You are on page 1of 15

‫الباب الثالث‬

‫في الكناية وتعريفها وأنواعها‬

‫الكناية‪  ١‬لغة‪ :‬ما يتكلم به اإلنسان‪ ،‬ويريد به غيره‪ ،‬وهي مصدر كنيت‪ ،‬أو كنوت بكذا‪ ،‬إذا تركت التصريح‬
‫به‪.‬‬
‫واصطالحً ا‪ :‬لفظ أريد به غير معناه الذي وُ ضع له‪ ،‬مع جواز إرادة المعنى األصلي لعدم وجود قرينة مانعة‬
‫من إرادته‪ ،‬نحو‪« :‬زيد طويل النجاد» تريد بهذا التركيب أنه شجاع عظيم‪ ،‬فعدلت عن التصريح بهذه الصفة‬
‫إلى اإلشارة إليها بشيء تترتب عليه وتلزمه؛ ألنه يلزم من طول حمالة السيف طول صاحبه‪ ،‬ويلزم من‬
‫طول الجسم الشجاعة عادة‪ً ،‬‬
‫فإذ ا المراد طول قامته‪ ،‬وإن لم يكن له نجاد‪ ،‬ومع ذلك يصح أن يراد المعنى‬
‫الحقيقي‪ .‬ومن هنا يُعلم أن الفرق بين الكناية والمجاز صحة إرادة المعنى األصلي في الكناية دون المجاز‪،‬‬
‫فإنه ينافي ذلك‪.‬‬
‫ات َم ْط ِوي ٌ‬
‫َّات‬ ‫نعم‪ ،‬قد تمتنع إرادة المعنى األصلي في الكناية؛ لخصوص الموضوع‪ G‬كقوله تعالى‪َ  :‬وال َّس َم َاو ُ‬
‫ِب َيمِي ِن ِه‪ ‬وكقوله تعالى‪ :‬الرَّ حْ َمنُ َعلَى ْال َعرْ ِ‬
‫ش اسْ َت َوى‪ ‬كناية عن تمام القدرة‪ ،‬وقوة التمكن واالستيالء‪.‬‬
‫وتنقسم الكناية بحسب المعنى الذي ُتشير إليه إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫(‪)١‬‬ ‫‪‬‬
‫كناية عن صفة‪ ،‬كما تقول‪« :‬هو ربيب أبي الهول» تكني عن شدة كتمانه لسره‪ ،‬وتعرف كناية الصفة بذكر‬
‫ً‬
‫ملحوظا — من سياق الكالم‪.‬‬ ‫ً‬
‫ملفوظا أو‬ ‫الموصوف —‬
‫(‪)٢‬‬ ‫‪‬‬
‫كناية عن موصوف‪ ،‬كما تقول‪« :‬أبناء النيل» تكني عن المصريين و«مدينة النور» تكني عن باريس‪،‬‬
‫و ُت عرف بذكر الصفة مباشرة أو مالزمة‪ .‬ومنها قولهم‪« :‬تستغني مصر عن مصب النيل وال تستغني عن‬
‫منبعه» ك َّنوا بمنبع النيل عن أرض السودان‪.‬‬
‫ومنها قولهم‪« :‬هو حارس على ماله» كنوا به عن البخيل الذي يجمع ماله‪ ،‬وال ينتفع به‪.‬‬
‫ومنها قولهم‪« :‬هو ف ًتى رياضي» يكنون عن القوة؛ وهلم ًّ‬
‫جرا‪.‬‬
‫(‪)٣‬‬ ‫‪‬‬
‫كناية عن نسبه‪ ،‬وسيأتي الكالم عليها فيما بعد‪.‬‬
‫فالقسم األول‪ :‬وهو الكناية التي يطلب بها «صفة» هي ما كان المكنى عنه فيها صفة مالزمة‬ ‫‪‬‬
‫لموصوف مذكور في الكالم‪.‬‬
‫وهي نوعان‪:‬‬
‫(أ) كناية قريبة‪ :‬وهي ما يكون االنتقال فيها إلى المطلوب بغير واسطة بين المعنى المنتقل‬ ‫‪o‬‬
‫عنه والمعنى المنتقل إليه‪ ،‬نحو قول الخنساء في رثاء أخيها صخر‪:‬‬
‫رفيع العماد طويل النجا‬
‫‪ ‬‬
‫أمردا‪٢‬‬ ‫د ساد عشيرته‬
‫(ب) وكناية بعيدة‪ :‬وهي ما يكون االنتقال فيها إلى المطلوب بواسطة أو بوسائط‪ ،‬نحو‪:‬‬ ‫‪o‬‬
‫«فالن كثير الرماد» كناية عن المضياف‪ .‬والوسائط‪ :‬هي االنتقال من كثرة الرماد إلى كثرة اإلحراق‪ ،‬ومنها‬
‫إلى كثرة الطبخ والخبز‪ ،‬ومنها إلى كثرة الضيوف‪ ،‬ومنها إلى المطلوب وهو المِضياف الكريم‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬الكناية التي يكون المكني عنه موصو ًفا‪ G‬بحيث يكون إما مع ًنى واح ًدا «كموطن‬ ‫‪‬‬
‫األسرار» كناية عن القلب‪ ،‬وكما في قول الشاعر‪:‬‬
‫فلما شربناها ودب دبيبها‬
‫‪ ‬‬
‫إلى موطن األسرار قلت لها قفي‬
‫معان‪ ،‬كقولك‪« :‬جاءني حيٌّ مستوي القامة‪ ،‬عريض األظفار» (كناية عن اإلنسان) الختصاص‬
‫ٍ‬ ‫وإما مجموع‬
‫مجموع هذه األوصاف الثالثة به‪ .‬ونحو‪:‬‬

‫الضاربين‪ ٣‬بك ِّل أبيض مخذم‬


‫‪ ‬‬
‫األضغان ‪٤‬‬ ‫والطاعنين مجامع‬
‫ويشترط في هذه الكناية أن تكون الصفة أو الصفات مختصة بالموصوف‪ G،‬وال تتعداه؛ ليحصل االنتقال‪ G‬منها‬
‫إليه‪.‬‬

‫القسم الثالث‪ :‬الكناية التي يراد بها نسبة أمر آلخر — إثبا ًتا أو نفيًا — فيكون المكني عنه نسبة‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫أُسندت إلى ما له اتصال به‪ ،‬نحو قول الشاعر‪:‬‬
‫إن السماحة والمروءة والندى‬
‫‪ ‬‬
‫في قبة ضُربت على ابن الحشرج‬
‫فإن جعل هذه األشياء الثالثة في مكانه المختص به يستلزم إثباتها له‪.‬‬
‫والكناية المطلوب بها نسبة‪:‬‬
‫(أ)إما أن يكون ذو النسبة مذكورً ا فيها‪ ،‬كقول‪ G‬الشاعر‪:‬‬ ‫‪o‬‬
‫اليمن يتبع ظله‬
‫‪ ‬‬
‫والمجد يمشي في ركابه‬
‫(ب) وإما أن يكون ذو النسبة غير مذكور فيها‪ ،‬كقولك‪« :‬خير الناس من ينفع الناس» كناية‬ ‫‪o‬‬
‫عن نفي الخبرية عمن ال ينفعهم‪.‬‬
‫وتنقسم الكناية أي ً‬
‫ض ا باعتبار الوسائط «اللوازم» والسياق إلى أربعة أقسام‪ :‬تعريض‪ ،‬وتلويح‪ ،‬ورمز‪،‬‬
‫وإيماء‪.‬‬
‫(‪)١‬‬ ‫‪‬‬
‫فالتعريض لغة‪ :‬خالف التصريح‪.‬‬
‫واصطالحً ا‪ :‬هو أن يطلق الكالم‪ ،‬ويُشار به إلى مع ًنى آخر يفهم من السياق‪ ،‬نحو‪ :‬قولك للمؤذي‪« :‬المسلم‬
‫ضا بنفي صفة اإلسالم عن المؤذي‪ .‬وكقول الشاعر‪:‬‬ ‫من سلم المسلمون من لسانه ويده» تعري ً‬
‫إذا الجود لم يرزق خال ً‬
‫صا من األذى‬
‫‪ ‬‬
‫فال الحمد مكسوبًا وال المال باقيا‬
‫(‪)٢‬‬ ‫‪‬‬
‫والتلويح لغة‪ :‬أن تشير إلى غيرك من بعد‪.‬‬
‫واصطالحً ا‪ :‬هو الذي كثرت وسائطه بال تعريض‪ ،‬نحو‪:‬‬
‫وما يك فيَّ من عيب فإني‬
‫‪ ‬‬
‫جبان الكلب مهزول الفصيل‬
‫كنى عن كرم الممدوح بكونه جبان الكلب‪ ،‬مهزول الفصيل‪ ،‬فإنَّ الفكر ينتقل إلى جملة وسائط‪.‬‬
‫(‪)٣‬‬ ‫‪‬‬
‫والرمز لغة‪ :‬أن تشير إلى قريب منك خفية بنحو شفة أو حاجب‪.‬‬
‫واصطالحً ا‪ :‬هو الذي قلَّت وسائطه‪ ،‬مع خفاء في اللزوم بال تعريض‪ ،‬نحو‪« :‬فالن عريض القفا‪ ،‬أو عريض‬
‫الوسادة» كناية عن بالدته وبالهته‪ ،‬ونحو‪« :‬هو مكتنز اللحم» كناية عن شجاعته‪ ،‬و«متناسب األعضاء»‬
‫كناية عن ذكائه‪ ،‬ونحو‪« :‬غليظ الكبد» كناية عن القسوة؛ وهلم ًّ‬
‫جرا‪.‬‬
‫واإليماء أو اإلشارة‪ :‬هو الذي قلَّت وسائطه‪ ،‬مع وضوح اللزوم بال تعريض‪ ،‬كقول‪ G‬الشاعر‪:‬‬
‫أَ َوما رأيت المجد ألقى رحله‬
‫‪ ‬‬
‫في آل طلحة ث َّم لم يتحول‬
‫كناية عن كونهم أمجا ًدا أجوا ًدا بغاية الوضوح‪.‬‬
‫ومن لطيف ذلك قول بعضهم‪:‬‬
‫سألت الندى والجود ما لي أراكما‬
‫‪ ‬‬
‫تب َّد ْل ُتما ذاًّل بع ٍِّز مُؤ َّب ِد‬
‫وما بال ركن المجد أمسى مه َّدما‬
‫‪ ‬‬
‫فقاال‪ :‬أُصبنا بابن يحيى محم ِد‬
‫فقلت‪ :‬فهاَّل ِم ُّتما عند موته‬
‫‪ ‬‬
‫فقد كنتما عبدَ يْه في كل َم ْشه ِد‬
‫فقاال‪ :‬أقمنا كي َّ‬
‫نعزى بفقده‬
‫‪ ‬‬
‫مسافة يوم ثم نتلوه في َغ ِد‬
‫والكناية من ألطف أساليب البالغة وأدقها‪ ،‬وهي أبلغ من الحقيقة والتصريح؛ ألن االنتقال‪ G‬فيها يكون من‬
‫الملزوم إلى الالزم‪ ،‬فهو كالدعوى ببينة‪ ،‬فكأنك تقول في‪« :‬زيد كثير الرماد» زيد كريم؛ ألنه كثير الرماد‪،‬‬
‫وكثرته تستلزم كذا … إلخ‪.‬‬
‫كيف ال وأنها تمكن اإلنسان من التعبير عن أمور كثيرة‪ ،‬يتحاشى اإلفصاح بذكرها‪ ،‬إما احترامًا للمخاطب أو‬
‫لإلبهام على السامعين‪ ،‬أو للنيل من خصمه‪ ،‬دون أن يدع له سبياًل عليه‪ ،‬أو لتنزيه األذن عما تنبو عن‬
‫سماعه‪ ،‬ونحو ذلك من األغراض واللطائف البالغية‪.‬‬

‫تمرين‬
‫بيِّن أنواع الكنايات اآلتية‪ ،‬وعيِّن الزم معنى كل منها‪:‬‬
‫(‪)١‬‬ ‫‪‬‬
‫قال البحتري يصف قتله ذئبًا‪:‬‬
‫فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها‬
‫‪ ‬‬
‫بحيث يكون اللب والرعب والحقد‬
‫(‪)٢‬‬ ‫‪‬‬
‫وقال آخر في رثاء من مات بعلة في صدره‪:‬‬
‫ودبت له في موطن الحلم علة‬
‫‪ ‬‬
‫لها كالصالل الرقش شر دبيب‬
‫(‪)٣‬‬ ‫‪‬‬
‫ووصف أعرابي امرأة‪ ،‬فقال‪« :‬ترخي ذيلها على عرقو َبيْ نعامة‪».‬‬
‫ونحو‪:‬‬
‫ضربت سرادقها المهابة فوقه‬
‫‪ ‬‬
‫فإذا بدا بادت به األعداء‬
‫ونحو‪:‬‬
‫إن الذي مأل اللغات محاس ًنا‬
‫‪ ‬‬
‫جعل الجمال وسره في الضاد‬
‫ونحو‪:‬‬
‫بنى المجد بي ًتا فاستقر عماده‬
‫‪ ‬‬
‫علينا فأعيا الناس أن يتحوال‬

‫إن ثوبك الذي المجد فيه‬


‫‪ ‬‬
‫لضياء يزري بكل ضياء‬
‫(‪ ) ١‬ضمير أتبعتها يعود على الطعنة‪ .‬وأضللت‪ :‬أخفيت‪ .‬والنصل‪ :‬حديدة السيف‪ .‬واللب والرعب‪ :‬الفزع‬
‫والخوف‪.‬‬
‫واعلم أن الكناية‪ :‬إما حسنة‪ :‬وهي ما جمعت بين الفائدة ولطف اإلشارة‪ ،‬كما في األمثلة السابقة‪ .‬وإما قبيحة‪:‬‬
‫وهي ما خلت عن الفائدة المرادة‪ ،‬وهي معيبة لدى أرباب البيان‪ ،‬كقول المتنبي‪:‬‬

‫إني على شغفي بما في خمرها‬


‫‪ ‬‬
‫ألعف عما في سراويالتها‬
‫كناية عن النزاهة والعفة‪ ،‬إال أنها قبيحة؛ لسوء تأليفها‪ ،‬وقبح تركيبها‪.‬‬
‫(‪ ) ٢‬الصاللي‪ :‬جمع صل بالكسر‪ ،‬ضرب من الحيات صغير أسود‪ ،‬ال نجاة من لدغته‪ .‬والرقش‪ :‬جمع‬
‫رقشاء‪ ،‬وهي التي فيها نقط سوداء في بياض‪ ،‬والحية الرقشاء من أشد الحيات إيذاء‪.‬‬

‫تمرين آخر‬
‫بيِّن أنواع الكنايات اآلتية‪ ،‬وبيِّن منها ما يصح فيه إرادة المعنى المفهوم من صريح اللفظ‪ ،‬وما ال يصح‪:‬‬
‫(‪ )١‬وصف أعرابي رجاًل بسوء العشرة فقال‪ :‬كان إذا رآني قرب من حاجب حاجبًا‪.‬‬
‫(‪ )٢‬وقال أبو نواس في المديح‪:‬‬

‫فما جازه جود وال حل دونه‬


‫‪ ‬‬
‫ولكن يسير الجود حيث يسير‬
‫(‪ ) ٣‬وتكني العرب عمن يجاهر غيره بالعداوة بقولهم‪« :‬لبس له جلد النمر‪ ،‬وجلد األرقم‪ ٥،‬وقلب له ظهر‬
‫المجن‪٦».‬‬

‫القفا‪٨.‬‬ ‫(‪ )٤‬فالن عريض الوساد‪ ٧‬أغ ُّم‬

‫(‪ )٥‬تجول خالخيل النساء وال أرى‬


‫‪ ‬‬
‫قُ ْل َبا‪٩‬‬ ‫لرملة خلخااًل يجول وال‬
‫(‪ )٦‬وتقول‪ G‬العرب في المديح‪ :‬الكرم في أثناء حلته‪ ،‬ويقولون‪« :‬فالن نفخ شدقيه»؛ أي‪ :‬تكبر‪ ،‬و«ورم أنفه»‬
‫إذا غضب‪.‬‬
‫الجرذان‪١٠.‬‬ ‫(‪ )٧‬قالت أعرابية لبعض الوالة‪ :‬أشكو إليك قلة‬

‫(‪ )٨‬بيض المطابخ ال تشكو إماؤهم‬


‫‪ ‬‬
‫طبخ القدور وال غسل المناديل‬

‫(‪ )٩‬مطبخ داود في نظافته‬


‫‪ ‬‬
‫بلقيس ‪١١‬‬ ‫أشبه شيء بعرش‬
‫ثياب طبَّاخه إذا اتسخت‬
‫‪ ‬‬
‫أنقى بيا ً‬
‫ضا من القراطيس‬

‫(‪ )١٠‬ف ًتى مختصر المأكو‬


‫‪ ‬‬
‫ل والمشروب والعطر‬
‫نقي الكأس والقصـ‬
‫‪ ‬‬
‫ـة والمنديل والقدر‬

‫(‪ )١١‬اليمن يتبع ظله‬


‫‪ ‬‬
‫والمجد يمشي في ركابه‬

‫(‪ )١٢‬أصبح في قيدك السماحة والمجد‬


‫‪ ‬‬
‫وفضل الصالح والحسب‬

‫(‪ )١٣‬فلسنا على األعقاب تدمى كلومنا‬


‫‪ ‬‬
‫الدما‪١٢‬‬ ‫ولكن على أقدامنا تقطر‬
‫المجد بين ثوبيك‪ ،‬والكرم ملء برديك‪.‬‬

‫(‪ )١‬بالغة الكناية‬


‫الكناية مظهر من مظاهر البالغة‪ ،‬وغاية ال يصل إليها إال من لطف طبعه‪ ،‬وصفت قريحته‪ ،‬و«السر في‬
‫بالغتها» أنها في صور كثيرة تعطيك الحقيقة مصحوبة بدليلها‪ ،‬والقضية وفي طيها بُرهائها‪ ،‬كقول البحتري‬
‫في المديح‪:‬‬

‫يغضون فضل اللحظ من حيث ما بدا‬


‫‪ ‬‬
‫لهم عن مهيب في الصدور محبب‬
‫فإنه كنى عن إكبار الناس للممدوح‪ ،‬وهيبتهم إياه — بغض األبصار الذي هو في الحقيقة برهان على الهيبة‬
‫واإلجالل‪ ،‬وتظهر هذه الخاصة جلية في الكنايات عن الصفة والنسبة‪.‬‬
‫ومن أسباب بالغة الكنايات أنها تضع لك المعاني في صورة المحسوسات‪ ،‬وال شك أن هذه خاصة الفنون‪،‬‬
‫بهرك‪ ،‬وجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه واضحً ا‬
‫فإن المصور إذا رسم لك صورة لألمل أو لليأس َ‬
‫ملموسًا‪.‬‬
‫فمثل‪« :‬كثير الرماد» في الكناية عن الكرم‪ ،‬و«رسول الشر» في الكناية عن المزاح‪.‬‬
‫وقول البحتري‪:‬‬

‫أَ َوما رأيت المجد ألقى رحله‬


‫‪ ‬‬
‫يتحول‬
‫َّ‬ ‫في آل طلحة ثم لم‬
‫وذلك في الكناية عن نسبة الشرف إلى آل طلحة‪.‬‬
‫كل أولئك يبرز لك المعاني في صورة تشاهدها‪ ،‬وترتاح نفسك إليها‪.‬‬
‫ومن خواص الكناية أنها تمكنك من أن تشفي غلتك من خصمك من غير أن تجعل له إليك سبياًل ‪ ،‬ودون أن‬
‫تخدش وجه األدب‪ ،‬وهذا النوع يُسمى بالتعريض‪.‬‬
‫ومثاله قول المتنبي في قصيدة يمدح بها كافورً ا‪ ،‬ويعرِّ ض بسيف الدولة‪:‬‬

‫ُ‬
‫رحلت فكم باكٍ بأجفان شادن‬
‫‪ ‬‬
‫ضيغم‪١٣‬‬ ‫عليَّ وكم باكٍ بأجفان‬
‫وما ربة القُرط المليح مكانه‬
‫‪ ‬‬
‫المصمم‪١٤‬‬ ‫بأجزع من رب الحسام‬
‫فلو كان ما بي من حبيب مقنع‬
‫‪ ‬‬
‫عذرت ولكن من حبيب معمَّم‬
‫رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى‬
‫‪ ‬‬
‫هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي‬
‫إذا ساء فع ُل المرء ساءت ظنونه‬
‫‪ ‬‬
‫وص َّد َق ما يعتاده من توهم‬
‫َ‬
‫فإنه كنى عن سيف الدولة أواًل بالحبيب المعمم‪ ،‬ثم وصفه بالغدر الذي يدعي أنه من شيمة النساء‪ ،‬ثم المه‬
‫على مبادهته بالعدوان‪ ،‬ثم رماه بالجبن؛ ألنه يرمي ويتقي‪ G‬الرمي باالستتار خلف غيره‪ .‬على أن المتنبي ال‬
‫يُجازيه على الشر بمثله؛ ألنه ال يزال يحمل له بين جوانحه ً‬
‫هوى قديمًا‪ ،‬يكسر كفه وقوسه وأسهمه إذا حاول‬
‫النضال‪.‬‬
‫ثم وصفه بأنه سيئ الظن بأصدقائه؛ ألنه سيئ الفعل‪ ،‬كثير األوهام والظنون‪ ،‬حتى ليظن أن الناس جميعًا‬
‫مثله في سوء الفعل‪ ،‬وضعف الوفاء‪ ،‬فانظر كيف نال المتنبي من سيف الدولة هذا النيل كله‪ ،‬من غير أن‬
‫يذكر من اسمه حر ًفا‪.‬‬
‫هذا؛ ومن أوضح مميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تسيغ اآلذان سماعه‪ ،‬وأمثلة ذلك كثيرة ج ًّدا في‬
‫القرآن الكريم وكالم العرب؛ فقد كانوا ال يعبرون عما ال يحسن ذكره إال بالكناية‪ ،‬وكانوا لشدة نخوتهم يكنون‬
‫عن المرأة ﺑ «البيضة‪ ،‬والشاة»‪.‬‬
‫ومن بدائع الكنايات قول بعض العرب‪:‬‬

‫أال يا نخلة من ذات عرق‬


‫‪ ‬‬
‫السالم‪١٥‬‬ ‫عليك ورحمة هللا‬
‫فإننه كنى بالنخلة عن المرأة التي يحبها‪( .‬عن البالغة الواضحة بتصرف)‬

‫(‪ )١-١‬أثر علم البيان في تأدية المعاني‬


‫ظهر لك من دراسة علم البيان أن مع ًنى واح ًد ا يستطاع أداؤه بأساليب عدة‪ ،‬وطرائق مختلفة‪ ،‬وأنه قد يُوضع‬
‫في صورة رائعة من صور التشبيه أو االستعارة‪ ،‬أو المجاز المرسل‪ ،‬أو المجاز العقلي‪ ،‬أو الكناية؛ فقد‬
‫يصف الشاعر إنسا ًنا بالكرم‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫يريد الملوك مدى جعفر‬


‫‪ ‬‬
‫وال يصنعون كما يصنع‬
‫وليس بأوسعهم في الغنى‬
‫‪ ‬‬
‫ولكنَّ معروفه أوسع‬
‫وهذا كالم بليغ ج ًّد ا‪ ،‬مع أنه لم يقصد فيه إلى تشبيه أو مجاز‪ ،‬وقد وصف الشاعر فيه ممدوحه بالكرم‪ ،‬وأن‬
‫الملوك يريدون أن يبلغوا منزلته‪ ،‬ولكنهم ال يشترون الحمد بالمال كما يفعل‪ ،‬مع أنه ليس بأغنى منهم‪ ،‬وال‬
‫بأكثر مااًل ‪.‬‬
‫وقد يعتمد الشاعر عند الوصف بالكريم إلى أسلوب آخر‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫كالبحر يقذف للقريب جواهرً ا‬


‫‪ ‬‬
‫جو ًدا ويبعث للبعيد سحائبا‬
‫فيشبه الممدوح بالبحر‪ ،‬ويدفع بخيالك إلى أن يضاهي بين الممدوح والبحر الذي يقذف الدرر للقريب‪،‬‬
‫ويرسل السحائب للبعيد‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫هو البحر من أي النواحي أتيته‬


‫‪ ‬‬
‫فلجته المعروف والجود ساحله‬
‫فيدعي أنه البحر نفسه‪ ،‬وينكر التشبيه نكرا ًنا يدل على المبالغة‪ ،‬وادعاء المماثلة الكاملة‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬
‫عال فما يستقر المال في يده‬
‫‪ ‬‬
‫وكيف تمسك ماء قنة الجبل؟‬
‫فيرسل إليك التشبيه من طريق خفي؛ ليرتفع الكالم إلى مرتبة أعلى في البالغة‪ ،‬وليجعل لك من «التشبيه‬
‫الضمني» دلياًل على دعواه‪ ،‬فإنه ادعى أنه لعلو منزلته ينحدر المال من يديه‪ ،‬وأقام على ذلك برها ًنا‪.‬‬
‫فقال‪« :‬وكيف تمسك ماء قنة الجبل؟»‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫جرى النهر حتى خلته منك أن ُعمًا‬


‫‪ ‬‬
‫منٍّ ‪١٦‬‬ ‫ُتساق بال ضنٍّ و ُت َ‬
‫عطى بال‬
‫فيقلب التشبيه؛ زيادة في المبالغة‪ ،‬وافتتا ًن ا في أساليب اإلجادة‪ ،‬ويشبه ماء النهر بنعم الممدوح بعد أن كان‬
‫المألوف أن ُتشبه النعم بالنهر الفياض‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫كأنه حين يعطي المال مبتسمًا‬


‫‪ ‬‬
‫تأتلق‪١٧‬‬ ‫صوب الغمامة تهمي وهي‬
‫فيعمد إلى التشبيه المركب‪ ،‬ويعطيك صورة رائعة‪ ،‬تمثل لك حالة الممدح وهو يجود‪ ،‬وابتسامة السرور تعلو‬
‫شفتيه‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫جادت يد الفتح واألنداء باخلة‬


‫‪ ‬‬
‫وذاب نائله والغيث قد جمدا‬
‫فيضاهي بين جود الممدوح والمطر‪ ،‬ويدعي أنَّ كرم ممدوحه ال ينقطع إذا انقطعت األنواء‪ ،‬أو جمد القطر‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫قد قلت للغيم الركام ولَ َّج في‬


‫‪ ‬‬
‫إرعاده‪١٨‬‬ ‫إبراقه وأل َّح في‬
‫ال تعرضن لجعفر متشبهًا‬
‫‪ ‬‬
‫بندى يديه فلست من أنداده‬
‫فيصرح لك في جالء‪ ،‬وفي غير خشية — بتفضيل جود صاحبه على جود الغيم‪ ،‬وال يكتفي بهذا‪ ،‬بل تراه‬
‫ينهى السحاب في صورة تهديد أن يحاول التشبه بممدوحه؛ ألنه ليس من أمثاله ونظرائه‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫وأقبل يمشي في البساط فما درى‬


‫‪ ‬‬
‫إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي‬
‫يصف حال رسول الروم داخاًل على سيف الدولة‪ ،‬فينزع في وصف الممدوح بالكرم‪ ،‬إلى االستعارة‬
‫التصريحية‪ ،‬واالستعارة كما علمت مبنية على تناسي التشبيه‪ ،‬والمبالغة فيها أعظم‪ ،‬وأثرها في النفوس أبلغ‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫دعوت نداه دعوة فأجابني‬


‫‪ ‬‬
‫وعلَّمني إحسانه كيف آمله‬
‫فيشبِّه ندى ممدوحه وإحسانه «بإنسان» ثم يحذف المشبه به‪ ،‬ويرمز إليه بشيء من لوازمه‪ ،‬وهذا ضرب‬
‫آخر من ضروب المبالغة التي ُتساق االستعارة ألجلها‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫ومن قصد البحر استقل السواقيا‬


‫فيرسل العبارة كأنها مثل‪ ،‬ويصوِّ ر لك أنَّ من قصد ممدوحه استغنى عمَّن هو دونه‪ ،‬كما أنَّ قاصد البحر ال‬
‫يأبه للجداول‪ ،‬فيعطيك استعارة تمثيلية لها روعة‪ ،‬وفيها جمال‪ ،‬وهي فوق ذلك تحمل برها ًنا على صدق‬
‫دعواه‪ ،‬وتؤيِّد الحال الذي ي َّدعيها‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫ما زلت تتبع ما ُتولي ي ًدا بيد‬


‫‪ ‬‬
‫حتى ظننت حياتي من أياديكا‬
‫فيعدل عن التشبيه واالستعارة إلى «المجاز المرسل» ويطلق كلمة «يد» ويريد بها النعمة؛ ألن اليد آلة النعم‬
‫وسببها‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫أعاد يومك أيامي لنضرتها‬


‫‪ ‬‬
‫واقتصَّ جودك من فقري وإعساري‬
‫فيسند الفعل إلى اليوم وإلى الجود على طريقة المجاز العقلي‪.‬‬
‫أو يقول‪:‬‬

‫ما َ‬
‫جازه جود وال ح َّل دونه‬
‫‪ ‬‬
‫ولكن يسير الجود حيث يسير‬
‫فيأتي بكناية عن نسبة الكرم إليه‪ ،‬با ِّدعاء أن الجود يسير معه دائمًا؛ ألنه بدل أن يحكم بأنه كريم ادعى أن‬
‫الكرم يسير معه أينما سار‪.‬‬
‫ولهذه الكناية من البالغة‪ ،‬والتأثير في النفس‪ ،‬وحسن تصوير المعنى — فوق ما يجده السامع في غيرها من‬
‫بعض ضروب الكالم‪.‬‬
‫فأنت ترى أنه من المستطاع التعبير عن وصف إنسان بالكرم بأربعة عشر أسلوبًا‪ ،‬ك ٌّل له جماله‪ ،‬وحسنه‪،‬‬
‫وبراعته‪ ،‬ولو نشاء ألتينا بأساليب كثيرة أخرى في هذا المعنى؛ فإن للشعراء ورجال األدب افتتا ًنا وتولي ًدا‬
‫لألساليب والمعاني ال يكاد ينتهي إلى حد‪ ،‬ولو أردنا ألوردنا لك ما يقال من األساليب المختلفة المناحي في‬
‫صفات أخرى‪ :‬كالشجاعة‪ ،‬واإلباء‪ ،‬والحزم وغيرها‪ ،‬ولك َّنا لم نقصد إلى اإلطالة‪ ،‬ونعتقد أنك عند قراءتك‬
‫الشعر العربي واآلثار األدبية ستجد بنفسك هذا ظاهرً ا‪ ،‬وستدهش للمدى البعيد الذي وصل إليه العقل‬
‫اإلنساني في التصوير البالغي‪ ،‬واإلبداع في صوغ األساليب‪( .‬عن البالغة الواضحة بتصرف)‬

‫هوامش‬
‫(‪ )١‬توضيح المقام أنه إذا أُطلق اللفظ‪ ،‬وكان المراد منه غير معناه‪ ،‬فال يخلو‪:‬‬
‫ضا؛ ليكون وسيلة إلى المراد‪.‬‬ ‫إما أن يكون معناه األصلي مقصو ًدا أي ً‬
‫وإما أال يكون مقصو ًدا‪ ،‬فاألول الكناية‪ ،‬والثاني المجاز‪.‬‬
‫فالكناية‪ :‬هي أن يريد المتكلم إثبات مع ًنى من المعاني‪ ،‬فال يذكره باللفظ الموضوع له‪ ،‬ولكن يجيء إلى مع ًنى‬
‫هو مرادفه‪ ،‬فيومئ به إلى المعنى األول‪ ،‬ويجعله دلياًل عليه‪.‬‬
‫أو الكناية‪ :‬هي اللفظ الدال على ما له صلة بمعناه الوضعي؛ لقرينة ال تمنع من إرادة الحقيقة «كفالن نقي‬
‫الثوب»؛ أي‪ :‬مبرأ من العيب‪ ،‬وكلفظ «طويل النجاد» المراد به طول القامة‪ ،‬فإنه يجوز أن يراد منه طول‬
‫ض ا‪ ،‬فهي تخالف المجاز من جهة إمكان إرادة المعنى الحقيقي مع إرادة الزمة‪،‬‬ ‫النجاد؛ أي عالقة السيف أي ً‬
‫بخالف المجاز فإنه ال يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي‪ G‬لوجود القرينة المانعة من إرادته‪.‬‬
‫ومثل ذلك قولهم‪« :‬كثير الرماد» يعنون به أنه كثير القرى والكرم‪.‬‬
‫وقول الحضرمي‪:‬‬
‫قد كان تعجب بعضهن براعتي‬
‫‪ ‬‬
‫حتى رأين تنحنحي وسعالي‬
‫كنى عن كبر السن بتوابعه‪ ،‬وهي التنحنح والسعال‪.‬‬
‫وقولهم‪« :‬المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه»‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫إن السماحة والمروءة والندى‬
‫‪ ‬‬
‫في قبة ضربت على ابن الحشرج‬
‫وقوله‪:‬‬
‫وما بك فيَّ من عيب فإني‬
‫‪ ‬‬
‫جبان الكلب مهزول الفصيل‬
‫فإن «جبان الكلب» كناية‪ ،‬وكذا «مهزول الفصيل»‪ ،‬والمراد منها ثبوت الكرم‪ ،‬وكل واحدة على حدتها‬
‫تؤدي هذا المعنى‪.‬‬
‫وقد جاء عن العرب كنايات كثيرة؛ كقوله‪:‬‬
‫بيض المطابخ ال تشكو إماؤهمو‬
‫‪ ‬‬
‫طبخ القدور وال غسل المناديل‬
‫ويروى أن خال ًف ا وقع بين بعض الخلفاء ونديم له في مسألة‪ ،‬فاتفقا على تحكيم بعض أهل العلم‪ ،‬فأُحضر‪،‬‬
‫فوجد الخليفة مخط ًئا‪ ،‬فقال‪ :‬القائلون بقول‪ G‬أمير المؤمنين أكثر (يريد الجهال)‪ ،‬وإذا كان الرجل أحمق قيل‪:‬‬
‫نعته ال ينصرف‪.‬‬
‫ونظر البديع الهمذاني إلى رجل طويل بارد فقال‪ :‬قد أقبل ليل الشتاء‪ .‬ودخل رجل على مريض يعوده وقد‬
‫اقشعر من البرد فقال‪ :‬ما تجد «فديتك؟» قال‪ :‬أجدك (يعني البرد)‪ .‬وإذا كان الرجل ملواًل قيل‪ :‬هو من بقية‬
‫قوم موسى‪ .‬وإذا كان ملح ًد ا قيل‪ :‬قد عبر (يريدون جسر اإليمان)‪ .‬وإن كان يسيء األدب في المؤاكلة قيل‪:‬‬
‫«تسافر يده على الخوان ويرعى أرض الجيران‪ ».‬ويقال‪ G‬عمن يُكثر األسفار‪« :‬فالن ال يضع العصا عن‬
‫عاتقه‪».‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وجاء في القرآن الكريم‪ :‬أ ُيحِبُّ أ َح ُد ُك ْم أنْ َيأ ُك َل لَحْ َم أخِي ِه َم ْي ًتا‪ ‬فإنه كنى الغيبة بأكل اإلنسان لحم اإلنسان‪،‬‬
‫وهذا شديد المناسبة؛ ألن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس‪ ،‬وتمزيق أعراضهم‪ ،‬وتمزيق العرض مماثل ألكل‬
‫اإلنسان لحم من يغتابه‪.‬‬
‫ومن أمثال العرب قولهم‪« :‬ليست لفالن جلد النمر وجلد األرقم» كناية عن العداوة‪ .‬وكذلك قولهم‪« :‬قلبت له‬
‫َظهْر ْالم َِج نِّ » كناية عن تغيير المودة‪ .‬ويقول القوم‪« :‬فالن بريء الساحة» إذا برءوه من تهمة‪ ،‬و«رحب‬
‫الذراع» إذا كان كثير المعروف‪ ،‬و«طويل الباع في األمر» إذا كان مقتدرً ا فيه‪ ،‬و«قوي الظهر» إذا كثر‬
‫ناصروه‪.‬‬
‫ومن ذلك أن «المنصور» كان في بستان له أيام محاربته «إبراهيم بن عبد هللا بن الحسن» فنظر إلى شجرة‬
‫خالف فقال للربيع‪ :‬ما هذه الشجرة؟ فقال‪ :‬طاعة يا أمير المؤمنين‪ .‬فتفاءل المنصور به‪ ،‬وعجب من ذكائه‪.‬‬
‫ومثل ذلك أن رجاًل مر في صحن دار «الرشيد» ومعه حزمة خيزران‪ ،‬فقال الرشيد للفضل بن الربيع‪ :‬ما‬
‫ذاك؟ فقال‪« :‬عروق الرماح» يا أمير المؤمنين‪ .‬وكره أن يقول «الخيزران» لموافقته اسم «والدة الرشيد»‪.‬‬
‫ومن كالمهم‪« :‬فالن طويل الذيل» يريدون أنه غني حسن الحال‪.‬‬
‫وعليه قول الحريري‪:‬‬
‫إن الغريب الطويل الذيل ممتهن‬
‫‪ ‬‬
‫فكيف حال غريب ما له قوت‬
‫وكذلك قولهم‪« :‬فالن طاهر الثوب»؛ أي‪ :‬منزه عن السيئات‪ ،‬و«فالن دنس الثوب»؛ أي‪ :‬متلوث بها‪.‬‬
‫قال امرؤ القيس‪:‬‬
‫ثياب بني عوف طهارى نقية‬
‫‪ ‬‬
‫وأوجبهم عند المشاهد غرات‬
‫ويقولون‪« :‬فالن غمر الرداء» إذا كان كثير المعروف عظيم العطايا‪ .‬قال كثير‪:‬‬
‫غمر الرداء إذا تبسم ضاح ًكا‬
‫‪ ‬‬
‫غلقت لضحكته رقاب المال‬
‫ت لفالن فترة» و«عرض له ما‬ ‫ض ْ‬ ‫«ع َر َ‬
‫ومن الكنايات اللطيفة مما ذكرها األدباء في الشيب والكبر‪ ،‬فقالوا‪َ :‬‬
‫يمحو ذنوبه» و«أقمر ليله» و«نور غصن شبابه» و«فضض الزمان أبنوسه» و«جاءه النذير» و«قرع‬
‫ناجذ الحلم» و«ارتاض بلجام الدهر» و«أدرك زمان الحنكة» و«رفض غرة الصبا» و«لبى دواعي‬
‫الحجى»‪.‬‬
‫ومن كناياتهم عن الموت‪« :‬استأثر هللا به» و«أسعده بجواره» و«نقله إلى دار رضوانه ومحل غفرانه»‬
‫و«اختار له ال ُّن ْقلة من دار ال َب َوار إلى دار األبرار»‪.‬‬
‫اح‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ض ا أن يقام وصف الشيء مقام اسمه‪ ،‬كما ورد في القرآن الكريم‪َ  :‬و َح َمل َناهُ َعلَى َذا ِ‬ ‫ومن الكنايات أي ً‬
‫ت أل َو ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ض َعلَ ْي ِه ِبالعَشِ يِّ الصَّافِ َن ُ‬
‫ات ال ِج َيا ُد‪ ‬يعني‬ ‫ْ‬
‫َو ُدس ٍُر‪ ‬يعني السفينة‪ ،‬فوضع صفتها موضع تسميتها‪ .‬كما ورد‪ ‬إِذ ع ُِر َ‬
‫الخيل‪.‬‬
‫وقال بعض المتقدمين‪:‬‬
‫سألت قتيبة عن أبيها صحبه‬
‫‪ ‬‬
‫في الروح هل ركب األغر األشقرا‬
‫يعني‪ :‬هل قتل؛ ألن األغر األشقر وصف الدم‪ ،‬فأقامه مقام اسمه‪.‬‬
‫(‪  )٢‬قصدت الخنساء وصف صخر بطول القامة والشجاعة‪ ،‬فعدلت عن التصريح بما أرادت إلى اإلشارة‬
‫إليه بطول النجاد؛ ألنه يلزم من طول حمالة السيف طول قامة صاحبه‪ ،‬أو طول القامة يلزم الشجاعة غالبًا‪.‬‬
‫كما أرادت وصفه بالعزة والسيادة فلم تصرح بقصدها‪ ،‬وصرحت بما يستدعي ما أرادت فقالت‪« :‬رفيع‬
‫العماد» فرفعة العماد تستلزم أنه عظيم المكانة في قومه‪ ،‬عالي الشأن بين عشيرته؛ لجريان العادة بذلك‪.‬‬
‫وعمدت إلى وصفه بالجود والكرم فقالت‪« :‬كثير الرماد» ُتشير إلى كثرة اإليقاد لإلطعام‪ ،‬وهذا يلزم الكرم‪.‬‬
‫(‪  )٣‬الضاربين‪ :‬منصوب بأمدح المحذوف‪ .‬واألبيض‪ :‬السيف‪ .‬والمخذم‪ :‬بكسر الميم وسكون الخاء وفتح‬
‫الذال المعجمتين‪ .‬واألضغان‪ :‬جمع ضغن‪ ،‬وهو ما انطوى عليه الصدر من الحقد‪ .‬كنى الشاعر بمجامع‬
‫األضغان عن القلوب‪ G،‬وهي ال كناية صفة‪ ،‬وال كناية نسبة‪ ،‬بل هي كناية موصوف‪.‬‬
‫(‪ )٤‬أي يكون المكني عنه فيها ذا ًتا مالزمة للمعنى المفهوم من الكالم‪.‬‬
‫(‪ )٥‬األرقم‪ :‬الحية فيها سواد وبياض‪.‬‬
‫(‪  )٦‬المجن‪ :‬الترس‪ ،‬وقلب له ظهر المجن مثل يُضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية‪ ،‬ثم حال عن‬
‫العهد وتغيرت أحواله‪.‬‬
‫(‪  )٧‬عريض الوساد؛ أي‪ :‬طويل العنق إلى درجة اإلفراط‪ ،‬وهذا مما يستدل به على البالهة وقلة العقل‪.‬‬
‫(‪  )٨‬الغمم‪ :‬غزارة الشعر‪ ،‬حتى تضيق منه الجبهة أو القفا‪ ،‬وكان يزعم العرب أن ذلك دليل على الغباوة‪.‬‬
‫(‪ )٩‬رملة‪ :‬اسم امرأة‪ ،‬والقُلب — بالضم‪ :‬السِّوار‪.‬‬
‫(‪ )١٠‬الجرذان‪ :‬جمع جرذ‪ ،‬وهو ضرب من الفأر‪.‬‬
‫(‪  )١١‬بلقيس — بكسر الباء‪ :‬ملكة سبأ‪ .‬وسبأ‪ :‬عاصمة قديمة لبالد اليمن‪.‬‬
‫َّ‬
‫مؤخ ر القدم‪ .‬والكلوم‪ :‬الجراح‪ .‬يقول‪ :‬نحن ال نولي فنجرح في ظهورنا‬ ‫(‪ )١٢‬األعقاب‪ :‬جمع عقب‪ ،‬وهو‬
‫فتقطر دماء كلومنا على أعقابنا‪ ،‬ولكنا نستقبل السيوف بوجوهنا‪ ،‬فإن جرحنا قطرت الدماء على أقدامنا‪.‬‬
‫(‪  )١٣‬الشادن‪ :‬ولد الغزال‪ .‬والضيغم‪ :‬األسد‪ .‬أراد بالباكي بأجفان الشادن المرأة الحسناء‪ ،‬وبالباكي بأجفان‬
‫الضيغم الرجل الشجاع‪ ،‬يقول‪ :‬كم من نساء ورجال بكوا على فراقي وجزعوا الرتحالي!‬
‫(‪  )١٤‬القرط‪ :‬ما يعلق في شحمة األذن‪ .‬والحسام‪ :‬السيف القاطع‪ .‬والمصمم‪ :‬الذي يصيب المفاصل ويقطعها‪.‬‬
‫يقول‪ :‬لم تكن المرأة الحسناء بأجزع على فراقي من الرجل الشجاع‪.‬‬
‫(‪  )١٥‬ذات عرق‪ :‬موضع بالبادية‪ ،‬وهو مكان إحرام أهل العراق‪.‬‬
‫(‪ )١٦‬الضن‪ :‬البخل‪ ،‬والمن‪ :‬االمتتان بتعداد الصنائع‪.‬‬
‫(‪ )١٧‬تهمي‪ :‬تسيل‪ ،‬وتأتلق‪ :‬تلمع‪.‬‬
‫(‪ )١٨‬الغيم‪ :‬الركام المتراكم‪ .‬ول َّج وأل َّح كالهما بمعنى استمر‪.‬‬

You might also like