You are on page 1of 35

‫مقدمة‪:‬‬

‫ربتل اللغة مكانة مهمة يف الفلسفة قدؽلا وحديثا بالرغم من التباين احلاصل يف النظرة إليها؛ فالنظرة إىل‬
‫اللغة إىل حدود القرف التاسع عشر تتباين مع النظرة اليت أحدثها دو سوسَت‪ .‬ىذا األخَت عارض الدراسات القدؽلة‬
‫للغة؛ لسانيات القرف التاسع عشر اتسمت ‪-‬كما يرى دو سوسَت‪ -‬بتفسَت تارؼلي للوقائع اللسانية وتفسَت مقارف‬
‫ذلا‪ .‬واقًتح دراسة اللغة يف ذاهتا ولذاهتا بعيدة عن العوامل احمليطة هبا‪ ،‬واعترب اللغة نسقا مغلقا من العالمات ووحدة‬
‫مستقلة من العالقات الداخلية ادلًتابطة‪ ،‬وزلاوالتو جعل اللغة موضوعا للدراسة دبعزؿ عن مستخدمها‪ ،‬واعتربت‬
‫البنيوية أف النواة األساس للنص ىو مادتو اللغوية‪.‬‬
‫فاإلنساف يدرؾ ذاتو والعامل من خالؿ اللغة‪ ،‬فربوز اللسانيات وامتدادىا يف الفكر ادلعاصر جعل اللغة‬
‫ربتل الصدارة داخل العلوـ اإلنسانية‪ .‬فالفلسفات ادلعاصرة اعتربت معرفة اللغة ودراستها شرطا أساسيا ومسبقا‬
‫حلل ادلشكالت اجلوىرية واألساسية للفلسفة‪.‬‬
‫تأسيسا على ما سبق فقد استطاعت اللسانيات منذ نشأهتا أف تدرس اللغة دراسة علمية كما يقاؿ‪،‬‬
‫زلاولة طيلة تارؼلها اإلدلاـ جبميع القضايا يف رلاالهتا سواء كاف ذلك من داخل الدرس اللساين نفسو‪ ،‬أي البحث‬
‫اللساين الذي يتناوؿ قضايا لسانية خالصة من دراسة الصوت والصرؼ والنحو والداللة والًتكيب هبدؼ ضبط‬
‫قواعد االشتغاؿ فيها‪ ،‬أو كاف ذلك من خارجو ولو صلة وثيقة بو‪ ،‬مثل الربغماتية والتأويلية واللسانيات النفسية‬
‫واالجتماعية والعرفانية ولسانيات ادلدونة وربليل اخلطاب ولسانيات النص أو اخلطاب‪ .‬وىي رلاالت صارت‬
‫ميادين حبث حديثة ذباوزت مفهوـ اجلملة لتبحث فيما ىو أوسع منها‪ ،‬إنو النص أو اخلطاب مستفيدة يف ذلك‬
‫من نظريات ومناىج سلتلفة‪ .‬فما ىي أىم احملطات اللسانية اليت مهدت لظهور اللسانيات احلديثة؟‬

‫محطات لسانية هامة‪:‬‬


‫مرت اللسانيات الغربية دبحطات لسانية ىامة خالؿ القرنيُت التاسع عشر والعشرين ساعلت يف تطورىا‬
‫ادلتسارع‪ .‬وكاف للمدارس األدلانية األثر الكبَت يف ضبط اذباىاهتا ادلؤسسة جملاالت حبثها‪ ،‬خاصة ما قدمو ىامبولت‬
‫من أفكار جديدة اتسمت برؤيتو اللسانية للعامل‪.‬‬
‫قدمت مدرسة ليبزيغ األدلانية (‪ )leipzig‬من خالؿ ما قدمو النحاة اجلدد من أفكار جديدة ثاروا هبا‬
‫على النحاة القدامى‪ ،‬مساعلة قيمة أثرت يف الدرس اللساين إىل اليوـ خاصة يف رلاؿ النحو ادلقارف باعتماد ادلنهج‬
‫التارؼلي‪ ،‬فاعتربوا أف التغيَتات الصوتية ادلطردة سبثل سبيال إىل التطور اللغوي وىي مبنية على قوانُت متسقة ال‬
‫تعرؼ الشذوذ‪ ،‬ففسروا الظواىر اللسانية على أساس ادلنهج التارؼلي متبعُت يف ذلك ضبط القوانُت اللسانية‬
‫ادلتحكمة يف كل مرحلة‪.‬‬
‫بعض الفلسفات اليت رأت النور بداية القرف التاسع عشر دعت إىل البحث يف القوانُت العلمية اجملردة‬
‫للظواىر‪ ،‬باعتبار أف الكوف بٍت على نظاـ وأصبح البحث عن قواعد البنية النظامية للظواىر الكونية منهجا متبعا‬
‫يف كل العلوـ من بينها اللسانيات‪ ،‬فحلت بنيوية القرف العشرين ردا على ذبريبية القرف التاسع عشر وارتبط ادلنهج‬
‫البنيوي بنظرية ادلعرفة وأصبح البحث عن ادلصطلحات العلمية الواصفة للعلوـ أمرا مطلوبا‪ ،‬فلجأ البحث اللساين‬
‫إىل ضبط صبلة من ادلصطلحات اليت تعتمد اللغة الواصفة للقواعد اللسانية البنيوية مستفيدة يف ذلك من مناىج‬
‫العلوـ األخرى الدقيقة‪ ،‬فتداخلت االختصاصات وادلناىج يف دراسة الدرس اللساين شلا جعلو يتسم بالتطور‬
‫واكتساب الصفة العلمية ادلتميزة على مناىج القرف التاسع عشر‪ .‬وسادت البنيوية حىت ستينيات القرف ادلاضي‬
‫مسيطرة على أغلب التوجهات أو الدراسات اللسانية‪ ،‬وكاف ذلا األثر البالغ يف بروز مدارس لسانية سارت على‬
‫هنجها مع بعض التعديالت الطفيفة‪ ،‬دبعٌت أهنا فرع من فروع البنيوية سبيز بدراسة نظاـ اللغة الكلي دبستوياتو‬
‫ادلختلفة النحوية والصرفية والصوتية والداللية دراسة وظيفية زلضة مثل مدرسة براغ (ادلدرسة الوظيفية ‪ )1926‬اليت‬
‫ىي فرع من فروع البنيوية‪ .‬مث نشأت مدرسة كوبنهاكن (ادلدرسة النسقية (الكلومساتية) سنة ‪ )1936‬اليت ازبذت‬
‫ذلا مع لويس يلمسليف من الرياضيات وادلنطق يف دراسة اللغة دراسة كونية تعتمد على ادلبادئ الكلية للغة‬
‫اجملردة‪ .‬مث رأت النور ادلدرسة التوزيعية مع بلومفيلد اليت اعتربت الظاىرة اللغوية ظاىرة سلوكية ونفسية اليت واصل‬
‫هنجها ىاريس يف ادلدرسة التحويلية إىل أف اكتشف البعد التحويلي يف دراسة البٌت الًتكيبية‪ ،‬مث استلهمو‬
‫تشومسكي وحولو إىل القواعد التوليدية التحويلية (ادلدرسة التوليدية سنة ‪ ،)1957‬الذي أسس مرحلة جديدة يف‬
‫الدرس اللساين‪ ،‬متمردا على الدراسة الوصفية اليت تبنتها بنيوية دو سوسَت اليت أعللت البنية العميقة لقواعد‬
‫التحويل واإلنتاج الالمتناىي من اجلمل يف مؤلفو " البٌت الًتكيبية ‪ .1957‬كما كاف للبنيوية تأثَت واضح يف ظهور‬
‫الشكالنية الروسية‪.‬‬
‫ظهرت‪ ،‬باإلضافة إىل ىذه ادلدارس مسالك أخرى يف ادلشهد اللساين‪ ،‬إىل حدود السبعينيات من القرف‬
‫العشرين‪ ،‬كاف ذلا دور التأسيس احلديث يف البحث اللساين‪ ،‬من أعلها ادليداف الرباغمايت الذي اىتم بتحليل أفعاؿ‬
‫الكالـ‪ .1‬فالتداوليات إذف ليست علما لغويا زلضا يعمل على وصف وتفسَت البنية اللغوية ويتوقف عند حدودىا‬
‫وأشكاذلا الظاىرة‪ ،‬بل ىي علم للتواصل يدرس الظواىر اللغوية يف رلاؿ االستعماؿ‪ ،‬ويدمج يف ذلك حقوال معرفية‬
‫متعددة تسعف يف دراسة الظاىرة التواصلية اللغوية وتفسَتىا‪ ،‬وىي هبذا سبثل حلقة وصل ىامة بُت حقوؿ من قبيل‬
‫الفلسفة التحليلية وعلم النفس ادلعريف شلثال يف نظرية ادلالءمة (‪ )Théorie de pertinence‬على‬
‫اخلصوص‪ ،‬وعلوـ التواصل‪ ،‬واللسانيات‪ ،‬والبالغة‪ ،‬وعلم االجتماع‪ .‬وكذلك نشأ علم ربليل اخلطاب ونظريات‬

‫‪1‬ادلرجو مراجعة‪:‬‬
‫‪Austin J. L., Quand dire c’est faire (1 Ed), traduit de l’anglais par G. Lane, Paris, Edition Seuil, 1972‬‬
‫‪Searle J. R. Les actes du langage : essai de philosophie du langage, (1Ed), traduit de l’anglais par H. Pauchard, Paris,‬‬
‫‪Hermann, 1972‬‬
‫ال تلفظ ولسانيات النص واللسانيات االجتماعية‪ ،‬أصبحت رلاالت حبث حديثة ذباوزت مفهوـ اجلملة لتبحث‬
‫فيما ىو أوسع منها‪ ،‬إنو النص أو اخلطاب مستفيدة يف ذلك من نظريات ومناىج سلتلفة‪.‬‬
‫مل يشر األوائل من اللسانيُت احملدثُت ( دو سوسَت وياكبسوف وىلمسليف ) إىل مفهوـ اخلطاب‪ .‬فبوؿ‬
‫ريكور مل ينطلق من الصفر‪ .‬بل أسس‪ ،‬انطالقا من البنيوية دلفهوـ جديد للغة واخلطاب‪ .2‬فقد استخدـ مفهوـ‬
‫اخلطاب عوضا عن الكالـ‪ ،‬واستبدؿ ثنائية دي سوسَت اللساف ‪ /‬الكالـ بثنائية اللساف ‪ /‬اخلطاب‪ .‬وريكور من‬
‫ناحيتو يضع اخلطاب بدال من الكالـ‪.‬‬
‫ورغم أف العديد من الدارسُت غلعل من مصطلح اخلطاب مرادفا للنص‪ ،‬باعتبارعلا ػليالف إىل شلارسات‬
‫خطابية‪ ،‬فإف بُت ىذا وذاؾ تباينات مفهوميو؛ ذلك أف النص واخلطاب‪ ،‬حىت وإف كانا يشكالف نقطة التقاء‬
‫العديد من فروع ادلعرفة اإلنسانية‪ ،‬فإنو من غَت ادلنطقي اعتبارعلا مصطلحُت يدالف على نفس ادلفهوـ‪ ،‬وإال كاف‬
‫وجود أحدعلا أمرا ال مربر لو‪.‬‬
‫سم نصا كل خطاب ثبتو الكتابة»‪ .3‬لكن ىذا‬‫بوؿ ريكور ال ؽليز بُت اخلطاب والنص‪ .‬يقوؿ‪« :‬لنُ ّ‬
‫التعريف غلعل الكتابة مؤسسة للنص‪ ،‬ويطرح إشكاؿ‪ :‬عالقة النص بالكالـ؟ فإذا كاف الكالـ عند دو سوسَت ىو‬
‫«ربقق اللغة يف خطاب ما»‪ ،4‬فإف «كل نص ىو يف موقع إصلاز للكالـ»‪ ،5‬وتعترب الكتابة‪ ،‬بذلك‪ ،‬تالية للكالـ‪،‬‬
‫وػل ُّل التثبيت بالكتابة زلل الكالـ‪ ،‬ألف ما «أُثبت بالكتابة (‪ )...‬خطاب‪ ،‬كاف بإمكاننا أف‬
‫أو ىي كالـ ُمثبت؛ ح‬
‫نقولو»‪6‬؛ ومنو طللص إىل أف النص ىو تدوين للخطاب‪ .‬فالكتابة «إصلاز شبيو بالكالـ‪ ،‬مواز للكالـ‪ ،‬إصلاز ػلتل‬
‫مكانو وػلجبو‪ ،‬لذا قلنا إف ما يأيت إىل الكتابة‪ ،‬ىو اخلطاب‪ ،‬بصفتو نيّة يف القوؿ‪ ،‬وأف الكتابة تسجيل مباشر‬
‫لتلك النية‪ ،‬حىت وإف كانت الكتابة قد بدأت‪ ،‬تارؼليا ونفسيا‪ ،‬بتسجيل عالمات الكالـ زبطيطا‪ .‬وربرر الكتابة‬
‫النص»‪.7‬‬ ‫ميالد‬ ‫شهادة‬ ‫ىو‬ ‫الكالـ‬ ‫موضع‬ ‫يضعها‬ ‫الذي‬ ‫ىذا‪،‬‬
‫إف النص فلسفيا‪ ،‬عند بوؿ ريكور يأخذ مكاف الكالـ مرورا بالكتابة‪ .‬فبالكتابة نػح ْعبُػ ُر من كالـ كاف‬
‫باإلمكاف قولو إىل كالـ ُمثبت يف نص؛ دبعٌت أف النص ىو خطاب مكتوب‪ ،‬وىو ما يشكل إضافة نوعية دلفهوـ‬
‫النص لسانيا بإيراد معطى الكتابة ح ّدا فاصال بينو وبُت اخلطاب‪.‬‬
‫يف ادلقابل وابتداء من أواخر الستينيات‪ ،‬صلد البنيوية أفرزت اذباىات مضادة ذلا‪ ،‬تتجلى يف بعض‬
‫الدراسات األنكلوساكسونية اليت مل تؤمن جبدواىا وتابعت البحث اللساين غَت متأثرة دبنهجها‪ ،‬فركزت على‬
‫اجلوانب االجتماعية والنفسية واجلغرافية والثقافية وادلعرفية يف الدرس اللساين‪ .‬كما أفرزت البنيوية التكوينية مع‬

‫‪2‬‬
‫‪Paul Ricœur, Le conflit des interprétations, essais d’herméneutique, P 35‬‬
‫‪ 3‬بوؿ ريكور‪ :‬من النص إىل الفعل‪ ،‬ص‪95 :‬‬
‫‪4‬نفسو‪ ،‬ص‪95 :‬‬
‫‪ 5‬نفسو‪ ،‬ص‪95 :‬‬
‫‪6‬نفسو‪ ،‬ص‪.96 :‬‬
‫‪ 7‬نفسو ‪ ،‬ص‪.96 :‬‬
‫لوكاتش الذي التفت إىل أعلية الشكل الفٍت و البنية وىو ما مل يكن معتادا‪ ،‬يف اجملاؿ االجتماعي‪ ،‬والذي رأى فيو‬
‫انعكاسا لنسق يكتشف تدرغليا‪ ،‬حيث استخدـ " مصطلح االنعكاس" أو " نظرية االنعكاس" اليت تأسست منذ‬
‫بداية انتشار الفكر ادلاركسي‪ .‬كما عارض روالف بارت البنيوية بعدما انتقل إىل السيميائيات والتفكيكية؛ إذا كاف‬
‫دو سوسَت قد ضيق الدرس اللساين ووجو كل اىتماماتو للغة‪ ،‬وجعلها األصل زلل الصدارة ‪ ،‬فإف مفهوـ بارت‬
‫ُس ِقطت من لسانيات‬ ‫‪8‬‬
‫فسح اجملاؿ حبيث اتسع حىت استوعب دراسة األساطَت واىتم بأنساؽ من العالمات اليت أ ْ‬
‫سوسَت كاللباس وأطباؽ األكل والديكورات ادلنزلية‪ ،‬ونضيف األطعمة واألشربة وكل اخلطابات اليت ربمل‬
‫انطباعات رمزية وداللية‪ .‬يتسع التحليل ليستوعب ما ىو خارج اللغة يف دراسة األساطَت واالىتماـ بأنساؽ‬
‫العالمات كالل باس واألكل‪ ....‬أدرج بارت ىذه األنساؽ من العالمات وأنظمة التواصل اجلماىَتي مثل الصورة‬
‫واإلشهار يف نطاؽ ادلنظومات اإلشارية‪ .‬كما جاءت "التفكيكية" لتعارض البنيوية‪ ،‬شكك دريدا يف الفكر‬
‫اللغوي البنيوي السوسَتي‪ ،‬حيث وقف " رواد التفكيك " من فكرة نسق البنيوية وقدرهتا (فكرة النسق) على‬
‫ربديد العالقات اللغوية وتوزيع أدوارىا وربقيق أداءاهتا‪ ،‬ومن مت طرح البديل القائم على إعطاء ادلدلوؿ حرية‬
‫اللعب‪ ،‬وسبتيع القارئ باحلرية ادلطلقة على تفسَت العالقات وتأويلها‪ .‬مث جاءت نظرية ما بعد االستعمار اليت‬
‫ظهرت بعد سيطرة البنيوية على احلقل الثقايف الغر‪،‬ي‪ ،‬واليت شكلت إبداال (‪ )paradigme‬يفتح للناقد آفاقا‬
‫جديدة للقراءة والتأويل واخلروج من االنغالؽ البنيوي‪ .‬كاف ىدفها االنتقاص من قدر الدعاوي العلمية للبنيوية‪.‬‬
‫وخروجا كذلك عن ضيق األسئلة البنيوية والشكالنية اليت سيجت النصوص بسياج اجلماليات وعزلتها عن زليطها‬
‫الثقايف‪ ،‬سيجد النقد الثقايف نفسو مطالبا باإلجابة عن ىذه األسئلة اجلديدة‪ ،‬شلا سيحتم عليو تغيَت أدواتو وطرائق‬
‫رؤيتو للعمل األد‪،‬ي مسًتفدا جل تصوراتو من فلسفات فوكو وادوار سعيد‪ .‬فقد سبكن ادوار سعيد من خالؿ‬
‫نظرتو الثاقبة ومناىضة خطاب البنيوية وما بعد البنيوية‪ :‬فقراءة أولية لكتاب ادوار سعيد االنتفاضة الثقافية الذي‬
‫يندرج ضمن الدراسات ما بعد الكولونيالية‪ ،‬توحي أنو قدـ مداخل أساسية للمنظور اإلدواردي ومفاىيمو‬
‫األساسية كالدنيوية والقراءة الطباقية وادلثقف والعامل وغَتىا من ادلفاتيح اليت ينهض عليها التصور اإلدواردي‬
‫لألدب والنقد‪ .‬فقيمة ادوار سعيد تتجلى بالتحديد يف مناىضة خطاب البنيوية؛ فقد قدـ‪ ،‬يف رلاؿ النظرية النقدية‬
‫إبداال دلقاربة النصوص األدبية متجاوزا تيار البنيوية وسكونيتها اليت تفرغ النصوص من مرجعياهتا االجتماعية‬
‫والتارؼلية‪ ،‬فقد خضعت (البنيوية) باعتبارىا نظرية النتقادات موضوعية وقفت على ثغراهتا كإعلاذلا التاريخ والتطور‬
‫والعوامل االجتماعية واالقتصادية والثقافية ادلؤثرة يف البنيات واألنساؽ‪ ،‬فهي سبارس السلطوية على النصوص‪،‬‬
‫حيث الدراسات ما بعد الكولونيالية فعالة يف ربط النصوص دبحاضنها االجتماعية‪.‬‬
‫كما أف البنيوية واجهتها معارضة بفرنسا أثناء انتفاضة ‪ 1968‬اليت شارؾ فيها مثقفوف أمثاؿ بوؿ ريكور‬
‫وروالف بارث ( دلا كاف يساريا ) ‪ ،‬ألف احملتجُت اعتربوا البنيوية تيارا ؽلثل الرأمسالية‪ .‬لكن النقاد العرب الذين تبنوا‬

‫‪8‬‬
‫األساطَت ليس بادلفهوـ االصطالحي‪ ،‬بل وظيفتها يف اجملتمع‬
‫البنيوية كاف جلهم ينتمي إىل اليسار‪ ،‬سقطوا يف التناقض؛ أفرغوا البنيوية من زلتواىا ادلبٍت على " الداخل " الذي‬
‫ال يؤمن بالعوامل اخلارجية‪ ،‬ألف البنيوية جاءت لتحوؿ اللغة إىل موضوع يف البحث اللساين ادلستقل بذاتو‪ .‬ىكذا‬
‫حاوؿ البنيويوف العرب توفيق بُت " الداخل " و " اخلارج "من خالؿ اجلمع بُت ادلقاربة النصية الداخلية وادلقاربة‬
‫اخلارجية ‪ ،‬للتوفيق بُت الداخل واخلارج أو إمساؾ " العصا من الوسط"‪.‬‬
‫تأسيسا على ما سبق‪ ،‬فإف ادلتأمل يف تاريخ اللسانيات الغربية غلدىا بنيت على عملية اإلزاحة واإلحالؿ‪،‬‬
‫عملية اإلسباـ والتعديل كما ىو الشأف مع دو سوسَت واألمريكي ويلياـ ويتٍت الذي تكوف بأدلانيا وكانت لو‬
‫دراسات يف النحو ادلقارف‪ ،‬أقاـ حدودا بُت ما ىو لساين وما ىو غَت لساين‪ ،‬أخذ مسافة من بعض توجهات‬
‫اللسانيات التارؼلية؛ مدرسة تزيح مدرسة سابقة عنها بعد الًتاكمات لتحل زللها هبدؼ التعديل أو التباين‪،‬‬
‫وتستقل فيما بعد‪ .‬فإذا أمعنا النظر يف اللسانيات صلد أف تطورىا مرىوف دبجاالت علمية أخرى خاصة النظريات‬
‫الفلسفية والرياضياتية‪ ...‬منها‪:‬‬

‫اللسانيات العامة والتطبيقية‪:‬‬


‫موضوع اللسانيات العامة ىو دراسة األنظمة العامة لأللسن ادلتمثلة يف ادلستوى الصويت والصريف والنحوي‬
‫والًتكييب والداليل باالعتماد على نظريات قادرة على استنباط قواعد ىذه ادلستويات وتفسَتىا تفسَتا علميا‪ ،‬مث‬
‫تطبيقها على لساف معُت هبدؼ التحليل لإلدلاـ بقواعده النظامية‪.‬‬
‫اللسانيات االجتماعية‪:‬‬
‫هتدؼ إىل الربط بُت ادلعطى اللساين والظواىر االجتماعية‪ ،‬فاللساف مرتبط بالطبقات االجتماعية؛ ىذا ما‬
‫جعل ميخائيل باختُت ؼلتلف مع دو سوسَت ويقر بالطابع االجتماعي للكالـ ( سوسَت يرى أف الكالـ فردي )‪.‬‬

‫اللسانيات النفسية‪:‬‬
‫ظهرت ابتداء من النصف الثاين من القرف ادلاضي‪ ،‬استقلت بنفسها‪ ،‬واىتمت بالظروؼ النفسية يف‬
‫عملية اكتساب اللغة خاصة عند األطفاؿ‪ .‬فساعدت على فهم النمو اللساين وتطوير الدرس الغر‪،‬ي خاصة فيما‬
‫يتعلق بنظرية النحو التوليدي مع تشومسكي‪.‬‬

‫اللسانيات الحاسوبية‪:‬‬
‫ظهرت اللسانيات احلاسوبية اليت رباوؿ زلاكاة العقل البشري يف فهم الظاىرة اللغوية نتيجة للحاجة إىل‬
‫احلوسبة‪ .‬فكاف اجلمع بُت اللسانيات والذكاء االصطناعي واإلعالميات والرياضيات وادلنطق قصد نقل الذكاء‬
‫البشري إىل نظَته احلاسو‪،‬ي‪ ،‬الذي يستطيع ربليل النظاـ اللغوي بأسرع وقت‪.‬‬
‫لسانيات الخطاب‪:‬‬
‫ترتكز لسانيات اخلطاب أو النص على ذباوز اجلملة لدراسة ما ىو أمشل منها شكال وداللة‪ .‬نشأت‬
‫بأمريكا مع ىاريس‪ ،‬أدت إىل تطوير الدرس اللساين‪ .‬واعتمدت على مقاربات عديدة أعلها النظريات الرباغماتية‬
‫واحلجاجية ‪.‬‬

‫كما أف التصورات اللسانية أو الفكر اللساين يف الفًتة ادلمتدة من ‪ 1800‬و ‪ 1900‬هتيأت بفضلها‬
‫ظروؼ تطور الحق للسانيات يف القرف العشرين ( من النحو ادلقارف إىل التصورات ادلعاصرة ) إىل البديل الذي‬
‫أحدثو دو سوسَت حيث الرىاف على استقاللية اللسانيات‪ .‬كما أف اللسانيات عرفت مع تشومسكي مرحلة‬
‫جديدة‪ ،‬مؤسسا بذلك مرحلة يف اللسانيات نقد فيها الدراسة الوصفية السطحية اليت مل تعن بالبنية العميقة‬
‫لقواعد التحويل واإلنتاج الالمتناىي من اجلمل‪ . 9‬نزعت القواعد التوليدية بتشديدىا على القدرة‬
‫(‪ )compétence‬واألداء (‪ )performance‬إىل إزاحة لسانيات دوسوسَت اليت كانت تضع تركيزىا على‬
‫النسق الثابت للغة‪ .‬فمشروع تشومسكي ليس مشروعا لوصف نظاـ العالقات الذي يشكل لغة معينة‪ ،‬إظلا ىو‬
‫مشروع يصوغ القواعد العامة اليت تفسر إنتاج عدد ال هنائي وكامن من األقواؿ (الكالـ ‪ )parole‬اليت تعد‬
‫مقبولة قواعديا من لدف متكلمي لغة ما‪ .‬ىذه القواعد التوليدية جاهبها ربدي من علم الداللة التوليدي‪ ،‬ومن‬
‫نظرية أفعاؿ الكالـ اللذين حاوال أف يعنيا ليس فقط بالقواعد الًتكيبية لصياغة اجلمل‪ ،‬وإظلا بالقواعد الداللية‬
‫والسياقية اليت ربكم مواقف الكالـ الفعلي‪ .‬فقد توسعت اللسانيات من رلاؿ إىل آخر ألجل اإلدلاـ جبميع القضايا‬
‫اليت تصلها بالدرس والبحث‪ ،‬سواء كاف من داخل الدرس اللساين نفسو‪ ،‬الذي يعاجل قضايا لسانية خالصة مثل‬
‫دراسة الصوت والًتكيب والنحو‪ ،‬أو كاف من خارجو ولو صلة وثيقة بو‪ ،‬مثل التداولية ولسانيات اخلطاب والنص‬
‫اليت ذباوزت لسانيات اجلملة إىل دراسة ما ىو أوسع‪ .‬لسانيات النص نشأت مع ىاريس سنة ‪ ،1952‬مث بعده‬
‫بوؿ ريكور الذي اىتم باخلطاب والنص‪ .‬فتولدت نظريات جديدة اىتمت بتحليل النصوص واخلطابات‪.‬‬
‫مرت اللسانيات الغربية دبحطات لسانية ىامة ساعلت يف تطورىا ادلتسارع‪ .‬فالقرف التاسع عشر وخاصة‬
‫الفًتة ادلمتدة بُت‪ 1810‬و ‪ 1875‬عرفت تطورات يف اللسانيات؛ إنو النحو ادلقارف الذي ؼلص رلاال للدراسة‬
‫وتوجها للسانيات يتمثالف يف إقامة صالت القرابة ادلوجودة بُت لغتُت أو أكثر متباعدة يف الزماف وادلكاف‪ .‬ومل‬
‫يتحوؿ النحو ادلقارف إىل لسانيات تارؼلية إال ابتداء من عاـ ‪ 1860‬تقريبا‪ .‬فقد افًتض ادلقارنوف األوائل‪ ،‬انطالقا‬
‫من مالحظة التشابو البُت الذي غلليو تقارب السنسكريتية والالتينية واإلغريقية‪ ،‬مث السنسكريتية وعدد كبَت من‬
‫اللغات األوروبية وجود أظلاط سلتلفة من الروابط بُت ىاتو اللغات‪.‬‬

‫‪ 9‬ناقش ىذه ادلفاىيم يف مؤلفو "بٌت تركيبية"‬


‫اذلندو‪ -‬أوروبية األصلليزية ظهرت سنة ‪ 1814‬نافستها اذلندو‪ -‬جرمانية األدلانية ابتداء من سنة‬
‫‪ ،1833‬وىي من اقًتاح أ‪ .‬ؼ‪ .‬بوت‪ .‬فادلختصوف الرئيسيوف يف رلاؿ (اللغة) اذلندو‪ -‬أوروبية‪ ،‬كانوا‪،‬‬
‫باستثناءات نادرة‪ ،‬من الدارسُت األدلاف‪ ،‬أمثاؿ شليغل وغرمي و شالؼلر وبوت وعلبولت‪ ...‬فقد صادؼ تطور‬
‫أحباثهم أوج الرومانسية‪ -‬وخصوصا الفلسفية منها‪ -‬خالؿ الفًتة ادلمتدة بُت جيلُت‪ :‬غوتو (‪)Goethe‬‬
‫(‪ )1832/1749‬وىردر ( ‪ ،)1803/1744‬من جهة‪ ،‬وىيغل (‪ .)1830/1770‬ىذه احلقبة كانت بالنسبة‬
‫للسانيات حقبة سيطرة البحث اجلرماين‪ ،‬حبيث إف الذين كانوا يعملوف يف ىذا ادليداف يف بلداف أخرى‪ ،‬إما أهنم‬
‫كانوا علماء درسوا يف أدلانيا كاألمريكي ويلياـ د‪ .‬ويتٍت (‪ ،)w.d.Whitney‬أو أدلانا مهاجرين أمثاؿ ماكس‬
‫مولر يف أوكسفورد‪.‬‬
‫فكاف للمدارس األدلانية األثر الكبَت يف ضبط اذباىاهتا ادلؤسسة جملاالت حبثها‪ ،‬خاصة ما قدمو ويلهلم‬
‫فوف علبولت (‪ )1855/1767( )wilhelm von humboldt‬يف حقل النحو ادلقارف‪ ،‬فكانت لو أفكار‬
‫جديدة اتسمت برؤيتو اللسانية للعامل‪ ،‬اشتغل على عدد من األلسن مقارنا بينها‪ ،‬شلا جعلو يهتدي إىل دور اللغة‬
‫يف حياة اجملموعة البشرية باعتبارىا نتاجا شليزا ذلا‪ ،‬فاعترب أف تطور اللغة مرتبط بتطور اجملتمع ادلنتج ذلا بعدما قارف‬
‫بُت عديد من األلسن اليت اشتغل عليها؛ فقد عرض يف رسالة وجهها لغوتو سنة ‪ 1818‬تصوره للغة‪ ،‬أكد أف‬
‫دراسة اللغة ينبغي أف ال ننسى أف ننظر فيها إىل جزء من تاريخ النوع البشري‪.‬‬
‫علبولت أخذ عن كانط الفكرة احملركة يف فلسفتو عن التاريخ‪ ،‬مفادىا أف اللغة ىي تعبَت عن العبقرية‬
‫الشعبية‪ .‬فقوى مداىا بتعميق عالقة التفاعل اليت تقيد العالقة لغة ‪ /‬ثقافة‪ ،‬فرأى " أف لغة شعب ما ىي روحو‪،‬‬
‫وروحو ىي لغتو"‪ .‬فبتحديده للساف‪ ،‬وانطالقا من أف اللغات ىي أنشطة شليزة لإلنساف‪ ،‬يضع علبولت أوال تعريفا‬
‫للقدرة اللسانية الكامنة يف ادلظهر اإلبداعي الستعماؿ اللغة‪ ،‬وكذا تصورا للغة بوصفها دينامية‪.‬‬
‫وعلى غرار التاريخ الذي لو غائية خاصة‪ ،‬تنتمي اللغة إىل سَتورة يف انطالقة دائمة‪ .‬ويستعَت علبولت‬
‫أيضا من غوتو ظلوذج النمط العضوي‪ :‬فكل لغة مثلها مثل أي جسد حي تتضمن بالقوة ("كنواة") ربوالهتا‬
‫الالحقة كلها‪ .‬علبولت كاف لو فيما بعد تأثَت يف أدلانيا على تلميذه ستينتاؿ‪ ،‬صاحب مؤلف حوؿ ‪. 1851‬‬
‫‪L’origine du langage‬التأثَتات أثرت أيضا على فوندت (‪ )1920 /1832( )wundt‬ابتداء من‬
‫العلم النفسي التجرييب "حوؿ أصوؿ التفكَت ادلنطقي" إىل تأمل يف علم نفس الشعوب‪ .‬التأثَتات كانت أيضا‬
‫واضحة على أحباث ويسربغر (‪ )weisberger‬اليت كرسها للسانيات األدلانية بصفة خاصة "عن آليات اللغة‬
‫األدلانية" (‪ ،)1950/1949( )sur les mécanismes de la langue allemande‬وعن روح اللغة‬
‫(‪.)1964( )sur l’esprit de la langue‬‬
‫يف فرنسا كاف تأثَت علبولت ملموسا يف عمل ج ‪.‬كيوـ (‪ )G. Guillaume‬الذي كرسو بالكامل‬
‫لتصور نفسي ميكانيكي (‪ )psychomécanique‬للغة‪.‬‬
‫يف أمريكا حصل نفس التأثَت‪ ،‬فطورت ادلدرسة اللسانية األمريكية أدواهتا اخلاصة وحددت برنامج عملها‬
‫بواسطة برينتوف مًتجم علبولت‪ .‬كما حدد أعماؿ سابَت مؤسس ظلطية للغات بناء على التحليل التصوري للساف‪.‬‬
‫نفس األطروحة استعادىا وورؼ (‪ )1941/1897( )whorf‬حددت‪ ،‬انطالقا من األنًتوبولوجية اللسانية‬
‫ادلطبقة على ادلتكلمات (‪ )parlées‬اذلندو‪-‬أمريكية‪ ،‬ما اصطلح عليو يف ذلك الوقت‪" ،‬فرضية سابَت‪-‬وورؼ"‪.‬‬
‫ىذه الفرضية أعادت بعد علبولت‪ ،‬صياغة موضوع اللغة رؤية للعامل (‪)la langue-vision-du monde‬‬
‫بتوجهات علمية مؤسسة بشكل أفضل‪ .‬أما التوجو الدينامي فيحدد بشكل غَت مباشر نظريات ىاريس‬
‫وتشومسكي‪.‬‬
‫كما أف عمل أوغست شالؼلر شكل ‪ ،‬يف خضم سياؽ نظري نضجت فيو التطورية العلمية (مع التأثَت‬
‫ادلتزايد لداروين) والرومانسية الفلسفية (مع فلسفة التاريخ ذليكل) منعطفا جذريا يف تطورات النحو ادلقارف‪ .‬فقد‬
‫سبكن بفضل مؤلفاتو "النحو التارؼلي لألدلانية" (‪ )1860‬و"أحباث حوؿ لغات أوروبا"(‪ ،)1850‬وعلى اخلصوص‬
‫"موجز النحو ادلقارف للغات اذلندو‪-‬أوروبية" (‪ ،)1861‬وكذا "النظرية الداروينية وفكر اللغات" (‪ )1865‬من‬
‫زرع الرؤية التارؼلية يف ادلدرسة ادلقارنة‪.‬‬
‫فرؤية شالؼلر تتمثل يف ذباوز ادلقارنة‪ ،‬فادلنهج ادلقارف ينبغي أف يهدؼ إىل إعادة تشكيل الفواصل اليت‬
‫تفصل بُت لغتُت ذبمع بينهما قرابة أو بُت حالتُت للغة نفسها‪ ،‬صاغ شالؼلر الفرضية اذلندو‪-‬أوروبية "كلغة أوىل"‬
‫حقة‪ ،‬رافضا واحدة من ادلسلمات الكربى للنحو ادلقارف‪ ،‬اليت دبوجبها تكوف السنسكريتية ىي "اللغة األـ" بالنسبة‬
‫للغات األوروبية كلها‪ .‬وبناء على ىذه الفرضية‪ ،‬يصَت العمل ادلقارف برمتو لسانيات تارؼلية‪ ،‬مهمتها استعادة‬
‫مراحل التطور الناقصة وإعادة بنائها‪.‬‬
‫الفكر اللغوي توجو مع شالؼلر توجها جديدا‪ ،‬اعترب علم اللغة علما طبيعيا‪ ،‬منهجيتو ىي نفسها ادلتبعة‬
‫يف العلوـ الطبيعية‪ .‬فكيف تصور اللغة؟ اعترب اللغات كائنات حية قابلة للتصنيف العلمي‪ .‬اللغات كائنات طبيعية‬
‫تولد وتنمو وتتطور وتشيخ وسبوت‪.‬‬

‫تطور النحو المقارن‪ /‬المذهب الوضعي في اللسانيات‪ /‬النحاة الجدد‪ /‬نقد التاريخانية‬
‫ظهرت خالؿ الثلث األخَت من القرف ‪ 19‬حساسية نظرية جديدة تأسست على مطلب العلمية اليت‬
‫ذبددت عند اتصاذلا بادلذىب الوضعي الفلسفي لكونت (‪ ،)1857/1798‬وبادلنهج التجرييب الذي دعا إليو‬
‫س‪ .‬برنارد (‪ .) 1878/1813‬وجو رواد ىذه احلركة انتقادا قويا لالفًتاضات الفلسفية وادليتافيزيقية اليت كانت ما‬
‫تزاؿ حاضرة يف أسالفهم ادلباشرين‪.‬‬
‫فقد برزت روح علمية جديدة‪ :‬ظهر جيل جديد ينتمي إىل جامعة ليبزغ (‪ )leipzig‬األدلانية‪ ،‬أطلق‬
‫عليو اسم النحاة اجلدد‪ ،‬يضم أسكويل (‪ )1907/1829‬وليسكُت (‪ )1916/1840‬وبروكماف‬
‫(‪ )1919/1849‬وىَتماف بوؿ (‪ ...)1921/1846‬قدـ مساعلات جديدة دبعارضتو التصورات الرومانسية‬
‫للقرف ادلنتهي إىل التشديد على اطراد القوانُت الصوتية‪ ،‬داعمُت أعماذلم دببادئ ادلذىب الوضعي‪ .‬ىكذا شكل‬
‫عملهم (النحاة اجلدد) ثورة على تصورات اللسانيات التارؼلية اليت اعتربوىا رلرد افًتاضات‪ ،‬وعلى اخلصوص تلك‬
‫ادلضمنة يف مؤلف شالؼلر‪ .‬فقد رفض اللسانيوف الوضعيوف ادلرتكزات الرئيسية "للفرضية اذلندو‪-‬أوروبية"‬
‫وباخلصوص‪:‬‬
‫‪ -‬التفسَت الفلسفي ذو الطابع ادليتافيزيقي‪ ،‬فقد عدوا السؤاؿ حوؿ أصل اللغة سؤاال غَت علمي‪ ،‬كما اعتربوا‬
‫فرضية اللغة األـ فرضية وعلية‪.‬‬
‫‪ -‬التفسَت التارؼلاين ذو الطابع الغنائي‪ ،‬قد أقحم بسبب التصور التطوري للغات‪.‬‬
‫‪ -‬التفسَت التخميٍت (يفهم ىذا ادلصطلح ىنا بادلعٌت الذي ؼلص اشتغاؿ العقل)‪ ،‬ويشكل امتدادا متأخرا‪ ،‬يف إطار‬
‫الرومانسية‪ ،‬للنحو العاـ‪ ،‬دبا أنو يتمثل يف دعم أطروحة التوازي ادلنطقي النحوي بُت الفكر واللغة‪.‬‬
‫باإلضافة إىل ىذا كلو‪ ،‬يدعو ىذا النقد إىل تطوير تفكَت منهجي متناـ يكوف باستطاعتو ربرير البحث‬
‫اللساين من التارؼلانية والطبيعانية (‪.10 )naturalisme‬‬
‫ولياـ ويتٍت (‪ :)1894/1827( )william whitney‬فكرة اللسانيات العامة‪ :‬أمريكي تكوف‬
‫بأدلانيا‪ ،‬سبكن من السنسكريتية والنحو ادلقارف ودراسة اللغات اذلندو‪-‬أمريكية‪ .‬دوره الرائد يف رلاؿ اللسانيات كاف‬
‫لو تأثَت على معاصريو؛ ىو ما سبثل ببالغة بعض ادلالحظات اليت دوهنا دو سوسَت بعد وفاتو‪ ،‬معتربا أنو مل يًتؾ إال‬
‫بعض األعماؿ اليت تستخلص من نتائج النحو ادلقارف نظرة فوقية وعامة عن اللغة‪.‬‬
‫ػلدد ويتٍت موضوع اللسانيات يف فهمها أوال يف كليتها‪ ،‬بوصفها وسيلة للتعبَت عن الفكر اإلنساين‪ ،‬مث‬
‫يف تنوعاهتا‪ .‬كما اىتم بدراسة أخرى‪ :‬دراسة تطورات اإلنسانية اليت ؽلكن أف تكشف عن طريق اللغة‪ .‬بالرغم من‬
‫تكونو يف أحضاف النحو ادلقارف‪ ،‬فإنو ال يًتدد يف ربديد أىداؼ تتجاوز التصورات ادلعموؿ هبا‪ .‬فدراسة وقائع‬
‫اللغة ينظر إليها كذلك كوهنا مصدر معلومات شبينة بالنسبة للبحث اإلنساين‪ .‬فاستنتج أف زبصص اللسانيات‬
‫الناشئ يشكل علما مستقال‪ .‬فالعمل ادلؤسس لويتٍت يتميز جبديتو يف احلدود اليت يكوف فيها بناء نظرية للغة يسَت‬
‫جنبا إىل جنب مع إقامة حدود واضحة بُت ما ىو لساين وما ىو غَت لساين‪ .‬ىذه الطريقة سنجدىا عند دو‬
‫سوسَت يف " دروس يف اللسانيات العامة"‪ .‬كما ػلدد كذلك ربديد اللسانيات عن طريق النفي؛ أخذ أوال مسافة‬
‫من بعض توجهات اللسانيات التارؼلية زلددا بذلك قطيعة مزدوجة‪:‬‬
‫‪ -‬مع ادلنظور ادليتافيزيقي والالىويت‪ ،‬واضعا كل افًتاض حوؿ أصل اللغة خارج حقل اللسانيات‪ ،‬لصاحل إشكالية‬
‫تتعلق بأسباب تطوره‪.‬‬
‫‪ -‬مع كل خلط بُت اللسانيات وعلم النفس‪.‬‬

‫‪ 10‬قدـ دو سوسَت يف ىذا الصدد‪ ،‬نقدا عنيفا حوؿ اذلفوة ادلنهجية للمثل األكرب للسانيات التارؼلية‪ ،‬اعترب أف التأمل الفلسفي يفضي إىل أف‬
‫اللسانيات اليت ولدت يف أدلانيا وظلت يف أدلانيا مل تبد ميال إىل االرتقاء ضلو التجريد‪ ،‬وعارض زلاولة شالؼلر‬
‫وباختصار فإف تأكيد اللسانيات قد شيد يف البداية على رفض ادليتافيزيقا‪ ،‬ويف النهاية على رفض ذىنية ادلذىب‬
‫النفسي‪.‬‬
‫كما ؽليز ويتٍت بُت اللغة باعتبارىا ملكة إنسانية (قدرة فطرية) والنشاط اللغوي اخلاص ادلرتبط أساسا‬
‫بالتمكن من لغة معينة (نتاج مكتسب)‪ .‬إف اللغة ىي جهاز فطري للنوع (البشري)‪ ،‬قادر على أف يتطور عن‬
‫طريق التعلم إىل مكتسب‪ .‬فاللغة ال تربر إال ب "الرغبة يف التواصل"‪ ،‬أو أيضا بضرورة جلوء النوع البشري إىل‬
‫ترصبة تعبَته عن حاجتو األساسية بواسطة الكالـ‪.‬‬
‫فقد وضع قطيعة مع التقليد اللساين السابق؛ اعترب اللغة مؤسسة تشكل حضارة يف كل رلتمع‪ .‬بُت‬
‫االختالؼ األساسي الذي ي فصل أدوات التواصل عند اإلنساف عن احليواف‪ ،‬تكوف عند ىذا األخَت غريزية‪ ،‬بينما‬
‫عند اإلنساف تكوف اعتباطية وتواضعية بالكامل‪ .‬يرى أنو ال توجد كلمة واحدة يف أي لغة نستطيع أف نقوؿ عنها‬
‫إهنا وجدت بالطبيعة‪ ،‬بل إف كل كلمة تقوـ بوظيفتها بالتواضع‪ .‬فقد كانت لو مواقف ضد طبيعة شالؼلر ومولر ‪.‬‬

‫البنيوية‪ :‬من المقاربة التاريخية للغة إلى البحث اللساني المستقل بذاته‬
‫ىل دو سوسَت أحدث قطيعة إبستيمولوجية‪ 11‬مع الدرس اللساين إىل حدود القرف التاسع عشر‪ ،‬أي‬
‫النحو ادلقارف والنظرة التارؼلية للغة؟ أـ أف ما أتى بو ما ىو إال استمرارية ‪ ،‬أي إسباـ وتعديل دلن سبقو كما حصل‬
‫لو مع األمريكي ويلياـ ويتٍت (‪ )williamWhitney‬؟ أـ كاف لو موقف من الدرس اللساين األدلاين سواء‬
‫كاف الدارسوف أدلاف أمثاؿ شليغل وغرمي و شالؼلر وبوت وعلبولت‪ ،‬أو الذين كانوا يعملوف يف ىذا ادليداف يف‬
‫بلداف أخرى‪ ،‬سواء كانوا علماء تكونوا يف أدلانيا كويلياـ ويتٍت‪ ،‬أو أدلانا مهاجرين أمثاؿ ماكس مولر يف أوكسفورد‪،‬‬
‫خاصة أف الفًتة ادلمتدة من ‪ 1749‬إىل ‪ 1832‬كانت بالنسبة للسانيات حقبة سيطرة البحث اجلرماين؟ ىل ىذا‬
‫ادلعطى ىو الذي جعل دو سوسَت يقدـ نظرة مغايرة إىل اللغة تتباين مع النظرة السابقة ويعارض الدراسات القدؽلة‬
‫ذلا؟ أـ كاف إفرازا لتجريبية القرف التاسع عشر ولبعض الفلسفات اليت نادت بالبحث يف القوانُت اجملردة للظواىر‪،‬‬
‫واعتربت الكوف بٍت على نظاـ‪ ،‬وأصبح البحث عن قواعد البنية النظامية للظواىر الكونية منهجا متبعا يف شىت‬
‫العلوـ من بينها اللسانيات؟ ىل ىذا ما جعل دو سوسَت يقدـ طرحا مغايرا حوؿ مفهوـ النسق؟ أـ أف البنيوية ما‬
‫ىي إال رد فعل على ادلاركسية اليت ذلا مفهوـ خاص بالنسق؟‬
‫باعًتاضو على علوـ اللغة اليت اعتربىا أقرب إىل التاريخ من اللسانيات‪ ،‬استوعب دو سوسَت‪ ،‬باطالعو‬
‫على اللغات القدؽلة‪ ،‬مقاربة اللسانيات ا ليت كانت تتسم بتفسَت تارؼلي للغة والتفسَت ادلقارف ذلا‪ ،‬مث ذباوزىا‪،‬‬
‫واضعا حدا لسيادة النظرة التارؼلية اليت ىيمنت على دراسة اللغة دلدة طويلة ‪ .‬فتوصل إىل أف الدراسات القدؽلة‬
‫للغة اتسمت ‪-‬كما يرى ‪ -‬إىل حدود القرف التاسع عشر بتفسَت تارؼلي للوقائع اللسانية وتفسَت مقارف ذلا‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫القطيعة اإلبستمولوجية ‪ ،‬كما حددىا باشالر ‪ ،‬ىي االستيعاب مث التجاوز‬
‫خاصة أف البنيوية زبتلف عن ادلاركسية يف مسألة جوىرية‪ ،‬ىي أف النسق (‪ )système‬الذي أتت بو (البنيوية) لو‬
‫قوانينو الذاتية اليت ال زبضع للتغَت التارؼلي‪ ،‬يف حُت أف ادلاركسية تنظر إىل النسق على أنو تاريخ متغَت‪ .‬فالتغيَت‬
‫الذي أحدثو سوسَت يف اللسانيات ب ادلقارنة مع ما كانت عليو قبلو ىو دراسة اللغة يف ذاهتا ولذاهتا بعيدة عن‬
‫العوامل احمليطة هبا ‪ .‬فقد ساىم دبساءلتو للمسلمات النحوية يف انتزاع التفكَت يف اللغة من تلك البديهيات‬
‫التجريبية‪ ،‬كما أف النظرية السوسَتية أحدثت‪ ،‬بدراستها للغة موضوعا رلردا‪ ،‬ونسقا نوابضو خارجة عن الفرد وعن‬
‫الواقع ادلادي‪ ،‬أثرا تدمَتيا للفاعل البسيكولوجي احلر والواعي الذي ظل سائدا يف التفكَت الفلسفي‪ ،‬ويف العلوـ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬حىت هناية القرف التاسع عشر‪ .‬فتطور الدرس اللساين يف ىذه الفًتة صادؼ أوج الفلسفة مع كوتة‬
‫وىيغل وكانط‪ .‬واعترب اللغة نسقا مغلقا من العالمات ووحدة مستقلة من العالقات الداخلية ادلًتابطة‪ ،‬وزلاوالتو‬
‫جعل اللغة موضوعا للدراسة دبعزؿ عن مستخدمها‪ ،‬واعتربت البنيوية أف النواة األساس للنص ىو مادتو اللغوية‪.‬‬
‫إهنا اخلصائص النوعية واحملايثة اليت ذبعل من نص ما نصا أدبيا‪ ،‬ولذلك ألغت كل العوامل اخلارجية للنص (‬
‫ادلؤلف‪ ،‬ادلستوى النفسي‪ ،‬ادلستوى االجتماعي‪ ،‬ادلستوى االقتصادي‪ ،‬مستوى التلقي‪ .)...‬فبالرغم من أف عديد‬
‫من ادلوضوعات اليت تناوذلا سوسَت كانت رائجة يف األحباث ادلنجزة خالؿ النصف الثاين من القرف ‪ 19‬كما ىو‬
‫الشأف مع سوسيولوجية دوركامي اليت أثرت كثَتا يف نظرية الواقعة اللغوية‪ ،‬فإف عملو يؤسس لقطيعة مع اللسانيات‬
‫ادلقارنة‪ 12‬ادلعاصرة لو‪ ،‬باقًتاحو مقاربة ال تارؼلية‪ ،‬ووصفية ونسقية‪ .‬فادلفاىيم اليت اقًتحها دو سوسَت استعملت‬
‫استعماال واسعا‪ ،‬من قبل صواتة مدرسة براغ أوال‪ ،‬مث من بعد ذلك يف إطار التيار البنيوي من قبل حقوؿ (معرفية)‬
‫أخرى استلهمت النموذج الصوايت‪.13‬‬
‫فكيف تصور سوسَت اللغة والكالـ؟‬

‫فردناند دو سوسير ( ‪ ) 7171/7581‬ومدرسة جنيف‪:‬‬


‫"يعد اللساف نسقا (‪ ) système‬من األدلة ادلعربة عن األفكار‪ ،‬هبذا ىو شبيو بالكتابة أو أجبدية الصم‬
‫والبكم والشعائر الرمزية وشكليات اللياقة والشارات العسكرية ‪...‬إال أنو ( اللساف) أىم ىذه األنظمة‪ .‬ؽلكن إذف‬
‫أف نتصور علما يدرس حياة األدلة داخل احلياة اجملتمعية سيشكل فرعا من علم النفس االجتماعي‪ ،‬وبالتايل من‬
‫علم النفس العاـ وسنسميو بالسيميولوجية‪ ،‬وسيحيطنا علما حبقيقة ( الوظيفة ) األدلة ( الدالئل ) وبالقوانُت اليت‬
‫تتحكم فيها‪ ،‬وألنو مل يوجد بعد فال ؽلكن التنبؤ دبآلو‪ .‬لكن لو حق الوجود‪ ،‬فمكانو زلدد سلفا‪ .‬وما اللسانيات‬

‫‪ 12‬حبسب علماء ادلقارنة للقرف التاسع عشر‪ ،‬وخباصة بوب ومن تبعو‪ ،‬فإف اللغات تتطور بتقهقرىا ربت تأثَت القوانُت الصوتية يف التواصل‪ .‬ويتعلق‬
‫األمر دبقارنة احلاالت القدؽلة باحلاالت الراىنة للغة‪.‬‬
‫‪ 13‬يف األنًتبولوجية ليفي سًتاوس والفلسفة ألتوسَت والتحليل النفسي الكاف والسيميائيات بارت وعلم النفس بياجيو‪.‬‬
‫سوى فرع من ىذا العلم العاـ‪ ،‬وستكوف القوانُت اليت ستكشف عنها السيميائيات قابلة للتطبيق على اللسانيات‪،‬‬
‫‪14‬‬
‫وسًتتبط ىذه األخَتة دبجاؿ زلدد ضمن رلاؿ الوقائع البشرية "‬
‫ىي أوؿ مدرسة لغوية حديثة غَتت طبيعة التفكَت اللغوي‪ ،‬واضعة حدا فاصال بُت عهدين من الدراسة‬
‫اللغوية‪ ،‬عهد الدراسة ادلمتدة من اليوناف (اإلغريق) إىل بداية القرف العشرين‪ ،‬وعهد الدراسة احلديثة اليت بدأت مع‬
‫ظهور مدرسة سوسَت‪ ،‬اليت قامت نظريتو يف دراسة اللغة على منهج جديد يستند إىل أسس زلددة‪ ،‬أعلها النظر‬
‫إىل اللغة على أهنا نسق من العالمات اللغوية‪ ،‬يربط بعضها ببعض بشبكة من العالقات‪ ،‬أو ىي رلموعة عناصر‬
‫متشابكة‪ ،‬ال ينعزؿ فيها عنصر عن آخر داخل ىذا النظاـ‪ ،‬فإذا خرج عنصر من الشبكة‪ ،‬ومل تكن لو عالقة بغَته‬
‫فقد قيمتو‪ .‬ومن أىم األفكار اللغوية ذلذه ادلدرسة‪:‬‬
‫‪ -1‬النظرة "البنيوية" إىل اللغة‪ ،‬حيث عرفها بأهنا‪ :‬نسق من العالمات‪.‬‬
‫‪" -2‬السنسكرونية" أو الوصفية يف مقابل "الديكرونية" أو التارؼلية‪.‬‬
‫‪ -3‬ثنائيتو ادلشهورة "اللغة والكالـ" وتفريقو بينهما‪.‬‬
‫كتاب "دروس يف اللسانيات العامة" ىو عبارة عن زلاضرات ألقاىا دو سوسَت خالؿ ثالث سنوات‬
‫(‪ 1909 ،1907‬و‪ ،)1911‬صبعها طلبتو خاصة (شارؿ بايل (‪)1947/1865( )Charles BALLY‬‬
‫( وألبَت سيشيهاي (‪ )1946/1870( )Albert SECHEHAYE‬سنة ‪.1916‬‬
‫ؽلكن القوؿ أف البنيوية ىي أوؿ مدرسة بنيوية حديثة تفرعت عنها مدارس حديثة‪ :‬الوظيفية والنسقية‬
‫والتوزيعية والتوليدية والتحويلية‪.‬‬
‫بعدما حدد سوسَت أسس اللسانيات العامة وتشكلت لديو كعلم‪ ،‬حدد مهامو وموضوعو‪ ،‬أثار إحدى‬
‫ادلناقضات (‪ )antinomies‬األساسية أال وىي التمييز بُت اللغة والكالـ‪ .‬األمور اليت سبيز اللغة عن الكالـ عند‬
‫سوسَت ؽلكن طرحها يف اجلدوؿ التايل‪:‬‬

‫الكالـ‬ ‫اللغة‬
‫فردي‬ ‫اجتماعية‬
‫تابع شبو عرضي‬ ‫جوىرية‬
‫فعل إرادي‬ ‫مسجلة سلبيا‬

‫‪14‬‬
‫‪F. Saussure : Cours de linguistique générale, P 33.‬‬
‫نفس فيزيائي‬ ‫نفسية‬
‫رلموع ما يقولو الناس‬ ‫رلموع بصمات يف كل دماغ‬
‫غَت صباعي‬ ‫ظلوذج صباعي‬

‫منذ أف قاؿ دو سوسَت إف اللغة بنية‪ ،‬واعترب أف األساس يف دراسة البنية ليس ىو عناصرىا‪ ،‬بل العالقات‬
‫البنيوية اليت ذبمع تلك العناصر‪ ،‬إىل حد تشبيهو اللغة برقعة شطرنج حيث ادلهم‪ ،‬ليس بيادقها‪ ،‬ولكنها العالقات‬
‫اليت ربكمها‪ ،‬تفرغت البنيوية وروادىا إىل نقل ىذا التصور إىل ربليل النصوص واخلطابات األدبية واالجتماعية‪ .‬يف‬
‫رلاؿ علم االجتماع قاؿ كلود ليفي شًتاوس إف صبيع األحباث ادلتعلقة باجملتمع‪ ،‬مهما اختلفت‪ ،‬تؤدي إىل‬
‫بنيويات؛ وذلك أف اجملموعات االجتماعية تفرض نفسها من حيث أهنا رلموعات‪ .‬فقد استلهم أحباثو من‬
‫البنيوية‪ ،‬وكانت البنية عنده ىي بنية القرابة‪.‬‬
‫فإذا كاف دو سوسَت قد قارب اللغة من خالؿ ثنائيات اللساف ‪ /‬الكالـ‪ ،‬الدياكرونية ‪ /‬السانكرونية‪،‬‬
‫الداؿ ‪ /‬ادلدلوؿ‪ ،‬واىتم باجلانب الثابت فيها ( اللساف ‪ +‬السانكرونية ) بغية ربقيق الدراسة العلمية للغة‪ ،‬فإف‬
‫البنيوية استلهمت ىذه اخللفية وطبقتها يف حقل األدب زلاولة وضع نظرية علمية لألدب؛ إهنا اخلصائص النوعية‬
‫واحملايثة اليت ذبعل من نص ما نصا أدبيا‪ ،‬ولذلك ألغت كل العوامل اخلارجية للنص ( ادلؤلف‪ ،‬ادلستوى النفسي‪،‬‬
‫ادلستوى االجتماعي‪ ،‬مستوى التلقي‪ ،)...‬واىتمت فقط دبا مستو ادلستويات النصية‪ ،‬وىي البٌت الصغرى للنص‬
‫القابلة للعزؿ وادلالحظة والدراسة من قبل ادلستوى الصويت وادلستوى الصريف وادلستوى ادلعجمي وادلستوى الًتكييب‬
‫وادلستوى الداليل‪ ...‬اعتبارا لكوف النص األد‪،‬ي بنية مغلقة تامة وكاملة ومكتفية بذاهتا (دراسة اللغة والنصوص يف‬
‫ذاهتا ولذاهتا)‪.‬‬
‫وقد كانت الساحة الفرنسية أوؿ من تلقى مبادئ البنيوية بعد أف قاـ تزفتاف تودوروؼ بًتصبة نصوص‬
‫الشكالنيُت الروس إىل اللغة الفرنسية‪ ،‬اليت تلقاىا عدد من النقاد واستلهموىا يف مشاريعهم األدبية والنقدية من‬
‫مثل روالف بارت الذي اعترب النقد لغة ثانية على لغة أوىل‪ ،‬ودرس عامل الرموز والعالمات واألساطَت‪ ،...15‬وجَتار‬
‫جنيت الذي اىتم بالسرد خصوصا يف كتابو " وجوه ‪ ،16" 3‬وتودوروؼ نفسو من خالؿ دراستو للشعرية يف‬
‫أبعادىا اللغوية واخلطابية‪.‬‬
‫وعموما فإف كنو البنيوية يف أصوذلا وامتداداهتا الغربية اعتربت أف النص نسق من العالمات عنصرىا‬
‫األساس ىو اللغة‪ ،‬وألف الدرس اإلبستمولوجي اعترب أف أي دراسة علمية ينبغي أف ربدد موضوعها بدقة‪ ،‬فقد‬

‫‪ 15‬سأتناوؿ احملطات الثالثة اليت مر هبا يف حياتو األدبية والنقدية أي مرحلة ما بعد البنيوية‪ ،‬اليت اعترب فيها أف مظاىر احلياة تشكل رلموعة من‬
‫األساطَت بادلفهوـ الوظيفي ال بادلفهوـ االصطالحي‪ ،‬مث مرحلة البنيوية والسيميائية اليت شكلت مساره السياسي واللغوي والنقدي‪ ،‬وأخَتا مرحلة ما بعد‬
‫البنيوية اليت شكلت التفعيل ادلنهجي دلسَتتو النقدية دلا بعد البنيوية بسبب تبنيها لفكرة إزالة ادلركز وتغييب ادلعٌت‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫‪Figures III, Seuil, 1976‬‬
‫اعتربت البنيوية أف ادلوضوع األساس للنص‪ ،‬وجوىره ىو اللغة‪ ،‬وأف العالمات اللغوية مستقلة بذاهتا وليست رمزا‬
‫ألي شيء خارجي‪ ،‬وأف قيمتها تكتسبها من خالؿ عالقاهتا بباقي العالقات األخرى‪ ،‬ولعل ىذا النمط احملايث‬
‫يف دراسة النصوص ىو ما دفع بالنقاد إىل اعتبار الدراسة البنيوية حبثا يف صباليات النصوص انطالقا من اشتغاؿ‬
‫اللغة ومستوياهتا‪.‬‬
‫إف البنيوية‪ ،‬وككل نظرية نقدية غربية وجدت طريقها إىل الساحة العربية من خالؿ الًتصبة إىل اللغة‬
‫العربية‪ ،‬منها ترصبة نصوص الشكالنيُت الروس من الفرنسية إىل العربية‪ ،‬وكتاب "مبادئ يف علم األدلة" لروالف‬
‫بارت الذي ترصبو كل من زلمد البكري وؽلٌت العيد رغم أنو كتاب يف السيميولوجيا ( يف ىذه ادلرحلة انتقل بارت‬
‫إىل السيميولوجيا بعدما كاف بنيويا ) إال أنو ال ؼللو من عناصر بنيوية استفادت منها الساحة النقدية العربية‪ ،‬وبناء‬
‫على النتائج اليت حققتها البنيوية الغربية يف دراسة النص األد‪،‬ي‪ ،‬وانبهار رلموعة من النقاد العرب هبا‪ ،‬انربى‬
‫رلموعة منهم يف استلهامها يف دراستهم‪ ،‬نذكر على سبيل ادلثاؿ‪ :‬كماؿ أبو ديب يف كتابو "جدلية اخلفاء‬
‫والتجلي" وعبد الفتاح كليطو يف "األدب والغرابة" وسعيد يقطُت يف كتاباتو يف ربليل اخلطاب السردي "ربليل‬
‫اخلطاب الروائي "‪ ،‬كما ال زبلو كتابات األستاذ زلمد مفتاح من استلهاـ للبنيوية السيما يف كتابيو " ربليل‬
‫اخلطاب‪ :‬اسًتاتيجية التناص" و "دينامية النص"‪...‬‬
‫إال أف استلهاـ البنيويُت العرب للبنيوية ال ؼللو من مساءلة حوؿ درجة وفائهم وإخالصهم للمبادئ‬
‫واألسس اليت قامت عليها البنيوية يف صيغتها األصلية (حضنها الغر‪،‬ي)‪ ،‬فإذا اعتربت البنيوية يف أصوذلا النص‬
‫وعناصره بنية مستقلة عن ادلعطى اخلارجي‪ ،‬فإف البنيويُت العرب ذباوزوا مستوياهتا الداخلية دلالمسة مستويات‬
‫خارجية‪ ،‬وىنا عمق التناقض ادلعريف وادلنهجي يف ادلعادلة البنيوية العربية‪:‬‬
‫فعلى ادلستوى ادلعريف‪ ،‬مل تبق الدراسة البنيوية العربية وفية دلفهوـ الداللة البنيوية باعتبارىا داللة زلايثة للغة‬
‫النص‪ ،‬ومستوى جزئي من مستوياتو يكتسب دينامية من خالؿ عالقاتو التكاملية مع ادلستويات النصية األخرى‬
‫كالًتكيب والصوت والصرؼ‪ ،...‬ومن ىنا فالداللة البنيوية ىي داللة نصية باألساس‪ ،‬وىو ما مل ػلًتمو البنيويوف‬
‫العرب الذين نظروا إىل الداللة باعتبارىا إحاالت خارجية على واقع مادي‪ ،‬وأف ادلعاين أحيانا تكتسب من واقع‬
‫النص‪ ،‬واعتربوا أف العالمة ؽلكن أف تدؿ على مرموز إليو خارجي‪ ،‬فلم ؽليزوا بُت الداللة البنيوية للعالمة وداللتها‬
‫السيميولوجية‪ ،‬وىو ما يقض ادلبادئ البنيوية من أساسها‪.‬‬
‫وعلى ادلستوى ادلنهجي تعمل البنيوية على كشف آليات اشتغاؿ اللغة من خالؿ مستويات النصية‪،‬‬
‫واعتربت أف النواة األساس للنص ىو مادتو اللغوية‪ ،‬وأف البنية الداللية ىي اخليط الناظم لكل ادلستويات األخرى‪،‬‬
‫إال أف البنيويُت العرب بتخطيهم دلستوى دراسة العالمة اللغوية النصية من مستوى الداؿ إىل ادلدلوؿ ومنو إىل‬
‫مستوى ادلرجع مل يقفوا عند حدود ما أقرتو البنيوية‪ ،‬وتناقضوا مع تصورىا ادلنهجي الصارـ الذي يروـ ربقيق "‬
‫العلمية " يف الدراسة‪.‬‬
‫إف القصور العر‪،‬ي يف فهم واستلهاـ البنيوية يف أصوذلا ادلعرفية وادلنهجية راجع‪ ،‬يف اعتقادي‪ ،‬إىل اخللفيات‬
‫اليت كانت ربكم ادلفكرين العرب آنذاؾ‪ ،‬فجلهم الزالت ذلم آنذاؾ ارتباطات معرفية وإيديولوجية بالفكر الفلسفي‬
‫ادلاركسي‪ ،‬وحىت ا نتماءاهتم التنظيمية كانت يف أغلبها اشًتاكية‪ ،‬ولذلك اعتربوا أف األزمة اليت تعيشها بلداهنم‬
‫ليست أزمة نصوص‪ ،‬وليست أزمة عالمات‪ ،‬بل ىي أزمة واقع‪ ،‬وأزمة اختيارات اسًتاتيجية كربى‪ ،‬ولذلك مل‬
‫يتمكنوا من ذباوز الداللة الواقعية ادلادية يف أبعادىا االجتماعية‪ ،‬وتعاملوا مع ادلناىج النقدية باعتبارىا اختيارات‬
‫مذىبية‪ ،‬وليس باعتبارىا اختيارات ثقافية‪ ،‬واحتماالت إلنتاج ادلعرفة بالنصوص‪ ،‬ورأوا فيها رؤية للعامل مكتملة‪،‬‬
‫وليست زوايا نظر للعامل ولعالقاتو‪ ،‬مل ينظروا إليها باعتبارىا إمكانية ضمن إمكانيات متعددة إلنتاج دالالت‬
‫بالنصوص‪ ،‬وزلاولة لالقًتاب العلمي من النصوص ذات الصبغة األدبية‪.‬‬
‫تناوؿ البنيوية ‪17‬يقتضي منا الوقوؼ على مفاىيم أو زلاور‪ :‬البنية ( البنيوية اشتقت من البنية ) والنسق‪،‬‬
‫مفهومهما‪ ،‬وىل توجد عالقة بينهما‪ .‬وما عالقة البنية بالشكل‪ ،‬وما عالقة الشكل بادلضموف؟ خاصة أف‬
‫االىتماـ بالبنية يظهر يف أعماؿ الشكالنيُت الروس الذين قدموا إسهامات نظرية وتطبيقية من مثل‬
‫توماتشوفسكي‪ ،‬إخنباوـ وياكبسوف‪...‬؟ البنيوية بشقيها األد‪،‬ي واللساين‪ ،‬البنيوية منهجا‪ .‬وىل تقتصر البنيوية على‬
‫اللغة أـ تتجاوزىا لتطاؿ حقوؿ معرفية أخرى ؟‬
‫لإلجابة عن ىذه احملاور سنتناوؿ األمساء اليت أسست البنيوية؛ ففي رلاؿ اللغة برز اسم دو سوسَت‪ ،‬ويف‬
‫رلاؿ علم االجتماع برز كل من كلود ليفي سًتاوس ولوي التيسَت‪ ،‬ويف رلاؿ علم النفس برز كل من ميشاؿ فوكو‬
‫وجاؾ الكاف‪ .‬كما أننا سنتطرؽ بالتحليل لالنتقادات اليت وجهت للبنيوية ( ما بعد البنيوية‪ ،‬البنيوية التكوينية‪،‬‬
‫نظرية ما بعد االستعمار‪ ) ...‬وجوليا كريستيفا اليت اعتربت النص نسق غَت مغلق و"التفكيكية"‪ ،‬حيث وقفت‬
‫على فجواهتا وثغراهتا كإقصائها وذباىلها التاريخ والتطور والعوامل االجتماعية واالقتصادية والثقافية ادلؤثرة يف‬
‫البنيات واألنساؽ‪ ،‬خاصة يف مسألة عزؿ النص أو العمل األد‪،‬ي عن سلتلف السياقات احمليطة بو اليت زبًتؽ‬
‫نصيتو‪ ،‬وبدال من ذلك هتدؼ إىل قراءة للنص زلايثة‪ .‬إذا كانت النهضة ضبلت شعار اإلنساف ضدا على اإللو‬
‫القروسطوي‪ ،‬فإف البنيوية ربمل شعار اللغة ضدا على اإلنساف"؛ اإلنساف باعتباره معٌت وفكر‪ ...‬فاألدب‪ ،‬الذي‬
‫يندرج ضمن البنية الفوقية حسب الطرح ادلاركسي‪ ،‬شأنو شأف كل الفنوف ؼلضع لتأثَت العوامل االقتصادية‬
‫االجتماعية ( البنية التحتية)‪ .‬ومعلوـ أف خضوع البنيات واألنساؽ للتغَت والتحوؿ مقولة ماركسية‪ .‬فمفهوـ ما بعد‬
‫البنيوية غلمع ىذه االذباىات كلها‪.18‬‬

‫‪ 17‬سأتناوؿ البنيوية كما تلقاىا النقاد العرب يف ادللف الًتكييب ؛ فقد أرادوا ربقيق معادلة خاصة هبم تقوـ على أساس دراسة العالمة باعتبارىا " داخل‬
‫" وباعتبارىا " خارج " غَت منفصلة عن الواقع ادلادي الذي أفرزىا‪ .‬ىذه ادلعادلة أوقعتهم يف بعض التناقضات اليت نسفت ادلبادئ البنيوية من أساسها‬
‫وأبرزىا عزؿ النص ا ألد‪،‬ي باعتباره بنية‪ ،‬وعزؿ البٌت الصغَتة ادلكونة ذلا عن الواقع اخلارجي‪.‬‬
‫‪ 18‬سنتناوؿ زلوري البنيوية التكوينية و" التفكيكية " اليت شككت يف فكرة النسق وموقف جوليا كريستيفا يف ادللف الًتكييب‪.‬‬
‫تحديد المفهوم‪:‬‬
‫ىل يوجد تعريف جامع مانع للبنيوية؟‪ .‬البنيوية باعتبارىا حركة علمية توضح أننا لسنا أماـ بنيوية واحدة‪،‬‬
‫ألهنا انتشرت يف ميادين سلتلفة وحقوؿ معرفية أخرى غَت اللغة‪ .‬فتاريخ البنيوية يقودنا إىل أمرين مهمُت‪:‬‬
‫البنيوية مع دو سوسَت اضلصرت يف بداية ظهورىا يف دراسة اللساف‪ ،‬حبيث أسست للسيميولوجيا كعلم‬
‫يتجو بشكل أساسي إىل دراسة النظاـ السيميولوجي للعالقات الداللية للغة أي أف ميداهنا وسياقها الذي نشأت‬
‫فيو ىو حقل اللغة ربديدا‪.‬‬
‫األمر الثاين ىو النظر إىل ىذا التاريخ من الناحية التطورية سيكشف لنا يف ادلقابل عن طبيعة التحوالت‬
‫ادل نهجية وادلعرفية اليت طرأت نتيجة الختالؼ البنيويُت أنفسهم وتباينهم يف فهم معٌت البنيوية أو البنية ذاهتا‪ .‬ىذا‬
‫يالحظ يف طريقة "توظيف" البنيويُت للنقد والتأويل يف حقوؿ سلتلفة عن ميداهنا الذي نشأت فيو كاألنًتبولوجية‬
‫البنيوية مع كلود ليفي سًتاوس الذي اىتم بدراسة حياة اإلنساف البدائي‪ ،‬زلاوال فك شيفرة رموز األساطَت‬
‫البدائية‪ ،‬والوظيفة اليت تؤديها ىذه األساطَت البدائية يف سياؽ ثقايف واجتماعي‪ ،‬واألدب مع روالف بارت الذي قاـ‬
‫بنقل النقد أو التحليل البنيوي من السياؽ الداليل للعالقات النمطية يف العالمات اللغوية إىل رلاؿ آخر أوسع ىو‬
‫األدب‪ ،‬وعلم النفس مع الكاف الذي ال يعتد باللغة فقط‪ ،‬بل استند على ادلعطى والظاىرة النفسية‪ ،‬اللغة ىي اليت‬
‫تكوف وتؤسس ىذا الالشعور الذي ىو بنية لغوية‪.‬‬
‫لفظ البنيوية اشتق من البنية إذ نقوؿ‪ :‬كل ظاىرة‪ ،‬إنسانية كانت أـ أدبية‪ ،‬تشكل بنية‪ ،‬ولدراسة ىذه‬
‫ال بنية غلب ربليلها إىل عناصرىا ادلؤلفة منها‪ ،‬دوف النظر إىل أية عوامل خارجية عنها‪ .‬كانت البنيوية يف أوؿ‬
‫ظهورىا هتتم دبجاؿ البحث اللغوي والنقد األد‪،‬ي‪ .‬فليس ذلا وجهة معرفية عند الباحثُت؛ فمنهم من يعتربىا جدلية‬
‫ونظرية معرفية ىدفها معرفة ما إذا كانت جهة نظر البنية بصفتها بناء شكليا أو أظلوذجا أو رلموعة من العالقات‬
‫الداخلية تكوف وحدة موضوع العلم تبدو إجرائية يف مادة علمية ما‪ ،‬وما إذا كانت أداة معرفة أكثر مطابقة وعقلية‬
‫من األدوات اليت استعملت من قبل ويف الوقت نفسو‪ ،‬وما إذا كاف النموذج اللساين على سبيل ادلثاؿ ىو النموذج‬
‫األساسي للعلوـ اإلنسانية‪ .19‬فالبنيوية بالنسبة إليهم‪ ،‬تعديالت حديثة حلقت ادلعرفة القبلية‪ .‬وقد كاف ذلا تأثَت‬
‫واضح يف ستينيات وسبعينيات القرف ادلاضي على عدد كبَت من احلقوؿ ادلعرفية ( علم االجتماع‪ ،‬التحليل‬
‫النفسي‪ ،‬النقد األد‪،‬ي‪ ،‬األنًتبولوجية‪ ،‬والفلسفة‪ ،...‬ومن أعالـ البنيوية الفرنسيُت كلود ليفي شًتاوس‪ ،‬لويس‬
‫ألتيسَت‪ ،‬روالف بارت‪ ،‬جاؾ الكاف‪ ،‬مشيل فوكو وجاؾ دريدا )‪ .‬وتنضوي ربت لواء البنيوية ‪ -‬يف نظر آدـ شاؼ‬
‫– عدة نظريات سلتلفة الشيء الذي يتعذر معو تقدمي تعريف جامع مانع للبنيوية‪ .‬ولذا يعرض الباحث البولوين ما‬
‫ال يسلب كل نظرية خصوصيتها‪ ،‬أي العناصر اآلتية‪:‬‬
‫تناوؿ موضوع البحث بصفتو كلية سبتلك طابع النسق‪،‬‬
‫‪19‬‬
‫‪Adam Schaff : structuralisme et marxisme, P. 31‬‬
‫السعي إىل اكتشاؼ بنية النسق ادلعطى‪،‬‬
‫ادليل إىل الكشف من مث عن القوانُت ادلتجلية يف النسق ادلذكور‪،‬‬
‫دراسة النسق من منظور تزامٍت يلغي‪ ،‬بصفتو ظلوذجا شلثال‪ ،‬معلم الزمن‪.20‬‬
‫بادلنهج البنيوي نتمكن من حصر البنية الكامنة يف رلموعة من األفكار ادلكونة لنظرية معينة وربديد‬
‫منطقها وسبب وجودىا ‪ .‬فما الفرؽ بُت البنيوية منهجا والبنيوية رلموعة من الفرضيات ادليتافيزيقية؟ فادلنهج طريقة‬
‫أو أسلوب للتفكَت يف العامل والنظر إليو الكتشاؼ اخلفي منو وراء اجللي‪ .‬ويقتضي الكشف وضع فرضيات عن‬
‫اإلنساف وكينونتو وفكره واألشياء يف وجودىا الطبيعي والصناعي ‪ .‬والبنية اليت يصرح ليفي شًتاوس أنو عثر عليها‬
‫يف مسار البحث ادلنهجي يف اجملتمع القبلي ىي البنية الكامنة يف األنساؽ االصطالحية للقرابة‪ .‬فاجملتمع القبلي‬
‫يتحدث عن ا لقرابة بواسطة ادلصطلحات الدالة على األفكار‪ .‬والبنية الكامنة يف األفكار متطابقة مع بٌت العامل إذ‬
‫لألفكار اليت ينتجها الذىن نفس البنية اليت لدى العامل‪ .‬بيد أف أدلة كثَتة تثبت أف العامل غَت منطقي‪ .‬فالبشر ال‬
‫ؼلتاروف وال يقرروف أفعاذلم؛ بل ىم صنائع أفكارىم؛ وأفعاذلم نتيجة البنية الكامنة يف أفكارىم أو يف منطقها‪ .‬فأيا‬
‫تكن العقيدة اليت يعتنقها الفرد‪ ،‬فهي اليت تتحدث من خاللو‪ .‬ويغايل البنيويوف إىل حد ما حينما يؤكدوف أف‬
‫الناس ال يتحدثوف بقدر ما يُتحدثُوف‪ ،‬وذلك ألف احلديث يتم بواسطة البنية يف اللغة‪ ،‬ىذا‪ ،‬وال يقرأ القراء الكتب‪،‬‬
‫بل الكتب ىي اليت تقرأىم‪ .‬فما ىي البنية؟‬

‫البنية‪:‬‬
‫يقصد بالبنية شبكة عالقات‪ ،‬أو تنسيق ألجزاء أو عناصر شيء زلسوس وإنتاج معُت‪ .‬كما تعٍت الوسيلة‬
‫ادللتحمة اليت تتألف هبا العناصر ادلكونة جملموع معقد كما نقوؿ بنية ربتية وبنية فوقية‪ ،‬بنية رواية‪ ،‬بنية بناية‪ ،‬بنية‬
‫دولة‪ ،‬بنية نظاـ تعليمي ‪ .‬فهل ىذا يعٍت أهنا ىيكل معُت لشيء ما؟‪ .‬وقد صلد معٌت آخر للبنية؛ إنو رلموع معقد‬
‫أو منظور إليو من جهة نظر تنظيمية ووظيفية‪ .‬أما فلسفيا فالبنية تدؿ على الصورة أو الشكل‪ .‬فمفهوـ البنية مثال‬
‫مشًتؾ بُت حقوؿ سلتلفة من جهة ومشًتؾ بُت حقل االقتصاد وادلاركسية ( البنية الفوقية والبنية التحتية) من جهة‬
‫أخرى‪ .‬فمصطلح البنية مشًتؾ بُت ىذه احلقوؿ‪ ،‬لكنو يف داللتو االصطالحية سلتلف من حقل آلخر‪ ،‬واالختالؼ‬
‫مرده التصور الذىٍت للمصطلح أي ادلفهوـ يف عالقتو لطبيعة ادلعرفة واحلقل ادلعريف الذي يرد فيو‪ ،‬فالبنية كداؿ‬
‫الزمة دلفهوـ عالقات اإلنتاج وقوى اإلنتاج ادلؤثرة يف أشكاؿ الوعي البشري يف حقل ادلاركسية‪ ،‬وعندما ترتبط‬
‫"البنية" بالعالقات الصورية الشكلية‪ ،‬وادلستويات النوعية لنسق معُت فإهنا تكوف الزمة حلقل "البنيوية"‪.‬‬
‫قد تكوف كلمة "بنية " مشتقة من اليونانية اليت تفيد معٌت "بٌت"‪ .‬والبنية قد يكوف ذلا نفس معٌت بناية‬
‫اليت ؽلكن أف تشبو العمارة اليت يتم إصلازىا دبا يسمى ب " فن العمارة "‪ ،‬وإىل البنية اجلسمية واللغوية والبنية‬
‫التحتية والفوقية‪ .‬فالبنية تعٍت يف البداية رلموعا وثانيا أجزاء ىذا اجملموع‪ ،‬وثالثا عالقة ىذه األجزاء فيما بينها‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫‪Cf, Oswald Ducrot, « Qu’est ce que le structuralisme ? I, le structuralisme en linguistique ».‬‬
‫وتنطوي البنية على عناصر ؽلكن ترتيبها أو إعادة ترتيبها‪ .‬إعادة ىذه الًتتيبات قد تؤدي إىل تعديل البنية إال أهنا‬
‫لن تغَت ىذه البنية‪ .‬فالبنية ىي رلموعة من الشروط اليت تربطها عالقة يتم ربديدىا باستمرار بغض النظر عن‬
‫التحوالت احلاصلة‪ .‬البنية تكتفي بذاهتا‪ ،‬وال يتطلب إدراكها اللجوء إىل أي من العناصر الغريبة عن طبيعتها‪.‬‬
‫والبنية تقدـ نفسها على أهنا مل هتتم باألسس العقدية والفكرية ألي ظاىرة إنسانية أو أخالقية أو اجتماعية‪،‬‬
‫وتتصف باآليت‪:‬‬
‫نظاما ربويليا يشتمل على قوانُت‪ ،‬دوف أف تتجاوز التحوالت حدوده‪ ،‬واللجوء إىل عناصر خارجية‪.‬‬
‫البنية مفهوـ ذبريدي إلخضاع اإلشكاؿ إىل طرؽ استيعاهبا‪ ،‬من ىنا جاءت البنيوية بوصفها نظرية تصف‬
‫البنيات والبنيوية ادلنهجية نظرية‪ ،‬تكوف البنية دبوجبها‪ ،‬عالقات‪ ،‬تطبق على ادلوضوع الذي غلعلها واضحة‪.‬‬
‫وتأسيسا على ىذا ؽلكن القوؿ أف البنية تقتضي ضمنيا نسقا‪ .‬فما ىو النسق؟‬

‫النسق‪:‬‬
‫نتطرؽ إىل ىذا ادلفهوـ‪ ،‬ألف دو سوسَت اعترب اللساف نسقا (‪ .)système‬ؽلكننا تعريف النسق بأنو‬
‫الكل أو اجملموع‪ .‬فليست البنية يف جوىرىا سوى نسق ادلعقولية‪ .‬وتفهم أنساؽ ادلعقولية بصفتها أنساقا تتضمن‬
‫مستويات ػليل بعضها على بعض‪ .‬النسق رلموع العالقات ادلستقلة عن ادلكونات أو الكلمات اليت تربطها‬
‫وتشغل فيما بينها صياغة ما‪ ،‬وذلك حسب عمليات زلددة بطريقة معينة؛ مثاؿ ذلك نسق القرابة عند كلود ليفي‬
‫سًتاوس‪ ،‬والنسق ادلادي واالقتصادي عند ماركس‪.‬‬
‫أسست البنيوية نسقها ادلعريف وادلنهجي على التنظَتات اليت بناىا دو سوسَت على اللغة‪ ،‬وعلى‬
‫اإلسهامات النظرية والتطبيقية اليت قدمها الشكالنيوف الروس من مثل توماتشوفسكي‪ ،‬تينيانوؼ‪ ،‬إخنباوـ‪،‬‬
‫ياكبسوف‪ ...‬وحاولت البنيوية رسم أفق معريف جديد سواء تعلق األمر دبستوى اإلدراؾ ( إدراؾ العامل ) أو دبستوى‬
‫تلقي اخلطاب بأنواعو‪ .‬وشكلت أيضا نسقا إيديولوجيا إىل جانب كل من البنيوية األنطروبولوجية والوجودية ونظرية‬
‫التلقي لنقد ونقض اخلطاب الواقعي الذي ازبذ ادلاركسية خلفية نظرية لو‪.21‬‬
‫كانت البنيوية يف أوؿ ظهورىا هتتم جبميع نواحي ادلعرفة اإلنسانية مث تبلورت فيما بعد يف رلاؿ البحث‬
‫اللغوي والنقد األد‪،‬ي‪ .‬البنيوية ليس ذلا جهة معرفية عند الباحثُت؛ فمنهم من يعتربىا جدلية ونظرية معرفية ىدفها‬
‫معرفة ما إذا كانت جهة نظر البنية بصفتها بناء شكلي أو ظلوذج أو رلموعة من العالقات الداخلية تكوف وحدة‬
‫موضوع العلم تبدو إجرائية يف مادة علمية ما‪ ،‬وما إذا كانت أداة معرفة أكثر مطابقة وعقلية من األدوات اليت‬
‫استعملت من قبل ويف الوقت نفسو‪ ،‬وما إذا كاف النموذج اللساين على سبيل ادلثاؿ ىو النموذج األساسي للعلوـ‬

‫‪ 21‬سأناقش القاسم ادلشًتؾ ذلذه "االذباىات" يف نقدىا ونقضها للمادية اجلدلية اليت انتقدت احلرية الليبَتالية وطوقت إرادة الفرد بقوانُت يف ادللف‬
‫الًتكييب‪.‬‬
‫اإلنسانية‪ .‬فالبنيوية بالنسبة إليهم تعديالت حديثة حلقت ادلعرفة القبلية‪ .‬وقد كاف ذلا تأثَت واضح يف ستينيات‬
‫وسبعينيات القرف ادلاضي على عدد كبَت من احلقوؿ ادلعرفية ( علم االجتماع‪ ،‬التحليل النفسي‪ ،‬النقد األد‪،‬ي‪،‬‬
‫األنًتبولوجية‪ ،‬والفلسفة‪.) . ...‬‬
‫يف جوىرىا تركز البنيوية على الداخل‪ ،‬وعلى دراسة البٌت الصغَتة اليت تكوف النص من داخل النص ذاتو‪،‬‬
‫ومن عالقتها بعضها ب بعض على أساس أف العالمة اللغوية ليست رمزا لشيء خارجي‪ ،‬بل إهنا تسبق الشيء يف‬
‫حقيقة األمر‪ ،‬ومن مت غلب دراستها يف عزلة عن داللتها ادلادية خارج النص‪ ،‬وذلك دبعزؿ عن أية عناصر خارجية‬
‫( ادلؤلِّف)‪،‬والسياؽ اخلارجي أو غَت اللغوي؛ ىذاف العنصراف ليسا من اختصاص البنيويُت‪ .‬يعٍت ىذا أف ربليل أي‬
‫نص لغوي يعتمد على نظرتُت‪ :‬األوىل استقالليتو عن أي عوامل خارجية‪ ،‬والثانية تشابك وحداتو وترابطها فيما‬
‫بينها داخليا‪ ،‬وعليو‪ ،‬يدرس البنيوي اللغة يف ذاهتا ولذاهتا‪.‬‬
‫ىل ؽلكن القوؿ أف مدرسة سوسَت باسم مؤسسها وبعض اللغويُت الذين ػللو ذلم تسميتها مدرسة‬
‫جنيف غَتت طبيعة التفكَت اللغوي‪ ،‬ورمست حدودا فاصلة بُت عهدين من الدراسة اللغوية‪ ،‬عهد امتد من‬
‫الدراسة التقليدية إىل أواخر القرف التاسع عشر‪ ،‬وعهد الدراسة احلديثة اليت ظهرت مع ظهور مدرسة سوسَت؟‪ .‬ىل‬
‫الدراسة اليت سبقت دوسوسَت كانت تتناوؿ اللغة كتطور وكتاريخ‪ ،‬وتدرس اللغة ليس يف ذاهتا ولذاهتا بل لغَت‬
‫ذاهتا‪ ،‬وأ ف سوسَت جاء ليدحض النظرية اليت تتناوؿ اللغة كتطور وكتاريخ‪ ،‬ومن مت فهي نسق من العالمات اللغوية‬
‫غلب دراستها يف ذاهتا ولذاهتا ويف استقاللية عن أية مالبسات أو ظروؼ خارجية؟‪ .‬فما ىو الشكل وادلضموف؟‬

‫الشكل والمضمون‪:‬‬
‫لإلجابة عن سؤاؿ طرحتو سابقا حوؿ عالقة الشكل بادلضموف‪ ،‬أرى أف اذلدؼ ىو التمييز بُت البنيوية‬
‫والشكالنية‪ .‬فالربغم من أف الشكالنية تدين للبنيوية‪ ،‬فإننا نالحظ بعض أوجو االختالؼ اليت تتعلق بالشكل‬
‫وادلضموف؛ البنيوية اىتمت بالشكل وادلضموف‪ :‬الداؿ وادلدلوؿ‪ ،‬يف حُت أف الشكالنية أولت اىتمامها فقط‬
‫للشكل ووضعت ادلضموف جانبا‪.‬‬
‫بادلضموف يتحدد الشكل‪ ،‬وبالشكل يتحدد ادلضموف‪ .‬واألجزاء الشكلية ىي مكونات الوحدة اليت ال‬
‫تربز سوى بنية شكلية‪ .‬ويذىب مسار التحليل يف اذباىُت متعارضُت إىل االلتقاء يف الوحدات بالشكل أو‬
‫بادلضموف‪ .‬والشكل وادلضموف خاصيتاف متصلتاف تتجلياف يف غَت انفصاؿ يف اشتغاؿ اللغة‪.‬‬

‫ثنائية اللغة‪/‬الكالم‪:‬‬
‫ميز دو سوسَت بُت اللغة واللساف والكالـ؛ يرى أف اللغة ىي رلموع األنظمة والقواعد اليت تستعملها‬
‫صباعة بشرية قصد التواصل‪ .‬أما الكالـ فهو التجٍت التطبيقي ذلذه األنظمة والقواعد‪ .‬أما اللساف فيتشكل من‬
‫خالؿ تالحم اللغة والكالـ‪.‬‬
‫يرى دوسوسَت أف الفكر ىو عبارة عن تصورات وأفكار ومفاىيم عامة‪ .‬األفكار ال تشَت إىل أشياء‬
‫مادية واقعية‪ ،‬ما ينتج عن ىذه التصورات ىو البنية اللغوية ال معناىا ادلادي‪ .‬يشدد على أف اللغة والفكر شيئاف‬
‫متالزماف " ال وجود ألفكار مسبقة وال شيء واضح ادلعامل قبل ظهور اللغة"‪ .22‬فهو يرى أف حقيقة الفكر ليست‬
‫مادية‪ .‬تصوراتنا ومفاىيمنا تكمن يف البنية اللغوية‪.‬‬
‫فمضموف البنية اللغوية يعود يف أصلو ادلعريف إىل أصغر وحدة صوتية (‪ .)phonème‬يشرع دو سوسَت‬
‫يف "زلاضرات يف اللسانيات العامة" مناقشة باعًتاضو على علوـ اللغة اليت اعتربىا أقرب إىل التاريخ من‬
‫اللسانيات‪ .‬علوـ اللغة ( علم اللغة ادلقارف والفيلولوجيا) بالرغم من أعليتها باعتبارىا شرطا علميا ضروريا للتحقيب‬
‫التارؼلي اللغوي‪ ،‬يرى أف منهج ىذه العلوـ اللغوية الذي تتخذه وتتبعو يف تقصيها للغات ال يساعدنا بشكل دقيق‬
‫يف اإلحاطة ب " ادلوضوع " احلقيقي للغة بشكل خاص واللسانيات بشكل عاـ‪ ،‬دبعٌت أف ما يرفضو سوسَت ىو‬
‫منهجها التارؼلي الذي يستند على تقدمي وصف تارؼلي للغات‪.‬‬
‫من ىنا كانت أوؿ خطوة ازبذىا سوسَت منهجية تتمثل يف تسييج الظاىرة اللغوية ليس باعتبارىا ظواىر‬
‫تثَت إشكاليات تارؼلية‪ ،‬بل ظواىر تثَت إشكاليات بنيوية ترتبط باللغة ذاهتا‪ .‬فقد قاـ بنقل دراسة الظواىر اللغوية‬
‫من ادلنهج التارؼلي إىل ادلنهج البنيوي؛ واضعا حدا لسيادة النظرة التارؼلية اليت ىيمنت على دراسة اللغة دلدة طويلة‬
‫‪.‬‬
‫اللغة وسيلة ل لتواصل تتسم بطابعها العاـ والشامل‪ .‬أما الكالـ فهو مقدرة ذاتية زبص أفرادا بعينهم‪ .‬اللغة‬
‫كياف مستقل‪ ،‬أما " الكالـ فهو فعل فردي إرادي "‪.23‬‬
‫اإلنساف يستطيع إراديا من خالؿ الكالـ أف يربط بُت الكلمات اليت تدؿ على األشياء‪ ،‬لكنو ال يربط‬
‫النظاـ الداليل لألشياء ذاهتا من خالؿ الكالـ‪ ،‬وىو ما تقوـ بو اللغة‪ .‬ىذه األخَتة كياف منفصل عن اإلرادة‬
‫الفردية‪ :‬ؽلكن دراستها بشكل منفصل عن إرادة األفراد ( ضلن ال نتكلم اللغات ادليتة كالالتينية‪ ،‬لكننا مع ذلك‬
‫قادروف على قراءهتا وإخضاعها للدرس والبحث اللساين‪ ،‬حىت لو مل نكن نتكلمها‪ .‬أي أننا قادروف على صبع‬
‫ادلعطيات أو الظواىر اللغوية ذلذه اللغات من خالؿ حزمة من الوثائق وادلخطوطات والنقوش اليت زبص ىذه‬
‫اللغات ووضعها يف نظاـ بنيوي )‪.‬‬
‫اللغة رلاؿ ثابت‪ ،‬بينما الكالـ متغَت ومتنوع‪ .‬اللغة خارجة عن األفراد ألهنا رلاؿ ثابت من األسس‬
‫والقواعد‪ .‬الفرد ال يس تطيع تغيَت القواعد العامة يف اللغة ألنو ال يبتكرىا‪ ،‬بل يبتكرىا باعتبارىا كالما أي ظواىر‬
‫صوتية‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫‪F. De Saussure : Cours de linguistique générale, P 155.‬‬
‫‪23‬‬
‫‪Ibid : P 30‬‬
‫الكالـ فضاء متنوع من األصوات‪ ،‬يشكل الطبيعة ادلادية للغة‪ .‬اللغة مقارنة بالكتابة والكالـ‪ ،‬باعتبارىا‬
‫نظاما مستقال من العالمات‪ ،‬فهي "سلزف الصور السمعية (‪ )Images acoustiques‬والكتابة ىي الشكل‬
‫ادللموس أو ادلادي ذلذه الصور"‪.24‬‬

‫العالمة‪:‬‬
‫أما العالمة لدى سوسَت فهي "العالمة اللغوية ال تتألف من شيء أو اسم مادي‪ ،‬بل من مفهوـ وصورة‬
‫مسعية‪ .‬وىذه األخَتة ليست على وجو الدقة الصوت ادلادي أو الشيء الطبيعي‪ ،‬بل ىي باألحرى األثر النفسي‬
‫ذلذا الصوت"‪.25‬‬
‫إف ىذا التعريف للعالمة ىو ربوؿ معريف جديد للعالمة منذ اليوناف (أرسطو وأفالطوف ) مرورا بالقديس‬
‫أوغسطُت (‪ .) Saint Augustin‬العالمة عند أرسطو ربد بعالقة ثالثية ‪ :‬الصوت والشيء واحلالة النفسية‬
‫ادلتوسطة بينهما‪ .‬أما القديس أوغسطُت فَتى أف اإلشارة تتكوف من داؿ حسي ومدلوؿ دىٍت‪ .‬ىذا التحوؿ أدى‬
‫إىل حصر العالمة يف عالقة ثنائية بُت الداؿ وادلدلوؿ‪ .‬ىذا يعٍت أف سوسَت أحدث قطيعة مع التفسَت الذي سبقو‪،‬‬
‫حيث يرى أف العالمة " تشَت بالضرورة إىل شيء مادي زلدد "‪.26‬‬
‫دوسوسَت يرى أف اللغة تتكوف من عالمات مركبة بُت الداؿ وادلدلوؿ‪ .‬ىذه العالقة ال تشَت إىل العامل‬
‫الواقعي‪ ،‬بل ىي عالقة اعتباطية‪.‬‬
‫إف البنيوية لدى سوسَت ىي أف ادلوضوعات أو التصورات اليت نتحدث عنها ما ىي إال تصورات يتحدد‬
‫معناىا من قيمتها ادلتحققة داخل اللغة يف زماف ومكاف زلددين وضمن سياؽ معُت‪ ،‬وليست أشياء واقعية‪ .‬من مت‬
‫فإف دراسة العالقة االعتباطية بُت الداؿ وادلدلوؿ غلب أف تتم داخل اللغة ذاهتا‪ ،‬كما أف عناصر ىذه الدراسة‬
‫تقتضي السَت وفق احملاور التالية‪:‬‬
‫اللغة سابقة على الفكر ( ىايدغر يرى أف الكينونة سابقة عن اللغة)‪.‬‬
‫ادلدلوؿ يستمد معناه من عالقتو بالداؿ‪.‬‬
‫ادلدلوؿ أو ادلضموف زلايث‪.‬‬
‫ما ػلكم النظاـ الداليل ىو الصيغة العالئقية بُت الداؿ وادلدلوؿ وبُت الدواؿ األخرى‪.‬‬
‫العالقة بُت الداؿ وادلدلوؿ عالقة اعتباطيية‪.‬‬

‫البنيوية منهج‪:‬‬

‫‪24‬‬
‫‪Ibid : P 32.‬‬
‫‪25‬‬
‫‪Ibid : P 98‬‬
‫‪26‬‬
‫‪Vernant Denis : Introduction à la philosophie contemporaine du langage ; du langue à l’action, P. 29.‬‬
‫لقد أثارت البنيوية (اليت بوأهتا اللسانيات أوال مث األنثروبولوجية الحقا منزلة "خطاب منهج" كلي) نقدا‬
‫انصب خاصة على مسلماهتا اآلتية‪ :‬أوال‪ ،‬انغالؽ الكوف اللغوي وعدـ إحالتو على أي مرجع ومن مث انقطاعو‬
‫التاـ عن الواقع‪ .‬ثانيا‪ ،‬انفصاؿ أنساؽ األدلة عن الذات‪ ،‬أي عدـ ارتباطها بعاملي إنتاج ادلعٌت وتلقيو‪ .‬ثالثا‪،‬‬
‫إضفاء قيمة أونطولوجية على مفهوـ البنية‪ ،‬ومن مت تشييئو وذبريده من كل وظيفة اجتماعية‪ .‬رابعا‪ ،‬اختزاؿ وظائف‬
‫التواصل التداولية إىل لعبة ادلنطق الصوري الًتكيبية‪ .‬فقد كانت ذلذا النقد آثار يف علوـ أخرى‪ :‬فقد أعادت النظرية‬
‫األدبية للقارئ والسامع وادلشاىد (أي "ادلتلقي")كامل حقوقهم‪ ،‬وشرعت اللسانيات يف استبداؿ اجلملة بالنص‬
‫ويف تطوير تداولية "أحداث اللغة"‪ ،‬واقًتبت السيميائيات من صياغة تصور للشفرات أو حىت للنصوص الثقافية‪،‬‬
‫وجددت األنثروبولوجيا االجتماعية النظر إىل مسألة الذات واألدوار وادلؤسسات االجتماعية‪ ،‬وانتعشت‬
‫السوسيولوجيا الظاىراتية لتأخذ على عاتقها مسألة تشكل ادلعٌت‪ ،‬ومت أخَتا ذباوز ادلنطق الصوري بواسطة منطق‬
‫تعليمي إعدادي يقوـ فيو االستدالؿ على مبدأ احلوار‬
‫يبدو يل أف اللسانيات السوسَتية قد رمست غالبية النشاط اللساين وذلك بتوجيهها البحث اللساين ضلو‬
‫ربليل اللغة دبا ىي نسق من الوحدات والعالقات‪ .‬ىذا ما كانت تعاين منو لسانيات ما قبل دو سوسَت‪.‬‬
‫ال بد من اإلشارة إىل أف ادلنهج البنيوي برز باعتباره وسيلة علمية للتعامل مع األدب الذي خضع يف‬
‫الفًتات السابقة لتعامالت متباينة‪ ،‬فقد كاف كل من ادلنهج التارؼلي واالجتماعي والنفسي لدى دارسي األدب‬
‫بعيدا عن النص األد‪،‬ي ذاتو لكونو منهجا خارجيا يدرس الظاىرة األدبية من خارجها‪ ،‬ويفسروف العمل األد‪،‬ي إما‬
‫برده إىل الشروط التارؼلية أو إىل العوامل الذاتية للمؤلف‪ ،‬وذلك أف السياؽ الفكري الذي ترعرعت فيو ىذه‬
‫ادلناىج سادت فيو النزعة التارؼلية‪ ،‬حيث كانت تُفسر كل الظواىر من خالؿ التاريخ‪ ،‬فالسابق يتحكم دائما يف‬
‫الالحق‪ .‬وقد اتفق مفكروف حوؿ ىذه النقطة حىت وإف كانوا سلتلفُت يف مسائل أساسية‪.‬‬
‫من ادلعلوـ أف ادلنهج البنيوي برز يف بداية األمر بوصفو منهجا علميا ربليليا يف رلاؿ اللسانيات بزعامة‬
‫فَتدناف دو سوسَت‪ ،‬حيث أتاح للغة فرصة الدخوؿ إىل ادليداف العلمي التجرييب قبل أف تصبح مع الرواد البنيويُت‬
‫أمثاؿ بروب وسًتاوش وتودوروؼ وبارت وغَتىم حقال خصبا تستثمره العلوـ اإلنسانية ومنو النقد األد‪،‬ي‪.‬‬
‫ويرجع سبب شيوع ادلنهج البنيوي يف األحباث النقدية إىل طموح الدارس يف االقًتاب أكثر من الظاىرة‬
‫األدبية والكشف عن قوانينها وآليات تنظيمها وكذا عن العالقات القائمة يف ثناياىا وذلك عرب تعرية طبقاهتا‬
‫للوقوؼ على الفهم الصحيح للنص‪ ،‬فما " نراه على السطح ىو أثار تاريخ أعمق وعن طريق احلفر ربت السطح‬
‫فقط تستطيع اكتشاؼ الطبقات اجليولوجية أو اخلطط األوىل اليت توفر تفسَتا صحيحا دلا تراه "‪.27‬‬
‫وعلى ىذا األساس يستند ادلنهج البنيوي ادلتقاطع مع ادلناىج احملايثة الشكالنية الروسية واألسلوبية يف‬
‫مقاربة النص األد‪،‬ي إىل معطيات داخلية من أجل اكتشاؼ أبنية األدب بعيدا عن أية إسقاطات خارجية أو‬

‫‪ 27‬عبد العزيز ضبودة ‪ :‬ادلرايا احملدبة من البنيوية إىل التفكيك‪ ،‬ص‪280‬‬


‫افًتاضات سابقة لصيقة بالواقع االجتماعي أو النفسي لألديب باإلضافة إىل النظر إىل النص األد‪،‬ي كنسق أو‬
‫كبنية‪.‬‬
‫وتأسيسا على ما سبق تستمد البنيوية وجودىا الفكري وادلنهجي من مفهوـ البنية‪ ،‬وعلى ضوء ىذا‬
‫ادلفهوـ فإف اجلزء ال قيمة لو إال يف سياؽ الكل الذي ينتظم فيو‪ .‬ألف " ادلقولة األساسية من ادلنظور البنيوي ليست‬
‫ىي مقولة الكينونة بل مقولة العالقة واألطروحة ادلركزية للبنيوية ىي توكيد أسبقية العالقات على الكينونة وأولوية‬
‫الكل على األجزاء‪ .‬فالعنصر ال معٌت لو وال قواـ إال بعقدة العالقات "‪.28‬‬
‫وعلى ىذا األساس ؽلكن القوؿ أف ادلنهج البنيوي يرتكز على أولوية النسقي على التارؼلي‪ ،‬وأسبقية اللغة‬
‫على الواقع والنص على مرجعو‪ .‬وعلى ىذا النحو تلغي البنيوية كل عالقة تربط النص األد‪،‬ي بصاحبو أو مرجعو‬
‫الداخلي‪.‬‬
‫وتتجلى معامل ىذا اإللغاء بنحو خاص عند روالف بارت من خالؿ دعوتو الشهَتة ب " موت ادلؤلف "‬
‫من منطلق أف الكتابة دبا ىي " قضاء على كل صوت وعلى كل أصل الكتابة ىي ىذا احلياد‪ ،‬ىذا التأليف الذي‬
‫تتيو فيو ذاتيتنا الفاعلة إهنا السواد البياض الذي تضيع فيو كل ىوية ابتداء من ىوية اجلسد الذي يكتب "‪.29‬‬
‫ويستثمر روالف بارت من جانب آخر فكرة التناص إللغاء دور ادلؤلف حيث يتحوؿ ىذا األخَت إىل دور‬
‫ناسخ أو مقلد ليس إال‪ ،‬ويتحوؿ النص األد‪،‬ي إىل فضاء ال ػلتمل معٌت وحيدا بل تنصهر داخلو وتتعارض فيما‬
‫بينها‪ ،‬لذلك يعٍت ادلؤلف – حسب بارت – كائنا خارجيا ال صلة لو بالنص إال باعتباره خالقا لو ليس إال وىذا‬
‫ينطبق حىت على النصوص السردية ‪ .‬يقوؿ‪ " :‬بالنسبة إىل جهة نظرنا فإف الشخصيات يف األساس كائنات ورقية‬
‫وأف ادلؤلف ادلادي للقصة ال ؽلكن أف ؼلتلط مع راويها يف أي شيء من األشياء‪ ،‬فإشارات الراوي إشارات مالزمة‬
‫للقصة وؽلكن الوصوؿ إليها يف النتيجة بتحليل إشاري سيميولوجي ولكن أف نقرر بأف ادلؤلف نفسو سواء أعلن‬
‫عن نفسو أو اختبأ أو اظلحى يتصرؼ باإلشارات اليت يغرسها يف كتابو‪ .‬فهذا يستلزـ أف نفًتض أف بُت الشخص‬
‫ولغتو عالقة إشارية ذبعل ادلؤلف مسندا إليو كامال وذبعل القصة تعبَتا أدائيا عن ىذا الكماؿ وىذا ما ال يستطيع‬
‫التحليل البنيوي أف غلمع عليو‪ .‬فالذي يتكلم يف القصة ليس ىو الذي يكتب يف احلياة والذي يكتب ليس ىو‬
‫الذي كاف "‪.30‬‬
‫وىكذا يبدو أف تركيز بارت على النظر يف القوانُت واألنساؽ الداخلية للنص األد‪،‬ي ؽلثل جربية تنفي قدرة‬
‫الذات على تأكيد نفسها والتعبَت بكل حرية عن مقاصدىا وغاياهتا لتحل زللها ذات أخرى ينعتها أصحاب ىذا‬
‫ادلنهج بالنسق "فاألدب مل يعد إبداعا عبقريا يعتمد على قدرة ادلؤلف اخلارقة‪ ،‬بل أصبح صيغة كتابية مؤسساتية‬
‫ربكمها القوانُت‪ ...‬كما أثرت البنيوية على مفاىيم ووظيفة األدب وطبيعتو‪ ،‬فال ىو ػليل إىل العامل اخلارجي‬

‫‪ 28‬أبو فضل صالح‪ :‬نظرية البنائية يف النقد األد‪،‬ي‪ ،‬ص ‪35‬‬


‫‪ 29‬روالف بارت‪ :‬درس السيميولوجيا‪ ،‬ترصبة عبد السالـ بنعبد العايل‪ ،‬ص ‪30‬‬
‫‪ 30‬روالف بارت‪ :‬مدخل إىل التحليل البنيوي للقصة‪ ،‬ترصبة مندر عياشي‪ ،‬ص ‪73-72‬‬
‫الطبيعي‪ ،‬كما ترى نظرية احملاكاة وال ىو عبقرية تعتمد على مؤلفها وصاحبها ويعرب عنها األدب تعبَتا صادقا‬
‫عفويا حرا‪ ،‬وإظلا ىو رلموعة حيل ال سبت لصاحبها بصلة‪ ،‬بل إهنا تصنعو وتتحكم فيو "‪.31‬‬
‫وقد هنج جَتار جنيت نفس هنج بارت وغَته من البنيويُت من خالؿ استلهاـ النموذج البنيوي وتوسيع‬
‫رلاؿ اشتغالو بناء على فرضية مفادىا أف احلكاية ليست إال توسيعا للفعل أو اجلملة‪ .‬ولذلك دأب جَتار جنيت‬
‫يف كتابو خطاب احلكاية باعتباره أوج العمل البنائي يف احلكاية‪.32‬‬
‫على ىذا األساس ؽلكن القوؿ أف ادلنهج البنيوي كغَته من ادلناىج يقوـ على صبلة من ادلبادئ اليت تكوف نظامو‬
‫ادلفاىيمي‪ ،‬أعلها‪:‬‬
‫‪ -‬إزاحة ادلركز عن الذات اليت ما عادت تشكل مصدرا أو هناية للمعٌت من خالؿ اإلعالف عن موت ادلؤلف‬
‫وتعويضها بالنسق ‪.‬‬
‫‪ -‬االىتماـ بالدواؿ على حساب ادلدلوالت‪.‬‬
‫‪-‬إعطاء ادلكانة للطريقة اليت ينتج هبا ادلعٌت أكثر منها بادلعٌت ذاتو‪.‬‬
‫‪-‬االرتكاز على مبدأ التزامن حيث تنظر البنيوية إىل النص األد‪،‬ي ككياف مغلق منتو يف الزماف وادلكاف‪.‬‬
‫‪-‬النظر إىل النص األد‪،‬ي على أنو صورة فارغة من العالمات اإلنسانية‪ ،‬أي رلموعة من عناصر وأجزاء معزولة عن‬
‫تيار احلياة النفسية واالجتماعية‪.‬‬
‫على ىذا األساس ؽلكن القوؿ أف ادلنهج البنيوي يعتمد على قواعد كربى كادلوضوعية وإلغاء الذات والكلية‬
‫واحملايثة والعالقة والتزامن واالستبداؿ والتحويل‪ ...‬وىذه القواعد ىي اليت جعلت من ادلنهج البنيوي متميز عن‬
‫سائر ادلناىج األخرى ألنو الوحيد القادر على البحث عن أدبية األدب أي اخلصائص اجلوىرية ادلشكلة للعملية‬
‫اإلبداعية‪.‬‬
‫إال أف ذلك ورغم أعليتو العلمية‪ ،‬فإنو يؤدي بالنص األد‪،‬ي إىل اخلضوع فقط للعبة العالقات اللغوية‬
‫ومنطق الرموز بعيدا عن األبعاد اإلنسانية والوجدانية اليت ؽلكن أف يتضمنها النص األد‪،‬ي‪ ،‬وىذا ما جعل ىذا‬
‫ادلنهج إىل جانب ادلناىج األخرى احملايثة قاصرا عن اإلحاطة دبكونات النص األد‪،‬ي‪ .‬يقوؿ تَتي إغللتوف‪" :‬بعد‬
‫ربديد مالمح أنساؽ القواعد الكامنة فإف ما يستطيع كل البنيويُت عملو ىو أف يتساءلوا عما ؽلكنهم عملو بعد‬
‫ذلك‪ .‬فليس مطروحا إظهار عالقة العمل باحلقائق اليت يتناوذلا أو بشروط اليت أنتجتو أو بالقراء الفعليُت الذين‬
‫يدرسونو حيث إف اللفتة التأسيسية للبنيوية كانت وضع تلك احلقائق بُت قوسُت"‪.33‬‬
‫لكن كيف ؽلكن عزؿ الظاىرة األدبية عن تارؼلها وآنيتها وزماهنا وىي جزء من تلك التارؼلية واآلنية‬
‫والزمانية ذلك أف " النصوص األدبية اليت ؽلكننا أف ننظر يف استقالذلا كبنية ىي من حيث وجودىا يف اجملتمع‬

‫‪ 31‬الرويلي ميجاف‪ ،‬سعد اليازغي‪ :‬دليل الناقد األد‪،‬ي‪ ،‬ص ‪74‬‬


‫‪ 32‬جَتار جنيت ‪ :‬خطاب احلكاية‪ ،‬ترصبة معتصم حجلي‪ ،‬عبد اجلليل األزدي‪ ، ،‬ص ‪54-34‬‬
‫‪ 33‬تَتي إغللتوف‪ :‬مقدمة يف نظرية األدب‪ ،‬ترصبة أضبد حساف‪ ،‬ص ‪96‬‬
‫عنصر يف بنية ىذا اجملتمع‪ .‬وإذا كاف ادلنهج ال ؽلكنو أف ينظر حبكم عامل العزؿ إىل ىذه الصفة ادلزدوجة ادلوضوعة‬
‫أي إىل كونو بنية ويف الوقت نفسو عنصرا يف بنية‪ ،‬فإنو أي ادلنهج البنيوي يتحدد كمنهج يقتصر على دراسة‬
‫العنصر كمنهج غَت قادر على إقامة اجلدؿ بُت الداخل واخلارج "‪ ،34‬بُت الفٍت واإليديولوجي أو االجتماعي أو‬
‫النفسي وبالتايل إقامة احلوار بُت النص ومرجعو أي العامل اخلارجي‪.‬‬
‫وتعترب البنيوية ادلنتوجات اإلنسانية كلها أشكاال لغوية‪ .‬والنموذج الذي يتأسس عليو ادلنهج البنيوي ىو‬
‫ظلوذج علم اللغة‪ .‬فلفهم اللغة غلب النظر يف عالقة أجزائها‪ .‬وىنا البد من التمييز بُت اللغة والكالـ؛ ولثبات اللغة‬
‫فهي عكس الكالـ‪ ،‬تشكل موضوعا للعلم‪ ،‬وتوجد يف كالـ كل من يستعملها يف حديثو؛ فهي بنية كامنة يف‬
‫الكالـ‪ .‬وقد عرفت وحدات اللغة بالعالمات‪ .35‬وتنضوي ربت البنيوية علوـ العالمة وأنساؽ العالمات‪ .‬العالمة‬
‫ال تتحدد بالداؿ وادلدلوؿ بل بالعالقة ادلوجودة بينهما‪ .‬ولن يكوف من نصيب البنيوية إدراج يف اللسانيات معٌت‬
‫البنية اليت كانت من قبل يف ملكها‪ .‬فما ىو السبب الذي جعل اللسانيات تعود إىل كلمة بنية اليت كانت أداة من‬
‫بُت أدواهتا اإلجرائية؟ فسبب عودة اللسانيات إىل ىذه الكلمة يرجع إىل البنيوية اليت ال تريد تطبيقها وحسب‪ ،‬بل‬
‫ذبديد دالالهتا وربويل الفكرة اليت لدينا عنها‪ .‬ومن مث صار الكالـ يتمحور حاليا حوؿ البنيوية اللسانية بعدما كاف‬
‫الكالـ يتمحور يف ادلاضي حوؿ اللسانية البنيوية‪ .‬فالفكرة ادلتداولة حينئذ‪ ،‬ىي أف لكل لساف تنظيمو اخلاص‬
‫الذي يستحق ضبطو إىل حد اعتباره نظاما‪ ،‬وغليز ىذا احلديث عن التنظيم اللساين الذي يقتضي التعرؼ عليو يف‬
‫ما بُت ادلكونات الواقعية للساف والعالقات ادلتبادلة اليت تشكل معو وحدة‪ ،‬ويرجع الفضل لدو سوسَت يف التعاطي‬
‫ذلذا العنصر؛ وحلصر العناصر اليت يتكوف منها الكالـ من قبل شلارس ادلنهج اللساين يتوجب عليو يف مرحلة أوىل‪،‬‬
‫تقطيع اخلطاب إىل مكونات متتابعة أو متزامنة؛ ويف ادلرحلة الثانية يبحث عن ادلكوف نفسو يف السياقات اليت‬
‫يبدو فيها على أشكاؿ متباينة؛ ولن يتيسر لو ذلك إال بفهم احملتوى الداليل للملفوظ‪.‬‬
‫حصر النسق يقتضي بالضرورة ربديد كل عنصر بالرجوع إىل باقي عناصر اللساف‪ ،‬فلكل عنصر ىوية‬
‫وقيمة‪ ،‬وتتحدد قيمتو‪ .‬وتتحدد قيمتو ال باذلوية ادلادية‪ ،‬حسب اعتقاد اللسانيات التقليدية‪ ،‬بل باذلوية العالقية‪.‬‬
‫ويبُت منهج االكتشاؼ ىذا أف تنظيم اللساف مفًتض وجوده يف ربديد عناصره‪ .‬وخاصية عنصر ما تكمن يف‬
‫كونو ؼلتلف عن باقي العناصر األخرى‪.‬ومع ذلك ال ؽلكن حصره إال بإدراجو يف نسق لساين ال مفر من قبولو‪.‬‬
‫ذلك أف التعرؼ على النسق اللساين متقدـ عن التعرؼ على عناصر اللساف‪ .‬كما يستدعي البحث اعتبار اللساف‬
‫شفرة‪ .‬فما خارج شفرة اللساف الذي بو يتم التواصل رلرد عناصر غَت لسانية زبص الكالـ‪ .‬فاستقاللية اللساف‬
‫كامنة يف لسانية التواصل‪ .‬وبالوظائف التواصلية والثقافية يتحقق فهم اللغة‪ .‬فحينما يؤثر بعض ادلتحاورين يف‬
‫بعض يف احلوار الدائر بينهم فإف ذلك ػلدث بواسطة ما يقولو بعضهم لبعض‪ .‬واللساين غَت مطالب إال بعرض‬

‫‪ 34‬ؽلٌت العيد‪ :‬يف معرفة النص‪ ،‬ص ‪96‬‬


‫‪35‬‬
‫‪Claude Lévi-Srauss : anthropologie structurale, pp : 35-110‬‬
‫التأثَتات احلوارية الواقعة بُت ادلتحاورين وادلكونة لوظائف اللغة األساسية‪ .‬فداللة ادلقوالت اللسانية تتضمن الرباط‬
‫الذي ال تقيمو بُت ادلتحاورين كجزء ال يتجزأ منها وحسب‪ ،‬بل بُت خطابات ادلتحاورين ‪.‬‬
‫إف الفرؽ احلاصل بُت اخلطاب واحملكي كما يرى بنفينيست (‪ )Benveniste‬ىو أف يف اخلطاب‬
‫ػلصل تبادؿ بُت طرفُت علا ادلرسل وادلرسل إليو أو ادلتكلم والسامع حوؿ ادلواقع والتأييد‪ ،‬بينما يف احملكي ال يتكلم‬
‫سوى ادلرسل‪ ،‬أما ادلرسل إليو فال يشكل إال حضورا صامتا ومسجال ادلعرفة اليت يقدمها إليو األوؿ‪.‬‬
‫تؤكد األنًتوبولوجية البنيوية وجود صلة بُت اللغة والقرابة‪ .‬ولدراسة ىذه القرابة غلب االستعانة بادلنهج‬
‫اللساين‪ .‬يتبدى للدارس اللساين أف الباحثُت يف اجملاال ت القريبة من ميدانو مع اختالفها عنو يستلهموف مثالو‬
‫ويتتبعوف أثره يف السَت‪.‬‬
‫إف أللفاظ القرابة وجودا اجتماعيا ‪ .‬وػللل اللساين الفونيمات إىل "عناصر اختالفية" ؽلكن ربويلها إىل‬
‫"ثنائيات متعارضة" حسب مفاىيم روماف ياكبسوف؛ ىذا ىو طريق الوصوؿ إىل قانوف البنية‪ .‬ويف رأي كلود ليفي‬
‫شًتاوس‪ ،‬فإف ظواىر القرابة وظواىر اللساف ظواىر من النمط نفسو على صعيد واقع مغاير‪ ،‬ويوجد إىل جانب ما‬
‫دعاه باسم "نسق التسميات" ما أطلق عليو اسم "نسق ادلواقف"؛ ويشكل نسق ادلواقف إدراجا ديناميا لنسق‬
‫التسميات‪ ،‬وتضمن أنساؽ القرابة وقواعد الزواج بوصفها لغة ما ظلطا معينا من التواصل‪ ،‬كما أف العامل‬
‫األنًتبولوجي ال يشك يف أف الكلمات عالمات وقيم‪ .‬ولذا ال مناص من التأكيد على أف شبة ذباوبا بُت اللغة‬
‫ونسق القرابة‪ .‬فما ىي اجملاالت اليت برزت فيها البنيوية؟‬

‫المجاالت التي برزت فيها البنيوية‪:‬‬


‫يف رلاؿ اللغة برز اسم دو سوسَت‪ ،‬فكانت االنطالقة للدرس اللساين احلديث مع األحباث اليت قاـ هبا‪ .‬وؽلكن‬
‫اعتباره الرائد األوؿ للبنيوية اللغوية‪ ،‬اليت أفرزت ثالثة اذباىات‪ )1 :‬ربليل اخلطاب‪ ) 2،‬السيميائية بفرعيها‬
‫التواصل والداللة‪ ) 3 ،‬البنيوية بشقيها األد‪،‬ي واللساين‪ .‬فمن خالؿ زلاضراتو اليت صبعها طلبتو بعد شلاتو سنة‬
‫‪ ( 1914‬احملاضرات صبعها ألبَت سيشيهاي وشارؿ بايل سنة ‪ ) 1916‬برزت البنيوية اللغوية‪ .‬وؽلكن إصباؿ‬
‫تاريخ اللسانيات ادلعاصرة يف اذباىُت كبَتين‪ :‬االذباه الوصفي الذي ؽلثلو دو سوسَت‪ ،‬واالذباه التفسَتي الذي ؽلثلو‬
‫نعوـ تشومسكي الذي رأى أف االذباه الوصفي ال يقدـ تفسَتا للغة‪.‬‬
‫قاؿ دو سوسَت ببنيوية النسق اللغوي ادلتزامن‪ ،‬حيث أف سياؽ اللغة ال يقتصر على التطورية‬
‫(‪ ،)diachronie‬اف تاريخ الكلمة مثال ال يعرض معناىا احلايل‪.‬‬
‫امتدت النظرة الب نيوية إىل حقوؿ معرفية متعددة‪ :‬برز يف علم االجتماع كل من كلود ليفي سًتاوس ولوي‬
‫ألتيسَت الذي قاؿ إف صبيع األحباث ادلتعلقة باجملتمع‪ ،‬تؤدي‪ ،‬مهما اختلفت‪ ،‬إىل بنيويات؛ وذلك أف اجملموعات‬
‫االجتماعية تفرض نفسها من حيث أهنا رلموع‪ ،‬وىي منضبطة ذاتيا‪ ،‬وذلك للضوابط ادلفروضة من قبل اجلماعة‪.‬‬
‫لقد ترسخ ىذا احلقل يف حبوث " أسطوريات " ‪ 1971-1964‬من أعماؿ ليفي شًتاوس‪ .‬وىي زلاولة هتدؼ‬
‫إىل الكشف عن أنساؽ لألساطَت‪ .‬فهو ىنا يرى أف التاريخ يغدو جانبا من احلاضر عندما تستعيده الذاكرة‪.‬‬
‫ويف رلاؿ علم النفس برز كل من ميشاؿ فوكو وجاؾ الكاف الذين وقفا ضد االذباه الفردي يف رلاؿ‬
‫اإلحساس واإلدراؾ وإف كانت نظرية الصيغة اليت ولدت سنة ‪ 1912‬تعد الشكل ادلعرب للبنيوية النفسية‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫وقد ازدىرت يف ىذه الفًتة " البنيات األنًتوبولوجية للمتخيل "‪ 36‬عند ديوارت‪ ،‬و "تاريخ اجلنوف"‬
‫دلشيل فوكو‪ ،‬وبعده " الكلمات واألشياء " (‪ ،)les mots st les choses‬ويف نفس الفًتة ازدىرت القراءات‬
‫اجلديدة للتحليل النفسي للويس التوسَت‪ .‬فكيف استقبلت "دروس يف اللسانيات العامة"؟‬

‫االستقبال ل "دروس في اللسانيات العامة"‪:‬‬


‫كيف كاف االستقباؿ النقدي ( خاصة الفرنكفوين ) لكتاب "دروس يف اللسانيات العامة"؟ ظهور ىذا‬
‫الكتاب شكل فرصة للسانيُت الذين أبرزوا زلاور إما قربتهم أو أبعدهتم عن تصورات دو سوسَت‪ .‬فاالعًتاضات‬
‫تكمن يف مآخذ تصب يف التجريد الذي ميز تأليف ىذا الكتاب وكذا التصورات اليت دافع عنها دو سوسَت‪ .‬كما‬
‫ترتبط االعًتاضات ادلعرب عنها بالصرامة اليت عوملت هبا األفكار العامة ادلهيمنة على الدروس‪ .‬كما أف النقد السليب‬
‫ادلوجو إىل سوسَت يتجلى يف ادلقارنات اليت يستعملها‪ :‬مقارنة اللغة بلعبة الشطرنج‪ .‬يرى سيشيهاي أف سوسَت كاف‬
‫ػلب القوؿ إف اللغة يف حالة معينة شبيهة بوضع يف لعبة الشطرنج ‪ .‬فإذا ما ربركت إحدى القطع تأثر بذلك‬
‫التوازف القائم بُت القطع‪ ،‬وكذا صبيع القيم نظرا دلا بينها من تعاضد‪ .‬إال أنو إذا كاف العب الشطرنج ػلسب‬
‫حركاتو لتحقيق ىدؼ معُت‪ ،‬فإف التغَت الذي ػلقق يف اللغة توازنا جديدا يتم‪ ،‬من دوف قصد‪ ،‬عن طريق رلاين‪.‬‬
‫كما أف النقد السليب ادلوجو لسوسَت ىو رفض أف يكوف كتابو مؤسسا‪ ،‬بل تنحصر قيمتو يف اجلانب البيداغوجي‬
‫وليس حبث يف اللغة‪ ،‬ومؤاخذتو على إقصاء العوامل اخلارجية اليت يتوقف عليها التغَت اللساين الذي ؼلتزلو يف ذبريد‬
‫غَت قابل للتفسَت‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫لقد كاف الفضل لسوسَت يف ظهور ادلنهج البنيوي يف دراسة الظاىرة اللغوية‪ ،‬من أىم أفكاره‪:‬‬
‫نظر إىل اللغة نظرة بنيوية‪ ،‬حيث عرفها بأهنا "نسق من العالمات"‪ .‬فالعالمة لديو عالمة لغوية ال غَت ( العالمة‬
‫لدى تشارلز بَتس قد تكوف لغوية وغَت لغوية)‪ .‬مفهوـ العالمة السوسَتي مفهوـ ضيق ال يشمل كل أنواع‬
‫العالمات‪ ،‬بل غلعل عالقة الداؿ بادلدلوؿ عالقة اعتباطية‪ ،‬ويستثٍت من بينها ما كاف رمزا أو إشارة أو أيقونة (‬
‫مفهوـ العالمة البَتسي مفهوـ واسع يشمل كل أنواع العالمات )‪.‬‬

‫‪ 36‬ديوارت‪ ،‬األنًتوبولوجية‪ ،‬ترصبة‪ :‬مصباح الصمد‪ ،‬ط ‪ ،1‬بَتوت‪1991 ،‬‬


‫‪ 37‬مشيل فوكو‪ ،‬تاريخ اجلنوف يف العصر الكالسيكي‪ ،‬ترصبة‪ :‬سعيد بنكراد‪ ،‬ادلركز الثقايف العر‪،‬ي‪ ،‬ط ‪ ،1‬بَتوت‪2006 ،‬‬
‫الوصفية ( السنكرونية ) مقابل التارؼلية ( الديكرونية )‪.‬‬
‫بالرغم من أف البنيوية قد حققت "صلاحا" العلمية وازباذىا منهجية من بعض الدارسُت‪ ،‬فإف آراء ومواقف‬
‫تباينت حوذلا وواجهتها بانتقادات‪ :‬البنيوية تعٌت بالوصف ( تشومسكي سيتجاوز الوصف وسَتكز على التفسَت‬
‫)‪ .‬البنية رلرد تصور ال يرتبط بالواقع‪ .‬سانكرونية مقابل دياكرونية‪ .‬ىل ىذا يعٍت أف البنيوية تلغي التاريخ بصفة‬
‫خاصة واإلنساف بصفة عامة؟ خاصة أف اللغة عند البنيوية ال تشَت إىل أي شيء خارج ذاهتا‪ ،‬بل تشكل عادلا‬
‫خاصا بذاهتا‪ ،‬وال تستبعد إحالة النص إىل العامل اخلارجي وحده‪ ،‬بل تستبعد كذلك روابطو بادلؤلف الذي " قصده‬
‫" والقارئ الذي "يؤولو"‪ .‬مع بداية الستينيات‪ ،‬االنتقادات اليت وجهت للبنيوية ستدفع ببعض "ادلفكرين" أمثاؿ‬
‫دريدا‪ 38‬الذي اعترب أهنا تكرس العقل الغر‪،‬ي الذي يعمل على إعادة إنتاج وتكريس الذات الغربية من خالؿ‬
‫موضوع جديد‪.‬أو أهنا ضرب من ادليتافيزيقا ‪.‬‬
‫لقد كاف ألفكار سوسَت اللسانية تأثَت واسع ومتنوع على حلقة براغ اللسانية وحلقة كوبنهاكن‪ ،‬ويف روسيا‬
‫على يد سَتج كارسيفسكي ‪ Serge Kercevesky‬الذي نشر أفكار سوسَت غداة الثورة جبامعة موسكو‪،‬‬
‫ويف أمريكا على يد بلومفيلد‪.‬‬
‫وألف أفكار سوسَت تؤسس ظلوذجا معرفيا جديدا‪ ،‬فقد امتد تأثَتىا إىل سلتلف العلوـ اإلنسانية من‬
‫أنًتبولوجية وفلسفة وأدب وربليل نفسي‪...‬‬
‫إذا كاف "دروس يف اللسانيات العامة " قد نقل إىل اللغات األوروبية واليابانية ابتداء من العشرينيات من‬
‫القرف ادلاضي‪ ،‬فإنو مل يًتجم إىل العربية إال يف بداية الثمانينيات يف عدة ترصبات؛ عراقية‪ ،‬لبنانية‪ ،‬تونسية‪ ،‬مصرية‪،‬‬
‫أي بعد حوايل سبعُت سنة من نشره على يد شارؿ بايل وألبَت سيشهاي‪ .‬التأخَت يف الًتصبة لو داللتو العميقة (ما‬
‫بعد البنيوية)‪.‬‬
‫إذا كاف الفكر السوسَتي قد مت اختزالو من قبل اللسانيُت األوروبيُت نظرا لبساطتو‪ ،‬فكيف يُنظر إىل ىذا‬
‫الفكر عند الدارسُت العرب خاصة أنو قد مت إنتاجو يف فضاء ثقايف مغاير حمليطنا العر‪،‬ي؟ فمعادلو تستند إىل خلفية‬
‫فلسفية ومعرفية ( علم االجتماع‪ ،‬علم اإلقتصاد‪ ،‬علم النفس‪ .‬كما ال ؼلفى على أحد عدـ االستقرار على‬
‫مصطلحات موحدة‪ 39‬يف الًتصبات العربية اليت أشرت إليها سابقا الشيء الذي أفضى إىل البلبلة نظرا للعالقة بُت‬
‫ادلصطلح وادلفهوـ‪ .‬كما أف استيعاب عمل سوسَت استيعابا كامال ال ؽلكن أف ػلصل إال إذا واكبتو شروح‬
‫وإضافات‪.‬‬

‫‪ 38‬سأناقش "التفكيكية" يف مادة نقد معاصر‬


‫‪ 39‬سأناقش بالتفصيل إشكالية ادلصطلح يف رلزوءة " مصطلحية‪".‬‬
‫فهل إعادة تنظيم دراسة اللغة اليت قاـ هبا دو سوسَت وفق تصور جديد ؽلكن اعتبارىا أظلوذجا ونظرية‬
‫متماسكة صاغت موضوع ىذا العلم ومنهجو؟ وىل يتمثل األظلوذج السوسَتي يف احملايثة‪ .40‬ىذا األظلوذج حدد‬
‫األىداؼ العامة للسانيات ونظرية البحث ومنهجو اعتمادا على مبادئ‪.‬‬
‫لكن التغيَت الذي أحدثو سوسَت يف اللسانيات بادلقارنة مع ما كانت عليو قبلو؛ لسانيات القرف التاسع‬
‫اتسمت بتفسَت تارؼلي للوقائع اللسانية وتفسَت مقارف ذلا‪ .‬ومن شأف ادلقارنة أف توفر للدارس مواد للدارس مواد‬
‫لتأريخ األل سنة واف تكشف عن القوانُت اليت أمدت اللسنة ذات األصل الواحد بأشكاؿ سلتلفة‪ .‬فالدراسة اللسانية‬
‫ادلقارنة والتارؼلية أفادت من التقدـ اذلائل الذي عرفتو العلوـ الطبيعية حيث اضطرت اللسانيات إىل أف تستعَت من‬
‫ىذه العلوـ رلموعة من ادلفاىيم والتصورات وادلناىج وأصبحت بذلك العناصر اللسانية عناصر طبيعية‪.‬‬
‫إف سوسَت إذا كاف قد أحدث "قطيعة ابستيمولوجية" مع الًتاث السابق‪ ،‬فإف ىذه القطيعة تبقى يف‬
‫جوىرىا عبارة عن "استمرارية"‪ ،‬وبذلك يكوف "مؤلف" اللسانيات ادلعاصرة نتاجا لًتاث فكري لساين سابق‪.‬‬
‫فال بد من تقدمي اجلهود اللغوية السابقة ذلذا العلم اجلديد‪ .‬فقد ارتكز تعريفو للسانيات من استيعاب‬
‫للفكر اللغوي السابق وذباوزه‪.‬‬
‫فماضي اللسانيات تشكل حسب سوسَت حوؿ وقائع اللساف‪ ،‬ومر دبراحل ثالث متعاقبة مل يكن يعرؼ‬
‫خالذلا موضوعو الوحيد واحلقيقي‪ .41‬يبدو أف ىذا حكم يؤكد بأف ىذا "العلم" قد كاف غلهل طواؿ مراحلو الثالثة‬
‫موضوعو الذي كاف عبارة عن "موضوعات" متعددة‪.‬‬
‫ؽلكن القوؿ أف ىذه ادلراحل الثالثة كانت تشكل بذاهتا "علما"‪ .‬فادلوضوع ؼلتلف من مرحلة إىل أخرى‪.‬‬
‫االختالؼ قد يطاؿ ادلفاىيم وادلبادئ أيضا‪ .‬فكل مرحلة قد درست "موضوعات" سلتلفة‪ .‬ىكذا ؽلكن لنا استنتاج‬
‫أف كل مرحلة كانت دبثابة "علوـ" متشابكة متداخلة ألهنا تأسست حوؿ وقائع اللساف‪ .‬فادلرحلة ال يقصد هبا‬
‫سقف زمٍت زلدد‪ ،‬بل رلاال معرفيا يشمل موضوعات متنوعة‪.‬‬
‫ؽلكننا أف نتطرؽ إىل مراحل ىذا " العلم " الثالثة كما استعرضها دو سوسَت‪:‬‬
‫‪ -1‬النحو‪ :‬كاف قائما على ادلنطق؛ الدراسة النحوية كانت تستهدؼ وضع قواعد سبيز بُت األشكاؿ الصائبة‬
‫واخلاطئة‪.‬‬
‫يبدو أف اذلدؼ من إبراز مسات ىذه ادلرحلة يكمن يف زلاولة سوسَت تبياف أوجو االختالؼ بُت النحو‬
‫التقليدي واللسانيات أي استخالص ما تتميز بو الدراسة اللسانية‪ .‬اللسانيات تتعارض مع النحو يف كوهنا ربصر‬

‫‪ 40‬ادلقصود بالتحليل احملاي ث أف النص ال ينظر إليو إال يف ذاتو مفصوال عن أي شيء يوجد خارجو‪ .‬واحملايثة هبذا ادلعٌت ىي عزؿ النص والتخلص من‬
‫كل السياقات احمليطة بو‪ .‬فادلعٌت ينتجو نص مستقل بذاتو وؽلتلك دالالتو يف انفصاؿ عن أي شيء آخر‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪Saussure : Cours de linguistique générale, P.13.‬‬
‫اىتمامها يف اللساف ذاتو بعيدا عن أية ظالؿ منطقية‪ ،‬ويف كوهنا تنطلق من مالحظة وقائع اللساف واصفة حالتو‬
‫ضمن أفق سانكروين‪.‬‬
‫‪ -2‬الفيلولوجيا‪ :‬ليس اللساف ادلوضوع الوحيد للفيلولوجيا اليت ترمي‪ ،‬يف ادلقاـ األوؿ‪ ،‬إىل ربقيق النصوص‬
‫وتأويلها والتعليق عليها‪ .‬وكاف من نتائج ىذا النوع من الدراسة أف وجدت الفيلولوجيا نفسها هتتم أيضا بتاريخ‬
‫األدب وبالتقاليد وادلؤسسات‪.‬‬
‫وللفيلولوجيا منهج خاص تستخدمو وىو النقد‪ .42‬لكن حينما تعتٍت الفيلولوجيا بالقضايا اللسانية‪ ،‬فإهنا‬
‫هتدؼ إىل ادلقارنة بُت نصوص حقب سلتلفة‪ ،‬ومن أجل ربديد اللغة اخلاصة بكل مؤلف‪،‬وتفكيك الكتابات احملررة‬
‫بألسنة قدؽلة وغامضة وتفسَتىا‪ .‬وال بد من التأكيد ىنا أف النقد الفيلولوجي قد ظل أسَت العالقة باللغة ادلكتوبة‬
‫متجاىال بذلك اللساف احلي‪.43‬‬
‫موضوع اللسانيات موضوع وحيد ؛ اللساف ال غَت‪ ،‬ومن شبة فال دخل لتاريخ األدب والتقاليد وادلؤسسات‬
‫يف موضوع اللسانيات‪ .‬منهج اللسانيات ىو الوصف‪.‬‬
‫النحو ادلقارف‪ :‬ظهر ىذا االذباه حينما مت اكتشاؼ إمكانية مقارنة األلسن فيما بينها‪ .‬وإذا كاف ذلذا‬
‫االذباه الفضل يف فتح حقل جديد وخصب‪ ،‬فإنو مع ذلك مل يتوصل إىل تشكيل العلم اللساين احلقيقي‪ .‬النحو‬
‫ادلقارف مل يكن إال مقارنا ال غَت بدؿ اف يكوف تارؼلي‪.44‬‬
‫نستخلص أف لسانيات القرف التاسع عشر كشفت لنا عن اجلانب التارؼلي للساف‪ ،‬والتعرؼ على‬
‫تعارض جهتُت للنظر‪ :‬تعارض بُت النظاـ التارؼلي والنظاـ السكوين‪.‬‬
‫اللسانيات ليست ىي النحو ادلقارف‪ ،‬ألف موضوعها أشكل وأعم وأىم من ادلقابالت اليت ليست سوى‬
‫مظهر من مظاىر الظاىرة اللسانية‪ .‬كما أف على صعيد ادلنهج‪ ،‬ليست ادلقارنة سوى وسيلة ال غَت‪.‬‬
‫موضوع اللسانيات ال يوافق يف شيء موضوعات العلوـ الطبيعية‪ .‬فطبيعة اللساف زبتلف وتتميز عن طبيعة‬
‫"األشياء" اليت تقوـ بدراستها العلوـ الطبيعية‪ .‬فهي تتطلب دلقارنتها أظلوذجا مغايرا لألظلوذج الذي توفره ىذه العلوـ‬
‫باعتبار اللساف ليس جهازا عضويا طبيعيا‪ ،‬وإظلا لو خصوصيتو وطبيعتو ادلختلفة‪.‬‬
‫اللسانيات ال تضع نفسها ضمن زمن غَت زلدود وال هنائي‪ .‬وتسعى أيضا كوهنا تسعى إىل ربديد "ذلك‬
‫الشيء" الذي تنوي معاجلتو ضمن إطار زمٍت زلدد وزلدود‪.‬‬
‫اللسانيات ىي النحو ادلقارف ذو األفق التارؼلي‪ ،‬أو باألحرى فالنحو ادلقارف ذو األفق التارؼلي نوع من‬
‫اللسانيات يدرس اللساف من وجهة نظر تارؼلية‪ .‬غَت أف اللسانيات ليست‪ ،‬يف نفس اآلف النحو ادلقارف‪ ،‬إذ ؽلكن‬
‫دراسة اللساف من وجهة نظر وصفية سكونية‪ .‬فاللسانيات‪ ،‬هبذا ادلعٌت ‪ ،‬تشتمل على منهجُت متعارضُت‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪Ibid, P 13‬‬
‫‪43‬‬
‫‪Ibid, P 13 - 14‬‬
‫‪44‬‬
‫‪Ibid, P 16‬‬
‫يبدو يل أف اللسانيات السوسَتية قد رمست غالبية النشاط اللساين وذلك بتوجيهها البحث اللساين ضلو‬
‫ربليل اللغة دبا ىي نسق من الوحدات والعالقات‪ .‬ىذا ما كانت تعاين منو لسانيات ما قبل دو سوسَت‪.‬‬
‫ىذا التوجو أثر على البحث اللساين‪ .‬فالتيار البنيوي الذي أرسى ركائزه يشمل أغلب ادلدارس اللسانية‬
‫ادلعاصرة ‪ :‬مدرسة براغ (روماف ياكبسوف‪ ،‬نيكوالي تروبتسكوي)‪ ،‬مدرسة كوبنهاكن (لوي يلمسليف)‪ ،‬ادلدرسة‬
‫الوظيفية (مارتيٍت)‪ ،‬البنيوية األمريكية (بلومفيلد)‪ ،‬وادلدرسة التحويلية التوليدية ( تشومسكي)‪.‬‬
‫التأثَت السوسَتي كاف متفاوتا‪ .‬إذا كانت غالبية االذباىات ظلت وفية للمرتكزات النظرية وادلنهجية‬
‫للسوسَتية‪ ،‬فإف االذباه التوليدي النحوي قد غَت تصور اللسانيات‪.‬‬
‫إف أثر دو سوسَت يف بعض االذباىات اللسانيات ادلعاصرة اليت رسخها من خالؿ ادلفاىيم األساسية‬
‫كاف واضحا‪ :‬اللساف والكالـ‪ ،‬السانكرونية والدياكرونية‪ ،‬الداؿ وادلدلوؿ واعتباطيتو والسيميولوجيا‪.‬‬
‫ففي مقابل اللساف والكالـ السوسريُت سبخضت الكتابات اللسانية عن رلموعة من األزواج ادلرتبطة‬
‫بالتصورات النظرية للسانيُت ‪ .‬ىكذا صلد يلمسليف ‪ Hjelmslev‬يستبدؿ اللساف والكالـ باخلطاطة‬
‫(‪ )Schéma‬وادلعيار (‪ )Norme‬واالستعماؿ )‪ (Usage‬والكالـ )‪ : (Parole‬فاللساف ؽلكن أف ينظر‬
‫إليو إما بوصفو خطاطة أي شكال خالصا زلددا دبعزؿ عن ربققو االجتماعي وسبظهره ادلادي‪ ،‬وإما بوصفو معيارا‬
‫أي شكال ماديا ػلققو ربقيق اجتماعي معطى لكن دبعزؿ عن تفاصيل التمظهر‪ ،‬وإما بوصفو استعماال أي رلرد‬
‫رلموعة من العادات اليت يتبناىا رلتمع معطى وربددىا التمظهرات ادللحوظة‪ . 45‬أما الكالـ فيتميز عن اللساف‬
‫بصفات ثالث ىي‪ )1 :‬إصلاز ال مؤسسة‪ )2 ،‬فردي غَت اجتماعي‪ )3 ،‬حر غَت ثابت‪.46‬‬
‫أما مارتيٍت ‪ Martinet‬فقد الحظ أف التعارض بُت الكالـ واللساف الذي ىو دبثابة تعارض تقليدي‪،‬‬
‫ؽلكن أف يعرب عنو بالسنن (‪ )code‬والرسالة (‪ ،)message‬واف السنن ىو التنظيم الذي يسمح بتحرير‬
‫الرسالة‪.47‬‬
‫إذا كاف تصور ىؤالء تصورا بنيويا‪ ،‬فإف تصور تشومسكي يتناقض مع البنيوية‪ .‬رفضو للساف والكالـ يقوـ‬
‫على تصور مغاير للسانيات إذ يربطها بعلم النفس ادلعريف‪ ،‬ويتجاوز هبا كعلم‪ ،‬التصور التصنيفي‪ .‬من جهة ثانية‪،‬‬
‫فإف ضلو تشومسكي ىو ضلو صبل‪ .‬لقد بدا أف سوسَت مل يتمكن من إدماج اجلمل يف النسق اللساين‪ ،‬فكاف‪،‬‬
‫بذلك تصوره للًتكيب تصورا قاصرا‪ .‬إف اللغة نسق من الوحدات ادلتعالقة‪ ،‬لكنها أيضا نسق من القواعد‪ .‬يبدو أف‬
‫ذلك يكمن وراء استبداؿ اللساف والكالـ السوسريُت دبفهومي الكفاءة أو القدرة (‪ )Compétrnce‬واالصلاز‬
‫(‪ .)Performance‬الكفاءة ىي معرفة ادلتكلم – ادلستمع بلسانو‪ ،‬واالصلاز ىو االستعماؿ الفعلي يف مواقف‬
‫ملموسة‪.48‬‬

‫‪45‬‬
‫‪Hjelmslev : Essais linguistiques, P. 80 - 81.‬‬
‫‪46‬‬
‫‪Ibid, P 86 - 87‬‬
‫‪47‬‬
‫‪André MARTINET : Eléments de linguistique générale, P. 23.‬‬
‫‪48‬‬
‫‪N. Chomsky : Aspects de la théorie syntaxique, P. 14.‬‬
‫أما فيما يتعلق بالسانكرونية والدياكرونية‪ ،‬فقد سجل ياكبسوف (‪ )Jakobson‬نقدا قويا وعنيفا‬
‫خبصوص ىذه الثنائية‪ ،‬حيث يعترب أف ىذا التصور أصبح متجاوزا‪ ،‬ذلك أف نسق معُت ال ؽلكنو أف يكوف سوى‬
‫تاريخ نسق لساين معُت يتعرض لتغَتات سلتلفة‪ .‬يعتقد ياكبسوف أف اخلطأ وااللتباس الكبَتين والفصل احملسوـ يف‬
‫أمره بُت السانكرونية والدياكرونية مرده إىل حد كبَت‪ ،‬إىل االلتباس بُت الثنائيتُت‪ :‬بُت الثنائية األوىل وىي ثنائية‬
‫السانكرونية والدياكرونية‪ ،‬وبُت الثنائية األخرى ‪ ،‬وىي ثنائية السكونية (‪ )statique‬والدينامية‬
‫(‪ .)dynamique‬فالسانكروين ال يعادؿ السكوف‪ .49‬والتغيَت يف بداياتو‪ ،‬واقعة سانكرونية‪ ،‬وبذلك فإف‬
‫التحليل السانكروين ينبغي أف يشمل التغيَتات اللسانية‪ .‬وعلى عكس ذلك‪ ،‬فإف التغيَتات اللسانية ال ؽلكن أف‬
‫تفهم إال على ضوء التحليل السانكروين‪.50‬‬
‫أما فيما يتعلق باعتباطية الدليل‪ ،‬فإف بنفيست يرى أف استدالؿ سوسَت (اعتباطية الدليل الذي ال يربطو‬
‫أي رابط مع ادلدلوؿ) استدالؿ خاطئ ألف سوسَت يلجأ بشكل غَت واع‪ ،‬إىل طرؼ ثالث غَت متضمن يف التعريف‬
‫األصلي للدليل باعتباره كيانا نفسيا يوحد بُت داؿ ومدلوؿ‪ .‬والطرؼ الثالث ىو الشيء نفسو‪ ،‬ىو الواقع الذي‬
‫أقصاه سوسَت من تعريفو للدليل‪ .‬وإذف فإف ىناؾ تناقضا بُت الطريقة اليت عرؼ هبا سوسَت الدليل اللساين وبُت‬
‫الطبيعة األساسية اليت يسندىا إليو ‪ .‬يستنتج بنفيست أف الرابط بُت الداؿ وادلدلوؿ ليس اعتباطيا‪ ،‬وإظلا ىو على‬
‫النقيض من ذلك ضروري‪ .‬إف بينهما تالضبا جد وثيق ‪ .‬أما ما ىو اعتباطي فهو أف دليال معينا‪ ،‬ال غَته‪ ،‬يُطبق‬
‫على عنصر ما من الواقع ال على عنصر آخر‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق دبوضوع الفونولوجيا (الصواتة) (‪ ،)phonologie‬وعلم األصوات‬
‫(‪ ،)phonétique‬فقد فصل تروبتسكوي‪ ،‬معتمدا على سبييزه بُت اللساف والكالـ‪ ،‬بُت علمُت متميزين‬
‫يدرساف أصوات اللغة‪ :‬الفيلولوجيا ىي علم أصوات اللساف‪ ،‬وعلم األصوات ىو علم أصوات الكالـ‪.‬‬
‫كما أف مفهوـ السيميولوجيا قد عرؼ عدة تغيَتات وتطورات حينما وضع سوسَت مشروع تصوره‪.‬‬
‫سيميوطيقا تشارلز بَتس غَتت مالمح السيميوطيقا‪ .‬كما أف رمزية إيرنست كاسَتر (‪،)Ernst Cassirer‬‬
‫ومسيوطيقا الثقافة خاصة يف االرباد السوفيايت‪ .‬فما ىي التغيَتات اليت طرأت عل السيميائيات منذ سوسَت؟‪.‬‬
‫إذا كانت سيميولوجيا التواصل عند كل من برييطو وجورج موناف وبويسنس قد ظلت وفية للطرح‬
‫السوسَتي ذلك أف موضوعها ىو الدالئل القائمة على القصدية التواصلية (‪ ، )intentionnalité‬وأف ىذا‬
‫التواصل ىو جزء من التواصل اللساين باعتباره التواصل احلق‪ ،‬فإف سيميولوجيا الداللة‪ ،‬عند روالف بارت تشكل يف‬
‫نفس الوقت استمرارا للطرح السوسَتي وقطيعة معو ‪ ،‬فقد قاـ بإدماج كل ادلفاىيم اللسانية يف كل دراسة‬
‫سيميولوجية حبيث إف كل ظاىرة سيميائية تتكوف من لساف وكالـ‪ .‬لكن بارت غَت الطرح السوسَتي القائلة بأف‬
‫اللسانيات فرع من السيميولوجيا‪ .‬السبب يف رأيو مرده إىل أف إنتاج ادلعٌت وادلدلوالت ال ؽلكنو أف يتم خارج اللغة‬

‫‪49‬‬
‫‪Roman Jakobson : Essai de linguistique générale, P 36‬‬
‫‪50‬‬
‫‪Ibid, P 37‬‬
‫ألف ما تدؿ عليو أية مادة يعٍت اللجوء إىل تقطيع اللغة‪ .‬فعامل ادلدلوالت ليس شيئا آخر غَت عامل اللغة‪ .51‬إف‬
‫تصور بارت يقوـ على أف األشياء والصور والسلوكات‪ 52‬ؽلكنها أف تدؿ‪ ،‬إال أهنا ال تدؿ بشكل مستقل إذ كل‬
‫نسق سيميولوجي ؽلتزج باللغة‪ .53‬وبالتايل فإف اللساف ىو الذي ؽلكنو أف يستعمل للقياـ بتأويل كل األنساؽ غَت‬
‫اللسانية‪ .‬ولذلك فإف اللسانيات ليست فرعا من السيميولوجيا‪ ،‬وإظلا السيميولوجيا ىي اليت تشكل فرعا من‬
‫اللسانيات‪ .‬وعلى عكس س وسَت وأنصار سيمييولوجيا التواصل‪ ،‬مل تعد اعتباطية الدليل مبدأ سيميولوجيا عند‬
‫بارت إد ربتوي سيميولوجيتو على كل األنساؽ كانت قائمة على األنساؽ اللغوية أـ مل تكن‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫‪Gonthier : Eléments de sémiologie, P. 80.‬‬

‫‪ 52‬لقد ناقش أيضا اللباس واألكل ‪...‬ادلرجع نفسو‪.‬‬


‫‪53‬‬
‫‪Ibid, P 82‬‬
:‫الئحة المصادر والمراجع‬
‫ ط‬،‫ الرباط‬،‫ مطبعة الكرامة‬،‫ مكتبة دار األماف‬،‫ ت رصبة زلمد برادة وحساف بورقية‬،‫ من النص إىل الفعل‬،‫بوؿ ريكور‬
2004 ،1
‫ ط‬،‫ الدار البيضاء‬،‫ي‬،‫ ادلركز الثقايف العر‬،‫ ترصبة سعيد الغاظلي‬،‫ اخلطاب وفائض ادلعٌت‬،‫ نظرية التأويل‬،‫بوؿ ريكور‬
2006 ،2
1991 ،‫ بَتوت‬،1 ‫ ط‬،‫ مصباح الصمد‬:‫ ترصبة‬،‫ األنًتوبولوجية‬،‫ديوارت‬
،‫ بَتوت‬،1 ‫ ط‬،‫ي‬،‫ ادلركز الثقايف العر‬،‫ سعيد بنكراد‬:‫ ترصبة‬،‫ تاريخ اجلنوف يف العصر الكالسيكي‬،‫مشيل فوكو‬
2006

:‫األجنبية‬

CHOMSKY. N : Aspects de la théorie syntaxique, Ed, Seuil, 1971


DE SAUSSURE Ferdinand : Cours de linguistique générale, Payot, Paris, 1985
GENETTE Gérard : Figures III, Seuil, 1976
GONTHIER : Eléments de sémiologie, 1964
Hjelmslev : Essais linguistiques. Ed, Minuit, Paris
JAKOBSON Roman : Essai de linguistique générale, Ed, Minuit, 1973
LEVI STRAUSS Claude: anthropologie structurale, Plon, 1974
MARTINET André : Eléments de linguistique générale, Ed. Armand colin, 2008
OSWAHD Ducrot : « Qu’est ce que le structuralisme ? I, le structuralisme en linguistique ».
Editions de seuil, Paris, 1968
RICOEUR Paul: Le conflit des interprétations, essais d’herméneutique, Ed, Seuil, paris,1969
SCHAFF Adam : structuralisme et marxisme, Editions Anthropos, Paris, 1974
VERNANT Denis : Introduction à la philosophie contemporaine du langage ; du langue à
l’action, Ed, Armand Colin, Paris, 2010
‫الفهرس‬

‫مقدمة‪................................................................................‬‬
‫زلطات لسانية ىامة‪....................................................................‬‬
‫اللسانيات العامة والتطبيقية‪.............................................................‬‬
‫اللسانيات االجتماعية‪..................................................................‬‬
‫اللسانيات النفسية‪.....................................................................‬‬
‫اللسانيات احلاسوبية‪...................................................................‬‬
‫لسانيات اخلطاب‪.....................................................................‬‬
‫تطور النحو ادلقارف‪/‬دلذىب الوضعي يف اللسانيات‪/‬النحاة اجلدد‪/‬نقد التارؼلانية‪...............‬‬
‫البنيوية‪ :‬من ادلقاربة التارؼلية للغة إىل البحث اللساين ادلستقل بذاتو‪.........................‬‬
‫فَتديناند دو سوسَت ومدرسة جنيف‪....................................................‬‬
‫ربديد ادلفهوـ‪........................................................................‬‬
‫البنية‪................................................................................‬‬
‫النسق‪...............................................................................‬‬
‫الشكل وادلضموف‪.....................................................................‬‬
‫ثنائية اللغة‪/‬الكالـ‪....................................................................‬‬
‫العالمة‪..............................................................................‬‬
‫البنيوية منهج‪........................................................................‬‬
‫اجملاالت اليت برزت فيها البنيوية‪........................................................‬‬
‫االستقباؿ ؿ "دروس يف اللسانيات العامة"‪..............................................‬‬
‫خاسبة‪...............................................................................‬‬
‫الئحة ادلصادر وادلراجع‪...............................................................‬‬
‫الفهرس‪.............................................................................‬‬

You might also like