Professional Documents
Culture Documents
نطاق تطبيق القانون من حيث الزمان
نطاق تطبيق القانون من حيث الزمان
م ـ ـقـدم ـ ــة
*********************************
مقـدمـة:
ينصـ ــرف معـــنى القـ ــانون الجنـــائي إلى القواعـ ــد الـ ــتي تحـــدد سياس ــة التج ــريمـ و العق ــاب ،و تنظمـ السياســـة
اإلجرامي ــة ال ــتي ت ــبين كيفي ــة اقتض ــاء الدول ــة لحقه ــا في العق ــاب بم ــا يض ــمن الت ــوازن بين حق ــوق المتهم و
حقــوق المجتمــع .و يتضــمن القــانون الجنــائي بهــذا المعــنى نــوعين من القواعــد ،النــوع األول و هــو عبــارة
عن قواع ــد موض ــوعية ت ــبين م ــا يع ــد جريم ــة و ك ــذا العقوب ــة المق ــررة له ــا ،في إط ــار مب ــدأ الش ــرعية ب ــأالّ
جريم ــة و ال عقوبــة و ال ت ــدبير أمن إالّ بنص من الق ــانون ،ويع ــبر عن ه ــذه القواعــد بقــانون العقوب ــات و
الذي يقسم إلى قسمين اثنين أولهما قسم عام يهتم بدراسة النظرية العامة للجريمة و ببيان األحكام العامـة
الــتي تحكم كال من الجريمــة والعقوبــة عن طريــق تحديــد األركــان األساســية للجريمــة ،وأحكــام المســؤولية
الجنائيــة ،و أنــواع العقوبــات وظــروف تشــديدها و ظــروفـ تخفيفهــا ،و القســم الثــاني هــو قســم خــاص يهتم
بتحديــد وصــف األركــان الخاصــة بكــل جريمــة على حــدة ،و بيــان الحــد األدنى و الحــد األقصــى للعقوبــة
المقررة لها.
أمــا النــوع الثــاني فهــو عبــارة عن قواعــد شــكلية تــبين اإلجــراءات القانونيــة الــتي يتعين مراعاتهــا ،و يجب
إتباعهــا طــوال مراحــل الخصــومة الجنائيــة من مرحلــة التحــري عن الجريمــة ،والتحقيـقـ فيهــا إلى صــدورـ
الحكم الجنائي وتنفيذه .و يعبرعن هذه القواعد بقانون اإلجراءات الجزائية.
لكن ما هو النطاق الزمني الذي يطبق فيه القانون الجنائي؟ و ما هي المبادئ التي تحكم هذا التطبيق؟
المبحث األول :السريان الزمني للقاعدة القانونية.
األصــل العــام في تطــبيق القــانون من حيث الزمــان هــو أن القــانون يكــون دائمــا واجب التطــبيق من اليــوم
التــالي لنشــره بالجريــدة الرســمية أو من التــاريخ الــذي يحــدده نفس القــانون لســريان أحكامــه ،و هي قرينــة
قطعية على علم الكافة بها فال يعذر أحد بجهل القانون (المـادة 74من الدسـتور) ،وأن القـانون ال تسـريـ
أحكامــه إال على الحــاالت الــتي تتم في ظلــه أي بعــد إصــداره ،وأنــه ال يســري على مــا وقــع من الحــاالت
قبــل صــدوره .فــالركن المــادي للجريمــة يعــني كــون الفعــل المــادي للجريمــة يقــع تحت نص يجرمــه وقت
ارتكــاب الجريمـة ،أي أن السـلوك اإلجـرامي للفاعــل يكــون عمالً غـير مشـروعـ يعــاقب عليـه القـانون وقت
ارتكابه بنص نافذ في القانون ،فال يمكن اعتبار الفعل مادياً في عمـل مخـالف لقــانون سـابق جـرى أباحتــه
أو إلغــاء العقوبــة المقــررة على ارتكابــه بقــانون الحــق .و قواعــد قــانون العقوبــات كبــاقيـ القواعــد القانونيــة
ليســت بالنصــوص األبديــة بــل تنشــأ و تعــدل و تلغى إن اقتضــى األمــر ذلــك وفــق ســريان زمــني مضــبوط
تتحكم فيه ظاهرة تعاقب القوانين ،و من آثار هذه الظاهرة إلغاء القانون الالحق للقانون السابق.
يقصد بإلغــاء قاعـدة قانونيـة التوقـفـ التــام و النهـائي عن العمــل بهــا و بالتـالي فـإن إلغـاء قاعـدة قانونيـة هـو
قاعــدة قانونيــة في حـد ذاتهـا تنشـأ بنفس الطريقـة و تمـر بالمراحـل ذاتهــا الــتي أقرهـا القــانون ،و قــد تتنـاول
في طياتها البديل عن سابقتها و كيفية التطبيق موضحة في ذات الوقت مصير القاعــدة األولى و واضــعة
الحلــول لآلثــار الــتي خلفتهــا و قــد تســكت عن ذلــك و بهــذا نكــون أمــام صــورتين همــا:اإللغــاء الصــريح و
اإللغاء الضمني.
يكــون اإللغــاء صــريحاـ مــتى وجــد النص ،و صــراحته تقتضــي اإلشــارة إلى انتهــاء العمــل بالقــانون الســابق
وانتف ــاء إلزاميت ــه ،عن طري ــق اس ــتعمال ألف ــاظ و عب ــارات واض ــحة بم ــا ال ي ــدع مج ــاال للش ــك أو التأوي ــل،
بحيث تكــون لحظــة انقضــاء النص السـابقـ هي ذاتهـا لحظــة نفــاذ النص الجديـد إذا اســتبدله المشـرع بـآخر.
و هــو مــا أشــارت لــه المــادة 2فقــرة 2من القــانون المــدني بقولهــا " ...وال يجــوز إلغــاء قــانون إال بقــانون
1
الحق ينص صراحة على هذا اإللغاء "....
- 1محمد سعيد جعفور ،مدخل الى العلوم القانونية الوجيز في نظرية القانون ،دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ،الطبعة ،19الجزائر ،2008
ص .249
و األمثلة عديدة في هذا المجال منها مـا جـاء في قـانون العقوبـات الجزائـريـ عنـدما ألغى نص المـادة 10
من األمر 66/156المؤرخ 08جــوان 1966المعدلــة بمــوجب المــادة 01من القــانون 82/04المــؤرخ
في 13فبرايرـ ،1982و اللتان ألغيتا بموجب نص المادة 02من القــانون رقمـ 05-89المــؤرخ في 25
أفريل .1989فقد كانت المادة 10وفقـ األمــر 66/156تنص على مــا يلي" :االعتقــال هــو حجــز بعض
العائدين لإلجرام لمـدة غـير محـدودة في إحـدى مؤسسـاتـ التأهيـل االجتمـاعي" .ثم عـدلت بمـوجب القـانون
82/05فأصبحت تنص على" :االعتقال هو حجز بعض العائدين لإلجرام المذكورينـ في المادة 60مدة
غير محدد ة في إحدى مؤسساتـ التأهيل االجتمــاعي ،غــير أنــه ال يمكن تطــبيق الحجــز على النســاء مهمــا
يكن س ــنهن و ك ــذا على األش ــخاص ال ــذين يتج ــاوزـ عم ــرهم 60س ــنة أو يق ــل عن 18س ــنة وقت ارتك ــاب
الجريمة" .ثم ألغيت صراحة بموجب القانون.89/05
يكــون اإللغــاء الضــمني في حالــة تعــارض قــانون جديــد مــع قــانون قــديم ،أو في حالــة صــدورـ تشــريع جديــد
يعيد تنظيمـ مسألة تولى تنظيمهاـ تشــريع ســابقـ على نحــو مغــاير حيث يســتنتج من هــذا التعــارض ضــرورة
تطبيقـ النصوص الالحقة على حساب النصوص السابقة .و هو ما أشارت له
المادة 2فقرة 3من القانون المدني بقولها…" و قد يكـون اإللغـاء ضـمنيا إذا تضـمن القـانون الجديـد نصـا
يتعارض مع نص القانون القديم أو نظم من جديد موضوعا سبق أن قرر قواعده ذلك القــانون القــديم ".و
كمث ــال على اإللغ ــاء الض ــمني بإع ــادة تنظيم مس ــألة ت ــولى تنظيمه ـاـ تش ــريع س ــابق على نح ــو مغ ــاير ،نص
الم ــادة 09من األم ــر 66/156ال ــتي ك ــانت تحصــرـ العقوب ــات التكميلي ــة في 7أن ــواع بقوله ــا ":العقوب ــات
2
التكميلية هي:
.1االعتقال،
.2تحديد اإلقامة،
.3المنع من اإلقامة،
.5المصادرة الجزئية
لألموال،
.7نشر الحكم".
لكن القانون 89/05في مادته األولى أعاد تنظيمـ نفس مسألة بقوله" :العقوبات التكميلية هي.:
.1تحديد اإلقامة،
.2المنع من اإلقامة،
النوع األول و هو االعتقال .و مثال على اإللغاء الضمني في حالة تعـارض قـانون جديـد مـع قـانون قـديم
ما هو موجودـ في نص المادة 8من القانون رقم
.1عــزل المحكــوم عليــه و طــرده من جميــع الوظــائفـ و المناصــب الســامية في الحــزب أو الدولــة و كــذا
جميع الخدمات التي لها عالقة بالجريمة.
.2الحرمـ ــان من حـ ــق االنتخابـ ــات و الترشـ ــيح و على العمـ ــوم كـ ــل الحقـ ــوق الوطنيـ ــة و السياسـ ــية ،و من
حمل...الخ" فجملـة "المناصـب السياسـية في الحـزب" لم يعـد لهـا معـنى في ظـل الدسـتورـ الجديـد الـذي سـن
التعددي ـــة الحزبيـ ــة و بالتـ ــالي فال يمكن للقاض ـــي الحكم به ـــذا الحرمـ ــان ألنـ ــه يتعـ ــارض ضـ ــمنيا مـ ــع مبـ ــدأ
3
دستوري.
من أجــل الفهم الصــحيح و التطــبيق الصــحيح لقواعــد القــانون البــد من إزالــة التعــارض الــذي قــد يوجــد في
الظاهر بين قواعد القانون المختلفة و نقول أن التعارض قـد يوجـد في الظـاهر ألنـه من غـير المعقـول أن
يوجد تعارض حقيقي بين قواعد القانون بل البد من إزالة هذا التعارض بحيث ال تبقى إال قاعدة قانونية
واحـدة واجبـة اإلتبـاع و أهم قواعـد إزالـة التعـارض هي أن القاعـدة األعلى تبطـل القاعـدة األدنى المخالفـة
لها ،فقواعد القانون الدستوري ال يتصور مخالفتها من قواعد القــانون العــادي أو قواعــد القــانون الفــرعي،
- 3محمد سعيد جعفور ،المرجع السابق ،ص .251
وكــذلك فــإن قواعــد القــانون العــادي ال يتصــورـ مخالفتهــا من قواعــد القــانون الفــرعي و ال أهميــة في ذلــك
لمصـ ــدرـ القاعـ ــدة فكـ ــل مصـ ــادر القـ ــانون قـ ــادرة على خلـ ــق قواعـ ــد من درجـ ــات مختلفـ ــة ،فقواعـ ــد القـ ــانون
الدســـتوريـ قـــد تنشـــأ عن التشـــريع أو عن العـــرف أو عن القض ــاء و يكفي بالنس ــبة للقض ــاء أن نـــذكر أن
قاعدة رقابة القضاء الدستورية القوانين هي ذاتها قاعدة دستورية و هي من خلق القضاء ذاته.
و القاعــدة الثانيــة أن القاعــدة الالحقــة تلغي القاعــدة الســابقة المســاوية لهــا أو األدنى منهــا في القــوة ،و ال
أهمية لمصدر القاعدة الالحقة أو مصـدر القاعـدة السـابقة ،و تسـري في هـذا الشـأن قواعـد تنـازعـ القـوانين
في الزمــان من حيث إكمــال األثــر المباشــر لهــذا القــانون و انعــدام األثــر الــرجعي للقــانون الجديــد وهــو مــا
سنوضحه الحقا.
و القاعــدة الثالثــة أن القاعــدة الخاصــة تقيــد القاعــدة العامــة المســاوية أو األدنى منهــا في القــوة دون النظــر
إلى مص ـــدر ه ـــتين القاع ـــدتين و دون النظ ـــر إلى ت ـــاريخ العم ـــل بـ ــأي منهمـ ــا .أمـ ــا إذا لم تكن إزال ـــة ه ـــذا
التعارض بأن كانت كــل من القاعــدتين مســاوية لألخـرى في الدرجــة و معاصــرة لهــا في النشـأة و مطابقـة
لها في المعنى فال يكـون هنـاك بـد من طـرح هـتين القاعـدتين معـا إذ ال يمكن تطبيقهمـاـ في نفس الـوقت و
هذا االفتراض ناذر للغاية ،إال ما نتج عن خطأ أو سهو.
تنص المــادة 2من القــانون المــدني على مــا يلي " :ال يســري القــانون إلى على مــا يقــع في المســتقبل وال
يكون له أثر رجعي" .و أيدته أيضا المادة 2من قانون العقوبات بقولها" :ال يسري قانون العقوبات على
4
الماضي إال ما كان منه أقل شدة".
يعــني مبــدأ األثــر الفــوريـ للقــانون أن كــل تشــريع جديــد يطبــق فــورا منــذ تــاريخ ســريانه أي وقت نفــاذه،
فيحــدث آثــاره مباشــرة على كــل الوقــائع واألشــخاص المخــاطبين بــه على الحــاالت الــتي وقعت عقب نفــاذه
بص ــفة فوري ــة ومباش ــرة .فالق ــانون الجدي ــد يص ــدر ويطب ــق على الحاض ــر و المس ــتقبل ،ال على الماض ــي،
ويستخلص من ذلك أن القانون القديم يحكم الحاالت التي تمت في ظله ،فال يطبق عليهــا القــانون الجديــد.
فل ــو فرض ــنا أن قانونــاـ جدي ــدا ص ــار ناف ــذا الي ــوم ونص على تج ــريم فع ــل لم يك ــون مجرم ــا من قب ــل ،فمن
البــديهي أنــه يســري ابتــداء من اليــوم على كــل من يقــوم بهــذا الفعــل المجـ َّـرم ،وبالتــاليـ ال يمكن متابعــة من
قــامواـ بهــذا الفعــل في الماضــي ،و إن كــان حــتى بــاألمس مثال :لــو فرضــنا أن قــانون الماليــة لســنة 1998
- 4لحسن بن شيخ أث ملويا ،مدخل إلى دراسة القانون ،دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ،الطبعة األولى ،الجزائر ،2017ص .267
يفــرض ضــريبة على شــراء الســيارات ،فيكــون مشــتري الســيارة ملــزم بــأداء تلــك الضــريبة من أول يــوم
لســنة ،1998و إال اتهم بجريمــة التهــرب الضــريبيـ بعــد هــذا التــاريخ و لكن ال يلــزم بــأداء هــذه الضــريبة
كل األشخاص الذين اشــتروا سـيارة في العــام الماضـي ،وحـتى في آخـر يــوم لســنة .1997في خضـم عـدم
وجودـ الضريبة فال وجودـ لجرم التهرب الضريبي.
البــد من اإلشــارة إلى أن هــذا المبــدأ يخص بشــكل أدق القواعــد الشــكلية أو مــا يعــرف بالقواعــد اإلجرائيــة
ويرجعـ السبب في ذلك أن هدف اإلجراءات الشكلية عموما هــو إدراك الحقيقــة بأســرع وقت دون مســاس
بالقواعـ ــد المتعلقـ ــة بـ ــالتجريمـ و العقـ ــاب و الـ ــتي تقصـ ــدها الدسـ ــاتير و القـ ــوانين في تقريرهـ ــا عـ ــدم رجعيـ ــة
أحكامهـا على الماضـي و بالتـالي فـإن المتهم ال يضـارـ قـط من سـريان هـذه القواعـد مباشـرة عليـه ،بـل أنـه
على العكس ق ــد يس ــتفيد طالم ــا أن ك ــل تع ــديل لقاع ــدة إجرائي ــة مقص ــود ب ــه أص ــال محاول ــة إدراك الحقيق ــة
القضائية في وقت أقصرو بشكل أكثر يقينا ،كما أن هذا التعــديل لن يكــون لـه تــأثير على موقفــه القضــائي
و سلوكه الذي يتوجه إلى الجريمة و العقوبة وليس إلى اإلجراءات الجنائية
فالعبرة هي بوقت مباشرة اإلجراء و ليس بــوقت وقــوع الجريمــة الــتي يتخــذ اإلجــراء بمناســبتها ،فالقواعــد
اإلجرائيــة تســريـ من يــوم نفاذهــا بــأثر فــوريـ على القضــايا الــتي لم تكن قــد تم الفصــل فيهــا مــا لم ينص
القانون على خالف ذلك .ويكاد الفقه يتفق على أن مضمون القاعــدة أو موضــوعهاـ هــو الفيصــل في بيــان
طبيعته ــا القانوني ــة فتك ــون القاع ــدة موض ــوعية إذا ك ــان مض ــمونهاـ أو موض ــوعها يتعل ــق بح ــق الدول ــة في
العقــاب ســواء من حيث نشــأته أو تعديلــه أو انقضــائه بينمــا تكــون القاعــدة إجرائيــة إذا كــان موضــوعها أو
مضــمونها يتعلــق باألشــكال ة األســاليب و الكيفيــات الــتي ينبغي إتباعهــا في ســبيل اقتضــاء هــذا الحــق أمــام
الســلطة القضــائية ،بصــرفـ النظــر عن موقــع القاعــدة أي عن ورودهـاـ في قــانون العقوبــات أم اإلجــراءات
الجنائيــة ،و بصــرف النظــر عن الغايــة الــتي تســتهدفهاـ أي ســواء كــانت في مصــلحة الفــرد أم في مصــلحة
5
الجماعة.
بـالرغم من فـرط بداهـة هـذا المبـدأ فقـد أورد عليـه الشـارعـ اسـتثناءات منهـا مـا يتعلـق بالجريمـة و منهـا مـا
يتعلق بالجزاء إذ أن فورية التطبيق ال تسمح للقانون القديم من تجاوز نطاقه الزمني في التطبيق.
و أهم اس ــتثناء له ــذا المب ــدأ ه ــو و ج ــود النص الص ــريح على مخالف ــة التنفي ــذ الف ــوري للقاع ــدة القانوني ــة إذ
يجوزـ للمشرع أن ينص في تشريع خاص على تنفيذ القانون في وقت الحق نظرا لوجودـ ظــروف معينــة
من بين أبرز المبادئ و أهمها على اإلطالق مبدأ عدم رجعية القوانين الجنائية
يســري النص الجنـائي من تـاريخ نفــاذه فال تطبــق أحكامــه إال على األفعــال الـتي تــرتكب بعــد تـاريخ نفـاذه،
أما األفعال الـتي تـرتكب قبـل تـاريخ النفـاذ فال يشـملها .وهـو مـا سنوضــحه في هـذا المطلب بـإبراز مفهـوم
7
مبدأ عدم رجعية القوانين من حيث توقيت العمل بالقانون الجديد و من حيث توقيت ارتكاب الجريمة.
نصــت المــادة الثانيــة من قــانون العقوبــات على أنــه ال يســريـ قــانون العقوبــات على الماضــي ،كمــا تضــمن
الدســتورـ الجديــد أيضــا النص على هــذه القاعــدة الــتي عــرفت باســم عــدم رجعيــة أحكــام قــانون العقوبــات ،و
بمقتضى هذه القاعدة ال يجوز أن يحكم على شخص بعقوبة لفعل كان مباحا وقت ارتكاب.
كمــا ال يجــوز أيضــا أن يحكم على شـخص بعقوبـة أشــد من الـتي كــانت محــددة لهـا وقت ارتكابهــا و تســتند
هــذه القاعــدة المقــررة في الدســتورـ و في المــادة الثانيــة من قــانون العقوبــات على مبــدأ الشــرعية .فتوقيــع
- 6تيرش بلعسلي ويزة ،مدخل الى العلوم القانونية – نظرية القانون ، -دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ،الطبعة ،1الجزائر ،2018ص
.102
- 7تيرش بلعسلي ويزة ،نفسه ،ص .103
عقوبــة على فعــل كــان مباحــا وقت ارتكابــه معنــاه تجــريم فعــل بغــير نص تشــريعي،ـ كمــا أن توقيــع عقوبــة
اشد من تلك المحددة في النص الساري وقت ارتكـاب الجريمـة معنـاه تطـبيق عقوبـة بغـير نص تشـريعي،ـ
و هــو مــا يخــالف مبــدأ الشــرعية .و على ذلــك فقاعــدة عــدم رجعيــة نصــوص قــانون العقوبــات هي نتيجــة
حتمية ومنطقية لمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات .و قد نص الدستورـ المصري في مادته 188على انه
تنشــر القــوانين في الجريــدة الرســمية خالل أســبوعين من يــوم إصــدارها و يعمــل بهــا بعــد شــهر من اليــوم
التـــالي لتـــاريخ نشـــرها إال إذا حـــددت لـــذلك ميعـــادا آخـــر .كمـــا ق ــرر بالم ــادة 187ان ــه "ال تســـري أحكـــام
القوانين إال على ما يقع من تاريخ العمل بها و ال يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها.
المبدأ إذن ،أن أحكام القاعدة الجنائية ال تسريـ إال على ما يقع من تــاريخ العمـل بهـا ،و منـذ تلــك اللحظـة
يفــرض القــانون الجديــد ســلطانه على كافــة الجــرائم الــتي تقــع ابتــداء من هــدا التــاريخ .ومن جهــة أخــرى،
فالدســتور األردني و قــانون العقوبــات حــددا مــتى ينفــذ القــانون الجديــد بعــد نشــره في الجريــدة الرســمية و
الم ــدة هي ثالثين يوم ــا من تــاريخ نشــره و الي ــوم األول ال يحتســب .و العــبرة هي بــوقت العمــل بالقــانون
الجديد ال بتاريخ إصداره.
وينص الفصـ ــل الرابـ ــع من القـ ــانون الجنـ ــائي المغـ ــربي على انـ ــه ال يؤاخـ ــذ أحـ ــد على فعـ ــل لم يكن يعتـ ــبرـ
جريمة بمقتضى القانون الذي كان ساريا وقت ارتكابه.
ويشــير الفصــل الخــامس إلى انــه ال يســوغ مؤاخــذة أحــد على فعــل لم يعــد يعتــبر جريمــة بمقتضــى قــانون
صـــدر بعـــد ارتكاب ــه .فـــإن كـــان قـــد ص ــدر حكم باإلدان ــة ،ف ــإن العقوب ــات المحك ــوم به ــا ،أص ــلية ك ــانت أو
إضــافية ،يجعــل حــد لتنفيــذها .و تنص المــادة األولى من القــانون الجنــائي الســودان على انــه :يســمي هــذا
القانون " القانون الجنائي لسنة 1991م " ويعمل به بعد شهر من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية .ويطبقـ
8
القانون الذي كان معموالً به في وقت ارتكاب الجريمة (المادة الرابعة).
هناك بعض الجرائم التي ال يثـير تحديـد وقت ارتكابهـا أدنى صـعوبة ألنهـا تـرتكب وتتم في لحظـة واحـدة
من الزمان .فمن يطلق النار على غريمه فيخر على الفور صريعا ال يتردد أحد في تحديد وقت ارتكاب
الجريم ــة ألنه ــا تب ــدأ و تتم في لحظ ــة زمني ــة واح ــدة .فتحديــدـ وقت ارتك ــاب الجريم ــة خالل س ــريان النص
الجنـ ــائي ال يثـ ــير صـ ــعوبة بالنسـ ــبة للجريمـ ــة الوقتيـ ــة ،فالفعـ ــل يبـ ــدأ و ينتهي خالل فـ ــترة زمنيـ ــة وجـ ــيزة،
فالصــعوبة تظهــر في تلــك الجــرائم الــتي يــتراخى أمــدها في التنفيــذ ،تلــك الجــرائمـ الــتي اســتقر العــرف على
و هنـــاك ن ــوع آخـــر من الج ــرائم تس ــمى الج ــرائم االعتيادي ــة ،كالتس ــول فينبغي أن يتك ــرر الفع ــل في ظ ــل
القانون الجديد حتى يمكن القول بان الجريمة وقعت بعد نفاذه.
و هناك مالحظة هامة مؤداها أن االتفاق الجنائي على الجرائمـ المستمرة أو المتتابعة يطبق عليه القــانون
الجديد و لو كان أشد على المتهم ،طالما أن الجريمة المستمرة قد وقعت بعد العمل به.من جهة أخرى
* نظرية السلوك :طبقا لهده النظرية تكون العبرة في تحديد وقت الجريمة بوقت إتيان السلوك.
* نظريــة النتيجــة :طبقــا لهــا تكــون العــبرة بــوقت وقــوعـ النتيجــة ،والجريمــة تعتــبر مرتكبــة فقــط في ذلــك
الحين.
*نظريــة مختلطــة :ال تعتــد بالفعــل أو النتيجــة أيهمــا فقــط ،بــل تعتــد بهمــا معــا ،فتأخـذـ أحيانــا بــوقت ارتكــاب
10
الفعل وأحيانا أخرى بوقت وقوعـ النتيجة.
هناك استثناءين على هذا المبدأ هما تطبيق القــانون األصـلح للمتهم وحالــة النصــوص التفســيرية المرتبطـة
11
بقانون قديم.
المب ــدأ بالنس ــبة لقواع ــد الق ــانون الجن ــائي ه ــو عــدم رجعي ــة الق ــوانين و ه ــو يع ــد من النت ــائج المباش ــرة لمب ــدأ
شــرعية الجــرائم و العقوبــات الــذي يشــكل ضــمانة هامــة لحمايــة الحريــة الفرديــة للمــواطن و الــذي يقضــي
منطوقه بسريان القانون الذي يحكم الجرم وقت ارتكابه ،لكنه بالنظر إلى أن هذه القاعدة قد تقررت فقــط
لمصــلحة الفــرد وصــيانة لحريتــه فــان المنطقي هــو جــوازـ ســريان النص الجديــد بــأثر رجعيـ إذا كــان هــذا
النص أصــلح للمتهم .بالنســبة للتشــريع الجزائــريـ بعــد أن نصــت المــادة الثانيــة من قــانون العقوبــات على
قاعــدة عــدم رجعيــة قــوانين العقوبــات ،اســتثنت فيمــا بعــد القــوانين الــتي تكــون أقــل شــدة بــالمتهم بمعــنى أن
- 9نفسه ،ص .105
- 10محمد سعيد جعفور ،مرجع سابق ،ص .261
- 11نفسه ،ص .262
قانون العقوبات إذا كان أصلح للمتهم ،فانــه ينطبــق على أفعـال وقعت قبـل نفــاذه و يســتبعد بالتــالي القـانون
الـذي كـان سـاريا وقت وقـوع الفعـل الجنـائي .و حسـب نص المـادة الرابعـة من القـانون الجنـائي السـودانيـ
فإن ــه في حال ــة الج ــرائم ال ــتي لم يص ــدر فيه ــا حكم نه ــائي تطب ـقـ أحك ــام ه ــذا الق ــانون إذا ك ــان ه ــو األص ــلح
للمتهم .في التشريعـ المغربي و في حالة وجود عدة قوانين سارية المفعــول ،بين تــاريخ ارتكــاب الجريمــة
والحكم النه ــائي بش ــأنها ،يتعين تط ــبيقـ الق ــانون األص ــلح للمتهم .و بن ــاءا على ه ــذا ،هن ــاك ش ــرطان يجب
توافرهما لتطبيق القانون األصلح للمتهم و هما:
إن مسـالة تحديـد القـانون األصـلح للمتهم بين قـانونين أو أكـثر تعتـبر مسـالة قانونيـة بحتـة يقررهـا القاضـي
باعتبــاره القــائم على تطــبيقـ القــانون و ذلــك دون أخــذ رأي المتهم أو محاميــه.و تطبيقــا لــذلك فــان القــانون
الذي يؤديـ تطبيقه على متهم معين يتمتع مثال بظروف مخففة أو يؤدي إلى عدم توقيـع العقـاب أوتخفيفـه
أو وق ـفـ تنفيــذه يعتــبرـ هــدا القــانون هــو األصــلح للمتهم بصــرفـ النظــر عمــا إذا كــان تطبيقــه في حــاالت
أخــرى يــؤدي إلى التشــديد على متهمين آخــرين-كــل جريمــة ومجــرم على حــدة -مثال اعتبــار القتــل دفاعــا
عن المــال دفاعــا مشــروعا بعــد مــا كــان يعتــبر جريمــة.أو مثال حيــازة ســالح بــدون تــرخيص يصــبح عمال
غير مجرم في ظل القانون الجديد في حين انه مجرما في ظل القانون القديم.
ح ــتى يس ــتفيد المتهم من الق ــانون األص ــلح يجب أن يص ــدر ه ــدا الق ــانون قب ــل النط ــق ب ــالحكم النه ــائي على
المتهم ،أم ــا إذا ص ــدر حكم ــا نهائي ــا على المتهم فال يس ــتفيد من الق ــانون الجدي ــد ،احترام ــا لحجي ــة األحك ــام
النهائيــة و للمبــادئ األساســية للقــانون ،إال إذا كــان القــانون الجديــد قــد رفــع عن الفعــل صــفة التجــريم نهائيــا
وأصبح الفعل ال يشكل جريمة هنا يضحى بحجية الحكم النهائي تحقيقا للعدالة و المنطق .و تنص المادة
الخامسة من القانون الجنائي المصريـ على انه إذا صدر قانون بعد حكم نهائي (يقصد حكم بـات) يجعـل
الفعــل الــذي حكم على المجــرم من أجلــه غــير معــاقب عليــه يوقـفـ تنفيــذ الحكم و تنتهي آثــاره الجنائيــة .و
يكون القانون الجديد قد ألغى الجرم إذا صار بعد القانون الجديد غـير معـاقب عليـه كإلغـاء نص التجـريم،
و ي ــترتب على مث ــل ه ــدا الق ــانون ع ــدم إمك ــان الب ــدء في تنفي ــذ العقوب ــة ال ــتي ك ــانت ق ــد ص ــدرت أو ع ــدم
12
االستمرارـ فيهذا التنفيذ إذا كان قد بدأ أو إزالة ما نفذ منها إذا أمكن ،كرد مبلغ الغرامة مثال.
إن تط ـ ــبيق الق ـ ــانون الجن ـ ــائي من حيث الزم ـ ــان ل ـ ــه دالالت تنم عن رغب ـ ــة المش ـ ــرع في إعط ـ ــاء القواع ـ ــد
القانونيــة الصــفة الفوريــة إضــافة إلى قوتهـاـ اإللزاميــة وجــوب احترامهــا من قبــل كــل األشــخاص و الســيما
الـــذين يحـــاولون التملص من دائـــرة القـــانون تحت طائلـــة التعـــرض للعقوب ــات المناس ــبة .وإ لغـــاء القـــوانين
الجزائية يهدف عموما إلى إضفاء الشرعية على ما كان من المفترض أن يشكل حمايـة لحقـوق المـواطن
من كافة أنواع التعسفـ والغبن ،حتى وإ ن أصبح تعدد الجرائم شائعا مع تطورـ الــزمن ممــا يســتدعي قيــام
السلطات التشريعية بسن وتعديل أحكام عدة لكبح جماح الذين يتمردون على القــانون .وإ ذا كــانت القاعــدة
القانونية تتمتع بعدم رجعيتها فانه يالحظ في استثناءات هدا المبدأ بأنها عادلة إلى حد يسمح لفئات معينة
من المحكــوم عليهم بأحكــام متفاوتــة باالسـتفادة من التـدابير المخففـة أو حمـايتهمـ من أخــرى هي أشـد وطــأة
عليهم مقارنة باألحكام التي صدرت بحقهم .و على العموم و كــرأي شخصـيـ فانــه يجب تفصــيل األحكــام
ال ــتي يس ــتفيد من ت ــدابيرها أش ــخاص معين ــون دون غ ــيرهم من ال ــذين اعت ــادوا على ارتك ــاب الج ــرائم وال
تثنيهم عنها مراسيمـ العفو الرئاسي أو تطبيق القانون األصلح للمتهم.
كمـــا ينبغي الفحص الـــدقيق و المراجعـــة المســـتمرة للقـــوانين العقابي ــة لم ــا له ــا من أث ــر كب ــير في إصـــالح
المجتمعات ،فأي خطأ غير مقصودـ قد يكلف اآلخرين ثمنا باهظا ،و البد من توخيـ الحيطة والحذر عند
القيام بالتعديالت بما ال يمس بمصالح المجتمع و األفراد منتهجين فيذلك سياسة ناجعة تنم عن الحكمة و
بعد البصر وفق لقوانين نابعة من ثقافتنا نحن و مطبقة على الزمن الــذي نعيش فيــه ،ال قــوانين مســتوردة
من أزمنة غيرنا.
قائمة المراجع:
تــيرش بلعســلي ويــزة ،مــدخل الى العلــوم القانونيــة – نظريــة القــانون ، -دار هومــة للطباعــة والنشـرـ .1
والتوزيع ،الطبعة ،1الجزائرـ .2018
لحسـن بن شـيخ أث ملويـا ،مـدخل إلى دراسـة القـانون ،دار هومـة للطباعـة والنشـر والتوزيـع ،الطبعـة .2
األولى ،الجزائرـ .2017
محم ــد س ــعيد جعف ــور ،م ــدخل الى العل ــوم القانوني ــة الوج ــيزـ في نظري ــة الق ــانون ،دار هوم ــة للطباع ــة .3
والنشرـ والتوزيع،ـ الطبعة ،19الجزائر .2008