You are on page 1of 4

‫ما بين المكان والعمارة‬

‫إعداد‪ :‬عقيل مجيد‬

‫بإشراف ‪ :‬د‪ .‬ربيع جميل‬

‫لمادة فلسفة العمارة‬


‫‪ -1‬ماهو المكان ؟‬
‫أما عند قدماء المصريين فقد كانت الصورة الذهنية للمكان هي صور مظاهر محسوسة‪ ،‬تشير‬
‫إىل مواقع لها لون عاطفي‪ ،‬وقد تكون مسالمة أو معادية‪ ،‬مالوفة أو غريبة‪ ،‬إال أنها يف جميع‬
‫األحوال‪ ،‬خارج نطاق التجربة الفردية‪ .‬تشعر الجماعة باستمرار بوجود أحداث كونية معينة‬
‫تضفي عىل المكان دالالت روحية‪ ،‬مثلما يقرن الليل والنهار‪ ،‬والشروق والغروب بالموت والحياة‪.‬‬

‫وقد ينمو الفكر التأملي للمكان ويتطور حين يتناول المناطق التي ال تدركها التجارب الحسية‬
‫المباشرة‪ ،‬كالسموات مثال أو العالم السفلي‪ ،‬كما نرى يف علم التنجيم عند قدماء المصريين‪،‬‬
‫الذي أسس نظاما ً واسعا ً من العالقات والروابط‪ ،‬بين األجرام السماوية واألحداث الفضائية‬
‫وبين المواقع األرضية‪ .‬وهكذا قد ال يقل الفكر المصري القديم نجاحا عن الفكر الحديث يف إيجاد‬
‫نظام فضائي مكاني متسق‪ .‬إال أن هذا النظام ال يقرر بالمقاييس الموضوعية‪ ،‬بل بإدراك عاطفي‬
‫حسي للقيم‪ .‬وكان المصريون‪.‬‬
‫المكان‪ :‬هو األرض (" ‪Geo‬جوه") التي حفر اإلنسان عليها وجوده ودمغ فوق أديمها‬
‫الزمكان‬ ‫اإلثبات عىل أنه قائم منذ القدم‪ ،‬وهو الجغرافيا والبيئة وكل مايحيطنا ويتعايش معنا‪.‬‬
‫يبقى الزمان والمكان ظرفين متالزمين يف أذهاننا‪ ،‬وال يمكن الفصل بينهما‪ ،‬وثمة فروق ظاهرية‬ ‫هو قريننا ولصيقنا‪ ،‬نلمسه ونتحسسه‪ ،‬نستنشق عبقه‪ ،‬نحفظ لونه‪ ،‬ندرك وظائفه‪،‬‬
‫بينهما‪ ،‬إال أنهما يتفقان يف القيمة ويفترقان بين الملموس والمحسوس؛ فالزمان مقياس‬ ‫تلقطه عيوننا‪ ،‬وتحفظه ذاكرتنا‪ ،‬يرافقنا‪ ،‬يحمينا‪ ،‬يغذي خيالنا وينضج تصوراتنا وفكرنا‪.‬‬
‫والمكان حقل تفاعل‪ ،‬ومن خالل تأثيرهما المتناهي تبنى الحضارة التي للسلطات دور أساسي‬ ‫تحفرنا مقومات الحياة إليه وتعلمنا حبه من خالل دروس الجمال بما يحمل من صور‬
‫فيها‪ ،‬وقد شكال دائما ً طرفان أساسيان يف اإلدراك البشري‪ ،‬الذي أقر تعارضهما وتكاملهما بعيدا ً‬ ‫وألوان وذكريات ألحداث وشخوص ومالمح ومتغيرات‪ ،‬يدركها الوجدان الذي يبقى ابن‬
‫عن تطابقهما وترابطهما بما يكمل إحداهما اآلخر‪ ،‬وهما كيانان ثنائيا البنى‪ ،‬وهذه الثنائية تشكل‬ ‫وأمين المكان‪.‬‬
‫تماه المدرك والمستدرك‪ ،‬والشكل والمضمون‪ ،‬والمجرد والملموس‪ ،‬والصورة والمادة‪.‬‬
‫الزمان مقياس والمكان حقل تفاعل بتأثيرهما المتناهي تبنى الحضارة‪ ،‬وهما طرفان أساسيان‬ ‫أن فيلسوف األنوار األلماني كانط‪ ،‬كان قد تأمل بمفهوم المكان‪ ،‬وأعطاه كامل العناية‬
‫يف اإلدراك البشري‪ ،‬وهما متعارضان‪ ،‬ولكنهما متكامالن وتكاملهما ال يعني تطابقهما‪ ،‬وترابطهما‬ ‫وعده إطارا قبليا ضروريا للمعرفة وفق "حاسة الخارجية‪ ،‬كخاصية ذهنية لإلنسان بما‬
‫يكمل إحداهما اآلخر‪ ،‬وهما كيانان ثنائي البنى ‪ .‬وهذه الثنائية تحاكي الثابت والمتحول‪ ،‬والشكل‬ ‫نتصور األشياء موضوعة خارجنا يف المكان‪ .‬وحتى يقرب مفهوم المكان وعده‬
‫والمضمون‪ ،‬والمحسوس والملموس‪ ،‬والجسد والروح‪ ،‬واللغة والكالم‪ ،‬والصورة والمادة‪ ،‬وحتى‬ ‫إحساسا ً حدسيا ً خارجيا ً مقابل الزمان كإحساس داخلي‪ ،‬أي أنه ليس مفهوما ً‬
‫الخير والشر‪ .‬أما العمارة فهي نتيجة زمان ومكان‪ ،‬وهما كيانان من ناحية وإن من الضروري‬ ‫استدالليا ً‪ .‬وبرأيه أنه حدس وليس مفهوماً‪ ،‬فهو الحدس المحيط والذي ال يحاط به‪،‬‬
‫التنوع واالختالف يف الخلق واإلبداع‪ ،‬وهما موضوع دراسة وبحث الستخراج دالالت العالقة‬ ‫عكس المفهوم‪ ،‬وال يضم أي تصور‪ ،‬بينما المفهوم ينتمي إىل مجموعة من التصورات‪.‬‬
‫وأهميتهما يف العمارة عامة‪.‬‬ ‫وهذا يخالف المفهوم الهندسي للعمارة الذي بني عىل معايير ومقاييس بعينها‪ .‬وربما‬
‫والمكان هو الحيز الحاوي عىل صيغ من االشكال تملي أعرافا وتوجهات فكرية ومشاعر حسية‪،‬‬ ‫ينفعنا هذا الفهم للمكان يف تناول مفهوم الجمال الذي هو أيضا ً حدس أكثر منه‬
‫والمكان المؤثر يف النفوس هو الذي يستطيع توصيل كل تلك األحاسيس ويملي عىل الالوعي‬ ‫مقاييس‪ ،‬رغم محاولة تفسير البعض له بمنهجيه رياضيه أو هندسية كما هو (القطاع‬
‫اإلنساني نظامه وسيرورته‬ ‫الذهبي) مثال ً‪.‬‬
‫‪ -2‬المكان في العمارة‬
‫وأهمية التظليل وإضفاء هيئة وأشكال وألوان تتسق مع سطوة المكان‪ ،‬وتسبغ حسا ً جماليا ً‬ ‫وفيما يخص العمارة‪ ،‬فإنها حينما تفقد حس المكان فإنها تفقد خصوصيتها‬
‫عادة ما يرد يف مرحلة‬ ‫وبالتالي أصالتها‪ .‬وثمة جمالية متجذرة تقوم بين البيئة المكانية المحيطة بالمنجز‬
‫الحقة لضرورة المواءمة المكانية‪ .‬ويقوم الفنان يف تلك المرحلة بعملية التفريغ الفني من خالل‬ ‫المعماري‪ ،‬حينما تشكل بأبعادها الثالثة انسجاما مع أبعاد العمارة‪ ،‬التي تمكث منهجا‬
‫المواءمة وإزالة التعارضات المختلفة بين المثال المتخيل وذلك المنفذ عىل أرض الواقع‪ .‬وكذلك‬ ‫للتماه والموائمة مع المكان‪ .‬وهنا نقف عىل جوهر الحالة اإلبداعية‪ ،‬من خالل إدراك‬
‫تلعب البيئة الطبيعية دورا ً يف تحديد نوعية وطبيعة الغطاء النباتي يف كل منطقة من المناطق‬
‫القوانين والنظم التي حكمتها وإيجاد الحلول التي تصنع أشكاال منسجمة مع هذا‬
‫والتي تعطي جوا ً وبعدا ً مهما ً يف تحديد شخصية المكان‪ .‬إن الكتل واألشكال المعمارية هي‬
‫المكان بعدما تفكك إىل وحدات وظيفية لتجمع يف مساحة أو فضاء يف حيز المكان‪.‬‬
‫لبنات عاكسة للتماهي بين الفضاءين المكاني والمعماري‪ .‬لذا أمست الهيئة دالة تعبيرية عن‬
‫الوظيفة والقصد النفسي المرتجى؛ فصرحية المعابد وفخامة القصور ال تقارن ببيوت العامة‪،‬‬ ‫حتى أن منهج العمل يوحي للمتأمل بأنه محض نظام يف العالقات بين الخطوط‬
‫متداعيا من طبيعة المكان‪ ،‬وما له من أثر نفسي‪ ،‬والذي يتسرب ويخترق (ال وعي) الفنان‬ ‫والعمارة جزء من العمران المنتمي باالستقراء إىل المكان‪ ،‬وهو المسرح الطبيعي‬
‫المرهف‪.‬‬ ‫للبيئة‪ ،‬وهو الجغرافيا التي تسبق التاريخ‪ ،‬فالتاريخ تصنعه الجغرافيا والمعمار العب‬
‫تاريخي متغير يف ثابت الجغرافيا‪ .‬وبذلك يتخذ المكان بعده المركزي يف الذاكرة‪ ،‬كونه‬
‫الملخص الشخصي ‪:‬‬ ‫بؤرة إنتاج الصور‪ ،‬والرموز التي تكيف سلوك األفراد‪ ،‬وطبيعة استجاباتهم الالحقة‪،‬‬
‫يعتبر المكان عامل اساسي ومهم جدا ً يف خلق االشكال المعمارية المختلفة حيث ان المعماري‬ ‫وسطوة الال وعي‪ ،‬حتى يجد نفسه هائما دون هدى بحنين مجنح إليه كلما أتيح له‬
‫عندما يريد ان يصمم شكال ً معماريا ً فأنه يبدأ يف البحث عن تاريخ وماهية المكان الذي يصمم‬ ‫استذكاره‪ ،‬متخطيا كل معطيات زمنه المعاش يف اللحظة‪ ،‬واكتسى لديه بحظوة‬
‫فيه لمعرفة خبايا هذا المكان فبالتالي يعمل المكان كعامل فعال يف عملية خلق االشكال‬ ‫وتبجيل وطأت القدسية‪ ،‬ووجدت صيغا شتى للتعبير عنها‪ ،‬ابتداء من مفهوم (أمنا‬
‫وان التصميم الناجح مرتبط ارتباط ةثيق مع المكان فعند ازالة التصميم من المكان يفشل‬ ‫األرض) السومري‪ ،‬حتى مدن مقدسة وعمائر تحاط بإجالل وتهفو لها النفوس كما‬
‫التصميم ‪.‬‬
‫مكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرها‪.‬‬
‫وقد يرتبط التصميم بحادثة حدثت هي هذا المكان مما شكلت ذاكرة صورية لدى الناس‬
‫فيستغل المعماري هذه الفرصة ويعتمد عىل المكان يف خلق االشكال كما يف متحف محرقة‬ ‫إن عالقة المعمار بالبيئة التي ولد ونشأ فيها‪ ،‬تؤثر عىل اتجاهه المعماري وعىل‬
‫اليهود يف المانيا فلو وضعنا التصميم يف مكان اخر لم يكن مفهوم النه مرتبط بمكانه ‪.‬‬ ‫تفضيله التجاه ومنحى وحل وحتى طراز ولون دون آخر‪ ،‬وإن الذاكرة الذاتية هي‬
‫بالنتيجة مصدر كل مفردة معمارية وجوهر لغة التصميم‪ .‬وإن الفكر المعماري‬
‫والحلول التصميمية للمعمار هي نتيجة لتلك الحبكة من جذور وخلفيات ونوازع‬
‫والوعي وعوامل تأثير متراكبة‪ .‬ويبقى وقع التضاريس والبيئة أكبر األثر عىل االتجاه‬
‫المعماري‪ ،‬بحيث تعتمد عىل إشارات ودالئل معمارية مهمة تلعب دورا ً يف تحديد‬
‫وتهيئة المكان وتنظيم الحركة واالتجاهات واإلطالالت والمناسيب ومديات واتجاهات‬
‫ولنأخذ مثال المدن الصحراوية التي تعتمد عىل التقارب يف البنيان رغبة يف زيادة‬
‫التضليل والعزل بين المباني‪ ،‬وتشجيعا لحركة الهواء‪ ،‬وتعرج الممرات يراد منه حفظ‬
‫برودة الهواء‪ ،‬وبقصد الحماية من قساوة البيئة الذي يضفي معالجات بصرية بعينها‪،‬‬
‫ً‬
‫شكرا لكم‬

You might also like