Professional Documents
Culture Documents
ملخص:
يذىب ادلخرج ادلسرحي عبد اجمليد اذلواس إىل أبعد من ذلك من خالؿ حبثو يف جوىر النص ادلسرحي ،ويف جوىر اإلنساف (حدود
التجربة اإلنسانية والتجربة اإلبداعية) والذىاب أيضا إىل عمق الوعي دبكونات العمل النفسية و الفلسفية والسياسية للمجتمع.
لقد ذبلى االشتغاؿ اجلمايل يف صبلة من األعماؿ ادلسرحية ادلغربية ،ديكن رصدىا أساسا على مستوى مكوف الفضاء ادلسرحي،
وعلى مستوى االشتغاؿ التقٍت ،وعلى مستوى لعب ادلمثل ،مث على مستوى الكتابة الدرامية .وديكن رصد ىذه ادلستويات اجلمالية
من خالؿ ذبارب متميزة تنتمي إىل حقل مسرح اذلواة و احملًتؼ ،الذي اعترب السؤاؿ اجلمايل من أىم قضاياه ،خاصة ضمن أسئلة
التجريب وخوض ادلشروع ادلسرحي احلديث بادلغرب .وسنقف عند مسرحية "نوستاجليا" اليت اقتبسها "عبد اجمليد اذلواس عن نص
للكاتب الروماين "ماتيٍت فيزنياؾ" عنواهنا األصلي "قصة دببة الباندا يرويها عازؼ الساكسفوف لو خليلة بفرنكفورت" و اليت
ستكوف زلور دراستنا التطبيقية حوؿ التجربة اإلخراجية بادلغرب،و ألف مسرحية "نوستاجليا" –يف رأينا -ربمل الكثَت من ادلفاىيم و
األساليب اإلخراجية اليت ذلا صلة بالبحث األكادديي ادلميز ،كما أهنا تعترب من ادلسرحيات ادلهمة يف الريربتوار ادلسرحي ادلغريب
احلديث.
الكلمات ادلفتاحية:
مسرح ; االخراج ادلسرحي ; الفضاء ادلسرحي ; اجلمالية ; الكتابة اإلخراجية ; االدب ادلغاريب ; التمثيل ; لعب ادلمثل ; ادلستويات
اجلمالية ; التجريب ; نوستاجليا ; عبد اجمليد اذلواس ; مسرح ادلغريب ; النص ادلسرحي
Résumé :
179
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
langue arabe, avec une certaine poésie, et qui démasque les maux d'une société
arabe déchiqueté par les courant de la mondialisation, et grâce a cela; notre
metteur en scène prouve encore une fois que le théâtre académique porte en lui
l'espoir, d'un nouveau théâtre maghrébin contemporain.
تأسست فرقة "أفروديت" سنة 1999لتطعم ادلشهد ادلسرحي ادلغريب بتجربة تقودىا رلموعة من
خرجيي ادلعهد العايل للفن ادلسرحي والتنشيط الثقايف ذلم وجهة نظر و قراءة مغايرة للمسرح ،انطالقا من قناعتهم
بأف ادلسرح يبٌت دبفاىيم علمية ويتأسس يف دائرة ورشة تتضافر فيها جهود التخصصات ادلختلفة(كتاب و سلرجوف
وسينوغرافيوف وشلثلوف) وعلى طاقم فٍت وتقٍت قار الذي من مهامو تطوير مفهوـ العمل ادلسرحي يف جوانبو اجلمالية
والتقنية.
رمست فرقة "أفروديت" معامل مسرح مغريب جديد ،انطالقا من مشروعها الفٍت دبسرحية "قصة حديقة
احليواف" قبل ذلك سنة 1998أخرج "عبد اجمليد اذلواس" مسرحية "شكوف طرز ادلا" منطلقا من نصوص قددية،
شكلت أرضية النص يف توظيفها ألزجاؿ أضبد دلسيح ،بدعم من وزارة الشؤوف الثقافية و برعاية ادلعهد الوطٍت
للموسيقى والرقص.
moyen de ال تنفصل أعماؿ فرقة "أفروديت" يف زلتوياهتا عن جعل ادلسرح أداة للمتعة "
،"plaisirلتشكل إطارا قانونيا خيوؿ ذلا أف تنظر إىل ادلسرح خارج مستوياتو النظرية ،بل أبعد من ذلك كورشة
للعمل ادلسرحي اإلبداعي يكوف برنارلها االشتغاؿ على النصوص و اإلخراج السينوغرايف والتشخيص و ادلوسيقى
و اإلدارة الفنية.
ينطلق فريق "أفروديت" على مستوى النص ،من التجربة الفردية للشخصيات ،ليشمل ما ىو إنساين،
مسائال بذلك حقيقة الكائن و اجملتمع اليت ال تنفصل قضاياه عما ىو كوين و إنساين فمثال حُت اقتباس و إخراج
مسرحية "إدوارد أليب" (قصة حديقة احليواف )the zoo storyمن لدف "بوحسُت مسعود" اليت حاوؿ تقريبها
من اجملتمع ادلغريب من خالؿ معاجلتو و تأويل و ربديد القيم واألبعاد اإلنسانية يف عمق ارتباطها بقضايا وجودية
هتم اإلنساف العريب كافة و ادلغريب على وجو اخلصوص.
قدـ "مسرح أفروديت يف سنو ،2000مسرحية "لعب الدراري" إقتباس "بوحسُت مسعود" وإخراج
"عبد العاطي مباركي" ،عن نص لػ"غريغوري غابور" مث يف سنة 2001قدموا عمال دراماتورجيا عن أشعار "فروغ
فرخزاد" قاـ بإخراجو "عبد اجمليد اذلواس" ناؿ اجلائزة الكربى للمهرجاف الدويل للمسرح اجلامعي بالدار البيضاء عاـ
180
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
. 2002حينها دخلت الفرقة يف ذبربة قيمة عن قضية هتم اجملتمع ادلغريب وىي سلسلة االعتقاالت السياسية اليت
شهدىا ادلغرب يف سنوات السبعينات وعنواهنا " 2004شجر ادلر" درماتورجيا و إخراج "عبد اجمليد اذلواس" ويف
عاـ 2005قدمت الفرقة مسرحية ذبريبية كاف لنص الشاعر العريب زلمود الدروش "شتاء ريتا الطويل" أساسا لو،
ضبل شعرية الرجل إىل ادلسرح بكثَت من احلرفية و اجلمالية مث مسرحية "فيولنسُت "violonsceneعن نص
ادلسرحي يهدؼ إيصاؿ أصوات األمهات العازيات "ألمل عيوش" وإخراج "عبد اجمليد اذلواس" فكاف العمل
دبعاجلتها دلوضوع مل يكن من السهل احلديث عنو يف السابق .
أما على مستوى اإلخراج و الذي يتجاوز الكليشيهات ادلعروفة اليت زبص حدود إدارة مكونات العرض
(من إدارة ادلمثلُت و التشكيل احلركي السينوغرافيا و ادلوسيقى) فإف الفرقة تذىب إىل أبعد من ذلك من خالؿ
حبثها يف جوىر النص ادلسرحي ،و يف جوىر اإلنساف (حدود التجربة اإلنسانية والتجربة اإلبداعية) و الذىاب
أيضا إىل عمق الوعي دبكونات العمل النفسية و الفلسفية والسياسية للمجتمع.
عبد اجمليد اذلواس بُت االحًتافية والتخصص:
يعد "عبد اجمليد اذلواس" من األمساء ادلسرحية اجلادة يف ادلشهد ادلسرحي بادلغرب احلديث إذ ديتاز بتعدد
االىتمامات ،فهو فناف تشكيلي وسينوغرايف ومتخصص يف فنوف اخلشبة وادلسرح.
منجذبا إىل كتابة شكل "عبد اجمليد اذلواس" استثناءا يكاد يكوف فيو -حالة خاصة ، -لكنو يظل
القصة باستمرار ،حيث صدرت لو عدة نصوص قصصية نشرىا يف بعض اجلرائد واجملالت ادلغربية والعربية ،وىي
نصوص تتميز بنوع من مراودة اللغة األدبية على نفسها والدفع هبا إىل ارتياد عادلو التشكيلي مستندا يف ذلك إىل
يكسر رتابة النثر وعاتقة حس مرىف يستنطق الواقع .إف نصوص "اذلواس" مهووسة بالوصف الشعري الذي
اللغة ففي ىذا اجملاؿ يقوؿ عن الكتابة بشكل عاـ":أكتب كي ال تتعطل الرئتاف عن عب اذلواء ،الكتابة نسغ
العارمة اليت تنافس الشغب يرمم أعطاب الروح كلما تقاطر النهار عليها بأحجار ثقيلة .اكتب لًتتيب الفوضى
اللذيذ يف مغازلة احلياة .الكتابة حذاء القدمُت احلافيتُت وأنا أكتب ألربايل على الفصوؿ ،وكلما تعطل الربيع
أينعت شقائق النعماف من دـ النوستاجليا*"
.1
181
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
،1984 ولد عبد اجمليد اذلواس سنة 1964يف مدينة تازة ،وقد درس دبسقط رأسو إىل حدود سنة
حيث حصل على شهادة البكالوريا ( آداب عصرية مزدوجة ) ،والتحق للدراسة بادلعهد العايل للفنوف ادلسرحية
والتنشيط الثقايف ) ، ( I.S.A.D.A.Cوناؿ دبلوـ التخصص يف السينوغرافيا سنة 1990بعد أربع سنوات
ليشتعل أستاذا يف نفس ادلعهد منذ زبرجو كأستاذ دلقياس السينوغرافيا وفنوف العرض.
يستيقظ السيد"بيلهوؿ" يف غرفة تعمها الفوضى على جسد إمرأة ترقد جبانبو ،ال يعرؼ من أين أتت،
لكنها تذكره بسهرة كاف يعزؼ فيها السكسفوف ويقرأ ذلا نصوص الشاعر الفرنسي "بودلَت" .ورغم ذلك ،ففي
استيقاظو يبدأ العامل كما لو كاف سَتتب من أولو ،فتبدو ادلرأة مستعجلة يف أف تنصرؼ ،لكنها ال تغادر إال بعد
أف تعده بأف تقضي وإياه تسع ليايل.
ىكذا تبدأ "قصة دببة الباندا اليت يرويها عازؼ السكسفوف والذي لو خليلة بفرنكفورت" حكاية
أبطاذلا أصوات يف شريط تسجيل اذلاتف ،سكاف عمارة ال نراىم إال عرب أصواهتم ،عصافَت ومهية تتوالد من لذة
الضوء مثل الفطر ،و حكايات عن األبناء الذين رحلوا و ظلت األشجار تدؿ عليهم ..و تتسرب احلكايات،
عرب تردد ادلرأة اليت ال ربمل اسم على سيد "بيلهوؿ " كل مساء ،لينمو من خالؿ ذلك دؼء غامض يف حياة
الرجل..لنتسائل يف النهاية يأيت فريق من الشرطة بصحبة جَتانو دلعاينتو إف كاف حيا فبعد تكسَت باب شقتو صلده
ميتا مند مدة.
نتساءؿ إذف ىل كاف حيلم احتضاره مقيدا دبحبة امرأة ىطلت عليو؟ أـ أف القصة ال أحد منا يعلم
تفاصيلها؟
مستوى لقد ذبلى االشتغاؿ اجلمايل يف صبلة من األعماؿ ادلسرحية ادلغربية ،ديكن رصدىا أساسا على
ادلمثل ،مث على مستوى الكتابة مكوف الفضاء ادلسرحي ،وعلى مستوى االشتغاؿ التقٍت ،وعلى مستوى لعب
182
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
الدرامية .وديكن رصد ىذه ادلستويات اجلمالية من خالؿ ذبارب متميزة تنتمي إىل حقل مسرح اذلواة و احملًتؼ،
احلديث الذي اعترب السؤاؿ اجلمايل من أىم قضاياه ،خاصة ضمن أسئلة التجريب وخوض ادلشروع ادلسرحي
بادلغرب .وسنقف عند مسرحية "نوستاجليا" اليت اقتبسها "عبد اجمليد اذلواس عن نص للكاتب الروماين "ماتيٍت
فيزنياؾ" عنواهنا األصلي "قصة دببة الباندا يرويها عازؼ سكسفوف لو خليلة بفرنكفورت" و اليت ستكوف زلور
دراستنا التطبيقية حوؿ التجربة اإلخراجية بادلغرب ،معرجُت على بعض التجارب ادلماثلة يف ىذه الديباجة ،و ألف
مسرحية "نوستاجليا" –يف رأينا -ربمل الكثَت من ادلفاىيم و األساليب اإلخراجية اليت ذلا صلة بالبحث األكادديي
ادلميز ،كما أهنا تعترب من ادلسرحيات ادلهمة يف الريربتوار ادلسرحي ادلغريب احلديث ويف ىذا السياؽ؛ سنحاوؿ قراءة
للنص ادلسرحي ادلغريب يف أبعاده و عالماتو وإضافاتو النوعية للكتابة الدرامية خاصة ماتعلق بالكتابة باللغة
الفصحى و اليت ربمل يف رأينا أبعادا ال زاؿ ادلسرح ادلغاريب جيهلها.
لقد انتعشت الكتابة الدرامية يف كتابات "عبد اجمليد اذلواس" منطلقة من رفض ىذا ادلسرح الذي يهادف
اإليديولوجية الرمسية 1حىت صارت -أي الكتابة الدرامية -عبارة عن نصوص مسرحية فاعلة تكسر أشكاؿ الكتابة
التقليدية وتقدـ صياغة درامية تضع نصب أعينها اخلشبة بكل خصائصها وخصوصياهتا ،فكانت النتيجة أف
أتاحت ىذه األساليب الدرامية "ابتداع مسرح تركييب صبع بُت الكلمة واحلركة ،واإلنارة وادلوسيقى ،كما أنو يقوـ
على احلدث ادلسرحي ضمن منظومات صبالية تأخذ شكل لوحات وتركيبات إحيائية وىذا ما جعل نصوص
"اذلواس" تفيض بشىت الرموز ،وينحو إىل التجديد ادلطلق أحيانا"(.)2
يعتمد "عبد اجمليد اذلواس" يف نصو "نوستاجليا" على اكتشاؼ مرجعيات فنية عديدة ،مند البدء يف
عملية اإلعداد الدراماتورجي ،فيتبٌت يف ىذه العملية على الذىاب وخباصة إىل األعماؿ التشكيلية ،تتقدمها أعماؿ
الرساـ البلجيكي"روين ماغَتت" الذي أشتهر داخل اجملموعة السريالية بلوحة "ىذا ليس غليونا" ،وكذا ببساطة و
عمق التجربة الواقعية عند "جوف فرنسوا ميلي"الذي أغوت أعمالو الرساـ الشهَت "سلفادور دايل" فاستلهمها يف
عدد من أعمالو الفنية.
183
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
حيرص"عبد اجمليد اذلواس" على التكامل بُت صباليات النص ادلسرحي وضرورة ادلتعة البصرية وعرب ذلك
ذبتمع لديو عناصر العرض(مستلزمات العرض انطالقا من إرشادات ادلؤلف) اليت حيتويها النص يف غالب األحياف.
إف وظيفة اللوحة التشكيلية داخل العرض ادلسرحي عنده ،ليست رىانا تزينيا بل تصَت ربمل دالالت ووظائف
متعددة ،فيمسي النص مشبعا بذات العناصر التشكيلية أو بعض منها ،فنص "ماتيٍت فيزنياؾ" ينطلق من التأثر
01و ،)02فكل األشياء اليت صلدىا يف النص (أنظر الصورة رقم
الكبَت و ادلعرفة ادلسبقة "لروين مارغريت" نقصد لوحاتو
ادلسرحي ىي لوحات مشهورة ومعروفة للفناف التشكيلي (فاكهة التفاح والسكسفوف و الطيور الومهية واألقفاص)
واخلفة اليت تتمتع هبا شخصية ادلرأة يف ادلسرحية ،صلدىا واقعيا عند شريكة الرساـ "روين مارغريت" ،فالعالقة
السلسة يف حياهتما واليت تنم عن حب استثنائي تتناسل من داخل أعماؿ الرساـ و تتجانس بالعناصر ادلركبة
لقصة "فيزنياؾ" ادلسرحية .
أحاط "اذلواس" عملو النصي بكثَت من الشاعرية يف ربويل النص إىل اللغة الفصحى ،زلمال إياه الكثَت
من الشعرية و احلوارات القصَتة اليت تبدو ك ػ "مسرح العبث" و لو أف ىذا النص ال ينتمي إطالقا ذلذا االذباه الفٍت
يف تركيبتو الدراماتورجية و ال يف صياغتو لألحداث و ادلواقف الدرامية.
يتأسس نص "نوستاجليا" على حوارية ثنائية مابُت شخصيتُت "ىو" و"ىي" و ال يقف عند حدود البعد
ادلعريف ذلذه الشخصيات و إمنا يتجاوز ذلك إىل أبعاد التعبَت عن لواعج الشخصية وأحاسيسها العميقة؛ آىاهتا
حصرهتا ...بأحرؼ من األجبدية ذبعل ادلتلقي يتأوه معها حُت القراءة فيعيش بذلك ما تعيشو الشخصيات و ردبا
يتطهر من أدراهنا كما يذىب إىل ذلك "أرسطو" ( . )3ولعل ىذا ادلقطع من مشهد "الليلة الثامنة" يفصح عن
ذلك:
184
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
ىو :أ.
ىي:أريد "أ" رخيمة.
ىو :أ.
ىي :قل "أ" كما لو كنت تقوؿ يل أحبك.
ىو" :أ"
ىي :قل "أ" كما لو كنت تقوؿ يل أنك أبداً لن تنساين.
ىو :أ.
ىي :قل "أ" كما لو كنت تقوؿ يل أنك مغفل.
ىو :أ.
ىي :قل "أ" كما لو كنت تقوؿ يل"إبقي"
ىو :أ.
ىي :قل "أ" كما لو كنت تقوؿ تسالٍت دلاذا تأخرت.
()4
ىو :أ.
ال تكمن جرأة الكتابة /االقتباس عند "عبد اجمليد اذلواس" فقط على ادلستوى اجلمايل النفسي ،بل
تتعداه يف تناوذلا للمكبوت وادلمنوع؛ حيث يشتغل على ادلوضوعات اليت سبس العالقات اإلنسانية واجلنس واجلسد
وكل العوامل اليت يعيشها الرجل وادلرأة من وجهة نظر مغايرة ،يف تأسيسها جلملة من احملطات النفسية اليت قد
تصيب العقل العريب من جهة و الفناف من جهة أخرى .يتجزأ النص إىل وحدات تتكوف من إحدى عشر
مشهدا ،ذو بعد زمٍت متعدد )*( فتقضي وإياه تسع ليايل إضافة إىل االستهالؿ و النهاية اليت تأيت يف الصباح ،مث أف
لكل مشهد تفاصيل عن صفات ادلكاف من خالؿ إرشادات ادلؤلف" "Didascalieاليت تؤسس لإلخراج لدى
"اذلواس" وكأنو ال يقوـ دبعاجلة النص ،ألنو ىو الذي اقتبسو عن النص األوؿ لػ ػ" ماتيٍت فيزنياؾ" وبالتايل النص
مقتبسا مسبقا لإلخراج.
185
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
أما عن الشخصيات ادلسرحية ،فهي شخصيات تشبهنا ،تتأسس بدوف مساحيق إضافية والعالقة فيما
بينها وادلواقف اليت ربياىا ىي اليت زبلق الغرابة أحياناُ ،و قد تبدو "عبثية" أو "طبيعية" أو لعلها دوف ذلك ،فهي
شخصيات متخيلة من لدف الكاتب األصلي حىت و إف كانت شخصيات حقيقية "ربمل يف طياهتا سَتة احلياة"
( ، )5تنطق لغة قريبة من اجملتمع أحيانا و مبتعدة عنو أحيانا آخر ،والبد من اإلشارة أف ىذه الشخصيات ضامرة
بفعل الوجود ،وىو ثراؤىا الوحيد سبنح منو يف صمتو تناـ ،و ال أحد منا يعلم من أين أتت ؟ و ال أحد يستهويو
أين ستمضي؟
نلمح فيها صدى "صامويل بيكت" ،و أحيانا عبث "يوجُت يونسكو" و أحيانا ال نستقر إال يف ىوؿ
"آراباؿ" ،ألف أبطاؿ ادلسرحية ىم ادلواقف ذاهتا اليت ربياىا الشخصيات ،تلك اليت تتصرؼ بعمق واقعي كي تفرز
عرب مسامعنا عبث الوجود.
شخصية ادلرأة؛ عنيدة ورقيقة ربمل صفات ادلرأة الفرنسية ادلتحررة من كل القيود االجتماعية واألخالقية
التقليدية ،تبدو يف ادلسرحية و كأهنا خياؿ يسبح يف ذاكرة الرجل ،دومنا إزعاج تدللػو وترعاه طواؿ الليايل اليت بقت
إىل جانبو ،وىذا ادلقطع من النص يفضي عن ذلك:
186
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
التسجيل ىاتف بيتو ،لنكتشف أف ىذه الشخصية زلاطة دبجموعة أصوات ال نلمحها يف النص ،فهو جد قلق
يعيش يف شبو عزلة عن الناس نظراً لذاتيتو ادلفرطة " ،"egocentrismeوكأنو يشبو شخصية اللوحة اليت رمسها
"روين مارغريت" (أنظر الصورة رقم ) 01يف توحدىا و انشغاذلا هبمومها اليومية دوف التواصل احلقيقي مع الكائنات احمليطة
هبا ذىنيا ،شخصيات ال تبدو للعياف لكنها حاضرة يف دىنو كأهنا تقامسو اذلموـ و زبفف عنو عناء الغياب.
يتشكل النص من حوار بُت الشخصيتُت و بُت أصواهتم فال نرى يف ادلشهد األخَت وما قبلو إال أصوات
تتحدث لتبلغنا عن كثَت من حيثيات النص و راىن شخصياتو .ليقوـ ادلخرج أثناء العرض ،بتتبع مضموهنا مقتفيا
أثر نفس العملية اإلخراجية لتلك الكلمات عرب أصوات مسجلة تاركا الصورة الديكورية تتحدث موازاة مع ىذه
األصوات بفعل تشكيلي.
إف النص عند "عبد اجمليد اذلواس" يتأسس على تعريف القارئ العريب ،على كاتب لو صيت كبَت يف
اآلداب األجنبية و يعلل ذلك الباحث حكيم عنكر بقولو ":نقرأ ذبربة يف احللم اإلنساين ،ونتعرؼ عن ىذا
()8
و كذا رغبة منو كسينوغراؼ ادلزاوجة مابُت الكاتب الذي ال نعرؼ عنو إال الشيء القليل يف العامل العريب".
اإلخراج ادلسرحي و الفنوف التشكيلية.
187
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
ينطلق التشكيل احلركي يف مسرحية "نوستاجليا" من استهواء ادلخرج كثَتا دبرجعيات تشكيلية فنية عدة،
ففي خضم عملية اإلعداد اإلخراجي تبٌت ووجو "عبد اجمليد اذلواس" رؤيتو انطالقا من رلموعة من األعماؿ
التشكيلية تتقدمها أعماؿ الرساـ البلجيكي "روين مارغريت" اليت تتالقى وتتقارب مشهديا يف تلحقها بالفن
(أنظر الصورة رقم 03و 04
التشكيلي ،إذ نالحظ حضور اللوحة التشكيلية ضمن ديكور ادلسرحية ،حاضرة وبارزة للعياف
)
يبدأ ادلشهد األوؿ بتشكيل حركي بسيط إذ بعد رفع الستار صلد غرفة تعمها الفوضى ورجل نائم على
سرير ،يفيق بدىشة وجود امرأة جبانبو يف الفراش ،ويبدأ ادلخرج يف تشويق ادلتلقي حوؿ من أين أتت؟ كيف
وصلت لغرفتو ؟ و يبدأ حييك يف قصة ادلشهد األوؿ عرب سَت الرجل يف خطوط مستقيمة مث يدخل احلماـ ادلوجود
يف اجلهة اليمٌت للغرفة ،وادلرأة باقية يف مكاهنا على السرير تكلمو بكل رومانسية عن رليئها وكيف التقت بو ،و
ىو يكثر عليها يف األسئلة كي يعرؼ حقيقة وجودىا يف بيتو ،تبدو ادلرأة مستعجلة يف أف تنصرؼ ،وحينما تريد
اخلروج ال يرغب يف ذلك فيًتجاىا أف تبقى معو وبعد برىة ،تعده بأف تعود تسعة لياؿ و ينتهي ادلشهد بسماع
صوت مسجل على اذلاتف لصديقة أخرى لو ،تدعوه يف الرسالة الصوتية أف يتصل هبا.
بذلك يبدأ ادلخرج يف توصيل رؤاه اإلخراجية يف جو سبأله األسئلة عن الوجود ،عن الفرد ،من خالؿ
تسعة ليايل تعود فيها ادلرأة كل ليلة بفستاف جديد،لتسرب احلكايات عربر ترددىا ولتعيد ترتيب حكاية رجل فقد
ذاكرتو وماضيو وبقي وحيدا يف شقتو بعمارة ال نعرؼ عن سكاهنا إال حضور أصواهتم ،فينمو لديو ذاؾ الدؼء
الغامض.
يتميز التشكيل احلركي عند "عبد اجمليد اذلواس" يف تقليص احلركة ،إذ صلده يستغرقها يف النص ويوحد
بينهما من خالؿ الوضعيات اجلسمانية اليت تفصح عن مكنوف األفكار اإلخراجية ،مستعينا يف ذلك بأسلوب
)*( من خالؿ إلباس ادلنهجية النفسية "لستانيسالفسكي" يف أداء ادلمثل ،و كذا تعاليم "إدوارد كوردف كريج"
ادلشهد حلة ادلعاصرة ،أضفى عليها مظاىر العصر احلديث وذلك من خالؿ تنوع الرؤى يف معاجلاتو اإلخراجية ،
اليت اتسمت باجلدة و اجلرأة ،حيث ضلس بالعمل ادلخربي الذي دعا إليو "كريج" من خالؿ ادلنحوتات اليت قدـ
هبا مسرحية "ىاملت" على سبيل ادلثاؿ ،فنفس الشئ نلمسو عند "اذلواس" يف حضور اللوحة التشكيلية داخل
188
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
فضاءه ادلسرحي ،والذي يعترب دبثابة تأثَت مباشر و جلي ذلذا ادلنهج على رؤيتو ،كما أف ادلخرج نفسو يذكر ذلك
حينما يقوؿ..":إذ تنتفي اللوحة كحضور مادي لتصبح ادلشهد ادلسرحي ذاتو ،بأبعاده الثالثة اليت تقودنا إىل
التجسيم و الذي ىو خاصية النحت"(.)9
إف جل اخلطوط اليت يستعينها ادلخرج يف تشكيلو احلركي تنبع من وعيو دبستويات الفضاء ادلسرحي،
كما أف جل التحركات تتأسس وفق معرفتو ادلسبقة للنص من جهة ،و معرفتو لعمق شخصياتو ادلسرحية من جهة
أخرى ،ألف آلية ادليزنسُت يف العرض ادلسرحي تشتغل على ثالثة قوائم ،أوذلا اإلنساف (ادلمثل) وثانيها ادلكاف
(الفضاء ادلسرحي ) وثالثها الصورة (ادلوضوع) ،فقد عمد ادلخرج على ادلزج بُت العناصر الثالثة بتجانس زلكم،
لتمرير خطاب السينوغرافيا (ألنو سينوغراؼ قبل كل شيء) وخطاب النص الذي ديتزج بقضايا نفسية يتمحور
حوذلا موضوع ادلسرحية.
إف اخلطوط يف مسرحية "نوستاجليا" تتمتع خباصية التزاوج مع الفضاء السينوغرايف خاصة منو الديكور،
حيث أف كل حركات ادلمثلُت تسَت وفق منطق واحد ىو إبراز عالمات ادلوجودة يف الديكور " ،فاحلركة اليت ىي
أكثر دالئل احلياة وضوحا " ( )10ونلمح ذلك جليا يف كثَت من ادلشاىد خاصة مشهد الليلة الرابعة حينما تأتيو
هبدية متمثلة يف قفص طائر مدثر بغطاء أسود ،لنجد الرجل يف عمق الفضاء جبانب اللوحة ،وكأنو ظلها،حياوؿ
من خالؿ حركة الوقوؼ تقليد ىذا العمل الفٍت ادلتمثل يف اللوحتُت لنفس الفناف –روين مارغريت
بالنسبة للكتل اعتمد ادلخرج يف حركتو الدائمة مند بدء ادلشهد األوؿ ،عدـ السقوط يف االختالؿ،
باعتباره سينوغرافياً من جهة ،وكذا ربكمو يف كل أدوات عرضو ادلسرحي ،من مفردات ديكورية وإكسسوارات و
حىت أجساـ ادلمثلُت اليت شكلت جزءا من السينوغرافيا ككل .اعتبارا من كوف جل الكتل اليت استخدمها يف
شقها ادلتحرؾ أو الثابت صممت يف إطار التشكيل احلركي وفق منظور ادلشاىد كي ال تعيق الفرجة ،و تسمح
بتبياف كل جزئية أرادىا ادلخرج ،فاإلخراج يف نظرنا يبٌت على اجلزئيات الصغَتة" ألف احلركة ادلعربة رلردة دوف
كلمات ىي لغة عادلية" ( )11على حد تعبَت أبو احلسن سالـ.
189
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
حاوؿ ادلخرج عرب توزيعو أف جيعل جلميع الكتل دالالت تتحوؿ و تتغَت وفق ادلشهد من خالؿ اإلنارة
اليت لعبت دوراً يف منحنا التباين مابُت الضوء و الظالـ و كذا الظالؿ اليت كانت مفتاح رؤيتو اإلخراجية ،إذ من
خالؿ اللعب على تغيَت اإلنارة تتحوؿ ىذه الكتل –خاصة منها ادلتحركة -وتعمق األجواء العامة للمشهد
ادلسرحي يف حركتها أو حىت يف سكوهنا.
استطاع ادلخرج أف ديأل فضاءه ادلسرحي لكل مناطق التمثيل من خالؿ تقنية التنوع ،إال أننا الحظنا
تكرار يف بعض التشكيالت احلركية خاصة أثناء عبور ادلمثلُت من منطقة إىل أخرى وكانت تبدو رلرد زخرفة ال
تنبع من عمق الفعل ادلسرحي يف بعض األحياف ،بذريعة رسم تنويعات ولردبا السبب يف ذلك ىو أف العرض نفسو
متكوف من شخصيتُت ،ومن الصعب التنويع يف مثل ىذا النوع من التوزيع خاصة و أف الديكور ديأل نسبة كبَتة
من الفضاء ادلسرحي .كما أنو من الصعب تشكيل ادلثلث حىت ولو أف ادلخرج يستعُت بقطع ديكورية أو
إكسسوارات حىت خيلق التوازف يف فضاءه ادلسرحي.
ودبا أف ادلخرج ىو الشخص الوحيد ادلسؤوؿ عن تنظيم عمليات الدخوؿ واخلروج يف تصميم ادلنصة من
جهة ،وإشراؾ ادلشاىد يف منطق الرؤية اإلخراجية من جهة أخرى ،فإف طريقة الدخوؿ واخلروج ذلما أمهيتهما يف
إنتاج ادلعاين والقيم الدرامية واجلمالية ادلطلوبة ،لذا ففضاء "نوستاجليا" تكوف من غرفة ذلا ثالثة سلارج األوؿ عبارة
عن مدخل للحماـ والثاين مدخل ادلطبخ و الثالث باب للخروج ،كما يوجد شرفة يف أعلى اليمُت و يتوسط
الفضاء يف أعاله لوحة تشكيلية (أنظر الرسم التشكيلي التايل)
190
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
191
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
يندرج الفضاء السينوغرايف يف مسرحية"نوستاجليا" ظاىريا إىل مكاف واقعي(غرفة كبَتة) حيدد رلاؿ اللعب
" "air de jeuوىو زلايد و مغاير شكليا من حيث اإليهاـ الذي حييل عليو ،والذي ديأل عمقو من مضامُت
يصبو ادلخرج إليها .فالفضاء سندا للموقف الدرامي ادلعاش (خالؿ تسعة لياؿ) داخل العرض ادلسرحي ،وانسيايب
متحلل داخل ىذا ادلزج والتقابل بُت ىذه االختيارات اجلمالية والدالالت ادلستنبتة من ادلقاربة التشكيلية للعمل،
ففي عمق اخلشبة –كما سبق ذكره يف العنصر السابق – نافدة يف أعلى اليمُت حياذيها يف أعلى الوسط بقليل من
العمق لوحة زيتية للفناف "روين مارغريت" و من اجلهة اليسرى بابُت األوؿ ديثل مدخل ادلطبخ و الثاين باب اخلروج
يتوسطهما طاولة صغَتة وضع عليها اذلاتف،مث كرسي متأرجح موجود يف أسفل اليسار ،أما يف اجلهة وسط اليمُت
ديتد فراش على شكل سرير ،و يف أسفل اليسار طاولة زلاطة بكرسيُت من اخلشب.إضافة إىل الفضاءات الدرامية
ادلتعددة ادلوجودة يف ىذا ادلكاف فال شيء فيها يدفعنا إىل الًتميز أو التشفَت فهي ديكورات واقعية واضحة و بينة.
لكن شبة إضافات مهمة يفًتضها التشكيل احلركي(ادليزانسُت) و الرؤية اإلخراجية من ذبسيد لفضاءات
خارجية مثل احلديقة و السطح ادلفتوح على مساء مقمرة و ىي ذاهتا العناصر السينوغرافية اليت تستمد وجودىا و
حضورىا من عوامل الفناف التشكيلي"روين مارغريت".
ىذا التداخل ،ىو يف احلقيقة الذي دينح رؤية ادلخرج و فضاءه السينوغرايف سحرا ،تستلهم منو
السينوغرافيا البساطة من حيث ذبانس الفضاء بأمكنة متعددة عادة ما تكوف منفصلة يف حياتنا الواقعية وألف
فلسفة اللوحة التشكيلية تفرض حضورىا الرمزي و الواقعي يف الوقت نفسو.
ديكن القوؿ إ ّف فضاء"عبد اجمليد اذلواس" ىو فضاء اسًتجاعي ( ،)12ثابت و متحوؿ ،ترتسم داخلو
شخصيتا ادلرأة والرجل ،اللذاف يرسم ذلما اللباس خصوصيات إضافية تعمق ذائقتهما كشخصُت ويكشف من
خالؿ بساطتو طينة شخصيات ادلسرحية .لتتحد صبيعها وتصب يف ىدؼ واحد ىو إنتاج ( لغة الصورة ) دينامية
الصورة يف تواصل مستمر ،وىي تشكل سلسلة من الصور تشَت إىل أفكار ٍ
ومعاف ،وتقرأ بادلستوى الفكري
والنفسي وبالتايل؛ فإف زلاولة القراءة ىذه ىي الوقوؼ على مكونات الصورة ومسح عن معادلها ما ىو ال منتمي
ومشوش ،وبأكثر دقة ما ال يقرأ أو ليس لو معٌت .يبحث ادلتفرج دائماً عن اذلدؼ وادلعٌت من
منها وما ىو غامض ّ
192
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
خالؿ الصور ،ومن خالؿ التشكيل احلركي للمشهد" .فهنالك ثالثة عناصر مهمة فقط يف العرض ادلسرحي ىي
()13
ادلناظر ادلسرحية واإلضاءة واإلكسسوارات"
إف عملية ربويل و تغَت الديكور معتمدة يف مسرحية "نوستاجليا" بسيطة بسبب أف الفضاء ال حيتمل
تغَتات جوىرية خالؿ صَتورة العرض ادلسرحي باستثناء التدرج من مشهد إىل أخر أو عرب تغَتات بسيطة يف
الفضاءات ادلتخيلة من طرؼ شخصية الرجل ،أو حينما هتديو ادلرأة قفص ،سبأل الغرفة يف ادلشهد الذي يليو،
دبجموعة من األقفاص ،و كأف ذاؾ الكائن الذي أىدتو قد توالد .كما يتم التغَت على مستوى أعلى ادلنصة،
حينما تظهر لوحة جديدة يف الفضاء ادلسرحي متمثلة يف منظر لغابة يف األفق ،مث يف مشهد آخر تنزاح اللوحة
الزيتية ليأيت مكاهنا منظر للسماء ليلية يعلوىا ىالؿ (اعتربنا أف ىذا التداخل مابُت اللوحة اليت رمسها "روين
مارغريت" و ادلشهد الواقعي ىو دبثابة إعادة تشكيلية لنفس اللوحة و دينح السينوغرافيا ذاؾ الطابع
( ( )14انظر سلسلة الصور اليت تدؿ على التغَتات اليت طرأت على ديكور ادلسرحية.).
). السحري
الشك بأف التجربة الفنية لعبد اجمليد اذلواس ،بكل رلاالهتا (كتابة القصة القصَت -فنوف تشكيلية-و
السينوغرافيا)باتت تثبت بأف احلالة اإلبداعية تتمخض عنها أسس وقواعد معرفية اليت من خالذلا ضلدد الصفة
اإلبداعية ادلبتكرة ،فمن خالؿ التجارب اليت عرفت يف ادلاضي واستنباط النتائج ادلثمرة ،قد أفادت احلاضر كثَتاً،
ومهدت السبل الكتشافات جديدة يف تقدـ و بلورة مفاىيمو للمسرح " .وديكننا أف صلد يف العروض ادلسرحية
ادلعاصرة تأثَتات واضحة لكل من ستانسالفسكي ومايرىولد وبرخيت وذلك من خالؿ أحباثهم ودراستهم الفنية
()15
ومتطورة خالؿ
ّ لقد أنتج ادلسرح عروضاً مهمة لتحقيق الوحدة ما بُت خشبة ادلسرح وصالة ادلتفرجُت"
السنوات األخَتة يفوؽ ما أنتجو طواؿ عمره الطويل ،على مستوى العرض وليس على مستوى النص .فما من
شك أف (شكسبَت) خَت من كتب للمسرح بعبقرية فذة ال مثيل ذلا لكن العروض يف زمنو ال ترتقي إىل نصوصو،
فالتطور الذي حصل للمسرح يف العصر احلديث ىو من
ّ ويف عصرنا احلديث قدموا عروضاً لنصوصو تفوؽ اخلياؿ،
تطور استخدامات التكنولوجيا ،والوسائل الفنية األخرى واستخدامات عناصر السينوغرافيا بشكل جيد
خالؿ ّ
على ادلستوى العلمي والفٍت يف آف واحد .
193
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
لعبت الصورة يف مسرحية "نوستاجليا" الدور األساسي يف تأكيد صبالية الشكل ،وما يثَته ىذا الشكل
من ذبليات يف نفس(ادلتلقي) .إف معرفة الصورة ادلسرحية يأيت من خالؿ اإلدراؾ ،وىو االنطباع الذي تكونت من
خاللو معادلها داخل النفس ،وترسخت فيها ،وهبذا خيرج تفسَتنا عنها إما سليب أو إجيايب تبعاً حلاالت النفس،
كل العصور ،فهي يف ظاىرىا
خاصة يف ّ
وىي اليت ربدد تفسَتاتنا للصورة وإطالؽ أحكامنا عنها ،فالصورة " سلطة ّ
رلرد وسيط ،ويف جوىرىا ّقوة تتجاوز الوسيط لتتملك ادلشاىد ،ومن ىنا يأيت خطرىا إهنا أشبو بالعصا اليت
ّ
()16
ومادة صوغها وطرؽ عرضها".
تستحيل إىل أفعى يف صيغة إعجازيّة مهما تعددت أشكاذلا ّ
فتأثَت العناصر السينوغرافية على بعضها البعض ،من أجل تكوين فضاء العرض وإنتاج صور مؤثرة تنحو
إىل قوة االرتباط بادلخيلة وبالواقع يف الوقت نفسو،فالعرض يثَت فينا قوة ىذا االرتباط ويشدنا ضلو أحداثو اليت
صنعها ادلخرج عرب رؤيتو اإلخراجية ،وىذا يؤكد لنا على أف مفاىيم كثَتة عززت ارتباطنا بالصورة وادلفهوـ البصري
" " info- médiaأي االتصاؿ بالصورة" .فإف يف عصرنا احلايل الذي يسمى حبق عصر اإلنفو -ميديا،
وزف الكلمات ال يساوي صدمة الصور وكما يؤكد خرباء علم االتصاؿ :عندما تكوف الصورة قوية ومؤثرة تطمس
الصوت وتتغلب العُت على األذف .)17("...
إف ىدؼ الفضاء السينوغرايف يف مسرحية "نوستاجليا" ىو انصهار صبيع العناصر ،لتصب يف اذباه واحد
من أجل ربقيق رؤية ادلخرج؛ فاألزياء واإلضاءة زبلق حالة من التوافق مع الديكور ليتكوف فضاءا منسقا مكانياً
وتشكيلياً .كل ما حيقق الصورة ادلسرحية بكاملها أماـ ادلتفرج وبعكسو ستصبح السينوغرافيا ناقصة بغياب واحدة
من مكوناهتا ،وعليو فإف السينوغرافيا ىي" :الفن الذي يرسم التصورات من أجل إضفاء معٌت على الفضاء "
( .)18وإضفاء ادلعٌت يف وصوؿ الفكرة لن يًتؾ مكوناً من ادلكونات اليت ربقق تشكيل الفضاء وتنسيقو إال
استخدمتها .إذف "ىي العملية األىم يف عمل ادلخرج على إعداد العرض ادلسرحي من أجل الوصوؿ إىل التكامل
()19
الفٍت يف العرض ادلسرحي"
194
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
لقد قدـ لنا "عبد اجمليد اذلواس" لوحة تشكيلية متحولة من خالؿ الفضاء السينوغرايف
دلسرحية"نوستاجليا" معتمدا على مهاراتو التشكيلية يف تداخلها مع التشكيل احلركي وإضفاء صبالية خاصة نابعة
من خياراتو الفنية ،هبدؼ ربقيق الفرضيات اليت رغب يف الوصوؿ إليها من خالؿ تفكيك الفضاء و ذبزيئو وانتقاء
ما جيلب ادلتعة ادلرجوة للمشاىد ،فجمع جل العناصر السينوغرافية لتكوف وحدة متكاملة ،وألف حضور كل
عنصر من العناصر حيقق أمهيتو يف العرض ،فالديكور مهم سواء يف النص ،أو يف العرض ،فالكاتب ادلسرحي
الديكن أف يكتب نصو ما مل يضع يف سليلتو شكل الديكور وتفصيالتو ،ففي النص ىنالك ديكور مرسوـ بدقة،
"ىناؾ ثالثة أنواع رئيسة للديكور :الواقعي والتعبَتي واخلشبة العارية ،وبالرغم من أنو ليس ىناؾ خطوط واضحة
تفصل بُت ىذه األنواع الثالثة إال أف لكل منها خصائصو اليت ال يشاركو فيها النوعاف اآلخراف واألىم من ذلك
()20
ىو أف لكل منها ميزاتو ومساوئو"
فضاء "نوستاجليا " ثابت يف ماديتو ومتحوؿ برؤية ادلخرج اليت كانت دبثابة لوحة تشكيلة أخرى تضاؼ
للوحات اليت يستعُت هبا يف إخراجو للمسرحية ،وما نعيب على ادلخرج أثناء العرض تلك ادلسافات الزمنية ادلظلمة
اليت كانت تعيق أفق توقع ادلتلقي ،ففي رأينا كانت تبدو و كأهنا وقفات تعيدنا إىل دواتنا -كمشاىدين -ومل يوفق
ادلخرج يف تقليص وقتها ألهنا كانت تشتت تلقى العرض على ٍ
كل؛ مل يكن ىذا الفضاء متكامال لوال حضور
ادلفردات األخرى للسينوغرافيا اليت تعترب دبثابة العالمات احملركة لكل ىذه التفاصيل.
195
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
الهوامش:
)1ىو مصطلح يستخدـ لوصف احلنُت إيل ادلاضي ،أصل الكلمة يرجع إيل اللغة اليونانية إذ تشَت إيل األمل الذي يعانيو ادلريض إثر حنينو
للعودة لبيتو وخوفو من عدـ سبكنو من ذلك لألبد.مت وصفها علي اهنا حالة مرضية أو شكل من اشكاؿ االكتئاب يف بدايات احلقبة احلديثة
مث أصبحت بعد ذلك موضوعا ذا امهية بالغة يف فًتة الرومانتيكيو .يف الغالب النوستاجليا ىي حب شديد للعصور ادلاضية بشخصياهتا
وأحداثها.ينظر http://en.wikipedia.org/wiki/Nostalgia
)2ينظر حوار عبد اجمليد اذلواس جبريدة اإلرباد االشًتاكي (يومية مغربية) بتاريخ . 2009-05-05
)3ىنا ادلسرح العريب ىنا بعض ذبلياتو ،حسن ادلنيعي ،منشورات السفَت ،مكناس ،1990ص .81
)4فن الشعر ،ألرسطو طاليس ،ترصبة عبد الرضبن بدوي، ،دار الثقافة ،بَتوت(لبناف) ،1973،ص . 56
)5مسرحية "نوستاجليا" ،عبد اجمليد اذلواس ،دلسرح أفروديت ،منشورات مرايا ،الدار البيضاء ،ادلغرب ، 2006 ،ص 22و . 23
- (*) )6و كأف عبد اجمليد اذلواس يكسر وحدة الزماف و ادلكاف اليت أقرىا ادلسرح الكالسيكي خاصة تعاليم أرسطو طاليس اليت زبص الشعر
الدرامي.
- )7ينظر :مسرحية "نوستاجليا"دلسرح أفروديت ،منشورات مرايا ،الدار البيضاء ،ادلغرب ، 2006 ،ص . 59
)8عبد اجمليد اذلواس ،ـ ف ،ص . 18
)9عبد اجمليد اذلواس ،ـ ف ،ص . 61
)10حكيم عنكر ،مقاؿ جبريدة ادلساء ادلغربية ،صدر بتاريخ . 2008- 09- 04
- (*) )11إدوارد جودوف كريج ) ، EDWARD GORDON CRAIG (1872-1966سلرج ومهندس ديكور مسرحي ،
إصلليزي ،صاحب تنظَتات يف اإلخراج ،ىو الذي استعاض عن ادلمثل احلي بالدمى ادلتحركة ،العتقاده بأهنا أكثر صدؽ ومطواعة ،ولن
تتنازؿ عن أىدافها بسهولة أماـ ديكتاتورية ادلخرج ،اليت دعي إليها كريح .
)12عبد اجمليد اذلواس ،ـ س ،ص 58
)13مسرح التغَت ،برتولد برخيتمقاالت يف منهج برخيت الفٍت ،ترصبة :قيس الزبيدي ،إصدارات دار ابن رشد ،بَتوت ، 1978ص .137
)14اإليقاع يف فنوف التمثيل و اإلخراج ادلسرحي ،أبو حسن سالـ ،دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر ،اإلسكندرية ،مصر ، 2004ص 181
.
)15دور ادلخرج يف ادلسرح ،ماريان جاالوي :ـ ثَت معنوي :وىو حافز غَت مباشر ،يتم نتيجة السًتجاع ما زبزنو الذاكرة من انفعاالت ومن
سلزوف تارخيي للشخصية ،ىو يرتبط بكياف الشخصية ،من األفكار ،والذكريات ،أو أية انفعاالت نفسية وغَتىا .وىذا يرتبط كليا بقدرة
ادلمثل عند أداء دوره – وادلخرج عند عملو مع ادلمثل وبقية مكونات العرض إثناء التمرين – وفاعلية سليلتو يف النظر إىل تطور القصة –
احلكاية – عاطفيا وفكريا .ونقصد بالفاعلية :ىي اليت ديكن من خالذلا التعبَت عن العالقات ادلتنوعة وادلتغَتة بفعل األحداث .ومنها
استخداـ األفعاؿ الفيزيقية ووضعياف اجلسم ادلختلفة االذباىات وادلعاين " ،الصورة ال تبقى ثابتة خالؿ الفصل الكامل ،لكنها تتغَت قليال
بتغَت االنعكاسات العاطفية للشخصيات الرئيسية ..وقد يتغَت معٌت ادلشهد نتيجة لتغَت طفيفا يف الصور .ينظر ، :،تر /لويس بقطر ،اذليئة
ادلصرية العامة للتأليف والنشر ،القاىرة ،ص 184
)16سينوغرافيا ادلسرح عرب العصور ،كماؿ عيد ،الدار الثقافية للنشر ،القاىرة ،مصر ،ص 19
)17عبد اجمليد اذلواس ،ـ س ،ص. 60
)18ادلسرح وادلتفرج ،راينوفا فيوليتا ،تر /زلمد عبد الرضبن اجلبوري ،دار الشؤوف الثقافية العامة ،بغداد ،1991 ،ص.63
)19معاداة الصورة ،يف ادلنظورين الغريب والشرقي،نزار شقروف ،دار االنتشار العريب ،ط ،2009 ،1ص.7
)20الصورة وطغياف االتصاؿ،رامونة ،ايناسيو :ترصبة ،نبيل الدبس ،وزارة الثقافة ،اذليئة العامة السورية للكتاب ،دمشق ،2009 ،ص.38
P 315. , Dictionnaire du théâtre Patrice Pavis, opcit, )21
196
الفضاء المغاربي -المجلد الثاني :العدد الرابع
)22ماىي السينوغرافيا ،باميال ىاورد ،عرض زلمود كامل ،كتاب صادر عن مهرجاف القاىرة الدويل للمسرح التجرييب الذي تنظمو سنويا وزارة
الثقافة ادلصرية، 2003 ،ص .126
)23التكنولوجيا يف العرض ادلسرحي ،فاضل خليل ،ـ س ،ص.130
197