلل عباد اهلل ومت�سكوا بهدي نبيه‬
‫والطريق القومي جلنات النعيم‪ .‬و�إياكم و ُبن َّيات الطريق‪ ،‬ف�إن النفو�س حمب ٌة للمال وال َّد َعة وقد ثبت يف‬
‫ال�صحيحني من حديث حكيم بن حزام ‪� d‬أن النبي ‪ s‬قال له‪( :‬يا حكيم �إن هذا املال خ�ضرة حلوة فمن‬
‫�أخذه ب�سخاوة نف�س بورك له فيه ومن �أخذه ب�إ�شراف نف�س مل يبارك له فيه وكان كالذي ي�أكل وال ي�شبع )‪.‬‬

‫ ويف ال�صحيح �أي�ض ًا عن �أبي �سعيد اخلدري ‪� d‬أن النبي ‪s‬جل�س ذات يوم على املنرب وجل�سنا حوله‬
‫فقال‪�( :‬إين مما �أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)‪ ،‬فقال رجل يا ر�سول اهلل‪:‬‬
‫�أو ي�أتي اخلري بال�شر ؟ ف�سكت النبي ‪ s‬فر�أينا �أنه ُينزل عليه قال فم�سح عنه الرح�ضاء فقال �أين ال�سائل‬
‫نبت ال َّربي ُع َيقتل �أو ُي ِلم‪� ،‬إال �آكلة اخل�ضراء �أكلت حتى‬
‫وك�أنـَّه حمده فقال‪�( :‬إنه ال ي�أتي اخلري بال�شر و�إن مما ُي ُ‬
‫�إذا امتدت خا�صرتاها ا�ستقبلت عني ال�شم�س فثلطت وبالت ورتعت و�إن هذا املال خ�ضرة حلوة فنعم �صاحب‬
‫امل�سلم ما �أعطى منه امل�سكني واليتيم وابن ال�سبيل‪ ،‬و�إنه من ي�أخذه بغري حقه كالذي ي�أكل وال ي�شبع ويكون‬
‫�شهيدا عليه يوم القيامة)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫‪274‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفساد اإلداري‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الفساد اإلداري ‪2‬‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفساد اإلداري‪2‬‬

‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫مال �ش َّدد ال�شار ُع يف عقوبته و�أغلظ فيها؛ كت�شديده على َمن اعتدى على املال‬
‫ ف�إنه َما ِمن اعتداءٍ على ٍ‬
‫العام‪� ،‬أو �أخذ ُجز ًء ولو ي�سري ًا منه بغري وجه حقّ ‪ .‬حتى لقد ورد يف ذلك ع�شراتُ الأحاديث امل�شددة يف‬
‫ال ُعقوبة‪ ،‬واملخ ّوفة من هذا الفعل‪.‬‬

‫۩ ۩يقول اهلل ج ّل وعال‪َ } :‬و َمن َي ْغ ُل ْل َي�أْ ِت بمِ َ ا َغ َّل َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة ُث َّم ُت َو َّفى ُك ُّل َن ْف ٍ�س َّما َك َ�س َب ْت َوهُ ْم َال ُي ْظ َل ُمونَ {‪.‬‬
‫والغلول هو الأخذ من املال العام من غري وجه حق؛ ف َمن غ ّل �شيئ ًا �أتى به يوم القيامة حام ًال له على‬
‫غل بعريا‬ ‫ظهره‪ُ ،‬ثم ُ�سئل عنه؛ روى الإمام �أحمد عن عمر بن اخلطاب ‪�d‬أن النبي ‪ s‬قال‪�( :‬إنه من َّ‬
‫حينئذ على تعبه ون�صبه‪ ،‬وف�ضيحته على امللأ‪ ،‬و�ش ّد ِة‬ ‫ٍ‬ ‫�أو �شاة �أتى به يحمله يوم القيامة)‪ .‬فال ت�س�أل‬
‫(من نوق�ش احل�ساب فقد هلك)‪.‬‬ ‫احل�ساب عليه‪ ،‬وقد قال النبي ‪َ :s‬‬

‫فعظمه‪ّ ،‬‬
‫وعظم �أم َره‪:‬‬ ‫ يف �صحيح البخاري عن �أبي هريرة ‪ d‬قال‪ :‬قام فينا النبي ‪ s‬فذكر الغلول ّ‬
‫قال‪( :‬ال �ألفني �أح ُدكم يوم القيامة على رقبته �شا ًة لها ُثغاء‪ ،‬على رقبته فر�س له َحمحمة يقول‪ :‬يا ر�سول اهلل‬
‫خطبة جديدة‬
‫�أغثني!‪ ،‬ف�أقول‪ :‬ال �أملك لك �شيئ ًا قد �أبلغتُك ‪.)..‬‬

‫۩ ۩ َمن غ َّل‪ ،‬و�أكت�سب ما ًال يف املال العام ِمن غري وجه حقَّ فقد �أتى كبرية من كبائر الذنوب وهي متعلق ٌة‬
‫بعموم النا�س‪ ،‬فال ت�سقط عقوبتها �إال ب�إذنهم جميع ًا و�أ ّنى ذلك‪ ،‬لذا َح َكم النبي‪s‬على َمن �أخذ �شيئ ًا‬
‫قلي ًال من املال العام بالنار‪ ،‬ففي ال�صحيح عن عبد اهلل بن عمرو قال‪ :‬كان رج ٌل يقال له‪(:‬كركرة)على‬
‫ثقل النبي‪�(s‬أي حار�س للمال)‪،‬فمات‪ ،‬فقال ر�سول اهلل ‪(:s‬هو يف النار)‪ ،‬فذهبوا ينظرون �إليه‬
‫فوجدوا عباءة قد غ َّلها‪.‬‬

‫۩ ۩لقد نفى النبي ‪ s‬الإميان ع ّمن غ ّل‪ ،‬و�أعتدى على املال العام‪ ،‬يف �صحيح م�سلم عن ُع َم َر ‪َ d‬ق َال‪ :‬لمََّا‬
‫ول هَّ ِ‬
‫الل‬ ‫َكانَ َي ْو ُم َخيْبرَ َ �أَ ْق َب َل َن َف ٌر ِمنْ َ�ص َحا َب ِة ال َّنبي ‪ s‬ف َم ُّروا َع َلى َر ُج ٍل َف َقا ُلوا‪ُ :‬ف َال ٌن َ�ش ِهي ٌد‪َ .‬ف َق َال َر ُ�س ُ‬

‫‪276‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفساد اإلداري‪2‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ا�س ِ�إ َّن ُه َال َي ْد ُخ ُل‬ ‫‪َ « :s‬ك َّال ِ�إين َر�أَ ْي ُت ُه يف ال َّنا ِر يف ُب ْر َد ٍة َغ َّل َها »‪ُ ،‬ث َّم َق َال‪َ « :‬يا ا ْبنَ الخْ َ َّط ِ‬
‫اب ْاذ َه ْب َف َنا ِد يف ال َّن ِ‬
‫الجْ َ َّن َة ِ�إالَّ المْ ُ�ؤْ ِم ُنونَ »‪.‬‬

‫ وذلك �أن امل�ؤمن احلقّ ‪ ،‬يع َلم �إطالع اهلل عليه ف َما �أ�س ّره ف�إن اهلل �سيبديه‪ ،‬وما �أخذه ف�إن اهلل �سيحا�سبه‬
‫حمافظ عليه �أك َرث من حفظه ملاله‪ ،‬دقي ٌق فيه ويف ح�سابه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ني فيه‪،‬‬
‫خمل�ص يف عم ِله‪� ،‬أم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عليه‪ ،‬امل�ؤمنُ‬

‫ روى الإمام �أحمد و�أبو داود عن عدي بن عمرية الكندي قال‪ :‬قال ر�سول اهلل ‪( :s‬يا �أيها النا�س من‬
‫عمل منكم لنا على عمل فكتمنا منه خميطا فما فوقه فهو غ ٌّل ي�أتي به يوم القيامة) قال‪ :‬فقام �سعد بن‬
‫عبادة فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل �أقبل عني عملك فقال‪( :‬وما ذاك) قال‪� :‬سمعتك تقول كذا وكذا‪ ،‬قال‪( :‬و�أنا �أقول‬
‫ذلك الآن من ا�ستعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثريه فما �أوتي منه �أخذه وما نهى عنه انتهى)‪.‬‬

‫عباد اهلل! من �صور الغلول والف�ساد الإداري‪:‬‬ ‫ ‬


‫۩�أخذ الر�شوة على العمل‪ ،‬وقبول الهدية عليها ِمن االكت�ساب املح ّرم‪ ،‬والغلول‪.‬‬ ‫۩‬
‫۩االعتداء على املال العام‪ ،‬ب�أخذه مبا�شر ًة �أو ب�إر�ساء مناق�ص ٍة عليه �أو على قرابا ِته ال ل�شيء �إال القرابة‬ ‫۩‬
‫وال�صداقة ف�إنه من الغلول‪.‬‬
‫وانتدابات وبدالت من غري وجه حقٍّ هو من الغلول‬ ‫ٍ‬ ‫كرحالت‬
‫ٍ‬ ‫عمل من ال�شخ�ص‪،‬‬ ‫أموال ِمن غري ٍ‬‫اكت�ساب � ٍ‬
‫ُ‬ ‫۩‬ ‫۩‬
‫والك�سب املح ّرم‪.‬‬
‫۩عدم احل�ضور للعمل مع �أخذ الأجرة عليه‪ ،‬هو من الك�سب املح ّرم‪.‬‬ ‫۩‬
‫إن�شاءات‪ ،‬وكذبهم يف العمل هو من الغلول املح ّرم الذي‬ ‫ِ‬ ‫املوا�صفات‪ ،‬وتدلي�سهم يف ال‬
‫ِ‬ ‫غ�ش ال�شركات يف‬‫۩ ُّ‬ ‫۩‬
‫ميحق اهلل به الربكة‪ ،‬ويعذب يف الآخرة‪.‬‬

‫ ف�إذا �إن�ضاف لذلك ر�شوة املراقبني‪ ،‬ليزوروا التقارير ت�ضاعف الإثم‪ ،‬وزاد ال��وزر‪�.‬إىل غري ذلك من‬
‫ال�صور يف �سل�سل ٍة طويلة يعرفها ال�صغري قبل الكبري‪ ،‬وال تخفى حرمتُها َملن ت�أملها‪ ،‬و�إن خفي دليلها على‬
‫الرقيب يف الدنيا‪.‬‬

‫ألي�س ِمن العجب �أن يكون يف �شرعنا هذه الزواجر العظام عن الف�ساد الإداري واالعتداء‬ ‫ عباد َ‬
‫اهلل! � َ‬
‫على املال العام‪ّ ،‬ثم ت�أتي الت�صنيفات الدولية فتجعل عدد ًا من الدول الإ�سالمية يف �أعلى قائمة الدول التي‬
‫ي�ست�شري فيها الف�ساد‪ ،‬وتكرث فيها الر�شوة‪ ،‬ويف�شو فيها الإثراء غري امل�شروع‪� .‬ألي�س يف هذا من التناق�ض بني‬
‫الأوامر الربانية لنا و�أفعال العباد منا‪.‬‬

‫ يف ال�صحيح عن �أبي هريرة ‪ d‬قال بينما النبي ‪ s‬يف جمل�س يحدث القوم جاءه �أعرابي فقال‪ :‬متى‬
‫ال�ساعة؟ حتى �إذا ق�ضى حديثه قال‪� :‬أين �أُراه ال�سائل عن ال�ساعة قال‪ :‬ها �أنا يا ر�سول اهلل قال‪�( :‬إذا ُ�ض ِّيعت‬
‫الأمان ُة فانتظر ال�ساعة)‪ ،‬قال‪ :‬كيف �إ�ضاعتُها؟ قال‪�( :‬إذا ُو ِ�س َد الأم ُر �إىل غري �أه ِله فانتظر ال�ساعة)‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الفساد اإلداري‪2‬‬

‫ } َو ِ�إ َذا �أَ َر ْد َنا �أَن ُّن ْه ِل َك َق ْر َي ًة َ�أ َم ْر َنا ُم رْ َت ِفي َها َف َف َ�س ُقو ْا ِفي َها َف َحقَّ َع َل ْي َها ا ْل َق ْو ُل َف َد َّم ْر َن َاها ت َْد ِم ًريا{ �إن ِمن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�أعظم الف�سق الذي يكون هو �أخذ الر�شا والظلم بالغلول والف�ساد املايل‪� .‬إذ يتجرَّ�أ امل�سرفون في�أكلوا �أموال‬
‫املحتاج بال ِّر�شوة‪َ ،‬‬
‫ومال‬ ‫ِ‬ ‫ال�ضعيف بالغ�صب‪َ ،‬‬
‫ومال‬ ‫ِ‬ ‫وع ُل َّوا‪ ،‬وت�سلط ًا وبغيا‪ ،‬في�أخذوا َ‬
‫مال‬ ‫النا�س بالباطل ظلما ُ‬
‫يح ُّل غ�ضب اهلل‪.‬‬ ‫الغافل بال�سرقة والنهب فعند ذلك ِ‬
‫ ‬
‫وامل�سلك ال�سوي‪ ،‬ف�إن كثري ًا ِمن النا�س غاف ٌل‬ ‫َ‬ ‫�إن الواجب على املُ�سلم �أن ين�صح لأخيه و�أن يبينّ له طريقَ احلق‬
‫الل وا ْل َوا ِقع فيها ‪َ ،‬كمثل َق ٍوم ْ‬
‫ا�س َت َهموا‬ ‫�إال �إذا ُذ ِّكر‪ ،‬وجاه ٌل �إال �أن ُيع ّلم يف احلديث‪«َ :‬م َث ُل ال َقا ِئم يف ُحدُو ِد هَّ‬
‫وبع�ضهم �أَ ْ�سف َل َها ‪ ،‬فكان الذي يف �أَ�سفلها �إذا ا�س َت َق ْوا من املاء َم ُّروا‬ ‫الها ‪ُ ،‬‬ ‫�صاب َب ْع ُ�ضهم � ْأع َ‬ ‫على َ�س ِفي َن ٍة ‪َ ،‬ف َ�أ َ‬
‫ول ُن� ِؤذ َمنْ َفو َقنا ؟ ف�إن َت َر ُكوهُ ْم وما �أَ َرادوا َه َلكوا‬ ‫هم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬لو �أنا َخ َر ْقنا يف َن ِ�صي ِب َنا َخرقا مَْ‬ ‫على َمنْ َفو َق ْ‬
‫أخذوا على �أيد ِي ِه ْم نجَ َ ْوا ونجَ َ ْوا َجميعا»‪.‬‬ ‫وهلكوا َجميعا ‪ ،‬و�إنْ � ُ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫القنوات الفضائية‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬القنوات الفضائية‬

‫ ‬
‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬


‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫نت ال تدع بيت ًا �إال‬
‫نت متوج موج البحار‪ ،‬وف ٌ‬
‫�صح عن النبي ‪� s‬أن يف �آخر الزمان تكرث الفنت‪ ،‬فمنها ف ٌ‬ ‫فقد ّ‬
‫فتنت ع ّمت وط ّمت‪ ،‬و�ش ّرقت وغ ّربت‪ ،‬ما تركت‬
‫فمن الفنت التي نعاي�شها ٌ‬ ‫وجلته‪ .‬وم�صداق ًا لإخبار النبي ‪ِ s‬‬
‫ذكر وال �أنثى �إال‬ ‫بيت َم َد ٍر وال َو َب ٍر �إال دخلته‪ ،‬وال م�سكن ًا ولو نائي ًا �إال وجلته‪ ،‬مل ي�سلم منها �صغ ٌ‬
‫ري وال كبري‪ ،‬وال ٍ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫من ع�صمه اهلل وحفظه منها‪.‬‬

‫و�س َفال ِتها‪.‬‬


‫وظالمه‪ ،‬ورذال ِة الأخالق َ‬
‫ِ‬ ‫الف�سوق‬
‫ِ‬ ‫ذلكم عباد اهلل ! ما ُيبثُّ على امللأ‪ ،‬ويراه ُك ُّل راءٍ ِمن غثِّ‬ ‫ ‬

‫االت�صال يف وقتنا حتى �س ّمى ُ‬


‫بع�ض علماء االجتماع ع�ص َرنا بع�صر‬ ‫ِ‬ ‫ لقد تعددت عبا َد اهلل! و�سائ ُل‬
‫أ�سا�س يف ُك ِّل الثورات العلم ّية والتقنية الأُخرى وما �أح�سنها‪.‬‬
‫االت�صال‪� ،‬إذ هو ال ُ‬

‫ لكن �إن �أقوام ًا كاجلاللة ال يعي�شون �إال يف �أو�سخ الأماكن و�أقبحها‪� ،‬أبو �إال �أن ي�ستغلوا هذه النعم يف‬
‫رذائل الأخالق‪ ،‬و�سفا�سف الأفعال‪.‬‬
‫ولو �أنه قب ٌح فري ٌد عذرته ‬ ‫ ‬
‫وثان وثالثُ‬
‫ولكنه قب ٌح ٍ‬ ‫ ‬
‫يرغب �أن يتح ّد َث عن ما يف بع�ض هذه القنوات الف�ضائ ّية من �سوء‪ ،‬وما تبثه من‬ ‫ عباد اهلل! لو �أن املر َء ُ‬
‫خطبة جديدة‬

‫احلياء �أن يتح ّدث مبا ُيرى‪ ،‬وملا ا�سطا َع �إمتام احلديث ًا خوف ًا وفرق ًا من اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وغ َل َبه َ‬‫�ش ٍّر لأعياه البيان‪َ ،‬‬
‫ري من القنوات الأجنبية والغربية �أك َرث ح�شم ًة و�أدب ًا من بع�ض قنواتنا العربية والتي تمُ ّول‬ ‫ لقد غدت كث ٌ‬
‫وترتج ُم الأفالم فيها باللغة العربية‪ ،‬ويديرها �أقوا ٌم يزعمون �أنهم من‬ ‫بل�سان عربي‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أموال عربية‪ ،‬وتنطقُ‬
‫ب� ٍ‬
‫العرب و�سيماهم وم�سلكم �أبعد ما بني اخلافني !‬ ‫أخالق ِ‬ ‫العرب‪ ،‬ولكنها وهُ م عن � ِ‬

‫أفالم الفا�ضحة‪ ،‬وامل�شاهد ُة الفاجرة‪ِ � ،‬أمن من املروء ِة �أن ُيع ّلم‬


‫أخالق العرب �أن ُتبثَّ ال ُ‬
‫أفمنَ املروء ِة و� ِ‬
‫ � ِ‬
‫الرجل املر�أة خارج نطاق الزوجية‪ ،‬وخيان ِة‬ ‫ِ‬ ‫والعالقات املاجنة‪ ،‬كمعرف ِة‬
‫ِ‬ ‫أخالق البهيمي ِة‪،‬‬
‫أحط ال ِ‬‫الأبنا ُء � َّ‬
‫واحلمل قبل الزواج‪ ،‬ناهيك عما ُيع َر ُ�ض ِمن حثٍّ على التربج وال�سفو ِر و�أ�سو ِء امللب�س‬
‫ِ‬ ‫أحد الزوجني لزوجه‪،‬‬ ‫� ِ‬
‫وعر�ض للأج�ساد العارية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫و�أفجره‪،‬‬

‫لقد كانت ُ‬
‫مثل هذه الأفالم تُبثُّ بلغ ِتها مع اجتزاءٍ لبع�ض امل�شاهد املمنوعة فيها‪ ،‬ثم بعد ذلك ُترجمت‬ ‫ ‬
‫‪279‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬القنوات الفضائية‬

‫اللغ ُة بالكتابة وق َّل ما يجتز�أُ من تلك امل�شاهد‪ ،‬ثم غدت بعد ذلك ترتجم بالل�سان وك�أنهم يتكلمون العربية‬
‫هلل ع ّز وج ّل فيما �سيكون يف الغد ن�س�أل َ‬
‫اهلل ال�سالمة‪.‬‬ ‫والعلم عند ا ِ‬
‫ُ‬ ‫أعظم و�أ�ش ّد‪،‬‬
‫ليكون الت�أث ُري � َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫للذات الإالهية يف مثل هذه الأفالم ا�ستهزا ًء‬ ‫وخبث ًا حينما ُيتع ّر�ض ِ‬ ‫ ويزدا ُد الأم ُر �سوا ًء و�شر ًا‪ ،‬ومكر ًا ُ‬
‫و ُكفر ًا به �سبحانه‪َ ،‬وما ُيرجى بعد ذلك �إال الهوان والبوار عياذ ًا باهلل؛ } َي ْح َذ ُر المْ ُ َنا ِف ُقونَ �أَن ُت َنز ََّل َع َل ْي ِه ْم‬
‫و�ض‬ ‫الل مخُْ ِر ٌج َّما تحَْ َذ ُرونَ { َو َل ِئن َ�س�أَ ْل َت ُه ْم َل َي ُقو ُلنَّ ِ�إنمَّ َ ا ُك َّنا َن ُخ ُ‬ ‫ا�س َت ْه ِز�ؤُو ْا ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫ُ�سو َر ٌة ُت َن ِّب ُئ ُه ْم بمِ َ ا فيِ ُق ُلو ِب ِهم ُق ِل ْ‬
‫الل َو�آ َيا ِت ِه َو َر ُ�سو ِل ِه ُكنت ُْم ت َْ�س َت ْه ِز ُ�ؤونَ { َال َت ْعت َِذ ُرو ْا َق ْد َك َفرْتمُ َب ْع َد �إِ َميا ِن ُك ْم �إِن َّن ْع ُف َعن َط�آ ِئ َف ٍة ِّمن ُك ْم‬ ‫َو َن ْل َع ُب ُق ْل �أَ ِب هَّ ِ‬
‫ُن َع ِّذ ْب َط�آ ِئ َف ًة ِب�أَ َّن ُه ْم َكا ُنو ْا مجُْ ِر ِم َني{ المْ ُ َنا ِف ُقونَ َوالمْ ُ َنا ِف َقاتُ َب ْع ُ�ض ُهم ِّمن َب ْع ٍ�ض َي�أْ ُم ُرونَ ِبالمْ ُن َك ِر َو َي ْن َه ْونَ َع ِن‬
‫ات‬ ‫الل َف َن ِ�س َي ُه ْم ِ�إنَّ المْ ُ َنا ِف ِق َني هُ ُم ا ْل َف ِا�س ُقونَ { َو َع َد اهلل المْ ُ َنا ِف ِق َني َوالمْ ُ َنا ِف َق ِ‬ ‫وف َو َي ْق ِب ُ�ضونَ �أَ ْي ِد َي ُه ْم َن ُ�سو ْا هَّ َ‬ ‫المْ َ ْع ُر ِ‬
‫اب ُّم ِقي ٌم{ َكا َّل ِذينَ ِمن َق ْب ِل ُك ْم َكا ُنو ْا �أَ َ�ش َّد‬ ‫َوا ْل ُك َّفا َر َنا َر َج َه َّن َم َخا ِل ِدينَ ِفي َها ِه َي َح ْ�س ُب ُه ْم َو َل َع َن ُه ُم هَّ ُ‬
‫الل َو َل ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫ا�س َت ْم َت َع ا َّل ِذينَ ِمن َق ْب ِل ُك ْم‬ ‫ا�س َت ْم َت ْعتُم ِب َخ َال ِق ُك ْم َك َما ْ‬ ‫ا�س َت ْم َت ُعو ْا ِب َخال ِق ِه ْم َف ْ‬ ‫ِمن ُك ْم ُق َّو ًة َو�أَ ْك رَ َث �أَ ْم َوا ًال َو�أَو َْالدًا َف ْ‬
‫ا�ضو ْا �أُ ْو َلـ ِئ َك َح ِب َط ْت �أَ ْع َما ُل ُه ْم فيِ ا ُّلد ْن َيا َوال ِآخ َر ِة َو�أُ ْو َل ِئ َك هُ ُم الخْ َ ِا�س ُرونَ {‪.‬‬‫ِب َخ َال ِق ِه ْم َو ُخ�ضْ ت ُْم َكا َّل ِذي َخ ُ‬

‫�شئت من معلمي ومعلمات التعليم لرتى �أث َر هذه الأفالم (وهي جزء من �أجزاء ال�شر) على‬ ‫ َ�سائل من َ‬
‫قط قد َ‬
‫�سربل‬ ‫�أبنائنا يف مراحل العمر املختلفة‪ ،‬ولي�س َمن ر�أى ك َمن َ�س ِمع‪ .‬ن�سا ٌء مخُ َّدرات مل َيرين ُفح�شاء ُّ‬
‫أف�سدت حياءهن و�ش ّمرت حجابهن‪..‬‬
‫احليا ُء عليهن جلبابه‪ ،‬دخلت عليهن هذه القنوات و�أخواتها من النت ف� ْ‬

‫مفاتيح لل�شر‬
‫ُ‬ ‫وبع�ض بعك�سهم مغاليق للخري‬ ‫ لقد جعل اهلل بع�ض النا�س مفاتيح للخري مغاليق لل�شر‪ٌ ،‬‬
‫ملقا�صده فكانوا من خي ِله �أو َر ْج ِله ‪-‬بل هم �أحقر‪� ،-‬شاركهم يف �أموالهم فنمت وزادت‬ ‫ِ‬ ‫�سخرهم ال�شيطان‬
‫ك م ْنهم َف�إنَّ جه َّنم جزَ �آ�ؤُ ُكم جزَ اء مو ُفورا{‬
‫ْ َ َّ ْ ً‬ ‫يف احلرام ليكون ذلك غواي ًة لهم وفتنة؛ } َق َال ْاذ َه ْب َف َمن َت ِب َع َ ِ ُ ْ ِ َ َ َ َ‬
‫ا�ست ََط ْع َت ِم ْن ُه ْم ِب َ�ص ْو ِت َك َو�أَ ْج ِل ْب َع َل ْي ِهم ِب َخ ْي ِل َك َو َر ِج ِل َك َو َ�شا ِر ْك ُه ْم فيِ اَلأ ْم َو ِال َوالأَوْال ِد َو ِع ْدهُ ْم‬
‫ا�س َت ْف ِز ْز َم ِن ْ‬
‫َو ْ‬
‫َو َما َي ِعدُهُ ُم ال�شَّ ْي َطانُ ِ�إالَّ ُغ ُرو ًرا{ ِ�إنَّ ِع َبا ِدي َل ْي َ�س َل َك َع َل ْي ِه ْم ُ�س ْل َطا ٌن َو َك َفى ِب َر ِّب َك َو ِكي ًال{‪.‬‬

‫اهلل عب ٌد له دو ٌر يف بثِّ مثل هذه امل�صائب ون�شر هذه الرذائل (�سواء كان مالك ًا للقناة �أو‬ ‫فليتق َ‬ ‫ �أال ِ‬
‫م�ست�شار ًا وعام ًال فيها‪� ،‬أو مراقب ًا عليها)‪ ،‬وليع َلم �أنه ُم�سائ ٌل �أمام اهلل تعاىل عن �إ�ضالل عبا ِده‪ ،‬و�إغوائهم‪،‬‬
‫َاب َفترَ َى المْ ُ ْج ِر ِم َني ُم�شْ ِف ِق َني ممَِّ ا ِفي ِه َو َي ُقو ُلونَ َيا َو ْي َل َت َنا َم ِال َه َذا‬
‫ون�شر ال�سوء وال�شر بينهم‪َ } ،‬و ُو ِ�ض َع ا ْل ِكت ُ‬
‫ا�ض ًرا َوال َي ْظ ِل ُم َر ُّب َك �أَ َحدً ا{‪.‬‬ ‫َاب ال ُي َغا ِد ُر َ�ص ِغ َري ًة َوال َك ِب َري ًة ِ�إالَّ �أَ ْح َ�ص َاها َو َو َجدُوا َما َع ِم ُلوا َح ِ‬
‫ا ْل ِكت ِ‬

‫فكيف َمبن �أ�شاع الفاح�شة و�أظهرها‪،‬‬ ‫ لقد بينّ النبي ‪� s‬أنه ملعون َمن كذب الكذبة فطارت يف الآفاق‪َ ،‬‬
‫اب �أَ ِلي ٌم فيِ‬
‫بل دعا �إليها و�أظهرها على امللأ؛ } ِ�إنَّ ا َّل ِذينَ ُي ِح ُّبونَ �أَن ت َِ�شي َع ا ْل َف ِاح َ�ش ُة فيِ ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا َل ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫الل َي ْع َل ُم َو�أَنت ُْم ال َت ْع َل ُمونَ {‪ .‬فمهما َب َّر َر املر ُء فع َله �أو ُبرر له ‪-‬وما �أكرث املربرين يف هذا‬ ‫ال ُّد ْن َيا َوال ِآخ�� َر ِة َو هَّ ُ‬
‫الزمان‪ -‬ف�إن تعاىل َيع َلم ممن تَ�شي ُع ال َفاح�ش ُة َومن َين�ش ُرها‪.‬‬

‫أنت �أيتها الرائية � ِأتق اهلل و�أعلم �أن اهلل مطل ٌع على خافية عينيك‪...‬‬
‫أنت �أيها الرائي و� ِ‬
‫و� َ‬ ‫ ‬

‫‪280‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬القنوات الفضائية‬

‫أنت �أيتها الأم �أعلما �أنّ َ‬


‫اهلل م�سائلكم ع ّما ا�سرتعاكم عليه‪ ،‬فلي�س الأبنا ُء للمفاخر ِة‬ ‫أنت �أيها الأب و� ِ‬
‫ ثم � َ‬
‫وال للمكاثرة‪ ،‬و�إمنا هم �أمان ٌة يف �أعناقكم‪ ،‬و�أنتم م�ستخفظون عليهم‪ ،‬وم�ساءلون عنهم‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل �إن ملئ الدنيا ذهب ًا وف�ض ًة ال تعادل عي�ش ًا كفاف ًا مع �صالح‬ ‫أحدكم عم ُل ُه عن ِ‬
‫ولده فوا ِ‬ ‫ ال ُي�شغلنَّ � َ‬
‫جلو�سهم مع �أبنائهم �أه ُّم من جلو�سهم يف‬
‫أنف�سهم على �أنّ َ‬‫الواجب على الأباء �أن يوطنوا � َ‬
‫َ‬ ‫الأبناء وطي ِبهم‪� ،‬إن‬
‫�صالح ذريتهم �أوىل ِمن‬
‫َ‬ ‫أطيب من حديثهم مع �صديقهم‪ ،‬و�أن‬ ‫�أعما ِلهم‪ ،‬و�أن حديثهم مع �أوالدهم وبناتهم � ُ‬
‫زياد ِة ما ِلهم وعل ِّو وظيفتهم‪.‬‬

‫ في�سمع املرء من ابنه وبنته‪ ،‬وينظر َملا ينظرون �إليه‪ ،‬وي�سعى لتنمية ثقافتهم ومهاراتهم‪ ،‬وحفظهم من‬
‫وج ِنده وما �أمكره وما �أكرثهم‪.‬‬
‫مكر ال�شيطان ُ‬

‫ } َوا َّل ِذينَ َي ُقو ُلونَ َر َّب َنا َه ْب َل َنا ِمنْ �أَ ْز َو ِاج َنا َو ُذ ِّر َّيا ِت َنا ُق َّر َة �أَعْينُ ٍ َو ْاج َع ْل َنا ِل ْل ُم َّت ِق َني �إِ َم ًاما{ �أُ ْو َل ِئ َك ُي ْجزَ ْونَ‬
‫الما{ َخا ِل ِدينَ ِفي َها َح ُ�س َن ْت ُم ْ�س َت َق ًّرا َو ُم َق ًاما{‬ ‫ا ْل ُغ ْر َف َة بمِ َ ا َ�صبرَ ُ وا َو ُي َل َّق ْونَ ِفي َها تحَ ِ َّي ًة َو َ�س ً‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪281‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫القول على اهلل بغري علم‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬القول على اهلل بغري علم‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫�شرعه ِمن غري هُ دى‪،‬‬ ‫ ف�إن ِمن �أعظم الإفك‪ ،‬و�أ�شدِّ ظلم النف�س‪ :‬التق ّول على اهلل بغري علم‪ ،‬واحلديث يف ِ‬
‫قال اهلل تعاىل‪ُ }:‬ق ْل ِ�إنمَّ َ ا َح َّر َم َر ِّب َي ا ْل َف َو ِاح َ�ش َما َظ َه َر ِم ْن َها َو َما َب َطنَ َوا ِلإ ْث َم َوا ْل َب ْغ َي ِب َغ رْ ِي الحْ َ ِّق َو�أَن ُت�شْ ِر ُكو ْا‬
‫الل َما مَْل ُي َن ِّز ْل ِب ِه ُ�س ْل َطان ًا َو�أَن َت ُقو ُلو ْا َع َلى هَّ ِ‬
‫الل َما َال َت ْع َل ُمونَ {‪.‬‬ ‫ِب هَّ ِ‬

‫ وهذه الآي��ة هي �آية املحرمات الأرب��ع‪ ،‬وهي �أ�ش ُّد الذنوب و�أعظمها‪ ،‬وقد اتفقت ال�شرائع كلُّها على‬
‫حترميها‪ ،‬وال يجوز فعل �شيء منها مطلق ًا‪ ،‬ومل ُيبح يف حال ِمن الأحوال‪.‬‬

‫املحرمات �أرب َع مراتب‪ :‬وبد�أ ب�أ�سهلها وهو‬


‫ِ‬ ‫ قال ابن القيم [�إعالم املوقعني]‪( :‬رتب اهلل يف هذه الآية‬
‫الفواح�ش‪ ،‬ثم ث َّنى مبا هو �أ�ش ُّد حترمي ًا منه وهو الإثم والظلم‪ ،‬ثم ث َّلثَ مبا هو �أعظم حترمي ًا منهما وهو‬
‫ال�شرك به �سبحانه‪ ،‬ثم ر َّبع مبا هو �أ�ش ُّد حترمي ًا من ذلك ك ِّله وهو القول عليه بال علم)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! لقد �أخذ اهلل امليثاق الغليظ على النا�س �أن ال يقولوا على اهلل بغري علم‪ ،‬فقال �سبحانه‪�} :‬أَ مَْل‬
‫َاب �أَن الَّ ِي ُقو ُلو ْا َع َلى اللهّ ِ ِ�إالَّ الحْ َ قَّ {‪ .‬وميثاق اهلل وعه ُد ُه يف كتا ِبه‪ ،‬وكتا ُب ُه ملئ بالنهي‬
‫ُي�ؤْ َخ ْذ َع َل ْي ِهم ِّمي َث ُاق ا ْل ِكت ِ‬
‫عن القول على اهلل بغري علم يف الق�ضايا اخلربية‪ ،‬والعملية مع ًا‪.‬‬

‫علم قد يكون يف الق�ضايا اخلربية؛ ك�إخبار اهلل عن املغيبات‪ ،‬و�أحداث يوم‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ �إن القول على اهلل بغري ٍ‬
‫الدين‪ ،‬و�صفاته ج ّل وعال‪ ،‬وما كان يف الزمان الأول‪ ،‬والقول على اهلل بغري علم فيها يكون بتف�سري الن�صو�ص‬
‫ال�شرعية وحتميلها ما ال حتتمل‪� ،‬أو ت�أويلها و�صرفها على معانيها ال�شرع ّية‪.‬‬

‫حلرمة؛ كما قال ج ّل وعال‪:‬‬ ‫احلل وا ُ‬ ‫ وقد يكون القول على اهلل بغري علم يف الق�ضايا العمل ّية والتي ُتو�صف ِّ‬
‫} َو َال َت ُقو ُلو ْا لمِ َا ت َِ�ص ُف �أَ ْل ِ�س َن ُت ُك ُم ا ْل َك ِذ َب َه َـذا َح َال ٌل َو َه َـذا َح َرا ٌم ِّل َتفْترَ ُو ْا َع َلى هَّ ِ‬
‫الل ا ْل َك ِذ َب �إِنَّ ا َّل ِذينَ َيفْترَ ُونَ َع َلى‬
‫الل ا ْل َك ِذ َب َال ُي ْف ِل ُحونَ {‪.‬‬ ‫هَّ ِ‬
‫ قال علي بن �أبي طالب ‪�( :d‬إذا �سئلتم عما ال تعلمون فاهربوا) قيل‪ :‬وكيف الهرب يا �أمري امل�ؤمنني؟‬
‫قال‪( :‬تقولون اهلل �أعلم)‪ .‬وقال القا�سم بن حممد‪( :‬لأن يعي�ش الرجل جاهال خري له من �أن يقول على اهلل‬
‫ما ال يعلم)‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬القول على اهلل بغري علم‬

‫ ‪ w‬عباد اهلل! �إن القول على اهلل بغري علم يكون يف خم�س �صور‪:‬‬
‫۩ ۩يف تف�سري الن�صو�ص ال�شرع ّية‪ ،‬وت�أويلها واالجتهاد يف توجيه معانيها من غري علم وال اتباع‪ .‬وذلك �أن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫معان مع ّينة‪ ،‬فك�أنه تق ّول على اهلل تعاىل؛ قال‬


‫هلل بغري علم‪ ،‬هو حتميل للن�صو�ص على ٍ‬ ‫تف�سري كتاب ا ِ‬
‫ال�شعبي‪�( :‬إن الذي يف�سر القر�آن بر�أيه �إمنا يرويه عن ربه) [احللية ‪ .]321/4‬وال غروا حينئذ �أن ي�أتي‬
‫(من‬ ‫التحذير ال�شديد من تف�سري كتاب اهلل بغري علم؛ روى الرتمذي [‪ّ ]2951‬‬
‫وح�سنه �أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫مقعده من النار)‪.‬‬
‫قال يف القر�آن بر�أيه فليتبو�أ َ‬

‫آيات من كتاب‬
‫ وقد ته ّيب �أكابر ال�صَّ َحابة‪ ،‬وهم َمن عاي�ش تنزّل الوحي‪ ،‬وعرف ل�سان العرب يف تف�سري � ٍ‬
‫اهلل ج ّل وعال‪ ،‬وقد كان �أبو بكر ال�صديق ‪ d‬يقول‪�( :‬أي �سماء تظللني و �أي �أر�ض تقلني �إذا قلت يف كتاب‬
‫اهلل بر�أيي)‪ .‬وغريه كثري يف ال�صحابة‪.‬‬

‫حلكم على الأحاديث ت�صحيح ًا وت�ضعيف ًا ممن ال يعرف‬


‫۩ ۩وال�صورة الثانية من القول على اهلل بغري علم‪ :‬با ُ‬
‫ال�صنعة‪ ،‬و�إمنا بالهوى والعقل القا�صر‪.‬‬

‫ ف َكم �سمعنا ِمن �أقوام يردون �أحاديثَ �صحيح ًة ثابت ًة عن النبي ‪ s‬ال ل�شيء �إال لعدم موافقتها العقول‪،‬‬
‫والعك�س ي�صححون �أحاديثَ مل تقم بها ُحجة‪.‬وهذا �إثباتٌ يف ال�شرع ما لي�س منه‪.‬‬

‫۩ ۩وال�صورة الثالثة ِمن القول على اهلل بغري علم‪ :‬اال�ستدالل بالأحاديث التي ال ُيعلم حالها من حيث‬
‫(من ح ّدث عني بحديث ُيرى �أنه كذب‬
‫ال�صحة وال�ضعف‪ ،‬ومن حيث الن�سخ ونحوه‪ .‬وقد قال النبي ‪َ :s‬‬
‫فهو �أحد الكاذبني)‪.‬‬

‫۩ ۩وال�صورة الرابعة ِمن القول على اهلل بغري علم‪ :‬القول يف الأحكام ال�شرعية‪ ،‬وتف�سري الن�صو�ص ِمن غري‬
‫واجتهاد يف التمحي�ص‪ ،‬وال �إدامة نظر يف الأقوال‪ ،‬وال بحث تام للأدلة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بذل للو�سع‪،‬‬
‫ٍ‬

‫َومن تك ّلم يف �شرع اهلل وهذه حا ُله ف�إنه �آث ٌم �إثم ًا عظيم ًا ولو �أ�صاب يف فتواه‪ ،‬وقد جاء يف احلديث‪َ :‬‬
‫(من‬ ‫ ‬
‫قال بر�أيه يف القر�آن ف�أ�صاب فقد �أخط�أ)‪ .‬وهذا من ال�شارع �س ّد ًا للباب‪ ،‬وحفظ ًا للدين‪.‬‬

‫(منْ �أُ ْف ِت َي‬


‫أعظم و�أ�ش ّد؛ وقد روى ابن ماجه عن �أبي هريرة �أن النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬ ‫۩ ۩و�أ ّما �إن �أخط�أ ف�إن �أث َمه � ُ‬
‫ثبت َكانَ �إِ ْث ُم ُه َع َلى َمنْ �أَ ْفتَا ُه)‪ ،‬ف َمن مل يثبت يف فتواه‪ ،‬ويت�أنى فيها‪ ،‬ف�إنه �آث ٌم ولو �أ�صاب‪.‬‬
‫بفتيا غ َري ٍ‬

‫�صح عن ابن عبا�س وابن م�سعود �أنهما قاال‪«َ :‬من �أفتى النا�س يف كل‬
‫ ولذا ته ّيب �أهل العلم الفتوى‪ ،‬وقد َّ‬
‫ما ي�ستفتونه فهو جمنون»‪.‬‬

‫۩ ۩ومن القول على اهلل بغري علم‪� :‬أن يتك ّلم غ ُري املت�أهل يف كتاب اهلل‪ ،‬و�سنة ر�سوله ‪ ،s‬والعلوم ال�شرع ّية‪،‬‬
‫وقد جاء يف احلديث‪( :‬ينطق الرويب�ضة)‪.‬‬
‫‪283‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬القول على اهلل بغري علم‬

‫ واملق�صود بالت�أهل �أن يكون املتك ّلم قد ا�ستوفى ال�شروط التي ذكرها �أهل العلم يف املفتني واملجتهدين‪،‬‬
‫من حفظ الن�صو�ص‪ ،‬وفهم الدالئل‪ ،‬ومعرفة الل�سان‪ ،‬وطول امل�صاحبة‪ ،‬و�شهادة �أهل الف�ضل بالر�سوخ‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫العظام �أ�ش ّد‬
‫ِ‬ ‫النا�س َمن يقول‪� :‬إن الكالم يف الدين لي�س حكر ًا على �أحد‪ ،‬فرتاه يقول يف امل�سائل‬
‫ ومن ِ‬
‫القول و�أ�شن َعه‪ ،‬واهلل ح ّرم ذلك‪.‬‬
‫ِ‬

‫َاب �أَن‬
‫ وحجته �أنه مل يتع ّمد القول الباطل‪ ،‬وت�أمل يف قول اهلل تعاىل‪�} :‬أَ مَْل ُي�ؤْ َخ ْذ َع َل ْي ِهم ِّمي َث ُاق ا ْل ِكت ِ‬
‫النا�س �أن يقوال على اهلل �إال احلق‪ ،‬فكان هذا نهي ًا عن �أن يقولوا‬ ‫الل �إِالَّ الحْ َ قَّ { فنهى اهلل َ‬ ‫الَّ ِي ُقو ُلو ْا َع َلى هَّ ِ‬
‫الباطل‪� ،‬سوا ًء علموا �أنه باطل وتعمدوا ذلك‪� ،‬أو مل يعلموا �أنه باطل و�إمنا بجهل منهم‪ ،‬وما دُخل �أهل الكتاب‬
‫َاب َال َت ْغ ُلو ْا فيِ ِدي ِن ُك ْم َو َال َت ُقو ُلو ْا َع َلى هَّ ِ‬
‫الل �إِالَّ الحْ َ قَّ { ف�إنهم‬ ‫�إال من هذا الباب قال اهلل تعاىل‪َ } :‬يا �أَ ْه َل ا ْل ِكت ِ‬
‫تكلموا يف الدين بالظن ف�ضلوا و�أ�ضلوا‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الكرب‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكرب‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫فح�سد �آدم وا�ستكرب وامتنع من‬ ‫أخالق املذموم ِة ك ِّلها الك ُرب واال�ستعالء‪ ,‬فبه اتَّ�صف � ُ‬
‫إبلي�س َ‬ ‫ ف�إن �أ�صل ال ِ‬
‫ي�س �أَ َبى َو ْ‬
‫ا�س َتكْبرَ َ َو َكانَ ِمنَ ا ْل َكـا ِف ِرينَ {‪.‬‬ ‫ا�س ُجدُو ْا لآ َد َم َف َ�س َجدُو ْا ِ�إالَّ �إِ ْب ِل َ‬
‫االنقياد لأمر ربه‪َ } ،‬و�إِ ْذ ُق ْل َنا ِل ْل َم َلـا ِئ َك ِة ْ‬

‫�صحة نب ّوته‪ ،‬وهو الذي منع �أباجهل‬ ‫ وبه تخ ّلف الإمي��انُ عن اليهود الذين ر�أَوا َّ‬
‫النبي ‪ s‬وعرفوا َّ‬
‫قري�ش العمى على الهدى‪ ،‬قال �سبحانه‪�ِ } :‬إ َّن ُه ْم َكا ُنو ْا ِ�إ َذا ِق َيل‬
‫قري�ش من الإ�سالم‪ ،‬وبه ا�ستح َّبت ٌ‬ ‫و�صناديد ٍ‬
‫َل ُه ْم َال ِ�إ َلـ َه ِ�إالَّ هَّ ُ‬
‫الل َي ْ�س َتكْبرِ ُ ونَ { ‪.‬‬

‫واالختالف والبغ�ضاء‪ ,‬قال ج ّل وعال‪َ } :‬ف َما ْخ َت َل ُفو ْا �إِالَّ ِمن َب ْع ِد َما َجاءهُ ُم‬ ‫ِ‬ ‫�سبب ال ُفرقة والنزاع‬ ‫ الكرب ُ‬
‫َ‬
‫تكذيب وتقتيل‪�} ,‬أ َف ُك َّل َما َجاء ُك ْم‬ ‫ٍ‬ ‫ْل ِع ْل ُم َب ْغ ًيا َب ْي َن ُه ْم{‪ ،‬وب�سب ِبه تن ّوعت �شنا ِئع بني �إ�سرائيل مع �أنبيا ِئهم بني‬
‫أهل ال ّنفاق‪َ } ،‬و�إِ َذا‬ ‫ا�س َتكْبرَْتمُْ َف َف ِري ًقا َك َّذ ْبت ُْم َو َف ِري ًقا َت ْق ُت ُلونَ {‪ .‬وهو ِمن � ِ‬
‫أو�صاف � ِ‬ ‫َر ُ�سو ٌل بمِ َ ا َال َت ْه َوى �أَن ُف ُ�س ُكم ْ‬
‫ءو�س ُه ْم َو َر�أَ ْي َت ُه ْم َي ُ�ص ُّدونَ َوهُ م ُّم ْ�س َتكْبرِ ُ ونَ {‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫لل َل َّو ْو ْا ُر َ‬ ‫ِق َيل َل ُه ْم َت َعا َل ْو ْا َي ْ�س َت ْغ ِف ْر َل ُك ْم َر ُ�س ُ‬
‫خطبة جديدة‬

‫قوم نوح‪َ } :‬و ْ�س َت ْغ َ�ش ْو ْا ِث َيا َب ُه ْم َو�أَ َ�ص ُّرو ْا َو ْ‬


‫ا�س َتكْبرَ ُ و ْا‬ ‫وع ِّذبت الأممَ ال�سالفة التّ�صا ِفهم به‪ ,‬قال تعاىل عن ِ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫ا�س َتكْبرَ َ هُ َو َو ُج ُنو ُد ُه ِفى الأ ْر ِ�ض ِب َغ رْ ِي الحْ َ قّ َو َظ ُّنو ْا �أَ َّن ُه ْم �إِ َل ْي َنا َال‬ ‫ا�س ِت ْك َبا ًرا{‪ ،‬وقال عن فرعونَ وقومه‪َ } :‬و ْ‬ ‫ْ‬
‫قوم هود‪َ } :‬ف�أَ َّما‬ ‫الظـالمِ ِنيَ{‪ ،‬وقال عن ِ‬ ‫انظ ْر َك ْي َف َكانَ َعـا ِق َب ُة َّ‬ ‫ُي ْر َج ُعونَ َف�أَ َخ ْذ َنـا ُه َو ُج ُنو َد ُه َف َن َب ْذ َنـاهُ ْم ِفى ا ْل َي ّم َف ُ‬
‫الل ا َّل ِذى َخ َل َق ُه ْم هُ َو �أَ َ�ش ُّد ِم ْن ُه ْم‬ ‫ا�س َتكْبرَ ُ و ْا ِفى الأَ ْر ِ�ض ِب َغ رْ ِي الحْ َ قّ َو َقا ُلو ْا َمنْ �أَ َ�ش ُّد ِم َّنا ُق َّو ًة �أَ َو مَْل َي َر ْو ْا �أَنَّ هَّ َ‬ ‫َعا ٌد َف ْ‬
‫ُق َّو ًة َو َكا ُنو ْا ِبـ َئا َيـا ِت َنا َي ْج َحدُونَ {‪.‬‬

‫ املتكبرِّ متَّبع لهواه‪ ،‬ينظر �إىل نف�سه بع ِني الكمال و�إىل غريه بع ِني ال ّنق�ص‪،‬مطبو ٌع على قل ِبه‪ :‬ال يق َبل ما‬
‫الل َع َلى ُكـ ّل َق ْل ِب ُم َت َكبرّ ٍ َج َّبارٍ{‪ُ .‬‬
‫واهلل تعاىل يبغ�ضه‪�ِ } ,‬إنَّ هَّ َ‬
‫الل َال ُي ِح ُّب ُك َّل مخُْ ت ٍَال‬ ‫ال َيهوى‪َ } ,‬ك َذ ِل َك َي ْط َب ُع هَّ ُ‬
‫}�س�أَ�صْ ِر ُف َعنْ ءا َيـ�آ ِتي ا َّل ِذينَ‬ ‫م�صروف عن االعتبا ِر واالتّعاظ بالعرب والآيات‪َ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بالكرب‬‫َف ُخورٍ{‪ .‬املتَّ�صف ِ‬
‫َي َت َكبرَّ ُ ونَ فيِ الأ ْر ِ�ض ِب َغ رْ ِي الحْ َ قّ {‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكرب‬

‫عهد‬ ‫ وامل�ستكبرِ عن احلقّ يبتَلى باالنقياد للباطل‪ ،‬وقد ُت َع َّجل له العقوب ُة يف ال ُّدنيا‪ ,‬فقد ُ�ش َّلت َي ُد ٍ‬
‫رجل يف ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫النبي ‪ s‬ب�شماله‪ ,‬فقال له‪ُ ( :‬كل بيمينك)‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫الكرب‪ ،‬قال �سلمة بن الأكوع‪� :‬أ َكل رجل عند ّ‬ ‫النبوة ب�س َبب ِ‬
‫�سفت ال ُ‬
‫أر�ض‬ ‫وخ ِ‬ ‫َطعت‪ ،‬ما منعه �إال الكرب)‪ ،‬قال‪ :‬فما رف َعها �إىل فيه رواه م�سلم‪ُ .‬‬ ‫ال �أ�ستطيع‪ ،‬قال‪( :‬ال ا�ست َ‬
‫مرج ًال ر� َأ�سه يختال يف م�شيته‪� ،‬إذ خ�سف‬‫نف�سه‪ِّ ،‬‬‫تعجبه ُ‬ ‫مبتكبرِّ‪ ,‬يقول النبي ‪( :s‬بينما رج ٌل ِ‬
‫مي�شي يف ح ّل ٍة ِ‬
‫يتج َلجل يف الأر�ض �إىل يوم القيامة) متفق عليه‪.‬‬ ‫اهلل به‪ ,‬فهو َ‬

‫يعامل بنقي�ض ق�صده‪ ,‬ف َمن تر َّفع عن ال ّنا�س يف ال ّدنيا َيط�ؤه ال ّنا�س ب� ِ‬
‫أقدامهم يف الآخرة‪،‬‬ ‫ ويف الآخرة َ‬
‫يوم القيامة يف �ص َور الذ ِّر يط�ؤهم ال ّنا�س ب�أرجلهم) رواه الرتمذي‪.‬‬ ‫يقول ‪َ :s‬‬
‫(يح�شر اجل ّبارون واملتكبرِّ ون َ‬

‫الكرب ح ُرم عليه دخول اجلنة‪ ،‬يقول النبي ‪( :s‬ال يدخل‬ ‫َومن ح َمل يف قل ِبه ولو �شي ًئا ي�س ًريا ِمن ِ‬ ‫ ‬
‫مثقال ذ ّرة ِمن كرب) رواه البخاري‪ .‬قال اهلل تعاىل}�أَ َل ْي َ�س ِفى َج َه َّن َم َم ْث ًوى ّل ْل ُم َت َكبرّ ِ ينَ {‪،‬‬
‫اجلن َة من يف قلبه ُ‬
‫(احتج ْت اجل ّن ُة وال ّنار‪ ،‬فقالت ال ّنا ُر‪ّ :‬يف اجل ّبارون واملتكبرِّ ون‪ ،‬وقالت اجل ّنة‪ّ :‬يف �ضعفا ُء ال ّنا�س‬ ‫ّ‬ ‫ويقول ‪:s‬‬
‫وم�ساكي ُنهم) رواه م�سلم‪.‬‬

‫خ�صائ�ص الربوب ّية ال ُينا َزع فيه‪ ,‬ومن اتّ�صف به من املخلوقني ع ّذبه اهلل‪ ,‬قال‬
‫ِ‬ ‫ عباد اهلل! الكربيا ُء ِمن‬
‫واحد منهما ع ّذبته)‬ ‫اهلل ع ّز وج ّل (يف احلديث القد�سي)‪ :‬الع ُّز �إزاري‪ ،‬والكربياء ردائي‪ ،‬فمن ُ‬
‫ينازعني يف ٍ‬
‫رواه م�سلم‪.‬‬

‫لب�س‬‫طريق ُينا َزع ال َّر ُّب يف كربيائه‪ ،‬ف ُمن َع ُ‬ ‫جناب الكربياء والعظمة هلل‪ ،‬فح ّرم ك َّل ٍ‬‫إ�سالم َ‬
‫ لقد حمى ال ُ‬
‫إعرا�ض به تعاظ ًما على‬ ‫خل ّد وال ِ‬ ‫للرجل لكونهما مدعا ًة للكرب َوا ُ‬
‫خل َيالء‪ ،‬و ُنهي عن ِ‬
‫ميل ا َ‬ ‫الذهب واحلرير ّ‬ ‫ِ‬
‫ا�س َو َال‬
‫الآخرين‪ ،‬ومل ي� َأذن ِمب�شية اخل َيالء تبخرتًا يف غري احلرب‪ ،‬قال ج ّل وعال‪َ } :‬و َال ُت َ�ص ّع ْر َخ َّد َك ِلل َّن ِ‬
‫أبغ�ضكم‬‫ال�صالة وال�سالم‪( :‬و�إنّ � َ‬ ‫تمَْ ِ�ش فيِ الأ ْر ِ�ض َم َر ًحا{‪ ،‬ونهى عن الت�ش ّدق يف الكالم اعتزا ًزا‪ ,‬قال عليه ّ‬
‫أبعدكم م ّني َ‬
‫يوم القيامة الرثثارون واملت�شدِّ قون واملتفيهقون) رواه الرتمذي‪.‬‬ ‫يل و� َ‬ ‫�إ ّ‬

‫ فانزَ ع عنك ردا َء الكرب والتعاظم‪ ،‬ف�إنهما لي�سا لك‪ ،‬بل هما َ‬
‫للخالق‪ ،‬وال َب�س ردا َء االنك�سار والتوا�ضع‪،‬‬
‫امرئ �شي ٌء من الكرب ّ‬
‫قط �إال ن َق�ص من عق ِله بقدر ما دخل من ذلك �أو �أكرث‪.‬‬ ‫قلب ٍ‬
‫فما دخل َ‬

‫ب�صفات الكمال ونعوت اجلالل وعرف‬


‫ِ‬ ‫العبد بر ّبه وجهله بنف�سه‪ ،‬ف�إ ّنه لو عرف ر َّبه‬
‫جهل ِ‬ ‫ ومن�ش�أ هذا ِمن ِ‬
‫(من كانت مع�ص ّيته يف الك ِرب َ‬
‫فاخ�ش‬ ‫ي�ستعل ومل ي�أنف‪ ،‬قال �سفيان بن عيينة‪َ :‬‬ ‫ِ‬ ‫آفات مل‬ ‫نف�سه بالنقائ�ص وال ِ‬
‫َ‬
‫عليه‪ ،‬ف�إبلي�س ع�صى متكبرِّ ً ا ف ُل ِعن)‪.‬‬

‫ والعذاب يقع على من تغل َغل ذلك يف قلبه‪ ،‬وتكون خ ّفته و�ش ّدته َ‬
‫بح�سب خ ّفتها و�ش ّدتها‪ ،‬ومن فتحها على‬
‫ال�شرور عديدة‪ ،‬ومن �أغلقها على نف�سه ُف ِت َحت له ب�إذن اهلل � ٌ‬
‫أبواب من اخلريات‬ ‫نف�سه فتح عليه �أبوا ًبا من ُّ‬
‫وا�سعة‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكرب‬

‫توا�ضع �أح ٌد هلل �إ ّال رفعه) رواه م�سلم‪ .‬وهو‬ ‫ عباد اهلل! يف التّوا�ضع رفع ُة الدنيا والآخرة‪ ،‬يقول‪( :s‬ما َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫و�ش َي ِم ال ُّنبالء‪ ،‬مو�سى ‪a‬رفع احلج َر المر�أتني �أبوهما �شي ٌخ كبري‪ ،‬وداود ‪ a‬كان ي�أكل‬ ‫أخالق الأنبيا ِء ِ‬
‫ِمن � ِ‬
‫جنا ًرا‪ ،‬وعي�سى ‪ a‬يقول‪َ } :‬و َب ًّرا ِب َوا ِل َد ِتى َو مَْل َي ْج َع ْل ِنى َج َّبا ًرا َ�ش ِق ًّيا{‪ ،‬وما ِمن‬‫من َك�سب يده‪ ،‬وزكر ّيا‪a‬كان ّ‬
‫يحمل‬
‫اجلناح للم�ؤمنني لينّ َ اجلانب لهم‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫خاف�ض‬ ‫نبي �إ ّال ورعى الغنم‪ ،‬ونب ّينا ‪ s‬كان رقيقَ القلب رحي ًما‬ ‫ّ‬
‫أردف عليه‪ ،‬ي�س ّلم على ال�صبيان‪ ،‬ويبد�أ من‬ ‫نوائب ال ّدهر‪ ،‬وركب احلما َر و� َ‬ ‫ك�سب املعدوم‪ ،‬ويعني على ِ‬ ‫ال َك َّل و ُي ِ‬
‫بال�سالم‪ ،‬يجيب دعو َة من دعاه ولو �إىل ُكراع‪ ،‬وملا ُ�س ِئلت عائ�شة ر�ضي اهلل عنها‪ :‬ما كان ُّ‬
‫النبي ‪s‬‬ ‫لق َيه َّ‬
‫ي�ص َنع يف بيته؟ قالت‪ :‬يكون يف مهنة �أه ِله ـ يعني خدمتهم ـ‪ ،‬ف�إذا ح�ضرت ال�صالة خرج �إىل ال�صالة‪ .‬رواه‬
‫البخاري‪.‬‬

‫العدل والأُلفة واملح ّبة يف املجتمع‪ ،‬يقول ‪�( :s‬إنّ اهلل �أوحى �إ ّ‬
‫يل �أن توا�ضعوا حتى ال‬ ‫ التوا�ض ُع �س َب ُب ِ‬
‫يبغي �أح ٌد على �أحد) رواه م�سلم‪.‬‬ ‫َ‬
‫يفخر �أح ٌد على � َأحد‪ ,‬وال َ‬

‫أحد ح ًّقا‪ ,‬بل يرى‬ ‫جناح ّ‬


‫الذل والرحمة لعباده‪ ،‬ال يرى له عند � ٍ‬ ‫خاف�ض َ‬ ‫ٌ‬ ‫منك�سر القلب هلل‪،‬‬
‫ واملتوا�ض ُع ِ‬
‫َ‬
‫الف�ضل للنا�س عليه‪ ،‬وهذا خل ٌق �إمنا يعطيه اهلل من يح ّبه ويق ّربه ويكرمه‪.‬‬

‫مع�صية‪،‬‬ ‫إكرامهما وطاع ِتهما يف غري ِ‬ ‫ربهما و� ِ‬ ‫جنب الوالدين ب ّ‬ ‫ و�أ ْك َر ُم التوا�ض ِع بعد َحقّ اهلل التوا�ض ُع يف ِ‬
‫اخلطاب معهما وتوقريهما والإك َثار من ال ّدعاء لهما يف‬ ‫ِ‬ ‫والتلطف يف‬‫ّ‬ ‫واحلن ّو عليهما وال ِب�شْ ر يف ِ‬
‫وجههما‬
‫حياتهما وبعد مماتهما‪ ،‬قال ج ّل وعال‪َ } :‬و ْاخ ِف�ضْ َل ُه َما َج َن َاح ال ُّذ ّل ِمنَ ال َّر ْح َم ِة َو ُقل َّر ّب ا ْر َح ْم ُه َما َك َما َر َّب َيا ِنى‬
‫َ�ص ِغري ًا{‪.‬‬

‫�ضرب من الكرب والعقوق‬


‫حوائجهما ٌ‬
‫ِ‬ ‫أوامرهما واال�ستكبا ُر عليهما والت�أ ّفف من ق�ضاء‬ ‫ُ‬
‫واال�ستنكاف عن � ِ‬ ‫ ‬
‫متوع ٌد �صاح ُبه بدخول النار‪[ .‬منقول بت�صرف من خطب ٍة للقا�سم]‬
‫َّ‬

‫‪287‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫الكذب على النبي‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكذب على النبي‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫يقول اهلل ع َّز وجل‪ُ } :‬ق ْل �إِنمَّ َ ا َح َّر َم َر ِّب َي ا ْل َف َو ِاح َ�ش َما َظ َه َر ِم ْن َها َو َما َب َطنَ َوالإِث َْ��م َوا ْل َب ْغ َي ِب َغ رْ ِي الحْ َ ِّق َو�أَن‬
‫الل َما مَْل ُي َن ِّز ْل ِب ِه ُ�س ْل َطا ًنا َو�أَن َت ُقو ُلو ْا َع َلى هَّ ِ‬
‫الل َما َال َت ْع َل ُمونَ {‪.‬‬ ‫ُت�شْ ِر ُكو ْا ِب هَّ ِ‬

‫فعل يفع ُله املر ُء ظلم ًا ِ‬


‫لنف�سه‬ ‫ذنب ُع�صي به اهلل تعاىل‪ ،‬و�أ�ش ّد ٍ‬ ‫أعظم ٍ‬ ‫علم � ُ‬ ‫القول على اهلل بغري ٍ‬ ‫ �إن َ‬
‫ا�س ِب َغ رْ ِي ِع ْلم ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َال َي ْه ِدي‬ ‫وللنا�س‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬ف َمنْ �أَ ْظ َل ُم ممَِّ ِن افْترَ َى َع َلى هَّ ِ‬
‫الل َك ِذ ًبا ِل ُي ِ�ض َّل ال َّن َ‬
‫ٍ‬
‫ا ْل َق ْو َم َّ‬
‫الظالمِ ِنيَ{‪.‬‬

‫ �إن الكذب على اهلل ودي ِنه هو �أ�ش ُّد �أنواع الكفر به �سبحانه‪ ،‬و�أ�سو�أُ �أنواع املبارزة له ج ّل وعال‪ ،‬فهو �أ�ض ُّل‬
‫بع�ضهم على اهلل‬ ‫ال�ضالل‪ ،‬و�أعظم الظلم‪ ،‬و�أف�س ُد الإف�ساد‪ .‬و�إمنا �ض َّلت يهو ُد ن�صارى وكفروا ب�سبب كذب ِ‬ ‫ّ‬
‫وت�صديقُ الباقني لذلك الكذب‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن ِمن �صور الكذب على اهلل وعلى �أنبيائه �صلوات اهلل عليهم و�ض ُع الأخبار امل�صنوعة‪،‬‬
‫والأحاديث الباطلة املو�ضوعة على نبينا ‪ ،s‬وقد �أخ َرب النبي ‪ s‬بوقوع ذلك‪ ،‬وح ّذر فاعله من العذاب‬
‫مقعده من النار)‪.‬‬‫علي متعمد ًا فليتبو�أ َ‬
‫(من كذب َّ‬ ‫ال�شديد‪ ،‬ففي احلديث املتواتر عنه ‪� s‬أنه قال‪َ :‬‬

‫ فالكذب على النبي ‪ s‬من كبائر الذنوب‪ ،‬وال تقبل رواية من فعله و�إن تاب‪ ،‬بل قال اجلويني‪�( :‬إن‬ ‫خطبة جديدة‬
‫الكذب على النبي ‪ s‬كف ٌر)؛ عياذ ًا باهلل‪.‬‬

‫ وقد ُك ِذ َب َع َليه (عليه ال�صالة ال�سالم) ف ُنحلت عليه �أحاديثُ مو�ضوع ٌة ل ٍ‬


‫أغرا�ض فا�سدة‪ ،‬فمن �أولئك‬
‫الكاذبني قو ٌم �أظهروا الإ�سالم و�أبطنوا ال ُكفر‪ ،‬و�ضعوا �أحاديث ا�ستخفاف ًا بالدين‪ ،‬ولي�ضلوا بها النا�س‪.‬‬

‫و�ضعت على نبيكم كذا‬


‫ُ‬ ‫بزنديق ل ُيقتل‪ ،‬فقال الزنديقُ ‪ :‬لقد‬
‫ٍ‬ ‫ قيل‪� :‬إن اخلليفة العبا�سي املهدي جيء له‬
‫أنت من �صيارفة احلديث وعاملني بعلله‪،‬‬‫وكذا حديث ًا فما �أنت �صانع‪ ،‬فتب�سم اخلليفة العبا�سي وقال‪ :‬ف�أين � َ‬
‫ال�صري ُّ‬
‫يف‬ ‫يعرف َ‬‫كابن املبارك‪ ،‬ويحيى بن �سعيد‪ ،‬وعدد رجا ًال‪ ،‬يعرفون �صحيح احلديث من �سقيمه‪ ،‬كما ُ‬
‫الذهب من �صحيحه‪.‬‬ ‫زائف َّ‬
‫َ‬

‫‪288‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكذب على النبي‬

‫ ومن �أولئك الكاذبني طائف ٌة اعتقدت اعتقاد ًا باط ًال‪ ،‬وانتحلت مذهب ًا �ضا ًال‪ ،‬فر�أوا �أنه ال ُي�ؤ ِّي ُد قو َلهم‬
‫كتاب وال ُ�سنة‪ ،‬فو�ضعوا �أحاديث َك ِذب لي�ضلوا �أتباعهم ويلب�سوا عليهم دينهم‪ ،‬روى ابن �أبي حامت يف (مقدمة‬ ‫ٌ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اجلرح والتعديل) عن �شيخ من اخلوارج �أنه كان يقول بعدما تاب‪�( :‬إنا ُكنا �إذا هوينا �أمر ًا �صريناه حديث ًا‪،‬‬
‫ونحت�سب اخلري يف �إ�ضالل النا�س)‪ .‬وقال �شريك بن عبداهلل‪( :‬الراف�ض ُة ي�ضعون احلديث ويتخذونه دين ًا)‪.‬‬
‫ِومنهم طائفة يحت�سبون بزعمهم الباطل وجهلهم الفا�ضح‪ ،‬في�ضعون �أحاديث لف�ضل بع�ض الأعمال‪� ،‬أو‬ ‫ ‬
‫الرتهيب من غريها‪ ،‬وب�سبب جهلهم ف�إنهم ال يفرقون بني َما يجوز لهم وما ميتنع عليهم يف �صنيعهم ذلك‪،‬‬
‫زعمه ُر�ؤيا هالل رم�ضان ومل يره زاعم ًا �أنه خ ٌ‬
‫ري‬ ‫كحال َمن َيكذب يف ِ‬ ‫فيون �أنهم يح�سنون �صنعا‪ ،‬فحا ُلهم ِ‬ ‫رَ َ‬
‫أول الكاذب على‬ ‫للنا�س لكونهم ي�شتغلون بالتعبد وال�صوم وميتنعون عن املفا�سد يف ذلك اليوم‪ ،‬بل واهلل �إن ال َ‬
‫ر�سول اهلل �أ�ض ُّل منه و�أغوى‪..‬‬

‫ جاء �أن امل�ؤ ّمل بن �إ�سماعيل الب�صري املتو َّفى بعد املائتني �سم َع حديث ًا يف ف�ضائل �سو ٍر من القر�آن‪ ،‬ف�س�أل‬
‫�شيخ بوا�سط‬ ‫حم ّدثه عمن �سمعه منه‪ ،‬فقال‪ :‬رج ٌل باملدائن وهو حي‪ ،‬فارحتل �إليه‪ ،‬ف�أحال املدائني على ٍ‬
‫�شيخ ب َعبدان‪ ،‬قال‬ ‫الب�صري على ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫الوا�سطي على �شيخ بالب�صرة فارحتل �إليه‪ ،‬ف�أحال‬ ‫ُّ‬ ‫فارحتل �إليه‪ ،‬ف�أحال‬
‫امل�ؤ َّمل‪ :‬فل ّما �صرتُ �إليه �أخذ بيدي ف�أدخلني َبيت ًا ف�إذا فيه قو ٌم من املت�صوف ِة ومعهم �شيخ‪ ،‬فقال‪ :‬هذا ال�شيخ‬
‫النا�س قد َرغبوا‬ ‫فقلت له‪ :‬يا �شيخ! من ح َّدثك بهذا احلديث؟ فقال‪ :‬مل ُيح ّدثني به �أحد‪ ،‬ولك ّنا ر�أينا َ‬ ‫حدثني‪ُ ،‬‬
‫عن القر�آن فو�ضع َنا لهم هذا احلديث لي�صرفوا قلوبهم �إىل القر�آن‪ .‬عياذ ًا باهلل‪.‬‬
‫ وملا كان �أولئك الكاذبون على تلك احلال القبيحة من الكذب على ر�سول اهلل‪ ،s‬ق َّي�ض ُ‬
‫اهلل �أئم ًة ُن ّقاد ًا‬
‫حال ذلك ومعه‬ ‫حفظ �آثار نبيهم �أ ّمت التب�صري‪ ،‬ويتعوذون باهلل َ‬ ‫يدققون يف النقري والقطري‪ ،‬ويتب�صرون يف ِ‬
‫جوع وم�سغبة‪ ،‬وال ميلك من‬ ‫زمن ٍ‬ ‫أر�ض ذهاب ًا و�إيابا يف ِ‬ ‫قط ُع فيا َيف ال ِ‬ ‫من الهوى والتق�صري‪ُ ،‬ي�ش ّم ُر �أحدُهم ف َي َ‬
‫ال�سنة‪،‬‬ ‫ال�سنن �شيئ ًا ُي ِ�ض ُّل به‪ ،‬فعجب ًا! �إمنا �سخرهم اهلل حلفظ هذه ُّ‬ ‫دخل ُم ِ�ض ٌّل يف ُّ‬ ‫ُحطام الدنيا حطبة‪ ،‬لئال ُي ِ‬
‫أيت َ�صنع ًة متقنة‪ ،‬ود َّق ًة‬ ‫كالمهم وذبهم عن �سنة نبيهم ر� َ‬ ‫أيت عجب ًا‪ ،‬و�إن قر�أتَ َ‬ ‫ف�إن نظرتَ يف ِ�سريتهم ر� َ‬
‫أحد من النا�س كما ُب ِحث‬ ‫قول � ٍ‬ ‫وحفظها ورعاي ِتها وك�أمنا ُخ ِلقوا لها‪ ،‬مل ُيبحث ُ‬ ‫ال�سنة ِ‬ ‫متناهية‪ ،‬وج َلد ًا على ُّ‬
‫حممد ‪ ،s‬ال ير�ضى �أحدهم حتى ي�سمع احلديث من ثالثني وجه ًا و�أكرث‪ ،‬دققوا يف حرف الواو والفاء‪،‬‬ ‫قول ٍ‬ ‫ُ‬
‫فبينوا ما قاله الر�سول‪ ،‬وما مل يقله‪:‬‬
‫أهل النبي و�إن ‬ ‫احلديث هُ ْم � ُ‬
‫ِ‬ ‫ �أه ُل‬
‫أنفا�سه �صحبوا‬ ‫ مل ي�صحبوه � َ‬
‫الذ ْك َر َو ِ�إ َّنا َل ُه لحَ َ ا ِف ُظونَ {‪،‬‬
‫ وهذا ِمن حفظ اهلل ل�سنة نبيه ‪ ،s‬كما قال ج َّل وعال‪�ِ } :‬إ َّنا َن ْحنُ َن َّز ْل َنا ِّ‬
‫وحى{‪ ،‬وقال ‪:s‬‬ ‫نطقُ َع ِن ا ْل َه َوى* �إِنْ هُ َو ِ�إالَّ َو ْح ٌي ُي َ‬ ‫و�سنة النبي ‪ s‬من الوحي الذي �أوحاه اهلل �إليه‪َ } :‬و َما َي ِ‬
‫وحي من اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫وتيت القر�آن ومث َله معه)‪ .‬فكالهما ٌ‬ ‫(�أال �إين �أُ ُ‬
‫ لذا ملا قيل البن املبارك‪ :‬هذه الأحاديثُ امل�صنوعة؟ قال‪ :‬تعي�ش لها اجلاهبذة؛ �أمل يقل اهلل‪�} :‬إِ َّنا َن ْحنُ‬
‫حديث ر�سول اهلل ‪ s‬وهو يف‬ ‫يكذب يف ِ‬ ‫هم رج ٌل �أن َ‬ ‫الذ ْك َر َو�إِ َّنا َل ُه لحَ َ ا ِف ُظونَ {‪ .‬وقال �سفيان‪( :‬واهلل لو َّ‬
‫َن َّز ْل َنا ِّ‬
‫بيت لأظهر ُ‬
‫اهلل عليه)‪.‬‬ ‫جوف ٍ‬

‫عباد اهلل! �إن �صور الكذب على النبي‪s‬متعددة وذاتُ مناحي متنوعة‪:‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫‪289‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكذب على النبي‬

‫النا�س بوا�سطة و�سائل التوا�صل احلديث‪� :‬أحاديثَ َمكذوب ًة يف ف�ضائل بع�ض‬


‫بع�ض ُ‬‫ ف�أحيان ًا يرتا�سل ُ‬
‫الأعمال‪� ،‬أو الرتهيب من �أخرى؛ كحديث �أن َمن ترك ال�صالة ُعوقب بخم�سني عقوب ًة‪� ،‬أو بع�ض �صور العذاب‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫بف�ضائل و�أُجو ٍر كلها مكذوبة على النبي ‪.s‬‬
‫َ‬ ‫يف النار التي مل ت�صح‪� ،‬أو تخ�صي�ص بع�ض الأدعية‬

‫هلل و�سنة ر�سوله ‪s‬التي قالها ح ّقا‪ ،‬و�أ ّما وعظ النا�س بالكذب‪،‬‬ ‫بكتاب ا ِ‬ ‫ وال َّ‬
‫�شك �أن ال ِع َ�ض َة �إمنا هي ِ‬
‫وتذكريهم باملو�ضوعات من الأحاديث ف�إمنا هو عالم ُة �ش� ٍؤم و�سوء‪.‬‬

‫(من‬ ‫�صح عن النبي ‪�s‬أنه قال‪َ :‬‬ ‫ �أن املُحدِّ ث باحلديث الكذب على النبي‪s‬عليه وز ُر الكاذبني؛ فقد َّ‬
‫بحدث ُيرى �أنه كذب فهو �أحد ال َكاذبني) (رواه م�سلم يف مقدمته والرتمذي ‪ 2662‬وابن ماجه‬ ‫ٍ‬ ‫ح ّدث عني‬
‫‪.)14‬‬
‫احلديث وعيد ًا �شديد ًا‬
‫ِ‬ ‫ فجعل النبي ‪s‬املح ّدث باحلديث املكذوب م�شارك ًا لكاذبه يف و�ض ِعه‪ ،‬وكفى بذا‬
‫كذب‪ ،‬ف�ض ًال عن �أن يتحقق كذ َبه ويت�أكد ف�إنه �أ�ش ُّد ُجرم ًا‪ .‬قال ُ‬
‫حبيب‬ ‫حق َمن روى حديث ًا وهو يظنُّ �أنه ِ‬
‫يف ِّ‬
‫(من روى الكذب فهو الكذاب)‪ ،‬وقال ابن ح ّبان‪ُ ( :‬كل ٍّ‬
‫�شاك فيما َير ِوي �أنه �صحي ٌح �أو غ ُري �صحيح‬ ‫بن ثابت‪َ :‬‬
‫ف�إنه داخ ٌل يف ظاهر خطاب هذا احلديث)‪.‬‬

‫ وكتب الإمام البخاري على حديث مو�ضوع‪( :‬من حدث بهذا فقد ا�ستوجب ال�ضرب ال�شديد‪ ،‬واحلب�س‬
‫الطويل)‪.‬‬

‫عدم النظر يف ال ُكتب التي ملأت بالأحاديث املو�ضوعة والباطلة والتي امتلأت‬ ‫الواجب على املُ�س ِلم ُ‬
‫َ‬ ‫ �إن‬
‫لل�س َمرقندي) و(دالئل اخلريات)‪ ،‬و(قوت القلوب)‪ ،‬وما جرى‬ ‫بها �أ�سواق الكتب وحمالته (كتنبيه الغافلني َّ‬
‫جمراها وما �أكرث م�سميا ِتها و�أق ّل نف َعها‪ ،‬وهي للأ�سف كثرية جد ًا‪ .‬وال يظنَّ املر ُء �أن ُك َّل بي�ضا َء َ�شحمة وال‬
‫ُك َّل �سوداء مترة‪ ،‬ف�إن يف بع�ضها كذب ًا َومين ًا‪.‬‬

‫ قال ابن دحية الأندل�سي‪( :‬فتحفظوا عباد اهلل من مف ٍرت َيروي لكم حديث ًا مو�ضوع ًا ي�سو ُق ُه يف معر�ض‬
‫�صح �أنه كذب خرج من امل�شروعية‪،‬‬ ‫فا�ستعمال اخل ِري َينبغي �أن يكون م�شروع ًا من النبي‪s‬ف�إذا ّ‬
‫ُ‬ ‫اخلري‪،‬‬
‫وكان م�ستعم ُل ُه من خدم ال�شَّ يطان ال�ستعماله حديث ًا على ر�سول اهلل مل ينزل اهلل به من �سلطان)‪.‬‬

‫زعم ر�ؤياه و�أنه �أو�صى بكذا وكذا‪ ،‬و�أنه قال �أن�شر هذا الأمر و�إال‬
‫ ومن �صور الكذب على النبي ‪ُ s‬‬
‫وتعديل �إال‬
‫ٍ‬ ‫خادم احلجرة النبوية وق�صتُه التي تروى ُكل عام بتغي ٍري‬
‫ال�سو ِء ما �سيكون‪ ،‬وما �أحم ُد ُ‬
‫�سيكون من ُّ‬
‫�ضح ٌك مبكي على الكذب على ر�سول اهلل ودين اهلل‪..‬‬ ‫ِمثا ٌل ُم ِ‬
‫ومال �إليه‪ ،‬لأنَّ َ‬
‫اهلل يقول‪} :‬ا ْل َي ْو َم �أَ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم‬ ‫أحب اخل َري َ‬
‫�شك �أن نا�ش َر ذلك م�أزو ٌر غ ُري م�أجور ولو � َّ‬ ‫ وال َّ‬
‫يزعم �أنه بقي �شي ٌء مل ي�صل �إال ِمن طريق‬ ‫ِدي َن ُك ْم َو�أَتمْ َ ْم ُت َع َل ْي ُك ْم ِن ْع َم ِتي َو َر ِ�ض ُ‬
‫يت َل ُك ُم ا ِلإ ْ�س َال َم ِدي ًنا{‪ ،‬وهذا ُ‬
‫هذا الكاذب الذي يزعم �أنه ر�أى النبي ‪.s‬‬

‫‪290‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫الكذب‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكذب‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ال�سمت‪ ،‬بالغ التوا�ضع‪ ،‬هذبه الدينُ‬ ‫خل ُلق‪ ،‬ط ِّي ُب الل�سان‪ ،‬دمثُ الأخالق‪ُ ،‬‬
‫جميل ّ‬ ‫ ف�إن امل�ؤمنَ ح�سنُ ا ُ‬
‫ف�أح�سن تهذيبه‪ ،‬ور َّباه وزكا ُه �أح�سن الزَّكاء‪.‬‬

‫النا�س ُخ ُلق ًا‪ ،‬و�ألينهم عريك ًة‪ ،‬و�أطلقهم وجه ًا‪ ،‬و�أ�صدقهم ل�سان ًا‪ ،‬ولي�س ذاك َبال َع َجب فهم‬
‫ِ‬ ‫ فهم �أح�سنُ‬
‫بعثت لأمتم مكارم الأخالق)‪.‬‬
‫حممد‪s‬وقد قال‪�( :‬إمنا ُ‬ ‫ٍ‬ ‫م�ستنون ب�إمامهم‬

‫نق�ص ومذ ّمة‪ ،‬روى الإمام �أحمد عن ابن م�سعود ‪� d‬أن‬ ‫ ال يكون املر ُء م�ؤمن ًا َ‬
‫كامل الإميان ويف ُخ ُل ِقه ٌ‬
‫خل ُلق �إذا‬
‫أعجب من ذلك �أن ُح�سن ا ُ‬
‫فاح�ش وال بذيء)‪ .‬بل � ُ‬ ‫بطعان وال ل ّع ٍان وال ٍ‬
‫ٍ‬ ‫النبي ‪s‬قال‪( :‬لي�س امل�ؤمنُ‬
‫ُ�ض َّم للفقه يف الدين ف�إنها عالم ُة �إميان وبراء ٌة من نفاق‪ ،‬روى الرتمذي ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي هريرة ‪d‬‬
‫�أن النبي ‪s‬قال‪( :‬خ�صلتان ال جتتمعان يف منافق‪ُ :‬ح�سنُ َ�س ْم ٍت‪ ،‬وفق ٌه يف الدِّ ين)‪.‬‬

‫خل ُلق‪ ،‬وق ّلة الفقه يف الدين عالماتٌ النفاق‪ ،‬وقد ثبت يف �صحيح م�سلم �أن النبي‪s‬قال‪:‬‬ ‫نعم �إن �سوء ا ُ‬
‫َ‬ ‫ ‬
‫ثالث‪� :‬إذا ح ّدث كذب‪ ،‬و�إذا وعد �أخلف‪ ،‬و�إذا ائتمن خان‪ ،‬ف َمن ُكن فيه كان منافق ًا خال�ص ًا‪،‬‬
‫(�آية املنافق ٌ‬
‫ومن كانت فيه واحد ٌة منها كانت فيه �صل ٌة من النفاق حتى يدعها)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫الكذب يف احلديث‪ُ ،‬‬


‫وخلف‬ ‫ُ‬ ‫ فبينّ النبي‪�s‬أن من �آيات النفاق وعالماته هذه الأو�صاف الذميمة الثالثة‪،‬‬
‫الوعد‪ ،‬وخيانة الأمانة وهي من �أ�سو�أ م�ساوئ الأخالق‪ ،‬و�أردى مراديها‪.‬‬

‫ وجما ُع هذه الأو�صاف يف الكذب‪ ،‬ف َمن كذب يف حديثه‪ ،‬خلف‪ ،‬وخان‪ .‬لذا كان الكذب يف املقال ِمن‬
‫�أظهر �أو�صاف املنافقني‪ ،‬قال �سبحانه‪َ } :‬ف�أَ ْع َق َب ُه ْم ِن َفا ًقا فيِ ُق ُلو ِب ِه ْم ِ�إ ىَل َي ْوم َي ْل َق ْو َن ُه بمِ َ ا �أَ ْخ َل ُفو ْا هَّ َ‬
‫الل َما َو َعدُو ُه‬ ‫ِ‬
‫وَبمِ َ ا َكا ُنو ْا َي ْك ِذ ُبونَ {‪.‬‬
‫ بخالف امل�ؤمن ف�إنه يكون �أبعد ما يكون عن الكذب؛ وقد ُ�سئل النبي ‪ s‬هل يزين امل�ؤمن؟ قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫يكذب امل�ؤمن؟ فقال‪ :‬ال‪ .‬وروى الإمام �أحمد عن �أبي �أمامة‬ ‫فقالوا‪ :‬هل ي�سرق امل�ؤمن؟ فقال‪ :‬نعم‪ .‬فقالوا‪ :‬هل ُ‬
‫‪� d‬أن النبي ‪s‬قال‪ُ ( :‬يطبع امل�ؤمن على اخلالل ُك ِّلها �إال اخليانة والكذب)‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكذب‬

‫ لذا فلي�س ِمن املبالغة‪ُ :‬‬


‫القول ب�أن الكذب هو �سيد �سوء الأخ�لاق‪ ،‬و�أبغ�ض الأفعال �إىل ال�صاحلني‪،‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫و�أكرهها لهم؛ روى الإمام �أحمد عن عائ�شة ‪ g‬قالت‪( :‬ما كان ُخ ُل ٌق � َ‬
‫أبغ�ض �إىل �أ�صحاب ر�سول اهلل‪s‬من‬
‫يعلم �أنه قد‬
‫نف�سه ‪ s‬عليه‪ ،‬حتى َ‬‫زال يف ِ‬ ‫الكذبة‪ ،‬فما َي ُ‬ ‫الكذب‪ .‬ولقد كان الرجل يكذب عند ر�سول اهلل‪ِ s‬‬
‫�أحدث منها توب ًة)‪.‬‬

‫ �إن الكذب ‪-‬عباد اهلل‪ -‬ملِن �أ�شدِّ م�ساوئ الأخالق ُبغ�ض ًا عند اهلل وعند النا�س جميع ًا‪ ،‬ف َما ُذ َّم عاق ٌل‬
‫مبذ ّم ٍة �أردى من كونه كاذب ًا‪ ،‬فال ُي�ص ّدق يف حديث‪ ،‬وال ي�ستخرب خرب ًا‪ ،‬وال ُي�س� ُأل م�شور ًة‪ ،‬وال ت�ؤمن غائلته‪،‬‬
‫علمك ب�أنك كاذب)‪ .‬ح ّق ًا �أن ُيع َرف املر ُء‬‫وال يرجى ب ُّره‪ .‬قال جعفر بن حممد‪( :‬كفى موبخ ًا على الكذب َ‬
‫أعظم عقوبة َملن كان ذا ُل ٍّب‪.‬‬
‫بالكذب‪ ،‬ويلمز به ف�إنها � ُ‬

‫والكاذب يرجو �أن تكون كذبته م�ستور ًة عن ِ‬


‫النا�س غ َري مف�ضوحة‪ ،‬لكنه ُيعاقب بالف�ضيحة يف الآخرة‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫‪�-‬إن متم ُ‬
‫اهلل عليه �سرته يف الدنيا‪ -‬ب�أن يف�ضح على ر�ؤ�ؤ�س اخلالق ب�أنه ك ّذاب يف �صحيح البخاري عن ابن‬
‫م�سعود ‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬ال يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى ُيكتب عند اهلل كذاب ًا)‪.‬‬

‫أعظم ِمن �أن ُيكتب املرء كذاب ًا‪ ،‬وينعت بهذا النعت الأ�ش�أم‪ .‬وقد ا�ستنبط بع�ض الفقهاء‬
‫ ف�أي ف�ضيح ٍة � ُ‬
‫ال�صدق �إذا حينما ُيكتب عند اهلل كذاب ًا من كرثة كذبه‬
‫من هذا احلديث �أن الكاذب ي�صعب رجوعه لل�سان ِّ‬
‫ف�إن هذا الو�صف يالزمه �إال �أن يتداركه اهلل برحمته‪.‬‬

‫وال�سلف من �أ�شدِّ النا�س حر�ص ًا على �أن ال تظهر منهم كذبة‪ ،‬ولو كانت‬
‫ُ‬ ‫ عباد اهلل! لقد كان العقال ُء‬
‫كذبت كذب ًة ال ّ‬
‫يطلع عليها �إال �أبي معاوي ُة بن‬ ‫خف ّي ًة‪� ،‬أو �صغرية‪ ،‬قال �إيا�س بن معاوية ‪( :d‬ما ي�سرين �أين ُ‬
‫ُقرة‪ ،‬ال �أ�س�أل عنها يوم القيامة‪ ،‬و�أن يل الدنيا بحذافريها)‪.‬‬

‫أقتم قبيح‪ ،‬مذمو ٌم على ُك ِّل حال‪،‬‬ ‫ �إن الكذب ‪-‬عباد اهلل‪ -‬لي�س منه � ُ‬
‫أبي�ض وال �أ�سود‪ ،‬بل هو لو ٌن واح ٌد � ُ‬
‫وطالبه على عدم الكذب‪،‬‬ ‫نف�سه ون�ش�أَه من ِ‬
‫ولده ُ‬ ‫ويف ُكل وقت‪ ،‬وعند ُكل عاقل‪ .‬فما �أحرى �أن يربي املر ُء َ‬
‫علمت‬
‫قط من حني عقدت �إزاري حينما ُ‬ ‫كذبت ُّ‬
‫ واحلذر منه غاية احلذر‪ ،‬قال عمر بن عبد العزيز‪( :‬ما ُ‬
‫�أن الكذب ُيزري بالرجل)‪.‬‬

‫ وقد كان عمر بن اخلطاب ‪ d‬ي�ؤ ّدب على الكذب ويعزّر عليه‪ ،‬ومينع جل�ساءه من اال�ستمرار يف الكذب‪،‬‬
‫ين�صح لهم مبنعهم من الكذب يف احلديث‪ ،‬قال طارق بن‬ ‫ُ‬ ‫فال يجاريهم كحال كث ٍري من اجلل�ساء‪ ،‬و�إمنا‬
‫الرجل ليحدث عمر بن اخلطاب باحلديث فيكذب‪ ،‬فيقول عم ُر‪ :‬احب�س هذا (�أي �أم�سك هذا‬ ‫ُ‬ ‫�شهاب‪� :‬إن كان‬
‫اخلرب ال ُتخرب به وال تكمل حديثك ف�إنه كذب)‪ ،‬ثم يحدث يف احلديث فيكذب‪ ،‬فيقول‪ :‬احب�س هذا‪.‬‬

‫ذم اهلل اليهود فقال‪َ } :‬و ِمنَ ا َّل ِذينَ ِهادُو ْا َ�س َّم ُاعونَ ِل ْل َك ِذ ِب{‪� ،‬أي‬
‫ف�س َّماع الكذب من امل�شارك ِة فيه وقد َّ‬ ‫ ‬

‫‪292‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬الكذب‬

‫يرخي �سم َعه للكذب من الأخبار ونحوها‪.‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫والقول يف دين اهلل ما ال ُيعلم‪ ،‬ف�أي �سماء ُتظل‪ ،‬و�أي‬ ‫ُ‬ ‫الكذب على اهلل تعاىل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الكذب‬
‫ِ‬ ‫ عباد اهلل ! �أعظم‬
‫ُ‬
‫الل ا ْل َك ِذ َب ِمن َب ْع ِد َذ ِل َك َف�أ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم‬ ‫هَّ‬
‫أر�ض ُتق ُّل َمن قال يف كتاب اهلل و�شرعه ما ال َيع َلم‪َ } :‬ف َم ِن افْترَ ََى َع َلى ِ‬ ‫� ٍ‬
‫الظالمِ ُونَ {‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هَّ‬
‫الل َك ِذ ًبا �أ ْو َك َّذ َب ِب�آ َيا ِت ِه �إِ َّن ُه َال ُي ْف ِل ُح َّ‬ ‫َ‬
‫الظالمِ ُونَ {‪ ،‬وقال �سبحانه‪َ } :‬و َمنْ �أ ْظ َل ُم ممَِّ ِن افْترَ َى َع َلى ِ‬ ‫َّ‬
‫الل َال َي ْه ِدي ا ْل َق ْو َم‬‫ا�س ِب َغ رْ ِي ِع ْلم �إِنَّ هَّ َ‬ ‫وقال جل وعال‪َ } :‬ف َمنْ �أَ ْظ َل ُم ممَِّ ِن افْترَ َى َع َلى هَّ ِ‬
‫الل َك ِذ ًبا ِل ُي ِ�ض َّل ال َّن َ‬
‫ٍ‬
‫َّ‬
‫الظالمِ ِنيَ{‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اللغة العربية‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬اللغة العربية‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫الف �أَ ْل ِ�س َن ِت ُك ْم‬ ‫ال�س َم َو ِات َوالأَ ْر ِ‬
‫���ض َو ْاخ ِت ُ‬ ‫�إنَّ اختالف الأل�سنة من �آيات اهلل‪ ،‬قال تعاىل‪َ } :‬و ِمنْ �آ َيا ِت ِه َخ ْلقُ َّ‬
‫َو�أَ ْل َوا ِن ُك ْم{‪ ،‬فقد جعل اهلل تعاىل اختالف �ألواننا و�أل�سنتنا �آية من �آياته عظ ًة وذكرى‪.‬‬
‫ وقد َّ ُ‬
‫أعظم املزايا �أن‬ ‫خ�ص اهلل بع�ض الأل�سنة واللغات بخ�صي�ص ٍة لي�ست يف غريها ِومن �أج َّل الف�ضائل و� ِ‬
‫بل�سان عربي ُمبني؛ قال ج ّل وعال‪�} :‬إِ َّنا �أَنزَ ْل َنا ُه ُقرْ�آ ًنا َع َر ِب ًّيا‬ ‫خ�ص اهلل � َ‬
‫أف�ضل ُكت ِبه املنزل ِة و�أبي َنها ب�أن جعله ٍ‬ ‫َّ‬
‫َّل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُلونَ {‪.‬‬
‫ ‬
‫أف�صح منها‪ ،‬ولو كان‬ ‫ ف�أخرب �سبحانه �أنه �أنزله عربي ًا يف �سياق التمدح والثنا ِء على الكتاب‪ ،‬ف َما ِمن لغ ٍة � ُ‬
‫ملا ُخ�صت ب�أف�صح الكالم (القر� ِآن العظيم)‪.‬‬

‫ فلم يت�ضمن القر�آنُ لب�س ًا وال نق�ص ًا‪ ،‬عزي ٌز ال يت�أتيه الباطل من بني يديه ومن خلفه تنزي ٌل من حكيم‬
‫َاب ِت ْب َيا ًنا ِّل ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َوهُ دً ى َو َر ْح َم ًة َو ُب�شْ َرى ِل ْل ُم ْ�س ِل ِمنيَ{‬
‫حميد‪ .‬بلي ٌغ ال ُيجارى‪ ،‬كامل �شامل } َو َن َّز ْل َنا َع َل ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫�إذ ال لغ َة �أبل َغ منها‪ ،‬وال �أك َرث مرتادفات‪ ،‬وال �أو�س َع معاين؛ قال الإمام ال�شافعي (الر�سالة �ص ‪( :)42‬ل�سان‬
‫العرب �أو�س ُع الأل�سنة مذهب ًا‪ ،‬و�أكرثها �ألفاظ ًا‪ ،‬وال نعلمه ُيحيط بجميع علمه �إن�سا ٌن غ ُري ٍّ‬
‫نبي ‪)..‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫والتحدث بها عالم ُة ال�سداد والتوفيق‪ .‬قال عمر بن اخلطاب ‪:d‬‬
‫ُ‬ ‫ لذا كان تع ّلم العربية من الدين‪،‬‬
‫وال�سنة‪ ،‬والعربي َة ك َما تتعلمون القر�آن)‪.‬‬ ‫َ‬
‫الفرائ�ض‪ُّ ،‬‬ ‫(تعلموا‬

‫و�ص َد َق ‪ d‬فال ي�ص ُّح �أذا ٌن �إال بالعربية‪ ،‬وال ُتقبل �صال ٌة �إال بالعربية‪ ،‬و� ُ‬
‫أجمل الدعاء و�أكم ُله ما كان‬ ‫َ‬ ‫ ‬
‫بالعربية �إذ حوت جوامع ال َك ِلم‪ .‬قال الإمام ال�شافعي (الر�سالة �ص ‪( :)48‬فعلى ُكل ٍ‬
‫م�سلم �أن يتعلم من ل�سان‬
‫العرب ما بلغه جه ُد ُه‪ ،‬حتى ي�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممدا عبده ور�سوله‪ ،‬ويتلو به كتاب اهلل‪ ،‬وينطق‬
‫بالذكر فيما افترُ �ض عليه من التكبري‪ ،‬و�أُمر به من الت�سبيح والت�شهد وغري ذلك)‬

‫ وقال الأ�صمعي (�إمام العربية)‪�( :‬إن � َ‬


‫أخوف ما �أخاف على طالب العلم �إذا مل يعرف النح َو �أن يدخل يف‬
‫رويت عنه‬
‫علي متعمدا فليتبو�أ مقعدة من النار) لأنه ‪ s‬مل يلحن‪ ،‬فمهما َ‬ ‫جملة قول النبي‪( :s‬من كذب ّ‬
‫‪294‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اللغة العربية‬

‫كذبت عليه)‪.‬‬
‫وحلنت فقد َ‬
‫َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ وكان �أيوب ال�سختياين (‪131‬ه��ـ) �إذا حلن قال‪�( :‬أ�ستغفر اهلل)‪ .‬فهنيئ ًا للناطق بالعربية بعرب ّيته‪،‬‬
‫ال تع�صب ًا لقومية‪� ،‬أو فخر ًا لإقليمية‪ ،‬ولي�ست دعوىً ُ�شعوب َّية‪ ،‬و�إمنا لأن العربية �إىل علم ال�شريعة طريق‪،‬‬
‫ومعرفتها وردت بالندب �إليه ال�س ُنن والأخبار‪ ،‬وتظاهرت بالثناء عليه متواترات الآثار‪ ،‬و�أجمع على ف�ضلها‬
‫ال�س َل ِف و�أئمتُهم‪ ،‬و�أردفهم بتف�ضيله َ�سرا ُة اخل َلف وقادتهم‪.‬‬
‫هُ دا ُة َّ‬

‫ فالعربية لي�ست حكر ًا على ذوي ٍ‬


‫عرق �أو قاطني بلد‪ ،‬و�إمنا هي لغ ُة خماطب ٍة وتفكري‪ ،‬فما �سيبويه‪،‬‬
‫ونفطويه‪ ،‬والزخم�شري‪ ،‬وغريهم كثري �إال ِمن �أبناء غري العرب‪ ،‬لكن حفظ ُ‬
‫اهلل بهم العربي َة وارتفعوا بها‪.‬‬
‫إ�سالم و�أه ِله‪ ،‬واللغاتُ ِمن �أعظم �شعائر الأمم التي بها‬
‫العربي �شعا ُر ال ِ‬
‫ُّ‬ ‫ قال �شيخ الإ�سالم‪( :‬الل�سان‬
‫يتميزون)‪.‬‬

‫‪ w‬عباد اهلل! ُ‬
‫ف�ضل العربي ِة يف ثالث ِة �أمور؛ يف الكالم بها‪ ،‬وفهمها‪ ،‬والتفكري بها‪:‬‬
‫الرجال ِل ْب َ�س ًا‬
‫ُ‬ ‫فالتحدث بالعربية جما ٌل وبالغ ٌة وعزة و�شرف؛ قال ابن �شربمة‪( :‬ما لب�س‬ ‫ُ‬ ‫الكالم‪..‬‬
‫ُ‬ ‫۩ ۩�أ ّما‬
‫تعظم يف عني َمن‬ ‫�أزينَ من العربية)‪ ،‬وقال �أبو احل�سن املدائني (ت ‪225‬هـ)‪( :‬كان ُيقال �إذا �أردتَ �أن َ‬
‫عندك كبري ًا فتع ّلم العربية)‪.‬‬
‫عنده �صغري ًا‪ ،‬وي�صغر يف عينك من كان َ‬ ‫كنت َ‬‫َ‬

‫ قال الإمام ال�شافعي (الر�سالة �ص ‪( :)46‬و�أوىل النا�س بالف�ضل يف الل�سان َمن ل�سا ُنه ل�سانُ النبي ‪،s‬‬
‫وال يجوز �أن يكون �أهل ل�سانه �أتباع ًا لأهل ل�سان غ ِ‬
‫ري ل�سانه يف حرف واحد ‪ ..‬بل كل ٍ‬
‫ل�سان تب ٌع لل�سانه وكل �أهل دين‬
‫قب َله فعليهم ا ِّت َبا ُع دينه)‪.‬‬

‫الظ َلم‪.‬‬ ‫فهم العربية‪ :‬ف�إن للعرب َك ِلم ًا ُ‬


‫تلوح يف �أثناء كالمهم كامل�صابيح يف الدجى‪ ،‬والدياجري يف ُ‬ ‫۩ ۩و�أ ّما ُ‬

‫فهم الل�سان العربي وعرف دالئله ونهل ِمن موارده ف�إنه �إذا �سم َع كالم ًا بليغ ًا َط َرب �أ�ش َّد ِمن‬‫ ف َمن ِ‬
‫مالذ هذه الدنيا �إال احلديثَ‬ ‫َط ِرب َّ‬
‫ال�س َماع‪ ،‬وينت�شي �أ�ش َّد من ن�شوة املُدام‪ .‬يقول معاوية ‪( :d‬مل يبقَ من ِ‬
‫كالم اهلل تعاىل على وجهه �إال َمن عرف ل�سان العرب‪ ،‬وكلما تبحر املر ُء فيها‬ ‫يفهم َ‬
‫احل�سن)‪ .‬لذا ف�إنه ال ُ‬
‫ُك�شف له من كنوز هذا الكتاب العظيم‪.‬‬

‫ قال ابن فار�س (ال�صاحبي �ص ‪( :)44‬وقد قال بع�ض علمائنا حني ذكر ما للعرب من اال�ستعارة والتمثيل‬
‫الرتاجم على �أن‬
‫ِ‬ ‫والقلب والتقدير والت�أخري وغريها من َ�سنن العرب يف القر�آن‪ ،‬قال‪ :‬ولذلك ال يقدر �أح ٌد من‬
‫ينقل القر�آنَ �إىل �شيء من الأل�سنة كما ُنقل الإجنيل عن ال�سريانية �إىل احلب�شية والرومية [�أي الالتينية]‪،‬‬
‫و ُترجمت التوراة والزبور و�سائر كتب اهلل عز وجل للعربية‪ ،‬لأن العجم مل تت�سع يف املجاز ات�ساع العرب‪� ،‬أال‬
‫ترى �أنك لو �أردتَ �أن تنقل قوله تعاىل‪َ } :‬و ِ�إ َّما ت ََخا َفنَّ ِمن َق ْو ٍم ِخ َيا َن ًة َفان ِب ْذ ِ�إ َل ْي ِه ْم َع َلى َ�س َواء{‪ ،‬وقوله تعاىل‪:‬‬
‫} َف َ�ض َر ْب َنا َع َلى � َآذا ِن ِه ْم فيِ ا ْل َك ْه ِف{ مل ت�ستطع �أن ت�أتي بهذه الألفاظ امل�ؤدية عن املعنى الذي �أُ ِد َع ْت ُه حتى‬
‫‪295‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اللغة العربية‬

‫تب�سط جمموعها وت�صل مقطوعها وتظهر م�ستورها من ال�ضمائر‪ .‬بل وحني ذاك يذهب الإعجاز وينق�ص‬‫ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫املعنى) �إ‪.‬هـ‪.‬‬

‫۩ ۩الأمر الثالث‪ :‬وهو التفكري بالعربية‪ :‬ف�إنها لغ ٌة يف تراثها احلكمة‪ ،‬ويف �أدبها املروء ُة ومكارم الأخالق‬
‫(�شجاع ًة‪ ،‬وكرم ًا‪ ،‬وذمام ًا‪ ،‬ونخوة)‪ ،‬و�إمنا يبقى من �أ�شعارها �أجو َده وهو ما حوى املعاين العظام‪.‬‬

‫ وقال ُعمر ‪( :d‬تعلموا العربية ف�إنها تزيد يف العقل واملروءة)‪.‬و ُروي �أنه كتب لأبي مو�سى الأ�شعري‪:‬‬
‫(�أن ُم ْر َمن ِق َب َل َك بتع ّلم العربية‪ ،‬ف�إنها تد ُّل على �صواب الكالم‪ ،‬و ُم ْرهُ م برواية ال�شعر ف�إنها تد ُّل على معايل‬
‫الأخالق)‪.‬‬
‫ح�ضه على الإقدام‬‫مقول للعرب‪ ،‬وكم من �آخ َر ّ‬ ‫ َك ْم من امرءٍ �إمنا ح ّثه على بذل ماله واجلود به �سما ُع ٍ‬
‫وزهد يف الدنيا‬
‫ال�سجايا ٍ‬ ‫ومكارم يف َّ‬
‫ٍ‬ ‫معال للأخالق‬‫وال�شجاعة وعدم الفرار �أبياتٌ حفظها للعرب‪ ،‬وكم ِمن ٍ‬
‫رغب فيها وج ّملها عند املر ِء �آثا ٌر و�أخبا ٌر عن الأوائل من العرب و�سلف الأُمة‪ .‬قال‬ ‫إقبال على الآخرة �إمنا ّ‬ ‫و� ٍ‬
‫خل ُلق والدين ت�أثري ًا قو ّي ًا‪ ،‬حتى يزيد به‬
‫�شيخ الإ�سالم ابن تيمية‪( :‬واعلم �أن اعتياد اللغة ي�ؤ ِّث ُر يف العقل وا ُ‬
‫خل ُلق والدين مل�شابهته �سلف الأمة‪.) ..‬‬ ‫العق ُل وا ُ‬

‫ عباد اهلل ! �إن ال�شر َع ال ُيح ّرم تع ّلم غري العربية‪ ،‬بل قد تكون مندوب ًة �إن كانت طريق ًا للتعلُّ ِم والتب�صر‪،‬‬
‫أوائل من �إلغاء غريها من اللغات‪ ،‬بل احرتموها‪ ،‬فبقي ال ُفر�س على‬ ‫بل ومل متنع ن�شو ُة الغلب ِة امل�سلمني ال َ‬
‫ل�سانهم الفار�سي‪ ،‬والرتك بل�سانهم الرتكي‪ ،‬والرببر بل�سانهم الأمازيغي‪.‬‬

‫ و�إمنا انت�شرت اللغ ُة العربية يف ذلك الزمان يف تلك البقاع لأنها كانت لغ َة العلوم ال�شرعية والطبيعية‬
‫م�ستغن عنها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫يف تلك الع�صور‪ ،‬فال ُك ُّل �إليها حمتاج‪ ،‬وغري‬

‫وح َملنا ذلكم اللواء‪ ،‬فهل و ّفينا للغتنا ح ّقها‪ ،‬و�أنزلناها منزلتها‪� ،‬أم حت�س�سنا‬
‫ فورثنا تلكم الرتكة‪َ ،‬‬
‫ال�ضعف الذي فينا فرميناه على عاتق لغتنا كالعادة يف رمي الأخطاء على الآخرين‪ ،‬دون العمل للرقي‬
‫والتطوير‪.‬‬

‫ �إن ِمن احلري بامل�سلم العناية بهذه اللغة تكلم ًا بها‪ ،‬وتعلم ًا لنحوها وغريبها و�أدبها‪ ،‬ومعرفة ف�ضلها ومكانتها‪.‬‬
‫قال الإمام ال�شافعي (الر�سالة ‪( :)50‬تنبيه العامة على �أن القر�آن نزل بل�سان العرب خا�صة ن�صيحة للم�سلمني‪،‬‬
‫والن�صيحة لهم فر�ض ال ينبغي تركه‪.)..‬‬

‫{‬ ‫ا�س فيِ َه َذا ا ْل ُقرْ� ِآن ِمن ُك ِّل َم َث ٍل َّل َع َّل ُه ْم َيت ََذ َّك ُرونَ‬
‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ } :‬و َل َق ْد َ�ض َر ْب َنا ِلل َّن ِ‬
‫ُقر�آ ًنا َع َر ِب ًّيا َغ رْ َي ِذي ِع َو ٍج َّل َع َّل ُه ْم َي َّت ُقونَ {‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫املحاربون هلل‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬املحاربون هلل‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫الَ ْر ِ�ض َف َ�سادًا �أَنْ ُي َق َّت ُلوا �أَ ْو ُي َ�ص َّل ُبوا‬ ‫فيقول اهلل تعاىل‪�ِ } :‬إنمَّ َ ا َجزَ ا ُء ا َّل ِذينَ ُي َحا ِر ُبونَ هَّ َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه َو َي ْ�س َع ْونَ فيِ ْ أ‬
‫الَ ْر ِ�ض َذ ِل َك َل ُه ْم ِخزْ ٌي فيِ ال ُّد ْن َيا َو َل ُه ْم فيِ ْال ِآخ َر ِة َع َذ ٌ‬
‫اب‬ ‫�أَ ْو ُت َق َّط َع �أَ ْي ِد ِيه ْم َو َ�أ ْر ُج ُل ُه ْم ِمنْ ِخلاَ ٍف �أَ ْو ُي ْن َف ْوا ِمنَ ْ أ‬
‫َع ِظي ٌم{‪.‬‬

‫ فت�أذن اهلل تعاىل من فوق �سبع �سموات‪ ،‬وهو العليم القدير‪ ،‬العزيز احلكيم مبجازاة من حارب اهلل‬
‫ور�سوله و�سعوا يف الأر�ض ف�ساد ًا ف�أخافوا الآمنني‪ ،‬وقتَّلوا امل�سلمني‪ ،‬وا�ستباحوا حرمة الدِّ ين �أوعدهم جل‬
‫وعال وهو �أ�صدق القائلني بالذل والعار‪ ،‬واخلزي وال�شنار‪ ،‬والف�ضيحة على ر�ؤو�س الأ�شهاد‪ ،‬يف احلياة الدنيا‪،‬‬
‫وبالعذاب العظيم يوم املعاد‪.‬‬

‫ ولو مل يكن من قبيح فعلهم‪ ،‬و�سوء طويتهم‪� ،‬إال �أنه تعاىل �سمى الذين يخرجون ممتنعني جماهرين‬
‫ب�إظهار ال�سالح وقطع الطريق و�إخافة امل�سلمني حماربني هلل ور�سوله ملَّا كانوا مبنزلة من حارب غريه من‬
‫النا�س تقبيح ًا لفعلهم‪ ،‬و�إظهار ًا ل�سوء جرمهم لكفى به عظة وعربة ملن رزق ُل َّب ًا ِ‬
‫وح َجا‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ وملا نظر امل�صطفى‪ s‬للكعبة قال‪�( :‬إنك عند اهلل عظيمة‪ ،‬و�إن دم امل�سلم �أ�شد حرمة عند اهلل منك)‬
‫عذاب �أليم{‪ ،‬قال ابن عبا�س‪( :d‬لو �أن‬
‫هذا مع قول اهلل تعاىل }ومن يرد فيه ب�إحلاد بظلم نذقه من ٍ‬
‫هم فيه باحلاد وهو بعدن �أبني لأذاقه اهلل عز وجل عذاب ًا �أليم ًا)‪.‬‬
‫رج ًال َّ‬

‫ فما ظنك مبا كان �أعظم حرمة من الكعبة و�أ�شد خطرة منها وهو دم امل�سلم ف�إن اهلل منزل عقوبته على‬
‫ذلكم املرء ال حمالة‪ ،‬وخمزيه يف الدنيا قبل الآخرة قطع ًا كما توعد اهلل جل وعال يف كتابه من فعل ذلك‪.‬‬

‫لقد بني النبي‪�s‬أن ترويع امل�سلم ولو هزو ًا ولعب ًا حرام وظلم فعن عبد الرحمن بن �أبي ليلى قال حدثنا‬ ‫ ‬

‫‪297‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املحاربون هلل‬

‫�أ�صحاب حممد‪�s‬أنهم كانوا ي�سريون مع النبي‪s‬فنام رجل منهم فانطلق بع�ضهم �إىل حبل معه ف�أخذه‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ففزع‪ ،‬فقال ر�سول اهلل‪( :s‬ال يحل مل�سلم �أن يروع م�سلما) [رواه �أبو داود]‪ .‬وعن ال�سائب بن يزيد عن �أبيه‬
‫‪�d‬أنه �سمع ر�سول اهلل‪s‬يقول‪( :‬ال ي�أخذن �أحدُكم متاع �أخيه العب ًا وال جاد ًا) [رواه الرتمذي وقال حديث‬
‫ح�سن غريب]‪.‬‬

‫فذكر ذلك لر�سول اهلل ‪s‬فقال‬ ‫ و ُروي عن عامر بن ربيعة‪�d‬أن رج ًال �أخذ نعل ٍ‬
‫رجل فغ َّيبها وهو ميزح ُ‬
‫النبي‪( :s‬ال تروعوا امل�سلم ف�إن روع َة امل�سلم ظل ٌم عظيم)[رواه البزار والطرباين و�أبو ال�شيخ يف كتاب‬
‫التوبيخ]‪.‬‬

‫ و ُروي عن �أبي احل�سن وكان بدري ًا‪d‬قال‪ :‬كنا جلو�س ًا مع ر�سول اهلل ‪ ،s‬فقام رجل ون�سي نعليه‬
‫القوم‪ :‬ما ر�أيناهما‪ ،‬فقال‪ :‬هو ذه‪ .‬فقال‬‫ف�أخذهما رج ٌل فو�ضعهما حتته‪ ،‬فرجع الرجل فقال‪ :‬نعلي! فقال ُ‬
‫ر�سول اهلل‪ :s‬فكيف بروعة امل�ؤمن؟ فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل �إمنا �صنع ُت ُه العب ًا‪ ،‬فقال‪ :‬فكيف بروع ِة امل�ؤمن‬
‫مرتني �أو ثالثا[رواه الطرباين]‪.‬‬

‫(من �أخاف م�ؤمن ًا كان ح َّق ًا على اهلل �أن ال ي�ؤمنه من‬
‫ وروي عن ابن عمر‪d‬قال �سمعت النبي‪s‬يقول‪َ :‬‬
‫�أفزاع يوم القيامة)[رواه الطرباين]‪ .‬و ُروي عن عبد اهلل بن عمرو‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬من نظر �إىل م�سلم‬
‫نظرة يخيفه فيها بغري حق �أخافه اهلل يوم القيامة)[رواه الطرباين ورواه �أبو ال�شيخ من حديث �أبي هريرة]‪.‬‬
‫ وعن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬ال ي�شري �أحدكم �إىل �أخيه بال�سالح ف�إنه ال يدري لعل ال�شيطان‬
‫ينزع يف يده فيقع يف حفرة من النار) [رواه البخاري وم�سلم]‪.‬‬

‫ ف�إذا كان ذلك كذلك ف�إن انتهاك حرمة امل�سلم‪ ،‬واالعتاد على دمه‪ ،‬وترويعه و�أهله‪ ،‬و�إ�شاعة الفو�ضى‪،‬‬
‫و�إخافة ال�سبيل‪ ،‬وقطع الطريق‪ ،‬و�سرقة الأم��وال‪ ،‬وا�ستباحة املمتلكات ملن �أعظم كبائر الذنوب‪ ،‬و�أ�شدِّ‬
‫املوبقات املهلكات‪.‬‬

‫ ف�إذا �أ�ضاف املرء لذلك تكفري ًا للم�سلمني‪ ،‬وخروج ًا على ويل �أمر امل�سلمني‪ ،‬و�شق ًا لع�صا الطاعة‪،‬‬
‫والبعد من اهلل‪ ،‬وال�شقاء‬
‫ِ‬ ‫ومباعدة ل�سبيل ال�سنة واجلماعة فقد جمع املرء َّ‬
‫الذل والهوان من طرفيه‪ ،‬وبا َء بالغ�ضب‬
‫يف الدنيا والآخرة كما �أخرب جل وعال‪.‬‬

‫ وما حدث يف هذه البالد من �أيام لهو م�صداق ما وعد اهلل امل�ؤمنني‪ ،‬و�أوعد به املحاربني املف�سدين يف‬
‫الَ ْر ِ�ض َف َ�سادًا‬ ‫الأر�ض املخيفني للم�سلمني‪ ،‬حيث قال‪�ِ } :‬إنمَّ َ ا َجزَ ا ُء ا َّل ِذينَ ُي َحا ِر ُبونَ هَّ َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه َو َي ْ�س َع ْونَ فيِ ْ أ‬
‫الَ ْر ِ�ض َذ ِل َك َل ُه ْم ِخزْ ٌي فيِ ال ُّد ْن َيا َو َل ُه ْم‬ ‫�أَنْ ُي َق َّت ُلوا �أَ ْو ُي َ�ص َّل ُبوا �أَ ْو ُت َق َّط َع �أَ ْي ِد ِيه ْم َو�أَ ْر ُج ُل ُه ْم ِمنْ ِخلاَ ٍف َ �أ ْو ُي ْن َف ْوا ِمنَ ْ أ‬
‫اب َع ِظي ٌم{‪.‬‬ ‫فيِ ْال ِآخ َر ِة َع َذ ٌ‬

‫‪298‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املحاربون هلل‬

‫ فالقتل م�صريهم‪ ،‬والتمثيل عاقبتهم وذلك خزيهم يف الدنيا‪ ،‬وف�ضيحتهم فيها‪ ،‬و�أما يف الآخرة فقد‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�أوعد اهلل بالعذاب العظيم‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫املرض واألوبئة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬املرض و األوبئة‬

‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫وف َوالجْ ُ و ِع َو َن ْق ٍ�ص ِّمنَ الأَ َم َو ِال َوالأن ُف ِ�س‬ ‫ عباد اهلل ! ف�إن اهلل تعاىل يقول‪َ } :‬و َل َن ْب ُل َو َّن ُك ْم ِب َ�ش ْيءٍ ِّمنَ الخْ َ ْ‬
‫َوال َّث َم َر ِات َو َب ِّ�ش ِر ال�صَّ ا ِب ِرينَ { ا َّل ِذينَ �إِ َذا �أَ َ�صا َب ْت ُهم ُّم ِ�صي َب ٌة َقا ُلو ْا �إِ َّنا للِهّ ِ َو�إِ َّنـا �إِ َل ْي ِه َر ِاجعونَ { �أُو َلـ ِئ َك َع َل ْي ِه ْم‬
‫َ�ص َل َواتٌ ِّمن َّر ِّب ِه ْم َو َر ْح َم ٌة َو�أُو َلـ ِئ َك هُ ُم المْ ُ ْه َتدُونَ {‪.‬‬

‫ فاهلل ع َّز وج َّل يبتلي عبا َده باخلوف والفزع‪ ،‬واجلوع والعوز‪ ،‬واملر�ض وال�سقم‪ ،‬وفوات الأموال والأنف�س‬
‫ا�س �أَن ُي رْ َت ُكوا �أَن َي ُقو ُلوا � َآم َّنا‬
‫امتحان ًا منه �سبحانه لعبا ِده امل�ؤمنني‪ ،‬واختبار ًا ل�صدق �إميانهم؛ }�أَ َح ِ�س َب ال َّن ُ‬
‫الل ا َّل ِذينَ َ�ص َد ُقوا َو َل َي ْع َل َمنَّ ا ْل َك ِاذ ِب َني{{‪ ،‬ويقول ج َّل‬ ‫َوهُ ْم ال ُي ْف َت ُنونَ { َو َل َق ْد َف َت َّنا ا َّل ِذينَ ِمن َق ْب ِل ِه ْم َف َل َي ْع َل َمنَّ هَّ ُ‬
‫الط ِّي ِب َو َي ْج َع َل الخْ َ ِبيثَ َب ْع َ�ض ُه َع َل َى َب ْع ٍ�ض َف رَْي ُك َم ُه َج ِميع ًا َف َي ْج َع َل ُه فيِ َج َه َّن َم‬ ‫الل الخْ َ ِبيثَ ِمنَ َّ‬ ‫وعال‪ِ } :‬ل َي ِميزَ هَّ ُ‬
‫�أُ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم الخْ َ ِا�س ُرونَ {‪.‬‬

‫ لذا كان �أ�ش َّد النا�س بالء الأنبياء‪ ،‬ثم ال�صاحلون ففي احلديث ال�صحيح قال النبي‪�( :s‬أ�شد النا�س‬
‫خطبة جديدة‬
‫بالء الأنبيا ُء ثم ال�صاحلون ثم الأمثل فالأمثل من النا�س‪ُ ،‬يبت َلى الرج ُل على قدر دينه ف�إن كان يف دي ِنه‬
‫ِيد يف بالئه‪ ،‬فال يزال البالء بالعبد حتى مي�شي على الأر�ض لي�س عليه خطيئة)‪.‬‬ ‫�صالب ٌة ز َ‬

‫فقلت‪ :‬يا ر�سول اهلل �إنك‬


‫دخلت على ر�سول اهلل‪s‬وهو يوعك ُ‬ ‫ ويف �صحيح البخاري عن عبد اهلل قال ُ‬
‫لتوعك وعكا �شديدا قال �أجل �إين �أوعك كما يوعك رجالن منكم قلت ذلك ب�أن لك �أجرين قال �أجل ذلك‬
‫كذلك ما من م�سلم ي�صيبه �أذى �شوكة فما فوقها �إال كفر اهلل بها �سيئاته كما حتط ال�شجرة ورقها‪.‬‬

‫ وروى عبد الرزاق من حديث �أبي �سعيد اخلدري قال و�ضع رجل يده على النبي ‪s‬فقال واهلل ما �أطيق‬
‫�أن �أ�ضع يدي عليك من �شدة حماك فقال النبي‪�( :s‬إنا مع�شر الأنبياء ي�ضاعف علينا الوجع كما ي�ضاعف‬
‫لنا الأجر �إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى ت�أخذه العباءة فيحولها‪ ،‬و�إن كانوا ليفرحون بالبالء‬
‫كما تفرحون بالرخاء)‪.‬‬
‫‪300‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املرض و األوبئة‬

‫ عباد اهلل! لقد ع ِلم ال�صاحلون ما يف املر�ض واالبتالء من اهلل عز وجل من الف�ضل العظيم‪ ،‬والأجر‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اجلزيل فر�ضوا بق�ضاء اهلل فيهم‪ ،‬واطمئنت نفو�سهم لذلك‪ ،‬بل وفرحوا به وا�ستب�شروا ملا يعلون من عظيم‬
‫�أجر اهلل لهم؛ كما كان الأنبياء يفرحون بالبالء كما يفرح غريهم بالعطاء‪،‬‬

‫ وعاد احل�سنُ الب�صري رج ًال فقال له‪( :‬يا فالن �إنا �إن مل ن�ؤجر �إال فيما نحب َّ‬
‫قل �أجرنا و�إن اهلل كرمي‬
‫يبتلي العبد وهو كاره ويعطيه عليه الأجر العظيم)‪.‬‬
‫ وقال وهب بن منبه‪( :‬ال يكون الرجل فقيه ًا كامل الفقه حتى يعد البالء نعمة‪ ،‬ويعد الرخاء م�صيبة؛‬
‫وذلك �أن �صاحب البالء ينتظر الرخاء و�صاحب الرخاء ينتظر البالء)‪.‬‬

‫ؤمن يف املر�ض وال�سقم خوالف من اهلل من كثرية‪ ،‬وبدائل منه جليله‪ ،‬يخلف‬
‫ ‪ w‬نعم عباد اهلل �إن للم� ِ‬
‫عليه م�صيبته ويبدله خري ًا منها؛ فمن ذلك‪:‬‬

‫۩ ۩حمبة اهلل ملن ابتالهم من عباده امل�سلمني؛ فروى الإمام �أحمد من حديث حممود بن لبيد‪�d‬أن النبي‬
‫أحب اهلل تعاىل قوم ًا ابتالهم ف َمن �صرب فله ال�صرب‪َ ،‬ومن َح ِر َج فله َ‬
‫احل َرج)‪.‬‬ ‫‪s‬قال‪�( :‬إذا � َّ‬
‫۩ ۩واهلل يك ِّفر ذنوب العبد وميحو خطاياه مبا ي�صيبه من الأذى واملر�ض‪ ،‬ففي �صحيح البخاري عن عائ�شة‪�g‬أن النبي‬
‫‪s‬قال‪( :‬ما من مر�ض �أو وجع ي�صيب امل�ؤمن �إال كان كفارة لذنبه حتى ال�شوكة)‪.‬‬

‫م�سلم ي�صيبه �أذىً من مر�ض فما فوقه‪� ،‬إال َّ‬


‫حط‬ ‫ ويف ال�صحيحني من حديث ابن م�سعود �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ما من ٍ‬
‫اهلل خطاياه كما تحَ ُ ُّط ال�شجرة ورقها)‪ .‬وقال �سلمان الفار�سي‪�( :‬إن امل�سلم يبتلى فيكون كفار ًة ملا م�ضى له‪ ،‬وم�ستعتب ًا فيما‬
‫وعقل فلم يدر َمل عقل)‪ .‬وقال احل�سن الب�صري‪:‬‬ ‫بقى‪ ،‬و�إن الكافر ليبتلى فمثله كمثل البعري �أطلق فلم يد ِر ملا �أطلق ُ‬
‫(�إن اهلل ليكفر عن امل�ؤمن خطاياه ك َّلها بحمى ليلة)‪.‬‬

‫۩ ۩وباملر�ض يرفع اهلل درجة امل�ؤمن مبا �أ�صابه من االبتالء وال�سقم؛ ففي �صحيح م�سلم من حديث عائ�شة‬
‫‪�g‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬ما من م�سلم ُي�شاك �شوك ًة فما فوقها �إال رفعه اهلل درجة َّ‬
‫وحط عنه بها خطيئة)‪.‬‬

‫۩ ۩واملر�ض ينفي َخ َبثَ امل�ؤمن ويزيد من �إميانه ففي �صحيح م�سلم من حديث جابر‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪:‬‬
‫(�إمنا مثل العبد امل�ؤمن حني ي�صيبه ال َوعك �أو احلمى كمثل حديدة تدخل النار فيذهب خبثها‪ ،‬ويبقى‬
‫ط ِّيبها)‪.‬‬

‫۩ ۩ومن �صرب على املر�ض والبالء �أناله اهلل درجة البقا َء و�أدخله جنته‪،‬‬

‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫ ففي ال�صحيحني عطاء بن �أبي رباح قال قال يل ابنُ عبا�س‪� :‬أال �أريك امر�أة من �أهل اجلنة؟ ُ‬
‫�صربت‬
‫ِ‬ ‫قال‪ :‬هذه املر�أة ال�سوداء �أتت النبي‪s‬فقالت‪� :‬إين �أُ�ص َرع و�إين �أتك�شف فاد ُع اهلل يل‪ ،‬قال‪�( :‬إن ِ‬
‫�شئت‬
‫�شئت دعوتُ َ‬
‫اهلل �أن يعافيك) فقالت‪� :‬أ�صرب ‪ ،‬فقالت‪� :‬إين �أتك�شف فادع اهلل �أن ال �أتك�شف‪.‬‬ ‫ولك اجلنة و�إن ِ‬
‫‪301‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املرض و األوبئة‬

‫۩ ۩ومن عالمة �أهل النفاق �أنهم ال ي�صابون يف �أبدانهم وال يبتلون يف �أج�سادهم ففي �صحيح البخاري عن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫(م َث ُل امل�ؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث �أتتها الريح‬
‫�أبي هريرة‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪َ :‬‬
‫تكفئها ف�إذا �سكنت اعتدلت وكذلك امل�ؤمن يكف�أ بالبالء ومثل الكافر كمثل الأرزة �صماء معتدلة حتى‬
‫يق�صمها اهلل �إذا �شاء)‪.‬‬

‫ وروى الإمام �أحمد عن �أبي هريرة قال دخل �أعرابي على ر�سول اهلل ‪s‬فقال له ر�سول اهلل‪s‬هل‬
‫�أخذتك �أم ملدم قط قال وما �أم ملدم قال حر يكون بني اجللد واللحم قال ما وجدت هذا قط قال فهل‬
‫�أخذك هذا ال�صداع قط قال وما هذا ال�صداع قال عرق ي�ضرب على الإن�سان يف ر�أ�سه قال ما وجدت هذا‬
‫قط فلما وىل قال من �أحب �أن ينظر �إىل رجل من �أهل النار فلينظر �إىل هذا‪.‬‬

‫۩ ۩ومن رحمة اهلل �أن اهلل يكتب للعبد امل�ؤمن يف حال مر�ضه �أجر ما كان يعمله من اخلري وهو �صحيح �سليم‬
‫ففي �صحيح البخاري عن �أبي مو�سى �أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إذا مر�ض العبد �أو �سافر كتب له مثل ما كان‬
‫يعمل مقيما �صحيحا)‪.‬‬

‫ وروى الإمام �أحمد ب�إ�سناد �صحيح عن عبد اهلل بن عمرو �أن النبي ‪s‬قال‪( :‬ما �أحد من النا�س ي�صاب‬
‫ببالء يف ج�سده �إال �أمر اهلل عز وجل املالئكة الذين يحفظونه فقال اكتبوا لعبدي كل يوم وليلة ما كان يعمل‬
‫من خري ما كان يف وثاقي)‪ .‬وفيه من حديث عقبة بن عامر �أن النبي‪s‬قال‪( :‬لي�س من عمل يوم �إال وهو‬
‫يختم عليه ف�إذا مر�ض امل�ؤمن قالت املالئكة يا ربنا عبدك فالن قد حب�سته فيقول الرب عز وجل اختموا له‬
‫على مثل عمله حتى يربا �أو ميوت)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬

‫ عباد اهلل! لقد جاءنا ال�شرع احلكيم ببع�ض الآداب ال�شرعية‪ ،‬واملنح املرعية للمري�ض يلزمه مراعاتها‪،‬‬
‫واالهتمام بها‪ ،‬منها الر�ضا بق�ضاء اهلل وقدره‪ ،‬وعدم الت�سخط عليها‪ ،‬ف�إن زاد باطمئنان قلبه فهو التمام‬
‫والكمال‪.‬‬
‫ومنها �س�ؤال اهلل العافية واملعافاة واال�ستعانة بكالمه يف الرقية به واال�ست�شفاء‪.‬‬

‫{‬ ‫ ومنها‪ :‬الوثوق باهلل تعاىل فهو املمر�ض وهو ال�شايف وحده قال �إبراهيم‪} :a‬ا َّل ِذي َخ َل َق ِني َف ُه َو َي ْه ِد ِين‬
‫َوا َّل ِذي هُ َو ُي ْط ِع ُم ِني َو َي ْ�س ِق ِني{ َو�إِ َذا َم ِر�ضْ ُت َف ُه َو َي�شْ ِف ِني{ َوا َّل ِذي مُ ِيي ُت ِني ُث َّم ُي ْح ِي ِني{ َوا َّل ِذي �أَ ْط َم ُع �أَن َي ْغ ِف َر ليِ‬
‫ين{‪.‬‬ ‫َخ ِطي َئ ِتي َي ْو َم الدِّ ِ‬

‫ ف ُ‬
‫��اهلل هو املمر�ض بحكمته‪ ،‬وال�شايف مبنه وكرمه‪ ،‬ل��ذا رع��ى النبي‪s‬هذا اجلانب فقال‪ :‬كما يف‬
‫ال�صحيحني من حديث �أبي هريرة‪( :‬ال عدوى وال طرية وال هامة وال �صفر وفر من املجذوم كما تفر من‬

‫‪302‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املرض و األوبئة‬

‫الأ�سد)‪ .‬واملق�صود بذلك ما كانوا يعتقدونه يف اجلاهلية من �إ�ضافة الفعل �إىل غري اهلل تعاىل‪ ،‬فالعدوى‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫حا�صلة بتقدير اهلل تعاىل لذا قال‪( :‬وفر من املجذوم فرارك من الأ�سد)‪ .‬و�إمنا املنفي يف احلديث اعتقا ُد‬
‫امل�سلم انتقال املر�ض بنف�سه بدون تقدير اهلل تعاىل‪.‬‬

‫�سبب يف �أذى‬
‫ يقول ابن ال�سبكي‪�( :‬إن �شهد طبيبان عارفان عدالن �أن خمالطة ال�صحيح للمري�ض ٌ‬
‫املخالط فاالمتناع من خمالطته الزم)‪.‬‬

‫ لذا كانت النظر ُة ال�شرعية للأمرا�ض والأدواء ذاتَ �شقني‪ ،‬فهي تراعي باب االحرتاز و�س َّد الذرائع‬
‫باملنع من خمالطة املري�ض‪ ،‬وعدم �أكل الأطعمة والأغذية والأ�شربة امل�سببة للمر�ض‪ ،‬واختيار املكان ال�صحي‬
‫املنا�سب لل�سكنى كما قال عمر‪( :d‬لبيت بركبة �أحب �إيل من ع�شرة �أبيات بال�شام) قال الإمام مالك‪ :‬يريد‬
‫ل�شدة الوب�أ بال�شام‪ .‬وكذا الرعاية باحليوانات والزروع واالهتمام بها‪.‬‬

‫ لذا ع َّد الفقهاء �أن من �أعمال والة �أمور امل�سلمني احلر�ص على هذا اجلانب برعاية اجلوانب االحرتازية‬
‫فيه وهو تختلف باختالف الأزمنة والأمكنة فما كان �صعب ًا يف الزمان الأول ب�سبب حمدودية الإجراءات‬
‫الوقائية والعالج‪� ،‬أ�صبح الآن �أي�سر و�إن كان �أكلف‪.‬‬

‫ و�أما على اجلانب ال�شخ�ص ف�إن ال�شرع احلكيم �أمر امل�سلم باالعتماد على اهلل تعاىل والتوكل عليه‪،‬‬
‫وعدم الهلع واخلوف‪ ،‬والإميان بق�ضاء اهلل تعاىل وقدره‪ ،‬وتفوي�ض الأمر له �سبحانه‪ ،‬والإميان ب�أن ما كتبه‬
‫اهلل فال راد له‪.‬‬

‫ �أقول هذا مع ما نراه من االهتمام العلمي وال�سيا�سي والدويل ملر�ض انفلونزا الطيور‪ ،‬خ�صو�ص ًا مع‬
‫�سهولة تناقل الأخبار بوا�سائل الإعالم احلديثة حتى مع يكون يف �أق�صى البالد ك�أنه يف اجلوار‪.‬والواجب‬
‫على امل�سلم حيال ذلك �إمنا هو‪.‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املرض و األوبئة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫املطلقات‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬املطلقات‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫الزواج وجعله �سكن ًا‪ُ ،‬ث َّم َ�ش َر َع الطالق ح ًال لبع�ض امل�شاكل الزوجية التي‬ ‫َ‬ ‫ ف�إن اهلل تعاىل كما قد �شر َع‬
‫الل ُك ًّال ِّمن َ�س َع ِت ِه َو َكانَ هَّ ُ‬
‫الل َو ِا�س ًعا َح ِكي ًما{‪،‬‬ ‫ي�صعب ا�ستمرار العالقة فيها يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و ِ�إن َي َت َف َّر َقا ُي ْغ ِن هَّ ُ‬
‫رهه له ِمن غري موجب‪.‬‬ ‫ف�أباح ُ‬
‫اهلل الطالق مع ُك ِ‬

‫يك ال��زواج عقد ًا على الت�أبيد يف �شيءٍ من �شرائع اهلل ُمطلق ًا‪ ،‬و�إمن��ا دخل التحريف على دين‬
‫ مل ُ‬
‫ؤول الدينَ الن�صرا َّ‬
‫ين وكان مما كذب فيه‬ ‫الن�صارى بعد رفع عي�سى بن مرمي بنحو قرن‪ ،‬حينما ح ّرف �شا� ُ‬
‫أبيد الزواج و منع الطالق‪.‬‬ ‫على اهلل‪ُ :‬‬
‫القول بت� ِ‬

‫للظلم‪ ،‬وال �إعان ًة للغالب على املغلوب‪ ،‬وال متكينا للقوي‬ ‫الطالق يوم ًا �سبب ًا ُّ‬
‫ِ‬ ‫يك م�شروع ّي ُة‬ ‫ عباد اهلل! مل ُ‬
‫الزوج والزوج ِة معا؛ يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و َن َّز ْل َنا َع َل ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫َاب‬ ‫الطالق رحم ًة بالعباد ِ‬ ‫ُ‬ ‫على ال�ضعيف‪ ،‬و�إمنا ُ�شرع‬
‫اهلل تعاىل بعد هذه الآية‪�} :‬إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َي�أْ ُم ُر ِبا ْل َع ْد ِل‬ ‫ِت ْب َيا ًنا ِّل ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َوهُ دً ى َو َر ْح َم ًة َو ُب�شْ َرى ِل ْل ُم ْ�س ِل ِمنيَ{‪ ،‬ثم قال ُ‬
‫َوالإِ ْح َ�س ِان{‪ ،‬فال�شريعة رحم ٌة لهذه الأُمة لأن فيها عد ًال و�إح�سان ًا مع ًا‪.‬‬
‫ لقد �شرع ُ‬
‫اهلل لنا الطالق خمرج ًا من احلرج �إن ُوجد‪ ،‬وتنفي�س ًا على الأنف�س التي مل َت ْلتَئم‪ ،‬وفكاك ًا من‬
‫خطبة جديدة‬

‫الإثم َملن مل ي�ستطع الوفاء باحلقوق الزوجية �إذ ميثاقها من �أعظم املواثيق و�أبرها؛ كما قال تعاىل‪َ } :‬و�أَ َخ ْذنَ‬
‫يظا{‪.‬‬ ‫ِمن ُكم ِّمي َثا ًقا َغ ِل ً‬

‫زوجه لكراهيته‬ ‫ �إن ال َّر ُجل �إذا كره زوجتَه َجاز له �أن ُيط ّل َقها‪ ،‬مع �أن اهلل ح ّثه على ال�صرب و�أن مُي�سك َ‬
‫وف َف ِ�إن َك ِر ْه ُت ُموهُ نَّ َف َع َ�سى �أَن َت ْك َرهُ و ْا َ�ش ْي ًئا َو َي ْج َع َل‬
‫�سبحانه الطالق‪ ،‬يقول ج ّل وعال‪َ } :‬و َع ِا�ش ُروهُ نَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫الل ِفي ِه َخ رْ ًيا َك ِث ًريا{‪ ،‬وكذا املر�أة �إذا كرهت ال ّرجل ُكره ًا ال ت�ستقيم معه احلياة جاز لها �أن تخت ِل َع ِمنه ب�أن‬ ‫هَّ ُ‬
‫النبي‪s‬فقالت‪ :‬يا‬ ‫ثابت بن قي�س �أتت ّ‬ ‫ترد للزوج امله َر املُ َ�س َّمى يف العقد ل ُيف�سخ العقد بينهما جا َء �أن امر�أة ِ‬
‫ثابت َما �أعت ُُب عليه يف ُخ ُل ٍق وال دين‪ ،‬ولكني �أكره الكف َر يف الإ�سالم‪ ،‬فف ّرق بينهما النبي‪s‬بعدما‬ ‫ر�سول اهلل! ٌ‬
‫ر ّدت مه َرها‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املطلقات‬

‫يع�ضل املر�أة ويظل ُمها ِمن �أجل �أن تَفتدي منه‬ ‫الرجل كاره ًا لدميومة الزواج‪ ،‬لك َّنه ُ‬ ‫ُ‬ ‫ �إمنا املُح ّرم �أن يكون‬
‫وتختل َع بر ِّد املهر الذي بذ َله‪ ،‬وهذا ِمن الظلم املح َّرم يف كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬يقول �سبحانه‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫� َآم ُنو ْا َال َي ِح ُّل َل ُك ْم �أَن ت َِر ُثو ْا ال ِّن َ�ساء َك ْرهً ا َو َال َت ْع ُ�ض ُلوهُ نَّ ِلت َْذ َه ُبو ْا ِب َب ْع ِ�ض َما �آ َت ْي ُت ُموهُ نَّ {‪ ،‬ويقول جل وعال‪َ } :‬و�إِنْ‬
‫نطا ًرا َف َال َت�أْ ُخ ُذو ْا ِم ْن ُه َ�ش ْي ًئا �أَ َت�أْ ُخ ُذو َن ُه ُب ْهتَان ًا َو�إِ ْثم ًا ُّم ِبين ًا{‪.‬‬ ‫�أَ َردتمُّ ُ ْ‬
‫ا�س ِت ْب َد َال َز ْو ٍج َّم َكانَ َز ْو ٍج َو�آ َت ْيت ُْم �إِ ْح َداهُ نَّ ِق َ‬

‫زوجه ظل َمها ح َّقها‪،‬‬ ‫و�ضعف العلم �إذا كره َ‬ ‫ُ‬ ‫وخبث ُخ ُل ٍق‪ ،‬يحم ُله ق َّل ُة الدِّ ين‪،‬‬ ‫ �إن البع�ض ل�سوء ُطو َّيه‪ُ ،‬‬
‫وعدوان ًا‪،‬‬ ‫زواج ُتراعى‪ ،‬وال َعزبا َء تبغي الزواج‪ ،‬يبغي �أخذ املال منها ُظلم ًا ُ‬ ‫فجعلها كاملع َّلقة فال هي ذاتَ ٍ‬
‫زعم �أنه يريد �أن يعاق َبها‬ ‫و ُيريد �أن ي�ستقوي على املر�أة ال�ضَّ عي َفة مبا جعل اهلل يف يده من ع�صمة النكاح و َي ُ‬
‫عند االختالف يف املهر‬ ‫و�شرعه؛ يقول اهلل ع ّز وجل َ‬ ‫خمالف لأمر اهلل ِ‬ ‫ٌ‬ ‫بظلمها وعدم تطليقها‪ ،‬وذلك‬ ‫( َمب؟) ُ‬
‫حال الطالق‪�} :‬إَالَّ �أَن َي ْع ُفونَ �أَ ْو َي ْع ُف َو ا َّل ِذي ِب َي ِد ِه ُع ْق َد ُة ال ِّن َك ِاح َو�أَن َت ْع ُفو ْا �أَ ْق َر ُب ِلل َّت ْق َوى َو َال ت َ‬
‫َن�س ُو ْا ا ْل َف�ضْ َل‬
‫إح�سان‬
‫ومعروف و� ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َب ْي َن ُك ْم{‪ ،‬ف�أر�شدنا �سبحانه �إىل تذكر الزوجني الف�ضل بينهما وما كان بينهما من ع�شر ٍة‬
‫أقرب للتقوى‪.‬‬ ‫وذلك عند حدوث اخل�صومة وال�شقاق‪ ،‬من �أجل �أن يعفو ُك ٌّل عن �صاحبه‪ ،‬لأن ذلك � ُ‬

‫ ‪ w‬عباد اهلل! لقد جعل ال�شَّ ر ُع لل ُمط َّلق ِة حقوق ًا على ُمط ِّلقها‪ ،‬وعلى جمتمعها‪ ،‬قال �سبحانه‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها‬
‫ال َّن ِب ُّي �إِ َذا َط َّل ْقت ُُم ال ِّن َ�ساء َف َط ِّل ُقوهُ نَّ ِل ِع َّد ِت ِهنَّ َو�أَ ْح ُ�صوا ا ْل ِع َّد َة َوا َّت ُقوا هَّ َ‬
‫الل َر َّب ُك ْم{‪ ،‬ف�أمر بتقوى اهلل تعاىل يف‬
‫املر�أة املط ّلقة‪ ،‬ومن تلك احلقوق‪:‬‬

‫۩ ۩�أنه ُي�ست ََح ُّب �إعطاء املر�أة املط َّلقة ُمتعة الطالق‪ ،‬وهو �أن يبذل الرجل ملط ّلقته ما ًال �أو عقار ًا بعد تطليقها‪،‬‬
‫لكي تذك ُره بعد فرقهما بخري‪ ،‬وال يبقى يف النفو�س �ضغينة‪.‬‬

‫ جاء �أن احل�سن بن علي‪d‬ط ّلق امر�أته ومتعها ما ًال كثري ًا ع�شرة �آالف درهم‪ ،‬فقالت ملا جاءها املال‪:‬‬
‫وف َح ًّقا َع َلى المْ ُ َّت ِقنيَ* َك َذ ِل َك ُي َبينِّ ُ‬ ‫(متاع قليل من حبيب مفارق)‪ .‬يقول اهلل تعاىل‪َ }:‬و ِل ْل ُم َط َّل َق ِ‬
‫ات َمتَا ٌع ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫هَّ ُ‬
‫الل َل ُك ْم �آ َيا ِت ِه َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُلونَ {‪.‬‬

‫ٌ‬
‫معروف قد ُرها‬ ‫ قال ابن عبدالرب‪( :‬مل يختلف العلماء �أن املتعة يف هذه االية غ ُري مق َّد َرة وال حم ُدودة وال‬
‫وجوب ال يتجاوزه‪ ،‬بل هي على املو�سع بقد ِره وعلى املقرت �أي�ض ًا بقدره متاع ًا باملعروف كما قال اهلل عز‬
‫معرف َة ٍ‬
‫وجل‪ ،‬ال يختلف العلماء يف ذلك و�إمنا اختلفوا يف وجوبها)‪.‬‬

‫اليتيم‬
‫ِ‬ ‫۩ ۩ ومن حقوق امل��ر�أة املط ّلقة حترمي ظلمها‪ ،‬يقول النبي‪( :s‬اللهم �إين �أُ َح�� ِّر ُج حقَّ ال�ضَّ عيفني‬
‫وبع�ض ال ِّن َ�ساء �إذا تط َّلقت ظلمها طليقها من ٍ‬
‫نواح متعددة‪:‬‬ ‫واملر�أة)‪ُ ،‬‬
‫ ‬
‫وحدها بالإنفاق على الأبناء وال�صرف عليهم‪،‬‬ ‫ فبع�ضهم ال ينفق على �أوالده من طليقته‪ ،‬بل تقوم املر�أ ُة َ‬
‫وهذا �إث ٌم عظي ٌم على �أبيهم �إذ ترك الإنفاق عليهم‪ ،‬يقول النبي الكرمي‪( :s‬كفى باملرء �إثم ًا �أن ي�ض ّيع‬
‫ب�سدِّ حاج ِتهم و�إعطائهم كفايتَهم يف طعامهم وك�سوتهم‬ ‫من يعول)‪ ،‬فيجب على الأب ال ُ‬
‫إنفاق على �أبنا ِئه َ‬

‫‪306‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املطلقات‬

‫العالج ونحوه‪ ،‬بل �إن اهلل ع ّز وج ّل �أمر الزوج �أن ُي ِ‬


‫عطي طليقته نفق َة‬ ‫ِ‬ ‫وم�سكنهم و�ضروريات حياتهم من‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الر�ضاعة البنهما كما قال تعاىل‪َ } :‬ف�إِنْ �أ ْر َ�ض ْعنَ َل ُك ْم َف�آ ُتوهُ نَّ �أ ُجو َرهُ نَّ {‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ِومن ُ�صو ِر ظلم بع�ض الأزواج ملُطلقته �أن يهددها ب�أنها �إن تز ّوجت ف�إنه �سي�أخذ �أبناءه منها‪ ،‬وهذا خط�أٌ‬ ‫ ‬
‫من جهتني فهو من ٌع للمر�أة من الزواج وهو حم ّرم يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و�إِ َذا َط َّل ْقت ُُم ال ِّن َ�سا َء َف َب َل ْغنَ �أَ َج َلهُنَّ َف َال‬
‫وع ُظ ِب ِه َمن َكانَ ُي�ؤْ ِمنُ ِب هَّ ِ‬
‫الل َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر‬ ‫َت ْع ُ�ض ُلوهُ نَّ �أَن َي ِنك ْحنَ �أَ ْز َو َاجهُنَّ �إِ َذا َت َر َ‬
‫ا�ض ْو ْا َب ْي َن ُهم ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫وف َذ ِل َك ُي َ‬
‫َذ ِل ُك ْم �أَ ْز َكى َل ُك ْم َو َ�أ ْط َه ُر َو هَّ ُ‬
‫الل َي ْع َل ُم َو�أَنت ُْم َال َت ْع َل ُمونَ {‪.‬‬

‫ ومن جهة ثانية‪� :‬أن البع�ض يظنُّ �أن ِمن ح ِّقه �إذا تز ّوجت املر�أة �أن يتوىل ح�ضانة �أبنائه‪ ،‬وهذا غ ُري‬
‫َ�صحيح ف�إن املر�أة �إذا تز ّوجت فح�ضانة �أبنائها تنتقل �إىل � ِّأمها هي‪ ،‬جاء �أن عمر بن اخلطاب ط َّلق زوجته‬
‫ج َميلة بنت عا�صم‪ ،‬فتز َّو َج ْت فجاء عم ُر ف�أخذ اب َنه ف�أدركته ال�شَّ َمو�س الأن�صارية وهي �أم جميلة ج ّد ُة الغالم‪،‬‬
‫ري له‬
‫ريحها‪ ،‬و�ش ّمها‪ ،‬ولطفها‪ ،‬خ ٌ‬
‫بكر لعمر‪( :‬خل بينها وبني ابنها‪ُ ،‬‬ ‫ف�أخذته فرتافعا �إىل �أبي بكر‪ ،‬فقال �أبو ٍ‬
‫منك)‪.‬‬

‫ال�سعي يف تزويجها‪ ،‬ولي�س ِمن العيب �أن يبحث مويل املر�أة املط َّلقة‬‫ُ‬ ‫۩ ۩ ومن احلقوق لل ُمط ّلقة على ول ّيها‪:‬‬
‫ري منا ابنته‪ ،‬روى البخاري �أن عمر‪d‬حني ت�أميت‬ ‫زوج لها ويعر�ضها عليه‪ ،‬فقد َع َر َ�ض َمن هو خ ٌ‬ ‫عن ِ‬
‫فعر�ضت عليه حف�صة‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫حف�ص ُة ‪g‬من ُخني�س بن حذافة ال�سهمي‪d‬قال عم ُر‪� :‬أتيت عثمانَ‬
‫فلقيت �أبا بكر‪،‬‬
‫يل ثم لقيني فقال‪ :‬قد َب َدا يل �أال �أتزوج يومي هذا‪ ،‬قال عمر‪ُ :‬‬ ‫�س�أنظر يف �أمري‪ ،‬فلبثَ ليا َ‬
‫وكنت �أَ ْو َج َد عليه مني‬
‫يل �شي ًئا‪ُ ،‬‬ ‫تزوجت حف�ص َة بنت عمر‪َ ،‬‬
‫ف�ص َم َت �أبو بكر فلم يرجع �إ َّ‬ ‫َ‬ ‫�شئت‬
‫فقلت‪� :‬إن َ‬
‫علي حني‬‫على عثمان‪ ،‬فلبث ليايل ثم خطبها ر�سول اهلل‪s‬ف�أنكحتُها فلقيني �أبو بكر فقال‪ :‬لعلك َو َجدتَ َّ‬
‫علي حف�صة فلم �أرجع �إليك �شي ًئا ؟ قال عمر‪ :‬نعم‪ .‬قال �أبو بكر‪ :‬ف�إنه مل مينعني �أن �أرجع �إليك‬ ‫عر�ضت َّ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬ولو‬ ‫علمت �أن ر�سول اهلل‪s‬قد ذكرها فلم �أكن لأف�شي �س َّر ِ‬ ‫كنت ُ‬ ‫علي �إال �أين ُ‬
‫فيما عر�ضت َّ‬
‫ر�ض الإن�سان بنتَه وغ َريها ِمن مولياته‬ ‫تر َكها ر�سول اهلل‪s‬قبلتُها‪ .‬قال ابن حجر‪( :‬يف هذا احلديث َع ُ‬
‫على من يعتقد خ َريه و�صالحه؛ ملا فيه من النفع العائد على املعرو�ض عليه‪ ،‬و�أنه ال ا�ستحياء يف ذلك)‪.‬‬

‫تطليق وما يف‬


‫أنيب على ٍ‬ ‫قا�س �أو ت� ٍ‬
‫عدم �أذية �شعورها بكالم ٍ‬ ‫۩ ۩ ومن حقوق املط َّلقة على �أه ِلها وجمتمعها ُ‬
‫معنى ذلك‪ ،‬ف�إن ما بها ِمن َك ْر ٍب وما عليها من � ٍأثر نف�سي ُم ْغ ٍن عن �أذيتها‪ ،‬ولي�س �أمر الطالق بيدها‪،‬‬
‫اهلل فيه باب خريية للبع�ض؛ كما قال �سبحانه يف �ش�أن‬ ‫احلب والبغ�ض من اهلل تعاىل‪ ،‬وقد جعل ُ‬ ‫ف�إن َّ‬
‫الزواج والطالق‪َ } :‬ف َع َ�سى �أَن َت ْك َرهُ و ْا َ�ش ْي ًئا َو َي ْج َع َل هَّ ُ‬
‫الل ِفي ِه َخ رْ ًيا َك ِث ًريا{‪ ،‬بل فيه خريية كما قال تعاىل‪:‬‬
‫الل َو ِا�س ًعا َح ِكي ًما{‪.‬‬ ‫الل ُك ًّال ِّمن َ�س َع ِت ِه َو َكانَ هَّ ُ‬ ‫} َو�إِن َي َت َف َّر َقا ُي ْغ ِن هَّ ُ‬

‫التنق�ص‬
‫ُ‬ ‫ �إن نظر بع�ض �أبناء جمتمعنا للمر�أة املُط َّلق ِة نظر ٌة غ ُري �شرعية‪ ،‬ف�إنه ُينظر لها من البع�ض بعني‬
‫أمر‪ ،‬فيجعلونه مي�سم ًا لها‪ ،‬ولي�س ذلك كذلك‪ .‬بل هو �أم ُر اهلل‬ ‫يبت ب� ٍ‬ ‫فعلت �أمر ًا خط�أ‪� ،‬أو ِع ْ‬
‫وال�شفقة وك�أنها ْ‬
‫وقدر ُه الكوين‪ ،‬وال�شرعي مع ًا‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املظاهر االجتماعية‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫املظاهر اإلجتماعية‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫االهتمام با َمل َظاهر‪ ،‬فغدا‬


‫ِ‬ ‫ ف�إن ِمن املظاهر االجتماعية التي َف َ�ش ْت بني كث ٍري من النا�س ظاهر ُة املبالغة يف‬
‫مبظهر ال َي ِعك ُ�س واق َع احلال مر�ض ًا ال َي�س َل ُم منه �إال ق َّل ٌة قليلة من‬
‫ٍ‬ ‫وح ِّب الظهور‬ ‫إغراق يف التعلُّ ِق با َملاد َّي ِ‬
‫ات ُ‬ ‫ال ُ‬
‫عقالء النا�س‪ .‬وهذا �أم ٌر و ّلد �أمر ًا �أخ َر‪ ،‬له انعكا�ساته اخلطرية على املجتمع‪ ،‬وهو ظاهر ُة التباهي والتفاخر‪،‬‬
‫متلك الأغلى‪ ،‬والأكرب‪ ،‬والأجمل‪ ،‬والأندر وغريها من �أ�سماء التف�ضيل‪.‬‬ ‫ابق بني الأقران للتفوق يف ِ‬ ‫والت�س ِ‬
‫َ‬

‫ �إنّ االعتناء باملظهر وال�شكل اخلارجي ال يع ُّد عيب ًا يف ذاته‪ ،‬كما قال ج ّل وعال‪�} :‬أَ َو َمن ُي َن�شَّ�أُ فيِ الحْ ِ ْل َي ِة‬
‫حب التحلي والعناية بالتج ّمل‬ ‫اهلل يف هذه الآية �أنّ املر�أة مفطورة على ِّ‬ ‫َوهُ َو فيِ الخْ ِ َ�صام َغ رْ ُي ُم ِب ٍني{‪ ،‬فبينّ ُ‬
‫ِ‬
‫عبده» [رواه الرتمذي]‪،‬‬ ‫‪ ،‬بل �إن هذه العناية مطلوب ٌة �شرع ًا يقول‪�« :s‬إن اهلل يحب �أن يرى �أثر نعمته على ِ‬
‫وثبت يف �صحيح م�سلم �أن النبي‪s‬قال‪�ِ « :‬إنَّ هَّ َ‬
‫الل َج ِمي ٌل ُي ِح ُّب الجْ َ َم َال ا ْل ِك رْ ُب َب َط ُر الحْ َ ِّق َو َغ ْم ُط ال َّن ِ‬
‫ا�س»‪.‬‬

‫املعقول واملقبول‪ ،‬ف�إنه دلي ٌل على العناية بالنف�س‪ ،‬و�إ�شار ٌة �إىل �أنّ الإن�سانَ قد‬
‫ِ‬ ‫ فما دام ذلك يف م�ستواه‬
‫�أظه َر نعم َة اهلل عليه‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ا�س‪ ،‬حني تغدو احلياة كلُّها تقدي�س ًا لل�شكليات‬
‫ ولكنّ الأمر قد ينقلب حينما يكون فيه َب َط ٌر ل ْل َح ِّق َو َغ ْم ٌط لل َّن ِ‬
‫‪ ،‬وجري ًا وراء املظاهر‪ ،‬وتباهي ًا بالتملك وحيازة الغايل الثمني‪ ،‬ويكون النظر للنا�س ب�أ�شكالهم ال مبا عندهم‬
‫من الأخالق والدين واملكارم‪ ،‬حينذاك تفقد الأ�شيا ُء معناها‪ ،‬وترتاجع جماالت التناف�س احلقيقية التي‬
‫تبني الإن�سان والأوطان �إىل الوراء‪ ،‬حتى تغدو مما ال ُي�س� ُأل عنه وال ُيع َب�أُ به‪ .‬فاملذموم ال ُ‬
‫إ�سراف يف االعتنا ِء‬
‫االهتمام باملظهر واجلوهر‪ ،‬بل �إهمال اجلوهر متام ًا يف بع�ض الأحيان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫باملظاهر‪ ،‬وفقدانُ التوازن بني‬
‫و�إ�سقاطه من احل�ساب‪.‬‬

‫وا�ضح يف ال ُق ُدرات‪ ،‬يحاول �أ�صحا ُبه‬ ‫خلل َكبري يف الت�صور‪ٍ ،‬‬


‫ونق�ص ٍ‬ ‫نبئ عن ٍ‬‫وحده َي ُ‬
‫ �إن املبالغة يف املظهر َ‬
‫نبئ عن خفاياها‪،‬‬‫تعك ُ�س حقائقَ الأمور‪ ،‬وال ُت ُ‬
‫�سرتَه باملبالغة يف االعتناء بال�شكل واملظاهر اخلارجية التي ال ِ‬
‫ولك ّنها واجه ٌة يختبئ ورا َءها �أ�صحا ُبها‪ ،‬حماولني �س َرت ِ‬
‫نق�صهم‪ ،‬و�إبعا َد الأنظار عن نقاط �ضعفهم‪.‬‬
‫‪308‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املظاهر االجتماعية‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫عميق بالنق�ص عند ال�شخ�ص‪ ،‬و�إىل‬ ‫ �إنّ املبالغ َة يف االهتمام باملظاهر واالعتنا ِء بال�شَّ كل ُي� ُ‬
‫شري �إىل �شعو ٍر ٍ‬
‫بنف�سه �إىل ُم�ستوى الآخرين الذين هم دائم ًا يف‬
‫إح�سا�سه ب�أنه يف مرتب ٍة �أق ّل‪ ،‬و�إىل رغبته القوية يف الو�صول ِ‬‫� ِ‬
‫مرتبة �أعلى و�أف�ضل‪.‬‬

‫�صح عن النبي‪s‬النهي عن املبالغة يف �إظها ِر ما لي�س يف ال�شخ�ص ففي ال�صحيحني �أن النبي‪s‬‬
‫لقد َّ‬ ‫ ‬
‫كالب�س ثو َبي زورٍ)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قال‪( :‬املُتَ�ش ِّبع مبا مل َ‬
‫يعط‬

‫(من حتلى مبا مل‬ ‫ال�ش َبع ولي�س ب�شبعان‪ ،‬ويف رواية عند (الرتمذي ‪َ :)2034‬‬ ‫ واملت�ش ِّبع هو الذي ُيظهر ِّ‬
‫يعط كالب�س ثو َب ْي زورٍ)‪ .‬و�أ�صل احلديث �أن امر�أ ًة قالت‪ " :‬يا ر�سول اهلل �إن يل ُ�ض ّر ًة فهل علي ُجنا ٌح �إن‬‫َ‬
‫عت من زوجي غري الذي يعطيني"‪ ،‬ف�أجابها النبي‪s‬مبا �سبق‪.‬‬ ‫ت�ش َّب ُ‬

‫ظه ُر �أنه قد ح�صلت له ف�ضيلة لي�ست فيه‪ ،‬ف�إنه يكون ك َمن ل ِب َ�س ثو َبي زو ٍر �أي‬
‫ ومعنى احلديث �أن الذي ُي ِ‬
‫النا�س‪ ،‬ولي�س بتلك‬‫أهل الرثوة �أو العلم والزهد ليغ َّرت به ُ‬ ‫قمي�ص ًا و�إزار ًا‪ ،‬ف ُيز ِّو ُر على النا�س ب�أن يتزيا ِّ‬
‫بزي � ِ‬
‫قدمه‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫مت�صف بالزور ِمن ر� ِأ�سه �إىل ِ‬ ‫ال�صفة‪ ،‬فهو‬

‫ ويف املُقابل ف�إن الكاملني ن�سب ّي ًا �أو مقاربي الكمال يجعلون العناية باملظهر يف درجة تالي ٍة للأمور‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬وقد كان النبي‪s‬يخ�صف نع َله ويرقع ثوبه‪ ،‬وملّا دخل بع�ض الأغراب على النبي‪s‬مل يعرفه من‬
‫متييز يف اللبا�س واملجل�س‪.‬‬
‫بني �أ�صحابه‪ ،‬ف َع ِج َب ملا اعتاده من ٍ‬

‫ وقد ُروي يف احلديث‪�( :‬إن اهلل يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين �إذا غابوا مل يفتقدوا‪ ،‬و�إن ح�ضروا‬
‫مل يعرفوا‪ ،‬قلوبهم م�صابيح الهدى‪ ،‬يخرجون من كل غرباء مظلمة)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! لقد تن ّوعت ُ�صور العناية باملظاهر يف وقتنا تنوع ًا كبري ًا‪ ،‬ومن �صورها‪ :‬االعتناء ب�شراء بع�ض‬
‫حتمل ا�سم ًا ُمع ّين ًا‪� ،‬أو عالم ًة جتارية م�شهور ًة فرتى �شخ�ص ًا يقتني‬
‫ال�س َلع ال جلودتها ومتانتها‪ ،‬و�إمنا لكونها ُ‬ ‫ِّ‬
‫َق َل َم ًا �أو حقيب ًة �أو هاتف ًا �أو �شيئ ًا من الألب�سة وقد ُ�ضعفت عليه قيمتُه �أ�ضعاف ًا م�ضاعفة ال ل�شيءٍ �إال لأنه يحمل‬
‫هذا اال�سم �أو تلك العالمة !!‪.‬‬

‫الطالب َّ‬
‫والطالب ُة عن ّ‬
‫الزي والأدوات‬ ‫ُ‬ ‫ حتى َط َلب ِة املدار�س ترى بينهم هذا الإغراق يف ال�شَّ كل ّيات فيبحث‬
‫املدر�سية قبل النظر يف التح�صيل العلمي‪.‬‬

‫العادات‬
‫ِ‬ ‫ ولو مل يروا �آبا َءهم على هذا ا َمل�سلك‪ ،‬ملا كان �أبنا�ؤهم كذلك‪ .‬بل رمبا كان الآبا ُء يغر�سون هذه‬
‫نفو�س �أبنائهم من حيث ال َي�شعرون‪.‬‬ ‫االجتماعي َة غ َري اجل ِّيدة يف ِ‬

‫‪309‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املظاهر االجتماعية‬

‫يارات عند بع�ض النا�س ِمن كونها و�سيل ًة للنقل �إىل كونها‬ ‫ال�س ِ‬ ‫ُ‬
‫الغر�ض ِمن اقتناء َّ‬ ‫تغي‬
‫ ومن ذلك‪� :‬أنه قد رَّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الهاتف بد ًال من كونه و�سيل َة ات�صال �أ�صبح �أدا ًة للتباهي بني الأقران‪َ ،‬و ِق�سْ‬
‫ُ‬ ‫و�سيل َة ٍ‬
‫تباهي وتفاخر‪ ،‬و�أ�صبح‬
‫ولك حتى يف امل�ساجد؛ وقد قال النبي‪ « :s‬ال تقوم ال�ساعة حتى يتباهى‬ ‫على ذلك ما �شئت مما ترى َح َ‬
‫النا�س يف امل�ساجد ‪-‬يبنون امل�ساجد يتباهون بها‪[» -‬رواه �أبو داود]‪.‬‬

‫بفوائد عالية ال‬


‫َ‬ ‫ ومن �صورها �أي�ض ًا‪ :‬اال�ستدان ُة لأجل َّ‬
‫ال�سفر فبع�ض قا�صري التفكري َي�ستدين �أموا ًال‬
‫ملكان �أو �آخر ل ُيقال �إنه قد �سافر‬ ‫لعالج �أو َ�س َك ٍن �أو �ضرور ٍة حياتية‪ ،‬و�إمنا ِمن �أجل ق�ضاء الإجازة َّ‬
‫بال�سفر ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وفعل كذا‪..‬‬

‫ ويدلنا على ذلك ارتفاع ن�سبة القرو�ض قبل الإجازة ال�صيفية ارتفاع ًا وا�ضح ًا‪ ،‬وخ�صو�ص ًا مع تي�سر‬
‫و�سائل الإقرا�ض والت�سهيل املايل؛ كالبطاقات االئتمانية ونحوها‪ ،‬لقد ُنهي عن اال�ستدانة لأجل ال�صدقة‬
‫فمن باب �أوىل اال�ستدانة ملثل هذه الت�صرفات الكمالية‪.‬‬
‫ِ‬

‫�شك �أنّ هذا الأمر ي�ضع معظم العائالت حتت وط�أة الديون‪ ،‬وي�ش ِّك ُل ِعبئ ًا كبري ًا عليها‪ ،‬وهو �أي�ضا‬ ‫ وال ّ‬
‫ري ِمن النا�س ُم�س َت ِلبني �إليه‪ ،‬غ َري قادرين على مقاومته والتَّح ُّر ِر‬
‫لنمط معينَّ ٍ من احلياة‪� ،‬أ�صبح كث ٌ‬
‫ي�ؤ�س�س ٍ‬
‫منه‪.‬‬

‫ال�سنة والعمل بها) َيك ُمنُ يف التقليد الأع َمى من بع�ض‬‫�سبب هذه املُ�شكلة الأول (بعد �سبب ترك ّ‬
‫ �إن َ‬
‫بغ�ض النظر عن ُقدرا ِتهم و�إمكانا ِتهم املادية املتاحة‪.‬‬ ‫الأُ�سر ملن هم َ‬
‫فوق م�ستواهم املادي ِّ‬

‫ فهناك من ينفق مئات الألوف على �إقامة حفل زواج ت�شهد له كل العائالت وتبذخ و ت�سرف و تكلف‬
‫نف�سها فوق طاقتها فقط لأنهم لي�سوا ب�أقل م�ستوى من هذه العائلة و تلك‪ ..‬وهكذا‪..‬‬

‫ وقد روى ابن حبان (‪ ،)76/2‬واحلاكم �أن النبي‪s‬قال‪( :‬انظر �إىل من حتتك‪ ،‬وال تنظر �إىل َمن فوقك‬
‫عندك)‪.‬‬
‫ف�إنه �أجد ُر �أال تزدري نعمة اهلل َ‬

‫‪310‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املغرم‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫املغرم‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ فقد كان ِمن دعاء النبي ‪s‬يف �صالته حينما يجل�س يف �آخرها قبل �أن ُي�س ّلم‪ ،‬يقول‪ « :‬اللهم �إين �أعوذ‬
‫بك من عذاب القرب‪ ،‬و�أعوذ بك من فتنة امل�سيح الدجال‪ ،‬و�أعوذ بك من فتنة املحيا واملمات‪ ،‬اللهم �إين �أعوذ‬
‫بك من امل�أثم واملغرم » [رواه ال�شيخان]‪.‬‬

‫مال‬
‫رم ٍ‬‫عج ُز عن �سداده‪� ،‬أو ُغ ِ‬
‫رم يكون عليه �إ ّما ِمن َد ٍين َي َ‬ ‫ فكان النبي‪s‬ي�ستعيذ باهلل تعاىل ِمن ُك ّل ُغ ٍ‬
‫طلب منه ر�شو ًة �أو ُم ْك َ�س ًا‪� ،‬أو غري ذلك ِمن �أ�سباب ال ُغرم‪.‬‬
‫ب�سبب ظلم ظامل َي ُ‬ ‫إتالف مال الغري‪� ،‬أو ِ‬
‫ب�سبب � ِ‬

‫املغرم يف ُك ِّل �صال ٍة ُي�ص ّليها [كما يف حديث عائ�شة‪g‬يف ال�صحيحني]‪،‬‬


‫وكان‪s‬يلزم اال�ستعاذة باهلل من ِ‬
‫ويدعو بذلك خارج �صالته �أي�ض ًا عند ِ‬
‫نومه‬

‫ول ِع ْن َد َم�ضْ َج ِع ِه‪« :‬ال َّل ُه َّم ِ�إنيِّ �أَ ُع ُ‬


‫وذ ِب َو ْج ِه َك ا ْل َك ِر ِمي‬ ‫ روى �أبو داود َعنْ َع ِلي‪�d‬أن ر�سول اهلل‪َ s‬كانَ َي ُق ُ‬
‫ا�ص َي ِت ِه‪ ،‬ال َّل ُه َّم �أَ ْن َت َت ْك ِ�ش ُف المْ َ ْغ َر َم َوالمْ َ�أْ َث َم‪ ،‬ال َّل ُه َّم َال ُي ْهزَ ُم ُج ْند َُك َو َال‬
‫َو َك ِل َما ِت َك التَّا َّم ِة ِمنْ َ�ش ِّر َما �أَ ْن َت � ِآخ ٌذ ِب َن ِ‬
‫ُي ْخ َل ُف َو ْعد َُك َو َال َي ْن َف ُع َذا الجْ َ دِّ ِم ْن َك الجْ َ ُّد ُ�س ْب َحا َن َك َو ِب َح ْم ِد َك»‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫رث دعا ِئه وطلبه‪s‬مع اال�ستعاذ ِة من امل�أ َثم‪ ،‬روى الن�سائي �أنَّ عائ�شة‪g‬‬
‫ بل �إنّ هذا الدعاء كان ِمن �أك ِ‬
‫ر�سول اهلل‪�s‬أك ُرث ما يتعوذ من املغرم وامل�أثم)؛ �أي �أن �أك َرث تع ّوذ النبي‪s‬كان من (املغرم‬
‫قالت‪( :‬كان ُ‬
‫وامل�أثم)‪ .‬والزم هذه اللفظ ‪-‬كما ذكر ُ�ش ّراح احلديث‪� -‬أنه‪ s‬ال َي ُ‬
‫�ستعيذ من �شيء قد َر ما ي�ستعيذ منهما‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن �إكثار النبي‪s‬من ا�ستعاذته ِمن املغ َرم فيه معنى جليل‪ ،‬ومق�ص ٌد عظيم‪ ،‬ملن ت�أ ّمل فيه‪،‬‬
‫�سبب ذلك‪ ،‬فروى ال�شيخان عن عائ�شة‪�g‬أنّ قائ ًال قال للنبي‪ :s‬ما �أكرث ما ت�ستعيذ من‬ ‫وقد بينّ النبي‪َ s‬‬
‫املغرم ؟ فقال‪� « :s‬إنّ الرجل �إذا َغ ِر َم ح َّدث ف َك َذب‪ ،‬و َو َع َد ف�أخ َلف »‪.‬‬

‫جتعل �أث َره يف النف�س عظيم ًا‪ ،‬و ُتورثه غ ّم ًا‬


‫‪َ w‬ومن يت�أ ّمل حال َمن عليه ُغ ْر ٌم يجد �أ ّنه تلزمه ت�صرفات و�أمو ٌر ُ‬
‫و�إثم ًا‪:‬‬
‫‪311‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املغرم‬

‫يحتج يف‬ ‫فمن ذلك‪� :‬أنّ املر َء �إذا لحَ ِ َقه دَينٌ َح َّد َث فكذب يف ِ‬
‫كالمه‪ ،‬وتع ّمد الإخبار بغري الواقع‪ ،‬ك�أن َّ‬ ‫۩۩ ِ‬
‫صري كاذ َب ًا‪ ،‬فيقول‪ " :‬عندي كذا "‪ " ،‬وت�أخرتُ لأجل كذا من‬
‫ت�أخريه وفا َء َما عليه ب�شيءٍ مل َيقم به ف َي� ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�صاحب ال ّدين �إذا طلبه �إياه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كذب لأجل‬ ‫الظروف "‪ ،‬ف َي ُ‬

‫۩ ۩ ِومن ذلك‪� :‬أ ّنه مع كذبه يف ما ُيخبرِ ُ عنه‪ ،‬ف�إنه َيع ُد و ُي ْخ ِلف‪ ،‬ب�أن يقول ل�صاحب ال َّدين‪� " :‬س�أوفيك دي َنك‬
‫عده‪.‬‬‫وف فيه‪ ،‬في�صري مخُ ِل َف ًا ل َو ِ‬
‫يف يوم كذا‪� ،‬أو يف �شهر كذا‪� ،‬أو يف وقت كذا "‪ ،‬ومل ُي ِ‬

‫خللف للوعد‪ ،‬ويف‬‫ فيكون بذلك قد جمع خ�صلتني بغي�ضتني هلل ع ّز وجل وهما الكذب يف احلديث وا ُ‬
‫ال�صحيحني �أنّ النبي‪s‬قال‪� « :‬آي ُة املنافق ثالث‪� :‬إذا ح َّد َث كذب‪ ،‬و�إذا َو َع َد �أخ َلف‪ ،‬و�إذا ُا�ؤمتن َخان »‪.‬‬

‫تنزل بامل�سئول‪ ،‬وثق ٌل عليه‪،‬‬


‫احب الدين ملا ِله فيه م�شق ٌة ُ‬‫طلب َ�ص ِ‬‫۩ ۩ ِومن �آثار ال ُغرم على الغارم‪� :‬أنّ جم ّرد ِ‬
‫َو َه ٌّم يح ُّل به‪� ،‬سوا ًء كان الطلب �س ّر ًا �أو عالنية؛ لأنّ ِمن ُ�سئل املال والأجرة ف�إنه َي ُ‬
‫ثقل عليه ُغر ُمه‪� ،‬إذ‬
‫حمر ٌج للم�سئول لأنه َب َني الإِعطا ِء فهو ثقي ٌل‪ ،‬وبني الر ِّد وهو �صعب‪.‬‬
‫ال�س�ؤال ِ‬
‫جمر ُد ُّ‬

‫ وقد ذكر اهلل تعاىل ذلك يف كتابه خماطب ًا نب ّيه حممد ًا‪s‬ا�ستفهام ًا مبعنى النفي‪ ،‬فقال �سبحانه‪} :‬‬
‫�أَ ْم تَ�سْ�أَ ُل ُه ْم �أَ ْجر ًا َف ُهم ِّمن َّم ْغ َر ٍم ُّم ْث َق ُلونَ {‪� ،‬أي � َ‬
‫أنت ال ت�س�ألهم �أجر ًا على دعوتهم �إىل احلق ومع ذلك تراهم‬
‫متجهمني يهربون‪.‬‬

‫النا�س وا�ستجداهم يف �سداد دينه ووفاء ُغ ِ‬


‫رمه‪ ،‬ويف ذلك‬ ‫۩ ۩ ِومن ذلك‪� :‬أنّ َمن عليه َمغر ٌم ف�إ ّنه رمبا َ�س�أل َ‬
‫ذ ٌّل عليه ومهان ٌة تنزل به ال تخفى‪.‬‬

‫حب�س ُه يف ال ّدين‪ ،‬واحلديثَ فيه يف املجال�س‪ ،‬روى �أهل ال�سنن �أن‬ ‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أنّ الغا ِرم يبيح ال�شر ُع َ‬
‫عر�ضه وعقوبته »‪ .‬قال ابن املبارك‪ " :‬يحل عر�ضه � ْأي ُيغ ِل ُظ له‪ ،‬وعقوبتَه‬
‫الواجد يح ُّل َ‬
‫ِ‬ ‫النبي‪s‬قال‪ُّ « :‬‬
‫يل‬ ‫َّ‬
‫يحب�س لل ّدين "‪.‬‬

‫۩ ۩ ِومن ذلك‪ :‬ف�إنّ الغا ِرم �إذا َم َط َل الدَّينَ و� َّأخ َر �سدا َده ا�ستحقّ ال َإثم‪ ،‬وقد �س ّمى النبي ‪s‬الت�أخ َري يف �سداد‬
‫(ظلم ًا)‪ ،‬ورمبا مات املدينُ قبل وفائه فبقيت ذمتُه مرتهن ًة به‪.‬‬ ‫الدين مع القدر ِة عليه‪ُ :‬‬

‫ ف ُك ُّل هذه اخل�صال وغريها مرتتب ٌة على ال ُغ ِرم‪ ،‬فال غر ُو بع ُد �أنْ ُيكرث النبي ‪ِ s‬من اال�ستعاذة منه‬
‫ف�ضي‬‫دائم ًا‪ ،‬ملا ُيف�ضي �إليه ِمن �أمو ٍر فيها مذ ّل ٌة على �صاحبها‪ ،‬وان�شغا ٌل لقلبه‪� ،‬إ�ضاف ًة لك�سبه الإثم ب�سبب ما ُي ِ‬
‫رم َملا ذ ّلت‬
‫لف الوعد‪ ،‬ف َيجتمع عليه ذ ٌّل يف الدنيا و�إث ٌم يف الآخرة‪ .‬ولوال هذا ال َّد ْينُ وال ُغ ُ‬ ‫الكذب ُ‬
‫وخ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫�إليه من‬
‫رم الذي لزم ذمتَه‪.‬‬‫نف�سهُ‪ ،‬وملا ات�صف ب�صفات املنافقني‪ ،‬و�إمنا �أجل�أه لذلك ال ُغ ُ‬ ‫ُ‬

‫وحفظه من الوقوع يف املغ َرم وامل�أثم مع ًا‪ ،‬ومع ذلك‬


‫هلل و�إح�سا ِنه ِ‬
‫ف�ضل ا ِ‬
‫عباد اهلل! �إنّ املر َء ال غنى له عن ِ‬ ‫ ‬

‫‪312‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املغرم‬

‫ف�إ ّنه م�أمور بتح�صيل �أمو ٍر متنعه ِمن مذ ّلة ال ُغرم ومقارف ِة الإثم‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫۩ ۩�أ ّنه يلزم املر َء �أن ي�سعى �أال يتح ّمل دين ًا �إال ِمن َحاج ٍة‪ ،‬و�أنْ َيف ّر ِمن االقرتا�ض قد ا�ستطاعته‪ ،‬فال يقرت�ض‬
‫�شرعي عظيم وردت فيه �أدلة �شرع ّي ٌة كثرية‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫لي�شرتي �أمر ًا حت�سين ّي ًا‪� ،‬أو ل ُيكاث َر وليتج ّمل‪ .‬وهذا مبد�أٌ‬

‫۩ ۩ثم بعد ذلك‪ :‬ف�إنه �إذا اقرت َ‬


‫َ�ض حلاج ٍة فل َي�س َع يف �سداد دي ِنه بقدر �إمكانه‪ ،‬وال ي� ّؤجل الوفاء‪� ،‬أو ميتنع‬
‫ال�سداد ويعزم عليه يف �أقرب فر�ص ٍة ممكنة؛ روى البخاري يف ال�صحيح عن �أبي‬ ‫من الق�ضاء‪ ،‬بل ينوي َّ‬
‫أموال النا�س ُيري ُد �أدا َءها �أ َّدى ُ‬
‫اهلل عنه‪َ ،‬ومن �أخذ َيري ُد �إتالفها‬ ‫هريرة‪�d‬أنّ النبي‪s‬قال‪َ « :‬من �أخذ � َ‬
‫�أتلفه اهلل »‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫املالئكة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬املالئكة‬

‫والعوال ِمن الإن�س واجلنِّ‬ ‫مِ‬ ‫خل ْل ِق‬


‫رب جمي ِع ا َ‬
‫ فيقول اهلل تعاىل‪} :‬احلمد هلل رب العاملني{ فاهلل تعاىل ُّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫والطري والدواب وغريها مما علمنا وما ال نعلم‪ ،‬فاهلل خالق كل �شيء‪ ،‬وملي ُكه ور ُبه } َو َي ْخ ُلقُ َما َال َت ْع َل ُمونَ {‪.‬‬

‫متام الإميان‬ ‫ ومن خملوقات اهلل العظام‪ ،‬وعباده الكرام املالئكة عليهم ال�سالم‪ ،‬والإميانُ ِبهم ِمن ِ‬
‫و�شرطه؛ كما قال النبي‪( :s‬الإميان �أن ت�ؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ور�سله وباليوم الآخر وبالقدر خريه‬ ‫ِ‬
‫و�شره)‪.‬‬
‫ ‬
‫ وقبل ذلك يقول اهلل عز وجل‪َ } :‬و َل ِـكنَّ الْبرَِّ َمنْ � َآمنَ ِب هَّ ِ‬
‫الل َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر َوالمْ َلآ ِئ َك ِة َوا ْل ِكت ِ‬
‫َاب َوال َّن ِب ِّينيَ{‪،‬‬
‫ول بمِ َ ا �أُ ِنز َل ِ�إ َل ْي ِه ِمن َّر ِّب ِه َوالمْ ُ�ؤْ ِم ُنونَ ُك ٌّل � َآمنَ ِب هَّ ِ‬
‫الل َو َملآ ِئ َك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َو ُر ُ�س ِل ِه{‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫وقال �سبحانه‪َ �} :‬آمنَ ال َّر ُ�س ُ‬
‫} َو َمن َي ْك ُف ْر ِب هَّ ِ‬
‫الل َو َم َال ِئ َك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َو ُر ُ�س ِل ِه َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر َف َق ْد َ�ض َّل َ�ض َال ًال َبعِيدً ا{‪.‬‬
‫عبيده البرَ َ رة }ال َي ْع ُ�صونَ هَّ َ‬
‫الل َما �أَ َم َرهُ ْم َو َي ْف َع ُلونَ َما ُي�ؤْ َم ُرونَ {‪،‬‬ ‫وعبي ٌد ِمن ِ‬ ‫ فاملالئك ُة َخ ْل ٌق ِمن َخ ْل ِق اهلل‪َ ،‬‬
‫مي َح َ�سنٌ َ�شريف‪ ،‬و�أخال ُقهم و�أفعالهم با َّر ٌة طاهرة كاملة‪.‬‬ ‫فخ ْلقهم َك ِر ٌ‬
‫}ك َر ٍام َب َر َر ٍة{‪َ ،‬‬
‫و�صفهم اهلل ب�أنهم ِ‬

‫(خل َق ْت املالئك ُة ِمن‬ ‫ ابتد�أ ُ‬


‫اهلل َخ ْل َقهم من نور‪ ،‬روى م�سلم يف ال�صحيح عن عائ�شة‪�g‬أن النبي‪s‬قال‪ُ :‬‬
‫ارج ِمن نار‪ُ ،‬‬
‫وخلق �آدم مما و�صف لكم)‪.‬‬ ‫وخلقَ اجلانُ ِمن َم ٍ‬‫نور‪ُ ،‬‬

‫اخل ْل َقة‪ِ ،‬‬ ‫ُ‬


‫ومتامها ال�شي َء‬ ‫ظيم ِ‬ ‫ فاملالئكة خملوقات نورانية �سبق َخ ْل ُقهم َخ ْلقَ �آدم‪ ،a‬جعل اهلل لهم من َع ِ‬
‫ا�س‬‫البينِّ َ قال اهلل عز وجل يف مالئكة النار‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ُقوا �أَن ُف َ�س ُك ْم َو�أَ ْه ِلي ُك ْم َنا ًرا َو ُقود َُها ال َّن ُ‬
‫الظ ِ�ش َدا ٌد ال َي ْع ُ�صونَ هَّ َ‬
‫الل َما �أَ َم َرهُ ْم َو َي ْف َع ُلونَ َما ُي�ؤْ َم ُرونَ {‪.‬‬ ‫َوالحْ ِ َجا َر ُة َع َل ْي َها َمال ِئ َك ٌة ِغ ٌ‬
‫أحد حمل ِة ال َعر�ش ما بني َ�شحمة‬ ‫النبي ‪s‬قال‪�( :‬أُ ِذنَ ليِ �أن �أحدِّ َث َعن � ِ‬ ‫ و َروى �أبو داود عن جابر‪�d‬أن َّ‬
‫�أذ ِنه وعات ِقه م�سري ُة َ�سبعمائة عام)‪.‬‬
‫ ‬
‫ر�سول اهلل ‪َ s‬‬ ‫ ويف م�سند الإمام �أحمد ب�إ�سناد جيد من حديث عبد اهلل بن م�سعود ‪d‬قال‪ :‬ر�أى ُ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫جربيل‬
‫التهاويل من ال ُّد ِّر واليواقيت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�سقط من جناحيه‬ ‫يف �صورته وله �ستمائة جناح‪ ،‬كل جناح منها قد َ�س َّد الأُفق‪َ ،‬ي ُ‬

‫ وعند الرتمذي �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ر�أيته ‪�-‬أي جربيل‪ -‬منهبط ًا من ال�سماء �ساد ًا ِع َظ ُم َخ ْل ِق ِه ما بني‬
‫ال�سماء والأر�ض)‪.‬‬

‫النبي‪�s‬أن جلربيل‪�a‬ستمائة جناح‪ ،‬وكذا باقي املالئكة لهم �أجنحة لكنها تختلف عدد كما قال‬ ‫ فبني ُّ‬
‫تعاىل‪} :‬الحْ َ ْم ُد للِ هَّ ِ َف ِاط ِر َّ‬
‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َج ِاع ِل المْ َال ِئ َك ِة ُر ُ�س ًال �أُوليِ �أَ ْج ِن َح ٍة َّم ْث َنى َو ُث َ‬
‫الث َو ُر َبا َع َي ِزي ُد فيِ‬
‫خل ْلق‪ ،‬والأفعال والأعمال املوكلة‬ ‫الل َع َلى ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َق ِدي ٌر{‪ ،‬فهم خمتلفون يف الهيئة وا َ‬ ‫الخْ َ ْل ِق َما َي َ�شاء �إِنَّ هَّ َ‬
‫�إليهم‪ ،‬كما �أنهم متفاوتون يف املقدار واملنزلة عند اهلل عز وجل ف�أعظمه منزلة عند اهلل عز وجل جربيل‪a‬‬

‫‪314‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املالئكة‬

‫كما قال تعاىل‪�ِ } :‬إ َّن ُه َل َق ْو ُل َر ُ�س ٍول َك ِر ٍمي { ِذي ُق َّو ٍة ِع َند ِذي ا ْل َع ْر ِ�ش َم ِك ٍني { ُم َط ٍاع َث َّم �أَ ِم ٍني{‪ ،‬ويف �صحيح‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫النبي‪s‬فقال‪ :‬ما تَع ُّدونَ َمن �شهد بدر ًا فيكم؟ قلت‪ :‬خيا ُرنا ‪،‬‬ ‫جربيل جا َء َّ‬‫َ‬ ‫فاع َة بن رافع �أن‬ ‫البخاري عن ِر َ‬
‫قال‪ :‬وكذلك َمن �شهد بدر ًا من املالئكة هم عندنا خيار املالئكة‪.‬‬

‫}ع َّل َم ُه َ�ش ِدي ُد‬


‫أنظرهم ُ�صورة‪ ،‬و�أح�س ِنهم ِخلقه؛ كما قال تعاىل‪َ :‬‬ ‫أجمل خلق اهلل هيئة‪ ،‬و� ِ‬ ‫ واملالئك ُة من � ِ‬
‫منظر َح َ�سن‪ .‬لذلك ملا ر�أى الن�سو ُة َ‬
‫يو�سف‬ ‫ا�س َت َوى{ قال ابنُ عبا�س‪ :d‬ذو مرة �أي ذو ٍ‬ ‫ا ْل ُق َوى { ُذو ِم َّر ٍة َف ْ‬
‫ا�ش للِهّ ِ َما َه َـذا َب َ�ش ًرا �إِنْ َه َـذا �إِالَّ َم َل ٌك َك ِر ٌ‬
‫مي{‪.‬‬ ‫}ح َ‬ ‫وح�س َنه ُقلن‪َ :‬‬

‫ واملالئكة لي�سوا �أناث ًا وال يو�صفون بذلك كما زعم �أهل الوثنية؛ قال تعاىل‪َ } :‬و َج َع ُلوا المْ َال ِئ َك َة ا َّل ِذينَ هُ ْم‬
‫ِع َبا ُد ال َّر ْح َم ِن �إِ َنا ًثا �أَ َ�ش ِهدُوا َخ ْل َق ُه ْم َ�س ُت ْكت َُب َ�ش َها َد ُت ُه ْم َو ُي�سْ�أَ ُلونَ {‪.‬‬

‫ و�أما �أفعال املالئكة و�أعمالهم فقد حكى اهلل عنهم �أنهم } ُي َ�س ِّب ُحونَ ال َّل ْي َل َوال َّن َها َر ال َيفْترُ ُونَ {‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ا�س َتكْبرَ ُ وا َفا َّل ِذينَ ِع َند َر ِّب َك ُي َ�س ِّب ُحونَ َل ُه ِبال َّل ْي ِل َوال َّن َها ِر َوهُ ْم ال َي�سْ�أَ ُمونَ {‪ ،‬فال ميلون وال يتعبون من‬
‫} َف ِ�إ ِن ْ‬
‫ت�سبيحه جل وعال‪.‬‬

‫العال فهي نا�شئة عن املالئكة كما قال تعاىل‪َ } :‬فالمْ ُ َد ِّب َر ِات �أَ ْم ًرا{‪ ،‬وقال �سبحانه‪} :‬‬
‫ و ُك ُّل حركة يف مَ‬
‫ات �أَ ْم ًرا{ قال علي‪( :‬هي املالئكة تدبر �أم َر العباد من ال�سنة �إىل ال�سنة)‪.‬‬‫َفالمْ ُ َق ِّ�س َم ِ‬

‫اهلل بالرحم مالئك ًة‬ ‫ وقد �أوكل اهلل �إليهم املخلوقات؛ فللجبال مالئكة‪ ،‬ولل�سحاب واملطر مالئكة‪ ،‬وو َّكل ُ‬
‫إح�صا ِء َما َيع َمل َوكتابته‪،‬‬ ‫حلفظ ِه‪َ ،‬و َمالئك ًة ل َ‬ ‫اهلل بال َع ِبد َمالئك ًة ِ‬ ‫تدبر �أم َر النطفة حتى يتم َخ ْل ُقها‪ ،‬ثم و َّك َل ُ‬
‫بال�س� ِؤال يف القرب َمالئكة‪ ،‬وو َّك َل بالأفالك مالئك ًة يحركونها‪ ،‬وو َّك َل بال�شَّ م�س‬ ‫وت َمالئكة‪ ،‬وو َّك َل ُّ‬ ‫وو َّك َل با َمل ِ‬
‫�صح النقل يف‬ ‫وال َقمر مالئكة‪ ،‬وو َّكل بالنار و�إيقادها مالئكة‪ ،‬ووكل باجلنة وعمارتها وغر�سها مالئك ًة كما َّ‬
‫ُك ٍل‪.‬‬
‫ال�سماء‪ ،‬ويعبدون اهلل وي�سبحونه فيها كما قال‬ ‫اهلل ج َّل وعال �أن املالئكة ي�سكنون َّ‬ ‫ و�أما ُ�سكناهم فقد بينَّ ُ‬
‫ال�س َما َواتُ َي َت َف َّط ْرنَ ِمن َف ْو ِق ِهنَّ َوالمْ َال ِئ َك ُة ُي َ�س ِّب ُحونَ ِب َح ْم ِد َر ِّب ِه ْم َو َي ْ�س َت ْغ ِف ُرونَ لمِ َن فيِ الأَ ْر ِ�ض �أَال‬
‫�سبحانه‪َ } :‬ت َكا ُد َّ‬
‫الل هُ َو ا ْل َغ ُفو ُر ال َّر ِح ُيم{‪ ،‬وحكى النبي‪ s‬يف ق�صة الإ�سراء ما ر�آه فقال (ثم ُرفع بي �إىل البيت املعمور‬ ‫ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫و�إذا هو يدخله يف كل يوم �سبعون �ألف ملك‪ ،‬ال يعودون �إليه �آخر ما عليهم) رواه البخاري وم�سلم‪.‬‬

‫ والبيت املعمور هو كعبة �أهل ال�سماء يف ال�سماء ال�سابعة وهو بحيال الكعبة وفوقها ولو وقع لوقع عليها‪.‬‬
‫وح ِ�إ َل ْي ِه فيِ َي ْو ٍم َكانَ ِم ْق َدا ُر ُه َخ ْم ِ�س َني �أَ ْل َف‬
‫ينزلون �إىل الأر�ض ويعرجون �إىل ال�سماء } َت ْع ُر ُج المْ َال ِئ َك ُة َوال�� ُّر ُ‬
‫وح ِفي َها ِب�إِ ْذ ِن َر ِّب ِهم ِّمن ُك ِّل �أَ ْم ٍر{‪.‬‬‫ي ِّمنْ �أَ ْل ِف َ�ش ْه ٍر { َت َنز َُّل المْ َال ِئ َك ُة َوال ُّر ُ‬
‫َ�س َن ٍة{‪َ } ،‬ل ْي َل ُة ا ْل َق ْد ِر َخ رْ ٌ‬

‫ وهم من الكرثة بعدد ففي �صحيح م�سلم �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ي�ؤتى بجهنم يومئذ لها �سبعون �ألف زمام‬
‫مع كل زمام �سبعون �ألف ملك)‪ .‬فيكون �سائقوا جهنم يومئذ �أربعة �آالف وت�سعمائة مليون َم َلك‪.‬‬
‫‪315‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املالئكة‬

‫ وقد روى الرتمذي عن �أبي ذر‪d‬قال‪ :‬قال ر�سول الل‪�( :s‬إين �أرى َما ال ترون و�أ�سمع ما ال ت�سمعون‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اجد ًا هلل‪ ،‬واهلل لو تعلمون‬ ‫� َّأط ِت ال�سماء ُ‬
‫وحقَّ لها �أن تَئط‪َ ،‬ما فيها مو�ض ُع �أرب ِع � َأ�صاب َع �إال َوم َل ٌك َو ِ‬
‫ا�ض ٌع َجبهتَه َ�س َ‬
‫ال�ص ُع َدات جت�أرون‬
‫خلرجتُم �إىل ُّ‬ ‫َما �أعلم ل�ضحكتُم قلي ًال ولبكيتم كثري ًا‪َ ،‬وما تلذذمت بال ِّن َ�ساء على ال ُف ُر�ش‪ ،‬و َ‬
‫كنت �شجرة تع�ضد‪.‬‬ ‫�إىل اهلل) قال �أبو ذر‪ :‬لوددتُ �أين ُ‬

‫ وهم مع ذلك َمط ُب ُعونَ على َط َاعة اهلل‪ ،‬وجمبولون عليها‪ ،‬يخافونه‪ ،‬وي�أمترون ب�أمره قال تعاىل‪} :‬ال‬
‫الل َما �أَ َم َرهُ ْم َو َي ْف َع ُلونَ َما ُي�ؤْ َم ُرونَ {‪ ،‬وقال‪َ } :‬ي َخا ُفونَ َر َّب ُهم ِّمن َف ْو ِق ِه ْم َو َي ْف َع ُلونَ َما ُي�ؤْ َم ُرونَ {‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫َي ْع ُ�صونَ هَّ َ‬
‫} َب ْل ِع َبا ٌد ُّم ْك َر ُمونَ { ال َي ْ�س ِب ُقو َن ُه ِبا ْل َق ْو ِل َوهُ م ِب�أَ ْم ِر ِه َي ْع َم ُلونَ { َي ْع َل ُم َما َبينْ َ �أَ ْي ِد ِيه ْم َو َما َخ ْل َف ُه ْم َوال َي�شْ َف ُعونَ ِ�إالَّ‬
‫لمِ َ ِن ا ْرت ََ�ضى َوهُ م ِّمنْ َخ�شْ َي ِت ِه ُم�شْ ِف ُقونَ { َو َمن َي ُق ْل ِم ْن ُه ْم �إِنيِّ �إِ َل ٌه ِّمن دُو ِن ِه َف َذ ِل َك نجَْ ِزي ِه َج َه َّن َم َك َذ ِل َك نجَْ ِزي‬
‫الظالمِ ِنيَ{‪.‬‬‫َّ‬

‫ وقد حكى النبي‪s‬عن خوفهم من اهلل وخ�شيتهم له‪ ،‬ففي �سنن الرتمذي و�صححه عن �أبي هريرة �أن‬
‫النبي‪s‬قال‪�( :‬إذا َق َ�ضى اهلل يف ال�سماء �أمر ًا َ�ضربت املالئك ُة ب�أجنحتها ُخ�ضْ َعانا لقو ِله ك�أنها ِ�سل�سل ٍة على‬
‫َ�صفوان ف�إذا ُف ِّز َع َعن ُق ُلو ِب ِه ْم َقا ُلوا‪َ :‬م َاذا َق َال َر ُّب ُك ْم َقا ُلوا الحْ َ قَّ َوهُ َو ا ْل َع ِل ُّي ا ْل َك ِب ُري‪ ،‬قال وال�شياط ُني ُ‬
‫بع�ضهم‬
‫َ‬
‫فوق بع�ض)‪.‬‬

‫ وقال النوا�س بن �سمعان‪d‬قال النبي‪�( :s‬إن اهلل �إذا �أراد �أن يوحي بالأمر تك َّلم بالوحي � ِ‬
‫أخذت‬
‫ال�سماوات منه رجف ٌة �أو رعد ٌة �شديدة خوف ًا ِمن اهلل تعاىل ف�إذا َ�س ِم َع �أه ُل ال�سماوات ذلك ُ�صع ِقوا َ‬
‫وخ ُّروا‬ ‫ِ‬
‫ويقول له ِمن وحيه َما �أراد‪ ،‬ثم مي ُّر‬ ‫ُ‬
‫جربيل فيكل ُم ُه اهلل تعاىل ُ‬‫ُ‬ ‫هلل تعاىل ُ�س َّج َدا‪ ،‬فيكون � َ‬
‫أول َمن يرفع ر� َأ�سه‬ ‫ِ‬
‫ب�س َماءٍ َ�س�أله مالئكتُها ماذا قال رب ُّنا ياجربيل ؟ فيقول جربي ُل‪ :‬قال احلقَّ وهو‬ ‫ُ‬
‫جربيل باملالئك ِة ُك َّل َما م َّر َ‬
‫العلي الكبري‪ .‬قال فيقول كلهم كما قال جربيل‪ ،‬فينتهي جربي ُل بالوحي حيث �أمره اهلل تعاىل) رواه الطربي‬ ‫ُّ‬
‫وابن �أبي حامت والبيهقي‪ .‬ويف معجم الطرباين الأو�سط ب�إ�سناد ُح ِّ�سن من حديث جابر‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪:‬‬
‫كاحل ْل�س البايل من خ�شية اهلل)‪.‬‬‫(مررتُ ليل َة �أ�سري بي بامللأ الأعلى وجربيل ِ‬

‫ عباد اهلل ! �أولئك هم املالئكة الذين �أُمر َنا بالإميان بهم‪ ،‬وذاك َخ ُربهم ونب�ؤهم يف كتاب اهلل ع َّز وجل‬
‫أحب‬
‫و�سنة امل�صطفى‪s‬؛ وتلك حالهم ومنزلتهم عند اهلل تبارك وتعاىل‪ .‬و�إن العبد امل�ؤمن ِمن بني �آدم � ُّ‬
‫�إىل اهلل تعاىل منهم و�أعلى درجة �إن هو �أح�سن العمل‪� ،‬إميان ًا باهلل تعاىل‪ ،‬واتباع ًا لر�سوله‪.s‬‬

‫ وال�ض ُّد بال�ضد ف�إن هو �أ�ساء كان كالأنعام بل قال اهلل تعاىل‪�} :‬أَ َر�أَ ْي َت َم ِن ات ََّخ َذ ِ�إ َل َه ُه َه َوا ُه �أَ َف�أَ َ‬
‫نت َت ُكونُ‬
‫َع َل ْي ِه َو ِكي ًال{ �أَ ْم تحَْ َ�س ُب �أَنَّ �أَ ْك رَ َثهُ ْم َي ْ�س َم ُعونَ �أَ ْو َي ْع ِق ُلونَ ِ�إنْ هُ ْم ِ�إالَّ َكالأَ ْن َع ِام َب ْل هُ ْم َ�أ َ�ض ُّل َ�س ِبي ًال{‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫املوت‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬املوت‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬


‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ُ‬
‫ني �آدم !! ال يتذ ّك ُر مببد�أ ِخلقته‪ ،‬وال َيعترب بنهاية حياته‪ ،‬وقد ذ ّكر اهلل بهذين الأمرين عبا َده‬ ‫ فعجب ًا ل ُب ِّ‬
‫يف كتابه‪�} :‬أَ َف َر�أَ ْيتُم َّما تمُْ ُنونَ { �أَ�أَنت ُْم ت َْخ ُل ُقو َن ُه �أَ ْم َن ْحنُ الخْ َ ا ِل ُقونَ { َن ْحنُ َق َّد ْر َنا َب ْي َن ُك ُم المْ َ�� ْوتَ َو َما َن ْحنُ‬
‫ن�ش َئ ُك ْم فيِ َما ال َت ْع َل ُمونَ { َو َل َق ْد َع ِل ْمت ُُم ال َّن�شْ�أَ َة الأُ ىَول َف َلوْال تَذ َّك ُرونَ {‪.‬‬
‫بمِ َ ْ�س ُبو ِق َني{ َع َلى �أَن ُّن َبدِّ َل �أَ ْم َثا َل ُك ْم َو ُن ِ‬

‫بتذكر م�آالته‪ ،‬ومنتهى حياته‪ ،‬حني ُيفارق الدنيا و ُيقبل على الآخ��رة‪ ،‬مودِّع ًا للحياة‬ ‫ِ‬ ‫ َما �أحرى املرء‬
‫الأوىل‪ ،‬م�ستقب ًال الثانية‪ ،‬ال مف َّر ِمن ذلك وال فدا َء‪ ،‬فلو كان ُعم ٌر ُي�شرتى البتيع‪ ،‬ولو كان املوت ُيدفع بالغايل‬
‫ل ُبذل فدا ًء يقول ربنا ج َّل وعال‪ُ } :‬ك ُّل َن ْف ٍ�س َذا ِئ َق ُة المْ َ ْو ِت ُث َّم ِ�إ َل ْي َنا ُت ْر َج ُعونَ {‪.‬‬

‫عزيز وحقري‪ِّ ،‬‬


‫وكل غني وفقري‪ .‬ق�ضى باملوت‬ ‫ عباد اهلل! لقد ق�ضى اهلل باملوت على ُكل �صغري وكبري‪ ،‬و ًك ِّل ٍ‬
‫زاهد وعابد‪ ،‬و ُك ِّل مق ٍّر وجاحد‪ ،‬وق�ضى باملوت‬
‫اهلل باملوت على كل ٍ‬ ‫جني وتقي‪ .‬ق�ضى ُ‬ ‫على ُكل نبي وويل‪ ،‬وكل ٍّ‬
‫نف�س متوت‪ ،‬غ َري ذي العزة واجلربوت‪.‬‬ ‫مري�ض و�سليم‪ُ .‬كل ٍ‬
‫وكل ٍ‬ ‫�صحيح و�سقيم‪ِّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫على ُك ِّل‬

‫ـولود فللــموت ُيو َل ُد‬


‫ �أال كل مـ ٍ‬
‫ـ�ست �أرى ح ـ َّي ًا عــليها يــخ َّل ُد‬ ‫ولـ ُ‬ ‫ ‬
‫جت َّرد من الدنيا ف�إنك �إمنا‬ ‫ ‬
‫خطبة جديدة‬

‫خرجت من الدنيا و�أنت جم ّر ُد‬ ‫ ‬


‫لت ما ًال وكرث ًة ‬ ‫و�أنت و�إن ُخ ِّو َ‬ ‫ ‬
‫إنك يف الدنيا على ذاك �أوح ُد‬ ‫ف� َ‬ ‫ ‬

‫هيب ذلك املوقف‪ ،‬و ُك ّل منها ي�ستحق الوقوف‬ ‫َ‬


‫ونوازل مدله ّمة‪ُ ،‬ت ُ‬ ‫�شدائد ع ّدة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ ‪ w‬عباد اهلل! �إن يف املوت‬
‫عنده على انفراد‪:‬‬ ‫َ‬
‫۩ ۩فال�شدة الأوىل ‪ :‬ما يف املوت من مفارقة املال والولد‪ ،‬والأهل واخلليل وال�صاحب‪ .‬ف�إذا جاءه املوتُ فال‬
‫ينف ُع امر ًء ما جمعه‪ ،‬وال ينجيه ما اكت�سبه‪.‬‬
‫ك هُ م الخْ َ ا�سرونَ {‬
‫ِ ُ‬ ‫} َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ال ُت ْل ِه ُك ْم �أَ ْم َوا ُل ُك ْم َوال �أَوْال ُد ُك ْم َعن ِذ ْك ِر هَّ ِ‬
‫الل َو َمن َي ْف َع ْل َذ ِل َك َف�أُ ْو َل ِئ َ ُ‬

‫‪317‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املوت‬

‫يب َف�أَ�صَّ َّد َق َو�أَ ُكن‬


‫ول َر ِّب َلوْال �أَ َّخ ْر َت ِني ِ�إ ىَل �أَ َج ٍل َق ِر ٍ‬‫َو�أَن ِف ُقوا ِمن َّما َر َز ْق َنا ُكم ِّمن َق ْب ِل �أَن َي�أْ ِت َي �أَ َح َد ُك ُم المْ َ ْوتُ َف َي ُق َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ري بمِ َ ا َت ْع َم ُلونَ {‬ ‫الل َن ْف ً�سا ِ�إ َذا َجاء �أَ َج ُل َها َو هَّ ُ‬
‫الل َخ ِب ٌ‬ ‫ِّمنَ ال�صَّ الحِ ِ َني{ َو َلن ُي�ؤَ ِّخ َر هَّ ُ‬

‫۩ ۩وال�شدة الثانية ‪ :‬ر�ؤية املر ِء �أعمال ح�سنها و�سيئها‪ ،‬فلي�س ِمن ميت �إال ُمثل له عند املوت �أعما ُله احل�سنة‬
‫طر ُق عند �سيئاته‪ ،‬فذاك قول اهلل تعاىل‪َ }:‬ي ْو َم تجَ ِ ُد ُك ُّل َن ْف ٍ�س‬ ‫في�شخ ُ�ص �إىل َح َ�سناته‪ ،‬و ُي ِ‬ ‫و�أعما ُله ال�سيئة‪َ ،‬‬
‫َّما َع ِم َل ْت ِمنْ َخ رْ ٍي محُّْ َ�ض ًرا َو َما َع ِم َل ْت ِمن ُ�س َوءٍ َت َو ُّد َل ْو �أَنَّ َب ْي َن َها َو َب ْي َن ُه �أَ َمدً ا َبعِيدً ا{‪.‬‬

‫ات َحتَّى ِ�إ َذا َح َ�ض َر �أَ َح َدهُ ُم المْ َ ْوتُ َق َال ِ�إنيِّ ُت ْب ُت الآنَ‬
‫ال�س ِّي َئ ِ‬
‫ ويقول �سبحانه‪َ } :‬و َل ْي َ�س ِت ال َّت ْو َب ُة ِل َّل ِذينَ َي ْع َم ُلونَ َّ‬
‫َو َال ا َّل ِذينَ مَ ُيو ُتونَ َوهُ ْم ُك َّفا ٌر �أُ ْو َلـ ِئ َك �أَ ْعت َْد َنا َل ُه ْم َع َذا ًبا �أَ ِلي ًما{‪.‬‬

‫تدارك ما م ّر من �أوقات‪ ،‬وهذه‬ ‫ُ‬ ‫۩ ۩وال�شدة الثالثة ‪ :‬ح�سراتُ الفوت حني ال ميكن ا�ستدراك ما فات‪ ،‬وال‬
‫ال�ش ّدة �أ�ش ُّد ال�سابقات‪ ،‬قيل‪� :‬إن امليت يقول مللك املوت‪� :‬أخرين يوم ًا‪ ،‬فيقول‪ :‬ذهبت الأي��ام‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫}حتَّى �إِ َذا َجاء �أَ َح َدهُ ُم المْ َ ْوتُ َق َال َر ِّب‬ ‫�أخرين �ساع ًة‪ ،‬فيقول‪ :‬ذهبت ال�ساعات‪ .‬فذاك قول اهلل تعاىل َ‬
‫ا ْر ِج ُع ِون{ َل َع ِّلي �أَ ْع َم ُل َ�صالحِ ً ا ِفي َما َت َر ْك ُت َك َّال ِ�إ َّن َها َك ِل َم ٌة هُ َو َقا ِئ ُل َها َو ِمن َو َرا ِئ ِهم َب ْر َز ٌخ ِ�إ ىَل َي ْو ِم ُي ْب َع ُثونَ {‪.‬‬
‫ قال قتادة‪( :‬واهلل ما يتمنى �أن يرجع �إىل �أهل وال ع�شرية‪ ،‬ولكن يتمنى �أن يرجع فيعمل بطاعة اهلل)‪.‬‬

‫ول َر ِّب َلوْال �أَ َّخ ْر َت ِني ِ�إ ىَل‬


‫ ويقول �سبحانه‪َ } :‬و َ�أن ِف ُقوا ِمن َّما َر َز ْق َنا ُكم ِّمن َق ْب ِل �أَن َي ْ�أ ِت َي َ�أ َح َد ُك ُم المْ َ ْوتُ َف َي ُق َ‬
‫ري بمِ َ ا َت ْع َم ُلونَ {‬ ‫الل َن ْف ً�سا �إِ َذا َجاء �أَ َج ُل َها َو هَّ ُ‬
‫الل َخ ِب ٌ‬ ‫يب َف َ�أ�صَّ َّد َق َو َ�أ ُكن ِّمنَ ال�صَّ الحِ ِ َني{ َو َلن ُي�ؤَ ِّخ َر هَّ ُ‬
‫�أَ َج ٍل َق ِر ٍ‬

‫۩ ۩‪,‬ال�شدة الرابعة ‪ :‬معاينة ملك املوت‪ ،‬والنظر �إىل هيئته وعظيم خلقته‪ ،‬وهي حال ٌة عظيمة‪ ،‬و�صور ٌة‬
‫وعظيم طلعته‪ُ } .‬ق ْل َي َت َو َّفا ُكم َّم َل ُك المْ َ ْو ِت ا َّل ِذي ُو ِّك َل ِب ُك ْم ُث َّم �إِ ىَل‬
‫ِ‬ ‫فظيعة‪ ،‬وما ُبهت َمن ُبهت �إال لر�ؤيته‪،‬‬
‫َر ِّب ُك ْم ُت ْر َج ُعونَ {‪.‬‬

‫اءت َ�س ْك َر ُة المْ َ ْو ِت ِبالحْ َ ِّق َذ ِل َك َما ُك َ‬


‫نت ِم ْن ُه‬ ‫وال�شدة اخلام�سة‪� :‬أ ُمل املوت‪ ،‬و�سكراته يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و َج ْ‬ ‫۩ ۩ ِّ‬
‫تحَ ِ ي ُد {‪ ،‬ويف �صحيح البخاري �أن النبي‪s‬كان يدخل يده يف املاء ثم مي�سح بها وجهه ويقول‪ :‬ال غله �إال‬
‫اهلل �إن للموت ل�سكرات‪.‬‬
‫اب‬ ‫الظالمِ ُونَ فيِ َغ َم َر ِات المْ َ ْو ِت َوالمْ َلآ ِئ َك ُة َب ِا�س ُطو ْا �أَ ْي ِد ِيه ْم �أَ ْخ ِر ُجو ْا �أَن ُف َ�س ُك ُم ا ْل َي ْو َم تجُْ زَ ْونَ َع َذ َ‬
‫ } َو َل ْو َت َرى �إِ ِذ َّ‬
‫الل َغ رْ َي الحْ َ ِّق َو ُكنت ُْم َعنْ �آ َيا ِت ِه ت َْ�س َتكْبرِ ُ ونَ {‪.‬‬ ‫ا ْل ُه ِون بمِ َ ا ُكنت ُْم َت ُقو ُلونَ َع َلى هَّ ِ‬

‫ ُروي �أن عبد اهلل بن عمرو‪d‬قال البنه‪ :‬ليتني �ألقى رج ًال عاق ًال عند نزول املوت يخربين مبا يجد!‪،‬‬
‫يخرج‬
‫�شوك ُ‬‫حتت وك�أن غ�صن ٍ‬ ‫�صف يل املوت‪ ،‬فقال‪( :‬يا ُبني ك�أن جنبي يف ٍ‬ ‫ف ّلما نزل به املوت جاءه ابنه فقال ْ‬
‫قوي فانت َِ�صر‪ ،‬وال بريء‬
‫أتنف�س من َ�س ِّم �إبرة)‪ ،‬ثم م َّد َيده فقال‪( :‬اللهم ال ٌّ‬
‫من قدمي �إىل هامتي‪ ،‬وك�أين � ُ‬
‫مذنب م�ستغفر) ثم مات‪.d‬‬ ‫فاعتذر‪ ،‬اللهم �إين مق ٌّر ٌ‬

‫‪318‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬املوت‬

‫ وال�شدة ال�ساد�سة‪ :‬ر�ؤية املجرمني موا�ضعهم من النار‪ ،‬وخوف هذا كان يقلق ال�صاحلني عند النزع‬
‫فين�سون ُك َّل �ش ّدة‪ ،‬بكى �إبراهيم النخعي عند املوت‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما يبكيك؟‪ ،‬قال‪ :‬انتظر ر�سل ربي �إما �إىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اجلنة و�إما �إىل النار‪.‬‬

‫۩ ۩وال�شدة ال�سابعة‪� :‬سوء اخلامتة‪ ،‬وقد كان النبي‪s‬ي�ستعيذ باهلل من �سوء اخلامتة‪ ،‬وميتتة ال�سوء‪.‬‬

‫فبعده �س�ؤا ٌل‬


‫بعده‪ ،‬وما �أي�س َره ملا �سيلحقُ املر َء عق َبه‪َ ،‬‬‫املوت �إذا نظرتَ َملا َ‬ ‫ عبا َد اهلل ! ما � َ‬
‫أ�سهل �أم َر ِ‬
‫وح�ساب لت�شيب له الولدان‪ ،‬وت�ض ُع ُك ُّل ذات‬
‫ٌ‬ ‫وتقرير‪ ،‬و�ض ّم ٌة للقرب وجه ٌل مبا يكون عليه حا ُله‪ ،‬ثم بعثٌ وح�ش ٌر‬
‫حمل حملها‪ ،‬وترى النا�س ُ�سكارى وما هم ب�سكارى‪ ،‬ولكن عذاب اهلل �شديد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ولو �أنا �إذا متنا ُتركنا‬ ‫ ‬
‫لكان املـوتُ راح ـ َة ُك ِّـل حي‬ ‫ ‬
‫ولكنـا �إذا مــتنا بـعثنا ‬ ‫ ‬
‫و ُن�س�أل بعدها عن ُك ِّل �شي ِء‬ ‫ ‬

‫ وقبل ذلك و�أ�صدق قول اهلل ج ّل وعال‪ُ } :‬ك ُّل َن ْف ٍ�س َذ�آ ِئ َق ُة المْ َ ْو ِت َو�إِنمَّ َ ا ُت َو َّف ْونَ �أُ ُجو َر ُك ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َف َمن‬
‫ُز ْح ِز َح َع ِن ال َّنا ِر َو�أُ ْد ِخ َل الجْ َ َّن َة َف َق ْد َفا َز َوما الحْ َ َيا ُة ال ُّد ْن َيا �إِالَّ َمتَا ُع ا ْل ُغ ُرو ِر{‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬

‫ عباد اهلل ! �إن تذ ُّكر املوت لي�س نظر ًة �سوداوي ًة‪ ،‬وال تفكري ًا �سلبي ًا‪ ،‬وال �إيغا ًال يف ‪ ،‬ولي�س دعوة للكئابة‪،‬‬
‫و�إمنا هو امتثا ٌل لأمر النبي‪s‬فقد ثبت عند الرتمذي وغ ِريه من حديث ابن عمر‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪:‬‬
‫(�أكرثوا من ذكر هادم اللذات املوت)‪.‬‬

‫أعمال الآخرة‪،‬‬ ‫ �إن يف تذ ُّكر املوت تنبيه للنف�س الب�شرية لكي ال تغرت باحلياة الدنيا‪ ،‬وتلتهي ب�أ�شغالها عن � ِ‬
‫ُروي يف الأثر‪( :‬ما �أكرث رج ٌل ذكر املوت �إال زاد ذلك يف عم ِله‪ ،‬وترك احل�سد والرغبة)‪.‬‬
‫املوت تخطفهم‬ ‫�سهام ِ‬ ‫قوم ُ‬ ‫بال ٍ‬ ‫ما ُ‬ ‫ ‬
‫ُيـ ـفــاخــرون برفع الط ـيــن والـ َم َد ِ ر‬ ‫ ‬
‫تعقل يا مغرور ما َب َرقتْ ‬ ‫كنت ُ‬ ‫لو َ‬ ‫ ‬
‫خوف ومن حذ ِر‬ ‫للنا�س من ٍ‬ ‫عيناك ِ‬ ‫َ‬ ‫ ‬
‫النا�س‪ ،‬والرغبة يف جمع‬ ‫ح�سد ِ‬ ‫نعم! �إن َمن يتذك ُر م�آله‪ ،‬وم�صريه ف�إنه يزدا ُد طاع ًة‪ ،‬ويرتك َ‬ ‫ ‬
‫ُحطام الدنيا‪ ،‬يقول اهلل ج ّل وعال‪�} :‬أَ ْل َها ُك ُم ال َّت َكا ُث ُر { َحتَّى ُزرْتمُ ُ المْ َ َقا ِب َر{ َك َّال َ�س ْو َف َت ْع َل ُمونَ ُ{ َّم َك َّال َ�س ْو َف‬
‫َت ْع َل ُمونَ { َك َّال َل ْو َت ْع َل ُمونَ ِع ْل َم ا ْل َي ِق ِني{ َلترَ َ ُونَّ الجْ َ ِح َيم { ُث َّم َلترَ َ ُو َّن َها َعينْ َ ا ْل َي ِق ِني{ ُث َّم َلتُ�سْ�أَ ُلنَّ َي ْو َم ِئ ٍذ َع ِن‬
‫ال َّن ِع ِيم{‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬النحلة‬
‫النحلة‬

‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ا�س‬ ‫ي�ضرب الأمثال لعباده ليتع�ضوا ويتفكروا فيها؛ كما قال �سبحانه‪َ } :‬و َي�ضْ ِر ُب هَّ ُ‬
‫الل الأَ ْم َث َال ِلل َّن ِ‬ ‫ُ‬ ‫ ف�إن اهلل‬
‫والذباب قال‬
‫َ‬ ‫اهلل العنكبوتَ‬ ‫الل ِب ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َع ِلي ٌم{‪ ،‬وجاء عن قتادة (الطربي ‪ )177/1‬قال‪ ( :‬ملَّا َذ َك َر ُ‬ ‫َو هَّ ُ‬
‫الل َال َي ْ�ست َْح ِيي �أَن َي�ضْ ِر َب َم َث ًال َّما َب ُع َ‬
‫و�ض ًة‬ ‫امل�شركون‪ :‬ما بال العنكبوت والذباب ُيذكران‪ ،‬ف�أنزل اهلل‪�ِ } :‬إنَّ هَّ َ‬
‫َف َما َف ْو َق َها َف�أَ َّما ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا َف َي ْع َل ُمونَ �أَ َّن ُه الحْ َ ُّق ِمن َّر ِّب ِه ْم َو�أَ َّما ا َّل ِذينَ َك َف ُرو ْا َف َي ُقو ُلونَ َم َاذا �أَ َرا َد هَّ ُ‬
‫الل ِب َه َـذا َم َث ًال‬
‫ُي ِ�ض ُّل ِب ِه َك ِثري ًا َو َي ْه ِدي ِب ِه َك ِثري ًا َو َما ُي ِ�ض ُّل ِب ِه ِ�إالَّ ا ْل َف ِا�س ِقنيَ{‪.‬‬

‫ِومن املثل الذي �ش َّبه به النبي ‪s‬امل�ؤمن �أنه �ش َّبهه ب�شجرة وحيوان‪� ،‬أ َّما ال�شَّ جر ُة ف�إن النبي‪�s‬ش َّبه‬ ‫ ‬
‫النبي ‪ s‬بالنحلة‪ ،‬روى ابن حبان (‪ ،)247‬والن�سائي ( الكربى‬ ‫امل�ؤمن بالنخلة‪ ،‬و�أمَّ��ا احليوان ف�شبهه ُّ‬
‫أكل �إال طيب ًا‪ ،‬وال ت�ضع �إال طيب ًا)‪.‬‬
‫‪ )11278‬عن �أبي رزين‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬مثل امل�ؤمن َم َث ُل النـَّح َل ِة ال ت� ُ‬

‫النا�س يت�أملون يف بديع هذا الت�شبيه‪،‬‬ ‫ عباد اهلل! �إن هذا الت�شبيه النبوي من لطيف التمثيل‪ ،‬وما زال ُ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ويتفكرون يف حال النحلة وطريقة عي�شها‪ ،‬ف�أ َّما امل�ؤمن فيتفكر ويعترب‪� ،‬إذ النح ُل �آي ٌة من �آيات اهلل‪ ،‬وخل ٌق من‬
‫وقرب منه } َو ِت ْل َك الأَ ْم َث ُال َن�ضْ ِر ُب َها ِلل َّن ِ‬
‫ا�س َل َع َّل ُه ْم َي َت َف َّك ُرونَ {‪.‬‬ ‫خل ِقه‪ ،‬فيها �شب ٌه بامل�ؤمن‪ٌ ،‬‬

‫ ‪ِ w‬ومن اخل�صال املت�شابهة بني النحلة وبني امل�ؤمن‪:‬‬


‫۩ ۩�أن النحل ال ي�أكل �إال ط ِّيب ًا فهو يبحثُ عن �أطيب ال�شجر فيقع عليه‪ ،‬وعن �أحلى الثمر فيتناول َ‬
‫طعامه منه‪،‬‬
‫فرتاه �أبد ًا يدور حول ريا�ض الزهور‪ ،‬ويجول يف مروج الرياحني‪ ،‬وعلى �شطوط الأنهار‪.‬‬

‫ كذلك امل�ؤمن ف�إنه ال ي�أكل �إال املال احلالل الط ِّيب‪ ،‬وال يجل�س �إال يف املكان الط ِّيب‪ ،‬تراه متنق ًال يبحث‬
‫عن املال واجللي�س الطيب؛ ففي ال�صحيح عن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬أيها النا�س �إن اهلل طيب ال‬
‫ات َو ْاع َم ُلوا‬ ‫يقبل �إال ط ّيب ًا‪ ،‬و�إن اهلل �أمر امل�ؤمنني مبا �أمر به املر�سلني فقال } َيا �أَ ُّي َها ال ُّر ُ�س ُل ُك ُلوا ِمنَ َّ‬
‫الط ِّي َب ِ‬

‫‪320‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬النحلة‬

‫َ�صالحِ ً ا ِ�إنيِّ بمِ َ ا َت ْع َم ُلونَ َع ِلي ٌم { وقال‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا ُك ُلو ْا ِمن َط ِّي َب ِ‬
‫ات َما َر َز ْق َنا ُك ْم{ ثم ذكر الرجل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫يطيل ال�سفر �أ�شعث �أغرب ميد يديه �إىل ال�سماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وم�شربه حرام وملب�سه حرام‬
‫�ستجاب لذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وغ ِّذي باحلرام ف�أ َّنى ُي‬ ‫ُ‬

‫۩ ۩ومن �أوجه ال�شَّ به التي ذكرها النبي‪� :s‬أن النحل ال ي�ضع �إال َط ِّيب ًا‪�َ ،‬ش ْه َد ًا وع�س ًال‪..‬‬

‫ وكذا امل�ؤمن ف�إنه ال يخرج منه �إال الط ِّيب من قو ِله وفع ِله وظنه بالنا�س‪ ،‬ويف ال�صحيحني عن �أبي مو�سى‬
‫الأ�شعري‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬مثل الذي يقر�أ القر�آن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب والذي ال يقر�أ‬
‫القر�آن كالتمرة طعمها طيب وال ريح لها)‪.‬‬

‫طعم َما م َعه‬ ‫َ‬


‫النحل َي�ست�صغ ُر ُه جمي ُع الطري ويحتق ُره‪ ،‬ولو علموا ما يف جوفه‪ ،‬وذاقوا َ‬ ‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن‬
‫وبج ُلوه‪ .‬لأن ر�سم ج�سمه �صغري‪ ،‬ومنظ َر �شخ�صه حقري‪ ،‬بينما ما يف باطنه عظي ٌم ال ُيوجد عند‬
‫لأكرموه َّ‬
‫غ ِريه‪.‬‬

‫ال�س َفل ُة وال ِّر َذال‪ ،‬ويذ ُّمه الأنذال‪ ،‬ولو علموا ما يف‬ ‫ُ‬
‫اجلاهل‪ ،‬ويحتق ُر ُه َّ‬ ‫ وكذلك امل�ؤمن يف النا�س َي�ست�صغ ُر ُه‬
‫قلبه من ُح�سن ودائع الرب‪ ،‬وعجائب ال َغيب‪ ،‬حلملوه على الرو�ؤ�س‪.‬‬
‫علي بن �أبي طالب ‪d‬خطب �أ�صحا َبه‪ ،‬فقال‪ُ ( :‬كونوا يف‬ ‫ روى ابن ابي الدنيا يف (مدارة النا�س) �أن َّ‬
‫النا�س كالنحلة يف الطيب‪ ،‬ف�إنه لي�س �شيء من الطَّري �إال ي�ست�ضعفها ولو َيعلم ما يف �أجوافها مل يفعل)‪.‬‬

‫معتد‬
‫كاف الأذى عنهم‪ ،‬غ ُري ٍ‬ ‫وظلمهم‪ ،‬وهو ُّ‬ ‫النحل يخاف ِمن �أذى الطري ِ‬ ‫َ‬ ‫ال�شبه �أي�ض ًا‪� :‬أن‬
‫۩ ۩ ِومن �أوجه ّ‬
‫خلالئق‪ ،‬وال َي ِ�ص ُل �أذاه �إىل ا َ‬
‫خل ْلق‪� ،‬صاب ٌر على �أذ َّية النا�س له‪،‬‬ ‫عليهم‪ .‬كذلك امل�ؤمن َي ِ�ص ُل �إليه �أذى ا َ‬
‫حمت�سب �أج َرها عند اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫حمتم ٌل غظاظتَهم‪،‬‬

‫بع�ضهم بع�ض ًا‬


‫۩ ۩ومن الأ�شباه بني النحل وامل�ؤمنني‪� :‬أن جميع �أنواع الطيور واحل�شرات لو اجتمعوا‪ ،‬فعاون ُ‬
‫عمل النحل‪ ،‬ويهتدوا �إىل ُ�ص ٍنع َ‬
‫مثل َل ِ‬
‫طيف �صنعه‪ ،‬مل يقدروا عليه‪.‬‬ ‫على �أن يعملوا َ‬
‫مثل ِ‬

‫ كذلك لو اجتمع جميع اخلالئق غري امل�ؤمنني على �أن يعملوا عم ًال ي�شبه عمل امل�ؤمنني يف اجلودة وجاللة‬
‫القدر ما قدروا عليه‪.‬‬

‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن ُكل �أجنا�س الطري يعي�شون لأنف�سهم وي�سعون يف طلب الأ�شياء ل�شهوتهم ومرادهم‪ ،‬والنحل‬
‫يعي�ش ل�صاحبه‪ ،‬وي�سعى �أبد ًا حلاجة ِ‬
‫مالكه‪...‬‬

‫ كذلك امل�ؤمن ف�إنه يعي�ش يف الدنيا هلل ويريد حياته لطاعة مواله‪ ،‬و َي�سعى يف الأ�سباب ِّ‬
‫حلظ غريه‪ ،‬وحلقٍّ‬
‫وين�صح الآخر للرب‪ ،‬وينهى غ َريه عن احلرام واملنكر‪.‬‬
‫َ‬ ‫�أوجبه عليه ُحكم ر ِّبه‪ ،‬فيدعو ذاك للخري‪،‬‬

‫‪321‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬النحلة‬

‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن جميع الطري �إذا جنَّ الليل يبيتون يف �أوكارهم وي�سرتخون بالنوم يف �أع�شا�شهم غري النحل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ف�إنه يعمل بالليل غري عمل النهار‪.‬‬

‫ كذلك امل�ؤمن يف النا�س �إذا جنَّ عليه الليل ف�إنه ين�صب قدميه هلل‪ ،‬ويقوم يف حمرابه بني يدي خال ِقه‬
‫ومواله‪ ،‬يناجيه يف فكاك رقبته‪ ،‬وي�شكو �إليه بلواه وه َّمه‬

‫إمامه‪ ،‬ويتبع �أمر اليع�سوب‪ ،‬وال يخرج عن طاعته‪.‬‬


‫۩ ۩والنحل يقتدي ب� ِ‬
‫ وكذلك امل�ؤمن ال يعمل بالر�أي وال يخرج على اجلماعة‪ ،‬وال ينزع يد ًا من طاعة‪ ،‬و�إمنا ي�أمتر َمبن واله‬
‫ُ‬
‫اهلل �أمره‪ ،‬ويقتدي بعلماء الدين و�أئمته املتقني‪.‬‬

‫حلكم‪� :‬أن اهلل تعاىل ح َّرم قتل النحل فروى �أحمد (‪ )3242‬عن ابن‬ ‫۩ ۩ومن �صور امل�شابهة وامل�شاكلة يف ا ُ‬
‫وال�صرد والهدهد)‪...‬‬
‫عبا�س‪ d‬قال‪( :‬نهى ر�سول اهلل‪s‬عن قتل النحلة والنملة ُّ‬
‫ وكذا امل�ؤمن ف�إنه يحرم قت ُل ُه واالعتداء عليه بغري وجه حق‪ .‬يف ال�صحيح من حديث �أبي هريرة‪�d‬أن‬
‫ُ‬
‫وعر�ضه)‪.‬‬ ‫امل�سلم على امل�سلم حرا ٌم د ُمه وما ُله‬
‫ِ‬ ‫النبي‪s‬قال‪( :‬ك ُّل‬

‫ �إىل غري ذلك من اخل�صال الكثري يف م�شابهة النحلة بامل�ؤمن؛ قال ابن الأثري (النهاية ‪( :)28/5‬ووجه‬
‫وقنوعه‪ ،‬و�سعي ُه يف الليل‪،‬‬‫النحل وفطن ُتهُ‪ ،‬وق ّل ُة �أذاه‪ ،‬وحقار ُته‪ ،‬ومنفعتُه‪ُ ،‬‬
‫امل�شابهة بني امل�ؤمن والنحلة‪َ :‬ح َذ ُق ِ‬
‫أكل ِمن ك�سب غ ِريه‪ ،‬ونحو ُلهُ‪ ،‬وطاعتُه لأم ِريه‪ ،‬و�أنّ للنحل � ٍ‬
‫آفات‬ ‫وطيب �أك ِله‪ ،‬و�أنه ال ي� ُ‬
‫وتنزهُ ُه عن الأقذار‪ُ ،‬‬
‫والريح والدخانُ واملا ُء والنار‪ ،‬وكذلك امل�ؤمن له �آفاتٌ ُتفترِّ ُ ُه عن عم ِله‬
‫ُ‬ ‫والغيم‬
‫ُ‬ ‫تقط ُع ُه عن عم ِله منها ُّ‬
‫الظل َم ُة‬
‫ال�سعة‪ ،‬ونا ُر الهوى )‪.‬‬
‫وريح الفتنة‪ ،‬ودخانُ احلرام‪ ،‬وما ُء َّ‬‫وغيم ال�شك‪ُ ،‬‬ ‫ظلم ُة الغفلة‪ُ ،‬‬

‫ } َو�أَ ْو َحى َر ُّب َك �إِ ىَل ال َّن ْح ِل �أَ ِن ات َِّخ ِذي ِمنَ الجْ ِ َب ِال ُب ُيو ًتا َو ِمنَ ال�شَّ َج ِر وَممَِّ ا َي ْع ِر ُ�شونَ { ُث َّم ُك ِلي ِمن ُك ِّل‬
‫اب مخُّْ َت ِل ٌف �أَ ْل َوا ُن ُه ِفي ِه ِ�ش َفاء ِلل َّن ِ‬
‫ا�س �إِنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ًة‬ ‫ا�س ُل ِكي ُ�س ُب َل َر ِّب ِك ُذ ُل ًال َي ْخ ُر ُج ِمن ُب ُطو ِن َها َ�ش َر ٌ‬
‫ال َّث َم َر ِات َف ْ‬
‫ِّل َق ْو ٍم َي َت َف َّك ُرونَ {‬

‫‪322‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬النفخ يف الصور‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫النفخ يف الصور‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫ �أما بع ُد‪ ..‬فقد روى م�سلم يف ال�صحيح �أن النبي‪s‬قام يف امل�سلمني مقام ًا َما ترك �شيئ ًا يكون يف َم ِ‬
‫قامه‬
‫ذلك �إىل قيام ال�ساعة �إال ح َّدث به حفظه من حفظه ون�سيه من ن�سيه‪ ..‬قال حذيف ُة‪( :d‬و�إنه ليكون منه‬
‫ال�شيء قد ن�سيته ف�أُراه ف�أذكره ك َما َيذك ُر الرج ُل وج َه الرجل �إذا غاب عنه ثم �إذا ر�آه عرفه)‪.‬‬

‫وخ َطبه ما روى الرتمذي وابن ماجه عن �أبي ذر‪ d‬قال‪ :‬قال‬ ‫ عباد اهلل ! وقد كان ِمن حديث النبي‪ُ s‬‬
‫ر�سول اهلل‪�( :s‬إين �أرى ماال ترون‪ ،‬و�أ�سمع ماال ت�سمعون؛ �إن ال�سماء � َّأطت ُ‬
‫وحقَّ لها �أن تئط َما فيها مو�ضع‬
‫�أرب ِع �أ�صابع �إال َوم َل ٌك َوا�ض ٌع جبهتَه �ساجد ًا هلل‪ ،‬واهلل لو تعلمون ما �أعلم ل�ضحكتم قليال ولبكيتم كثري ًا‪ ،‬وما‬
‫تلذذمت بالن�ساء على ال ُف ُر�ش‪ ،‬وخلرجتم �إىل ال�صَّ عدات جت�أرون �إىل اهلل) قال �أبو ذر‪(:‬واهلل لوددتُ �أين كنت‬
‫�شجر ًة تع�ضد)‬

‫اهلل يف كتابه العظيم ِمن هول املطلع‪ ،‬و�ش َّد ِة املوقف‬ ‫اهلل! �إن ِمن �أعظم َما ُيذ َّكر به ويوعظ‪َ ،‬ما ذكر ُ‬ ‫ عباد َ‬
‫آخرة‪ ،‬وزوال الدنيا وانق�ضائها؛ } َيا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬
‫ا�س ا َّت ُقوا َر َّب ُك ْم ِ�إنَّ‬ ‫العال وبداية ال ِ‬ ‫عندما تظهر عالمات نهاية مَ‬ ‫َ‬
‫ال�س َاع ِة َ�ش ْي ٌء َع ِظي ٌم{ َي ْو َم َت َر ْو َن َها ت َْذ َه ُل ُك ُّل ُم ْر ِ�ض َع ٍة َع َّما �أَ ْر َ�ض َع ْت َوت ََ�ض ُع ُك ُّل َذ ِات َح ْم ٍل َح ْم َل َها َو َت َرى‬
‫َز ْلزَ َل َة َّ‬
‫الل َ�ش ِدي ٌد{‪.‬‬ ‫اب هَّ ِ‬
‫ا�س ُ�س َكا َرى َو َما هُ م ِب ُ�س َكا َرى َو َل ِكنَّ َع َذ َ‬ ‫ال َّن َ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ روى م�سلم يف ال�صحيح عن عبد اهلل بن عمرو‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬يخرج الدجال يف �أمتي فيمكث‬
‫النا�س �سب َع �سنني لي�س بني اثنني عداوة‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫اهلل عي�سى بنَ مرمي ف َيط ُل ُبه ف ُيهل ُكه‪ ،‬ثم ميكثُ‬ ‫�أربعني‪ ،..‬ف َيبعث ُ‬
‫اهلل ريح ًا بارد ًة ِمن ِق َب ِل ال�شام فال َيبقى على وجه الأر�ض �أح ٌد يف قلبه مثقال ذرة ِمن خ ٍري �أو �إميان‬ ‫ُير�سل ُ‬
‫أحدكم دخل يف كبد جبل لدخلته عليه حتى تقب�ضه‪ ،‬قال‪� :‬سمعتها من ر�سول اهلل‪،s‬‬ ‫�إال قب�ضته حتى لو �أن � َ‬
‫ال�سباع ال يعرفون معروف ًا‪ ،‬وال ُينكرون منكر ًا‪ ،‬فيتمثل لهم‬ ‫قال‪ :‬فيبقى �شرا ُر النا�س يف ِخ َّف ِة الطري و�أحالم ِّ‬
‫ال�شيطان‪ ،‬فيقول‪� :‬أال ت�ستجيبون؟‪ ،‬فيقولون‪ :‬ف َما ت�أمرنا؟ في�أمرهم بعبادة الأوثان‪ ،‬وهم يف ذلك َدا ٌّر رز ُقهم‪،‬‬
‫ال�صور فال َي�سم ُع ُه �أح ٌد �إال �أ�صغى ِليت ًا ورفع ِل ْي َت ًا ‪�-‬أي عنق ًا‪ ،-‬قال‪ :‬و�أ َّو ُل َمن‬ ‫ي�شهم‪ ،‬ثم ُينفخ يف ُّ‬ ‫َح َ�سنٌ َع ُ‬
‫حو�ض �إبله ‪�-‬أي يطينه‪ ،-‬قال‪ :‬ف ُي�ص َعقُ و ُي�ص َعقُ النا�س‪ ،‬ثم ُينزل اهلل مطر ًا ك�أنه َّ‬
‫الطل‪،‬‬ ‫وط َ‬ ‫َي�سم ُع ُه رج ٌل َي ُل ُ‬
‫يام َينظرون‪ ،‬ثم يقال‪ :‬يا �أيها النا�س ه ُل َّم �إىل ربكم‬ ‫فتنبت منه �أج�سا ُد النا�س‪ ،‬ثم ُينفخ فيه �أُخرى ف�إذا هم ِق ُ‬ ‫ُ‬
‫ألف ت�سعمائة‬ ‫} َو ِق ُفوهُ ْم ِ�إ َّن ُهم َّم ْ�س ُئو ُلونَ {‪ ،‬قال ثم يقال‪� :‬أخرجوا بعثَ النار‪ ،‬فيقال‪ِ :‬من كم؟ ف ُيقال‪ِ :‬من ُك ِّل � ٍ‬
‫وت�سعة وت�سعني قال ‪ :s‬فذاك يوم } َي ْج َع ُل ا ْل ِو ْل َدانَ ِ�شي ًبا{ وذلك } َي ْو َم ُي ْك َ�ش ُف َعن َ�س ٍاق{‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬النفخ يف الصور‬

‫ال�صور نفخ ًة واحدة (وال�صور على هيئة‬ ‫ عباد اهلل ! �إذا اقرتب الوع ُد احلق �أمر ُ‬
‫اهلل ا َمل َلك فنفخ يف ُّ‬
‫ُ‬ ‫البوق بيد َم َلك خمت�ص به‪ ،‬قال‪ُّ :s‬‬
‫(ال�صور َق ْر ٌن ُينفخ فيه)‪ ،‬فاندكت بذلك‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اجلبال والأر�ض فكانتا �سوا ًء‪،‬‬
‫و�صعق النا�س‬ ‫وفجرت البحار‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫الكواكب‪،‬وطم�ست النجوم فذهب نورها و�ضو�ؤها‪ِّ ،‬‬ ‫وت�شققت ال�سماء‪ ،‬وتناثرت‬
‫لذلك النفخ‪..‬‬

‫ال�صو ِر َن ْف َخ ٌة َو ِاح َد ٌة َ{ ُح ِم َل ِت الأَ ْر ُ�ض َوالجْ ِ َب ُال َف ُد َّكتَا َد َّك ًة َو ِاح َد ًة { َف َي ْو َم ِئ ٍذ َو َق َع ِت ا ْل َوا ِق َع ُة‬ ‫ } َف�إِ َذا ُن ِفخَ فيِ ُّ‬
‫ال�س َماء َف ِه َي َي ْو َم ِئ ٍذ َو ِاه َي ٌة { َوالمْ َ َل ُك َع َلى �أَ ْر َجا ِئ َها َو َي ْح ِم ُل َع ْر َ�ش َر ِّب َك َف ْو َق ُه ْم َي ْو َم ِئ ٍذ َث َما ِن َية{ َي ْو َم ِئ ٍذ‬ ‫{ َو َ‬
‫ان�ش َّق ِت َّ‬
‫ُت ْع َر ُ�ضونَ ال ت َْخ َفى ِمن ُك ْم َخا ِف َي ٌة{‪.‬‬

‫ال�س َماء ان َف َط َر ْت{ َو�إِ َذا ا ْل َك َو ِاك ُب انت رَ َ‬


‫َث ْت{ َو�إِ َذا ا ْل ِب َحا ُر ُف ِّج َر ْت{ َو�إِ َذا ا ْل ُق ُبو ُر ُب ْع رِ َث ْت‬ ‫ وقال �سبحانه‪�} :‬إِ َذا َّ‬
‫ن�سانُ َما َغ َّر َك ِب َر ِّب َك ا ْل َك ِر ِمي{‪.‬‬ ‫{ َع ِل َم ْت َن ْف ٌ�س َّما َق َّد َم ْت َو�أَ َّخ َر ْت { َيا �أَ ُّي َها الإِ َ‬

‫ال�س َماء ُف ِر َج ْت { َو ِ�إ َذا الجْ ِ َب ُال ُن ِ�س َف ْت‬ ‫وم ُط ِم َ�س ْت{ َو ِ�إ َذا َّ‬ ‫ وقال ج َّل وعال‪�ِ } :‬إنمَّ َ ا ُت َ‬
‫وعدُونَ َل َوا ِق ٌع{ َف ِ�إ َذا ال ُّن ُج ُ‬
‫{ َو�إِ َذا ال ُّر ُ�س ُل �أُ ِّقت َْت{لأَ ِّي َي ْو ٍم �أُ ِّج َل ْت{ ِل َي ْو ِم ا ْل َف�صْ ِل{ َو َما �أَ ْد َر َ‬
‫اك َما َي ْو ُم ا ْل َف�صْ ِل { َو ْي ٌل َي ْو َم ِئ ٍذ ِّل ْل ُم َك ِّذ ِبنيَ{‪.‬‬

‫ري { َع َلى ا ْل َكا ِف ِرينَ َغ رْ ُي َي ِ�سري{ َذرْنيِ َو َمنْ َخ َل ْق ُت َو ِحيدً ا *‬ ‫ } َف ِ�إ َذا ُن ِق َر فيِ ال َّنا ُقو ِر{ َف َذ ِل َك َي ْو َم ِئ ٍذ َي ْو ٌم َع ِ�س ٌ‬
‫دت َل ُه تمَْ ِهيدً ا{ ُث َّم َي ْط َم ُع �أَنْ �أَز َ‬
‫ِيد { َك َّال �إِ َّن ُه َكانَ لآ َيا ِت َنا َعنِيدً ا‬ ‫َو َج َع ْل ُت َل ُه َما ًال ممَّْ دُودًا{ َو َب ِن َني ُ�ش ُهودًا{ َو َم َّه ُّ‬
‫{ َ�س ُ�أ ْر ِه ُق ُه َ�ص ُعودًا{‬

‫ فتلك النفخة ال ُتبقي على الأر�ض �شيئ ًا‪ُ } ،‬ك ُّل َمنْ َع َل ْي َها َف ٍان { َو َي ْب َقى َو ْج ُه َر ِّب َك ُذو الجْ َ ِ‬
‫الل َوالإِ ْك َر ِام{‪،‬‬
‫ن�س ُف َها َر ِّبي َن ْ�س ًفا{ َف َي َذ ُر َها َق ًاعا َ�ص ْف َ�ص ًفا {ال َت َرى ِفي َها ِع َو ًجا َوال �أَ ْمتًا{‪.‬‬
‫} َو َي�س َْ�أ ُلو َن َك َع ِن الجْ ِ َب ِال َف ُق ْل َي ِ‬

‫ ثم تبقى الأر�ض كذلك �أربعني ال حياة فيها‪ ،‬ثم ُينفخ النفخة الثانية‪ ،‬فذاك قول اهلل تعاىل‪َ } :‬ي ْو َم‬
‫َت ْر ُج ُف ال َّر ِاج َف ُة { َت ْت َب ُع َها ال َّرا ِد َف ُة{ �أي الثانية‪ .‬يف �صحيح البخاري �أن النبي‪s‬قال‪( :‬بني النفختني �أربعون‪،‬‬
‫ويبلى ك ُّل �شيءٍ ِمن الإن�سان �إال َع َج ُب َذن ِبه فيه ُير َّك ُب ا َ‬
‫خل ْلق)‪.‬‬

‫فحينئذ ي�شيب الولدان‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ ف�إذا ُنفخ النفخة الثانية قام النا�س من قبورهم هلعني خائفني‪ ،‬ميوجون موجا‪،‬‬
‫ن�س ُلونَ { َقا ُلوا َيا َو ْي َل َنا َمن‬ ‫ال�صو ِر َف�إِ َذا هُ م ِّمنَ الأَ ْج َد ِ‬
‫اث �إِ ىَل َر ِّب ِه ْم َي ِ‬ ‫حمل حملها‪َ } ،‬و ُن ِفخَ فيِ ُّ‬ ‫وت�ضع ُكل ذات ٍ‬
‫َب َع َث َنا ِمن َّم ْر َق ِد َنا َه َذا َما َو َع َد ال َّر ْح َمنُ َو َ�ص َد َق المْ ُ ْر َ�س ُلونَ { ِ�إن َكا َن ْت ِ�إالَّ َ�ص ْي َح ًة َو ِاح َد ًة َف ِ�إ َذا هُ ْم َج ِمي ٌع َّل َد ْي َنا‬
‫محُْ َ�ض ُرونَ { َفا ْل َي ْو َم ال ُت ْظ َل ُم َن ْف ٌ�س َ�ش ْي ًئا َوال تجُْ زَ ْونَ ِ�إالَّ َما ُكنت ُْم َت ْع َم ُلونَ {‬

‫ال�صو ِر َو َن ْح ُ�ش ُر المْ ُ ْج ِر ِم َني َي ْو َم ِئ ٍذ ُز ْر ًقا{ َيت ََخا َف ُتونَ َب ْي َن ُه ْم �إِن َّل ِب ْثت ُْم �إِالَّ َع�شْ ًرا{ َن ْحنُ �أَ ْع َل ُم‬
‫ } َي ْو َم ُينفَخُ فيِ ُّ‬
‫ول �أَ ْم َث ُل ُه ْم َط ِري َق ًة ِ�إن َّل ِب ْثت ُْم ِ�إالَّ َي ْو ًما{ َو َي�س َْ�أ ُلو َن َك َع ِن الجْ ِ َب ِال َف ُق ْل َي ِ‬
‫ن�س ُف َها َر ِّبي َن ْ�س ًفا{ َف َي َذ ُر َها‬ ‫بمِ َ ا َي ُقو ُلونَ ِ�إ ْذ َي ُق ُ‬
‫َق ًاعا َ�ص ْف َ�ص ًفا{ ال َت َرى ِفي َها ِع َو ًجا َوال �أَ ْمتًا{ َي ْو َم ِئ ٍذ َي َّت ِب ُعونَ ال َّد ِاع َي ال ِع َو َج َل ُه َو َخ َ�ش َعت الأَ�صْ َواتُ ِلل َّر ْح َم ِن َفال‬
‫‪324‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬النفخ يف الصور‬

‫ت َْ�س َم ُع ِ�إالَّ َه ْم ً�سا{ َي ْو َم ِئ ٍذ الَّ تَن َف ُع ال�شَّ َف َاع ُة ِ�إالَّ َمنْ �أَ ِذنَ َل ُه ال َّر ْح َمنُ َو َر ِ�ض َي َل ُه َقو ًْال{‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ وقال �سبحانه‪َ } :‬و َي ْو َم ُن َ�س رِّ ُي الجْ ِ َب َال َو َت َرى الأَ ْر َ�ض َبا ِر َز ًة َو َح َ�ش ْر َناهُ ْم َف َل ْم ُن َغا ِد ْر ِم ْن ُه ْم �أَ َحدً ا{ َو ُع ِر ُ�ضوا‬
‫َاب َفترَ َى‬‫َع َلى َر ِّب َك َ�ص ًّفا َّل َق ْد ِج ْئ ُت ُمو َنا َك َما َخ َل ْق َنا ُك ْم �أَ َّو َل َم َّر ٍة َب ْل َز َع ْمت ُْم �أَ َّلن نجَّْ َع َل َل ُكم َّم ْو ِعدً ا{ َو ُو ِ�ض َع ا ْل ِكت ُ‬
‫َاب ال ُي َغا ِد ُر َ�ص ِغ َري ًة َوال َك ِب َري ًة �إِالَّ �أَ ْح َ�ص َاها َو َو َجدُوا‬‫المْ ُ ْج ِر ِم َني ُم�شْ ِف ِق َني ممَِّ ا ِفي ِه َو َي ُقو ُلونَ َيا َو ْي َل َت َنا َم ِال َه َذا ا ْل ِكت ِ‬
‫ا�ض ًرا َوال َي ْظ ِل ُم َر ُّب َك �أَ َحدً ا{‬ ‫َما َع ِم ُلوا َح ِ‬

‫ال�صور قد التقم ال َق ْرنَ و�أ�ص َغى‬


‫و�صاحب ُّ‬
‫ُ‬ ‫ روى الن�سائي عن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪( :s‬كيف �أن َع ُم‬
‫ب�سم ِعه َو َح َنى بجبه ِته َي ِ‬
‫نتظ ُر َمتى ُي� َؤمر ف َينفَخُ )‪ ،‬قالوا‪ :‬يا ر�سول اهلل كيف نقول؟ قال‪( :‬قولوا‪ :‬ح�سبنا اهلل‬
‫ونعم الوكيل على اهلل توكلنا)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬النهي عن اللعن‬
‫النهي عن اللعن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ألفاظ اعتاد عليها‪ ،‬وت�ساهل يف التلفظ بها‪ ،‬وهي عند اهلل عظيم ٌة‪ ،‬يبقى‬ ‫ ف�إن الل�سان يجري عليه � ٌ‬
‫�ش�ؤ ُمها على املرءٍ كبري ًا يف الدنيا والآخرة؛ يف ال�صحيح (‪� )6113‬أن النبي‪ s‬قال‪�( :‬إن العبد ليتك ّل ُم بالكلمة‬
‫من ر�ضوان اهلل ال يلقي لها باال َيرفع ُ‬
‫اهلل بها درجات‪ ،‬و�إن العبد ليتكلم بالكلمة من �سخط اهلل ال يلقي لها‬
‫باال يهوي بها يف جهنم)‪.‬‬

‫ِومن هذه الألفاظ التي درجت على �أل�سن ِة بع�ضنا‪ ،‬وت�ساحمت الآذان ب�سماعها مع عظيم ُجرمها‪،‬‬ ‫ ‬
‫وميدح به َمن‬
‫ُ‬ ‫غ�ضب عليه‪،‬‬
‫و�ش�ؤمها على قائلها‪� ،‬أال وهو (اللعن)‪ ،‬ف�إن العبد مبتلى بل�سانه َيلعنُ به َمن َي ُ‬
‫ير�ضى عنه‪ ،‬وكثري ًا ما ميدح َمن ال ي�ستحق املدح‪ ،‬ويلعن من ال ي�ستحق اللعن‪.‬‬

‫بغ�ضب اهلل ونا ِره‪ ،‬روى �أبو‬


‫ِ‬ ‫ ولذا بينّ النبي‪�s‬أن املر َء �إذا غ�ضب فليتجنب ثالثة �ألفاظ‪ :‬اللعنَ ‪ ،‬والدعا َء‬
‫تالعنوا بل ْع َن ِة اهلل‪ ،‬وال َب َغ ِ‬
‫�ضب اهلل‪ ،‬وال‬ ‫ر�سول اهلل‪s‬قال‪« :‬ال َ‬ ‫داود والرتمذي عن �سمرة بن جندب‪�d‬أن َ‬
‫خطبة جديدة‬
‫بالنار»‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن َمن لعن �شخ�ص ًا �أو جماد ًا ف�إنه ف�إمنا يدعو عليه ب�أن ال يرحمه اهلل‪� ،‬إذ اللعن هو الطرد‬
‫من رحمة اهلل‪َ ،‬ومن ال يرحمه اهلل فهو هالك‪.‬‬

‫۩ ۩ �إنّ ِمن �ش� ِؤم هذه الكلمة �أن املرء �إذا َل َعنَ �شيئ ًا له ف�إنه تنزع منه برك ُتهُ‪ ،‬ويذهب خ ُري ُه من �صاحبه‪ ،‬و�إليك‬
‫هذا اخلرب فقد روى م�سل ٌم يف ال�صحيح عن عمران بن ح�صني و�أبي برزة‪�« :d‬أن ُ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬بينما‬
‫رت ف َل َع َنتْها‪ ،‬ف�سمع ذلك ُ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬‬ ‫هو يف بع�ض �أ�سفاره‪ ،‬وامر�أة من الأن�صار على ناقة لها َ‬
‫ف�ض ِج ْ‬
‫هلل ال ت�صاح ْبنا ناقة عليها لعنة من اهلل] خذوا ما عليها و َد ُعوها ف�إنها ملعونة »‪ ،‬قال‬ ‫فقال‪[« :‬ال و�أ ُمي ا ِ‬
‫عمران‪ :‬فك�أين �أراها الآن مت�شي يف النا�س‪ ،‬ما ي ْع ِر ُ�ض لها �أحد»‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬النهي عن اللعن‬

‫دخل بيتَه �شيئ ًا‬


‫ قال ابن رجب‪( :‬اللعن دعا ٌء فرمبا �أجيب و�أ�صاب ذلك امللعون ‪ ..‬وكان بع�ض ال�سلف ال ُي ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ملعون ًا‪ ،‬وال ي�أكل من بي�ض دجاجة يلعنها‪ ،‬وال ي�شرب من لنب �شاة لعنها)‪.‬‬

‫النا�س َمن يدعو على نف�سه‪ ،‬روى �أبو‬ ‫نف�سه بها‪ ،‬و�أحمقُ ِ‬ ‫۩ ۩ ِمن �ش�ؤم هذه الكلمة �أنّ �صاحبها �إمنا يدعو على ِ‬
‫ال�سماء‪ ،‬ف ُت ْغ َلقُ � ُ‬
‫أبواب‬ ‫داود عن �أبي الدرداء‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪�« :‬إذا َل َعنَ الع ْب ُد �شيئا َ�ص ِع َدتُ ال َّلع َن ُة �إىل َّ‬
‫ال�سماء دُو َنها‪ ،‬ثم تَه ِب ُط �إىل الأر�ض‪ ،‬فت ْغ َلقُ �أبوابها دونها‪ ،‬فت�أخذ ميينا و�شماال‪ ،‬ف�إذا مل جتد م�ساغ ًا‬
‫َر َج َع ْت �إىل الذي ُلعنَ ‪ ،‬ف�إن كان لذلك �أه ًال‪ ،‬و�إال رجعت �إىل قائلها»‪.‬‬

‫۩ ۩ ِومن �ش�ؤم هذه الكلمة �أن النبي‪s‬نفى عن فاعلها �صفة الإميان ِمن كرثة دعائه على نف�سه بها‪ ،‬روى‬
‫الرتمذي عن عبد اهلل بن عمر‪�d‬أن النبي‪« :s‬ال يكون امل�ؤمن ل َّعانا»‪.‬‬

‫۩ ۩ َومن َل َعنَ ُم�سلم ًا فقد �آذاه �أذ ّي ًة عظيم ًة‪ ،‬وقد اقرتف �صاح ُبها ذنب ًا عظيم ًا بها ففي ال�صحيحني من‬
‫أعظم بعد ال�شرك ِمن‬
‫رم � ُ‬
‫حديث ثابت بن ال�ضحاك‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬لعن امل�ؤمن كقتله)‪ .‬و� ُّأي ُج ٍ‬
‫ا�ستباحة الدم و�إزهاق الروح‪.‬‬

‫متاعه ومرك َبه فح�سب‪ ،‬بل‬ ‫يكتف بالنهي عن لعن املُ�سلم‪� ،‬أو نهي املرء �أن يلعن َ‬
‫ عباد اهلل! ف�إن ال�شرع مل ِ‬
‫ُنهي املُ�سلم عن لعن حتى الريح؛ روى �أبو داود والرتمذي عن عبد اهلل بن عبا�س‪d‬قال‪�« :‬إن رج ًال نازعت ُه‬
‫�سخرة‪ ،‬و�إن‬ ‫ر�سول اهلل‪ ،s‬فلعنها‪ ،‬فقال ُ‬
‫ر�سول اهلل‪« :s‬ال تلعنها‪ ،‬ف�إنها م�أمورة ُم َّ‬ ‫عهد ِ‬‫الريح ردا َءه على ِ‬
‫أهل َرج َع ْت عليه»‪.‬‬
‫من لعن �شيئا لي�س له ب� ٍ‬

‫۩ ۩ بل و ُنهي عن لعن امل�شركني؛ ففي �صحيح م�سلم عن �أبي هريرة‪�d‬أنه قيل لر�سول اهلل‪ :s‬اد ُع اهلل على‬
‫امل�شركني‪ ،‬والعنهم‪ ،‬فقال‪�« :s‬إين �إمنا ُب ِع ْث ُت رحمة‪ ،‬ومل �أب َعثُ لعانا»‪.‬‬

‫ وقد جاء يف �سبب نزول قول اهلل تعاىل‪َ } :‬ل ْي َ�س َل َك ِمنَ الأَ ْم ِر َ�ش ْي ٌء �أَ ْو َيت َ‬
‫ُوب َع َل ْي ِه ْم �أَ ْو ُي َع َّذ َب ُه ْم َف�إِ َّن ُه ْم‬
‫نهي من اهلل جل وعال لنب ّيه ‪�s‬أن يلعن امل�شركني فرتكه‪[s‬رواه البخاري وم�سلم]‬ ‫َظالمِ ُونَ {‪� ،‬أنها ٌ‬

‫ وقد قرر جماع ٌة من �أهل العلم كال�شيخ تقي الدين وغريه �أنه ال يجوز لعن الكافر املعينّ ؛ لأن املر َء ال‬
‫ُيدرى مبا ُيختم له‪.‬‬

‫ كما ثبت عنه ‪s‬النهي عن لعن �أموات الك ّفار؛ ففي البخاري عن عائ�شة‪� :g‬أن النبي ‪s‬قال‪« :‬ال‬
‫أف�ض ّوا �إىل ما ق َّدموا»‪ .‬و�إمنا يجوز لعن الأو�صاف ال الأ�شخا�ص؛ كما قال تعاىل‪} :‬‬ ‫ت َُ�س ُّبوا الأموات‪ ،‬ف�إنهم قد � َ‬
‫الظالمِ ِنيَ{‪َ } ،‬ف َل ْع َن ُة هَّ‬
‫الل َع َلى ا ْل َكا ِف ِرينَ {‪.‬‬ ‫َّل ْع َن ُة هَّ ِ‬
‫الل َع َلى َّ‬

‫‪327‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬النهي عن اللعن‬

‫ عباد اهلل! �إن املرء �إذا اعتاد ل�سا ُن ُه على اللعن ف�إنه ال يكون �شهيد ًا عد ًال؛ �إذ ِمن لوازم العدال ِة ُ‬
‫عدم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫النا�س مبا لي�س فيهم؛ روى م�سل ٌم عن �أبي الدرداء‪�d‬أن النبي‬‫النا�س مبا لي�س فيهم‪ ،‬وال ّلعان ي�صف َ‬ ‫و�صف ِ‬
‫‪s‬قال‪« :‬ال يكون ال َّلعانون �شهدا َء وال �شفعا َء يوم القيامة»‪.‬‬

‫مو�ضع فيه لعن‪� ،‬أو ي�ستمع‬


‫ٍ‬ ‫ ولقد عرف ال�صحابة‪f‬خطورة هذه الكلمة فكان �أحدهم ي�أبى �أن يجل�س يف‬
‫�إليه من غري نكري‪ ،‬جاء �أن رج ًال كان �صديق ًا لعبد اهلل بن م�سعود‪ ،d‬وزاره ابن م�سعود يف بيته فلم يجده‪،‬‬
‫ب�شراب من اجلريان‪ ،‬ف�أبط�أت عليها فلعنتها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ف�أ�ست�أذن و�س َّل َم وا�ست�سقى ما ًء‪ ،‬فبعثت امر�أ ُته جاريتها جتيئه‬
‫جل�ست و�أ�صبت ِمن‬
‫َ‬ ‫فخرج ابن م�سعود‪ ،‬فجاء �صاح ُب ُه فقال‪ :‬يا �أبا عبد الرحمن لي�س مثلك يغار عليه هال‬
‫فخ�شيت �أن �أكون �سببه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫�سمعت لعن ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فعلت‪ ،‬ولكني‬
‫ال�شراب ؟ قال‪ :‬قد َ‬

‫فاح�ش ًا‪،‬‬
‫ وانظر لهدي ر�سول اهلل‪ ،s‬ففي ال�صحيح �أن �أن�س ًا ‪d‬قال‪« :‬مل َي ُكن ر�سول اهلل‪�s‬س َّباب ًا‪ ،‬وال ِ‬
‫العن ًا‪ ،‬كان يقول ل ِ‬
‫أحدنا عند امل ْعت ِبة‪ :‬م َا َل ُه ت َِر َب ْت ميينه»‪.‬‬ ‫وال ِ‬

‫ وقد �أخرب النبي‪�s‬أنّ ِمن عالمات ُقرب ال�ساعة كرثة اللعن وف�ش ّوه‪ ،‬ف ُروي عند الرتمذي من حديث‬
‫علي بن �أبي طالب‪d‬يرفعه‪� :‬أنّ من عالمات ال�ساعة‪�( :‬أن َيل َعن �آخ ُر هذه الأمة �أولها)[رواه الرتمذي] وقد‬‫ِّ‬
‫ُر�ؤي ذلك فوجد ممن ينت�سب للإ�سالم َمن يلعن �أ ّول هذه الأ ّمة من ال�صحابة ر�سول اهلل‪ s‬و‪ ،f‬ف َما �أ�ش�أم‬
‫فعلهم عليهم وعلى النا�س‪.‬‬

‫ وجاء يف بع�ض الآثار �أن يف �آخر الزمان يتالعن النا�س يف ال�شوارع كالتح ّية بينهم (رواه الإمام �أحمد‬
‫‪ 439/3‬وفيه �ضعف) (ال تزال الأمة على ّ‬
‫ال�شريعة َما مل َيظهر فيها ٌ‬
‫ثالث‪َ ،‬ما مل ُيق َب�ض العلم منهم‪ ،‬ويكرث‬
‫فيهم َو َلد ِ‬
‫احلنث‪ ،‬ويظهر فيهم ال�صَّ َقا ُرون)‪ ،‬قيل‪ :‬وما ال�صقارون يا ر�سول اهلل؟ قال‪( :‬ب�شر يكون يف �آخر‬
‫الزمان حتيتهم بينهم التالعن)‬

‫بلعن �أو غريه‪ ،‬ف�إن �صدر �شي ٌء من ذلك‪،‬‬‫أحد ٍ‬ ‫ وبع ُد! فليتق َ‬
‫اهلل املر ُء يف ل�سانه‪ ،‬وليحفظه عن �أذ ّية � ٍ‬
‫فلي�ستغفر اهلل �أو ًال ف�إنه قد قال حرام ًا‪ ،‬واقرتف ظلم ًا‪ .‬ثم ليدعو َملن ظلمه بلعنه ويكرث من ذلك اقتدا ًء‬
‫أغ�ضب كما ي ْغ�ضب الب�شر‪ ،‬ف� مُّأيا رجل من‬
‫بالنبي‪ ،s‬ففي ال�صحيحني �أنه ‪s‬قال‪« :‬اللهم �إمنا �أنا ب�شر‪ُ � ،‬‬
‫امل�سلمني �س َب ْب ُتهُ‪� ،‬أو لعنته‪� ،‬أو جلدته‪ ،‬فاجعلها له �صالة وزكاة‪ ،‬وقربة تق ِّربه بها �إليك يوم القيامة‪ ،‬واجعل‬
‫ذلك ك َّفارة له �إىل يوم القيامة»‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫بناء الكعبة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬بناء الكعبة‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ال�س ِمي ُع‬ ‫نت َّ‬ ‫ يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و�إِ ْذ َي ْر َف ُع �إِ ْب َر ِاه ُيم ا ْل َق َو ِاع َد ِمنَ ا ْل َب ْي ِت َو�إِ ْ�س َم ِاعي ُل َر َّب َنا َت َق َّب ْل ِم َّنا �إِ َّن َك �أَ َ‬
‫اب‬ ‫نت ال َّت َّو ُ‬ ‫ا ْل َع ِل ُيم{ َر َّب َنا َو ْاج َع ْل َنا ُم ْ�س ِل َمينْ ِ َل َك َو ِمن ُذ ِّر َّي ِت َنا �أُ َّم ًة ُّم ْ�س ِل َم ًة َّل َك َو�أَ ِر َنا َم َن ِا�س َك َنا َو ُت ْب َع َل ْي َن�آ ِ�إ َّن َك �أَ َ‬
‫نت‬ ‫َاب َوالحْ ِ ْك َم َة َو ُيزَ ِّك ِيه ْم ِ�إ َّن َك �أَ َ‬ ‫ال َّر ِح ُيم{ َر َّب َنا َوا ْب َعثْ ِف ِيه ْم َر ُ�سو ًال ِّم ْن ُه ْم َي ْت ُلو َع َل ْي ِه ْم �آ َيا ِت َك َو ُي َع ِّل ُم ُه ُم ا ْل ِكت َ‬
‫احل ِك ُيم{ َو َمن َي ْر َغ ُب َعن ِّم َّل ِة �إِ ْب َر ِاه َيم �إِالَّ َمن َ�س ِف َه َن ْف َ�س ُه َو َل َق ِد ا�صْ َط َف ْي َنا ُه فيِ ال ُّد ْن َيا َو�إِ َّن ُه فيِ ال ِآخ َر ِة‬ ‫ال َع ِزي ُز َ‬
‫لمَ ِنَ ال�صَّ الحِ ِ نيَ{‪.‬‬

‫ولنا مع هذه الآيات الكرمية‪ ،‬والدعوات الإبراهي َمية وقفاتٌ وم�سائل‪:‬‬

‫ ‪ w‬الوقفة الأوىل‪ :‬يف ق�صة بناء الكعبة وعمارتها‪.‬‬


‫نط َق ًا لتعفي �أث َرها على‬ ‫أول ما اتخذ الن�سا ُء املنطق من قبل � ِّأم �إ�سماعيل اتخذت َم ِ‬ ‫ قال ابن عبا�س‪ُ �( :d‬‬
‫َ�سارة‪ ،‬ثم جاء بها �إبراهيم وبابنها �إ�سماعيل وهي ُتر�ض ُع ُه حتى و�ضعها عند البيت عند َدوحة فوق زمزم‬
‫خطبة جديدة‬

‫يومئذ �أحد‪ ،‬ولي�س بها ماء‪ ،‬فو�ضعهما هنالك‪ ،‬وو�ضع عندهما جرابا فيه متر‬ ‫يف �أعلى امل�سجد ولي�س مبكة ٍ‬
‫إبراهيم! �أين تذهب وترتكنا بهذا‬ ‫ُ‬ ‫إبراهيم ُمنطلق ًا فتبعتُه �أ ُّم �إ�سماعيل فقالت‪ :‬يا �‬ ‫ُ‬ ‫و�س َقا ًء فيه ماء‪ ،‬ثم ق َّفي �‬ ‫ِ‬
‫آهلل الذي � َ‬
‫أمرك‬ ‫لتفت �إليها‪ ،‬فقالت له‪ُ � :‬‬ ‫وج َع َل ال َي ُ‬ ‫إن�س وال �شيء‪ ،‬فقالت له ذلك مرار ًا َ‬ ‫الوادي الذي لي�س فيه � ٌ‬
‫إبراهيم حتى �إذا كان عند ال َّثن َّية حيث ال َيرونه‬ ‫ُ‬ ‫جعت‪ ،‬فانطلق �‬ ‫بهذا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قالت‪� :‬إذن ال ُي�ض ّيعنا‪ ،‬ثم َر ْ‬
‫نت ِمن ُذ ِّر َّي ِتي ِب َو ٍاد َغ رْ ِي ِذي‬ ‫ا�ستقبل بوجهه البيت ثم دعا به�ؤالء الكلمات ورفع يديه فقال‪َّ } :‬ر َّب َنا ِ�إنيِّ �أَ ْ�س َك ُ‬
‫ا�س َت ْه ِوي ِ�إ َل ْي ِه ْم َوا ْر ُز ْق ُهم ِّمنَ ال َّث َم َر ِات َل َع َّل ُه ْم‬‫اج َع ْل �أَ ْف ِئ َد ًة ِّمنَ ال َّن ِ‬‫َز ْر ٍع ِع َند َب ْي ِت َك المْ ُ َح َّر ِم َر َّب َنا ِل ُي ِقي ُمو ْا ال�صَّ َال َة َف ْ‬
‫ال�سقا ِء َع ِط َ�ش ْت‬ ‫َ�شرب من ذلك املاء حتى �إذا َن ِف َد َما يف ِّ‬ ‫ر�ض ُع �إ�سماعيل وت ُ‬ ‫َي�شْ ُك ُرونَ {‪ ،‬وجعلت �أ ُّم �إ�سماعيل ُت ِ‬
‫جبل يف الأر�ض‬ ‫أقرب ٍ‬ ‫فوجدت ال�صَّ فا � َ‬ ‫ْ‬ ‫َنظ َر �إليه‬ ‫فانطلقت كراهي َة �أن ت ُ‬ ‫ْ‬ ‫وعط�ش اب ُنها‪ ،‬وجعلت تنظر �إليه يت َّلوى‬ ‫َ‬
‫فهبطت من ال�صَّ فا حتى �إذا َبلغت‬ ‫ْ‬ ‫َنظ ُر هل ترى �أحد ًا‪ ،‬فلم ت َر �أحد ًا‬ ‫ا�ستقبلت الوادي ت ُ‬ ‫ْ‬ ‫فقامت عليه ثم‬ ‫ْ‬ ‫يليها‪،‬‬
‫درعها‪ ،‬ثم �سعت �سعي الإن�سان املجهود حتى جاوزت الوادي‪ ،‬ثم �أتت املروة فقامت‬ ‫الوادي َرف َعت َط َر َف ِ‬
‫عليها ونظرت هل ترى �أحد ًا‪ ،‬فلم تر �أحد ًا‪ ،‬ففعلت ذلك �سب َع مرات‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬بناء الكعبة‬

‫�سمعت �صوت ًا‬


‫ْ‬ ‫�سعي النا�س بينهما)‪ ،‬فل َّما �أ�شرفت على املروة‬ ‫ قال ابنُ عبا�س‪ :‬قال النبي‪( :s‬فذلك ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫عندك غواث" ف�إذا هي‬ ‫أ�سمعت �إن كان َ‬ ‫ف�سم َع ْت �أي�ض ًا‪ ،‬فقالت‪" :‬قد � َ‬ ‫عت َ‬‫نف�سها‪ ،‬ثم ت�س َّم ْ‬ ‫فقالت‪�َ :‬ص ْه ُتري ُد َ‬
‫با َمل َل ِك عند َمو�ضع زمزم ف َب َحثَ بجناحه حتى َظ َه َر املاء‪ ،‬فجعلت حت ّو�ضْ ه‪ ،‬وتقول بيدها هكذا‪ ،‬وجعلت تَغ ُر ُف‬
‫من املاء يف ِ�س َقائها وهو َيفور بعد ما تغرف‪ ،‬قال ابن عبا�س قال النبي‪( :s‬يرحم اهلل � َّأم �إ�سماعيل لو‬
‫ولدها‪ ،‬فقال لها‬ ‫أر�ضعت َ‬
‫ف�شربت و� ْ‬
‫ْ‬ ‫زمزم عين ًا َمعين ًا)‪ ،‬قال‪:‬‬
‫زمزم �أو قال لو مل تغرف من املاء لكانت ُ‬ ‫تركت َ‬ ‫ْ‬
‫بيت اهلل َيبني هذا الغالم و�أبوه و�إن اهلل ال ُي�ضيع �أه َله"‪ ،‬وكان ُ‬
‫البيت‬ ‫ا َمل َل ُك‪" :‬ال تخافوا ال�ضَّ يع َة ف�إن ها هنا َ‬
‫ُمرتفع ًا ِمن الأر�ض كال َّرابية ت�أتيه ال�سيول فت�أخذ عن ميينه و�شماله‪ ،‬فكانت كذلك حتى م َّرت بهم ِرفق ٌة من‬
‫ُجرهُ م ُمقبلني من َطريق كداء فنزلوا يف �أ�سفل مكة‪ ،‬فر�أوا طائر ًا عائف ًا فقالوا‪� :‬إن هذا الطائ َر ليدور على‬
‫ماء‪َ ،‬ل َعه ُدنا بهذا الوادي وما فيه َماء‪ ،‬ف�أر�سلوا جريا �أو جريني ف�إذا هم باملاء‪ ،‬فرجعوا ف�أخربوهم باملاء‬
‫ف�أقبلوا‪ ،‬قال‪ :‬و�أ ُّم �إ�سماعيل عند املاء‪ ،‬فقالوا‪� :‬أت�أذنني لنا �أن ننزل عندك‪ ،‬فقالت‪ :‬نعم ولكن ال حقَّ لكم يف‬
‫املاء‪ ،‬قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬ابنُ عبا�س‪ :‬قال النبي‪( :s‬ف�ألفى ذلك � َّأم �إ�سماعيل وهي حتب الأُن�س)‪ ،‬فنزلوا‬
‫الغالم وتع َّل َم العربية منهم‬
‫ُ‬ ‫و�شب‬
‫أهل �أبيات منهم‪َّ ،‬‬ ‫و�أر�سلوا �إىل �أهليهم‪ ،‬فنزلوا معهم حتى �إذا كان بها � ُ‬
‫إبراهيم بعدما‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫إ�سماعيل‪ ،‬فجاء �‬ ‫�شب‪ ،‬فلما � َ‬
‫أدرك ز َّو ُجوه امر�أ ًة منهم‪ ،‬وماتت �أ ُّم �‬ ‫و�أنف�سهم و�أعج َبهم حني ّ‬
‫إ�سماعيل‪ ،‬ف�س�أل امر�أتَه عنه فقالت‪ :‬خرج يبتغي لنا‪ ،‬ثم �س�ألها عن‬ ‫َ‬ ‫تز َّوج �إ�سماعي ُل ُيطا ِل ُع تركتَه فلم ْ‬
‫يجد �‬
‫�ضيق و�ش َّد ٍة‪ ،‬ف�شكت �إليه‪ ،‬قال‪ " :‬ف�إذا جاء زوجك فاقرئي‬ ‫ي�شهم وهيئتهم‪ ،‬فقالت‪ :‬نحن ب�ش ٍّر‪ ،‬نحن يف ٍ‬ ‫َع ِ‬
‫آن�س �شيئ ًا فقال‪ " :‬هل جاءكم من �أحد "‪،‬‬ ‫عليه ال�سالم وقويل له ُي رِّغي عتب َة بابه "‪،‬فل ّما جاء �إ�سماعيل ك�أنه � َ‬
‫جهد و�ش َّدة‪،‬‬ ‫قالت‪ :‬نعم جاءنا �شي ٌخ كذا وكذا‪ ،‬ف�س�ألنا عنك ف�أخربته‪ ،‬و�س�ألني كيف عي�شنا ف�أخربته �أ َّنا يف ٍ‬
‫غي عتبة بابك‪ ،‬قال‪ :‬ذاك �أبي‬ ‫قال‪ " :‬فهل �أو�صاك ب�شيء "‪ ،‬قالت‪ :‬نعم �أمرين �أن �أقر�أ عليك ال�سالم ويقول رِّ‬
‫أفارقك‪ ،‬احلقي ب�أهلك فط َّلقها وتز َّوج منهم �أخرى‪ ،‬فلبث عنهم �إبراهيم ما �شاء اهلل‪ ،‬ثم‬ ‫وقد �أمرين �أن � ِ‬
‫�أتاهم بع ُد فلم يجده فدخل على امر�أته‪ ،‬ف�س�ألها عنه‪ ،‬فقالت‪ :‬خرج يبتغي لنا‪ ،‬قال‪ " :‬كيف �أنتم "‪ ،‬و�س�ألها‬
‫أثنت على اهلل‪ ،‬فقال‪ " :‬ما طعا ُمكم "‪ ،‬قالت‪ :‬اللحم‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫و�س َعة و� ْ‬
‫عن عي�شهم وهيئتهم‪ ،‬فقالت‪ :‬نحن بخ ٍري َ‬
‫" فما �شرابكم "‪ ،‬قالت‪ :‬املاء‪ ،‬قال‪ " :‬اللهم بارك لهم يف اللحم واملاء "‪ ،‬قال النبي‪(s‬ومل يكن لهم يومئذ‬
‫َح ٌّب‪ ،‬ولو كان لهم َد َعا لهم فيه)‪ ،‬قال‪( :‬فهما ال يخلو عليهما �أحد بغري مكة �إال مل يوافقاه)‪ ،‬قال‪ :‬ف�إذا جاء‬
‫إ�سماعيل قال‪ " :‬هل �أتاكم من �أحد ؟ "‪ ،‬قالت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�سالم و ُمريه ُيثبت عتب َة بابه‪ ،‬فلما جاء �‬ ‫زوج ِك فاقرئي عليه َّ‬ ‫ُ‬
‫نعم �أتانا �شي ٌخ َح�سنُ الهيئة‪ ،‬و�أثنت عليه‪ ،‬ف�س�ألني عنك‪ ،‬ف�أخربته‪ ،‬ف�س�ألني كيف عي�شنا ف�أخربته �أ َّنا بخري‪،‬‬
‫عليك ال�سالم وي�أم ُر َك �أن تثبت عتبة بابك‪ ،‬قال‪ :‬ذاك �أبي‬ ‫أو�صاك ب�شيء "‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬هو َيقر ُ�أ َ‬ ‫قال‪ " :‬ف� ِ‬
‫و�أنت ال َعتبة �أمرين �أن �أُم�س َك ِك‪.‬‬

‫وحة قريب ًا من زمزم‪،‬‬ ‫ ثم لبثَ عنهم ما �شاء اهلل‪ ،‬ثم جاء بعد ذلك و�إ�سماعيل َي ِربي َن ْب ًال له حتت َد َ‬
‫ُ‬
‫إ�سماعيل �إن اهلل �أمرين‬ ‫فل ّما ر�آه قام �إليه‪ ،‬ف�صنعا كما َي�صنع الوالد بالولد والولد بالوالد‪ ،‬ثم قال ‪( :‬يا �‬
‫أمر)‪ ،‬قال‪ :‬فا�صنع ما �أمرك ربك قال‪( :‬وتعينني)‪ ،‬قال‪ :‬و�أعينك‪ ،‬قال‪( :‬ف�إن اهلل �أمرين �أن �أبني ها هنا‬ ‫ب� ٍ‬
‫القواعد من البيت فجعل �إ�سماعي ُل ي�أتي‬
‫َ‬ ‫بيت ًا)‪ ،‬و�أ�شار �إىل �أ َك َم ٍة ُمرتف َع ٍة على ما حولها‪ ،‬قال‪ :‬فعند ذلك َرف َعا‬
‫إبراهيم َيبني حتى �إذا ارتف َع البنا ُء َجا َء بهذا احلجر فو�ض َعه له‪ ،‬فقام عليه وهو يبني و�إ�سماعي ُل‬
‫ُ‬ ‫باحلجارة و�‬

‫‪330‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬بناء الكعبة‬

‫ال�س ِمي ُع ا ْل َع ِل ُيم{‪ ،‬قال فجعال يبنيان حتى يدورا حول‬


‫نت َّ‬ ‫يناوله احلجارة وهما يقوالن‪َ } :‬ت َق َّب ْل ِم َّنا ِ�إ َّن َك �أَ َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ال�س ِمي ُع ا ْل َع ِل ُيم{‪.‬‬


‫نت َّ‬ ‫البيت وهما يقوالن‪َ } :‬ت َق َّب ْل ِم َّنا �إِ َّن َك �أَ َ‬

‫ ‪ w‬والوقفة الثانية‪ :‬يف قول �إبراهيم‪َ } :a‬ر َّب َنا َو ْاج َع ْل َنا ُم ْ�س ِل َمينْ ِ َل َك َو ِمن ُذ ِّر َّي ِت َنا �أُ َّم ًة ُّم ْ�س ِل َم ًة َّل َك{‪� .‬إذ‬
‫وحد ًا هلل تعاىل م�ست�سلم ًا له بالعبودية والطاعة‪.‬‬ ‫ال ينف ُع امرء ًا عم ُل ُه ُّ‬
‫قط ما مل يكن ُم ِّ‬

‫إبراهيم‪�a‬س� َؤال ر ِّبه التوحيد قبل �س�ؤال معرفة املنا�سك‪� ،‬إذ �أن َمن �أ�شرك باهلل ومل يوحده لو‬ ‫ُ‬ ‫ فبد�أ �‬
‫َجا َء مبلئ الأر�ض عم ًال �صاحل ًا فلن ينفع ُه } َو َمن َي ْب َت ِغ َغ رْ َي الإِ ْ�س َال ِم ِدي ًنا َف َلن ُي ْق َب َل ِم ْن ُه َوهُ َو فيِ ال ِآخ َر ِة ِمنَ‬
‫الخْ َ ِا�س ِرينَ {‪ ،‬وقال �سبحانه‪�} :‬إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َال َي ْغ ِف ُر �أَن ُي�شْ َر َك ِب ِه َو َي ْغ ِف ُر َما دُونَ َذ ِل َك لمِ َن َي َ�شاء َو َمن ُي�شْ ِر ْك ِب هَّ ِ‬
‫الل‬
‫َف َق ِد افْترَ َى �إِ ْث ًما َع ِظي ًما{‪.‬‬

‫حج وق�صد البيت بج�سده وهو قا�ص ٌد بقلبه غ َري اهلل �إ ّما قرب ًا �أوولي ًا �صاحل ًا ونحو ذلك فما َّ‬
‫حج‬ ‫ ف َمن َّ‬
‫بيت اهلل احلرام �أن يخل�ص عبادته هلل تعاىل‪ ،‬قبل ُكل �شيءٍ َ‬
‫وبعده‪.‬‬ ‫ولكن حجت الع ُري‪ .‬فيلزم َمن ق�صد َ‬

‫احلج و�أفعا ُل ُه ت�شريعها‬ ‫ُ‬


‫فمنا�سك ِّ‬ ‫ ‪ w‬والوقفة الثالثة‪ :‬مع دعاء �إبراهيم‪a‬ر ّبه‪َ } :‬و َ�أ ِر َنا َم َن ِا�س َك َنا{‪،‬‬
‫بتوقيف من اهلل‪ ،‬و�شعائرها و�أفعالها بوحي منه �سبحانه‪ُ ،‬يعت َم ُد فيها النق ُل‪ ،‬وال ُيع َمل فيها بال َعقل‪ ،‬فهي‬
‫حج قال لأ�صحابه‪( :‬خذوا عني َمنا�س َككم)‪ ،‬فبينّ‬ ‫اتبا ٌع ال ابتداع‪ ،‬ومتابع ٌة ال ر�أي‪ .‬لذا ف�إن النبي‪s‬عندما َّ‬
‫احلج بفع ِله ومقاله‪ ،‬و َر ِق َب ُه �أ�صحا ُبه يف ُك ِّل �صغ ٍري وكب ٍري من �أفعال املنا�سك‪ ،‬فحاكوه فيها‪ ،‬وتتبعوا‬‫منا�سك ِّ‬‫َ‬
‫أ�سفل اخلف �أوىل ِمن �أع�لاه)‪ ،‬وكذا‬ ‫م�سح � ِ‬‫علي‪( :d‬لو كان الدينُ بالر�أي لكان ُ‬ ‫َ�سننه �أ ّمت املتابعة‪ .‬قال ّ‬
‫ري من �شعائره و�أُبطلت ُج ُّل مقا�صده‪.‬‬ ‫احلج لو كانت بالر�أي لترُ ك كث ٌ‬ ‫ُ‬
‫منا�سك ِّ‬

‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم } َو�أَتمِ ُّ ��و ْا الحْ َ َّج َوا ْل ُع ْم َر َة للِهّ ِ َف ِ�إنْ �أُ ْح ِ�صرْتمُْ َف َما ْ‬
‫ا�س َت ْي َ�س َر ِمنَ ا ْل َه ْد ِي‬
‫و�س ُك ْم َحتَّى َي ْب ُل َغ ا ْل َه ْد ُي محَ ِ َّل ُه َف َمن َكانَ ِمن ُكم َّم ِري�ض ًا �أَ ْو ِب ِه �أَ ًذى ِّمن رَّ�أْ ِ�س ِه َف ِف ْد َي ٌة ِّمن ِ�ص َي ٍام �أَ ْو‬ ‫َو َال تحَْ ِل ُقو ْا ُر�ؤُ َ‬
‫ا�س َت ْي َ�س َر ِمنَ ا ْل َه ْد ِي َف َمن مَّْل َي ِج ْد َف ِ�ص َي ُام َثال َث ِة‬ ‫َ�ص َد َق ٍة �أَ ْو ُن ُ�س ٍك َف ِ�إ َذا �أَ ِمنت ُْم َف َمن تمَ َ َّت َع ِبا ْل ُع ْم َر ِة ِ�إ ىَل الحْ َ ِّج َف َما ْ‬
‫ا�ض ِري المْ َ ْ�س ِج ِد الحْ َ َرام َوا َّت ُقو ْا هَّ َ‬
‫الل‬ ‫�أَ َّي ٍام فيِ الحْ َ ِّج َو َ�س ْب َع ٍة ِ�إ َذا َر َج ْعت ُْم ِت ْل َك َع َ�ش َر ٌة َك ِام َل ٌة َذ ِل َك لمِ َن مَّْل َي ُكنْ �أَ ْه ُل ُه َح ِ‬
‫ِ‬
‫وق َو َال ِج َد َال‬ ‫اب{ الحْ َ ُّج �أَ�شْ ُه ٌر َّم ْع ُل َوماتٌ َف َمن َف َر َ�ض ِف ِيهنَّ الحْ َ َّج َف َال َر َفثَ َو َال ُف ُ�س َ‬ ‫الل َ�ش ِدي ُد ا ْل ِع َق ِ‬‫َو ْاع َل ُمو ْا �أَنَّ هَّ َ‬
‫اب{‬ ‫فيِ الحْ َ ِّج َو َما َت ْف َع ُلو ْا ِمنْ َخ رْ ٍي َي ْع َل ْم ُه هَّ ُ‬
‫الل َوتَزَ َّودُو ْا َف�إِنَّ َخ رْ َي الزَّا ِد ال َّت ْق َوى َوا َّت ُق ِون َيا �أُوْليِ الأَ ْل َب ِ‬

‫‪331‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬بيعة العقبة‬
‫بيعة العقبة‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن ِمن مواقع الإ�سالم العظيمة التي كانت يف عهد ر�سول اهلل‪s‬وقع ُة بيعة العقبة‪� ،‬إذ فيها ُ�ش َّدت‬
‫عز الدين ون�صرته‪ ،‬وهي من�ش�أ‬ ‫اهلل بها الأن�صا َر درجات‪ ،‬وكانت من �أوائل �إظهار ِّ‬ ‫النبي‪ ،s‬و َر َف َع ُ‬ ‫َع ُ�ض ُد ِّ‬
‫ن�صرة الإ�سالم وانت�شاره‪ ،‬وقد ذكر اهلل تعاىل هذه احلادثة يف كتابه مثني ًا على َمن �شهدها ومب�شرا من‬
‫ح�ضرها فقال �سبحانه‪َ } :‬ل َق ْد َر ِ�ض َي هَّ ُ‬
‫الل َع ِن المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني �إِ ْذ ُي َبا ِي ُعو َن َك تحَْ َت ال�شَّ َج َر ِة َف َع ِل َم َما فيِ ُق ُلو ِب ِه ْم َف�أَنزَ َل‬
‫الل َع ِزيز ًا َح ِكيم ًا{‪.‬‬ ‫ال�س ِكي َن َة َع َل ْي ِه ْم َو�أَ َثا َب ُه ْم َفتْح ًا َق ِريب ًا{ َو َم َغانمِ َ َك ِث َري ًة َي�أْ ُخ ُذو َن َها َو َكانَ هَّ ُ‬
‫َّ‬

‫اهلل �أهل ال�شجرة بخم�س مب�شرات يف هذه الآية‪ ،‬ر�ضاه عنهم‪ ،‬و�أنه � ّأطلع على ما يف قلوبهم‬ ‫فب�شر ُ‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫فر�ضيها‪ ،‬و�أنه �أنزل عليهم ال�سكينة‪ ،‬و�أنه تعاىل جمازيهم فتح ًا قريب ًا‪� ،‬إ�ضافة للمغامن الكثرية التي ي�أخذونها‬
‫يف الدنيا والآخرة‪.‬‬

‫ و�إليك بيان تلك الواقعة كما حكاها َمن ح�ضرها[روى ابن حبان (‪ )7012‬واحلاكم (‪ ])4251‬عن‬
‫النا�س يف منازلهم يف املو�سم وجمنة وعكاظ ويف‬ ‫جابر بن عبد اهلل �أن النبي‪s‬لبث ع�شر �سنني يتتب ُع َ‬
‫(من ي�ؤويني وين�صرين حتى �أبلغ ر�ساالت ربي وله اجلنة) فال يجد‪�s‬أحد ًا َين�صره‬ ‫منازلهم مبنى يقول‪َ :‬‬ ‫خطبة جديدة‬
‫الرجل لريح ُل من م�صر �أو من اليمن �إىل ذي َر ِح ِمه في�أتيه قو ُمه‪ ،‬فيقولون له‪ :‬احذر غالم‬
‫َ‬ ‫وال ُي�ؤويه حتى �إن‬
‫قري�ش ال يفتنك ومي�شي بني رحالهم يدعوهم �إىل اهلل في�شريون �إليه بالأ�صابع‪ ،‬حتى َبعثنا ُ‬
‫اهلل له َمن يرثب‬
‫في�أتيه الرجل في�ؤمن به ويقرئه القر�آن فينقلب �إىل �أهله في�سلمون ب�إ�سالمه حتى مل يبق دار من دور يرثب‬
‫�إال وفيها رهط من امل�سلمني يظهرون الإ�سالم‪ ،‬فائتمرنا واجتمعنا فقلنا‪ :‬حتى متى ر�سول اهلل‪s‬يطرد يف‬
‫جبال مكة ويخاف؟ فرحلنا حتى قدمنا عليه يف املو�سم فواعدنا �شعب العقبة)[ويف م�سند �أحمد ‪]90/25‬‬

‫(خ َر ْج َنا فيِ ُح َّج ِاج َق ْو ِم َنا ِمنْ المْ ُ�شْ ِر ِك َني َو َق ْد َ�ص َّل ْي َنا َو َف ِق ْه َنا َو َم َع َنا الْبرَ َ ا ُء ْبنُ‬
‫ عن كعب بن مالك‪ d‬قال‪َ :‬‬
‫َم ْع ُرو ٍر َك ِب ُري َنا َو َ�س ِّي ُد َنا َف َل َّما َت َو َّج ْه َنا ِل َ�س َف ِر َنا َو َخ َر ْج َنا ِمنْ المْ َ ِدي َن ِة قال‪ :‬الْبرَ َ ا ُء َل َنا‪َ :‬يا َه�ؤُ اَل ِء �إِنيِّ َق ْد َر�أَ ْي ُت َو هَّ ِ‬
‫الل‬
‫اك قال‪َ :‬ق ْد َر�أَ ْي ُت �أَنْ اَل �أَ َد َع ا ْل َك ْع َب َة ِم ِّني ِب َظ ْه ٍر‬ ‫الل َما �أَ ْد ِري ُت َوا ِف ُقونيِ َع َل ْي ِه �أَ ْم اَل قال‪ُ :‬ق ْل َنا َلهُ‪َ :‬و َما َذ َ‬ ‫َر�أْي ًا َو ِ�إنيِّ َو هَّ ِ‬

‫‪332‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬بيعة العقبة‬

‫الل َما َب َل َغ َنا �أَنَّ َن ِب َّي َنا ُي َ�ص ِّلي ِ�إال ِ�إ ىَل ال�شَّ ِام َو َما ُن ِري ُد �أَنْ ُن َخا ِل َف ُه َفقال‪�ِ :‬إنيِّ �أُ َ�ص ِّلي‬ ‫َو�أَنْ �أُ َ�ص ِّل َي ِ�إ َل ْي َها قال‪َ :‬ف ُق ْل َنا‪َ :‬و هَّ ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�إِ َل ْي َها قال‪َ :‬ف ُق ْل َنا َل ُه َل ِك َّنا ال َن ْف َع ُل َف ُك َّنا �إِ َذا َح َ�ض َر ْت ال�صَّلاَ ُة َ�ص َّل ْي َنا �إِ ىَل ال�شَّ ِام َو َ�ص َّلى �إِ ىَل ا ْل َك ْع َب ِة َحتَّى َق ِد ْم َنا‬
‫الل َق ْد َو َق َع‬‫الل ‪َ s‬فا�سْ�أَ ْل ُه َع َّما َ�ص َن ْع ُت فيِ َ�س َف ِري َه َذا َف ِ�إ َّن ُه َو هَّ ِ‬ ‫َم َّك َة‪َ ،‬ف َل َّما َق ِد ْم َناها قال يل‪ :‬ا ْن َط ِلقْ ِ�إ ىَل َر ُ�س ِول هَّ ِ‬
‫الل ‪َ s‬و ُك َّنا اَل َن ْع ِر ُف ُه مَْل‬ ‫فيِ َن ْف ِ�سي ِم ْن ُه َ�ش ْي ٌء لمََّا َر�أَ ْي ُت ِمنْ ِخال ِف ُك ْم �إِ َّي َاي ِفي ِه َق َال‪َ :‬ف َخ َر ْج َنا َن�سْ�أَ ُل َعنْ َر ُ�س ِول هَّ ِ‬
‫َن َر ُه َق ْب َل َذ ِل َك َف َل ِق َي َنا َر ُج ٌل ِمنْ �أَ ْه ِل َم َّك َة َف َ�س َ�أ ْل َنا ُه َعنْ َر ُ�س ِول الل‪َ s‬فقال‪َ :‬ه ْل َت ْع ِر َفا ِن ِه قال‪ُ :‬ق ْل َنا اَل قال‪َ :‬ف َه ْل‬
‫َاجر ًا‪ -‬قال‪:‬‬ ‫ا�س َكانَ اَل َيزَ ُال َي ْق َد ُم َع َل ْي َنا ت ِ‬ ‫ا�س ْبنَ َع ْب ِد المْ ُ َّط ِل ِب َع َّم ُه ُق ْل َنا َن َع ْم ‪َ -‬و ُك َّنا َن ْع ِر ُف ا ْل َع َّب َ‬
‫َت ْع ِر َف ِان ا ْل َع َّب َ‬
‫ول الل‬ ‫ا�س َجا ِل ٌ�س َو َر ُ�س ُ‬ ‫ا�س قال‪َ :‬ف َد َخ ْل َنا المْ َ ْ�س ِج َد َف ِ�إ َذا ا ْل َع َّب ُ‬ ‫َف ِ�إ َذا َد َخ ْل ُت َما المْ َ ْ�س ِج َد َف ُه َو ال َّر ُج ُل الجْ َ ا ِل ُ�س َم َع ا ْل َع َّب ِ‬
‫ا�س‪َ :‬ه ْل َت ْع ِر ُف َه َذ ْي ِن ال َّر ُج َلينْ ِ َيا �أَ َبا ا ْل َف�ضْ ِل‬ ‫الل‪ِ s‬ل ْل َع َّب ِ‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫‪َ s‬م َع ُه َجا ِل ٌ�س َف َ�س َّل ْم َنا ُث َّم َج َل ْ�س َنا �إِ َل ْي ِه َفقال َر ُ�س ُ‬
‫الل َما �أَ ْن َ�سى َق ْو َل َر ُ�س ِول الل‬ ‫كعب‪َ :‬ف َو هَّ ِ‬‫فقال‪َ :‬ن َع ْم َه َذا الْبرَ َ ا ُء ْبنُ َم ْع ُرو ٍر َ�س ِّي ُد َق ْو ِم ِه َو َه َذا َك ْع ُب ْبنُ َما ِل ٍك قال ٌ‬
‫الل ِللْ ِإ�سْلاَ ِم‬ ‫الل ِ�إنيِّ َخ َر ْج ُت فيِ َ�س َف ِري َه َذا َو َه َدا هَّ ُ‬ ‫‪s‬ال�شَّ ِاع ُر يعنيني‪َ ،‬فقال الْبرَ َ ا ُء ْبنُ َم ْع ُرورٍ‪َ :‬يا َن ِب َّي هَّ ِ‬
‫نيِ‬
‫َف َر�أَ ْي ُت �أَنْ اَل �أَ ْج َع َل الكعبة ِم ِّني ِب َظ ْه ٍر َف َ�ص َّل ْي ُت �إِ َل ْي َها َو َق ْد َخا َل َف ِني �أَ�صْ َحا ِبي فيِ َذ ِل َك َحتَّى َو َق َع فيِ َن ْف ِ�سي ِمنْ‬
‫الل قال‪َ :‬ل َق ْد ُك ْن َت َع َلى ِق ْب َل ٍة َل ْو َ�صبرَْ تَ َع َل ْي َها قال‪َ :‬ف َر َج َع الْبرَ َ ا ُء �إِ ىَل ِق ْب َل ِة‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫َذ ِل َك َ�ش ْي ٌء َف َم َاذا َت َرى َيا َر ُ�س َ‬
‫الل ‪َ s‬ف َ�ص َّلى َم َع َنا ِ�إ ىَل ال�شَّ ِام‪.‬‬ ‫َر ُ�س ِول هَّ ِ‬

‫الل‪s‬ا ْل َع َق َب َة ِمنْ �أَ ْو َ�س ِط �أَ َّي ِام ال َّت�شْ ِر ِيق َف َل َّما َف َر ْغ َنا ِمنْ‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫ قال كعب‪َ :d‬و َخ َر ْج َنا �إِ ىَل الحْ َ ِّج َف َو َاع ْد َنا َر ُ�س َ‬
‫الل ْبنُ َع ْم ِرو ْب ِن َح َر ٍام �أَ ُبو َجا ِب ٍر َ�س ِّي ٌد ِمنْ َ�سا َد ِت َنا‬ ‫الل‪َ s‬و َم َع َنا َع ْب ُد هَّ ِ‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫الحْ َ ِّج َو َكا َن ْت ال َّل ْي َل ُة ا َّل ِتي َو َع ْد َنا َر ُ�س َ‬
‫يف‬ ‫َو ُك َّنا َن ْكت ُُم َمنْ َم َع َنا ِمنْ َق ْو ِم َنا ِمنْ المْ ُ�شْ ِر ِك َني �أَ ْم َر َنا َف َك َّل ْم َنا ُه َو ُق ْل َنا َل ُه َيا �أَ َبا َجا ِب ٍر ِ�إ َّن َك َ�س ِّي ٌد ِمنْ َ�سا َد ِت َنا َو َ�ش ِر ٌ‬
‫ال�سْلاَ ِم َو َ�أخْبرَْ ُت ُه بمِ ِ ي َعا ِد‬ ‫ِمنْ �أَ�شْ َرا ِف َنا َو ِ�إ َّنا َن ْر َغ ُب ِب َك َع َّما �أَ ْن َت ِفي ِه َ�أنْ َت ُكونَ َح َطب ًا ِلل َّنا ِر َغد ًا ُث َّم َد َع ْو ُت ُه ِ�إ ىَل ِْ إ‬
‫الل ‪َ s‬ف�أَ ْ�س َل َم َو َ�ش ِه َد َم َع َنا ا ْل َع َق َب َة (مع ابنه) َو َكانَ َن ِقيب ًا قال‪َ :‬ف ِن ْم َنا ِت ْل َك ال َّل ْي َل َة َم َع َق ْو ِم َنا فيِ ِر َحا ِل َنا‬ ‫َر ُ�س ِول هَّ ِ‬
‫الل‪َ s‬نت ََ�س َّل ُل ُم ْ�ست َْخ ِف َني ت ََ�سلُّ َل ا ْل َق َطا َحتَّى ْاج َت َم ْع َنا‬ ‫َحتَّى ِ�إ َذا َم َ�ضى ُث ُلثُ ال َّل ْي ِل َخ َر ْج َنا ِمنْ ِر َحا ِل َنا لمِ ِي َعا ِد َر ُ�س ِول هَّ ِ‬
‫ول‬ ‫ال�ش ْع ِب َن ْنت َِظ ُر َر ُ�س َ‬ ‫اج َت َم ْع َنا ِب ِّ‬‫ال�ش ْع ِب ِع ْن َد ا ْل َع َق َب ِة َو َن ْحنُ َ�س ْب ُعونَ َر ُج ًال َو َم َع َنا ْام َر�أَت َِان ِمنْ ِن َ�سا ِئ ِه ْم‪ ،‬قال‪َ :‬ف ْ‬ ‫فيِ ِّ‬
‫ا�س ْبنُ َع ْب ِد المْ ُ َّط ِل ِب َوهُ َو َي ْو َم ِئ ٍذ َع َلى ِد ِين َق ْو ِم ِه ِ�إ اَّل �أَ َّن ُه �أَ َح َّب �أَنْ َي ْح ُ�ض َر‬ ‫الل‪َ s‬ح َّتى َجا َء َنا َو َم َع ُه َي ْو َم ِئ ٍذ َع ُّم ُه ا ْل َع َّب ُ‬ ‫هَّ ِ‬
‫ا�س ْبنُ َع ْب ِد المْ ُ َّط ِل ِب �أَ َّو َل ُم َت َك ِّل ٍم َفقال‪َ :‬يا َم ْع َ�ش َر الخْ َ زْ َر ِج ِ�إنَّ‬ ‫�أَ ْم َر ا ْب ِن �أَ ِخي ِه َو َي َت َو َّثقُ َل ُه َف َل َّما َج َل ْ�س َنا َكانَ ا ْل َع َّب ُ‬
‫محُ َ َّمد ًا ِم َّنا َح ْيثُ َق ْد َع ِل ْمت ُْم َو َق ْد َم َن ْع َنا ُه ِمنْ َق ْو ِم َنا ممَِّ نْ هُ َو َع َلى ِم ْث ِل َر�أْ ِي َنا ِفي ِه َوهُ َو فيِ ِعزٍّ ِمنْ َق ْو ِم ِه َو َم َن َع ٍة فيِ‬
‫َب َل ِد ِه (قيل‪� :‬إن العبا�س �إمنا قال‪ :‬ذلك ِل َي ُ�ش ّد ا ْل َع ْق َد ِل َر ُ�س ِول اللهّ ِ ‪s‬فيِ �أَ ْع َنا ِق ِه ْم‪ ،‬وقيل‪� :‬أراد �أن ي�ؤخرهم َر َجا َء‬
‫ول‪َ ،‬ف َي ُكونَ َ�أ ْق َوى ِ ألَ ْم ِر ا ْل َق ْو ِم[�سرية ابن ه�شام]‬ ‫�أَنْ َي ْح ُ�ض َر َها َع ْب ُد اللهّ ِ ْبنُ �أُ َب ّي ا ْب ِن َ�س ُل َ‬

‫ �إذ جاء يف بع�ض الروايات �أن العبا�س ملا نظر يف وجوههم قال‪ :‬ه�ؤالء قوم ال �أعرفهم ه�ؤالء �أحداث)‬
‫الل‪s‬‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫الل َف ُخ ْذ ِل َن ْف ِ�س َك َو ِل َر ِّب َك َما �أَ ْح َب ْب َت قال‪َ :‬ف َت َك َّل َم َر ُ�س ُ‬ ‫قال‪َ :‬ف ُق ْل َنا‪َ :‬ق ْد َ�س ِم ْع َنا َما ُق ْل َت َف َت َك َّل ْم َيا َر ُ�س َ‬
‫الل َع َّز َو َج َّل َو َر َّغ َب فيِ الإ�سْلاَ ِم قال‪� :‬أُ َبا ِي ُع ُك ْم َع َلى �أَنْ تمَْ َن ُعونيِ ممَِّ ا تمَْ َن ُعونَ ِم ْن ُه ِن َ�سا َء ُك ْم‬ ‫َفتَال َو َد َعا ِ�إ ىَل هَّ ِ‬
‫َو�أَ ْب َنا َء ُك ْم ([ويف حديث جابر‪d‬تبايعوين على ال�سمع والطاعة يف الن�شاط والك�سل وعلى النفقة يف الع�سر‬
‫والي�سر وعلى الأمر باملعروف والنهي عن املنكر وعلى �أن تقولوا يف اهلل ال ي�أخذكم يف اهلل لومة الئم وعلى‬

‫‪333‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬بيعة العقبة‬

‫�أن تن�صروين �إذا قدمت عليكم ومتنعوين ما متنعون منه �أنف�سكم و�أزواجكم و�أبناءكم فلكم اجلنة)‪ ،‬قال‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ول‬‫َف�أَ َخ َذ الْبرَ َ ا ُء ْبنُ َم ْع ُرو ٍر ِب َي ِد ِه ُث َّم قال‪َ :‬ن َع ْم َوا َّل ِذي َب َع َث َك ِبالحْ َ ِّق َل َن ْم َن َع َّن َك ممَِّ ا نمَْ َن ُع ِم ْن ُه �أُ ُز َر َنا‪َ ،‬ف َبا ِي ْع َنا َيا َر ُ�س َ‬
‫ول‬ ‫َ�ض ا ْل َق ْو َل َوالْبرَ َ ا ُء ُي َك ِّل ُم َر ُ�س َ‬‫وب َو�أَ ْه ُل الحْ َ ْل َق ِة َو ِر ْث َن َاها َكا ِبر ًا َعنْ َكا ِب ٍر قال‪َ :‬فاعْترَ َ‬ ‫الل‪َ s‬ف َن ْحنُ �أَ ْه ُل الحْ ُ ُر ِ‬ ‫هَّ ِ‬
‫وها َي ْع ِني ا ْل ُع ُهو َد َف َه ْل‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫الل �إِنَّ َب ْي َن َنا َو َبينْ َ ال ِّر َج ِال ِح َبا ًال َو�إِ َّنا َق ِاط ُع َ‬ ‫الل‪�s‬أَ ُبو ا ْل َه ْي َث ِم ْبنُ ال َّت ِّي َه ِان َفقال‪َ :‬يا َر ُ�س َ‬ ‫هَّ ِ‬
‫الل‪ُ s‬ث َّم قال‪:‬‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫الل �أَنْ َت ْر ِج َع ِ�إ ىَل َق ْو ِم َك َوت ََد َع َنا قال‪َ :‬ف َت َب َّ�س َم َر ُ�س ُ‬ ‫َع َ�س ْي َت ِ�إنْ َن ْحنُ َف َع ْل َنا َذ ِل َك ُث َّم �أَ ْظ َه َر َك هَّ ُ‬
‫ال َمنْ َ�سالمَْت ُْم ]‬ ‫َب ْل ال َّد َم ال َّد َم َوا ْل َه ْد َم ا ْل َه ْد َم �أَ َنا ِم ْن ُك ْم َو�أَ ْنت ُْم ِم ِّني �أُ َحا ِر ُب َمنْ َحا َر ْبت ُْم َو�أُ َ�س مِ ُ‬

‫الَ ْن َ�صا ِر ّي قال‪َ :‬يا َم ْع َ�ش َر الخْ َ ��زْ َر ِج‪َ ،‬ه ْل ت َْد ُرونَ‬ ‫ا�س ْبنُ ُع َبا َد َة ْ أ‬ ‫ جاء يف رواية عند ابن �إ�سحاق �أن ا ْل َع ّب ُ‬
‫ا�س َف�إِنْ ُك ْنت ُْم‬ ‫الَ ْ�س َو ِد ِمنْ ال ّن ِ‬‫الَ ْح َم ِر َو ْ أ‬
‫الم ُت َبا ِي ُعونَ َه َذا ال ّر ُج َل ؟ َقا ُلوا‪َ :‬ن َع ْم قال‪� :‬إ ّن ُك ْم ُت َبا ِي ُعو َن ُه َع َلى َح ْر ِب ْ أ‬ ‫َع َ‬
‫َت َر ْونَ �أَ ّن ُك ْم � َإذا ُن ِه َك ْت َ�أ ْم َوا ُل ُك ْم ُم ِ�صي َب ًة َو َ�أ�شْ َرا ُف ُك ْم َقتْلاً �أَ ْ�س َل ْم ُت ُمو ُه َف ِمنْ الآنَ ‪َ ،‬ف ُه َو َو َاللهّ ِ �إنْ َف َع ْلت ُْم ِخزْ ُي ال ّد ْن َيا‬
‫اف َف ُخ ُذو ُه‪َ ،‬ف ُه َو َو َاللهّ ِ‬
‫ال�شْ َر ِ‬ ‫ال ْم َو ِال َو َقت ِْل َْ أ‬
‫َو ْال ِآخ َر ِة‪َ ،‬و ِ�إنْ ُك ْنت ُْم َت َر ْونَ �أَ ّن ُك ْم َوا ُفونَ َل ُه بمِ َ ا َد َعوْتمُ ُ و ُه �إ َل ْي ِه َع َلى َن ْه َك ِة َْ أ‬
‫ول اللهّ ِ �إنْ‬ ‫اف‪َ .‬ف َما َل َنا ِب َذ ِل َك َيا َر ُ�س َ‬ ‫الَ�شْ َر ِ‬ ‫الَ ْم َو ِال َو َقت ِْل ْ أ‬
‫َخ رْ ُي ال ّد ْن َيا َو ْال ِآخ َر ِة َقا ُلوا‪َ :‬ف ِ�إ ّنا َن�أْ ُخ ُذ ُه َع َلى ُم ِ�صي َب ِة ْ أ‬
‫َن ْحنُ َو ّف ْي َنا ِب َذ ِل َك َق َال‪ :‬الجْ َ ّن ُة‪َ .‬قا ُلوا‪ُ :‬ا ْب ُ�س ْط َي َدك‪.‬‬

‫الل‪�s‬أَ ْخ ِر ُجوا �إِليََّ ِم ْن ُك ْم ا ْث َن ْي َع َ�ش َر َن ِقيب ًا َي ُكو ُنونَ َع َلى َق ْو ِم ِه ْم َف�أَ ْخ َر ُجوا ِم ْن ُه ْم ا ْث َن ْي‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫ ثم قال‪َ :‬ر ُ�س ُ‬
‫الل‪s‬الْبرَ َ ا ُء ْبنُ‬ ‫الَ ْو ِ�س َو َكانَ �أَ َّو َل َمنْ َ�ض َر َب َع َلى َي ِد َر ُ�س ِول هَّ ِ‬ ‫َع َ�ش َر َن ِقيب ًا ِم ْن ُه ْم ِت ْ�س َع ٌة ِمنْ الخْ َ زْ َر ِج َوثَلاَ َث ٌة ِمنْ ْ أ‬
‫ول الل‪�َ s‬ص َر َخ ال�شَّ ْي َطانُ ِمنْ َر�أْ ِ�س ا ْل َع َق َب ِة ِب�أَ ْب َع ِد َ�ص ْو ٍت َ�س ِم ْع ُت ُه َق ُّط َيا‬ ‫َم ْع ُرو ٍر ُث َّم َتتَا َب َع ا ْل َق ْو ُم َف َل َّما َبا َي َع َنا َر ُ�س ُ‬
‫ول‬‫ال�ص َبا ُة َم َع ُه َق ْد �أَ ْج َم ُعوا َع َلى َح ْر ِب ُك ْم َفقال َر ُ�س ُ‬ ‫�أَ ْه َل الجْ ُ َب ِاج ِب ( َوالجْ ُ َب ِاج ُب المْ َ َناز ُِل) َه ْل َل ُك ْم فيِ ُم َذممَّ ٍ َو ُّ‬
‫ا�س ْبنُ ُع َبا َد َة َوا َّل ِذي‬‫ول الل‪ :s‬ا ْر َف ُعوا ِ�إ ىَل ِر َحا ِل ُك ْم قال‪َ :‬فقال‪َ :‬ل ُه ا ْل َع َّب ُ‬ ‫الل‪َ :s‬ه َذا �أَ َز ُّب ا ْل َع َق َب ِة‪ُ ،‬ث َّم قال َر ُ�س ُ‬
‫الل‪ s‬مَْل �أُ َوم ْر ِب َذ ِل َك قال‪:‬‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫َب َع َث َك ِبالحْ َ ِّق َلئِنْ ِ�ش ْئ َت َل َن ِمي َلنَّ َع َلى �أَ ْه ِل ِم ًنى َغد ًا ِب�أَ ْ�س َيا ِف َنا قال‪َ :‬فقال‪َ :‬ر ُ�س ُ‬
‫َف َر َج ْع َنا َف ِن ْم َنا َحتَّى �أَ�صْ َب ْح َنا َف َل َّما �أَ�صْ َب ْح َنا َغ َد ْت َع َل ْي َنا ُج َّل ُة ُق َر ْي ٍ�ش َحتَّى َجا ُءو َنا فيِ َم َنا ِز ِل َنا َف َقا ُلوا َيا َم ْع َ�ش َر‬
‫الخْ َ زْ َر ِج ِ�إ َّن ُه َق ْد َب َل َغ َنا �أَ َّن ُك ْم َق ْد ِج ْئت ُْم ِ�إ ىَل َ�ص ِاح ِب َنا َه َذا ت َْ�ست َْخ ِر ُجو َن ُه ِمنْ َبينْ ِ �أَ ْظ ُه ِر َنا َو ُت َبا ِي ُعو َن ُه َع َلى َح ْر ِب َنا‬
‫الل ِ�إ َّن ُه َما ِمنْ ا ْل َع َر ِب �أَ َح ٌد �أَ ْب َغ َ�ض ِ�إ َل ْي َنا �أَنْ َت ْن َ�ش َب الحْ َ ْر ُب َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُه ِم ْن ُك ْم قال كعب‪َ :‬فا ْن َب َعثَ َمنْ هُ َنا ِل َك‬ ‫َو هَّ ِ‬
‫الل َما َكانَ ِمنْ َه َذا َ�ش ْي ٌء َو َما َع ِل ْم َنا ُه َو َق ْد َ�ص َد ُقوا مَْل َي ْع َل ُموا َما َكانَ ِم َّنا قال‪:‬‬ ‫ِمنْ ُم�شْ ِر ِكي َق ْو ِم َنا َي ْح ِل ُفونَ َل ُه ْم ِب هَّ ِ‬
‫َف َب ْع ُ�ض َنا َي ْن ُظ ُر ِ�إ ىَل َب ْع ٍ�ض‪.‬‬
‫ وقال �سبحانه‪�ِ } :‬إنَّ ا َّل ِذينَ ُي َبا ِي ُعو َن َك ِ�إنمَّ َ ا ُي َبا ِي ُعونَ هَّ َ‬
‫الل َي ُد هَّ ِ‬
‫الل َف ْو َق �أَ ْي ِد ِيه ْم َف َمن َّن َكثَ َف ِ�إنمَّ َ ا َين ُكثُ َع َلى‬
‫أر�ضاهم‪ ،‬وغفر اهلل لهم ورحمهم‪.‬‬ ‫الل َف َ�س ُي�ؤْ ِتي ِه �أَ ْجر ًا َع ِظيم ًا{‪ .‬وقد و ّفوا ي و� َ‬ ‫َن ْف ِ�س ِه َو َمنْ �أَ ْو َفى بمِ َ ا َع َاه َد َع َل ْي ُه هَّ َ‬

‫‪334‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬تعامل النبي مع خادمه‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫تعامل النبي مع خادمه‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫بالنبي‪ ،s‬واالهتدا ِء بهديه‪ ،‬وم�شابه ِته يف َد ِّله } َل َق ْد َكانَ‬ ‫ِّ‬ ‫ ف�إن اهلل تعاىل �أم َر عبا َده امل�ؤمنني باال�ستنان‬
‫َ‬ ‫الل �أُ ْ�س َو ٌة َح َ�س َن ٌة لمِّ َن َكانَ َي ْر ُجو هَّ َ‬
‫الل َوا ْل َي ْو َم ال ِآخ َر َو َذ َك َر هَّ‬
‫الل َك ِثري ًا{‪.‬‬ ‫َل ُك ْم فيِ َر ُ�س ِول هَّ ِ‬

‫النبي‪s‬و َر ِ�ضي عنهن ب�أن َيذ ُكرنَ َهد َيه يف بي ِته‪ ،‬و ُي َب َّني َما َيفع ُل‬ ‫ بل ِومن املبالغة يف ذلك �أَ َم َر ُ‬
‫اهلل ن�سا َء ّ‬
‫ات‬‫كمال االقتداء } َو ْاذ ُك ْرنَ َما ُي ْت َلى فيِ ُب ُيو ِت ُكنَّ ِمنْ �آ َي ِ‬ ‫ُ‬
‫ويح�صل ُ‬ ‫وال�سالم فيه؛ ل َيع َل َم ُه ُ‬
‫النا�س‪،‬‬ ‫عليه ال�صَّ الة َّ‬
‫الل َكانَ َل ِطيف ًا َخ ِبري ًا{‪ .‬فكان امل�سلمون �إثر ذلك ي�س�ألون ن�سا َء النبي‪s‬عن هديه يف بيته‬ ‫الل َوالحْ ِ ْك َم ِة ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫هَّ ِ‬
‫ومعهن و�سنته يف ذلك‪.‬‬

‫النبي الأكرم‪s‬‬
‫ِ‬ ‫إليك يا رعاك اهلل �أخبا َر ِّ‬ ‫ عباد اهلل! و�إنَّ ِمن خا�ص ِة �ش� ِأن النبي‪s‬تعام ُل ُه مع ِ‬
‫خادمه‪ .‬و� َ‬
‫أن�صاري‪.d‬‬
‫ِّ‬ ‫مالك ال‬
‫أن�س بن ٍ‬ ‫خادمه �أبي حمزة � ِ‬ ‫مع ِ‬

‫ت�سع‪ .‬روى الإمام �أحم ُد[يف‬ ‫النبي‪s‬ع�شر �سنني �إىل حني وفاته‪ ،‬فبد�أ بخدمته وهو ابنُ ٍ‬ ‫أن�س َّ‬ ‫ فقد خدم � ٌ‬
‫خطبة جديدة‬

‫امل�سند ‪َ ]12784‬عنْ �أَ َن ٍ�س َق َال‪َ ( :‬ق ِد َم ال َّن ِب ّي‪s‬المْ َ ِدي َن َة َو�أَ َنا ا ْبنُ ِت ْ�س ِع ِ�س ِن َني َفا ْن َط َل َق ْت ِبي �أُ ُّم ُ�س َل ْي ٍم ِ�إ ىَل َن ِب ِّي‬
‫ا�ست َْخ ِد ْم ُه َف َخ َد ْم ُت ال َّن ِب َّي‪.)s‬‬ ‫الل َه َذا ا ْب ِني ْ‬ ‫ول هَّ ِ‬ ‫هَّ ِ‬
‫الل‪َ s‬ف َقا َل ْت‪َ :‬يا َر ُ�س َ‬

‫�شرف الدنيا والآخر ِة‪ ،‬فكان يت�س َّمى بذلك ويفتخر به‪ .‬وقد �أ�صابته‬ ‫أن�س بخدمته حممد ًا‪َ s‬‬ ‫ لقد َ�ش ُرف � ٌ‬
‫ول الل‪َ s‬ف َ�س ِم َع ْت ُ�أ ِّمي �أُ ُّم ُ�س َل ْي ٍم‬ ‫دعو ُة النبي ‪ ،s‬و ُنفع به [يف �صحيح م�سلم ‪�]6532‬أن �أن�سا‪d‬قال‪َ :‬‬
‫(م َّر َر ُ�س ُ‬
‫ول الل‪َ s‬ث َال َث َد َع َو ٍات َق ْد َر�أَ ْي ُت ِم ْن َها ا ْث َن َتينْ ِ يف‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫الل �أُ َن ْي ٌ�س‪َ .‬ف َد َعا يل َر ُ�س ُ‬ ‫َ�ص ْو َت ُه َف َقا َل ْت‪ِ :‬ب َ�أبي َو�أُ ِّمي َيا َر ُ�س َ‬
‫ال ُّد ْن َيا َو�أَ َنا �أَ ْر ُجو ال َّثا ِل َث َة يف ال ِآخ َر ِة)‪.‬‬

‫أن�س ‪d‬فهي قول النبي‪( :s‬اللهم �أكرث ما َله َ‬


‫وولده وبارك له فيه) قال‬ ‫ ف�أ ّما الدعوتان اللتان ر�آهما � ٌ‬
‫ري‪َ ،‬و ِ�إنَّ َو َل ِدي َو َو َل َد َو َل ِدى َل َي َت َعا ُّدونَ َع َلى َن ْح ِو المْ ِا َئ ِة ا ْل َي ْو َم) ويف رواية‪�( :‬إن �أر�ضي‬ ‫�أن�س‪َ ( :‬ف َو هَّ ِ‬
‫الل ِ�إنَّ َمايل َل َك ِث ٌ‬

‫‪335‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬تعامل النبي مع خادمه‬

‫ال�سنة مرتني)‪.‬‬
‫لتُثمر يف َّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫خادم‬
‫ودرو�س متنوعة لكل ٍ‬
‫ٌ‬ ‫أن�س‪d‬للنبي‪s‬وخدم ِت ِه �إياه ُ�س ٌ‬
‫نن متعددة‪،‬‬ ‫ عباد اهلل! لقد كان يف �صحبة � ٍ‬
‫وخمدوم على ال�سواء‪ :‬ف�أ ّما �أد ُبه مع النبي ‪..s‬‬

‫قط‪ ،‬وال �أذاع عنه ما يكره من �أمره ولو مل ي�أمره بكتمانه ال يف حياته‪ ،s‬وال بعد‬ ‫۩ ۩ف�إنه ما �أف�شى له �س ّر ًا ُّ‬
‫اج ٍة َف َل َّما‬‫وفاته‪ ،‬روى الإمام �أحمد[‪َ ]12784‬عنْ �أَ َن ٍ�س‪َ d‬ق َال‪َ ( :‬د َعانيِ ر�سول اهلل‪َ s‬ف َ�أ ْر َ�س َل ِني فيِ َح َ‬
‫فاح َت َب ْ�س ُت َع َلى �أُ ِّمي‪َ ،‬ف َل َّما �أَ َت ْي ُت َها َقا َل ْت‪َ :‬يا ُب َن َّي َما َح َب َ�س َك ُق ْل ُت �أَ ْر َ�س َل ِني‬
‫َر َج ْع ُت َق َال‪( :‬ال ُتخْبرِْ �أَ َحد ًا)‪ْ ،‬‬
‫اج ٍة َلهُ‪َ .‬قا َل ْت‪َ :‬و َما ِه َي؟ ُق ْل ُت‪�ِ :‬إ َّن ُه َق َال‪ :‬ال ُتخْبرِْ ب َها �أَ َحد ًا‪َ .‬قا َل ْت‪�( :‬أَ ْي ُب َن َّي َفا ْكت ُْم َع َلى‬‫الل‪s‬فيِ َح َ‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫َر ُ�س ُ‬
‫خل ْل ِق)‪.‬‬‫أن�س‪d‬يقول‪( :‬فما حدثت بتلك احلاجة �أحد ًا من ا َ‬ ‫َر ُ�س ِول الل‪�ِ s‬س َّر ُه)‪ .‬فكان � ٌ‬

‫۩ ۩ ِومن �أدبه مع خمدومه‪�s‬أنه كان يتفانى يف خدمته ويحمل له ُو�ضو َءه‪ ،‬ويحمل ع�صاه‪ ،‬ويعرف متى‬
‫النا�س على ذلك الطعام القليل‬
‫النبي‪َ s‬‬ ‫يظهر اجلوع يف �صوته في�أتيه َّ‬
‫بالطعام يخفيه بني ثيابه‪ ،‬فيدعو ُّ‬
‫فيبارك ُ‬
‫اهلل فيه‪.‬‬

‫أدب ال ُيقار ُب ُه �أدب‪ ،‬هو � ُ‬


‫أدب الأنبياء‪ ،‬وقد �أمرنا باالقتداء‬ ‫حممد ‪s‬معه‪ ،‬ف�إنه � ٌ‬
‫ٍ‬ ‫اخللق‬
‫أكرم ِ‬‫أدب � ِ‬
‫۩ ۩و�أ ّما � ُ‬
‫بهم‪..‬‬

‫خ�صال كان النبي‪s‬يفعلها معه باخل�صو�ص لكونه َ‬


‫خادمه ناهيك عن باقي مكارم‬ ‫ٍ‬ ‫�ست‬
‫أن�س َّ‬
‫‪ w‬وقد نقل لنا � ٌ‬
‫�أخالق النبي‪:s‬‬

‫‪1 .1‬اخل�صلة الأوىل‪� :‬أنه عليه ال�صالة وال�سالم مل يكن يت� ُ‬


‫أفف منه‪ ،‬وال يتذ َّمر مهما حدث من خادمه‪ ،‬قال‬
‫(خ َد ْم ُت ال َّن ِب َّي‪َ s‬ع�شْ َر ِ�س ِن َني َف َما َق َال ليِ ‪�( :‬أُ ٍّف))[�صحيح البخاري ‪.]6038‬‬
‫�أن�س‪َ :d‬‬

‫أن�س‪َ d‬يع َل ُم �أنه مل يكن كام ًال يف خدمته ودقيق ًا متام ًا يف فعله‪ ،‬و�إمنا يعرتيه ما يعرتي الب�شر‪،‬‬ ‫ لقد كان � ٌ‬
‫ومع ذلك ما و ّبخه النبي‪s‬يوم ًا قط‪ ،‬وال ع ّنفه روى �أبو داود (‪� )4776‬أن �أن�س ًا قال‪َ :‬‬
‫(خ َد ْم ُت ال َّن ِب َّي‪َ s‬ع�شْ َر‬
‫ِ�س ِن َني ِبالمْ َ ِدي َن ِة َو�أَ َنا ُغ َال ٌم َل ْي َ�س ُك ُّل �أَ ْم ِري َك َما َي�شْ ت َِهي َ�ص ِاحبي �أَنْ �أَ ُكونَ َع َل ْي ِه)‪.‬‬

‫تفريطه‪ ،‬وخ�صو�ص ًا مع علمه‬ ‫ِ‬ ‫‪2 .2‬اخل�صلة الثانية‪ :‬عن النبي‪�s‬أنه مل ي ُكن َي ُل ْم ُه على َخ َط ِئ ِه‪� ،‬أو ي�ؤنبه على‬
‫وح�سن طويته‪ ،‬يف �صحيح البخاري (‪� )6038‬أن �أن�س ًا‪ d‬قال‪َ :‬‬
‫(خ َد ْم ُت ال َّن ِب َّي ‪َ s‬ع�شْ َر ِ�س ِن َني‬ ‫ب�صد ِقه‪ُ ،‬‬
‫(ل َ�ص َن ْع َت)‪َ ،‬وال (�أَال َ�ص َن ْع َت) )‪...‬‬
‫َف َما َق َال ليِ ‪ :‬مِ َ‬

‫بنف�سه ومل يكن عليه ال�صالة وال�سالم‬


‫نف�سه يف كث ٍري من �ش�أنه‪ ،‬ويقوم بحاجته ِ‬
‫لقد كان النبي‪s‬يخدم َ‬ ‫ ‬
‫‪336‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬تعامل النبي مع خادمه‬

‫للخادم ب ُك ِّل �صغرية وكبرية‪ ،‬بل وال ُيراج ُعه فيما مل ُيح�س ْنه من العمل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�أ َّمار ًا‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫إمام �أحمد‬ ‫والغ�ض منه‪ ،‬روى ال ُ‬ ‫ِّ‬ ‫خادم ِه‪،‬‬


‫‪3 .3‬اخل�صلة الثالثة‪� :‬أن النبي‪s‬كان مينع �أهل بي ِته من ت�أنيب ِ‬
‫(خ َد ْم ُت ال َّن ِب َّي‪َ s‬ع�شْ َر ِ�س ِن َني َف َما �أَ َم َرنيِ ِب َ�أ ْم ٍر َف َت َوا َن ْي ُت َع ْن ُه َ�أ ْو َ�ض َّي ْع ُت ُه‬ ‫(‪َ )13418‬عنْ �أَ َن ٍ�س ‪َ d‬ق َال‪َ :‬‬
‫الم ِني �أَ َح ٌد ِمنْ �أَ ْه ِل َب ْي ِت ِه َق َال‪َ ( :‬د ُعو ُه َف َل ْو ُقدِّ َر �أَو ُق ِ�ض َي َ�أنْ َي ُكونَ )‪.‬‬
‫الم ِني‪َ .‬ف�إِنْ َ‬
‫َف َ‬

‫النا�س عندما يفوتُ �أم ٌر ف�إنَّ �أ ّو َل َمن ُيع ّنف َو�أ�ش َّد َمن ي�ؤ َّنب‬
‫الت�سليم بال َق َد ِر‪ ،‬والكث ُري من ِ‬
‫ِ‬ ‫ فانظر لكمال‬
‫�ضامن‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫اخلادم املر�سول يف هذه امله ّمة مع �أنه غ ُري‬
‫ُ‬ ‫هو‬

‫اخلادم ثوب ًا‪� ،‬أو يك�سر �إناء ًا‪� ،‬أو يف�سد طعام ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ ف َكم نرى ِمن رفع ال�صوت والغ�ضب ال�شديد عندما ُيحرق‬
‫ال�صراخ والغ�ضب ال َير ُّد الذاهب‪ ،‬ولن َ‬
‫ي�صلح الفا�سد‪.‬‬ ‫ولي�س ذلك من هدي النبي‪s‬يف �شيء‪ ،‬بل �إن هذا ُّ‬
‫‪4 .4‬اخل�صلة الرابعة‪� :‬أن النبي‪s‬كان ميازحه‪ ،‬ويداع ُبهُ‪ ،‬ويباد ُله احلديث‪ ،‬روى �أبو داود (‪� )5004‬أن �أن�سا‬
‫يل النبي‪s‬يا ذا الأذنني) �أي ميازحه‪ .‬ف�إن ُك َّل النا�س له �أذنان‪.‬‬
‫‪d‬قال‪( :‬قال َّ‬

‫بال�سالم‬
‫النبي‪s‬كان يتلطف معه‪ ،‬فمع �صغر �سنِّ �أن�س ‪d‬كان النبي‪َ s‬يبتد�ؤه َّ‬ ‫‪5 .5‬اخل�صلة اخلام�سة‪� :‬أن َّ‬
‫ر�سول اهلل‪َ s‬ذاتَ َي ْو ٍم َو�أَ َن��ا �أَ ْل َع ُب َم َع‬
‫ُ‬ ‫ويكنيه �إذا دعاه[يف امل�سند ‪�]12784‬أنَّ �أَ َن�س ًا‪َ d‬ق َال‪�( :‬أَتَ��انيِ‬
‫ا ْل ِغ ْل َم ِان َف َ�س َّل َم َع َل ْي َنا َو َد َعانيِ )‪.‬‬

‫أن�س ‪d‬وكرث ِة م�صاحبته �إ َّياه �إال �أنه عندما ت�أتي حدو ُد اهلل‬
‫النبي‪s‬مع حمبته ل ٍ‬ ‫‪6 .6‬اخل�صلة ال�ساد�سة‪� :‬أن َّ‬
‫عندها‪ ،‬وال يتعداها �أو يت�ساهل فيها‪.‬‬
‫تعاىل ف�إنه يقف َ‬

‫الدخول على الن�ساء مطلق ًا‬


‫ِ‬ ‫ ف�إن �أن�س ًا �صحب النبي‪s‬وهو ابنُ ت�سع �سنني ف ّلما بلغ منعه النبي‪s‬من‬
‫�سوا ًء كان معه �أو منفرد ًا‪.‬‬

‫احتلمت فيه �أخربتُ‬


‫ُ‬ ‫ُروي[عند �أبي ال�شيخ يف الأق��ران ‪�]244‬أن �أن�سا‪ d‬قال‪( :‬ملا كان ُ‬
‫اليوم الذي‬ ‫ ‬
‫علي منه)‪.‬‬ ‫َدخ ْل على َ‬
‫الن�ساءِ‪ ،‬ف َما �أتى َع َّلي يو ٌم كان � َأ�ش َّد َّ‬ ‫النبي‪s‬فقال‪ :‬ال ت ُ‬
‫َّ‬

‫الرجال على �أهل بي ِته من الن�ساء‪ ،‬و�أحيان ًا‬


‫ِ‬ ‫خدم ِه‬
‫النا�س يت�ساهل يف �ش�أن خدمه‪ ،‬في�سمح بدخول ِ‬‫ وبع�ض ِ‬
‫تخدم‬‫�سمح للخادمة �أن ِ‬‫حال غيبته‪ ،‬و�أ�ش َّد من ذلك و�أنكى �أن يعلم بخلوة اخلادم بهن‪ ،‬والعك�س مث ُل ُه فيمن َي ُ‬
‫�صاحب الدار والرجال �أو تخلو بهم‪.‬‬

‫ولي�س هذا من هدي النبي‪s‬يف �شيء مطلق ًا‪ .‬ف�إن �أن�س ًا‪ُ d‬ر ّبي يف بيت النبي‪ ،s‬و�أزواج النبي‪s‬‬ ‫ ‬
‫�أمهات امل�ؤمنني‪ ،‬ومع ذلك ُمنع من الدخول عليهن مطلق ًا‪ .‬فهل نحن ُم�ستنون ؟؟‬

‫‪337‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬توقري الكبري‬
‫توقري الكبري‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫}الل ا َّل ِذي‬‫ ف�إنّ ُكل �صغ ِري �إىل ِكبرَ ‪ ،‬و ُك ّل َف ِت ٍّي �إىل ِه َرم‪ ،‬و ُك َّل َق ِو ٍّي �إىل �ضعف؛ يقول اهلل ج ّل وعال‪ :‬هَّ ُ‬
‫َخ َل َق ُكم ِّمن َ�ض ْع ٍف ُث َّم َج َع َل ِمن َب ْع ِد َ�ض ْع ٍف ُق َّو ًة ُث َّم َج َع َل ِمن َب ْع ِد ُق َّو ٍة َ�ض ْع ًفا َو َ�ش ْي َب ًة َي ْخ ُلقُ َما َي َ�شاء َوهُ َو ا ْل َع ِل ُيم‬
‫ا ْل َق ِدي ُر{‪.‬‬

‫آدم �صبي ًا �ضعيف ًا‪ ،‬ثم جعله �شاب ًا فت ّي ًا‪ ،‬ثم �أعاده �شيخ ًا هرم ًا‪ِ .‬ومن عظيم حكمته �سبحانه‬
‫ني � َ‬ ‫ فخلق ُ‬
‫اهلل ُب َّ‬
‫�أن �أمر بالإح�سان لل�ضعيف �صغري ًا كان �أو كبري ًا؛ روى �أبو داود وغريه عن عبد اهلل بن َعمرو‪�d‬أن النبي‪s‬‬
‫(من مل يرحم �صغرينا ويعرف حقَّ كبرينا فلي�س منا)‪ ،‬فبينَّ َ ُّ‬
‫النبي الكرمي ‪�s‬أن امل�ؤمن هو من يرحم‬ ‫قال‪َ :‬‬
‫ال�صغري ويعرف حق �شرف الكبري‪.‬‬

‫وح�سن �إميانه‪ ،‬قال ذو النون‬


‫عقل املرء‪ ،‬ومتتم فقهه‪ُ ،‬‬
‫ وذلك �أن هاتني ال�صفتني من عالمات كمال ِ‬
‫‪-‬رحمه اهلل‪( :-‬ثالثة من �أعالم الوقار؛ تعظيم الكبري‪ ،‬والرتحم على ال�صغري‪ ،‬والتح ّلم على الو�ضيع)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫وتعظيمه وتوق ِريه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫إجالل ال َكبري �سن ًا‪،‬‬ ‫الن�صو�ص ال�شرعية متوافر ًة يف ُل ِ‬
‫زوم � ِ‬ ‫ُ‬ ‫ عباد اهلل! لقد جاءت‬
‫احلديث‪(:‬من مل يعرف‬
‫َ‬ ‫ومعرف ِة �شر ِفه ومنزلته‪ ،‬ف�إعطا�ؤه ح ّقه وتوفيته �إياه عالم ٌة على كمال الإميان كما يف‬
‫حقَّ كبرينا فلي�س منا)‬

‫إح�سان‪ ،‬وحثَّ على مكارم الأخالق فروى م�سلم عن �شداد بن �أو�س‪�d‬أن النبي‬ ‫ ذلكم �أن اهلل �أمر بال ِ‬
‫‪s‬قال‪�( :‬إن اهلل كتب الإح�سان على كل �شيء ف�إذا قتلتم ف�أح�سنوا القتلة و�إذا ذبحتم ف�أح�سنوا ِّ‬
‫الذبحة)‪.‬‬
‫ف�أمر اهلل بالإح�سان حتى �إىل البهائم والدواب يف حياتها فال حت َّمل فوق طاقتها‪ ،‬وال متنع الأكل‪ ،‬وعند موتها‬
‫ب�إح�سان ذبحها‪.‬‬

‫ و�أعظم الإح�سان ما كان للآدميني‪ ،‬و�أجلُّه �إن كان ذلكم ال�شخ�ص والد ًا‪� ،‬أو قريب ًا‪� ،‬أو جار ًا‪� .‬أو مت�صف ًا‬
‫والكبرَ ‪.‬‬
‫خل َرق‪ِ ،‬‬ ‫ببع�ض ال�صفات التي ت�ستلزم الإح�سان كاحلاجة‪ ،‬والفقر‪ ،‬والعجز‪ ،‬وا َ‬
‫‪338‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬توقري الكبري‬

‫إكرامه ِمن �إجالل اهلل‪ ،‬وعالم ًة على تعظيمه‬ ‫إكرام ِذي ال�شَّ يبة‪َ ،‬و َج َع َل � َ‬
‫النبي امل�صط َفى‪s‬ب� ِ‬‫ وقد � َأم َر ُّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�سبحانه يف القلب‪ .‬فروى الإمام �أحمد و�أبو داود ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي مو�سى الأ�شعري‪d‬قال‪ :‬قال النبي‬
‫إكرام‬
‫وحامل القر�آن غري الغايل فيه وال اجلايف عنه‪ ،‬و� َ‬ ‫ِ‬ ‫إكرام ذي ال�شَّ يبة امل�سلم‪،‬‬
‫‪�( :s‬إن من �إجالل اهلل � َ‬
‫لطان املُق�سط)‪.‬‬
‫ال�س ِ‬‫ذي ُّ‬
‫و�س ّن ٌة لكونه تق َّل َب يف العبودية هلل �أمد ًا طوي ًال)‪.‬‬
‫ قال احلكيم الرتمذي‪�( :‬إجالل الكبري هو ح ٌّق ُ‬

‫ فكب ُري ال�سنِّ ذي ال�شيبة �أحرى بالدرجة العالي ِة عند اهلل تعاىل من غريه �إذ فني ُع ُم ُره يف طاعة اهلل‪،‬‬
‫أيامه يف ذكر مواله‪ ،‬روى الن�سائي يف كتاب (عمل اليوم والليلة) عن طلحة‪d‬مرفوع ًا‪( :‬لي�س �أحد‬ ‫و�أم�ضى � َ‬
‫�أف�ضل عند اهلل ِمن م�ؤمن ُيع َّم ُر يف الإ�سالم يكرث تكبريه وت�سبيحه وتهليله وحتميده)‪.‬‬

‫ والكب ُري يف �س ِّنه مظنة الإكثار من طاعة اهلل ع َّز روى الرتمذي ب�إ�سناد �صحيح من حديث عبد اهلل بن‬
‫ب�سر‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬خريكم من طال عمره وح�سن عمله)‪.‬‬

‫ال�سن مظنون فيه ال�صَّ الح والتقوى‪ ،‬واالنقطا ُع عن الدنيا وال ُ‬


‫إقبال على الآخرة؛ �إذ �أن ُمنذ َر‬ ‫ فكب ُري ِّ‬
‫ري من �أقرانه و�أبنا ِء ِ�س ِّنه قد تخط َفتهم ا َملنون و�سكنوا الأجداث والرثى‪.‬‬
‫املوت قد عاله‪ ،‬وكث ٌ‬
‫ِ‬

‫أعظم �إثم ًا عند اهلل تعاىل ِمن �صغ ِري ِّ‬


‫ال�سن احلدث‪ ،‬ويف ُك ٍّل ُ�سو ٌء‬ ‫الذنب من كبري ال�سن الأ�شيب � ُ‬
‫ لذا كان ُ‬
‫و�شر يقول‪( :s‬ثالثة ال يكلمهم اهلل يوم القيامة وال يزكيهم ولهم عذاب �أليم ـ وذكر منهم‪�s‬أُ ٌ‬
‫�شيمط زان‬
‫‪-‬ويف رواية‪� -‬شيخ زان)‪.‬‬

‫ عباد اهلل ! �إن تعظيم الكبري يف �س ّنه �أن يبد�أَ به فيما ح ُّقه التكرمي كالدخول واخل��روج‪ ،‬والبداء ِة‬
‫باحلديث‪ ،‬وحني املناول ِة لل�شيء‪ ،‬وغريها من الأمور؛ وقد روى البخاري وم�سلم عن �سهل بن �أبي حثمة‪d‬‬
‫قال‪ :‬انطلق عبد الرحمن بن �سهل وحمي�صة وحوي�صة ابنا م�سعود �إىل النبي ‪s‬فذهب عبد الرحمن يتكلم‪،‬‬
‫ف�سكت فتكلما‪ .‬ثم ذكر احلديث‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقال‪( :s‬كبرِّ كبرِّ ) وهو �أحدث القوم‪،‬‬

‫خدم‪ ،‬و ُيعطى ح ّقه من الإعانة والإك��رام‪ ،‬وقد كان لل�سلف‬ ‫ال�سن �أن ُي َ‬‫۩ ۩ ومن �إجالل ذي ال�شيبة وكبري ِّ‬
‫إعظام ًا‬
‫يف ذلك �آثا ٌر كثري ٌة فمن ذلك قال امل ّروذي‪ :‬كان �أبو َعبد اهلل �أحمد بن حنبل ِمن �أ�شدِّ ال َّنا�س � َ‬
‫لإخوا ِنه‪َ ،‬ومن هو �أ�سنُّ منه؛ لقد َجاءه �أبو ه َّمام َراكب ًا على ح َمار‪ ،‬ف�أخذ �أبو عبد اهلل بال ِّر َكاب‪ ،‬ور�أيتُه‬
‫َف َع َل هذا مبن هو �أ�سنُّ منه من ال�شيوخ‪.‬‬

‫۩ ۩ ومن تعظيم الأك ِرب �سن ًا �أن ُي َ�س َّو َد َو ُي َ‬


‫رج َع �إىل َر�أيه ومعرفته‪ ،‬و ُي�شاور يف الأمور‪ ،‬و ُي�سمع ر�أ ُيهُ؛ قال حكيم‬
‫ني! اتقوا َ‬
‫اهلل و�س ِّودُوا �أك َربكم‪ ،‬ف�إن القوم‬ ‫بن قي�س بن عا�صم‪� :‬أو�صى قي�س بن عا�صم بنيه فقال‪( :‬يا َب َّ‬
‫�إذا َ�س َّودوا �أك َربهم َخ َل ُفوا �أباهم‪ ،‬و�إذا �س َّودوا �أ�صغرهم �أذرى ذلك لهم عند �أكفائهم)‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬توقري الكبري‬

‫ وي�شهد لذلك ما روى ابنُ حبان واحلاكم عن ابن عبا�س مرفوع ًا‪( :‬الربكة مع �أكابركم) قال احلاكم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�صحيح على �شرط البخاري‪ .‬ويف رواية (اخلري مع �أكابركم) رواه البزار والطرباين يف الأو�سط‪.‬‬

‫ ومن �أعظم َما ي�ؤخذ من الأكابر و ُيرجع �إليهم فيه العلم ال�شرعي؛ �إن كانوا من �أهله‪ ،‬يقول ابن م�سعود‬
‫النا�س بخري ما �أخذوا العلم عن الأكابر)‪ ،‬قال ابن ُقتيبة‪( :‬يعني ال يزال ُ‬
‫النا�س بخري ما كان‬ ‫‪( :d‬ال يزال ُ‬
‫علما�ؤهم امل�شايخ‪ ،‬ومل يكن علما�ؤهم الأحداث؛ لأن ال�شيخ قد زالت عنه ميعة ال�شباب وحدته‪ ،‬وال ي�ستزله‬
‫ال�شيطان ا�ستزالل احلدث‪ ،‬ومع ال�سن الوقار‪ ،‬واجلاللة‪ ،‬والهيبة)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن يف �إجالل ذي ال�شيبة و�إكرامه �أجر ًا عظيم ًا عند اهلل تعاىل‪ ،‬فهو من �إجالل اهلل‪ ،‬وهو‬
‫عالمة كمال الإميان‪ ،‬وناهيك بهذين الو�صفني �أجر ًا عند اهلل يوم القيامة‪ .‬ومع ذلك ف�إن اهلل ّ‬
‫يعج ُل الأجر‬
‫واملثوبة يف الدنيا ملن و َّقر الكبري و�أَ َج َّله‪ ،‬ويكون ذلك ب�أن يقي�ض ُ‬
‫اهلل له يف ِكبرَ ِ ِه َمن ُيو ِّق ُر ُه ويكر ُم ُه ويجلُّه �إذ‬
‫يخ ًا �إال ق َّي َ�ض ُ‬
‫اهلل‬ ‫اب َ�ش َ‬ ‫اجلزاء من جن�س العمل‪ .‬فروى الرتمذي عن �أن�س‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬ما و َّق َر َ�ش ٌ‬
‫تعاىل له يف ِ�س ِّن ِه َمن يو ّقره)‪.‬‬

‫ وا�ستنبط بع�ض العلماء من هذه احلديث �أي�ض ًا �أن من �أكرم كبري ًا يف �س ّن ِه ووقره و�أج ّله ف�إن اهلل ُيطيل‬
‫مب�شر بطول ال ُعمر مع‬‫احلجاوي‪( :‬قال جم ٌع من العلماء‪ " :‬وهذا ّ‬ ‫ُعم َره ويبارك له فيه‪ ،‬قال ال�شيخ مو�سى َّ‬
‫الأجر ")‪ .‬لأن النبي‪s‬بينّ �أن من و ّقر �شيخ ًا ف�إن اهلل �سيقي�ض له من يوقره يف كرب �س ّنه مما يد ُّل على �أنه‬
‫�س َي ُ‬
‫طول ُع ُم ُر ُه‪.‬‬

‫‪340‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حب املساكني‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حب املساكني‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ ‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ديث �أه ِله‪ ..‬ف�إن ُذكر الفق ُر ف ُيذ َكر‬


‫املجال�س‪ ،‬وغالب َح ِ‬‫ن�س َ‬‫ ف َما فت�أ احلديثُ عن املال وجم ِعه �أن يكون �أُ َ‬
‫ذم ويح َّقر‪ ،‬واملُح�سنُ من النا�س َمن يذكر الفقراء م�شفق ًا على حا ِلهم‪� ،‬آ�سف ًا عليهم‪ .‬ولكنَّ هناك �أم ٌر مه ٌم‬ ‫ل ُي َّ‬
‫ري منا عنه غافل‪� ،‬أال وهو حم َّب ُة امل�ساكني‪.‬‬
‫رمبا كان كث ٌ‬

‫ نعم ! �إنها حم َّب ُة امل�ساكني ذوي ا َمل�س َكن ِة‪ِ ،‬من الفقراء واملحتاجني‪ ،‬وذوي العاهات والإعاقات‪ ،‬واملب َت َل َني‬
‫بالأمرا�ض والأدواء‪َ ،‬ومن ال ُيح�سن الت�ص ُّرف َخ َر َق ًا َو ِع َّيا‪� .‬إن حمب َة �أولئك والإح�سانَ �إليهم‪ ،‬وجمال�ستَهم‪،‬‬
‫قبل و�أخال ُقهم‪.‬‬ ‫وزيارتهم‪ ،‬كل ذلك ِمن الأمور امل�شروعة العظيمة‪ ،‬بل هي طريق الأنبياء وال�صاحلني ِمن ُ‬
‫(ح ُّ��ب امل�ساكني من �أخ�لاق املر�سلني‪ ،‬وجمال�ستُهم من �أخالق‬ ‫قال يحيى بن معاذ ال��رازي (ت‪258‬ه��ـ)‪ُ :‬‬
‫ال�صَّ احلني‪ ،‬والفرا ُر منهم من �أخالق املنافقني)‪.‬‬

‫وهبت لك‬
‫ روى الإمام �أحمد يف (الزهد �ص ‪ )57‬عن َوهب بن منبه قال‪�( :‬أوحى اهلل �إىل عي�سى‪� a‬إين ُ‬
‫ُح َّب امل�ساكني‪ ،‬ورحمتَهم؛ حت ُّب ُهم ويحبو َنك‪ ،‬وير�ضون بك �إمام ًا وقائد ًا‪ ،‬وتر�ضى بهم �صحابة َو َت َبعا)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫مفاتيح‬
‫َ‬ ‫وجل�سا�ؤه وحواريوه‪ ،‬وقد �آتى ُ‬
‫اهلل نب َّيه‬ ‫ ونبينا حمم ٌد‪s‬له ِمن ذلك �ش�أن عظيم‪ ،‬فهم �أ�صحا ُبه ُ‬
‫خزائن الأر�ض فر َّدها توا�ضع ًا‪ ،‬و َر ِ�ضي بزي امل�ساكني ليكون �أرف َع لدرجته‪ُ ،‬‬
‫وخ رِّي فاختار �أن يكون عبد ًا‬ ‫ِ‬
‫ر�سو ًال‪.‬‬

‫‪�(:‬س ْل !)‪ ،‬فقال‬


‫اهلل ع َّز وجل قال للنبي‪َ s‬‬ ‫ روى الإمام �أحمد والرتمذي و�صححه عن معاذ‪�d‬أن َ‬
‫‪( :s‬اللهم �إين �أ�س�ألك فعل اخلريات‪ ،‬وترك املنكرات‪ ،‬وحب امل�ساكني‪ ،‬و�أن تغفر يل وترحمني‪ ،‬و�إذا �أردتَ‬
‫عمل ُيقربني �إىل ُح ِّبك)‪ ،‬ثم قال‬
‫وح َّب ٍ‬ ‫فتن ًة بقوم فتو َّفني غ َري مفتون‪ ،‬و�أ�س�ألك ُح ّب َك ُ‬
‫وح َّب َمن يحبك ُ‬
‫وح�سنه ِمن حديث ابن عبا�س‪�d‬أن اهلل قال‪:‬‬ ‫‪�(:s‬إنها ح ٌّق فادر�سوها وتع َّلموها)‪ .‬ويف رواية عند الرتمذي َّ‬

‫‪341‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حب املساكني‬

‫�صليت قل اللهم �إين �أ�س�ألك فعل اخلريات‬


‫(يا حممد)‪ ،‬فقال النبي ‪( :s‬لبيك و�سعديك)‪ ،‬فقال اهلل‪�( :‬إذا َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وترك املنكرات وحب امل�ساكني و�إذا �أردت بعبادك فتنة فاقب�ضني �إليك غري مفتون)‪.‬‬

‫و�صححه عن �أبي �سعيد اخلدري‪d‬قال �سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪( :‬اللهم‬ ‫ّ‬ ‫ وروى ابن ماجه واحلاكم‬
‫�أحيني م�سكين ًا‪ ،‬وتوفني م�سكين ًا‪ ،‬واح�شرين يف زمرة امل�ساكني‪ .‬و�إن �أ�شقى الأ�شقياء من اجتمع عليه فق ُر‬
‫ناهيك بهذا الدعاء �شرف ًا للم�ساكني‪ ،‬ولو قال واح�شر امل�ساك َني يف ُزمرتي لكفاهم‬
‫وعذاب الآخرة)‪َ .‬و َ‬
‫ُ‬ ‫الدنيا‬
‫�شرف ًا‪ ،‬كيف وقد قال واح�شرين يف زمرتهم‪.‬‬

‫ين يف (الأو�سط‬ ‫ وكان‪s‬و�صي �أ�صحابه مبحبة امل�ساكني فروى ابنُ �أبي �شيبة (‪ ،)34350‬والطربا ُ‬
‫ب�سبع؛ ُح ِّب امل�ساكني‪ ،‬و�أن �أدنو منهم‪ ،‬و�أن �أنظر �إىل َمن �أ�سفل‬
‫‪ )7739‬عن �أبي ذر‪d‬قال‪�( :‬أو�صاين خليلي ٍ‬
‫مني وال �أنظر �إىل َمن فوقي‪ ،‬و�أن �أَ ِ�ص َل َرحمي و�إنْ جفاين‪ ،‬و�أن �أكرث من ال حول وال قوة �إال باهلل‪ ،‬و�أن �أتكلم‬
‫ُمب ِّر احلق ال ت�أخذين يف اهلل لوم ُة الئم‪ ،‬و�أن ال �أ�س�أل النا�س �شيئ ًا)‪.‬‬

‫أحب �إيل‬
‫أحب �إيل من ال ِعز‪ ،‬وبطنُ الأر�ض � ُّ‬
‫أحب �إيل من ال ِغنى‪ ،‬والذل � ُّ‬
‫ فكان �أبو ذر‪ d‬يقول‪( :‬الفقر � ُّ‬
‫من ظهرها)[تهذيب الأ�سرار ‪.]155‬‬

‫زينب بنت خزمية‪g‬‬


‫فمن �أزواجه‪s‬التي ماتت يف حياته ُ‬
‫أزواجه و�أ�صحا ُبه‪f‬على طريقته؛ ِ‬
‫وقد كان � ُ‬ ‫ ‬
‫إطعامها امل�ساكني‪.‬‬
‫وقد ُ�س ّميت �أم امل�ساكني لكرثة � ِ‬

‫ِومن �أ�صحابه و�آل بيته جعف ُر بن �أبي طالب‪d‬فروى الرتمذي (‪ )3766‬عن �أبي هريرة‪d‬قال‪ :‬كان‬ ‫ ‬
‫�سميه ب�أبي امل�ساكني‪ ..‬فكان‬
‫جعف ُر يحب امل�ساكني‪ ،‬ويجل�س �إليهم‪ ،‬ويحدثهم‪ ،‬ويحدثوه وكان ر�سول اهلل‪ُ s‬ي ِّ‬
‫حمب ُة جعف َر للم�ساك َني حمب ًة زائد ًة على حمب ِة غ ِريه �إياهم‪ ،‬لذا كناه النبي ‪s‬ب�أبي امل�ساكني ملالزمتهم‬
‫ومداومته عليهم‪ .‬ويف هذا احلديث دالل ٌة على �أن ُح َّب ال ُكرباءِ‪ ،‬و� ِ‬
‫أرباب ال�شَّ رف للم�ساكني‪ ،‬وتوا�ض َعهم لهم‬
‫يزي ُد يف ف�ض ِلهم و ُي َع ُّد ذلك ِمن مناقبهم‪.‬‬

‫وخ ُلقي) َع ِل ْم َنا َما كانا عليه ِمن ُخ ٍلق يف ذلك‪.‬‬


‫و�إذا َع ِل ْم َنا �أن النبي‪s‬قال جلعفر‪�( :‬أ�شبهت َخ ْلقي ُ‬ ‫ ‬
‫ويقول ابن املبارك رحمه اهلل‪( :‬قال ليكن جمل�سك مع امل�ساكني‪ ،‬و�إياك �أن جتل�س مع �صاحب بدعة)‪.‬‬ ‫ ‬

‫ عباد اهلل ! �إن حمبة امل�ساكني تكون بالإح�سان �إليهم‪ ،‬وال��ر�أف�� ِة بهم‪ ،‬وجمال�س ِتهم‪ ،‬و ُمواكل ِتهم‪،‬‬
‫والعي�ش بينهم‪ ،‬وعدم اال�ستكبا ِر عليهم‪ ،‬واال�ستنكاف عنهم‪ ،‬بل التوا�ضع معهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َوحمداثتهم‪ ،‬وتفقد حا ِلهم‪،‬‬
‫اجلانب لذوي الفقر وامل�س َكنة‪ ،‬وت�ص ّفح وجو َه الفقراء‬
‫ِ‬ ‫ني‬ ‫ُ‬
‫وك�شف كر َبتهم‪ ،‬و ِل ُ‬ ‫ُ‬
‫والوقوف بجانبهم‬ ‫وعيادتهم‬
‫أيت �أح�سنَ من‬‫واملحاويج وذوي التع ّفف واحليا ِء يف الطلب‪ ,‬وموا�ساتهم باملال؛ يقول ب�شر بن احلارث‪" :‬ما ر� ُ‬
‫جال�س بني َيدي فقري"‪.‬‬
‫غني ٍ‬ ‫ّ‬

‫‪342‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حب املساكني‬

‫ عباد اهلل! �إن لفعل هذه الأفعال �آثار ًا يف النف�س عظيمة‪ ،‬منها لني القلب ورقتُه‪ ،‬وتذكره بالآيات وانتفاعه‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫}�س�أَ�صْ ِر ُف َعنْ �آ َيا ِت َي ا َّل ِذينَ َي َت َكبرَّ ُ ونَ فيِ الأَ ْر ِ�ض ِب َغ رْ ِي الحْ َ ِّق{ قيل‪( :‬الذين‬
‫بها؛ جاء يف قول اهلل تعاىل‪َ :‬‬
‫يتكربون على الفقراء ويتذللون للأغنياء)‪.‬‬

‫ِومن �آثار حمبة امل�ساكني‪ :‬احل�ش ُر معهم يوم القيامة وقد كان من دعاء النبي‪( s‬واح�شرين يف زمرة‬ ‫ ‬
‫امل�ساكني)‪ ،‬ويف ال�صحيحني �أن النبي ‪s‬قال‪( :‬املر ُء مع َمن �أحب)‪.‬‬

‫واحل�شر مع امل�ساكني يوم القيامة ف�ضْ ٌل‪ ،‬فروى الرتمذي و�صححه عن �أبي هريرة‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬‬ ‫ ‬
‫قال‪( :‬يدخل فقراء امل�سلمني اجلنة قبل الأغنياء بن�صف يوم وهو خم�سمائة عام)‪.‬‬

‫ ويف ال�صحيحني عن �أ�سامة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬قمت على باب اجلنة فكان عامة من دخلها امل�ساكني‪،‬‬
‫و�أ�صحاب َ‬
‫اجلدِّ حمبو�سون غ َري �أن �أ�صحاب النار قد �أمر بهم �إىل النار)‪.‬‬

‫�ضعيف‬
‫ٍ‬ ‫ ويف ال�صحيحني عن حارثة بن وهب‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬أال �أخربكم ب�أهل اجلنة؟ ُك ُّل‬
‫ُم�ست�ض َع ٍف لو يق�سم على اهلل لأبره‪� ،‬أال �أخربكم ب�أهل النار كل عتل جواظ م�ستكرب)‪ .‬و(ال ُعتُل) هو اجلايف‬
‫َ‬
‫و(اجل َّواظ) هو ال�ضخم املختال يف م�شيته‪.‬‬ ‫الغليظ‪.‬‬

‫والظ َف َر معهم ففي �صحيح البخاري عن م�صعب‬ ‫ِومن �آثار حمبة امل�ساكني وال�ضعفاء �أن اخل َري والن�ص َر َ‬ ‫ ‬
‫(هل ُتن�صرون‬ ‫بن �سعد بن �أبي وقا�ص قال‪ :‬ر�أى �سع ٌد‪�d‬أنَّ له َف�ضْ ًال على َمن دُونه فقال له ر�سول اهلل‪َ s‬‬
‫ن�ص ُر هذه الأُمَّ�� ُة ب�ضعيفها‬
‫وترزقون �إال ب�ضعفائكم)‪ .‬ويف رواية عند الن�سائي �أن النبي ‪s‬قال‪�( :‬إمنا ُت َ‬
‫بدعوتهم و�صالتهم و�إخال�صهم)‪.‬‬

‫ وعن �أُم َّي َة بن َعبد اهلل قال‪ :‬كان ُ‬


‫ر�سول اهلل‪َ s‬ي�ستفتح ب�ص َعاليك امل�سلمني (رواه الطرباين ورواته رواة‬
‫ال�صحيح وهو مر�سل)‪.‬‬

‫ يقول اهلل ع َّز وجل‪ِ } :‬ل ْل ُف َق َراء المْ ُ َه ِاج ِرينَ ا َّل ِذينَ �أُ ْخ ِر ُجوا ِمن ِديا ِر ِه ْم َو�أَ ْم َوا ِل ِه ْم َي ْب َت ُغونَ َف�ضْ ًال ِّمنَ هَّ ِ‬
‫الل‬
‫ن�ص ُرونَ هَّ َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه �أُ ْو َل ِئ َك هُ ُم ال�صَّ ا ِد ُقونَ { َوا َّل ِذينَ َت َبوَّ�ؤُوا ال َّدا َر َوا ِلإ َميانَ ِمن َق ْب ِل ِه ْم ُي ِح ُّبونَ َمنْ‬ ‫َو ِر�ضْ َوا ًنا َو َي ُ‬
‫ا�ص ٌة َو َمن ُي َ‬
‫وق‬ ‫اج ًة ممَِّّ ا �أُو ُتوا َو ُي�ؤْ ِث ُرونَ َع َلى �أَن ُف ِ�س ِه ْم َو َل ْو َكانَ ِب ِه ْم َخ َ�ص َ‬
‫اج َر ِ�إ َل ْي ِه ْم َوال َي ِجدُونَ فيِ ُ�صدُو ِر ِه ْم َح َ‬ ‫َه َ‬
‫ُ�ش َّح َن ْف ِ�س ِه َف ُ�أ ْو َل ِئ َك هُ ُم المْ ُ ْف ِل ُحونَ {‬

‫‪343‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث أم زرع‬
‫حديث أم زرع‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ ‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إن النف�س حم َّب ٌة لل َق َ�ص ِ�ص ِعظ ًة وتذكري ًا وترويح ًا وتنفي�س ًا‪ ،‬وقد كان ُّ‬
‫النبي‪s‬يجال�س �أهله وزوجه‪،‬‬
‫في�سمع منها ويحادثها وي�سامرها وميازحها وكل ذلك جاء ب�أحاديثَ �صحيحة عنه ‪.s‬‬

‫ ومن اخلرب الذي جاءنا عن حديث جرى بينه وبينه زوجه � ِّأم امل�ؤمنني الطاهرة املطهرة‪ ،‬ال�صديقة بنت‬
‫ال�صديق عائ�شة‪g‬ما روى البخاري وم�سلم عن عروة بن الزبري �أن عائ�شة‪g‬خربته ق�ص ًة حكتها للنبي‬
‫‪ ،s‬فيها بيان �أحوال الرجال مع ن�سائهم‪ ،‬وما حتبه املر�أة من الرجل وما تكرهه‪ ،‬فقالت‪( :g‬جل�س �إحدى‬
‫ع�شرة امر�أة فتعاهدن وتعاقدن �أن ال يكتمن من �أخبار �أزواجهن �شيئ ًا‪.‬‬

‫جمل َغث على ر�أ�س جبل ال �سهل فريتقى وال �سمني فينتقل‪.‬‬‫ قالت الأوىل‪ :‬زوجي حلم ٍ‬
‫ فذكرت هذه املر�أ ُة �أن زوجها �صعب املرا�س‪ ،‬فهو كثري ال�ضجر �شديد الغلظة ي�صعب ُّ‬
‫الرقي �إليه‪� ،‬سي ٌء‬
‫فج َمع بني البخل و�سوء اخللق‪ ،‬ف�شبهت �سوء خلقه باجلبل‬ ‫ُخلقه فيرتفع ويتكرب وي�سمو بنف�سه فوق مو�ضعها‪َ ،‬‬
‫ف�سرت ما �أجملت فك�أنها قالت ال اجلبل �سه ٌل فال َي�ش ُّق ارتقا�ؤه لأخذ اللحم ولو كان هزيال لأن‬
‫الوعر‪ ،‬ثم َّ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ال�شيء املزهود يف �أخذه �إذا ُوجد بغري تعب �أخذ‪ ،‬ثم قالت‪ :‬وال اللحم �سمني ف َيتحمل امل�شقة يف �صعود اجلبل‬
‫لأجل حت�صيله‪.‬‬

‫ ثم قالت الثانية‪ :‬زوجي ال �أبثُّ خربه �إين �أخاف �أن ال �أذره �إن �أذكره �أذكر ُع َج َر ُه وبجره‪.‬‬
‫�أي ال �أظهر حديثه خ�شية �أن ال �أترك من خربه �شيئا‪ .‬ك�أنها خ�شيت �إذا ذكرت ما فيه �أن يبلغه فيفارقها‬
‫معايب كثري ًة‪،‬‬
‫فك�أنها قالت �أخاف �أن ال �أقدر على تركه لعالقتي به و�أوالدي منه‪ ،‬فاكتفت بالإ�شارة �إىل �أنَّ له َ‬
‫و�أنه متعق ُد النف�س عن املكارم وفا ًء مبا التزمته من ال�صدق‪.‬‬

‫مذموم الطول‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نطق �أُط َّلق و�إن �أ�س ُكت �أع َّلق‪�.‬أي �أنه طويل‬
‫ قالت الثالثة‪ :‬زوجي ال َع َ�ش َّنق �إن �أَ ِ‬
‫قال الأ�صمعي �أرادت �أنه لي�س عنده �أكرث من طوله بغري نفع‪ .‬فهي تهابه �أن تنطق بح�ضرته فهي ت�سكت على‬

‫‪344‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث أم زرع‬

‫م�ض�ض‪ .‬ف�إن ذكرت عيوبه فيبلغه طلقها و�أن �سكتت عنها فهي عنده مع َّلقة ال ذات زوج وال �أمي‪ ،‬فك�أنها قالت‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�أنا عنده ال ذات بعل ف�أنتفع به وال مطلقة ف�أتفرغ لغريه‪.‬‬

‫ قالت الرابعة‪ :‬زوجي َك َليل تهامة ال ح ٌّر وال قر‪ ،‬وال خمافة وال �س�آمة‪.‬‬
‫وليل تهامة ي�ضرب به املثل يف الطيب لأنها بالد حارة يف غالب الزمان ولي�س فيها رياح باردة ف�إذا كان ُ‬
‫الليل‬
‫وهج احلر �ساكنا‪ ،‬فيطيب الليل لأهلها بالن�سبة ملا كانوا فيه من �أذى حر النهار‪ .‬فو�صفت زوجها بجميل‬ ‫كان ُ‬
‫عنده وال َمكروه و�أنا �آمنة منه فال �أخاف من‬
‫واعتدال احلال و�سالم ِة الباطن فك�أنها قالت ال �أذى َ‬ ‫ِ‬ ‫ال ِع�شرة‬
‫�ش ِّره‪ ،‬وال َم َلل عنده ف َي�س� ُأم ِمن ِع�شرتي �أو لي�س ب�سيء ا ُ‬
‫خللق ف�أ�س�أم من ع�شرته ف�أنا لذيذة العي�ش عنده كلذة‬
‫�أهل تهامة بليلهم املعتدل‪.‬‬

‫ قالت اخلام�سة‪ :‬زوجي �إن دخل َف ِهد و�إن خرج �أَ ِ�سد وال ي�س�أل عما عهد‪.‬‬
‫فو�صفته بالغفلة عند دخول البيت على وجه املدح له‪ ،‬و�إذا خرج على النا�س كان �أمره �أ�شد يف اجلر�أة‬
‫والإقدام واملهابة كالأ�سد‪ .‬وال ي�س�أل عما عهد فهو �شديد الكرم كثري التغا�ضي ال يتفقد ما ذهب من ماله‪،‬‬
‫و�إذا جاء ب�شيء لبيته ال ي�س�أل عنه بعد ذلك وال يلتفت �إىل ما يرى يف البيت من املعايب بل ي�سامح ويغ�ضي‬
‫ويحتمل الذم‪.‬‬

‫ قالت ال�ساد�سة‪ :‬زوجي �إن �أكل لف‪ ،‬و�إن �شرب ا�شتف‪ ،‬و�إن ا�ضطجع التف‪ ،‬وال يولج الكف ليعلم البث‪.‬‬
‫املراد باللف الإكثار من الأكل وا�ستق�صا�ؤه حتى ال يرتك منه �شيئا‪ ،‬ف�أرادت �أنه يخلط �صنوف الطعام من‬
‫نهمته و�شرهه ثم ال ُيب ِقي منه �شيئا‪ .‬و�إذا �شرب مل ُي ِبق يف الإناء �شيئ ًا‪ .‬و �إذا ا�ضطجع التف �أي رقد ناحية‬
‫وتلفف بك�سائه وحده وانقب�ض عن �أهله �إعرا�ضا فهي كئيبة حزينة لذلك ولذلك قالت‪(:‬وال يولج الكف ليعلم‬
‫البث) �أي ال ميد يده ليعلم ما هي عليه من احلزن فيزيله‪ ،‬فجمعت يف و�صفها له بني الل�ؤم والبخل واملهانة‬
‫و�سوء الع�شرة مع �أهله‪.‬‬

‫ قالت ال�سابعة‪ :‬زوجي غياياء �أو عياياء طباقاء كل داء له داء‪� ،‬شجك �أو فلك �أو جمع كال لك‪.‬‬
‫(غياياء �أو عياياء طباقاء) وهو االحمق الذي ينطبق عليه �أم�� ُر ُه‪ ،‬وكل �شيء تفرق يف النا�س من املعايب‬
‫موجود فيه‪ ،‬فكل داء تفرق يف النا�س فهو فيه‪�( .‬شجك �أو فلك �أو جمع كل ذلك لك) �أرادت �أنه َ�ضروب‬
‫للن�ساء ف�إذا �ضرب �إما �أن يك�سر عظم ًا �أو َي ُ�ش َّج ر� َأ�سها �أو يجمعهما‪.‬‬

‫م�س �أرنب‪ ،‬والريح ريح زرنب‪ ،‬و�أغ ِل ُب ُه والنا�س يغ ِلب‪ .‬الزرنب نبت طيب الريح‪.‬‬ ‫امل�س ُّ‬
‫ قالت الثامنة‪ :‬زوجي ُّ‬
‫فو�صفته ب�أنه لني اجل�سد ناعمه وتق�صد ح�سن َخ ْل ِقه ول َني عريكته و�أنه ط ِّي ُب ال َع َرق لكرثة نظافته وا�ستعماله‬
‫الطيب تظرفا‪ .‬قالت‪ :‬و�أنا �أغلبه والنا�س يغ ِلب فو�صفته مع جميل ع�شرته لها و�صربه عليها بال�شجاعة وهو‬
‫كما قال معاوية‪ :‬يغلنب الكرام ويغلبهن اللئام‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث أم زرع‬

‫ قالت التا�سعة‪ :‬زوجي رفيع العماد‪ ،‬طويل النجاد‪ ،‬عظيم الرماد‪ ،‬قريب البيت من الناد‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫فو�صفته بطول البيت وعلوه ف�إن بيوت الأ�شراف كذلك يعلونها وي�ضربونها يف املوا�ضع املرتفعة ليق�صدهم‬
‫الطارقون والوافدون وك َّنت بذلك عن �شرفه ورفعة قدره‪ .‬والنجاد حمالة ال�سيف تريد �أنه طويل القامة‬
‫يحتاج �إىل طول جناده ويف �ضمن كالمها �أنه �صاحب �سيف ف�أ�شارت �إىل �شجاعته‪.‬‬

‫ وقولها (عظيم الرماد) تعني �أن نا َر ِقراه للأ�ضياف ال تطف�أ لتهتدي ال�ضيفان �إليها‪ ،‬في�صري رما ُد النا ِر‬
‫أمر �أتوا‬ ‫ٌ‬
‫�شريف يف قومه‪ ،‬فهم �إذا تفاو�ضوا وت�شوروا يف � ٍ‬ ‫كثريا لذلك‪ .‬وقولها (قريب البيت من الناد) فهو‬
‫فجل�سوا قريبا من بيته واعتمدوا على ر�أيه وامتثلوا �أمره‪.‬‬

‫ قالت العا�شرة ‪ :‬زوجي مالك وما مالك ٌ‬


‫مالك خري من ذلك له �إبل كثريات املبارك قليالت امل�سارح و�إذا‬
‫�سمعن �صوت املزهر �أيقن �أنهن هوالك‪.‬‬
‫فجمعت يف و�صفها له بني الرثوة والكرم وكرثة ال ِق َرى واال�ستعداد له وبالغت يف �صفاته‪ ،‬وو�صفته �أي�ضا مع‬
‫ذلك بال�شجاعة لأن املراد باملهالك احلروب وهو لثقته ب�شجاعته يتقدم رفقته‪.‬‬

‫بج َحني‬ ‫ا�س من ُحلي �أذين‪َ ،‬وملأ من �شحم ع�ضدي َو َ‬ ‫ قالت احلادية ع�شرة‪ :‬زوجي �أبو زرع فما �أبو زرع �أ ْن َ‬
‫ب�شقٍّ فجعلني يف �أهل �صهيل و�أطيط ودائ�س و ُم ِنقٍّ فعنده �أقول‬ ‫يل نف�سي‪ ،‬وجدين يف �أهل غنيمة ِ‬ ‫حت �إ َّ‬
‫ف َب َج ْ‬
‫فال �أقبح و�أرقد ف�أت�صبح و�أ�شرب ف�أتقنح‪� .‬أم �أبي زرع فما �أم �أبي زرع ُع ُكو ُمها ِرداح وبيتها ف�ساح‪ .‬ابنُ �أبي‬
‫بنت �أبي زرع فما بنت �أبي زرع َطو ُع �أبيها‬ ‫زرع فما ابنُ �أبي زرع م�ضج ُع ُه ك َم َ�س ِّل َ�شط َبة و ُي�شب ُع ُه ِذرا ُع َ‬
‫اجلفرة‪ُ .‬‬
‫وغيظ جارتها‪ .‬جاري ُة �أبي زرع ف َما جارية �أبي زرع ال تبثُّ حديثنا تبثيثا‪ ،‬وال تن ِّفثُ‬ ‫وطو ُع �أمها‪ ،‬وملء ك�سا ِئها ُ‬ ‫َ‬
‫ِمريتنا تنقيثا‪ ،‬وال متلأ بيتنا تع�شي�شا‪ .‬قالت‪ :‬خرج �أبو زرع والأوطاب متخ�ض فلقي امر�أة معها ولدان لها‬
‫فنكحت بعده رجال َ�س ِر َّيا َر َك َب َ�شر َّيا و�أخذ‬
‫ُ‬ ‫كالفهدين يلعبان من حتت خ�صرها برمانتني‪ ،‬فطلقني ونكحها‪،‬‬
‫خطيا‪ ،‬و�أراح علي ِنع َم ًا ثر َّيا‪ ،‬و�أعطاين من كل رائحة زوجا‪ ،‬وقال‪ :‬كلي �أم زرع ومريي �أهلك‪ ،‬قالت‪ :‬فلو‬
‫جمعت ك َّل �شيء �أعطانيه ما َب َل َغ �أ�صغر �آنية �أبي زرع‪.‬‬ ‫ُ‬

‫لك ك�أبي زرع لأم زرع)‪.‬‬ ‫(كنت ِ‬


‫قالت عائ�شة ‪g‬قال ر�سول اهلل‪ُ :s‬‬
‫فهي تقول‪� :‬إنه ملأ �أذنيها مبا جرت عاد ُة الن�ساء من التحلي به من قرط ونحوه‪ ،‬و�أكرث عليها من الف�ضل‬
‫ف�سنت عنده‪ ،‬وكانت فرح ًة مغبوطة يف بيته‪ .‬وقد كانت و�أه ُلها يف �شق جبل وناحية منه لقلتهم‪ ،‬فكانوا‬
‫يف �شظف من العي�ش فجعلها و�أه َلها يف �أهل َ�صهيل �أي خيل و� ٍ‬
‫أطيط �أي �إبل ت�شري بذلك �إىل رفاهيتهم‪،‬‬
‫قالت‪(:‬فعنده �أقول فال �أقبح) �أي فال يقال يل قبحك اهلل �أو ال يقبح قويل وال يرد علي لكرثة �إكرامه لها‬
‫وتدللها عليه ال ير ُّد لها قوال وال يقبح عليها ما ت�أتي به‪.‬‬

‫قالت‪( :‬و�أرقد ف�أت�صبح) �أي �أنام ال�صبحة وهي نوم �أول النهار فال �أُوقظ �إ�شار ًة �إىل �أن لها َمن يكفيها م�ؤنة‬
‫بيتها ومهنة �أهلها‪ .‬قالت‪( :‬و�أ�شرب فاتقنح) �أي �أروى حتى ال �أحب ال�شرب فت�شرب حتى ال جتد م�ساغا‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث أم زرع‬

‫ ثم ذكرت �أ َّمه فقالت‪�( :‬أم �أبي زرع فما �أم �أبي زرع ُع ُكو ُمها ِر َداح وبيتها ف�ساح) العكوم هي الأحمال‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫التي تجُ مع فيها الأمتعة رداح �أي عظام كثرية احل�شو فو�صفت والدة زوجها ب�أنها كثرية الآالت والأثاث‬
‫والقما�ش وا�سعة املال كبرية البيت داللة على عظم الرثوة وكناية عن كرثة اخلري ورغد العي�ش والرب مبن‬
‫ينزل بهم‪.‬‬

‫ ثم ذكرت اب َنه فقالت‪(:‬ابنُ �أبي زرع فما ابن �أبي زرع م�ضجعه ك َم َ�سل َ�شطبة‪ ،‬وي�شبعه ذراع اجلفرة)‪.‬‬
‫ال�صغر كقدر بعر�ض ال�سيف �إذا ُ�س َّل من غمده‪ ،‬فهو ه ِّي ُف ال َقد ولي�س‬
‫فذكرت �أن م�ضج َعه الذي ينام فيه يف ِّ‬
‫قليل الأكل وال�شرب‪ ،‬مالز ٌم لآلة احلرب يختال يف مو�ضع القتال وكل ذلك مما تتمادح به‬ ‫ببطني وال َجاف‪ُ ،‬‬
‫العرب‪.‬‬

‫ قالت‪( :‬بنت �أبي زرع فما بنت �أبي زرع طوع �أبيها وطوع �أمها) �أي �أنها با ّر ٌة بهما وذكرت �أنها (ملء‬
‫ك�سائها) كناية عن كمال �شخ�صها ونعمة ج�سمها‪ ،‬كما �أنها (غيظ جارتها) فتبكي ح�سدا ملا تراه منها‪.‬‬

‫ ثم قالت‪( :‬جارية �أبي زرع فما جارية �أبي زرع) �أي اخلادم (ال تبث حديثنا تبثيثا‪ ،‬وال تن ِّقث مريتنا‬
‫تنقيثا‪ ،‬وال متلأ بيتنا تع�شي�شا) �أي ال تنقل احلديث وال تف�سد مونة البيت وت�سرقه كناية عن �شدة الأمانة‪،‬‬
‫واحلر�ص على النظافة‪.‬‬

‫لك ك�أبي زرع لأم زرع)‪.‬‬


‫(كنت ِ‬
‫بعد �أن �سردتُ عائ�شة خرب هوالء الن�سوة مع �أزواجهن قال النبي‪ُ :s‬‬ ‫ َو َ‬
‫فكذا امل�ؤمن يرفق بزوجه‪ ،‬و ُيح�سن ع�شرتها اقتدا ًء بالنبي الكرمي‪ ،s‬واهتدا ًء بهديه‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫‪347‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث أم زرع‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث الغار‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حديث الغار‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬ ‫ ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن اهلل �سبحانه وتعاىل قد جعل لنا يف ال�سالفني من القرون عرب ًة‪ ،‬ومن حديثهم عظة‪ ،‬كما قال تعاىل‬
‫الَ ْر ِ�ض َفا ْن ُظ ُروا َك ْي َف َكانَ َعا ِق َب ُة المْ ُ َك ِّذ ِبنيَ{‪ ،‬وبني �سبحانه �أن �أ�صحاب‬ ‫} َق ْد َخ َل ْت ِمنْ َق ْب ِل ُك ْم ُ�سننَ ٌ َف ِ�س ُريوا فيِ ْ أ‬
‫اب‬ ‫وحدهم من يعترب بالق�ص�ص‪ ،‬وينتفع باحلديث } َل َق ْد َكانَ فيِ َق َ�ص ِ�ص ِه ْم ِع رْ َب ٌة ِ ألُوليِ ْ أ‬
‫الَ ْل َب ِ‬ ‫الألباب والعقول َ‬
‫َما َكانَ َح ِدي ًثا ُيفْترَ َى َو َل ِكنْ َت�صْ ِديقَ ا َّل ِذي َبينْ َ َي َد ْي ِه َو َت ْف ِ�ص َيل ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َوهُ دً ى َو َر ْح َم ًة ِل َق ْو ٍم ُي�ؤْ ِم ُنونَ {‪.‬‬

‫ر�سول اهلل‪s‬عن الثالثة النفر الذين‬ ‫ِومن �أغرب الق�ص�ص و�أ�صدقه‪ ،‬و�أحكمه و�أعجبه ما ق�صَّ ُه لنا ُ‬ ‫ ‬
‫كان من �ش�أنهم وما ح َّل بهم ما ي�ستحق الرواية والت�أمل‪ ،‬فيما روى ال�شيخان من حديث �أبي هريرة‪ ،‬ورواه‬
‫الطرباين يف معجميه الأو�سط والكبري عن وهب بن منبه عن النعمان بن ب�شري الأن�صاري واللفظ له ( �أنه‬
‫�سمع ر�سول اهلل‪s‬يحدث عن الرقيم �أن ثالثة نفر دخلوا يف كهف فوقع قطعة من اجلبل على باب الكهف‪،‬‬
‫ف�أو�صد عليهم‪ ،‬فقال قائل منهم‪ :‬يا قوم تذكروا �أيكم عمل ح�سن ًة لعل اهلل برحمته يرحمنا‪ ،‬فقال �أحدهم‪:‬‬
‫قد عملت ح�سنة مرة كان يل ُع َّمال ا�ست�أجرتهم يف عمل يل‪ ،‬ك ُّل رجل منهم ب�أجر معلوم فجاءين رجل ذات‬
‫يوم و�سط النهار فا�ست�أجرته ما بقي من النهار ب�شرط �أ�صحابه فعمل يف بقية نهاره كما عمل رجل منهم يف‬
‫نهاره كله‪ ،‬فر�أيت يف الذمام �أن ال �أنق�صه �شيئا مما ا�ست�أجرت به �أ�صحابه ملا جهد يف عمله‪ ،‬فقال يل رجل‬
‫منهم‪� :‬أتعطي هذا مثل ما �أعطيتني ومل يعمل �إال ن�صف نهار‪ ،‬قلت‪ :‬يا عبد اهلل مل �أبخ�سك �شيئا من �شرطك‪،‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫وو�ضعت ح َّقه يف جانب ِمن البيت َما‬


‫ُ‬ ‫و�إمنا هو مايل �أحكم فيه َما �شئت‪ .‬فغ�ضب عند ذلك‪ ،‬وترك �إجارته‪،‬‬
‫�شاء اهلل‪ ،‬ثم مرت بي بعد ذلك َبق ٌر فا�شرتيت به ف�صيال من البقر‪ ،‬ف�أم�سكته حتى كرب‪ ،‬ثم بعته‪ ،‬ثم َ�صرفت‬
‫ثمنه يف بقرة‪ ،‬فحملت ثم توالدت لها حتى بلغ ما �شاء اهلل‪.‬‬
‫ ‬
‫ ثم مر بي بعد حني �شي ٌخ �ضعيف ال �أعرفه‪ ،‬فقال يل‪� :‬إنَّ يل عندك حق ًا‪َ ،‬ف َذ َك َر ُه حتى عرفته‪ .‬فقلت‪ :‬نعم‬
‫�إياك �أبغي‪ ،‬فعر�ضتها عليه جميعا‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا حقك‪ ،‬فقال‪ :‬يا عبد اهلل ال ت�ستهزئ مني �إن مل تت�صدق علي‪،‬‬
‫ف�أعطني حقي‪ .‬فقلت‪ :‬واهلل ما �أ�سخر منك �إنها حلقك َما يل منها �شيء‪ ،‬فدفعتها �إليه اللهم �إن كنت فعلت‬
‫ذلك لوجهك فافرج عنا فان�صدع اجلبل حتى ر�أوا و�أب�صروا‪.‬‬

‫وقال الآخ��ر فعلت ح�سنة مرة كان عندي ف�ضل و�أ�صابت النا�س �شدة‪ ،‬فجاءتني ام��ر�أة تطلب مني‬ ‫ ‬

‫‪349‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث الغار‬

‫فقلت‪ :‬ال‬
‫معروفا‪ ،‬فقلت لها‪ :‬ال واهلل ما هو دون نف�سك‪ .‬ف�أبت علي‪ ،‬ثم رجعت فذكرتني باهلل و�أبيت عليها‪ُ .‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫فذ َكرت ذلك لزوجها‪ .‬فقال لها‪� :‬أعطيه نف�سك و�أغني عيالك فجاءتني‬
‫علي َ‬
‫واهلل ما هو دون نف�سك ف�أبت َّ‬
‫فقلت لها‪ :‬ال واهلل ما هو دُون نف�سك‪.‬‬
‫فنا�شدتني اهلل ُ‬

‫رب‬ ‫َعدت‪ ،‬فقلت ما لك قالت‪� :‬أخاف َ‬


‫اهلل َّ‬ ‫ فلما ر�أت ذلك �أ�سلمت �إ َّ‬
‫يل نف�سها فلما ك�شفتها وهممت بها ارت َ‬
‫فقلت لها‪ :‬خفت اهلل يف ال�شدة‪ ،‬ومل‬
‫العاملني (ويف رواية �أنها قالت‪ :‬اتق اهلل وال تف�ضن اخلامت �إال بحقه)‪ُ ،‬‬
‫�أخفه يف الرخاء‪ ،‬فرتكتها‪ ،‬و�أعطيتها الدراهم اللهم �إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا فان�صدع اجلبل‬
‫حتى عرفوا وتبني لهم‪.‬‬

‫ وقال الآخر قد عملت ح�سنة مرة كان يل �أبوان �شيخان كبريان وكانت يل غنم ف�أطعم �أبوي و�أ�سقيهما‬
‫ثم �أرجع �إىل غنمي فلما كان ذات يوم �أ�صابني غيث فحب�سني فلم �أرح حتى �أم�سيت ف�أتيت �أهلي ف�أخذتُ‬
‫حملبي فحلبت وتركت غنمي قائمة فم�ضيت �إىل �أبوي لأ�سقيهما فوجدتهما قد ناما ف�شق علي �أن �أوقظهما‬
‫و�شق علي �أن �أترك غنمي فما برحت جال�سا وحملبي على يدي حتى �أيقظهما ال�صبح اللهم �إن كنت تعلم‬
‫�أين فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا قال النعمان لك�أين �أ�سمع ر�سول اهلل‪s‬يقول فقال اجلبل طاق ففرج اهلل‬
‫عنهم فخرجوا‪.‬‬

‫ ففي هذه الق�صة التي �أخرب بها ال�صادق امل�صدوق‪s‬عن ال�سابقني من بني �إ�سرائيل فوائد متعددة‪،‬‬
‫وم�سائل مهمة؛ منها‪ :‬ا�ستحباب الدعاء يف الكرب‪ ،‬والإلتجاء �إليه عند نزول ال�شدة‪ ،‬والت�ضرع بني يديه‬
‫لإزالة الغمة‪ ،‬ورفع البلوى }�أمن يجيب امل�ضطر �إذا دعاه ويك�شف ال�سوء{ ف�إذا نزلت باملرء نازلة فلريفع‬
‫عنده‪ ،‬وليد ُع وهو موقن بالإجابة ف�إن هوالء النفر كانت �صخر ٌة قد‬‫�أ ُك َّف ال�ضراعة هلل‪ ،‬ولي�س�أله ويلقي ركا َبه َ‬
‫�س َّدت منفذ الغار عليهم وهي من الأمور املادية ف�س�ألوا اهلل فف َّرج عنهم‪.‬‬

‫ ويف هذه الق�صة �أن لل�صالح �أثر ًا يف الدعاء‪ ،‬ف ُكل َّما ازداد املرء طاع ًة هلل كلما كان �أحرى ب�إجابة دعائه‪.‬‬
‫ويف هذا احلديث م�شرعي ُة التقرب �إىل اهلل تعاىل بذكر �صالح العمل‪ ،‬وا�ستنجاز وعده ب�س�ؤاله‪.‬‬

‫ كما �أن هوالء النفر تو�سلوا هلل ب�صالح �أعمالهم‪ .‬مما يدلنا على �أنه ال يجوز التو�سل هلل بذوات ال�صاحلني‬
‫هلل فيه‪.‬‬
‫وال بجاههم ولو كانوا �أنبياء �أو �أولياء‪.‬ويف ق�صة بع�ضهم بيان ف�ضل الإخال�ص يف العمل ومراقبة ا ِ‬
‫ ‬
‫َ‬
‫فالتاجر والعامل �إذا اتقى اهلل و�أدى الأمانة ومل يغ�ش ومل يخادع ف�إنه و�إن َخ ِ�سر بع�ض ًا من ما ِله‪ .‬ف�إن اهلل‬
‫�سيجعل له دعوة م�ستجاب ًة حينما ي�ضطر �إليها وت�ضيق عليه الأمور‪ ،‬وت�شد به الكروب‪ .‬فذاك ُ‬
‫الربح ال املال‬
‫الغ�ش واملخادعة‪ .‬ففيه ف�ضل �أداء الأمانة‪ ،‬و�أداء الأجرة للأجراء عند اال�ستحقاق‪.‬‬ ‫العاجل امل�أخوذ على �سبيل ِّ‬

‫ ويف ق�صة الثانية‪ :‬ف�ضل الع َّفة والإنكفاف عن احلرام مع القدرة عليه‪ .‬و�أن ترك املع�صية ميحو مقدمات‬
‫طلبها و�أن التوبة جتب ما قبلها‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث الغار‬

‫ وكما �أن الزنا �أث ُم ُه عظيم جد ًا وعقوبته عند اهلل �شديدة‪ ،‬فال�ض ُّد بال�ضد ف َمن امتنع منه‪ ،‬ومل يقع فيه‪،‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وابتعد عن مداخ ِله وم�سبباته ف�إنه عند اهلل يف املقام الأعلى واملنزلة ال�سامية ويف ال�صحيح (�سبعة يظلهم‬
‫اهلل يف ظله يوم ال ظل �إال ظله‪ .‬ومنهم رجل دعته امر�أة ذات من�صب وجمال فقال‪� :‬إين �أخاف اهلل)‪.‬‬

‫ ويف ق�صة الثالث ُ‬


‫ف�ضل ب ِّر الوالدين وخدمتهما و�إيثارهما على الولد والأهل وحتمل امل�شقة لأجلهما‪،‬‬
‫وكيف �أن اهلل تعاىل جنا البار بوالديه يف الدنيا ب�سبب بره بهما‪ .‬م�صداق ذلك ما ثبت يف ال�صحيحني �أن‬
‫(من �أراد �أن يطال له يف عمره ويزاد له يف رزقه ِّ‬
‫فليتق اهلل وليرب والديه)‪.‬‬ ‫النبي ‪ s‬قال‪َ :‬‬

‫ ويف هذا احلديث �إثبات الكرامة لل�صاحلني و�أن اهلل يجريها على �أيديهم ملحبته �إياهم‪ .‬وال يلزم �أن ُك َّل‬
‫�صالح جتري له كرامات و�إمنا بح�سب احلال واحلاجة‪.‬‬
‫ٍ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حديث رؤيا النبي‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث رؤيا النبي‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن النبي‪�s‬أُوتي جوامع ال َك ِلم‪ ،‬كيف ال وهو امل�ؤي ُد بالوحي } َو َما َي ِ‬
‫نطقُ َع ِن ا ْل َه َوى* ِ�إنْ هُ َو ِ�إالَّ َو ْح ٌي‬
‫أعظم الوعظ ما كان بحديثه‪،‬‬ ‫دق‪ .‬و�إن � َ‬ ‫وحي‪ ،‬ول�سا ُن ُه ل�سانُ ِ�ص ٍ‬
‫وحى{‪ ،‬فقوله ح ٌّق يف الغ�ضب والر�ضا‪ ،‬ور�ؤياه ٌّ‬ ‫ُي َ‬
‫ومبقوله‪ ،‬وما خرج من بني �شفتيه‪.‬‬

‫ عباد اهلل! لقد ُروي عن النبي‪s‬حديثٌ عظيم‪ ،‬ذو قدر ٍ‬


‫جليل‪� ،‬أب��ان فيه �آث��ا َر الأعمال ال�صاحلة‪،‬‬
‫والعبادات الفا�ضلة التي يتق ّرب بها العبد لربه َّ‬
‫جل وعال‪.‬‬ ‫ِ‬

‫ فعن عبدالرحمن بن �سمرة بن جندب‪d‬قال‪ :‬خرج علينا ر�سول اهلل‪s‬يوم ًا وكنا يف ُ�ص ّف ٍة باملدينة‪،‬‬
‫روحه فجا َء ُه ب ُّر ُه‬
‫ملك املوت ليقب�ض َ‬ ‫أيت البارحة عجب ًا‪ ،‬ر� ُ‬
‫أيت رج ًال من �أمتي �أتاه ُ‬ ‫فقام علينا فقال‪�( :‬إين ر� ُ‬
‫املوت عنه‪.‬‬
‫ملك ِ‬ ‫بوالديه فر َّد َ‬

‫أيت رج ًال من �أمتي قد ُب�سط عليه عذاب القرب‪ ،‬فجاء ُه ُو ُ�ضو�ؤه فا�ستنقذه ِمن ذلك‪.‬‬
‫ور� ُ‬ ‫ ‬

‫أيت رج ًال من �أمتي قد احتو�شته ال�شياطني‪ ،‬فجاءه ذك ُر اهلل ع ّز وج ّل فطرد ال�شيطانَ عنه‪.‬‬
‫ور� ُ‬ ‫ ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫أيت رج ًال من �أمتي قد احتو�شته مالئك ُة العذاب‪ ،‬فجاءته �صال ُته فا�ستنقذته ِمن �أيديهم‪.‬‬
‫ور� ُ‬ ‫ ‬

‫�صيام‬ ‫أيت رج ًال من �أمتي َيل َه ُب (ويف رواية يلهثُ ) عط�ش ًا‪ ،‬ك ّلما دنا من حو�ض ُمن َع ُ‬
‫وط ِرد‪ ،‬فجاءه ُ‬ ‫ ور� ُ‬
‫�شهر رم�ضان ف�أ�سقا ُه و�أرواه‪.‬‬

‫ ور�أي ُ��ت رج ًال من �أمتي ور�أي ُ��ت النبيني ُج ُلو�س ًا ِح َل َق ًا حلق ًا كلما دنا �إىل َحل َق ٍة ُط ِ��ر َد فجاءه ُغ�س ُل ُه من‬
‫أقعد ُه �إىل جنبي‪.‬‬
‫اجلناب ِة ف�أخذ بيده ف� َ‬

‫أيت رج ًال من �أمتي بني يديه ظلمه‪ ،‬ومن خلفه ظلمة‪ ،‬وعن ميينه ظلمة‪ ،‬وعن ي�ساره ظلمة‪ ،‬ومن فوقه‬
‫ ور� ُ‬
‫حجه وعمر ُته فا�ستخرجاه من ُ‬
‫الظلم ِة و�أدخاله يف النور‪.‬‬ ‫ري فيها‪ ،‬فجاءه ُّ‬
‫ظلمة‪ ،‬ومن حتته ظلمة‪ ،‬وهو متح ٌ‬
‫‪352‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث رؤيا النبي‬

‫أيت رج ًال من �أمتي يتقي بيده َ‬


‫وهج النار و�شر َره‪ ،‬فجاءته �صدقتُه ف�صارت ُ�سرت ًة بينه وبني النار‬ ‫ ور� ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وظ ّللت على ر�أ�سه‪.‬‬

‫أيت رج ًال من �أمتي يك ِّلم امل�ؤمنني وال يكلمونه‪ ،‬فجاءته �صلته لرحمه فقال‪ :‬يا مع�شر امل�سلمني �إنه كان‬
‫ ور� ُ‬
‫و�صو ًال لرجمه فكلموه‪ ،‬فك ّلمه امل�ؤمنون و�صافحوه و�صافحهم‪.‬‬

‫ ور�أي ُ��ت رج ًال من �أمتي قد احتو�شته الزبانية فجاءه �أمره باملعروف ونهيه عن املنكر فا�ستنقذه من‬
‫�أيديهم و�أدخله يف مالئكة الرحمة‪.‬‬

‫حجاب‪ ،‬فجاءه ُح�سنُ ُخ ُل ِقه ف�أخذ بيده‬


‫ٌ‬ ‫أيت رج ًال من �أمتي جاثي ًا على ركبتيه وبينه وبني اهلل عز وجل‬
‫ ور� ُ‬
‫ف�أدخله على اهلل عز وجل‪.‬‬

‫أيت رج ًال من �أمتي قد ذهبت �صحيفته من ِق َب ِل �شماله فجاءه خوفه من اهلل عز وجل ف�أخذ �صحيفته‬
‫ ور� ُ‬
‫فو�ضعها يف ميينه‪.‬‬

‫خف ميزانه فجاءه � ُ‬


‫أفراط ُه فث ّقلوا ميزانه‪.‬‬ ‫أيت رج ًال من �أمتي َّ‬
‫ور� ُ‬ ‫ ‬

‫ ور�أي ُ��ت رج ًال من �أمتي قائم ًا على �شفري جهنم‪ ،‬فجاءه وج ُل ُه من اهلل عز وجل فا�ستنقذه من ذلك‬
‫وم�ضى‪.‬‬

‫أيت رج ًال من �أمتي قد هوى يف النار‪ ،‬فجاءته دمع ُت ُه التي َب َكى ِمن خ�شية اهلل عز وجل فا�ستنقذته‬
‫ ور� ُ‬
‫من ذلك‪.‬‬

‫عا�صف‪ ،‬فجاءه ُح�سن ظنه‬


‫ٍ‬ ‫ال�سعفة يف ريح‬
‫رع ُد َّ‬ ‫أيت رج ًال من �أمتي قائم ًا على ال�صراط ُي ِ‬
‫رعد كما ُت ِ‬ ‫ ور� ُ‬
‫باهلل عز وجل ف�س ّكن ِرعدته‪ ،‬وم�ضى‪.‬‬

‫يزحف على ال�صراط ويحبو �أحيان ًا‪ ،‬فجاءته �صالته َّ‬


‫علي ف�أقامته و�أنقذته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أيت رج ًال من �أمتي‬
‫ور� ُ‬ ‫ ‬

‫أيت رج ًال من �أمتي انتهى �إىل �أبواب اجلنة ف ُغ ِّلقت الأبواب دونه فجاءته �شهاد ُة �أن ال �إله �إال اهلل‪،‬‬
‫ ور� ُ‬
‫ففتحت له الأبواب و�أدخلته اجلنة)‪.‬‬

‫ هذا احلديث رواه احلافظ �أبو مو�سى املديني يف كتابه (الرتغيب والرتهيب) وقال‪( :‬هذا حديث ح�سنٌ‬
‫جد ًا)‪ ،‬وبنى كتابه على هذا احلديث وجعله �شرح ًا له وتف�صي ًال ُ‬
‫جلمله‪.‬‬

‫[قال ابن القيم الوابل ال�صيب ‪ :]112/1‬كان �شيخ الإ�سالم ابن تيمية ُي ِّ‬
‫عظم �ش�أن هذا احلديث‪ ،‬وبلغني‬ ‫ ‬
‫‪353‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حديث رؤيا النبي‬

‫�شريف القد ِر َينبغي ل ُك ِّل‬


‫ُ‬ ‫عنه �أنه كان يقول‪�( :‬شواهد ال�صحة عليه)‪.‬وقال ابن القيم‪( :‬هذا احلديث عظي ٌم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫م�سلم �أن يحفظه)‪.‬‬
‫ٍ‬

‫النا�س ر�ؤيا �أ�صدقهم حديث ًا‪،‬‬ ‫ عباد اهلل! هذه الر�ؤيا ُر�ؤيا حقٍّ ‪ ،‬وخ ُرب ٍ‬
‫�صدق‪ ،‬فر�ؤيا الأنبياء وحي‪ ،‬و�أ�صدق ِ‬
‫النا�س حديث ًا ول�سان ًا وفع ًال‪.‬‬ ‫وهو‪ُ �s‬‬
‫أ�صدق ِ‬

‫وع رْ ُبها يف الدنيا والآخرة مع ًا‪ .‬ف َمن قال‪( :‬ال �إله �إال اهلل) ُ‬
‫وعني بتحقيق‬ ‫ وهذه الر�ؤيا على ظاهرها‪َ ،‬‬
‫توحيد اهلل‪ ،‬و�إفرا ِده بالعبادة ُفتحت له �أبواب اجلنان يف الآخرة‪ ،‬و ُي ّ�سرت له ُ�سبل الطاعة يف الدنيا‪.‬‬

‫يوم القيامة‪ِ .‬ومن ت�ص ّدق كانت‬ ‫ ومن �أكرث ذكر اهلل َطرد عنه ال�شياطني يف الدنيا‪ُ ،‬‬
‫وحفظ من �سو�أتها َ‬
‫�صدقتُه ظل ًة له وحافظ ًا من ال�سوء يف الدنيا والآخرة‪ .‬ومن و�صل رحمه كان قريب ًا وحمبوب ًا ِمن امل�ؤمنني‬
‫وح�شر يف زمرتهم يوم القيامة‪َ .‬ومن ح�سن ُخل ُقه دخل على قلوب النا�س وقرب من‬ ‫والنا�س يف الدنيا‪ُ ،‬‬
‫�أراوحهم الدنيا‪ ،‬وعلت درجته يف الآخر‪.‬وهكذا �سائر خ�صال هذا احلديث‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪354‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حرمة الكعبة واملسلم‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حرمة الكعبة واملسلم‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ومق�صدهم‬
‫َ‬ ‫احلرام و�أعلى مكانه‪ ،‬فجعله مهوى �أفئدة النا�س‪،‬‬
‫َ‬ ‫عظم بيتـَه‬‫اهلل عز وجل قد َّ‬ ‫ �أما بعد ‪ ..‬ف�إن َ‬
‫يف حجهم وعمر ِتهم‪ ،‬فهو قبل ُة امل�صلني‪َ ،‬ومو ِئ ُل اخلائفني ‪.‬‬

‫ا�س َو�أَ ْمن ًا{‪َ } ،‬والمْ َ ْ�س ِج ِد الحْ َ َر ِام ا َّل ِذي َج َع ْل َنا ُه‬ ‫ قال اهلل �سبحانه وتعاىل ‪َ } :‬و ِ�إ ْذ َج َع ْل َنا ا ْل َب ْي َت َم َثا َب ًة ِّلل َّن ِ‬
‫ا�س َ�س َواء ا ْل َع ِاك ُف ِفي ِه َوا ْل َبا ِد َو َمن ُي ِر ْد ِفي ِه ِب ِ�إلحْ َ ٍاد ِب ُظ ْل ٍم ُن ِذ ْق ُه ِمنْ َع َذ ٍاب �أَ ِل ٍيم{ ‪َ }.‬و ِمنْ َح ْيثُ َخ َر ْج َت َف َو ِّل‬ ‫ِلل َّن ِ‬
‫وه ُك ْم َ�ش ْط َر ُه ِل َئ َّال َي ُكونَ ِلل َّن ِ‬
‫ا�س َع َل ْي ُك ْم ُح َّج ٌة ِ�إالَّ ا َّل ِذينَ‬ ‫َو ْج َه َك َ�ش ْط َر المْ َ ْ�س ِج ِد الحْ َ َر ِام َو َح ْيثُ َما ُكنت ُْم َف َو ُّلو ْا ُو ُج َ‬
‫َظ َل ُمو ْا ِم ْن ُه ْم َف َال ت َْخ َ�ش ْوهُ ْم َو ْاخ َ�شوْنيِ { ‪.‬‬
‫فبيت اهلل احلرام اخت�صَّ ُه ُ‬
‫اهلل على الأمكان جميع ًا فكان �أف�ض َلها‪ ،‬واختاره على �سائر الأر�ضني فكانت‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫أحب البقاع �إىل اهلل ور�سوله‪.s‬‬
‫خريها‪ ،‬وهي � ُّ‬

‫أيت النبي‪s‬واقف ًا َ‬
‫باحلزْ َو َرة‬ ‫ روى الإمام �أحمد والرتمذي و�صححه عن عبد اهلل بن عدي ‪d‬قال ‪ :‬ر� ُ‬
‫خرجت منك ما خرجت) ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أحب �أر�ض اهلل �إىل اهلل‪ ،‬ولوال �أين �أُ‬
‫هلل �إنك خلري �أر�ض اهلل‪ ،‬و� ُّ‬
‫يقول ‪( :‬وا ِ‬
‫خطبة جديدة‬

‫قطع‪ ،‬وال ين َّف ُر �صيدُه ناهيك عن �أن ُي َ�صاد‪ ،‬وال يح ُّل �أخذ �شيءٍ‬ ‫ع�ض ُد �شج ُر ُه وال ُي َ‬
‫وبيت اهلل حرام ال ُي َ‬‫ُ‬ ‫ ‬
‫ُوجد على �أر�ضه ِمن اللُّقطة روى البخاري وم�سلم عن ابن عبا�س‪�d‬أن النبي‪s‬قال يوم فتح مكة ‪�( :‬إن هذا‬
‫ع�ض ُد �شو ُكه‪ ،‬وال ُين َّفر َ�صي ُد ُه‪ ،‬وال ُت ُ‬
‫لتقط لقطتُه �إال ملع ِّرف) ‪.‬‬ ‫البلد ح َّرمه اهلل ال ُي َ‬

‫ال�سالم ‪َ }:‬و ِ�إ ْذ َق َال ِ�إ ْب َر ِاه ُيم َر ِّب ْاج َع ْل َه َـذا ا ْل َب َل َد � ِآم ًنا‬
‫ وم َّكة �آمن ٌة ب�آمان اهلل لها بدعوة �إبراهيم عليه َّ‬
‫َو ْاج ُن ْب ِني َو َب ِن َّي �أَن َّن ْع ُب َد الأَ�صْ َن َام{‪ ،‬فا�ستجاب اهلل دعوته فقال �سبحانه ‪َ } :‬و َمن َد َخ َل ُه َكانَ � ِآم ًنا{‪ ،‬وقـ ــال ‪:‬‬
‫ا�س َو�أَ ْمن ًا{‪.‬‬
‫} َو�إِ ْذ َج َع ْل َنا ا ْل َب ْي َت َم َثا َب ًة ِّلل َّن ِ‬

‫باحل ْج ِر قال ‪( :‬ال‬


‫ وروى الإمام �أحمد و�أبو داود ب�إ�سناد �صحيح عن جابر‪d‬قال ملا م َّر ر�سول اهلل‪ِ s‬‬
‫ت�س�ألوا الآيات وقد �س�ألها قوم �صالح فكانت ترد من هذا الفج وت�صدر من هذا الفج فعتوا عن �أمر ربهم‬

‫‪355‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حرمة الكعبة واملسلم‬

‫فعقروها فكانت ت�شرب ماءهم يوما وي�شربون لبنها يوما فعقروها ف�أخذتهم �صيح ٌة �أهمد اهلل عز وجل َمن‬
‫حتت �أدمي ال�سماء منهم �إال رج ًال واحد ًا كان يف َح َر ِم اهلل ع َّز وجل)‪ ،‬قيل ‪َ :‬من هو يا ر�سول اهلل قال (هو �أبو‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫رغال فلما خرج من احلرم �أ�صابه ما �أ�صاب قومه) ‪.‬‬

‫ا�س َل َّل ِذي ِب َب َّك َة ُم َبا َر ًكا َوهُ دً ى ِّل ْل َعالمَ ِ َني{ ِفي ِه �آ َياتٌ َب ِّيـ َناتٌ َّم َق ُام‬ ‫ وقال �سبحانه ‪�ِ } :‬إنَّ �أَ َّو َل َب ْي ٍت ُو ِ�ض َع ِلل َّن ِ‬
‫ا�ست ََطا َع ِ�إ َل ْي ِه َ�س ِبي ًال َو َمن َك َف َر َف ِ�إنَّ اهلل َغ ِن ٌّي َع ِن‬ ‫ا�س ِح ُّج ا ْل َب ْي ِت َم ِن ْ‬ ‫ِ�إ ْب َر ِاه َيم َو َمن َد َخ َل ُه َكانَ � ِآم ًنا َوللِهّ ِ َع َلى ال َّن ِ‬
‫البيت �أو اعتمر �أو عكف عنده وطاف حوله من‬ ‫حج َ‬ ‫ا ْل َعالمَ ِنيَ{ ‪ .‬فب َّك ُة مبارك ٌة‪ ،‬كثري ُة اخلري ملا يح�صل ملن َّ‬
‫الثواب ‪.‬‬
‫ وفيها }هدى للعاملني{ ففيها متعبدهم‪ ،‬وقبلتُهم ‪ .‬وقوله تعاىل ‪} :‬فيه �آيات بينات{ �أي يف �ش�أنه‬
‫البيت من الآيات‪ :‬وق ُع هيبته يف القلوب ‪ .‬وخ�شوع القلوب عنده ‪ .‬وجريان الدموع لديه‪.‬‬ ‫�آياتٌ ‪ .‬ومما ُذكر يف ِ‬
‫احل َج ِر الأ�سود‬ ‫وامتناع الطري من العلو واجللو�س عليه ولوال ذلك لكانت ال�ستار مملوء ًة من قذرهن ‪ .‬و�آي ُة َ‬
‫الظباع وال�سباع فيه وتتابعها يف احلل ف�إذا دخلن احلرم تركتها ‪.‬‬ ‫ائتالف ِّ‬
‫ِ‬ ‫وحفظه ‪ .‬و�آي ُة‬
‫ِ‬
‫}ومن يرد‬ ‫وظ َلم؛ ك�أ�صحاب الفيل قال �سبحانه ‪َ .‬‬ ‫عجل اهلل فيه من العقوبة ملِن عتا وبغا َ‬ ‫ ومن �آياتها ما َّ‬
‫َ‬
‫عذاب �أليم{ ‪ .‬و�سماه اهلل عتيق ًا لأن اهلل �أعتقه من اجلبابرة فلم َيظ َه ْر عليه‬ ‫فيه ب�إحلاد بظلم نذقه من ٍ‬
‫جبار روى الرتمذي و�صححه عن عبد اهلل بن الزبري ‪d‬قال قال ر�سول اهلل‪� ( :s‬إمنا ُ�سمي البيت العتيق‬
‫لأنه مل يظهر عليه جبار) ‪.‬‬
‫ا�س{ �أي‬ ‫}ج َع َل هَّ ُ‬
‫الل ا ْل َك ْع َب َة ا ْل َب ْي َت الحْ َ َر َام ِق َي ًاما ِّلل َّن ِ‬ ‫ والكعبة عالم ُة الإميان يف الأر�ض قال �سبحانه ‪َ :‬‬
‫قوام ًا لهم يف �أمر دينهم ودنياهم‪ ،‬فال يزال يف الأر���ض دينٌ ما ُح َّجت ‪ .‬لذا جاء يف �صحيح البخاري ‪:‬‬
‫البيت و َل ُي ْعتَم َرن بعد خروج ي�أجوج وم�أجوج)‪.‬‬ ‫(ل ُي َح َّجنَّ ُ‬
‫ وزائ��رو بيت اهلل وقا�صدوه هم �أك��رم القا�صدين ‪ .‬و َزو ُر ُه هُ ْم وف ُد الرحمن و�ضيوفه قال‪( :s‬وفد‬
‫الرحمن ثالثة احلاج واملعتمر والغازي) ‪.‬‬
‫أطيب وال � ُ‬
‫أ�شرف‬ ‫أر�ض � ُ‬ ‫بيت اهلل العتيق‪ ،‬وتلكم مزيته و�شر ُف ُه ف َما على الأر�ض � ٌ‬ ‫ عباد اهلل ! ذلكم ف�ضل ِ‬
‫واحل َرم ‪...‬‬‫أعظم حرم ًة ِمن الكعبة َ‬ ‫أبرك وال � ُ‬ ‫وال �أطه ُر وال � ُ‬
‫أعظم عند اهلل و�أ�شد حرم ًة من الكعبة وا�سمع يا رعاك اهلل لهذا احلديث العظيم‬ ‫ ولكن هناك ما هو � ُ‬
‫عن النبي ‪ s‬روى ابن ماجه عن عبد اهلل بن عمرو قال ر�أيت ر�سول اهلل‪s‬يطوف بالكعبة ويقول ما �أطيبك‬
‫و�أطيب ريحك ما �أعظمك و�أعظم حرمتك والذي نف�س حممد بيده حلرمة امل�ؤمن �أعظم عند اهلل حرمة‬
‫منك ماله ودمه و�أن نظن به �إال خريا) ‪.‬‬
‫(ال�شعب) ب�إ�سناد جيد عن ابن عبا�س قال ‪ :‬ملا نظر ر�سول اهلل‪�s‬إىل الكعبة قال ‪:‬‬ ‫ وروى البيهقي يف ُّ‬
‫(مرحبا بك من بيت ما �أعظمك و�أعظم حرمتك وللم�ؤمن �أعظم حرمة عند اهلل منك �إن اهلل حرم منك‬
‫واحدة وحرم من امل�ؤمن ثالثا دمه وماله و�أن يظن به ظن ال�سوء) ‪.‬‬
‫ عباد اهلل! �إن دم امل�سلم حرام وماله حرام وعر�ضه حرام �أ�ش ُّد من حرمة بيت اهلل يف �شهر اهلل املح َّرم‪:‬‬
‫ففي ال�صحيحني �أن النبي‪s‬قال ‪( :‬ف�إن دماءكم و�أموالكم و�أعرا�ضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا يف‬
‫�شهركم هذا يف بلدكم هذا ليبلغ ال�شاهد الغائب ف�إن ال�شاهد ع�سى �أن يبلغ من هو �أوعى له منه) ‪.‬‬

‫فالعجب الذي ال ينق�ضي واال�ستغراب الذي ال ينتهي من �أق��وام ا�ستحلوا دماء امل�سلمني باالعتداء‬ ‫ ‬
‫‪356‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حرمة الكعبة واملسلم‬

‫والتكفري ال يرقبون يف م�ؤمن �إ ًال وال ذمة‪ ،‬يعتدون على دماء امل�سلمني في�ستحلون القتل لفئام من امل�سلمني‪،‬‬
‫برجال �آمنني عنا ببعيد ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ويعتدون على الأموال والتالد وما خرب الأم�س وما فعلته فئ ٌة منهم‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ روى �أحمد و�أبو داود ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي �سعيد اخلدري و�أن�س بن مالك عن ر�سول اهلل‪s‬قال ‪:‬‬
‫(ثم �سيكون يف �أمتي اختالف وفرقة قوم يح�سنون القيل وي�سيئون الفعل يقر�ؤون القر�آن ال يجاوز تراقيهم‬
‫ميرقون من الدين مروق ال�سهم من الرمية ال يرجعون حتى يرتد على فوقه هم �شر اخللق واخلليقة طوبى‬
‫ملن قتلهم وقتلوه يدعون �إىل كتاب اهلل ولي�سوا منه يف �شيء من قاتلهم كان �أوىل باهلل منهم) ‪.‬‬

‫ر�سول اهلل‪s‬يقول �سيخرج يف �آخر الزمان قوم �أحداث الأ�سنان ُ�سف َهاء‬ ‫َ‬ ‫ وعن علي‪d‬قال‪� :‬سمعت‬
‫الأحالم يقولون من خري قول الربية يقر�أون القر�آن ال يجاوز حناجرهم ميرقون من الدين كما ميرق ال�سهم‬
‫من الرمية ف�إذا لقيتموهم فاقتلوهم ف�إن يف قتلهم �أجرا ملن قتلهم ثم اهلل يوم القيامة‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حفظ القرآن‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حفظ القرآن‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن القر�آن العظيم‪ ،‬هو حبل اهلل املتني ‪ ،‬وال�صراط امل�ستقيم‪ ،‬والذكر املبارك‪ ،‬الذي �أنزله اهلل تعاىل‬
‫تبيان ًا لكل �شيء‪ ،‬وهادي ًا للتي هي �أقوم‪ ،‬و�ض ّمنه �أ�س�س الأحكام‪ ،‬وكليات ال�شريعة‪ ،‬وقواعد امللة‪ ،‬و�أثنى عليه‬
‫ب�أنه ذكر مبارك‪ ،‬وموعظة وذكرى‪ ،‬وهدى و�شفاء‪� ،‬إىل غري ذلك من �أو�صافه العظيمة‪ ،‬ونعوته الكرمية‪،‬‬
‫هلل �سبحانه بحفظه‬ ‫وتعهد ا ِ‬
‫وح�سن �أثره‪ ،‬وعاقب ِته على �أهله يف الدنيا والآخرة‪ِ ،‬‬ ‫الدالة على عظيم برك ِته‪ُ ،‬‬
‫على م ّر الزمان‪ ،‬و�صيان ِته من بني يديه ِومن خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد‪ ،‬فهو �آية اهلل الباهرة‪ ،‬ومعجز ُته‬
‫خ�صومه على م ِّر الزمان �أن ي�أتوا‬
‫َ‬ ‫الظاهرة التي �أ ّيد بها خلي َله وخريتَه من خلقه حممد ًا ‪ ،s‬وحت ّدى به‬
‫مبثله ولو كان بع�ضهم لبع�ض ظهري ًا‪ ،‬ولذا �صح عن النبي‪�s‬أنه قال‪( :‬ما بعث اهلل نبي ًا قبلي �إال �آتاه اهلل من‬
‫يل ف�أرجوا �أن �أكون �أكرثهم تابع ًا يوم‬‫الآيات ما �آمن على مثله الب�شر و�إمنا كان الذي �أوتيته وحي ًا �أوحاه اهلل �إ ّ‬
‫القيامة)‪.‬‬

‫العظيم �سر ًا عجيب ًا‪ ،‬لذا كان معجز ًا على م ِّر الع�صور‪ ،‬وتعاقب الدهور‪ .‬ومن‬ ‫جعل ُ‬
‫اهلل لكتابه‬ ‫ وقد َ‬
‫ِ‬
‫عجيب �ش�أن هذا القر�آن �أنه �سبحانه جعله حمفوظ ًا يف ال�صدور ال يف ال�سطور قال اهلل تعاىل‪َ } :‬ب ْل هُ َو �آ َياتٌ‬
‫َب ِّي َناتٌ فيِ ُ�صدُو ِر ا َّل ِذينَ �أُو ُتوا ا ْل ِع ْل َم{‪ .‬فلو ُعدمت امل�صاحف و ُفقدت مل يكن للم�سلمني بها حاجة‪� ،‬إذ القر�آن‬
‫وم�ساجدهم‪ ،‬منقو ٌل بالتواتر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫حمفوظ يف �صدورهم‪ ،‬متل ٌو بكامله يف حماريبهم‬ ‫ٌ‬
‫خطبة جديدة‬
‫ �إذ امل�سلمون لي�سوا ك�أهل الكتاب الذين يعتمدون على ال ُكتُب وال�صحف التي تقبل التغيري والتبديل‪،‬‬
‫والت�صحيف والتحريف‪ ،‬والتلف والتمزيق‪ .‬ويف احلديث القد�سي �أن اهلل عز وجل قال لنب ّيه‪�( :s‬أَ ْنزَ ْل ُت‬
‫َع َل ْي َك ِكتَا ًبا َال َي ْغ ِ�س ُل ُه المْ َا ُء‪َ ،‬ت ْق َر�ؤُ ُه َنا ِئ ًما َو َي ْق َظانَ )[رواه م�سلم]‪ .‬وذلك �أن الأوراق قدمي ًا �إذا ُغ�سلت باملاء‬
‫امنحت‪.‬‬
‫حممد‪s‬مكتوب ًا كما نزلت التوراة‪ ،‬بل نزل بالتلقي من جربيل‪ ،a‬وهو من‬ ‫اهلل القر�آنَ على ٍ‬ ‫ ومل ينزل ُ‬
‫ني{ َع َلى َق ْل ِب َك ِل َت ُكونَ ِمنَ المْ ُ ِنذرِينَ { ِب ِل َ�س ٍان َع َر ِب ٍّي‬ ‫وح الأَ ِم ُ‬ ‫َنز ُيل َر ِّب ا ْل َعالمَ ِ َني{ َنزَ َل ِب ِه ال ُّر ُ‬ ‫اهلل تعاىل } َو ِ�إ َّن ُه َلت ِ‬
‫ُّم ِب ٍني{‪.‬‬
‫فاهلل �أنزل كتا َبه على حممد‪s‬فتلقاه تلقي ًا‪ ،‬وحفظه يف �صدره‪ ،‬ولهج به ل�سا ُنهُ‪ ،‬وقد كان‪s‬يقر�أ مع‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫اهلل �أن ال ين�سى �شيئ ًا منه‪ ،‬ونهاه عن حتريك ل�سانه به عند نزوله‬ ‫جربائيل �إذا �أُنزل عليه القر�آن‪ ،‬فوعده ُ‬
‫عليه قال �سبحانه‪} :‬ال تحُ َ ِّر ْك ِب ِه ِل َ�سا َن َك ِل َت ْع َج َل ِب ِه{ �إِنَّ َع َل ْي َنا َج ْم َع ُه َو ُقرْ�آ َن ُه{ َف�إِ َذا َق َر ْ�أ َنا ُه َفا َّت ِب ْع ُقرْ�آ َن ُه{ ُث َّم‬
‫�إِنَّ َع َل ْي َنا َب َيا َنهُ{‪.‬‬
‫‪358‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حفظ القرآن‬

‫ ويف ال�صحيح عن ابن عبا�س‪d‬قال‪( :‬كان النبي ‪s‬يعالج من التنزيل �ش ّد ًة‪ ،‬وكان يحرك �شفتيه‪،‬‬
‫ف�أنزل اهلل }ال تحُ َ ِّر ْك ِب ِه ِل َ�سا َن َك ِل َت ْع َج َل ِب ِه{ ِ�إنَّ َع َل ْي َنا َج ْم َع ُه َو ُقرْ�آ َنهُ{ قال ابن عبا�س‪� :‬أي جم ُعه يف �صدرك‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ثم تقر�أه } َف ِ�إ َذا َق َر�أْ َنا ُه َفا َّت ِب ْع ُقرْ�آ َنهُ{ �أي فا�ستمع له و�أن�صت‪ُ } ،‬ث َّم ِ�إنَّ َع َل ْي َنا َب َيا َنهُ{ �أي نب ّينه بل�سانك)‪ .‬فكان‬
‫النبي‪�s‬إذا �أتاه جربيل ا�ستمع‪ ،‬ف�إذا انطلق جربي ُل قر�أه النبي‪s‬كما قر�أه‪.‬‬

‫يحتاج �إىل كتاب } َو ُقرْ�آن ًا‬ ‫منجم ًا ُمف ّرق ًا ل ُيحفظ حفظ ًا تا ّم ًا‪ ،‬فال ُ‬ ‫ِومن ِحكمة اهلل تعاىل �أنه �أنزَ َل القر�آن ّ‬ ‫ ‬
‫َنزي ًال{‪ ،‬وقال �سبحانه‪َ } :‬و َق َال ا َّل ِذينَ َك َف ُروا َلوْال ُن ِّز َل َع َل ْي ِه‬ ‫ا�س َع َلى ُم ْك ٍث َو َن َّز ْل َنا ُه ت ِ‬ ‫َف َر ْق َنا ُه ِل َت ْق َر�أَ ُه َع َلى ال َّن ِ‬
‫ا ْل ُقرْ�آنُ ُج ْم َل ًة َو ِاح َد ًة َك َذ ِل َك ِل ُن َث ِّب َت ِب ِه ُف�ؤَا َد َك َو َر َّت ْل َنا ُه َت ْر ِتي ًال{‪.‬‬

‫ ويف عهد ال�صحابة كانوا كذلك ف�إنهم عندما كتبوا امل�صاحف كتبوها غري م�شكول ٍة وال منقوط ٍة لأنهم‬
‫أقح َاح ًا‬
‫�إمنا يعتمدون يف القر�آن على حفظه يف �صدورهم ال على امل�صاحف‪ ،‬وقد كانوا َع َر َب ًا ال يلحنون‪ ،‬و� َ‬
‫�سماع‪ .‬وما ِمن �آي ٍة ُكتبت يف هذا امل�صحف �إال وقد حفظها عد ٌد منهم و�شهدوا به‪.‬‬
‫يحفظون ِمن �أ ّول ٍ‬

‫حلافظ القر� ِآن له �ش�أن ًا عظيم عند اهلل وعند امل�سلمني‪ ،‬ويف احلديث‪( :‬تعلموا القر�آن‬
‫ِ‬ ‫ عباد اهلل! �إن‬
‫فتحه فتحه طيب ًا‪ ،‬و �إن َو َعاه وعا ُه طيب ًا) [رواه]‪.‬‬
‫ف�إمنا مثل حامل القر�آن مث ُل حامل جراب م�سك �إن َ‬

‫(من قر�أ القر�آن من قبل �أن يحتلم فهو ممن �أوتي احلكم �صبي ًا)‪.‬‬ ‫ و ُروي عن ابن عبا�س‪�d‬أنه قال‪َ :‬‬
‫(من قر�أ القر�آن فك�أمنا ا�ستدرجت النبوة بني جنبيه �إال �أنه ال ُيوحى �إليه‪ ،‬ومن‬
‫وقال عبد اهلل بن عمرو ‪َ :d‬‬
‫�أعطى القر�آن فظنَّ �أن �أحد ًا �أُعطى �أف�ضل مما �أعطى فقد َح َق َر َما َع ُظم‪ّ ،‬‬
‫وعظم َما َح َق َر اهلل‪ ،‬ولي�س ينبغي‬
‫فمن ذلك‪:‬‬ ‫حلامل القر�آن �أن يحد فيمن يحد و ال يجهل فيمن يجهل و لكن ليعف و لي�صفح حلق القر�آن)‪ِ .‬‬

‫النا�س بالإمامة يف ال�صَّ الة يف ال�صحيح �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ي�ؤ ُّم القوم �أقر�ؤهم‬
‫۩ ۩�أنّ حافظ القر�آن هو �أوىل ِ‬
‫لكتاب اهلل)‪ ،‬ويف لفظ‪� « :‬أح ّقهم بالإمامة �أقر�ؤهم » [رواه م�سلم]‪.‬‬

‫۩ ۩وحافظ القر� ِآن ي�ستح ُّق التكر َمي والتقدمي؛ روى الإمام �أحمد و�أبو داود ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي مو�سى‬
‫وحامل القر�آن غري‬
‫ِ‬ ‫إكرام ذي ال�شَّ يبة امل�سلم‪،‬‬
‫الأ�شعري‪d‬قال ‪ :‬قال النبي‪�( :s‬إن من �إجالل اهلل � َ‬
‫لطان املُ ِ‬
‫ق�سط)‪.‬‬ ‫ال�س ِ‬
‫إكرام ذي ُّ‬‫الغايل فيه وال اجلايف عنه [ويف رواية‪ :‬وال امل�ستكرث به]‪ ،‬و� َ‬
‫۩ ۩و�أح ُّق َمن ُيق ّدم يف املجال�س‪ ،‬و ُي�شاور يف الأمور‪ُ :‬‬
‫حافظ القر�آن والعا ُمل به‪ ،‬ف َكم ِمن �صغري وو�ضي ِع ٍ‬
‫�شرف‬
‫رفعه اهلل بالقر�آن‪ ،‬يف ال�صحيح عن ابن عبا�س‪d‬قال‪ :‬كان عمر يدخلني مع �أ�شياخ بدر‪ ،‬فقال بع�ضهم‪:‬‬
‫مل تدخل هذا الفتى معنا ولنا �أبنا ُء مثله؟ فقال‪ :‬فدعاهم ذات يوم ودعاين معهم‪ ،‬فقال‪ :‬ما تقولون يف }‬
‫�إذا جاء ن�صر اهلل والفتح{ حتى ختم ال�سورة‪ ،‬فقال بع�ضهم‪� :‬أمرنا �أن نحمد اهلل ون�ستغفره �إذا ن�صرنا‬
‫وفتح علينا‪ ،‬وقال بع�ضهم‪ :‬ال ندري‪ .‬فقال يل‪ :‬يا ابن عبا�س �أكذاك تقول؟ قلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فما تقول؟ قلت‪:‬‬
‫ر�سول اهلل‪�s‬أعلمه اهلل له }�إذا جاء ن�صر اهلل والفتح{ فتح مكة فذاك عالمة �أجلك‪ ،‬قال‬ ‫هو �أَ َج ُل ِ‬
‫عمر‪( :‬ما �أعلم منها �إال ما تعلم)‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حفظ القرآن‬

‫ وروى الدارمي ب�إ�سناد �صحيح �أنّ عمر بن اخلطاب ‪ d‬لقي نافع بن عبد احلارث وكان قد ا�ستعمله‬
‫ا�ستخلفت عليهم ابنَ �أَبزَ ى‬
‫ُ‬ ‫ا�ستخلفت على �أهل ال��وادي ؟ فقال نافع‪:‬‬
‫َ‬ ‫على �أهل مكة‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬من‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫موىل من موالينا ؟ فقال عمر‪( :‬فا�ستخلفت عليهم موىل) فقال‪ :‬يا �أمري امل�ؤمنني انه لقارئ لكتاب اهلل‬
‫عا ٌمل بالفرائ�ض‪ .‬فقال عمر ‪�( :d‬أما �إن ر�سول اهلل‪s‬قد قال‪� :‬إن اهلل يرفع بهذا الكتاب �أقواما وي�ضع به‬
‫�آخرين)‪.‬‬
‫۩ ۩وقد جعل ُ‬
‫اهلل ثواب ًا حلافظ القر�آن يوم القيامة‪ ،‬يظهر على ر�ؤ�ؤ�س الأ�شهاد‪ ،‬ف ُروي عند �أبي داود من‬
‫(من قر�أ القر�آن وعمل مبا فيه �ألب�س والداه تاج ًا يوم القيامة‬
‫جلهني ‪� d‬أن النبي‪s‬قال‪َ :‬‬‫حديث معاذ ا ُ‬
‫�ضو�ؤه �أح�سنُ ِمن �ضو ِء ال�شم�س يف بيوت الدنيا لو كانت فيكم‪ ،‬فما ظنكم بالذي عمل بهذا)‪.‬‬

‫َاب ُي ْ�ؤ ِم ُنونَ ِب ِه َو ِمنْ‬ ‫َاب َفا َّل ِذينَ �آ َت ْي َناهُ ُم ا ْل ِكت َ‬ ‫�أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ } :‬و َك َذ ِل َك �أَنزَ ْل َنا ِ�إ َل ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫َاب َوال ت َُخ ُّط ُه ِب َي ِمي ِن َك �إِ ًذا‬ ‫نت َت ْت ُلو ِمن َق ْب ِل ِه ِمن ِكت ٍ‬ ‫َه�ؤُالء َمن ُي�ؤْ ِمنُ ِب ِه َو َما َي ْج َح ُد ِب�آ َيا ِت َنا �إِالَّ ا ْل َكا ِف ُرونَ { َو َما ُك َ‬
‫الظالمِ ُونَ {‪.‬‬ ‫َاب المْ ُ ْب ِط ُلونَ { َب ْل هُ َو �آ َياتٌ َب ِّي َناتٌ فيِ ُ�صدُو ِر ا َّل ِذينَ �أُو ُتوا ا ْل ِع ْل َم َو َما َي ْج َح ُد ِب�آ َيا ِت َنا ِ�إالَّ َّ‬
‫الَّ ْرت َ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪360‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حقوق اإلنسان‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق اإلنسان‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬


‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫وف�ضله عليهم } َو َل َق ْد َك َّر ْم َنا َب ِني �آ َد َم َو َح َم ْل َناهُ ْم‬ ‫آدمي على غريه من املخلوقات‪ّ ،‬‬ ‫ فقد ك ّرم اهلل تعاىل ال َّ‬
‫ات َو َف�ضَّ ْل َناهُ ْم َع َلى َك ِث ٍري ممَِّّ نْ َخ َل ْق َنا َت ْف ِ�ضي ًال{‪.‬‬ ‫فيِ الْبرَ ِّ َوا ْل َب ْح ِر َو َر َز ْق َناهُ م ِّمنَ َّ‬
‫الط ِّي َب ِ‬

‫آدمي مهما كانت �صف ُت ُه ومهما كانت حا ُل ُه مك ّر ٌم ُم ّ‬


‫ف�ضل على غ ِريه بتكرمي اهلل تعاىل له‪ .‬وتكر ُمي اهلل‬ ‫ فال ُّ‬
‫مي �شرعي‪.‬‬ ‫مي كوين‪ ،‬وتكر ٌ‬ ‫ع ّز وج َّل لل ّ‬
‫آدمي نوعان‪ ،‬تكر ٌ‬

‫آدم وتف�ضي ٌل له‪.‬‬ ‫مي البن � َ‬ ‫ ‪ w‬فالتكرمي الكوين‪ :‬هو ما ق ّدره اهلل من �أمو ٍر فيها تكر ٌ‬
‫ ويتحقق ذلك بت�سخري اهلل تعاىل له �سائر املخلوقات يف الأر�ض‪ ،‬وتذليلها له‪ ،‬فهو ي�ستخدمها حلاجته‪،‬‬
‫ال�س َما َو ِات َو َما فيِ الأَ ْر ِ�ض َو�أَ ْ�س َب َغ َع َل ْي ُك ْم ِن َع َم ُه‬
‫الل َ�س َّخ َر َل ُكم َّما فيِ َّ‬ ‫وي�ستعملها يف �سائر �أموره }�أَ مَْل َت َر ْوا �أَنَّ هَّ َ‬
‫َظ ِاه َر ًة َو َب ِاط َن ًة{‪ ،‬وقال �سبحانه‪} :‬ا َّل ِذي َج َع َل َل ُك ُم الأَ ْر َ�ض َم ْهد ًا َو َج َع َل َل ُك ْم ِفي َها ُ�س ُب ً َ ْ ْ‬
‫ال َّلع َّل ُكم َته َتدُونَ {‬

‫ن�ش ْر َنا ِب ِه َب ْل َد ًة َّم ْيت ًا َك َذ ِل َك ُت ْخ َر ُجونَ { َوا َّل ِذي َخ َلقَ الأَ ْز َو َاج ُك َّل َها َو َج َع َل َل ُكم‬
‫ال�س َماء َماء ِب َق َد ٍر َف�أَ َ‬
‫َوا َّل ِذي َنز ََّل ِمنَ َّ‬
‫ِّمنَ ا ْل ُف ْل ِك َوالأَ ْن َع ِام َما َت ْر َك ُبونَ {‪.‬‬

‫و�س ّخر له ما فيها‪ ،‬قال �سبحانه‪} :‬هُ َو‬ ‫هلل يف الأر�ض التي ُذللت له ُ‬ ‫آدم هو الأوح ُد من خملوقات ا ِ‬ ‫ فابن � َ‬
‫ا َّل ِذي َج َع َل َل ُك ُم الأَ ْر َ�ض َذ ُلو ًال َف ْام ُ�شوا فيِ َم َن ِاك ِب َها َو ُك ُلوا ِمن ِّر ْز ِق ِه َو ِ�إ َل ْي ِه ال ُّن ُ�شو ُر{‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ال�صلب ِمن‬
‫َ‬ ‫وا�ستخراج ما يف بطنه‪ ،‬وذ َّل َل له الدواب حمول ًة وفر�ش ًا‪ ،‬و�أالن له‬
‫َ‬ ‫ف�سهل ُ‬
‫اهلل له ركوب البحر‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫حديدها ومعدنها‪ ،‬و�أخرج له من الأر�ض طعام ًا وكنوز ًا‪ .‬و ُك ُّل ذلك وغ ُري ُه منه �سبحانه ِنع ٌم ت�ستح ُّق احلمد‬
‫وال�شكر و�إفراده ج ّل وعال بالعبادة‪.‬‬
‫ّ‬

‫ والنوع الثاين من تكرمي اهلل للآدميني‪:‬‬


‫‪ w‬التكرمي ال�شرعي‪ :‬وهي الأوام��ر الربان ّية والأحكام ال�شرع ّية التي �شرعها اهلل يف هذا الدين لتكرمي‬
‫آدمي �إىل ذلك �إميان ًا باهلل تعاىل وت�صديق ًا‬
‫�ضم ال ُّ‬ ‫الآدمي والإح�سان �إليه ملجرد �إن�سانيته و�آدميته‪ .‬ف�إنْ ّ‬
‫بر�سوله ‪ s‬و�إح�سان ًا يف العمل فقد ت�أ ّكد ح ّقه وا�ستحق ح ّق ًا �أعظم‪.‬‬
‫ري جد ًا‪� ،‬أثبت اهلل تعاىل فيها حقوق ًا للإن�سان مهما اختلفوا وتنوعوا‪،‬‬‫ ‪ w‬و�صور هذا التكرمي ال�شرعي كث ٌ‬
‫ومن هذه احلقوق ال�شرع ّية على �سبيل التمثيل‪:‬‬
‫‪361‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق اإلنسان‬

‫نف�سه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و َال َت ْق ُت ُلو ْا ال َّن ْف َ�س ا َّل ِتي َح َّر َم هَّ ُ‬
‫الل �إِالَّ ِبالحْ َ ِّق‬ ‫۩ ۩�أنّ اهلل ح ّرم وج ّرم االعتداء على ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫نف�س ح َّرم اهلل قتلها من‬ ‫َذ ِل ُك ْم َو�صَّ ا ُك ْم ِب ِه َل َع َّل ُك ْم َت ْع ِق ُلونَ {‪ ،‬قال ال�شيخ ابن ِ�سعدي‪( :‬وهذا �شامل ل ُك ِّل ٍ‬
‫وكافر له عهد)‪.‬‬
‫وم�سلم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وعبد‬
‫وحر ٍ‬‫�صغري وكبري وذكر و�أنثى ٍ‬

‫}منْ �أَ ْج ِل َذ ِل َك َك َت ْب َنا َع َلى َب ِني �إِ ْ�س َرا ِئ َيل �أَ َّن ُه َمن َقت ََل َن ْف�س ًا ِب َغ رْ ِي َن ْف ٍ�س َ�أ ْو َف َ�س ٍاد فيِ الأَ ْر ِ�ض‬ ‫ وقال �سبحانه‪ِ :‬‬
‫إن�سان‬
‫نف�س � ٍ‬ ‫النف�س هنا �شاملٌة ل ُكل ٍ‬ ‫ا�س َج ِميع ًا{ فقتل ِ‬ ‫ا�س َج ِميع ًا َو َمنْ �أَ ْح َي َاها َف َك�أَنمَّ َ ا �أَ ْح َيا ال َّن َ‬
‫َف َك�أَنمَّ َ ا َقت ََل ال َّن َ‬
‫مف�ص ًال يف حم ّله‬ ‫مما جاء ّ‬ ‫مبوج ٍب يبيح ذلك ّ‬ ‫مهما كان و�ص ُفها‪ ،‬لذا ال يجوز االعتداء على نفو�س الآدميني �إال ِ‬
‫حفظ للنفو�س والدين‪.‬‬ ‫مما فيه ٌ‬ ‫ّ‬
‫ وقد جاءت �أحاديثُ كثري ٌة يف النهي عن االعتداء على الآدميني مهما كانت �صفتهم‪ ،‬فثبت عنه‪�s‬أ ّنه‬
‫(من قتل‬ ‫قال‪( :‬من قتل م�ؤمنا فاعتبط ‪-‬قتله ُظلم ًا‪ -‬بقتله مل يقبل اهلل منه �صرف ًا وال عد ًال)‪ ،‬وقال ‪َ :s‬‬
‫معاهد ًا يف غري كنهه ح َّرم اهلل عليه اجلنة)‪.‬‬

‫موج ٍب‪ ،‬فال يجوز االعتداء على‬ ‫ وللجز ِء ُحكم ال ُكل فكما حرم االعتداء على نفو�س الآدميني بغري ِ‬
‫�صحة عن النبي‪�s‬أحاديث كثرية يف النهي عن (املُثلة) ب�أن‬ ‫�أجزائهم و�أب�ضاعهم ومنافع �أبدانهم‪ ،‬وقد ّ‬
‫وجه �أو ُيعاب يف خ ِلقه‪ ،‬ولو كان ميت ًا‪.‬‬
‫و�سم يف ٍ‬ ‫بال�شخ�ص ب�أن ُيقطع منه ٌ‬
‫طرف �أو ُي َ‬ ‫ِ‬ ‫مُي ّثل‬

‫باخل ْلق ِة واال�ستهزاء بها‪ ،‬فقال �سبحانه‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ‬ ‫ و�أعظم ِمن ذلك‪� :‬أنّ اهلل نهى عن ال�سخرية ِ‬
‫� َآم ُنوا ال َي ْ�س َخ ْر َقو ٌم ِّمن َق ْو ٍم َع َ�سى �أَن َي ُكو ُنوا َخ رْي ًا ِّم ْن ُه ْم َوال ِن َ�ساء ِّمن ِّن َ�ساء َع َ�سى �أَن َي ُكنَّ َخ رْي ًا ِّم ْنهُنَّ َوال‬
‫أحد ال بخلقته‪ ،‬وال بفقره‪ ،‬وال بجن�سه‪ ،‬ف�إمنا اجلمي ُع خلق اهلل تعاىل‬ ‫َت ْل ِمزُوا �أَن ُف َ�س ُك ْم{‪ .‬فال يجوز ال�سخرية ب� ٍ‬
‫م�شرتكون يف بن ّوه �آدم عليه ال�سالم‪.‬‬

‫۩ ۩ ِومن تكرمي اهلل �شرع ًا للإن�سان‪� :‬أنّ اهلل تعاىل َح َك َم بطاهرته و�أ ّنه لي�س ٍ‬
‫بنج�س‪ ،‬ثبت يف ال�صحيحني‬
‫�أن النبي‪s‬قال‪�( :‬سبحان اهلل �إن امل�ؤمن ال ينج�س)‪ ،‬يف رواية عند احلاكم من حديث ابن عبا�س‪:d‬‬
‫(ح ّي ًا وال ميت ًا)‪.‬‬

‫آدمي م�ؤمن ًا كان �أو غري م� ٍ‬


‫ؤمن و�أ ّنه خرج خمرج الغالب فقط‪،‬‬ ‫ وذكر العلماء �أنّ هذا احلديث ي�شمل ُك ّل � ٍّ‬
‫فلي�س خا�ص ًا بامل�سلمني بل هو عا ٌم يف ُكل � ّ‬
‫آدمي ف�إنه طاه ٌر يف احلياة وال ينج�س باملوت [ينظر ال�شرح الكبري‬
‫البن �أبي ُعمر]‪.‬‬

‫أحد �أو التعامل معه‪ ،‬وال‬ ‫م�س � ٍ‬


‫ وعلى ذلك فالآدميون �سوا ٌء يف مما�ستهم وخمالطتهم‪ ،‬فال مُينع ِمن ِّ‬
‫لعرق �أو لون �أو جن�س‪ ،‬بل النا�س جميع ًا �سوا�سي ٌة يف الأ�صل‪،‬‬ ‫يجوز �شرع ًا التفريق بني ِ‬
‫النا�س ب�سبب انتماءٍ ٍ‬
‫أحد عند اهلل تعاىل �إال بالتقوى‪ ،‬روى �أبو داود والرتمذي‬ ‫اخللق ِة‪� ،‬سوا�سي ٌة يف احلقّ ‪ ،‬ال َ‬
‫ف�ضل ل ٍ‬ ‫�سوا�سي ٌة يف ِ‬
‫ب�إ�سناد �صحيح من حديث �أبي هريرة‪�d‬أنّ النبي‪s‬قال‪�( :‬إن اهلل عز و جل قد �أذهب عنكم ُع ّبية اجلاهلية‬
‫آدم من تراب‪ ،‬لينتهني �أقوام فخرهم برجال �أو‬ ‫وفخ َرها بالآباء‪ ،‬م�ؤمن تقي وفاجر �شقي‪ ،‬والنا�س بنو �آدم‪ ،‬و� ُ‬
‫جلعالن التي تدفع ب�أنفها الننت)‪.‬‬‫ليكونن �أهونَ عند اهلل من عدتهم من ا ُ‬
‫‪362‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق اإلنسان‬

‫والعي�ش؛ كما قال‬


‫ِ‬ ‫۩ ۩ ِومن �صور التكرمي للإن�سان �شرع ًا‪ ،‬وحقوقه التي كفلها اهلل بالإ�سالم‪ :‬ح ُّقه يف التملك‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�سبحانه‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬


‫ا�س ُك ُلو ْا ممَِّ ا فيِ الأَ ْر ِ�ض َح َال ًال َط ِّيب ًا{‪ ،‬فجعل اهلل َ‬
‫النا�س �سوا�سي ًة يف االكت�ساب‬
‫وامللك‪ ،‬والقاعدة ال�شرع ّية املقررة‪�( :‬أنّ الأ�صل يف التملك الإباحة عقد ًا وت�صرف ًا)‪ ،‬وال مُينع من ذلك‬
‫ملعان عظيمة فيها م�صلح ُة العباد وعدم ظلم بع�ضهم لبع�ض‪.‬‬ ‫�إال عقو ٌد مع ّين ٌة حرمها اهلل تعاىل ٍ‬

‫مما يدلنا على ت�ساوي النا�س وا�شرتاكهم يف‬


‫ فالنظر يف املنع �إمنا هو ل�صف ِة التعاقد ال ل�شخ�ص العاقد‪ّ ،‬‬
‫حقّ التملك واالكت�ساب العام‪ ،‬ولهذا �شواهد كثرية جد ًا يف ال�شرع‪.‬‬

‫مما ك ّرم اهلل به الإن�سان‪ ،‬وما �أثبت له من حقوق‪،‬‬ ‫غي�ض من في�ض‪ ،‬و ُبالل ٌة من �سيل ّ‬ ‫ عباد اهلل! ذلك ٌ‬
‫اك ِ�إالَّ َر ْح َم ًة ِّل ْل َعالمَ ِنيَ{‪ ،‬ف َما بعث اهلل به حممدا‪s‬‬ ‫وقد قال اهلل ج ّل وعال عن نبيه حممد‪َ } :s‬و َما �أَ ْر َ�س ْل َن َ‬
‫أحكامه‪ ،‬وهو رحم ٌة‬ ‫النا�س وفيه رحمتهم‪ ،‬وذلك رحم ٌة َملن اتب َع هذا الدينَ والتزم � َ‬ ‫�صالح ِ‬ ‫ُ‬ ‫و�أوحاه �إليه لهو‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وك َف ْاح ُكم َب ْي َن ُهم �أ ْو �أ ْع ِر�ضْ‬ ‫يك م�سلم ًا‪ ،‬كما قال �سبحانه‪َ } :‬ف�إِن َج�آ�ؤُ َ‬ ‫عا�ش يف كن ِف ِه وجاور �أه َله و�إن مل ُ‬ ‫َملن َ‬
‫الل ُي ِح ُّب المْ ُ ْق ِ�س ِطنيَ{‪.‬‬ ‫اح ُكم َب ْي َن ُه ْم ِبا ْل ِق ْ�س ِط �إِنَّ هَّ َ‬
‫وك َ�ش ْيئ ًا َو�إِنْ َح َك ْم َت َف ْ‬
‫َع ْن ُه ْم َو�إِن ُت ْع ِر�ضْ َع ْن ُه ْم َف َلن َي ُ�ض ُّر َ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪363‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حقوق البنات‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق البنات‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫الرجال بال ِّن َ�ساء خري ًا‪ ،‬و�أم ُرهم بالإح�سان �إليهن‪ ،‬و�أوجب عليهم لهُنَّ حقوق ًا‬
‫َ‬ ‫ فلقد �أو�صى ر ُّبنا ج َّل َو َعال‬
‫كثرية‪ .‬ففي ال�صحيحني واللفظ مل�سلم من حديث �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬ا�ستو�صوا بالن�ساء‬
‫ال�ض َلع �أعاله‪..‬ا�ستو�صوا بالن�ساء خري ًا)‪� .‬أي اقبلوا و�صيتي فيهن‬
‫خريا‪ ،‬ف�إنهن خلقن من ِ�ض َلع‪ ،‬و�أعوج ما يف ِّ‬
‫واعملوا بها‪ ،‬وارفقوا بهن و�أح�سنوا‪ُ ،‬ع�شرتهن‪.‬‬

‫ واخلري املو�صي به لها �أن يداريها ويالطفها ويو ِّفيها حقو َقها؛ كما جاء يف احلديث الذي رواه احلاكم‬
‫�ضرب الوج َه وال ُيق ِّبح وال‬ ‫وغريه‪( :‬ح ُّق املر�أة على الزوج �أن يطعمها �إذا َط ِعم‪ ،‬و َي ُ‬
‫ك�سوها �إذا اكت ََ�سى‪ ،‬وال َي ِ‬
‫يهجرها)‪ .‬ثم ختم النبي‪s‬مبا بد�أ به (فا�ستو�صوا �أيها الرجال بالن�ساء خريا) �إ�شعارا بكمال طلب الو�صية‬
‫بهن‪.‬‬
‫ واملر�أة تكون �أُ َّم ًا‪ ،‬و�أُخت ًا‪ ،‬وزوج ًة‪ ،‬وبنت ًا‪ ،‬وجار ًة‪ ،‬وامر�أ ًة �أجنبية ولكل واحد منهن على امل�سلم حقوق‪،‬‬
‫آداب بينها ال�شارع و�أو�ضحها �أمت بيان و�أكمله‪.‬‬
‫وتتعلق بها � ٌ‬

‫فمن ذلك �أن ال�شارع بينَّ �أن للبنت على �أبيها‪ ،‬وعلى وليها حقوق ًا يجب الوفا ُء بها‪ ،‬والإتيا ُء بها كما �أمر‬
‫ِ‬ ‫ ‬
‫التعامل معها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وطيب‬
‫�سن الت�أديب‪ِ ،‬‬ ‫وح ِ‬
‫وعدم الأذية‪ُ ،‬‬
‫وح�سن ال�صحبة‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫اهلل عز وجل‪ .‬من النفق ِة‪ ،‬والرعاي ِة‪،‬‬
‫وعدم التقبيح وال�ضرب؛ ففي ال�صحيحني عن عائ�شة‪g‬قالت‪( :‬ما �ضرب ر�سول اهلل‪�s‬شيئا قط بيده وال‬
‫امر�أة وال خادما �إال �أن يجاهد يف �سبيل اهلل)‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫‪ w‬فللبنت على �أبيها حقو ٌق كثرية متعددة‪ ،‬ومن هذه احلقوق‪:‬‬


‫ا�ض ًال‬
‫۩ ۩ �أن ال ميتنع �أبوها‪ ،‬وول ُيها من �إنكاحها‪ ،‬ف�إن امتنع ِمن تزويجها وقد َجاءها كف�ؤها ف�إنه فيكون َع ِ‬
‫روف‬‫ا�ض ْوا َب ْي َن ُه ْم ِبالمْ َ ُع ِ‬ ‫لها‪ ،‬وظامل ًا؛ وقد قال اهلل عز وجل‪َ } :‬فلاَ َت ْع ُ�ض ُلوهُ نَّ �أَنْ َي ْن ِك ْحنَ �أَ ْز َو َاجهُنَّ ِ�إ َذا َت َر َ‬
‫الل َوا ْل َي ْوم ْال ِآخ ِ��ر َذ ِل ُك ْم �أَ ْز َك��ى َل ُك ْم َو�أَ ْط َه ُر َو هَّ ُ‬
‫الل َي ْع َل ُم َو َ�أ ْنت ُْم اَل‬ ‫وع ُظ ِب ِه َمنْ َكانَ ِم ْن ُك ْم ُي�ؤْ ِمنُ ِب هَّ ِ‬
‫َذ ِل َك ُي َ‬
‫ِ‬
‫َت ْع َل ُمونَ {‪.‬‬
‫ فامل�ؤمن باهلل واليوم الآخر هو من يتعظ بذلك وال يع�ضل موليته عن الزواج نكا ًال بها‪� ،‬أو ب�أُ ِّمها‪� ،‬أو ِمن‬
‫�أجل راتبها ونحو ذلك من املقا�صد ال َّدنية‪ .‬بل يجب على الأب املبادر ُة يف ذلك ف�إنه �أزكى له و�أطهر؛ كما قال‬
‫�سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫الزوج ال�صالح يف دينه ودنياه‪ ،‬روى ابن ماجه عن �أبي هريرة‬


‫۩ ۩ ومن حقوق املر�أ ِة على وليها �أن يختار لها َ‬
‫‪364‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق البنات‬

‫‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إذا �أتاكم من تر�ضون ُخ ُلقه ودينه فزوجوه‪� ،‬إال تفعلوا تكن فتنة يف الأر�ض وف�ساد‬
‫عري�ض)‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫تر�ضونَ دي َنه َو ُخ ُل َقه ف�أنكحوه‬


‫ وروى الرتمذي عن �أبي حامت املُزين قال قال ر�سول اهلل‪�(s‬إذا �أتاكم َمن َ‬
‫�إال تفعلوه تكن فتنة يف الأر�ض وف�ساد عري�ض)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا ر�سول اهلل ف�إن كان فيه ‪�-‬أي نق�ص يف املال‪ -‬؟‬
‫قال (�إذا �أتاكم َمن تر�ضون دينه وخلقه ف�أنكحوه �إال تفعلوه تكن فتنة يف الأر�ض وف�ساد عري�ض) حتى قالها‬
‫يل ف َمن �أزوجها‪ ،‬قال‪( :‬زوجها من‬ ‫ثالث مرات‪ .‬وقال رجل للح�سن الب�صري‪� :‬إن عندي ابن ًة يل وقد ُخطبت �إ ََّ‬
‫يخاف اهلل ف�إن �أحبها �أكرمها و�إن �أبغ�ضها مل يظل ْمها)‪.‬‬
‫ال�صالح يف دينه‬
‫َ‬ ‫ والواجب على الأب �أن ال ينظر للأمور الظاهري ِة فح�سب‪ ،‬بل لهما مع ًا فيبحث ملوليته‬
‫ودنياه‪ ،‬ف�إن الزواج ع�شر ٌة وم�صاحب ٌة باملعروف دائمة‪.‬‬

‫۩ ۩ومن حقوق املر�أ ِة على �أبيها ووليها؛ �أن ال يز ّو َجها �إال ب�إذنها‪ ،‬و�أخذ م�شورتها ملا ثبت يف �صحيح م�سلم‬
‫بنف�سها ِمن وليها‪ ،‬والبك ُر ُت�ست�أذن يف نف�سها و�إذنها‬
‫عن ابن عبا�س‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬الأ ُمي �أح ُّق ِ‬
‫ُ�صماتها)‪.‬‬

‫ وعن خن�سا َء بنت ِخ َذام الأن�صاري ِة‪� :‬أن �أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك‪ ،‬ف�أتت ر�سول اهلل‪s‬فرد‬
‫نكاحها رواه البخاري‪ .‬وروى �أبو داود وابن ماجه عن ابن عبا�س �أن جارية بكر ًا �أتت َّ‬
‫النبي‪s‬فذكرت �أن‬
‫فخيها النبي ‪.s‬‬ ‫�أباها ز َّوجها وهي كارهة‪ ،‬رَّ‬

‫ و�صفة �أخذ �إذنها بالر�ضا بالنكاح �إن كانت ثيب ًا فيجب �أن يكون �صريح ًا بالكالم؛ ملا يف ال�صحيحني‬
‫�أن النبي‪s‬قال‪( :‬ال تنكح الأمي حتى ُت�ست�أمر)؛ �أي يطلب الو ُّ‬
‫يل �أم َرها بتزويجها‪ ،‬والأمر ال يكون �إال بالقول‬
‫دون ال�سكوت‪ ،‬قال ابن حجر‪" :‬احلديث �صريح يف القول"‪ .‬وقال ابن قدامة‪ :‬ال نعلم بني �أهل العلم خالف ًا �أن‬
‫�إذنها الكالم‪.‬‬

‫بال�ص َمات ونحوه‪ .‬ملا يف �صحيح م�سلم �أن النبي‪s‬قال‪( :‬والبكر‬ ‫ و�أما �إن كانت بكر ًا فالبكر �إذنها يكون ُّ‬
‫ت�ست�أذن يف نف�سها و�إذنها �صماتها)‪.‬ويكون �أخذ �إذ ِنها ب�إخبا ِرها َمبن �أراد زواجها‪ ،‬مع �إخبارها �أن �سكوتها‬
‫ترهيب لها �أو تخويف‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫دليل ر�ضاها‪ ،‬بدون‬

‫ وقد روى الإمام �أحمد ب�إ�سناد �صحيح عن عائ�شة‪�g‬أن ر�سول اهلل ‪s‬كان �إذا �أراد �أن يزوج بنت ًا من‬
‫الرجل الذي ذكرها‪ ،‬ف�إن هي َ�سكتت‬ ‫َ‬ ‫بناته جل�س �إىل خدرها‪ ،‬فقال‪� :‬إن فالن ًا يذكر فالن ًة ي�سميها و ُي�س ِّمي‬
‫يزوجها‪.‬‬
‫ال�سرت‪ ،‬ف�إذا نقرته مل ْ‬ ‫ز َّو َجها‪� ،‬أو كرهت نقرت ِّ‬

‫ وروى ابن �أبي الدنيا عن ابن جريج قال‪ :‬قلت لعطاء‪� :‬أبو ِب ْك ٍر دعاها �إىل ٍ‬
‫رجل فرغبت غ َريه‪ ،‬قال عطاء‪:‬‬
‫َي َلحق مبن رغبت‪ .‬كما ي�ستحب �أن ت�شاور �أ ُّمها يف زواجها؛ لأنها �أقرب النا�س �إليها‪.‬‬

‫�سبب لتوفيقها يف زواجها؛ فقد روى‬ ‫عدم املُغاال ِة يف املهر؛ لأن َ‬


‫عدم املغاالة ٌ‬ ‫البنت على وليها ُ‬
‫حق ِ‬ ‫۩ ۩ ِومن ِّ‬
‫‪365‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق البنات‬

‫الإمام �أحمد والن�سائي �أن النبي ‪s‬قال‪�( :‬إنَّ ِمن مُْي ِن املر�أ ِة تي�س ُري ِخطب ِتها‪َ ،‬وتي�سري َ�ص َداقها)‪ .‬وقال‬
‫‪( :s‬خري ُكنَّ �أي�سر ُكنَّ ُم�ؤنة)‪ ،‬ولي�س معناه �أن ُيخ َلى العقد عن املهر‪ ،‬ف�إنه حق للمر�أة‪ ،‬ولكن املق�صود‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫عدم املغاالة فيه‪.‬‬

‫مكرم ًة يف ال ُّدنيا �أو تقوى َ‬


‫عند اهلل‬ ‫�صداق الن�ساء‪ ،‬ف�إنه لو كان َ‬ ‫َ‬ ‫ وقال عمر بن اخلطاب‪ ( :d‬ال تغالوا‬
‫أ�صد َق ام��ر�أ ًة ِمن ن�سا ِئه وال ِمن بناته �أك َرث من اثنتي ع�شر‬ ‫عز وجل لكان �أوالكم به ُ‬
‫ر�سول اهلل‪ ،s‬ف َما � َ‬
‫�أوقية)‪.‬‬

‫۩ ۩ومن حقوق البنت على �أبيها ووليها �أن يحفظ مهرها لها‪ ،‬و�أن ال ي�أخذ منه �شيئ ًا �إال ب�إذنها؛ لأنه من حقها‬
‫لك خال�ص لها‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و�آ ُتوا ال ِّن َ�سا َء َ�ص ُد َقا ِت ِهنَّ ِن ْح َل ًة َف ِ�إنْ ِطبنْ َ َل ُك ْم َعنْ َ�ش ْيءٍ ِم ْن ُه َن ْف ً�سا‬
‫وهو ِم ٌ‬
‫َف ُك ُلو ُه َه ِني ًئا َم ِري ًئا{‪ .‬وقد جاء �أن �شريح ًا القا�ضي‪d‬حب�س رج ًال �أكل �صداق ابنته‪ِ .‬ومن حفظه عدم‬
‫متو�سط ُع ْر ِفه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الإ�سراف يف وليمة النكاح‪ ،‬و�إبدا ِء املظاهر املبالغ فيها ُك ٌّل بح�سب‬

‫۩ ۩ ومن حقوقهن �أن ي�ساوي الرجل يف عطيته لأبنائه بينهن وبني الذكور‪ .‬روى م�سلم عن النعمان بن ب�شري‬
‫نحلت النعمان كذا‬ ‫‪d‬قال‪ :‬انط َلقَ بي �أبي يحملني �إىل ِ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬فقال يا ر�سول اهلل ِا�ش َه ْد �أين قد ُ‬
‫وكذا من َمايل فقال‪�( :‬أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان)‪ ،‬قال‪ :‬ال قال‪(:‬ف�أ�شهد على هذا‬
‫غريي)‪ ،‬ثم قال‪�(:‬أي�سرك �أن يكونوا �إليك يف الرب �سواء)‪ ،‬قال‪ :‬بلى قال‪(:‬فال �إذا)‪ .‬وروى البيهقي عن‬
‫ابن عبا�س‪�( :d‬سووا بني �أوالدكم يف العطية فلو كنت مف�ضال �أحدا لف�ضلت البنات)‪.‬‬
‫ ‬
‫ وال�سنة يف ذلك �أن يق�سم املال بينهم على ح�سب ق�سمة اهلل املرياث‪ .‬لقول �شريح لرجل ق�سم ماله بني‬
‫وفرائ�ضه)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هلل‬
‫ولده‪( :‬ارد ْدهم �إىل �سهام ا ِ‬

‫عدم منعهن من الإرث كما كان يفعل �أهل اجلاهلية؛ قال اهلل عز وجل‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ‬ ‫۩ ۩ ومن حقوقهن ُ‬
‫� َآم ُنوا اَل َي ِح ُّل َل ُك ْم �أَنْ ت َِر ُثوا ال ِّن َ�سا َء َك ْرهً ا َو اَل َت ْع ُ�ض ُلوهُ نَّ ِلت َْذ َه ُبوا ِب َب ْع ِ�ض َما �آ َت ْي ُت ُموهُ نَّ {‪ ،‬وروى الرتمذي‬
‫عن جابر بن عبد اهلل‪d‬قال‪ :‬جاءت امر�أة �سعد بن الربيع بابنتيها من �سعد �إىل ر�سول اهلل‪s‬فقالت‪:‬‬
‫يا ر�سول اهلل هاتان ابنتا �سعد بن الربيع ُقتل �أبوهما معك يوم �أحد �شهيدا‪ ،‬و�إن عمهما �أخذ مالهما فلم‬
‫يدع لهما ماال وال ُتنكحان �إال ولهما مال‪ ،‬قال يق�ضي اهلل يف ذلك فنزلت �آية املرياث فبعث ر�سول اهلل‬
‫‪�s‬إىل عمهما فقال‪� :‬أعط ابنتي �سعد الثلثني و�أعط �أمهما الثمن وما بقي فهو لك‪.‬‬

‫ ومن ظلمهن يف املرياث �أن تخا َر َج املر�أة على مرياثها ب�أن ت�أخذ مبلغ ًا ما عو�ض ًا عن ن�صيبها من الرتكة‪،‬‬
‫والرتكة موجودة ميكن معرفتها‪� ،‬أو يعلمها التي هي عليه‪ ،‬وجتهلها املر�أة‪ ،‬فال ي�صح ال�صلح عليها مع اجلهل‪،‬‬
‫قال الإمام �أحمد‪� " :‬إن ُ�صوحلت امر�أة من ثـُمنها مل ي�صح "‪.‬‬
‫ ‬

‫‪366‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حقوق الجار‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الجار‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬
‫فيقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و ْاع ُبدُو ْا الل َو َال ُت�شْ ِر ُكو ْا ِب ِه َ�ش ْي ًئا َو ِبا ْل َوا ِل َد ْي ِن �إِ ْح َ�سا ًنا َو ِب ِذي ا ْل ُق ْر َبى َوا ْل َيت ََامى َوالمْ َ َ�س ِاك ِني‬
‫الل َال ُي ِح ُّب َمن‬ ‫ال�س ِب ِيل َو َما َم َل َك ْت �أَ مْ َيا ُن ُك ْم �إِنَّ هَّ َ‬
‫نب َوا ْب ِن َّ‬ ‫اجل ِ‬ ‫َوالجْ َ ا ِر ِذي ا ْل ُق ْر َبى َوالجْ َ ا ِر الجْ ُ ُن ِب َوال�صَّ ِاح ِب ِب َ‬
‫َكانَ مخُْ تَا ًال َف ُخو ًرا{‪.‬‬

‫ون�ص على‬ ‫اهلل عز وجل بحفظ اجلار‪ ،‬والقيام بح ِّقه‪ ،‬و� َ‬


‫أو�صى ب َر ْعي ِذ َّم ِته‪ ،‬ورعاية ذمامه‪َّ ،‬‬ ‫ فقد �أم َر ُ‬
‫ذلك ‪-‬تعظيم ًا‪ -‬يف كتابه‪ ،‬وعلى ل�سان نب ِّيه‪ ،s‬بل �أ َّك َد ذك َره بعد ال َوا ِل َدين َوالأقربني‪.‬‬

‫ وجع َلها َمق ُرون ًة بالأمر بعباد ِته ُ�سبحانه؛ وذلكم لأن َ‬
‫حفظ اجلوا ِر ِمن الإميان‪ ،‬وهت ُك ُه ِمن نفيه‪ ،‬وقد‬
‫(من َكان ُي�ؤمنُ باهلل‬
‫النبي‪s‬الإميانَ ع َّمن ال ي�أمن جا ُره بوائ َقه؛ قد قال ‪-‬عليه ال�صالة وال�سالم‪َ :-‬‬‫نفي ُّ‬
‫كرم َجا َره)‪.‬‬
‫َواليوم الآخر فل ُي ِ‬

‫ عباد اهلل ! �إن ِمن �أعظم َما َيهن�أ به املر ُء يف دنياه‪ ،‬و َي�سعد به فيها‪ :‬جا ٌر ُيعي ُن ُه على نوائب الدهر‪َ ،‬يتف َّق ُد‬
‫اهلل يف ح ِّقه‪� ،‬إن غاب َ‬ ‫راعي َ‬
‫حا َله‪َ ،‬وي�س ُرت ز َّلته‪ ،‬و ُي ِ‬
‫خطبة جديدة‬

‫حفظه‪ ،‬و�إن ا�شتكى �سمعه و�أعانه؛ روى البخاري (يف الأدب‬


‫(من �سعاد ِة املرء اجلا ُر ال�صَّ الح)‪.‬‬
‫املفرد‪ )116‬عن نافع بن عبداحلارث‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪ِ :‬‬

‫�ضروب‬
‫ِ‬ ‫إي�صال‬
‫واال�ستنان بالهدي النبوي يف التعامل معه ب� ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫امتثال الو�ص َّي ِة ال َّرباني ِة باجلار‬ ‫ ويح�صل‬
‫وتفقد حا ِله‪ ،‬ومعاونت ِه فيما‬
‫ِ‬ ‫وال�سالم‪َ ،‬وطالق ِة ال َوجه عند ِلقائه‪،‬‬ ‫الطاقة؛ كال َهد َّية‪َّ ،‬‬ ‫الإح�سان �إليه بح�سب َّ‬
‫وكف الأذى عنه َع َلى اختالف �أنواعه ح�س َّي ًا َو َمعنوي ًا‪.‬‬ ‫يحتاج �إليه‪ِّ ،‬‬

‫ا�ستقر�ض َك �أقر�ضتَه‪ ،‬و�إن ا�ستعانك‬


‫َ‬ ‫ ُروي يف الأثر عند الطرباين وغ ِريه (‪ ..‬ح ُّق اجلا ِر على َ‬
‫اجلا ِر �إن‬
‫ري ه َّنيته‪ ،‬و�إن �أعوز َ�سرتته‪،‬‬ ‫�أَعنتَه‪ ،‬و�إن َم ِر َ�ض ِعدته‪ ،‬و�إن َ‬
‫احتاج �أعطيته‪ ،‬و�إن افت َق َر ُعدتَ عليه‪ ،‬و�إن �أ�صابه خ ٌ‬
‫الريح �إال ب�إذنه‪،‬‬
‫َحجب عنه َ‬ ‫و�إن �أ�صابته م�صيبة عزَّيته‪ ،‬و�إذا مات اتَّبعت جنازته‪ ،‬وال ت�ستطيل عليه بال ِبناء فت َ‬

‫‪367‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الجار‬

‫أهد له و�إن مل تفعل ف�أدخلها �سر ًا‪ ،‬وال تخرج بها‬


‫ا�شرتيت فاكه ًة ف� ْ‬
‫َ‬ ‫َغرف له‪ ،‬و�إن‬
‫بريح ِقدرك �إال �أن ت ِ‬
‫وال ت�ؤذيه ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ولده)‪.‬‬ ‫َ‬
‫ولدك ل َيغيظ بها َ‬

‫ [قال اب��ن حجر يف (الفتح ‪ " :)446/10‬و�ألفاظهم متقاربة وال�سياق �أك�ثره لعمرو بن �شعيب‪..‬‬
‫و�أ�سانيدهم واهية لكن اختالف خمارجها ي�شعر ب�أن للحديث �أ�ص ًال "‪ ،‬وقال ابن رجب (جامع العلوم)‪" :‬‬
‫ورفع هذا الكالم منكر ولعله من تف�سري عطاء اخلرا�ساين "]‪.‬‬

‫عباد اهلل ! �إن حقوق اجلوار كثري ٌة متعددة‪َّ ،‬‬


‫ولعل ِمن �أهمها �أربع ُة حقوق‪.‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫قول‪� ،‬أو فعل‪ ،‬ثبت يف املُ�سند عن �أبي‬‫زع ٍج ي�ؤذيه من ٍ‬ ‫۩ ۩�أحدها‪َ :‬ك ُّف الأذى‪ ،‬وعدم �إزعاج اجلار ب�أي ُم ِ‬
‫هريرة‪�d‬أن رجال قال‪ :‬يا ر�سول اهلل �إن فالنة َيذ ُك ُر ِمن كرث ٍة َ�صالتها َو�صيامها َ‬
‫و�صدق ِتها غ َري �أنها‬
‫ت�ؤذي جريا َنها بل�سا ِنها‪ .‬قال‪( :‬هي يف النار)‪ ،‬قال‪ :‬يا ر�سول اهلل ف�إن فالنة َيذكر من ق َّلة ِ‬
‫�صيامها‬
‫و�صدق ِتها و�صال ِتها و�إنها ت�صَّ َّدق بالأثوار من الأقط (تقلي ًال ملا تت�صدق به)‪ ،‬وال ت�ؤذي جريانها بل�سا ِنها‪.‬‬
‫َ‬
‫قال‪( :‬هي يف اجلنة)‪.‬‬

‫ُّ‬
‫والغ�ض عن �أخطائه �إذا‬ ‫۩ ۩واحل ُّق الثاين‪ :‬وهو ِمن حقوق اجلار العظام‪ :‬ال�ص ُرب على �أذيته �إن ُو َ‬
‫جدت‪،‬‬
‫ُرئيت‪ .‬قال احل�سن الب�صري‪ ( :‬لي�س ح�سنُ اجلوار َّ‬
‫كف الأذى‪� ،‬إمنا ُح�سنُ اجلوار ال�ص ُرب على الأذى )‪.‬‬

‫ وقبل ذلك و�أعظم ما روى الإمام �أحمد ب�إ�سناد �صحيح �أن �أبا ذر ‪d‬كان يحدِّ ُث عن ّ‬
‫النبي‪s‬قال‪:‬‬
‫(ثالث ٌة يحبهم اهلل‪ ،‬وثالثة َي�شن�ؤهم اهلل‪- ..‬فذكر ِمن الذين يحبهم اهلل‪ ...-‬الرجل يكون له اجلار ي�ؤذيه‬
‫في�ص َرب على �أذاه حتى ُيف ِّرق بينهما موت)‪.‬‬

‫۩ ۩واحل ُّق الثالث‪ :‬املُبادر ُة �إىل �صنائ ِع املعروف مع اجلا ِر‪ .‬ويف املقابل �أن ُيع َني الآخ ُر جا َره على ب ِّره وال ِ‬
‫إح�سان‬
‫بوجه َط ْل ٍق وثناءٍ َح َ�سن ولو كان �شيئ ًا َي�سري ًا‪،‬‬
‫هدى �إليه فل َيق َب ْل ٍ‬‫�إليه‪ ،‬ف�إذا دعاه فل ُيجب ولو ل ُكراع‪ ،‬و�إذا �أَ َ‬
‫اهلل عليهم ب َوفر ٍة يف املال واخلري �أ�ستقال‬ ‫بع�ض النا�س �إذا �أن َع َم ُ‬
‫وال يت�ش َّمت �أو يتق ّلل ما �أُهدي �إليه؛ ف�إن َ‬
‫املهدي فيرتكها‪.‬‬ ‫هدى‪ ،‬وتغاال فيها حتى ُت�صبح الهدي ُة ثقيل ًة على ِ‬ ‫َ‬
‫بع�ض َما ُي َ‬

‫بخت َم َر َق ًا‪،‬‬
‫م�سلم عن �أبي ذر‪d‬قال‪�( :‬إن خليلي ‪�s‬أو�صاين �إذا َط َ‬
‫ وت�أمل يا رعاك اهلل فيما روى ٍ‬
‫بيت ِمن جريانك ف�أ�صبهم ِمنها مبعروف)‪.‬‬
‫أهل ٍ‬ ‫أكث ما َءه‪ ،‬ثم � ُ‬
‫أنظ ْر � َ‬ ‫ف� رِ‬

‫�سب ولو مل يكن فيها حل ٌم‪ ،‬ويو�ضح ذلك رواي ُة‬ ‫النبي الكرمي‪s‬على �إهداء جريانه ما َء املرق َ‬
‫فح ٌ‬ ‫فح َّث ُه ُّ‬
‫َ‬ ‫ ‬
‫الرتمذي (‪� )1832‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إذا ا�شرتَى �أح ُدكم حلم ًا فل ُيكرث مرقتَه‪ ،‬ف�إن مل يجد حلم ًا � َ‬
‫أ�صاب‬
‫مر َقه وهو �أح ُد اللحمني)‪.‬‬

‫‪368‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الجار‬

‫ ويف ذلك ِمن الألفة بني اجلريان‪ ،‬و�إزال ِة ال َك َل َف ِة بينهم والوح�ش ِة‪ ،‬و�إدام ِة التقا ُر ِب‪ ،‬واملوا�صل ِة ال�شي َء‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وطيب ُخ ُل ٍق ِمن الآخذ حينما‬ ‫الكثري‪ .‬فالهدية القليلة بني اجلريان واملت�صل ُة بينهم هي ف�ض ٌل ِمن الباذل‪ُ ،‬‬
‫قب َلها و�أَ َخ َذ ِمنها‪ ،‬ومل َيتكبرَّ �أو َي َ‬
‫ت�ص َّنع ال ِغنى‪ ،‬و ُكلُّنا فقراء �إىل اهلل تعاىل‪.‬‬

‫ ويف ال�صَّ حيح عن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬يا ن�سا ُء امل�سلماتُ ! ال حتقرنَّ جار ٌة جلار ِتها ولو‬
‫ِف ْر َ�سنَ �شاة)‪[ ،‬ويف املوط�أ من حديث حواء �أم معاذ الأ�شهلي] �أن النبي‪s‬قال‪( :‬يا ن�سا ُء امل�ؤمناتُ ال حتقرن‬
‫�إحداكن جلارتها ولو ِك َرا َع َ�شا ٍة حم َّر َق ًا)‪.‬‬

‫حفظ املحا ِرم؛ كما لو كانت حم َرم ًا لل�شخ�ص‪ ،‬وذلك ب�أن يغ�ض‬ ‫ولوازمه‪ُ :‬‬‫ِ‬ ‫۩ ۩ ِومن �أعظم حقوق اجلوار‪،‬‬
‫وين�صح جلا ِره فيما يتع َّلق مبحا ِرمه �إن ر�أى َما ُي�س�ؤوه‬
‫ْ‬ ‫اجلا ُر َط ْر َفه‪ ،‬وال ُيط ِلق َنظ َره‪ ،‬وال َين�شر َعيب ًا يراه‪،‬‬
‫حلرمة وال�صدق يف الن�صيحة؛ ويف ال�صَّ حيحني عن ابن م�سعود‪d‬‬ ‫فيهم ف�إنّ اجلار كالأب يف رعاية ا ُ‬
‫قلت‪� :‬إن ذلك‬ ‫أعظ ُم عند اهلل ؟ قال‪�( :‬أن جتعل هلل ند ًا َوهُ و خلقك)‪ُ ،‬‬ ‫ألت النبي‪ُّ �s‬أي الذنب � َ‬ ‫قال‪� :‬س� ُ‬
‫قلت‪ :‬ثم � ّأي ؟ قال‪�( :‬أن تزاين َحليل َة‬ ‫ولد َك ُ‬
‫تخاف �أن َيط َع َم َمعك)‪ُ ،‬‬ ‫لعظيم !‪ ،‬ثم � ٌّأي ؟ قال‪( :‬و�أن تقتل َ‬
‫جارك)‪.‬‬

‫أعظم عند اهلل تعاىل‪ ،‬و�أ�ش َّد ت�أثيم ًا‪ ،‬روى الإمام �أحمد عن‬ ‫الذنب �إذا كان ِمن جا ٍر على جا ِره كان � َ‬
‫ �إن َ‬
‫املِقدا ِد بن الأ�سود‪�d‬أن النبي‪s‬قال لأ�صحابه‪َ :‬ما تقولون يف الزنا ؟ قالوا‪َ :‬ح َرا ٌم ح َّر َمه ُ‬
‫اهلل ور�سو ُله وهو‬
‫�شر ن�س َو ٍة �أي�س ُر َعليه ِمن �أن َيزين بحليل ِة‬ ‫ُ‬
‫الرجل ب َع ِ‬ ‫حرام �إىل يوم القيامة‪ .‬فقال ر�سول اهلل‪( :s‬لأن َيزين‬
‫اهلل ور�سوله فهي حرام �إىل يوم القيامة‪ .‬قال‪( :‬لأن‬ ‫َجا ِره)‪ ،‬ثم قال‪ :‬ما تقولون يف ال�سرقة ؟ قالوا‪ :‬ح َّر َمها ُ‬
‫ُ‬
‫الرجل من َع�شر ِة �أبيات �أي�سر عليه من �أن ي�سرق من جاره)‪.‬‬ ‫َي َ‬
‫�سرق‬
‫رخيه‪ ،‬ومل يراقب َ‬
‫اهلل تعاىل فيه‪ ،‬ف�أين‬ ‫يحتب�س حقَّ �أخيه‪ ،‬ويهتك عليه ِ�س َرت ًا ُي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ عباد اهلل! كم من جا ٍر‬
‫هلل ال ُي� ِؤمن‪ ،‬واهلل ال ي�ؤمن‪ ،‬قيل‪َ :‬ومن يا ر�سول اهلل ؟ قال‪ :‬الذي‬‫هلل ال ُي� ِؤمن‪ ،‬وا ِ‬
‫�أولئك من قول النبي‪( :s‬وا ِ‬
‫ال َي�أمنُ جا ُره َبوائ َقه) قالوا‪ :‬وما بوائ ُقه ؟ قال‪�( :‬ش ُّره)‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الرضيع‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حقوق الرضيع‬

‫الخطبة األوىل‬ ‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫اهلل لنا واخت�صنا بها‪� .‬أنها عام ٌة و�شاملة‪ .‬عام ٌة‬‫ ف�إنَّ ِمن عظيم َهذه ال�شريع ِة ال�سمحة التي ارت�ضاها ُ‬
‫ِ‬
‫ِّ‬
‫جلميع الأفراد �صغريهم وكبريهم‪ ،‬غنيهم وفقريهم‪ ،‬املتعلم منهم واجلاهل‪ .‬و�شامل ٌة جلميع مناحي احلياة‬
‫َاب ِمن َ�ش ْيءٍ {‪.‬‬ ‫عباد ًة ومعامل ًة وق�ضا ًء و�سيا�س ًة واجتماع ًا } َّما َف َّر ْط َنا فيِ ِ‬
‫الكت ِ‬

‫بحقوق عليه لغ ِريه‪ ،‬كما �أثبتت ل ُك ٍّل حقوق ًا؛‬


‫ٍ‬ ‫النا�س‪ ،‬و�إل��زام ُك ٍّل‬
‫كم بني ِ‬ ‫حل ُ‬ ‫ومما جاءت به ال�شريع ُة ا ُ‬ ‫َّ‬ ‫ ‬
‫فال�صغري والكبري ُك ٌّل له ح ُّقهُ‪ ،‬واملر�أ ُة والرج ُل ب ِّينت ل ُك ٍّل منهما ا�ستحقاقاته‪ ،‬واملُ ُ‬
‫�سلم والكاف ُر ثبتت ل ُكليهما‬
‫وحكم ما بينكم‪.)...‬‬ ‫حقو ٌق خا�ص ٌة به‪ .‬جاء يف احلديث‪( :‬كتاب اهلل فيه خ ُرب َمن قب َلكم‪ُ ،‬‬

‫ل�شخ�ص ال ينطقُ ل ُيطا ِلب به‪ ،‬وال ي�ستطيع املخا�صمة لنيل‬


‫ٍ‬ ‫ِومن هذه احلقوق التي جاء ال�شر ُع بها ح ٌّق‬ ‫ ‬
‫ح ِّقه وحت�صيله‪ ،‬و�إمنا ُحفظ ح ُّق ُه مبا ُفطرت عليه النفو�س‪ ،‬ثم ما �أ َّكدها ال�شرع بع ُد يف ن�صو�ص الكتاب‬
‫وال�سنة‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫ ذلكم هو َمن ا�سته َّل للدُنيا جديد ًا‪ ،‬الر�ضي ُع حديثُ الوالدة؛ يقول ر ُّبنا َج َّل َو َعال‪َ } :‬وا ْل َوا ِل َداتُ ُي ْر ِ�ض ْعنَ‬
‫�أَو َْالدَهُ نَّ َح ْو َلينْ ِ َك ِام َلينْ ِ لمِ َنْ �أَ َرا َد �أَن ُي ِت َّم ال َّر َ�ض َاع َة َوع َلى المْ َ ْو ُلو ِد َل ُه ِر ْز ُقهُنَّ َو ِك ْ�س َو ُتهُنَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫وف َال ُت َك َّل ُف َن ْف ٌ�س‬
‫اهلل يف هذه الآية حقوق ًا للر�ضيع على الأم‪ ،‬و�أُخرى على الأب‪.‬‬ ‫�إِالَّ ُو ْ�س َع َها{‪ .‬فبينَّ ُ‬

‫جتب على الأم فهي‪:‬‬


‫ف�أ َّما احلقوق التي ُ‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫عندها‪.‬‬ ‫ �إر�ضا ُع الطفل‪ ،‬والعناي ُة به‪ ،‬و�إعطا�ؤه ِمن الرعاية والعطف واحلنان اللذين ال ُيوجدان �إال َ‬
‫ويلزمها حتم ًا �أن تر�ض َعه ِر�ضاع ًة طبيع ّية �إن مل ي�شق ذلك عليها؛ قال ج ّل وعال‪َ } :‬والْ�� َوا ِل َ��داتُ ُي ْر ِ�ض ْعنَ‬
‫(فج َع َل ُ‬
‫اهلل الر�ضاع حولني كاملني لمِ َنْ �أَ َرا َد �أَن ُي ِت َّم ال َّر َ�ض َاع َة‪،‬‬ ‫�أَو َْالدَهُ نَّ َح ْو َلينْ ِ َك ِام َلينْ ِ { قال ابن عبا�س‪َ :d‬‬
‫بعده)‪.‬‬ ‫ترا�ض{ فال حرج �إن �أرادا �أن يفطماه قبل احلولني �أو َ‬‫ثم قال }ف�إن �أرادا ف�صا ًال عن ٍ‬

‫‪370‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الرضيع‬

‫ وقد ورد الوعي ُد ال�شدي ُد على املر�أة �إذا مل ُتر�ضع وليدها من غريما عذر؛ [روى ابن خزمية ‪،1986‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وابن حبان ‪ ،7491‬واحلاكم ‪ ،2837‬وقال‪� :‬صحيح على �شرط م�سلم‪ ،‬وقال املنذري [لرتغيب ‪ ]188/3‬ال‬
‫ع َّلة له‪ ،‬والطرباين (املعجم الكبري ‪])7666‬عن �أبي �أُمامة الباهلي‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪ :‬بينا �أن نائ ٌم �إذ‬
‫تنه�ش ثديهن‬‫�أتاين رجالن ف�أخذا ب�ضبعي‪ ،‬ف�أتيا بي جب ًال وعر ًا‪� ..‬إىل �أن قال‪ :‬ثم انطلق بي ف�إذا �أنا بن�ساءٍ ُ‬
‫فقلت‪ :‬ما بال هوالء؟ فقال‪ :‬هوالء اللواتي مينعن �أوالدهن �ألبانهن )‪.‬‬ ‫احليات‪ُ ،‬‬

‫ل�ست‬ ‫الزهري قال‪( :‬نهى ُ‬


‫اهلل �أن ت�ضار والد ٌة بوالدها؛ وذلك �أن تقول‪ُ :‬‬ ‫َّ‬ ‫ َروى ال ُبخاري (‪� )5044‬أن‬
‫نف�سه‬
‫بعد �أن ُيعطيها ِمن ِ‬ ‫مر�ضعته؛ وهي � ُ‬
‫أمثل له ِغذا ًء و�أ�شفقُ عليه و�أرفقُ به ِمن غريها‪ ،‬فلي�س لها �أن ت�أبى َ‬
‫َما جعل اهلل عليه)‪.‬‬

‫وح َّرم التفريق بينها‬ ‫هلل بالأم املُر�ضعة �أن َ‬


‫اهلل �أوجب لها نفق ًة مقابل �إر�ضاعها لوليدها‪َ ،‬‬ ‫ َو ِمن ر�أف ِة ا ِ‬
‫وبني وليدها‪ .‬وخ َّفف عنها الكثري من الأحكام ف َيجوز لها الإفطار يف رم�ضان �إذا خافت على ر�ضيعها ولو‬
‫ر�ضاعها بتمام ال�سنتني ولو كان احل ُّد قت ًال ملا‬
‫َ‬ ‫كانت قوي ًة‪ ،‬و ُي� َّؤخ ُر عنها ُ‬
‫تنفيذ احلدود والق�صا�ص حتى ُتنهي‬
‫يف تعجيل ذلك من الإ�ضرار بالر�ضيع‪.‬‬

‫‪ w‬و�أ َّما احلقوق الواجبة للر�ضيع على الأب‪:‬‬ ‫ ‬

‫وف َال ُت َك َّل ُف َن ْف ٌ�س ِ�إالَّ ُو ْ�س َع َها{‪ .‬فعلى‬ ‫ ف�أبانها ُ‬


‫اهلل تعاىل بقوله‪َ } :‬وع َلى المْ َ ْو ُلو ِد َل ُه ِر ْز ُقهُنَّ َو ِك ْ�س َو ُتهُنَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫الطفل املولو ِد‪ ،‬وعلى �أُ ِّمه لتكلفها العناء ب�إر�ضا ِع الطفل والعناي ِة به ولو كانت غني ًة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الأب �أن ُينفق على‬

‫ ويحرم على الأب �أو غ ِريه �أن يف ِّرق بني املر�أة وبني وليدها �سوا ًء كان ذلك ب�سبب امل�ضارة بها �أو لأجل‬
‫(من ف َّرق بني الوالدة‬
‫الطالق فقد روى الرتمذي (‪ )1283‬ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي �أيوب �أن النبي‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫وولدها فرق اهلل بينه وبني �أحبته يوم القيامة)‪ .‬و ُروي عند ابن ماجه (‪ 2250‬وفيه �ضعف) عن �أبي مو�سى‬
‫‪ d‬قال‪( :‬لعن ر�سول اهلل‪s‬من ف َّرق بني الوالدة وولدها)‪.‬‬

‫با�سم َح َ�س ٍن‪ ،‬ال نكار َة يف معناه‪،‬‬


‫ا�سمه‪ ،‬ف ُي�سم ّيه ٍ‬
‫ ومن حقوق الطفل الر�ضيع على �أبيه �أن ُيح�سن اختيار ِ‬
‫قبيح املعنى‪� ،‬أو بعيد ًا عن اال�ستخدام ُمغ َر ٌب فيه ف�إنه‬
‫�شب وكان ا�س ُم ُه َ‬ ‫وال غراب َة يف ِ‬
‫لفظه‪ ،‬ف�إن االبنَ �إذا َّ‬
‫يت�أذى نف�سي ًا‪ ،‬ولي�س ذلك من ِّ‬
‫حق والده عليه‪.‬‬

‫تنقي�ص من مقام‬
‫ٌ‬ ‫ممنوع يف ال�شرع؛ فلي�س فيه تعبي ٌد لغري اهلل‪ ،‬وال‬
‫ٍ‬ ‫لزم الأب �أن يختار ا�سم ًا غري‬
‫ كما َي ُ‬
‫العرب ال تعرف الأ�سماء املركب َة‬
‫برتكيب ت�أباه لغة العرب ف�إن َ‬
‫ٍ‬ ‫�إالهيته تعاىل‪ ،‬و�إن كان اال�سم عربي ًا فال ُي َ�س ِّم‬
‫ولي�س يف ل�سانها ذلك و�إمنا هو من الأعاجم‪ ،‬كما مُينع من الت�سمية ب�أ�سماءٍ غري امل�سلمني وهذا َي�شتهر بني‬
‫النا�س وخ�صو�ص ًا عند ت�سمية بناتهم‪.‬‬ ‫بع�ض ِ‬

‫‪371‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الرضيع‬

‫وليعلم ال ُأب �أن لال�سم �أثر ًا يف امل�س ّمى قال ابن القيم[حتفة املولود]‪( :‬بني اال�سم وامل�سمى عالقة ورابطة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫تنا�سبه وقلما يتخلف ذلك فالألفاظ قوالب للمعاين والأ�سماء �أقوال امل�سميات‬

‫وق َّل �إن �أب�صرت عيناك ذا َل َق ٍب‬ ‫ ‬


‫ �إال ومعناه �إن فكرت يف لقبه)‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬

‫واحت�ساب‬
‫ُ‬ ‫ فمن احلقوق الواجبة على الأبوين مع ًا ال�ص ُرب على ر�ضيعهما‪ُ ،‬بكا ِئه ِ‬
‫ومر�ضه ونظاف ِته‪ ،‬وعب ِثه‪،‬‬
‫هلل ج َّل وعال‪.‬‬
‫أجر يف ذلك جميعه عند ا ِ‬
‫ال ِ‬

‫وي�ستحب لهما مع ًا اتباع �سنة النبي‪s‬عند والدته؛ ف ُي�سن حتني ُكه (وهو و�ضع جزءٍ من متر ٍة منقوع ٍة يف‬
‫ُّ‬ ‫ ‬
‫�شعر ر� ِأ�سه َو ِرق ًا �أي ّ‬
‫ف�ضة‪.‬‬ ‫ماء يف فيه)‪ ،‬والت�صدق بوزن ِ‬

‫�ستحب الع ُّق عن املولود‪ ،‬ف ُيذبح عن ال�صبي �شاتان‪ ،‬وعن ال�صَّ ب َّي ِة الأنثى �شا ًة قال‪( :s‬كل غالم‬
‫ كما ُي ُّ‬
‫مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم �سابعه)‪ .‬يط َعم املر ُء منها جز ًء‪ ،‬و ُيهدي جز ًء‪ ،‬ويت�صدق بجزء‪.‬‬

‫ وت�أ ّمل يا رعاك اهلل! يف قول اهلل ع ّز وجل لأم مو�سى‪َ } :‬و�أَ ْو َح ْي َنا ِ�إ ىَل �أُ ِّم ُم َ‬
‫و�سى �أَنْ �أَ ْر ِ�ض ِعي ِه َف ِ�إ َذا ِخ ْف ِت‬
‫َع َل ْي ِه َف�أَ ْل ِقي ِه فيِ ا ْل َي ِّم َوال ت ََخافيِ َوال تحَْ زَ نيِ ِ�إ َّنا َرا ُّدو ُه ِ�إ َل ْي ِك َو َج ِاع ُلو ُه ِمنَ المْ ُ ْر َ�س ِلنيَ{‪.‬‬

‫واخلوف عليه‪ ،‬والإح�سان �إليه‪ ،‬والرغب ِة يف جنابته وعل ِّو‬


‫ِ‬ ‫الوليد‪،‬‬ ‫ وكيف �أن َ‬
‫اهلل َف َط َر النفو�س على حمبة ِ‬
‫ي�سر ُ‬
‫اهلل ذلك ُك ّله ملو�سى‪ a‬بعدما امتثلت �أمر اهلل فيه بالر�ضاعة وو�ضعه حيث �أمرها اهلل‪.‬‬ ‫�ش�أنه‪ .‬وقد ّ‬

‫ فكذا امل�ؤمن وامل�ؤمنة �إذا امتثال �أمر اهلل يف وليدهما‪ ،‬وتابعا فيه هدي امل�صطفى‪s‬ف�إنه قمنٌ �أن‬
‫بع�ض �أهل العلم قول النبي‪(:s‬كل غالم مرهون‬ ‫ف�سر ُ‬
‫وحري فيه النجابة والرجا‪ ،‬لذا ّ‬
‫يتحقق رجا�ؤهم فيه‪ٌّ ،‬‬
‫بعقيقته تذبح عنه يوم �سابعه) �أي �أن جنابته و�صالحه مرهون ٌة باتباع ُّ‬
‫ال�سنة فيه‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حقوق الزوجني‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الزوجني‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬


‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ فالأ�سرة ِمن الزوجني �أُ ُّ�س املجتمع‪ ،‬ونوا ُة بنائه قال ج َّل وعال‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬
‫ا�س �إِ َّنا َخ َل ْق َنا ُكم ِّمن َذ َك ٍر‬
‫َو�أُن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل{‪.‬‬

‫اهلل يف ال��زواج َع َما َر الكون و�سكونَ النف�س ومتا َع احلياة‪ ،‬به تنتظم احلياة ويتحقق العفاف‬ ‫ جعل ُ‬
‫أن�ساب املتفرقة‪ ،‬فيق َّرب البعيد ويُبرَ ّ القريب‪ .‬وعد اهلل‬ ‫أرحام املتباعدة وال َ‬ ‫والإح�صان‪ ،‬يجمع اهلل بالنكاح ال َ‬
‫وال�سعة يف الرزق وال ُخلف لوعد اهلل‪�ِ } :‬إن َي ُكو ُنو ْا ُف َق َراء ُي ْغ ِن ِه ُم هَّ ُ‬
‫الل ِمن َف�ضْ ِل ِه{‪.‬‬ ‫فيه بالغنى َّ‬

‫والهم‪ .‬ولكنَّ ُح�سنَ الع�شرة‬ ‫بع�ض النق�ص ِّ‬ ‫ وقد يحدث يف ذلكم الزواج �شي ٌء ِمن التنغي�ص‪ ،‬ويطر�أ ُ‬
‫وف َف ِ�إن َك ِر ْه ُت ُموهُ نَّ َف َع َ�سى �أَن َت ْك َرهُ و ْا َ�ش ْي ًئا َو َي ْج َع َل هَّ ُ‬
‫الل ِفي ِه َخ رْ ًيا‬ ‫وطي َبها يزيل ذلك } َو َع ِا�ش ُروهُ نَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫َك ِث ًريا{‬

‫ويتغافل عن النق�ص؛ يقول امل�صطفى‪:s‬‬ ‫ُ‬ ‫ فال ُّرجل يداري املر�أ َة‪ ،‬ويعفو عن الز َّلة‪ ،‬ويتجاوز اخلط�أ‪،‬‬
‫(ا�ستو�صوا بالن�ساء خريا‪ ،‬ف�إنهن خلقن من �ضلع‪ ،‬و�إن �أعوج �شيء يف ال�ضلع �أعاله‪ ،‬ف�إن ذهبت تقيمه ك�سرته‪،‬‬
‫و�إن تركته مل يزل �أعوج‪ ،‬فا�ستو�صوا بالن�ساء خري ًا) متفق عليه‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫َومن ك ُرم �أ�ص ُل ُه الن قل ُبه‪ ،‬وزوجتك هي حاملة �أوالدك‪ ،‬وراعية �أموالك‪ ،‬وحافظة �أ�سرارك‪ .‬اخف�ض‬ ‫ ‬
‫اجلناح معها‪ ،‬و�أظهر الب�شا�شة لها‪ ،‬فاالبت�سامة حتيي النفو�س ومتحو �ضغائنَ ال�صدور‪ ،‬والثناء على الزوجات‬
‫جاذب لأفئدتهن‪ ،‬وقد �أباح الإ�سالم الكذب مع الزوجة لزيادة املودة لها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يف امللب�س وامل�أكل والزينة‬

‫ُ‬
‫والتب�سط معها ُ‬
‫ونبذ الغمو�ض والكربياء‬ ‫ والهدي ُة بني الزوجني مفتا ٌح للقلوب‪ ،‬تنبئ عن حمبة و�سرور‪،‬‬
‫من �سيما احلياة ال�سعيدة‪ ،‬يقول عمر‪( :d‬ينبغي للرجل �أن يكون يف �أهله كال�صبي ‪�-‬أي يف الأن�س وال�سهولة‪-‬‬
‫ف�إن كان يف القوم كان رج ًال)‬

‫وكن زوج ًا م�ستقيم ًا يف حياتك تكن هي ب�إذن اهلل �أقوم‪ ،‬وال متدن عينيك �إىل ما ال يح ُّل لك‪ ،‬فاملع�صي ُة‬ ‫ ‬

‫‪373‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الزوجني‬

‫زوجها‬
‫جمال الزوجة عند زوجها‪ ،‬وينق�ص قد َر ِ‬ ‫�ش�ؤم يف بيت الزوجية‪ ،‬وم�شاهد ُة الن�ساء املتربجات يق ّبح َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وتنق�ص املحبة‪ ،‬وت�ضمحل املودة‪ ،‬ويبد�أ ال�شقاق‪ ،‬وال �أ�سلم من اخلال�ص منها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عندها‪ ،‬فتتباعد القلوب‪،‬‬

‫ وكن لزوجتك كما حتب �أن تكون هي لك يف كل ميادين احلياة‪ ،‬ف�إنها حتب منك َما حتب منها‪ ،‬يقول‬
‫ابن عبا�س‪�( :d‬إين �أحب �أن �أتزين المر�أتي كما �أحب �أن تتزين يل)‪ .‬وا�ستمع �إىل نقد زوجتك ب�صدر رحب‬
‫وب�شا�شة ُخ ُل ٍق‪ ،‬فقد كان ن�سا ُء ِّ‬
‫النبي‪ُ s‬يراجع َنه يف الر�أي فال َيغ�ضب منهن‪ ،‬وتذكر �أن زوجتك تو ُّد احلديثَ‬
‫معك يف جمي ِع ُ�ش�ؤونها ف�أَ ْر ِع لها �سم َعك‪ ،‬فهذا من كمال الأدب‪.‬‬
‫َ‬

‫غ�ضب عارمة‪ .‬قال �أبو‬


‫ٍ‬ ‫ والغ�ضب �أ�سا�س ال�شحناء‪ ،‬وما بينك وبني زوجتك �أ�سمى �أن تدن�سه حلظه‬
‫غ�ضبت ر�ضَّ يت ُِك ف�إذا مل نكن هكذا ما �أ�سرع ما نفرتق)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫غ�ضبت ِّ‬
‫فر�ضيني‪ ،‬و�إذا‬ ‫ُ‬ ‫الدرداء لأم الدرداء‪�( :‬إذا‬
‫أقرب �إىل العقل والتقوى‪ ،‬يقول عمر بن اخلطاب‪:d‬‬ ‫ال�سكوتَ على َ�س َخ ِط املقال‪ ،‬والعف ُو عن الزالت � ُ‬
‫و�آ ِث ْر ُّ‬
‫(الن�ساء عورة‪ ،‬فا�سرتوهن بالبيوت‪ ،‬و َداووا �ضعفهن بال�سكوت)‪.‬‬

‫عاب�س املح ّيا‪ ،‬بل �أ�صنع االبت�سامة على وجهك‪ ،‬واجعل الهموم خارج‬ ‫كالح الوجه َ‬ ‫ وال َت ُع ْد �إىل دا ِرك َ‬
‫ودعهم‬‫وان�ش ْر بني يديهم �أب َّوتك‪ْ ،‬‬‫بيتك؛ ف�أوالدك بحاجة �إىل عطفك وقربك وحديثك‪ ،‬ف�ألِنْ لهم جان َبك‪ُ ،‬‬
‫�سن �إن�صا ِتك‪ ،‬فقد كان النبي‪�s‬إذا ر�أى ابنته فاطمة قال لها‪( :‬مرحب ًا بابنتي)‪ ،‬ثم‬ ‫وح ِ‬ ‫يفرحون بتوجيهك ُ‬
‫يجل�سها عن ميينه �أو �شماله رواه م�سلم‪ .‬واحلن ُّو على �أهل البيت �شموخ يف الرجولة‪ ،‬يقول الرباء‪ :d‬دخلت‬
‫مع �أبي بكر‪d‬على �أه ِله ف�إذا ابنته عائ�شة م�ضجعة قد �أ�صابتها حمى‪ ،‬فر�أيت �أباها �أبا بكر ُيق ِّب ُل خ َّدها‬
‫ويقول‪ :‬كيف �أنت يا بنية؟ رواه البخاري‪.‬‬

‫وكرم الرجل‬ ‫مال زوجته �شيئ ًا �إال بر�ضاها‪ ،‬فمالها ِم ٌ‬


‫لك لها‪ُ .‬‬ ‫الزوج من ِ‬
‫ِومن ُعل ِّو النف�س �أن ال ي�أخذ ُ‬ ‫ ‬
‫أح�سنْ �إليهم بالنفقة باملعروف وال تبخل عليها‪.‬‬ ‫بالنفقة على �أهل البيت � ُ‬
‫أف�ضل البذل‪ ،‬ف� ِ‬

‫و�سنن الأنبياء؛ قيل لعائ�شة‪:g‬‬‫ والقيام ب�أعباء املنزل‪ ،‬وامل�ساعدة يف اخلدمة فيه ِمن �شيم الأوفياء‪َ ،‬‬
‫نف�سه‪.‬‬ ‫ماذا كان ر�سول اهلل‪s‬يعمل يف بيته؟ قالت‪ :‬كان َب َ�شر ًا من الب�شر‪ ،‬يفلي ثوبه ويح ِل ُب َ�شاتَه ِ‬
‫ويخد ُم َ‬
‫رواه �أحمد‪.‬‬

‫بعيوب بدرت‬‫ وال يطغى بقا�ؤك عند �أ�صحابك على حقوق �أوالدك‪ ،‬ف�أهلك �أحق بك‪ ،‬وال تذ ِّكر زوجتك ٍ‬
‫َ‬
‫م�شاكل الزوجني عن الأبناء‪ ،‬ففي �إظهارها ت�أثري على الرتبي ِة‬ ‫منها‪ ،‬وال تلمزها بتلك الزالت واملعايب‪ْ ،‬‬
‫واخ ِف‬
‫واحرتام الوالدين‪.‬‬
‫ِ‬

‫ عباد اهلل! �إن حق الزوجة على ال��زوج عظيم‪� ،‬أُ�سرت بالعقود و�أو ِثقت بالعهود‪ .‬الزوجات يكرمهن‬
‫الكرمي‪ ،‬ويعلي �ش�أنهن العظيم‪ ،‬تقول عائ�شة ‪ :g‬كان النبي‪s‬يكرث ذكر خديجة‪ ،g‬ورمبا ذبح ال�شَّ ا َة ثم‬

‫‪374‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق الزوجني‬

‫ُي ِّ‬
‫قطعها �أع�ضا ًء‪ ،‬ثم يبعثها يف �صدائق خديجة‪ ،‬فرمبا قلت له‪ :‬ك�أنه مل يكن يف الدنيا امر�أة �إال خديجة!! رواه‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫البخاري فانظر لوفاء النبي‪ s‬لزوجه حتى بعد وفاتها‪.‬‬

‫ عباد اهلل! الزوجة احلاذقة جتعل قلبها لزوجها �سكن ًا‪ ،‬وجتعل يف نف�سها له طم�أنينة‪ ،‬ويف حديثها معه‬
‫ال�سمع والطاعة يف غري مع�صية‪ ،‬تعرتف بجميل‬ ‫ا�شرة بح�سن َّ‬ ‫ابتهاج ًا وزينة‪ ،‬ت�صحبه بالقناع ِة ِ‬
‫وطيب املُ َع َ‬
‫الزوج وف�ضله‪ ،‬وتقوم بحقوقه‪ ،‬ت�ؤمن بعل ِّو منزلته وعظيم مكانته‪ ،‬يقول ‪( :s‬لو كنت �آمر ًا �أحد ًا �أن ي�سجد‬
‫لأحد لأمرت الزوجة �أن ت�سجد لزوجها)‪ ،‬يقول �شيخ الإ�سالم‪:‬‬

‫"ولي�س على املر�أة بعد حق اهلل ور�سوله �أوجب من حق الزوج"‪.‬‬ ‫ ‬

‫ املر�أة ال�صاحلة �إن ر�أت زوجها جنح ذ َّكرتْه باهلل‪ ،‬و�إن ر�أته يكدح للفانية ذكرته بالآخرة الباقية‪ ،‬تعي ُن ُه‬
‫ف�شي له �سر ًا‪ ،‬وال تع�صي له �أمر ًا يف غ ِري مع�صية اهلل‪ ،‬تعني زوجها على ب ِّر والديه‪،‬‬‫على نوائب الدهر‪ ،‬ال ُت ِ‬
‫فمن حتت يديهما َن َ�ش�أ‪ ،‬وعلى �أنظا ِرهما ترعرع‪ ،‬تطلب ر�ضا ر ِّبها بر�ضا زوجها‪ ،‬ال تتت ّبع هفوا ِته‪ ،‬وال تظهر‬ ‫ِ‬
‫زال ِته‪ ،‬حافظ ًة له يف الغيب وال�شَّ هادة‪� ،‬إن َح َ�ض َر �أكرمته‪ ،‬و�إن غاب �صانته‪ ،‬ال ُتثقل على زوجها يف النفقة‪،‬‬
‫ه ُّمها طاعة ربها بر�ضا زوجها‪ ،‬وتن�شئة �أوالدها على ال�صالح واال�ستقامة‪ ،‬ال ترفع عليه �صوت ًا‪ ،‬وال تخالف له‬
‫ر�أيا‪.‬‬

‫ ب�شَّ ر النبي‪s‬خديجة‪g‬ببيت يف اجلنة من ق�صب الل�ؤل�ؤ ال �صخب فيه وال ن�صب قال ابن كثري‪" :‬ال‬
‫َ�سخ ْط عليه يوم ًا‪،‬‬
‫�صخب فيه وال ن�صب لأنها مل ترفع �صوتها على النبي‪ ،s‬ومل تتعبه يوم ًا من الدهر‪ ،‬فلم ت َ‬
‫وال �آذته �أبد ًا"‪ .‬وقد �أو�صت حكيمة من العرب ابنتها عند زواجها بقولها‪" :‬يا بنية‪� ،‬إنك لن ت�صلي �إىل ما‬
‫حتبني منه حتى ت�ؤثري ر�ضاه على ر�ضاك‪ ،‬وهواه على هواك‪ ،‬فيما �أحببت وكرهت"‪.‬‬

‫ والعفة حمور احلياة الكرمية‪ ،‬وزينة الزوجة قرا ُرها يف دارها‪ ،‬تقول عائ�شة‪�( :g‬إن خري ًا للمر�أة �أن ال‬
‫ترى الرجال وال يروها)‪.‬‬

‫ ذات الدِّ ين مطيع ٌة لربها ثم لزوجها‪ ،‬ال تتعاىل عليه‪ ،‬وال تتمرد على قوامته‪ ،‬وال ت�سعى �إىل منازعته‪،‬‬
‫تراها َ�ساعية يف راحة زوجها‪ ،‬قائم ًة على خدمته‪ ،‬راغب ًة يف ر�ضاه‪ ،‬حافظ ًة لنف�سها‪ ،‬يدها يف يد زوجها‪ ،‬ال‬
‫بطعام حتى ي�س ُكن‪ ،‬وال تخرج ِمن منزلها �إال ب�إذنه؛ كل‬ ‫تنام �إذا غ�ضب عليها زوجها حتى ير�ضى‪ ،‬وال تهن�أُ‬
‫ٍ‬
‫ذلك ليقينها ب�أن فوزها باجلنة مع َّل ٌق بطاعة زوجها مع قيامها مبا فر�ض اهلل عليها‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حقوق العمال‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق العمال‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫أحد منهم �إال بغريه من اخللق ومعهم‪ ،‬وال‬ ‫لبع�ض‪ ،‬ال ي�ستقيم �أم ُر � ٍ‬ ‫ف�إن اهلل جعل خل َقه من بني �آدم خدم ًا ٍ‬
‫متام حا ِل ِه �إال مبنفع ٍة منهم؛ كما قال تعاىل‪�} :‬أَهُ ْم َي ْق ِ�س ُمونَ َر ْح َم َة َر ِّب َك َن ْحنُ َق َ�س ْم َنا َب ْي َن ُه ْم َم ِع َ‬
‫ي�ش َت ُه ْم‬ ‫ي�ستتم ُ‬
‫ي ممَِّ ا‬ ‫فيِ الحْ َ َيا ِة ال ُّد ْن َيا َو َر َف ْع َنا َب ْع َ�ض ُه ْم َف ْو َق َب ْع ٍ�ض َد َر َج ٍات ِل َيت َِّخ َذ َب ْع ُ�ض ُه ْم َب ْع ً�ضا ُ�س ْخ ِر ًّيا َو َر ْح َم ُة َر ِّب َك َخ رْ ٌ‬
‫َي ْج َم ُعونَ {‪ .‬وقال الأول‪:‬‬
‫ا�ض َر ٍة‬
‫وح ِ‬
‫النا�س للنا�س من بد ٍو َ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫خدم‬
‫لبع�ض و�إن مل ي�شعروا ُ‬ ‫ع�ض ٍ‬ ‫َب ٌ‬ ‫ ‬

‫بع�ض يف هذه الدنيا لتتم ِع َمار ُتها‪َ ،‬و َيك ُم َل بنا�ؤها‪ِ .‬ومن ُ�صور تلكم احلاج ِة امللح ِة �أن‬ ‫لبع�ض من ٍ‬ ‫فال ُب َّد ٍ‬
‫نق�ص وال عيب فقد عمل‬ ‫ضري على امل�ست� َأجر يف ذلك وال َ‬ ‫عنده �أجري ًا وخادما؛ وال � َ‬ ‫ي�ست�أجر املر ُء �آخ َر ل َيع َم َل َ‬
‫بعدهم؛ فمو�سى ‪� a‬أ�ست�أجره �أبو البنتني }‬ ‫�أنبيا ُء اهلل عليهم ال�سالم �أُج َرا َء عند غريهم‪ ،‬وكذا ال�صَّ احلون َ‬
‫لقري�ش‬
‫ٍ‬ ‫الَ ِمنيُ{‪ ،‬ونبينا حمم ٌد‪َ s‬ع ِم َل �أجري ًا‬
‫ا�س َت�أْ َج ْرتَ ا ْل َق ِو ُّي ْ أ‬ ‫َقا َل ْت �إِ ْح َداهُ َما َيا �أَ َب ِت ْ‬
‫ا�س َت ْ�أ ِج ْر ُه ِ�إنَّ َخ رْ َي َم ِن ْ‬
‫أغنامهم بقراريط معدود ٍة‪ ،‬ثم عمل �أجري ًا عند خديجة بنت خويلد‪g‬يف جتارتها َ�سفرتني ُكل َ�سف َر ٍة‬ ‫يرعي � َ‬ ‫َ‬
‫وع ِم َل َع ٌّلي‪�d‬أجري ًا المر�أة َي ِنز ُع لها املا َء ِمن البئر ُك ُّل دُل ٍو بتمرة‪ ،‬فنزع �ست َة ع�شر َد ْلو ًا ف�أعطته‬ ‫ب َق ُلو�ص‪َ ،‬‬ ‫خطبة جديدة‬
‫النبي‪s‬ف�أكل معه‪.‬‬ ‫عددها متر ًا ف�أتى َّ‬

‫ فكون املرء �أجري ًا عند غريه‪ ،‬وعام ًال عنده هي من الفطرة التي ُفطر النا�س عليها ُمذ ُبد ِء اخلليقة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ي�ستنكف ِمن‬ ‫ُ‬
‫فالعاقل ال‬ ‫ولي�ست منق�ص ًة يف الأجري‪ ،‬وال رفع ًة للم�ست�أجر‪ ،‬و�إمنا ُ�سن ٌة كونية‪ ،‬وفطر ٌة ب�شرية؛‬
‫نف�سه �أن يكون‬
‫حال ِ‬ ‫العمل �أجري ًا‪ ،‬وال يرتف ُع ويتكبرّ ُ �أن كان م�ست� ِأجر ًا و َر َّب عمل‪ ،‬فال يخلو امر ٌء عند الت�أمل يف ِ‬
‫خادم ًا وخمدوم ًا‪� ،‬آمر ًا وم�أمور ًا‪.‬‬

‫واجبات‬
‫ٍ‬ ‫ ‪ w‬عباد اهلل! لقد جعل اهلل عز وجل للأجراء والعمال ُح ُقوق ًا ُ‬
‫يجب ال َو َفا ُء بها‪ ،‬وجعل عليهم‬
‫يجب �أدا�ؤها‪.‬‬

‫۩ ۩فمن احلقوق الواجبة للأجري امل�ست� َأجر �أن ُيحترَ َم لإن�سانيته؛ ف ُيح�سن �إليه يف ال ِع�شْ َرة‪ ،‬و ُي َت�أ َّدب معه يف‬
‫‪376‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق العمال‬

‫حتت‬
‫اهلل َ‬‫اللفظ والتعامل؛ روى ال�شيخان عن �أبي ذر‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إخوانكم َخ َو ُل ُكم جعلهم ُ‬
‫مما يلب�س‪ ،‬وال تكلفوهم ما يغلبهم ف�إن‬
‫وليلب�سه ّ‬
‫ْ‬ ‫�أيديكم‪ ،‬ف َمن كان يتحقق حتت يده فليطعمه مما ي�أكل‪،‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫كلفتموهم ف�أعينوهم)‪.‬‬

‫�ساعات العمل بدون �أَ ٍ‬


‫جر‬ ‫ِ‬ ‫فوق طاقته‪ ،‬و�إرها ُق ُه بالعمل‪ ،‬و�إكراهُ ُه عليه‪ ،‬وزياد ُة‬ ‫۩ ۩فال يجوز تكليف الأجري َ‬
‫والتخفيف عليه؛ كما �أمر النبي‪ .s‬روى البيهقي يف (ال�شعب عن‬ ‫ُ‬ ‫يقابلها‪ ،‬بل َيلزَ م املر َء �إعان ُة �أجريه‬
‫َ‬
‫اململوك ثم‬ ‫القوي فتنة‪ ،‬و�إن‬
‫ال�ضعيف ثم َّ‬ ‫َ‬ ‫الغني فتنة‪ ،‬و�إن‬
‫النبي‪s‬قال‪�( :‬إن الفقري ثم َّ‬ ‫�أبي ذر‪� )d‬أن ّ‬
‫املليك فتنة‪ .‬فليتق اهلل عز وجل وليكلفه َما َي�ستطيع‪ ،‬ف�إن �أم َر ُه �أن يعمل مبا ال ي�ستطيع فليعنه عليه ف�إن‬
‫مل يفعل فال يعذ ْبه)‪.‬‬
‫آالت ال مت ُّل وال ت َك ّل‪ ،‬فال راحة وال �إعانة‪ ،‬بل‬ ‫۩ ۩�إن البع�ض للأ�سف ُيعام ُل ال ُع َّم َال والأُ َج َرا َء وا َ‬
‫خل َد َم وك�أنهم � ٍ‬
‫تكليف و�إهانة‪ .‬ولي�س ذلك من دين اهلل يف �شيءٍ ‪ ،‬وال ِمن كرمي ا ُ‬
‫خللق‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫إح�سان �إليهم يف امللب�س وامل�أكل َوما يف حكمها؛ فعن املقدام بن معد‬


‫وجوب ال ِ‬ ‫۩ ۩ومن حقوق الع َّم ِال َوا َ‬
‫خل َد ِم ُ‬
‫نف�سك فهو لك �صدقة‪ ،‬وما �أطعمت زوجتك فهو لك �صدقة‪ ،‬وما‬ ‫يكرب‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬ما �أطعمت َ‬
‫�أطعمت خادمك فهو لك �صدقة)[رواه الن�سائي ب�إ�سناد �صحيح]‪.‬‬

‫أحدكم خاد ُمه بطعامه ف�إن مل يج ِل ْ�س ُه معه‪ ،‬فليناو ْل ُه لقم ًة‬
‫ ويف ال�صَّ حيحني �أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إذا �أتى � َ‬
‫الجه)‪.‬‬
‫وع َ‬ ‫�أو ُلق َمتني �أو �أك َل ًة �أو �أك َلتني ف�إنه َوليِ َح َّره ِ‬

‫۩ ۩ومن حقوقهم �أي�ض ًا �أنه يحرم و�أذيتُهم‪ ،‬واالعتدا ُء عليهم‪ ،‬ال �إهان ًة ج�سدي ًا �ضرب ًا باليد‪ ،‬وال بالل�سان �س ّب ًا‬
‫ولعن ًا و�شتم ًا وتقبيح ًا‪ ،‬لأن هذا الأج َري �إن�سا ٌن له �أهلي ٌة كاملة ف ُيح ُر ُم االعتدا ُء عليه �أو َ�ضربه‪ ،‬وهذا الأمر‬
‫املعتدي كائن ًا َمن كان‪،‬‬
‫�إن فعل ف�إنه ُيوجب الق�صا�ص �شرع ًا على ِ‬

‫ وقد قال عمر بن اخلطاب ملن َ�ض َر َب �آخ َر‪( :‬متى ا�ستعبدمت النا�س وقد ولدتهم �أمهاتهم �أحرار ًا)‪ ،‬و�أمر‬
‫بالق�صا�ص ِمنه‪ .‬وقد كان من هدي النبي‪s‬عدم �ضرب اخلادم‪ ،‬وعدم تعنيفه‪.‬‬

‫�سمعت �صوت ًا َخ ْل ِفي يقول‪:‬‬


‫ُ‬ ‫۩ ۩و َر َوى م�سلم عن �أبي م�سعود الأن�صاري ‪d‬قال‪� :‬إين لأ�ضرب غالم ًا يل �إذ‬
‫ف�س َق َط ِمن يدي‬ ‫ألتفت �إليه من الغ�ضب‪ ،‬فلما غ�شيني �إذا هو ُ‬
‫ر�سول اهلل‪َ ،s‬‬ ‫(اعلم �أبا م�سعود)‪ ،‬فلم � ْ‬
‫هلل‬
‫فقلت‪ :‬يا ر�سول اهلل وا ِ‬ ‫نك على هذا)‪ ،‬قال ُ‬ ‫عليك ِم َ‬ ‫وط من هيبته‪ ،‬فقال ر�سول اهلل ‪ُ s‬‬
‫(هلل �أقد ُر َ‬ ‫ال�س ُ‬
‫َّ‬
‫ال �أ�ضرب غالم ًا يل �أبد ًا‪.‬‬

‫حقوق ال ُع َّمال َ�شرع ًا �أنه يجب �أن ُيبينَّ َ لهم الأج ُر َ‬


‫قبل بد ِء العمل؛ فعن �أبي �سعيد اخلدري‪�(d‬أن‬ ‫۩ ۩ومن ِ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬نهى عن ا�ستئجار الأجري حتى ُيبينَّ َ له) رواه �أبو داود‪ .‬وروى البيهقي (‪ِ )120/6‬من‬
‫(من ا�ست�أجر �أجريا فليعلمه �أجره)‪.‬‬ ‫حديث �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪َ :‬‬

‫‪377‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حقوق العمال‬

‫۩ ۩ومن حقوقهم �أنه يجب �إعطا�ؤهم الأج��ر َة حني متام العمل على الوجه املطلوب �إن كان الأج��ر ُة على‬
‫�إجناز العمل‪� .‬أو ُتعطى الأجر ُة عند حلول وق ِتها �إن كانت الأجر ُة م�ؤقت ًة بالزمن كحال الراتب ال�شهري‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫عدم ت�أخ ِريه ومماطل ِته يف ذلك‪ ،‬روى ابنُ ماجه من حديث عبد اهلل بن عمر‪�d‬أن النبي‬ ‫ونحوه‪ ،‬ويلزم ُ‬
‫يجف َع َر ُقه) قال املنذري‪ :‬وباجلملة فهذا املنت مع غرابته يكت�سب‬ ‫أعط الأجري �أج َره قبل �أن َّ‬ ‫‪s‬قال‪ِ �( :‬‬
‫بكرثة الإ�شارة قوة‪.‬‬
‫أوج َب اهللُ‬ ‫۩ ۩وت�أخ ُري الأُج َر ِة عن وقتها‪ ،‬واملماطل ُة يف ت�سليمها بغري ُعذ ٍر ُظل ٌم و�إث ٌم عظي ٌم عند اهلل‪ ،‬وقد � َ‬
‫عقوب َة َمن فعل ذلك يف ال ُّدنيا ق�ضا ًء‪ ،‬والآخرة عذاب ًا‬
‫۩ ۩ َر َوى الإمام �أحمد و�أبو داود عن َعمرو بن ال�شريد عن �أبيه‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬ليَ ُّ الواجد ظل ٌم يحل‬
‫الظلم املح َّرم‬ ‫(عر�ضهُ) �شكواه و(عقوبته) حب�سه‪ .‬فمماطلة الأجراء من ُّ‬ ‫ُ‬ ‫عر�ضه وعقوبته)‪ .‬قال وكيع‪:‬‬
‫يح ُّل العر�ض واملال‪ ،‬ب�أن يعاقبه القا�ضي وال�سلطات يف البلد بالعقوبة املنا�سبة يف العر�ض واملال‪،‬‬ ‫الذي ِ‬
‫لقهرمان له هل‬ ‫ٍ‬ ‫باحلب�س والتَّعزير‪ .‬و�أمَّ��ا �أثمه يف الآخ��رة فروى م�سلم �أن عبد اهلل بن َعمرو‪d‬قال‬
‫أعطهم ف�إن ر�سول اهلل‪s‬قال‪َ ( :‬ك َفى املرء �إثما �أن َ‬
‫يحب�س‬ ‫�أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال‪ :‬ال قال‪ :‬فانطلقْ ف� ْ‬
‫ميلك قوتَهم)‪.‬‬ ‫ع َّمن ُ‬
‫ وقد روى البخاري عن �أبي هريرة �أن النبي‪s‬قال‪ :‬قال اهلل عز وجل‪( :‬ثالثة �أنا خ�صمهم يوم القيامة‬
‫كنت َخ�صْ َمه َخ َ�صم ُتهُ؛ رج ٌل �أعطى بي ثم غدر‪ ،‬ورجل باع حر ًا ف�أكل ثمنه‪ ،‬ورجل ا�ست�أجر �أجري ًا‬ ‫َومن ُ‬
‫ا�ستوفى منه ومل يو ِّفه)‪.‬‬
‫اهلل له النار‪،‬‬ ‫أوج َب ُ‬ ‫م�سلم بيمينه فقد � َ‬ ‫ يف ال�صحيحني �أن ر�سول اهلل‪ s‬قال‪( :‬من اقتطع حق امرئ ٍ‬
‫ر�سول اهلل و�إن كان �شيئ ًا ي�سري ًا قال‪( :‬و�إن كان ق�ضيبا من �أراك)‪.‬‬ ‫َو َح َّر َم عليه اجلنة)‪ ،‬قيل‪ :‬يا َ‬
‫يت َما‬ ‫ا�ص َغ َدا �إذا َو َف َ‬ ‫فخف ال ِق َ�ص َ‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫ا�س‬ ‫اليوم بال ِق َ‬
‫�سط ِ‬ ‫بت َي َداك َ‬ ‫َك َ�س ْ‬ ‫ ‬
‫�ص‬‫يف َمــو ِقـ ٍـف َمــا ف ـيـ ِه �إال �ش ـَاخ ـِ ٌ‬ ‫ ‬
‫ا�س‬ ‫ـهطـ ٍـع �أو ُم ـق ـن ـِ ٍع ل ـل ـ َر ِ‬‫ �أو مـ ـُ ـ ِ‬
‫و�سـجنـُ ُهم‬
‫أع�ضا�ؤهم فيه ال�شهو ُد ِ‬ ‫ � َ‬
‫ـبا�س‬‫وحــاك ـمـُه ـُم َ�شدي ُد الـ ِ‬ ‫نــا ٌر َ‬ ‫ ‬
‫احلقوق مع ال ِغنى‬ ‫َ‬ ‫متط ْل َ‬
‫اليوم‬ ‫ �إن ِ‬
‫ـال�س‬
‫ف ـغ ـَ َدا ت ـ�ؤ ِّدي ـ ـهــا َمــع الإفـ ِ‬ ‫ ‬
‫ ُروي يف الأثر‪�( :‬أنه ال �أك َر َه للعبد يوم القيامة ِمن �أن يرى َمن يعرفه خ�شية �أن يطالبه مبظ َل َم ٍة َظ َل َم ُه بها‬
‫(من كانت عنده مظلمة لأخيه من عر�ضه �أو من �شيء فليتحلل منه اليوم‬ ‫و�صح عنه‪�s‬أنه قال‪َ :‬‬ ‫يف الدنيا)‪َّ ،‬‬
‫من قبل �أن ال يكون دينار وال درهم �إن كان له عمل �صالح �أخذ منه بقدر مظلمته و�إن مل يكن له ح�سنات �أخذ‬
‫من �سيئات �صاحبه فحمل عليه ثم طرح يف النار)‪.‬‬
‫ ‬
‫ال�ص ُّم ال ُّد َعا َء �إِ َذا َما ُي َنذ ُرونَ { َو َل ِئن‬ ‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪ُ } :‬ق ْل �إِنمَّ َ ا �أُ ِنذ ُر ُكم ِبا ْل َو ْح ِي َوال َي ْ�س َم ُع ُّ‬
‫اب َر ِّب َك َل َي ُقو ُلنَّ َيا َو ْي َل َنا ِ�إ َّنا ُك َّنا َظالمِ ِ َني{ َو َن َ�ض ُع المْ َ َوازِينَ ا ْل ِق ْ�س َط ِل َي ْو ِم ا ْل ِق َي َام ِة َفال ُت ْظ َل ُم‬‫َّم َّ�س ْت ُه ْم َن ْف َح ٌة ِّمنْ َع َذ ِ‬
‫َن ْف ٌ�س َ�ش ْي ًئا َو ِ�إن َكانَ ِم ْث َق َال َح َّب ٍة ِّمنْ َخ ْر َد ٍل �أَ َت ْي َنا ِب َها َو َك َفى ِب َنا َح ِا�س ِبنيَ{‪.‬‬

‫‪378‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حكم داود‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حكم داود‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ لقد �أثنى ُ‬
‫اهلل عز وج ّل على داود‪a‬ب�أنه �أُوتي ف�صل اخلطاب‪ ،‬فقال �سبحانه‪َ } :‬و َ�ش َد ْد َنا ُم ْل َك ُه َو�آ َت ْي َنا ُه‬
‫اب{‪.‬‬‫الحْ ِ ْك َم َة َو َف�صْ َل الخْ ِ َط ِ‬

‫ واحلكمة التي �أوتيها داود ‪ a‬هي البالغ ُة يف ِ‬


‫كالمه‪ ،‬وهي من �آثار النب ّوة‪ ،‬فحكمته ‪a‬نب ّوة لذا كان‬
‫�صحيح ًة ُك ّلها‪ ،‬قال ابن عبا�س‪d‬يف قوله تعاىل‪} :‬و�آتيناه احلكمة{ قال‪�( :‬أُعطي ال َفهم)‪.‬‬

‫للحكم عند اهلل تعاىل‪ ،‬قال احل�سن الب�صري‪}( :‬‬


‫اخل�صوم و�إ�صابته ُ‬
‫ِ‬ ‫ وف�صل اخلطاب هو ف�صله بني‬
‫ف�صل اخلطاب{ الفهم يف الق�ضاء)‪.‬‬

‫بذكر اهلل تعاىل‪،‬‬ ‫هج ِه ِ‬‫ قال داود‪( :a‬ما �أحلى ذك َرك يف �أفواه املتع ِّبدين) ف َما ت َك ّل َم ُمت َك ّل ٌم �أحلى ِمن َل ِ‬
‫كالم �أحلى ِمن ذكر اهلل تعاىل يتلى يف �أفواه املتعبدين غ ِري املرائني‪،‬‬ ‫كالمه‪َ ،‬وما ُت ِّلذذ م�ستم ٌع ب�سما ِع ٍ‬ ‫وقراء ِة ِ‬
‫كالمه فكان �صو ُت ُه جمي ًال �شد ّي ًا‪ ،‬وقد كان ي�س ّبح اهلل‬ ‫لذا كان داود‪a‬يطيل القراءة لكتاب اهلل تعاىل ويتلوا َ‬
‫ويثني عليه فت�سبح الطيور واجلمادات بت�سبيحه‪a‬وقد ذكر اهلل ذلك يف كتابه فقال �سبحانه‪َ } :‬و َ�س َّخ ْر َنا‬
‫الط رْ َي َو ُك َّنا َف ِاع ِلنيَ{ فبينّ ُ‬
‫خطبة جديدة‬

‫�سخ َر الط َري واجلبال ت�سبح مع نب ِّيه‬ ‫اهلل ج َّل وعال �أ ّنه َّ‬ ‫َم َع َدا ُوو َد الجْ ِ َب َال ُي َ�س ِّب ْحنَ َو َّ‬
‫الط رْ َي َو�أَ َل َّنا َل ُه الحْ َ ِد َيد{ فقوله‬
‫داود‪ ،a‬وقال �سبحانه‪َ } :‬و َل َق ْد �آ َت ْي َنا َدا ُو َد ِم َّنا َف�ضْ ًال َيا ِج َب ُال �أَ ِّو ِبي َم َع ُه َو َّ‬
‫الط رْ َي{ �أي ونادينا الطري مبثل ذلك من ترجيح الت�سبيح‬ ‫رجعي معه الت�سبيح‪َ } .‬و َّ‬ ‫�سبحانه‪�} :‬أَ ِّو ِبي َم َعهُ{ �أي ِّ‬
‫معه‪.‬‬

‫ وكذلكم عباد اهلل! ف�إنّ َمن َذ َك َر َ‬


‫اهلل تعاىل من املتع ّبدين ف�إ ّنه �شبي ٌه بداو َد‪ a‬يف ال�صحيحني �أن النبي‬
‫‪ s‬قال لأبي ُمو�سى الأ�شعري‪ « :d‬يا �أبا مو�سى لقد �أُوتيت مزمار ًا من مزامري �آل داود »؛ �أي �صوت ًا ح�سن ًا‬
‫ُي�شبه ما �أُعطيه داود‪a‬من ح�سن ال�صوت‪.‬‬

‫ِومن ِذ ْك ِر داود‪ a‬مع لهجه بالت�سبيح والقراءة �أ ّنه كان يدعو بجوامع الدعا ِء املحتوي ِة على املعاين‬ ‫ ‬

‫‪379‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حكم داود‬

‫النبي‪َ s‬ق َال‪َ « :‬كانَ ِمنْ د َُعا ِء َدا ُو َد‬ ‫وح�سنه َعنْ �أَ ِبى ال َّد ْر َدا ِء‪�d‬أن َّ‬ ‫العظيمة واملقا�صد اجلليل روى الرتمذي ّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ل ِمنْ‬ ‫ول‪ :‬ال َّل ُه َّم �إِنيِّ �أَ�سْ�أَ ُل َك ُح َّب َك َو ُح َّب َمنْ ُي ِح ُّب َك‪َ ،‬وا ْل َع َم َل ا َّل ِذي ُي َب ِّل ُغ ِني ُح َّب َك‪ ،‬ال َّل ُه َّم ْاج َع ْل ُح َّب َك �أَ َح َّب �إِ ىََّ‬
‫َي ُق ُ‬
‫َن ْف ِ�سي َو َ�أ ْه ِلي َو ِمنَ المْ َا ِء ا ْل َبا ِر ِد»‪.‬‬

‫هلل و�أح َّ��ب �أوليا َئه وال َ‬


‫أعمال‬ ‫ َما �أ�شمل هذا الدعاء خلريي الدنيا والآخ��رة‪ ،‬ف���إذا ُرزق العب ُد حم ّبة ا ِ‬
‫أهل وال‬ ‫ال�صاحلة التي يحبها اهلل تعاىل ف�إ ّنها ت�س ُه ُل عليه ويلت ُّذ ب�أدائها وال ُي�شغل عنها ب�شيءٍ ال ِمن ٍ‬
‫مال وال � ٍ‬
‫ل ِمنْ َن ْف ِ�سي َو�أَ ْه ِلي َو ِمنَ المْ َا ِء ا ْل َبا ِر ِد»‪.‬‬
‫غريهما؛ حتى قال داود‪ « :a‬ال َّل ُه َّم ْاج َع ْل ُح َّب َك �أَ َح َّب ِ�إ ىََّ‬

‫ ومن دعائه ما روى الإمام �أحمد يف (الزهد) عن ُعم َر بن عبد الرحمن بن دربه قال‪( :‬بلغني �أنه كان‬
‫ن�سى‪ ،‬وال تغنني ف�أَط َغى)‪.‬‬
‫من دعاء داود ‪ :a‬اللهم ال ُتف ِقرين ف�أَ َ‬
‫اهلل منزل ًة و�سط ًا بني الغنى املط ِغي‪ ،‬والفقر املن�سي‪ ،‬فال هو يطغى بكرثة املال فيتكبرّ يف ِ‬
‫نف�سه‬ ‫ ف�س�أل َ‬
‫و�سع اهلل عليه بحث عن �إنفاق املال يف مال ّذه ف�صر َفه يف �أمو ٍر ال ينف ُع ُه كث ٌ‬
‫ري‬ ‫�أو يطغى بالإ�سراف فيه ف�إنّ َمن ّ‬
‫منه يف دي ِنه وال دنياه‪ .‬كما ا�ستعاذ باهلل من الفقر الذي ُي�ش ِغل �صاح َبه عن الطاعة و ُين�سيه ِذ ْك َر اهلل‪ ،‬ففي‬
‫هذا فيه �صالح الدين والدنيا مع ًا‪.‬‬

‫ و�أخرج ابن �أبي �شيبه و�أحمد عن احل�سن قال‪( :‬كان داود‪a‬يقول ‪ :‬اللهم ال مر�ض يفنيني‪ ،‬وال �صحة‬
‫ال�صحة‬
‫ّ‬ ‫لنف�سه لأنه ُي�شغله ويفنيه‪ ،‬وال يرجو دوام‬ ‫اهلل َ‬
‫املر�ض ِ‬ ‫تن�سيني ولكن بني ذلك)‪ .‬فامل�سلم ال ي�س�أل َ‬
‫مطلق ًا �إذ امل�ؤمنُ مبتلى يف بدنه وما ِله و�أهله دائم ًا‪.‬‬

‫ �إنّ دعاء داود‪a‬مل يكن بت�شقيق الكالم وال بجمال ال�صوت و�إمن��ا مبا وقر يف القلب من ا خل�شوع‬
‫والإنابة‪ ،‬روى الإمام �أحمد عن �أبي اجللد‪� :‬أن داود‪�a‬أمر مناديا فنادى‪" :‬ال�صال َة جامعة"‪ ،‬فخرج النا�س‬
‫أديب ودعاء‪ ،‬فل َّما رقي مكانه قال‪ " :‬اللهم اغفر لنا "‪ ،‬وان�صرف‬ ‫وهم يرون �أنه �سيكون منه يومئذ موعظة وت� ٌ‬
‫النبي �إمنا دعا بدعو ٍة واحدة‪ ،‬ف�أوحى اهلل تعاىل �إليه‪:‬‬ ‫فا�ستقبل �آخ ُر النا�س �أوائ َلهم قالوا‪ :‬ما لكم ! قالوا‪� :‬إن َّ‬
‫قومك عني ف�إنهم قد ا�ستقلوا دعاءك �إين َمن �أغ ِف ْر له ُ�أ�صلح له �أَم َر �آخر ِته ودنياه)‬ ‫(�أن �أبلغ َ‬

‫احلكمة التي �أَو�صى بها داود‪a‬امل�ؤمنني فكانت ذكرى وعرب ًة لهم من‬ ‫بع�ض ِ‬ ‫ عباد اهلل! ولقد جاءنا ُ‬
‫أرخ لها �سمعك و�أ�ص ِغ بقلبك؛ روى البخاري يف (الأدب املفرد)‬ ‫نبي �آتاه اهلل احلكمة وف�صل اخلطاب‪ ،‬ف� ِ‬ ‫ٍّ‬
‫�صحيح عن عبد الرحمن بن �أ ْبزَ ى‪� :‬أنّ داود‪a‬قال‪( :‬كن لليتيم كالأب الرحيم‪ ،‬واعلم �أنك كما‬ ‫ٍ‬ ‫ب�إ�سناد‬
‫حت�صد‪ ،‬ما �أقبح الفق َر بعد ال ِغنى‪ ،‬و�أك ُرث ِمن ذلك �أو � ُ‬
‫أقبح ِمن ذلك ال�ضَّ الل ُة بعد الهدى‪ ،‬و�إذا‬ ‫تزرع كذلك ُ‬
‫وعدتَ �صاح َبك ف�أجنز له َما وعدته ف�إن ال تفعل ي�ؤرث بينك وبينه عداوة‪ ،‬وتعوذ باهلل من �صاحب �إن ذكرت‬
‫مل يعنك و�إن ن�سيت مل يذكرك)‪.‬‬

‫لفظ عند البيهقي يف (ال�شعب)‪ « :‬و�إن املر�أة ال�صاحلة لبعلها كامللك املتوج بالتاج املخو�ص بالذهب‪،‬‬ ‫ ويف ٍ‬
‫كاحل ْم ِل ال َّثقيل على ظهر ال�شَّ يخ ال�ضعيف‪ ،‬واعلم �أن ُخطب َة الأحمق يف نادي‬
‫ال�سو َء لبع ِلها ِ‬
‫واعلم �أن املر�أة َّ‬
‫‪380‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حكم داود‬

‫القوم كاملُتغ ِّني عند ر�أ�س امليت »‪.‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ال�صادق طالب‬
‫ِ‬ ‫ �إنّ هذه الو�صية اجلامعة اجلليلة ملِن �أنفع الو�صايا و�أج ّلها َملن ت�أ ّمل فيها‪ ،‬و َن َظ َر نظر‬
‫ونربا�س معا�شرته النا�س جميع ًا‪.‬‬‫ُ‬ ‫منهاج تعامل ال�شخ�ص مع غ ِريه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الإفادة‪ ،‬ففيها‬

‫ومما جاء عنهرما ُروي �أنّ داودرقال‪ « :‬يا مع�شر الأبناء‪ ،‬تعالوا حتى �أعلمكم خ�شية اهلل جل ثنا�ؤه‪� ،‬أميا‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫أحب �أن يحيا ويرى الأيام ال�صاحلة فليحفظ عينيه �أن ينظر �إىل �سوء‪ ،‬ول�سانه �أن ينطق بالإفك »‪.‬‬ ‫عبد منكم � َّ‬
‫نعم �إنّ مدخل ُج ِّل ال�شرور على الآدمي �إما �أن يكون من ِ‬
‫نظره‪� ،‬أو من ل�سانه؛ كما قال ج ّل وعال‪�ِ } :‬إنَّ َّ‬
‫ال�س ْم َع‬
‫َوا ْل َب َ�ص َر َوا ْل ُف َ�ؤا َد ُك ُّل �أُولـ ِئ َك َكانَ َع ْن ُه َم�سْ�ؤُو ًال{‪ .‬ف َمن ُكفي �ش ّرهما فقد جنا‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪381‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫حول األسهم‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬حول األسهم‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن حديث ال�ساعة‪ ،‬وخرب املجال�س ما مت ُّر به �سوق املالية الدولية والإقليمية من خ�سائ َر فادح ٍة‪،‬‬
‫فذهبت �أموال‪ ،‬وخ�سرت م�صارف‪ ،‬و�أفل�ست �شركات؛ حتى غدا احلديثُ عنها �سم َة حديث النا�س يف �أنديتهم‬
‫ال�صحف و�أوائل الأخبار‪.‬‬
‫ِ‬ ‫واجتماعهم‪ ،‬وت�ص َّدرت �أخبا ُرها �صدو َر‬

‫من�صب‪،‬‬ ‫�صب ِ‬ ‫نف�سه ب�سببها‪ .‬فهو يف عناءٍ ُمعنٍّ ‪ ،‬و َن ٍ‬ ‫فمر�ض‪� ،‬أو فقد عق َله‪� ،‬أو �أه َله‪� ،‬أو َ‬ ‫خ�سر ِ‬ ‫و�سمع ع َّمن ِ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫مكد‪ .‬ولي�س ذلك ببعيد ف�إن املال �صنو الروح‪ ،‬وقري ُنه‪ ،‬وزين ُة الدنيا؛ �أمل يقل اهلل عز وجل‪ُ } :‬ز ِّينَ‬ ‫وتعب ٍّ‬‫ٍ‬
‫الذ َه ِب َوا ْل ِف�ضَّ ِة َوالخْ َ ْي ِل المْ ُ َ�س َّو َم ِة َوالأَ ْن َع ِام‬ ‫ا�س ُح ُّب ال�شَّ َه َو ِات ِمنَ ال ِّن َ�ساء َوا ْل َب ِن َني َوا ْل َق َن ِاط ِري المْ ُ َق َ‬
‫نط َر ِة ِمنَ َّ‬ ‫ِلل َّن ِ‬
‫مقام �إفتاءٍ ‪ ،‬وال حتليل مايل‪ ،‬وال‬ ‫املقام َ‬ ‫الل ِع َند ُه ُح ْ�سنُ المْ َ� ِآب{‪ .‬ولي�س ُ‬ ‫َوالحْ َ ْر ِث َذ ِل َك َمتَا ُع الحْ َ َيا ِة ال ُّد ْن َيا َو هَّ ُ‬
‫تنظري �سيا�سي‪.‬‬

‫وقفات مع ثالثة �أحاديث يح�سنُ بامل�سلم الوقف عندها‪ ،‬والت�أمل فيها دائم ًا‪� ،‬إذ امل�ؤمن م�أمو ٌر‬ ‫ثالث ٍ‬ ‫‪ w‬ولكن ُ‬
‫باالعتبار والتذ ّكر؛ } َق ْد َخ َل ْت ِمن َق ْب ِل ُك ْم ُ�سننَ ٌ َف ِ�س ُريو ْا فيِ الأَ ْر ِ�ض َفا ْن ُظ ُرو ْا َك ْي َف َكانَ َعا ِق َب ُة المْ ُ َك َّذ ِبنيَ{‪.‬‬

‫وح�سنه عن عبيد اهلل بن حم�صن اخلطمي‪�d‬أن ر�سول‬‫۩ ۩الوقفة الأوىل‪ :‬ما روى ابن ماجه والرتمذي َّ‬
‫قال‪(:‬من �أ�صبح �آمن ًا يف �سربه‪ ،‬معافى يف بدنه‪َ ،‬‬
‫عنده قوتُ يومه فك�أمنا حيزت له الدنيا‬ ‫َ‬ ‫اهلل‪s‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫بحذافريها)‪.‬‬

‫طعام وك�سوة‬
‫يومه من ٍ‬ ‫�صحيح البدن‪ ،‬غ َري م�شتكي من ع َّلة‪ ،‬مي ِل ُك قوتَ ِ‬
‫َ‬ ‫رخي البال‪،‬‬ ‫نف�سه َّ‬ ‫أ�صبح يف ِ‬
‫ ف َمن � َ‬
‫الهم‬ ‫وم�سكن فقد جمعت له الدنيا جميع ًا‪ .‬فما زاد عن ذلك فهو من التكاثر الذي ي�شغل َ‬
‫النا�س و ُيك�سبهم َّ‬
‫الغم كما قال تعاىل‪�} :‬أَ ْل َها ُك ُم ال َّت َكا ُث ُر{ َحتَّى ُزرْتمُ ُ المْ َ َقا ِب َر{‪ ،‬وروى ابن ماجه (‪ )4106‬عن زيد بن ثابت �أن‬
‫ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬من كانت الدنيا ه َّمه فرق اهلل عليه �أمره وجعل فقره بني عينيه ومل ي�أته من الدنيا �إال‬
‫ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع له �أمره وجعل غناه يف قلبه و�أتته الدنيا وهي راغمة)‪.‬‬

‫ فالدنيا يف يد امل�ؤمن ال يف قلبه‪ ،‬فمهما نق�صت يف يده ف�إن قل َبه مليء بالغنا باهلل تعاىل؛ فال يجزع وال‬
‫ي�سخط‪ ،‬وال يغتم وال يحزن‪ .‬ف�إن زاد حمد اهلل و�أدى حقَّ اهلل فيه‪ ،‬و�إن نق�ص تذكر نعمة ا ِ‬
‫هلل عليه �إذ هو‬
‫�سبحانه َمن �أعطاه ابتداء‪.‬‬
‫‪382‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حول األسهم‬

‫ و�أما َمن كاثر املال لذاته و�أ�ضاع الوقت يف جمعه وعدِّ ه ف�إنه يكون �شغ َله �شاغل‪ ،‬وهم َه الدائم‪ ،‬فاله ُّم‬
‫�ضجي ُعهُ‪ ،‬وا ُ‬
‫حلزْ نُ لز ُميه‪ ،‬طار الرقاد عن عينه‪ ،‬وتوزعه ال ِفكر‪ ،‬وتقا�سمته الغموم‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ روى ال�شيخان عن �أبي �سعيد اخلدري‪d‬قال قال ر�سول اهلل‪�( :s‬إن �أكرث ما �أخاف عليكم َما ُي ِ‬
‫خر ُج‬
‫اهلل لكم من َب َر َكات الأر�ض) قيل‪ :‬وما بركات الأر�ض؟ قال‪( :‬زهرة الدنيا) فقال له رجل‪ :‬هل ي�أتي اخل ُري‬
‫ظننت �أنه ُينزل عليه ثم جعل مي�سح عن جبينه فقال �أين ال�سائل ؟ قال �أنا‪.‬‬ ‫بال�شر؟ ف�صمت النبي‪s‬حتى ُ‬
‫املال َخ ِ�ض َر ٌة ُحلوة‪ ،‬و�إن كل َما �أنبت الربيع يقتل َح َب َطا �أو ُي ِلم �إال‬
‫قال‪( :s‬ال ي�أتي اخلري �إال باخلري �إن هذا َ‬
‫خل ِ�ضر �أكلت حتى �إذا امتدت خا�صرتاها ا�ستقبلت ال�شم�س فاجرتت وثلطت وبالت ثم عادت ف�أكلت‪،‬‬ ‫�آكلة ا َ‬
‫و�إن هذا املال حلوة من �أخذه بحقه وو�ضعه يف حقه فنعم املعونة هو ومن �أخذه بغري حقه كان كالذي ي�أكل وال‬
‫ي�شبع)‪.‬‬

‫ فبينَّ النبي ‪�s‬أن ما يح�صل من زه��رة الدنيا لي�س بخري و�إمن��ا هو فتنة ملا ت���ؤدى �إليه من الفتنة‬
‫واملناف�سة واال�شتغال بها عن كمال الإقبال على الآخرة‪ ،‬ثم �ضرب لذلك مث ًال معناه �أن نبات ال َّربيع الأخ�ض َر‬
‫َيق ُت ُل البهيم َة بالتُّخمة لكرثة الأكل �أو يقارب القتل �إال �إذا اقت�صرت منه على الي�سري الذي تدعو �إليه احلاجة‬
‫وحت�صل به الكفاية املقت�صدة فانه ال ي�ضر‪ ،‬وهكذا املال هو كنبات الربيع ُم�ستَح�سن تطلبه النفو�س ومتيل‬
‫�إليه فمنهم من ي�ستكرث منه وي�ستغرق فيه غ َري �صارف له يف وجوهه فهذا ُيهلكه �أو يقارب �أهال َكه‪ ،‬ومنهم‬
‫من يقت�صد فيه فال ي�أخذ �إال ي�سريا و�إن �أخذ كثريا ف َّرقه يف وجوهه كما تثلطه الدابة (�أي جترت) فهذا ال‬
‫ي�ضره‪.‬‬

‫(ما خالطت ال�صدق ُة‬


‫�سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫۩ ۩الوقفة الثانية‪ :‬روى الإمام �أحمد عن عائ�شة‪g‬قالت‬
‫احلرام احلالل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َما ًال ُّ‬
‫قط �إال �أهلكته)‪ ،‬قال‪ :‬قد يكون قد وجب عليك يف مالك �صدقة فال تخرجها ف ُيهلك‬

‫وهالكه عدم العمل فيه مبا �أمر اهلل ع َّز وجل‪َ .‬كم ِمن امرءٍ‬ ‫ِ‬ ‫ عباد اهلل! �إن من �أعظم �أ�سباب تلف املال‬
‫منع حقَّ اهلل تعاىل يف املال الذي رز ِقه رغبة املكاثرة فيه ورجاء يف اكت�ساب فوائده و�أرباحه فكان ت�أخريه‬
‫للزكاة ناهيك عن منعها �سبب ًا لهالك املال وتلفه‪ .‬روى الطرباين (م�سند ال�شاميني رقم ‪ )18‬عن عبادة بن‬
‫احلطيم مبكة‪ ،‬فقيل‪ :‬يا ر�سول اهلل �أَتَى على َمال فالن‬ ‫ال�صامت‪d‬قال �أُتي ر�سول اهلل ‪s‬وهو قاع ٌد يف َ‬
‫بحر وال ٍبر �إال َمبن ِع ال َّز َكاة‪ ،‬فحرزوا �أموا َلكم‬
‫(ما َت ِل َف ما ٌل يف ٍ‬
‫ن�سيف البحر فذهب به‪ .‬فقال ر�سول اهلل‪َ :s‬‬ ‫ُ‬
‫طوارق البالء بالدعاء؛ ف�إن الدعاء ينفع مما نزل ومما‬ ‫َ‬ ‫بالزكاة‪ ،‬وداووا مر�ضاكم بال�صدقة‪ ،‬وادفعوا عنكم‬
‫مل ينزل‪ ،‬ما نزل يك�ش ُفه َوما مل ينزل ُ‬
‫يحب�سه)‪.‬‬

‫ َكم من امرءٍ َر ِغ َب يف املكاثرة يف ما ِله ف�أخذ قرو�ض ًا ربوية‪ ،‬وت�سهيالت بنكية رجاء ٍ‬
‫ربح �سريع‪ ،‬وزيادة‬
‫ات{؛ قال ابن عبا�س‪}:d‬‬ ‫}ي َحقُ هَّ ُ‬
‫الل ا ْل ِّر َبا َو ُي ْر ِبي ال�صَّ َد َق ِ‬ ‫يف ما ِله ومنائه؛ وت�صامم عن قول اهلل تعاىل‪ :‬مَْ‬
‫ميحق اهلل الربا{ قال ُين ِق ُ�ص الربا‪ ،‬وروى الإمام �أحمد وابن ماجه واحلاكم و�صححه عن ابن م�سعود �أن‬

‫‪383‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬حول األسهم‬

‫النبي‪s‬قال‪�( :‬إن الربا و�إن كرث ف�إن عاقبته ت�صري �إىل قل)‪ ،‬وروى َعب ُد الرزاق عن َمعمر قال‪�( :‬سمعنا �أنه‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال ي�أتي على �صاحب الربا �أربعون �سنة حتى ميحق)‪.‬‬

‫ َكم ِمن امرءٍ �أ�ضاع وقت عم ِله الر�سمي الذي ي�أخذ عليه �أُجرتَه وقوته ِمن �أجل �أن يذهب ل ُي َ�ضارب يف‬
‫وعطل �أعمالهم وخالف �أوامر ويل الأمر؛ روى م�سلم‬ ‫�سوق املال يف �أثناء وقت العمل‪ ،‬ف�أ�ضاع حوائج امل�سلمني َّ‬
‫يف ال�صحيح عن عائ�شة‪�g‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬اللهم من ويل من �أمر �أمتي �شيئا ف�شق عليهم فا�شقق عليه‬
‫تول عم ًال ف�أ�ضاعه مل�صلحته فقد دعا عليه النبي‬ ‫ومن ويل من �أمر �أمتي �شيئا فرفق بهم فارفق به)‪ .‬ف َمن ىَّ‬
‫‪s‬ب�أن ي�شقَّ اهلل عليه‪.‬‬

‫۩ ۩الوقفة الثالثة‪ :‬ما ثبت يف ال�صحيحني عن النعمان بن ب�شري‪d‬قال �سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪�( :‬إن‬
‫احلالل بني واحلرام بني‪ ،‬وبني ذلك �أمور م�شتبهات فمن اتقى ال�شبهات ا�سترب�أ لدينه وعر�ضه ومن وقع‬
‫يف ال�شبهات وقع يف احلرام كالراعي يرعى حول احلمى يو�شك �أن يرتع فيه)‪.‬‬

‫ فاملال كما �أن ِمنه حال ٌل وحرام ف�إن ِمنه ما هو م�شتب ٌه بني ذلك جعله اهلل ليميز َ‬
‫النا�س ويفارق بني‬
‫أقرب و�أدنى للوقوع‬ ‫العباد فيه‪ ،‬ف َمن اجتنبها هلل وفارقها كان ِمنه �سبحانه �أقرب‪َ ،‬ومن قارفها كان للحرام � َ‬
‫فيه‪.‬‬
‫احلل؛ فروى الإمام �أحمد عن جابر‪�d‬أن النبي‪�ُ s‬سئل عن َك ْ�س ِب‬ ‫ بل �إن املال احلالل على درجات يف ِّ‬
‫احلجام فقال‪�( :‬أعلفه نا�ضحك)‪.‬‬ ‫َّ‬

‫ وهذا احلديث من النبي‪s‬ب�إعطاء �أجرة احلجامة للنا�ضح وهو البعري الذي ي�أتي باملاء من البئر‪ ،‬مع‬
‫اتفاق اجلمهور على حل ِّ �أجرة احلجامة لأن النبي‪s‬احتجم و�أعطى احلجام �أجرة يد ُّل على �أن املال و�إن‬
‫امل�سلم للبحث عن �أطيب الك�سب له ولأهل بيته الذي ال �شبهة فيه وال‬
‫ُ‬ ‫ُو�صف باحلل‪� ،‬إال �أنه درجات في�سعى‬
‫َريبة‪ ،‬ع�سى اهلل �أن يبارك له فيه‪.‬‬

‫ و�أخري ًا‪ :‬ليع َلم امل�ؤمن �أنه لي�س من ِ‬


‫الدين يف �شيء ال�شمات ُة بالآخرين‪ ،‬ف�إن هذه الأزمة املالية فكما �أنها‬
‫امل�شرقي �أي�ض ًا‪ ،‬وع ّمت ال�صالح والطالح‪ ،‬واكتوى ب َل َظاها ُج ُّل بلدان العامل �إن‬
‫ُّ‬ ‫�ض ّرت الغربي فقد ت�ضرر بها‬
‫يف احلال �أو يف ال ِآن‪.‬‬

‫نَّب�أَ َها ِ�إنَّ َذ ِل َك َع َلى هَّ ِ‬


‫الل‬ ‫َاب ِّمن َق ْب ِل �أَن رْ َ‬ ‫اب ِمن ُّم ِ�صي َب ٍة فيِ الأَ ْر ِ�ض َوال فيِ �أَن ُف ِ�س ُك ْم ِ�إالَّ فيِ ِكت ٍ‬ ‫}ما �أَ َ�ص َ‬
‫َ‬ ‫ ‬
‫ري{ ِل َك ْيال َت�أْ َ�س ْوا َع َلى َما َفا َت ُك ْم َوال َت ْف َر ُحوا بمِ َ ا �آتَا ُك ْم َو هَّ ُ‬
‫الل ال ُي ِح ُّب ُك َّل مخُْ ت ٍَال َف ُخو ٍر{ا َّل ِذينَ َي ْب َخ ُلونَ‬ ‫َي ِ�س ٌ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫َو َي�أْ ُم ُرونَ ال َّن َ‬
‫ا�س ِبا ْل ُب ْخ ِل َو َمن َي َت َو َّل َف�إِنَّ الل هُ َو ا ْل َغ ِن ُّي الحْ َ ِميدُ{‬

‫‪384‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ختم األعمال باالستغفار‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫ختم األعمال باإلستغفار‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫ويحب �إنابتَهم وطلبهم العفو؛ جاء يف حديث �سلمان‪d‬مرفوع ًا‪:‬‬ ‫يحب اال�ستغفار من عبيده‪ُّ ،‬‬
‫ ف�إن اهلل ُّ‬
‫(اخل�صلتان اللتان تر�ضون بهما ربكم ف�شهادة �أن ال �إله �إال اهلل‪ ،‬واال�ستغفار)‪.‬‬

‫ وقد ُ�شرع اال�ستغفار بعد االنتهاء من العبادات؛ ف�إن كانت ذكر ًا كان كالطابع عليه‪ ،‬و�إن كانت لغو ًا‬
‫كان كفارة لها‪ ،‬فا�ستغفار العبد بعد عمله الطاعة �إقرار منه بق ّلة عمله وحاجته ملغفرة ر ّبه‪ ،‬وهي �إقرا ٌر ِمنه‬
‫مق�ص ٌر وال ُب َّد‪ ،‬فال ُب َّد ِمن �سه ٍو‬ ‫بق�صوره‪ ،‬وق ّلة حيلته‪ ،‬و�أنه مهما اجتهد يف الطاعة‪ ،‬وبذل يف التع ّبد هلل ف�إنه ّ‬
‫ون�سيان وغفل ٍة وق�صور؛ يقول اهلل ج ّل وعال‪َ } :‬فا ْق َر�ؤُوا َما َت َي َّ�س َر ِم ْن ُه َو�أَ ِقي ُموا ال�صَّ ال َة َو�آ ُتوا ال َّز َكا َة َو�أَ ْق ِر ُ�ضوا‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬
‫ا�س َت ْغ ِف ُروا الل �إِنَّ‬ ‫هَّ‬
‫الل هُ َو َخ رْي ًا َو�أَ ْع َظ َم �أَ ْجر ًا َو ْ‬ ‫هَّ َ‬
‫الل َق ْر�ض ًا َح َ�سن ًا َو َما ُت َقدِّ ُموا لأَن ُف ِ�س ُكم ِّمنْ َخ رْ ٍي تجَ ِ دُو ُه ِع َند ِ‬
‫الل َغ ُفو ٌر َّر ِحي ٌم{‪ .‬ف�أمر باال�ستغفار بعد هذه الطاعات ك ِّلها‪.‬‬ ‫هَّ َ‬

‫ي�ضو ْا ِمنْ َح ْيثُ �أَ َف َ‬


‫ا�ض ال َّن ُ‬
‫ا�س‬ ‫عرفات وامل�شعر احلرام‪ُ } :‬ث َّم �أَ ِف ُ‬
‫ٍ‬ ‫اهلل باال�ستغفار بعد الإفا�ضة من‬ ‫ وقد �أمر ُ‬
‫الل �إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َغ ُفو ٌر َّر ِحي ٌم{‪.‬‬ ‫ا�س َت ْغ ِف ُرو ْا هَّ َ‬
‫َو ْ‬
‫خطبة جديدة‬

‫حلكم بني النا�س يف اخل�صومات } ِ�إ َّنا �أَنزَ ْل َنا ِ�إ َل ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫َاب ِبالحْ َ ِّق ِلت َْح ُك َم َبينْ َ‬ ‫اهلل بعد ا ُ‬ ‫ كما �أمر به ُ‬
‫الل َكانَ َغ ُفو ًرا َّر ِحي ًما{‬ ‫الل �إِنَّ هَّ َ‬
‫ا�س َت ْغ ِف ِر هَّ َ‬ ‫اك هَّ ُ‬
‫الل َو َال َت ُكن ِّل ْل َخ�آ ِئ ِن َني َخ ِ�صي ًما{ َو ْ‬ ‫ا�س بمِ َ ا �أَ َر َ‬
‫ال َّن ِ‬

‫ وكان ‪�s‬إذا انفتل ِمن �صالته ا�ستغفر اهلل ثالث ًا قبل �أن يتح ّول ِمن مكانه‪ .‬وكان‪�s‬إذا قام ِمن املجل�س‬
‫(من جل�س يف جمل�س فكرث فيه لغطه‬ ‫خت َمه باال�ستغفار‪ ،‬فروى الرتمذي عن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪َ :‬‬
‫فقال قبل �أن يقوم من جمل�سه ذلك �سبحانك اللهم وبحمدك �أ�شهد �أن ال �إله �إال �أنت ا�ستغفرك و�أتوب �إليك‬
‫�إال غفر له ما كان يف جمل�سه ذلك)‪.‬‬

‫‪385‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ختم األعمال باالستغفار‬

‫ و�شرع اال�ستغفار يف ختام العمر ‪ ،‬ويف حالة الكرب ‪ ،‬فقال اهلل تعاىل لنبيه‪s‬عند اقرتاب �أجله‪�} :‬إذا‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫جاء ن�صر اهلل والفتح ور�أيت النا�س يدخلون يف دين اهلل �أفواجا ف�سبح بحمد ربك وا�ستغفره �إنه كان توابا{‪.‬‬

‫ وكذا بعد �صيام رم�ضان وقيامه ف�إنه ُيختم باال�ستغفار‪ .‬كتب عمر بن عبد العزيز �إىل الأم�صار ي�أمرهم‬
‫�أن يختموا �صيام رم�ضان باال�ستغفار وال�صدقة‪� ،‬صدقة الفطر ف�إن �صدقة الفطر طهرة لل�صائم من اللغو‬
‫والرفث‪ ،‬واال�ستغفار ترفع ما تخرق من ال�صيام باللغو والرفث‪.‬‬

‫ وقال عمر بن عبد العزيز‪( :‬قولوا كما قال �أبوكم �آدم } َر َّب َنا َظ َل ْم َنا �أَ ْن ُف َ�س َنا َو�إِنْ مَْل َت ْغ ِف ْر َل َنا َو َت ْر َح ْم َنا‬
‫َل َن ُكو َننَّ ِمنَ الخْ َ ِا�س ِرينَ {‪ .‬وقولوا كما قال نوح‪َ } :‬و�إِ اَّل َت ْغ ِف ْر ليِ َو َت ْر َح ْم ِني �أَ ُكنْ ِمنَ الخْ َ ِا�س ِرينَ {‪ ،‬وقولوا كما‬
‫قال �إبراهيم‪َ }:‬وا َّل ِذي �أَ ْط َم ُع �أَنْ َي ْغ ِف َر ليِ َخ ِطي َئ ِتي َي ْو َم الدِّ ِين{‪ ،‬وقولوا كما قال مو�سى‪َ } :‬ق َال َر ِّب �إِنيِّ َظ َل ْم ُت‬
‫الظالمِ ِنيَ{)‪.‬‬ ‫}ل �إِ َل َه �إِ اَّل �أَ ْن َت ُ�س ْب َحا َن َك �إِنيِّ ُك ْن ُت ِمنَ َّ‬
‫َن ْف ِ�سي َف ْاغ ِف ْر ليِ {‪ ،‬وقولوا كم قال ذو النون اَ‬

‫َاعا َح َ�س ًنا ِ�إ ىَل‬ ‫جالب للخري‪ ،‬داف ٌُع لل�شر‪َ } ،‬و�أَ ِن ْ‬
‫ا�س َت ْغ ِف ُرو ْا َر َّب ُك ْم ُث َّم ُتو ُبو ْا ِ�إ َل ْي ِه مُ َي ِّت ْع ُكم َّمت ً‬ ‫ �إنَّ اال�ستغفار ٌ‬
‫اب َي ْو ٍم َك ِب ٍري{‪ ،‬وقال نوح‪َ } :‬ف ُق ْل ُت‬ ‫اف َع َل ْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫�أَ َج ٍل ُّم َ�س ًّمى َو ُي�ؤْ ِت ُك َّل ِذي َف�ضْ ٍل َف�ضْ َل ُه َو ِ�إن َت َو َّل ْو ْا َف ِ�إنيِّ َ �أَ َخ ُ‬
‫ال�س َماء َع َل ْي ُكم ِّم ْد َرا ًرا{ َو مُْي ِد ْد ُك ْم ِب�أَ ْم َو ٍال َو َب ِن َني َو َي ْج َعل َّل ُك ْم َج َّن ٍات‬ ‫ا�س َت ْغ ِف ُروا َر َّب ُك ْم �إِ َّن ُه َكانَ َغ َّفا ًرا{ ُي ْر ِ�س ِل َّ‬ ‫ْ‬
‫ا�س َت ْغ ِف ُرو ْا َر َّب ُك ْم ُث َّم ُتو ُبو ْا �إِ َل ْي ِه ُي ْر ِ�س ِل َّ‬
‫ال�س َماء َع َل ْي ُكم ِّم ْد َرا ًرا‬ ‫َو َي ْج َعل َّل ُك ْم �أ ْن َها ًرا{‪ ،‬وقال هود ‪َ } :‬و َيا َق ْو ِم ْ‬ ‫َ‬
‫َو َي ِز ْد ُك ْم ُق َّو ًة �إِ ىَل ُق َّو ِت ُك ْم َو َال َت َت َو َّل ْو ْا مجُْ ِر ِمنيَ{‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬

‫‪386‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ختم األعمال باالستغفار‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪387‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫خري الناس‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬خري الناس‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫أمدح ما ُمدح به امر�ؤٌ‪ ،‬و�أعلى ما �أُثني عليه به �أن ُيقال عنه‪ :‬هو خ ُري النا�س و�أكم ُلهم و�أ ُّ‬
‫متهم‪.‬‬ ‫ف�إن � َ‬

‫ال�س ْبقُ حق ًا‪� ،‬إذ النا�س �سوا�سي ٌة ك�أ�سنان امل�شط‪ ،‬غري �أن َ‬
‫بع�ضهم‬ ‫النا�س باخلريية لهي َّ‬
‫ �إن التق ُّد َم على ِ‬
‫َي�سبق بع�ض ًا يف اخلريية‪ ،‬ويتق ّدمه يف الف�ضل‪ ،‬وتلك �سنة اهلل يف خلقه كما قال ج َّل وعال‪ :‬هَّ ُ‬
‫}الل َي�صْ َط ِفي ِمنَ‬
‫المْ َال ِئ َك ِة ُر ُ�س ًال َو ِمنَ ال َّن ِ‬
‫ا�س{‪.‬‬

‫ ال ُيقال ل�شخ�ص �إنك خ ُري النا�س روى البخاري (‪ )3094‬و�أحمد واللفظ له عن �أ�سامة بن زيد‪d‬قال‪:‬‬
‫علي �أمري ًا بعد حديث �سمعته من ر�سول اهلل‪.)s‬‬
‫لرجل �إنك خري النا�س و�إن كان َّ‬
‫(واهلل ال �أقول ٍ‬

‫وحالهم‪ ..‬ف�أُنب� َؤك �أن ال�صحابة‪�f‬س�ألوا النبي‪s‬‬


‫ف�إن قيل‪َ :‬من هم خري النا�س ؟ وما هي �صفاتهم ُ‬ ‫ ‬
‫هذا ال�س�ؤال ف�أجابهم‪..‬‬

‫وال�سنة نعوت ًا خلري النا�س و�أكم ِلهم و�أمتهم‪ .‬ف�إن‬


‫ ‪ w‬و�إليك يا رعاك اهلل ع�شر �صفات جاءت يف الكتاب ُّ‬
‫أثنيت على امرءٍ فانظر هل هذه ال�صفاتُ فيه‪.‬‬
‫� َ‬

‫ا�س{‪ .‬فمهما �أُتي املر ُء‬ ‫خطبة جديدة‬


‫۩ ۩ف�أو ًال‪ :‬خ ُري النا�س هم املُ�سلمون؛ قال اهلل تعاىل‪ُ } :‬كنت ُْم َخ رْ َي �أُ َّم ٍة �أُ ْخ ِر َج ْت ِلل َّن ِ‬
‫�شك }ا ْل َي ْو َم �أَ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم ِدي َن ُك ْم َو�أَتمْ َ ْم ُت‬
‫ناق�ص وال َّ‬ ‫من �صفات التمام‪ ،‬ونعوته‪ ،‬وقد ُحرم الإ�سالم فهو ٌ‬
‫ُ‬
‫قبل اهلل غ َريه‪َ } :‬و َمن َي ْب َت ِغ َغ رْ َي‬ ‫يت َل ُك ُم الإِ ْ�س َال َم{‪ ،‬فال دينَ �أ ّمت من هذا الدين‪ ،‬وال َي ُ‬ ‫َع َل ْي ُك ْم ِن ْع َم ِتي َو َر ِ�ض ُ‬
‫الإِ ْ�س َال ِم ِدي ًنا َف َلن ُي ْق َب َل ِم ْن ُه َوهُ َو فيِ ال ِآخ َر ِة ِمنَ الخْ َ ِا�س ِرينَ {‪.‬‬

‫۩ ۩وثاين �صفاتهم‪� :‬أنهم دعاة �إىل اهلل باحلكمة‪ ،‬ي�أمرون باملعروف وينهون عن املنكر‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫الل{‪ ،‬قال جماهد‪:‬‬ ‫وف َو َت ْن َه ْونَ َع ِن المْ ُن َك ِر َو ُت�ؤْ ِم ُنونَ ِب هَّ ِ‬ ‫} ُكنت ُْم َخ رْ َي �أُ َّم ٍة �أُ ْخ ِر َج ْت ِلل َّن ِ‬
‫ا�س َت�أْ ُم ُرونَ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫(كنتم خري النا�س للنا�س على هذا ال�شرط �أن ت�أمروا باملعروف وتنهوا عن املنكر وت�ؤمنوا باهلل)[تف�سري‬
‫الطربي ‪.]44/4‬‬

‫فخ ُري النا�س َمن ّ‬


‫دل النا�س على ال ُهدى ودين احلق ودعا �إليه قال �أبو هرير َة‪( :d‬كنتم خري النا�س‬ ‫ ‬
‫‪388‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬خري الناس‬

‫ال�سال�سل تدخلو َنهم اجلنة)[رواه البخاري ‪.]4281‬‬


‫للنا�س جتيئون بهم يف َّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫۩ ۩وثالث ال�صفات خري النا�س على ل�سان النبي‪� ..s‬أنهم ُيعنون بالقر�آن تعلُّم ًا وتعليما‪ ،‬روى ُم�سلم يف‬
‫�صحيحه �أن النبي‪s‬قال‪( :‬خ ُريكم من تع َّلم القر�آنَ وع ّلمه)‪.‬‬

‫ ف ُك ّلما كان املر ُء �أعنى بكتاب اهلل قراءة و�إقرا ًء‪ ،‬ودرا�س ًة وت�أم ًال‪ ،‬وتعلم ًا وتعليم ًا ُك ّلما كان ذلك دلي ًال‬
‫على خرييته على النا�س وتق ّدمهم عليهم‪�( :‬إن اهلل لريفع بهذا القر�آن �أقوام ًا وي�ضع �آخرين)‪.‬‬
‫۩ ۩و�صلة الرحم هي ال�صفة الرابعة من �صفات خري النا�س‪ .‬وقد ُجمعت ال�صفة مع الأو�صاف الثالثة‬
‫املتقدمة يف حديث رواه الإمام �أحمد (‪ )432/6‬عن درة بنت �أبي لهب قالت‪ :‬قام رجل �إىل النبي‪s‬‬
‫وهو على املنرب فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل �أي النا�س خري ؟ فقال‪( :‬خري النا�س �أقر�ؤهم‪ ،‬و�أتقاهم هلل عز وجل‪،‬‬
‫و�آ ُم َرهم باملعروف و�أنهاهم عن املنكر‪ ،‬و�أو�ص ُلهم للرحم)‪.‬‬

‫۩ ۩وال�صفة اخلام�سة‪ :‬هي الفقه يف الدين‪ ،‬واحلر�ص على معرفة �أحكام �شرع اهلل املتني‪ُ ،‬روى يف (م�سند‬
‫�أحمد ‪� :)431/6‬أن النبي‪�s‬سئل وهو على املنرب‪َ :‬من خري النا�س ؟ فقال‪�( :‬أفقههم يف دين اهلل‬
‫و�أو�صلهم لرحمه)‪.‬‬
‫ ‬
‫��راخ‪ ،‬بل ٌ‬
‫و�سط‬ ‫وجفا ٌة‪ ،‬وال ت�شد ٌد وال ت ٍ‬ ‫۩ ۩ومن �صفاتهم (وهي ال�صفة ال�ساد�سة)‪� :‬أنهم ٌ‬
‫و�سط ال غال ٌة ُ‬
‫�أوا�سط؛ قال علي‪( :d‬خري النا�س هذا النمط الأو�سط يلحق بهم التايل ويرجع �إليهم الغايل)[ابن‬
‫�أبي �شيبة ‪.]34498‬‬
‫ ‬
‫۩ ۩و�ساب ُع �صفاتهم‪� :‬أنهم �أح�سنُ النا�س �أخالق ًا‪ ،‬و�أ�سلمهم �صدر ًا‪ ،‬و�أكرمهم تعام ًال‪ ،‬حلم ًا وبذ ًال و�صدق‬
‫ل�سان‪ ،‬فعن جابر بن �سمرة‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪�( :‬إن الفح�ش والتفاح�ش لي�سا من الإ�سالم يف �شيء و�إن‬
‫خري النا�س �إ�سالم ًا �أح�س ُنهم خلق ًا)[رواه �أحمد ‪.]99/5‬‬

‫ روى ابن ماجة َوالبيهقي واللفظ له عن عبد اهلل بن َعمرو قال قلنا يا ر�سول اهلل من خري النا�س؟ قال‪:‬‬
‫(التقي‬
‫ُّ‬ ‫(ذو القلب املحموم‪ ،‬والل�سان ال�صَّ ادق)‪ ،‬قلنا‪ :‬قد عرفنا الل�سانَ ال�صادق‪ ،‬فما القلب املحموم ؟ قال‪:‬‬
‫النقي‪ ،‬الذي ال �إثم فيه وال َبغي‪ ،‬وال غ َّل وال ح�سد) قلنا‪ :‬يا ر�سول اهلل ف َمن على �أثره قال‪( :‬الذي َي�شن�أُ الدنيا‬
‫ُّ‬
‫ويحب الآخرة)‪ ،‬قلنا‪َ :‬ما نعرف هذا فينا �إال رافع ًا موىل ر�سول اهلل‪ ،s‬ف َمن على �أثره؟ قال‪( :‬م�ؤمن يف‬ ‫ُّ‬
‫ح�سن خلق)‪ .‬قلنا‪� :‬أما هذا ففينا‪.‬‬
‫ ‬
‫ فامل�ؤمن م�أمون اجلانب‪ ،‬غ ُري خموف ولو عاداك روى ابن حبان يف �صحيحه عن �أبي هريرة‪�d‬أن‬
‫نا�س جلو�س فقال‪�( :‬أال �أخربكم بخريكم ِمن َ�ش ِّركم؟) قال‪ :‬ف�سكتوا قال ذلك َ‬
‫ثالث‬ ‫ر�سول اهلل‪َ s‬و َق َف على ٍ‬
‫مرات فقال رجل‪ :‬بلى يا ر�سول اهلل �أخربنا بخرينا من �شرنا‪ .‬قال‪( :‬خ ُريكم من يرجى خ ُريه وي�ؤمنُ �ش ُّره‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫رجى خ ُريه وال ي�ؤمن �ش ُّره)‪.‬‬
‫و�ش ُّركم َمن ال ُي َ‬
‫النا�س بالبنان‪ ،‬وال تلتفت �إليهم‬
‫الظهور‪ ،‬ال ي�شري لهم ُ‬ ‫۩ ۩وثامنُ �صفاتهم‪� :‬أنهم ي�ؤثرون اخلمول‪ ،‬وال يحبون ُّ‬
‫‪389‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬خري الناس‬

‫و�سودائهم روى ابن �سعد عن �أم ب�شر بنت الرباء بن‬


‫الأب�صار �إذا ح�ضروا‪ ،‬بل هم من عامة النا�س َ‬
‫�سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪�( :‬أال �أنبئ ُكم بخري النا�س) قالوا‪ :‬بلى‪ .‬قال‪( :‬رج ٌل يف ِ‬
‫غنمه‬ ‫ُ‬ ‫معرور قالت‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫قيم ال�صَّ الة وي�ؤتي الزكاة‪ ،‬يعلم حقَّ اهلل يف ما ِله قد اعتزل �شرور النا�س)‪.‬‬
‫ُي ُ‬

‫ ويف رواية عند احلاكم عن �أبي هريرة‪d‬موقوف ًا قال‪�( :‬أيها النا�س �أظلتكم فتنة كقطع الليل املظلم‬
‫�إمنا خري النا�س فيها �أو قال منها �صاحب �شاء ي�أكل من ر�سل غنمه)‪.‬‬

‫الو�صول �إىل ما فيه ُ�شهرة‪ ،‬ف�إن ولوا �شيئ ًا منها قاموا بحقها‪ ،‬روى ال�شيخان‬
‫َ‬ ‫ فهم ال يحبون الت�صد َر وال‬
‫�أن النبي‪s‬قال‪( :‬جتدون ِمن خري النا�س يف هذا الأمر �أك َرهُ ُهم له قبل �أن يقع فيه)‪.‬‬

‫۩ ۩ومن �صفاتهم‪� :‬أنهم ي�ؤدون الأمانة ويرعونها ح ّقها‪ ،‬ويردون ما اقرت�ضوه‪ ،‬ويجازون على املعروف ب�أح�سن‬
‫منه؛ قال‪( :s‬خري النا�س �أح�سنهم ق�ضا ًء) �أي لدينه [هذه رواية ابن ماجه (‪ )2285‬واحلديث يف‬
‫ال�صحيحني بلفظ‪( :‬من خريكم)]‪.‬‬

‫۩ ۩ومن َ�صفاتهم �أنهم يح�سنون الظنّ باهلل و ُي�أملون به خري ًا يف الدنيا والآخرة‪ ،‬وال يت�شاءون وال يظنون ظن‬
‫ي �أَ َم ًال{ قال‪�( :‬إن لكل ٍ‬
‫عامل �أم ًال ي�ؤم ُله‪ ،‬و�إن امل�ؤمن من خري النا�س‬ ‫ال�سوء‪ ،‬قال قتادة‪ :‬يف قوله } َو َخ رْ ٌ‬
‫�أمال) [رواه ابن �أبي حامت]‪.‬‬

‫إ�سناد ح�سن عن عبد اهلل‬


‫عمل �صالح يحبه �سبحانه روى الرتمذي ب� ٍ‬
‫ �أولئك مي ُّد اهلل يف �أع َمارهم على ٍ‬
‫(من طال عمره وح�سنَ َعم ُلهُ)‪.‬‬
‫بن ب�سر �أن �أعرابيا قال يا ر�سول اهلل من خري النا�س ؟ قال‪َ :‬‬

‫إمام املُ�سلمني و�أع ِلمهم بكتاب اهلل‬


‫واخلالل يف حممد‪ِ � ،s‬‬ ‫ُ‬ ‫ عباد اهلل! لقد اجتمعت تلك الأو�صاف‬
‫لعظم �أمانته‪ ،‬يرجو‬ ‫لرحم‪ ،‬و�أح�سنهم ُخ ُلق ًا‪ ،‬و�أ�سلمهم �صدر ًا‪�ُ ،‬س ّمي الأمني ِ‬
‫و�شرعه ودي ِنه‪ ،‬و�أو�ص ُل النا�س ٍ‬
‫ِ‬
‫وعد اهلل حم�سنٌ به الظن‪ ،‬عبد اهلل حتى �أتاه اليقني فهو خ ُرينا و�سيدنا و�أكمل النا�س جميع ًا جاء �أن �أن�س ًا‬
‫النبي‪s‬فقال‪( :‬كان خ َري النا�س‪ ،‬وكان �أجو َد النا�س‪ ،‬وكان �أ�شجع النا�س)[رواه ابن حبان]‪.‬‬ ‫ذكر َّ‬

‫ ثم يليه يف اخلريية املُق ّدمون من كرباء �أ�صحابه‪f‬روى (ابن ماجه ‪ )106‬ب�إ�سناد جيد �أن علي ًا‪d‬كان‬
‫يقول‪( :‬خري النا�س بعد ر�سول اهلل‪�s‬أبو بكر‪ ،‬وخري النا�س بعد �أبي بكر عمر)‪ .‬وكذا عثمان وهو ‪d‬خري‬
‫النا�س بعد ال�شيخني‪.‬‬
‫ِ‬

‫النا�س َقرْنيِ ‪ ،‬ثم الذين يلونهم ثم الذين‬


‫ ويف ال�صحيحني عن ابن م�سعود‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬خ ُري ِ‬
‫يلونهم ثم يجيء �أقوام ت�سبق �شهادة �أحدهم ميينه وميينه �شهادته)‪.‬‬

‫۩ ۩ َومن �صفات �أولئك �أنهم ال يحبون �أن ُيث َنى عليهم يف وجوههم روى قال احل�سن‪ :‬قال رجل للنبي‪s‬يا‬
‫خ َري النا�س وابنَ �سيدنا فقال‪( :‬يا �أيها النا�س قولوا كقولكم وال ت�ستهوينكم ال�شياطني)‪.‬‬
‫‪390‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رأيت أصحاب رسول‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫رأيت أصحاب رسول اهلل‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫احلق واخلري كالذي ُرئي يف زمان ال�صحابة‬ ‫ فلم ُي َر زمانُ �سعاد ٍة يف الإ�سالم‪ ،‬وعز ٍة وا�ستقام ٍة على ِّ‬
‫حفظ ُ‬
‫اهلل لنا الدين‪ ،‬و ُنقل‬ ‫وتابعيهم‪ .‬نا�صروا ر�سول‪ s‬و�آووه‪ ،‬ورووا �آثا َره وعل َمه وحتروا فيه‪ ،‬فبهمتهم َ‬
‫ال�شَّ رع املتني رواي ًة و�ضبط ًا‪ ،‬نقلوا كتاب اهلل وحفظوا �سن َة ر�سو ِله‪ s‬نقلوا حديثه ُ‬
‫وخط َبه‪ ،‬وو�صفوا �سريتَه‬
‫ونومه ويق�ضتَه‪ ،‬و�شك َله وهيئتَه‪ ،‬فال حديثَ يروى �إال ِمن طريقهم‪ ،‬وال قر�آنَ‬
‫وت�صرفا ِته‪ ،‬بل وحركتَه و�سكو َنه‪َ ،‬‬
‫ُيت َلى �إال َ�س َم َاع ًا ِمنهم وبتعليمهم‪.‬‬

‫ ن�شروا دينَ اهلل وبلغوه‪ ،‬وجاهدوا عد َّوه ب�أبدانهم ول�سانهم وما ِلهم‪ ،‬بل باعوا دنياهم ر�ض ًا باهلل ورغب ًة‬
‫و�ض ْع َ�ض َع بهم‬ ‫ممالك املعمور ِة ومزَّق اهلل بهم ُم َ‬
‫لك ك�سرى َ‬ ‫َ‬ ‫إ�سالم‬ ‫ورماحهم َ ُ‬
‫فتح اهلل لل ِ‬ ‫عنده‪ ،‬ب�سيو ِفهم ِ‬ ‫فيما َ‬
‫أر�ض م�شرق ًا ومغرب ًا‪ ،‬حتى دُفن بع�ضهم على �أبواب ح�صن الق�سطنطينية‬ ‫ُم َ‬
‫لك َقي�صر‪ ،‬ف�أر َووا بدمائهم ثرى ال ِ‬
‫و�سور ال�صني وو�سط �أفريقيا وغرب �أوروبا (يف الأندل�س)‪.‬‬

‫أعمال‬
‫أخالق لهم َ�سامية عالي ٍة‪ ،‬و� ٍ‬
‫اهلل دعوة الإ�سالم ودخل النا�س فيه �أفواجا؛ ب� ٍ‬ ‫ بدعوتهم املباركة ن�شر ُ‬
‫جليلة رحيمة‪ .‬فكانوا بحقٍّ ِم ْل َح الأر�ض‪ ،‬وزين َة الدنيا‪ ،‬وزهر َة الرجال‪ ،‬و ُك َّم َل النا�س‪ُ ،‬‬
‫وحقَّ لهم ذلك فقد‬
‫ل�صحب ِة خلي ِله‪ ،‬واجتباهم لنقل دينه‬‫أف�ضل �أنبيائه‪ ،‬واختارهم ِمن بني �أهل الأر�ض ُ‬
‫ل�صحب ِة � ِ‬ ‫ا�صطفاهم ُ‬
‫اهلل ُ‬
‫خطبة جديدة‬

‫و�شرعه‪.‬‬

‫الليل‬
‫ال�ضحى‪ ،‬وقمو ُر ِ‬ ‫م�صابيح ال ُدجى‪ ،‬و�شمو�س ُّ‬
‫ُ‬ ‫القوم �إن ذكروا‪ ،‬وهُ م ال�صَّ فو ُة �إن بغريهم ُق ِرنوا‪،‬‬
‫ هم ُ‬
‫�إذا َغ َ�شى‪� .‬سري ُتهم َع َب ٌق يجلي النفو�س‪� ،‬أفعا ٌل وافقت الأقوال‪ ،‬و�أقوا ٌل ال تكلُّف فيها وال تنطع‪ ،‬و�أحوا ٌل ت َ‬
‫َعج ُب‬
‫عندما ظنَّ مع�شر يهود �أنهم �سيكونون‬‫ِمنها غاي َة العجب �أن تخرج ِمن ب�شر؛ لقد ح�سدتهم يهو ُد على مكانتهم َ‬
‫حممد ح�سد ًا وبغي ًا وانتق�صوا‬
‫ٍ‬ ‫حد�سهم‪ ،‬كفروا مبا جاء على‬ ‫املبعوث و حوارييه؛ فل َما خاب ُ‬ ‫ِ‬ ‫النبي‬
‫أ�صحاب ِّ‬
‫َ‬ ‫�‬
‫�أ�صحا َبه‪.‬‬

‫أجل ال�صفات فقال �سبحانه‪} :‬‬ ‫اهلل ال�صحاب َة يف القر�آن والتوراة والإجنيل ب�أكمل النعوت و� ِّ‬ ‫ لقد ذكر ُ‬
‫الل َوا َّل ِذينَ َم َع ُه �أَ ِ�ش َّداء َع َلى ا ْل ُك َّفا ِر ُر َح َماء َب ْي َن ُه ْم َت َراهُ ْم ُر َّكع ًا ُ�س َّجد ًا َي ْب َت ُغونَ َف�ضْ ًال ِّمنَ هَّ ِ‬
‫الل‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫محُّ َ َّم ٌد َّر ُ�س ُ‬

‫‪391‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رأيت أصحاب رسول‬

‫جن ِيل َكزَ ْر ٍع �أَ ْخ َر َج‬


‫ال�س ُجو ِد َذ ِل َك َم َث ُل ُه ْم فيِ ال َّت ْو َرا ِة َو َم َث ُل ُه ْم فيِ ا ِلإ ِ‬‫وه ِهم ِّمنْ �أَ َث ِر ُّ‬ ‫َو ِر�ضْ َوان ًا ِ�سي َماهُ ْم فيِ ُو ُج ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫يظ ِب ِه ُم ا ْل ُك َّفا َر َو َع َد هَّ ُ‬
‫الل ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا َو َع ِم ُلوا‬ ‫ا�س َت َوى َع َلى ُ�سو ِق ِه ُي ْع ِج ُب ال ُّز َّرا َع ِل َي ِغ َ‬ ‫َ�شط َْ�أ ُه َف�آ َز َر ُه َف ْ‬
‫ا�س َت ْغ َل َظ َف ْ‬
‫ات ِم ْن ُهم َّم ْغ ِف َر ًة َو�أَ ْجر ًا َع ِظيم ًا{‪.‬‬‫ال�صَّ الحِ َ ِ‬

‫أطراف النهار‬ ‫الليل و� َ‬ ‫وعظيم املثوبة �آنا َء ِ‬ ‫ِ‬ ‫�سلم على وجه الأر�ض دعا لهم بالرحمة وال َّر�ضا‬ ‫ ولو �أن ُك َّل ُم ٍ‬
‫على ما �أح�سنوا به للم�سلمني من هذه الأعمال العظيمة ملا و ّفي َناهم ما لهم يف �أعناقنا ِمن ِم َّن ٍة َعظيم ٍة‬
‫الل َع ِن‬ ‫اهلل لهم } َل َق ْد َر ِ�ض َي هَّ ُ‬ ‫اهلل عنا ُح�سنَ مكاف�أتهم عليها‪ ،‬فر�ضي اهلل عنهم و�أر�ضاهم؛ كما دعا ُ‬ ‫�سيتوىل ُ‬
‫ال�س ِكي َن َة َع َل ْي ِه ْم َو�أَ َثا َب ُه ْم َفت ًْحا َق ِري ًبا{ َو َم َغانمِ َ‬
‫المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني ِ�إ ْذ ُي َبا ِي ُعو َن َك تحَْ َت ال�شَّ َج َر ِة َف َع ِل َم َما فيِ ُق ُلو ِب ِه ْم َف�أَنزَ َل َّ‬
‫الل َع ِزيزًا َح ِكي ًما{‪.‬‬ ‫َك ِث َري ًة َي�أْ ُخ ُذو َن َها َو َكانَ هَّ ُ‬

‫رعاك اهلل �شيئ ًا من �سريتهم العامة التي اتفقوا عليها‪ ،‬ناهيك عن �سري ِة �آحادهم‪ ،‬وهدي‬
‫ ‪ w‬و�إليك يا َ‬
‫أ�صحاب بد ٍر واحلديبي َة و� ُ‬
‫أزواج‬ ‫ُ‬ ‫�أفرادهم‪ ،‬وهي غي�ض من في�ض‪ ،‬وقطر ٌة من �سيل‪ .‬قال قتادة‪( :‬لقد كان �‬
‫وع َرب ٌة َملن اع َتبرَ )[التوحيد البن مندة‬ ‫النبي‪s‬و� ُ‬
‫أهل بيعة الر�ضوان من املهاجرين والأن�صار فيهم َخبرَ ٌ ِ‬
‫‪.]123‬‬

‫علي بن �أبي طالب‪�d‬س ّلم من �صالة الفجر فمكث ك�أن‬ ‫القوم يف �سمتهم وعبادتهم ُروي �أن َّ‬ ‫۩ ۩‪f‬هم ُ‬
‫حممد ف َما �أرى اليوم �شيئ ًا‬‫ٍ‬ ‫أ�صحاب‬
‫َ‬ ‫عليه ك�آب ًة حتى ارتفعت ال�شم�س‪ ،‬فق ّلب َيده وقال‪( :‬واهلل لقد ر� ُ‬
‫أيت �‬
‫أمثال ركب املعزَّى‪ ،‬قد باتوا ُ�س َّج َد ًا وقيام ًا‪،‬‬
‫ُي�شبههم‪ ،‬لقد كانوا ي�صبحون ُ�ص ْفر ًا ُغ رْ َب ًا‪ ،‬بني �أعي ِنهم � ُ‬
‫فذكر اهلل مادو كما مييد ال�شجر يف‬ ‫أقدامهم‪ ،‬ف�إذا �أ�صبحوا ُ‬
‫جباههم و� ِ‬ ‫يتلون كتاب اهلل‪ُ ،‬يراوحون بني ِ‬
‫هلل لك�أن القوم باتوا غافلني)[رواه ابن �أبي الدنيا و�إ�سناده‬ ‫يوم ريح‪ ،‬وهملت �أعي ُنهم حتى َت ُب َّل ثيا َبهم‪ ،‬وا ِ‬
‫�ضعيف]‬

‫أيت ال�صحابة �إذا قاموا �إىل ال�صَّ الة‬ ‫۩ ۩و‪f‬كانوا ُيع َنونَ ب�صال ِتهم �أ�ش َّد العناية‪ ،‬قال جماهد‪ُ :‬‬
‫(كنت �إذا ر� ُ‬
‫فك�أنهم �أج�سا ٌد ال �أرواح فيها من خ�شية اهلل)‪ .‬وال يحر�صون على �شيءٍ من العبادات كحر�صهم على‬
‫أ�صحاب حممد‪s‬ال يرون �شيئ ًا من الأعمال تركه كفر غري‬‫ُ‬ ‫ال�صالة؛ يقول عبد اهلل بن �شقيق‪( :‬كان �‬
‫ال�صالة)[رواه الرتمذي]‪.‬‬

‫أ�صحاب تالو ٍة وقر�آن‪ ،‬من غري غل ٍّو وال ابتداع؛ قيل لأ�سما َء بنت �أبي‬
‫ُ‬ ‫۩ ۩فـ‪f‬رهبانُ ليل �إذا جنّ الظالم‪ ،‬و�‬
‫اهلل عز وجل تدمع‬ ‫بكر‪ :‬كيف كان �أ�صحاب ر�سول اهلل‪s‬عند قراءة القر�آن؟ قالت‪ :‬كانوا ك َما ذك َرهم ُ‬
‫عيونهم وتق�شعر جلودُهم‪ ،‬فقيل لها‪� :‬إن ها هنا رجا ًال �إذا ُقريء على �أحدهم القر�آن ُغ�شي عليه‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫بال�سنة‪ ،‬ويقتدون بالأثر‪ ،‬ال ُغ ُل َّو‬
‫�أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم) [تلبي�س �إبلي�س �ص‪ .]281‬فهم يعملون ُّ‬
‫أوا�سط‪ ،‬ميزانُ عدل توزن بهم �أعمال النا�س بعدهم } َو َك َذ ِل َك‬‫و�سط � ُ‬ ‫وال َج َفاء‪ ،‬وال ِ�ش ّد َة وال �إرتخاء‪ٌ ،‬‬
‫َج َع ْل َنا ُك ْم �أُ َّم ًة َو َ�سط ًا ِّل َت ُكو ُنو ْا ُ�ش َه َدا َء َع َلى ال َّن ِ‬
‫ا�س{‪.‬‬

‫‪392‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رأيت أصحاب رسول‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫۩ ۩وما �أ�صدق كلم ًة قالها عنهم ابن م�سعود‪( :d‬كانوا �أب َّر هذه الأمة قلوب ًا‪ ،‬و�أعم ُقها علم ًا‪ ،‬و�أقلُّها تكلف ًا)‬
‫[جامع بيان العلم البن عبد الرب ‪ .]1810‬وهلل د ُّر التابعي اجلليل والإم��ام القدير و�أحد تالميذ ابن‬
‫أيت ال�صحابة ‪f‬يتو�ضئون �إىل الكعبني ما‬ ‫م�سعود‪� d‬إبراهيم النخعي رحمه اهلل حني قال‪( :‬لو ر� ُ‬
‫تو�ض�أت �إال كذلك‪ ،‬و�أنا �أقر�ؤها �إىل املرفقني؛ وذلك �أنهم ال ُيته ُمون يف ترك ُ�سنة‪ ،‬وهم �أرباب العلم‪ ،‬وهم‬
‫�أحر�ص خلق اهلل على اتباع ر�سول اهلل‪ ،s‬وال َيظنُّ ذلك بهم �أحد �إال ذو ريبة)‪.‬‬

‫۩ ۩ ِمن خربهم‪�f‬أنهم يحبون حممد ًا ‪s‬ويف ُّدونه ب�أرواحهم؛ روى �أبو داود عن �أن�س‪d‬قال‪َ ( :‬ر�أَي ُْ��ت‬
‫ول هَّ ِ‬
‫الل! ال َّر ُج ُل‬ ‫الل‪َ s‬ف ِر ُحوا ِب َ�ش ْىءٍ مَْل �أَ َرهُ ْم َف ِر ُحوا ِب َ�ش ْىءٍ َ�أ َ�ش َّد ِم ْنهُ؛ َق َال َر ُج ٌل‪َ :‬يا َر ُ�س َ‬ ‫اب َر ُ�س ِول هَّ ِ‬ ‫�أَ�صْ َح َ‬
‫الل ‪ « :s‬المْ َ ْر ُء َم َع َمنْ �أَ َح َّب »)‪.‬‬‫ول هَّ ِ‬
‫ُي ِح ُّب ال َّر ُج َل َع َلى ا ْل َع َم ِل ِمنَ الخْ َ رْ ِي َي ْع َم ُل ِب ِه َو َال َي ْع َم ُل بمِ ِ ْث ِل ِه َف َق َال َر ُ�س ُ‬
‫ثقيف لقري�ش‪( :‬يا قوم! واهلل لقد وفدتُ على ك�سرى وقي�ص َر وامللوك‪ ،‬فما‬ ‫ وقال عروة بن م�سعود �سيد ٍ‬
‫هلل َما ميدونَ النظر �إليه تعظيم ًا له)‪.‬‬ ‫حممد حممد ًا ‪ ،s‬وا ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أ�صحاب‬
‫ُ‬ ‫يعظ ُم ُه �أ�صحا ُبه ما ُي َّ‬
‫عظ ُم �‬ ‫أيت ملك ًا ِّ‬ ‫ر� ُ‬

‫ ومع تعظيمهم له ف�إنهم مل يغلوا فيه‪ ،‬فال ترى �أحد ًا منهم حلف به‪� ،‬أو تو�سل بجاهه‪� ،‬أو ق ّبل ق َربه‪،‬‬
‫جمال�س يف ذلك اليوم يقر�أ �سريته ثم‬‫َ‬ ‫�أو �سجد �إليه‪� ،‬أو غال فيه مبقا ِل ِه �أو ِف َعا ِله‪� ،‬أو احتفل مبولده‪� ،‬أو َع َق َد‬
‫حل ُّب احلقيقي الذي ينفع �صاح َبه عند اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫ين�ساها طوال العام يف الفعل‪ ،‬ذاك هو ا ُ‬

‫۩ ۩ ِمن �أعظم هديهم‪� f‬أنهم ي�ستنون بهدي النبي ‪ ،s‬ويقتدون بالأحكام ال�شرعية‪ ،‬ف�إذا �سمعوا حديث ًا‬
‫ب�سنة عملوا بها‪ ،‬وحافظوا عليها؛‬ ‫عن النبي‪�s‬ص ّدقوه‪ ،‬و�آمنوا به‪ ،‬واجتهدوا يف حت�صيله‪ ،‬و�إذا َع ِل ُموا ُ‬
‫أ�صحاب ر�سول اهلل‪s‬يهبون �إليها كما يهبون �إىل املكتوبة‬ ‫َ‬ ‫أيت �‬
‫روى البيهقي عن بع�ض التابعني قال‪( :‬ر� ُ‬
‫يعني الركعتني قبل املغرب)‪ .‬وذلك لأنهم علموا ب�سنتها ور�أوا الر�سول قد فعلها‪.‬‬

‫۩ ۩ ِومن �أعجب حالهم �أنهم على عل ِّو مكانتهم‪ ،‬ورفعة قد ِرهم‪َ ،‬ما فتئوا يتع َّلمون العلم ويتفقهون يف الدين‬
‫أحدث منهم �سن ًا‪ ،‬قال عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن قال‪ُ :‬‬
‫دخلت مع �أبي امل�سجد‪،‬‬ ‫ولو ممن هو � ُ‬
‫النا�س قد اجتمعوا على رجل‪ .‬فقال �أبي‪ :‬انظر َمن هذا‪ ،‬فنظرت ف�إذا هو عروة بن الزبري‪،‬‬ ‫فر�أيت َ‬
‫أيت �أ�صحاب ر�سول اهلل‪ s‬ي�س�ألونه‪.‬‬ ‫تعجب لقد ر� ُ‬
‫ني ال َ‬ ‫بت‪ ،‬فقال‪ :‬يا ُب َّ‬
‫وتعج ُ‬
‫ف�أخربته َّ‬

‫۩ ۩ومن �ش�أنهم �أنهم �سليمو القلوب من الظغينة واحل�سد والغل والبغ�ضاء قال �إيا�س بن معاوية ‪« :d‬كان‬
‫�أف�ضلهم عندهم [�أي عند ال�صحابة] �أ�سل ُمهم �صدور ًا‪ ،‬و�أقلهم ِغيبة»‪.‬‬

‫‪393‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬رسالة إىل موظف‬
‫رسالة إىل موظف‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫فمنهم الرئي�س واملر�ؤو�س‪ ،‬والآمر‬ ‫ ف�إنَّ ِمن حكمة اهلل ع َّز وجل ونعم ِته �أن ف�ضَّ ل بع�ض النا�س على بع�ض‪ِ ،‬‬
‫}انظ ْر َك ْي َف َف�ضَّ ْل َنا َب ْع َ�ض ُه ْم َع َلى َب ْع ٍ�ض َو َلل ِآخ َر ُة‬‫جل وعال‪ُ :‬‬ ‫عنده؛ كما قال َّ‬ ‫واملوظف َ‬ ‫ُ‬ ‫ورب العمل‬ ‫وامل�أمور‪ُّ ،‬‬
‫�أَكْبرَ ُ َد َر َج ٍات َو�أَكْبرَ ُ َت ْف ِ�ضي ًال{‪ ،‬وقال �سبحانه‪َ } :‬وهُ َو ا َّل ِذي َج َع َل ُك ْم َخ َال ِئ َف الأَ ْر ِ�ض َو َر َف َع َب ْع َ�ض ُك ْم َف ْو َق َب ْع ٍ�ض‬
‫اب َو ِ�إ َّن ُه َل َغ ُفو ٌر َّر ِحي ٌم{‪.‬‬‫َد َر َج ٍات ِّل َي ْب ُل َو ُك ْم فيِ َما �آتَا ُك ْم ِ�إنَّ َر َّب َك َ�س ِري ُع ا ْل ِع َق ِ‬

‫املوظف العناي ُة بها‪ ،‬وتذكا ُرها لي�ستقيم حا ُله‪،‬‬


‫َ‬ ‫�شرعنا احلكيم بع�ض ًا من الآداب‪ ،‬التي ُ‬
‫يلزم‬ ‫ وقد جاء يف ِ‬
‫ويطيب ك�س ُبه‪ ،‬وي�ؤج ُر على عم ِله مثوب ًة عند اهلل ع َّز وجل‪.‬‬

‫ممح ٌق لل َك ْ�سب‪ُ ،‬م ِ‬


‫غ�ض ٌب لل َّر ِّب ج َّل وعال؛ ويف ال�صحيح �أن‬ ‫الكذب ِ‬
‫َ‬ ‫فمن ذلك احلذر ِمن الكذب‪ ،‬ف�إن‬‫ِ‬ ‫ ‬
‫النبي‪s‬قال‪( :‬و�إن الكذب يهدي �إىل الفجور‪ ،‬و�إن الفجور يهدي �إىل النار‪ ،‬و�إن الرجل ليكذب حتى يكتب‬
‫عند اهلل كذابا)‪.‬‬

‫ف�شو بني املوظفني والعاملني ويجب اجتنا ُبه ؛ الغيب ُة والنميمة‪ ،‬ففي ال�صحيح عن �أبي هريرة‪d‬‬
‫ ومما َي ُ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫�أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪�( :‬أتدرون ما الغيبة؟)‪ ،‬قالوا‪ :‬اهلل ور�سوله �أعلم‪ .‬قال‪( :‬ذكرك �أخاك مبا يكره)‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫�أفر�أيت �إن كان يف �أخي َما �أقول ؟ قال‪�( :‬إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و�إن مل يكن فيه فقد بهته)‪.‬‬

‫الظنِّ �إِنَّ َب ْع َ�ض َّ‬


‫الظنِّ �إِ ْث ٌم َوال‬ ‫ وقبل ذلك يقول اهلل ع َّز وجل‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ْاج َت ِن ُبوا َك ِث ًريا ِّمنَ َّ‬
‫الل �إِنَّ هَّ َ‬
‫الل َت َّو ٌ‬
‫اب‬ ‫تجَ َ َّ�س ُ�سوا َوال َي ْغتَب َّب ْع ُ�ض ُكم َب ْع ً�ضا �أَ ُي ِح ُّب �أَ َح ُد ُك ْم �أَن َي�أْ ُك َل لحَْ َم َ�أ ِخي ِه َم ْيتًا َف َك ِر ْه ُت ُمو ُه َوا َّت ُقوا هَّ َ‬
‫َّر ِحي ٌم{‪.‬‬

‫�سبب ذلك �إال احل�سد الذي يكون بني الأقران يف العمل؛ وقد روى �أبو داود عن �أبي هريرة �أن النبي‬
‫َوما ُ‬ ‫ ‬
‫‪s‬قال‪�( :‬إياكم واحل�سد ف�إن احل�سد ي�أكل احل�سنات كما ت�أكل النار احلطب �أو قال الع�شب)‪.‬وروى الن�سائي‬
‫عبد الإميان واحل�سد)‪.‬‬
‫عن �أبي هريرة �أن ر�سول اهلل‪ s‬قال‪( :‬ال يجتمعان يف قلب ٍ‬

‫‪394‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رسالة إىل موظف‬

‫ وروى �أبو داود �أن �أن�س بن مالك‪d‬قال لبع�ض �أ�صحابه‪� :‬أال تركب لتنظر ولتعترب‪ ،‬فركبوا جميع ًا‪ ،‬ف�إذا‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هم بديا ٍر َبا َد �أه ُلها‪ ،‬وانق�ضوا وفنوا‪ ،‬خاوي ًة على عرو�شها‪ ،‬فقال‪� :‬أتعرف هذه الديار؟ فقلت‪ :‬ما �أعرفني بها‬
‫وب�أهلها‪ ،‬فقال‪ :‬هذه ديار قوم �أهلكهم البغي واحل�سد‪� ،‬إن احل�سد يطفئ نور احل�سنات‪ ،‬والبغي ي�صدق ذلك‬
‫�أو يكذبه‪.‬‬

‫يجب على املوظف احلذر منه غاية احلذر‪ ..‬ال ُبعد عن ال�سرقة واالعتداء على املال الذي جع َله‬ ‫ ومما ُ‬
‫اهلل ُم�ستحفظ ًا عليه؛ وال ي�ستقل َّنه ولو كان �شيئ ًا قلي ًال؛ ويف ال�صحيحني عن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪:‬‬ ‫ُ‬
‫(لعن اهلل ال�سارق ي�سرق البي�ضة فتقطع يده وي�سرق احلبل فتقطع يده)‪ .‬قال الأعم�ش راوي احلديث‪( :‬كانوا‬
‫يرون �أنه منها ما ي�سوي دراهم)‪.‬‬
‫ ومما يلزم التنبه �إليه‪ ،‬والبع ُد عنه الر�شو ُة ف�إنها جرمي ٌة عظيمة‪ ،‬وفعل ٌة ج�سيمة؛ يقول اهلل ع َّز وجل‪:‬‬
‫ا�س ِبا ِلإ ْث ِم َو�أَنت ُْم‬
‫} َو َال َت�أْ ُك ُلو ْا �أَ ْم َوا َل ُكم َب ْي َن ُكم ِبا ْل َب ِاط ِل َو ُت ْد ُلو ْا ِب َها ِ�إ ىَل الحْ ُ َّك ِام ِل َت�أْ ُك ُلو ْا َف ِري ًقا ِّمنْ �أَ ْم َو ِال ال َّن ِ‬
‫َت ْع َل ُمونَ {‪.‬‬

‫وقد ُت�سمى هذه الر�شوة هدي ًة‪ ،‬و�صداق ًة ونحو ذلك وكلها ال جتوز‪� .‬سوا ًء كانت عيني ًة‪� ،‬أو م�ستهلكة‪ .‬ويلزم‬
‫بالظال يف الدنيا قبل الآخر‪،‬‬
‫مِ‬ ‫ال ُك َّل وخ�صو�ص ًا املوظفون احلذ ُر ِمن الظلم ف�إن عواقبه وخيمة‪ ،‬و�آثاره حال ٌة‬
‫ويف ال�صحيحني عن ابن عبا�س‪�d‬أن النبي‪s‬بعث معاذ ًا �إىل اليمن فقال له‪( :‬اتق دعوة املظلوم ف�إنها لي�س‬
‫بينها وبني اهلل حجاب)‪.‬‬

‫واحل ُّل يف ذلك �أن‬


‫ ويف ال�صحيحني �أن النبي‪s‬قال‪( :‬اتقوا الظلم‪ ،‬ف�إن الظلم ظلمات يوم القيامة)‪َ .‬‬
‫(من كانت له مظلمة‬ ‫يتحلل ِمن ظامله‪ ،‬ويت�سامح منه ففي ال�صحيحني عن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪َ :‬‬
‫لأحد من عر�ضه �أو �شيء فليتحلله منه اليوم قبل �أن ال يكون دينار وال درهم‪� ،‬إن كان له عمل �صالح �أخذ منه‬
‫بقدر مظلمته و�إن مل تكن له ح�سنات �أخذ من �سيئات �صاحبه فحمل عليه)‪.‬‬

‫ِومن الآفات التي تقع ِمن بع�ض املوظفني خا�صَّ ًة عندما يلي رئا�س ًة‪� ،‬أو �إدارة �أنه يقع يف ِ‬
‫نف�سه من ال ُعجب‬ ‫ ‬
‫(من َّ‬
‫تعظم يف نف�سه �أو اختال يف‬ ‫والكرب‪ ..‬وقد روى الإمام �أحمد عن ابن عمر‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪َ :‬‬ ‫ِ‬
‫م�شيته لقي اهلل وهو عليه َغ�ضبان)‪.‬‬

‫مدخل ال�شيطان عليه بالغ�ضب‪ ،‬وقد روى �أبو داود �أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إن الغ�ضب من‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫املوظف‬ ‫ وليتذكر‬
‫ال�شيطان‪ ،‬و�إن ال�شيطان ُخلق من النار‪ ،‬و�إمنا ُتطف�أ النا ُر باملاء‪ ،‬ف�إذا َغ ِ�ض َب �أحدُكم فليتو�ض�أ)‪.‬‬

‫العامل واملوظف بو�صية ر�سول اهلل‪ ،s‬ففي �صحيح البخاري من حديث �أبي هريرة ‪�d‬أن‬ ‫ُ‬ ‫ولي�ستو�ص‬
‫ِ‬ ‫ ‬
‫رج ًال قال للنبي‪� :s‬أو�صني‪ .‬قال‪( :‬ال تغ�ضب)‪ ،‬فردد مرارا قال‪( :‬ال تغ�ضب)‪.‬ولتعلم �أخي املُ�سلم �أن َ‬
‫اهلل‬
‫والعامل على عم ِله �أجر ًا عظيم ًا يف الآخرة �إ�ضاف ًة ملا يتح�صل عليه يف الدنيا‪..‬‬
‫َ‬ ‫ثيب َّ‬
‫املوظ َف‬ ‫ُي ُ‬

‫‪395‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رسالة إىل موظف‬

‫فاملوظف �إذا �صدق يف عم ِله وكان �أمين ًا فيه حمافظ ًا على املال الذي ا�سرتعاه ُ‬
‫اهلل �إياه ف�إن له �أجر‬ ‫ُ‬ ‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫املت�صدقني؛ ففي ال�صحيحني عن �أبي مو�سى ‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬اخلازن امل�سلم الأمني الذي ينفذ ما‬
‫نف�سه فيدفعه �إىل الذي �أُمر له به �أحد املت�صدقني)‪.‬‬
‫�أُمر به َكام ًال ُموفر ًا ط ّيب ًا به ُ‬

‫�سبب لرفق اهلل به يف‬


‫ كذا ف�إنه �إذا �أح�سن الرفق بالنا�س واملراجعني َومن حتت يده من املوظفني ف�إنه ٌ‬
‫الدنيا والآخرة بالتي�سري وال ُبعد عن الت�شديد ففي �صحيح م�سلم عن عائ�شة‪�g‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬اللهم من‬
‫ويل من �أمر �أمتي �شيئا ف�شق عليهم فا�شقق عليه ومن ويل من �أمر �أمتي �شيئا فرفق بهم فارفق به)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪396‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫رسالة للمعلم‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬رسالة للمعلم‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ألوف الطالب �إىل ف�صولهم الدرا�سية ليق�ضوا ُثلث يومهم بني َر َد َهات‬ ‫ ففي بداية ُكل عام درا�سي‪ُ ،‬يزَ ُّف � ُ‬
‫دران الف�صول ب�صحب ِة �أقرانهم يف ال�سن‪ ،‬و�أ�ساتذتهم ومعلميهم‪.‬‬ ‫وج ِ‬ ‫املدار�س ُ‬
‫ب�صدق‬
‫ِ‬ ‫أمل ُم�ستقب ِله يف هذه املدر�سة �أمان ًة ووديع ًة عند م�ؤمتنيها ظن ًا منه‬
‫ وترى الأب يجعل َف َل َذ َة َك ِبده و� َ‬
‫�أمانتهم وح�سن تعاملهم وت�أديبهم‪..‬‬
‫ري يحكم بينهم ولوال ذلك لأكل بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬وال ُب َّد‬ ‫ٌ‬
‫(ثالث ال ُب َّد للنا�س منهم؛ �أم ٌ‬ ‫ قال ابن م�سعود‪:d‬‬
‫للنا�س من �شراء امل�صحف وبيعه ولوال ذلك لبطل كتاب اهلل‪ ،‬وال ُب َّد للنا�س من مع ِّلم يع ِّلم �أوالدهم ولوال ذلك‬
‫كان النا�س �أميني) [القاب�سي �ص ‪.]100‬‬

‫ ‪ w‬عباد اهلل! ما �أحوجنا �إىل تذ ُّكر بع�ض الأحكام ال�شرعية والآداب املرعية التي جاء ال�شرع بها‬
‫للتعليم‪ ،‬وحثَّ عليها املُع ِّلم‪ ،‬قال حممد بن �سريين عن ال�صحابة ‪( :f‬كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون‬
‫العلم)‪.‬‬

‫أ�شرفها قدرا‪ .‬وظيفة املُعلم؛ ُمعلم النا�س اخلري‪.‬‬ ‫هلل �أجر ًا‪ ،‬و� ِ‬
‫ �أو ًال‪ :‬فل ُيعلم �أن ِمن �أعظم الوظائف عند ا ِ‬
‫نت{ قال بع�ض‬‫املر�سلني‪ ،‬قال عي�سى ابن مرمي‪َ } :a‬و َج َع َل ِني ُم َبا َر ًكا �أَ ْينَ َما ُك ُ‬ ‫فهي وظيف ُة الأنبياء‪َ ،‬‬
‫و�س ُنن َ‬
‫(ج َع َلني ُمع ِّلما للخري حيثما ُ‬
‫كنت)‪.‬‬ ‫املف�سرين كمجاهد و�سفيان‪َ :‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫۩ ۩روى الإمام �أحمد وابن ماجه ‪ 313‬عن �أبي هريرة ‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إمنا �أنا لكم مثل الوالد لولده‬
‫�أعلمكم ‪ .)..‬وال ُك ُّل يرغب �أن ُين�سب للعلم وتعليم النا�س‪ ،‬قال ال�شافعي‪ِ :‬‬
‫(من �شرف العلم �أن ُك َّل َمن‬
‫ُن�سب �إليه ولو يف �شيء حقري فرح‪ِ ،‬ومن ُرفع عنه حزُن)‪.‬‬

‫وقد جاء يف ف�ضل التعليم �أحاديث كثرية‪ ،‬منها [ما روى الرتمذي عن �أبي �أمامة الباهلي ‪� ]d‬أن النبي‪s‬‬
‫قال‪�( :‬إن اهلل ومالئكته و� َ‬
‫أهل ال�سماوات والأر�ضني حتى النملة يف ُجحرها وحتى احلوت ل ُي�صلُّون على معلم‬
‫النا�س اخلري)‪� .‬أي يدعون له‪.‬‬

‫۩ ۩وروى الرتمذي وح�سنه عن �أبي هريرة ‪� d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬الدنيا ملعونة ملعون ما فيها �إال ذكر اهلل‬
‫(من ع َّلم علما فله �أج ُر َمن َع ِم َل‬
‫وما وااله �أو عاملا �أو متعلما)‪ .‬وعن معاذ بن �أن�س ‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪َ :‬‬
‫‪397‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رسالة للمعلم‬

‫أجر العامل)‪.‬‬
‫نق�ص من � ِ‬
‫به ال َي ُ‬
‫ لذا �أمر النبي‪s‬باحرتام املُع ِّلم للخري؛ روى الإمام �أحمد يف امل�سند عن عبادة بن ال�صامت‪� d‬أن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬لي�س من �أمتي من مل يجل كبرينا ويرحم �صغ َرينا ويعرف لعاملنا ح َّقه)‪.‬‬

‫ قال �شيخ الإ�سالم‪( :‬و�إذا كان الرجل قد ع َّلمه �أ�ستاذ عرف �إح�سانه �إليه و�شكره‪ ،‬ف�إنه ال ي�شكر النا�س‬
‫من ال ي�شكر اهلل)‪ .‬وذلك �أن عدم احرتام املُع ِّلم م�ؤذ ٌن بحرمان الطالب االنتفاع ِ‬
‫بعلمه‪.‬‬

‫ ‪ w‬فذاك ح ُّق املع ِّلم على النا�س‪ ،‬و�أ ّما ح ّقهم عليه‪:‬‬
‫عنده �أمان ٌة‪ ،‬و�أن اهلل �سائ ُله عما ا�ستُحفظ‪[ ،‬يف ال�صحيحني عن ابن عمر‪]d‬‬
‫الطالب َ‬
‫َ‬ ‫ف�أن يتذكر املُع ِّلم �أن‬
‫راع وكلُّكم م�س�ؤو ٌل عن رعيته ‪.)..‬‬ ‫�أن النبي‪s‬قال‪( :‬كلُّكم ٍ‬

‫دق يف �أداء �أمانة التعليم‪ ،‬والإخال�ص يف ت�أديته �سبب ًا يف طيب الرزق وبركته‪ ،‬قال �أبو احل�سن‬
‫ال�ص ِ‬
‫ �إن يف ِّ‬
‫(الواجب على املع ِّلم االجتهاد حتى ُيوفيِ ما يجب عليه للطالب‪ ،‬ف�إن و َّفى ذلك َط َ‬
‫اب له ما‬ ‫ُ‬ ‫القاب�سي [‪:]126‬‬
‫أخذه على التعليم من الأَجر‪.‬‬
‫ي� ُ‬

‫التزامه لمِ َا َ‬
‫التزم ِمن العمل‬ ‫َ‬ ‫ وليعلم �أنه �إن ف َّرط يف َوفاء ما عليه‪ ،‬ف�إنه ال َيطيب له ما ي�أخذ من ذلك‪ ،‬لأن‬
‫يف التعليم َيدخل يف العقود التي �أمر اهلل بوفائها‪.) ..‬‬

‫۩ ۩ ِمن واجبات املُع ِّلم �أن يكون رفيق ًا بطالبه رحيم ًا بهم‪ ،‬ك�أبيهم بهم‪ ،‬ففي �صحيح م�سلم عن عائ�شة‪g‬‬
‫قالت �سمعت النبي‪ s‬يف بيتي يقول‪( :‬اللهم من ويل من �أمر �أمتي �شيئا ف�شقَّ عليهم فا�شقق عليه‪َ ،‬ومن‬
‫ويل من �أمر �أمتي �شيئا فرفق بهم فارفق به)‪.‬‬

‫ فال يتعاظم على الطالب املُتع ِّلمني‪ ،‬بل يلني لهم‪ ،‬ويتوا�ضع معهم‪ ،‬وقد جاء يف التوا�ضع لآحا ِد النا�س‬
‫�أ�شيا ُء كثري ٌة معروفة‪ ،‬فكيف به�ؤالء الذين هم مبنزلة �أوالده مع ما هم عليه من الإ�شتغال بالعلم‪ ،‬وما لهم‬
‫عليه من حق امل�صاحبة‪ .‬قال �أبو �أيوب ال�سختياين‪( :‬ينبغي للعامل �أن ي�ضع الرتاب على ر�أ�سه توا�ضع ًا هلل عز‬
‫وجل)‪.‬‬

‫خل ُلق احل�سن‪ ،‬والأدب الرفيع‪ ،‬ويكون ذلك مبقال املع ِّلم‪،‬‬ ‫۩ ۩ ِومن �أعظم احلقوق احلر�ص على ت�أديبهم با ُ‬
‫و ِفعا ِله‪.‬فيجب على املع ِّلم �أن يالزم الآداب ال�شرع ّية القولية والفعلية‪ ،‬الظاهرة واخلف ّية‪ ،‬و�أن يتخ َّلق‬
‫نف�سه بتجنب م�ساوئ‬ ‫باملحا�سن التي ورد ال�شرع بها‪ ،‬واخل�صال احلميدة ‪ ،‬وال�شيم املر�ضية‪ ،‬و�أن يطهر َ‬
‫الأخالق ومذموم الأو�صاف؛ �إذ الطالب يقتدي ب�أفعال �أ�ستاذه �أك َرث ِمن �أقوا ِله‪ ،‬بل �إذا ناق�ضت �أقوا ُله‬
‫�أفعا َله ف�إنه ال ي�صدقه‪ ،‬وال ينتفع به‪.‬‬

‫۩ ۩كما يجب على املُع ِّلم �أن يتجنب موا�ضع التُّهم و�إن بعدت‪ ،‬ومواطن ال ِّريب مهما كانت‪ ،‬وال يفعل �شيئ ًا‬

‫‪398‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رسالة للمعلم‬

‫وعر�ضه للوقيعة‪ ،‬و ُيوقع النا�س‬ ‫نق�ص مروءته‪� ،‬أو ما ي�ستنكر ظاهر ًا‪ ،‬ف�إنه يع ِّر�ض َ‬
‫نف�سه للتهمة‪َ ،‬‬ ‫يت�ض ّمن َ‬
‫يف الظنون املكروهة‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫بفروعه‪ ،‬و�أن يفرغ و�س َعه‬


‫ِ‬ ‫۩ ۩ ومما يجب على املُع ِّلم �أن يحر�ص على بذل طاقته يف تعليمهم َ‬
‫العلم النافع‬
‫لإي�صال فهم تلك امل�سائل �إليهم فال يكل وال ميل‪ ،‬وال يت�ضجر وال ي�س�أم‪ .‬وقد قيل‪( :‬توفيق املتع ِّلم يف‬
‫�أربعة �أ�شياء؛ يف ذكاء القريحة‪ ،‬وا�ستواء الطبيعة‪ ،‬ومع ِّل ٍم ذي ن�صيحة‪ ،‬و�شدة العناية)‪.‬‬

‫مما �أمر به ال�شرع‪ ،‬و�ألزم به النا�س جميع ًا‪ ،‬ومنهم املعلمون‪ ،‬قال بع�ض ال�سلف �ص‬ ‫۩ ۩ والعدل بني الطلبة َّ‬
‫بع�ض)‪.‬‬‫‪( :131‬ومن حق ال�صبيان على معلمهم �أن يعدل بينهم يف التعليم‪ ،‬وال يف�ضل بع�ضهم على ٍ‬
‫ وقد جاء الت�أكي ُد عند بع�ض ال�س ّلف على هذا الأمر‪ ،‬حتى قال جماهد بن جرب تلميذ ابن عبا�س‪( :d‬‬
‫ُمع ِّلم ال�صبيان �إذ مل يعدل بينهم جاء يوم القيامة مع الظلمة) [الثقات البن حبان ‪.]173/9‬‬
‫ مما يد ُّل على �أن العدل مطلوب ِمن ال ُك ِّل حتى ِمن املع ِّلم ل�صغار الطالب يف �صفوفهم الأول ّية‪.‬ومن‬
‫ال َعدل مراعاة الفروق الفرد ّية‪ ،‬وعدم التهاون يف �إعطاء املادة ح ّقها‪ ،‬من الدر�س والتقييم‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪399‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬رفع اليدين بالدعاء‬
‫رفع اليدين بالدعاء‬

‫الخطبة األوىل‬ ‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�إن للم�ؤمن �سهام ًا ال تخيب‪ ،‬يلتجئ �إىل ر ّبه وينيب‪ ،‬ويدعوه فيجيب‪َ } ،‬و َق َال َر ُّب ُك ُم ا ْد ُعونيِ �أَ ْ�ست َِج ْب‬
‫َل ُك ْم{ و�إن مما ي�ساعد على ا�ستجابة الدعاء‪ ،‬و ُيق ِّرب به الفرج‪ ،‬ويدفع اللأواء �أن يرفع العب ُد يديه هلل عز‬
‫وجل‪ ،‬وميدهما ا�ستجداء له �سبحانه‪.‬‬

‫�سبب من �أ�سباب الإجابة‪ ،‬وطريق من طرقه يقول النبي‪�( :s‬إن اهلل حيي �ستري‬‫ فرفع اليدين بالدعاء ٌ‬
‫ي�ستحي من عبده �أن يب�سط �إليه يديه ثم يردهما �صفر ًا) [رواه �أهل ال�سنن]‬

‫‪ w‬وهنا ثالث م�سائل تتعلق برفع اليدين بالدعاء يح�سن معرفتها‪:‬‬


‫۩ ۩امل�س�ألة الأوىل‪� :‬أن رفع اليدين �إىل ال�سماء فطر ٌة جعلها يف القلوب‪ ،‬حتى �إن البهائم لتج�أر �إىل اهلل برفع‬
‫ب�صرها �إىل ال�سماء ومما جاء يف �أخبار بني �إ�سرائيل [رواه �أحمد والطرباين] عن �أبي ال�صديق الناجي‬
‫قال‪ :‬خرج �سليمان بن داود‪ a‬ي�ست�سقي بالنا�س فمر على منلة م�ستلقية على قفاها رافع ًة قوائمها �إىل‬
‫ال�سماء وهي تقول‪( :‬اللهم �إنا خلق من خلقك لي�س بنا غنى عن رزقك ف�إما �أن ت�سقينا �أوتهلكنا) قال‬ ‫خطبة جديدة‬
‫�سليمان‪ :‬ارجعوا فقد �سقيتم بدعوة غريكم‪.‬‬
‫ �إذا ُ‬
‫هلل يف عل ٍو مكان ًا ومكانة‪ ،‬فريفع العب ُد يديه وب�صره �إىل ال�سماء ا�ستجالب ًا لرحمة اهلل وغيثه وف�ضله‪.‬‬
‫ويف �سنن الرتمذي [‪ ]3436‬عن �أبي هريرة ‪�( :d‬أن النبي ‪s‬كان �إذا �أه ّمه الأمر رفع ر� َأ�سه �إىل ال�سماء)‬

‫۩ ۩امل�س�ألة الثانية‪� :‬أن لرفع اليدين حال الدعاء ثالث درجات [خمت�صر الفتاوى امل�صرية �ص ‪:]155‬‬
‫ ‬
‫الدرجة الأوىل‪ :‬الإ�شارة بالإ�صبع الواحدة‪ ،‬وقد كان النبي‪s‬يفعله على املنرب يوم اجلمعة‪ ،‬ويف �سنن‬
‫الرتمذي �أن النبي‪�s‬إذا تو�ض�أ رفع �أ�صبعه وقال‪�( :‬أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أ�شهد �أن حممد عبده ور�سوله‬
‫اللهم اجعلني من التوابني واجعلني من املتطهرين)‪.‬‬
‫‪400‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رفع اليدين بالدعاء‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ وتكره الإ�شارة فيه ب�أ�صبعني و�إمنا ي�شري بال�سبابة من يده اليمنى فقط وقد روى �أهل ال�سنن �أن النبي‬
‫‪s‬ر�أى رج ًال ي�شري ب�أ�صبعني فقال له‪�( :‬أح ٌد �أحد)‪.‬‬

‫والدرجة الثانية‪ :‬وهو دعاء امل�س�ألة‪ ،‬وهو �أن يجعل الداعي يديه حذو منكبيه‪ ،‬كما يف �أكرث الأحاديث‪ ،‬ولها‬
‫�صورتان‪:‬‬
‫‪1 .1‬ال�صورة الأوىل‪� :‬أن يجعل يديه قبالة �صد ِره وبطنهما �إىل ال�سماء‪ ،‬وينظر هو �إليهما‪ ،‬وهذه ال�صورة هي‬
‫الأن�سب يف ال�صالة حال القنوت ونحوه‪.‬‬

‫‪2 .2‬وال�صور الثانية‪� :‬أن يجعل الداعي يديه �أمام وجهه وتكون �أطراف �أ�صابعه متجهة �إىل ال�سماء‪ .‬وهنا‬
‫يكون نظر الداعي متجه ًا � َ‬
‫أمامه‪.‬‬

‫ وهاتان ال�صورتان هما التي ذكرهما ابن عبا�س �إذ قال‪( :‬امل�س�ألة �أن ترفع يديك حذو منكبيك �أو‬
‫نحوهما) روى �أبو داود [‪.]1489‬‬

‫والدرجة الثالثة من درجات رفع اليدين بالدعاء‪ :‬االبتهال‪ ،‬وهو �أن يرفع يديه فوق ر�أ�سه ويجعل ظهورهما‬
‫�إىل ال�سماء وبطونهما �إىل وجهه و�إىل االر�ض بحيث ينظر الداعي �إىل ال�سماء وتكون بطون يديه ِق َب َل ِ‬
‫وجهه‪.‬‬

‫ واالبتهال فعله النبي‪s‬عند �إ�شتداد الأمر‪ ،‬ففي �صحيح م�سلم [‪�( ]612/2‬أن النبي ‪ s‬كان يرفع‬
‫يديه حتى ُي َرى بيا�ض �أبيطيه) وحينما اجتمع امل�سلون مع امل�شركني يف بد ٍر رفع النبي‪s‬يديه‪ ،‬وجعل يهتف‬
‫بربه مادا يديه حتى �سقط ردا�ؤه عن منكبه ال�شريف ‪.s‬‬

‫ واالبتهال يكون عند اخلوف والرهبة و�شدة احلاجة؛ قال حممد بن احلنفية‪( :‬دعاء الرغبة ببطون‬
‫الأكف‪ ،‬ودعاء الرهبة بظهور الأكف) [املب�سوط لل�سرخ�سي ‪ .]166/1‬فعند �شدة الدعاء والإحلاح فيه تكون‬
‫الأكف فوق الر�أ�س بحيث يظهر �أن ظهورهما �إىل ال�سماء‬

‫ روى �أبو داود [‪ ]1489‬عن ابن عبا�س قال‪( :‬امل�س�ألة �أن ترفع يديك حذو منكبيك �أو نحوهما‪ ،‬واال�ستغفار‬
‫�أن ت�شري ب�أ�صبع واحدة‪ ،‬واالبتهال �أن متد يديك جميع ًا)‪.‬‬

‫۩ ۩امل�س�ألة الثالثة‪� :‬أن رفع اليدين �سن ٌة دائم ًا‪ ،‬فقد تواترت عنه‪s‬الأحاديث يف �أنه رفع يديه بالدعاء‪� ،‬إال‬
‫يف املوا�ضع التي كان النبي‪s‬يدعو وال يرفع يديه‪ ،‬مثل يف خطبة اجلمعة ف�إن النبي ‪s‬مل يكن يرفع‬
‫يديه يف اخلطبة �إال حال اال�ست�سقاء‪ ،‬قال �أن�س‪َ ( :d‬كانَ النبي‪َ s‬ال َي ْر َف ُع َي َد ْي ِه يف َ�شيءٍ ِمنَ ال ُّد َعا ِء ِ�إالَّ‬
‫ا�ض �إِ ْب َط ْي ِه)[رواه �أبو داود ‪.]1172‬‬ ‫يف ا ِال ْ�س ِت ْ�س َقا ِء َف�إِ َّن ُه َكانَ َي ْر َف ُع َي َد ْي ِه َحتَّى ُي َرى َب َي ُ‬

‫‪401‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬رفع اليدين بالدعاء‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ ومن املواطن عقب �صالة الفري�ضة ف�إن النبي‪s‬كان ي�ستغفر اهلل ثالث ًا ويقول‪( :‬اللهم � َ‬
‫أنت ال�سالم‬
‫ومنك ال�سالم تباركت يا ذا اجلالل والإكرام)‪ ،‬ويقول باقي الأذكار‪.‬‬

‫ قال ابن القيم‪ :‬ف�إن �أنهى الأذكار ثم رفع يديه فال ب�أ�س‪ .‬و�أ ّما �صالة النافلة ف�إن النبي‪s‬مل يكن يقول‬
‫بعدها الأذكار مما يدل على جواز رفع اليدين بالدعاء بعدها‪.‬‬
‫ ‬
‫بارك اهلل يل ولكم ويف القر�آن العظيم‪.‬‬ ‫ ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪402‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬زيادة الرزق‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫زيادة الرزق‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫خل ْلق يف الرزق واملال‪ ،‬وخالف‬


‫َف�إن ِمن حكم ِة اهلل النافذ ِة‪ ،‬و�إرادته الكونة‪ ،‬وم�شيئته القدرية �أن فارق بني ا َ‬
‫و�سر ومقترِ ‪.‬‬
‫ومو�س ٍع ومم ِلق‪ ،‬و ُم ٍ‬
‫وغني‪ ،‬ومرثي ومع ِوزٍ ‪ِ ،‬‬
‫اجلدة والرثاء ‪ ،‬فهم ب َني فق ٍري ٍّ‬ ‫بينهم يف ِ‬

‫جليل و�ضعه �سبحانه يف ذلك‪ .‬ف َكم ِمن امرءٍ م� ٍ‬


‫ؤمن كان‬ ‫َوما ذاك �إال حلكم ٍة عظيم ٍة ارت�ضاها‪ ،‬ومعنى ٍ‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫الف�ضل له‪ ،‬باذ ٌل َ‬
‫مال‬ ‫اهلل عز وج َّل‪ ،‬حام ٌد لنعمائه‪ٌ ،‬‬
‫نا�سب‬ ‫وعل ِّو منزل ِته؛ فهو �شاك ٌر َ‬
‫غناه �سبب ًا لرفع ِة درج ِته‪ُ ،‬‬
‫ا�ستودعه �إياه يف َه َلك ِته وح ِّقه؛ يف ال�صحيحني عن ابن م�سعود‪ d‬قال‪� :‬سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪:‬‬ ‫َ‬ ‫هلل الذي‬ ‫ا ِ‬
‫رجل �أتاه اهلل ماال ف�س َّلطه على َه َلك ِت ِه يف احلقّ ‪ٍ ،‬‬
‫ورجل �آتاه اهلل حكمة فهو َيق�ضي بها‬ ‫(ال َح َ�س َد �إال يف اثنتني؛ ٍ‬
‫ويع ِّل ُمها)‪.‬‬

‫و�س ِعده؛ فرتاه �صابر ًا حمت�سب ًا‪ ،‬عام ًال جاد ًا‪،‬‬ ‫ؤمن كان فق ُره وق ِّل ُة ذات ِيده َ‬
‫�سبب خ ِريه َ‬ ‫وكم ِمن امرء م� ٍ‬
‫ْ‬ ‫ ‬
‫داعي ًا مبته ًال؛ روى م�سل ٌم عن عبد اهلل بن عمرو‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إن فقراء املهاجرين ي�سبقون الأغنياء‬
‫يوم القيامة �إىل اجلنة ب�أربعني خريفا)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ فالغني ال�شاكر‪ ،‬والفقري ال�صابر ُك ٌّل على خري ُروى يف الأثر (رواه ابن اجلوزي يف العلل املتناهية‬
‫‪45/1‬وقال‪ :‬ال ي�صح) عن عمر‪ d‬قال‪� :‬إن اهلل يقول‪�( :‬إن من عبادي امل�ؤمنني من ال َي�ص ُل ُح �إميا ُن ُه �إال بالغنى‬
‫طت له لأف�سده ذلك)‪.‬‬ ‫أف�سده ذلك‪ ،‬و�إن من عبادي امل�ؤمنني من ال ُي�ص ِل ُح �إميا َن ُه �إال الفق ُر فلو َب َ�س ُ‬
‫ولو �أفقر ُت ُه ل َ‬

‫ت�سخط على‬ ‫ وال�ض ُّد بال�ضد فالغني ال�شَّ ِره‪ ،‬الذي َ�س َّلط ما َله يف احلرام وللحرام‪ ،‬والفق ُري امل�ستك ُرب الذي َّ‬
‫قدر اهلل وق�ضائه و�سعى للإثم واحلرام‪ .‬ف�إن ذلك فتن ٌة لهما وابتالء؛ كما قال ج َّل وعال‪َ } :‬ف�إِ َذا َم�سَّ الإِ َ‬
‫ن�سانَ‬
‫ُ�ض ٌّر َد َعا َنا ُث َّم �إِ َذا َخ َّو ْل َنا ُه ِن ْع َم ًة ِّم َّنا َق َال �إِنمَّ َ ا �أُو ِتي ُت ُه َع َلى ِع ْل ٍم َب ْل ِه َي ِف ْت َن ٌة َو َل ِكنَّ �أَ ْك رَ َثهُ ْم ال َي ْع َل ُمونَ {‪ ،‬وقال‬
‫وف َوالجْ ُ و ِع َو َن ْق ٍ�ص ِّمنَ الأَ َم َو ِال َوالأن ُف ِ�س َوال َّث َم َر ِات َو َب ِّ�ش ِر ال�صَّ ا ِب ِرينَ {‪.‬‬ ‫�سبحانه‪َ } :‬و َل َن ْب ُل َو َّن ُك ْم ِب َ�ش ْيءٍ ِّمنَ الخْ َ ْ‬

‫}اع َل ُموا �أَنمَّ َ ا الحْ َ َيا ُة ال ُّد ْن َيا َل ِع ٌب َو َل ْه ٌو‬


‫عباد اهلل! �إن النفو�س قد ُجبت على ُح ِّب جمع املال واملكاثر ِة فيه ْ‬ ‫ ‬

‫‪403‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬زيادة الرزق‬

‫اخ ٌر َب ْي َن ُك ْم َو َت َكا ُث ٌر فيِ الأَ ْم َو ِال َوالأَوْال ِد{‪ ،‬وقال �سبحانه‪�} :‬أَ ْل َها ُك ُم ال َّت َكا ُث ُر{ َحتَّى ُزرْتمُ ُ المْ َ َقا ِب َر{‪.‬‬
‫َوزِي َن ٌة َو َت َف ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�ثر ف�سا ِدها ب�سببه روى الإم��ام �أحم ُد والرتمذي وح�سنه عن كعب بن‬ ‫واملال فتنة هذه الأمة وحمنتُها و�أك ُ‬
‫عيا�ض‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪�( :‬إن لكل �أمة فتن ًة وان فتنة �أمتي املال)‪.‬‬

‫َوما كان �شي ٌء �أ�ش َّد على النف�س ِمن الفقر والعوز �أخرج البيهقي عن عمران بن �سليم‪d‬قال‪( :‬بلغني‬ ‫ ‬
‫واحل ْم َل الثقيل فلم �أحمل �شيئ ًا � َ‬
‫أثقل ِمن جار ال�سوء‪،‬‬ ‫واحلديد ِ‬
‫َ‬ ‫حملت احلجار َة‬
‫�أن لقمان ‪a‬قال البنه يا بني ُ‬
‫يا بني �إين قد ذقت امل َّر كله فلم � ُأذق �شيئا �أم َّر من الفقر)‪.‬‬

‫بات ومقدِّ رات مادية ومعنوية؛‬ ‫زق �أ�سباب ًا‪ِ ،‬‬


‫ونوال املال و َب ْ�سط ِته م�س ِّب ٍ‬ ‫ عباد اهلل ! لقد جعل ُ‬
‫اهلل ل�س َع ِة ال ِّر ِ‬
‫ف�ضة؛ روى الإمام �أحمد عن‬ ‫العمل واجلدِّ ‪ ،‬وترك ال َّدع ِة واخلمول؛ ف�إن ال�سماء ال متطر ذهب ًا وال ّ‬ ‫فاملادية ُ‬
‫(عمل الرجل بيده وكل بيع مربور)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رافع بن َخديج‪ d‬قال‪ :‬قيل يا ر�سول اهلل �أي الك�سب �أطيب؟ قال‪:‬‬
‫فالعمل واالكت�ساب‪ ،‬واجل ُّد واالجتهاد مما �أمر به ال�شر ُع وحث عليه‪ ،‬ف َمن َد�أِ َب يف العمل ومل ي�أتل‪ ،‬ومل ي� ُأل‬
‫ومل َي ِن‪ ،‬وبذل ُو�س َع ُه وطاقته �أُج َر �أجرين ِر ْز َق الدنيا‪َ ،‬‬
‫وثواب الآخرة‪.‬‬

‫أ�سباب معنوية‪ ،‬وو�سائ ُل رباني ٌة �إاله ّية‪َ ،‬من َف َع َلها زاد ُ‬


‫اهلل يف رز ِقه وبارك له‬ ‫ول�سعة الرزق �أي�ض ًا � ٌ‬‫ ‪َ w‬‬
‫َاب{‪ ،‬قال ابن عبا�س ‪( :d‬ميحو اهلل ما‬ ‫}ي ُحو هَّ ُ‬
‫الل َما َي َ�شاء َو ُي ْث ِب ُت َو ِع َند ُه �أُ ُّم ا ْل ِكت ِ‬ ‫فيه قال اهلل تعاىل‪ :‬مَْ‬
‫ُ‬
‫ثبت ُك َّل �شيء؛ غري ال�سعادة وال�شقاء ف�إنهما قد ُف ِر َغ منهما)‪ .‬فيزيد اهلل وينق�ص يف الرزق والعمر‬ ‫ي�شاء و ُي ُ‬
‫وال�صحة والقوة وغريها‪.‬‬

‫وترك مع�صيته قال اهلل تعاىل‪} :‬‬ ‫۩ ۩ ِومن تلكم الأ�سباب الإميانُ باهلل و�إفراده بالعبادة‪ ،‬والعم ُل بطاعته‪ُ ،‬‬
‫الط ِري َق ِة لأَ ْ�س َق ْي َناهُ م َّماء َغ َد ًقا{؛ �أي �أن لو ا�ستقام القا�سطون على طريقة الإ�سالم‬ ‫ا�س َت َقا ُموا َع َلى َّ‬ ‫َو�أَ َّل ِو ْ‬
‫وع َدلوا �إليها وا�ستمروا عليها }لأ�سقيناهم ماء غدقا{ �أي كثريا واملراد بذلك ِ�سع ُة الرزق‪ ،‬كما قال جل‬ ‫َ‬
‫ال�س َماء َوالأَ ْر ِ�ض{‪ ،‬وقال �سبحانه‪} :‬‬ ‫وعال‪َ } :‬و َل ْو �أَنَّ �أَ ْه َل ا ْل ُق َرى � َآم ُنو ْا َوا َّت َقو ْا َل َفت َْح َنا َع َل ْي ِهم َب َر َك ٍات ِّمنَ َّ‬
‫جن َيل َو َما �أُ ِنز َل ِ�إ َل ِيهم ِّمن َّر ِّب ِه ْم لأ َك ُلو ْا ِمن َف ْو ِق ِه ْم َو ِمن تحَْ ِت �أَ ْر ُج ِل ِهم{‪.‬‬‫َو َل ْو �أَ َّن ُه ْم �أَ َقا ُمو ْا ال َّت ْو َرا َة َوا ِلإ ِ‬
‫ ويقول ج َّل وعال‪َ } :‬و َمن َيت َِّق هَّ َ‬
‫الل َي ْج َعل َّل ُه مخَْ َر ًجا* َو َي ْر ُز ْق ُه ِمنْ َح ْيثُ ال َي ْحت َِ�س ُب{ قال �أبو ذر‪( :‬جعل‬
‫ر�سول اهلل‪s‬يتلو هذه الآية‪ ،‬فجعل يرددها حتى نع�ست) فقال‪( :‬يا �أبا ذر لو �أن النا�س �أخذوا بها لكفتهم)‬
‫رواه احلاكم و�صححه‪.‬‬

‫۩ ۩ والذنوب �ش�ؤم على العباد والبالد‪ ،‬طري ُفها والتالد؛ روى الإمام �أحمد والن�سائي وابن ماجه عن ثوبان‬
‫قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪�( :s‬إن العبد ل ُيح َرم ال ِّرزق بالذنب ي�صيبه وال يرد القدر �إال لدعاء)‪.‬‬

‫ا�س َت ْغ ِف ُرو ْا َر َّب ُك ْم‬


‫�سبب لزيادة الرزق‪ ،‬ووفرة املال وكرثته قال ج َّل وعال‪َ } :‬و َيا َق ْو ِم ْ‬ ‫۩ ۩واال�ستغفار من الذنوب ٌ‬
‫ال�س َماء َع َل ْي ُكم ِّم ْد َرا ًرا َو َي ِز ْد ُك ْم ُق َّو ًة ِ�إ ىَل ُق َّو ِت ُك ْم َو َال َت َت َو َّل ْو ْا مجُْ ِر ِمنيَ{‪ ،‬وقال نوح‪:a‬‬
‫ُث َّم ُتو ُبو ْا ِ�إ َل ْي ِه ُي ْر ِ�س ِل َّ‬
‫‪404‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬زيادة الرزق‬

‫ال�س َماء َع َل ْي ُكم ِّم ْد َرا ًرا* َو مُْي ِد ْد ُك ْم ِب�أَ ْم َو ٍال َو َب ِن َني َو َي ْج َعل‬
‫ا�س َت ْغ ِف ُروا َر َّب ُك ْم ِ�إ َّن ُه َكانَ َغ َّفا ًرا* ُي ْر ِ�س ِل َّ‬
‫} َف ُق ْل ُت ْ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫َّل ُك ْم َج َّن ٍات َو َي ْج َعل َّل ُك ْم �أَ ْن َها ًرا{‪.‬‬

‫ َروى �أبو داود والن�سائي وابن ماجه عن ابن عبا�س قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪َ :s‬‬
‫(من لزم اال�ستغفار جعل‬
‫اهلل له من كل �ضيق خمرجا‪ ،‬ومن كل هم فرجا‪ ،‬ورزقه من حيث ال يحت�سب)‪.‬‬ ‫ُ‬

‫يو�سع على العبد‬


‫�سطه الإلتجا ُء �إىل اهلل بالدعاء‪ ،‬والت�ضر ُع �إليه بالرجاء �أن ِّ‬ ‫۩ ۩ ِومن �أ�سباب زيادة الرزق و َب ِ‬
‫ويفتح عليه �أبواب رزقه قال‪( :s‬ال يرد القدر �إال الدعاء)‪ .‬وروى الإمام �أحمد (‪ )1442‬عن ابن م�سعود‬
‫(من نزل به حاجة ف�أنزلها بالنا�س كان َق ِمن ًا �أن ال ُت�س َّه َل حاجتُه‪َ ،‬ومن‬ ‫‪ d‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل ‪َ :s‬‬
‫ال�ضر و� َّأجل موته‪.‬‬ ‫�أنزلها باهلل تعاىل �أتاه اهلل برزق عاجل �أو مبوت �آجل)‪� .‬أي � َّأخر عنه ُ‬

‫۩ ۩وكان ِمن دعاء النبي‪s‬الذي يلزمه الدعا ُء بالغنى من الفقر �أخرج م�سلم عن �أبي هريرة‪� d‬أن ر�سول‬
‫ورب كل �شيء‪،‬‬‫ورب العر�ش العظيم رب َّنا َّ‬
‫رب ال�سموات ال�سبع َّ‬ ‫اهلل‪s‬كان يدعو عند النوم‪( :‬اللهم َّ‬
‫احلب والنوى‪ ،‬ال �إله �إال �أنت � ُ‬
‫أعوذ بك من �شر كل �شيء �أنت �آخذ‬ ‫إجنيل والفرقان‪ ،‬فالقَ ِّ‬ ‫ُم َ‬
‫نزل التوراة وال ِ‬
‫بنا�صيته‪� ،‬أنت الأول فلي�س قبلك �شيء‪ ،‬و�أنت الآخر فلي�س بعدك �شيء‪ ،‬و�أنت الظاهر فلي�س فوقك �شيء‪،‬‬
‫و�أنت الباطن فلي�س دونك �شيء‪ ،‬اق�ض عنا الدين و�أغننا من الفقر)‪.‬‬
‫واحلر�ص عليها قال ُ‬
‫اهلل تعاىل‪َ } :‬و�أْ ُم�� ْر َ�أ ْه َل َك ِبال�صَّ ال ِة‬ ‫ُ‬ ‫۩ ۩ ِومن الأ�سباب �أي�ض ًا املحافظ ُة على ال�صالة‬
‫َوا�صْ َطبرِْ َع َل ْي َها ال َن�سْ�أَ ُل َك ِر ْز ًقا َّن ْحنُ َن ْر ُز ُق َك َوا ْل َعا ِق َب ُة ِلل َّت ْق َوى{‪� ،‬أخرج �أبو عبيد و�سعيد بن من�صور وابن‬
‫املنذر والبيهقي يف �شعب الإميان ب�سند �صحيح عن عبد اهلل بن �سالم قال كان النبي‪� s‬إذا نزلت ب�أهله‬
‫�شدة �أو �ضيق �أمرهم بال�صالة وتال‪} :‬و�أمر �أهلك بال�صالة{‪.‬‬

‫ وقال ه�شام بن عروة بن الزبري قال‪ :‬قال لنا �أبي‪�( :‬إذا ر�أى �أحدُكم �شيئ ًا من زينة الدنيا وزهرتها‬
‫فلي�أت �أه َله ولي�أمر �أه َله بال�صالة ولي�صطرب عليها ف�إن اهلل قال لنبيه‪َ } :‬وال تمَ ُ دَّنَّ َع ْي َن ْي َك �إِ ىَل َما َم َّت ْع َنا ِب ِه‬
‫ي َو�أَ ْب َقى{ َو�أْ ُم ْر �أَ ْه َل َك ِبال�صَّ ال ِة َوا�صْ َطبرِْ َع َل ْي َها‬
‫�أَ ْز َو ًاجا ِّم ْن ُه ْم َز ْه َر َة الحْ َ َيا ِة ال ُّدن َيا ِل َن ْف ِت َن ُه ْم ِفي ِه َو ِر ْز ُق َر ِّب َك َخ رْ ٌ‬
‫ال َن�سْ�أَ ُل َك ِر ْز ًقا َّن ْحنُ َن ْر ُز ُق َك َوا ْل َعا ِق َب ُة ِلل َّت ْق َوى{‬

‫۩ ۩وال�صدقة منا ٌء للمال‪ ،‬ووفرة فيه‪ ،‬وزياد ٌة له ففي ال�صحيح (�أن ملكني ينزالن من ال�سماء �صبيحة كل‬
‫مم�س َك ًا تلفا)‪.‬‬
‫يوم فيقول �أحدهما‪ :‬اللهم �أعط منفقا خلفا‪ ،‬ويقول الآخ ُر‪ :‬اللهم �أعط ِ‬

‫ روى الرتمذي (‪ )2035‬عن املكي بن �إبراهيم يقول كنا عند ابن جريج فجاء �سائل ف�س�أله؟ فقال ابن‬
‫جعت وعيا ُلك‪ ،‬قال‪ :‬فغ�ضب وقال � ْ‬
‫أعطه‬ ‫أعطه دينار ًا فقال‪ :‬ما عندي �إال دينا ٌر �إن �أعطيتُه َ‬
‫جريج‪ :‬خلازنه � ْ‬
‫بعثت لك خم�س َني دينار ًا‪ ،‬فح َّل ابنُ‬
‫قال الراوي‪ :‬فنحن عنده �إذ جاءه رجل ُ�ص ّر ٍة وكتب له باعثها‪� :‬إين قد ُ‬

‫‪405‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬زيادة الرزق‬

‫ال�صر َة فع َّدها ف�إذا هي واح ٌد وخم�سون دينار ًا‪ ،‬فقال ابن جريج‪ :‬خلازنه قد �أعطيت واحد فرده اهلل‬
‫جريج ُّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫عليك وزادك خم�سني دينار ًا‪.‬‬

‫وزوال الفقر َروى ابنُ ماجه عن عمر‪�d‬أن النبي ‪s‬‬


‫ل�س َعة الرزق‪ِ ،‬‬
‫�سبب َ‬
‫احلج والعمرة ٌ‬
‫۩ ۩واملتابعة بني ِّ‬
‫قال‪( :‬تابعوا بني احلج والعمرة ف�إن املتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الك ُري خبثَ احلديد)‪.‬‬

‫واجلهد يف خدمتهما ور�ضاهُ ما‬


‫ِ‬ ‫الوقت واملال‬
‫وبذل ِ‬ ‫إجالل قدرهما‪ُ ،‬‬‫۩ ۩وب ُّر الوالدين‪ ،‬والإح�سانُ �إليهما‪ ،‬و� ُ‬
‫ِمن � َأج ِّل �أ�سباب زيادة الرزق والربكة فيه روى م�سلم عن �أن�س بن مالك‪d‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪:s‬‬
‫عمره‪ ،‬و�أن ُيزاد له يف رزقه فلي َّرب والديه ول َي ِ�صل رح َمه)‪.‬‬
‫(من �أحب �أن مُي َّد له يف ِ‬
‫َ‬

‫�سبب عظيم‬ ‫وال�سالم وال ِّرب والإح�سان ٌ‬


‫ِ‬ ‫۩ ۩و�صلة الرحم والقرابات �صل ُة ما تقطع منها‪ ،‬وتكرا ُر الزيارة‬
‫لزيادة الرزق وكرثته ومنائه روى ال�شيخان عن �أن�س بن مالك‪ d‬قال �سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪( :‬من‬
‫ن�س�أ له يف �أثره فلي�صل رحمه)‪.‬‬ ‫ب�س َط له يف رز ِق ِه‪� ،‬أو ُي َ‬
‫�س َّره �أن ُي َ‬
‫ ورواه الرتمذي بلفظ‪( :‬تعلموا من �أن�سابكم ما ت�صلون به �أرحامكم ف�إن �صلة الرحم حمبة يف الأهل‪،‬‬
‫بالقوم الدِّ يار‬
‫ِ‬ ‫مرثا ٌة يف املال‪ ،‬من�س�أ ٌة يف الأثر)‪ .‬وعن ابن عبا�س ‪ d‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪�( :s‬إن اهلل ل َيع ُم ُر‬
‫غ�ض ًا لهم)‪ ،‬قيل‪ :‬وكيف ذاك يا ر�سول اهلل؟ قال‪( :‬ب�صلتهم‬ ‫َو ُي ِثم ُر لهم الأموال َوما َن َظ َر �إليهم ُمنذ َخ َل َقهم ُب َ‬
‫�أرحامهم) رواه الطرباين ب�إ�سناد ح�سن واحلاكم‪.‬‬

‫ والقطيعة للرحم من �أدنى عقوبتها حرمانُ الرزق وتق�صفه و�إقال ُل ُه روى الرتمذي و�صححه عن �أبي‬
‫‪(:‬ما من ذنب �أجد ُر �أن يعجل اهلل ل�صاحبه العقوبة يف الدنيا مع ما يدخر له‬
‫بكرة قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪َ s‬‬
‫يف الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)‪.‬‬

‫ ويف رواية عند الطرباين (املعجم الأو�سط ‪ )1092‬عن �أبى هريرة قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪�( :s‬إن �أعجل‬
‫الطاعة ثوابا �صلة الرحم و�إن �أهل البيت ليكونون فجارا فتنموا �أموالهم ويكرث عددهم �إذا و�صلوا �أرحامهم‪،‬‬
‫و�إن �أعجل املع�صية عقوبة البغي واخليانة واليمني الغمو�س تذهب املال وتقل يف الرحم وتذر الديا َر بالقع)‪.‬‬

‫خل ُلق الكرمي‪،‬‬


‫ف�صاحب ا ُ‬
‫ُ‬ ‫وح�سن اخللق مع النا�س‪،‬‬‫۩ ۩ ِومن �أ�سباب زيادة الرزق �أي�ض ًا ُح�سن اجل��وار‪ُ ،‬‬
‫الثواب‬
‫َ‬ ‫وبذل للمعروف ُي َع ِّج ُل اهلل له‬
‫و�صد ِق ِه‪ٍ ،‬‬
‫نطق ِ‬
‫�سن َم ٍ‬
‫وح ِ‬
‫وجه‪ُ ،‬‬ ‫والتعامل َ‬
‫احل َ�س ِن مع النا�س بب�شا�ش ِة ٍ‬ ‫ِ‬
‫بزيادة ماله وكرثته وبركته؛ روى الإمام �أحمد ب�سند رجاله ثقات عن عائ�شة مرفوعا‪�( :‬صل ُة الرحم‪،‬‬
‫يعمران الدِّ يار ويزيدان يف الأعمار)‪.‬‬
‫وح�سن اجلوار‪ ،‬وح�سن اخللق ِّ‬
‫بارك ُ‬
‫اهلل يل ولكم يف القر�آن العظيم‬

‫‪406‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬زيادة الرزق‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار‬
‫على نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق‬
‫التقوى ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪،‬‬
‫و اعلموا عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪،s‬‬
‫و�شر الأمور حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن‬
‫املنكر يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا‬
‫بتوفيقك و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا وال��زالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪،‬‬
‫عن بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني‬
‫وامل�سلمات الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪،‬‬
‫فا�ستغفروه �إنه هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪407‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫سداد الدين وإنظار املعسر‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬سداد الدين وانظار املعسر‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن النا�س يتبايعون‪ ،‬ويقر�ض بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬وقد �أمر ال�شرع عند وجود دين‪� ،‬أو نحوه بعدد من الأمور‪:‬‬
‫ف�أو ًال‪� :‬أمر بكتابتها } َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا �إِ َذا ت ََدا َينتُم ِب َد ْي ٍن ِ�إ ىَ َ‬
‫ل �أ َج ٍل ُّم َ�س ًّمى َفا ْك ُت ُبو ُه َو ْل َي ْكتُب َّب ْي َن ُك ْم َكا ِت ٌب‬
‫ِبا ْل َع ْد ِل{‪.‬‬

‫ ثم �أمر اهلل تعاىل عند حول الأجل �أن ي�ؤدي املدين دي َنه‪ ،‬مع ُّ‬
‫ال�شكر للدائن على �إنظاره‪ ،‬روى ابن ماجه‬
‫ب�إ�سناد �صحيح �أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إمنا جزاء ال�سلف الوفاء واحلمد)‪ .‬وبينّ النبي ‪�s‬أن خري النا�س هم‬
‫خريهم ق�ضا ًء للديون‪ ،‬فقال غ‪�( :‬إن خ َريكم �أحا�س ُنكم ق�ضاء)‪.‬‬

‫النبي ‪�s‬أنّ املدين �إذا مطل احلقّ �أو ت� ّأخر يف �أدائه من غري ُعذر ف�إنه �آثم عند‬
‫ُّ‬ ‫ ويف نف�س الوقت بينّ‬
‫اهلل وم�ستح ٌّق العقوبة يف الدنيا والآخر‪ ،‬ففي ال�صحيحني �أن النبي ‪s‬قال‪( :‬مطل الغني ظلم)‪ .‬فهو ظل ٌم‬
‫والظامل يجوز الدعاء عليه‪ ،‬واال�ستعداء‪ ،‬وي�ستحق العقوبة‪ ،‬لذا قال‪ « :s‬يل الواجد يحل عر�ضه وعقوبته »‪.‬‬
‫قال عبد اهلل بن املبارك‪( :‬يحل عر�ضه يغلظ له –�أي باللفظ‪ ،-‬ويح ّل عقوبتَه يحب�س للدين)‪.‬‬

‫ ‪ w‬ويف املقابل‪� :‬أمر اهلل الدائن ب�أمور‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫خطبة جديدة‬


‫۩ ۩�أ ّنه �أثبت له ح ّق ًا �إىل حني ال�سداد‪ ،‬فال مينع من ح ّقه يف املطالبة‪ ،‬وال ُيعاب بذلك‪ُ ،‬روي عن ابن عبا�س‬
‫‪ d‬قال‪ :‬جاء رجل يطلب نبي اهلل‪s‬بدين �أو بحق‪ ،‬فتك َّلم ببع�ض الكالم‪ ،‬فهم �صحابة ر�سول اهلل‪s‬‬
‫به‪ ،‬فقال ر�سول اهلل‪( :s‬مه‪� ،‬إن �صاحب الدين له �سلطان على �صاحبه حتى يق�ضيه)‪.‬‬

‫۩ ۩وقد �أُمر الدائن بالإح�سان عند املطالبة‪ ،‬فروى ابن ماجه عن ابن عمر وعائ�شة ‪�f‬أن ر�سول اهلل‪s‬‬
‫قال‪( :‬من طالب حق ًا فليطلبه يف عفاف واف �أو غري واف)‪.‬‬

‫۩ ۩ و�أبيح َملن كان له ح ٌّق ودين على غريه ومنعه �إياه �أن ي�شكوه‪ ،‬ويطالب بحب�سه‪ « ،‬يل الواجد يحل عر�ضه‬
‫وعقوبته »‪.‬‬

‫‪408‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سداد الدين وانظار املعسر‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫۩ ۩ف�إن كان مع�سر ًا ال ي�ستطيع ال�سداد فقد ُ�شرع ُحكمان يف التي�سري عليه‪:‬‬
‫حب�س ُه قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و�إِن َكانَ ُذو ُع ْ�س َر ٍة َف َن ِظ َر ٌة �إِ ىَل‬
‫واجب‪ ،‬فقد �أوجب اهلل �إنظا َره‪ ،‬وحرم ُ‬ ‫�أحدهما‪ٌ :‬‬
‫َم ْي َ�س َر ٍة{‪.‬‬
‫يزول به �إع�سا ُره من غري‬ ‫ومرغب فيه‪ ،‬وهو الو�ضع عنه من دائنه‪� ،‬أو �إعطائه ما ُ‬ ‫‪ w‬والثاين‪ :‬مندوب �إليه ّ‬
‫الدائن‪ ،‬وكالهما له ف�ضل عظيم عند اهلل‪.‬‬

‫ي�سر عليه و�أنظره‪ ،‬كان كال�صدقة منه عليه‪ ،‬روى ابن ماجه ب�إ�سناد ج ّيد عن بريدة‬ ‫۩ ۩فمن ف�ضله‪� :‬أنّ من ّ‬
‫الأ�سلمي‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬من �أنظر مع�سر ًا فله َّ‬
‫كل يوم �صدقة قبل �أن يح َّل الدين‪ ،‬ف�إذا حل الدين‬
‫ف�أنظره فله بكل يوم مثله �صدقة)‪.‬‬
‫۩ ۩من ف�ضله‪� :‬أن اهلل يتجاوز عنه يوم القيامة‪ ،‬يف ال�صحيحني عن حذيفة ‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬تلقت‬
‫املالئكة روح رجل ممن كان قبلكم قالوا �أعملت من اخلري �شيئا ؟ قال‪ :‬كنت �أداين النا�س ف�آمر فتياين‬
‫�أن ينظروا املع�سر ويتجوزوا عن املو�سر قال‪ :‬قال اهلل عز وجل‪ :‬جتوزوا عنه)‪.‬‬

‫۩ ۩ومن ف�ضله‪� :‬أنّ اهلل ينجيه‪ ،‬يف �صحيح م�سلم عن �أبي قتادة ا �أ ّنه طلب غرميا له فتوارى عنه ثم وجده‬
‫فقال‪� :‬إين مع�سر‪ .‬فقال‪� :‬آهلل ؟ قال �أهلل‪ .‬قال‪ :‬ف�إين �سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪( :‬من �سره �أن ينجيه اهلل‬
‫من كرب يوم القيامة فلينف�س عن مع�سر �أو ي�ضع عنه)‪.‬‬

‫۩ ۩ومن ف�ضله‪� :‬أنّ اهلل ي�ضله يف ظل عر�شه‪ ،‬روى الرتمذي من حديث �أبي هريرة‪� d‬أن النبي‪s‬قال‪َ :‬‬
‫(منْ‬
‫�أَ ْن َظ َر ُم ْع ِ�س ًرا ‪� ،‬أَ ْو َو َ�ض َع َل ُه ‪�َ ،‬أ َظ َّل ُه هَّ ُ‬
‫الل َي ْو َم ال ِق َي َام ِة تحَْ َت ِظ ِّل َع ْر ِ�ش ِه َي ْو َم َال ِظ َّل �إِالَّ ِظلُّهُ)‪ .‬ومن حديث �أبي‬
‫نظر مع�سر ًا �أو لي�ضع له)‪.‬‬ ‫الي�سر ‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬من �أحب �أن يظله اهلل يف ظله فل ُي ِ‬

‫بي‪s‬قال‪َ :‬‬
‫(من �أراد �أنْ‬ ‫ابن عم َر‪�d‬أن ال َّن َّ‬
‫۩ ۩ومن ف�ضله �أنه �سبب ال�ستجابة الدعوة‪ ،‬يف امل�سند عن ِ‬
‫ك�شف ُكر َبتُه‪ ،‬فليف ِّر ْج عن ُم ِ‬
‫ع�س ٍر)‪.‬‬ ‫ُت�ستجاب دعوته‪ ،‬و ُت َ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫‪409‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سداد الدين وانظار املعسر‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪410‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سالمة الصدر‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫سالمة الصدر‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫�صفات و�أخالق ًا عجيبة‪ ،‬ال تكاد جتتمع يف غريهم‪ ،‬جت َم ُع بني‬
‫ٍ‬ ‫اهلل تعاىل َج َع َل يف عبا ِده امل�ؤمنني‬ ‫ف�إن َ‬ ‫ ‬
‫فق وال ُق َّوة‪.‬‬ ‫ال َّرحم ِة َو ِّ‬
‫ال�ش ّدة‪ ،‬وال ِّر ِ‬

‫�سليم ال�صدر‪ِ ،‬غ ٌّر كرمي؛ روى �أبو داود (‪)4790‬‬ ‫احلق والتي ال تتوفر يف ُك ِّل �أحد �أنه ُ‬
‫�صفات امل�ؤمن ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِومن‬ ‫ ‬
‫والرتمذي (‪ )1964‬من حديث �أبي هريرة ‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪« :‬المْ� ِؤمنُ ِغ ّر كرمي‪ ،‬والفاجر َخ ّب لئيم»‪.‬‬

‫النبي‪s‬امل�ؤمنَ ِ«غ َّر ًا» فهو كالذي مل يجرب الأمور‪ ،‬و�إمنا جعله ِغ ّر ًا ن�سب ًة ل�سالمة �صدره وطويته‪،‬‬
‫ ف�س ّمى ُّ‬
‫النا�س منه يف‬
‫ال�صدور‪ ،‬فرتى َ‬ ‫�سن ظ ِّنه بالنا�س‪ ،‬فك�أنه مل يج ِّرب بواطنَ الأمور‪ ،‬ومل َيط ِّلع على َدخائل ُّ‬ ‫وح ِ‬‫ُ‬
‫مر�ضي ال�سريرة‪ ،‬ظاه ُره وباط ُنه‬
‫ُّ‬ ‫راحة‪ ،‬ال يتعدى �إليهم منه �ش ٌر‪ ،‬بل ال �ش ٌّر فيه فيتعدى‪ ،‬فهم م�أمونُ اجلانب‪،‬‬
‫وق�صده‪ ،‬ال عن‬
‫ِ‬ ‫تغي‪ .‬ف�سالمة القلب هي �سالمتُه من �إرادة ّ‬
‫ال�شر‬ ‫خ�شى منه رّ‬ ‫�سواء‪ ،‬ال ُيخاف منه خديعة‪ ،‬وال ُي َ‬
‫علمه ومعرف ِته‪ ،‬ف َمن َع َرف ال�ش ّر و�أبغ�ضه وذ ّمه ونهى عنه‪ ،‬فهو �سليم ال�صدر [قاله ابن تيمية]‪.‬‬ ‫ِ‬
‫خطبة جديدة‬

‫رجو بذلك مك�سب ًا دنيوي ًا‪ .‬وهذه هي‬ ‫مي يبذل ما يف يده‪ ،‬ويعطي غ َريه منه ال َي ُ‬ ‫ وهو مع كو ِنه غر ًا فهو كر ٌ‬
‫وها ِب َ�س َال ٍم � ِآم ِننيَ*‬
‫نف�س امل�ؤمن يف الدنيا والآخرة‪ ،‬قال تعاىل‪�} :‬إِنَّ المْ ُ َّت ِق َني فيِ َج َّن ٍات َو ُع ُي ٍون* ا ْد ُخ ُل َ‬ ‫�صفة ِ‬
‫َو َنزَ ْع َنا َما فيِ ُ�صدُو ِر ِهم ِّمنْ ِغ ٍّل �إِ ْخ َوان ًا َع َلى ُ�س ُر ٍر ُّم َت َقا ِب ِلنيَ{‪.‬‬

‫ بخالف الفاجر ف�إنه َخ ٌّب �أي خ َّداع م َّكا ٌر َخبيث‪ ،‬ولذا قابل به «ال ِغر» لأن النا�س يت�أذون به‪ ،‬ملا َي�ص ُلهم‬
‫ِمن �شره‪ ،‬وال ي�أمنون من غوائله‪ ،‬وال يكون كذلك �إال الل�ؤماء من النا�س‪ ،‬ولذا جمع النبي‪s‬بني و�صفي ا َ‬
‫خل ِّب‬
‫والل�ؤم‪.‬‬

‫النبي‪s‬؛ روى الرتمذي وح�سنه عن �أن�س ‪� d‬أن النبي‬ ‫ وملّا كانت هذه �صف َة امل�ؤمن‪ ،‬كانت هي و�ص ّي َة ِّ‬
‫أحد فافعل)‪.‬‬ ‫بني! �إن قدرتَ على �أن ت�صبح ومت�سي لي�س يف قل ِب َك ٌّ‬
‫غ�ش ل ٍ‬ ‫‪s‬قال له‪( :‬يا َّ‬
‫‪411‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سالمة الصدر‬

‫وح�سنَ ال�سريرة منزل ٌة عالي ٌة ودرج ٌة �سامية ال ُتنال �إال‬


‫ عباد اهلل! �إن هذه ال�صفة �أعني �سالمة ال�صدر‪ُ ،‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫بتوفيق من اهلل تعاىل ومغالب ٍة للنف�س‪ ،‬وهي التي تنزل �صاح َبها الدرجة الرفيع َة عند اهلل وعند خل ِقه؛ قال‬
‫الف�ضيل بن عيا�ض‪( :‬مل ُيد ِرك عندنا َمن � َ‬
‫أدرك بكرث ِة �صيام وال �صالة‪ ،‬و�إمنا �أدرك ب�سخاء الأنف�س‪ ،‬و�سالمة‬
‫ال�صدر‪ ،‬والن�صح للأمة)‪.‬‬

‫�سليم ال�صَّ د ِر‪ ،‬ح�سنَ الطو ّي ِة �أف�ض ُل ِ‬


‫النا�س عند اهلل و�أح ُّبهم �إىل النا�س‪ ،‬قال �إيا�س بن معاوية‪:d‬‬ ‫ �إن َ‬
‫«كان �أف�ض ُلهم عندهم [�أي عند ال�صحابة] �أ�سل َمهم ُ�صدور ًا‪ ،‬و�أق َّلهم ِغيبة»‪.‬‬

‫ �إن �سالم َة ال�صدر من ال�ضغائن‪ ،‬وخل َّوه من الكراهية �أدخلت رج ًال اجلنة على ق ّلة عمله‪ ،‬ففي م�سند‬
‫الإمام �أحمد �أن النبي‪s‬قال‪( :‬يدخل عليكم من هذا الباب رج ٌل من �أهل اجلنة‪ ،‬فطلع رجل من الأن�صار‬
‫تنظف حليته من َو�ضوئه قد ع َّلقَ نعليه بيده ال�شمال‪ ،‬فلما كان الغد قال النبي ‪s‬مثل ذلك‪َ ،‬‬
‫فط َل َع ذلك‬
‫الرجل مثل املرة الأوىل‪ ،‬فل َّما كان اليوم الثالث قال النبي ‪s‬مثل مقالته �أي�ض ًا‪ ،‬فطلع ذلك الرجل على مثل‬ ‫ُ‬
‫حا ِل ِه الأول‪ ،‬فتبعه عبد اهلل بن عمرو ف�س�أله‪ :‬ما الذي َب َل َغ بك ما قال ر�سول اهلل‪s‬؟ قال‪( :‬ما هو �إال ما‬
‫أحد من امل�سلمني غ�شَّ ًا‪ ،‬وال �أح�س ُد �أحد ًا على خ ٍري �أعطاه ُ‬
‫اهلل �إياه)‪ ،‬فقال‬ ‫ر�أيت‪ ،‬غري �أين ال �أج ُد يف نف�سي ل ٍ‬
‫عبد اهلل‪( :‬هذه التي َب َلغت بك‪ ،‬وهي التي ال نطيق)‪.‬‬

‫ُ‬
‫اجلليل �أبو دجانة ‪ d‬دخل عليه َمن يعوده فر�أى وج َهه‪d‬متهل ًال‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما‬ ‫ال�صحابي‬
‫ُّ‬ ‫ وملّا مر�ض‬
‫أتكلم في َما ال َيعنيني‪،‬‬
‫كنت ال � ُ‬
‫(ما من عمل �شيء �أوثق عندي من اثنتني‪ُ :‬‬
‫لوجهك يتهلل و�أنت مري�ض؟ فقال‪َ :‬‬
‫والأخرى فكان قلبي للم�سلمني َ�سليم ًا)‪.‬‬

‫عدم احل�سد‪ُ ،‬‬


‫وترك ال ِغل وال�ضغينة‪ ،‬وكراهية ّ‬
‫الغ�ش‪ ،‬وال ُبع ُد عن‬ ‫ �إن �سالم َة ال�صدر (عباد اهلل!) هي ُ‬
‫وترك احلديث يف �أعرا�ضهم‪ُ ،‬‬
‫وترك اال�ستماع للقال ِة‬ ‫والتج�س�س على النا�س‪ُ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ال َبغي‪ ،‬وعدم تتب ِع العورات‬
‫ُ‬
‫وقبول االعتذار‪،‬‬ ‫فيهم و�إن زعموا الإ�صالح‪ ،‬وحمل �إعما ِلهم على �أح�سن املحامل ما مل ي�ستنب خط�ؤها‪،‬‬
‫وال�صفح عند الز ّلة‪ ،‬والر�ضا منهم بالقليل‪ ،‬وعدم الرتفع عليهم وال التكرب عنهم‪.‬‬
‫ُ‬

‫ �إن �سالمة ال�صدر ت�ستلزم ُح َّب اخل ِري للنا�س جميع ًا‪ ،‬وال�سرو َر َمبا ُي�سو ُق ُه اهلل �إىل عباده من ِنعم‪،‬‬
‫الفرح ب�آالمهم وم�صابهم‪ ،‬بل يكرهها‬ ‫أحد كائن ًا َمن كان‪� ،‬أو ِ‬ ‫النف�س من �إ�ضمار ال�ضغينة ل ٍ‬‫وتقت�ضي َبراء َة ِ‬
‫كما لو كانت له‪.‬‬

‫ َمن اجتمعت فيه هذه اخل�صال فهو َمن عنا النبي‪s‬بقوله‪( :‬امل�ؤمن غ ّر كرمي)‪ .‬ولي�س ذلك بالتمني �أو‬
‫الدعوى‪ ،‬ولذا قال ابن عمرو ب‪( :‬وهي التي ال نطيق)‪.‬‬

‫‪412‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سالمة الصدر‬

‫�سليم ال�صدر َمن‬


‫�شرف �أو ولد‪ ،‬ولي�س َ‬ ‫ح�سد �أحد ًا على ٍ‬
‫مال �أتاه اهلل �إياه �أو على ٍ‬ ‫�سليم ال�صدر َمن َ‬ ‫ لي�س َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�سليم ال�صدر َمن تتبع عورات‬


‫م�سلم ال ل�شيء �إال لأنه توهم �أنه �أ�ساء �إليه و�أخط�أ عليه‪ ،‬ولي�س َ‬ ‫�سعى يف �أذية ٍ‬
‫�سليم ال�صدر َمن حمل َ�ضغين ًة على غريه ومل يجعل‬‫والتح�س�س‪ ،‬ولي�س َ‬ ‫ُّ‬ ‫امل�سلمني بالغيبة والنميمة والتج�س�س‬
‫�سليم ال�صَّ در َمن‬ ‫له ُعذر ًا‪� ،‬أو يقبل منه اعتذر ًا‪ ،‬ولي�س �سليم ال�صدر َمن هج َر �أخاه وامتنع من ِ‬
‫كالمه‪ ،‬ولي�س َ‬
‫أمر ُو ِّفقَ فيه �أخوه من زواج‪� ،‬أو جتار ٍة‪� ،‬أو وظيف ٍة‪� ،‬أو غريها‪.‬‬
‫�سعى يف �إف�ساد � ٍ‬

‫عدم �إرخاء ال�سمع‪ ،‬وال �سماع ما ُيقال يف النا�س‪ ،‬وما ُينقل عنهم ف�إن املر َء‬
‫ �إن مما يق ّوي �سالمة ال�صدر َ‬
‫�سليم ال�صدر يف ح ِّقه‪ ،‬ف�إذا �سمع �شيئ ًا من م�ساويه ‪-‬واقع ًا �أو‬
‫مادام مل َي�سم َع عن �أخيه �إال مناق َبه ف�إنه يكون َ‬
‫غري واقع‪ -‬ف�إنه يتغري له خاطره‪.‬‬

‫ لذا جاء يف احلديث �أن النبي‪s‬قال‪َ « :‬ال ُي َب ِّل ْغ ِني �أَ َح ٌد ِمنْ �أَ�صْ َحا ِبي َعنْ �أَ َح ٍد َ�ش ْيئ ًا َف ِ�إنيِّ �أُ ِح ُّب �أَنْ َ�أ ْخ ُر َج‬
‫ِ�إ َل ْي ُك ْم َو َ�أ َنا َ�س ِل ُيم ال�صَّ ْد ِر» [رواه �أبو داود ‪ 4862‬من حديث ابن م�سعود]‪.‬‬
‫اال�ستخفاف به و�إن كان �أق َّل ما ًال وجاه ًا ففي‬ ‫ِ‬ ‫أحد‪ ،‬وال‬
‫ و�إن مما تثبت به �سالمة ال�صدر عدم ا�ستحقا ِر � ٍ‬
‫امرئ ِمن ال�شر �أن يحقر �أخاه امل�سلم)‪.‬‬ ‫ال�صحيحني �أن النبي‪s‬قال‪( :‬بح�سب ٍ‬

‫أيت َمن النا�س فاحمله على‬ ‫ ومما ُي�ساعد عليها عدم �سو ِء الظن يف ت�صرفات الغري و�أعما ِله‪ ،‬فمهما ر� َ‬
‫م�سلم �شر ًا‪ ،‬و�أنت جتد لها يف اخلري‬
‫�أح�سن املحامل؛ قال عمر بن اخلطاب ‪( :d‬ال تظننََّّ بكلمة خرجت من ٍ‬
‫حمم ًال)[الأمايل للمحاملي ‪ ،447‬و�أبو ال�شيخ‪ :‬التوبيخ ‪ ،]151‬وقال‪( :‬احمل �أمر �أخيك على �أح�سنه حتى‬
‫يجيئك ما يغلبك منه)[التدوين للرافعي ‪.]217/1‬‬

‫ و ُنقل �أن رج ًال قال لل�شافعي كالم ًا قد ُيفهم ظاه ُره على غري املراد ثم ا�ستدرك بعد ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬واهلل‬
‫ما �أردتُ �إال اخلري‪ ،‬فقال ال�شافعي‪�( :‬أعلم �أنك لو �شتمتني مل ترد �إال اخلري)‪.‬‬

‫وزوجه على ُك ِّل خط�أ يبدر منه‪ ،‬ويحا�س ُب ُه على كل كلمة يتفوه بها‪ ،‬مل يبق‬
‫ فلو عاتب املر ُء رفيقه وقري َبه َ‬
‫له رفيق‪ ،‬ومل ُ‬
‫ت�صف له مودة‪.‬‬

‫ �إذا ك ـنــت يف كــل الأمــور مــعاتب ـ ًا‬


‫�صديقك مل تلقَ الذي ال تعات ُب ْه‬ ‫ ‬
‫فعــ�ش واحــد ًا �أو �ص ـِ ْل �أخــاك ف�إنه‬ ‫ ‬
‫ُمــقا ِر ُف ذنـ ٍـب مـ ـ َّر ًة ومــجانبـُ ْه‬ ‫ ‬
‫ر�ضى َ�سجاياه كلُّها‬ ‫َومن ذا الذي ُت َ‬ ‫ ‬
‫كف ـَى املـر َء ُنب ًال �أن تع َّد معاي ُبه‬ ‫ ‬

‫‪413‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫سليمان والشياطني‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬سليمان والشياطني‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫فق�ص لنا‬ ‫العزيز �أخبار ًا عظام ًا ليتعظ بها امل�ؤمنون‪ ،‬ويتذكروا‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫اهلل ع ّز وج ّل لنا يف كتابه‬ ‫ فقد ذكر ُ‬
‫وغريهم‪.‬ومن ذلك خ ُرب ُه ج ّل وعال عن نبيه �سليمان بن داود ؛ مع‬ ‫ِ‬ ‫ق�ص�ص الأنبياء‪ ،‬واملر�سلني‪ ،‬وال�صاحلني‪،‬‬
‫�سخرهم اهلل له‪.‬‬ ‫ال�شياط ِني الذين ّ‬
‫ ‬
‫بعده‪ِ .‬ومن ذلك‬ ‫ق�ص لنا اهلل �سبحانه �أنه �آتَى �سليمان َ‪ُ a‬ملك ًا مل ي�ؤته �أحد ًا ِمن العاملني قب َله وال َ‬ ‫ فقد َّ‬
‫�سخر له ال�شياطني جمندين عنده‪ ،‬ي�أمترون ب�أمره‪ ،‬ويعملون بتوجيهه‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و ُح ِ�ش َر‬ ‫�أنه �سبحانه َّ‬
‫جن�س من هوالء الأجناد َمن‬ ‫الط رْ ِي َف ُه ْم ُيو َز ُعونَ { �أي �أنه َج َع َل على ُك ِّل ٍ‬
‫ن�س َو َّ‬
‫ِل ُ�س َل ْي َمانَ ُج ُنو ُد ُه ِمنَ الجْ ِ نِّ َوا ِلإ ِ‬
‫أمامهم‪.‬‬
‫ير ُّد �أولهم على �آخرهم كي يقفوا منتظمني � َ‬

‫العظيم املتقنَ ؛ كال�ص ّرح الذي بناه من الزجاج‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ و�أخبرَ َ اهلل عن عم ِلهم له‪ ،‬و�أنهم كانوا يبنون له البنيانَ‬
‫بطلب منه ال�ستخراج ما يريد منها‪ ،‬و�أنه ق ّيد فريق ًا منهم بالأغالل ك ّف ًا ل�ش ِّرهم}‬ ‫ويغو�صون يف البحار ٍ‬
‫أعمال غري ذلك‪}،‬‬ ‫ا�ص{ َو� َآخ ِرينَ ُم َق َّر ِن َني فيِ الأَ�صْ َفا ِد{‪ ،‬كما كانوا يقومون له ب� ٍ‬ ‫َوال�شَّ َي ِاط َني ُك َّل َب َّناء َو َغ َّو ٍ‬
‫�سخرهم له فعملوا‬ ‫و�صونَ َل ُه َو َي ْع َم ُلونَ َع َم ًال دُونَ َذ ِل َك َو ُك َّنا َل ُه ْم َحا ِف ِظنيَ{‪ ،‬كما �أن َ‬
‫اهلل َّ‬ ‫َو ِمنَ ال�شَّ َي ِاط ِني َمن َي ُغ ُ‬
‫اب َو ُقدُو ٍر َّر ِا�س َي ٍات‬ ‫ال�صنع‪َ } ،‬ي ْع َم ُلونَ َل ُه َما َي َ�شاء ِمن محَّ َ ا ِر َ‬
‫يب َوتمَ َ ا ِث َيل َو ِج َف ٍان َكالجْ َ َو ِ‬ ‫م�صنوعات دقيق ًة يف ّ‬ ‫ٍ‬
‫ْاع َم ُلوا � َآل َدا ُوو َد ُ�ش ْكر ًا َو َق ِلي ٌل ِّمنْ ِع َبا ِد َي ال�شَّ ُكو ُر{‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫ال�صور يف‬
‫فاملحاريب هي الأ�شكال احل�سنة يف �صدور املجال�س ِمن زخارف ونحوها‪ ،‬والتماثيل هي ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫احليا�ض الكبرية‪ ،‬كما �صنعوا له قدور ًا‬
‫اجلدران وكانت �سائغ ًة يف �شريعته ثم ُح ِّرم يف �شرعنا‪ ،‬واجلفان هي ِ‬
‫كبار ًا ليطعم اخللق منها‪.‬‬

‫عذ ُب ِمن ميتنع منهم عن طاعته ويخرج عن �أمره } َو ِمنَ الجْ ِ نِّ َمن َي ْع َم ُل‬ ‫اهلل ج ّل وعال �أنه كان ُي ِّ‬ ‫ وبينّ ُ‬
‫ال�س ِع ِري{‪.‬‬ ‫اب َّ‬ ‫َبينْ َ َي َد ْي ِه ِب�إِ ْذ ِن َر ِّب ِه َو َمن َي ِز ْغ ِم ْن ُه ْم َعنْ �أَ ْم ِر َنا ُن ِذ ْق ُه ِمنْ َع َذ ِ‬
‫ال�ص َن َاعة يف ُملك �سليمان‪a‬مبلغ ًا من ا ِلإتقان واجلودة واجلالل ال�شي َء الكبري‪.‬‬ ‫ وقد بلغت ِّ‬
‫إمكان غريهم �أن‬ ‫اهلل �أن يبينّ للنا�س عموم ًا وللجن باخل�صو�ص �أن ما ُقدِّ روا عليه‪ ،‬ب� ِ‬ ‫ ومع ذلك �أراد ُ‬
‫وحدهم‪،‬‬ ‫وحده‪ ،‬فال يوجد �شي ٌء يف الدنيا ال ي�ستطيعه �إال ال�شياط ُني َ‬ ‫أعظم منه بتوفيق من اهلل ج ّل وعال َ‬ ‫يعمل � َ‬
‫ني{‬ ‫ف�إن بلقي�س ملّا �أرادت �أن ت�أتي ل�سليمانَ ‪َ } a‬ق َال‪َ :‬يا �أَ ُّي َها ا َمللأ َ�أ ُّي ُك ْم َي ْ�أ ِتي ِني ِب َع ْر ِ�ش َها َق ْب َل َ�أن َي�أْ ُتونيِ ُم ْ�س ِل ِم َ‬
‫‪414‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سليمان والشياطني‬

‫ني{ َق َال ا َّل ِذي ِع َند ُه ِع ْل ٌم ِّمنَ‬ ‫يك ِب ِه َق ْب َل �أَن َت ُق َوم ِمن َّم َق ِام َك َو�إِنيِّ َع َل ْي ِه َل َق ِو ٌّي �أَ ِم ٌ‬ ‫ريت ِّمنَ الجْ ِ نِّ �أَ َنا �آ ِت َ‬ ‫َق َال ِع ْف ٌ‬
‫يك ِب ِه َق ْب َل َ�أن َي ْر َت َّد ِ�إ َل ْي َك َط ْر ُف َك َف َل َّما َر�آ ُه ُم ْ�س َت ِق ّر ًا ِع َند ُه َق َال َه َذا ِمن َف�ضْ ِل َر ِّبي ِل َي ْب ُل َونيِ �أَ�أَ�شْ ُك ُر‬ ‫َاب �أَ َنا �آ ِت َ‬
‫ا ْل ِكت ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اهلل �أن �سليمانَ َ‪a‬ا�ستطاع �أن‬ ‫مي{‪ .‬فبينّ ُ‬ ‫�أَ ْم �أَ ْك ُف ُر َو َمن َ�ش َك َر َف ِ�إنمَّ َ ا َي�شْ ُك ُر ِل َن ْف ِ�س ِه َو َمن َك َف َر َف ِ�إنَّ َر ِّبي َغ ِن ٌّي َك ِر ٌ‬
‫عفريت اجلنِّ ‪.‬‬‫ِ‬ ‫عر�ش بلقي�س يف حلظ ٍة �أ�سر َع ِمن ُقدر ِة‬ ‫ينقل َ‬

‫للنا�س �أنهم‬
‫ِ‬ ‫الغيب‪َّ ،‬‬
‫ويطل ُعون عليه‪� ،‬أراد اهلل �أن يبينّ‬ ‫النا�س �أنهم َيع َلمون َ‬
‫ وملّا كانت ال�شياط ُني توهم َ‬
‫أقرب الأ�شياء �إليهم مما فيه �ضر ٌر عليهم فكيف بغريها‪.‬‬
‫العلم ب� ِ‬
‫لي�سوا كذلك‪ ،‬و�أنهم عاجزون عن ِ‬

‫نبي اهلل ‪�a‬إذا �ص ّلى ر�أى �شجر ًة نابت ًة بني يديه فيقول لها‪ :‬ما‬ ‫ قال ابن عبا�س ‪( :d‬كان �سليمان ُّ‬
‫أنت؟ ف�إن كانت ل َغ ْر ٍ�س ُغ ِر َ�س ْت‪ ،‬و�إن كانت لدواء ُك ِت َب ْت‪ .‬فبينما هو‬
‫ا�س ُم ِك؟ فتقول‪ :‬كذا‪ .‬فيقول‪ :‬ل ِّأي �شيء � ِ‬
‫ُي�ص ِّلي ذات يوم �إذ ر�أى �شجرة بني يديه‪ ،‬فقال لها‪ :‬ما ا�سمك؟ قالت‪ :‬اخلروب‪ .‬قال‪ :‬لأي �شيء �أنت؟ قالت‪:‬‬
‫إن�س �أن اجلن ال َيع َل ُمون‬
‫خلراب هذا البيت‪ .‬فقال �سليمان‪( :a‬اللهم‪َ ،‬ع ّم على اجلن موتتي حتى يعلم ال ُ‬
‫الغيب)‪.‬‬

‫ فنحتها ع�ص ًا‪ ،‬فتوك�أ عليها َحو ًال م ِّيت ًا‪ ،‬واجلنُّ تعمل‪ .‬ف�أكلتها ال َ‬
‫أر�ض ُة‪ ،‬ف�سقط حينئذ‪ ،‬فتبينت الإن�س �أن‬
‫اجلن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حو ًال يف العذاب املهني)‪.‬‬

‫ن�س�أَ َت ُه َف َل َّما َخ َّر‬


‫ قال اهلل ج ّل وعال‪َ } :‬ف َل َّما َق َ�ض ْي َنا َع َل ْي ِه المْ َ ْوتَ َما َد َّل ُه ْم َع َلى َم ْو ِت ِه �إِالَّ َدا َّب ُة الأَ ْر ِ�ض َت�أْ ُك ُل ِم َ‬
‫اب المْ ُ ِه ِني{‪.‬‬‫َت َب َّي َن ِت الجْ ِ نُّ �أَن َّل ْو َكا ُنوا َي ْع َل ُمونَ ا ْل َغ ْي َب َما َل ِب ُثوا فيِ ا ْل َع َذ ِ‬
‫الغيب‪ ،‬واالطال َع عليه‪ ،‬ف�إن َ‬
‫اهلل قد �أذلهم بحياة �سليمان ؛‬ ‫ فبينّ اهلل تعاىل �أن اجلنَّ و�إن زعموا عل َمهم َ‬
‫وموته‪ ،‬و�أخزى ظ َّنهم‪ ،‬و�أكذب زع َمهم بالقوة والغلبة } ِ�إنَّ َك ْي َد ال�شَّ ْي َط ِان َكانَ َ�ض ِعيف ًا{‪.‬‬

‫عف �إميا ُن ُه وق َّل ِعل ُم ُه بالوحي ف�إنه ُ‬


‫ين�سب لل�شيطانني ِمن القوة والغلبة وا َمل َن َع ِة ما لي�س لهم‪ ،‬وما‬ ‫ �إنّ َمن َ�ض ُ‬
‫ال ُقدرة للنا�س بغلبته‪ ،‬ولي�س الأمر كذلك‪ ،‬ف ُك ُّل ما يقدرون عليه (�إن َ�صد ُقوا) ف�إن ال َّ‬
‫آدمي قاد ٌر عليه بتوفيق‬
‫اهلل تعاىل له‪.‬‬

‫مري�ض‪ ،‬وال يف ِّ‬


‫حل‬ ‫ لذا ف�إنه ال يجوز اال�ستعانة بهم يف ر ِّد �ضال ٍة‪ ،‬وال يف الداللة على الغائب‪ ،‬وال يف �شفا ِء ٍ‬
‫وذونَ ِب ِر َج ٍال ِّمنَ الجْ ِ نِّ َفزَ ادُوهُ ْم‬ ‫أجل ُبرءٍ ِمن عني‪ ،‬وال غري ذلك } َو�أَ َّن ُه َكانَ ِر َجا ٌل ِّمنَ ا ِلإ ِ‬
‫ن�س َي ُع ُ‬ ‫�سحر‪� ،‬أو ل ِ‬
‫َر َهق ًا{‪.‬‬
‫ال�سحر‪ ،‬و�أنهم �إمنا‬ ‫اهلل ج َّل وعال �أن ال�شياطني كذبوا على ُ�سليمانَ ‪a‬بعد وفا ِته فن�سبوا �إليه ِّ‬ ‫ ثم حكى ُ‬
‫ال�سح َر مبا ٌح‪ ،‬ليلب�سوا‬ ‫وح َّلهم ِّ‬ ‫ال�س َح َرة َ‬
‫النا�س �أنَّ ُ�سليمانَ ؛ �ساح ٌر و�أن فعل َّ‬ ‫بال�سحر‪ ،‬ف�أوهموا جهل َة ِ‬ ‫ُ�سخروا له ِّ‬
‫ال�سحرة على ُ�سليمان‪a‬ون�سبوا �إليه هذا الفعل‬ ‫ني ومعهم ّ‬ ‫ُكف َرهم لبا�س الدِّ ِين وال�شرع ّية‪ ،‬ف َك َذ َب ال�شياط ُ‬
‫فري‪ ،‬وكذا اليهود ف�إنهم يزعمون �أنه‪a‬كان �ساحر ًا فكانوا يقولون‪�( :‬أال تعجبون ملحمد يزعم �أن �سليمان‬ ‫ال ُك َّ‬
‫بن داود كان نبي ًا واهلل ما كان �إال �ساحر ًا)‪ ،‬وما زال ذلك يف كتبهم على الآن‪ .‬وكذبوا واهلل‪.‬‬
‫‪415‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سليمان والشياطني‬

‫ قال اهلل ج ّل وعال‪َ } :‬وا َّت َب ُعو ْا َما َت ْت ُلو ْا ال�شَّ َي ِاط ُ‬
‫ني َع َلى ُم ْل ِك ُ�س َل ْي َمانَ َو َما َك َف َر ُ�س َل ْي َمانُ َو َل ِـكنَّ ال�شَّ ْي ِاط َني‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�س ْح َر َو َما �أُ ِنز َل َع َلى المْ َ َل َكينْ ِ ِب َبا ِب َل َها ُروتَ َو َما ُروتَ {‪.‬‬ ‫َك َف ُرو ْا ُي َع ِّل ُمونَ ال َّن َ‬
‫ا�س ِّ‬

‫ال�سحر‪ ،‬و�أنه �أخذ ُكتب‬


‫النا�س ِمن النظر يف ُكتب ِّ‬
‫ جاء يف تف�سري هذه الآية �أن ُ�سليمان‪a‬كان قد منع َ‬
‫ال�شياطني وال ُكهان ال�سحرة فدفنها‪ ،‬فل ّما مات �أَ ُ‬
‫علمت ال�شياطني الكهانَ مبكا ِنها‪ ،‬و�أنه دفنها قريب ًا ِمن‬
‫ر�سي ُم ِلكه‪ ،‬فحفروا فوجودُها‪ .‬ثم زعموا �أنه �ساح ٌر‪ ،‬و�أن هذا ِمن ُكتبه‪ ،‬وكذبوا كما �أكذبهم ُ‬
‫اهلل‪.‬‬ ‫ُك ِّ‬

‫لعبد‬
‫�سخر اجلنُّ ٍ‬ ‫أحد بعد ُ�سليمان‪ ،a‬حتى هو ‪ ،s‬فال ُت ّ‬ ‫�سخر ل ٍ‬ ‫ وقد �أخ َرب النبي‪� s‬أن اجلنَّ لن ُت ّ‬
‫�صالح‪ ،‬وال غريهما‪ ،‬و�أنهم �إمنا يت�سخرون بال ُكفر به تعاىل‪ ،‬و�أن ال�شياطني هم َمن يع ِّلم‬
‫يل ٍ‬ ‫م�ؤمن‪ ،‬وال و ِّ‬
‫ال�سحر لي�ضلوهم ويغووهم ويفتنوهم عن دينهم‪.‬‬ ‫النا�س ِّ‬
‫َ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪416‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سماهم يف وجوههم‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫سماهم يف وجوههم‬
‫ ‬
‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫عالمات ُيعرفون بها‪ ،‬وتظهر على حمياهم‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪} :‬محُّ َ َّم ٌد‬ ‫ٍ‬ ‫اهلل لعباده امل�ؤمنني‬ ‫ فقد جعل ُ‬
‫الل َوا َّل ِذينَ َم َع ُه �أَ ِ�ش َّداء َع َلى ا ْل ُك َّفا ِر ُر َح َماء َب ْي َن ُه ْم َت َراهُ ْم ُر َّكع ًا ُ�س َّجد ًا َي ْب َت ُغونَ َف�ضْ ًال ِّمنَ هَّ ِ‬
‫الل َو ِر�ضْ َوان ًا‬ ‫ول هَّ ِ‬
‫َّر ُ�س ُ‬
‫وه ِهم ِّمنْ �أَ َث ِر ُّ‬
‫ال�س ُجو ِد َذ ِل َك َم َث ُل ُه ْم فيِ ال َّت ْو َرا ِة{‪.‬‬ ‫ِ�سي َماهُ ْم فيِ ُو ُج ِ‬

‫وعالمات‪� ،‬إذ‬
‫ٍ‬ ‫ فجعل اهلل للم�سلمني و�صف ًا نعتهم به يف التوراة‪ :‬وهو �أنهم ُيعرفون من وجوههم ب�سيم ًا‬
‫(ال�سمة) هي العالمة‪ ،‬و�أنّ �سبب هذه العالمات هو �سجودهم‪ ،‬و�صالتهم‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إن هذه ال�سيما التي ذكرها اهلل يف كتابه‪َ ،‬ي ِعر ُف بها ّ‬
‫النبي‪ s‬امل�ؤمنني من �أ ّمته يوم القيامة‬
‫النبي‪� :s‬أتعرفنا يومئذ؟ فقال‪« :‬نعم لكم �سيما لي�ست‬‫ولو مل يرهم؛ يف ال�صحيحني �أن ال�صحابة ي �س�ألوا َّ‬
‫لأحد من الأمم تردون على غرا حمجلني من �أثر الو�ضوء»‪.‬‬

‫ ف�أثر العبادة عالم ٌة للم�ؤمنني يوم القيامة‪ ،‬يتميزون بها‪ ،‬وبها يظهرون‪ ،‬ي�أتي امل�ؤمنون ُغر ًا حمجلني من‬
‫خطبة جديدة‬

‫�آثار الو�ضوء وال�صالة‪� ،‬إذ ال �سجود وال �صالة �إال بو�ضوء‪.‬‬

‫ ‪ w‬هذا �أثر العباد ِة يف وجه ال�شَّ خ�ص يف الآخرة‪ ،‬وكذلك يف الدنيا ف�إنّ للعبادة �أثر ًا يف وج ِه ِ‬
‫العبد‬
‫امل�ؤمن ود ّله‪ُ ،‬يع َرف بهذه العالمة‪ ،‬ويتمايز بها ع ّمن �سواه‪ ،‬وقد جاءت الآثار تبينّ ِ�سي َما الإميان‪ ،‬و�أث َر العبادة‬
‫دل العبد و�سم ِته‪ ،‬و�سيما العبادة تتحقق يف ثالثة �أمور‪:‬‬ ‫يف ِّ‬

‫وح�سن ال ّدل وال�سمت‪ ،‬قال‬


‫ني القلب‪ ،‬وخ�شو ُع اجلوارح‪ُ ،‬‬ ‫۩ ۩�أحدها‪ :‬بل هو ِمن �أعظم �أثر العبادة‪ :‬فهو ل ُ‬
‫من�صور‪� :‬س�ألت جماهد ًا عن قوله تعاىل‪�} :‬سيماهم يف وجوههم{ �أهو الأثر يكون بني عيني الرجل‬
‫؟ قال‪( :‬ال رمبا يكون بني عيني الرجل ِمث ُل ُركبة البعري‪ ،‬وهو �أق�سى قلب ًا من احلجارة‪ ،‬ولكنه نو ٌر يف‬
‫وجوهم من اخل�شوع)‪.‬‬

‫‪417‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سماهم يف وجوههم‬

‫ وقال ابن عبا�س يف قوله‪�} :‬سيماهم يف وجوههم{‪�( :‬أما �إنه لي�س بالذين ترون ولك َّنه �سيما الإ�سالم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وخ�شوعه)[رواه ابن جرير]‪.‬‬
‫ُ‬ ‫و�سحنتُه و�سمتُه‬

‫(}�سي َماهُ ْم فيِ‬


‫ �أثر العبادة يف امل�ؤمن يف َ�سم ِته‪ ،‬ووق��اره‪ ،‬وتوا�ضعه‪ ،‬ول ِني عريكته؛ قال ابن عبا�س‪ِ :‬‬
‫مت احل�سن)[رواه البيهقي]‪ ،‬وقال ابن جريج‪( :‬هو الوقار والبهاء)‪.‬‬ ‫ال�س ُ‬
‫وه ِهم{ هو َّ‬
‫ُو ُج ِ‬

‫يتو�ض�أ ويكرث منه تراه حليم ًا ال يغ�ضب‪ ،‬والذي يت�صدق وينفق‬ ‫ �أث ُر العبادة تراها يف ُخ ُل ِق امل�ؤمن‪ ،‬فالذي ّ‬
‫تراه رحيم ًا بال�ضعفاء رو�ؤف ًا بهم‪ ،‬وهكذا �سائر العبادات ت�ؤ ّثر يف ُخلق �صاحبها ود ّله‪ ،‬والذي ُي�ص ّلي ويكرث‬
‫اجلوارح مطمئنَّ الت�صرف‪ ،‬بعيد ًا عن الوقوع يف املح ّرمات واملوبقات‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫منه تراه �ساكنَ‬
‫ُ‬ ‫الل �أَكْبرَ ُ َو هَّ‬
‫الل َي ْع َل ُم َما َت�صْ َن ُعونَ {‪.‬‬ ‫}�إِنَّ ال�صَّلاَ َة َت ْن َهى َع ِن ا ْل َف ْح َ�شا ِء َوالمْ ُ ْن َك ِر َو َل ِذ ْك ُر هَّ ِ‬

‫۩ ۩والثاين‪ :‬الأُن�س باهلل تعاىل‪ ،‬والإقبال على الطاعة‪ ،‬وان�شراح النف�س‪ ،‬والفرح ب�سماع كالم اهلل ومناجاته‪.‬‬
‫قال ال�شيخ تقي الدين[مدارج ال�سالكني ‪�( :]68/2‬إذا مل جتد حالو ًة يف قلبك‪ ،‬وان�شراح ًا‪.‬‬

‫الرب �شكو ٌر‪ ،‬وال ُب َّد �أن يثيب العامل على عمله يف الدنيا من حالو ٍة يجدها يف قلبه‪ ،‬وقو ٍة‬
‫نف�سك ف�إن َّ‬
‫فاتهم َ‬
‫وان�شراح‪ ،‬وقر ِة عني‪ ،‬فحيث مل يجد ذلك فعم ُل ُه مدخول‪ .‬والق�صد �أن ال�سرور باهلل قربة وقرة للعني تبعث‬
‫على االزدياد من طاعته وحتثُّ على اجلد يف ال�سري �إليه)‪.‬‬

‫اهلل يف الوجه‪ ،‬وبها ٌء يف الطلعة‪ ،‬وحم ّب ٌة ُتقذف يف القلوب‪،‬‬‫۩ ۩والأمر الثالث من �سيما الإميان‪ :‬نو ٌر يجعله ُ‬
‫قال جماه ٌد‪( :‬هو نو ٌر من اخل�شوع والتوا�ضع)‪ ،‬وقال �سفيان وعطاء‪( :‬ا�ستنارت وجوهُ هم من طول ما‬
‫(من َك رُثت �صال ُته بالليل َح ُ�سن ْ‬
‫وجه ُه بال َّنهار)‪.‬‬ ‫�ص ُّلوا بالليل)‪ ،‬و ُروي يف الأثر‪َ :‬‬

‫وق�صر يف �أداء ما افرت�ض عليه‬


‫ عباد اهلل! وبال�ض ّد ف�إن املر�أ �إذا خالف �أمر اهلل واقرتف ما نهى عنه‪ّ ،‬‬
‫ال�سيما وخفت هذا النور من قل ِبه ووجهه‪ ،‬يف (�صحيح البخاري) عن ابن عبا�س‪ d‬قال‪:‬‬ ‫زالت عنه هذه ِّ‬
‫( ُينزع منه نور الإميان يف الزنا)‪.‬‬

‫ ولذا ترى َمن وقع يف هذه املوبقات‪ :‬على وجهه ك�آبة‪ ،‬ويف قل ِبه فراغ ًا من ّ‬
‫حب اهلل وطاعته والأن�س به‪،‬‬
‫ويف ُخ ُل ِقه �سو ًء و�ش ّدة‪.‬‬

‫احلج العج الثج‪،‬‬


‫مما يحبه اهلل تعاىل �أن يرى �أث َر عباد ِته على عبده‪ ،‬لذا كان �أف�ضل ّ‬
‫ عباد اهلل! �إنّ ّ‬
‫ويباهي ُ‬
‫اهلل ب�أهل املوقف � َ‬
‫أهل ال�سماء‪ ،‬روى الإمام �أحمد ب�إ�سناد �صحيح عن عبد اهلل بن عمرو‪� :d‬أن النبي‬
‫‪s‬كان يقول‪�( :‬إن اهلل عز و جل يباهي مالئكته ع�شية عرفة ب�أهل عرفة فيقول انظروا �إىل عبادي �آتوين‬
‫�شعثا غرب ًا)‪.‬‬

‫‪418‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سماهم يف وجوههم‬

‫ يف ال�صحيحني �أن النبي ‪s‬قال‪ُ « :‬ك ُّل َك ْل ٍم ُيكلمه امل�سلم يف �سبيل اهلل يكون يوم القيامة كهيئتها �إذا‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫طعنت تفجر دما اللون لون دم والعرف عرف امل�سك »‪.‬‬

‫الرتاب عن مو�ض ِع‬


‫ِ‬ ‫ال�سنة يف عدم التك ّلف يف �إزالة �آثار العبادة‪ ،‬فال يتك ّل َف امل�ؤمنُ �إزال َة‬
‫ ولذا ُ�شرع اتباع ّ‬
‫�شخ�ص على تراب �أال مي�سحه‬‫ٌ‬ ‫�ستحب �إذا �سجد‬
‫ُ�سجوده‪ ،‬وال يزيل ما علق بجبهته بعد رفعه من �سجوده‪ ،‬ف ُي ُّ‬
‫(من اجلفاء �أن ُيكرث الرجل م�سح جبهته قبل‬ ‫�إذا قام من �سجوده ما دام يف �صالته‪ ،‬روي عند ابن ماجه‪ِ :‬‬
‫الفراغ من �صالته)‪ .‬قال عكرمة يف تف�سري قوله تعاىل‪�} :‬سيماهم يف وجوههم{‪�( :‬أثر الرتاب)‪.‬‬

‫ وقال الإمام مالك‪( :‬ال�سيما هي ما يتعلق بجباههم من الأر�ض عند ال�سجود مثل ما تعلق بجبهة النبي‬
‫‪s‬من �أثر الطني واملاء)‪ .‬وقال �أبو العالية ‪ :‬ي�سجدون على الرتاب ال على الأثواب ‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪419‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة العصر‬
‫سورة العصر‬

‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫كالم اهلل تعاىل‪ ،‬و�أ�صدق اخلرب ما كان فيه‪ ،‬و�أزجر الوعظ �آيا ُته وما يحتويه‪ ،‬روى‬
‫ ف�إن خري الكالم ُ‬
‫الرتمذي عن احلارث الأع��ور عن علي‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬كتاب اهلل فيه نب�أ ما كان قبلكم‪ ،‬وخرب ما‬
‫بعدكم‪ ،‬وحكم ما بينكم‪ ،‬وهو الف�صل لي�س بالهزل‪ ،‬من تركه من جبار ق�صمه اهلل‪ ،‬ومن ابتغى الهدى يف‬
‫غريه �أ�ضله اهلل‪ ،‬وهو حبل اهلل املتني‪ ،‬وهو الذكر احلكيم‪ ،‬وهو ال�صراط امل�ستقيم‪ ،‬هو الذي ال تزيغ به‬
‫الأهواء‪ ،‬وال تلتب�س به الأل�سنة‪ ،‬وال ي�شبع منه العلماء وال يخلق على كرثة الرد وال تنق�ضي عجائبه‪ ،‬من قال‬
‫به َ�ص َدق‪ ،‬ومن عمل به �أجر‪ ،‬ومن حكم به عدل‪ ،‬ومن دعا �إليه هُ دي �إىل �صراط م�ستقيم)‪.‬‬

‫يف�ضل بع�ض ًا‪ِ .‬ومن ال�سورة العظيمة يف كتاب اهلل على‬ ‫ُ‬ ‫وكالم اهلل كلُّه فا�ض ٌل وعظيم وجليل‪ ،‬وبع�ضه‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫ن�سانَ َل ِفي ُخ ْ�سر{ ِ�إالَّ ا َّل ِذينَ‬
‫وجازتها وقلة �آياتها �سو ُر الع�صر‪ .‬يقول ربنا تبارك وتعاىل‪َ } :‬وا ْل َع�صْ ِر{ ِ�إنَّ ا ِلإ َ‬
‫ا�ص ْوا ِبالحْ َ ِّق َو َت َو َ‬
‫ا�ص ْوا ِبال�صَّب{{‪.‬‬ ‫� َآم ُنوا َو َع ِم ُلوا ال�صَّ الحِ َ ِ‬
‫ات َو َت َو َ‬
‫خطبة جديدة‬
‫ فهذه ال�سور الوجيز ُة �سور ٌة بليغة يف �ألفاظها عظيم ٌة يف معانيها وداللتها‪ ،‬جلي ٌل وقعها يف القلوب‪ ،‬حوت‬
‫و�شعبه؛ قال الإمام ال�شافعي رحمه اهلل‪( :‬لو تدبر النا�س هذه‬‫طرق اخلري و�سبله‪ ،‬وحذرت من طرق الغواية ُ‬
‫ال�سورة لو�سعتهم)‪.‬‬

‫ وقال رحمه اهلل‪( :‬النا�س يف غفلة عن هذه ال�سورة)‪ .‬ولإعجاز هذه ال�سورة �أق َّر بف�ضلها �أهل الكفر‪ ،‬فقد‬
‫�سلم فقال له م�سيلمة‪( :‬ماذا �أُنزل على �صاحبكم‬ ‫ُروي �أن عمرو بن العا�ص وفد على م�سيلمة الكذاب قبل �أن ُي َ‬
‫مبكة يف هذا احلني)‪ ،‬فقال َعمرو‪(:‬لقد �أنزل عليه �سور ٌة وجيز ٌة بليغة) فقال‪ :‬وما هي فقال }والع�صر �إن‬
‫علي مث ُلها فقال وما هو ؟‪ ،‬فقال‪ ( :‬يا َو ْب ُر‬
‫الإن�سان لفي خ�سر{‪ ،‬فف َّك َر �ساعة‪ ،‬ثم رفع ر�أ�سه فقال‪ :‬ولقد �أنزل َّ‬
‫أنت �أُ ِ‬
‫ذنان َو َ�ص ْدر‪ ،‬و�سائ ُر َك َح ْق ٌر َف ْقر) ثم قال كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو‪ :‬واهلل �إنك‬ ‫يا َو ْبر‪� ،‬إمنا � َ‬
‫لتعلم �إين لأعلم �أنك تكذب [رواه اخلرائطي]‪.‬‬

‫‪420‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة العصر‬

‫حممد و�صد ِقه‪ُ ،‬‬


‫وحال‬ ‫ٍ‬ ‫�شركه مل ي�شتبه عليه ُ‬
‫حال‬ ‫م�شرك يف حال ِ‬
‫ٍ‬ ‫ قال ابن كثري‪�( :‬إن كان هذا من‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫م�سيلمة وكذ ُبه‪ ،‬فكيف ب�أويل الب�صائر والنهى و�أ�صحاب العقول ال�سليمة امل�ستقيمة واحلجى)‪.‬‬

‫والوعظ والتذكري‬
‫ِ‬ ‫والتمعن فيها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ وكان �صحابة ر�سول اهلل‪ِّ s‬‬
‫عظمون هذه ال�سورة ويكرثون من قراءتها‬
‫بها‪ ،‬و ُي َذ ِّك ُر بع�ضهم بع�ض ًا بقراءتها؛ ف�أخرج الطرباين يف (الأو�سط) والبيهقي يف (�شعب الإميان) عن‬
‫ر�سول اهلل‪�s‬إذا التقيا مل يتفرقا‬
‫�أبي مليكة الدارمي وكانت له ُ�صحبة قال‪( :‬كان الرجالن من �أ�صحاب ِ‬
‫حتى يقر�أ �أحدهما على الآخر �سورة }والع�صر �إن الإن�سان لفي خ�سر{ �إىل �آخرها ثم ي�سلم �أحدهما على‬
‫الآخر)‪.‬‬
‫ يقول اهلل �سبحانه وتعاىل‪} :‬والع�صر{ فيق�سم �سبحانه بالع�صر‪ .‬والع�صر الذي �أق�سم ُ‬
‫اهلل به �إما �أن‬
‫اليوم والليلة كما قال ال�شاعر‪:‬‬
‫يكون َ‬

‫ولن يلبث الع�صران يوم ًا وليلة‬ ‫ ‬


‫ �إذا ُطلبا �أن يدركا ما تيمما‬

‫منق�ض غ ُري ُم َتدارك‪ ،‬فال�سعي ُد فيه َمن‬ ‫ٍ‬ ‫ني للم�ؤمنني ب�أهمية الوقت وال ُع ُمر و�أنه‬ ‫ ويف ذلك �إ�شار ٌة وتبي ٌ‬
‫املق�سوم به وقت الع�صر‬ ‫ُ‬ ‫أح�سن العمل‪ ،‬وال�شقي َمن �أ�ضاعه يف اللهو والغفلة عن اهلل تعاىل‪ .‬و�إ َّما �أن يكون‬ ‫� َ‬
‫الذي يكون يف نهاية النهار وهو الع�شي [قاله احل�سن وغريه]‪.‬‬
‫ ‬
‫اليوم والليل ِة؛ لذا كانت‬ ‫��ات ِ‬ ‫أ�شرف �أوق ِ‬ ‫�شك �أنه � ُ‬ ‫ وهذا يد ُّلنا على �شرف هذا الوقت بخ�صو�صه‪ ،‬وال ّ‬
‫اليم ُني املغ ّلظ ُة تحُ لف بعد الع�صر ل�شرف وقته؛ كما قال تعاىل‪ } :‬تحَْ ِب ُ�سو َن ُه َما ِمن َب ْع ِد ال�صَّ َال ِة َف ُي ْق ِ�س َم ِان‬
‫الل ِ�إ َّنا ِ�إ ًذا لمَّ ِنَ الآ ِث ِمنيَ{ �أي بعد �صالة‬ ‫الل ِ�إ ِن ا ْر َت ْبت ُْم َال َن�شْترَ ِ ي ِب ِه َث َم ًنا َو َل ْو َكانَ َذا ُق ْر َبى َو َال َن ْكت ُُم َ�ش َها َد َة هَّ ِ‬
‫ِب هَّ ِ‬
‫الع�صر‪ ،‬وروى م�سلم عن �أبي هريرة �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ثالثة ال يكلمهم اهلل وال ينظر �إليهم ولهم عذاب �أليم‬
‫رجل حلف على ميني بعد �صالة الع�صر على مال م�سلم فاقتطعه)‪.‬‬

‫ق�صره‪ ،‬وعظيم الأجر عليه‪ .‬و�صالة الع�صر‬ ‫اهلل وقتَهم بالع�صر‪ ،‬يف ِ‬ ‫ وهذه الأمة �أُ َّم ُة ال َع�صْ ر �إذ �ش َّبه ُ‬
‫}حا ِف ُظو ْا َع َلى ال�صَّ َل َو ِات وال�صَّ َال ِة ا ْل ُو ْ�س َطى َو ُقو ُمو ْا‬
‫اهلل عليها و�سماها ال�صال َة الو�سطى فقال �سبحانه‪َ :‬‬ ‫حثَّ ُ‬
‫علي بن �أبي طالب‪ d‬قال‪ُ :‬ك َّنا مع‬ ‫للِهّ ِ َقا ِن ِتنيَ{‪ ،‬وال�صالة الو�سطى هي �صالة الع�صر ملا يف ال�صحيحني عن ِّ‬
‫اهلل قبو َرهم وبيوتَهم نار ًا كما �شغلونا عن ال�صَّ الة الو�سطى حتى َغابت‬ ‫(ملأ ُ‬ ‫يوم اخلندق فقال‪َ :‬‬ ‫النبي‪َ s‬‬
‫ال�شَّ م�س وهي �صالة الع�صر)‪.‬‬

‫البخاري وم�سل ٌم عن ابن عمر‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬الذي تفوته �صالة الع�صر ك�أمنا وتر �أهله‬
‫ُّ‬ ‫ وروى‬
‫وماله)‪.‬‬

‫‪421‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة العصر‬

‫ ويف ال�صحيح عن بريدة �أن النبي‪s‬قال‪( :‬من ترك �صالة الع�صر فقد حبط عمله)‪ ،‬وهي �أول �صالة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�صالها النبي ‪�s‬إىل الكعبة‪.‬‬

‫وقت العروج باحل�سنات وكتابتها ففي ال�صحيحني عن �أبي هريرة ‪�d‬أن ر�سول‬‫ ووقت �صالة الع�صر هو ُ‬
‫اهلل‪s‬قال‪( :‬يتعاقبون فيكم مالئكة بالليل ومالئكة بالنهار ويجتمعون يف �صالة الع�صر و�صالة الفجر ثم‬
‫يعرج الذين باتوا فيكم في�س�ألهم وهو �أعلم بكم فيقول كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم ي�صلون‬
‫و�أتيناهم وهم ي�صلون)‪.‬‬

‫ و�أ�سعد النا�س بر�ؤية اجلبار ج َّل وعال يف الآخرة َمن حافظ على �صالة الع�صر والفجر ففي ال�صحيح‬
‫عن جرير بن عبد اهلل قال كنا جلو�سا عند ر�سول اهلل ‪�s‬إذ نظر �إىل القمر ليل َة البدر فقال‪�( :‬أما �إنكم‬
‫�سرتون ربكم كما ترون هذا القمر ال ت�ضامون يف ر�ؤيته ف�إن ا�ستطعتم �أن ال تغلبوا على �صالة قبل طلوع‬
‫ال�شم�س وقبل غروبها) يعني الع�صر والفجر ثم قر�أ جرير }و�سبح بحمد ربك قبل طلوع ال�شم�س وقبل‬
‫غروبها{‪.‬‬

‫ وال تالزم بني �شرف الزمان وبني تخ�صي�صه بعبادة بل ُنهي عن ال�صالة يف هذا الوقت ففي ال�صحيحني‬
‫عن �أبي �سعيد اخلدري �أن النبي ‪s‬قال‪( :‬ال �صالة بعد �صالة الع�صر حتى تغرب ال�شم�س)‬

‫ ثم قال �سبحانه‪�} :‬إن الإن�سان لفي ُخ�سر{ �أي جن�س الإن�سان وغالبهم يف ُخ�سران و�ضالل‪ ،‬ونق�صان‬
‫جل وعال فقال‪�} :‬إال الذين �آمنوا{ ف�إنهم لي�سوا يف ُخ ْ�سر‪ ،‬والعرب يف ل�سانها �إمنا‬ ‫وهلكة‪ .‬ثم ا�ستثنى اهلل َّ‬
‫ت�ستثني القليل من الكثري‪ ،‬مما يد ُّل على �أن �أكرث النا�س يف ُخ�سر والأق ُّل على هدى‪ ،‬كما قال �سبحانه‪َ } :‬و�إِن‬
‫الل{‪ ،‬وقال‪َ } :‬ب ْل �أَ ْك رَ ُثهُ ْم َال َي ْع َل ُمونَ {‪َ } ،‬و ِ�إنَّ َر َّب َك َل ُذو َف�ضْ ٍل‬ ‫وك َعن َ�س ِب ِيل هَّ ِ‬
‫ُت ِط ْع �أَ ْك رَ َث َمن فيِ الأَ ْر ِ�ض ُي ِ�ضلُّ َ‬
‫ا�س َو َل ِكنَّ �أَ ْك رَ َثهُ ْم ال َي�شْ ُك ُرونَ {‪ُ } ،‬ق ِل الحْ َ ْم ُد للِ هَّ ِ َب ْل �أَ ْك رَ ُثهُ ْم ال َي ْع ِق ُلونَ {‬
‫َع َلى ال َّن ِ‬
‫ ‬
‫ فال يقنط امل�ؤمن ِمن قلة ال�سالكني وندرة املدجلني‪ ،‬وكرثة الفنت و�أهلها ف�إمنا هي ابتالء من اهلل تعاىل‬
‫له ليبلوه �أي�صرب �أم يكفر‪.‬‬

‫ روى العدين يف الإميان عن حممد بن كعب رحمه اهلل قال‪} :‬والع�صر{ �أق�سم به ربنا }�إن الإن�سان‬
‫لفي خ�سر{ قال النا�س كلهم‪ ،‬ثم ا�ستثنى فقال }�إال الذين �آمنوا وعملوا ال�صاحلات{‪ ،‬ثم مل يدعهن وذاك‬
‫حتى قال }وتوا�صوا باحلق{‪ ،‬ثم مل يدعهن وذاك حتى قال }وتوا�صوا بال�صرب{ �شروط ي�شرتط عليهم‪.‬‬

‫ فهذه �أربعة �صفات توجد يف امل�ؤمنني حق ًا؛ الإميان باهلل تعاىل و�إف��راده بالعبادة و�إخال�ص التوحيد‬
‫والعبودية له‪ .‬والعمل ال�صالح واال�ستمرار عليه ففي ال�صحيح عن عائ�شة ‪� g‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬يا �أيها‬
‫النا�س عليكم من الأعمال ما تطيقون ف�إن اهلل ال ميل حتى متلوا و�إن �أحب الأعمال �إىل اهلل ما دُووم عليه و�إن‬
‫قل)‪.‬‬
‫‪422‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة العصر‬

‫ واخل�صلة الثالثة التوا�صي باحلق؛ وهو الأمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬روى الرتمذي وح�سنه عن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫حذيفة بن اليمان عن النبي‪s‬قال‪( :‬والذي نف�سي بيده لت�أمرن باملعروف ولتنهون عن املنكر �أو ليو�شكن اهلل‬
‫�أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فال ي�ستجاب لكم)‪.‬‬

‫ فالأمر باملعروف والنهي عن املنكر �شعار امل�ؤمن ودثاره‪ ،‬وعالمة �صد ِقه و�إميا ِنه‪ ،‬ففي ال�صحيح عن‬
‫�أبي �سعيد اخلدري‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬من ر�أى منكم منكرا فليغريه بيده ف�إن مل ي�ستطع فبل�سانه ف�إن مل‬
‫ي�ستطع فبقلبه وذلك �أ�ضعف الإميان)‪.‬‬
‫ويحب �أهل الأمر‬
‫القلب لر�ؤية املنكر‪ ،‬ويفرح بتغيريه‪ُّ ،‬‬
‫بالقلب ب�أن يتغري ُ‬
‫ِ‬ ‫ ف�أ�ضعف حاالت الإنكار الإنكا ُر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر وجاء يف رواية (ولي�س وراء ذلك من الإميان حبة خردل)‪.‬‬

‫ واخل�صلة الرابعة التوا�صي بال�صرب على طاعة اهلل‪ ،‬وال�صرب عن مع�صيته �سبحانه‪ ،‬وال�صرب على‬
‫ق�ضائه وقدره ونوائب الدهر‪.‬‬

‫ كما جاء يف احلديث والذي نف�سي بيده ال ي�صيب امل�ؤمن هم وال غم وال ن�صب وال و�صب وال حزن حتى‬
‫ال�شوكة ي�شاكها �إال كفر اهلل عنه بها من خطاياه ويف ال�صحيحني والذي نف�سي بيده ال يق�ضي اهلل للم�ؤمن‬
‫ق�ضاء �إال كان خريا له �إن �أ�صابته �سراء ف�شكر كان خريا له و�إن �أ�صابته �ضراء ف�صرب كان خريا له ولي�س‬
‫ذلك لأحد غري امل�ؤمن‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫‪423‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة العصر‬

‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪424‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة الغاشية‬
‫سورة الغاشية‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫يخ�ص بع�ض ال�صلوات بقراءة �سو ٍر مع ّينة؛ فكان يقر�أ يف �سنة الفجر‬
‫ فقد كان من هدي النبي‪� s‬أنه ُّ‬
‫بالكافرون والإخال�ص‪ ،‬ويقر�أ يف ال�شفع بالأعلى والكافرون‪ ،‬ويف الوتر بالإخال�ص‪ ،‬ويف �صالة الفجر ليلة‬
‫اجلمعة بال�سجدة والإن�سان [البخاري‪]891‬‬

‫يخ�ص �صالة اجلمعة بقراء ِة �سورة الغا�شية‪ ،‬فتارة يقر�أها مع �سورة اجلمعة [�أبو داود ‪،]1123‬‬
‫ وكان ُّ‬
‫وتارة مع �سورة الأعلى‪ .‬وكان يقر�أ بها �أي�ض ًا يف �صالة العيد [روى م�سلم ‪ ]2065‬عن النعمان بن ب�شري‬
‫‪ d‬قال‪ :‬كان ر�سول اهلل‪s‬يقر�أ يف العيدين وفى اجلمعة بـ(�سبح ا�سم ربك الأعلى) و (هل �أتاك حديث‬
‫الغا�شية) قال‪ :‬و�إذا اجتمع العيد واجلمعة يف يوم واحد يقر�أ بهما �أي�ضا يف ال�صالتني‪.‬‬

‫أمل وتب�صر لع ّل‬


‫ هذه ال�سورة �سور ٌة عظيم ُة املعاين‪ ،‬جليل ُة املباين‪ ،‬ت�ستحق �أن يتوقف معها امل�ؤمن وقف َة ت� ٍ‬
‫اهلل �أن ُي ِل َني بها �صلب القلوب‪ ،‬ويجلي �صد�أها‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫}ه ْل �أَت َ‬
‫َاك َح ِديثُ ا ْل َغ ِا�ش َي ِة{ الغا�شية هي يوم القيامة؛ لأنها �إذا قامت مل يجد النا�س‬ ‫ يقول �سبحانه‪َ :‬‬
‫غ�شى على عقولهم ويغطيها‬ ‫ا�ش َي َ‬‫مفر ًا منها ومن �أهوالها‪ ،‬فك�أنها َغ ٍ‬

‫وعبرِّ بالوجوه كناي ًة عن �أ�صحابها؛ لأن‬‫ } ُو ُجو ٌه َي ْو َم ِئ ٍذ َخ ِا�ش َع ٌة{ �أي �أنها يف ذلك اليوم ذليلة منك�سرة‪ُ .‬‬
‫نبئ عن حالة �أ�صحابها �إذ الوجه عنوا ٌن عما يجده �صاح ُب ُه من نعيم �أو �شقوة‪.‬‬ ‫حالة الوجوه ُت ُ‬

‫}ع ِام َل ٌة َّن ِ‬


‫ا�ص َب ٌة{ �أي �أنها تاعب ٌة من عذاب ذلك اليوم تجُ َ ُّر على وجوهها‪ ،‬وتغ�شاها النار‪ ،‬وهذا اجلزاء‬ ‫َ‬ ‫ ‬
‫والن�صب يف القيام بطاعته ف�إنه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫والعمل فيها مبا �أمر اهلل‪،‬‬ ‫من جن�س العمل؛ ف َمن ترك اخل�شوع هلل يف الدنيا‪،‬‬
‫ُيجزى ذلك اليوم خ�شوع ًا ومذلة‪ ،‬وعم ًال م�شقة‪ ،‬ون�صب ًا �إرهاق ًا‪.‬‬

‫‪425‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة الغاشية‬

‫ } َت�صْ َلى َنا ًرا َح ِام َي ًة{ فلي�س كنار الدنيا‪ ،‬وال تقار ُبها‪ ،‬بل هي �أ�ش ُّد ب� ٍ‬
‫أ�ضعاف كثرية‪ .‬وت�أمل يف بالغة هذه‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الآية حينما ذكر ُ‬
‫اهلل فيها �أو ًال �أنها ت�صلى‪ ،‬و�أنها نا ٌر‪ ،‬و�أنها حامية لزيادة التهويل والتخويف منها‪.‬‬

‫ } ُت ْ�س َقى ِمنْ َعينْ ٍ �آ ِن َي ٍة{ فهم ُي�س َقونَ ِمن َع ٍني تَنب ُع يف النار َحا َّر ٌة �شديد ُة احلرارة } َو�إِنْ َي ْ�س َت ِغي ُثوا ُي َغا ُثوا‬
‫بمِ َ اءٍ َكالمْ ُ ْه ِل َي�شْ ِوي ا ْل ُو ُجو َه{ فهذا �شرابهم‪.‬‬

‫ياب�س ال‬
‫ينبت يف �أ�صل النار ٌ‬ ‫ و�أ َّما طعامهم فقال ُ‬
‫اهلل‪َّ } :‬ل ْي َ�س َل ُه ْم َط َعا ٌم �إِالَّ ِمن َ�ض ِر ٍيع{ وال�ضريع نباتٌ ُ‬
‫الطعام عذاب ًا‬
‫ُ‬ ‫ورق فيه و�إمنا هو ال�شوك‪ ،‬وقد �أخرب ُ‬
‫اهلل عنه ب�أنه‪} :‬ال ُي ْ�س ِمنُ َوال ُي ْغ ِني ِمن ُج ٍوع{ فكان هذا‬
‫لهم‪ ،‬فهم يتعذبون بجوعهم‪ ،‬ثم يتعذبون ب�أكل هذا ال�ضريع‪ ،‬ثم يتعذبون بعد �أكله فال هو �س َّد حاجتهم‪ ،‬وال‬
‫التفح من �أج�سادهم‪ ،‬وال يغني عنهم دفع �أمل‬ ‫بع�ض َما َ‬ ‫�أ�سمنهم فكفاهم‪ .‬فال يعود على �آكليه ب�سمن ُي�ص ِل ُح َ‬
‫اجلوع‪.‬‬

‫ّثم بينّ اهلل ال�صنف الثاين من النا�س يف ذلك امل�شهد‪ ،‬فقال �سبحانه‪ُ } :‬و ُجو ٌه َي ْو َم ِئ ٍذ َّن ِاع َم ٌة{ ف�أب�شارهم‬ ‫ ‬
‫ناعم ٌة؛ لأن َمن ر�أى خري ًا ُ�س َّر به‪ ،‬فقد جرت عليهم َن�ضْ ر ُة النعيم‪ ،‬ف َن ِ�ض َرت �أبدا ُنهم‪ ،‬وا�ستنارت وجوهُ هم‪،‬‬
‫و�س ُّروا غاية ال�سرور‪.‬‬
‫ُ‬

‫ا�ض َي ٌة{ فهي را�ضية ع ّما قدمته يف الدنيا من العمل ال�صالح‪� ،‬إذ عند ال�صباح ُيحمد َّ‬
‫ال�سرا‪.‬‬ ‫} ِل َ�س ْع ِي َها َر ِ‬ ‫ ‬

‫ ثم بني اهلل م�سكنهم فقال‪} :‬فيِ َج َّن ٍة َعا ِل َي ٍة{ فاجلنة منازلها م�ساكنُ عالية ف�إن �أح�سن اجلنان يف‬
‫الدنيا والآخرة ما كان يف املرتفعات؛ كما قال تعاىل‪َ } :‬ك َم َث ِل َج َّن ٍة ِب َر ْب َو ٍة{‪ ،‬و�إ�ضافة لذلك ف�إن يف اجلنة غرف ًا‬
‫�شر ُفونَ منها على ما �أعد اهلل لهم من الكرامة‪.‬‬ ‫رف ُغ ٌ‬
‫رف َمبنية ُي ِ‬ ‫ومن فوق ال ُغ ِ‬

‫ واجلن ُة �أي�ض ًا عالي ٌة فوق النار ينظ ُر منها �أهلها لأهل النار حتتهم �أحيان ًا فيحمدون نعمة اهلل‪ ،‬و�أهل‬
‫النار ينظرون دائم ًا لأهل اجلنة فوقهم فيزدادون غ ّم ًا ونكدا‪ .‬وكلما ارتفعت درج ٌة امل�ؤمن يف اجلنة كلما علت‬
‫منزلته فيها‪ ،‬ف�أعلى اجلنة الفردو�س الأعلى‪ ،‬و�أعاله الو�سيلة‪.‬‬

‫ قال �سبحانه‪} :‬الَّ ت َْ�س َم ُع ِفي َها ِ‬


‫الغ َي ًة{ فاجلن ُة ال ُي�س َم ُع فيها لغ ٌو ال كال ٌم باطل‪ ،‬وال حم ّرم فيها‪ ،‬لي�س‬
‫فيها �إال ذكر اهلل ُيله ُمو َنه كما ُيله ُمونَ ال َّن َف�س‪ ،‬وال ي�سمعون كالم ًا ُمن ِّك َد ًا‪ ،‬بل كل ما فيها ي�شرح النف�س‪ ،‬وي�سعد‬
‫اخلاطر‪.‬‬

‫أثاث ق�صورها‬ ‫ } ِفي َها َعينْ ٌ َجا ِر َي ٌة{ فاجلنة فيها عيون جارية‪ .‬ثم َو َ�ص َف ُ‬
‫اهلل حما�سنَ اجلنة مبحا�سن � ِ‬
‫فال�سرر التي يجل�س عليها �أهل اجلنة ويتكئون عليها مرفوع ٌة يف ذاتها ومبا‬
‫وع ٌة{ ُّ‬
‫فقال‪ِ } :‬في َها ُ�س ُر ٌر َّم ْر ُف َ‬
‫عليها من ال ُف ُر�ش اللينة‪.‬‬

‫‪426‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة الغاشية‬

‫أوان ممتلئة من الأ�شربة اللذيذة‪ ،‬قد ُو�ضعت بني �أيديهم‪ ،‬و�أعدت لهم‪،‬‬ ‫وع ٌة{ �أي � ٍ‬ ‫ } َو�أَكْ�� َو ٌ‬
‫اب َّم ْو ُ�ض َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫و�صارت حتت طلبهم واختيارهم‪ ،‬يطوف بها عليهم الولدان املخلدون‪َ } .‬ونمَ َ ا ِر ُق َم�صْ ُفو َف ٌة{ �أي و�سائ ُد من‬
‫احلرير واال�ستربق وغريهما مما ال يعلمه �إال اهلل‪ ،‬قد ُ�ص َّفت للجلو�س واالتكاء عليها‪ ،‬وقد �أريحوا عن �أن‬
‫ي�ضعوها‪ ،‬وي�صفوها ب�أنف�سهم‪.‬‬
‫جمال�سهم من كل جانب‪ .‬ثم خاطب ُ‬
‫اهلل َمن ال ُي�صدِّ ق‬ ‫ُ‬ ‫ } َو َز َرا ِب ُّي َم ْب ُثو َث ٌة{ �أي يف اجلنة ُب ٌ‬
‫�سط ُملأت بها‬
‫بوعده �سبحانه‪ ،‬وال ي�ؤمنُ َمبا جاء يف كتابه ب�أن ينظر يف دالئل وحدانيته �سبحانه وما بني يديه على املغيبات‪،‬‬
‫فذكر اهلل �أ�شيا َء �أربع ًة هي من الناظرين عن كثب ال تغيب عن �أنظارهم‪ :‬ال ُإبل‪ ،‬وال�سماء‪ ،‬والأر�ض‪ ،‬واجلبال‪.‬‬

‫ فقال �سبحانه‪�} :‬أَ َفال َي ُ‬


‫نظ ُرونَ �إِ ىَل الإِ ِب ِل َك ْي َف ُخ ِل َق ْت{ �إذ َخ ْل ُقها بديع‪ ،‬وهي�أتها عظيمة‪ ،‬ومع ذلك فقد‬
‫�سخرها اهلل للعباد‪ ،‬وذللها ملنافعهم مع عظيم ُجرمها‪ ،‬ووعورة طبعها‪.‬‬

‫ال�س َماء �إذ هُ ْم َينظرونها نها َرهم ولي َلهم يف �إقامتهم وظعنهم‪،‬‬ ‫ ثم نقل بهم �إىل التَّدبر يف َعظيم خلق َّ‬
‫ال�س َما ِء َك ْي َف ُر ِف َع ْت{ �أي هي فوق الرو�ؤ�س بدون عمد‪.‬‬
‫يرقبون �أنواء املطر وي�شيمون ملع الربوق فقال‪َ }:‬و ِ�إ ىَل َّ‬

‫ و�أتبع ذكر ال�سماء بذكر اجلبال فقال‪َ } :‬و ِ�إ ىَل الجْ ِ َب ِال َك ْي َف ُن ِ�ص َب ْت{ �أي �أقيمت على ظهر الأر�ض‪،‬‬
‫و�أ�صلها يف باطن الأر�ض كما تن�صب ال ُع ُمد‪.‬‬

‫رعاهُ م و ُمفترَ ُ�شهم فقال‪َ } :‬و ِ�إ ىَل الأَ ْر ِ�ض َك ْي َف‬
‫ ثم نزل ب�أنظارهم �إىل الأر�ض وهي حتت �أقدامهم وهي َم َ‬
‫و�س ِّه َلت غاية الت�سهيل‪ ،‬لي�ستقر اخلالئق على ظهرها‪ ،‬ويتمكنوا من حرثها‬ ‫ُ�س ِط َح ْت{ �أي‪ُ :‬م َّدت مد ًا وا�سع ًا‪ُ ،‬‬
‫رق املو�صلة �إىل �أنواع املقا�صد فيها‪.‬‬ ‫و�سلوك ُّ‬
‫الط ِ‬ ‫ِ‬ ‫والبنيان فيها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وغرا�سها‪،‬‬

‫ وال تعار�ض بني ت�سطيح الأر�ض وبني كونها م�ستدير ًة قد �أحاطت بها ال ُ‬
‫أفالك من جميع جوانبها‪ ،‬كما‬
‫معلوم للنا�س‪� ،‬إذ الت�سطيح �إمنا ينايف كروية اجل�سم ال�صغري جد ًا‪ ،‬الذي لو ُ�س ِط َح مل يبق له ا�ستدارة تذكر‪.‬‬
‫وال�سعة‪ ،‬فيكون كروي ًا م�سطح ًا‪ ،‬وال يتنافى الأم��ران‪ ،‬كما هو‬
‫ِّ‬ ‫الكبرَ‬
‫و�أما ج�سم الأر�ض الذي هو يف غاية ِ‬
‫معلوم‪.‬‬

‫ ثم قال ج ّل وعال‪َ } :‬ف َذ ِّك ْر ِ�إنمَّ َ ��ا �أَن َ��ت ُم َذ ِّك ٌر{ َّل ْ�س َت َع َل ْي ِهم بمِ ُ َ�ص ْي ِط ٍر{ �أي‪ :‬ذ ِّكر النا�س َو ِع ْظ ُهم‪،‬‬
‫وب�ش ْرهم‪ ،‬ف�إنك مبعوث لدعوة اخللق �إىل اهلل وتذكريهم‪ ،‬ومل ُتب َعث ُم�سيط َر ًا َعليهم‪ُ ،‬م�س َّل َط ًا‬ ‫و�أنذ ْرهم ِّ‬
‫ُمو ّك ًال ب�أعمالهم‪ ،‬ف�إذا قمت مبا عليك‪ ،‬فال عليك بعد ذلك لوم‪.‬‬
‫ }�إِالَّ َمن َت َو ىَّل َو َك َف َر{ �أي‪ :‬لكن من توىل عن الطاعة وكفر باهلل } َف ُي َع ِّذ ُب ُه هَّ ُ‬
‫الل ا ْل َع َذ َ‬
‫اب الأكْبرَ َ { �أي‪:‬‬
‫ال�شديد الدائم‪�} ،‬إِنَّ �إِ َل ْي َنا �إِ َيا َب ُه ْم{ �أي‪ :‬رجوع اخلليقة وجمعهم يف يوم القيامة‪.‬‬
‫} ُث َّم �إِنَّ َع َل ْي َنا ِح َ�سا َب ُه ْم{ فنحا�سبهم على ما عملوا من خري و�شر‪.‬‬

‫‪427‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة الغاشية‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الدالئل اجلليلة فيها من املعاين واملقا�صد‪ ،‬ما يح�سنُ‬
‫ِ‬ ‫ وبع ُد عباد اهلل ! فهذه ال�سور ُة العظيمة‪ ،‬ذاتُ‬
‫�سلم �أن يعيد التف ّكر فيها ويدمي الت�أ ّمل يف مراميها‪ ،‬لذا مل يكن تكرار النبي‪s‬لها يف ال�صالة وخ�صو�ص ًا‬
‫باملُ ِ‬
‫�صالة اجلمعة والعيد عبث ًا وال دون فائدة مرج ّوة‪.‬‬

‫ولع ّل ِمن ِح َك ِم تخ�صي�ص النبي ‪s‬هذه ال�سورة بالقراءة يف هذا املو�ضع �أمو ٌر متعددة‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫‪w‬‬

‫خطيب‬
‫ُ‬ ‫معان عظام‪ ،‬وتف�صيالت دقيقة‪ ،‬فمهما تكلم‬ ‫۩ ۩�أن هذه ال�سورة حوت على وجازتها‪ ،‬وقلة �آياتها على ٍ‬
‫أ�صدق و�أج ُّل‬
‫أعظم و�أبل ُغ و� ُ‬
‫و�أطنب‪� ،‬أو اخت�صر ف�أوجز‪ .‬ف�إن هذا �سور ًة واحدة من هذا القر�آن العظيم � ُ‬
‫من ُك ِّل قيل؛ } َو ِ�إن ُكنت ُْم فيِ َر ْي ٍب ممَِّّ ا َن َّز ْل َنا َع َلى َع ْب ِد َنا َف�أْ ُتو ْا ِب ُ�سو َر ٍة ِّمن ِّم ْث ِل ِه{‪.‬‬

‫احل َكم �أن هذه ال�سورة حكت حال �أه��ل النار‪ ،‬وح��ال �أه��ل اجلنة‪ ،‬والأم��ر بتوحيد اهلل تعاىل‪،‬‬ ‫۩ ۩ ومن ِ‬
‫واال�ستدالل باالبتداء على االنتهاء‪ .‬وكذا اخلطيب ف�إنه يلز ُم ُه �أن ال ُيغفل هذه الأمور الثالثة ف�إنها الأ�صل‬
‫والأ�سا�س ل ُك ِّل خطبة‪.‬‬

‫احل َكم تكرار قراءتها‪� :‬أن هذا القر�آن ال يخلق على كرثة الرد‪ ،‬وال يبلى بكرث التكرار‪ ،‬ولو مل ينزل‬
‫۩ ۩ ومن ِ‬
‫اهلل �إال �سورة واحدة منه لكفتهم؛ كما قال ال�شَّ افعي‪.‬‬

‫عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع‬
‫اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي‬
‫حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف‬
‫النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬

‫‪428‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة الغاشية‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪429‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة الكوثر‬
‫سورة الكوثر‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫لقد � َ ُ‬
‫وح َك ٍم متعدد ٍة‪ ،‬و�إنّ �أق�ص َر �سور القر�آن هي ال�سور‬ ‫أنزل اهلل يف كتابه �سور ًا �صغار ًا و�أُخرى طوا ًال ٍ‬
‫ملعني ِ‬
‫�ستحب قراء ُتها يف َ�صالة‬
‫ال�ضحى �إىل النا�س‪ .‬وهذه ال�سور ُي ُّ‬ ‫ف�صل) وهي ِمن �سورة ُّ‬ ‫التي ُت�س ّمى بـ(ق�صار املُ ّ‬
‫املغرب‪.‬‬

‫حممد ‪s‬بالكثري من ال ّنعم‪،‬‬ ‫نت ُ‬


‫اهلل فيها على نبيه ٍ‬ ‫املف�صل مبعنى م�شرتك؛ �إذ �أم ّ‬
‫ وت�شرتك �سور ِق�صا ِر ّ‬
‫والتي ي�شاركه فيها �صاحلوا �أُمته‪ .‬فهي تذكري بال ِّنعم‪ ،‬و�أمر بالعبادة والتوحيد‪.‬‬

‫بنعم جليل ٍة من �شرح �صدره‪،‬‬ ‫يك َر ُّب َك َف َ‬


‫ترَْ�ضى{ ثم �أعقبها ٍ‬ ‫ ففي �سورة ال�ضحى قال اهلل‪َ } :‬و َل َ�س ْو َف ُي ْع ِط َ‬
‫بلده ‪ s‬الأمنيَ‪ ،‬و�أعطى‬ ‫وو�ضع الوزر عنه‪ ،‬و َر ْف ِع ِذ ْك ِره‪ ،‬والي�سر له بعد الع�سر‪َ .‬‬
‫وبعدها يف �سورة التني جعل َ‬
‫امل�ؤمنني الذين يعملون ال�صاحلات �أجر ًا غري ممنون‪.‬‬

‫وبعدها (�سورة القدر) �أعطاه ليل ًة‬


‫نت عليه بالقر�آن‪ ،‬وع َّلمه ما مل يكن يعلم‪َ .‬‬ ‫ وبعدها (�سورة �إقر�أ) ام َّ‬
‫خطبة جديدة‬
‫خري ًا من �ألف �شهر‪ .‬وبعدها (�سورة الب ّينة) جعل �أُمته خ َري الرب ّية‪ ،‬ومنحهم ِر َ�ضاه عنهم‪ ،‬و�أر�ضاهم عنه‪.‬‬

‫ وبعدها (�سورة الزلزلة) َحفظ لهم �أعمالهم فلم ُي�ضيع عليهم مثقال الذرة من اخلري‪ .‬ويف (�سورة‬
‫العاديات) �أكبرَ َ َع َم َل اجلهاد‪ ،‬ف�أق�سم بالعاديات يف �سبيل اهلل والن�صر على الأعداء‪.‬‬

‫ ثم يف (�سورة التكاثر) تربيتهم على نعمه‪ ،‬لي�شكروها فيزيدهم من ف�ضله‪ .‬ويف (�سورة الع�صر) جعل‬
‫�أمته خري �أمة �أخرجت للنا�س ت�ؤمن باهلل وتعمل ال�صاحلات وتتوا�صى باحلق وتدعو �إليه وتتوا�صى بال�صرب‬
‫وت�صرب عليه‪ .‬وبعدها يف (�سورة قري�ش) �أكرم اهلل قوم‪s‬ف�آ َّمنهم‪ ،‬و�أعطاهم رحلتيهم‪.‬‬

‫العميم ُك ّله من جميع جوانبه‪ .‬وهذه ال�سورة على‬


‫َ‬ ‫ثم يف هذه ال�سورة (الكوثر) �أعطى اهلل نب ّيه اخل َري‬ ‫ ‬

‫‪430‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة الكوثر‬

‫آيات امتنان ًا على النبي ‪ ،s‬ف�إنَّ �أق�صر �سور ٍة يف كتاب اهلل تعاىل هي �سور ُة‬
‫ق�صرها ف�إنها ملِن �أعظم ال ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الكوثر‪ ،‬فهي �أق�ص ُر �سور القر�آن عد َد كلمات وعد َد حروف‪ .‬وهذه ال�سورة على ق ّلة �آياتها‪ ،‬وق�صر ُجملها‪� ،‬إال‬
‫�أنها حوت ِح َكم ًا ومعاين عظيمة‪.‬‬

‫يقول ر ُّبنا ج ّل وعال‪�ِ } :‬إ َّنا �أَ ْع َط ْي َن َ‬


‫اك ا ْل َك ْو َث َر{ َف َ�ص ِّل ِل َر ِّب َك َوا ْن َح ْر{ ِ�إنَّ َ�شا ِن َئ َك هُ َو الأَبْترَ ُ{‪.‬‬ ‫ ‬

‫اجل َّبا ِر ج ّل وعال‪ ،‬ف�إنه �إذا ُق ّدم ال�ضمري املت�صل يف ا ُ‬


‫جلملة ّ‬
‫دل‬ ‫ فيقول اهلل تعاىل‪�ِ } :‬إ َّنا{ وهذا لتعظيم َ‬
‫حممد ‪s‬مبا �أعطاه من (الكوثر)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫تعظيمه‪ .‬وهذا امتنان من اهلل تعاىل على نب ّيه‬‫ِ‬ ‫على‬

‫و�س َّر‪ ،‬فروى م�سلم عن �أن�س بن مالك‪ d‬قال‪� :‬أَغ َفى‬ ‫ ولذا ملّا �أُنزلت هذه ال�سورة عليه‪s‬فرح بها ُ‬
‫�ضحكت ؟ فقال ر�سول اهلل‪�( :s‬إنه نزلت علي‬ ‫َ‬ ‫ر�سول اهلل‪�s‬إغفاء ًة‪ ،‬فرفع ر� َأ�سه ُمتب�سم ًا‪ ،‬فقالوا له‪ :‬مل‬ ‫ُ‬
‫�آنفا �سورة)‪ ،‬فقر�أ‪ِ } :‬ب ْ�س ِم هَّ ِ‬
‫الل ال َّر ْح َم ِن ال َّر ِح ِيم ِ�إ َّنا �أَ ْع َط ْي َن َ‬
‫اك ا ْل َك ْو َث َر{ حتى ختمها‪ ،‬ثم قال‪( :‬هل تدرون‬
‫ما الكوثر ؟)‪ ،‬قالوا‪ :‬اهلل ور�سوله �أعلم! قال‪( :‬نهر �أعطانيه ربي عز وجل يف اجلنة عليه خري كثري ترد عليه‬
‫�أمتي يوم القيامة �آنيته عدد الكواكب يختلج العب ُد منهم ف�أقول‪ :‬يا رب �إنه من �أمتي ف ُيقال‪� :‬إنك ال تدري ما‬
‫�أحدثوا بعدك)‪.‬‬

‫قلت البن‬
‫ والكوثر يف هذه الآية ي�شمل النهر الذي يف اجلنة‪ ،‬وغ َريه من اخلري‪ ،‬كما قال �سعيد بن جبري‪ُ :‬‬
‫عبا�س‪� :‬إن نا�س يقولون هو نهر يف اجلنة‪ ،‬فقال‪( :‬هو من اخلري الكثري)‪.‬‬

‫�صنوف اخلري‪ ،‬و�أبواب الإح�سان ما مل ُي�ؤتَ �أح ٌد غ ُريه قب َله وال َ‬


‫بعده‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ ف�إن النبي‪�s‬أُوتي من ر ّبه من‬
‫�أُعطي ِمن خريي الدنيا والآخرة �أكملها‪ِ ،‬ومن الرفعة �أعالها‪.‬‬

‫نعم اهلل عليه‪ ،‬و�آالءه التي منحه �إياها؛ ويف ال�صحيح �أن‬ ‫ ولذا ف�إن ِمن كمال الإميان ا�ستذكا ُر العبد َ‬
‫النبي ‪ s‬قال‪ « :‬ا ْن ُظ ُروا �إِ ىَل َمنْ �أَ ْ�س َف َل ِم ْن ُك ْم َو َال َت ْن ُظ ُروا �إِ ىَل َمنْ هُ َو َف ْو َق ُك ْم َف ُه َو �أَ ْج َد ُر َ�أنْ َال تَزْ َد ُروا ِن ْع َم َة هَّ ِ‬
‫الل‬
‫َع َل ْي ُك ْم »‪.‬‬

‫�شرعه املتني‪ ،‬ف ُهدي �إذ غ ُريه على‬ ‫العبد �أن هداه لهذا الدِّ ين‪ ،‬وو ّفقه التباع ِ‬ ‫هلل على ِ‬ ‫ و�إنّ ِمن �أعظم ِنعم ا ِ‬
‫ُ‬ ‫هَّ‬ ‫}ي ُّنونَ َع َل ْي َك �أَنْ �أَ ْ�س َل ُموا ُقل الَّ تمَ ُ ُّنوا َع َل َّي �إِ ْ�س َ‬
‫الم ُكم َب ِل الل مَ ُينُّ َع َل ْي ُك ْم َ�أنْ‬ ‫�ضالل‪ ،‬و�أ�سلم وغ ُريه يف �شرك؛ مَ ُ‬
‫َه َدا ُك ْم ِللإِ َمي ِان �إِن ُكنت ُْم َ�صا ِد ِقنيَ{‪.‬‬

‫النبي ‪ ،s‬ف ُكلما كان املر ُء � َ‬


‫أكمل باتباع ُ�سنة النبي‪s‬كلما كانت من ُة اهلل عليه‬ ‫ُ‬
‫وتكمل امل ّنة بكمال اتباع ِّ‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫وال�سنة‪،‬‬ ‫�أعظم‪ ،‬و�إليه‪�s‬أقرب‪ .‬وقد كان من دعاء النبي‪( :s‬اللهم َمن �أحييته ِم َّنا ف�أحيه على ال ِ‬
‫إ�سالم ُّ‬
‫ومن توفيته منا فتوفه على الإميان)[رواه �أبو داود]‪.‬‬

‫‪431‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة الكوثر‬

‫ ثم قال �سبحانه‪َ } :‬ف َ�ص ِّل ِل َر ِّب َك َوا ْن َح ْر{ وهذا من ُ�شكر اهلل تعاىل‪ ،‬ف�إن حقيق َة ُ�شكر اهلل تعاىل �إمنا‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫}اع َم ُلوا � َآل َدا ُوو َد ُ�ش ْكر ًا{‪ ،‬فال�شاكر هلل هو العاب ُد له‪ ،‬املعرتف بف�ضله‬
‫تكون بالعمل؛ كما قال �سبحانه‪ْ :‬‬
‫�سبحانه‪ ،‬وك ّلما �أكرث املرء من عبادة اهلل و�صالته له كلما كان �أكرث ُ�شكر ًا‪ِ ،‬ومن َز َع َم �أنه �شاك ٌر هلل ٌ‬
‫عارف‬
‫املخبت هلل‪ ،‬الذي عبد اهلل‬
‫ُ‬ ‫بحق نعمته عليه‪ ،‬ف�إن جوارحه ت�ص ّد ُق زعمه �أو تكذ ُبهُ‪ ،‬فال�شاكر على احلقيق ِة هو‬
‫و�أح�سن عبادته‪ ،‬ف�صلى هلل‪ ،‬ونحر هلل‪ ،‬و�إذا حلف مل يحلف �إال باهلل‪ ،‬وهكذا �سائر العبادات‪.‬‬

‫ ثم قال �سبحانه‪�} :‬إِنَّ َ�شا ِن َئ َك هُ َو الأَبْترَ ُ{ �أي �إن معاديك وم�ستنق�صك هو الأبرت والناق�ص‪� ،‬إذ �أكم ُل‬
‫النبي‪s‬و�أُعطيته �أمتُه‪ ،‬ف َمن ا�ستنق�ص ّ‬
‫النبي‪�s‬أو و�ضع ِمن �ش�أنه �أو ا�ستهز�أ به ف�إنه �أبرتُ‪،‬‬ ‫اخلري �أوتيه ُّ‬
‫قريب من الو�ضيعة‪.‬‬
‫حمجوب عن الرفع ِة‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مقطو ُع اخلري‪،‬‬

‫و�سننه‪ .s‬ف�إنه �أب ُرت‬ ‫ وكذا من ا�ستنق�ص �شيئ ًا ّ‬


‫مما ُبعث به ‪ s‬من �شرائع الإ�سالم و�أحكامه‪� ،‬أو �أقواله ُ‬
‫مقطو ٌع من اخلري‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪432‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫سورة يسن‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة يس‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫فكثري ًا ما نرى على ُج ُد َر املجال�س وال ُغرف‪ ،‬وواجهات املحالت والبيوت‪ ،‬ويف مقدم ِة ّ‬
‫ال�سيارات واملراكب‪،‬‬
‫رب الدار و�ساك َنها قد ع َّلق لوح ًة ُمزرك�ش ًة ُكتبت عليها �سورة‬ ‫ُ‬
‫الداخل والرائي �أن َّ‬ ‫وعلى �أرفف املكاتب يرى‬
‫( َي�س) كامل ًة �أو غ َريها ِمن ال�سور؛ رجا َء بركتها‪ ،‬ورغب ًة يف التح�صني بها عن ال�شَّ ِر ُّ‬
‫وال�سوء‪ .‬فيت�ساءل كثريون‬
‫عن م�شروعية هذا الفعل‪ ،‬و�إن كان لهذا الفعل فائد ٌة وف�ضل يف ال�شرع‪� ،‬أم ال ؟‪.‬‬

‫وجل ‪-‬وكلُّه عظيم‪ ،-‬مك َّية النزول‪ ،‬فوا�ص ُلها‬


‫ عباد اهلل ! �إن �سور َة ( َي�س) �سور ٌة عظيمة من كتاب اهلل ع َّز َّ‬
‫مو�ضوعها كباقي‬
‫ُ‬ ‫وق�ص�ص ُم�ؤثرة‪ ،‬وكان‬
‫ٍ‬ ‫معان عظيمة‪،‬‬‫َق�صري ٌة‪ ،‬لها َوق ٌع َوت�أثري يف النفو�س مبا حوته ِمن ٍ‬
‫ال�سور ا َملك َّي ِة احلديثُ عن توحيد اهلل ع َّز وجل بالربوبية والإالهية وعن البعث والن�شور‪ ،‬وعاقبة املكذبني بها‪.‬‬

‫وحده }�أَ َو مَْل َي َر ْوا‬ ‫هلل تعاىل على عبا ِده و�أف�ضا ِله عليهم ليعبدُوه �سبحانه َ‬ ‫بع�ض ِن َع ِم ا ِ‬ ‫ ثم ُختمت بذكر ِ‬
‫�أَ َّنا َخ َل ْق َنا َل ُه ْم ممَِّ ا َع ِم َل ْت �أَ ْي ِدي َنا �أَ ْن َع ًاما َف ُه ْم َل َها َما ِل ُكونَ { َو َذ َّل ْل َن َاها َل ُه ْم َف ِم ْن َها َر ُكو ُب ُه ْم َو ِم ْن َها َي�أْ ُك ُلونَ { َو َل ُه ْم‬
‫ن�ص ُرونَ { ال َي ْ�ست َِطي ُعونَ َن�صْ َرهُ ْم‬ ‫ُون هَّ ِ‬
‫الل �آ ِل َه ًة َل َع َّل ُه ْم ُي َ‬ ‫ِفي َها َم َنا ِف ُع َو َم َ�شا ِر ُب �أَ َفال َي�شْ ُك ُرونَ { َوات ََّخ ُذوا ِمن د ِ‬
‫ن�سانُ �أَ َّنا َخ َل ْق َنا ُه‬ ‫ُنك َق ْو ُل ُه ْم �إِ َّنا َن ْع َل ُم َما ُي ِ�س ُّرونَ َو َما ُي ْع ِل ُنونَ {�أَ َو مَْل َي َر الإِ َ‬
‫َوهُ ْم َل ُه ْم ُجن ٌد محُّْ َ�ض ُرونَ { َفال َي ْحز َ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ني{ َو َ�ض َر َب َل َنا َم َث ًال َو َن ِ�س َي َخ ْل َق ُه َق َال َمنْ ُي ْح ِيي ا ْل ِع َظ َام َو ِه َي َر ِمي ٌم{ ُق ْل ُي ْح ِيي َها‬ ‫ِمن ُّن ْط َف ٍة َف ِ�إ َذا هُ َو َخ ِ�صي ٌم ُّم ِب ٌ‬
‫�ضر َنارا َف�إ َذا �أَنتُم م ْن ُه ُتوقدُونَ {‬
‫ِّ ِ‬ ‫ن�ش َ�أ َها �أَ َّو َل َم َّر ٍة َوهُ َو ِب ُك ِّل َخ ْل ٍق َع ِلي ٌم{ ا َّل ِذي َج َع َل َل ُكم ِّمنَ ال�شَّ َج ِر الأَ ْخ َ ِ ً ِ‬ ‫ا َّل ِذي �أَ َ‬
‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر َ�ض ِب َقا ِد ٍر َع َلى �أَنْ َي ْخ ُلقَ ِم ْث َل ُهم َب َلى َوهُ َو الخْ َ َّال ُق ا ْل َع ِل ُيم{ ِ�إنمَّ َ ا �أَ ْم ُر ُه ِ�إ َذا �أَ َرا َد‬ ‫�أَ َو َل ْي َ�س ا َّل ِذي َخ َلقَ َّ‬
‫ول َل ُه ُكنْ َف َي ُكونُ { َف ُ�س ْب َحانَ ا َّل ِذي ِب َي ِد ِه َم َل ُكوتُ ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َو�إِ َل ْي ِه ُت ْر َج ُعونَ {‪.‬‬ ‫َ�ش ْي ًئا �أَنْ َي ُق َ‬

‫مكذوب‬
‫ٌ‬ ‫بع�ض الف�ضائل مرفوع ًة للنبي الكرمي‪� ،s‬أك ُرثها مو�ضو ٌع‬
‫ وقد ورد يف هذه ال�سورة العظيمة ُ‬
‫�ضعيف �ضعف ًا ي�سري ًا‪ ،‬والذي عليه َجم ٌع ِمن �أهل العلم باحلديث �أنه مل ْ‬
‫ي�صح يف ف�ضل هذه‬ ‫ٌ‬ ‫عليه‪ُ ،s‬‬
‫وبع�ضها‬
‫ال�سورة العظيمة حديثٌ �صحيح با�ستقالله‪.‬‬
‫ُّ‬

‫‪433‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة يس‬

‫فمن الأحاديث ال�ضعيفة التي وردت يف ف�ضل هذه ال�سورة َما ُروي عن �أن�س‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إن‬ ‫ِ‬ ‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وقلب القر�آن ي�س‪َ ،‬و َمن قر�أ ي�س َكت ََب ُ‬
‫اهلل له بقراءتها قراءة القر�آن ع�شر م��رات)‪ ،‬رواه‬ ‫لكل �شيء قلب ًا ُ‬
‫الرتمذي (‪ ،)2887‬وقال‪( :‬ال ي�صح من قبل �إ�سناده و�إ�سناده �ضعيف)‪ .‬وكذلك حديث‪( :‬اقرءوا ي�س على‬
‫موتاكم) رواه �أبو داود (‪ )3121‬وابن ماجه (‪ )1448‬ب�إ�سناد �ضعيف‪.‬‬

‫ِومن الأحاديث املو�ضوع ِة املكذوب ِة على النبي‪s‬بخ�صو�ص هذه �سورة وهي م�شهورة بني بع�ض النا�س‪،‬‬ ‫ ‬
‫َما ُروي‪�( :‬أنَّ َمن دخل املقابر فقر�أ �سورة (ي�س) ُخ ّف َف عنهم يومئذ‪ ،‬وكان له َبعدد َمن فيها ح�سنات)[رواه‬
‫الثعلبي يف تف�سريه ب�إ�سناد كذب]‪.‬‬

‫و(من داوم على قراءتها كل ليلة ثم‬ ‫ ومث ُله َما ُروي (من قر�أ �سورة (ي�س) يف ليل ٍة �أ�صبح َمغفور ًا له)‪َ .‬‬
‫مات ماتَ �شهيد ًا )‪ ،‬ونحوها ِمن الأحاديث الكثرية املكذبة يف ف�ضل هذه ال�سورة وهي تربو على ال َع َ�شرات‪.‬‬
‫(من كذب‬ ‫النبي‪s‬؛ كيف قد قال ‪َ :s‬‬ ‫وهذه الأحاديث ال يح ُّل روايتُها �أو ذك ُرها بدون تبيني كذبها على ِّ‬
‫�شريك الكاذب فقال‬‫ُ‬ ‫مقعده من النار)‪ ،‬وجعل َمن روى حديث ًا كذب ًا وب َّثه بني النا�س �أنه‬
‫علي متعمد ًا فليتبو�أ َ‬
‫َّ‬
‫(من ح َّدث عني بحديث وهو يرى �أنه كذب فهو �أحد الكاذبني)‪.‬‬ ‫‪َ :s‬‬

‫ال�سور يف �أمور‪:‬‬ ‫ عباد اهلل ! ُ‬


‫بع�ض النا�س يغلط يف هذه ُّ‬
‫۩ ۩منها‪ :‬ظن البع�ض �أن كلمة (ي�س) هي ا�س ٌم من �أ�سماء النبي‪ ،s‬ومل َي ُقل بذلك �أح�� ٌد من العلماء‬
‫ال�سورة بهما مثل (�أمل)‪ ،‬ونحوها‪.‬‬
‫املعتربين و�إمنا هما حرفان افتُتحت هذه ُّ‬

‫۩ ۩ومن ذلك‪ :‬ما هو م�شهور عند البع�ض �أن قراءة �سورة (ي�س) َملا ُقر�أت له‪ ،‬فتجدُه يقر�أها قبل فعل � ٍ‬
‫أمر‬
‫يريده‪� ،‬أو عند اخلوف ِمن حمذور يخ�شاه‪ .‬وهذا لي�س له �أ�ص ٌل يف ال�شرع‪ ،‬ومل يرد فيه حديث عن النبي‬
‫إ�سناد �ضعيف ناهيك �أن يكون �صحيح ًا‪.‬‬
‫‪s‬ولو ب� ٍ‬

‫ق�ضى له‬‫ق�ضى له احلاجات عند دعائه‪� ،‬أو قراءته ملثل ذلك‪� ،‬إمنا ُت َ‬ ‫ وقد ذكر �أهل العلم �أن كثري ًا َّ‬
‫ممن ُت َ‬
‫أجل َما قام بقلبه من اال�ضطرار والفقر �إىل ربه ج َّل وعال‪َ ،‬و ِ�ص ْد ِق اللجو ِء �إليه �سبحانه‪ ،‬ال لأجل َما قر�أه ِمن‬ ‫ل ِ‬
‫دعاءٍ �أو �سورة‪.‬‬

‫بع�ض‬
‫(�سبب ق�ضاء َحاج ِة ِ‬
‫ُ‬ ‫ قال �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (اقت�ضاء ال�صراط امل�ستقيم (‪:)700 ،698/2‬‬
‫وثن‬ ‫ٌ‬
‫م�شرك عند ٍ‬ ‫الرجل منهم قد يكون م�ضطر ًا ا�ضطرار ًا لو َد َعا َ‬
‫اهلل بها‬ ‫َ‬ ‫ه�ؤالء ال َّداعني الأدعية املح َّرمة �أن‬
‫توجه ِه �إىل اهلل‪ ،‬و�إن كان حت ِّري ال ُّدعا ِء عند ال َوثن ِ�شرك ًا‪َ ..‬و َي َعاقب على ذلك ويهوي يف‬
‫ل�ص ْد ِق ِ‬
‫ُجيب له‪ِ ،‬‬
‫ال�ست َ‬
‫عف ُ‬
‫اهلل عنه‪...‬‬ ‫النار‪� ،‬إذا مل َي ُ‬

‫بع�ض الأعيان من ال�صَّ احلني عبدوا عباد ًة �أو َد َعوا‬


‫ري ِمن النا�س؛ ف�إنهم يبلغهم �أن َ‬
‫ ومن هنا يغلط كث ٌ‬
‫د َُعا ًء (�أو قر�أوا ُ�سورة) ووجدوا �أث َر تلك العبادة وذلك ال ُّدعا ُء‪ ،‬ف َيجعلون ذلك دلي ًال على ا�ستح�سان تلك‬
‫‪434‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬سورة يس‬

‫العبادة والدعاء‪ ،‬ويجعلون ذلك العمل ُ�س ّنة‪ ،‬ك�أنه قد فعله نبي؛ وهذا غلط خ�صو�ص ًا �إذا كان ذلك العم ُل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ب�صدق قام بقلب فاع ِله حني الفعل‪ ،‬ثم تفع ُل ُه الأتبا ُع �صور ًة ال ِ�صدق ًا‪ ،‬ف ُي َ�ضرون به؛ لأنه لي�س‬
‫ٍ‬ ‫�إمنا كان �أث ُر ُه‬
‫ب�صدق َّ‬
‫الطلب و�صح ِة‬ ‫ِ‬ ‫�صدق ذلك الفاعل‪ ،‬الذي لع َّله‬ ‫ثواب املتَّبعني‪ ،‬وال قام بهم ُ‬ ‫العمل َم�شروعا فيكونَ لهم ُ‬ ‫ُ‬
‫الق�صد ُيك َّفر عن الفاعل)‪.‬‬

‫جلدُر واملركبات بق�صد احلفظ من ال�ش ِّر والوقاية منه‪ ،‬وقد‬ ‫۩ ۩ومن ذلك‪ :‬تعليق هذه ال�سورة وغ ِريها على ا ُ‬
‫النهي عن ذلك قال الإمام �أحمد‪( :‬تعليقُ �شيء من القر�آن كلُّه َمكروه‪َ ،‬ومن تع َّلق �شيئ ًا ُو ِكل �إليه)‪،‬‬
‫جاء ُ‬
‫وكان ابنُ م�سعود‪ d‬ي�شدد يف النهي عنه‪.‬‬

‫ �إن هذا القر�آن �أُنزل ليقر�أ و ُيعمل به‪ ،‬ال ليع ّلق و ُي َ‬
‫و�ضع على �أطراف الأَ ِ�س ّرة واملراكب } َو ُقرْ�آن ًا َف َر ْق َنا ُه‬
‫َنزي ًال{‬ ‫ِل َت ْق َر�أَ ُه َع َلى ال َّن ِ‬
‫ا�س َع َلى ُم ْك ٍث َو َن َّز ْل َنا ُه ت ِ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪435‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫شر الناس‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬شر الناس‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫الب�شر طباع ًا َر ِد َّية تنت�شر بينهم و�إن تعددت �أ�شكالهم و�ألوانهم وتغايرت �أزما ُنهم‪ .‬وال‬ ‫ ف�إن ِمن طبا ِع َ‬
‫نال‬ ‫ُ‬
‫خل َّل�ص ِمن النا�س ممن �أراد اهلل به خري ًا ف�أح�سن ُخ ُلقه وك َّمل �سمته‪ .‬واملر ُء العاقل ال َي ُ‬ ‫ي�س َل ُم منها �إال ا ُ‬
‫مكارم الأخالق‬
‫ِ‬ ‫وتطويع للنف�س و� ْأط ٍر لها على‬
‫ٍ‬ ‫مبجاهدات وم�صابرة‬
‫ٍ‬ ‫هذه املرتبة‪ ،‬وال ُيو�صف بهذا الو�صف �إال‬
‫عند عموم النا�س‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ال�شرف َ‬ ‫ويتح�صل بها‬
‫ّ‬ ‫وحما�سن الطباع التي ُي َن ُال بها ّ‬
‫ال�س�ؤدد‬ ‫ِ‬

‫احل ْلم والأناة‪ ،‬وتلقيب ُه ب�سائر مكارم الأخالق‪ ،‬ملما‬ ‫و�صف الكرم واجلود‪ ،‬وحياز ُته َ‬
‫نعت ِ‬ ‫ لذا ُ‬
‫فنيل املر ِء َ‬
‫أحنف‬
‫لكرمه‪ ،‬وال ِ‬
‫ا�سم حاتمِ ٍ ِ‬ ‫تنقطع دونه ال ِّركاب‪ ،‬وحتفى الأقدام‪ ،‬ومي ُّل حتقي َقه � ُ‬
‫أوا�سط الأنف�س‪ ،‬لذا ُخ ِّلد ُ‬
‫ممن مل يبلغ �ش�أوهم‪.‬‬ ‫وابن َج ْد َعانَ ملكارم �أخالقه‪ ،‬وغ ُريهم‪ ،‬ون�سي �سواهم َّ‬
‫حللمه‪ِ ،‬‬
‫لوال امل�شق ُة ل�سا َد ُ‬
‫النا�س كلُّهم‬ ‫ ‬
‫إقدام قت ُّال‬
‫اجلو ُد يفق ُر وال ُ‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫وال�شرف‪ ،‬والقو َة والرفع َة‪ ،‬والغلب َة ومهاب َة النا�س تكون‬ ‫ كثريون هم �أولئك الذين يظنون �أن ال�س�ؤد َد‬
‫ال�سائرة والأقوال املتكررة عند‬‫بنيل الرغب ِة بال�شدِّ ة والقوة‪ ،‬و�أخذه بالبط�ش وال ُفت َّوة‪ .‬حتى �صار ِمن الأمثال َّ‬
‫البع�ض‪�( :‬إن مل تكن ذئب ًا �أكلتك الذئاب)‪.‬‬

‫وق‬ ‫َ‬
‫فنجهل َف َ‬ ‫ وتلك م�شابهة حيوان ّية‪ ،‬وو�صم ٌة جاهلية‪ ،‬ف َق ُبل قال الأول‪�( :‬أال ال يجهلنْ �أح ٌد علينا *‬ ‫خطبة جديدة‬
‫هل اجلاهلينا)‪ .‬و ِق�سْ حال �أولئك بق�صة ذلك الرجل الذي دخل على النبي ‪s‬رافع ًا �صوتَه‪ ،‬حمدث ًا َج َلب ًة‬ ‫َج ِ‬
‫و�ضجة‪ ،‬فه�شَّ له النبي‪s‬وب�ش‪ ،‬وتط َّلق يف وجهه وانب�سط �إليه‪ ،‬وا�ستقباله بحفاو ٍة و�إكرام‪ ،‬فل َّما خرج قال‬ ‫َّ‬
‫عند اهلل منزل ًة َمن تر َكه ُ‬
‫النا�س اتقا َء �ش ِّره)‪.‬‬ ‫‪�( :s‬إن �ش َّر النا�س َ‬

‫عنده وعندهم‪َ ،‬من حتا�شاه‬ ‫أبغ�ضهم عند خل ِقه‪ ،‬املمقوتُ َ‬ ‫عند اهلل‪ ،‬و� َ‬ ‫النا�س َ‬ ‫ نعم عباد اهلل ! �إنَّ �ش َّر ِ‬
‫احلذر‪ ،‬ال معامل َة‬ ‫فالنا�س يعاملونه معامل َة ِ‬
‫ُ‬ ‫بط�شه و�سطو ِته‪ ،‬وحذر ًا من غلب ِة ل�سا ِنه و�سوء فعا ِله‪.‬‬ ‫خوف ِ‬‫النا�س َ‬
‫ُ‬
‫بع�ض ح َّقه خ�شي ًة من َ�ش ٍر قد ينزل به ِمن ذلك املقا ِبل‪� ،‬أو جتانب ًا لألفاظ نابي ٍة وتطاول‬ ‫املُ ِحب‪ ،‬بل ُرمبا َت َر َك ٌ‬
‫بالل�سان منه عليه‪.‬‬
‫عظيم �ش�أ ِنه وعل ِّو‬
‫ِ‬ ‫ يف حني يظنُّ ذلك امل�سكني �أن حذ َر النا�س منه مهاب ٌة له‪ ،‬و�أن �إتقا َءهم �ش َّره ِ‬
‫ب�سبب‬
‫ل�سوء َطويته‪ ،‬وحذر ًا‬ ‫مكانته‪ ،‬فح�سبها َغلب ًة و�س�ؤددا‪ ،‬و ُفت ّو ًة وتق ُّدم ًا (فظنّ ال َب ْع َر متر ًا)‪ ،‬و�إمنا هي منهم اتقا ٌء ُ‬
‫من ظلمه و�سوء �أعما ِله‬ ‫‪436‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬شر الناس‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�صفات يف �أربعة �أحاديث ل�ش ِّر النا�س‪ ،‬وناهيك بهذا‬


‫ٍ‬ ‫ ‪ w‬عباد اهلل ! لقد ذكر النبي الكرمي‪� s‬أرب َع‬
‫نبي اهلل‪ ،‬ومن ي�أتيه الوحي �صبح ًا وع�شيا‪:s‬‬
‫الو�صف ذ ّم ًا‪ ،‬كيف ال ! والذا ُّم ُّ‬

‫قبل على هذا بوجه‪ ،‬وذاك بغريه‪ ،‬يظهر ال�صداق َة‬ ‫۩ ۩ف���أ ّول هذه ال�صفات‪� :‬أن يكون املر ُء ذا وجهني‪ُ ،‬ي ُ‬
‫وال�صدق حين ًا‪ ،‬ويبطنُ العداوة والغ ّل‪� ،‬إن ر�أى ُقدرة على االنت�صار والغلبة انت�صر ولو كان خ�ص ُم ُه غائب ًا‬
‫ِّ‬
‫�أو غاف ًال‪ .‬روى ال�شيخان (من حديث �أبي هريرة‪� )d‬أن ر�سول اهلل ‪ s‬قال‪( :‬جتدون النا�س معادن‬
‫فخيارهم يف اجلاهلية خيارهم يف الإ�سالم �إذا فقهوا ‪ ..‬وجتدون ِمن �شرار النا�س ذا الوجهني الذي‬
‫ي�أتي ه�ؤالء بوجه وه�ؤالء بوجه)‪.‬‬

‫رجى منه اخلري وال ي�ؤمن منه ال�ش ّر‪ ،‬بل‬ ‫النا�س على ل�سان ر�سول اهلل‪َ ،s‬من ال ُي َ‬‫۩ ۩والو�صف الثاين ل�ش ِّر ِ‬
‫�إن اخلري منه للنا�س �أن َي ُك َّف �أذاه‪ ،‬وميتنع من الإ�ساءة �إليهم والإ�ضرار بهم‪ ،‬ف�إذا �أعطى �شيئ ًا َمنَّ به‪،‬‬
‫و�إذا بذل معروف ًا �أكرث ِمن ِذ ِ‬
‫كره و�أف�شاه‪ ،‬فخريه �ش ّر‪ ،‬فال ُيرجى منه النفع و ُيحذر منه ال�ش ّر‪.‬‬

‫ روى ابن حبان (‪ )527‬عن �أبي هريرة �أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪�( :‬أال �أخربكم بخريكم من �ش ِّركم؟) فقال‬
‫رجى خ ُريه وال ُي�ؤمنُ‬
‫رجل‪ :‬بلى يا ر�سول اهلل ! قال‪( :‬خريكم َمن يرجى خ ُريه وي�ؤمن �ش ُّره‪ ،‬و�ش ُّركم َمن ال ُي َ‬
‫�ش ُره)‪.‬‬

‫الوعظ فال يتعظ‪ ،‬و ُيذ ّكر مبكارم الأخالق فال ِ‬


‫يقتد‪ ،‬و ُينبه �إىل‬ ‫َ‬ ‫۩ ۩والو�صف الثالث ل�شرار النا�س‪ :‬من ي�سمع‬
‫م�سا�ؤئها فال ينزجر عنها‪ .‬روى الن�سائي واحلاكم و�صححه عن �أبي �سعيد اخلدري‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬‬
‫خطب النا�س عام تبوك فقال‪�( :‬إن ِمن �ش ِّر النا�س رج ًال فاجر ًا جريئ ًا َيق َر�أُ كتاب اهلل وال يرعوي �إىل‬
‫�شيء منه)‪.‬‬

‫وال�سنة م ّر عليها مرورا‪ ،‬ظان ًا �أنه مرب�أٌ منها‪ ،‬ومنزّه عنها‪،‬‬


‫الكتاب ّ‬
‫ِ‬ ‫ فهذا الرجل �إذا م ّرت عليه مواعظ‬
‫هلل ومكا ِر ِم الأخ�لاق ظنّ ذلك ذ ّم ًا له وا�ستنقا�ص ًا‪ ،‬ومل ي�سمعها عظ ًة‬
‫عنده كام َله‪� ،‬إذا ذ ّكرته با ِ‬
‫فنف�س ُه َ‬
‫ُ‬
‫وا�ستذكار ًا‪.‬‬

‫۩ ۩والو�صف الرابع‪� :‬أن النا�س يحذرون هذا ال�شخ�ص خ�شي َة ل�سا ِنه‪ِ ،‬‬
‫وبط�ش َب َنا ِنه‪ ،‬يف ال�صَّ حيح �أن النبي‬
‫عند اهلل منزل ًة َمن تر َكه ُ‬
‫النا�س اتقا َء �ش ِّره)‪ .‬فيغ ّرت امل�سكني ويظنُّ �أن ذلك‬ ‫‪s‬قال‪�( :‬إن �ش َّر النا�س َ‬
‫املرتوك حتا�شي ًا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫باملعظم احرتام ًا‪ ،‬و�إمنا هو‬
‫نق�ص و�ش ٍّر يعرتيه‪ .‬فال هو ّ‬
‫ب�سبب ٍ‬
‫لف�ضل فيه‪ ،‬و�إمنا هو ِ‬
‫ٍ‬

‫ عباد اهلل! تلكم �صفاتُ �ش ِّر النا�س كما قال امل�صطفى‪s‬و�أخرب‪ ،‬وانظر يا رعاك اهلل �إىل �ضدِّ ه ونقي�ضه‬
‫(روى �أحمد ‪ 99/5‬عن جابر بن �سمرة ‪� )d‬أن النبي ‪s‬قال‪�( :‬إن الفح�ش والتفاح�ش لي�سا من الإ�سالم يف‬
‫�شيء و�إن خري النا�س �إ�سالم ًا �أح�س ُنهم خلق ًا)‪.‬‬
‫‪437‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬شر الناس‬

‫النا�س �أح�سنهم ُخلق ًا‪ ،‬يتوا�ضع فريفعه اهلل‪ ،‬وي�صدق فينجيه اهلل‪ ،‬ويبذل احلق لأه ِله فتح ّبه‬ ‫أكرم ِ‬‫ ف� ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫القلوب وجت ّله‪ .‬ترى ل�سا َنه �صادق ًا ال كذب فيه وال ُفح�ش‪ ،‬وقل َبه �سليم ًا ال غ ّل فيه وال حقد؛ روى ابن ماجه‬
‫القلب‬
‫َوالبيهقي واللفظ له عن عبد اهلل بن َعمرو ‪d‬قال‪ :‬قلنا‪ :‬يا ر�سول اهلل من خري النا�س؟ قال‪( :‬ذو ِ‬
‫النقي‪،‬‬
‫(التقي ُّ‬
‫ُّ‬ ‫والل�سان ال�صَّ ادق)‪ ،‬قلنا‪ :‬قد عرفنا الل�سانَ ال�صادق‪ ،‬فما القلب املحموم ؟ قال‪:‬‬
‫ِ‬ ‫املحموم‪،‬‬
‫الذي ال �إثم فيه وال َبغي‪ ،‬وال غ َّل وال ح�سد)‪.‬‬

‫{‬ ‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ }:‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا �أَ ِطي ُعو ْا هَّ َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه َو َال َت َو َّل ْوا َع ْن ُه َو�أَنت ُْم ت َْ�س َم ُعونَ‬
‫ال يعق ُلونَ {‬
‫ال�ص ُّم ا ْل ُب ْك ُم ا َّل ِذينَ َ َ ْ ِ‬ ‫الل ُّ‬ ‫اب ِع َند هَّ ِ‬ ‫َو َال َت ُكو ُنو ْا َكا َّل ِذينَ َقا ُلوا َ�س ِم ْع َنا َوهُ ْم َال َي ْ�س َم ُعونَ {�إِنَّ َ�ش َّر ال َّد َو َّ‬
‫ا�ست َِجي ُبو ْا للِهّ ِ‬
‫الل ِف ِيه ْم َخ رْ ًيا ل ْأ�س َم َع ُه ْم َو َل ْو �أَ ْ�س َم َع ُه ْم َل َت َو َّلو ْا َّوهُ م ُّم ْع ِر ُ�ضونَ { َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا ْ‬ ‫َو َل ْو َع ِل َم هَّ ُ‬
‫ول َبينْ َ المْ َ ْر ِء َو َق ْل ِب ِه َو�أَ َّن ُه ِ�إ َل ْي ِه تحُْ َ�ش ُرونَ {‪.‬‬
‫الل َي ُح ُ‬ ‫َو ِلل َّر ُ�س ِول ِ�إ َذا َد َعا ُكم لمِ َا ُي ْح ِيي ُك ْم َو ْاع َل ُمو ْا �أَنَّ هَّ َ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪438‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫شرح وصية زكريا‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬شرح وصية زكريا‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫فروى الإمام �أحمد والرتمذي و�صححه من حديث احلارث الأ�شعري ‪� d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إن اهلل �سبحانه‬
‫كلمات‪� ،‬أن َيع َم َل بها وي�أمر بني �إ�سرائيل �أن َيع َملوا بها‪ ،‬و�إنه كاد �أن يبطئ‬
‫وتعاىل �أمر يحيى بن زكريا بخم�س ٍ‬
‫بها‪ ،‬فقال له عي�سى‪� :a‬إن اهلل تعاىل �أمرك بخم�س كلمات لتعمل بها وت�أمر بني �إ�سرائيل �أن يعملوا بها‪،‬‬
‫ف�إما �أن ت�أمرهم‪ ،‬و�إما �أنا �آ ُم َرهم‪ .‬‬

‫بيت املقد�س‪ ،‬فامتلأ‬‫النا�س يف ِ‬ ‫عذب‪ .‬فجمع يحيى َ‬ ‫خ�س َف بي‪� ،‬أو �أُ َّ‬‫۩ ۩فقال يحيى‪� :‬أخ�شى �إن �سبقتني بها �أن ُي َ‬
‫ال�ش َرف‪ ،‬فقال‪� :‬إن اهلل �أمرين بخم�س كلمات �أن �أعمل بهن و�آمركم �أن تعملوا بهن‬ ‫امل�سجد وقعدوا على ُّ‬
‫�أولهن ‪�:‬أن تعبدوا اهلل وال ت�شركوا به �شيئا‪ ،‬ف�إن َم َث َل َمن �أ�شرك باهلل ك َم َث ِل َر ُج ٍل ا�شرتى عبد ًا ِمن خال�ص‬
‫ماله بذهب �أو ورق (�أي ف�ضة)‪ ،‬فقال له �سيدُه‪" :‬هذه داري وهذا عملي فاعمل و�أ ِّد �إ َّ‬
‫يل "‪ ،‬فكان العب ُد‬
‫ر�ضى �أن يكون عبدُه كذلك‪.‬‬ ‫يعمل وي�ؤدي �إىل غري �سيده‪ ،‬ف�أيكم َي َ‬

‫عبده يف �صالته َما مل‬‫ و�إن اهلل �أم َر ُكم بال�صَّ الة ف�إذا �صليتم فال تلتفتوا ف�إن اهلل ين�صب وج َهه لوجه ِ‬
‫خطبة جديدة‬

‫عج ُب �أو)‬ ‫بال�صيام ف�إنَّ َم َث َل ذلك ك َم َث ِل َر ٍ‬


‫جل يف ُع�صابة معه ُ�ص َّر ٌة فيها ِم ْ�س ٌك‪ ،‬فكلُّهم ( َي َ‬ ‫يلتفت‪ .‬و�أمركم ِّ‬
‫ريح ال�صائم �أطيب عند اهلل من ريح امل�سك‪.‬‬ ‫يعج ُب ُه ُ‬
‫ريحها‪ ،‬و�إن َ‬

‫ و� َأم َركم بال�صَّ دقة ف�إن َم َث َل ذلك َك َم َث ِل َر ٍ‬


‫جل � َأ�س َره ال َعدو‪ ،‬ف�أوثقوا َيده �إىل ُعن ِق ِه وق َّد ُموه ل َي�ضربوا ُعنقه‪،‬‬
‫نف�سه منهم‪ ..‬و�أمركم �أن تذكروا َ‬
‫اهلل تعاىل؛ ف�إن َم َث َل ذلك‬ ‫فقال‪� " :‬أنا �أفتدي منكم بالقليل والكثري "‪ ،‬ففدى َ‬
‫نف�سه منهم‪ ،‬كذلك العبد‬ ‫�سراع ًا حتى �إذا �أتى على ُح�صن ح�صني ف�أحرز َ‬ ‫جل خرج العد ُّو يف � ِإثره َ‬ ‫ك َم َث ِل َر ٍ‬
‫نف�سه من ال�شيطان �إال بذكر اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫اليحرز َ‬

‫اهلل �أمرين بهن؛ ال�سمع والطاعة‪ ،‬واجلهاد والهجرة‪ ،‬واجلماعة‬ ‫ قال النبي ‪ ( :s‬و�أنا �آمركم بخم�س ُ‬
‫ف�إنه من فارق اجلماعة ِق َيد ِ�ش ٍرب فقد خلع ِربق َة الإ�سالم من ُعن ِق ِه �إال �أن ُي ِ‬
‫راجع‪ ،‬ومن ا َّدعى دعوى اجلاهلية‬
‫ف�إنه من َج َثا جهنم )‪ ،‬فقال رجل يا ر�سول اهلل و�إن �ص َّلى و�صام ؟‪ ،‬قال‪( :‬و�إن �ص َّلى و�صام‪ ،‬فادعوا بدعوى‬
‫اهلل الذي �س َّماكم امل�سلم َني امل�ؤمن َني َعبا َد اهلل)‪.‬‬
‫‪439‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬شرح وصية زكريا‬

‫ (الوابل ال�صيب‪ ،‬البن القيم �ص‪ )38‬لقد ذكر النبي ‪s‬يف هذا احلديث ال�صَّ حيح العظيم ال�ش�أن‬
‫الذي ينبغي لكل م�سلم ُ‬
‫حفظه وتع ُّق ُله ما ُينجي من ال�شيطان‪ ،‬وما يح�صل للعبد به الفوز والنجاة يف الدنيا‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫والآخرة‪ .‬فذكر َم َث َل املُ ِّو ِحد وامل�شرك فاملوحد كمن عمل ل�سيده يف داره‪ ،‬وامل�شرك كمن ا�ستعمله �سيدُه يف داره‬
‫فكان يعمل �إىل غري �سيده‪ ،‬ف�سيكون �أم َك َت املماليك عند �سيده‪.‬‬

‫۩ ۩والو�صية الثانية‪ :‬بال�صالة‪ ،‬فقال‪( :‬ف�إذا �صليتم فال تلتفتوا ف�إن اهلل ين�صب وج َهه لوجه عبده يف �صالته‬
‫ما مل يلتفت) وااللتفات املنهي عنه يف ال�صالة نوعان‪ :‬التفات القلب عن اهلل عز وجل �إىل غريه‪ .‬والثاين‪:‬‬
‫التفات الب�صر‪ ،‬وقد ُ�سئل النبي‪s‬عن االلتفات يف ال�صالة فقال‪ :‬هو اختال�س يختل�سه ال�شيطان من‬
‫�صالة العبد) رواه البخاري‪.‬‬
‫هلل‪ ،‬يف حني َع َ�صى ال�شيطانُ �أم َره فلم‬ ‫ لأن العبد �إذا قام يف ال�صالة غا َر ال�شيطانُ منه �إذ امتثل �أمر ا ِ‬
‫أغيظه لل�شيطان و�أ�ش َّده عليه‪ ،‬فال�شيطان يحر�ص‬ ‫مقام و�أقر َبه‪ ،‬و� َ‬ ‫ي�سجد‪ ،‬فالعبد يف �صالته قد قام يف �أعظم ٍ‬
‫ن�سيه ويلهيه‪ ،‬و َيج ُل ُب عليه بخي ِل ِه و َر ْج ِله‬
‫ويجتهد ك َّل االجتهاد �أن ال يقيمه فيه‪ ،‬بل ال يزال به َي ِع ُد ُه ومي ِّنيه‪ ،‬و ُي ِ‬
‫حتى ُيه ِّون عليه �ش�أن ال�صالة‪ ،‬فيتهاون بها تارة‪ ،‬ويرتكها تار ًة �أخرى‪ ،‬وي�ؤخرها عن وقتها �أحيان ًا‪ ،‬ف�إذا‬
‫وترك اخل�شوع والتد ّبر‪ ،‬وب�ص ُر ُه بالنظر فيما حو َله‪.‬‬ ‫�صالها �ألتفت قل ُبه عنها بال�سهو‪ِ ،‬‬

‫بال�صيام ف�إنَّ َم َث َل ذلك ك َم َث ِل َر ٍ‬


‫جل يف ُع�صابة معه‬ ‫۩ ۩والو�صية الثالثة‪ :‬الأمر بال�صيام‪ ،‬فقال‪( :‬و�أمركم ِّ‬
‫عج ُب �أو) يعج ُب ُه ريحها‪ ،‬و�إن ريح ال�صائم �أطيب عند اهلل من ريح امل�سك)‬ ‫ُ�ص َّر ٌة فيها ِم�سك‪ ،‬فكلهم ( َي َ‬
‫ال�صرة التي فيها امل�سك لأنها م�ستورة عن العيون وهكذا ال�صائم �صومه م�ستور عن‬ ‫فم َّثل ب�صاحب ُّ‬
‫اخللق ال تدركه حوا�سهم‪.‬‬

‫اهلل بال�صدقة ف�إن مثل ذلك كمثل رجل �أ�سره العدو‬ ‫۩ ۩والو�صية الرابعة‪ :‬الأمر بال�صدقة‪ ،‬فقال‪( :‬و�أمركم ُ‬
‫ف�أوثقوا يده �إىل عنقه وقدموه لي�ضربوا عنقه فقال �أنا �أفتدي منكم بالقليل والكثري ففدى نف�سه منهم)‬
‫وقوعهُ‪ ،‬وبرها ُن ُه وجودُه‪ ،‬ف�إن لل�صدقة ت�أثري ًا عجيب ًا يف دفع �أنواع البالء‪ ،‬ولو كانت‬
‫وهذا الكالم دلي ُل ُه ُ‬
‫ِمن فاجر �أو ظامل‪ ،‬بل تنفع الكافر �أي�ض ًا‪ ،‬ف�إن اهلل يدفع عنهم ب�سببها‪ ،‬وهذا �أمر معلوم عند النا�س‬
‫خا�صتهم وعامتهم لأنهم جربوه‪.‬‬

‫ر�سول اهلل‪َ s‬م َث َل البخيل واملت�صدق كمثل رجلني‬ ‫(�ض َر َب ُ‬ ‫ ويف ال�صحيحني عن �أبي هريرة‪ d‬قال‪َ :‬‬
‫عليهما جبتان من حديد قد ا�ضطرت �أيديهما �إىل ثدييهما وتراقيهما فجعل املت�صدق كلما ت�صدق ب�صدقة‬
‫خذت ك ُّل حلقة مكانها‬‫ب�ص َدقة َق ُل َ�صت َو�أ َ‬ ‫ُ‬
‫البخيل ك َّل َما َّ‬
‫هم َ‬ ‫انب�سطت عنه حتى تغ�شى �أنامله وتعفو �أثره وجعل‬
‫أيت ر�سول اهلل‪s‬يقول ب�إ�صبعه هكذا يف ُج َّبته فر�أيته يو�سعها وال تت�سع)‪ ،‬فالبخيل‬ ‫قال �أبو هريرة‪ :‬ف�أنا ر� ُ‬
‫حمبو�س عن الإح�سان‪ ،‬ممنو ٌع عن الرب واخلري‪ ،‬فكان جزا�ؤه من جن�س عمله‪ ،‬فهو �ض ِّيقُ ال�صَّ در‪ ،‬ممنو ٌع من‬ ‫ٌ‬
‫ق�ضى له َحاجة‪ ،‬وال‬‫الهم وال َغ ِّم واحلزن‪ ،‬ال يكاد ُت َ‬ ‫االن�شراح‪� ،‬ضيقُ ال َع َطن‪� ،‬صغ ُري النف�س‪ُ ،‬‬
‫قليل الفرح‪ ،‬كث ُري ِّ‬
‫كرجل عليه ُج َّب ٌة ِمن حديد قد ُجمعت يداه �إىل عن ِقه بحيث ال يتمكن من �إخراجها‬ ‫ُيعانُ على مطلوب‪ ،‬فهو ٍ‬
‫إخراجها �أو تو�سيع تلك اجلبة لزمت ك ُّل حلق ٍة من ِح َل ِقها مو�ض َعها‪ ،‬وهكذا البخيل‬ ‫وال حركتها‪ ،‬وكلما �أراد � َ‬
‫كلما �أراد �أن يت�ص َّدق َم َن َع ُه بخ ُله فبقي قل ُبه يف �سجنه كما هو‪.‬‬
‫‪440‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬شرح وصية زكريا‬

‫ واملت�صدق كلما ت�صدق ب�صدقة ان�شرح لها قلبه وانف�سح بها �صدره فهو مبنزلة ات�ساع تلك اجلبة عليه‬
‫وع ُظ ُم �سرو ُره‪ ،‬ولو مل يكن يف ال�صَّ دقة �إال هذه الفائدة‬ ‫وانف�س َح وان�ش َرح‪ ،‬و َق ِوي ُ‬
‫فرح ُه َ‬ ‫فكلما ت�ص َّد َق َ‬
‫ات�س َع َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ُ‬
‫وحدها لكان العب ُد حقيق ًا باال�ستكثار منها واملبادرة �إليها‪ ،‬كيف وقد قال اهلل تعاىل‪} :‬ومن يوق �شح نف�سه‬ ‫َ‬
‫ف�أولئك هم املفلحون{‪.‬‬

‫۩ ۩والو�صية اخلام�سة‪ :‬الأمر بذكر اهلل‪ ،‬ف�إنه قال‪( :‬و�أمركم �أن تذكروا اهلل تعاىل ف�إن مثل ذلك كمثل رجل‬
‫خرج العدو يف �إثره �سراع ًا حتى �إذا �أتى على ح�صن ح�صني ف�أحرز نف�سه منهم كذلك العبد ال يحرز‬
‫نف�سه من ال�شيطان �إال بذكر اهلل تعاىل) فلو مل يكن يف الذكر �إال هذه اخل�صلة الواحدة لكان حقيق ًا‬
‫بالعبد �أن ال يفرت ل�سا ُن ُه من ذكر اهلل‪ ،‬و�أن ال يزال لهج ًا بذكره‪ ،‬ف�إنه ال ُي ِ‬
‫حر ُز َ‬
‫نف�سه من عدوه �إال بالذكر‪.‬‬

‫وافرت�سه‪ ،‬و�إذا ذكر اهلل‬


‫َ‬ ‫ر�ص ُد ُه ف�إذا َغ َف َل َو َث َب عليه‬
‫ وال يدخل عليه العدو �إال ِمن باب الغفلة‪ ،‬فهو َي ُ‬
‫و�سو�س يف‬
‫ا�س �أي ُي ُ‬‫ا�س اخل َّن َ‬
‫باب‪ ،‬ولهذا ُ�س ِّمي ال َو ْ�س َو َ‬‫تعاىل انخن�س عدو اهلل وت�صاغر وانقمع حتى يكون كال ُّذ ِ‬
‫ال�صدور‪ ،‬ف�إذا ُذ ِك َر ُ‬
‫اهلل تعاىل َخ َن َ�س و َك َّف‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪441‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫صفات املنافقني‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفات املنافقني‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ات َي ْ�س َعى ُنو ُرهُ م َبينْ َ �أَ ْي ِد ِيه ْم َو ِب�أَ مْ َيا ِن ِهم ُب�شْ َرا ُك ُم ا ْل َي ْو َم‬ ‫ فيقول اهلل تعاىل‪َ } :‬ي ْو َم َت َرى المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني َوالمْ ُ�ؤْ ِم َن ِ‬
‫َج َّناتٌ تجَْ ِري ِمن تحَْ ِت َها الأَ ْن َها ُر َخا ِل ِدينَ ِفي َها َذ ِل َك هُ َو ا ْل َف ْو ُز ا ْل َع ِظ ُيم{ َي ْو َم َي ُق ُ‬
‫ول المْ ُ َنا ِف ُقونَ َوالمْ ُ َنا ِف َقاتُ ِل َّل ِذينَ‬
‫اب َب ِاط ُن ُه ِفي ِه‬ ‫انظ ُرو َنا َن ْق َت ِب�سْ ِمن ُّنو ِر ُك ْم ِق َيل ا ْر ِج ُعوا َو َراء ُك ْم َفا ْلت َِم ُ�سوا ُنو ًرا َف ُ�ض ِر َب َب ْي َن ُهم ِب ُ�سو ٍر َّل ُه َب ٌ‬ ‫� َآم ُنوا ُ‬
‫اب{ ُي َنادُو َن ُه ْم �أَ مَْل َن ُكن َّم َع ُك ْم َقا ُلوا َب َلى َو َل ِك َّن ُك ْم َفتَنت ُْم �أَن ُف َ�س ُك ْم َو َت َر َّب�صْ ت ُْم‬ ‫ال َّر ْح َم ُة َو َظ ِاه ُر ُه ِمن ِق َب ِل ِه ا ْل َع َذ ُ‬
‫الل ا ْل َغ ُرو ُر { َفا ْل َي ْو َم ال ُي�ؤْ َخ ُذ ِمن ُك ْم ِف ْد َي ٌة َوال ِمنَ ا َّل ِذينَ‬ ‫الل َو َغ َّر ُكم ِب هَّ ِ‬ ‫َوا ْر َت ْبت ُْم َو َغ َّر ْت ُك ُم الأَ َمانيِ ُّ َحتَّى َجاء �أَ ْم ُر هَّ ِ‬
‫َك َف ُروا َم�أْ َوا ُك ُم ال َّنا ُر ِه َي َموْال ُك ْم َو ِب ْئ َ�س المْ َ ِ�ص ُري{‪.‬‬

‫ يخرب اهلل تعاىل عن عباده امل�ؤمنني يوم القيامة‪� ،‬أنهم ي�سعى نورهم بني �أيديهم يف عر�صات القيامة‪،‬‬
‫مثل اجلبل‪،‬‬ ‫ال�صراط منهم َمن نو ُر ُه ُ‬ ‫وب�أميانهم كت ُب ُهم‪ ،‬قال ابنُ م�سعود‪( :d‬على قدر �أعمالهم مي ُّرون على ِّ‬
‫مثل الرجل القائم‪ ،‬و�أدناهم نور ًا َمن نو ُر ُه يف �إبهامه‪ ،‬ويتق ُد م ّر ًة‬
‫مثل النخلة‪ِ ،‬ومنهم َمن نو ُر ُه ُ‬
‫ومنهم َمن نو ُر ُه ُ‬
‫و َيط َف�أُ م ّرة)‪.‬‬

‫وحالكم وجنواكم وجمال�سكم‪،‬‬


‫ وعن قتادة بن �أبي �أمية قال‪� :‬إنكم مكتوبون عند اهلل ب�أ�سمائكم و�سيماكم ُ‬
‫ف�إذا كان يوم القيامة قيل‪ :‬يا فال ٌن هذا نورك‪ ،‬يا فال ٌن ال نور لك‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫ فيم�شى امل�ؤمنون والنور بني �أيديهم يهديهم طري َقهم ال يتخبطون وب�أميانهم ُكت ُبهم } َي ْو َم َت َرى المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني‬
‫ات َي ْ�س َعى ُنو ُرهُ م َبينْ َ �أَ ْي ِد ِيه ْم{‪ .‬فتتالقاهم املالئكة قائل ًة لهم‪ُ } :‬ب�شْ َرا ُك ُم ا ْل َي ْو َم َج َّناتٌ تجَْ ِري ِمن‬ ‫َوالمْ ُ�ؤْ ِم َن ِ‬
‫تحَْ ِت َها الأَ ْن َها ُر َخا ِل ِدينَ ِفي َها َذ ِل َك هُ َو ا ْل َف ْو ُز ا ْل َع ِظ ُيم{‪.‬‬

‫ال�صراط‪� ،‬إذ ت�شت ُّد الظلمة‬


‫موقف احل�شر وقبل املرور على ِّ‬‫النا�س يف ذلك املوقف‪ِ ،‬‬‫اهلل حال ِ‬ ‫ فبينّ ُ‬
‫وحت ِلك �سواد ًا‪ ،‬والنا�س يقادون �إىل ال�صراط املن�صوب على جهنم ليمروا عليه‪ ،‬فاجتمعت ظلم ٌة دام�سة‪،‬‬
‫ال�صراط وحتتَه جهنم‪ ،‬ومالئكة ي�سوقون النا�س �سوق ًا للمرور على‬ ‫و�إزدح��ا ٌم �شديد من اخلالئق‪ ،‬ودق ُة ِّ‬
‫بطئ‪َ ،‬ومن حمل نور ًا َومن �أُطفئ نو ُره وكيف �أنهم يعطون من‬
‫و�سريع و ُم ِ‬
‫ٍ‬ ‫ناج وهالك‪،‬‬
‫ال�صراط؛ فرتى بني ٍ‬
‫النور بح�سب �أعما ِلهم؛ و�إميانهم‪.‬‬

‫‪442‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفات املنافقني‬

‫ وكيف �أن املنافقني يحرمون النور يف ذلك املوقف‪� ،‬أو ُيطف�أ عنهم �أحوج ما يكونون �إليه؛ } َي ْو َم َي ُق ُ‬
‫ول‬
‫المْ ُ َنا ِف ُقونَ َوالمْ ُ َنا ِف َقاتُ ِل َّل ِذينَ � َآم ُنوا ُ‬
‫انظ ُرو َنا َن ْق َت ِب�سْ ِمن ُّنو ِر ُك ْم ِق َيل ا ْر ِج ُعوا َو َراء ُك ْم َفا ْلت َِم ُ�سوا ُنو ًرا{‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ فيقول املنافقون للم�ؤمنني حينما ُي�ساقون �إىل اجلنة ُز َم َرا‪ ،‬واملنافقون َما َيزالون يف عر�صات الآخرة‬
‫و�أهوالها وعذابها‪ ،‬فيقولون لهم‪( :‬انتظرونا)؛ �أي لنقتب�س ِمن نو ِركم‪� ،‬أو لندخل اجلنة معكم ونهتدي‬
‫عطى نور ًا‬
‫بنوركم؛ طمعا يف غري َمط َمع‪ ،‬يقولون لهم ذلك حني ُي�س َرع بهم �إىل اجلنة‪ .‬وقيل‪� :‬إنه لي�س �أح ٌد �إال ُي َ‬
‫أحوج ما يكونون �إليه‪ ،‬عند ذلك يقول امل�ؤمنون‪} :‬‬ ‫ال�صراط ُطفئ نو ُر املنافقني � َ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬ف�إذا انتهوا �إىل ِّ‬
‫ربنا �أمتم لنا نورنا{‪.‬‬

‫ ف ُيقال للمنافقني‪} :‬ا ْر ِج ُعوا َو َراء ُك ْم َفا ْلت َِم ُ�سوا ُنو ًرا{؛ �أي ارجعوا �إىل املوقف حيثُ �أُعطينا هذا النور‬
‫فمن ثم ُي ْق َت َب�س‪� ،‬أو ارجعوا �إىل الدنيا فالتم�سوا نور ًا بتح�صيل �سببه‪ ،‬وهو الإميان والعم ُل‬ ‫فالتم�سوه هناك‪ِ ،‬‬
‫ال�صالح‪� ،‬أو ارجعوا خائبني وتنحوا عنا فالتم�سوا نورا �آخ َر فال �سبيل لكم �إىل هذا النور‪ ،‬وقد علموا �أنه ال‬
‫تخييب و�إقناط لهم‪ ،‬و طر ٌد لهم وتهك ٌم بهم‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫نو َر ورا َءهم و�إمنا هو‬

‫اب{؛ قال احل�سن وقتادة‪ :‬هو‬‫اب َب ِاط ُن ُه ِفي ِه ال َّر ْح َم ُة َو َظ ِاه ُر ُه ِمن ِق َب ِل ِه ا ْل َع َذ ُ‬
‫ } َف ُ�ض ِر َب َب ْي َن ُهم ِب ُ�سو ٍر َّل ُه َب ٌ‬
‫حائط بني اجلنة والنار‪} ،‬باطنه فيه الرحمة{�أي اجلنة وما فيها وظاهره من قبله العذاب‪.‬‬

‫ ثم نادى املنافقون امل�ؤمنني ُقبيل دخولهم اجلنة‪�} :‬أَ مَْل َن ُكن َّم َع ُك ْم َقا ُلوا َب َلى َو َل ِك َّن ُك ْم َفتَنت ُْم �أَن ُف َ�س ُك ْم‬
‫الل ا ْل َغ ُرو ُر{؛ � ْأي �أ َّما ُكنا يف ال َّدار ال ُّدنيا‪،‬‬ ‫الل َو َغ َّر ُكم ِب هَّ ِ‬
‫َو َت َر َّب�صْ ت ُْم َوا ْر َت ْبت ُْم َو َغ َّر ْت ُك ُم الأَ َمانيِ ُّ َحتَّى َجاء �أَ ْم ُر هَّ ِ‬
‫جل ُم َعات‪ ،‬ونقف معكم ب َع َر َفات‪ ،‬ون�ؤدِّي معكم �سائر الواجبات؟ قالوا‪ :‬بلى قد كنتم معنا؛}‬ ‫ن�شهد معكم ا ُ‬
‫أنف�سكم باللذات واملعا�صي وال�شَّ هوات‪،‬‬ ‫َو َل ِك َّن ُك ْم َفتَنت ُْم �أَن ُف َ�س ُك ْم َو َت َر َّب�صْ ت ُْم َوا ْر َت ْبت ُْم َو َغ َّر ْت ُك ُم الأَ َمانيِ ُّ { فتنتم � َ‬
‫وترب�صتم ف�أخرمت التوبة‪ ،‬وترب�صتم باحلق و�أهله ف�آذيتموهم وا�ستهز�أمت بهم‪ .‬وارتبتم بر�سال ِة حممد‪s‬‬
‫ين فقلتم‪� :‬س ُيغ َف ُر لنا ونحنُ م�سلمون ِمن �أهل اجلنة‪ .‬ف َما زلتم يف‬ ‫وبالبعث بعد املوت‪ ،‬وغ َّرتكم الأما ُّ‬ ‫ِ‬ ‫وكما ِلها‪،‬‬
‫هذه احلالة بغري توبة حتى }حتى جاء �أمر اهلل{ فجاءكم املوت‪} ،‬وغركم باهلل ال َغرور{�أي ال�شيطان‪ ،‬قال‬
‫اهلل يف النار‪.‬‬ ‫هلل ما زالوا عليها حتى قذفهم ُ‬ ‫قتادة‪ :‬كانوا على خدعة من ال�شيطان‪ ،‬وا ِ‬

‫ ثم بالغ امل�ؤمنون يف توبيخهم وتقري ِعهم وتقنيطهم‪ ،‬فقالوا‪َ } :‬فا ْل َي ْو َم ال ُي�ؤْ َخ ُذ ِمن ُك ْم ِف ْد َي ٌة َوال ِمنَ ا َّل ِذينَ‬
‫اليوم مبلء الأر�ض ذهب ًا ومث َله معه‬ ‫َك َف ُروا َم�أْ َوا ُك ُم ال َّنا ُر ِه َي َموْال ُك ْم َو ِب ْئ َ�س المْ َ ِ�ص ُري{؛ �أي لو جاء �أحدُكم َ‬
‫ليفتدي به من عذاب اهلل ما ُقبل منه كما ال تقبل الفدية كذلك ممن �أظهر كفره وعناده‪ .‬فالنار م�صريكم‬
‫منزل على كفركم وارتيابكم وبئ�س امل�صري‪.‬‬ ‫و�إليها منقل ُبكم‪ ،‬وهي �أ ْو ىَل بكم من كل ٍ‬

‫ ذلكم عباد اهلل ! ُ‬


‫حال �أهل النفاق الذين �أظهروا للم�سلمني �إميانهم باهلل ومالئكته وكتبه ور�سله واليوم‬
‫الآخر وهم يف الباطن من�سلخون من ذلك ُك ِّله مكذبون به‪ ،‬وقد ف�ضحهم ُ‬
‫اهلل على امللأ يف ذلك املوقف‪.‬‬

‫وقد هتك اهلل �سبحانه �أ�ستار املنافقني‪ ،‬وك�شف �أ�سرارهم‪ ،‬وج ّلى لعباده �أمورهم ليكونوا منها ومن‬ ‫ ‬

‫‪443‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفات املنافقني‬

‫�أهلها على حذر‪ ،‬فحكى اهلل عنهم �أنهم �أح�سنُ النا�س �أج�سام ًا و�ألط ُفهم بيان ًا‪ ،‬و�أخب ُثهم قلوب ًا‪ ،‬و�أ�ضع ُفهم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫مغار�سها فت�ساندت �إىل حافظ يقيمها لئال‬ ‫ِ‬ ‫خل ُ�شب امل�س ّندة التي ال ثمر لها‪ ،‬قد ُقل َعت ِمن‬ ‫َج َنانا‪ ،‬فهم كا ُ‬
‫يط�أها ال�سالكون‪َ } :‬و�إِ َذا َر�أَ ْي َت ُه ْم ُت ْع ِج ُب َك َ�أ ْج َ�سا ُم ُه ْم َو ِ�إن َي ُقو ُلوا ت َْ�س َم ْع ِل َق ْو ِل ِه ْم َك َ�أ َّن ُه ْم ُخ ُ�ش ٌب ُّم َ�س َّن َد ٌة َي ْح َ�س ُبونَ‬
‫اح َذ ْرهُ ْم َقا َت َل ُه ُم هَّ ُ‬
‫الل �أَ َّنى ُي�ؤْ َف ُكونَ {‪.‬‬ ‫ُك َّل َ�ص ْي َح ٍة َع َل ْي ِه ْم هُ ُم ا ْل َع ُد ُّو َف ْ‬

‫فال�صبح عند طلوع ال�شم�س‪ ،‬والع�صر عند الغروب‪ ،‬وينقرونها نقر الغراب‪،‬‬ ‫ ُي� ِّؤخ ُرون ال�صَّ الة عن وقتها‪ُّ ،‬‬
‫�إذ هي �صالة الأبدان ال �صالة القلوب‪� ،‬إذا خا�صم �أحدُهم َف َجر‪ ،‬و�إذا عاهد غدر‪ ،‬و�إذا حدث كذب‪ ،‬و�إذا‬
‫وعد �أخلف و�إذا ائتمن خان‪ .‬ما �أكرثهم وهم الأقلون‪ ،‬وما �أجهلهم وهم املتعاملون‪َ } :‬و َي ْح ِل ُفونَ ِب هَّ ِ‬
‫الل �إِ َّن ُه ْم‬
‫لمَ ِن ُك ْم َو َما هُ م ِّمن ُك ْم َو َل ِـك َّن ُه ْم َق ْو ٌم َي ْف َر ُقونَ { َل ْو َي ِجدُونَ َم ْل َج�أً �أَ ْو َم َغا َر ٍات �أَ ْو ُم َّد َخ ًال َّل َو َّل ْو ْا ِ�إ َل ْي ِه َوهُ ْم َي ْج َم ُحونَ {‪.‬‬

‫ يحبون �أن ت�شيع الفاح�شة والفتنة يف امل�ؤمنني‪ ،‬و َي�س َعونَ لإبعا ِد النا�س عن دينهم وي�شككونهم يف‬
‫معتقداتهم‪َ } :‬ل ْو َخ َر ُجو ْا ِفي ُكم َّما َزادُو ُك ْم �إِالَّ َخ َبا ًال ولأَ ْو َ�ض ُعو ْا ِخ َال َل ُك ْم َي ْب ُغو َن ُك ُم ا ْل ِف ْت َن َة َو ِفي ُك ْم َ�س َّم ُاعونَ َل ُه ْم‬
‫الل َوهُ ْم‬‫الظالمِ ِ َني{ َل َق ِد ا ْب َت َغ ُو ْا ا ْل ِف ْت َن َة ِمن َق ْب ُل َو َق َّل ُبو ْا َل َك الأُ ُمو َر َح َّتى َجاء الحْ َ ُّق َو َظ َه َر �أَ ْم ُر هَّ ِ‬ ‫َو هَّ ُ‬
‫الل َع ِلي ٌم ِب َّ‬
‫َكارِهُ ونَ {‬

‫أبغ�ض جوا َرهم و ُقر َبهم منه‬ ‫ كره اهلل طاعا ِتهم خلبث قلوبهم وف�سا ِد نياتهم فث َّب َطهم عنها و�أقعدهم‪ ،‬و� َ‬
‫بحكم َع ْد ٍل ال َمطمع لهم يف الفالح بعده �إال �أن‬ ‫مليلهم �إىل �أعدائه‪ ،‬فطر َدهم عنه و�أبعدهم‪َ ،‬و َح َكم عليهم ُ‬
‫وج لأَ َع ُّدو ْا َل ُه ُع َّد ًة َو َل ِـكن َك ِر َه هَّ ُ‬
‫الل ان ِب َعا َث ُه ْم َف َث َّب َط ُه ْم َو ِق َيل‬ ‫يكونوا من التائبني؛ فقال تعاىل‪َ } :‬و َل ْو �أَ َرادُو ْا الخْ ُ ُر َ‬
‫ا ْق ُعدُو ْا َم َع ا ْل َق ِاع ِدينَ {‪.‬‬

‫ �إن َحا َك ْمتَهم �إىل َ�صريح ال َوحي َوج َّدتهم عنه َن ِ‬


‫افرين‪ ،‬فلو �شهدتَ حقائ َقهم لر� َ‬
‫أيت بينها وبني ال ُهدى‬
‫�أمد ًا بعيد ًا؛ }و�إذا قيل لهم تعالوا �إىل ما �أنزل اهلل و�إىل الر�سول ر�أيت املنافقني ي�صدون عنك �صدود ًا{‪.‬‬

‫ كرثوا واهلل على ظهر الأر�ض ويف �أجواف القبور‪ ،‬لئال ي�ستوح�ش امل�ؤمنون‪� ،‬سمع حذيفة رج ًال يقول‪:‬‬
‫اللهم �أهلك املنافقني فقال‪( :‬يا ابن �أخي لو هلك املنافقون ال�ستوح�شتم يف طرقاتكم قل َة َّ‬
‫ال�سالك)‪.‬‬

‫بنفو�سهم حتى خ�شوا �أن يكونوا‬


‫ال�سابقني الأولني‪�َ ،‬ساءت ظنونهم ِ‬
‫خوف النفاق قلوب َّ‬ ‫هلل ! لقد قطع ُ‬ ‫ تا ِ‬
‫َ‬
‫(ن�شدتك باهلل هل َ�س َّماين لك ر�سول اهلل‪s‬منهم؟‬ ‫اخلطاب ‪d‬حلذيفة‪:‬‬ ‫من جملة املنافقني‪ ،‬قال عم ُر بن َّ‬
‫أدركت ثالثني ِمن �أ�صحاب حممد‪s‬كلهم يخاف‬ ‫قال ال؛ وال �أز ِّكي بعدك �أحد ًا)‪ .‬وقال ابن �أبي ُمليكة‪ُ �( :‬‬
‫النفاق على نف�سه‪ ،‬ما منهم �أحد يقول �إن �إميانه ك�إميان جربيل وميكائيل)‪ .‬وذكر عن احل�سن الب�صري‪( :‬ما‬
‫�أمنه �إال منافق‪ ،‬وما خافه �إال م�ؤمن)‪.‬‬

‫‪444‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفات عباد الرحمن‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫صفات عباد الرحمن‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ ف�أ�شرف الألقاب نعتا‪ ،‬و�أج ُّل الأو�صاف ذكر ًا‪ ،‬و�أ�سمى امل�سميات ن�سب ًة و�إ�ضاف ًة وا�سم ًا‪� :‬أن ُين�سب العبد‬
‫ت�شريف وتكرمي لذلك العبد‪ ،‬ف�أن يكون امل��ر ُء عبد ًا هلل فذاك غاي ُة الف�ضل‪ ،‬ومنتهى‬ ‫ٍ‬ ‫لر ِّبه وم��واله ن�سب َة‬
‫جل وعال هو اخلالق البارئ امل�صور‪ ،‬العزيز الرحيم الغفور‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ال�شَّ رف‪ ..‬وكيف ال يكون ذلك كذلك واهلل َّ‬

‫ومــما زادنـي �شــرف ـ ًا وت ـيــها‬ ‫ ‬


‫وكدتُ ب�أخم�صي �أط�أ الرثيا‬ ‫ ‬
‫دخويل حتت قولك يا عبادي‬ ‫ ‬
‫و�أن �صيــرت �أح ــمد يل نبيا‬ ‫ ‬

‫أكرم اخللق‬ ‫اهلل � َ‬ ‫أ�شرف منها‪ ،‬وقد َذ َك َر ُ‬ ‫ ف�أ�شرف �أحوال العبد ومقاماته هو مقام العبودية‪ ،‬فال منزل َة � َ‬
‫عليه و�أح َّبهم �إليه وهو ر�سو ُله حمم ٌد‪s‬بالعبودية يف �أ�شرف مقاماته‪ ،‬وهو مقام الدعوة‪ ،‬ومقام التحدي؛‬
‫فقال �سبحانه‪َ } :‬و َ�أ َّن ُه لمََّا َق َام َع ْب ُد هَّ ِ‬
‫الل َي ْد ُعو ُه َكادُوا َي ُكو ُنونَ َع َل ْي ِه ِل َبدً ا{‪ ،‬وقال‪َ } :‬و�إِن ُكنت ُْم فيِ َر ْي ٍب ممَِّّ ا َن َّز ْل َنا‬
‫خطبة جديدة‬

‫َع َلى َع ْب ِد َنا َف�أْ ُتو ْا ِب ُ�سو َر ٍة ِّمن ِّم ْث ِل ِه{‪.‬‬

‫ ويف املُ�سند عن �أبي هريرة‪d‬قال‪ :‬جل�س جربيل �إىل النبي‪s‬فنظر �إىل ال�سماء ف�إذا َم َل ٌك ينزل‪ ،‬فقال‬
‫جربيل‪� :‬إن هذا ا َمل َلك ما نزل مند يوم ُخلق قبل ال�ساعة‪ ،‬فل َّما نزل قال‪ :‬يا حم َّمد �أر�سلني �إليك ر ُّبك قال‪:‬‬
‫�أف َم ِل َك ًا نبي ًا يجعلك‪� ،‬أو عبد ًا ر�سو ًال‪ ،‬قال جربيل‪ :‬توا�ضع لربك يا حم َّمد‪ .‬فقال ‪ :s‬بل عبد ًا ر�سوال)وكذا‬
‫النا�س جميع ًا ف�إن �أ�شرف �أ�سمائهم ما انت�سبوا فيه بالعبودية والت�سليم هلل تعاىل يف �صحيح م�سلم (‪)2132‬‬
‫أحب �أ�سمائكم �إىل اهلل عب ُد اهلل وعبد الرحمن )‪.‬‬
‫عن ابن عمر‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪�( :‬إن � َّ‬

‫اهلل بعبوديته حق ًا‪ ،‬واخت�صهم بهذا‬ ‫اهلل لنا �صفات هوالء العباد الذين �ش َّرفهم ُ‬ ‫ عباد اهلل! وقد ذكر ُ‬
‫الو�صف؛ فقال �سبحانه‪َ } :‬و ِع َبا ُد ال َّر ْح َم ِن ا َّل ِذينَ مَْي ُ�شونَ َع َلى الأَ ْر ِ�ض َه ْو ًنا َو ِ�إ َذا َخ َ‬
‫اط َب ُه ُم الجْ َ ِاه ُلونَ َقا ُلوا‬

‫‪445‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفات عباد الرحمن‬

‫اب َج َه َّن َم ِ�إنَّ َع َذا َب َها َكانَ‬ ‫الما{ َوا َّل ِذينَ َي ِبي ُتونَ ِل َر ِّب ِه ْم ُ�س َّجدً ا َو ِق َي ًاما{ َوا َّل ِذينَ َي ُقو ُلونَ َر َّب َنا ا�صْ ِر ْف َع َّنا َع َذ َ‬ ‫َ�س ً‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اءت ُم ْ�س َت َق ًّرا َو ُم َق ًاما{ َوا َّل ِذينَ ِ�إ َذا �أَن َف ُقوا مَْل ُي ْ�س ِر ُفوا َو مَْل َيقْترُ ُوا َو َكانَ َبينْ َ َذ ِل َك َق َو ًاما{ َوا َّل ِذينَ‬ ‫َغ َر ًاما{ ِ�إ َّن َها َ�س ْ‬
‫ك ي ْلقَ �أَ َثاما{‬
‫ً‬ ‫الل �إِالَّ ِبالحْ َ ِّق َوال َيزْ ُنونَ َو َمن َي ْف َع ْل َذ ِل َ َ‬ ‫الل �إِ َل ًها � َآخ َر َوال َي ْق ُت ُلونَ ال َّن ْف َ�س ا َّل ِتي َح َّر َم هَّ ُ‬ ‫ال َي ْد ُعونَ َم َع هَّ ِ‬
‫َاب َو� َآمنَ َو َع ِم َل َع َم ًال َ�صالحِ ً ا َف�أُ ْو َل ِئ َك ُي َبدِّ ُل هَّ ُ‬
‫الل‬ ‫اب َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َو َي ْخ ُل ْد ِفي ِه ُم َها ًنا{ ِ�إالَّ َمن ت َ‬ ‫ُي َ�ض َاع ْف َل ُه ا ْل َع َذ ُ‬
‫الل َمتَا ًبا{ َوا َّل ِذينَ ال‬ ‫ُوب �إِ ىَل هَّ ِ‬
‫َاب َو َع ِم َل َ�صالحِ ً ا َف�إِ َّن ُه َيت ُ‬ ‫الل َغ ُفو ًرا َّر ِحي ًما{ َو َمن ت َ‬ ‫َ�س ِّي َئا ِت ِه ْم َح َ�س َن ٍات َو َكانَ هَّ ُ‬
‫ل يخروا ع َليها �صما وعميا ًنا{‬
‫ات َر ِّب ِه ْم مَْ َ ِ ُّ َ ْ َ ُ ًّ َ ُ ْ َ‬ ‫َي�شْ َهدُونَ الزُّو َر َو ِ�إ َذا َم ُّروا ِبال َّل ْغ ِو َم ُّروا ِك َر ًاما{ َوا َّل ِذينَ ِ�إ َذا ُذ ِّك ُروا ِب�آ َي ِ‬
‫َوا َّل ِذينَ َي ُقو ُلونَ َر َّب َنا َه ْب َل َنا ِمنْ �أَ ْز َو ِاج َنا َو ُذ ِّر َّيا ِت َنا ُق َّر َة �أَعْينُ ٍ َو ْاج َع ْل َنا ِل ْل ُم َّت ِق َني ِ�إ َم ًاما{‬

‫ ‪ w‬ففي هذه الآيات اثنتا ع�شرة �صف ًة َو َ�ص َف ُ‬


‫اهلل بها عبا َد الرحمن‪.‬‬
‫ا�ستك َبار‪ ،‬ولي�س املرا ُد‬
‫وتوا�ضع ووقار‪ ،‬وبغري جتبرُّ ٍ وال ِ‬
‫ٍ‬ ‫۩ ۩�أحدها‪� :‬أنهم مي�شون على الأر�ض هون ًا؛ �أي ب�سكينة‬
‫ينحط من َ�صبب‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ولد �آدم ‪�s‬إذا م�شى فك�أمنا‬ ‫�أنهم مي�شون كا َمل َ‬
‫ر�ضى ت�ض َّع ُفا ورياء‪ ،‬فقد كان �سي ُد ِ‬
‫وك�أمنا الأر�ض تطوى له‪ ،‬وقد كره ال�سلف ر�ضي اهلل عنهم امل�شي بت�ضعيف َوت�صنع‪ ،‬حتى روي عن عمر‬
‫�أنه ر�أى �شابا مي�شي رويدا فقال‪ :‬ما بالك �أ�أنت مري�ض؟ قال‪ :‬ال يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬فعاله بالدرة و�أمره‬
‫�أن مي�شي بقوة‪.‬‬

‫۩ ۩ومن �صفاتهم �أنهم �إذا خاطبهم اجلاهلون بالأذى‪َ ،‬ي ْ�س َلمون يف ردِّهم من الإثم واجلهل؛ ف�إذا َ�س ِفه‬
‫عليهم اجلاهل بالقول ال�سيئ مل يقابلوهم عليه مبثله‪ ،‬بل يعفون وي�صفحون‪ ،‬وال يقولون �إال خريا‪ ،‬كما‬
‫فحا‪.‬‬
‫و�ص َ‬‫كان عليه ال�صالة وال�سالم ال تزيده �شد ُة اجلهل عليه �إال ِحلم ًا َ‬

‫۩ ۩وثالثُ �صفاتهم �أنهم يكرثون من �صالة الليل خمل�صني فيها لربهم متذللني له‪.‬‬

‫۩ ۩ورابع هذه ال�صفات‪� :‬أنهم ي�ستغيثون بربهم من عذاب جهنم‪َ ،‬ي ُقو ُلونَ ‪َ :‬ر َّب َنا ا�صْ ِر ْف َع َّنا َع َذ َ‬
‫اب َج َه َّن َم ِ�إنَّ‬
‫ي�صيب ابن �آدم يزول عنه فلي�س ب َغ َرام‪ ،‬و�إمنا الغرام املالزم‬ ‫ُ‬ ‫َع َذا َب َها َكانَ َغ َر ًاما‪ ،‬قال احل�سن‪( :‬ك ُّل �شيء‬
‫ما دامت ال�سماوات والأر�ض)‪.‬‬

‫خل وال ُ�شح‪ .‬فلي�سوا مببذرين يف‬ ‫الواجب‪ ،‬وامل�ستحب بال تبذير وال ُب ٍ‬
‫َ‬ ‫۩ ۩وال�صفة اخلام�سة‪� :‬أنهم ينفقون‬
‫فيق�صرون يف ح ِّقهم‪ ،‬بل عدال خيار ًا و�سط ًا؛‬
‫�إنفاقهم في�صرفون فوق احلاجة‪ ،‬وال بخالء على �أهليهم ِّ‬
‫كما قال اهلل عز وج��ل‪} :‬وال جتعل يدك مغلولة �إىل عنقك وال تب�سطها كل الب�سط{‪ .‬قال احل�سن‬
‫الب�صري‪( :‬لي�س يف النفقة يف �سبيل اهلل �سرف)‪.‬‬

‫۩ ۩وال�ساد�سة‪�:‬أنهم يوحدون اهلل عز وجل خمل�صني له الدِّ ين معر�ضني عمن �سواه‪( ،‬والذين ال َي ْد ُعونَ َم َع‬
‫مما ُي�ضاده ال يت�ساهلون وال‬ ‫هَّ ِ‬
‫الل �إِ َل ًها � َآخ َر)‪ ،‬فرتاهم حري�صني ُكل احلر�ص على توحيد اهلل وال�سالمة ّ‬
‫يتهاونون‪.‬‬

‫‪446‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفات عباد الرحمن‬

‫۩ ۩وال�صفة ال�سابعة والثامنة‪� :‬أنهم ال يقتلون النف�س التي ح َّرم اهلل �إال باحلق‪ ،‬ويحفظون فروجهم �إال على‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ما �أح َّل اهلل فال يزنون‪.‬‬

‫ وقد �أخرب �سبحانه يف هذه االيات �أنهم لي�سوا مع�صومني ِمن الذنوب‪ ،‬ولكنهم يجتنبون كبائ َر الإثم‬
‫والفواح�ش‪ ،‬و�إن تل َّب َ�س �أح ُد امل�سلمني ب�شيء من �أجنا�س هذه الكبائر ثم تاب و�أناب وح�سنت توبته‪ ،‬ف�إنه يدخل‬
‫كذلك يف عباد الرحمن‪.‬‬

‫۩ ۩وال�صفة التا�سعة‪� :‬أنهم ال ي�شهدون الزور‪ ،‬وال يح�ضرون جمال�س الزور؛ والتي فيها الغيبة والنميمة‬
‫هلل‪ ،‬والغناء‪ ،‬و�شرب اخلمر وغري ذلك‪.‬‬
‫وال�سب واخلو�ض يف �آيات ا ِ‬
‫ُّ‬

‫ فالزور هو الكذب والف�سق واللغو والباطل‪ ،‬ويف ال�صحيحني عن �أبي بكرة قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪�( :s‬أال‬
‫�أنبئكم ب�أكرب الكبائر؟ ثالثا‪ .‬قلنا‪:‬بلى يا ر�سول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬ال�شرك باهلل وعقوق الوالدين وكان متكئا فجل�س‬
‫فقال‪� :‬أال وقول الزور �أال و�شهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا‪ :‬ليته �سكت‪.‬‬

‫أ�سماعهم‬‫۩ ۩والو�صف العا�شر‪� :‬أنهم �إذا م ُّروا م�صادف ًة بالكالم الذي ال خري فيه وال فائد َة منه؛ نزهوا � َ‬
‫أنف�سهم عن هذه املجال�س؛ كما قال تعاىل‪َ } :‬و�إِ َذا َ�س ِم ُعوا ال َّل ْغ َو �أَ ْع َر ُ�ضوا َع ْن ُه َو َقا ُلوا َل َنا َ�أ ْع َما ُل َنا‬ ‫و�أكرموا � َ‬
‫َو َل ُك ْم �أَ ْع َما ُل ُك ْم َ�سال ٌم َع َل ْي ُك ْم ال َن ْب َت ِغي الجْ َ ِاه ِلنيَ{‪.‬‬

‫ ومن �صفاتهم‪ :‬دعا�ؤهم لذريتهم بال�صالح و�أن تق َّر بهم الأعني فهم حري�صون على �صالح زوجا ِتهم‬
‫وذرياتهم؛ لأن النفع يعود عليهم‪ ،‬فيدعون اهلل }ربنا هب لنا من �أزواجنا وذرياتنا قرة �أعني{‪ ،‬قال احل�سن‬
‫العبد امل�سلم ِمن زوجته ومن �أخيه ومن حميمه طاعة اهلل‪ ،‬وال واهلل ال �شي َء �أق َّر‬
‫اهلل َ‬ ‫الب�صري‪�( :‬أي �أن ُي ِر َي ُ‬
‫ولد‪� ،‬أو �أخا‪� ،‬أو حميما مطيع ًا هلل عز وجل)‪.‬‬
‫لعني امل�سلم ِمن �أن يرى ولد ًا �صاحلا‪� ،‬أو ولد ٍ‬

‫ و�آخر هذه ال�صفات‪ :‬دعا�ؤهم بالو�صول لأعلى الدرجات‪ ،‬وهي الإمامة يف الدين والقدوة للمتقني‪ ،‬فال‬
‫ي�ؤثر عنهم َقبيح‪ ،‬وال ي�شتهر عنهم ف�سق �أو مع�صية‪ ،‬و�إمنا يعرفون باخلري و ُيهتدى بهم بذلك‪ .‬قال ابن‬
‫عبا�س‪�( :‬أئمة يقتدى بنا يف اخلري)‪.‬‬

‫وعني بها فذكر اهلل جزاءه فقال‪�} :‬أُ ْو َل ِئ َك ُي ْجزَ ْونَ ا ْل ُغ ْر َف َة بمِ َ ا َ�صبرَ ُ وا‬ ‫ ف َمن ات�صف بهذه ال�صفات ُ‬
‫الما{ َخا ِل ِدينَ ِفي َها َح ُ�س َن ْت ُم ْ�س َت َق ًّرا َو ُم َق ًاما{ ُق ْل َما َي ْع َب�أُ ِب ُك ْم َر ِّبي َلوْال د َُعا�ؤُ ُك ْم َف َق ْد‬
‫َو ُي َل َّق ْونَ ِفي َها تحَ ِ َّي ًة َو َ�س ً‬
‫َك َّذ ْبت ُْم َف َ�س ْو َف َي ُكونُ ِلزَ ًاما{‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫صفة النار‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفة النار‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ احلمد هلل ذي العز املجيد‪ ،‬والبط�ش ال�شديد‪ ،‬املبديء املعيد‪ ،‬الفعال ملا يريد‪ ،‬املنتقم ممن ع�صاه‬
‫بالنار بعد الإنذار بها والوعيد‪ ،‬املكرم ملن خافه واتقاه بدار لهم فيها من كل خري مزيد ف�سبحان من ق�سم‬
‫خلقه ق�سمني وجعلهم فريقني }فمنهم �شقي و�سعيد{‪} ،‬من عمل �صاحلا فلنف�سه ومن �أ�ساء فعليها وما‬
‫ربك بظالم للعبيد{‪ .‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له وال كفو وال عدل وال �ضد وال نديد‪ ،‬و�أ�شهد‬
‫�أن حممدا عبده ور�سوله الداعي �إىل التوحيد‪ ،‬ال�ساعي بالن�صح للقريب والبعيد‪ ،‬املحذر للع�صاة من نار‬
‫تلظى بدوام الوقيد‪ ،‬املب�شر للم�ؤمنني بدار ال ينفد نعيمها وال يبيد‪� ،‬صلى اهلل عليه وعلى �آله و�أ�صحابه �صالة‬
‫ال تزال على كر اجلديدين يف جتديد و�سلم ت�سليما �أما بعد‪.‬‬
‫ ف�إن اهلل خلق اخللق ليعرفوه ويعبدوه ويخ�شوه ويخافوه ون�صب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكربيائه‬
‫ليهابوه ويخافوه خوف الإجالل‪ ،‬وو�صف لهم �شدة عذابه ودار عقابه التي �أعدها ملن ع�صاه ليتقوه ب�صالح‬
‫الأعمال‪ ،‬ولهذا كرر �سبحانه وتعاىل يف كتابه ذكر النار وما �أعده فيها لأعدائه من العذب والنكال وما احتوت‬
‫عليه من الزقوم وال�ضريع واحلميم وال�سال�سل والأغالل �إىل غري ذلك مما فيها من العظائم والأهوال ودعا‬
‫عباده بذلك �إىل خ�شيته وتقواه وامل�سارعة �إىل امتثال ما ي�أمر به ويحبه وير�ضاه واجتناب ما ينهى عنه‬
‫ويكرهه وي�أباه فمن ت�أمل الكتاب الكرمي و�أدار فكره فيه وجد من ذلك العجب العجاب‪.‬‬
‫ا�س َوالحْ ِ َجا َر ُة َع َل ْي َها َمال ِئ َك ٌة‬ ‫ قال اهلل تعاىل‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ُقوا �أَن ُف َ�س ُك ْم َو�أَ ْه ِلي ُك ْم َنا ًرا َو ُقود َُها ال َّن ُ‬
‫الل َما �أَ َم َرهُ ْم َو َي ْف َع ُلونَ َما ُي�ؤْ َم ُرونَ {‪ ،‬وقال تعاىل } َف�أَ َنذ ْر ُت ُك ْم َنا ًرا َت َل َّظى{ ال‬ ‫الظ ِ�ش َدا ٌد ال َي ْع ُ�صونَ هَّ َ‬ ‫ِغ ٌ‬
‫الها ِ�إالَّ الأَ�شْ َقى {‪ ،‬وقال تعاىل‪َ } :‬ل ُهم ِّمن َف ْو ِق ِه ْم ُظ َل ٌل ِّمنَ ال َّنا ِر َو ِمن تحَْ ِت ِه ْم ُظ َل ٌل َذ ِل َك ُي َخ ِّو ُف هَّ ُ‬
‫الل ِب ِه‬ ‫َي�صْ َ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫اك َما َ�س َق ُر{ ال ُت ْب ِقي َوال ت ََذ ُر{ َل َّو َاح ٌة ِّل ْل َب َ�ش ِر{ َع َل ْي َها ِت ْ�س َع َة‬ ‫ِع َبا َد ُه َيا ِع َبا ِد َفا َّت ُق ِون {‪ ،‬وقال تعاىل‪َ } :‬و َما �أَ ْد َر َ‬
‫اب ال َّنا ِر ِ�إالَّ َمال ِئ َك ًة َو َما َج َع ْل َنا ِع َّد َت ُه ْم ِ�إالَّ ِف ْت َن ًة ِّل َّل ِذينَ َك َف ُروا ِل َي ْ�س َت ْي ِقنَ ا َّل ِذينَ �أُو ُتوا‬ ‫َع َ�ش َر{ َو َما َج َع ْل َنا �أَ�صْ َح َ‬
‫ول ا َّل ِذينَ فيِ ُق ُلو ِب ِهم َّم َر ٌ�ض‬ ‫َاب ا َّل ِذينَ �أُو ُتوا ا ْل ِكت َ‬
‫َاب َوالمْ ُ�ؤْ ِم ُنونَ َو ِل َي ُق َ‬ ‫َاب َو َيزْ َدا َد ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ِ�إ َميا ًنا َوال َي ْرت َ‬
‫ا ْل ِكت َ‬
‫الل َمن َي َ�شاء َو َي ْه ِدي َمن َي َ�شاء َو َما َي ْع َل ُم ُج ُنو َد َر ِّب َك ِ�إالَّ هُ َو‬ ‫الل ِب َه َذا َم َث ًال َك َذ ِل َك ُي ِ�ض ُّل هَّ ُ‬‫َوا ْل َكا ِف ُرونَ َم َاذا �أَ َرا َد هَّ ُ‬
‫ال�ص ْب ِح �إِ َذا �أَ ْ�س َف َر{ �إِ َّن َها لإٍ ْح َدى ا ْل ُكبرَ ِ { َن ِذي ًرا‬ ‫َو َما ِه َي �إِالَّ ِذ ْك َرى ِل ْل َب َ�ش ِر{ َك َّال َوا ْل َق َم ِر{ َوال َّل ْي ِل �إِ ْذ �أَ ْد َب َر{ َو ُّ‬
‫ِّل ْل َب َ�ش ِر{ لمِ َن َ�شاء ِمن ُك ْم �أَن َي َت َق َّد َم �أَ ْو َي َت َ�أ َّخ َر{‪ ،‬قال احل�سن يف قوله تعاىل }نذير ًا للب�شر{ قال‪ :‬واهلل ما �أنذر‬
‫العباد ب�شيء قط �أدهى منها‪.‬‬
‫ وقال النعمان بن ب�شري �سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول �أنذرتكم النار �أنذرتكم النار حتى لو �أن رجال كان‬
‫بال�سوق ل�سمعه من مقامي هذا حتى وقعت خمي�صة كانت على عاتقة عند رجليه خرجه الإمام �أحمد‪.‬‬

‫‪448‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفة النار‬

‫}ذ ِل َك ممَِّ ا �أَ ْو َحى ِ�إ َل ْي َك َر ُّب َك ِمنَ‬


‫اهلل �أنبياءه من النار عند خمالفة �أمره فقال �سبحانه‪َ :‬‬ ‫ وقد خ َّوف ُ‬
‫الحْ ِ ْك َم ِة َو َال تجَْ َع ْل َم َع هَّ ِ‬
‫الل �إِ َل ًها � َآخ َر َف ُت ْل َقى فيِ َج َه َّن َم َم ُل ًوما َّم ْد ُحو ًرا{‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ لذا خاف خا�صة اخلليقة‪ ،‬و�أف�ضلهم من النار ففي حديث �أبي هريرة ‪d‬عن النبي ‪s‬يف حديث‬
‫ال�شفاعة قال‪ :‬في�أتون �آدم فيقول‪� :‬إن ربي قد غ�ضب اليوم غ�ضبا مل يغ�ضب قبله مثله ولن يغ�ضب بعده‬
‫مثله و�إنه �أمرين ب�أمر فع�صيته ف�أخاف �أن يطرحني يف النار انطلقوا �إىل غريي نف�سي نف�سي‪ ،‬وذكر يف‬
‫نوح وابراهيم ومو�سى وعي�سى مثل ذلك كلهم يقول �إين �أخ��اف �أن يطرحني يف النار‪ .‬ومل يزل الأنبياء‬
‫وال�صديقون وال�شهداء وال�صاحلون يخافون النار ويخ ِّو ُفونَ منها‪.‬‬
‫ خرج م�سلم يف �صحيحه من حديث �أن�س ‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬والذي نف�سي بيده لو ر�أيتم ما ر�أيت‬
‫أيت اجلنة والنار)‪ ،‬ويف ال�صحيحني‬ ‫ل�ضحكتم قليال ولبكيتم كثريا)‪ ،‬قالوا‪ :‬وما ر�أيت يار�سول اهلل قال‪( :‬ر� ُ‬
‫عن ابن عبا�س �أن النبي‪s‬قال ملا ك�سفت ال�شم�س‪( :‬ر�أيت النار فلم �أر منظرا كاليوم قط �أفظع منها)‪.‬‬
‫ وخ َّرج �أبو يعلى املو�صلي يف م�سنده وغريه من حديث ابن عمر �أن النبي‪s‬خطب فقال‪( :‬ال تن�سوا‬
‫دموعه جانبي حليته‪ ،‬ثم قال‪( :‬والذي نف�س حممد بيده‬ ‫العظيمتني اجلنة والنار)‪ ،‬ثم بكى حتى جرى‪ ،‬وب َّلت ُ‬
‫لو تعلمون ما �أعلم عن الآخرة مل�شيتم �إىل ال�صعدات وحلثيتم على ر�ؤو�سكم الرتاب)‪ .‬وخرج الإمام �أحمد‬
‫من حديث �أن�س‪d‬عن النبي‪�s‬أنه �س�أل جربيل‪a‬فقال له ما يل ال �أرى ميكائيل‪a‬ي�ضحك فقال جربيل‬
‫ما �ضحك ميكائيل منذ خلقت النار‪.‬‬
‫جربيل �إىل النبي‪s‬يف حني غري حينه الذي كان ي�أتيه فيه‬ ‫ُ‬ ‫ وروي عن عمر بن اخلطاب‪d‬قال جاء‬
‫فقام �إليه ر�سول اهلل‪s‬فقال يا جربيل ما يل �أراك متغري اللون فقال ما جئتك حتى �أمر اهلل عز وجل‬
‫مبنافخ النار فقال ر�سول اهلل‪s‬يا جربيل �صف يل النار وانعت يل جهنم فقال جربيل �إن اهلل تبارك وتعاىل‬
‫�أمر بجهنم ف�أوقد عليها �ألف عام حتى ابي�ضت ثم �أمر ف�أوقد عليها �ألف عام حتى احمرت ثم �أمر ف�أوقد‬
‫عليها �ألف عام حتى ا�سودت فهي �سوداء مظلمة ال ي�ضيء �شررها وال يطف�أ لهبها والذي بعثك باحلق لو �أن‬
‫قدر ثقب �إبرة فتح من جهنم ملات من يف الأر�ض كلهم جميعا من حره والذي بعثك باحلق لو �أن خازنا من‬
‫خزنة جهنم برز �إىل �أهل الدنيا ملات من يف الأر�ض كلهم من قبح وجهه ومن ننت ريحه والذي بعثك باحلق‬
‫لو �أن حلقة من حلق �سل�سلة �أهل النار التي نعت اهلل يف كتابه و�ضعت على جبال الدنيا لأرف�ضت وما تقارت‬
‫حتى ينتهي �إىل الأر���ض ال�سفلى فقال ر�سول اهلل‪s‬ح�سبي يا جربيل ال ين�صدع قلبي ف�أموت قال فنظر‬
‫ر�سول اهلل‪�s‬إىل جربيل وهو يبكي فقال تبكي يا جربيل و�أنت من اهلل باملكان الذي �أنت به فقال وما يل ال‬
‫�أبكي �أنا �أحق بالبكاء لعلي �أكون يف علم اهلل على غري احلال التي �أنا عليها وما �أدري لعلي �أبتلى مبا ابتلي به‬
‫�إبلي�س فقد كان من املالئكة وما �أدري لعلي �أبتلى مبا ابتلي به هاروت وماروت قال فبكى ر�سول اهلل‪s‬وبكى‬
‫جربيل‪a‬فما زاال يبكيان حتى نوديا �أن يا جربيل ويا حممد �إن اهلل عز وجل قد �أمنكما �أن تع�صياه فارتفع‬
‫جربيل ‪a‬وخرج ر�سول اهلل‪s‬فمر بقوم من الأن�صار ي�ضحكون ويلعبون فقال �أت�ضحكون ووراءكم جهنم‬
‫فلو تعلمون ما �أعلم ل�ضحكتم قليال ولبكيتم كثريا وملا �أ�سغتم الطعام وال�شراب وخلرجتم �إىل ال�صعدات‬
‫جت�أرون �إىل اهلل[رواه الطرباين يف الأو�سط وفيه مقال]‪.‬‬
‫ وكان �سعيد اجلرمي يقول يف و�صف اخلائفني �إذا مروا ب�آية من ذكر النار �صرخوا منها فرقا ك�أن زفري‬
‫النار يف �آذانهم وك�أن الآخرة ن�صب �أعينهم‪ ،‬وقال احل�سن‪�( :‬إن هلل عبادا كمن ر�أى �أهل اجلنة يف اجلنة‬
‫خملدين وكمن ر�أى �أهل النار يف النار معذبني) وقال �أي�ضا‪( :‬واهلل ما َ�ص َّدق عب ٌد بالنار قط �إال �ضاقت عليه‬

‫‪449‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفة النار‬

‫الأر�ض مبا رحبت و�إن املنافق لو كانت النار خلف ظهره مل ي�صدق بها حتى يهجم عليها)‪ ،‬وقال ابراهيم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫التيمي‪( :‬مثلت نف�سي يف اجلنة �آكل من ثمارها و�أعانق �أبكارها ثم مثلت نف�سي يف النار �آكل من زقومها‬
‫و�أ�شرب من �صديدها و�أعالج �سال�سلها و�أغاللها فقلت لنف�سي �أي �شيء تريدين قالت �أريد �أن �أراد �إىل الدنيا‬
‫ف�أعمل �صاحلا قال فقلت ف�أنت يف الأمنية فاعملي)‪.‬‬
‫َ‬
‫ فاخلوف من النار حممود‪ ،‬وهي طريقة ال�صاحلني و�سبيل الآيبني ليتذكروا اهلل تعاىل‪ ،‬فجهنم دليل‬
‫على عظمة اهلل و�شدة ب�أ�سه وبط�شه وقوة �سطوته وانتقامه يف �أعدائه فاخلوف منها يف احلقيقة خوف من‬
‫اهلل و�إجالل و�إعظام وخ�شية ل�صفاته ا َمل ُخو َفة مع �أن اهلل �سبحانه يخ ِّوف بها عباده‪ ،‬ويجب منهم �أن يخافوه‬
‫بخو ِفها‪ ،‬و�أن يخ�شوه بخ�شية الوقوع فيها و�أن يحذروه باحلذر منها فاخلائف من النار خائف من اهلل متبع ملا‬
‫فيه حمبته ور�ضاه واهلل �أعلم مما يحمل على العبد �أداء الفرائ�ض واجتناب املحارم فان زاد على ذلك بحيث‬
‫�صار باعثا للنفو�س على الت�شمري يف نوافل الطاعات واالنكفاف عن دقائق املكروهات‪ ،‬والتب�سط يف ف�ضول‬
‫املباحات كان ذلك ف�ض ًال حممود ًا‪ .‬فان تزايد على ذلك ب�أن �أورث مر�ضا �أو موتا �أو هما الزما بحيث يقطع‬
‫عن ال�سعي يف اكت�ساب الف�ضائل املطلوبة املحبوبة هلل عز وجل مل يكن حممودا ولهذا كان ال�سلف يكرهون‬
‫هذه احلال ويذمونها‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬
‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬
‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬
‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفة النبي‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫صفة النبي‬

‫الخطبة األوىل ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫إميان به الإميانَ بر�سوله امل�صطفى الكرمي‪s‬وت�صدي َقه‪ ،‬بل هو ُ‬


‫�شرطه‬ ‫ ف�إن اهلل تعاىل جعل من لزوم ال ِ‬
‫ورك ُنهُ‪ ،‬ومن الإميان به‪s‬حمبتُه وطاعتُه قال اهلل جل وعال‪ُ } :‬ق ْل �أَ ِطي ُعوا هَّ َ‬
‫الل َو�أَ ِطي ُعوا ال َّر ُ�س َ‬
‫ول َف�إِن َت َو َّلوا‬
‫َف ِ�إنمَّ َ ا َع َل ْي ِه َما ُح ِّم َل َو َع َل ْي ُكم َّما ُح ِّم ْلت ُْم َو ِ�إن ُت ِطي ُعو ُه َت ْه َتدُوا َو َما َع َلى ال َّر ُ�س ِول ِ�إالَّ ا ْل َبال ُغ المْ ُ ِبنيُ{‪.‬‬

‫ر�سول اهلل‪s‬كان �آخذ ًا بيد عمر بن اخلطاب فقال عمر ‪( :d‬واهلل يا ر�سول‬ ‫ ويف �صحيح البخاري �أن َ‬
‫أحب �إليه‬
‫أحب �إيل ِمن كل �شيء �إال من نف�سي) فقال ر�سول اهلل‪( :s‬ال ي�ؤمن �أحدكم حتى �أكون � َّ‬
‫أنت � ُّ‬
‫اهلل ل َ‬
‫أحب �إيل من نف�سي) فقال ر�سول اهلل‪( :‬الآن يا عمر)‪.‬‬
‫هلل � ُّ‬
‫من نف�سه)‪ ،‬فقال عمر‪( :‬ف�أنت الآنَ وا ِ‬

‫أحب �شيئ ًا �أك َرث ذك َره‪َ ،‬وتتبع خ َربه‪َ ،‬و َ�س� َأل َعن َطريق ِته و�سن ِنه‪ ،‬فت�ش َّبه به يف َد ِّل ِه َو َهديه‪ ،‬بل ويف‬
‫َومن � َّ‬ ‫ ‬
‫م�شيه ومنطقه‪ .‬فرتاه ُي�سائل عنه كل غادي ورائح‪ ،‬ومقيم و�سائح‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ كذا من �أحب النبي‪َ s‬ي�سمع عن هديه فيقتدي به‪ ،‬ويتعلم ُ�س َّن َت ُه ف َي�أمت ُر بها‪ ،‬وينظر يف طريقته فيهتدي‬
‫بها‪ .‬وي�سمع و�ص َفه ونعتَه في�أن�س به‪ ،‬ويتذكره حمب ًة له‪ ،‬تقرب ًا هلل بذلك‪.‬‬

‫وا�صطفي من �أ�صفى الأو�صاف و�صف ًا‪.‬روى الرتمذي يف‬ ‫ُ‬ ‫أر�ض ًا‪،‬‬ ‫ ُخ ِلقَ نب ُّينا‪ِ s‬من � َ‬
‫أر�ضى الأرا�ضني � َ‬
‫(ال�شمائل)‪ ،‬واحلاكم يف (امل�ستدرك) وغريهم‪ .‬عن احل�سن بن علي‪ d‬قال �س�ألت خايل هند بن �أبي هالة‬
‫وكان و�صَّ افا عن حلية ر�سول اهلل‪s‬و�أنا �أ�شتهي �أن ي�صف يل منها �شيئا �أتعلق به فقال‪ :‬كان ر�سول اهلل‪s‬‬
‫َف ْخ َم ًا ُم َف َّخ َما[�أي عظيم ًا يف نف�سه معظم ًا يف ال�صدور والعيون] يتلألأ وجهه تلأل�ؤ ِ‬
‫القمر ليل َة البدر‪َ � .‬‬
‫أطول‬
‫عظيم الهامة[�أي الر�أ�س]‪َ .‬ر ْج َل‬
‫�شذب [�أي بني الطويل والق�صري على حد �سواء]‪َ .‬‬ ‫من املربوع و�أق�صر من املُ َّ‬
‫ال�شَّ ْعر[�أي يف �شعره جعودة وثخن]‪� .‬إن انفرقت عقي�ص ُت ُه فرق[�أي �إذا انفرق �شعره وان�شقت بنف�سها �أبقاها‬

‫‪451‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفة النبي‬

‫على انفراقها]‪ .‬و�إال فال يجاوز �شعره �شحمة �أذنيه �إذا هو و َّف َره‪� .‬أزهر اللون [�أي �أبي�ض بيا�ض ًا نري ًا م�شربا‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫بحمرة]‪ .‬وا�س َع اجلبني‪� .‬أزج احلواجب [�أي متقو�س احلواجب]‪� .‬سوابغ من غري َق َرن[�أي �أن حاجبيه قد‬
‫�سبغا حتى كادا �أن يلتقيا]‪ .‬بينهما ِع ْر ٌق َيد ُّره الغ�ضب[�أي يف جبهته ِعر ٌق يظهره الغ�ضب]‪� .‬أقنى ال ِعرنني[�أي‬
‫أ�شم[�أي يظنه من مل يت�أمل ِخ ْل َقته �أنه �أ�شم �أي مرتفع‬ ‫طويل الأنف]‪ .‬له نور يعلوه‪ .‬يح�سبه َمن مل يت�أمله � ّ‬
‫�سهل اخلدين‪� .‬ضلي َع الفم[�أي وا�سع الفم]‪� .‬أ�شنب [�أي �أبي�ض الأ�سنان تربق‬ ‫الأرنبه قلي ًال]‪ .‬كثَّ اللحية‪َ .‬‬
‫وحمدد الأ�سنان]‪ُ .‬مف َّل َج الأ�سنان[�أي مفتوحة ومنفرجة]‪ .‬دقيقَ ا َمل ْ�س َر َبة[�أي �أن ال�شعر الذي بني ُلبته �إىل‬
‫جيد دُمي ٍة يف َ�ص َفاء الف�ضة[�أي �أن بيا�ضه ك�صفاء العاج يف غاية ال�صفاء]‪ .‬معتدل‬ ‫�سرته دقيق]‪ .‬ك�أن ُعن َق ُه َ‬
‫خل ْلق‪ .‬باد ٌن متما�سك[والبادن هو ال�ضخم فلما قال بادن �أردفه مبتما�سك وهو الذي مي�سك بع�ض �أع�ضاءه‬ ‫ا َ‬
‫عري�ض ال�صدر بعيد ما بني املنكبني‪� .‬ضخم الكرادي�س[هي ملتقى‬ ‫ُ‬ ‫بع�ضا فهو معتدل] �سوا ُء البطن وال�صدر‪،‬‬
‫كل عظمني �ضخمني كالركبتني واملرفقني واملنكبني �أراد �أنه �ضخم الأع�ضاء]‪� .‬أنو ُر املُ َتج َّرد[�أي م�شرق الع�ضو‬
‫خل ِّط‪ .‬عاري الثديني والبطن مما‬ ‫ب�ش ٍعر يجري كا َ‬‫وال�س َّرة َ‬
‫الذي جترد عن ال�شعر]‪ .‬مو�صول ما بني اللبة ُّ‬
‫رحب الراحة[�أي وا�سع الكف]‪�َ .‬ش ْثنُ‬ ‫�سوى ذلك‪� .‬أ�شعر الذراعني واملنكبني و�أعايل ال�صدر‪ .‬طويل الزندين‪ُ .‬‬
‫م�صانُ‬ ‫الكفني والقدمني[�أي �أنهما مييالن �إىل الغلظ والق�صر]‪� .‬سائل الأطراف[�أي طويل الأ�صابع]‪ُ .‬خ َ‬
‫الأخم�صني[�أي �أن باطن قدميه �شديد التجايف عن الأر�ض]‪ .‬م�سيح القدمني[�أي �أمل�س القدمني لي�س فيهما‬
‫تك�سري وال �شقاق]‪ .‬ينبو عنهما املاء[�أي يتباعد ويتجافى ملال�ستها]‪� .‬إذا زال زال قلعا [�أي �إذا م�شى كان‬
‫يرفع رجليه رفعا بائنا ال مي�شي اختياال وتنعما]‪ .‬يخطو تكفيا[�أي يتمايل �إىل الأمام]‪ .‬ومي�شي هونا‪ .‬ذري ُع‬
‫خاف�ض‬‫َ‬ ‫امل�شية[�أي �سريع امل�شي وا�سع اخلطو]‪� .‬إذا م�شى ك�أمنا ينحط من �صبب‪ .‬و�إذا التفت التفت جميع ًا‪.‬‬
‫نظر ِه املُالحظة[وهو النظر ب�شق العني الذي يلي‬ ‫نظره �إىل ال�سماء‪ .‬ج ُّل ِ‬ ‫َ‬
‫الط ْر ِف نظ ُر ُه �إىل الأر�ض �أك ُرث ِمن ِ‬
‫ال�صدغ]‪ .‬ي�سوق �أ�صحابه‪ .‬ويبد�أ من لقي بال�سالم‪.‬‬

‫متوا�صل الأح��زان‪ .‬دائم الفكرة‪.‬‬‫َ‬ ‫�صف يل منطق ر�سول اهلل‪ .s‬قال‪ :‬كان ُ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬‬ ‫قلت‪ْ :‬‬ ‫ قال ُ‬
‫ال�س ْك ِت‪ .‬ال يتكلم يف غري حاجة‪ .‬يفتتح الكالم ويختمه ب�أ�شداقه‪ .‬ويتكلم بجوامع الكلم‪.‬‬ ‫لي�ست له راحة‪ .‬طويل َّ‬
‫كال ُم ُه ف�صل ال ف�ضول وال تق�صري‪ .‬دمث لي�س باجلايف وال ا َملهني‪ .‬يعظم النعمة و�إن دقت‪ ،‬ال َيذم منها �شيئا‬
‫غري �أنه مل يكن يذم َذ َوا َق ًا وال ميدحه‪ .‬وال تغ�ضبه الدنيا وال ما كان لها‪ .‬ف�إذا ُتعدِّ ي احلقّ مل يعرفه �أحد ومل‬
‫يقم لغ�ضبه �شيء حتى ينت�صر له‪ ،‬و ال يغ�ضب لنف�سه وال ينت�صر لها‪� .‬إذا �أ�شار �أ�شار بك ِّفه ك ِّلها‪ .‬و�إذا تعجب‬
‫َق َل َبها‪ .‬و�إذا حتدث ات�صل بها ي�ضرب براحته اليمنى بطن راحته الي�سرى‪ .‬و�إذا غ�ضب �أعر�ض و�أ�شاح‪ .‬و�إذا‬
‫فرح غ�ضَّ طر َفه‪ُ .‬ج ُّل َ�ض ِ‬
‫حك ِه التَّب�سم يفرت عن مثل حب الغمام‪..‬‬

‫أ�سعد النا�س به لرجالن؛ �أحدهما‪َ :‬من ر�أى‬ ‫ عبا َد اهلل ! ذلك ُخرب النبي‪َ s‬‬
‫وخبرَ ه‪ ،‬و�صفتُه ونعتُه و�إن � َ‬
‫طلعتَه‪ ،‬و�صاحبه و�آمن بنبوته‪ ،‬ف�أولئك رفع ُة القوم وعليتُهم و�آخرون مل يروا النبي ‪s‬ولكنهم اقتفوا �أثره‪،‬‬
‫ومل ي�صحبوه و�إمنا �أنفا�سه �صحبوا‪� ،‬أخرج الإمام �أحمد والبخاري يف تاريخه عن �أبي �أمامة الباهلي قال‪:‬‬
‫قال ر�سول اهلل‪( :s‬طوبى ملن ر�آين و�آمن بي وطوبى ملن �آمن بي ومل يرين �سبع مرات)‪.‬‬

‫‪452‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفة النبي‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ وروى الإم��ام �أحمد عن �أن�س بن مالك قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪( :s‬وددتُ �أين لقيت �إخ��واين) فقال‬
‫�أ�صحاب النبي‪� :s‬أو لي�س نحن �إخوانك؟ قال‪�( :‬أنتم �أ�صحابي ولكن �إخواين الذين �آمنوا بي ومل يروين)‬
‫(من �أ�شدِّ �أمتي يل حبا نا�س يكونون بعدي يود �أحدهم لو‬
‫روى م�سلم عن �أبي هريرة �أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪ِ :‬‬
‫ر�آين ب�أهله وماله)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ عباد اهلل ! فقد ثبت يف ال�صحيحني عن �أبي هريرة‪� d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬من ر�آين يف املنام فقد ر�آين‬
‫ف�إن ال�شيطان ال يتمثل يف �صورتي ومن كذب علي متعمدا فليتبو�أ مقعده من النار)‪.‬‬

‫ ويف رواية من حديث عن �أن�س‪ d‬قال‪ :‬قال النبي‪(s‬من ر�آين يف املنام فقد ر�آين ف�إن ال�شيطان ال‬
‫يتخيل بي ور�ؤيا امل�ؤمن جزء من �ستة و�أربعني جزءا من النبوة)‪ .‬وعن �أبي قتادة ‪d‬قال النبي‪( :s‬من‬
‫ر�آين فقد ر�أى احلق)‪.‬‬

‫عباد اهلل ! �إن ر�ؤيا النبي‪s‬يف املنام ر�ؤيا حق ب�شرطني لأن ال�شيطان ال يتمثل به‪s‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫۩ ۩ �أحدهما‪� :‬أن يكون على �صورته‪ s‬ال على �صورة �أخرى ففي �صحيح البخاري بعد هذا احلديث قال‬
‫حممد بن �سريين‪�( :‬إذا ر�آه يف النوم على �صورته)‪.‬‬

‫۩ ۩وال�شرط الثاين‪� :‬أن ال ي�أتي ُبحكم جديد وال ت�شريع وال تف�ضيل لأن الوحي ففي ال�صحيحني �أن عمر بن‬
‫اخلطاب‪d‬قال‪�( :‬إن �أنا�سا كانوا ي�ؤخذون بالوحي يف عهد ر�سول اهلل‪s‬و�إن الوحي قد انقطع)‪.‬‬

‫ وروى ابن و�ضاح �أن �أهل الكوفة جاءهم �صارخ �أن َمن �صلى يف جامع الكوفة فقد غفر له ذنبه‪ ،‬فتجمع‬
‫النا�س فخرج عليهم ابن م�سعود‪ ....‬ف َمن ر�أى يف منامه �شخ�ص ًا ي�أمر ب�أمر حم َّرم كقتل ونحوه‪� ،‬أو ببدعة‬
‫النبي ‪s‬و�إمنا هي من ال�شيطان‬ ‫املرئي هو َّ‬
‫ُّ‬ ‫وطواف بقرب وغريه فلي�ست الر�ؤيا من اهلل ولي�س‬
‫ٍ‬ ‫كذكر‬
‫حمدثة ٍ‬
‫(من ر�آين يف النوم فقد ر�آين‪� ،‬إنه‬
‫ليتالعب ببني �آدم‪ ،‬ففي �صحيح م�سلم عن جابر‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪َ :‬‬
‫ال ينبغي لل�شيطان �أن يتمثل يف �صورتي وقال �إذا حلم �أحدكم فال يخرب �أحدا بتلعب ال�شيطان به يف املنام)‪.‬‬

‫ ولهذا االق�تران يف احلديث بني ر�ؤيا النبي‪s‬يف املنام وبني تالعب ال�شيطان داللته الوا�ضحة �أن‬
‫ال�شيطان قد تالعب بالبع�ض من هذا الباب‪.‬‬

‫‪453‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صفة النبي‬

‫ �أقول ذلك وقد انت�شر بني بع�ض النا�س عرب ر�سائل الهاتف والربيد االلكرتوين وغريها �أن رج ًال ر�أى‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫النبي‪s‬يف املنام ف�أمره ب�أن يبلغ النا�س كذا وكذا‪ُ ،‬ك ٌّل يزيد يف هذه الر�ؤيا وينق�ص‪ ،‬و�أن َمن �أر�سلها لع�شرة‬
‫ف�سيح�صل له من اخلري كذا وكذا‪ ،‬ومن امتنع فعليه كذا وكذا‪.‬‬

‫ وال �شك �أن مثل هذه املرا�سالت ومثلها الو�صية املكذوبة على ال�شيخ �أحمد خادم احلجرة النبوية‬
‫(من‬‫باملدينة املنورة‪ ،‬كلها من املحدثات والبدع وال يجوز ن�شرها وال بثها وال توزيعها؛ لأن النبي‪s‬يقول‪َ :‬‬
‫علي متعمد ًا فليتبو�أ مقعده من النار)‪ ،‬ويف احلديث الآخر قال‪( :s‬من حدث عني بحديث يرى �أنه‬ ‫كذب َّ‬
‫كذب فهو �أحد الكاذبني)‪.‬‬

‫ ويف �صحيح البخاري عن ابن عبا�س‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬من حتلم بحلم مل يره كلف �أن يعقد بني‬
‫�شعريتني ولن يفعل)‪.‬‬

‫اللهم �صلي و�سلم على نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته‬
‫واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪،‬‬

‫وبعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل‬
‫مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي‬
‫حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف‬
‫النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪454‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صالح اآلباء‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫صالح اآلباء‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫أحد وال ذن َبه‪َ } ،‬و َال َت ْك ِ�س ُب ُك ُّل َن ْف ٍ�س ِ�إالَّ َع َل ْي َها َو َال ت َِز ُر‬
‫اهلل تعاىل بعد ِله �أال يتح ّمل �أح ٌد جرير َة � ٍ‬ ‫ فقد ق�ضى ُ‬
‫ن�س ِان‬ ‫ال�شخ�ص �إال بعم ِله هو دون غريه } َو�أَن َّل ْي َ�س ِل ِلإ َ‬ ‫ُ‬ ‫َوا ِز َر ٌة ِو ْز َر �أُ ْخ َرى{‪ ،‬كما ق�ضى �سبحانه بعد ِله �أال ينتفع‬
‫ِ�إالَّ َما َ�س َعى{ َو�أَنَّ َ�س ْع َي ُه َ�س ْو َف ُي َرى{ ُث َّم ُي ْجزَ ا ُه الجْ َ زَ اء الأَ ْو َفى{‪ ،‬وقال النبي ‪:s‬‬

‫ «يا مع�شر قري�ش ا�شرتوا �أنف�سكم من اهلل ال �أغنى عنكم من اهلل �شيئ ًا‪ ،‬يا بني عبد املطلب ال �أغنى عنكم‬
‫من اهلل �شيئ ًا‪ ،‬يا عبا�س بن عبد املطلب ال �أغنى عنك من اهلل �شيئ ًا‪ ،‬يا �صف ّية عمة ر�سول اهلل ال �أغنى عنك‬
‫من اهلل �شيئ ًا‪ ،‬يا فاطمة بنت ر�سول اهلل �سلينى مبا �شئت ال �أغنى عنك من اهلل �شيئ ًا»‪.‬‬

‫ عباد اهلل! ولمِ َا ُجبلت عليه النفو�س من حم ّبة الأبناء وتفديتهم بالغايل والنفي�س‪ ،‬حتى �إنّ كثري ًا من‬
‫�سني ُعمره حفاظ ًا على �أبنائه وتربيتهم‪.‬‬
‫النا�س ليكدح ويتغ ّرب ّ‬

‫إنعامه �أنّ‬
‫ومزيد ف�ض ِله و� ِ‬
‫ِ‬ ‫ مل يغلق اهلل تعاىل انتفاع الأبناء ب�صالح �أبائهم‪ ،‬بل �إنّ ِمن رحمته �سبحانه‪،‬‬
‫ال�صالح �أثر ًا يف �أبنائهم‪ ،‬ل َيجتهد الآبا ُء يف عم ِلهم ال�صَّ الح فيكونَ دافع ًا للمزيد منه‪ ،‬وليعلم‬
‫ِ‬ ‫جعل لعمل الآباء‬
‫ُ‬
‫بالطاعات واجتهادهم يف العبادات ينفع اهلل به ِمن باب التّبع �أبناءهم‪ ،‬و�أنّ نف َع‬ ‫الآبا ُء �أنّ تق ّربهم �إىل اهلل ّ‬
‫خطبة جديدة‬

‫واحد من التابعني �أنه كان‬‫الأبناء لي�س مقت�صر ًا على تخزين املال لهم‪ ،‬والأمور الدنيوية فقط‪ ،‬جاء عن غري ٍ‬
‫يقول‪�( :‬إين لأزي ُد يف �صالتي من �أجل �صالح �أبنائي)‪.‬‬

‫�صالح انتفع بها الأبناء‪ ،‬قال امر�أة عمران‪َ } :‬و�إِنيِّ َ�س َّم ْي ُت َها َمرْيمَ َ ِو�إِنيِّ‬ ‫والد ٍ‬ ‫ وكم من دعوة �صاحل ٍة ِمن ٍ‬
‫�أُ ِع ُيذ َها ِب َك َو ُذ ِّر َّي َت َها ِمنَ ال�شَّ ْي َط ِان ال َّر ِج ِيم{ َف َت َق َّب َل َها َر ُّب َها ِب َق ُب ٍول َح َ�س ٍن َو�أَن َب َت َها َن َبا ًتا َح َ�س ًنا{‪ ،‬وقال �إبراهيم‬
‫َ‬
‫امل�صط َفني‬ ‫اهلل �أنبيا َءه‬ ‫عليه ال�سالم‪َ } :‬ر ِّب ْاج َع ْل ِني ُم ِق َيم ال�صَّ َال ِة َو ِمن ُذ ِّر َّي ِتي َر َّب َنا َو َت َق َّب ْل د َُعاء{‪.‬وملّا ذك َر ُ‬
‫الل َ�س ِمي ٌع َع ِلي ٌم{‪� ،‬إذ الذر ّية ُت َ�شابه �أ�صو َلها يف كث ٍري من الأحايني‪.‬‬ ‫}ذ ِّر َّي ًة َب ْع ُ�ض َها ِمن َب ْع ٍ�ض َو هَّ ُ‬
‫قال‪ُ :‬‬

‫ و�إليك يا رعاك اهلل بع�ض ًا ِمن الآثار التي ينتفع بها الأبناء عند �صالح �آبائهم‪ ،‬واجتهادهم يف الطاعة‪،‬‬
‫�إذا الأبنا ُء ينتفعون ب�صالح �آبائهم يف ثالثة موا�ضع‪ ،‬يف حياة �آبائهم‪ ،‬وبعد موتهم‪ ،‬ويوم القيامة‪ ،‬و ُك ُّل ذلك‬
‫مذكور يف كتاب اهلل‪:‬‬

‫‪455‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صالح اآلباء‬

‫ ف�أ ّما انتفاع الأبناء ذكور ًا و�إناث ًا ب�صالح �آبائهم يف احلياة‪ ،‬ف�إنّ هذا ِمن عاجل ب�شرى امل�ؤمن‪ِ ،‬ومن وعد‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫}منْ َع ِم َل َ�صالحِ ًا ِّمن َذ َك ٍر �أَ ْو �أُن َثى َوهُ َو ُم�ؤْ ِمنٌ َف َل ُن ْح ِي َي َّن ُه َح َيا ًة َط ِّي َب ًة‬
‫اهلل له باحلياة الطيبة‪ ،‬قال ج ّل وعال‪َ :‬‬
‫َو َل َن ْج ِز َي َّن ُه ْم �أَ ْج َرهُ م ِب�أَ ْح َ�س ِن َما َكا ُنو ْا َي ْع َم ُلونَ {‪.‬‬

‫�صالح �أبنائهم وا�ستقامة �أمرهم‪ ،‬وحفظهم‪ ،‬قال ه�شام بن ح�سان‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ِومن �أعظم ما ُي�سعد املرء يف الدنيا‬ ‫ ‬
‫قال �سعي ُد بن جبري‪�( :‬إين لأزي ُد يف �صالتي من �أجل ابني هذا)‪ ،‬قال ه�شام‪( :‬رجاء �أن يحفظ فيه)‪ .‬وقال‬
‫ُويرات حو َله ف َما يزالون‬ ‫ُ‬
‫ويحفظه يف دُوير ِته ود ٍ‬ ‫وولد ولده‪،‬‬
‫ولده‪ِ ،‬‬
‫العبد امل�ؤمن يف ِ‬
‫اهلل يحفظ َ‬ ‫ابن املنكدر ‪�( :‬إن َ‬
‫حفظ �أو يف عافي ٍة ما كان بني ظهرانيهم)[�سري �أعالم النبالء ‪ . ]355/5‬وقال وهب بن منبه ‪�( :‬إن اهلل‬‫يف ٍ‬
‫َ‬
‫القبيل من النا�س)[حلية الأولياء ‪.]58/4‬‬ ‫الح‬
‫بالعبد ال�صَّ ِ‬
‫ِ‬ ‫يحفظ‬

‫اب تجَْ ِري‬ ‫ وقد ذكر اهلل ذلك يف كتابه‪ ،‬فقال �سبحانه‪�} :‬أَ َي َو ُّد �أَ َح ُد ُك ْم �أَن َت ُكونَ َل ُه َج َّن ٌة ِّمن َّن ِخ ٍيل َو�أَ ْع َن ٍ‬
‫ِمن تحَْ ِت َها الأَ ْن َها ُر َل ُه ِفي َها ِمن ُك ِّل ال َّث َم َر ِات َو�أَ َ�صا َب ُه ا ْل ِكبرَ ُ َو َل ُه ُذ ِّر َّي ٌة ُ�ض َع َفاء َف�أَ َ�صا َب َها �إِ ْع َ�صا ٌر ِفي ِه َنا ٌر َفاحْترَ َ َق ْت‬
‫ات َما َك َ�س ْبت ُْم وَممَِّ ا �أَ ْخ َر ْج َنا‬‫ات َل َع َّل ُك ْم َت َت َف َّك ُرونَ { َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا �أَن ِف ُقو ْا ِمن َط ِّي َب ِ‬ ‫َك َذ ِل َك ُي َبينِّ ُ هَّ ُ‬
‫الل َل ُك ُم الآ َي ِ‬
‫َل ُكم ِّمنَ الأَ ْر ِ�ض َو َال َت َي َّم ُمو ْا الخْ َ ِبيثَ ِم ْن ُه ُتن ِف ُقونَ َو َل ْ�ستُم ِب� ِآخ ِذي ِه ِ�إالَّ �أَن ُت ْغ ِم ُ�ضو ْا ِفي ِه َو ْاع َل ُمو ْا �أَنَّ هَّ َ‬
‫الل َغ ِن ٌّي‬
‫َح ِمي ٌد{‪.‬‬

‫ال�صغار ال�ضَّ يعة‪ ،‬وعلى بناته الأيامى الفواتَ‬ ‫ال�ضعفا ِء ِّ‬ ‫ فبينّ اهلل �سبحانه �أنّ َمن خاف على ذري ِته ُّ‬
‫والت�أمي‪ ،‬وغري ذلك من عوار�ض الأمور التي تذهب م�صاحلهم كما تتلف النا ُر الزرع فال تبقي منه �شيئ ًا‪َ ،‬من‬
‫الظلم والبغي عليهم‪� ،‬إذ‬ ‫خاف ذلك فل ُينفق مما �آتاه اهلل وليكرث من ال�صَّ دقة والإح�سان �إىل النا�س وعدم ُّ‬
‫َن�س َن ِ�صي َب َك‬ ‫َاك هَّ ُ‬
‫الل ال َّدا َر ال ِآخ َر َة َوال ت َ‬ ‫�سبب جعله اهلل حلفظ العبد‪ ،‬كما قال �سبحانه‪َ } :‬وا ْب َت ِغ ِفي َما �آت َ‬ ‫هي ٌ‬
‫ُ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِمنَ ال ُّد ْن َيا َو�أ ْح ِ�سن َك َما �أ ْح َ�سنَ الل �إِ َل ْي َك{‪.‬‬

‫ وال�ض ّد بال�ض ّد‪ ،‬ف�إنّ ِمن غ ّذا �أبناءه باحلرام‪ ،‬ومل ي�صطنع لهم عند النا�س معروف ًا بل ترك لهم َ‬
‫الظلم‬
‫و�سو َء الذكر‪ ،‬ف�إنّ ال يرجو ما رجا الأول‪.‬‬

‫يحفظ ذر ّي َة العبد بعد موته يف ذريته‪ ،‬وقد ذكر اهلل تعاىل ذلك‬ ‫ و�أ ّما احلفظ الثاين‪ :‬ف�إنَّ اهلل تعاىل قد ُ‬
‫ق�صة مو�سى واخل�ضر عليهما ال�سالم‪ ،‬حينما �أتيا �أهل القرية فا�ست�ضافوهم وطلبوا منهم �أن‬ ‫يف كتابه‪ ،‬ففي ّ‬
‫خل ِ�ض ُر جدر ًا مائ ًال يكاد �أن يقع‪ ،‬ف�أقام بناءه و�أ�صلحه‪ ،‬فل ّما �س�أله مو�سى عليه‬ ‫يطعموهم‪ ،‬ف�أبوا ذلك‪ ،‬فوجد ا َ‬
‫ال�سالم‪ ،‬قال اخل�ضر عليه ال�سالم‪َ } :‬و�أَ َّما الجْ ِ َدا ُر َف َكانَ ِل ُغ َ‬
‫المينْ ِ َي ِتي َمينْ ِ فيِ المْ َ ِدي َن ِة َو َكانَ تحَْ َت ُه َكن ٌز َّل ُه َما َو َكانَ‬
‫�أَ ُبوهُ َما َ�صالحِ ًا َف َ�أ َرا َد َر ُّب َك �أَنْ َي ْب ُل َغا �أَ ُ�شدَّهُ َما َو َي ْ�ست َْخ ِر َجا َكنزَ هُ َما َر ْح َم ًة ِّمن َّر ِّب َك َو َما َف َع ْل ُت ُه َعنْ �أَ ْم ِري{‪.‬‬

‫ فبينّ �أنّ اهلل تعاىل هو َمن �أراد لهما اخلري‪ ،‬وحفظ مالهما ب�سبب �صالح �أبيهما }وكان �أبوهما �صاحل ًا{‪.‬‬
‫ولذا جاء �أن �سعيد بن امل�س َّيب قال البنه ‪( :‬لأزيدنَّ يف �صالتي من �أجلك رجا َء �أن �أُحفظ فيك)‪ ،‬ثم تال هذه‬
‫فظه ُ‬
‫اهلل يف َعقبه‬ ‫ؤمن ميوت �إال َح َ‬ ‫الآية ‪} :‬وكان �أبوهما �صاحل ًا{‪ .‬وقال عم ُر بن عبد العزيز ‪َ :‬‬
‫(ما ِمن ُم� ٍ‬
‫وعقب عقبه)‪.‬‬
‫‪456‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صالح اآلباء‬

‫اهلل ع ّز وج ّل يف غري �آية �إىل توجيه امل�ؤمنني �أنهم �إن خافوا على �أبنائهم بعد وفاتهم‪ ،‬فليتقوا‬ ‫ وقد �أ�شار ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اهلل يف حياتهم وليعملوا �صاحل ًا يحفظهم اهلل فيهم بعد موتهم‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و ْل َي ْخ َ�ش ا َّل ِذينَ َل ْو َت َر ُكو ْا‬
‫الل َو ْل َي ُقو ُلو ْا َقو ًْال َ�س ِديدً ا{‪ْ � ،‬أي من خاف على ذريته ال�ضَّ ي َع َة‬‫ِمنْ َخ ْل ِف ِه ْم ُذ ِّر َّي ًة ِ�ض َعا ًفا َخا ُفو ْا َع َل ْي ِه ْم َف ْل َي َّت ُقوا هَّ َ‬
‫مال �أبنائهم‪ ،‬وال يعتدي على‬ ‫يتامى املُ�سلمني‪ ،‬فال ي�أك ُل ما ًال ل ٍ‬
‫أحد فال ي�ؤ ُكل ُ‬ ‫وعدم الرعاية فليتق اهلل يف َ‬ ‫َ‬
‫نف�سه ف ُيحفظ فيهم‪.‬‬ ‫عر�ض �أحد وال ِ‬

‫ و�أ ّما انتفاعهم يف الآخرة‪ :‬ف�إن اهلل تعاىل يقول‪َ } :‬وا َّل ِذينَ � َآم ُنوا َوا َّت َب َع ْت ُه ْم ُذ ِّر َّي ُت ُهم ِب�إِ َمي ٍان �أَلحْ َ ْق َنا ِب ِه ْم‬
‫عبده منزل ًة‬ ‫فاهلل تعاىل �إذا �أنزل َ‬ ‫ُذ ِّر َّي َت ُه ْم َو َما �أَ َل ْت َناهُ م ِّمنْ َع َم ِل ِهم ِّمن َ�ش ْيءٍ ُك ُّل ْام ِر ٍئ بمِ َ ا َك َ�س َب َر ِهنيٌ{‪ُ ،‬‬
‫متم عليه نعي َمه ب�أن يرفع �أبناءه الذين كانوا �أنزل منه يف اجلنة �إىل درجته‪ ،‬و�أ ّما َمن مل‬ ‫عالي ًة يف اجلنة‪ّ ،‬‬
‫يكن ِمن �أهل اجلنة فال ينتفع بها لذا قال �سبحانه‪َ } :‬وا َّت َب َع ْت ُه ْم ُذ ِّر َّي ُت ُهم ِب�إِ َمي ٍان{‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪457‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫صالح الزوجة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬صالح الزوجة‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫مك�سب فيها‪� ،‬إذا ُوجد فال ي�ض ُّر ما ُيفقد من الدنيا‪ ،‬و�إذا ُفقد فال َيك ُمل‬
‫ٍ‬ ‫كنز يف الدنيا‪ ،‬و�أج َّل‬
‫أعظم ٍ‬
‫ ف�إنّ � َ‬
‫الهناء فيها بدونها؛ �إنها عباد اهلل! املر�أ ُة ال�صاحلة‪ ،‬يف �صحيح م�سلم �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ال ُّدنيا متاعٌ‪ ،‬وخ ُري‬
‫عنده هذه املر�أ ُة فهو من الأغنياء و�إن مل يكن بيديه ف�ض ُل مال‪ ،‬ف�إن‬ ‫متاعها املر�أ ُة ال�صَّ احلة)‪َ .‬من كانت َ‬
‫ِ‬
‫وخلقها ودينها فهو من �أ�سعد النا�س‪.‬‬ ‫كانت �صاحل ًة يف �أو�صافها ُ‬

‫ جاء �أن رج ًال �س�أل عبد اهلل بن عمرو ‪ d‬ما ًال‪ .‬فقال له عبد اهلل‪� :‬ألك امر�أة ت�أوي �إليها؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪� :‬ألك م�سكن ت�سكنه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬ف�أنت من الأغنياء‪ .‬فقال‪� :‬إن يل خادم ًا‪ .‬قال‪ :‬ف�أنت من امللوك‬
‫[تف�سري الطربي]‪.‬‬

‫زوج ُه �صاحل ًة فهو ِمن �أ�سعد النا�س؛ يقول النبي‪�(: s‬أرب ٌع من �سعادة؛ وذكر منها املر�أة‬
‫َومن كانت ُ‬ ‫ ‬
‫ال�صاحلة‪ ،‬و�أربع من ال�شقاوة وذكر منها املر�أة ال�سوء)[رواه ابن حبان ب�إ�سناد �صحيح]‪.‬‬
‫ عباد اهلل! لقد امتدح ُ‬
‫اهلل يف كتابه ُك ّم َل الن�ساء بثالثة �أو�صاف فقال �سبحانه‪َ } :‬فال�صَّ الحِ َ اتُ َقا ِن َتاتٌ‬
‫الل{‪ ،‬فهذه اخلالل الثالث التي ذكرها اهلل يف هذه الآية �إذا اجتمعت يف امر�أ ٍة‬ ‫َحا ِف َظاتٌ ِّل ْل َغ ْي ِب بمِ َ ا َح ِف َظ هَّ ُ‬
‫ف�إنها تكون قد بلغت �أ�سمى �صفات الكمال الذي ُيثنى على الن�ساء به‪ ،‬تيكم املر�أ ُة هي غاي ُة ُك ِّل زوج‪ ،‬ورجا ُء‬
‫ن�ش َئ بناتَنا على تلك اخل�صال املر�ضية‪ ،‬والطبائ ِع احل�سنة‪،‬‬ ‫ُك ِّل خاطب‪ ،‬فلننظر يف هذه الأو�صاف ع ّلنا �أن ُن ِّ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ولتعل ْمه ن�سا ُء امل�سلمني فيتخلقن بهذه اخل�صال اجلميلة اجلليلة‪.‬‬

‫زوجها �إال‬ ‫۩ ۩فالو�صف الأول‪� :‬أنهن �صاحلاتٌ ‪ .‬ف�أج ّل �صفات املر�أة �أن تكون �صاحل ًة يف دينها‪ ،‬فال ت�أمر َ‬
‫شري عليه مبح ّر ٍم‪ ،‬حت ّثه على اخلري‪ ،‬وجتنبه ال�ش ّر وال�سوء‪ ،‬ف�إن كانت كذلك فهي � ُ‬
‫أعظم‬ ‫مبعروف‪ ،‬وال ُت� ُ‬
‫نت اهلل ج ّل وعال‬ ‫الزوج و�آخرته‪ ،‬ومبثل هذه املر�أة ام َّ‬ ‫نعم ٍة ينعم ُ‬
‫�صالح دُنيا ِ‬
‫ُ‬ ‫�صالحها‬
‫ُ‬ ‫اهلل بها على املرء‪،‬‬
‫زوج ُه امر�أ ًة �صاحل ًة تق ّي ًة نفي ًة و�أجنبت ابنه يحيى‪،‬‬ ‫على زكريا‪ a‬بقوله‪َ } :‬و�أَ�صْ َل ْح َنا َل ُه َز ْو َجهُ{‪ ،‬فكانت ُ‬
‫ّثم بينّ اهلل تعاىل �أثر �صالحها وفعلها يف بيتها فقال �سبحانه‪�} :‬إِ َّن ُه ْم َكا ُنوا ُي َ�سا ِر ُعونَ فيِ الخْ َ رْ َ‬
‫�ْيت ِات‬
‫إ�صالحه‪ ،‬و�أنّ ِمن �أثر‬ ‫َو َي ْد ُعو َن َنا َر َغب ًا َو َر َهب ًا َو َكا ُنوا َل َنا َخ ِا�ش ِعنيَ{‪ ،‬فبينّ �أن ال�صاحل َة ت�ؤ ِّث ُر يف زوجها و� ِ‬
‫كالمه‪ ،‬والثنا ِء على‬ ‫وذكره وقراء ِة ِ‬ ‫�صالحها م�سارعتَها للخريات بباعث داخلي‪ ،‬وكرث َة دعا ِء اهلل تعاىل ِ‬
‫اهلل مبا هو �أه ُلهُ‪ ،‬وال ُتكرث �شكا ًة وال تذ ّمر ًا‪.‬‬
‫‪458‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صالح الزوجة‬

‫ف�سرها بذلك الثوري[رواه ابن جرير‬ ‫۩ ۩والو�صف الثاين‪� :‬أنهُنَّ قانتات؛ � ْأي مطيعات هلل ولأزواجهن؛ كما ّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫فمن �أ�سمى �أخالق املر�أة مع زوجها �أن تطي َعه �إذا �أمرها‪ ،‬فال ُتخالف له �أمر ًا‪ ،‬ما مل ي�أمرها‬ ‫‪ِ .]59/5‬‬
‫زوجها فتفع ُلهُ‪ ،‬وتنظر ما يكرهُ ه فتجتنبه‪،‬‬ ‫مبع�صية اهلل تعاىل �أو ما ُيك َره ج ّل وعال‪ .‬فتبحثُ ع ّما ُيح ّبه ُ‬
‫تطي ُع ُه و�إن مل يتك ّلم‪ ،‬وتعرف طب َعه و�إن �صمت‪ُ ،‬‬
‫فلحظ ُه كالم‪ ،‬و�إ�شار ُته �أمر‪.‬‬

‫أنف�سهن عند غيب ِة �أزواجهن عنهن يف ُفروجهن‬


‫۩ ۩والو�صف الثالث‪� :‬أنهن حافظاتٌ للغيب‪� :‬أي حافظات ل ِ‬
‫و�أموالهم‪ ،‬وحافظاتٌ للواجب عليهن من حق اهلل تعاىل من العبادات[قاله ابن جرير]‪.‬‬

‫حفظت‬
‫ْ‬ ‫فمن‬ ‫حق اهلل‪ُ ،‬‬
‫وحفظ حق الزوج بالغيب‪ .‬وبني هذين الأمرين تالزم‪ِ ،‬‬ ‫حفظ ِّ‬ ‫ ف�شمل هذا الو�صف‪ُ :‬‬
‫حقّ اهلل تعاىل بالعبادة واحلجاب يف ال�س ِّر‪ ،‬ف�إنها حتفظ حقّ زوجها حال غيبته‪ ،‬لذا جاء يف بع�ض القراءات‪:‬‬
‫الل{ بفتح الهاء‪ ،‬ومعناه‪� :‬أن هذا ب�سبب حفظها َ‬
‫اهلل بالطاعة‪ ،‬وهذا كقوله‪:s‬‬ ‫}حا ِف َظاتٌ ِّل ْل َغ ْي ِب بمِ َ ا َح ِف َظ هَّ َ‬
‫َ‬
‫(احفظ اهلل يحفظك)‪.‬‬

‫ُ‬
‫وحتفظه‬ ‫بفعل وال قول‪،‬‬
‫عر�ضها ٍ‬‫تدن�س َ‬
‫ �إنّ ِمن حفظ املر�أة لزوجها يف الغيب‪� :‬أن حتفظه يف عر�ضها؛ فال ّ‬
‫نف�سها‬ ‫�ص به فهي ٌ‬
‫حافظ َ‬ ‫وخ ّ‬ ‫مما مينع ُ‬
‫اهلل �إظها َره لغري الزوج ُ‬ ‫لبا�س وال تظه ُر زين ًة ّ‬
‫يف نف�سها فال تتربج يف ٍ‬
‫�إال لزوجها‪ .‬وحتفظه يف ماله فال تنفق ِمنه ِمن غري حاج ٍة‪ ،‬وال ت�سرف فيه‪ ،‬وحتفظه يف �س ّره فال تف�شي له‬
‫دخل فيه �أحد ًا ال يرغبه‪.‬‬
‫تنقل عنه �س ّر ًا ا�ستكتمه‪ ،‬وحتفظه يف بيته فال ُت ِ‬
‫خرب ًا وال ُ‬

‫بحفظ من اهلل وتوفيق؛‬ ‫ُ‬


‫احلفظ �إمنا هو ٍ‬ ‫ وهذا الو�صف ال يتحقق يف امر�أ ٍة �إال �أن يعينها اهلل عليه‪ ،‬فهذا‬
‫هلل �إياها‬
‫لذا قال جماهد‪}( :‬حافظات للغيب{ يحفظن على �أزواجهن ما غابوا عنهن من �ش�أنهن بحفظ ا ِ‬
‫�أن يجعلها كذلك)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إنّ املر�أة التي تت�صف بهذه ال�صفات الثالث التي ذكرها اهلل يف كتابه هي خري الن�ساء على‬
‫الإطالق‪ ،‬روى �أبو داود �أن النبي‪s‬قال لعمر بن اخلطاب‪�« :d‬أال �أُ ْخربك بخري ما َي ْك ِن ُز املر ُء ؟ [ويف رواية‬
‫احلاكم (خري الن�ساء)] املر�أة ال�صاحلة‪� :‬إذا نظر �إليها َ�س َّر ْتهُ‪� ،‬إذا � َأم َر َها �أطاعتْه‪ ،‬و�إذا غاب عنها حفظتْه»‪.‬‬

‫تنجب �أبنا ًء �صاحلني } َو َكانَ َ�أ ُبوهُ َما َ�صالحِ ًا{‪ ،‬و�أعجب من‬ ‫ ومن بركة املر�أ ِة �إذا كانت �صاحل ًة �أنها ُ‬
‫}ج َّناتُ َع ْد ٍن َي ْد ُخ ُلو َن َها َو َمنْ‬
‫ذلك �أن بركتها على زوجها و�أبنائها �أنها ترف ُعهم يف درجات اجلنة وتعلو فيها َ‬
‫َ�ص َل َح ِمنْ �آ َبا ِئ ِه ْم َو�أَ ْز َو ِاج ِه ْم َو ُذ ِّر َّيا ِت ِه ْم{‪.‬‬
‫َومن كانت كذلك ف�إنها الكن ُز الغايل‪ ،‬والربح الوايف‪ ،‬فبها تتحقق ال�سعادة‪ ،‬ومنها ُترجى الربكة‪ ،‬لذا‬ ‫ ‬
‫جاء الأم ُر بالإح�سان لهذه املر�أة باخل�صو�ص‪ ،‬والإ�صالح �إليها‪ ،‬و�إكرامها‪ ،‬روى ابن جرير �أن عبد اهلل بن‬
‫م�سعود �إذا قر�أ هذه الآية }فال�صاحلات قانتات حافظات للغيب مبا حفظ اهلل{‪ ،‬قال‪( :‬ف�أ�صلحوا �إليهن)‪.‬‬
‫ ‬
‫ والو�ص ّية بهذه املر�أة هي و�صية �أنبياء اهلل لبنيهم‪ ،‬يف (ال�صحيح) �أن �إبراهيم‪a‬حني زار ابنه �إ�سماعيل‬
‫أثنت‬
‫و�س َع ٍة و� ْ‬ ‫مل يجده‪ ،‬لكنه َو َج َد امر�أته ف�س�ألها عن حالها وحال عن عي�شهم وهيئتهم‪ ،‬قالت‪ :‬نحن بخ ٍري َ‬
‫‪459‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صالح الزوجة‬

‫ال�سالم و ُمريه ُيثبت عتب َة بابه)‪.‬‬


‫زوج ِك فاقرئي عليه َّ‬
‫إبراهيم‪( :a‬ف�إذا جا َء ُ‬
‫ُ‬ ‫على اهلل‪ ،‬فقال �‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫أنعم و�أف�ضل‪ .‬فل ُيثبت عتبتَه‪ ،‬ولري َع‬ ‫نت عليه و�أح�سن‪ ،‬و� َ‬ ‫ نعم َمن وجد امر�أة كذلك فليعلم �أن َ‬
‫اهلل قد ام ّ‬
‫زوجه)‪ ،‬فال غرو بع ُد �أن ي�أمر‬ ‫نعمتَه‪ ،‬لذا قال بع�ض العلماء‪( :‬ينبغي للرجل �أن يبتهل �إىل اهلل يف �إ�صالح ِ‬
‫َ‬
‫وجل عبا َده ال�صاحلني �أن يدعو اهلل ب�صالح زوجاتهم‪َ } ،‬وا َّل ِذينَ َي ُقو ُلونَ َر َّب َنا َه ْب َل َنا ِمنْ �أ ْز َو ِاج َنا‬ ‫اهلل ع ّز َّ‬ ‫ُ‬
‫َو ُذ ِّر َّيا ِت َنا ُق َّر َة �أَعْينُ ٍ {‪.‬‬

‫زوج ت�شيبني قبل امل�شيب‪ ،‬ومن‬


‫ وقد كان من دعاء داود‪( :a‬اللهم �إين �أعوذ بك من جار ال�سوء‪ ،‬ومن ٍ‬
‫علي ر ّب ًا)[حديث �أبي �سعيد الأ�شج رقم ‪.]69‬‬
‫ولد يكون َّ‬
‫ و�أ ّما هذه املر�أة فلتب�شر بوعد اهلل لها خري ًا‪ ،‬فقد ثبت يف امل�سند من حديث عبد الرحمن بن عوف‪d‬‬
‫�أن النبي‪s‬قال‪� « :‬إذا �ص َّلت املر�أة َ‬
‫خم�سها و�صامت �شهرها وحفظت فرجها و�أطاعت زوجها قيل لها �أدخلي‬
‫اجلنة من �أي �أبواب اجلنة �شئت»‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪460‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صلة الرحم‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫صلة الرحم‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ري للغافلني؛‬ ‫ ف�آي ٌة ِمن كتاب اهلل تعاىل حوت معاين عظيم ًة‪ ،‬وقوار َع متينة‪ ،‬فهي عظ ٌة للم�ؤمنني‪ ،‬وتذك ٌ‬
‫الكالم يف �إحدى �أذنيه ويخرج من‬ ‫ُ‬ ‫و�ص ِّف لفهمها َن ْف َ�سك‪ ،‬واحذر �أن تكون ممن َيدخ ُل‬ ‫فف ِّرغ ل�سماعها �أُ ْذنـَك‪َ ،‬‬
‫يوجه �إليهم خطاب‪ ،‬وال ُيرجى لهم �صال ٌح وال ُح�سنُ م�آب‪.‬‬ ‫الأخرى‪ ،‬ف�إن �أمثال ه�ؤالء ال َّ‬
‫ قال اهلل تعاىل‪َ } :‬ف َه ْل َع َ�س ْيت ُْم ِ�إن َت َو َّل ْيت ُْم �أَن ُت ْف ِ�سدُوا فيِ الأَ ْر ِ�ض َو ُت َق ِّط ُعوا �أَ ْر َح َام ُك ْم{ �أُ ْو َل ِئ َك ا َّل ِذينَ َل َع َن ُه ُم‬
‫وب َ�أ ْق َفا ُل َها{ ففي هذه الآية ت�أكيداتٌ‬ ‫هَّ ُ‬
‫الل َف�أَ َ�ص َّم ُه ْم َو�أَ ْع َمى �أَ ْب َ�صا َرهُ ْم{�أَ َفال َيت ََد َّب ُرونَ ا ْل ُقرْ�آنَ �أَ ْم َع َلى ُق ُل ٍ‬
‫اهلل جعل قط َع الرحم َ‬
‫عديل‬ ‫ثالث قوار َع َملن قطع رح َمه؛ فمن ذلك �أن َ‬ ‫عجيب ٌة على �صلة الأرح��ام‪ ،‬وفيها ُ‬
‫الإف�ساد يف الأر�ض‪.‬‬
‫أبعدهم عن مواطن اخلري والرحمة‪،‬‬ ‫جعل عقوب َة �أولئك املف�سدين القاطعني للأرحام �أن لع َنهم و� َ‬ ‫ ثم َ‬
‫رجى لهم فال ٌح بوجه‪ِ .‬ومنْ َّثم ف َّرع على تلك ال ّلعنة قو َله‪َ } :‬ف�أَ َ�ص َّم ُه ْم َو�أَ ْع َمى‬ ‫ري َق ُّط‪ ،‬وال ُي َ‬ ‫فال ُيق َب ُل منهم خ ٌ‬
‫عقاب‬
‫حوا�سهم الظاهرة والباطنة‪ ،‬وال َ‬ ‫بفقد �أُ َّم َهات ِّ‬ ‫أ�سباب الهداية ِ‬ ‫�أَ ْب َ�صا َرهُ ْم{ كناي ًة عن كونهم ُ�سلبوا � َ‬
‫�أ�ش َّد ِمن ذلك‪.‬‬
‫مما د َّلت عليه هذه الآيات‪،‬‬ ‫هم وتد ّي ٍن‪ ،‬ف�إنه يرجع عن قطيعة رحمه ب�أدنى َّ‬ ‫عنده �أدنى َيقظ ٍة و َف ٍ‬ ‫ ف َمن كان َ‬
‫ذل القاط ُع ك َّل و�س ِعه يف �صلة الأرح��ام مبا‬ ‫النقائ�ض ال�سريرة‪ ،‬ل َب َ‬ ‫ِ‬ ‫وط ِّهرت ِمن‬ ‫ني الب�صرية‪ُ ،‬‬ ‫ولو ُفتحت ع ُ‬
‫�أمكنه‪.‬‬
‫بنف�سه عن هذا ال�سفا�سف‪ ،‬وي�سعى يف �صلة �أرحامه بكل نوع من �أنواع الرب‬ ‫عقل ف�إنه َير َبي َ‬ ‫َومن له �أدنى ٍ‬ ‫ ‬
‫خطبة جديدة‬

‫أ�صدق ال�صَّ َداقة طالق ُة ال ِب�شر‬ ‫واالئتالف‪ ،‬فالقطيع ُة �شيمة ال�شَّ ِر�س ال َغ ِمر‪ ،‬و�صل ُة ال َّرحم تزيد يف ال ُع ُمر‪ ،‬و� ُ‬
‫الرا�شح‪ ،‬و�أف�ضل ال�صَّ َد َق ِة على ذي الرحم الكا�شح‪.‬‬

‫جتب �صلتُه ومو َّدته‪ ،‬وحترم قطيعتُه ومهاجر ُته‪ ،‬و ُك ُّل َما‬
‫ عباد اهلل! القرابة والرحم على نوعني‪ :‬نوع ُ‬
‫تثبت بني‬ ‫ورد ِمن الرتهيب والرتغيب فهو داخ ٌل فيه دخو ًال �أولوي ًا؛ وهي الرحم التي لها حمرمية؛ وهي ُ‬
‫ُكل �شخ�صني لو كان �أحدهما ذكر ًا والآخر �أنثى مل يتناكحا لأجل قرابة ال ّرحم‪ .‬ك�آباء ال�شخ�ص‪ ،‬و�أمهاته‪،‬‬
‫و�إخوته و�أخواته و�أبنا ِئهم‪ ،‬و�أجدا ِده وجداد ِته‪ ،‬و�أعمامه وعماته‪ ،‬و�أخواله وخاالته‪.‬‬
‫ وما دونَ ذلك يف القرابة (وهو النوع الثاين) فهو دو َنها يف الوجوب واللزوم‪ ،‬لكن كلما قربت الدرجة‬
‫كلما عظم احلق وهكذا‪.‬‬

‫والتغافل عن زالتهم‪ ،‬وموا�صل ِتهم باملال‪،‬‬


‫ِ‬ ‫عباد اهلل! �صل ُة الرحم تكون بالنفقة عليهم‪ِ ،‬‬
‫وتفقد �أحوالهم‪،‬‬ ‫ ‬
‫‪461‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صلة الرحم‬

‫وال�صفح‬
‫ِ‬ ‫وبال�س�ؤال عن احلال‪،‬‬
‫بال�سالم‪ُّ ،‬‬ ‫وتفقدهم بالزيارة‪ ،‬وابتدا ِئهم َّ‬ ‫إح�سان �إليهم بالقول احل�سن‪ِ ،‬‬ ‫وال ِ‬
‫واجلوارح �إن احتاجوا لذلك‪ ،‬وباملي�س َرة واملح َّب ِة واملود ِة‪ ،‬وطالق ِة‬ ‫ِ‬ ‫باجل�سد‬
‫ِ‬ ‫عنهم و�إن َظ َل ُموا‪ ،‬وبا َمل ُعون ِة لهم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وكف الأذى‪ ،‬وبذل الندى‪ ،‬والإح�سان‬ ‫أليق الألفاظ و�آدبها‪ِّ ،‬‬‫وح�سن املنطق معهم واختيار � ِ‬ ‫ِ‬ ‫ا�شتُه‪،‬‬ ‫وب�ش َ‬
‫الوجه َ‬
‫�إليهم باملال وال�ضيافة والإطعام و�إن كانوا مغتنني‪ ،‬وتبع �أخبا ِرهم لأجل معاون ِتهم ال لأجل تتبع عرثتهم‪.‬‬
‫أعظم و�آجر‪.‬‬ ‫عي يف ُكل �إح�سان وبر �إليهم‪ ،‬فهذه الأعمال ُق ُرباتٌ وهي لل َق َربات � ُ‬ ‫وال�س ِ‬
‫َّ‬
‫البذل على الأقارب ولو كانوا غ َري حمتاجني روى ال�شَّ يخان عن �أن�س بن مالك‬ ‫والبذل ُ‬
‫ِ‬ ‫ ف�أعظم النفقة‬
‫أحب �أمواله �إليه َب رْ ُي َحاء وكانت ُم�ستقب َل َة‬ ‫‪d‬قال‪ :‬كان �أبو طلحة �أك َرث الأن�صار باملدينة ما ًال من نخل وكان � ُّ‬
‫وي�شرب من ماءٍ فيها ط ِّيب‪ ،‬قال �أن�س‪ :‬فلما �أنزلت هذه الآية } َلنْ َت َنا ُلو ْا‬ ‫ُ‬ ‫ا َمل�سجد‪ ،‬وكان ر�سول اهلل ‪َ s‬يدخ ُلها‬
‫أحب �أموايل �إيل‬ ‫الْبرَِّ َحتَّى ُتن ِف ُقو ْا ممَِّ ا تحُ ِ ُّبونَ {‪ ،‬قام �أبو طلحة �إىل ر�سول اهلل‪s‬فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل �إن � َّ‬
‫وذخ َرها عند اهلل‪ ،‬ف�ض ْعها يا ر�سول اهلل حيث �أراك اهلل‪ ،‬فقال ر�سول‬ ‫هلل �أرجو ب َّرها ُ‬
‫َب رْ ُي َحاء‪ ،‬و�إنها َ�ص َدق ٌة ِ‬
‫قلت و�إين �أرى �أن جتعلها يف الأقربني) فقال �أبو‬ ‫�سمعت ما ْ‬
‫ُ‬ ‫اهلل‪( :s‬بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح‪ ،‬وقد‬
‫أفعل يا ر�سول اهلل ! فق�سمها �أبو طلحة يف �أقاربه وبني عمه‪.‬‬ ‫طلحة‪ُ � :‬‬
‫بع�ضهم‬ ‫أرحامهم على وجه الكمال والتمام‪ ،‬ولكن النا�س �أ�صبح ي�شتكي ُ‬ ‫أفعال وا�صلي � ِ‬ ‫ عباد اهلل! تلك � ُ‬
‫بع�ض ًا‪ ،‬ويذمون �أوقا ِتهم و�أزام َنهم‪ ،‬وما �أحدثتُه ا َمل َد ِن َّية بهم ِمن ق َّلة التوا�صل بني الأقارب‪ ،‬وا�ستدامة املباعدة‬
‫وموا�سم ال يرى فيها منهم �أحد ًاـ ناهيك عن �أن َي َّربه �أو يح�سنَ �إليه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بينهم‪ ،‬حتى مت َّر عليه �أيا ٌم‬
‫برتكه‪َ ،‬ومن َن َق َ�ص عنه َ�ص َد َق عليه �أنه غ ُري ٍ‬
‫وا�صل‬ ‫ لذا كان هناك َح ٌّد �أدنى‪ ،‬وعم ٌل قلي ٌل ال ُيعذ ُر �أح ٌد ِ‬
‫رحمه وغ ُري حم�سن �إليهم‪.‬‬ ‫ِل ِ‬

‫ •ف�أحدها‪� :‬صلتهم بال�سالم ابتدا ًء ور َّد ًا‪ ،‬وقد جاء يف احلديث (رواه البزار وابن عدي)‪�( :‬صلوا �أرحامكم‬
‫وال�صلة من ال�سالم والتح ّية‪ .‬وملّا ُ�سئل الإمام �أحمد عن‬ ‫ولو بال�سالم)‪ .‬و(لو) للتقليل‪ ،‬فال � َّ‬
‫أقل يف ال ِّرب ّ‬
‫الرجل يكون له القرابة من الن�ساء فال َيقومون بني يديه فماذا يجب عليه من ب ِّرهم ؟‪ ،‬قال‪( :‬اللُّطف‬
‫وال�سالم)‪.‬‬
‫الم على القريب ِمن ال�صلة الواجبة‪ ،‬وقد تطورت و�سائل االت�صال وتي�سرت بحمد‬ ‫ال�س ِ‬
‫فابتدا ُء َّ‬ ‫ ‬
‫يحرم مطلق ًا‬
‫اهلل‪ ،‬فاالت�صال بالهاتف �أو �إر�سال الر�سالة �إن كان املرء بعيد ًا هي من ال�صلة والإح�سان‪ .‬ولذا ُ‬
‫موجب له‪.‬‬‫الهجر بني القرابات �إال ب�سبب �شرعي ِ‬

‫ •والأمر الثاين من الرب للقرابات‪ :‬الدعاء واال�ستغفار لهم؛ قال �شيخ الإ�سالم ابن تيمية (‪:)698/11‬‬
‫(�إذا وجد العب ُد تق�صري ًا يف حقوق القرابة والأهل والأوالد واجلريان والإخ��وان فعليه بالدعاء لهم‪،‬‬
‫أنت من‬ ‫واال�ستغفار قال حذيفة بن اليمان للنبي‪� :s‬إن يل ل�سان ًا ذرب ًا على �أهلي‪ .‬فقال له‪ ( :s‬ف�أين � َ‬
‫اال�ستغفار؟ �إين لأ�ستغفر اهلل يف اليوم �أكرث من �سبعني مرة)‪.‬‬
‫فالدعا ُء للقرابات واال�ستغفا ُر لهم ب�أ�سمائهم هو ِمن ال ِّرب والإح�سان‪ ،‬وللدعاء �أث ٌر كبري يف‬ ‫ ‬
‫إذهاب ال�ضغينة منها‪ .‬فكم ِمن امرءٍ َح َم َل على �أخيه و�أكنَّ له حقد ًا ف�أكرث له من‬ ‫�إزالة �سخيمة النفو�س‪ ،‬و� ِ‬
‫نف�سه و �أبدلها اهلل حمبة و�ألفة؛ لذا �أمر اهلل بالدعاء للم�ؤمنني فقال �سبحانه‪َ } :‬وا َّل ِذينَ‬ ‫الدعاء فزال ما يف ِ‬
‫َجا�ؤُو ِمن َب ْع ِد ِه ْم َي ُقو ُلونَ َر َّب َنا ْاغ ِف ْر َل َنا َولإِ ْخ َوا ِن َنا ا َّل ِذينَ َ�س َب ُقو َنا ِبالإِ َمي ِان َوال تجَْ َع ْل فيِ ُق ُلو ِب َنا ِغ ًّال ِّل َّل ِذينَ � َآم ُنوا‬
‫وف َّر ِحي ٌم{‪.‬‬ ‫َر َّب َنا �إِ َّن َك َر�ؤُ ٌ‬

‫‪462‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬صلة الرحم‬

‫كف الأذى‪ ،‬فيحفظ املرء ل�سانه عن الوقيعة يف قرابته‪� ،‬أو تتبع زالتهم‪ ،‬والبحث عن‬ ‫ والأمر الثالث‪ُّ :‬‬
‫نقائ�صهم‪� ،‬أو ال ُب ْهت عليهم والكذب عياذ ًا باهلل‪ .‬ويحفظ جوارحه عن �أذيتهم فال يبط�ش‪ ،‬وال يعتدي عليهم‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫قلت‪ :‬يا ر�سول اهلل �أي الأعمال‬ ‫وال ي�ؤذيهم‪ .‬وهذا �أقل الرب والإح�سان روى ال�شيخان عن �أبي ذر‪d‬قال‪ُ :‬‬
‫قلت‪ :‬ف�أي الرقاب �أف�ضل؟ قال‪�( :‬أنف�سها عند �أهلها‬ ‫�أف�ضل؟ قال‪( :‬الإميان باهلل واجلهاد يف �سبيل اهلل) ُ‬
‫�ضعفت‬
‫ُ‬ ‫أيت �إن‬ ‫قلت‪ :‬ف�إن مل �أفعل؟ قال‪( :‬تعني �صانع ًا وت�صنع لأخرق) ُ‬
‫قلت‪ :‬يا ر�سول اهلل �أر� َ‬ ‫و�أكرثها ثمن ًا)‪ُ ،‬‬
‫كف‬ ‫(تكف �ش َّر َك عن النا�س ف�إنها �صدقة)‪ .‬ف�أق ّل ال ِ‬
‫إح�سان و�أدنى مراتب الأعمال ّ‬ ‫عن بع�ض العمل؟ قال‪ُّ :‬‬
‫الأذى ومنع ال�شر‪.‬‬
‫ ويف بع�ض روايات حديث �أبي هريرة �أن النبي‪ s‬قال‪( :‬الإميان ب�ضع وت�سعون �أو �سبعون �شعبة‪� ،‬أعظم‬
‫ذلك قول ال �إله �إال اهلل‪ ،‬و�أدنى ذلك كف الأذى عن الطريق) (رواه ابن منده يف الإميان ‪.)296/1‬‬
‫ والأمر الرابع‪ :‬النفق ُة عليهم �إن احتاجوا‪ ،‬ف�إن النفقة على القرابات وجب ٌة �إذا مل يوجد َمن ي�س ُّد احلاجة‬
‫ف�صل �أهل العلم يف وجوب نفقة الأقارب‪.‬‬ ‫واخللة‪ .‬وقد ّ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬
‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬
‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬
‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪463‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬ظل العرش‬
‫ظل العرش‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫حدث‬‫وجل‪� ،‬إذا م َّرت به حادث ٌة تذكر بها ق�ضاء اهلل‪ ،‬و�إذا طرقه ٌ‬ ‫ ف�إن امل�ؤمن متذك ٌر معترب‪ ،‬خائف ِ‬
‫ا�ستذكر �أمر اهلل‪ ،‬ولقد كان ِمن �آخر ما ُانزل يف كتاب اهلل تعاىل‪َ } :‬وا َّت ُقو ْا َي ْو ًما ُت ْر َج ُعونَ ِفي ِه ِ�إ ىَل هَّ ِ‬
‫الل ُث َّم‬
‫ُت َو َّفى ُك ُّل َن ْف ٍ�س َّما َك َ�س َب ْت َوهُ ْم َال ُي ْظ َل ُمونَ {‪.‬‬

‫ وها هو النبي الكرمي‪s‬ملَّا خ�سفت ال�شم�س قام يج ُّر رداءه َع ْجالن خائف ًا لي�صلي‪ ،‬ثم قال‪�( :‬إن ال�شم�س‬
‫العوار�ض الكوني ِة القدرية َما عند‬
‫ِ‬ ‫والقمر �آيتان من �آيات اهلل يخوف اهلل بهما عباده)‪ .‬فامل�ؤمن يتذكر بهذه‬
‫أمر وق�ضاء يف الدنيا والآخرة‪.‬‬
‫اهلل من � ٍ‬

‫ِومن عظة النبي‪s‬لأ�صحابه حال احل ِّر و�شدته �أن يذكرهم بالنار وهول املطلع يوم القيامة فروى‬ ‫ ‬
‫ال�شيخان عن ابن عمر‪� d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إنَّ �شدة احلر ِمن فيح جهنم)‪ .‬ويف ال�صحيحني عن �أبي‬
‫رب � َ‬
‫أكل بع�ضي بع�ضا‪ ،‬ف� ِأذنَ لها بن َف َ�سني‬ ‫هريرة‪� d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬ا�شتكت النار �إىل ربها‪ ،‬فقالت‪ :‬يا ِّ‬
‫َن َف ٍ�س يف ال�شتاء ٍ‬
‫ونف�س يف ال�صيف‪ ،‬فهو �أ�ش ُّد ما جتدون من احل ِّر‪ ،‬و�أ�ش ُّد ما جتدون من الزمهرير)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫�شديد الكرب‪.‬‬
‫َ‬ ‫ عباد اهلل! �أما وقد دنا احل ُّر فال ق ّر‪ ،‬وجاء القيظ و�أجلب ف�إن امل�ؤمن يتذكر به يوم ًا‬
‫تقلعت من �أ�صولها‪ ،‬و�صارت مثل ال�سراب‪ ،‬ف�أيقن ك ُّل ظا ٍمل باحللول‬ ‫ْ‬ ‫فيتم َّثل لنف�سه وقد نظر للجبال قد‬
‫يف �أليم العذاب‪ ،‬وقد �صارت العزة لذي البط�ش ال�شديد‪ ،‬ولزمت الذلة ُك َّل جبار عنيد‪ ،‬ثم رجعت ال�سماء‬
‫كاملُهل (�أي الدهن الرقيق)‪ ،‬وترجع اجلبال كالعهن املنفو�ش (وهو �أ�ضعف ما يكون من ال�صوف)‪ ،‬وت�صري‬
‫اخلالئق كالفرا�ش املبثوث (وهي احل�شرات عند النار ال ت�أخذ بجهة واحدة) كذلك اخللق ميوج بع�ضهم يف‬
‫ُ‬
‫احلوامل �أحمالها‪ ،‬وزلزلت‬ ‫بع�ض لكل امرءٍ منهم يومئذ �ش�أن يغنيه‪ .‬قد اجتمعت القيامة ب�أهوالها‪ ،‬و َو َ�ضعت‬
‫ال ُ‬
‫أر�ض زلزالها و�أخرجت الأر�ض �أثقالها‪.‬‬

‫أهل الأر���ض يف عر�صات القيامة‪ ،‬وازدحمت اخلالئق واختلفت‬ ‫ ف�إذا تكامل �أهل ال�سموات‪ ،‬وجميع � ِ‬
‫الأق���دام‪ ،‬و�شخ�صت الأح���داق‪ ،‬وتطاولت الأع��ن��اق‪ ،‬وانثنت من �ش َّدة العط�ش‪ ،‬واجتمع زح��ام اخلالئق‬

‫‪464‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ظل العرش‬

‫أنفا�سهم‪ ،‬و�شد ِة حر ال�شم�س والب�أ�س‪ .‬فارتفع ال َع َر ُق على وجه الأر�ض حتى يعلو على الأبدان‪ ،‬ويعم العبا َد‬
‫و� ُ‬
‫على قدر منازلهم ورتبهم التي �أنزلتهم عليها �أعمالهم التي عملوها يف دار الدنيا‪ ،‬وقد زِيد يف حر ال�شم�س‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫خل ْلق حتى تكون منهم كمقدار‬ ‫يوم القيامة ِمن ا َ‬


‫ال�شم�س َ‬
‫ُ‬ ‫ما يت�ضاعف‪ .‬روى م�سل ٌم �أن النبي‪s‬قال‪( :‬تدنو‬
‫ميل‪..‬‬
‫ٍ‬

‫النا�س على قدر �أعمالهم يف ال َع َرق؛ فمنهم َمن يكون �إىل َكعبيه‪ ،‬ومنهم من يكون �إىل ُركبتيه‪،‬‬ ‫ فيكون ُ‬
‫ومنهم من يكون �إىل ِحقويه‪ ،‬ومنهم من ُيلج ُم ُه ال َع َر ُق �إجلاما) قال و�أ�شار ر�سول اهلل‪s‬بيده �إىل فيه)‪.‬‬

‫يومئذ �إال ظ ُّل العر�ش‪ ،‬فال ُي�صيب منه عب ٌد وال �أَ َم�� ٌة �إال على قدر عم ِله‪ ،‬ف َكم بني م�ستظل‬
‫ وال ِظ َّل ٍ‬
‫بح ِّر ال�شَّ م�س!‪ ،‬قال �أبو مو�سى الأ�شعري‪( :‬ال�شم�س فوق ر�ؤو�س النا�س يوم‬ ‫باد َ‬
‫�ضاح ٍ‬
‫ناعم بظل العر�ش‪ ،‬وبني ٍ‬
‫القيامة‪ ،‬و�أعمالهم ُتظ ّلهم �أو ت�ضحيهم)‪.‬‬
‫�صح يف احلديث �أعمال جتعل املرء �أمن ًا يف ذلك اليوم‪ ،‬م�ستظ ًال بظل عر�ش الرحمن ج َّل‬ ‫ عباد اهلل! َّ‬
‫يوم ال ظل �إال ظلُّه؛‬ ‫(�سبع ٌة ُيظ ّلهم ُ‬
‫اهلل يف ظ ِّله َ‬ ‫وعال‪ .‬فروى ال�شيخان عن �أبي هريرة ‪� d‬أن النبي‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫الإمام العادل‪ ،‬و�شاب ن�ش�أ يف عبادة ربه‪ ،‬ورجل قل ُب ُه مع َّلق يف امل�ساجد‪ ،‬ورجالن حتابا يف اهلل اجتمعا عليه‬
‫وتفرقا عليه‪ ،‬ورجل طلبته امر�أ ٌة ذاتُ من�صب وجمال فقال‪� :‬إين �أخاف اهلل‪ ،‬ورجل ت�ص َّد َق �أخفاها حتى ال‬
‫تعلم �شما ُل ُه َما تنفق ميي ُنه‪ ،‬ورجل ذكر اهلل خاليا ففا�ضت عيناه)‪.‬‬

‫إمام العادل‪ .‬ف ُك ُّل َمن ويل �شيئ ًا من �أمور امل�سلمني‬


‫۩ ۩ف�أول هذه اخل�صال املوجبة للظل يف ذلك اليوم‪ :‬ال ُ‬
‫عظم الأمر �أو َ�ص ُغر فعدل فيه وتتبع �أمر اهلل بو�ضع ُك ِّل �شيء يف مو�ضعه من غري �إفراط وال تفريط؛ روى‬
‫م�سلم‪�( :‬إن املق�سطني عند اهلل على َمناب َر ِمن نور عن ميني الرحمن ع َّز وجل‪ ،‬وكلتا يديه ميني الذين‬
‫يعدلون يف حكمهم و�أهليهم وما َو ُلوا)‪.‬‬

‫أحب النا�س �إىل اهلل يوم القيامة و�أد َناهم منه‬


‫ وروى الرتمذي وح�سنه عن �أبي �سعيد �أن النبي‪�( :s‬إن � َّ‬
‫أبعدهم منه جمل�سا �إما ٌم جائر)‪.‬‬ ‫جمل�سا؛ �إما ٌم عادل‪ ،‬و� َ‬
‫أبغ�ض النا�س �إىل اهلل و� َ‬

‫�شاب ن�ش�أ يف عبادة ر ِّبه‪ ،‬جاء يف بع�ض الروايات ( َو َر ُج ٌل تـَ َع َّل َم ال ُقر�آنَ يف ِ‬
‫�صغره فهو‬ ‫۩ ۩واخل�صلة الثانية‪ٌ :‬‬
‫َيت ُلوه يف ِكربه)‪.‬‬

‫ روى الإم��ام �أحمد (‪ )151/4‬والطرباين (املعجم الكبري ‪ )309/17‬و�أب��و يعلى (‪ ،)1749‬وح�سنه‬


‫الهيثمي ‪ 270/10‬عن عقبة بن عامر �أن ر�سول اهلل‪ s‬قال‪�( :‬إن َ‬
‫اهلل ع َّز وج َّل َل َ‬
‫يعج ُب ِمن ال�شَّ اب لي�ست له‬
‫�صبوة)‪.‬‬

‫�إن ال�شباب مرحل ُة الهيجان وتقلب الآراء وغلبة ال�شهوة‪ .‬ف�إذا كان املرء يف هذه ال�سنّ ممن غالب َ‬
‫نف�سه وملك‬
‫عليها زمامها فله عند اهلل �ش�أن ًا عظيم ًا‪.‬‬

‫‪465‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬ظل العرش‬

‫ق�ضى ما ق�ضى فيما م�ضى ثم ال ُي َرى‬ ‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫له �صبوة فيما بقي �آخر الدهر‬ ‫ ‬

‫۩ ۩واخل�صلة الثالثة‪ :‬رج ٌل معل ٌق قل ُبه بامل�ساجد‪� .‬أي �شدي ُد ِّ‬


‫احلب للم�ساجد‪ ،‬واملالزم ِة للجماعة فيها‪ ،‬ولي�س‬
‫معناه دوام القعود فيها‪� .‬إن �أعظم التعلق بامل�ساجد مراعاة ال�صالة فيها‪ ،‬وعدم الت�أخر عن جماعتها‬
‫لذا جاء يف بع�ض روايات احلديث (عند عبد اهلل بن �أحمد يف زوائد الزهد �ص ‪( :)150‬ورج ٌل مع َّلق‬
‫قلبه بامل�ساجد من حبها‪ ،‬ورجل يراعي ال�شم�س ملواقيت ال�صالة)‪.‬‬

‫۩ ۩واخل�صلة الرابعة‪ :‬رجالن حتابا يف اهلل اجتمعا عليه وتف َّرقا عليه‪ .‬روى الإمام �أحمد ب�إ�سناد �صحيح‬
‫جبت حمبتي للمتحابني َّيف‪،‬‬
‫�سمعت ر�سول اهلل ‪s‬يقول قال اهلل عز وجل‪َ ( :‬و ْ‬ ‫ُ‬ ‫عن معاذ بن جبل‪ d‬قال‪:‬‬
‫واملتجال�سني َّيف‪ ،‬واملتزاورين َّيف‪ ،‬واملُت َب ِاذل َني فيَِّ )‪.‬‬
‫ وروى احلاكم و�صححه عن ابن عمر‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إن هلل عباد ًا لي�سوا ب�أنبياء وال �شهداء‪،‬‬
‫وجمل�سهم منه)‪ .‬فجثا �أعرابي على ُركبتيه‬‫ِ‬ ‫يوم القيامة ل ُقربهم من اهلل تعاىل‪،‬‬ ‫يغبطهم ال�شهدا ُء والنبيون َ‬ ‫ُ‬
‫وح ِّلهم لنا‪ ،‬قال‪( :‬قو ٌم من �أقناء النا�س من ُنزَّاع القبائل‪ ،‬ت�صادقوا يف اهلل‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل ِ�ص ْف ُهم لنا َ‬
‫النا�س وال يخافون‪ ،‬هم �أولياء اهلل‬
‫يوم القيامة مناب َر ِمن نورٍ‪ ،‬يخاف ُ‬ ‫اهلل عز وجل لهم َ‬ ‫وحتابوا فيه‪َ ،‬ي َ�ض ُع ُ‬
‫عز وجل الذين ال َخوف عليهم وال هم يحزنون)‪.‬‬

‫۩ ۩واخل�صلة اخلام�سة‪ :‬رجل طلبته امر�أ ٌة ذاتُ من�صب وجمال فقال‪� :‬إين �أخاف اهلل‪� .‬إنه َمن حفظ اهلل‬
‫بجرم‪ ،‬ف�إذا خلت للمرء الدار‪ ،‬وغابت عنه ع ُني الرقيب فتذكر اطالع‬ ‫بالغيب‪ ،‬ومل َيط ِّلع عليه يف َ�سريرته ُ‬
‫الذ ْك َر َو َخ ِ�ش َي ال َّر ْح َمن ِبا ْل َغ ْي ِب َف َب ِّ�ش ْر ُه بمِ َ ْغ ِف َر ٍة َو�أَ ْج ٍر‬
‫اهلل عليه فخافه ومل يع�صه‪�ِ } ،‬إنمَّ َ ا ُت ِنذ ُر َم ِن ا َّت َب َع ِّ‬
‫يظ{ َمنْ َخ ِ�ش َي ال َّر ْح َمن‬ ‫وعدُونَ ِل ُك ِّل �أَ َّو ٍاب َح ِف ٍ‬ ‫َك ِر ٍمي{‪َ } ،‬و�أُ ْز ِل َف ِت الجْ َ َّن ُة ِل ْل ُم َّت ِق َني َغ رْ َي َب ِع ٍيد{ َه َذا َما ُت َ‬
‫الم َذ ِل َك َي ْو ُم الخْ ُ ُلو ِد{ َل ُهم َّما َي َ�شا�ؤُونَ ِفي َها َو َل َد ْي َنا َم ِزي ٌد{‪.‬‬ ‫وها ِب َ�س ٍ‬ ‫يب{ا ْد ُخ ُل َ‬ ‫ِبا ْل َغ ْي ِب َو َجاء ِب َق ْل ٍب ُّم ِن ٍ‬

‫۩ ۩واخل�صلة ال�ساد�سة‪ :‬رجل ت�ص َّد َق �أخفاها حتى ال تعلم �شما ُل ُه َما تنفق ميي ُنه‪ .‬روى الإم��ام �أحمد‬
‫(‪ )147/4‬ب�إ�سناد �صحيح عن عقبة بن عامر ‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬الرجل يف ظل �صدقته حتى ُيق�ضى‬
‫بني النا�س)‪.‬‬

‫أقرب لل�صدق‬
‫حينئذ يكون �أبعد من الرياء و� َ‬
‫۩ ۩واخل�صلة ال�سابعة‪ :‬رجل ذكر اهلل خاليا ففا�ضت عيناه‪ .‬لأنه ٍ‬
‫مع اهلل تعاىل خوف ًا ورجا ًء‪ ،‬مهابة و�إجال ًال‪.‬‬

‫‪466‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬عذاب القرب‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫عذاب القرب‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫رجل‬
‫ روى الإمام �أحمد و�أبو داود وابن ماجه عن الرباء بن عازب‪d‬قال خرجنا مع النبي‪s‬يف جنازة ٍ‬
‫فج َل�س ر�سول اهلل‪s‬وجل�سنا حو َله وك�أنَّ َعلى ر�ؤو�سنا الطري‪،‬‬ ‫من الأن�صار‪ ،‬فانتهينا �إىل القرب وملَّا ُيلحد‪َ ،‬‬
‫ويف يده عو ٌد َين ُك ُت يف الأر�ض‪ ،‬فرفع ر� َأ�سه فقال‪( :‬ا�ستعيذوا باهلل من عذاب القرب) مرتني �أو ثالث ًا‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫إقبال ِمن الآخرة َنزَ َل �إليه مالئك ٌة من ال�سماء ُ‬
‫بي�ض الوجوه‬ ‫انقطاع من الدنيا و� ٍ‬
‫ٍ‬ ‫(�إن العبد امل�ؤمن �إذا كان يف‬
‫وط اجل َّنة َحتَى يجل�سوا منه َم َّد الب�صر‪،‬‬ ‫وجوههم ال�شم�س‪ ،‬معهم كفنٌ ِمن �أكفان اجلنة َو َح ُن ٌ‬
‫وط ِمن َح ُن ِ‬ ‫َ‬ ‫ك�أنَّ‬
‫ثم يجيء َم َل ُك املوت‪a‬حتى يجل�س عند ر�أ�سه‪ ،‬فيقول‪� :‬أيتها النف�س الطيبة �أخرجي �إىل مغفر ٍة ِمن اهلل‬
‫ور�ضوان‪.‬‬

‫ال�س َقاء ف َي� ُأخ َذها ف�إذا �أَ َخ َذها مل َي َد ُعوها يف يده َط ْر َفة عني‬
‫َ�سيل ال َقط َر ُة ِمن فيِ ِّ ِّ‬
‫َ�سيل َك َما ت ُ‬
‫فتخرج ت ُ‬
‫ُ‬ ‫ قال‪:‬‬
‫فحة ِم�سك ُوجدت على‬ ‫أطيب َن َ‬ ‫حتى ي�أخذوها فيجعلوها يف ذلك الكفن ويف ذلك احلنوط‪ ،‬ويخرج منها ك� ِ‬
‫وج ِه الأر�ض‪ .‬قال‪ :‬في�صعدون بها فال ميرون يعنى بها َع َلى ملأٍ ِمن املالئكة �إال قالوا‪َ :‬ما هذا ال ُّروح الطيب‬
‫أح�سن �أ�سما ِئه التي كانوا ي�سمو َنه بها يف الدنيا‪.‬‬ ‫؟ فيقولون‪ :‬فالنُ بنُ فالن‪ ،‬ب� ِ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ال�سماء ال ُّدنيا ف َي�ستفتحون له ف ُيفت َُح لهم ف ُي�ش َّيعه ِمن ُك ِّل َ�س َماء مق َّر ُب َ‬
‫وها �إىل‬ ‫ حتى ينتهوا بها �إىل َّ‬
‫ال�س َماء ال�سابعة‪ ،‬فيقول اهلل عز وجل‪ :‬اكتبوا كتاب عبدي يف عليني‪،‬‬ ‫ال�س َماء التي تليها حتى ينت َهى به �إىل َّ‬
‫َّ‬
‫و�أعيدوه �إىل الأر�ض‪ ،‬ف�إين منها خلقتهم‪ ،‬وفيها �أعي ُدهم‪ ،‬ومنها �أخرجهم تار ًة �أخرى‪ ،‬قال‪ :‬ف ُت َعا ُد ُ‬
‫روح ُه يف‬
‫�سده‪ ،‬في�أتيه ملكان ف ُيجل�سانه‪ ،‬فيقوالن له‪َ :‬من ربك؟‪ ،‬فيقول‪ :‬ربي اهلل‪ ،‬فيقوالن له‪َ :‬ما دينك؟ فيقول‪:‬‬ ‫َج ِ‬
‫ديني الإ�سالم‪ ،‬فيقوالن له‪َ :‬ما هذا الرجل الذي ُبعث فيكم ؟ فيقول‪ :‬هو ر�سول اهلل‪ ،s‬فيقوالن له‪ :‬وما‬
‫آمنت به‪ ،‬و�ص َّدقت‪.‬‬
‫هلل ف� ُ‬
‫كتاب ا ِ‬
‫عل ُمك؟ فيقول‪ :‬قر�أتُ َ‬

‫أفر ُ�شوه من اجلنة‪ ،‬و�ألب�سوه من اجلنة‪ ،‬وافتحوا له بابا �إىل‬ ‫مناد يف ال�سماء �أن �صدق عبدي‪ ،‬ف� ِ‬ ‫ فينادى ٍ‬
‫ف�س ُح له يف ق ِربه م َّد ب�صره‪ ،‬قال‪ :‬وي�أتيه رجل َح َ�سنُ الوجه‪َ ،‬ح َ�سنُ‬
‫وطيبها‪ ،‬و ُي َ‬
‫اجلنة‪ .‬قال‪ :‬في�أتيه من َر ْو ِحها ِ‬

‫‪467‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬عذاب القرب‬

‫وعد‪ .‬فيقول له‪َ :‬من �أنت؟ فوج ُهك‬ ‫أب�ش ْر بالذي َي ُ�س ُّر َك‪ ،‬هذا يو ُم َك الذي َ‬
‫كنت ُت َ‬ ‫الثياب‪ ،‬ط ِّي ُب ال ِّريح‪ ،‬فيقول‪ِ � :‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫أقم ال�ساعة حتى �أرجع �إىل �أهلي ومايل‪.‬‬ ‫الوج ُه يجي ُء باخلري‪ .‬فيقول‪� :‬أنا عم ُل َك ال�صالح‪ .‬فيقول‪ِّ :‬‬
‫رب � ْ‬

‫إقبال من الآخرة نزل �إليه من ال�سماء مالئك ٌة‬‫ قال‪ :‬و�إن العبد الكافر �إذا كان يف انقطاع من الدنيا و� ٍ‬
‫�سو ُد الوجوه معهم املُ ُ�سوح‪ ،‬فيجل�سون منه م َّد الب�صر‪ ،‬ثم يجي ُء َم َل ُك املوت حتى يجل�س عند ر� ِأ�سه‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫النف�س اخلبيث ُة �أخرجي �إىل َ�س َخ ٍط ِمن اهلل وغ�ضب‪.‬‬
‫�أيتها ُ‬

‫وف ا َملب ُلول‪ ،‬في� ُأخ ُذها‪ ،‬ف�إذا �أخذها مل‬ ‫ال�ص ِ‬ ‫ال�س ُّفو ُد من ُّ‬ ‫َزعها كما ُينتَزَ ُع َّ‬ ‫ قال‪ :‬ف َت َف َّر ُق يف َج َ�س ِده‪ ،‬ف َينت ُ‬
‫يدعوها يف يده طرف َة عني حتى يجعلوها يف تلك املُ ُ�سوح‪ ،‬ويخرج منها ك�أننت ريح جيفة ُوجدت على وجه‬
‫الأر�ض‪ ،‬في�صعدون بها فال ميرون بها على َملأ من املالئكة �إال قالوا‪َ :‬ما هذا الروح اخلبيث ؟ فيقولون‪:‬‬
‫فالنُ بنُ فالن؛ ب�أقبح �أ�سمائه التي كان ُي�س َّمى بها يف الدنيا حتى ُينت َهى به �إىل ال�سماء الدنيا‪ ،‬ف ُي�ستَفتح له‬
‫ال�س َماء َو َال‬
‫اب َّ‬ ‫ا�س َتكْبرَ ُ و ْا َع ْن َها َال ُت َفت َُّح َل ُه ْم �أَ ْب َو ُ‬
‫فال ُيفتح له ثم قر�أ ر�سول اهلل‪�} :s‬إِنَّ ا َّل ِذينَ َك َّذ ُبو ْا ِب�آ َيا ِت َنا َو ْ‬
‫اط{‪ ،‬فيقول اهلل عز وجل اكتبوا كتا َبه يف ِ�سجني يف الأر�ض‬ ‫َي ْد ُخ ُلونَ الجْ َ َّن َة َحتَّى َي ِل َج الجْ َ َم ُل فيِ َ�س ِّم الخْ ِ َي ِ‬
‫الط رْ ُي �أَ ْو َت ْه ِوي ِب ِه‬
‫ال�س َماء َفت َْخ َط ُف ُه َّ‬ ‫الل َف َك�أَنمَّ َ ا َخ َّر ِمنَ َّ‬ ‫روح ُه َطرحا‪ ،‬ثم قر�أ‪َ } :‬و َمن ُي�شْ ِر ْك ِب هَّ ِ‬ ‫ال�سفلى‪ ،‬فتطرح ُ‬
‫ج�سده‪ ،‬وي�أتيه ملكان ف ُيج ِل َ�سانه فيقوالن له‪َ :‬من ربك؟‪ ،‬فيقول‪ :‬هاه‬ ‫روح ُه يف ِ‬ ‫ال ِّر ُيح فيِ َم َك ٍان َ�س ِح ٍيق{‪ ،‬فتعاد ُ‬
‫هاه ال �أدري‪ .‬فيقوالن له‪َ :‬ما دي ُنك؟ فيقول‪ :‬هاه هاه ال �أدري‪ .‬فيقوالن له‪ :‬ما هذا الرجل الذي ُبعث فيكم؟‬
‫دريت وال تليت‪ ،‬ثم ُي�ض َر ُب َمب ْط َرق ٍة من‬ ‫النا�س فيه فيقال‪ :‬ال َ‬ ‫كنت �أقول َما يقول ُ‬ ‫فيقول‪ :‬هاه هاه ال �أدري [ ُ‬
‫حديد �ضرب ًة بني �أذنيه ف َي�صيح �صيح ًة َي�سمعها من يليه �إال الثقلني هذه الرواية رواها ال�شيخان من حديث‬
‫�أن�س ‪.]d‬‬

‫مناد من ال�سماء‪� :‬أن كذب فاف ُر ُ�شوا له من النار‪ ،‬وافتحوا له بابا �إىل النار‪ .‬في�أتيه من ح ِّرها‬
‫ فينادى ٍ‬
‫نت الريح؛‬ ‫أ�ضالعه‪ ،‬وي�أتيه رج ٌل قبيح الوجه‪ُ ،‬‬
‫قبيح الثياب‪ ،‬من ُ‬ ‫و�س ُم ِومها‪ ،‬و ُي�ض َّيقُ عليه ق ُربه حتى تختلف فيه � ُ‬
‫َ‬
‫كنت ُت َ‬
‫وعد‪.‬‬ ‫فيقول‪� :‬أب�شر بالذي ي�سو�ؤك‪ ،‬هذا يو ُمك الذي َ‬

‫ فيقول‪َ :‬من �أنت فوج ُه َك الوج ُه يجيء بال�شر‪ .‬فيقول‪� :‬أنا عم ُل َك اخلبيث‪ .‬فيقول‪ِّ :‬‬
‫رب ال تقم ال�ساعة‪.‬‬
‫ وروى الإمام �أحمد ب�إ�سناد �صحيح عن عائ�شة‪�g‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬ف�أما فتنة القرب فبي ُيفتنون وعني‬
‫كنت تقول يف الإ�سالم‬
‫فزع وال َم�شعوف‪ ،‬ثم يقال له فما َ‬ ‫ال�صالح �أُجل�س يف قربه غ َري ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫ي�س�ألون ف�إذا كان‬
‫فيقال‪ :‬ما هذا الرجل الذي كان فيكم فيقول‪ :‬حممد ُ‬
‫ر�سول اهلل جاء بالبينات من عند اهلل ف�صدق َناه‪،‬‬
‫فيفرج له فرجة قبل النار فينظر �إليها يحطم بع�ضها بع�ضا‪ ،‬فيقال له‪ :‬انظر �إىل ما وقاك اهلل ثم تفرج له‬
‫فرجة �إىل اجلنة فينظر �إىل زهرتها وما فيها فيقال له هذا مقعدك منها‪ ،‬ويقال‪ :‬على اليقني ُكنت‪ ،‬وعليه‬
‫ِم َّت‪ ،‬وعليه تُبعثُ �إن �شاء اهلل‪.‬‬

‫الرجل ال�سو َء ُ�أجل�س يف قربه فزعا م�شعوفا فيقال له‪ :‬فما كنت تقول فيقول �سمعت النا�س‬
‫َ‬ ‫ و�إذا كان‬
‫يقولون قوال فقلت كما قالوا فيفرج له فرجة �إىل اجلنة فينظر �إىل زهرتها وما فيها فيقال له انظر �إىل ما‬
‫‪468‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬عذاب القرب‬

‫�صرف اهلل عنك ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر �إليها يحطم بع�ضها بع�ضا ويقال هذا مقعدك منها‪،‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫على ال�شك كنت‪ ،‬وعليه مت‪ ،‬وعليه تبعث �إن �شاء اهلل‪ ،‬ثم يعذب)‪.‬‬

‫َاب َال َر ْي َب ِفي ِه هُ دً ى‬


‫}ذ ِل َك ا ْل ِكت ُ‬
‫هلل وكتا ِبه الإميانُ بالغيب قال �سبحانه‪َ :‬‬ ‫إميان با ِ‬ ‫هلل ! �إن من ال ِ‬ ‫ عبا َد ا ِ‬
‫ِّل ْل ُم َّت ِق َني{ا َّل ِذينَ ُي�ؤْ ِم ُنونَ ِبا ْل َغ ْي ِب َو ُي ِقي ُمونَ ال�صَّ ال َة وَممَِّ ا َر َز ْق َناهُ ْم ُين ِف ُقونَ {‪.‬‬

‫والربزخ ونعي ُمها‪ ،‬ف�إن له‬


‫ِ‬ ‫الكتاب وال�سن ُة ال�صحيح ُة ونطقا به ُ‬
‫عذاب القرب‬ ‫ُ‬ ‫ِومن الغيب الذي جاء به‬ ‫ ‬
‫�أحوا ًال و�أهو ًال ال ُب َّد من معرفتها‪ ،‬ثم الإميان بها على �سبيل اجلزم والت�صديق‪ ،‬ثم تطويل الفكر فيها لينبعثَ‬
‫يف القلب دواعي اال�ستعدا ِد لها‪ ،‬رو ى الرتمذي وح�س َّنه عن هانىء موىل عثمان بن عفان قال كان عثمان ‪d‬‬
‫�إذا وقف على ق ٍرب يبكي حتى يبل حليتَه فقيل له تذكر اجلنة والنار‪ ،‬فال تبكي وتذكر القرب فتبكي‪ ،‬فقال �إين‬
‫ينج‬
‫منزل من منازل الآخرة ف�إن جنا منه ف َما بعده �أي�سر‪ ،‬و�إن مل ُ‬ ‫�سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪( :‬الق ُرب �أو ُّل ٍ‬
‫ُ‬
‫أيت منظرا ُّ‬
‫قط �إال والق ُرب �أفظ ُع منه)‪.‬‬ ‫(ما ر� ُ‬
‫منه فما بعده �أ�شد)‪ .‬قال و�سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪َ :‬‬
‫ وعن ابن م�سعود‪d‬عن النبي‪ s‬ق��ال‪�( :‬إن املوتى ليعذبون يف قبورهم حتى �إن البهائم لت�سمع‬
‫�أ�صواتهم) رواه الطرباين يف الكبري ب�إ�سناد ح�سن‪ .‬وعن �أن�س‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬لوال �أن ال تدافنوا‬
‫لدعوتُ اهلل �أن ي�سمعكم عذاب القرب) رواه م�سلم‪.‬‬

‫ لقد كان النبي‪s‬ي�ستعيذ باهلل من عذاب القرب يف ُك ِّل حني ففي ال�صحيح عن عائ�شة‪ g‬قالت‪( :‬ما‬
‫�صلى ر�سول اهلل‪�s‬صالة �إال �سمعته يتعوذ من عذاب القرب)‪ ...‬اللهم �أعذنا من عذاب القرب‪ ،‬اللهم �أعذنا‬
‫من عذاب القرب‪ ،‬اللهم �أعذنا من عذاب القرب‪.‬‬

‫ اللهم وفقنا لطاعتك‪ ،‬وجنبنا مع�صيتك‪ ،‬وع َّمنا يف الدنيا برحمتك‪ ،‬وثبت قلوبنا على دينك‪ ،‬واحفظنا‬
‫يف جميع �أحوالنا‪ ،‬ووفقنا يف �أقوالنا و�أفعالنا‪ ،‬واغفر ما �سلف من ذنوبنا‪ ،‬وا�سرت ما بدا من عيوبنا‪ ،‬واع�صمنا‬
‫فيما بقي من �أعمارنا‪ ،‬قبل �أن ي�شتمل الهدم على البناء‪ ،‬والكدر على ال�صفاء‪ ،‬وينقطع من احلياة حبل‬
‫الرجاء‪ ،‬وت�صري املنازل حتت �أطباق الرثى‪ ،‬وقبل �أن ي�صبح ال�صبح ليال‪ ،‬وي�سحب املوتُ علينا ذيال‪.‬‬

‫ذنوب ال يطلقون‪� ،‬أ�سرا ُء وح�ش ٍة ال يفكون‪ ،‬حمت دار�ساتُ‬


‫ اللهم ارحم �أهل القبور من �أهلنا ف�إنهم رهائنُ ٍ‬
‫الرثى حما�سنَ وجوههم‪ ،‬وجاورتهم الهوام يف مالحد قبورهم‪ ،‬فهو خمود ال يتكلمون‪ ،‬و�سكان حلد �إىل‬
‫احل�شر ال يظعنون‪ ،‬اللهم اجعل قبو َرهم مفا�ض ِ�صالتك‪ ،‬ومقار هباتك‪ ،‬وطرق �إح�سانك‪ ،‬وجماري عفوك‬
‫وغفرانك‪.‬‬

‫‪469‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫عقوق الوالدين‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬عقوق الوالدين‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫أف�ضح‪ :‬من جرمية عقوق الوالدين؛ �إذ الوالدان هما‬ ‫أقبح وال � ُ‬ ‫عباد اهلل! َما ِمن َجرمي ٍة �أ�شن ُع وال � َ‬
‫أف�ض ُع‪ ،‬وال � ُ‬
‫�سبب الإيجاد‪ ،‬وطريق الإيالد‪ ،‬بهما ر�أى املر ُء النور‪ ،‬وعلى يديهما ن�ش�أ طف ًال �صغري ًا‪ ،‬كان بطن �أُ ِّمه له وعا ًء‪،‬‬
‫وحج ُرها له ِح َوا ًء‪.‬‬
‫وثد ُيها له �سقا ًء‪ِ ،‬‬

‫عقوق الوالدين هي قا�صم ُة الظهر‪ ،‬وقاطع ُة الن�سل‪ ،‬وممحق ُة الربكة‪ ،‬ال ُتبقي وال تذر‪ ،‬قال‬ ‫ عباد اهلل! �إن َ‬
‫الف�ضيل بن عيا�ض‪« :‬فوق ِّ‬
‫كل فجو ٍر فجو ٌر حتى َي ُعقَّ والديه»‪ ،‬ف ُك ُّل ُف ُجو ٍر غ َري ِ‬
‫الكفر فهو دونها‪.‬‬

‫ذنب ُع�صي ُ‬
‫اهلل به بعد الإ�شراك به �سبحانه‪ :‬هو عقوق الوالدين[يف ال�صحيحني عن �أبي بكرة‬ ‫ ف�أك ُرب ٍ‬
‫‪� ]d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬أك ُرب الكبائر‪ :‬ال ُ‬
‫إ�شراك باهلل‪ ،‬وعقوق الوالدين)‪.‬‬

‫اهلل بعقوق الوالدين؛ جاء عن مكحول‬ ‫املال جمي ِعه �أي�س ُر ِمن �أن ُيع�صى ُ‬
‫ ولخَ َ �سارة الدنيا ُك ِّلها‪ ،‬وفواتُ ِ‬
‫�شرك باهلل �شيئ ًا و�إن ُح ِّر َ‬
‫قت و�إن ُع ِّذ َ‬
‫بت‪ ،‬وال تعقنَّ‬ ‫‪ d‬مر�س ًال �أن النبي‪�s‬أو�صى بع�ض �أهله فقال‪( :‬ال ُت ِ‬
‫والديك و�إن �أمراك �أن تختلع لهما من مالك فانخلع لهما)‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬
‫ (عباد اهلل!) لقد َ�س ّمى ُ‬
‫اهلل َع َّاق َوالديه َج ّبار ًا َ�شقي ًا؛ فقال اهلل عن نب ّيه عي�سى‪َ } :a‬و َب ّر ًا ِب َوا ِل َد ِتي َو مَْل‬
‫عقوق الوالدين لأن اهلل عز و جل جعل العاق‬ ‫عبا�س ‪( :d‬من �أكرب الكبائر ُ‬ ‫َي ْج َع ْل ِني َج َّبار ًا َ�ش ِق ّي ًا{‪ .‬قال ابنُ ٍ‬
‫�شقي بالعقوبة احلالة عليه‪.‬‬ ‫جبار ًا �شقي ًا)[رواه الطرباين يف املعجم الكبري ‪ .]252/12‬فهو ج َّبا ٌر بفعله‪ٌّ ،‬‬
‫ َمن عقَّ والديه ومل يح�سن �إليها فقد َح ّرم ُ‬
‫اهلل عليه اجلنة‪ ،‬ففي حديث �أبي �سعيد اخلدري‪�d‬أن النبي‬
‫‪s‬قال‪( :‬ال يدخل اجلنة ُمدمنُ خمر وال عاق لوالديه)‪.‬‬

‫عج ُل عقوبتَه يف الدنيا‪،‬‬ ‫ُ‬


‫فالعاق ُت ّ‬ ‫أ�سرعها نزو ًال و�إحقاق ًا‪،‬‬
‫أعجل الذنوب �إهالك ًا‪ ،‬و� ُ‬
‫ عقوق الوالدين � ُ‬
‫ٌ‬
‫مبغو�ض هلل‪ُ ،‬مب َع ٌد َعن َرحم ِته؛ فعن �أبى‬ ‫ُ‬
‫�ضاعف عذا ُبه يف الآخرة‪ ،‬مذمو ٌم يف الدنيا‪ ،‬حمقو ٌر عند النا�س‪،‬‬ ‫و ُي‬
‫‪470‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬عقوق الوالدين‬

‫الوالدين‪ ،‬ف�إن‬
‫قوق َ‬‫القيامة �إال ُع َ‬
‫َ‬ ‫الذنوب ُي� ِّؤخ ُر ُ‬
‫اهلل َما َ�شا َء ِمنها �إىل يوم‬ ‫ِ‬ ‫النبي‪s‬قال ‪ُ ( :‬ك ُّل‬
‫بكرة ‪� d‬أن َّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اهلل تعاىل ُي َع ِّج ُل ُه ل�صاحبه يف احلياة قبل املمات) [رواه احلاكم و�أبو داود والرتمذي ب�إ�سناد �صحيح]‪.‬‬ ‫َ‬
‫عندما نتحدث عن العاق بوالديه فال نعني به َمن �ضربهما‪� ،‬أو تف ّوه عليهما ب�سيء‬ ‫ عباد اهلل! �إننا َ‬
‫الكالم‪� ،‬أو ظلمهما بفعل �أو �أخذ حق‪ .‬فذاك قد جتاوز عقو ُق ُه بهما حدو َد املعقول‪ ،‬ومهما َ‬
‫قلت ِمن �ألفاظ‬
‫ت�صفه ل�شناع ِته وف�ضاعته‪� ،‬إذ ال ميكن ت�صو ُر وقوع‬
‫ألفاظ التحرمي ف�إنك لن ت�ستطع �أن ّ‬ ‫التجرمي َو ُ�ص ْغ َت ِمن � ِ‬
‫آدمي ناهيك عن حدوثه يف جمتمع �إ�سالمي‪.‬‬ ‫هذا الفعل ِمن � ٍّ‬

‫النبي‪�s‬أن َمن الكبائر �أن ي�شتم الرجل والديه‪ ،‬فقالوا‪:‬‬


‫ وت�أ َّمل يف ا�ستغراب ال�صحابة‪ f‬عندما ذكر ُّ‬
‫ي�سب �أبا الرجل في�شتم �أباه)‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الرجل والديه؟ فقال‪( :‬نعم ُّ‬ ‫وهل ي�شتم‬

‫مبا�شر ومن غري ق�صد‪ ،‬و�أ ّما ال�شتم املبا�شر‪ ،‬والأذ ّية املبا�شرة ف�إن‬
‫ٍ‬ ‫ فبينّ �أن �شتم الوالدين يكون غ َري‬
‫عقول ال�صَّ حاب ِة وبرر َة النا�س و�أ�سويا َءهم ال يت�صورون وقوعه‪ ،‬وال �إمكانَ �صدوره �إال يف الأ�ساطري واحلكايات‪،‬‬
‫حلكم ا�ستغرب ذلك ور�أى‬ ‫�سمع �أن رج ًال �شكا �أباه للق�ضاء و� َ‬
‫أجل�سه جمل�س ا ُ‬ ‫لذا ف�إن احل�سنَ الب�صري حينما ِ‬
‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫�أن فاعل ذلك قد �أتى عظيم ًا مما ت�ستبعده العقول والعادات وقال‪( :‬انتهت القطيعة �إىل �أن يجاثي‬
‫�أباه عند ال�سلطان)‪.‬‬

‫حق والديه فطالت‬ ‫ �إننا عندما نذكر �أحاديث الرتهيب عن عقوق الوالدين ف�إمنا ُيعنى بها‪َ :‬من َق�صَّ َر يف ِّ‬
‫ائر ال ِعلل‪َ ،‬من‬ ‫دم ُ�س�ؤا ِله عنهما‪َ ،‬من �أمراه �أمر ًا ِمن �أمو ِر ال ُّدنيا الي�سري ِة ف�أمتن َع ِمن فع ِله وتع َّل َل َ‬
‫ب�س ِ‬ ‫ُم ّد ُة َع ِ‬
‫ملال ومل يبذ ْله لهما و�إن مل يطلبا ِمنه‪َ ،‬من مل يفت�ش َعن حالهما وي�س�أل عن ِ�ص ّحتهما و ُق َّوتهما‪.‬‬ ‫احتاج والداه ٍ‬

‫وجهده وولده لأجلهما‪ .‬و�إين ذاك ٌر �صور ًا‬ ‫َمن مل ُي�سعد قلو َبهما مبا يفرحهما‪َ ،‬من مل يبذل وقته وماله ُ‬ ‫ ‬
‫العقوق التي تتابعت الأخبا ُر بالنهي عنها‪:‬‬
‫ِ‬ ‫من العقوق التي جاءت بها الآثار لنعلم �صو َر‬

‫عاق بهما‪� ،‬س�أل رج ٌل كعب ًا عن‬‫فمن �صور العقوق‪َ :‬من دعاه والداه فلم ُيجب دعوتَهما وال نداءهما فهو ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫عطه‪ ،‬و�إذا ائتمنه خان فذلك‬ ‫عقوق الوالدين يف كتاب اهلل؟ فقال‪�( :‬إذا �أق�سم عليه مل ُي َّربه‪ ،‬و�إذا �س�أله مل ُي ْ‬
‫العقوق)‪.‬‬
‫ ‬
‫ بل يلزم �إجاب ُة نداء الوالدين ولو كان املر ُء يف �صالته قال مكحول‪�( :‬إذا دعتك �أمك و�أنت يف ال�صالة‬
‫جب)[�شعب الإميان ‪ .]195/6‬ويف [�صحيح البخاري] �أن النبي‪s‬قال‪( :‬كان يف بني �إ�سرائيل رج ٌل يقال‬ ‫ف�أَ ْ‬
‫له جريج كان ُي�ص ِّلي فجاءته �أ ُّمه فدعته‪ ،‬فلم يجبها و�أقبل على �صالته‪ ،‬فقالت‪ :‬اللهم ال متته حتى تريه‬
‫وجوه املوم�سات‪ ،‬وكان جري ٌج يف �صومعته فتع َّر�ضت له امر�أة وك َّلمته ف�أبى ف�أتت راعي ًا ف�أمكنته من نف�سها‬
‫جريج ف�أتوه فك�سروا �صومعته و�أنزلوه و�س ُّبوه‪ ،‬فتو�ض�أ و�ص َّلى ثم �أتى الغالم فقال‪:‬‬ ‫فولدت غالم ًا فقالت‪ِ :‬من ٍ‬
‫َمن �أبوك يا غالم قال‪ :‬الراعي‪ ،‬فنجا ُه اهلل ب�صد ِقه بعدما �أذاق َه عقوبة عدم �إجابته نداء �أُ ّمه‪.‬‬

‫‪471‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬عقوق الوالدين‬

‫بلقب ال يحبناه‪،‬‬
‫با�سم ال احرتام فيه‪� ،‬أو يخاطبهما ٍ‬
‫أحد والديه ٍ‬ ‫ِومن العقوق بالوالدين‪� :‬أن ينادي الول ُد � َ‬ ‫ ‬
‫اجلفاء �أن يدعو الرج ُل َ‬
‫والده)‬ ‫بطلب كما لو كان خادم ًا �أو طف ًال؛ قال طاوو�س‪�( :‬إن من َ‬ ‫أحد والديه َ‬
‫�أو ي�أم َر � َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫أحد والديك با�سمه)‪.‬‬‫[�شعب الإميان ‪ ،]198/6‬وقال �أبو هريرة‪( :d‬ال تد ُع � َ‬
‫وع ِّظم لق ُبه هما الوالدان‪ ،‬وما �أقنعهما ف�إن � َّ‬
‫أحب الأ�سماء‬ ‫ وذلك عباد اهلل! �أنَّ �أحقَّ َمن ُفخم ا�س ُمهُ‪ُ ،‬‬
‫لهما املناداة با�سم الأبوة �أو الأمومة‪.‬‬

‫ ومن العقوق بالوالدين‪� :‬أن مينّ االبنُ على �أبيه و�أُ ِّمه بالإح�سان �إليهما واجلود عليهما‪ ،‬و ُيكرث ِمن ذكر‬
‫وخا�ص ًة عندما يقو ُله لهما يف وجههما؛ قال يزيد بن‬‫العمل مع�صي ٌة تحُ �سب عند اهلل ّ‬ ‫�إف�ضاله وب ّره بهما وهذا ُ‬
‫أح�سنت �إليكما فهي من خطاياه»‪� .‬إن الواجب على االبن‬ ‫�أبي حبيب‪« :‬بلغني �أن الرجل �إذا قال لوالديه‪ :‬قد � ُ‬
‫يتقال عم َله‪ ،‬و�أن ال مينَّ به‪ ،‬ف�إنه مهما �أح�سن فلن يبلغ ُع�شر مع�شار ما فعله �أبواه‪.‬‬
‫البار �أن َّ‬
‫هلل تعاىل‪ ،‬قال عبيد بن جريج‪� « :‬إن‬ ‫أمرهما يف غري مع�صية ا ِ‬ ‫ ومن �صور العقوق بالوالدين‪ :‬عدم �إطاع ِة � ِ‬
‫ولده ب�شيء فلم يطعه فقد ع َّقه‪ ،‬و�إذا الوال ُد ا�شتكى �إىل اهلل ما يلقى‬‫مما �أُنزل على مو�سى‪� :‬إذا �أمر الوال ُد َ‬
‫ِمن ولده‪ ،‬فقد عاقه العقوق كله »‪.‬‬

‫الوالدين ِمن العقوق‬


‫َ‬ ‫َومن ب َّكى وال��داه ب�سببه ولو ظنَّ �أن فع َله ح ٌّق فهو عقوق؛ قال ابنُ عمر ‪ُ ( :d‬بكا ُء‬
‫والكبائر)[رواه البخاري يف الأدب ‪ 31‬و�إ�سناده �صحيح]‪.‬‬

‫ومن �صور العقوق‪� :‬أن يتق ّدم املر ُء على والديه يف امل�شي وهم خلفه �إال ِمن حاجة‪ ،‬ر�أي �أبو هريرة‪d‬‬ ‫ ‬
‫رج ًال مي�شي بني يدي �أبيه فقال له‪( :‬ال مت�ش بني يديه‪ ،‬وال جتل�س حتى يجل�س)‪ ،‬بل � ُ‬
‫أعجب ِمن ذلك �أن من‬
‫الوالدين‪ ،‬والنظر �إليهما �شزر ًا‪ ،‬ففي حديث عن عائ�شة ‪�g‬أن النبي ‪s‬قال‪:‬‬
‫�صور العقوق حتديق الب�صر يف َ‬
‫(ما ب َّر �أباه من �شد �إليه َّ‬
‫الط ْرف)‪.‬‬ ‫َ‬

‫ ومن عقوق الوالدين حيني وميتني �أذيتُهما بال�سمعة ال�سيئة ف�إن املرء �إذا �أ�ساء يف عمله وقوله‪� ،‬ساء‬
‫الظنُّ بوالديه وقيل فيها ال�سوء [روى الإمام �أحمد] �أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إن �أكرب الكبائر عقوق الوالدين)‬
‫�سب �أُ َّمه في�سب �أمه)‪.‬‬
‫�سب �أباه‪ ،‬و َي ُّ‬ ‫َ‬
‫الرجل ف َي ُّ‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫(ي�سب‬
‫ُّ‬ ‫قيل‪ :‬وما عقوق الوالدين؟ قال‪:‬‬

‫خل ُل ِق والوجه والل�سان واليد ف�إنه ُيذكر �أبواه باخلري و ُيدعا لهما‪،‬‬
‫ ف َمن �أح�سن الت�ص ّر َف وكان كر َمي ا ُ‬
‫وتلطف بالقول عند املخا�صمة‪ ،‬حفظ والديه من ال ِقيل ِة فيهما‪ ،‬بل‬ ‫َومن طاب ل�سا ُن ُه عند خماطب ِة النا�س ّ‬
‫حل�سن الرتبي ِة وطيب الفعال‪ .‬وال�ض ُّد بال�ضدِّ ف َمن �ساء فع ُله �ساء ظنُّ النا�س به وبحثوا عن‬ ‫و�أُثني عليهما ُ‬
‫بال�سب وذلك عقوقه بوالديه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫عواره‪َ ،‬ومن خبث قو ُل ُه ُر َّد عليه مبثله ف�أُوذي الأمواتُ‬

‫ } َو َق َ�ضى َر ُّب َك �أَالَّ َت ْع ُبدُو ْا ِ�إالَّ ِ�إ َّيا ُه َو ِبا ْل َوا ِل َد ْي ِن ِ�إ ْح َ�سان ًا ِ�إ َّما َي ْب ُل َغنَّ ِع َند َك ا ْل ِكبرَ َ �أَ َحدُهُ َما �أَ ْو ِك َالهُ َما َف َال َت ُقل‬
‫َّل ُه َم�آ �أُ ٍّف َو َال َت ْن َه ْرهُ َما َو ُقل َّل ُه َما َقو ًْال َك ِرمي ًا{ َو ْاخ ِف�ضْ َل ُه َما َج َن َاح ال ُّذ ِّل ِمنَ ال َّر ْح َم ِة َو ُقل َّر ِّب ا ْر َح ْم ُه َما َك َما‬
‫َر َّب َيانيِ َ�ص ِغري ًا{‬

‫‪472‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫عيسى إبن مريم‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬عيسى بن مريم‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫نبي من �أنبياء اهلل ور�سو ِله كان له �ش�أ ٌن عظيم‪ ،‬ونب�أٌ جليل‪ ،‬فمولده �آية‪ ،‬وفقده �آية‪،‬‬ ‫�إن عي�سى بن مرمي‪ُّ a‬‬
‫ووفاته �آية‪ .‬غال فيه قو ٌم فجعلوه نبي ًا‪ ،‬وجفا عنه �آخرون فنفوا عنه النبوة و�أتهموه يف ن�سبه‪� ،‬أُوذي ف�صرب‪،‬‬
‫و ُك ِّذب فما �ضجر‪� ،‬أقرب الأنبياء �إىل نبينا حممد‪s‬زمان ًا ومكان ًة‪َ .‬‬
‫}ذ ِل َك ِع َ‬
‫ي�سى ا ْبنُ َمرْيمَ َ َق ْو َل الحْ َ ِّق ا َّل ِذي‬
‫ِفي ِه يمَْترَ ُونَ {‪.‬‬

‫وخلقَ ب�أمره �سبحانه‪ ،‬وهو عب ٌد من عبيده‬ ‫مولده �آي ًة ال تكون يف غ ِريه فهو ُرو ٌح ِمنه �سبحانه‪ُ ،‬‬ ‫ جعل اهلل َ‬
‫الل َو َك ِل َم ُت ُه �أَ ْل َق َاها ِ�إ ىَل َمرْيمَ َ َو ُرو ٌح‬‫ول هَّ ِ‬
‫ي�سى ا ْبنُ َمرْيمَ َ َر ُ�س ُ‬ ‫ج َّل وعال‪ ،‬ولي�س جز ًء منه �سبحانه؛ } ِ�إنمَّ َ ا المْ َ ِ�س ُيح ِع َ‬
‫الل َو ُر ُ�س ِل ِه َو َال َت ُقو ُلو ْا َث َال َث ٌة ان َت ُهو ْا َخ رْ ًيا َّل ُك ْم ِ�إنمَّ َ ا هَّ ُ‬
‫الل ِ�إ َلـ ٌه َو ِاح ٌد ُ�س ْب َحا َن ُه �أَن َي ُكونَ َل ُه َو َل ٌد َّل ُه َما فيِ‬ ‫ِّم ْن ُه َف� ِآم ُنو ْا ِب هَّ ِ‬
‫الل َو ِكي ًال{ َّلن َي ْ�ست َِنك َف المْ َ ِ�س ُيح �أَن َي ُكونَ َع ْبد ًا للِّهّ ِ َو َال المْ َلآ ِئ َك ُة المْ ُ َق َّر ُبونَ َو َمن‬ ‫ال�س َما َوات َو َما فيِ الأَ ْر ِ�ض َو َك َفى ِب هَّ ِ‬ ‫َّ‬
‫َي ْ�ست َِنك ْف َعنْ ِع َبا َد ِت ِه َو َي ْ�س َتكْبرِْ َف َ�س َي ْح ُ�ش ُرهُ ْم �إِ َلي ِه َج ِمي ًعا{‪.‬‬

‫(من) هنا لي�ست تبعي�ض ّية فال ُيقال �إنه جزء من اهلل‪ ،‬و�إمنا هي ابتدائية‬ ‫ وقوله تعاىل‪َ } :‬و ُرو ٌح ِّم ْنهُ{‪ِ :‬‬
‫}ذ ِل َك ِع َ‬
‫ي�سى ا ْبنُ َمرْيمَ َ َق ْو َل الحْ َ ِّق ا َّل ِذي‬ ‫�أي �أن روحه �أبتدا�ؤها من اهلل ب�أمره تعاىل جلربيل‪ ،‬ولي�س من غريه َ‬
‫ول َل ُه ُكن َف َي ُكونُ {‪.‬‬‫ِفي ِه يمَْترَ ُونَ { َما َكانَ للِ هَّ ِ �أَن َيت َِّخ َذ ِمن َو َل ٍد ُ�س ْب َحا َن ُه �إِ َذا َق َ�ضى �أَ ْم ًرا َف�إِنمَّ َ ا َي ُق ُ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ �أ ّمه مر ُمي ابن ُة عمران �أم��ر ٌة �صاحل ٌة من �أبوين �صاحلني ن�ش�أت من �صغرها يف طاع ِة اهلل وعبادته‬
‫رب عجيب } َو ْاذ ُك�� ْر فيِ ا ْل ِكت ِ‬
‫َاب‬ ‫�س ّماها اهلل �صدِّ يق ًة‪ ،‬وقد كان يف ق�ص ِة �إتيان جربيل لها عليها ال�سالم خ ٌ‬
‫وح َنا َف َت َم َّث َل َل َها َب َ�ش ًرا‬ ‫َمرْيمَ َ ِ�إ ِذ ان َت َب َذ ْت ِمنْ �أَ ْه ِل َها َم َكا ًنا َ�ش ْر ِق ًّيا{ َفات ََّخ َذ ْت ِمن دُو ِن ِه ْم ِح َجا ًبا َف�أَ ْر َ�س ْل َنا ِ�إ َل ْي َها ُر َ‬
‫الما َز ِك ًّيا{ َقا َل ْت‬ ‫ول َر ِّب ِك لأَ َه َب َل ِك ُغ ً‬ ‫نت َت ِق ًّيا{ َق َال �إِنمَّ َ ا �أَ َنا َر ُ�س ُ‬
‫نك �إِن ُك َ‬ ‫وذ ِبال َّر ْح َمن ِم َ‬ ‫َ�س ِو ًّيا{ َقا َل ْت �إِنيِّ �أَ ُع ُ‬
‫ا�س‬‫�أَ َّنى َي ُكونُ ليِ ُغال ٌم َو مَْل مَْي َ�س ْ�س ِني َب َ�ش ٌر َو مَْل �أَ ُك َب ِغ ًّيا{ َق َال َك َذ ِل ِك َق َال َر ُّب ِك هُ َو َع َل َّي َهينِّ ٌ َو ِل َن ْج َع َل ُه �آ َي ًة ِلل َّن ِ‬
‫ا�ض ِ�إ ىَل ِج ْذ ِع ال َّن ْخ َل ِة َقا َل ْت‬ ‫اءها المْ َ َخ ُ‬ ‫َو َر ْح َم ًة ِّم َّنا َو َكانَ �أَ ْم ًرا َّم ْق ِ�ض ًّيا { َف َح َم َل ْت ُه َفان َت َب َذ ْت ِب ِه َم َكا ًنا َق ِ�ص ًّيا{ َف�أَ َج َ‬
‫ن�س ًّيا{ َف َنا َد َاها ِمن تحَْ ِت َها �أَالَّ تحَْ زَ نيِ َق ْد َج َع َل َر ُّب ِك تحَْ ت َِك َ�س ِر ًّيا{ َوهُ ِّزي‬ ‫نت َن ْ�س ًيا َّم ِ‬ ‫َيا َل ْي َت ِني ِم ُّت َق ْب َل َه َذا َو ُك ُ‬
‫ِ�إ َل ْي ِك ِب ِج ْذ ِع ال َّن ْخ َل ِة ُت َ�سا ِق ْط َع َل ْي ِك ُر َط ًبا َج ِن ًّيا{ َف ُك ِلي َوا�شْ َر ِبي َو َق ِّري َع ْي ًنا َف ِ�إ َّما َت َر ِينَّ ِمنَ ا ْل َب َ�ش ِر �أَ َحدً ا َف ُقوليِ‬
‫ن�س ًّيا{ َف�أَت َْت ِب ِه َق ْو َم َها تحَْ ِم ُل ُه َقا ُلوا َيا َمرْيمَ ُ َل َق ْد ِج ْئ ِت َ�ش ْي ًئا‬ ‫�إِنيِّ َن َذ ْرتُ ِلل َّر ْح َم ِن َ�ص ْو ًما َف َلنْ �أُ َك ِّل َم ا ْل َي ْو َم �إِ ِ‬

‫‪473‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬عيسى إبن مريم‬

‫وك ْام َر َ�أ َ�س ْوءٍ َو َما َكا َن ْت �أُ ُّم ِك َب ِغ ًّيا{ َف�أَ َ�شا َر ْت ِ�إ َل ْي ِه َقا ُلوا َك ْي َف ُن َك ِّل ُم َمن َكانَ فيِ‬
‫َف ِر ًّيا{ َيا �أُ ْخ َت َها ُرونَ َما َكانَ �أَ ُب ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫نت َو�أَ ْو َ�صانيِ ِبال�صَّ ال ِة‬ ‫َاب َو َج َع َل ِني َن ِب ًّيا{ َو َج َع َل ِني ُم َبا َر ًكا �أَ ْينَ َما ُك ُ‬ ‫المْ َ ْه ِد َ�ص ِب ًّيا{ َق َال ِ�إنيِّ َع ْب ُد هَّ ِ‬
‫الل �آ َتانيِ َ ا ْل ِكت َ‬
‫دت َو َي ْو َم �أَ ُموتُ َو َي ْو َم‬
‫الم َع َل َّي َي ْو َم ُو ِل ُّ‬
‫ال�س ُ‬ ‫َوال َّز َكا ِة َما د ُْم ُت َح ًّيا{ َو َب ًّرا ِب َوا ِل َد ِتي َو مَْل َي ْج َع ْل ِني َج َّبا ًرا َ�ش ِق ًّيا{ َو َّ‬
‫�أُ ْب َعثُ َح ًّيا{‪.‬‬

‫مولده ومل يعلم �أو يح�س به‬ ‫اهلل َ‬ ‫ي�س َر ُ‬‫ فكان حم ُله �آي ًة �إذ حملت به مر ُمي من غري زوج‪ ،‬ووالد ُت ُه �آية �إذ َّ‬
‫�أحد‪ ،‬وحينما كان ر�ضيع ًا َن َطقَ فكان �آي ًة عظيمة‪ ،‬فخرج قرة عني لأُ ّمه بار ًا بها وحم�سن ًا �إليها وهي �أمر�أ ٌة‬
‫�صاحل ٌة رحمها اهلل ور�ضي عنها } َّما المْ َ ِ�س ُيح ا ْبنُ َمرْيمَ َ �إِالَّ َر ُ�سو ٌل َق ْد َخ َل ْت ِمن َق ْب ِل ِه ال ُّر ُ�س ُل َو�أُ ُّم ُه ِ�صدِّ ي َق ٌة َكا َنا‬
‫الط َع َام{‪.‬‬ ‫َي�أْ ُك َال ِن َّ‬
‫�شب عن الطوق �آتاه اهلل احلكم َة والنبو َة وجعل على يديه من اخلوارق ملا ملثله �آمن َمن �آمن }�إِ ْذ‬ ‫ فل ّما َّ‬
‫الل َيا ِعي�سى ا ْبنَ َمرْيمَ َ ْاذ ُك ْر ِن ْع َم ِتي َع َل ْي َك َو َع َلى َوا ِل َد ِت َك �إِ ْذ �أَ َّيدت َُّك ِب ُر ِوح ا ْل ُقد ُِ�س ُت َك ِّل ُم ال َّن َ‬
‫ا�س فيِ المْ َ ْه ِد‬ ‫َق َال هَّ ُ‬
‫الط رْ ِي ِب ِ�إذْنيِ َفتَن ُفخُ ِفي َها‬ ‫الط ِني َك َه ْي َئ ِة َّ‬‫جن َيل َو ِ�إ ْذ ت َْخ ُلقُ ِمنَ ِّ‬ ‫َو َك ْه ًال َو ِ�إ ْذ َع َّل ْمت َُك ا ْل ِكت َ‬
‫َاب َوالحْ ِ ْك َم َة َوال َّت ْو َرا َة َوا ِلإ ِ‬
‫نك ِ�إ ْذ‬ ‫َف َت ُكونُ َط رْ ًيا ِب ِ�إذْنيِ َو ُت رْ ِبى ُء الأَ ْك َم َه َوالأَ ْب َر َ�ص ِب ِ�إذْنيِ َو ِ�إ ْذ ُت ْخ ِر ُج المْ َوتَى ِب ِ�إذْنيِ َو ِ�إ ْذ َك َف ْف ُت َب ِني ِ�إ ْ�س َرا ِئ َيل َع َ‬
‫ات َف َق َال ا َّل ِذينَ َك َف ُرو ْا ِم ْن ُه ْم ِ�إنْ َه َـذا ِ�إالَّ ِ�س ْح ٌر ُّم ِبنيٌ{‬ ‫ِج ْئ َت ُه ْم ِبا ْل َب ِّي َن ِ‬

‫بع�ض‪ ،‬وكفر الأكرث وكذبوه واتهموه } َف َ�آ َم َنت َّطا ِئ َف ٌة ِّمن َب ِني ِ�إ ْ�س َرا ِئ َيل َو َك َف َرت َّطا ِئ َف ٌة َف َ�أ َّي ْد َنا‬ ‫ ف�آمن به ٌ‬
‫ا َّل ِذينَ �آَ َم ُنوا َع َلى َع ُد ِّو ِه ْم َف�أَ�صْ َب ُحوا َظ ِاه ِرينَ {‪.‬‬

‫ي�سى ِم ْن ُه ُم‬ ‫ فان�صرف حواريوه معه يتعبدون اهلل‪ ،‬يف حني كان الآخرون يرتب�صون به‪َ } a‬ف َل َّما �أَ َح�سَّ ِع َ‬
‫الل � َآم َّنا ِب هَّ ِ‬
‫الل َوا�شْ َه ْد ِب�أَ َّنا ُم ْ�س ِل ُمونَ { َر َّب َنا � َآم َّنا‬ ‫ن�صا ُر هَّ ِ‬ ‫ن�صا ِري ِ�إ ىَل هَّ ِ‬
‫الل َق َال الحْ َ َوا ِر ُّيونَ َن ْحنُ �أَ َ‬ ‫ا ْل ُك ْف َر َق َال َمنْ �أَ َ‬
‫الل َخ رْ ُي المْ َ ِاك ِرينَ {‪.‬‬ ‫الل َو هَّ ُ‬
‫ول َفا ْك ُت ْب َنا َم َع ال�شَّ ِاه ِدينَ { َو َم َك ُرو ْا َو َم َك َر هَّ ُ‬
‫بمِ َ ا �أَنزَ َل ْت َوا َّت َب ْع َنا ال َّر ُ�س َ‬

‫النا�س و�ش ّدة الكرب‪ ،‬جعل اهلل لهم �آية‪ ،‬فقد �س�أل‬ ‫ فل ّما ا�شت ّد على احلواريني مع هم فيه من اعتزال ِ‬
‫بع�ض احلواريني عي�سى �أن ينزل عليهم مائد ًة ي�أكلون منها؛ لأنهم افتقدوا الطعام الوفري ورغد العي�ش‪ ،‬قال‬ ‫ُ‬
‫ال�س َماء َق َال‬ ‫ي�سى ا ْبنَ َمرْيمَ َ َه ْل َي ْ�ست َِطي ُع َر ُّب َك �أَن ُي َن ِّز َل َع َل ْي َنا َم�آ ِئ َد ًة ِّمنَ َّ‬ ‫�سبحانه‪�ِ } :‬إ ْذ َق َال الحْ َ َوا ِر ُّيونَ َيا ِع َ‬
‫الل �إِن ُكنتُم ُّم�ؤْ ِم ِن َني{ َقا ُلو ْا ُن ِري ُد �أَن نَّ�أْ ُك َل ِم ْن َها َوت َْط َمئِنَّ ُق ُلو ُب َنا َو َن ْع َل َم �أَن َق ْد َ�ص َد ْق َت َنا َو َن ُكونَ َع َل ْي َها ِمنَ‬ ‫ا َّت ُقو ْا هَّ َ‬
‫ال�س َماء َت ُكونُ َل َنا ِعيد ًا ِّ ألَ َّو ِل َنا َو� ِآخ ِر َنا َو�آ َي ًة‬
‫ي�سى ا ْبنُ َمرْيمَ َ ال َّل ُه َّم َر َّب َنا �أَ ِنز ْل َع َل ْي َنا َم�آ ِئ َد ًة ِّمنَ َّ‬
‫ال�شَّ ِاه ِدينَ { َق َال ِع َ‬
‫نت َخ رْ ُي ال َّرا ِز ِق َني{ َق َال هَّ ُ‬
‫الل �إِنيِّ ُم َن ِّز ُل َها َع َل ْي ُك ْم َف َمن َي ْك ُف ْر َب ْع ُد ِمن ُك ْم َف�إِنيِّ �أُ َع ِّذ ُب ُه َع َذا ًبا الَّ‬ ‫نك َوا ْر ُز ْق َنا َو�أَ َ‬ ‫ِّم َ‬
‫�أُ َع ِّذ ُب ُه �أَ َحدً ا ِّمنَ ا ْل َعالمَ ِنيَ{‪.‬‬

‫يك‬ ‫ي�سى ِ�إنيِّ ُم َت َو ِّف َ‬


‫الل َيا ِع َ‬‫�سيفع �إىل ال�سماء حينما يكون نائم ًا‪�ِ } ،‬إ ْذ َق َال هَّ ُ‬
‫اهلل لعي�سى �أنه رُ‬ ‫ ثم �أوحى ُ‬
‫َو َرا ِف ُع َك ِ�إليََّ َو ُم َط ِّه ُر َك ِمنَ ا َّل ِذينَ َك َف ُرو ْا{‪ ،‬ومتوفيك �أي حال النوم كما قال تعاىل‪ :‬هَّ ُ‬
‫}الل َي َت َو َّفى الأَن ُف َ�س ِح َني‬
‫َم ْو ِت َها َوا َّل ِتي مَْل تمَ ُ ْت فيِ َم َن ِام َها{‪ .‬فرفعه ُ‬
‫اهلل �شاب ًا يف الثالثني من عمره‪.‬‬

‫‪474‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬عيسى إبن مريم‬

‫ عباد اهلل! لقد �ض َّل يف عي�سى بن مرمي طائفتان‪ ،‬طائف ٌة كفروا به‪ ،‬وقدحوا يف �أُ ِّمه عليها ال�سالم‪ ،‬و�أذوه‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫رجل من‬ ‫يف حياته قو ًال وفع ًال‪ ،‬وبحثوا عنه لقتله فلم ميكنهم اهلل منه لأنه رفعه �إليه‪ ،‬ثم �ألقى �شبهه على ٍ‬
‫اهلل نبيه؛ } َو ِب ُك ْف ِر ِه ْم َو َق ْو ِل ِه ْم َع َلى َمرْيمَ َ ُب ْهتَا ًنا َع ِظي ًما{ َو َق ْو ِل ِه ْم ِ�إ َّنا َق َت ْل َنا‬ ‫وجنى ُ‬ ‫�أ�صحابه فقتلوا ال�صاحب ّ‬
‫ول هَّ ِ‬
‫الل َو َما َق َت ُلو ُه َو َما َ�ص َل ُبو ُه َو َل ِـكن ُ�ش ِّب َه َل ُه ْم َو ِ�إنَّ ا َّل ِذينَ ْاخ َت َل ُفو ْا ِفي ِه َل ِفي َ�ش ٍّك ِّم ْن ُه‬ ‫ي�سى ا ْبنَ َمرْيمَ َ َر ُ�س َ‬ ‫المْ َ ِ�س َيح ِع َ‬
‫الل َع ِزيزً ا َح ِكي ًما{‪.‬‬ ‫الل �إِ َل ْي ِه َو َكانَ هَّ ُ‬‫الظنِّ َو َما َق َت ُلو ُه َي ِقي ًنا{ َبل َّر َف َع ُه هَّ ُ‬
‫َما َل ُهم ِب ِه ِمنْ ِع ْل ٍم �إِالَّ ا ِّت َبا َع َّ‬

‫هلل وثالثُ ثالث ٍة‪َ } :‬و�إِ ْذ‬ ‫ وكما جفا عنه �أولئك فقد غال فيه �آخرون فاعتقدوا �ألوهيته وربوبيته و�أنه ول ُد ا ِ‬
‫ُون هَّ ِ‬‫ا�س ات َِّخ ُذونيِ َو�أُ ِّم َي �إِ َلـهَينْ ِ ِمن د ِ‬ ‫ي�سى ا ْبنَ َمرْيمَ َ �أَ�أَ َ‬ ‫َق َال هَّ ُ‬
‫الل َق َال ُ�س ْب َحا َن َك َما َي ُكونُ ليِ‬ ‫نت ُق َلت ِلل َّن ِ‬ ‫الل َيا ِع َ‬
‫نت َع َّال ُم‬ ‫نت ُق ْل ُت ُه َف َق ْد َع ِل ْم َت ُه َت ْع َل ُم َما فيِ َن ْف ِ�سي َو َال �أَ ْع َل ُم َما فيِ َن ْف ِ�س َك ِ�إ َّن َك َ�أ َ‬
‫ول َما َل ْي َ�س ليِ ِب َحقٍّ �إِن ُك ُ‬ ‫�أَنْ �أَ ُق َ‬
‫نت َع َل ْي ِه ْم َ�ش ِهيدً ا َّما د ُْم ُت ِف ِيه ْم َف َل َّما‬ ‫وب{ َما ُق ْل ُت َل ُه ْم �إِالَّ َما �أَ َم ْر َت ِني ِب ِه �أَ ِن ْاع ُبدُو ْا هَّ َ‬
‫الل َر ِّبي َو َر َّب ُك ْم َو ُك ُ‬ ‫ا ْل ُغ ُي ِ‬
‫نت َع َلى ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َ�ش ِهي ٌد{‪.‬‬ ‫يب َع َل ْي ِه ْم َو�أَ َ‬ ‫نت �أَ َ‬
‫نت ال َّر ِق َ‬ ‫َت َو َّف ْي َت ِني ُك َ‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬

‫نبي بينهما‪ ،‬و�أقربهم‬ ‫أقرب الأنبياء �إىل نبينا حممد‪s‬زمان ًا فال َّ‬ ‫ عباد اهلل! لقد كان عي�سى بن مرمي � َ‬
‫ب�شر عي�سى بنبوة حممد و�أَ َم َر باتباعه‪َ } :‬و�إِ ْذ َق َال ِع َ‬
‫ي�سى ا ْبنُ‬ ‫حممد‪ّ ،s‬‬ ‫ٍ‬ ‫�إليه مكان ًة فهو �أف�ضل الأنبياء بعد‬
‫ول هَّ ِ‬
‫الل �إِ َل ْي ُكم ُّم َ�صدِّ ًقا لمِّ َا َبينْ َ َي َد َّي ِمنَ ال َّت ْو َرا ِة َو ُم َب ِّ�ش ًرا ِب َر ُ�س ٍول َي�أْ ِتي ِمن َب ْع ِدي‬ ‫َمرْيمَ َ َيا َب ِني �إِ ْ�س َرا ِئ َيل �إِنيِّ َر ُ�س ُ‬
‫ات َقا ُلوا َه َذا ِ�س ْح ٌر ُّم ِبنيٌ{‪.‬‬ ‫ا�س ُم ُه �أَ ْح َم ُد َف َل َّما َجاءهُ م ِبا ْل َب ِّي َن ِ‬
‫ْ‬

‫ال�سماء‪ ،‬ف ُي�ص ِّلي خلف �إمام امل�سلمني‪ ،‬ويك�سر ال�صليب‪،‬‬ ‫ ويف �آخر الزمان ُ‬
‫ينزل عي�سى بن مرمي‪a‬من َّ‬
‫ويقتل اخلنزير‪ ،‬ويف عهد يف�شوا املال ويفي�ض‪ ،‬وتكرث بركاتُ الأر�ض وال�سماء‪.‬‬

‫�شرعه و�أتباع �أنبياء اهلل جميع ًا‪ ،‬الذين‬ ‫أتباع ُه يف ِ‬ ‫ عباد اهلل! �إن �أ�صحاب عي�سى بن مرمي حقيق ًة هم � ُ‬
‫الل َو ُر ُ�س ِل ِه َو ُي ِريدُونَ �أَن ُي َف ِّر ُقو ْا َبينْ َ هَّ ِ‬
‫الل‬ ‫�آمنوا به ومبحمد‪s‬ومل يفرقوا بني �أحد منهم } ِ�إنَّ ا َّل ِذينَ َي ْك ُف ُرونَ ِب هَّ ِ‬
‫َو ُر ُ�س ِل ِه َوي ُقو ُلونَ ُن ْ�ؤ ِمنُ ِب َب ْع ٍ�ض َو َن ْك ُف ُر ِب َب ْع ٍ�ض َو ُي ِريدُونَ �أَن َيت َِّخ ُذو ْا َبينْ َ َذ ِل َك َ�س ِبي ًال{ ُ�أ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم ا ْل َكا ِف ُرونَ َح ّق ًا‬
‫َو�أَ ْعت َْد َنا ِل ْل َكا ِف ِرينَ َع َذاب ًا ُّم ِهين ًا{ َوا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا ِب هَّ ِ‬
‫الل َو ُر ُ�س ِل ِه َو مَْل ُي َف ِّر ُقو ْا َبينْ َ �أَ َح ٍد ِّم ْن ُه ْم �أُ ْو َلـ ِئ َك َ�س ْو َف ُي�ؤْ ِت ِيه ْم‬
‫الل َغ ُفور ًا َّر ِحيم ًا{‪.‬‬‫�أُ ُجو َرهُ ْم َو َكانَ هَّ ُ‬

‫يك َو َرا ِف ُع َك ِ�إليََّ َو ُم َط ِّه ُر َك ِمنَ ا َّل ِذينَ‬ ‫ي�سى ِ�إنيِّ ُم َت َو ِّف َ‬ ‫الل َيا ِع َ‬ ‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪�ِ } :‬إ ْذ َق َال هَّ ُ‬
‫وك َف ْو َق ا َّل ِذينَ َك َف ُرو ْا ِ�إ ىَل َي ْو ِم ا ْل ِق َي َام ِة ُث َّم ِ�إليََّ َم ْر ِج ُع ُك ْم َف�أَ ْح ُك ُم َب ْي َن ُك ْم ِفي َما ُكنت ُْم ِفي ِه‬ ‫َك َف ُرو ْا َو َج ِاع ُل ا َّل ِذينَ ا َّت َب ُع َ‬
‫ت َْخ َت ِل ُفونَ { َف�أَ َّما ا َّل ِذينَ َك َف ُرو ْا َف�أُ َع ِّذ ُب ُه ْم َع َذا ًبا َ�ش ِديدً ا فيِ ال ُّد ْن َيا َوال ِآخ َر ِة َو َما َل ُهم ِّمن َّن ِ‬
‫ا�ص ِرينَ { َو�أَ َّما ا َّل ِذينَ‬
‫ات َو ِّ‬
‫الذ ْك ِر‬ ‫الظالمِ ِ َني{ َذ ِل َك َن ْت ُلو ُه َع َل ْي َك ِمنَ الآ َي ِ‬ ‫الل َال ُي ِح ُّب َّ‬ ‫ات َف ُي َو ِّف ِيه ْم �أُ ُجو َرهُ ْم َو هَّ ُ‬
‫� َآم ُنوا َو َع ِم ُلو ْا ال�صَّ الحِ َ ِ‬
‫الل َك َم َث ِل �آ َد َم َخ َل َق ُه ِمن ُت َر ٍاب ِث َّم َق َال َل ُه ُكن َف َي ُكونُ {‪.‬‬ ‫ي�سى ِع َند هَّ ِ‬ ‫الحْ َ ِك ِيم{ ِ�إنَّ َم َث َل ِع َ‬

‫‪475‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل البنت‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫فضل البنت‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫أجنا�سهم‬‫أنواعهم و� ِ‬ ‫النا�س واختال َفهم‪ ،‬وتعد َد � ِ‬ ‫ِ‬ ‫فقد اقت�ضت حكم ُة اهلل البالغة‪ ،‬ومنته ال�سابغة تفاوتَ‬
‫ا�س ِ�إ َّنا َخ َل ْق َنا ُك ْم ِمنْ َذ َك ٍر َو�أُ ْن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ�ش ُعو ًبا َو َق َبا ِئ َل ِل َت َعا َر ُفوا ِ�إنَّ‬‫وتغاي َرهم‪ ،‬قال جل وعال‪َ } :‬يا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬
‫ري{‪.‬‬ ‫الل َع ِلي ٌم َخ ِب ٌ‬‫الل �أَ ْت َقا ُك ْم ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫�أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد هَّ ِ‬

‫ِومن ت َغاير الأج َنا�س التي اقت�ضتها حكمة الباري جل وعال التذك ُري والت�أنيث يف املولود‪ ،‬قال �سبحانه‪:‬‬ ‫ ‬
‫الَ ْر َح ُام َو َما تَزْ َدا ُد َو ُك ُّل َ�ش ْيءٍ ِع ْن َد ُه بمِ ِ ْق َدا ٍر{ َع مِ ُ‬
‫ال ا ْل َغ ْي ِب َوال�شَّ َها َد ِة‬ ‫ي�ض ْ أ‬ ‫}الل َي ْع َل ُم َما تحَْ ِم ُل ُك ُّل �أُ ْن َثى َو َما َت ِغ ُ‬ ‫هَّ ُ‬
‫الَ ْر ِ�ض‬
‫ال�س َم َو ِات َو ْ أ‬‫ا ْل َك ِب ُري المْ ُ َت َع ِال{‪ ،‬وذلك من تقدير اهلل‪ ،‬وق�ضائه وقدره النافذين‪ ،‬قال �سبحانه‪} :‬للِ هَّ ِ ُم ْل ُك َّ‬
‫َي ْخ ُلقُ َما َي َ�شا ُء َي َه ُب لمِ َنْ َي َ�شا ُء �إِ َنا ًثا َو َي َه ُب لمِ َنْ َي َ�شا ُء ال ُّذ ُكو َر{ �أَ ْو ُيزَ ِّو ُج ُه ْم ُذ ْك َرا ًنا َو ِ�إ َنا ًثا َو َي ْج َع ُل َمنْ َي َ�شا ُء َع ِقي ًما‬
‫قد ُم النبي‪s‬‬ ‫ِ�إ َّن ُه َع ِلي ٌم َق ِدي ٌر{‪ ،‬ويف �صحيح البخاري �أن عبد اهلل بن �سالم‪d‬وكان من �أحبار اليهود بلغه َم َ‬
‫نبي‪ ،‬وذكر منها‪( :‬ما بال الولد‬ ‫املدين َة‪ ،‬ف�أتاه ي�س�أله عن �أ�شياء فقال‪� :‬إين �سائلك عن ثالث ال يعلمهن �إال ّ‬
‫ينزع �إىل �أبيه �أو �إىل �أمه)‪ ،‬فقال‪�( :s‬أخربين به جربيل �آنفا‪ ..‬و�أما الولد ف�إذا َ�س َبقَ ما ُء الرجل ما َء املر�أة‬
‫َنزَ َع الولد‪ ،‬و�إذا �سبق ماء املر�أة ماء الرجل نزعت الولد)‪ ،‬قال‪�( :‬أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أنك ر�سول اهلل)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫خ�ص �أقوام ًا بالإناث لفائدة يعلمها‬
‫فمن حكم ِة اهلل �أن َّ‬ ‫ فتقدير الأوالد والبنات ِمن اهلل العزيز احلكيم‪ِ ،‬‬
‫الم قد َه َل َك‬ ‫بنت خري ًا لأبيها وذويها من غلمان‪ ،‬وقال قتاد ُة‪ُ ( :‬ر َّب َجاري ٍة خ ٌ‬
‫ري ِمن ُغ ٍ‬ ‫�سبحانه‪ ،‬ورمبا كانت ٌ‬
‫�أه ُله على يديه)‪.‬‬

‫ وقال حممد بن �سليمان‪( :‬البنون ِن َع ٌم والبناتُ َح َ�سنات واهلل عز وجل يحا�سب على النعم ويجازي على‬
‫احل�سنات)‪ .‬لذا ف�إن من ال ِّنعم العظام التي ُين ِع ُم ُ‬
‫اهلل بها على املر ِء �أن يكون ذاتَ بنات فيح�سن �إليهن؛ روى‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫الرجل ا ِمل ْب َنات؛ قال‪ :‬وكان لوط‪a‬ذا بنات‬ ‫ابن �أبي الدنيا عن عبيداهلل ال�سعدي �أنه بلغه‪�( :‬أن اهلل يحب‬
‫وكان �شعيب‪a‬ذا بنات وكان النبي‪s‬ذا بنات)‪ ،‬وقال بع�ض الفقهاء‪:‬‬

‫‪476‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل البنت‬

‫البنات‬
‫ْ‬ ‫وح ُّب‬
‫البنات ُ‬
‫ِ‬ ‫أحب‬
‫ � ُّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫نف�س كر َمي ْه‬ ‫فر�ض َع َلى ُك ِّل ِ‬


‫ٌ‬ ‫ ‬
‫لأن ُ�شعيب ًا ِمنْ � ْأج ِل ال َب َنات‬ ‫ ‬
‫و�سى َكلي َم ْه‬ ‫ُ‬
‫أخد َم ُه اهلل ُم َ‬
‫ � َ‬
‫ �إن معرفة املرء �أنه م�شاب ٌه للأنبياء فيما اختار ُ‬
‫اهلل لهم مما ُي�سلي ف�ؤا َده و ُي ِج ُّمه؛ قال يعقوب بن بختان‪:‬‬
‫ُولد يل �سبع بنات فكنت كلما ُولد يل ابن ٌة دخلت على �أحمد بن حنبل فيقول‪ " :‬يل يا �أبا يو�سف الأنبياء �آباء‬
‫بنات فكان يذهب قوله همي"‪.‬‬

‫زوج النبي‪s‬‬
‫�سبب لل�سرت من النار؛ روى البخاري عن عائ�شة ِ‬
‫البنات على �أهلهن �أنهن ٌ‬
‫ِ‬ ‫فمن ف�ضل‬
‫ِ‬ ‫ ‬
‫قالت‪ :‬جاءتني امر�أ ٌة معها ابنتان ت�س�ألني فلم جتد عندي غ َري متر ٍة واحدة‪ ،‬ف�أعطيتها �إياها فق�سمتها بني‬
‫البنات �شيئ ًا ف�أح�سنَ �إليهن ُكنَّ‬
‫ِ‬ ‫فخرجت‪ ،‬فدخل النبي‪s‬فحدث ُت ُه فقال‪َ :‬‬
‫(من يلي ِمن هذه‬ ‫ْ‬ ‫ابنتيها ثم قامت‬
‫له �سرت ًا من النار)‪ .‬ويف رواية مل�سلم قال‪�( :s‬إن اهلل قد �أوجب لها بها اجلنة �أو �أعتقها بها من النار)‪.‬‬

‫ وروى ابن ماجه عن عقبة بن عامر‪d‬قال‪� :‬سمعت ر�سول اهلل‪s‬يقول‪( :‬من كان له ثالث بنات ف�صرب‬
‫عليهن و�أطعمهن و�سقاهن وك�ساهن من جدته ُكنَّ له حجاب ًا ِمن النار يوم القيامة)‪ .‬وروى الإمام �أحمد من‬
‫حديث جابر‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬من كن له ثالث بنات ي�ؤويهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت له اجلنة‬
‫البتة قال قيل‪ :‬يا ر�سول اهلل ف�إن كانت اثنتني قال‪ :‬و�إن كانت اثنتني قال‪ :‬فر�أى بع�ض القوم �أن لو قالوا له‪:‬‬
‫واحدة‪ ،‬لقال واحدة)‪.‬‬

‫�سبب يف �صحبة النبي‪s‬يوم احل�شر‪ ،‬ويف دخول اجلنة ففي �صحيح م�سلم‬ ‫ ومن ف�ضل البنات �أنهن ٌ‬
‫و�ضم‬
‫عن �أن�س بن مالك‪d‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪( :s‬من عال جاريتني حتى تبلغا جاء يوم القيامة �أنا وهو َّ‬
‫دخلت �أنا وهو‬
‫وح�سنه عن �أن�س‪d‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪( :s‬من عال جاريتني ُ‬ ‫�أ�صابعه)‪ .‬وروى الرتمذي َّ‬
‫اجلنة كهاتني)‪ ،‬و�أ�شار ب�أ�صبعيه‪.‬‬

‫�صرف للمال بعد الأمور الواجب ِة ما ينفقه املر ُء على بناته باملعروف؛ روى ابن ماجه عن‬ ‫ و� ُ‬
‫أف�ضل َم ٍ‬
‫قلت‪ :‬بلى يا ر�سول اهلل‪،‬‬
‫�سراقة بن مالك‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬يا �سراقة �أال �أدلك على �أف�ضل ال�صدقة ؟ ُ‬
‫كا�سب غ ُريك)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قال‪ :‬ابنتُك مردود ٌة �إليك لي�س لها‬
‫ ‬
‫ والبنات رحيماتٌ ب�أهلهن‪ ،‬ر�ؤفاتٌ ب�آبائهن‪ ،‬حم�سنات �إليهم‪ ،‬عطوفاتٌ عليهم‪ ،‬قال معاوية ‪( :d‬واهلل‬
‫ما م َّر َ�ض املر�ضى‪ ،‬وال ندب املوتى‪ ،‬وال �أعونُ على الأحزان منهن‪ ،‬ول ُر َّب ابنُ �أخت قد نفع خاله)‪.‬‬

‫‪477‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل البنت‬

‫ و ُر ِّوينا يف م�سند الإمام �أحمد عن عقبة بن عامر‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬ال تَكرهوا البنات ف�إنهن‬
‫امل�ؤن�ساتُ ال َغالياتُ )‪ .‬قال بع�ض املتقدمني‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫أيت رجا ًال يكرهون بناتهم‬
‫ر� ُ‬ ‫ ‬
‫�صوالح‬
‫ُ‬ ‫كذب ن�سا ٌء‬
‫وفيهن ال ٌ‬ ‫ ‬
‫أيام يعرثن بالفتى‬
‫وفيهن وال ُ‬ ‫ ‬
‫عوائـ ـ ُد ال ميـ ــلل ــنه ون ــوائــح‬ ‫ ‬
‫[الفنون البن عقيل �ص‪]596‬‬

‫ وجاء يف ق�صة اخل�ضر ومو�سى عليهما ال�سالم‪ ،‬عندما َقت ََل اخل�ض ُر الغالم‪ ،‬وا�ستعتبه مو�سى قال‬
‫خل ِ�ضر‪َ } :‬ف�أَ َر ْد َنا �أَن ُي ْب ِد َل ُه َما َر ُّب ُه َما َخ رْي ًا ِّم ْن ُه َز َكا ًة َو�أَ ْق َر َب ُر ْحم ًا{‪ ،‬جاء يف �صحيح البخاري معلق ًا �أنهما‬
‫ا َ‬
‫أقرب ُرحم ًا؛ �أي �أكرث بر ًا بوالديها و�أكرث �صل ًة ل َرحمهما‪� ،‬أو �أنها �أكرث رحم ًة‪� ،‬إذ‬ ‫ُرزقا جاري ًة‪ .‬فاجلارية � ُ‬
‫أقرب ُرحم ًا من الغالم كما ذكر اهلل ج ّل وعال‪.‬‬ ‫البنات رحيماتٌ مرحومات‪ ،‬فهي � ُ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫عباد اهلل ! �إن ف�ضل البنات ُ‬


‫ي�شمل الأخوات‪ ،‬روى الرتمذي عن �أبي �سعيد اخلدري‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬‬ ‫ ‬
‫قال‪( :‬ال يكون لأحدكم ثالث بنات �أو ثالث �أخوات فيح�سن �إليهن �إال دخل اجلنة)‪.‬‬

‫يتح�صل له �أج ُرهن �إال ب�شرطني‪� :‬أحدهما‪ :‬الإح�سانُ �إليهن‪ ،‬وبذل املعروف‪،‬‬ ‫ينال املر ُء ف�ض َلهنَّ وال ّ‬
‫ وال ُ‬
‫وطيب الع�شرة معهن‪ .‬والأمر الثاين‪ُ :‬ح�سن الرتبي ِة‪ ،‬والتن�شئة على ما يح ُب ُه اهلل وير�ضاه من الأقوال والأعمال‪،‬‬
‫من ال�سرت والعفاف‪ ،‬وكمال الأخالق‪.‬‬

‫ قال قتادة ‪-‬رحمه اهلل‪ :-‬يف قول اهلل تعاىل‪}:‬و�إذا ب�شر �أحدهم بالأنثى ظل وجهه م�سودا وهو كظيم{‪،‬‬
‫(هذا �صني ُع م�شركي العرب �أخربهم اهلل ‪-‬تعاىل ذك ُر ُه‪ُ -‬‬
‫بخ ْب ِث َ�صنيعهم‪ ،‬ف�أما امل�ؤمن فهو حقي ٌق �أن َي َ‬
‫ر�ضى‬
‫لنف�سه‪َ ،‬و َلعمري َما يدري �أنه خري؛ ل ُر َّب َجاري ٍة خ ٌ‬
‫ري لأهلها‬ ‫ري من ق�ضاء املرء ِ‬
‫هلل خ ٌ‬ ‫مبا َق َ�س ُم ُ‬
‫اهلل له و َق َ�ضا ُء ا ِ‬
‫غذو كلبه ويئد ابنته)‪.‬‬ ‫من غالم‪ ،‬و�إمنا �أخربكم اهلل ب�صنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه‪ ،‬وكان �أحدهم َي ُ‬

‫الرجال بالن�ساء خري ًا‪ ،‬و�أمرهم بالإح�سان �إليهن‪ ،‬و�أوجب على الرجال للن�ساء‬
‫َ‬ ‫ لقد �أو�صى ربنا جل وعال‬
‫�أمور ًا كثرية؛ منها النفق ُة‪ ،‬والرعاية‪ ،‬وح�سنُ ال�صحبة‪ُ ،‬‬
‫وعدم الأذية‪ ،‬وغري ذلك من الآداب ال�شرعية واملنح‬
‫املرعية‪ .‬ففي ال�صحيحني واللفظ مل�سلم من حديث �أبي هريرة‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪( :‬ا�ستو�صوا بالن�ساء‬
‫ال�ض َلع �أعاله ‪ ..‬ا�ستو�صوا بالن�ساء خري ًا)‪.‬‬ ‫خريا‪ ،‬ف�إنهن ُخلقنَ من ِ�ض َلع‪ ،‬و� ُ‬
‫أعوج ما يف ِّ‬

‫ ‬

‫‪478‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫فضل الرباط‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل الرباط‬

‫الخطبة األوىل‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫(ع ِج َب هَّ ُ‬
‫الل ِمنْ َق ْو ٍم َي ْد ُخ ُلونَ الجْ َ َّن َة فيِ ال�سَّلاَ ِ�س ِل)‪.‬‬ ‫النبي ‪s‬قال‪َ :‬‬ ‫ فقد ثبت يف �صحيح البخاري �أن َّ‬
‫أ�سباب املوجبة لدخول اجلنة‪� ،‬أُذوا‬ ‫فعل ال ِ‬ ‫القوم الذين عجب اهلل منهم هو �أق��وا ٌم �أُط��روا على ِ‬ ‫�إن �أولئك ِ‬
‫ف�صربوا‪ ،‬واعتُدي عليهم فانت�صروا؛ } َولمَ َ ِن انت ََ�ص َر َب ْع َد ُظ ْل ِم ِه َف ُ�أ ْو َل ِئ َك َما َع َل ْي ِهم ِّمن َ�س ِب ٍيل{‪.‬‬

‫أعرا�ضهم و�أموا ِلهم؛‬ ‫َ‬


‫الرباط يف �سبيل اهلل‪ ،‬وحماي َة دماء امل�سلمني و� ِ‬ ‫ عباد اهلل! �إن من �أف�ضل اجلها ِد‬
‫كما قال عمر بن اخلطاب‪( :d‬خري جهادكم الرباط)‪.‬‬

‫فمما �أُجر به �أن عي َنه حمفوظ ٌة من‬


‫رابط على حدود البالد م�أجو ٌر �أجر ًا عظيم ًا عند اهلل تعاىل‪ِ ،‬‬
‫ �إن املُ َ‬
‫م�سا�س النار بها؛ فقد ثبت عند الرتمذي من حديث ابن عبا�س‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬عينان ال مت�سهما‬ ‫ِ‬
‫النار عني بكت من خ�شية اهلل وعني باتت حتر�س يف �سبيل اهلل)‪.‬‬

‫بال�صيام والقيام؛ روى م�سل ٌم يف ال�صحيح عن �سلمان‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬


‫والرباط �أف�ض ُل من التطوع‬ ‫ ‬
‫(رباط يوم وليلة خري من �صيام �شهر وقيامه‪ ،‬و�إن مات جرى عليه عمله الذي كان يعم ُله‪ ،‬و�أُ ِ‬
‫جري عليه رز ُقهُ‪،‬‬
‫و�أمن الفتان)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ بل و�أعجب ِمن ذلك �أنه �إن مات مرابط ًا ف�إن عم َله ُيكتب له �إىل يوم القيامة‪ ،‬و� ِأمن من فتنة القرب‪،‬‬
‫(من مات مرابط ًا يف‬ ‫وفزع يوم القيامة؛ روى ابن ماجه ب�إ�سناد �صحيح عن �أبي هريرة‪� d‬أن النبي‪s‬قال‪َ :‬‬
‫ال�صالح الذي كان َيعمل‪ ،‬و�أَج َري عليه رز َقه‪ ،‬و�أَ ِمن ِمن الفتَّان‪َ ،‬و َبعثه ُ‬
‫اهلل‬ ‫ِ‬ ‫�سبيل اهلل �أَج َرى عليه �أج َر عم ِله‬
‫يوم القيامة �آمن ًا ِمن الفزع)‪.‬‬

‫ وروى �أبو داود ب�إ�سناد �صحيح عن ف�ضالة بن عبيد‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪ُ ( :‬ك ُّل ميت يختم على عمله �إال‬
‫املرابط ف�إنه ينمو له عمله �إىل يوم القيامة وي�ؤمن من فتان القرب)‪ ,‬قال القرطبي‪( :‬يف هذين احلديثني دلي ٌل‬
‫الرباط � ُ‬
‫أف�ضل الأعمال التي يبقى ثوا ُبها بعد املوت)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫على �أن‬

‫‪479‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل الرباط‬

‫َ‬
‫الرباط من �أف�ضل الأعمال عند اهلل تعاىل‪ ،‬فقد روى البخاري عن �سهل بن �سعد ال�ساعدي‪d‬‬ ‫ نعم! �إن‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ُ‬
‫(رباط يوم يف �سبيل اهلل خري عند اهلل من الدنيا وما فيها)‪.‬‬ ‫�أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪:‬‬

‫ا�س احلدود‪ ،‬واملرابطون عليها بر ًا‬


‫ و�إن ِمن �أجلى �صور الرباط‪ ،‬و�أظهر معاين اجلهاد‪ ،‬ما يقوم به ُح َّر ُ‬
‫أعظم‬
‫النا�س من االعتداء وال�سفك هو � ُ‬
‫فالرباط حلفظ دماء ِ‬ ‫ُ‬ ‫وبحر ًا وج ّوا‪� ،‬إذ بهم يحفظ ُ‬
‫اهلل البال َد والعباد‪،‬‬
‫�صور اجلهاد‪ ،‬قال ابن عمر‪ُ ( :d‬فر�ض اجلها ُد ل�سفك دماء امل�شركني‪ ،‬والرباط حلقن دماء امل�سلمني‪،‬‬
‫يل من �سفك دماء امل�شركني)‪.‬‬ ‫أحب �إ َّ‬
‫وحقنُ دماء امل�سلمني � ُّ‬

‫مما‬‫وح ْر ُ�سها َّ‬


‫ �إن َح ْر ُ�س احلدو ِد حلفظ الأم��وال والأرا�ضي من االعتداء هي اجلها ُد يف �سبيل اهلل‪َ ،‬‬
‫ذهب العقول من املخدرات ونحوها هو جها ٌد يف �سبيل اهلل‪.‬‬ ‫ُي ُ‬
‫ �إن من البال ِء (عباد اهلل!) �إن ُي�ص َب َغ االعتدا ُء با�سم الدين‪ ،‬و ُيقتَل النا�س مب�س ّمى التقوى‪ ،‬ف ُيقتل املئاتُ‬
‫من الآمنني حتت �شعار (املوت لأمريكا و�إ�سرائيل) ف�أين �أمريكا و�إ�سرائي ُل من جنوب اجلزيرة العربية‪.‬‬
‫ال�شعارت‬‫أهداف �سيا�سية‪ ،‬دثرت بدثار املذهبية املقيتة والطائف ّية البغي�ضة‪ ،‬ثم ُزوقت وجملت بهذه ِّ‬ ‫ولكنها � ٌ‬
‫التي تَنطلي على ُب�سطاء التعليم‪ ،‬و�أغمار النا�س‪� ،‬أفال نعترب من تاريخنا القريب والبعيد‪.‬‬

‫أر�ضهم‪ ،‬وخ�صو�ص ًا �إن كان اعتدا�ؤه‬


‫ لقد جاء ال�شر ُع (عباد اهلل !) بالأمر مبقاتل ِة املعتدي على املُ�سلمني و� ِ‬
‫آمان‪.‬‬
‫وبح َّج ِته؛ لأن الدينَ لي�س فيه ذلك‪ ،‬و�إمنا ديننا دينُ ِ�سلم و� ٍ‬
‫با�سم الدين ُ‬

‫ فقد روى �أحمد و�أبو داود ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي �سعيد اخلدري و�أن�س بن مالك �أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪:‬‬
‫القيل َو ُي�سيئون الفعل‪ ،‬يقر�ؤون القر�آن ال يجاوز تراقيهم‬‫(�سيكون يف �أمتي اختالف وفرقة قو ٌم يح�سنون َ‬
‫ال�سهم من ال َّرمية ال يرجعون حتى يرت َّد على فوقه‪ ،‬هم �ش ُّر اخللق واخلليق ِة ُطو َبى‬ ‫ميرقون من الدِّ ين َ‬
‫مروق َّ‬
‫ملن قت َلهم َوقتلوه يدعون �إىل كتاب اهلل ولي�سوا منه يف �شيء من قاتلهم كان �أوىل باهلل منهم)‪.‬‬

‫م�سلم �أن علي ًا ‪َ d‬ذ َك َر الخْ َ َوا ِر َج َف َق َال‪ِ ( :‬ف ِيه ْم َر ُج ٌل مخُْ َد ُج ا ْل َي ِد َلو َْال �أَنْ َت ْب َط ُروا لحَ َ َّد ْث ُت ُك ْم‬ ‫ ويف �صحيح ٍ‬
‫علي‪ :d‬آ� ْن َت َ�س ِم ْع َت ُه ِمنْ محُ َ َّم ٍد‪s‬؟ ف َق َال‪�ِ ( :‬إي‬ ‫ف�سئل ٌّ‬ ‫الل ا َّل ِذينَ َي ْق ُت ُلو َن ُه ْم َع َلى ِل َ�س ِان محُ َ َّمد‪ُ ،)s‬‬ ‫بمِ َ ا َو َع َد هَّ ُ‬
‫َو َر ِّب ا ْل َك ْع َب ِة‪�ِ ،‬إي َو َر ِّب ا ْل َك ْع َب ِة‪�ِ ،‬إي َو َر ِّب ا ْل َك ْع َب ِة)‪.‬‬

‫علي‪� d‬أن َي ُ‬
‫بط َر‬ ‫ قال ابن هبرية‪( :‬فيه من الفقه توافر الثواب يف قتل اخلوارج‪ ،‬و�أنه بلغ �إىل �أن خاف ّ‬
‫�أ�صحا ُبه �إذا �أخربهم بثوابهم يف قتلهم‪ ،‬و�إمنا ذكر هذه لئال يرى �أحد يف وقت ظهور مثلهم �أن قتال امل�شركني‬
‫�أوىل من قتالهم‪ ،‬بل قتالهم على هذا �أوىل من قتال امل�شركني‪ ،‬لأن يف ذلك حفظ ر�أ�س مال الإ�سالم‪ ،‬وقتال‬
‫امل�شركني هو طلب ربح يف الإ�سالم)‪.‬‬

‫�سمعت َ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬‬ ‫ُ‬ ‫علي ‪d‬قال‪:‬‬
‫مما ُرتب من الأجر على ُمقاتل ِة هوالء املعتدين‪ ،‬فعن ٍّ‬
‫تعجب ّ‬
‫ولذا فال َ‬ ‫ ‬

‫‪480‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل الرباط‬

‫أحداث الأ�سنان‪� ،‬سفها ُء الأحالم يقولون ِمن َخري ِ‬


‫قول الربية َيقر�أون‬ ‫يقول‪�( :‬سيخرج يف �آخر الزمان قو ٌم � ُ‬
‫القر�آن ال يجاوز حناج َرهم‪ ،‬ميرقون من الدين كما ميرق ال�سهم من الرمية‪ ،‬ف�إذا لقيتموهم فاقتلوهم‪ ،‬ف�إن‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫يف قتلهم �أجر ًا يوم القيامة)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪481‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫فضل املسن‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل املسن‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫و�صحة و ُفت َّوة‪ ،‬ف�إن كثري ًا من العقالء‬


‫ال�شباب وزمانه‪ ،‬وما فيه من ن�شاط وق ّوة ّ‬
‫ِ‬ ‫ فلئن تغ َّنى البع�ض ب�سنِّ‬
‫ويرغب يف ا�ستعجاله‪ ،‬ويفرح بقدومه؛ كما قال ابن دقيق العيد‪:‬‬
‫ُ‬ ‫يحب امل�شيب‪،‬‬
‫ُّ‬

‫اج َل لمَِّــتي‬
‫مت ـنـ ُـت �أن ال�شــيب ع ـَ َ‬ ‫ ‬
‫وع ّجـ َـل ِمني يف ِ�صب ـَاي مـَز َرا ُه‬
‫َ‬ ‫ ‬
‫ع�صر ال�شَّ باب ُ‬
‫ن�شاطه‬ ‫آخذ ِمن ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ ‬
‫امل�شيب َو َقا ُر ُه‬
‫ِ‬ ‫و�آخذ ِمن َع�صْ ِر‬ ‫ ‬

‫ال�شيب عباد اهلل! وقا ٌر ل�صاحبه‪ ،‬ومهاب ٌة له يف �أعني الآخرين‪ ،‬روى الإمام مالك (يف املوط�أ ‪ )1642‬عن‬
‫۩۩ ُ‬
‫رب َما هذا فقال اهلل تبارك‬ ‫�سعيد بن امل�سيب قال‪( :‬كان �إبراهيم‪َ �a‬‬
‫أول النا�س َر�أى ال�شيب فقال‪ :‬يا ِّ‬
‫رب زدين وقار ًا)‪.‬‬ ‫وتعاىل‪ " :‬وقا ٌر يا �إبراهيم‪ِ a‬‬
‫وح ْل ٌم [هذه الزيادة من ابن �أبي �شيبة‪ ،" ]d‬فقال‪ِّ :‬‬
‫خطبة جديدة‬
‫ك�سوه مهاب ًة وجما ًال؛ روى البيهقي [�شعب‬ ‫فال�شيب نور ًا يف وجه �صاحبه‪ِ ،‬‬
‫وحلي ٌة على حمياه؛ و�ضيا ٌء َي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫الإميان ] ب�إ�سناد ح�سن �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ال�شيب نور يف وجه امل�سلم فمن َ�شا َء فلينتف نوره)‪.‬‬

‫فال�شيب وال�سنُّ يجعالن ل�صاحبهما وقار ًا ورزانه‪ ،‬وهيئ ًة ون�ضارة‪ .‬لذا ف�إنه ُيق ّدم يف املجال�س‪ ،‬و ُيبد�أ به‬ ‫ُ‬ ‫ ‬
‫عند الإكرام‪ ،‬و ُي�س�أل عن امل�شاورة؛ يف ال�صحيحني �أن َع ْبدُال َّر ْح َم ِن ْبنُ َ�س ْه ٍل وَمحُ َ ِّي َ�ص ُة َو ُح َو ِّي َ�ص ُة ا ْب َنا َم ْ�س ُع ٍود‬
‫�أتيا ال َّن ِب َّي‪َ s‬ف َذ َه َب َع ْب ُد ال َّر ْح َم ِن َي َت َك َّل ُم َف َق َال‪َ ( :s‬كبرِّْ َكبرِّْ !) َوكان �أ�صغرهم‪َ ،‬ف َ�س َك َت و َت َك َّل َما‪.‬‬

‫ ويف �صحيح البخاري‪ :‬عن ابن عمر �أَنَّ ال َّن ِب َّي ‪َ s‬ق َال‪�( :‬أَ َرانيِ �أَت ََ�س َّو ُك ِب ِ�س َو ٍ‬
‫اك َف َجا َءنيِ َر ُجلاَ ِن �أَ َحدُهُ َما‬
‫الَكْبرَ ِ ِم ْن ُه َما)‪.‬فالأك ًرب �سن ًا يق ّدم‬ ‫الَ�صْ َغ َر ِم ْن ُه َما َف ِق َيل ليِ َكبرِّْ َف َد َف ْع ُت ُه �إِ ىَل ْ أ‬
‫اك ْ أ‬ ‫�أَكْبرَ ُ ِمنْ ْال َآخ ِر َف َنا َو ْل ُت ِّ‬
‫ال�س َو َ‬
‫يف احلديث والكالم‪ ،‬و ُيق ّدم يف الإكرام ُ�سن ًة من النبي الكرمي‪.s‬‬

‫‪482‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل املسن‬

‫ و�إكرام الكبري من �إجالل اهلل ج ّل وعال؛ روى الإمام �أحمد و�أبو داود ب�إ�سناد ح�سن عن �أبي مو�سى‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وحامل القر�آن غري الغايل فيه‬


‫ِ‬ ‫إكرام ذي ال�شَّ يبة امل�سلم‪،‬‬
‫الأ�شعريرقال‪ :‬قال النبي‪�( :s‬إن من �إجالل اهلل � َ‬
‫لطان املُق�سط)‪.‬‬
‫ال�س ِ‬
‫إكرام ذي ُّ‬
‫وال اجلايف عنه‪ ،‬و� َ‬

‫متام عقل املرءِ‪ ،‬وكمال ر�أيه عندما يبلغ �سنَّ امل�شيب ف�إذا بلغ املر ُء الأربعني ف�إنه يكون قد ابتد�أ الكهولة‪،‬‬
‫۩۩ ُ‬
‫وفيها جمتمع الأ�شد‪ ،‬وذلك ح ُّد اال�ستواء‪ ،‬ومنتهى الكمال‪ .‬وقد كانت العرب ال يدخل �أح ٌد منهم دا َر‬
‫الندوة �إذا َحزَ َب �أم ٌر (وهي الدار التي يت�شاورون فيها) �إال �أن يكون ابن الأربعني و�صاعد ًا‪.‬‬

‫جل وعال �إمنا يبعثون �إذا بلغوا �أربعني عام ًا؛ قال �أن�سر‪( :‬بعث النبي‪s‬وهو ابن �أربعني‬ ‫ و�أنبياء ُ‬
‫اهلل َّ‬
‫ني! اتقوا َ‬
‫اهلل و�س ِّودُوا �أك َربكم‪ ،‬ف�إن القوم �إذا َ�س َّودوا �أك َربهم‬ ‫�سنة)‪ .‬و�أو�صى قي�س بن عا�صم بنيه فقال‪( :‬يا َب َّ‬
‫َخ َل ُفوا �أباهم‪ ،‬و�إذا �س َّودوا �أ�صغرهم �أذرى ذلك لهم عند �أكفائهم)‪.‬‬

‫}حتَّى ِ�إ َذا َب َل َغ �أَ ُ�ش َّد ُه َو َب َل َغ َ�أ ْر َب ِع َني َ�س َن ًة َق َال‬
‫ي�ضعف داعي الهوى‪ ،‬و�سكر ُة الفت ّوة‪ ،‬ويغلب العقل‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫امل�شيب‬
‫ِ‬ ‫۩ ۩يف‬
‫َر ِّب �أَ ْوز ِْع ِني �أَنْ �أَ�شْ ُك َر ِن ْع َمت ََك ا َّل ِتي �أَ ْن َع ْم َت َع َل َّي َو َع َلى َوا ِل َد َّي َو َ�أنْ َ�أ ْع َم َل َ�صالحِ ًا َت ْر َ�ضا ُه َو َ�أ�صْ ِل ْح ليِ فيِ ُذ ِّر َّي ِتي‬
‫يقرب العب ُد من اهلل ع ّز وج َّل ويبع ُد عن �صوارف‬ ‫ُ‬ ‫ِ�إنيِّ ُت ْب ُت ِ�إ َل ْي َك َو ِ�إنيِّ ِمنَ المْ ُ ْ�س ِل ِمنيَ{‪ ،‬ففي هذه ال�سنِّ‬
‫اهلل ج ّل وعال �أن عبده امل�ؤمن �إذا بلغ �أ ّول �سنِّ امل�شيب �س�أل اهلل ُ�شكر نعمته‪،‬‬ ‫الدنيا ومالهيها‪ ،‬لذا ذكر ُ‬
‫و�س�أل اهلل الإعانة على العمل ال�صالح‪ ،‬و�س�ألته �إ�صالح ذريته وان�شغل بذلك‪ ،‬ثم ا�ستغفر ذنبه تاب لباريه‬
‫و�أناب �إليه‪.‬‬

‫۩ ۩لذا فال تعجب حينما ترى �أحاديثَ كثري ًة عن امل�صطفى‪s‬يف ف�ضل َمن طال ُع ُمره‪ ،‬و�أ�سنَّ فيه‪ ،‬روى‬
‫�أحم ُد والرتمذي ب�إ�سناد ح�سن �أن النبي‪s‬قال‪( :‬خريكم من طال عم ُر ُه وح�سن عم ُلهُ)‪.‬‬

‫(من �شاب �شيبة يف الإ�سالم‬ ‫ وروى �أهل ال�سنن ب�إ�سناد �صحيح عن كعب بن مرة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪َ :‬‬
‫كانت له نورا يوم القيامة)‪ .‬وروى ابن حبان و�صححه عن �أبي هريرة‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬ال تنتفوا‬
‫وح َّط عنه بها خطيئة و ُرفع َل ُه‬
‫يوم القيامة‪ ،‬ومن �شاب �شيبة يف الإ�سالم كتب له بها ح�سنة‪ُ ،‬‬
‫ال�شيب ف�إنه نو ٌر َ‬
‫بها درجة)‪.‬‬

‫(من مل يرحم �صغرينا ويعرف حقَّ‬ ‫ روى �أبو داود وغريه عن عبد اهلل بن َعمرو ‪�d‬أن النبي ‪s‬قال‪َ :‬‬
‫يخ ًا �إال ق َّي َ�ض ُ‬
‫اهلل تعاىل له‬ ‫اب َ�ش َ‬
‫كبرينا فلي�س منا)‪ .‬روى الرتمذي عن �أن�س‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬ما و َّق َر َ�ش ٌ‬
‫يف ِ�س ِّن ِه َمن يو ّقره)‪.‬‬

‫‪483‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬فضل املسن‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪484‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة آدم‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة آدم‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬


‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫واختلفت بينهم اللغ ُة‬
‫ْ‬ ‫آدم بنوه اختلفت �أ�شكالهم‪ ،‬وتنوعت ُلغاتهم‪ ،‬وتعدد هيئاتهم‪ ،‬تفرقت بهم الفجاج‪،‬‬
‫ف� ُ‬
‫واحلجاج‪ ،‬منهم الذك ُر والأنثى‪ ،‬وفيهم الفقري والغني‪ ،‬وال�ضعيف والقوي‪.‬‬

‫والعقول والهيئات‪ .‬لكنهم‬


‫ِ‬ ‫أعمال‬
‫ اختلفوا حتى ال يكادون يتفقون يف �شيءٍ من ال�صفات‪ ،‬وافرتقوا يف ال ِ‬
‫آدم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ي�صدق ذلك الو�صف على غريهم �أنها �آدميتهم‪ ،‬ون�سبتهم ل َ‬ ‫واحد ال ي�ش ُّذ منهم �أحد‪ ،‬وال‬
‫اتفقوا يف �شيءٍ ٍ‬
‫آدم من تراب)‪.‬‬ ‫قال‪( :s‬كلكم لآدم و� ُ‬

‫َ‬
‫والو�صف الذي �إليه َينت َِ�سب‪.‬‬ ‫آدم �أن يعرف ن�س َبه الذي يرج ُع �إليه‪ ،‬و�أ�ص َله الذي منه تف ّرع‪،‬‬
‫حري بابن � َ‬
‫ٌّ‬

‫روحه‪ ،‬و�أمر‬ ‫آدم بيده‪ ،‬روى الن�سائي �أن النبي‪s‬قال‪( :‬خلق ُ‬


‫اهلل �آدم بيده‪ ،‬ونفخ فيه من ِ‬ ‫ لقد خلق اهلل � ُ‬
‫املالئكة ف�سجدوا له)‪ .‬قال �أبو القا�سم ال�سهيلي‪�( :‬إن يو�سف‪a‬كان على الن�صف من ُح�سن �آدم‪ ،a‬ف�إن‬
‫يو�سف ُ�أعطي‬
‫اهلل خلق �آدم بيده على �أكمل �صورة و�أح�سنها‪ ،‬ومل يكن من ذريته من يوازيه يف جماله‪ ،‬وكان ُ‬
‫ن�صف ُح�سنه)‪.‬‬

‫ ويف ال�صحيحني عن �أبي هريرة‪d‬عن النبي‪s‬قال‪( :‬خلق اهلل �آدم وطوله �ستون ذراع ًا‪ .‬فكل من‬
‫خطبة جديدة‬

‫يدخل اجلنة على �صورة �آدم فلم يزل اخللق ينق�ص حتى الآن)‪.‬‬

‫الرتاب‬
‫ُ‬ ‫ خلق ُ‬
‫اهلل �آدم من تراب } َو ِمنْ �آ َيا ِت ِه �أَنْ َخ َل َق ُكم ِّمن ُت َر ٍاب ُث َّم �إِ َذا �أَنتُم َب َ�ش ٌر تَنت َِ�ش ُرونَ {‪ ،‬وهذا‬
‫}م ْن َها َخ َل ْق َنا ُك ْم َو ِفي َها ُن ِعي ُد ُك ْم َو ِم ْن َها ُن ْخ ِر ُج ُك ْم تَا َر ًة ُ�أ ْخ َرى{‪،‬‬
‫من تراب الأر�ض التي نطا�ؤها ومن�شي عليها ِ‬
‫ترب الأر�ض جميع ًا لي�س من بقع ٍة دون �أُخرى‪ ،‬روى �أبو داود والرتمذي و�صححه عن �أبي مو�سى‬ ‫ُخلق �آدم من ِ‬
‫الأ�شعري �أن النبي ‪s‬قال‪�( :‬إن اهلل خلق �آدم من قب�ضة قب�ضها من جميع الأر�ض فجاء بنو �آدم على قدر‬
‫الأر�ض جاء منهم الأحمر والأبي�ض والأ�سود وبني ذلك وال�سهل واحلزن واخلبيث والطيب)‪.‬‬

‫اهلل �آدم من تراب‪ ،‬ثم جعله طين ًا‪ ،‬ثم جعله �صل�صا ًال من حم�أ م�سنون‪ ،‬واحلم�أ امل�سنون هو الطني‬ ‫ فخلق ُ‬
‫اهلل فيه من روحوه‪ ،‬و�أمر املالئكة بال�سجود له‪�} :‬إِ ْذ َق َال َر ُّب َك ِل ْل َمال ِئ َك ِة �إِنيِّ َخا ِل ٌق َب َ�ش ًرا ِمن‬ ‫الأمل�س‪ .‬ثم نفخ ُ‬
‫وحي َف َق ُعوا َل ُه َ�س ِاج ِدينَ {‪.‬‬
‫ِط ٍني { َف ِ�إ َذا َ�س َّو ْي ُت ُه َو َن َف ْخ ُت ِفي ِه ِمن ُّر ِ‬
‫‪485‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة آدم‬

‫قول مالئكته عند خلق �آدم فقال �سبحانه‪َ } :‬و�إِ ْذ َق َال َر ُّب َك ِل ْل َم َال ِئ َك ِة �إِنيِّ َج ِاع ٌل فيِ الأَ ْر ِ�ض‬ ‫اهلل َ‬ ‫ وحكى ُ‬
‫َخ ِلي َف ًة َقا ُلو ْا �أَتجَْ َع ُل ِفي َها َمن ُي ْف ِ�س ُد ِفي َها َو َي ْ�س ِف ُك الدِّ َما َء َو َن ْحنُ ُن َ�س ِّب ُح ِب َح ْم ِد َك َو ُن َقدِّ ُ�س َل َك َق َال �إِنيِّ �أَ ْع َل ُم َما‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫َال َت ْع َل ُمونَ {‪ ،‬ومعنى كون �آدم خليف ًة �أي �أنه َخ َل َف �آخرين �سكنوا الأر�ض قب َله‪ ،‬و�أراد اهلل �أن يبني ف�ضل � َ‬
‫آدم‬
‫عليهم‪ ،‬وما ميزهم اهلل بهم فقال �سبحانه‪َ } :‬و َع َّل َم �آ َد َم الأَ ْ�س َما َء ُك َّل َها ُث َّم َع َر َ�ض ُه ْم َع َلى المْ َ َال ِئ َك ِة َف َق َال �أَن ِب ُئونيِ‬
‫نت ا ْل َع ِل ُيم الحْ َ ِك ُيم{ َق َال َيا‬ ‫ِب�أَ ْ�س َماء َهـ ُ�ؤالء ِ�إن ُكنت ُْم َ�صا ِد ِق َني{ َقا ُلو ْا ُ�س ْب َحا َن َك َال ِع ْل َم َل َنا ِ�إالَّ َما َع َّل ْم َت َنا ِ�إ َّن َك �أَ َ‬
‫ال�س َما َو ِات َوا َلأ ْر ِ�ض َو�أَ ْع َل ُم َما‬ ‫�آ َد ُم �أَن ِب ْئ ُهم ِب�أَ ْ�س َم�آ ِئ ِه ْم َف َل َّما �أَن َب�أَهُ ْم ِب َ�أ ْ�س َم�آ ِئ ِه ْم َق َال �أَ مَْل َ�أ ُقل َّل ُك ْم ِ�إنيِّ َ�أ ْع َل ُم َغ ْي َب َّ‬
‫ُت ْبدُونَ َو َما ُكنت ُْم َت ْك ُت ُمونَ {‬
‫آدم �إمنا َف ُ�ض َل بالعلم‪ ،‬ف َمن كان من بنيه عامل ًا فهم املو ّفق املرفوع الفا�ضل‪:‬‬ ‫ف�أبان �سبحانه �أن � َ‬ ‫ ‬
‫الل ا َّل ِذينَ � َآم ُنوا ِمن ُك ْم َوا َّل ِذينَ �أُو ُتوا ا ْل ِع ْل َم َد َر َج ٍات{‪.‬‬ ‫} َي ْر َف ِع هَّ ُ‬

‫آدم �أن يتع ّلم من املالئكة �شيئ ًا‪ ،‬ففي يف ال�صحيحني �أن‬
‫ وكما �أن العلم ال ينال �إال بالتعلم فقد �أمر اهلل � َ‬
‫ف�س ِّلم على �أولئك ِمن املالئكة فا�ست َِم ْع َما يحيونك هي حتيتك‬
‫النبي‪s‬قال‪( :‬خلق اهلل �آدم ثم قال اذهب َ‬
‫وحتية ذريتك فقال ال�سالم عليكم فقالوا ال�سالم عليك ورحمة اهلل فزادوه ورحمة اهلل)‪.‬‬

‫آدم‪ ،‬و�أ�شهدهم اهلل على �أنف�سهم �إال‬


‫ظهره و�أخرج ذريته له فر�أهم � ُ‬ ‫اهلل على ِ‬ ‫ بعد متام َخ ْل ِقه م�سح ُ‬
‫يعبدوا غ َريه‪ ،‬ف�أطاعوا و�أق�� ّروا‪ ،‬روى الرتمذي و�صححه �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ملا خلق ُ‬
‫اهلل �آدم َم َ�س َح ظهره‬
‫ف�سقط من ظهره كل ن�سمة هو خالقها من ذريته �إىل يوم القيامة وجعل بني عيني كل �إن�سان منهم وبي�ص ًا من‬
‫بي�ص‬
‫رب َمن ه�ؤالء؟ قال‪ :‬ه�ؤالء ذريتُك‪ ،‬فر�أى رجال منهم ف�أعجبه َو ُ‬ ‫نور‪ ،‬ثم عر�ضهم على �آدم فقال‪ْ � :‬أي ِّ‬
‫رب َكم‬‫ما بني عينيه فقال‪ْ � :‬أي رب من هذا؟ فقال‪ :‬هذا رجل من �آخر الأمم ِمن ذريتك يقال له داود‪ ،‬فقال‪ِّ :‬‬
‫رب زد ُه ِمن ُعمري �أربعني �سنة‪ ،‬فلما ُق�ضي ُعم ُر �آدم جاءه ملك املوت‬
‫جعلت عم َره؟ قال‪� :‬ستني �سنة‪ ،‬قال‪ْ � :‬أي ِّ‬
‫عطها اب َنك داود قال‪ :‬فجحد �آدم فجحدت ذريته‪،‬‬ ‫آدم‪� :‬أو مل يبقَ ِمن عمري �أربعون �سنة‪ ،‬قال‪� :‬أو مل ُت ِ‬ ‫فقال � ُ‬
‫ون�سي �آدم فن�سيت ذريته‪ ،‬وخطئ �آدم فخطئت ذريته)‪ ،‬ويف رواية عن ابن عبا�س‪ d‬مرفوع ًا‪( :‬وكان عمر‬
‫�آدم �ألف عام)‪ .‬وكانت املالئكة عندما �أُمرت بال�سجود �آدم قد �سجدت �إال �إبلي�س مل ي�سجد معهم‪ ،‬ف�أعلن‬
‫إبلي�س بال�شهوات‪،‬‬
‫العداء لآدم وبنيه‪ ،‬ونا�صبهم اخلالف‪ ،‬و�أوعدهم الغواية �إىل يوم الدين‪ ،‬فمنهم من يغويه � ُ‬
‫ومنهم من يغريه بال�شبهات عياذ ًا باهلل‪� ،‬إال عبا َد اهلل املخل�صني‪.‬‬

‫ وكان �أ ّول ما ن�صبه لآدم وبنيه �أن �أخرجهم من اجلنة‪ ،‬يقول اهلل تعاىل‪َ } :‬و َل َق ْد َخ َل ْق َنا ُك ْم ُث َّم َ�ص َّو ْر َنا ُك ْم‬
‫ال�س ِاج ِدينَ { َق َال َما َم َن َع َك �أَالَّ ت َْ�س ُج َد ِ�إ ْذ �أَ َم ْر ُت َك‬ ‫ي�س مَْل َي ُكن ِّمنَ َّ‬ ‫ا�س ُجدُو ْا لآ َد َم َف َ�س َجدُو ْا ِ�إالَّ ِ�إ ْب ِل َ‬
‫ُث َّم ُق ْل َنا ِل ْل َملآ ِئ َك ِة ْ‬
‫اخ ُر ْج‬‫ي ِّم ْن ُه َخ َل ْق َت ِني ِمن َّنا ٍر َو َخ َل ْق َت ُه ِمن ِط ٍني{ َق َال َف ْاه ِب ْط ِم ْن َها َف َما َي ُكونُ َل َك �أَن َت َت َكبرَّ َ ِفي َها َف ْ‬ ‫َق َال �أَ َن ْا َخ رْ ٌ‬
‫نظ ِرينَ { َق َال َف ِب َما �أَ ْغ َو ْي َت ِني لأَ ْق ُع َدنَّ َل ُه ْم‬ ‫نظرْنيِ �إِ ىَل َي ْو ِم ُي ْب َع ُثونَ { َق َال �إِ َّن َك ِمنَ املُ َ‬ ‫�إِ َّن َك ِمنَ ال�صَّ ِاغ ِرينَ { َق َال �أَ ِ‬
‫ِ�ص َر َاط َك المْ ُ ْ�س َت ِق َيم{ ُث َّم لآ ِت َي َّن ُهم ِّمن َبينْ ِ �أَ ْي ِد ِيه ْم َو ِمنْ َخ ْل ِف ِه ْم َو َعنْ �أَ مْ َيا ِن ِه ْم َو َعن َ�ش َم�آ ِئ ِل ِه ْم َو َال تجَ ِ ُد �أَ ْك رَ َثهُ ْم‬
‫نت‬ ‫ا�س ُكنْ �أَ َ‬ ‫وما َّم ْد ُحو ًرا لمَّ َن َت ِب َع َك ِم ْن ُه ْم لأَمْلأنَّ َج َه َّن َم ِمن ُك ْم �أَ ْج َم ِع َني{ َو َيا �آ َد ُم ْ‬ ‫َ�ش ِاك ِرينَ { َق َال ْاخ ُر ْج ِم ْن َها َمذ ُْ�ؤ ً‬
‫الظالمِ ِ َني{ َف َو ْ�س َو َ�س َل ُه َما ال�شَّ ْي َطانُ‬ ‫َو َز ْو ُج َك الجْ َ َّن َة َف ُك َال ِمنْ َح ْيثُ ِ�ش ْئ ُت َما َو َال َت ْق َر َبا َه ِـذ ِه ال�شَّ َج َر َة َف َت ُكو َنا ِمنَ َّ‬
‫ِل ُي ْب ِد َي َل ُه َما َما ُوو ِر َي َع ْن ُه َما ِمن َ�سوْ�آ ِت ِه َما َو َق َال َما َن َها ُك َما َر ُّب ُك َما َعنْ َه ِـذ ِه ال�شَّ َج َر ِة ِ�إالَّ �أَن َت ُكو َنا َم َل َكينْ ِ �أَ ْو‬
‫ا�ص ِح َني{ َف َدالَّهُ َما ِب ُغ ُرو ٍر َف َل َّما َذا َقا ال�شَّ َج َر َة َب َد ْت َل ُه َما‬ ‫ا�س َم ُه َما �إِنيِّ َل ُك َما لمَ ِنَ ال َّن ِ‬ ‫َت ُكو َنا ِمنَ الخْ َ ا ِل ِدينَ { َو َق َ‬
‫‪486‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة آدم‬

‫َ�سوْ�آ ُت ُه َما َو َط ِف َقا َي ْخ ِ�ص َف ِان َع َل ْي ِه َما ِمن َو َر ِق الجْ َ َّن ِة َو َنادَاهُ َما َر ُّب ُه َما �أَ مَْل �أَ ْن َه ُك َما َعن ِت ْل ُك َما ال�شَّ َج َر ِة َو َ�أ ُقل َّل ُك َما‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ني{ َقا َال َر َّب َنا َظ َل ْم َنا �أَن ُف َ�س َنا َو ِ�إن مَّْل َت ْغ ِف ْر َل َنا َو َت ْر َح ْم َنا َل َن ُكو َننَّ ِمنَ الخْ َ ِا�س ِرينَ { َق َال‬ ‫ِ�إنَّ ال�شَّ ْي َطانَ َل ُك َما َع ُد ٌّو ُّم ِب ٌ‬
‫ْاه ِب ُطو ْا َب ْع ُ�ض ُك ْم ِل َب ْع ٍ�ض َع ُد ٌّو َو َل ُك ْم فيِ الأَ ْر ِ�ض ُم ْ�س َت َق ٌّر َو َمتَا ٌع �إِ ىَل ِح ٍني{ َق َال ِفي َها تحَْ َي ْونَ َو ِفي َها تمَ ُ و ُتونَ َو ِم ْن َها‬
‫ات‬‫ي َذ ِل َك ِمنْ �آ َي ِ‬ ‫ا�س ال َّت ْق َو َى َذ ِل َك َخ رْ ٌ‬
‫ي�شا َو ِل َب ُ‬ ‫ا�سا ُي َوا ِري َ�سوْ�آ ِت ُك ْم َو ِر ً‬ ‫ُت ْخ َر ُجونَ { َيا َب ِني �آ َد َم َق ْد �أَنزَ ْل َنا َع َل ْي ُك ْم ِل َب ً‬
‫ا�س ُه َما‬‫الل َل َع َّل ُه ْم َي َّذ َّك ُرونَ { َيا َب ِني �آ َد َم َال َي ْف ِت َن َّن ُك ُم ال�شَّ ْي َطانُ َك َما �أَ ْخ َر َج �أَ َب َو ْي ُكم ِّمنَ الجْ َ َّن ِة َي ِنز ُع َع ْن ُه َما ِل َب َ‬ ‫هَّ ِ‬
‫ِل رُ ِي َي ُه َما َ�سوْ�آ ِت ِه َما �إِ َّن ُه َي َرا ُك ْم هُ َو َو َق ِبي ُل ُه ِمنْ َح ْيثُ َال َت َر ْو َن ُه ْم �إِ َّنا َج َع ْل َنا ال�شَّ َي ِاط َني �أَ ْو ِل َياء ِل َّل ِذينَ َال ُي�ؤْ ِم ُنونَ {‪.‬‬
‫َاب َع َل ْيه‪ :‬ال �إ َله �إال �أَ ْن َت ُ�س ْب َحا َن َك الل ُهم َوبح ْم ِد َك َع ِم ْل ُت‬ ‫ وقد جاء �أنّ (الك ِل َماتُ التي ت َل ّقى �آد ٌم ِمن َر ِّب ِه َفت َ‬
‫ُ�سوءا َو َظ َل ْم ُت َن ْف�سي فاغفر يل �إ َّن َك َخ رْي الغا ِفرين‪ ،‬ال �إ َله �إال �أَ ْن َت ُ�س ْب َحا َن َك َوبح ْم ِد َك َع ِم ْل ُت ُ�سوءا َو َظ َل ْم ُت‬
‫الراحمني‪ ،‬ال �إ َله �إال �أَ ْن َت ُ�س ْب َحا َن َك َوبح ْم ِد َك َع ِم ْل ُت ُ�سوءا َو َظ َل ْم ُت َن ْف�سي َفت ُْب‬ ‫َن ْف�سي َفا ْر َح ْمني �إ َّن َك �أَ ْن َت َ�أ ْر َح ُم ِ‬
‫َّواب ال َّر ِحيم)‬ ‫َع َل َّي �إ َّن َك �أَ ْن َت الت ُ‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬


‫آدم �أبو الب�شر‪ ،‬و� ُ‬
‫أ�صل خلقتهم‪ ،‬وللمتف ّكر يف ق�صة خلقه‪a‬‬ ‫فاتقوا اهلل حق تقواه وبع ُد عباد اهلل ! ُ‬
‫فذاك � ُ‬ ‫ ‬
‫وقفاتٌ منها‪:‬‬
‫كمال الإميان باهلل ع ّز وجل‪ ،‬وهو من الإميان بالغيب يقول اهلل تعاىل‪} :‬امل{ َذ ِل َك‬ ‫۩ ۩�أن الإميان بذلك من ِ‬
‫َاب َال َر ْي َب ِفي ِه هُ دً ى ِّل ْل ُم َّت ِق َني{ ا َّل ِذينَ ُي�ؤْ ِم ُنونَ ِبا ْل َغ ْي ِب َو ُي ِقي ُمونَ ال�صَّ ال َة وَممَِّ ا َر َز ْق َناهُ ْم ُين ِف ُقونَ {‪.‬‬
‫ا ْل ِكت ُ‬
‫�صح به النقل‬ ‫اهلل تعاىل يف كتابه‪� ،‬أو َّ‬ ‫ن�صو�ص الوحيني مما �أخرب به ُ‬ ‫ِ‬ ‫ �إن من العجيب ح ّق ًا �أن ُينا َزع يف‬
‫عن ر�سوله‪ ،s‬فتغر�ض املغيبات على العقول و ُيجتهد يف ت�أويل الن�صو�ص حتى ُ�سمع َمن يقول‪� :‬إن �آدم لي�س‬
‫�صح به النقل هو‬ ‫�أب ًا للب�شر‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬ولي�س معنى ذلك تتبع الأخبار الإ�سرائيلية يف ق�صة �آدم‪ ،‬و�إمنا ما ّ‬
‫ما يلزم الت�صديق به فقط‪.‬‬
‫أحد على‬ ‫النا�س جميع ًا م�شرتكون يف هذا الو�صف وهذا الن�سب وبهذا اجلد‪ .‬فال ف�ضل ل ٍ‬ ‫۩ ۩ومن ذلك‪� .‬أن َ‬
‫امل�سلم ذلك مل يب ِغ على �أخيه‪ ،‬ومل يتكرب عليه‪ ،‬ومل يتغطر�س و�إن كان له خادم ًا‪� ،‬أو َ‬
‫عنده‬ ‫ُ‬ ‫�أحد‪ ،‬ف�إذا تَذ ّكر‬
‫ذه َب َعنكم ُع ِّب َّية اجلاهلية وفخ َرها‬ ‫النبي‪�( :s‬إن َ‬
‫اهلل قد �أَ َ‬ ‫�أجري ًا‪� ،‬أو دونه ما ًال وعق ًال ومن�صب ًا‪ ،‬يقول ُّ‬
‫راب) رواه الرتمذي‬ ‫النا�س كلهم بنو �آدم‪ ،‬و�آدم ُخلقَ ِمن ُت ٍ‬ ‫تقي و َفاجر �شقي‪ُ .‬‬ ‫بالآباء‪� ،‬إمنا هُ و م�ؤمنٌ ٌّ‬
‫و�أحمد‪.‬‬
‫يوم اجلمعة‪ ،‬وتوبة اهلل عليه كان فيها؛ ففي ال�صَّ حيح عن �أبي هريرة �أن‬ ‫آدم كان َ‬ ‫۩ ۩ومن ذلك �أن َخ ْلقَ � َ‬
‫يوم اجلمعة فيه ُخلق �آدم‪ ،‬وفيه �أدخل اجلنة‪ ،‬وفيه �أخرج‬ ‫م�س ُ‬ ‫يوم َط َل َعت َعليه ال�شَّ ُ‬ ‫(خ ُري ٍ‬ ‫النبي ‪s‬قال‪َ :‬‬
‫منها)‪ .‬ويف رواية عند �أبي داود‪( :‬وفيه �أهبط‪ ،‬وفيه تيب عليه‪ ،‬وفيه مات)‪.‬‬
‫ ومل يقل �أح ٌد �إن هذا اليوم يتخذ عيد ًا ملولد �آدم‪ ،a‬وال لتوبة اهلل عليه‪ ،‬وال ملبد�أ نزوله للأر�ض‪� ،‬إذ‬
‫بع�ض امل�سلمني من االحتفال مبولد النبي‬ ‫وبعده‪ ،‬فدلنا ذلك على �أن ما يفعله ُ‬ ‫هذا اليوم فا�ضل قبل خلق �آدم َ‬
‫‪ ،s‬وجعل هذا اليوم عيد ًا معظم ًا من الأمور املحدثة غري امل�شروعة و�إمنا هي من ا�ستزالل ال�شيطان البن‬
‫�آدم‪ ،‬وقد قال النبي‪s‬يف خطبته يف ُكل جمعة‪( :‬و�إياكم وحمدثات الأمور‪ ،‬ف�إن ُكل حمدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة‬
‫�ضاللة)‪ .‬عباد اهلل �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل‪.‬‬

‫‪487‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة أصحاب األخدود‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة أصحاب األخدود‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫حممد‪s‬على ثالثة �أنواع‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ ف�إن ال َق َ�ص َ�ص عن َّ‬


‫ال�سابقني من الأمم قبل نبينا‬
‫ق�ص�ص يجب ت�صدي ُقها‪ ،‬والإمي��انُ بها جزم ًا‪ .‬وهي الأخبار التي جاءت يف كتاب اهلل تعاىل‬ ‫ٌ‬ ‫۩ ۩�أحدها‪:‬‬
‫�ص َع َل ْي َك َن َب�أَهُ م ِبالحْ َ ِّق{‪.‬‬ ‫�صح بها ُ‬
‫النقل عن ر�سول اهلل‪s‬؛ كما قال ج ّل وعال‪َ } :‬ن ْحنُ َن ُق ُّ‬ ‫عنهم‪� ،‬أو َّ‬

‫املحكي فيهما هو �أح�سنُ ال َق َ�ص�ص موعظ ًة‪ ،‬و�أ�صد ُق ُه لفظا‪ ،‬و�أحك ُم ُه معنى‪ ،‬و�أبل ُغه �أ�سلوبا؛ } َن ْحنُ‬ ‫ُّ‬ ‫ وذلك‬
‫�ص َع َل ْي َك �أَ ْح َ�سنَ ا ْل َق َ�ص ِ�ص بمِ َ ا َ�أ ْو َح ْي َنا ِ�إ َل ْي َك َه َـذا ا ْل ُقرْ�آنَ َو ِ�إن ُك َ‬
‫نت ِمن َق ْب ِل ِه لمَ ِنَ ا ْل َغا ِف ِلنيَ{‪.‬‬ ‫َن ُق ُّ‬

‫۩ ۩والثاين‪ :‬ال َق ُ‬
‫�ص�ص الذي ال يجوز روايته‪ ،‬وال التحديثُ به ناهيك عن االعتقاد يف �صد ِقه‪ ،‬وهو ما ُروي من‬
‫بحدث‬
‫(من ح ّدث عني ٍ‬ ‫�صح عن النبي‪�s‬أنه قال‪َ :‬‬
‫طريق الكذابني والو�ضاعني ولو رفعوه للنبي‪ ،s‬وقد َّ‬
‫ُيرى �أنه كذب فهو �أحد ال َكاذبني) (رواه م�سلم يف مقدمته والرتمذي ‪ 2662‬وابن ماجه ‪.)14‬‬

‫طريق ُكتب �أهل الكتاب‪� ،‬أو رواه وح ّدث به ُم�س ِل َم ُة �أهل الكتاب‬
‫الق�ص�ص الذي جاءنا عن ِ‬‫ُ‬ ‫۩ ۩والنوع الثالث‪:‬‬
‫ككعب الأحبار ووهب بن منبه وغريهما‪ .‬فهذا يجوز روايته لكن ال يجوز اجلزم ب�صحته؛ وهو املراد بقول‬ ‫خطبة جديدة‬
‫النبي‪( :s‬حدثوا عن بني �إ�سرائيل وال حرج)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! ِومن ال َق�ص�ص التي يف كتاب اهلل وثبتت يف �صحيح ال�سنة عن ر�سول اهلل‪ ،s‬مما ُ‬
‫يجب‬
‫اب‬ ‫حلفرة العظيم؛ يقول اهلل ع ّز وجل‪ُ } :‬ق ِت َل �أَ�صْ َح ُ‬ ‫ق�ص ُة �أ�صحاب الأُخدود �أي ا ُ‬ ‫الإميانُ بها وت�صدي ُق ُها ّ‬
‫الأُ ْخدُو ِد{ال َّنا ِر َذ ِات ا ْل َو ُقو ِد{ �إِ ْذ هُ ْم َع َل ْي َها ُق ُعو ٌد{ َوهُ ْم َع َلى َما َي ْف َع ُلونَ ِبالمْ ُ�ؤْ ِم ِن َني ُ�ش ُهو ٌد{ َو َما َن َق ُموا ِم ْن ُه ْم �إِالَّ‬
‫الل ا ْل َع ِز ِيز الحْ َ ِم ِيد{‬‫�أَن ُي ْ�ؤ ِم ُنوا ِب هَّ ِ‬

‫ َروى ُم�سلم عن �صهيب‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬كان َم ِل ٌك في َمن كان قب َلكم وكان له َ�ساحر فلما َكبرُ َ‬
‫قال للملك‪� " :‬إين قد َكبرُ ت‪ ،‬ف�أبعثْ �إيل غالم ًا �أعلمه ِّ‬
‫ال�سحر "‪ ،‬فبعثْ �إليه غالم ًا يع ِّل ُمهُ‪ ،‬فكان يف طري ِقه‬

‫‪488‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة أصحاب األخدود‬

‫ال�ساحر م َّر بالراهب و َق َع َد �إليه‪ ،‬ف�إذا �أتى‬


‫كالمه‪ ،‬ف�أعجبه‪ ،‬فكان �إذا �أتى َّ‬ ‫و�س ِم َع َ‬
‫راهب‪ ،‬فقعد �إليه َ‬
‫�إذا َ�سلك ٌ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫خ�شيت ال�ساح َر ف ُقل َحب�سني �أهلي‪ ،‬و�إذا‬ ‫َ‬ ‫ال�ساح َر َ�ض َر َبه (�أي لت�أخره)‪ ،‬ف�شكى ذلك �إىل الراهب‪ ،‬فقال‪� " :‬إذا‬
‫َّ‬
‫ب�ست النا�س (و�س َّدت‬ ‫خ�شيت �أه َلك فقل حب�سني ال�ساحر "‪ ،‬فبينما هو كذلك �إذ �أتى َع َلى داب ٍة َعظيمة قد َح َ‬
‫َ‬
‫الراهب �أف�ض ُل‪ .‬ف�أخذ َح َج َر ًا فقال‪ " :‬اللهم �إن كان‬‫ُ‬ ‫ال�ساح ُر � ُ‬
‫أف�ضل �أم‬ ‫أعلم َّ‬
‫عليهم طريقهم)‪ ،‬فقال‪ :‬اليوم � ُ‬
‫أحب �إليك ِمن �أمر ال�ساحر فاقتل هذه الدابة حتى مي�ضى النا�س "‪ ،‬فرماها باحلجر فقت َلها‪،‬‬ ‫�أم ُر الراهب � َّ‬
‫وم�ضى النا�س (يف طريقهم)‪.‬‬

‫أمرك َما �أرى‪ ،‬و�إنك‬ ‫اليوم � ُ‬


‫أف�ضل مني‪ ،‬قد َب َل َغ ِمن � ِ‬ ‫أنت َ‬ ‫الراهب‪ْ � :‬أي بني � َ‬
‫ُ‬ ‫الراهب ف�أخربه‪ ،‬فقال له‬‫َ‬ ‫ ف�أتى‬
‫النا�س ِمن �سائر الأدواءِ‪،‬‬
‫أبر�ص‪ ،‬و ُي َداوي َ‬ ‫ربئ الأك َمه وال َ‬ ‫الغالم ُي ُ‬
‫ُ‬ ‫يت فال َّ‬
‫تدل َع َّلي‪َ .‬وكان‬ ‫ُ�ستبتلى‪ ،‬ف�إن اب ُت ِل َ‬
‫أنت َ�شفيتني "‪،‬‬‫جلي�س للملك كان قد َع ِمى‪ ،‬ف�أتاه ب َه َدايا كثرية فقال‪ " :‬ما ها هنا لك �أجمع �إن � َ‬ ‫ف�سمع به ٌ‬ ‫َ‬
‫هلل َ‬
‫ف�ش َفاه‬ ‫ف�ش َفاك "‪ ،‬ف� َآمنَ با ِ‬ ‫آمنت باهلل دعوتُ َ‬
‫اهلل َ‬ ‫فقال‪� " :‬إين ال �أ�شفى �أحد ًا‪� ،‬إمنا َي�شفى اهلل‪ ،‬ف�إن � َ‬
‫أنت � َ‬
‫ليك ب�ص َرك "‪ ،‬قال‪ :‬ربي‪ .‬قال‪َ :‬‬
‫ولك‬ ‫امللك‪َ " :‬من َر َّد َع َ‬
‫فج َل َ�س �إليه ك َما كان يج ِل�س‪ ،‬فقال له ُ‬ ‫امللك َ‬ ‫اهلل‪ ،‬ف�أتى َ‬ ‫ُ‬
‫دل على الغالم‪ ،‬فجيء بال ُغالم فقال له ا َمللك‪:‬‬ ‫رب َغريي‪ ،‬قال‪ :‬ر ِّبي ور ُّبك اهلل‪ .‬ف�أخذه فلم َيزل يعذبه حتى َّ‬ ‫ٌّ‬
‫�سحرك ما تربئ الأك َمه والأبر�ص وتفعل وتفعل‪ ،‬فقال‪� :‬إين ال �أ�شفي �أحد ًا‪� ،‬إمنا ي�شفى اهلل‪،‬‬ ‫� ْأي ُبني قد بلغ ِمن ِ‬
‫دل على الراهب‪ ،‬فجيء بالراهب‪ ،‬فقيل له‪ :‬ارج ْع عن دي ِنك ف�أبى‪ ،‬فدعا باملئ�شار‬ ‫ف�أخذه فلم َيزل يعذبه حتى َّ‬
‫بجلي�س امللك فقيل له‪ :‬ارجع عن دي ِنك‪ ،‬ف�أبى‬ ‫ِ‬ ‫ف ُو�ضع املئ�شا ُر يف َمفرق ر� ِأ�سه ف�ش َّقه حتى َو َق َع ِ�ش َّقاه‪ ،‬ثم جي َء‬
‫فر ِق ر� ِأ�سه ف�ش َّقه به حتى َوقع ِ�ش َّقاه‪ ،‬ثم جيء بالغالم فقيل له‪ :‬ارجع عن دينك ف�أبى‪،‬‬ ‫ف ُو�ضع املئ�شار يف َم ِ‬
‫نفر ِمن �أ�صحابه‪ ،‬فقال‪ :‬اذهبوا به �إىل جبل كذا وكذا‪ ،‬فا�صعدوا به اجلبل ف�إذا بلغتم ِذروته ف�إن‬ ‫فد َف َعه �إىل ٍ‬ ‫َ‬
‫اجلبل فقال‪ " :‬اللهم �أكفنيهم مبا �شئت "‪ ،‬ف َر َج َف بهم‬ ‫َر َج َع عن دي ِنه و�إال فاطرحوه‪ ،‬فذهبوا به ف�صعدوا به َ‬
‫اجلبل ف�سقطوا‪ ،‬وجاء مي�شي �إىل امللك‪ ،‬فقال له امللك‪ :‬ما فعل �أ�صحا ُبك؟‪ ،‬قال‪ :‬كفانيهم اهلل‪ .‬فدفعه �إىل‬ ‫ُ‬
‫قارب) فتو�سطوا به البحر ف�إن رجع عن دينه‬ ‫نفر ِمن �أ�صحابه فقال‪ :‬اذهبوا به فاحملوه يف قرقور (�أي يف ٍ‬ ‫ٍ‬
‫و�إال فاقذفوه‪ ،‬فذهبوا به‪ ،‬فقال‪ " :‬اللهم �أكفنيهم مبا �شئت "‪ .‬فانكف�أت بهم ال�سفينة‪ ،‬ف َغر ِقوا‪ ،‬وجاء مي�شي‬
‫امللك‪َ :‬ما فعل �أ�صحا ُبك؟‪ ،‬قال‪ :‬كفانيهم اهلل‪.‬‬ ‫�إىل امللك‪ ،‬فقال له ُ‬

‫�صعيد‬
‫النا�س يف ٍ‬ ‫ل�ست بقاتلي حتى تفعل ما �آم ُر َك به " قال‪ :‬وما هو ؟ قال‪ :‬جتمع َ‬ ‫ فقال للملك‪� " :‬إنك َ‬
‫رب‬
‫هلل ِّ‬ ‫هم يف َك ِبد ال َقو�س‪ ،‬ثم ُقل‪ِ :‬‬
‫با�سم ا ِ‬ ‫جذع‪ ،‬ثم ُخذ َ�سهم ًا ِمن ِكنانتي‪ ،‬ثم َ�ض ْع َّ‬
‫ال�س َ‬ ‫واحد و َت�صْ ِل ُبني على ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ذع‪ ،‬ثم �أخذ‬‫و�ص َل َبه َع َلى ِج ٍ‬
‫واحد َ‬
‫عيد ٍ‬
‫النا�س يف َ�ص ٍ‬
‫فج َم َع َ‬ ‫فعلت ذلك قتلتني‪َ .‬‬ ‫الغالم‪ ،‬ثم ارمني‪ ،‬ف�إنك �إذا َ‬
‫ال�سهم يف‬
‫رب الغالم‪ ،‬ثم رماه‪ ،‬فوقع َّ‬ ‫كبد القو�س‪ ،‬ثم قال‪ :‬با�سم اهلل ِّ‬ ‫ال�سهم يف ِ‬ ‫�سهم ًا ِمن ِكنان ِته‪ ،‬ثم َو َ�ض َع َّ‬
‫برب الغالم‪� ،‬آمنا برب‬ ‫الغالم َيده يف �صدغه يف مو�ضع ال�سهم‪ ،‬فمات‪ .‬فقال النا�س‪� " :‬آمنا ِّ‬ ‫ُ‬ ‫دغ ِه‪ ،‬ف َو َ�ض َع‬
‫ِ�ص ِ‬
‫الغالم‪� ،‬آمنا برب الغالم "‪.‬‬

‫بك حذ ُرك‪ ،‬قد �آمن النا�س‪ .‬ف�أَ َم َر بالأخدود‬


‫هلل نزل َ‬
‫كنت حتذر‪ ،‬قد وا ِ‬ ‫ ف�أُ ِتي امللك فقيل له‪� :‬أر� َ‬
‫أيت َما َ‬
‫أ�ضر َم النريانُ ‪ ،‬وقال‪َ :‬من مل يرجع عن دينه ف�أحموه فيها‪� ،‬أو قيل له‪ :‬اقتحم‪.‬‬
‫فخ َّدت‪ ،‬و� ِ‬ ‫ال�س َكك ُ‬
‫يف �أفواه ِّ‬
‫ففعلوا‪ ،‬حتى جاءت امر�أ ٌة ومعها �صبي لها فتقاع�ست �أن تقع فيها فقال لها الغالم‪ " :‬يا �أُ َّمه ا�صربي ف�إنك‬

‫‪489‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة أصحاب األخدود‬

‫اب الأُ ْخدُو ِد{ال َّنا ِر َذ ِات ا ْل َو ُقو ِد{ ِ�إ ْذ هُ ْم َع َل ْي َها ُق ُعو ٌد{ َوهُ ْم َع َلى‬ ‫على احلق" )؛ يقول اهلل تعاىل‪ُ } :‬ق ِت َل �أَ�صْ َح ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�س َما َو ِات‬‫الل ا ْل َع ِز ِيز الحْ َ ِم ِيد{ا َّل ِذي َل ُه ُم ْل ُك َّ‬ ‫َما َي ْف َع ُلونَ ِبالمْ ُ�ؤْ ِم ِن َني ُ�ش ُهو ٌد{ َو َما َن َق ُموا ِم ْن ُه ْم ِ�إالَّ �أَن ُي�ؤْ ِم ُنوا ِب هَّ ِ‬
‫ات ُث َّم مَْل َيتُو ُبوا َف َل ُه ْم َع َذ ُ‬
‫اب َج َه َّن َم َو َل ُه ْم‬ ‫َوالأَ ْر ِ�ض َو هَّ ُ‬
‫الل َع َلى ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َ�ش ِهي ٌد{�إِنَّ ا َّل ِذينَ َف َت ُنوا المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني َوالمْ ُ�ؤْ ِم َن ِ‬
‫اب الحْ َ ِر ِيق{{‪.‬‬ ‫َع َذ ُ‬

‫ هذه الق�صة عباد اهلل! من �صحيح ال َق َ�ص�ص عن النبي‪s‬الذي يجب الإميانُ به‪ ،‬فهو من وحي اهلل‬
‫�ص َع َل ْي َك �أَ ْح َ�سنَ ا ْل َق َ�ص ِ�ص بمِ َ ا �أَ ْو َح ْي َنا �إِ َل ْي َك َه َـذا ا ْل ُقرْ�آنَ َو ِ�إن ُك َ‬
‫نت‬ ‫تعاىل له‪ ،‬كما قال ج ّل وعال‪َ } :‬ن ْحنُ َن ُق ُّ‬
‫ِمن َق ْب ِل ِه لمَ ِنَ ا ْل َغا ِف ِلنيَ{‪.‬‬

‫ ففي ق�صة هوالء ِمن العربة ال�شيء الكثري‪ ،‬فكيف �أ ّنهم �أُوذوا �إيذا ًء ال ميكن للنف�س املعتادة �أن تتحملة‪،‬‬
‫وقد روى ابن �أبي �شيبة عن احل�سن قال‪( :‬كان ر�سول اهلل‪�s‬إذا ذكر �أ�صحاب الأخدود تعوذ باهلل من جهد‬
‫البالء)‪.‬‬
‫النف�س للخري‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ي�شحذ‬ ‫وقفات ت�أمل‪ ،‬لأن الق�ص�ص‬‫ٍ‬ ‫حلري بامل�ؤمن �أن يقف مع مثل هذا الق�ص�ص‬
‫ و�إنه ٌّ‬
‫عندها جاءه ما جاءه قال اهلل تعاىل له‪} :‬ا�صْبرِْ َك َما َ�صبرَ َ �أُ ْو ُلوا ا ْل َعزْ ِم‬
‫وي�صربها على الأذى‪ ،‬ف�إن النبي‪َ s‬‬
‫ِمنَ ال ُّر ُ�س ِل{‪.‬‬

‫ وقال اهلل لنبيه حممد ًا عندما �أُذي بالكالم‪}:‬ا�صْبرِْ َع َلى َما َي ُقو ُلونَ َو ْاذ ُك ْر َع ْب َد َنا َدا ُوو َد َذا الأَ ْي ِد ِ�إ َّن ُه‬
‫بالقول نحو ًا مما �أُذي حمم ٌد‪.s‬‬
‫ِ‬ ‫اب{‪� ،‬إذ �أُذي داو ُد‬
‫�أَ َّو ٌ‬

‫ ولي�س ُك ُّل الق�ص�ص لطلب امل�شابه ِة فقد يكون الق�ص ُد املخالفة؛ كما قال �سبحانه‪َ } :‬فا�صْبرِْ لحِ ُ ْك ِم َر ِّب َك‬
‫وت ِ�إ ْذ َنا َدى َوهُ َو َم ْك ُظو ٌم{‪ ،‬ف�إن من الق�ص�ص ما �أُريد منه امل�ضاد ُة ال امل�شاكلة‪.‬‬
‫َوال َت ُكن َك َ�ص ِاح ِب الحْ ُ ِ‬

‫اءك فيِ َه ِـذ ِه الحْ َ ُّق َو َم ْو ِع َظ ٌة‬‫�ص َع َل ْي َك ِمنْ �أَن َباء ال ُّر ُ�س ِل َما ُن َث ِّب ُت ِب ِه ُف�ؤَا َد َك َو َج َ‬ ‫ يقول اهلل تعاىل‪َ }:‬و ُكـ ًّال َّن ُق ُّ‬
‫َو ِذ ْك َرى ِل ْل ُم�ؤْ ِم ِن َني{ َو ُقل ِّل َّل ِذينَ َال ُي�ؤْ ِم ُنونَ ْاع َم ُلو ْا َع َلى َم َكا َن ِت ُك ْم �إِ َّنا َع ِام ُلونَ { َوانت َِظ ُروا �إِ َّنا ُمنت َِظ ُرونَ { َوللِهّ ِ‬
‫ال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َو ِ�إ َل ْي ِه ُي ْر َج ُع الأَ ْم ُر ُكلُّ ُه َف ْاع ُب ْد ُه َو َت َو َّك ْل َع َل ْي ِه َو َما َر ُّب َك ِب َغا ِف ٍل َع َّما َت ْع َم ُلونَ {‬
‫َغ ْي ُب َّ‬

‫‪490‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة الخضر‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة الخضر‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫رق متعددة يع�ض ُد بع�ضها بع�ض ًا ف�ض ُل قراءة �سورة الكهف يف يوم اجلمعة‬
‫ فقد ثبت عن النبي‪s‬من ُط ٍ‬
‫لفظ �آخر �أنها تع�صم قارءها‬
‫�أو ليلتها ال�سابقة لليوم‪ ،‬وجاء يف بع�ض �ألفاظ احلديث �أنها نو ٌر لقارئها‪ ،‬ويف ٍ‬
‫من فتنة الدجال‪ ،‬وجاء غ ُري ذلك‪.‬‬

‫ وقد حوت هذه ال�سور ُة العظيم ُة ق�ص�ص ًا متنوع ًا‪ ،‬ووعظ ًا زاجر ًا‪ ،‬وتنبيه ًا ل�سابق احلوادث‪ ،‬وم�آل الكون‬
‫وخامتته‪.‬‬

‫ وقد كان النبي‪s‬يحدِّ ث �أ�صحا َبه بق�ص�ص هذه ال�سورة‪ ،‬ويذكرهم بها‪ ،‬وال ريب �أن �أ�صدق الق�ص�ص‬
‫الل ِقي ًال{‪ ،‬وقال �سبحانه‪} :‬‬ ‫ق�ص�ص القر�آن وما حكاه اهلل فيه } َو َمنْ َ�أ�صْ َد ُق ِمنَ هَّ ِ‬ ‫ُ‬ ‫أوعظه‪ ،‬و�أج َّله و�أح�سنه‬ ‫و� َ‬
‫�ص َع َل ْي َك �أَ ْح َ�سنَ ا ْل َق َ�ص ِ�ص بمِ َ ا َ�أ ْو َح ْي َنا �إِ َل ْي َك َه َـذا ا ْل ُقرْ�آنَ َو�إِن ُك َ‬
‫نت ِمن َق ْب ِل ِه لمَ ِنَ ا ْل َغا ِف ِلنيَ{‪.‬‬ ‫َن ْحنُ َن ُق ُّ‬

‫ ومما ق�صَّ ه اهلل لنا يف هذه ال�سورة‪ ،‬وكان النبي‪s‬يذ ِّكر �أ�صحابه به ق�ص ُة نب َيني من �أنبياء اهلل‪ ،‬ووليني‬
‫من �أوليائه ج َّل وعال‪ ،‬وهما مو�سى بن عمران واخل�ضر عليهما وعلى نبينا ال�صالة وال�سالم‪ ..‬وكيف �أن‬
‫خطبة جديدة‬

‫خل ِ�ضر‪ ،‬و�سافر طلب ًا للعلم واحلكمة‪.‬‬


‫مو�سى ‪a‬وهو �أف�ضلهما و�أكرمهما تع َّلم ِمن ا َ‬

‫ روى البخاري وم�سلم عن �أُ ِّبي بن كعب‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪� :‬إن مو�سى نبي اهلل‪َ a‬ق َام خطيب ًا يف بني‬
‫العلم �إليه‬
‫اهلل عليه �إذ مل َير َّد َ‬ ‫النا�س �أعلم ؟‪ ،‬فقال مو�سى‪�( :‬أنا)‪ .‬فعتب ُ‬ ‫ف�سئل يف ذلك املقام‪ُّ � :‬أي ِ‬ ‫�إ�سرائيل‪ُ .‬‬
‫بنف�سه‬
‫عج ُب ِ‬ ‫اهلل �أعلم ! وت�أ ّمل يف �أثر عدم رد العلم �إليه ج ّل وعال‪ ،‬ناهيك ع ّمن ُي َ‬ ‫ج ّل وعال (�أي فيقول‪ُ :‬‬
‫وجد ِته)‪ ،‬قال‪ :s‬فقال ُ‬
‫اهلل له‪َ :‬ب َلى‬ ‫لنف�سه وفهمه ِ‬ ‫ومنط ِقه‪ ،‬وما ِله ومن�صبه‪َ ،‬و َما �أُتي ِمن نعمة فين�سبها ِ‬
‫رب وكيف يل به ؟ قال‪ :‬ت�أخذ ُحوت ًا فتجع ُل ُه يف َمكت ٍَل ف�إذا‬ ‫أعلم منك‪ .‬قال‪ْ � :‬أي ِّ‬
‫ليِ عب ٌد مبج َم ِع ال َبحرين هو � ُ‬
‫و�ش ُع بن نون حتى �أتيا ال�صَّ خر َة و�ضعا‬ ‫و�سى ُحوت ًا فجع َل ُه يف َمكتل ثم انطلق هو وفتاه ُي َ‬
‫فقدته فهو َّثم‪ .‬ف�أخذ ُم َ‬
‫املكتل ف�سقط يف البحر }فاتخذ �سبيله يف البحر‬ ‫ر�ؤو�سهما فرقد مو�سى‪ ،‬وا�ضطرب احلوت ُ فخرج من ِ‬
‫مثل َّ‬
‫الط ِاق (�أي ال يتح َّرك)‪..‬‬ ‫ف�صا َر َ‬‫اهلل عن احلوت جري َة املاء َ‬ ‫�سربا{‪ ،‬ف�أم�سك ُ‬

‫‪491‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة الخضر‬

‫ال�سمكة)‪ ،‬حتى �إذا كان ِمن الغد‬ ‫ فانطلقَ مو�سى وفتاه مي�شيان بقي َة ليلتهما ويومهما (وقد ن�سيا �أمر َّ‬
‫�صب حتى جاوز املكان الذي‬ ‫و�سى ال َّن َ‬ ‫قال لفتاه �آتنا غداءنا لقد لقينا من �سفرنا هذا ن�صبا‪ ،‬ومل يجد ُم َ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن�سا ِني ُه �إِالَّ ال�شَّ ْي َطانُ �أنْ �أ ْذ ُك َر ُه‬ ‫َ‬ ‫�أُ ِم َر به‪ ،‬فقال له فتاه }�أَ َر�أَ ْي َت �إِ ْذ �أَ َو ْي َنا ِ�إ ىَل ال�صَّ ْخ َر ِة َف�إِنيِّ َن ِ�س ُ‬
‫يت الحْ ُ وتَ َو َما �أ َ‬
‫للحوت َ�س َرب ًا‪ ،‬ولهما َع َج َبا‪ ،‬قال له مو�سى‪َ :‬‬
‫}ذ ِل َك َما ُك َّنا َن ْب ِغ َفا ْر َت َّدا‬ ‫ِ‬ ‫َوات ََّخ َذ َ�س ِبي َل ُه فيِ ا ْل َب ْح ِر َع َج ًبا{‪ ،‬فكان‬
‫بثوب (وهو‬ ‫�سجى ٍ‬ ‫َع َلى �آ َثا ِر ِه َما َق َ�ص ً�صا{ ف َرج َعا َي ُق�صَّ ان �آثا َرهما حتى انتهيا �إىل ال�صخرة ف�إذا رج ٌل ُم َّ‬
‫اخل�ضر) } َف َو َج َدا َع ْبدً ا ِّمنْ ِع َبا ِد َنا �آ َت ْي َنا ُه َر ْح َم ًة ِمنْ ِع ِند َنا َو َع َّل ْم َنا ُه ِمن َّل ُد َّنا ِع ْل ًما{ �أي �أن العلم �إمنا اكت�سبه‬
‫ال�سالم؟‬ ‫نبي) ف�س َّلم ُمو�سى‪ ،‬فر َّد عليه ثم قال‪ :‬و�أ َّنى ب�أر�ضك َّ‬ ‫وحده‪ ،‬وهذا �إمنا يكون بالوحي لأنه ٌّ‬ ‫بف�ضل اهلل َ‬
‫ِ‬
‫(ف�أ�ستغرب ذلك الرجل �أن ُي�س َّلم عليه يف هذه الأر�ض �إذ ال م�ؤمن فيها) فقال‪� :‬أنا ُمو�سى‪.‬‬

‫�شدا‪ ،‬قال‪ :‬يا مو�سى �إين على‬ ‫مما ُعل ْم َت ُر َ‬ ‫ قال اخل�ضر‪ُ :‬مو�سى بني �إ�سرائيل؟ قال‪ :‬نعم �أتيت َُك لتُع ّل َمني َّ‬
‫اهلل ال �أعلمه‪ .‬قال مو�سى‪َ :‬ه ْل‬ ‫أنت على علم ِمن علم اهلل َع َّل َم َك ُه ُ‬ ‫اهلل ال تعلمه‪ ،‬و� َ‬ ‫علم ِمن علم اهلل ع َّل َمنيه ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫�أَ َّت ِب ُع َك َع َلى �أن ُت َع ِّل َم ِن ممَِّ ا ُع ِّل ْم َت ُر�شْ دً ا‪َ ،‬ق َال اخل�ضر‪�ِ :‬إ َّن َك َلن ت َْ�ست َِطي َع َم ِع َي َ�ص رْ ًبا‪َ ،‬و َك ْي َف َت�صْبرِ ُ َع َلى َما‬
‫َ‬
‫مَْل تحُ ِ ْط ِب ِه ُخ رْ ًبا (�أي تعلم �سب ُب ُه وحتيط بخربه) َق َال مو�سى‪�َ :‬ست َِج ُد ِ�إن َ�شاء هَّ ُ‬
‫الل َ�صا ِب ًرا َوال �أَ ْع ِ�صي َل َك‬ ‫نيِ‬
‫�أَ ْم ًرا‪ .‬فانطلق مو�سى واخل�ضر مي�شيان على �ساحل البحر لي�س لهما َ�سفينة‪ ،‬فم َّرت بهما َ�سفين ٌة فك َّل ُموهم �أن‬
‫ال�سفينة َجاء ُع�صفو ٌر فوقع على‬ ‫خل ِ�ض َر فحملوهما بغري َن ْو ٍل وال �أجرة‪ ،‬فل َّما َر ِكبا يف َّ‬ ‫يحملوهم معهم ف َع َر ُفوا ا َ‬
‫وط َر ِفها فن َق َر يف البحر نقر ًة �أو نقرتني‪ ،‬فقال اخل�ض ُر‪ :‬يا مو�سى َما نق�ص علمي وعل ُمك ِمن‬ ‫ال�سفينة َ‬ ‫َح ْر ِف َّ‬
‫علم اهلل �إال ِمثل َما نق�ص هذا الع�صفو ُر مبنقاره من البحر‪.‬‬

‫لوح ًا‬
‫ وبعد ذاك �أخذ اخل�ض ُر الف� َأ�س فنزع لوح ًا من ال�سفينة‪ ،‬قال‪َ :s‬ف ْلم َيفج�أ مو�سى �إال وقد َق َل َع َ‬
‫�صنعت ؟ قو ٌم حملونا بغري َن ْو ٍل َع َم ْدتَ �إىل �سفينتهم فخرقتها ِل ُت ْغ ِر َق �أَ ْه َل َها َل َق ْد‬ ‫َ‬ ‫بالق ُّدوم‪ ،‬فقال له مو�سى‪َ :‬ما‬
‫يت َوال‬ ‫ِج ْئ َت َ�ش ْي ًئا ِ�إ ْم ًرا‪َ .‬ق َال اخل�ضر‪� :‬أَ مَْل َ�أ ُق ْل ِ�إ َّن َك َلن ت َْ�ست َِطي َع َم ِع َي َ�ص رْ ًبا‪َ ،‬ق َال مو�سى‪ :‬ال ُت�ؤَ ِاخذْنيِ بمِ َ ا َن ِ�س ُ‬
‫ُت ْر ِه ْق ِني ِمنْ �أَ ْم ِري ُع ْ�س ًرا‪ ،‬فكانت الأُوىل ِمن ُمو�سى ن�سيان ًا‪.‬‬

‫بيده هكذا‪ ،‬و�أوم أ�‬ ‫خل ِ�ض ُر بر� ِأ�س ِه فق َل َعه ِ‬ ‫ال�صبيان ف�أخذ ا َ‬ ‫لعب مع ِّ‬ ‫ فلما خرجا من البحر م ُّروا ب ُغ ٍ‬
‫الم َي ُ‬
‫�سفيان راوي احلديث ب�أطراف �أ�صابعه ك�أنه يقطف �شيئا‪ ،‬فقال له مو�سى‪�} :‬أَ َق َت ْل َت َن ْف ً�سا َز ِك َّي ًة ِب َغ رْ ِي َن ْف ٍ�س َّل َق ْد‬
‫ِج ْئ َت َ�ش ْي ًئا ُّن ْك ًرا ف َق َال اخل�ضر �أَ مَْل �أَ ُقل َّل َك �إِ َّن َك َلن ت َْ�ست َِطي َع َم ِعي َ�ص رْ ًبا { َق َال �إِن َ�س�أَ ْلت َُك َعن َ�ش ْيءٍ َب ْع َد َها َفال‬
‫ا�ست َْط َع َما �أَ ْه َل َها َف�أَ َب ْوا َ�أن ُي َ�ض ِّي ُفوهُ َما‬ ‫انط َل َقا َحتَّى ِ�إ َذا �أَ َت َيا �أَ ْه َل َق ْر َي ٍة ْ‬
‫ُت َ�ص ِاح ْب ِني َق ْد َب َل ْغ َت ِمن َّل ُدنيِّ ُع ْذ ًرا { َف َ‬
‫َف َو َج َدا ِفي َها ِج َدا ًرا ُي ِري ُد �أَنْ َين َق�ضَّ { َمائال و�أوم�أ‪ s‬بيده‪ ،‬و�أ�شار الراوي ك�أنه مي�سح �شيئ ًا �إىل فوق‪ ،‬فقال‬
‫مو�سى‪ :‬قو ٌم �أتيناهم فلم يطعمونا ومل ي�ض ِّي ُفونا َع َمدتَ �إىل حائطهم } َل ْو ِ�ش ْئ َت الت ََّخ ْذتَ َع َل ْي ِه �أَ ْج ًرا َق َال َه َذا‬
‫ال�س ِفي َن ُة َف َكا َن ْت لمِ َ َ�س ِاك َني َي ْع َم ُلونَ فيِ ا ْل َب ْح ِر‬ ‫ِف َر ُاق َب ْي ِني َو َب ْي ِن َك َ�سُ�أ َن ِّب ُئ َك ِب َت ْ�أ ِو ِيل َما مَْل ت َْ�ست َِطع َّع َل ْي ِه َ�ص رْ ًبا �أَ َّما َّ‬
‫دت �أَنْ �أَ ِعي َب َها َو َكانَ َو َراءهُ م َّم ِل ٌك َي ْ�أ ُخ ُذ ُك َّل َ�س ِفي َن ٍة َغ�صْ ًبا (ويف هذا يت�أ ُّمل امل�ؤمن فيتذكر �أن املال �إذا‬ ‫َف�أَ َر ُّ‬
‫اهلل باقي ما ِله مبا ذهب منه كحال هوالء الذين‬ ‫اهلل �أبقى له ما َله‪ ،‬فرمبا حفظ ُ‬ ‫بع�ض ُه فال يحزن لأن َ‬ ‫فات ُ‬
‫الم َف َكانَ �أَ َب َوا ُه ُم�ؤْ ِم َنينْ ِ َف َخ ِ�شي َنا �أَن ُي ْر ِه َق ُه َما‬ ‫اهلل �سفينتهم ب�سبب العطب الذي وقع فيها) َو�أَ َّما ا ْل ُغ ُ‬ ‫حفظ ُ‬
‫ُط ْغ َيا ًنا َو ُك ْف ًرا َف�أَ َر ْد َنا �أَن ُي ْب ِد َل ُه َما َر ُّب ُه َما َخ رْ ًيا ِّم ْن ُه َز َكا ًة َو�أَ ْق َر َب ُر ْح ًما (ويف ذلك يت�أ ّمل امل�ؤمن ويعلم �أن الأبناء‬
‫واملال قد يكون فتن ًة وف�ساد ًا على �صاحبه؛ كما قال جل وعال‪َ } :‬و ْاع َل ُمو ْا �أَنمَّ َ ا �أَ ْم َوا ُل ُك ْم َو�أَو َْال ُد ُك ْ��م ِف ْت َن ٌة{)‬
‫‪492‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة الخضر‬

‫المينْ ِ َي ِتي َمينْ ِ فيِ المْ َ ِدي َن ِة َو َكانَ تحَْ َت ُه َكن ٌز َّل ُه َما َو َكانَ �أَ ُبوهُ َما َ�صالحِ ً ا َف�أَ َرا َد َر ُّب َك �أَنْ َي ْب ُل َغا‬
‫َو�أَ َّما الجْ ِ َدا ُر َف َكانَ ِل ُغ َ‬
‫�أَ ُ�شدَّهُ َما َو َي ْ�ست َْخ ِر َجا َكنزَ هُ َما َر ْح َم ًة ِّمن َّر ِّب َك َو َما َف َع ْل ُت ُه َعنْ �أَ ْم ِري َذ ِل َك َت�أْ ِوي ُل َما مَْل ت َْ�س ِطع َّع َل ْي ِه َ�ص رْ ًبا (ويقف‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ولده ف َمن رام توفيق ًا لأبنائه و�صالح ًا لهم و�سداد ًا‬ ‫اهلل يف ِ‬ ‫نف�سه ليحفظه ُ‬ ‫عند هذا املو�ضع فيحفظ اهلل يف ِ‬
‫اهلل يف �سره وعالنيته ومطعمه وم�شربه وقد قال النبي ‪�( :s‬أحفظ اهلل يحفظ) )‪.‬‬ ‫فليحفظ َ‬

‫لق�ص ُ‬
‫اهلل علينا من �أمرهما‪.‬‬ ‫رحم ُ‬
‫اهلل ُمو�سى لو كان َ�صبرَ َ َّ‬ ‫ثم قال النبي‪s‬بعد ذلك‪َ :‬ي َ‬ ‫ ‬

‫غي�ض من فيظ‪ ،‬و ُبالل ٌة ِمن يمَ ٍّ يف معاين هذه الق�صــة اجلليل ِة؛ وقد ق ــال جــل َو َعال‪:‬‬ ‫ عباد اهلل ! ذلكم ٌ‬
‫�ص َع َل ْي َك �أَ ْح َ�سنَ ا ْل َق َ�ص ِ�ص بمِ َ ا َ�أ ْو َح ْي َنا �إِ َل ْي َك َه َـذا ا ْل ُقرْ�آنَ َو�إِن ُك َ‬
‫نت ِمن َق ْب ِل ِه لمَ ِنَ ا ْل َغا ِف ِلنيَ{‪.‬‬ ‫} َن ْحنُ َن ُق ُّ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪493‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة القرد‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة القرد‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫أح�سن‬‫�ص َع َل ْي َك �أَ ْح َ�سنَ ا ْل َق َ�ص ِ�ص بمِ َ ا �أَ ْو َح ْي َنا �إِ َل ْي َك َه َـذا ا ْل ُقرْ�آنَ {‪ ،‬ف� َ‬
‫ فيقول اهلل تعاىل‪َ } :‬ن ْحنُ َن ُق ُّ‬
‫الق�ص�ص و�أ�صد ُق ُه و�أنف ُع ُه ما كان بوحي من اهلل تعاىل يف كتابه ج َّل وعال‪� ،‬أو قاله النبي‪ s‬بوحي منه ج َّل‬
‫وعال‪.‬‬

‫حممد‪s‬ق�ص ُة الرجل التاجر مع قر ِده‪[ .‬فروى الإمام �أحمد‬ ‫ ومما جاء من ال َق َ�ص�ص عن نبينا الكرمي ٍ‬
‫والبيهقي وغريهم واللفظ للبيهقي] عن �أبي هريرة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬أال و�إن رج ًال ممن كان قبلكم‬
‫َج َل َب خمر ًا ‪-‬ويف رواية لبن ًا وذلك �أن اخلمر كانت جائزة يف بع�ض ال�شرائع ال�سابقة‪� -‬إىل قرية َ‬
‫ف�شا َب َها باملاء‬
‫[�أي خلطها باملاء غ�شا وتدلي�س ًا]ف�أ�ضعف �أ�ضعاف ًا [�أي فزاد ربحه ال�ضعف ب�سبب زيادته املاء] (فجعل يف‬
‫ألهم ُ‬
‫اهلل‬ ‫جل َج يف البحر‪َ � ،‬‬ ‫كل ز ٍِّق ن�صف ًا ماء ثم باعه‪ ،‬فلما جمع الثمن) ا�شرتى قرد ًا‪ ،‬فركب البح َر حتى �إذا َ‬
‫القر َد ُ�ص َّر َة الدنانري ف�أخذها‪ ،‬ف�صعد ال َّد َق َل [وهو العمود الذي يكون و�سط ال�سفينة‪ ،‬فلم ي�ستطع الرج ُل‬
‫ال�ص َّر َة و�صاحبها ينظر �إليه‪ ،‬ف�أخذ دينار ًا فرمى به يف البحر‪ ،‬ودينار ًا يف‬
‫الو�صول �إليه]‪ ،‬ففتح [القرد] ُّ‬
‫ال�سفينة حتى ق�سمها ن�صفني وفرغ ما يف الكي�س)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! ذلكم م َث ُل التاجر والقرد‪ ،‬فيما حكى ُّ‬


‫النبي‪s‬يف هذا ال َق َ�ص َ�ص َفلإن كان ُ‬
‫النا�س ي�ضربون‬
‫املنظر وقلة العقل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫باخل�سة و�سو ِء‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫املثل بالقرد‬ ‫خطبة جديدة‬

‫ ف�إن الآدمي �إذا غ َّلب �شهوا ِته ونزوا ِته على عق ِله ودي ِنه كان كذلك بل هو �أردى كما ق ــال جـ َّـل وعال‪:‬‬
‫نت َت ُكونُ َع َل ْي ِه َو ِكي ًال{�أَ ْم تحَْ َ�س ُب َ�أنَّ َ�أ ْك رَ َثهُ ْم َي ْ�س َم ُعونَ َ�أ ْو َي ْع ِق ُلونَ �إِنْ هُ ْم ِ�إالَّ‬ ‫}�أَ َر َ�أ ْي َت َم ِن ات ََّخ َذ �إِ َل َه ُه َه َوا ُه َ�أ َف َ�أ َ‬
‫وب الَّ‬ ‫ن�س َل ُه ْم ُق ُل ٌ‬ ‫َكالأَ ْن َع ِام َب ْل هُ ْم �أَ َ�ض ُّل َ�س ِبي ًال{‪ ،‬وقال �سبحانه‪َ } :‬و َل َق ْد َذ َر�أْ َنا لجِ َ َه َّن َم َك ِث ًريا ِّمنَ الجْ ِ نِّ َوالإِ ِ‬
‫َي ْف َق ُهونَ ِب َها َو َل ُه ْم �أَعْينُ ٌ الَّ ُي ْب ِ�ص ُرونَ ِب َها َو َل ُه ْم � َآذا ٌن الَّ َي ْ�س َم ُعونَ ِب َها �أُ ْو َلـ ِئ َك َكالأَ ْن َع ِام َب ْل هُ ْم �أَ َ�ض ُّل �أُ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم‬
‫ا ْل َغا ِف ُلونَ {‪.‬‬

‫وع َ�صى مواله‪ ،‬واتبع هواه‪ ،‬فال َي ُه ُّمه �إال ما ُي�شب ُع بطنه جمع ًا للمال‬ ‫العبد �إذا خالف �أمر اهلل‪َ ،‬‬
‫ نعم �إن َ‬
‫و�أكال ومكاثرة‪ ،‬ويق�ضي �شهوته بالنظر والوطء ومقدماته‪ ،‬فال ُيب�صر بعينيه �إال احلرام‪ ،‬وال ي�سمع ب�أذنيه‬
‫وب الَّ َي ْف َق ُهونَ‬
‫وتوحيده وطاعته ف�أولئك ي�صدق عليهم قول اهلل تعاىل‪َ } :‬ل ُه ْم ُق ُل ٌ‬
‫ِ‬ ‫�إال احلرام‪ ،‬وقل ُب ُه ال ٍه عن ا ِ‬
‫هلل‬
‫‪494‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة القرد‬

‫ِب َها َو َل ُه ْم أ�َعْينُ ٌ الَّ ُي ْب ِ�ص ُرونَ ِب َها َو َل ُه ْم � َآذا ٌن الَّ َي ْ�س َم ُعونَ ِب َها �أُ ْو َلـ ِئ َك َكالأَ ْن َع ِام َب ْل هُ ْم �أَ َ�ض ُّل �أُ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم ا ْل َغا ِف ُلونَ {‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫كي�س النقود من التاجر ليلقي ن�صفها املغ�شو�ش باملاء يف لجَُّ ة ماء‬ ‫ عباد اهلل ! لقد �ألهم ُ‬
‫اهلل القر َد ف�أخذ َ‬
‫البحر‪ ،‬ويبقي املال احلالل ل�صاحبه‪.‬‬

‫حب‬
‫عام (�أي ٌّ‬ ‫غ�ش ُه يف بيعه وجتارته روى م�سلم يف ال�صحيح �أن النبي ‪s‬م َّر على ُ�صرب ِة َط ٍ‬
‫و�سبب ذلك ُّ‬‫ُ‬ ‫ ‬
‫ُم َك َّوم كما يفعل َمن يبيع احلبوب من الرب وغريه) ف�أدخل‪َ s‬يده فيها‪ ،‬فنالت �أ�صاب ُع ُه بلال (فالبائع قد جعل‬
‫واجلاف خارج ًا)‪ ،‬فقال‪( :s‬ما هذا يا �صاحب الطعام) قال‪� :‬أ�صابته ال�سما ُء يا ر�سول‬
‫َ‬ ‫احلب املبلول داخ ًال‬
‫َّ‬
‫اهلل قال‪�( :‬أفال جعلته فوق الطعام كي يراه النا�س من غ�ش فلي�س مني)‪.‬‬

‫ وروى البيهقي ب�إ�سناد ال ب�أ�س به �أن �أبا هريرة‪d‬م َّر بناحية احلرة ف�إذا �إن�سان يحمل لبنا يبيعه‪ ،‬فنظر‬
‫�إليه �أبو هريرة ف�إذا هو قد خلطه باملاء‪ ،‬فقال له �أبو هريرة‪( :‬كيف بك �إذ قيل لك يوم القيامة خ ِّل�ص املا َء‬
‫من اللنب)‪.‬‬

‫وكتم عيوب ال�سلع‪ ،‬وتغري َر امل�شرتي امل�سرت�سل الذي ال َيعرف املماك�سة وال‬
‫ �إن الغ�ش يف البيع وال�شراءِ‪َ ،‬‬
‫يخدع ُه وال يخو ُن ُه روى‬
‫يح�سن الت�صرف عند ال�شراء مل َّما حرمه ال�شارع احلكيم لأن امل�سلم �أخو امل�سلم ال ُ‬
‫�أحمد وابن ماجه عن عقبة بن عامر‪d‬عن النبي‪s‬قال‪( :‬امل�سلم �أخو امل�سلم وال يحل مل�سلم �إذا باع من‬
‫�أخيه بيعا فيه عيب �أن ال يبينه)‪.‬‬

‫ و ُروي عن �أن�س بن مالك‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬امل�ؤمنون بع�ضهم لبع�ض َن َ�ص َح ٌة وا ُّدونَ و�إن بعدت‬
‫منازلهم و�أبدا ُنهم‪ ،‬والفجرة بع�ضهم لبع�ض غ�ش�ش ٌة متخاونون و�إن اقرتبت منازلهم و�أبدانهم) [رواه �أبو‬
‫ال�شيخ ابن حبان يف كتاب التوبيخ]‪.‬‬
‫ك�سب املال احلرام يورث �صاحبه عقوبات كثرية �أي�سرها �أن َ‬
‫اهلل ي�سلط على ذلك املال‬ ‫ عباد اهلل! �إن َ‬
‫الآفات واملتلفات والهوالك ولو بعد ِح ٍني ولو طال �إمها ًال من اهلل‪ .‬ف َيت َل ُف ُ‬
‫املال وتبقى احل�سرة والتندم يف‬
‫الدنيا‪ ،‬ناهيك عن بقاء الإثم والعقوبة يوم القيامة �إال �أن يتوب �صاح ُبها‪.‬‬

‫ك�س ُب عب ٌد ما ًال ِمن َحرام فينفق منه‬


‫ روى الإمام �أحمد عن ابن م�سعود‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬ال َي َ‬
‫ف ُيبارك له فيه‪ ،‬وال يت�صدق به فيقبل منه‪ ،‬وال يرتكه َخ ْل َف ظهره �إال كان زا َده �إىل النار‪� ،‬إن اهلل ال ميحو‬
‫ال�سيئ بال�سيئ‪ ،‬ولكن ميحو ال�سيئ باحل�سن �إن اخلبيث ال ميحو اخلبيث)‪.‬‬
‫ ومن عقوبة ك�سب احلرام �أن اهلل مينع ا�ستجابة دُعاء �آكل احلرام وقد خ َّرج الطرباين ب�إ�سناده عن ابن‬
‫م�ستجاب الدعوة فقال النبي‬
‫َ‬ ‫عبا�س‪ d‬قال قام �سع ُد بن �أبي وقا�ص فقال يا ر�سول اهلل اد ُع اهلل �أن يجعلني‬
‫حممد بيده �إن العبد ليقذف اللقمة احلرام‬ ‫نف�س ٍ‬ ‫�ستجاب ال َّدعوة والذي ُ‬
‫َ‬ ‫‪( :s‬يا �سع ُد � ِأط ْب مطع َمك تكن ُم‬
‫يف جوفه ما يتقبل اهلل منه عمال �أربعني يوما و�أميا عبد نبت حلمه من �سحت فالنار �أوىل به)‪.‬‬

‫‪495‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة القرد‬

‫رفعت �إىل فمي‬


‫ وقيل ل�سعد بن �أبي وقا�ص ت�ستجاب دعوتك من بني �أ�صحاب ر�سول اهلل‪ s‬قال‪( :‬ما ُ‬
‫لقم ًة �إال و�أنا عا ٌمل من �أين جمي�ؤها ومن �أين خرجت)‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الخطبة الثانية‪:‬‬

‫وجفاف البالد و�ش ّدة‬


‫ِ‬ ‫وحب�س ا َمل َطر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫�سبب َمن ِع ال َق ْطر‪،‬‬
‫ عباد اهلل! ف�إن ِمن عقوبة ك�سب احلرام �أنه ُ‬
‫امل�ؤنة يف احلياة‪َ ،‬روى ابن ماجه عن عبد اهلل بن عمر‪ d‬قال �أقبل علينا ر�سول اهلل‪s‬فقال‪( :‬يا مع�شر‬
‫املهاجرين خم�س �إذا ابتليتم بهن و�أعوذ باهلل �أن تدركوهن مل تظهر الفاح�شة يف قوم قط حتى يعلنوا بها �إال‬
‫ف�شا فيهم الطاعون والأوجاع التي مل تكن م�ضت يف �أ�سالفهم الذين م�ضوا‪ ،‬ومل ينق�صوا املكيال وامليزان �إال‬
‫�أخذوا بال�سنني و�شدة املئونة وجور ال�سلطان عليهم‪ ،‬ومل مينعوا زكاة �أموالهم �إال منعوا القطر من ال�سماء‬
‫ولوال البهائم مل ميطروا‪ .)..‬قال املناوي (في�ض القدير ‪( :)297/5‬فانتفاعهم باملطر الواقع �إمنا هو واقع‬
‫تبع ًا للبهائم فالبهائم حينئذ خ ٌ‬
‫ري منهم)‪.‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪496‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة املزارع‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة املزارع‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬
‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ق�ص النبي ‪ s‬ما روى م�سل ٌم يف (ال�صحيح)‬ ‫ومما ّ‬ ‫ق�ص لنا النبي‪s‬ق�ص�ص ًا عظيم ًا ذا فائد ٍة‪ّ ،‬‬ ‫ فقد ّ‬
‫من حديث �أَ ِبي هُ َر ْي َر َة ا�أنّ ال َّن ِب ِّي‪َ s‬ق َال‪َ « :‬ب ْي َنا َر ُج ٌل ِب َفال ٍة ِمنْ الأ ْر ِ�ض َف َ�س ِم َع َ�ص ْوت ًا فيِ َ�س َحا َب ٍة ‪ْ «:‬‬
‫ا�س ِق َح ِدي َق َة‬
‫ال�ش َر ِاج (�أي مكان جمرى ماء ال�سيل‬ ‫اب َف�أَ ْف َر َغ َما َء ُه فيِ َح َّر ٍة‪َ ،‬ف ِ�إ َذا َ�ش ْر َج ٌة ِمنْ ِت ْل َك ِّ‬ ‫ال�س َح ُ‬ ‫الن »‪َ ،‬ف َت َن َّحى ذ ِل َك َّ‬
‫ُف ٍ‬
‫ا�س َت ْو َع َب ْت َذ ِل َك المْ َا َء ُك َّلهُ‪َ ،‬ف َت َت َّب َع المْ َا َء‪َ ،‬ف ِ�إ َذا َر ُج ٌل َقا ِئ ٌم فيِ َح ِدي َق ِت ِه ُي َح ِّو ُل المْ َا َء بمِ ِ ْ�س َحا ِت ِه‪َ ،‬ف َق َال َلهُ‪:‬‬
‫وجت ّمعه) َق ْد ْ‬
‫ال�س ِم ا َّل ِذي َ�س ِم َع فيِ َّ‬
‫ال�س َحا َب ِة‪.‬‬ ‫ا�س ُم َك؟»‪َ .‬ق َال ‪ُ «:‬فالنٌ»‪ِ ،‬ل ْ‬ ‫« َيا َع ْب َد اللهِ َما ْ‬

‫اب ا َّل ِذي َه َذا َما�ؤُ ُه‬‫ال�س َح ِ‬ ‫ا�س ِمي؟ » َف َق َال ‪�ِ « :‬إنيِّ َ�س ِم ْع ُت َ�ص ْو ًتا فيِ َّ‬ ‫ َف َق َال َلهُ‪َ « :‬يا َع ْب َد اهلل مِ َل تَ�سْ�أَ ُل ِني َعنْ ْ‬
‫‪-‬ال�س ِم َك‪َ ،-‬ف َما َت�صْ َن ُع ِفي َها؟»‪َ .‬ق َال‪�« :‬أَ َّما ِ�إ ْذ ُق ْل َت َه َذا َف ِ�إنيِّ �أَ ْن ُظ ُر ِ�إ ىَل َما َي ْخ ُر ُج ِم ْن َها‬ ‫الن ْ‬ ‫ا�س ِق َح ِدي َق َة ُف ٍ‬ ‫ول‪ْ :‬‬ ‫َي ُق ُ‬
‫َف�أَت ََ�ص َّد ُق ِب ُث ُل ِث ِه َو�آ ُك ُل َ�أ َنا َو ِع َياليِ ُث ُل ًثا َو�أَ ُر ُّد ِفي َها ُث ُل َث ُه »‪.‬‬

‫ممن جعل ُ‬
‫اهلل عز وج ّل لهم‬ ‫ق�صه النبي‪s‬من �أخبار ال�صاحلني قبل َنا ّ‬
‫مما ّ‬ ‫الق�صة ّ‬ ‫ عباد اهلل! هذه ّ‬
‫غراب ًة يف ق�ص�صهم‪ ،‬ولنا �آي ًة يف نب�أهم‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫وخ�صه بهذا الفيء من دون خل ِق ِه؛ و�أمر ُ‬


‫اهلل َم َل َك‬ ‫ فبينّ النبي ‪�s‬أنّ هذا الرجل قد �ساق ُ‬
‫اهلل �إليه زر َقه‪ّ ،‬‬
‫احل َرار التي ُمل ْأت ِح َجار ًة‪ ،‬فال نه ٌر جا ٍر بجانبه‪ ،‬وال ع ٌ‬
‫ني‬ ‫وال�سحاب وهو يف ح ّرة من ِ‬ ‫ف�س َاق �إليه املُزْ نَ ّ‬
‫القطر َ‬
‫أر�ض �أر�ض ًا ل ّينة ل ُيحفر فيها الآبار و�إمنا هي ح ّرة‪.‬‬
‫عنده َي�ستقي منها‪ ،‬ولي�ست ال ُ‬ ‫َ‬

‫ والعجيب يف خرب هذا الرجل‪� :‬أنّ اهلل تعاىل �ساق �إليه املاء �إىل مكانه باخل�صو�ص‪ ،‬ثم بعد ذلك جت ّمع‬
‫هلل فيها بانتفاع النا�س‬
‫وحدها و�إمنا بربكة ا ِ‬‫املا ُء يف مكانه هو دون الأماكن البعيدة عنه؛ ف ّن ِعمة املطر ال تكون َ‬
‫ال�س َنة �أن متطروا ومتطروا وال‬ ‫ال�س َن ُة ب�أن ال َ‬
‫متط ُروا‪ ،‬ولكنّ َّ‬ ‫بها؛ ويف �صحيح م�سلم �أن النبي ‪s‬قال‪« :‬لي�ست َّ‬
‫نبت الأر�ض �شيئ ًا»‪.‬‬
‫ُت ُ‬
‫و�س ْوق املُزن لأر�ض الرجل‪ ،‬وجت ّمعه املاء يف مكانه باخل�صو�ص يد ُّل على �أنّ اهلل تعاىل هو َمن َي ُ‬
‫�سوق �إىل‬ ‫َ‬ ‫ ‬
‫رزق اهلل ال َي�سو ُق ُه �إليك ِح ْر ُ�ص َحري�ص‪ ،‬وال تر ّده عنك َكراهي ُة كار ٍه)‪.‬‬
‫العبد رز َقه‪ ،‬كما قال النبي ‪�( :s‬إن َ‬

‫‪497‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة املزارع‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫لنف�سه‪ ،‬و�أنّ َما رزقه اهلل مق ّدر له ولو هرب‬
‫ري من تدبريه ِ‬ ‫ فامل�ؤمنُ َيعمل ويع َلم قبل عمله �أنّ تدبري اهلل خ ٌ‬
‫ري مما لو رزق �إياه؛ حتى قال بع�ض ال�صاحلني ملّا ّمت يقينه بر ّبه‪( :‬الفرح يف تدبري اهلل‬ ‫منه‪ ،‬و�أنّ ما منعه خ ٌ‬
‫لنا‪ ،‬وال�شقاء كلُّه يف تدبرينا)‪.‬‬

‫ِومن عجيب هذا اخلرب‪� :‬أنّ �صاحب هذه احلديقة �أو املزرعة مل َي�سمع ال�صوتَ الذي تك ّلم به َم َل ُك‬ ‫ ‬
‫أعظم و�أج ُّل‬
‫مما يد ُّل على �أنّ ما خفي عنا ِمن �إح�سان اهلل �إلينا � ُ‬ ‫ال�سحاب �إليه‪ ،‬ومل يعلم به؛ ّ‬ ‫َ‬ ‫ال َق ْطر‪ ،‬و�ساق به‬
‫مما علمنا‪ ،‬ف�إن هلل تعاىل علينا ِمن النعم واملنن‪ ،‬والإح�سان واجلود والكرم ما ال يع ّده عا ٌد‪ ،‬وال يح�صيه‬ ‫ّ‬
‫ن�سانَ َل َظ ُلو ٌم َك َّفا ٌر{‪.‬‬
‫وها �إِنَّ الإِ َ‬ ‫هَّ‬
‫حم�ص } َو�آتَا ُكم ِّمن ُك ِّل َما َ�س�أَ ْل ُت ُمو ُه َو ِ�إن َت ُع ُّدو ْا ِن ْع َم َة ِ‬
‫الل َال تحُْ ُ�ص َ‬ ‫ٍ‬

‫يكف عن العبد �شرور ًا ال يعلمها } َل ُه ُم َع ِّق َباتٌ ِّمن َبينْ ِ َي َد ْي ِه‬


‫فمن َخ ِف ِّي نعمة اهلل‪ ،‬ولطيف �إح�سانه �أ ّنه ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫الل{‪ِ ،‬ومن َخ ِف ِّي نعمة اهلل‪ ،‬ولطيف �إح�سانه ي�سوق له �أرزاق ًا مل يخطط لها‪،‬‬ ‫َو ِمنْ َخ ْل ِف ِه َي ْح َف ُظو َن ُه ِمنْ �أَ ْم ِر هَّ ِ‬
‫إ�سباغه عليه من ف�ض ِله‪ ،‬فالعاقل‬ ‫وجودُه على عبده‪ ،‬و� ُ‬ ‫وحده‪ُ ،‬‬
‫ف�ضل اهلل َ‬‫و ُيق ّي ُ�ض له �أ�سباب ًا ال يدريها؛ و�إمنا هو ُ‬
‫عم اهلل عليه وي�شك ُره عليها َما علم منها وما مل يعلم‪ ،‬ف�إن َف َق َد �شيئ ًا َع ِل َم �أ ّنه اكت�سب �أكرث منها‪ ،‬وما‬ ‫يتذ ّكر ِن َ‬
‫جاءه من هذه ال ِّنعم َي�ستيقنُ �أنها بف�ضل اهلل ال بقو ِته‪ ،‬و�أ ّما الأحمق ف�إنه يقول مثلما قال قارون‪َ } :‬ق َال ِ�إنمَّ َ ا‬
‫�أُو ِتي ُت ُه َع َلى ِع ْل ٍم ِع ِندي{‪.‬‬

‫ ُث ّم ملّا �سئل ذلك الرجل عن �سبب هذه الكرامة له‪ ،‬وهذا االخت�صا�ص الذي ُخ�ص به‪ ،‬بينّ �أ ّنه يزرع يف‬
‫زرعها ق�سمه ثالثة �أق�سام‪.‬‬
‫وح�صد َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويحرث فيها ف�إذا جاء خراجها‪،‬‬ ‫أر�ضه‪،‬‬
‫� ِ‬

‫ فق�س ٌم يجعله فيها‪ ،‬ويرده عليها‪ ،‬فال هو العاطل الذي انتظر �أن متطر ال�سماء عليه ذهب ًا �أو ّ‬
‫ف�ضة‪،‬‬
‫وال هو بالبليد الذي يتمنى على اهلل الأماين؛ ويف احلديث‪( :‬العاجز من اتبع نف�سه هواها ومتنى على اهلل‬
‫الأماين)‪.‬‬

‫يكتف بالزكاة الواجبة بل زاد عليها‬


‫ وق�س ٌم ت�صدق به على الفقراء ف�س ّد حاجتهم‪ ،‬وق�ضى م�ؤنتهم‪ ،‬ومل ِ‬
‫أر�ضهُ؛ وقد جاء يف الأحاديث امل�ستفي�ضة �أن ال�صدقة تنمي املال وتزيده‪ ،‬وتبارك‬ ‫حتى �أخرج ثلث ما غ ّلت � ُ‬
‫«�ص ُلوا الذي بينه وبني ربكم بكرثة ذكركم له‪ ،‬وكرثة‬
‫ل�صاحبه فيه‪ .‬وقد روى ابن ماجه �أن النبي‪s‬قال‪ِ :‬‬
‫ال�صدقة يف ال�سر والعالنية ُترزقوا و ُتن�صروا وجتربوا»‪.‬‬

‫ وق�سم �أنفقه على �أوالده و�أهل بيته‪ ،‬و�أف�ضل ال�صدقة ما �أنفقه املرء على �أهل بيته من غري �إ�سراف وال‬
‫خميلة يف ال�صحيحني �أن النبي‪s‬قال‪� « :‬أف�ضل ال�صدقة َعن ظهر غنى‪ ،‬واليد العليا خري من اليد ال�سفلى‪،‬‬
‫وابد�أ مبن تعول »‪.‬‬

‫‪498‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة املزارع‬

‫الل َي ْج َعل َّل ُه مخَْ َرجا ً{ َو َي ْر ُز ْق ُه ِمنْ َح ْيثُ ال َي ْحت َِ�س ُب َو َمن‬ ‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪َ } :‬و َمن َيت َِّق هَّ َ‬
‫الل َبا ِل ُغ �أَ ْم ِر ِه َق ْد َج َع َل هَّ ُ‬
‫الل ِل ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َق ْدر ًا{‪.‬‬ ‫الل َف ُه َو َح ْ�س ُب ُه �إِنَّ هَّ َ‬
‫َي َت َو َّك ْل َع َلى هَّ ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار‬
‫على نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق‬
‫التقوى ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪،‬‬
‫و اعلموا عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪،s‬‬
‫و�شر الأمور حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن‬
‫املنكر يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا‬
‫بتوفيقك و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا وال��زالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪،‬‬
‫عن بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني‬
‫وامل�سلمات الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪،‬‬
‫فا�ستغفروه �إنه هو الغفور الرحيم‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪499‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة برصيصا‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة برصيصا‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫اف هَّ َ‬
‫الل َر َّب‬ ‫نك �إِنيِّ �أَ َخ ُ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪َ } :‬ك َم َث ِل ال�شَّ ْي َط ِان �إِ ْذ َق َال ِللإِ َ‬
‫ن�س ِان ا ْك ُف ْر َف َل َّما َك َف َر َق َال �إِنيِّ َب ِري ٌء ِّم َ‬
‫الظالمِ ِنيَ{‪.‬‬ ‫ا ْل َعالمَ ِ َني{ َف َكانَ َعا ِق َب َت ُه َما �أَ َّن ُه َما فيِ ال َّنا ِر َخا ِل َد ْي ِن ِفي َها َو َذ ِل َك َجزَ اء َّ‬
‫راهب يف الفرتة ‪�-‬أي قبل مبعث‬ ‫ روى الثعالبي والبغوي يف (تف�سريه) عن ابن عبا�س‪d‬قال‪( :‬كان ٌ‬
‫ع�ص َ‬
‫اهلل فيها َطرف َة َع ٍني‪،‬‬ ‫ر�صي�صا) وكان قد تع ّبد يف �صومعة ل ُه �سبعني �سنة مل َي ِ‬ ‫َ‬ ‫النبي ‪ُ -s‬يقال له ( َب‬
‫احليل‪ ،‬فلم َي�ستطيع له �شيء‪ ،‬فجمع ذات يوم مردة ال�شياطني فقال‪� :‬أال �أح ٌد منكم‬ ‫أمره ِ‬ ‫و�أن �إبلي�س �أعياه يف � ِ‬
‫َيكفيني �أمر َبر�صي�صا‪ ،‬فقال واح ٌد منهم ُيدعى بـ(الأبي�ض) لإبلي�س‪� :‬أنا �أكفيك‪.‬‬
‫و�سط ر� ِأ�س ِه‪ ،‬ثم َم َ�ضى حتى �أتى �صومع َة الراهب‪ ،‬فناداه فلم‬ ‫وح َلقَ َ‬ ‫فانط َلقَ فتز ّينَ بزينة ال ُّرهبان‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ ‬
‫يجبه الراهب‪ ،‬وكان ال َينفتل عن �صالته �إ ّال يف كل ع�شرة �أيام وال ُيفطر �إ ّال يف ع�شرة �أيام م ّرة‪ ،‬فكان ُي ِ‬
‫وا�ص ُل‬
‫الأيام الع�شرة والع�شرين والأكرث‪ ،‬فل ّما ر�أى الأبي�ض �أ َّنه ال يجيبه �أقبل على العبادة يف �أ�صل �صومعت ِه (�أي يف‬
‫اطلع من �صومعته ور�أى الأبي�ض قائم ًا ُمنت�صب ًا ُي�ص ّلي‬ ‫طرف من ال�صومعة) فلما �أنفرت الراهب من �صالته ّ‬ ‫ٍ‬
‫يف هيئة ح�سنة من هيئة الرهبان‪ ،‬فلما ر�أى ذلك من حاله ندم يف نف�سه حني َل َها َعنه فلم ُيجبه‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫�إ ّنك ناديتني وكنت ُم�شتغال عنك فحاجتك؟‪.‬‬
‫علمك وجنتمع على العبادة فتدعو يل‬ ‫أحببت �أن �أكون معك ف�أُناد ُب َك و�أقتب�س من ِ‬ ‫ فقال‪ :‬حاجتي �أين � ُ‬
‫جعل لك فيما �أدعو‬ ‫و�أدعو لك‪ .‬فقال الراهب‪� :‬إين لفي ُ�شغل عنك ف�إن كنت م�ؤمن ًا ف�إن اهلل �سبحانه �س َي ُ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫أبي�ض ُي�ص ِّلي فلم‬
‫أبي�ض‪ ،‬و�أقبل ال ُ‬ ‫للم�ؤمنني وامل�ؤمنات َن�صيب ًا �إن ا�ستَجاب يل‪ ،‬ثم �أقبل على �صالته وترك ال ُ‬
‫يلتفت �إليه الراهب �أربعني يوم ًا بعدها‪ ،‬فل ّما انفتل ر�آه قائم ًا ي�صلي‪ ،‬فل ّما ر�آى الراهب �ش ّد َة اجتهاده وكرث َة‬
‫ت�ض ّرعه وابتهاله �إىل اهلل �سبحانه ك ّلمه وقال له‪ :‬حاجتك ؟‬
‫ قال‪ :‬حاجتي �أن ت�أذن يل فارتفع �إليك‪ ،‬ف�أذن له فارتفع �إليه يف �صومعته ف�أقام الأبي�ض معه حوال يتع َّبد‬
‫ال َيفطر �إ ّال يف كل �أربعني يوم ًا وال ينفتل عن �صالته �إ ّال يف كل �أربعني يوم ًا م ّرة وربمّ ا م َّد �إىل الثمانني‪ ،‬فلما‬
‫أبي�ض للراهب‪:‬‬ ‫نف�سه ف�أعجبه �ش�أن الأبي�ض‪ ،‬فلما حال احلول قال ال ُ‬ ‫ر�أى الراهب اجتها َده تفاطرت �إليه ُ‬
‫مما �أرى‪ ،‬وكان يبلغنا عنك غ َري الذي ر�أيت‪،‬‬ ‫ظننت �أنك �أ�ش ّد اجتهاد ًا ّ‬ ‫�إين منطلق ف�أنَّ يل �صاحب ًا غ ُريك ُ‬
‫قال‪ :‬فدخل على الراهب من ذلك �أم ٌر �شدي ٌد و َك ِره مفارفتَه ل ّلذي ر�أى من �ش ّدة اجتهاده‪ ،‬فلما و ّدعه قال له‬
‫الأبي�ض‪� :‬إنَّ عندي دعوات �أع ّلمكها �أياك تدعو بهن فهي خري مما �أنت فيه‪ ،‬ي�شفي اهلل بها ال�سقيم‪ ،‬ويعايف‬
‫بها املبتلى واملجنون‪ ،‬قال الراهب‪� :‬إين �أكره هذه املنزلة‪ ،‬لأن يل يف نف�سي �شغال و�إين �أخاف �إنْ علم بهذا‬

‫‪500‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة برصيصا‬

‫النا�س �شغلوين عن العبادة‪ ،‬فلم يزل به الأبي�ض حتى ع ّلمه‪ ،‬ثم انطلق حتى �أتى �أبلي�س فقال له‪ :‬قد واهلل‬
‫أهلكت الرجل‪.‬‬
‫� ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫رجل ُمتط ّبب فقال لأهله‪:‬‬‫فخ َن َقه ثم جا َء يف �صورة ٍ‬‫لرجل َ‬ ‫ قال ابن ع ّبا�س‪ :‬فانطلق ال ُ‬
‫أبي�ض فتع َّر�ض ٍ‬
‫�إن ب�صاحبكم جنو ًنا �أف�أعاجله؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فقال لهم‪� :‬إين ال �أقوى على ِج ّنته ولكن �س�أر�شدكم �إىل من‬
‫اهلل فيعافيه‪ ،‬انطلقوا �إىل الراهب بر�صي�صا ف�إن عنده اال�سم الذي �إذا دعا به �أُجيب‪ ،‬فانطلقوا �إليه‬ ‫يدعو َ‬
‫ف�س�ألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه ال�شيطان‪ ،‬فكان الأبي�ض يفعل مثل ذلك بالنا�س وير�شدهم �إىل‬
‫الراهب‪ ،‬فيدعو ف ُيعا َفون‪ ،‬فانطلق الأبي�ض فتعر�ض جلارية من بنات ملوك بني �إ�سرائيل بني ثالثة �إخوة‪،‬‬
‫فعذبها وخنقها ثم جاء �إليهم يف �صورة متطبب فقال لهم‪� :‬أتريدون �أن �أعاجلها؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪� :‬إن الذي‬
‫عر�ض لها مارد ال ُي َطاق‪ ،‬ولكن �س�أر�شدكم �إىل ٍ‬
‫رجل تثقون به ت ََد ُعونها عنده �إذا جاء �شيطا ُنها دعا لها حتى‬
‫تعلموا �أنها قد ُعوفيت وتردونها �صحيحة‪ ،‬قالوا‪ :‬ومن هو؟ قال‪ :‬الراهب‪ ،‬قالوا‪ :‬وكيف لنا �أن يجيبنا �إىل هذا‬
‫وهو �أعظم �ش�أ ًنا من ذلك؟ قال لهم‪ :‬فانطلقوا فابنوا �صومع ًة �إىل جانب �صومعته حتى ُت�شرفوا عليه‪ ،‬ف�إن‬
‫َق ِب َلها و�إال ف�ضعوها يف �صومعتها‪ ،‬ثم قولوا له‪ :‬هي �أمانة عندك‪ ،‬فاحت�سب فيها‪.‬‬
‫ قال‪ :‬فانطلقوا �إليه ف�س�ألوه ف�أبى عليهم‪ ،‬فبنوا �صومعة على ما �أمرهم وو�ضعوا اجلارية يف �صومع ِته‪،‬‬
‫انفتل الراهب عن �صالته عاين اجلارية وما بها‬ ‫وقالوا‪ :‬هذه �أختُنا �أمان ًة فاحت�سب فيها‪ ،‬ثم ان�صرفوا فلما َ‬
‫حل�سن واجلمال‪ ،‬فوقعت يف قلبه ودخل عليه �أمر عظيم‪ ،‬ثم �أقبل يف �صالته فجاءها ال�شيطانُ فخ َن َقها‬ ‫من ا ُ‬
‫فدعا الراهب بتلك الدعوات فذهب عنها ال�شيطان‪ ،‬ثم �أقبل على �صالته فجاءها ال�شيطانُ فخنقها فدعا‬
‫تك�شف عن نف�سها‪ ،‬فجاءه‬ ‫الراهب بتلك الدعوات‪ ،‬ثم �أقبل على �صالته فجاءها ال�شيطان فخنقها‪ ،‬وكانت ِ‬
‫ال�شيطان و�أغواه ليواقعها ثم يتوب بعد ذلك‪ ،‬فلم يزل به حتى واقعها فحملت‪ ،‬فقال له ال�شيطان‪ :‬ويحك‬
‫يا بر�صي�صا قد افت�ضحت فهل لك �أن تقتلها وتتوب؟ ف�إن �س�ألوك فقل‪� :‬إنها ماتت ومل �أقدر عليها‪ ،‬فدخل‬
‫فقتلها وما يف بطنها‪ ،‬ثم انطلق بها فدفنها �إىل جانب اجلبل‪.‬‬
‫ ثم رجع ال ّراهب �إىل �صومعته ف�أقبل على �صالته �إذ جاء �إخوتها يتعاهدون �أختهم‪ ،‬وكانوا يجيئون يف‬
‫طرف الأيام ي�س�ألون عنها ويو�صونه بها‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا بر�صي�صا ما فعلت �أختنا؟ قال‪� :‬إنها قد ماتت‪ ،‬ف�ص َّدقوه‬
‫أم�سوا وهم مكروبون جاء ال�شيطان �إىل �أكربهم يف منامه فقال‪ :‬ويحك �إن الراهب فعل‬ ‫وان�صرفوا‪ ،‬فلما � َ‬
‫ب�أختك كذا وكذا و�إنه دفنها يف مو�ضع كذا وكذا‪ ،‬فقال الأخ يف نف�سه‪ :‬هذا حلم وهو ِمن عمل ال�شيطان‪ ،‬ف�إن‬
‫ري من ذلك‪.‬‬‫الراهب خ ٌ‬
‫ قال‪ :‬فتتابع عليه ثالث ليال فلم يكرتث‪ .‬فانطلق �إىل الأو�سط مبثل ذلك فقال الأو�سط مثل ما قاله‬
‫الأك�بر‪ ،‬فلم يخرب �أح��دً ا‪ ،‬فانطلق �إىل �أ�صغرهم مبثل ذلك‪ ،‬فقال �أ�صغرهم لأخويه‪ :‬واهلل لقد ر�أيت كذا‬
‫أيت مث َله‪ ،‬فانطلقوا �إىل الراهب وقالوا‪:‬‬
‫وكذا‪ ،‬وقال الأو�سط‪ :‬و�أنا واهلل قد ر�أيت مثله وقال الأكرب‪ :‬و�أنا ر� ُ‬
‫يا بر�صي�صا ما فعلت �أختنا؟ قال‪� :‬ألي�س قد �أعلمتكم بحالها؟ فك�أنكم اتهمتموين؟ فقالوا‪ :‬واهلل ال نتهمك‪،‬‬
‫وا�ستحيوا منه فان�صرفوا‪ ،‬فجاءهم ال�شيطان فقال‪ :‬ويحكم �إنها ملدفونة يف مو�ضع كذا‪ ،‬و�إن طرف �إزارها‬
‫خارج من الرتاب‪.‬‬
‫ فانطلقوا فر�أوا �أختهم على ما ر�أوا يف النوم‪ ،‬فم�شوا يف مواليهم وغلمانهم ومعهم الفئو�س وامل�ساحي‬
‫نف�سه‪.‬‬
‫فهدموا �صومعته و�أنزلوه‪ ،‬ثم كتفوه فانطلقوا به �إىل امللك ف�أق ّر على ِ‬
‫امللك بقتله و�صلبه على خ�شبة‪ ،‬فلما ُ�صلب �أتاه الأبي�ض فقال‪ :‬يا بر�صي�صا �أتعرفني؟‬‫ فلما اعرتف �أمر ُ‬

‫‪501‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة برصيصا‬

‫اتقيت اهلل يف �أمانتك! خنت �أه َلها‬


‫قال‪ :‬ال قال‪� :‬أنا �صاحبك الذي علمتك الدعوات فا�ستجيب لك‪ ،‬ويحك ما َ‬
‫و�إنك زعمت �أنك �أعبد بني �إ�سرائيل‪� ،‬أما ا�ستحييت؟ فلم يزل ُي رِّعيه‪ ،‬ثم قال يف �آخر ذلك‪� :‬أمل يكفك ما‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫مت على هذه احلالة‬ ‫�صنعت حتى �أقررت على نف�سك وف�ضحت نف�سك وف�ضحت �أ�شباهك من النا�س؟ ف�إن َّ‬ ‫َ‬
‫فلح �أح ٌد من نظرائك‪ ،‬قال‪ :‬فكيف �أ�صنع قال‪ :‬تطيعني يف خ�صلة واحدة حتى �أجنيك مما �أنت فيه‬ ‫مل ُي ْ‬
‫أخرجك من مكا ِنك ! قال‪ :‬وما هي قال‪ :‬ت�سجد يل قال‪ :‬افع ُل‪ .‬ف�سجد له فقال‪ :‬يا بر�صي�صا‬ ‫ف� ُ‬
‫آخذ ب�أعي ِنهم ف� ُ‬
‫هذا الذي كنت �أردتُ منك‪� ،‬صارت عاقب ُة �أمرك �إىل �أن كفرتَ بربك‪�} ،‬إين برئ منك �إين �أخاف اهلل رب‬
‫العاملني{‪.‬‬
‫ي�صح �إ�سنادُه �إال �أنه ِمن �أخبار بني �إ�سرائيل وقد قال النبي‪( :s‬حدثوا‬
‫ عباد اهلل! هذا اخلرب و�إن مل ّ‬
‫عن بني �إ�سرائيل وال حرج)‪ .‬ويف هذا اخلرب ِمن العربة والعظة ال�شيءالكثري‪.‬‬

‫بنف�سه ف�إن الأعمال باخلواتيم (�إن الرجل ليعمل ‪)..‬‬


‫فمن ذلك‪� :‬أن ال ُيعجب املرء بعمله‪ ،‬وال يثقنّ ِ‬
‫۩۩ ِ‬
‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن يع َلم املر ُء �أن ال�شيطان ي�سعى لإ�ضالل بني �آدم ب�شتى الطرق و�سائر الأ�سباب } َق َال‬
‫ول{ لأَمْلأَنَّ َج َه َّن َم‬
‫َف ِب ِع َّز ِت َك ل ْأغ ِو َي َّن ُه ْم �أَ ْج َم ِع َني{ ِ�إالَّ ِع َبا َد َك ِم ْن ُه ُم المْ ُ ْخ َل ِ�ص َني{ َق َال َفالحْ َ ُّق َوالحْ َ قَّ �أَ ُق ُ‬
‫ال�شبهات‪ِ ،‬ومن مدخول عليه من باب‬ ‫مدخول عليه من باب ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫فمن‬‫نك وَممَِّ ن َت ِب َع َك ِم ْن ُه ْم �أَ ْج َم ِعنيَ{‪ِ .‬‬ ‫ِم َ‬
‫ال�شهوات‪.‬‬
‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن ال ي�ستخفنّ املر ُء ب�صغار الأمور‪ ،‬وي�ست�سهل دقائقها ف�إن معظم النار من م�ست�صغر ال�شرر‪،‬‬
‫قليل من‬
‫�صريع دُخل عليه من باب املال ا�ست�سهل �أخذ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وقد قال ‪�( :‬إياكم وحمقرات الذنوب)‪ .‬ف َكم ِمن‬
‫احلرام فوقع يف احلرام‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ب�صره يف‬
‫م�ست�سهل لإطالق ِ‬
‫ٍ‬ ‫املال فج ّر لكثريه‪ ،‬وكم ِمن‬
‫آدم بالتدريج‪ ،‬فيبد�أ بالتو�سع يف املباحات‪ ،‬ثم يرتخ�ص يف‬ ‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن ال�شيطان يدخل على ابن � َ‬
‫املكروهات‪ ،‬ثم يقع يف امل�شتبهات ويبحث عن الأقوال ال�شاذة والغريبة فيها‪ ،‬ثم ي�ستبيح الأمر املح ّرم‬
‫وقد قال النبي ‪( :s‬احلالل بينّ واحلرام بينّ وبينهما �أمور م�شتبهات فمن اتقى ال�شبهات فقد ا�سترب�أ‬
‫لدينه وعر�ضه‪ ،‬كالراعي يرعى حول احلمى يو�شك �أن يقع فيه)‪.‬‬
‫نف�سه الأوبة وهو غارق يف مع�صيته‪،‬‬
‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن ال يركن املر ُء �إىل طول الأمل‪ ،‬في�س ّوف التوبة‪ ،‬ويعد َ‬
‫ال ٍه عن طاع ِة ر ّبه‪.‬‬
‫وعدم العلم‪ ،‬ف�إن املر َء �إذا كان عامل ًا باهلل‬ ‫ُ‬
‫اجلهل ُ‬ ‫أعظم �أ�سباب الوقوع يف الغواية‬
‫۩ ۩ومن ذلك‪� :‬أن ِمن � ِ‬
‫النا�س ولو �أطروه‪ ،‬وال ين�ساق يف البدع واملحدثات التي ت�ؤدي �إىل املهالك‬
‫وب�أخباره ف�إنه ال ُيغ ُّر بكالم ِ‬
‫والغواية‪.‬‬

‫‪502‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة بلعام‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة بلعام‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ان�س َلخَ ِم ْن َها َف�أَ ْت َب َع ُه ال�شَّ ْي َطانُ َف َكانَ ِمنَ ا ْل َغا ِوينَ { َو َل ْو ِ�ش ْئ َنا َل َر َف ْع َنا ُه‬ ‫ } َوات ُْل َع َل ْي ِه ْم َن َب�أَ ا َّل ِذ َي �آ َت ْي َنا ُه �آ َيا ِت َنا َف َ‬
‫َت ْك ُه َي ْل َهث َّذ ِل َك َم َث ُل ا ْل َق ْو ِم‬‫ِب َها َو َل ِـك َّن ُه �أَ ْخ َل َد ِ�إ ىَل الأَ ْر ِ�ض َوا َّت َب َع َه َوا ُه َف َم َث ُل ُه َك َم َث ِل ا ْل َك ْل ِب ِ�إن تحَْ ِم ْل َع َل ْي ِه َي ْل َهثْ �أَ ْو ت رْ ُ‬
‫ا َّل ِذينَ َك َّذ ُبو ْا ِب�آ َيا ِت َنا َفا ْق ُ�ص ِ�ص ا ْل َق َ�ص َ�ص َل َع َّل ُه ْم َي َت َف َّك ُرونَ {‪.‬‬

‫ قال عبد اهلل بن م�سعود‪( :d‬هو رجل من بني �إ�سرائيل بعثه مو�سى ‪�a‬إىل ملك مدين‪ ،‬داعي ًا �إىل‬
‫اهلل‪ ،‬فر�شاه ُ‬
‫امللك‪ ،‬و�أعطاه املُلك على �أن يرتك دين مو�سى‪ ،‬و ُيتابع َ‬
‫امللك على دينه‪ ،‬ففعل و�أ�ضل النا�س على‬
‫ذلك)‪.‬‬
‫ق�ص اهلل لنا يف هذه الآيات ق�ص َة رجل من بني �إ�سرائيل �آتاه ُ‬
‫اهلل علم ًا‪ ،‬و�أم ّده مبعرفة �آياته‪ ،‬ورزقه‬ ‫ لقد َّ‬
‫فهم ًا فيه حتى �صار عامل ًا بال�شرع‪ ،‬فان�سلخ منها‪ ،‬كما ُي�سلخ ُجل ُد الذبيح ُة‪ ،‬فرتك العمل مبا يقت�ضيه عل ُمهُ‪.‬‬

‫ظهره‪ ،‬وان�سلخ مما �أمره اهلل‪ ،‬لحَ ِ َق ُه ال�شَّ ْي َطانُ َف�أَ ْد َر َك ُه وزاد يف و�سو�سته و�إغوائه‬ ‫ترك عل َمه وراء ِ‬ ‫ فحينما َ‬
‫مبثال غاي ًة يف الإبداع والبالغة فقال �سبحانه‪:‬‬ ‫اهلل حال هذا ال�شخ�ص ٍ‬ ‫و�إ�ضالله‪ ،‬فكان من الغاوين‪َّ .‬ثم مثل ُ‬
‫} َف َم َث ُل ُه َك َم َث ِل ا ْل َك ْل ِب ِ�إن تحَْ ِم ْل َع َل ْي ِه َي ْل َهثْ �أَ ْو ت رْ ُ‬
‫َت ْك ُه َي ْل َهث{‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ال�شخ�ص يف �أول �أمره حت ّمل كلف َة اتبا ِع الدِّ ين و�صار يطلبه يف �أ ّول �ش�أنه فلقي من ذلك َن َ�ص َب ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ فهذا‬
‫وقت كان‬ ‫والعمل مبا ع ِلم‪ ،‬عاند و�أعر�ض فتح َّمل م�شقة العناد والإعرا�ض عنه يف ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وقت اتباع ِّ‬
‫احلق‬ ‫فلما َحانَ ُ‬
‫جدير ًا فيه ب�أن ي�سرتيح من عنائه‪.‬‬

‫ فكانت حالتُه �شبيه ًة بحالة الكلب املو�صوف بال ّلهث‪ ،‬فهو يلهث يف حال ِة وجود �أ�سباب اللهث }�إن حتمل‬
‫ال�سبب عند ال َّدعة وامل�ساملة }�أَ ْو ت رْ ُ‬
‫َت ْك ُه َي ْل َهث{‪.‬‬ ‫عند ّ‬
‫الط ْر ِد واملهاجمة‪ ،‬ويلهثُ يف حال اخللو عن ذلك َّ‬ ‫عليه{ َ‬

‫ لقد جعل اهلل هذه الق�صة ِع َ�ض ًة لكل َمن �أُوتي علم ًا و�أعر�ض عنه‪ ،‬روى ابن ع�ساكر عن �سعيد بن امل�سيب‬
‫أخت �أمي َة ِبن �أبي ال�صلت على ر�سول اهلل‪s‬بعد فتح مكة فقال لها النبي‪( :s‬يا‬ ‫قال‪َ :‬ق ِد َم ْت الفارع ُة � ُ‬
‫فارعة �إن مثل �أخيك كمثل الذي �آتاه اهلل �آيا ِته فان�سلخ منها)‪.‬‬

‫‪503‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة بلعام‬

‫دين غري ال�شرك طالب ًا دين احلق‪ ،‬ونظر‬ ‫ وقد كان �أخوها‪� :‬أمية بن �أبي ال�صلت الثقفي ممن �أراد اتباع ٍ‬
‫وتزهد ّ‬
‫وتوخى احلنيفية دينَ �إبراهيم‪ ،‬و�أخرب‬ ‫يف التوراة والإجنيل فلم ي َر النجاة يف اليهودية وال الن�صرانية‪ّ ،‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�أن اهلل َيبعثُ نب ّي ًا يف العرب‪ ،‬فطمع �أن يكو َنه‪ ،‬ورف�ض عبادة الأ�صنام‪ ،‬وح َّرم اخلمر‪ ،‬وكان يقول‪:‬‬
‫يوم القيامة عند‬ ‫ُكل دين َ‬ ‫ ‬
‫هَّ‬
‫الل �إال دين احلنيفي ُة ُزو ُر‬ ‫ ‬
‫املبعوث يف العرب‪ ،‬فلم ي�ؤمن بالنبي‪s‬ح�سد ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الر�سول‬ ‫ فلما َبعث ُ‬
‫اهلل حممد ًا‪�s‬أَ ِ�س َف �أنْ مل يكن هو‬
‫يوم بدر‪ ،‬وخرج �إىل الطائف بالد قومه فمات كافر ًا‪.‬‬ ‫ورثى من ُقتل من امل�شركني َ‬

‫اهلل لنا هذا املثل لنتع�ض به‪ ،‬ونتذ ّكر مبعانيه‪ ،‬وهذا اخلرب فيه ِع َ�ض ٌة لل َع ِبد ِ‬
‫نف�سه‬ ‫ عباد اهلل! لقد �ضرب ُ‬
‫وح�صل من العبادة فما دام ح ّي ًا ف�إنه ال‬ ‫بنف�سه‪ ،‬وال َيزهُ و بعم ِله‪ ،‬ف�إنّ املر َء مهما نال من العلم ّ‬ ‫عج ْب ِ‬ ‫فال ُي َ‬
‫ت�ؤمن عليه الفتنة وال الزيغ‪ ،‬وقد ثبت يف ال�صحيحني �أن النبي ‪s‬قال‪�ِ ( :‬إنَّ ال َّر ُج َل َل َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل �أَ ْه ِل ال َّنا ِر‬
‫َاب َف َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل �أَ ْه ِل الجْ َ َّن ِة َف َي ْد ُخ ُل الجْ َ َّن َة َو ِ�إنَّ ال َّر ُج َل‬
‫َحتَّى َما َي ُكونُ َب ْي َن ُه َو َب ْي َن َها ِ�إ اَّل ِذ َرا ٌع َف َي ْ�س ِبقُ َع َل ْي ِه ا ْل ِكت ُ‬
‫َاب َف َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل �أَ ْه ِل ال َّنا ِر َف َي ْد ُخ ُل‬
‫َل َي ْع َم ُل ِب َع َم ِل �أَ ْه ِل الجْ َ َّن ِة َحتَّى َما َي ُكونُ َب ْي َن ُه َو َب ْي َن َها ِ�إ اَّل ِذ َرا ٌع َف َي ْ�س ِبقُ َع َل ْي ِه ا ْل ِكت ُ‬
‫ال َّنا َر)‪ ،‬ولذا كان من دعا ِء امل�ؤمنني يف القر�آن‪َ } :‬ر َّب َنا َال ُت ِز ْغ ُق ُلو َب َنا َب ْع َد �إِ ْذ َه َد ْي َت َنا{‪ ،‬وكان نبينا‪s‬وهو‬
‫الوحي �صبح ًا وع�شي ًا‪ ،‬يدعو اهلل يف �سجوده ويقول‪( :‬اللهم يا مقلب القلوب ث ِّبت قلبي على‬ ‫ُ‬ ‫َمن يتنزل عليه‬
‫دينك)‪.‬‬
‫اف ال�ش َّر �س ّلمه ُ‬
‫اهلل منه‪ ،‬قال احل�سن الب�صري‪( :‬ما �أمن النفاق‬ ‫ �إن َمن � ِأمنَ الفتن َة وقع فيها‪َ ،‬ومن َخ َ‬
‫�إال منافق‪ ،‬وما خافه �إال م�ؤمن)‪.‬‬

‫إ�سالم ال َرهبن َة فيه‪ ،‬وال �صكوك ُغفران‪ ،‬بل ال ُك ُّل �سوا ٌء‪ ،‬والفائز َمن وفقه اهلل وحفظه‪ ،‬يف ال�صحيحني‬ ‫ فال ُ‬
‫ول هَّ ِ‬
‫الل؟ َق َال‪( :‬ال َوال �أَ َنا �إِال �أَنْ َي َت َغ َّم َدنيِ‬ ‫�أن النبي‪ s‬قال‪َ ( :‬لنْ ُي ْد ِخ َل �أَ َحدً ا َع َم ُل ُه الجْ َ َّن َة)‪َ ،‬قا ُلوا‪َ :‬وال �أَ ْن َت َيا َر ُ�س َ‬
‫هَّ ُ‬
‫الل ِب َف�ضْ ٍل َو َر ْح َم ٍة)‪.‬‬

‫النا�س �إثم ًا َمن ُ�أوتي علم ًا بال ّدين‪ ،‬وطرف ًا من علومه‪ ،‬ثم َن َك َ�ص على عقبيه‪ ،‬وباع الباقي َة بالفانية‪،‬‬
‫ �أعظم ِ‬
‫و�شرعه وكالمه‪ .‬وهو �أ ّول َمن ت�س ّعر بهم النار‪.‬‬
‫هلل ِ‬ ‫فكان حرب ًا على دين ا ِ‬

‫ وهذا املث ُل الذي ذكره اهلل يف هذه الآيات‪ :‬فيه ع�ضة �أي�ض ًا للنا�س عام ًة لأال يغرتوا َمبن َه َلك‪ ،‬و�إمنا‬
‫باحلق‪ ،‬ال احلقَّ بالرجال‪ ،‬وقد ُروي �أن �سليمان بن داود ‪ a‬قال‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫الرجال‬ ‫َيقتدوا َمبن اهتدى‪ ،‬ف�إمنا ُيع َر ُف‬
‫اعجب ممن جنا كيف جنا)‪.‬‬ ‫تعجب ممن هلك كيف هلك‪ ،‬ولكن َ‬ ‫(ال َ‬

‫ قال ابن م�سعود‪�( :d‬أال ال يقلدنَّ رج ٌل رج ًال دي َنه‪ ،‬ف�إن �آمنَ �آمن‪ ،‬و�إن َك َف َر كفر‪ ،‬ف�إن كنتم ال بد‬
‫احلي ال ُي� َؤمن عليه الفتنة)‪.‬‬
‫مقتدين فبامليت ف�إن َّ‬

‫‪504‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة بلعام‬

‫وبعده‪� -‬أقوام ًا ُير ُّدون على �أعاقبهم بعد �أن هداهم اهلل‪ ،‬ويذمون ال ّدين‬ ‫زمان ‪-‬قبل الإ�سالم َ‬ ‫ �إن يف ُك ِّل ٍ‬
‫لقوم وعظ ًة لآخرين } َو َمن َين َق ِل ْب َع َل َى َع ِق َب ْي ِه‬ ‫ُ‬
‫وع ِّرفوا به‪ ،‬فيجعل اهلل ذلك فتن ًة ٍ‬ ‫عد �إذ َع َر ُفوه ُ‬ ‫و َي�ستنق�صونه َب َ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الل َ�ش ْيئ ًا َو َ�س َي ْج ِزي هَّ ُ‬


‫الل ال�شَّ ِاك ِرينَ {‪.‬‬ ‫َف َلن َي ُ�ض َّر هَّ َ‬

‫ان�س َلخَ ِم ْن َها َف�أَ ْت َب َع ُه ال�شَّ ْي َطانُ َف َكانَ ِمنَ ا ْل َغا ِوينَ { َو َل ْو ِ�ش ْئ َنا َل َر َف ْع َنا ُه‬ ‫ } َوات ُْل َع َل ْي ِه ْم َن َب�أَ ا َّل ِذ َي �آ َت ْي َنا ُه �آ َيا ِت َنا َف َ‬
‫َت ْك ُه َي ْل َهث َّذ ِل َك َم َث ُل ا ْل َق ْو ِم‬ ‫ِب َها َو َل ِـك َّن ُه �أَ ْخ َل َد ِ�إ ىَل الأَ ْر ِ�ض َوا َّت َب َع َه َوا ُه َف َم َث ُل ُه َك َم َث ِل ا ْل َك ْل ِب ِ�إن تحَْ ِم ْل َع َل ْي ِه َي ْل َهثْ �أَ ْو ت رْ ُ‬
‫ا َّل ِذينَ َك َّذ ُبو ْا ِب�آ َيا ِت َنا َفا ْق ُ�ص ِ�ص ا ْل َق َ�ص َ�ص َل َع َّل ُه ْم َي َت َف َّك ُرونَ { َ�ساء َم َث ًال ا ْل َق ْو ُم ا َّل ِذينَ َك َّذ ُبو ْا ِب�آ َيا ِت َنا َو�أَن ُف َ�س ُه ْم‬
‫الل َف ُه َو المْ ُ ْهت َِدي َو َمن ُي�ضْ ِل ْل َف�أُ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم الخْ َ ِا�س ُرون{ َو َل َق ْد َذ َر�أْ َنا لجِ َ َه َّن َم َك ِثري ًا ِّمنَ‬ ‫َكا ُنو ْا َي ْظ ِل ُمونَ { َمن َي ْه ِد هَّ ُ‬
‫وب الَّ َي ْف َق ُهونَ ِب َها َو َل ُه ْم �أَعْينُ ٌ الَّ ُي ْب ِ�ص ُرونَ ِب َها َو َل ُه ْم � َآذا ٌن الَّ َي ْ�س َم ُعونَ ِب َها �أُ ْو َلـ ِئ َك َكالأَ ْن َع ِام‬ ‫ن�س َل ُه ْم ُق ُل ٌ‬ ‫الجْ ِ نِّ َوا ِلإ ِ‬
‫َب ْل هُ ْم �أَ َ�ض ُّل �أُ ْو َلـ ِئ َك هُ ُم ا ْل َغا ِف ُلونَ {‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪505‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة زكريا‬
‫قصة زكريا‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫لقد كان زكريا‪a‬نب ّي ًا ِمن �أنبياء اهلل ع ّز وجل الذين ذكرهم ُ‬
‫اهلل يف كتابه‪ ،‬و�أمر باالقتداء بهم‪ ،‬وهو من‬
‫بني يعقوب بن �إ�سحاق بن �إبراهيم ‪ .a‬ومع نب ّوته ف�إنه كان َي ُ‬
‫عمل بالنجارة ‪-‬كما يف �صحيح م�سلم‪ -‬وي�أكل‬
‫من ك�سب يده‪.‬‬

‫الكبرَ ِ ِكبرَ َ ًا ُمتناهي ًا ِع ِت ّي ًا‪َ ،‬و َهنَ َع ُظمهُ‪ ،‬وا�شتعل ر� ُأ�سه‬


‫ وكان‪a‬ال ُيو َلد له‪ ،‬وقد بلغ من ال ُعمر �أمد ًا‪ ،‬ومن ِ‬
‫بنت عمران � ِّأم عي�سى ؛‪.‬‬ ‫�شيب ًا‪ .‬وكانت امر�أته عاقر ًا‪ ،‬وزوجته هي � ُّ‬
‫أخت مر َمي ِ‬

‫ وقد كان زكريا ‪a‬كاف ًال ملرمي بنت عمران ملّا مات �أبوها‪ ،‬فدخل عليها زكريا ذات م ّر ٍة فوجد عندها‬
‫رزق ًا‪ ،‬قيل‪� :‬إنه وجد عندها فاكهة ال�صيف يف ال�شتاء‪� ،‬أو فاكهة ال�شتاء يف ال�صيف‪.‬‬

‫الل �إنَّ هَّ َ‬


‫الل َي ْر ُز ُق َمن َي َ�شاء ِب َغ رْ ِي‬ ‫ ف�س�ألها زكريا‪َ } a‬ق َال َيا َمرْيمَ ُ �أَ َّنى َل ِك َه َـذا‪َ .‬قا َل ْت هُ َو ِمنْ ِع ِند هَّ ِ‬
‫اب{‪.‬‬ ‫ِح َ�س ٍ‬

‫فحينئذ دعا زكريا ر ّبه الذي رزق مرمي �أن يرزقه‪َ ،‬ومنْ َمنَّ عليها بالرزق بغري ح�ساب قاد ٌر على �أن مينّ‬ ‫ٍ‬ ‫ ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫عليه بالولد‪ ،‬و�إن َكبرُ ‪ ،‬وكان زوجه عاقر ًا‪} ،‬هُ َنا ِل َك َد َعا َز َك ِر َّيا َر َّب ُه َق َال َر ِّب َه ْب ليِ ِمن َّل ُد ْن َك ُذ ِّر َّي ًة َط ِّي َب ًة �إِ َّن َك‬
‫َ�س ِمي ُع ال ُّد َعاء{‪.‬‬

‫نت َخ رْ ُي ا ْل َوا ِر ِثنيَ{‪ ،.‬وقال �أي�ض ًا‪َ } :‬ر ِّب �إِنيِّ َو َهنَ‬ ‫مما قال يف دعائه‪َ } :‬ر ِّب ال ت ََذرْنيِ َف ْرد ًا َو�أَ َ‬ ‫ وكان ّ‬
‫ا ْل َع ْظ ُم ِم ِّني َوا�شْ َت َع َل الرَّ�أْ ُ�س َ�ش ْيب ًا َو مَْل �أَ ُكن ِبد َُعا ِئ َك َر ِّب َ�ش ِق ّي ًا{ َو ِ�إنيِّ ِخ ْف ُت المْ َ َواليِ َ ِمن َو َرا ِئي َو َكا َن ِت ْام َر�أَ ِتي‬
‫وب َو ْاج َع ْل ُه َر ِّب َر ِ�ض ّي ًا{‪.‬‬ ‫ُنك َو ِل ّي ًا{ َي ِر ُث ِني َو َي ِر ُث ِمنْ � ِآل َي ْع ُق َ‬
‫َعا ِقر ًا َف َه ْب ليِ ِمن َّلد َ‬

‫ا�ست ََج ْب َنا َل ُه َو َو َه ْب َنا َل ُه َي ْح َيى َو�أَ�صْ َل ْح َنا َل ُه َز ْو َج ُه ِ�إ َّن ُه ْم َكا ُنوا‬
‫ فما كان ب�أ�سرع من �إجابة اهلل له قال اهلل‪َ } :‬ف ْ‬
‫ُي َ�سا ِر ُعونَ فيِ الخْ َ رْ َي ِات َو َي ْد ُعو َن َنا َر َغب ًا َو َر َهب ًا َو َكا ُنوا َل َنا َخ ِا�ش ِعنيَ{‪ ،‬و�أر�سل اهلل املالئك َة له لتب�شره } َف َنا َد ْت ُه‬
‫اب �أَنَّ هَّ َ‬
‫الل ُي َب ِّ�ش ُر َك ِب َي ْح َيـى{‪.‬‬ ‫المْ َلآ ِئ َك ُة َوهُ َو َقا ِئ ٌم ُي َ�ص ِّلي فيِ المْ ِْح َر ِ‬
‫‪506‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة زكريا‬

‫ فا�ستف َه َم ِمن اهلل ا�ستخبار ًا وا�ستعالم ًا‪ ،‬هل اهلل ي�أتيه بالولد من زوجه العجوز على كرب �سنهما على‬
‫�سبيل خرق العادة‪� .‬أو ي�أمره ب�أن يتزوج �شاب ًة‪� ،‬أو �أنه �سري ُّدهما �ش ـ ــابني؟ فا�ستفهم عن احلقيق ـ ــة ليعلمها‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫} َق َال َر ِّب �أَ َّنى َي ُكونُ ليِ ُغال ٌم َو َكا َن ِت ْام َر�أَ ِتي َعا ِقر ًا َو َق ْد َب َل ْغ ُت ِمنَ ا ْل ِكبرَ ِ ِع ِت ّي ًا{‪.‬‬

‫ ف�أبان اهلل له ب�أنه �سيولد لهما على حالهما‪ ،‬و�أن هذا ِمن قدر اهلل وقدرته } َق َال َك َذ ِل َك َق َال َر ُّب َك هُ َو َع َل َّي‬
‫َهينِّ ٌ َو َق ْد َخ َل ْقت َُك ِمن َق ْب ُل َو مَْل ت َُك َ�ش ْيئ ًا{‪.‬‬

‫اهلل �أن يجعل له عالم ًة و�آي ًة يع َلم بها ُوقو َع ما ُب�ش ِّر به من الولد‪َ } ،‬ق َال َر ِّب‬ ‫ ثم بعد ذلك �س�أل زكريا‪َ a‬‬
‫ْاج َعل ليِّ �آ َي ًة{‪ .‬قيل‪� :‬إنه طلب الآية على ذلك لتتم طم�أنينتُه بوقوع ما ُب ِّ�شر به‪ ،‬وقيل‪� :‬أراد بالعالمة �أن يعرف‬
‫احلمل يف �أ َّول زمنه يخفى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ابتداء حمل امر�أته‪ ،‬لأن‬
‫الث َل َي ٍال َ�س ِو ّي ًا{‪ .‬فكان ‪a‬‬
‫ا�س َث َ‬‫يطلع عليها غري ُه } َق َال �آ َيت َُك �أَالَّ ُت َك ِّل َم ال َّن َ‬ ‫نف�سه ال ّ‬ ‫اهلل له �آي ًة يف ِ‬ ‫ فجعل ُ‬
‫�سوي ال مر�ض فيه وال عيب‪ .‬فمهما حاول خالل هذه الأيام‬ ‫ال ي�ستطيع الكالم مع النا�س ثالثة �أيام‪ ،‬مع �أنه ٌّ‬
‫�أن يتكلم مل ي�ستطع الكالم‪� ،‬إال �أنه �إذا خال و�س ّبح اهلل وذكره‪ ،‬ف�إنه يقدر عليه وال يخرج ِمن ِفي ِه �إال الت�سبيح‪،‬‬
‫لذا قال اهلل له‪َ } :‬و ْاذ ُك ْر َر َّب َك َك ِثري ًا َو َ�س ِّب ْح ِبا ْل َع ِ�ش ِّي َوا ِلإ ْب َكا ِر{‪.‬‬

‫قومه مذ ِّكر ًا لهم ومع ِّلم ًا بالإ�شارات والرمز‪،‬‬


‫الكالم يف هذه الأيام ف�إنه خرج على ِ‬ ‫َ‬ ‫ ومع �أنه‪a‬مل َي�ستطع‬
‫ف�أ�صبح ي�شري لهم ويومئ بحاجبه و�شفتيه وبالكتابة على الأر�ض �أن يعبدوا اهلل ويذكروه‪ ،‬قال اهلل‪َ } :‬ف َخ َر َج‬
‫اب َف�أَ ْو َحى �إِ َل ْي ِه ْم �أَن َ�س ِّب ُحوا ُب ْك َر ًة َو َع ِ�ش ّي ًا{‪.‬‬
‫َع َلى َق ْو ِم ِه ِمنَ المْ ِْح َر ِ‬
‫ق�ص ُ‬
‫اهلل لنا العديد من العرب والأحكام‪ ،‬فمنها‪:‬‬ ‫عباد اهلل! �إن يف َخ ِرب دعاء زكريا ‪a‬ر َّبه التي ّ‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫وحده } َو َز َك ِر َّيا ِ�إ ْذ َنا َدى َر َّب ُه َر ِّب ال ت ََذرْنيِ َف ْرد ًا{‪ .‬فالذي يجيب الدعاء‬
‫۩ ۩ �أن زكريا ‪� a‬إمنا دعا اهلل َ‬
‫ويعقوب وغ ِريهم وهو‬
‫َ‬ ‫إبراهيم و� َ‬
‫إ�سحاق‬ ‫َ‬ ‫هو اهلل‪ ،‬وال ُي�س�أل غ ُريه‪ .‬مع �أن زكريا‪a‬يعرف قبور �آبائه �‬
‫وحده وتو�سل ب�صفاته‬
‫أحد منهم‪ ،‬ومل ي�س�أله‪ ،‬ومل يتو�سل به‪ ،‬و�إمنا �س�أل اهلل َ‬ ‫بجانبهم‪� ،‬إال �أنه مل ي�أت ق َرب � ٍ‬
‫جل وعال‪ ،‬قال‪( :s‬و�إذا �س�ألت ف�أ�س�أل اهلل)‪.‬‬

‫۩ ۩(ومن ذلك) �أنّ زكريا‪�a‬أ�س ّر الدعاء و�أخفاه‪ ،‬ومل يعلنه ويجهر به �أمام النا�س‪ ،‬قال اهلل عنه‪�} :‬إِ ْذ‬
‫َنا َدى َر َّب ُه ِن َداء َخ ِف ّي ًا{‪ .‬لذا ف�إن �أحرى الدعاء و�أرجاه بالإجابة �أخفاه‪ ،‬ما كان منه يف جوف الليل‪ ،‬ويف‬
‫ال�سجود‪ ،‬وعند ان�شغال النا�س‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫۩ ۩(ومن ذلك) �أنه �أظهر يف دعائه �ضع َفه هلل‪ ،‬وبينّ انك�ساره ملواله‪ ،‬و�أنه ال حول له وال قوة �إال به } َق َال َر ِّب‬
‫ِ�إنيِّ َو َهنَ ا ْل َع ْظ ُم ِم ِّني َوا�شْ َت َع َل الرَّ�أْ ُ�س َ�ش ْيب ًا{‪.‬‬

‫۩ ۩(ومن ذلك) �أنه‪a‬تو�سل �إىل اهلل تعاىل ب�سابق �إح�سانه عليه‪ ،‬ومزيد �إنعامه وكرمه �إذ قال‪َ } :‬و مَْلَ �أ ُكن‬

‫‪507‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة زكريا‬

‫رب �إال �أجبتني‪ ،‬فلم جتعلني �شقي ًا مردود ًا حمروم ًا من الإجابة‪.‬‬


‫ِبد َُعا ِئ َك َر ِّب َ�ش ِق ّي ًا{؛ �أي ما دعوتك ِّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫حلظ دنيوي حمظ‪ ،‬فقال‪َ } :‬و ِ�إنيِّ ِخ ْف ُت‬ ‫۩ ۩(ومن ذلك) �أنه ‪a‬بينّ ما �س�أل هذا ال�س�ؤال �إال لطاعة‪ ،‬ال ٍ‬
‫المْ َ َواليِ َ ِمن َو َرا ِئي{؛ �أي �أخاف من قرابتي وع�صبتي �أن ال يقيموا الدين من بعدي‪ ،‬و�أن يقوموا ب�أمر دعوة‬
‫وب{‪ ،‬فريث ما و ّرثه الأنبياء من بني يعقوب‪ ،‬والأنبياء‬ ‫النا�س للخري‪ ،‬لذا قال‪َ } :‬ي ِر ُث ِني َو َي ِر ُث ِمنْ � ِآل َي ْع ُق َ‬
‫ِ‬
‫بابن يكون حام ًال للعلم مبلغ ًا له‪.‬‬
‫ال يورثون دينار ًا وال درهم ًا‪ ،‬و�إمنا يورثون العلم‪ .‬فدعا اهلل ٍ‬

‫۩ ۩(ومن ذلك) �أ ّنه‪a‬تي ّقن من �إجابة اهلل لدعائه‪ ،‬لذا ذكر يف دعائه �أو�صاف ًا يف االبن الذي �س�أله اهلل‬
‫فقال زكريا‪َ } :‬و ْاج َع ْل ُه َر ِّب َر ِ�ض ّي ًا{‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪508‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة قارون‬
‫قصة قارون‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ع�صري مو�سى‪( ،a‬عباد اهلل) �إن قارونَ‬ ‫ِّ‬ ‫اهلل يف كتابه ق�ص َة قارونَ‬ ‫ ف�إن ِمن الق�ص�ص الذي حكاه ُ‬
‫رج ٌل ِمن بني �إ�سرائيل من قرابة مو�سى‪a‬بل قيل‪� :‬إنه ابنُ ع ّمه‪ ،‬وقال قتادة‪( :‬كان قارونُ ُي�س َّمى املن َّور‬
‫الطاعات وتالو ِة التوراة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مما َي ُد ُّل َع َلى �أنه كان �أ ّول �أمره مع مو�سى ظاهر ًا مكرث ًا ِمن‬ ‫�سن َ�صوته بالتوراة) َّ‬ ‫حل ِ‬ ‫ُ‬
‫لكنه كاف ٌر يف الباطن منافق‪ ،‬قال جل وعال‪َ } :‬و َل َق ْد �أَ ْر َ�س ْل َنا ُم َ‬
‫و�سى ِب�آ َيا ِت َنا َو ُ�س ْل َط ٍان ُم ِب ٍني‪�ِ ،‬إ ىَل ِف ْر َع ْونَ َو َه َامانَ‬
‫اب{‪ .‬فكان فرعونُ امللك وهامانُ الوزير‪ ،‬وقارونُ رج ًال تاجر ًا من قوم مو�سى‪.‬‬ ‫َو َقا ُرونَ َف َقا ُلوا َ�س ِاح ٌر َك َّذ ٌ‬

‫هلل تعاىل‪ ،‬وا َّت َب َع فرعونَ‬


‫قومه �إذ كان بنو �إ�سرائيل متبعني ملو�سى‪a‬يف توحيد ا ِ‬ ‫ لقد ترك قارونُ مل َة ِّ‬
‫وتد ّين بدي ِنه وملته؛ لأنه ملّا �أُوتي املال الكثري تكبرّ على قومه �إذ كانوا فقرا َء ُم�ست�ض َعفني‪ ،‬وت�ش َّبه ب�أهل الرثاء‬
‫حال ُك ِّل َمن �أُوتي ُحطام الدنيا ودخلت حمبتها يف قل ِبه‬ ‫والرثوة وق ّلدهم يف ُكل فعالهم جمارا ًة لهم‪ ،‬وكذا ُ‬
‫ومعا�شهم ورُبمّ ا �أثر ذلك على‬ ‫ِ‬ ‫ف�إنه ي�سعى ملحاكاة وم�شابهة الأكرث ما ًال والأوف��ر جاه ًا يف َد ِّلهم و�سمتهم‬
‫اعتقاده بر ّبه و�ش ّكه يف دينه‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫هلل �أن يكون �أتبا ُع الر�سول وامل�ؤمنون بهم الأق َّلني ما ًال والأ�ش َّد م�سكن ًة‪.‬‬ ‫ وقد اقت�ضت حكمة ا ِ‬
‫و�سى َر َّب َنا ِ�إ َّن َك �آ َت ْي َت ِف ْر َع ْونَ َو َملأَ ُه زِي َن ًة َو�أَ ْم َواال فيِ الحْ َ َيا ِة ال ُّد ْن َيا َر َّب َنا ِل ُي ِ�ضلُّوا‬
‫ قال ج ّل وعال‪َ } :‬و َق َال ُم َ‬
‫اب الأَ ِل َيم‪َ ،‬ق َال َق ْد ُ�أ ِجي َب ْت‬ ‫َعنْ َ�س ِبي ِل َك َر َّب َنا ْاط ِم�سْ َع َلى �أَ ْم َوا ِل ِه ْم َوا�شْ ُد ْد َع َلى ُق ُلو ِب ِه ْم َفال ُي�ؤْ ِم ُنوا َحتَّى َي َر ْوا ا ْل َع َذ َ‬
‫َد ْع َو ُت ُك َما َف ْ‬
‫ا�س َت ِقي َما َوال َت َّت ِب َع ِان َ�س ِب َيل ا َّل ِذينَ ال َي ْع َل ُمونَ {‪.‬‬

‫اهلل من‬ ‫اهلل قارون وما �آتاه ُ‬ ‫ليتع�ض به امل�ؤمنون فذكر ُ‬ ‫َ‬ ‫ق�ص اهلل لنا خرب قارونَ يف كتابه‬ ‫ عباد اهلل! لقد َّ‬
‫و�سى َف َب َغى َع َل ْي ِه ْم َو�آ َت ْي َنا ُه ِمنَ ا ْل ُك ُنو ِز َما ِ�إنَّ َم َفاتحِ َ ُه َل َت ُنو ُء‬
‫الأموال فقال �سبحانه‪�ِ } :‬إنَّ َقا ُرونَ َكانَ ِمن َق ْو ِم ُم َ‬
‫ِبا ْل ُع�صْ َب ِة �أُوليِ ا ْل ُق َّو ِة{‪ ،‬ثم بينّ كيف �أن الن�صحاء من قومه َو َع ُظو ُه } ِ�إ ْذ َق َال َل ُه َق ْو ُم ُه ال َت ْف َر ْح{ �أي ال ت ُ‬
‫َبط ْر‬
‫الل ال َّدا َر ال ِآخ َر َة{ �أي فلتكن‬ ‫َاك هَّ ُ‬
‫الل ال ُي ِح ُّب ا ْل َف ِر ِحنيَ‪َ ،‬وا ْب َت ِغ ِفي َما �آت َ‬ ‫عطيت َوتفخر على غريك } ِ�إنَّ هَّ َ‬ ‫مبا �أُ َ‬
‫َن�س َن ِ�صي َب َك ِمنْ‬ ‫ري و�أبقى‪ ،‬ومع هذا } َوال ت َ‬ ‫همت َُك َم�صروف ًة لتح�صل ثواب اهلل يف الدار الآخرة ف�إنه خ ٌ‬

‫‪509‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة قارون‬

‫اهلل لك‪ ،‬فتمتع لنف�سك باملالذ الطيبة احلالل‪َ } ،‬و�أَ ْح ِ�سنْ َك َما �أَ ْح َ�سنَ‬ ‫ال ُّد ْن َيا{ �أي وتناول منها مبالك ما �أح َّل ُ‬
‫الل ِ�إ َل ْي َك{ �أي و�أح�سن �إىل خلق اهلل كما �أح�سن ُ‬
‫اهلل خال ُقهم وبارئهم �إليك } َوال َت ْب ِغ ا ْل َف َ�سا َد فيِ الأَ ْر ِ�ض ِ�إنَّ‬ ‫هَّ ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هَّ َ‬
‫الل ال ُي ِح ُّب المْ ُ ْف ِ�س ِدينَ {‪.‬‬

‫ فما كان جوابه �إال �أن } َق َال ِ�إنمَّ َ ا �أُو ِتي ُت ُه َع َلى ِع ْل ٍم ِع ِندي{ يعني �أنا ال �أحتاج �إىل ا�ستماع ما ذكرمت‪ ،‬وال‬
‫حبيب �إليه وحظي‬ ‫�إىل ما �إليه �أ�شرمت‪ ،‬ف�إن اهلل �إمنا �أعطاين هذا لعلمه �أين �أ�ستحقه‪ ،‬و�أين �أه ٌل له‪ ،‬ولوال �أين ٌ‬
‫ون َمنْ‬ ‫أعطاين‪ .‬قال اهلل تعاىل رد ًا عليه‪�} :‬أَ َو مَْل َي ْع َل ْم �أَنَّ هَّ َ‬
‫الل َق ْد �أَ ْه َل َك ِمنْ َق ْب ِل ِه ِمنْ ال ُق ُر ِ‬ ‫عنده َملا �أعطاين َما � َ‬
‫هُ َو �أَ َ�ش ُّد ِم ْن ُه ُق َّو ًة َو�أَ ْك رَ ُث َج ْمع ًا َوال ُي�سْ�أَ ُل َعنْ ُذ ُنو ِب ِه ْم المْ ُ ْج ِر ُمونَ {‪.‬‬

‫ ثم قال �سبحانه‪َ } :‬ف َخ َر َج َع َلى َق ْو ِم ِه فيِ زِي َن ِت ِه{ ذكر كثري من املف�سرين �أنه خرج يف جتمل عظيم؛‬
‫عظم زهر َة احلياة الدنيا متنوا �أن لو كانوا مث َله‪ُ ،‬‬
‫وغبطو ُه‬ ‫وخدم وح�شم‪ ،‬فلما ر�آه َمن ُي ِّ‬
‫ومراكب ٍ‬
‫َ‬ ‫مالب�س‬
‫َ‬ ‫من‬
‫اللهَّ‬
‫اب ِ‬ ‫ال�صحيح الزها ُد الألباء قالوا لهم‪َ } :‬و ْي َل ُك ْم َث َو ُ‬‫ِ‬ ‫َمبا عليه و َله‪ ،‬فلما �سمع مقالتَهم العلما ُء ذوو الفهم‬
‫ي لمِ َنْ � َآمنَ َو َع ِم َل َ�صالحِ ًا{ �أي ثواب اهلل يف الدار الآخرة خري و�أبقى و�أجل و�أعلى‪ .‬قال اهلل تعاىل‪َ } :‬وال‬ ‫َخ رْ ٌ‬
‫ُي َل َّق َاها �إِالَّ ال�صَّ ا ِب ُرونَ {‪� .‬أي وما ُيل َّقى هذه الن�صيح َة ويقبل هذه املقالة‪ ،‬وترقى ه َّمته �سامي ُة �إىل الدار الآخرة‬
‫العلي ِة‪ ،‬عند النظر �إىل زهرة هذه الدنيا الدنية �إال من هدى ُ‬
‫اهلل قل َبه وث َّب َت ف�ؤا َده‪ ،‬و�أ َّي َد ُل َّب ُه وحقق مراده‪.‬‬

‫ُون هَّ ِ‬
‫الل َو َما َكانَ ِمنْ‬ ‫ قال تعاىل‪َ } :‬ف َخ َ�س ْف َنا ِب ِه َو ِب َ��دا ِر ِه الأَ ْر َ‬
‫���ض َف َما َكانَ َل ُه ِمنْ ِف َئ ٍة َي ُ‬
‫ن�ص ُرو َن ُه ِمنْ د ِ‬
‫أر�ض روى البخاري �أن النبي‪s‬قال‪( :‬ب َي ْنا رجل يجر �إزاره �إذ‬ ‫اهلل به حال تكربه ال َ‬ ‫املُ ْنت َِ�ص ِرينَ {‪ .‬فخ�سف ُ‬
‫خ�سف به فهو يتجلجل يف الأر�ض �إىل يوم القيامة)‪ ،‬قيل‪� :‬إنه عنا قارون‪.‬‬

‫إهالك النف�س والأهل والعقار‪ ،‬ندم َمن‬


‫وخراب الدار و� ِ‬ ‫ِ‬ ‫أموال‬
‫وذهاب ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ وملا َح َّل به َما ح َّل ِمن اخل�سف‬
‫كان متنى مثل ما �أوتي‪ ،‬و�شكروا اهلل تعاىل الذي يدبر عباده مبا ي�شاء من ح�سن التدبري املخزون‪ ،‬ولهذا‬
‫قالوا‪َ } :‬لوْال �أَنْ َمنَّ هَّ ُ‬
‫الل َع َل ْي َنا لخَ َ َ�س َف ِب َنا َو ْي َك�أَ َّن ُه ال ُي ْف ِل ُح ا ْل َكا ِف ُرونَ {‪.‬‬

‫و�سى َف َب َغى َع َل ْي ِه ْم َو�آ َت ْي َنا ُه ِمنَ ا ْل ُك ُنو ِز َما ِ�إنَّ‬ ‫ �أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم‪�} :‬إِنَّ َقا ُرونَ َكانَ ِمن َق ْو ِم ُم َ‬
‫َاك هَّ ُ‬
‫الل‬ ‫الل ال ُي ِح ُّب ا ْل َف ِر ِح َني{ َوا ْب َت ِغ ِفي َما �آت َ‬ ‫َم َفاتحِ َ ُه َل َت ُنو ُء ِبا ْل ُع�صْ َب ِة �أُو ا ْل ُق َّو ِة �إِ ْذ َق َال َل ُه َق ْو ُم ُه ال َت ْف َر ْح �إِنَّ هَّ َ‬
‫ليِ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َن�س َن ِ�صي َب َك ِمنَ ال ُّد ْن َيا َو�أ ْح ِ�سن َك َما �أ ْح َ�سنَ الل �إِ َل ْي َك َوال َت ْب ِغ ا ْل َف َ�سا َد فيِ الأ ْر ِ�ض �إِنَّ الل ال‬ ‫ال َّدا َر ال ِآخ َر َة َوال ت َ‬
‫ون َمنْ هُ َو �أَ َ�ش ُّد‬ ‫الل َق ْد �أَ ْه َل َك ِمن َق ْب ِل ِه ِمنَ ال ُق ُر ِ‬ ‫ُي ِح ُّب المْ ُ ْف ِ�س ِدينَ { َق َال ِ�إنمَّ َ ا �أُو ِتي ُت ُه َع َلى ِع ْلم ِع ِندي �أَ َو مَْل َي ْع َل ْم �أَنَّ هَّ َ‬
‫ٍ‬
‫ِم ْن ُه ُق َّو ًة َو�أَ ْك رَ ُث َج ْم ًعا َوال ُي�سْ�أَ ُل َعن ُذ ُنو ِب ِه ُم المْ ُ ْج ِر ُمونَ { َف َخ َر َج َع َلى َق ْو ِم ِه فيِ زِي َن ِت ِه َق َال ا َّل ِذينَ ُي ِريدُونَ الحْ َ َيا َة‬
‫ي لمِّ َنْ‬ ‫اب هَّ ِ‬
‫الل َخ رْ ٌ‬ ‫ال ُّدن َيا َيا َل ْي َت َل َنا ِم ْث َل َما �أُو ِت َي َقا ُرونُ ِ�إ َّن ُه َل ُذو َح ٍّظ َع ِظ ٍيم{ َو َق َال ا َّل ِذينَ �أُو ُتوا ا ْل ِع ْل َم َو ْي َل ُك ْم َث َو ُ‬
‫ن�ص ُرو َن ُه ِمن‬ ‫� َآمنَ َو َع ِم َل َ�صالحِ ً ا َوال ُي َل َّق َاها �إِالَّ ال�صَّ ا ِب ُرونَ { َف َخ َ�س ْف َنا ِب ِه َو ِب َدا ِر ِه الأَ ْر َ�ض َف َما َكانَ َل ُه ِمن ِف َئ ٍة َي ُ‬
‫الل َي ْب ُ�س ُط ال ِّر ْز َق لمِ َن‬ ‫الل َو َما َكانَ ِمنَ املُنت َِ�ص ِرينَ { َو�أَ�صْ َب َح ا َّل ِذينَ تمَ َ َّن ْوا َم َكا َن ُه ِبالأَ ْم ِ�س َي ُقو ُلونَ َو ْي َك�أَنَّ هَّ َ‬ ‫ُون هَّ ِ‬ ‫د ِ‬
‫الل َع َل ْي َنا لخَ َ َ�س َف ِب َنا َو ْي َك�أَ َّن ُه ال ُي ْف ِل ُح ا ْل َكا ِف ُرونَ { ِت ْل َك ال َّدا ُر ال ِآخ َر ُة نجَْ َع ُل َها‬ ‫َي َ�شاء ِمنْ ِع َبا ِد ِه َو َي ْق ِد ُر َلوْال �أَن َّمنَّ هَّ ُ‬
‫ي ِّم ْن َها َو َمن َجاء‬ ‫ِل َّل ِذينَ ال ُي ِريدُونَ ُع ُل ًّوا فيِ الأَ ْر ِ�ض َوال َف َ�سادًا َوا ْل َعا ِق َب ُة ِل ْل ُم َّت ِق َني{ َمن َجاء ِبالحْ َ َ�س َن ِة َف َل ُه َخ رْ ٌ‬
‫ات �إِالَّ َما َكا ُنوا َي ْع َم ُلونَ {‪.‬‬ ‫ال�س ِّي َئ ِ‬
‫ال�س ِّي َئ ِة َفال ُي ْجزَ ى ا َّل ِذينَ َع ِم ُلوا َّ‬ ‫ِب َّ‬
‫‪510‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة قارون‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ عباد اهلل! �إن ِمن �أمة حممد‪َ s‬من ُيح�شر مع قارون يوم القيامة ويكون يف زمرته‪� ،‬إذا وافقه يف عمله‪:‬‬

‫فمن م�شابهة قارون االغرتار بزهرة احلياة الدنيا واالفتتان بها‪ ،‬وظنُّ املرء �أن ال�صواب معه دون َمن‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫النا�س �إذا �أُوتي ما ًال تكبرّ على اخللق ب�أفعاله‪ ،‬وتكبرّ على ِّ‬
‫احلق بر�أيه فرتاه ير ُّد‬ ‫عداه ب�سبب ماله‪ ،‬فكثري من ِ‬
‫الن�صو�ص ال�صريحة‪ ،‬والأحكام الوا�ضح َة مبح�ض عقله وهواه �إذ ملّا �أُوتي ما ًال وجاه ًا ظنَّ �أنه ب�سبب ذكائه‬ ‫َ‬
‫يهرف‪،‬‬ ‫يعرف‪ ،‬ويخو�ض فيه مبا ِ‬ ‫دين اهلل مبا ال ِ‬ ‫ُ‬
‫وتوفيقه } َق َال ِ�إنمَّ َ ا �أو ِتي ُت ُه َع َلى ِع ْل ٍم ِع ِندي{‪ ،‬فرتاه يتك ّلم يف ِ‬
‫وقد اعتاد �أن يقول ف ُي�ص ّدق و�إذا خا�ض �أال ُيك ّذب‪.‬‬

‫ ف�سبب بغي قارون �أنه �أُوتي ما ًال‪ ،‬ف�آثر احلياة الدنيا على الآخرة‪ ،‬وظنَّ �أن قوته مبا ِله فغ ّره ما ُل ُه فتكبرّ‬
‫الَ ْر ِ�ض َو َل ِكنْ ُي َن ِّز ُل ِب َق َد ٍر‬ ‫على النا�س وعلى دين اهلل؛ كما قال تعاىل‪َ } :‬و َل ْو َب َ�س َط هَّ ُ‬
‫الل ال ِّر ْز َق ِل ِع َبا ِد ِه َل َب َغ ْوا فيِ ْ أ‬
‫َما َي َ�شا ُء{‪.‬‬

‫فرائ�ضه‪ ،‬ويتكبرّ على �ضعف ِة‬


‫ِ‬ ‫ عباد اهلل! �إن َمن ُي�شغل مبا ِله عن �صالته‪ ،‬وبرثوته عن طاعة ر ِّبه و�أداء‬
‫وي�ستنكف عن خمالطتهم وجمال�ستهم يف امل�ساجد وغريها هو �شبيه قارون وقرينه يف املح�شر؛‬ ‫ُ‬ ‫امل�سلمني‪،‬‬
‫(من حافظ‬ ‫روى الإمام �أحمد (‪ )6576‬عن عبد اهلل بن عمرو‪�d‬أن النبي‪s‬ذكر ال�صالة يوم ًا فقال‪َ :‬‬
‫عليها كانت له نور ًا وبرهان ًا وجنا ًة يوم القيامة‪َ ،‬ومن مل يحافظ عليها مل يكن له نو ٌر وال برها ٌن وال جنا ٌة‪،‬‬
‫وكان يوم القيامة مع قارونَ وفرعونَ وهامانَ و�أُ ِّبي بن َخ َلف)‪.‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪511‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة نوح‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة نوح‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫هلل و ُر�س ِله‪ ،‬و�أويل العزم منهم‪ ،‬و�أ َّو ِلهم بعث ًة نوح ًا‪a‬؛ قال ج َّل وعال‪�ِ } :‬إنَّ هَّ َ‬
‫الل ا�صْ َط َفى‬ ‫أف�ضل �أنبياء ا ِ‬ ‫ف�إن ِمن � ِ‬
‫}�سال ٌم َع َلى ُن ٍوح فيِ ا ْل َعالمَ ِنيَ{‪.‬‬
‫وحا َو� َآل ِ�إ ْب َر ِاه َيم َو� َآل ِع ْم َرانَ َع َلى ا ْل َعالمَ ِنيَ{‪،‬وقال �سبحانه‪َ :‬‬
‫�آ َد َم َو ُن ً‬
‫فق�ص ُ‬
‫اهلل لنا ِمن َ�ش�أنه وحا ِله �أمر ًا عجب ًا }�أَ مَْل َي�أْ ِت ُك ْم‬ ‫رب وعظات‪َّ ،‬‬
‫قومه ع ٌ‬
‫لنوح مع ِ‬
‫ عباد اهلل! لقد كان ٍ‬
‫َن َب�أُ ا َّل ِذينَ ِمن َق ْب ِل ُك ْم َق ْو ِم ُن ٍوح{‪.‬‬

‫آدم‪a‬مكث بنوه ع�شرة قرون موحدين م�سلمني غري ُم�شركني‪ ،‬قال ابن عبا�س‪( :d‬كان‬‫ فبعد �أن مات � ُ‬
‫ونوح ع�شرة قرون كلهم على الإ�سالم)[رواه ابن جرير واحلاكم ي�إ�سناد �صحيح]‪.‬‬
‫آدم ٍ‬ ‫بني � َ‬

‫�شركهم ت�ساه ُل الأولني مـنهم بالبد ِع‬ ‫�سبب ِ‬ ‫أ�صنام و�أ�شركوا باهلل وكان ُ‬ ‫ُث َّم بعد ذلك َع َب َد ُ‬
‫النا�س ال َ‬ ‫ ‬
‫وق‬ ‫وعدم الأخذ على يد الظامل‪َ }،‬و َقا ُلوا ال ت ََذ ُرنَّ �آ ِل َه َت ُك ْم َوال ت ََذ ُرنَّ َو ًّدا َوال ُ�س َو ًاعا َوال َي ُغ َ‬
‫وث َو َي ُع َ‬ ‫واملُحـدثات ُ‬
‫نوح فل َّما هلكوا �أوحى‬ ‫َو َن ْ�س ًرا{ روى البخاري (‪ )4636‬عن ابن عبا�س‪d‬قال‪( :‬كان رجا ٌل �صاحلون من قوم ٍ‬
‫ال�شيطان �إىل قومهم �أن ان�صبوا �إىل جمال�سهم التي كانوا يجل�سون �أن�صاب ًا و�سموها ب�أ�سمائهم‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬فلم‬
‫ُتعبد حتى �إذا هلك �أولئك و ُن�سخ العلم ُعبدت)‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫وحا ِ�إ ىَل‬ ‫ مكث نو ٌح‪a‬ت�سعمائ ٍة وخم�سني عام ًا يف قومه مذكر ًا وداعي ًا ونا�صح ًا ومر�شد ًا } َو َل َق ْد َ�أ ْر َ�س ْل َنا ُن ً‬
‫َق ْو ِم ِه َف َل ِبثَ ِف ِيه ْم �أَ ْل َف َ�س َن ٍة ِ�إالَّ َخ ْم ِ�س َني َع ًاما{‪ ،‬داعهم خاللها لتوحيد اهلل و�إفراده بالعبادة �إىل التوحيد‪} :‬‬
‫اب �أَ ِلي ٌم{ َق َال َيا َق ْو ِم �إِنيِّ َل ُك ْم َن ِذي ٌر ُّم ِبني{�أَ ِن‬ ‫وحا �إِ ىَل َق ْو ِم ِه َ�أنْ �أَ ِنذ ْر َق ْو َم َك ِمن َق ْب ِل َ�أن َي ْ�أ ِت َي ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫�إِ َّنا �أَ ْر َ�س ْل َنا ُن ً‬
‫الل َوا َّت ُقو ُه َو�أَ ِطي ُع ِون{‪ ،‬ومل َيا ُلو ُجهدا‪ ،‬ومل يدخر و�سع ًا يف دعوتهم و�إر�شا ِدهم‪ ،‬فلم تلن قلوبهم‪،‬‬ ‫ْاع ُب ُدوا هَّ َ‬
‫ومل يزدادوا �إال بغي ًا وكفر ًا؛ } َق َال َر ِّب ِ�إنيِّ َد َع ْوتُ َق ْو ِمي َل ْي ًال َو َن َها ًرا{ َف َل ْم َي ِزدْهُ ْم د َُعا ِئي ِ�إالَّ ِف َرا ًرا{ َو ِ�إنيِّ‬
‫ا�س ِت ْك َبا ًرا{ ُث َّم ِ�إنيِّ‬‫ا�س َتكْبرَ ُ وا ْ‬ ‫ا�س َت ْغ َ�ش ْوا ِث َيا َب ُه ْم َو�أَ َ�ص ُّروا َو ْ‬
‫ُك َّل َما َد َع ْو ُت ُه ْم ِل َت ْغ ِف َر َل ُه ْم َج َع ُلوا �أَ َ�صا ِب َع ُه ْم فيِ � َآذا ِن ِه ْم َو ْ‬
‫نت َل ُه ْم َو�أَ ْ�س َر ْرتُ َل ُه ْم ِ�إ ْ�س َرا ًرا{‪.‬‬ ‫َد َع ْو ُت ُه ْم ِج َها ًرا{ ُث َّم ِ�إنيِّ �أَ ْع َل ُ‬

‫قومه‪ ،‬و�أ َّما ذووا القوة والبط�ش فلم ي�ؤمنوا } َف َق َال المْ َ ُلأ ا َّل ِذينَ َك َف ُرو ْا‬
‫ف َما �آمن معه �إال امل�ست�ضعفون ِمن ِ‬ ‫ ‬
‫‪512‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة نوح‬

‫اك ا َّت َب َع َك �إِالَّ ا َّل ِذينَ هُ ْم �أَ َر ِاذ ُل َنا َبا ِد َي الرَّ�أْ ِي َو َما َن َرى َل ُك ْم َع َل ْي َنا ِمن‬
‫اك �إِالَّ َب َ�ش ًرا ِّم ْث َل َنا َو َما َن َر َ‬
‫ِمن ِق ْو ِم ِه َما َن َر َ‬
‫َف�ضْ ٍل َب ْل َن ُظ ُّن ُك ْم َك ِاذ ِبنيَ{‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ و�أوحى اهلل �سبحانه �إىل نوح ب�أنه لن ي�ؤمن من قومه �أحد بعد قلة ممن �آمن } َو�أُ ِ‬
‫وح َي ِ�إ ىَل ُن ٍوح �أَ َّن ُه َلن‬
‫ءامنَ َف َال َت ْب َت ِئ�سْ بمِ َ ا َكا ُنو ْا َي ْف َع ُلونَ {‪ ،‬عند ذلك التج�أ نوح‪�a‬إىل اهلل بالدعاء على‬ ‫ُي�ؤْ ِمنَ ِمن َق ْو ِم َك ِ�إالَّ َمن َق ْد َ‬
‫قومه بالهالك والدمار } َو َق َال ُنو ٌح َّر ِّب ال ت ََذ ْر َع َلى الأَ ْر ِ�ض ِمنَ ا ْل َكا ِف ِرينَ َد َّيا ًرا{‪ ،‬فا�ستجاب اهلل دعا َءه و�أعلمه‬
‫ال�سفينة لريكب فيها هو وامل�ؤمنون‪،‬‬ ‫ب�أنه �س ُيهلكهم بالطوفان فال َيبقى منهم �أح ٌد‪ ،‬و�أوحى �إليه ب�أن ي�صنع َّ‬
‫لنوح‪a‬وال لغريه معرف ٌة ب�صنع الفلك‪ ،‬ف�أوحى اهلل �إليه ُ�صنعها‪ ،‬وعلمه كيف ينبغي �أن تكون عليه‬ ‫يك ٍ‬ ‫ومل ُ‬
‫الذينَ َظ َل ُمو ْا ِ�إ َّن ُه ْم ُّم ْغ َر ُقونَ {‪ ،‬وبينّ مما‬ ‫ال�سفينة قال تعاىل‪َ } :‬وا�صْ َن ِع ا ْل ُف ْل َك ِب َ�أ ْع ُي ِن َنا َو َو ْح ِي َنا َو َال ُت َخ ِـط ْب ِني فيِ ِ‬
‫فقال}وح َم ْل َنا ُه َع َلى َذ ِات �أَ ْل ٍوح َود ُُ�س ٍر{؛ �أي م�سامري‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُت�صنع‬

‫ فلما امتثل �أمر ر ّبه و�أخذ ي�صنع ال�سفينة‪ ،‬وجعل قومه ميرون عليه فيهز�ؤون وي�سخرون منه‪ ،‬فيقولون‬
‫له‪� :‬صرت جنار ًا يا نوح بعد �أن كنت نبي ًا‪ ،‬ويقولون‪ :‬ماذا تق�صد يا نوح بهذه ال�سفينة؟ و�أين املاء الذي‬
‫�سيحملها وهي يف الرب بعيدة عن البحر؟ فكان جوابه �أن‪َ } :‬ق َال ِ�إن ت َْ�س َخ ُرو ْا ِم َّنا َف ِ�إ َّنا َن ْ�س َخ ُر ِمن ُك ْم َك َما‬
‫اب ُّم ِقي ٌم{‪.‬‬ ‫ت َْ�س َخ ُرونَ { َف َ�س ْو َف َت ْع َل ُمونَ َمن َي�أْ ِتي ِه َع َذ ٌ‬
‫اب ُي ْخ ِزي ِه َو َي ِح ُّل َع َل ْي ِه َع َذ ٌ‬

‫ال�س َماء بمِ َ اء ُّم ْن َه ِم ٍر{ َو َف َّج ْر َنا الأ ْر َ�ض ُع ُيون ًا‬ ‫هلل وقد ُره قال �سبحانه } َف َفت َْح َنا �أَ ْب َ‬
‫وب َّ‬ ‫إذن جاء �أم ُر ا ِ‬ ‫ وبعد � ٍ‬
‫َفا ْل َت َقى ا َملاء َع َلى �أَ ْم ٍر َق ْد ُق ِد َر{ َو َح َم ْل َنا ُه َع َلى َذ ِات �أَ ْل ٍوح َود ُُ�س ٍر{ تجَْ ِرى ِب َ�أ ْع ُي ِن َنا َجزَ اء لمّ َن َكانَ ُك ِف َر{‪.‬‬
‫ ‬
‫ وركب نوح يف ال�سفينة ومن �آمن معه وكانوا عدد ًا قلي ًال‪ ،‬يف حدود الأربعني كما ورد يف بع�ض الروايات‪،‬‬
‫و�أمره اهلل ب�أن يحمل معه يف ال�سفينة من كل حيوان وطري ووح�ش وغريه زوجني اثنني؛ قال تعاىل‪ُ } :‬ق ْل َنا‬
‫ءامنَ َم َع ُه ِ�إالَّ َق ِلي ٌل{‪.‬‬
‫ءامنَ َو َما َ‬ ‫ْاح ِم ْل ِفي َها ِمن ُك ّل َز ْو َجينْ ِ ا ْث َنينْ ِ َو�أَ ْه َل َك ِ�إالَّ َمن َ�س َبقَ َع َل ْي ِه ا ْل َق ْو ُل َو َمنْ َ‬

‫ وينظ ُر نو ٌح �إىل ابنه الذي مل يركب معه فرياه قد ف ّر �إىل جه ٍة مل يكن قد و�ص َلها املاء‪ ،‬فيناديه ب َعاطفة‬
‫الأبوة‪َ } :‬و َنا َدى ُنو ٌح ا ْب َن ُه َو َكانَ فيِ َم ْع ِز ٍل َيا ُب َن َّي ا ْر َكب َّم َع َنا َو َال َت ُكن َّم َع ا ْل َكا ِف ِرينَ {‪.‬‬

‫}�س�آ ِوي ِ�إ ىَل َج َب ٍل‬‫ ولكنّ ابنه ال يلبي دعوة �أبيه‪ ،‬وال يجيب داعيه‪ ،‬بل مي�ضي يف غواية ال�شيطان قائ ًال‪َ :‬‬
‫ا�ص َم ا ْل َي ْو َم ِمنْ �أَ ْم ِر هَّ ِ‬
‫الل �إِالَّ َمن َّر ِح َم َو َح َال َب ْي َن ُه َما المْ َ ْو ُج َف َكانَ ِمنَ المْ ُ ْغ َر ِقنيَ{‪.‬‬ ‫َي ْع ِ�ص ُم ِني ِمنَ المْ َاء َق َال َال َع ِ‬

‫أر�ض �أن تبتلع املاء الذي غمرها‪ ،‬و�أن تعود كما‬ ‫ فلقد انتهى الطوفان �أم ُر اهلل ال�سما َء �أن َت ُك َّف املطر‪ ،‬وال َ‬
‫ي�ض المْ َاء َو ُق ِ�ض َي الأَ ْم ُر َو ْ‬
‫ا�س َت َو ْت َع َلى الجْ ُ و ِد ِّي َو ِق َيل ُب ْعد ًا‬ ‫اءك َو َيا َ�س َماء �أَ ْق ِل ِعي َو ِغ َ‬
‫كانت } َو ِق َيل َيا �أَ ْر ُ�ض ا ْب َل ِعي َم ِ‬
‫الظالمِ ِنيَ{‪.‬‬ ‫ِّل ْل َق ْو ِم َّ‬

‫رب وعظات } َل َق ْد َكانَ فيِ َق َ�ص ِ�ص ِه ْم ِع رْ َب ٌة ِّ ألُوْليِ الأَ ْل َب ِ‬


‫اب‬ ‫قومه ع ٌ‬ ‫نوح مع ِ‬ ‫ عباد اهلل ! لقد كان يف ق�ص�ص ٍ‬
‫َما َكانَ َح ِدي ًثا ُيفْترَ َى َو َل ِـكن َت�صْ ِديقَ ا َّل ِذي َبينْ َ َي َد ْي ِه َو َت ْف ِ�ص َيل ُك َّل َ�ش ْيءٍ َوهُ دً ى َو َر ْح َم ًة ِّل َق ْو ٍم ُي�ؤْ ِم ُنونَ {؛ لذا قال‬

‫‪513‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة نوح‬

‫نت َت ْع َل ُم َها �أَ َ‬


‫نت َو َال َق ْو ُم َك ِمن‬ ‫�سبحانه عقب ذكره لق�صة نوح‪ِ } a‬ت ْل َك ِمنْ َ�أن َباء ا ْل َغ ْي ِب ُن ِ‬
‫وحي َها ِ�إ َل ْي َك َما ُك َ‬
‫َق ْب ِل َه َـذا َفا�صْبرِْ �إِنَّ ا ْل َعا ِق َب َة ِل ْل ُم َّت ِقنيَ{‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫نوح ب�سبب دعوة دعاها عليهم‪� ،‬أن هذه الدعوة ع َّدها‬‫قوم ٍ‬
‫فمن ع َرب هذا الق�ص�ص‪ :‬كيف �أن اهلل �أهلك َ‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫نو ٌح ذنب ًا ففي ال�صحيحني (�أن النا�س ي�أتون نوح ًا فيقولون‪َ � :‬‬
‫أنت �أول الر�سل �إىل الأر�ض‪ ،‬و�سماك اهلل عبد ًا‬
‫�شكورا ا�شفع لنا �إىل ربك �أال ترى على ما نحن فيه �أال ترى �إىل ما قد بلغنا‪ ،‬فيقول لهم‪� :‬إن ربي عز وجل قد‬
‫غ�ضب اليوم غ�ضب ًا مل يغ�ضب قب َله مث َله‪ ،‬ولن يغ�ضب بعده مث َله‪ ،‬و�إنه قد كانت يل دعوة دعوتها على قومي‪،‬‬
‫نف�سي نف�سي �أذهبوا �إىل �إبراهيم)‪.‬‬

‫ قال �شيخ الإ�سالم ابن تيمية‪( :‬ودعاء نوح على �أهل الأر�ض بالهالك كان بعد �أن �أعلمه اهلل �أنه الي�ؤمن‬
‫من قومك �إال من قد �آمن ومع هذا فقد ثبت يف حديث ال�شفاعة يف ال�صحيح �أنه يقول (�إين دعوت على �أهل‬
‫الأر�ض دعوة مل �أومر بها) ف�إنه و�إن مل ين َه عنها فلم ُي� َؤمر بها‪ ،‬فكان الأوىل �أن ال يدعو �إال بدعاءٍ َم�أمو ٍر به‬
‫اهلل �إال مب�أمور به واجب �أو م�ستحب‪ ..‬والقاعدة الكلية‬ ‫واجب �أو م�ستحب‪ ،‬ف�إن الدعاء من العبادات فال ُيع َبد ُ‬ ‫ٍ‬
‫يف �شرعنا �أن الدعاء �إن كان واجبا �أو م�ستحبا فهو ح�سنٌ يثاب عليه الداعي و�إن كان حمرما كالعدوان يف‬
‫ذنب ومع�صية‪ ،‬و�إن كان مكروها فهو ينق�ص مرتب َة �صاحبه و�إن كان مباحا م�ستوي الطرفني فال‬ ‫الدِّ ماء فهو ٌ‬
‫له وال عليه[الفتاوى ‪.]336/8‬‬

‫عدم االعتداء‬ ‫فمن باب �أوىل و�أحرى ُ‬ ‫ فل َّما كان الدعاء على عموم الكفار بالهالك والبوار غ ُري م�شروع‪ِ ..‬‬
‫الل َع ِن ا َّل ِذينَ مَْل ُي َقا ِت ُلو ُك ْم فيِ الدِّ ِين‬ ‫ُ‬ ‫عليهم يف �أموالهم ودمائهم �إال بحقٍّ ؛ كما قال ج َّل وعال‪} :‬ال َي ْن َها ُك ُم هَّ‬
‫الل َع ِن ا َّل ِذينَ‬‫الل ُي ِح ُّب المْ ُ ْق ِ�س ِط َني { ِ�إنمَّ َ ا َي ْن َها ُك ُم هَّ ُ‬
‫َو مَْل ُي ْخ ِر ُجو ُكم ِّمن ِد َيا ِر ُك ْم �أَن َتبرَ ُّ وهُ ْم َو ُت ْق ِ�س ُطوا ِ�إ َل ْي ِه ْم ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫َقا َت ُلو ُك ْم فيِ الدِّ ِين َو�أَ ْخ َر ُجو ُكم ِّمن ِد َيا ِر ُك ْم َو َظ َاه ُروا َع َلى ِ�إ ْخ َر ِاج ُك ْم �أَن َت َو َّل ْوهُ ْم َو َمن َي َت َو َّل ُه ْم َف�أُ ْو َل ِئ َك هُ ُم‬
‫َّ‬
‫الظالمِ ُونَ {‪.‬‬

‫م�شروع‪ ،‬فكيف �إذا كان املعتدى عليه ِمن �أهل العهد والذمة؛‬
‫ٍ‬ ‫ فاالعتدا ُء على غري امل�سلمني يف �أ�ص ِله غ ُري‬
‫(من قتل معاهد ًا مل يرح رائح َة اجلنة و�إن ريحها توجد من م�سرية‬‫ففي �صحيح البخاري �أن النبي‪ s‬قال‪َ :‬‬
‫�أربعني عام ًا)‪.‬‬

‫و�شكوك ال ل�شيءٍ �إال لأنه يحمل جن�سي ًة غربية؛ فنعوذ باهلل من احلور‬ ‫ٍ‬ ‫ و�أ�ش ُّد منه َمن قتل ُم�سلم ًا ب� ٍ‬
‫أوهام‬
‫}منْ �أَ ْج ِل َذ ِل َك َك َت ْب َنا َع َلى َب ِني ِ�إ ْ�س َرا ِئ َيل �أَ َّن ُه َمن َقت ََل َن ْف ً�سا ِب َغ رْ ِي َن ْف ٍ�س �أَ ْو َف َ�س ٍاد فيِ الأَ ْر ِ�ض َف َك�أنمَّ َ ا‬ ‫بعد الكور ِ‬
‫ات ُث َّم ِ�إنَّ َك ِث ًريا ِّم ْن ُهم‬ ‫ا�س َج ِمي ًعا َو َمنْ �أَ ْح َي َاها َف َك َ�أنمَّ َ ا �أَ ْح َيا ال َّن َ‬
‫ا�س َج ِمي ًعا َو َل َق ْد َجا َء ْت ُه ْم ُر ُ�س ُل َنا ِبال َب ِّي َن ِ‬ ‫َقت ََل ال َّن َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه َو َي ْ�س َع ْونَ فيِ الأَ ْر ِ�ض َف َ�سادًا �أَن ُي َق َّت ُلو ْا �أَ ْو‬‫َب ْع َد َذ ِل َك فيِ الأَ ْر ِ�ض لمَ ُ ْ�س ِر ُفونَ {�إِنمَّ َ ا َجزَ اء ا َّل ِذينَ ُي َحا ِر ُبونَ هَّ َ‬
‫الف �أَ ْو ُين َف ْو ْا ِمنَ الأَ ْر ِ�ض َذ ِل َك َل ُه ْم ِخزْ ٌي فيِ ال ُّد ْن َيا َو َل ُه ْم فيِ ال ِآخ َر ِة‬ ‫ُي َ�ص َّل ُبو ْا �أَ ْو ُت َق َّط َع �أَ ْي ِد ِيه ْم َو َ�أ ْر ُج ُل ُهم ِّمنْ ِخ ٍ‬
‫اب َع ِظي ٌم{‪.‬‬ ‫َع َذ ٌ‬

‫‪514‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قصة يحيى بن زكريا‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة يحيى بن زكريا‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫هلل‪ ،‬يف بيت نب ّو ٍة وعبادة‪ ،‬فهو من بني يعقوب بن �إ�سحاق‬
‫�شاب ن�ش�أ يف طاعة ا ِ‬
‫ ف�إن يحيى بن زكريا ٌ‬
‫نبي‪ ،‬و�أُمه من �صاحلات بني �إ�سرائيل وعبادها‪ ،‬وج ّده لأ ّمه عمرانُ من �صاحلي‬‫بن �إبراهيم‪ ،‬و�أبوه زكريا ٌّ‬
‫بني �إ�سرائيل و�أعالمهم‪ ،‬وخالتُه مر ُمي بنت عمران‪ ،‬وابن خالته عي�سى بن مرمي عليهم جميع ًا وعلى نبينا‬
‫ال�صَّ الة وال�سالم‪ ،‬فهل ِمن �أ�سر ٍة �أكرم من هذه الأ�سرة‪.‬‬

‫ا�س ُم ُه َي ْح َيى مَْل نجَْ َعل‬ ‫ ُب ّ�شر لأبيه زكريا‪ ،a‬و�س ّماه اهلل بيحيى قبل �أن يولد } َيا َز َك ِر َّيا ِ�إ َّنا ُن َب ِّ�ش ُر َك ِب ُغ ٍ‬
‫الم ْ‬
‫َّل ُه ِمن َق ْب ُل َ�س ِم ّي ًا{‪ .‬فلي�س قب َله �شبي ٌه له يف اال�سم‪ ،‬وال يف الأو�صاف املجتمعة فيه‪ .‬ومعنى ا�سمه‪:‬‬

‫ كان يحيى‪�a‬شاب ًا �صاحل ًا‪� ،‬أُوتي النب ّوة يف �شبابه‪ ،‬ورزق نباه ًة وذكا ًء و�صالح ًا من حني ن�ش�أ‪ ،‬فلم‬
‫ال�شيخوخة ولأ ّمه بعد ال َعقر ‪ ،‬و ُبعث مب�شر ًا بر�سالة عي�سى‪.a‬‬
‫ُيع َرف ب�صبوة‪ ،‬وال جريرة‪ُ .‬و ِل َد لأبيه بعد ّ‬

‫اهلل على حياته‪ ،‬وعلى وفاته‪ ،‬وعلى ما يكون عليه من‬ ‫ وقد مات‪a‬مقتو ًال قتله بنو �إ�سرائيل �شاب ًا‪ ،‬ف�أثنى ُ‬
‫الأجر يوم القيامة } َو َ�سال ٌم َع َل ْي ِه َي ْو َم ُو ِل َد َو َي ْو َم مَ ُيوتُ َو َي ْو َم ُي ْب َعثُ َح ّي ًا{‪.‬‬

‫ق�صة يحيى‪�a‬أو�صاف ًا له‪،‬‬ ‫ولقد مدحه ر ُّبه �سبحانه‪ ،‬وزاد يف الثناء عليه‪ ،‬ل�شرفه ومنزلته‪ .‬وذكر اهلل لنا يف ّ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ومل يذكر لنا عنه �أخبار ًا‪ ،‬واحلكمة يف ذلك من �أجل �أن يقتدي ُ‬
‫النا�س بالأو�صاف‪ ،‬ويهتدوا بالنعوت‪.‬‬

‫ ولذا ف�إنه يف (�سورة الأنعام) ملّا ذكر اهلل �أ�سماء ٍ‬


‫عدد من الأنبياء ع ّد منهم يحيى بن زكريا‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫}�أُ ْو َلـ ِئ َك ا َّل ِذينَ َه َدى هَّ ُ‬
‫الل َف ِب ُه َداهُ ُم ا ْقت َِد ْه{‪.‬‬

‫اهلل بها على يحيى بن زكريا‪a‬هي بهداية اهلل وتوفيقه و�إعانته‪ ،‬و�إن �أوىل َمن‬ ‫ فال�صفات التي �أثنى ُ‬
‫ال�شباب؛ لأنه‪a‬مات �شاب ًا‪ ،‬وتوفرت فيه هذه ال�صفات مع �شرخ ال�شباب وفت ّوته‪.‬‬ ‫اقتدى بحيى‪a‬ل ُهم ّ‬
‫َاب ِب ُق َّو ٍة َو�آ َت ْي َنا ُه الحْ ُ ْك َم َ�ص ِب ّي ًا{‪� .‬أي‬ ‫۩ ۩فمن �صفاته‪� :‬أنه �أُوتي ا ُ‬
‫حلكم �صبي ًا‪ ،‬قال اهلل‪َ } :‬يا َي ْح َيى ُخ ِذ ا ْل ِكت َ‬
‫احلكم َة مع �صغر �س ّنه‪ ،‬ورزق الفهم للأمور‪ ،‬والب�صرية فيها مع �صغر �س ّنه‪.‬‬ ‫�أُوتي ِ‬

‫وكذا �أكمل ال�شباب وال�صبيان ِمن ُ�أوتي احلكمة‪ ،‬و�إنّ ِمن احلكمة ما ُيكت�سب ومن ما يوهم من اهلل جل‬ ‫ ‬
‫‪515‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة يحيى بن زكريا‬

‫وعال‪ ،‬ف�أ ّما ما ُيكت�سب ف�إنّ �أعظم ما ُتكت�سب به احلكمة حفظ كتاب اهلل تعاىل وتعلمه‪ ،‬ف َمن تع ّلم كتاب اهلل‬
‫(من قر�أ القر�آن من قبل‬ ‫يف �صغره وحفظ �شيئ ًا منه‪ ،‬ففي َ�ش َب ٌه بيحيى‪ُ ،a‬روي عن ابن عبا�س ب �أنه قال‪َ :‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�أن يحتلم فهو ممن �أوتي احلكم �صبي ًا)‪.‬‬

‫ ووجه ذلك‪� :‬أن ان�شغال ال�صبي بالقر�آن حال �صباه‪ ،‬وعدم ان�شغاله مبا يعمله �أترا ُب ُه من �أعمال‪ ،‬هو عني‬
‫احلكمة‪.‬‬
‫حنان‪َ } ،‬و َح َنان ًا ِّمن َّل ُد َّنا{ و(احلنان) هو ما ُجبل عليه من ال َّرح َمة‪،‬‬ ‫۩ ۩ومن �صفاته‪� :a‬أن َ‬
‫اهلل جع َله ذا ٍ‬
‫طف وال�شَّ ف َقة‪.‬‬
‫وال َع ِ‬

‫ ف�إذا كان ال�شاب ذا حنان بغريه‪ ،‬ور�أف ٍة بهم‪ ،‬وتوق ٍري ملن ي�ستحق التوقري من كبار ال�سنّ والف�ضل ف�إن فيه‬
‫�صف َة ٍ‬
‫كمال �شابه فيها �أنبياء اهلل عليهم ال�سالم‪.‬‬

‫۩ ۩ومن �صفاته‪a‬يف كتاب اهلل‪� :‬أن َ‬


‫اهلل رزقه ال َّز َكا َة والطهارة يف �أعماله و�أفعاله و�أقواله } َو َح َنان ًا ِّمن َّل ُد َّنا‬
‫َو َز َكا ًة{‪ ،‬فكان‪a‬ذا ُطهر وعفاف‪ ،‬فلم ُيعرف بريبة‪ ،‬ومل تظهر منه ز ّلة‪ ،‬مع �أ ّنه جاء �أنه كان من �أ�صبح‬
‫النا�س َو ْج َه ًا‪ ،‬و�أجملهم َهيئة‪.‬‬

‫}ح ُ�صور ًا{‪� ،‬أي ممنوع من الفواح�ش والقاذورات‪ .‬فهو بعي ٌد عن‬‫ِومن كمال ع ّفته ‪�a‬أن اهلل �س ّماه‪َ :‬‬ ‫ ‬
‫يرتخ ُ�ص يف ي�سري‪ ،‬وال يت�ساهل يف ت�ص ّرف‪ ،‬ولذا كان ح�صور ًا‪.‬‬
‫الفواح�ش وما قاربها‪ ،‬ال ّ‬
‫ِ‬

‫قط ب�صغرية وال بكبرية وال َه َّم بامر�أة)‪ .‬ويف احلديث �أن النبي‬ ‫يع�ص َ‬
‫اهلل ّ‬ ‫ قال قتادة‪�( :‬إن يحيى‪a‬مل ِ‬
‫‪s‬قال‪( :‬ما من �أحد من ولد �آدم �إال قد �أخط�أ �أوهم بخطيئة لي�س يحيى بن زكريا)[رواه الإمام �أحمد]‪.‬‬

‫ وكذا ال�شباب ف ُك ّلما كان �أ�سامل من الفنت‪ ،‬و�أبعد عن مواطن الريب‪ ،‬كان �أ�ش َبه بهدي يحيى ؛‪ ،‬واهلل‬
‫العا�صم‪.‬‬

‫۩ ۩ومن �صفاته‪a‬التي و�صفه اهلل بها‪� :‬إذا قال‪َ } :‬و َكانَ َت ِق ّي ًا{‪ ،‬وهذه �شهادة من اهلل له عظيمة‪ ،‬فيحيى‬
‫يع�ص اهلل؛ قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و مَْل‬
‫كان ذا طاعة وتقوى‪ ،‬وخ�شية هلل يف الغيب‪ِ ،‬ومن عظيم تقواه �أنه مل ِ‬
‫َي ُكن َج َّبار ًا َع ِ�ص ّي ًا{‪.‬‬
‫۩ ۩ ِومن �صفاته‪a‬يف كتاب اهلل‪َ } :‬و مَْل َي ُكن َج َّبار ًا َع ِ�ص ّي ًا{‪ .‬فلم يكن متكرب ًا جبار ًا‪ ،‬و�إمنا متوا�ضع ًا متذل ًال‬
‫هلل ولينّ اجلانب خللق اهلل‪.‬‬

‫وقد �أمر اهلل امل�ؤمنني بهذه ال�صفة فقال �سبحانه لنب ّيه‪َ } :‬و ْاخ ِف�ضْ َج َن َاح َك لمِ َ ِن ا َّت َب َع َك ِمنَ المْ ُ�ؤْ ِم ِننيَ{‪.‬‬ ‫ ‬

‫۩ ۩ومن �صفاته‪� :a‬أنه كان با ّر ًا بوالديه‪ ،‬حم�سن ًا لهما‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪َ } :‬و َب ّر ًا ِب َوا ِل َد ْي ِه{‪ .‬و�أكرم ال�شباب‬
‫ِمن لزم ب ّر والديه‪ ،‬وعكف على الإح�سان �إليهما‪.‬‬
‫‪516‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قصة يحيى بن زكريا‬

‫۩ ۩وذكر اهلل من �أو�صافه‪� :a‬أنه ُي�ص ّدق بكالم اهلل و�أنبياء اهلل وما جاء منهم‪ ،‬قال تعاىل يف نعته‪} :‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وعا�ضده و�آزره‪ ،‬ومل يكن كحال‬ ‫َ‬ ‫الل{‪ .‬لذا �آمن بر�سالة ابن خالته عي�سى بن مرمي‪a‬‬ ‫ُم َ�صدِّ ق ًا ِب َك ِل َم ٍة ِّمنَ هَّ ِ‬
‫غريه من بني �إ�سرائيل الذي ح�سدوا وبغوا فلم ي�ؤمنوا‪.‬‬
‫۩۩‬
‫ُ‬
‫النا�س بها‪ ،‬ف�إنه �إمنا �ساد ب�صفاته التي �أثنى اهلل عليه بها‪،‬‬ ‫ فال غرو بعد هذه ال�صفات �أن ي�سود على ِ‬
‫َ‬ ‫هَّ‬
‫ال بن�سبه‪ ،‬وال مباله‪� ،‬أو منطقه‪ ،‬قال اهلل تعاىل خماطب ًا �أباه زكريا‪�} :‬أَنَّ الل ُي َب ِّ�ش ُر َك ِب َي ْح َيـى ُم َ�صدِّ ق ًا ِب َك ِل َم ٍة‬
‫الل َو َ�س ِّيد ًا{‪.‬‬ ‫ِّمنَ هَّ ِ‬

‫ ف�سي ُد القوم َمن كم َلت �صفاته‪ ،‬وعلت �أخال ُقهُ‪ ،‬وح�سن تعامله مع ر ّبه ومع النا�س‪ .‬ف�إن اهلل مل ِ‬
‫يثن‬
‫بح�سب ومال وهيئة مع كماله‬
‫ٍ‬ ‫يثن عليه‬‫بن�سب مع �أنه ِمن �أ�شرف الأن�ساب ف�آبا�ؤه �أنبياء‪ ،‬ومل ِ‬
‫على يحيى ٍ‬
‫فيها جميع ًا‪ ،‬و�إمنا �أثنى عليه ب�أخالقه وهي التي �س ّوده ُ‬
‫اهلل بها‪ .‬لذا ف�إن النبي‪s‬كان يقول‪�( :‬إن خيا َركم‬
‫�أحا�سنكم �أخالقا) رواه ّ‬
‫ال�شيخان‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫قضاء الحاجات‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬قضاء الحاجات‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫‪ ،‬وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫عنده خري ًا يبذله للنا�س‪ ،‬فيق�صدونه لق�ضاء‬
‫ عباد اهلل! ف�إن من نعم اهلل على العبد �أن يجعل اهلل َ‬
‫حوائجهم‪ ،‬فيجري اهلل على يديه اخلري ويق�ضي اهلل به حوائج خلقه‪.‬‬

‫ روى ال�شيخان من حديث ابن عمر‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪«َ :‬من كان يف حاجة �أخيه كان اهلل يف حاجته»‪.‬‬
‫وحوائج العبد �إىل خالقه �أكرب من حوائج اخللق للخلق‪ ،‬ف َمن رام ق�ضاء حاجته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فاجلزاء من جن�س العمل‪،‬‬
‫وحتقق رغبته فليح�سن �إىل النا�س بق�ضاء حوائجهم‪ ،‬بتي�سري �أمورهم‪ ،‬وتعجيلها وعدم املطل والت�أخري فيها‪.‬‬

‫عنده جا ٌه �أو مال فيق�صدونه لأمورهم فيق�ضي احلاجات‬


‫خدمي للنا�س‪� ،‬أو َ‬
‫ٌّ‬ ‫عمل‬
‫ �إن املرء �إذا كان يف ٍ‬
‫بطالقه وجه‪ ،‬وطيب نف�س ف�إ ّنه الرابح‪.‬‬

‫عندهم‪ ،‬ويع ّدون‬


‫مكارم الأخالق ومعايل النفو�س يفرحون بق�ضاء حاجة غ ِريهم �أن كانت َ‬‫ِ‬ ‫ �إنّ �أ�صحاب‬
‫�صاحب امل ّنة عليهم �أنْ �أتاهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ق�صدهم وطلب احلاجة منهم متف�ض ًال عليهم‪ ،‬وهو‬
‫من َ‬

‫هلل �إىل اهلل عز وج ّل َمن ُح ِّبب �إليه املعروف‬


‫أحب عبا ِد ا ِ‬
‫ �أولئك هم من يحبهم اهلل جاء يف الأثر‪�( :‬إنّ � َّ‬
‫خطبة جديدة‬
‫وح ِّب َب �إليه �أفعا ُله)‪[ .‬رواه ابن �أبي الدنيا يف ق�ضاء احلوائج]‬
‫ُ‬

‫�سبب يف حفظ النعمة‪ ،‬وبقائها‪ُ ،‬روي عن علي‪�d‬أنه قال‪�( :‬إن هلل عباد ًا يخ�صهم‬ ‫ �إن ق�ضاء حوائج النا�س ٌ‬
‫بالنعم ملنافع العباد‪ ،‬ف ُيق ُّرها يف �أيديهم ما بذلوها‪ ،‬ف�إذا منعوها نزعها منهم وحولها �إىل غريهم)‪.‬‬
‫ �أن تقدمي �أ�صحاب احلوائج ُخ ُلق الأنبياء واملر�سلني‪ ،‬كيف ال‪ ،‬وهذه �صفة � ِّ‬
‫أحب النا�س �إىل اهلل‪.‬‬

‫اج ًة مَْل َي ُر َّد ُه ِ�إال ِب َها �أَ ْو بمِ َ ْي ُ�سو ٍر ِمنَ ا ْل َق ْو ِل‪،‬‬
‫ قال هند بن �أبي هالة‪d‬يف �صفة النبي‪َ « :s‬منْ َ�س�أَ َل ُه َح َ‬
‫ا�س ِم ْن ُه َب ْ�س ُط ُه َو ُخ ُل ُق ُه َف َ�صا َر َل ُه ْم �أَ ًبا‪َ ،‬و َ�صا ُروا ِع ْن َد ُه فيِ الحْ َ ِّق َ�س َوا ًء‪ ،‬مجَْ ِل ُ�س ُه مجَْ ِل ُ�س ِح ْل ٍم َو َح َياءٍ‬ ‫َق ْد َو ِ�س َع ال َّن َ‬
‫ا�ض ُلونَ ِفي ِه ِبال َّت ْق َوى‬‫َو َ�صبرَ ٍ َو�أَ َما َن ٍة‪ ،‬ال ُت ْر َف ُع ِفي ِه الأَ�صْ َواتُ ‪َ ،‬وال ُت�ؤْ َبنُ ِفي ِه الحْ ُ ُر ُم‪َ ،‬وال ُت ْن َثى َف َلتَا ُت ُه ُم َت َعا ِد ِل َني َي َت َف َ‬
‫يب »‪.‬‬ ‫اج ِة و َي ْح َف ُظونَ ا ْل َغ ِر َ‬ ‫ا�ض ِع َني ُي َو ِّق ُرونَ ا ْل َك ِب َري‪ ،‬و َي ْر َح ُمونَ ال�صَّ ِغ َري‪َ ،‬و ُي�ؤْ ِث ُرونَ َذ ِو َي الحْ َ َ‬
‫ُم َت َو ِ‬

‫‪518‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قضاء الحاجات‬

‫جمل�س ُه‬
‫ لقد كان النبي‪ِ s‬من �أكرم النا�س‪ ،‬و�أوفاهم لذمام‪ ،‬و�أمتهم يف ق�ضاء حوائج خلق اهلل‪ ،‬وكذا ُ‬
‫ي�ؤثر فيه ذوو احلاجات‪ ،‬ويق ّدمون على غريهم يف احلديث وق�ضاء طلبهم‪ ،‬وي�صدرون فيه‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ �إن ق�ضاء احلوائج املحتاجني وال�سعي فيها من �أف�ضل العبادات‪ ،‬و�أج ّل القربات‪ ،‬روى الطرباين ب�إ�سناد‬
‫هلل ُ�س ُرو ٌر ُت ْد ِخ ُل ُه َع َلى‬ ‫ا�س‪َ ،‬و�أَ َح ُّب الأَ ْع َم ِال �إِ ىَل ا ِ‬
‫هلل �أَ ْن َف ُع ُه ْم ِلل َّن ِ‬
‫ا�س �إِ ىَل ا ِ‬‫ج ّيد �أن النبي‪s‬قال‪�« :‬أَ َح ُّب ال َّن ِ‬
‫اج ٍة َ�أ َح ُّب‬‫وعا‪َ ،‬و َلئِنْ َ�أ ْم ِ�شي َم َع َ�أ ٍخ ليِ فيِ َح َ‬ ‫ُم ْ�س ِل ٍم‪� ،‬أَ ْو َت ْك ِ�ش ُف َع ْن ُه ُك ْر َب ًة‪�َ ،‬أ ْو َت ْق ِ�ضي َع ْن ُه َد ْي ًنا‪� ،‬أَ ْو ت َْط ُر ُد َع ْن ُه ُج ً‬
‫�إِليََّ ِمنْ �أَنْ �أَ ْعت َِك َف فيِ َه َذا المْ َ ْ�س ِج ِد َ�ش ْه ًرا فيِ َم ْ�س ِج ِد المْ َ ِدي َن ِة‪َ ،‬و َمنْ َم َ�شى َم َع �أَ ِخي ِه فيِ َح َ‬
‫اج ٍة َح َّتى ُي َث ِّب َت َها َل ُه َث َّب َت‬
‫ُول الأَ ْق َد ُام»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اهلل َق َد َم ُه َي ْو َم َتز ُ‬

‫ و�أق ّل ف�ضل ق�ضاء احلوائج ثناء النا�س على املرء‪ ،‬قال ابن حبان‪�( :‬أي�سر ما يكون يف ق�ضاء احلوائج‬
‫ا�ستحقاق الثناء)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إنّ َمن يق�ضي حاجة �أخيه ال ي�ستتم �أمره وال يكمل �أجره �إال مبراعاة �آداب متعددة‪� ،‬أولها‪� :‬أن‬
‫ال يتبع معر َفه باملنِّ } َيا �أَ ُّي َها ا َّل ِذينَ � َآم ُنو ْا َال ُت ْب ِط ُلو ْا َ�ص َد َقا ِت ُكم ِبالمْ َنِّ َوال َأذى َكا َّل ِذي ُين ِفقُ َما َل ُه ِر َئا َء ال َّن ِ‬
‫ا�س َو َال‬
‫اب َف�أَ َ�صا َب ُه َوا ِب ٌل َفترَ َ َك ُه َ�ص ْلد ًا الَّ َي ْق ِد ُرونَ َع َلى َ�ش ْيءٍ ممَِّّ ا‬
‫الل َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر َف َم َث ُل ُه َك َم َث ِل َ�ص ْف َو ٍان َع َل ْي ِه ُت َر ٌ‬ ‫ُي�ؤْ ِمنُ ِب هَّ ِ‬
‫الل َال َي ْه ِدي ا ْل َق ْو َم ا ْل َكا ِف ِرينَ {‪.‬‬ ‫َك َ�س ُبو ْا َو هَّ ُ‬

‫ وق��ال علي‪( :d‬ال ي�ستقيم ق�ضا ُء احلوائج �إال بثالث‪ :‬ا�ست�صغارها لتعظم‪ ،‬وا�ستكثارها لتظهر‪،‬‬
‫وبتعجيلها لتهن�أ)‪.‬‬

‫ ف َمن منّ بفعله وحت ّدث به فلي�س داخ ًال يف الف�ضل‪َ ،‬ومن مطل �صاحب احلاجة وجعله ينتظر مدد ًا وهو‬
‫قاد ٌر على تعجيلها فلي�س داخ ًال يف الف�ضل‪.‬‬

‫ وقال الأحنف بن قي�س‪( :d‬ال تطلنب احلاجة �إىل ثالث‪ :‬ك��ذوب‪ ،‬ف�إنه يقربها عليك وهي بعيدة‪،‬‬
‫ويباعدها وهي قريبة؛ وال �إىل �أحمق‪ ،‬ف�إنه يريد �أن ينفعك في�ضرك؛ وال �إىل رجل له �إىل �صاحب احلاجة‬
‫حاجة ف�إنه يجعل حاجتك وقاية حلاجته)‪.‬‬

‫طلب منه‪ ،‬وهذه �صفة الكرماء مع الكرماء‪ ،‬ملا‬ ‫ و�أعلى ال�صفات �أن يق�ضي املرء حاجة �أخيه من غري ٍ‬
‫قبل و�صيتي؟ فقال ابنه الأكرب‪� :‬أنا‪ .‬قال‪:‬‬‫بني �أيكم َي ُ‬
‫ح�ضرت ابن �سعيد ابن العا�ص‪d‬الوفاة‪ ،‬قال لبنيه‪ :‬يا َّ‬
‫ني يف كر ٍمي ُ�سددتُ خلته‬
‫�إن فيها ق�ضاء ديني وهو ثمانون �ألف دينار‪ .‬قال‪ :‬يا �أبت فيم �أخذتها؟ قال‪( :‬يا ُب َّ‬
‫أيت ال�سوء يف وجهه من احلياء فبد�أت بحاجته قبل �أن ي�س�ألها)‪.‬‬ ‫ورجل جائني يف حاجة وقد ر� ُ‬
‫ عباد اهلل! ولل�سائل �أدب كذلك‪:‬‬

‫ فال ي�س�أل ب�إحلاح‪ ،‬قال �أبو حامت ابن حبان‪( :‬ال يجب الإحلاح عند ال�س�ؤال يف احلوائج لأن �شدة االجتهاد‬
‫رمبا كانت �سببا للحرمان واملنع‪ ..‬ف�إن �أعطى وجب عليه احلمد و�إن ُمنع لزمه الر�ضاء بالق�ضاء)‪.‬‬

‫‪519‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬قضاء الحاجات‬

‫ ومن الأدب‪� :‬أن ال ي�س�أل احلاجة يف مكان عام ومبح�ضر النا�س‪ .‬قال عمر بن اخلطاب‪( :d‬ال ت�س�ألوا‬
‫النا�س يف جمال�سهم وم�ساجدهم فتفح�شوهم ولكن �سلوهم يف منازلهم فمن �أعطى �أعطى‪ ،‬ومن منع َمنع)‪.‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ ومن الأدب �أن ال ي�س�أل �صاحب احلاجة �إال حاجته وال ي�ستكرث‪ ،‬فقد قيل‪( :‬ال ت�س�أل احلوائج غري �أهلها‪،‬‬
‫وال ت�س�ألها يف غري حينها‪ ،‬وال ت�س�أل ما ل�ست له م�ستحق ًا‪ ،‬فتكون للحرمان م�ستوجب ًا)‪.‬‬

‫ وكرمي النف�س لو دفعه وق ُت ُه �إىل �أكل الرتاب ِّ‬


‫وم�ص احل�صى ثم �صرب عليه لكان �أحرى به من �أن ي�س�أل‬
‫لئيما حاجة؛ لأن �إعطاء اللئيم �شني ومنعه حتف‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪520‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫كالب النار‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬كالب النار‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ عباد اهلل! لقد �ش ّبه النبي غ امل�ؤمن بخامة الزرع‪ ،‬والنخلة‪ ،‬والنحلة وذلك باعتبار طبعه وما جعل اهلل يف‬
‫اخلوارج بالكالب يف حديث �أعاده مرات‪ ،‬ون ّبه عليه كرات‪ ،‬ولذلك خلطرهم‬
‫َ‬ ‫قلبه‪ ،‬ويف املقابل فقد �ش ّبه‪s‬‬
‫والتبا�س � ِأمرهم على َمن ال يفقه دينَ اهلل‪ ،‬ولأنهم باقون �إىل قيام ال�ساعة؛ كما �أخرب النبي‪.s‬‬

‫ روى الرتمذي وح�سنه من حديث �أبي �أُمامة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪ « :‬اخلوارج كالب النار »‪ .‬فقال له‬
‫أيت هذا احلديث حيث قلت‪( :‬كالب النار)‪� ،‬أهو �شي ٌء �سمعتَه من ر�سول اهلل‪�s‬أو‬ ‫قائل‪ :‬يا �أبا �أُمامة �أر� َ‬
‫�شيء تقو ُله بر�أيك ؟ قال‪�( :‬سبحان اهلل! �إين �إذا جلريء‪ ،‬لو �سمعتُه من ر�سول اهلل‪s‬مر ًة �أو مرتني‪ ،‬حتى‬
‫ع ّد �سبع ًا ما حدثتكموه)‪ .‬ثم بكى �أبو �أُمامة‪d‬فقال الرجل‪ :‬لأي �شيء َبكيت ؟ قال‪( :‬رحم ًة لهم و�أبكي‬
‫خلروجهم من الإ�سالم‪ ،‬ه�ؤالء الذين تفرقوا واتخذوا دينهم �شيعا)‪.‬‬

‫ وروى الإمام �أحمد �أن ابن �أبي �أوفى‪d‬ملّا ح ّدث بهذا احلديث‪ ،‬قال له الراوي‪ :‬االزارقة وحدهم �أم‬
‫اخلوارج كلها ؟ فقال‪( :s‬ال بل اخلوارج ُك ّلها)‪.‬فهذا احلديث ي�شمل اخلوارج ب�شتى م�سمياتها‪� ،‬سوا ًء ُ�س ّموا‬
‫با�سم الإ�سالم �أو اجلهاد �أو ن�سبوا هلل‪� ،‬أو غري ذلك‪ ،‬ومهما كانت طائفتُهم‪ ،‬اختلفت �آرا�ؤهم واتفقت على‬
‫اخلروج امل�س ّلح على امل�سلمني بال�سيف‪ ،‬قال الإمام �أحمد‪( :‬اختلف �أهل الأهواء واتفقوا على ال�سيف)‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫النبي‪s‬بكالب النار؛ لأنهم يرفعون �أ�صواتهم ب�ش ّرهم ويت�شدقون به‪ ،‬كما يعوي الكلب‬
‫۩ ۩ وقد �شببهم ّ‬
‫وينبح‪ ،‬فمن �أعلى الأ�صوات �صوتُ الكلب‪ ،‬وكذا هُ م يرفعون �أ�صواتهم ببدعتهم‪ ،‬ويعلنونها ويظهرونها‬
‫بقوة و�ش ّر‪.‬‬

‫۩ ۩ ومن �أوجه ال�شبه بينهما‪� :‬أنّ الكلب ي�ص ُّد النا�س بعوائه وي�صرفهم ع ّما يريدون فعله‪ ،‬فكذلك هُ م‬
‫ي�ص ّدون النا�س عن احلقّ واخلري‪ ،‬ويرتك النا�س طريق ًا �سلكوه وينفرون منه‪ ،‬كما يرتكون طريق ًا فيه‬
‫كلب يعوي‪.‬‬
‫۩ ۩ ِومن اخل�صال املت�شابهة بني هوالء القوم‪ ،‬وبني الكالب‪� :‬أنّ من طبع �آحادهم وجماعتهم �أنهم يهتكون‬
‫ال�سرت‪ ،‬ويعريون بالعيب‪ ،‬ويقنطون من رحمة اهلل‪ ،‬وال ير�أفون بامل�ؤمنني ممن لي�س معهم‪ ،‬قال املناوي‪:‬‬
‫(وهذه �أخالق الكالب و�أفعالهم)‪ ،‬بخالف امل�ؤمن ف�إنه ي�سرت ويرحم ويرجو املغفرة والرحمة‪.‬‬

‫‪521‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬كالب النار‬

‫۩ ۩ ومن ذلك‪� :‬أنهم مثل الكالب �إذا عوى �أح ُدها ولو كان بعيد ًا‪ ،‬يتعاوون تبع ًا له‪ ،‬يقول قائلهم الكلمة‬
‫أتباعه‬
‫فيتهافتون يف متابعته‪ ،‬لذا ترى ر� َؤ�سهم جماهيل �أو �شبه املجاهيل‪ ،‬يلقي �أحدُهم الكلمة فيتالقها � ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ومن هم على طريقته و�إن مل يعر ْفه �أو يعرف ا�س َمه‪ ،‬فيتعاوون عوا َء الكالب‪ ،‬وال يعرف بع�ضهم بع�ض ًا‪.‬‬

‫كالب مث ِله لقات َلها ونه�شهم‪ ،‬وكذا من ُبلي بهذا‬


‫۩ ۩الكلب يتبع �صاحبه متابع ًة عمياء‪ ،‬حتى لو �أطلقه على ٍ‬
‫أنف�سكم وانتحروا‪،‬‬
‫عقل �أو ر�أي‪ ،‬حتى لو قال لهم‪ :‬اقتلوا � َ‬ ‫الفكر‪ ،‬فتجده يطيع �سادته و ُكربا َءه من غري ٍ‬
‫واهدموا امل�ساجد‪ ،‬واقتلوا امل�صلني وهم يف �صالتهم‪ ،‬واقتلوا �آباءكم و�أمهاتكم‪ ،‬و ُك ُّل ذلك با�سم الدين‬
‫لفعلوا‪ ،‬وقد فعلوا واهلل ور�أينا ذلك‪ .‬فاتبعوا �أمرهم وتركوا �أمر اهلل؛ كالكلب يتبع �أمر �سيده ومالكه‪.‬‬

‫۩ ۩ هم كالكالب‪ ،‬مهما حفظ �أحدهم من كتاب اهلل‪ ،‬و�سمع من �سنة ر�سوله‪ ،s‬ف�إنه ال ينتفع به‪ ،‬وال ي�أخذ‬
‫عمل ال نفع فيه عند اهلل } َف َم َث ُل ُه‬
‫ذهب وقته يف ٍ‬
‫نف�سه و ُي ُ‬
‫يجه ُد َ‬‫مبحكمه‪ ،‬و�إمنا يقع على املت�شابه منه‪ِ ،‬‬
‫نف�سه لغري هدى‪ُ ،‬يك ّد بدنه ويذهب‬ ‫َك َم َث ِل ا ْل َك ْل ِب ِ�إن تحَْ ِم ْل َع َل ْي ِه َي ْل َهثْ �أَ ْو ت رْ ُ‬
‫َت ْك ُه َي ْل َهث{‪ ،‬فهو يلهث ويتعب َ‬
‫مهجته على �ضالل وغواية‪.‬‬

‫رجوع ُه منه؛ لأنه ُي ِّ‬


‫خط ُئ ُك ّل النا�س ويجعل‬ ‫�شخ�ص و�أ�شر َبه يف قل ِبه ف�إنه ي�صعب ُ‬
‫ٌ‬ ‫۩ ۩ وفكر اخلوارج �إذا �أخذه‬
‫الدين حكر ًا عليه وعلى ر�أيه‪ ،‬كالكلب �إذا ولغ يف الإناء ال يطهر �إال بغ�سلة �سبع ًا �إحداها بالرتاب‪.‬‬

‫۩ ۩ وهوالء كما �أ ّنهم كالكالب يف �أفعالهم يف الدنيا‪ ،‬ف�إنهم كذلك يوم القيامة‪ ،‬فقيل‪ :‬معنى احلديث �أي�ض ًا‬
‫�أنهم كالب النار يوم القيامة‪ ،‬كما �أنهم �شابهوا الكالب يف الدنيا ب�أخالقهم‪ :‬فيكونون يف جهنم على‬
‫أخ�س‬
‫الكلب � ُّ‬
‫�صورة الكالب‪� ،‬أو ينبحون على �أهلها ل�شدة العذاب كالكالب‪� ،‬أو هم �أحقر �أهل النار كما �أن َ‬
‫احليوانات‪.‬‬

‫ قال بع�ض �أهل العلم‪( :‬فلما كلبوا على عباد اهلل ونظروا لهم بعني النق�ص والعداوة ففي يوم القيامة‬
‫يكونون يف هيئة �أعمالهم كالب ًا كما كانوا على امل�سلمني يف الدنيا كالب ًا باملعنى املذكور �سابق ًا)‪.‬‬

‫ جاء �أبو �أمامة‪d‬فلما ر�آى قتلى اخلوارج دمعت عيناه‪ ،‬ثم قال‪( :‬كالب النار‪ ،‬كالب النار‪ ،‬كالب النار‬
‫ثالث ًا‪ ،‬هوالء �ش ُّر قتلى حتت �أدمي ال�سماء‪ ،‬وخري قتلى من قتلوه)‪.‬‬

‫أيت هذا احلديث حيث قلت‪( :‬كالب النار)‪� ،‬أهو �شي ٌء �سمعتَه من ر�سول اهلل‬ ‫فقال له قائل‪ :‬يا �أبا �أُمامة �أر� َ‬
‫‪�s‬أو �شيء تقو ُله بر�أيك ؟ قال‪�( :‬سبحان اهلل! �إين �إذا جلريء‪ ،‬لو �سمعتُه من ر�سول اهلل‪ s‬مر ًة �أو مرتني‪،‬‬
‫حتى ع ّد �سبع ًا ما حدثتكموه)‪.‬‬
‫ قلت‪ :‬فما �ش�أنك دمعت عيناك؟ قال‪( :‬رحم ًة لهم �إنهم كانوا من �أهل الإ�سالم‪[ ،‬ه�ؤالء الذين تفرقوا‬
‫واتخذوا دينهم �شيعا])‪.‬‬

‫هلل َع َّز َو َج َّل ‪َ } :‬ف�أَ َّما ا َّل ِذينَ فيِ ُق ُلو ِب ِه ْم َز ْي ٌغ َف َي َّت ِب ُعونَ َما ت ََ�شا َب َه ِم ْنهُ{ قال‪َ ( :‬كانَ فيِ‬
‫[ثم قال‪� :‬أَ َما ت َْ�س َم ُع َق ْو َل ا ِ‬
‫‪522‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬كالب النار‬

‫ُق ُل ِ‬
‫وب َه�ؤُال ِء َز ْي ٌغ ‪َ ،‬ف ِزي َغ ِب ِه ُم)]‪.‬‬
‫ا�س َو َّد ْت ُو ُجوهُ ُه ْم �أَ ْك َفرْتمُ َب ْع َد ِ�إ َميا ِن ُك ْم َف ُذو ُقو ْا ا ْل َع َذ َ‬
‫اب‬ ‫[ثم قر�أ‪َ } :‬ي ْو َم َت ْب َي ُّ�ض ُو ُجو ٌه َوت َْ�س َو ُّد ُو ُجو ٌه َف َ�أ َّما ا َّل ِذينَ ْ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫بمِ َ ا ُك ْنت ُْم َت ْك ُف ُرونَ {‪َ ،‬ف ُق ْل ُت‪َ :‬يا �أَ َبا �أُ َم َام َة ‪� ،‬أَهُ ْم َه�ؤُال ِء ؟ َق َال ‪َ :‬ن َع ْم هُ ْم َه�ؤُال ِء]‪.‬‬

‫[(عند احلاكم) ثم قر�أ ‪َ } :‬و َال َت ُكو ُنو ْا َكا َّل ِذينَ َت َف َّر ُقو ْا َو ْاخ َت َل ُفو ْا ِمن َب ْع ِد َما َجاءهُ ُم ا ْل َب ِّي َناتُ َو�أُ ْو َلـ ِئ َك َل ُه ْم‬
‫اب َع ِظي ٌم { فهي لهم فهي لهم مرتني]‬ ‫َع َذ ٌ‬
‫[قال الراوي‪ :‬ثم �أخذ بيدي‪ ،‬فقال‪�( :‬أما �إنهم ب�أر�ضك كثري ف�أعاذك اهلل تعاىل منهم) (عبدالرزاق)]  ‬

‫ اللهم عليك باملعتدين‪ ،‬اللهم عليك مبن �أمر بالقتل‪ ،‬وعليك مبن �شارك يف القتل‪ ،‬وعليك بكل َمن‬
‫عاون عليه �أو َف ِر َح به‪ ،‬اللهم �أرنا بهم �آياتك‪ ،‬اللهم �أنزل عليهم غ�ضبك ومقتك‪ ،‬اللهم اجعل �سالحهم يف‬
‫�صدورهم‪ ،‬وكيدهم يف نحورهم‪ ،‬وتدبريهم تدمري ًا لهم يا قوي يا عزيز‪ ،‬اللهم �أنزل بهم ب� َأ�سك ْ‬
‫وبط َ�شك‬
‫ورجزَ ك وعقا َبك و�أليم عذابك‪.‬‬
‫والرعب يف قلوبهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ اللهم خالف بني قلوبهم‪ ،‬وف ِّرق جمعهم‪ ،‬و�شتت �شملهم‪ ،‬و ُبثَّ الفنت يف �صفهم‪،‬‬
‫اللهم ال ترفع لهم راية‪ ،‬وال حتقق لهم غاية‪ ،‬واجعلهم َملن خلفهم عرب ًة و�آية‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫‪523‬‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اليدري القاتل فيما قتل‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫اليدري القاتل فيما قتل‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ‬
‫م�سلم عن �أبي هريرة‪�d‬أنّ النبي‪s‬قال‪( :‬والذي نف�سي بيده لي�أت َّني على النا�س زما ٌن‬ ‫فقد ثبت يف �صحيح ٍ‬
‫ال يدري القاتل يف � ِّأي �شيء َقتَل‪ ،‬وال يدري املقتول على �أي �شيء ُقتل)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! �إنّ ِمن �أعظم الفنت الفتن ُة بقتل الأنف�س‪ ،‬و�سفك الدماء وخا�ص ًة �إن كان با�سم ٍّ‬
‫الدين‪،‬‬
‫وبت�أويله‪ ،‬وقد ثبت يف ال�صحيح �أنّ النبي‪َ ( :s‬لنْ َيزَ َال المْ ُ�ؤْ ِمنُ فيِ ُف ْ�س َح ٍة ِمنْ ِدي ِن ِه َما مَْل ُي ِ�ص ْب َد ًما َح َر ًاما)‪.‬‬

‫بعده‪ ،‬من ا�ستباح ٍة للدماء والأموال‪ ،‬وا�ست�شراءٍ للقتل‬ ‫ وقد �أخرب النبي‪s‬ع ّما يكون يف بع�ض الأزمان َ‬
‫�شرعي �صحيح‪ ،‬وال باعث دنيوي مقبول‪ ،‬و�إمنا هو القتل لأجل القتل‪ ،‬فتكون �أيام ًا فيها �ش ٌّر‬ ‫ٍّ‬ ‫موجب‬
‫ٍ‬ ‫من غري‬
‫املقتول هل يجوز قت ُله �أم ال‪ ،‬وال املقتول ُ‬
‫نف�سه و�أهله فيم ُق َتل‪ ،‬و�إمنا هي �أوها ٌم‬ ‫َ‬ ‫ج�سيم ال َيدري القاتل فيم َقت ََل‬
‫وظنون‪.‬‬

‫إ�سناد �صحيح عن �أبي مو�سى‪� ،d‬أن النبي‪s‬‬ ‫ روى ابن ماجه الإمام �أحمد[والزيادات من امل�سند] ب� ٍ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫قلت‪ :‬يا ر�سول اهلل ما الهرج ؟ قال‪[( :‬الكذب] والقتل‪ ،‬لي�س بقتل‬ ‫يدي ال�ساع ِة لهرجا)‪ ،‬قال‪ُ :‬‬ ‫قال‪�( :‬إن بني َّ‬
‫ُ‬
‫الرجل جا َره‪[ ،‬ويقتل �أخاه‪ ،‬ويقتل ع َّمه]‪ ،‬وابنَ ع ِّمه‪ ،‬وذا‬ ‫بع�ضكم بع�ض ًا حتى َيقت َُل‬ ‫امل�شركني‪ ،‬ولكن َي ُ‬
‫قتل ُ‬
‫بع�ض القوم‪ :‬يا‬‫القوم حتى ما ُي ِبدي الرج ُل منا عن وا�ضحة]‪ ،‬فقال ُ‬ ‫قرابته)‪[،‬عند ابن �أبي �شيبة‪ :‬ف�أب َل َ�س ُ‬
‫ر�سول اهلل! [�سبحان اهلل] ومعنا عقول ُنا ذلك اليوم؟ فقال ر�سول اهلل‪( :s‬ال‪� ،‬أال �إنه ُينزَ ُع ُ‬
‫عقول �أك ِرث �أهل‬
‫ولي�س على �شيء]‪ ،‬ويخ ُل ُف له هبا ٌء من النا�س ال َ‬
‫عقول‬ ‫ذلك الزمان‪[،‬حتى يح�سب �أحدُكم �أنه على �شيءٍ َ‬
‫لهم)‪.‬‬

‫ �أي �أنّ الذين يتولون كرب ذلك الأمر بالقول والتحري�ض‪ ،‬والفعل والقتل‪ ،‬هم كالهباء وهو الغبار الذي‬
‫يتطاير بعد امل�شري ُي َرى وال حا�صل له‪ ،‬فهم يتك ّلمون ويرعدون؛ ولكنهم كال َه َباء املنبثِّ ال يبقى له �أثر‪ ،‬وال‬
‫م�سلم‪ ،‬وال ي�صلح بهم حال‪ ،‬قتلوا بال فائدة‪ ،‬و�أجرموا بال ثمرة‪.‬‬
‫ينتفع بفعلهم ٍ‬
‫‪524‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اليدري القاتل فيما قتل‬

‫م�سلم عن �أبي هريرة‪�d‬أنّ النبي‪ s‬قال‪( :‬والذي نف�سي بيده لي�أت َّني على النا�س زما ٌن ال‬
‫ ويف �صحيح ٍ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫يدري القاتل يف � ِّأي �شيء َقتَل‪ ،‬وال يدري املقتول على �أي �شيء ُقتل)‪ .‬فقيل له‪ :‬كيف يكون ذلك؟ فقال‪:s‬‬
‫(الهرج‪ ،‬القاتل واملقتول يف النار)‪.‬‬
‫ُ‬

‫واالختالط)‪ .‬قال القرطبي‪( :‬فبينَّ هذا‬


‫ِ‬ ‫املمزوج بالفتنة‬
‫ُ‬ ‫ال�شراح‪( :‬املراد بالهرج قت ٌل ٌ‬
‫خا�ص‪ ،‬وهو‬ ‫ قال ُّ‬
‫جهل من طلب الدنيا �أو اتباع هوى فهو الذي �أُريد بقوله‪( :‬القاتل يف النار)‪.‬‬
‫احلديثُ �أن القاتل �إذا كان على ٍ‬

‫بعده فتن ًا مت ُّر على امل�سلمني‪ ،‬في�ست�شري فيهم القتل‪ ،‬ويكرث بينهم‬
‫النبي‪�s‬أن َ‬ ‫ عباد اهلل! لقد �أخرب ُّ‬
‫‪-‬بعدما روى احلديث ال�سابق‪:-‬‬ ‫الهرج‪ ،‬وهذا يظه ُر يف �أزمن ٍة‪ ،‬ويخبوا يف �أخرى‪ ،‬قال �أبو مو�سى الأ�شعري‪َ d‬‬
‫(و�أ ُمي اهلل �إين لأظ ُّنها مدركتي و�إياكم‪ ،‬و�أمي اهلل مايل ولكم منها خمرج �إن �أدركتنا فيما عهد �إلينا نبينا غ‬
‫�إال �أن نخرج كما دخلنا فيها)‪.‬‬

‫ فالنجاة من هذه الفنت بلزوم َغر ِز النبي‪ ،s‬وهديه‪ ،‬و�إنّ من هديه ‪ :s‬حفظ الل�سانُ عن الوقيعة‬
‫يف النا�س‪ ،‬و�إث��ارة الفنت‪ ،‬وتكفري النا�س‪ ،‬ومن هديه الأمر بلزوم جماعة امل�سلمني‪ ،‬و�إمامهم‪ ،‬وعدم �شقّ‬
‫والتحاب والتواد‬
‫ّ‬ ‫ال�صف‪ ،‬ومفارق ِة اجلماعة‪ ،‬واالفتيات يف الت�صرفات‪ ،‬واحلثُّ على الإجتماع والإتالف‪،‬‬
‫اختلفت مع غريك‪ ،‬ف�إنّ له ح ّق ًا عام ًا بالإ�سالم‪.‬‬
‫َ‬ ‫مهما‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬
‫‪525‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬اليدري القاتل فيما قتل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪526‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬لذة العبادة‬
‫لذة العبادة‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫مقامات يقومونها‪ ،‬وحاالت يحيونها لها ِمن اللذة وفيها من ال�سعاد ِة ما ال يو�صف‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ ف�إن لأهل الطاعة‬
‫�ساعات وك�أنها حلظات يلج�أون �إىل اهلل ويج�أرون �إليه ويلوذون ببابه و�ستعيذون بجنابه؛ فتلكم هي‬ ‫ٍ‬ ‫مت ُّر‬
‫}منْ َع ِم َل َ�صالحِ ً ا ِّمن َذ َك ٍر �أَ ْو �أُن َثى َوهُ َو ُم�ؤْ ِمنٌ َف َل ُن ْح ِي َي َّن ُه‬
‫احلياة وذلكم ال�سعاد ُة احل َّقة قال اهلل عز وجل‪َ :‬‬
‫َح َيا ًة َط ِّي َب ًة َو َل َن ْج ِز َي َّن ُه ْم �أَ ْج َرهُ م ِب�أَ ْح َ�س ِن َما َكا ُنو ْا َي ْع َم ُلونَ {‪ ،‬قال قتادة‪ :‬احلياة الطيبة يف الدنيا قبل الآخرة‪.‬‬

‫يلتذ بالطاعة‪ ،‬وي�سعد بالعبادة‪ ،‬وي�أن�س باملناجاة هلل رب العاملني؛ يقول النبي‪(:s‬وجعلت‬ ‫ فامل�ؤمن ُ‬
‫(من يحر�سنا الليلة)‪،‬‬ ‫قرة عيني يف ال�صالة)‪ ،‬وروى البيهقي يف (الدالئل) �أن النبي‪s‬نزل ب�شعب فقال‪َ :‬‬
‫فقام رج ٌل ِمن املهاجرين ورجل من الأن�صار فباتا َب َفم ِّ‬
‫ال�شعب فاقت�سما الليل للحرا�سة فنام املهاجري وقام‬
‫الأن�صاري ُي�ص ِّلي فجاء رجل من العدو فر�أى الأن�صاري فرماه ب�سهم ف�أ�صابه فنزعه‪ ،‬وا�ستمر يف �صالته‪،‬‬
‫ثم رماه بثان ف�صنع كذلك ثم رماه بثالث فانتزعه وركع و�سجد وق�ضى �صالته ثم �أيقظ رفي َقه فلما ر�أى َما‬
‫أحببت �أن ال �أقطعها)‪.‬‬
‫(كنت يف �سورة ف� ُ‬
‫به من الدِّ َماء قال له مل ال انبهتني �أول ما َر َمى قال‪ُ :‬‬

‫ وقال �إبراهيم بن �أدهم‪( :‬نحن يف العبادة يف لذة لو علم عنها �أبناء امللوك جلالدونا عليها بال�سيوف)‪،‬‬
‫وقال �أبو �سليمان الداراين‪( :‬لي�س العجب ممن مل يجد لذة الطاعة �إمنا العجب ممن وجد لذتها ثم تركها‬
‫خطبة جديدة‬

‫كيف �صرب عنها)‪ ،‬وقال‪( :‬لو مل يبك العاقل فيما بقي من عمره �إال على ما فاته من لذة الطاعة يف عمره‬
‫لكان يكفيه �أن يبكيه ذلك حتى يخرج من الدنيا)‪.‬‬

‫ عباد اهلل ! �إن لذة الطاعة و�أُن�س املناجاة و�سعادة القلب ال حت�صل بالتمني‪ ،‬وال تنال بالرتجي و�إمنا‬
‫ينالها املر ُء بالعمل الدءوب‪ ،‬و�إ�صالح ال�سرائر‪ ،‬و�إخال�ص العبادة هلل تعاىل؛ فهذه �أ�سباب ثالثة َمن عني بها‪،‬‬
‫و�س ُع َد بلذة الطاعة والإح�سان‪.‬‬ ‫وراعاها كان ممن �أنعم ُ‬
‫اهلل عليه بحالوة الإميان‪َ ،‬‬

‫ ‪ w‬ف�أولها‪ :‬الإخال�ص هلل تعاىل بالعبادة‪ ،‬وتطهري القلب من ال�شرك والوثنية‪ ،‬والرياء وال�سمعة‪ ،‬وعدم‬
‫االعتماد والتوكل واال�ستعانة واال�ستغاثة �إال به تعاىل‪ .‬قال‪( :s‬ذاق طعم الإمي��ان من ر�ضي باهلل ربا‬
‫وبالإ�سالم دينا ومبحمد نبيا) �أخرجه م�سلم‪ .‬وروى �أبو داود عن عبد اهلل بن معاوية ‪ d‬قال‪ :‬قال ر�سول‬
‫وحده وعلم �أن ال �إله �إال اهلل‪.)..‬‬
‫اهلل‪( :s‬ثالث َمن فعلهن فقد طعم طعم الإميان َمن عبد اهلل َ‬
‫‪527‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬لذة العبادة‬

‫ فوجود امل�ؤمن حالوة الإميان يف قلبه وذوق طعمه �أم ٌر يعرفه َمن َح َ�صل له هذا الوجه وهذا الذوق‬
‫فالذي يح�صل لأهل الإميان عند جتريد التوحيد يجذب قلوبهم �إىل اهلل و�إقبا َلهم عليه دون ما �سواه بحيث‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫يكونون حنفاء هلل خمل�صني له الدين‪ .‬وهذا هو حقيقة الإ�سالم الذي بعث اهلل به الر�سل و�أنزل به الكتب‬
‫وهو قطب القر�آن الذي تدور عليه رحاه‪.‬‬

‫ قال ال�شيخ تقي الدين‪( :‬من متام نعمة اهلل على عباده امل�ؤمنني �أن ينزل بهم من ال�شدة وال�ضر فيلجئهم‬
‫�إىل توحيده فيدعونه خمل�صني له الدين ويرجونه ال يرجون �أحد ًا �سواه فتتعلق قلوبهم به ال بغريه فيح�صل‬
‫لهم من التوكل عليه والإنابة �إليه وحالوة الإميان وذوق طعمه والرباءة من ال�شرك ما هو �أعظم نعمة عليهم‬
‫من زوال املر�ض واخلوف �أو اجلدب �أو ال�ضر)‪.‬‬
‫ وما يح�صل لأهل التوحيد املخل�صني هلل الدين ف�أعظم من �أن يغرب عنه مقال ولكل م�ؤمن من ذلك‬
‫ن�صيب بقدر �إميانه‪.‬‬

‫ وقال بع�ض ال�شيوخ‪� :‬إنه ليكون يل �إىل اهلل حاجة ف�أدعوه فيفتح يل من لذيذ معرفته وحالوة مناجاته‬
‫ما ال �أحب منه �أن يعجل ق�ضاء حاجتي �أن ين�صرف عني ذلك لأن النف�س ال تريد �إال حظها وقد‪( :s‬قال‬
‫ذاق طعم الإميان من ر�ضي باهلل ربا وبالإ�سالم دينا ومبحمد نبيا) �أخرجه م�سلم‪.‬‬

‫ ‪ w‬عباد اهلل ! ال�سبب الثاين لنيل حالوة الإميان‪ :‬اال�ستمرار على العمل ال�صالح‪ ،‬وعدم االنقطاع عنه‪،‬‬
‫ففي ال�صحيحني عن عائ�شة‪�g‬أن النبي ‪s‬دخل عليها وعندها امر�أة قال‪( :‬من هذه) قالت‪ :‬فالنة تذكر‬
‫من �صالتها قال‪( :‬مه عليكم مبا تطيقون فواهلل ال ميل اهلل حتى متلوا)‪ ،‬وكان �أحب الدين �إليه ما داوم عليه‬
‫�صاحبه‪.‬‬

‫ ويقول اهلل عز وجل‪َ } :‬منْ َع ِم َل َ�صالحِ ً ا ِّمن َذ َك ٍر �أَ ْو �أُن َثى َوهُ َو ُم�ؤْ ِمنٌ َف َل ُن ْح ِي َي َّن ُه َح َيا ًة َط ِّي َب ًة َو َل َن ْج ِز َي َّن ُه ْم‬
‫�أَ ْج َرهُ م ِب َ�أ ْح َ�س ِن َما َكا ُنو ْا َي ْع َم ُلونَ { فال تنال احلياة الطيبة واللذة يف العبادة �إال بهذين ال�شرطني العمل‬
‫ال�صالح واال�ستمرار عليه‪ ،‬والإخال�ص هلل تعاىل وهو معنى الإميان‪.‬‬

‫ قال ابن املبارك‪ :‬جاهدتُ نف�سي يف قيام الليل ع�شرين عام ًا‪ ،‬فارتاحت ع�شرين عام ًا واللتذت بذلك‪.‬‬
‫(كابت نف�سي �أربعني �سنة حتى ا�ستقامت)‪�[.‬سري �أعالم النبالء ‪.]355/5‬‬
‫ُ‬ ‫قال ابن املنكدر‪:‬‬

‫ ‪ w‬وال�سبب الثالث لتح�صيل لذة العبادة والطاعة؛ العناية بعبادات ال�سر‪ ،‬واجتناب معا�صي اخللوات‬
‫التي ال يطلع عليها �إال اهلل عز وج َّل؛ ف َمن �أ�صلح �سريرته‪� ،‬أ�صلح اهلل عالنيته‪َ ،‬ومن اجتهد يف العبادة يف‬
‫قيام الليل؛ كما قال‬
‫وجد لذتها حينذاك؛ لذا كان من �أعظم العبادة التي يجد فيها امل�ؤمنُ راحته ولذته ُ‬ ‫ال�سر َ‬
‫الف�ضيل بن عيا�ض‪�( :‬إن يف الدنيا جنة من مل يدخلها مل يخل جنة الآخرة) قيل‪ :‬وما هي ؟ قال‪ :‬قيام الليل‪.‬‬

‫ فال ُب َّد من �إ�صالح ال�سرائر‪ ،‬ومراقبة اهلل جل وعال يف العالنية واخلفاء‪ ،‬ف َكم ِمن امرءٍ قد ج َّد و�سعه‬
‫يف بع�ض الطاعات ثم مل ي َر �أثر ًا للذتها‪ ،‬وال يجد ر�سم ًا لها يف نف�سه وروحه‪ ،‬و�إمنا حرمها بذنوب اخللوات‪،‬‬
‫‪528‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬لذة العبادة‬

‫ومع�صية النظرات واخلطرات؛ ف�إن اهلل يعلم خائنة الأعني وما تخفي ال�صدور‪.‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ �أما اخلطرات فروى ال�شيخان عن �أن�س ‪� d‬أن النبي‪ s‬قال‪( :‬ثالث من كن فيه وجد حالوة الإميان‬
‫�أن يكون اهلل ور�سوله �أحب �إليه مما �سواهما و�أن يحب املرء ال يحبه �إال هلل و�أن يكره �أن يعود يف الكفر كما‬
‫يكره �أن يقذف يف النار)‪.‬‬
‫ و�أما النظرات فروى احلاكم يف (امل�ستدرك‪ )314/4‬عن ابن م�سعود مرفوع ًا‪( :‬النظرة �سهم م�سموم‬
‫من �سهام �إبلي�س من تركها خمافة اهلل �أعطاه اهلل �إميان ًا يجد حالوته يف قلبه)‪ .‬وقد قال اهلل تعاىل‪َ } :‬ي ْع َل ُم‬
‫ال�صدُو ُر{‪ .‬ويف البخاري عن ابن عبا�س‪ d‬قال‪ُ ( :‬ينزع منه نور الإميان يف الزنا)‪.‬‬ ‫َخا ِئ َن َة الأَعْينُ ِ َو َما ُت ْخ ِفي ُّ‬
‫ ف َمن ُحرم لذة العبادة والأن�س بالطاعة فهو املحروم يقول ال�شيخ تقي الدين[مدارج ال�سالكني ‪:]68/2‬‬
‫نف�سك ف�إن الرب �شكور‪ ،‬وال ُب َّد �أن يثيب العامل على عمله‬ ‫(�إذا مل جتد حالو ًة يف قلبك‪ ،‬وان�شراح ًا‪ .‬فاتهم َ‬
‫يف الدنيا من حالو ٍة يجدها يف قلبه‪ ،‬وقوة وان�شراح‪ ،‬وقرة عني‪ ،‬فحيث مل يجد ذلك فعم ُل ُه مدخول‪ .‬والق�صد‬
‫�أن ال�سرور باهلل قربة وقرة للعني تبعث على االزدياد من طاعته وحتثُّ على اجلد يف ال�سري �إليه)‪.‬‬
‫ا�ض ِرىِّ ‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪َ « :‬ث َال ٌث َمنْ َف َع َلهُنَّ َف َق ْد‬ ‫الل ْب ِن ُم َعا ِو َي َة ا ْل َغ ِ‬ ‫ وقد روى �أبو داود عن َعنْ َع ْب ِد هَّ ِ‬
‫الل َو�أَ ْع َطى َز َكا َة َما ِل ِه َط ِّي َب ًة ِب َها َن ْف ُ�س ُه َرا ِف َد ًة َع َل ْي ِه ُك َّل‬ ‫الل َو ْح َد ُه َو�أَ َّن ُه َال ِ�إ َل َه ِ�إالَّ هَّ ُ‬
‫َط ِع َم َط ْع َم ا ِلإ َمي ِان َمنْ َع َب َد هَّ َ‬
‫ي�ض َة َو َال ال�شَّ َر َط ال َّل ِئي َم َة َو َل ِكنْ ِمنْ َو َ�س ِط �أَ ْم َوا ِل ُك ْم َف ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل مَْل َي�سْ�أَ ْل ُك ْم‬ ‫َع ٍام َو َال ُي ْع ِطى ا ْل َه ِر َم َة َو َال ال َّد ِر َن َة َو َال المْ َ ِر َ‬
‫َخ رْ َي ُه َو مَْل َي�أْ ُم ْر ُك ْم ِب َ�ش ِّر ِه »‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬
‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬
‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬
‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪529‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫لزوم الجماعة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬لزوم الجماعة‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫فكلمتان مقرتنتان ال ُتذكر �أحدهما �إال والثانية معها‪ ،‬لطاملا طرقت �أ�سماعنا‪ ،‬وترددت على �أل�سنتنا‪ ،‬فهال‬
‫(ال�سنة واجلماعة)‪.‬‬
‫ت�أملنا فيهما‪ ،‬ونظرنا يف داللتهما �أنها ّ‬

‫ لقد كان النبي ‪s‬يو�صي بهذين الأمرين دوم ًا حتى يف ُخطبه‪ ،‬فكان يقول يف خطبته‪( :‬عليكم ب�سنتي‬
‫و�سنة اخللفاء الرا�شدين املهديني من بعدي)‪ ،‬ويقول‪( :‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة َومن �ش ّذ‬
‫�شذ يف النار)‪.‬‬

‫عام وال خا�ص �إال فيهما‪ ،‬وال ق ّوة‬


‫ �إن هاتني الكلمتني عباد اهلل! هما و�ص ّية ر�سول اهلل‪s‬لأمته‪ ،‬فال خري َ‬
‫وال عزّة �إال بالتم�سك بهما‪ .‬وهما �أمران متالزمان‪ ،‬ف�إن َمن َع َر َف ّ‬
‫ال�سن َة لزم اجلماع َة‪.‬‬

‫اهلل ج ّل وعال‬ ‫نت ُ‬ ‫ لزوم اجلماع ِة (عباد اهلل!) نعم ٌة عظيم ٌة للفرد‪ ،‬و�صال ٌح للمجتمع‪ ،‬فال َغ ْر َو بع ُد �أن �أم ّ‬
‫الل َج ِميع ًا َو َال َت َف َّر ُقو ْا َو ْاذ ُك ُرو ْا ِن ْع َم َة هَّ ِ‬
‫الل‬ ‫على هذه الأ ّمة بالداللة عليها؛ قال �سبحانه‪َ } :‬و ْاعت َِ�ص ُمو ْا ِب َح ْب ِل هَّ ِ‬
‫َع َل ْي ُك ْم ِ�إ ْذ ُكنت ُْم �أَ ْع َداء َف�أَ َّل َف َبينْ َ ُق ُلو ِب ُك ْم َف َ�أ�صْ َب ْحتُم ِب ِن ْع َم ِت ِه ِ�إ ْخ َوان ًا َو ُكنت ُْم َع َل َى َ�ش َفا ُح ْف َر ٍة ِّمنَ ال َّنا ِر َف�أَن َق َذ ُكم‬
‫الل َل ُك ْم �آ َيا ِت ِه َل َع َّل ُك ْم َت ْه َتدُونَ {‪ .‬قال ابن م�سعود‪( :d‬حب ُل اهلل هو اجلماعة)‪.‬‬ ‫ِّم ْن َها َك َذ ِل َك ُي َبينِّ ُ هَّ ُ‬
‫خطبة جديدة‬
‫ اجلماع ُة عباد اهلل! �أما ٌن ِمن الفنت‪ ،‬و�ضما ٌن ِمن الوقوع يف الزلل‪ ،‬روى ابن ماجه عن ُح َذ ْي َف َة‪�d‬أن‬
‫ول هَّ ِ‬
‫الل ِ�ص ْف ُه ْم‬ ‫اب َج َه َّن َم َمنْ �أَ َجا َب ُه ْم �إِ َل ْي َها َق َذ ُفو ُه ِفي َها)‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُ�س َ‬ ‫ر�سول اهلل‪s‬قال‪َ ( :‬ي ُكونُ د َُعا ٌة َع َلى �أَ ْب َو ِ‬
‫َل َنا ؟ َق َال‪( :‬هُ ْم َق ْو ٌم ِمنْ ِج ْل َد ِت َنا َي َت َك َّل ُمونَ ِب�أَ ْل ِ�س َن ِت َنا) ُق ْل ُت‪َ :‬ف َما َت ْ�أ ُم ُرنيِ �إِنْ َ�أ ْد َر َك ِني َذ ِل َك ؟ َق َال‪َ (:‬فا ْلزَ ْم َج َم َاع َة‬
‫المْ ُ ْ�س ِل ِم َني َو�إِ َم َام ُه ْم)‪.‬‬

‫الغل واحل�سد بني‬ ‫لزوم جماع ِة امل�سلمني واال�ستنانَ بهدي خ ِري املر�سلني ُتزيل ما يف القلوب ِمن ِّ‬ ‫ �إن َ‬
‫الث ال ُي ِغ ُّل َع َل ْي ِهنَّ َ�ص ْد ُر ُم ْ�س ِل ٍم �إِخْلاَ ُ�ص‬
‫الرئي�س واملر�ؤ�س والكبري وال�صغري‪ ،‬روى �أحمد �أن النبي‪s‬قال‪َ ( :‬ث ٌ‬
‫يط ِمنْ َو َرا ِئ ِه ْم)‪ .‬قال ابن‬ ‫الَ ْم ِر َو ُلز ُ‬
‫ُوم َج َم َاع ِة المْ ُ ْ�س ِل ِم َني َف�إِنَّ َد ْع َو َت ُه ْم تحُ ِ ُ‬ ‫ا ْل َع َم ِل للِ هَّ ِ َع َّز َو َج َّل َو ُم َن َ‬
‫ا�ص َح ُة �أُوليِ ْ أ‬
‫رجب‪( :‬ف�أخرب �أن هذه الثالث اخل�صال تنفي ال ِغ َّل عن قلب امل�سلم)‪.‬‬

‫‪530‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬لزوم الجماعة‬

‫ فال َغرو بعد ذلك عباد اهلل! �أن �شدد النبي‪ s‬يف النهي عن اخلروج عن اجلماعة وخمالفة طريقها‬
‫ف�صح عن النبي ‪�s‬أنه قال‪�( :‬إن َ‬
‫اهلل �أمرين باجلماعة‪ ،‬و�أنه َمن خرج ِمن اجلماعة �شرب ًا فقد خلع ربق َة‬ ‫ّ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫الإ�سالم من عنقه)‪.‬‬

‫عباد اهلل! �إن لزوم جماعة امل�سلمني تكون ب�أمور‪:‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬

‫۩ ۩�أحدها‪ :‬ح�ضور جماعتهم و�صالتهم‪ ،‬وعدم االعتزال عنهم‪ .‬ولذا كان املتخلف عن اجلمع ِة وجماعة‬
‫ال�صالة يف امل�سجد متخلف ًا عن اجلماعة‪.‬‬
‫۩ ۩والثانية‪ :‬طاع ُة ويل الأمر الذي وليّ على النا�س‪ ،‬وقد جاءت �أحاديث تبلغ ح ّد التواتر كرث ًة يف لزوم طاعة‬
‫(من ر�أى من �أمريه �شيئ ًا يكرهه فلي�صرب عليه‪،‬‬‫يل الأمر والأمري‪ ،‬ففي ال�صحيحني �أن النبي‪s‬قال‪َ :‬‬ ‫و ّ‬
‫ف�إنه َمن فارق اجلماعة �شرب ًا فمات �إال مات ميتة جاهلية)‪.‬‬

‫ قال ابن �أبي جمرة الأندل�سي‪( :‬املراد باملفارقة ال�سعي يف ح ّل البيعة التي ح�صلت للأمري ولو ب�أدنى‬
‫�شيء [ككلمة ونحوها] فكنى عنها مبقدار ال�شرب؛ لأنَّ الأخذ يف ذلك ي�ؤول �إىل �سفك الدماء بغري حق)‪.‬‬

‫ وقد �أخبرَ َ النبي‪s‬بنزول فنتٍ كثرية بامل�سلمني و�أن كثري ًا ِمن هذه الفنت �سببها اخلروج على اجلماعة‬
‫فقد ثبت عن النبي‪�s‬أنه قال‪�( :‬سيكون بعدي َه َناتٌ َو َه َناتٌ ‪َ ،‬ف َمنْ َر�أَ ْي ُت ُمو ُه َفا َر َق الجْ َ َم َاع َة ‪�-‬أَ ْو ُي ِري ُد ُي َف ِّر ُق‬
‫الل َع َلى الجْ َ َم َاع ِة َف�إِنَّ ال�شَّ ْي َطانَ َم َع َمنْ َفا َر َق الجْ َ َم َاع َة‬ ‫�أَ ْم َر �أُ َّم ِة محُ َ َّم ٍد‪َ -s‬كا ِئ ًنا َمنْ َكانَ َفا ْق ُت ُلو ُه‪َ ،‬ف�إِنَّ َي َد هَّ ِ‬
‫َي ْر ُك ُ�ض)‪.‬‬

‫ عباد اهلل! روى م�سلم �أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إِنَّ هَّ َ‬


‫الل َع َّز َو َج َّل ي َر ِ�ض َي َل ُك ْم ثَلاَ ث ًا‪� ،‬أَنْ َت ْع ُبدُو ُه َوال ُت�شْ ِر ُكوا ِب ِه‬
‫الل َج ِمي ًعا َو اَل َت َف َّر ُقوا‪َ ،‬و�أَنْ َت ْن َ�ص ُحوا لمِ َنْ َو اَّل ُه هَّ ُ‬
‫الل �أَ ْم َر ُك ْم)‪.‬‬ ‫َ�ش ْيئ ًا‪َ ،‬و َ�أنْ َت ْعت َِ�ص ُموا ِب َح ْب ِل هَّ ِ‬

‫مما يد ُّل على �أن َمن زعم �أنه‬


‫ لقد �أمر النبي‪s‬بالن�صيحة والتوا�صي باخلري‪ ،‬وقرنها بالأمر باجلماعة ّ‬
‫راغب يف اخلري ف�أدى فع ُل ُه �إىل تفريق الكلمة‪ ،‬و�شقّ الع�صا‪ ،‬واخلروج عن اجلماعة ف�إنه لي�س نا�صح ًا‪،‬‬
‫نا�ص ٌح ٌ‬
‫البيان نا�صح‪ ،‬وال ُك ُّل َمن �أدعى اخلري م�صيب‪.‬‬
‫جلة ِ‬ ‫وال موفق ًا‪ ،‬فلي�س ُك ُّل َمن ركب ّ‬

‫ وقد ثبت يف امل�سند عن عيا�ض بن غنم الأ�شعري‪�d‬أن ر�سول اهلل ‪s‬قال‪«َ :‬من �أراد �أن ين�صح لذي‬
‫�سلطان فال يبده عالنية‪ ،‬ولكن ي�أخذ بيده فيخلو به‪ ،‬ف�إن قبل منه فذاك و�إال كان قد �أدى الذي عليه»‪.‬‬

‫ لذلك انظر لفهم ال�صحابة‪f‬ملا وقعت الفتنة يف عهد عثمان‪d‬قال بع�ض النا�س لأ�سامة بن زيد‪:d‬‬
‫�أال تكلم عثمان ؟ فقال‪�( :‬إنكم ترون �أين ال �أكلمه‪� ,‬إال �أ�سمعكم؟ �إين �أكلمه فيما بيني وبينه دون �أن �أفتتح �أمر ًا‬
‫ال �أحب �أن �أكون �أ ّو َل َمن افتتحه)‪.‬‬

‫و�سب والة الأمر حتى ُقتل اثنني من �أف�ضل‬


‫باب �ش ٍّر بالإنكار عالنية ّ‬
‫و�صدق‪s‬ف�إنه افتُتح على امل�سلمني ُ‬ ‫ ‬
‫‪531‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬لزوم الجماعة‬

‫اتهام التهوي�ش و�إثارة النا�س عليهم‪.‬‬


‫علي‪d‬ب�سبب ِ‬
‫�أهل الأر�ض يف زمانهم عثمانُ ٌّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫بع�ض الو�سائل حم ّرم ٌة‬ ‫عقود طوال �أن َ‬ ‫العلم املحققني ‪-‬لي�س من اليوم فح�سب‪ -‬بل ِمن ٍ‬ ‫ لذا قرر �أهل ِ‬
‫النا�س وتقنيطهم‪،‬‬ ‫َ‬
‫بغ�ض النظر عن ن ّية َفاعليها‪ ،‬ف َمن َج َاه َر بذكر املع�ص ّية وبثها �أ ِثم‪َ ،‬ومنْ �سعى يف تخويف ِ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫و�أذا َع الأخبا َر ال�سيئ َة ف�إنه مفار ٌق للجماع ِة متب ٌع لل�شيطان } َو�إِ َذا َجاءهُ ْم �أ ْم ٌر ِّمنَ الأ ْم ِن �أ ِو الخْ َ ْو ِف �أ َذ ُاعو ْا ِب ِه‬
‫َو َل ْو َر ُّدو ُه �إِ ىَل ال َّر ُ�س ِول َو�إِ ىَل �أُوْليِ الأَ ْم ِر ِم ْن ُه ْم َل َع ِل َم ُه ا َّل ِذينَ َي ْ�ستَن ِب ُطو َن ُه ِم ْن ُه ْم َو َلو َْال َف�ضْ ُل هَّ ِ‬
‫الل َع َل ْي ُك ْم َو َر ْح َم ُت ُه‬
‫النا�س �أهوا َءهم‪.‬‬ ‫ري من ِ‬ ‫بال�سن ِة ومعرف ِتها لأتبع كث ٌ‬ ‫هلل ورحمته لنا ُّ‬ ‫َال َّت َب ْعت ُُم ال�شَّ ْي َطانَ �إِالَّ َق ِلي ًال{‪ .‬فلوال ف�ضل ا ِ‬
‫يل الأمر �أثم‪ ،‬وقد قال النبي‪( :s‬لي�س منا َمن حمل ال�سالح علينا)‪.‬‬ ‫ال�سيف وخرج على و ِّ‬ ‫َ‬ ‫و�أنّ ِمن حمل‬

‫وال�سنة ولو مل يكن منها �إال قول اهلل تعاىل‪} :‬‬ ‫بالن�صو�ص الظاهرة من الكتاب ّ‬ ‫ِ‬ ‫ و�أن املظاهرات حرا ٌم‬
‫ات ِب َغ رْ ِي َما ا ْكت ََ�س ُبوا َف َق ِد ْاح َت َم ُلوا ُب ْهتَان ًا َو ِ�إ ْثم ًا ُّم ِبين ًا{ لكفى َملن �أب�صر‪.‬‬
‫َوا َّل ِذينَ ُي�ؤْ ُذونَ المْ ُ�ؤْ ِم ِن َني َوالمْ ُ�ؤْ ِم َن ِ‬

‫ عباد اهلل! �إن الغايات مهما ُز ِع َم نبلها ف�إنها ال تربر ال َو�سائل‪ ،‬وهذه هي مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬ومعانيها‬
‫الظاهرة‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪532‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬لقمان‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫لقمان‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ف�ض ُل بع�ض خلقه على بع�ض‪ ،‬ويرف ُعهم بالعلم وال�صالح والتقى‪ ،‬فكم من و�ضيع رفعه‬
‫ ف�إن اهلل تعاىل ُي ِّ‬
‫اهلل بالتقوى‪ ،‬وكم من ذليل �أعزه اهلل بالهدى‪.‬‬

‫و�س ِّميت با�سمه �سور ٌة من �سو ِره تتلى �إىل يوم‬ ‫بالذ ْك ِر يف القر�آن العزيز‪ ،‬بل ُ‬ ‫ ومن ذلكم رج ٌل �ش َّرفه ُ‬
‫اهلل ِّ‬
‫اهلل عليه ب�أن َو َه َب ُه احلكم َة‬ ‫نت ُ‬ ‫يك نبي ًا وال ر�سو ًال‪ ،‬وال غني ًا وال �شريف ًا‪ ،‬و�إمنا كان رج ًال �صاحل ًا ام َّ‬ ‫القيامة‪ ،‬ومل ُ‬
‫والعقل فا�ستخدمهما يف طاعة اهلل ومر�ضاته يقول اهلل تعاىل‪َ }:‬و َل َق ْد �آ َت ْي َنا ُل ْق َمانَ الحْ ِ ْك َم َة �أَ ِن ا�شْ ُك ْر للِ هَّ ِ {‪.‬‬ ‫َ‬
‫قال جماهد‪( :‬احلكم ُة العقل والفقه والإ�صابة يف القول يف غري نبوة)[تف�سري ال�صنعاين ‪]105/3‬‬

‫ �أ ّما �أ ّول �أمر لقمان‪a‬ف�إنه كان عبد ًا مملوك ًا عند بع�ض بني �إ�سرائيل يرعى غنمه ويخدمه؛ َروى ابن‬
‫�أبي عا�صم عن جماهد قال‪( :‬كان لقمان احلكيم‪a‬عبد ًا حب�شي ًا َّ‬
‫غليظ ال�شفتني‪ ،‬م�ص َّف َح القدمني‪ ،‬فا�ض‬
‫على بني �إ�سرائيل ‪�-‬أي �شاع وتق َّدم‪.)-‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫ وقيل‪ :‬كان لقمان يحتطب ك َّل يوم ملواله ِحزْ َم َة َح َطب‪ ،‬فكان رج ٌل ينظر �إليه و ُيطيل النظر‪ ،‬فقال له‬
‫كنت تراين �أ�سو َد فقلبي‬
‫كنت تراين غليظ ال�شفتني ف�إنه يخرج من بينهما كالم رقيق‪ ،‬و�إن َ‬ ‫لقمان‪�" :‬إن َ‬
‫�أبي�ض"‪.‬‬
‫ ‬
‫ال�سدِّ ُّي بن يحيى‪ :‬قال لقمان البنه‪" :‬‬
‫النا�س وتق ّدم فيهم‪ ،‬قال ُّ‬ ‫ف�آتاه اهلل احلكم َة وع ّلمه �إياها فارتفع على ِ‬
‫لرجل �أ�سود‪( :‬ال حتزن‬
‫جمال�س امللوك "‪ .‬وجاء �أن �سعيد بن امل�س َّيب قال ٍ‬
‫َ‬ ‫� ْأي ُب َن ّي �إن احلكمة �أجل�ست امل�ساكني‬
‫ِمن �أ َّنك �أ�سود ف�إنه كان خ ُري النا�س ثالث ٌة من ال�سودان بال ٌل‪ِ ،‬وم ْه َج ٌع موىل عمر‪ ،‬و ُلقمان)‪.‬‬

‫مال‪ ،‬وال َح َ�س ٍب‪،‬‬


‫أهل‪ ،‬وال ٍ‬ ‫ وعن �أبي ال َّدر َداء‪�d‬أنه َذ َك َر َي َوم ًا لقمانَ احلكيم فقال‪َ :‬ما �أُو ِتي َما �أوتي عن � ٍ‬
‫قط َيبز ُُق‬ ‫م�صام َة التفكري‪ ،‬عميقَ النظر‪ ،‬مل ينم نهار ًا ُّ‬
‫قط‪ ،‬ومل َي َر ُه �أح ٌد ُّ‬ ‫وال ِخ َ�صال؛ ولكنه كان رج ًال َ�ص َ‬

‫‪533‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬لقمان‬

‫وال يتنخع وال يبول وال يتغوط وال يغت�سل وال يعبث وال ي�ضحك‪ ،‬وكان ال ُيعي ُد َمنطق ًا َن َط َقه �إال �أن يقول حكم ًة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫غ�شى ال�سلطانَ وي�أتي ا ُ‬
‫حل َّكام‬ ‫يبك عليهم‪ ،‬وكان َي َ‬ ‫َي�ستعيد َُها �إياه �أحد‪ ،‬وكان قد تزوج و ُولد له �أوالد فماتوا فلم ِ‬
‫لينظر ويتفكر ويعترب فبذلك �أُوتي ما �أوتي "‪.‬‬

‫وتف�ض ًال }‬ ‫نح ٌة ر َّبانية يخت�ص ُ‬


‫اهلل بها َمن �شاء ِمن عباده �إكرام ًا ُّ‬ ‫ عباد اهلل!�إن احلكمة ِم َّن ٌة �إالهية‪ِ ،‬وم َ‬
‫ُي�ؤ ِتي الحْ ِ ْك َم َة َمن َي َ�شاء َو َمن ُي ْ�ؤتَ الحْ ِ ْك َم َة َف َق ْد �أُو ِت َي َخ رْي ًا َك ِثري ًا{‪.‬‬

‫والنظر والت�أمل يف �أحوال النا�س‪ ،‬و�إطال ِة‬


‫ِ‬ ‫َ‬
‫احل�صيف يتطلبها وي�سعى �إليها‪ ،‬بقراءة �سري احلكماء‪،‬‬ ‫ ولكن‬
‫اهلل وباال�ستعاذ ِة من احلمق واجلهل‪ .‬روى مالك[املوط�أ �ص ‪� ]612‬أنه قيل‬ ‫ؤالها َ‬
‫ال�سكوت وق ّل ِة الكالم‪ ،‬و�س� ِ‬
‫دق احلديث‪ ،‬و�أدا ُء الأمانة‪ُ ،‬‬
‫وترك ما ال يعنيني)‪.‬‬ ‫(�ص ُ‬
‫للقمان‪ :‬ما بلغ بك ما نرى من الف�ضل؟ فقال لقمان‪ِ :‬‬

‫اهلل تعاىل يف كتابه عن لقمان احلكيم و�صايا نافعة وقد حكاها اهلل‪a‬ليمتثلها النا�س؛ قال‬ ‫ وقد ذكر ُ‬
‫ال�ش ْر َك َل ُظ ْل ٌم َع ِظي ٌم{ َو َو�صَّ ْي َنا‬ ‫الل ِ�إنَّ ِّ‬ ‫اهلل جل وعال‪َ } :‬و�إِ ْذ َق َال ُل ْق َمانُ ال ْب ِن ِه َوهُ َو َي ِع ُظ ُه َيا ُب َن َّي ال ُت�شْ ِر ْك ِب هَّ ِ‬
‫ن�سانَ ِب َوا ِل َد ْي ِه َح َم َل ْت ُه �أُ ُّم ُه َو ْه ًنا َع َلى َو ْه ٍن َو ِف َ�صا ُل ُه فيِ َع َامينْ ِ �أَ ِن ا�شْ ُك ْر ليِ َو ِل َوا ِل َد ْي َك ِ�إليََّ المْ َ ِ�ص ُري{ َو ِ�إن‬ ‫ا ِلإ َ‬
‫اك َعلى �أَن ُت�شْ ِر َك ِبي َما َل ْي َ�س َل َك ِب ِه ِع ْل ٌم َفال ُت ِط ْع ُه َما َو َ�ص ِاح ْب ُه َما فيِ ال ُّد ْن َيا َم ْع ُرو ًفا َوا َّت ِب ْع َ�س ِب َيل َمنْ‬ ‫َج َاه َد َ‬
‫اب �إِليََّ ُث َّم �إِليََّ َم ْر ِج ُع ُك ْم َف�أُ َن ِّب ُئ ُكم بمِ َ ا ُكنت ُْم َت ْع َم ُلونَ { َيا ُب َن َّي �إِ َّن َها �إِن ت َُك ِم ْث َق َال َح َّب ٍة ِّمنْ َخ ْر َد ٍل َف َت ُكن فيِ‬
‫�أَ َن َ‬
‫وف‬ ‫ري{ َيا ُب َن َّي �أَ ِق ِم ال�صَّ ال َة َو�أْ ُم ْر ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬ ‫الل َل ِط ٌ‬
‫يف َخ ِب ٌ‬ ‫ال�س َما َو ِات �أَ ْو فيِ الأَ ْر ِ�ض َي�أْ ِت ِب َها هَّ ُ‬
‫الل ِ�إنَّ هَّ َ‬ ‫َ�ص ْخ َر ٍة �أَ ْو فيِ َّ‬
‫ا�س َوال تمَْ ِ�ش فيِ الأَ ْر ِ�ض‬ ‫َوا ْن َه َع ِن المْ ُن َك ِر َوا�صْبرِْ َع َلى َما �أَ َ�صا َب َك �إِنَّ َذ ِل َك ِمنْ َعزْ ِم الأُ ُمو ِر{ َوال ُت َ�ص ِّع ْر َخ َّد َك ِلل َّن ِ‬
‫الل ال ُي ِح ُّب ُك َّل مخُْ ت ٍَال َف ُخو ٍر{ َوا ْق ِ�ص ْد فيِ َم�شْ ِي َك َو ْاغ ُ�ض�ضْ ِمن َ�ص ْو ِت َك ِ�إنَّ �أَن َك َر الأَ�صْ َو ِات َل َ�ص ْوتُ‬ ‫َم َر ًحا ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الحْ َ ِم ِري{‪.‬‬

‫ فجمع لقمانُ ‪ a‬يف هذه الو�صايا الو�صي َة بتوحيد اهلل تعاىل ونفي ال�شريك عنه‪ ،‬والو�صي َة بالوالدين‬
‫أمر باملعروف والنهي عن املنكر‪،‬‬ ‫وب ِّرهما‪ ،‬والتذك َري بعلم اهلل تعاىل و�سع ِة ُقدر ِته‪ ،‬والو�صي َة بال�صالة‪ ،‬وال ِ‬
‫وال�ص ِرب على الأذية‪ ،‬ثم �أو�صاه بالتوا�ض ِع واخلمول وعدم الظهور‪ .‬فهذه و�صايا نافعة جدا وهي من ق�ص�ص‬
‫القر�آن العظيم عن لقمان احلكيم‪ ،a‬وقد ُروي عنه من احلكم واملواعظ �أ�شياء كثرية؛ منها‪:‬‬

‫ [ما َروى ابن �أبي عا�صم يف (الزهد)] �أن لقمان قيل له‪� :‬أي النا�س �أعلم؟ قال‪ :‬من ازداد ِمن علم‬
‫ر�ضى مبا �أُوتى‪ ،‬قيل‪ :‬ف� ُّأي النا�س َخري‪ ،‬قال‪ :‬امل�ؤمن‬
‫علمه‪ ،‬قيل‪ :‬ف�أي النا�س �أغنى‪ ،‬قال‪ :‬الذي َي َ‬
‫النا�س �إىل ِ‬
‫الغني‪ ،‬قيل‪ :‬الغني من املال؟‪ ،‬قال‪ :‬ال بل من العلم فان احتاجوا �إليه وجدوا عنده علم ًا‪ ،‬وان مل ُيحتَج له �أغنى‬
‫نف�سه‪.‬‬
‫َ‬

‫ [وروى البيهقي يف (الزهد)] �أن لقمان قال الب ِنه‪ " :‬يا بني ِ‬
‫زاحم ال ُع َلما َء بركبتيك‪ ،‬وال جتادلهم‬
‫صري عيا ًال على‬
‫وخذ ِمن الدنيا بالغا‪ ،‬وال تدخل فيها ُدخ��و ًال َي�ض ُّر ب�آخرتك‪ ،‬وال ترف�ضْ ها فتَ� َ‬
‫فيمقتُوك‪ُ ،‬‬

‫‪534‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬لقمان‬

‫قطع �شهوتك‪ ،‬وال ت�صم َ�صوم ًا مينعك عن ال�صالة؛ ف�إن ال�صالة � ُّ‬
‫أحب �إىل اهلل من‬ ‫و�ص ْم َ�صوم ًا َي َ‬
‫النا�س‪ُ ،‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ال�صيام "‪.‬‬
‫ِّ‬

‫ و َروى �أي�ضا عنه �أنه قال الب ِنه‪ " :‬يا ُبني ! �إن الدنيا بح ٌر عميق هلك فيه مَ ٌ‬
‫عال وخل ٌق كثري‪ ،‬فاجعل‬
‫�سفينتك فيه الإميانَ باهلل‪ ،‬واجعل ح�شوها تقوى اهلل وطاعتَه‪ ،‬واجعل �شراعها الذي به جتري توكال على‬
‫اهلل لعلك تنجو ولعلك ال تنجو "‪.‬‬

‫ وقال لقمان البنه‪ " :‬يا بني اتخذ طاعة اهلل جتارة ت�أتيك الأرباح ب�ضاعة "‪ .‬وعن خالد الربعي قال‪ :‬كان‬
‫لقمان‪a‬عبدا حب�شيا جنارا فقال له �سي ُده‪ :‬اذبح يل �شاة‪ ،‬فذبح له �شاة فقال له‪ :‬ائتني ب�أطيب م�ضغتني‬
‫أطيب من هذين‪ ،‬قال‪:‬ال‪ ،‬ف�سكت عنه‪ ،‬ثم قال له‪:‬‬ ‫فيها‪ ،‬ف�أتاه بالل�سان والقلب فقال‪َ � :‬أما كان فيها �شي ٌء � َ‬
‫اذبح يل �شاة‪ ،‬فذبح له �شاة‪ ،‬فقال له‪ِ � :‬ألق �أخبثها ُم�ض َغتني ف َر َمى بالل�سان والقلب‪ ،‬فقال‪� :‬أمر ُت َك �أن ت�أتيني‬
‫ب�أطيبها ُم�ضغتني ف�أتيتني بالل�سان والقلب‪ ،‬و�أمرتك �أن تلقى �أخبثها م�ضغتني ف�ألقيت الل�سان والقلب‪ .‬فقال‪:‬‬
‫�إنه لي�س �شيء ب�أطيب منهما �إذا طابا‪ ،‬وال �أخبث منهما �إذا خبثا‪.‬‬

‫ [وروى ابن �أبي عا�صم عن حممد بن وا�سع] قال كان لقمان‪a‬يقول البنه‪( :‬يا بني اتق اهلل وال ُت ِري‬
‫النا�س �أنك تخ�شى اهلل عز وجل ليكرموك بذلك وقل ُبك فاجر)‪.‬‬
‫َ‬

‫ت�صيب ِمن‬
‫ُ‬ ‫ وعن معاوية بن قرة قال‪ :‬قال لقمان الب ِنه‪ " :‬يا َّ‬
‫بني! جال�س ال�صَّ احلني من عباد اهلل ف�إنك‬
‫حما�سنهم خري ًا‪ ،‬ولع َّله �أن يكون �آخ ُر ذلك �أن تنزل عليهم الرحم ُة فت�صيبك معهم يا ُب َّ‬
‫ني ال جتال�س الأ�شرار‬
‫ال�ستهم خري ًا‪ ،‬ولع َّل ُه �أن يكون يف �آخر ذلك �أن تنزل عليهم ُعقوب ٌة فت�صيبك "‪.‬‬ ‫ف�إنك ال ُت ُ‬
‫�صيب ِمن مجُ َ َ‬

‫ و�أخرج البيهقي عن احل�سن[ �أن لقمان‪a‬قال البنه‪ " :‬يا ُب َّ‬


‫ني ال تكونن �أعجز من هذا الديك الذي‬
‫ي�ص ِّوتُ بالأ�سحار و�أنت نائم على فرا�شك "‪] .‬‬

‫ و�أخرج ابن �أبي �شيبه و�أحمد يف (الزهد) والبيهقي[ عن احل�سن ] �أن لقمان قال البنه‪:‬‬
‫وذقت املُ َّر‬
‫ال�سوء‪ُ ،‬‬ ‫ثقيل فلم �أحمل �شيئ ًا هو �أثق ُل من جا ِر ُّ‬ ‫وكل �شيءٍ ٍ‬ ‫واحلديد َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اجلندل‬ ‫حملت‬
‫ني! ُ‬ ‫ (يا ُب َّ‬
‫ر�سول نف�سك‪ .‬يا‬ ‫تر�س ْل ر�سو َلك جاه ًال ف�إن مل جتد حكيم ًا ف ُكن َ‬ ‫ني ال ِ‬ ‫فلم �أَ ُذق �شيئ ًا هو � َأم َّر ِمن الفقر‪ .‬يا ُب َّ‬
‫اح�ضر اجلنائزَ وال حت�ضر‬ ‫ني! َ‬ ‫ني! �إياك وال َك ِذب ف�إنه َ�ش ِه ٌّي ك َلحم ال ُع�صفور ع َّما قليل ُيق ِلي �صاح َبه‪ .‬يا ُب َّ‬ ‫ُب َّ‬
‫ني! ال ت�أكل ِ�ش ْب َع ًا على �شبع ف�إنك �إن ُتل ِق ْه‬ ‫رك الآخرة‪ ،‬وال ُعر�س ت�شه ِّيك ال ُّدنيا‪ .‬يا ُب َّ‬ ‫ال ُعر�س‪ ،‬ف�إن اجلنائز تذ ّك َ‬
‫ري ِمن �أن ت�أكله‪ .‬يا بني! ال تكن حلوا فتُب َلع وال ُم َّر ًا فتُل َفظ)‪.‬‬ ‫للكلب خ ٌ‬

‫‪535‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مقاصد الزواج‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫مقاصد الزواج‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫وانتظام جامعتها‪ ،‬فلذلك كان اعتناء ال�شريعة ب�أمر‬ ‫ِ‬ ‫ا�س ح�ضارتها‬ ‫ ف�إن انتظام �أمر الأُ�سرة يف الأُ َّم ِة � َأ�س ُ‬
‫ق�ص ِد ال�شريعة منه َق�صر النا�س على‬ ‫نظام العائلة‪ .‬وحقيق ُة َم َ‬ ‫ذم ِ‬ ‫النكاح من �أ�سمى مقا�صدها؛ �إذ النكاح ِج ُ‬
‫َ‬
‫ال�سفاح واملخادنة؛ كما قال تعاىل‪} :‬محُْ ِ�ص ِن َني َغ رْ َي ُم َ�سا ِف ِح َني َو َال ُمت َِّخ ِذي �أ ْخ َد ٍان{‪.‬‬ ‫النكاح دون ِّ‬

‫ وقد حكت عائ�شة‪g‬ما كان عليه �أهل اجلاهلية من الأنكحة فروى البخاري �أنها قالت‪� :‬إن النكاح‬
‫ُ‬
‫الرجل �إىل الرجل وليتَه �أو ابنته‬ ‫يخطب‬
‫النا�س اليوم ِ‬
‫نكاح ِ‬‫يف اجلاهلية كان على �أربعة �أنحاء؛ فنكا ٌح منها ُ‬
‫�صد َقها‪ ،‬ثم َي ِنك ُحها‪.‬‬
‫ف ُي ِ‬

‫رت من َط ْم ِثها �أر�سلي �إىل فالن فا�ستب�ضعي منه‪ ،‬ويعتزلها‬


‫ ونكاح �آخر كان الرجل يقول المر�أ ِته �إذا َط ُه ْ‬
‫زوجها‪ ،‬وال مي�سها �أبدا حتى يتبني حم ُلها من ذلك الرجل الذي ت�ستب�ضع منه‪ ،‬ف�إذا تبني حم ُلها �أ�صا َبها‬
‫زوجها �إذا �أحب‪ ،‬و�إمنا َيفعل ذلك رغب ًة يف جنابة الولد‪ ،‬فكان هذا النكاح نكاح اال�ستب�ضاع‪.‬‬
‫ُ‬

‫ ونكاح �آخ ُر يجتم ُع ال َّر ُ‬


‫هط َما دُون الع�شرة ف َيدخلون على املر�أة كلُّهم ي�صي ُبها ف�إذا حملت وو�ضعت وم َّر‬
‫عد �أن ت�ضع حم َلها �أر�سلت �إليهم فلم َي�ستطع رج ٌل منهم �أن ميتنع حتى يجتمعوا عندها‪ ،‬تقول‬ ‫ليال َب َ‬
‫عليها ٍ‬
‫با�سمه ف ُي َلحق به ولدُها‪،‬‬
‫لهم‪ :‬قد عرفتم الذي كان من �أمركم وقد ولدتُ فهو ابنك يا فالن ت�س ِّمي من �أح َّبت ِ‬
‫ال َي�ستطيع �أن ميتنع منه الرجل‪.‬‬ ‫خطبة جديدة‬

‫ممن جاءها وهن ال َب َغايا ُكنَّ َين�صنب‬


‫ ونكاح الرابع يجتمع النا�س الكثري ف َيدخلون على املر�أة ال متتنع َّ‬
‫على �أبوابهن رايات تكون َع َل َم ًا ف َمن �أرادهن دخل عليهن ف�إذا حملت �إحداهن وو�ضعت حم َلها جمعوا لها‬
‫ودعوا لهم القافة ثم �أحلقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودُعي اب ُنه ال ميتنع من ذلك‪ .‬فلما بعث حممد‬
‫‪s‬باحلق هدم نكاح اجلاهلية كله �إال نكاح النا�س اليوم)‪.‬‬

‫اخت�صا�ص الرجل بامر�أ ٍة‬ ‫ُ‬ ‫النكاح امل�شرو ِع دون غريه من الأنكحة �أو امل�سافحة‬ ‫ِ‬ ‫ فمق�صد الإ�سالم من‬
‫تكون قرا َر ن�س ِله حتى يثق من جراء ذلك االخت�صا�ص بثبوت انت�ساب ن�س ِلها �إليه‪ ،‬و�أن يكون النكاح �إح�صان ًا‪،‬‬
‫حم�صنات ب�صيغة املفعول؛ فقال �سبحانه‪} :‬‬ ‫حم�صنني ب�صيغة الفاعل‪ ،‬و�س َّمى الزوجات َ‬ ‫أزواج ِ‬ ‫اهلل ال َ‬ ‫ف�س َّمى ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫محُْ ِ�ص ِن َني َغ رْ َي ُم َ�سا ِف ِح َني َو َال ُمت َِّخ ِذي �أ ْخ َد ٍان{‪ ،‬وقال‪} :‬محُْ َ�ص َن ٍات َغ رْ َي ُم َ�سا ِف َح ٍات َو َال ُمت َِّخ َذ ِات �أ ْخ َد ٍان{‪.‬‬
‫‪536‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مقاصد الزواج‬

‫إ�سالم ُعقدة النكاح ت�شريف ًا وتنويه ًا مل يكونا ملحوظني قبلها ليزداد ُحرم ًة يف نفو�س الأزواج‬ ‫ ولقد زاد ال ُ‬
‫ويف نظر النا�س بحيث مل يبق معدود ًا يف عداد ال�شهوات‪ ،‬وقد نبه اهلل الأمة لذلك يف قوله �سبحانه‪} :‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫َو ِمنْ �آ َيا ِت ِه �أَنْ َخ َلقَ َل ُكم ِّمنْ �أَن ُف ِ�س ُك ْم �أَ ْز َو ًاجا ِّلت َْ�س ُك ُنوا ِ�إ َل ْي َها َو َج َع َل َب ْي َن ُكم َّم َو َّد ًة َو َر ْح َم ًة �إِنَّ فيِ َذ ِل َك لآ َي ٍات ِّل َق ْو ٍم‬
‫َي َت َف َّك ُرونَ {‪.‬‬

‫ ‪ w‬وقد ُبنيت مقا�ص ُد ال�شريعة يف الزواج على �أ�صول �أربعة‪:‬‬


‫خا�ص �إن كان �أو عام‪ ،‬وذلك بعد �إذنها ور�ضاها بالنكاح‪ ،‬ل َيظ َه َر‬‫يل لها ٌ‬ ‫عقد املر�أة و ٌّ‬
‫۩ ۩�أحدها‪� :‬أن يتوىل َ‬
‫أول الفروق بني النكاح وبني الزنا‬ ‫تتول الركون �إىل الرجل وحدها دون علم ذويها؛ لأن ذلك � ُ‬ ‫�أن املر�أة مل َّ‬
‫عقد ُمو ِل َّي ِته ُيهيئه �إىل �أن يكون عون ًا على حرا�سة حالها‬
‫واملخادنة والبغاء واال�ستب�ضاع؛ ولأن تويل الويل َ‬
‫وح�صانتها‪.‬‬

‫و�ض ًا‪ ،‬و�إمنا‬ ‫۩ ۩والأمر الثاين‪� :‬أن يكون ذلك مبهر يبذله الزوج للزوجة‪ .‬ف�إن امله َر �شعا ُر النكاح‪ ،‬ولي�س امله ُر ِع َ‬
‫َعطي ٌة حم�ضة‪ ،‬وفار ٌق بينه وبني الزنا واملخادنة ولذا �س ّماه اهلل نح َلة فقال‪َ } :‬و�آ ُتو ْا ال َّن َ�ساء َ�ص ُد َقا ِت ِهنَّ‬
‫ِن ْح َل ًة{‪ِ .‬ومن � ْأج ِل هذا َح ُرم نكاح ال�شغار‪ ،‬والنكاح مع نفي املهر‪.‬‬

‫للنكاح والإ�شهاد عليه‪ .‬لأن الإ�سرار بالنكاح ُيق ِّر ُبه من الزنا؛ ولأن الإ�سرار به‬
‫ِ‬ ‫۩ ۩والأمر الثالث‪ُّ :‬‬
‫ال�شهر ُة‬
‫أمره‪ ،‬و ُين ِق�ص من معنى ح�صانة‬
‫واحرتامه‪ ،‬و ُيع ِّر�ض الن�سل �إىل ا�شتباه � ِ‬
‫ِ‬ ‫الذب عنه‬
‫يحول بني النا�س وبني ِّ‬
‫داع �إىل الإ�سرار به عن بع�ض النا�س مثل ال�ضرة املغيارة‪ .‬فلذلك قد ُيغتفر �إذا‬ ‫املر�أة‪ ،‬نعم قد يدعو ٍ‬
‫وع ْل ِم كث ٍري من النا�س‪� ،‬أو توثيقه يف ال�سجالت الر�سمية‪.‬‬‫ا�ستُكمل من جهة �أخرى مثل الإ�شها ِد ِ‬

‫حت�صل معنيني‪:‬‬‫‪ w‬فال�شهرة بالنكاح ِّ‬


‫اخت�صا�صه باملر�أة فهو‬
‫َ‬ ‫احل�صانة للمر�أة �إذ يعلم �أن قد َع ِل َم النا�س‬
‫الزوج على مزيد َ‬‫َ‬ ‫۩ ۩�أحدهما‪� :‬أنها حتثُّ‬
‫يتعي ب ُك ِّل ما تتطرق به �إليها الريبة‪.‬‬
‫رَّ ُ‬

‫۩ ۩الثاين‪� :‬أنها تبعث النا�س على احرتامها وانتفاء الطمع فيها �إذ �صارت حم�صن ًة‪ .‬وقدمي ًا قال عنرتة‪:‬‬
‫يا �شا َة ما َق َن ٍ�ص لمِ َن ح َّلت ل ُه‬ ‫ ‬
‫علي وليتها مل حت ُر ِم‬
‫َح ُر َمت َّ‬ ‫ ‬
‫�أراد �أنها �صارت ذات زوج ف ُمنع هو من التطرق �إليها‪.‬‬
‫۩ ۩والأمر الرابع‪� :‬أن ال يكون الدخول يف ُعقدة النكاح على التوقيت والت�أجيل فيكون قريب ًا من الإجارات‬
‫والأكرية‪ ،‬و ُيخلع عنه ذلك املعنى املُق َّد�س الذي ينبعث يف نف�س الزوجني من نية كليهما �أن يكون قرين ًا‬
‫أمد مقدور‪ .‬ف�إن ال�شَّ ي َء املُ�ؤ َّقت‬
‫دوامه �إىل � ٍ‬
‫للآخر ما �صلح احلال بينهما‪ ،‬فال يتطلبا �إال ما يعني على ِ‬
‫هج�س يف النف�س انتظا ُر محَ ِ ِّل �أج ِله‪ ،‬ويبعث فيها التدب َري �إىل تهيئ ِة ما يخل ُف ُه به عند انتهائه‪ ،‬فتتطلع‬ ‫َي ُ‬
‫نفو�س الزوجات �إىل رجال َت ِع ْد َنهم وتمُ َ نينهم‪� ،‬أو �إىل افرتا�ض يف مال الزوج ويف ذلك حدوث تبلبالت‬ ‫ُ‬
‫ف�ضي ال حمال َة �إىل‬ ‫وا�ضطرابات فكرية‪ ،‬وان�صراف ُك ٍّل ِمن الزوجني عن �إخال�ص الو ِّد للآخر‪ .‬وهذا ُي ِ‬
‫احل َ�صانة التي جعلها اهلل يف النكاح‪.‬‬ ‫�ضعف َ‬
‫ِ‬

‫‪537‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مقاصد الزواج‬

‫بح�سن املعا�شرة وبالقوامة‬ ‫اهلل الزوجني ُ‬ ‫ وملَّا ا�ستقام معنى قدا�سة عقدة النكاح يف نظر ال�شرع �أم َر ُ‬
‫على الن�سـ ـ ـ ــاء‪ ،‬وجعــل الإ�ضرار باختالل ذلك مف�ضي ًا �إىل ف�سخ عقدة النك ــاح �إذا ثبت ال�ض ـ ــرر فقال‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الل ِفي ِه َخ رْ ًيا َك ِث ًريا{‪ ،‬وقال‬ ‫وف َف�إِن َك ِر ْه ُت ُموهُ نَّ َف َع َ�سى �أَن َت ْك َرهُ و ْا َ�ش ْي ًئا َو َي ْج َع َل هَّ ُ‬
‫تع ــاىل‪َ } :‬و َع ِا�ش ُروهُ نَّ ِبالمْ َ ْع ُر ِ‬
‫�سبحانه‪َ } :‬وال َّال ِتي ت ََخا ُفونَ ُن ُ�شو َزهُ نَّ َف ِع ُظوهُ نَّ َو ْاه ُج ُروهُ نَّ فيِ المْ َ َ�ض ِاج ِع َوا�ضْ ِر ُبوهُ نَّ َف�إِنْ �أَ َط ْع َن ُك ْم َف َال َت ْب ُغو ْا‬
‫َع َل ْي ِهنَّ َ�س ِبي ًال{‪.‬‬

‫ ف�إذا ُوجدت هذه املقا�صد الأربع يف النكاح من الويل‪ ،‬واملهر‪ ،‬والإ�شهاد والإ�شهار‪ ،‬ثم عدم التوقيت‬
‫الن�صي يف العقد �أو ال ُعريف ف�إن النكاح الذي �أق َّره الإ�سالم‪ .‬و�إن تخ َّلف �شي ٌء من ذلك فلي�س من النكاح‬
‫زواج متعة‪� ،‬أو زواج ًا بنية الطالق‪� ،‬أو َ‬
‫نكاح‬ ‫امل�شروع مهما ُ�سمي من الأ�سماء و�أعطيت له من الألقاب �إما َ‬
‫زواج م�سيار‪� ،‬أو زواج ًا عرفي ًا‪� ،‬أو زواج ًا مدني ًا‪ .‬فالعربة باحلقائق ال املُ�س َّميات‪.‬‬
‫زواج ِ�س ٍّر‪� ،‬أو َ‬
‫ِ�شغار‪� ،‬أو َ‬
‫[ املرجع‪ :‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ملحمد الطاهر عا�شور ]‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪538‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫مكاثرة املال‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬مكاثرة املال‬

‫الخطبة األوىل‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن اهلل ج َّل وعال قد اقت�ضت حكمته الباهرة‪ ،‬وق�ضا�ؤه النافذ �أن تتبدل �أحوال النا�س من حال �إىل‬
‫غي�ض �أخرى ويقل فتكون حاجة؛ كما قال ربنــا جـ ـ َّـل وعــال‪:‬‬ ‫حال‪ ،‬فيفي�ض املال تارة ويكرث فتكون طفر ًة‪ ،‬و َي َ‬
‫وف َوالجْ ُ و ِع َو َن ْق ٍ�ص ِّمنَ الأَ َم َو ِال َوالأن ُف ِ�س َوال َّث َم َر ِات{‪.‬‬
‫} َو َل َن ْب ُل َو َّن ُك ْم ِب َ�ش ْيءٍ ِّمنَ الخْ َ ْ‬
‫ والعك�س بالعك�س‪ ،‬ويف ُك ٍّل فتن ٌة �إال َملن ث ّبت ُ‬
‫اهلل ف�ؤاده‪ ،‬روى البيهقي يف (ال�شعب) عن �أبي ذر الغفاري‬
‫�أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إن الفقري ثم الغني فتنة‪ ،‬و�إن ال�ضعيف ثم القوي فتنة‪ ،‬و�إن اململوك ثم املليك فتنة)‪.‬‬

‫ َوقد كان يف �آخر عهد النبي‪�s‬أن كرث املال جد ًا‪ ،‬ف�أُتي النبي‪s‬من البحرين مبال كثري قال �أن�س بن‬
‫مال �أُتي به ر�سول اهلل ‪.)s‬‬
‫مالك‪( :‬وكان �أكرث ٍ‬

‫بع�ض املواقف التي ت�ستحق الوقوف عندها وت�أم ُل وقائ ِعها‪ .‬فروى ال�شيخان عن عمرو‬ ‫ وقد حدث عندها ُ‬
‫بن عوف الأن�صاري �أن ر�سول اهلل‪s‬بعث �أبا عبيدة بن اجلراح �إىل البحرين ي�أتي بجزيتها‪ ،‬وكان ُ‬
‫ر�سول اهلل‬
‫‪ s‬هو �صالح �أهل البحرين و�أ َّم َر عليهم العال َء بن احل�ضرمي‪ ،‬فقدم �أبو عبيدة مبال من البحرين ف�سمعت‬
‫الأن�صا ُر بقدوم �أبي عبيدة فوافت �صال َة ال�صبح مع النبي‪s‬فلما �ص َّلى بهم الفجر ان�صرف فتعر�ضوا له‬
‫خطبة جديدة‬

‫فتب�سم ر�سول اهلل‪ s‬حني ر�آهم وقال‪�( :‬أظنكم قد �سمعتم �أن �أبا عبيدة قد جاء ب�شيء)‪ ،‬قالوا‪� :‬أجل يا‬
‫ر�سول اهلل‪ ،‬قال‪( :‬ف�أب�شروا و� ِّأم ُلوا ما َي ُ�س ُّر ُكم‪ ،‬فواهلل ال الفق َر �أخ�شى عليكم ولكن �أخ�شى عليكم �أن تب�سط‬
‫عليكم الدنيا كما ب�سطت على من كان قبلكم فتناف�سوها كما تناف�سوها وتهلككم كما �أهلكتهم)‪.‬‬

‫النبي‪s‬مبال من البحرين‪ ،‬فقال‪( :‬انرثوه يف امل�سجد)‪،‬‬ ‫ ويف �صحيح البخاري عن �أن�س‪d‬قال‪� :‬أُتي ّ‬
‫مال �أُتي به ر�سول اهلل ‪ ،s‬فخرج ر�سول اهلل ‪� s‬إىل ال�صالة ومل يلتفت �إليه فلما َق َ�ضى ال�صالة‬‫وكان �أك َرث ٍ‬
‫جاء فجل�س �إليه فما كان يرى �أحد ًا �إال �أعطاه‪� ،‬إذ جاءه العبا�س فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل �أعطني ف�إين فاديت‬
‫(خذ)‪ ،‬فحثا يف ثوبه‪ ،‬ثم ذهب ُيقلُّ ُه فلم ي�ستطع‪ ،‬فقال يا‬‫نف�سي وفاديت َعقي ًال‪ ،‬فقال له ر�سول اهلل‪ْ :s‬‬
‫أنت علي‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬فنرث منه‪ ،‬ثم احتمله ف�ألقاه على‬ ‫ر�سول اهلل ُم ْر َ‬
‫بع�ضهم يرفعه �إيل‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬فارفعه � َ‬
‫كاهله‪ ،‬ثم انطلق فما زال ر�سول اهلل‪s‬يتبعه ب�صره حتى َخ ِفي علينا عجب ًا من حر�صه‪ ،‬فما قام ر�سول اهلل‬
‫وثم منها درهم‪.‬‬
‫‪َّ s‬‬
‫‪539‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مكاثرة املال‬

‫ ونحو ًا من ذلك حدث يف عهد ُعمر[فروى ابن �سعد والبيهقي وغريهما] �أن �أبا هريرة‪d‬ملا قدم على‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫قدمت‬
‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫قدمت به؟ ُ‬ ‫َ‬ ‫و�سلمت عليه قال‪ :‬ما‬
‫ُ‬ ‫ف�صليت معه الع�شاء‪ ،‬فلما ر�آين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عمر من البحرين‪ ،‬قال‪:‬‬
‫بخم�سمائة الف‪ .‬فقال عمر‪� :‬أتدري ما تقول؟ قلت‪ :‬مائة �ألف ومائة �ألف‪ ،‬حتى عددتُ خم�س ًا‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬ ‫جئت به؟ ُ‬ ‫علي‪ ،‬قال‪ :‬فغدوتُ عليه فقال‪ :‬ما َ‬ ‫ناع�س‪ ،‬ارجع �إىل بيتك ف ِن ْم‪ ،‬ثم اغ ُد َّ‬ ‫ فقال عمر‪� :‬إنك ٌ‬
‫علي ما ٌل‬ ‫قلت‪ :‬نعم ال �أعلم �إال ذاك‪ .‬فقال عمر للنا�س‪� :‬إنه قد قدم َّ‬ ‫َخم�سمائة �ألف‪ .‬قال‪� :‬أط ّي ٌب (�أي حالل)؟ ُ‬
‫كثري ف�إن �شئتم �أن نعده لكم ع ّد ًا‪ ،‬و�إن �شئتم �أن نكيله لكم كي ًال‪ ،‬ف�أ�شار عليه ال�صحابة بتدوين الدواوين‪،‬‬
‫ف�أعطى املهاجرين والأن�صار منه‪ ،‬و�أعطى زوجات النبي‪s‬ك ّل واحدة اثني ع�شر �ألف ًا‪ ،‬فل ّما �أر�سل عم ُر‬
‫�إىل زينب بنت جح�ش بالذي لها‪ ،‬قالت‪ :‬غفر اهلل لعمر! غريي من �أخواتي كان �أقوى على َق ْ�س ِم هذا مني‪،‬‬
‫لك‪ ،‬قالت‪� :‬سبحان اهلل! فا�سترتت منه بثوب‪ ،‬وقالت‪� :‬صبوه واطرحوا عليه ثوب ًا‪ ،‬ثم قالت‬ ‫فقالوا‪ :‬هذا كلُّه ِ‬
‫يدك فاقب�ضي منه قب�ض ًة فاذهبي بها �إىل فالن وبني فالن‪ ،‬من �أيتامها و�أهل رحمها‪،‬‬ ‫المر�أة عندها‪� :‬أدخلي ِ‬
‫بقيت منه بقي ٌة حتت الثوب‪ ،‬فقالت لها تلك املر�أة‪ :‬غفر اهلل لك يا �أم امل�ؤمنني! واهلل لقد كان‬ ‫ف َق َ�سمته حتى ْ‬
‫لنا يف هذا حظ‪ ،‬فقالت‪ :‬فلكم ما حتت الثوب‪ .‬قالت‪ :‬فك�شفنا الثوب فوجدنا خم�سة وثمانني درهم ًا‪ ،‬ثم‬
‫زينب يديها �إىل ال�سماء فقالت‪ :‬اللهم ال يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا‪ .‬فماتت‪.‬‬ ‫رفعت ُ‬
‫ ‬
‫ عباد اهلل ! �إن النفو�س جمبولة على حب املال واملكاثرة يف جمعه وحت�صيله‪ ،‬وبذل الوقت والنف�س واملُهج‬
‫لنيله واملغالبة فيه يقول ربنا جل وعال‪َ } :‬و ِ�إ َّن ُه لحِ ُ ِّب الخْ َ رْ ِي َل َ�ش ِدي ٌد{‪ ،‬ويقول �سبحانه‪َ } :‬وتحُ ِ ُّبونَ المْ َ َال ُح ًّبا‬
‫ا�س ُح ُّب ال�شَّ َه َو ِات ِمنَ ال ِّن َ�ساء َوا ْل َب ِن َني َوا ْل َق َن ِاط ِري‬ ‫َج ًّما{‪�} ،‬أَ ْل َها ُك ُم ال َّت َكا ُث ُر{ َحتَّى ُزرْتمُ ُ المْ َ َقا ِب َر{‪ُ } ،‬ز ِّينَ ِلل َّن ِ‬
‫الل ِع َند ُه ُح ْ�سنُ‬ ‫الذ َه ِب َوا ْل ِف�ضَّ ِة َوالخْ َ ْي ِل المْ ُ َ�س َّو َم ِة َوالأَ ْن َعام َوالحْ َ ْر ِث َذ ِل َك َمتَا ُع الحْ َ َيا ِة ال ُّد ْن َيا َو هَّ ُ‬ ‫المْ ُ َق َ‬
‫نط َر ِة ِمنَ َّ‬
‫ِ‬
‫المْ َ� ِآب{‪.‬‬

‫بع�ض املكا�سب املالية؛ ولكن ليعلم ذلكم العب ُد �أن هذا املال‬ ‫ فيفرح ال ُعبد بزيادة ُمرتَّبه‪ ،‬و َي�سع ُد بني ِله َ‬
‫اري عن �أبي �سعيد اخلدري قال‪:‬‬ ‫وهذه الزيادة نعمة من اهلل تعاىل ت�ستحق ال�شكر والقيام بحقها َر َوى ال ُب َخ ُّ‬
‫قال ر�سول اهلل‪�( :s‬إن �أكرث ما �أخاف عليكم ما يخرج اهلل لكم من بركات الأر���ض) قيل‪ :‬وما بركات‬
‫ظننت �أنه ُينزَ ل‬
‫الأر�ض قال‪( :‬زهرة الدنيا)‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬هل ي�أتي اخل ُري بال�شر ؟ ف�صمت النبي‪s‬حتى ُ‬
‫عليه‪ ،‬ثم جعل مي�سح عن جبينه فقال‪� :‬أين ال�سائل؟‪ ،‬قال‪� :‬أنا‪ ،‬قال‪( :‬ال ي�أتي اخل ُري �إال باخلري؛ �إن هذا املال‬
‫َخ ِ�ضرة حلوة‪..‬من �أخذه بح ِّقه وو�ضعه يف حقه فنعم املعونة هو ومن �أخذه بغري حقه كان كالذي ي�أكل وال‬
‫ي�شبع)‪.‬‬

‫الر�ضي‪ ،‬وهو ممدوح لال�ستغناء عن النا�س‬ ‫ِّ‬ ‫ لذا ف�إن ال�شارع احلكيم ينظر للمال على �أنه و�سيل ٌة للعي�ش‬
‫وال�سعي جلمعه من ح ِّله ومن غري حله من الأمور املذمومة‬ ‫ُّ‬ ‫و�س�ؤالهم‪ ،‬لكنه لي�س مق�صود ًا لذاته فاملكاثرة فيه‪،‬‬
‫املنهي عنها؛ قال احل�سن‪ ،‬وقتادة يف قول اهلل تعاىل } َي ْو َم َي ْج َم ُع ُك ْم ِل َي ْو ِم الجْ َ ْم ِع َذ ِل َك َي ْو ُم ال َّت َغا ُب ِن{‪ :‬بلغنا‬
‫رجل علم علما فع َّلمه و�ضيعه هو ومل يعمل به ف�شقى به وعمل به من تعلمه منه‬ ‫�أن التغابن يف ثالثة �أ�صناف؛ ٍ‬
‫و�شح به وفرط يف طاعة ربه ب�سببه ومل يعمل فيه خري ًا‪،‬‬ ‫فنجا به‪ ،‬ورجل اكت�سب ما ًال من وجوه ُي�س�أل عنها‪َّ ،‬‬
‫وتركه لوارث ال ح�ساب عليه فيه فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه‪.‬‬
‫‪540‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مكاثرة املال‬

‫ألت ر�سول اهلل‪s‬ف�أعطاين‪ ،‬ثم �س�ألته ف�أعطاين‪،‬‬ ‫ ويف �صحيح البخاري �أن حكيم بن حزام‪d‬قال �س� ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ثم �س�ألته ف�أعطاين‪ ،‬ثم قال‪( :‬يا حكيم �إن هذا املال خ�ضرة حلوة فمن �أخذه ب�سخاوة نف�س بورك له فيه‬
‫ومن �أخذه ب�إ�شراف نف�س مل يبارك له فيه وكان كالذي ي�أكل وال ي�شبع اليد العليا خري من اليد ال�سفلى)‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا ر�سول اهلل والذي بعثك باحلق ال �أرز�أ �أحد ًا بعدك �شيئ ًا حتى �أفارق الدنيا‪ ،‬فكان �أبو‬
‫قال حكيم‪ُ :‬‬
‫بكر[يدعو حكيم ًا �إىل العطاء في�أبى �أن يقبله منه ثم �إن عمر ]دعاه ليعطيه ف�أبى �أن يقبل منه �شيئا‪ ،‬فقال‬
‫عم ُر‪� :‬إين �أ�شهدكم يا مع�شر امل�سلمني على حكيم �أين �أعر�ض عليه ح َّقه من هذا الفيء في�أبى �أن ي�أخذه‪ ،‬فلم‬
‫يرز�أ حكي ٌم �أحدا من النا�س بعد ر�سول اهلل‪s‬حتى تويف‪.‬‬

‫امل�سلم م�أمور ًا ب�أن ينظر �إىل من هو دونه وال ينظر ملن هو �أعال منه لكي ال ت�ست�شرف نف�سه لذلك‬
‫ُ‬ ‫لذا كان‬
‫الأمر فتقنط وحتزن‪ ،‬ففي �صحيح م�سلم عن �أبي هريرة قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‪( :s‬انظروا �إىل من �أ�سفل‬
‫ري من العلماء‬
‫ا�ستحب كث ٌ‬
‫َّ‬ ‫منكم وال تنظروا �إىل من هو فوقكم فهو �أج��در �أن ال ت��زدروا نعمة اهلل)‪ .‬وقد‬
‫جمال�سة الفقراء وامل�ساكني‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪541‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫مكانة الرسول‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬مكانة الرسول‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫احلمد هلل الهادي الن�صري‪ ،‬فنعم الن�صري والهاد‪ ،‬الذي يهدي من ي�شاء �إىل �صراط م�ستقيم ويبني له �سبيل‬
‫الر�شاد‪ ،‬كما هدى الذين �آمنوا ملا اختلف فيه من احلق وجمع لهم الهدى وال�سداد‪ ،‬والذي ين�صر ُر ُ�سله‬
‫والذين �آمنوا يف احلياة الدنيا ويوم يقوم الأ�شهاد‪ ،‬كما وعده يف كتابه وهو ال�صادق الذي ال يخلف امليعاد ‪.‬‬

‫وحده ال �شريك له �شهاد ًة تقيم وجه �صاحبها للدين حنيف ًا وتربئه من الإحلاد‪.‬‬
‫ و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل َ‬
‫و�أ�شهد �أن حممد ًا عبده ور�سوله � ُ‬
‫أف�ضل املر�سلني و�أكرم العباد‪� ،‬أر�سله بالهدى ودين احلق ليظهره على الدين‬
‫كله ولو كره �أهل ال�شرك والعناد‪ ،‬ورفع له ذك َره فال ُيذكر �إال ُذكر معه كما يف الآذان والت�شهد واخلطب‬
‫واملجامع والأعياد ‪.‬‬

‫ َو َك َب َت حما َّده‪َ ،‬و�أه َل َك ُم َ�شا ّقه‪ ،‬وكفاه امل�ستهزئني به ذوي الأحقاد‪ ،‬وبرت �شانئه ولعن م�ؤذيه يف الدنيا‬
‫والآخ��رة وجعل هوانه باملر�صاد‪ ،‬واخت�صَّ ه على �إخوانه املر�سلني بخ�صائ�ص تفوق التعداد‪ ،‬فله الو�سيلة‬
‫والف�ضيلة واملقام املحمود ولواء احلمد الذي حتته كل ح َّماد‪� ،‬صلى اهلل وعلى �آله �أف�ضل ال�صلوات و�أعالها‪،‬‬
‫و�أكملها و�أمناها‪ ،‬كما يحب �سبحانه �أن ي�صلى عليه و�أمر‪ ،‬وكما ينبغي �أن ي�صلى على �سيد الب�شر‪ ،‬وال�سالم‬ ‫خطبة جديدة‬
‫على النبي ورحمة اهلل وبركاته �أف�ضل حتية و�أح�سنها و�أوالها‪ ،‬و�أبركها و�أطيبها و�أزكاها‪� ،‬صال ًة و�سالم ًا‬
‫دائمني �إىل يوم التناد‪ ،‬باقيني بعد ذلك �أبد ًا رزق ًا من اهلل ما له من نفاد ‪� ...‬أما بعد‬

‫حممد‪ ،s‬و�أخرجنا به من الظلمات �إىل النور‪ ،‬و�آتانا بربكة ر�سالته مُوي ِن‬ ‫ ف�إن اهلل تعاىل هدانا بنبيه ٍ‬
‫ُ‬
‫العقول والأل�سنة عن معرفتها ونعتها‪،‬‬ ‫�سفارته خ َري الدنيا والآخرة‪ ،‬وكان ِمن ربه باملنزلة ال ُعليا التي تقا�صرت‬
‫و�صارت غايتها بعد ذلك الرجو َع �إىل ِعيها و�صمتها ‪.‬‬

‫ِومن �أدنى ح ِّقه‪s‬ن�صر ُته وتعزي ُره‪ ،‬ومناجدته وم�شايعته ‪ .‬قال اهلل تعاىل‪�ِ } :‬إ َّنا �أَ ْر َ�س ْل َن َ‬
‫اك َ�ش ِاهدً ا‬ ‫ ‬
‫َو ُم َب ِّ�ش ًرا َو َن ِذي ًرا{ ِل ُت�ؤْ ِم ُنوا ِب هَّ ِ‬
‫الل َو َر ُ�سو ِل ِه َو ُت َع ِّز ُرو ُه َو ُت َو ِّق ُرو ُه{‪.‬‬

‫‪542‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مكانة الرسول‬

‫أوجب اهلل علينا ن�صر ُته‪s‬بكل طريق‪ ،‬و�إيثا ُره بالنف�س واملال يف كل موطن‪ ،‬وحفظه وحمايته‬ ‫ فمما � َ‬
‫خللق وكفاه �إياهم ورفع ذكره و�أع�لا مكانه قال‬ ‫اهلل قد �أغنى ر�سو َله عن َن�صْ ِر ا َ‬ ‫كل م��� ٍؤذ‪ ،‬و�إن كان ُ‬ ‫من ُ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ن�ص ُر ُه‬ ‫ال�س ِمي ُع ا ْل َع ِل ُيم ‪ ...‬ولكن ليبلوا بع�ضكم ببع�ض َو ِل َي ْع َل َم هَّ ُ‬
‫الل َمن َي ُ‬ ‫�س ـ ــبحانه‪َ }:‬ف َ�س َي ْك ِفي َك ُه ُم هَّ ُ‬
‫الل َوهُ َو َّ‬
‫هَّ َ‬
‫َو ُر ُ�س َل ُه ِبا ْل َغ ْي ِب �إِنَّ الل َق ِو ٌّي َع ِزيزٌ{ ل ُيحقَّ اجلزاء على الأعمال كما �سبق يف �أم الكتاب ‪ .‬فحقيق بكل ٍ‬
‫م�سلم‬
‫�أن ينت�صر هلل ور�سوله‪ ،‬وي�ؤازره ويعا�ضده‪ ،‬ويظافره ويظاهره‪ ،‬ويناجده وي�شايعه ‪ .‬فال يتخاذل وال يتواكل‪،‬‬
‫وال ي�ضعف وال َير َكن ‪.‬‬

‫أعظم املحادة هلل ‪ ..‬روى الإمام �أحمد واحلاكم عن ابن‬ ‫ر�سول اهلل‪s‬و�أذيتَه ِمن � ِ‬ ‫�سب ِ‬ ‫ عباد اهلل ! �إن َّ‬
‫هلل‪s‬جال�س ًا يف ظل ُحج َر ِته‪ ،‬فقال لأ�صحابه ‪ :‬يجيئكم رج ٌل ينظر �إليكم‬ ‫ُ‬
‫ر�سول ا ِ‬ ‫عبا�س‪d‬قال ‪( :‬كان‬
‫الم تَ�شتمني �أنت‬ ‫(ع َ‬ ‫بعني �شيطان ف�إذا ر�أيتموه فال تكلموه فجاء رجل �أزرق فلما ر�آه النبي‪s‬دعاه فقال ‪َ :‬‬
‫آتيك بهم‪ ،‬قال فذهب فجاء بهم فجعلوا يحلفون باهلل ما‬ ‫أنت حتى � َ‬ ‫و�أ�صحا ُبك فالن وفالن) قال ‪ :‬كما � َ‬
‫قالوا وما فعلوا ف�أنزل اهلل عز وجل ‪َ } :‬ي ْو َم َي ْب َع ُث ُه ُم هَّ ُ‬
‫الل َج ِمي ًعا َف َي ْح ِل ُفونَ َل ُه َك َما َي ْح ِل ُفونَ َل ُك ْم َو َي ْح َ�س ُبونَ �أَ َّن ُه ْم‬
‫الل �أُ ْو َل ِئ َك ِحزْ ُب ال�شَّ ْي َط ِان َ�أال‬ ‫ن�ساهُ ْم ِذ ْك َر هَّ ِ‬ ‫ا�ست َْح َو َذ َع َل ْي ِه ُم ال�شَّ ْي َطانُ َف�أَ َ‬ ‫َع َلى َ�ش ْيءٍ �أَال ِ�إ َّن ُه ْم هُ ُم ا ْل َك ِاذ ُبونَ { ْ‬
‫الل لأَ ْغلِبنََّ �أ َنا‬‫الل َو َر ُ�سو َل ُه �أُ ْو َل ِئ َك فيِ الأَ َذ ِّل َني { َكت ََب هَّ ُ‬
‫�إِنَّ ِحزْ َب ال�شَّ ْي َط ِان هُ ُم الخْ َ ِا�س ُرونَ {�إِنَّ ا َّل ِذينَ ُي َ َحا ُّدونَ هَّ َ‬
‫الل َق ِو ٌّي َع ِزيزٌ{ ‪.‬‬ ‫َو ُر ُ�س ِلي �إِنَّ هَّ َ‬

‫ر�سول اهلل‪ ،s‬و�آذه‪� ،‬أوانتق�صه �أو �شانه م�سلم ًا كان �أو كافر ًا فقد حا َّد اهلل ور�سوله ‪ .‬وقد‬ ‫�سب َ‬ ‫ ف َمن َّ‬
‫اهلل تعاىل ‪َ } :‬كت ََب هَّ ُ‬
‫الل‬ ‫�صر َعليهم‪ ،‬و ُمغالب ِتهم وقهرهم‪� ،‬صاغرين َقميئني راغمني قال ُ‬ ‫ت�أذن اهلل بالغلبة وال َّن ِ‬
‫لأَ ْغلِبنََّ �أَ َنا َو ُر ُ�س ِلي ِ�إنَّ هَّ َ‬
‫الل َق ِو ٌّي َع ِزيزٌ{ ‪.‬‬

‫خل ُلو ِد يف النار}�أَ مَْل َي ْع َل ُمو ْا �أَ َّن ُه َمن ُي َحا ِد ِد هَّ َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه‬ ‫توع َد ُه ُ‬
‫اهلل با ُ‬ ‫ر�سول اهلل‪َّ s‬‬
‫ب�س ِّب ِ‬
‫اهلل َ‬ ‫ َمن حا َّد َ‬
‫َف�أَنَّ َل ُه َنا َر َج َه َّن َم َخالِدً ا ِفي َها َذ ِل َك الخْ ِ زْ ُي ا ْل َع ِظ ُيم{ قال اهلل ذلك بعد قوله تعاىل ‪َ } :‬و ِم ْن ُه ُم ا َّل ِذينَ ُي�ؤْ ُذونَ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه َل َع َن ُه ُم هَّ ُ‬
‫الل فيِ ال ُّد ْن َيا َوال ِآخ َر ِة َو�أَ َع َّد‬ ‫ال َّن ِب َّي َو ِي ُقو ُلونَ هُ َو �أُ ُذنٌ{‪ ،‬وقال �سبحانه ‪�ِ } :‬إنَّ ا َّل ِذينَ ُي�ؤْ ُذونَ هَّ َ‬
‫َل ُه ْم َع َذا ًبا ُّم ِهي ًنا{ ‪.‬‬

‫خائف يف الدنيا والآخرة قال تعاىل ‪�} :‬إِنَّ ا َّل ِذينَ ُي َحا ُّدونَ هَّ َ‬
‫الل‬ ‫اهلل ب�أذية ر�سوله‪s‬فهو ذلي ٌل ٌ‬ ‫ َمن حا َّد ُ‬
‫اهلل يف قلبه اخلوف والرهبة‬ ‫يقذف ُ‬ ‫َو َر ُ�سو َل ُه �أُ ْو َل ِئ َك فيِ الأَ َذ ِّل�ينَ{ والأذ ُّل �أبلغ من الذليل و�أ�ش ُّد منه ذله‪ُ ،‬‬
‫الذ َّل ُة �أَ ْينَ َما ُث ِق ُفو ْا �إِالَّ ِب َح ْب ٍل ِّمنْ هَّ ِ‬
‫الل َو َح ْب ٍل ِّمنَ‬ ‫}�ض ِر َب ْت َع َل ْي ِه ُم ِّ‬ ‫و�سوء املنقلب؛ كما قال تعاىل ‪ُ :‬‬ ‫واجلزع ُ‬
‫ات هَّ ِ‬
‫الل َو َي ْق ُت ُلونَ الأَن ِب َياء‬ ‫ا�س َو َب�آ�ؤُوا ِب َغ َ�ض ٍب ِّمنَ هَّ ِ‬
‫الل َو ُ�ض ِر َب ْت َع َل ْي ِه ُم المْ َ ْ�س َك َن ُة َذ ِل َك ِب�أَ َّن ُه ْم َكا ُنو ْا َي ْك ُف ُرونَ ِب�آ َي ِ‬ ‫ال َّن ِ‬
‫ِب َغ رْ ِي َحقٍّ َذ ِل َك{ ‪ .‬‬

‫هلل له قال اهلل تعاىل ‪�} :‬إِنَّ ا َّل ِذينَ ُي َحا ُّدونَ‬
‫ وذلك املحا ُّد هلل ور�سوله‪s‬مكبوت خمزي خمذول بوعيد ا ِ‬
‫بت هو الإذالل واخلزي والغيظ واحلزن‪ ،‬والذين ِمن‬ ‫هَّ َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه ُك ِبتُوا َك َما ُك ِب َت ا َّل ِذينَ ِمن َق ْب ِل ِه ْم{‪ ،‬وال َك ُ‬
‫بعذاب من عنده �أو ب�أيدي امل�ؤمنني ‪.‬‬ ‫اهلل ب�أن �أهلكهم ٍ‬ ‫قب ِلهم كبتهم ُ‬

‫‪543‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مكانة الرسول‬

‫خرج ِمن الإميان �إن كان ِمن َق ْب ُل ُم�سلم ًا‪ ،‬وال‬ ‫ر�سول اهلل‪s‬و�أذيته فقد َ‬ ‫ب�سب ِ‬ ‫اهلل ور�سو َله ِّ‬ ‫َومن حا َّد َ‬ ‫ ‬
‫جتوز حمبته‪ ،‬وال مودته‪ ،‬وال مواالته‪ ،‬وال م�ؤاخاته قال اهلل تعاىل ‪} :‬ال تجَ ِ ُد َق ْو ًما ُي�ؤْ ِم ُنونَ ِب هَّ ِ‬
‫الل َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه َو َل ْو َكا ُنوا �آ َباءهُ ْم �أَ ْو �أَ ْب َناءهُ ْم �أَ ْو �إِ ْخ َوا َن ُه ْم �أَ ْو َع ِ�ش َري َت ُه ْم ُ�أ ْو َل ِئ َك َكت ََب فيِ ُق ُلو ِب ِه ُم‬ ‫ُي َوا ُّدونَ َمنْ َحا َّد هَّ َ‬
‫الل َع ْن ُه ْم َو َر ُ�ضوا‬ ‫الإِ َميانَ َو�أَ َّي َدهُ م ِب ُروح ِّم ْن ُه َو ُي ْد ِخ ُل ُه ْم َج َّن ٍات تجَْ ِري ِمن تحَْ ِت َها الأَ ْن َها ُر َخا ِل ِدينَ ِفي َها َر ِ�ض َي هَّ ُ‬
‫ٍ‬
‫الل هُ ُم المْ ُ ْف ِل ُحونَ { نزلت هذه الآية في َمن تعر�ض للنبي‪s‬بالأذى من‬ ‫الل �أَال ِ�إنَّ ِحزْ َب هَّ ِ‬ ‫َع ْن ُه �أُ ْو َل ِئ َك ِحزْ ُب هَّ ِ‬
‫كافر ومنافق ‪.‬‬

‫ عبا َد اهلل ! �إن ن�صرة النبي‪s‬وتعزيره وتوقريه تكون باجلنان والل�سان والأركان ‪ .‬فباجلنان بتعظيم‬
‫النبي الكرمي‪s‬وحمبته وتقدمي حمبته على النف�س واملال والأهل والولد ‪.‬‬
‫ ففي ال�صحيحني عن �أن�س‪d‬قال ‪ :‬قال النبي‪( :s‬ال ي�ؤمن �أحدكم حتى �أكون �أحب �إليه من والده‬
‫وولده والنا�س �أجمعني) ‪ .‬وبتعظيم �ش�أنه واعتقاد �أنه �أف�ضل اخللق و�سيد الب�شر و�أكرم النبيني و�إمامهم‬
‫و�أعلى النا�س منزلة يف اجلنة وهو �صاحب ال�شفاعة واحلو�ض واملقام املحمود كل اخلليقة يوم القيامة ترجوه‬
‫وت�ست�شفع به ‪.‬‬

‫وعدم جمال�سته قال اهلل تعاىل ‪َ } :‬و َق ْد‬ ‫�سب النبي‪s‬وكراه ِته ومعاداته ِ‬ ‫ وتتحقق ن�صرته ببغ�ض َمن َّ‬
‫و�ضو ْا فيِ‬ ‫ُ‬ ‫هَّ‬
‫الل ُي َك َف ُر ِب َها َو ُي ْ�س َت ْهزَ �أ ِب َها َف َال َت ْق ُعدُو ْا َم َع ُه ْم َحتَّى َي ُخ ُ‬
‫ات ِ‬ ‫َاب �أَنْ �إِ َذا َ�س ِم ْعت ُْم �آ َي ِ‬ ‫َنز ََّل َع َل ْي ُك ْم فيِ ا ْل ِكت ِ‬
‫الل َج ِام ُع المْ ُ َنا ِف ِق َني َوا ْل َكا ِف ِرينَ فيِ َج َه َّن َم َج ِمي ًعا{‪.‬‬‫يث َغ رْ ِي ِه �إِ َّن ُك ْم �إِ ًذا ِّم ْث ُل ُه ْم �إِنَّ هَّ َ‬
‫َح ِد ٍ‬

‫ وبال ِّل َ�سان ب�إطرائه‪s‬ومدحه وذكر حمامده ومكارمه ومفاخره وم�آثره‪ ،‬وال�صالة وال�سالم عليه وال‬
‫ي�صح �أذان وال �صالة بدون ذكره‪ .s‬واحلذر ُكل احلذر من ذكر �شيءٍ يوهم نق�ص ًا فيه‪� ،‬أو عيب ًا يعرتيه‪،‬‬
‫�شهد التنزيل والوحي‬ ‫فال ي�ؤذى‪s‬يف ذاته ال�شريفه‪ ،‬وال يف �أزواجه‪ ،‬ويف �آله وقرابته‪� ،‬أو يف �أ�صحابه َومن ِ‬
‫معه ‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪ُ } :‬قل الَّ �أَ�سْ�أَ ُل ُك ْم َع َل ْي ِه �أَ ْج ًرا �إِالَّ المْ َ َو َّد َة فيِ ا ْل ُق ْر َبى{ ‪.‬‬

‫ ويف ال�صحيحني �أن النبي‪s‬قال ‪( :‬يا مع�شر امل�سلمني من يعذرين من رجل قد بلغني �أذاه يف �أهل بيتي‬
‫علمت يف �أهل بيتي �إال خري ًا) وذلك ملا تكلم ر�أ�س النفاق عبد اهلل بن �أُبي بن �سلول يف �أم امل�ؤمنني‬ ‫فواهلل ما ُ‬
‫عائ�شة‪ .g‬وقال‪( :s‬قال يا �أيها النا�س من �آذى عمي فقد �آذاين �إمنا عم الرجل �صنو �أبيه) يعني العبا�س‬
‫بن عبد املطلب‪ ،d‬وقال‪( :s‬اهلل اهلل يف �أ�صحابي اهلل اهلل يف �أ�صحابي ال تتخذوهم غر�ضا بعدي فمن‬
‫�أحبهم فبحبي �أحبهم ومن �أبغ�ضهم فببغ�ضي �أبغ�ضهم ومن �آذاهم فقد �آذاين ومن �آذاين فقد �آذى اهلل ومن‬
‫�آذى اهلل فيو�شك �أن ي�أخذه) رواهما الرتمذي ‪.‬‬
‫ ولكن ثنا ٌء بال غلو‪ ،‬ومدح بال تقدي�س‪ ،‬و�إطرا ٌء بال َج َفاء ا�ستجابة لأمره‪s‬حني قال ‪( :‬ال تطروين كما‬
‫�أطرت الن�صارى عي�سى ابن مرمي �إمنا �أنا عبد اهلل ور�سوله) قال تعاىل ‪ُ } :‬ق ْل ِ�إنمَّ َ ا �أَ َنا َب َ�ش ٌر ِّم ْث ُل ُك ْم ُي َ‬
‫وحى ِ�إليََّ‬
‫ا�س َت ْغ ِف ُرو ُه َو َو ْي ٌل ِّل ْل ُم�شْ ِر ِكنيَ{ ‪.‬‬ ‫�أَنمَّ َ ا ِ�إ َل ُه ُك ْم ِ�إ َل ٌه َو ِاح ٌد َف ْ‬
‫ا�س َت ِقي ُموا ِ�إ َل ْي ِه َو ْ‬
‫ وباجلنان بتطبيق �سنته‪s‬يف الأحوال كلها‪ ،‬واحلر�ص على تتبع �أثره وهديه و�سمته و َد ِّله ‪ .‬وتطبيق‬
‫هلل الذي جاء به‪�s‬أفعا ًال و�أقوا ًال وحدود ًا ‪.‬‬ ‫�شرع ا ِ‬
‫‪544‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬مكانة الرسول‬

‫ عباد اهلل ! �أن �أذية النبي ‪s‬وتنقي�صه هي اجلرمية التي ال ُتغتفر‪ ،‬وامل�صيبة التي تق�صف بالأثر‪،‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫وتعظم الفرية وتزداد الرزية عندما ت�صدر املنق�ص ُة للنبي الكرمي �أو عدم الإنكار على هذا الفعل ال�شنيع‪،‬‬
‫ظه ُر الإ�سالم ويدعي الإميان قال اهلل تعاىل ‪�} :‬أَ مَْل َي ْع َل ُمو ْا �أَ َّن ُه َمن ُي َحا ِد ِد هَّ َ‬
‫الل‬ ‫ممن ُي ِ‬ ‫�أو التهوين َملن �سبه‪َّ s‬‬
‫َو َر ُ�سو َل ُه َف َ�أنَّ َل ُه َنا َر َج َه َّن َم َخالِدً ا ِفي َها َذ ِل َك الخْ ِ زْ ُي ا ْل َع ِظ ُيم { َي ْح َذ ُر المْ ُ َنا ِف ُقونَ �أَن ُت َنز ََّل َع َل ْي ِه ْم ُ�سو َر ٌة ُت َن ِّب ُئ ُه ْم‬
‫و�ض َو َن ْل َع ُب ُق ْل‬ ‫الل مخُْ ِر ٌج َّما تحَْ َذ ُرونَ { َو َل ِئن َ�س�أَ ْل َت ُه ْم َل َي ُقو ُلنَّ �إِنمَّ َ ا ُك َّنا َن ُخ ُ‬ ‫ا�س َت ْه ِز�ؤُو ْا �إِنَّ هَّ َ‬
‫بمِ َ ا فيِ ُق ُلو ِب ِهم ُق ِل ْ‬
‫الل َو�آ َيا ِت ِه َو َر ُ�سو ِل ِه ُكنت ُْم ت َْ�س َت ْه ِز ُ�ؤونَ { َال َت ْعت َِذ ُرو ْا َق ْد َك َفرْتمُ َب ْع َد ِ�إ َميا ِن ُك ْم ِ�إن َّن ْع ُف َعن َط�آ ِئ َف ٍة ِّمن ُك ْم ُن َع ِّذ ْب‬ ‫�أَ ِب هَّ ِ‬
‫وف‬ ‫َط�آ ِئ َف ًة ِب َ�أ َّن ُه ْم َكا ُنو ْا مجُْ ِر ِم َني {المْ ُ َنا ِف ُقونَ َوالمْ ُ َنا ِف َقاتُ َب ْع ُ�ض ُهم ِّمن َب ْع ٍ�ض َي�أْ ُم ُرونَ ِبالمْ ُن َك ِر َو َي ْن َه ْونَ َع ِن المْ َ ْع ُر ِ‬
‫ات َوا ْل ُك َّفا َر‬ ‫الل َف َن ِ�س َي ُه ْم ِ�إنَّ المْ ُ َنا ِف ِق َني هُ ُم ا ْل َف ِا�س ُقونَ { َو َع َد اهلل المْ ُ َنا ِف ِق َني َوالمْ ُ َنا ِف َق ِ‬‫َو َي ْق ِب ُ�ضونَ �أَ ْي ِد َي ُه ْم َن ُ�سو ْا هَّ َ‬
‫اب ُّم ِقي ٌم{ َكا َّل ِذينَ ِمن َق ْب ِل ُك ْم َكا ُنو ْا �أَ َ�ش َّد ِمن ُك ْم‬ ‫َنا َر َج َه َّن َم َخا ِل ِدينَ ِفي َها ِه َي َح ْ�س ُب ُه ْم َو َل َع َن ُه ُم هَّ ُ‬
‫الل َو َل ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫ا�س َت ْم َت َع ا َّل ِذينَ ِمن َق ْب ِل ُك ْم ِب َخ َال ِق ِه ْم‬ ‫ا�س َت ْم َت ُعو ْا ِب َخال ِق ِه ْم َف ْ‬
‫ا�س َت ْم َت ْعتُم ِب َخ َال ِق ُك ْم َك َما ْ‬ ‫ُق َّو ًة َو�أَ ْك رَ َث �أَ ْم َوا ًال َو�أَو َْالدًا َف ْ‬
‫ا�ضو ْا �أُ ْو َلـ ِئ َك َح ِب َط ْت َ�أ ْع َما ُل ُه ْم فيِ ا ُّلد ْن َيا َوال ِآخ َر ِة َو ُ�أ ْو َل ِئ َك هُ ُم الخْ َ ِا�س ُرونَ {‬ ‫َو ُخ�ضْ ت ُْم َكا َّل ِذي َخ ُ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪545‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬من أسمائه القيوم‬
‫من أسمائه القيوم‬

‫الخطبة األوىل‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ف�إن هلل ع ّز وج ّل �أ�سما َء كثري ًة‪ ،‬ال ُيحيط بجميعها �إال هو �سبحانه‪ ،‬لذا كان من دعاء النبي‪�( :s‬أ�س�ألك بكل‬
‫ا�سم هو لك �سميت به نف�سك‪� ،‬أو �أنزلتَه يف كتابك‪� ،‬أو علمته �أحد ًا من خلقك‪� ،‬أو ا�ست�أثرتَ به يف علم الغيب‬
‫ٍ‬
‫عندك)‪.‬‬

‫ا�سم (الق ّيوم)‪ ،‬فقد افتتح ُ‬


‫اهلل بهذا اال�سم‬ ‫ومما �أنزل اهلل من �أ�سمائه يف كتابه‪ ،‬ودعا به ر�سو ُله‪ُ :s‬‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫ُ‬ ‫هَّ‬
‫أعظم �آية يف القر�آن وهي �آية ال ُكر�سي‪ ،‬فقال �سبحانه‪} :‬الل َال �إِ َلـ َه ِ�إالَّ هُ َو الحْ َ ُّي ا ْل َق ُّي ُ‬
‫وم{‪ .‬وافتتح �سورة �آل‬ ‫� َ‬
‫وم{‪.‬‬ ‫عمران به �أي�ض ًا فقال �سبحانه‪} :‬امل{ هَّ ُ‬
‫الل ال ِ�إ َلـ َه ِ�إالَّ هُ َو الحْ َ ُّي ا ْل َق ُّي ُ‬
‫(احلي)‪ ،‬للداللة على كمال احلياة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ وورد جاء هذا اال�سم يف كتاب اهلل تعاىل ثالث مرات مقرون ًا با�سم‬
‫وكمال القيوم ّية‪.‬‬

‫ وقد ُقرئ هذا اال�سم يف القر�آن (الق َّيام)‪ ،‬و(الق ِّيم) و ُكلها مبالغات يف القائم وزيادة‪ ،‬وقد كان من‬
‫أنت ق ِّيم ال�سموات والأر�ض ومن فيهن)‪.‬‬ ‫دعاء النبي‪( :s‬ولك احلم ُد � َ‬
‫خطبة جديدة‬
‫ عباد اهلل! �إنّ ِمن �أ�سمائه تعاىل‪( :‬القيوم)‪ ،‬و(الق ّيم)‪ ،‬و(الق ّيام)‪ ،‬وهي �أ�سماء تثبت �صف َة القيوم ّي ِة له‬
‫غني عن خلقه‪ ،‬ال يفت ِقر يف قيامه بنف�سه �إىل غريه‪ ،‬وهو �سبحانه املُ ُ‬
‫قيم‬ ‫بنف�سه ٌّ‬ ‫�سبحانه‪ ،‬فهو �سبحانه قائ ٌم ِ‬
‫أمر ُك ِّل �شيء يف رزقه‪ ،‬والدفع عنه‪ ،‬وتدبريه‪،‬‬ ‫القائم ب� ٍ‬
‫ُ‬ ‫خلل ِق ِه ب ُقدر ِته و َف�ض ِله و�إح�سانه وجو ِده وكرمه‪ ،‬وهو‬
‫نف�س مبا‬ ‫جل وعال قائ ٌم على ُكل ٍ‬ ‫قيام ل�شيءٍ �إال به �سبحانه‪ ،‬فهو َّ‬
‫أحد عنه‪ ،‬وال َ‬ ‫و�صرفه يف قدرته‪ .‬فال غنى ل ٍ‬
‫ك�سبت‪�} ،‬أَ َف َمنْ هُ َو َق�آ ِئ ٌم َع َلى ُك ِّل َن ْف ٍ�س بمِ َ ا َك َ�س َب ْت{‪.‬‬

‫يقوم من خملوقات اهلل �إال ب�أمره‪َ } :‬و ِمنْ �آ َيا ِت ِه‬


‫ قال ابن عبا�س‪( :d‬القيوم‪ :‬الذي ال يزول)‪ .‬وال �شي َء ُ‬
‫ال�س َماء َوالأَ ْر ُ�ض ِب�أَ ْم ِر ِه ُث َّم ِ�إ َذا َد َعا ُك ْم َد ْع َو ًة ِّمنَ الأَ ْر ِ�ض �إِ َذا �أَنت ُْم ت َْخ ُر ُجونَ {‪ ،‬قال جماهد‪( :‬القيوم‪:‬‬
‫�أَن َت ُق َوم َّ‬
‫القائم على ُكل �شيء)‪.‬‬

‫‪546‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬من أسمائه القيوم‬

‫لذا عباد اهلل! ف�إن معرفة هذا اال�سم وهو (القيوم)‪ ،‬والإميانَ به يقت�ضي �أمرين‪:‬‬ ‫‪w‬‬ ‫ ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫خل ْل ِق ِه ٌّ‬
‫غني عنهم وهم فقرا ُء �إليه‪.‬‬ ‫بنف�سه‪ ،‬مقي ٌم َ‬
‫۩ ۩�أحدهما‪ :‬القوة والثبات واال�ستقرار؛ فهو �سبحانه قائ ٌم ِ‬

‫العدل واال�ستقامة؛ ف�إ ّنه ال قيام �إال بالعدل واال�ستقامة‪ ،‬فهو �سبحانه قائ ٌم بالق�سط وهو‬ ‫۩ ۩والأمر الثاين‪ُ :‬‬
‫}�ش ِه َد هَّ ُ‬
‫الل �أَ َّن ُه َال �إِ َلـ َه �إِالَّ هُ َو َوالمْ َ َال ِئ َك ُة َو�أُ ْو ُلو ْا ا ْل ِع ْل ِم َق�آ ِئ َم ًا ِبا ْل ِق ْ�س ِط{‪.‬‬ ‫العدل َ‬

‫�صفات الأفعال [كما قال ابن القيم (زاد‬


‫ِ‬ ‫اال�سم (القيوم) يت�ض ّمن جميع‬
‫ ولذا قال �أهل العلم‪� :‬إنّ هذا َ‬
‫املعاد ‪ ،204/4‬ال�صواعق املر�سلة ‪.]911/3‬‬

‫ ولأجل هذا املعنى العظيم يف هذا اال�سم‪ ،‬ورد يف بع�ض الأخبار �أ ّنه اال�سم الأعظم له �سبحانه‪ ،‬روى ابن‬
‫الث‪ ،‬ال َب َق َر ِة‬ ‫اب يف ُ�س َو ٍر َث ٍ‬ ‫الذي �إِ َذا د ُِعي ِب ِه �أَ َج َ‬‫هلل الأَ ْع َظ ُم ِ‬
‫(ا�س ُم ا ِ‬ ‫ماجه عن �أبي �أمامة‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪ْ :‬‬
‫َو� ِآل ِع ْم َرانَ َوطه )‪ ،‬قال القا�سم الراوي عن �أبي �أمامة‪ :‬فالتم�ستها‪� ،‬إنه احلي القيوم‪ُ :‬‬
‫}اهلل ال �إِ َل َه �إِال هُ َو‬
‫وم{‪َ } ،‬و َع َن ِت ال ُو ُجو ُه ِل َلح ِّي ال َق ُّي ِوم{‪.‬‬ ‫احل ُّي ال َق ُّي ُ‬ ‫وم ال َت�أْ ُخ ُذ ُه ِ�س َن ٌة َوال َن ْو ٌم{‪ُ ،‬‬
‫}اهلل ال �إِ َل َه �إِال هُ َو َ‬ ‫َ‬
‫احل ُّي ال َق ُّي ُ‬

‫ وروى �أبو داود عن �أن�س‪�d‬أنه كان مع ر�سول اهلل‪s‬جال�س ًا ورجل ُي�صلي‪ ،‬ثم دعا‪( :‬اللهم �إين �أ�س�ألك‬
‫ب�أن لك احلمد ال �إله �إال �أنت‪ ،‬املنانُ بدي ُع ال�سموات والأر�ض‪ ،‬يا ذا اجلالل والإكرام يا حي يا قيوم)‪ .‬فقال‬
‫النبي‪ « :s‬لقد دعا َ‬
‫اهلل با�سمه العظيم الذي �إذا دُعي به �أجاب و�إذا ُ�سئل به �أعطى »‪.‬‬

‫اال�سم من �أ�سماء اجلبار ج ّل وعال‪ ،‬يورث نف�س امل�ؤمن ع��دد ًا من‬ ‫َ‬ ‫ ‪ w‬عباد اهلل! �إن ا�ست�شعار هذا‬
‫ال�صفات‪:‬‬
‫الغني عنهم‪ ،‬ولذا تذ ُّل له الرقاب‪،‬‬ ‫۩ ۩ا�ست�شعار عظمة اجلبار ج ّل وعال‪ ،‬فاخللق كلهم حمتاجون له‪ ،‬وهو ّ‬
‫اب َمنْ َح َم َل ُظ ْل ًما{‪.‬‬
‫وتخ�شع له القلوب‪ ،‬يف الدنيا والآخرة؛ } َو َع َن ِت ا ْل ُو ُجو ُه ِل ْل َح ِّي ا ْل َق ُّي ِوم َو َق ْد َخ َ‬

‫۩ ۩�أنّ َمن عرف هذا اال�سم ودعا به‪ ،‬وتو�سل به هلل ج ّل وعال ُحفظ و ُكفي من خلق اهلل‪ ،‬لأنّ اهلل هو القيوم‪،‬‬
‫وغريه من املخلوقات ال قيام لها �إال به‪ .‬وقد ثبت يف ال�صحيح من حديث �أبي هريرة‪�d‬أ ّنه ملا قيل له‪:‬‬
‫(اقر�أ �آية الكر�سي }اهلل ال �إله �إال هو احلي القيوم{ حتى تختم الآية ف�إنك لن يزال عليك من اهلل‬
‫حافظ وال يقربنك �شيطان حتى ت�صبح)‪� ،‬ص ّدقه النبي ‪.s‬‬

‫عظمت �إذا دُعي اهلل‬


‫ُ‬ ‫ وهو �سبب لتهوين عظائم الأمور‪ ،‬لأنّ اهلل هو القيوم عليها‪ ،‬ف�إن ذنوب العبد و�إن‬
‫زيد موىل النبي �أنه‪ s‬قال‪َ « :‬من قال‪� :‬أ�ستغف ُر اهلل الذي ال‬‫بهذا اال�سم ف�إنّ اهلل يغفرها‪ ،‬روى �أبو داود عن ٍ‬
‫�إله �إال هو احلي القيوم و�أتوب �إليه‪ُ ،‬غفر له و�إن كان ف َّر من الزحف »‪.‬‬

‫‪547‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬من أسمائه القيوم‬

‫ ‬
‫وجاء عند الرتمذي من حديث �أَ ِبي َ�س ِع ٍيد‪�d‬أن ال َّنبي‪َ s‬قال‪َ « :‬منْ َق َال ِح َني َي���أْ ِوي ِ�إ ىَل ِف َر ِا�ش ِه ‪:‬‬ ‫ ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫وب ِ�إ َل ْي ِه‪َ ،‬ث َال َث َم َّر ٍات‪َ ،‬غ َف َر هَّ ُ‬
‫الل ُذ ُنو َب ُه َو ِ�إنْ َكا َن ْت ِم ْث َل َز َب ِد‬ ‫احل َّي ال َق ُّي َوم َو�أَ ُت ُ‬ ‫�أَ ْ�س َت ْغ ِف ُر هَّ َ‬
‫الل ا َّل ِذي َال ِ�إ َل َه ِ�إالَّ هُ َو َ‬
‫ال َب ْح ِر‪َ ،‬و ِ�إنْ َكا َن ْت َع َد َد َو َر ِق ال�شَّ َج ِر‪َ ،‬و ِ�إنْ َكا َن ْت َع َد َد َر ْم ِل َعا ِل ٍج‪َ ،‬و ِ�إنْ َكا َن ْت َع َد َد �أَ َّي ِام ال ُّد ْن َيا »‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪548‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫موت الفجأة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬موت الفجأة‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫و�س ٌد يف َر ْم ِ�سه وال �شك‪ ،‬فهما طال ُع ُم ُره و ُم َّد يف ن�س ِئه ف�إن‬ ‫ ف�إن املوت ناز ٌل ب ُك ٍّل امرئ وال ريب‪ ،‬وهو ُم َ‬
‫و�سى �إ َف َل َّما َجا َء ُه َ�ص َّكهُ‪،‬‬ ‫ذاك هو �أج ُله‪ ،‬روى ال�شيخان َعنْ َ�أ ِبي هُ َر ْي َر َة‪d‬قال‪�( :‬أُ ْر ِ�س َل َم َل ُك المْ َ ْو ِت ِ�إ ىَل ُم َ‬
‫َف َر َجع �إِ ىَل َر ِّب ِه َف َق َال‪� :‬أَ ْر َ�س ْل َت ِني �إِ ىَل َع ْب ٍد اَل ُي ِري ُد المْ َ ْوتَ ‪َ ،‬ف َر َّد هَّ ُ‬
‫الل َع َل ْي ِه َع ْي َنهُ‪َ ،‬و َق َال‪ :‬ا ْر ِج ْع َف ُق ْل َل ُه َي َ�ض ُع َي َد ُه َع َلى‬
‫َمتنْ ِ َث ْو ٍر َف َلهُ‪ِ ،‬ب ُك ِّل َما َغ َّط ْت ِب ِه َي ُد ُه ِب ُك ِّل َ�ش ْع َر ٍة َ�س َن ٌة‪ ،‬ف َق َال مو�سى ‪� :a‬أَ ْي َر ِّب ُث َّم َم َاذا؟ َق َال‪ُ :‬ث َّم المْ َ ْوتُ ‪َ ،‬ق َال‪:‬‬
‫َفالآنَ )‪.‬‬

‫النا�س َمن ميوت ميتة ُ�سوء‪ ،‬ومنهم من‬


‫فمن ِ‬ ‫مت‪ ،‬ولكنَّ طريق َة الوفاة تختلف‪ِ ،‬‬ ‫ �إن املوتَ واح ٌد وال َ‬
‫أجل َحا ٌ‬
‫بعمل �صالح‪.‬‬
‫ميوت ُبح�سن اخلامت ِة ف ُيختم له عم ُر ُه ٍ‬

‫ ومن امليتات (موت الفج�أة) ومعناها �أن ي�أتي املوتُ بغت ًة من غري تقدم ٍ‬
‫�سبب يد ُّل عليه‪ .‬في�سقط الإن�سان‬
‫يخرج من بيته �سليم ًا‬
‫م�صاحله‪ُ ،‬‬‫ِ‬ ‫روح ُه فج�أ ًة وهو من�شغ ٌل بتعاطي‬ ‫ميت ًا وهو قائ ٌم يك ِّل ُم �صاح َبه �أو ُ‬
‫تقب�ض ُ‬
‫نعي وفاته وخ ُرب هالكه‪.‬‬‫معافى فما هي �إال حلظات حتى ي�أتي �أه َله ُ‬

‫أن�س‪�d‬أن ر�سول اهلل‪�ِ « :s‬إنَّ‬


‫ وقد جاء يف بع�ض الأخبار �أن موت الفج�أة يكرث يف �آخر الزمان فعن � ٍ‬
‫خطبة جديدة‬

‫ال�س َاعة �أَنْ َ �أَنْ َي ْظ َهر َموتُ ا ْل َفجْ�أة»‪[.‬رواه الطرباين يف الأو�سط (‪ )9376‬وال�صغري (‪)260/2‬‬
‫ِمنْ اقْترِ َاب َّ‬
‫أن�س ‪ d‬مرفوع ًا‪ ،‬وال�صواب �أنه عن ال�شعبي مر�س ًال وله �شواهد]‪ .‬وقال ال�شعبي‪( :‬كان يقال‪:‬‬ ‫من حديث � ٍ‬
‫اقرتاب ال�ساعة موت الفج�أة)‪.‬‬

‫هلل تعاىل‪ -‬هو ما حدث‬ ‫ ولع َّل ال�سبب يف ظهور موت الفج�أة يف �آخر الزمان باخل�صو�ص ‪-‬والعلم عند ا ِ‬
‫الطب وكرث ِة اال�ست�شفاء من الأمرا�ض‪ ،‬فحينما كان الأوائل مير�ضون �أمرا�ض ًا يطول �أمدها‪،‬‬‫من تطو ٍر يف ِّ‬
‫ويكرث الت�أمل منها‪ ،‬وميوتون ِمن ُم�ضعفاتها‪ ،‬فقد جعل ُ‬
‫اهلل ‪-‬بف�ض ِله‪� -‬أدوية لهذه الأدواء‪ُ ،‬عل ْمها � ُ‬
‫أهل الأزمنة‬
‫املت�أخرة فق ّلت الأمرا�ض‪ ،‬والأجل حاتمِ ٌ ‪ ،‬ويف حديث �أ�سامة بن �شريك‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬تداووا‬
‫واله َرم)[رواه �أحمد ‪ 278/4‬ب�إ�سناد‬ ‫عبا َد اهلل فان اهلل عز وجل مل ينزل داء �أال �أنزل معه �شفاء اال املوت ِ‬
‫�صحيح]‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬موت الفجأة‬

‫ عباد اهلل! �إن موت الفج�أة ال يد ُّل على خ ٍري يف امليت ولي�س عالم َة �شر له‪ ،‬و�إمنا هو رحم ٌة للم�ؤمن‬
‫وعذاب على املنافق ت�شديد ًا عليه‪ .‬روى‬ ‫ت�سهي ًال عليه‪،‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫البيهقي يف (ال�شعب) �أن عائ�شة‪�ُ g‬سئلت عن موت‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫هلل‪s‬عن ذلك فقال‪( :‬راح ٌة للم�ؤمن‪ ،‬و�أخذ �أَ ِ�س ٍف‬ ‫ر�سول ا ِ‬ ‫َ‬ ‫ألت‬
‫الفج�أ �أ ُيك َره؟ قالت‪ :‬لأي �شيء ُيك َره؟ �س� ُ‬
‫للفاجر)‪[.‬ورواه �أبو داود (‪ )3112‬بلفظ‪َ « :‬م ْوتُ ا ْل َفج َْ�أ ِة َ�أ ْخ َذ ُة �أَ ِ�س ٍف »]‬

‫ ومعنى هذا احلديث �أن موت الفج�أ ِة راح ٌة للم�ؤمن املت�أهِّ ب له‪ ،‬فهو رحم ٌة به لكي ال يتعب ويت� مّأل يف موته‬
‫من �آالم ال َنزْ ع‪ ،‬و�أ ّما املنافق والفاجر الذي مل ي�ستعد لهذا املوقف ف�إنها �أخذ �أَ ِ�س ٍف له‪ ،‬فال مُيهل ليتوب‪ ،‬وال‬
‫�سبب لرجوع املرء هلل تعاىل وقربه منه‪ ،‬وتوبته‬ ‫املر�ض قبل املوت ٌ‬‫املظال‪� ،‬أو ي�سدد الديون التي عليه‪� ،‬إذ ُ‬ ‫لري ُّد مِ‬
‫مما اقرتف من الظلم والذنوب‪.‬‬
‫ ‬
‫الغ�ضب عليه‬
‫َ‬ ‫ْ��ذ ُة �أَ ِ�س ٍف»؛ �أي غا�ضب‪ .‬ومعناه‪� :‬أنه فعل ما �أوجب‬
‫ فقول النبي‪«َ :s‬م�� ْوتُ ا ْل َفجْ�أَ ِة �أَخ َ‬
‫أهب لهذا اليوم‪ ،‬فقد ترك الإعداد للمعاد‪ ،‬واغ َّرت‬ ‫اهلل بغت ًة من غري ا�ستعداد ِمنه وال ت� ٍ‬ ‫واالنتقام منه‪ ،‬ف�أماته ُ‬
‫َ‬
‫بالزخارف الكاذبة‪ ،‬و�س ّوف بالتوبة‪ .‬قال بع�ض ُ�ش َّراح احلديث[مال علي قاري]‪( :‬موت الفج�أة �أث ٌر من �آثار‬
‫غ�ضب اهلل‪ ،‬فال يرتكه لي�ستعد ملعاده بالتوبة و�إعداد زاد الآخرة‪ ،‬ومل مُْي ِر�ضْ ُه ليكون كفار ًة لذنوبه)‪.‬‬

‫اهلل عن امل�شركني �أنهم ي�أتيهم امل��وتُ فج�أ ًة‪ ،‬وحت�ضرهم ال�ساعة بغت ًة بحيث ال ُي ُّ‬
‫ح�سون‬ ‫ وقد �أخرب ُ‬
‫ال�س َاع َة �أَن َت�أْ ِت َي ُهم َب ْغ َت ًة َوهُ ْ��م ال‬ ‫}ه ْ��ل َي ُ‬
‫نظ ُرونَ �إِالَّ َّ‬ ‫مبقدامتها‪ ،‬وال ي�ست�شعرون �أمارا ِتها فقال �سبحانه‪َ :‬‬
‫َي�شْ ُع ُرونَ {‪.‬‬

‫اهلل عليهم من‬ ‫أخذ البغتة �إمنا هم املرتفون الذين �أنعم ُ‬ ‫ؤاخذ � َ‬ ‫ وبينّ �سبحانه �أن َمن ي�أتيه املوت فج�أ ًة و ُي� ُ‬
‫نعمه وجوده و�إح�سانه فان�شغلوا بها جمع ًا وا�ستمتاع ًا‪ ،‬قال ج ّل وعال‪ُ } :‬ث َّم َب َّد ْل َنا َم َكانَ َّ‬
‫ال�س ِّي َئ ِة الحْ َ َ�س َن َة‬ ‫فيو�ض ِ‬
‫ال�س َّراء َف�أَ َخ ْذ َناهُ م َب ْغ َت ًة َوهُ ْم َال َي�شْ ُع ُرونَ {‪.‬‬
‫َحتَّى َع َفو ْا َّو َقا ُلو ْا َق ْد َم�سَّ �آ َباء َنا ال�ضَّ َّراء َو َّ‬

‫�سمعت ر�سول‬
‫ُ‬ ‫ لذا ف�إن النبي‪s‬كره �أن ميوتَ فج�أ ًة؛ فقد روى الرتمذي[‪ ]980‬عن ابن م�سعود‪d‬قال‪:‬‬
‫أحب َموت ًا كموت احلمار» قيل‪ :‬وما موت احلمار ؟ قال‪:‬‬ ‫اهلل‪s‬يقول‪�« :‬إن نف�س امل�ؤمن تخرج َر�شْ َح ًا‪ ،‬وال � ُّ‬
‫«موت الفج�أة»‪ .‬ويف (امل�سند ‪ )6594‬عن عبد اهلل بن عمرو‪�« :d‬أن ر�سول اهلل‪s‬ا�ستعاذ من �سبع موتات‪:‬‬
‫يخ َّر َع َلى �شيءٍ ‪� ،‬أو يخ َّر َعليه‬ ‫ال�س ُب ِع‪ ،‬ومن َ‬
‫احل َرق‪ِ ،‬ومن ال َغ َرق‪ِ ،‬ومن �أن ِ‬ ‫موت الفج�أة‪ ،‬ومن لدغ احلية‪ ،‬ومن َّ‬
‫القتل عند فرا ِر الزحف»‪.‬‬
‫�شي ٌء‪ِ ،‬ومن ِ‬

‫ فا�ستعاذ ُة النبي‪s‬من موت الفج�أة وهذه امليتات‪ ،‬لي�س لأنها عالم ُة �سوء حال املوت �أو �أنها �أمار ُة �ش ٍّر‬
‫إبراهيم‪ ،‬وداو َد‪ ،‬و�سليمانَ ماتوا فج�أة‪.‬‬
‫َ‬ ‫يف امليت؛ فقد ُذكر �أن �أنبيا َء اهلل �‬

‫النبي‪s‬من موت الفج�أة ملا فيه من حرمان خ ٍري كثري وفواته‪ ،‬فقد يكون املر ُء يف حاجة‬ ‫ بل ا�ستعاذ ُة ِّ‬
‫بعيد عن ذكر الآخرة �أو املوت‪ ،‬فيفوت‬ ‫�إىل �أن يو�صي‪ ،‬فتفوته الو�صية‪ .‬وقد يكون حال موته ُ‬
‫يعمل يف عمل دُنيا ٍ‬
‫عليه �أن يكون �آخر كالمه (ال �إله �إال اهلل)‪.‬‬
‫‪550‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬موت الفجأة‬

‫ و َملا فيه من فوت الأجر باملر�ض الذي ي�سبق الوفاة‪ ،‬لذا بينّ النبي ‪�s‬أن امل�ؤمن ميوت ب َع َر ِق اجلبني[رواه‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ال�شدة واحلال ِة التي تعرتي‬‫الرتمذي ‪ ،982‬والن�سائي ‪ ،1828‬وابن ماجه ‪ 1452‬ب�إ�سناد �صحيح]‪ ،‬كناية عن ِّ‬
‫الإن�سان يف حالة النزع وخا�ص ًة امل�ؤمن‪ ،‬وقد جاء يف احلديث يف االبتالء‪�« :‬أ�ش ُّد النا�س بال ًء الأنبياء ثم‬
‫الأمثل فالأمثل»‪ ،‬وهكذا جاء يف بع�ض الآثار «�أنه‪s‬كان يعاين �أ�شد ما يعاين �أ�شد الرجال» وكان �صلوات‬
‫اهلل و�سالمه عليه ي�صرب على ذلك وي�س�أل اهلل ـ التخفيف‪.‬‬

‫ فيا عبد اهلل! تذ ّكر هذا املوقف ف�إنك ال ت� َأمنُ �أن ي�أتيك املوت فج�أة‪ ،‬و�أن ينزل عليك بغته‪ ،‬فبادر بق�ضاء‬
‫مِ َ‬
‫املظال التي فعلت‪ ،‬وا�ستحلل‬ ‫أق�ض الدينَ الذي عليك‪ ،‬و ُر ّد‬
‫أو�ص �إن مل تكن �أو�صيت‪ ،‬و� ِ‬ ‫حق اهلل عليك‪ ،‬ف� ِ‬
‫وقريب وجا ٍر وذي حقّ ‪ ،‬واجعل لك ورد ًا يف يومك وليلتك من كتاب اهلل تعاىل‬ ‫ٍ‬ ‫ق�صرت يف ح ِّقه من ٍ‬
‫والد‬ ‫من ّ‬
‫وال�صال ِة بحيث �إذا َّمت ال ُع ُمر‪ ،‬وح�ضر الأجل‪ ،‬مل تندم على تفريط �أو ت�أخري‪ُ ،‬‬
‫وختم �آخ ُر �أيامك بطاع ٍة فعلتها‬
‫هلل تعاىل‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪551‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬نعيم الجنة‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫نعيم الجنة‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫ ف�إن اهلل عز وجل ذكر نعيم اجلنة مب�سوط ًا يف موا�ضع من القر�آن‪ ،‬ثم جمعه يف ثالث �آيات؛ وهي قوله‬
‫أهل اجلن ِة عنها بدي ًال وال يعلمون عي�ش ًا �أهن�أ منها‪ ،‬والثانية قوله‬ ‫تعاىل‪} :‬ال َي ْب ُغونَ َع ْن َها ِح َو ًال{ فال يبغي � ُ‬
‫تعاىل‪�} :‬أولئك لهم الأمن{ فهم �آمنون مطمئنون �أن ال تبديل وال زوال لهذه النعم �إذ �أكرث ما يكدر النعم‬
‫والهم بذلك‪ ،‬والثالثة قوله جل ذكره‪َ } :‬و ِفي َها َما َت�شْ ت َِهي ِه الأَن ُف ُ�س َو َت َل ُّذ الأَعْينُ ُ{‪ ،‬فهذه الآيات‬ ‫خوف تبدلها ِّ‬
‫الثالث جمعت كل نعيم‪.‬‬

‫ ويف ال�صحيحني من حديث �أبي هريرة‪�d‬أن ر�سول اهلل‪s‬قال‪( :‬قال اهلل‪� :‬أعددتُ لعبادي ال�صاحلني‬
‫ني ر�أت‪ ،‬وال �أذ ٌن َ�س ِم َعت‪ ،‬وال َخ َط َر على قلب ب�شر)‪ .‬قال ابن عبا�س‪ :‬كان ُ‬
‫عر�ش اهلل على املاء‪ ،‬ثم اتخذ‬ ‫ما ال ع ٌ‬
‫وط َب َقهما بل�ؤل�ؤ ٍة واحد ٍة ال َيع َل ُم اخلالئقُ َما فيهما وهما اللتان قال اهلل‬ ‫لنف�سه َج َّن ًة‪ ،‬ثم اتخذ دونها �أخرى َ‬
‫فيهما‪َ } :‬فال َت ْع َل ُم َن ْف ٌ�س َّما �أُ ْخ ِف َي َل ُهم ِّمن ُق َّر ِة �أَعْينُ ٍ َجزَ اء بمِ َ ا َكا ُنوا َي ْع َم ُلونَ {‪.‬‬

‫خطر اجلنة و�شر ِفها‪ ،‬ورفع ِتها وعل ِّو �ش�أنها �إال �أنه ال ُي�س�أل بوجه اهلل ج َّل وعال‬
‫ عباد اهلل! لو مل يكن ِمن ِ‬
‫النبي ‪( :s‬ال ُي�س�أل بوجه اهلل �إال اجلنة)‪.‬‬ ‫غ ُريها‪ ،‬لكفى �شرف ًا وف�ض ًال؛ روى �أبو داود عن جابر‪�d‬أن َّ‬

‫كيف ُيق َّد ُر َق ْد ُر دا ٍر َغ َر َ�سها الرحمنُ‬


‫الو�صف عن و�صفها‪ ،‬والإعظام عن قدرها ح َّقها‪ .‬بل َ‬ ‫ُ‬ ‫ لقد عجز‬ ‫خطبة جديدة‬
‫بيده‪ ،‬وجعلها مقر ًا لأحبابه‪ ،‬وحالها من كرام ِته ورحمته ور�ضوا ِنه‪َ .‬و َو�صف نعي َمها بالفو ِز العظيم‪ ،‬و ُمل َكها‬
‫عيب و�آفة ونق�ص‪.‬‬ ‫رها ِمن ُكل ٍ‬‫باملُ ِلك ال َكبري‪ ،‬و�أو َد َعها جمي َع اخلري بحذافريه‪ ،‬وط َّه َ‬

‫ُ‬
‫امل�سك الأذ َفر‪ .‬وح�صبائها‬ ‫الطها الذي ُتطلى به ُج ُد ُرها فهو‬‫أر�ضها امل�سك وتربتها الزعفرانُ ‪َ .‬وم ِ‬ ‫ ف� ِ‬
‫الل�ؤل�ؤ واجلوهر‪.‬‬
‫و�إن �س�ألت عن بنائها ف َل ِب َن ٌة ِمن ف�ضة و َل ِب َن ٌة من ذهب‪.‬‬ ‫ ‬
‫ذهب �أو ف�ضة‪ ،‬ال من احلطب واخل�شب‪.‬‬ ‫و�إن �س�ألت عن �أ�شجارها ف َما فيها �شجر ٌة �إال �سا ُقها من ٍ‬ ‫ ‬
‫ني من الزُّبد‪ ،‬و�أحلى من الع�سل وال�ش ْهد‪.‬‬
‫ثمرها ف�أمثال ال ِقالل �أل ُ‬ ‫و�إن �س�ألت عن ِ‬ ‫ ‬
‫و�إن �س�ألت عن ور ِقها ف�أح�سن من رقائق ا ُ‬
‫حللل‪.‬‬ ‫ ‬
‫و�إن �س�ألت عن �أنهارها ف�أنهار ِمن َل ٍنب مل يتغري طع ُمه‪ ،‬و�أنها ٌر من ٍ‬
‫خمر لذ ٍة لل�شَّ اربني‪ ،‬و�أنها ٌر من ع�سل‬ ‫ ‬
‫م�ص َّفى‪ ،‬و�أنها ٌر من ماء غري �آ�سن‪.‬‬
‫‪552‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬نعيم الجنة‬

‫وحلم طري مما ي�شتهون‪.‬‬ ‫طعامهم ففاكه ٍة مما يتخريون ِ‬ ‫و�إن �س�ألت عن ِ‬ ‫ ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫و�إن �س�ألت عن �شرابهم فالتَّ�سنيم والزجنبيل والكافور‪.‬‬ ‫ ‬


‫و�إن �س�ألت عن �آنيتهم ف�آنية الذهب والف�ضة يف َ�ص َفا ِء ال َقوارير‪.‬‬ ‫ ‬
‫ٌ‬
‫كظيظ من‬ ‫و�إن �س�ألت عن ِ�سع ِة �أبوابها فبني امل�صراعني م�سري ُة �أربعني من الأعوام‪ ،‬ولي�أتني عليها يوم وهي‬ ‫ ‬
‫الزحام‪.‬‬

‫و�إن �س�ألت عن ت�صفيق الرياح لأ�شجارها ف�إنها ت�ستفز بالطرب ملن ي�س َم ُعها‪.‬‬ ‫ ‬
‫و�س ُر ِره‪ ،‬و ُق�صو ِره‪ ،‬وب�ساتينه م�سري َة �ألفي عام ال يقطعها‪.‬‬
‫و�إن �س�ألت عن �سعتها ف�أدنى �أه ِلها َي�س ُري يف ُم ِلكه‪ُ ،‬‬ ‫ ‬
‫و�إن �س�ألت عن خيامها وقبابها فاخليمة الواحدة من دُر ٍة جموفة طولها �ستون مي ًال من جملة اخليام‪.‬‬ ‫ ‬
‫غرف َمبنية جتري من حتتها الأنهار‪.‬‬ ‫رف ِمن فوقها ٌ‬ ‫و�إن �س�ألت عن عالل ْي َها ففي ُغ ٍ‬ ‫ ‬
‫و�إن �س�ألت عن ارتفاعها فانظر �إىل الكوكب الطالع‪ ،‬والغارب يف الأفق الذي ال تناله الأب�صار فذاك ما بني‬ ‫ ‬
‫املنزلة والأخرى‪.‬‬

‫و�إن �س�ألت عن لبا�س �أهلها فهو احلرير والذهب‪.‬‬ ‫ ‬


‫َ‬
‫مفرو�شة يف �أعلى ال ُّرتب‪.‬‬ ‫و�إن �س�ألت عن ُف ُر ِ�شهم فبطائها من ا�ستربق‬ ‫ ‬
‫احل َج ُال ُمز َّررة ب�أزرار الذهب‪.‬‬
‫و�إن �س�ألت عن �أرائكها فهي ِ‬ ‫ ‬
‫وح�سنهم فعلى �صورة القمر ليلة البدر‪.‬‬ ‫و�إن �س�ألت عن َوجه �أهلها ُ‬ ‫ ‬
‫آدم �أبي الب�شر‪.‬‬
‫بطول � َ‬
‫و�إن �س�ألت عن �أ�سنا ِنهم ف�أبناء ثالث وثالثني على ِ‬ ‫ ‬
‫حلور العني‪ ،‬و�أعلى منه �سما ُع �أ�صوات املالئكة والنبيني‪ ،‬و�أعلى‬‫ماعهم فغناء �أزواجهم من ا ُ‬ ‫و�إن �س�ألت عن َ�س ِ‬ ‫ ‬
‫طاب رب العاملني‪.‬‬
‫منه َ�سما ُع ِخ ِ‬

‫فنجائب �أن�ش�أها اهلل مما �شاء ت�سري بهم حيث �شاءوا من اجلنان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ و�إن �س�ألت عن مطاياهم‬
‫وخدمهم فولدان خملدون‪ ،‬ك�أنهم ل�ؤل�ؤٌ مكنون‪.‬‬
‫ و�إن �س�ألت عن غلمانهم ِ‬

‫عرائ�سهم و�أزواجهم فهن الكواعب والأتراب‪ ،‬الالتي جرى يف �أغ�صانهن ما ُء ال�شباب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ و�إن �س�ألت عن‬
‫وال�ستنطقت �أفوا َه‬
‫ْ‬ ‫يحا‪،‬‬
‫عت على الدنيا ملل ْأت ما بني ال�سماء والأر�ض ِر َ‬ ‫َيرى وج َه َه يف َ�صحن خدِّ ها‪ ،‬لو َّ‬
‫اط َل ْ‬
‫أغم�ضت ِمن غ ِريها ك ُّل عني‪ ،‬ن�صي ُفها‬
‫ْ‬ ‫اخلالئق تهلي ًال وتكبري ًا وت�سبيحا‪ ،‬ولتزخ َر َف لها َما بني اخلافقني‪ ،‬ول‬
‫ِ‬
‫طول الأحقاب‬ ‫ري من الدنيا وما فيها‪ ،‬و َو�ص ُلها �أ�شهى �إليه ِمن كل �أمانيها‪ ،‬ال تزداد على ِ‬ ‫على ر�أ�سها خ ٌ‬
‫واحلي�ض‬
‫ِ‬ ‫�إال ُح�سن ًا َوجماال‪ ،‬وال يزداد لها على طول املدى �إال حمبة وو�صاال‪ ،‬مرب�أ ٌة من َ‬
‫احل ْب ِل وال��والدة‪،‬‬
‫ثوب‬‫والنفا�س‪ُ ،‬مط َّه ٌرة من املُ َخاط وال ُب�صاق والبول والغائط و�سائر الأدنا�س‪ ،‬ال َيفنى �شبا ُبها‪ ،‬وال يب َلى ُ‬
‫أحد �سواه‪َ ،‬و َق ُ�ص ُر طر ُفه عليها فهي‬ ‫رت طر َفها على زوجها‪ ،‬فال ُ‬
‫تطمح ل ٍ‬ ‫طيب و�صالها‪َ ،‬ق َ�ص ْ‬‫جمالها‪ ،‬وال مُ َي ُّل ُ‬
‫غاي ُة �أمانيه وهواه‪.‬‬

‫وجه ِه املن َّز ِه عن الت�شبيه والتمثيل‪ ،‬كما ُت َرى‬


‫و�إن �س�ألت عن يوم املزيد‪ ،‬وزيار ِة العزيز احلميد‪ ،‬ور�ؤية ِ‬ ‫ ‬

‫‪553‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬نعيم الجنة‬

‫ال�صادق امل�صدوق النقل فيه‪ ،‬وذلك حني يك�شف‬ ‫الظهرية‪ ،‬والقم ُر ليل َة البدر‪ ،‬كما تواتر عن ّ‬ ‫ال�شم�س يف َّ‬
‫ُ‬
‫حل ُجب‪ ،‬ويتجلى لهم‪ ،‬ف َي َ‬
‫غ�شاهم من نو ِره ما لوال �أن اهلل �سبحانه ق�ضى �أن ال يحرتقوا‬ ‫الرب جل جالله ا ُ‬‫ُّ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫فعلت كذا وكذا ؟‬
‫ا�ضر ُه ر ُّبه حما�ضرة حتى �إنه ليقول‪ :‬يا فالن �أتذكر يوم َ‬ ‫الحرتقوا‪ ،‬وال َيبقى �أح ٌد �إال َح َ‬
‫بلغت منزلتك هذه‪.‬‬
‫رب �أمل تغف ْر يل؟ فيقول‪ :‬بلى مبغفرتي َ‬ ‫يذ ّك ُر ُه ببع�ض غدرا ِته يف الدنيا‪ ،‬فيقول‪ :‬يا ِّ‬

‫عيون الأبرار بالنظر �إىل وجه الكرمي يف الدار الآخرة‪ ،‬ويا‬ ‫ فيا لذة الأ�سماع بتلك املحا�ضرة‪ ،‬ويا قر َة ِ‬
‫ا�ض َر ٌة { ِ�إ ىَل َر ِّب َها َن ِاظ َر ٌة { َو ُو ُجو ٌه َي ْو َم ِئ ٍذ َب ِا�س َر ٌة{ ت َُظنُّ �أَن‬
‫ِذل َة ال َّراجعني بال�صفقة اخلا�سرة } ُو ُجو ٌه َي ْو َم ِئ ٍذ َّن ِ‬
‫ُي ْف َع َل ِب َها َفا ِق َر ٌة{‬
‫فحي على جنات عدن ف�إنها‬ ‫ ‬
‫منازلك الأوىل وفيها املخيم‬ ‫ ‬
‫ولكننا �سبي العدو فهل ترى‬ ‫ ‬
‫ن ــعود �إىل �أوطــانــنا ونــ�سلــم‬ ‫ ‬
‫اهلل عنا متام �صف ًة اجلن ِة وما �أعده اهلل فيها للم�ؤمنني‪ ،‬وت�أ ّمل يف قول اهلل تعاىل‪َ } :‬تت ََجا َفى‬ ‫ لقد �أخفى ُ‬
‫ُج ُنو ُب ُه ْم َع ِن المْ َ َ�ض ِاج ِع َي ْد ُعونَ َر َّب ُه ْم َخ ْو ًفا َو َط َم ًعا وَممَِّ ا َر َز ْق َناهُ ْم ُين ِف ُقونَ { َفال َت ْع َل ُم َن ْف ٌ�س َّما �أُ ْخ ِف َي َل ُهم ِّمن‬
‫اهلل ج َّل وعال َما �أخفوه من قيام الليل باجلزاء الذي‬ ‫ُق َّر ِة �أَعْينُ ٍ َجزَ اء بمِ َ ا َكا ُنوا َي ْع َم ُلونَ {‪ .‬ت�أمل كيف قابل ُ‬
‫مما ال تعلمه نف�س‪ ،‬وكيف قابل قلقهم وا�ضطرابهم يف الفر�ش ب ُق َّر ِة الأع ِني يف اجلنة‪.‬‬ ‫�أخفاه لهم ّ‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬
‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬
‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬
‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬
‫‪554‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬وبنني شهودا‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫وبنني شهودا‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬


‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫م�ضل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬ ‫فال َّ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫يغفل عنها �صاح ُبها وال يفطنُ بها حائزها‪ ،‬ف�إذا ُذ ِّكر بها وكان واجد ًا لها حمد َ‬
‫اهلل‬ ‫ ف�إن ِمن ال ِّنعم َما ُ‬
‫و�أثنى عليه‪ ،‬و�إن كان فاقد ًا لها ا�سرتج َع واحت�سب الأجر وا ُ‬
‫خل ْل َف عند اهلل‪.‬‬

‫الولد (ذكر ًا كان �أو �أنثى) نعم ٌة ِمن اهلل عظيمه‪ ،‬وتكمل هذه النعم ُة ب�صالحه‪ ،‬وح�ضوره‬
‫ عباد اهلل! �إن َ‬
‫عند والديه‪ ،‬و�شهودهم له‪.‬‬

‫عندهم‪ ،‬و�شهودهم لهم‪،‬‬ ‫ فهل تذكرنا (عباد اهلل!) يف نعمة ُقرب الأبناء ِمن �آبائهم‪ ،‬وح�ضورهم َ‬
‫اهلل على الوليد بن املغرية ب�أن �أبناءه حا�ضرون عنده‪ ،‬وي�شاهدهم‪ ،‬ويتق ّوى بهم‬ ‫نت ُ‬‫ونظرهم �إليهم‪ .‬لقد ام َّ‬
‫بعدما كان فرد ًا وحيد ًا؛ فقال �سبحانه‪َ :‬‬
‫}ذرْنيِ َو َمنْ َخ َل ْق ُت َو ِحيدً ا* َو َج َع ْل ُت َل ُه َما ًال ممَّْ دُودًا* َو َب ِن َني ُ�ش ُهودًا{‪.‬‬ ‫َ‬

‫عنده‪ ،‬ال يغيبون كما يغيب الذي‬


‫الوقت َ‬
‫عنده ع�شرة من الولد فهم حا�ضرون �أغلب ِ‬ ‫ جا َء �أن الوليد كان َ‬
‫يتطلب ال َعي�ش‪ُ ،‬ح�ضو ٌر بني يديه دائم ًا وهم طو ُع �أمره‪.‬‬
‫خطبة جديدة‬

‫وعنده حا�ضر ًا‪ ،‬ي�أمتر ب�أمره‪ ،‬وينظر له ال ُأب بلحظه‪ ،‬ف�إذا كان ذلك‬
‫ �إن الأب �إذا اب َنه بني يديه �شاهد ًا‪َ ،‬‬
‫كذلك ف�إنها متام نعمة البن ّوة‪.‬‬
‫جوارحه ِمن �أبنائه‪ ،‬فالع ُني ملحياهم ناظره‪ ،‬والأذن حلديثهم �سامعه‪ ،‬والي ُد لهم‬
‫َ‬ ‫ هي نعم ٌة �أن ميلأ املر ُء‬
‫جا�س ٌة حا�سة‪.‬‬

‫يلزمه وال يرت َكه‪ ،‬وهل حمبوب يف الدنيا � ُّ‬


‫أحب للمرء‬ ‫أحب �شيئ ًا � ّ‬
‫أحب �أال يفار َقه‪ ،‬و�أن َ‬ ‫ال�شخ�ص �إذا � ّ‬
‫َ‬ ‫ �إن‬
‫ِمن ُب�ضعته‪ ،‬فما الأبنا ُء �إال ُب�ضع ٌة وجز ٌء من �آبائهم‪ .‬لكنما �أوالدنا بيننا ‪� ...‬أكبادنا مت�شي على الأر�ض‬
‫ ما ِمن �شيءٍ �أ�ش ُّد وقع ًا على النف�س ِمن فقد الولد‪ ،‬كان بع�ض العرب يقول‪ُّ �( :‬‬
‫أحب �أوالدي �إ َّ‬
‫يل م�ساف ُرهم‬
‫حتى يح�ضر‪ ،‬ومري�ضهم حتى ُي�شفى)‪.‬‬

‫‪555‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬وبنني شهودا‬

‫حينئذ حني ترى دمع ًة على خدِّ � ٍأب وقد �أيقنَ �أو ظنَّ فقد ابنه‪ ،‬جاء يف �صحيح البخاري �أن‬
‫ٍ‬ ‫تعجب‬
‫ فال ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ابن ر�سول اهلل‪s‬وهو يجود بنف�سه‪ ،‬فجعلت عينا‬ ‫�أن�سا‪d‬قال‪( :‬دخلنا مع ر�سول اهلل‪s‬على �إبراهيم ِ‬
‫ر�سول اهلل ‪s‬تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف‪ :d‬و�أنت يا ر�سول اهلل؟ فقال‪ :‬يا ابنَ عوف �إنها‬
‫إبراهيم‬
‫ُ‬ ‫والقلب يحزن‪ ،‬وال نقول �إال ما ُير�ضي ر َّبنا‪ ،‬و�إنا بفراقك يا �‬
‫َ‬ ‫رحم ٌة‪ ،‬ثم قال‪�( :s‬إن العني تدمع‪،‬‬
‫ملحزونون)‪.‬‬

‫وجلو�سهم عندهم‪ ،‬وائتما َرهم ب�أمرهم‪،‬‬


‫َ‬ ‫والبنات بني يدي والديهم‬
‫ِ‬ ‫ نعم عباد اهلل! �إن ح�ضور الأبنا ِء‬
‫وحلظهم حلاجتهم‪ ،‬لهي من ال ِّنعم العظام التي ُينعم ُ‬
‫اهلل بها على َمن ي�شا ُء من عباده‪ ،‬وام ّ‬
‫نت بها يف كتابه‪:‬‬ ‫َ‬
‫} َو َب ِن َني ُ�ش ُهود ًا{‪.‬‬

‫ وهنا هم�ستان للأب واالبن مع ًا‪.‬‬


‫َ‬
‫حلظك �أنت ف�إن متام‬ ‫وقتك يف اجللو�س مع الأبنا ِء ال لحِ َ ِّظهم فقط‪ ،‬و�إمنا‬
‫فاحر�ص على بذل َ‬ ‫ ف�أ ّما الأب‪ِ .‬‬
‫أعجل يف الأيبة‪ ،‬وال ي�شغلك املكاثر ُة يف الدنيا‬
‫جلو�سه مع �أبنائه‪ ،‬فال تبخل بوقتك يف ذلك‪ ،‬و� ِ‬ ‫�سعاد ِة املر ِء يف ِ‬
‫عن اجللو�س مع الأبناء‪.‬‬
‫ (عباد اهلل!) كم بيننا ومعنا َمن ابتعد عن بنيه مغرتب ًا طالب ًا للرزق باغي ًا للخري‪ ،‬فنحمد َ‬
‫اهلل على‬
‫نعمائه‪ ،‬ون�س�أل اهلل �أن ير َّد غائب امل�سلمني �إىل �إهليهم غامنني �ساملني موفوين‪ ،‬و�أن يجمع �شملهم‪ ،‬وير ّد‬
‫غائبهم‪.‬‬

‫�بر ما ُيدخل ال�سرور على الوالدين‪،‬‬ ‫أعظم �أب��واب الرب‪ ،‬و�أك ِ‬


‫ و�أن َ��ت �أيها االبنُ �أو البنت‪ .‬اعلم �أن ِمن � ِ‬
‫وي�سعدان به‪� ،‬أن تكون حا�ضر ًا عندهما‪ ،‬حتت ناظرهما‪ ،‬وبني يديهما‪� ،‬إنهما و�إن مل يتكلما ويطلبا‪ ،‬ف�إن هذه‬
‫هي �سعادتهما‪ ،‬فال تبخل بوقتك معهما‪ ،‬وال ت�شح بهذه اللحظات وال�ساعات عندهما‪ ،‬و�أعلم �أن ا ُ‬
‫خل ْل َف يف‬
‫وقتك و�أهلك ومالك �أعظم‪.‬‬

‫ �إن من الأبناء من ي�ستثقل اجللو�س مع والديه‪ ،‬واحل�ضور عندهما يف املنا�سبات وحال االجتماع‪ ،‬ويف‬
‫رب لهما ببذل املال‪ ،‬واالت�صال بالهاتف فح�سب‪ ،‬و�إمنا ب ُك ّل ما ُيدخل‬
‫نق�ص يف حقهما بينّ ‪ ،‬فلي�س ال ّ‬
‫ذلك ٌ‬
‫ال�سرور لقلبيهما‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬

‫‪556‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬وبنني شهودا‬

‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪557‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬وفاة النبي‬
‫وفاة النبي‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد ُ‬
‫اهلل‬ ‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬

‫ومر�ضه‪ .‬فقد كان �أ َّو ُل مبد�أ مر�ض النبي ‪s‬عندما‬


‫أيام حياة النبي‪ِ ،s‬‬ ‫آخر � ِ‬
‫ ف�إين ذاك ٌر اليوم خ َرب � ِ‬
‫رجع من جنازة يف البقيع‪ ،‬فوجد عائ�ش َة وهي تقول‪:‬‬

‫جت�شم منه‬
‫ٍ‬ ‫�صداع يف ر�أ�سها)‪ ،‬فقال‪( :s‬بل �أنا يا عائ�ش ُة وا ر�أ�ساه)‪ ،‬ثم مازح عائ�ش َة على‬‫وا ر�أ�ساه (من ٍ‬
‫ونام وبه وج ُعهُ‪ .‬ودار على ن�سائه كعادته‪ .‬ثم متادى به وج ُع ُه فا�ستع َّز وا�شت َّد به وهو يف بيت ميمونة‪ ،‬ف�أخذه‬
‫�أ ٌمل يف خا�صر ِته فا�شت َّدت به جد ًا حتى �أغمي عليه‪ ،‬ثم قال‪�( :s‬إين �أ�شتكي وال �أ�ستطي ُع �أن �أدور بيوتكن‪،‬‬
‫هلل‪s‬بني رجلني من‬ ‫فخرج ُ‬
‫ر�سول ا ِ‬ ‫فكنت يف بيت عائ�شة)‪ ،‬ف� ِأذنَّ له[�أحمد ‪َ ،]219/6‬‬ ‫نت �أذننت يل ُ‬ ‫ف�إن �شئ َّ‬
‫تخط قدماه الأر�ض حتى دخل بيت عائ�شة‪.‬‬ ‫�أه ِله عا�صب ًا ر� َأ�سه ُّ‬

‫ وك��ان عليه ال�صالة وال�سالم يخرج ل ُك ِّل �صالة ُي��ه��ا َدى بني ُّرجلني‪ ،‬حتى �صلى بهم املغرب فقر أ�‬
‫عكوف يف امل�سجد ينتظرون النبي‬ ‫ٌ‬ ‫بعدها‪ .‬فلما ح�ضرت �صالة الع�شاء والنا�س‬ ‫باملر�سالت‪ ،‬ثم َما �ص َّلى بهم َ‬
‫آخرة لي�ص ِّلي بهم قال‪�( :s‬أ�ص َّلى النا�س)‪ ،‬قيل‪ :‬ال هم ينتظرونك‪ .‬قال‪� :‬ضعوا يل‬ ‫‪s‬ل�صالة الع�شاء ال ِ‬ ‫خطبة جديدة‬
‫فاغت�س َل فذهب ل َينو َء ف�أُغمي عليه‪ ،‬ثم �أفاق الثانية فقال مثل ما قال يف الأوىل فل ّما اغت�سل‬
‫َ‬ ‫ما ًء يف امل َ‬
‫ِخ�ضب‪.‬‬
‫ذهب لينوء �أُغمي عليه‪ ،‬ثم �أفاق الثالثة فقال مثل ما قال يف الأوىل ف�أُغمي عليه‪ ،‬ثم �أفاق فقال‪�( :‬أ�ص َّلى‬
‫النا�س) قيل‪ :‬ال هم ينتظرونك يا ر�سول اهلل‪ ،‬ف�أر�سل النبي‪�s‬إىل �أبي بكر ب�أن ي�ص ِّلي بالنا�س‪ ،‬ف�أتاه بال ٌل‬
‫نف�سه من‬ ‫فقال‪� :‬إن ر�سول اهلل ‪s‬ي�أمرك �أن ت�صلي بالنا�س‪ .‬فقال �أبو بكر ‪-‬وكان رجال رقيق ًا ال ميلك َ‬
‫�صل بالنا�س‪ .‬فقال له عمر‪� :‬أنت �أحق بذلك‪ .‬ف�ص َّلى �أبو بكر تلك الأيام‪.‬‬ ‫البكاء‪ :-‬يا عم ُر ِّ‬

‫وع ُك ُ‬
‫فقلت‪ :‬يا َ‬
‫ر�سول‬ ‫هلل ‪s‬وهو ُي َ‬
‫ر�سول ا ِ‬
‫دخلت على ِ‬ ‫ ودخل عليه �أ�صحا ُبه يزورونه قال ابن م�سعود‪ُ :‬‬
‫وع ُك َر ُجالن ِمنكم)‪ .‬ودخل عليه �أبو �سعيد َ‬
‫فو�ض َع‬ ‫أوع ُك ك َما ُي َ‬ ‫ُوعك وع َك ًا َ�شديد ًا؟ قال‪ْ �( :‬‬
‫أجل �إين � َ‬ ‫إنك لت ُ‬
‫هلل � َ‬
‫ا ِ‬
‫َيده عليه‪ ،‬فوجد ح َّره من فوق القطيفة‪ ،‬فقال‪ :‬يا ر�سول اهلل ما �أ�ش َّدها عليك ؟‬

‫‪558‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬وفاة النبي‬

‫نف�سه خ َّف ًة عند �صالة الظهر‪ ،‬فخرج ُيها َدى بني العبا�س وعلي‪ ،‬قالت عائ�شة‪:‬‬ ‫ثم �إن ر�سول اهلل‪s‬وجد من ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ك�أين �أنظر �إىل رجليه تخطان الأر�ض من الوجع‪ .‬ف�أراد �أبو بكر �أن يت� َّأخ َر ف� َأوم�أ �إليه ُّ‬
‫النبي ‪� :s‬أنْ مكانك‪،‬‬
‫و�أمرهما فاجل�ساه �إىل جن ِبه‪ ،‬فجعل �أبو بكر ي�صلي قائم ًا ور�سول اهلل ي�صلي قاعد ًا‪ ،‬ي�صلي ب�صالة النبي‬
‫‪ ،s‬والنا�س يقتدون ب�أبي بكر‪.‬‬

‫أكلت‬
‫الطعام الذي � ُ‬
‫ِ‬ ‫بر�سول اهلل‪ s‬يوم اخلمي�س‪ ..‬وقال‪s‬لعائ�شة‪( :‬ما �أزال �أج ُد �أ َمل‬‫ ثم ا�شت َّد ال َو َج ُع ُ‬
‫ال�سم)‪.‬‬
‫هري من ذلك ُّ‬
‫بخيرب‪ ،‬فهذا �أوان انقطاع �أ ْب ِ‬

‫(ما فعلت الذهب)‪ ،‬فقالت‪ :‬هي عندي‪ ،‬قال‪ :‬ائتيني بها‬ ‫عنده ما ٌل جعله عند عائ�شة فقال لها‪َ :‬‬‫ وكان َ‬
‫حممد باهلل لو لقي اهلل عز وجل‬
‫ٍ‬ ‫(ما ظنُّ‬
‫فجئت بها وهي ما بني الت�سع �أو اخلم�س فو�ض َعها يف يده ثم قال‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫علي‪d‬فت�صدق بها [ابن حبان]‪.‬‬ ‫وهذه عنده �أنفقيها) [رواه �أحمد ‪ ]182/6‬فبعثت بها �إىل ٍّ‬

‫النبي‪�s‬سرت‬ ‫�صفوف يف �صال َة ال�صبح ُي�ص ِّلي بهم �أبو بكر َف َك َ�ش َف ّ‬
‫ٌ‬ ‫والنا�س‬
‫ُ‬ ‫ حتى �إذا كان يوم الإثنني‬
‫أن�س‪ :‬فهممنا �أن نفتنت من‬ ‫�ضحك‪ ،‬قال � ٌ‬‫تب�س َم َي َ‬ ‫حلجرة ينظر �إليهم وهو قائم ك�أن وج َهه ورق ُة ُم َ‬
‫�صحف‪ ،‬ثم َّ‬ ‫ا ُ‬
‫ال�صف‪ ،‬وظنَّ �أن النبي‪s‬خار ٌج �إىل ال�صَّ الة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الفرح بر�ؤية النبي‪ ،s‬فنك�ص �أبو بكر على َعقبيه ل َي َ‬
‫�صل‬
‫ف�أ�شار �إلينا النبي‪�s‬أن �أمتوا �صالتكم و�أرخى ال�سرت [البخاري]‪.‬‬

‫ قالت عائ�شة‪ :‬فتح ر�سول اهلل‪s‬باب ًا بينه وبني النا�س �أو ك�شف �سرت ًا ف�إذا النا�س ي�صلون وراء �أبي بكر‬
‫اهلل فيهم بالذي ر�آهم فقال‪( :‬ي�أيها النا�س �أميا‬ ‫�سن حالهم‪ ،‬ورجا َء �أن يخل َفه ُ‬ ‫فحمد اهلل على ما ر�أى من ُح ِ‬
‫أحد ِمن امل�ؤمنني �أُ�صيب مب�صيب ٍة فليت َع َّز مب�صيب ِته َّ‬
‫بي عن امل�صيب ِة التي ُت�صيبه بغريي‪ ،‬ف�إن �أحد ًا ِمن �أمتي‬ ‫� ٍ‬
‫�صاب مب�صيبة بعدي �أ�ش َّد عليه ِمن م�صيبتي)[ابن ماجه ‪]1599‬‬ ‫لن ُي َ‬

‫علي‪ d‬فلما خرج قال النا�س‪ :‬يا �أبا احل�سن كيف �أ�صبح ر�سول اهلل‪s‬؟ فقال‪� :‬أ�صبح‬ ‫ ودخل عليه ٌّ‬
‫هلل بارئ ًا‪ .‬ف�أخذ بيده العبا�س بن عبد املطلب فقال له‪( :‬و�إين واهلل لأرى َ‬
‫ر�سول اهلل‪�s‬سوف ُيتوفى‬ ‫بحمد ا ِ‬
‫ِ‬
‫ِمن وجعه هذا �إين لأعرف وجوه بني عبد املطلب عند املوت)‪ .‬ودخلت عليه فاطم ُة والنبي يتغ�شاه فقالت‪:‬‬
‫(واكرب �أباه) فقال لها‪( :‬لي�س على �أبيك كرب بعد اليوم)[البخاري ‪.]4193‬‬

‫مقعده ِمن اجلنة‬ ‫قط حتى َي َرى َ‬ ‫نبي ُّ‬


‫ قالت عائ�شة‪ :‬كان ر�سول اهلل‪s‬وهو َ�صحي ٌح يقول‪� :‬إنه مل ُيق َب�ضْ ٌّ‬
‫خي‪ ،‬فل َّما ا�شتكى وح�ض َره ال َقب�ض‪ ،‬ور�أ�سه على فخذي ُغ ِ�شي عليه‪ ،‬فل َّما �أفاق َ�ش َخ َ�ص ب�ص ُر ُه‬
‫ثم يحيا �أو ُي رَّ‬
‫فعرفت �أنه حديثه‬
‫ُ‬ ‫نحو �سقف البيت‪ ،‬ثم قال‪( :‬اللهم يف الرفيق الأعلى)‪ ،‬قالت عائ�ش ُة‪ُ :‬‬
‫فقلت‪� :‬إذا ال يجاو ُرنا‬
‫الذي كان يحدثنا وهو �صحيح[البخاري ‪]4173‬‬

‫‪559‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬وفاة النبي‬

‫ ودخل عبد الرحمن بن �أبي بكر على النبي‪s‬ومعه �سواك َرطب ي�ستاك به‪ ،‬وكان ر�سول اهلل‪s‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫يحب ال�سواك‪ ،‬فقلت‪� :‬آخذه لك‪ ،‬ف�أ�شار‬ ‫وعرفت �أنه ُّ‬
‫ُ‬ ‫م�سند ًا ر� َأ�سه �إىل �صدر عائ�شة قالت‪ :‬ف َر�أي ُت ُه ينظ ُر �إليه‪،‬‬
‫َ‬
‫ال�سواك‬ ‫بر� ِأ�سه �أن نعم‪ ،‬فتناولته فا�شت َّد عليه‪ ،‬وقالت‪� :‬ألينه لك ؟‪ ،‬ف�أ�شار بر�أ�سه �أن نعم‪ ،‬ف�أخذت عائ�ش ُة‬
‫نت ا�ستنان ًا‬ ‫أيت َ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬ا�س َّ‬ ‫نت به قالت‪ :‬فما ر� ُ‬‫فق�ض َمته ونف�ضته وطيبته ثم دفعته �إىل النبي‪s‬فا�س َّ‬ ‫َ‬
‫ر�سول اهلل‪َ s‬يثقل يف حجري[�أحمد ‪ )]26390‬فما َع َدا �أن فرغ ر�سول اهلل‬ ‫َ‬ ‫قط �أح�سن منه‪ ،‬قالت‪( :‬ووجدتُ‬ ‫ُّ‬
‫‪s‬من ال�سواك حتى رفع يده �أو �إ�صبعه ثم قال‪( :‬يف الرفيق الأعلى) ثالثا‪ ،‬حتى قب�ض ومالت يدُه‪ ،‬و�سقط‬
‫أطيب منها[�أحمد ‪ .)]219/6‬قالت عائ�شة‪� :‬إن ِمن نعم‬ ‫قط � َ‬ ‫نف�س ُه مل �أجد ريح ًا ُّ‬ ‫ال�سواك منه (فل َّما خرجت ُ‬
‫حري‪ ،‬و�أنّ َ‬
‫اهلل َج َم َع بني ِري ِقي وري ِقه عند موته‬ ‫حري و َن ِ‬ ‫اهلل �أن ر�سول اهلل‪s‬مات يف بيتي ويف يومي‪ ،‬وبني َ�س ِ‬
‫[البخاري ‪.]4184‬‬

‫فو�ضعت ر�أ�سه على‬


‫ُ‬ ‫رج ْت ِمن ِفيه ُنطف ٌة بارد ٌة فو َق َعت على َثغر ِة نحري فاق�شع َّر لها جلدي‪،‬‬
‫ قالت‪َ :‬و َخ َ‬
‫وجذبت �إ َّ‬
‫يل‬ ‫ُ‬ ‫ف�سجيته ثوب ًا‪ ،‬فجاء عم ُر واملغرية بن �شعبة فا�ست�أذنا ف� ُ‬
‫أذنت لهما‬ ‫وظننت �إنه ُغ�شي عليه َّ‬
‫ُ‬ ‫و�ساد ٍة‬
‫ر�سول اهلل‪ ،" s‬ثم قاما فلما َدنوا من الباب قال‬ ‫احلجاب‪ ،‬فنظر عم ُر �إليه فقال‪ " :‬و�أغ�شياه ما �أ�ش َّد َغ�شْ ي ِ‬
‫ر�سول اهلل‪s‬ال ميوت حتى‬ ‫املغرية‪ :‬يا عمر مات ر�سول اهلل‪ ،s‬قال‪ :‬كذبت بل �أنت رجل حتو�سك فتنة‪� ،‬إن َ‬
‫ُيف ِني اهلل عز وجل املنافقني‪( ،‬واهلل ال �أ�سمع �أحد ًا يذكر �أن النبي ُقب�ض �إال �ضربته ب�سيفي هذا‪ ،‬وكان النا�س‬
‫�أُميني مل يكن فيهم نبي ف�أم�سك النا�س)‪( ،‬فقالوا‪ :‬يا �سامل انطلق �إىل �صاحب ِ‬
‫ر�سول اهلل فادعه‪ ،‬وكان �أبو‬
‫أتيت �أبا بكر ده�ش ًا‪ ،‬ف�أخربته عن النبي وبقول عمر‪..‬‬
‫بكر يف العالية يبعد عند املدينة مي ًال‪ ،‬قال �سامل‪ :‬ف� ُ‬
‫فر�سه حتى دخل امل�سجد‪ ،‬وعمر ُيك ِّلم النا�س‪ ،‬فقال‪� :‬أيها النا�س �أفرجوا يل‪ ،‬ففرجوا‪،‬‬ ‫ف�أقبل �أبو بكر على ِ‬
‫ف�أتى عائ�ش َة فر َفعت احلجاب في َّمم النبي‪ s‬وك�شف عن وجهه ونظر �إليه فقال‪� :‬إنا هلل و�إنا �إليه راجعون‬
‫فح َد َر فاه‪ ،‬وق ّبل جبهته‪ ،‬ثم قال‪ :‬وا نبياه‪ ،‬وا�صفياه‪ ،‬واخلياله‬‫مات ر�سول اهلل‪ ،s‬ثم �أتاه من ِق َب ِل ر� ِأ�سه َ‬
‫طبت ح ّي ًا وميت ًا‪ ،‬والذي نف�سي بيده ال يجمع‬
‫مات ر�سول اهلل[�أحمد ‪ ،]219/6‬ب�أبي �أنت و�أمي يا ر�سول اهلل َ‬
‫اهلل عليك موتتني �أبدا‪� ،‬أما املوتة التي ُكتبت عليك فقد ِمتَّها‪ ،‬ثم غطى وجهه[البخاري]‪.‬‬

‫يخطب‬
‫ُ‬ ‫ر�سول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬فعلموا �أن قد �صدق‪ .‬وعم ُر‬ ‫ب�ض ُ‬ ‫ وخرج �إىل امل�سجد‪ ،‬فقال النا�س‪� :‬أ ُق َ‬
‫النا�س ويتك َّلم فقال �أبو بكر‪� :‬أيها احلالف على ر�س ِلك‪ ،‬ف�إن ر�سول اهلل قد مات‪ ،‬ف�أبى ُعمر �أن يجل�س‪ .‬ف�صعد‬
‫�أبو بكر املنرب فحمد اهلل و�أثنى عليه وت�شهد‪ ،‬وقال‪� :‬أ َّما بعد فمن كان يعبد اهلل ف�إن اهلل حي ال ميوت‪ ،‬ومن‬
‫كان يعبد حممد ًا ف�إن حممد ًا قد مات‪ ،‬و�إن اهلل عز وجل يقول‪�} :‬إِ َّن َك َم ِّي ٌت َو�إِ َّن ُهم َّم ِّي ُتونَ { } َو َما محُ َ َّم ٌد �إِالَّ‬
‫َر ُ�سو ٌل َق ْد َخ َل ْت ِمن َق ْب ِل ِه ال ُّر ُ�س ُل �أَ َف�إِن َّماتَ َ�أ ْو ُق ِت َل ان َق َل ْبت ُْم َع َلى َ�أ ْع َقا ِب ُك ْم َو َمن َين َق ِل ْب َع َل َى َع ِق َب ْي ِه َف َلن َي ُ�ض َّر هَّ َ‬
‫الل‬
‫الل ال�شَّ ِاك ِرينَ { َو َما َكانَ ِل َن ْف ٍ�س �أَنْ تمَ ُ وتَ ِ�إالَّ ِب ِ�إ ْذ ِن اهلل ِكتَا ًبا ُّم�ؤَ َّج ًال َو َمن ُي ِر ْد َث َو َ‬
‫اب ال ُّد ْن َيا ُن�ؤْ ِت ِه‬ ‫َ�ش ْي ًئا َو َ�س َي ْج ِزي هَّ ُ‬
‫اب ال ِآخ َر ِة ُن�ؤْ ِت ِه ِم ْن َها َو َ�س َن ْج ِزي ال�شَّ ِاك ِرينَ {‪.‬‬ ‫ِم ْن َها َو َمن ُي ِر ْد َث َو َ‬

‫‪560‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬وفاة النبي‬

‫ قال ابن عبا�س‪ :‬فواهلل لك�أن النا�س مل يعلموا �أن اهلل �أنزل هذه الآية حتى تالها �أبو بكر‪ ،‬فما ُ�سمع ب�ش ٌر‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫فعرفت �أنه احلق‪ ،‬فعقرتُ‬


‫ُ‬ ‫�سمعت �أبا بكر تالها‬
‫ُ‬ ‫من النا�س �إال يتلوها يومئذ‪ ،‬قال عمر‪ :‬واهلل ما هو �إال �أن‬
‫وعرفت حينئذ �أن ر�سول اهلل‪s‬قد مات‪ .‬ثم نزل �أبو بكر فن�شج‬ ‫ُ‬ ‫حتى ما تقلني رجالي‪ ،‬وهويت �إىل الأر�ض‪،‬‬
‫النا�س يبكون‪ ،‬و�أخذت املنافقني الك�آبة‪.‬‬

‫ر�سول اهلل من ثيابه كما جنرد موتانا‪،‬‬ ‫هلل ما ندري �أجنرد َ‬ ‫ فل َّما �أرادوا �أن يغ�سلوه اختلفوا فيه‪ ،‬فقالوا‪ :‬وا ِ‬
‫�أو نغ�سله وعليه ثيا ُبه ؟ ف�ألقى اهلل عليهم النوم حتى ما منهم رجل �إال ذقنه يف �صد ِره‪ ،‬ثم ك َّلمهم مك ِّل ٌم‬
‫علي‬
‫فغ�سله ٌّ‬‫من ناحية البيت ال يدرون من هو‪� :‬أن اغ�سلوا وعليه ثيا ُبه‪ .‬و�أمر �أبو بكر �أال يغ�سله �إال بنو �أبيه‪َّ ،‬‬
‫قمي�صه ي�صبون املاء فوق‬ ‫والف�ضل بن العبا�س‪ ،‬و�أ�سامة بن زيد‪ ،‬و�شقران موىل ر�سول اهلل‪ .‬فغ�سلوه وعليه ُ‬
‫القمي�ص ويدلكونه بالقمي�ص دون �أيديهم‪..‬‬

‫فجعلت �أنظر ما يكون من امليت فلم �أ َر �شيئ ًا وكان طيب ًا حي ًا وميت ًا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫غ�سلت ر�سول اهلل‪s‬‬
‫ُ‬ ‫قال علي‪:‬‬ ‫ ‬

‫وجعل ُم�س َّن َم ًا‪ ،‬فل َّما دُفن قالت‬


‫ ودُفن النبي‪s‬ليلة الإربعاء‪ ،‬ورفع ق ُربه من الأر�ض نحو ًا من �شرب‪ُ ،‬‬
‫فاطمة‪( :g‬يا �أن�س �أطابت �أنف�سكم �أن حتثوا على ر�سول اهلل‪ s‬الرتاب)‪ .‬وقالت �أم ل‪( :‬ما �ص ّدقت مبوت‬
‫ر�سول اهلل‪s‬حتى �سمعت �صوت الف�ؤو�س –�أي حتفر يف الأر�ض‪.)-‬‬

‫ قال �أن�س‪( :‬ملا كان اليوم الذي دخل فيه ر�سول اهلل‪s‬املدينة �أ�ضاء منها ك ُّل �شيء‪ ،‬فلما كان اليوم‬
‫الذي مات فيه �أظلم منها ك ُّل �شيء)‪.‬‬
‫روى الإمام مالك �أن النبي ‪s‬قال‪( :‬ل ُي َع ِّز امل�سلمني يف م�صائبهم امل�صيب ُة بي)‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫ احلمد هلل وكفى ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على من ال نبي بعده نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه ومن �سار على‬
‫نهجه واقتفى �أثره ومن ا�سنت ب�سنته واهتدى بدعوته �إىل يوم الدين‪� ،‬أما بعد عباد اهلل ؛ فاتقوا اهلل حق التقوى‬
‫ومت�سكوا بالإ�سالم بالعروة الوثقي‪ ،‬وعليكم باجلماعة ف�إن يد اهلل مع اجلماعة ‪ ،‬ومن �شذ �شذ يف النار‪ ،‬و اعلموا‬
‫عباد اهلل �أن خري الكالم كالم اهلل جل وعال ‪ ،‬وخري الهدي هدي حممد بن عبداهلل ر�سول اهلل ‪ ،s‬و�شر الأمور‬
‫حمدثاتها وكل حمدثة بدعة وكل بدعة �ضاللة وكل �ضاللة يف النار‪،‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪.‬‬

‫‪561‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬وفاة النبي‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪562‬‬
‫بدء خطبة جديدة‬
‫يأجوج ومأجوج‬ ‫عنوان الخطبة ‪ :‬يأجوج ومأجوج‬

‫الخطبة األوىل‪:‬‬
‫هلل من �شرو ِر �أ ْن ُف ِ�سنا و�سي َئ�آت � ْأعما ِلنا‪ ،‬من ي ْهد اهللُ‬‫هلل نحمدُه و ن�ستعين ُه ون�ستغفر ْه‪ ،‬ونعوذ با ِ‬ ‫ �إنّ احل ْم َد ِ‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫هادي َله‪ ،‬و�أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحد ُه ال �شريك َ َله‪ ،‬و�أ�شْ َه ُد �أنّ محُ ّمد ًا عبدُه‬ ‫فال م�ض َّل له ‪ ،‬ومنْ ُي�ض ِل ْل َفال َ‬
‫ا�س �إتقوا َر ّبكم‬ ‫أنتم ُم�سلمون‪ ،‬يا�أيها ال َّن ُ‬ ‫ور�سو ُله ‪ .s‬ي�أيها الذين �آمنو ‪ ،‬اتّقوا َ‬
‫اهلل حقَّ ُتقا ِته وال متوتنّ �إال و� ْ‬
‫وخلق ِم ْنها َز ْوجها وبثّ ِمن ُهما رجا ًال كثري ًا ون�سا ًء‪ ،‬واتّقو اهلل ال ّذي ُت�سا َءلون‬ ‫نف�س واحدة‪َ ،‬‬ ‫ال ّذي َخلق ُكم من ٍ‬
‫ِبه والإرحام‪� ،‬إنّ اهلل كان عليكم رقيب ًا‪ ،‬يا�أيها الذين �آمنو اتّقوا اهلل وقول ُوا قو ًال �سديد ًا ُي�ص ِل ْح ل ُك ْم �أعما َل ُك ْم‪،‬‬
‫قد فا َز َفوز ًا َعظيم َا‪.‬‬
‫وي ْغ ِفر َل ُك ْم ُذنو َب ُك ْم‪ ،‬ومنْ ُي ِط ِع اهلل و َر�سو َله َف ْ‬

‫�أما بعدُ عبا َد اهلل ‪:‬‬


‫اهلل هذه‬ ‫اهلل م�ؤذن ًة باقرتابها‪ ،‬و ُم�شعر ًة بدُن ِّوها؛ وقد جعل ُ‬ ‫��ارات جعلها ُ‬ ‫عالمات و�أم ٍ‬
‫ٍ‬ ‫لل�ساعة‬
‫ ف�إن َّ‬
‫العالمات نوعني؛ ُ�صغرى تتابعت ِمن مبعث النبي‪�s‬إىل وقتنا فريى الرائي ِمنها َما ُيذ ّكره باهلل و�آيا ِته؛‬
‫اط َها َف�أَ َّنى َل ُه ْم ِ�إ َذا َجاء ْت ُه ْم‬
‫ال�س َاع َة �أَن َت ْ�أ ِت َي ُهم َب ْغ َت ًة َف َق ْد َجاء �أَ�شْ َر ُ‬ ‫كما قال �سبحانه‪َ } :‬ف َه ْل َي ُ‬
‫نظ ُرونَ ِ�إالَّ َّ‬
‫ِذ ْك َراهُ ْم{‪.‬‬

‫عالمات ُكربى تكون يف �آخر الزمان ف�إذا َخ َر َج �أ ّولها تتابعت كما تتابع َخ َر َزاتُ ال ِعقد‬ ‫ٍ‬ ‫ وجعل �سبحانه‬
‫}حتَّى ِ�إ َذا ُف ِت َح ْت‬
‫أجوج وم�أجوج؛ قال اهلل تعاىل‪َ :‬‬‫روج ي� َ‬ ‫اهلل بها ُخ ُ‬ ‫�إذا ُح َّل‪ِ .‬ومن العالمات ال ُكربى التي �آذن ُ‬
‫وج َو َم ْ�أ ُج ُ‬
‫وج َوهُ م ِّمن ُك ِّل َح َد ٍب َي ِ‬
‫ن�س ُلونَ { َواقْترَ ََب ا ْل َو ْع ُد الحْ َ قُّ{‪.‬‬ ‫َي�أْ ُج ُ‬

‫ب�س وال�شَّ ك‪،‬‬ ‫يوم القيام ِة مبا ينج ِلي به ال َع َمى‪ ،‬ويت َِّ�ض ُح به ال َّل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ عباد اهلل! لقد خبرَّ نا اهلل عن عالمات ِ‬
‫حمب�سهم مع ذي القرنني عندما ا�شتكى �إليه النا�س‬ ‫اهلل عنهم �أنهم موجودون الآن �أحياء‪ ،‬و�أن �أ َّول ِ‬ ‫ف�أخربنا ُ‬
‫اهلل ببنا ِء َ�س ٍّد عليهم مينعهم من االختالط بالنا�س �إىل‬ ‫وظ ِلمهم‪ ،‬ف�أمره ُ‬ ‫ِمن �إف�سا ِدهم يف الأر�ض َو َع ْد ِوهم ُ‬
‫ال�س َّد ْي ِن َو َج َد ِمن دُو ِن ِه َما‬ ‫}حتَّى ِ�إ َذا َب َل َغ َبينْ َ َّ‬ ‫حني الأجل الذي ق�ضاه اهلل؛ قال جل وعال عن ذي القرنني‪َ :‬‬
‫وج ُم ْف ِ�سدُونَ فيِ الأَ ْر ِ�ض َف َه ْل نجَْ َع ُل َل َك‬ ‫وج َو َم�أْ ُج َ‬
‫َق ْو ًما الَّ َي َكادُونَ َي ْف َق ُهونَ َقو ًْال{ َقا ُلوا َيا َذا ا ْل َق ْر َنينْ ِ �إِنَّ َي�أْ ُج َ‬
‫ي َف�أَ ِعي ُنونيِ ِب ُق َّو ٍة �أَ ْج َع ْل َب ْي َن ُك ْم َو َب ْي َن ُه ْم‬‫َخ ْر ًجا َع َلى �أَن تجَْ َع َل َب ْي َن َنا َو َب ْي َن ُه ْم َ�س ًّدا{ َق َال َما َم َّك ِّني ِفي ِه َر ِّبي َخ رْ ٌ‬
‫خطبة جديدة‬

‫َر ْد ًما{�آ ُتونيِ ُز َب َر الحْ َ ِد ِيد َحتَّى �إِ َذا َ�سا َوى َبينْ َ ال�صَّ َد َفينْ ِ َق َال ان ُف ُخوا َحتَّى �إِ َذا َج َع َل ُه َنا ًرا َق َال �آ ُتونيِ �أُ ْف ِر ْغ َع َل ْي ِه‬
‫ا�ست ََط ُاعوا َل ُه َن ْق ًبا{ َق َال َه َذا َر ْح َم ٌة ِّمن َّر ِّبي َف ِ�إ َذا َجاء َو ْع ُد َر ِّبي َج َع َل ُه‬ ‫ا�س َط ُاعوا �أَن َي ْظ َه ُرو ُه َو َما ْ‬‫ِق ْط ًرا{ َف َما ْ‬
‫َد َّكاء َو َكانَ َو ْع ُد َر ِّبي َح ًّقا{‪.‬‬

‫ قد �أخربنا النبي‪s‬عن �صفتهم وهيئتهم �إخبار ًا جل ّي ًا؛ فهم من بني ال َب َ�شر من ذرية ٍ‬
‫نوح‪ ،a‬و�أنهم‬
‫ال�ش َعاف‪ ،‬من كل حدب ين�سلون ك�أن وجوههم املجان املطرقة[كما ثبت‬ ‫ا�ض ال ُوجوه‪�ِ ،‬صغا ُر ال ُعيون‪�ُ ،‬شهب ِّ‬
‫ِع َر ُ‬
‫عند �أحمد من حديث ابن حرملة عن خالته]‪ .‬و�أما ما ُيروى ِمن �أن �أحدهم يلتحف ب�أذن ويتو�سد الأخرى‬
‫ونحو ذلك من غرابة الهيئة وال�شكل؛ فكلُّه مما مل ي�صح عن النبي‪.s‬‬

‫كما �أخربنا‪s‬عن حا ِلهم اليوم وما يفعلون؛ ف�� َروى �أحمد عن �أب��ي هريرة‪�d‬أن النبي‪ s‬قال‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪563‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬يأجوج ومأجوج‬

‫ال�س َّد ُك َّل ٍ‬


‫يوم حتى �إذا َكادُوا َيرون ُ�شعا َع ال�شَّ م�س قال الذي عليهم ارجعوا‬ ‫أجوج وم�أجوج ل َيحفرون َّ‬ ‫(�إن ي� َ‬
‫ف�ستحفرونه غد ًا‪ ،‬ف َيعودُون �إليه ك�أ�ش َّد َما كان‪ ،‬حتى �إذا بلغت ُمد ُتهم و�أرا َد ُ‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫اهلل عز وجل �أن يبع َثهم �إىل‬
‫النا�س َح َف ُروا حتى �إذا َكادوا يرون �شعاع ال�شم�س قال الذي عليهم‪ :‬ارجعوا ف�ستحفرونه غد ًا �إن �شاء اهلل‪،‬‬ ‫َ‬
‫وي�ستثني‪ ،‬فيعودون �إليه وهو َكهيئته حني تركوه ف َيحفرونه ويخرجون على النا�س‪.) ..‬‬

‫ألف منهم‪ ،‬روى ال�شيخان عن �أبي �سعيد‬ ‫الكرث ِة مبكان ففي مقابل ُكل ٍ‬
‫واحد � ٌ‬ ‫أجوج من ِ‬
‫أجوج وم� ُ‬
‫ وي� ُ‬
‫اخلدري‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬إنَّ ِمنكم رج ًال ومن ي�أجوج وم�أجوج �ألف ًا)‪ ،‬و�أخرب النبي‪s‬عن قو ِة عتا ِدهم‬
‫و�سالحهم ال�شيء الكثري فروى ابن ماجه عن النوا�س بن �سمعان‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪�( :‬س ُيو ِق ُد امل�سلمون من‬
‫ق�سي ي�أجوج وم�أجوج ون�شابهم و�أتر�ستهم �سبع �سنني)‪.‬‬

‫وال�شدة‪ ،‬و�أنهم يخرجون‬ ‫رب ّ‬ ‫حينئذ الزر ُع والطعام‪ ،‬و َي�ضيقُ بالنا�س ال ُك ُ‬
‫ن�ش ُفونَ املياه ويق ُّل ٍ‬ ‫ و�أخرب �أنهم ُي ِ‬
‫يف زمن عي�سى بن مرمي بعد نزوله و َيف َنونَ يف حياته‪ ،‬روى م�سل ٌم يف ال�صحيح من حديث النوا�س بن �سمعان‬
‫نزول عي�سى بن مرمي وقتله له قال‪( :s‬فبينما عي�سى كذلك �إذ‬ ‫خروج الدجال‪ ،‬ثم َ‬ ‫النبي‪s‬ذكر َ‬ ‫‪�d‬أن َّ‬
‫أجوج‬
‫اهلل ي� َ‬‫الطور‪َ ،‬ويبعثُ ُ‬ ‫فح ِّر ْز ِعبادي �إىل ُّ‬ ‫أخرجت ِعباد ًا يل ال َي َدانَ ل ٍ‬
‫أحد بقتالهم‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫�أوحى ُ‬
‫اهلل �إليه �إين قد �‬
‫أجوج وهم من كل حدب ين�سلون‪ ،‬ف َي َم ُّر �أوائ ُلهم على بحرية َطربية ف َي�شربون َما فيها‪ ،‬ومي ُّر �آخ ُرهم‬ ‫َو َم� َ‬
‫خل َمر وهو جبل بيت املقد�س‪ ،‬ف َيقولون‪:‬‬ ‫جبل ا َ‬
‫فيقولون‪ :‬لقد كان بهذه مرة ماء‪ ،‬ثم َي�سريون حتى َينتهوا �إىل ِ‬
‫َ‬
‫ال�سماء‪ ،‬فري ُّد اهلل عليهم ن�شا َبهم‬ ‫لقد قتلنا َمن يف الأر�ض َه ُل َّم َفلنقت ُْل َمن يف ال�سماء رَفي ُمون بن�شابهم �إىل َّ‬
‫نبي اهلل‬
‫ح�ص ُر ُّ‬ ‫خم�ضوب ًة دم ًا [يف رواية عند �أحمد‪ :‬فيقولون قهرنا �أهل الأر�ض وعلونا �أهل ال�سماء]‪َ ،‬و ُي َ‬
‫هلل عي�سى‬‫نبي ا ِ‬
‫فريغب ُّ‬
‫ُ‬ ‫أحدكم اليوم‪،‬‬ ‫أحدهم خري ًا ِمن مائة دينار ل ِ‬ ‫عي�سى و�أ�صحا ُبه حتى يكون ر� ُأ�س الثور ل ِ‬
‫أجوج ال َّن َغ َف يف رقابهم (وهو دُو ٌد يكون يف �أنوف الإبل‬
‫اهلل على ي�أجوج وم� َ‬ ‫في�س ُل ُ‬ ‫و�أ�صحا ُبه �إىل اهلل بالدعاء‪ ،‬رُ‬
‫نبي اهلل عي�سى و�أ�صحا ُبه �إىل الأر�ض‬ ‫هبط ُّ‬‫نف�س واحد ٍة‪ ،‬ثم َي ُ‬
‫كموت ٍ‬ ‫والغنم)‪ ،‬ف ُي�صبحون َف ْر َ�سى (�أي قتلى) ِ‬
‫فال يجدون يف الأر�ض َمو�ض َع ِ�ش ٍرب �إال َملأه َز َه ُمهم ونت ُنهم[يف رواية يف امل�سند �أن النبي‪s‬قال‪ :‬والذي ُ‬
‫نف�س‬
‫أر�ض لت َْ�س ُمنُ ُ�شكر ًا ِمن ِ‬
‫حلومهم ودمائهم]‪.‬‬ ‫دواب ال ِ‬
‫بيده �إن َ‬ ‫حممد ِ‬
‫ٍ‬

‫اهلل ط�ير ًا ك�أعناق ال ُبخت فتحم ُلهم‬ ‫نبي اهلل عي�سى و�أ�صحابه �إىل اهلل فري�سل ُ‬ ‫ قال‪ :s‬فريغب ُّ‬
‫أر�ض حتى يرتكها‬ ‫فتطرحهم حيث �شاء اهلل‪ ،‬ثم ُير�س ُل اهلل مطر ًا ال ُي ِكنُّ منه ُ‬
‫بيت َم َد ٍر وال َو َبر ف َيغ�س ُل ال َ‬
‫كالزَ َل َفة (�أي كاملر�آة)‪ ،‬ثم ُيقال للأر�ض‪� :‬أنبتي ثمرت َِك‪ ،‬و ُردِّي بركت َِك ف ُيومئذ ت�أك ُل ال ُع َ�صاب ُة ِمن ال ُّرمان ِة‬
‫الفئام من‬
‫َ‬ ‫َو َي�ستظلون ب ِق ْح ِفها (�أي ق�شرها)‪ ،‬ويبارك يف ال ِّر ْ�سل (�أي ال َّلنب) حتى �أن ال َِّلقحة من ال ِإبل لتكفي‬
‫قحة ِمن الغنم لتكفي ال َف ِخذ من النا�س‪ ،‬فبينما هم‬ ‫النا�س‪ ،‬وال َّلقح ِة ِمن البقر لتكفي القبيل َة من النا�س‪ ،‬وال َّل َ‬
‫ؤمن و ُك ِّل م�سلم‪ ،‬و َيب َقى �شرا ُر ِ‬
‫النا�س‬ ‫روح ُك ِّل ُم� ٍ‬
‫كذلك �إذ بعث اهلل ريحا طيبة فت�أخذهم حتت �آباطهم فتقب�ض َ‬
‫ال�ساعة)‪.‬‬
‫حل ُمر فعليهم تقوم َّ‬‫يتهارجون فيها تهارج ا ُ‬

‫مبعا�شهم؛ ففي ال�صَّ حيح عن �أبي‬ ‫النا�س حلياتهم َّ‬


‫الطبيعي ِة و َين�شغلون ِ‬ ‫ وبعد خروجهم وهالكهم يعود ُ‬
‫البيت َول ُيعتمرنَّ بعد خروج ي�أجوج وم�أجوج)‪ ،‬ويف رواية خارج‬
‫�سعيد اخلدري‪�d‬أن النبي‪s‬قال‪( :‬ل ُي َح َّجنَّ ُ‬
‫ال�صحيح‪( :‬و َيغ ُر ُ�سونَ ال َّن ْخل)‪.‬‬
‫‪564‬‬
‫عنوان الخطبة ‪ :‬يأجوج ومأجوج‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫�سمعت ر�سول اهلل‪( :s‬يقول‬‫ُ‬ ‫ كما �أن املال يفي�ض يف �أيدي النا�س ويكرث فعن حارثة بن وهب‪d‬قال‪:‬‬
‫و�ش ُك الرجل مي�شي ب�صدقته فيقول الذي �أعطيها لو جئتنا بها بالأم�س قبلتها‪ ،‬ف�أما الآن فال‬
‫ت�ص َّد ُقوا ف ُي ِ‬
‫حاجة يل بها فال يجد من يقبلها)‪ .‬قال ُ�ش َّر ُاح احلديث‪ :‬و�سبب عدم قبولهم ال�صدقة يف �آخر الزمان هو‬
‫كرث ُة الأموال وظهور كنوز الأر�ض‪ ,‬وو�ضع الربكات فيها بعد هالك ي� َ‬
‫أجوج وم�أجوج‬

‫الخطبة الثانية ‪:‬‬

‫وحذرهم منهم‪ ،‬ففي ال�صحيح عن‬ ‫ عباد اهلل ! لقد خاف النبي‪s‬على �أُمته من فتنة ي�أجوج وم�أجوج‪َّ ،‬‬
‫زينب بنت جح�ش ‪� g‬أنها قالت ا�ستيقظ النبي‪ِ s‬من النوم حممر ًا وج ُه ُه يقول‪( :‬ال �إله �إال اهلل ويل للعرب‬
‫دم ي�أجوج وم�أجوج مثل هذه) وح َّلقَ ب�إ�صبعه ال ِ‬
‫إبهام والتي تليها قيل‪:‬‬ ‫من �شر قد اقرتب فتح اليوم من َر ِ‬
‫� ُ‬
‫أنهلك وفينا ال�صاحلون قال‪( :‬نعم �إذا كرث اخلبث)‪.‬‬

‫أقوام بعينهم‬ ‫أجوج‪ ،‬وتنزي َلها على � ٍ‬ ‫أجوج وم� َ‬ ‫والرجم بالغيب حماول َة الت�أ ُّول يف ق�ص ِة ي� َ‬ ‫ِ‬ ‫التخر�ص‬
‫ِ‬ ‫ �إن ِمن‬
‫يف هذا الزمان �أو ذاك‪ ،‬وقد �أخربنا النبي ‪�s‬أنهم �إ َمنا يخرجون بعد نزول عي�سى بن مرمي‪ ،‬و ُقبيل قيام‬
‫هلل من غري ت�أويل �أو تك ّل ٍف يف توجيهها‪َ .‬‬
‫}حتَّى ِ�إ َذا ُف ِت َح ْت‬ ‫ال�ساعة‪ ..‬فن�ؤمن بخ ِرب اهلل ور�سو ِله‪s‬على مراد ا ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫وج َوهُ م ِّمن ُك ِّل َح َد ٍب َي ِ‬
‫ن�س ُلونَ { َواقْترَ ََب ا ْل َو ْع ُد الحْ َ ُّق َف�إِ َذا ِه َي َ�ش ِاخ َ�ص ٌة �أ ْب َ�صا ُر ا َّل ِذينَ َك َف ُروا َيا‬ ‫ْ‬
‫وج َو َم�أ ُج ُ‬ ‫َي�أْ ُج ُ‬
‫َو ْي َل َنا َق ْد ُك َّنا فيِ َغ ْف َل ٍة ِّمنْ َه َذا َب ْل ُك َّنا َظالمِ ِنيَ{‪.‬‬

‫ثم �صلوا و�سلموا على من �أمركم اهلل بال�صالة وال�سالم عليه‪ ،‬فقال جل وعلى " �إن اهلل ومالئكته ي�صلون‬
‫على النبي يا �أيها الذين �آمنوا �صلوا عليه و�سلموا ت�سليم ًا"‪ ،‬اللهم �صلي و�سلم وزد وبارك على نبينا ور�سولنا‬
‫و�إمامنا وقدوتنا حممد بن عبداهلل‪ ،‬وعلى �آله الطيبني الطاهرين ‪ ،‬و�أزواجه �أمهات امل�ؤمنني‪،‬‬

‫اللهم وار�ض عن اخللفاء الأربعة �أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وعن باقي ال�صحابة يارب العاملني‪ ،‬اللهم‬
‫�أعز الإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬و�أذل ال�شرك وامل�شركني ‪ ،‬وان�صر اللهم من ن�صر الدين‪ ،‬اللهم �أبرم لهذ الأمة �أمة‬
‫الإ�سالم �أمر ًا يعز فيه �أهل طاعتك ويعافى فيه عن �أهل مع�صيتك وي�ؤمر فيه باملعروف ‪ ،‬وينهى فيه عن املنكر‬
‫يا�سميع الدعاء‪ ،‬اللهم �أمنا وامل�سلمني عامة يف �أوطاننا‪ ،‬وا�صلح ائمتنا ووالة �أمورنا ‪ ،‬اللهم وفق �إمامنا بتوفيقك‬
‫و�سدده بت�سديدك وا�صلح له بطانته يا رب العاملني‪.‬‬

‫اللهم ا�صرف عنا الغال والوباء والربا والزنا والزالزل واملحن ‪ ،‬و�سوء الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬عن‬
‫بلدنا هذا خا�صة وعن �سائر بالد امل�سلمني عامة يارب العاملني‪ ،‬اللهم اغفرلنا ولوالدينا وللم�سلمني وامل�سلمات‬
‫الأحياء منهم والأموات‪ ،‬عباد اهلل ‪� ،‬أقول ما ت�سمعون ‪ ،‬وا�ستغفر اهلل يل ولكم ول�سائر امل�ؤمنني‪ ،‬فا�ستغفروه �إنه‬
‫هو الغفور الرحيم ‪ ،‬و�أقم ال�صالة‪.‬‬

‫‪565‬‬
‫الفــــــهــــرس املوضوعي للخطب‬
‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫الفهرس املوضوعي للخطب‬
‫ ‬
‫مت ت�صنيف اخلطب وفق مو�ضوعات ‪ ،‬وذلك لت�سهيل الرجوع �إليها ‪،‬‬
‫وقد رتبت ح�سب املو�ضوع برتتيب �أبجدي‪ ،‬وهي كما يلي‪:‬‬

‫‪566‬‬
‫الفــــــهــــرس املوضوعي للخطب‬ ‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫ال�صفحة‬ ‫عنوان اخلطبة‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫ال�سري واملناقب‬
‫‪17‬‬ ‫�أوي�سالقرين‪......................................................................‬‬
‫‪201‬‬ ‫الدجال‪...........................................................................‬‬
‫‪241‬‬ ‫ال�صحابة‪.........................................................................‬‬
‫‪533‬‬ ‫لقمان‪............................................................................‬‬
‫ق�ص�ص وعرب‬
‫‪20‬‬ ‫ق�صة جمع القر�آن‪.................................................................‬‬
‫‪56‬‬ ‫ق�صة ق�ضاء داوود و�سليمان عليهم ال�سالم‪.........................................‬‬
‫‪344‬‬ ‫حديث �أم زرع‪....................................................................‬‬
‫‪349‬‬ ‫حديث الغار‪.....................................................................‬‬
‫‪352‬‬ ‫حديث ر�ؤيا النبي‪.................................................................‬‬
‫‪379‬‬ ‫حكم داود‪........................................................................‬‬
‫‪391‬‬ ‫ر�أيت �أ�صحاب ر�سول‪.............................................................‬‬
‫‪414‬‬ ‫�سليمان وال�شياطني‪...............................................................‬‬
‫‪439‬‬ ‫�شرح و�صية زكريا‪.................................................................‬‬
‫‪473‬‬ ‫عي�سى ابن مرمي‪..................................................................‬‬
‫‪485‬‬ ‫ق�صة �آدم‪........................................................................‬‬
‫‪488‬‬ ‫ق�صة �أ�صحاب الأخدود‪...........................................................‬‬
‫‪491‬‬ ‫ق�صة اخل�ضر‪.....................................................................‬‬
‫‪494‬‬ ‫ق�صة القرد‪.......................................................................‬‬
‫‪497‬‬ ‫ق�صة املزارع‪......................................................................‬‬
‫‪500‬‬ ‫ق�صة بر�صي�صا‪...................................................................‬‬
‫‪503‬‬ ‫ق�صةبلعام‪........................................................................‬‬
‫‪506‬‬ ‫ق�صة زكريا‪.......................................................................‬‬
‫‪509‬‬ ‫ق�صة قارون‪......................................................................‬‬
‫‪512‬‬ ‫ق�صة نوح‪........................................................................‬‬
‫‪515‬‬ ‫ق�صة يحيى ابن زكريا‪............................................................‬‬
‫‪524‬‬ ‫اليدري القاتل فيما قتل‪..........................................................‬‬
‫‪542‬‬ ‫مكانة الر�سول‪..................................................................‬‬
‫‪558‬‬ ‫وفاة النبي‪........................................................................‬‬
‫‪563‬‬ ‫ي�أجوج وم�أجوج‪...................................................................‬‬
‫احلقوق والواجبات‬
‫‪44‬‬ ‫اال�ستغناء عن النا�س‪..............................................................‬‬
‫‪65‬‬ ‫ال�شفاعة‪..........................................................................‬‬
‫‪71‬‬ ‫الو�صية‪...........................................................................‬‬
‫‪74‬‬ ‫�إعانة الأب ابنه على الرب‪.........................................................‬‬
‫‪151‬‬ ‫االقت�صاد يف املعي�شة‪..............................................................‬‬

‫‪567‬‬
‫الفــــــهــــرس املوضوعي للخطب‬ ‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫ال�صفحة‬ ‫عنوان اخلطبة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫‪206‬‬ ‫الدعاء للوالدين‪..................................................................‬‬
‫‪259‬‬ ‫الغربة عن الوطن‪.................................................................‬‬
‫‪411‬‬ ‫�سالمةال�صدر‪....................................................................‬‬
‫‪530‬‬ ‫لزوم اجلماعة‪....................................................................‬‬
‫‪536‬‬ ‫مقا�صد الزواج‪...................................................................‬‬
‫�أحكام فقهية‬
‫‪41‬‬ ‫�أحكامالركوع‪.....................................................................‬‬
‫‪47‬‬ ‫الزنا‪..............................................................................‬‬
‫‪80‬‬ ‫�أحاديث حذيفة يف املنافقني ‪.....................................................‬‬
‫‪247‬‬ ‫الطالق‪............................................................................‬‬
‫‪282‬‬ ‫القول على اهلل بغري علم‪..........................................................‬‬
‫‪288‬‬ ‫الكذب على النبي‪.................................................................‬‬
‫‪291‬‬ ‫الكذب‪............................................................................‬‬
‫‪297‬‬ ‫املحاربون هلل‪.....................................................................‬‬
‫‪305‬‬ ‫املطلقات‪..........................................................................‬‬
‫حقائق ومعلومات‬
‫‪53‬‬ ‫�شهر�شعبان‪.......................................................................‬‬
‫‪68‬‬ ‫الأمطارواملاء‪.....................................................................‬‬
‫‪98‬‬ ‫�أمرا�ض ال�شتاء (الزكام)‪.........................................................‬‬
‫‪118‬‬ ‫الأر�ض‪............................................................................‬‬
‫‪121‬‬ ‫الإ�سراء واملعراج‪.................................................................‬‬
‫‪154‬‬ ‫البعو�ض‪..........................................................................‬‬
‫‪163‬‬ ‫التدخني‪..........................................................................‬‬
‫‪180‬‬ ‫احلروال�صيف‪....................................................................‬‬
‫‪183‬‬ ‫احل�سبلة‪..........................................................................‬‬
‫‪189‬‬ ‫احلوقلة‪...........................................................................‬‬
‫‪195‬‬ ‫اخلوارج ‪........................................................................1‬‬
‫‪198‬‬ ‫اخلوارج ‪.......................................................................2‬‬
‫‪226‬‬ ‫الرياح‪.............................................................................‬‬
‫‪229‬‬ ‫الزالزلوالفي�ضانات‪..............................................................‬‬
‫‪235‬‬ ‫ال�سهر‪.............................................................................‬‬
‫‪279‬‬ ‫القنوات الف�ضائية‪................................................................‬‬
‫‪294‬‬ ‫اللغة العربية‪......................................................................‬‬
‫‪300‬‬ ‫املر�ضوالأوبئة‪....................................................................‬‬
‫‪320‬‬ ‫النحلة‪.............................................................................‬‬
‫‪329‬‬ ‫بناءالكعبة‪........................................................................‬‬

‫‪568‬‬
‫الفــــــهــــرس املوضوعي للخطب‬
‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫ال�صفحة‬ ‫عنوان اخلطبة‬


‫‪332‬‬ ‫بيعةالعقبة‪........................................................................‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫‪355‬‬ ‫حرمة الكعبة وامل�سلم‪.............................................................‬‬


‫‪382‬‬ ‫حول الأ�سهم‪......................................................................‬‬
‫‪464‬‬ ‫ظلالعر�ش‪........................................................................‬‬
‫ال�صفات والأخالق‬
‫‪23‬‬ ‫الإمعة‪.............................................................................‬‬
‫‪166‬‬ ‫التع�صبالقبلي‪...................................................................‬‬
‫‪171‬‬ ‫التفا�ؤل وال�ش�ؤم‪...................................................................‬‬
‫‪192‬‬ ‫احلياء‪............................................................................‬‬
‫‪388‬‬ ‫خريالنا�س‪........................................................................‬‬
‫‪394‬‬ ‫ر�سالة �إىل موظف‪................................................................‬‬
‫‪397‬‬ ‫ر�سالة للمعلم‪.....................................................................‬‬
‫‪417‬‬ ‫�سماهم يف وجوههم‪...............................................................‬‬
‫‪436‬‬ ‫�شرالنا�س‪.........................................................................‬‬
‫‪455‬‬ ‫�صالح الآباء‪......................................................................‬‬
‫‪458‬‬ ‫�صالح الزوجة‪....................................................................‬‬
‫‪461‬‬ ‫�صلة الرحم‪.......................................................................‬‬
‫‪476‬‬ ‫ف�ضلالبنت‪.......................................................................‬‬
‫‪482‬‬ ‫ف�ضل امل�سن‪.......................................................................‬‬
‫‪555‬‬ ‫وبنني �شهود ‪......................................................................‬‬
‫الذكر والعبادات‬
‫‪26‬‬ ‫الت�سبيح قبل النوم‪................................................................‬‬
‫‪87‬‬ ‫�أ�سماء اهلل احل�سنى ‪.............................................................‬‬
‫‪104‬‬ ‫�إن اهلل ي�أمر بالعدل والإح�سان‪....................................................‬‬
‫‪112‬‬ ‫ا�سم اهلل الأعظم‪.................................................................‬‬
‫‪127‬‬ ‫الإميان بالر�سل‪..................................................................‬‬
‫‪130‬‬ ‫الإميان بالق�ضاء والقدر‪..........................................................‬‬
‫‪133‬‬ ‫الإميانبالكتب‪....................................................................‬‬
‫‪136‬‬ ‫االبتداع يف الدين‪.................................................................‬‬
‫‪139‬‬ ‫اال�ستخارة‪.......................................................................‬‬
‫‪142‬‬ ‫اال�ست�شارة‪........................................................................‬‬
‫‪145‬‬ ‫االعتداء يف الدعاء‪................................................................‬‬
‫‪148‬‬ ‫االعرتافبالذنب‪.................................................................‬‬
‫‪157‬‬ ‫البكاء من خ�شية اهلل‪.............................................................‬‬
‫‪174‬‬ ‫الثناء على اهلل‪...................................................................‬‬
‫‪186‬‬ ‫احللم (يف رم�ضان)‪..............................................................‬‬
‫‪212‬‬ ‫الدعاء‪............................................................................‬‬

‫‪569‬‬
‫الفــــــهــــرس املوضوعي للخطب‬ ‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫ال�صفحة‬ ‫عنوان اخلطبة‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫‪238‬‬ ‫ال�شكوى هلل‪.......................................................................‬‬
‫‪244‬‬ ‫ال�صالة على النبي‪................................................................‬‬
‫‪268‬‬ ‫الفاحتة‪...........................................................................‬‬
‫‪358‬‬ ‫حفظالقر�آن‪......................................................................‬‬
‫‪385‬‬ ‫ختم الأعمال باال�ستغفار‪..........................................................‬‬
‫‪400‬‬ ‫رفع اليدين بالدعاء‪...............................................................‬‬
‫‪420‬‬ ‫�سورة الع�صر‪.....................................................................‬‬
‫‪425‬‬ ‫�سورةالغا�شية‪.....................................................................‬‬
‫‪430‬‬ ‫�سورة الكوثر‪......................................................................‬‬
‫‪433‬‬ ‫�سورة ي�س‪........................................................................‬‬
‫‪527‬‬ ‫لذة العبادة‪.......................................................................‬‬
‫املعامالت‬
‫‪29‬‬ ‫بركةاملال‪.........................................................................‬‬
‫‪32‬‬ ‫مطلاحلقوق‪......................................................................‬‬
‫‪85‬‬ ‫�آداب الطريق‪.....................................................................‬‬
‫‪83‬‬ ‫�أعظم النعم ونعمة الأمن ‪........................................................‬‬
‫‪90‬‬ ‫�إف�شاء ال�سر‪......................................................................‬‬
‫‪101‬‬ ‫الإعجاب بالنف�س‪.................................................................‬‬
‫‪124‬‬ ‫التخا�صم يف النار‪.................................................................‬‬
‫‪160‬‬ ‫الدعاء و�سالمة ال�صدر‪...........................................................‬‬
‫‪215‬‬ ‫ال َّدين‪.............................................................................‬‬
‫‪218‬‬ ‫الربيع �آداب ال�سفر‪................................................................‬‬
‫‪221‬‬ ‫الر�شوة‪............................................................................‬‬
‫‪232‬‬ ‫ال�سفرللخارج‪.....................................................................‬‬
‫‪250‬‬ ‫الع�شرة الزوجية‪..................................................................‬‬
‫‪253‬‬ ‫الع�ضل والعنو�سة‪.................................................................‬‬
‫‪256‬‬ ‫العني واحل�سد‪....................................................................‬‬
‫‪262‬‬ ‫الغالء‪.............................................................................‬‬
‫‪265‬‬ ‫الغيبة‪.............................................................................‬‬
‫‪271‬‬ ‫الف�ساد الإداري ‪................................................................1‬‬
‫‪276‬‬ ‫الف�ساد الإداري ‪................................................................2‬‬
‫‪285‬‬ ‫الكرب‪..............................................................................‬‬
‫‪308‬‬ ‫املظاهراالجتماعية‪...............................................................‬‬
‫‪311‬‬ ‫املغرم‪.............................................................................‬‬
‫‪326‬‬ ‫النهي عن اللعن‪...................................................................‬‬
‫‪335‬‬ ‫تعامل النبي مع خادمه‪............................................................‬‬
‫‪338‬‬ ‫توقري الكبري‪......................................................................‬‬

‫‪570‬‬
‫الفــــــهــــرس املوضوعي للخطب‬
‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫ال�صفحة‬ ‫عنوان اخلطبة‬


‫‪341‬‬ ‫حب امل�ساكني‪.....................................................................‬‬
‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫‪361‬‬ ‫حقوق الإن�سان‪....................................................................‬‬


‫‪364‬‬ ‫حقوق البنات‪.....................................................................‬‬
‫‪367‬‬ ‫حقوقاجلار‪.......................................................................‬‬
‫‪370‬‬ ‫حقوق الر�ضيع‪....................................................................‬‬
‫‪373‬‬ ‫حقوقالزوجني‪....................................................................‬‬
‫‪376‬‬ ‫حقوقالعمال‪......................................................................‬‬
‫‪408‬‬ ‫�سداد الدين وانظار املع�سر‪........................................................‬‬
‫‪518‬‬ ‫ق�ضاء احلاجات‪..................................................................‬‬
‫‪539‬‬ ‫مكاثرة املال‪......................................................................‬‬
‫الرتغيب والرتهيب‬
‫‪35‬‬ ‫�صوت النار و كالمها‪..............................................................‬‬
‫‪38‬‬ ‫الدورالثالثة‪......................................................................‬‬
‫‪50‬‬ ‫�أدنى �أهل اجلنة‪...................................................................‬‬
‫‪59‬‬ ‫العزم على الطاعة قبل رم�ضان‪....................................................‬‬
‫‪62‬‬ ‫االعت�صام بالكتاب وال�سنة ‪.......................................................‬‬
‫‪77‬‬ ‫ربنا ال جتعلنا فتنة‪................................................................‬‬
‫‪95‬‬ ‫�أمل ي�أن للذين �آمنوا‪...............................................................‬‬
‫‪107‬‬ ‫اخ�شو�شنوا‪........................................................................‬‬
‫‪115‬‬ ‫الأجر على املباحات‪.............................................................‬‬
‫‪177‬‬ ‫اجلنة‪.............................................................................‬‬
‫‪314‬‬ ‫املالئكة‪...........................................................................‬‬
‫‪317‬‬ ‫املوت‪..............................................................................‬‬
‫‪323‬‬ ‫النفخ يف ال�صور‪...................................................................‬‬
‫‪403‬‬ ‫زيادةالرزق‪.......................................................................‬‬
‫‪442‬‬ ‫�صفات املنافقني‪..................................................................‬‬
‫‪445‬‬ ‫�صفاتعبادالرحمن‪..............................................................‬‬
‫‪448‬‬ ‫�صفةالنار‪.........................................................................‬‬
‫‪451‬‬ ‫�صفةالنبي‪........................................................................‬‬
‫‪467‬‬ ‫عذابالقرب‪.......................................................................‬‬
‫‪470‬‬ ‫عقوقالوالدين‪....................................................................‬‬
‫‪479‬‬ ‫ف�ضل الرباط‪.....................................................................‬‬
‫‪521‬‬ ‫كالب النار‪.......................................................................‬‬
‫‪546‬‬ ‫من �أ�سمائه القيوم‪................................................................‬‬
‫‪549‬‬ ‫موت الفج�أة‪......................................................................‬‬
‫‪552‬‬ ‫نعيم اجلنة‪.......................................................................‬‬

‫‪571‬‬
‫سرية موجزة عن الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم الشويعر‬

‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬
‫ال�سالم بن حممد بن �سعد ال�شويعر‬‫•الإ�سم ‪ :‬عبد َّ‬ ‫ ‬
‫•امل�ؤهل ‪� :‬شهادة الدكتوراه يف (الفقه املقارن) من املعهد العايل للق�ضاء التابع جلامعة الإمام حممد بن‬ ‫ ‬
‫�سعود الإ�سالمية بالريا�ض‪ ،‬مبرتبة ال�شرف الأوىل‪.‬‬
‫•الدرجة العلمية‪� :‬أ�ستاذ دكتور‪.‬‬ ‫ ‬
‫•التخ�ص�ص العام‪ :‬ال�شريعة‪.‬‬ ‫ ‬
‫•التخ�ص�ص الدقيق‪ :‬الفقه املقارن‪.‬‬ ‫ ‬

‫الخربات البحثية‪ ،‬والعلمية‬


‫ • ُمد ِّر�س يف امل�سجد احلرام مبكة املكرمة‪ ،‬منذ عام ‪ 1433‬هـ يف التف�سري‪ ،‬واحلديث‪ ،‬والفقه‪ ،‬وغريها‪ ،‬وما‬
‫زال يف در�س �شهري‪.‬‬
‫ •التدري�س بعدد من اجلامعات والكليات يف اململكة‪.‬‬
‫ • التدري�س والإ�شراف على الر�سائل العلمية ومناق�شتها (�أكرث من ‪ 60‬ر�سالة)‪.‬‬

‫املؤلفات والبحوث املنشورة واملحكمة‬


‫‪1 .1‬التتبع لأوهام يحيى بن يحيى الليثي يف روايته ملوط�أ الإمام مالك‪.‬‬
‫‪2 .2‬االختالف الفقهي وتوظيفه م�صلحي ًا (حم ّكم) ‪.‬‬
‫‪3 .3‬امل�س�ؤولية اجلنائية لل�شخ�صية املعنوية يف الفقه الإ�سالمي (حم َّكم‪ ،‬ومن�شور) ‪.‬‬
‫‪�4 .4‬شخ�صية ال�شركات احلديثة يف الفقه الإ�سالمي و�آثارها‪ ،‬درا�سة مقارنة (حم َّكم) ‪.‬‬
‫املتغي (حمكم‪ /‬جممع الفقه الإ�سالمي)‪.‬‬ ‫بال�سعر رّ‬
‫‪5 .5‬التعاقد ّ‬
‫‪6 .6‬جرائم االعتداء على الأموال بوا�سطة التالعب بالأجهزة االلكرتونية (حم ّكم) ‪.‬‬
‫‪7 .7‬االعتداد بخالف الظاهرية يف الفروع الفقهية درا�سة ت�أ�صيلية (حم َّكم‪ ،‬ومن�شور)‬
‫ال�صفات الالزمة واملرجحة يف املفتني ‪( .‬حم َّكم‪ ،‬ومن�شور) ‪.‬‬‫‪ِّ 8 .8‬‬
‫‪9 .9‬التوقيت احلويل يف الزكاة وما يرتتب عليه من �آثار (حم َّكم‪ ،‬ومن�شور)‬
‫‪�1010‬أثر الت�أجيل يف �إ�سقاط زكاة الدين (حمكم ومن�شور‪ /‬جممع الفقه الإ�سالمي)‪.‬‬
‫‪1111‬ا�ستلحاق مقطوع الن�سب (حم ّكم ومن�شور‪/‬جممع الفقه الإ�سالمي)‪.‬‬
‫‪�1212‬شروط املُ�ساءلة عن اخلط�أ الطبي وبع�ض املبادئ الق�ضائية فيه (حمكم ومن�شور م�ؤمتر الفقه الثاين‪/‬‬
‫جامعة الإمام)‪.‬‬
‫‪1313‬طبيعة ملتزم التعوي�ض يف الفقه(حم َّكم) ‪.‬‬
‫ال�صلح يف العقود ودور ال�سلطة الق�ضائية والتنفيذية فيه (حمكم ومن�شور) ‪.‬‬‫‪ُّ 1414‬‬
‫‪1515‬عقد الكفالة وتطبيقاته احلديثة (حم َّكم ومن�شور) ‪.‬‬

‫‪572‬‬
‫عنوان الخطبة ‪:‬‬

‫‪1616‬القواعد واملعاين ال�شرعية لعمليات التجميل (حم ّكم ومن�شور) ‪.‬‬


‫مختارات من خطب الجمعة لفضيلة الشيخ األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

‫‪�1717‬شرح طهارة املري�ض و�صالته (مطبوع)‬


‫‪1818‬فقه �صوم املري�ض (مطبوع)‬
‫‪1919‬فقه حج املري�ض (مطبوع) ‪.‬‬
‫‪2020‬التي�سري يف احلج ر�ؤية فقهية مقارنة (حم ّكم ومن�شور باال�شرتاك) ‪.‬‬
‫‪2121‬البطاقات االئتمانية القر�ضية‪ ،‬والتعامل بها للأ�شخا�ص (من�شور)‪.‬‬
‫‪2222‬فقه املعامالت املالية ونظرية العقد (مذكرة تدري�سية)‪.‬‬
‫‪2323‬توكـيل البـنك بـذبح �أن�سـاك احلجيج (درا�سة ت�أ�صيلية تطبيقية على ال�شروط العقد ّية فيه) (حم ّكم‬
‫ومن�شور)‪.‬‬
‫‪2424‬ا�شرتاط فح�ص احلم�ض النووي لبع�ض الإجراءات الإدارية (حمكم ومن�شور)‪.‬‬
‫‪2525‬املتفق واملختلف من كنى الفقهاء (حم ّكم ومن�شور) ‪.‬‬
‫‪�2626‬أثر عمل املر�أة يف تقدير النفقة الزوجية (حمكم ومن�شور يف مركز التميز البحثي بجامعة الإمام)‬
‫‪2727‬ت�أثري اجلانب امل�صلحي يف تطبيق احلدود ال�شرع ّية‪ ،‬مع درا�سة بع�ض املبادئ الق�ضائية يف اململكة (حم ّكم‬
‫ومن�شور‪ /‬جامعة الإمام)‪.‬‬
‫‪�2828‬أحكام وليمة النكاح (مطبوع)‪.‬‬
‫‪2929‬حتقيق (كتاب البيان يف الفقه ال�شافعي) للعمراين‪.‬‬
‫‪3030‬حتقيق كتاب (خمت�صر يف فقه الإمام �أحمد‪ ،‬لأبي بكر خوقري املكي) (مطبوع)‪.‬‬
‫‪3131‬حتقيق (فروع الفقه) البن عبدالهادي (مطبوع)‪.‬‬
‫‪3232‬الفار�ضية يف الفرائ�ض على مذهب احلنابلة‪ ،‬ل�شم�س الدين الفار�ضي (حم َّكم ومن�شور)‪.‬‬
‫‪3333‬فتح الوهاب �شرح منظومة الآداب‪ ،‬لل�شيخ مو�سى احلجاوي احلنبلي (حمكم ومطبوع)‪.‬‬
‫‪3434‬حتقيق ق�صيدة املال عمران اللنجي الفار�سي (مطبوع مكتبة الر�شد)‪.‬‬
‫‪3535‬حتقيق‪ :‬ر�سالة يف جتريد �أقوال داود الظاهري من كتب احلنابلة ال�شهرية‪ ،‬حل�سن ال�شطي (مطبوع)‪.‬‬
‫‪�3636‬إ�صالح حلن امل�ؤذنني‪.‬‬

‫وغريها‪.‬‬

‫‪573‬‬
‫بحمد اهلل وفضله‬
‫مت الإنتهاء منه يوم اجلمعة ‪�/6‬شعبان‪1437/‬هـ‬
‫املوافق ‪2016/05/13‬م‪.‬‬
‫و�صلي اهلل علي �سيدنا حممد وعلى �آله و�صحبه و�سلم‬

‫املدينة املنورة‬
‫اململكة العربية ال�سعودية‬
‫مختارات من خطب الجمعة‬
‫التي أعدها و القاها فضيلة الشيخ‬

‫األستاذ الدكتور‬
‫عبدالسالم بن محمد الشويعر‬

You might also like