You are on page 1of 24

‫المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الدار البيضاء سطات‬

‫المقر الرئيس‬

‫البيداغوجيات‬
‫والتصنيف‬
‫بيداغوجية‬ ‫المفهوموالنماذج ال‬
‫نظريات التعلم‬
‫من الباراديكم التعليمي إلى التعلمي‬

‫إعداد‪ :‬د‪.‬توبي لحسن‬

‫‪1‬‬
‫الطرق البيداغوجية والتحول في البارديكمات‬

‫‪2‬‬
‫إضاءة مفاهيمية‬

‫ماذا نقصد بالطريقة البيداغوجية؟‬

‫تعد الطريقة تنظيما ُمسننا(‪ )codifié‬من التقنيات والوسائل‪ ،‬تُعتمد للوصول إلى هدف معين‪ .‬والمقصود‬
‫بمفهوم ُمسنن أن أجزاء الكل تُشكل مجموعة منسجمة‪ ،‬و ُمصورنة (‪ )formalisé‬وقابلة للتبليغ‪ .‬وعندما تُطبق بشكل صحيح‬
‫تتولد عنها النتائج نفسها‪ .‬وقد يتضح هذا المفهوم عند مقابلته بمفهوم آخر هو "االستراتيجية"‪ :‬فإذا كان هذا األخير"تنظيما‬
‫من التقنيات والوسائل‪ ،‬تُعتمد للوصول إلى هدف محدد‪" ،‬فإن منشأ االختالف يكمن في أن تعريف الطريقة يتضمن كلمة‬
‫فاصلة هي " ُمسنن"‪ ،‬إذ ترسم الحدود بين المصطلحين‪ .‬فعلى أساس التعريفين المذكورين يمكن القول إن الطريقة هي‬
‫استراتيجية ُكتب لها النجاح‪ ،‬وأصبحت تُتداول على نحو ُمسنن‪ .‬كما تتسم بكونها معرفة موضوعية‪ ،‬قابلة للتبليغ أو‬
‫اإليصال‪ ،‬وتوجد في منأى عن الفرد‪1.‬والجدير بالذكر أن أغلب المهن تكاد تستند إلى طرق محددة ومعروفة‪ ،‬يتقاسمها‬
‫المختصون‪ ،‬وال يخرج حقل التربية عن هذا اإلطار‪ .‬لكن عند توظيف مصطلح استراتيجية يرُد الحديث عن معرفة شخصية‪.‬‬

‫والحقيقة أنه كلما أُثيرت الطرق التربوية ُ‬


‫طرحت الصعوبات واإلكراهات التي تعترض عملية إنزالها على‬
‫أرض الواقع‪ ،‬حيث تتدخل مجموعة من المتغيرات‪ ،‬كشخصية المربي والظروف المحيطة بالفصل الدراسي والتالميذ‪...‬لكن‬
‫بالرغم من ذلك‪ ،‬فإن تطبيق الطرق التربوية‪ ،‬بشكل مالئم‪ُ ،‬يخول الوصول إلى النتائج المنتظرة‪ ،‬التي هي تسهيل الفعل‬
‫التربوي‪ ،‬وطبعا بدرجة من الدرجات‪ .‬خالفا لالستراتيجية فإن نتائجها تبقى غير يقينية‪.‬‬
‫وعندما نستخدم مفهوم طريقة تربوية أو بيداغوجية ال يسلم هذا الحديث من استحضار مجموعة من المرتكزات التي تثوي‬
‫خلف هذا المصطلح‪ ،‬بعضها يرتبط بمفهوم اإلنسان‪ ،‬وأخرى تتصل بالمجتمع‪ ،‬وبالعالقة التي تنتظم الفرد بالمجتمع‪.‬‬

‫البيداغوجيا‪ :‬إشكالية التعريف‬

‫ال يسلم تعريف البيداغوجيا من وجود مغامرة غير مأمونة‪ ،‬لكونه من المفاهيم التي أثارت جداال كبي ار في‬
‫حقل علوم التربية‪ ،‬وانشغلت الكثير من الدراسات بتحديده بكيفية تسمح باتضاح طبيعة الصلة القائمة بينه وبين مفاهيم‬
‫تنتمي إلى الحقل الداللي نفسه‪ ،‬ونعني تحديدا مفهوم الديدكتيك‪ .‬ومن التعاريف التي تُقدمها بعض المعاجم الموسوعية في‬
‫المجال التربوي (معجم المفاتيح األساس في الديدكتيك) ما يلي‪:‬‬

‫‪1‬‬ ‫)‪Raynal Françoise et Rieunier Alain (2014‬‬

‫‪3‬‬
‫"تُحيل البيداغوجيا عموما على نمط من مقاربة وقائع تعليمية وتعلمية‪ ،‬إذ ال تُراعي مضامين المواد الدراسية‪ ،‬وإنما تحرص‬
‫على فهم األبعاد العامة أو المستعرضة للوضعيات المستهدفة بالتحليل‪ ،‬والتي تتصل بالعالقات القائمة بين المدرس‬
‫والمتعلمين‪ ،‬وبين المتعلمين فيما بينهم‪ ،‬كما ترتبط بأشكال السلطة والتواصل المعمول بها داخل الفصل الدراسي‪ ،‬أو داخل‬
‫مجموع المتعلمين‪ .‬باإلضافة إلى ذلك تتصل بنمط العمل واُلعدد‪ ،‬وكذا اختيار الوسائل‪ ،‬والطرق والتقنيات التعليمية‪،‬‬
‫والتقويمية‪ ...‬الخ‪.‬‬

‫يمكن للمقاربات البيداغوجية‪ ،‬أن تتخذ مسارات متعددة‪ ،‬فقد تتخذ طابعا نظريا‪ ،‬كأن تكتفي بوصف نماذج بيداغوجية‬
‫محددة‪ ،‬أو تُزاوج بين البعدين النظري والعملي‪ ،‬فتُحلل الفعل البيداغوجي وممارساته‪ ،‬أو تأخذ شكل إمالءات‬
‫‪2‬‬
‫(‪ ،)Prescriptive‬فتطلب من المدرس بأن يعمل بهذه الكيفية أو بأخرى‪.‬‬

‫علوم التربية والبيداغوجيا والديدكتيك‪:‬إشكالية العالقة‬

‫ال يخلو كل حديث عن العالقة التي تربط علوم التربية بالبيداغوجيا والديدكتيك من صعوبات كبيرة‪ ،‬بل إن النقاشات‬
‫التي خاضت في هذه العالقة لم تكن في منأى عن السجال العقيم‪ ،‬ومن مظاهره أنه ُنظر إلى الديدكتيك نظرة دونية‪ ،‬حيث‬
‫ُحصرت مهمتها في تقديم خطوات وتقنيات تدريسية‪ .‬لكن في مقابل هذه الرؤية القائمة على منطق صراعي‪ ،‬نجد أعماال‬
‫أخرى‪ ،‬كرينال وريونيي (‪ ، Rieunier Raynal )1997‬سعت إلى استجالء العالقة بين المباحث الثالثة‪ ،‬من خالل‬
‫االهتداء إلى ُموجهات‪ ،‬كفيلة برسم خريطة دقيقة تتضح فيها معالم كل حقل‪ ،‬وتنجلي في ضوئها جملة من المفاهيم‪،‬‬
‫وتتجلى في ضوئها العالقة التكاملية بين المباحث الثالثة‪ .‬لقد حرص الباحثان على تقديم توضيح تصوري دقيق وذلك‬
‫بالوقوف عند الغاية التي تحكم كل فاعل داخل المباحث الثالثة المذكورة‪ .‬ففي حقل البيداغوجيا‪ ،‬يجعل المربي‬
‫(‪ )Pedagogue‬غايته األساس هي اإلجابة عن أسئلة ذات ارتباط قوي بالفعل التربوي‪ ،‬من قبيل‪:‬‬
‫"ماذا نعرف عن التعلم اإلنساني الذي يخول لنا بناء استراتيجيات تعليمية فعالة؟ ما هي منهجية التدريس األكثر فعالية‬
‫بالنسبة لهذا النوع من التعلم؟ وأيضا كيف يمكن أن ُنوثر تعلم القراءة‪ ،‬بناء على إعداد مذكرة صغيرة بالقسم االبتدائي؟"‪.‬‬
‫وهذا الصنف من األسئلة ُيتيح توضيح مجال حقل البيداغوجيا‪ ،‬ذلك أن "المربي" يغدو ممارسا أو رجل ميدان‪ ،‬يضع نصب‬
‫أعينه البحث عن حلول للمشاكل التعليمية التعلمية الملموسة التي تعترضه‪" ،‬ويبقى المصدر األساس "لحدسه البيداغوجي"‬
‫هو العمل (‪ )Action‬والتجربة (‪ )Experimentation‬اللتين يستمد منهما الصالحية والتشجيع"‪.‬‬

‫أما الباحث في علوم التربية فانشغاالته غير متصلة كثي ار بالممارسات التعليمية‪ ،‬ولكنها في اآلن نفسه يمكن‬
‫أن تمثل مناط اهتمام المربي‪ ،‬من ذلك‪" :‬ما أسباب الفشل الدراسي؟ ما العالقة القائمة بين التعلم ونظرية المعالجة‬
‫اإلخبارية؟ لكي يتعلم التلميذ هل يجب بالضرورة أن يرتكب أخطاء؟"‪.3‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Cohen-Azria Cora ; Daunay Bertrand et autres (2007) Dictionnaire des concepts fondamentaux des didactiques.‬‬
‫‪Édition. de Boeck. P : 161‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسه‬

‫‪4‬‬
‫وهذا الصنف من األسئلة يبين أن االنشغال األساس للباحث في علوم التربية هو تقديم مساهمات من شأنها تطوير المعرفة‪،‬‬
‫التي تتصل‪ ،‬من قريب أو من بعيد‪ ،‬بمجال التربية والتعليم‪.‬‬

‫أما الباحث في المجال الديدكتيكي‪ ،‬فبحكم تخصصه في مجال المواد الدراسية‪ ،‬فإنه يهتم أساسا بمساءلة‬
‫جملة من المواضيع والمفاهيم والمبادئ التي ستشكل مادة تدريسية‪ .‬كما أنه مدعو إلى "تقييم مستوى التالميذ (الصعوبات‬
‫الفردية‪ ،‬والتمثالت الشخصية‪ )...‬لتعرف العوائق ذات الطبيعة االبستمولوجية أو السيكولوجية‪ ،‬والتي يجب عليه تجاوزها من‬
‫أجل المساهمة في بناء التعلمات ‪ .‬وبهذا فإن عمل الديدكتيكي يتحدد في معالجة المعلومة‪ ،‬أي تعرف "المعرفة العالمة"‬
‫(‪ )Savoir savant‬أو المعرفة المرجعية (‪ )Savoir de référence‬وتحويلها إلى "معرفة تعليمية"‪.4‬‬
‫إن من مميزات هذا التحديد أنه تفطن إلى مواطن التكامل بين الحقول الثالثة‪ ،‬وأبعد كل نظرة تحرص على إقامة هوة بين‬
‫مجاالت معرفية‪ ،‬تستعصي في األصل على الخضوع لهذا المنطق الفصلي‪ .‬بل واقع الحال يشهد أن الممارسة التعلمية‬
‫التعليمية تُراهن على منطق االشتغال وفق رؤية تكاملية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المرجع نفسه‬

‫‪5‬‬
‫البيداغوجيات‪ :‬إشكالية التصنيف‬

‫جميع البيداغوجيات هي طرق تنظيمية وتدبيرية للتعليم والتعلم‪ ،‬وتفكير يستهدف تسهيل التعلم‪ ،‬غير أنها‬
‫تبقى غير متجانسة من حيث أسسها والطرق التربوية المتوسل بها وخلفياتها‪ .‬وبفعل تنوعها سعى الكثير من المؤرخين‬
‫للشأن التربوي إلى إقامة عدة تصنيفات‪ .‬بعضها ذو طابع ثنائي‪ُ ،‬يميز في ضوئه بين نموذجين‪ :‬األول‪ ،‬يمكن نعته‬

‫بالبيداغوجيا المتمركزة حول المدرس‪ ،‬وُيعرف بمسميات أخرى "كالطريقة التقليدية"؛ والثاني متمركز حول المتعلم‪ُ ،‬‬
‫ويعرف‬
‫كذلك بأسماء أخرى‪ ،‬كالطرق الحديثة أو الجديدة‪ .‬وعلى الرغم من شيوع هذا التصنيف وأهميته يبقى‪ ،‬في نظر البعض‪،‬‬
‫المميزة بين مختلف الطرق البيداغوجية‪ ،‬فما يمكن أن ندرجه في‬
‫قابال لالعتراض عليه‪ ،‬لكونه ال يحيط بدقائق السمات ُ‬
‫طرحت بدائل تصنيفية أخرى‪ ،‬تحاول أن تقف عند‬ ‫إطار نموذج معين‪ ،‬يقبل أن تتفرع عنه نماذج أخرى‪ .‬من هنا ُ‬
‫خصوصيات بعض الطرائق البيداغوجية‪ ،‬وتسعى إلى وضع خريطة دقيقة في هذا المجال‪.‬‬

‫الفعل التصنيفي‬

‫تعترض الفعل التصنيفي للطرق البيداغوجية صعوبات كبيرة‪ ،‬ربما بسبب تعدد النماذج الممتدة عبر التاريخ‬
‫الطويل‪ ،‬إذ تتباين بتباين تصوراتها لمجموعة من المفاهيم والقضايا المحددة‪ ،‬لعل أهمها هي‪:‬‬
‫‪ .1‬مفهوم الطفولة؛‬
‫‪ .1‬وظيفة المدرسة ودورها االجتماعي؛‬
‫‪ .2‬مفهوم المعرفة أو الثقافة المدرسية وطرق نقلها وتدريسها؛‬
‫‪ .3‬دور المدرسة والجهاز الديدكتيكي الموظف في التدريس؛‬
‫‪ .4‬العالقة البيداغوجية‪.5‬‬

‫أضحت هذه المحددات بمثابة سمات مميزة‪ ،‬تتيح رسم بعض الحدود الفواصل بين البيداغوجيات‬
‫المعاصرة وسابقاتها‪ ،‬أو بين تصورين قد ُيؤطران ضمن صنف واحد (بيداغوجيا تقليدية مثال)‪ ،‬فقد نتوسل بمفهوم الطفولة‬
‫لنقف عند االختالفات القائمة داخل الفلسفة اليونانية القديمة أو بينها وبين فلسفات القرن الثامن عشر أو فلسفات عصر‬
‫النهضة‪ .‬وبال شك فإن رصد االختالفات بين التصورات والمذاهب بناء على الوسائط المذكورة سي ُجر‪ ،‬ال محالة‪ ،‬إلى‬
‫السقوط في منزلق تأريخي‪ ،‬يروم ضم ما اتسع مجاله‪ ،‬وتشعبت مباحثه عبر السيرورة الزمنية الطويلة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫عبد الحق منصف(‪ . )2007‬ص‪17:‬‬

‫‪6‬‬
‫وقد ُيعزى التعدد الكبير في النماذج البيداغوجية إلى تنوع المرجعيات النظرية‪ ،‬نظريات التعلم أو سيكولوجية التعلم‪ ،‬فكثيرة‬
‫هي الطرق البيداغوجية التي تستند إلى خلفية نظرية دون أخرى‪ ،‬أو تزاوج بين مرجعيات متعددة‪ ،‬ويعد هذا العامل أيضا‬
‫سببا في غنى التصورات البيداغوجية‪.‬‬
‫لكن ماذا عن المعايير التي يمكن االستناد إليها في عملية التصنيف؟ تستند الكثير من األعمال‪ ،‬التي تؤرخ وتُصنف‬
‫التيارات البيداغوجية‪ ،‬إلى جملة من المعايير الكفيلة بإدراك خصوصية كل نموذج بيداغوجي‪ .‬بيد أن هذا العمل التصنيفي‬
‫ال يخلو من مشاكل‪ ،‬بسبب كثرة المعايير المعتمدة‪ .‬لقد حاول‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬بيتراند و فالوا (‪Bertrand et )1979‬‬
‫‪ Valois‬رصد الئحة كبيرة من المعايير‪ ،‬التي ُدرج على اعتمادها في تصنيف البيداغوجيات‪ ،‬وحدد ما ُيقارب ثمانين معيارا‪،‬‬
‫من أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬مكانة المعرفة؛‬
‫‪ -‬الغاية؛‬
‫‪ -‬دور التلميذ أو المدرس؛‬
‫‪... -‬‬
‫والحقيقة أن كثرة المعايير تزيد من صعوبة الفعل التصنيفي‪ ،‬وتصبح مسوغا لتصنيفات كثيرة‪ .‬ويمكن في هذا اإلطار أن‬
‫نقدم نماذج من التصانيف المعروفة في األدبيات التربوية‪ ،‬مع بيان خصوصيتها‪.‬‬

‫تصنيف ثنائي‬

‫من التصانيف األكثر تداوال في الحقل التربوي‪ ،‬كما ذكرنا‪ ،‬تلك التي تُميز النماذج البيداغوجية على أساس‬
‫ثنائي‪ ،‬فتتحدث عن نموذجين‪:‬‬

‫األول تقليدي‪ُ ،‬يركز على وضعية يكون فيها المدرس هو ُ‬


‫المهيمن‪ ،‬بفعل سلطته المعرفية‪ ،‬لكونه المالك‬
‫للمعارف والمعلومات التي تحظى بالمقبولية العلمية والثقافية‪ ،‬وال يكون الهاجس طبعا داخل الوضعية التعليمية هو البحث‬
‫عن مدى مالءمتها للمتعلمين‪ ،‬واستجابتها لقيد التدرج التربوي‪ ،‬ومساهمتها في تكوينهم الشخصي‪ 6.‬كما أن مسار النقل‬
‫المعتمد في تبليغ المعرفة عادة ما يتوسل بالنسق الشفهي‪ ،‬حيث ُيصبح المتلقي (التلميذ) مطالبا بتخزينها وتكديسها في‬
‫ذاكرته‪ ،‬وال تخرج وسائل العمل المعمول بها عن السبورة السوداء‪ ،‬والتمارين البسيطة‪ ،‬والتقويم عن طريق أسئلة كتابية‪،‬‬
‫واللجوء إلى عالمات رقمية في التقويم‪ .‬بل إن هذا األخير يصبح أداة لتعميق الفوارق بين المتعلمين‪ .‬كما أن انتقاء‬
‫الدرسية ال يخضع لمعايير علمية مضبوطة‪ ،‬وال صلة له بمقتضيات الحياة العامة‪ .‬إن هذا األنموذج التربوي‬
‫المضامين ا‬
‫وكأنه ُوضع لتنظيم األوامر واألنشطة التي ُيعدها المدرس بشكل مسبق‪ ،‬باعتباره فاعال متعاليا‪ ،‬ومالكا للمعرفة‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪Meirieux.Ph « Les voix de la pédagogies » dans Jean Claude Ruano-Bordalan (et autre) (2002). p :41‬‬

‫‪7‬‬
‫أما النوع الثاني‪ ،‬فيحرص على جعل الوضعية متمركزة حول التلميذ‪ ،‬فهو الذي يبني معارفه الخاصة‪ ،‬وينزل‬
‫المدرس‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬منزلة شخص مورد (‪ ،)Personne ressource‬حيث ُيشخص حاجات المتعلمين‪ ،‬ويقدم لكل‬
‫‪7‬‬
‫فئة الوسائل واألدوات المالئمة‪ ،‬ويصاحبهم في مسارهم الفردي‪.‬‬
‫ولعل أهم خاصية تُميز بيداغوجيا التعلم هي أنها تعتمد على مبدأ "التعاقد"‪ ،‬انطالقا من أهداف تم التفاوض حولها‪ ،‬وتحرص‬
‫على إشراك الجميع في هذه السيرورة‪ ،‬وتجعلهم "نشطين"‪ ،‬ويعملون على تقويم أدائهم بنفسهم‪ .‬وإذا كانت البيداغوجيا التقليدية‬
‫تتميز بهيمنة االنتقاء الحاسم‪ ،‬الذي ال يستحضر مستويات المتعلمين ومداركهم وإيقاعاتهم‪ ،‬فإن الثانية تتسم بكونها تنصرف‬
‫إلى بناء نموذج للنجاح التفريدي (‪ )Différenciée‬بكيفية متدرجة‪ ،‬وتُتاح لكل متعلم إمكانية الوصول إلى األهداف‬
‫المسطرة والمختلفة‪ ،‬األمر الذي ُيسهم في ضمان مبدأي المساواة واإلنصاف ‪.‬‬

‫ال شك أن هذا التمييز الثنائي يكتسي أهمية كبيرة‪ ،‬لكونه يقدم يرصد أهم السمات المميزة لنموذجين تربويين‬
‫متعاندين‪ ،‬إال أنه بالرغم من ذلك ال يسلم من المؤاخذة‪ ،‬لكونه يقدم لنا هذه النماذج البيداغوجة وكأننا أمام مناطق بينها‬
‫حدود فواصل‪ ،‬ال نملك إال أن نختار منطقة محددة‪ ،‬لتتحدد الهوية البيداغوجية لكل فاعل تربوي‪ ،‬وال يشفع لنا أن نراوح‬
‫العمل بين النموذجين المذكورين‪ .‬باإلضافة إلى ذلك فإن وضع جميع الطرائق التقليدية في خانة واحدة ال يسلم هو اآلخر‬
‫من االعتراض‪:‬إن الفعل التربوي داخل الوضعيات ال يقوم على تعارض تام بين بيداغوجيا متمركزة حول المتعلم وأخرى‬
‫حول المدرس‪ ،‬فالحدود ليست قواطع بينهما‪ .‬إن كل صنف بيداغوجي ال يوجد في الواقع الفعلي بكيفية خالصة‪ ،‬فكل‬
‫ممارسة تدريسية‪ ،‬عبر الخط الزمني للوضعيات‪ ،‬يمكن أن تقيم مراوحة بين النموذجين المذكورين‪.‬‬

‫تصنيف هوساي‬

‫أما تصنيف جان هوساي ‪ ،Jean Houssaye‬فيطرح تصنيفه باالستناد إلى المثلث البيداغوجي‪ ،‬حيث‬
‫ينطلق من ثالثة وسائط هي‪ :‬المعرفة والمدرس والتلميذ‪ .‬ومقتضى هذا التصنيف أن أي وضعية بيداغوجية تتمفصل حول‬
‫المحددات الثالثة المذكورة‪ .‬وفي كل نموذج بيداغوجي نالحظ ثبوت وسيطين من الوسائط الثالثة‪ ،‬واستحكامهما‪ ،‬ويتم‬
‫التخلي عن العنصر الثالث‪ ،‬والذي يبقى على الرغم من ذلك في تواصل مع الوسيطين اآلخرين‪ .‬وعلى أساس ذلك يرد‬
‫الحديث عن ثالثة نماذج بيداغوجية‪:‬‬

‫وينعت عادة بالبيداغوجيات التلقينية‪ ،‬أو‬


‫‪ -‬نموذج قائم على سيرورة تعليمية(‪ُ ،)Le processus _enseigner‬‬
‫التعليمية‪ ،‬وهو ُينيط عناية خاصة بالعالقة التي تنتظم المدرس بالمعرفة‪ ،‬فيجعل المدرس بؤرة اهتمامه هي تبليغ‬
‫هذه المعرفة التي بناها‪ .‬أما التلميذ فيكون حاضرا‪ ،‬لكن توقعاته وتصوراته ومواقفه من التعلم يتم تغييبها‪ ،‬ويكتفي‬
‫بدورالمستقبل‪ ،‬وهو بهذا ينزل منزلة "العنصر الميت"‪.‬‬

‫للمصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ ‬نموذج قائم على سيرورة تكوينية (‪ ،)Le processus _former‬حيث التركيز على الصلة القائمة بين المدرس والتلميذ‪،‬‬
‫وتكون المعرفة حاضرة هنا‪ ،‬ولكنها تضطلع بدور ثانوي‪ .‬إن هذا النموذج يحضر في البيداغوجيات التي تصرف همها‬
‫إلى التكوين والتنشئة( ‪.)socialisation‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ ‬نموذج قائم على سيرورة التعلم (‪ :)Le processus_apprendre‬وهو ينشغل بالعالقة المباشرة القائمة بين المعرفة‬
‫والمتعلم‪ ،‬كما ُي ركز على سيرورة تعلم التلميذ‪/‬المتعلم‪ ،‬وعلى نشاطه داخل الفصل خالل جريان التعلم‪ ،‬وليس فقط على‬
‫اإلنجاز النهائي خالل التعلم‪ .‬وفي ضوء هذا النموذج يصبح المدرس بمثابة وسيط‪ ،‬ويتحدد دوره في تنظيم الوضعيات‪،‬‬
‫وتهيئة الشروط الخارجية للتعلم‪ ،‬ومرافقة المتعلم وربطه بالمعرفة‪.8‬‬

‫أسلوب‬ ‫وعلى أساس هذا التصنيف‪ ،‬يمكن أن نؤطر مجموعة من الطرائق والبيداغوجيات‪ :‬فالنموذج األول‪ ،‬يضم‬
‫المحاضرات‪ ،‬وأسلوب "أسئلة‪/‬أجوبة" التي تكون مغلقة في غالب األحيان‪ ،‬ويدفع المدرس المتعلم إلى انتقاء الجواب‬
‫المطلوب‪.‬‬
‫أما في النموذج الثاني‪ ،‬فيمكن أن ندرج داخله بعض البيداغوجيات الحرة‪ ،‬والطرائق التي تُهيمن عليها الرؤية االشتراكية‪،‬‬
‫فتجعل أس اهتمامها تطوير التواصل والبعد العالئقي بين العنصرين‪.‬‬
‫بينما يضم النموذج الثالث كل بيداغوجيات التعلم‪ ،‬والعمل الذاتي للمتعلم‪ ،‬والطرق التي تُهيئ الوسائل والطرق التي يتفق‬
‫حولها التالميذ والمدرس (بطاقات التصحيح الذاتي‪ ،‬وخطط العمل)‪ ،‬كما يندرج داخله التعليم المبرمج‪ ،‬على الرغم من أنه قد‬
‫يكون أقرب إلى السيرورة التعليمية‪.‬‬

‫ألتي‪.‬م (‪.)1998‬ص‪15:‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪10‬‬
‫تصنيف ماركريت ألتي‬

‫وفي مقابل هذا التصنيف‪ ،‬يمكن أن نقدم تصو ار تصنيفيا آخر‪ ،‬ينهض على مقاربة نسقية (‪)systémique‬‬
‫دينامية‪ ،‬تتبناه ألتي (‪ ،)1991‬حيث تنطلق من المثلث البيداغوجي المعتمد في التصنيف السابق‪ ،‬لكن الميزة التي يتمزى‬
‫بها تصنيفها أنه يستحضر المثلث البيداغوجي (المعرفة ـ المتعلم ـ المدرس) ويضيف إليه ُمحددين آخرين هما‪ :‬التواصل‬
‫والوضعية البيداغوجية‪ ،‬وذلك سعيا منها إلى إغنائه واستدراك نقائصه‪ .‬وُيعرف هذا التصنيف بالنموذج التواصلي والتنظيم‬
‫البيداغوجي(‪.)régulation pédagogique‬‬

‫ينطلق هذا النموذج من تحديد للبيداغوجيات على أساس أنها "تنظيم وظيفي وجدلي بين سيرورة‬
‫تعليمية تعلمية وتعلمية تعليمية"‪ ،‬ويعطي أهمية كبيرة للوضعية البيداغوجية التي ُيهيئها المدرس‪ ،‬وللعملية التواصلية التي‬
‫الممرر والوسيط‪،‬‬
‫تربط المدرس بتالميذه في عالقة بالمعرفة والغايات‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬أضحت البيداغوجيا تُركز على نشاط ُ‬
‫ويسهل مختلف عناصر العملية‬
‫الذي ُيقيم الجسور عبر التواصل والضبط الوظيفي(‪ُ ،)régulation fonctionnelle‬‬
‫التعليمية التعلمية داخل وضعية معينة‪ .‬تصف ألتي(‪ )1998‬مقاربتها بالنسقية‪ ،9‬ألنها تأخذ بعين االعتبار مختلف العناصر‬
‫التي تتمفصل جدليا‪ ،‬وترتبط بالعملية التعليمية التعلمية‪ ،‬كالتركيب والشمولية والتفاعالت و"الضبط الوظيفي"‬
‫والدينامية‪...‬وترجع أصول هذا التصور إلى كاني (‪ ،R.Gagne )1975‬الذي يرى أن النظر إلى التعليم والتعلم بطريقة‬
‫نسقية يستدعي معالجة مشكل التفاعالت القائمة بين النسق التعليمي الخاص بالمدرس ونسق التعلم الخاص بالمتعلم‪ .‬من‬
‫هنا نفهم العلة الثاوية وراء قرن التعليم بالتعلم داخل وحدة متكاملة‪ .‬إن التعلم المدرسي من هذا المنظور يتحدد "كعملية‬
‫نسقية دينامية‪ ،‬تتضمن التواصل والتفاعل واسترجاع الفعل(‪ )rétroaction‬والتعديل المتتالي‪)ajustement‬‬
‫‪ ،10")successif‬ويركز على التفاعل بين الشروط الداخلية للتعلم الخاصة بالمتعلم والشروط الخارجية المتجسدة في فعل‬
‫المدرس"‪ .‬إن البيداغوجيا ترتبط بالشروط الخارجية التي يشغلها المدرس‪ ،‬وبالعملية التفاعلية لفعلي التعليم والتعلم‬
‫وبالوضعيات التي ينظمها المربي للمتعلم‪.‬‬

‫ويمثل الرسم أسفله اختزاال لتصورها البيداغوجي‪ ،‬القائم على خمسة عناصر‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ألتي‪.‬م (‪ .)1998‬ص‪16:‬‬
‫‪10‬‬
‫المصدر نفسه‬

‫‪11‬‬
‫الغاية‬

‫مجال البيداغوجيا‬

‫التواصل‬

‫المدرس‬ ‫وضعية‪ .‬ت ‪ .‬تع‬ ‫المتعلم‬

‫معرفة‬

‫مجال الديدكتيك‬

‫إن االنطالق من هذا النموذج يتيح رصد معالم ومميزات كل تيار بيداغوجي‪ ،‬وبهذا يرُد الحديث عن‬
‫االتجاهات التالية‪ :‬البيداغوجيا التلقينية والبيداغوجيا المتمركزة حول المتعلم والبيداغوجيا االجتماعية‪ ،‬والبيداغوجيا المتمركزة‬
‫حول تقنيات التعليم‪ ،‬وبيداغوجيا التعلم‪.‬‬
‫البيداغوجيا التلقينية‪ :‬يركز هذا التيار على الفعل التعليمي‪ ،‬ألن االهتمام األساس يتحدد في نقل المعرفة وتبليغها‪ .‬ويحتل‬
‫ويهيكلها وينقلها‪ .‬وفضال عن ذلك تستحكم العالقة العمودية بين‬
‫المدرس مكانة مركزية‪ ،‬لكونه هو الذي يختار المعرفة‪ُ ،‬‬
‫طرفي العملية التعليمية‪ .‬وتبقى أهم خاصية تُميز هذا النموذج أنه ُيرجح تمفصل العناصر التالية‪ :‬المعرفة والمدرس على‬
‫حساب المتعلم والوضعية‪.‬‬

‫البيداغوجيا المتمركزة حول المتعلم‪ :‬تستحضر ذات الطفل وشخصيته‪ ،‬وميوالته واهتماماته‪ ،‬وتدفع المتعلم إلى اكتشاف‬
‫المعرفة بنفسه وهيكلتها‪ .‬ويصبح دور المربي محصو ار في إعداد وضعيات تعلمية إلى المتعلم‪ ،‬من شأنها أن تجعله نشطا‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫مع مصاحبته في بحثه عن المعرفة وبنائها‪ .‬ويحرص المدرس على تكييف فعله مع شخصية الطفل‪ ،‬ويمنح المتعلم مجاال‬
‫واسعا للتصرف‪ ،‬ويساعده على إعادة تنظيم معرفته‪ .‬و تتخذ عملية التواصل بين المتعلم والمدرس طابعا أفقيا‪ ،‬وتغدو عملية‬
‫بناء شخصية التعلم هي بؤرة االنشغال‪ .‬وتندرج بيداغوجيات عديدة في إطار هذا التوجه‪ ،‬من بينها بيداغوجيا النشيطة‬
‫لديكرولي‪ ،‬لكونها تستحضر ميوالت الطفل وتراعي اهتماماته‪ .‬وتبقى أهم المعالم الكبرى التي تُميز هذا النموذج هو ترجيحه‬
‫لعنصري المتعلم والمدرس على حساب عنصري المعرفة والوضعية‪.‬‬

‫البيداغوجيا االجتماعية‪ :‬يجعل هذا التيار البيداغوجي من أهدافه األساس تطوير مجتمع جديد‪ ،‬لهذا يركز على التكوين‬
‫االجتماعي للفرد‪ .‬وتتحدد الخطوطه العامة لهذا االتجاه في تركيزه على مدرسة متمركزة حول الطفل‪ ،‬غير أن نظرته لهذا‬
‫األخير تقوم على اعتباره عضوا وفاعال داخل مجموعة اجتماعية‪ .‬وعلى أساس هذا المنطلق ُيصبح التعلم يكتسي طابعا‬
‫اجتماعيا‪ ،‬وتتحدد في ظل ذلك المهام األساس للمدرس‪ ،‬حيث يغدو مطالبا بتنشئة المتعلم اجتماعيا‪ ،‬ومساعدته على‬
‫االندماج داخل المجتمع‪ ،‬والوعي بالواقع‪ ،‬ودفعه إلى التصرف داخله‪ .‬ومن ممثلي هذا التيار "البيداغوجيا الماركسية" مع‬
‫‪ Makarenko‬و"التطورية"(‪ ،)P.progressiste‬مع سندرس ‪ Synders‬و"البيداغوجيا االجتماعية اإلنتاجية"‬
‫(‪ )P.socialiste et productive‬مع فريني‪ .‬إن أساس هذه البيداغوجيا ليس التواصل الذي ُيعقد بين مدرس وتلميذ‪ ،‬وإنما‬
‫العمل الجماعي الذي ُيهيئه المدرس‪ ،‬والتعاون الذي ينتظم التالميذ‪ .‬ولعل أهم ما سمة تُميز هذا النموذج هو ترجيحه‬
‫للتمفصل القائم بين العناصر التالية‪ :‬المتعلم والتواصل والوضعية االجتماعية‪.‬‬

‫البيداغوجيا المتمركزة حول تقنيات التعليم‪ :‬تتبنى هذه البيداغوجيا مقاربة صارمة ونسقية وعلمية للمشاكل التربوية‪ ،‬من أجل‬
‫عقلنة الفعل التربوي‪ ،‬وجعل المدرسة ُمتكيفة مع المجتمع التقني الصناعي‪ ،‬مستعينة في ذلك بالوسائل التكنولوجية‪ ،‬كما‬
‫تروم تطوير العملية التعليمية التعلمية بسعيها إلى دفع المتعلم لكي يصبح نشطا‪ ،‬وذلك بجعله يواجه معرفة مبرمجة‪ ،‬يكون‬
‫مطالبا باكتشافها وإعادة بنائها‪ .‬يندرج التعليم المبرمج وبيداغوجيا األهداف ضمن هذا اإلطار‪ ،‬حيث تُقدم للمتعلم وضعيات‬
‫ويحلل المشاكل‬
‫تعلمية تخصه بمفرده‪ ،‬وتراعي إيقاعه التعلمي الخاص‪ .‬ويطلع المدرس بمهمة برمجة المعرفة والوضعية‪ُ ،‬‬
‫ويتصور التعليم والتعلم من‬
‫التي ترتبط بالعملية التعليمية التعلمية‪ ،‬وهو األقدر على تصور ما يجب على التلميذ إنجازه‪ُ .‬‬
‫منظور تدبير البرامج والرقي بالموارد‪ ،‬وتقويم المنتوج والعمليات الكفيلة بتحقيق األهداف المسطرة‪ .‬إن هذا االتجاه يتناغم مع‬
‫بيداغوجيا األهداف‪ ،‬التي تعمل على تقطيع المعرفة‪ .‬والسمة العامة التي تُميزه هو ترجيح المدرس لعنصري المتعلم‬
‫والوضعية‪.‬‬

‫البيداغوجيات المتمركزة حول التعلم‪ُ :‬يحدد الفعل البيداغوجي من منظور هذا التيار من زاوية المتعلم وليس من زاوية‬
‫المدرس‪ ،‬ولهذا أصبح المدرس ينزل منزلة شخص مورد(‪ ،) Personne-ressource‬تتحدد أدواره األساس في مساعدة‬
‫المتعلم على تملك المعرفة بنفسه‪ ،‬لهذا يكتفي ببناء وتنظيم شروط التعلم الحقيقية‪ ،‬والمساعدة على إرساء التعلم‪ ،‬مع‬
‫استحضار حاجات المتعلم وميوله وتمثالته‪ ،‬والوسائل التي تضامن حصول التعلم‪...‬ومساعدته على الوعي باستراتيجياته‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وعالوة على ذلك يغدو التواصل داخل هذا النموذج قائما على عالقات التوسط‪ ،‬لكون المعرفة يبنيها المتعلم‪ ،‬ويقتصر‬
‫المدرس على دور الوسيط‪ .‬كما يرتبط نشاط المدرس جدليا مع نشاط المتعلم داخل وضعية تعلمية‪ .‬إن السمة العامة التي‬
‫تُميز هذا النموذج هو تركيزه على التفاعالت القائمة بين المتعلم والمعرفة والمدرس عن طريق التواصل‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫من بيداغوجيات التعليم إلى بيداغوجيات التعلم‬

‫تاريخيا مر الفعل التعليمي من عدة محطات‪ ،‬فبعدما كان ُيركز على تبليغ المعارف‪ ،‬انتقل إلى مرحلة‬
‫تطوير المهارات‪ ،‬ثم تكوين شخصية المتعلم‪ ،‬ليستقر أخي ار عند تصور يجعل الفعل التعليمي استجابة لحجات المتعلم‪ .‬وعبر‬
‫هذه السيرورة التاريخية‪ ،‬انتهى الفكر التربوي إلى خالصة مقتضاها ضرورة االنطالق من مبدأ يجعل المتعلم في قلب‬
‫العملية التعليمية التعلمية‪ ،‬فلم ت ُعد تستصيغ الرؤية االخت ازلية للمتعلم التي تُضيق نطاقه‪ ،‬فتجعله قزما‪ ،‬وال تكثرت بإمكاناته‬
‫وقدراته‪ .‬إننا أمام تحول حقيقي جعل البعض ُيشبهه بثورة كوبيرنيكية على المستوى التربوي‪ .‬وهذه المقايسة واردة جدا‪ ،‬ألن‬
‫التحول الذي عرفه الفكر البيداغوجي لم يكن شكليا‪ ،‬يمس أحد العناصر التي تنتظم الفعل التربوي‪ ،‬وإنما هو تحول على‬
‫مستوى الباراديكم (من الباراديكم التعليمي إلى التعلمي) كما أشرنا سابقا‪ .‬ما يزكي هذا اإلقرار هو أننا أصبحنا أمام أدوار‬
‫جديدة للمدرسة‪ ،‬وأمام كفايات جديدة للمدرس‪ ،‬وأدوار جديدة للمتعلم‪...‬لم يعد من المقبول اجترار األدوار التقليدية للمدرسة‬
‫بمختلف أطرافها‪ ،‬فبعدما كان الباراديكم التعليمي يجعل المدرس هو قطب الرحى في العملية التعليمية التعلمية‪ ،‬بحكم سلطته‬
‫المعرفية؛ ودور المتعلم محصو ار في التلقي واستقبال المعرفة‪ ،‬حصل تحول كبير في الرؤية‪ ،‬حيث غدا نشاط المتعلم هو‬
‫أس االهتمام‪ ،‬بينما دور المدرس مقتصر في الوساطة‪ ،‬وتسهيل التعلم‪ ،‬وتهيئة الشروط المسهلة له‪.‬‬
‫والستجالء مظاهر هذا التحول يمكن االنطالق من الحاالت التالية‪:‬‬
‫الحالة األولى من السلك االبتدائي‪ ،‬مادة النشاط العلمي ‪: EVEIL‬‬

‫قام مدرس بالسلك االبتدائي بإلصاق صور بعض النباتات على السبورة‪ ،‬ومنح بعض الوقت للتالميذ لمالحظة الصور‬
‫ويقارن بين النباتات من جوانب متعددة‪ ،‬واستخلص جملة من النتائج‪،‬‬
‫المعروضة‪ ،‬ثم بدأ المدرس يصف مكونات الصور‪ُ ،‬‬
‫سجلها على السبورة‪ ،‬ثم قدم تركيبا‪ ،‬وطلب من بعض التالميذ إعادته شفهيا‪ ،‬بعدما حجب التركيب عن التالميذ‪.‬‬

‫الحالة الثانية من السلك الثانوي التأهيلي‪ ،‬في مجال اللغات‪:‬‬

‫ركز أستاذ اللغة الفرنسية بالتعليم الثانوي في تدريسه لنص قصصي على عناصر محددة (الشخصيات وخصائصها)‪ ،‬إذ‬
‫طلب من التالميذ مأل شبكة‪ ،‬يجردون فيها الشخصيات الرئيسية والثانوية‪ ،‬ثم دفعهم بعد ذلك إلى رصد خصائص كل‬
‫شخصية‪ ،‬عبر مستويات عديدة‪ ،‬فكان المدرس يطرح جملة من األسئلة الموجهة للقراءة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬حددوا أسماء الشخصيات الرئيسية‪.‬‬
‫‪ -‬ما أسماء الشخصيات الثانوية؟‬
‫‪ -‬حددوا انطالقا‪ ،‬من النص القصصي‪ ،‬صفات كل شخصية‪...‬‬

‫‪15‬‬
‫الحالة الثالثة من السلك االبتدائي (مادة الرياضيات)‬
‫قدمت ُمدرسة الرياضيات (المستوى السادس ابتدائي) وضعية تم تحديد بقعة أرضية‪ ،‬وطلبت منهم إنشاء داخلها أحواض ذات‬
‫أشكال مختلفة لغرس نباتات‪ ،‬معتمدين على جملة من البطاقات‪ ،‬بعضها تُحدد أشكال األحواض (دائرة‪ ،‬مثلث قائم الزاوية‪ )...‬وكذا‬
‫قياساتها‪ ،‬والبعض اآلخر‪ ،‬تحدد نوع النباتات والمساحة المخصصة‪.‬‬

‫المد رسة لهذه الوضعية عملت على تقسيم جماعة الفصل إلى أربع مجموعات‪ ،‬وطلبت منهم قراءة الوضعية‬ ‫وعند تدبير ُ‬
‫بشكل فردي‪ ،‬ومنحتهم مهلة للتفكير في حل الوضعية‪ ،‬وتفاعل اآلراء بين أعضاء كل مجموعة لمعرفة العمليات التي يمكن‬
‫االستناد إليها في حل الوضعية‪ ،‬وبعد ذلك حثتهم على إنجاز المطلوب بشكل فردي‪ .‬وأثناء سعيهم إلى حل الوضعية‪،‬‬
‫المدرسة تمر بين الصفوف لتثمن ما أنجزوه‪ ،‬وتشجعهم‪ ،‬وتقدم المساعدة الالزمة إلى كل متعلم‪ ،‬استعصى عليه حل‬
‫كانت ُ‬
‫الوضعية‪ ،‬من دون أن توحي له بالجواب‪ .‬كان توجيهها يقتصر على التنبيه إلى بعض الجوانب المساعدة على االهتداء‬
‫المدة الزمنية المحددة اختارت إنتاجات من المتعلمين‪ ،‬تُمثل مختلف مجموعات الفصل‪،‬‬‫إلى حل الوضعية‪ .‬وبعد انقضاء ُ‬
‫وكانت تدفع المتعلمين ُليقوموا ذاتيا إنجازهم‪ ،‬ويقفوا عند الخطأ ومصدره‪ ،‬كما كانت تُتيح للتالميذ تقويم إنتاجات بعضهم‬
‫البعض‪ ،‬وتدفع المتعلم إلى مقارنة طريقة حله للوضعية المشكلة مع طريقة زميله‪ ،‬وتدفعه إلى الوعي باالستراتيجية‬
‫المعتمدة في حل الوضعية‪ ،‬وتفتح نقاشا لتطوير القدرات الميامعرفية‪.‬‬

‫الحالة الرابعة من السلك االبتدائي مادة اللغة العربية‪:‬‬


‫قبل أن تُدرس المعلمة (د) حرف السين‪ ،‬لتالميذ المستوى األول ابتدائي‪ ،‬وضعت على السبورة صورة تتضمن أطفاال‬
‫يتشكلون من مجموعتين‪ :‬المجموعة األولى تضم‪ :‬بدر‪ ،‬نبيل‪ ،‬عبد هللا‪ ،‬والثانية تتألف من‪ :‬سعاد‪ ،‬وسعيد‪ ،‬وياسمين‪.‬‬
‫وبجوار المجموعة األولى صورة فتاة اسمها نسمة‪ .‬قالت المعلمة للتالميذ‪ :‬إن الصورة التي أمامكم تتضمن مجموعتين‪:‬‬
‫المجموعة (أ) والمجموعة (ب)‪ ،‬وهما يستعدان إلجراء مسابقة‪ ،‬ثم استعرضت أسماء كل مجموعة‪ .‬ثم قالت لهم‪ ،‬وهي‬
‫تشير بأصبعها إلى صورة الفتاة نسمة‪ :‬إن نسمة تريد أن تنضم إلى المجموعة األولى‪ ،‬لكن أعضاء المجموعة رفضوا‬
‫ذلك‪ ،‬وقالو لها‪ :‬يجب أن تنضمي إلى المجموعة (ب)‪ .‬لم تفهم نسمة السبب الذي يجعلها ال تنضم إلى المجموعة الثانية‪.‬‬
‫طلبت المدرسة من كل تلميذ أن يساعد نسمة على فهم سبب رفض المجموعة األولى‪ ،‬كي تنضم إليهم؟‬

‫فبغض النظر عن طبيعة المادة الدراسية‪ ،‬في كل حالة من الحاالت المذكورة‪ ،‬وما تستلزمه من خطوات‬
‫ديدكتيكية‪ ،‬فإن كل مدرس تبنى طريقة بيداغوجية مخالفة لألخرى أثتاء تدبيره للدرس‪ :‬فاألول اعتمد طريقة تقليدية (األستاذ‬
‫وينظم التواصل‪ ،‬ويستنتج‪ .‬بينما يكتفي التلميذ بدور‬
‫ويهيكلها‪ُ ،‬‬
‫ويبلغ المعرفة‪ُ ،‬‬
‫الملقن العارف‪ ،)...‬الذي ُيعد الوضعية‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫المستقبل السلبي للمعرفة‪ .‬فالمعرفة هنا تستهدف جميع التالميذ‪ ،‬وال مكان للمعرفة الفارقية‪ .‬يبقى أساس النشاط هنا هو‬
‫المقدمة له داخل وضعية تواصلية جماعية‪.‬‬
‫تفاعل المدرس مع معرفته‪ ،‬بينما يتكيف التلميذ مع األنشطة التلقينية ُ‬
‫أما في الحالة الثانية‪ ،‬فيحرص المدرس على تجزيئ المضامين التعليمية‪ ،‬وتكشف طبيعة األسئلة التي يطرحها على‬
‫التالميذ على أنه ينطلق من أهداف ُمصاغة بطريقة سلوكية‪ ،‬وتُراعي المنطق التدرجي‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫أما الحالة الثالثة‪ ،‬فتُقدم نموذجا لممارسة بيداغوجية متمركزة حول المتعلم‪ ،‬وتعطي أهمية كبيرة لفضاءات التفاعل سواء مع‬
‫األقران أو الراشد‪ ،‬لما لذلك من أثر في تطوير التعلمات‪ .‬لقد اعتمد المدرس(ة) على بيداغوجيا المجموعات‪ ،‬واقتصر دوره‬
‫في مصاحبة نشاط كل مجموعة‪ ،‬وهو اشتغال ينعكس إيجابا على التعلم‪ ،‬لما يوفره من فرص إرساء التعلمات عبر مبدأ‬
‫الصراع السوسيومعرفي‪ . (Conflit socio-cognitif)11‬كما حاول دفع المتعلمين إلى الوعي باالستراتيجيات المعرفية‬
‫والميتا معرفية )‪ .(Métacognitives‬فضال عن ذلك انشغلت طريقة المدرس بتطوير كفايات المتعلمين بدل إيالء أهمية‬
‫إلى استقبال المعارف‪ ،‬أو التركيز على التعلمات المجزأة‪ .‬ولم تعد المعارف تتخذ صبغة خارجية‪ ،‬وإنما أصبحت ذات طابع‬
‫اندماجي‪ ،‬وهي خاصية تُعد ُمحددا جوهريا‪ ،‬لجعل التعلمات قابلة "للنقل" )‪ (Transférabilité‬في إطار الوضعيات‬
‫المشكلة‪ ،‬أو المشاريع‪.12‬‬
‫وإذا كانت الوضعية البيداغوجية تتحدد بموجب العالقة الناظمة بين ثالثة مستويات هي‪ :‬المتعلم والمعرفة‬
‫التعلمية والمدرس‪ ،‬فإن ممارسة المدرس(ة) داخل هذه الوضعية تكشف عن تحول في منطق االشتغال‪ ،‬فلم يعد المدرس‬
‫محور الوضعية‪ ،‬يقتصر دوره في تبليغ المعرفة إلى المتعلمين‪ ،‬بل أصبحنا في إطار منطق بديل قائم على اضطالع‬
‫المدرس بدور ثانوي مقارنة بدور المتعلم‪ ،‬حيث غدا نشاطه تابعا لنشاط المتعلم‪ .‬ويتحدد أساسا في اصطحابه ومرافقته‪ ،‬كما‬
‫ويبدد الصعوبات التي تعترضهم‪،‬‬
‫تحول إلى شخص مورد‪ُ ،‬يقدم المساعدة لمن يحتاجها‪ ،‬ويجيب عن استفسارات المتعلمين‪ُ ،‬‬
‫ويشجع المتعلمين على إنجاز المطلوب‪ ،‬ويقوي الثقة في ذواتهم وقدراتهم‪ ،‬إيمانا منه بالعالقة القوية بين العاملين المعرفي‬
‫والوجداني‪.‬‬
‫وتندرج الحالة الرابعة في إطار بيداغوجيا التعلم‪ ،‬لكون المدرس(ة) سعى إلى وضع التعلمات داخل سياق‪ ،‬وحاول وضع‬
‫المتعلمين في حالة التوازن‪ ،‬من خالل اعتماد وضعية مشكل (أو استكشافية)‪ ،‬لكي يضعهم بعد ذلك في درب التعلم‪،‬‬
‫ويحصل إرساء التعلمات على النحو المطلوب‪.‬‬

‫إن الطرق البيداغوجية المعتمدة في الحاالت المذكورة ليست حصرية‪ ،‬وإنما هي غيض من فيض كما ُيقال‪ ،‬فثمة‬
‫طرق بيداغوجية أخرى‪ ،‬سنبسط أهمها الحقا‪ ،‬يمكن اعتمادها في الممارسات الفصلية‪ .‬لكن ما يسترعي االهتمام في الحاالت‬
‫المذكورة أن الطرق البيداغوجية المستند إليها‪ ،‬تنطلق من خلفيات تصورية ونظرية واضحة المعالم‪ ،‬وتتحدد في ضوئها‬
‫األدوار المسندة إلى كل من المدرس والمتعلم‪ ،‬في عالقة طبعا بالمعرفة‪ .‬وهي قابلة ألن تُصنف‪ ،‬كما ذكرنا‪ ،‬إما إلى‪:‬‬
‫‪ ‬طرق تنسجم مع مقتضيات الباراديكم التعليمي؛‬
‫‪ ‬أو تنسجم مع مقتضيات الباراديكم التعلمي‪.‬‬
‫والمتأمل في الحالتين‪ :‬األولى والثانية يالحظ أن الطريقتين البيداغوجيتين المعتمدتين تنسجمان مع المنطق‬
‫التعليمي؛ بينما تتناغم الطريقتان البيداغوجيتان الواردتان في الحالتين الثالثة والرابعة مع الباراديكم التعلمي‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫يعد مفهوم الصراع السوسيو معرفي عامال للتطور المعرفي‪ ،‬إذ يسهم في إنتاج معارف جديدة‪" ،‬فالتطور المعرفي ذو صلة بتوسع الخطاطات‬
‫الذهنية األولية في اتجاه وضعيات أكثر تنوعا وبمواجهة خطاطات ذهنية أخرى ذات طبيعة مختلفة‪ .‬ولكي يحصل التطور من الالزم أن يتوفر‬
‫التالميذ على خطاطات معرفية لها امتداد مع وضعيات جديدة‪ .‬ويعد هذا شرطا لكي يكون الصراع السوسيومعرفي مصد ار للتطور المعرفي للتالميذ"‪.‬‬
‫‪12‬‬ ‫‪Christian Michelot (2010) « Les nouveaux rôles enseignants », dans Accompagner des étudiants. Quels rôles‬‬
‫‪pour l’enseignant ? Quels dispositifs ? Quelles mises en œuvre ? Benoit Raucent et autres. Ed De boeck. P :347‬‬

‫‪17‬‬
‫والحقيقة أن هذا التمييز ال ُيقصد منه أننا نرسم حدودا فواصل بين مجالي التعليم والتعلم‪ ،‬إذ نرى‪ ،‬كما أشرنا سابقا‪ ،‬أنهما‬
‫يحيالن‪ ،‬داخل السياق المدرسي‪ ،‬على عمليات متكاملة ومتفاعلة‪ :‬فالمدرس عندما يستهدف في إطار حصة تدريس مفهوم‬
‫أو قاعدة‪ ...‬فإن قصده هو أن يتعلم التلميذ‪ ،‬ما سطره من أهداف‪ .‬فكل طرف من طرفي العملية له مهام محددة‪ ،‬فمهمة‬
‫المدرس ه ي التعليم‪ ،‬بينما مهمة التلميذ هي التعلم‪" .‬وعند اللقاء البيداغوجي‪ ،‬فإن كل واحد ينجز جزءا من المسار‪"،‬إن‬
‫التعليم أو التدريس هو فعل يروم إحداث جزء من التعلمات‪ ،‬أي أن هناك مشروعين أحدهما للمدرس‪ ،‬واآلخر للمتعلم‪ ،‬ولكي‬
‫‪13‬‬
‫نضمن نجاحهما من الالزم أن يلتقي المشروعان‪.‬‬

‫إن حديثنا عن باراديكمين بيداغوجيين له مسوغات‪ ،‬فيكفي أن نلقي نظرة على تاريخ الفكر التربوي‪ ،‬لنخرج‬
‫بنتيجة فحواها أن التصورات والمفاهيم والقيم التي تحكم جملة من الخطابات والممارسات التربوية‪ ،‬قابلة ألن تُصنف في‬
‫إطار باراديكم محدد‪ .‬كما نستنتج أن هناك تحوال في الباراديكمات في بعض محطات الفكر التربوي (االنتقال من الباراديكم‬
‫التعليمي إلى التعلمي)‪ ،‬وهو أمر طبيعي‪ ،‬ألن تاريخ الفكر اإلنساني عموما يتميز بحركية ودينامية مستمرة‪ .‬ومن الوارد‬
‫الحديث عن ثورات على المستوى التربوي‪ ،‬مثلما يرد الحديث عن ثورات في حقول معرفية أخرى‪ ،‬فتاريخ البشرية ظل دائما‬
‫خاضعا لهذه الحركية‪ ،‬ولعل الثورة الكيميائية مع الفوازيي)‪ Lavoisier (1789‬خالل القرن الثامن عشر‪ ،‬خير مثال عن‬
‫التحول في التصورات التي تنهض عليها الكيمياء منذ الثورة الفرنسية‪.‬‬

‫لم يخرج الحقل التربوي عن هذه القاعدة العامة‪ ،‬فخالل العقود األخيرة بدأ االتجاه يسير نحو تبني باراديكم‬
‫جديد في مجال التعليم والتعلم‪ ،‬مهدت له الكثير من األعمال المؤسسة‪ ،‬على رأسها النظريات المعرفية والبنائية‪ ،‬التي أتت‬
‫من األساس باإلبطال على مجموعة من التصورات السائدة‪ ،‬وانطلقت من مسلمة مقتضاها أن المعرفة ليست نتيجة للتلقي‬
‫السلبي‪ ،‬وإنما هي حصيلة لنشاط المتعلم‪ ،‬إذ يتعلم هذا األخير عند ما يقوم بتنظيم ذاته من خالل عمليات التكيف‬
‫واالستيعاب والتالؤم‪ ،‬فتحصل جدلية بين معارفه السابقة والمعارف الجديدة‪ .‬إن الرهان على هذا التحول في الباراديكم بدأ‬
‫منذ كالباريد ‪ Claparède‬الذي كان يثوق إلى حصول "ثورة كوبرنيكية" على المستوى التربوي‪ ،‬فيصبح معها المتعلم ينزل‬
‫‪14‬‬
‫منزلة المركز‪.‬‬
‫ويعد كوزيني روجر (‪ Cousinet Roger )1959‬من الذين كشفوا عن هذا التحول في الباراديكم‪ ،‬خاصة في كتابه‬
‫ُ‬
‫"بيداغوجيا التعلم"‪ ،‬وهو عنوان ُمعبر‪ ،‬بال شك‪ ،‬عن االنتقال نحو تصور جديد للفعل التربوي‪ ،‬خاصة عندما يشير في ثنايا‬
‫مؤلفه إلى بعض األوهام البيداغوجية (‪ )Illusions pedagogiques‬المستحكمة في الباراديكم التعليمي‪ ،‬حيث يسود‬
‫االعتقاد التالي‪ :‬كلما علمنا أكثر انعكس ذلك إيجابا على تعلمات التالميذ‪ .‬وهي من العادات الديدكتيكية التي ترسخت لدى‬
‫المدرسين‪ ،‬وأضحت في نظرهم غير منقوص من قيمتها‪ .‬فضال عن ذلك ساد االعتقاد أنه كلما حصل تحول في معارف‬
‫التلميذ‪ ،‬فذلك بفضل عمل المدرس‪ ،‬وإذا حدث العكس فإنه ُيعزى إلى التلميذ نفسه‪ ،‬وال يتحمل المدرس وزر ذلك‪( .‬فالتالميذ‬
‫الجيدون هم من صنع المدرس‪ ،‬أما الضعاف فهم من صنع أنفسهم)‪ .‬والحقيقة التي ينبه إليها كوزيني هي أنه كلما قللنا من‬
‫تعليمنا انعكس ذلك إيجابا على تعلمات التلميذ‪ ،‬ألن الفعل التعليمي يصبح معه المتعلم ينزل منزلة مستقبل للمعلومة‪ .‬بينما‬

‫‪13‬‬
‫ماندر‪.‬م (‪ .)2009‬ص‪16:‬‬
‫‪ 14‬ألتي‪.‬م (‪ . )1998‬ص‪21 :‬‬

‫‪18‬‬
‫فعل التعلم يجعل المتعلم في حالة بحث عن المعلومة‪ .‬من هنا وجب التركيز على نشاط المتعلم‪ ،‬وعلى منهجية التعلم‪،‬‬
‫ووسائل التعلم‪ .‬وتعد هذه نقطة اختالف بين الباراديكمين‪ .‬والستجالء مظاهر التحول في الباراديكم البيداغوجي‪ ،‬يستحسن أن‬
‫نفصل القول في خصوصية كل باراديكم‪.‬‬

‫الباراديكم التعليمي‬

‫تندرج في إطار هذا الباراديكم نماذج وطرق بيداغوجية متعددة‪ ،‬تتخذ مسميات كثيرة‪ ،‬كالنموذج التعليمي‪،‬‬
‫ونموذج البصمة" (‪ ،)Modèle de l’empreinte‬وهو ينطلق من مركزية المدرس‪ ،‬وقابلية المتعلم على التلقي‪ ،‬ويعتقد‬
‫فتبصم في أذهان التالميذ‪ ،‬وبهذا يصبح انشغاله األساس يتجه إلى هيكلة‬
‫المدرس أنه يكفيه أن ُيبلغ المادة التعليمية‪ُ ،‬‬
‫المعرفة التعليمية‪ .‬بينما يتحدد دور التلميذ في تبني مواقف مناسبة‪ ،‬قائمة على اإلصغاء واالنتباه واجترار ما سمعه أو‬
‫فهمه‪ ،‬وتسجيل ذلك في الدفاتر‪ ،‬ليتم الرجوع إليه‪ ،‬أثناء المراجعة في المنزل‪.‬‬

‫تنظيم مبنين للمادة‬ ‫نموذج البصمة‬

‫التذكر‬ ‫التسجيل‬ ‫إعادة القول‬ ‫االستماع‬

‫كما يتميز هذا األنموذج باحتكامه إلى "األعراف"‪ ،‬ولهذا يسهل أن نستخلص منه جملة من المواضعات‬
‫االجتماعية والثقافية‪ ،‬التي تتحكم في الرؤية إلى نظام التربية‪ .‬والناظر في المبادئ التربوية التي يستند إليها ليالحظ بأن‬
‫الن قطة السوداء التي تطبعه هي نظرته إلى الطفل‪ ،‬وهي ليست في منأى عن التقاليد االجتماعية والمواضعات الثقافية‪،‬‬
‫وعلى أساسها تتحدد جملة من األدوار المسندة إليه‪ ،‬كما تتحدد نظرتنا إليه‪ .‬إن السيرورة التعليمية في هذا الباراديكم تتميز‬
‫بالتركيز على تبليغ المعرفة التعليمية‪ ،‬عن طريق اإللقاء‪ ،‬أو أسلوب المحاضرات‪ .‬وبهذا يتبوأ المدرس مكانة خاصة‪ ،‬بحكم‬
‫سلطته المعرفية‪ ،‬فيغدو قطب الرحى في العملية التربوية‪ .‬ويتحول فصله إلى مجرد كائنات تستمع إلى خطابه‪ ،‬وطبعا فإنه‬
‫يحرص كل الحرص على تهييئ األسباب كاملة لتحقيق هذه الوظيفة‪ ،‬من خالل تنظيم فضاء الفصل‪ ،‬واختيار المعدات‬
‫المدرسية والوسائل المناسبة لتكريس سلطته‪ .‬واإلقرار بالسلطة المعرفية للمدرس يلزم عنه حصر دور التلميذ في االمتثال‬
‫ألوامره‪ ،‬كما يترتب عنه الحد من حركية التالميذ‪ ،‬فيعيش الفصل الدراسي حالة سكون‪ .‬وبهذا ُيضيق نطاق التفاعل‬
‫والتواصل داخله‪ ،‬فينحصر هذا األخير فقط‪ ،‬حسب ديوي‪ ،‬في " نقل تراث الماضي إلى الجيل الجديد‪ ،‬وتحصيل ما هو‬
‫مدون في بطون الكتب‪ ،‬وما احتوته عقول الكبار‪ ،‬وبناء عادات السلوك الخلقي وفقا لقواعد الماضي‪ ،‬وإخضاع التلميذ‬
‫لسلطة المعلم المطلقة‪ ،‬وترويضه قس ار على تقبله وتمثله لما ينقله المعلم‪ ،‬والنقل واإلخبار هي الصيغة المهيمنة للتفاعل‬
‫‪15‬‬
‫والتواصل بين التالميذ"‪.‬‬

‫العربي فرحاتي (‪ )2010‬أنماط التفاعل وعالقات التواصل في جماعات القسم الدراسي وطرق قياسها‪ .‬الجزائر‪ .‬ديوان المطبوعات الجامعية‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫‪19‬‬
‫ويمكن أن نرصد بعض المواضعات التي تُميز هذا الباراديكم‪ ،‬تتلخص أوالها في استحكام عامل "االحتفاء"‬
‫(‪ )Célébration‬بالمعرفة‪ ،‬حيث يتوسل المدرس ببالغة اإلغواء‪ ،‬لشد انتباه جماعة الفصل؛ فيتولد انطباع لدى كل تلميذ‬
‫مقتضاه‪ ،‬أن المدرس يخصه بخطابه دون غيره‪ ،‬أثناء توجيهه إلى الجماعة كلها؛ أما الثانية‪ ،‬فيحضر فيها عامل الفرجة‬
‫المتحدث أو الخطيب‪ ،‬في إطار‬
‫(‪ ،)Spectacle‬وهو قريب من العامل السابق‪ ،‬إال أن مدار العناية يتحول من المعرفة إلى ُ‬
‫‪16‬‬
‫فرجة يراهن فيها المدرس على أن يجعل حديثه يترك تقدي ار وإعجابا من لدن الحضور‪.‬‬

‫وقد يتم استجالء خصوصية هذا الباراديكم في ضوء جملة من األبعاد‪ :‬ابستمولوجية وسيكولوجية‬
‫وبيداغوجية‪.‬‬
‫‪.1‬البعد االبستمولوجي‪ :‬يتحدد هذا البعد من خالل رصد طبيعة "المعرفة"‪ ،‬وكيفية تحويلها إلى اكتساب داخل السياق‬
‫المدرسي‪ ،‬ثم إلى إنتاج‪ .‬وفي ضوء هذا المستوى يرد الحديث عن أطر نظرية وتصورية عديدة‪ ،‬يمكن التمثيل بإطارين‬
‫نظريين‪:‬‬
‫نظرية االنضباط الشكلي‪ ،‬وتنطلق من مسلمة مضمونها أن الفرد يولد وهو مزود بملكات غير ُمدربة (الملكات‬ ‫‪‬‬
‫الفطرية)‪ ،‬كالتفكير واإلدراك‪ ،‬وأن التربية مدعوة إلى نقل هذه الملكات إلى "عادات راسخة بالممارسة والتمرين‪ .‬والتمرين‬
‫عبارة عن أفعال مكررة لمهارات محددة"‪ .‬وعلى أساس ذلك تتحدد أدوار المدرس في أنه يصبح مطالبا بانتقاء المعرفة‬
‫الجاهزة وتقديمها‪ ،‬فتتخذ شكل أفعال‪ ،‬تتوافق مع الملكات المستهدفة بالتدريب‪ .‬والمالحظة المسجلة على هذه المعرفة‪ ،‬حسب‬
‫ديوي‪ ،‬أنها تنأى عن االهتمامات الحقيقية لألفراد‪ ،‬كما أن الطريقة المعتمدة في تقديمها تفتقد إلى شرط اإلبداعية‪.‬‬

‫نموذج هربرت سبنسر (‪ :)H.Spencer‬ينسجم تصوره مع خصوصية الباراديكم المذكور‪ ،‬لكونه ينظر إلى‬ ‫‪‬‬
‫التربية على أساس أنها "تشكيل"‪ ،‬أي أن "العقل ليس بملكات فطرية جاهزة ومنفصلة‪ ،‬بل هو القدرة على إنتاج التمثالت‪،‬‬
‫وأن تشكيل العقل إنما يكون بامتثال للمواد التربوية المالئمة"‪ .‬ويرتكز تصوره على "عرض المادة من الخارج‪ ،‬والتي ينتقيها‪،‬‬
‫ويقدمها بخطوة أولى سماها "التحضير"‪ ،‬وتتعلق باستخراج التمثالت القديمة التي ستُنتج فيما بعد التمثالت الجديدة‪ ،‬ثم‬
‫يتفاعل القديم والجديد ثم تأتي مرحلة التطبيق‪ ،‬ليتشكل العقل من ذلك المحتوى‪ .‬ويعطي سبنسر مقاليد السلطة كلها للمعلم‬
‫من حيث كونه هو الذي ينتقي المادة‪" ،‬والمشرف على عملية بناء التمثيل بطرق التبليغ واالنضباط‪ ،‬وفي ذلك تهميش كلي‬
‫‪43‬‬
‫للطاقة الحيوية للتلميذ‪ ،‬والتقليل من دور الميول واالتجاهات حسب ديوي" ص‪:‬‬

‫البعد السيكولوجي‪ُ :‬يفسر رواد السيكولوجيا الفردية العالقة التي تنتظم المدرس بالتلميذ في ضوء هذا النموذح‬ ‫‪.1‬‬
‫التربوي‪ ،‬استنادا إلى (عالقة القوي بالضعيف)‪" ،‬فالقوي يفرض أفكاره‪ ،‬بغية الحفاظ على سيطرته وهيمنته على الضعيف‪،‬‬
‫ويرى أتباع أدلر ‪ Adler‬أن العالقة السلطوية بين المعلم والطفل‪ ،‬تُفسر على أن الكبار قد درجوا منذ القدم على االستمتاع‬

‫‪16‬‬ ‫‪Philippe Poussière (2004) «La gestion du groupe et les communications dans la classe ». dans La‬‬
‫‪pédagogie :une encyclopédie pour aujourd’huit. Édition.ESF‬‬

‫‪20‬‬
‫بشعور القوة على حساب أطفالهم‪ ،‬ويتصرفون فيهم كما يشاؤون‪ ،‬كما لو كانوا متاعا لهم‪ ،‬والصغار ليسوا سوى ميدان‬
‫‪17‬‬
‫يشبعون فيه رغباتهم في الطموح وميولهم في التفوق والكمال"‪.‬‬

‫البعد السوسيولوجي‪ :‬كثيرة هي األعمال التي قدمت تفسي ار سوسيولوجيا لهذا األنموذج‪ ،‬وعلى رأسها عمل‬ ‫‪.2‬‬
‫دوركايم‪ ،‬الذي اعتبره نموذجا للتربية المحافظة‪ ،‬التي تحرص كل الحرص على ضمان استمرار القيم المجتمعية‪ ،‬وإعادة‬
‫إنتاجها‪" ،‬وتعني المحافظة تكييف الفرد ومسايرته لما هو محبوب اجتماعيا‪ ،‬فالطفل يجب أن يتدرج في تعلمه نحو االمثتالية‬
‫والمسايرة‪ ،‬وهو األمر الذي ُيبرر سلطة المعلم‪ ،‬من حيث هي سبيل لتعلم الواجب والطاعة‪ ،‬والتوريث الثقافي‪ ،‬وتلقينه‬
‫لألجيال مبرر من حيث هو جوهر الهوية وهدف التربية‪ ،‬وقيمة التلميذ في القسم تتحدد بمدى امتتاله ومحاكاته وخضوعه‬
‫‪18‬‬
‫للنسق القيمي الثقافي السائد"‬

‫البعد البيداغوجي‪ُ :‬وجهت اعتراضات قوية على الباراديكم التعليمي‪ ،‬من لدن التيار اإلنساني في التربية‪ ،‬خاصة‬ ‫‪.3‬‬
‫منذ أن انفتح مجال البحث على دراسة موضوع نمو الشخص‪ ،‬حيث لوحظ أنه ُيضيق من نطاق الذاتية والحرية في‬
‫المجال التربوي‪ ،‬وطالب بجعل الطفل يحظى بدينامية ذاتية داخل العملية التعليمية التعلمية‪ .‬إن الشخصية اإلنسانية سواء‬
‫كانت طفال أو راشدا تتحدد من خالل "مشروعها الحياتي الذي تتبناه‪ ،‬والذي يدعوها إلى ابتداع ذاتها كشخصية إنسانية‬
‫حرة ومسؤولة وإلى تجسيد "إنسانيتها"‪ ،‬التي تكون في حالتي نقص وتحول ال يهدآن‪ .‬إن التربية مدعوة إلى تفجير الطاقات‬
‫الكامنة لدى المتعلم‪ ،‬وال يمكن أن يتحقق ذلك في منأى عن أنشطة تربوية‪ ،‬تكتسي داللة بالنسبة للمتعلم‪ ،‬تؤثر فيه‪،‬‬
‫وتساهم في تغيير جميع أبعاده الذاتية‪.‬‬
‫كما ظل هذا النموذج محط انتقاد من لدن الكثير من الدراسات التجريبية في مجال التعلم‪ ،‬حيث بينت أن التالميذ الذين‬
‫يكونون في وضعية تسمح لهم بتبليغ أجوبة معينة‪ ،‬يكتسبون بسهولة سلوكا جديدا‪ ،‬خالفا للتالميذ الذين يكونون في وضعية‬
‫استقبال مثيرات معينة‪.19‬‬

‫الباراديكم التعلمي‬

‫في مقابل ذلك‪ ،‬ينطلق الباراديكم التعلمي من حقيقة مضمونها أن الفعل البيداغوجي يتحدد من زاوية‬
‫المتعلم الذي يتعلم‪ ،‬ألن مدار التعلم إنما يكون حوله‪ ،‬وليس المعني بذلك هو المدرس‪ .‬وأن الغاية التي تحكمه هي مساعدة‬
‫المتعلم على بناء تعلماته بنفسه‪ ،‬وتوفير الشروط الكفيلة بتملكها‪ ،‬على نحو يغدو فيه المتعلم في قلب العملية التعليمية‬
‫التعلمية‪ ،‬فهو الفاعل الحقيقي في التعلم‪ .‬مع هذا الباراديكم أصبحت تُستحضر اعتبارات كثيرة خاصة بالمتعلم‪ ،‬كحاجاته‪،‬‬
‫ومراكز اهتمامه‪ ،‬ومنطق تعلمه الخاص‪ ،‬وخطواته التعلمية‪ ،‬والوسائل الكفيلة بمساعدته عل "تعلم التعلم"‪ ...‬فلزم عن هذا‬
‫التصور الجديد للتعلم أن أضحى دور المدرس بمثابة "شخص مورد"‪ ،‬يكيف تصرفاته مع متطلبات وحاجات التالميذ‪،‬‬
‫ويهيئ المشاريع‬
‫فمهمته هي بناء وتنظيم شروط التعلم‪ ،‬التي تساعد التلميذ على نجاح تعلمه‪ ،‬إذ ُيقدم األدوات والوسائل‪ُ ،‬‬

‫العربي فرحاتي (‪ )2010‬ص‪44 :‬‬ ‫‪17‬‬

‫نقال عن العربي فرحاتي (‪ )2010‬ص‪44 :‬‬ ‫‪18‬‬

‫‪19‬‬
‫ماندر‪.‬م (‪ .)2009‬ص‪183:‬‬

‫‪21‬‬
‫والعقود‪ ،‬وينشط وضعيات تعلمية‪ ،‬آخذا بعين االعتبار مساهمات المتعلمين ومبادراتهم وتمثالتهم ومنطقهم وأساليبهم‬
‫ومواصفاتهم التعلمية‪ .20‬أصبح المربي يوفر السياق المساعد على البناء الفعال للمعرفة من لدن المتعلم‪ ،‬محترما مساره‬
‫الخاص وشخصيته المتطورة بشكل تدريجي‪ ،‬إنه ينظم ويختار الوضعيات التعلمية القابلة إلثارة إشكاالت‪ ،‬والتي تتيح إجراء‬
‫ويطور قدراته الميطامعرفية‪ ،‬ويوجهه في بناء معرفته‬
‫تحويل في التمثالت‪ ،‬كما أنه يساعد المتعلم على تحديد استراتيجياته‪ُ ،‬‬
‫بنفسه‪.‬‬
‫لقد بينت أبحاث في مجال علم النفس االجتما عي أن دينامية جماعة الفصل هي عنصر محدد للسيرورة التربوية وأن ذلك‬
‫متوقف على أدوار محددة يجب أن يقوم بها المدرس‪ ،‬إذ أصبح مطالبا بأن ُييسر عمل المتعلمين‪ ،‬ويهيئ مناخا قائما على‬
‫مبدأ القبول‪ ،‬يحتضن المضامين الفكرية والمواقف الوجدانية‪ ،‬ويسخر طاقاته وإمكاناته في خدمة جماعة الفصل‪.‬‬

‫إن إحدى الخصائص الجوهرية للتواصل داخل هذا الباراديك‪ ،‬حسب ألتي‪ ،‬أنه أصبح ينهض على عالقة‬
‫"التوسط"‪ ،‬فلم يعد مقبوال أن ينحصر دور المدرس في تبليغ المعرفة‪ ،‬ليستقبلها بعد ذلك المتعلم‪ ،‬وإنما أصبح مطالبا‬
‫باالبتعاد عن األدوار التقليدية‪ ،‬ليكتفي باالستماع والتبادل والتفاوض‪ ...‬إن دور الوساطة تقتضي من المدرس أن "يقل‬
‫كالمه‪ ،‬وتزداد تصرفاته‪ ،‬وفي اآلن نفسه يسجل مالحظاته"‪ ،‬يرجح الصيرورات التعلمية على الصيرورات التعليمية‪ ،‬ينظم‬
‫‪21‬‬
‫تدبير التعلمات‪ ،‬ويروم تقديم إجابات عن المشاكل التعلمية التي تعترض التالميذ‪ ،‬داخل فصول دراسية غير متجانسة‪.‬‬
‫والحقيقة أن نشاط المدرس يتحدد في عالقة جدلية مع نشاط المتعلم داخل الوضعية التعلمية‪.‬‬

‫يجعل الباراديكم التعلمي مناط عناياته اإلجابة عن سؤالين مركزيين هما‪ :‬كيف يتعلم التلميذ؟ وكيف‬
‫ُنطور الوسائل التعلمية‪ ،‬متوسلين بأدوات بيداغوجية وديدكتيكية؟‪ .‬إنه ينشغل بتزويد المتعلم بأدوات تضمن نجاح التعلمات‪،‬‬
‫وقد يرد الحديث هنا عن بيداغوجيات وسائل التعلم‪ ،‬لكونها تُركز على وسائل تعلم المتعلم ونجاحه‪ .‬إن التعلم وفق هذا‬
‫المنظور من اختصاص المتعلم‪ ،‬بينما المدرس مدعو إلى مراعاة المنطق التعلمي الداخلي للتلميذ‪ ،‬وتدبير شروط التعلم‬
‫المسهل (‪ ،)apprentissage facilitatrice‬وذلك بتهيئة األسباب كاملة لضمان نشاط فعال للمتعلم بحيث يخوض في‬
‫غمار البحث واالكتشاف‪ .‬وهو أمر يصعب أن يحدث ما لم يحرص المدرس على إعداد وضعيات تفي بالغرض المطلوب‪،‬‬
‫وتتميز طبعا بالتنوع‪ :‬وضعيات مفتوحة‪" ،‬وضعيات مشكلة"‪ ،‬وضعيات تعلمية فارقية‪ ،‬وفردانية‪" ،‬العمل داخل مجموعات‬
‫تعلمية أومجموعات الحاجة"‪...‬إن تدخالت المدرس تنطلق من تحليل تعلمات التلميذ‪ ،‬والتبصر باإلجراءات والخطوات‬
‫واآلليات المعرفية التي يستخدمها المتعلم‪.‬‬

‫كما يستهدف الباراديكم التعلمي تطوير استراتيجيات المتعلم المعرفية والميطامعرفية‪ ،‬وتطوير قدرته على‬
‫إنه‬ ‫‪22‬‬
‫التعلم والتفكير‪ ،‬في أفق بلوغ مرحلة فطام التلميذ‪ ،‬وذلك بتمكينه من الوسائل الضرورية الكفيلة بضمان استقالليته‪.‬‬
‫بهذا يروم جعل المتعلم أكثر استقاللية في تعلماته‪ .‬وتجدر اإلشارة إلى أن دواعي االنشغال باالستراتيجيات التعلمية كون‬
‫مجموعة من الباحثين الحظوا أن المتعلمين المتفوقين‪ ،‬خاصة في مجال اللغات‪ ،‬يتوسلون في تحصيلهم أو تعلمهم‬

‫‪20‬‬
‫المرجع نفسه ص‪21 :‬‬
‫‪21‬‬
‫ألتي‪.‬م (‪ )1998‬ص‪22:‬‬
‫‪22‬‬
‫المصدر نفسه‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫بسلوكات وتقنيات محددة‪ ،‬وبدا لهم أنه يمكن أن نساعد التالميذ الذين تعترضهم صعوبات تعلمية‪ ،‬وذلك بجعل المتفوقين‬

‫يعلمون أقرانهم ممن يعانون صعوبات تعلمية تلك التقنيات الكفيلة بتطوير تعلماتهم‪ُ .‬‬
‫ويعرف كوثر كوجك (‪)1997‬‬
‫استراتيجية التعلم بأنها "مجموعة من اإلجراءات المستخدمة للتعلم‪ ،‬تُنفد في صورة خطوات‪ .‬تتحول كل خطوة إلى أساليب أو‬
‫تكتيكات جزئية‪ ،‬تتم في تتابع مقصود ومخطط‪ ،‬لتحقيق األهداف بفاعلية أكبر وبقدر واضح من المرونة"‪ .23‬إن‬
‫االستراتيجية التعلمية تمثل "مختلف التقنيات واإلجراءات التي يستخدمها األفراد الكتساب وتخزين المعلومات‪ ،‬ثم إعادة‬
‫استخدامها مستقبال‪ ،‬فهي إذن‪:‬‬
‫إجراءات أو تقنيات هادفة يستخدمها المتعلم في تعلمه‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫تتم في تتابع مقصود ومخطط له مسبقا‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫تتميز بكونها واعية أو شبه واعية"‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مبادئ الباراديكم التعلمي‬

‫وإذا شئنا تحديد أهم المبادئ التي تُميز الباراديكم التعلمي‪ ،‬فإنه يمكن حصرها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ ‬المتعلم فاعل أساس في بناء تعلماته‪،‬‬
‫‪ ‬التركيز على حاجاته ‪،‬‬
‫‪ ‬مراعاة منطقه‪ ،‬وخطواته التعلمية وأسلوبه التعلمي‪،‬‬
‫‪ ‬جعل التعلم يكتسي داللة‪،‬‬
‫‪ ‬المدرس بمثابة شخص مورد‪ ،‬يتصرف في ضوء حاجات المتعلم‪،‬‬
‫‪ ‬اضطالع المدرس بمهمة توفير الشروط الكفيلة بنجاح التعلم‪،‬‬
‫‪ ‬تنشيط المدرس للوضعيات التعلمية‪ ،‬ومراعاة تمثالت المتعلمين‪ ،‬ومساهماتهم ومبادراتهم وملمحهم التعلمي‪،‬‬
‫‪ ‬تهيئ السياقات المناسبة للتعلم‪ ،‬فالمربي مطالب بخلق سياق يساعد المتعلم في بناء المعرفة بكيفة نشطة‪" ،‬مع‬
‫احترام مساره الخاص والتطور التدرجي لشخصيته"‪،‬‬
‫‪ ‬تنظيم واختيار الوضعيات التعلمية الكفيلة بتحويل تمثالت المتعلمين‪ ،‬ومساعدتهم على تعرف استراتيجياتهم‪،‬‬
‫وتطوير قدراتهم الميتامعرفية‪،‬‬
‫‪ ‬ارتكاز التواصل على عالقات "الوساطة" واإلصغاء والتبادل والعرض واالعتراض‪ ،‬والحوار الذي يسمح بجعل‬
‫التعلم يكتسي طابعا فردانيا‪.‬‬
‫‪ ‬نشاط المدرس داخل الوضعيات التعلمية يكون في عالقة جدلية مع نشاط المتعلم‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وحبيب تيلوين (‪ )2007‬الدافعية واستراتيجية ما وراء المعرفة ص‪60:‬‬

‫‪23‬‬
‫نستنتج في ضوء ما سبق أن الطرق البيدغوجية يمكن تصنيفها إلى نوعين متغايرين‪ ،‬بالنظر إلى الباراديكم‬
‫البيداغوجي الذي تصد عنه‪ :‬الباراديكم التعليمي أو الباراديكم التعلمي‪ .‬وال يعني من هذا التنميط وجود فصل بين مجالي‬
‫التعليم والتعلم‪ ،‬ففي السياق المدرسي‪ ،‬تغدو عملياتا التعليم والتعلم متكاملتين ومتفاعلتين‪.‬‬

‫‪24‬‬

You might also like