You are on page 1of 39

‫السمراين‪.

‬‬
‫املدرس‪ :‬إبراهيم ّ‬
‫– ّ‬ ‫‪ -‬اإلعداديّة النموذجيّة بسليانة‪.‬‬
‫السنة الدراسيّة‪.2016/2015 :‬‬
‫– ّ‬ ‫السنوات التّاسعة أساسيًّا‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬

‫والسينما‪ ،‬واألدب‬ ‫ٍ‬ ‫مكتس ٍ‬


‫الرسم‪ ،‬واملوسيقى‪ ،‬واملسرح‪ّ ،‬‬
‫ب يف فنون بعينها‪ :‬الغناء‪ ،‬و ّ‬ ‫َ‬ ‫تدعيم‬
‫ُ‬

‫األمر‬ ‫ٍ‬
‫منفردةً مبعزل عن نظرياهتا‪ .‬ويتعلّق ُ‬ ‫ممارسة إبداعيّة مجاليّ ٍة ِّ‬
‫ٍ‬
‫نتطرق به إىل ِّّ‬
‫كل‬ ‫معَّي ّ‬ ‫جيب أن يكون لنا زا ٌد ن‬ ‫ُ‬
‫الفن املطروح للحجاج‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وحّت التّعابري واألساليب‪ ،‬فإّنّا تتأثّر هبُويّة ّ‬
‫شواهد واألمثلة‪ّ ،‬‬ ‫ابألفكار واملعجم‪ ،‬وال ّ‬
‫التطرق إىل‬ ‫ِّ‬
‫املنطق‪ ،‬ليس ُّ‬ ‫ذات خصائص اخلوض يف موضوع املوسيقى‪ ،‬وبِّذات‬ ‫سم بِّ ِّ‬
‫الر ِّ‬
‫احلديث عن ّ‬
‫ُ‬ ‫فليس‬
‫مناذج‬ ‫ِّ‬ ‫بنفس ّنْ ِّج ِّ‬
‫السينما ِّ‬
‫تناول األدب‪...‬وهكذا جتري األموُر ابلنّسبة إىل سائر تلك األنشطة اإلبداعيّة‪ .‬وهذه ُ‬
‫احملرر‪ ،‬وهو يواجه فنّا من الفنون‪.‬‬
‫الصعوابت يف طريق ّ‬ ‫او ُل تذليل ّ‬ ‫عمليّةٌ ُُت ِّ‬
‫ٍ‬ ‫ومثلما تلتقي الفنون‪ ،‬يف ِّ‬
‫ومتاسا وتداخالً‪ ،‬فإ ّن‬
‫العام‪ ،‬عند جمموعة من احلجج الّيت جتعل بينها تقاطعا ّ‬ ‫تناوِلا ِّّ‬
‫ُ‬
‫األطروحتَّي‪ :‬املدحوضة واملدعومة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ختص ك نل ٍّ‬
‫فن لوحده‪ ،‬وذلك ابلنّسبة إىل‬ ‫حججا ّ‬‫ً‬ ‫ي يطرح‬
‫تناوَِلا األُحاد ن‬
‫ُ‬
‫والرسم واملسرح والسينما واألدب‪( :‬ابلنّسبة إىل‬ ‫ٍ‬
‫سنتدرج عرب أشهر مخسة منها‪ ،‬وهي‪ :‬الغناء واملوسيقى ّ‬
‫ّ‬ ‫وِلذا‬
‫األدب سيقع اُستكمالُه الح ًقا)‬

‫فن ِّ‬
‫الغناء‪:‬‬ ‫ّأوال‪ُّ :‬‬

‫حجج تناسب األطروحة املدحوضة‪:‬‬


‫ٌ‬ ‫‪/1‬‬

‫ٍ‬
‫موجب‪.‬‬ ‫صياح يف غري ما مربٍّر أو‬ ‫س وقاره‪ ،‬مبا هي‬ ‫*] الغناء ممارسةٌ ُُملّةٌ أبدب ِّ‬
‫ٌ‬ ‫املرء‪ ،‬تُذهب مهابتَه ومتََ ّ‬
‫ْ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫صوِّر اِلدوء ّ‬
‫والرصانة‬ ‫والرجحان يف اإلنسان ُمقرتنةٌ منذ األزل مبا يصنعه لنفسه من َ‬ ‫ومعروف أ ّن مسات احلكمة ّ‬
‫ٌ‬
‫وانظر‬ ‫ِّ‬ ‫السائر‪" :‬من عُرف ابل ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وقار نُظر إليه ابالحرتام"‪ْ .‬‬ ‫واالتّزان يف احلركات والتّعبري ابلكلمات‪ ،‬عمال ابملثل ّ‬
‫تعلم أّنّم عُرفوا دوما ابمليل‬ ‫ِّ ِّ‬
‫حيظون ابلتّبجيل واملهابة‪ْ ،‬‬
‫ما شاع عن طباع احلكماء والفالسفة ورجال ال ّدين ممّ ْن ْ‬
‫ت ِلجتهم‪ ،‬وعليه‪ ،‬إذا اخنرط ابن آدم يف ِّ‬
‫الغناء‬ ‫ُ َ‬ ‫اعتدلت نربهتُم وخفتَ ْ ُ‬‫ْ‬ ‫والسكوت‪ ،‬فإذا تكلّموا‬ ‫الصمت ّ‬ ‫إىل ّ‬
‫ليحذو‬ ‫ِّ‬
‫العقالء‪،‬‬ ‫سم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الص ِّ‬
‫َ‬ ‫مي ُ‬ ‫وسجاحة هي ْ‬ ‫رجاحة‬ ‫فات من‬ ‫شبهات‪ ،‬وحاد عن حممود ّ‬ ‫ألقى بنفسه يف َمثالب ال ّ‬
‫املسامع النقيّةُ‬ ‫عواء وصياحا‪ ،‬وتُعلن عن رغائبها ّنيقا ونباحا‪ ،‬ممّا متَُ ُّجه‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬ ‫عرب ً‬ ‫والسوائم‪ ،‬تُ ّ‬
‫الدواب ّ‬
‫ّ‬ ‫ْو‬
‫حذ َ‬

‫‪1‬‬
‫حّت‬
‫بب‪ّ ،‬‬ ‫العليّةُ‪ .‬وِلذا َك ِّره األولياء واملُربّون ألبنائهم أن يرفعوا أصواهتم مهما كان ّ‬
‫الس ُ‬ ‫املدارك َ‬
‫ُ‬ ‫وتستهجنه‬
‫ترفع صوتَك‪ ،‬إ ّن أنكر األصو ِّ‬
‫ات‬ ‫بين ال ْ‬
‫َ‬ ‫هندّي قدميًا خاطب أحد أبنائه‪ ،‬وقد رآه يرفع صوتَه‪ّ" :‬ي ّ‬ ‫أ ّن حكيما ّ‬
‫ِّ‬
‫احلمري"‪.‬‬ ‫َصوت‬
‫ل ُ‬

‫امي‬ ‫ن‬ ‫ِّ‬


‫متبادلةً بينه وبَّي بين َر ْهطه تُبلّغ عنه املقاص َد كلها واملر َ‬
‫متداولةً َ‬
‫منحت الثّقافةُ اإلنسا َن لغةً يوميّةً َ‬
‫ْ‬ ‫*] لقد‬
‫خ‬
‫سافر وصرا ٌ‬
‫صخب ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يب قِّوامه‬
‫عيب ُمر ٍ‬‫آخر َم ٍ‬
‫درب َ‬ ‫نك ُر ِلا واإلشاحةُ عنها‪ ،‬والتمادي يف ٍ‬ ‫جلنها‪ ،‬فلِّ َم التَ ُّ‬
‫الشبهات ِّ‬
‫مثار‬ ‫ات تستدرجه إىل ُّ‬ ‫شهو ِّ‬ ‫ِّ‬
‫االنقياد إلحلاح الغريزة وإمالء ال ّ‬ ‫طائل سوى‬
‫انفر ال جدوى منه وال َ‬ ‫ٌ‬
‫ط احلناجر‬ ‫صوت نُعليه سوى ِّ‬
‫صوت العقل‪ّ ،‬أما لَغَ ُ‬ ‫وح ْومة اخلطاّي‪ .‬لذا‪ ،‬ال‬
‫َ‬ ‫الزالّت‪ ،‬فينقاد إىل دروب الدانّي َ‬
‫العقل‪ ،‬وتُطفئ‬ ‫وجلَبتُها‪ ،‬فال مغنم منه إالّ أن ميأل ال ّدنيا صخبا وضجيجا‪ ،‬ضوضاء وعجيجا‪ ...‬تُ ِّ‬
‫سكت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حاالت غري سويٍّة َك َس ْورات الغضب وثورات‬ ‫ٍ‬ ‫ْع اإلنسان صوتَه عاليًا حا ّدا إالّ يف‬ ‫الوهاج‪ ،‬وما ِّ‬
‫عهدان رف َ‬ ‫سراجه ّ‬
‫ارئ مذمومةٌ‬
‫السيطرة على ذاته‪ ،‬وتلك‪ -‬لعمري‪ -‬طو ُ‬ ‫ِّ‬
‫االنفعال واِليجان‪ ،‬حَّي يُفلت منه زمامُ األمور ويفقد ّ‬
‫ين‪ ،‬وقدميا قال أسالفُنا‪َ " :‬من أطاع غضبه أضاع أدبه"‪ ،‬كما‬ ‫تُؤ ّخر وال تُق ّدم‪ ،‬وتَضع وال ترفع‪ ،‬وتَشَّي وال تَز ُ‬
‫ِّ‬
‫ط من املهابة واملكانة حَّي نصحوه قائلَّي‪:‬‬ ‫برتك ِّّ‬
‫كل ما حي ّ‬ ‫ّبيب الفطن ْ‬
‫شعراء ابن آدم الل َ‬ ‫نصح ال ّ‬
‫وبرفع‬
‫لنفسك ما يَزين ُ‬ ‫َ‬ ‫خرت‬
‫ينفع *** واُ ْ‬ ‫والتمس ما ُ‬‫ْ‬ ‫ع ما يَشينُك‬‫دْ‬

‫كما تغنُّوا حاثَّّي على اإلنصات لصوت القعل ال ِّ‬


‫صوت اِلوى‪:‬‬

‫العقل ال ِّ‬
‫صوت اِلوى*** إ ّن ال ـه ــوى لَــضاللةٌ ال تُــتبَ ـ ُـع‬ ‫ِّ‬
‫لصوت ِّ‬ ‫ت‬ ‫واُ ِّ‬
‫نص ْ‬

‫وفجرهم (اعتربهم فُ ّج ًارا)‪ ،‬بل وك ّفرهم‬ ‫واضح صريح من الغناء واملُغننَّي‪ ،‬فقد ح ّقرهم ّ‬ ‫ٌ‬ ‫*] موقف اإلسالم‬
‫الضراء‪ ،‬يبثّون‬ ‫ِّ‬
‫صحاب البالء وجاليب ّ‬ ‫َ‬ ‫معتربا أهل الغناء أ‬
‫وتو ّعدهم بسوء املآب وشديد العقاب‪ ،‬أليس دينُنا ً‬
‫واّللُ تعاىل ينهى عنهما بقوله‪" :‬إ ّن هللاَ ينهى عن الفحشاء واملنكر والبَـغْ ِّي"‬
‫يف اجملتمع مظاهر الفساد والبغْي‪ّ ،‬‬
‫إنصات ملغنَّّي‬
‫ٌ‬ ‫يامَّي ما أُثر عنهم‬
‫والرسول األكرم وصحابته املَ ُ‬ ‫تبغ الفساد يف األرض"‪ّ ،‬‬ ‫أو قوله تعاىل‪" :‬وال ِّ‬
‫شرور يُلهي عن اجلا ّدة القومية مبا تستوجبه من‬ ‫وان وعبثًا‪ ،‬فالغناء من أكرب ال ّ‬
‫إملام مبجالسهم املشبوهة ُجم ً‬ ‫أو ٌ‬
‫ُّسك والعبادات‪ .‬ولنا آيةٌ معلومة تستنكر عمل الغناء‬ ‫ِّ ِّ ٍ‬ ‫ٍ ِّ‬
‫انشغال ابجل ّد وال َك ّد‪ ،‬ابلعمل والبذْل‪ ،‬اباللتفات إىل الن ُ‬
‫كرمه ابلعقل والوعي‪" :‬واقصد يف مشيك‪،‬‬ ‫جل وعال ُماطبا عبده الّذي ّ‬ ‫وتستهجنه وتستقبحه‪ ،‬حَّي قال ّ‬
‫ِّ‬
‫جل الثّقافات تقريبا عند‬ ‫لتقاء ِّّ‬
‫واغضض من صوتك إ ّن أنكر األصوات لصوت احلمري"‪ ،‬ولنا أن نالحظ ا َ‬ ‫ْ‬
‫والرتغيب عنه‪ ،‬ال فيه (قولة احلكيم اِلندي‪ +‬اآلية القرآنيّة املذكورة من اإلسالم‪ +‬أفالطون يف‬
‫ْنبذ الغناء ّ‬

‫‪2‬‬
‫شهرية‪"( :‬ال ب ّد من طرد الفنّانَّي‬
‫الثّقافة اإلغريقيّة العريقة أقصى الفنّانَّي مجيعا من مدينته الفاضلة‪ ،‬بقولته ال ّ‬
‫مجيعا خارج أسوار املدينة الفاضلة")‬

‫واألخالقي‪،‬‬ ‫كي‬ ‫ِّ‬


‫ّ‬ ‫السلو ّ‬
‫التفسخ ّ‬
‫اضيع الغناء كلّها حائمةٌ يف ساحات امليوعة ومراتع االحنالل ومرابع ّ‬ ‫*] مو ُ‬
‫مجيعها‬ ‫ِّ‬
‫أتم ْل كلمات األغاين َ‬‫والصبابة ولوعة الغرام‪ّ .‬‬ ‫خوض يف العشق واِلُيام‪ ،‬يف اجلَوى وال نوى ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وإ ْن هي إالّ‬
‫قدميةً كانت أم حديثة‪ ،‬شرقيّةً َخت ّريَهتا أم غربيّةً‪ ،‬جت ْدها ُُتلّق يف مدارات َش َج ِّن "اللّيل" ْ‬
‫ودمع "العَّي" و َشكْوى‬
‫ذوابان يف املعشوق‬
‫"الزفرات" وترجيع "األ ّانت"‪ً ...‬‬ ‫وتتضمخ بتصعيد "اآلهات" وإرسال ّ‬ ‫اق والبَ ْ ِّ‬
‫َّي‪،‬‬ ‫الفر ِّ‬
‫ّ‬
‫األوىل بتلك ُّ‬
‫الذرى‬ ‫الصمد‪ ،‬فهو ْ‬ ‫العلي ّ‬ ‫الزائل‪ ،‬وتغافال عن الكلَف ابحلبيب األوحد األحد‪ّ ،‬‬ ‫ضي ّ‬
‫العر ّ‬ ‫اآلدمي َ‬
‫ّ‬
‫الروحيّة الشهرية‬ ‫ِّ‬ ‫صور ِّ‬
‫الصوفيَّّي مثال‪ ،‬وطُُرقهم ّ‬‫االفتتان ابآلخر والفناء فيه‪ ،‬على مذاهب ّ‬ ‫البعيدة املوغلة من ُ َ‬
‫يف ال ّذوابن عشقا ابل ّذات اإلالهيّة دون سواها‪ ،‬ولنا أن نذكر يف هذا السياق مناجاة رابعة العدويّة خلالقها‬
‫يف تلك النّربة الصوفيّة إ ْذ قالت‪:‬‬

‫عداك‬
‫ـت قـليب على َمن َ‬ ‫عرفت هواكا *** وأغلق ُ‬ ‫ُ‬ ‫عرفت اِلوى م ْذ‬
‫ُ‬
‫ـك ّي َمــن تـ ـ ـ ـ ـرى *** خــفاي ـ ـ ـ ـا الق ـ ـل ــوب ولـسنا نراك‬
‫ـت أُانجي ـ َ‬
‫وقمـ ُ‬

‫األمة وسائسيها‬
‫*] ما ضيّ َع جمدان التّلي َد وما أتلف ماضينا العتيد إالّ بدعةُ الغناء ابخلصوص‪ ،‬فقد شغلت ُرعا َة ّ‬
‫عن أمور ال ّدين الّيت هبا صالح البالد والعباد‪ ،‬فرتكوا سبُل اجلا ّدة وعكفوا يف قصورهم وجمالسهم على فتنة‬
‫الزمان قد انصرم من بَّي أيديهم يف‬ ‫ِّ‬
‫حبل ّ‬‫كل األوقات‪ ،‬غري عابئَّي أب ّن َ‬ ‫املغنَّّي واملغنّيات يصرفون حياِلم ّ‬
‫أجمادها‪ ،‬فبتنا‬ ‫س أضاعوا حضارتَنا َ‬ ‫الرِّج ِّ‬
‫س ّ‬ ‫س النّ ِّج ِّ‬‫اللّهو والعبث‪ ،‬ونتيجةً الستهتارهم يف ذلك ال ّدرب ال ّدنِّ ِّ‬
‫يف هذه الدنيا عند أوضع مراتبها بعد أن كنّا أسيادها وقُـوادها‪ .‬ولو لذان ابلتّاريخ شو ِّ‬
‫اهده وحوادثِّه َحل ّدثَنا‬ ‫ّ‬
‫دوهن لتدوين األحاديث أو للتّصنيف‬ ‫خلفاء اجتمعت يف قصورهم اجلواري ابآلالف‪ ،‬فهل تُراهم َح َش ّ‬ ‫َ‬ ‫عن‬
‫شهوات والنّزوات‪ ،‬والغناء فاُتةُ تلك املوبقات‪ ،‬فغالبا ما يقرتن‬
‫والتّأليف !!‪ ،‬كالّ ما كان ذلك إالّ إشباعا لل ّ‬
‫غرو يف أ ّن أغلب الفقهاء صنّفوه يف ابب‬
‫شرور‪ ،‬وال َ‬
‫كل ألوان ال ّ‬
‫ابحتساء اخلمور وتعاطي سائر الفواحش و ّ‬
‫كل ٍ‬
‫بدعة ضاللةٌ‪،‬‬ ‫والف ََت واملُح َداثت‪ ،‬ومعلوم يف ديننا أ ّن‪" :‬شر األمور حمداثهتا‪ ،‬وكل ٍ‬
‫حمدثة بدعةٌ‪ ،‬و ُّ‬ ‫البِّ َدع ِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كل ضاللة يف النّار"‪.‬‬ ‫و ّ‬

‫تتقحم جمالَه املرأةُ من عريكة‬


‫الرجل من جنس الذّكور‪ ،‬فما ابلك أبن ّ‬ ‫*] ديننا استهجن الغناء ابلنّسبة إىل ّ‬
‫عترب‪ ،‬ولو يف َد َرج‬ ‫األنوثة‪ ،‬مبا هي يف ثقافتنا وأعرافنا وتقاليدان أصل للحياء و ِّ‬
‫االحتشام ‪ ،‬فإذا كان صوهتُا يُ َ‬ ‫ٌ‬

‫‪3‬‬
‫واحملافل الص ِّ‬ ‫اجملالس احلاشدةِّ‬
‫ِّ‬
‫اخبة رافعةً ّإّيه على‬ ‫ِّ ّ‬ ‫جهرها به يف‬
‫ص َوب ُ‬ ‫العادي‪ ،‬عورًة‪ ،‬فكيف يُ ْستَ ْ‬
‫ّ‬ ‫الكالم‬
‫والزنْ َد‬ ‫دت اخل ند و ْ‬
‫كشفت اجليد ّ‬ ‫ور ْ‬ ‫وطبعا‪ ،‬ال نستغرب أن تُضيف إىل ذلك مزي ًدا من إاثرةٍ ِّ‬
‫للفَت‪ ،‬وقد ّ‬ ‫املَإل‪ً .‬‬
‫املنع أدعى‬
‫شجون‪ ،‬أال يغدو حينها ُ‬ ‫كت سواكن ال ّ‬‫فحر ْ‬
‫وأرسلت سهام العيون ّ‬‫ْ‬ ‫دت الق ند‬
‫وأو ْ‬
‫اخلصر ّ‬
‫َ‬ ‫وهزت‬
‫ّ‬
‫صح يف ديننا أ ّن صوت املرأة عورة ال جيوز ِلا رفعُه يف حمضر ْبعلِّها ويف َخلواهتا‬
‫والزجر أعّت وأقوى؟ وِلذا ّ‬‫ّ‬
‫فأّن ِلا أن تصدح به يف سفور وغرور بَّي احلشود واجلماعات‪.‬‬ ‫مع ذَويها وأهلها‪ّ ،‬‬

‫حجج تناسب األطروحة املدعومةَ‪:‬‬


‫ٌ‬ ‫‪/2‬‬

‫أ‪ -‬مرحلة اِلدم‪:‬‬

‫علمت‪ ،‬من‬
‫َ‬ ‫ذهبت إليه من اِّ ِّ‬
‫عتبار الغناء ممارسةً عبثيّةً عشوائيّةً‪ ،‬وإ ّمنا هو‪ ،‬لو‬ ‫َ‬ ‫اي يف ما‬
‫الر َ‬
‫*] أان ال أشاطرك ّ‬
‫البشري‪ ،‬نشاطا ثقافيّا‬
‫ّ‬ ‫بتطور الوعي‬
‫نكر ْن جاح ٌد أنّه قد غدا‪ّ ،‬‬ ‫أرقى املمارسات البشريّة وأمساها وأنبلها‪ ،‬وال يُ َ‬
‫ات‪.‬‬
‫اجلامعات واألكادمييّ ُ‬
‫ُ‬ ‫املؤسسات الرتبويّة‪ ،‬بل وتُن َشأ له املعاه ُد العليا وتُشاد ألجله‬
‫معرفيّا يُد نرس يف ّ‬

‫سرت‬
‫الفعال‪ ،‬ولو َ‬ ‫زعمت أنّه مضيعةٌ للوقت يف تَوافه األعمال وصغائر ِّ‬ ‫الصواب حَّي‬
‫َ‬ ‫جانبت ّ‬
‫َ‬ ‫*] وأراك قد‬
‫كسب له‪ ،‬فأيّهما أفضل‪ -‬بربّك‪ -‬أن نُالزم املقاهي ونرابط يف املالهي‬
‫للزمن و ٌ‬
‫نم ّ‬
‫َقلت إنّه غُ ٌ‬
‫يف مناكب احل ّق ل َ‬
‫قة نستمرئ‬‫وحفلة شي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ذهبا‪،‬‬ ‫أغنية ر ٍ‬
‫اقية نَ ْس ْتع ُ‬ ‫وثلب‪ ،‬أم أن نعكف على ٍ‬‫سادرين يف لغ ٍو وثرثرة‪ ،‬يف منيمة ٍ‬
‫ّ‬
‫أصوات فنّانيها؟‬

‫*] وال إخالك إالّ على ضالل ُمب ٍ‬


‫َّي وقد ذهب بك سوء التّقدير مبلغًا جعلك تزعم أ ّن الغناء َمتلفةٌ لألخالق‪،‬‬
‫الفن‪،‬‬
‫ومضيعةٌ جملد احلضارات‪ ،‬وإ ْن كان هناك يف أيّة حقبة زمنيّة َمن أساء توظيف هذا ّ‬
‫ومعت ًدى على ال ّدين‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫فالعيب فيه‪ ،‬ال يف الغناء و َحسناته‪ ،‬وهو أكملُ املمارسات!!!‬
‫ُ‬ ‫فضيّع ما ضيّع‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫واألجدر‬
‫ُ‬ ‫*] وأين الوجاهةُ واحلكمة يف القول بضرورة إقصاء الغناء وآله من حضرية اجملتمع وخ ِّّ‬
‫ضم الواقع‪،‬‬
‫ِّ‬
‫الفنون عموما والغناء خصوصا‪ ،‬ملا له من عميم األفضال على‬ ‫حرم‬ ‫ِّ‬
‫زح ابجملتمع كلّه إىل َ‬
‫بنا واألحرى أن نَـ ْن َ‬
‫مستوى الفرد واجملتمع‪.‬‬
‫تكن على صواب حَّي زعمت أ ّن الغناء معابةٌ على الرجل عموما‪ ،‬وعلى املرأة خصوصا‪ ،‬وقد ثبت‬ ‫*] ولْ ْ‬
‫وم ْعبَ َد‪ ،‬والغَريض‪،...‬‬
‫ّيب‪َ ،‬‬ ‫يف ُكتب التاريخ واألدب أ ّن رجاال كثريين اِّخنرطوا يف الغناء‪ ،‬بل وكان مهنتَهم‪ِّ ،‬‬
‫كزْر َ‬
‫نساء كثريات غنّ َّْي‪ ،‬وجند يف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وعامة يف صدر اإلسالم‪ ،‬ووردت أمساءُ َ‬ ‫خاصة ّ‬ ‫وكذلك غنّت املرأةُ يف مواضع ّ‬

‫‪4‬‬
‫الرسول‪ ،‬كما اشتهرت‬‫احلديث والسنّة النبويّة كثريا من اإلشارات إىل غناء النّسوة من آل البيت يف مسكن ّ‬
‫وعزة امليالء‬
‫هات الكتب يف متوّنا‪ ،‬كسريين أخت مارّي القبطيّة ّ‬
‫هبن ّأم ُ‬ ‫يف عصره أمساء مغني ٍ‬
‫لت ّ‬ ‫ات ح َف ْ‬ ‫ُ ّ‬
‫ومجيلة‪ ،‬والشيماء أخت الرسول من الرضاعة‪...‬‬

‫والتوسع‪( :‬أمهيّة الغناء)‬


‫ّ‬ ‫ب‪ -‬مرحلة البناء‬

‫❖ ابلنّسبة على الفرد‪:‬‬

‫أدل على ذلك‬‫واستِّ ْكناه معانيه وأسراره‪ ،‬وليس ن‬ ‫ِّ‬


‫األول لتلَ ُّمس طريقنا إىل الوجود ْ‬
‫السبيلُ ّ‬
‫السمع هو ّ‬ ‫*] ّ‬
‫الفين‬
‫وقس عليه النّثر ن‬
‫مساعا‪ْ ،‬‬ ‫شعر يُستساغُ ً‬ ‫السمع‪ ،‬فال ِّّ‬
‫حاسة ّ‬
‫مدارها على ّ‬
‫من أ ّنَ أه نم املُتَع وأرقى الل ّذات ُ‬
‫اس وأرفع املدارك؟ ولو ل‬ ‫وموازين العروض وأغاريد الطّيور وأانشيدها‪ ...‬أال يكون بذلك مسعُنا أرقى احلو ّ‬
‫وإعالء من شأّنا‬ ‫تفاعا هبا‬
‫اسنا األخرى ار ً‬ ‫ِّ‬
‫ً‬ ‫يكن ذلك كذلك ملا أُنيطَت ل ّذةُ الغناء مبسامعنا دون سائر حو ّ‬ ‫ْ‬
‫املولود منذ حلظات‬
‫َ‬ ‫وشأنه‪ .‬ولْنتذ ّك ْر أ ّن مسعنا هو ّأو ُل ما يعي مالمح الوجود عند الوالدة‪ ،‬ألسنا خناطب‬
‫روحه‪ ،‬ويُقال أيضا أ ّن آخر ما ينقطع‬
‫وتتطهر ُ‬‫طرق مسمعه‪ ،‬فنؤذنن له يف أذنه لتستقيم مدارُكه ّ‬ ‫نزوله األوىل بِّ ْ‬
‫تظل متي ّقظةً إىل آخر ٍ‬
‫رمق‪ .‬ويوم القيامة‬ ‫حاسة مسعه الّيت ّ‬
‫من عالقة اإلنسان ابلوجود حلظات املمات هو ّ‬
‫الصور‬
‫مع ّأو َل ما يُبعث به اإلنسان ويُن َشر للحساب‪ ،‬فأُذُنُه هي الّيت ستلتقط نفخة ّ‬ ‫الس ِّ‬
‫حاسةُ ّ‬
‫ستكون ّ‬
‫السمع دوما‪ ،‬وِلذا شاعت‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫داره على ّ‬ ‫وحّت تَل ّقي العلوم واملعارف‪ ،‬واستيعاب املواعظ والنّصائح َم ُ‬ ‫اِلائلة‪ّ .‬‬
‫والوعّاظ تلك العبارة املوزونة تُنبِّّه املُتل ّق َي ِّحلُ ْسن االلتقاط مسعا‪" :‬أيّها النّاس‪ :‬اِّمسعوا‬ ‫عن احلكماء واخلطباء ُ‬
‫فن الغناء إعراضا عن‬ ‫السمع ابلوعي‪ ،‬أي ابلفهم واالستيعاب‪ .‬وعليه تكون اإلشاحةُ عن ّ‬ ‫وعوا"‪ ،‬فارتبط ّ‬
‫خاصة أ ّن املا ّدة املُلتَقطَة ستكون أصواات عذبة وأنغاما‬ ‫ودي َد ٍن ِّ‬
‫ّبائع‪ّ ،‬‬ ‫صقلت عليه الط ُ‬ ‫األنفس َ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫طبع ُجبلت عليه‬
‫ٍ‬
‫وعبث وَِلاَ‬
‫استهرت َ‬
‫َ‬ ‫فرح َمن ِّ‬
‫حزن وتُوقّر َمن‬ ‫املدارك‪ ،‬لتُ َ‬
‫ُ‬ ‫نصع (من النصاعة) ِلا‬ ‫ارح وتَ َ‬
‫رخيمة مجيلة ُتيا ِلا اجلو ُ‬
‫وسالَ عن اجلا ّدة‪ ،‬وتُعيد األمل لليائس‪ ،‬واالستقر َار واِلدوء للمنفعل‪ ،‬ويف هذا اإلطار‬ ‫(من اللهو والعبث) َ‬
‫وخت ّفف أحزانه"‪.‬‬‫فليسمع األصوات احلسنة‪ ،‬فإّنّا ُختمد نريانه ُ‬ ‫ْ‬ ‫قالت الفالسفة‪َ " :‬من حزن‬

‫ذاات تعرتيها الكاللةُ وينتاهبا الفتورُ وترين‬


‫أي زمان ومكان ً‬ ‫نفسي وجداينّ‪ :‬ما يفتأ اإلنسا ُن يف ّ‬
‫احتياج ّ‬
‫ٌ‬ ‫*] الغناء‬
‫وأعباء‪ ،‬وقد ال يكون من ٍ‬
‫سبيل أجنع لتبديد‬ ‫ٍ‬
‫واجبات وأعماال‬ ‫ضجر واإلرهاق‪ ،‬فحياتُنا متور‬‫عليها حاالت ال ّ‬
‫َ‬
‫الرخيمة الص ّداحة‪ ،‬فإذا‬ ‫ٍ‬
‫الراحة والفراغ من إقبال على األصوات العذبة ّ‬ ‫والراتبة يف أوقات ّ‬
‫شبح املاللة ّ‬
‫ِّ‬
‫نستدل به على سداد‬
‫ّ‬ ‫جتارب بشريٍّة كثريةٍ ما‬
‫نفوسنا قد استعادت َج ْذوهتَا ومحاسها وبريقها وعنفواّنا‪ .‬ولنا يف َ‬
‫ُ‬

‫‪5‬‬
‫ضيق لِّطول‬
‫السآمة وال ّ‬
‫شبح ّ‬ ‫والصناعات منذ القدمي إذا ساورهم ُ‬ ‫فانظر أهل احلَِّرف ّ‬ ‫ِّ‬
‫الرأي ووجاهته‪ْ ،‬‬ ‫هذا ّ‬
‫طربة‪ ،‬فإذا هبم يستأنسون مبا‬ ‫أغان ومقطوعات ُم ِّ‬ ‫أوقات العمل وثَِّقلِّها‪ ،‬اِّخنرطوا عفوّي يف دنْ َدنَِّة ٍ‬
‫أحلان وترنيم ٍ‬
‫ّ‬
‫واستخرب‬
‫ْ‬ ‫الراهن فَ َس ْل هواتفنا‬
‫فعلوا‪ ،‬فيطردون عنهم أطياف القلق وجحافل القتامة واالنزعاج‪ّ .‬أما يف عصران ّ‬
‫آذانَنا عن سر ذلك ِّ‬
‫السماعة يَصلُ‬
‫األول (اِلاتف) والثّانية (األذن)عرب خيط ّ‬ ‫اليومي العجيب بَّي ّ‬
‫ّ‬ ‫االرتباط‬ ‫ّ‬
‫شغف ومباعث‬ ‫اثك عن أسرار ال ّ‬ ‫بينهما آانء النّهار وأطراف اللّيل يف ِّعشرة ال تنفصم عُراها‪ ،‬سلْهما ُحي ّد َ‬
‫ِّ‬
‫الكليلة واألرواح ال ّذابلة‬ ‫سرةً للنّفوس‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫األلفة وال َكلَف‪ ،‬ويُنبئاك أبنّه ليس كاألغاين العذاب واللّحون الطّراب َم ّ‬
‫كل متعلّقات احلياة الثّابتة‬
‫أتملنا حميطَنا الّذي هو إطار معاشنا لَوج ْدان الغناء يكاد حيضر يف ّ‬
‫العليلة‪ .‬ولو ّ‬
‫واملتحركة معنا‪ .‬فالغناء يُالزمنا يف املذّيع والتّلفاز ويف السيّارة ويف اِلاتف واحلاسوب ويف املقهى‬
‫ّ‬ ‫منها‬
‫واملطعم واملسرح واملهرجان واألعراس واحلفالت‪ ...‬حياتنا كلّها تنطق فنّا غنائيّا يعاشران كظلّنا ويالزمنا يف‬
‫سرة وراحة للنّفوس قبل‬ ‫ِّ‬
‫وم ّ‬
‫ترحالنا ويف حلّنا‪ ،‬وما كان لذلك أن يكون لوال ما ألْفيناه يف عوامله من متعة َ‬
‫أحاديث‪ .‬بل إنّنا يف هذا العصر قد نبدو‬‫َ‬ ‫الرتويح واملتعة ٍ‬
‫آّيت أو‬ ‫رود مرابِّع ّ‬
‫األبدان‪ .‬ودينُنا ال يَـ ْز ُجر عن ُو َ‬
‫ُتف مبعاشنا ُّ‬
‫ومتت‬ ‫االنفعال والتوتّر ّ‬‫شّت‪ ،‬وعوامل ِّ‬ ‫ضواغط ّ‬ ‫أحوج ما نكون إىل الغناء واألصوات احلسنة‪ ،‬فال ّ‬ ‫َ‬
‫الصالت متّا‪.‬‬ ‫بكل ّ‬
‫له ّ‬

‫ِّ‬
‫معتدلة اجلوارح نقيّة املدارك‬ ‫اّلل حبّب إىل النّفس البشريّة السويِّّة‬
‫*] التّوقيع والتّنغيم من طبائع النّفوس‪ّ :‬‬
‫ِّ‬
‫وتنغيم أبحلان األصوات‬
‫ٌ‬ ‫ك نل ما انتهى إليها ُمنغنما موزوان موقنعا‪ ،‬وتلك هي خصائص الغناء ٌ‬
‫توقيع ابلكلمات‬
‫ذات الرنّة البليغة واملوسيقيّة األ ّخاذة البديعة‪ْ ،‬تع ُرب من املسامع الظّاهرة إىل جمامع القلوب املضمرة‪ ،‬فتأسر‬
‫ولعل من أسرار ِّح َك ِّمه البليغة أن جعل قرآنه أفصح النّصوص‬ ‫باب‪ّ ،‬‬ ‫األلباب وتثري يف النّفس اجلوهر اللُّ َ‬
‫والرتغيب‪ ،‬الوعد والوعيد‪ )...‬إذا‬ ‫الرتهيب ّ‬ ‫تزداد معانيه ابلقلوب علوقًا (الثّواب والعقاب‪ّ ،‬‬ ‫وأبلغ األقوال ُ‬
‫ِّ‬
‫الشجي الرّان ُن‪ .‬وممّا يرويه‬
‫ّ‬ ‫وت‬
‫الص ُ‬
‫سحرها الفتّان إالّ ّ‬ ‫وج ِّّود جتويدا‪ ،‬وال َمينح اآلّيت القرآنيّةَ َ‬
‫ُرتّل ترتيال‪ُ ،‬‬
‫جهوري مؤثّر‪ ،‬فبكى وخشع واراتع‪ ،‬وملّا ُسئل‪ِّ" :‬لَ َ‬
‫بكيت‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫اجلاحظ أ ّن أعجميّا مسع ترتيال للقرآن‬
‫الصوت‬
‫شجا" مبعىن نغمةُ ّ‬ ‫ضاد شيئا؟" أجاب ابختصا ٍر‪" :‬إ ّمنا أبكاين ال ّ‬ ‫األعجمي ال تفقه من لغة ال ّ‬
‫ّ‬ ‫وأنت‬
‫الرخيمةُ اجلميلةُ‪ .‬فإذا كان اخلالق‪ ،‬وهو األدرى خبلقه‪ ،‬قد أراد لكالمه أن يزدان ِّحبلية األنغام وسحر األحلان‪،‬‬ ‫ّ‬
‫استلطاف األنفس لألصوات احلسان واألحلان العذاب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫معتربةٌ أساسها‬
‫فال ب ّد أن يكون يف اختياره حكمةٌ َ‬
‫وُتاوَرا ملا فيه خريُ النّفس البشريّة‪.‬‬
‫جاوَر القرآ ُن والغناءُ َ‬
‫فتَ َ‬

‫ومسوا ابملدارك‬
‫هتذيب لل ّذوق‪ :‬املمارسة الغنائيّة من أرقى التّعبريات اإلنسانيّة هتذيبا لألذواق ّ‬
‫ٌ‬ ‫*] الغناء‬
‫الرذيلة‬
‫والتصرفات‪ ،‬ينأى ابلفرد عن ّ‬
‫ّ‬ ‫واألخالق‪ ،‬ذلك أّنّا ارتفاعٌ عن صغائر املمارسات ومرذول األعمال‬

‫‪6‬‬
‫وحيثّه على الفضيلة‪ ،‬ولوال ذلك ملا قال يف شأنه أبو الفرج األصفهاينّ يف كتابه "األغاين" ‪" :‬إ ّن الغناء من‬
‫شهوات‪ُ ،‬حييِّي القلب ويزيد يف العقل"‪ .‬فهو ٌ‬
‫أدب ابإلصغاء‬ ‫وأسر للنّفوس من مجيع ال ّ‬
‫أكرب الل ّذات‪ُّ ،‬‬
‫ابلفهم واالستيعاب‪،‬‬ ‫ُّب ْ‬
‫خ إىل بديع األحلان وراقي الكلمات واألوزان‪ ،‬وهو أتد ٌ‬ ‫واإلنصات‪ ،‬يعلّمك كيف تُصي ُ‬
‫نستغرب بعد هذا أ ْن‬ ‫واملغازي‪ ،‬وتقف على ما وراء األلفاظ من املقاصد واملرامي‪ .‬أَفَهل‬ ‫رب‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫حَّي تفقه الع َ‬
‫املغين ب "األديب" ملا يبثّه ِلم يف ثناّي صوته العذب اجلميل من املعاين اللّطيفة‬ ‫يصطلح أسالفُنا على ّ‬ ‫َ‬
‫ومسو أبرواحهم‪ .‬فإذا كان الغناء راقيا مه نذاب رغّب يف احل ّق واخلري‬
‫هتذيب لنفوسهم ٌّ‬‫ٌ‬ ‫واملقاصد احلكيمة‪ ،‬مبا فيه‬
‫كل‬ ‫واجلمال‪ ،‬ون ّفر من الباطل والشر وسيء ِّ‬
‫طرف يف ّ‬ ‫اإلبشيهي يف كتابه القيّم‪" :‬املستَ َ‬
‫ّ‬ ‫الفعال‪ .‬ولقد ُت ّدث‬ ‫ّ ّ‬
‫توصل ابألصوات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مستظرف" عن هذه الوظيفة اجلليلة للغناء املتكامل صوات وكلمات بقوله‪" :‬وقد يُ ّ‬ ‫َ‬ ‫فن‬
‫ّ‬
‫صل‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫خري ْي ال ّدنيا واآلخرة‪ ،‬فمن ذلك أّنّا تبعث على مكارم األخالق‪ :‬من اصطناع املعروف وو ْ‬ ‫احلسان إىل َ‬
‫وأتم ْل مواضيع الغناء الفاضل املعتدل جت ْد‬ ‫والذب عن األعراض والتجاوز عن الزالّت وال ّذنوب"‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫األرحام‬
‫السليمة والطّبائع القومية ال العقيمة‪ ،‬من قبيل‪ :‬األمومة‬ ‫ِّ‬
‫الراقية املُحبّبة إىل النّفوس ّ‬
‫أّنّا تدور يف فَـلَك املعاين ّ‬
‫أيت مغنّيا‬
‫والصداقة‪ ...‬ومّت ر َ‬ ‫والوطن واحملبّة أمسى املشاعر البشريّة‪ ،‬والغربة والفراق والغدر واخليانة والتّوبة ّ‬
‫فعل ل ولن تص نح فيه صفةُ فنّان‪ ،‬أل ّن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ومروق؟!‪ ،‬فإ ْن َ‬ ‫حيض على احنراف ُ‬
‫حيث على َمعصية أو فسوق أو ّ‬ ‫ّ‬
‫ض َعةٌ‪ ،‬على حنو ما نراه يف بعض موجات الغناء املعاصرة اجلاحنة عن أصل الوظيفة‬ ‫مسو ورفعة‪ ،‬ال تَ َد ٍّن و َ‬ ‫الفن ٌّ‬
‫ّ‬
‫للرتبية‬
‫وال ّدور‪ ،‬فذاك شذوذ‪ ،‬والشاذّ ُحيفظ وال يُقاس عليه‪ ،‬خالصة القول يف هذه الفائدة أ ّن الغناء أداة ّ‬
‫واإلصالح‪.‬‬

‫والرتّن ابألحلان والكلمات استجابةٌ‬ ‫*] الغناء حماكاة ملصادر اجلمال يف الطّبيعة والكون‪ :‬تنغيم األصوات ّ‬
‫أنصت إىل خرير املياه‬
‫َ‬ ‫من اإلنسان فطريّةٌ ألصل اخللق والتكوين فيه‪ ،‬فقد َه َدتْه إليه الطّبيعةُ حبدس اجلِّبِّلّة‪،‬‬
‫وسجع احلمائم وزقزقة العصافري‪ ،‬فاستعذبه واستحسنه‪ ،‬فأنشأ يقلّده‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فرتّن حياكيه‪ ،‬وتناهى إليه هديل البالبل‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫تنغيمات ّأوليّةً عفويّةً استمرأهتا ذائقتُه‪ ،‬وما فتئ منشغال بتلك املوهبة‬ ‫ومن حيث يدري أو ال يدري مارس‬
‫كتسب ابخلربة يُضي ُفه إىل‬ ‫ْ ِّ‬
‫يف املُ َ‬
‫الفين الثّقا ن‬
‫تاجه ن‬ ‫أمست ن َ‬ ‫حّت‬
‫يطورها ويصقلها عرب العصور وال ّدهور‪ّ ،‬‬ ‫اجلديدة ّ‬
‫مذهب لطيف‬ ‫عن للفالسفة يف هذا ّ‬
‫االجتاه‬ ‫ّبيعي الص ِّ‬
‫ٌ‬ ‫وجوده ترقّيا وارتفاعا‪ .‬وقد ّ‬
‫رف‪ ،‬فيزداد ُ‬ ‫بُعده اآلخر الط ِّّ ّ‬
‫يقدر ابن آدم على‬ ‫وتنغيمها بقيّةٌ من النّطق وفضلة من الكالم ل ْ‬
‫َ‬ ‫فاده أ ّن ترجيع األصوات‬
‫يف‪َ ،‬م ُ‬
‫ومنزع ظر ٌ‬
‫والرتّن ابلكلمات املوزونة املُوقّعة تَتِّ نمةً‬
‫انتباهه إىل تنغيم األصوات ُّ‬
‫استكماله بوسائل ختاطبه اليوميّة‪ ،‬فجاء ُ‬
‫اإلبشيهي يف نفس املصدر‪" :‬وزعمت الفالسفة أ ّن النّغم‬ ‫ّ‬ ‫لبقيّ ٍة من لُغته وفضلة من كالمه‪ ،‬ويف ذلك قال‬
‫الرتجيع والتّقطيع‪،‬‬ ‫فضل بقي من النّطق ل يقدر اللّسان على استخراجه‪ ،‬فاستخرجته الطبيعة ابألحلان على ّ‬
‫ٌ‬

‫‪7‬‬
‫مكوانت األصل واِلويّة يف‬
‫مكوان من ّ‬
‫فلما ظهر عشقته النّفس وحنّت إليه اجلوارح"‪ ،‬فيكون بذلك الغناءُ ّ‬
‫ّ‬
‫مصطنعة متكلَّفة من هذا الكائن‪.‬‬
‫َ‬ ‫البعض ممارسةً مفتعلَة‬
‫ُ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وليس كما يزعم‬

‫فس البشريّةُ تتميّز بتقلُّب املزاج‪ ،‬وتب ّدل األحوال‪ ،‬وِلذا ُتتاج شكال‬
‫*] الغناء انعكاس حلاالت النّفس‪ :‬النّ ُ‬
‫فس البشريّةَ‪ ،‬ممّا مينحها توازّنا الفريد‪ ،‬واستقرارها‬ ‫تعبريّي يتجانس مع ُمتلف اِليئات الّيت تعرتي تلك النّ َ‬
‫ّ‬
‫وضع من‬‫كل ٍ‬ ‫ت ِلا يف ُمزون الغناء ما يالئم ّ‬ ‫وتغايرت وتضاربت وج َد ْ‬
‫ْ‬ ‫تلونت انفعاالتُنا‬
‫الفقيد‪ .‬فمهما ّ‬
‫ّناران عل حن ٍو‬ ‫أوضاعها‪ .‬وِلذا نُلفي أنفسنا قد دأبنا على نغمات وكلمات تُوائم فَ َرت ِّ‬
‫نستهل هبا َ‬
‫ّ‬ ‫الصباح‬
‫ات ّ‬ ‫َ‬
‫استقر يف ذائقتنا العربيّة أ ّن تباشري النّهار وطالئع‬
‫السياق أغاين فريوز‪ ،‬فقد ّ‬ ‫ٍ‬
‫طروب‪ ،‬ولنا أن نذكر يف هذا ّ‬ ‫مر ٍِّح‬
‫السكون على الكون‬ ‫جن اللّيلُ وخيّم ّ‬ ‫اليوم اجلديد ال تُستقبَل إالّ ابإلصغاء إىل ترنيماهتا وبديع كلماهتا‪ ،‬فإذا ّ‬
‫الرهيب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ب أصواهتم ونرباهتم مع هذا اإلطار ّ‬ ‫ناس َ‬
‫وهاجت أشجانُنا وأحزانُنا َس َكنّا إىل ُمغنَّّي آخرين نستشعر تَ ُ‬
‫حممد‬
‫شرق ّأم كلثوم والعندليب األمسر عبد احلليم حافظ‪ ،‬أو موسيقار األجيال ّ‬ ‫املَهيب‪ ،‬من قبيل كوكب ال ّ‬
‫والرتاتيل‬
‫روعة ّ‬ ‫ِّ‬
‫عبد الوهاب‪ّ ....‬أما إذا دامه ْتنا املنيّةُ وختطّفت عزيزا علينا‪ ،‬فإنّنا نلوذ ابألغاين ال ّدينيّة املُوقّرة املُ ّ‬
‫السحر يف التّخفيف من لواعج األسى‬ ‫الصادمة مفعول ّ‬ ‫جو َدة‪ ،‬فيكون لتلك اإليقاعات الرّاننة ّ‬ ‫الرخيمة املُ ّ‬
‫ّ‬
‫شجن واحلَزن‪ .‬ويف ذات اإلطار‪ ،‬لنا نغمات ألويْقات األصيل‪ ،‬وأخرى لساعات االنفراد واملقيل‪،‬‬ ‫وأ ّانت ال ّ‬
‫ِّ‬
‫وجوهره‪ ،‬وحمر َار‬ ‫وغريها لزمن اإلمطار ِّ‬
‫واالّنمار‪ ...‬أال يكون الغناء‪ ،‬هبذا النّحو‪ ،‬ص َدى ابطن اإلنسان‬
‫وتطوره؟‬
‫ُتسسه ملعاين الكون يف حركته ّ‬
‫ُّ‬

‫متَت معجمك‬
‫للزاد وتعمري للفؤاد‪ ،‬فلك فيه القصائد العربيّة الفصيحة البليغة ّ‬
‫*] الغناء تثقيف لألفراد وإثراء ّ‬
‫شفوّي كان أم مكتواب ابلفصيح اجلزل من املفردات‪ ،‬وكم من قصيدة رائعة‬ ‫وترصع خطابك ّ‬ ‫وتنصع أساليبك ّ‬ ‫ّ‬
‫حممد عبد الوهاب‪"/‬‬ ‫ٍ‬
‫الصغري غنّاها ّ‬
‫كلمات ألغنية فزانتها ورفعتها ("جفنُه علّم الغزل" قصيدة األخطل ّ‬ ‫كانت‬
‫شاعر غنّتها فريوز‪ /‬قصيدة امرئ القيس "تعلّق قليب طفلة عربيّة" غنّتها هيام‬ ‫ّي عاقد احلاجبَّي" لذات ال ّ‬
‫لألصمعي غُنّيت أبصوات كثرية‪ /‬قصيدةُ "ّنج الربدة" ألمحد‬
‫ّ‬ ‫يونس‪ /‬قصيدة "صوت صفري البلبل" املعجزة‬
‫حّت وإن كان يف غري العربيّة الفصيحة‬‫شوقي كذلك‪ ،‬قصائد أمحد رامي غنّتها ّأم كلثوم‪)...‬كما أ ّن الغناء ّ‬
‫يوسع من زاد املستمع يف جمال اللّهجات واللّكنات‪ ،‬وال ينكر أحد ما كان النتشار األصوات العربيّة بفضل‬
‫ّ‬
‫ففن "الراي"‬
‫البث واالتّصال من دور يف تقريب اِلُّوة بَّي ِلجات العرب من احمليط إىل اخلليج‪ّ ،‬‬‫تطور وسائل ّ‬ ‫ّ‬
‫اخلليجَّي زادت من ِّ‬
‫فقهنا للهجات أهل شبه اجلزيرة العربيّة‪...‬فإذا‬ ‫ّ‬ ‫عرف ابللّهجة اجلزائريّة‪ ،‬وأصوات املغنَّّي‬‫ّ‬
‫أعم‬
‫خرجنا من إطار لغتنا العربيّة إىل لغات أخرى كالفرنسيّة واالنكليزيّة والرتكيّة واِلنديّة كانت الفائدة ّ‬

‫‪8‬‬
‫ِّ‬
‫كلمات تلك‬ ‫هم ير ّددون‬
‫وانظر املُقبلَّي على األغاين األجنبيّة أطفاال كانوا أم شبّاان أو كهوال‪َ ،‬تر ْ‬
‫ْ‬ ‫وأمشل‪،‬‬
‫األغاين األجنبيّة يف يس ٍر وسالسة وكأّنّم من أبناء تلك اللّغة‪.‬‬

‫الزمان‬‫قهر ّ‬
‫*] الغناءُ يضمن لإلنسان مطلب اخللود‪ :‬إ ْذ كانت رغبة اإلنسان األكثر إحلاحا منذ األزل هي ُ‬
‫ومتسكا ابل ّدميومة والبقاء ألطول م ًدى ممكن‪ ،‬فقد يكون الغناءُ مطيّـتَه‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬
‫قاء للفناء ّ‬‫صولته وال ّدهر جولته اتّ ً‬
‫األجنع لبلوغ ذلك املطلب‪ .‬ولنا أن ننظر إىل مراحل متق ّدمة من اتريخ هذا اإلنسان لنقف على هذه احلقيقة‬ ‫َ‬
‫عياان ال حيتاج برهاان‪ ،‬فمنذ احلضارة اإلغريقيّة البعيدة متّ ختليد صوت اإلنسان عرب الغناء من خالل "املالحم"‬
‫كملحميت‪" :‬اإللياذة"‬
‫َْ‬ ‫ومجاعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فردي‬
‫ّ‬ ‫ند غنائيّا يف إطار‬
‫وقصص األبطال تُكتَب يف األصل شعرا‪ ،‬مثّ تُرد ُ‬
‫وحّت يف الثّقافة الرومانية نشأ هذا الفن الغنائي ّ ِّ‬
‫يرتّن بِّس َري األبطال والعظماء‪ْ .‬‬
‫وانظر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫و"األوديسة" ِلومريوس‪ّ .‬‬
‫ِّ ٍ‬
‫ين واندثر وتالشى‪ ،‬بيد أ ّن غناءه‬ ‫ما يفصلنا من ح َقب مديدة وعصور طويلة عن عهود ذلك اإلنسان الّذي فَِّ َ‬
‫ِّ‬
‫ور ذاتُه متواصال يف عصوران احلديثة‪،‬‬ ‫ظل حافظا ل ِّذ ْكره يتح ّدى صولةَ ّ‬
‫الزمن وجولةَ ال ّدهر‪ .‬وما زال هذا ال ّد ُ‬ ‫ّ‬
‫الصايف وهيام يونس‬ ‫لتطور التّقنية ووسائل التّسجيل‪ ،‬فصباح فخري‪ ،‬ووديع ّ‬ ‫نظرا ُّ‬
‫ولو أبشكال أكثر جناعةً‪ً ،‬‬
‫هدهتا (أصواهتم)‬ ‫إيداعهم ألصواهتم متو َن الغناء‪ ،‬وإانطَتَهم عُ َ‬‫الردى ووافَتهم املَنيّةُ‪ ،‬غري أ ّن َ‬ ‫أشخاص طواهم ّ‬
‫ٌ‬
‫روحهم اخل ّفاقة إىل األبد‪.‬‬‫وظل الغناءُ َ‬ ‫ِّ‬
‫مبحمله املتَّي ح ّقق ِلم اخللود‪ ،‬فزالت أجسادهم ّ‬

‫عما تناولناه إىل ح ّد اآلن من مزاّي الغناء يف ح ّد ذاته‬


‫*] الغناءُ نقطة جامعة للمعارف واإلبداعات‪ :‬فضال ّ‬
‫والرتبيةَ‬
‫هذيب ّ‬
‫الرتفيهَ والـتّ َ‬
‫شّت ِلا فوائدها ومزاّيها ابلنّسبة إىل الفرد‪ ،‬ال سيما ّ‬
‫من اضطالعه بوظائف ّ‬
‫يتفرد به دون سواه من وسائل‬ ‫آخر ّ‬
‫يظل له ميسم ُ‬
‫عبري عن اجلمال وُتقيق اخللود‪ّ ...‬‬ ‫ثقيف والتّ َ‬
‫أديب والتّ َ‬
‫والتّ َ‬
‫ضروريّة حلياة األفراد‪،‬‬ ‫الراقية ال ّ‬
‫التّعبري وضروب اإلبداع والتّفكري‪ ،‬فهو يتقاطع مع أغلب املعارف اإلنسانيّة ّ‬
‫صلتُه ابألدب نثرا‪ ،‬إ ْذ مثّل موضوعا لألدابء يتّخذونه َمتْـنًا لتَصانيفهم‪.‬‬‫صالت وطيدةً‪ .‬من ذلك ِّ‬
‫ٍ‬ ‫ويعقد له معها‬
‫"املستطرف‬
‫َ‬ ‫اإلبشيهي‬
‫ّ‬ ‫ولنا أن نذكر على سبيل املثال ال احلصر كتاب أيب الفرج األصفهاينّ "األغاين" وكتاب‬
‫ٍ‬
‫ملحنَة‪ ،‬أو إذا نظران‬‫اء إذا ُح ِّّولت القصائ ُد إىل أغان ّ‬‫شعر‪َ ،‬سو ٌ‬
‫ستظرف"‪ ،‬كما يعقد له صلةً ابل ّ‬
‫فن ُم َ‬
‫كل ّ‬
‫من ّ‬
‫يف حاجة ٍّ‬
‫كل منهما إىل طاقة الوزن تستم ّد منه فاعليّتها (فالقصائد تقوم على األوزان اخلليليّة أو املُستح َدثة‪،‬‬
‫وكذلك الغناء يستم ّد تعبرييّته من التّعويل على الوزن واإليقاع) وللغناء أيضا صلة ابملوسيقى فهو يستدعيها‬
‫صوت ابلغناء إالّ وجاوبته آلة موسيقيّة‬
‫ٌ‬ ‫إىل جماله غالبا أو قل تستدعيه‪ ،‬وعالقتهما قدمية عريقة فما ارتفع‬
‫يستقر يف األفهام أ ّن الغناء واملوسيقى اِّمسان لذات املُس نمى‪ .‬وللغناء أيضا صلةٌ ابلعلوم‬
‫ّ‬ ‫أو أكثر‪ ،‬وِلذا كاد‬
‫املتطورة من عالج ابألصوات احلسنة واألحلان‬ ‫ِّ‬
‫صحات احلديثة ّ‬ ‫الطب‪ ،‬وال خيفى ما متارسه بعض امل ّ‬ ‫ال سيما ن‬
‫ردود أفعالِّه ْ‬
‫فآملت األمن‪ ،‬نصحها األطبّاء بكثرة‬ ‫اجلميلة‪ .‬واجلنَّي يف بطن ّأمه إذا اضطربت حركتُه وتشنّجت ُ‬

‫‪9‬‬
‫الراقية املمتعة فيعود لذلك اجلنَّي هدوُؤه وسكينتُه‪ .‬كما أ ّن للغناء اتّصاال‬ ‫ٍ‬
‫التّعايش مع حميط حافل ابألغاين ّ‬
‫السماكَّي يف نواحي العراق كانوا‬‫وصيْده وترويضه وتدجينه‪ ،‬فاجلاحظ أثبت قدميا أ ّن ّ‬ ‫مبجاالت تربية احليوان َ‬
‫ينصبون شباكهم‪ ،‬وينطلقون قُرهبا يف الغناء أبصوات مجيلة شجيّة جتتمع ِّحلَالوهتا األمساك لتقع يف ال ن‬
‫ش َرك‪.‬‬
‫مقاطع غنائيّة هادئةً مجيلةً قبل عمليّة‬
‫َ‬ ‫تدر أكثر حليبا إذا متّ إمساعها‬
‫العلم أ ّن البقرة ّ‬
‫ّأما حديثا فقد أثبت ُ‬
‫السرك تتد ّعم استجابتُه لسائسه وينصاع أكثر على نغمات األحلان واألغاين‪...‬‬ ‫احللْب بدقائق‪ ،‬واحلصان يف ّ‬

‫❖ ابلنّسبة إىل اجملتمع‪:‬‬

‫سحري خللْق االنسجام واألُلفة والوائم بَّي أبناء اجملتمع الواحد‪ ،‬بعيدا عن مظاهر ال ُفرقة‬ ‫ٌّ‬ ‫لسم‬
‫*] الغناء بَ ٌ‬
‫وجتلّيات‬‫ليتساوْوا يف الوعي َ‬
‫َ‬ ‫الفن ألفراد اجملتمع‬‫والتف ّكك والتّنافر والنّشاز‪ ،‬فهو "شهادة" معنويّة يُسنِّدها ُّ‬
‫ِّ‬
‫السر يف سريهم‬
‫درك ّ‬ ‫وانظر ّأمة الغرب ممن ْن بلغوا من ّ‬
‫التطور شأوا تُ ْ‬ ‫اخلارجي وامللمح‪ْ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وحّت املظهر‬
‫السلوك ّ‬‫ّ‬
‫للزمن وانضباط يف‬ ‫تقديس ّ‬‫ٍ‬ ‫ورنـُ ّوهم ال ّدائم ُجتاه املراقي‪ ،‬مبا تراهم عليه ِّمن‬ ‫ِّ‬
‫اجلماعي املُتناغم حنو املعايل‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وإعالء لِّ ِّقيَم احلريّة وال ّدميقراطيّة والعدالة‪ .‬إّنّا َمزيّةُ الفنون أخذوا‬ ‫ص عل نظافة بلداّنم وأبداّنم‬ ‫وحر ٍ‬
‫العمل ْ‬
‫ت عقليّاهتُم‪ .‬تشبّعوا من روح الغناء‬ ‫ومس ْ‬
‫تقت أذواقُهم َ‬ ‫بب وق ّدموها على مأكلهم ومشرهبم‪ ،‬فار ْ‬ ‫منها بس ٍ‬
‫وآخر‬ ‫خصوصا وسائر الفنون عموما فنهضوا حيث تقهقران حنن‪ ،‬سادرين يف ٍ‬
‫شق حيلّلها ُ‬ ‫فرغة مدارها ٌّ‬ ‫دوامة ُم َ‬
‫ّ‬
‫يت ُدور الغناء ومرابع احلفالت‬ ‫ضباب لندن ألل َف َ‬ ‫لت يف عاصمة األنوار ابريس أو مدينة ال ّ‬ ‫ُحي ّرمها‪ .‬ولو ُج َ‬
‫كل حدب وصوب‪،‬‬ ‫والعامة تشيع يف كل ُم ٍ‬
‫نعطف ورك ٍن‪ ،‬يَـ ُؤّمها النّاس صغريُهم قبل ِّ‬
‫كبريهم من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اخلاصة‬
‫ّ‬
‫عشر‪،‬‬
‫اسع َ‬ ‫حّت أ ّن مف ّكرا عربيّا زارهم يف القرن التّ َ‬
‫املشاعر والطّباع‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫فتَص ُقل منهم املواهب و ُهت ِّّذب فيهم‬
‫األمة لَوجدتَه كامنًا يف‬
‫رقي هذه ّ‬
‫السر يف ّ‬ ‫لت ّ‬ ‫أتم َ‬‫الرقي أبذواقهم فأنشأ يقول‪" :‬ولو ّ‬
‫وأشار إىل َد ْور الغناء يف ّ‬
‫توقريهم للفنون وإعالئهم من شأّنا يُق ّدموّنا على مطعمهم ومشرهبم ومنامهم"‪.‬‬

‫الساهرَة ترصد ِّهناتِّه وتقتنص مواطن اخللَل ومواضع‬


‫الفعالةَ وعينَه ّ‬
‫*] الغناء كان وما يزال عدسةَ اجملتمع ّ‬
‫وُتث على‬‫ّ‬ ‫تشخيصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫اإلصبع على موطن ال ّداء‬
‫َ‬ ‫الزلل اجتماعيّةً كانت أم فكريّة أم سياسيّةً‪ ...‬تضع‬ ‫ّ‬
‫شت رذائلُ التّناحر والتّباغض والكراهيّة دعا الغناء إىل احملبّة‬ ‫اإلصالح والعالج عمال وتطبيقا‪ .‬فإذا تف ّ‬
‫شقاق وقف ابملرصاد يُذ ّكر بقيم اإلخالص والوفاء‪.‬‬ ‫وعم البالء وال ّ‬
‫واألخوة‪ ،‬وإذا ساءت األخال ُق ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتّآلف‬
‫وجدت املغنَّّي صادحَّي أبصواهتم يف جرأة‬‫َ‬ ‫وجترب وقال أان ربّكم األكرب‪،‬‬
‫ائس وجار وظَلم وعتا ّ‬ ‫الس ُ‬
‫وإذا طغى ّ‬
‫ائمهم وتزداد‬‫شجاعة يف صفوف اجلماهري‪ ،‬فتقوى عز ُ‬ ‫يدعون إىل الثّورة عليه واِلَبّة يف وجهه‪ ،‬ابثَّّي روح ال ّ‬
‫فرقيت انس الغيوان وأصحاب الكلمة‬ ‫السياسيّة‪ ،‬وكذلك َ ْ‬
‫شيخ اإلمام من مصر وأغانيه ّ‬ ‫محاستهم (نذكر ههنا ال ّ‬

‫‪10‬‬
‫للتحرر‬
‫من املغرب)‪ .‬ولنا كذلك يف ثورتنا التّونسيّة خري برهان ودليل على دور الغناء يف ش ّد أزر اجلماهري ّ‬
‫ات مغنَّّي ومغنّيات تشحذ مهمهم‬
‫والساحات أصو ُ‬
‫شوارع ّ‬ ‫هتاف احلُشود يف ال ّ‬
‫من نَ ْري األغالل‪ ،‬فقد رافق َ‬
‫غاصب‬
‫ٌ‬ ‫خارجي‬
‫ّ‬ ‫عدو‬
‫والتعسف‪ ،‬وإذا تسلّط على اجملتمع ّ‬
‫ّ‬ ‫املضي قُ ُد ًما لكسر قيود الظّلم‬
‫ّ‬ ‫وُت ّفزهم على‬
‫ُ‬
‫استعمر الوطن كان له املغنّون ابملرصاد يكشفون مقاصده ويهتفون يف أفراد اجملتمع أ ْن هبّوا يف وجهه‪ ،‬وال‬
‫صدحا هبا من دور‪:‬‬‫السياق أن نذكر مغنَّّي مثل مارسال خليفة وفريوز‪ ،‬وما كان ألغاين شهرية َ‬ ‫يفوت يف هذا ّ‬
‫فلسطيين نذر غناءه‬
‫ّ‬ ‫(أغنية فريوز‪ :‬سنرجع يوما‪ -‬أغنية مارسيل خليفة‪ :‬منتصب القامة أمشي‪ -‬هناك ٍّ‬
‫مغن‬
‫وري املُح ّفز) لقد‬ ‫كلنه لقضيّة وطنه وامسه أبو عرب‪ ،‬فإذا أصخنا إىل أغانيه ّ‬
‫تلمسنا ابلفعل ذلك النّفس الثّ ّ‬
‫وحّت‬
‫السابق للثّورة ّ‬ ‫ٍ‬
‫الراقدة واألنفس اخلاملة‪ .‬ففي العهد ّ‬
‫وري املُنبّه للعقول ّ‬
‫ور الثّ ّ‬
‫ظل للغناء منذ أمد هذا ال ّد ُ‬
‫ّ‬
‫ذاك الّذي كان قبله‪ ،‬تص ّدى املغنّون فُرادى وفرقا مجاعيّة ألصفاد القهر وقيود الظّلم يكسروّنا ويتح ّدوّنا‪،‬‬
‫املوسيقي وفرقة احلمائم البيض‪ ...‬ن ّددت بظلم احلاكم‬
‫ّ‬ ‫الصدد فرقة املناجم وفرقة البحث‬ ‫ونذكر يف هذا ّ‬
‫مصري كثري‬
‫َ‬ ‫عذيب دائما‬
‫والقمع والتّ ُ‬
‫ُ‬ ‫جن‬
‫الس ُ‬
‫ودعت إىل االنتفاضة يف وجهه‪ ،‬وال نستغرب أ ْن كان ّ‬
‫ْ‬ ‫الطّاغية‬
‫من هؤالء املغنَّّي‪ ،‬وهي ضريبة ابهضة الثّمن قد تكلّفهم حيواهتم يف كثري من األحايَّي‪ ،‬ولكنّهم يظلّون مأتى‬
‫اإلصالحي يساهم يف ّنضة اجملتمعات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فَ َخا ٍر واعتزا ٍز ِلذا ال ّدور‬

‫قايف‪ ،‬ذلك أنّه يصونه من االنداثر والتّالشي‪ ،‬ولو‬ ‫ِّ‬


‫*] ليس كالغناء حافظا لرتاث اجملتمعات وُمزوّنا الثّ ّ‬
‫لوقفت على حقيقة ذلك‪ ،‬ففي كلماته ما ُحييي معجما كاد يندثر‬ ‫َ‬ ‫ي‬
‫عيب البدو ن‬
‫ش ن‬‫صت غناءان ال ّ‬
‫تفح َ‬
‫ّ‬
‫اجلزل من لغتنا يف كثري من األحيان‪ ،‬بل وإنّك ترى‬
‫ومصطلحات أوشكت تتالشى رغم عالقتها ابلفصيح ْ‬
‫األسالف‬
‫ُ‬ ‫صميم األصالة وجوهر التّقاليد والعادات الّيت دأب عليها‬ ‫َ‬ ‫يف ذلك اللّون من األغاين الرتاثيّة‬
‫قليدي‬
‫ط دوما إبحياء اللّباس التّ ّ‬
‫عيب مرتب ٌ‬
‫ش ُّ‬‫البدوي ال ّ‬
‫ُّ‬ ‫األسالف‪ .‬فغناؤان‬
‫ُ‬ ‫وتركوها يف أغانيهم الرتاثيّة يهتدي هبا‬
‫الصبغة‬
‫عرض من احلفالت واألعراس ذات ّ‬ ‫شعبيّون يف ما يَ ُ‬‫من جبّة وبُلغة وشاشيّة يتحلّى هبا الفنّانون ال ّ‬
‫التّقليديّة‪ ،‬ويلتزم هبا أيضا النّاس من مجهور احلاضرين حَّي يَقدمون رافلَّي نساء ورجاال يف أزّيئهم التّقليديّة‬
‫البديعة الطّريفة‪ .‬كما أ ّن هذا اللّون من الغناء يُذ ّكر بنمط حياة األسالف من طابع عالقات ونوعيّة نشاط‬
‫ك بنواميسهم احلميمة تسري بينهم َس َرّين القوانَّي‬ ‫ٍ‬
‫حمافظة ومتس ٍ‬ ‫وصالت‪ ،‬ومبا عاشوا به من نزعة‬ ‫وروابط ِّ‬
‫ّ‬
‫اثنَّي‪،‬‬
‫توج ًها طريفا َحنَ ْته فرقةٌ من جهة الكاف منذ أكثر من عقديْن ْ‬ ‫الصدد ُ‬ ‫واألحكام‪ .‬ولنا أن نذكر يف هذا ّ‬
‫عيب األصيل العريق الّذي ابت غريبا بَّي أهله من األجيال‬ ‫ش ّ‬ ‫نذرت غناءها كلنه إلحياء موروثنا ال ّ‬
‫حيث أّنّا ْ‬
‫اط إىل ضروب األغاين األجنبيّة الغربيّة‪ ،‬ممّا يُؤذ ُن خبراب ُمزوننا ال ّذايتّ وانداثره وتالشيه‪.‬‬ ‫اجلديدة النّازعة إبفر ٍ‬
‫الفين الّذي ّنج ْته‪ِّ ،‬أب ْن كان‪ :‬فرقة "املَنسيّات"‪ ،‬مبا‬
‫ولقد جعلت هذه الفرقةُ امسَها داالّ على وظيفة املذهب ّ‬
‫مقص ُده أّنّا اعتمدت غناءها إلحياء ما كاد يتالشى ويَبلى ويُنسى من تراثنا يف هذا الباب‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ملقومات حضارهتا والتّعريف خبصائص‬ ‫سفري ِّ‬
‫األمم واجملتمعات للتّعريف برتاثها والتّسويق ّ‬ ‫يظل الغناءُ َ‬‫*] ّ‬
‫فت جبزء‬
‫عر ْ‬
‫املالحم الغنائيّة قناةً ّ‬
‫ُ‬ ‫يقي القدمي كانت‬
‫معارفها وهويّة قومها وخصال ثقافتها‪ .‬ومنذ العهد اإلغر ّ‬
‫أشعار "هومريوس" يف أهازيج‬ ‫َ‬ ‫وافر من ثقافة اليواننيَّّي يف تلك العهود‪ .‬فلقد ر ّددت ّأمة اإلغريق كلُّها‬
‫متجد مآثر أبطاِلم ّإابن حروب طروادة‪ ،‬وكانت تلك األانشيد امللحميّة‬ ‫وترنيمات أخذت شكل الغناء ّ‬
‫اخلالدة سبيل األثينيَّّي يف االنفتاح على الثّقافات اإلنسانيّة املغايِّرة والتّفاعل معها‪ ،‬ليرت ّدد صداها لدى ثقافة‬
‫وحّت العرب‪ .‬ويف عصور متأ ّخرة من اتريخ البشريّة واصل الغناءُ رسالته يف ُتقيق تفاعل‬
‫الروم وفارس ّ‬
‫أهل ّ‬
‫اإلسالمي ألواان من األنغام ال ّدخيلة واألحلان الوافدة عن‬
‫ّ‬ ‫الثّقافات وتالقحها‪ ،‬كاستقبال العرب بعد الفتح‬
‫الغنائي وتُعايِّشه يف قصور اخللفاء واألمراء‪ ،‬كما أ ّن طابع غنائنا‬
‫ّ‬ ‫اور منتوجنا‬
‫والروم والبيزنطيَّّي ُُت ُ‬
‫ّأمة الفرس ّ‬
‫بسمات‬ ‫العريب قد فرض نفسه على أصحاب الثّقافات الّيت حلّت هبا مشس اإلسالم وهلّت‪ .‬فكلِّف أهلُها ِّ‬
‫ّ‬
‫العريب ومازجوا فنّهم به وه ّذبوه وصقلوه‪.‬‬
‫الغناء ّ‬
‫ماثل للعيان ال خيتلف فيه اثنان‪.‬‬
‫شعوب ٌ‬ ‫فدور الغناء يف خلق التواصل بَّي األمم وال ّ‬
‫ّأما يف عصوران احلديثة ْ‬
‫كل موسم وفصل (مهرجان قرطاج ببالدان‪ ،‬مهرجان موازين‬
‫فاملهرجاانت الغنائيّة واحلفالت الفنيّة الّيت تُقام يف ّ‬
‫كل أصقاع‬‫ابملغرب‪ ،‬وجرش ابألردن‪ ...‬واملهرجاانت الغربيّة األروبيّة‪)...‬كلّها مناسبات لتالقي املغنَّّي من ّ‬
‫ِّ‬
‫فن جمتمعاهتم‪ ،‬فيكون الغناءُ سفري األمم للتّعريف برتاثها وثقافتها‪ ،‬وانظر كثريا من‬ ‫األرض وبِّقاعها ل ْ‬
‫عرض ِّّ‬
‫قليدي وصدحوا‬ ‫ِّ‬
‫ابلزي التّ ّ‬
‫املغنَّّي التونسيَّّي إذا سافروا إىل حفالت غنائيّة خارج حدود الوطن اتّشحوا ّ‬
‫الرسالةُ‬ ‫ِّ‬
‫كل ذلك يف إطار التّعريف بثقافتنا‪ .‬وهي ‪ -‬لعمري‪ -‬ن ْع َم ّ‬ ‫اخلاصة هبويّتنا‪ ،‬و ّ‬
‫ابلكلمات احملليّة واألحلان ّ‬
‫فن الغناء‪.‬‬
‫النّبيلةُ يضطلع هبا ّ‬
‫مدونتنا إىل اليوم‬
‫األندلسي الفريد‪ ،‬ممّا أثرى ّ‬
‫ّ‬ ‫التونسي مع ذاك اللّون‬
‫ّ‬ ‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫ولنا أن نذكر أيضا تفاعل فنّنا‬
‫الغنائي ال ّدخيل ماثال يف "املالوف" و"املو ّشحات" و"األزجال"‪ .‬ولقد أعلى ابن خلدون من‬
‫ّ‬ ‫بذلك الطّابع‬
‫مقوماهتا‪ ،‬ورأى أ ّن ّأول بوادر‬‫دور الفنون عموما والغناء خصوصا يف حفظ توازن الثّقافات ومتاسك ّ‬
‫فن الغناء‪ ،‬إ ْذ قال حم ّذرا‪ّ " :‬أو ُل ما ينقطع يف األمم‬
‫كامن يف انقطاع ّ‬
‫اضمحالل احلضارات وخراب العمران ٌ‬
‫عند انقطاع العمران صناعة الغناء"‪ .‬ومن العالمات البارزة يف عصران اليوم على دور الغناء يف االضطالع‬
‫اط أكرب نسبة من مستعملي "اإلنرتنيت" على مواقع األغاين يُقبلون‬‫مبهمة تفاعل الثّقافات‪ ،‬ما نراه من اخنر ِّ‬
‫ّ‬
‫أي برامج إلكرتونيّة أخرى‪ ،‬دون أن ُميثّل اختالف اللّغة أو اللّهجة عائقا يف التواصل مع‬
‫عليها أكثر من ّ‬
‫والرتكيّة‬
‫يب يُنصت إىل األغاين الفرنسيّة واألجنليزيّة ّ‬ ‫هويّة تلك األغاين مهما كانت جنسيّة ُمغنّيها‪ .‬فرتى العر ن‬
‫العريب فيُقبلون عليها بنفس ما‬
‫ّ‬ ‫واِلنديّة‪...‬ويف املقابل كثري من أهل تلك الثّقافات يستحسنون ألوان الغناء‬
‫قايف عرب ّبوابة الغناء‪.‬‬ ‫نرى شبابنا يُقبل به على منتوجهم‪ ،‬ويف ذلك أجلى ِّ‬
‫صور التّفاعل الثّ ّ‬

‫‪12‬‬
‫الر ِّ‬
‫سم‪:‬‬ ‫فن ّ‬‫‪ -‬اثنيا‪ُّ :‬‬

‫‪ /1‬ما يُناسب األطروحةَ املدحوضةَ‪:‬‬

‫الر ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫عرت ِّ‬ ‫*] اِّ ُ ِّ‬


‫سم‪،‬‬ ‫وم ْؤداها أ ّن االنكباب على ّ‬ ‫فن‪ُ ،‬‬ ‫كل ٍّ‬ ‫ض هبا عادةً على ِّّ‬ ‫شائعة املُ َ‬ ‫احلجة ال ّذهنيّة ال ّ‬
‫عتماد ذات ّ‬
‫املهتم ابللّوحات واملَعارض)‬ ‫والتذوق يتعلّق ابملتل ّقي ّ‬ ‫ّ‬ ‫مارس‪/‬‬ ‫الباث املُ ِّ‬
‫ابلرسام ّ‬
‫ذوقًا (اإلبداع يتعلّق ّ‬ ‫إبداعا أو تَ ُّ‬
‫ً‬
‫ضي‬ ‫فالرسام يُق ّ‬ ‫ِّ‬ ‫كس ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ب القوت‪ّ ،‬‬ ‫مدار ضمان املعاش و ْ‬ ‫األعمال اليوميّة الّيت عليها ُ‬ ‫للوقت و َشغْ ٌل عن‬ ‫ضيَـ َعةٌ‬‫َم ْ‬
‫حّت يُتِّ نم لوحةَ‬
‫هاء الع ْش ِّر سنوات ّ‬ ‫ضى ُز َ‬ ‫ات للفراغ من تُـ ّرهاته (لِّيوانر دي فانشي ق ّ‬ ‫وأشهرا وسنو ٍ‬
‫ّأّي ًما ُ ً‬
‫واالهتمام هبا‪ ،‬بِّد ْعوى التّحليل والتأويل‪.‬‬ ‫أتملها ِّ‬ ‫متدادا يف ُّ‬ ‫املوانليزا)‪ ،‬واجلمهور يصرف زمنا ال ِّ‬
‫يقل ا ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫أغلب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الر ِّ‬ ‫ٍ‬
‫سم مسألةَ اإلساءة إىل األخالق‪ ،‬فهم يرو َن َ‬ ‫يطرح املعرتضون على ّ‬ ‫السابقة‪ُ ،‬‬ ‫ابحلجة ّ‬ ‫*] يف عالقة ّ‬
‫ِّ‬ ‫ب‪ ،‬بِّ ِّْ‬ ‫ِّ‬
‫امليوعة ِّ‬
‫واالحنالل والتسيُّ ِّ‬
‫مفاتن‬
‫سدوا َ‬ ‫يتورعون يف أن ُجي ّ‬ ‫لص َوِّر العراء‪ .‬فال ّ‬ ‫رمسهم ُ‬ ‫الرسامَّي ساقطَّي يف‬ ‫ّ‬
‫شعوب"‬ ‫الرسامَّي الغربيَّّي‪( :‬لوحة "احلريّة تقود ال ّ‬ ‫األكثر محيميّةً‪ .‬ويعرضون أمثلةً معيّنةً عن ّ‬ ‫َ‬ ‫املرأةِّ َ‬
‫وعور ِّاهتا‬
‫ديَّي‪/‬لوحة‬
‫صر يف ساحة القتال قد ظهرت عاريةَ الثّ ْ‬ ‫اية النّ ِّ‬‫للرسام الفرنسي يوجَّي دو الكروا‪ :‬املرأة الرافعةُ لر ِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫متاما‪ /‬لوحة‬ ‫ِّ‬
‫جسد فيها امللكة املصريّة القدمية ابنة بطليموس عاريةً ً‬ ‫"كليوابترا" للفنّان اإليطايل جيوفاين بيرتو ّ‬
‫متاما‪/‬حّت أ ّن هناك لوحةً عنواّنا‬
‫ّ‬ ‫سد اِّمرأ ًة عارية‬ ‫"كلوي" أيضا ُجت ّ‬‫ْ‬ ‫الرسام الفرنسي جول جوزيفي فيفر بعنوان‬ ‫ّ‬
‫للرسام اإلسباين فرانشيسكو غوّي‪/‬لوحة "والدة فينوس"‬ ‫ينطق مبوضوع العراء‪ ،‬وامسها لوحة‪" :‬مارّي العارية" ّ‬
‫اإليطايل ساندرو بوتيتشيلّي‪)...‬‬
‫ّ‬ ‫للرسام‬
‫ّ‬

‫ين‪ .‬وهذا‬‫سم ُمروقًا عن ال ّد ِّ‬ ‫الر ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫األمر حتما إىل اعتبار ّ‬
‫وتبعا حل ّجة إضاعة الوقت وإفساد األخالق‪ ،‬يؤول ُ‬ ‫*] ً‬
‫إالهه‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫آدم َ‬
‫بن َ‬ ‫يرونه ممارسةً يتح ّدى هبا ا ُ‬ ‫أكثر املمارسات اإلبداعيّة الّيت تُثريُ حفيظةَ املتش ّددين دينيًّا‪ ،‬إ ْذ ْ‬‫الفن ُ‬ ‫ُّ‬
‫صوُر الباري اخلالِّ ُق" للكائنات وسائر املوجودات‪ .‬فإذا َر َسم اإلنسا ُن‬ ‫لق‪ ،‬فهو الوحي ُد‪" :‬املُ ِّّ‬ ‫يف ِّ‬
‫صفة اخلَ ِّ‬
‫إين‬
‫وات" البشريّة واحليوانيّة‪ ،‬أو املناظر الطبيعيّة‪ ،‬فإنّه بذلك يتح ّدى خال َقه‪ ،‬وكأ ّمنا يروم أن يقول ّ‬ ‫"ال ّذ َ‬
‫يظل أمام‬ ‫ّوحة بدوره واقع يف ال ِّّ ِّ‬
‫الوضع أ ّن املتأمل لل ِّ‬ ‫فة‪ .‬وما يزي ُد من ِّ‬ ‫أُضاهيك يف هذه الص ِّ‬
‫ش ْرك‪ ،‬إ ْذ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫فتة‬ ‫ّ‬
‫أعظم الكبائر‪ .‬وانطالقا من‬ ‫لق‪ ،‬فيقع بدوره يف ِّ‬ ‫إبداع و َخ ٍ‬
‫آّيت ٍ‬ ‫ّوحة منبهرا ُممج ًدا مادحا مغ ِّظّما ما يراه ِّ‬ ‫الل ِّ‬
‫ً ُ ً‬ ‫ّ‬
‫الصور يف البيوت مهما كان نوعُها ولو كانت فوتوغرافيّة ٍ‬
‫ألب‬ ‫حرَم أولئك املتش ّددون تعليق ّ‬ ‫فه ِّم‪ّ ،‬‬‫هذا ال ْ‬
‫ٍ‬ ‫ُم ًّ‬
‫صحيح‪ ،‬فحواه أ ّن املالئكةَ ال تدخل‬ ‫ٍ‬ ‫أي عزي ٍز فقدانه‪ ،‬ويستندون إىل حديث قد يكون َ‬
‫غري‬ ‫توًّف أو ّأم أو ّ‬

‫‪13‬‬
‫ِّ‬
‫وحنن نُعي ُده‬ ‫اخلالق الّذي اختار أن يُغيِّّ َ‬
‫ب عبده ابملوت‪ُ ،‬‬ ‫نتحدى َ‬‫كلب‪ ،‬ومذهبُهم يف ذلك أنّنا ّ‬ ‫بيتًا به صورةٌ أو ٌ‬
‫خنرق حتميّة الفناء‪.‬‬ ‫الص ِّ‬
‫ور‪ ،‬وكأ ّمنا ُ‬ ‫للوجود بتلك ّ‬

‫ص وحكاي ٍة‬ ‫أدب ُجني ُد فنون القول‪ ،‬من قَ ٍّ‬ ‫األصيلة‪ ،‬فنحن ّأمةُ ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫الرسم ليس من خصائص ثقافتنا العربيّة‬ ‫*] ّ‬
‫النار‪ِّ .‬ملّةُ الغرب هي اليت اِّ ْ‬
‫بتلت البشريّةَ‬ ‫كل ضاللة مآِلا ُ‬ ‫شعر)‪ ،‬وإذَا كان بدعةً‪ ،‬فهو ضاللةٌ‪ ،‬و ّ‬ ‫يض (ال ّ‬‫وقر ٍ‬
‫"النحت" تلك املمارسةُ‬ ‫ُ‬ ‫التصوير لعنةً أخرى هي‬‫ِّ‬ ‫شبْـ َه ِّة اللّوحات واملعارض‪ ،‬بل َو ُه ْم َمن اِّست نل ِّمن َرِّح ِّم‬ ‫بُ‬
‫حولون‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ومروقًا عن الدين‪ِّ ،‬مبا هي‬
‫تشكيل لل ّذوات البشرية واحليوانيّة من موا ند طبيعيّة خلقا هللاُ‪ .‬فيُ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فرا ُ‬
‫األكثر ُك ً‬
‫هيئات غريبة مريبة ما‬ ‫ٍ‬ ‫خام وصلصال من صورهتا األصلية كما أرادها ِلا هللاُ إىل‬ ‫خشب وحج ٍر ور ٍ‬‫ِّ‬ ‫نَِّع َمه من‬
‫ط معهم يف‬ ‫اجلمهور ساق ٌ‬ ‫يتبجحون أبّنّم قد أبدعوا‪ ،‬وخلقوا ! والعجيب أ ّن‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫َ‬ ‫أنزل الرمحا ُن هبا من سلطان‪ ،‬مثّ ّ‬
‫كفرا ِّمن‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّّ‬
‫وهل أَبْـلَ ُغ ً‬
‫املديح والثناء‪ْ .‬‬ ‫ِّ‬ ‫نبهار‪ ،‬ويَكيلُ ألولئك املشعوذين ألو ًاان من‬ ‫األعمال‪ ،‬حَّي يُبدي اال َ‬ ‫شر‬
‫لق"‪ ،‬فناظروا املخلو َق‬ ‫إبداع و َخ ٍ‬ ‫"آّيت ٍ‬‫ِّ‬ ‫والنحاتون‬
‫الرسامون ّ‬ ‫رف ّ‬ ‫أس َ‬ ‫أ ْن يرى املُحلّلون وال ّدارسو َن فيما ْ‬
‫ِّ‬
‫ابخلالق‪ ،‬وماثَلوه به‪.‬‬
‫اف‬
‫الطائلة‪ .‬أليس يف هذا إسر ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫اللوحات تُباعُ ابألموال‬ ‫وبعض‬ ‫اف‪ ،‬كيف ال‪،‬‬ ‫أبواب اإلسر ِّ‬
‫سم أكرب ِّ‬
‫ُ‬ ‫الر ُ‬‫*] ّ‬
‫وجل عن ذلك‪ ،‬واعترب املسرفَّي إخوان الشياطَّي‪ ،‬بقوله تعاىل‪" :‬وكلوا واشربوا‪ ،‬وال‬
‫عز ّ‬‫وتبذير‪ ،‬وقد ّناان ّ‬
‫ٌ‬
‫حيب املسرفَّي" (األعراف‪ ،‬اآلية‪ ،)31 :‬وبقوله أيضا‪" :‬إ ّن املب ّذرين كانوا إخوان الشياطَّي"‬
‫تُسرفوا‪ ،‬إنّه ال ّ‬
‫(اإلسراء‪ ،‬اآلية‪)27 :‬‬

‫يناسب األطروحةَ املدعومةَ‪:‬‬


‫ُ‬ ‫‪ /2‬ما‬

‫االنطالق من ه ْدِّم ِّ‬


‫حججه‪:‬‬ ‫أ‪ِّ /‬‬
‫والوضائع‪ ،‬من لغ ٍو وثرثرةٍ‬ ‫الصغائر والتّفاهات‬
‫ِّ‬ ‫كسب لهُ‪ :‬ينأى بنا عن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫سم ليس مضيعةً للوقت‪ ،‬بل‬ ‫الر ُ‬
‫ّ‬
‫أدل على جناعته من أنّه ابت يف العصور‬ ‫قصدي ال أيتيه إالّ اإلنسا ُن‪ ،‬وليس ّ‬
‫ٌّ‬ ‫ف‬ ‫واع ِّ‬
‫هاد ٌ‬ ‫ط ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ومنيمة‪ِّ ،‬مبا هو نشا ٌ‬
‫اء بسو ٍاء‪/‬‬‫الصحيحة واإلنسانيّة سو ٌ‬ ‫ج يف جدول التلميذ‪ ،‬إىل جانب موا ّد العلوم ّ‬ ‫در ُ‬
‫احلديثة ما ّدةً دراسيّة تُ َ‬
‫معَّي لدى أهل‬ ‫ِّ‬ ‫الر ِّ‬
‫ختيار يستجيب ملنزٍع ّ‬ ‫سم‪ ،‬وإ ّمنا هو ا ٌ‬ ‫مستقرا يف ّ‬
‫ّ‬ ‫العراءُ ليس مسألةً مطلَقةً‪ ،‬ومبدأً إلزاميا‬
‫ويل ديين‪/‬‬ ‫ِّ‬
‫يتالءم وثقافتَنا وعاداتنا‪ ،‬فل ُكم دين ُكم‪َ ،‬‬ ‫ونتذوق ما َ‬‫مَّي ابلتعاطي معه‪ ،‬بل نرسم ّ‬ ‫لز َ‬ ‫الغرب‪ ،‬ولسنا ُم َ‬
‫ِّ‬
‫جتسيد‬ ‫ِّ‬
‫مظاهر‬ ‫ات‪ ،‬والفنون أبرُز‬ ‫قافات وتَالقُ ِّح احلضار ِّ‬
‫ت عنك‪ ،‬وهي حتميةُ تَفاعُل الثّ ِّ‬ ‫هامة َخ ِّفيَ ْ‬
‫ّ‬ ‫هناك مسألةٌ ّ‬
‫منظورا كهذا‪،‬‬ ‫معتدل الفكر‪ ،‬متو ِّاز ُن العقيدة‬‫ضروري‪ /‬من الغريب أ ْن يتبىن مسلِّم ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫املطلب اإلنساينّ ال ّ ّ‬ ‫ذلك‬
‫اجلانح ابت ُحم نرما على‬
‫ِّ‬ ‫التوجه ِّ‬
‫اجلائر‬ ‫وخاطره ُت ّدّي للخالق‪ ،‬وبذلك ُّ‬‫ِّ‬ ‫نسان لِّما خيتلج بذهنه‬
‫رس ِّم اإل ِّ‬ ‫فريى يف ْ‬

‫‪14‬‬
‫"العليم"‪ ،‬كما‬ ‫العزةِّ‪ ،‬أال وهي ِّ‬
‫العلم‪ ،‬ألنّه هو‬ ‫رب ّ‬ ‫خيتص هبا ُّ‬ ‫العلم‪ ،‬ألنّه سيكون ًّ ِّ ٍ‬ ‫ب ِّ‬
‫ُ‬ ‫ُتدّي لصفة ّ‬ ‫بين الب َشر طَلَ ُ‬
‫للركوب‪ ،‬هات ًفا للتواصل‪ ...‬فهو‪،‬‬ ‫ال جيب عليه أيضا أن يصنع أو يبتكر أ ن ٍ ِّ‬
‫ي شيء‪ :‬ملعقةً لألكل‪ ،‬سيّارةً ّ‬ ‫َ‬
‫نع‪...‬‬ ‫الص ِّ‬ ‫الرأي املُ ِّش ِّّ‬
‫ط املغايل‪َُ ،‬تَ ٍّد للخالق يف خاصيّة ُّ‬ ‫قياسا على هذا ّ‬

‫والتوس ِّع‪:‬‬ ‫ب‪ /‬حجج ِّ‬


‫البناء‬
‫ّ‬ ‫ُ‬

‫الرسم ابلنّسبة إىل الفرد‪:‬‬


‫❖ أمهيّة ّ‬

‫سم ممارسةٌ راقيةٌ هادفةٌ واعيةٌ تسمو‬ ‫ِّ‬


‫الر َ‬
‫عموما ساريةً‪ ،‬من أ ّن ّ‬
‫احلجج املطروحة يف الفنون ً‬ ‫ِّ‬ ‫ذات‬
‫ظل ُ‬ ‫تَ ُّ‬
‫س‪ ،...‬ولكن يقع تطعيمها مبا له عالقةٌ ِّ‬
‫مباشرة‬ ‫رهف احل ن‬‫ابملدارك و ُهت ّذب ال ّذو َق وتصقل املواهب وتُ ِّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫سم يف ح ّد ِّ‬
‫ذاته‪:‬‬ ‫ابلر ِّ‬
‫ّ‬

‫آخر‪ :‬تنميةُ املهارات اليدويّة التشكيليّة‪،‬‬ ‫ات معينةً يف ِّ‬ ‫س اِّقتدار ٍ‬


‫فن ُ‬ ‫سها ٌّ‬ ‫الفرد ال ميََ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫خاص ميََ ُّ‬
‫ط ّ‬ ‫سم نشا ٌ‬ ‫الر ُ‬
‫*] ّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫القلم أو الريشة أو ال ندواة‪ ،‬وال ّدربةُ على ِّ‬ ‫حكام مس ِّ‬
‫جتسيد‬ ‫مرس على‬ ‫اخلطوط ومتثيلها‪ ،‬والتَ ُّ‬ ‫إقامة‬ ‫ّ‬ ‫كة ِّ‬ ‫إبِّ ِّ َ ْ‬
‫ان وخلْق التناسق بينها‪ ،‬والذهنيّة يف ترويض امللَكات‪،‬‬ ‫واكتساب املهارةِّ ال ّذوقيّة يف ْ‬
‫مز ِّج األلو ِّ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫األشكال‪،‬‬
‫عفوّي‬
‫وتنظيم املشاعر املتالزبة‪ .‬كما أنّه ينعكس مباشرًة على املهارات اليدويّة احلسيّة املاديّة‪ ،‬مبا يتداعى ًّ‬
‫عالقة مبيدان اِلندسة يف جمال الرّيضيّات مثال‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مستوّيت أخرى من اِّقتداراته املعرفيّة الدراسيّة‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫إىل‬
‫ظام والدقّةَ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫سم النّ َ‬‫الر ُ‬‫أو متََظ ُْهرات حياته اليوميّة‪ ،‬يف عالقة بتنظيمه لغرفته وأدواته وأفكاره‪ ،‬وقد أكسبهُ ّ‬
‫ات ذات‬ ‫يشة واأللوان واخلطوط واألشكال على اِّقتدار ٍ‬ ‫فاع على القلم والر ِّ‬ ‫كما ينعكس متََُّرس ِّ‬
‫الفرد منذ اليَ ِّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ص ُّوِّر‪،‬‬ ‫وتوسيع ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫معنوي‪ :‬من ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قسم كب ٍري منه على التَ َ‬ ‫قائم يف ٍ‬ ‫صوير ٌ‬ ‫هن‪ ،‬فالتّ ُ‬ ‫آلفاق ال ّذ ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫للخيال‪،‬‬ ‫تنمية‬ ‫ٍّ‬ ‫وجه‬
‫مرج ًعا أساسيّا‪ ،‬ولكن أيضا تَ ِّ‬ ‫اقع ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫طعيمها ابخليال‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ص َوِّره من الو ِّ‬ ‫للرس ِّام من املُداخلة بَّي انتقاء ُ‬ ‫وال مندوحةَ ّ‬
‫فضاء احلياةِّ‪ ،‬واستقراءُ اخللفيّة‪ ،‬وتوظي ُفها ال ميكن إالّ أن‬ ‫ِّ‬
‫مبا مينحها النّفحة الفنيّةَ‪ ،‬ففضاءُ اللّوحة يغدو َ‬
‫الدربة على مزج األلوان من‬ ‫أضف إىل ذلك ما متنحنا ّإّيه ُّ‬ ‫ْ‬ ‫يكون مفيدا يف اِّستقراء خلفيّات الواقع‪.‬‬
‫وأساسها اللوانن األبيض واألسود‪،‬‬ ‫ضوئيّة"‪،‬‬ ‫الرسم ب‪" :‬القيم ال ّ‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬ ‫طاقات خالّقة يف استنباط ما يُس نمى يف ّ‬
‫مثال يف هذا السياق‪ ،‬لوحة "اإلعصار" لكارينو‪.‬‬ ‫يفجر هبما صورا رائعةً‪ .‬وأحسن ٍ‬ ‫ولكن ز َخ َم اخليال ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫طاقات تعبرييّةً خالّقةً‪.‬‬ ‫ولكن خيال الفنّان منحها‬ ‫ِّ‬
‫يم ضوئيّة بسيطة‪ّ ،‬‬ ‫فأساسها ق ٌ‬

‫‪15‬‬
‫الرسم املذكورة‪ ،‬وفضاء‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫وال نغفل عن ِّ‬
‫النفسي البليغ العميق‪ :‬فاملُتشبّ ُع من معاشرة أدوات ّ‬ ‫ّ‬ ‫االنعكاس‬ ‫ُ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫متجاوزا لع ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّوحة‪ ،‬يكون يف ِّ‬ ‫الل ِّ‬
‫واجبة اإلخفاء اجتنااب‬ ‫الباطنة‬ ‫قده النفسيّة‪ ،‬وأزماته‬ ‫ِّ ُ‬ ‫األحيان إنساان‬ ‫غالب‬
‫لنزعة التصادم مع الواقع (مواضيع اجلنس وال ّدين والسياسة ابخلصوص)‪ ،‬وهنا تكون قدرة الفنّان يف‬
‫آلت غالبا إىل َُتَ ُّك ٍم يف النّوازع ال ّد ِّ‬
‫فينة‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫السيطرة على عال اللّوحة‪ ،‬وتَـ َو ُّجه األدوات على أدميها‪ ،‬قد ْ ً‬ ‫إحكام ّ‬
‫حسان املاحل أ ّن‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫النفسي ّ‬
‫ُّ‬ ‫الطبيب‬
‫ُ‬ ‫عترب‬
‫السبب ا َ‬‫وتصرفاته‪ .‬ولعلّه ِلذا ّ‬‫سوّي يف سلوكه ّ‬ ‫مبا مينحنا إنساان ّ‬
‫ٍ‬
‫وظيفة‬ ‫الفن عموما ذا‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫األول فرويد الّذي يرى ّ‬ ‫منحى عال النّفس ّ‬‫الصدد ينحو َ‬ ‫شفاء"‪ ،‬وهو يف هذا ّ‬‫سم ٌ‬ ‫الر َ‬‫" ّ‬
‫الرسام‬ ‫ِّ‬
‫إعالء وتصعي ٌد" (‪ ،)sublimation‬كما أ ّن ّ‬ ‫نفسيّة ابلغة األمهيّة ابلنسبة إىل الفرد‪ ،‬إ ْذ هو‪ٌ " :‬‬
‫نفسك"‪.‬‬ ‫َ‬ ‫صداك ير ّد ُد‬
‫َ‬ ‫للرسم‪ ،‬حَّي قال‪" :‬التصوير‬ ‫اِلام ّ‬
‫النفسي ّ‬
‫ّ‬ ‫التوجه‬
‫التونسي ز ّبري الرتكي له قولةٌ يف هذا ّ‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫طات الواقع كثيفةٌ ثقيلةُ الوطْء (ضغوط نفسيّة جنسيّة ودينيّة‪ ،‬وماديّة وسياسيّة واجتماعيّة‪ )...‬وال‬ ‫ضاغ ُ‬ ‫فَ ِّ‬
‫ابلريشة وسيلةً للتّنفيس عن املكبواتت‬ ‫ِّ ٍ‬
‫سبيل إىل ضمان ح ّد مقبول من التكيّف مع الواقع إالّ بشغْل النفس ّ‬
‫نزوع ِّ‬
‫بعض‬ ‫فسر َ‬ ‫ِّ‬
‫أفلتت من اإلنسان (تلك املكبواتت) غ َدا كاحليوان‪ .‬وهو ما يُ ّ‬ ‫ْ‬ ‫واملمنوعات‪ ،‬فإّنّا إذا‬
‫ِّ‬ ‫جسد املرأةِّ يف تفاصيله األكثر محيميّةً‪ ،‬فكأنّه‬ ‫املدارس الغربية إىل رسم ِّ‬
‫لكل من‬ ‫نفسي ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫نفعايل‬
‫تنفسي ا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سميه‬ ‫صادم يُ ّ‬‫حولناها من موضوٍع حم نرٍم ٍ‬ ‫ُوار هذه الغريزة‪ ،‬وقد ّ‬
‫تأ ُ‬ ‫الباث‪ ،‬واجلمهور املتل ّقي‪ ،‬فيخ ُف ُ‬‫الرسام ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ ٍ‬
‫الرسم قد أحدث مصاحلةً‬ ‫علماء النّفس "الطن ْوطَ ُم" (‪ ،)le tabou‬إىل حالة فنيّة مجاليّة‪ .‬وبذلك يكون ّ‬
‫بَّي اإلنسان وواقعه‪.‬‬
‫الرسم يساهم يف وظيفة التّطهري من ال ّداخل‪ :‬لوحة مثل‪" :‬الطّفل الباكي" جليوفاين براغولَّي ال ميكن إالّ‬
‫ّ‬
‫شفقة‬‫الرمحة وال ّ‬
‫مشاعر الكره والبغضاء واحلقد واإلساءة‪ ،‬وتزرع حملّها مشاعر ّ‬
‫َ‬ ‫تكتسح من جوف اإلنسان‬
‫احلتمي مبشهد الطفولة الربيئة النّاصعة وهي تبكي‪ ،‬وتَذرف‬ ‫واحملبّة واللَّّي والعطف‪ ،‬من خالل ِّ‬
‫االنفعال‬
‫ّ‬
‫العربات على الوجنتَّي‪.‬‬

‫اإلفالت من ِّ‬
‫لغة التعبري‬ ‫ِّ‬ ‫تباط ابحلجة السابقة‪ ،‬يكون الرسم ضمانةَ احلرية ِّ‬
‫للفرد‪ .‬فبواسطته ميكنه‬ ‫*] ويف اِّر ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ّ ّ‬
‫مباشرةٌ ومعناها يف ظاهر ِّ‬
‫لفظها‪ ،‬بينما إذا رسم اإلنسا ُن مينكه أن‬ ‫املآزق‪ ،‬ألّنّا ِّ‬
‫وقعة يف ِّ‬ ‫طة املُ ِّ‬
‫اليومية املُوِّر ِّ‬
‫ّ َّ‬
‫أي موضوع مهما كانت خطورتُه‪ .‬كما فعل بيكاسو‪ ،‬حَّي مت ّكن من ن ْقد‬ ‫الرمز واخليال إىل ّ‬ ‫ِّ‬
‫يتطرق بلُغة ّ‬ ‫ّ‬
‫ِّ‬
‫جرمية الديكتاتور فرانكو الذي قصف مدينةً إسبانيةً امسها "غارنيكا الباسك" بَِّوحشيّة‪ ،‬فقتل آالف‬ ‫ِّ‬
‫األبرّيء‪ .‬فكانت لوحتُه املُعنْـ َونة ابسم املدينة‪":‬غارنيكا" سبيال فنيا ذكيّا لنقد ظلمه واستبداده‪ ،‬بعيدا عن‬
‫طابع اخلطاب اليومي املباشر الصريح‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫انفك يُراوده ويستب ّد به‪ ،‬أال وهو مقاومةُ الفناء و ِّ‬
‫العدم‪،‬‬ ‫مطمحا دفينا أزليّا ما ّ‬ ‫ً‬ ‫الرسم مينح اإلنسان‬
‫*] ّ‬
‫الرسم أفضل ٍ‬
‫سبيل لتحقيق ذلك‬ ‫سدةً يف ّ‬ ‫األزيل‪ .‬فقد تكون أعمالُه اإلبداعيّةُ ُجم ن‬ ‫وضمان أسباب البقاء ّ‬
‫وتظل لوحاتُه ُختلِّّد ِّذ ْك َره‪ :‬هل اِّندثر ِّذ ْك ُر بيكاسو أو ليوانر دي فانشي أو كارينو‪،‬‬
‫الرسامُ ّ‬
‫املطلب‪ ،‬إ ْذ يفىن ّ‬
‫مر العصور‪.‬‬ ‫أو سلفدور دايل‪ ....‬فلوحاهتم هي اليت خل ْ ِّ‬
‫كرهم على ّ‬ ‫ّدت ذ َ‬

‫اإلقتصادي‪ :‬فهناك َمن‬


‫ّ‬ ‫*] آخر احلجج قيمةً يف إبراز أمهيتِّه ابلنّسبة إىل الفرد‪ ،‬هي اإلشارة إىل دوره‬
‫والع َوِّز إىل الثّراء واليُسر ورفاه املعاش‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫القرت والفقر واخلصاصة َ‬
‫سم يف حياته نقلةً نوعيّةً من َ‬‫الر ُ‬
‫أحدث ّ‬
‫شهرَة‪،‬‬
‫فبعض اللّوحات قد تصل أمثاّنا إىل مبالغ خياليّة جتلب لإلنسان أرابحا طائلةً‪ ،‬وإىل ذلك يكسب ال ّ‬
‫ومناذج‪ :‬ليوانر دي فانشي‪ ،‬وبيكاسو‪ ،‬وفانغوغ‪ ...‬فقد‬
‫َ‬ ‫فيذيع صيتُه يف األمصار واألقطار‪ .‬وخ ْذ لك أمثلةً‬
‫(والفن‬ ‫الرسم‬ ‫أمسوا أعالما على ان ٍر يف عصورهم‪ ،‬وخب ٍ‬
‫ّ‬ ‫يظل ال ّدفاع عن أمهيّة ّ‬
‫ولكن ّ‬
‫اصة يف غري عصورهم‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫كل‬
‫سم سبب تفقريه أنفق عليه ّ‬ ‫الر ُ‬
‫عموما) ابلنّسبة إىل الفرد‪ ،‬أبدواره املعنويّة ال املاديّة‪( :‬فهناك َمن كان ّ‬
‫ضعيف‪ ،‬فاملا ّدةُ نفعيّةٌ َع َرضيّة‬
‫ٌ‬ ‫املادي‬ ‫حتجاج ابلوجه‬ ‫تلق رواجا)‪ .‬إذًا‪ِّ ،‬‬
‫اال‬ ‫ماله‪ ،‬ول حيالفهُ ُّ‬
‫احلظ‪ ،‬فلوحاتُه ل َ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫زائلة دوما‪ .‬وال يفقه ذلك إالّ احلكماءُ‪.‬‬

‫سم أفضل ُسبل التثقيف ابلنّسبة إىل الفرد‪:‬‬


‫الر ُ‬
‫*] ّ‬

‫الرسامَّي احملليَّّي الوطنيَّّي الّذين يكون من املخجل عدمُ معرفتِّهم‪ ،‬ولو‬


‫عرفه ابألعالم من ّ‬
‫‪ -‬يُ ّ‬
‫عمار فرحات‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫على سبيل اإلحاطة ابالسم‪ ،‬دون األعمال واإلجنازات (اِلادي وز ّبري الرتكي‪ ،‬علي بن سال‪ّ ،‬‬
‫حامت امل ّكي‪ /‬هدى التونسي بلحاج‪ ،‬مارتَّي كوزينزة‪ )...‬وكذلك العامليَّّي املشاهري (انجي العلي‪ ،‬بيكاسو‪،‬‬
‫ليوانر دا فانشي‪ ،‬قوّي‪ ،‬فانغوغ‪ ،‬كارينو‪.)...‬‬
‫"الساحرة" لقوّي‪" /‬املوانليزا"‬
‫شهرية‪"( :‬قارنيكا" لبيكاسو‪ّ /‬‬ ‫يعرفه ابللّوحات العامليّة ال ّ‬‫‪ّ -‬‬
‫لدافنشي‪)...‬‬
‫وجهاته عرب سريورته التارخييّة‪ ،‬كما‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الرسم جيعل منه ضليعا يف َمدارسه‪ ،‬وتَ ّ‬ ‫‪ -‬انكبابه على عال ّ‬
‫اتمة‪ ،‬وتشكيليّة فيها‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫كل مدرسة‪ :‬بَّي انطباعيّة ُُتاكي الواقع والطّبيعة حماكاة ّ‬ ‫يُصبح على دراية خبصائص ّ‬
‫سدا يف السرّيليّة‬‫نسيب بنفحة اخليال‪ ،‬إىل أن وصلنا إىل أقصى درجات التعايل عن الواقع‪ ،‬جم ن‬ ‫اِّ‬
‫ستئناس ٌّ‬
‫ٌ‬
‫(مبعىن‪ :‬مدرسة ما وراء الواقع (‪ )le surrealisme‬بتغليب اخليال إىل ح ّد العبث واإللغاز) وال ننسى‬
‫خصائص املدرسة الدادائيّة والتكعيبيّة أيضا‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫الرسم ابلنّسبة إىل اجملتمع‪:‬‬
‫❖ أمهيّة ّ‬

‫تظل ذات املزاّي املذكورة ابلنّسبة إىل سائر الفنون ساريةً (قدرتُه على خلق الرتابط والتواصل بَّي أفراد‬
‫ّ‬
‫والتفو َق‪ ،‬أسوةً بقولة شكسبري‪ ،‬حيث جنعلها‪" :‬أعطين رمسا‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫منح اجملتمعات التميُّـ َز‬
‫اجملتمع‪ ،‬قدرتُه على ِّ‬
‫ك شعبا عظيما"‪ /‬قدرته على التخفيف من وطأة اآلفات واملشاكل‪ :‬العنف‪ ،‬اإلرهاب‪ ،‬اجلنوح‪،‬‬ ‫أ ِّ‬
‫ُعط َ‬
‫التعصب‪)...‬‬
‫ّ‬
‫ابلرسم دون سواه‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫طعم هذا الوجهَ ِّ‬
‫خاصةٌ مباشرةٌ ّ‬
‫جتماعي دوما مبا له عالقةٌ ّ‬
‫ن‬ ‫اال‬ ‫ولكنّا نُ ّ‬

‫اخلاصة‪ :‬هو يف ّناية األمر ممارسةٌ إنسانيّة‬ ‫معاجلة قضاّي اجملتمعات بطريقته‬‫ِّ‬ ‫سم له قدرةٌ فريدة على‬
‫ّ‬ ‫الر ُ‬
‫*] ّ‬
‫تعاملنا مع اللّوحة املاثلة أمامنا‬‫انجع إذا توقّف ُ‬‫لبيب فَ ِّط ٍن ٍ‬
‫هادفةٌ قصديّةٌ‪ ،‬وال نكو ُن ذوي منظا ٍر ٍ‬ ‫لتزمة ِّ‬ ‫ُم ِّ‬
‫عرب عن وع ٍي من ال ّد ِّ‬
‫رجة ال ّدنيا‪ ،‬فال نرى يف اللوحة إالّ‬ ‫طحي‪ ،‬ألنّنا حينها نُ ّ‬ ‫ِّ‬ ‫عند َجتَلِّّيها الظ ِّ‬
‫الس ِّّ‬
‫ّاهر البسيط ّ‬
‫مجيلة‪ .‬بل ال ب ّد من العبور إىل‬ ‫شاكلة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ط على‬ ‫لت فيها اخلطو ُ‬ ‫تعاشقت فيها األلوا ُن‪ ،‬وتدا َخ ْ‬
‫ْ‬ ‫مهارةً يدويّةً‬
‫نعقدت من أجلها طاقات الفنّان املخياليّة والنفسيّة‬ ‫ْ‬ ‫الباطن املُح نجب اخلفي‪ ،‬وهو الغايةُ األساسية الّيت اِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫شهرية‪:‬‬
‫تطبيقي حنلّل فيه بعض اللوحات العامليّة ال ّ‬
‫ّ‬ ‫لي‬
‫عم ّ‬‫والعاطفيّة‪ .‬وهنا نكون يف حاجة إىل طوٍر َ‬

‫جملموعة من األشالء البشرية‪ ،‬بَّي ٍ‬


‫أّيد‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫سد ًة‬
‫ّ‬ ‫✓ لوحة "قارنيكا" لبيكاسو‪ :‬هي لوحة تبدو يف ظاهرها ُجم ّ‬
‫أس‬ ‫ٍ‬ ‫ورؤوس مقطوعة عن أجسادها‪ ...‬تُ ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫مرتفعةٌ إىل األعلى ٍ‬
‫وخباصة ر ُ‬
‫ّ‬ ‫داخلها رؤوس حيوانيّة‪،‬‬ ‫وسوق‬
‫ٍ ٍ‬
‫ولكن إحاطةً‬‫سم ذا وظيفة فنيّة‪ّ .‬‬ ‫ثوٍر ذي قرنَّي ظاهرين حا ّدين‪ .‬وعند هذا الطّور قد ال يبدو ّ‬
‫الر ُ‬
‫كم من القضاّي السياسيّة‬ ‫ط اللّثام عن ٍّ‬ ‫اترخييّةً بسياق إنتاج اللّوحة‪ ،‬وظروف إبداعها ُمتي ُ‬
‫ِّ‬
‫واالجتماعيّة‪...‬‬
‫لقد رمسها بيكاسو بعد عدوان الديكتاتور اإلسباين فرانكو على "قارنيكا" الباسك بطائراته الّيت‬
‫ضحاّي من البشر واحليواانت‪ ،‬دون أن ننسى دمار‬ ‫واليابس‪ ،‬لِّتُخلّف آالف ال ّ‬
‫َ‬ ‫دمرت األخضر‬
‫املتجرب‪ ،‬ير ّد‬
‫ّ‬ ‫الرسام لَِّرجل السياسة الطاغي‬
‫الطبيعة‪ .‬فكان الرتكيز على األشالء هادفا‪ ،‬مرامهُ نق ُد ّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫على حركات احتجاجيّة سلميّة ض ّده من ذلك اإلقليم‪ ،‬بِّلُغة القنابل والقصف‪ ،‬فيُبي ُد‪ ،‬ل َ‬
‫يقمع‬
‫شعب‪.‬‬ ‫صوت ال ّ‬

‫‪18‬‬
‫ِّ‬
‫اللوحة‪ ،‬مبا للثّور يف الثّقافة احملليّة اإلسبانيّة من‬ ‫هامة يف‬
‫ويبقى رأس الثّور ذي القرنَّي عالمة ّ‬
‫ومعروف ما ِلذا احليوان أيضا من رمزيٍّة‬
‫ٌ‬ ‫يوجهها ويتح ّكم فيها‪،‬‬ ‫القوة اجلسديّة دون ٍ‬
‫عقل ّ‬ ‫دالالت ّ‬
‫معيّ ٍنة تُذ ّكِّر ابهتياجه ملنظر احلمرة القانية‪ ،‬من خالل حلبات مصارعة الثّريان‪ .‬وهو ما محل مقاصد‬
‫شهداء‪،‬‬ ‫اإلهانة لفرانكو‪ ،‬حيث اِّعتربه بيكاسو ال يعدو الثّور املندفع يهتاج ملنظر احلمرة يف دماء ال ّ‬
‫السري يف إثْر بيكاسو لقتله‪ ،‬لوال‬
‫ّ‬ ‫بوليسه‬
‫فما يزداد إالّ َهيجاان‪ .‬ويُروى أ ّن الديكتاتور قد أرسل َ‬
‫فراره إىل فرنسا‪.‬‬

‫نسي جاك لوي دافيد)‬


‫✓ لوحة "موت سقراط"‪( :‬للفنّان الفر ّ‬

‫توسطًا اجمللس بصد ٍر عا ٍر مي ّد يده إىل ق َدح ّ‬


‫السم ليشربه بنفسه‪ ،‬تنفيذا‬ ‫تُ ِّ‬
‫ظهر اللّوحةُ سقرا َط م ّ‬
‫رجال ال ّدين وقتها واهتّموه إبفساد شاب أثينا‪ ،‬ألنّه دعاهم‬
‫حلكم اإلعدام فيه‪ ،‬بعد أن أتلّب عليه ُ‬
‫الرسام أن جيعل من صورة التح ّدي وعدم هتيُّب املوت من‬
‫إىل إعمال العقل‪ .‬فكان من مقاصد ّ‬
‫امللكي‬
‫ّ‬ ‫شعب الفرنسي وقتها على عدم خشية املوت‪ ،‬والثّورة على النّظام‬ ‫قبل سقراط آيةً ُُت ّفز ال ّ‬
‫الفاسد املتداعي آنذاك‪ .‬وليس بغر ٍ‬
‫يب أ ّن الثّورة الفرنسيّة قامت بعدها بسنتَّي‪.‬‬

‫والزمن‪ ( :‬للفنّان سالفادور دايل)‬


‫✓ لوحة ال ّذاكرة ّ‬

‫طبيعي خالص‪ ،‬ولكنّها تطرح بعمق عالقة اإلنسان‬ ‫ٍ‬


‫ساعات متحلّلة يف فضاء‬ ‫بع‬
‫ّ‬ ‫هي لوحةٌ تظهر فيا أر ُ‬
‫قوةً قاهرةً تُبلي وال‬
‫ابلزمن يتنامى‪ ،‬فكأّنّا تُذ ّكر به ّ‬
‫ظل واقع إنساينّ حديث ما يفتأ وعيه ّ‬
‫ابلزمن‪ ،‬يف ّ‬
‫ّ‬
‫يظل دوما‬
‫فالزمن ّ‬
‫تبلَى‪ .‬وكأّنّا أيضا تبحث عن وعي جديد هبذه القيمة اإلنسانيّة األزليّة القاهرة‪ّ .‬‬
‫أهم عوامل ثورة اإلنسان املعاصر يف مستوى‬
‫لعل من ّ‬‫األول لإلنسان‪ ،‬فإن ل نصرعهُ صرعنا‪ .‬و ّ‬
‫العدو ّ‬
‫ّ‬
‫الزمن‪.‬‬
‫تطور وعيه بقيمة ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫العلم واالكتشاف واالخرتاع ّ‬

‫الرسام الفلسطيين‪ :‬انجي العلي‪:‬‬


‫✓ لوحات ّ‬

‫السخرية‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬


‫الرسم الكاريكاتوري القادر بنزعة ّ‬ ‫الفن على لون آخر من التّصوير‪ ،‬إنّه ّ‬ ‫وهنا ينفتح هذا ّ‬
‫شعوب املُضطَ َهدة منهوبة احلريّة‪ ،‬من أجل الوقوف‬ ‫وري يف اجلماهري وال ّ‬
‫بث الوعي الثّ ّ‬ ‫والتهكم على ِّّ‬
‫ُّ‬
‫ِّ‬
‫املستعمر‬ ‫قوة أثر لوحات انجي العلي يف‬ ‫يف وجهها‪ ،‬وَز ْعز َع ِّة كِّ ِّ‬
‫أدل على ّ‬ ‫ياّنا الغاصب‪ .‬وليس ّ‬ ‫َ‬

‫‪19‬‬
‫ِّ‬
‫قوّي ين ّدد بوحشيّة أعماله‪ .‬ومن أشهر‬ ‫اإلسرائيلي من أنّه اغتاله بسببِّها‪ ،‬وقد وجد فيها ً‬
‫صوات ّ‬
‫سياسات‬ ‫ضربتْه دونه ال‬ ‫قضبان ٍ‬
‫قفص َ‬ ‫ِّ‬ ‫خلف‬
‫الفلسطيين يقف َ‬ ‫السجَّي‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫لوحاته الرمزيّة اِلادفة‪ :‬لوحة ّ‬
‫العرب‪ ،‬بل وتواطُئهم يف عالقة ابلقضيّة‬ ‫ِّ‬ ‫نقد لِّ ِّ‬
‫صمت‬ ‫العربية‪ ،‬ال آلة القمع الصهيونية‪ .‬يف ٍ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫الفلسطينيّة‪ .‬وكذلك لوحة املعادالت الرّيضيّة اخلاطئة (‪ )5=2+2 /3=2+2‬وفيها مسؤوالن‬
‫اتفه‪ ،‬وحقائق مزينفة‪ .‬ولوحة البندقيّة‬ ‫عربيان ينشغالن عن القضية الفلسطينية‪ ،‬ويتجادالن يف أمر ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتحول من سالح لدفْع العدوان عن األخ‪ ،‬إىل مكنسة ال قيمةَ ِلا‪.‬‬
‫العربيّة ّ‬

‫جتماعي‪ ،‬من خالل‬ ‫أتمل لوحات عامليّة أخرى وحماولة الوقوف على دور الرسم ِّ‬
‫اال‬ ‫(دعوة التالميذ إىل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التونسي‬
‫ّ‬ ‫الساحرة‪ ،‬ولوحة هدى‬
‫معاجلة القضاّي‪ ،‬من أجل تطوير الواقع‪ :‬كلوحة العشاء األخري‪ ،‬ولوحة ّ‬
‫بلحاج‪" :‬النّظرة احملتشمة للمرأة"‪)...‬‬

‫هام‪ :‬هو تفاعل الثّقافات‪:‬‬


‫الرسم يف جتسيد مطلب إنساينّ ّ‬
‫*] دور ّ‬

‫الرسم يف‬
‫وهنا خنرج من دائرة اجملتمع الواحد‪ ،‬إىل دائرة اجملتمعات اإلنسانيّة كونيّا‪ ،‬لنقف على دور ّ‬
‫ش ِّ‬
‫عوب يف التعريف بثقافاهتا‪.‬‬ ‫سفري األمم وال ّ‬
‫كسر احلدود اجلغرافيّة واحلواجز املكانيّة والزمانيّة‪ ،‬ليكون َ‬
‫التنوع‬
‫الرسم يساهم يف تعزيز احلوار بَّي الثّقافات‪ ...‬والقبول مبدإ ّ‬ ‫يقول الدّكتور حمسن عطيّة‪" :‬إ ّن ّ‬
‫للتوصل إىل قدر مناسب من التفاهم"‪ .‬وهو يرى اللّوحة الفنيّة أحسن سف ٍري لألمم يف املعارض‬
‫ّ‬ ‫الثقايف‬
‫ّ‬
‫الرسام‬
‫الدوليّة واألروقة العامليّة للتعريف مبكنون ثقافتنا‪ ،‬من أبسط مظاهرها إىل أكثرها تركيبا‪ :‬مثال ّ‬
‫القطري سلمان املالك جعل من لوحاته فضاء فنيّا للتّعريف ابللّباس احمللّي القطري‪ ،‬ممَُثّال يف "العباءة"‪/‬‬
‫فضاء لتصوير خصائص‬
‫الساحلي وجنيب بلخوجة جعال من لوحاهتما ً‬
‫الرسامان التونسيّان عبد الرّزاق ّ‬
‫ّ‬
‫التقليدي‪ ،‬ممّا منح مدينتنا العتيقة بعدا عامليّا جعل السيّاح أيتون‬
‫ّ‬ ‫التونسي يف وجهه العتيق‬
‫ّ‬ ‫املعمار‬
‫يصور العادات والتقاليد التونسيّة‪،‬‬
‫هاما من لوحاته ّ‬‫لتأملها‪ّ /‬أما علي بن سال فقد جعل جزءا ّ‬
‫خصيصا ّ‬ ‫ّ‬
‫تقليدي يف اِلواء"‪ّ /‬أما جالل‬
‫ّ‬ ‫وطين‪ ،‬وعنوان اللوحة‪" :‬عرس‬‫يدي ّ‬
‫لت إىل طابع بر ّ‬ ‫ُتو ْ‬
‫حّت أ ّن إحداها ّ‬
‫ّ‬
‫هام من ثقافة بالدان يف مستوى احلياة ِّ‬
‫االجتماعيّة اليوميّة‪،‬‬ ‫فخصص لوحاته للتعريف جبانب ّ‬
‫بن عبد هللا ّ‬
‫تونسي وأوا ٍن وأاثث كاد يندثر‪...‬‬
‫ّ‬ ‫لي‬
‫وح ّ‬
‫بَّي مشاهد معماريّة ومالبس تقليديّة ُ‬
‫للرسامَّي حضره ممثّلون ألكثر من مخس عشرة‬
‫فين ّ‬ ‫وقد أُقيم يف مصر ابألُقصر يف سنة ‪ ،2019‬ملت ًقى ّ‬
‫ِّ‬
‫األفكار وتقريب وجهات النّظر الفنيّة‪ ،‬ولكن أيضا‬ ‫طارح‬
‫وأجنيب‪ .‬فكان مناسبةً لتَ ُ‬
‫ّ‬ ‫عريب‬
‫دولةً بَّي ّ‬
‫سم على عاتقه‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الر ُ‬
‫االجتماعيّة والثّقافيّة وال ّدينيّة‪ ،‬على اختالف اللّغات واللّهجات‪ ...‬وبذلك محَل ّ‬

‫‪20‬‬
‫الصراعات الكونيّة‪ ،‬فكان ابلفعل وسيلةً للتّآخي‬
‫شعوب‪ ،‬والتخفيف من ح ّدة ّ‬
‫وظيفة التقريب بَّي ال ّ‬
‫والتحابُب‪.‬‬

‫املسرح‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫فن‬
‫اثلثًا‪ّ :‬‬

‫حجج تناسب األطروحةَ املدحوضةَ‪:‬‬


‫ٌ‬ ‫‪/1‬‬

‫اض على سائر الفنون األخرى ساريةً مناسبةً ألولئك‬ ‫العام ِّة املذكورةِّ ساب ًقا يف ِّ‬
‫االعرت ِّ‬ ‫احلجج ّ‬
‫ِّ‬ ‫ذات‬
‫تظل ُ‬‫ُّ‬
‫س هذه املمارسةَ يف ماهيّتها‬
‫اهَّي" أخرى متَ ُّ‬
‫ممارسة إبداعيّة‪ ،‬ولكن يكون لديهم أيضا "بر ُ‬‫ٍ‬ ‫كل‬
‫املعرتضَّي على ّ‬
‫اخلاصة‪.‬‬
‫ّ‬

‫فعل "التّمثيل"‪ ،‬وكلُّ ٍ‬


‫متثيل مغالطةٌ ومتويهٌ‬ ‫املسرح انشئ ابألساس من ِّ‬
‫كونه ممارسةً قائمةً على ْ‬ ‫فن‬
‫ِّ ٌ‬ ‫*] بُطال ُن ّ‬
‫دجل‪ ،‬وزواِلا‬
‫أساسها ٌ‬
‫وعليه‪ ،‬كان ممارسةً ُ‬ ‫الفعليِّ‪ْ .‬‬
‫ّ‬ ‫اقع‬
‫ييب للو ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ضرورةِّ عدمُ ّنْ ِّج ِّ‬
‫سبيل احلقيقة‪ ،‬وتغْ ٌ‬ ‫فادمها ابل ّ‬
‫َم ُ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫فنحن ُخلِّقنا‬
‫قل نتشاغل‪.‬‬ ‫ننشغل عنهُ‪ ،‬أو ْ‬
‫َ‬ ‫نفعل فيه‪ ،‬ونُ َِّّ‬
‫غريه‪ ،‬ال أ ْن‬ ‫اجهه‪ ،‬و َ‬
‫واقعنا كما هو‪ ،‬ولنو َ‬
‫لنعيش َ‬
‫َ‬ ‫عجل‪ُ .‬‬ ‫ٌ‬
‫مظهر ُمادعٌ‪،‬‬
‫قناعا"‪ ،‬واألقنعةُ ٌ‬
‫شعاره " ً‬‫املسرح انط ًقا هبذا األمر‪ ،‬أليس ُ‬‫ِّ‬ ‫رمز‬ ‫ِّ‬
‫املذهب أنّك جت ُد َ‬ ‫صحةَ‬
‫وما يؤّك ُد ّ‬
‫ط‪ ،‬فأساسه شعوذةٌ‪.‬‬ ‫يجب أن تسق َ‬ ‫ف ُ‬

‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫احلقيقة‪ ،‬ويُزيّف لآل ِّ‬ ‫در ِّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫يح بَِّّ ٌ‬ ‫ُ ِّ‬
‫حرَم‬
‫خر وجهَ واقعه‪ ،‬فقد ّ‬ ‫ب‬ ‫إنساينّ َحيي ُد عن ْ‬
‫ٍ‬ ‫عمل‬ ‫َّي من ِّّ‬ ‫موقف ديننا صر ٌ‬ ‫*]‬
‫وحي ّذ َر‬ ‫ِّ‬
‫ابلعقول‪ ،‬فكان بديهيّا أ ْن يَ ُذ ّم أهلَها‪ُ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫وتالعب‬ ‫ٍ‬
‫واحتيال‬ ‫ٍ‬
‫وتضليل‬ ‫ٍ‬
‫ُمادعة‬ ‫أشكال املغالطَ ِّة‪ ،‬ورآها ْ‬
‫فع َل‬ ‫َ‬
‫اّللُ ك نل‬
‫األرض‪ ،‬ولعن ّ‬‫ِّ‬ ‫فاعتربهم مفسدين يف‬‫َ‬ ‫السحرةِّ واملَ َكرة من املشعوذين‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫شبيهة أبعمال ّ‬
‫من أعماِلم ال ّ ِّ‬
‫األابطيل واألحابيل‪ ،‬والغايةُ خسيسةٌ دنيئةٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ير‬ ‫ض ٍ‬
‫عيفة لتمر ِّ‬ ‫ِّ‬
‫العقول ال ّ‬ ‫أصحاب‬ ‫يستدرج‬ ‫حمتال ماك ٍر ٍ‬
‫ُمتال‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫موقف صارم من املنافقَّي واملخادعَّي‪ِّ .‬ألجل عمل املكر‬ ‫ٌ‬ ‫منتهاها سلْبُهم أمواِلَم وعقوِلَم‪ .‬ولنا يف ديننا‬
‫نفس ما قاله يف‬ ‫ِّ‬
‫لقال فيها خال ُقنا َ‬ ‫العرب القدامى املسلمَّي وقتها بدعةُ املسرح‪َ ،‬‬ ‫واخلداع ولو كان لدى‬
‫شعر والغناء‪.‬‬
‫شأن ال ّ‬

‫آن‪ :‬تراهم‬ ‫شفقة عليهم يف ٍ‬ ‫ِّ‬


‫ستخفاف هبم وال ّ‬ ‫املسرح مدعاةٌ ِّ‬
‫لال‬ ‫ِّ‬ ‫كات املمثّلَّي واملمثّالت على ُرْك ِّح‬‫*]حر ُ‬
‫ِّ‬
‫ابألقدام على تلك‬ ‫ِّ‬
‫ابألرجل وخيبطون‬ ‫ِّ‬
‫كاملعاتيه‪ ،‬كما تَلحظُهم يضربون‬ ‫ياح دون مربٍّر‪،‬‬ ‫ابلص ِّ‬
‫يرفعون العقريةَ ّ‬
‫واب‪ ،‬فال أيتون إالّ ضجيجا وجلبةً وعجيجا ال طائل من ورائها‪ ،‬غري أ ْن ي ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ذهبوا‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫اخلشبة اجلوفاء اخلاوية كال ّد ِّّ‬

‫‪21‬‬
‫الص ِّ‬
‫وت دون مربٍّر‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ْع ّ‬‫حتقار‪ .‬فرف ُ‬
‫اظر إليهم ال ميكن إالّ أ ْن يُك ّن ِلم اال َ‬
‫والوقار‪ ،‬والنّ ُ‬
‫َ‬ ‫عنهم املروء َة واِليبةَ‬
‫ض من صوتك‪ ،‬إ ّن‬
‫ض ْ‬‫ك‪ ،‬واغ ُ‬‫عز وجلن‪" :‬واقص ْد يف ِّمشيِّ َ‬ ‫ستهج ٌن يف أعرافِّنا وثقافتِّنا ودينِّنا‪ ،‬أسوةً ِّ‬
‫أبمره ّ‬ ‫ُم َ‬
‫ِّ‬
‫احلمري"‪.‬‬ ‫َصوت‬
‫ات ل ُ‬ ‫أنكر األصو ِّ‬
‫َ‬

‫اجلمهور فيه‬ ‫مباشر ال يفصل‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬


‫َ‬ ‫عرض ٌ‬ ‫واجملتمعات‪ ،‬ذلك أنّه ٌ‬ ‫أخالق األفراد‬ ‫املسرح من أخطر الفنون على‬
‫ُ‬ ‫*]‬
‫وعائالت‬
‫ٌ‬ ‫وشباب مراهقون‪ ،‬بل‬
‫ٌ‬ ‫أحداث‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أطفال‬
‫احلضور ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ات‪ ،‬وقد يكون من بَّي‬ ‫بضع خطو ٍ‬‫عن املمثّل سوى ِّ‬
‫الت ميوعةٌ يف احلر ِّ‬
‫كات‪ ،‬وبذاءةٌ يف الكلمات‪،‬‬ ‫أبكملها‪ ،‬فكيف عساه يكون التأَثُّر‪ ،‬ودأب املمثّلَّي واملمثّ ِّ‬
‫ُ‬
‫االحتضان والعناق‬ ‫ِّ‬
‫مشاهد ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الفصل أو ذاك جتسي ُد‬ ‫ّل هذا‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫اء يف اجلسد‪ ،‬هذا إذا ل يتخل ْ‬‫امللبس‪ ،‬وعر ٌ‬ ‫وسفور يف‬
‫ٌ‬
‫املسرحي العريب الشهري‪ :‬عادل إمام)‪ ،....‬وما‬
‫ّ‬ ‫ورّمبا ال ُقبلُ (يستعرض صاحب األطروحة املدحوضة أعمال‬
‫فادحا؟‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫رر ابلنّاشئة عظيما ً‬ ‫ضُ‬ ‫ألن يكو َن ال ّ‬
‫يرافقها من إحياءات ختدش ابحلياء‪ْ .‬‬
‫السوري (حسَّي مرعي) متاما أمام اجلمهور خالل أحد العروض‬ ‫يذكر حادثةَ تَـ َع ّري ذلك املمثّل ّ‬
‫َمن ال ُ‬
‫انهزت ِّ‬
‫االحدى ع ْشرة دقيقةً‪ ،‬من ٍ‬
‫عرض م ّدته ساعة‬ ‫ْ‬ ‫مبهرجان قرطاج املسرحي يف دورته العشرين لِّم ّدةٍ‬
‫ّ‬
‫وفتيات ونساء‪ ،‬بل وعائالت‬
‫ٌ‬ ‫أطفال‬
‫ٌ‬ ‫األمر إىل ذهول املشاهدين الّذين كان من بينهم‬ ‫يف‪ .‬وقد أ ّدى ُ‬ ‫ونَ ٌ‬
‫دوما‪ ،‬وهي‪ :‬تَعريةُ جرائم النّظام السوري بفعل العراء‪،‬‬
‫الشماعة ً‬
‫س ّ‬ ‫أبكملها‪ .‬وقد ّبرر املُمثّلُ فعلتَه النّكراء بن ْف ِّ‬
‫الصدمة وال ّدهشة‪ ،‬وقد قالت الفالسفة "املعرفة تبدأ ابل ّدهشة" حسب رأيه طبعا‪.‬‬
‫إلحداث ّ‬

‫فهم يظلّون على‬ ‫السليمةَ يف اخلَل ِّْق‪ُ ،‬‬‫شوهُ املعاد َن ّ‬


‫ومع َش ُره ُجمتمعون على ما يُفس ُد الطّباعَ ويُ ّ‬ ‫املسرح َ‬
‫ِّ‬ ‫آل‬
‫*] ُ‬
‫ضحك دون‬ ‫العريب قد قال‪ٌ " :‬‬ ‫ومثلُنا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫ّ‬ ‫وجيها‪َ ،‬‬
‫سبب ً‬ ‫امتداد ساعات طويلة غارقَّي يف ضحك ال مربّر له وال َ‬
‫َصغََر ْي‬ ‫موات ِّأل ِّ‬
‫حد أ ْ‬ ‫حك ً‬ ‫ض ِّ‬ ‫ورجال دي ٍن قد اِّعتربوا كثرةَ ال ّ‬
‫َ‬ ‫وحكماء‬
‫َ‬ ‫العقالء فالسفةً‬
‫َ‬ ‫سبب قلّةُ ٍ‬
‫أدب"‪ .‬كما أ ّن‬ ‫ٍ‬
‫ان مصدر اِليبة‬ ‫واالتّز ِّ‬
‫صانة ِّ‬‫يت القلب"‪ .‬فالوقار واملهابةُ يف الر ِّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ض ِّ‬
‫حك ُمت ُ‬ ‫القلب‪ ،‬بقوِلم‪" :‬كثرةُ ال ّ‬
‫ُ‬ ‫املرِّء‪ ،‬وهو‬
‫ْ‬
‫نفتح أشداقنا‪ ،‬ونلوي أعناقنا‬ ‫ِّ ِّ‬
‫ابإلكبار"‪ .‬فل َم ُ‬ ‫األعَّي‬ ‫ِّ‬
‫ابلوقار َرَم َق ْتهُ ُُ‬ ‫االحرتام‪ ،‬حيث أ ّن‪َ " :‬من اِّتّ َ‬
‫صف‬ ‫ومأتى ِّ‬
‫أدب؟‬
‫ملا ال حكمةَ فيه‪ ،‬وال َ‬

‫الغرب الك َف َرةِّ ال َف َجرةِّ املَ ِّ‬


‫العَّي‪ ،‬يرومون‬ ‫املسرح بدعةٌ وافدةٌ علينا عن أهل ِّ‬
‫َ‬
‫*] ال أح َد ميكن أن ي ِّ‬
‫نك َر أ ّن هذا‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ضاللة يف النّ ِّ‬
‫ار"‪.‬‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬
‫وإفساد أبنائنا‪ ،‬وإخراجنا عن ديننا‪ ،‬فهو بدعةٌ‪" :‬وكلُّ بدعة ضاللةٌ‪ ،‬و ّ‬ ‫َ‬ ‫به تشويه أخالقنا‪،‬‬
‫وتصدح بصوهتا عاليًا على املإل من‬
‫ُ‬ ‫فتخرج عن حيائها واحتشامها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أمره فُح ًشا إذا دخل ْته املرأةُ‪،‬‬
‫ويزداد ُ‬
‫ُ‬
‫وآل ِّله‪ ،‬ولْنتذ ّك ْر أ ّن ِلم دينَهم ولنا دينَنا‪.‬‬
‫بحا له ِّ‬ ‫ِّ‬
‫اجلماهري‪ ،‬متناسيةً أ ّن صوهتا عورةٌ‪ ،‬ف ُق ً‬

‫‪22‬‬
‫‪ /2‬حجج تُ ِّ‬
‫ناسب األطروحةَ املدعومةَ‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫حجج املوقف اخلاطئ‪ ،‬متهيدا لتقدمي األدلّة الكافية على أمهيّة‬ ‫أهم ِّ‬ ‫هدم ِّّ‬‫أ‪ /‬مرحلة اِلدم‪ :‬نعم ُد ّأوالً إىل ِّ‬
‫املسرح ابلنّسبة إىل الفرد‪ ،‬مثّ اجملتمع‪.‬‬
‫رّيضي‬ ‫جيب التعاطي معه ٍ‬
‫مبنطق‬ ‫ِّ‬
‫ّ‬ ‫إبداعي ال ُ‬
‫ٌّ‬ ‫مذهب مردو ٌد‪ ،‬فالتّمثيلُ عمل‬ ‫ٌ‬ ‫خداعا‬
‫املسرح ً‬ ‫َ‬ ‫عتباره‬
‫✓ا ُ‬
‫فعل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ففجرها من خالل ْ‬ ‫واع منح ْته الطبيعةُ قدرات جسديّةً وذهنيّة‪ّ ،‬‬ ‫كائن ٍ‬‫صارم‪ ،‬وإ ّمنا اإلنسان ٌ‬
‫أمر قدمي منذ أرسطو وعهود اإلغريق اجمليدة الزاهية‪ .‬إذًا فالتّمثيل قدرةٌ‬ ‫ِّ‬
‫االقتباس واحملاكاة‪ ،‬وهو ٌ‬
‫عارف هبا ُملِّ ٌّم‪.‬‬
‫يفقهها إالّ ٌ‬ ‫تعبرييّة راقيةٌ ال ُ‬
‫املسرحي عاد ًة ما‬ ‫ومالمح‬ ‫ان واحليويّة‪،‬‬‫املسرح جيب أن تتميـ َز ابلعن ُفو ِّ‬ ‫كح‬
‫حركيّةُ املمثّلَّي على ر ِّ‬
‫ِّّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ َ‬ ‫ِّ‬ ‫✓ َ‬
‫الباث إىل املتل ّقي‪ ،‬وليس للممثّل فيه مؤثّرات مونتاجيّة‬ ‫مباشر من ّ‬ ‫يغلب عليها ِّ‬
‫فن ٌ‬ ‫نفعال‪ ،‬ألنّه ّ‬
‫اال ُ‬
‫السينما على سبيل املثال (املؤثّرات الصوتيّة واخلدعُ التصويريّة)‪ ،‬وِلذا ليس‬ ‫متطورة مثل ّ‬ ‫وتقنيات ِّّ‬
‫له سوى تعبرييّة اجلسد واملالمح للنّفاذ إىل وجدان اجلمهور‪.‬‬
‫احلضاري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قايف وحتميّة التالقح‬
‫املعارف واإلجنازات يف إطار قانون التفاعل الثّ ّ‬
‫َ‬ ‫كل األمم تتبادل‬
‫✓ ّ‬
‫والرقي ابجملتمع‪ .‬وقد قال‬
‫ّ‬ ‫وليس عيبا أن أنخذ عن ّأم ٍة أخرى فنًّا له القدرة على النّهوض ابلفرد‬
‫أّن وجدها"‪.‬‬ ‫رسولنا الكرمي‪" :‬احلكمةُ ضالّةُ املؤمن أيخذها ّ‬
‫وري الّذي‬ ‫ِّ‬
‫الس ّ‬
‫ط يف األحكام املطلقة‪ ،‬واألفكار املسب َقة‪ ،‬فما أقدم عليه املمثّل ّ‬ ‫✓ ال جيب أن نسق َ‬
‫اخلاص‬
‫ّ‬ ‫ذكرت حالة شاذّة اندرة‪ ،‬و"الشاذّ ُحي َفظ وال يُقاس عليه"‪ .‬وميكن لنا أن منتلك مسرحنا‬
‫َ‬
‫ات ثقافتنا (لكم دينكم‪ ،‬ويل ديين)‪.‬‬ ‫املتالئم وخصوصي ِّ‬
‫ّ‬

‫والتوسع‪:‬‬ ‫ب‪ /‬حجج ِّ‬


‫البناء‬
‫ّ‬ ‫ُ‬

‫❖ أمهيةُ املسرح ابلنّسبة إىل ِّ‬


‫الفرد‪:‬‬ ‫ّ‬

‫النفسي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫*] ال ّدور‬
‫أسباب التوتّر‬ ‫تكاثرت‬
‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫اإلنسان‪ ،‬ال سيما يف هذا العصر الّذي‬ ‫أجنع الفنون يف الرتويح عن‬
‫املسرح من ِّ‬
‫ُ‬
‫سر‬ ‫عنف وتدخَّي ومخر ونفاق اِّ‬
‫وميْ ٌ‬
‫جتماعي َ‬
‫ّ‬ ‫شواغل كثرية (فرديّة‪ٌ :‬‬‫النفسي فيه‪ .‬فقد ابتت ال ّ‬
‫ّ‬ ‫والتأ ّزم‬
‫ات‪ /...‬إنسانيّة‪ :‬حروب وإرهاب‪ ،‬وأمراض مستعصية‪ ،‬وجماعات ووسائل إعالم ساحرة ماكرة‪،)...‬‬
‫وُم ّدر ٌ‬
‫كوميدي قِّوامه ْ‬
‫اِلز ُل الباعث على‬ ‫ّ‬ ‫عرض‬
‫األجنع ملواجهتها ومكافحتها‪ ،‬مبا هو ٌ‬
‫َ‬ ‫بيل‬
‫الس َ‬
‫الفن ّ‬
‫وقد يكون هذا ّ‬

‫‪23‬‬
‫احك ِّ‬
‫املبتس ُم‪.‬‬ ‫ض ُ‬ ‫خيتص هبا اإلنسا ُن دون سائر الكائنات‪ ،‬إ ْذ هو املوجود الوحيد ال ّ‬ ‫ِّ‬
‫اإلضحاك‪ ،‬وهي ر ّدة ٍ‬
‫فعل ّ‬
‫ضروري لتحريك عضلة معيّنة يف القلب ُتافظ على سالمته‬ ‫عضوي‬ ‫عمل‬ ‫فعل ال ّ ِّ‬
‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫ضحك ٌ‬ ‫العلم أ ّن ْ‬
‫وقد أثبت ُ‬
‫فعل أخرى لدى اإلنسان قادرة على ذلك‪.‬‬ ‫وفاعليّته‪ .‬وليس هناك أيّة ر ّدة ٍ‬
‫ووحشة اإلحساس ابلراتبة‪،‬‬ ‫املرء‪ ،‬وتنزاح حجافلُ الكلل وامللل ِّ‬ ‫وخالل فعل الضحك تسرتخي أعصاب ِّ‬
‫والسرور والنّشوة واحلبور‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫تح ّل حملّها حملات الفرح ّ‬
‫كما يتخلّص من مشاعر األسى واحلزن والكمد واللّوعة‪ ،‬ل ُ‬
‫اِلموم‬ ‫عمل يرسم ِّ‬
‫االبتسامةَ على شفتيه‪ ،‬فيُنسيه‬ ‫وهل هناك غايةٌ لإلنسان يف هذا العصر املُ ِّ‬
‫حتدِّم أَ ْوىل من ٍ‬
‫َ‬
‫املسرحي وبعده‪ ،‬فكأ ّمنا بُعث‬
‫ّ‬ ‫وانظر ذلك التباعد بَّي حال اإلنسان قبل دخول العرض‬ ‫والكلوم‪ْ .‬‬
‫َ‬ ‫اجع‬
‫واملو َ‬
‫وعربوا عنه ابلوظيفة‬
‫التنفيسي للمسرح‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫التصعيدي‬
‫ّ‬ ‫من جديد‪ .‬ولقد أحلّ علماء النّفس على هذا ال ّدور‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الروح والكيان من ال ّداخل‬
‫جي فقط يف حاجة إىل طهارة‪ ،‬بل إ ّن ّ‬ ‫التطهرييّة‪ ،‬فليست األبدان يف مظهرها اخلا ِّر ّ‬
‫حيث على ِّ‬
‫تلبية احلاجة النفسيّة لألبدان‬ ‫الراهن‪ .‬ودينُنا ّ‬
‫وخباصة يف عصران ّ‬
‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫قد تكون أش ّد اِّحتياجا إىل ذلك‪،‬‬
‫وجَّي‬
‫الز ْ‬‫أمات وأحيا‪ ،‬وأنّه خلق ّ‬
‫ابلنص القرآينّ أو ابألحاديث‪ .‬قال تعاىل‪" :‬وأنّه أضحك وأبكى‪ ،‬وأنّه هو َ‬ ‫ّ‬
‫ك يف مقابل‬ ‫ض ِّح َ‬
‫عز وجلن ال ّ‬
‫اخلالق ّ‬
‫ُ‬ ‫ال ّذ َكر واألنثى" (اآلّيت ‪43‬و‪44‬و‪ 45‬من سورة النّجم)‪ ،‬فقد جعل‬
‫ليه ويُب ّدده‪ .‬كما يشري قولهُ تعاىل إىل أنّه حالةٌ طبيعيّة يف اإلنسان هبا توازنُه‬ ‫وجي ِّ‬
‫شبحه ُْ‬
‫البكاء‪ ،‬ألنّه يطرد َ‬
‫اّللُ تَواز َن الكون ابملوت واحلياة‪ ،‬وابل ّذ َكر واألنثى‪.‬‬
‫واعتدال مزاجه‪ ،‬مثلما جعل ّ‬
‫ُ‬

‫*] الوظيفة التثقيفيّة‪ :‬املسرح من أكثر املمارسات اإلنسانيّة تكامالً وثر ًاء‪ .‬فهو جيمع يف إهابه سائر الفنون‬
‫فنحن ظافرون يف َحومتِّه ابملوسيقى والعناء‪ ،‬من منطلق العرض إىل منتهاهُ‪ ،‬وال ننسى أ ّن فِّ َرق‬ ‫األخرى تقريبًا‪ُ .‬‬
‫خاصة هبا‪ ،‬مرافقة ِلا‪ .‬واملمثّلون أنفسهم أثناء الفصول كثريا ما يغنّون‬ ‫ِّ‬
‫املسرح احملرتفة ِلا فرقة موسيقيّة ّ‬
‫رف بصوته اجلميل يف املسرح)‬ ‫زّين عُ َ‬‫املسرحي املصري‪ :‬سيّد ّ‬
‫ّ‬ ‫(املمثّل‬
‫رقص لطيف ُمرفِّّه (الفنّانة شريهان وفيفي عبدو‬ ‫ِّ‬
‫وأغاين املق ّدمة أو النهاية يف املسرحيّة غالبا ما يرافقها ٌ‬
‫والرقص‬ ‫ِّ ِّ‬
‫املسرح قو ُامه الغناء ّ‬ ‫لوان معيّنا من‬
‫هناك ً‬
‫الرقص)‪ ،‬كما أ ّن َ‬ ‫املصريّتان غلبت على أعماِلما املسرحيّة ّ‬
‫الغنائي‪ ،‬واألوبريا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سمى املسرح‬
‫شعر‪ ،‬ويُ ّ‬ ‫وال ّ‬
‫ّوحات الفنيّةَ التشكيليّةَ ُتضر يف ديكور املنازل أو‬‫ولو أتملنا ما يزينن به الركح أتثيثا للمشاهد‪ ،‬لَوجدان الل ِّ‬
‫ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كل هذه الفنون متعاشقةً يف رحاب املسرح تضمن حظّا أوفر من‬ ‫الرسم‪ ....‬و ّ‬ ‫فن ّ‬
‫الدكاكَّي أو‪ ،...‬مبا ُحيضر ّ‬
‫كل ٍ‬ ‫ِّ‬
‫واحد من تلك الفنون مع املسرح‪.‬‬ ‫الرتفيه‪ ،‬بيد أّنّا أيضا تضمن امليزةَ التثقيفيّةَ لتضافُر مزاّي ِّّ‬
‫ابملسرح أحا َط أبعالمه ممثّلَّي وُمرجَّي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ضا‪ ،‬أل ّن َمن كلِّف‬
‫التثقيفي بصفة عفويّة غري قصديّة أي ً‬
‫ّ‬ ‫الدور‬
‫ويتح ّقق ُ‬
‫مؤسس املسرح الوطين علي بن عيّاد املمثّل واملخرج‪ ،‬وجليلة‬ ‫احملليَّّي الوطنيَّّي أو العامليَّّي‪( :‬يعرف من تونس ّ‬

‫‪24‬‬
‫وحممد صبحي‪،‬‬‫ب ّكار‪ ،‬واملنصف السويسي‪ ،‬وتوفيق اجلبايل‪ّ /‬أما عربيّا فيعرف زعيم املسرح العريب عادل إمام‪ّ ،‬‬
‫وحممد ِّجنم‪ ،‬ومسري غاّن‪ ،‬وسهري البابلي‪ّ /‬أما غربيّا فيعرف املمثّل الفرنسي العاملي والكاتب املسرحي موليري)‪.‬‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫عمار بو ْز ِّوّر‪ّ ،‬‬
‫غسالة النوادر‪ ،‬كالم‬ ‫عمار‪ّ ،‬‬
‫أبهم األعمال املسرحيّة احملليّة (املاريشال ّ‬
‫كما ُميسي على اطّالع ّ‬
‫و"رّي وسكينة"‬
‫(الزعيم‪ ،‬و"الواد سيّد الشغّال" و"شاهد ما شافشي حاجة" لعادل إمام‪ّ ،‬‬ ‫الليل) والعربيّة‪ّ :‬‬
‫(هاملت‪ ،‬البخيل)‬
‫ْ‬ ‫حملمد صبحي‪ )...‬والغربيّة‪:‬‬‫ألمحد بدير وسهري البابلي‪ ،‬ووجهة نظر ّ‬
‫كما تتجلّى الوظيفةُ التثقيفيّة يف اإلحاطة أبمساء الكتّاب املسرحيَّّي املشاهري من قبيل شكسبري اإلنكليزي‬
‫وموليري الفرنسي‪.‬‬
‫الفن يف توسيع آفاقنا إبحاطتنا بتارخيه‪ ،‬ومدارسه ّ‬
‫واجتاهاته‪...‬‬ ‫شغَف هبذا ّ‬ ‫نغفل عن دور ال ّ‬
‫وليس لنا أن َ‬
‫ّسان وفصاحة يف ِّ‬
‫البيان‪ ،‬سيما من‬ ‫ٍ‬
‫طالقة يف الل ِّ‬ ‫إبداعا أو مشاه َد ًة من‬
‫املسرح ً‬ ‫عما مينحه‬
‫ُ‬ ‫دون أن نغفل ّ‬
‫ٍ‬
‫فصيحة‪.‬‬ ‫خالل تلك العروض املكتوبة بلغة عربيّة‬

‫والتفو َق‪ .‬كيف ال وهو يقوم على اإلشارة‬‫فن مينحك التميّـ َز ّ‬


‫املسرح ّ‬
‫ُ‬ ‫*] وظيفة تنمية سائر املدارك وامللكات‪:‬‬
‫ومب ِّطّنات القول‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫شغوف به على التقاط املغازي والع َرب ُ‬ ‫يدأب ال ّ‬
‫دون العبارة‪ ،‬والتلميح دون التصريح‪ ،‬وعليه ُ‬
‫ضمرةُ‬ ‫فيمسي لبيبا ِّ‬
‫ّن املعاين املُ َ‬
‫حك يُبط ُ‬
‫ض َ‬‫"اللبيب من اإلشارة يفهم"‪ ،‬أل ّن ال ّ‬
‫ُ‬ ‫العريب يقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فطنا‪ ،‬ومثلنا‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫واملقاصد املش ّف َرة‪.‬‬

‫الفرد من َهتيُّبه وخجلِّه وانطوائه وارتباكه‬


‫ّص َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫األدوار املسرحيّة ُختل ُ‬ ‫االجتماعيّة‪ :‬ممارسةُ‬ ‫*] الوظيفة السلوكيّة ِّ‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫ذاات جريئةً واثقةً بنفسها‪ ،‬وِلا القدرة على مواجهة اآلخرين‪ ،‬من خالل اكتساب اخلربة‬ ‫ِّ‬
‫صبح ً‬ ‫وتَـلَ ْعثُمه‪ ،...‬ليُ َ‬
‫ٍ‬
‫طالقة يف‬ ‫الء ما يكتسبونه دون سواهم من‬ ‫اجلمهور‪ .‬وإ ْن أتملنا املمثّلَّي املسرحيَّي الحظنا ِّجب ٍ‬
‫ِّ‬ ‫على مواجهة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جتماعي‪ ،‬من خالل‬ ‫خصال تُيسر من اِّندماج الفرد يف نسيجه ِّ‬
‫اال‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫ّ‬ ‫ٌ ّ‬ ‫وبديهة يف الر ّد واجلواب‪ ،‬وتلك‬ ‫اخلطاب‪،‬‬
‫خيتص هبا املسرح دون سائر الفنون‪ ،‬وهي تعويد املمثّل على‬ ‫ّ‬ ‫هامة‬
‫تعزيز الثّقة ابلنّفس‪ .‬وال ننسى ميزة ّ‬
‫يدعم يف شخصيّته مسات اجلرأة والطّالقة والعفويّة‬ ‫ِّ‬
‫االرجتال يف كثري من املواقف واملشاهد التمثيليّة‪ ،‬مبا ُ‬
‫االجتماعيّة‬ ‫والتلقائية‪ .‬ومبا مينح املُمارس قدر ٍ‬
‫ات معيّنةً تُساعده يف التعاطي مع األزمات الطارئة‪ ،‬واألوضاع ِّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫لكل‬ ‫املفاجئة‪ .‬وِلذا يلتقي أغلب املبدعَّي املسرحيَّّي يف اعتبار اخلروج عن ّ ِّ‬
‫النص واالرجتال ضرورة الزمة ّ‬
‫صفة تكاد تكو ُن ُكلِّّينةً‬
‫فنّان مسرحي‪ .‬وحنن ال جند هذه امليزة يف سائر الفنون األخرى‪ ،‬أل ّن بعضها بقوم بِّ ٍ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫تسجيل‪ ،‬مبا ال يفسح اجملال للفنّان إلبراز‬ ‫تيب مسبَ ٍق‪ ،‬وإعادة تر ٍ‬
‫كيب‪ ،‬مثّ‬ ‫يب وتر ٍ‬
‫على ُتضري وتدب ٍري‪ ،‬وتدر ٍ‬
‫مونتاجي‬ ‫فن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ ِّ‬
‫ّ‬ ‫السينما ابخلصوص‪ ،‬فهي ّ‬
‫القدرة الفرديّة اآلنيّة دون سابق حفظ أو استعداد‪ .‬ولعلّنا نقصد هنا ّ‬
‫تركييب ابمتيا ٍز‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫أوفر من احلريّة التعبرييّة عن قضاّيه وأفكاره وهواجسه‪،‬‬ ‫ظ َ‬ ‫املسرحي متمتِّّ ٌع حب ٍّ‬
‫ّ‬ ‫*] الوظيفة التعبرييّة‪ :‬املمثّل‬
‫يتسرت ِّ ِّ‬
‫يتجرأ على ما يشاء من‬ ‫الساخر الالّذع يف كثري من األحيان‪ .‬فهو ّ‬ ‫ضحك ّ‬ ‫بقناع فنّه وبِّ ْ‬
‫تمويه ال ّ‬ ‫ألنّه ُّ‬
‫أحياان (موضوع اجلنس‬‫حمرمةٌ ً‬ ‫للعادي من النّاس يف لغتنا اليوميّة البسيطة ممنوعةً‪ ،‬بل ّ‬ ‫ّ‬ ‫املواضيع الّيت تلوح‬
‫يرتك ض ّد نفسه دليل ٍ‬
‫إدانة واضحا‬ ‫وال ّدين والسياسة يف أنظمة القمع) فرتاه يقول ك نل شيء‪ ،‬دون أن َ‬
‫مكشوفا‪ .‬فهو أكثر حريّةً من سائر البشر اآلخرين‪ .‬ولنا أن نتذ ّك َر ما متيّز به ممثّلون تونسيّون أو غري تونسيَّّي‬
‫النهدي مثال ممثّل‬
‫ّ‬ ‫وصلَ ِّفها‪ :‬األمَّي‬
‫نت يف جربوهتا َ‬ ‫من جرأة على نقد أنظمة قمعيّة قد تعمد إىل القتل إ ْن طُِّع ْ‬
‫ضحك‪،‬‬ ‫متسرتا بقناع املسرح‪ ،‬وقناع ال ّ‬‫السابقَّي (نظام بورقيبة‪ ،‬ونظام بن علي) ّ‬ ‫ّاملَّي ّ‬
‫ظامَّي الظ ْ‬ ‫مسرحي نقد النّ ْ‬
‫ّ‬
‫السجن‪ .‬ورغم ذلك ترى املبدعَّي املسرحيَّّي‬ ‫ِّ‬
‫القناع قد انكشف أحياان‪ ،‬فكانت النّتيجةُ َز ًّجا به يف ّ‬ ‫َ‬ ‫رغم أ ّن‬
‫فرطون فيه أبدا‪ ،‬فهو‪ ،‬ابلنّسبة إليهم‪ ،‬ضمانةُ التعبري واحلريّة الّيت ال تُضاهى‪ .‬وتزداد‬ ‫ال يرتكون فننهم وال يُ ّ‬
‫الرواج هذه‬
‫الرجل الواحد" الّذي أصبح كثري ّ‬
‫املسرحي من نوع "عرض ّ‬
‫ّ‬ ‫الوظيفة التعبرييّة َجتَلّيًا إذا كان اللّون‬
‫األّيم‪ .‬فعلى املمثّل أن يكون هو يف ح ّد ذاته فرقةً بكاملها‪ ،‬وذلك ابلتعويل على قدرته يف تعديد األصوات‪،‬‬
‫ّ‬
‫شخصيّات‪ .‬وكلّها طاقات إبداعيّة فريدة‪.‬‬
‫وتنويع مالمح ال ّ‬
‫فلسفي املطلق‪ .‬فهو منذ عهوده اإلغريقيّة األوىل كان فضاء‬
‫ّ‬ ‫اإلنساينّ ال‬
‫ِّ‬ ‫وال ننسى وظيفتَه التعبرييّةَ يف بُعدها‬
‫لطر ِّح قضاّي الوجود‪ ،‬من خالله تساءل عن علّة ذلك الوجود وغاّيته‪ .‬كما طرح به أسئلةً عن‬ ‫اإلنسان ْ‬
‫صوت و ْعيِّه األجلى األظهر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والشر‪ .‬فكأنّه‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫املصري‪ ،‬وثنائيّة البقاء والفناء‪ ،‬واخلري‬

‫نفسه منه ٍ‬
‫بسبب‪،‬‬ ‫ّقت ُ‬‫فم ْن تعل ْ‬ ‫املسرح‪َ .‬‬
‫ٍ‬ ‫والرسم ُمنطبِّ ٌق على‬
‫*] وظيفة التخليد‪ :‬نفس ما قلناه يف شأن الغناء ّ‬
‫ظل ماثلةً ُختلّد ِّذ ْكره‪ ،‬سواء أكان ممثّال أو‬
‫الردى‪ ،‬بيد أ ّن أعماله املسرحيّة ت ّ‬
‫فأبدع أعماال يف جماله‪ ،‬يطويه ّ‬
‫ضي أكثر‬ ‫ِّ ِّ‬
‫مسرحي خلّده فنُّه‪ /‬موليري كاتب وممثّل بق َي امسه خالداً رغم ُم ّ‬
‫ّ‬ ‫ُمرجا أو كاتبا‪( ...‬شكسبري كاتب‬
‫ثالث مائة سنة على وفاته‪ /‬نفس األمر ابلنّسبة إىل علي بن عيّاد‪ ،‬واملنصف السويسي من تونس‪/‬‬ ‫من ِّ‬
‫حممد ِّجنم‪ ،‬وعبد املنعم مدبويل من مصر‪)...‬‬
‫وكذلك ّ‬

‫❖ أمهيّة املسرح ابلنّسبة إىل اجملتمع‪:‬‬

‫ُعطك شعبا‬
‫مسرحا أ َ‬ ‫املسرحي األشهر عامليّا‪ :‬وليام شكسبري‪" :‬أعطين‬ ‫العبث أن يقول الكاتب‬‫ِّ‬ ‫ليس من‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫عظيما"‪ .‬فقد جعله األداةَ األجنع يف النّ ِّ‬
‫هضة هبا‪ .‬فما هي ُمتلف مزاّيه ابلنّسبة إىل اجملتمع؟‬ ‫َ‬

‫‪26‬‬
‫األصلح األكفإ‪ ،‬مبا‬
‫ِّ‬ ‫االجتماعيّ ِّة‬ ‫الزْمرةِّ ِّ‬ ‫وظيفة اِّ ِّ‬
‫نتخاب ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫السابقة يف‬
‫املسرح إىل سائر الفنون ّ‬ ‫َ‬ ‫نضم‬
‫*] هنا ُّ‬
‫سيج بِّ ُرّمته‪.‬‬
‫اجملتمع‪ ،‬وبِّ ُرقيِّّه يرقى هذا النّ ُ‬
‫ِّ‬ ‫ربه من وع ٍي وذكاء وحريّة وثقافة‪ ،...‬والفردُ هو نواة‬ ‫كسبُه الفرد َع َ‬
‫يَ َ‬
‫اخلاص ِّة به‪:‬‬
‫ّ‬ ‫االجتماعيّ ِّة‬
‫مثّ َمنُر إىل أدواره ِّ‬
‫ّ‬

‫ستبداد‪ .‬ينقد اِلِّ ِّ‬


‫نات‪ ،‬ويُن ّد ُد‬ ‫ِّ‬ ‫واال‬ ‫ِّ‬
‫والفساد ِّ‬ ‫الصار َخ يف وجه الظّلم‬ ‫ِّ‬
‫اجملتمعات ّ‬ ‫صوت‬
‫َ‬ ‫*] املسرح كان منذ ِّ‬
‫األزل‬
‫واإلصالح‪ .‬فيكون هبذا املعىن مبثابة‬
‫ِّ‬ ‫العالج‬
‫ِّ‬ ‫ات‪ ،‬ويقرتح سبُل‬‫ت والعثر ِّ‬‫واآلفات‪ ،‬وينبه إىل الزالّ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ابلنقائص‬
‫ّ‬
‫مسرحي‬
‫ّ‬ ‫عمل‬
‫قه ُقر‪ .‬وِلذا‪ ،‬ال يكاد ٌ‬ ‫الساهرةِّ وال ّدرع الواقي ينأى به عن أشكال التَصدُّع والتشتّت والتّ ْ‬ ‫العَّي ّ‬
‫صميم ِّه‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫حّت ها ٍو خيلو من تبطَّي القضاّي ُمستقا ًة من الواقع‬ ‫ف أو ّ‬ ‫ِّ‬
‫حمرت ٌ‬
‫األعمال املسرحيّ ِّة على القضيّة السياسيّة يف الواقع‬ ‫ِّ‬ ‫الزعيم لعادل إمام‪ :‬هي من أَجرإ‬ ‫✓ مسرحيّة ّ‬
‫واالستبداد‪ ،‬فضال‬ ‫التطابق يف خصائص القمع والظّلم ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫العريب‪ .‬تتّجه إىل زعمائه املتشاهبَّي إىل ح ّد‬
‫ّ‬
‫عن النّهب واستغالل النفوذ من أجل مصاحل األسرة واألصهار واألقارب‪...‬‬
‫االستعمار الفرنسي‪ ،‬وانقسام أبناء‬ ‫ابلزو ْر" لفرقة اجلنوب بقفصة‪ :‬تعاجل قضيّة ِّ‬
‫"عمار ْ ُ ّ‬
‫✓ مسرحيّة ّ‬
‫ومناوئ‪.‬‬
‫الوطن بَّي مساند ِلذا الغاصب ُ‬
‫عمار‪ :‬بطولة الفنّان محدة ابلتّيجاين‪ .‬وهي تعاجل قضيّة اِّجتماعيّة تتمثّل يف‬
‫✓ مسرحيّة املاريشال ّ‬
‫والوجهاء املدينيَّّي‪ ،‬وما‬ ‫ِّ‬
‫انبهار بعض النّاس من األصول الريفيّة البسيطة بطابع حياة األغنياء ُ‬
‫يُسبّبه ذلك من مشاكل ِلم‪ ،‬ولِّ َذويهم وأهلهم‪ ،‬من خالل الكلَف بتقليد طابع معاشهم‪ ،‬فيقعون‬
‫يف املواقف املضحكة‪ ،.‬ويكونون موضع سخرية من قـْبَل اآلخرين‪.‬‬
‫"إرهايب غري ربع" لرؤوف بن يغالن‪ :‬وتعاجل قضاّي اِّجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة‪ ،‬تطرح قضيّة‬
‫ّ‬ ‫✓ مسرحيّة‬
‫ِّ‬
‫اخلالص‪،‬‬ ‫ث عن‬ ‫التّهميش والبطالة الّلذيْن يتعرض ِلما شبابنا اليوم‪ ،‬وما قد ينجم عنهما من ْحب ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫دوامة اإلرهاب‪.‬‬‫وهو ما تستغلّه اجلماعات املتش ّددة الستقطاهبم يف ّ‬

‫فين النّخبة الّلذيْن‬


‫والرسم مثال ن ْ‬
‫السينما ّ‬
‫الثقايف بَّي جهات الوطن الواحد‪ ،‬فإذا كان ّ‬‫ّ‬ ‫*] املسرح خيلق التوازن‬
‫وسياسي (نقصد ما يُتاح للمدن الكربى‬ ‫واقتصادي‬ ‫ثقايف‬ ‫ٍ‬ ‫ختتص هبما جهات معينة متثل موضع اِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ستقطاب ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫احلمامات الّيت مركز اِّستقطاب‬ ‫سينمائي‪ ،‬ومدينة ّ‬
‫ّ‬ ‫االمتيازات‪ ،‬كالعاصمة الّيت هي مركز اِّستقطاب‬ ‫من تلك ِّ‬
‫للرسم والرسامَّي) فإ ّن املسرح هو فن الطبقات الشعبية‪ ،‬ألنّه ال يتطلّب إمكاني ٍ‬
‫ات عصيّةً عن التوفُّر‪ ،‬وإ ّمنا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫"الرجل الواحد"‪ ،‬أو يف جمموعة معيّنة تستأنس يف نفسها‬ ‫معَّي ليُقبل على مسرح ّ‬ ‫ٍ‬
‫شخص ّ‬ ‫تكفي املوهبةُ يف‬
‫تكونت فرقة املسرح البلدي‬ ‫ِّ‬
‫شحيحة‪ .‬فمنذ ما قبل االستقالل ّ‬ ‫الكلَف ابملسرح‪ ،‬وال تنصاع لإلمكانيّات ال ّ‬
‫تكونت فرقة املسرح‬
‫الغريب ّ‬
‫بتونس العاصمة على يد علي بن عيّاد‪ ،‬وهنالك يف الطرف األقصي من الشمال ّ‬

‫‪27‬‬
‫الركن املقابل جبهة اجلنوب فقد‬
‫القار ابلكاف منذ أكثر من مخسَّي سنة على يد املنصف السويسي‪ّ .‬أما يف ّ‬
‫ّ‬
‫تاحا للجهات‪ ،‬على تَواضع‬
‫نشأت فرقة مسرح اجلنوب بقفصة‪ ...‬واألمثلة كثرية على دور املسرح فنًّا ُم ً‬
‫وجنواب‪.‬‬
‫ً‬ ‫اإلمكانيّات‪ ،‬على ِّّ‬
‫بث األنشطة التثقيفيّة يف ربوع البالد شرقا وغراب‪ ،‬مشاال‬

‫ِّ‬
‫واألخالف‪.‬‬ ‫الثقايف بَّي األسالف‬
‫ّ‬ ‫شعوب‪ ،‬وامتداد التواصل‬ ‫املسرح من أقدر الفنون على ِّح ْف ِّظ تراث ال ّ‬
‫ُ‬ ‫*]‬
‫وزمن معين ْنَّي قد تكون األجيال اجلديدة على غري در ٍ‬
‫اية‬ ‫اقع ِّ‬‫املسرحي يتناول القضاّي يف عالقة بو ٍ‬ ‫فالعمل‬
‫ّ‬
‫أثرا يف كثري من املسرحيّات التونسيّة‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫هبما‪ :‬مثال قضيّة االستعمار وما سبقه من بقاّي احلقبة العثمانيّة جند له ً‬
‫شاهد ليعرف اتريخ بالده‪،‬‬ ‫وظيفة تسجيلية هامة يتك ّفل هبا املسرح‪ .‬فتُعيد إحياءه على املُ ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫تُوثِّّق له من خال‬
‫ّ ّ‬
‫التونسي أبنظمة‬
‫ّ‬ ‫اجلندي‬
‫ّ‬ ‫عمار‪ :‬تشري إىل أتثّر‬‫مرت به من مراحل هي جزء من هويّته (مسرحيّة املاريشال ّ‬ ‫وما ّ‬
‫تطرح قضيّة فئة فاسدة من جمتمع بالدان‬ ‫ور‪ُ :‬‬ ‫ابلز ْ‬
‫عمار ّ‬ ‫اجليش الفرنسي يف تفكريه وِلجته ولباسه‪/‬مسرحيّة ّ‬
‫تتطرق يف جزء من مضموّنا إىل عهد‬ ‫ِّ‬
‫تواطأت مع االستعمار ض ّد أبناء الوطن‪ /‬مسرحيّة "جواب مسوقر" ّ‬
‫الباّيت البائد اجلائر‪ ،‬وما كان أهلُ البالد يعانونه من ظلمهم واستبدادهم‪)...‬‬
‫التلقائي للعرض‪ ،‬فاملمثّلون عادة ما حياولون‬ ‫العفوي‬ ‫اثن تكمن وظيفة حفظ الرتاث يف الوجه‬ ‫ومن ٍ‬
‫وجه ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التقليدي للرجل أو للمرأة‬
‫ّ‬ ‫األحداث معها‪ :‬الظّهور ابللّباس‬
‫ُ‬ ‫الظّهور يف ملبس يتوافق مع الفرتة الّيت تتزامن‬
‫أو للطفل له قدرة على إحياء الرتاث‪ .‬وكذلك ِلجة الكالم البدويّة والريفيّة تُذ ّكر أبّنّا جزء من تراثنا وهويّتنا‬
‫التطرق إىل ألوان املأكل‬‫النهدي يف مسرحيّة امل ّكي وزكيّة مثال) دون أن نغفل عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫(وهي ما اِّستعمله األمَّي‬
‫واملشرب واألاثث والعادات والتقاليد الّيت كانت ُمتيّز أجدادان‪ ،‬وأصبحنا اليوم نتنّكر ِلا‪.‬‬
‫الرتويج للثّقافة احملليّة‪ ،‬والتّسويق ِلا على النّطاق الكوين‪ .‬ممثّلون مثل األمَّي‬
‫*]املسرح له القدرة على ّ‬
‫هدي‪ ،‬ورؤوف بن يغالن و‪...‬و‪ ...‬قاموا بتقدمي عروض مسرحيّة خارج نطاق الوطن (يف فرنسا وكندا‬ ‫النّ ّ‬
‫ابلفهم‬
‫الوطين‪ ،‬من أجل تعزيزه وتدعيمه‪ ،‬فيحظى ْ‬
‫ّ‬ ‫قايف‬
‫ابلرصيد الثّ ّ‬
‫وأمريكا‪ )...‬ممّا يساهم يف التعريف ّ‬
‫ِّ‬
‫واالحرتام والتقدير‪.‬‬

‫*] املسرح من أكفإ الفنون قدرًة على جتسيد ذلك املطلب اإلنساينّ الكوينّ‪ ،‬أال وهو تفاعل الثّقافات‬
‫وتالقح احلضارات‪ .‬فقد تواصلت بفضله العصور احلديثة الراهنة مع ٍ‬
‫عهود تفصلنا عنها آالف القرون‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فبفضل املسرح تفاعلنا مع ثقافة اإلغريق الغابرة‪ .‬فكان لنا فكرة جليّة عن منط التفكري‪ ،‬ومعتقدات اإلنسان‬
‫أساطريه‪ ،‬أو ما تبِّعه‬
‫َ‬ ‫مالمح معت َق ٍد يوانينّ قدمي و‬
‫َ‬ ‫تستلهم‬
‫ُ‬ ‫الت‬
‫ولعل أشهر األعمال العامليّة اليوم ما ز ْ‬
‫وقتها‪ّ .‬‬
‫"فهاملت" و"سيزيف" وكليوابترا"‬
‫ْ‬ ‫شخصيّات‪.‬‬ ‫حّت ال ّ‬
‫من حضارات الحقة‪ ،‬يف مستوى املضمون أو ّ‬

‫‪28‬‬
‫مسرحي كوينّ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫سحيقة‪ ،‬ولكنّنا أبقينا عليها يف إطار تفاعل ثقايف‬ ‫و"كارمن"‪ ...‬أمساء لشخصيّات من ِّح ٍ‬
‫قب‬
‫ّ‬
‫ومواضيع "الرتاجيدّي" و"الكوميدّي" و"امللهاة" و"املأساة" ما كان ِلا أن ُختلند وتشيع لوال فضلُ هذا ّ‬
‫الفن‪.‬‬

‫فن املوسيقى‪:‬‬
‫ابعا‪ّ :‬‬
‫رً‬

‫حجج تناسب األطروحةَ املدحوضةَ‪:‬‬


‫ٌ‬ ‫‪/1‬‬

‫السارية عند مجيع الفنون‪ :‬من القول أب ّن املوسيقى ممارسةٌ عبثيّةٌ‬ ‫احلجج ِّ‬
‫العامة ّ‬
‫ِّ ّ‬ ‫دوما من ذات‬‫نظل منطلقَّي ً‬ ‫ُّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫عماد حياة اإلنسان‪ :‬العملُ‬
‫الثي الّذي عليه ُ‬ ‫للمحور الثّ ّ‬ ‫تعطيل‬
‫ٌ‬ ‫عشوائيّة ال فائد َة تُرجتى منها‪ ،‬وابلتّايل هي‬
‫والعلم والعبادة‪ .‬ولكنّا نعتمد كذلك ما يلي‪:‬‬
‫ُ‬

‫اء‬ ‫ِّ‬ ‫*] أسالفنا من رجال ال ّد ِّ‬


‫مجيع اآلالت املوسيقيّة فتنةٌ وإغو ٌ‬ ‫ين والفقهاء والعلماء احلكماء اتّفقوا على أ ّن َ‬
‫ش ِّ‬
‫يطان"‬ ‫سموها "معازف ال ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫وتضليل‪ ،‬ألّنّا ُُت ِّّر ُك النّو َ‬
‫الساكنةَ يف قرارة اإلنسان‪ .‬أل يُ ّ‬ ‫ازع الشيطانيّةَ اخلبيثةَ ّ‬ ‫ٌ‬
‫أفلت منه زمامُ عقلِّه‬ ‫يزي‪ ،‬وقد َ‬ ‫ٍ‬
‫حاالت من ِّ‬
‫اال ِّ‬ ‫ُخترج الوقور الرصَّي من هدوئه‪ ،‬لت ِّ‬
‫نفعال احليواينّ الغر ّ‬ ‫دخلَه يف‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ َ‬ ‫ُ‬
‫ظ قد أشار إىل ذلك التأثري الفاحش املُريب يف املُ ِّ‬
‫نصت‬ ‫أدل على هذا من أ ّن اجلاح َ‬ ‫شاده وثباتِّه‪ .‬وليس ن‬ ‫ور ِّ‬
‫َ‬
‫واحلالق هو اجلبل‬ ‫ُ‬ ‫لقي بنفسه من احلالِّ ِّق"‪،‬‬ ‫جل إىل أ ْن‪" :‬يُ َ‬
‫الر َ‬‫تدفع ّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫بعض األحلان اخلبيثة قد ُ‬ ‫حّت أ ّن َ‬ ‫إليها‪ّ ،‬‬
‫اجملامع الّيت‬ ‫جحان‪ .‬ولنا أن ننظر اليوم إىل‬ ‫ان التدبُّر والر ِّ‬ ‫قل ميز ِّ‬
‫اهق‪ .‬فهي إذ ْن متعارضةٌ مع الع ِّ‬ ‫ش ُ‬ ‫تفع ال ّ‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫املر ُ‬
‫أبم أعيننا‬ ‫اس واحتفاالت ومهرجاانت صيفيّة (مهرجان قرطاج) فنرى ّ‬ ‫ُتضر فيها اآلالت املوسيقيّة‪ ،‬من أعر ٍ‬
‫ب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫إطالق ِّع ِّ‬
‫ِّ‬
‫ويضطر ُ‬ ‫ويتصرعُ‬
‫يهتز ّ‬ ‫للجسد ُّ‬ ‫نان‬ ‫الكهالت" من‬
‫ُ‬ ‫وحّت الكهول و"‬ ‫ت‪ّ ،‬‬ ‫والشااب ُ‬
‫ّ‬ ‫ما أيتيه الشبّا ُن‬
‫غمات املوسيقية اخلبيثة من ِّ‬
‫حالة‬ ‫صرعٌ‪ ،‬وكلُّ ذلك ملِّا أدخل ْتهم فيه تلك النّ ُ‬
‫ّ‬ ‫س أو َ‬ ‫ويتلوى فكأ ّن صاحبَه به َم ٌّ‬ ‫ّ‬
‫َختَ ُّم ٍر جتعلهم يغيبون عن الوعي‪.‬‬

‫خ فيها (النّاي‬ ‫تلك اآلالت الّيت يُن َف ُ‬


‫بت َ‬ ‫فظيع‪ .‬فقد تسبّ ْ‬ ‫مشؤوم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫*] اتريخ ّأمتنا مع املوسيقى واملعازف‬
‫عزف (الكمان والعود والقانون) يف‬ ‫ِّ‬
‫ف والطّبل) أو تُعا َجلُ ابمل َ‬ ‫ضرب عليها (الطّار‪ ،‬وال ُد ّ‬
‫شبابة واملزمار) أو يُ َ‬
‫وال ّ‬
‫هم‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫إِلاء رجال السياسة من اخللفاء وسائر أولياء األمور عن االعتناء بشؤون البالد ومصاحل العباد‪ ،‬لتَـ ْفتنَ ْ‬
‫ب‬‫ات من ُمعاقرةٍ للخمرةِّ وطلَ ٍ‬ ‫وحّت اخلدور‪ .‬فأغرقوا يف طلَب املل ّذ ِّ‬ ‫ِّ‬
‫بدعةُ املعازف يف البالطات والقصور ّ‬
‫خالفة أبكملها‪ ،‬وضاع ما بناهُ ا ّلرسول واتبعوه‬ ‫ٍ‬ ‫حّت اِّنفر َط ِّعق ُد‬
‫للغلمان واجلواري واحلسناوات الفاتنات‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬

‫‪29‬‬
‫ِّ‬
‫خلفاء بين العبّاس مثال كانت تتأنّس ابلعازفَّي واملغنَّّي أكثر‬ ‫جمالس‬ ‫الصالن ِّح املَيامَّي‪ .‬والتّاريخ يذكر أ ّن‬
‫َ‬ ‫من ُ‬
‫ِّ‬
‫من َأتنُّسها ابلعلماء واملف ّكرين واحلكماء‪ .‬فال نُل َدغَ ْن من ذات اجلحر ّ‬
‫مر ْتَّي‪.‬‬

‫ِّ‬
‫العجم من غري‬ ‫صٍ‬
‫لة‪ ،‬وإ ّمنا هي بدعةٌ وافدةٌ عن أهل‬ ‫ت إىل أصالتنا وحضارتنا بِّ ِّ‬
‫كل اآلالت املوسيقيّة ال متَُ ُّ‬
‫*] ّ‬
‫ص ّد ًّي محايةً خلصوصيّة ثقافتنا‪ ،‬وهويّة‬
‫ضا‪ ،‬ونتص ّدى ِلا تَ َ‬
‫العرب واملسلمَّي‪ ،‬وابلتّايل علينا أ ْن نُعرض عنها إعرا ً‬
‫كل ضاللة يف النار)‬
‫كل بدعةٌ ضاللة و ّ‬ ‫حضارتنا‪ .‬املوسيقى بدعة و ّ‬

‫حيث أراد ِلا‬ ‫ِّ‬


‫الطبيعة‪ُ ،‬‬ ‫ش َدها يف‬ ‫احلسنة املُوقنـع ِّة الل ِّ‬
‫ّطيفة املتوازنة فعلينا أن نَـ ْن ُ‬ ‫ِّ‬ ‫البحث عن النّ ِّ‬
‫غمة‬ ‫َ‬ ‫*] إذا ُرمنا‬
‫َ َ‬
‫وس ْجع احلمائم ونَـ ْو ِّحها‪ ،‬وش ْدو احلساسَّي وأغاريدها‪،‬‬
‫اّلل أن تكو َن‪ :‬يف زقزقة العصافري‪ ،‬ويف هديل البالبل‪َ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وإيقاع قطرات املطر‪ ....‬عدا ذلك نكون قد حبثنا عن مصادر‬ ‫وحفيف األوراق‪ ،‬ويف َس ْق َسقة املياه وخريرها‪ِّ ،‬‬
‫ْك والعدوان واإلفساد يف األرض‪ ،‬وهللا تعاىل يقول‪" :‬وال تُفسدوا يف األرض"‪.‬‬ ‫شر ِّك واإلف ِّ‬‫ِّ‬
‫ال ّ ْ‬

‫حجج تناسب األطروحة املدعومة‪:‬‬


‫ٌ‬ ‫‪/2‬‬

‫املعتمد يف ما سبق من فنون‪ :‬اإلقبال على مقطوعة‬


‫أ‪ /‬مرحلة اِلدم‪ :‬نعمد إىل هدم حججه بذات املنطق َ‬
‫موسيقيّة عذبة نعزفها أو نُنصت إليها أفضل من ثرثرة اجملالس‪ ،‬ومنيمة األحاديث‪ /‬الرأي القائل أب ّن اآلالت‬
‫صحتِّه يف مصادر ديننا األصليّة‪ :‬كتاب هللا وسنّة رسوله‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫شط ُم ٍ‬
‫شيطان ُم ٌّ‬
‫غال‪ ،‬وال أساس ل ّ‬ ‫املوسيقية معازف ال ّ‬
‫هراب من بطش قريش قد اِّستُقبِّل‬
‫املنورة ً‬
‫فالرسول عند وصوله إىل املدينة ّ‬
‫الصحيح‪ّ :‬‬ ‫بل العكس قد يكون هو ّ‬
‫ضرورة مقرتنةً بفواحش اخلمرة وموبقات‬ ‫ليست كلُّ جمالس العزف واملوسيقى ابل ّ‬
‫ْ‬ ‫بنغمات ال ّدفوف واملزامري‪/‬‬
‫واملؤسسات‬
‫ّ‬ ‫أحكام مطلقة قد ُجتايف احلقيقة‪ .‬اليوم أصبحت املوسيقى تُد نرس يف املعاهد‬
‫ٌ‬ ‫األعمال‪ ،‬فهذه‬
‫فأّين ستُداخلها تلك املفاسد؟‬
‫اخلاصة هبا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الرتبويّة‪ ،‬وِلا جامعاهتا‬

‫والتوسع‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ب‪ /‬مرحلة البناء‬

‫❖ مزاّي املوسيقى ابلنّسبة إىل الفرد‪:‬‬

‫احلس‬
‫رهف ُّ‬ ‫املشاعر‪ ،‬ويُ َ‬
‫ُ‬ ‫ضمائر‪ .‬هبا تسمو‬‫السجاّي وال ّ‬
‫السرائر ونقاء ّ‬
‫وح وشفاء ّ‬‫الر ِّ‬
‫*] نفسيّا‪ :‬املوسيقى غذاء ّ‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫الرازي الطبيب‬
‫أدل على ذلك من أ ّن أاب بكر ّ‬
‫اهب‪ ،‬وتَربأُ األسقامُ وختفت اآلالمُ‪ .‬وليس ّ‬
‫وتُص َقل املو ُ‬

‫‪30‬‬
‫ِّ‬
‫اإلنسان‬ ‫نغمة موسيقيّ ٍة ص ًدى لصورةٍ ُمعيّ ٍنة من ابطن‬
‫كل ٍ‬ ‫قد اِّعتمدها يف عالج املرضى قدميا‪ .‬وتكاد تكون ُّ‬
‫يف تقلُّ ِّ‬
‫غمات الشجيّةُ‪ ،‬وِلذا قال الفيلسوف اليوانينّ‬‫فلحظات احلُزن واألسى تُالئمها النّ ُ‬
‫ُ‬ ‫لوانته‪.‬‬
‫اج وتَ ُّ‬
‫بات املز ِّ‬
‫قصة طريفة يف بيان أثر النّغمة الشجيّة‬‫ْيسمع األصوات احلسنةَ"‪ .‬كما أ ّن اجلاحظ له ّ‬ ‫حزن فل ْ‬ ‫أفالطون‪َ " :‬من ِّ‬
‫ّحن للقرآن فبكى‪ .‬وحَّي ُسئل‪ :‬كيف تبكي‬ ‫احلزينة يف اإلنسان‪ .‬فقد روى أن أعجميّا مسع ترتيال ع ْذب الل ِّ‬
‫شجا"‪ ،‬أي اللحن احلزين‪ ،‬وقد كان حينها‬ ‫وأنت ال تفقهُ معاين الكلمات العربيّة‪ ،‬أجاب ابختصا ٍر‪" :‬أبكاين ال ّ‬
‫يف حالة ٍ‬
‫حزن‪.‬‬
‫نستشعر غضبًا وتوتّرا وانفعاال‪ ،‬فما لنا‬ ‫والسرور‪ .‬فإذا كنّا‬ ‫إيقاعات الط ِّ‬ ‫قات ِّ‬
‫ُ‬ ‫ّرب ّ‬ ‫ُ‬ ‫والفرح فلها‬
‫ِّ‬ ‫اجلذل‬ ‫ّأما أُويْ ُ‬
‫در عشرات اآلالت يف ذات‬ ‫عة الص ِّ‬
‫ادحة من عُ ِّ‬ ‫سوى اإلنصات إىل األنغام املُرو ِّ‬
‫حيث َهت ُ‬
‫السنفونيّات‪ُ ،‬‬
‫مق ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فتمتص غضبنا وتُب ّدده وتُشتّـتُه (سنفونيّة "دخول اجلنّة" للعازف العاملي اليوانينّ‬ ‫ّ‬ ‫اآلن واحلَّي رخيمةً هائلةً‪،‬‬
‫فوجنيليس)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫دور املوسيقى يف الرتويح عن النّفوس‪ .‬فالتّلميذ يتّخذها نِّ ْع َم‬
‫املؤنس لفرتات املراجعة‪ ،‬وكثريٌ‬
‫ُ‬ ‫عاقل َ‬ ‫نكر ٌ‬ ‫وال يُ ُ‬
‫منصت إىل‬
‫ٌ‬ ‫لذ أوقات عملِّه إالّ وهو‬ ‫اجر‪ )...‬ال يَستَ ُّ‬
‫اد‪ ،‬التّ ُ‬
‫(النجار‪ ،‬احل ّد ُ‬
‫والصناعات ّ‬
‫ف ّ ِّ‬ ‫أرابب احلِّر ِّ‬
‫من ِّ َ‬
‫معزوفات ٍ‬
‫مجيلة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ت ِّح ّدةُ إرهاقها ابإلنصات‬ ‫تقصر مسافاهتُا الطويلةُ‪ ،‬وتتذلّلُ مصاعبُها‪ ،‬وخت ُف ُ‬ ‫اخلاصةُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫العامةُ أو‬
‫حالت ّ‬ ‫والر ُ‬ ‫ّ‬
‫العام ِّة (يف الطريق‪،‬‬
‫اس مجيعهم اليوم يف األماكن ّ‬
‫اب (يف السيارة‪ ،‬يف احلافلة)‪ .‬وانظر دأْب النّ ِّ ِّ‬
‫ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫إىل اللّحون ال ِّطّر ِّ‬
‫حّت ينشغلوا عن ضجيج العال‬ ‫اعات اِلواتف موصولةً آبذاّنم ّ‬ ‫يف احملطّة‪ ،‬يف ابحات اإلدارات‪ )...‬تر مسّ ِّ‬
‫َ‬
‫ضيع والطّفل أو‬
‫الر ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫اخلارجي وص َخبِّه‪ ،‬وذلك عرب تَ َذ ُّو ِّق األحلان‬
‫ابلنسبة إىل ّ‬
‫ظ ّ‬ ‫وحّت املنامُ واملُستي َق ُ‬
‫احلسنة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫الصباح مثال)‬ ‫ٍ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫مقطوعات هادئة بديعة (أحلان أغاين فريوز يف ّ‬ ‫إيقاع‬
‫الكبري ال يرو ُق وال َْحيلَ ْويل إالّ على ِّ‬
‫ِّ‬
‫اجلميل‪ ،‬فيستَميلُه وجيذبُه إليه‪ ،‬و ُحي ّر ُك َدخيلَتَه‪،‬‬ ‫إذا كان احليوا ُن غريُ الواعي بَنوازعه الباطنيّة أينَس إىل الل ِّ‬
‫ّحن‬
‫الفرس يرقص‬ ‫ِّ‬
‫اجلميلة أ ّن‬ ‫ثبت أتثُّر احليو ِّ‬
‫ان ابألنغام‬ ‫اآلدمي؟ وممّا يُ ُ‬ ‫أمر اإلنسان العاقل الفقيه‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫فكيف يكون ُ‬
‫الزمن إىل األنغام‬ ‫أنصتت م ّدةً من ّ‬
‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫احلليب إذا‬ ‫كما ممن‬
‫تدر أكثر ًّ‬
‫على إيقاعات الطبل واملزمار‪ ،‬وأ ّن البقرةَ ُّ‬
‫حلون ِّع ٍ‬
‫ذاب‪.‬‬ ‫بعزف ٍ‬ ‫ِّ‬
‫شباكهم ْ‬ ‫األمساك إىل‬
‫َ‬ ‫احلسنة‪ ،‬وقد كان الصيّادون يف نواحي العراق قدميا يستدرجون‬ ‫ِّ‬
‫بات بدوره يتأثّر ابإليقاعات املوسيقية الرائقة‪ ،‬فينمو على نغماهتا على أحسن ٍ‬
‫وجه‪،‬‬ ‫العلم أ ّن النّ َ‬
‫ّ ّ‬ ‫ولقد أثبت ُ‬
‫ويف أسرع ٍ‬
‫وقت‪.‬‬

‫ِّ‬
‫وحممود‬ ‫ِّ‬
‫األعمال‬ ‫والرذائل‪ ،‬لِّ ُرتغّب يف حماسن‬
‫انّي واخلطاّي ّ‬
‫ب عن ال ّد َ‬
‫الرائعةُ تُرغّ ُ‬
‫*] سلوكيًّا‪ :‬األحلا ُن اِلادئة ّ‬
‫ِّ‬
‫واجتناب‬ ‫ِّ‬
‫املعروف‬ ‫صطناع‬‫أدرك أينها أكثر حضًّا (حثا) على اِّ‬
‫ومن فَ ِّقهَ ألوا َن املقامات يف املوسيقى َ‬ ‫ِّ‬
‫الف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عال‪َ .‬‬
‫املكروه الفاسد‪:‬‬

‫‪31‬‬
‫باع الر ِّ‬
‫صانة‬ ‫ِّ ِّ‬
‫والراست‪ِ ...‬لا قدرة عجيبة على إعادة ط ِّ ّ‬ ‫وحمري سيكا ّ‬ ‫صبا والنّاهواند ّ‬ ‫إيقاعُ مقامات البيّايت وال ن‬
‫اثم‪.‬‬‫ادع عن املعاصي واآل ِّ‬ ‫الر ِّ‬
‫ضمري ّ‬ ‫صوت ال ّ‬
‫َ‬ ‫ت فيه نوازع الغريزةِّ‪ُ ،‬‬
‫وُتيي‬ ‫سك ُ‬‫واِلدوء والتَـع ُّقل إىل سامعها‪ ،‬فتُ ِّ‬
‫َ‬
‫النفس‪ ،‬وهتفو له‬ ‫ِّ‬
‫العروق‪ ،‬فرتاتح له‬ ‫احلسن جيري يف اجلسم جمرى ال ّدِّم يف‬ ‫وت‬
‫الص َ‬‫ظ أ ّن‪ّ " :‬‬ ‫وقد روى اجلاح ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اطقة ابألحلان الشجيّ ِّة احلاثِّّة على فِّ ْعل اخلري واجتناب‬ ‫ِّ‬
‫املعازف النّ ِّ‬ ‫أهم‬
‫ارح ويصفو له العقلُ"‪ .‬ومن ّ‬ ‫اجلو ُ‬
‫املَكاره‪:‬‬
‫رمجاان‬
‫ات تُ ً‬ ‫الزفر ُ‬ ‫ِّ‬ ‫اي املل نقب ب‪" :‬احلزين"‪ ،‬فهو يُبكي‬
‫رسل ّ‬ ‫ات وتُ َ‬‫الع َرب ُ‬
‫نه ُّل َ‬‫القلوب‪ ،‬ويستثريُ املدام َع‪ ،‬فتَ َ‬
‫َ‬ ‫‪ -‬النّ ُ‬
‫ف‬‫اباب لل َك ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫واالنتباهِّ إىل ما أتيناهُ من‬ ‫مري‪ِّ ،‬‬‫ض ِّ‬‫لِّيَـ َقظَة ال ّ‬
‫أعمال فاسدة فيها إساءةٌ إىل اآلخر‪ ،‬وقد يكون ذلك ً‬
‫عة احلزينة على إالنة القلوب‬ ‫املرو ِّ‬
‫عنها وجتاوزها وإصالحها‪ .‬كما ُت ّدث اجلاحظ أيضا عن قدرة األحلان ِّّ‬
‫هتذييب‬
‫ٌّ‬ ‫بوي‬
‫كي تر ٌّ‬ ‫شفقة إليها‪ .‬وهذا وجهٌ سلو ٌّ‬ ‫سة‪ ،‬وإعادةِّ طباع الر ِّ‬
‫أفة وال ّ‬ ‫املتحجرةِّ‪ ،‬واألن ُفس املتصلِّّ ِّبة املتكلِّّ ِّ‬
‫ِّ‬
‫ّ‬
‫ابمتيا ٍز‪.‬‬
‫السلوك‪ ،‬ابلتّنبيه إىل الزالّت‪ ،‬والتحذير من التمادي‬ ‫احلس ِّن يف ّ‬
‫نفس األثر َ‬ ‫‪ -‬الكمنجةُ قادرة على إحداث ِّ‬
‫ٍ‬
‫ِلجات‬ ‫امع‬
‫لس ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫فتنويع العازف املاهر اإليقاعات واملقامات على أواترها حيملُ إىل ا ّ‬ ‫ُ‬ ‫يف األخطاء والعثرات‪.‬‬
‫العريب ميخائيل نُعيمة‬ ‫ٍ‬
‫األديب ّ‬‫ُ‬ ‫احلساسةُ‪ .‬وهو ما أشاد به‬ ‫فوس ّ‬‫متنوعة ال تفقهها إالّ النّ ُ‬ ‫ُمتلفةً ونربّيت خفيّةً ّ‬
‫أحد العازفَّي املََه َرةِّ على التّعامل مع هذه اآللة‪ ،‬مبا جعل املتل ّق َي‬ ‫ص ِّفه قُدرَة ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الكمنجة) آانء َو ْ‬ ‫(نص‪ :‬عازف‬ ‫ّ‬
‫ٍ ٍ‬ ‫يفهم من ِّ‬
‫عاتب‪ ...‬وما‬ ‫احت فيها الكمنجةُ تُ ُ‬ ‫لومه‪" :‬وبلغ من حلنه فرتًة ر ْ‬ ‫صوت واعظ منبِّّه يُعاتبُه وي ُ‬ ‫َ‬ ‫نغماهتا‬ ‫ُ‬
‫ات‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫والزاجرةُ أصو ُ‬ ‫نقلب عويلُ الكمنجة وعيدا‪ ،‬مثّ صولةً وجربوات"‪ ،‬واألصوات الالّئمة واملُعاتبة ّ‬ ‫طال أ ْن ا َ‬
‫السبيل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫صح وإرشاد هتدينا إىل سواء ّ‬ ‫نُ ٍ‬

‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫*] املوسيقى تُوثّ ُق من اِّتّ ِّ‬


‫موسيقي يكون أمثل‬ ‫ّ‬ ‫فمن حييا دون ٍّ‬
‫حس‬ ‫صال الفرد ابلكون واحلياة والوجود‪َ .‬‬
‫تستعذب رائقا لطيفا‪ .‬وابلتّايل لن تَ ْستَميلَهُ رقرقةُ املياه‬ ‫تستحسن مسامعُه بديعا‪ ،‬وال‬ ‫ِّ‬
‫اجلماد ال‬ ‫ابحليوان أو‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اج‪ ،‬ويف شأن هؤالء قال اإلمامُ‬ ‫سجع احلمائم‪ ...‬فيحيا فاس َد املز ِّ‬ ‫اجلداول‪ ،‬وال ش ْد ُو األطيار أو ُ‬ ‫ِّ‬ ‫أو خر ُير‬
‫سبيل ِّإلحياء‬
‫عالج"‪ .‬وعليه ال َ‬ ‫اج ليس له ْ‬ ‫وأواتره‪ ،‬فهو فاسد املز ْ‬
‫ُ‬ ‫العود‬
‫"من ل ُحي ّرْكه ُ‬ ‫ِّ‬
‫اإلسالم‪َ :‬‬ ‫حجةُ‬
‫ايل ّ‬ ‫الغز ُّ‬
‫ِّ‬
‫الوجود‪ ،‬إالّ املوسيقى‬ ‫ِّ‬
‫وصميم‬ ‫لنعقل الغايةَ من إلقائنا إىل معرتك احلياةِّ‬ ‫ِّ‬
‫واملدارك البشرية‪ِّ ،‬‬ ‫كات اإلنسيّ ِّة‬
‫املَلَ ِّ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫فندرك أ ّن الوافد إىل‬
‫ُ‬ ‫املسامع‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الوجود صرخةٌ تتناهى إىل‬ ‫اال ِّ‬
‫نبعاث إىل‬ ‫وآال ُهتا البديعةُ الرائعةُ‪ .‬أوليس أو ُل ِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ت مسامعُنا‬ ‫وصحته إالّ إذا تل ّق ْ‬ ‫ِّ‬
‫نطمئن على سالمته ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وصحةً (املولود اجلديد ال‬
‫ينضح عافيةً ّ‬ ‫ُ‬ ‫عاًّف‬
‫سليم ُم ً‬
‫احلياة ٌ‬
‫خضم احلياة‪ ،‬واخنراطه يف تيّار الوجود)‪ ،‬كما أنّه من حكمته تعاىل أ ْن‬ ‫ّ‬ ‫صرختَه األوىل‪ ،‬تعبريا عن اِّندراجه يف‬
‫جعل إعال َن ّناية الكون بنفخة يف الصور‪ ،‬والصور هو القرن العظيم ينفخ فيه العازف‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫وابالنكباب على عواملِّها‬
‫واسع كالبحر‪ِّ .‬‬
‫شاسع ٌ‬‫ٌ‬ ‫املعريف‬
‫ُّ‬ ‫املرِّء ثقافيًّا‪ ،‬فَ َك ْوّنُا‬ ‫ِّ‬
‫وسع من آفاق ْ‬
‫*] املوسيقى تُ ّ‬
‫نغدو عارفَّي بضروهبا وأنواعها‪ ،‬بَّي عربيّ ٍة شرقيّ ٍة‪ ،‬وغربيّة كالسيكيّة‪ .‬ويف إطار األوىل ُمنسي ُمميّزين بَّي‬
‫السيمفونيّة واألوبريا والكونشرتو واجلاز‪...‬‬
‫فنتعرف إىل ّ‬
‫األوركسرتا واملو ّشح والطّقطوقة‪ّ ،...‬أما يف إطار الثّانية ّ‬
‫شهرية (بيتهوفن وسيمفونيّاته اخلامسة والتّاسعة‪/‬‬ ‫السيمفونيّات العامليّة ال ّ‬
‫إملام أبمساء ّ‬ ‫وإىل هذا يُصبح لنا ٌ‬
‫والسيمفونيّة رقم اِّثنَّي‪)...‬‬ ‫والسادسة‪ /‬سيبيليوس ّ‬ ‫تشايكوفسكي وسيمفونيّاته اخلامسة ّ‬
‫مالوف وموسيقى شعبيّة‬ ‫ٍ‬ ‫ف هبا يف توسيع زادان من األحلان احملليّة الوطنيّة‪:‬بَّي‬ ‫شغَ ِّ‬
‫ض َل ال ّ‬
‫وال ننسى ف ْ‬
‫أمكن لنا اإلحاطةُ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫يين‪َ ،‬‬ ‫ري وال ّد ّ‬ ‫قايف واحلضا ّ‬‫وفولكلور‪ ،...‬وإذا عدان إىل اتريخ األسالف يف عهود االزدهار الثّ ّ‬
‫شهري يف‬ ‫زرّيب عازف العود ال ّ‬ ‫َ‬ ‫العريب القدمي‪ ،‬وهنا نذكر‬ ‫ّ‬ ‫أبمساء عازفَّي َم َهرًة كانوا عالمةً يف اتريخ العزف‬
‫نذكر معب ًدا‬
‫الصوت‪ .‬كما ُ‬ ‫طائر غَ ِّرٌد مجيل ّ‬ ‫ابلزرّيب الّذي هو يف األصل ٌ‬ ‫عهد احلضارة العبّاسيّة‪ .‬وقد لُِّّقب ّ‬
‫السامعَّي من‬‫اجملالس يستقطبون ّ‬ ‫ِّ‬ ‫املوصلي‪ ...‬أولئك العازفَّي الّذين كانوا جنوم‬‫ّ‬ ‫يض وابن ُسريْج وإبراهيم‬ ‫والغر َ‬
‫نغمات‬
‫ُ‬ ‫شعريّة‪ ،‬قد مازج ْتها‬ ‫ِّ‬
‫األبيات ال ّ‬ ‫ائع‬
‫عززون زادهم الثّقايفن بر ِّ‬‫كل حدب وصوب‪ ،‬فيُشنّفون آذاّنم‪ ،‬ويُ ّ‬ ‫ّ‬
‫شيقة عن أخبار‬ ‫الرائقة ال ّ‬ ‫ِّ‬
‫واّيت ّ‬ ‫الر ُ‬ ‫اآلالت املوسيقيّة‪ .‬ولنا يف كتاب "األغاين" أليب الفرج األصفهاين ن ْع َم ّ‬
‫العريب ّأّي َمه اخلَوايل‪.‬‬
‫شعر يف تراثنا ّ‬ ‫املوسيقى وال ّ‬

‫حّت‬
‫األزيل‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫قادرا على ُتقيق هذا املطلب اإلنساينّ ّ‬
‫الفن ً‬
‫يق الفنّان لتخليد ذاته‪ ،‬وليس كهذا ّ‬
‫العزف طر ُ‬
‫ُ‬ ‫*]‬
‫تغىن جربان خليل جربان ابلناي‬
‫وسر اخللود‪ .‬فقد ّ‬
‫صميم الوجود ّ‬
‫َ‬ ‫شعراء جعلوا من اآلالت املوسيقيّة‬‫أ ّن ال ّ‬
‫فأنشدت عنه فريوز‪:‬‬
‫وعن *** فالغـ ـ ــنا س ـ ّـر اخللو ْد‬
‫اي ّ‬‫أعطين النّ َ‬
‫اي يبقـ ــى *** بعد أن يفىن الوجو ْد‬ ‫وأنَّي النّ ِّ‬
‫ُ‬

‫هيب‪ ،‬وهي‬ ‫ِّ‬


‫الر َ‬
‫ابلسامعَّي فعلها ّ‬
‫تفعل ّ‬
‫متعجبا من شأّنا‪ ،‬وكيف ِلا أن َ‬
‫ّأما أمَّي ُمشرق فقال يف الكمنجة‪ّ ،‬‬
‫اآللةُ اخلشبيّة اجلوفاء‪:‬‬
‫ات النّغ ـ ـ ـ ْـم‬ ‫هز ِّ‬
‫ُتت ّ‬‫ـتلوى َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫األخشاب هل فيك ح ًشا *** ي ـ ـ ّ‬ ‫ّي ابنةَ‬
‫ودم‬
‫ـام ْ‬ ‫هل تُـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى ِّ‬
‫فيك فؤا ٌد قد مشى *** فيـ ـ ـ ـ ــه أشـ ـ ـوا ٌق وآلـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬

‫ِّ‬
‫اإلنسان وعيشه األمثل‬ ‫الرصايف أ ْن يُدمج املوسيقى ضمن سائر الفنون الّيت يراها س نر سعادة‬ ‫ينس معروف‬
‫ّ‬ ‫ول َ‬
‫األكمل‪:‬‬
‫ِّ‬
‫الفنون طري َقا‬ ‫ـك إليـ ــه من‬
‫انعما ورقي َقا ****فاسل ـ ـ ـ ْ‬
‫مت عي ًشا ً‬
‫إ ْن ُر َ‬

‫‪33‬‬
‫شعر **** والتّمثيل والتّصوير واملوسيقى‬
‫ضةً ابل ّ‬
‫كغ ّ‬
‫واجعل حياتَ َ‬
‫ْ‬

‫اجملتمع‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫❖ أمهيّة املوسيقى ابلنّسبة إىل‬

‫الفرد ِّ‬
‫االمتيا َز (توعية وتثقيف‬ ‫والرسم واملسرح من أ ّن املوسيقى متنح َ‬
‫ُحنافظ على نفس ما قلناه يف شأن الغناء ّ‬
‫اخلاصة‬
‫والتطور‪ .‬ومن احلجج ّ‬
‫ّ‬ ‫ضر‬
‫وحريّة‪ )...‬وابلتّايل هي حتما ستجعل من اجملتمع راقيا آخ ًذا أبسباب التح ّ‬
‫ابملوسيقى يف هذا الباب‪:‬‬

‫ٍ‬
‫وحروب‬ ‫شواغل الّيت ابتت تعصف اليوم ابإلنسانيّة‪ ،‬من إرهاب ٍ‬
‫وعنف‬ ‫*] أّنّا ُتمي اجملتمعات من اآلفات وال ّ‬
‫اجملتمعات أجياِلَا على التشبُّع من روحها‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫بلسما شافيًا‪ ،‬إذا ربّ ْ‬
‫وبغضاء وشحناء‪ ...‬وليس كاملوسيقى ً‬
‫السلوكيّةُ‬ ‫ِّ‬ ‫فرد فيها إىل الفضيلة واملعايل‪ ،‬وأنى عن الر ِّ‬
‫افية هفا كلُّ ٍ‬
‫العذبة الص ِّ‬
‫اآلفات ّ‬
‫ُ‬ ‫وحّت تلك‬
‫واآلاثم‪ّ .‬‬ ‫ذيلة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتضاءل من تلقاء نفسها فتتالشى‪ ،‬أل ّن‬
‫ُ‬ ‫ات‪ ،‬امليسر‪ ،‬النّفاق والرّيء‪ )...‬قد‬
‫الفرديّة (التدخَّي‪ ،‬اخلمر‪ ،‬املخ ّدر ُ‬
‫شباب‪ ،‬املهرجاانت‪ ،‬برامج وسائل‬ ‫اضع تعاطي املوسيقى (املعاهد واملدارس‪ ،‬دور ال ّ‬‫اجملتمع قد خلق ألبنائه مو َ‬
‫َ‬
‫يظل هناك من مربٍّر قد يدفعهم إىل تلك‬ ‫ِّ‬
‫اإلعالم‪ )...‬فال يبقى للنّاشئة من فر ٍاغ يستشعرونه‪ ،‬وابلتّايل ال ّ‬
‫الرذائل‪.‬‬
‫ّ‬

‫ش ِّ‬
‫عوب ومحايةٌ لرتاثها وصيانةٌ ألصالتها‪ .‬فبالنّسبة إىل جمتمعنا نرى أّنّا تضطلع منذ‬ ‫*] املوسيقى ِّحف ٌ‬
‫ظ ملآثر ال ّ‬
‫ان موسيقيّة تقليديّة أصيلة‪ .‬فأداة مثل "املزود" و"الشبّابة" و"املزمار" و"الطّبل"‪...‬‬ ‫طويل برتسيخ ألو ٍ‬‫أمد ٍ‬ ‫ٍ‬
‫االنداثر والتالشي‪ .‬وبفضل‬ ‫شعيب من ِّ‬ ‫ِّ‬
‫خاصة برتاثنا ال ّ ّ‬
‫ال يف صيانة نغمات معيّنة وأحلان ّ‬ ‫فع ُ‬
‫مثال كان ِلا دور ّ‬
‫البدوي الطّريف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والرقص‬
‫(الصاحلي‪ ،‬الركروكي) ّ‬ ‫فظت أيضا فنون أخرى شعبيّة اندرة كالغناء ّ‬ ‫املوسيقى ُح ْ‬
‫نعلم إيقاعٌ‬
‫شعر كما ُ‬ ‫عيب امللحون (يف جهات القصرين والكاف واجلنوب ابخلصوص) فأساس ال ّ‬ ‫ش ّ‬ ‫شعر ال ّ‬
‫وال ّ‬
‫موسيقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وجرس‬
‫ٌ‬ ‫وحلن‬
‫ٌ‬

‫األزيل األمسى واألرقى‪ ،‬أال وهو‬


‫شعوب لتحقيق ذلك املطلب اإلنساينّ ّ‬
‫سفري األمم وال ّ‬
‫تظل املوسيقى َ‬
‫*] ّ‬
‫اجع ابألساس إىل أصول عربيّة أندلسيّة‪ .‬فكان‬
‫التونسي مثال ر ٌ‬
‫ّ‬ ‫فاملالوف‬
‫ُ‬ ‫تفاعل الثّقافات وتالقح احلضارات‪.‬‬
‫مبثابة اآلصرةِّ لتواصل حضارة عربيّة إسالميّة من األصول املشرقيّة إىل الفروع املغربيّة‪ .‬وال ننسى دور‬

‫‪34‬‬
‫يفي بتونس‪ ،‬مهرجان موازين ابملغرب‪ ،‬جرش ابألردن‪)...‬‬
‫الص ّ‬
‫املهرجاانت املوسيقيّة الكونيّة (مهرجان قرطاج ّ‬
‫جمتمع‪.‬‬
‫لكل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫يف توفري فرصة تالق للعازفَّي والفنّانَّي من أجل التعريف خبصوصيّات األحلان احملليّة ّ‬
‫ُتتاج وسيطا أو‬
‫جوابةً لألقطار‪ ،‬فال ُ‬
‫طوافةً لألمصار ّ‬
‫تظل ّ‬
‫ّأما عن املرور والعبور‪ ،‬فإ ّن املقطوعةَ املوسيقيّة ّ‬
‫والفارسي‪ ...‬وانظر‬ ‫واألعجمي‬ ‫العريب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مرتمجًا لتل َج إىل القلوب واألعماق‪ .‬وإ ّمنا هي لغةٌ إنسانيّة كونيّة يفقهها ّ‬
‫امع‬
‫الس ُ‬
‫صقع‪ ،‬فيتفاعل معها ّ‬
‫صقع إىل ٍ‬ ‫األحلان اِلنديّة واألمريكيّة واألوروبيّة واإلفريقيّة‪ ....‬متضي من ٍ‬
‫ابلوجدان واملشاعر والكيان قبل العقل واملنطق واللّغة والرتمجة‪ .‬وقد صدق من قال‪" :‬املوسيقى لغةٌ كونيّة"‪.‬‬

‫السينما‪:‬‬
‫فن ّ‬‫خامسا‪ّ :‬‬
‫ً‬

‫حجج تناسب األطروحةَ املدحوضةَ‪:‬‬


‫ٌ‬ ‫‪/1‬‬

‫يروّنا هي أيضا َمضيعةً‬


‫السينما‪ .‬فاملعرتضون عليها ْ‬
‫العامة ساريةً‪ ،‬فتنطبق بدورها على ّ‬
‫احلجج ّ‬
‫ُ‬ ‫ذات‬
‫تظلُّ ُ‬
‫الفن‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫خاصة هبذا ّ‬‫حجج أخرى ّ‬
‫ٌ‬ ‫تظل لديهم‬
‫ومروقا عن ال ّدين‪ .‬ولكن ّ‬
‫للوقت‪ ،‬ومفسدةً لألخالق ُ‬

‫لك اخلار َق املستحيل‬


‫صور َ‬‫ودج ٌل وشعوذةٌ‪ :‬تُ ِّّ‬
‫الغرب‪ ،‬وأساسها َُمَْرقةٌ َ‬ ‫السينما بدعةٌ وافدةٌ علينا من أهل ِّ‬ ‫*] ّ‬
‫ات‬
‫اانت تغدو متكلّمةً‪ ،‬والبشر يطريون (سوبر مان) واألمو ُ‬ ‫والعقل‪ .‬فاحليو ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ومنطق األشياء‬
‫َ‬ ‫يتعارض‬
‫ُ‬ ‫ممكنًا‪ ،‬مبا‬
‫خر ٌق ملنطق األمور‪،‬‬ ‫يتحول إىل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ذئب‪ ،‬بل وأيكل حلم أخيه اإلنسان‪ ،....‬وهذا ْ‬ ‫حييَـ ْون من جديد‪ ،‬واإلنسان ّ‬
‫الصح ِّة‪ ،‬وخل ُ‬
‫ْق‬ ‫ّ‬ ‫وجنوح عن طبيعة الوجود‪ِّ ،‬مبا يَنتج عنهُ تعلي ٌق ِّجلوارح لإلنسان بعوالَ ومهيّة ال أساس ِلا من‬ ‫ٌ‬
‫ستنكارها واإلشاحة عنها‪ ،‬عمال‬ ‫ِّ‬
‫ين‪ ،‬لذا وجب علينا ا‬ ‫ِّ‬ ‫أجيال منبتّ ٍة عن واقعها‪ .‬إّنّا أتيت‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫الس َح َرة املاكر َ‬
‫أعمال ّ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫ضاللة يف النّار"‪.‬‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬
‫كل بدعة ضاللةٌ‪ ،‬و ّ‬ ‫الرسول‪ّ " :‬‬ ‫بوصيّة ّ‬

‫صماء للواقع‪ .‬مبا يُغيّب اإلنسان‬


‫وابتذال‪ ،‬وهي حماكاة جوفاء ّ‬
‫ٌ‬ ‫كل املواضيع الّيت تطرحها السينما تفاهةٌ‬
‫*] ّ‬
‫بَّي مفتول‬ ‫ٍ‬
‫ومجيلة‪َ ،‬‬ ‫واحلب واِليامُ بَّي ٍ‬
‫وسيم‬ ‫ّ‬ ‫العشق والغرامُ‬
‫ُ‬ ‫ضعه الّذي حيياه ويعيشه‪ .‬فهل‬ ‫عن حقيقة و ْ‬
‫الغرب وشواغلهم؟ أليس ِلم‬‫ِّ‬ ‫العضالت وشقراء حسناء أمر يعنينا يف ٍ‬
‫شيء!!!‪ ،‬وما دخلُنا يف مهوم أهل‬ ‫ٌ‬
‫اش أن يعيشوا احلياةَ بعيون‬ ‫املعاش ونعومةُ الفر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫لَّي‬
‫سول ِلم ُ‬
‫احلنيف؟ لقد ّ‬
‫ُ‬ ‫حث قرآننا‬
‫دينهم ولنا ديننا كما ّ‬
‫ات املُضلِّّلةُ‪.‬‬
‫تغران التقنيّ ُ‬
‫وورع ال ّ‬
‫تقوى ٍ‬ ‫وحنن أهلُ ً‬
‫ٍ‬ ‫عدسات ِّ ٍ‬
‫مصورة خادعة‪ ،‬ال بِّعيون أبصارهم وبصريهتم‪ُ .‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وِلذا تُلفيهم ّأمةً فاسقةً مارقةً مشتّتةً‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫اليوم على‬ ‫ٍ‬ ‫ابب إلتالف األمو ِّال يف غري ما ٍ‬
‫طائل أو منفعة‪ .‬واملبالغ اخلياليّة الّيت تُن َفق َ‬ ‫السينمائيّة ٌ‬
‫*] األفالم ّ‬
‫ٍ‬
‫مقاومة جوٍع‬ ‫تشغيل واستثما ٍر‪ ،‬يف‬
‫ٍ‬ ‫وصح ٍة‪ ،‬يف‬ ‫إنتاجها قد يكون من ابب أوىل وأحرى أن نُنف َقها يف ٍ‬
‫تعليم ّ‬
‫واخلالق يلعن املب ّذرين‪ِّ ،‬أبن قال فيهم‪" :‬إ ّن‬ ‫تبذير‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫وت َش ُّرد‪ ،‬يف مساندة منكوبَّي بكوارث طبيعيّة‪ ....‬فهذا ٌ‬
‫شياطَّي"‪.‬‬
‫املب ّذرين كانوا إخوان ال ّ‬

‫تدفع ابملرأة للمروق عن تقاليدها وعاداهتا ودينها‪ .‬يُنسيها أ ّن مالمح‬ ‫أكرب اجملاالت الّيت ُ‬ ‫الفن من ِّ‬
‫*] هذا ُّ‬
‫املشاهدين‪ ،‬بل‬ ‫العدسات‪ ،‬لِّتظهر أمام ِّ‬
‫آالف‬ ‫ِّ‬ ‫سح ُر األمو ِّال‪ ،‬وبر ُ‬
‫يق‬ ‫وجهها ونربَة ِّ‬ ‫ِّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫صوهتا عورةٌ‪ ،‬فيُغريها ْ‬
‫وت‪ِّ ،‬ابس ِّم ِّ‬ ‫ِّ‬
‫آخر‪،‬‬ ‫واألغرب واألنكى أّنّا قد ُمتثّل زوجةً ٍ‬
‫لرجل َ‬ ‫ُ‬ ‫آداء ال ّد ْور‪.‬‬ ‫الص ِّ ْ‬ ‫َماليينِّهم مكشوفةَ الوجه عاليةَ ّ‬
‫بية وعماد األخالق‬‫بصلة‪ ...‬واملرأة يف ثقافتنا وديننا أصل الرت ِّ‬
‫ُ‬
‫ميت ِلا ٍ‬ ‫ألبناء غري أبنائها‪ ،‬وأُختًا لِّ َمن ال ّ‬
‫وأما َ‬ ‫ّ‬
‫أعددهتا‪ ،)...‬وأبعد من‬
‫َ‬ ‫األم مدرسة إذا‬ ‫ِّ ِّ‬
‫برمته (بيت حافظ إبراهيم‪ّ :‬‬ ‫والتنـنْشئة‪ ،‬ويف فسادها فسا ٌد للمجتمع ّ‬
‫ذلك أّنّا تُؤ ّدي مشاهد اإلغواء واإلاثرة‪ ،‬مدعيّةً أّنّا ال تفعل شيئا سوى أ ّّنا تُبدع‪...‬‬

‫حجج تناسب األطروحةَ املدعومةَ‪:‬‬


‫ٌ‬ ‫‪/2‬‬

‫أ‪ /‬مرحلة اِلدم‪:‬‬


‫إبداعي‬ ‫عمياء لَه‪ ،‬وإ ّمنا هو َك ُك ِّّل ٍ‬
‫عمل‬ ‫جوفاء‬ ‫السينما فن‪ ،‬والفن ليس عليه أن يعيد الواقع كما هو يف حماكاةٍ‬
‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّمت يف األدب (كليلة ودمنة) واملوتى‬ ‫اانت تكل ْ‬
‫وجتنيح الفكر‪ /‬احليو ُ‬ ‫ب ِّ‬
‫اخليال‬ ‫ص ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ِّ‬ ‫مقوماته من خ ْ‬
‫أهم ّ‬
‫يستم ّد ّ‬
‫مة من الت ّفاحة‪ ،‬وبقبلة من األمري‪ )...‬ومع‬ ‫ض ٍ‬‫عادوا إىل احلياةِّ يف القصص واخلرافات (األمريات ينبعثن ب َق ْ‬
‫كل‬
‫سر التشويق واإلاثرة يف ّ‬ ‫األدب ُمرقةٌ وشعوذةٌ ُمضلّلةٌ‪ ،‬بل إ ّن ذلك املعطى هو ُّ‬ ‫َ‬ ‫يقل أح ٌد أ ّن‬
‫ذلك ل ْ‬
‫قص ٍة حمبو ٍ‬
‫ص واحلكاية‪ ،‬وال جيب إخضاعها ملنطق العقل متاما‪ ،‬ألنّنا بذلك‬ ‫فن من فنون ال َق ِّّ‬
‫كة‪ .‬والسينما ٌّ‬ ‫ّ‬
‫التفاعل بَّي‬ ‫ولكن‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫َ‬ ‫السينما وافدةً عن أهل الغرب حقيقةٌ ال مر َاء فيها‪ّ ،‬‬ ‫نُضيّق عليها اخلنا َق فَـنَئ ُدها‪ /‬كو ُن ّ‬
‫إقحامك‬
‫ُ‬ ‫الثّقافات حتميّةٌ إنسانيّة‪ ،‬فلِّ َم ال نقتبسها عنهم وفيها من اإلفادةِّ ما قد جيعلنا ننهض ّنضتهم‪/‬‬
‫ات الضيّقة‬ ‫زمن اِّ ْ‬
‫عتربت فيه العقليّ ُ‬ ‫وىل ٌ‬ ‫املرأ َة يف هذا اجلدال ُهبتا ٌن‪ .‬وهو كلمةُ ح ٍّق أُريد هبا ٌ‬
‫ابطل‪ .‬فقد ّ‬
‫ووجهها عورًة عليها أن تن ُذر احليا َة إلخفائهما وطمسهما‪ .‬والسينما جمال هام إلبراز ِّ‬
‫طاقاهتا‬ ‫صوهتا َ‬ ‫املتحجرةُ َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ومؤه ِّ‬
‫تكتشف مواهبها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أخالق ول تَـ ْعتد على دي ٍن فل ْ‬
‫ْنذرها‬ ‫الهتا‪ ،‬ومادامت ل تتع ند على‬ ‫ّ‬

‫‪36‬‬
‫والتوسع‪:‬‬
‫ّ‬ ‫حجج البناء‬
‫ُ‬ ‫ب‪/‬‬

‫❖ أمهيّةُ السينما ابلنّسبة غلى الفرد‪:‬‬

‫ِّ‬
‫واملاللة‪ .‬فهي‬ ‫وطردا لشبح الكاللة‬‫السينما تروحيا عن النّفس‪ْ ،‬‬ ‫*] نفسيّا‪ :‬ليس هناك يف عصران أكثر من ّ‬
‫للمشاهد عوال مشرقةً‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫فن الرتكيب‪ ....‬تصنع ُ‬ ‫فن اإلخراج‪ّ ،‬‬ ‫فن التصوير‪ّ ،‬‬ ‫مبا تقوم عليه من تقنيات مدروسة‪ّ :‬‬
‫دوما خبياله‪ ،‬وما يفتأ يرسم ِلا صورا من خالل عال القصص واخلرافات‪ .‬وها هو اليوم‬ ‫بديعةً كان يتوق إليها ً‬
‫أصبح إبمكانه أن يراها رؤيةَ ِّ‬
‫العيان (فيلم "سيّد اخلوامت" متيّز بتقنيات تصوير رائعة‪ ،‬قد ال نبالغ إ ْن قلنا أّنّا‬
‫حّت‬
‫اخليال) وخالل تلك املَشاهد الفريدة الفقيدة يسبح املُشاه ُد يف عوال من اخليال املمتع اللّذيذ‪ّ ،‬‬ ‫تفوق َ‬
‫الصادمة كلّها‬‫ومشاهد الغرق اجلماعيّة ّ‬ ‫ِّ‬
‫اجه َ‬
‫حبره وأمو ُ‬‫الساعات متضي‪ ،‬وال يشعر هبا (فيلم تيتانيك مثال‪ُ :‬‬ ‫أ ّن ّ‬
‫حقيقي مرتامي األطراف ليس له ضفاف)‪.‬‬ ‫تقنيات التّصوير واإلخراج إىل حب ٍر‬ ‫حولتها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫كانت يف بركة صغرية ّ‬
‫ْ‬
‫السينما ليست انبعةً من فنون اإلخراج والتصوير والرتكيب واملونتاج فقط‪ ،...‬وإ ّمنا من‬ ‫ِّ‬
‫مصادر املتعة يف ّ‬
‫أفالم رومنسيّة عاطفيّة‬‫نسيك خالفَه‪ :‬فهذه ٌ‬ ‫يكاد يُ َ‬ ‫جنس ُ‬ ‫تَعدُّد أمناط األشرطة السينمائيّة وضروهبا‪ ،‬وكلُّ ٍ‬
‫خيال علميٍ‪ ،‬بسحر هتْوميِّها وبر ِّ‬
‫اعة‬ ‫بسموها ونُبلها وشرفها‪ ،‬وتلك أفالمُ ٍ‬
‫ّ‬ ‫احلب ّ‬ ‫ُترك املشاعر النبيلة كعاطفة ّ‬ ‫ّ‬
‫ان غري أكواننا‪ .‬ولك أيضا أفالم اإلاثرة واحلركة (‪ُ )action‬تكي‬ ‫اِّستِّباقها لزمننا وحاضران لتُحلّق يف أكو ٍ‬
‫أورواب‪ّ ،‬أما عن اِلزليّة الكوميديّة‬
‫أفالم اترخييّة عن عهود الفروسيّة والنّبالء يف ّ‬ ‫ِّ‬
‫األبطال‪ ...‬وهذه ٌ‬ ‫قصص‬
‫شفاه‪ ،‬وأحياان تُرسل‬ ‫فحدث وال حرج يف خصوص الوظيفة النفسيّة الرتفيهيّة‪ .‬فهي الّيت ترسم البسمةَ على ال ّ‬ ‫ّ‬
‫قتلت فينا كل حس للفكاهة وال ّد ِّ‬
‫عابة (ولنا‬ ‫ِّ‬
‫لطيف بعد أن خلنا ضغوط الواقع اليوم قد ْ‬ ‫متعال ٍ‬‫ضحك ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بنا يف‬
‫ّ ّ‬
‫الرائعة تَـ ُروج من املشرق إىل املغرب‪)...‬‬
‫شاشة الكبرية العربيّة عادل إمام الكوميديّة ّ‬
‫أن نذكر أفالم زعيم ال ّ‬
‫وبَّي هذا وذاك تظل ساحبا يف أجواء من ِّ‬
‫املتعة ال ميكنك أن تظفر هبا يف أيّة وسيلة أخرى‪ .‬ولو نظران يف‬ ‫ّ‬
‫نسبة من اإلقبال‪ ،‬ملا جتده فيها كل ٍ‬
‫شرحية‬ ‫املواقع اإللكرتونية اليوم َأللفينا مواقع األفالم هي الّيت ُتظى أبكرب ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املتحركة لألطفال‪ ،‬األفالم الرومنسيّة وأفالم‬ ‫الرسوم‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫عمريّة من أشرطة تناسب س نها ومرحلتَها‪ :‬أفالم ّ‬ ‫ُ‬
‫والشاابت‪ ،‬األفالم الكالسيكيّة ابلنسبة إىل الكهول‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املغامرات ابلنّسبة للشبّان‬

‫ٍ‬
‫مزدوجة للمشاهد‪ ،‬فهو َك َمن يُصيب‬ ‫خدمة مرّكبَ ٍة‬
‫ٍ‬ ‫السينما من‬
‫*] الوظيفة التثقيفيّة‪ :‬ال مراء فيما تُسديه ّ‬
‫ٍ‬
‫شّت‪:‬‬ ‫عصفوريْن حبج ٍر واحد‪ .‬ألنّه أثناء نُشدانه للوظيفة الرتفيهيّة ّ‬
‫يتشرب بوع ٍي أو دونَه فوائد تثقيفيّة ّ‬
‫الشر‪ .‬وإنّك واج ٌد‬
‫ومعركة قُوى اخلري ض ّد قُوى ّ‬ ‫ِّ‬
‫الباطل‪َ ،‬‬ ‫فيقتنص ِّعربةً بليغةً مفيدةً من نتائج صراع احل ّق ض ّد‬
‫شهامة‬
‫شجاعة واإلقدام وال ّ‬
‫شريط على الثّانية‪ ،‬من خالل التحلّي ابل ّ‬
‫دوما األوىل منتصرةً يف ّناية ال ّ‬

‫‪37‬‬
‫جبهد ومش ّق ٍة إىل أن نغرسها يف النّاشئة‪ ،‬غري أ ّن السينما بعواملها‬
‫وصفات نبيلةٌ نسعى ٍ‬ ‫والفضيلة‪ ...‬وكلّها قِّيم ِّ‬
‫ٌَ‬
‫ٍ‬
‫وسهولة‪ ،‬من خالل إهبارها وإغرائها وترغيبها‪ .‬إ ّّنا تعلّمهم‬ ‫النّظريةِّ الفاتنة املشرقة املثرية تنحتها فيهم بيُس ٍر‬
‫وهم يلعبون أو قل يستمتعون‪.‬‬
‫ُ‬
‫للمشاهد‪ ،‬فإنّه جيد عرب‬
‫اللغوي ُ‬
‫ّ‬ ‫عما تساهم فيه األشرطة األجنبيّة من تعزي ٍز ّ‬
‫للرصيد‬ ‫نغفل ّ‬
‫وهل لنا أن َ‬
‫بكل اللّغات‪ :‬األنكليزيّة ابخلصوص‪ ،‬والفرنسيّة‬ ‫ٍ‬
‫اإلنرتنيت على سبيل املثال أضخم مكتبة كونيّة لألفالم و ّ‬
‫األعمال ويُثرىه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نطقت هبا تلك‬
‫ْ‬ ‫غىن رصي ُده من اللّغات الّيت‬
‫واِلنديّة والرتكيّة‪ ....‬وخالل متعة املشاهدة يُ َ‬
‫وكثريا ما ُتضر الرتمجة الكتابيّة الظاهرة أسفل الشاشة أو وسطها‪ ،‬واملُزامنة ملخاطبات املمثّلَّي‪ ،‬فتساعد‬
‫واالقتدار على التكلّم هبا‪.‬‬‫على فهم اللغات األجنبيّة ِّ‬
‫ٍ‬
‫األشرطةُ السينمائيّة ُتكي قصصا مقتبسةً عن آاث ٍر أدبيّة عامليّة‪ ،‬ولوال ذلك التعلُّق هبذا ّ‬
‫الفن ما كنّا لنعرف‬
‫سينمائي كدعاء‬
‫ّ‬ ‫الكاتب أو األديب (طه حسَّي مثال له كثري من األعمال اِّقتُ ْ‬
‫بست فكرة لشريط‬ ‫َ‬ ‫ذلك‬
‫لهمت ثالثيّـتُه لتكون شريطا رائعا‪)...‬‬ ‫واألّيم‪ ،‬وجنيب حمفوظ بدوره اِّستُ ِّ‬
‫الكروان ّ‬
‫شعوب‪ ،‬وتقاليد األمم‪ ،‬ويف ذلك ٌّ‬
‫حظ‬ ‫نتعرف على عادات ال ّ‬ ‫وحنن كذلك أثناء مشاهدة األشرطة السينمائيّة ّ‬
‫غريُ ّ ٍ‬
‫هَّي من التثقيف‪.‬‬

‫ِّ‬
‫اخللود للمبدع يف جماله‪ُ ،‬مرجا كان أم‬ ‫منح‬
‫السينما أجلى الفنون قدرًة على ِّ‬
‫*] الوظيفة اإلنسانيّة األزليّة‪ّ :‬‬
‫مصورا‪ ....‬شريط مثل "تيتانيك" فاز املشاركون فيه‪ ،‬ممّ ْن ذكران مبختلف‬ ‫ممثّال‪ ،‬أم كاتب سيناريو أم ّ‬
‫التمثيلي‪ ،‬والتصوير‪ )...‬وهو ما مينح أصحابه اخللود‬
‫ّ‬ ‫مسامهاهتم‪ ،‬جبوائز أوسكار عامليّة (يف اإلخراج‪ ،‬واآلداء‬
‫ألزمنة ٍ‬
‫طويلة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫واجملد‬

‫يبين القائمون‬ ‫ِّ‬


‫*] الوظيفة اإلصالحيّة‪ :‬ليس هناك من شريط إالّ وهو يعاجلُ قضيّةً اجتماعيةً ما‪ .‬فال يُع َقل أن َ‬
‫تقنيات شكليّة‪ ،‬دون أن تكون هناك قضاّي يرومون إيصاِلا‬ ‫ٍ‬ ‫جمرد‬
‫السينمائي شريطهم على ّ‬
‫ّ‬ ‫على العمل‬
‫أهم ما ميكن‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫حضاري إنساينّ‪ .‬ومن ّ‬
‫ّ‬ ‫ثقايف أو‬
‫فكري ّ‬‫ّ‬ ‫يومي‪ ،‬أو‬
‫كي ّ‬ ‫للمشاهد‪ ،‬مبا يُبطّ ُن هواجس ذات بعد سلو ّ‬
‫وري القدير "دريْد حلّام"‬
‫الس ّ‬
‫التّمثيل به على هذه الوظيفة من أفالمنا العربيّة فيلم "احلدود" بطولة املمثّل ّ‬
‫ِّ‬
‫العرب وتَشتُّتهم‬ ‫تفرق‬
‫يطرح مشكلةَ ُّ‬
‫حممد املاغوط"‪ .‬وفيه ُ‬ ‫شهريُ " ّ‬ ‫الكاتب ال ّ‬
‫ُ‬ ‫صه وحو َاره‬
‫اجه‪ ،‬وألّف ن ن‬
‫وإخر ُ‬
‫شريط وقوع أحد املواطنَّي العرب‬ ‫يصور ال ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وانقساماهتم‪ ،‬بسبب احلدود الومهيّة الّيت صنعها االستعمار‪ ،‬حيث ّ‬
‫سجينا بَّي حدود دولتَّي عربيّتَّي شقيقتَّي‪ ،‬بعد ضياع جواز سفره‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫شرقاوي‪ ،‬وإخراج يوسف شاهَّي يُعاجلُ قضيّة‬‫شهري عبد الرمحان ال ّ‬
‫ونذكر كذلك فيلم "األرض" للكاتب ال ّ‬
‫واللبيب يفهم جيّدا ما يرومُ هذا العمل‬
‫ُ‬ ‫يضح َي من أجلها بدمه‪،‬‬
‫التعلّق ابألرض‪ ،‬واستعداد اإلنسان ألن ّ‬
‫ينمائي إيصالَه له‪.‬‬
‫الس ّ‬ ‫ّ‬

‫*] يبقى أن نشري أخريا إىل دور السينما يف ُتقيق مطلب تفاعل الثقافات وتالقُح احلضارات‪ .‬وهي أجنع‬
‫قوةٍ متثيل وتدبري وأتث ٍري‪ .‬فهي القائمةُ على أيقونة‬ ‫الفنون اِّ‬
‫متاح ِلا من ّ‬
‫ضطالعا هبذا ال ّدور‪ ،‬ابلنّظر إىل ما هو ٌ‬
‫ً‬
‫الركن‬
‫شريط يصدر اليوم هناك يف ذلك ّ‬ ‫املتحركة بسحرها ونفاذها وسرعة رواجها وانتشارها‪ .‬فال ّ‬
‫الصورة احليّة ّ‬
‫ّ‬
‫عوب من‬ ‫ال َقصي من املعمورة‪ ،‬لِّيطوق اآلفاق‪ ،‬وجيوب البلدان واألمصار يف طر ِّ‬
‫فة ع ٍ‬
‫ش ُ‬ ‫األمم وال ّ‬
‫َّي‪ ،‬لرتى ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ‬
‫ِّ‬
‫اآلخر‪ ،‬واألخذ عنه والعطاء له‪.‬‬ ‫الفضول‪ ،‬ويزيد من اإلغراء ِّ‬
‫ابالنفتاح على‬ ‫َ‬ ‫عادات بعضها البعض ما يُثري‬
‫السينمائي) مناسبةً‬
‫ّ‬ ‫السينمائي‪ ،‬مهرجان كان‬
‫ّ‬ ‫الفن (مهرجان قرطاج‬
‫السنويّة الدوليّة ِلذا ّ‬
‫تظل املهرجاانت ّ‬ ‫كما ّ‬
‫اللتقاء الفنّانَّي (ممثّلَّي وُمرجَّي وكتّاب‪ )...‬ملشاهدة آخر اإلنتاجات السينمائيّة من هذه ال ّدولة أو تلك‪،‬‬
‫قرب بَّي‬ ‫تفاعل كبريٌ بَّي الثّقافات واحلضارات‪ ،‬ما من شأنه أن يُ ّ‬
‫ٌ‬ ‫باد ِّل اآلر ِّاء‪ ،‬ويف ذلك‬ ‫ِّ‬
‫األفكار وتَ ُ‬ ‫طار ِّح‬
‫وتَ ُ‬
‫والصراع‪ .‬وهي‪-‬لعمري‪ -‬وظيفةٌ ساميةٌ نبيلةٌ ابتت تُعلِّّقها اإلنسانيّةُ‬ ‫الشقاق ّ‬ ‫شعوب‪ ،‬ويُقلّل من عوامل ِّّ‬ ‫ال ّ‬
‫مجعت ُتت إهاهبا سائر الفنون األخرى‪ :‬فهي‬ ‫ْ‬ ‫السينما الّيت‬
‫اليوم على رائدة الفنون وسيّدة اإلبداعات‪ّ :‬‬
‫والرواج‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫املتطورةُ ك نل قدرة على االنتشار والعبور ّ‬
‫ات ّ‬ ‫قص‪ ...‬متنحها التقنيّ ُ‬
‫والر ُ‬
‫واألدب والغناءُ ّ‬
‫ُ‬ ‫واملسرح‬
‫ُ‬ ‫سم‬
‫الر ُ‬
‫ّ‬
‫"السابع"‪ ،‬فكأ ّمنا‬ ‫ٍ‬
‫الفن "الثّامن" اجلديد الّذي ميكنه أن يتجاوز هذا الفن ّ‬ ‫وها حنن منذ قرون ال جن ُد ذلك ّ‬
‫وقفت عند ُختومه كأعلى درجات الوعي ِّ‬
‫واالبتكار اإلنساينّ‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫البشري‬ ‫حدود اإلبداع‬
‫ّ‬

‫التطرق إليه يف وقت الحق‪.‬‬


‫سيتم ّ‬‫ابلنّسبة إل األدب ّ‬
‫مهمة ج ّدا إضافة إىل الثراء‬ ‫ِّ‬
‫اقرؤوا ما يتعلّق ابلفنون األربعة مرارا وتكرارا‪ ،‬فاإلفادة التعبرييّة واألسلوبيّة ّ‬
‫املضموين املتعلّق مبوضوع الفنون‪.‬‬

‫‪39‬‬

You might also like