You are on page 1of 5

‫بيان قبول األخالق للتغيري بطريق الرايضة‬

‫اعلم أن بعض من غلبت البطالة عليه استثقل اجملاهدة والرايضة واالشتغال بتزكية النفس وهتذيب األخالق‬
‫فلم تسمح نفسه أبن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته فزعم أن األخالق ال يتصور تغيريها فإن‬
‫الطباع ال تتغري‪.‬‬

‫واستدل فيه أبمرين ‪:‬‬

‫• أحدمها ‪ :‬أن اخللق هو صورة الباطن كما أن اخللق هو صورة الظاهر فاخللقة الظاهرة ال يقدر على‬
‫تغيريها فالقصري ال يقدر أن جيعل نفسه طويال وال الطويل يقدر أن جيعل نفسه قصريا وال القبيح‬
‫يقدر على حتسني صورته فكذلك القبح الباطن جيري هذا اجملرى‪.‬‬
‫• والثاين ‪ :‬أهنم قالوا حسن اخللق يقمع الشهوة والغضب وقد جربنا ذلك بطول اجملاهدة وعرفنا أن‬
‫ذلك من مقتضى املزاج والطبع فإنه قط ال ينقطع عن اآلدمي فاشتغاله به تضييع زمان بغري فائدة‬
‫فإن املطلوب هو قطع التفات القلب إىل احلظوظ العاجلة وذلك حمال وجوده‪.‬‬

‫فنقول لو كانت األخالق ال تقبل التغيري لبطلت الوصااي واملواعظ والتأديبات وملا قال رسول للا صلى للا‬
‫عليه وسلم حسنوا أخالقكم‪ 1‬وكيف ينكر هذا يف حق اآلدمي وتغيري خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي‬
‫من االستيحاش إىل األنس والكلب من شره األكل إىل التأدب واإلمساك والتخلية والفرس من اجلماح إىل‬
‫السالسة واالنقياد وكل ذلك تغيري لألخالق‪.‬‬

‫والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول املوجودات منقسمة إىل ما ال مدخل لآلدمي واختياره يف‬
‫أصله وتفصيله كالسماء والكواكب بل أعضاء البدن داخال وخارجا وسائر أجزاء احليواانت وابجلملة كل‬
‫ما هو حاصل كامل وقع الفراغ من وجوده وكماله وإىل ما وجد وجودا انقصا وجعل فيه قوة لقبول الكمال‬
‫بعد أن وجد شرطه وشرطه قد يرتبط ابختيار العبد فإن النواة ليست بتفاح وال خنل إال أهنا خلقت خلقة‬

‫‪ 1‬حديث حسنوا أخالقكم أخرجه أبو بكر ابن الل يف مكارم األخالق من حديث معاذ اي معاذ حسن خلقك للناس منقطع ورجاله ثقات‬
‫ميكن أن تصري خنلة إذا انضاف الرتبية إليها وال تصري تفاحا أصال وال ابلرتبية فإذا صارت النواة متأثرة‬
‫ابالختيار حىت تقبل بعض األحوال دون بعض فكذلك الغضب والشهوة لو أردان قمعهما وقهرمها ابلكلية‬
‫حىت ال يبقى هلما أثر مل نقدر عليه أصال ولو أردان سالستهما وقودمها ابلرايضة واجملاهدة قدران عليه وقد‬
‫أمران بذلك وصار ذلك سبب جناتنا ووصولنا إىل للا تعاىل نعم اجلبالت خمتلفة بعضها سريعة القبول‬
‫وبعضها بطيئة القبول والختالفها سببان‪.‬‬

‫• أحدمها ‪ :‬قوة الغريزة يف أصل اجلبلة وامتداد مدة الوجود فإن قوة الشهوة والغضب والتكرب موجودة‬
‫يف اإلنسان ولكن أصعبها أمرا وأعصاها على التغيري قوة الشهوة فإهنا أقدم وجودا إذ الصيب يف‬
‫مبدإ الفطرة ختلق له الشهوة مث بعد سبع سنني رمبا خيلق له الغضب وبعد ذلك خيلق له قوة التمييز‪.‬‬
‫• والسبب الثاين ‪ :‬أن اخللق قد يتأكد بكثرة العمل مبقتضاه والطاعة له وابعتقاد كونه حسنا ومرضيا‬
‫والناس فيه على أربع مراتب‪.‬‬

‫األوىل وهو اإلنسان الغفل الذي ال مييز بني احلق والباطل واجلميل والقبيح بل بقي كما فطر عليه خاليا‬
‫عن مجيع االعتقادات ومل تستتم شهوته أيضا ابتباع اللذات فهذا سريع القبول للعالج جدا فال حيتاج إال‬
‫إىل معلم ومرشد وإىل ابعث من نفسه حيمله على اجملاهدة فيحسن خلقه يف أقرب زمان‪.‬‬

‫والثانية أن يكون قد عرف قبح القبيح ولكنه مل يتعود العمل الصاحل بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقيادا‬
‫لشهواته وإعراضا عن صواب رأيه الستيالء الشهوة عليه ولكن علم تقصريه يف عمله فأمره أصعب من‬
‫األول إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه إذ عليه قلع ما رسخ يف نفسه أوال من كثرة االعتياد للفساد واآلخر‬
‫أن يغرس يف نفسه صفة االعتياد للصالح ولكنه ابجلملة حمل قابل للرايضة إن انتهض هلا جبد وتشمري‬
‫وحزم‪.‬‬

‫والثالثة أن يعتقد يف األخالق القبيحة أهنا الواجبة املستحسنة وأهنا حق ومجيل وترىب عليها فهذا يكاد متتنع‬
‫معاجلته وال يرجى صالحه إال على الندور وذلك لتضاعف أسباب الضالل‬
‫والرابعة أن يكون مع نشئه على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة يف كثرة الشر واستهالك‬
‫النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره وهذا هو أصعب املراتب ويف مثله قيل ومن العناء رايضة اهلرم‬
‫ومن التعذيب هتذيب الذيب‪.‬‬

‫▪ واألول من هؤالء جاهل فقط‪.‬‬


‫▪ والثاين جاهل وضال‪.‬‬
‫▪ والثالث جاهل وضال وفاسق‪.‬‬
‫▪ والرابع جاهل وضال وفاسق وشرير‪.‬‬

‫وأما اخليال اآلخر الذي استدلوا به وهو قوهلم إن اآلدمي ما دام حيا فال تنقطع عنه الشهوة والغضب‬
‫وحب الدنيا وسائر هذه األخالق فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن املقصود من اجملاهدة قمع هذه الصفات‬
‫ابلكلية وحموها وهيهات فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية يف اجلبلة فلو انقطعت شهوة الطعام هللك‬
‫اإلنسان ولو انقطعتشهوة الوقاع النقطع النسل ولو انعدم الغضب ابلكلية مل يدفع اإلنسان عن نفسه ما‬
‫يهلكه وهللك‪ .‬ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى ال حمالة حب املال الذي يوصله إىل الشهوة حىت حيمله‬
‫ذلك على إمساك املال وليس املطلوب إماطة ذلك ابلكلية بل املطلوب ردها إىل االعتدال الذي هو وسط‬
‫بني اإلفراط والتفريط واملطلوب يف صفة الغضب حسن احلمية وذلك أبن خيلو عن التهور وعن اجلنب مجيعا‬
‫وابجلملة أن يكون يف نفسه قواي ومع قوته منقادا للعقل ولذلك قال للا تعاىل أشداء على الكفار رمحاء‬
‫بينهم وصفهم ابلشدة وإمنا تصدر الشدة عن الغضب ولو بطل الغضب لبطل اجلهاد وكيف يقصد قلع‬
‫الشهوة والغضب ابلكلية واألنبياء عليهم السالم مل ينفكوا عن ذلك إذ قال صلى للا عليه وسلم إمنا أان‬
‫بشر أغضب كما يغضب البشر‪2‬حديث أنه كان يتكلم بني يديه مبا يكرهه فيغضب حىت حتمر وجنتاه‬

‫‪ 2‬حديث إمنا أان بشر أغضب كما يغضب البشر أخرجه مسلم من حديث أنس وله من حديث أيب هريرة إمنا حممد بشر يغضب كما يغضب البشر وكان إذا تكلم بني يديه مبا يكرهه‬
‫يغضب حىت حتمر وجنتاه ولكن ال يقول إال حقا فكان عليه السالم ال خيرجه غضبه عن احلق‪.‬‬
‫ولكن ال يقول إال حقا فكان الغضب ال خيرجه عن احلق أخرجه الشيخان من حديث عبد للا بن الزبري‬
‫يف قصة شراج احلرة فقال ألن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول للا صلى للا عليه وسلم وهلما من حديث‬
‫أيب سعيد اخلدري وكان إذا كره شيئا عرفناه يف وجهه وهلما من حديث عائشة وما انتقم رسول للا صلى‬
‫للا عليه وسلم لنفسه إال أن تنتهك حرمة للا وملسلم ما ينال منه شيء قط فينتقم من صاحبه‬
‫احلديث‪3‬حديث خري األمور أوساطها أخرجه البيهقي يف شعب اإلميان من رواية مطرف بن عبد للا معضال‬
‫وهذا له سر وحتقيق وهو أن السعادة منوطة بسالمة القلب عن عوارض هذا العامل قال للا تعاىل إال من‬
‫أتى للا بقلب سليم والبخل من عوارض الدنيا والتبذير أيضا من عوارض الدنيا وشرط القلب أن يكون‬
‫سليما منهما أي ال يكون ملتفتا إىل املال وال يكون حريصا على إنفاقه وال على إمساكه فإن احلريص‬
‫على اإلنفاق مصروف القلب إىل اإلنفاق كما أن احلريص على اإلمساك مصروف القلب إىل اإلمساك‬
‫فكان كمال القلب أن يصفو عن الوصفني مجيعا وإذا مل يكن ذلك يف الدنيا طلبنا ما هو األشبه لعدم‬
‫الوصفني وأبعد عن الطرفني وهو الوسط فإن الفاتر ال حار وال ابرد بل هو وسط بينهما فكأنه خال عن‬
‫الوصفني فكذلك السخاء بني التبذير والتقتري والشجاعة بني اجلنب التهور والعفة بني الشره واجلمود وكذلك‬
‫سائر األخالق فكال طريف األمور ذميم هذا هو املطلوب وهو ممكن نعم جيب على الشيخ املرشد للمريد‬
‫أن يقبح عنده الغضب رأسا ويذم إمساك املال رأسا وال يرخص له يف شيء منه ألنه لو رخص له يف أدىن‬
‫شيء اختذ ذلك عذرا يف استبقاء خبله وغضبه وظن أنه القدر املرخص فيه فإذا قصد األصل وابلغ فيه ومل‬
‫يتيسر له إال كسر سورته حبيث يعود إىل االعتدال فالصواب له أن يقصد قلع األصل حىت يتيسر له القدر‬

‫‪3‬‬
‫وقال تعاىل والكاظمني الغيظ والعافني عن الناس ومل يقل والفاقدين الغيظ فرد الغضب والشهوة إىل حد االعتدال حبيث ال يقهر واحد منهما العقل وال يغلبه بل يكون العقل هو الضابط‬
‫هلما والغالب عليهما ممكن وهو املراد بتغيري اخللق فإنه رمبا تستويل الشهوة على اإلنسان حبيث ال يقوى عقله على دفعها فيقدم على االنبساط إىل الفواحش وابلرايضة تعود إىل حد االعتدال‬
‫فدل أن ذلك ممكن والتجربة واملشاهدة تدل على ذلك داللة ال شك فيها والذي يدل على أن املطلوب هو الوسط يف األخالق دون الطرفني أن ا لسخاء خلق حممود شرعا وهو وسط بني‬
‫طريف التبذير والتقتري وقد أثىن للا تعاىل عليه فقال والذين إذا أنفقوا مل يسرفوا ومل يقرتوا وكان بني ذلك قواما وقال تعاىل وال جتعل يدك مغلولة إىل عنقك وال تبسطها كل البسط وكذلك‬
‫املطلوب يف شهوة الطعام االعتدال دون الشره واجلمود قال للا تعاىل وكلوا واشربوا وال تسرفوا إنه ال حيب املسرفني وقال يف الغضب أشداء على الكفار رمحاء بينهم وقال صلى للا عليه وسلم‬
‫خري األمور أوساطها‪.‬‬
‫املقصود فال يكشف هذا السر للمريد فإنه موضع غرور احلمقى إذ يظن بنفسه أن غضبه حبق وأن إمساكه‬
‫حبق‪.‬‬

You might also like