Professional Documents
Culture Documents
()1
بني اجلمهور واحلنفية
1441 /5 /30هـ
1
ﭑ ﭒﭓﭔ
اشتهر عند مجهور الفقهاء -خالفا ألصوليي احلنفية(فيام ُنسب إليهم)( -)1أن وسائل حل
( )1وستأيت مناقشة ذلك عىل وجه االختصار ،يف آخر هذا املطلب نفسه .
2
هذا ما عليه املالكية والشافعية واحلنابلة( ،)1واجلريرية – أتباع اإلمام حممد بن جريرالطربي
( )1انظر :الرسالة للشافعي (رقم ،)925 -924 ،590 -574واختالف احلديث له – وهو نص مهم -
( ،)41- 40وانظر نسبة ما قال فيه الشافعي باجلمع يف كتابه (اختالف احلديث) بالنظر إىل ما قال فيه
بالنسخ والرتجيح يف كتاب :خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه للدكتور اهلادي ُروشوا (-318
،)320والتقريب واإلرشاد للباقالين ( ،)283 -260 /3واملعتمد أليب احلسني البرصي -عىل رأي
من مل يلحقه بمذهب فقهي من املذاهب األربعة ،)674 -672 /2( -واللمع للشريازي الشافعي –
حتقيق :عبد القادر اخلطيب ،)217( -ورشح اللمع له ( ،)657 /2وقواطع األدلة أليب املظفر
السمعاين الشافعي – حتقيق :د /عبد اهلل احلكمي – ( ،)29 /3وإحكام الفصول يف أحكام األصول
أيضا ( ،)375والواضح يف أصول الفقه
للباجي املالكي (رقم ،)798واإلشارة إىل معرفة األصول له ً
البن عقيل احلنبيل ( ،)76/5واملحصول للرازي الشافعي ( ،)406 /5( )252 /2ورشح خمترص
الروضة للطويف احلنبيل ( ،)688 -687/3واملفهم للقرطبي املالكي (،)513 /4( )360 /5
واإلحكام يف أصول األحكام لآلمدي احلنبيل ثم الشافعي ( ،)2289 /5وتنقيح الفصول للقرايف
املالكي ( ،)444 -443ونفائس األصول يف رشح املحصول للقرايف ( ،)3638 /8ورشح صحيح
مسلم للنووي ( ،)35 /1واجلامع ألحكام القرآن أليب عبد اهلل القرطبي املالكي (،)204 ،175 /3
( ،)85 /5( ،)157 /4وهناية الوصول يف دراية األصول لصفي الدين اهلندي (،)3665 -3662 /8
والبحر املحيط للزركيش ( ،)194 -108 /6واملنهاج للبيضاوي الشافعي مع رشحه اإلهباج
لل ُّسبـكِـ ِّيـ َني – تقي الدين وولده التاج – ( ،)2746 -2728 /7وهناية السول يف رشح منهاج األصول
لإلسنوي الشافعي ( ،)471 -449 /4ومجع اجلوامع للتاج السبكي – مع البدر الطالع للجالل املحيل
– ( ،)339-338 /2ومع حاشية العطار عىل رشح املحيل ( ،)402 -400 /2والتحبري رشح التحرير
للشو َشاوي املالكي –
للمرداوي احلنبيل ( ،)4140 -4130 /8ورفع النقاب عن تنقيح الشهاب ُّ
ت899هـ.)227-222 /2 /2( -
3
هذا هو الرتتيب النظري الذي قيده األصوليون من هذه املذاهب الثالثة ،وإن كان
تضمن ما يقيد هذا الرتتيب يف بعض األحوال ،كام سيأيت بيانه .أي إن النسخ قد ُيقدّ م
تطبيقهم ّ
خالف األصل والغالب ،وإنام يقع ٍ
بقيد ُيق ِّيدُ إطالق ُ عىل اجلمع ،وكذلك الرتجيح ،لكن ذلك
كام أن مما يلفت النظر يف تقرير اجلمهور هلذا الرتتيب :أنه مل ُي َِّش أحدٌ منهم (حسب أهم
مصادر األصول وأوسعها)( )2إىل خالف احلنفية هلم يف أصل هذا الرتتيب ،عىل خالف عادة
املتوسعني منهم يف سياق خالف احلنفية ومناقشته ،مع أهنم ربام أشاروا إىل خالفات أخرى هلم
وأما املذهب املنسوب إىل احلنفية :فهو أن هلم ترتي ًبا خمتلفا ،حيث قيل إهنم يقدمون النسخ،
( )1انظر :خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه للدكتور اهلادي ُروشوا (.)512 -498
( )2كام يف الكتب املعزو إليها آنفا من كتب مجهور األصوليني .
( )3انظر الكتب والدراسات التالية :
-1األجوبة الفاضلة لألسئلة العَّشة الكاملة أليب احلسنات اللكنوي (.)183
-2أصول الفقه :ملحمد اخلرضي (.)359 -358
-3التعارض والرتجيح :لعبد اللطيف الربزنجي -دار الكتب العلمية :بريوت -171 /1( -
.)176
-4ضوابط الرتجيح عند وقوع التعارض :لبنيونس الويل – أضواء السلف :الرياض -223( -
.)228
-5منهج التوفيق والرتجيح للدكتور عبد املجيد السوسوة – دار النفائس :عَامن .)116 -115( -
4
لكن بتأمل كالم أئمة احلنفية جتد أهنم ال خيالفون اجلمهور ،وإنام وقع توهم االختالف من
اختالف املصطلحات واإلطالقات يف بعض األحيان ،أو من االقتصار بالنقل عن بعضهم دون
آخرين منهم .وسأعرض فيام ييل بعض أهم الوقفات التي تبني حقيقة مذهب احلنفية يف باب
التعارض ،وأن إطالق القول بأن منهجهم خيالف منهج املحدثني إطالق غري صحيح .
وأبدأ باإلمام الطحاوي (ت321هـ) ،لتقدم زمنه ،وهو من هو يف الفقه احلنفي إمام ًة يف
أصوله وفروعه و ُنرص ًة وتصني ًفا ،يقول يف موطن من كتبه « :وأوىل األشياء بنا إذا ُروي حديثان
عن رسول اهلل ^ فاحتمال اال ّتفاق ،واحتمال ال َّت َضاد :أن نحملهام عىل االتفاق ،ال عىل
-6الرتجيح بني األخبار للدكتور حممد الشتيوي – مكتبة حسن العرصية :بريوت.)124 -123( -
-7منهج اإلمام الطحاوي يف دفع التعارض بني النصوص الَّشعية من خالل كتابه رشح مشكل
اآلثار :للدكتور حسن بن عبد احلميد بخاري .رسالة ماجستري مقدمة إىل كلية الَّشيعة يف جامعة
أم القرى ،سنة 1422هـ – (.)107
-8خمتلف احلديث وأثره يف أحكام احلدود والعقوبات :للدكتور طارق الطواري – دار ابن حزم :
بريوت .)382( -
-9خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه :للدكتور اهلادي روشو التونيس – دار ابن حزم :بريوت
– (.)269 ،254 -252
خمتلف احلديث بني الفقهاء واملحدثني :للدكتور نافذ محاد – دار الوفاء – (،)137 -136 -10
لكنه ذكر اخلالف بني احلنفية يف ذلك (.)138
( )1رشح معاين اآلثار للطحاوي (.)274 /4
5
وكرر اإلمام الطحاوي هذا املعنى يف عدة مواطن من كتابه (رشح معاين اآلثار)(.)1
ويف موطن آخر ذكر اإلمام الطحاوي اختالف األحاديث يف ركوب اهلدي هن ًيا وإذنًا فيه ،
فقال بعد اجلمع« :وال ينبغي لنا أن نحمل شيئا من هذه اآلثار عىل التضاد ،وال عىل االختالف
الذي يدفع به بعضها بعضا ،وإنام جيب علينا أن نحملها عىل االتفاق الذي يصدق بعضها بعضا،
وكرر نحو هذا التعبري يف مواطن عديدة من كتابه املخصص لألحاديث املشكلة للتعارض:
(بيان مشكل أحاديث رسول اهلل ^ واستخراج ما فيها من األحكام ونفي التضاد عنها)
عىل ما سواه .ويف دراسة علمية حرص الباحث األبواب التي قال فيها اإلمام الطحاوي باجلمع
( )1رشح معاين اآلثار للطحاوي (،124 /4( ،)434 ،414 ،215 ،197 -196 ،192 ،163 /1
.)392
( )2أحكام القرآن للطحاوي (.)308 /2
( )3رشح مشكل اآلثار للطحاوي (.)321 ،60 /14( ،)98 /13( ،)38 /10
6
ولذلك فقد خرج هذا الباحث ،وهو الدكتور حسن بن عبد احلميد بخاري :إىل أن اإلمام
وهذه النتيجة نفسها هي ما خرج هبا الدكتور اهلادي ُروشو التونيس يف التعرف عىل منهج
الطحاوي يف حل إشكال التعارض :أنه يقدم اجلمع ،خال ًفا للمنسوب إىل احلنفية(.)2
ودعونا نأخذ كالم متن أصويل معتمد ،وهو (كنز الوصول إىل معرفة األصول) لفخر
اإلسالم عيل بن حممد ال َبز َد ِوي (ت482هـ) ،حيث يقول « :وركن املعارضة َ :تقا ُب ُل احلجتني
وذلك أن التضاد ال يقع يف حم ّلني ،جلواز اجتامعهام ،مثل النكاح :يوجب احلل يف حمل ،
واحلرمة يف غريه .وكذلك يف وقتني( : )4جلواز اجتامعهام يف حمل واحد يف وقتني ،مثل ُ :حرمة
( )1منهج اإلمام الطحاوي يف دفع التعارض بني النصوص الَّشعية من خالل كتابه رشح مشكل اآلثار :
للدكتور حسن بن عبد احلميد بخاري .رسالة ماجستري مقدمة إىل كلية الَّشيعة يف جامعة أم القرى ،
سنة 1422هـ (صـ .)273 -272 ،132
( )2خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه للدكتور اهلادي ُروشوا (.)568-567 ،554 -550
( )3هذا تفسريه ملراده بالركنية ،ليؤكد أن ما مل جتتمع فيه هذه األركان فليس معارضة .
( )4أي ال يقع التضاد يف وقتني خمتلفني ؛ ألن هذا جيوز نفي التضاد بالنسخ .
( )5أصول البزدوي – حتقيق :د /سائد بكداش ،)449( -ورشحاه :كشف األرسار لعالء الدين البخاري
7
فهل ركن املعارضة التي يتكلم عنها اجلمهور هو هذه املعارضة ؟ فمن الواضح أن البزدوي
هنا يتكلم عن املعارضة التي ال حتتمل اجلمع وال النسخ وال الرتجيح .
فهو أوال :يريد تنزيه الوحي من وقوع التعارض احلقيقي والتضاد احلقيقي ؛ ألنه تناقض
ولذلك قال عقب كالمه السابق « :وحكم املعارضة بني آيتني :املصري إىل السنة .
وبني سنتني :نوعان :املصري إىل القياس ،وأقوال الصحابة ♥ ،عىل الرتتيب يف احلجج
وإذا ثبت أن األصل يف وقوع املعارضة اجلهل بالناسخ واملنسوخ :اختص ذلك بالكتاب
والسنة ،فكان بني آيتني ،أو قرائتني يف آية ،أو بني سنتني ،أو سنة وآية ؛ ألن النسخ يف ذلك
فواضح من خالل هذا التقرير أنه ال يتحدث عن التعارض الذي يتحدث عنه اجلمهور ،
وقوعه بني آيتني ُيلج ُأ إىل السنة ،وعند وقوعها بني سنتني ُيلجأ إىل القياس أو أقوال الصحابة ،
8
نرجح ،ومنع من القول بالنسخ ؛ ألن رشط
وعند العجز ُيلجأ إىل تقرير األصول ،ومل يقل ِّ
التعارض الذي يتحدث عنه هو احتاد الوقت .
فهو هنا يبني كيفية نفي حصول التعارض أصال ،أي كيفية ح ّله لكي يثبت أنه ال تعارض
يف احلقيقة .فذكر مثال :أنه ال يقع تعارض بني ُمـحـكَم ومتشابه أو جممل ،بمعنى أنه جيب محل
( )1أصول البزدوي ( ،)454 -453ورشحاه :كشف األرسار لعالء الدين البخاري (،)183 -182 /3
والتقرير ألكمل الدين البابريت (.)451 -449 /4
9
املت شابه واملجمل عىل املحكم ،وهذا مجع .وذكر :أنه ال يقع التعارض احلقيقي بني مقطوع به
ومظنون ؛ ألن وقوع التعارض بينهام يوجب تقديم املقطوع به عىل ما سواه ،وهذا ترجيح .
ثم قال البزدوي « :وأما احلكم :فإن الثابت هبام إذا اختلف عند التحقيق :سقط التعارض.
االبتالء ،فصح اجلمع ،وبطل التدافع ،فال يصح أن ُحيمل البعض عىل البعض ،وأمثاله
كثرية»(.)1
وهنا جيمع البزدوي بني اآليتني بأن اليمني الغموس رغم دخوهلا يف اللغو ؛ ألن اللغو هي
كل ما خالف الرب واحلق وما ال فائدة فيه ،واليمني الغموس كذلك ،ورغم أن اآلية األوىل نفت
املؤاخذة واآلية الثانية أثبتت املؤاخذة ؛ إال أنه ال تعارض ؛ ألن املؤاخذة املثبتة هي املؤاخذة
األخروية ،فيؤاخذ عىل اليمني الغموس يف اآلخرة ،واملؤاخذة املنفية هي املؤاخذة الدنيوية ،
وهذا هو عني اجلمع ،وهو يقصد بذلك أن املعارضة احلقيقية تنتفي هبذا اجلمع .
ومع العلم بالتاريخ ؛ ألن سورة املائدة من آخر ما نزل من القرآن ،وصح أهنا نزلت يف
حجة الوداع ،وأما سورة البقرة فعامتها نزلت قبل ذلك قط ًعا .مع ذلك مل يقل البزدوي بالنسخ،
( )1أصول البزدوي ( ،)454ورشحاه :كشف األرسار لعالء الدين البخاري ( ،)186-183 /3والتقرير
ألكمل الدين البابريت (.)455 -452 /4
10
كام ُنسب إىل مذهب احلنفية :أهنم مع العلم بالتاريخ يقولون بالنسخ ويقدمونه عىل اجلمع .ومن
نظر يف أقوال النسخ عند احلنفية املبنية عىل التاريخ :جيد أهنم يلجؤون إىل إثباهتا بام هو أقل قو ًة
من اختالف زمن نزول سورتني معلومتي ِ
زمن نزوهلام كـ(سورة البقرة) و(املائدة) .فحياد
البزدوي عن القول بالنسخ إىل اجلمع يف هذا املثال :فيه ما ُيشكل (عىل أقل تقدير) عىل دعوى
أن احلنفية يقدمون النسخ عىل اجلمع عند العلم بالتاريخ .
استمر البزدوي يف عرض صور التعارض احلقيقي وكيفية نفي وقوعه (وال يسميه
ّ وهكذا
ًّ
حال) ،حتى انتهى من باب التعارض( .)1وليس يف كالمه إطالق قول بتقديم ترجيح وال نسخ ،
فليس يف كالم البزدوي ما يدل عىل خالف اجلمهور وال عىل وفاقهم يف ترتيب منازل ّ
حل
ويأيت الرسخيس – حممد بن أمحد بن أيب سهل – (ت490هـ) ،فيبدأ باب (بيان املعارضة
بني النصوص) بقوله « :اعلم بأن احلجج الَّشعية من الكتاب والسنة :ال يقع بينهام التعارض
والتناقض وض ًعا ؛ ألن ذلك من أمارات العجز ،واهلل يتعاىل عن أن يوصف به .وإنام يقع
التعارض جلهلنا بالتاريخ ،فإنه يتعذر به علينا التمييز بني الناسخ واملنسوخ .أال ترى أن عند
العلم بالتاريخ ال تقع املعارضة بوجه ،ولكن املتأخر ناسخ للمتقدم .فعرفنا أن الواجب يف
( )1أصول البزدوي ( ،)464 -454ورشحاه :كشف األرسار لعالء الدين البخاري (،)210 -186 /3
والتقرير ألكمل الدين البابريت (.)484 -456 /4
11
األصل طلب التاريخ ،ل ُيعلم به الناسخ من املنسوخ .وإذا مل يوجد ذلك :يقع التعارض بينهام
يف حقنا ،من غري أن يتمكن التعارض فيام هو حكم اهلل تعاىل يف احلادثة .
فواضح من هذا الكالم ،ومن ِذك ِره ُركن املعارضة ورشطها (عىل معنى ما ذكره البزدوي):
أنه يتحدث عن التعارض احلقيقي الذي ال يمكن فيه اجلمع ،وال الرتجيح للتساوي يف القوة .
فعندما ذكر هنا تقديم النسخ ؛ فألنه هو االحتامل الوحيد القادر نفي التعارض يف حالة
التعارض الذي يتكلم عنه بركنه ورشطه عنده .فيأيت من ال حيسن فهم الكالم ،فينسب
للرسخيس أنه يقدم النسخ عىل اجلمع ،وهو ال يدري عن ماذا كان الرسخيس يتكلم !
12
فأما الوجه األول :وهو الطلب املخلص من نفس احلجة ،فبيانه من أوجه :
أحدها أن يكون أحد النصني ُمـح َكـ ًام واآلخر ُجم َم ًال أو ُمش ِك ًال :فإن هبذا ّ ُ
يتبني أن
ٍ
ظاهرا :فيصار إىل العمل باملحكم
ً موجود بني النصني ،وإن كان موجو ًدا التعار َض حقيق ًة ُ
غري ُ
دون املجمل والـ ُمشكِل .
وكذلك إن كان أحدمها نصا من الكتاب أو السنة املشهورة واآلخر خرب الواحد .
اآلخر».
وهذا كالم رصيح من الرسخيس بتقديم اجلمع عىل كل ما سواه ؛ ألنه رصح أنه ال ُيرتك
فرس نفي التعارض من نفس احلجة ،فإذا به نفي التعارض من نفس احلجة إال مع ت ُّ
َعذره ،ثم ّ
صور للجمع :
ٌ ورا ثال ًثا كلها
يذكر ُص ً
األوىل :محل املجمل واملشكِل عىل داللة املحكم ،وهذا هو اجلمع عينُه .
والثانية :قال فيه « :وكذلك إن كان أحدمها نصا من الكتاب أو السنة املشهورة واآلخر
توهم أنه ترجيح ،وليس كذلك ؛ ألنه حيتمل أن يكون مراده :محل
خرب الواحد» ،وهذا قد ُي ّ
داللة خرب الواحد عىل داللة النص من القرآن أو النص من السنة املشهورة ،ملا اجتمع يف نص
وهذا ما رصح به عالء الدين السمرقندي (ت539هـ) ،حيث قال عن طرق نفي
التعارض« :أما الذي يرجع إىل الركن :فبأن مل يكن بني الدليلني مماثلة ،كنص الكتاب واخلرب
13
املتواتر ،مع خرب الواحد والقياس ،أو خرب الواحد مع القياس ؛ ألن رشط قبول خرب الواحد
الس ِ
ار َق ُة َفاق َط ُعوا ار ُق َو َّ الس ِ
﴿و َّ
ثم قال الرسخيس « :وبيانه من الكتاب يف قوله تعاىل َ
ظاهرا ،
ً َأي ِد َ َُي َام﴾ ،وقوله تعاىل يف املستأمن ﴿ ُث َّم َأبلِغ ُه َمأ َمنَ ُه﴾ ،فإن التعارض يقع بني النصني
ولكن قوله ﴿ َفاق َط ُعوا َأي ِد َ َُي َام ﴾عام حيتمل اخلصوص فجعلنا قوله تعاىل ﴿ ُث َّم َأبلِغ ُه َمأ َمنَ ُه﴾ دليل
ومن السنة :قوله عليه السالم " :من نام عن صالة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ،فإن ذلك
عليه السالم " :فليصلها إذا ذكرها" ،بعرض التخصيص ،ف ُيجعل النص اآلخر دليل
وكذلك إن ظهر عمل الناس بأحد النصني ،دون اآلخر ؛ ألن الذي ظهر العمل به بني
رجح بدليل اإلمجاع ،فينتفي به معنى التعارض بينهام .مع أن الظاهر أن اتفاقهم عىل
الناس َت َّ
ً
ناسخا ملا كان قبله ،وبالعلم بالتاريخ ينتفي التعارض .فكذلك باإلمجاع العمل به لكونه ِّ
متأخ ًرا
الدال عليه .وإن كان املعمول به ساب ًقا :فذلك دليل عىل أن ِ
اآلخ َر ُم َؤ َّو ٌل أو سهو من بعض
( )1ميزان األصول للسمرقندي – حتقيق :د /عبد امللك السعدي – (.)964 /2
واجب بالنص .
ٌ ( )2أي لو رسق املستأمن ال نقطع يده ؛ ألن اإلبالغ إىل مأمنه
14
ُ
فناسخه يشتهر بعده .أيضا كام اشتهر الرواة ،إن كان يف األخبار ؛ ألن املنسوخ إذا اشتهر :
حتريم املتعة بعد اإلباحة ،واشتهر إباحة زيارة القبور ،وإمساك حلوم األضاحي ،والَّشب يف
األواين ،بعد النهي .ولو اشتهر الناسخ :ملا أمجعوا عىل العمل بخالفه .فبهذا الطريق تنتفي
املعارضة»(.)1
وهكذا جيعل الرسخيس اجلمع بالتخصيص مقدَّ ما يف املثالني األولني ،وأما يف النصني
اللذين مع أحدمها اإلمجاع ،فيجعل اإلمجاع دليال عىل النسخ ؛ ألن التعارض يف األصل عنده
هو التعارض احلقيقي ،لذلك جعل اإلمجاع داال عىل وجود ناسخ .وأكّد هذا املعنى ،عندما
فقر َر أن ِّ
املتأخ َر اإلمجاع عىل العمل باملتقدِّ م منهام ّ :
ُ أورد صورة احلديثني املتعارضني اللذين انعقد
يف هذه احلالة ُيعدّ مرصو ًفا عن ظاهره بالتأويل ،أو أنه خطأ من الراوي ،وبذلك ينتفي
ثم مل يذكر الرسخيس يف هذا الباب شي ًئا يدل عىل تقديم النسخ أو الرتجيح مطلقا عىل
ويف موضع آخر يقول الرسخيس « :فأما إذا اختلف الراوي :فقد ُعلم أهنام خربان ،وأن
النبي عليه السالم إنام قال كل واحد منهام يف ٍ
وقت آخر :فيجب العمل هبام عند اإلمكان ،كام
وبيان هذا :فيام روي أن النبي عليه السالم هنى عن بيع الطعام قبل القبض ،وقال ل َع ّتاب
بن َأ ِسيد ☺ " :اهنهم عن أربعة :عن بيع ما مل يقبضوا" .فإنا نعمل باحلديثني ،وال نجعل املطلق
15
منهام حمموال عىل املقيد بالطعام ،حتى ال جيوز بيع سائر ال َعروض قبل القبض ،كام ال جيوز بيع
الطعام»(.)1
وتنبه إىل قوله « :فقد ُعلم أهنام خربان» ،فهو هنا يتكلم عن ُحكم اخلربين املتعارضني
ظاهر ًّيا عند احلنفية «:كام هو مذهبنا » ،ثم يقول عن هذين اخلربين « :فيجب العمل هبام عند
اإلمكان» ،وهذا هو اجلمع ،وهذه هي حجة تقديمه (العمل بالدليلني أوىل من إمهال أحدمها)،
فخرجنا من ذلك :أن الرسخيس يقدم اجلمع ،ثم النسخ إن ُعلم املتأخر من املتقدم (بأحد
دالالت العلم :من التاريخ وغريه) ،ثم الرتجيح .وهذا يوافق اجلمهور يف ترتيب منازل ّ
حل
فإذا ارتقينا إىل شيخ أصول احلنفية :أيب بكر اجلصاص – أمحد بن عيل الرازي –
واملتخرج به -
ِّ (ت370هـ) ،فنجده نقل عن عيسى بن أبان – تلميذ حممد بن احلسن الشيباين
(ت221هـ) أنه قال عن احلديثني املتعارضني « :وإن كان أحدمها متقدِّ ًما عىل اآلخر ،والناس
16
فهنا يرصح عيسى بن أبان بتقديم اجلمع عىل النسخ ،وأنه ال ُيصار إىل النسخ إال عند عدم
ووافقه اجلصاص عىل هذا التقرير ،فقال شارحا له « :وأما إذا كان أحدمها متقدما عىل
عليه ،ومل يسقط أحدمها باآلخر ،مع إمكان االستعامل ،وداللة األصول عليه.
-وأما إذا مل حيتمال املوافقة :فإن اآلخر منهام يكون ناسخا األول ،ألن احلكم اآلخر
ثابت؛ إذ ليس لألول مزية عليه يف ثبوته دونه ،ويف ثبوت اآلخر نفي األول»(.)1
ثم ال جتد يف بقية الفصل عند اجلصاص ذكرا لرتتيب يوجب تقديم النسخ أو الرتجيح عىل
النسخ(.)2
فخرجنا أن عيسى بن أبان وأبا بكر اجلصاص كليهام موافقان للجمهور يف ترتيب منازل
17
وبعد اجلصاص نقف مع أيب زيد الدَّ ُبويس – ُعبيد اهلل بن ُعمر – (ت430هـ) ،فنجده يقرر
أوال أن املعارضة التي يتحدث عنها هي التي ال تقبل اجلمع أصال ،فيقول « :أما املعارضة
فتفسريها :املامنعة عىل سبيل املقابلة ،يقال :عرض يل أمر ،أي استقبلني فمنعني.
وسميت املعارضة بني احلجج معارضة :ألهنا تقوم متقابِل ًة متامنِع ًة ،ال يمكن اجلمع بينهام.
أما رشط املعارضة :فاجتامع احلجتني املتدافعتني بإجياب كل واحدة منهام ضد األخرى ،
يف حمل واحد ،ووقت واحد كالتحليل والتحريم واإلثبات والنفي ،ومها متساويتان يف القوة ؛
كالمه هذا ِذك َر احتامل (اجلمع) -يف هذا السياق -سيكون السبب معلوما ،وأنه ليس من أجل
وقط ال تثبت بني احلجج الثابتة يقينًا ؛ ألن التعارض بني آيتني أو ُسنتني ال
إىل أن قال ُّ « :
ً
منسوخا به ،فتكون ً
ناسخا لألول ،واألول يثبت ؛ إال بحيث لو ُعلم تارخيهام :لكان ِ
اآلخر
الثابتة إحدامها ؛ إال أنا جهلنا ِ
اآلخر ،فيثبت التعارض»(.)2
( )1تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس – حتقيق :د /عبد الرحيم يعقوب – (/2
.)332 -331
( )2تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس – حتقيق :د /عبد الرحيم يعقوب – (/2
.)333
18
وهذا كالم رصيح يف سبب ذكره النسخ دون غريه من املنازل .
ثم نجد الدبويس – بعد قليل -يقرر أن أول ما جيب السعي إليه عند التعارض هو نفي
التعارض ببيان عدم تعارض احلكم ،ورضب مثال بمسألة اليمني الغموس التي سبق ذكرها يف
ثم رصح أن اخلطوة الثانية هي :اجلمع ببيان اختالف احلال بني احلديثني ،وهو مجع
أيضا(.)1
ً
آخرمها أوىل؛ ثم قال « :فإن مل يوجد ذلك :وجب التخ ُّل ُ
ص بالتاريخ ،إن ُعرف ،ف ُيجعل ُ
ملا ذكرنا أن املعارضة إنام تثبت إذا كان ِ
اآلخر مما ينسخ األول ،فإذا ُعرف الناسخ :بطلت
املعارضة»(.)2
وبعد أن ذكر الدبويس طرق إثبات النسخ ،قال « :فإن مل ُيمكن :قامت املعارضة .وإن
( )1تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس – حتقيق :د /عبد الرحيم يعقوب – (/2
.)345 -343
( )2تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس (.)346 /2
( )3تقويم أصول الفقه وحتديد أدلة الَّشع أليب زيد الدبويس (.)348 /2
19
وهكذا يكون الدبويس عىل رأي اجلمهور يف تقديم اجلمع عىل النسخ ،وتقديم النسخ عىل
الرتجيح ،وأن الرتجيح آخر منازل ّ
حل التعارض .
لننتقل إىل أيب احلسني البرصي املعتزيل – حممد بن عيل بن الطيب – (ت436هـ) ،ومل أجد
أحدً ا من فقهاء املذاهب األربعة ا ّدعاه يف فقهاء مذهبهم ؛ إال احلنفية ،فقد ذكره القريش
(ت775هـ)( ،)1ومال عيل القاري (ت1014هـ)( ،)2وحممد حفظ الرمحن بن حمب الرمحن
ال ُكمالين (معارص)()3يف طبقات فقهاء املذهب احلنفي .فإن صح كونه حنف ًّيا ،فكالمه يف بيان
ِ
وخمالفة ما ُنسب إىل احلنفية! قاطع بموافقة اجلمهور منازل حل التعارض
ٌ
20
خاصني ،أو عا َمني ،أو أحدمها خاص واآلخر عام .
فان كانا معلومني( : )1فإما ان يكونا ّ
خاصا من
فإن كانا عا ّمني :فإما أن يكونا عا ّمني من كل وجه ،أو كل واحد منهام عا ًّما من وجه ًّ
وجه :
خاصني عىل اإلطالق ،أو عا ّمني عىل اإلطالق ،و ُعرف التأريخ فيهام :قضينا
-وإن كانا ّ
بنسخ املتأخر منهام للمتقدم .
-فان مل ُيعرف التأريخ فيهام :فإن أمكن التخيري فيهام ُ ،فعل ذلك .
-وإن مل يمكن التخيري فيهام ،أو أمكن ذلك لكن األمة منعت منه :حكمنا بأن التعبد
فيهام بالنسخ عند من عرف التأريخ ،وأن التعبد علينا هو بالرجوع إىل مقتىض العقل؛
ألنه ليس أحدمها أوىل من اآلخر .وال جيوز ترجيح أحدمها عىل اآلخر بام يرجع إىل
إسناده ؛ ألن الرتجيح بذلك يقتيض قوة الظن لثبوت أحدمها ،وليس واحدٌ منهام
مظنو ًنا فيقوى ظننا له .وجيوز أن ُيقال :إن التعبد علينا بأحدمها َيق َوى بام يرجع إىل
صفة احلكم ،نحو :احلظر والوجوب()3؛ ألن ذلك ليس يقتيض قوة الظن لثبوت اخلرب،
وإنام يقتيض التعبد ،والتعبد عند التعارض قد يدخل الظن يف رشائطه .
( )1من هنا كالمه عن املتعارضني القطعيني ،إىل قوله « :وقوله ﴿ َو ُأ ِح َّل َل ُكم َما َو َرا َء َذلِ ُكم ﴾».
مجع قدّ مه عىل النسخ والرتجيح ،ومل يشرتط للقول به عدم العلم بالتاريخ .
( )2هذا ٌ
( )3يعني األخذ باألحوط تع ُّبدً ا .
21
ختصيص أحدمها باآلخر
ُ وإن كان كل واحد منهام خاصا من وجه عاما من وجه :فليس
وإن كانا مظنونني ُ :قيض باخلاص منهام ،إن كان فيهام خاص ،وإن مل يكن ُ :ر ِّجح أحدمها
و ُيقال أيضا يف قسمة األخبار املتعارضة :أن اخلربين إذا تعارضا :فإما أن ُيمكن اجلمع
فإن أمكن :فإما أن يمكن اجلمع بينهام يف وقت واحد ،أو يف وقتني .أما يف وقت واحد :
فبأن ُحيمل أحدمها ملكان اآلخر عىل جماز ،إما بالتخصيص وإما بغريه .وأما يف وقتني :فبأن
ُيعلم َتقدُّ ُم أحدمها بعينه عىل اآلخر :فيكون منسوخا بام تأخر عنه(.)4
22
وأما ما ال يمكن اجلمع بينهام :فإما أن ال يمكن ألنفسهام ،أو ألمر اقرتان هبام :
فام ال يمكن ألمر اقرتن هبام :فهو أن يمكن تأويل أحدمها باآلخر ،لكن األمة منعت من
ذلك .كرواية ابن عباس ☺ " :ال ربا إال يف النسيئة" ،يمكن ختصيصه يف اجلنسني املختلفني
بخرب أيب سعيد ،لكن السلف عىل قولني :أكثرهم تركه وصار إىل رواية أيب سعيد ،واألقل أخذ
به .
-منها أن يكون حكم أحدمها نفيا حلكم اآلخر ،أو حكم أحدمها ضدا حلكم اآلخر .
-ومنها أن يتعلق كل واحد منهام بام تعلق به اآلخر عىل احلد الذي تعلق به اآلخر يف
الوقت الذي تعلق به اآلخر ،وال يكون أحدمها خاصا واآلخر عاما ،بل يكونان
خاصني أو عامني ،أو كل واحد منهام خاصا من وجه عاما من وجه :فال يكون أحدمها
ومتى تعارضا هذا التعارض ُ :ر ِّجح بينهام ،و ُعمل عىل الرتجيح .
!
( )1أي ف ُيعجز عن القول بالنسخ .
23
إن قيل :كيف يثبت التنايف يف األخبار ،وليس يف األلفاظ إال ما يمكن تأويله عىل موافقة
غريه ؟ قيل :قد يكون يف األلفاظ ما ال يمكن ذلك فيه ؛ إال بالتعسف الشديد يف التأويل ،ومثل
-1اجلمع ،دون اشرتاط َت َع ُّذر القول بالنسخ لعدم العلم بالتاريخ .
-3الرتجيح :وأنه ال ُيصار إليه إال مع العجز عن اجلمع والنسخ كليهام .
قر ُره عامل ٌ ن ََس َب ُه احلنفي ُة إىل مذهبهم . وهذا هو عينه ُ
قول اجلمهور ُ ،ي ِّ
ومن رشاح احلديث من احلنفية :يقول ُم ُغلطاي بن قليج احلنفي (ت762هـ) عن رشط
عار ِضه»(.)2
ُم ِ
24
ويقول صدر الَّشيعة املحبويب ُ -عبيد اهلل بن مسعود بن حممود البخاري – (ت747هـ)
يف رشح باب (املعارضة والرتجيح) « :إذا ورد دليالن يقتيض أحدهم عد َم ما يقتضيه اآلخر ،
وهذه بداية رصحية عن أنه يتحدث عن تعارض حقيقي ال يمكن فيه اجلمع ،ولذلك رشح
السعد التفتازاين – مسعود بن عمر الشافعي – (ت793هـ) هذا الكالم بقوله « :وتعارض
ٍ
زمان واآلخر انتفاءه ،يف ٍّ
حمل واحد ، ،يف الدليلني :كوهنام بحيث يقتيض أحدمها ثبوت ٍ
أمر
ُ
واحد ،بَّشط تساوَيام يف القوة ،أو زيادة أحدمها بوصف هو تابع .
وباحتاد الزمان :عن مثل حل وطء املنكوحة قبل احليض ،وحرمته عند احليض .
وبالقيد األخري :عام إذا كان أحدُ مها أقوى بالذات :كالنص والقياس ؛ إذ ال تعارض بينهام.
ولقائل أن يقول :إن أريد اقتضاء أحدمها عد َم ما يقتضيه اآلخر بعينه ،حتى يكون اإلجياب
وار ًدا عىل ما ورد عليه النفي ،فال حاجة إىل اشرتاط احتاد املحل والزمان ؛ لتغاير حل املنكوحة
وحل ُأ ّمها ،وكذا احلال قبل احليض وعنده ،وإال ..فال بد من اشرتاط ٍ
أمور ُأ َخر :مثل احتاد ّ
( )1التلويح إىل كشف حقائق التنقيح للتفتازاين (.)216 -215 /2
25
وهذا كال ٌم رصيح يف بيان مقصودهم من التعارض الذي ُيقدَّ م فيه الرتجيح ،وهو
التعارض احلقيقي الذي ال ُيمكن فيه اجلمع .ورصيح أن اجلمع باختالف املحل والزمان يدفع
ثم قال صدر الَّشيعة املحبويب « :فإن تساويا قوة ،أو يكون أحدمها أقوى بوصف هو
تابع( : )1فبينهام املعارضة ،والقوة املذكورة رجحان .وإن كان أقوى بام هو غري تابع :ال يسمى
رجحانا ،فال يقال النص راجح عىل القياس ( ...إىل أن قال) واعلم أن األقسام ثالثة:
األول :أن يكون أحد الدليلني أقوى من اآلخر ،بام هو غري تابع :كالنص مع القياس.
والثاين :أن يكون أحدمها أقوى بوصف ،بام هو تابع ،كام يف خرب الواحد الذي يرويه عدل
(« )1الرجحان :يكون بزيادة وصف عىل وجه ال تقوم به املامثلة ،وال ينعدم بظهوره أصل املعارضة .وهلذا
ال تسمى زيادة درهم عىل العَّشة يف أحد اجلانبني رجحانا ؛ ألن املامثلة تقوم به أصال .وتسمى زيادة
احلبة ونحوها رجحانا ألن املامثلة ال تقوم هبا عادة» .هذه عبارة الرسخيس يف أصوله (-249 /2
.)250
وقد رضب صدر الَّشيعة للوصف التابع مثاال :بخرب الواحد الذي يرويه عدل فقيه مع خرب الواحد
الذي يرويه عدل غري فقيه.
26
ففي القسمني األولني :العمل باألقوى وترك اآلخر واجب ،وأما الثالث :فيأيت حكمه
ِ
والسنة السن َة ُ :حيمل ذلك عىل نسخ أحدمها الكتاب ِ
الكتاب هنا ( ...إىل أن قال ) يف معارضة
َ
اآلخر ؛ إذ ال تناقض بني أدلة الَّشع؛ ألنه دليل اجلهل .
واعلم أن يف الكتاب والسنة حقيقة التعارض غري متحققة ألنه إنام يتحقق التعارض إذا
احتد زمان ورودمها ،وال شك أن الشارع تعاىل وتقدس منزه عن تنزيل دليلني متناقضني يف زمان
واحد ،بل ينزل أحدمها ساب ًقا ،واآلخر متأخرا ناسخا لألول ،لكنا ملا جهلنا املتقدم واملتأخر
تومهنا التعارض ،لكن يف الواقع ال تعارض .فقوله :حيمل ذلك اإلشارة ترجع إىل التعارض
واملراد صورة التعارض( ، )1وهي ورود دليلني يقتيض أحدمها عدم ما يقتضيه اآلخر.
فإن ُعلم التاريخ -جواب لَّشط حمذوف -أي :يكون املتأخر ناسخا للمتقدم ،وإال
يطلب املخلص ،أي ُتدفع املعارضة وجيمع بينهام ما أمكن ،ويسمى عمال بالشبهني ،فإن تيرس
فيها :وإال ُيرتك ،و ُيصار من الكتاب إىل السنة ،ومنها إىل القياس وأقوال الصحابة ♥ ،إن
وبمثل هذا النص ُظنت خمالف ُة احلنفية للجمهور ،دون مراعاة سياق كالمه ،الذي يفرتض
تعارض حقيقي ،فلن يكون اجلمع فيه إال أضعف من النسخ املعتمد عىل معرفة
ٌ يف التعارض أنه
التاريخ أو الرتجيح .ولذلك سيكون حل التعارض بالنسخ (إن ُعلم التاريخ) أوجه من ذلك
واقع وحقيقي) ،وإنام بأنه اجلمع ؛ ألنه َمن ََع التنا ُق َض ال بدعوى عدم التعارض (وهو ت ُ
َعار ٌض ٌ
مة من ِح َك ِم النسخ .أو سيكون حل التعارض بالرتجيح ،إن أمكن ؛ ألن
تعارض مقصود ِحلك ٍ
ٌ ٌ
قاطع
ٌ فإن قيل :من أين جئت بأنه التعارض حقيقي واجلمع ضعيف ؟ قلت :السياق كله
بذلك ،وأن الكالم عن تعارض حقيقي يتّحد يف املحل والزمن ،كام سبق .ويف مثل هذا السياق
لن يكون اجلمع مج ًعا قويا باختالف املحل أو باختالف الزمن ،وإنام سيكون مج ًعا فيه ضعف
وأعود وأذكِّر بقول صدر الَّشيعة السابق « :واعلم أن يف الكتاب والسنة حقيقة التعارض
غري متحققة ألنه إنام يتحقق التعارض إذا احتد زمان ورودمها ،وال شك أن الشارع تعاىل وتقدس
منزه عن تنزيل دليلني متناقضني يف زمان واحد ،بل ينزل أحدمها ساب ًقا ،واآلخر متأخرا ناسخا
لألول ،لكنا ملا جهلنا املتقدم واملتأخر تومهنا التعارض ،لكن يف الواقع ال تعارض .فقوله:
ويؤكد ذلك :أن صدر الَّشيعة يرصح أنه عند قوة اجلمع ،وعند اتضاح أن التعارض غري
حقيقي :فاجلمع عنده هو الواجب ،ولذلك يقول بعد كالمه السابق « :وهو -أي التعارض-
يف الكتاب والسنة :إما بني آيتني ،أو قراءتني ،أو سنتني ،أو آية ،أو سنة مشهورة .
28
ُق ُلوب ُكم﴾ويف موضع آخر﴿ :و َلكِن ي َؤ ِ
اخ ُذ ُكم بِ َام َع َّقد ُت ُم األَي َام َن َف َك َّف َار ُت ُه ﴾ ،»...وذكر املثل ُ َ ُ
كرره أ كثر من إمام من أئمة احلنفية ،وبينا أنه صورة من صور اجلمع .وهو ما رصح به
الذي ّ
حيا لفظيا ( بلقب اجلمع) ،حيث قال يف بيانه « :فوقع التعارض ،فجمعنا
صدر الَّشيعة ترص ً
بينهام :بأن املراد من املؤاخذة يف األوىل يف اآلخرة ،بدليل اقرتانه بكسب القلب .ويف الثانية يف
ثم مل يرض صدر الَّشيعة هبذا اجلمع ،فذكر مج ًعا آخر ،فقال « :وأقول ال تعارض هنا ،
واللغو يف الصورتني واحد ،وهو ضد الكسب؛ ألنه ال يليق من الشارع أن يقول :ال يؤاخذكم
اهلل تعاىل بالغموس .واملؤاخذة يف الصورتني يف اآلخرة ،لكن يف الثانية سكت عن الغموس،
وذكر املنعقدة واللغو ،وقال :اإلثم الذي يف املنعقدة ُيسرت بالكفارة ،ال أن املراد املؤاخذة يف
واللغو يف اآليتني واحد ،وهو السهو .أما يف اآلية األوىل :فبدليل اقرتانه بكسب القلب،
وأما يف اآلية الثانية :فألنه ال يليق من الشارع أن يقول :ال يؤاخذكم اهلل بالقول اخلايل عن
الفائدة الذي يدع الديار بالقع ،أعني اليمني الفاجرة .بل الالئق أن يقول :ال يؤاخذكم اهلل
وقولهَ ﴿ :ف َك َّف َار ُت ُه ﴾ ال يدل عىل أن املراد املؤاخذة الدنيوية؛ ألن معنى الكفارة ِّ
الستارة ،
أي :اإلثم احلاصل باملنعقدة يسرت بالكفارة .واآلية الثانية :دلت عىل عدم املؤاخذة يف اليمني
السهو ،وعىل املؤاخذة يف املنعقدة ،وهي ساكتة عن الغموس .فاندفع التعارض ،وثبت احلكم
29
وهذا مجع رصيح ،مع إمكان حتديد التاريخ ،كام بيناه آنفا ،يرصح به صدر الَّشيعة
املحبويب .
ثم يذكر صدر الَّشيعة حال آخر للتعارض ،وهو ببيان اختالف املحل ،فيقول « :وأما
﴿و َال
الثاين( : )1وهو املخلص من قبل املحل :فبأن ُحيمل عىل تغاير املحل ،كقوله تعاىلَ :
وه َّن َحتَّى َيط ُهر َن﴾ :بالتشديد والتخفيف( .)2فبالتخفيف :يوجب احلل بعد الطهر ،قبل
تَق َر ُب ُ
االغتسال .وبالتشديد :يوجب احلرمة قبل االغتسال .فحملنا املخ َّفف عىل العَّشة ،واملشدد
عىل األقل .وإنام مل ُحيمل عىل العكس؛ ألهنا إذا طهرت لعَّشة أيام :حصلت الطهارة الكاملة ،
لعدم احتامل العود ،وإذا طهرت ألقل منها :حيتمل العود ،فلم حتصل الطهارة الكاملة ،فاحتيج
ِ
اختالف الزمان :يكون رصيح وأما الثالث :أي املخلص من قبل الزمان ؛ فإنه إذا كان
َ
الثاين ناسخا لألول»(.)3
وال ختتلف عموم كتب األصول احلنفية يف نحو هذا التقرير :كـ(املنار) أليب الربكات
النسفي (ت710هـ)(.)4
30
املنسوب إىل احلنفية يف ترتيب منازل حل
َ ظاهره
ُ وجدت كال َمه يوافق
ُ وأما أكثر من
التعارض :فهو العالم ُة احلنفي ابن اهلامم – حممد بن عبد الواحد بن عبد احلميد( -ت861هـ)،
حيث قال يف كتابه (التحرير) يف باب التعارض « :إذ ُحك ُمه :النسخ ،إن ُعلم ِّ
املتأخر .وإال :
وتابعه ُرشاح (التحرير) :كمحمد بن أمري حاج -حممد بن حممد بن حممد بن حسن احللبي
( -ت879هـ)( ،)2وأمري بادشاه -حممد أمني بن حممود البخاري نزيل مكة – (تويف نحو سنة
972هـ)(.)3
وقال العالمة ال َبهاري احلنفي – حمب اهلل بن عبد الشكور اهلندي – (ت1119هـ) :
الـح َّجت ِ
َني ،وال يكون يف نفس األمر ؛ وإال لزم التناقض قط ًعا أو ظنًّا(.)4 «التعارض :وهو تدافع ُ
الصدّ يقي (1130هـ) – (ت970هـ) ( ،)231-220 /2ونور األنوار رشح رسالة املنار ّ
ملال جيون ّ
مكتبة البَّشى :كراتيش ،)572 -551 /1( -ورشح سمت الوصول إىل علم األصول – وسمت
الوصول هو خمترص املنار – حلسن بن طرخان اآلق ِحصاري البوسنوي (1025هـ) (.)288 -284
( )1التحرير البن اهلامم (.)362
( )2التقرير والتحبري يف رشح كتاب التحرير البن أمري حاج (.)3 /3
( )3تيسري التحرير ألمري بادشاه (.)137 -136 /3
للمس َّلم :
( )4قال اللكنوي -عبد العيل حممد بن نظام الدين األنصاري اهلندي – (ت1225هـ) يف رشحه َ
«(قطعا) :كام إذا كان احلجتان مقطوعتني ( ،أو ظنا) كام إذا كانتا مظنونتني» .فواتح الرمحوت (/2
.)243
31
فتجويزه يف ال َّظـنِّـ َّي ِ
ني فقط – كام يف املخترص(َ – )1حتكُّم( .)2أقول :إال أن جيوز ُ ظاهرا ،
ً بل ُيت ََص َّو ُر
وحكمه :
ُ
ُ
النسخ ،إن ُعلم املتقدِّ م . -
32
-وإن مل ُيمكن :تساقطا»(.)1
هذان النقالن مها غالبا عمدة املتأخرين واملعارصين يف توهم اختالف منهج احلنفية عن
اجلمهور يف ترتيب منازل ّ
حل التعارض( ،)2دون التفات ملا سبق نقله ،ودون حماولة تفهم منطلق
( )1الـ ُم َس َّل ُم – املشهور بمس ّلم ال ُثبوت -لل َبهاري – املطبعة احلسينية ،)152 /2( -وفواتح الرمحوت
رشح مسلم الثبوت للكنوي األنصاري (.)243 /2
تنبيه :اسم كتاب البهاري هو (املس َّلم) ،وليس (مس َّلم الثبوت) ،كام رصح بذلك يف مقدمته حيث قال
« :وسميته (املس ّلم) ،سلمه اهلل عن الطرح واجلرح ،وجعله موجبا للرسور والفرح ،ثم أهلمني مالك
امللكوت أن تارخيه (مس ّلم الثبوت)»( .صـ .)3فـ(مس ّلم الثبوت) هو تاريخ تصنيف الكتاب ،وأنه
الـج َّمل :
صنفه سنة 1109هـ ،عىل طريقة حساب احلروف املسمى بحساب ُ
33
املعرب عن منهج املذهب احلنفي فعال ؟ وهل يف تقرير أئمة احلنفية
هذه العبارات ،وهل هي ِّ
و ُأصول ِّييهم ما خيالفها ؟ فإن ُوجد :فام هو املعتمد ؟
وفيام ييل سوف أذكر تقرير بعض األئمة من فقهاء وأصوليي اجلمهور ،ل ُيعلم أن هلم تقريرا
يشبه ما نقلناه عن ابن اهلامم والبهاري من احلنفية ! مما يستدعي إعادة النظر يف بعض املفهوم من
.)176
-4ضوابط الرتجيح عند وقوع التعارض :لبنيونس الويل – أضواء السلف :الرياض -223( -
.)228
-5منهج التوفيق والرتجيح للدكتور عبد املجيد السوسوة – دار النفائس :عَامن -115( -
.)116
-6الرتجيح بني األخبار للدكتور حممد الشتيوي – مكتبة حسن العرصية :بريوت-123( -
.)124
-7منهج اإلمام الطحاوي يف دفع التعارض بني النصوص الَّشعية من خالل كتابه رشح مشكل
اآلثار :للدكتور حسن بن عبد احلميد بخاري .رسالة ماجستري مقدمة إىل كلية الَّشيعة يف
جامعة أم القرى ،سنة 1422هـ – (.)107
-8خمتلف احلديث وأثره يف أحكام احلدود والعقوبات :للدكتور طارق الطواري – دار ابن
حزم :بريوت .)382( -
-9خمتلف احلديث وجهود املحدثني فيه :للدكتور اهلادي روشو التونيس – دار ابن حزم :
بريوت – (.)269 ،254 -252
-10خمتلف احلديث بني الفقهاء واملحدثني :للدكتور نافذ محاد – دار الوفاء – (،)137 -136
لكنه ذكر اخلالف بني احلنفية يف ذلك (.)138
34
وأبدأ أوال :بإمام احلرمني أيب املعايل اجلويني (ت478هـ) ،لتقدمه يف الصنعة األصولية
فأما األلفاظ :فتنقسم إىل النصوص التي ال تقبل التأويل ،وإىل الظواهر.
فأما النصوص :فتنقسم إىل ما ُينقل قط ًعا ،واستوت يف النقل .ويلتحق هبذا القسم :ما
ُينقل من غري قط ٍع ،ولكن تستوي النصوص يف طريق النقل من غري ترجيح آيل إىل الثقة
فاملتأخ ُر َي ُ
نسخ املتقدِّ َم ، ِّ مسألة :إذا تعارض نصان عىل الَّشط الذي ذكرناه ،و َت َأ َّر َخا :
فاجلويني هنا عندما َقدَّ َم النسخ ،ومنع من الرتجيح ؛ فألنه يتكلم عن َّ
نصني قطعيي الداللة
فال حيتمالن اجلمع ،وعن نصني متساويني يف القوة :فال حيتمالن الرتجيح .ومل يقدم النسخ
ألنه مذهبه تقديم النسخ عىل الرتجيح ،كام قيل يف تقرير متأخري احلنفية ممن مجعوا بني طريقتهم
وهذا اإلمام الغزايل (ت505هـ) يقول « :اعلم أن التعارض هو التناقض .فإن كان يف
خربين :فأحدمها كذب ،والكذب حمال عىل اهلل ورسوله .وإن كان يف حكمني ،من أمر وهني،
35
وحظر وإباحة :فاجلمع تكليف حمال .فإما أن يكون أحدمها كذبا ،أو يكون متأخرا ناسخا ،
أو أمكن اجلمع بينهام بالتنزيل عىل حالتني ،كام إذا قال النبي ^ " :الصالة واجبة عىل أمتي
الصالة" " :غري واجبة عىل أمتي" ،فنقول :أراد باألول املكلفني ،وأراد بالثاين الصبيان
واملجانني ،أو يف حالتي العجز والقدرة ،أو يف زمن دون زمن .
فاإلمام الغزايل يورد الكالم عن التعارض يف الدالالت القطعية ،ولذلك يرصح بأن اجلمع
-أو باجلمع بينهام مج ًعا ضعي ًفا ال دليل عليه ؛ إال كونه مع ضعفه وعدم قيام اللفظ عىل
إثباته بأدنى درجات الداللة كـ"الصالة واجبة عىل أمتي الصالة" " :غري واجبة عىل
مساق االحتامالت املتساوية ،معطوفة عىل بعضها بـ(أو) الدالة عىل التخيري .
36
رجحنا ،وأخذنا
إىل أن قال الغزايل « :وإن عجزنا عن اجلمع ،وعن معرفة املتقدم واملتأخر ّ :
باألقوى» ،فهنا بدأ الرتتيب ،وهو يقطع بتأخري الرتجيح عن اجلمع وعن النسخ ،وال يقطع
بالرتتيب بني اجلمع والنسخ ،وإن كان ُيلمح بتقديم اجلمع ،لتقديمه يف الذكر .
تكليف
ٌ فإن قيل :كيف ُيورد احتامل اجلمع ،وهو نفسه يصف اجلمع يف هذه احلالة بأنه
بمحال ؟!
فاجلواب :يقصد باجلمع املحال :اجلمع الذي ينفي وجود التعارض ،فهذا حمال مع فرض
املسألة يف الداللتني املتناقضتني .أما اجلمع الذي يقر بالتناقض يف لفظ اخلربين ،ولكنه ينفيه
عنهام يف نفس األمر ،ببيان ٍ
وجه ُيمكن أن ُحيمل عليه ،بام يوافق أصول الَّشع = فمثل هذا
اجلمع ممكن .من مثل مجعه بني « :الصالة واجبة عىل أمتي الصالة» « :غري واجبة عىل أمتي»،
بأنه :
فمثل هذا اجلمع مل ينف التناقض عن اللفظ ،لكنه منع من كون التناقض واق ًعا يف نفس
النص عن التكا ُذ ِ
ب ،لكنه مل ينف التعارض عن اللفظ . اجلمع َّ
ُ فنزه هذا
األمر ّ ،
أضعف يف دفع التكاذب من القول بالنسخ عند معرفة التاريخ ،فلو ُقدِّ م النسخ عليه ،يف هذه
َ
37
-أن علة تقديم اجلمع عند اجلمهور هي أن العمل بكال احلديثني أوىل من إمهال أحدمها
،وهذا اجلمع الذي ال جيمع بني املدلوالت ال يتيح العمل بكال احلديثني ،بل هو
يتجاوز اللفظني إىل تقرير معنى تقره أدلة الَّشع وقواعده .
معنى ال تؤيده الرواية :ال بداللة منطوق وال مفهوم ،وال بإشارة أو إيامءة .
oأنه جعل الَّشع هو من نفى التكاذب ،بأنه نسخ ما كان صدر عنه .وهذا أقوى
وهبذا لو عدنا إىل كالم ابن اهلامم والبهاري ألمكننا توجيهه بنحو هذا التوجيه .
وأخريا :هذا تاج الدين السبكي (ت771هـ) يقول يف باب التعادل والرتاجيح« :يمتنع
ً
تعادل القاطعني ،وكذا يف األمارتني يف نفس األمر عىل الصحيح .فإن ُت ُو ِّهم التعادل :
-فالتخيري .
38
-أو التخيري يف الواجبات والتساقط يف غريها»(.)1
اجلمهور ،من تقديم اجلمع ،ثم القول بالنسخ عند العلم بالتاريخ ،فإن مل ُيعلم التاريخ ومل
يكونا مقرتنني ُرجع إىل غريمها ،فإن اقرتنا ُر ّجح بينهام ،فإن عجز عن الرتجيح :فالتخيري
بينهام(.)2
وهذا كله نموذج ألكثر كتب األصول عند بحثها مسألة التعارض(: )3
-ثم تتحدث عن التعارض التام يف نظر املجتهد الذي ال يمكن فيه :اجلمع احلقيقي ،
وال العلم املؤكد بالنسخ ،وال يمكن الرتجيح للتكافؤ يف القوة من كل وجه .فإذا
ذكرت النسخ يف هذا السياق ،فهو احتامل قائم عىل معرفة التاريخ فقط ،وإنام صح
االلتفات إليه ّ
كحل ألنه أوىل من التعارض التام .وإذا ذكرت اجلمع :فهو اجلمع الذي
( )1مجع اجلوامع – مع البدر الطالع للجالل املحيل – ( ،)339-338 /2ومع حاشية العطار عىل رشح
املحيل (.)402 -400 /2
( )2مجع اجلوامع – مع البدر الطالع للجالل املحيل – ( ،)347 -344 /2ومع حاشية العطار عىل رشح
املحيل (.)406 -405 /2
( )3انظر مع املصادر التي سبق العزو إليها :التقريب واإلرشاد للباقالين ( ،)264 -263 /3واملحصول
للرازي ( ،)387 -380 /5وهناية الوصول يف دراية األصول لصفي الدين اهلندي (-3665 /8
،)3673وحتفة املسؤول يف رشح خمترص منتهى السول للرهوين ( ،)333 -304 /4وحترير املنقول
للمردواي ( )385 -374ورشحه التحبري (.)4146 -4128 /8
39
ال يبني كيفية استنباط املعنى الذي ينفي التعارض من اللفظ ،وإنام هو مجع يقوم عىل
منع التهاتر بني النصني فقط .وإن ُذكر الرتجيح :فهو ترجيح بأمور خارجية عن
الدليلني املتعارضني :كموافقة األصول ،فهو احتجاج باألصول يف احلقيقة ،به تم
خالفا اصطالحيا بني احلنفية واجلمهور يف مفهوم النسخ ،يتضح من كون التخصيص والتقييد
النص ،والزيادة عىل النص ٌ
نسخ .وهذا ِّ
املتأخ َرين عن العموم واإلطالق عند احلنفية زياد ًة عىل ّ
يعني أن بعض أهم صور اجلمع (وهو التخصيص والتقييد) عند اجلمهور ،سيعده احلنفية ً
نسخا
،وهو عند اجلمهور مجع .ومع وجود خالف حقيقي يف هذا االختالف ،منه :عدم قبول
ختصيص القطعي بالظني وتقييده به ؛ إال أنه من جهة ّ
حل إشكال التعارض بالتقييد
والتخصيص مل يعد هناك ٌ
فرق بني تسميته ً
نسخا أو مج ًعا.
وحتى نستوضح تقرير ابن اهلامم بصورة أكثر تفصيال ،سنلقي الضوء عىل حكم تقييد
قال ابن اهلامم « :مسأل ٌة :إذا اختلف ُحكم مط َل ٍق و ُمق َّي ِده :مل ُحيمل إال رضورة( ،)1كـ"أعتق
( )1كأن يمتنع العمل باملطلق مع العمل باملقيد بدون احلمل املذكور .
وهذه هي احلالة األوىل حلمل املطلق عىل املق َّيد .
40
أو ّاحتدا منفيني :فمن باب آخر(.)1
السبب الواحدٌ
َ ِ
السبب ،وردا م ًعا ُ :محل املطلق عليه ،بيا ًنا ،رضور ًة ؛ أن أو مثبتني ُمـ َّت ِح ِدي
( )1كـ«ال ُتعتق رقبة» ،و« :ال ُتعتق رقبة كافرة» ،فهي باب آخر ،فهي من باب إفراد فرد من العام بحكم
العام ،فليس بتخصيص للعام عىل املختار ،وال من باب املطلق واملقيد ،كام قرره ابن اهلامم .
( )2أي ُ :حيمل املطلق عىل املق َّيد يف حالة ورودمها يف وقت واحد ،فال يكون هناك إطالق متقدم وتقييد
ورضب ٌ
مثل لذلك بقراءة ابن مسعود يف كفارة الصيام « :فصيام ثالثة أيام متتابعات»، ِّ
متأخر مثال ُ .
عىل تقدير ورود املطلق .
هذه هي احلالة الثانية التي ُحيمل فيها املطلق عىل املق َّيد .
( )3أي إن ُجهل تاريخ الورود ،فلم نعرف املتقدم من املتأخر ،ومل نعرف ورو َدمها م ًعا ،فال عرفناه يف
جانب اإلثبات ويف جانب النفي .
( )4أي ُق ِّيد املطلق محال عىل أهنام وردا م ًعا ؛ بسبب قلة النسخ يف نصوص الَّشيعة بالنظر إىل كثرة البيان .
وهذه هي احلالة الثالثة لتقييد املطلق باملق َّيد .
وال شك أنه ال يقصد هبذه احلالة ما قصده يف احلالة األوىل التي ال يصح فيها التقييد إال إذا امتنع العمل
باملطلق إال باملق َّيد ،.وإال لصارت احلالتان سواء ،ولكنه اشرتط هناك الرضورة ،وهنا مل يشرتطها ،
فدل عىل أهنا حالة أخرى حلمل املطلق عىل املق َّيد .
( )5قال الشارح يف تفسري كالم ابن اهلامم يف ذكره قول احلنفية عند املعارضة« :الدليالن املتعارضان إذا مل
خيهام ُجيمع بينهام».
ُيعلم تار ُ
41
ُ
اإلطالق ،ثم ُرفع بالقيد . ناسخ عند احلنفية( ،)2أي ُ :أريد
ٌ ِّ
املتأخ ُر وإال( )1فاملق َّيدُ
ني املق َّيدُ أنه املرا ُد باملطلق ،وهو معنى محل املطلق عىل املقيد.
والشافعية ختصيص( ،)3أي َ :ب َّ َ
مجع بني الدليلني مغالط ٌة ،قوهلم( : )4ألن العمل باملق َّيد ٌ
عمل به(.)5 وقوهلم إنه ٌ
قلنا :بل باملطلق الكائن يف ضمن املق َّيد من حيث هو كذلك ،وهو املق َّيد فقط ،وليس
زئ ُّ
كل ما َصدَ َق عليه من املق َّيدات(( ...)6إىل أن قال ): العمل باملطلق كذلك ،بل أن ُجي َ
( )1أي :إن مل ُجيهل التاريخ ،بل ُعلم املتقدم ومن املتأخر .
املتأخر ،وأما إذا كان املطلق هو املتأخر قسيذكر الكالم عنها الح ًقا .
( )2هذه حالة ما إذا كان املق َّيد هو ِّ
( )3أي عده الشافعية (واجلمهور) تقييدً ا ،وهو ختصيص املطلق باملق َّيد ،ومل يعدوه ً
نسخا .
ففي هذه احلالة ال اختالف يف هذا احلمل بني اجلمهور واحلنفية ،وبه ّ
ينحل إشكال التعارض ،وإنام
االختالف يف حقيقته :هل هو بيان ،أم نسخ ؟
( )4أي املغالطة :هي قول الشافعية التي استندوا إليها يف أنه مجع وليس نسخا .
أيضا ،وبذلك منعوا من القول بالنسخ .بخالف ( )5أي قول الشافعية :إن العمل باملق َّيد ٌ
عمل باملطلق ً
العمل باملطلق دون املق َّيد ،فهو ٌ
عمل باملطلق دون املق َّيد .
( )6أي يعرتض احلنفية عىل تقرير الشافعية بأن العمل باملق ّيد ٌ
عمل باملطلق ،من غري عكس ،بنفي ذلك ؛
ألن العمل باملطلق لن يكون ً
عمال به حتى ُيعمل به عىل إطالقه .
42
إجياهبم َوص َل
حيا من احلنفية ،و ُعرف ُ
()2 وإلزا ُمهم(َ )1
كون املطلق املتأخر نسخا :ال أعلم فيه ترص ً
ِ
بيان املراد باملطلق ،كقوهلم يف ختصيص العام بذلك الوجه.)4(»)3(...
-أن املطلق ُحيمل عىل املق َّيد باسم التقييد (وهو من صور اجلمع) يف احلاالت الثالث
التالية :
-2إذا كان ورودمها يف وقت واحد ،بال َت َقدُّ م وال تأخر .
-3إذا ُجهل الوقت ُ ،محل عىل البيان (أي التقييد)؛ ألنه األغلب ،ومل ُحيمل عىل النسخ .
وحيمل املطلق عىل املقيد باسم النسخ ،يف حاللة واحدة :وهي إذا ُعلم الوقت :فكان
ُ -
ً
ناسخا للمق َّيد ،وأهنم ال يقولون به . املطلق ِّ
املتأخ َر َ ( )1أي إلزام اجلمهور للحنفية :بأن جيعلوا
ً
ناسخا للمق َّيد املتقدم . ( )2نفى ابن اهلامم عن احلنفية وجو َد نص هلم يدل عىل أهنم ال يعدون املطلق املتأخر
ً
ناسخا للتقييد املتقدم ،وإن ( )3خالصة كالم ابن اهلامم هنا :أنه ال مانع عنده من التزام كون املطلق املتأخر
نصا ألصحابه ينص عليه .
مل جيد ًّ
( )4التحرير البن اهلامم ( ، )134 -132مستفيدً ا يف الَّشح من رشحيه :التقرير البن أمري حاج (-294 /1
،)296وتيسري التحرير ألمري بادشاه (.)332 -330 /1
43
-و ُيقىض عىل االختالف بنسخ التقييد ،إذا ُعلم الوقت :فكان اإلطالق هو املتأخر عن
التقييد .وهي صورة وإن مل جيد ابن اهلامم للحنفية فيها كالما ،إال أنه ال يرى مان ًعا من
وملا كان مقصودي من هذا العرض حول التقييد ليس مناقشة صحة نسبة هذا التقرير
لإلمام أيب حنيفة ،وال ما مدى موافقته ألئمة احلنفية األوائل (كالطحاوي ومن جاء بعده) ،
فهو أوال :أورد هنا صور ًة للجمع ال ُيشرتط هلا عدم العلم بالتاريخ ،بمعنى أننا حتى لو
علمنا النص املتقدم وم ّيزناه عن املتأخر ،وحتى لو كان املق َّيد هو املتأخر = وجب القول بالتقييد،
وهي حالة االضطرار لذلك .مع أنه كان يمكن القول بالنسخ ،ف ُيقال :إن قوله «ال متلك إال
ٌ
ناسخ جلواز متلك الرقبة غري املؤمنة املفهوم من إطالق قوله «أعتق رقبة» . رقبة مؤمنة»،
ثانيا :محل املطلق عىل املق َّيد عند اجلهل بالزمن ،بال رشط االضطرار ،وتعليل ذلك بأنه
لغلبة البيان عىل النسخ ،يكاد يكون قاضيا عىل غالب مسائل األحاديث املتعارضة ،حيث إن
حتديد الزمن يف غالب األحاديث النبوية غري ممكن .ونتيج ًة لذلك سيكون اجلمع مقدَّ ما يف
األعم األغلب من األحاديث املتعرضة ،حتى عند احلنفية وفق تقرير ابن اهلامم .
44
اجلمع بني النصني
ُ ثالثا :كون تقييد اإلطالق املتقدم ً
نسخا عند احلنفية ،ال ينفي أنه به قد ت َّم
رابعا :هذا كله إنام قام بناء عىل أن التقييد زيادة عىل النص ،وأن الزيادة عىل النص نسخ ،
اشرتط هلا معرفة التقدم والتأخر .أما إذا كان اجلمع بيانًا ملجمل ،وحتديدً ا ألحد
لذلك ُ
احلس أو
املحتمالت املتكافئة يف النص ،أو كان التقييد هو الذي يمنع عن احلديث معارضة ِّ
العلم احلديث( = )1فلن يكون ً
نسخا ،حتى عند احلنفية .لذلك لن يقدموا القول بالنسخ عىل
اجلمع يف هذه احلالة ،حتى لو ُعلم التاريخ ؛ ألن اجلمع يف هذه األحوال :ما بني ٍ
بيان إلمجال
ٍّ
وحل إلشكال ،وليس من باب النسخ يف يشء .
وأقل ما كان جيب جتاه هذا األمر حكاية اختالف احلنفية يف هذا الرتتيب الذي حكاه ابن
وهذا ابن أمري حاج -حممد بن حممد بن حممد بن حسن احللبي ( -ت879هـ) ،وهو تلميذ
ابن اهلامم وشارح كتابه ،يذكر اختالف األحاديث يف الذكر بعد الصالة ،ثم يذكر وجها للجمع
بينه وبني إهدار العمل بأحدمها بالكلية»( .)2وهذا ترصيح بتقديم اجلمع ؛ ألن القول بالنسخ
إهدار ألحد الدليلني بالكلية ،وألنه مل يشرتط للقول باجلمع عدم العلم بالتاريخ .
45
ولذلك استدل أبو احلسنات اللكنوي (ت1304هـ) هبذا القول عىل أن ابن أمري حاج كان
يقدم اجلمع عىل الرتجيح ،خالفا لظاهر كالم شيخه ابن اهلامم(.)1
وممن رصح بخالف ظاهر كالم ابن اهلامم والبهاري من متأخري احلنفية – وقيل إنه حتول
شافع ًّيا –( :)2حممد املعني بن حممد األمني السندي احلنفي (ت1161هـ) « :ومن أشنع هذا
االستشكال ،وأشدِّ ما يكون فيه املستشكِ ُل اجرتا ًء عىل الَّشيعة :القول بنسخ أحد احلديثني
بالتعارض .أما كونه من باب االستشكال بالرأي :فألن التعارض املفيض إىل القول بالنسخ
ٍ
رجل من الرجال مل يعرف وجه اجلمع بني احلديثني ،و َعلم تأخر أحدمها عن اآلخر ،فلم فهم
ُ
والفتح ِ
اهلني عند وقته بالرجاء ،وأنه عساه ِ يرجع إىل نفسه بالعجز ،وإىل الفيض اإلهلي املتجدّ د
ٍ
قبض من اسم القابض متر عليه ُبعيد الفلق ،وأن لكل
يأتيه وجوه من اجلمع يف اللمحة التي ّ
آالف من الرجال ،وفوق كل
ٌ بس ًطا عند الباسط تعاىل ،وأن ما يعجز عنه واحد :ربام يقدر عليه
متأخر عن منسوخه نسخه عن الشارع املعصوم ^ ذي علم عليم .ومل يدر أن كل ناسخ ٍ
ثابت ُ
ٌ
ً
ناسخا له .وأن التعارض يف نظر الرجال :ال ض ملتقدِّ ِمه يف الظاهر متأخ ٍر ِ
معار ٍ ،وليس كل ّ
ُخيرج الدليلني عن العمل هبام م ًعا ،»...إىل آخر كالمه اجلليل( ،)3والذي ختمه بذكره أنه صنف
كتابا يف إبطال هذا النوع من النسخ ،املسمى بـ( النسخ االجتهادي) ،وأنه مل يثبت عن األئمة
46
ٌ
استشكال أفىض إىل املجتهدين (كذا قال) ،إىل أن قال « :أما كونه أشنع القول وأشدّ ه ؛ فألنه
وذكر العالمة أبو احلسنات اللكنوي (ت1304هـ) كالم السندي ،ورجحه عىل ما سواه،
رشح
حيث نقل املذهب املنسوب للحنفية من كتاب (التلويح) للسعد التفتازاين ،والذي هو ٌ
لـ(التوضيح يف حل غوامض التنقيح) لصدر الَّشيعة املحبويب ،ثم قال اللكنوي « :لكن فيه
َخدشة :من حيث إن إخراج نص رشعي عن العمل به غري الئق ،فاألوىل أن ُيطلب اجلمع بني
ٍ
بوجه من تعمق النظر وغوص الفكر .فإن مل يمكن ذلك ٍ
املتعارضني بأي وجه كان ،بَّشط ُّ
حيا ما يدل عىل ارتفاع احلكم األول مطل ًقا ِ :صري إىل النسخ ،إذا
الوجوه ،أو ُوجد هناك رص ً
ُعرف ما يدل عليه»(.)2
النسخ والرتجيح ،تزدا ُد ِريب ُتنا يف إطالق من أطلق نسبة تقديم النسخ أو الرتجيح عىل اجلمع
عند احلنفية !
قال بدر الدين ابن مجاعة (ت733هـ)« :واجلمع ُيقدَّ ُم عىل الرتجيح باالتفاق»(.)3
( )1دراسات اللبيب يف األسوة احلسنة باحلبيب ملحمد املعني بن حممد األمني السندي (.)116 -114 /2
( )2األجوبة الفاضلة لألسئلة العَّشة الكاملة للكنوي – الطبعة الثانية 1404 :هـ .مكتب املطبوعات
أيضا (.)197 -196 ( ،)193 -192
اإلسالمية :حلب – ( ، )183وانظر ً
( )3إيضاح الدليل يف قطع حجج أهل التعطيل البن مجاعة (.)75
47
وأقره احلافظ ابن حجر (ت852هـ) يف (الفتح)(.)1
وقال أبو العباس القرطبي (ت656هـ) « :واجلمع أوىل من الرتجيح إذا أمكن باتفاق أهل
األصول»(.)2
وقال أبو عبد اهلل القرطبي (ت671هـ) « :واجلمع أوىل من الرتجيح باتفاق أهل
األصول»(.)3
قسم الدار املدَّ َعى ِمل ُكها عند تعارض البينتني .
-1توزيع متع َّل ِق احلكم ،إن أمكن ،كام ُت َ
ٍ
واحد عند التعدد ،بأن يكون كل واحد منهام مقتضيا بعض كل
ُ -2ي ّنزل عىل األحكام ُ
أحكاما ،فيعمل بواحد منهام يف بعضها ،وباآلخر يف البعض اآلخر ،كالنهي عن
الَّشب ،والبول قائام ،ثم فعله .فإن فعله يقتيض عدم األولوية واحلرج ،وهنيه
بالعكس ،فيحمل النهي عىل عدم األولوية ،والفعل عىل رفع احلرج وبيان اجلواز .
-3التنزيل عىل بعض األحوال عند اإلطالق ،كقوله« :أال أخربكم عن خري الشهود؟ أن
يشهد الرجل قبل أن يستشهد» ،وقوله يف حديث آخر« :ثم يفشو الكذب ،حتى يشهد
الرجل قبل أن يستشهد» ،فيحمل األول عىل حق اهلل تعاىل ،والثاين عىل حق اآلدميني.
( )1فتح الباري البن حجر ( 410 /31رشح احلديث رقم .) 7418
( )2املفهم للقرطبي (. )280 /4
( )3اجلامع ألحكام القرآن للقرطبي (.)175 /3
48
ثم قال الزركيش – وهو حمل الشاهد « : -وهذه الطريقة أطبق عليها الفقهاء ،أعني اجلمع
املستقل بنفسه من غري إقامة دليل ،وعزوا ذلك إىل تعارض القراءتني ،كقراءة " أرجلكم "
بالنصب واخلفض ،فحملوا إحدامها عىل مسح اخلف واألخرى عىل غسل الرجلني ،ومحل
بعضهم قوله " يطهرن " و " يطهرن " إحدامها عىل ما دون العَّشة ،واألخرى عىل العَّشة»(.)1
وكان من السهل – عىل بعضهم -ر ّد هذه حكاية هذا اإلمجاع ،لوال وجود من خالف ابن
اهلامم والبهاري من أئمة احلنفية ،كام سبق ،موافقني لكالم اجلمهور ،وهبم يتحقق اإلمجاع ،
وأقل ما يف حكاية هذا اإلمجاع :هو التأكيد عىل وجود علامء مل يكونوا يعرفون باخلالف
وإين ألعجب من شيوع نسبة هذا املذهب للحنفية يف الدراسات املعارصة (كام سبق
وبينته) ،دون حترير مذهب احلنفية من كتبهم األصول يف علم األصول :منذ اجلصاص ،حتى
( )1البحر املحيط للزركيش ( .)134 -133 /6ثم إن الزركيش نقل عن إمام احلرمني حكايته خالفا
األصوليني للفقهاء يف قبول هذا النوع من اجلمع ،ثم بني الزركيش أن ما النزاع الذي تصوره إمام
احلرمني ليس له وجود يف احلقيقة !
( )2وانظر كتاب :إمجاعات األصوليني ملصطفى أبو عقل ( . )418 -416وقد نسب اإلمجاع لعالء الدين
تبني أنه ال حيكي
السمرقندي (ت539هـ) يف كتابه (ميزان األصول) ،وبمراجعة كالم السمرقندي ّ
اإلمجاع عىل تقديم اجلمع مطلقا ،كام َفهم منه الباحث.
49