You are on page 1of 11

‫المحور الثالث‪ :‬نماذج من الثقافات االستراتيجية‬

‫تعتبر الثقافة االستراتيجية مزيج من التأثيرات الداخلية والخارجية ‪ -‬الجغرافية والتاريخية والثقافية‬
‫واالقتصادية والسياسية والعسكرية ‪ -‬التي تؤثر على سلوك الدول وتوجهاتها االستراتيجية‪ .‬ومن خالل هذا‬
‫المحور سيتم تناول مجموعة متنوعة من النماذج وذلك من أجل فهم سلوكيات الدول داخليا وخارجيا‬
‫والعوامل المؤثرة في ثقافتها االستراتيجية‪.‬‬

‫‪ -1‬الثقافة االستراتيجية الصينية‪:‬‬

‫تعتبر الثقافة المكون األساسي لالستراتيجية الصينية‪ ،‬فهناك مجموعة من العوامل التي أثرت في تكوين‬
‫الثقافة االستراتيجية الصينية‪.‬‬
‫أ‪ -‬مرتكزات الثقافة االستراتيجية الصينية‪:‬‬
‫‪ ‬اإلرث التاريخي الصيني‪:‬‬
‫يكاد يكون من المستحيل النظر إلى السياسة الخارجية للصين دون النظر إلى الجذور التاريخية‬
‫والثقافية األعمق التي شكلت هذه السياسة‪ .‬حيث عرفت الصين عدة حروب‪ ،‬والتي صيغت خاللها‬
‫االستراتيجيات مثل الحرب األهلية الصينية (‪ .)1927-1937‬والحرب الصينية اليابانية الثانية (‪-1937‬‬
‫‪ . ) 1945‬كما يجب اعتبار الحرب الباردة األساس الجديد للثقافة االستراتيجية للصين‪ .‬فخالل أواخر القرن‬
‫التاسع عشر ‪ ،‬وجد المفكرين واالستراتيجيين الصينيين والمسؤولين الحكوميين أنفسهم في عالم عدائي‬
‫واضح من القوى اإلمبريالية‪.‬‬
‫‪ ‬دور الموقع الجغرافي للصين‪:‬‬
‫للموقع والطبيعة الجغرافية تأثير مهم في تكوين الثقافة االستراتيجية الصينية‪ ،‬فالصين محاطة بحواجز‬
‫طبيعية‪ ،‬تكون الحياة السكانية فيها منخفضة التركز‪ ،‬مثل سهوب الشمال واألدغال والمحيط واألراضي‬
‫الصحراوية في الجنوب‪ ،‬والتبت في الغرب‪ .‬هذه الحواجز الطبيعية جعلت الصين مع مرور الوقت في‬
‫غير الحاجة إلى تطوير سياسة خارجية معقدة‪ .‬إضافة إلى هذا يعكس صور الصين العظيم أهمية عسكرية‬
‫وأمنية في ردع المعتدين وإعاقة طريق من يريد الهروب‪.‬‬
‫‪ ‬الفلسفة الكونفوشيوسية‪ :‬هي أحد أهم المصادر الفكرية المتجذرة في تأثيرها على الثقافة‬
‫االستراتيجي ة الصينية‪ .‬نمت الكونفوشية في فترة الدول المتحاربة(حوالي القرن الرابع إلى الثاني قبل‬
‫الميالد)‪ .‬الحظ بعض العلماء أنه بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر لم تدخل الصين في حرب مع‬
‫اليابان أو كوريا أو فيتنام ‪ -‬في ذلك الوقت‪ ،‬ألن الدول المحيطة بالصين اعتمدت بشكل أو بآخر أفكار‬
‫األخالق الكونفوشيوسية‪ ،‬التي تنطوي على مفهوم االنسجام الكونفوشيوسي العالمي‪.‬‬
‫‪ ‬الداوية‪ :‬أو التاوية هي فلسفة قريبة من الكونفوشية خاصة ما تعلق األمر من ناحية احترام قوانين‬
‫الطبيعة‪ ،‬كما أن الداوية هي معتقد ديني لديها اهتمام بعالقة البشر مع الروحانيات وتقدير العالقة مع‬
‫األجداد الذين غادروا إلى عالم الغيب‪ ،‬فالداوية تعبد الطبيعة كونها تعتقد أن الطبيعة تعكس أحكام اآللهة‪.‬‬
‫‪ ‬الثورة الثقافية عند ماو تسي تونغ‪ :‬خالل حكمه بين ‪ 1976-1966‬حاول التقليل من قيمة المعتقدات‬
‫في الحق ل العام لمصلحة ما اعتبره ضرورة إعالء شأن المبادئ الشيوعية‪ ،‬غير أن الكونفوشية والداوية‬
‫تحولت مع مرور العصور إلى مبادئ مؤسسة للقيم االجتماعية‪ .‬وتبنى الحزب الشيوعي إلى حد كبير‬
‫وجهة النظر القائلة بأن جوهر القوة الناعمة هو الثقافة الصينية‪.‬‬

‫ب‪ -‬استراتيجية دفاعية أم هجومية؟‬


‫يؤكد الصينيون بأن ميلهم هو تحقيق األمن من خالل سياسات دفاعية بطبيعتها وال تطرح تهديد ألي‬
‫كان ‪ .‬عندما يالحظ الجيش األمريكي التحديث العسكري الصيني ‪ ،‬والذي كان يعتمد على نمو بنسبة ‪10‬‬
‫بالمائة في الصين ميزانية الدفاع لما يقرب من عقدين واالستحواذ على أنظمة األسلحة الحديثة والمنصات‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫يميل القادة األمريكيون إلى القلق من أن الصين تسعى إلى السياسة العسكرية التي ستهدد الواليات المتحدة‬
‫في نهاية المطاف ومصالح األمن القومي‪.‬‬
‫خالصة القول هي أن الصين كونفوشيوسية وواقعية‪ ،‬اعتمادا على الوضع االستراتيجي المحدد التي‬
‫تجد نفسها فيها ‪ ،‬استخدمت الصين عبر تاريخها القوة العسكرية لهزيمة المعارضين الذين يهددون حدود‬
‫الصين وحكمها األسري ‪ ،‬ولكن الصين تفاوضت أيضا مع األعداء الذين يعيشون خارج الحضارة‬
‫الصينية‪ .‬لقد أدرك الحكام الصينيون فائدة وضرورة تطوير القدرات العسكرية‪ ،‬خاصة األنواع الجديدة من‬
‫األسلحة‪.‬‬
‫إن اللجوء المتعاقب لمفاهيم "الظهور السلمي" و "التنمية السلمية" ‪ -‬التي ظهرت في ‪ 2003‬و ‪2005‬‬
‫على التوالي ‪ -‬مكنت الصين من أن تصبح جزءا دائما من المشهد السياسي والمالي في جنوب شرق آسيا‪.‬‬
‫ج‪-‬استراتيجية الدفاع النشط وتشريع استخدام القوة‪:‬‬
‫حقيقة مخاطر التهديد الخارجي تدفع الصين إلى إظهار البراغماتية واالستباق من خالل اعتماد‬
‫استراتيجية "الدفاع النشط"‪ .‬على الرغم من أن استخدام القوة ال يزال يعتبر المالذ األخير ‪ ،‬فإنه يطبق‬
‫سياسة التعزيز الوقائي ل لقدرات القتالية والردعية واالستخباراتية لجيشه‪ .‬فإذا كان اقتران الخطاب السلمي‬
‫والتحديث العسكري قد يبدو في نظر الغرب على أنه تناقض بسيط ‪ ،‬فإن الصينيين يرون فيه تكامال معينا‪.‬‬
‫شكل نشر الكتاب األبيض للدفاع الصيني في عام ‪ 2008‬نقطة تحول في تأكيد هذا األمر‪ .‬بعد أن سعت‬
‫لفترة طويلة لتقليل الجهود المبذولة لتحديث ال جيش ‪ ،‬قررت الصين بالفعل أن تكون أكثر شفافية من خالل‬
‫الكشف عن طموحاتها الدفاعية وشرعيتها‪ .‬باإلضافة إلى تقديم أرقام ألول مرة تتعلق به‪.‬‬
‫تقوم الصين باستيراد وت صدير األسلحة ورفع ميزانيتها العسكرية ‪ ،‬وبالتالي عرضت سياسة دفاعية‬
‫تهدف إلى إنشاء قوات مسلحة قادرة على كسب جميع أنواع الحروب ‪ ،‬بما في ذلك الحروب غير‬
‫المتكافئة‪ .‬وحماية الحدود والفضاء الوطني ‪ ،‬وتطوير أدوات الدفاع الكمية والنوعية على حد سواء ‪-‬‬
‫بموجب مبدأ "الثورة في الشؤون العسكرية"‪ -‬وتعزيز استراتيجية نووية للدفاع عن النفس (هي أهداف‬
‫حاسمة مذكورة في الورقة البيضاء األخيرة التي نشرت في مارس ‪.)2011‬‬
‫تحاول بكين طمأنة الدول المجاورة من خالل إعادة التأكيد على الطبيعة الدفاعية البحتة لسياستها‬
‫النووية باإلضافة إلى التزامها مبدأ عدم التوظيف‪ .‬ويمثل هذا الخيار الذي يمثل بشكل خاص استراتيجية‬
‫الدفاع النشط ‪ ،‬أي ليس الهدف تدمير الخصم ‪ ،‬بل اكتساب قدرات عسكرية كافية لردعه عن أي هجوم ‪،‬‬
‫أو االنتقام إذا لزم األمر‪ .‬ومن المفارقات ‪ ،‬أن هذا الموقف الدفاعي يسمح للصين بإضفاء الشرعية على‬
‫استخدام القوة في حالة تهديد "لمصالحها الحيوية" ‪.‬‬

‫‪-2‬الثقافة االستراتيجية الروسية‪:‬‬


‫رغم مرور أكثر من ربع قرن على انهيار االتحاد السوفياتي‪ ،‬يشير عدد من المحللين االستراتيجيين‬
‫بأن هناك عدة تطورات توضح وجود إستمرارية في الثقافة االستراتيجية الروسية‪ ،‬منذ مرحلة الحكم‬
‫السوفياتي ‪ ،‬كون هذه الثقافة ترتكز على بعض المبادىء الثابتة المتعلقة بالوضع الجيوستراتيجي المتميز‬
‫لروسيا بغض النظر عن تحوالت النظام السياسي والنظام االقتصادي‪.‬‬
‫أ‪-‬اإلمبراطورية الروسية ‪:‬‬
‫تتسم روسيا اليوم‪ ،‬بحدودها الحالية‪ ،‬بأنها فريدة من نوعها من الناحية التاريخية‪ ،‬فـقـد تغيرت حدود‬
‫روسيا بشكل كبير على مدار تاريخ توسعات اإلمبراطورية الروسية‪ .‬وطوال سنوات االتحاد السوفياتي‬
‫اعتبرت كقوة أوروبية عظمى منذ عهد القيصر "بطرس األكبر " منذ ثالثة قرون خلت‪.‬‬
‫لعبت روسيا دورا حاسما في "حرب السنوات السبع"‪ ،‬حيث مثلت القوة البرية التي كسرت شوكة‬
‫جيش"نابليون"‪ ،‬وكانت عضوا بارزا في دول الوفاق األوروبي ‪ ،‬كما انفردت روسيا بدور البطولة‬
‫المطلقة في أحداث حرب القرم وما تالها من أزمات نشأت فيما بعد انهيار االمبراطورية العثمانية‪ ،‬على‬
‫نطاق واسع على أنه إحدى الخطوات األولى إلى الطريق إلى الحرب العالمية األولى‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫لقد كان لالتحاد السوفياتي دورا حاسما في الحرب العالمية الثانية‪ .‬فبـعــد انتهاء تلك الحرب‪ ،‬هيمنت‬
‫موسكو على معظم أوروبا من خالل االتحاد السوفياتي و"حلف وارسو" طوال نصف القرن العشرين‪.‬‬
‫لإلشارة‪ ،‬تت ميز روسيا بخصائص فريدة من نوعها أبرزها حجمها الكبير الممتد ليس فقط عبر أوروبا بل‬
‫عبر قارة آسيا أيضا‪ .‬لهذا كان التوسع االستعماري السبيل الذي انتهجته روسيا للدفاع عن نفسها ضد‬
‫الغزو‪ ،‬أي من خالل عمليات هجومية السترجاع ما انتزع منها خالل الحربين العالميتين‪.‬‬
‫ب‪-‬المذهب العسكري السوفياتي خالل مرحلة الحرب الباردة ‪:‬‬
‫في ضــوء ما تقــدم يمكــن إجمــال الخصــائص الــتي تميــز بها المـذهب العسـكري الروسـي في‬
‫الحقبـة السوفياتية بالنقاط اآلتية‪:‬‬
‫‪-‬إن أحكــام هــذه المــذاهب السياســية والعســكرية قــد تمــت صــياغتها في ضــوء التعــاليم الماركسية‪-‬‬
‫عن خبرات الحربين اللينينية واآلراء الحزبية للحزب الشيوعي السوفياتي‪ ،‬فضال عن الحربين العالميتين‬
‫األولى والثانية‪.‬‬
‫‪ -‬إن الحرب في المذهب العسكري السوفياتي ظاهرة اجتماعية تاريخية تحدث في كل مرحلة من مراحـل‬
‫التطـور التـاريخي للمجت معـات وهـي انعكـاس للصـراع الطبقـي‪ ،‬سـواء كـان بـين قوى وجماعات أو بين‬
‫دول منظمة‪.‬‬
‫‪-‬تبنى المذهب العسكري السوفياتي المفهوم العالمي لألمن والـذي يمتـد خـارج حـدود الدولـة الســوفياتية‬
‫الســابقة ليشــمل الــدول األعضاء في حلــف وارســو والحلفــاء واألصدقاء في إفريقيا وآسيا وأمريكا‬
‫الالتينية‪.‬‬
‫‪-‬إن الحرب مع الرأسمالية هي حالة حتمية حتى مع ظهور السالح النـووي‪ ،‬وأنهـا سـتكون عالميـة‬
‫النطـاق‪ ،‬ألن النظـام الرأسمـالي يتسـم بالعالميـة وبالسـعي للهيمنـة علـى العـالم عـبر تقويض أركان النظام‬
‫االشتراكي‪.‬‬
‫‪ -‬إن بناء القوات المسلحة السوفياتية يجب أن يتم بناء على دراسة نوايـا الخصـم واتجاهـات تطور قدراته‬
‫العسكرية‪ ،‬وطبيعة الحرب التي ينوي شنها ‪.‬‬
‫‪ -‬في حالة نشوب الحرب فإنها ستكون شاملة وليسـت محـدودة‪ ،‬أي حـرب تسـتخدم فيهـا كافة أنواع‬
‫األسلحة من تقليدية‪ ،‬وفوق التقليدية‪ ،‬ونووية ‪.‬‬

‫لقد أدت الثقافة االستراتيجية الروسية دورا أساسيا خالل فترة الحرب الباردة ‪ ،‬من خالل تشكيل‬
‫القوات المسلحة السوفياتية وفي طبيعة العمليات االستراتيجية التي يجب خوضها في الحرب‪ ،‬وفي طبيعة‬
‫النظام العسكري المالئم للبيئة االستراتيجية الروسية ‪ ،‬مع االلتزام بأهداف القيادة السوفياتية السياسية فيما‬
‫يخص السالم و الحرب‪ .‬غير أن الثقافة االستراتيجية العسكرية الروسية عادت لتحتل مكانة مؤثرة في‬
‫إطار النظام السياسي الروسي الحالي‪.‬‬

‫ج‪-‬المذهب العسكري الروسي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة‪:‬‬

‫يمكن سرد خصـائص المـذهب العسـكري الروسـي لمرحلـة مابعد انتهاء الحرب الباردة والمتمثلة‬
‫بالنقاط اآلتية‪:‬‬
‫‪-‬حصـول تبـدل في األحكام السياسـية للمـذهب‪ ،‬إذ أن األهـداف السياسـية والعسـكرية رســمت وفقـا‬
‫للظــروف الموضــوعية الداخليــة والخارجيــة الــتي مــرت بـها روسـيا منـذ انتهاء الحرب الباردة‪،‬‬
‫وطبيعة التهديدات التي يتعرض لها األمن القومي الروسي والحروب المحتملـة الـتي يمكـن أن تـدخلها‬
‫روسـيا بعـد أن كانـت هـذه األحكام تصـاغ وفقا للماركسية‪ -‬اللينينية‪.‬‬
‫‪-‬تبـني المفهـوم القـومي لألمن الـذي يشـمل أراضـي روسـيا ومصـالحها في الخـارج بـدال من المفهوم‬
‫العالمي لألمن الذي كان يغطي كل المنظومة االشتراكية ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪-‬أن الحروب التي ستدخلها روسيا في المستقبل سوف لن تكون حروبا مثلما كان األمر في الحقبة‬
‫السوفياتية وإنما هي حروب متعددة المصادر‪ ،‬وقد تأخذ نطاقـات عالميـة أو إقليمية أو محليـة‪ ،‬ومسـتويات‬
‫تقليديـة ونوويـة‪ ،‬في حـين كـان السـوفيات يخططـون فقـط لحرب عالمية شاملة‪.‬‬
‫‪ -‬أن بنـاء القـوات المسـلحة الروسـية يجـب أن ال يشمل فقط الجانب العددي للقوات وإنما االهتمام بالجانب‬
‫التقني (النوعي) أيضا‪ ،‬السيما أن حروب المستقبل التقليدية ستكون ذكية‪.‬‬
‫‪ -‬أن األسلحة النووية الروسية ستكون لها األولوية في أية حروب مستقبلية تدخلها روسـيا سـواء كانـت‬
‫محليـة‪ ،‬إقليمية‪ ،‬أو عالميـة‪ ،‬أي أنهـا سـتكون وسـيلة قتاليـة منـذ البدايـة وليسـت وسيلة ردعية مثلما كان‬
‫األمر في الحقبة السوفياتية ‪.‬‬
‫‪-‬تقسـيم تلـك األسلحة إل ى أسـلحة ضـربة أولى‪ ،‬وأسـلحة ضـربة ثانيـة‪ ،‬أي أن جميــع مواقــع إطــالق‬
‫الصــواريخ اإلســتراتيجية ســواء كانــت بريــة ثابتــة أو متحركــة كالغواصــات والطــائرات‬
‫االســتراتيجية وســكك الحديــد المتحركــة‪ ،‬ســوف تكــون مهيــأة للمبـادرة بالضـربة األولى االسـتباقية‪،‬‬
‫وعندئـذ سـيتعذر علـى الـدرع الصـاروخي األمريكي تدمير جميع صواريخ هذه الضربة األولى إذا كانت‬
‫بكثافة عددية هائلة‪ ،‬والبد أن تفلت منها مجموعة تصيب أهدافها في المدن والمراكز الحيوية للخصم‪.‬‬

‫إن مجيء بوتين إلى الحكم منذ انتخابه في عام ‪ 2000‬و عودة بروز ثقافة الفكر االستراتيجي‬
‫الروسي خاصة بعد أزمة جورجيا‪ ،‬أعاد المخاوف في النظرة الغربية لروسيا‪ ،‬والتي كانت قد استمرت‬
‫بالتعامل معها وكأنها دولة عادية يمكن تجاهلها ‪ ،‬خاصة خالل التدخل الغربي األحادي الجانب في‬
‫العراق‪ ،‬وفي عدة أماكن من العالم العربي خالل السنوات األخيرة‪ ،‬مما دفع بروسيا إلى العودة باالستعانة‬
‫بثقافتها االستراتيجية العسكرية لوضع حد للتدهور الذي كان قد حصل في قوتها ووضعها في العالم ‪.‬‬

‫د‪-‬التوجه الجيوسياسي الروسي الجديد‪:‬‬


‫تعتبر العودة إلى أفكار كالوزفيتز في العقيدة العسكرية الروسية ‪ ،‬أمر ال بد منه لجميع ضباط هيئة‬
‫التدريس في األكاديمية العسكرية‪ ،‬حيث غذت هذه األفكار العقائدية ابتكار لسنوات في فن الحرب‬
‫السوفياتية ثم الروسية‪.‬‬
‫لم تبتعد النظرة الجيوبولتكية لروسيا الحالية عن بعدها التاريخي للمناطق التي تمسها جغرافيا‪ ،‬فتندرج‬
‫التوجهات الروسية الجديدة عبر ثالث بوابات رئيسية ضمن محيطها اإلقليمي‪ ،‬تنفتح عبرها على العالم‬
‫وهي ‪ :‬أوكرانيا– القرم وآسيا الوسطى‪ ،‬والقوقاز‪ .‬وتكمن أولوية روسيا في حماية مصالحها الرئيسية التي‬
‫تعد جزءا منها في منطقه من التوسيع اإلقليمي عند النقاط األساسية األربعة‪.‬‬

‫‪-3‬الثقافة اإلستراتيجية األمريكية‪:‬‬

‫أثرت التجارب التاريخية والطبيعة الجغرافية وحتى التركيبة المجتمعية للواليات المتحدة األمريكية في‬
‫تشكيل وتطور ثقافتها االستراتيجية‪.‬‬
‫أ‪-‬استخدام القوة في الثقافة اإلستراتيجية األمريكية‪:‬‬
‫الثقافة االستراتيجية األمريكية محددة بذاكرتها العسكرية‪ ،‬حتى القرنين ‪ 18‬و‪ ،19‬فقد تمت إبادة حوالي‬
‫‪ 40‬مليون من الهنود الحمر‪ ،‬وتم اقتطاع ثلث مساحة الكنديين والمكيسكيين بالقوة في إطار توسيع‬
‫اإلمبراطورية األمريكية‪ .‬كما عمل األمريكيون على كسب معاركهم بنصر مطلق منذ حربهم ضد إسبانيا‬
‫سنة ‪ ،1898‬إلى الحرب العالمية األولى في ‪ ،1917‬ثم الحرب العالمية الثانية في ‪ .1942‬في حين لم‬

‫‪4‬‬
‫يفلحوا في حربي كوريا والفيتنام‪ ،‬حيث واجهوا أوضاعا مختلفة عن تلك التي شكلت فكرهم االستراتيجي‬
‫وعقيدتهم القتالية‪.‬‬
‫يمكن أيضا مالحظة درجة عالية من ا الستمرارية في حالة الواليات المتحدة فيما يتعلق باستخدام القوة‬
‫لتحقيق أهدافها‪ ،‬فهناك عدد قليل من البلدان األخرى حيث الثقافة االستراتيجية كانت متسقة كما هو الحال‬
‫في الواليات المتحدة‪ .‬يمكن اإلشارة إلى أنه بعد عام ‪ ، 1823‬تم تأسيس عقيدة مونرو كقاعدة للسياسة‬
‫الخ ارجية للواليات المتحدة ‪ ،‬مما أدى إلى فصل الواليات المتحدة عن الخصومات الجيوسياسية المعقدة في‬
‫أوروبا‪ .‬ومع ذلك ‪ ،‬كان األساس المنطقي وراء ذلك متجذرا في التفكير الجيوسياسي‪ ،‬أي أنها معزولة‬
‫وخالية من االختالط األوروبي في نصف الكرة الغربي ‪ ،‬األمر الذي يجعلها قادرة على تعزيز عالقاتها‬
‫مع جنوب القارة والحد من مجال السيطرة على القوى االستعمارية األوروبية‪ .‬ولمدة قرن تقريبا‪ ،‬كان‬
‫تطبيق العقيدة دون عائق وساهم في فهم السياسة الخارجية للواليات المتحدة باعتبارها انعزالية‪.‬‬
‫كما أن الظروف التاريخية الفريدة للواليات المتحدة أدت إلى الشعور باالستثنائية التي أصبحت راسخة‬
‫في الثقافة االستراتيجية األمريكية‪ .‬ويكمن جوهر هذا السرد في القيم الفردية والليبرالية‪.‬‬
‫كما أن دعم القيم الديمقراطية الليبرالية واحترام حقوق اإلنسان والحريات‪ ،‬تعتبر من الدعائم األساسية‬
‫لخطاب الثقافة االستراتيجية والتدخل األمريكي‪ .‬حيث أن توطيد هذه المعايير متجذر في التاريخ والوضع‬
‫الجيوسياسي للواليات المتحدة‪ .‬وتم الحفاظ على هذه القيم خالل فترة الحرب الباردة وتم التأكيد عليها بقوة‬
‫خالل إدارتي كلينتون وبوش‪ .‬فكانت استراتيجيات الواليات المتحدة للمشاركة األجنبية ونشر الديمقراطية‬
‫على النمط الغربي‪ ،‬إلى جانب الدبلوماسية التي تحمل اسم المبادئ األخالقية والقانونية (كمبررات‬
‫للحرب) ‪ ،‬تتعارض أحيانا مع القانون الدولي‪ .‬ويشهد النهج العملي والرافض أحيانا للقانون الدولي على‬
‫العالقة غير المست قرة بين األوامر المعيارية واستخدام القوة‪ ،‬خاصة فيما يتعلق بمذهب بوش الخاص‬
‫بالحرب الوقائية‪ ،‬كما يتضح من غزو العراق المثير للجدل في عام ‪.2003‬‬
‫ب‪-‬الهيمنة األمريكية والنظام الدولي الجديد‪:‬‬

‫أدت نهاية الحرب الباردة إلى حدوث تغير في الفكر االستراتيجي وتحول المعطى العسكري على‬
‫مستوى اإلستراتجيات األمنية للدول خاصة بعد ظهور ميكانيزمات وأدوات أخرى قد تهدد الدول من غير‬
‫األداة العسكرية مثل العامل االقتصادي والعامل البيئي والعوامل االجتماعية والعوامل الصحية‪ ،‬بمعنى أن‬
‫عامل التهديد قد تغير وتعددت وسائله‪.‬‬
‫فبعد زوال االتحاد السوفياتي وظهور التكتالت االقتصادية داخل االقتصاد الرأسمالي نفسه كأطراف‬
‫أساسية في السياسة الدولية‪ ،‬تمارس نفوذا متزايدا مثل االتحاد األوروبي واتفاقية التجارة الحرة لدول‬
‫أمريكا الشمالية "نافتا" ومنظمة جنوب شرق آسيا "آسيان"‪ ،‬شكلت كلها مبررات موضوعية للمنظور‬
‫القائل بتقدم العامل االقتصادي على العامل العسكري‪ ،‬ففي هذه الفترة التي تتميز بأقطاب جديدة وإمكانيات‬
‫جديدة أصبح الهدف هو تعزيز دور المجموعة الدولية القائمة على حرية السوق وتوسيع دائرة الشعوب‬
‫التي تعيش تحت سقف مؤسسات أخرى و العمل على نشر الديمقراطية‪.‬‬
‫هذا التطور بدأ يتبلور بشكل تدريجي إلى أن أصبح "ثقافة" في الدراسات االستراتيجية الحديثة‪،‬‬
‫وفرض في إطار اإلستراتيجية األمريكية كمنهج عالمي لحل النزاعات والقضايا العالقة في النظام الدولي‪،‬‬
‫وما عزز هذا التحول هي أحداث الحادي عشر سبتمبر ‪ ،2001‬التي أعطت للمحافظين الجدد الفرصة‬
‫للعودة إلى سدة الحكم وتبنيهم لإلستراتجية‪ ،‬ونفخت الروح العدائية لكل من ليس مع أمريكا ودفع بالعامل‬
‫العسكري إلى مقدمة أجندة السياسة الدولية‪ ،‬فالمنظورات التقليدية ال تزال مهيمنة بسبب استمرار بعض‬
‫أوجه سلوك الحرب الباردة في تطوير أدوات الردع التقليدية والمنافسة حول سوق وتجارة األسلحة‪ ،‬أما‬
‫المنظورات الجديدة ما هي إال نتيجة للمراجعات النظرية عقب نهاية الحرب الباردة من خالل إدراج‬
‫عناصر غير عسكرية في المفهوم‪ ،‬وهناك منظورات قد ظهرت نتيجة للتطور التكنولوجي لألسلحة‬
‫الجديدة‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫هذه الثقافة اعتبرها الباحثون حصيلة المتغيرات المسجلة في البيئة الدولية والتي أثرت وبصورة جلية‬
‫ليس فقط على األداء االستراتيجي األمريكي‪ ،‬بل شملت كل منظومة التنظير التي دفعت بصناع القرار إلى‬
‫التوجه إلى صياغة استراتيجية تقترب أكثر إلى االنتماء االيديولوجي منه إلى المنهج العلمي‪ ،‬وتجلى ذلك‬
‫في تحديد العدو القادم "اإلسالم" بطريقة عشوائية لتبرير الخطط المستقبلية المتضمنة الهيمنة على العالم‪.‬‬
‫فنظرية الهيمنة القائمة على مبدأ السيطرة الجيوسياسية (المدخل األكثر تناسبا مع منطق الهيمنة عبر‬
‫تحقيق التفوق) فرض كمنهج في االستراتيجية المعاصرة‪ ،‬وأخذت حيزا كبيرا في أدبيات الدراسات الدولية‬
‫واالستراتيجية‪ ،‬ألنها أصبحت تشكل مرحلة مفصلية في توزيع القوى والتوازن االستراتيجي رغم تعقيدات‬
‫أبعاده في العالقات الدولية‪ ،‬لكن الحفاظ على المصلحة القومية (الهدف الجوهري للدراسات‬
‫االستراتيجية)‪ ،‬جعل من هذه النظرية القاعدة العامة للدولة العظيمة (القائدة) لممارسة دور يتناسب مع‬
‫طموحاتها‪ ،‬والمتمثل في وجود السلطة البنيوية التي تم ّكن الدولة المهيمنة من احتالل موقع مركزي داخل‬
‫نظام مركب يؤهلها لقيادة مجموعة من الدول على حساب بقية المجموعة الدولية‪ ،‬ليتحقق في األخير‬
‫الهدف االستراتيجي القطبية األحادية التي سوف تنقل مركز التأثير في النظام الدولي إلى القطب األحادي‬
‫الذي تتمركز عنده القوة العالمية‪.‬‬
‫في هذا الشأن‪" ،‬جون ميرشامير " صرح بـ "أن سعي الدولة في ظل النظام الفوضوي نحو زيادة حصتها‬
‫من القوى العالمية إلى أقصى حد لتشمل السعي إلى تحقيق الهيمنة الذي يؤدي إلى زيادة المنافسة األمنية"‪،‬‬
‫كما جاء رأي "جوزيف ناي" بالقول "أن الهيمنة تشير إلى وجود قوة دولية مسيطرة تكون هي المتفوقة‬
‫في المصادر المادية وتتوافر لديها القدرة واإلدارة الالزمتان في صياغة قواعد التفاعل في النظام الدولي"‪،‬‬
‫نفس التصور طرحه " كريسيتوفر لين" ‪ ،‬بقوله "إن الهيمنة تتخذ أشكاال مختلفة تبدأ بإزالة الخصوم (مثل‬
‫اإلمبراطورية الرومانية) وال تنتهي بإخضاع الخصوم وهو ما يناقض مفهوم اإلقناع‪.‬‬
‫وتشير بعض التقارير‪ ،‬بأن هناك مخطط إلنشاء "أمريكا العالمية"‪ Pax Americana‬التي من شأنها‬
‫أن تتجاوز الهيمنة العالمية التي مارستها اإلمبراطورية الرومانية القديمة‪ .‬وكانت هذه الفكرة قد صيغت‬
‫من قبل المحافظين الجدد‪ ،‬من خالل "مشروع القرن األمريكي الجديد" الذي يؤكد التفوق العالمي للواليات‬
‫المتحدة مدفوعا بشكل دقيق من قبل القوة العسكرية األمريكية‪ .‬ولقد وفرت القضية العراقية أحسن مثال‬
‫عن العالقة بين الليبرالية الجديدة واإلمبريالية التي تتوافق مع التوسع العالمي لقوة الواليات المتحدة‪.‬‬
‫تعتبر القوة العسكرية وتعزيزها جزء هام من اإلستراتيجية األمريكية الشاملة‪ ،‬حيث يرى "بول كيندي"‬
‫أن ما يميز أمريكا عن كافة اإلمبراطوريات في التاريخ هو "التفاوت في القوة"‪ .‬وأن "سلوك أمريكا‬
‫اإلستعماري يستمر اليوم إذ تملك الواليات المتحدة حقوقا قواعدية في ‪ 40‬بلدا"‪.‬‬
‫فقد قامت الواليات المتحدة بإنشاء قواعد عسكرية في رومانيا وبلغاريا‪ ،‬ونشر منصات الدرع الصاروخي‬
‫في بولندا والتشيك‪ ،‬والذي يعتبر ذروة الثورة العسكرية األمريكية بعد حرب النجوم سنة ‪ ،1983‬مما يفتح‬
‫المجال نحو سباق للتسلح بأحدث التقنيات العلمية‪.‬‬

‫رغم ذلك قدمت الدراسات اإلستراتجية إطارا لتطوير نظريات وسياسات وعمليات لتخفيض معدل‬
‫الحرب‪ ،‬بحيث كانت هذه الدراسات هي الفرع المهيمن منذ ‪ 1950‬وإلى غاية ‪ ،1980‬لكن مع تركيزها‬
‫على استعمال القوة العسكرية فإن أهميتها تراجعت بسبب مسائل جديدة فرضتها العولمة‪ ،‬ألن السياسة‬
‫الدولية المرتبطة بالمسائل العسكرية تبدو مائعة وسيطرت مسائل االقتصاد والتكنولوجيا وحقوق اإلنسان‬
‫على اهتمامات صناع القرار وأجبرتهم للتعامل مع تحدي جديد هو كيف تكيف الدراسات اإلستراتجية‬
‫المفاهيم التقليدية لإلستراتجية في بيئة أمنية مميزة بالعولمة والثورة المعلوماتية‪ ،‬والتهديد من طرف‬
‫اإلرهاب‪ ،‬وتوسع أسلحة الدمار الشامل والصراعات اإلثنية واإلقليمية‪.‬‬
‫ج‪-‬تأثير مراكز البحث والتفكير في الثقافة اإلستراتيجية األمريكية‪:‬‬
‫تعتبر الواليات المتحدة رائدة في مجال التفكير االستراتيجي‪ ،‬من خالل شبكة واسعة من مراكز البحث‬
‫والتفكير‪ ،‬وتستهدف هذه المراكز تحديث قواعد الفكر والمعرفة والعمل على ترويجها إلى مستوى صانع‬

‫‪6‬‬
‫القرار والرأي العام من خالل العمل على المشاركة في بحوث السياسات العامة واالستراتيجية وتحليلها‪،‬‬
‫والدعوة إلى إيجاد الحلول للكثير من المشاكل التي تواجه السياسات األمريكية في مختلف أنحاء العالم‪.‬‬
‫ظهرت الموجة األولى من مراكز الفكر المخصصة في الشؤون الخارجية واالستراتيجية داخل‬
‫الواليات المتحدة في وقت مبكر من القرن العشرين‪ .‬ومن بين المراكز التي أكدت حضورها وقدرتها على‬
‫التأثير على مستوى صنع القرار السياسي واالستراتيجي "مؤسسة كارنيغي للسالم العالمي" وقد أنشئت‬
‫سنة ‪ ، 1910‬ومؤسسة "هوفر" التي تعنى بالحرب والثورة والسالم والتي تأسست سنة ‪ ،1919‬ومجلس‬
‫العالقات الخارجية الذي تأسس سنة ‪ ، 1921‬ومؤسسة "بروكينغز" التي انبثقت عن مؤسسة األبحاث‬
‫الحكومية في العاصمة واشنطن سنة ‪. 1916‬أما الموجة الثانية من مراكز البحث والتفكير فقد ظهرت بعد‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وبداية الحرب الباردة‪ ،‬حيث أصبحت الحاجة ملحة لصانعي القرار للحصول على‬
‫خبرة مراكز الفكر من أجل التأسيس لسياسات جديدة لألمن القومي والسياسات األمنية‪ ،‬وكانت البداية مع‬
‫مؤسسة "راند" التي دشنت عصر التعاقد بين مراكز الفكر واإلدارة األمريكية بتمويل من سالح الجو‬
‫األمريكي سنة ‪.1948‬‬

‫‪-4‬الثقافة االستراتيجية األلمانية‪:‬‬

‫لم تتغير الثقافة االستراتيجية أللمانيا الغربية بشكل جذري بعد اندماجها األولي خالل الحرب الباردة ‪.‬‬
‫وبعد ذلك كانت هناك فترة مستقرة نسبيا أين كان تعزيز العناصر التأسيسية والبيئة الخارجية خاللها‬
‫متبادلة إلى حد كبير‪ ،‬وبالتالي تجنب التعديالت األساسية في اتجاه السياسة‪ .‬أي تغييرات ناتجة عن تحديات‬
‫للممارسات الحالية كان ينظر إليها على أنها تتماشى مع مسلمات الثقافة اإلستراتيجية األلمانية ‪ ،‬عالوة‬
‫على ذلك‪ ،‬سعت في الواقع إلى تعزيزها‪ .‬جانب مهم من هذا كان توطيد السياسة األمنية من خالل إجماع‬
‫قوي بين األطراف الرئيسية فيما يتعلق بالجوهر والتنظيم اتجاه السياسة األمنية أللمانيا الغربية‪.‬‬

‫أ‪-‬مصادر الثقافة االستراتيجية األلمانية‪:‬‬


‫يمكن إيجاد الثقافة االستراتيجية األلمانية من خالل تاريخها ‪ ،‬في تجربة ذنب الحرب والمحرقة ‪ ،‬في‬
‫الدمار‪ ،‬والفوضى وفقدان السيطرة‪ .‬إن إعادة تحديد األولويات من خالل السياسة الخارجية أللمانيا الغربية‬
‫منذ عام ‪ ،1949‬تحت تأثير الذنب الذي ال يزال يعترف به ‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬كان وقت سياسة موازنة بسمارك‪،‬‬
‫المرحلة الحاسمة التي شكلت السياسة الخارجية األلمانية‪ ،‬من خالل الواجب الدستوري الحترام القيم‬
‫العالمية للحرية‪ ،‬والمشاركة الطوعية في المنظمات الدولية‪ ،‬والمصالحة والتعاون مع األعداء السابقين‬
‫و التخلي عن الطموحات اإلمبراطورية ‪ ،‬وحتى في وقت الحق استعادة األراضي المفقودة‪ .‬كل هذا شكل‬
‫من ناحية ‪ ،‬رفض للفكر النازي‪ ،‬ومن ناحية أخرى إشارة إلى الشركاء داخل ألمانيا الذين هم بأمس الحاجة‬
‫إلى التحالف الغربي والجماعة األوروبية الناشئة ‪.‬‬
‫فاالحترام غير المشروط للقيم ومناهضة العسكرة‪ ،‬والتعاون من خالل الشراكات مع المؤسسات المتعددة‬
‫األطراف كلها اتجاهات تشكل جزءا من الثقافة األلمانية في السياسة الخارجية منذ نهاية الحرب الباردة ‪.‬‬
‫إن تعلق القيم مثل الديمقراطية أو حقوق اإلنسان أو دولة القانون‪ ،‬الذي تشترك فيه جميع الديمقراطيات‬
‫الغربية‪ ،‬يلعب دور خاص في السياسة الخارجية األلمانية‪ .‬أثناء سنو ات من تأسيس الجمهورية االتحادية‪،‬‬
‫اختار هذه المبادئ كمراجع ممثلة في الوعي الذاتي للدولة الجديدة‪ ،‬وكالهما طريقة للرد على أخطاء‬
‫الماضي وشرط لالندماج في مجتمع الدول الغربية كجزء من عملية الدمقرطة هذه القيم التي تهدف إلى‬
‫المواجهة السلمية للقوى السياسية التي قد فشلت في ظل جمهورية فايمار‪ .‬كما شكلت الحقوق األساسية في‬

‫‪7‬‬
‫القانون األساسي في رفض الفكر العنصري القائم على عدم المساواة‪ .‬سمح هذا اإلصرار على القيم‬
‫لأللمان العثور على هوية جديدة بعد عام ‪ 1945‬وإرسالها إلى شركاء جدد‪ ،‬إشارة إلى أن ألمانيا قد‬
‫تغيرت‪ .‬وكان ال يزال ملحوظا عندما تحدث المستشار "هيلموت كول" عن استمرارية القيم‪ ،‬وااللتزامات‬
‫والشراكات المؤسسية بعد إعادة توحيد ألمانيا‪ .‬كما تستهدف السياسة الخارجية األلمانية نشر وتعزيز هذه‬
‫القيم في جميع أنحاء العالم‪ ،‬فالديمقراطية وااللتزام بحقوق اإلنسان وسيادة القانون هي عناصر أساسية في‬
‫سياستها الخارجية‪.‬‬

‫ب‪-‬ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية‪:‬‬


‫منذ عام ‪ ، 1945‬قامت الثقافة اإلستراتيجية األلمانية على مبدأين أساسيين‪ :‬التعددية و مناهضة‬
‫العسكرة‪ .‬فقد كانت نهاية الحرب العالمية الثانية بالنسبة أللمانيا هزيمة معنوية ومادية هزت أسسها‬
‫السياسية والهوية للمجتمع األلماني‪ .‬كان على األلمان أن يجدوا طريقة إلعادة بناء الحياة السياسية محليا‬
‫ودوليا‪ .‬مكن اإلطار المتعدد األطراف والتعاون مع الحلفاء من اكتساب ألمانيا تدريجيا وسيلة للعمل على‬
‫الساحة الدولية‪ .‬التعددية ومناهضة العسكرة‪ ،‬هي منتجات الوضع المحدد أللمانيا بعد الحرب‪ ،‬ال تزال‬
‫مستمرة اليوم للتأثير على خيارات السياسة الخارجية األلمانية‪ .‬لكن هذين االتجاهين األساسيين‪ ،‬اللذين كانا‬
‫مكملين‪ ،‬دخلوا في صراع منذ نهاية الحرب الباردة‪ ،‬األمر الذي خلق معضلة السياسة األمنية األلمانية‪.‬‬
‫داخل المؤسسات المتعددة األطراف‪ ،‬يطالب الشركاء بالمزيد والمزيد من المشاركة األلمانية‪ ،‬بما في ذلك‬
‫المشاركة العسكرية‪ .‬ومع ذلك ‪ ،‬اصطدمت هذه المطالب مع قناعات ألمانيا المناهضة للعسكرة ‪ ،‬والتي‬
‫وضعت باستمرار السياسيين األلمان في موقف التالعب بالعنصرين المتناقضين في هذه الثقافة‬
‫االستراتيجية‪.‬‬
‫عالوة على ذلك ‪ ،‬بعد التجربة المؤلمة للديكتاتورية والدور الذي لعبه الجيش عندما سقطت جمهورية‬
‫فايمار‪ ،‬كان األلمان حذرين للغاية من إعادة التسلح‪ ،‬كانوا يخشون إعادة تنشيط العسكرية البروسية‬
‫والهتلرية‪ .‬لذلك ‪ ،‬كان على الجيش األلماني الجديد أن يكون مختلفًا جذريًا عن سابقيه‪.‬‬
‫ج‪ -‬الثقافة االستراتيجية األلمانية لما بعد الحرب الباردة‪:‬‬
‫حرب الخليج ‪،‬كانت أول تحد رئيسي لسياسة ألمانيا األمنية بعد الحرب الباردة ‪ ،‬بدأت في فتح الثقافة‬
‫االستراتيجية من قبل إزاحة التناسق الدقيق الذي كان قائما خالل الحرب الباردة بين الحقائق الخارجية‬
‫والجوانب التأسيسية ‪ ،‬وهو ما خلق لها عدد من اآلثار‪.‬‬

‫‪ ‬الشراكة والتعددية في الثقافة االستراتيجية األلمانية‪:‬‬


‫إن الهدف الرئيسي لسياسة األمن والدفاع األلمانية هو ضمان حماية وأمن المواطنين األلمان‪ .‬يمر هذا‬
‫الهدف من خالل التعددية والتعاون مع الدول الشريكة ‪ .‬منذ نهاية التسعينات‪ ،‬ساهم البوندسوير (القوات‬
‫المسلحة لجمهورية ألمانيا االتحادية) في بعثات وعمليات حفظ السالم التابعة لألمم المتحدة (السودان‬
‫ولبنان وأفغانستان) وفي العمليات العسكرية للناتو (كوسوفو‪ ،‬أفغانستان) وكذلك العمليات العسكرية‬
‫لالتحاد األوروبي والبعثات المدنية (البوسنة ‪ ،‬عملية القرصنة البحرية أتاالنتي وبعثة تدريب االتحاد‬
‫األوروبي في الصومال‪ ،‬بعثة تدريب االتحاد األوروبي في مالي ) يقترن اختيار التعددية بعالقات‬
‫استراتيجية قوية‪ ،‬أوال مع فرنسا (التعاون الفرنسي األلماني القائم على معاهدة إليزيه منذ عام ‪، )1963‬‬
‫ضا الواليات المتحدة وبولندا وروسيا‪ .‬وبالمثل ‪ ،‬يدعي الجيش األلماني تعلقه بهذا التقليد متعدد‬
‫ولكن أي ً‬
‫األطراف ويتصور فقط العمليات العسكرية في إطار متعدد الجنسيات ‪ ،‬وليس عمليات وطنية بحتة‪ .‬وال‬
‫صا لهذا اإلطار الموروث من تاريخه ومفهومه األصلي‪ .‬هذا يرجع‬ ‫يزال الكتاب األبيض األلماني مخل ً‬
‫أساسا إلى حقيقة تمكن ألمانيا من إعادة إنشاء جيش في عام ‪ 1955‬في إطار الناتو‪ .‬في الواقع ‪ ،‬ألمانيا‬

‫‪8‬‬
‫كذلك من الحرب العالمية الثانية هزمت ‪ ،‬قسمت ‪ ،‬احتلت وحرمت من سيادتها‪ .‬فالتراث األلماني ال يزال‬
‫يمثل الثقافة االستراتيجية األلمانية إلى اليوم‪ .‬لذا فإن برلين ال تسعى للحصول على منصب القيادة في‬
‫األمن الدولي‪.‬‬
‫‪ ‬استخدام القوة والقيود السياسية والمؤسسية الداخلية‪:‬‬
‫تعتمد سياسة الدفاع واألمن األلمانية تقليديا على ثقافة ضبط النفس و اإلحجام عن استخدام القوة‬
‫العسكرية‪ .‬األسباب موجودة بشكل أساسي في التاريخ األلماني في القرن العشرين‪ .‬باإلضافة إلى ذلك ‪،‬‬
‫أحكاما دستورية متناقضة كان لها تأثير على عرقلة إمكانيات توظيف البوندسوير (القوات‬
‫ً‬ ‫اعتمدت ألمانيا‬
‫المسلحة لجمهورية ألمانيا االتحادية) خارج اإلقليم‪ .‬وإذا كانت المادة ‪ 87‬أ من القانون األساسي تُخضع‬
‫المشاركة الخارجية للقوات األلمانية إلى تفويض دستوري ‪ ،‬فالمادة ‪ 24‬تؤكد المسؤولية األلمانية في إطار‬
‫نظام األمن الجماعي وال يمنع التدخل الخارجي‪ .‬ومع ذلك ‪ ،‬في إطار العمل الذي تتوخاه سياسة الدفاع‬
‫األوروبية أو الناتو ‪ ،‬لقد أصبح من الواضح أن طرق التدخل تتجاوز حدود المنطقة الجغرافية التي يغطيها‬
‫الناتو في تسوية الصراعات اإلقليمية‪.‬‬
‫يجب على البوندستاغ (المجلس التشريعي االتحادي أو البرلمان االتحادي) الموافقة باألغلبية على أي‬
‫مشاركة للجيش األلماني في عملية خارجية‪ ،‬سواء كانت عسكرية أو إنسانية (المادة ‪ 87‬أ) ‪ ،‬من خالل‬
‫التحديد الدقيق لتفاصيل تفويض الجيش األلماني لكل عملية (القوى العاملة‪ ،‬المدة ‪ ،‬المواد ‪.)...‬‬
‫تواجه ألمانيا اليوم ‪ ،‬تحديات أمنية كبيرة والتي تتطلب استجابة وكفاءة في العمل العسكري‪ .‬كما تدعو‬
‫العالقات الدولية المعاصرة إلى رؤية عالمية للقضايا األمنية يتجاوز التحليل العسكري ليشمل الجوانب‬
‫االقتصادية والسياسية والثقافية أو اجتماعية‪ .‬وهذا على وجه الخصوص ما تقترحه المقاربات األمنية‬
‫الشاملة التي وضعها االتحاد األوروبي (االستراتيجية األمنية األوروبية) وحلف شمال األطلسي (مفهوم‬
‫النهج األمني العالمي الذي تم تبنيه في قمة الحلف في بوخارست عام ‪ ، 2008‬وتم التأكيد عليه مجددًا في‬
‫قمة الحلف في لشبونة عام ‪ .2010‬في مواجهة هذه التطورات‪ ،‬لكن ما يمكن قوله أن السياسة األمنية‬
‫األلمانية مقيدة ‪ ،‬ليس بسبب عدم وجود استراتيجية ‪ ،‬بل بسبب شكل من الجمود في ثقافتها االستراتيجية‪.‬‬

‫‪ -5‬الثقافة االستراتيجية الجزائرية‬

‫تبنت الدولة الجزائرية بعد االستقالل مجموعة عوامل مرجعية كالتاريخ ‪ ،‬وترتب على ذلك تبني عقيدة‬
‫ثابتة السيما في مجالي الدفاع واألمن‪ ،‬انطالقا من مسلمة أن بناء األمن الوطني وإن تعلق بالدولة الوطنية‬
‫وتحدد بها‪ ،‬فإن محدداته أوسع من أن تنحصر في حدودها‪ .‬وهناك مجموعة من العوامل المؤثرة في الثقافة‬
‫االستراتيجية الجزائرية ‪:‬‬

‫أ‪ -‬الحقبة االستعمارية‪:‬‬

‫يعتبر اإلرث التاريخي االستعماري بمثابة الحركية التي استفاد منها األجيال منذ ‪ ،1830‬أين بدأت‬
‫بالمقاومات الشعبية ‪ ،‬ومن ثم النضال السياسي (الحركة الوطنية) الذي انطلق في بداية القرن الماضي عن‬
‫طريق نخبة من الشباب المتعلم ‪ ،‬وصوال إلى المرحلة التي تميزت بإنشاء الفرع العسكري المتمثل في‬
‫جيش التحرير الوطني الذي جعل من تاريخ ‪ 1954‬ذكرى ال تمحى من أذهان األجيال‪ ،‬ألنه يمثل المرحلة‬
‫المفصلية والحاسمة في تاريخ الجزائر‪ ،‬فبعد اجتماع القادة ‪ 22‬في جويلية من نفس السنة‪ ،‬تقرر الخيار‬
‫العسكري كأداة للتفاوض مع فرنسا‪ ،‬وتم قراءته في بيان تاريخي وجه للشعب (‪ )1954.11.01‬ومن‬

‫‪9‬‬
‫خالله إلى كل العالم‪ ،‬وانطلقت الثورة في البداية بمنطقة األوراس بنظام محكم هدفه األول واألخير‬
‫"استقالل الجزائر مهما كلف األمر"‪ .‬وحتى ال تمنح فرصة إلى العدو لزعزعة الثقة بين الشعب والقادة‬
‫الثوريين‪ ،‬تم نهج التوسع لفك الحصار على األوراس‪ ،‬وأثبت جيش التحرير في العديد من المناسبات (من‬
‫خالل المعارك) تحطيم أسطورة أن الجيش الفرنسي ال يقهر‪ ،‬كما أثبت أنه ليس مجموعة إرهابية أو من‬
‫قطاع الطرق‪ ،‬كما أقنع الرأي العام العالمي بصدق ومشروعية المطلب (الحرية واالستقالل)‪.‬‬

‫ب‪-‬الموقع الجغرافي‪ :‬تمتد الجزائر على مساحة ‪ 2.381.741‬كم‪( 2‬أكبر دولة في إفريقيا مساحة) وطول‬
‫حدود تبلغ حوالي ‪ 6340‬كلم‪ ،2‬وامتدادات الساحل بـ ‪ 1200‬كلم‪ ، 2‬الذي يعتبره الكثير من المحللين من‬
‫البوابات المهمة نحو إفريقيا والمتوسط‪ ،‬وإذا أضفنا إلى ما تحتويه الصحراء من ثروات باطنية (بترول‪،‬‬
‫غاز‪ ،‬فوسفات ومياه جوفية)‪ ،‬فإنه أصبح منطقة جد إستراتيجية مستهدفة من أطراف أجنبية‪.‬‬
‫فهذا الموقع يمثل الجسر الرابط بين قارتين (أوروبا‪-‬إفريقيا)‪ ،‬شساعة المساحة‪ ،‬توسطها لدول المغرب‬
‫العربي‪ ،‬طول حدودها البرية والبحرية‪ ،‬فالشريط الساحلي للبحر األبيض المتوسط المطل على دول‬
‫المغرب العربي‪ ،‬تمر عليه أكثر من ‪ % 65‬من واردات النفط والغاز المتجه إلى أوروبا‪ ،‬و‪ %15‬من‬
‫الواردات القادمة من الخليج وإفريقيا وأمريكا‪ ،‬مما يشكل ورقة مهمة في العالقات األورو‪-‬متوسطية‪.‬‬
‫كما أن الهشاشة األمنية التي تعرفها دول الجوار أو ما اصطلح على تسميته "بقوس األزمات"‪ ،‬فهي نتاج‬
‫لمجموعة من العوامل الداخلية (حروب أهلية‪ ،‬فشل األنظمة‪ ،‬انهيار المؤسسات السياسية‪ ،‬االقتصادية‪،‬‬
‫والعسكرية) التي هيأت الطريق لتحديات خارجية متمثلة في التهديدات األمنية التي وجدت ضالتها‬
‫(اإلرهاب‪ ،‬الجريمة المنظمة‪...‬إلخ)‪ ،‬وهذا ما أثر سلبا على األمن الحدودي للجزائر التي تتقاسم معهم‬
‫مجموعة من المكونات الطبيعية والبشرية‪.‬‬
‫فالجزائر كانت ومازالت محل منافسة بين أكبر القوى عالميا‪ ،‬خاصة أوروبا (فرنسا) التي تعتبر منطقة‬
‫شمال إفريقيا من أهم مناطق نفوذها ‪ ،‬وعليه تبقى كل االحتماالت واردة لدخول المنطقة والتمركز فيها‪،‬‬
‫ويمكن إلى حد بعيد فهم هذه الرسالة‪ ،‬من خالل التدخل العسكري الذي تنتهجه من حين إلى آخر تحت‬
‫عناوين متعددة‪ ،‬وهو نفس النهج الذي يمارس من طرف الواليات المتحدة األمريكية في الشرق األوسط‬
‫وآسيا‪.‬‬
‫فكل الدول المذكورة تحاول الهيمنة على المنطقة عبر بوابة الجزائر (إحدى األولويات)‪ ،‬ومن هنا فتح‬
‫الباب على مصراعيه وبدأ التسابق‪ ،‬لذا يرجح العديد من المحللين أن هناك اعتبارات يمكن من خاللها فهم‬
‫توجه الجزائر نحو هذه االستراتيجية في سياستها العامة‪.‬‬

‫ج‪-‬الشرعية الدستورية‪:‬‬
‫كرست كل الدساتير منذ ‪ 1963‬إلى غاية آخر تعديل ‪ ،2020‬مبادئ الثقافة االستراتيجية الوطنية خاصة‬
‫في شقها (السياسة الدفاعية) الجوانب المفاهيمية‪ ،‬البشرية‪ ،‬المادية والتنظيمية للدفاع عن السالمة الوطنية‬
‫والسيادة الوطنية وعدم التدخل في الشأن الخارجي في زمن الحرب‪ ،‬من بناء القدرات الدفاعية لألمة في‬
‫ظل تنامي التهديدات التقليدية وغير التقليدية التي تواجهها الدولة في فضاء جغرافي وجوار إقليمي شديد‬
‫التوتر‪ ،‬أو في زمن ا لسلم من المساهمة في التنمية االقتصادية واالجتماعية‪ .‬لتبقى إحدى أهم المهمات‬
‫الكبرى (الحفاظ على أمن المواطن والوطن) من األعمال السيادية الموكلة إلى مؤسسة الجيش الوطني‬
‫الشعبي الذي اضطلع بهذه المسؤولية بكل مستوياتها وضروراتها كإرث مكتسب من تاريخ المقاومة في‬
‫الجزائر‪.‬‬
‫االعتماد على القواعد القانونية المنصوص عليها في التشريع الداخلي وتدعيمها بما جاء في االتفاقيات‬
‫الدولية واإلقليمية‪ ،‬يضفي الشرعية أثناء تنفيذ كل الخطط العملياتية‪ ،‬كما يعطي دفع كبير لتقوية الصفوف‬
‫وتعزيز التعاون بين الدول في إطار تحقيق السلم واألمن الدوليين‪ ،‬ومتابعة ومحاسبة كل من تسبب في ذلك‬
‫أينما كانوا في الداخل أو في الخارج‪ ،‬وبالتالي سد األبواب أمام أي تدخل أجنبي مهما كان الهدف منه‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫د‪-‬الشرعية الدولية‪:‬‬

‫بالعودة إلى المبدأ العام الذي انطلقت منه ديباجة ميثاق األمم المتحدة "نحن شعوب آلينا على أنفسنا‪ ،‬إنقاذ‬
‫األجيال من الحروب وحماية الحقوق‪ ،"..‬سنجد أن الضمان الوحيد لجميع الحقوق لن يتحقق إال بمشاركة‬
‫الجميع وتحت وصاية وإشراف هيئة األمم المتحدة الممثل الوحيد والمصدر األساسي للشرعية الدولية‪.‬‬

‫من هذا المنطلق‪ ،‬عمدت الجزائر منذ االستقالل‪ ،‬إلى االنضمام إلى كل المؤسسات الفاعلة على‬
‫المستوى الدولي‪ ،‬كما ساهمت في إحالل السلم في العديد من القضايا (الصراع االريتري‪-‬اإلثيوبي‪ ،‬تحرير‬
‫الرهائن األمريكيين بإيران‪ ،‬الصراع اإليراني‪-‬العراقي)‪ ،‬كما انضمت إلى العديد من المنظمات الدولية‬
‫وهي تجتهد دائما من أجل تجسيد السلم في إطار الشراكة الثنائية أو المتعددة األطراف‪ ،‬ألنها تؤمن أن‬
‫القاعدة العامة المعمول بها في القانون الدولي (أن العالقات بين الدول تقوم على أساس التعاون السلمي)‬
‫وهذا ما يضمن حقوق الشعوب في السلم واألمن الدوليين‪ ،‬وأن الجزائر كغيرها من الدول ملتزمة في‬
‫سلوكها بتطبيق المبادئ والقواعد التي تحدد الحقوق والواجبات‪ ،‬وأن كل مخالفة لهذه المبادئ أو عمل‬
‫صادر من دولة من شأنه اإلضرار بدولة أخرى تترتب عليه المسؤولية الدولية‪.‬‬

‫‪11‬‬

You might also like