You are on page 1of 42

‫التعارض والترجيح بين اﻷقيسة ‪:‬‬

‫دراسة تحليلية أصولية‬

‫بحث تكميلي لمادة التعارض و الترجيح‬

‫اﻹعداد‪ :‬محمد جابر على الهدوي‬


‫الرقم‪G1011119 :‬‬
‫اﻹشراف ‪ :‬الدكتور يونس الصالح‬

‫قسم الفقه وأصوله‬


‫كلية معارف الوحي والعلوم اﻹنسانية‬
‫الجامعة العالمية اﻹسﻼمية – ماليزيا‬
‫أكتوبر ‪2010‬‬

‫‪1‬‬
‫الباب التمهيدي‪ :‬خطة البحث‬

‫المقدمة‬

‫القياس هو المصدر الرابع من مصادر الشريعة اﻹسﻼمية بعد القرآن‪ ،‬والسنة‪ ،‬واﻹجماع‪ .‬ومما يمﻸ‬
‫النفس إعجابا وتعظيما بالشريعة اﻹسﻼمية الغراء أنها اعتبرت القياس أصﻼ أساسيا مع أصولها الثﻼثة‬
‫المذكورة‪ ،‬ﻷنه مما أبقى أحكام الشريعة المطهرة أبد الدهور‪ ،‬وبه اتسعت الشريعة لتشمل مصالح الناس‬
‫مع كر الزمان وتغير الثقافات والبلدان‪ .‬فلذا يحتاج إليه كل مجتهد وطالب‪ .‬وﻻ بد من معرفته للباحﺚ فﻲ‬
‫الفقه وأصوله أو أي مادة تتعلق باﻷحكام الشرعية‪.‬‬

‫لذلك أطال اﻷصوليون المبحﺚ القياسى قديما وحديثا‪ .‬ومعلوم أن القياس من أدق مصادر الشريعة وأشدها‬
‫على المجتهد‪ ،‬يحتاج إلى عقل سليم وفكر صحيح؛ ﻷن بقية اﻷدلة من القرآن والسنة واﻹجماع‪ ،‬أساسها‬
‫النقل والسماع؛ فإذا ثبت عنده بأنه وارد من ﷲ ورسوله وجب العمل به‪ .‬ولكن القياس أساسها العقل‬
‫الصحيح‪ ،‬ﻷنما يحتاج اليه فيما لم يرد فيه النص صريحا أو إشارة‪.‬‬

‫فإذا حدث للناس حادثة جديدة ﻻ عهد لها فﻲ اﻹسﻼم‪ ،‬ولم يذكرها القرآن والسنة‪ ،‬ينظر المجتهد ويقيس‬
‫على اﻷصول المعروفة فﻲ الشريعة حتى يلحق به من الفروع الجديدة ما أشبهها‪ .‬وهذا يقتضﻲ معرفة‬
‫علل اﻷحكام‪ ،‬ومداره على العقل والفكر‪ ،‬وهما متفاوتان من انسان إلى انسان ومن مجتهد إلى مجتهد‪ .‬لذا‬
‫كثر التعارض فﻲ المسائل القياسية‪ ،‬واحتاج إلى الترجيح بين القياسين المتعارضين حتى يعمل على‬
‫اﻷصح منهما‪ .‬وباب الترجيحات فﻲ القياس واسع‪.‬‬

‫إشكالية البحث‬

‫التعارض بين اﻷدلة الشرعية النقلية باب حساس‪ ،‬حيﺚ يؤمن المؤمن أنه ﻻ يوجد تعارض فﻲ اﻷدلة‬
‫الشرعية النقلية الصادرة من ﷲ و رسوله‪ ،‬لذلك تكلم اﻷصوليون عن دفع التعارض الحادث عند المجتهد‪.‬‬
‫و لكن القياس ليس كالنقلﻲ‪ ،‬فمرجعه اﻹجتهاد؛ فﻼ غرابة فﻲ التعارض بين اﻹجتهادات فﻲ مسألة واحدة‬
‫حسب فكر المجتهدين و علمهم‪ ،‬فماذا نفعل إذا تعارض القياسان؟ و بأيهما نعمل؟‪ .‬فهذا امر واسع تكلم‬
‫عنه اﻷصوليون‪ ،‬و اختلفوا فﻲ تعيينه‪ ،‬و البحﺚ عن ذلك موجود فﻲ الكتب اﻷصولﻲ التراثﻲ ممنتشرة فﻲ‬

‫‪2‬‬
‫كتبهم عند ما يبحﺚ عن الترجيحات بين اﻷدلة الشرعية‪ .‬و ليس هذا مجموعا فﻲ كتب واحد حتى يسهل‬
‫على الطﻼب و الباحثين فيها‪.‬‬

‫فهذه دراسة خاصة عن طرق دفع التعارض الواقع بين اﻷقيسة‪ ،‬تجمع آراء اﻷصوليين التى ذكروها‬
‫منتشرة فﻲ كتبهم التراثﻲ‪ ،‬و يذكر الباحﺚ فيها ما يرجحه من بعد المناقشة اﻷقوال المختلفة فيه‪.‬‬

‫أسئلة البحث‬

‫من خﻼل هذا البحﺚ‪ ،‬سيقوم الباحﺚ بمحاولة اﻹجابة عن عدد من اﻷسئلة حول التعارض بين اﻷقيسة‪ ،‬و‬
‫كيفية الترجيح بينها‪ ،‬أهمها ما يلﻲ ‪:‬‬

‫‪ -1‬ما مفهوم القياس عند اﻷصوليين‪ ،‬و ما أهميته فﻲ الشريعة اﻹسﻼمية؟‬

‫‪ -2‬ما هو أركان القيس؟‬

‫‪ -3‬هل القياس حجة مقبولة فﻲ الشريعة اﻹسﻼمية؟‬

‫‪ -4‬هل يتعارض اﻷقيسة بعضها مع بعض؟‬

‫‪ -5‬كيف الترجيح بين اﻷقيسة المتعارضة؟‬

‫‪ -6‬ما هو آراء اﻷصوليين عن الترجيح بين اﻷقيسة المتعارضة؟‬

‫أهداف البحث‬

‫هذا البحﺚ يهدف الوصول إلى تحقيق اﻷمور اﻵتية ‪:‬‬

‫‪ -1‬بيان معانﻲ القياس لغة و اصطﻼحا‪ ،‬مع إلقاء الضوء إلى أهميته فﻲ الشريعة‪.‬‬

‫‪ -2‬بحﺚ أركان القياس‪.‬‬

‫‪ -3‬إثبات أن القياس حجة فﻲ الشرع‪.‬‬

‫‪ -4‬إلقاء الضوء الى التعارض الواقوع بين اﻷقيسة‪.‬‬

‫‪ -5‬توضيح طرق التراجيح بين اﻷقيسة المتعارضة‪.‬‬

‫‪ -6‬جمع أقوال المختفلة عن ترجيح بعض اﻷٌقيسة على معارضها‪ ،‬مع بيان قول الراجح‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الدراسات السابقة‬

‫لقد تكلم اﻷصوليون عن القياس‪ ،‬و التعارض و الترجيح بين اﻷقيسة من قبل و من بعد‪ ،‬حيﺚ ان القياس‬
‫وبوب كل أصولﻲ فى كتبهم التراثﻲ‪ ،‬أبوابا خاصا للتعارض‬
‫هو المصدر الرابع الذي ﻻ غنى عنه لمجتهد‪ّ .‬‬
‫بين الدليلين والترجيح بينهما‪ ،‬تحدثوا فيها عن التعارض بين الدليلين النقليين‪ ،‬وبين الدليلين العقليين‪ ،‬و‬
‫بين دليل نقلﻲ ودليل عقلﻲ؛ فﻼ يكاد يخلو كتاب تراثﻲ فﻲ أصول الفقه من بحﺚ عن القياس‪ ،‬و التعارض‬
‫بين اﻷقيسة‪ ،‬و طرق الترجيح بينها؛ ولكن نجد أنهم يتفاوتون فﻲ تناول هذا الموضوع‪ ،‬فهم ما بين موسع‬
‫و مضيق فﻲ الحديﺚ عنه‪ ،‬فمنهم من إختصر كﻼمهم عن القواعد الكلية فقط‪ ،‬من غير ذكر اﻷدلة و‬
‫اﻷمثلة ‪ :‬كناصر الدين البيضاوي فى ‘منهاج الوصول’‪ ،‬وابن الحاجب فﻲ ‘مختصر المنتهى’‪ ،‬وتاج‬
‫الدين السبكﻲ فى ‘جمع الجوامع’ ‪...‬؛ و منهم من توسع كﻼمهم فﻲ أنواع الترجيح و ذهب إلى التفاصيل‬
‫و التفريعات مع إيراد اﻷمثلة لكل مسائل‪ :‬مثل أبو الوليد الباجﻲ فﻲ ‘إحكام الفصول’‪ ،‬و سيف الدين‬
‫اﻵمدي فﻲ ‘اﻹحكام فﻲ أصول اﻷحكام’‪...‬؛ وتسمية كل أصولﻲ مع كتابه تطويل ﻻيحتاج إليه البحﺚ‪.‬‬

‫ولكن لم يكن هناك كتاب يتناول موضوع التعارض فﻲ اﻷقيسة خاصة‪ ،‬إﻻ بعد مجﻲء دور البحوث فﻲ‬
‫الجامعات اﻹسﻼمية الجديدة‪ ،‬فجاء الباحثون وجمعوا ما انتشر فﻲ كتب اﻷصول والفروع‪ ،‬وصنفوا فﻲ‬
‫التعارض الترجيح‪ ،‬كتبا خاصا يحتوي على مسائل عديدة يتعلق بمواضع مختلفة‪ ،‬كالتعارض بين اﻷدلة‬
‫النقلية‪ ،‬وبين القياس و النقل‪ ،‬والتعارض بين اﻷقيسة‪ ،‬وما إليها؛ ومن هذا القبيل كتاب أبراهيم محمد‬
‫الحفناوي‪ ،‬يسمى ‘التعارض و الترجيح عند اﻷصوليين وأثرهما فﻲ الفقه اﻷسﻼمﻲ’‪ .‬يبحﺚ فيه عن‬
‫التعارض الحاصل بين اﻷدلة كلها ويشتمل البحﺚ على طرق الخﻼص منه‪ .‬و ألف عبد اللطيف البرزنجﻲ‬
‫أيضا فﻲ نفس الموضوع‪ .‬و فيه كثير من التفاصيل‪ ،‬كذكر اﻵراء المتنوعة‪ .‬ولكن هذين الكتابين يبحثان‬
‫عن التعارض الواقعة بين اﻷدلة الشرعية كلها عموما‪ ،‬و ﻻ يركز على التعارض الحاصل بين اﻷقيسة‬
‫خصوصا‪.‬‬

‫و بحﺚ لخضر لخضاري عما وقع من التعارض بين القياس و خبر الواحد‪ ،‬و كيفية الترجيح فيه‪ ،‬فﻲ‬
‫كتابه ‘تعارض القياس مع خبر الواحد وأثره فﻲ الفقه اﻹسﻼمﻲ‪،‬؛ ولكن هذا أيضا ﻻ يحتوي عن التعارض‬
‫بين اﻷقيسة أصﻼ‪ .‬فما وجد الباحﺚ فﻲ هذا الموضوع كتابا خاصا‪ ،‬يتركز على التعارض بين اﻷقيسة‪،‬‬
‫فيريد بهذا البحﺚ جمع ما قال فيه اﻷصوليين‪ ،‬و مناقشة ما اختلفوا فﻲ تفصيله‪ ،‬حتى يصل إلى قول‬
‫راجح‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المناهج البحث‬

‫يسير الباحﺚ فﻲ دراسته عن التعارض فﻲ القياس و كيفية الترجيح فيه‪ ،‬المناهج اﻵتية‪:‬‬

‫‪ -1‬المنهج التحليلﻲ ‪ :‬و ذلك بمراجعة ما كتب عن هذا الموضوع فﻲ القديم و الحديﺚ‪ ،‬و نقل ما قال فيه‬
‫اﻷصوليون‪ ،‬وتحليل معانيه‪ ،‬و إيراد التفاصيل و اﻹختﻼفات فﻲ المسائل المهمة‪.‬‬

‫‪ -2‬و المنهج النقدي‪ :‬و ذلك بمناقشة أقوالهم فﻲ ما اختلفوا فيه من التفاصيل‪ ،‬ثم يرجح منها قوﻻ راجحا فﻲ‬
‫ضوء اﻷدلة الثابتة‪.‬‬

‫و يتم تحليل الباحﺚ من خﻼل اهتمامه بالمصادر اﻷصلية حسب اﻹمكان‪ .‬وهذا يشتمل كل ما كتب عن‬
‫القياس و عن التعارض والترجيح بينها‪ ،‬من الكتب التراثﻲ و المعاصر؛ و يعتمد على المصادر الثانوية‬
‫أيضا‪ ،‬و ذلك إذا لم يحصل الكتب اﻷصلﻲ‪.‬‬

‫هيئة العامة للبحث‬

‫واخترت لتحقيق هذا البحﺚ الهيئة التالية ‪:‬‬

‫أوﻻ قسمت البحﺚ إلى بابين‪ ،‬وكﻼ منهما إلى عدة فصول‪ ،‬ويحتوي كل فصل على مباحﺚ كثيرة‪:‬‬

‫مفهوم ألفاظ ذات صلة بالترجمة‪.‬‬ ‫الباب اﻷول‪:‬‬

‫الفصل اﻷول‪ :‬القياس‬

‫المبحﺚ اﻷول‪ :‬تعريف القياس لغة وشرعا‪.‬‬

‫المبحﺚ الثانﻲ‪ :‬حجية القياس‪.‬‬

‫المبحﺚ الثاللﺚ‪ :‬أركان القياس‪.‬‬

‫الفصل الثانﻲ‪ :‬معنى التعارض‬

‫المبحﺚ اﻷول‪ :‬التعارض لغة‬

‫المبحﺚ الثانﻲ‪ :‬التعارض إصطﻼحا‬

‫‪5‬‬
‫الفصل الثالﺚ‪ :‬معنى الترجيح‬

‫المبحﺚ اﻷول‪ :‬الترجيح لغة‬

‫المبحﺚ الثانﻲ‪ :‬الترجيح إصطﻼحا‬

‫التعارض والترجيح بين اﻷقيسة‬ ‫الباب الثاني‪:‬‬

‫التعارض بين اﻷقيسة‬ ‫الفصل اﻷول‪:‬‬

‫المبحﺚ اﻷول‪ :‬إمكانية التعارض فﻲ القياس‬

‫المبحﺚ الثانﻲ‪ :‬أسباب التعارض فﻲ القياس‬

‫المبحﺚ الثالﺚ‪ :‬طرق الخﻼص من التعارض‬

‫الترجيح بين القياسين المتعارضين‬ ‫الفصل الثانﻲ‪:‬‬

‫المبحﺚ اﻷول‪ :‬المرجحات بحسب اﻷصل‬

‫المبحﺚ الثانﻲ‪ :‬المرجحات بحسب الفرع‬

‫المبحﺚ الثالﺚ‪ :‬المرجحات بحسب العلة‬

‫المبحﺚ الرابع‪ :‬المرجحات بحسب الحكم‬

‫المبحﺚ الخامس‪ :‬المرجحات بأمور خارجية‬

‫نتائج البحث‬

‫الخاتمة‬

‫‪6‬‬
‫الباب اﻷول‪ :‬بيان معاني ألفاظ الترجمة‬

‫نبحﺚ فﻲ هذا الباب عن معانى ألفاظ الترجمة – أي القياس والترجيح والتعارض‪ ،‬ونبين فيه معانيها فﻲ‬
‫اللغة واﻹصطﻼح‪ ،‬مع ذكر ما نحتاج إليه من معرفة أركانها وشروطها‪ ،‬كﻲ يكون توطئتا إلى البحﺚ عن‬
‫التعارض والترجيح فﻲ القياس‪.‬‬

‫الفصل اﻷول‪ :‬القياس‬

‫يحتوي هذا الفصل تعريف القياس لغة وإصطﻼحا‪ ،‬وبيان أركان القياس وحجيته فﻲ الشريعة اﻹسﻼمية‪.‬‬

‫المبحث اﻷول‪ :‬تعريف القياس‬

‫نبحﺚ هنا موجزا عن حقيقة القياس لغة وإصطﻼحا‪.‬‬

‫المطلب اﻷول‪ :‬القياس لغة‬


‫القياس والقيس لغة‪ :‬مصدران لقاس؛ يقال قاس الشﻲء يقيسه قيسا و قياسا واقتاسه وقيسه‪ ،‬إذا قدره على‬
‫مثاله؛ ويقال‪ :‬بينهما قيس رمح‪ ،‬وقاس رمح‪ ،‬أي قدر رمح؛ والمقياس ‪ :‬المقدار؛ والقيس والقاس ‪ :‬القدر‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ويقال‪ :‬قيست بين الشيئن إذا قادرت بينهما‬

‫ويتبين منه أن القياس يستدعى أمرين‪ ،‬يضاف أحدهما إلى اﻵخر بالمسواة‪ ،‬كما يقال ‪ :‬فﻼن يقاس بفﻼن ‪-‬‬
‫أي يساويه‪ ،‬وأن القياس لغة فى اﻷحكام ‪ :‬رد الشيئ إلى نظيره ليكون مثﻼ له فﻲ الحكم الذي وقعت‬
‫الحاجة إلى إثباته‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬القياس اصطﻼحا‬

‫ب تعريفٍ‬
‫تنوعت أقوال العلماء فﻲ تعريف القياس إصطﻼحا‪ ،‬وهم فيه على ثﻼث مناهج؛ وتوكأ كل صاح ِ‬
‫على ما ذهب إليه‪ ،‬وبرهنَ فﻲ إبطال ما عداه‪.‬‬

‫المنهج اﻷول‪ :‬القياس هو اﻻجتهاد ﻓي طلب الحق ‪.‬‬

‫وهذا هو رأي الشافعﻲ‪ ،‬حيﺚ قال فﻲ الرسالة‪:‬‬

‫‪ ( 1‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب )بيروت‪ ،‬دار صادر‪1410،‬هـ‪1990/‬م( ‪188-187/6‬‬

‫‪7‬‬
‫"قال‪ :‬فما القياس‪:‬؟ أهو اﻹجتهاد؟ أم هما مفترقان؟‪ ،‬قلت‪ :‬هما إسمان لمعنى واحد‪ .‬قال‪ :‬فما‬
‫جماعهما‪ ،‬قلت‪ :‬كل ما نزل بمسلم ففيه حكم ﻻزم‪ ،‬أو على سبيل الحق فيه دﻻلة موجودة‪ ،‬وعليه‬
‫إذا كان فيه بعينه حكم ‪ :‬إتباعه؛ وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدﻻلة على سبيل الحق فيه باﻹجتهاد؛‬
‫واﻻجتهاد هو القياس"‪.2‬‬

‫فسوى الشافعﻲ القياس و اﻹجتهاد‪ ،‬و لكن عامة أهل العلم على خﻼف هذا التعريف‪ ،‬وتعقبه اﻹمام‬
‫الحرمين )البرهان‪ ،‬ج‪ (2‬بأن تسوية القياس باﻻجتهاد فﻲ طلب الحق‪ ،‬فاسد؛ بسبب أن من كان يجتهد فﻲ‬
‫طلب النص ليس قايسا مع أنه مجتهد‪.‬‬

‫ويتعذرعن الشافعﻲ رحمه ﷲ أنه أراد به المعنى المجازي‪ ،‬فسوى بينهما مبالغة فقط‪ ،‬كما قال النبﻲ صلى‬
‫ﷲ عليه وسلم‪" :‬الحج عرفة"؛ إذ القياس هو أهم مباحﺚ اﻹجتهاد‪ .‬و ليس مرا ده به القياس الحقيقﻲ كما‬
‫بين السرخسﻲ‪" :‬ويسمى ذلك)القياس( اجتهادا مجازا ايضا‪ ،‬ﻷن ببذل المجهود يحصل هذا المقصود"‪.3‬‬

‫المنهج الثاني ‪ :‬القياس هوإدراك العلة ﻓي نظر المجتهد ‪.‬‬

‫ذهب بعض اﻷصوليون إلى أن القياس من عمل المجتهد‪ ،‬ويرى أصحاب هذا المنهج أن للمجتهد دخﻼ فﻲ‬
‫إدراك العلة المشتركة بين اﻷصل والفرع‪ ،‬وفﻲ إثبات الحكم فﻲ الفرع‪ ،‬سواء كان مدركا لحكم ﷲ تعالى‬
‫أو مخالفا له‪ .‬فعرفوا القياس كما يلى ‪:‬‬

‫قال العزالﻲ‪" :‬أنه )القياس( حمل معلوم على معلوم فﻲ إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما‪ ،‬بأمر جامع بينهما‬
‫من إثبات حكم أوصفة أو نفيهما عنهما"‪.4‬‬

‫عرفه اليضاوي‪":‬وهو إثبات حكم معلوم فﻲ معلوم آخر ﻻشتراكهما فﻲ علة الحكم عند المثبت"‪.5‬‬

‫عرفه ابن السبكﻲ‪" :‬هو حمل معلوم على معلوم لمساواته فﻲ علة حكمه عند الحامل"‪.6‬‬

‫وفﻲ قولهم "إثبات" أو "حمل"‪ ،‬وقولهم "عند الحامل" أو"عند المثبت" إشارة إلى أن مدار القياس عندهم‬
‫إدراك العلة فﻲ نظر المجتهد‪ ،‬وأنه فعل من أفعال المجتهد‪ .‬ويعترض على هذا بأن اﻹثبات هو ثمرة‬
‫القياس ﻻ القياس نفسه‪.‬‬

‫‪ ( 2‬اﻹمام محمد بن إدريس الشافعﻲ‪ ،‬الرسالة )بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪1426،‬هـ‪2006/‬م(‪413 ،‬‬
‫‪ ( 3‬أبوبكر محمد بن أحمد السرخسﻲ‪ ،‬أصول السرخسﻲ)بيروت‪ ،‬دار المعرفة( ‪143/2‬‬
‫‪ ( 4‬أبو حامد الغزالﻲ‪ ،‬المستصفﻲ من علم اﻷصول )بيروت‪ ،‬دار إحياء التراثى العربﻲ(‪96/2 ،‬‬
‫‪ ( 5‬ناصر الدين عبد ﷲ بن عمر البيضاوي‪ ،‬منهاج الوصول إلى علم اﻷصول )بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪1424،‬هـ‪2004/‬م(‪5/3 ،‬‬
‫‪ ( 6‬تاج الدين عبد الوهاب السبكﻲ‪ ،‬جمع الجوامع فﻲ أصول الفقه )بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪1424،‬هـ‪2003/‬م( ‪80‬‬

‫‪8‬‬
‫المنهج الثالث‪ :‬القياس هو إ ظهار الحكم ﻓي الفرع المقيس عليه‪.‬‬

‫وأنصار هذا المنهج إعتبروا القياس عمﻼ من عمل ﷲ تعالى‪ ،‬وهو دليل شرعية‪ ،‬وضعه الشارع‪ ،‬مثل‬
‫الكتاب والسنة؛ وانما المجتهد يظهر عﻼمات القياس‪ ،‬ويدرك حكم ﷲ فيه عن طريق النظر‪.‬‬

‫ومن تعريفاتهم ما يلى ‪:‬‬

‫قال اﻷمدي بعد إيراد جميع تعريفاته المعروفة وإبطال كل واحد منها‪ ":‬والمختار فﻲ حد القياس أن يقال‬
‫أنه عبارة عن اﻹستواء بين الفرع واﻷصل فﻲ العلة المستنبطة من حكم اﻷصل"‪.7‬‬

‫‪8‬‬
‫وقال ابن الحاجب‪" :‬هو مساواة فرعٍ اﻷص َل فﻲ علة حكمه"‪.‬‬

‫وتعريفهم بـ"المساواة" مشعر على أنه ليس من عمل المجتهد‪ ،‬وليس له إﻻ إظهار المساواة التى نصبها ﷲ‬
‫فيه‪ .‬ولكن يرد على هذا التعريف أن المساواة صفة للمقيس‪ ،‬والقياس من فعل القائس‪ ،‬فالمساواة إنما تكون‬
‫نتيجة قياسه ﻻ نفس القياس‪ ،‬ويعترض عليه أيضا بأنه ﻻ يشمل القياس الفاسد‪ .‬والحق فﻲ الحد أن يعرف‬
‫الماهية بما هﻲ‪ ،‬ثم يفرق بين الصحيح والفاسد‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬التعريف الراجح‬

‫ذكرنا أن تعريف القياس باﻹجتهاد‪ ،‬تعريف باﻷخص إﻻ إذا أخذ بمعنى المجاز‪ ،‬ولم يعرفه أحد إﻻ‬
‫الشافعﻲ – رحمه ﷲ‪ .‬وما أورد الباحﺚ من تعريف أصحاب المناهج اﻷخرى‪ ،‬فكلها صحيح ومعتبر‪،‬‬
‫لكونها جامعا ﻷفراد القياس المعتبرة‪ ،‬ومانعا عن غيره؛ وﻷنه راجع إلى اﻹصطﻼح‪ ،‬وﻻ مشاحة فيه؛ و‬
‫مآل التعريفات واحد ﻻيختلف‪ ،‬فهذا التنوعات فﻲ التعريف ﻻ أثر له فﻲ معنى القياس وﻻ الفروع الفقهية‪.‬‬
‫وكلهم اتفقوا على أن أركان القياس أربعة‪ ،‬وأن حكم اﻷصل يلحق بالفرع‪ ،‬إذا إشتركا فﻲ وصف واحد‬
‫معتبر فﻲ الشرع؛ ولكن يرد اﻻعتراضات على إختيارهم بعض اﻷلفاظ فﻲ تعريفاتهم‪ ،‬إشارة إلى رأيهم‬
‫عن صفة القياس؛ أهو فعل ﷲ أم فعل المجتهد؟‪ ،‬و قد أشير إلﻲ هذه اﻹعتراضات‪ ،‬عند بيان التعريفات؛‬
‫فﻼ حاجة إلى تفصيله هنا‪.‬‬

‫ويقول الباحﺚ فﻲ توضيح ماهية القياس‪ ،‬تحقيقا لكل ما قيل فيه‪ :‬أن القياس بذل الجهد فﻲ إلحاق صورة‬
‫مجهولة الحكم بصورة معلومة‪ ،‬ﻻشتراكهما على جامع‪ ،‬يقتضﻲ ذلك الحكم‪.‬‬

‫‪ ( 7‬سيف الدين أبى الحسن اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام فﻲ أصول اﻷحكام )بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية( ‪171-170/3‬‬
‫‪ ( 8‬ابن الحاجب ‪ ،‬مختصر ‪137/4‬‬

‫‪9‬‬
‫شرح التعريف‪:‬‬

‫يشعر قول الباحﺚ "بذل الجهد" على أن للمجتهد نظر فﻲ القياس‪ ،‬سواء كان مثبتا – كما قال أصحاب‬
‫المنهج الثانﻲ‪ ،‬أو مظهرا لحكم ﷲ فيه – كما قال أنصار المنهج الثالﺚ‪ .‬ويشمل "اﻹلحاق" الحم َل والتسوية‬
‫بين اﻷصل والفرع فﻲ الحكم بجامع‪ .‬والمراد بـ"الصورة المجهولة " هو الفرع ‪ -‬أي المقيس‪ .‬والمقصود‬
‫من "المعلومة" هو اﻷصل – أي المقيس عليه‪ ،‬ﻷن حكمه معلوم من النص‪ .‬و"الجامع" هو العلة‬
‫المشتركة بين اﻷصل والفرع‪.‬‬

‫المثال للقياس‪:‬‬

‫ويمكن أن يمثل له بقياس اﻷرزعلى البر فﻲ ثبوت الربا بجامع وجود الطعم فيه‪ .‬وبيان ذلك‪ :‬أن اﻷرزهو‬
‫الفرع – أي المقيس الذي هو محل النزاع‪ ،‬لعدم ورود حكمه فﻲ الخبر‪ ،‬فﻼ نعرف حكمه قبل إثباته‬
‫بالقياسح والبر هو اﻷصل – أي المقيس عليه الذي هو محل اﻹتفاق‪ ،‬ﻹن حكمه ثابت بحديﺚ الربا‬
‫المشهور؛ والربا هو الحكم الذي نريد إثباتها فﻲ الفرع؛ والطعم هو العلة المشتركة بين اﻷرز والبر‪ ،‬وبه‬
‫يثبت الحكم فﻲ الفرع‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬حجية القياس‬

‫ﻻ خﻼف بين المفكرين على أن القياس حجة فﻲ اﻷمور الدنيوية‪ ،‬واتفق العلماء أيضا على حجية القياس‬
‫الصادر من النبﻲ صلى ﷲ عليه و سلم؛ وإنما الخﻼف فﻲ القياس الشرعﻲ‪ ،‬فهو حجة شرعية أصلية عند‬
‫الجمهور من الفقهاء والمتكلمين والمنطقيين والفلسفيين‪ ،‬و عمل به اﻷصحاب والتابعين‪ ،‬واتفق عليه‬
‫المذاهب اﻷربعة المشهورة‪ ،‬و اعتمدوا عليها فﻲ الفروع‪ ،‬اﻻ ان بعض الظاهرية وغيرهم شرطوا لقبولها‬
‫أو انكروها بتمام!‪ ،‬واستدل كل منهم على ما ذهب إليه‪ ،‬بدﻻئل متنوعة من الكتاب والسنة واﻹجماع‬
‫واستنصروا رأيهم باﻷدلة العقلية أيضا‪.9‬‬

‫المطلب اﻷول‪ :‬المذاهب ﻓي حجية القياس‬


‫تنوعت آراء العلماء فﻲ وجوب العمل بمقتضى القياس‪ ،‬باعتباره دليﻼ شرعيا كالنص‪ ،‬على مذاهب؛‬
‫أشهرها ما يلى‪:‬‬

‫‪ ( 9‬تقيى الدين على السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج فﻲ شرح منهاج الوصول )بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪1424 ،‬هـ‪14-9/3 (2004/‬‬

‫‪10‬‬
‫اﻷول‪ :‬مذهب الجمهور‬

‫جماهير العلماء ذهبوا إلى جواز التعبد بمقتضﻲ القياس عقﻼ‪ ،‬ووجوب العمل به شرعا؛ وبه قال الصحابة‬
‫والتابعون واﻷئمة اﻷربعة ‪ -‬أي أبو حنيفة والشافعﻲ واﻹمام مالك وأحمد‪ -‬رحمهم ﷲ‪ .‬واستدلوا لجوازه‬
‫اعتبار اﻷمثال واﻷشباه من قضية العقل‪ ،‬فهو يسوي بين‬
‫ُ‬ ‫عقﻼ‪ ،‬بأنه ﻻ يلزم من وقوعه محال أصﻼ‪ ،‬وبأن‬
‫المتماثﻼت فﻲ الحكم‪ .‬وفﻲ تعبد بالقياس مصلحة ﻻ يحصل بغيره‪ ،‬والعقل يجوز ما فيه مصلحة‪.10‬‬

‫الثاني ‪ :‬مذهب المعتزلة‬

‫قال أبو الحسين البصري من المعتزلة‪ ،‬أنه يجب العمل بالقياس عقﻼ وإنما الشرع والنصوص يأكده‪ ،‬فثبت‬
‫عندهم وجوب العمل بالقياس عقﻼ وشرعا‪ .‬وقال القفال وأبوبكر الدقاق – من أصحاب مذهب الشافعية‪،‬‬
‫بهذا المذهب‪.11‬‬

‫واستدلوا له بان الشريعة كاملة يشمل كل الحوادث‪ ،‬والنبوة قد انتهى بالنبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم‪ ،‬ولكن‬
‫الحوادث يحدث ويتجدد وﻻ نهاية لها؛ فوجب القياس شرعا فيما ﻻ نص فيه من الحوادث الجديدة‪ ،‬لكﻲ ﻻ‬
‫يخلو شريعة ﷲ من اﻷحكام‪ .‬واما عقﻼ فﻸنه يوجب قياس ما اتفق فيه العلل‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬مذهب الظاهرية‬

‫ذهب أصحاب الظاهرية ‪ -‬وعلى رأسهم ابن حزم اﻷندلس ‪ -‬إلى عكس ما قال به الجمهور‪ .‬فالتعبد بالقياس‬
‫جائزعندهم عقﻼ‪ ،‬وﻻ يجوزالتعبد به شرعا – أي لم يرد فﻲ الشرع ما يدل على العمل بالقياس‪ ،‬وإكان‬
‫وقوعه جائزا عقﻼ؛ ﻷنه ﻻ توجد حادثة اﻻ وفيها حكم ﷲ ثابتا بالنص‪ ،‬أو بفحوى النص ودليله‪ .‬و ﻻ يعمل‬
‫اﻻ بالكتاب و السنة واﻹجماع‪ .‬ولكن الداود الظاهري يقبل القياس الجلﻲ فقط‪ ،‬فقياس اﻷولى و المساوئ‬
‫مقبول عنده‪.12‬‬

‫الرابع‪ :‬مذهب الشيعة‬

‫بعض علماء الشيعة قالوا باستحالة التعبد بالقياس عقﻼ؛ ولكن الزيدية ‪ -‬فرق من الشيعة ‪ -‬قالوا بحجية‬
‫القياس‬

‫‪ ( 10‬محمد بن على الشوكانى‪ ،‬إرشاد الفحول إلى تحقيف الحق من علم اﻷصول )دارالفكر( ‪199‬؛ الغزالﻲ‪ ،‬المستصفﻲ ‪102-99/2‬‬
‫‪ ( 11‬جمال الدين اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول فﻲ شرح منهاج الوصول ‪798/2‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج ‪9/3‬؛ الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪199‬‬
‫‪ ( 12‬المراجع السابق‬

‫‪11‬‬
‫وفﻲ حجية القياس آراء أخرى‪ ،‬كقبول القياس حجة فﻲ مواضع خاصة؛ وذهب إليه أبو بكر القاسانى‬
‫والمعافﻲ النهروانى – كﻼهما من الشافعية؛ فيجب العمل عندهم فﻲ صورتين‪:13‬‬

‫اﻻول ‪ :‬إذا كانت علة اﻷصل منصوصا عليها ولو باﻹجماع‪ ،‬كما فﻲ قوله تعإلى ]والسارق‬
‫والسارقة ﻓاجلدوا ايديهما ‪.14[...‬‬

‫الثانﻲ‪ :‬إذا كان الحكم أولى فﻲ الفرع كقياس الضرب على التأفيف فﻲ قوله تعالى ]وﻻ تقل لهما‬
‫أف[‪.15‬‬

‫وهناك تفاصيل أخرى يوجد فﻲ الكتب عند البحﺚ عن القياس وحجيته‪ .‬واوردها ابن السبكﻲ موجزا فﻲ‬
‫جمع الجوامع‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫"وهو حجة فﻲ اﻷمور الدنيوية؛ قال اﻹمام )الرازي(‪ :‬اتفاقا‪ ،‬وأما غيرها فمنعه قوم عقﻼ‪ ،‬وابن‬
‫حزم شرعا‪ ،‬وداود غير الجلﻲ‪ ،‬وأبو حنيفة فﻲ الحدود والكفارات والرخص والتقديرات‪ ،‬وابن‬
‫عبدان مالم يضطر إليه‪ ،‬وقوم فﻲ اﻷسباب والشروط والموانع‪ ،‬وقوم فﻲ أصول العبادات‪ ،‬وقوم‬
‫فﻲ الجزئﻲ الحاجﻲ إذا لم يرد نص على وفقه كضمان الدرك وآخرون فﻲ العقليات‪ ،‬وآخرون فﻲ‬
‫النفﻲ اﻷصلﻲ"‪.16‬‬

‫خﻼصة الكﻼم ‪:‬‬

‫ويفهم من هذه اﻷقوال السابقة أن هناك ثﻼث فرق فﻲ حجية القياس ‪:‬‬

‫‪ (1‬يرى قبول القياس الصحيحة مطلقا؛ منهم الجمهور والمعتزلة‪.‬‬


‫‪ (2‬يزعم بعدم قبوله مطلقا؛ مسلك فرق من الشيعة و بعض الظاهرية‪.‬‬
‫‪ (3‬يرى قبول القياس فﻲ أماكنة مخصوصة؛ منهم النهروانى والقاسانى‪.‬‬

‫القول اﻷول هو الصحيح لما أوردنا من اﻷدلة النقلية والعقلية‪.‬‬

‫‪ ( 13‬اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول‪798/2‬؛ الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول‪199‬‬


‫‪ ( 14‬سورة المائدة‪3:‬‬
‫‪ ( 15‬سورة بنى إسرائيل ‪23‬‬
‫‪ (16‬ابن السبكﻲ‪ ،‬جمع الجوامع ‪80‬‬

‫‪12‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬أدلة الموجزين‬
‫استدل الجمهور لقبول القياس‪ ،‬بادلة شتﻲ من الكتاب والسنة واﻹجماع وغيرها‪ .‬وردوا جميع ما استدل به‬
‫المنكرون للقياس‪.‬‬

‫ا ﻷدلة من القرآن ‪:‬‬

‫أ( استدلوا بعموم اﻻيات اللتﻲ يطلب ﷲ فيه التفكير واﻻعتبار فﻲ آياته‪ .‬كقوله تعالى‪] :‬ﻓاعتبروا يا‬
‫أولى اﻻبصار[‪.17‬‬

‫ووجه اﻻستدﻻل أن معنى اﻻعتبار هو انتقال من شيئ إلى غيره؛ فهكذا القياس انتقا ٌل من شيئ معلوم إلى‬
‫شيئ غير معلوم‪.‬‬

‫‪ (2‬قوله تعالﻲ‪] :‬ياأيها الذين آمنوا ﻻ تقتلوا الصيد وأنتم حرم‪ ،‬ومن قتله منكم متعمدا ﻓجزاء مثل ما قتل‬
‫من النعم‪ ،‬يحكم به ذوا عدل منكم[ ‪.18‬‬

‫واﻻستدﻻل بأن ﷲ لم يحدد المثل ولم يبينه ولكن و ّكل اﻻمر إلى اﻻجتهاد‪ .‬والقياس ايضا اجتهاد ليفهم‬
‫المثل‪.‬‬

‫‪ (3‬وقوله تعالى‪] :‬و إذا جاءهم أمر من اﻷمن أو الخوف أذاعوا به‪ ،‬ولو ردوه إلى الرسول وأولى اﻻمر‬
‫منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم[‪.19‬‬

‫والمراد بأولﻲ اﻻمر هم العلماء والمجتهدون‪ .‬ووصفهم ﷲ ‘بالذين يستنبطونه’‪ ،‬واﻹستنباط هو استخراج‬
‫المعنى من النص بالرأي والفكر‪ ،‬وهو المراد بالقياس‪.‬‬

‫واستدلوا بآيات أخري التى يذكر ﷲ فيه عن ضرب المثال‪ .‬فقالوا أجاز ﷲ تشبيه الشيئ بالشيئ‪ .‬فهذا هو‬
‫القياس‪.20‬‬

‫‪ ( 17‬سورة الحشر‪2:‬‬
‫‪ ( 18‬سورة المائدة‪95/‬‬
‫‪ ( 19‬سورة النساء‪83:‬‬
‫‪ ( 20‬الشافعﻲ‪ ،‬الرسالة ‪417‬؛ الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪202-200‬؛ اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول ‪803-801/2‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج ‪14-11/3‬‬

‫‪13‬‬
‫اﻷ دلة من السنة ‪:‬‬

‫‪ -1‬ما أقر النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم‪ ،‬معاذ بن جبل على اﻹجتهاد‪ .‬فروي شعبة عن معاذ أن‬
‫النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال‪ :‬كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال‪:‬‬
‫أقضى بما فﻲ كتاب ﷲ‪ ،‬قال‪ :‬فإن لم يكن فﻲ كتاب ﷲ؟ قال‪ :‬فبسنة رسول ﷲ صلى ﷲ عليه‬
‫وسلم‪ ،‬قال فإن لم يكن فﻲ سنة رسول ﷲ؟ قال ‪ :‬أجتهد رأيﻲ‪ ،‬وﻻ آلو‪ .‬قال‪ :‬فضرب رسول‬
‫الذي وفق رسو َل رسو ِل ﷲ لما يرضاه رسول ﷲ"‪.21‬‬ ‫ﷲ صدري‪ ،‬وقال‪" :‬الحمد‬
‫‪ -2‬قال النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم ‪ ":‬إذا حكم الحاكم فاجتهد‪ ،‬ثم أصاب فله أجران؛ وإذا حكم‬
‫فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"‪.22‬‬
‫‪ -3‬واستدلوا ايضا بما ورد عن النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم انه طبق القياس فﻲ عدة أمور‪ .‬كجواب‬
‫النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم لجارية الخثعمية لسؤالها عن أبيها مات وعليه قضاء؛ فقال‪":‬أرأيت‬
‫‪23‬‬
‫لو كان على أبيك دين فقضيته ‪ ،‬أكان ينفعه ذلك؟" قالت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪":‬فدين ﷲ أحق بالقضاء"‬

‫و قياس النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم فﻲ هذه الوقائع يكفﻲ دليﻼ على أن القياس مقبول فﻲ الشرع‪.‬‬

‫اﻻدلة من أقوال الصحابة ‪:‬‬

‫واستدل الموجزون بماروي من الوقائع التﻲ قاس فيها الصحابة‪ .‬كقتال أبﻲ بكر‪ -‬رضﻲ ﷲ عنه ‪ -‬المانع‬
‫من الزكاة قياسا على تارك الصﻼة‪ ،‬وقياس علﻲ – كرم ﷲ وجهه ‪ -‬الشارب المسكر على القاذف‪ ،‬بحده‬
‫ثمانين جلدة وعلل بانه إذا شرب سكر‪ ،‬وإذا سكر هذي وإذا هذي افتري؛ فعليه حد المفتري‪ .‬وقول‬
‫عمرﻻبﻲ موسى اﻻشعري لما أرسله الﻲ البصرة قال ‪" :‬الفهم الفهم فيما يحتاج فﻲ صدرك مما لم يبلغك‬
‫فﻲ الكتاب والسنة‪ .‬واعرف اﻻشباه واﻻمثال وقس اﻻمور على ذلك"‪ .‬وقياس ابن عباس الجدَ على ابن‬
‫اﻻبن فﻲ حجب اﻻخوة‪ .‬وهكذا ما روي من غيرهم من الصحابة رضوان ﷲ عليهم أجمعين دليل ظاهر‬
‫على أن القياس دليل شرعيى أقره اﻻسﻼم‪.24‬‬

‫‪ ( 21‬أخرجه ابو داود فﻲ السنن‪ :‬باب إجتهاد الرأي فﻲ القضاء‪ ،‬رقم الحديﺚ‪3119 :‬؛ وأخرجه الترمذي فﻲ السنن‪ :‬باب ما جاء فﻲ القاضﻲ كيف‬
‫يقضى‪ ،‬رقم الحديﺚ‪1249 :‬؛ ابن قيم الجوزي‪ ،‬إعﻼم الموقعين )القاهرة‪ ،‬دار الحديﺚ‪1422 ،‬هـ‪2002/‬م( ‪162/1‬‬
‫‪ ( 22‬رواه مسلم‪ ،‬باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ‪ ،‬رقم الحديﺚ‪4584 :‬‬
‫‪ ( 23‬رواه مسلم‪ ،‬كتاب الصيام‪ ،‬باب قضاء الصيام عن الميت‪ :‬رقم الحديﺚ ‪2749 :‬‬
‫‪ ( 24‬اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول‪806-804/2‬؛ ابن قيم‪ ،‬إعﻼم الموقعين ‪165-163/1‬؛ الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪203‬‬

‫‪14‬‬
‫اﻷ دلة العقلية ‪:‬‬

‫واستدل الجمهور بأدلة عقلية يوجب اﻻستدﻻل بالقياس‪ .‬وقالوا بأن النصوص محدود فﻲ القرآن والسنة‪.‬‬
‫وﻻ مجال لنص جديد حيﺚ اكمل ﷲ هذا الدين و اختتم النبوة مع الرسول ﷲ ى ﷲ عليه وسلم‪ .‬ولكن‬
‫ئ من حكم ﷲ‬
‫اﻻمور والمشاكل يتجدد واحد اثر اخري‪ .‬فﻼ بد من القياس ليتم أمر ﷲ‪ ،‬ولئﻼ يعطيى شي ٌ‬
‫فيه‪ .‬وقالوا أيضا بأن العقل السليم يقر القياس و يقبله‪ .‬و ﻻ يلزم من وقوعه محال أصﻼ‪ ،‬بل فيه مصلحة‬
‫يميل إليه العقل؛ وذلك ﻷن المجتهد إذا رأي دليﻼ قطعيا يثبت حكما فﻲ صورة من الصور‪ ،‬وعلم من‬
‫القرائن أن هناك معنى يمكن أن يكون داعيا ﻹثبات ذلك الحكم‪ ،‬ثم إذا وجد هذا المعنى فﻲ صورة أخرى‪،‬‬
‫ولم يكن هناك ما يعارض هذا الحكم؛ غلب على ظنه ثبوت الحكم فيه أيضا‪ .‬ومخالفته يوجب العقاب ﻷنه‬
‫مخالفة لما ثبت عنده من حكم ﷲ‪ ،‬فالعقل يرجح فعل ذلك جلبا للمصلحة ودفعا للمفسدة‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬القول الراجح ﻓي حجية القياس‬


‫إذا بحثنا الكتب الفقه ظهر لنا أن العلماء متفقون على أكثرالمسائل الفرعية‪ ،‬وان اختلفوا فﻲ دليلها ‪ -‬أهﻲ‬
‫نص أم قياس؟‪ .‬فما ذكرنا من اﻻختﻼف بين العلماء على حجية القياس لفظية‪ ،‬اﻻ ما بالﻎ ابن حزم فﻲ‬
‫انكار حجيته‪ .‬ودعواه مردود بﻼ شك‪ ،‬لما أسلفنا من اﻷيات القرآنية واﻷحاديﺚ النبوية واﻹجماع‪.‬‬

‫فالذي يظهر للباحﺚ أن القياس حجة فﻲ الدين بﻼ شك‪ .‬ومن الجدير بالذكر انهم مع إختﻼفهم فﻲ التسمية‪،‬‬
‫متفقون فﻲ مسائل عديدة‪ ،‬على ان حكم اﻻصل ثابت فﻲ الفرع ‪ -‬وان سماها بعضهم باسم آخر؛ ومنها ما‬
‫يلى ‪:‬‬

‫‪ (1‬إذا كانت علية القياس ثابتة فﻲ اﻷصل بأدلة قطعية كالكتاب و السنة واﻹجماع‪.‬‬
‫‪ (2‬القياس الجلﻲ كقياس حرمة الضرب على التافيف بجامع اﻻيذاء المشتمل على كل منهما‪.‬‬

‫و سماها داود الظاهري اما استدﻻﻻ أو استنباطا‪ .‬فكأن منكرو القياس انكروا التسمية‪ ،‬واﻻ فهم يعترفون‬
‫به؛ كما بينه الشوكانى‪: 25‬‬

‫"أن نفاة القياس لم يقولوا بكل ما يسمى قياسا وان كان منصوصا على علته أومقطوعا فيه بنفﻲ‬
‫الفارق بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلوﻻ عليه بدليل اﻷصل مشموﻻ به مندرجا تحته‪ .‬وبهذا‬
‫يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه ويقرب إليك ما بعدوه ﻷن الخﻼف فﻲ هذا النوع‬

‫‪ ( 25‬الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪204‬‬

‫‪15‬‬
‫الخاص صار لفظيا‪ ،‬وهو من حيﺚ المعنى متفق على اﻷخذ به والعمل عليه؛ واختﻼف طريقة‬
‫العمل ﻻ يستلزم اﻻختﻼف المعنوي"‬

‫المبحث الثالث‪ :‬أركان القياس‬

‫يفهم من تعاريف القياس أن له أربعة أركان‪ ،‬وهﻲ‪ :‬اﻷصل‪ ،‬والفرع‪ ،‬والعلة‪ ،‬وحكم اﻷصل‪ .‬و اتفق‬
‫العلماء المجيزون على هذا القدر‪ ،‬ولكن اختلفوا فﻲ تسميتها‪ ،‬وشروطها‪ ،‬و تفاصيلها‪ .‬وكﻼمهم فﻲ هذا‬
‫الباب كثير‪ ،‬ﻻ نحتاج إليه فﻲ هذا البحﺚ‪ .‬ونورد هنا مايشبعه‪.‬‬

‫المطلب اﻷول‪ :‬اﻷصل‬


‫الركن اﻷول هو اﻷصل‪ .‬ويطلق فﻲ إصلطﻼح اﻷصوليين على الصورة المقيس عليها‪ ،‬وهو محل اﻹتفاق‬
‫لدﻻة النص على حكمه‪ .‬و اختلفوا على تعيين اﻷصل على ثﻼث طرق‪:26‬‬

‫الطريق اﻷول‪ :‬اﻷصل هو المحل الحكم المشبه به ‪ -‬أي الخمر فﻲ المثال المذكور‪ ،‬وهذا مسلك‬
‫الفقهاء و نظار‪.‬‬

‫الطريق الثانﻲ‪ :‬هو دليل الحكم المشبه به ‪ -‬أي النص الدال على الحكم‪ ،‬وهذا مسلك المتكلمين‪.‬‬
‫الطريق الثالﺚ‪ :‬هو الحكم نفسه ‪ -‬أي الحرمة فﻲ مسألة الخمر‪،‬‬

‫ولكل وجه‪ ،‬ﻷن اﻷصل ما يبتنﻲ عليه غيره وحكم الفرع مبنﻲ على كل واحد من اﻷمور الثﻼثة؛ ولكن‬
‫كون اﻷصل هو النص نظر‪ ،‬ﻷنه ان كان كذلك‪ ،‬لبنﻲ الحكم على النص‪ ،‬ﻻ القياس؛ و أماإستعماله لمعنى‬
‫اﻷول‪ ،‬هو الشائع فﻲ الكتب والبحوث‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الفرع‬


‫الركن الثانﻲ من أر كان القياس هو الفرع‪ ،‬يقصد اﻷصوليون به الصورة المقيس الذي تعدي إليه الحكم‪،‬‬
‫وهو محل النزاع الذي لم يرد عنه شيئ فﻲ النصوص‪ .‬و يجري فﻲ تعيينه الخﻼف الذي سبق فﻲ‬
‫اﻷصل؛ فيقال أنها محل الحكم المختلف فيه – أي النبيذ‪ ،‬وقيل هو الحكم نفسه الذي فﻲ محل النزاع‪ ،‬ولم‬

‫‪ ( 26‬اﻵمديﻲ‪ ،‬اﻹحكام‪171/3 ،‬؛ د‪ .‬لخضر لخضاري‪ ،‬تعارض القياس مع خبر الواحد وأثره فﻲ الفقه اﻹسﻼمى )بيروت‪ ،‬دار ابن حزم‪،‬‬
‫‪1427‬هـ‪2006/‬م( ‪121‬؛ ابن الحاجب‪ ،‬مختصر مع رفع الحاجب ‪156/4‬‬

‫‪16‬‬
‫يقل أحد أنه دليله قياسا على ماذكر بأن المراد باﻷصل هو النص الدال على الحكم‪ ،‬ﻷن الدليل هنا هو‬
‫القياس‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬العلة‬


‫العلة هﻲ الركن الثالﺚ للقياس‪ ،‬وعليه مداره‪ .‬وهو اﻷمر المشترك بينه وبين اﻷصل‪ ،‬ويلحق بها حكم‬
‫اﻷصل إلى الفرع‪ .‬وفﻲ تعريفه أقوال ﻻ يسع لها هذا البحﺚ‪ ،‬فنكتفﻲ فيه بنقل قول ابن السبكى المحتوي‬
‫لهذه الخﻼفات إختصارا‪ .‬قال ابن السبكى ‪:‬‬

‫"الرابع العلة؛ قال أهل الحق المعرف‪ ،‬وحكم اﻷصل ثابت بها ﻻ بالنص خﻼفا للحنفية‪ ،‬وقيل‬
‫المؤثر بذاته‪ ،‬وقال الغزالﻲ بإذن ﷲ وقال اﻵمدي الباعﺚ عليه‪ ،‬وقد تكون دافعة أو رافعة أو‬
‫فاعلة اﻷمرين‪ ،‬ووصفا حقيقيا ظاهرا منضبطا أو عرفيا مطردا‪.27"...‬‬

‫المطلب الرابع‪ :‬حكم اﻷصل‬


‫الركن اﻷخير هو حكم اﻷصل الذي يتعلق بفعل المكلف وجوبا أو حظرا أو تخييرا‪ .‬ويكون ثابتا بأدلة‬
‫الحكم فﻲ الفرع أيضا‪ ،‬لكونه شبيها باﻷصل بجامع العلة‪.‬‬
‫َ‬ ‫شرعية كالقرآن والسنة‪ .‬والقياس يثبت هذا‬

‫الفصل الثاني‪ :‬معنى التعارض‬

‫نفصل فيه معنى التعارض فﻲ اللغة وإصطﻼح اﻷصوليين‪ ،‬وﻻ نورد شروطه وأركانه ﻷنا ﻻنحتاج إليه‬
‫فﻲ هذا لبحﺚ‪.‬‬

‫المبحث اﻷول‪:‬التعارض لغة‬


‫التعارض على وزن تفاعل‪ ،‬يقال ‪ :‬عارض الشيئ بالشيئ معارضة ‪ :‬قابله‪ ،‬وعارضته فى المسير أي‬
‫سرت حياله‪ ،‬وعارض فﻼن فﻼنا إذا أخذ فﻲ طريق وأخذ فﻲ طريق آخر فالتقيا‪ ،‬ويقال ‪ :‬عارضته بمثل‬
‫ما صنع أي أتيت إليه بمثل ما أتى وفعلت مثل ما فعل‪.28‬‬

‫‪ ( 27‬ابن السبكﻲ‪ ،‬جمع الجوامع ‪84‬‬


‫‪ ( 28‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب ‪186-165/7‬‬

‫‪17‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬التعارض إصطﻼحا‬

‫إختلف اﻷصوليون فﻲ تعريف التعارض تبعا ﻹختﻼفهم فﻲ شروط التعرض و إختﻼفهم فﻲ وقوعه بين‬
‫اﻷدلة القطعية أو الظنية‪ .‬فﻼ نذهب إلى تفاصيل هذا اﻹختﻼف‪ ،‬بل نكتفﻲ فﻲ هذا البحﺚ بإيراد بعض‬
‫التعارف المشهور وإختيار واحد منها‪.‬‬

‫عرفه السرخسﻲ وقال‪" :‬وأما الركن‪ ،‬فهو تقابل الحجتين المتساويتين‪ ،‬على وجه يوجب كل واحد منها‬
‫ضد ما توجبه اﻷخرى‪ ،‬كالحل والحرمة والنفﻲ واﻹثبات‪."29‬‬

‫وسواه الغزالﻲ بالتناقض‪ ،‬وقال فﻲ المستصفﻲ أن التعارض هو التناقض؛ واعترض على هذه التعريف‬
‫بأنه تعريف لفظﻲ‪ ،‬وأيضا لم يتفق على تسويته اﻷصوليون‪ ،‬ومنهم من فرق بينهما‪ ،‬وقالوا ﻻ يقع التناقض‬
‫بين اﻷدلة الشرعية أصﻼ‪.30‬‬

‫وعرف اﻷسنوي فﻲ شرحه على المنهاج بأنه تقابل اﻷمرين على وجه يمنع كل واحد منها مقتضى‬
‫صاحبه‪ .‬وتعقب عليه بأن قوله "اﻷمرين" أشمل وأعم مماهو المراد فﻲ الباب‪ .‬واستعمل البيضاوي وابن‬
‫السبكﻲ والشوكانى التعادل بمعنى التعارض‪.31‬‬

‫وعرفه الشوكانى وقال‪" :‬وأما التعادل فهو التساوي وفﻲ الشرع استواء اﻷمارتين"‪ ،32‬ولكن هذا التعريف‬
‫أعم وغير مانع‪ ،‬ﻷنه ﻻ يلزم من اﻹستواء بين الشيئين أن يكونا متعارضين‪.‬‬

‫ويمكن أن يقال أن المراد بالتعارض هنا هو التقابل بين اﻷدلة الشرعية بحيﺚ يقتضى أحدهما خﻼف ما‬
‫يقتضى اﻵخر‪.‬‬

‫‪ ( 29‬ابو بكر محمد بن احمد بن ابى سهل السرخسى‪ ،‬أصول السرخسﻲ‪) ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية( ‪12/2‬‬
‫‪ ( 30‬محمد إبراهيم محمد الحفناوي‪ ،‬التعارض والترجيح عند اﻷصوليين وأثرهما فﻲ الفقه اﻹسﻼمى ‪32‬‬
‫‪ ( 31‬عبد الرحمن البنانى‪ ،‬حاشية البنانى على شرح المحلﻲ على متن جمع الجوامع )بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪1418 ،‬هـ‪1998/‬م(‪551/2‬؛‬
‫البيضاوي‪ ،‬منهاج الوصول مع شرح اﻹسنوي ‪963/2‬‬
‫‪ ( 32‬الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪273‬‬

‫‪18‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬معنى الترجيح‬

‫نبحﺚ فﻲ هذا الفصل عن معنى الترجيح لغة واصطﻼحا‪ ،‬وﻻ نذهب إلى أقسامه وصوره‪.‬‬

‫المبحث اﻷول‪ :‬الترجيح لغة‬


‫الترجيح مصدر رجّح‪ ،‬ورجح الشيئ بيده‪ :‬وزنه ونظر ما ثقله‪ .‬ورجحت ترجيحا إذا أعطيته راجحا؛‬
‫ئ يرجح رجوحا ورجحانا ‪ :‬مال‪.33‬‬
‫ورجح الشي ُ‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الترجيح عند اﻷصوليين‬


‫الترجيح أحد طرق دفع التعارض بين اﻷدلة الشرعية كالجمع بينهما‪ ،‬ومعناه واضح؛ ولكن ذهب‬
‫اﻷصوليون إلى التفاصيل حسب رأيهم فﻲ المسائل اﻷصولية‪ ،‬واختلفوا فﻲ تعريف أيضا نظرا لهذه‬
‫التفاصيل‪ ،‬وﻻ نريده هنا ونكتفﻲ على نماذج منه‪ ،‬كﻲ يظهر معناه فقط‪.‬‬

‫عرفه اليضاوي‪" :‬الترجيح تقوية إحدى اﻷمارتين على اﻵخرى ليعمل بها"‪.34‬‬

‫فهذا التعريف مبنﻲ على رأيه أن الترجيح صفة اﻷدلة وليس من عمل المجتهد‪ ،‬ولكن يرد على هذاأنه حد‬
‫للرجحان أو الترجح ﻻ للترجيح ﻷنه عمل شخص‪ .‬وقوله"اﻷمارتين" – أي الدليلين الظنين‪ ،‬يشير إلى‬
‫عدم التعارض بين القطعيين وبين القطعﻲ والظنﻲ‪.‬‬

‫وتعريف ابن حاجب و الشوكانى أيضا فﻲ معناه‪" :‬اقتران اﻷمارة بما تقوي بها على معارضها" وعرف‬
‫على هذا اﻹتجاه اﻵمدي وغيره‪.35‬‬

‫وعرف أيضا بمعنى أنه عمل المجتهد‪ ،‬كما عرفه الرازي بأنه تقوية أحد الطريقين‪ ،‬ليعلم اﻷقوي فيعمل‬
‫به‪ ،‬ويطرح اﻵخر‪.‬هذا هو الصحيح ﻷن الترجيح يشعر على أنه عمل عامل‪ ،‬وهنا هو عمل المجتهد‪ .‬فعلى‬
‫هذا يمكن أن يقال أن الترجيح تقديم المجتهد أحد الدليلن المتعارضين لما له مزية على اﻵخري‪.‬‬

‫و اتفق أكثر العلماء على جواز التمسك بالترجيح‪ ،‬وأنكر بعضهم العمل بالترجيح وقالوا يلزم التخيير أو‬
‫التوقف عند التعارض‪ ،‬وﻻ يرجح أحد الظنين وإن تفاوتا‪ .‬ولكن هذا غير صحيح لترجيح الصحابة بين‬
‫اﻷخبار المتعارضة فﻲ عدة وقائع‪ .‬واﻷصح أن العمل بالدليل الراجح واجب اقتداء بالصحابة‪.36‬‬

‫‪ ( 33‬ابن منظور‪،‬لسان العرب ‪445/2‬‬


‫‪ ( 34‬البيضاوي‪ ،‬منهاج الوصول ‪971/2‬‬
‫‪ ( 35‬عبد اللطيف البرزنجى‪ ،‬التعارض والترجيح بين اﻷدلة الشرعية )بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪1417 ،‬هـ‪1996/‬م( ‪79/1‬؛ اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول‬
‫‪971/2‬؛ الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪273‬؛ ابن الحاجب‪ ،‬مختصر ‪608/4‬؛ اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪460/4‬‬

‫‪19‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬التعارض والترجيح بين اﻷقيسة‬

‫بعد بيان معانى اﻷلفاظ وما يحتاج إليه البحﺚ‪ ،‬آن الوقت للبحﺚ التعارض والترجيح بين اﻷقيسة‪ .‬أوﻻ‪،‬‬
‫يتكلم الباحﺚ عن إمكانية التعارض فﻲ القياس و سبب وقوعه‪ ،‬ثم ينتقل إلى بيان كيفية الترجيح بين‬
‫القياسين المتعارضين‪.‬‬

‫الفصل اﻷول‪ :‬التعارض بين اﻻقيسة‬

‫يحتوي هذا الفصل بحثين‪:‬‬

‫‪ (1‬إمكانية وقوع التعارض بين اﻷقيسة‪،‬‬

‫‪(2‬وكيفية الخﻼص من التعارض بين اﻻقيسة‪.‬‬

‫المبحث اﻷول‪ :‬إمكانية التعارض ﻓي القياس‬

‫ينحصر امكانية وقوع التعارض بين قياسين على ثﻼث صور‪:‬‬

‫اﻻول ‪ :‬التعارض بين قياسين قطعيين‬

‫الثانﻲ‪ :‬التعارض بين قياسين ظينين‬

‫الثالﺚ‪ :‬التعارض بين قياسين أحدهما قطعﻲ واﻵخر ظنﻲ‬

‫فتحدث العلماء حول هذه الصورالثﻼث‪ ،‬والراجح ان وقوع التعارض بين القياسين القطعيين محال؛‬
‫لكونه إجتماع النقيضين‪ ،‬وﻻ يقع التعارض بين قياس ظنﻲ وقياس قطعﻲ‪ ،‬اذ ﻻ يحصل ظن عند القطع‬
‫بالنقيض‪ ،‬وأيضا يمكن ترجيح القطعيى على الظنﻲ ابتداءا‪ .‬فانما يقع التعارض بين قياسين ظنيين فقط‪.‬‬
‫وحينئذ ينحصر الترجيح بين قياسين ظنيين متعارضين‪.37‬‬

‫‪ ( 36‬ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج ‪175/3‬؛ رفع الحاجب ‪608/4‬؛ اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪460/4‬‬
‫‪ ( 37‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪462/4‬‬

‫‪20‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أسباب التعارض ﻓي القياس‬

‫القياس مداره على العلة‪ .‬والعلل المؤثرة فﻲ الحكم مختلفة – بعضها قطعﻲ و بعضها ظنﻲ‪ ،‬فيختلف قوة‬
‫القياس بحسب قوة العلة و الدليل‪ .‬فان كان العلة ثابتة بالنص‪ ،‬فﻼ مجال فيه لكثرة اﻻختﻼف‪ .‬و ان كان‬
‫العلة ثابتة باستنباط المجتهد‪ ،‬فيسلك كل واحد فﻲ تعيينه مسالك مختلفة من مسالك العلة‪ .‬فيختلف القياس‬
‫والحكم‪ ،‬حسب تعيينهم العلة‪ .‬و لذا يكثروقوع التعارض بين اﻷقيسة‪ ،‬ﻷن عقل المجتهدين متفاوت و‬
‫مختلف‪.‬‬

‫فالحاصل أن القياس نوعان ‪:‬‬

‫اﻻول ‪:‬القياس القطعﻲ ‪ :‬و ذلك ما يثبت فيه الحكم قطعا‪ ،‬كما إذا نص الشارع عند الحكم على‬
‫علته‪ ،‬و قطع بثبوتها فﻲ الفرع‪ .‬فﻼ شك أن حكم اﻷصل ثابت فﻲ الفرع‪ ،‬فﻼ يوجد فيه مجال للتعارض اﻻ‬
‫نادرا‪.‬‬

‫والثانﻲ ‪:‬القياس الظنﻲ ‪ :‬وهو ما ﻻ يثبت فيه الحكم قطعا‪ ،‬وذلك لكون دليله أو علته ظنيا‪ ،‬كما إذا‬
‫لم ينص الشارع على علة الحكم‪ ،‬فيسلك الفقهاء فﻲ تعيين تلك العلة مسالك مختلفة‪ .‬وليست هذة المسالك‬
‫كلها قطعية‪ ،‬بل معظمها ظنية‪ ،‬مؤداها الظن‪.‬‬

‫فإذا كان العلة ظنيا‪ ،‬وسلك المجتهدون لبيانهم مسالكهم الخاصة‪ ،‬يختلف قياس بعضهم من بعض‪ .‬ﻷن فيه‬
‫مجال لﻺختﻼف طبعا لتفاوت العقول واﻷفهام‪ .‬ومن هنا يكثر تعارض اﻷقيسة‪.38‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬طرق الخﻼص من التعارض‬

‫إذا تعارض القياسان‪ ،‬فهناك طرق للخﻼص منه‪ ،‬كما فﻲ بقية اﻻدلة المتعارضة‪ .‬والجدير بالذكر أنه ﻻ‬
‫يكون هناك مجال لنسخ أحد القياسين؛ ﻷن النسخ خاص باﻷدلة النقلية فﻲ زمن الوحﻲ‪ .‬ولم يتكلم‬
‫اﻷصوليون عن الجمع‪ ،‬طريقة لدفع التعارض بين القياسين‪ ،‬إذ ﻻ يحتاج إليه؛ ﻷن القياس من عمل‬
‫المجتهد حسب عقله و فكره‪ ،‬فإن تعارض قياسان من المجتهدين أو من مجتهد واحد بنفسه‪ ،‬فﻼ يضطر‬
‫إلى الجمع‪ ،‬ﻷن فيه مجال للخطأ و الغفلة‪ ،‬بخﻼف اﻷدلة النقلية‪ ،‬فهﻲ صادر من ﷲ ورسوله وهم الشارع‪،‬‬
‫فﻼ يقع منهم زلة و ﻻ خطأ‪ ،‬وإنما الخطأ فﻲ فهمنا النصوص‪ ،‬فعلينا أن نجمع بينهما حسب اﻹمكان‪.‬‬

‫‪ ( 38‬الحفناوي‪ ،‬التعارض والترجيح ‪380‬؛ والبرزنجﻲ‪ ،‬التعارض و الترجيح ‪242/2‬‬

‫‪21‬‬
‫فلم يبقى الجمع والنسخ طرقا للخﻼص من التعارض فﻲ اﻷقيسة‪ ،‬و إنما بقﻲ فيه خصلتان‪ ،‬و هما ترجيح‬
‫أحد القياسين أو إختيارالمجتهد أحدهما للعمل به ان أمكن‪ .‬فان وجد شيئا مرجحا ﻷحد الجانبين‪ ،‬يقدمه‬
‫على اﻵخر و يعمل به‪ .‬وان لم يجد شيئا يؤيد أحد القياسين‪ ،‬فﻼ يتبادر إلى اسقاط الدليلين‪ .‬ولكن يجوز‬
‫للمجتهد أن يختار أحدهما‪ ،‬و يعمل به مطلقا عند الشافعية‪ ،‬وعند اﻷحناف يعمل أيضا بأحدهما‪ ،‬ولكن بعد‬
‫استفتاء قلبه فقط‪.39‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬الترجيح بين القياسين المتعارضين‬

‫تكلم اﻷصوليون عن طرق الترجيح بين القياسين إذا تعارضا‪ ،‬وعينوا فيه أنواعا كثيرا‪ .‬وأختلفوا فﻲ عدده‬
‫وتقسيمه و تسميته إختﻼفا شديدا‪:‬‬

‫قال اﻵمدي‪" :40‬فإن كان التعارض بين قياسين‪ ،‬فالترجيح بينهما قد يكون بما يعود إلى أصل القياس‪ ،‬وقد‬
‫يكون بما يعود إلى فرعه‪ ،‬وقد يكون بما يعود إلى مدلوله‪ ،‬وقد يكون بما يعود إلى أمر خارج"‪.‬‬

‫ثم بين كل واحد منه‪ ،‬وأورد تحته أنواعا كثيرة‪ ،‬و لعل اﻵمدي ‪ -‬فﻲ كتابه ‘اﻹحكام فﻲ أصول اﻷحكام’ ‪-‬‬
‫هو الذي أورد أكثر احتمال الترجيح بين اﻷقيسة المتعارضة مع التفاصيل و بيان آراء العلماء واختﻼفهم‬
‫فيه‪.‬‬

‫وقسمها البيضاوى إلى خمسة وجوه‪ :‬اﻷول الترجيح بحسب العلة‪ ،‬و الثانﻲ بحسب دليل العلية‪ ،‬والثالﺚ‬
‫بحسب دليل الحكم‪ ،‬والرابع بحسب كيفية الحكم‪ ،‬والخامس بأمور خارجية‪41‬؛ ولم يتناول كتابه التفاصيل و‬
‫اﻷمثلة‪ ،‬و إنما عده مختصرا‪ .‬وإعتمد الحفناوي ‪ -‬فﻲ كتابه ‘التعارض والترجيح عند اﻷصوليين’‪ -‬على‬
‫هذا التقسيم‪.42‬‬

‫‪ ( 39‬البرزنجﻲ‪ ،‬التعارض والترجيح ‪243/2‬‬


‫‪ ( 40‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام‪487/4 ،‬‬
‫‪ ( 41‬البضاوي‪ ،‬منهاج الوصول مع شرح ﻹسنوي‪1019-1010/2 ،‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج‪206-199/3 ،‬‬
‫‪ ( 42‬الحفناوي‪ ،‬التعارض والترجيح‪381 ،‬‬

‫‪22‬‬
‫و أما الشوكانى فيكون عنده الترجيح على سبعة أنواع ‪ :‬اﻷول‪ :‬بحسب العلة‪ ،‬والثانﻲ‪ :‬بحسب الدليل الدال‬
‫على وجود العلة‪ ،‬والثالﺚ‪ :‬بحسب الدال عل علية الوصف للحكم‪ ،‬والرابع‪ :‬بحسب دليل الحكم‪ ،‬والخامس‪:‬‬
‫بحسب كيفية الحكم‪ ،‬والسادس‪ :‬بحسب اﻷمور الخارجية‪ ،‬والسابع‪ :‬بحسب الفرع‪.43‬‬

‫ويغلب على ظن الباحﺚ‪ ،‬تحديد أقسام الترجيح بين اﻷقيسة إلى خمسة أقسام؛ ﻷن الترجيحات فيها يكون‬
‫إما بحسب أحد أركانه اﻷربعة‪ ،‬و إما باعتبار أمر خارج عنها‪ .‬فيكون مجموعها منحصرة فﻲ خمسة‪،‬‬
‫وأما ما عدوه أكثر منها‪ ،‬فهو مندرج فﻲ أحد هذه اﻷقسام الخمسة‪ ،‬وهﻲ‪:‬‬

‫‪ (1‬المرحجات بحسب اﻷصل‪.‬‬


‫‪ (2‬المرجحات بحسب الفرع‪.‬‬
‫‪ (3‬المرجحات بحسب العلة‪.‬‬
‫‪ (4‬المرجحات بحسب الحكم‪.‬‬
‫‪ (5‬المرجحات بحسب اﻻمور الخارجية‪.‬‬

‫المبحث اﻷول‪ :‬المرجحات بحسب اﻷصل‬

‫اﻷصل ‪ -‬أي المقيس عليه ‪ -‬ركن من أركان القياس‪ .‬فإذا تعارض القياسان يرجع إلى اﻷصل‪ ،‬فان وجد‬
‫فيه شيئا يقوي احد القياسين‪ ،‬ير ّجح على اﻵخرى‪.‬‬

‫وهناك وجوه للترجيح بحسب اﻷصل‪ ،‬و من أهمها ما يلى‪: 44‬‬

‫‪ (1‬الترجيح بقطعية حكم اﻷصل‪:‬‬

‫إذا تعارض القياسان و حكم اﻷصل فﻲ أحدهما قطعﻲ‪ ،‬وفﻲ الثانﻲ ظنﻲ؛ فيقدم القياس اﻻول على‬

‫الثانﻲ‪ ،‬ﻻن ما كان حكمه قطعية‪ ،‬أقوى وأغلب مما كان حكمه ظنية‪.‬‬

‫المثال‪ :‬قياس اﻷخرس على الفاسق فﻲ صحة اللعان منه‪ ،‬فيقول الشافعﻲ ‪ :‬يصح‪ ،‬ﻷن ما صح من‬
‫الفاسق صح من اﻷخرسن كاليمين؛ و وهذا مقدم على قياسه الحنفية على شهاداته بجامع أنه يفتقر إلى‬

‫‪ ( 43‬الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول‪281 ،‬‬


‫‪ ( 44‬و التفاصيل موجود فى الكتب اﻷصولى‪ ،‬و من أهمها‪ :‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪496-487/4‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬رفع الحاجب ‪644-637/4‬؛ البرزنجﻲ‪،‬‬
‫التعارض و الترجيح ‪251-244/2‬‬

‫‪23‬‬
‫لفظ الشهادة‪ ،‬ﻷن اليمين يصح من اﻷخرس باﻹجماع‪ ،‬وهو قطعﻲ‪ ،‬و أما جواز شهاداته‪ ،‬ففيه خﻼف‬
‫بين الفقهاء‪.‬‬

‫وفﻲ معنى هذا ما إذا كان حكم اﻷصل فيهما ظنيا‪ ،‬ولكن الظن فﻲ أحدهما أرجح من اﻵخر‪ ،‬فيكون‬
‫هو اﻷولى‪.‬‬

‫‪ (2‬الترجيح بكون بقاء الحكم ﻓي اﻷصل متفقا عليه‪:‬‬

‫إذا تعارض القياسان واصل احدهما متفق على بقاء حكمه‪ ،‬فيقدم على اﻵخرى الذي اختلف فﻲ بقاء‬
‫حكمه بان قيل انه منسوخ‪ .‬ﻷن ما سلم من اﻹحتمال واﻹختﻼف أولى وأبقى مما قيل فيه بأنه منسوخ‪،‬‬
‫و إن كان القول بأنه منسوخ ضعيفا‪.‬‬

‫‪ (3‬الترجيح بكون اﻷصل مواﻓقا لسنن القياس‪:‬‬

‫فيقدم القياس الذي حكمه غير معدول عن سنن القياس والقواعد الكلية‪ ،‬على القياس الذي هو معدول‬
‫أرش ما دون الموضحة عليها فﻲ وجوبه على العاقلة‪ ،‬على قياس‬
‫َ‬ ‫عنه‪ .‬مثاله ‪ :‬ترجيح قياس الشافعية‬
‫الحنفية له على غرامات اﻻموال‪ ،‬فﻲ وجوبه على الجارح ﻻ على العاقلة؛ وسبب الترجيح أن اﻷصل‬
‫والفرع فيه مشتركان فﻲ كونهما جناية على البدن‪ ،‬بخﻼف القياس الثانية ﻷنهما مختلفان فيه‪.45‬‬

‫‪ (4‬الترجيح بكون تعليل حكم اﻷصل متفقا عليه‪:‬‬

‫إذا كان أحد القياسين المتعارضين مما اتفق على تعليل حكم أصله واﻵخر مختلف فيه‪ ،‬فيكون ما اتفق‬
‫على تعليله‪ ،‬أولى مما اختلف فيه‪ ،‬ﻷن مدار القياس على العلة‪.‬‬

‫‪ (5‬الترجيح بقوة دليل المثبت للحكم‪:‬‬

‫إذا كان الدليل المثبت للحكم اﻷصل فﻲ أحد القياسين أرجح من دليل اﻵخر‪ ،‬فاتفق العلماء فﻲ تقديمه‬
‫على اﻵخر‪ .‬ولكن إختلفوا فيما إذا كان أحدهما ثابت بالنص‪ ،‬واﻵخر ثابت باﻹجماع‪.‬‬

‫‪ ( 45‬حاشية البنانى على شرح المحلى لجمع الجوامع‪576/2 ،‬‬

‫‪24‬‬
‫والجمهور على ان ما ثبت باﻹجماع يقدم على ما ثبت بالنص‪ ،‬واستدلوا لذلك بأن النص قابل للنسخ‬
‫والتخصيص‪ ،‬بخﻼف اﻹجماع‪ .‬واختارالسبكﻲ هذا المذهب‪ .46‬وبعضهم ذهب إلى أن النص يقدم‬
‫مطلقا‪ .‬ﻻن النص هو اﻷصل‪ ،‬واﻷصل مقدم على الفرع‪ .‬واختاره البيضاوي‪.47‬‬

‫والصحيح هو اﻷول‪ ،‬ﻷن اﻹجماع صادر عن النص‪ ،‬فالمتعارض فﻲ الحقيقة نصان يرجح أحدهما‬
‫بالقياس‪ .‬وأما ما استدل به البيضاوي بكون اﻹجماع فرعا للنص‪ ،‬واﻷصل مقدم على الفرع؛ قول‬
‫صحيح إذا كان المراد فرعه‪ ،‬ولكن اﻹجماع فﻲ المسألة ليس فرعه‪ ،‬بل فرع نص اخر‪.‬‬

‫‪ (6‬الترجيح بوجود الدليل على تعليله‪:‬‬

‫يرجح أحد القياسين بقيام دليل خاص على تعليل حكم اﻷصل و جواز القياس عليه‪ ،‬لبعده عن الخﻼف‬
‫ولكونه أقرب للعقول‪.‬‬

‫‪ (7‬ترجيح القياس بكثرة اﻻصول‪:‬‬

‫إذا كان أحد القياسين يعتمد على أصول كثيرة‪ ،‬فيرجح على مخالفه الذي يعتمد على أصول أقل منه‪.‬‬
‫المثال‪ :‬جواز مسح العمامة فﻲ الوضوء قياسا على الخف عند الحنابلة‪ ،‬ومنعه عند الشوافع قياسا على‬
‫الوجه واليدين والرجلين‪ .‬فيقدم الثانﻲ لكثرة أصوله‪.‬‬

‫وكذا كون النية واجبة فﻲ الوضوء قياسا على سائر العبادات‪ ،‬وخالف فيه الحنفية وقالوا بعدم وجوبه‬
‫قياسا على غسل النجاسة‪ .‬فيقدم القياس اﻻول لكثرة أصوله‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬المرجحات بحسب الفرع‬

‫الفرع هو ثانى اﻷركان اﻷربعة للقياس‪ .‬ويكون التعارض بين القياسين بحسب الفرع خاصة قليﻼ؛ ﻷن‬
‫قياس بالنظر إلى كيفية حكم الفرع وقوة إثباته‪ ،‬ﻹتباعه‬
‫ٌ‬ ‫الحكم يثبت فيه قياسا على اﻷصل‪ ،‬فﻼ يرجح‬
‫اﻷصل فيه‪ .‬وإنما يبقى مجال الترجيح فيه‪ ،‬هو كون العلة ثابتة فﻲ الفرع؛ فإنه كلما ثبت العلة فﻲ الفرع‬
‫متساويا لﻸصل‪ ،‬يثبت فيه الحكم بﻼ خﻼف‪ ،‬وان شك فﻲ وجود العلة فﻲ الفرع يكون ثبوت الحكم فيه‬
‫ظنيا‪ ،‬ولقلة إمكانية الترجيح بحسب الفرع‪ ،‬لم يذكر بعض اﻷصوليين – كالبيضاوي – فﻲ كتبهم‪ ،‬و اتبعه‬

‫‪ ( 46‬ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج‪205/3 ،‬‬


‫‪ ( 47‬البضاوي‪ ،‬منهاج الوصول مع شرح اﻹسنوي‪1019/2 ،‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج‪205/3 ،‬‬

‫‪25‬‬
‫الحفناوي فلم يذكره أيضا‪ ،48‬و ذكر ابن حاجب ثﻼث أمور للترجيح بالفرع‪ ،49‬وأما اﻵمدي فزاد و عد‬
‫لذلك أربع خصلة‪ ،‬وإتبعه البرزنجى‪ ،50‬ولكن قسم الشوكانﻲ نفس هذه اﻷمور إلى خمسة على عادته فﻲ‬
‫التقسيم اﻷمور‪.51‬‬

‫و الترجيحات العائدة إلى الفرع كثيرة‪ ،‬و منها ما يلﻲ ‪:‬‬

‫‪ (1‬الترجيح بين القياسين بقوة اﻹشتراك بينه وبين اﻷصل‪:‬‬

‫عند التعارض بين القياسين الذين فرعهما مشترك باﻷصل‪ ،‬يرجح ما كان اشتراكها به أقوى على ما دونه‪.‬‬
‫وهذا كما قال ابن حاجب‪ ":‬الفرع‪ :‬يرجح بالمشاركة فﻲ عين الحكم‪ ،‬و عين العلة‪ ،‬على الثﻼثة‪ ،‬وعين‬
‫أحدهما على الجنسين‪ ،‬وعين العلة خاصة على عكسه"‪.52‬‬

‫ويحصل من هذا أربع صور‪ ،‬و ذلك ‪:‬‬

‫أ( أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا ﻷصله فﻲ عين الحكم وعين العلة‪ :‬وهذا يقدم على اﻷقسام‬
‫الباقية – بﻼ شك‪ ،‬ﻷن التعدية باعتبار اﻹشتراك فﻲ المعنى اﻷخص فقط أغلب على الظن من‬
‫اﻹشتراك فﻲ المعنى اﻷعم‪.‬‬
‫ب( أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا ﻷصله فﻲ عين العلة وجنس الحكم‪ :‬يقدم هذا على ما كان‬
‫مشاركا فﻲ جنس الحكم وجنس العلة‪.‬‬
‫وفﻲ تقديمه على ما كان مشاركا فﻲ عين الحكم وجنس العلة خﻼف؛ ذهب قوم إلى تقديمه عليه‪،‬‬
‫ومنهم ابن الحاجب و الشوكانى‪ ،‬واﻵمدي‪ .‬وذهب آخرون ‪ -‬منهم التفتازانى‪ ،‬وابن الهمام‪ ،‬وابن‬
‫أمير الحاج‪ ،‬إلى تقديم القياس المشارك فﻲ عين الحكم وجنس العلة على ما كان مشاركا فﻲ عين‬
‫العلة وجنس الحكم‪ .‬واستدلوا بإن اعتبار الحكم بكونه المقصود‪ ،‬أهم وأولى بالترجيح من اعتبار‬
‫العلة‪.53‬‬
‫والراجح عند الباحﺚ ما ذهب اليه اﻷول‪ ،‬من تقديم المشارك فﻲ عين العلة وجنس الحكم‪ ،‬ﻷن‬
‫تعدية الحكم من اﻷصل إلى الفرع إنما هﻲ نتيجة ثبوت العلة فيه‪ ،‬وﻷن العلة هو اﻷساس فﻲ‬
‫التعدية وعليه مدار القياس‪.‬‬

‫‪ ( 48‬الحفناوي‪ ،‬التعارض والترجيح ‪381‬‬


‫‪ 49‬مختصر ابن حاجب ‪645/4‬‬
‫‪ ( 50‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪499/4‬؛ البرزنجى‪ ،‬التعارض والترجيح ‪274/2‬‬
‫‪ ( 51‬الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪283‬‬
‫‪ ( 52‬مختصر ابن حاجب ‪645/4‬‬
‫‪ ( 53‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪498/4‬؛ البرزنجى‪ ،‬التناقض والترجيح ‪272/2‬؛ الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪283‬؛ ابن حاجب‪ ،‬مختصر ‪645/4‬‬

‫‪26‬‬
‫ت( أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا ﻷصله فﻲ عين الحكم وجنس العلة‪ :‬وهذا يقدم على المشارك‬
‫فﻲ جنس الحكم وجنس العلة إتفاقا‪ ،‬وفﻲ تقديمه على المشارك فﻲ عين العلة وجنس الحكم‬
‫الخﻼف المذكور‪.‬‬
‫ث( أن يكون فرع أحد القياسين مشاركا ﻷصله فﻲ جنس الحكم وجنس العلة‪ :‬وهذا أضعف من اﻷقسام‬
‫السابقة‪ ،‬ﻷنه كلما كان اﻹشتراك فﻲ المعنى اﻷعم‪ ،‬كان أضعف على الظن فﻲ ثبوته‪ ،‬من‬
‫اﻷشتراك فﻲ المعنى اﻷخص‪.‬‬

‫‪ (2‬الترجيح بتأخر الفرع عن أصله ‪:‬‬

‫ان كان الفرع فﻲ أحد القياسين متأخرا عن اﻷصل‪ ،‬وفﻲ اﻵخر متقدما؛ يرجح ما كان الفرع فيه متأخرا‪،‬‬
‫لسﻼمته عن اﻹضراب‪ ،‬وبعده عن الخﻼف‪ ،‬ﻷنه يقطع بثبوت الحكم فيه بقياسه على اﻷصل‪.‬‬

‫وهذه الخصلة هﻲ التى أضافه اﻵمدي‪ ،‬و ذكره البرزنجﻲ طبعا‪ .‬و لم يذكر هذا ابن حاجب‪.54‬‬

‫‪ (3‬الترجيح بالقطع بوجود العلة ﻓيه ‪:‬‬

‫إذا كان وجود العلة فﻲ أحد الفرعين قطعيا‪ ،‬وفﻲ اﻵخر ظنيا‪ ،‬فالقياس المقطوع بوجود علته فﻲ الفرع‬
‫مقدم على غيره‪ ،‬لبعده عن إحتمال القادح‪.55‬‬

‫مثﻼ‪ :‬قول الشافعية بنجاسة بول ما يؤكل لحمه‪ ،‬بجامع أنه مما يستحيل من الجوف‪ ،‬فأشبه بول اﻹنسان‪ .‬و‬
‫هذا يعارض ما قاله المالكية بطهاة بوله‪ ،‬بجامع أنه مائع وردت الرخصة فﻲ إباحة شربه‪ .‬فيرجح قياس‬
‫الشوافع ﻷن علتهم موجود فﻲ الفرع – بﻼ شك‪ ،‬بخﻼ ف علة المالكية‪ ،‬فإنها صفة مختلف فيها‪ ،‬و ﻻ يقطع‬
‫بجودها فﻲ الفرع‪.56‬‬

‫‪ (4‬الترجيح بثبوت حكم الفرع جملة ‪:‬‬

‫القياس الذي ثبت حكم الفرع فيه بالنص جملة – ﻻ تفصيﻼ‪ ،‬يرجح على معارضه الذي ثبت الحكم فيه‬
‫بغيره‪ ،‬ﻷن ما ثبت فيه الحكم جملة‪ ،‬أغلب على الظن فﻲ ثبوت الحكم بالقياس‪ .‬وأما ما ثبت فيه الحكم‬
‫تفصيﻼ‪ ،‬فﻼ حاجة إلﻲ القياس إذ الحكم ثابت بالنص‪.57‬‬

‫‪ ( 54‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪498/4‬؛ ابن حاجب‪ ،‬مختصر ‪645/4‬؛ البرزنجى‪ ،‬التعارض والترجيح ‪274/2‬‬
‫‪ ( 55‬المراجع السابق‪.‬‬
‫‪ ( 56‬ابن السبكﻲ‪ ،‬رفع الحاجب ‪645/4‬‬
‫‪ ( 57‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪498/4‬؛ ابن حاجب‪ ،‬مختصر ‪645/4‬؛ البرزنجى‪ ،‬التعارض والترجيح ‪274/2‬‬

‫‪27‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬المرجحات بحسب العلة‬

‫العلة من أهم اﻷركان الذي عليه مدارالقياس‪ .‬ومن ثم كثر اﻻختﻼف والتعارض بين القياسين بحسب العلة‪.‬‬
‫لذا أوفر طرق الترجيح بين القياسين باعتبار العلة‪ .‬وتحدث العلماء عن كيفية استنباط العلة‪ ،‬وذلك ما‬
‫يسمى بمسالك العلة‪ .‬وتحدثوا ايضا عن اسباب القدح فﻲ العلة و سموها قوادح العلة‪ .‬فالترجيح بين‬
‫القياسين المتعارضين باعتبار العلة يتعلق بهما‪ .‬ومن هنا وسع مجال الترجيحات بحسب العلة‪ ،‬وأطال‬
‫اﻷصوليون هذا البحﺚ‪.‬‬

‫يمكن الترجيح بحسب العلة بأمور‪ ،‬فمنها ما يرجع إلى صفة العلة‪ ،‬و منها ما يرجع إلى طرق إثباتها‪.‬‬

‫المطلب اﻷول‪ :‬الترجيح بحسب صفة العلة‬


‫والترجيح بحسب صفة العلة بأمور‪:‬‬

‫‪ (1‬الترجيح بكونه وصفا حقيقيا‪:‬‬

‫يرجح أحد القياسين ان كانت العلة فﻲ أحدهما وصفا حقيقيا‪ ،‬على القياس الذي علته نفس الحكمة‪ ،‬ﻷن‬
‫التعليل بالوصف الحقيقﻲ الذي هو مظنة الحكمة مجمع عليه‪ ،‬بخﻼف التعليل بالحكمة‪ .‬مثاله ترجيح‬
‫التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بالمشقة‪.‬‬

‫ومنها ما كانت العلة فﻲ أحد القياسين وصفا حقيقيا‪ ،‬فيقدم على ما كانت علته وصفا عرفيا أو حكما‬
‫شرعيا؛ ﻷن الحقيقﻲ ﻻ يتفق على شيئ بخﻼفهما‪ .‬ﻷنهما يحتاج إلى العرف والشرع‪.‬‬

‫وكذا يقدم ما كانت علته وصفا عرفيا على ما كانت علته حكما شرعيا؛ وذلك ﻹتفاق العلماء على التعليل‬
‫بالوصف العرفﻲ بخﻼ ف الشرعﻲ‪.‬‬

‫‪ (2‬الترجيح بكون العلة وصفا وجوديا‪:‬‬

‫قد يكون الوصف والحكم وجوديين فﻲ قياس‪ ،‬أو يكونا عدميين‪ ،‬أو أحدهما وجودي واﻵخر عدمﻲ‪.‬‬
‫فحصل منه أربعة أقسام‪:58‬‬

‫‪ .1‬التعليل بالوصف الوجودي على الحكم الوجودي‪.‬‬

‫‪ ( 58‬اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول ‪1013/2‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج ‪200/3‬؛ البرزنجى‪ ،‬التناقض والترجيح ‪270/2‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬رفع الحاجب ‪639/4‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ .2‬التعليل بالوصف العدمﻲ على الحكم العدمﻲ‪.‬‬
‫‪ .3‬التعليل بالوصف العدمﻲ على الحكم الوجودي‪.‬‬
‫‪ .4‬التعليل بالوصف الوجودي على الحكم العدمﻲ‪.‬‬

‫فيرجح ما كانا وجوديين على اﻷقسام باقية؛ وهكذا يرجح ما كانا عدمين على القسمين اﻷخيرين‪ ،‬والقسم‬
‫الثالﺚ على الرابع‪.‬‬

‫ٌ‬
‫طﻼق ﻷنه فرقة ينحصر ملكها فﻲ‬ ‫مثال تقديم الوجوديين على العدميين‪ ،‬قياس الشافعية فﻲ الجديد‪ ،‬الخلع‬
‫الزوج فيكون طﻼقا‪ ،‬فالحكم والعلة فيه وجودي‪ .‬لذا يقدم على ما فﻲ القديم بأنه فسخ ﻷنه ﻻ رجعة فيه فﻼ‬
‫يكون طﻼقا‪ ،‬ﻷن الحكم )ﻻ يكون طﻼقا( والعلة )كونه عدم الرجعية( عدمﻲ‪.‬‬

‫ومثال تقديم العدميين على ماكان الوصف عدميا والحكم وجوديا‪ ،‬ترجيح قول الجمهور‪ :‬المرأة ﻻ تلﻲ‬
‫القضاء‪ ،‬فﻼ تلﻲ النكاح كالمجنون )كﻼهما عدمﻲ( على قول الحنفية‪ :‬ﻻ تمنع المرأة من التصرف فﻲ‬
‫المال‪ ،‬فتلﻲ النكاح كالعاقل‪.59‬‬

‫‪ (3‬ترجيح المعلل بالبسيطة على المعلل بالمركبة‪:‬‬

‫إذا تعارض قياسان وكانت علة أحدهما وصفا بسيطا – اي مفردا‪ ،‬وعلة اﻵخر وصفا مركبا‪ ،‬فيرجح‬
‫الوصف البسيط على الوصف المركب؛ ﻷن اﻹجتهاد فيه أقل‪ ،‬وكلما أقل اﻹجتهاد سلم من القدح‪ .‬وهذا هو‬
‫مذهب متأخري الشافعية‪ ،‬واختاره السبكﻲ والبيضاوي‪.60‬‬

‫وذهب الحنفية إلى تقديم المركبة على البسيط‪ .‬وقال اﻹمام الحرمين فﻲ التلخيص على انهما سواء‪ .‬وقول‬
‫الثانﻲ ليس بصحيح؛ ﻷنه يؤدي أن يكون كلما زاد تركيب العلة كان القياس أرجح‪ ،‬وهذا غير معقول‪.61‬‬

‫مثاله‪ :‬قول الشافعﻲ فﻲ الجديد بعلية الطعم فﻲ اﻷشياء اﻷربعة الربوية‪ .‬فيقدم على تعليله فﻲ القديم بكونه‬
‫طعما و مقدارا‪.‬‬

‫‪ (4‬الترجيح بكون العلة عامة ‪:‬‬

‫ترجح أحد القياسين إذا كان علته عامة توجد فﻲ جميع اﻷفراد‪ ،‬على القياس الذي علته خاصة ﻻ يشتمل‬
‫بعض اﻷفراد‪ .‬ﻷن اﻷعم أكثر فائدة من اﻷخص ﻹشتماله أفرادا كثيرا‪.‬‬
‫‪ ( 59‬ابن السبكﻲ‪ ،‬رفع الحاجب ‪640/4‬‬
‫‪ ( 60‬ابن السبكﻲ‪ ،‬جمع الجوامع ‪ ،117‬البيضاوي‪ ،‬نهاية السول مع شرح اﻷسنوي ‪1012/2‬‬
‫‪ ( 61‬ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج ‪201/3‬‬

‫‪29‬‬
‫مثاله‪ :‬تعليل الشافعية منع بيع الكلب بالنجاسة‪ ،‬فيرجح على تعليل الحنفية جواز بيعه باﻹنتفاع‪ .‬ﻷن اﻷول‬
‫يشمل كل أفراد الكلب بخﻼف الثانية‪ ،‬فﻼ يدخل فيه الجرو لعدم اﻹنتفاع به‪.‬‬

‫‪ (5‬ترجيح المعلل بالناقلة ‪:‬‬

‫إذا تعارض القياسان وكانت علة أحدهما ناقلة ‪ -‬أي متعدية إلى أفراد كثرة‪ ،‬و اﻷخري غير متعدية؛ فيقدم‬
‫الناقلة على اﻵخري لكثرة فوائدها‪.‬‬

‫واختف اﻷصوليون فيه على ثﻼثة‪: 62‬‬

‫اﻻول‪ :‬يرجح المتعدية لكثرة فوائده على القاصرة‪ ،‬هذا مذهب الجمهور و اختاره اﻻمدي وابن‬
‫الحاجب‪.63‬‬
‫الثانﻲ‪ :‬يقدم العلة القاصرة لقلة الخطأ فيه‬
‫الثالﺚ‪ :‬عدم الترجيح بواحدةمنهما‪ ،‬وأنهمامتساويان؛ فﻼ يرجح أحد القياسين بكونه ناقلة أو‬
‫قاصرة‪ ،‬ولكن ينظر إلى صفة أخري‪ .‬وهذا هو قول الباقﻼنى واﻻمام الحرمين‪.‬‬

‫والراجح عند الباحﺚ ما ذهب إليه الجمهور من تقديم الناقل ﻷمرين‪:‬‬

‫‪ (1‬أن فائدة الناقل أكثر من فائدة القاصرة‪ ،‬ﻷن العلة القاصرة ﻻ يستنتج شيئا جديدا‪.‬‬

‫‪ (2‬وأن الناقل تثبت حكما شرعيا جديدا‪ ،‬فهو المقصود من القياس‪.‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬تعليل الشافعية الربوية فﻲ النقدين كونهما جوهر النقدين من الذهب والفضة‪ ،‬فﻼ يتعدى الحكم‬
‫إلى باقى النقد سوى الذهب الفضة‪ .‬وتعليل الحنفية فيهما كونهما موزونين وهما يراج فيتعدي الربا إلى‬
‫باقى الدنانير والدراهيم‪ .‬فيقدم قياس الحنفية ﻷن علتهم متعدية إلى فروع‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الترجيحات بقوة طرق إثبات العلة‬


‫هناك طرق ﻹثبات العلة فﻲ القياس‪ ،‬ويتفاوت بعضها عن بعض فﻲ درجاتها من حيﺚ القوة والضعف‪.‬‬
‫ومعلوم أن أقواها علة‪ ،‬يقدم على ما تحتها فﻲ الدرجة‪ ،‬واتفق العلماء على هذا القدر؛ ولكن إختلفوا على‬
‫أيها أعلى درجة‪ .‬والحاصل أن هناك درجات متفاوتة يمكن الترجيح بإعتبارها‪.‬‬

‫‪ ( 62‬أبو الوليد الباجﻲ‪ ،‬إحكام الفصول فﻲ أحكام اﻷصول)بيروت‪ ،‬دار العر اﻹسﻼمﻲ‪760 (1986،‬؛ الغزالﻲ‪ ،‬المستصفﻲ ‪214/2‬؛ اﻵمدي‪،‬‬
‫اﻹحكام ‪492/4‬‬
‫‪ ( 63‬مختصر ابن الحاجب مع رفع الحاجب‪641/4،‬‬

‫‪30‬‬
‫وتفصيل الدرجات والترجيح به مع ما فيه من اﻹختﻼف ما يلى ‪:‬‬

‫‪ (1‬الترجيح بقطعية العلة ﻓي اﻷصل‪:‬‬

‫إن كان وجود العلة فﻲ أصل أحد القياسين مقطوعا به‪ ،‬فيرجح على معارضه الذي ليس وجود العلة فيه‬
‫قطعيا؛ لكونه أقوى فﻲ الدﻻلة وأغلب على الظن‪.‬‬

‫ومن هذا القبيل ما كان وجود العلة فﻲ أصل كل واحد منهما مظنونا‪ ،‬غير أن الظن فﻲ وجود إحداهما‬
‫أرجح من اﻵخرى؛ ﻷن ما غلب فيه الظن أقرب إلى القطع‪ ،‬والقطع مقدم على غيره‪.64‬‬

‫‪ (2‬ترجيح القياس المنصوص العلة‪:‬‬

‫فيقدم ما ثبت فيه العلة بالنص القاطع على غيرها مطلقا‪ .‬والقاطع ما دل على عليته بﻼ شك‪ .‬كما إذا ورد‬
‫بعد اﻻلفاظ القاطعة على العلية مثل " كﻲ" و"كيﻼ" و " من أجل"؛ كما فﻲ قوله تعالى‪] :‬ومن أجل ذلك‬
‫‪65‬‬
‫كتبنا على بنى اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو ﻓساد ﻓي اﻷرض ﻓك أنما قتل الناس جميعا[‬

‫مثاله‪ :‬قياس النبيذ القليل على الخمر فﻲ الحرمة بجامع اﻹسكار عند الشافعﻲ ومالك‪ ،‬وقياس اﻷحناف‬
‫النبيذ على العسل فﻲ حل قليله الذي ﻻ يسكر بجامع أن ما أعده ﷲ فﻲ الجنة يجب أن يكون من جنسه ما‬
‫هو مباح ﻷن علة اﻻول ثابت بالنص فﻲ قوله الخمر حرام ﻹسكاره‪.‬‬

‫ويقدم ايضا ما ثبت فيه العلة بانص الظاهر على الثابت بدليل ادنى‪ ،‬والظاهر ما يحتمل غير العلية أيضا‬
‫كـ "الﻼم" ﻻنه يأتى للعاقبة ايضا كما جاء فﻲ قوله تعالى‪] :‬أقم الصﻼة لدلوك الشمس إلى غسق الليل‬
‫‪66‬‬
‫وقرآن الفجر[‬

‫‪ (3‬ترجيح القياس الذي ثبتت عليته باﻻيماء‪:‬‬

‫إذا كان القياسان متعارضين فيقدم القياس الذي أثبتت علته باﻹيماء‪ 67‬على معارضه الذي أثبتت علته بما‬
‫هو أدنى من اﻹيماء من باقى مسالك العلة كالمناسبة أو الشبه؛ ﻷن التعليل باﻹيماء أمر متفق عليه‪ ،‬وما‬
‫عداه مختلف فﻲ عليته؛ فما هو متفق عليه مقدم على ما هو مختلف فيه‪.‬‬

‫‪ ( 64‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪ ،490/4‬البرزنجى‪ ،‬التعارض والترجيح ‪252/2‬‬


‫‪ ( 65‬سورة المائدة‪32:‬‬
‫‪ ( 66‬سورة اﻹسراء‪66 :‬‬
‫‪ ( 67‬اﻹيماء هو أن يقترن الوصف فﻲ كﻼم الشارح بحكم بحيﺚ يفهم أنه للتعليل )الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪212‬؛ حاشية البنانى ‪(410/2‬‬

‫‪31‬‬
‫وأخر البيضاوى اﻹيماء على المناسبة والدوران والسبر والشبه‪ .‬ولكن هذا غير مسلم؛ ﻷن اﻹيماء مشارك‬
‫للنص‪ ،‬وما هو مشرك للنص مقدم جميع الطرق العقلية‪ ،‬ونقل السبكﻲ واﻹسنوى فﻲ شرحهما على‬
‫المنهاج قول اﻹمام الرازي بأن الجمهور متفق على تقديم اﻹيماء على غيرها‪.68‬‬

‫‪ (4‬ترجيح ما ثبت عليته باﻹجماع ‪:‬‬

‫يقدم القياس الذي علته ثابت باﻹجماع‪ ،‬على ما ثبت علته بغيره من مسالك العلة سوي النص اتفاقا‪ ،‬وفﻲ‬
‫تقديمه على النص الخﻼف المذكور؛ فيرجح النص عليه على القول البيضاوي‪ ،‬ولكن يقدم القياس الذي‬
‫ثبتت عليته باﻹجماع على غيره مطلقا جتى على ما نص عليته عند الجمهور‪ ،‬ﻻن النص قابل للنسخ‬
‫والتخصيص‪ ،‬بخﻼف اﻹجماع‪.‬‬

‫‪ (5‬ترجيح ما ثبتت عليته بالمناسبة‪:‬‬

‫يقدم القياس الذي ثبتت عليته بالمناسبة‪ ،69‬على غيره من القياس الذي ثبتت عليته بما هو أدنى منه من بقية‬
‫مسالك العلة‪ ،‬كالسبر والتقسيم‪ .‬ولكن يقدم البيضاوي المناسبة على اﻻيماء كما مر آنفا‪ .‬و اﻵمدي وابن‬
‫الحاجب يقدم السبر والتقسيم على المناسبة‪ .70‬والصحيح تقديم المناسبة على بقية المعقوﻻت من مسالك‬
‫العلة؛ ﻷن دﻻلة المناسبة على العلية أمر ﻻزم بخﻼ ف غيرها‪ ،‬فقد ﻻ يدل عليها‪.‬‬

‫والمناسبة قد تكون من الضروريات الخمسة المعروفة‪ ،‬وقد تكون من الحاجيات – أي المصلحيات ‪ ،‬قد‬
‫تكون من التحسينيات – أي التتمات؛ فيقدم منه الضروريات‪ ،‬ثم المصلحيات‪ ،‬ثم التحسينيات‪.‬‬

‫وفﻲ الضروريات يقدم الضرورة الدينية على الضرورة الدنيوية؛ ﻷن الدنيوية أيضا لتتمة الدينية‬
‫ولتقويتها‪ ،‬وهو المقصود بالذات‪ ،‬و لقوله صلى ﷲ عليه وسلم‪" :‬دين ﷲ أحق أن تقضى"‪ .‬وقال بعضهم‬
‫أن مصلحة الدين مؤخرة عن بقية الضرورات‪ ،‬ﻷن حق ﷲ تعإلى مبنﻲ على المسامحة والمساهلة‪ ،‬وحق‬
‫اﻵدمﻲ مبنﻲ على المضايقة‪ .‬وهذا غير مقبول لما ذكرناه وﻷن المراد بالدينية هوالسعادة اﻵخروية‪ ،‬وليس‬
‫له بديل‪.71‬‬

‫‪ ( 68‬البيضاوي‪ ،‬المنهاج مع شرح اﻹسنوى‪1018/2‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج‪204/3‬‬


‫‪ ( 69‬المناسبة‪ :‬هﻲ تعين العلة بمجرد إبداء المناسبة مع السﻼمة من القوادح ﻻ بنص وﻻ غيره )الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪(214‬‬
‫‪ ( 70‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام‪490/4‬؛ مختصر ابن الحاجب مع رفع الحاجب ‪639/4‬‬
‫‪ ( 71‬ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج ‪202/3‬؛ اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول ‪1016/2‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ (6‬تقديم ما ثبتت عليته بالسبر والتقسيم‪:‬‬

‫يقدم القياس الذي ثبتت عليته بالسبر والتقسيم‪ ،72‬على ما ثبتت عليته بالدوران‪ ،‬وهذا هو الذي أختاره ابن‬
‫‪73‬‬
‫‪.‬‬ ‫الحاجب وابن السبكى واﻵمدي‪ ،‬بخﻼف البيضاوي حيﺚ تقدم الدوران على السبر والتقسيم وغيره‬

‫و الصحيح هو اﻷول‪ ،‬ﻷن الحكم فﻲ الفرع يتوقف على تحقيق مقتضيه و نفﻲ المعارض فيه معا‪ ،‬و السبر‬
‫والتقسيم يدل على مقتضى العلية و يتعرض لنفﻲ كل ما ﻻ يليق لها ‪.74‬‬

‫وكذاعند التعارض بين القياسين يقدم أحدهما إذا كان علية وصفه ثبتت بالسبر والتقسيم على ما كان سببه‬
‫الشبه والطرد وما دونهما من مسالك العلة‪.‬‬

‫‪ (7‬تقديم ما ثبتت عليته بالدوران‪:‬‬

‫يرجح القياس الذي تثبت علية وصفه بالدوران‪ ،75‬على الثابت بما بعده كالشبه‪ ،‬ﻹجتماع اﻹطراد‬
‫اﻹنعكاس فﻲ العلية المستفادة من الدوران‪ ،‬ولذا قدمه بعضهم على المناسبة أيضا بدليل أن المطردة‬
‫المنعكسة أشبه بالعلل العقلية‪.‬‬

‫وأورد اﻹسنوي و السبكﻲ‪ 76‬هنا مسائل يرجح فيه الدوران بعضها على بعض‪ ،‬وصورته أن يكون القياس‬
‫ثابت عليته بالدوران الحاصل فﻲ محل واحد‪ ،‬كأن يحدث حكم فﻲ محل لحدوث صفة فيه‪ ،‬وينعدم ذلك‬
‫الحكم عنه بزوال ذلك الصفة عنه‪ ،‬واﻷخرى ثابت عليته بالدوران الحاصل فﻲ أكثر من محل واحد؛‬
‫فيرجح اﻷول لقلة احتمال الخطأ فيه‪ ،‬و ﻹفادته القطع بعدم علية ما عدا الدوران بخﻼف الدوران فﻲ‬
‫محلين أو أكثر‪ ،‬فإنه ﻻ يفيد ذلك‪.‬‬

‫مثال الدوران فﻲ محل واحد‪ :‬إثبات علية اﻹسكار فﻲ ماء العنب‪ ،‬بقولك أن العصير لما لم يكن مسكرا لم‬
‫يكن حراما‪ ،‬ثم صار حراما بصفة اﻹسكار وانعدم بزواله‪.‬‬

‫‪ ( 72‬السبر والتقسيم‪ :‬هو حصر اﻷوصاف الموجودة فﻲ اﻷصل وإبطال ما ﻻ يصلح منها للعلية‪ ،‬فيتعين العلة )جمع الجوامع مع شرح المحلى‬
‫‪(416/2‬‬
‫‪ ( 73‬البيضاوي‪ ،‬المنهاج مع شرح اﻹسنوى‪1016/2‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج ‪203/3‬؛ اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪490/4‬؛ مختصر ابن الحاجب ‪639/4/4‬‬
‫‪ ( 74‬ابن السبكﻲ‪ ،‬جمع الجوامع‪117‬؛ اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام‪ ،490/4‬اﻹسنوي‪،‬نهاية السول‪1017/2‬‬
‫‪ ( 75‬الدوران‪ :‬هو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ويرتفع بارتفاعه فﻲ صورة واحدة )الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪221‬؛ جمع الجوامع‪(94‬‬
‫‪ ( 76‬اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول ‪1017/2‬؛ ابن السبكﻲ‪،‬اﻹبهاج ‪203/3‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ (8‬ترجيح الشبه على الطرد وما دونه من مسالك العلة‪:‬‬

‫يرجح ما ثبتت عليته بالشبه على ما ثبتت عليته بالطرد‪ ،77‬ﻷن الطرد ما ﻻ يناسب الحكم اصﻼ‪.‬‬

‫وهذا التقديم بقوة الدليل الدال على علية الوصف يطيل إلى ما لم نذكره هنا‪ ،‬مثﻼ ترجيح تنقيح المناط على‬
‫الطرد؛ والحاصل من هذا البحﺚ أن ما كان أولى فﻲ الدﻻلة يقدم على ما هو أدنى دﻻلة‪.‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬الترجيح بحسب الحكم‬

‫الحكم واحد من أركان القياس‪ .‬والمقصود بالقياس هو إلحاق الفرع باﻷصل‪ ،‬حتى يثبت الحكم فيه لتساوى‬
‫العلة فيهما‪ .‬ولذلك يمكن الترجيح بين القياسين المتعارضين بالنظر إلى الحكم‪ ،‬فإن كان الحكم فﻲ أحدهما‬
‫أليق بمقاصد الشريعة ومحاسن اﻻنسان يرجح على ماليس كذلك‪.‬‬

‫والمرجحات بحسب الحكم بين القياسين‪ ،‬هو نفس ما يرجح بها بين المنقولين‪ ،‬وهذا هو السبب لترك اكثر‬
‫المصنفين المبحﺚ عنها‪ ،‬ولكن أشاروا إلى ما ذكروا فﻲ باب الترجيح بين المنقولين‪ .‬ومن أهم ما يرجح به‬
‫بحسب الحكم مايلى ‪:‬‬

‫‪ (1‬ترجيح الحظر على اﻹباحة‪:‬‬

‫إذا كان حكم أحدهما الحظر – أي الحرام‪ ،‬فيقدم على ما كان حكمه اﻹباحة؛ وهذا هو مذهب الجمهورمن‬
‫الشافعية‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬والرازي والكرخﻲ وغيرهم‪ ،‬وذهب قوم إلى ترجيح اﻹباحة‪ ،‬وقوم إلى تساوي‬
‫الدليلين وتساقطهما‪ .‬ورجح الغزالﻲ التساوي وأوردها تحت ترجمة "القول فيما يظن أنه ترجيح وليس‬
‫بترجيح"‪ .78‬واحتجوا بأن تحريم المباح كإباحة المحظور‪ ،‬ﻷن كل من الحرمة واﻹباحة من أحكام ﷲ‪،‬‬
‫لذلك عاتب ﷲ تحريم الحﻼل أيضا بقوله‪]:‬ياأيهاالذين آمنوا ﻻ تحرموا طيبات ما أحل ﷲ لكم وﻻ تعتدوا‪،‬‬
‫أن ﷲ ﻻ يحب المعتدين[‪.79‬‬

‫والصحيح هو قول الجمهورﻷمرين‪:‬‬

‫‪ ( 77‬الطرد‪ :‬هو مقارنة الحكم الوصف من غير مناسبة؛ والشبه ‪ :‬هو ذو منزلة بين الطرد والمناسبة )جمع الجوامع مع شرح المحلى ‪(446-442/2‬‬
‫‪ ( 78‬الغزالﻲ‪ ،‬المستصفﻲ ‪210/2‬؛ الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪283‬‬
‫‪ ( 79‬سورة المائدة‪87 :‬‬

‫‪34‬‬
‫أحدهما‪ :‬قوله صلى ﷲ عليه و سلم‪" :‬ما اجتمع الحﻼل والحرام إﻻ وغلب الحرام على الحﻼل‪ "80‬وقال‬
‫صلى ﷲ عليه و سلم أيضا‪":‬دع ما يريبك إلى ما ﻻ يريبك‪."81‬‬

‫والثانﻲ‪ :‬أن اﻹحتياط يقتضى اﻷخذ بالتحريم ﻷن مﻼبسة الحرام موجبة لﻺثم بخﻼف المباح‪ ،‬ولهذا يقال لو‬
‫إجتمع فﻲ العين الواحدة حظر وإباحة‪ ،‬كما إذا طلق بعض نسائه ثم نسيها‪ ،‬حرم عليه وطئ جميع‬
‫‪82‬‬
‫الزوجات‪ ،‬إحتياطا من الوقوع فﻲ الحرام‪.‬‬

‫‪ (2‬ترجيح الحرام على الوجوب ‪:‬‬

‫يقدم ما كان حكمه يفيد الحرام‪ ،‬على ما يفيد الوجوب‪ .‬ﻷن الحرمة غالبا لدفع مضرة‪ ،‬والوجوب لنيل‬
‫مصلحة‪ ،‬ودفع المفسدة أهم فﻲ الشرع وأتم للعقل من تحصيل المصلحة‪ ،‬فإن من أراد أمرا لمصلحة‪،‬‬
‫يتركه إذا ظهر له من فعله مفسدة مساوية للمصلحة‪ .‬ولهذا كان ما شرعت العقوبات فيه أكثروأشد فﻲ‬
‫إرتكاب المعاصى من ترك الواجبات كالرجم للزنى‪ .‬وأيضا أن الحرمة أفضى إلى المقصود من الواجب‪،‬‬
‫فكانت المحافظة على الحرام أولى‪ .‬وبيان ذلك أن المقصود من الحرمة يتأتى بالترك‪ ،‬سواء كان مع‬
‫القصد أم مع الغفلة؛ ولكن الواجب ليس كذلك‪.83‬‬

‫‪ (3‬ترجيح الحرمة على الكراهة ‪:‬‬

‫إذا اجتمع قياسان أحدهما يقتضى الحرمة‪ ،‬واﻵخر يقتضى الكراهة فقط‪ ،‬فيقدم ما يقتضى الحرمة على‬
‫اﻵخر‪ .‬ﻷن المقصود منها الترك‪ ،‬والحرام أولى وأبلﻎ فيه من الكراهة‪ .‬وﻷن ترجيح الحرمة ﻻ يلزم منه‬
‫إبطال دﻻلة الكراهة بخﻼف العمل بالكراهة‪ ،‬ﻷنه يقتضى جواز الفعل أيضا فيبطل مقتضى الحرام؛‬
‫ومعلوم أن العمل بما ﻻ يفضى إلى بطﻼن الدليل أولى مما يؤدي إلى البطﻼن‪.‬‬

‫‪ (4‬ترجيح الوجوب على الندب واﻹباحة ‪:‬‬

‫يرجح القياس الذي يقتضى الوجوب‪ ،‬على القياس الذي يقتضى الندب أو اﻹباحة فقط‪ ،‬لما قررناه فﻲ تقديم‬
‫الحرام على الكراهة‪.‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬التعارض بين قولى الشافعﻲ عن غسل اللحية التى نزلت عن حد الوجه؛ فقال الشافعيى فﻲ أحد‬
‫قوليه‪ :‬يجب غسله أيضا قياسا على الوجه ﻷنه شعر ثابت فﻲ الوجه؛ وفﻲ ثانيهما قال‪ :‬ﻻ يجب قياسا على‬

‫‪ ( 80‬البيهقﻲ‪ ،‬سنن الكبري‪ ،‬باب الزنا ﻻ يحرم الحﻼل‪ ،‬رقم الحديﺚ‪13747 :‬‬
‫‪ ( 81‬رواه الترمذي‪ :‬باب كراهة مبايعة من أكثر ماله من الربا‪ ،‬رقم الحديﺚ‪10601 :‬‬
‫‪ ( 82‬البيضاوي‪ ،‬منهاج الوصول مع اﻹبهاج ‪194/3‬؛ اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول ‪1002/2‬؛ اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪478/4‬؛ ابن السبكﻲ‪ ،‬الجمع الجوامع ‪115‬‬
‫‪ ( 83‬اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪489/4‬؛ اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول‪1003 /2‬؛ الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول ‪283‬‬

‫‪35‬‬
‫الذؤابة المجاوزة لحج الرأس فﻲ عدم استحباب مسحه‪ .‬فيرجه قوله اﻷول ﻷنه يوجب الغسل‪ ،‬وهو أحق‬
‫لﻺحتياط‪.‬‬

‫‪ (5‬ترجيح المثبت على الناﻓي ‪:‬‬

‫يرجح أحد القياسين إن كان مثبتا للحكم على ما ﻻ ينفﻲ الحكم ﻷن فﻲ المثبت زيادة علم وفائدة‪.‬‬

‫ومن هذا القبيل ما ذكره اﻷصوليون من ترجيح القياس المثبت للعتق على القياس النافﻲ لهما على ما فيه‬
‫من الخﻼف بينهم‪ .84‬ومثاله قول الشافعﻲ رضﻲ ﷲ عنه‪ :‬الحربﻲ يصح عتقه لعبده ﻷن من صلح عتق‬
‫عبده المسلم صح منه العتق مطلقا؛ فيقدم هذا على قول غيره عتق الحربﻲ غير صحيح‪ ،‬ﻷن ملكه غير‬
‫مستقر‪.‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬المرجحات بأمور خارجية‬

‫إذا تعارض القياسان ولم يوجد مرجح بحسب أركانها حتى يقوي أحدهما‪ ،‬ينظر إلى أمر خارج‪ .‬وأما‬
‫الترجيح باعتبار أمر خارج فبأمور‪.‬‬

‫وذكر الشوكانى من هذه اﻷمور الخارجية أقساما‪:85‬‬

‫أ( يقدم القياس الموافق لﻸصول بأن يكون علة أصله على وفق اﻷصول‬
‫ب( يقدم ما كان حكم أصله موافقا لﻸصول‬
‫ت( يرجح ما كان مطردا فﻲ الفروع‬
‫ث( يرجح ماانضمت إلى علته علة أخرى‬
‫ج( يقدم ما انضم اليه فتوى صحابﻲ‬

‫ولكن بعض هذه اﻷمورليس بأمر خارجﻲ‪ ،‬ﻷنه يمكن أن يعد القسم اﻷول والثالﺚ مما يرجح بحسب العلة‪،‬‬
‫والثانﻲ يرجع إلى الترجيح بحسب الحكم‪ ،‬والثالﺚ يرجع إلى الترجيح بحسب الفرع‪ .‬فاﻷحسن أن يذكر‬
‫هذه اﻷمور فﻲ موضعه‪ .‬وأما اعتبار فتوى الصحابﻲ وفق أحد القياسين لترجيحه على اﻵخري هو‬
‫الترجيح بأمر خارج عن القياس‪.‬‬

‫‪ ( 84‬البرزنجى‪ ،‬التعارض والترجيح ‪249-248/2‬؛ اﻵمدي‪ ،‬اﻹحكام ‪480/4‬؛ اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول ‪1003/2‬؛ البيضاوي‪ ،‬منهاج الوصول مع‬
‫اﻷبهاج ‪197-194/3‬‬
‫‪ ( 85‬الشوكانﻲ‪ ،‬إرشاد الفحول‪281 ،‬‬

‫‪36‬‬
‫وقسمها البيضاوي فﻲ المنهاج إلى ثﻼثة أقسام‪:86‬‬

‫أ( موافقة اﻷصول فﻲ العلة‪.‬‬


‫ب( موافقة اﻷصول فﻲ الحكم‪.‬‬
‫ت( اﻹطراد فﻲ الفروع‪.‬‬

‫وايراد هذه اﻷمور تحت أمور خارجية ليس بصحيح‪ ،‬ﻷن اﻷول من قسم العلة‪ ،‬والثانﻲ من قسم الحكم‬
‫والثالﺚ من قسم الفرع‪ .‬ولذلك اعترضه اﻻسنوي على هذا‪ ،‬وقال‪" :‬وكان ينبغى ذكر كل واحد منها فﻲ‬
‫موضعه"‪.87‬‬

‫وأورد الحفناوى هذا التقسيم بنفسه فﻲ كتابه أيضا ثم بينها مع اﻷمثلة‪ ،‬ولكن لم ينبه على أنها ليست من‬
‫اﻷمور الخارجية فﻲ الحقيقة‪.88‬‬

‫اﻷمور الخارجية كثيرذكرها اﻷصوليون عند البحﺚ عن ترجيح أحد النقلين المتعارضين‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫أ‪ -‬يرجح أحدهما بموافقته لعمل السلف‪.‬‬


‫ومنه تقديم ما انضم اليه فتوى الصحابﻲ‪ ،‬أو وافقه عمل الصحابة‪ ،‬أو عمل خلفاء الراشدين‪ ،‬على‬
‫ما ليس كذلك‪ .‬ولكن هذا يجرى على الخﻼف الوارد فﻲ حجية قول الصحابﻲ‪ .‬فمن قال أن قول‬
‫الصحابﻲ دليل فالقياس الموافق له قطعﻲ‪ ،‬وأما لمن ﻻ يحتج به فهو أوفق للترجيح ﻷن الصحابة‬
‫أعلم بالمقاصد لشهودم الوحﻲ واستفادتهم الشريعة من النبﻲ صلى ﷲ عليه وسلم‪ .‬وكذا ما وافق‬
‫عمل أهل المدينة أو عمل سلف الصالح ﻷنهم من خير القرون‪.‬‬
‫ب‪ -‬يرجح بموافقة أحدهما لظاهر نص القرآن أو السنة‪.‬‬
‫ان كان أحد القياسين أوفق لظاهر نص القرآن أو السنة يقدم على معارضه‪.‬‬
‫ت‪ -‬يرجح بكون أحدهما أوفق لمقاصد الشريعة‪.‬‬
‫يرجح القياس الذي هو أوفق لمقاصد الشريعة على غيره‪.‬‬
‫ث‪ -‬يرجح أحدهما بموافقته لقياس آخر‪.‬‬

‫وهناك أمور أخرى قد بحثه اﻷصوليون فﻲ هذا الصدد‪ ،‬والقاعدة فيه أن ما تقوى بشيئ من الترجيحات‬
‫أولى بالعمل مما ليس كذلك‪ .‬ونكتفﻲ بهذا ﻹمكان قياس بقية اﻷقسام على ماذكر‬

‫‪ ( 86‬البيضاوي‪ ،‬المنهاج مع شرح اﻹسنوى‪1019/2،‬‬


‫‪ ( 87‬اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول‪1021/2،‬‬
‫‪ ( 88‬الحفناوي‪ ،‬التعارض والترجيح‪396-394،‬‬

‫‪37‬‬
‫نتائج البحث‬

‫بعد جولة يسيرة فﻲ موضوع التعارض بين اﻷقيسة و طرق الترجيح بينهما‪ ،‬توصل الباحﺚ إلﻲ نتائج‬
‫عديدة‪ ،‬أهمها ما يلﻲ ‪:‬‬

‫‪ -1‬أن باب القياس واسع‪ ،‬وأثرها فﻲ الفروع كثير‪ ،‬وتكلم عنه كل أصولﻲ وتنوعت كﻼمهم عن‬
‫تعريفه‪ ،‬وشروطه‪ ،‬ومسالك العلة و ما إليها‪.‬‬

‫‪ -2‬القياس حجة مقبولة فﻲ الشريعة اﻹسﻼمية‪ ،‬و يحتاح إليه كل أصولﻲ‪.‬‬

‫‪ -3‬إمكانية وقوع التعارض بين اﻷقيسة أكثر منه فﻲ اﻷدلة النقلية‪ ،‬ﻷن مدار القياس العقل‪ .‬وهو‬
‫متفاوت بين المجتهدين‪ ،‬فيختلف قياسهم طبعا‪.‬‬

‫‪ -4‬ﻻ يكون دفع التعارض فيه بالنسخ‪ ،‬ﻷنه خاص بالنقلية‪ ،‬و ﻻ يحتاج إلى الجمع أيضا‪ ،‬ﻷن القياس‬
‫نتيجة اﻹجتهاد‪ ،‬و يقع فيه الخلل و الغفلة‪.‬‬

‫‪ -5‬الخﻼص من التعارض فﻲ القياس بترجيح أحدهما‪ ،‬و يمكن العمل بهما ان أمكن صحتهما‪.‬‬

‫‪ -6‬يمكن الترجيح بين القياسين المتعارضين بوجوه‪ ،‬وذلك بالنظر إلى أحد أركان القياس ‪ -‬من‬
‫اﻷصل و الفرع و الحكم و الدليل – أو ألى أمر خارج منها‪.‬‬

‫‪ -7‬طرق التراجيح بين اﻷقيسة واسعة‪ ،‬و القاعدة فيه أنه يقدم أحد القياسين إن وجد فيه شيئ يؤيده‪.‬‬

‫‪ -8‬تختلف وجه التراجيح من مجتهد إلى مجتهد‪ ،‬و ليس فﻲ تفصيله اتفاق بين المذاهب‪ ،‬و ﻻ فﻲ‬
‫مذهب واحد‪.‬‬

‫‪ -9‬توسع اﻷصوليين البحﺚ عن الترجيح بين اﻷقيسة المتعارضة‪ ،‬فمنهم من اختصر على القواعد‬
‫العامة كالبيضاوي فﻲ منهاج الوصول ‪ ،‬وابن حاجب فﻲ مختصره؛ و منهم من أورد اﻷمثلة و‬
‫اﻵراء المختفة مع المناقشة و الترجيح كالغزالﻲ فﻲ المستصفى‪ ،‬و اﻵ مدي فﻲ اﻹحام‪.‬‬

‫سلك بعض المتأخرين منهج بعض المتقدمين فﻲ بيان أنواع الطرق لدفع التعارض و فﻲ‬ ‫‪-10‬‬
‫تقسيم اﻷنواع و فﻲ ترجيح قول فﻲ المسائل الفروعية‪ ،‬مثﻼ‪:‬‬

‫يسلك محمد إبراهيم الحفناوي – فﻲ كتابه ‘ التعارض و الترجيح عند اﻷصوليين’ مسلك‬
‫البيضاوي فﻲ كثير من التفصيﻼت‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫كما فﻲ تقسيمهما أنواع الترجيح بين اﻷقيسة إلى خمسة‪ :89‬بحسب العلة‪ ،‬و بحسب الدليل على‬
‫علية الوصف‪ ،‬و بحسب دليل الحكم‪ ،‬و بحسب كيفية الحكم‪ ،‬و بحسب أمور خارجية‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫ثﻼثة أضرب للترجيح بحسب اﻷمور الخارجية مع أن هذه اﻷمور ليست‬ ‫و كما فﻲ بيانهما‬
‫خارجة عن القياس‪ .‬ولكن الحفناوي زاد اﻷمثلة و التفاصيل‪.‬‬

‫وأيضا فﻲ عدم ذكرهما الترجيح بحسب الفرع أصﻼ‪.‬‬

‫لم ينحصر اﻷصوليون فﻲ ذكرهم اﻷنواع لطرق التراجيه‪ ،‬على الواقع فﻲ الحقيقة؛ بل ذكروا‬ ‫‪-11‬‬
‫بعض أنواعها استطرادا‪ ،‬كبحثهم عن تقديم القياس المعلل بالعلة المتعدية على المعلل بالقاصرة‪ ،‬ﻷنه ﻻ‬
‫قياس فﻲ القاصرة أصﻼ‪.91‬‬

‫الخاتمة‬

‫و أخيرا نقدم هذا البحﺚ وأعتذر عن التقصير الواقع فيه‪ ،‬وﻻ أدعﻲ الكمال فيه‪ ،‬وما احتوت هذه الدراسة‬

‫المسائ َل كلها؛ لما أن إيراد جميع أوجه التراجيح مع اﻷمثلة فى مثل هذا البحﺚ محال ﻻ يمكن ﻷحد‪،‬‬
‫والموضوع واسع يحتاج بحثا مستقﻼ‪ .‬ونكتفﻲ على ما أوردناه هنا ناقﻼ قول تاج الدين السبكﻲ فى اﻹبهاج‬
‫بعد شرحه على منهاج الوصول للبيضاوي؛ وهذا نصه ‪:‬‬

‫"إعلم أن طرق الترجيح ﻻ تنحصر فإنها تلويحات تجول فيها اﻹجتهادات‪ ،‬و يتوسع فيها من‬
‫توسع فﻲ الفقه‪ .‬فلذلك إقتصرنا على ما فﻲ الكتاب‪ ،‬وأما اﻷمثلة فﻲ بابﻲ تراجيح اﻷخبار‬
‫واﻷقيسة‪ ،‬فإذا ضرب الضارب بعضها فﻲ بعض‪ ،‬وأراد اﻹتيان لكل قسم بمثال كان طالبا لتطويل‬
‫عظيم‪ ،‬فإن ذلك يحتمل مع اﻻستيعاب وقد يعبر‪ ،‬فلذلك أضربنا عن هذا الغرض وجئنا بالنزر‬
‫‪92‬‬
‫اليسير فﻲ البابين‪ ،‬وﷲ الموفق والمعين بمنه وكرمه"‬

‫صلى ﷲ على سيدنا محمد و على آله وصحبه أجمعين‪،‬‬

‫رب العالمين‪.‬‬ ‫وآخر دعوانا أن الحمد‬

‫‪ ( 89‬البيضاوي‪ ،‬منهاج الوصول ‪1010/2‬؛ الحفناوي‪ ،‬التعارض و الترجيح ‪381‬‬


‫‪ ( 90‬البيضاوي‪ ،‬منهاج الوصول ‪1019/2‬؛ الحفناوي‪ ،‬التعارض و الترجيح ‪396-394‬‬
‫‪ ( 91‬اﻹسنوي‪ ،‬نهاية السول‪1022 /2‬‬
‫‪ ( 92‬ابن السبكﻲ‪ ،‬اﻹبهاج ‪206/3‬‬

‫‪39‬‬
‫الـمـصـادر والـمـراجـع‬

‫إحكام الفصول ﻓي أحكام اﻷصول ‪ :‬الباجﻲ‪ ،‬أبو الوليد ‪ -‬بيروت ‪ :‬دار الغرب اﻹسﻼمﻲ‪،‬‬
‫‪1986‬م‪1407/‬هـ‪.‬‬

‫إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم اﻷصول‪ :‬الشوكانى‪ ،‬محمد بن على بن محمد‪ : - .‬دار الفكر‪.‬‬

‫أساس القياس‪ :‬الغزالى‪ ،‬أبو حامد محمد‪ - .‬الرياض ‪ :‬مكتبة العبيكان‪1413 ،‬هـ‪1993 /‬م‪.‬‬

‫أصول الفقه‪ :‬السرخسﻲ‪ ،‬أبو بكر محمد بن أحمد ‪ -‬بيروت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪.‬‬

‫ابن القيم‪ ،‬محمد بن أبى بكر الجوزية‪ - .‬القاهرة ‪ :‬دار‬ ‫إعﻼم الموقعين عن رب العالمين‪:‬‬
‫الحديﺚ‪2002،‬م‪1422/‬هـ‪.‬‬

‫اﻹبهاج ﻓي شرح المنهاج‪ :‬السبكى‪ ،‬تقﻲ الدين ‪ ،‬ابن السبكى‪ ،‬تاج الدين‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫‪2003‬م‪1424-‬هـ‪.‬‬

‫اﻹحكام ﻓي أصول اﻷحكام‪ :‬اﻵمدي‪ ،‬سيف الدين أبو الحسن علﻲ بن أبى علﻲ‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار الكتب‬
‫العلمية‪.‬‬

‫البرزنجﻲ‪ ،‬عبد اللطيف عبد ﷲ‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار الكتب‬ ‫التعارض و الترجيح بين اﻷدلة الشرعية‪:‬‬
‫العلمية‪1996 ،‬م ‪1417-‬هـ‪.‬‬

‫الحفناوي‪ ،‬محمد إبراهيم محمد‪ - .‬مصر ‪ :‬دار‬ ‫التعارض و الترجيح وأثرهما ﻓي الفقه اﻷسﻼمى‪:‬‬
‫الوفاء‪1987 ،‬م ‪1408-‬هـ‪.‬‬

‫الرسالة ‪ :‬الشافعﻲ‪ ،‬محمد بن إدريس‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار الكتب العلمية‪2005 ،‬م‪1426-‬هـ‪.‬‬

‫القياس بين مؤيده ومعارضه‪ :‬د‪.‬عمر سليمان اﻷشقر‪ - .‬اﻷردن ‪ :‬دار النفائس‪1412/1992 ،‬هـ‪.‬‬

‫المستصفي من علم اﻷصول‪ :‬الغزالﻲ‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار إحياء التراثى العربى‪.‬‬

‫تعارض القياس مع خبر الواحد وأثره ﻓي الفقه اﻻسﻼمي‪ :‬لخضر لخضاري‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار ابن حزم‪،‬‬
‫‪2006‬م‪1427-‬هـ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫جمع الجوامع ﻓي أصول الفقه‪ :‬ابن السبكﻲ‪ ،‬تاج الدين عبد الوهاب‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫‪2003‬م‪1424-‬هـ‪.‬‬

‫حاشية العﻼمة البنانى على شرح المحلى على متن جمع الجوامع‪ :‬البنانى‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار الكتب‬
‫العلمية‪1998 ،‬م ـ ‪1418‬هـ‪.‬‬

‫حجية القياس‪ :‬صﻼح زيدان‪ - .‬مصر ‪ :‬دار الصحوة‪1407-1987 ،‬هـ‪.‬‬

‫رﻓع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب‪ :‬ابن السبكى‪ ،‬تاج الدين عبد الوهاب‪ - .‬بيروت ‪ :‬عالم الكتب‪،‬‬
‫‪1419-1999‬هـ‪.‬‬

‫نظرية القياس اﻻصولى منهج تجريبى إسﻼمي‪ :‬داود‪ ،‬محمد سليمان‪ - .‬اﻻسكندرية ‪ :‬دار الدعوة‪،‬‬
‫‪1984‬م‪1404-‬هـ‪.‬‬

‫نهاية السول ﻓي شرح منهاج الوصول‪ :‬اﻹسنوي‪ ،‬جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن‪ - .‬بيروت ‪ :‬دار ابن‬
‫حزم‪1999 ،‬م‪1420-‬هـ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الـمـحـتـويات‬
‫الصحفة‬ ‫الموضوع‬

‫الباب التمهيدي‪ :‬خطة البحﺚ ‪1 .....................................................................................................‬‬


‫المقدمة‪2 .........................................................................................................................‬‬
‫إشكالية البحﺚ ‪2 ................................................................................................................‬‬
‫أسئلة البحﺚ ‪3 ..................................................................................................................‬‬
‫أهداف البحﺚ ‪3 .................................................................................................................‬‬
‫الدراسات السابقة ‪4 ............................................................................................................‬‬
‫المناهج البحﺚ‪5 ................................................................................................................‬‬
‫هيئة العامة للبحﺚ ‪5 ...........................................................................................................‬‬
‫الباب اﻷول‪ :‬بيان معانﻲ ألفاظ الترجمة‪7 .........................................................................................‬‬
‫الفصل اﻷول‪ :‬القياس ‪7 ..............................................................................................................‬‬
‫المبحﺚ اﻷول‪ :‬تعريف القياس‪7 .............................................................................................‬‬
‫المبحﺚ الثانﻲ‪ :‬حجية القياس ‪10 ............................................................................................‬‬
‫المبحﺚ الثالﺚ‪ :‬أركان القياس ‪16 ...........................................................................................‬‬
‫الفصل الثانﻲ‪ :‬معنى التعارض‪16.................................................................................................‬‬
‫الفصل الثالﺚ‪ :‬معنى الترجيح‪18...................................................................................................‬‬
‫الباب الثانﻲ‪ :‬التعارض والترجيح بين اﻷقيسة ‪20 ...............................................................................‬‬
‫الفصل اﻷول‪ :‬التعارض بين اﻻقيسة ‪20 ..........................................................................................‬‬
‫المبحﺚ اﻷول‪ :‬إمكانية التعارض فﻲ القياس ‪20 ..........................................................................‬‬
‫المبحﺚ الثانﻲ‪ :‬أسباب التعارض فﻲ القياس ‪21 ..........................................................................‬‬
‫المبحﺚ الثالﺚ‪ :‬طرق الخﻼص من التعارض ‪21 ........................................................................‬‬
‫الفصل الثانﻲ ‪ :‬الترجيح بين القياسين المتعارضين ‪22 .........................................................................‬‬
‫المبحﺚ اﻷول‪ :‬المرجحات بحسب اﻷصل ‪23 ...........................................................................‬‬
‫المبحﺚ الثانﻲ‪ :‬المرجحات بحسب الفرع ‪25 ..............................................................................‬‬
‫المبحﺚ الثالﺚ‪ :‬المرجحات بحسب العلة ‪28 ...............................................................................‬‬
‫المبحﺚ الرابع‪ :‬الترجيح بحسب الحكم ‪34 .................................................................................‬‬
‫المبحﺚ الخامس‪ :‬المرجحات بأمور خارجية ‪36 .........................................................................‬‬
‫نتائج البحﺚ‪37........................................................................................................................‬‬
‫الخاتمة‪38..............................................................................................................................‬‬
‫الـمـصـادر والـمـراجـع ‪40 .........................................................................................................‬‬

‫‪42‬‬

You might also like