Professional Documents
Culture Documents
يوسف الزيوت
Abstract
This research aims to exploring the theological perspective toward the
phenomenon of high expenses in our present times. This research presents also the
methodological view. It explains the material and spiritual reasons, which lead to
unusual increase of prices with taking into consideration the theological reasons for this
issue.
المقدمة:
يشهد العالم في هذه الحقبة الزمنية المعاصرة ظواهر متعددة في مختلف المجاالت ،منها ظاهرة الغالء واالرتفاع
الفاحش في أسعار السلع والحاجات االستهالكية ،حتى ضاق الناس من ذلك ذرع اً ،وصار الحديث عن البيع والشراء،
والغالء واالرتفاع المتزايد لألسعار الشغل الشاغل للناس بكافة شرائحهم االجتماعية ،ناهيك عن مظاهر االهتم ام الذي
تبديه وس ائل اإلعالم على ش كل ن دوات ،ومحاض رات ،ولق اءات مع مفك رين ومحللين وب احثين اقتص اديين وغ ير
اقتص اديين لبحث األس باب والعوامل ال تي أدت وت ؤدي إلى رفع األس عار وزي ادة ثمن الس لع ،وك ذلك بحث االنعكاس ات
والنت ائج الس لبية ال تي خلفتها ه ذه المش كلة ،ومن ثم البحث عن الوس ائل واألس اليب والط رق ال تي يمكن أن تس هم في الحد
من هذه المشكلة والتخفيف من ويالتها.
وقد غفل كث ير من المنظ رين والمفك رين والب احثين -ناهيك عن العامة من الن اس -عن حقيقة ه ذه المش كلة وكيفية
التعام ل ،الص حيح معه ا ،وظنوها مج رد مش كلة ذات أبع اد وأس باب مادية بحت ة ،تتعلق ب الكثرة الس كانية ،وقلة الم وارد،
والكوارث الطبيعية ،وسوء االستهالك ،وغير ذلك من العوامل المادية ،التي ال شك أن لها تأثيرها ودورها في المشكلة،
غ ير أن األمر من وجهة نظر العقي دة اإلس المية ال تقف عند ه ذا الح د ،وال يصح تعليله وتفس يره به ذا التفس ير الم ادي
المحدود؛ فما يجري في هذا الكون من ظواهر مختلفة ال يقتصر على األسباب والمسببات المادية فقط ،بل هناك عوامل
وأس باب معنوية وأخالقي ة ،لها دورها وتأثيرها في ص نع األح داث .والعقي دة اإلس المية في نظرتها وتفس يرها لألم ور
واقعي ة ،وذات نظ رة ش مولية متكامل ة ،تجمع بين الم ادة وال روح ،أو الم ادي والمعن وي ،وال تف رق بين األم رين ،فتربط
273 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
األشياء بأسبابها الحقيقة كلها دون االقتصار على جانب من الجوانب ،أو على بعض األسباب دون غيرها ،كما تفعل كل
الفلسفات والنظريات والمذاهب المادية ،وغير المادية.
والغالء أو ارتفاع األسعار مشكلة معاصرة معقدة ظهرت نتيجة أسباب وعوامل أخالقية معنوية روحية ومادية ،ال
يصح عزل بعضها عن بعض ،أو إغفال بعضها وتحييده.
مشكلة الدراسة وأسئلتها:
تتمثل مش كلة ه ذه الدراسة في ربط الن اس الغالء باألس باب المادية البحت ة ،وب القوانين الدنيوية الص رفة والظ روف
الطبيعية الخالص ة ،وع دم انتب اههم لألس باب والعوامل المعنوية ال تي ال يقل أثرها المباشر عن أثر العوامل األخ رى،
وغفلتهم عن الق وانين والس نن الرباني ة ،وه ذه بحد ذاتها مش كلة ك برى في حي اة الن اس الي وم والواقع الم ادي المعاص ر.
ويمكن صياغة هذه المشكلة باألسئلة اآلتية:
-1ما هي أسباب الغالء في ضوء العقيدة اإلسالمية؟
-2هل يمكن النظر إلى هذه المشكلة من زاوية واحدة فقط؟
-3ما هي اآلثار السلبية المترتبة على الغالء؟
-4ما األساليب والوسائل التي جاءت بها العقيدة لمواجهة هذه المشكلة؟
وسيقوم الباحث باإلجابة عن هذه األسئلة من خالل مباحث الدراسة.
أهمية الدراسة:
تظهر أهمية الدراسة مما يأتي:
-طغيان النظرة العلمانية المادية الدنيوية المجردة لمشكلة الغالء ،وغياب النظرة ذات الروح اإليمانية
واألخروية الدينية.
-تعلق الناس باألسباب المادية الظاهرة لألشياء ،واعتقادهم أنها السبب األول واألخير في ظهور الحياة
ومشكالتها وظواهرها.
-تربط اإلنسان باهلل تعالى ،الذي هو مصدر التأثير والمنع والعطاء ،وأن حدوث األشياء مرهون بمشيئته وقدرته
وإ رادته وعلمه وحكمته تبارك وتعالى.
-تحذير الناس من الوقوع في المعاصي واآلثام ،والمخالفات الشرعية التي من شانها أن تؤثر في األرزاق
واآلجال والموارد والنعم ،وتعمل على ذهابها أو غالئها ورفع أسعارها ،وذهاب بركتها.
هدف الدراسة:
هدفت الدراسة إلى ما يأتي:
-الكشف عن الرؤية العقدية اإليمانية لظاهرة الغالء ،وتقديم التفسير العقدي لها ،مبينة منهج العقيدة في التعامل
مع هذه المشكلة ومثيالتها،
-بيان الوسائل واألساليب والتدابير الوقائية والعالجية التي جاءت بها العقيدة اإلسالمية في مواجهه هذه0
المشكلة.
-جعل اإلنسان بعامة والمسلم على وجه الخصوص متصالً باهلل تعالى ،وبالعقيدة اإليمانية الصحيحة ،ومزودا
بالنظرة الدينية السليمة لواقع المجتمعات في كيفية التعامل مع مشاكله جميعها.
الدراسات السابقة:
274
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
تعد ه ذه الدراسة به ذا الط رح جدي دة غ ير مس بوقة ،بدراس ات بحثية متخصص ة ،وذلك ألن ظ اهرة الغالء به ذه
الصورة التي هي عليها اليوم ،حديثة ومفاجئة ،وتكاد تكون نادرة في حياة األمم والشعوب ،فلم تعرف األجيال الماضية
غالء عاماً شامالً لكل متطلبات الحياة بغير استثناء ،ذلك َّ
أن الغالء كان يصيب سلعة من السلع أو مادة من المواد ،بحيث
لم يكن يش كل ظ اهرة تس تدعي البحث والدراسة ،ومن هنا فلم أجد س وى مق االت على ص فحات اإلن ترنت أش به ما تك ون
بالخواطر السريعة ،وهذا ما يجعل هذه الدراسة متميزة متفردة من جهة ،وضرورية من جهة أخرى.
منهج الدراسة:
يتبع الب احث في دراس ته المنهج الوص في الق ائم على وصف ظ اهرة الغالء وتحليلها وتق ديم النص وص الش رعية
الخاصة بمعالجة المشكلة ،مبيناً البعد العقدي لها بهذا الخصوص.
خطة الدراسة:
تكونت الدراسة من مقدمة ومبحثين وخاتمة .في المبحث األول :بيان أسباب مشكلة الغالء ،وآثارها السلبية ،وفي
بي ان النظ رة العقدية الدينية للمش كلة ،وفي المبحث الث اني :بي ان وس ائل العقي دة في مواجهة الغالء ،والحد من ارتف اع
األسعار.
275 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يرى كثير من الناس :عالمهم وجاهلهم أن ازدياد عدد سكان األرض وارتفاع نسبة المواليد ،وشح الموارد الطبيعية
ون درتها وع دم كفايته ا ،يش كل العامل المباشر والس بب ال رئيس في ب روز مش كلة الغالء وارتف اع األس عار على المس توى
الع المي ،بحيث ي زداد مس توى الطلب على الحاجي ات والم وارد ال تي يحتاجها اإلنس ان لحفظ بقائه وض مان عيش ك ريم
ومس توى من الرفاهي ة .وي رى ه ؤالء المنظ رون الم اديون أن الوضع ين ذر ب الخطر الكب ير على مس تقبل الع الم البش ري،
ذلك أنهم يتص ورون ع دم التناسب بين ع دد اآلكلين وبين ما يحتاجونه من مط الب ،وأن هن اك تفاوت اً ه ائالً بين مق دار
الطلب والعرض ،وكان (مالثوس) وهو أحد أشهر هؤالء ،حيث ادعى أن التزايد السكاني أعظم بدرجة غير معقولة ،من
م دى ق درة األرض على توفير مط الب العيش الك ريم ،لجميع أف راد المجتمع ،ف ادعى أن سكان الع الم يتزاي دون بنسبة أو
متوالية هندس ية ،بينما تزيد وس ائل العيش ومق درات األرض ال تي يحتاجها اإلنس ان بنس بة أو متوالية حس ابية مح دودة.
بمعنى أن قدرة اإلنسان على التكاثر تخضع في نموها لمتوالية هندسية )...،64 ،32 ،16 ،8 ،4 ،2 ،1( :بينما تخضع
الموارد الطبيعية في نموها وزيادتها لمتوالية حسابية بطيئة محدودة ).... ،7 ،6 ،5 ،4 ،3 ،2 ،1( :وهذا سيفضي إلى
الفقر والمجاع ات وغالء األس عار وارتف اع األثم ان ونض وب الم وارد ،ف راح ي دعو إلى تحديد النسل وتنظيمه والحد من
التوالدَّ ،
وشن هو وأنصار نظريته حرباً شعواء على التناكح والتكاثر والتناسل البشري ،وحذروا من عواقب ذلك ،ودعوا
إلى وضع تعليم ات من ش أنها التقليل من حجم المش كلة ،فش جعوا على ت أخير سن ال زواج ووفّ روا كث يراً من وس ائل منع
الحمل ،وشرعوا كل ما من شأنه أن يمنع خروج اإلنسان إلى الحياة الدنيا.
والعقل والشرع مع اً ال ينكران أن السعر والغالء والرخص له ارتباط وثيق الصلة بقاعدة العرض والطلب ،وأنه
كلما زاد الطلب وق َّل الع رض ارتفع الس عر وغال ثمن األش ياء ،وأن زي ادة ع دد الن اس يس هم في رفع أس عار األش ياء
خصوص اً في ب اب الكمالي ات والحاجي ات كما ق رره علم اء االجتم اع واالقتص اد ،غ ير أن ه ذا التص ور قاصر ج داً
ومحدود،فاإلنسان ليس مجرد أداة استهالك ،بل هو أيضاً أداة إنتاج ونماء وحيوية وتنمية ،وكلما زاد عدد أفراده وكثرت
حاجاته ومطالبه أمعن في التفك ير واالخ تراع والبحث واالس تثمار وال زرع واالتج ار والتط وير .انظر مقدمة ابن خل دون
ص .)1( 363-362
وه ذه النظ رة المادية يغيب عنها أن اهلل تع الى ق َّدر في األرض أق وات وأرزاق كل ما عليها من دواب وكائن ات
ض ِفي َي ْو َم ْي ِن َوتَ ْج َعلُ َ ون ِبالَّ ِذي َخلَ َ بشرية وغير بشرية في حاضرها ومستقبلها قال تعالىُ ﴿ :ق ْل َأِئ َّن ُك ْم لَتَ ْكفُُر َ
()
ون لَ ُه اَأْلر َ
ق ْ
ين﴾ لس<اِئ ِل َ
س< َواء لِّ َّ ِ ٍ ِ
يها َأق َْواتَ َها في َْأر َبعَة َأيَّام َ
ِ
يها َوقَد ََّر ف َ
ِ
َار َك ف َ
ِ ِ
يها َر َواس< َي من فَ ْو ِق َها َوب َ
ِ ب ا ْلعَالَ ِم َ
ين َو َجعَ َل ف َ ادا َذلِ َك َر ُّ
َأند ً
َ
ِ ٌّ ِ َّ ِإ ِ ِ ٍ ِ
س <تَْو َد َع َها ُك<<ل في اَألرض ال َعلَى اللّ<<ه ِر ْزقُ َها َو َي ْعلَ ُم ُم ْ
س <تَقََّر َها َو ُم ْ (فص لت ، )10-9 :وق ال تع الىَ ﴿ :و َما من َدآبَّة في ْ
ين﴾ (ه ود ،)2( )6 :وأن لإلس الم خططه ووس ائله وأس اليبه وتش ريعاته في التغلب على مش كلة الفقر وغالء ِك ٍ
تَاب ُّم ِب ٍ
األسعار ،كما سأوضحه الحق اً .ومما يؤكد خطورة هذا العامل وواقعيته ما تشير إليه الدراسات من أن الفجوة كانت بين
أفقر خمس سكان العالم وأغنى خمس فيه سنة1970م هي ( ،)30: 1وأصبحت في سنة 1990م ( ،)60: 1وزادت في
س نة 2000م ح تى وص لت إلى ( ،)3() 86: 1وأن 3من أغني اء أمريكا ث روتهم أك ثر من أفريقيا ال تي بها 600ملي ون
()4
نسمة
276
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
تضر بمقدرات الكرة األرضية ،وما يحتاجه سكانها في مجال الغذاء والشراب والمسكن والملبس وسائر حاجاته األساسية
ُّ
والكمالية ،مما يعمل على رفع األسعار وغالء األثمان.
وال شك أن العالم يشهد بين الحين واآلخر بعض هذه الكوارث والنوازل ،ولعل آخرها وأشهرها ما عرف بإعصار
تس ونامي في ع ام 2000م ال ذي خلف آث اراً س لبية خط يرة ،وانتش ار أم راض األنفل ونزا؛ والحرائق ال تي رافقت مواسم
الجفاف ،وكذلك الحرب المدمرة التي قامت بها أمريكا بمساعدة من الدول الغربية على العراق ومنطقة الشرق األوسط.
وتشير اإلحصاءات إلى أنه في الغرب عامة يقع في كل عام 40مليون جريمة إنسانية ،و أن هناك جريمة قتل واح دة تقع
في أمريكا كل 22دقيقة ،وحالة اغتصاب واحدة كل 5دقائق ،وحالة سرقة واحدة كل 49ثانية ،و 50ألف جريمة سرقة
تقع في أمريكا ش هريا ،و 2ملي ون جن دي طفل قتل وا في نزاع ات مس لحة في الف ترة من 2000-99م ،وبحسب منظمة
الصحة العالمية مات في سنة 200م بسبب االيدز 16مليون إنسان ويحمل المرض في العالم حوالي 33مليون انسان
في العالم ( .)5كل ذلك كان له – بال شك -دور بالغ األثر على أسواق السلع والحاجيات ورفع مستوى األسعار ،وبروز
ظاهرة الغالء على مستوى العالم التي يعاني من آثارها جميع سكان الكرة األرضية اليوم.
فه ذا عامل م ادي ال يمكن تجاهله أو إغفاله فالعقل والش رع يق ران ب ه ،ولكن المتربص ون ال ذين يس تغلون األح داث
والن وازل لتحقيق مط امعهم وزي ادة ث رائهم على حس اب غ يرهم ،فيعمل ون على رفع األس عار وإ ش اعة الغالء في األس واق
مستغلين الظروف واألحوال وحاجات الناس.
العامل الثالث :اإلسراف في االستهالك.
اإلسراف وتجاوز الحد المعقول ،وسوء االستهالك في مظاهره الكثيرة ،يعد عامالً مادي اً يسهم إسهاماً مباشراً في
ارتفاع أسعار السلع ،وغالء ثمن الحاجيات التي بها قوام حياة اإلنسان ،فالمالحظ على إنسان هذا العصر أنه مقبل على
اس تنزاف ملذاته الدنيوية بنهم وجشع وإ ف راط في جميع مظ اهر نش اطه س واء في أفراحه أو أحزان ه ،فال يح ده ح اد وال
يمنعه مانع ،ويدفعه نحو ذلك ما يتعرض له من أساليب دعائية في مختلف وسائل اإلعالم تغريه وتشجعه على اإلسراف
والتبذير واالستهالك المفرط ،وتحضه على تجاوز الحد المعقول في االنتفاع بكل ما هو متاح ،في حين أنه مأمور عقالً
وشرعاً باالعتدال واالقتصاد.
وقد صار مقياس الرقي والتقدم والحضارة في حياة اإلنسان المعاصر هو مقدار ما يستهلكه من الماء والكهرباء،
كما أشار إليه بعض المفكرين المعاصرين( )6مما أدى إلى ارتفاع أسعار الحاجات وتفشي الغالء في جميع مظاهر الحياة،
بسبب هذا اإلقبال المتزايد على االستهالك وحيازة األشياء .ومما يدل على قوة هذا العامل أنه وعلى سبيل المثال ،تشير
االحص اءات إلى إن حجم ما ينفق على الخم ور والكالب المنزلية في أروبا وأمريكا 200ملي ار س نويا ،بينما ال ينفق
على التعليم والصحة والغذاء في الدول النامية سوى 19مليار ،و 200مليار دوالر سنويا يستنزفها التدخين من اقتصاد
العالم(.)7
المسألة الثانية :التفسير العقدي لظاهرة الغالء.
إن ظ اهرة الغالء وارتف اع األس عار مع كونها ذات أبع اد وأس باب مادية وعوامل اقتص ادية كما س بق إال أنها ت ارة
تك ون نتيجة حتمي ة ،ومظه راً من مظ اهر الس نن اإللهية في الك ون لخ روج الن اس عن ش ريعة اهلل تع الى ،وطغي انهم
ض َر َب
وإ غراقهم في الذنوب واآلثام والمعاصي ،وكفرهم بنعم اهلل ،عقوبة إلهية وجزاء من جنس العمل .قال تعالىَ ﴿ :و َ
<وع وا ْلخَو ِ ِ ِ ِ ِ ِئ ِ
ف اس ا ْل ُج< ِ َ ْ ان فَ َكفََر ْت ِبَأ ْن ُعم اللّه فََأ َذاقَ َها اللّ ُه ل َب َ اللّ ُه َمثَالً قَ ْر َي ًة َكا َن ْت آم َن ًة ُّم ْط َم َّن ًة َيْأت َ
يها ِر ْزقُ َها َر َغ ًدا ِّمن ُك ِّل َم َك ٍ
فَرتُ ْم ِإ َّن عَ َذا ِبي ِئ َأذ َن َر ُّب ُك ْم لَِئ ن َ
ون﴾ (س ورة النح ل ،)112 :وق ال تع الى﴿ :وِإ ْذ تَ َّ
ي<د َّن ُك ْم َولَ ن َك ْ ش َك ْرتُ ْم ِ
َألز َ َ ص َن ُع َ ِب َما َكا ُنواْ َي ْ
يد﴾ (سورة إبراهيم .)7 :وتكون تارة أخرى ابتالء وتمحيص اً واختباراً لإلنسان ليميز اهلل تعالى الخبيث من الطيب. ش ِد ٌ
لَ َ
277 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
278
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
279 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمحلية هنا وهن اك .إنها بحق ح رب إلهية على البش رية كما ق ال تع الى﴿ :فَِإ ن لَّ ْم تَ ْف َعلُ< <<واْ فَْأ َذ ُنواْ ِبحَ ْر ٍب ِّم َن اللّ< < ِ<ه
س<<وِل ِه﴾ (س ورة البق رة .)279 :والمؤسف حق اً أن البش رية ب الرغم من كل ه ذه ال ويالت ،فإنها متمادية في باطله ا، َو َر ُ
مصرة على رفضها لشريعة السماء.
-4االبتالء واالختبار:
كما يك ون الغالء وارتف اع األس عار عقوبة إلهية نتيجة ال ذنوب والمعاصي وكفر النعم ة ،وع دم اإليم ان باهلل على
الوجه الصحيح ،وعدم تحكيم شريعة اهلل ،فقد يقع ابتالء واختباراً وامتحان اً من اهلل تعالى للعباد ،تحذيراً وتنبيه اً وتذكيراً،
فال دار ال دنيا دار اختب ار وابتالء ،ومن حكمة اهلل ورحمته وعدل ه ،أنه ال يأخذ الن اس إال بعد أن يبتليهم ويخت برهم ،فهو
يتعهدهم بين الحين واآلخر بوسائل االختبار واالبتالء.
وأس اليب وأش كال االبتالء واالختب ار كث يرة متنوع ة ،فكما يبتلي اهلل تع الى ،عب اده ب وفرة النعم ،واتس اع األرزاق
ووفرة الغنى والصحة والمال والسلطان ،يبتليهم بنقصان الرزق وقلة ذات اليد ،وذهاب الولد ،وقد يكون بغالء األسعار
وارتف اع ثمن الحاج ات فهو تع الى وتب ارك ،العليم الحكيم يقبض ويبسط وهو المس عر الم دبر يخفض ويرفع بي ده مقاليد
سَو ِال َواألنفُ ِ <وع َو َن ْق ٍ
ص ِّم َن اَألم َ ش < ْي ٍء ِّم َن ا ْلخَ ْ
وف َوا ْل ُج< ِ األم ور وهو على كل ش يء حفي ظ .ق ال تع الىَ ﴿ :ولَ َن ْبلُ< َ<و َّن ُك ْم ِب َ
ين﴾ (سورة البقرة )155 :فليس الغالء دليالً على النقمة والعقاب الرباني وغضب الخالق دائم اً، الصا ِب ِر َ
ش ِر َّ والثَّمر ِ
ات َو َب ِّ َ ََ
وإ نما قد يكون من باب آخر ،هو باب االبتالء والتحذير واالختبار ،حتى يبقى اإلنسان على صلة باهلل تعالى ،فال يغتر بما
في يديه ،وال يركن إلى قدرته وغناه ،فيبقى دائم الصلة باهلل مؤمناً به متوكالً عليه يرجو رحمته ويخشى عذابه.
ومن األدلة على أن غالء األس عار يك ون ابتالء واختب اراً في ح ال اإليم ان والص الح والتق وى ،ما ح دث في ت اريخ
الدولة اإلسالمية ،ففي عهد النبي كما في الخبر عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه أن الناس شكوا الغالء إلى رسول اهلل
فقالوا :يا رسول اهلل غال السعر فسعر لنا .فقال رسول اهلل ( :إن اهلل هو المسعر القابض الباسط الرازق)( .)11وكذلك ما
حدث في عهد عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه حيث شكا الناس إليه ارتفاع سعر اللحم .فقال لهم :أرخصوه أنتم .فقالوا:
كيف نرخصه وهو في أي ديهم؟ فق ال :اترك وه لهم .وه ذا ما يع رف الي وم بأس لوب المقاطعة( .)12وهك ذا تفسر العقي دة
اإلسالمية الغالء وارتفاع األسعار ،تفسيراً إيماني اً ،وتربطه بسلوك اإلنسان من جهة ،وبالحكمة اإللهية من جهة أخرى،
إلى جانب إقرارها بدور وتأثير األسباب والعوامل المادية.
المسألة الثالثة :اآلثار السلبية للغالء.
للغالء والفقر آثار ونتائج وانعكاسات سلبية على األفراد والمجتمعات ،ويمكن ربط كل مظاهر الخلل واالض طراب
في المجتمع بالغالء نظراً الرتباطه بحاجات اإلنسان الضرورية ،وغير الضرورية في مختلف مجاالت حياته ،فالمشاهد
أن الوضع الع ام لإلنس ان في ح االت ال رخص وت وفر المط الب ،يتسم باله دوء واالس تقرار والراحة والطمأنينة واألمن
والتفاهم والتواصل والمحبة بين الناس ،إلى غير ذلك من المظاهر المعبرة عن السعادة والفرح والسرور واالرتياح الذي
طالما ك ان اإلنس ان ينش ده ويبحث عنه في ك ده وعمله وس عيه في األرض ،بينما تجد الوضع على عكس ذلك وخالفه
تمام اً ،في ح ال الغالء والفقر وارتف اع األثم ان ،وقلة الم وارد ،كما هو المش اهد على واقع المجتمع الع المي المعاصر في
الفترة األخيرة التي اضطربت فيها قاعدة االقتصاد العالمي ،وفشا فيها الغالء بصورة فاحشة ،وغير مسبوقة في التاريخ
على المستوى العالمي ،بحيث شمل كل حاجات اإلنسان ومطالبه ،ولم يقتصر على نوع أو بعض أنواع محدده :كارتفاع
ثمن اللحم أو الخبز أو الزيت أو شيء غير ذلك ،كما كان يحصل في العهود الماضية ،مما ترك أثراً بل آثاراً سلبية حادة
على اإلنسان ،مما قد ال يتصور حجمها وال تحصى مظاهرها ،وال تقدر أضرارها ومخاطرها.
280
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
وقد حاولت في هذه المسألة أن أبين أهم وأبرز هذه اآلثار والنتائج ،لبيان مدى حجم المشكلة ومقدار ضررها على
المجتمع بعامة ،وألفت نظر الجهات المعنية إلى التنبه لهذا األمر والتصدي لهذه المشكلة ،من أجل وضع الحلول المناسبة
التي تسهم في التخفيف من ويالتها وانعكاساتها السلبية ،وأهمها:
-1انتشار الجريمة ومظاهر العنف:
من أهم ما يمكن ذكره من اآلثار السلبية لمشكلة الغالء هو انتشار مظاهر جرائم القتل ،وفي مقدمتها إقدام اإلنسان
على قتل نفسه كما يع رف باالنتح ار.فمن الالفت للنظر في الع امين الماض يين -وهما قمة الغالء -أن نس بة االنتح ار
عالمي اً ومحلي اً قد تضاعفت ،وتزايدت أعداد المنتحرين من كل الفئات العمرية وخصوص اً الشبابية من الذكور واإلناث،
فقد حفلت الص حف ووس ائل اإلعالم المختلفة برصد ع دد كبير من مح اوالت االنتح ار س واء نجحت أو فش لت ،ولم تصل
إلى حد الموت ،وعند البحث عن األسباب والدوافع وراء هذه الجريمة البشعة ،التي ُّ
تعد من أعنف أنواع الجرائم -تبين
أن قسماً كبيراً منها كان الدافع هو الفقر ،والغالء وعدم المقدرة على تلبية المطالب الحياتية كما صرح بذلك أصحابها ،أو
تبين من دراسة أحوالهم وأوضاعهم المالية واالقتصادية.
فعلى مستوى األردن نقلت الصحف المحلية ،وكشفت األجهزة األمنية في األشهر الستة الماضية عن عدد كبير من
مح اوالت االنتح ار ،ك ان ال دافع ال رئيس في أكثرها هو الوضع االقتص ادي والم الي ،أي الغالء وارتف اع األس عار ،مما لم
يكن معهوداً في األعوام الماضية.
-2انتشار السرقة بمختلف صورها:
ال يخلو المجتمع البش ري ح تى في األوض اع الطبيعية من ح االت الس رقة ،ف إن اإلنس ان بشر ت دعوه نفس ه ،ويغريه
شيطانه أن يعتدي على أمالك الغير ،فيسرق لسبب أو آلخر ،حتى مجتمع الصحابة رضي اهلل عنهم في المدينة المنورة لم
يخل من حاالت السرقة وإ ن كانت محدودة ومعدودة جداً ،وقد وقف اإلسالم من السرقة واالعتداء على أمالك الغير موقف اً
ق
ار ُالس ِ
صارماً فوضع لها عقوبة رادعة حفاظ اً ألمن المجتمع وصيانة ألموال أفراده ،وتأديبا للمعتدين .قال تعالىَ ﴿ :و َّ
س َبا َن َكاالً ِّم َن اللّ ِه﴾ (س ورة المائدة .)38 :والمالحظ أن حاالت السرقة تتض اعف ِ
ط ُعواْ َْأيد َي ُه َما َج َزاء ِب َما َك َ الس ِ
ارقَ ُة فَا ْق َ َو َّ
في األحوال والظروف غير الطبيعية ،من أبرزها في حال الغالء وارتفاع األسعار وأوقات المجاعة والفقر والحاج ة ،وقد
ظهر ه ذا جلي اً في اآلونة األخ يرة منذ ب دأت األزمة المالية االقتص ادية العالمي ة ،حيث ازدادت ح االت الس رقة بأش كالها
المتع ددة من :النش ل ،واالختالس ،وقطع الط رق والس طو على البن وك والمح ال التجارية والمص ارف المالية
والمج وهرات ،بل والمن ازل وال بيوت وغيره ا .وال تنس أس اليب النصب واالحتي ال واالس تدراج ال تي مارس تها جه ات
كثيرة تحت شعار االستثمار والمرابحة واالتجار ،وهو ما عرف بنظام البورصة الذي انتهى باختالس أموال أعداد هائلة
من أبناء المجتمع على المستوى العالمي ،تبين أن الغالء وارتفاع نسبة األرباح الوهمية كانت السبب المفعل لها والمروج
النتشارها.
-3االعتداء على أمالك الدولة والمرافق العامة:
لم يقف أمر الس رقة بأش كالها ومظاهرها المختلفة عند دائ رة الممتلك ات الخاصة ألف راد المجتمع فيما بينهم ،ولكن
األمر قد امت َّد إلى االعت داء على األمالك والمرافق العامة للدول ة ،ب النهب والس طو واالغتص اب واالختالس،حيث س رقت
مقتنيات كثير من لمدارس والجمعيات الخيرية ،وصناديق التبرعات في المساجد ،ناهيك عن سرقة األموال من صناديق
مؤسس ات الدولة الرس مية من دوائر ووزارات ومؤسس ات الض مان االجتم اعي وض ريبة ال دخل ....الخ .بل إن ه ذه
المظ اهر الس لبية امت دت إلى ما في الش وارع العامة من خ دمات :كأغطية مناهل الص رف الص حي ،وأس الك الكهرب اء
281 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واله اتف ،وأن ابيب المي اه ،وحاوي ات القمام ة ،وكل ما يمكن أن يش رى أو يب اع ،مما لم يكن معروف اً فيما قبل حالة الغالء
التي حلَّت بالعالم في األعوام األخيرة ،مما يكلف ميزانية الدولة نفقات إضافية باهظة لم تكن متوقعة.
-4اتساع نطاق ظاهرة البطالة وما يرافقها من مظاهر سلبية:
وثمة أمر آخر ينذر بالخطر رافق مشكلة الغالء وارتفاع األسعار ،وهو تفشي ظاهرة البطالة ،وندرة فرص العمل
المنتج ال ذي يسد حاجاته الع املين ويفي بمتطلب اتهم .فقد ازدادت أع داد الع اطلين على العمل في اآلونة األخ يرة ال ذين لم
يج دوا العمل أو لم يج دوا العمل المناسب مما دفعهم إلى االنط واء والي أس والجل وس في ال بيوت مما يزيد المش كلة تعقي داً
وسوءاً ويولد مضاعفات نفسية وصحية واجتماعية في قطاع الشباب.
-5انتشار األمراض النفسية:
ومما يترتب على الغالء وارتفاع األسعار ،اختالل الصحة النفسية لعدد كبير من أفراد المجتمع ،والصحة النفسية
لإلنس ان تش كل مرتك زاً كب يراً ،في الحي اة ،وأنها ال تقل خط راً بل لعلها أهم من الص حة العض وية لإلنس ان ،وقد أثبت
الدراس ات واألبح اث ارتف اع ع دد الح االت المرض ية ال تي تراجع العي ادات النفس ية ،واألخص ائيين النفس يين ال ذين يقف ون
ع اجزين عن تق ديم العالج ،بل لربما زادوا األمر س وءاً بس بب أن واع األدوية المهدئة ال تي يص فونها لم راجعيهم .وهن اك
ح االت مرض ية أخ رى ال تق در على دفع أج رة األخص ائي النفسي تبقى ح ائرة مض طربة ال تجد مخرج اً مما تعاني ه ،قد
يصل بها الحال إلى اليأس من الحياة ،فتلجأ إلى مظاهر سلوكية منحرفة ربما وصلت َّ
حد االنتحار.
ابن خلدون ،عبد الرحمن بن محمد ،المقدمة ،دار القلم ،بيروت ،ص 363-362 ()1 1
انظر :العوضى ،رفعت السيد ،عالم إسالمي بال فقر ،كتاب األمة ،كتاب األمة ،عدد 79رمضان 1421هـ ،السنة ()2 2
2002م ،ص116
جريدة الرياض26/2/1423 ، ()4 4
الفتالوي ،العولمة وآثارها في الوطن العربي ،عمان ،دار الثقافة ،ط2009 ، 1م ،ص ، 299وجريدة عكاظ 26 ()5 5
يونيو 2006م ،و بالست ،غريق ،أفضل ديموقراطية يمكن للمال شراؤها ترجمة :مركز التعريب والبرمجة ،بيروت ،الدار
العربية للعلوم ،دط ،ص.150
قطب ،محمد ،في النفس والمجتمع ،دار الشروق ،القاهرة ،ط5،1980م ،ص ،90و أبو السعود ،محمود ،خطوط (?) 6
ص73-57
أبو داود ،السنن ،في اآلداب ،108دار الحديث ،حمص ،ط1969 ،1م ، ،والنسائي ،السنن ،في الزكاة،72 ، (?) 9
أبو داود ،السنن ،في البيوع 49و ، 51وأحمد ،المسند ،ج ،3ص.85 (?) 11
مع شيوع نسبته إلى الخليفة عمر رضي اهلل عنه ولكنه مروي عن إبراهيم بن ادهم .انظر :ابن عساكر، (?) 12
تاريخ دمشق ،ج ،6ص ،282وابن كثير ،البداية والنهاية ،ج ، 10ص145
282
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
283 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واضطراب العالقات الزوجية واألسرية ،ومن جهة أخرى عجز كثير من األزواج عن تلبية حاجت الزوجة واألوالد من
متطلبات بسبب ارتفاع أسعارها ،مما ساهم في نشوب خالفات وخصومات زوجية وعائلية.
انتشار ظاهرة بيع الممتلكات والعقارات واألراضي: -11
ومن اآلث ار الس لبية للغالء أو ب رزت في المجتمع ظ اهرة خط يرة ج داً حيث توجه ع دد كب ير من الن اس ل بيع بعض
ممتلكات بيوتهم أو عقاراتهم السكنية ،أو ما يملكون من األراضي نتيجة ارتفاع أثمانها بقصد االتجار بما يحصلون عليه
من أسعار عالية ،أو بقصد التوسع في مظاهر الزينة والكماليات ،وقد انقلبت األمور عكسياً حيث إن كثيراً ممن تصرفوا
ه ذا التص رف قد فش لوا في االس تثمار فخس روا ممتلك اتهم واألم وال ال تي حص لوا عليه ا ،كما ح دث مع ال ذين اتج روا من
خالل ما ع رف بنظ ام البورص ة ،حيث تع رض كث ير منهم لإلفالس ،س واء أك انوا أف راداً ع اديين أم رأس ماليين وش ركات
استثمارية.
انظر :العوضى ،رفعت السيد ،عالم إسالمي بال فقر ،ص .39-38 (?) 13
284
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
كل ما سبق من مظاهر وانعكاسات ونتائج وآثار سلبية يشكل خطراً كبيراً جداً على الحالة األمنية للدولة ،وينذر
ب الخطر ال ذي يته دد األنظمة الحاكم ة ،مما يجعل أجه زة الدولة بجميع جهاتها المعنية في اس تنفار وت أهب دائم ،وت رقب
وح ذر دائم ،ناهيك عن التك اليف و النفق ات المالية ال تي تنفق في ه ذه الحال ة ،مما يثقل كاهل الميزانية العامة للدول ة،
ويض طرها إلى االق تراض من جه ات خارجية كالبنك ال دولي أو غ يره ،لسد العجز وتوف ير الخ دمات ،ودعم التنمية ال تي
توقفت بسبب هذه الحالة ،وقد يتسع نطاق ذلك فيصل إلى حد سقوط النظام الحاكم ،فإن ثورات الجوع والفقر على مدى
التاريخ كانت سبباً في انهيار أنظمة وممالك.
وهكذا يظهر لنا حجم هذه المشكلة ،ومدى خطرها وضررها على اإلنسان ،بل والحيوان كذلك على حد سواء ،مما
ي دعونا إلى وج وب األخذ بكل األس باب ال تي تح ول دون الغالء ،وتخفف من غلوائه وتمكن ه ،وقد ك ان للعقي دة اإلس المية
وسائلها وأساليبها في مواجهة الغالء والحد من ارتفاع األسعار ،كما سأوضحه بعون اهلل تعالى ،في المبحث الثاني.
الترمذي ،السنن ،كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة مال اليتيم ،ج 3ص ،32رقم .641 (?) 15
285 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري ،الصحيح ،كتاب الحرث والمزراعة باب ما كان من أصحاب النبي يواسي بعضهم بعضاً ،ج 5ص .22 (?) 16
انظر :البخاري ،الصحيح ،كتاب الحرث والمزارعة باب من أحيا أرضا ميتة ،ج ، 5ص ،1359أبو داود ،السنن، (?) 17
ج ،3ص ،454حديث رقم 3077كتاب الخراج واإلمارة والفيء بابا إحياء الموات.
البخاري ،الصحيح ،كتاب الزكاة باب قوله تعالى( :ال يسالون الناس إلحافاً) ج ،3ص.341 (?) 18
الدارمي ،السنن ،كتاب األضاحي باب من قتل شيئاً من الدواب عبثا ً،ج ،2ص .84 (?) 19
286
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
(س ورة الحدي د ،)18 :وق ال تع الى﴿ :فإن كان ذو عس<رة فنظ<<رة إلى ميس<<رة﴾ (س ورة البق رة .)280 :بل وهن اك ما هو
أعظم من اإلمهال واإلنظار هو أن يسقطوا قسماً من الدين ويكتفوا بسداد بعضه ،أو أن يعفوهم إعفاء كامالً ،فما نقصت
(م ْن انظر معس راً أو ت رك له ،حاسبه اهلل حساباً يسيراً)
صدقة من م ال وما زاد اهلل عبداً بعفو إال ع زاً .ق ال الرس ول َ :
( .)20وفي ح ديث المس رف فيمن ك ان قبلنا من ح ديث حذيفة رضي اهلل عنه أنه (حوسب فلم يجد له لحس نة ،فقيل ل ه :هل
عملت خ يراً ق ط؟ ق ال :ال .إال أني كنت رجالً أداين الن اس .ف أقول لفتي اني س امحوا الموسر وأنظ روا المعس ر .فق ال اهلل
تعالى :نحن أحق بذلك فتجاوز اهلل عنه وغفر له)(.)21
ذم اإلسراف والتبذير والدعوة إلى االقتصاد واالعتدال ومدحه: -4
ومن أساليب العقيدة ووسائلها في مواجهة الغالء والحد من ارتفاع األسعار ،دعوة الناس إلى االقتصاد واالعتدال
في النفقات والمص ارف واستعمال األشياء ،وذم اإلسراف والتبذير ووصف المبذرين ب أنهم إخ وان الش ياطين .فاإلنسان
م دعو إلى االس تفادة من كل المباح ات والطيب ات بغ ير س رف وال مخيل ة ،وال تقت ير أو مبخل ة ،ح تى في دائ رة اإلنف اق
آتوالتطوع في القربات والصدقات .والنصوص من الكتاب والسنة في هذا المجال وافرة واضحة الداللة .قال تع الى ﴿و ِ
َ
ان ِل َر ِّب ِه
ط ُ َان َّ
الش< ْي َ الش<ي ِ
اط ِ
ين َوك َ ان َّ َ يرا {ِ }26إ َّن ا ْل ُم َب ِّذ ِر َ
ين كَا ُنواْ ِإ ْ<
خ َو َ ِّ ِ
الس ِبيل َوالَ تَُبذ ْر تَ ْبذ ً س ِك َ
ين َو ْاب َن َّ ِ ِ
َذا ا ْلقُْر َبى َحقَّ ُه َوا ْلم ْ
<ورا﴾ (س ورة اإلس راء ،)27-26 :وفي الح ديث قوله عليه الص الة والس الم( :ما ع ال َم ْن اقتص د) ( .)22فه ذه اآلي ات
َكفُ< ً
واألح اديث وما في معناها كلها ت أمر باالقتص اد وت دعو إلى االعت دال ،وتح ذر من اإلس راف والتب ذير وال شك أن مراع اة
ذلك يسهم في ضبط استهالك األشياء ،ويعمل على وفرتها بين أيدي الناس ،وبالتالي يحافظ على رخص أسعارها وعدم
ارتفاعها وغالئها.
ومن أجل تحقيق ه ذه الغاية وغيرها من المقاصد ن ذكر بعض اإلرش ادات والتوجيه ات والمس تحبات ال تي دعت
العقي دة إلى مراعاته ا ،بحيث تس هم في عملية ض بط األس عار ومحاربة الغالء والتخفيف من آث اره وس لبياته ولو بالق در
القليل .فمنها:
في مجال الطعام والشراب وآدابهما :جاء:
-التسمية والحمد وما في ذلك من البركة.
روى البخ اري من ح ديث عمر بن أبي س لمة ق ال :كنت في حجر رس ول اهلل ،وك انت ي دي تطيش في الص فحة
سم اهلل وكل بيمينك ،وكل مما يليك ،قال .فما زالت تلك طعمتي)(.)23
فقال لي (:يا غالم ِّ
وروى ابن حي ان عن ابن عب اس رضي اهلل عنه في قصة الطع ام الذي صنعه أبو أي وب األنص اري رضي اهلل عنه
للرسول وبعض من كان معه من الصحابة .قال صلى اهلل عليه وسلم (إذا أصبتم مثل هذا فضريتم بأيديكم فقولوا :بسم
اهلل ،وإ ذا شبعتم فقولوا الحمد اهلل الذي هو أشبعنا وأنعم علينا)(.)24
-كراهية اإلكثار من األكل حتى الشبع.
ابن ماجة ،الحافظ أبو عبداهلل محمد بن يزيد ،السنن ،كتاب الصدقات ،تعليق محمد فؤاد عبدالباقي ،المكتبة العلمية، (?) 20
البخاري ،الصحيح ،باب التسمية على الطعام ج 5ص 2056رقم .5061ومسلم ،الصحيح ،باب آداب الطعام (?) 23
287 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روى لحاكم عن المقداد بن معدي كرب الكندي رضي اهلل عنه قال :سمعت رسول اهلل يقول( :ما مالً آدمي وعاء
شراً من بطنه .حسب ابن آدم ثالث آكالت يقمن صلبه ،فإن كان ال محالة فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه)(.)25
وال شك أن اتب اع ه ذا المنهج النب وي يس هم في ض بط اس تهالك أن واع األطعمة واألش ربة ويعمل على توفره ا،
ورخص أسعارها إلى جانب حفظ الحالة الصحية والبدنية لإلنسان من التخمة والسمن والبدانة المفرطة وأمراض المعدة
مما يش كو منه كث ير من الن اس الي وم ،مما ي ترتب عليه عجز عن القي ام باألعم ال واإلنت اج ف يزداد الغالء وتتض اعف
األسعار.
-أكل فتات المائدة ولعق األصابع والقصعة قبل غسلها بالماء.
ومن آداب الطعام والشراب :أن اإلنسان إذا أكل فشبع وحمد اهلل تعالىُّ ،
يسن له أن يلعق أصابعه ويمسح القصعة،
وأن يجمع فت ات ما تس اقط من الطع ام ،وإ ذا س قطت اللقمة أن يأخ ذها ،ويميط عنها األذى وال يتركها للش يطان ،ف إن ذلك
أدنى لتحصيل بركة الطعام .وفي هذا الباب روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي اهلل عنه أن النبي قال( :إذا أكل
أحدكم فال يمسح يده حتى يلعقها أو ُيْل ِعقَها)( .)26وروى مسلم بسنده عن أنس رضي اهلل عنه أن رسول اهلل ( كان إذا أكل
طعام اً لعق أص ابعه الثالث ق ال وإ ذا س قطت لقمة أح دكم فليمط عنها األذى وليأكلها وال ي دعها للش يطان ،ف إنكم ال ت درون
()27
(م ْن أكل ما
في أي طع امكم البرك ة) .ومن ه ذا القبيل ما أورده الس خاوي في المقاصد الحس نة من أن الن بي ق الَ :
يسقط من الخوان أو القصعة أمن من الفقر)( .)28قلت :وهذا مما يستهين به كثير من الناس اليوم وقد يحقرونه وال يلقون
له باالً ،ناهيك عن اإلسراف والمبالغة واالستخفاف بما يزيد من الطعام ويلقى في مكبات القمامة في الشوارع والطرقات
مما يساهم في الغالء وارتفاع األسعار.
-بركة الطعام مع كثرة األيدي عليه وطعام الواحد يكفي االثنين.
ومن مظ اهر ال دعوة إلى االقتص اد في مج ال الطع ام ما رواه النس ائي عن ج ابر رضي اهلل عنه أن الن بي ق ال:
(طعام الواحد يكفي االثنين وطعام االثنين يكفي أربع اً ،وطعام األربعة يكفي ثمانية)( .)29وروى البخاري عن أبي هريرة
رضي اهلل عنه ق ال :ق ال رس ول اهلل ( :طع ام االث نين ك افي الثالثة وطع ام الثالثة ك افي األربع ة)( .)30وقد ك ان الن بي
يدعو إلى االجتماع على الطعام وأن ال يأكل الواحد منفرداً طلب اً لحصول البركة ،الحض على مكارم األخالق ،واالقتناع
بالقليل من الطعام ،وأنه كلما كثرت األيدي على الطعام ازدادت البركة(.)31
االقتصاد في استعمال الماء حتى في الوضوء:
ابن حبان ،الصحيح ،كتاب األطعمة باب ذكر األمر بتجميد اهلل عز جل وعال عند الفراغ من الطعام ،ج 12ص-16 (?) 24
البخاري ،الصحيح ،كتاب األطعمة باب لعق األصابع ومصها قبل مسحها بالمنديل .ج ،5ص ،2077حديث رقم (?) 26
.5140
مسلم ،الصحيح ،كتاب األشربة باب استحباب لعق األصابع ،ج 3ص ،1607حديث رقم 2034 (?) 27
انظر :الزرماني ،مختصر المقاصد الحسنة ،حديث رقم ،987بتحقيق من لطفي الصباغ ،ط1981 ،1م. (?) 28
(?) النسائي ،السنن ،مكتبة المطبوعات اإلسالمية ،حلب ،باب الحديد ،ط1986 ،2م .ج ،4ص 178حديث رقم ، 677 29
انظر :ابن حجر ،فتح الباري ،ج 5ص .535 (?) 31
288
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
ليست ال دعوة إلى االقتص اد قاص رة على الطع ام فق ط ،بل والم اء أيض اً ح تى لو ك ان ذلك في ب اب العب ادات من:
مر بسعد وهو
الطهارة ،والوضوء ،واالغتسال ،وغير ذلك .روى أحمد في مسنده من حديث عمر بن العاص أن النبي َّ
يتوضأ فق ال( :ما هذا السرف يا سعد؟ قال أفي الوض وء س رف .قال :نعم وإ ن كنت على نهر ج ار)( .)32وعن ابن ماجه
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :جاء أعرابي إلى النبي فسأله عن الوضوء .فأراه ثالثاً ثالثاً .ثم ق ال:
(هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء أو تعدى أو ظلم) باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه(.)33
ولك أن تتصور ما يقع فيه الناس اليوم من اإلسراف في استعمال الماء في مختلف الوجوه ،مما يشكل خطراً كبيراً ويسهم
في شح المياه ونضوبها وارتفاع أثمانها ،مما يحتاج إلى إعادة نظر وحسن تصرف وفق المعتقدات اإليمانية التي جاءت
بها الشريعة اإلسالمية.
الصوم الواجب والمستحب:
فرض اهلل تعالى الصوم على األمم جميعها ،لما فيه من الفوائد الصحية واالقتصادية والنفسية ،ويهمنا هنا اإلشارة
إلى الحكمة االقتصادية التي يحققها الصوم بنوعية المفروض الواجب ،والمسنون المستحب ،فإذا جملة األيام التي دعي
المسلم إلى صيامها كانت قرابة خمسين يوماً في السنة ،ناهيك عن الكفارات وصيام التطوع ،فهو يشكل سياسة اقتصادية
من ش انها أن تس هم في الحد من االس تهالك في األغذية واألطعمة واألش ربة ،فهو أس لوب من أس اليب خفض األس عار
ورخص األشياء وتوفير المواد ومحاربة الغالء.
النهي عن استعمال آنية الذهب والفضة:
ح رم اإلس الم اس تعمال األش ياء في غ ير ما خلقت ل ه ،ومن ذلك أنه نهى عن اس تعمال ال ذهب والفضة في األواني
لألكل والشرب وغير ذلك ،ألنهما النقدان ،وجعلهما في صناعة األواني والقداح يفضي إلى تعطيلهما وعدم تحقق الغاية
منهم ا ،مما ي ؤدي إلى خلل في الوضع االقتص ادي ويخلق المش كالت المالي ة ،ومنها الغالء وارتف اع األس عار ،ناهيك عن
إش اعة مظ اهر الترف والبذخ والخيالء بين الن اس .روى البخ اري من ح ديث حذيفة رضي اهلل عنه ق ال :س معت رس ول
اهلل يقول( :ال تلبسوا الحرير والديباج وال تشربوا في آنية الذهب والفضة وال تأكلوا في صحافها)(.)34
النهي عن التطاول في البناء والعمران:
التطاول والمغاالة في البناء والعمران من أعقد مشاكل هذا الزمان ،وما ينفق على ذلك من األموال ال يكاد يقدر،
وهو من أهم ما يس هم في ظ اهرة الغالء وارتف اع األس عار .وقد ع َّد الرس ول ذلك من عالم ات الس اعة ،كمما ج اء في
ح ديث جبريل المش هور فق ال ...( :وأن ت رى الحف اة الع راة العالة رع اء الش اء يتط اولون في البني ان)( .)35وفيما روى
الترمذي عن أنس رضي اهلل عنه أن رسول اهلل قال (النفقة كلها في سبيل اهلل إال البناء فال خير فيه) ج 4ص .)36( 651
ون ِب ُك ِّل ِري< ٍ<ع آيَ ًة تَ ْع َبثُ َ
<ون {}128 وقد ذم اهلل تع الى ق وم ه ود على ما ك انوا يفعلونه من التط اول في العم ران فق الَ﴿ :أتَ ْب ُن َ
ابن ماجة ،السنن ،باب ما جاء في القصد في الوضوء ،ج 1ص 146حديث رقم .422 (?) 33
البخاري ،الصحيح ،كتاب األطعمة باب األكل في غناء مفضض ج 9ص 554وج 10ص 94باب الشرب في (?) 34
آنية الذهب ،ومسلم ،الصحيح ،كتاب اللباس والزينة باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة ج 3ص 1634حديث رقم
.2065
البخاري ،الصحيح ،باب سؤال جبريل عن اإليمان واإلسالم واإلحسان ج 1ص 27حديث رقم ،50ومسلم، (?) 35
الصحيح ،كتاب اإليمان ،باب اإليمان واإلسالم ج 1ص 37حديث رقم .8
ج 4ص .651 (?) 36
289 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر :الشوكاني ،فتح القدير ،ج 3ص .394 ،142 (?) 37
الترمذي ،السنن ،كتاب صفة القيامة حديث رقم ،2513وابن ماجة ،السنن ،كتاب الزهد باب القناعة ج 2ص 138 (?) 38
أبو داود ،السنن ،كتاب النكاح ،باب قلة المهر ،دار الحديث ،سوريا ،ط1969 ،1م ،ج 2ص 235رقم .2109 (?) 40
290
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
ومما يؤسف له أن أف راح الن اس في ه ذا الزم ان يحكمها حب الظه ور والمباه اة والمف اخرة والتقليد والمحاك اة
واإلس راف والع ادات والتقاليد الجاهلي ة ،وكل ذلك مخ الف ل روح العقي دة اإلس المية ،ومقاصد الش ريعة اإللهي ة .ومن هنا
فإنه يحسن أن نذكر أنفسنا وغيرنا بضرورة مراجعة هذا الباب ،ألنه صار يشكل عبئ اً ثقيالً على اقتصاد األسرة ويكلفها
مما ال طاقة لها به ،ويرفع علينا األسعار ويغلي ثمن الحاجات.
ولنستذكر أن المال الذي بأيدينا سنسأل عنه ،فقد روى الدارمي من حديث أبي برزة األسلمي قال :قال رسول اهلل
( :ال تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ،وعن علمه ما فعل له ،وعن ماله من أين اكتسبه وفيما
أنفقه.)41()....
وبعد فهذه جملة من اإلج راءات والتدابير التي دعت عليها العقيدة اإلسالمية إلى مراعاتها وااللتزام بها في أنم اط
الحي اة والس لوك في مج ال اإلس راف والتب ذير وال دعوة إلى االقتص اد ،من ش أنها أن تعمل على ض بط األس عار ورخص
األثمان.
تحريم االحتكار ومظاهر االستغالل: -5
يش كل االحتك ار أو حبس الس لع عن الت داول في الس وق بالطريقة – الطبيعي ة ،أحد أهم أس اليب الجشع والطمع
واالس تغالل ال ذي يمارسه بعض التج ار والم الكين ،وهو من أهم العوامل ال تي تس هم في رفع األس عار وارتف اع ثمن ما
يحتاجه الن اس مما يس ببه من خلل في قاع دة الع رض والطلب الطبيعية في الس وق االقتص ادية .ولما ك ان ش أن االحتك ار
على ه ذا المس توى من الض رر والخلل في حي اة الن اس ،ف إن العقي دة اإلس المية قد ج اءت بتح ريم االحتك ار ،وت أثيم
المحتكرين ،ومنع كل ما يفضي إليه.
وروى اإلم ام مس لم وأبو داود والترم ذي عن َم ْع ِمر بن أبي معمر رضي اهلل عنه عن الن بي ق ال( :من احتكر
طعام اً فهو خ اطئ) وفي رواية أخ رى( :ال يحتكر إال خ اطئ) والخ اطئ هو اآلثم العاصي( .)42وروى ابن ماجه من
(من احتكر على المس لمين طع امهم ض ربه اهلل ب الحزام واإلفالس) ( .)43وعن ابن عمر رضي اهلل
ح ديث عمر مرفوع اًَ :
(من احتكر طعام اً أربعين ليلة فقد ب رئ من اهلل وب رئ اهلل من ه) ( .)44وعن أبي هري رة رضي اهلل عنه مرفوع اً:
عنهم اْ :
(م ْن احتكر حكرة يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ)(.)45
َ
وفي ال وقت ال ذي نهى فيه الرس ول ،عن االحتك ار ،فقد رغب وحبَّب في جلب األرزاق واألطعمة والس لع وما
يحتاج الناس إليه إلى السوق حتى ينتفع الناس ،بما يجلب إلى أسواقهم فيحصلون على حاجاتهم من غير عنت وال مشقة
وال غالءَّ ،
وبشر الجالب بالرزق ،ولعن المحتكر فقال (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)(.)46
الدارمي ،السنن ،باب من كره الشهرة والمعرفة ،ج 1ص 144رقم .537 (?) 41
مسلم ،الصحيح ،كتاب المساقاة ،باب النهي عن الحكرة ،أبو داود ،السنن ،كتاب البيوع باب النهى عن الحكرة ج3 (?) 42
ص ،728ابن ماجة ،السنن ،في التجارات ،باب النهي عن الحكرة ،ج 2ص 728رقم .2154
ابن ماجة ،السنن ،كتاب التجاريات باب النهي عن الحكرة ،ج 2ص ،729وأحمد ،المسند ،ج 1ص.21 (?) 43
الحاكم ،المستدرك ،دار المعرفة ،بيروت ،ج 2ص ، 12وأحمد ،المسند ،ج 2ص.33 (?) 44
الحاكم ،المستدرك ،ج 2ص ،12وأحمد ،المسند ،ج ،2ص 351وانظر :ابن حجر ،فتح الباري ،ج ،4ص 348و (?) 45
سابق ،سيد ،فقه السنة ،مكتبة الخدمات الحديثة ،جدة ،ج 3ص .266
ابن ماجة ،السنن ،في التجارات باب النهي عن الحكرة ،ج 2ص ،728والدارمي ،السنن ،في البيوع باب النهي (?) 46
291 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولض مان تن افس الس وق حسب قاع دة الع رض والطلب بعي داً عن كل ما يس هم في اختالل األس عار بطريقة غ ير
طبيعي ة ،نهى عليه الص الة والس الم عن ما ك ان يع رف بتلقي الركب ان الواف دين من البادي ة ،لما في ذلك من التغرير بهم
وخداعهم ،وكذلك أهل السوق عامة .وفي هذا أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قال:
قال رسول اهلل ( :ال تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق)(.)47
وما هذه إال تحفظات وتحرزات واحتياطات ووسائل وقائية لمنع غالء األسعار وارتفاع أثمان السلع على الناس،
فيصيبهم من العناء والمشقة بسبب ذلك(.)48
والمشاهد على حال أسواق الناس اليوم مخالفة هذه األحكام حيث يعمد بعض التجار خصوص اً من يعرفون بوكالء
الس لع ،إلى احتك ار الم واد الغذائية وغيره ا ،ويرفع ون أس عارها لتحكمهم في زم ان وكمية عرض ها ،فيحقق ون أرباح اً
فاحشة ،وهو أسلوب تؤيده األنظمة الرأسمالية الديمقراطية الغربية ،ومن يقلدهم من التجار في البالد العربية اإلسالمية،
مس تدلين على ذلك ب رفض الرس ول لوضع ح ِّد لألس عار ،عن دما طلب الن اس منه ذل ك ،لما غلت األس عار في عه ده كما
جاء عن أنس رضي اهلل عنه قال الناس :يا رسول غال السعر فسعِّر لنا ،فقال رسول اهلل ( :إن اهلل هو المسعر ،القابض
الباسط الرازق ،وأني ألرجو أن ألقى اهلل وليس أحد منكم يطالبني في مظلمة في دم وال مال)(.)49
وليس في ه ذه اآلث ار داللة قاطعة على منع التس عير مطلق ا ،فالعلم اء على ج وازه إذا ك ان الغالء بس بب احتك ار
التج ار وما يقوم ون به من تحكم في الس وق ورفع األس عار ،حسب أه وائهم ،وليس تبع اً للع رض والطلب بالوضع
االعتيادي الخارج عن التدخل البشري ،كما يفعله التجار الرأسماليون ،الغربيون من إتالف كميات كبيرة من األصناف
التي يقل الطلب عليها ،أو تزيد كمياتها حفاظ اً على مستوى أسعارها ،فتجدهم يتلفون آالف األطنان من الحبوب واللحوم
وال بيض والحليب وغ ير ذل ك ،أو يحبس ونها ويخفونها ف ترة من ال وقت ،ح تى يرتفع ثمنها فيخرجونها ويعرض ونها في
األسواق فيقبل الناس عليها بالسعر الذي يطلبونه .أنظر أصول علم االقتصاد اإلسالمي ،مرجع سابق ص .)50( 91
ربط القلوب باهلل تعال ورد األمور إليه في جميع األحوال: -6
اإليم ان باهلل تع الى يق وم على قاع دة االتص ال باهلل ،وربط القل وب به جل وعال ،واالعتم اد والتوكل علي ه ،واللج وء
إليه في طلب الحاجات وتفريج الكربات ،ورفع الشدة والبالء ،ولهذا فاإلنسان مأمور بالتوجه إلى اهلل تعالى ،في الشدائد
والن وازل ،عن طريق الص الة وال دعاء واالس تعاذة واالس تغفار والتض رع والتوب ة....الخ .ق ال تع الىَ ﴿ :فلَ ْوال ِإ ْذ ج ُ
َاءه ْم
<ون﴾ (س ورة األنع ام ،)43 :ق ال ابن كث ير رحمه ان َما كَا ُنواْ َي ْع َملُ َ
ط ُ َّن لَ ُه ُم َّ
الش< ْي َ <وب ُه ْم َو َزي َ ِ
س< ْت ُقلُ ُ
ض< َّر ُعواْ َولَـكن قَ َ
ْأس َنا تَ َ
َب ُ
اهلل :يق ول تع الى( :ولقد أرس لناك إلى أمم من قبلك فأخ ذناهم بالبأس اء يع ني الفقر والض يق في العيش -والض راء -وهي
األم راض واألس قام واآلالم -لعلهم يتض رعون -أي ي دعون اهلل ويتض رعون إليه ويخش ونه ،فهال إذا ابتلين اهم ب ذلك
تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا ،ولكن قست قلوبهم فما رقت وال خشعت ،وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الشرك
والمعاندة والمعاصي)(.)51
البخاري ،الصحيح ،كتاب البيوع بابا النهي عن تلقي الركبان ،ج ،4ص .373 (?) 47
انظر :عوض ،أحمد صفي الدين ،أصول علم االقتصاد اإلسالمي ،مكتبة الرشد ،ص. 88-81 (?) 48
الترمذي ،السنن ،كتاب البيوع باب في التسعير رقم 1314وقال حديث حسن صحيح وأبو داود كتاب البيوع باب (?) 49
ابن كثير ،التفسير ،دار الفكر ،بيروت ،ج ،2ص133 (?) 51
292
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د .يوسف الزيوت
وك ان عليه الص الة والس الم يس تعيذ باهلل من أش ياء كث يرة منها الفق ر ،وغلبة ال دين .روى النس ائي من ح ديث أبي
هريرة رضي اهلل عنه أن النبي ك ان يقول (اللهم إني أع وذ بك من القلة والفقر والذلة وأعوذ بك أن أظلم أو ُأظلم) سنن
النسائي ج 4ص 451كتاب االستعاذة بابا االستعاذة من القلة(.)52
وروى أبو دواد عن أبي سعيد الخدري قال( :دخل رسول اهلل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من األنصار يقال
له أبو أمامة فقال :يا أبا أمامة مالي أراك جالس اً في المسجد في غير وقت الصالة؟ قال :هموم لزمتني وديون يا رسول
اهلل .ق ال أفال أعلمك كالم اً إذا أنت قلته أذهب اهلل عز وج ل ،همك وقضى دينك ق ال :بلى يا رس ول اهلل .ق ال :قل إذا
أصبحت وإ ذا أمسيت :اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ،وأعوذ بك من العجز والكسل ،وأعوذ بك من الجبن والبخل،
وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال .قال ففعلت ذلك فأذهب اهلل عز وجل همي وقضى عني ديني)(.)53
استَ ْغ ِف ُروا َر َّب ُك ْمت ْ وجعل تبارك وتعالى ،االستغفار سبباً شرعياً للخير والعطاء واإلمداد بالم ال والم الي والولد ﴿فَ ُق ْل ُ
َّ ٍ َّ َِأم َو ٍال َو َب ِن َ ِ ان َغفَّ ًارا {ُ }10ي ْر ِس ِل َّ
َارا﴾ ين َو َي ْج َعل ل ُك ْم َج َّنات َو َي ْج َعل ل ُك ْم َأ ْنه ً الس َماء َعلَ ْي ُكم ِّم ْد َر ًارا {َ }11و ُي ْمد ْد ُك ْم ب ْ ِإ َّن ُه َك َ
(س ورة ن وح )12-10 :ففي اآلية دليل على أن االس تغفار ي وجب ن زول األمط ار ال تي هي س بب ال رخص ووف رة
الحاجات ،ولذلك لما خرج عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه ،إلى االستسقاء فلم يزد على أن استغفر ثم انصرف ،فقيل له
ما رأين اك اس تقيت فق ال :واهلل لقد استقيت أبلغ االستس قاء ثم ن زل المط ر ،وش كا رجل إلى الحسن الجدب فق ال له اس تغفر
( .)54وك ان رس ول اهلل قد س َّن ص الة االستس قاء في الج دب وانحب اس المط ر ،وأنه خ رج فاستس قى ثم توجه جهة القبلة
حول السنةُ ويصير الغالء رخصاً(.)55
وحول رداءه وصلى ركعتين وقلب الرداء حتى تُ َّ
وحول إلى الناس ظهره يدعوَّ ،
اعتبار الغالء مظهراً من مظاهر العقاب الرباني العاجل: -7
إذا انتهكت مح ارم اهلل تع الى ،وخ رج الن اس عن طاعته ف اغرقوا في المعاصي واآلث ام ،وظهر الفسق والفج ور،
عاقبهم اهلل جل وعال وأدبهم عقاباً عاجالً لعلهم يرجعون ،قبل أن يأخذهم بالعذاب الشديد يوم القيامة ،ومن مظاهر العقوبة
الربانية أن يع اقب بالقحط والج دب ومنع المطر من الس ماء مما ي ترتب عليه نقص في الحاج ات ،األمر ال ذي يفضي إلى
ِ ِئ ِ
ان ضَر َب اللّ ُه َمثَالً قَ ْر َي ًة َكا َن ْت آم َن ًة ُّم ْط َم َّن ًة َيْأت َ
يها ِر ْزقُ َها َر َغ ًدا ِّمن ُك ِّل َم َك ٍ ارتفاع األسعار وظهور الغالء .قال تعالىَ ﴿ :و َ
<وع وا ْلخ ِ ِ ِ ِ
ون﴾ (س ورة النح ل .)112 :ف الجوع والخ وف من ص< َن ُع َ َوف ِب َما كَا ُنواْ َي ْ اس ا ْل ُج ِ َ ْ فَ َكفََر ْت ِبَأ ْن ُعم اللّه فََأ َذاقَ َها اللّ ُه ل َب َ
أهم المظاهر والنتائج السلبية لغالء األسعار ،وهو من مظاهر العيشة الضنك التي أخبر اهلل تعالى عنها ،عقاب اً لمن عصاه
َأع َمى﴾ (س ورة َة ْ ش<رهُ يَوم ا ْل ِقيام ِ لَه َم ِع َ ض َعن ِذ ْك ِ<ري فَِإ َّن ُ
ض<ن ًكا َو َن ْح ُ ُ ْ َ َ يش< ًة َ َأع َر َ
وخ رج عن طاعت ه .ق ال تع الىَ ﴿ :و َم ْن ْ
ط ه ,)124 :وإ ذا تأملنا ما أص اب الع الم الي وم من الغالء الف احش وارتف اع األس عار ،وما رافقه من الج وع والخ وف
والمعيشة الض نك ،قلنا بال ت ردد :إن ذلك إنما هو عق اب إلهي وع ذاب رب اني عاجل نتيجة لما عليه الن اس من االنح راف
والفسق والمجاهرة بالمعاصي واآلثام ،ومجافاة الفطرة البشرية التي فطر اهلل الناس عليها.
وأخ رج ابن ماجه من ح ديث ثوب ان رضي اهلل عنه ق ال :ق ال رس ول .....( :وإ ن الرجل ليح رم ال رزق بال ذنب
يص يبه)( ،)56فه ذا الح ال ال ذي يعيشه الن اس في ه ذه األي ام هو عق اب رب اني أص ابهم لعلهم يرجع ون ويتض رعون
ويستغفرون ويغيرون ما بأنفسهم ،وهو وسيلة من وسائل العقيدة في مواجهة الغالء.
النسائي ،السنن ،كتاب االستعاذة ،باب االستعاذة من القلة ،ج 4ص. 451 (?) 52
أبو داود ،السنن ،كتاب الصالة ،باب في االستعاذة ج 2ص ، 93رقم .1555 (?) 53
انظر :ابن جزي ،محمد بن أحمد الغزناطي ،التسهيل في علوم التنزيل ،ط ،4دار الكتاب العربي ،ج ،4ص.150 (?) 54
انظر :أحمد ،المسند ،ج 4ص ،41وانظر :البخاري ،الصحيح ،كتاب االستسقاء ،حديث رقم .1012 (?) 55
ابن ماجة ،السنن ،كتاب الفتن باب العقوبات ،ج ، 2ص ،1334حديث رقم .4022 (?) 56
293 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتبار الغالء من مظاهر االبتالء والدعوة إلى الصبر والرضا بالقدر: -8
ما يصيب اإلنسان من بؤس وشدة وعناء وضنك .ليس بالضرورة أن يكون عقاباً أو عذاباً وانتقام اً ،وإ نما قد يكون
من ب اب االبتالء واالختب ار واالمتح ان .واالبتالء س نة ربانية في الك ون يعامل اهلل به عب اده عام ة ،والمؤم نين خاص ة،
ليميز الخبيث من الطيب ،ويكشف عن حقيقة إيمان المؤمنين ،وصبر الصابرين ،فهذه مسلمات ثابتة في العقيدة اإلسالمية
سَو ِال َواألنفُ ِ <وع َو َن ْق ٍ
ص ِّم َن اَألم َ وف َوا ْل ُج ِ ش ْي ٍء ِّم َن ا ْل َخ ْ قررها القران الكريم في مواطن كث يرة .ق ال تع الى ﴿ َولَ َن ْبلُ َو َّن ُك ْم ِب َ
<ون{ُ }156أولَـِئ َك َعلَ ْي ِه ْم اجع< َ يب ٌة قَالُواْ ِإ َّنا ِللّ< ِ<ه َوِإ َّنـا ِإلَ ْي< ِ<ه ر ِ
َ
ِ
َأص < َابتْ ُهم ُّمص < َ ين{ }155الَّ ِذ َ
ين ِإ َذا َ الص <ا ِب ِر َ
ش < ِر َّ ات َو َب ِّ والثَّمَر ِ
َ َ
ون﴾ (سورة البقرة.)157-155 : ِئ
ات ِّمن َّر ِّب ِه ْم َو َر ْح َم ٌة َوُأولَـ َك ُه ُم ا ْل ُم ْهتَ ُد َ
صلَ َو ٌ
َ
وكما يك ون االبتالء بالشر والش دائد والمحن يك ون ب الخير والص حة والنعم ،بل لعل االبتالء مع النعمة يك ون أخفى
فال يدركه إال الموفق ون من عب اد اهلل ،فال تغ رنهم الحي اة ال دنيا وإ قبالها وزينتها وزخارفها الزائل ة ،فيعلم ون أنهم مبتل ون،
وممتحن ون ،أيش كرون ه ذه النعمة ويحم دون اهلل عليها وي ؤدون حقه ا ،أم يكفرونها ويجح دونها فيبط رون ويفس قون
َه فَ َيقُ <<و ُل َر ِّبي
َه َو َن َّعم ُ ان ِإ َذا َما ْابتَاَل هُ َرب ُ
ُّه فََأ ْك َرم ُ َأما اِإْل ن َ
س< < ُ ويتنك رون للمنعم المتفضل عليهم ب الخيرات .ق ال تع الى ﴿فَ َّ
َأها َن ِن﴾ (سورة الفجر.)16-15 : َأما ِإ َذا َما ْابتَاَل هُ فَقَ َد َر َعلَ ْي ِه ِر ْزقَ ُه فَ َيقُو ُل َر ِّبي َ
َأ ْك َر َم ِن[َ ]15و َّ
فاإلنس ان مع رض لالبتالء في األم وال واألوالد والنفس والثم رات ،بمظ اهر كث يرة ومن ذلك غالء س عر األش ياء
كلها أو غالء أصناف معينة منها ،فقد غال سعر اإلبل ،واللحم ،والتمر ،وغير ذلك في عهد رسول اهلل وفي عهد الخلفاء
من بعده .وفي هذه األيام غال سعر الوقود (البترول) بجميع مشتقاته ،مما أدى إلى ارتفاع فاحش في أثمان السلع جميعها
حيث تض اعفت األس عار ع دة م رات وارتفعت ارتفاع اً فاحش اً ح تى ض جر الن اس ،وت أثرت جميع وج وه الحي اة في الع الم
سلبياً كما سبق بيانه في المبحث األول.
ط
س< َ
والعقيدة اإلسالمية تعتبر كل ما يصيب اإلنسان ال يخلو من الحكمة الربانية والعناية اإللهية قال تعالىَ ﴿ :ولَ ْو َب َ
ِ ِ ِِ ض َولَ ِكن ُي َنِّز ُل ِبقَ َد ٍر َّما َي َ ِ الر ْز َ ِ ِ ِ ِ
اللَّ ُه ِّ
ير﴾ (س ورة الش ورى .)27 :فاإلنس ان شاء ِإ َّن ُه ِبع َباده َخ ِب ٌ
ير َبص ٌ اَأْلر ِ
ق لع َباده لَ َب َغ ْوا في ْ
في مواطن االبتالء مدعو إلى الصبر واالحتساب والشكر ،لين ال أجر الصابرين الشاكرين ،فإذا خسر من جهة ربح من
جهة أخرى .وهكذا تعلم العقيدة اإلسالمية اإلنسان وتربية في مواطن الشدة والبالء ،ونقص األموال وغالء األثمان وقلة
الحاجات أو رخصها.
االلتزام بالطاعات وترك المعاصي والذنوب: -9
ومن وسائل العقيدة في مواجهة الغالء دعوة اإلنسان إلى االلتزام بطاعة اهلل تعالى ،وترك معصيته واالبتعاد عن
ال ذنوب واآلث ام وكل ما يس خط اهلل ويغض به من :تحكيم ش ريعته في األرض ق ال تع الىَ ﴿ :و َمن لَّ ْم َي ْح ُكم ِب َما َأن< َ<ز َل اللّ< ُ
<ه
<ه فَ ُْأولَـِئ َك ُه ُم
<ه ِفي < ِ<ه َو َمن لَّ ْم َي ْح ُكم ِب َما َأن < َ<ز َل اللّ < ُ
َأه< < ُل اِإل ن ِجي < ِ<ل ِب َما َأن < َ<ز َل اللّ < ُ
ون﴾ ،وقول هَ ﴿ :و ْل َي ْح ُك ْم ْ فَُأولَـِئ َك ُهم ا ْلك ِ
َاف ُر َ ُ ْ
ِ ون﴾ (س ورة المائ دة ،)47-44 :وق ال تع الى﴿ :فَالَ َو َر ِّب َك الَ ُيْؤ ِم ُن< َ ا ْلفَ ِ
ش < َج َر َب ْي َن ُه ْم﴾ (س ورة يما َ <ون َحتَّ َى ُي َح ِّك ُم<<و َك ف َ اس <قُ َ
(حد يعمل به في األرض خير ألهل األرض من أن النساء ،)65 :وإ قامة الحدود التي شرعها .قال صلى اهلل عليه وسلمٌ :
يمطروا أربعين صباحاً)(.)57
مراعاة الحالة النفسية لإلنسان في حالة الجوع والغالء والفقر: -10
للج وع والغالء والفقر ض غط نفسي كب ير على اإلنس ان ،ف إن اإلنس ان يض عف عند االحتي اج ،وتض طرب حالته
النفسية ،وقد يدفعه ذلك إلى فعل ماال يجوز فعله ،فيسرق أو يغتصب ،أو يغش أو يحتكر أو يأكل حق غيره ويجحده ،أو
النسائي ،السنن ،الترغيب في إقامة الحد ج 8ص 75رقم ، 4904وابن ماجة ،السنن ،كتاب الحدود ،باب إقامة (?) 57
يرتشي أو يتجر بما هو ح رام إلى غ ير ذلك من األفع ال والمعاص ي ،بل إنه قد ينتهي به الح ال إلى الكفر والش رك باهلل
والسخط على قدره والتبرم من قضائه والقنوط من رحمته ،ولعله من هنا جمع الرسول بين الكفر والفقر في االستعاذة
في دبر الص الة ،فيما رواه النس ائي من ح ديث مس لم بن أبي بك رة عن أبيه ق ال ك ان رس ول اهلل يق ول في دبر الص الة:
(اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر)( .)58وأمر عليه الصالة والسالم بالتعوذ باهلل من الفقر والقلة فيما رواه
ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ما تعوذ منه رسول اهلل .)59( وروى اإلمام مالك عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن
رقيق اً لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة .فانتحروها .فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه فأمر عمر كثير
بن الص لت أن يقطع أي ديهم – ثم ع دل عن ذل ك -وق ال :أراك تجيعهم)( .)60وك ذلك فعل عمر رضي اهلل عنه في ع ام
المجاعة درءاً للحدود بالشبهات ،فإن الجوع والفقر يدفعان اإلنسان إلى المعصية.
وبعد فهذه جملة من الوسائل واألساليب والتدابير التي جاءت العقيدة اإلسالمية بها لمواجهة الغالء ،لو أن األفراد
والمؤسس ات والش رائح االجتماعية التفتت إليها وال تزمت بها نظام اً حياتي اً ،ال أق ول س ينتهي ويختفي الغالء والفق ر ،وإ نما
لك ان الغالء مح دوداً في ج وانب ض يقة من الحي اة وال تصل آث اره ونتائجه إلى المس توى ال ذي وص لت إليه في واقعنا
المعاصر.
النتائـج:
بعد استعراض هذا الموضوع من جوانب متعددة في ضوء العقيدة اإلسالمية ظهرت لي النتائج التالية:
-1أن الغالء بالح ال ال تي هو عليها في ه ذه المرحلة الزمنية المعاص رة غ ير مس بوق ذلك أنه ج اء عام اً ش امالً
لجميع متطلب ات الحي اة من المس كن والمش رب والمطعم ،والملبس الض روري منه وغ ير الض روري وعلى
المستوى العالمي األمر الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ إذ كان الغالء يصيب سلعة من السلع أو القمح أو
غير ذلك.
-2أن الغالء سنة من سنن اهلل تعالى في الكون مرتبط بأسباب وعوامل ،وال يكون من فراغ كما ال يكون مفاجئاً.
-3أن أس بابه ليست كما يظنها كث ير من الن اس راجعة إلى العوامل المادية فحسب من الزي ادة الس كانية ،والعوامل
الطبيعية كالجفاف وشح الموارد وغير ذلك ،بل له أسباب وعوامل معنوية وأخالقية مرتبطة بسلوك اإلنسان
اإليماني ومدى خضوعه والتزامه بشرع اهلل تعالى.
-4أن الغالء ال يكون مظهراً من مظاهر العذاب والعقاب والجزاء اإللهي ،والغضب الرباني دائم اً وإ نما قد يكون
وابتالء واختياراً وتمحيصاً فاهلل تعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء وهو الحكيم العليم.
ً امتحاناً
النسائي ،السنن ،كتاب السهو بابا التعوذ في دبر الصالة ،ج 3ص 74رقم .1347 (?) 58
ابن ماجة ،السنن ،كتاب الدعاء باب ما تعوذ منه رسول اهلل ،ج 2ص 1263رقم 3842 (?) 59
مالك بن أنس،الموطأ ،كتاب األقضية ،باب القضاء في الضواري ،دار إحياء التراث ،بيروت ،ج 2ص ،748رقم (?) 60
.38
295 المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الغالء :دراسة عقدية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-5أن للغالء آث اراً س لبية ونت ائج خط يرة على األف راد والمجتمع ات من أبرزها انتش ار الج رائم والقتل والس رقة
واإلرهاب والتطرف والرشوة واإلخالل باألمن القومي الوطني والعالمي ،كما له آثاره الخطيرة على الحالة
النفسية واإليمانية وقطيعة األرحام.
-6أن العقيدة اإلسالمية لها أساليبها الفعالة ووسائلها النافعة في مواجهة الغالء والحد من ارتفاع األثمان واألسعار
سواء قبل حدوث المشكلة من باب سد الذرائع واألسباب المؤدية إلى الغالء أم بعد وقوعها فرغب إلى األخذ
باألس باب المادية ال تي من ش أنها أن تعمل على توف ير الحاج ات وت أمين متطلب ات اإلنس ان ،وأم رت ب االلتزام
بالطاع ات وتحكيم ش ريعة اهلل وت رك المعاصي وال ذنوب ،وربطت القل وب باهلل تع الى في ح ال الس راء بش كر
النعم وتعظيمها ،وقي حال الضراء بالدعاء والتوكل والصبر والتعوذ باهلل من الفقر والغالء واالحتياج.
-7أن العقي دة اإلس المية لها فلس فتها وأس لوبها ومنهجها العملي الش مولي وال واقعي في التعامل مع الغالء وس ائر
الش دائد ال ذي تتم يز به عن المن اهج المادية على اختالفها وتنوعها مما يؤكد أن الحل اإلس المي هو الح ل،
والعالج الرباني هو العالج لكل أمراض ومشاكل اإلنسان وعلى اإلنسان أن يلتزم العقيدة الربانية.
الهوامش:
296
المجلة األردنية في الدراساتـ اإلسالمية ،مج ( ،)11ع ( 1436 ،)1ه2015/م ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ