Professional Documents
Culture Documents
البيداغوجيات - المفهوم والتصنيف
البيداغوجيات - المفهوم والتصنيف
المقر الرئيس
البيداغوجيات
والتصنيف
بيداغوجية المفهوموالنماذج ال
نظريات التعلم
من الباراديكم التعليمي إلى التعلمي
1
الطرق البيداغوجية والتحول في البارديكمات
2
إضاءة مفاهيمية
تعد الطريقة تنظيما ُمسننا( )codifiéمن التقنيات والوسائل ،تُعتمد للوصول إلى هدف معين .والمقصود
بمفهوم ُمسنن أن أجزاء الكل تُشكل مجموعة منسجمة ،و ُمصورنة ( )formaliséوقابلة للتبليغ .وعندما تُطبق بشكل صحيح
تتولد عنها النتائج نفسها .وقد يتضح هذا المفهوم عند مقابلته بمفهوم آخر هو "االستراتيجية" :فإذا كان هذا األخير"تنظيما
من التقنيات والوسائل ،تُعتمد للوصول إلى هدف محدد" ،فإن منشأ االختالف يكمن في أن تعريف الطريقة يتضمن كلمة
فاصلة هي " ُمسنن" ،إذ ترسم الحدود بين المصطلحين .فعلى أساس التعريفين المذكورين يمكن القول إن الطريقة هي
استراتيجية ُكتب لها النجاح ،وأصبحت تُتداول على نحو ُمسنن .كما تتسم بكونها معرفة موضوعية ،قابلة للتبليغ أو
اإليصال ،وتوجد في منأى عن الفرد1.والجدير بالذكر أن أغلب المهن تكاد تستند إلى طرق محددة ومعروفة ،يتقاسمها
المختصون ،وال يخرج حقل التربية عن هذا اإلطار .لكن عند توظيف مصطلح استراتيجية يرُد الحديث عن معرفة شخصية.
ال يسلم تعريف البيداغوجيا من وجود مغامرة غير مأمونة ،لكونه من المفاهيم التي أثارت جداال كبي ار في
حقل علوم التربية ،وانشغلت الكثير من الدراسات بتحديده بكيفية تسمح باتضاح طبيعة الصلة القائمة بينه وبين مفاهيم
تنتمي إلى الحقل الداللي نفسه ،ونعني تحديدا مفهوم الديدكتيك .ومن التعاريف التي تُقدمها بعض المعاجم الموسوعية في
المجال التربوي (معجم المفاتيح األساس في الديدكتيك) ما يلي:
3
"تُحيل البيداغوجيا عموما على نمط من مقاربة وقائع تعليمية وتعلمية ،إذ ال تُراعي مضامين المواد الدراسية ،وإنما تحرص
على فهم األبعاد العامة أو المستعرضة للوضعيات المستهدفة بالتحليل ،والتي تتصل بالعالقات القائمة بين المدرس
والمتعلمين ،وبين المتعلمين فيما بينهم ،كما ترتبط بأشكال السلطة والتواصل المعمول بها داخل الفصل الدراسي ،أو داخل
مجموع المتعلمين .باإلضافة إلى ذلك تتصل بنمط العمل واُلعدد ،وكذا اختيار الوسائل ،والطرق والتقنيات التعليمية،
والتقويمية ...الخ.
يمكن للمقاربات البيداغوجية ،أن تتخذ مسارات متعددة ،فقد تتخذ طابعا نظريا ،كأن تكتفي بوصف نماذج بيداغوجية
محددة ،أو تُزاوج بين البعدين النظري والعملي ،فتُحلل الفعل البيداغوجي وممارساته ،أو تأخذ شكل إمالءات
2
( ،)Prescriptiveفتطلب من المدرس بأن يعمل بهذه الكيفية أو بأخرى.
ال يخلو كل حديث عن العالقة التي تربط علوم التربية بالبيداغوجيا والديدكتيك من صعوبات كبيرة ،بل إن النقاشات
التي خاضت في هذه العالقة لم تكن في منأى عن السجال العقيم ،ومن مظاهره أنه ُنظر إلى الديدكتيك نظرة دونية ،حيث
ُحصرت مهمتها في تقديم خطوات وتقنيات تدريسية .لكن في مقابل هذه الرؤية القائمة على منطق صراعي ،نجد أعماال
أخرى ،كرينال وريونيي ( ، Rieunier Raynal )1997سعت إلى استجالء العالقة بين المباحث الثالثة ،من خالل
االهتداء إلى ُموجهات ،كفيلة برسم خريطة دقيقة تتضح فيها معالم كل حقل ،وتنجلي في ضوئها جملة من المفاهيم،
وتتجلى في ضوئها العالقة التكاملية بين المباحث الثالثة .لقد حرص الباحثان على تقديم توضيح تصوري دقيق وذلك
بالوقوف عند الغاية التي تحكم كل فاعل داخل المباحث الثالثة المذكورة .ففي حقل البيداغوجيا ،يجعل المربي
( )Pedagogueغايته األساس هي اإلجابة عن أسئلة ذات ارتباط قوي بالفعل التربوي ،من قبيل:
"ماذا نعرف عن التعلم اإلنساني الذي يخول لنا بناء استراتيجيات تعليمية فعالة؟ ما هي منهجية التدريس األكثر فعالية
بالنسبة لهذا النوع من التعلم؟ وأيضا كيف يمكن أن ُنوثر تعلم القراءة ،بناء على إعداد مذكرة صغيرة بالقسم االبتدائي؟".
وهذا الصنف من األسئلة ُيتيح توضيح مجال حقل البيداغوجيا ،ذلك أن "المربي" يغدو ممارسا أو رجل ميدان ،يضع نصب
أعينه البحث عن حلول للمشاكل التعليمية التعلمية الملموسة التي تعترضه" ،ويبقى المصدر األساس "لحدسه البيداغوجي"
هو العمل ( )Actionوالتجربة ( )Experimentationاللتين يستمد منهما الصالحية والتشجيع".
أما الباحث في علوم التربية فانشغاالته غير متصلة كثي ار بالممارسات التعليمية ،ولكنها في اآلن نفسه يمكن
أن تمثل مناط اهتمام المربي ،من ذلك" :ما أسباب الفشل الدراسي؟ ما العالقة القائمة بين التعلم ونظرية المعالجة
اإلخبارية؟ لكي يتعلم التلميذ هل يجب بالضرورة أن يرتكب أخطاء؟".3
2
Cohen-Azria Cora ; Daunay Bertrand et autres (2007) Dictionnaire des concepts fondamentaux des didactiques.
Édition. de Boeck. P : 161
3
المرجع نفسه
4
وهذا الصنف من األسئلة يبين أن االنشغال األساس للباحث في علوم التربية هو تقديم مساهمات من شأنها تطوير المعرفة،
التي تتصل ،من قريب أو من بعيد ،بمجال التربية والتعليم.
أما الباحث في المجال الديدكتيكي ،فبحكم تخصصه في مجال المواد الدراسية ،فإنه يهتم أساسا بمساءلة
جملة من المواضيع والمفاهيم والمبادئ التي ستشكل مادة تدريسية .كما أنه مدعو إلى "تقييم مستوى التالميذ (الصعوبات
الفردية ،والتمثالت الشخصية )...لتعرف العوائق ذات الطبيعة االبستمولوجية أو السيكولوجية ،والتي يجب عليه تجاوزها من
أجل المساهمة في بناء التعلمات .وبهذا فإن عمل الديدكتيكي يتحدد في معالجة المعلومة ،أي تعرف "المعرفة العالمة"
( )Savoir savantأو المعرفة المرجعية ( )Savoir de référenceوتحويلها إلى "معرفة تعليمية".4
إن من مميزات هذا التحديد أنه تفطن إلى مواطن التكامل بين الحقول الثالثة ،وأبعد كل نظرة تحرص على إقامة هوة بين
مجاالت معرفية ،تستعصي في األصل على الخضوع لهذا المنطق الفصلي .بل واقع الحال يشهد أن الممارسة التعلمية
التعليمية تُراهن على منطق االشتغال وفق رؤية تكاملية.
4
المرجع نفسه
5
البيداغوجيات :إشكالية التصنيف
جميع البيداغوجيات هي طرق تنظيمية وتدبيرية للتعليم والتعلم ،وتفكير يستهدف تسهيل التعلم ،غير أنها
تبقى غير متجانسة من حيث أسسها والطرق التربوية المتوسل بها وخلفياتها .وبفعل تنوعها سعى الكثير من المؤرخين
للشأن التربوي إلى إقامة عدة تصنيفات .بعضها ذو طابع ثنائيُ ،يميز في ضوئه بين نموذجين :األول ،يمكن نعته
بالبيداغوجيا المتمركزة حول المدرس ،وُيعرف بمسميات أخرى "كالطريقة التقليدية"؛ والثاني متمركز حول المتعلمُ ،
ويعرف
كذلك بأسماء أخرى ،كالطرق الحديثة أو الجديدة .وعلى الرغم من شيوع هذا التصنيف وأهميته يبقى ،في نظر البعض،
المميزة بين مختلف الطرق البيداغوجية ،فما يمكن أن ندرجه في
قابال لالعتراض عليه ،لكونه ال يحيط بدقائق السمات ُ
طرحت بدائل تصنيفية أخرى ،تحاول أن تقف عند إطار نموذج معين ،يقبل أن تتفرع عنه نماذج أخرى .من هنا ُ
خصوصيات بعض الطرائق البيداغوجية ،وتسعى إلى وضع خريطة دقيقة في هذا المجال.
الفعل التصنيفي
تعترض الفعل التصنيفي للطرق البيداغوجية صعوبات كبيرة ،ربما بسبب تعدد النماذج الممتدة عبر التاريخ
الطويل ،إذ تتباين بتباين تصوراتها لمجموعة من المفاهيم والقضايا المحددة ،لعل أهمها هي:
.1مفهوم الطفولة؛
.1وظيفة المدرسة ودورها االجتماعي؛
.2مفهوم المعرفة أو الثقافة المدرسية وطرق نقلها وتدريسها؛
.3دور المدرسة والجهاز الديدكتيكي الموظف في التدريس؛
.4العالقة البيداغوجية.5
أضحت هذه المحددات بمثابة سمات مميزة ،تتيح رسم بعض الحدود الفواصل بين البيداغوجيات
المعاصرة وسابقاتها ،أو بين تصورين قد ُيؤطران ضمن صنف واحد (بيداغوجيا تقليدية مثال) ،فقد نتوسل بمفهوم الطفولة
لنقف عند االختالفات القائمة داخل الفلسفة اليونانية القديمة أو بينها وبين فلسفات القرن الثامن عشر أو فلسفات عصر
النهضة .وبال شك فإن رصد االختالفات بين التصورات والمذاهب بناء على الوسائط المذكورة سي ُجر ،ال محالة ،إلى
السقوط في منزلق تأريخي ،يروم ضم ما اتسع مجاله ،وتشعبت مباحثه عبر السيرورة الزمنية الطويلة.
5
عبد الحق منصف( . )2007ص17:
6
وقد ُيعزى التعدد الكبير في النماذج البيداغوجية إلى تنوع المرجعيات النظرية ،نظريات التعلم أو سيكولوجية التعلم ،فكثيرة
هي الطرق البيداغوجية التي تستند إلى خلفية نظرية دون أخرى ،أو تزاوج بين مرجعيات متعددة ،ويعد هذا العامل أيضا
سببا في غنى التصورات البيداغوجية.
لكن ماذا عن المعايير التي يمكن االستناد إليها في عملية التصنيف؟ تستند الكثير من األعمال ،التي تؤرخ وتُصنف
التيارات البيداغوجية ،إلى جملة من المعايير الكفيلة بإدراك خصوصية كل نموذج بيداغوجي .بيد أن هذا العمل التصنيفي
ال يخلو من مشاكل ،بسبب كثرة المعايير المعتمدة .لقد حاول ،في هذا الصدد ،بيتراند و فالوا (Bertrand et )1979
Valoisرصد الئحة كبيرة من المعايير ،التي ُدرج على اعتمادها في تصنيف البيداغوجيات ،وحدد ما ُيقارب ثمانين معيارا،
من أهمها:
-مكانة المعرفة؛
-الغاية؛
-دور التلميذ أو المدرس؛
... -
والحقيقة أن كثرة المعايير تزيد من صعوبة الفعل التصنيفي ،وتصبح مسوغا لتصنيفات كثيرة .ويمكن في هذا اإلطار أن
نقدم نماذج من التصانيف المعروفة في األدبيات التربوية ،مع بيان خصوصيتها.
تصنيف ثنائي
من التصانيف األكثر تداوال في الحقل التربوي ،كما ذكرنا ،تلك التي تُميز النماذج البيداغوجية على أساس
ثنائي ،فتتحدث عن نموذجين:
6
Meirieux.Ph « Les voix de la pédagogies » dans Jean Claude Ruano-Bordalan (et autre) (2002). p :41
7
أما النوع الثاني ،فيحرص على جعل الوضعية متمركزة حول التلميذ ،فهو الذي يبني معارفه الخاصة ،وينزل
المدرس ،في هذه الحالة ،منزلة شخص مورد ( ،)Personne ressourceحيث ُيشخص حاجات المتعلمين ،ويقدم لكل
7
فئة الوسائل واألدوات المالئمة ،ويصاحبهم في مسارهم الفردي.
ولعل أهم خاصية تُميز بيداغوجيا التعلم هي أنها تعتمد على مبدأ "التعاقد" ،انطالقا من أهداف تم التفاوض حولها ،وتحرص
على إشراك الجميع في هذه السيرورة ،وتجعلهم "نشطين" ،ويعملون على تقويم أدائهم بنفسهم .وإذا كانت البيداغوجيا التقليدية
تتميز بهيمنة االنتقاء الحاسم ،الذي ال يستحضر مستويات المتعلمين ومداركهم وإيقاعاتهم ،فإن الثانية تتسم بكونها تنصرف
إلى بناء نموذج للنجاح التفريدي ( )Différenciéeبكيفية متدرجة ،وتُتاح لكل متعلم إمكانية الوصول إلى األهداف
المسطرة والمختلفة ،األمر الذي ُيسهم في ضمان مبدأي المساواة واإلنصاف .
ال شك أن هذا التمييز الثنائي يكتسي أهمية كبيرة ،لكونه يقدم يرصد أهم السمات المميزة لنموذجين تربويين
متعاندين ،إال أنه بالرغم من ذلك ال يسلم من المؤاخذة ،لكونه يقدم لنا هذه النماذج البيداغوجة وكأننا أمام مناطق بينها
حدود فواصل ،ال نملك إال أن نختار منطقة محددة ،لتتحدد الهوية البيداغوجية لكل فاعل تربوي ،وال يشفع لنا أن نراوح
العمل بين النموذجين المذكورين .باإلضافة إلى ذلك فإن وضع جميع الطرائق التقليدية في خانة واحدة ال يسلم هو اآلخر
من االعتراض:إن الفعل التربوي داخل الوضعيات ال يقوم على تعارض تام بين بيداغوجيا متمركزة حول المتعلم وأخرى
حول المدرس ،فالحدود ليست قواطع بينهما .إن كل صنف بيداغوجي ال يوجد في الواقع الفعلي بكيفية خالصة ،فكل
ممارسة تدريسية ،عبر الخط الزمني للوضعيات ،يمكن أن تقيم مراوحة بين النموذجين المذكورين.
تصنيف هوساي
أما تصنيف جان هوساي ،Jean Houssayeفيطرح تصنيفه باالستناد إلى المثلث البيداغوجي ،حيث
ينطلق من ثالثة وسائط هي :المعرفة والمدرس والتلميذ .ومقتضى هذا التصنيف أن أي وضعية بيداغوجية تتمفصل حول
المحددات الثالثة المذكورة .وفي كل نموذج بيداغوجي نالحظ ثبوت وسيطين من الوسائط الثالثة ،واستحكامهما ،ويتم
التخلي عن العنصر الثالث ،والذي يبقى على الرغم من ذلك في تواصل مع الوسيطين اآلخرين .وعلى أساس ذلك يرد
الحديث عن ثالثة نماذج بيداغوجية:
8
نموذج قائم على سيرورة تكوينية ( ،)Le processus _formerحيث التركيز على الصلة القائمة بين المدرس والتلميذ،
وتكون المعرفة حاضرة هنا ،ولكنها تضطلع بدور ثانوي .إن هذا النموذج يحضر في البيداغوجيات التي تصرف همها
إلى التكوين والتنشئة( .)socialisation
9
نموذج قائم على سيرورة التعلم ( :)Le processus_apprendreوهو ينشغل بالعالقة المباشرة القائمة بين المعرفة
والمتعلم ،كما ُي ركز على سيرورة تعلم التلميذ/المتعلم ،وعلى نشاطه داخل الفصل خالل جريان التعلم ،وليس فقط على
اإلنجاز النهائي خالل التعلم .وفي ضوء هذا النموذج يصبح المدرس بمثابة وسيط ،ويتحدد دوره في تنظيم الوضعيات،
وتهيئة الشروط الخارجية للتعلم ،ومرافقة المتعلم وربطه بالمعرفة.8
أسلوب وعلى أساس هذا التصنيف ،يمكن أن نؤطر مجموعة من الطرائق والبيداغوجيات :فالنموذج األول ،يضم
المحاضرات ،وأسلوب "أسئلة/أجوبة" التي تكون مغلقة في غالب األحيان ،ويدفع المدرس المتعلم إلى انتقاء الجواب
المطلوب.
أما في النموذج الثاني ،فيمكن أن ندرج داخله بعض البيداغوجيات الحرة ،والطرائق التي تُهيمن عليها الرؤية االشتراكية،
فتجعل أس اهتمامها تطوير التواصل والبعد العالئقي بين العنصرين.
بينما يضم النموذج الثالث كل بيداغوجيات التعلم ،والعمل الذاتي للمتعلم ،والطرق التي تُهيئ الوسائل والطرق التي يتفق
حولها التالميذ والمدرس (بطاقات التصحيح الذاتي ،وخطط العمل) ،كما يندرج داخله التعليم المبرمج ،على الرغم من أنه قد
يكون أقرب إلى السيرورة التعليمية.
10
تصنيف ماركريت ألتي
وفي مقابل هذا التصنيف ،يمكن أن نقدم تصو ار تصنيفيا آخر ،ينهض على مقاربة نسقية ()systémique
دينامية ،تتبناه ألتي ( ،)1991حيث تنطلق من المثلث البيداغوجي المعتمد في التصنيف السابق ،لكن الميزة التي يتمزى
بها تصنيفها أنه يستحضر المثلث البيداغوجي (المعرفة ـ المتعلم ـ المدرس) ويضيف إليه ُمحددين آخرين هما :التواصل
والوضعية البيداغوجية ،وذلك سعيا منها إلى إغنائه واستدراك نقائصه .وُيعرف هذا التصنيف بالنموذج التواصلي والتنظيم
البيداغوجي(.)régulation pédagogique
ينطلق هذا النموذج من تحديد للبيداغوجيات على أساس أنها "تنظيم وظيفي وجدلي بين سيرورة
تعليمية تعلمية وتعلمية تعليمية" ،ويعطي أهمية كبيرة للوضعية البيداغوجية التي ُيهيئها المدرس ،وللعملية التواصلية التي
الممرر والوسيط،
تربط المدرس بتالميذه في عالقة بالمعرفة والغايات .بمعنى آخر ،أضحت البيداغوجيا تُركز على نشاط ُ
ويسهل مختلف عناصر العملية
الذي ُيقيم الجسور عبر التواصل والضبط الوظيفي(ُ ،)régulation fonctionnelle
التعليمية التعلمية داخل وضعية معينة .تصف ألتي( )1998مقاربتها بالنسقية ،9ألنها تأخذ بعين االعتبار مختلف العناصر
التي تتمفصل جدليا ،وترتبط بالعملية التعليمية التعلمية ،كالتركيب والشمولية والتفاعالت و"الضبط الوظيفي"
والدينامية...وترجع أصول هذا التصور إلى كاني ( ،R.Gagne )1975الذي يرى أن النظر إلى التعليم والتعلم بطريقة
نسقية يستدعي معالجة مشكل التفاعالت القائمة بين النسق التعليمي الخاص بالمدرس ونسق التعلم الخاص بالمتعلم .من
هنا نفهم العلة الثاوية وراء قرن التعليم بالتعلم داخل وحدة متكاملة .إن التعلم المدرسي من هذا المنظور يتحدد "كعملية
نسقية دينامية ،تتضمن التواصل والتفاعل واسترجاع الفعل( )rétroactionوالتعديل المتتالي)ajustement
،10")successifويركز على التفاعل بين الشروط الداخلية للتعلم الخاصة بالمتعلم والشروط الخارجية المتجسدة في فعل
المدرس" .إن البيداغوجيا ترتبط بالشروط الخارجية التي يشغلها المدرس ،وبالعملية التفاعلية لفعلي التعليم والتعلم
وبالوضعيات التي ينظمها المربي للمتعلم.
ويمثل الرسم أسفله اختزاال لتصورها البيداغوجي ،القائم على خمسة عناصر.
9
ألتي.م ( .)1998ص16:
10
المصدر نفسه
11
الغاية
مجال البيداغوجيا
التواصل
معرفة
مجال الديدكتيك
إن االنطالق من هذا النموذج يتيح رصد معالم ومميزات كل تيار بيداغوجي ،وبهذا يرُد الحديث عن
االتجاهات التالية :البيداغوجيا التلقينية والبيداغوجيا المتمركزة حول المتعلم والبيداغوجيا االجتماعية ،والبيداغوجيا المتمركزة
حول تقنيات التعليم ،وبيداغوجيا التعلم.
البيداغوجيا التلقينية :يركز هذا التيار على الفعل التعليمي ،ألن االهتمام األساس يتحدد في نقل المعرفة وتبليغها .ويحتل
ويهيكلها وينقلها .وفضال عن ذلك تستحكم العالقة العمودية بين
المدرس مكانة مركزية ،لكونه هو الذي يختار المعرفةُ ،
طرفي العملية التعليمية .وتبقى أهم خاصية تُميز هذا النموذج أنه ُيرجح تمفصل العناصر التالية :المعرفة والمدرس على
حساب المتعلم والوضعية.
البيداغوجيا المتمركزة حول المتعلم :تستحضر ذات الطفل وشخصيته ،وميوالته واهتماماته ،وتدفع المتعلم إلى اكتشاف
المعرفة بنفسه وهيكلتها .ويصبح دور المربي محصو ار في إعداد وضعيات تعلمية إلى المتعلم ،من شأنها أن تجعله نشطا،
12
مع مصاحبته في بحثه عن المعرفة وبنائها .ويحرص المدرس على تكييف فعله مع شخصية الطفل ،ويمنح المتعلم مجاال
واسعا للتصرف ،ويساعده على إعادة تنظيم معرفته .و تتخذ عملية التواصل بين المتعلم والمدرس طابعا أفقيا ،وتغدو عملية
بناء شخصية التعلم هي بؤرة االنشغال .وتندرج بيداغوجيات عديدة في إطار هذا التوجه ،من بينها بيداغوجيا النشيطة
لديكرولي ،لكونها تستحضر ميوالت الطفل وتراعي اهتماماته .وتبقى أهم المعالم الكبرى التي تُميز هذا النموذج هو ترجيحه
لعنصري المتعلم والمدرس على حساب عنصري المعرفة والوضعية.
البيداغوجيا االجتماعية :يجعل هذا التيار البيداغوجي من أهدافه األساس تطوير مجتمع جديد ،لهذا يركز على التكوين
االجتماعي للفرد .وتتحدد الخطوطه العامة لهذا االتجاه في تركيزه على مدرسة متمركزة حول الطفل ،غير أن نظرته لهذا
األخير تقوم على اعتباره عضوا وفاعال داخل مجموعة اجتماعية .وعلى أساس هذا المنطلق ُيصبح التعلم يكتسي طابعا
اجتماعيا ،وتتحدد في ظل ذلك المهام األساس للمدرس ،حيث يغدو مطالبا بتنشئة المتعلم اجتماعيا ،ومساعدته على
االندماج داخل المجتمع ،والوعي بالواقع ،ودفعه إلى التصرف داخله .ومن ممثلي هذا التيار "البيداغوجيا الماركسية" مع
Makarenkoو"التطورية"( ،)P.progressisteمع سندرس Syndersو"البيداغوجيا االجتماعية اإلنتاجية"
( )P.socialiste et productiveمع فريني .إن أساس هذه البيداغوجيا ليس التواصل الذي ُيعقد بين مدرس وتلميذ ،وإنما
العمل الجماعي الذي ُيهيئه المدرس ،والتعاون الذي ينتظم التالميذ .ولعل أهم ما سمة تُميز هذا النموذج هو ترجيحه
للتمفصل القائم بين العناصر التالية :المتعلم والتواصل والوضعية االجتماعية.
البيداغوجيا المتمركزة حول تقنيات التعليم :تتبنى هذه البيداغوجيا مقاربة صارمة ونسقية وعلمية للمشاكل التربوية ،من أجل
عقلنة الفعل التربوي ،وجعل المدرسة ُمتكيفة مع المجتمع التقني الصناعي ،مستعينة في ذلك بالوسائل التكنولوجية ،كما
تروم تطوير العملية التعليمية التعلمية بسعيها إلى دفع المتعلم لكي يصبح نشطا ،وذلك بجعله يواجه معرفة مبرمجة ،يكون
مطالبا باكتشافها وإعادة بنائها .يندرج التعليم المبرمج وبيداغوجيا األهداف ضمن هذا اإلطار ،حيث تُقدم للمتعلم وضعيات
ويحلل المشاكل
تعلمية تخصه بمفرده ،وتراعي إيقاعه التعلمي الخاص .ويطلع المدرس بمهمة برمجة المعرفة والوضعيةُ ،
ويتصور التعليم والتعلم من
التي ترتبط بالعملية التعليمية التعلمية ،وهو األقدر على تصور ما يجب على التلميذ إنجازهُ .
منظور تدبير البرامج والرقي بالموارد ،وتقويم المنتوج والعمليات الكفيلة بتحقيق األهداف المسطرة .إن هذا االتجاه يتناغم مع
بيداغوجيا األهداف ،التي تعمل على تقطيع المعرفة .والسمة العامة التي تُميزه هو ترجيح المدرس لعنصري المتعلم
والوضعية.
البيداغوجيات المتمركزة حول التعلمُ :يحدد الفعل البيداغوجي من منظور هذا التيار من زاوية المتعلم وليس من زاوية
المدرس ،ولهذا أصبح المدرس ينزل منزلة شخص مورد( ،) Personne-ressourceتتحدد أدواره األساس في مساعدة
المتعلم على تملك المعرفة بنفسه ،لهذا يكتفي ببناء وتنظيم شروط التعلم الحقيقية ،والمساعدة على إرساء التعلم ،مع
استحضار حاجات المتعلم وميوله وتمثالته ،والوسائل التي تضامن حصول التعلم...ومساعدته على الوعي باستراتيجياته.
13
وعالوة على ذلك يغدو التواصل داخل هذا النموذج قائما على عالقات التوسط ،لكون المعرفة يبنيها المتعلم ،ويقتصر
المدرس على دور الوسيط .كما يرتبط نشاط المدرس جدليا مع نشاط المتعلم داخل وضعية تعلمية .إن السمة العامة التي
تُميز هذا النموذج هو تركيزه على التفاعالت القائمة بين المتعلم والمعرفة والمدرس عن طريق التواصل.
14
من بيداغوجيات التعليم إلى بيداغوجيات التعلم
تاريخيا مر الفعل التعليمي من عدة محطات ،فبعدما كان ُيركز على تبليغ المعارف ،انتقل إلى مرحلة
تطوير المهارات ،ثم تكوين شخصية المتعلم ،ليستقر أخي ار عند تصور يجعل الفعل التعليمي استجابة لحجات المتعلم .وعبر
هذه السيرورة التاريخية ،انتهى الفكر التربوي إلى خالصة مقتضاها ضرورة االنطالق من مبدأ يجعل المتعلم في قلب
العملية التعليمية التعلمية ،فلم ت ُعد تستصيغ الرؤية االخت ازلية للمتعلم التي تُضيق نطاقه ،فتجعله قزما ،وال تكثرت بإمكاناته
وقدراته .إننا أمام تحول حقيقي جعل البعض ُيشبهه بثورة كوبيرنيكية على المستوى التربوي .وهذه المقايسة واردة جدا ،ألن
التحول الذي عرفه الفكر البيداغوجي لم يكن شكليا ،يمس أحد العناصر التي تنتظم الفعل التربوي ،وإنما هو تحول على
مستوى الباراديكم (من الباراديكم التعليمي إلى التعلمي) كما أشرنا سابقا .ما يزكي هذا اإلقرار هو أننا أصبحنا أمام أدوار
جديدة للمدرسة ،وأمام كفايات جديدة للمدرس ،وأدوار جديدة للمتعلم...لم يعد من المقبول اجترار األدوار التقليدية للمدرسة
بمختلف أطرافها ،فبعدما كان الباراديكم التعليمي يجعل المدرس هو قطب الرحى في العملية التعليمية التعلمية ،بحكم سلطته
المعرفية؛ ودور المتعلم محصو ار في التلقي واستقبال المعرفة ،حصل تحول كبير في الرؤية ،حيث غدا نشاط المتعلم هو
أس االهتمام ،بينما دور المدرس مقتصر في الوساطة ،وتسهيل التعلم ،وتهيئة الشروط المسهلة له.
والستجالء مظاهر هذا التحول يمكن االنطالق من الحاالت التالية:
الحالة األولى من السلك االبتدائي ،مادة النشاط العلمي : EVEIL
قام مدرس بالسلك االبتدائي بإلصاق صور بعض النباتات على السبورة ،ومنح بعض الوقت للتالميذ لمالحظة الصور
ويقارن بين النباتات من جوانب متعددة ،واستخلص جملة من النتائج،
المعروضة ،ثم بدأ المدرس يصف مكونات الصورُ ،
سجلها على السبورة ،ثم قدم تركيبا ،وطلب من بعض التالميذ إعادته شفهيا ،بعدما حجب التركيب عن التالميذ.
ركز أستاذ اللغة الفرنسية بالتعليم الثانوي في تدريسه لنص قصصي على عناصر محددة (الشخصيات وخصائصها) ،إذ
طلب من التالميذ مأل شبكة ،يجردون فيها الشخصيات الرئيسية والثانوية ،ثم دفعهم بعد ذلك إلى رصد خصائص كل
شخصية ،عبر مستويات عديدة ،فكان المدرس يطرح جملة من األسئلة الموجهة للقراءة ،منها:
-حددوا أسماء الشخصيات الرئيسية.
-ما أسماء الشخصيات الثانوية؟
-حددوا انطالقا ،من النص القصصي ،صفات كل شخصية...
15
الحالة الثالثة من السلك االبتدائي (مادة الرياضيات)
قدمت ُمدرسة الرياضيات (المستوى السادس ابتدائي) وضعية تم تحديد بقعة أرضية ،وطلبت منهم إنشاء داخلها أحواض ذات
أشكال مختلفة لغرس نباتات ،معتمدين على جملة من البطاقات ،بعضها تُحدد أشكال األحواض (دائرة ،مثلث قائم الزاوية )...وكذا
قياساتها ،والبعض اآلخر ،تحدد نوع النباتات والمساحة المخصصة.
المد رسة لهذه الوضعية عملت على تقسيم جماعة الفصل إلى أربع مجموعات ،وطلبت منهم قراءة الوضعية وعند تدبير ُ
بشكل فردي ،ومنحتهم مهلة للتفكير في حل الوضعية ،وتفاعل اآلراء بين أعضاء كل مجموعة لمعرفة العمليات التي يمكن
االستناد إليها في حل الوضعية ،وبعد ذلك حثتهم على إنجاز المطلوب بشكل فردي .وأثناء سعيهم إلى حل الوضعية،
المدرسة تمر بين الصفوف لتثمن ما أنجزوه ،وتشجعهم ،وتقدم المساعدة الالزمة إلى كل متعلم ،استعصى عليه حل
كانت ُ
الوضعية ،من دون أن توحي له بالجواب .كان توجيهها يقتصر على التنبيه إلى بعض الجوانب المساعدة على االهتداء
المدة الزمنية المحددة اختارت إنتاجات من المتعلمين ،تُمثل مختلف مجموعات الفصل،إلى حل الوضعية .وبعد انقضاء ُ
وكانت تدفع المتعلمين ُليقوموا ذاتيا إنجازهم ،ويقفوا عند الخطأ ومصدره ،كما كانت تُتيح للتالميذ تقويم إنتاجات بعضهم
البعض ،وتدفع المتعلم إلى مقارنة طريقة حله للوضعية المشكلة مع طريقة زميله ،وتدفعه إلى الوعي باالستراتيجية
المعتمدة في حل الوضعية ،وتفتح نقاشا لتطوير القدرات الميامعرفية.
فبغض النظر عن طبيعة المادة الدراسية ،في كل حالة من الحاالت المذكورة ،وما تستلزمه من خطوات
ديدكتيكية ،فإن كل مدرس تبنى طريقة بيداغوجية مخالفة لألخرى أثتاء تدبيره للدرس :فاألول اعتمد طريقة تقليدية (األستاذ
وينظم التواصل ،ويستنتج .بينما يكتفي التلميذ بدور
ويهيكلهاُ ،
ويبلغ المعرفةُ ،
الملقن العارف ،)...الذي ُيعد الوضعيةُ ،
ُ
المستقبل السلبي للمعرفة .فالمعرفة هنا تستهدف جميع التالميذ ،وال مكان للمعرفة الفارقية .يبقى أساس النشاط هنا هو
المقدمة له داخل وضعية تواصلية جماعية.
تفاعل المدرس مع معرفته ،بينما يتكيف التلميذ مع األنشطة التلقينية ُ
أما في الحالة الثانية ،فيحرص المدرس على تجزيئ المضامين التعليمية ،وتكشف طبيعة األسئلة التي يطرحها على
التالميذ على أنه ينطلق من أهداف ُمصاغة بطريقة سلوكية ،وتُراعي المنطق التدرجي.
16
أما الحالة الثالثة ،فتُقدم نموذجا لممارسة بيداغوجية متمركزة حول المتعلم ،وتعطي أهمية كبيرة لفضاءات التفاعل سواء مع
األقران أو الراشد ،لما لذلك من أثر في تطوير التعلمات .لقد اعتمد المدرس(ة) على بيداغوجيا المجموعات ،واقتصر دوره
في مصاحبة نشاط كل مجموعة ،وهو اشتغال ينعكس إيجابا على التعلم ،لما يوفره من فرص إرساء التعلمات عبر مبدأ
الصراع السوسيومعرفي . (Conflit socio-cognitif)11كما حاول دفع المتعلمين إلى الوعي باالستراتيجيات المعرفية
والميتا معرفية ) .(Métacognitivesفضال عن ذلك انشغلت طريقة المدرس بتطوير كفايات المتعلمين بدل إيالء أهمية
إلى استقبال المعارف ،أو التركيز على التعلمات المجزأة .ولم تعد المعارف تتخذ صبغة خارجية ،وإنما أصبحت ذات طابع
اندماجي ،وهي خاصية تُعد ُمحددا جوهريا ،لجعل التعلمات قابلة "للنقل" ) (Transférabilitéفي إطار الوضعيات
المشكلة ،أو المشاريع.12
وإذا كانت الوضعية البيداغوجية تتحدد بموجب العالقة الناظمة بين ثالثة مستويات هي :المتعلم والمعرفة
التعلمية والمدرس ،فإن ممارسة المدرس(ة) داخل هذه الوضعية تكشف عن تحول في منطق االشتغال ،فلم يعد المدرس
محور الوضعية ،يقتصر دوره في تبليغ المعرفة إلى المتعلمين ،بل أصبحنا في إطار منطق بديل قائم على اضطالع
المدرس بدور ثانوي مقارنة بدور المتعلم ،حيث غدا نشاطه تابعا لنشاط المتعلم .ويتحدد أساسا في اصطحابه ومرافقته ،كما
ويبدد الصعوبات التي تعترضهم،
تحول إلى شخص موردُ ،يقدم المساعدة لمن يحتاجها ،ويجيب عن استفسارات المتعلمينُ ،
ويشجع المتعلمين على إنجاز المطلوب ،ويقوي الثقة في ذواتهم وقدراتهم ،إيمانا منه بالعالقة القوية بين العاملين المعرفي
والوجداني.
وتندرج الحالة الرابعة في إطار بيداغوجيا التعلم ،لكون المدرس(ة) سعى إلى وضع التعلمات داخل سياق ،وحاول وضع
المتعلمين في حالة التوازن ،من خالل اعتماد وضعية مشكل (أو استكشافية) ،لكي يضعهم بعد ذلك في درب التعلم،
ويحصل إرساء التعلمات على النحو المطلوب.
إن الطرق البيداغوجية المعتمدة في الحاالت المذكورة ليست حصرية ،وإنما هي غيض من فيض كما ُيقال ،فثمة
طرق بيداغوجية أخرى ،سنبسط أهمها الحقا ،يمكن اعتمادها في الممارسات الفصلية .لكن ما يسترعي االهتمام في الحاالت
المذكورة أن الطرق البيداغوجية المستند إليها ،تنطلق من خلفيات تصورية ونظرية واضحة المعالم ،وتتحدد في ضوئها
األدوار المسندة إلى كل من المدرس والمتعلم ،في عالقة طبعا بالمعرفة .وهي قابلة ألن تُصنف ،كما ذكرنا ،إما إلى:
طرق تنسجم مع مقتضيات الباراديكم التعليمي؛
أو تنسجم مع مقتضيات الباراديكم التعلمي.
والمتأمل في الحالتين :األولى والثانية يالحظ أن الطريقتين البيداغوجيتين المعتمدتين تنسجمان مع المنطق
التعليمي؛ بينما تتناغم الطريقتان البيداغوجيتان الواردتان في الحالتين الثالثة والرابعة مع الباراديكم التعلمي.
11
يعد مفهوم الصراع السوسيو معرفي عامال للتطور المعرفي ،إذ يسهم في إنتاج معارف جديدة" ،فالتطور المعرفي ذو صلة بتوسع الخطاطات
الذهنية األولية في اتجاه وضعيات أكثر تنوعا وبمواجهة خطاطات ذهنية أخرى ذات طبيعة مختلفة .ولكي يحصل التطور من الالزم أن يتوفر
التالميذ على خطاطات معرفية لها امتداد مع وضعيات جديدة .ويعد هذا شرطا لكي يكون الصراع السوسيومعرفي مصد ار للتطور المعرفي للتالميذ".
12 Christian Michelot (2010) « Les nouveaux rôles enseignants », dans Accompagner des étudiants. Quels rôles
pour l’enseignant ? Quels dispositifs ? Quelles mises en œuvre ? Benoit Raucent et autres. Ed De boeck. P :347
17
والحقيقة أن هذا التمييز ال ُيقصد منه أننا نرسم حدودا فواصل بين مجالي التعليم والتعلم ،إذ نرى ،كما أشرنا سابقا ،أنهما
يحيالن ،داخل السياق المدرسي ،على عمليات متكاملة ومتفاعلة :فالمدرس عندما يستهدف في إطار حصة تدريس مفهوم
أو قاعدة ...فإن قصده هو أن يتعلم التلميذ ،ما سطره من أهداف .فكل طرف من طرفي العملية له مهام محددة ،فمهمة
المدرس ه ي التعليم ،بينما مهمة التلميذ هي التعلم" .وعند اللقاء البيداغوجي ،فإن كل واحد ينجز جزءا من المسار"،إن
التعليم أو التدريس هو فعل يروم إحداث جزء من التعلمات ،أي أن هناك مشروعين أحدهما للمدرس ،واآلخر للمتعلم ،ولكي
13
نضمن نجاحهما من الالزم أن يلتقي المشروعان.
إن حديثنا عن باراديكمين بيداغوجيين له مسوغات ،فيكفي أن نلقي نظرة على تاريخ الفكر التربوي ،لنخرج
بنتيجة فحواها أن التصورات والمفاهيم والقيم التي تحكم جملة من الخطابات والممارسات التربوية ،قابلة ألن تُصنف في
إطار باراديكم محدد .كما نستنتج أن هناك تحوال في الباراديكمات في بعض محطات الفكر التربوي (االنتقال من الباراديكم
التعليمي إلى التعلمي) ،وهو أمر طبيعي ،ألن تاريخ الفكر اإلنساني عموما يتميز بحركية ودينامية مستمرة .ومن الوارد
الحديث عن ثورات على المستوى التربوي ،مثلما يرد الحديث عن ثورات في حقول معرفية أخرى ،فتاريخ البشرية ظل دائما
خاضعا لهذه الحركية ،ولعل الثورة الكيميائية مع الفوازيي) Lavoisier (1789خالل القرن الثامن عشر ،خير مثال عن
التحول في التصورات التي تنهض عليها الكيمياء منذ الثورة الفرنسية.
لم يخرج الحقل التربوي عن هذه القاعدة العامة ،فخالل العقود األخيرة بدأ االتجاه يسير نحو تبني باراديكم
جديد في مجال التعليم والتعلم ،مهدت له الكثير من األعمال المؤسسة ،على رأسها النظريات المعرفية والبنائية ،التي أتت
من األساس باإلبطال على مجموعة من التصورات السائدة ،وانطلقت من مسلمة مقتضاها أن المعرفة ليست نتيجة للتلقي
السلبي ،وإنما هي حصيلة لنشاط المتعلم ،إذ يتعلم هذا األخير عند ما يقوم بتنظيم ذاته من خالل عمليات التكيف
واالستيعاب والتالؤم ،فتحصل جدلية بين معارفه السابقة والمعارف الجديدة .إن الرهان على هذا التحول في الباراديكم بدأ
منذ كالباريد Claparèdeالذي كان يثوق إلى حصول "ثورة كوبرنيكية" على المستوى التربوي ،فيصبح معها المتعلم ينزل
14
منزلة المركز.
ويعد كوزيني روجر ( Cousinet Roger )1959من الذين كشفوا عن هذا التحول في الباراديكم ،خاصة في كتابه
ُ
"بيداغوجيا التعلم" ،وهو عنوان ُمعبر ،بال شك ،عن االنتقال نحو تصور جديد للفعل التربوي ،خاصة عندما يشير في ثنايا
مؤلفه إلى بعض األوهام البيداغوجية ( )Illusions pedagogiquesالمستحكمة في الباراديكم التعليمي ،حيث يسود
االعتقاد التالي :كلما علمنا أكثر انعكس ذلك إيجابا على تعلمات التالميذ .وهي من العادات الديدكتيكية التي ترسخت لدى
المدرسين ،وأضحت في نظرهم غير منقوص من قيمتها .فضال عن ذلك ساد االعتقاد أنه كلما حصل تحول في معارف
التلميذ ،فذلك بفضل عمل المدرس ،وإذا حدث العكس فإنه ُيعزى إلى التلميذ نفسه ،وال يتحمل المدرس وزر ذلك( .فالتالميذ
الجيدون هم من صنع المدرس ،أما الضعاف فهم من صنع أنفسهم) .والحقيقة التي ينبه إليها كوزيني هي أنه كلما قللنا من
تعليمنا انعكس ذلك إيجابا على تعلمات التلميذ ،ألن الفعل التعليمي يصبح معه المتعلم ينزل منزلة مستقبل للمعلومة .بينما
13
ماندر.م ( .)2009ص16:
14ألتي.م ( . )1998ص21 :
18
فعل التعلم يجعل المتعلم في حالة بحث عن المعلومة .من هنا وجب التركيز على نشاط المتعلم ،وعلى منهجية التعلم،
ووسائل التعلم .وتعد هذه نقطة اختالف بين الباراديكمين .والستجالء مظاهر التحول في الباراديكم البيداغوجي ،يستحسن أن
نفصل القول في خصوصية كل باراديكم.
الباراديكم التعليمي
تندرج في إطار هذا الباراديكم نماذج وطرق بيداغوجية متعددة ،تتخذ مسميات كثيرة ،كالنموذج التعليمي،
ونموذج البصمة" ( ،)Modèle de l’empreinteوهو ينطلق من مركزية المدرس ،وقابلية المتعلم على التلقي ،ويعتقد
فتبصم في أذهان التالميذ ،وبهذا يصبح انشغاله األساس يتجه إلى هيكلة
المدرس أنه يكفيه أن ُيبلغ المادة التعليميةُ ،
المعرفة التعليمية .بينما يتحدد دور التلميذ في تبني مواقف مناسبة ،قائمة على اإلصغاء واالنتباه واجترار ما سمعه أو
فهمه ،وتسجيل ذلك في الدفاتر ،ليتم الرجوع إليه ،أثناء المراجعة في المنزل.
كما يتميز هذا األنموذج باحتكامه إلى "األعراف" ،ولهذا يسهل أن نستخلص منه جملة من المواضعات
االجتماعية والثقافية ،التي تتحكم في الرؤية إلى نظام التربية .والناظر في المبادئ التربوية التي يستند إليها ليالحظ بأن
الن قطة السوداء التي تطبعه هي نظرته إلى الطفل ،وهي ليست في منأى عن التقاليد االجتماعية والمواضعات الثقافية،
وعلى أساسها تتحدد جملة من األدوار المسندة إليه ،كما تتحدد نظرتنا إليه .إن السيرورة التعليمية في هذا الباراديكم تتميز
بالتركيز على تبليغ المعرفة التعليمية ،عن طريق اإللقاء ،أو أسلوب المحاضرات .وبهذا يتبوأ المدرس مكانة خاصة ،بحكم
سلطته المعرفية ،فيغدو قطب الرحى في العملية التربوية .ويتحول فصله إلى مجرد كائنات تستمع إلى خطابه ،وطبعا فإنه
يحرص كل الحرص على تهييئ األسباب كاملة لتحقيق هذه الوظيفة ،من خالل تنظيم فضاء الفصل ،واختيار المعدات
المدرسية والوسائل المناسبة لتكريس سلطته .واإلقرار بالسلطة المعرفية للمدرس يلزم عنه حصر دور التلميذ في االمتثال
ألوامره ،كما يترتب عنه الحد من حركية التالميذ ،فيعيش الفصل الدراسي حالة سكون .وبهذا ُيضيق نطاق التفاعل
والتواصل داخله ،فينحصر هذا األخير فقط ،حسب ديوي ،في " نقل تراث الماضي إلى الجيل الجديد ،وتحصيل ما هو
مدون في بطون الكتب ،وما احتوته عقول الكبار ،وبناء عادات السلوك الخلقي وفقا لقواعد الماضي ،وإخضاع التلميذ
لسلطة المعلم المطلقة ،وترويضه قس ار على تقبله وتمثله لما ينقله المعلم ،والنقل واإلخبار هي الصيغة المهيمنة للتفاعل
15
والتواصل بين التالميذ".
العربي فرحاتي ( )2010أنماط التفاعل وعالقات التواصل في جماعات القسم الدراسي وطرق قياسها .الجزائر .ديوان المطبوعات الجامعية. 15
19
ويمكن أن نرصد بعض المواضعات التي تُميز هذا الباراديكم ،تتلخص أوالها في استحكام عامل "االحتفاء"
( )Célébrationبالمعرفة ،حيث يتوسل المدرس ببالغة اإلغواء ،لشد انتباه جماعة الفصل؛ فيتولد انطباع لدى كل تلميذ
مقتضاه ،أن المدرس يخصه بخطابه دون غيره ،أثناء توجيهه إلى الجماعة كلها؛ أما الثانية ،فيحضر فيها عامل الفرجة
المتحدث أو الخطيب ،في إطار
( ،)Spectacleوهو قريب من العامل السابق ،إال أن مدار العناية يتحول من المعرفة إلى ُ
16
فرجة يراهن فيها المدرس على أن يجعل حديثه يترك تقدي ار وإعجابا من لدن الحضور.
وقد يتم استجالء خصوصية هذا الباراديكم في ضوء جملة من األبعاد :ابستمولوجية وسيكولوجية
وبيداغوجية.
.1البعد االبستمولوجي :يتحدد هذا البعد من خالل رصد طبيعة "المعرفة" ،وكيفية تحويلها إلى اكتساب داخل السياق
المدرسي ،ثم إلى إنتاج .وفي ضوء هذا المستوى يرد الحديث عن أطر نظرية وتصورية عديدة ،يمكن التمثيل بإطارين
نظريين:
نظرية االنضباط الشكلي ،وتنطلق من مسلمة مضمونها أن الفرد يولد وهو مزود بملكات غير ُمدربة (الملكات
الفطرية) ،كالتفكير واإلدراك ،وأن التربية مدعوة إلى نقل هذه الملكات إلى "عادات راسخة بالممارسة والتمرين .والتمرين
عبارة عن أفعال مكررة لمهارات محددة" .وعلى أساس ذلك تتحدد أدوار المدرس في أنه يصبح مطالبا بانتقاء المعرفة
الجاهزة وتقديمها ،فتتخذ شكل أفعال ،تتوافق مع الملكات المستهدفة بالتدريب .والمالحظة المسجلة على هذه المعرفة ،حسب
ديوي ،أنها تنأى عن االهتمامات الحقيقية لألفراد ،كما أن الطريقة المعتمدة في تقديمها تفتقد إلى شرط اإلبداعية.
نموذج هربرت سبنسر ( :)H.Spencerينسجم تصوره مع خصوصية الباراديكم المذكور ،لكونه ينظر إلى
التربية على أساس أنها "تشكيل" ،أي أن "العقل ليس بملكات فطرية جاهزة ومنفصلة ،بل هو القدرة على إنتاج التمثالت،
وأن تشكيل العقل إنما يكون بامتثال للمواد التربوية المالئمة" .ويرتكز تصوره على "عرض المادة من الخارج ،والتي ينتقيها،
ويقدمها بخطوة أولى سماها "التحضير" ،وتتعلق باستخراج التمثالت القديمة التي ستُنتج فيما بعد التمثالت الجديدة ،ثم
يتفاعل القديم والجديد ثم تأتي مرحلة التطبيق ،ليتشكل العقل من ذلك المحتوى .ويعطي سبنسر مقاليد السلطة كلها للمعلم
من حيث كونه هو الذي ينتقي المادة" ،والمشرف على عملية بناء التمثيل بطرق التبليغ واالنضباط ،وفي ذلك تهميش كلي
43
للطاقة الحيوية للتلميذ ،والتقليل من دور الميول واالتجاهات حسب ديوي" ص:
البعد السيكولوجيُ :يفسر رواد السيكولوجيا الفردية العالقة التي تنتظم المدرس بالتلميذ في ضوء هذا النموذح .1
التربوي ،استنادا إلى (عالقة القوي بالضعيف)" ،فالقوي يفرض أفكاره ،بغية الحفاظ على سيطرته وهيمنته على الضعيف،
ويرى أتباع أدلر Adlerأن العالقة السلطوية بين المعلم والطفل ،تُفسر على أن الكبار قد درجوا منذ القدم على االستمتاع
16 Philippe Poussière (2004) «La gestion du groupe et les communications dans la classe ». dans La
pédagogie :une encyclopédie pour aujourd’huit. Édition.ESF
20
بشعور القوة على حساب أطفالهم ،ويتصرفون فيهم كما يشاؤون ،كما لو كانوا متاعا لهم ،والصغار ليسوا سوى ميدان
17
يشبعون فيه رغباتهم في الطموح وميولهم في التفوق والكمال".
البعد السوسيولوجي :كثيرة هي األعمال التي قدمت تفسي ار سوسيولوجيا لهذا األنموذج ،وعلى رأسها عمل .2
دوركايم ،الذي اعتبره نموذجا للتربية المحافظة ،التي تحرص كل الحرص على ضمان استمرار القيم المجتمعية ،وإعادة
إنتاجها" ،وتعني المحافظة تكييف الفرد ومسايرته لما هو محبوب اجتماعيا ،فالطفل يجب أن يتدرج في تعلمه نحو االمثتالية
والمسايرة ،وهو األمر الذي ُيبرر سلطة المعلم ،من حيث هي سبيل لتعلم الواجب والطاعة ،والتوريث الثقافي ،وتلقينه
لألجيال مبرر من حيث هو جوهر الهوية وهدف التربية ،وقيمة التلميذ في القسم تتحدد بمدى امتتاله ومحاكاته وخضوعه
18
للنسق القيمي الثقافي السائد"
البعد البيداغوجيُ :وجهت اعتراضات قوية على الباراديكم التعليمي ،من لدن التيار اإلنساني في التربية ،خاصة .3
منذ أن انفتح مجال البحث على دراسة موضوع نمو الشخص ،حيث لوحظ أنه ُيضيق من نطاق الذاتية والحرية في
المجال التربوي ،وطالب بجعل الطفل يحظى بدينامية ذاتية داخل العملية التعليمية التعلمية .إن الشخصية اإلنسانية سواء
كانت طفال أو راشدا تتحدد من خالل "مشروعها الحياتي الذي تتبناه ،والذي يدعوها إلى ابتداع ذاتها كشخصية إنسانية
حرة ومسؤولة وإلى تجسيد "إنسانيتها" ،التي تكون في حالتي نقص وتحول ال يهدآن .إن التربية مدعوة إلى تفجير الطاقات
الكامنة لدى المتعلم ،وال يمكن أن يتحقق ذلك في منأى عن أنشطة تربوية ،تكتسي داللة بالنسبة للمتعلم ،تؤثر فيه،
وتساهم في تغيير جميع أبعاده الذاتية.
كما ظل هذا النموذج محط انتقاد من لدن الكثير من الدراسات التجريبية في مجال التعلم ،حيث بينت أن التالميذ الذين
يكونون في وضعية تسمح لهم بتبليغ أجوبة معينة ،يكتسبون بسهولة سلوكا جديدا ،خالفا للتالميذ الذين يكونون في وضعية
استقبال مثيرات معينة.19
الباراديكم التعلمي
في مقابل ذلك ،ينطلق الباراديكم التعلمي من حقيقة مضمونها أن الفعل البيداغوجي يتحدد من زاوية
المتعلم الذي يتعلم ،ألن مدار التعلم إنما يكون حوله ،وليس المعني بذلك هو المدرس .وأن الغاية التي تحكمه هي مساعدة
المتعلم على بناء تعلماته بنفسه ،وتوفير الشروط الكفيلة بتملكها ،على نحو يغدو فيه المتعلم في قلب العملية التعليمية
التعلمية ،فهو الفاعل الحقيقي في التعلم .مع هذا الباراديكم أصبحت تُستحضر اعتبارات كثيرة خاصة بالمتعلم ،كحاجاته،
ومراكز اهتمامه ،ومنطق تعلمه الخاص ،وخطواته التعلمية ،والوسائل الكفيلة بمساعدته عل "تعلم التعلم" ...فلزم عن هذا
التصور الجديد للتعلم أن أضحى دور المدرس بمثابة "شخص مورد" ،يكيف تصرفاته مع متطلبات وحاجات التالميذ،
ويهيئ المشاريع
فمهمته هي بناء وتنظيم شروط التعلم ،التي تساعد التلميذ على نجاح تعلمه ،إذ ُيقدم األدوات والوسائلُ ،
19
ماندر.م ( .)2009ص183:
21
والعقود ،وينشط وضعيات تعلمية ،آخذا بعين االعتبار مساهمات المتعلمين ومبادراتهم وتمثالتهم ومنطقهم وأساليبهم
ومواصفاتهم التعلمية .20أصبح المربي يوفر السياق المساعد على البناء الفعال للمعرفة من لدن المتعلم ،محترما مساره
الخاص وشخصيته المتطورة بشكل تدريجي ،إنه ينظم ويختار الوضعيات التعلمية القابلة إلثارة إشكاالت ،والتي تتيح إجراء
ويطور قدراته الميطامعرفية ،ويوجهه في بناء معرفته
تحويل في التمثالت ،كما أنه يساعد المتعلم على تحديد استراتيجياتهُ ،
بنفسه.
لقد بينت أبحاث في مجال علم النفس االجتما عي أن دينامية جماعة الفصل هي عنصر محدد للسيرورة التربوية وأن ذلك
متوقف على أدوار محددة يجب أن يقوم بها المدرس ،إذ أصبح مطالبا بأن ُييسر عمل المتعلمين ،ويهيئ مناخا قائما على
مبدأ القبول ،يحتضن المضامين الفكرية والمواقف الوجدانية ،ويسخر طاقاته وإمكاناته في خدمة جماعة الفصل.
إن إحدى الخصائص الجوهرية للتواصل داخل هذا الباراديك ،حسب ألتي ،أنه أصبح ينهض على عالقة
"التوسط" ،فلم يعد مقبوال أن ينحصر دور المدرس في تبليغ المعرفة ،ليستقبلها بعد ذلك المتعلم ،وإنما أصبح مطالبا
باالبتعاد عن األدوار التقليدية ،ليكتفي باالستماع والتبادل والتفاوض ...إن دور الوساطة تقتضي من المدرس أن "يقل
كالمه ،وتزداد تصرفاته ،وفي اآلن نفسه يسجل مالحظاته" ،يرجح الصيرورات التعلمية على الصيرورات التعليمية ،ينظم
21
تدبير التعلمات ،ويروم تقديم إجابات عن المشاكل التعلمية التي تعترض التالميذ ،داخل فصول دراسية غير متجانسة.
والحقيقة أن نشاط المدرس يتحدد في عالقة جدلية مع نشاط المتعلم داخل الوضعية التعلمية.
يجعل الباراديكم التعلمي مناط عناياته اإلجابة عن سؤالين مركزيين هما :كيف يتعلم التلميذ؟ وكيف
ُنطور الوسائل التعلمية ،متوسلين بأدوات بيداغوجية وديدكتيكية؟ .إنه ينشغل بتزويد المتعلم بأدوات تضمن نجاح التعلمات،
وقد يرد الحديث هنا عن بيداغوجيات وسائل التعلم ،لكونها تُركز على وسائل تعلم المتعلم ونجاحه .إن التعلم وفق هذا
المنظور من اختصاص المتعلم ،بينما المدرس مدعو إلى مراعاة المنطق التعلمي الداخلي للتلميذ ،وتدبير شروط التعلم
المسهل ( ،)apprentissage facilitatriceوذلك بتهيئة األسباب كاملة لضمان نشاط فعال للمتعلم بحيث يخوض في
غمار البحث واالكتشاف .وهو أمر يصعب أن يحدث ما لم يحرص المدرس على إعداد وضعيات تفي بالغرض المطلوب،
وتتميز طبعا بالتنوع :وضعيات مفتوحة" ،وضعيات مشكلة" ،وضعيات تعلمية فارقية ،وفردانية" ،العمل داخل مجموعات
تعلمية أومجموعات الحاجة"...إن تدخالت المدرس تنطلق من تحليل تعلمات التلميذ ،والتبصر باإلجراءات والخطوات
واآلليات المعرفية التي يستخدمها المتعلم.
كما يستهدف الباراديكم التعلمي تطوير استراتيجيات المتعلم المعرفية والميطامعرفية ،وتطوير قدرته على
إنه 22
التعلم والتفكير ،في أفق بلوغ مرحلة فطام التلميذ ،وذلك بتمكينه من الوسائل الضرورية الكفيلة بضمان استقالليته.
بهذا يروم جعل المتعلم أكثر استقاللية في تعلماته .وتجدر اإلشارة إلى أن دواعي االنشغال باالستراتيجيات التعلمية كون
مجموعة من الباحثين الحظوا أن المتعلمين المتفوقين ،خاصة في مجال اللغات ،يتوسلون في تحصيلهم أو تعلمهم
20
المرجع نفسه ص21 :
21
ألتي.م ( )1998ص22:
22
المصدر نفسه.
22
بسلوكات وتقنيات محددة ،وبدا لهم أنه يمكن أن نساعد التالميذ الذين تعترضهم صعوبات تعلمية ،وذلك بجعل المتفوقين
يعلمون أقرانهم ممن يعانون صعوبات تعلمية تلك التقنيات الكفيلة بتطوير تعلماتهمُ .
ويعرف كوثر كوجك ()1997
استراتيجية التعلم بأنها "مجموعة من اإلجراءات المستخدمة للتعلم ،تُنفد في صورة خطوات .تتحول كل خطوة إلى أساليب أو
تكتيكات جزئية ،تتم في تتابع مقصود ومخطط ،لتحقيق األهداف بفاعلية أكبر وبقدر واضح من المرونة" .23إن
االستراتيجية التعلمية تمثل "مختلف التقنيات واإلجراءات التي يستخدمها األفراد الكتساب وتخزين المعلومات ،ثم إعادة
استخدامها مستقبال ،فهي إذن:
إجراءات أو تقنيات هادفة يستخدمها المتعلم في تعلمه،
تتم في تتابع مقصود ومخطط له مسبقا،
تتميز بكونها واعية أو شبه واعية".
وإذا شئنا تحديد أهم المبادئ التي تُميز الباراديكم التعلمي ،فإنه يمكن حصرها فيما يلي :
المتعلم فاعل أساس في بناء تعلماته،
التركيز على حاجاته ،
مراعاة منطقه ،وخطواته التعلمية وأسلوبه التعلمي،
جعل التعلم يكتسي داللة،
المدرس بمثابة شخص مورد ،يتصرف في ضوء حاجات المتعلم،
اضطالع المدرس بمهمة توفير الشروط الكفيلة بنجاح التعلم،
تنشيط المدرس للوضعيات التعلمية ،ومراعاة تمثالت المتعلمين ،ومساهماتهم ومبادراتهم وملمحهم التعلمي،
تهيئ السياقات المناسبة للتعلم ،فالمربي مطالب بخلق سياق يساعد المتعلم في بناء المعرفة بكيفة نشطة" ،مع
احترام مساره الخاص والتطور التدرجي لشخصيته"،
تنظيم واختيار الوضعيات التعلمية الكفيلة بتحويل تمثالت المتعلمين ،ومساعدتهم على تعرف استراتيجياتهم،
وتطوير قدراتهم الميتامعرفية،
ارتكاز التواصل على عالقات "الوساطة" واإلصغاء والتبادل والعرض واالعتراض ،والحوار الذي يسمح بجعل
التعلم يكتسي طابعا فردانيا.
نشاط المدرس داخل الوضعيات التعلمية يكون في عالقة جدلية مع نشاط المتعلم.
23
وحبيب تيلوين ( )2007الدافعية واستراتيجية ما وراء المعرفة ص60:
23
نستنتج في ضوء ما سبق أن الطرق البيدغوجية يمكن تصنيفها إلى نوعين متغايرين ،بالنظر إلى الباراديكم
البيداغوجي الذي تصد عنه :الباراديكم التعليمي أو الباراديكم التعلمي .وال يعني من هذا التنميط وجود فصل بين مجالي
التعليم والتعلم ،ففي السياق المدرسي ،تغدو عملياتا التعليم والتعلم متكاملتين ومتفاعلتين.
24