You are on page 1of 49

‫منازل ّ‬

‫حل إشكال التعارض بني النصوص الرشعية‬

‫(‪)1‬‬
‫بني اجلمهور واحلنفية‬

‫‪1441 /5 /30‬هـ‬

‫(‪ )1‬هو أحد مباحث مقرر منهج رشح احلديث ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ﭑ ﭒﭓﭔ‬

‫اشتهر عند مجهور الفقهاء ‪ -‬خالفا ألصوليي احلنفية(فيام ُنسب إليهم)(‪ -)1‬أن وسائل حل‬

‫َنازلِـ ًّيا عىل الوسائل األربع التالية ‪:‬‬


‫َّب ت ُ‬ ‫الَّش ِع َّي ِ‬
‫ني تَـت ََـرت ُ‬ ‫النص ِ‬
‫ني َّ‬ ‫التعارض بني َّ‬

‫‪-1‬اجلمع بغري تعسف ‪ ،‬فإن ّ‬


‫تعذر ‪:‬‬

‫‪-2‬فالقول بالنسخ ‪ ،‬إن ُعلم املتقدم من املتأخر ‪ ،‬فإن تعذر ‪:‬‬

‫‪-3‬فالرتجيح ‪ ،‬فإن َّ‬


‫تعذر ‪:‬‬

‫‪-4‬فالتو ُّقف ‪.‬‬

‫(‪ )1‬وستأيت مناقشة ذلك عىل وجه االختصار ‪ ،‬يف آخر هذا املطلب نفسه ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫هذا ما عليه املالكية والشافعية واحلنابلة(‪ ،)1‬واجلريرية – أتباع اإلمام حممد بن جريرالطربي‬

‫(ت‪310‬هـ) ‪ ،‬وكان له مذهب مستقل متّبع ‪.)1(-‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬الرسالة للشافعي (رقم ‪ ،)925 -924 ،590 -574‬واختالف احلديث له – وهو نص مهم ‪-‬‬
‫(‪ ،)41- 40‬وانظر نسبة ما قال فيه الشافعي باجلمع يف كتابه (اختالف احلديث) بالنظر إىل ما قال فيه‬
‫بالنسخ والرتجيح يف كتاب ‪ :‬خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه للدكتور اهلادي ُروشوا (‪-318‬‬
‫‪ ،)320‬والتقريب واإلرشاد للباقالين (‪ ،)283 -260 /3‬واملعتمد أليب احلسني البرصي ‪-‬عىل رأي‬
‫من مل يلحقه بمذهب فقهي من املذاهب األربعة ‪ ،)674 -672 /2( -‬واللمع للشريازي الشافعي –‬
‫حتقيق ‪ :‬عبد القادر اخلطيب ‪ ،)217( -‬ورشح اللمع له (‪ ،)657 /2‬وقواطع األدلة أليب املظفر‬
‫السمعاين الشافعي – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬عبد اهلل احلكمي – (‪ ،)29 /3‬وإحكام الفصول يف أحكام األصول‬
‫أيضا (‪ ،)375‬والواضح يف أصول الفقه‬
‫للباجي املالكي (رقم ‪ ،)798‬واإلشارة إىل معرفة األصول له ً‬
‫البن عقيل احلنبيل (‪ ،)76/5‬واملحصول للرازي الشافعي (‪ ،)406 /5( )252 /2‬ورشح خمترص‬
‫الروضة للطويف احلنبيل (‪ ،)688 -687/3‬واملفهم للقرطبي املالكي (‪،)513 /4( )360 /5‬‬
‫واإلحكام يف أصول األحكام لآلمدي احلنبيل ثم الشافعي (‪ ،)2289 /5‬وتنقيح الفصول للقرايف‬
‫املالكي (‪ ،)444 -443‬ونفائس األصول يف رشح املحصول للقرايف (‪ ،)3638 /8‬ورشح صحيح‬
‫مسلم للنووي (‪ ،)35 /1‬واجلامع ألحكام القرآن أليب عبد اهلل القرطبي املالكي (‪،)204 ،175 /3‬‬
‫(‪ ،)85 /5( ،)157 /4‬وهناية الوصول يف دراية األصول لصفي الدين اهلندي (‪،)3665 -3662 /8‬‬
‫والبحر املحيط للزركيش (‪ ،)194 -108 /6‬واملنهاج للبيضاوي الشافعي مع رشحه اإلهباج‬
‫لل ُّسبـكِـ ِّيـ َني – تقي الدين وولده التاج – (‪ ،)2746 -2728 /7‬وهناية السول يف رشح منهاج األصول‬
‫لإلسنوي الشافعي (‪ ،)471 -449 /4‬ومجع اجلوامع للتاج السبكي – مع البدر الطالع للجالل املحيل‬
‫– (‪ ،)339-338 /2‬ومع حاشية العطار عىل رشح املحيل (‪ ،)402 -400 /2‬والتحبري رشح التحرير‬
‫للشو َشاوي املالكي –‬
‫للمرداوي احلنبيل (‪ ،)4140 -4130 /8‬ورفع النقاب عن تنقيح الشهاب ُّ‬
‫ت‪899‬هـ‪.)227-222 /2 /2( -‬‬

‫‪3‬‬
‫هذا هو الرتتيب النظري الذي قيده األصوليون من هذه املذاهب الثالثة ‪ ،‬وإن كان‬

‫تضمن ما يقيد هذا الرتتيب يف بعض األحوال ‪ ،‬كام سيأيت بيانه ‪ .‬أي إن النسخ قد ُيقدّ م‬
‫تطبيقهم ّ‬
‫خالف األصل والغالب ‪ ،‬وإنام يقع ٍ‬
‫بقيد ُيق ِّيدُ إطالق‬ ‫ُ‬ ‫عىل اجلمع ‪ ،‬وكذلك الرتجيح ‪ ،‬لكن ذلك‬

‫ذلك الرتتيب ‪.‬‬

‫كام أن مما يلفت النظر يف تقرير اجلمهور هلذا الرتتيب ‪ :‬أنه مل ُي َِّش أحدٌ منهم (حسب أهم‬

‫مصادر األصول وأوسعها)(‪ )2‬إىل خالف احلنفية هلم يف أصل هذا الرتتيب ‪ ،‬عىل خالف عادة‬

‫املتوسعني منهم يف سياق خالف احلنفية ومناقشته ‪ ،‬مع أهنم ربام أشاروا إىل خالفات أخرى هلم‬

‫يف هذا الباب ويف غريه !!‬

‫وأما املذهب املنسوب إىل احلنفية ‪ :‬فهو أن هلم ترتي ًبا خمتلفا ‪ ،‬حيث قيل إهنم يقدمون النسخ‪،‬‬

‫ثم الرتجيح ‪ ،‬ثم اجلمع‪ ،‬ثم التوقف(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه للدكتور اهلادي ُروشوا (‪.)512 -498‬‬
‫(‪ )2‬كام يف الكتب املعزو إليها آنفا من كتب مجهور األصوليني ‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر الكتب والدراسات التالية ‪:‬‬
‫‪ -1‬األجوبة الفاضلة لألسئلة العَّشة الكاملة أليب احلسنات اللكنوي (‪.)183‬‬
‫‪ -2‬أصول الفقه ‪ :‬ملحمد اخلرضي (‪.)359 -358‬‬
‫‪ -3‬التعارض والرتجيح ‪ :‬لعبد اللطيف الربزنجي ‪ -‬دار الكتب العلمية ‪ :‬بريوت ‪-171 /1( -‬‬
‫‪.)176‬‬
‫‪ -4‬ضوابط الرتجيح عند وقوع التعارض ‪ :‬لبنيونس الويل – أضواء السلف ‪ :‬الرياض ‪-223( -‬‬
‫‪.)228‬‬
‫‪ -5‬منهج التوفيق والرتجيح للدكتور عبد املجيد السوسوة – دار النفائس ‪ :‬عَامن ‪.)116 -115( -‬‬

‫‪4‬‬
‫لكن بتأمل كالم أئمة احلنفية جتد أهنم ال خيالفون اجلمهور ‪ ،‬وإنام وقع توهم االختالف من‬

‫اختالف املصطلحات واإلطالقات يف بعض األحيان ‪ ،‬أو من االقتصار بالنقل عن بعضهم دون‬

‫آخرين منهم ‪ .‬وسأعرض فيام ييل بعض أهم الوقفات التي تبني حقيقة مذهب احلنفية يف باب‬

‫التعارض ‪ ،‬وأن إطالق القول بأن منهجهم خيالف منهج املحدثني إطالق غري صحيح ‪.‬‬

‫وأبدأ باإلمام الطحاوي (ت‪321‬هـ)‪ ،‬لتقدم زمنه ‪ ،‬وهو من هو يف الفقه احلنفي إمام ًة يف‬

‫أصوله وفروعه و ُنرص ًة وتصني ًفا‪ ،‬يقول يف موطن من كتبه ‪« :‬وأوىل األشياء بنا إذا ُروي حديثان‬

‫عن رسول اهلل ^ فاحتمال اال ّتفاق ‪ ،‬واحتمال ال َّت َضاد ‪ :‬أن نحملهام عىل االتفاق ‪ ،‬ال عىل‬

‫ال َّت َضاد»(‪.)1‬‬

‫‪ -6‬الرتجيح بني األخبار للدكتور حممد الشتيوي – مكتبة حسن العرصية ‪ :‬بريوت‪.)124 -123( -‬‬
‫‪ -7‬منهج اإلمام الطحاوي يف دفع التعارض بني النصوص الَّشعية من خالل كتابه رشح مشكل‬
‫اآلثار ‪ :‬للدكتور حسن بن عبد احلميد بخاري ‪ .‬رسالة ماجستري مقدمة إىل كلية الَّشيعة يف جامعة‬
‫أم القرى ‪ ،‬سنة ‪1422‬هـ – (‪.)107‬‬
‫‪ -8‬خمتلف احلديث وأثره يف أحكام احلدود والعقوبات ‪ :‬للدكتور طارق الطواري – دار ابن حزم ‪:‬‬
‫بريوت ‪.)382( -‬‬
‫‪ -9‬خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه ‪ :‬للدكتور اهلادي روشو التونيس – دار ابن حزم ‪ :‬بريوت‬
‫– (‪.)269 ،254 -252‬‬
‫خمتلف احلديث بني الفقهاء واملحدثني ‪ :‬للدكتور نافذ محاد – دار الوفاء – (‪،)137 -136‬‬ ‫‪-10‬‬
‫لكنه ذكر اخلالف بني احلنفية يف ذلك (‪.)138‬‬
‫(‪ )1‬رشح معاين اآلثار للطحاوي (‪.)274 /4‬‬

‫‪5‬‬
‫وكرر اإلمام الطحاوي هذا املعنى يف عدة مواطن من كتابه (رشح معاين اآلثار)(‪.)1‬‬

‫ويف موطن آخر ذكر اإلمام الطحاوي اختالف األحاديث يف ركوب اهلدي هن ًيا وإذنًا فيه ‪،‬‬

‫فقال بعد اجلمع‪« :‬وال ينبغي لنا أن نحمل شيئا من هذه اآلثار عىل التضاد‪ ،‬وال عىل االختالف‬

‫الذي يدفع به بعضها بعضا‪ ،‬وإنام جيب علينا أن نحملها عىل االتفاق الذي يصدق بعضها بعضا‪،‬‬

‫إذ كنا نجد السبيل إىل ذلك منها»(‪.)2‬‬

‫وكرر نحو هذا التعبري يف مواطن عديدة من كتابه املخصص لألحاديث املشكلة للتعارض‪:‬‬

‫(بيان مشكل أحاديث رسول اهلل ^ واستخراج ما فيها من األحكام ونفي التضاد عنها)‬

‫غالب كتابه عىل اجلمع‪ ،‬وقدّ مه‬


‫َ‬ ‫املشهور باسم (رشح مشكل اآلثار)(‪ .)3‬بل أقام اإلمام الطحاوي‬

‫عىل ما سواه ‪ .‬ويف دراسة علمية حرص الباحث األبواب التي قال فيها اإلمام الطحاوي باجلمع‬

‫‪ ،‬والتي قال فيها بالنسخ والرتجيح ‪ ،‬فخرج باإلحصائية التالية ‪:‬‬

‫‪ )127( -‬بابا قال فيها باجلمع ‪.‬‬

‫‪ -‬و(‪ )54‬بابا قال فيها بالنسخ ‪.‬‬

‫‪ -‬و(‪ )28‬بابا قال فيها بالرتجيح ‪.‬‬

‫(‪ )1‬رشح معاين اآلثار للطحاوي (‪،124 /4( ،)434 ،414 ،215 ،197 -196 ،192 ،163 /1‬‬
‫‪.)392‬‬
‫(‪ )2‬أحكام القرآن للطحاوي (‪.)308 /2‬‬
‫(‪ )3‬رشح مشكل اآلثار للطحاوي (‪.)321 ،60 /14( ،)98 /13( ،)38 /10‬‬

‫‪6‬‬
‫ولذلك فقد خرج هذا الباحث ‪ ،‬وهو الدكتور حسن بن عبد احلميد بخاري ‪ :‬إىل أن اإلمام‬

‫الطحاوي قد وافق اجلمهور يف تقديم اجلمع عىل النسخ والرتجيح(‪.)1‬‬

‫وهذه النتيجة نفسها هي ما خرج هبا الدكتور اهلادي ُروشو التونيس يف التعرف عىل منهج‬

‫الطحاوي يف حل إشكال التعارض ‪ :‬أنه يقدم اجلمع ‪ ،‬خال ًفا للمنسوب إىل احلنفية(‪.)2‬‬

‫ودعونا نأخذ كالم متن أصويل معتمد ‪ ،‬وهو (كنز الوصول إىل معرفة األصول) لفخر‬

‫اإلسالم عيل بن حممد ال َبز َد ِوي (ت‪482‬هـ) ‪ ،‬حيث يقول ‪ « :‬وركن املعارضة ‪َ :‬تقا ُب ُل احلجتني‬

‫عىل السواء ‪ ،‬ال مزية ألحدمها ‪ ،‬يف ُحكمني متضادين ‪.‬‬

‫فركن كل يشء ما يقوم به(‪.)3‬‬

‫وأما الَّشط ‪ّ :‬‬


‫فاحتا ُد ّ‬
‫املحل ‪ ،‬والوقت ‪ ،‬مع َتضا ّد احلكم ‪ ،‬مثل التحليل والتحريم ‪.‬‬

‫وذلك أن التضاد ال يقع يف حم ّلني ‪ ،‬جلواز اجتامعهام ‪ ،‬مثل النكاح ‪ :‬يوجب احلل يف حمل ‪،‬‬

‫واحلرمة يف غريه ‪ .‬وكذلك يف وقتني(‪ : )4‬جلواز اجتامعهام يف حمل واحد يف وقتني ‪ ،‬مثل ‪ُ :‬حرمة‬

‫اخلمر بعد حلها»(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬منهج اإلمام الطحاوي يف دفع التعارض بني النصوص الَّشعية من خالل كتابه رشح مشكل اآلثار ‪:‬‬
‫للدكتور حسن بن عبد احلميد بخاري ‪ .‬رسالة ماجستري مقدمة إىل كلية الَّشيعة يف جامعة أم القرى ‪،‬‬
‫سنة ‪1422‬هـ (صـ ‪.)273 -272 ،132‬‬
‫(‪ )2‬خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه للدكتور اهلادي ُروشوا (‪.)568-567 ،554 -550‬‬
‫(‪ )3‬هذا تفسريه ملراده بالركنية ‪ ،‬ليؤكد أن ما مل جتتمع فيه هذه األركان فليس معارضة ‪.‬‬
‫(‪ )4‬أي ال يقع التضاد يف وقتني خمتلفني ؛ ألن هذا جيوز نفي التضاد بالنسخ ‪.‬‬
‫(‪ )5‬أصول البزدوي – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬سائد بكداش ‪ ،)449( -‬ورشحاه ‪ :‬كشف األرسار لعالء الدين البخاري‬

‫‪7‬‬
‫فهل ركن املعارضة التي يتكلم عنها اجلمهور هو هذه املعارضة ؟ فمن الواضح أن البزدوي‬

‫هنا يتكلم عن املعارضة التي ال حتتمل اجلمع وال النسخ وال الرتجيح ‪.‬‬

‫فهو أوال ‪ :‬يريد تنزيه الوحي من وقوع التعارض احلقيقي والتضاد احلقيقي ؛ ألنه تناقض‬

‫ُي ّنزه عنه الوحي ‪.‬‬

‫ولذلك قال عقب كالمه السابق ‪« :‬وحكم املعارضة بني آيتني ‪ :‬املصري إىل السنة ‪.‬‬

‫وبني سنتني ‪ :‬نوعان ‪ :‬املصري إىل القياس ‪ ،‬وأقوال الصحابة ♥ ‪ ،‬عىل الرتتيب يف احلجج‬

‫أن أمكن ؛ ألن اجلهل بالناسخ يمنع العمل هبام ‪.‬‬

‫وعند العجز ‪ :‬جيب تقرير األصول ‪.‬‬

‫وإذا ثبت أن األصل يف وقوع املعارضة اجلهل بالناسخ واملنسوخ ‪ :‬اختص ذلك بالكتاب‬

‫والسنة ‪ ،‬فكان بني آيتني ‪ ،‬أو قرائتني يف آية ‪ ،‬أو بني سنتني ‪ ،‬أو سنة وآية ؛ ألن النسخ يف ذلك‬

‫كله سائغ ‪ ،‬عىل ما نبني إن شاء اهلل تعاىل»(‪.)1‬‬

‫فواضح من خالل هذا التقرير أنه ال يتحدث عن التعارض الذي يتحدث عنه اجلمهور ‪،‬‬

‫تعارض يوجب التساقط ‪ ،‬ولذلك عند افرتاض‬


‫ٌ‬ ‫البزدوي عنه هو‬
‫ُّ‬ ‫فالتعارض الذي يتحدث‬

‫وقوعه بني آيتني ُيلج ُأ إىل السنة ‪ ،‬وعند وقوعها بني سنتني ُيلجأ إىل القياس أو أقوال الصحابة ‪،‬‬

‫(‪ ،)162-160 /3‬والتقرير ألكمل الدين البابريت (‪.)427 -426 /4‬‬


‫(‪ )1‬أصول البزدوي (‪ ،)450 -449‬ورشحاه ‪ :‬كشف األرسار لعالء الدين البخاري (‪،)165 -162 /3‬‬
‫والتقرير ألكمل الدين البابريت (‪.)430 -429 /4‬‬

‫‪8‬‬
‫نرجح ‪ ،‬ومنع من القول بالنسخ ؛ ألن رشط‬
‫وعند العجز ُيلجأ إىل تقرير األصول ‪ ،‬ومل يقل ِّ‬
‫التعارض الذي يتحدث عنه هو احتاد الوقت ‪.‬‬

‫عرفت ركن املعارضة ورشطها ‪ :‬وجب أن تبني‬


‫َ‬ ‫ثم قال البزدوي يف فصل جديد ‪« :‬وإذا‬
‫عليه كيفية الـ َمخ َل ِ‬
‫ص عن املعارضة عىل سبيل العدم من األصل ‪ ،‬وذلك مخسة أوجه ‪:‬‬

‫‪ -‬من ِق َبل احلجة ‪.‬‬

‫‪ -‬ومن ِق َبل احلكم ‪.‬‬

‫‪ -‬ومن قبل احلال ‪.‬‬

‫‪ -‬ومن قبل الزمان رصحيا ‪.‬‬

‫‪ -‬ومن قبل الزمان داللة ‪.‬‬

‫ـمح َك ِم‬ ‫ِ‬


‫أما من ق َبل نفس احلجة ‪ :‬فأن ال يعتدل الدليالن ؛ فال تقوم املعارضة ‪ .‬مثل ‪ :‬ال ُ‬
‫يعارضه املجمل واملتشابه ‪ُ ،‬‬
‫ومثل ‪ :‬الكتاب أو املشهور من السنة يعارضه خرب الواحد ؛ ألن‬

‫ركنها اعتدال الدليلني ‪ .‬وأمثلة هذا كثرية»(‪.)1‬‬

‫فهو هنا يبني كيفية نفي حصول التعارض أصال ‪ ،‬أي كيفية ح ّله لكي يثبت أنه ال تعارض‬

‫يف احلقيقة ‪ .‬فذكر مثال ‪ :‬أنه ال يقع تعارض بني ُمـحـكَم ومتشابه أو جممل ‪ ،‬بمعنى أنه جيب محل‬

‫(‪ )1‬أصول البزدوي (‪ ،)454 -453‬ورشحاه ‪ :‬كشف األرسار لعالء الدين البخاري (‪،)183 -182 /3‬‬
‫والتقرير ألكمل الدين البابريت (‪.)451 -449 /4‬‬

‫‪9‬‬
‫املت شابه واملجمل عىل املحكم ‪ ،‬وهذا مجع ‪ .‬وذكر ‪ :‬أنه ال يقع التعارض احلقيقي بني مقطوع به‬

‫ومظنون ؛ ألن وقوع التعارض بينهام يوجب تقديم املقطوع به عىل ما سواه ‪ ،‬وهذا ترجيح ‪.‬‬

‫ثم قال البزدوي ‪« :‬وأما احلكم ‪ :‬فإن الثابت هبام إذا اختلف عند التحقيق ‪ :‬سقط التعارض‪.‬‬

‫جل ِذك ُره ‪:‬‬ ‫مثل قوله تعاىل ﴿و َلكِن ي َؤ ِ‬


‫اخ ُذ ُكم بِ َام ك ََس َبت ُق ُلو ُب ُكم﴾‪ ،‬واملراد به الغموس ‪ ،‬وقال ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اخ ُذ ُكم اهللَُّ ِبال َّلغ ِو ِيف َأيامنِ ُكم و َل ِكن ي َؤ ِ‬
‫اخ ُذ ُكم بِ َام َع َّقد ُت ُم األَي َام َن﴾‪ ،‬والغموس ‪ :‬داخل يف‬ ‫﴿ال ي َؤ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫هذا اللغو ؛ ألن املؤاخذة املثبتة مطلقة ‪ ،‬وهي يف دار اجلزاء ‪ ،‬واملؤاخذة املنفية مقيدة بدار‬

‫االبتالء‪ ،‬فصح اجلمع ‪ ،‬وبطل التدافع ‪ ،‬فال يصح أن ُحيمل البعض عىل البعض ‪ ،‬وأمثاله‬

‫كثرية»(‪.)1‬‬

‫وهنا جيمع البزدوي بني اآليتني بأن اليمني الغموس رغم دخوهلا يف اللغو ؛ ألن اللغو هي‬

‫كل ما خالف الرب واحلق وما ال فائدة فيه ‪ ،‬واليمني الغموس كذلك ‪ ،‬ورغم أن اآلية األوىل نفت‬

‫املؤاخذة واآلية الثانية أثبتت املؤاخذة ؛ إال أنه ال تعارض ؛ ألن املؤاخذة املثبتة هي املؤاخذة‬

‫األخروية ‪ ،‬فيؤاخذ عىل اليمني الغموس يف اآلخرة ‪ ،‬واملؤاخذة املنفية هي املؤاخذة الدنيوية ‪،‬‬

‫وهي الكفارة ‪ ،‬واليمني الغموس ال كفارة فيها ‪.‬‬

‫وهذا هو عني اجلمع ‪ ،‬وهو يقصد بذلك أن املعارضة احلقيقية تنتفي هبذا اجلمع ‪.‬‬

‫ومع العلم بالتاريخ ؛ ألن سورة املائدة من آخر ما نزل من القرآن ‪ ،‬وصح أهنا نزلت يف‬

‫حجة الوداع ‪ ،‬وأما سورة البقرة فعامتها نزلت قبل ذلك قط ًعا ‪ .‬مع ذلك مل يقل البزدوي بالنسخ‪،‬‬

‫(‪ )1‬أصول البزدوي (‪ ،)454‬ورشحاه ‪ :‬كشف األرسار لعالء الدين البخاري (‪ ،)186-183 /3‬والتقرير‬
‫ألكمل الدين البابريت (‪.)455 -452 /4‬‬

‫‪10‬‬
‫كام ُنسب إىل مذهب احلنفية ‪ :‬أهنم مع العلم بالتاريخ يقولون بالنسخ ويقدمونه عىل اجلمع‪ .‬ومن‬

‫نظر يف أقوال النسخ عند احلنفية املبنية عىل التاريخ ‪ :‬جيد أهنم يلجؤون إىل إثباهتا بام هو أقل قو ًة‬
‫من اختالف زمن نزول سورتني معلومتي ِ‬
‫زمن نزوهلام كـ(سورة البقرة) و(املائدة)‪ .‬فحياد‬

‫البزدوي عن القول بالنسخ إىل اجلمع يف هذا املثال ‪ :‬فيه ما ُيشكل (عىل أقل تقدير) عىل دعوى‬

‫أن احلنفية يقدمون النسخ عىل اجلمع عند العلم بالتاريخ ‪.‬‬

‫استمر البزدوي يف عرض صور التعارض احلقيقي وكيفية نفي وقوعه (وال يسميه‬
‫ّ‬ ‫وهكذا‬
‫ًّ‬
‫حال)‪ ،‬حتى انتهى من باب التعارض(‪ .)1‬وليس يف كالمه إطالق قول بتقديم ترجيح وال نسخ ‪،‬‬

‫وال تأخري مجع !‬

‫فليس يف كالم البزدوي ما يدل عىل خالف اجلمهور وال عىل وفاقهم يف ترتيب منازل ّ‬
‫حل‬

‫التعارض ‪ ،‬وإن كان يف متثيله ما يدل عىل ِوفاق اجلمهور ‪.‬‬

‫ويأيت الرسخيس – حممد بن أمحد بن أيب سهل – (ت‪490‬هـ)‪ ،‬فيبدأ باب (بيان املعارضة‬

‫بني النصوص) بقوله ‪« :‬اعلم بأن احلجج الَّشعية من الكتاب والسنة ‪ :‬ال يقع بينهام التعارض‬

‫والتناقض وض ًعا ؛ ألن ذلك من أمارات العجز ‪ ،‬واهلل يتعاىل عن أن يوصف به ‪ .‬وإنام يقع‬

‫التعارض جلهلنا بالتاريخ ‪ ،‬فإنه يتعذر به علينا التمييز بني الناسخ واملنسوخ ‪ .‬أال ترى أن عند‬

‫العلم بالتاريخ ال تقع املعارضة بوجه ‪ ،‬ولكن املتأخر ناسخ للمتقدم ‪ .‬فعرفنا أن الواجب يف‬

‫(‪ )1‬أصول البزدوي (‪ ،)464 -454‬ورشحاه ‪ :‬كشف األرسار لعالء الدين البخاري (‪،)210 -186 /3‬‬
‫والتقرير ألكمل الدين البابريت (‪.)484 -456 /4‬‬

‫‪11‬‬
‫األصل طلب التاريخ ‪ ،‬ل ُيعلم به الناسخ من املنسوخ ‪ .‬وإذا مل يوجد ذلك ‪ :‬يقع التعارض بينهام‬

‫يف حقنا ‪ ،‬من غري أن يتمكن التعارض فيام هو حكم اهلل تعاىل يف احلادثة ‪.‬‬

‫وركنها ورشطها وحكمها ‪ ،»...‬ثم ذكر معنى‬


‫وألجل هذا ُحيتاج إىل معرفة تفسري املعارضة ُ‬
‫كالم البزدوي يف بيان ركن املعارضة ورشطها(‪.)1‬‬

‫فواضح من هذا الكالم ‪ ،‬ومن ِذك ِره ُركن املعارضة ورشطها (عىل معنى ما ذكره البزدوي)‪:‬‬

‫أنه يتحدث عن التعارض احلقيقي الذي ال يمكن فيه اجلمع ‪ ،‬وال الرتجيح للتساوي يف القوة ‪.‬‬

‫فعندما ذكر هنا تقديم النسخ ؛ فألنه هو االحتامل الوحيد القادر نفي التعارض يف حالة‬

‫التعارض الذي يتكلم عنه بركنه ورشطه عنده ‪ .‬فيأيت من ال حيسن فهم الكالم ‪ ،‬فينسب‬

‫للرسخيس أنه يقدم النسخ عىل اجلمع ‪ ،‬وهو ال يدري عن ماذا كان الرسخيس يتكلم !‬

‫بيان الـ َمخ َلص عن املعارضات ‪ ،‬فنقول‪:‬‬


‫ثم أكد الرسخيس هذا املعنى عندما قال ‪ « :‬وأما ُ‬

‫الـمخ َلص ‪:‬‬


‫ُيطلب هذا َ‬

‫‪ -‬أوال ‪ :‬من نفس احلجة ‪ ،‬فإن مل يوجد ‪:‬‬

‫‪ -‬فمن احلكم ‪ ،‬فإن مل يوجد ‪:‬‬

‫‪ -‬فباعتبار احلال ‪ ،‬فإن مل يوجد ‪:‬‬

‫‪ -‬فبمعرفة التاريخ نصا ‪ ،‬فإن مل يوجد ‪:‬‬

‫‪ -‬فبداللة التاريخ ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أصول الرسخيس (‪.)13 -12 /2‬‬

‫‪12‬‬
‫فأما الوجه األول ‪ :‬وهو الطلب املخلص من نفس احلجة ‪ ،‬فبيانه من أوجه ‪:‬‬

‫أحدها أن يكون أحد النصني ُمـح َكـ ًام واآلخر ُجم َم ًال أو ُمش ِك ًال ‪ :‬فإن هبذا ّ ُ‬
‫يتبني أن‬
‫ٍ‬
‫ظاهرا ‪ :‬فيصار إىل العمل باملحكم‬
‫ً‬ ‫موجود بني النصني ‪ ،‬وإن كان موجو ًدا‬ ‫التعار َض حقيق ًة ُ‬
‫غري‬ ‫ُ‬
‫دون املجمل والـ ُمشكِل ‪.‬‬

‫وكذلك إن كان أحدمها نصا من الكتاب أو السنة املشهورة واآلخر خرب الواحد ‪.‬‬

‫وكذلك إن كان أحدمها ِ‬


‫حمتم ًال للخصوص ‪ :‬فإنه ينتفي معنى التعارض بتخصيصه بالنص‬

‫اآلخر»‪.‬‬

‫وهذا كالم رصيح من الرسخيس بتقديم اجلمع عىل كل ما سواه ؛ ألنه رصح أنه ال ُيرتك‬

‫فرس نفي التعارض من نفس احلجة ‪ ،‬فإذا به‬ ‫نفي التعارض من نفس احلجة إال مع ت ُّ‬
‫َعذره ‪ ،‬ثم ّ‬
‫صور للجمع ‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ورا ثال ًثا كلها‬
‫يذكر ُص ً‬

‫األوىل ‪ :‬محل املجمل واملشكِل عىل داللة املحكم ‪ ،‬وهذا هو اجلمع عينُه ‪.‬‬

‫والثانية ‪ :‬قال فيه ‪« :‬وكذلك إن كان أحدمها نصا من الكتاب أو السنة املشهورة واآلخر‬

‫توهم أنه ترجيح ‪ ،‬وليس كذلك ؛ ألنه حيتمل أن يكون مراده ‪ :‬محل‬
‫خرب الواحد»‪ ،‬وهذا قد ُي ّ‬
‫داللة خرب الواحد عىل داللة النص من القرآن أو النص من السنة املشهورة ‪ ،‬ملا اجتمع يف نص‬

‫الكتاب ونص السنة املشهورة من القطعية يف الثبوت والداللة النصية ‪.‬‬

‫وهذا ما رصح به عالء الدين السمرقندي (ت‪539‬هـ)‪ ،‬حيث قال عن طرق نفي‬

‫التعارض‪« :‬أما الذي يرجع إىل الركن‪ :‬فبأن مل يكن بني الدليلني مماثلة‪ ،‬كنص الكتاب واخلرب‬

‫‪13‬‬
‫املتواتر‪ ،‬مع خرب الواحد والقياس‪ ،‬أو خرب الواحد مع القياس ؛ ألن رشط قبول خرب الواحد‬

‫والقياس أن ال يكون ثمة نص من الكتاب والسنة املتواترة واإلمجاع بخالفه»(‪.)1‬‬

‫خصص به ‪ .‬وهذا أحد أظهر‬


‫والثالثة ‪ :‬أن حيتمل أحد النصني التخصيص بالنص اآلخر ‪ ،‬ف ُي َّ‬
‫صور اجلمع ‪.‬‬

‫الس ِ‬
‫ار َق ُة َفاق َط ُعوا‬ ‫ار ُق َو َّ‬ ‫الس ِ‬
‫﴿و َّ‬
‫ثم قال الرسخيس ‪« :‬وبيانه من الكتاب يف قوله تعاىل َ‬
‫ظاهرا ‪،‬‬
‫ً‬ ‫َأي ِد َ َُي َام﴾‪ ،‬وقوله تعاىل يف املستأمن ﴿ ُث َّم َأبلِغ ُه َمأ َمنَ ُه﴾‪ ،‬فإن التعارض يقع بني النصني‬

‫ولكن قوله ﴿ َفاق َط ُعوا َأي ِد َ َُي َام ﴾عام حيتمل اخلصوص فجعلنا قوله تعاىل ﴿ ُث َّم َأبلِغ ُه َمأ َمنَ ُه﴾ دليل‬

‫ختصيص املستأمن من ذلك(‪.)2‬‬

‫ومن السنة ‪ :‬قوله عليه السالم ‪" :‬من نام عن صالة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها‪ ،‬فإن ذلك‬

‫ظاهرا ‪ ،‬ولكن قوله‬


‫ً‬ ‫وقتها"‪ ،‬وهنيه عن الصالة يف ثالث ساعات ‪ .‬فالتعارض بني النصني ثبت‬

‫عليه السالم ‪" :‬فليصلها إذا ذكرها"‪ ،‬بعرض التخصيص ‪ ،‬ف ُيجعل النص اآلخر دليل‬

‫التخصيص ‪ ،‬حتى ينتفي به التعارض ‪.‬‬

‫وكذلك إن ظهر عمل الناس بأحد النصني ‪ ،‬دون اآلخر ؛ ألن الذي ظهر العمل به بني‬

‫رجح بدليل اإلمجاع ‪ ،‬فينتفي به معنى التعارض بينهام ‪ .‬مع أن الظاهر أن اتفاقهم عىل‬
‫الناس َت َّ‬
‫ً‬
‫ناسخا ملا كان قبله ‪ ،‬وبالعلم بالتاريخ ينتفي التعارض ‪ .‬فكذلك باإلمجاع‬ ‫العمل به لكونه ِّ‬
‫متأخ ًرا‬
‫الدال عليه ‪ .‬وإن كان املعمول به ساب ًقا ‪ :‬فذلك دليل عىل أن ِ‬
‫اآلخ َر ُم َؤ َّو ٌل أو سهو من بعض‬

‫(‪ )1‬ميزان األصول للسمرقندي – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬عبد امللك السعدي – (‪.)964 /2‬‬
‫واجب بالنص ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )2‬أي لو رسق املستأمن ال نقطع يده ؛ ألن اإلبالغ إىل مأمنه‬

‫‪14‬‬
‫ُ‬
‫فناسخه يشتهر بعده ‪ .‬أيضا كام اشتهر‬ ‫الرواة ‪ ،‬إن كان يف األخبار ؛ ألن املنسوخ إذا اشتهر ‪:‬‬

‫حتريم املتعة بعد اإلباحة ‪ ،‬واشتهر إباحة زيارة القبور ‪ ،‬وإمساك حلوم األضاحي ‪ ،‬والَّشب يف‬

‫األواين ‪ ،‬بعد النهي ‪ .‬ولو اشتهر الناسخ ‪ :‬ملا أمجعوا عىل العمل بخالفه ‪ .‬فبهذا الطريق تنتفي‬

‫املعارضة»(‪.)1‬‬

‫وهكذا جيعل الرسخيس اجلمع بالتخصيص مقدَّ ما يف املثالني األولني ‪ ،‬وأما يف النصني‬

‫اللذين مع أحدمها اإلمجاع ‪ ،‬فيجعل اإلمجاع دليال عىل النسخ ؛ ألن التعارض يف األصل عنده‬

‫هو التعارض احلقيقي ‪ ،‬لذلك جعل اإلمجاع داال عىل وجود ناسخ ‪ .‬وأكّد هذا املعنى ‪ ،‬عندما‬
‫فقر َر أن ِّ‬
‫املتأخ َر‬ ‫اإلمجاع عىل العمل باملتقدِّ م منهام ‪ّ :‬‬
‫ُ‬ ‫أورد صورة احلديثني املتعارضني اللذين انعقد‬

‫يف هذه احلالة ُيعدّ مرصو ًفا عن ظاهره بالتأويل ‪ ،‬أو أنه خطأ من الراوي ‪ ،‬وبذلك ينتفي‬

‫التعارض ‪ .‬فجعل احتامل اجلمع بالتأويل احتامال قائام ‪.‬‬

‫ثم مل يذكر الرسخيس يف هذا الباب شي ًئا يدل عىل تقديم النسخ أو الرتجيح مطلقا عىل‬

‫أيضا ‪ ،‬كام سبق عن البزدوي !‬


‫اجلمع ً‬

‫ويف موضع آخر يقول الرسخيس ‪ « :‬فأما إذا اختلف الراوي ‪ :‬فقد ُعلم أهنام خربان ‪ ،‬وأن‬
‫النبي عليه السالم إنام قال كل واحد منهام يف ٍ‬
‫وقت آخر ‪ :‬فيجب العمل هبام عند اإلمكان ‪ ،‬كام‬

‫هو مذهبنا يف أن املطلق ال حيمل عىل املقيد يف حكمني ‪.‬‬

‫وبيان هذا ‪ :‬فيام روي أن النبي عليه السالم هنى عن بيع الطعام قبل القبض ‪ ،‬وقال ل َع ّتاب‬

‫بن َأ ِسيد ☺ ‪" :‬اهنهم عن أربعة ‪ :‬عن بيع ما مل يقبضوا"‪ .‬فإنا نعمل باحلديثني ‪ ،‬وال نجعل املطلق‬

‫(‪ )1‬أصول الرسخيس (‪.)19 -18 /2‬‬

‫‪15‬‬
‫منهام حمموال عىل املقيد بالطعام ‪ ،‬حتى ال جيوز بيع سائر ال َعروض قبل القبض ‪ ،‬كام ال جيوز بيع‬

‫الطعام»(‪.)1‬‬

‫وتنبه إىل قوله ‪ « :‬فقد ُعلم أهنام خربان»‪ ،‬فهو هنا يتكلم عن ُحكم اخلربين املتعارضني‬

‫ظاهر ًّيا عند احلنفية ‪ «:‬كام هو مذهبنا »‪ ،‬ثم يقول عن هذين اخلربين ‪ « :‬فيجب العمل هبام عند‬

‫اإلمكان»‪ ،‬وهذا هو اجلمع ‪ ،‬وهذه هي حجة تقديمه (العمل بالدليلني أوىل من إمهال أحدمها)‪،‬‬

‫والعجز عن القول بالنسخ ‪.‬‬


‫َ‬ ‫ومل يشرتط الرسخيس هلذا اجلمع عد َم العلم بالتاريخ‬

‫فخرجنا من ذلك ‪ :‬أن الرسخيس يقدم اجلمع ‪ ،‬ثم النسخ إن ُعلم املتأخر من املتقدم (بأحد‬
‫دالالت العلم ‪ :‬من التاريخ وغريه)‪ ،‬ثم الرتجيح ‪ .‬وهذا يوافق اجلمهور يف ترتيب منازل ّ‬
‫حل‬

‫التعارض ‪ ،‬وخيالف املنسوب للحنفية ‪.‬‬

‫فإذا ارتقينا إىل شيخ أصول احلنفية ‪ :‬أيب بكر اجلصاص – أمحد بن عيل الرازي –‬

‫واملتخرج به ‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫(ت‪370‬هـ) ‪ ،‬فنجده نقل عن عيسى بن أبان – تلميذ حممد بن احلسن الشيباين‬

‫(ت‪221‬هـ) أنه قال عن احلديثني املتعارضني ‪« :‬وإن كان أحدمها متقدِّ ًما عىل اآلخر ‪ ،‬والناس‬

‫خمتلفون يف العمل هبام ‪:‬‬

‫‪ -‬فإن احتمال املوافقة واجلمع بينهام ‪ :‬اس ُتعمل االجتهاد ‪.‬‬

‫‪ -‬وإن مل حيتمال املوافقة ‪ :‬فاآلخر ناسخ لألول»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬أصول الرسخيس (‪.)26 -25 /2‬‬


‫(‪ )2‬الفصول للجصاص – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬عجيل النشمي – (‪.)164 /3‬‬

‫‪16‬‬
‫فهنا يرصح عيسى بن أبان بتقديم اجلمع عىل النسخ ‪ ،‬وأنه ال ُيصار إىل النسخ إال عند عدم‬

‫إمكان التوفيق بني احلديثني ‪.‬‬

‫ووافقه اجلصاص عىل هذا التقرير ‪ ،‬فقال شارحا له ‪« :‬وأما إذا كان أحدمها متقدما عىل‬

‫اآلخر ‪ ،‬والناس خمتلفون فيهام ‪:‬‬

‫اآلخر قاضيا عىل‬


‫َ‬ ‫‪ -‬فإن احتمال املوافقة ‪ :‬ساغ االجتهاد ؛ ألهنم ملا اختلفوا ‪ ،‬ومل جيعلوا‬
‫األول ‪ ،‬فقد َس ّوغوا االجتها َد فيهام ‪ .‬فمتى أدى االجتهاد إىل محلهام عىل ِ‬
‫الو َفاق محلنامها‬

‫عليه‪ ،‬ومل يسقط أحدمها باآلخر‪ ،‬مع إمكان االستعامل‪ ،‬وداللة األصول عليه‪.‬‬

‫‪ -‬وأما إذا مل حيتمال املوافقة ‪ :‬فإن اآلخر منهام يكون ناسخا األول‪ ،‬ألن احلكم اآلخر‬

‫ثابت؛ إذ ليس لألول مزية عليه يف ثبوته دونه ‪ ،‬ويف ثبوت اآلخر نفي األول»(‪.)1‬‬

‫ثم ال جتد يف بقية الفصل عند اجلصاص ذكرا لرتتيب يوجب تقديم النسخ أو الرتجيح عىل‬

‫النسخ(‪.)2‬‬

‫فخرجنا أن عيسى بن أبان وأبا بكر اجلصاص كليهام موافقان للجمهور يف ترتيب منازل‬

‫حل التعارض ‪ ،‬خمالفان ملا ُنسب إىل احلنفية فيها ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الفصول للجصاص (‪.)166 -165 /3‬‬


‫(‪ )2‬الفصول للجصاص (‪.)174 -161 /3‬‬

‫‪17‬‬
‫وبعد اجلصاص نقف مع أيب زيد الدَّ ُبويس – ُعبيد اهلل بن ُعمر – (ت‪430‬هـ) ‪ ،‬فنجده يقرر‬

‫أوال أن املعارضة التي يتحدث عنها هي التي ال تقبل اجلمع أصال ‪ ،‬فيقول ‪« :‬أما املعارضة‬

‫فتفسريها‪ :‬املامنعة عىل سبيل املقابلة‪ ،‬يقال‪ :‬عرض يل أمر ‪ ،‬أي استقبلني فمنعني‪.‬‬

‫والعوارض يف اللغة ‪ :‬املوانع‪.‬‬

‫وسميت املعارضة بني احلجج معارضة ‪ :‬ألهنا تقوم متقابِل ًة متامنِع ًة ‪ ،‬ال يمكن اجلمع بينهام‪.‬‬

‫أما رشط املعارضة‪ :‬فاجتامع احلجتني املتدافعتني بإجياب كل واحدة منهام ضد األخرى ‪،‬‬

‫يف حمل واحد ‪ ،‬ووقت واحد كالتحليل والتحريم واإلثبات والنفي‪ ،‬ومها متساويتان يف القوة ؛‬

‫ألن الضعيف ال يقابل القوي»(‪.)1‬‬

‫متعارضا أصال ‪ ،‬فإذا أمهل يف‬


‫ً‬ ‫(اجلمع) فليس‬
‫ُ‬ ‫وهكذا يرصح الدَّ ُبويس أن ما ُيمكن فيه‬

‫كالمه هذا ِذك َر احتامل (اجلمع) ‪ -‬يف هذا السياق ‪ -‬سيكون السبب معلوما ‪ ،‬وأنه ليس من أجل‬

‫تقديم النسخ عليه ‪.‬‬

‫وقط ال تثبت بني احلجج الثابتة يقينًا ؛ ألن التعارض بني آيتني أو ُسنتني ال‬
‫إىل أن قال ‪ُّ « :‬‬

‫ً‬
‫منسوخا به ‪ ،‬فتكون‬ ‫ً‬
‫ناسخا لألول‪ ،‬واألول‬ ‫يثبت ؛ إال بحيث لو ُعلم تارخيهام ‪ :‬لكان ِ‬
‫اآلخر‬
‫الثابتة إحدامها ؛ إال أنا جهلنا ِ‬
‫اآلخر ‪ ،‬فيثبت التعارض»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬عبد الرحيم يعقوب – (‪/2‬‬
‫‪.)332 -331‬‬
‫(‪ )2‬تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬عبد الرحيم يعقوب – (‪/2‬‬
‫‪.)333‬‬

‫‪18‬‬
‫وهذا كالم رصيح يف سبب ذكره النسخ دون غريه من املنازل ‪.‬‬

‫ثم نجد الدبويس – بعد قليل ‪ -‬يقرر أن أول ما جيب السعي إليه عند التعارض هو نفي‬

‫التعارض ببيان عدم تعارض احلكم ‪ ،‬ورضب مثال بمسألة اليمني الغموس التي سبق ذكرها يف‬

‫كالم البزدوي‪ .‬وهذا مجع رصيح ‪ ،‬ويرصح بتقديمه ‪.‬‬

‫ثم رصح أن اخلطوة الثانية هي ‪ :‬اجلمع ببيان اختالف احلال بني احلديثني ‪ ،‬وهو مجع‬

‫أيضا(‪.)1‬‬
‫ً‬

‫آخرمها أوىل؛‬ ‫ثم قال ‪ « :‬فإن مل يوجد ذلك ‪ :‬وجب التخ ُّل ُ‬
‫ص بالتاريخ ‪ ،‬إن ُعرف ‪ ،‬ف ُيجعل ُ‬
‫ملا ذكرنا أن املعارضة إنام تثبت إذا كان ِ‬
‫اآلخر مما ينسخ األول ‪ ،‬فإذا ُعرف الناسخ ‪ :‬بطلت‬

‫املعارضة»(‪.)2‬‬

‫وهكذا يرصح الدبويس أن القول بالنسخ َّ‬


‫مؤخ ٌر عن القول باجلمع ‪ ،‬وأن اجلمع مقدّ ٌم عليه‬

‫وخالف للمنسوب إىل احلنفية ‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫‪ .‬وهذا ِو ٌ‬
‫فاق منه للجمهور ‪،‬‬

‫وبعد أن ذكر الدبويس طرق إثبات النسخ ‪ ،‬قال ‪ « :‬فإن مل ُيمكن ‪ :‬قامت املعارضة ‪ .‬وإن‬

‫املرجحات‪ .‬وهذا رصيح أن مرتبة‬


‫كانت إحدى احلجتني نافية واألخرى مثبتة ‪ ،)3(»...‬ثم ذكر ّ‬
‫القول بالرتجيح مـتأخرة عن القول بالنسخ ‪.‬‬

‫(‪ )1‬تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬عبد الرحيم يعقوب – (‪/2‬‬
‫‪.)345 -343‬‬
‫(‪ )2‬تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس (‪.)346 /2‬‬
‫(‪ )3‬تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس (‪.)348 /2‬‬

‫‪19‬‬
‫وهكذا يكون الدبويس عىل رأي اجلمهور يف تقديم اجلمع عىل النسخ ‪ ،‬وتقديم النسخ عىل‬
‫الرتجيح ‪ ،‬وأن الرتجيح آخر منازل ّ‬
‫حل التعارض ‪.‬‬

‫لننتقل إىل أيب احلسني البرصي املعتزيل – حممد بن عيل بن الطيب – (ت‪436‬هـ)‪ ،‬ومل أجد‬

‫أحدً ا من فقهاء املذاهب األربعة ا ّدعاه يف فقهاء مذهبهم ؛ إال احلنفية ‪ ،‬فقد ذكره القريش‬

‫(ت‪775‬هـ)(‪ ،)1‬ومال عيل القاري (ت‪1014‬هـ)(‪ ،)2‬وحممد حفظ الرمحن بن حمب الرمحن‬

‫ال ُكمالين (معارص)(‪)3‬يف طبقات فقهاء املذهب احلنفي‪ .‬فإن صح كونه حنف ًّيا ‪ ،‬فكالمه يف بيان‬
‫ِ‬
‫وخمالفة ما ُنسب إىل احلنفية!‬ ‫قاطع بموافقة اجلمهور‬ ‫منازل حل التعارض‬
‫ٌ‬

‫حيث قال ‪« :‬اعلم أن اخلربين املتعارضني ‪:‬‬

‫‪ -‬إما أن يكونا معلومني(‪. )4‬‬

‫‪ -‬أو غري معلومني ‪.‬‬

‫‪ -‬أو أحدمها معلوم واآلخر غري معلوم ‪.‬‬

‫(‪ )1‬اجلواهر املضية يف طبقات احلنفية للقريش (‪261 /3‬رقم ‪.)1415‬‬


‫(‪ )2‬األثامر اجلنية يف األسامء احلنفية ملال عيل القاري (رقم ‪.)547‬‬
‫(‪ )3‬البدور املضية يف تراجم احلنفية ملحمد حفظ الرمحن ال ُكمالين (‪96 -95 /16‬رقم ‪.)4643‬‬
‫(‪ )4‬أي قطعيني ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫خاصني ‪ ،‬أو عا َمني ‪ ،‬أو أحدمها خاص واآلخر عام ‪.‬‬
‫فان كانا معلومني(‪ : )1‬فإما ان يكونا ّ‬
‫خاصا من‬
‫فإن كانا عا ّمني ‪ :‬فإما أن يكونا عا ّمني من كل وجه ‪ ،‬أو كل واحد منهام عا ًّما من وجه ًّ‬
‫وجه ‪:‬‬

‫خاصا ‪ُ :‬قيض باخلاص عىل العام(‪. )2‬‬


‫‪ -‬فإن كان أحدُ مها عا ًّما واآلخر ًّ‬

‫خاصني عىل اإلطالق ‪ ،‬أو عا ّمني عىل اإلطالق ‪ ،‬و ُعرف التأريخ فيهام ‪ :‬قضينا‬
‫‪ -‬وإن كانا ّ‬
‫بنسخ املتأخر منهام للمتقدم ‪.‬‬

‫‪ -‬فان مل ُيعرف التأريخ فيهام ‪ :‬فإن أمكن التخيري فيهام ‪ُ ،‬فعل ذلك ‪.‬‬

‫‪ -‬وإن مل يمكن التخيري فيهام ‪ ،‬أو أمكن ذلك لكن األمة منعت منه ‪ :‬حكمنا بأن التعبد‬

‫فيهام بالنسخ عند من عرف التأريخ ‪ ،‬وأن التعبد علينا هو بالرجوع إىل مقتىض العقل؛‬

‫ألنه ليس أحدمها أوىل من اآلخر ‪ .‬وال جيوز ترجيح أحدمها عىل اآلخر بام يرجع إىل‬

‫إسناده ؛ ألن الرتجيح بذلك يقتيض قوة الظن لثبوت أحدمها ‪ ،‬وليس واحدٌ منهام‬

‫مظنو ًنا فيقوى ظننا له ‪ .‬وجيوز أن ُيقال ‪ :‬إن التعبد علينا بأحدمها َيق َوى بام يرجع إىل‬

‫صفة احلكم ‪ ،‬نحو ‪ :‬احلظر والوجوب(‪)3‬؛ ألن ذلك ليس يقتيض قوة الظن لثبوت اخلرب‪،‬‬

‫وإنام يقتيض التعبد ‪ ،‬والتعبد عند التعارض قد يدخل الظن يف رشائطه ‪.‬‬

‫(‪ )1‬من هنا كالمه عن املتعارضني القطعيني ‪ ،‬إىل قوله ‪« :‬وقوله ﴿ َو ُأ ِح َّل َل ُكم َما َو َرا َء َذلِ ُكم ﴾»‪.‬‬
‫مجع قدّ مه عىل النسخ والرتجيح ‪ ،‬ومل يشرتط للقول به عدم العلم بالتاريخ ‪.‬‬
‫(‪ )2‬هذا ٌ‬
‫(‪ )3‬يعني األخذ باألحوط تع ُّبدً ا ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ختصيص أحدمها باآلخر‬
‫ُ‬ ‫وإن كان كل واحد منهام خاصا من وجه عاما من وجه ‪ :‬فليس‬

‫خمص ًصا لآلخر بام يرجع إىل احلكم من كونه‬


‫رجح كون أحدمها ِّ‬
‫أوىل من العكس ‪ ،‬فيجوز أن ُي َّ‬
‫اؤ ُكم ِم َن‬
‫﴿و َال تَنكِ ُحوا َما َنك ََح آ َب ُ‬
‫حمظورا(‪ ،)1‬أو غري ذلك ‪ .‬ومثال ذلك من القرآن قوله تعاىل َ‬ ‫ً‬
‫ف﴾ وقوله ﴿ َو ُأ ِح َّل َل ُكم َما َو َرا َء َذلِ ُكم ﴾‪.‬‬ ‫النِّس ِ‬
‫اء إِ َّال َما َقد َس َل َ‬ ‫َ‬

‫خاصا ‪ :‬فإنه يقع التخصيص‬


‫وإن كان أحد اخلربين معلو ًما واآلخر مظنونا ‪ :‬وكان أحدمها ًّ‬
‫به ‪ ،‬معلوما كان اخلاص أو مظنونا(‪ .)2‬وإن مل يكن أحدمها خاصا ‪ُ :‬حكم باملعلوم ؛ ألنه ال جيوز‬

‫ا ّطراحه إىل املظنون ‪.‬‬

‫وإن كانا مظنونني ‪ُ :‬قيض باخلاص منهام ‪ ،‬إن كان فيهام خاص ‪ ،‬وإن مل يكن ‪ُ :‬ر ِّجح أحدمها‬

‫عىل اآلخر ‪ ،‬و ُعمل عىل األرجح(‪.)3‬‬

‫و ُيقال أيضا يف قسمة األخبار املتعارضة ‪ :‬أن اخلربين إذا تعارضا ‪ :‬فإما أن ُيمكن اجلمع‬

‫بينهام ‪ ،‬أو ال يمكن ‪:‬‬

‫فإن أمكن ‪ :‬فإما أن يمكن اجلمع بينهام يف وقت واحد ‪ ،‬أو يف وقتني ‪ .‬أما يف وقت واحد ‪:‬‬

‫فبأن ُحيمل أحدمها ملكان اآلخر عىل جماز ‪ ،‬إما بالتخصيص وإما بغريه ‪ .‬وأما يف وقتني ‪ :‬فبأن‬

‫ُيعلم َتقدُّ ُم أحدمها بعينه عىل اآلخر ‪ :‬فيكون منسوخا بام تأخر عنه(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬أي من باب االحتياط ‪ ،‬كام سبق ‪.‬‬


‫تقديم للجمع ‪ ،‬دون اشرتاط َت َع ُّذ ِر النَّسخ بعدم العلم بالتاريخ ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )2‬هذا‬
‫تقديم رصيح للجمع عىل الترصيح ‪ ،‬وأنه ال ُيصار إىل الرتجيح إال مع العجز عن اجلمع ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )3‬هذا‬
‫(‪ )4‬عدَّ النسخ من خالل معرفة التاريخ صورة من صور اجلمع ؛ ألنه مقصوده حل التعارض ‪ ،‬وهذا لطيف‬

‫‪22‬‬
‫وأما ما ال يمكن اجلمع بينهام ‪ :‬فإما أن ال يمكن ألنفسهام ‪ ،‬أو ألمر اقرتان هبام ‪:‬‬

‫فام ال يمكن ألمر اقرتن هبام ‪ :‬فهو أن يمكن تأويل أحدمها باآلخر ‪ ،‬لكن األمة منعت من‬

‫ذلك ‪ .‬كرواية ابن عباس ☺ ‪" :‬ال ربا إال يف النسيئة"‪ ،‬يمكن ختصيصه يف اجلنسني املختلفني‬

‫بخرب أيب سعيد ‪ ،‬لكن السلف عىل قولني ‪ :‬أكثرهم تركه وصار إىل رواية أيب سعيد ‪ ،‬واألقل أخذ‬

‫به ‪.‬‬

‫وأما الذي ال يمكن ذلك فيه ألنفسهام ‪ :‬فله رشوط ‪:‬‬

‫‪ -‬منها أن يكون حكم أحدمها نفيا حلكم اآلخر ‪ ،‬أو حكم أحدمها ضدا حلكم اآلخر ‪.‬‬

‫‪ -‬ومنها أن يتعلق كل واحد منهام بام تعلق به اآلخر عىل احلد الذي تعلق به اآلخر يف‬

‫الوقت الذي تعلق به اآلخر ‪ ،‬وال يكون أحدمها خاصا واآلخر عاما ‪ ،‬بل يكونان‬

‫خاصني أو عامني ‪ ،‬أو كل واحد منهام خاصا من وجه عاما من وجه ‪ :‬فال يكون أحدمها‬

‫بأن يكون خمصوصا باآلخر بأوىل من العكس ‪.‬‬

‫‪ -‬ومنها أن ال ُيعلم َت َقدُّ م أحدمها عىل اآلخر(‪.)1‬‬

‫ومتى تعارضا هذا التعارض ‪ُ :‬ر ِّجح بينهام ‪ ،‬و ُعمل عىل الرتجيح ‪.‬‬

‫وإن تساويا يف الرتجيح ‪ :‬فسنذكر حكمه إن شاء اهلل ‪.‬‬

‫!‬
‫(‪ )1‬أي ف ُيعجز عن القول بالنسخ ‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫إن قيل ‪ :‬كيف يثبت التنايف يف األخبار ‪ ،‬وليس يف األلفاظ إال ما يمكن تأويله عىل موافقة‬

‫غريه ؟ قيل ‪ :‬قد يكون يف األلفاظ ما ال يمكن ذلك فيه ؛ إال بالتعسف الشديد يف التأويل ‪ ،‬ومثل‬

‫ذلك ال يوجد يف كالم حكيم»(‪. )1‬‬

‫وهذا كالم رصيح يف تقديم ‪:‬‬

‫‪ -1‬اجلمع ‪ ،‬دون اشرتاط َت َع ُّذر القول بالنسخ لعدم العلم بالتاريخ ‪.‬‬

‫‪ -2‬النسخ ‪ :‬عند العلم بالتاريخ ‪ ،‬وأنه مقدَّ ٌم عىل الرتجيح ‪.‬‬

‫‪ -3‬الرتجيح ‪ :‬وأنه ال ُيصار إليه إال مع العجز عن اجلمع والنسخ كليهام ‪.‬‬

‫قر ُره عامل ٌ ن ََس َب ُه احلنفي ُة إىل مذهبهم ‪.‬‬ ‫وهذا هو عينه ُ‬
‫قول اجلمهور ‪ُ ،‬ي ِّ‬

‫ومن رشاح احلديث من احلنفية ‪ :‬يقول ُم ُغلطاي بن قليج احلنفي (ت‪762‬هـ) عن رشط‬

‫غري ممكن اجلمع بينه وبني‬


‫عار ًضا ‪َ ،‬‬ ‫صحيحا ‪ِّ ،‬‬
‫متأخ ًرا ‪ُ ،‬م َ‬ ‫ً‬ ‫القول بالنسخ‪« :‬يكفي أن يكون‬

‫عار ِضه»(‪.)2‬‬
‫ُم ِ‬

‫العجز عن اجلمع ‪ ،‬مما يدل عىل أن اجلمع مقدَّ م عىل‬


‫َ‬ ‫فهنا مغلطاي يشرتط للقول بالنسخ ‪:‬‬

‫النسخ ‪ِ ،‬وفا ًقا للجمهور ‪.‬‬

‫(‪ )1‬املعتمد أليب احلسني البرصي (‪.)674 -672 /2‬‬


‫(‪ )2‬اإلعالم بسنته عليه السالم – رشح سنن ابن ماجه – (‪.)156 /4‬‬

‫‪24‬‬
‫ويقول صدر الَّشيعة املحبويب ‪ُ -‬عبيد اهلل بن مسعود بن حممود البخاري – (ت‪747‬هـ)‬

‫يف رشح باب (املعارضة والرتجيح) ‪« :‬إذا ورد دليالن يقتيض أحدهم عد َم ما يقتضيه اآلخر ‪،‬‬

‫يف حمل واحد ‪ ،‬يف زمان واحد‪»...‬‬

‫وهذه بداية رصحية عن أنه يتحدث عن تعارض حقيقي ال يمكن فيه اجلمع ‪ ،‬ولذلك رشح‬

‫السعد التفتازاين – مسعود بن عمر الشافعي – (ت‪793‬هـ) هذا الكالم بقوله ‪« :‬وتعارض‬
‫ٍ‬
‫زمان‬ ‫واآلخر انتفاءه ‪ ،‬يف ٍّ‬
‫حمل واحد ‪ ، ،‬يف‬ ‫الدليلني ‪ :‬كوهنام بحيث يقتيض أحدمها ثبوت ٍ‬
‫أمر‬
‫ُ‬
‫واحد ‪ ،‬بَّشط تساوَيام يف القوة ‪ ،‬أو زيادة أحدمها بوصف هو تابع ‪.‬‬

‫املحل ‪ :‬عام يقتيض حل املنكوحة وحرمة أمها ‪.‬‬ ‫واحرتز ّ‬


‫باحتاد ّ‬ ‫ُ‬

‫وباحتاد الزمان ‪ :‬عن مثل حل وطء املنكوحة قبل احليض ‪ ،‬وحرمته عند احليض ‪.‬‬

‫وبالقيد األخري ‪ :‬عام إذا كان أحدُ مها أقوى بالذات ‪ :‬كالنص والقياس ؛ إذ ال تعارض بينهام‪.‬‬

‫ولقائل أن يقول ‪ :‬إن أريد اقتضاء أحدمها عد َم ما يقتضيه اآلخر بعينه ‪ ،‬حتى يكون اإلجياب‬

‫وار ًدا عىل ما ورد عليه النفي ‪ ،‬فال حاجة إىل اشرتاط احتاد املحل والزمان ؛ لتغاير حل املنكوحة‬
‫وحل ُأ ّمها ‪ ،‬وكذا احلال قبل احليض وعنده ‪ ،‬وإال ‪ ..‬فال بد من اشرتاط ٍ‬
‫أمور ُأ َخر ‪ :‬مثل احتاد‬ ‫ّ‬

‫املكان ‪ ،‬والَّشط ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬مما ال بد منه يف حتقق التناقض؟‬

‫املحل والزمان زيادة توضيح وتنصيص عىل ما هو ِمالك األمر‬


‫ّ‬ ‫فجوابه ‪ :‬إن اشرتاط احتاد‬
‫كثريا ما يندفع الرتجيح باختالف ّ‬
‫املحل والزمان‪.)1(»...‬‬ ‫يف باب التناقض ‪ ،‬فإنه ً‬

‫(‪ )1‬التلويح إىل كشف حقائق التنقيح للتفتازاين (‪.)216 -215 /2‬‬

‫‪25‬‬
‫وهذا كال ٌم رصيح يف بيان مقصودهم من التعارض الذي ُيقدَّ م فيه الرتجيح ‪ ،‬وهو‬

‫التعارض احلقيقي الذي ال ُيمكن فيه اجلمع ‪ .‬ورصيح أن اجلمع باختالف املحل والزمان يدفع‬

‫التعارض من أساسه ‪ ،‬وهذا تقديم رصيح للجمع ‪.‬‬

‫ثم قال صدر الَّشيعة املحبويب ‪« :‬فإن تساويا قوة ‪ ،‬أو يكون أحدمها أقوى بوصف هو‬

‫تابع(‪ : )1‬فبينهام املعارضة ‪ ،‬والقوة املذكورة رجحان‪ .‬وإن كان أقوى بام هو غري تابع ‪ :‬ال يسمى‬

‫رجحانا‪ ،‬فال يقال النص راجح عىل القياس ‪( ...‬إىل أن قال) واعلم أن األقسام ثالثة‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن يكون أحد الدليلني أقوى من اآلخر ‪ ،‬بام هو غري تابع ‪ :‬كالنص مع القياس‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬أن يكون أحدمها أقوى بوصف ‪ ،‬بام هو تابع ‪ ،‬كام يف خرب الواحد الذي يرويه عدل‬

‫فقيه مع خرب الواحد الذي يرويه عدل غري فقيه‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬أن يكونا متساويني قوة ‪.‬‬

‫(‪« )1‬الرجحان ‪ :‬يكون بزيادة وصف عىل وجه ال تقوم به املامثلة ‪ ،‬وال ينعدم بظهوره أصل املعارضة ‪ .‬وهلذا‬
‫ال تسمى زيادة درهم عىل العَّشة يف أحد اجلانبني رجحانا ؛ ألن املامثلة تقوم به أصال ‪ .‬وتسمى زيادة‬
‫احلبة ونحوها رجحانا ألن املامثلة ال تقوم هبا عادة»‪ .‬هذه عبارة الرسخيس يف أصوله (‪-249 /2‬‬
‫‪.)250‬‬
‫وقد رضب صدر الَّشيعة للوصف التابع مثاال ‪ :‬بخرب الواحد الذي يرويه عدل فقيه مع خرب الواحد‬
‫الذي يرويه عدل غري فقيه‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ففي القسمني األولني ‪ :‬العمل باألقوى وترك اآلخر واجب‪ ،‬وأما الثالث ‪ :‬فيأيت حكمه‬
‫ِ‬
‫والسنة السن َة ‪ُ :‬حيمل ذلك عىل نسخ أحدمها‬ ‫الكتاب‬ ‫ِ‬
‫الكتاب‬ ‫هنا ‪( ...‬إىل أن قال ) يف معارضة‬
‫َ‬
‫اآلخر ؛ إذ ال تناقض بني أدلة الَّشع؛ ألنه دليل اجلهل ‪.‬‬

‫واعلم أن يف الكتاب والسنة حقيقة التعارض غري متحققة ألنه إنام يتحقق التعارض إذا‬

‫احتد زمان ورودمها‪ ،‬وال شك أن الشارع تعاىل وتقدس منزه عن تنزيل دليلني متناقضني يف زمان‬

‫واحد ‪ ،‬بل ينزل أحدمها ساب ًقا ‪ ،‬واآلخر متأخرا ناسخا لألول ‪ ،‬لكنا ملا جهلنا املتقدم واملتأخر‬

‫تومهنا التعارض ‪ ،‬لكن يف الواقع ال تعارض‪ .‬فقوله‪ :‬حيمل ذلك اإلشارة ترجع إىل التعارض‬

‫واملراد صورة التعارض(‪ ، )1‬وهي ورود دليلني يقتيض أحدمها عدم ما يقتضيه اآلخر‪.‬‬

‫فإن ُعلم التاريخ ‪ -‬جواب لَّشط حمذوف ‪ -‬أي ‪ :‬يكون املتأخر ناسخا للمتقدم ‪ ،‬وإال‬

‫يطلب املخلص ‪ ،‬أي ُتدفع املعارضة وجيمع بينهام ما أمكن ‪ ،‬ويسمى عمال بالشبهني ‪ ،‬فإن تيرس‬

‫فيها ‪ :‬وإال ُيرتك ‪ ،‬و ُيصار من الكتاب إىل السنة ‪ ،‬ومنها إىل القياس وأقوال الصحابة ♥ ‪ ،‬إن‬

‫أمكن ذلك ‪ ،‬وإال جيب تقرير األصل »‪.‬‬

‫وبمثل هذا النص ُظنت خمالف ُة احلنفية للجمهور ‪ ،‬دون مراعاة سياق كالمه ‪ ،‬الذي يفرتض‬

‫تعارض حقيقي ‪ ،‬فلن يكون اجلمع فيه إال أضعف من النسخ املعتمد عىل معرفة‬
‫ٌ‬ ‫يف التعارض أنه‬

‫التاريخ أو الرتجيح ‪ .‬ولذلك سيكون حل التعارض بالنسخ (إن ُعلم التاريخ) أوجه من ذلك‬

‫واقع وحقيقي)‪ ،‬وإنام بأنه‬ ‫اجلمع ؛ ألنه َمن ََع التنا ُق َض ال بدعوى عدم التعارض (وهو ت ُ‬
‫َعار ٌض ٌ‬
‫مة من ِح َك ِم النسخ ‪ .‬أو سيكون حل التعارض بالرتجيح ‪ ،‬إن أمكن ؛ ألن‬
‫تعارض مقصود ِحلك ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫تعبري مهم يفك إشكال هذا الباب ‪.‬‬


‫(‪ )1‬هذا ٌ‬
‫‪27‬‬
‫القوة يف أحد الدليلني التي ُتـ َق ِّوي ُث َ‬
‫بوت الدليل عن صاحب الَّشع أوىل من اجلمع الذي ال‬
‫ٍ‬
‫خيار‬ ‫ستوجه إال لكونه اخليار املقبول املتاح أمام‬
‫َ‬ ‫تنزَيا للَّشع عن التناقض ‪ ،‬ومل ُي‬ ‫يعدو كونه‬
‫ً‬
‫مقطو ٍع ببطالنه ‪.‬‬

‫قاطع‬
‫ٌ‬ ‫فإن قيل ‪ :‬من أين جئت بأنه التعارض حقيقي واجلمع ضعيف ؟ قلت ‪ :‬السياق كله‬

‫بذلك ‪ ،‬وأن الكالم عن تعارض حقيقي يتّحد يف املحل والزمن ‪ ،‬كام سبق ‪ .‬ويف مثل هذا السياق‬

‫لن يكون اجلمع مج ًعا قويا باختالف املحل أو باختالف الزمن ‪ ،‬وإنام سيكون مج ًعا فيه ضعف‬

‫أما القول بالنسخ ‪ ،‬أو الرتجيح ‪.‬‬

‫وأعود وأذكِّر بقول صدر الَّشيعة السابق ‪« :‬واعلم أن يف الكتاب والسنة حقيقة التعارض‬

‫غري متحققة ألنه إنام يتحقق التعارض إذا احتد زمان ورودمها‪ ،‬وال شك أن الشارع تعاىل وتقدس‬

‫منزه عن تنزيل دليلني متناقضني يف زمان واحد ‪ ،‬بل ينزل أحدمها ساب ًقا ‪ ،‬واآلخر متأخرا ناسخا‬

‫لألول ‪ ،‬لكنا ملا جهلنا املتقدم واملتأخر تومهنا التعارض ‪ ،‬لكن يف الواقع ال تعارض‪ .‬فقوله‪:‬‬

‫حيمل ذلك اإلشارة ترجع إىل التعارض واملراد صورة التعارض»‪.‬‬

‫ويؤكد ذلك ‪ :‬أن صدر الَّشيعة يرصح أنه عند قوة اجلمع ‪ ،‬وعند اتضاح أن التعارض غري‬

‫حقيقي ‪ :‬فاجلمع عنده هو الواجب ‪ ،‬ولذلك يقول بعد كالمه السابق ‪« :‬وهو ‪ -‬أي التعارض‪-‬‬

‫يف الكتاب والسنة ‪ :‬إما بني آيتني‪ ،‬أو قراءتني‪ ،‬أو سنتني‪ ،‬أو آية‪ ،‬أو سنة مشهورة ‪.‬‬

‫واملخلص ‪ :‬إما من قبل احلكم واملحل‪ ،‬أو الزمان ‪.‬‬

‫وزع احلكم ‪ ،‬كقسمة املدَّ َعى بني املدَّ ِع َّي ِ‬


‫ني‪ ،‬أو بأن ُحيمل عىل تغاير‬ ‫أما األول ‪ :‬فإما أن ُي َّ‬
‫اخ ُذ ُكم اهللَُّ بِال َّلغ ِو ِيف َأيامنِ ُكم و َلكِن ي َؤ ِ‬
‫اخ ُذ ُكم بِ َام ك ََس َبت‬ ‫﴿ال ي َؤ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫احلكم كقوله تعاىل‪ُ َ :‬‬

‫‪28‬‬
‫ُق ُلوب ُكم﴾ويف موضع آخر‪﴿ :‬و َلكِن ي َؤ ِ‬
‫اخ ُذ ُكم بِ َام َع َّقد ُت ُم األَي َام َن َف َك َّف َار ُت ُه ﴾‪ ،»...‬وذكر املثل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كرره أ كثر من إمام من أئمة احلنفية ‪ ،‬وبينا أنه صورة من صور اجلمع ‪ .‬وهو ما رصح به‬
‫الذي ّ‬
‫حيا لفظيا ( بلقب اجلمع) ‪ ،‬حيث قال يف بيانه ‪« :‬فوقع التعارض ‪ ،‬فجمعنا‬
‫صدر الَّشيعة ترص ً‬
‫بينهام ‪ :‬بأن املراد من املؤاخذة يف األوىل يف اآلخرة ‪ ،‬بدليل اقرتانه بكسب القلب ‪ .‬ويف الثانية يف‬

‫الدنيا ‪ ،‬أي بالكفارة ‪ ،‬فقال ‪َ ﴿ :‬ف َك َّف َار ُت ُه ﴾»‪.‬‬

‫ثم مل يرض صدر الَّشيعة هبذا اجلمع ‪ ،‬فذكر مج ًعا آخر ‪ ،‬فقال ‪« :‬وأقول ال تعارض هنا ‪،‬‬

‫واللغو يف الصورتني واحد‪ ،‬وهو ضد الكسب؛ ألنه ال يليق من الشارع أن يقول‪ :‬ال يؤاخذكم‬

‫اهلل تعاىل بالغموس ‪ .‬واملؤاخذة يف الصورتني يف اآلخرة ‪ ،‬لكن يف الثانية سكت عن الغموس‪،‬‬

‫وذكر املنعقدة واللغو ‪ ،‬وقال ‪ :‬اإلثم الذي يف املنعقدة ُيسرت بالكفارة ‪ ،‬ال أن املراد املؤاخذة يف‬

‫الدنيا ‪ ،‬وهي الكفارة ‪ .‬هذا وجه وقع يف خاطري لدفع التعارض‪.‬‬

‫واللغو يف اآليتني واحد‪ ،‬وهو السهو ‪ .‬أما يف اآلية األوىل ‪ :‬فبدليل اقرتانه بكسب القلب‪،‬‬

‫وأما يف اآلية الثانية ‪ :‬فألنه ال يليق من الشارع أن يقول‪ :‬ال يؤاخذكم اهلل بالقول اخلايل عن‬

‫الفائدة الذي يدع الديار بالقع ‪ ،‬أعني اليمني الفاجرة ‪ .‬بل الالئق أن يقول‪ :‬ال يؤاخذكم اهلل‬

‫اخذنَا إِن ن َِسينَا َأو َأخ َطأنَا﴾‪ ،‬واملراد باملؤاخذة ‪ :‬املؤاخذة‬


‫بالسهو كام قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ربنَا َال ُت َؤ ِ‬
‫َ َّ‬
‫األخروية؛ ألن اآلخرة هي دار اجلزاء واملؤاخذة‪.‬‬

‫وقوله‪َ ﴿ :‬ف َك َّف َار ُت ُه ﴾ ال يدل عىل أن املراد املؤاخذة الدنيوية؛ ألن معنى الكفارة ِّ‬
‫الستارة ‪،‬‬

‫أي ‪ :‬اإلثم احلاصل باملنعقدة يسرت بالكفارة ‪ .‬واآلية الثانية ‪ :‬دلت عىل عدم املؤاخذة يف اليمني‬

‫السهو ‪ ،‬وعىل املؤاخذة يف املنعقدة ‪ ،‬وهي ساكتة عن الغموس ‪ .‬فاندفع التعارض ‪ ،‬وثبت احلكم‬

‫عىل وفق مذهبنا‪ ،‬وهو عدم الكفارة يف الغموس»‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫وهذا مجع رصيح ‪ ،‬مع إمكان حتديد التاريخ ‪ ،‬كام بيناه آنفا ‪ ،‬يرصح به صدر الَّشيعة‬

‫املحبويب ‪.‬‬

‫ثم يذكر صدر الَّشيعة حال آخر للتعارض ‪ ،‬وهو ببيان اختالف املحل ‪ ،‬فيقول ‪« :‬وأما‬

‫﴿و َال‬
‫الثاين(‪ : )1‬وهو املخلص من قبل املحل ‪ :‬فبأن ُحيمل عىل تغاير املحل ‪ ،‬كقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫وه َّن َحتَّى َيط ُهر َن﴾ ‪:‬بالتشديد والتخفيف(‪ .)2‬فبالتخفيف ‪ :‬يوجب احلل بعد الطهر ‪ ،‬قبل‬
‫تَق َر ُب ُ‬
‫االغتسال ‪ .‬وبالتشديد ‪ :‬يوجب احلرمة قبل االغتسال ‪ .‬فحملنا املخ َّفف عىل العَّشة ‪ ،‬واملشدد‬

‫عىل األقل ‪ .‬وإنام مل ُحيمل عىل العكس؛ ألهنا إذا طهرت لعَّشة أيام ‪ :‬حصلت الطهارة الكاملة ‪،‬‬

‫لعدم احتامل العود‪ ،‬وإذا طهرت ألقل منها ‪ :‬حيتمل العود‪ ،‬فلم حتصل الطهارة الكاملة ‪ ،‬فاحتيج‬

‫إىل االغتسال ‪ ،‬لتتأكد الطهارة‪.‬‬

‫ِ‬
‫اختالف الزمان ‪ :‬يكون‬ ‫رصيح‬ ‫وأما الثالث ‪ :‬أي املخلص من قبل الزمان ؛ فإنه إذا كان‬
‫َ‬
‫الثاين ناسخا لألول»(‪.)3‬‬

‫وال ختتلف عموم كتب األصول احلنفية يف نحو هذا التقرير ‪ :‬كـ(املنار) أليب الربكات‬

‫النسفي (ت‪710‬هـ)(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬أي الطريقة الثانية حلل التعارض ‪.‬‬


‫(‪ )2‬هذا مثال لتعارض قراءتني ‪ ،‬قراءة التشديد ‪َ ﴿ :‬ي َّطـ َّهـر َن﴾‪ ،‬وقراءة التخفيف ﴿ َيط ُهر َن﴾‪.‬‬
‫(‪ )3‬التوضيح يف حل غوامض التنقيح لصدر الَّشيعة املحبويب – مع التلويح ‪ :‬للسعد التفتازاين – (‪/2‬‬
‫‪.)226 -217‬‬
‫(‪ )4‬منار األنوار للنسفي – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬شامل الشاهني – (‪ ،)307 -296‬وخالصة األفكار رشح خالصة‬
‫املنار البن قطلوبغا (‪ ،)151-148‬ورشحه فتح الغفار – املعروف بمشكاة األنوار – البن نجيم احلنفي‬

‫‪30‬‬
‫املنسوب إىل احلنفية يف ترتيب منازل حل‬
‫َ‬ ‫ظاهره‬
‫ُ‬ ‫وجدت كال َمه يوافق‬
‫ُ‬ ‫وأما أكثر من‬

‫التعارض ‪ :‬فهو العالم ُة احلنفي ابن اهلامم – حممد بن عبد الواحد بن عبد احلميد‪( -‬ت‪861‬هـ)‪،‬‬
‫حيث قال يف كتابه (التحرير) يف باب التعارض ‪« :‬إذ ُحك ُمه ‪ :‬النسخ ‪ ،‬إن ُعلم ِّ‬
‫املتأخر ‪ .‬وإال ‪:‬‬

‫فالرتجيح ‪ ،‬ثم اجلمع»(‪.)1‬‬

‫وتابعه ُرشاح (التحرير) ‪ :‬كمحمد بن أمري حاج ‪ -‬حممد بن حممد بن حممد بن حسن احللبي‬

‫‪( -‬ت‪879‬هـ)(‪ ،)2‬وأمري بادشاه ‪ -‬حممد أمني بن حممود البخاري نزيل مكة – (تويف نحو سنة‬

‫‪972‬هـ)(‪.)3‬‬

‫وقال العالمة ال َبهاري احلنفي – حمب اهلل بن عبد الشكور اهلندي – (ت‪1119‬هـ) ‪:‬‬
‫الـح َّجت ِ‬
‫َني ‪ ،‬وال يكون يف نفس األمر ؛ وإال لزم التناقض قط ًعا أو ظنًّا(‪.)4‬‬ ‫«التعارض ‪ :‬وهو تدافع ُ‬

‫الصدّ يقي (‪1130‬هـ) –‬ ‫(ت‪970‬هـ) (‪ ،)231-220 /2‬ونور األنوار رشح رسالة املنار ّ‬
‫ملال جيون ّ‬
‫مكتبة البَّشى ‪ :‬كراتيش ‪ ،)572 -551 /1( -‬ورشح سمت الوصول إىل علم األصول – وسمت‬
‫الوصول هو خمترص املنار – حلسن بن طرخان اآلق ِحصاري البوسنوي (‪1025‬هـ) (‪.)288 -284‬‬
‫(‪ )1‬التحرير البن اهلامم (‪.)362‬‬
‫(‪ )2‬التقرير والتحبري يف رشح كتاب التحرير البن أمري حاج (‪.)3 /3‬‬
‫(‪ )3‬تيسري التحرير ألمري بادشاه (‪.)137 -136 /3‬‬
‫للمس َّلم ‪:‬‬
‫(‪ )4‬قال اللكنوي ‪ -‬عبد العيل حممد بن نظام الدين األنصاري اهلندي – (ت‪1225‬هـ) يف رشحه َ‬
‫«(قطعا) ‪ :‬كام إذا كان احلجتان مقطوعتني ‪( ،‬أو ظنا) كام إذا كانتا مظنونتني»‪ .‬فواتح الرمحوت (‪/2‬‬
‫‪.)243‬‬

‫‪31‬‬
‫فتجويزه يف ال َّظـنِّـ َّي ِ‬
‫ني فقط – كام يف املخترص(‪َ – )1‬حتكُّم(‪ .)2‬أقول ‪ :‬إال أن جيوز‬ ‫ُ‬ ‫ظاهرا ‪،‬‬
‫ً‬ ‫بل ُيت ََص َّو ُر‬

‫مع املساواة التخلف يف أحدمها ‪.‬‬

‫وحكمه ‪:‬‬
‫ُ‬

‫ُ‬
‫النسخ ‪ ،‬إن ُعلم املتقدِّ م ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬وإال فالرتجيح ‪ ،‬إن أمكن ‪.‬‬

‫‪ -‬وإال فاجلمع ‪ ،‬بقدر اإلمكان ‪.‬‬

‫لمي األصول‬ ‫ِ‬


‫السؤل واألمل يف ع َ‬
‫(‪ )1‬يقصد خمترص ابن احلاجب املالكي (ت‪646‬هـ) املسمى بـ(منتهى ُّ‬
‫واجلدل)؛ ألن كتاب املس َّلم للبهاري من ُكتب أصول الفقه التي مجعت بني كتب احلنفية واجلمهور ‪،‬‬
‫أيضا ‪.‬‬
‫وهو يف ذلك ككتاب (التحرير) البن اهلامم ً‬
‫وهذا النقل الذي يشري إليه البهاري موجو ٌد يف خمترص ابن احلاجب – حتقيق ‪ :‬د‪ /‬نذير محادي –‬
‫(‪.)1268/2‬‬
‫(‪ )2‬يقصد ما دام التناقض يف نفس األمر منف ًّيا ‪ ،‬وإنام التناقض حسب نظر العباد وتومههم ‪ ،‬فال معنى حلرص‬
‫أيضا ‪.‬‬
‫هذا التناقض يف الظنيني ‪ ،‬بل كام يقع التوهم منا يف الظنيني ‪ ،‬يقع يف القطعيني ً‬
‫قال اللكنوي يف رشحه‪( « :‬بل يتصور) التعار ُض (ظاهرا) يف بادئ الرأي ‪ :‬للجهل بالتاريخ ‪ ،‬أو اخلطأِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ َّ ُ‬
‫يف فهم املراد ‪ ،‬أو يف مقدمات القياس ‪ ،‬وهذا يمكن يف القطعي والظني عىل السواء (فتجويزه يف الظنيني‬
‫فقط) مع نفيه يف القطعيني (كام يف املخترص) ويف سائر كتب الشافعية = ( َتـ َح ُّك ٌم)»‪ .‬فواتح الرمحوت‬
‫للكنوي (‪.)243 /2‬‬
‫تنبيه ‪ :‬مأخذ ما وصفه بالتحكم غري مأخذ أصحاب القول ؛ ألهنم نظروا إىل التساقط عند العجز عن‬
‫نفي التعارض ‪ ،‬فهو ممك ٌن يف الظنيني ‪ ،‬أما يف القطعيني فال يمكن ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ -‬وإن مل ُيمكن ‪ :‬تساقطا»(‪.)1‬‬

‫هذان النقالن مها غالبا عمدة املتأخرين واملعارصين يف توهم اختالف منهج احلنفية عن‬
‫اجلمهور يف ترتيب منازل ّ‬
‫حل التعارض(‪ ،)2‬دون التفات ملا سبق نقله ‪ ،‬ودون حماولة تفهم منطلق‬

‫(‪ )1‬الـ ُم َس َّل ُم – املشهور بمس ّلم ال ُثبوت ‪ -‬لل َبهاري – املطبعة احلسينية ‪ ،)152 /2( -‬وفواتح الرمحوت‬
‫رشح مسلم الثبوت للكنوي األنصاري (‪.)243 /2‬‬
‫تنبيه ‪ :‬اسم كتاب البهاري هو (املس َّلم) ‪ ،‬وليس (مس َّلم الثبوت) ‪ ،‬كام رصح بذلك يف مقدمته حيث قال‬
‫‪« :‬وسميته (املس ّلم)‪ ،‬سلمه اهلل عن الطرح واجلرح ‪ ،‬وجعله موجبا للرسور والفرح ‪ ،‬ثم أهلمني مالك‬
‫امللكوت أن تارخيه (مس ّلم الثبوت)»‪( .‬صـ‪ .)3‬فـ(مس ّلم الثبوت) هو تاريخ تصنيف الكتاب ‪ ،‬وأنه‬
‫الـج َّمل ‪:‬‬
‫صنفه سنة ‪1109‬هـ ‪ ،‬عىل طريقة حساب احلروف املسمى بحساب ُ‬

‫وأما اسم الكتاب فهو (املس ّلم) ‪.‬‬


‫شارح آخر كتابه بـ(كشف املبهم مما يف املس ّلم)‪ ،‬وهو القايض حممد بشري الدين بن حممد‬
‫ٌ‬ ‫ولذلك سمى‬
‫القنَّوجي (ت‪1296‬هـ)‪ ،‬و ُطبع كتابه يف حياته يف اهلند سنة ‪1287‬هـ‪.‬‬ ‫كريم الدين العثامين ِ‬

‫(‪ )2‬انظر الكتب والدراسات التالية ‪:‬‬


‫‪ -1‬األجوبة الفاضلة لألسئلة العَّشة الكاملة أليب احلسنات اللكنوي (‪.)183‬‬
‫‪ -2‬أصول الفقه ‪ :‬ملحمد اخلرضي (‪.)359 -358‬‬
‫‪ -3‬التعارض والرتجيح ‪ :‬لعبد اللطيف الربزنجي ‪ -‬دار الكتب العلمية ‪ :‬بريوت ‪-171 /1( -‬‬

‫‪33‬‬
‫املعرب عن منهج املذهب احلنفي فعال ؟ وهل يف تقرير أئمة احلنفية‬
‫هذه العبارات ‪ ،‬وهل هي ِّ‬
‫و ُأصول ِّييهم ما خيالفها ؟ فإن ُوجد ‪ :‬فام هو املعتمد ؟‬

‫وفيام ييل سوف أذكر تقرير بعض األئمة من فقهاء وأصوليي اجلمهور ‪ ،‬ل ُيعلم أن هلم تقريرا‬

‫يشبه ما نقلناه عن ابن اهلامم والبهاري من احلنفية ! مما يستدعي إعادة النظر يف بعض املفهوم من‬

‫كالمهام ‪ ،‬أو يف منطلق بعضه ‪.‬‬

‫‪.)176‬‬
‫‪ -4‬ضوابط الرتجيح عند وقوع التعارض ‪ :‬لبنيونس الويل – أضواء السلف ‪ :‬الرياض ‪-223( -‬‬
‫‪.)228‬‬
‫‪ -5‬منهج التوفيق والرتجيح للدكتور عبد املجيد السوسوة – دار النفائس ‪ :‬عَامن ‪-115( -‬‬
‫‪.)116‬‬
‫‪ -6‬الرتجيح بني األخبار للدكتور حممد الشتيوي – مكتبة حسن العرصية ‪ :‬بريوت‪-123( -‬‬
‫‪.)124‬‬
‫‪ -7‬منهج اإلمام الطحاوي يف دفع التعارض بني النصوص الَّشعية من خالل كتابه رشح مشكل‬
‫اآلثار ‪ :‬للدكتور حسن بن عبد احلميد بخاري ‪ .‬رسالة ماجستري مقدمة إىل كلية الَّشيعة يف‬
‫جامعة أم القرى ‪ ،‬سنة ‪1422‬هـ – (‪.)107‬‬
‫‪ -8‬خمتلف احلديث وأثره يف أحكام احلدود والعقوبات ‪ :‬للدكتور طارق الطواري – دار ابن‬
‫حزم ‪ :‬بريوت ‪.)382( -‬‬
‫‪ -9‬خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه ‪ :‬للدكتور اهلادي روشو التونيس – دار ابن حزم ‪:‬‬
‫بريوت – (‪.)269 ،254 -252‬‬
‫‪ -10‬خمتلف احلديث بني الفقهاء واملحدثني ‪ :‬للدكتور نافذ محاد – دار الوفاء – (‪،)137 -136‬‬
‫لكنه ذكر اخلالف بني احلنفية يف ذلك (‪.)138‬‬

‫‪34‬‬
‫وأبدأ أوال ‪ :‬بإمام احلرمني أيب املعايل اجلويني (ت‪478‬هـ)‪ ،‬لتقدمه يف الصنعة األصولية‬

‫عار ُض صور األدلة ‪،‬‬


‫عىل املنهج امللقب بمنهج اجلمهور ؛ إذ يقول ‪ « :‬إنام مظنّة الرتجيحات َت ُ‬
‫ٍ‬
‫ومعان مستن َبط ٌة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ألفاظ منقولة ‪،‬‬ ‫وهي يف غرضنا‪:‬‬

‫فأما األلفاظ ‪ :‬فتنقسم إىل النصوص التي ال تقبل التأويل ‪ ،‬وإىل الظواهر‪.‬‬

‫فأما النصوص ‪ :‬فتنقسم إىل ما ُينقل قط ًعا ‪ ،‬واستوت يف النقل ‪ .‬ويلتحق هبذا القسم ‪ :‬ما‬

‫ُينقل من غري قط ٍع ‪ ،‬ولكن تستوي النصوص يف طريق النقل من غري ترجيح آيل إىل الثقة‬

‫والتغليب فيها ‪.‬‬

‫ونحن نرسم ما يتعلق هبذا القسم‪.‬‬

‫فاملتأخ ُر َي ُ‬
‫نسخ املتقدِّ َم ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫مسألة‪ :‬إذا تعارض نصان عىل الَّشط الذي ذكرناه ‪ ،‬و َت َأ َّر َخا ‪:‬‬

‫وليس ذلك من مواقع الرتجيح»(‪.)1‬‬

‫فاجلويني هنا عندما َقدَّ َم النسخ ‪ ،‬ومنع من الرتجيح ؛ فألنه يتكلم عن َّ‬
‫نصني قطعيي الداللة‬

‫فال حيتمالن اجلمع ‪ ،‬وعن نصني متساويني يف القوة ‪ :‬فال حيتمالن الرتجيح ‪ .‬ومل يقدم النسخ‬

‫ألنه مذهبه تقديم النسخ عىل الرتجيح ‪ ،‬كام قيل يف تقرير متأخري احلنفية ممن مجعوا بني طريقتهم‬

‫األصولية وطريقة املتكلمني ‪.‬‬

‫وهذا اإلمام الغزايل (ت‪505‬هـ) يقول ‪« :‬اعلم أن التعارض هو التناقض ‪ .‬فإن كان يف‬

‫خربين ‪ :‬فأحدمها كذب ‪ ،‬والكذب حمال عىل اهلل ورسوله ‪ .‬وإن كان يف حكمني ‪ ،‬من أمر وهني‪،‬‬

‫(‪ )1‬الربهان للجويني (‪ /2‬رقم ‪.)1189 -1188‬‬

‫‪35‬‬
‫وحظر وإباحة ‪ :‬فاجلمع تكليف حمال ‪ .‬فإما أن يكون أحدمها كذبا ‪ ،‬أو يكون متأخرا ناسخا ‪،‬‬

‫أو أمكن اجلمع بينهام بالتنزيل عىل حالتني ‪ ،‬كام إذا قال النبي ^ ‪" :‬الصالة واجبة عىل أمتي‬

‫الصالة" ‪" :‬غري واجبة عىل أمتي"‪ ،‬فنقول ‪ :‬أراد باألول املكلفني ‪ ،‬وأراد بالثاين الصبيان‬

‫واملجانني ‪ ،‬أو يف حالتي العجز والقدرة ‪ ،‬أو يف زمن دون زمن ‪.‬‬

‫رجحنا ‪ ،‬وأخذنا باألقوى»(‪.)1‬‬


‫وإن عجزنا عن اجلمع ‪ ،‬وعن معرفة املتقدم واملتأخر ‪ّ :‬‬

‫فاإلمام الغزايل يورد الكالم عن التعارض يف الدالالت القطعية ‪ ،‬ولذلك يرصح بأن اجلمع‬

‫تكليف بمحال (حسب تعبريه)‪ .‬ثم حيرص احتامل حل‬


‫ٌ‬ ‫متوهم‬
‫يبني أن التناقض َّ‬
‫احلقيقي الذي ّ‬
‫التناقض يف ‪:‬‬

‫‪ -‬تكذيب أحد اخلربين (عىل معنى كذب أحد النقلة)‪.‬‬

‫‪ -‬أو يف القول بالنسخ ‪ ،‬إن ُعلم املتأخر من املتقدم ‪.‬‬

‫‪ -‬أو باجلمع بينهام مج ًعا ضعي ًفا ال دليل عليه ؛ إال كونه مع ضعفه وعدم قيام اللفظ عىل‬

‫إثباته بأدنى درجات الداللة كـ"الصالة واجبة عىل أمتي الصالة" ‪" :‬غري واجبة عىل‬

‫قوى إذا انحرص اجلواب فيه أو يف املستحيل ‪:‬‬


‫أمتي" ‪ .‬فهو ليس مج ًعا حقيق ًّيا ؛ إال أنه َي َ‬
‫وهو نسبة الَّشع إىل التناقض ‪.‬‬

‫ترتيب ملنازل حل التعارض ‪ ،‬وإنام ساقها‬


‫ٌ‬ ‫وحتى هذا احلد من التقرير ليس يف كالم الغزايل‬

‫مساق االحتامالت املتساوية ‪ ،‬معطوفة عىل بعضها بـ(أو) الدالة عىل التخيري ‪.‬‬

‫(‪ )1‬املستصفى للغزايل (‪.)476 /2‬‬

‫‪36‬‬
‫رجحنا ‪ ،‬وأخذنا‬
‫إىل أن قال الغزايل ‪« :‬وإن عجزنا عن اجلمع ‪ ،‬وعن معرفة املتقدم واملتأخر ‪ّ :‬‬
‫باألقوى»‪ ،‬فهنا بدأ الرتتيب ‪ ،‬وهو يقطع بتأخري الرتجيح عن اجلمع وعن النسخ ‪ ،‬وال يقطع‬

‫بالرتتيب بني اجلمع والنسخ‪ ،‬وإن كان ُيلمح بتقديم اجلمع ‪ ،‬لتقديمه يف الذكر ‪.‬‬

‫تكليف‬
‫ٌ‬ ‫فإن قيل ‪ :‬كيف ُيورد احتامل اجلمع ‪ ،‬وهو نفسه يصف اجلمع يف هذه احلالة بأنه‬

‫بمحال ؟!‬

‫فاجلواب ‪ :‬يقصد باجلمع املحال ‪ :‬اجلمع الذي ينفي وجود التعارض ‪ ،‬فهذا حمال مع فرض‬

‫املسألة يف الداللتني املتناقضتني ‪ .‬أما اجلمع الذي يقر بالتناقض يف لفظ اخلربين ‪ ،‬ولكنه ينفيه‬
‫عنهام يف نفس األمر ‪ ،‬ببيان ٍ‬
‫وجه ُيمكن أن ُحيمل عليه ‪ ،‬بام يوافق أصول الَّشع = فمثل هذا‬

‫اجلمع ممكن ‪ .‬من مثل مجعه بني ‪« :‬الصالة واجبة عىل أمتي الصالة» ‪« :‬غري واجبة عىل أمتي»‪،‬‬

‫بأنه ‪:‬‬

‫‪ -‬أراد باألول املكلفني ‪ ،‬وأراد بالثاين الصبيان واملجانني ‪.‬‬

‫‪ -‬أو يف حالتي العجز والقدرة ‪.‬‬

‫‪ -‬أو يف زمن دون زمن ‪.‬‬

‫فمثل هذا اجلمع مل ينف التناقض عن اللفظ ‪ ،‬لكنه منع من كون التناقض واق ًعا يف نفس‬
‫النص عن التكا ُذ ِ‬
‫ب ‪ ،‬لكنه مل ينف التعارض عن اللفظ ‪.‬‬ ‫اجلمع َّ‬
‫ُ‬ ‫فنزه هذا‬
‫األمر ‪ّ ،‬‬

‫املتصور أن يكون ‪ -‬يف بعض األحيان ويف بعض االجتهادات ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫ومثل هذا اجلمع من‬

‫أضعف يف دفع التكاذب من القول بالنسخ عند معرفة التاريخ‪ ،‬فلو ُقدِّ م النسخ عليه ‪ ،‬يف هذه‬
‫َ‬

‫احلالة لن يكون ذلك مستغر ًبا ؛ لسببني ‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫‪ -‬أن علة تقديم اجلمع عند اجلمهور هي أن العمل بكال احلديثني أوىل من إمهال أحدمها‬

‫‪ ،‬وهذا اجلمع الذي ال جيمع بني املدلوالت ال يتيح العمل بكال احلديثني ‪ ،‬بل هو‬

‫يتجاوز اللفظني إىل تقرير معنى تقره أدلة الَّشع وقواعده ‪.‬‬

‫‪ -‬أن نفي التعارض بالنسخ أقوى من هذا اجلمع من جهتني ‪:‬‬

‫واقع بحسب اللفظ‪ ،‬لكنه نفاه عن‬


‫تناقض ٌ‬
‫‪ o‬أنه مل ينف التناقض يف اللفظ ‪ ،‬وهو ٌ‬

‫الداللة عىل التكاذب ‪ .‬ولذلك هو بعيد عن اعتساف التأويل ‪ ،‬وعن اخرتاع‬

‫معنى ال تؤيده الرواية ‪ :‬ال بداللة منطوق وال مفهوم ‪ ،‬وال بإشارة أو إيامءة ‪.‬‬

‫‪ o‬أنه جعل الَّشع هو من نفى التكاذب ‪ ،‬بأنه نسخ ما كان صدر عنه ‪ .‬وهذا أقوى‬

‫بتنزهه عنه ‪ :‬وهو التناقض يف نفس األمر ‪.‬‬


‫يف تنزيه الَّشع عام نقطع ّ‬

‫وهبذا لو عدنا إىل كالم ابن اهلامم والبهاري ألمكننا توجيهه بنحو هذا التوجيه ‪.‬‬

‫وأخريا ‪ :‬هذا تاج الدين السبكي (ت‪771‬هـ) يقول يف باب التعادل والرتاجيح‪« :‬يمتنع‬
‫ً‬
‫تعادل القاطعني ‪ ،‬وكذا يف األمارتني يف نفس األمر عىل الصحيح ‪ .‬فإن ُت ُو ِّهم التعادل ‪:‬‬

‫‪ -‬فالتخيري ‪.‬‬

‫‪ -‬أو التساقط ‪.‬‬

‫‪ -‬أو الوقف ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪ -‬أو التخيري يف الواجبات والتساقط يف غريها»(‪.)1‬‬

‫املتوهم باملنازل املعروفة عند‬


‫ّ‬ ‫ثم إن السبكي قرر بعد ذلك ترتيب منازل حل التعارض‬

‫اجلمهور ‪ ،‬من تقديم اجلمع ‪ ،‬ثم القول بالنسخ عند العلم بالتاريخ ‪ ،‬فإن مل ُيعلم التاريخ ومل‬

‫يكونا مقرتنني ُرجع إىل غريمها ‪ ،‬فإن اقرتنا ُر ّجح بينهام ‪ ،‬فإن عجز عن الرتجيح ‪ :‬فالتخيري‬

‫بينهام(‪.)2‬‬

‫وهذا كله نموذج ألكثر كتب األصول عند بحثها مسألة التعارض(‪: )3‬‬

‫‪ -‬تتحدث عن التعارض يف نفس األمر فتنفيه ‪.‬‬

‫‪ -‬ثم تتحدث عن التعارض التام يف نظر املجتهد الذي ال يمكن فيه ‪ :‬اجلمع احلقيقي ‪،‬‬

‫وال العلم املؤكد بالنسخ ‪ ،‬وال يمكن الرتجيح للتكافؤ يف القوة من كل وجه ‪ .‬فإذا‬

‫ذكرت النسخ يف هذا السياق ‪ ،‬فهو احتامل قائم عىل معرفة التاريخ فقط ‪ ،‬وإنام صح‬
‫االلتفات إليه ّ‬
‫كحل ألنه أوىل من التعارض التام ‪ .‬وإذا ذكرت اجلمع ‪ :‬فهو اجلمع الذي‬

‫(‪ )1‬مجع اجلوامع – مع البدر الطالع للجالل املحيل – (‪ ،)339-338 /2‬ومع حاشية العطار عىل رشح‬
‫املحيل (‪.)402 -400 /2‬‬
‫(‪ )2‬مجع اجلوامع – مع البدر الطالع للجالل املحيل – (‪ ،)347 -344 /2‬ومع حاشية العطار عىل رشح‬
‫املحيل (‪.)406 -405 /2‬‬
‫(‪ )3‬انظر مع املصادر التي سبق العزو إليها ‪ :‬التقريب واإلرشاد للباقالين (‪ ،)264 -263 /3‬واملحصول‬
‫للرازي (‪ ،)387 -380 /5‬وهناية الوصول يف دراية األصول لصفي الدين اهلندي (‪-3665 /8‬‬
‫‪ ،)3673‬وحتفة املسؤول يف رشح خمترص منتهى السول للرهوين (‪ ،)333 -304 /4‬وحترير املنقول‬
‫للمردواي (‪ )385 -374‬ورشحه التحبري (‪.)4146 -4128 /8‬‬

‫‪39‬‬
‫ال يبني كيفية استنباط املعنى الذي ينفي التعارض من اللفظ ‪ ،‬وإنام هو مجع يقوم عىل‬

‫منع التهاتر بني النصني فقط ‪ .‬وإن ُذكر الرتجيح ‪ :‬فهو ترجيح بأمور خارجية عن‬

‫الدليلني املتعارضني ‪ :‬كموافقة األصول ‪ ،‬فهو احتجاج باألصول يف احلقيقة ‪ ،‬به تم‬

‫ترجيحا يبني ُرجحان قوة الدليل عىل اآلخر ‪.‬‬


‫ً‬ ‫حل إشكال التعارض ‪ ،‬ومل يكن‬

‫ثم قد يغفل ناسبو هذا املذهب إىل احلنفية ً‬


‫أخذا من كالم ابن اهلامم ومن تبعه ‪ :‬أن هناك‬

‫خالفا اصطالحيا بني احلنفية واجلمهور يف مفهوم النسخ ‪ ،‬يتضح من كون التخصيص والتقييد‬
‫النص ‪ ،‬والزيادة عىل النص ٌ‬
‫نسخ ‪ .‬وهذا‬ ‫ِّ‬
‫املتأخ َرين عن العموم واإلطالق عند احلنفية زياد ًة عىل ّ‬
‫يعني أن بعض أهم صور اجلمع (وهو التخصيص والتقييد) عند اجلمهور ‪ ،‬سيعده احلنفية ً‬
‫نسخا‬

‫‪ ،‬وهو عند اجلمهور مجع ‪ .‬ومع وجود خالف حقيقي يف هذا االختالف ‪ ،‬منه ‪ :‬عدم قبول‬
‫ختصيص القطعي بالظني وتقييده به ؛ إال أنه من جهة ّ‬
‫حل إشكال التعارض بالتقييد‬
‫والتخصيص مل يعد هناك ٌ‬
‫فرق بني تسميته ً‬
‫نسخا أو مج ًعا‪.‬‬

‫وحتى نستوضح تقرير ابن اهلامم بصورة أكثر تفصيال ‪ ،‬سنلقي الضوء عىل حكم تقييد‬

‫تقديم للنسخ عىل اجلمع مطل ًقا ؟‬


‫ٌ‬ ‫املطلق عنده ‪ ،‬هل فيها‬

‫قال ابن اهلامم ‪« :‬مسأل ٌة ‪ :‬إذا اختلف ُحكم مط َل ٍق و ُمق َّي ِده ‪ :‬مل ُحيمل إال رضورة(‪ ،)1‬كـ"أعتق‬

‫رقبة" و ‪" :‬ال متلك إال رقبة مؤمنة"‪.‬‬

‫(‪ )1‬كأن يمتنع العمل باملطلق مع العمل باملقيد بدون احلمل املذكور ‪.‬‬
‫وهذه هي احلالة األوىل حلمل املطلق عىل املق َّيد ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫أو ّاحتدا منفيني ‪ :‬فمن باب آخر(‪.)1‬‬

‫السبب الواحدٌ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫السبب ‪ ،‬وردا م ًعا ‪ُ :‬محل املطلق عليه ‪ ،‬بيا ًنا ‪ ،‬رضور ًة ؛ أن‬ ‫أو مثبتني ُمـ َّت ِح ِدي‬

‫ال يوجب املتنافيني يف وقت واحد ‪ ،‬كصوم اليمني عىل التقدير(‪.)2‬‬

‫تقديام للبيان عىل النسخ عند الرتدد‬


‫ً‬ ‫أو ُجهل(‪ : )3‬فاألوجه عندي كذلك ‪ُ ،‬محال عىل املعية‬

‫بينهام لألغلبية(‪ .)4‬مع أن قوهلم يف التعارض يؤنسه(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬كـ«ال ُتعتق رقبة»‪ ،‬و‪« :‬ال ُتعتق رقبة كافرة»‪ ،‬فهي باب آخر ‪ ،‬فهي من باب إفراد فرد من العام بحكم‬
‫العام ‪ ،‬فليس بتخصيص للعام عىل املختار ‪ ،‬وال من باب املطلق واملقيد ‪ ،‬كام قرره ابن اهلامم ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي ‪ُ :‬حيمل املطلق عىل املق َّيد يف حالة ورودمها يف وقت واحد ‪ ،‬فال يكون هناك إطالق متقدم وتقييد‬
‫ورضب ٌ‬
‫مثل لذلك بقراءة ابن مسعود يف كفارة الصيام ‪ « :‬فصيام ثالثة أيام متتابعات»‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫متأخر مثال ‪ُ .‬‬
‫عىل تقدير ورود املطلق ‪.‬‬
‫هذه هي احلالة الثانية التي ُحيمل فيها املطلق عىل املق َّيد ‪.‬‬
‫(‪ )3‬أي إن ُجهل تاريخ الورود ‪ ،‬فلم نعرف املتقدم من املتأخر ‪ ،‬ومل نعرف ورو َدمها م ًعا ‪ ،‬فال عرفناه يف‬
‫جانب اإلثبات ويف جانب النفي ‪.‬‬
‫(‪ )4‬أي ُق ِّيد املطلق محال عىل أهنام وردا م ًعا ؛ بسبب قلة النسخ يف نصوص الَّشيعة بالنظر إىل كثرة البيان ‪.‬‬
‫وهذه هي احلالة الثالثة لتقييد املطلق باملق َّيد ‪.‬‬
‫وال شك أنه ال يقصد هبذه احلالة ما قصده يف احلالة األوىل التي ال يصح فيها التقييد إال إذا امتنع العمل‬
‫باملطلق إال باملق َّيد ‪ ،.‬وإال لصارت احلالتان سواء ‪ ،‬ولكنه اشرتط هناك الرضورة ‪ ،‬وهنا مل يشرتطها ‪،‬‬
‫فدل عىل أهنا حالة أخرى حلمل املطلق عىل املق َّيد ‪.‬‬
‫(‪ )5‬قال الشارح يف تفسري كالم ابن اهلامم يف ذكره قول احلنفية عند املعارضة‪« :‬الدليالن املتعارضان إذا مل‬
‫خيهام ُجيمع بينهام»‪.‬‬
‫ُيعلم تار ُ‬

‫‪41‬‬
‫ُ‬
‫اإلطالق ‪ ،‬ثم ُرفع بالقيد ‪.‬‬ ‫ناسخ عند احلنفية(‪ ،)2‬أي ‪ُ :‬أريد‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫املتأخ ُر‬ ‫وإال(‪ )1‬فاملق َّيدُ‬

‫املتواتر ‪ ،‬وهو املسمى بالزيادة عىل النص ‪ ،‬وهو األوجه ‪.‬‬


‫َ‬ ‫رب الواحد عندهم‬
‫فلذا مل ُيق ِّيد خ ُ‬

‫ني املق َّيدُ أنه املرا ُد باملطلق ‪ ،‬وهو معنى محل املطلق عىل املقيد‪.‬‬
‫والشافعية ختصيص(‪ ،)3‬أي ‪َ :‬ب َّ َ‬
‫مجع بني الدليلني مغالط ٌة ‪ ،‬قوهلم(‪ : )4‬ألن العمل باملق َّيد ٌ‬
‫عمل به(‪.)5‬‬ ‫وقوهلم إنه ٌ‬

‫قلنا ‪ :‬بل باملطلق الكائن يف ضمن املق َّيد من حيث هو كذلك ‪ ،‬وهو املق َّيد فقط ‪ ،‬وليس‬
‫زئ ُّ‬
‫كل ما َصدَ َق عليه من املق َّيدات(‪( ...)6‬إىل أن قال ‪):‬‬ ‫العمل باملطلق كذلك ‪ ،‬بل أن ُجي َ‬

‫(‪ )1‬أي ‪ :‬إن مل ُجيهل التاريخ ‪ ،‬بل ُعلم املتقدم ومن املتأخر ‪.‬‬
‫املتأخر ‪ ،‬وأما إذا كان املطلق هو املتأخر قسيذكر الكالم عنها الح ًقا ‪.‬‬
‫(‪ )2‬هذه حالة ما إذا كان املق َّيد هو ِّ‬
‫(‪ )3‬أي عده الشافعية (واجلمهور) تقييدً ا ‪ ،‬وهو ختصيص املطلق باملق َّيد ‪ ،‬ومل يعدوه ً‬
‫نسخا ‪.‬‬
‫ففي هذه احلالة ال اختالف يف هذا احلمل بني اجلمهور واحلنفية ‪ ،‬وبه ّ‬
‫ينحل إشكال التعارض ‪ ،‬وإنام‬
‫االختالف يف حقيقته ‪ :‬هل هو بيان ‪ ،‬أم نسخ ؟‬
‫(‪ )4‬أي املغالطة ‪ :‬هي قول الشافعية التي استندوا إليها يف أنه مجع وليس نسخا ‪.‬‬
‫أيضا ‪ ،‬وبذلك منعوا من القول بالنسخ ‪ .‬بخالف‬ ‫(‪ )5‬أي قول الشافعية ‪ :‬إن العمل باملق َّيد ٌ‬
‫عمل باملطلق ً‬
‫العمل باملطلق دون املق َّيد ‪ ،‬فهو ٌ‬
‫عمل باملطلق دون املق َّيد ‪.‬‬
‫(‪ )6‬أي يعرتض احلنفية عىل تقرير الشافعية بأن العمل باملق ّيد ٌ‬
‫عمل باملطلق ‪ ،‬من غري عكس ‪ ،‬بنفي ذلك ؛‬
‫ألن العمل باملطلق لن يكون ً‬
‫عمال به حتى ُيعمل به عىل إطالقه ‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫إجياهبم َوص َل‬
‫حيا من احلنفية ‪ ،‬و ُعرف ُ‬
‫(‪)2‬‬ ‫وإلزا ُمهم(‪َ )1‬‬
‫كون املطلق املتأخر نسخا ‪ :‬ال أعلم فيه ترص ً‬
‫ِ‬
‫بيان املراد باملطلق ‪ ،‬كقوهلم يف ختصيص العام بذلك الوجه‪.)4(»)3(...‬‬

‫وخالصة ما َيمنا من هذا الكالم يف هذا املوطن ‪:‬‬

‫‪ -‬أن املطلق ُحيمل عىل املق َّيد باسم التقييد (وهو من صور اجلمع) يف احلاالت الثالث‬

‫التالية ‪:‬‬

‫‪ -1‬إذا كان احلمل اضطراريا ‪ ،‬ال يمكن غريه ‪.‬‬

‫‪ -2‬إذا كان ورودمها يف وقت واحد ‪ ،‬بال َت َقدُّ م وال تأخر ‪.‬‬

‫‪ -3‬إذا ُجهل الوقت ‪ُ ،‬محل عىل البيان (أي التقييد)؛ ألنه األغلب ‪ ،‬ومل ُحيمل عىل النسخ ‪.‬‬

‫وحيمل املطلق عىل املقيد باسم النسخ ‪ ،‬يف حاللة واحدة ‪ :‬وهي إذا ُعلم الوقت ‪ :‬فكان‬
‫‪ُ -‬‬

‫التقييد متأخرا ‪ ،‬فهو نسخ ‪.‬‬

‫ً‬
‫ناسخا للمق َّيد ‪ ،‬وأهنم ال يقولون به ‪.‬‬ ‫املطلق ِّ‬
‫املتأخ َر‬ ‫َ‬ ‫(‪ )1‬أي إلزام اجلمهور للحنفية ‪ :‬بأن جيعلوا‬
‫ً‬
‫ناسخا للمق َّيد املتقدم ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬نفى ابن اهلامم عن احلنفية وجو َد نص هلم يدل عىل أهنم ال يعدون املطلق املتأخر‬
‫ً‬
‫ناسخا للتقييد املتقدم ‪ ،‬وإن‬ ‫(‪ )3‬خالصة كالم ابن اهلامم هنا ‪ :‬أنه ال مانع عنده من التزام كون املطلق املتأخر‬
‫نصا ألصحابه ينص عليه ‪.‬‬
‫مل جيد ًّ‬
‫(‪ )4‬التحرير البن اهلامم (‪ ، )134 -132‬مستفيدً ا يف الَّشح من رشحيه ‪ :‬التقرير البن أمري حاج (‪-294 /1‬‬
‫‪ ،)296‬وتيسري التحرير ألمري بادشاه (‪.)332 -330 /1‬‬

‫‪43‬‬
‫‪ -‬و ُيقىض عىل االختالف بنسخ التقييد ‪ ،‬إذا ُعلم الوقت ‪ :‬فكان اإلطالق هو املتأخر عن‬

‫التقييد ‪ .‬وهي صورة وإن مل جيد ابن اهلامم للحنفية فيها كالما ‪ ،‬إال أنه ال يرى مان ًعا من‬

‫االطراد فيها والتزام القول بالنسخ فيها ‪.‬‬

‫وملا كان مقصودي من هذا العرض حول التقييد ليس مناقشة صحة نسبة هذا التقرير‬

‫لإلمام أيب حنيفة‪ ،‬وال ما مدى موافقته ألئمة احلنفية األوائل (كالطحاوي ومن جاء بعده) ‪،‬‬

‫حل التعارض الذي ذكره ابن اهلامم نفسه‪:‬‬ ‫َبني مدى ا ّط ِ‬


‫راده مع ترتيب منازل ّ‬ ‫وإنام املقصود هو ت ُّ ُ‬

‫فهو أوال ‪ :‬أورد هنا صور ًة للجمع ال ُيشرتط هلا عدم العلم بالتاريخ ‪ ،‬بمعنى أننا حتى لو‬

‫علمنا النص املتقدم وم ّيزناه عن املتأخر ‪ ،‬وحتى لو كان املق َّيد هو املتأخر = وجب القول بالتقييد‪،‬‬

‫وهي حالة االضطرار لذلك ‪ .‬مع أنه كان يمكن القول بالنسخ ‪ ،‬ف ُيقال ‪ :‬إن قوله «ال متلك إال‬
‫ٌ‬
‫ناسخ جلواز متلك الرقبة غري املؤمنة املفهوم من إطالق قوله «أعتق رقبة» ‪.‬‬ ‫رقبة مؤمنة»‪،‬‬

‫خمالف إلطالق ابن اهلامم األول الذي يوجب‬


‫ٌ‬ ‫تقديم للجمع عىل القول بالنسخ ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وهذا‬

‫تقديم النسخ عىل اجلمع عند العلم بالتاريخ ‪.‬‬


‫َ‬ ‫بظاهره‬

‫ثانيا ‪ :‬محل املطلق عىل املق َّيد عند اجلهل بالزمن ‪ ،‬بال رشط االضطرار ‪ ،‬وتعليل ذلك بأنه‬

‫لغلبة البيان عىل النسخ ‪ ،‬يكاد يكون قاضيا عىل غالب مسائل األحاديث املتعارضة ‪ ،‬حيث إن‬

‫حتديد الزمن يف غالب األحاديث النبوية غري ممكن ‪ .‬ونتيج ًة لذلك سيكون اجلمع مقدَّ ما يف‬

‫األعم األغلب من األحاديث املتعرضة ‪ ،‬حتى عند احلنفية وفق تقرير ابن اهلامم ‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫اجلمع بني النصني‬
‫ُ‬ ‫ثالثا ‪ :‬كون تقييد اإلطالق املتقدم ً‬
‫نسخا عند احلنفية ‪ ،‬ال ينفي أنه به قد ت َّم‬

‫مجع ‪ ،‬لكن احلنفية اشرتطوا له رشوط النسخ ‪ :‬من‬


‫والعمل هبام مجي ًعا ‪ ،‬دون إمهال أحدمها ‪ .‬فهو ٌ‬
‫كون اليقيني ال ينسخه إال اليقيني ‪ ،‬ومن وجوب اجلمع به دون أي مجع آخر ‪.‬‬

‫رابعا ‪ :‬هذا كله إنام قام بناء عىل أن التقييد زيادة عىل النص ‪ ،‬وأن الزيادة عىل النص نسخ ‪،‬‬

‫اشرتط هلا معرفة التقدم والتأخر ‪ .‬أما إذا كان اجلمع بيانًا ملجمل ‪ ،‬وحتديدً ا ألحد‬
‫لذلك ُ‬

‫احلس أو‬
‫املحتمالت املتكافئة يف النص ‪ ،‬أو كان التقييد هو الذي يمنع عن احلديث معارضة ِّ‬
‫العلم احلديث(‪ = )1‬فلن يكون ً‬
‫نسخا ‪ ،‬حتى عند احلنفية ‪ .‬لذلك لن يقدموا القول بالنسخ عىل‬
‫اجلمع يف هذه احلالة ‪ ،‬حتى لو ُعلم التاريخ ؛ ألن اجلمع يف هذه األحوال ‪ :‬ما بني ٍ‬
‫بيان إلمجال‬
‫ٍّ‬
‫وحل إلشكال ‪ ،‬وليس من باب النسخ يف يشء ‪.‬‬

‫وأقل ما كان جيب جتاه هذا األمر حكاية اختالف احلنفية يف هذا الرتتيب الذي حكاه ابن‬

‫اهلامم والبهاري ‪.‬‬

‫وهذا ابن أمري حاج ‪ -‬حممد بن حممد بن حممد بن حسن احللبي ‪( -‬ت‪879‬هـ)‪ ،‬وهو تلميذ‬

‫ابن اهلامم وشارح كتابه ‪ ،‬يذكر اختالف األحاديث يف الذكر بعد الصالة ‪ ،‬ثم يذكر وجها للجمع‬

‫متعني عند اإلمكان ‪ ،‬إذا دار األمر‬ ‫ُ‬


‫العمل باحلديثني ‪ ،‬وهو ّ ٌ‬ ‫الصنيع ‪:‬‬
‫َ‬ ‫بينها ‪ ،‬ثم يقول ‪« :‬فإن هذا‬

‫بينه وبني إهدار العمل بأحدمها بالكلية»(‪ .)2‬وهذا ترصيح بتقديم اجلمع ؛ ألن القول بالنسخ‬

‫إهدار ألحد الدليلني بالكلية ‪ ،‬وألنه مل يشرتط للقول باجلمع عدم العلم بالتاريخ ‪.‬‬

‫(‪ )1‬كأحاديث نفي العدوى وإثباهتا ‪.‬‬


‫ِّ‬
‫املصيل وغنية املبتدي البن أمري حاج – اعتنى به ‪ :‬أمحد الغالييني‪.‬‬ ‫(‪َ )2‬حلب ُة ِّ‬
‫املجيل و ُبغية املهتدي يف رشح منية‬

‫‪45‬‬
‫ولذلك استدل أبو احلسنات اللكنوي (ت‪1304‬هـ) هبذا القول عىل أن ابن أمري حاج كان‬

‫يقدم اجلمع عىل الرتجيح‪ ،‬خالفا لظاهر كالم شيخه ابن اهلامم(‪.)1‬‬

‫وممن رصح بخالف ظاهر كالم ابن اهلامم والبهاري من متأخري احلنفية – وقيل إنه حتول‬

‫شافع ًّيا –(‪ :)2‬حممد املعني بن حممد األمني السندي احلنفي (ت‪1161‬هـ) ‪« :‬ومن أشنع هذا‬

‫االستشكال ‪ ،‬وأشدِّ ما يكون فيه املستشكِ ُل اجرتا ًء عىل الَّشيعة ‪ :‬القول بنسخ أحد احلديثني‬

‫بالتعارض ‪ .‬أما كونه من باب االستشكال بالرأي ‪ :‬فألن التعارض املفيض إىل القول بالنسخ‬
‫ٍ‬
‫رجل من الرجال مل يعرف وجه اجلمع بني احلديثني‪ ،‬و َعلم تأخر أحدمها عن اآلخر ‪ ،‬فلم‬ ‫فهم‬
‫ُ‬
‫والفتح ِ‬
‫اهلني عند وقته بالرجاء ‪ ،‬وأنه عساه‬ ‫ِ‬ ‫يرجع إىل نفسه بالعجز ‪ ،‬وإىل الفيض اإلهلي املتجدّ د‬
‫ٍ‬
‫قبض من اسم القابض‬ ‫متر عليه ُبعيد الفلق ‪ ،‬وأن لكل‬
‫يأتيه وجوه من اجلمع يف اللمحة التي ّ‬
‫آالف من الرجال ‪ ،‬وفوق كل‬
‫ٌ‬ ‫بس ًطا عند الباسط تعاىل ‪ ،‬وأن ما يعجز عنه واحد ‪ :‬ربام يقدر عليه‬

‫متأخر عن منسوخه‬ ‫نسخه عن الشارع املعصوم ^‬ ‫ذي علم عليم ‪ .‬ومل يدر أن كل ناسخ ٍ‬
‫ثابت ُ‬
‫ٌ‬
‫ً‬
‫ناسخا له ‪ .‬وأن التعارض يف نظر الرجال ‪ :‬ال‬ ‫ض ملتقدِّ ِمه يف الظاهر‬ ‫متأخ ٍر ِ‬
‫معار ٍ‬ ‫‪ ،‬وليس كل ّ‬

‫ُخيرج الدليلني عن العمل هبام م ًعا ‪ ،»...‬إىل آخر كالمه اجلليل(‪ ،)3‬والذي ختمه بذكره أنه صنف‬

‫كتابا يف إبطال هذا النوع من النسخ ‪ ،‬املسمى بـ( النسخ االجتهادي)‪ ،‬وأنه مل يثبت عن األئمة‬

‫دار الكتب العلمية ‪ :‬بريوت ‪.)319( -‬‬


‫(‪ )1‬األجوبة الفاضلة لألسئلة العَّشة الكاملة للكنوي – الطبعة الثانية ‪1404 :‬هـ ‪ .‬مكتب املطبوعات‬
‫اإلسالمية ‪ :‬حلب – (‪.)197‬‬
‫(‪ )2‬نقل عنه واعتمده اللكنوي يف عدد من كتبه ‪ ،‬منها كتابه اآليت ذكره ‪.‬‬
‫(‪ )3‬دراسات اللبيب يف األسوة احلسنة باحلبيب ملحمد املعني بن حممد األمني السندي – تقديم وحتقيق ‪:‬‬
‫حممد عبد الرشيد النعامين ‪ .‬مطبعة العرب ‪ :‬كراتيش ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1957 :‬م‪.)144 -113 /2( -‬‬

‫‪46‬‬
‫ٌ‬
‫استشكال أفىض إىل‬ ‫املجتهدين (كذا قال) ‪ ،‬إىل أن قال ‪« :‬أما كونه أشنع القول وأشدّ ه ؛ فألنه‬

‫رأسا بالرأي ‪ ،‬بعد ثبوته عن الشارع ^ ‪ ،‬وليس فيام يستشكلونه‬


‫رفع حكم من أحكام الَّشيعة ً‬
‫ٍ‬
‫مدهشة مثله ‪ ،»...‬إىل آخر كالمه املهم(‪.)1‬‬ ‫ٍ‬
‫عظيمة‬ ‫يف قصور فهمهم أشدُّ إفضا ًء إىل‬

‫وذكر العالمة أبو احلسنات اللكنوي (ت‪1304‬هـ) كالم السندي ‪ ،‬ورجحه عىل ما سواه‪،‬‬

‫رشح‬
‫حيث نقل املذهب املنسوب للحنفية من كتاب (التلويح) للسعد التفتازاين ‪ ،‬والذي هو ٌ‬
‫لـ(التوضيح يف حل غوامض التنقيح) لصدر الَّشيعة املحبويب ‪ ،‬ثم قال اللكنوي ‪« :‬لكن فيه‬

‫َخدشة ‪ :‬من حيث إن إخراج نص رشعي عن العمل به غري الئق ‪ ،‬فاألوىل أن ُيطلب اجلمع بني‬
‫ٍ‬
‫بوجه من‬ ‫تعمق النظر وغوص الفكر ‪ .‬فإن مل يمكن ذلك‬ ‫ٍ‬
‫املتعارضني بأي وجه كان ‪ ،‬بَّشط ُّ‬
‫حيا ما يدل عىل ارتفاع احلكم األول مطل ًقا ‪ِ :‬صري إىل النسخ ‪ ،‬إذا‬
‫الوجوه ‪ ،‬أو ُوجد هناك رص ً‬
‫ُعرف ما يدل عليه»(‪.)2‬‬

‫اإلمجاع عىل تقديم اجلمع عىل‬


‫َ‬ ‫فإذا أضفنا إىل ذلك كله ‪ :‬حكاية غري واحد من أهل العلم‬

‫النسخ والرتجيح ‪ ،‬تزدا ُد ِريب ُتنا يف إطالق من أطلق نسبة تقديم النسخ أو الرتجيح عىل اجلمع‬

‫عند احلنفية !‬

‫قال بدر الدين ابن مجاعة (ت‪733‬هـ)‪« :‬واجلمع ُيقدَّ ُم عىل الرتجيح باالتفاق»(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬دراسات اللبيب يف األسوة احلسنة باحلبيب ملحمد املعني بن حممد األمني السندي (‪.)116 -114 /2‬‬
‫(‪ )2‬األجوبة الفاضلة لألسئلة العَّشة الكاملة للكنوي – الطبعة الثانية ‪1404 :‬هـ ‪ .‬مكتب املطبوعات‬
‫أيضا (‪.)197 -196 ( ،)193 -192‬‬
‫اإلسالمية ‪ :‬حلب – (‪ ، )183‬وانظر ً‬
‫(‪ )3‬إيضاح الدليل يف قطع حجج أهل التعطيل البن مجاعة (‪.)75‬‬

‫‪47‬‬
‫وأقره احلافظ ابن حجر (ت‪852‬هـ) يف (الفتح)(‪.)1‬‬

‫وقال أبو العباس القرطبي (ت‪656‬هـ) ‪« :‬واجلمع أوىل من الرتجيح إذا أمكن باتفاق أهل‬

‫األصول»(‪.)2‬‬

‫وقال أبو عبد اهلل القرطبي (ت‪671‬هـ) ‪« :‬واجلمع أوىل من الرتجيح باتفاق أهل‬

‫األصول»(‪.)3‬‬

‫وجوها ثالث ًة للجمع ‪ ،‬وهي ‪:‬‬


‫ً‬ ‫وذكر الزركيش (ت‪794‬هـ)‬

‫قسم الدار املدَّ َعى ِمل ُكها عند تعارض البينتني ‪.‬‬
‫‪ -1‬توزيع متع َّل ِق احلكم ‪ ،‬إن أمكن‪ ،‬كام ُت َ‬
‫ٍ‬
‫واحد عند التعدد‪ ،‬بأن يكون كل واحد منهام مقتضيا‬ ‫بعض كل‬
‫‪ُ -2‬ي ّنزل عىل األحكام ُ‬

‫أحكاما‪ ،‬فيعمل بواحد منهام يف بعضها‪ ،‬وباآلخر يف البعض اآلخر‪ ،‬كالنهي عن‬

‫الَّشب‪ ،‬والبول قائام ‪ ،‬ثم فعله ‪ .‬فإن فعله يقتيض عدم األولوية واحلرج‪ ،‬وهنيه‬

‫بالعكس‪ ،‬فيحمل النهي عىل عدم األولوية ‪ ،‬والفعل عىل رفع احلرج وبيان اجلواز ‪.‬‬

‫وكنهيه عن االغتسال بفضل وضوء املرأة ‪ ،‬ثم فعله مع عائشة ‪.‬‬

‫‪ -3‬التنزيل عىل بعض األحوال عند اإلطالق‪ ،‬كقوله‪« :‬أال أخربكم عن خري الشهود؟ أن‬

‫يشهد الرجل قبل أن يستشهد»‪ ،‬وقوله يف حديث آخر‪« :‬ثم يفشو الكذب ‪ ،‬حتى يشهد‬

‫الرجل قبل أن يستشهد»‪ ،‬فيحمل األول عىل حق اهلل تعاىل ‪ ،‬والثاين عىل حق اآلدميني‪.‬‬

‫(‪ )1‬فتح الباري البن حجر (‪ 410 /31‬رشح احلديث رقم ‪.) 7418‬‬
‫(‪ )2‬املفهم للقرطبي (‪. )280 /4‬‬
‫(‪ )3‬اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي (‪.)175 /3‬‬

‫‪48‬‬
‫ثم قال الزركيش – وهو حمل الشاهد ‪« : -‬وهذه الطريقة أطبق عليها الفقهاء‪ ،‬أعني اجلمع‬

‫املستقل بنفسه من غري إقامة دليل‪ ،‬وعزوا ذلك إىل تعارض القراءتني‪ ،‬كقراءة " أرجلكم "‬

‫بالنصب واخلفض‪ ،‬فحملوا إحدامها عىل مسح اخلف واألخرى عىل غسل الرجلني‪ ،‬ومحل‬

‫بعضهم قوله " يطهرن " و " يطهرن " إحدامها عىل ما دون العَّشة‪ ،‬واألخرى عىل العَّشة»(‪.)1‬‬

‫وغريهم ممن حكى اإلمجاع عىل تقديم اجلمع(‪.)2‬‬

‫وكان من السهل – عىل بعضهم ‪ -‬ر ّد هذه حكاية هذا اإلمجاع ‪ ،‬لوال وجود من خالف ابن‬

‫اهلامم والبهاري من أئمة احلنفية ‪ ،‬كام سبق ‪ ،‬موافقني لكالم اجلمهور ‪ ،‬وهبم يتحقق اإلمجاع ‪،‬‬

‫خاصة مع َت َقدُّ ِم حاكي اإلمجاع عىل ابن اهلامم والبهاري ‪.‬‬

‫وأقل ما يف حكاية هذا اإلمجاع ‪ :‬هو التأكيد عىل وجود علامء مل يكونوا يعرفون باخلالف‬

‫املحكي عن احلنفية !!‬

‫وإين ألعجب من شيوع نسبة هذا املذهب للحنفية يف الدراسات املعارصة (كام سبق‬

‫وبينته)‪ ،‬دون حترير مذهب احلنفية من كتبهم األصول يف علم األصول ‪ :‬منذ اجلصاص ‪ ،‬حتى‬

‫البزدوي والرسخيس والدبويس ‪.‬‬

‫(‪ )1‬البحر املحيط للزركيش (‪ .)134 -133 /6‬ثم إن الزركيش نقل عن إمام احلرمني حكايته خالفا‬
‫األصوليني للفقهاء يف قبول هذا النوع من اجلمع ‪ ،‬ثم بني الزركيش أن ما النزاع الذي تصوره إمام‬
‫احلرمني ليس له وجود يف احلقيقة !‬
‫(‪ )2‬وانظر كتاب ‪ :‬إمجاعات األصوليني ملصطفى أبو عقل (‪ . )418 -416‬وقد نسب اإلمجاع لعالء الدين‬
‫تبني أنه ال حيكي‬
‫السمرقندي (ت‪539‬هـ) يف كتابه (ميزان األصول)‪ ،‬وبمراجعة كالم السمرقندي ّ‬
‫اإلمجاع عىل تقديم اجلمع مطلقا ‪ ،‬كام َفهم منه الباحث‪.‬‬

‫‪49‬‬

You might also like