You are on page 1of 2

‫فلسفة سقراط العقلية ‪ -2‬فلسفة النفس‪:‬‬

‫‪ ‬اعرف نفسك‬
‫بدأ سقراط بأن كان نحاتًا كأبيه‪ .‬ولكن الميل إلى الحكمة اشتد به في سن مبكرة‪ ،‬بتأثير‬
‫األوساط الفيثاغورية واألورفية بأثينا‪ ،‬فأخذ يغذي عقله ويهذب نفسه‪ ،‬وقد فهم الحكمة على أنها‬
‫كمال العلم لكمال العمل‪ .‬لقد وضع سقراط خالصة الفلسفة كلها في عبارته الموجزة الشهيرة‪:‬‬
‫"اعرف نفسك" ‪gnowthi seauton‬؛ فمن النظر إلى العالم بصورة موضوعية (أي الطبيعة)‬
‫يجب أن ننتقل إلى دراسة الذات (أي النفس)‪ ،‬وعلى هذا النحو يكون سقراط قد أنزل الفلسفة من‬
‫السماء إلى األرض‪ .‬ويجب أن نالحظ أن في هذا ثورة‪ ،‬ألن الحكمة التقليدية تقوم على التلقين‬
‫والتلقي‪ ،‬كذلك فإن هذا المبدأ هو تأكيد ألهمية الفرد‪ ،‬وهذه خاصية عامة للنصف الثاني من‬
‫القرن الخامس قبل الميالد‪ .‬إن العلم الحقيقي عند سقراط هو العلم بالكلي‪ ،‬أي العلم بالماهيات‪،‬‬
‫موجودا في النفس‪ ،‬فيجب علينا أن نلتمس في النفس‬
‫ً‬ ‫كما سبق وأن شرحنا‪ ،‬وكان العلم بالكلي‬
‫إذن العناصر الالزمة إلقامة صرح العلم‪ -‬كل علم‪ .‬ولما كان العلم الحقيقي عند سقراط هو علم‬
‫النفس ال علم الطبيعة‪ ،‬وكان علم اإلنسان ينبثق من النفس اإلنسانية‪ ،‬فإن المعرفة الحقيقية هي‬
‫معرفة النفس اإلنسانية؛ اعرف نفسك بنفسك معناها أن يبحث المرء بعقله ويغوص في أعماق‬
‫نفسه فيعلم أنها مستقر العلم والحقيقة ومنشأ األخالق‪ :‬قمة العلم والحقيق‪.‬‬

‫إن معرفة النفس تؤدي إلى معرفة قواها وميولها‪ ،‬وهذا هو موضوع علم النفس‪.‬‬
‫ومعرفة النفس تؤدي إلى معرفة جوهرها وأصلها ومصيرها‪ ،‬وهذا هو موضوع علم ما وراء‬
‫الطبيعة‪ .‬ومعرفة النفس تؤدي إلى معرفة قوانين التفكير الصحيح وترشد إلى الصواب‪ ،‬هذا هو‬
‫موضوع المنطق‪.‬‬
‫ومعرفة النفس تؤدي إلى معرفة طرق سلوكها وفًقا لما توحي به طبيعتها الخاصة‪ ،‬وهى‬
‫طبيعة الحق والخير والجمال‪ ،‬كيف ال وهى مستقر الوجود العقلي‪ ،‬أصل كل حق وخير وجمال!‬
‫وهذا هو موضوع علم األخالق‪.‬‬
‫لقد كانت شخصية سقراط أغنى من أن يقنع بمجرد إصالح باطن‪ ،‬فال يطمح إلى نشر‬
‫متوحدا‪ ،‬وإنما يطلب الحياة مع الناس وللناس‪ ،‬هؤالء‬
‫ً‬ ‫حكمته فيما حوله؛ فهو ال يريد أن يحيا‬
‫الناس الذين يصبوا إلى أن يعلمهم أثمن ما تعلمه‪ :‬السيطرة على النفس‪ ،‬وليست النفس عند‬
‫سقراط هى مجرد "مبدأ الحياة"‪ ،‬بل هى أهم من ذلك‪ ،‬هى "الذات األخالقية"‪.‬‬
‫دفعا نحو اآلخرين‪ ،‬كان سقراط يستشعرها رسال ًة إلهي ًة‪،‬‬
‫هذه القوة الداخلية التي تدفع به ً‬
‫(الديمونيون) وما كان ذلك العصر يعدم رجاالً‪ ،‬من أمثال "يوثيفرون" الذي تكلم عنه أفالطون‪،‬‬
‫يداخلهم األيمان بأنهم على صلة خاصة باآللهة‪ .‬ويبدو أن سقراط بوجه خاص استشعر في نفسه‬
‫الحضور اإللهي من خالل ذلك الصوت اإللهي الشهير (الديمونيون)‪ ،‬أو باألحرى ذلك الصوت‬
‫الداخلي الذي كان يكشف له‪ ،‬في الحاالت التي تقف فيها الحكمة البشرية عاجزة عن التنبؤ‬
‫بالمستقبل أو توقعه‪ ،‬عن األفعال التي ال يجوز له أن يأتيها‪.‬‬

‫‪ ‬أدلة خلود النفس‬


‫فيما يتعلق بخلود النفس‪ ،‬فعلى الرغم من أن أفالطون يصور سقراط وهو يبحث فيما إذا‬
‫كان الموت يعني نهاية كل شيء أم ال‪ ،‬إال أن سقراط يؤمن بما ال يدع مجاالً للشك بخلود‬
‫النفس‪ .‬ويعطينا سقراط بعض األدلة المنطقية على خلود النفس‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إن الحياة تحدث عن الموت‪ ،‬كما يحدث الموت عن الحياة وكذلك بالنسبة لسائر‬
‫األضداد‪( .‬دليل تضاد الحياة مع الموت)‪.‬‬
‫‪ -2‬ومنها أن النفس‪ ،‬لما لم تكن مركبة على غرار الجسد‪ ،‬يستحيل أن تنحل كما ينحل‬
‫الجسد عن الموت‪( .‬دليل بساطة النفس وتركيب الجسد)‪.‬‬
‫‪ -3‬ومنها أنها من عنصر غير منظور وغير متحول‪ ،‬فلم تكن عرضة للكون والفساد‪( .‬دليل‬
‫طبيعة النفس المكونة من عنصر إلهي غير منظور ال يفسد)‪.‬‬

‫ويخلص سقراط في معرض مقارنة النفس والجسد إلى القول‪" :‬إن النفس هي أشبه ما يكون‬
‫بما هو إلهي وخالد وعقلي ومتجانس وغير قابل لالنحالل ومتناغم وغير متحول قط‪ ،‬بينما الجسد‬
‫هو أشبه بما يكون بما هو بشري وفان ومتعدد األشكال وغير معقول ومنحل وغير متناغم قط"‪.‬‬
‫" وهكذا فهذه النفس‪ ،‬وهى الغير مرئية‪ ،‬التي تذهب إلى ذلك العالم اآلخر المشابه لها‪ ،‬النبيل‬
‫الطاهر النقي غير المرئي‪ ،‬إلى العالم الذي ال تبلغه األنظار حقيقة‪ ،‬إلى جوار إله طيب وحكيم‪،‬‬
‫أيضا بعد قليل‪ ،‬إن شاء اإلله (هكذا يخاطب سقراط محدثيه كيبيس‬
‫إلى حيث ستذهب نفس أنا ً‬
‫وسيمياس متسائالً مستنك اًر) ‪ ،‬هذه النفس التي لنا إذن والتي هى هكذا وعلى هذه الطبيعة‪ ،‬هل‬
‫هي التي ستتبعثر في الهواء؟!‪ ،‬وتفنى فور مغادرتها الجسد؟! كما تقول الغالبية من الناس؟ ما‬
‫أبعد هذا !‪ ،‬يا صديقي كيبيس وأنت يا سيمياس"‪.‬‬

You might also like