You are on page 1of 169

‫تقسيم مقاطع الدرس األول‬

‫املادة العلمية‬ ‫مقطع‬


‫الدرس األول من الوحدة األوىل‪ :‬مدخل إىل علوم القرآن‬ ‫‪1‬‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله‪ ،‬وصحبه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫ففي هذه اجملالس سنتحدث بإذن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن مهمات أنتقيها وأستخلصها مما ذكره العلماء ‪-‬رمحهم اهلل تعاىل‪ -‬مما يتعلق‬ ‫الدرس‬
‫األول من بعلوم هذا الكتاب العزيز‪.‬‬
‫مجيعا‬ ‫الوحدة‬
‫وهذه املوضوعات اليت سأحتدث عنها بإذن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هي من صلب هذا العلم‪ ،‬ومن موضوعاته األصلية‪ ،‬وحنن نعرف ً‬
‫األوىل‪ :‬أن هذا العلم مركب من علوم شىت؛ ولذلك جتد يف بعض املوضوعات اليت تدون فيه أو تدرس‪ ،‬جتد أن بعضها من علوم أصول الفقه‪ ،‬وأن‬
‫اقتصرت يف هذه الدروس على املوضوعات اليت هي من مهماته وصلبه خاصة‪ ،‬دون غريها من‬ ‫ُ‬ ‫مدخل بعضها من علوم العربية‪ ،‬وهكذا؛ ولذلك فقد‬
‫إىل علوم املوضوعات‪ ،‬كالعام‪ ،‬واخلاص‪ ،‬واملطلق‪ ،‬واملقيد‪ ،‬واملرتادف‪ ،‬واملشرتك‪ ،‬وما إىل ذلك من املوضوعات اليت تدرس يف بعض الفنون‪.‬‬
‫وقد رأيت أن أقدم مبقدمة أذكر فيها بعض األشياء العشرة اليت يذكرها العلماء عادة بني يدي الفن‪ ،‬وسأقتصر على بعضها‪ ،‬كمعىن‬ ‫القرآن‬
‫علوم القرآن‪ ،‬وموضوع هذا العلم‪ ،‬وفائدته‪ ،‬وأمهيته‪ ،‬وغايته‪ ،‬ونشأته‪ ،‬وتطوره‪ ،‬واملراحل اليت مر هبا‪ ،‬وقد ذكرت هذه املقدمة؛ ألن هذا الدرس‬
‫نظما يف‬
‫هو الدرس األول؛ ألن النية بإذن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يعقبه دروس أخرى‪ ،‬فلعل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن ييسر فندرس متنًا‪ ،‬أو ندرس ً‬
‫أيضا كتاب واسع هو خزانة‬‫هذا العلم‪ ،‬فهناك منظومة لرمبا تزيد على مائة وسبعني بيتًا‪ ،‬لرمبا ندرسها يف وقت الحق ‪-‬إن شاء اهلل‪ ،‬وهناك ً‬
‫هلذا العلم‪ ،‬وهو كتاب‪ :‬اإلتقان للسيوطي‪ ،‬ففي النية يف وقت قريب بإذن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن نستعرض هذا الكتاب يف مكان آخر؛ ولذلك‬
‫بدا‪ ،‬وأذكر خالصة يف مثل هذه الدورة القصرية‪ ،‬يستفيد منها من أراد أن يدرس أشياء أخرى‪ ،‬ويتوسع بعد ذلك‪.‬‬ ‫رأيت أن أذكر ز ً‬
‫وجتدون يف هذه املوضوعات اليت نذكرها هنا‪ :‬الكالم على الوحي‪ ،‬وعلى نزول القرآن‪ ،‬وهذه من أهم املوضوعات‪ ،‬ومن أدق‬
‫املوضوعات‪ ،‬وهي قضايا تتعلق بعلوم القرآن‪ ،‬وتتعلق بالعقيدة‪ ،‬وإذا درسها طالب العلم زالت عنه إشكاالت يف باب االعتقاد‪ ،‬ويف باب‬
‫التفسري‪ ،‬فضال عن علوم القرآن؛ ولذلك فإن دراسة الوحي تعد من أهم املوضوعات؛ ألن اإلميان بالرسالة يتوقف عليه‪.‬‬
‫مث نتحدث عن نزول القرآن‪ ،‬وما يتعلق بذلك من مكان النزول‪ ،‬وهو ما يسمى باملكي واملدين‪ ،‬وزمان النزول‪ ،‬وهو ما يسمى بالليلي‬
‫والنهاري‪ ،‬وهكذا ما يلحق بذلك مما يسمونه بالفراشي والنومي‪ ،‬وهكذا ما يسمونه بالسمائي واألرضي‪ ،‬وما إىل ذلك من موضوعات تتعلق‬
‫به‪ ،‬كأسباب النزول‪ ،‬وبعض املهمات اليت تذكر فيها‪ ،‬وهكذا بعض األشياء األخرى‪ ،‬كعلم الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وهو من أهم املوضوعات‪.‬‬
‫مث بعد ذلك أذكر أشياء تتعلق هبذا‪ ،‬ومجلتها عشرة موضوعات‪ ،‬فإذا أسعف الوقت استعرضناها يف هذه األيام اخلمسة‪ ،‬ولرمبا احتجنا‬
‫يوما أو يومني‪ ،‬فيكون إىل هناية األسبوع بإذن اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬ولعل من املناسب أن أجعل اليوم األخري مع الدرس أن يكون‬
‫إىل زيادة‪ ،‬نزيد ً‬
‫هناك شيء من األسئلة‪ ،‬أو االختبار الذي حيفز على مراجعة ما يذكر‪.‬‬
‫دائما يف الدروس العلمية‪ ،‬وأن يدونوا ذلك‪ ،‬مث إذا انصرفوا بعده راجعوا هذه املعلومات؛‬
‫وأنا أؤمل من اإلخوان أن يهتموا مبا يسمعون ً‬
‫من أجل أن يثبت ذلك‪ ،‬وال تكون هذه اجلهود سدى‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وأسال اهلل ‪-‬عز وجل‪ :‬أن يرزقنا وإياكم النية الصاحلة‪ ،‬والعلم النافع‪ ،‬والعمل الصاحل الذي يرضيه‪ ،‬وأن يغفر لنا‪ ،‬ولكم‪،‬‬
‫ولوالدينا‪ ،‬وإلخواننا املسلمني‪.‬‬
‫الدرس الثاني من الوحدة األوىل‪ :‬التعريف بعلوم القرآن‬ ‫الدرس‬
‫وقبل أن أبدأ هذا الدرس أذكر اإلخوان أن السبب يف عدم اختيار كتاب يف هذه الدروس يف مثل هذه الدورة‪ :‬أين ال أعلم كتابًا‬ ‫الثاين من‬
‫الوحدة جيمع مهمات هذا العلم بطريقة جتمع بني االختصار واالنتقاء واالصطفاء من غري شوائب‪ ،‬ومن غري أشياء حتتاج إىل مراجعات ومناقشات‬
‫األوىل‪ :‬واعرتاضات؛ ولذلك رأيت أن أحفظ أوقاتكم‪ ،‬السيما أن هذه الدروس لعل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يوفق فتكون مناسبة جلميع اإلخوان‪ ،‬فهي‬
‫التعريف جتمع بني البساطة‪ ،‬وجتمع أيضا بني الصفاء واالنتقاء يف املعلومات‪ ،‬فال أذكر فيها شيئا من األقوال الضعيفة قدر اإلمكان؛ لئال أحتاج إىل‬
‫مقتصرا على قول يظن أنه هو الراجح‪ ،‬وأنه‬ ‫مناقشتها‪ ،‬فتذهب بعض األوقات يف ذلك‪ ،‬وحنن نعرف أن التعليم يف البداية ينبغي أن يكون‬ ‫بعلوم‬
‫ً‬
‫القرآن هو األقرب‪ ،‬مث بعد ذلك يتوسع الناس‪ ،‬فيدرسون األقوال األخرى؛ ولذلك مل أحدد كتابًا؛ ألين ال أعلم كتابًا ميكن أن حيقق هذا املقصود‪.‬‬
‫بعد ذلك أقول يف ذكر هذه املقدمات‪ :‬هذا العلم الذي اجتمعنا لدراسته عنوانه املعروف املشهور‪ :‬علوم القرآن‪ ،‬فهو ليس من‬
‫املوضوعات ذات العنوان الواحد‪ ،‬فبعض املوضوعات يقال فيها مثال‪ :‬القراءات‪ ،‬أو يقال فيها‪ :‬القياس‪ ،‬أو حنو ذلك‪ ،‬فهذا العنوان كما ترون‬
‫مركب من كلمتني‪" :‬علوم" و"قرآن"‪ ،‬وحىت نتصور هذا العلم‪ ،‬واملراد به؛ ألن الدخول يف فن من الفنون يتوقف على تصور هذا العلم‪ ،‬وهذا‬
‫التصور إمنا حيصل مبعرفة معناه‪.‬‬
‫فالعلوم‪ :‬هذه اللفظة مجع‪ ،‬كما ال خيفى‪ ،‬والعلوم‪ :‬مجع علم‪ ،‬والعلم‪ :‬يقابل اجلهل‪ ،‬فهو‪ :‬ضد اجلهل‪ ،‬نقيض اجلهل‪ ،‬وهذا العلم‬
‫يعرف بأن يقال‪ :‬هو‪ :‬معرفة الشيء على حقيقته‪ ،‬هذا هو العلم؛ ألنك إذا عرفت الشيء على غري حقيقته فإن هذا جهل مركب‪،‬‬ ‫ميكن أن َّ‬
‫فلو قال قائل مثال‪ :‬التيمم ال جيوز‪ ،‬أو أن التيمم هو‪ :‬استعمال املاء يف األعضاء املخصوصة بنية‪ ،‬فمثل هذا مل يتصور حقيقة التيمم‪ ،‬فيكون‬
‫ذلك من قبيل اجلهل املركب‪ ،‬فالعلم هو‪ :‬معرفة الشيء على حقيقته ‪-‬على ما هو به‪ -‬معرفة صحيحة‪ ،‬وميكن أن يقال‪ :‬هو اإلدراك اجلازم‬
‫املطابق للواقع‪ ،‬فهذه أشياء تقربه‪ ،‬وتصور لك املراد منه‪.‬‬
‫وأما القرآن‪ ،‬ويقال فيه‪ :‬ال ُقَران‪ ،‬من غري مهزة‪ ،‬كما هي‪ :‬قراءة ابن كثري‪ ،‬وهي‪ :‬قراءة أهل مكة؛ ولذلك كان اإلمام الشافعي ‪-‬رمحه‬
‫اهلل‪ -‬يقرأ‪ :‬القران‪ ،‬ويكتب يف كتابه الرسالة‪ ،‬ويف غريه من كتبه‪ ،‬يقول‪ :‬القران‪ ،‬وملا حقق أمحد شاكر ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬كتاب الرسالة للشافعي‪،‬‬
‫أيضا بغري مهز‪ ،‬فيقال‪ :‬قران‪.‬‬
‫كان يثبتها كما هي‪ :‬القران‪ ،‬من غري مهزة‪ ،‬فالقرآن يقرأ باهلمز‪ ،‬فيقال‪ :‬قرآن‪ ،‬ويقرأ ً‬
‫فالقرآن باهلمزة‪ :‬ميكن أن يقال فيه‪ :‬هو‪ :‬مصدر من القراءة‪ ،‬يف أحسن ما يفسر به ‪-‬واهلل تعاىل أعلم‪ ،‬وحنن إذا أردنا أن نُرجع‬
‫األشياء يف التعريفات‪ ،‬وتفسري األلفاظ‪ ،‬نرجعها إىل أصوهلا‪ ،‬فاألحسن أن نرجعها إىل املصادر‪ ،‬مبعىن أننا نقول‪ :‬القرآن من القراءة‪ ،‬وال نقول‪:‬‬
‫القرآن من قرأ‪ ،‬فال نعيده إىل الفعل‪ ،‬وإمنا نعيده إىل املصدر‪ ،‬فنقول‪ :‬القرآن من القراءة‪ ،‬كما قال حسان بن ثابت ‪-‬رضي اهلل تعاىل عنه‪-‬‬
‫ميدح عثمان بن عفان ‪-‬رضي اهلل تعاىل عنه‪:‬‬
‫تسبيحا وقرآنا‬ ‫الليل‬ ‫ع‬ ‫ِ‬
‫السجود به *** يقطِّ‬ ‫ط عنوا ُن‬
‫ضح ْوا بأمش َ‬
‫َّ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫تسبيحا وقراءة‪ ،‬فسمى القراءة‪ :‬قرآنًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يعين‪ :‬أنه يقطع الليل‬
‫وال شك أن األصل يف هذه اللفظة من جهة الفعل هو‪ :‬الفعل الثالثي‪ :‬قرأ‪ ،‬وهذه اللفظة‪ :‬قرأ تدور جبميع استعماالهتا ومعانيها يف‬
‫مجعا من‬
‫كالم العرب‪ ،‬تدور على معىن واحد فقط‪ ،‬وهذا املعىن الواحد الذي جتد أطرافه منثورة يف كتب القواميس‪ ،‬ولرمبا عد العاد منها ً‬
‫املعاين‪ ،‬هذه اللفظة يف الواقع ترجع إىل معىن واحد‪ ،‬وكل املعاين اليت يذكرها أصحاب املعاجم اللغوية هي ترجع إىل هذا املعىن‪ ،‬وهذا من أنفع‬
‫ما يذكر يف تفسري األلفاظ‪ ،‬وبيان الغريب‪ ،‬ومعاين املفردات‪ ،‬أن ننظر إىل املعىن الواحد ‪-‬أو االثنني‪ -‬الذي ترجع إليه مجيع املعاين اليت‬
‫يذكروهنا‪ ،‬ومن أحسن من يذكر ذلك ويبينه ابن فارس ‪-‬رمحه اهلل تعاىل‪ -‬يف كتابه‪ :‬مقاييس اللغة‪.‬‬
‫لتكون‬
‫فهذه اللفظة‪ :‬القرآن‪ ،‬ترجع إىل معىن وهو‪ :‬الضم واجلمع‪ ،‬فإذا قلت مثال‪ :‬القراءة والقرآن فإن ذلك الجتماع احلروف؛ ِّ‬
‫لتكون اجلمل؛ والجتماع اجلمل أو اآليات؛ لتك ِّون السور‪ ،‬وهكذا‪ ،‬مث ما فيه أيضا من اجتماع املعاين‪،‬‬ ‫الكلمات‪ ،‬والجتماع الكلمات؛ ِّ‬
‫القصص واألخبار والعقائد واألحكام‪ ،‬وما إىل ذلك من األمور اليت مجعها اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يف كتابه‪ ،‬فهي‪ :‬جمموعة يف هذا القرآن‪ ،‬وهكذا‬
‫إذا قلنا‪ :‬ال ُقرء الذي هو احليض‪ ،‬فإمنا قيل له ذلك؛ ألنه جيتمع الدم يف داخل الرحم؛ وهلذا قيل له ذلك‪ ،‬فإذن‪ :‬هذه اللفظة تدور على معىن‬
‫واحد‪ ،‬وهو‪ :‬الضم واجلمع‪ ،‬والقرآن ميكن أن يكون قيل له ذلك مبراعاة هذا املعىن؛ ألنه جيمع مثرة الكتب السابقة؛ أو ألنه مجع اهلل ‪-‬عز‬
‫وجل‪ -‬فيه من ألوان اهلدايات والعلوم واملعارف اليت حيتاج إليها السالك إىل ربه ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬وهذه األمور ال منافاة بينها‪ ،‬فكلها صحيح‪.‬‬
‫وأما معىن القرآن االصطالحي‪ :‬فيمكن أن نقول‪ :‬هو كالم اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬املنزل على حممد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بواسطة‬
‫جربيل ‪-‬عليه السالم‪ -‬املعجز بأقصر سورة منه‪ ،‬وميكن أن نستغين عن زيادة يذكروهنا معه وهي‪ :‬املتعبد بتالوته‪ ،‬فيمكن أن نستغين عنها‪.‬‬
‫فقولنا إذن‪ :‬القرآن هو كالم اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬فهذا خيرج كالم غري اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬كاملالئكة والبشر‪ ،‬وخيرج من ذلك األحاديث‬
‫أيضا األحاديث القدسية‪ ،‬على قول من قال‪ :‬إن األحاديث القدسية هي من النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬لفظًا‪،‬‬ ‫النبوية‪ ،‬كما خيرج من ذلك ً‬
‫ومن اهلل معىن‪.‬‬
‫وقولنا‪ :‬هو كالم اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬املنزل على حممد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فاملنزل خيرج ما مل ينزله اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬فكالم اهلل ‪-‬‬
‫تبارك وتعاىل‪ -‬ال حنيط به‪ ،‬فمنه ما نزله على األنبياء والرسل ‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ومنه ما مل ينزله‪{ ،‬قُل لَو َكا َن الْبحر ِم َدادا لِ َكلِم ِ‬
‫ات‬ ‫َ ُْ ً َ‬ ‫ْ ْ‬
‫ض ِمن َشجرةٍ أَقْ َالم والْبحر َميُدُّه ِمن ب ع ِدهِ‬ ‫ِ ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات َرِِّّب َولَْو جْئ نَا مبثْله َم َد ًدا} الكهف‪َ { ،109 :‬ولَ ْو أََّمنَا ِيف ْاأل َْر ِ ْ َ َ ٌ َ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ‬
‫َرِِّّب لَنَف َد الْبَ ْحُر قَ ْب َل أَ ْن تَْن َف َد َكل َم ُ‬
‫ات اللَّ ِه} لقمان‪ ،27 :‬فإذن‪ :‬املنزل خيرج ما مل ينزل‪.‬‬ ‫سب عةُ أ َْْب ٍر ما نَِف َد ِ‬
‫ت َكل َم ُ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ ُ َ‬
‫وقولنا‪ :‬على حممد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬خيرج ما نزل على األنبياء غري النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كالتوراة واإلجنيل والزبور‪،‬‬
‫وما إىل ذلك‪.‬‬
‫وقولنا‪ :‬املنزل على حممد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬املعجز بأقصر سورة منه‪ ،‬فاملعجز خيرج غري املعجز‪ ،‬وما هو غري املعجز؟ نقول‪:‬‬
‫األحاديث القدسية على قول من قال‪ :‬إهنا من كالم اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬لفظًا ومعىن‪ ،‬وهو األقرب؛ ألننا يف األحاديث القدسية نقول‪ :‬قال النيب‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فيما يرويه عن ربه‪ ،‬ونقول أيضا‪ :‬قال اهلل تعاىل‪ ،‬والنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يقول ذلك‪ ،‬ولو كانت من عند‬
‫كبريا وهو األكثر من‬
‫قسما ً‬
‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬لفظًا ملا قيل فيها ذلك؛ ولكانت مستوية مع األحاديث النبوية‪ ،‬وحنن نعرف أن ً‬
‫أحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬النبوية أن الغالب يف ذلك أنه وحي من عند اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬من جهة املعىن‪ ،‬وأقول‪:‬‬
‫الغالب؛ ألن بعض هذه األحاديث اجتهاد من النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولكنه ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قد جيتهد‪ ،‬ويأيت الوحي يصوبه‬
‫على ذلك‪ ،‬أو يبني له ما وقع فيه من خلل يف االجتهاد‪ ،‬كما اجتهد النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف قصة أسارى بدر‪ ،‬فنزل الوحي بذلك‪:‬‬
‫َسَرى َح َّىت يُثْ ِخ َن ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ض} [األنفال‪.]67 :‬‬ ‫{ َما َكا َن لنَِ ٍّ‬
‫يب أَ ْن يَ ُكو َن لَهُ أ ْ‬
‫فاحلاصل‪ :‬أن سنة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬القولية والعملية الغالب فيها‪ ،‬والسواد األعظم هو من قبيل الوحي ابتداء‪ ،‬وما‬
‫اجتهد فيه النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قليل‪ ،‬مث يأيت الوحي مصوبًا له؛ وهلذا ال ميكن ألحد أن يقول‪ :‬ما دام أن السنة فيها بعض‬
‫االجتهادات‪ ،‬إذن‪ :‬ميكن أن يكون فيها بعض األخطاء‪ ،‬نقول‪ :‬ال ميكن ذلك؛ ألن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مؤيد بالوحي‪ ،‬فيُسدَّد‬
‫ويقوم اجتهاده من قبل ربه ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬فإذن‪ :‬املعجز بأقصر سورة منه خيرج األحاديث النبوية‪ ،‬وخيرج األحاديث القدسية؛ ألهنا‬ ‫ويصوب‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫ليست معجزة؛ وهلذا قد يقول قائل‪ :‬إذا قيل‪ :‬إن األحاديث القدسية هي من كالم اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬لفظًا‪ ،‬فما الفرق إذن بينها وبني القرآن؟‬
‫فنقول‪ :‬الفرق من وجوه‪:‬‬
‫• منها‪ :‬أن اهلل تعهد ْبفظ القرآن بلفظه ومعناه‪ ،‬واألحاديث القدسية مل يتكفل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هلا هبذا احلفظ‪.‬‬
‫• ومنها أيضا‪ :‬القرآن معجز بألفاظه‪ ،‬واألحاديث القدسية ليست معجزة‪.‬‬
‫• وأيضا‪ :‬القرآن ال جيوز روايته باملعىن‪ ،‬أو نقله باملعىن‪ ،‬واألحاديث القدسية جيوز نقلها باملعىن بالشروط املعروفة اليت يذكرها علماء‬
‫االصطالح‪.‬‬
‫• ومنها‪ :‬أن القرآن نتعبد اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬بتالوته‪ ،‬وأما األحاديث القدسية فلم نتعبد بقراءهتا‪ ،‬فهذه بعض الفروق‪.‬‬
‫فهذا تفسري هذا التعريف لكتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬الذي هو القرآن‪ ،‬وهو يغنينا عن كثري مما يقال يف تعريفه؛ ألن ذلك هو األقرب ‪-‬‬
‫واهلل تعاىل أعلم‪ -‬من التعريفات اليت يذكرها العلماء‪ ،‬وحسبنا ذلك‪.‬‬
‫وأما إيراد باقي التعريفات‪ ،‬ومناقشة كل تعريف فهذا أمر ليس ْبسن‪ ،‬وال حاجة إليه يف مثل هذا اجمللس‪.‬‬
‫بعد ذلك إذا عرفت معنى‪ :‬العلم‪ ،‬وعرفت معنى‪ :‬القرآن‪ ،‬فما معنى‪ :‬علوم القرآن؟‬
‫العلم هو‪ :‬معرفة الشيء على حقيقته‪ ،‬والقرآن هو‪ :‬كالم اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬فعلوم القرآن ما هي إذن؟ ميكن أن نقول‪ :‬هذا الفن هو‬
‫متميزا‪ ،‬فهذا التعريف هلذا العلم الذي ندرسه ‪-‬علوم‬
‫علما ً‬ ‫علم يضم أْباثًا كلية تتصل بالقرآن الكرمي من نو ٍاح شىت‪ ،‬ميكن اعتبار كل منها ً‬
‫القرآن‪ -‬أظنه أقرب هذه التعريفات‪ ،‬وهناك تعريفات كثرية له‪ ،‬أكتفي هبذا منها‪.‬‬
‫فحينما نقول‪ :‬هو علم يضم أْباثًا كلية‪ ،‬يعين‪ :‬أنه ال يدرس قضايا جزئية‪ ،‬وإمنا يضم أْباثًا كلية‪ ،‬يندرج حتتها اجلزيئات‪ ،‬فاألْباث‬
‫الكلية مثل‪ :‬القراءات‪ ،‬يندرج حتتها جزيئات كثرية جدًّا‪ ،‬ومفردات‪ ،‬وهكذا حينما نقول‪ :‬علم الناسخ واملنسوخ‪ ،‬فهو من علوم القرآن‪ ،‬فهذا‬
‫موضوع كلي‪ ،‬وحينما نقول‪ :‬اآلية الفالنية منسوخة‪ ،‬أو ليست منسوخة فهذا جزئي‪ ،‬وهكذا حينما نقول‪ :‬املطلق واملقيد‪ ،‬فهذا كلي‪ ،‬وحينما‬
‫نقول‪ :‬هذه اآلية مطلقة‪ ،‬وهذه اآلية مقيدة‪ ،‬واملطلق حممول على املقيد فهذا جزئي‪ ،‬فإذا علوم القرآن‪ :‬علم يضم أْباثًا كلية مهمة‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫الناسخ واملنسوخ‪ ،‬املطلق واملقيد‪ ،‬الوحي‪ ،‬القراءات‪ ،‬األحرف السبعة‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫بعد ذلك حينما نقول‪ :‬تتصل بالقرآن الكرمي‪ ،‬هذا خيرج العلوم اليت ال تتصل بالقرآن‪ ،‬مثل‪ :‬أن الفاعل مرفوع‪ ،‬أو املرفوعات‬
‫واملنصوبات‪ ،‬أو القضايا اليت تتعلق بشروط قبول الرواية‪ ،‬أو قضايا تتعلق باجلرح والتعديل‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬فهذه ليست من علوم القرآن‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫تتصل بالقرآن مبعىن‪ :‬أهنا تتعلق به‪.‬‬
‫وقولنا‪ :‬من نو ٍاح شىت يعين‪ :‬منها ما يتعلق بأداء القرآن‪ ،‬مثل‪ :‬التجويد والقراءات‪ ،‬ومنها ما يتعلق بأماكن النزول‪ ،‬مثل‪ :‬املكي واملدين‪،‬‬
‫ومنها ما يتعلق بأسبابه‪ ،‬مثل‪ :‬أسباب النزول‪ ،‬ومنها ما يتعلق بكونه موحى من اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬وهو موضوع الوحي‪ ،‬ومنها ما يتعلق بتنزيالت‬
‫القرآن‪ ،‬وهو موضوع نزول القرآن‪ ،‬ومنها ما يتعلق بأوقات النزول‪ ،‬كما قلنا يف‪ :‬الليلي والنهاري‪ ،‬والصيفي والشتائي‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫الدرس الثالث من الوحدة األوىل‪ :‬فائدة دراسة علوم القرآن وأهميته‬ ‫الدرس‬
‫أما الموضوع الذي يتحدث عنه هذا العلم‪ ،‬ويدور عليه فهو القرآن من جوانبه املختلفة‪.‬‬ ‫الثالث‬
‫وأما الفائدة التي نستفيدها من دراسة مثل هذا العلم فأقول‪ :‬هي يف الواقع مجلة فوائد‪ ،‬وليست فائدة واحدة‪ ،‬فهذه الفوائد‬ ‫من‬
‫• منها‪ :‬أنه يعني على فهم القرآن‪ ،‬واستنباط األحكام واآلداب‪.‬‬ ‫الوحدة‬
‫• كما أنه جيعل من مترس فيه وفهمه وعرفه‪ ،‬جيعله مؤهال للتفسري‪.‬‬ ‫األوىل‪:‬‬
‫• هو يعرف الدارس له بتاريخ القرآن الكرمي‪ ،‬من حيث مبدأ نزوله‪ ،‬ومدة هذا النزول‪ ،‬وطريقه هذا النزول‪ ،‬وأماكن النزول‪ ،‬وأوقات‬ ‫فائدة‬
‫النزول‪ ،‬واألحداث اليت نزل فيها القرآن‪.‬‬ ‫دراسة‬
‫علوم‬
‫• يوفر ملن درسه من العلوم واملعارف املهمة املتعلقة بالقرآن شيئًا ً‬
‫كثريا‪ ،‬كما قلنا يف‪ :‬الناسخ واملنسوخ‪ ،‬والقراءات‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫القرآن‬
‫• يسلح من عرفه ودرسه وفهمه بسالح قوي‪ ،‬يستطيع بإذن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬معه أن جيلي ً‬
‫كثريا من اإلشكاالت والشبهات اليت يطرحها‬
‫قوم من املستشرقني‪ ،‬ومن غريهم من الزنادقة‪ ،‬من املتقدمني واملتأخرين‪.‬‬ ‫وأمهيته‬
‫• جيلي لك أشياء لرمبا تنقدح يف ذهنك إذا كان الذهن خاليًا من هذا العلم‪ ،‬فتعرف اجلواب عن كثري من اإلشكاالت اليت لرمبا أورثت‬
‫ًّ‬
‫شكا وحرية يف نفس اإلنسان‪.‬‬
‫يوجد عند صاحبه ملكة وقدرة على إدراك مواطن العِرب يف هذا القرآن‪ ،‬واحلجج‪ ،‬واألحكام‪.‬‬ ‫• ِ‬
‫وأما ما يتعلق بأهميته فهذا العلم هو يف الواقع مبنزلة امليزان الذي يضبط الفهم لكتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬كما نقول‪ :‬إن علم العربية ‪-‬‬
‫أيضا يف كتاب اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬وهكذا‬‫علم النحو‪ -‬يضبط اللسان من اللحن‪ ،‬وهكذا يقال‪ :‬إن علم التجويد يضبط القراءة من اللحن ً‬
‫أيضا يف علم املصطلح‪ :‬إنه هبذه املنزلة‬
‫أيضا حينما نقول‪ :‬إن علم أصول الفقه يضبط الفهم لنصوص الكتاب والسنة ‪ ،‬وهكذا حينما نقول ً‬
‫بالنسبة للحديث النبوي‪ ،‬ميكن لإلنسان أن يعرف بواسطته صحيح األخبار من سقيمها‪ ،‬فهذا العلم إذن هو كامليزان الذي يضبط الفهم؛‬
‫من أجل أال يشطح يف نظره يف كتاب اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬وهبذا يكون مؤهال ملعرفة صحيح التفسري من فاسده‪.‬‬
‫وأما الغاية أو الهدف الذي يصل إليه ويبتغيه الدارسون فأقول‪ :‬هو معرفة معاين هذا القرآن؛ ألن هذا مرقاة هلا وواسطة‪ ،‬وأيضا‪:‬‬
‫العمل بعد ذلك‪ ،‬فبعد فهم هذا القرآن البد من العمل بأحكامه؛ ألن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬تعبدنا بذلك‪.‬‬
‫أنتقل بعد ذلك إىل النقطة السادسة‪ ،‬وهي ما يتعلق بنظرة تارخيية سريعة‪ ،‬تتعلق بنشأة هذا العلم‪ ،‬وتطوره‪ ،‬واملراحل اليت مر هبا‪،‬‬
‫وهذه األشياء اليت أستعرضها اآلن حتتاجون إليها ملعرفة تاريخ هذا العلم‪ ،‬وحتتاجون إليها عند النظر يف كثري مما كتب يف هذه القضية‪ ،‬فمن‬
‫نظر يف كثري من املؤلفات اليت تكلم أصحاهبا على تاريخ هذا العلم‪ ،‬ونشأته‪ ،‬وتطوره جيد أشياء كثرية جدًّا حتتاج إىل مناقشة‪ ،‬وقد حاولت‬
‫أن أستقرئ لكم ذلك على قدر اجلهد والطاقة من خالل الكتب اليت تكلمت على هذه القضية‪ ،‬وأيضا‪ :‬من خالل كتب املخطوطات ‪-‬‬
‫أيضا‪ :‬من خالل الكتب اليت تكلمت عن الفنون‪ ،‬كالفهرست البن الندمي‪ ،‬ومثل كتاب‪ :‬إيضاح املكنون‪ ،‬وأشباه ذلك‬
‫فهارس املخطوطات‪ ،‬و ً‬
‫من الكتب اليت ألفها العلماء يسردون فيها املصنفات يف خمتلف العصور‪.‬‬
‫الدرس الرابع من الوحدة األوىل‪ :‬علوم القرآن يف عهد النبوي وخلفاء الرشدين‬
‫فأقول‪ :‬نبدأ بالقرن األول الهجري‪ ،‬ويمكن أن نقسم هذا القرن األول الهجري إلى ثالث مراحل‪:‬‬ ‫الدرس‬
‫المرحلة األولى‪ :‬وهي العهد النبوي‪ ،‬يف زمن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ماذا مت يف زمان النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مما يتعلق‬ ‫الرابع من‬
‫هبذا العلم؟‪ ،‬حنن نعرف أن القرآن كان يتنزل على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف ثالث وعشرين سنة ‪ ،‬وكان الصحابة ‪-‬رضي اهلل تعاىل‬ ‫الوحدة‬
‫عنهم‪ -‬من العرب‪ ،‬وكانوا أهل الفصاحة والبيان والبالغة‪ ،‬فكانوا يدركون هذه املعاين اليت خوطبوا هبا‪ ،‬يدركوهنا غالبًا من لغتهم وسليقتهم‪،‬‬ ‫األوىل‪:‬‬
‫وحنن نعرف أن التفسري ‪-‬كما جاء عن ابن عباس ‪-‬رضي اهلل تعاىل عنه‪ -‬على أربعة أحناء‪ :‬قسم تعرفه العرب بلغتها‪ ،‬وهذا هو الشاهد‪.‬‬ ‫علوم‬
‫كثريا منها بفصاحتهم وسليقتهم العربية اليت حباهم اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هبا‪ ،‬وإذا أشكل عليهم‬ ‫القرآن يف‬
‫فكانوا يعرفون معاين هذا القرآن‪ ،‬يعرفون ً‬
‫شيء من معانيه رجعوا إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فسألوه عن ذلك‪ ،‬فيبينه هلم‪ ،‬وكان النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يبتدئهم أحيانًا‬ ‫عهد‬
‫بتفسري بعض اآليات‪ ،‬أو بعض القضايا‪ ،‬كما أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان يُقرئهم القرآن على احلروف اليت يتيسر هلم القراءة هبا‪،‬‬ ‫النبوي‬
‫فبعدما هاجر النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إىل املدينة نزلت األحرف الستة الزائدة على حرف قريش‪ ،‬وأنتم تعلمون أن القرآن نزل على‬
‫وخلفاء سبعة أحرف‪ ،‬فكان النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يُقرئ أصحابه ْبسب ما يتيسر هلم‪ ،‬كما أن الصحابة ‪-‬رضي اهلل تعاىل عنهم‪ -‬ل َّما‬
‫الرشدين عاصروا التنزيل‪ ،‬وشاهدوا الوقائع اليت نزل فيها القرآن‪ ،‬وكانوا مع النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف السفر واحلضر‪ ،‬يف الليل والنهار‪ ،‬فعرفوا‬
‫أيضا أسباب النزول‪ ،‬وعرفوا الطرق اليت ينزل هبا القرآن على النيب‬
‫أماكن النزول‪ ،‬وهو‪ :‬ما يسمى باملكي واملدين‪ ،‬وعرفوا أوقات النزول‪ ،‬وعرفوا ً‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وعرفوا وجوه القراءة من رسول اهلل ‪.‘-‬‬
‫كما أن الواحد منهم ما كان يتجاوز مخس آيات‪ ،‬أو عشر آيات‪ ،‬حىت يتعلم ما فيها من العلم والعمل‪ ،‬فكانوا يتعلمون العلم‬
‫مجيعا‪ ،‬إذن‪ :‬فقد تعلموا أحكام القرآن‪ ،‬وهذا نوع من أنواع العلوم القرآنية‪ ،‬علم أحكام القرآن‪ ،‬فإذن‪ :‬تعلموا أسباب النزول‪ ،‬وأماكن‬
‫والعمل ً‬
‫أيضا أوقات النزول‪ ،‬وتعلموا طرق نزول القرآن‪ ،‬وتعلموا الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وما إىل ذلك من العلوم اليت ُحيتاج‬
‫النزول‪ ،‬ووجوه القراءة‪ ،‬وتعلموا ً‬
‫إليها‪ ،‬كالعام واخلاص‪ ،‬واملطلق واملقيد‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬فهذا تعلمه أصحاب النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬منه‪ ،‬مبعايشتهم له‪ ،‬وبسماعهم منه‪،‬‬
‫وبتلقيهم عنه ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬
‫وكان النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قد اختذ مجاعة من الكتاب‪ ،‬يكتبون بني يديه ما ينزل من القرآن‪ ،‬فيكتبون اآلية يف العُ ُسب‬
‫واللِّخاف وهي شرائح احلجارة ‪-‬احلجارة الرقيقة‪ ،‬واألكتاف‪ ،‬أي‪ :‬عظم الكتف؛ ألنه عريض‪ ،‬ويكتبون مبا يتيسر هلم من الوسائل املختلفة‪،‬‬
‫فيكتبون اآلية بني يدي النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬ويرشدهم النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إىل مكان اآلية من السورة‪ ،‬يقول‪ :‬ضعوا‬
‫هذه اآلية يف سورة كذا‪ ،‬يف موضع كذا‪ ،‬فكانوا يؤلفون القرآن بني يدي سول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬مبعين‪ :‬يرتبونه بني يدي النيب ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واملقصود‪ :‬أهنم كانوا يرتبون اآليات بني يدي النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ألن ترتيب اآليات يف داخل السور أمر‬
‫توقيفي‪ ،‬أما ترتيب السور فسيأيت الكالم عليه يف موضعه إن شاء اهلل تعاىل‪ .‬إذن‪ :‬هذه مجلة من العلوم القرآنية عرفها أصحاب النيب ‪-‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ -‬يف العهد النبوي‪.‬‬
‫والمرحلة الثانية‪ :‬وهي عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬بعد وفاة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬جاء زمن اخللفاء الراشدين‪ ،‬فوقعت‬
‫بالقراء يف اصطالحهم يف ذلك الوقت هم‪ :‬أهل القرآن‪ ،‬الذين حيفظون اآليات‪،‬‬
‫القراء‪ ،‬واملراد ّ‬
‫حروب الردة‪ ،‬فقتل يف اليمامة فقط سبعون من ّ‬
‫ويفقهون معانيها‪ ،‬فهم أهل العلم‪ ،‬فقتل منهم سبعون يف وقعة اليمامة‪ ،‬وهذا يدل على أن احلفظة لكتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬كانوا كثريين‪ ،‬مل‬
‫يكونوا أفر ًادا كما يتصور بعض الناس‪ ،‬كانوا كثرة‪ ،‬حىت إنه قتل منهم يف وقعة واحدة ‪-‬وهي اليمامة‪ -‬سبعون‪ ،‬من محله القرآن‪ ،‬ومىت هذا؟‪،‬‬
‫بعد وفاة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬
‫ظ القرآ َن كثريٌ من أصحاب النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فلما قتلوا فزع عمر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬خاف أن يذهب شيء‬ ‫إذن‪َ :‬حف َ‬
‫من القرآن‪ ،‬فأشار على أِّب بكر الصديق ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أن جيمع القرآن‪ ،‬فأبو بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬تردد يف أول األمر ‪-‬كما سيأيت‪ ،‬مث‬
‫شرح اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬صدره لذلك‪ ،‬فجاءوا بزيد بن ثابت ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬وكان من حفظة القرآن‪ ،‬وممن شهد العرضة األخرية ‪-‬وانتبهوا‬
‫هلذه اجلملة‪ :‬كان ممن شهد العرضة األخرية اليت عرضها النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على جربيل مرتني يف العام الذي تويف فيه‪ ،‬فهذا جواب‬
‫عن سؤال كبير‪ ،‬وهو‪ :‬لماذا اختير زيد بن ثابت‪ ،‬وتُرك كبار الصحابة كابن مسعود؟! مث إن زيد بن ثابت ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬كان عند أِّب‬
‫بكر يف املدينة‪ ،‬فاختاروه لذلك‪ ،‬فهو شهد العرضة األخرية‪ ،‬وكان يقرأ بقراءة قريش ‪ْ-‬برف قريش‪ ،‬والقرآن نزل على سبعة أحرف‪ ،‬وحرف‬
‫قريش هو احلرف الذي كان يقرأ به عامة املهاجرين واألنصار‪ ،‬فهذه اجلمل إجابات عن إشكاالت كبرية جدًّا‪ ،‬قد تعرض لك إذا قرأت يف‬
‫شيء من الكتب املدونة يف القراءات‪ ،‬أو األحرف‪ ،‬فحرف قريش هو الذي كان يقرأ به عامة املهاجرين واألنصار‪ ،‬وهو الذي نزل أوال مبكة‪،‬‬
‫واستمر نزوله‪ ،‬ونزل معه ستة أحرف يف املدينة‪ ،‬فاختري زيد بن ثابت هلذه املهمة‪ ،‬وتلكأ يف أول األمر‪ ،‬وختوف‪ ،‬مث بعد ذلك شرح اهلل صدره‬
‫فجمع القرآن يف عهد أِّب بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬مجع يف صحف ‪-‬من غري ميم‪ ،‬وهذه الصحف غري مرتبة السور‪ ،‬وهل‬ ‫للقيام هبذا العمل‪ُ ،‬‬
‫مجع على حرف واحد‪ ،‬أو مجع على السبعة األحرف؟‬
‫األقرب‪ :‬أهنم مجعوه على حرف قريش ‪-‬على قراءة قريش‪ ،‬مث احتفظ به أبو بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬عنده احتياطًا‪ ،‬مث ملا مات أبو‬
‫بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬صارت هذه الصحف إىل اخلليفة من بعده‪ ،‬وهو عمر‪ ،‬واحتفظ هبا‪ ،‬مث ملا مات عمر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬آلت الصحف‬
‫إىل حفصة بنت عمر؛ ألهنا وصية عمر‪ ،‬مث ملا جاء عثمان وأراد أن جيمع الناس على مصحف واحد طلب هذه الصحف من حفصة‪ ،‬فلم‬
‫تكن عنده؛ ألهنا آلت إليها‪.‬‬
‫فاحلاصل‪ :‬أنه يف عهد أِّب بكر الصديق ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬مجع يف صحف‪ ،‬مث استمر األمر على ذلك‪ ،‬وهو يف هذه الصحف إىل‬
‫خالفة عثمان فجمع املصحف‪ ،‬وجمموع الروايات يف مجع املصحف كما سيأيت عند الكالم على القراءات ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬واألحرف السبعة‪،‬‬
‫جمموع الروايات يدل على أمرين‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬أن الغلمان اختلفوا يف املدينة مع من يُقرئوهنم يف الكتاتيب‪ ،‬اختلفوا عليهم يف القراءة‪ ،‬وتزامن ذلك مع األمر الثاين‬
‫وهو‪ :‬أن األجناد الذين كانوا يف أرمينية وأذربيجان اختلفوا يف القراءة‪ ،‬فهؤالء عبارة عن جيوش جاءت من اليمن‪ ،‬ومن احلجاز‪ ،‬ومن الشام‪،‬‬
‫ومن العراق‪ ،‬ومن أماكن خمتلفة‪ ،‬اجتمعوا‪ ،‬فهؤالء أقرأهم بعض الصحابة كأِّب موسى األشعري‪ ،‬وهؤالء أقرأهم ابن مسعود‪ ،‬وهؤالء أقرأهم‬
‫حذيفة ‪-‬رضي اهلل عنهم أمجعني‪ ،‬وهؤالء أقرأهم معاذ بن جبل‪ ،‬فما الذي كان بعد ذلك؟ القرآن نزل على سبعة أحرف‪ ،‬هؤالء اجلنود كثري‬
‫منهم ليسوا طلبة علم‪ ،‬وال يعرفون هذه القضية‪ ،‬فصار الواحد منهم يسمع قراءة هذا من الشام‪ ،‬وقراءة هذا من العراق‪ ،‬وقراءة هذا من اليمن‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ْفٌر} [املرسالت‪ ،]33 :‬فهذا يقول‪:‬‬ ‫ت ُ‬‫ص ْفٌر} [املرسالت‪ ،]33 :‬وهذا يقرأ‪َ { :‬كأَنَّهُ مجَاالَ ٌ‬ ‫وفيها نوع تغاير‪ ،‬فهذا يقرأ‪َ {:‬كأَنَّهُ مجَالَ ٌ‬
‫ت ُ‬
‫أنت خطأ‪ ،‬وهذا يقول‪ :‬أنت املخطئ‪ ،‬وجتادلوا‪ ،‬فغضب حذيفة بن اليمان ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬وقال‪ :‬تقولون‪ :‬قراءة ابن مسعود‪ ،‬وقراءة أِّب‬
‫موسى األشعري‪ ،‬واهلل ألركنب إىل عثمان ‪-‬من أرمينية‪ ،‬فليجعلنه على قراءة واحدة‪ ،‬فذهب إىل عثمان‪ ،‬وذكر له اخلرب‪.‬‬
‫فتزامنت هذه القضية مع القضية األخرى اليت هي‪ :‬اختالف التالميذ يف املدينة على شيوخهم‪ ،‬هذا يقول‪ :‬تُقرأ هكذا‪ ،‬وهذا يقول‪:‬‬
‫تُقرأ هكذا‪ ،‬والقرآن نزل على سبعة أحرف‪ ،‬كلها صحيحة‪ ،‬لكن جلهل هذا بالوجه اآلخر أنكره؛ لعدم علمه به‪ ،‬فجاء عثمان ‪-‬رضي اهلل‬
‫مجيعا‪ ،‬مث عرض عليهم هذا األمر‪ ،‬فقالوا‪ :‬ماذا ترى؟ قال‪:‬‬ ‫مجيعا‪ ،‬ومنهم على بن أِّب طالب ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬فجمعهم ً‬ ‫عنه‪ -‬ومجع الصحابة ً‬
‫أرى أن جنعلها على قراءة واحدة‪ ،‬والسبب يف ذلك ‪-‬كما سيأيت إن شاء اهلل يف الكالم على القراءات واألحرف‪ :‬أن األحرف الستة نزلت‬
‫بعد ذلك يف املدينة ختفي ًفا؛ ل َّما كثر الداخلون يف اإلسالم من القبائل األخرى‪ ،‬فكانت ختفي ًفا‪ ،‬وكانت رخصة‪ ،‬كما قال ابن جرير الطربي‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ -‬كبري املفسرين‪ ،‬فلما استُغين عن هذه الرخصة‪ ،‬وذلت ألسن الناس بالقرآن‪ ،‬وسببت هذه الرخصة فيما بعد إشكاال عند الناس‬
‫واختالفًا رأى أصحاب النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أن يستغنوا عن باقي األحرف‪ ،‬وهذه األحرف الباقية هي وجوه أخرى يف القراءة‪ ،‬يعين‪:‬‬
‫مل يرتكوا آية من القرآن‪ ،‬ومل يرتكوا كلمة واحدة‪ ،‬إمنا تركوا باقي األوجه اليت يُقرأ فيها القرآن من األحرف الستة األخرى‪ ،‬مث بعد ذلك جعلوه‬
‫على حرف قريش‪ ،‬وكتب عثمان جمموعة من املصاحف‪ ،‬بعضهم يقول‪ :‬مخسة‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬سبعة‪ ،‬وبعضهم يقول غري ذلك‪ ،‬وال يصح‬
‫احدا‪ ،‬وأرسل إىل مكة‬‫يف العدد رواية‪ ،‬فأرسل بعضها إىل العراق‪ ،‬والكوفة‪ ،‬والبصرة‪ ،‬واليمن‪ ،‬وأرسل إىل الشام‪ ،‬ويقال‪ :‬أرسل إىل البحرين و ً‬
‫احدا‪ ،‬ومل يرسل إىل مصر يف ذلك الوقت شيئًا‪.‬‬
‫احدا‪ ،‬وأبقى عنده يف املدينة و ً‬ ‫و ً‬
‫اآلن هذه املصاحف كتبت بطريقة خاصة‪ ،‬هذه الطريقة هي اليت عرفت فيما بعد مبا يسمى‪ :‬بالرسم العثماين‪ ،‬فهذا العلم اآلن‬
‫صار من العلوم اليت تدرس يف بعض اجلامعات‪ ،‬وفيه مؤلفات‪ ،‬وفيه نظم حيفظه الطالب‪ ،‬ويدرسون شرحه‪ ،‬وفيه قواعد‪ ،‬فهو علم من العلوم‬
‫القرآنية‪ ،‬امسه‪ :‬علم الرسم العثماين‪ ،‬كيف تكتب هذه الكلمة؟ كيف تكتب الصالة بالواو مثال؟ فهنا تكتب بصورة معينة‪ ،‬وهنا تكتبها بصورة‬
‫معينة‪ ،‬هذا العلم امسه‪ :‬علم الرسم العثماين‪ ،‬مىت وجد هذا إذن؟‪ ،‬يف زمن اخللفاء الراشدين‪ ،‬وبالتحديد يف زمن عثمان ‪-‬رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫أيضا إن صح ما نقله السيوطي يف كتاب اإلتقان عن ابن أشتة يف كتابه املصاحف‪ ،‬فابن أشتة له كتاب‬ ‫ومما يذكر يف هذا الشأن ً‬
‫أيضا البن أِّب داود السجستاين‪ ،‬فيه الروايات املتعلقة بكتابة‬
‫مسند باألسانيد امسه‪ :‬كتاب املصاحف‪ ،‬وهناك كتاب آخر امسه‪ :‬املصاحف ً‬
‫القرآن‪ ،‬وأشياء تتعلق جبمعه‪ ،‬وأشياء تتعلق ببعض وجوه القراءة‪ ،‬وكتاب ابن أشتة هذا مفقود‪ ،‬مل يصل إلينا‪ ،‬وإمنا نقل منه السيوطي هذه‬
‫الرواية من غري إسناد‪ ،‬وهذه الرواية تقول‪ :‬إن علي بن أِّب طالب ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬كتب يف مصحفه الناسخ واملنسوخ‪ ،‬هذه الرواية يرويها لنا‬
‫عن علي ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬رجل من علماء التابعني‪ ،‬وهو ابن سريين‪ ،‬يقول ابن سريين‪" :‬فطلبت ذلك الكتاب‪ ،‬وكتبت فيه إىل املدينة‪ ،‬فلم‬
‫أقدر عليه"‪.‬‬
‫علي عن بيعته‪،‬‬
‫وقد ساق احلافظ ابن عبد الرب ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف كتابه التمهيد بإسناده إىل ابن سريين أنه قال‪ :‬ملا بويع أبو بكر أبطأ ٌّ‬
‫علي يف بيته‪ ،‬فبعث إليه أبو بكر ما بطّأك عين؟ ملاذا تأخرت عن البيعة؟ أكرهت إمريت؟‪ ،‬ملاذا بايع الناس ومل تبايع؟ وهذا رد على‬ ‫فجلس ٌّ‬
‫الرافضة‪ ،‬فقال علي‪ :‬ما كرهت إمارتك‪ ،‬ولكين آليت ‪-‬مبعىن حلفت‪ ،‬آليت أن ال أرتدي ردائي إال إىل صالة حىت أمجع املصحف‪ ،‬قال ابن‬
‫الكتاب ُلوجد فيه علم كثري"‪ .‬يف هذه الرواية ابن سريين‬
‫ُ‬ ‫ُصيب ذلك‬
‫سريين‪" :‬وبلغين أنه كتبه على تنزيله‪ ،‬يعين‪ :‬كتبه مرتبًا على النزول‪ ،‬ولو أ َ‬
‫يروي لنا قضية بعد وفاة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬هل أدركها ابن سريين؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬فهذا عند علماء احلديث ماذا يسمى؟ يقال له‪:‬‬
‫املرسل‪.‬‬
‫يقول ابن عبد الرب ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬بعدما ساق هذه الرواية معل ًقا‪" :‬أمجع أهل العلم باحلديث أن ابن سريين أصح التابعني مراسيل‪ ،‬وأنه‬
‫كان ال يروي وال يأخذ إال عن ثقة‪ ،‬وأن مراسيله صحاح كلها‪ ،‬ليس كاحلسن وعطاء يف ذلك‪ ،‬واهلل أعلم"‪ .‬هذا الكالم من ابن عبد الرب‬
‫ماذا يعين؟ يدل على ماذا؟ يدل على أنه يصحح هذه الرواية املرسلة عن ابن سريين ‪-‬رمحه اهلل‪ .‬إذن‪ :‬هذا الذي حدث يف فرتة اخللفاء‬
‫الراشدين‪.‬‬
‫الدرس اخلامس من الوحدة األوىل‪ :‬علوم القرآن يف نهاية القرن األول اهلجري‬ ‫الدرس‬
‫اخلامس‬
‫والمرحلة الثالثة‪ :‬وهي ما بعد الخلفاء الراشدين إلى نهاية القرن األول الهجري‪ ،‬فمما يذكر يف ذلك‪ :‬أن ز ً‬
‫يادا ‪-‬وهو األمري‬
‫املعروف الذي يقال له‪ :‬زياد بن أبيه‪ ،‬واستلحقه أبو سفيان فقيل له‪ :‬زياد بن أِّب سفيان‪ -‬أمر أبا األسود الدؤيل فوضع قواعد الشكل على‬ ‫من‬
‫املصاحف‪.‬‬ ‫الوحدة‬
‫يادا هو الذي أمر أبا األسود الدؤيل يف ذلك‪ ،‬خالفًا ملا هو متعارف عليه عند النحاة‪ :‬أن علي بن أِّب طالب‬ ‫األوىل‪:‬‬
‫وهذا هو املشهور‪ :‬أن ز ً‬
‫‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أمر أبا األسود الدؤيل بوضع قواعد النحو صيانة للنطق‪ ،‬وضبطًا للقلم‪ ،‬فلو قلنا هبذا ‪-‬أي أن عليًّا ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬هو‬ ‫علوم‬
‫الذي أمر أبا األسود الدؤيل بوضع قواعد النحو‪ -‬فيكون هذا ضمن اإلجنازات يف زمن اخللفاء الراشدين فيما يتعلق بعلوم القرآن؛ ألن هذا‬ ‫القرآن يف‬
‫يتصل بأي علم من علوم القرآن؟‪ ،‬يتصل بإعراب القرآن‪ ،‬فمن علوم القرآن علم إعراب القرآن‪ ،‬هذا لو صح‪ ،‬لكنه ال يصح وإن اشتهر عند‬ ‫هناية‬
‫النحاة؛ ألن هذه القصة جاءت بإسناد ال يثبت‪ ،‬يعين‪ :‬أن علي بن أِّب طالب ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬هو الذي أمر أبا األسود الدؤيل بوضع قواعد‬ ‫القرن‬
‫عرضا أذكرها‪ -‬حينما يقولون‪ :‬ملاذا مسي علم النحو بالنحو؟ يذكرون هلذا عدة تعليالت‪ ،‬منها‪ :‬يقولون‪:‬‬ ‫األول‬
‫النحو‪ ،‬حىت إن النحاة ‪-‬وهذه فائدة ً‬
‫إن عليًّا ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قال ألِّب األسود الدؤيل‪ :‬الكالم‪ :‬اسم وفعل وحرف جاء ملعىن‪ ،‬مث ذكر له بعض التفصيالت القليلة‪ ،‬مث قال له‪:‬‬ ‫اهلجري‬
‫انح حنو هذا‪ ،‬يعين‪ :‬انسج على هذا املنوال حىت تأيت على أجزاء هذا العلم وفروعه‪ ،‬فيقولون‪ :‬هلذا مسي علم النحو هبذا االسم‪ ،‬لكن هذه‬
‫و ُ‬
‫القصة ال تصح من جهة اإلسناد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬قضية وضع ضوابط التشكيل على املصحف كانت بعد زمن اخللفاء الراشدين‪ ،‬وهكذا كانت املصاحف اليت كتبها عثمان‬
‫أيضا من غري ن ْقط‪ ،‬فمن الذي وضع هلا‬ ‫من غري نَ ْقط‪ ،‬وكانت من غري تشكيل‪ ،‬ما كان فيها ال ضمة‪ ،‬وال فتحة‪ ،‬وال كسرة‪ ،‬وال سكون‪ ،‬و ً‬
‫الشكل؟ يف بعض الروايات‪ :‬أن الذي وضعه أبو األسود الدؤيل بأمر زياد‪ ،‬ويف بعضها‪ :‬أن الذي وضعه غري أِّب األسود الدؤيل‪.‬‬
‫قطعا بعد زمن اخللفاء الراشدين‪ ،‬فبعضهم كما يقول الداين يف كتابه‬
‫وكذلك النَّ ْقط اختلفوا فيه‪ ،‬من الذي نقطها؟ لكنها نُقطت ً‬
‫نَ ْقط املصاحف‪ ،‬يقول‪" :‬الذي نقطها هو أبو األسود الدؤيل"‪ .‬وبعضهم يقول‪ :‬هو‪ :‬نصر بن عاصم الليثي‪ ،‬املتوىف سنة ‪ 89‬ه‪ ،‬وإن نصر‬
‫وعشرها‪ ،‬ما معىن مخّسها؟ يعين‪ :‬مثل األجزاء اآلن‪ ،‬جزء ونصف جزء‪ ،‬حزب وربع حزب‪ ،‬فأسباع القرآن‬ ‫بن عاصم الليثي هو الذي مخّسها ّ‬
‫وعشرها يعين‪ :‬تقسيمه إىل عشرة أجزاء‪ْ ،‬بيث يُقرأ كامال يف كل عشرة أيام‪.‬‬
‫وأمخاس القرآن‪ ،‬يعين‪ :‬تقسيم القرآن إىل مخسة أجزاء‪ ،‬مخّسها‪ّ ،‬‬
‫إذن‪ :‬يف بعض الروايات أن نصر بن عاصم الليثي املتوىف سنة ‪ 89‬ه هو الذي نقط املصاحف‪ ،‬هو أول من نقطها‪ ،‬وأنه هو الذي‬
‫وعشرها‪ .‬وجاء يف بعض الروايات أن ابن سريين كان عنده مصحف نقطه حيىي بن يعمر املتوىف سنة ‪ 89‬ه ‪ ،‬وقيل‪129 :‬ه ‪ .‬وجاء‬ ‫مخّسها ّ‬
‫أيضا‪ :‬أن حيىي هو أول من نقطها‪.‬‬
‫وأكثر العلماء على أن املبتدئ بذلك هو أبو األسود الدؤيل‪ ،‬الذي جعل احلركات والتنوين فقط‪ ،‬مث جاء بعده اخلليل بن أمحد‬
‫الفراهيدي‪ ،‬فحسن هذه احلركات‪ ،‬وأدخل عليها أشياء‪ ،‬مثل‪ :‬اهلمز‪ ،‬والتشديد‪ ،‬والروم‪ ،‬واإلمشام‪ .‬وبعض العلماء يقولون‪ :‬إن احلجاج بن‬
‫يوسف الثقفي هو أول من أمر بنقط املصاحف‪ ،‬وبتجزئتها‪.‬‬
‫واحلجاج كانت له جهود معروفة؛ لشدة عنايته بالقرآن‪ ،‬فهو من أكثر األمراء عناية بالقرآن‪ ،‬حىت إنه جاء ببعض أئمة التابعني‪،‬‬
‫شعريا‪ ،‬وأمرهم أن يعدوا حروف القرآن حرفًا حرفًا‪ ،‬فيقف عند النصف‪ ،‬والربع‪ ،‬والثلث‪ ،‬إىل أي حرف ينتهي‪،‬‬ ‫كاحلسن البصري‪ ،‬وأعطاهم ً‬
‫ويعدون الكلمات إىل أي حد تنتهي هذه الكلمة‪ ،‬فهذا كان من زمن احلجاج‪ ،‬يعين‪ :‬يف القرن األول اهلجري عرفوا حروف القرآن‪ ،‬وعدد‬
‫حروف القرآن‪ ،‬ومن نظر يف الكتب املدونة كفنون األفنان البن اجلوزي فسيجد أهنم يذكرون عدد كل حرف كم تكرر من مرة يف كتاب اهلل‬
‫‪-‬عز وجل‪ ،‬امليم كم تكرر‪ ،‬والدال‪ ،‬والسني‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬فوصلوا إىل هذا احلد‪ ،‬ويظن بعض الناس اليوم أن هذه العناية بالعدد ما ُوجدت‬
‫إال هذه األيام‪ ،‬وجاءوا لنا مبا يسمى باإلعجاز العددي‪ ،‬هاهم عدوا من القرن األول هذه احلروف هبذه الدقة‪.‬‬
‫أيضا يف تلك الفرتة ‪-‬ما بعد عهد اخللفاء الراشدين‪ :‬أن حيىي بن يعمر املتوىف سنة ‪ 89‬ه ‪،‬‬
‫فأقول أيها اإلخوان‪ :‬من اجلهود املبذولة ً‬
‫كتب أيضا كتابًا يف القراءة‪ ،‬مجع فيه اختالفات املصاحف املشهورة‪ ،‬الحظ‪ :‬هذا متوىف سنة كم؟ سنة ‪ 89‬ه ‪ ،‬وإذا نظرت إىل الكتب املؤلفة‬
‫يف تاريخ القرآن فإن عامة هذه الكتب ‪-‬إن مل يكن مجيع هذه الكتب‪ -‬إذا ذكروا أول جهد مبذول يف ذلك ذكروا سفيان بن عيينة‪ ،‬وشعبة‬
‫بن احلجاج‪ ،‬وأمثال هؤالء ممن تأخروا عن هذا الوقت زمنًا طويال‪ ،‬فهذا حيىي بن يعمر املتوىف سنة ‪ 89‬ه كتب كتابًا يف القراءة مجع فيه‬
‫اختالفات املصاحف املشهورة‪ ،‬يعىن‪ :‬وجوه القراءة اليت فيها‪.‬‬
‫تفسريا للقرآن لعبد امللك بن مروان‪ ،‬وعبد‬
‫ً‬ ‫أيضا‪ :‬أن سعيد بن جبري ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬الذي قتله احلجاج سنة ‪ 94‬ه ‪ ،‬أنه كتب‬‫وذُكر ً‬
‫امللك بن مروان تويف سنة ‪ 86‬ه ‪ ،‬ومعىن هذا‪ :‬أن هذا التفسري كتب يف وقت مبكر‪ ،‬يعين‪ :‬قبل سنة ‪ 86‬ه ‪ ،‬فعبد امللك بن مروان طلب من‬
‫تفسريا‪ ،‬وبقي حمفوظًا عند عبد امللك بن مروان‪.‬‬
‫تفسريا‪ ،‬فكتب له ً‬
‫سعيد بن جبري أن يكتب له ً‬
‫وقد جاء يف ترمجة عطاء بن دينار‪ :‬قال أمحد بن صاحل‪" :‬وتفسريه ‪-‬يعين‪ :‬عطاء بن دينار الذي يرويه عن سعيد بن جبري‪ -‬فيما يروي‬
‫عن سعيد بن جبري صحيفة"‪ ،‬من أين جاءت هذه الصحيفة؟‪ ،‬هي اليت كتبها سعيد لعبد امللك بن مروان‪.‬‬
‫وقال ابن أِّب حامت‪" :‬سئل أِّب ‪-‬يعين‪ :‬أبا حامت‪ -‬عن عطاء بن دينار‪ ،‬فقال‪ :‬هو‪ :‬صاحل احلديث‪ ،‬إال أن التفسري أخذه من الديوان‪،‬‬
‫فإن عبد امل لك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبري أن يكتب إليه بتفسري القرآن‪ ،‬فكتب سعيد بن جبري هبذا التفسري إليه‪ ،‬فوجده عطاء‬
‫بن دينار يف الديوان‪ ،‬فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبري"‪ ،‬يعين‪ :‬يرويه صحيفة‪ ،‬ال يرويه مشافهة‪ ،‬فهذا هو القرن األول اهلجري‪.‬‬
‫الدرس السادس من الوحدة األوىل‪ :‬علوم القرآن يف القرن الثاني اهلجري‬ ‫الدرس‬
‫بعد ذلك جاء القرن الثاني الهجري‪ ،‬ووجدت فيه أشياء وكتابات‪ ،‬وبعض هذه الكتابات يف الواقع كانت يف القرن األول اهلجري‪،‬‬ ‫السادس‬
‫لكين صنفتها ضمن القرن الثاين بناء على تاريخ الوفاة فقط‪ ،‬تاريخ وفاة املؤلف‪ ،‬فمثال‪ :‬جماهد بن جرب تويف سنة ‪ 104‬ه ‪ ،‬فإذا نظرنا يف‬ ‫من‬
‫الوحدة الكتب اليت تذكر فهارس املصنفات جند أن جماهد بن جرب كان له تفسري‪ ،‬وكذلك أيضا الضحاك بن مزاحم املتوىف سنة ‪ 105‬ه ‪ ،‬كان له‬
‫األوىل‪ :‬تفسري‪ ،‬وكذلك أيضا عكرمة موىل ابن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ -‬املتوىف سنة ‪ 107‬ه ‪ ،‬لكن مىت مجعوا هذه الصحف يف التفسري؟‬
‫أيضا‬
‫لرمبا يكون قبل ذلك مبدة‪ ،‬يعين‪ :‬يف القرن األول اهلجري‪ ،‬وكذلك حممد بن كعب القرظي املتوىف سنة ‪ 108‬ه ‪ ،‬كانت له ً‬ ‫علوم‬
‫أيضا احلسن البصري املتوىف سنة ‪ 110‬ه ‪ ،‬كان له جزء يف عد اآلي‪ ،‬عدد آيات القرآن‪ ،‬وله أيضا جزء يف نزول‬ ‫القرآن يف صحيفة يف التفسري‪ ،‬وهكذا ً‬
‫أيضا تفسري‪ ،‬وهكذا أيضا قتادة السدوسي املتوىف سنة ‪ 117‬ه ‪ ،‬وقيل‪ 118 :‬ه ‪،‬‬ ‫القرآن‪ ،‬وهكذا عطاء بن أِّب رباح املتوىف سنة ‪ 114‬ه ‪ ،‬له ً‬ ‫القرن‬
‫كان له عواشر القرآن‪ ،‬والناسخ واملنسوخ‪ ،‬وهكذا عبد اهلل بن عامر اليحصيب املتوىف سنة ‪ 118‬ه ‪ ،‬له اختالفات مصاحف الشام واحلجاز‬ ‫الثاين‬
‫أيضا جزء آخر امسه‪ :‬املقطوع واملوصول‪ ،‬وغري هؤالء كثري‪ ،‬كشعبة بن احلجاج بعد ذلك‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬ووكيع بن اجلراح‪،‬‬ ‫اهلجري والعراق‪ ،‬وله ً‬
‫وابن جريج‪ ،‬وابن وهب‪.‬‬
‫وكان الغالب يف التأليف يف تلك املرحلة‪ :‬الرواية‪ ،‬سرد الروايات‪ ،‬ولرمبا دخل مع التفسري أشياء أخرى من احلديث؛ ألهنم كانوا لرمبا‬
‫مجعوا صح ًفا يف احلديث‪ ،‬منها ما يكون من قبيل التفسري للقرآن‪ ،‬ومنها ما يكون يف غري ذلك من املوضوعات‪.‬‬
‫بعد ذلك جاء القرن الثالث الهجري‪ ،‬فكثر التأليف جدًّا‪ ،‬وأذكر على سبيل املثال فقط كتاب الناسخ واملنسوخ لعبد الوهاب‬
‫اخلفاف املتوىف سنة ‪ 204‬ه ‪ ،‬وكتاب الناسخ واملنسوخ حلجاج األعور املتوىف سنة ‪ 206‬ه ‪ ،‬فكما تالحظون قرب وفاة هؤالء من القرن الثاين‬
‫اهلجري‪ ،‬فغالبا أن هذه املؤلفات كتبت يف القرن الثاين اهلجري‪ ،‬وكتاب إعراب القرآن لعبد امللك بن حبيب القرطيب املتوىف سنة ‪ 238‬ه ‪،‬‬
‫وكتاب إعراب القرآن ألِّب حامت سهل بن حممد السجستاين املتوىف سنة ‪ 248‬ه ‪ ،‬وكتاب إعراب القرآن ألِّب العباس املربد املتوىف سنة ‪286‬‬
‫ه ‪ ،‬وكتاب إعراب القرآن ألِّب العباس ثعلب املتوىف سنة ‪ 291‬ه ‪ ،‬وغري هؤالء كثري‪ ،‬كعبد الرزاق الصنعاين املتوىف سنة ‪ 211‬ه ‪ ،‬وتفسريه‬
‫موجود مطبوع‪ ،‬وأيضا أبو عبيد القاسم بن سالم املتوىف سنة ‪ 224‬ه ‪ ،‬له كتاب يف القراءات‪ ،‬وله كتاب يف الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وله كتاب يف‬
‫فضائل القرآن مطبوع‪ ،‬وهو من أجل كتب فضائل القرآن‪ ،‬وفيه أكثر من تسعمائة رواية وأثر باإلسناد‪ ،‬وكذلك ابن املديين املتوىف سنة ‪234‬‬
‫ه ‪ ،‬ألف أسباب النزول‪ ،‬وابن قتيبة املتوىف‪ :‬سنة ‪ 276‬ه ‪ ،‬ألف مشكل القرآن‪ ،‬وغريه‪ ،‬فهؤالء العلماء ألفوا يف تلك الفرتة‪ ،‬يف القرن الثالث‬
‫اهلجري‪ ،‬وما ذكرته إمنا هو جمرد أمثلة‪.‬‬
‫بعد ذلك جاء القرن الرابع الهجري‪ ،‬وفيه كثر التأليف عما هو عليه يف القرون قبله‪ ،‬ويف هذا القرن أكتفي بذكر بعض الكتب‬
‫اليت انتقيتها لسبب وهو أن بعض العلماء‪ ،‬أو بعض من كتب يقولون‪ :‬إهنا كتب أُلفت يف علوم القرآن خاصة‪ ،‬فأذكرها بدال من أن أذكر‬
‫كتبًا يف الناسخ واملنسوخ والتفسري وما إىل ذلك‪.‬‬
‫فمن هذه الكتب‪ :‬كتاب امسه‪ :‬احلاوي يف علوم القرآن حملمد بن خلف بن املرزبان املتوىف سنة ‪ 309‬ه ‪ ،‬هذا الكتاب كتب يف القرن‬
‫َ‬
‫الرابع اهلجري‪ ،‬فالعنوان كما ترون‪ :‬احلاوي يف علوم القرآن‪ ،‬فهل هذا الكتاب يف علوم القرآن؟‪ ،‬اجلواب‪ :‬أن هذا الكتاب ليس يف علوم‬
‫القرآن‪ ،‬هذا الكتاب يقع يف سبعة وعشرين جزءًا‪ ،‬وهو مفقود‪ ،‬وهذا الكتاب الذي يقع يف سبعة وعشرين جزءًا هو من كتب التفسري بال‬
‫شك‪ ،‬وإن كان امسه‪ :‬احلاوي يف علوم القرآن‪.‬‬
‫ومما أُلف في هذا القرن ‪-‬القرن الرابع الهجري‪ -‬كتاب االستغناء يف علوم القرآن حملمد بن علي األذفوي املتوىف سنة ‪ 388‬ه ‪،‬‬
‫فأنتم حينما تقرءون أول كتاب أُلف يف هذا الفن فستجدون أن بعضهم يذكر هذا‪ ،‬وبعضهم يذكر هذا‪ ،‬وبعضهم يذكر كتبًا أخرى سأذكرها‪،‬‬
‫والواقع‪ :‬أهنا ليست يف علوم القرآن‪ ،‬فهذا الكتاب قال عنه الداودي يف كتابه‪ :‬طبقات املفسرين‪" :‬وله كتاب يف تفسري القرآن‪ ،‬مساه‪ :‬االستغناء‪،‬‬
‫جملدا‪ ،‬صنفه يف اثنيت عشرة سنة "‪ ،‬وبعضهم يذكر عنوانه‪ :‬االستغناء يف علوم القرآن‪ ،‬فهذا الكتاب الذي يقع يف مائة‬ ‫يف مائة وعشرين ً‬
‫جملدا‪ ،‬وألفه يف اث نيت عشرة سنة هل هو يف علوم القرآن؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬إمنا هو كتاب من كتب التفسري‪ ،‬ولكن ما امسه؟ امسه‪:‬‬ ‫وعشرين ً‬
‫االستغناء يف علوم القرآن‪ ،‬وهذا الكتاب موجود‪ ،‬وقد حقق أحد الباحثني سورة الفاحتة منه‪ ،‬مع دراسة للكتاب‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا‪ :‬كتاب تفسري القرآن ألِّب احلسن األشعري املتوىف سنة ‪ 324‬ه ‪ ،‬وهذا الكتاب ذكرته لسبب‪ ،‬وهو أن بعض العلماء‬
‫قالوا‪ :‬إن هذا الكتاب هو كتاب املختزن يف علوم القرآن ألِّب احلسن األشعري‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬فهذا الكتاب الذي امسه‪ :‬تفسري القرآن قال‬
‫عنه املؤلف يف تبيني كذب املفرتي فيما نقله ابن عساكر‪ ،‬قال عنه‪" :‬وألفنا كتاب تفسري القرآن‪ ،‬رددنا فيه على اجلُبائي والبلخي ما حرفا من‬
‫تأويله"‪ ،‬فهذا تفسري القرآن‪.‬‬
‫أيضا له كتاب آخر‪ ،‬امسه‪ :‬املختزن يف علوم القرآن‪ ،‬ومها كتابان يف الواقع‪ ،‬وليس كما ظن بعض املؤلفني‬ ‫وأبو احلسن األشعري ً‬
‫أهنما كتاب واحد‪ ،‬فكتاب املختزن يف موضوع آخر‪ ،‬يقول عنه مؤلفه‪" :‬وألفنا كتابًا يف ضروب من الكالم‪ ،‬مسيناه‪ :‬املختزن‪ ،‬ذكرنا فيه مسائل‬
‫للمخالفني مل يسألونا عنها‪ ،‬وال سطروها يف كتبهم‪ ،‬ومل يتجهوا للسؤال‪ ،‬وأجبنا عنها مبا وفقنا اهلل تعاىل له"‪ ،‬وهذا الكتاب مساه الداودي يف‬
‫كتابه‪ :‬طبقات املفسرين‪ :‬املختزن يف علوم القرآن‪ ،‬وقال عنه الداودي‪" :‬كتاب عظيم جدًّا‪ ،‬بلغ فيه سورة الكهف‪ ،‬وقد انتهى مائة جزء‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬إنه أكرب من هذا"‪ ،‬فإذن هذا الكتاب ليس يف علوم القرآن‪.‬‬
‫وتاج هذه الكتب يف القرن الرابع اهلجري‪ ،‬ويف كل قرن مما كتب فيه يف التفسري هو‪ :‬تفسري كبري املفسرين‪ ،‬جامع البيان يف تفسري‬
‫نفعا‪ ،‬واألمر كما قيل‪ :‬الصيد يف جوف‬ ‫أجل هذه الكتب‪ ،‬وأعظمها‪ ،‬وأكثرها ً‬ ‫القرآن حملمد بن جرير الطربي‪ ،‬املتوىف سنة ‪ 310‬ه ‪ ،‬فهو ّ‬
‫الفراء‪.‬‬
‫مث بعد ذلك كثر التأليف‪ ،‬وتتبُّع ذلك قرنًا قرنًا أمر يصعب‪ ،‬ولرمبا يطول؛ لذلك سأذكر الكتب المؤلفة في علوم القرآن فقط‬
‫مما يكون حقيقة في هذا الفن‪ ،‬وليس مجرد عنوان مع مخالفة في المضمون‪ ،‬فمن الكتب المؤلفة في علوم القرآن‪:‬‬
‫• كتاب صنفه ابن اجلوزي‪ ،‬وهو مطبوع متداول‪ ،‬طبع عدة طبعات‪ ،‬امسه‪ :‬فنون األفنان في عيون علوم القرآن‪ ،‬وابن اجلوزي تويف‬
‫سنة ‪ 597‬ه ‪ ،‬يعين‪ :‬يف القرن السادس اهلجري‪ ،‬وله كتاب آخر امسه‪ :‬المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن‪.‬‬
‫• مث جاء بعد ذلك السخاوي علم الدين املتويف سنة ‪ 643‬ه ‪ ،‬فألف يف عدة موضوعات‪ ،‬فألف يف الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وقضايا متعددة‪،‬‬
‫مث ضم بعضها إىل بعض يف كتاب واحد‪ ،‬مساه‪ :‬جمال ال ُق َّراء وكمال اإلقراء‪ ،‬وهذا الكتاب مطبوع متداول‪.‬‬
‫• مث جاء بعده أبو شامة املتوىف سنة ‪ 665‬ه ‪ ،‬فصنف كتابًا مساه‪ :‬المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالكتاب العزيز‪ ،‬واقتصر فيه على‬
‫بعض املوضوعات األساسية‪ ،‬كجمع القرآن‪ ،‬وما يتعلق باألحرف‪ ،‬وما يتعلق بالقراءات‪ ،‬وهذه أدق املوضوعات‪ ،‬وأخطر املوضوعات‪،‬‬
‫فاقتصر على هذه األشياء الضرورية‪ ،‬وترك الباقي‪ ،‬ولو أنه ألف يف باقي املوضوعات على هذا املنوال لكان هذا الكتاب ال جيارى وال‬
‫يبارى يف التحقيق واإلتقان والضبط وتنقيح املعلومات‪ ،‬لكنه اقتصر على هذه املوضوعات األساسية الدقيقة اليت يشغب عليها الزنادقة‬
‫كثريا قدميًا وحديثًا‪ ،‬فاقتصر يف التأليف عليها‪ ،‬وليته كتب يف الباقي‪ ،‬وأظن أنه لو كتب يف باقي املوضوعات لكان كتابه مغنيًا عن‬
‫ً‬
‫كثري من الكتب‪ ،‬وكان غاية يف التحقيق ‪-‬واهلل تعاىل أعلم‪ ،‬وهذا الكتاب مع جاللة قدره‪ ،‬وعظم ما فيه من التحقيق والتحرير‪ ،‬إال‬
‫أنه غري مشهور‪ ،‬وكان قبل مدة ليست بالبعيدة ال وجود له يف األسواق‪ ،‬مع أنه طبع قدميًا‪ ،‬وأما اآلن فهو مطبوع ومتوفر‪.‬‬
‫• بعد ذلك جاء الطويف املتوىف سنة ‪ 716‬ه ‪ ،‬فألّف كتابًا مساه‪ :‬اإلكسير في علوم التفسير‪ ،‬وهو مطبوع‪ ،‬وهذا الكتاب غلّب فيه‬
‫اجلوانب اللغوية والبالغية‪.‬‬
‫• مث جاء بعد ذلك الزركشي املتوىف سنة ‪ 794‬ه ‪ ،‬فألف كتابًا ً‬
‫جامعا‪ ،‬وهو من أمجع الكتب املؤلفة يف هذا الفن إىل يومنا هذا‪ ،‬وهو‬
‫من العمد‪ ،‬ومن خزائن هذا العلم‪ ،‬كتاب‪ :‬البرهان في علوم القرآن‪ ،‬وهو مطبوع متداول‪.‬‬
‫• مث جاء بعد ذلك جالل الدين البلقيين املتوىف سنة ‪ 824‬ه ‪ ،‬فألّف كتابًا مساه‪ :‬مواقع العلوم من مواقع النجوم‪ ،‬قال عنه السيوطي‪:‬‬
‫وجمموعا ظري ًفا‪ ،‬ذا ترتيب وتقرير‪ ،‬وتنويع وحتبري"‪.‬‬
‫ً‬ ‫"فرأيته تألي ًفا لطي ًفا‪،‬‬
‫أيضا ‪-‬وهو القرن التاسع اهلجري‪ -‬جاء حممد بن سليمان الكافِيَجي‪ ،‬قيل له‪ :‬الكافِيَجي؛ لكثرة اشتغاله بالكافية يف‬
‫• ويف هذا القرن ً‬
‫النحو‪ ،‬فقيل له ذلك‪ ،‬وهو متوىف سنة ‪ 873‬ه ‪ ،‬فألّف كتابًا يف هذا‪ ،‬قال عنه السيوطي‪" :‬فإذا هو صغري احلجم جدًّا‪ ،‬وحاصل ما‬
‫خمتصرا ما وصل إلينا‪.‬‬ ‫ا‬‫كتاب‬ ‫ألف‬ ‫جي‬ ‫ي‬‫يشف يل ذلك غليال‪ ،‬ومل يهدين إىل املقصود سبيال"‪ ،‬يعين‪ :‬الكافِ‬
‫فيه بابان‪ ،..‬إىل أن قال‪ :‬فلم ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫• بعد ذلك جاء السيوطي مبوسوعته املشهورة‪ ،‬وهو كتابه اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬والسيوطي تويف سنة ‪ 911‬ه ‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬وصلى‬
‫اهلل على نبينا حممد‪ ،‬وآله‪ ،‬وصحبه‪.‬‬
‫الدرس السابع من الوحدة األوىل‪ :‬أهم املؤلفات يف علوم القرآن‬ ‫الدرس‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله‪ ،‬وصحبه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬ ‫السابع‬
‫فكنا نستعرض ساب ًقا بعض املؤلفات يف علوم القرآن‪ ،‬وتوقفنا عند القرن العاشر للهجرة‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن السيوطي ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬املتوىف‬ ‫من‬
‫سنة ‪ 911‬ه ‪ ،‬ألّف كتابني مشهورين يف هذا الفن‪ ،‬الكتاب األول هو كتاب‪ :‬التحبير في علوم التفسير‪ ،‬وهذا الكتاب طبع يف جملد‪،‬‬ ‫الوحدة‬
‫وحيتوي على اثنني ومائة من األنواع‪ ،‬وأما الكتاب الثاين وهو أوسع منه بكثري فهو كتابه‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬وهذا الكتاب حسب‬ ‫األوىل‪:‬‬
‫ما أعرفه وحسب ما بلغنا من املؤلفات يف هذا الفن يعد أوسع املؤلفات‪ ،‬وهو‪ :‬خزانة هذا العلم حقيقة‪ ،‬وجتد فيه ما تفرق عن غريه‪ ،‬وأستطيع‬ ‫أهم‬
‫أن أقول‪ :‬إن املؤلفات يف هذا الفن أمهها وأجلها وأعظمها كتابان‪:‬‬ ‫املؤلفات‬
‫يف علوم‬
‫• الكتاب األول‪ :‬هو كتاب‪ :‬البرهان للزركشي‪ ،‬الذي سبق ذكره‪ ،‬وحيتوي على سبعة وأربعني ً‬
‫نوعا‪.‬‬
‫القرآن‬
‫• والكتاب الثاين‪ :‬هو كتاب‪ :‬اإلتقان للسيوطي‪ ،‬وحيتوى على مثانني ً‬
‫نوعا‪.‬‬
‫وأما ما ذكره السيوطي يف كتابه‪ :‬التحبري من األنواع اليت زادت على املائة فإمنا ذلك يرجع إىل أنه مولع بالتشقيق‪ ،‬فهو يشقق‬
‫املوضوعات‪ ،‬فيجعل املوضوع الواحد موضوعات شىت‪ ،‬وهذا أمر فين ال يؤثر يف مضمون الكتاب‪ ،‬فكثرة هذه املوضوعات اليت ذكرها ْبسب‬
‫العناوين ال تدل على أن كتاب التحبري أوسع من كتاب اإلتقان‪ ،‬بل إن كتاب اإلتقان أوسع وأعظم وأنفع وأجل‪ ،‬وال مقارنة بينه وبني كتاب‬
‫التحبري‪.‬‬
‫وحقيقة األمر‪ :‬أن السيوطي ‪-‬رمحه اهلل‪ ،-‬مع أنه ذكر يف مقدمة الكتاب مجلة من الكتب اليت وقف عليها‪ ،‬وذكر أهنا صغرية‪ ،‬وأهنا‬
‫ال تفي‪ ،‬مل يذكر معها كتاب الربهان‪ ،‬مث ذكر بعد ذلك أنه وقف عليه بعدما فرغ من تأليف كتابه اإلتقان‪ ،‬فنحن نقول بأنه ‪-‬رمحه اهلل‪-‬‬
‫بعدما فرغ من كتابه اإلتقان‪ ،‬ووجد كتاب الربهان‪ ،‬أعاد الكرة ثانية‪ ،‬فأخذ كتاب الربهان وضمنه يف كتابه اإلتقان‪ ،‬فكتاب الربهان يف علوم‬
‫احدا فعليه بكتاب اإلتقان‪ ،‬وليس ْباجة إن كان‬ ‫مرجعا موسوعيًّا و ً‬
‫حيصل ً‬ ‫القرآن للزركشي هو يف الواقع يف بطن كتاب اإلتقان‪ ،‬ومن أراد أن ِّ‬
‫من غري أهل االختصاص إىل كتاب الربهان؛ ألنه يف الواقع مضمن يف كتاب اإلتقان‪ ،‬فالسيوطي مجع ما يف الربهان وزاد عليه‪.‬‬
‫نوعا ميكن أن ختتزل يف نصف هذا العدد تقريبًا‪ ،‬كما فعل الزركشي ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬حيث‬ ‫وهذه املوضوعات الكثرية اليت بلغ هبا مثانني ً‬
‫نوعا‪ ،‬وإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فهو مثال‪ :‬يذكر يف النوع األول‪ :‬معرفة املكي واملدين‪ ،‬ويف الثاين‪ :‬معرفة‬ ‫جعل كتابه يف سبعة وأربعني ً‬
‫احلضري والسفري‪ ،‬ويف الثالث‪ :‬النهاري والليلي‪ ،‬ويف الرابع‪ :‬الصيفي والشتائي‪ ،‬واخلامس‪ :‬الفراشي والنومي‪ ،‬والسادس‪ :‬األرضي والسمائي‪،‬‬
‫والسابع‪ :‬معرفة أول ما نزل‪ ،‬والثامن‪ :‬معرفة آخر ما نزل‪ ،‬مع أن هذه املوضوعات كما ترون ميكن أن يُدمج بعضها يف بعض حتت عنوان‬
‫متقارب‪ ،‬فيمكن أن نقول‪ :‬معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل يف نوع واحد‪ ،‬فهو جيعل أول ما نزل يف نوع‪ ،‬وآخر ما نزل يف نوع آخر‪ ،‬وهكذا‬
‫يقول‪ :‬النوع التاسع‪ :‬معرفة سبب النزول‪ ،‬العاشر‪ :‬فيما أنزل من القرآن على لسان بعض الصحابة‪ ،‬النوع احلادي عشر‪ :‬ما تكرر نزوله‪ ،‬النوع‬
‫مجعا‪ ،‬الرابع عشر‪ :‬ما نزل‬
‫الثاين عشر‪ :‬ما تأخر حكمه عن نزوله‪ ،‬وما تأخر نزوله عن حكمه‪ ،‬النوع الثالث عشر‪ :‬ما نزل مفرقًا‪ ،‬وما نزل ً‬
‫مفردا‪ ،‬اخلامس عشر‪ :‬ما أنزل منه على بعض األنبياء‪ ،‬وما مل ينزل منه على أحد قبل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬السادس‬ ‫مشيعا‪ ،‬وما نزل ً‬‫ً‬
‫عشر‪ :‬يف كيفية إنزاله‪ ،‬السابع عشر‪ :‬يف معرفة أمسائه‪ ،‬وأمساء سوره‪ ،‬وأنا أذكر هذه لفائدة؛ لتتصور كثرة املوضوعات اليت تعاجل يف هذا الفن‪،‬‬
‫خاصا‪.‬‬
‫وأنا أذكر أغلبها فيما أذكره يف هذه اجملالس‪ ،‬وإن مل أجعل هلا عنوانًا ًّ‬
‫احلاصل‪ :‬أنه ذكر على هذه الطريقة‪ ،‬إىل أن قال مثال‪ :‬النوع الثاين والثالث والرابع واخلامس والسادس والسابع والعشرون‪ :‬معرفة‬
‫مجيعا‬
‫قائما بذاته‪ ،‬مع أن هذه ً‬‫نوعا مستقال ً‬‫املتواتر‪ ،‬واملشهور‪ ،‬واآلحاد‪ ،‬والشاذ‪ ،‬واملوضوع‪ ،‬واملدرج‪ ،‬فجعل كل نوع من هذه األنواع‪ ،‬جعله ً‬
‫مرجعا هلذا العلم‪ ،‬ومجع فيه السيوطي ما هب‬
‫ميكن أن جتعل حتت نوع واحد‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فهذا كتاب اإلتقان للسيوطي‪ ،‬وهذا الكتاب يصلح ً‬
‫ودب ودرج‪ ،‬فجمع فيه بني الغث والسمني‪ ،‬ففيه أمور قيمة نافعة مفيدة‪ ،‬وفيه أمور ال تصلح من العقائد الفاسدة‪ ،‬ومن األقوال الساقطة‪،‬‬
‫وفيه من الروايات الشيء الكثري‪ ،‬من الروايات الصحيحة‪ ،‬والروايات الضعيفة‪ ،‬بل والروايات املوضوعة‪ ،‬بل فيه بعض األخبار اإلسرائيلية‪،‬‬
‫فهذا الكتاب هو كتاب موسوعي‪ ،‬جيمع الغث والسمني‪ ،‬مل ينقحه‪ ،‬والكتاب ْباجة إىل هتذيب‪ ،‬وقد اختصره بعض طلبة العلم‪ ،‬ولكن هذا‬
‫االختصار ال حيصل به املقصود يف ظين‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫وجاء بعد السيوطي ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬مشس الدين احلنفي‪ ،‬املعروف بابن عقيلة‪ ،‬املتوىف سنة ‪ 1150‬ه ‪ ،‬فألّف كتابًا مساه‪ :‬الزيادة‬
‫واإلحسان في علوم القرآن‪ ،‬وهذا الكتاب ً‬
‫أيضا خمتصر لكتاب اإلتقان للسيوطي‪.‬‬
‫مث بعد ذلك حصل للتأليف شيء من الضعف والفتور‪ ،‬أو ما يشبه االنقطاع‪ ،‬مث بعد ذلك يف هذا العصر احلديث جاءت كثري من‬
‫املؤلفات اليت منها‪ :‬كتاب التبيان في علوم القرآن للشيخ طاهر اجلزائري‪ ،‬املتوىف سنة ‪ 1268‬ه ‪ ،‬وكتاب منهج الفرقان في علوم القرآن‬
‫للشيخ حممد سالمة‪ ،‬املتوىف سنة ‪ 1362‬ه ‪ ،‬وكذلك الزرقاين يف كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن‪ ،‬وهو من أجل هذه الكتب‪ ،‬ومن‬
‫أيضا‬
‫كثريا من املباحث الكالمية‪ ،‬والعقائد األشعرية‪ ،‬وكذلك ً‬‫أنفعها‪ ،‬وقد اقتصر فيه على األنواع املهمة يف هذا العلم‪ ،‬إال أنه أدخل فيه شيئًا ً‬
‫أيضا إىل تنقيح وحترير‪ ،‬وهناك كتب أخرى كثرية متأل املكتبات‪.‬‬
‫حشا هذا الكتاب ببعض األشياء املرجوحة‪ ،‬فهو ْباجة ً‬
‫وهكذا جند العلماء يف كثري من األحيان يذكرون مسائل هذا الفن يف مقدمات كتبهم يف التفسري‪ ،‬كما فعل مجاعة‪ ،‬كابن جرير‬
‫الطربي ‪-‬رمحه اهلل‪ ،‬والراغب األصفهاين‪ ،‬واألخري كتابه يف التفسري غري موجود‪ ،‬ولكن ُوجدت منه قطعة فيها املقدمات اليت تتعلق بعلوم‬
‫القرآن‪ ،‬وفيها تفسري سورة الفاحتة‪ ،‬وقد حققت‪ ،‬وهي مطبوعة ومفيدة ونافعة‪ ،‬وكذلك من املقدمات املفيدة‪ :‬مقدمة القرطيب على تفسريه‬
‫اجلامع ألحكام القرآن‪ ،‬وكذلك ابن عطية يف مقدمته لتفسريه احملرر الوجيز‪ ،‬وهكذا السيوطي الذي جعل كتاب اإلتقان هذا الكتاب الكبري‬
‫جعله مقدمة ومدخال لتفسريه الكبري الذي شرع يف تصنيفه وما أمته‪ ،‬ومساه‪ :‬جممع البحرين ومطلع البدرين‪ ،‬قال عنه السيوطي ‪-‬رمحه اهلل‪:‬‬
‫"وقد جعلته ‪-‬أي‪ :‬اإلتقان‪ -‬مقدمة للتفسري الكبري الذي شرعت فيه‪ ،‬ومسيته مبجمع البحرين ومطلع البدرين‪ ،‬اجلامع لتحرير الرواية‪ ،‬وتقرير‬
‫الدراية"‪ ،‬فهذا الكتاب مقدمة هلذا التفسري‪ ،‬فلك أن تتصور ضخامة هذا التفسري لو أنه اكتمل‪ ،‬وهكذا القامسي ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬وضع مقدمة‬
‫كبرية لرمبا زادت على ثالمثائة صفحة‪ ،‬جعلها مقدمة لكتابه حماسن التأويل‪ ،‬وجعل هلا عنوانًا‪ :‬مقدمات خطرية‪ ،‬ويف الواقع هذه املقدمات‬
‫مأخوذة من كالم الشاطيب ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف كتابه املوافقات‪ ،‬ومأخوذة من كالم شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف مثل كتابه اإلكليل يف‬
‫املتشابه والتأويل‪ ،‬وكذلك يف كتاب مقدمة أصول التفسري‪ ،‬وهكذا تلك املقدمة احلافلة الكبرية النافعة اليت هي من أجل املقدمات وأنفعها‬
‫لكتاب هو من أجل كتب التفسري‪ ،‬وهو‪ :‬كتاب أضواء البيان للعالمة الشيخ حممد األمني الشنقيطي ‪-‬رمحه اهلل تعاىل‪ ،-‬فهذه املقدمة من‬
‫وفريا‪ ،‬ومن أراد أن يعرف قدر هذا العامل‪ ،‬وقدر هذا الكتاب ‪-‬أعين‪ :‬أضواء البيان‪ -‬فليقرأ مقدمته اليت ذكر فيها ألوانًا من‬
‫علما ً‬‫حصل ً‬ ‫قرأها َّ‬
‫املسائل اليت حيتاج إليها املفسر‪.‬‬
‫متأخرا عن نظائره‬
‫ومن خالل هذا االستعراض نعرف أن التأليف يف علوم القرآن هبذا املعىن اخلاص الذي بيناه وعرفناه إمنا جاء ً‬
‫من التأليف يف قواعد العلوم‪ ،‬كأصول الفقه الذي ألف فيه اإلمام الشافعي ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬كتاب الرسالة‪ ،‬وكعلوم احلديث اليت ألف فيها مثل‬
‫متأخرا مقارنة بغريها من العلوم‪ ،‬يقول السيوطي ‪-‬‬
‫الرامهرمزي‪ ،‬وكذلك علوم العربية‪ ،‬والقراءات‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬فعلوم القرآن جاء التأليف فيها ً‬
‫رمحه اهلل‪" :-‬ولقد كنت يف زمان الطلب أتعجب من املتقدمني إذ مل يدونوا كتابًا يف أنواع علوم القرآن‪ ،‬كما وضعوا ذلك بالنسبة إىل علم‬
‫أيضا يف مقدمته لكتاب التحبري‪" :‬وإن مما أمهل املتقدمون تدوينه حىت حتلَّى يف آخر‬
‫احلديث" يذكر ذلك تعليال لتأليفه لكتاب اإلتقان‪ ،‬وقال ً‬
‫الزمان بأحسن زينة‪ :‬علم التفسري الذي هو كمصطلح احلديث"‪.‬‬
‫أوال يف هذا العلم باملعىن الذي ذكرناه؟‪ ،‬اجلواب‪ :‬األحسن يف مثل هذه‬ ‫بعد ذلك نوجه سؤال‪ ،‬وهو‪ :‬ما هو الكتاب الذي أُلف ً‬
‫املسألة أن نقول‪ :‬إنه من الصعب أن حنكم بأن هذا الكتاب أو ذاك هو أول ما أُلف؛ ألن هذه املؤلفات اليت وقفنا عليها اليت من أوهلا‬
‫كتاب‪ :‬فنون األفنان‪ ،‬هذه املؤلفات جاءت متأخرة‪ ،‬فمن الصعب أن نقول‪ :‬هذا أول مؤلف يف هذا الفن‪ ،‬لكن غاية ما نستطيع أن نقوله‪:‬‬
‫هو أن هذا الكتاب مثال أول ما وقفنا عليه من املؤلفات يف هذا العلم‪ ،‬وهناك أقوال كثرية جدًّا يف أول من أَلف يف هذا العلم‪ ،‬وهذه األقوال‬
‫كثريٌ منها ال يصح‪ ،‬فبعضهم يقول‪ :‬هو الزركشي‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬أبو احلسن األشعري يف كتابه المختزن في علوم القرآن‪ ،‬وعرفتم أنه‬
‫ليس من كتب هذا الفن‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬هو كتاب عجائب علوم القرآن املنسوب البن املرزبان‪ ،‬وهذا الكتاب يف الواقع هو كتاب فنون‬
‫األفنان‪ ،‬وقد اطلعت على نسخته اخلطية‪ ،‬وهي موجودة يف املكتبة البلدية يف األسكندرية‪ ،‬فإذا هو كتاب فنون األفنان‪ ،‬وإن كان قد كتب‬
‫عليه كتاب عجائب علوم القرآن البن املرزبان‪ ،‬وهكذا كثري من الكتب اليت مسعتم عنها حتت هذا العنوان واليت أُلفت قبل فنون األفنان هي‬
‫يف الواقع كتب يف التفسري‪.‬‬
‫الدرس األول من الوحدة الثانية‪ :‬الوحي‬ ‫الوحدة‬
‫وبعد هذا نكون قد انتهينا من هذه املقدمات‪ ،‬وأنتقل بعد ذلك إىل املوضوع اآلخر‪ ،‬وهو‪ :‬الكالم على الوحي‪.‬‬ ‫الثانية‬
‫فإذا نظرت يف كتاب من كتب املعاجم اللغوية اليت تفسر هذه الكلمة ‪-‬كلمة‪ :‬الوحي‪ -‬جتد أهنم يذكرون هلا معاينَ كثرية‪ ،‬يقولون‪:‬‬ ‫الدرس‬
‫األول من تأيت مبعىن الكتابة‪ ،‬وال شك أنه معىن صحيح‪ ،‬ومنه قول رؤبة بن العجاج‪:‬‬
‫ت‬ ‫فاستقرت *** وشدَّها بالر ِ‬
‫اسيات الثُّبَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َحى هلا القر َار‬ ‫الوحدة‬
‫يعين‪ :‬أن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬وحى هلا‪ ،‬أي‪ :‬األرض‪ ،‬ومعىن‪ :‬وحى هلا‪ ،‬أي‪ :‬أنه أهلمها‪ ،‬أو أمرها‪ ،‬أو كتب هلا القرار فاستقرت‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬‬ ‫الثانية‪:‬‬
‫ك أ َْو َحى َهلَا} [الزلزلة‪ ،]5 – 4 :‬وكذلك أوحى اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هلا بأن تستقر‪ ،‬وتكون ثابتة‪.‬‬ ‫َخبَ َارَها * بِأ َّ‬
‫َن َربَّ َ‬ ‫عز وجل‪{ :-‬يَ ْوَمئِ ٍذ ُحتَد ُ‬
‫ِّث أ ْ‬ ‫الوحي‬
‫أيضا معىن صحيح من معاين الوحي‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫وهكذا يذكرون من معانيه‪ :‬اإلشارة والرمز‪ ،‬وهو ً‬
‫الوحي يف وجناهتا‬ ‫فأوحى إليها الطَّْر ُ‬
‫ف أين أحبُّها *** فأثّر ذاك ُ‬
‫يعين‪ :‬أنه أشار إليها بعينه إشارة معينة‪ ،‬فهمت منه رسالة معينة‪ ،‬فظهرت احلمرة على وجناهتا من احلياء‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫الوحي يف وجناهتا‬ ‫فأوحى إليها الطَّْر ُ‬
‫ف أين أحبُّها *** فأثّر ذاك ُ‬
‫الناس ‪-‬أي‪ :‬يتكلمون بينهم يف‬
‫فهذا معىن صحيح‪ ،‬ومنه قول العرب يف املثل املشهور‪ :‬من ال يعرف الوحي أمحق‪ ،‬واملقصود به‪ :‬من يتواحى ُ‬
‫أمر يتعلق به‪ -‬وهو ال يفقه وال يفهم تلك الرموز‪ ،‬من ال يعرف الوحي أمحق‪ ،‬فهذا مبعىن‪ :‬اإلشارة والرمز‪.‬‬
‫ومن معانيه اليت يذكروهنا يف كتب اللغة‪ :‬اإلهلام‪ ،‬وهو أحد التفسريات لقول رؤبة السابق‪:‬‬
‫ت‬ ‫فاستقرت *** وشدَّها بالر ِ‬
‫اسيات الثُّبَّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو َحى هلا القر َار‬
‫أي‪ :‬أهلمها ذلك‪.‬‬
‫أيضا‪ -‬يف سرعة وخفاء‪ ،‬وأيضا من املعاين األخرى‪ :‬املكتوب‪ ،‬والبعث‪ ،‬كذلك األمر‪ ،‬وبه فسر بعضهم قول رؤبة‬ ‫ومنه‪ :‬اإلعالم ‪ً -‬‬
‫أيضا‪:‬‬
‫ً‬
‫فاستقرت *** وشدَّها بالر ِ‬
‫اسيات الثُّبَّ ِ‬
‫ت‬ ‫ِ‬ ‫َو َحى هلا القر َار‬
‫أي‪ :‬أمرها بالقرار‪.‬‬
‫وكذلك‪ :‬اإلمياء‪ ،‬والتصويت شيئًا بعد شيء‪ ،‬وقيل‪ :‬أصل الوحي‪ :‬التفهيم‪ ،‬وكل ما دللت به من كالم‪ ،‬أو كتابة‪ ،‬أو رسالة‪ ،‬أو‬
‫إشارة فهو وحي‪.‬‬
‫قصدا‪ ،‬وهي موجودة يف كتب اللغة‪ ،‬وذكرها احلافظ ابن حجر ‪-‬رمحه‬ ‫فالحظوا هذه املعاين لرمبا بلغت اثين عشر معىن‪ ،‬وقد ذكرهتا ً‬
‫اهلل‪ -‬يف كتابه الفتح‪ ،‬وذكرهتا قصدا؛ ألبني لكم قضية وفائدة ذكرهتا ساب ًقا‪ ،‬وهي‪ :‬أنه من أراد أن يرجع إىل أصل املعىن الذي تدور عليه‬
‫املعاين الكثرية فلريجع إىل كتاب جيمع له ما تشتت وتفرق منها‪ ،‬فيعيد ذلك إىل أصل واحد‪ ،‬فلو رجعنا يف هذه املعاين اليت زادت على‬
‫العشر‪ ،‬لو رجعنا إىل كالم ابن فارس يف كتابه مقاييس اللغة‪ ،‬فماذا جند؟ جند أنه يقول بكل وضوح‪" :‬الواو واحلاء واحلرف املعتل"‪ ،‬وحى‪،‬‬
‫وحرف العلة هو‪ :‬األلف املقصورة‪" ،‬الواو واحلاء واحلرف املعتل أصل يدل على‪ :‬إلقاء علم يف إخفاء أو غريه إىل غريك ‪ ،"..‬يعين‪ :‬اإللقاء‬
‫خبفية‪ ،‬أو اإللقاء من غري خفية إىل غريك‪ ،‬إىل أن قال‪ .." :‬وكل ما ألقيته إىل غريك حىت علمه فهو وحي كيف كان‪ ،‬يعين‪ :‬خبفية أو بغري‬
‫خفية‪ ،‬وكل ما يف باب الوحي فراجع إىل هذا األصل الذي ذكرناه"‪.‬‬
‫واخلالصة‪ :‬أن الوحي يدل على إلقاء علم خبفية أو غريها‪ ،‬وأكثر ما يستعمل يف كالم العرب يف اإللقاء السريع اخلفي‪ ،‬فهذا معناه‬
‫يف كالم العرب‪.‬‬
‫موضعا‪ ،‬ولو أردنا أن نفرق هذه‬
‫وأما يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬فقد جاءت هذه اللفظة مبختلف االستعماالت يف اثنني وتسعني ً‬
‫املواضع‪ ،‬وجنمع املتماثالت مع بعضها‪ ،‬وننظر يف املعىن الذي دلت عليه يف كل موضع‪ ،‬فإننا جند أهنا تدور على حنو عشرة ٍ‬
‫معان يف كتاب‬
‫اهلل ‪-‬عز وجل‪ :-‬فهذه الكلمة يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬أطلقت وأريد هبا‪ :‬الوحي بالمعنى الخاص‪ ،‬وحينما نقول‪ :‬الوحي بالمعنى الخاص‬
‫فهو الوحي إلى األنبياء ‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وذلك يف مواضع كثرية من كتاب اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :‬إِنَّا‬
‫ِ‬ ‫وح والنَّبِيِّني ِمن ب ع ِدهِ} النساء‪ ،163 :‬وكما قال‪َ { :‬شرع لَ ُكم ِمن الدِّي ِن ما و َّ ِِ‬
‫ك}‬ ‫وحا َوالَّذي أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬‫صى به نُ ً‬ ‫َ َ‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫ك َك َما أ َْو َحْي نَا إِ َىل نُ ٍ َ َ ْ َ ْ‬ ‫أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬
‫ك وإِ َىل الَّ ِذين ِمن قَبلِ َ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك‬‫ص َعلَْي َ‬ ‫ك} الزمر‪ ،65 :‬وكقوله‪َْ { :‬حن ُن نَ ُق ُّ‬ ‫ت لَيَ ْحبَطَ َّن َع َملُ َ‬ ‫ك لَئ ْن أَ ْشَرْك َ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫الشورى‪ ،13 :‬وكقوله‪َ { :‬ولََق ْد أُوح َي إلَْي َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬‫وحا ِم ْن أ َْم ِرنَا} الشورى‪ ،52 :‬وكقوله‪َ { :‬وَك َذل َ‬ ‫ك ُر ً‬ ‫ك أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬
‫ك َه َذا الْ ُقْرآ َن} يوسف‪ ،3 :‬وكقوله‪َ { :‬وَك َذل َ‬ ‫ص ِمبَا أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬
‫ص ِ‬
‫َح َس َن الْ َق َ‬ ‫أْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك} اإلسراء‪،73 :‬‬ ‫ادوا لَيَ ْفتِنُونَ َ‬
‫ك َع ِن الَّذي أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬ ‫ك قُ ْرآنًا َعَربِيًّا لتُ ْنذ َر أ َُّم الْ ُقَرى َوَم ْن َح ْوَهلَا} الشورى‪ ،7 :‬وكذلك‪َ { :‬وإِ ْن َك ُ‬ ‫أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬
‫فهذه اآليات اليت قرأنا وغريها كثري‪ ،‬منها‪ :‬ما يصرح اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬فيها بالوحي إىل األنبياء ‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ ،-‬ومنها‪ :‬ما يصرح‬
‫فيها بأنه أوحى إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكل ذلك من الوحي باملعىن اخلاص‪.‬‬
‫والمعنى الثاني‪ ،‬أو االستعمال الثاني الذي ورد في القرآن‪ ،‬وهو‪ :‬الوحي إلى بعض األنبياء ‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ -‬قبل‬
‫النبوة‪ ،‬وهل هذا من الوحي باملعىن اخلاص؟‪ ،‬ال‪ ،‬ليس من الوحي باملعىن اخلاص؛ ألنه قبل النبوة‪ ،‬فهو كاإلحياء لغريهم‪ ،‬وإمنا هو وحي ببعض‬
‫َمجعوا أَ ْن َجيعلُوه ِيف َغياب ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫َْ ُ َ َ‬ ‫املسائل‪ ،‬وليس من جنس وحي البالغ‪ ،‬مثاله‪ :‬قول اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن يوسف ‪-‬عليه السالم‪{ :‬فَلَ َّما َذ َهبُوا بِه َوأ ْ َ ُ‬
‫َّه ْم بِأ َْم ِرِه ْم َه َذا َوُه ْم َال يَ ْشعُُرو َن} يوسف‪ ،15 :‬أوحى اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬إليه ذلك‪ ،‬وهو غالم صغري‪ ،‬ومل يكن نبيًّا‬ ‫ِ‬
‫ب َوأ َْو َحْي نَا إِلَْيه لَتُنَبِّئَ ن ُ‬
‫اجلُ ِّ‬
‫ْ‬
‫استَ َوى آتَْي نَاهُ ُح ْك ًما َو ِع ْل ًما}‬
‫َشدَّهُ َو ْ‬ ‫يف ذلك الوقت؛ ألن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬آتاه النبوة بعد ذلك‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :-‬ولَ َّما بَلَ َغ أ ُ‬
‫القصص‪ ،14 :‬فهذا الوحي الذي حصل ليوسف ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف ذلك احلني ميكن أن يقال‪ :‬إن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أنزل اليه مل ًكا‬
‫يثبته يف وقت الشدة‪ ،‬وميكن أن يقال‪ :‬إن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أهلمه ذلك‪ ،‬أهلمه بأن هذه احملنة ستنجلي‪ ،‬وأن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬سريفعه بعد ذلك‬
‫ف} يوسف‪ ،76 :‬فهذا ليس من الوحي باملعىن اخلاص‪ ،‬وميكن أن‬ ‫على إخوته‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬بعد ذلك‪َ { :‬ك َذلِ ِ ِ‬
‫وس َ‬
‫ك ك ْدنَا ليُ ُ‬ ‫َ‬
‫صبِيًّا} مرمي‪:‬‬ ‫اب بُِق َّوةٍ َوآتَْي نَاهُ ْ‬ ‫ِ ِ‬
‫احلُ ْك َم َ‬ ‫يلحق بذلك ما ذكر اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن حيىي ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬أنه قال يف حقه‪{ :‬يَا َْحي َىي ُخذ الْكتَ َ‬
‫‪ ،12‬واحلكم ميكن أن يفسر بسياسة امللك‪ ،‬ومعلوم أن حيىي ‪-‬عليه السالم‪ -‬مل ِيل ملكا‪ ،‬بل قُتل ‪-‬عليه السالم‪ -‬واستضعف‪ ،‬فإذن‪ :‬ميكن‬
‫أيضا عن‬ ‫أيضا قول اهلل ‪-‬عز وجل‪ً -‬‬ ‫أن نفسر احلكم الذي أُعطيه حيىي ‪-‬عليه السالم‪ -‬وهو صيب بأنه احلكمة‪ ،‬وميكن أن يلحق بذلك ً‬
‫ني} آل عمران‪ 46 :‬يعين‪ :‬ويف كهولته‪ ،‬وعيسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬أخرب‬ ‫عيسى ‪-‬عليه السالم‪{ :-‬وي َكلِّم النَّاس ِيف الْمه ِد وَكه ًال وِمن َّ ِِ‬
‫الصاحل َ‬ ‫َْ َ ْ َ َ‬ ‫َُ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت} مرمي‪- 30 :‬‬ ‫ال إِ ِّين َعْب ُد اللَّه آتَ ِاينَ الْكتَ َ‬
‫اب َو َج َعلَِين نَبِيًّا * َو َج َعلَِين ُمبَ َارًكا أَيْ َن َما ُكْن ُ‬ ‫اهلل عنه‪ :‬أنه تكلم فعال يف املهد‪ ،‬فقال تعاىل‪{ :‬قَ َ‬
‫‪ ،31‬مع أن عيسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬مل يُنبَّأ إال بعد ذلك‪ ،‬حينما بلغ الثالثني‪ ،‬وهذا يكون من قبيل اإلخبار باملاضي عن األمر الذي يكون‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َو َج َعلَِين نَبِيًّا}‪ ،‬فعرب باملاضي لتحقق ذلك؛ ألنه سيتحقق يف‬ ‫ال إِ ِّين َعْب ُد اللَّه آتَ ِاينَ الْكتَ َ‬
‫يف املستقبل؛ ألنه متحقق الوقوع‪ ،‬فقال تعاىل‪{ :‬قَ َ‬
‫تأت بعد‪ ،‬لكن ملا كانت متحققة الوقوع عرب‬ ‫املستقبل‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :‬أَتَى أَمر اللَِّه فَ َال تَستَ ع ِجلُوه} النحل‪ ،1:‬مع أن الساعة مل ِ‬
‫ْ ْ ُ‬ ‫ُْ‬
‫الص َالةِ و َّ ِ‬‫عنها بذلك‪ ،‬مث قال عيسى ‪-‬عليه السالم‪{ :-‬وأَو َ ِ‬
‫ت َحيًّا} مرمي‪ ،31:‬ومعلوم أن عيسى ويوسف قبله ‪-‬عليهما‬ ‫الزَكاة َما ُد ْم ُ‬ ‫ص ِاين ب َّ َ‬ ‫َْ‬
‫السالم‪ -‬مل يُنبَّأا يف ذلك احلني‪ ،‬وإمنا نُبِّئا بعد ذلك‪ ،‬فإذن‪ :‬هذا وحي إىل بعض األنبياء يف بعض األمور اخلاصة قبل النبوة‪.‬‬
‫والمعنى الثالث‪ ،‬أو االستعمال الثالث الذي ورد في كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬لكلمة الوحي‪ ،‬وهو الوحي إلى بعض أمهات‬
‫األنبياء ‪-‬عليهم السالم‪ ،-‬وهذا الوحي ليس بكتاب‪ ،‬وال رسالة‪ ،‬إذن‪ :‬ليس هو من الوحي باملعىن اخلاص‪ ،‬وحينما أذكر هذه األشياء‬
‫أذكرها؛ ألهنا تفيد طالب العلم‪ ،‬فتنحل عنه بعض اإلشكاالت يف التفسري‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬أن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أوحى إىل أم موسى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ت َعلَْي ِه فَأَلْ ِق ِيه ِيف الْيَ ِّم} القصص‪ ،7 :‬وليست نبية‪ ،‬وكذلك مرمي رمحها اهلل‪ ،‬قال اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬ ‫{وأَوحي نَا إِ َىل أ ُِّم موسى أَ ْن أَر ِضعِ ِيه فَِإ َذا ِخ ْف ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫ت إِ ِّين أَعُوذُ‬
‫َّل َهلَا بَ َشًرا َس ِويًّا * قَالَ ْ‬ ‫ِ‬
‫َّل َهلَا بَ َشًرا َسويًّا} مرمي‪ ،17 :‬أرسل هلا جربيل‪ ،‬وليست نبية‪{ ،‬فَتَ َمث َ‬
‫وحنَا فَتَ َمث َ‬
‫ِ‬
‫عنها‪{ :‬فَأ َْر َس ْلنَا إلَْي َها ُر َ‬
‫ك غُ َال ًما َزكِيًّا} مرمي‪ ،19-17 :‬فكلمها جربيل ‪-‬عليه السالم‪.‬‬ ‫ك ِألَهب لَ ِ‬
‫ال إَِّمنَا أَنَا رس ُ ِ‬
‫ول َربِّ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫ت تَِقيًّا * قَ َ‬‫ك إِ ْن ُكْن َ‬ ‫الر ْمحَ ِن ِمْن َ‬
‫بِ َّ‬
‫واالستعمال الرابع وهو بمعنى‪ :‬اإلشارة والرمز‪ ،‬وذلك يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬عن زكريا ‪-‬عليه السالم‪ -‬حينما قال‪َ { :‬ر ِّ‬
‫ب‬
‫ث لَيَ ٍال َس ِويًّا} مرمي‪ ،10 :‬مبعىن‪ :‬أنك ال تستطيع الكالم ثالث ليال من غري علة‪ ،‬وال عاهة‪،‬‬ ‫َّاس ثََال َ‬ ‫ال آيَتُ َ َّ‬
‫ك أَال تُ َكلِّ َم الن َ‬ ‫اج َع ْل ِيل آيَةً قَ َ‬
‫ْ‬
‫وال مرض‪ ،‬ال تستطيع الكالم‪ ،‬حيبس لسانه عن الكالم من غري اعتالل‪ ،‬هذه عالمة ذلك‪ ،‬أنه سريزق بالولد‪ ،‬وكذلك قال ‪-‬عز وجل‪:-‬‬
‫َّاس ثََالثَةَ أَيَّ ٍام إَِّال َرْمًزا} آل عمران‪ ،41 :‬وهذا هو الشاهد‪ ،‬وقال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عقب‬ ‫ال آيَتُ َ َّ‬
‫ك أَال تُ َكلِّ َم الن َ‬ ‫اج َع ْل ِيل آيَةً قَ َ‬
‫ب ْ‬ ‫ال َر ِّ‬
‫{قَ َ‬
‫اب فَأ َْو َحى إِلَْي ِه ْم أَ ْن َسبِّ ُحوا بُ ْكَرًة َو َع ِشيًّا} مرمي‪ ،11 :‬فمعىن‪{ :‬فَأ َْو َحى إِلَْي ِه ْم}‪ ،‬أي‪ :‬رمز إليهم‪،‬‬
‫اآلية األوىل‪{ :‬فَ َخرج َعلَى قَوِم ِه ِمن الْ ِم ْحر ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ‬
‫َّاس ثََالثَةَ أَيَّ ٍام إَِّال َرْمًزا}‪،‬‬
‫ن‬ ‫ال‬ ‫م‬‫ِّ‬
‫ل‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ك أَّ‬
‫َال‬ ‫َ‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫آي‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫يفسرها‪:‬‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ويفسر ذلك اآلية األخرى‪ ،‬فقوله‪{ :‬فَ َخرج َعلَى قَوِم ِه ِمن الْ ِم ْحر ِ‬
‫اب فَأ َْو َحى إِلَْي ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ‬
‫فخرج عليهم فرمز إليهم هبذا الرمز‪ ،‬وأشار إليهم هبذه اإلشارة‪.‬‬
‫واالستعمال الخامس وهو التعبير بالوحي وإطالق الوحي والمراد به‪ :‬الوحي إلى المالئكة ‪-‬عليهم السالم‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫• األول‪ :‬وحي تبليغي‪ ،‬أي‪ :‬أن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يأمرهم فيه بالبالغ‪.‬‬
‫• والثاين‪ :‬وحي تكليفي‪ ،‬أي‪ :‬أن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يوحي إليهم؛ ليكلفهم ببعض التكاليف‪.‬‬
‫َّاس} احلج‪ 75 :‬أي‪ :‬يصطفي‬ ‫صطَِفي ِم َن الْ َم َالئِ َك ِة ُر ُس ًال َوِم َن الن ِ‬ ‫فمن األول وهو الوحي التبليغي‪ :‬قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :‬اللَّهُ يَ ْ‬
‫وح‬‫رسال فريسلهم إىل الرسل واألنبياء من البشر‪ ،‬يبلغون رساالت اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬ومن التبليغي أيضا‪ :‬قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :‬نََزَل بِِه ُّ‬
‫الر ُ‬
‫أيضا‪ :‬قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪-‬‬ ‫ين} الشعراء‪ ،194 :‬ومنه ً‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ْاأل َِمني} الشعراء‪ ،193 :‬وهو جربيل ‪-‬عليه السالم‪{ ،‬علَى قَ ْلبِ ِ‬
‫ك لتَ ُكو َن م َن الْ ُمْنذر َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫عن جربيل ‪-‬عليه السالم‪{ :‬فَأ َْو َحى إِ َىل َعْب ِدهِ َما أ َْو َحى} النجم‪ 10 :‬أي‪ :‬أوحى جربيل إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وكذلك قوله ‪-‬‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِرهِ َعلَى َم ْن يَ َشاءُ ِم ْن ِعبَ ِادهِ} النحل‪ ،2 :‬فينزهلم بالروح يعين‪ :‬بالوحي‪ ،‬ومسى اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬ ‫تبارك وتعاىل‪{ :‬يُنَ ِّزُل الْ َم َالئِ َكةَ بِ ُّ‬
‫الر ِ‬
‫وحى * َعلَّ َمهُ َش ِد ُ‬
‫يد الْ ُق َوى} النجم‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫روحا؛ ألنه به حياة القلوب‪ ،‬ومن الوحي التبليغي‪ :‬قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :-‬إ ْن ُه َو إَّال َو ْح ٌي يُ َ‬ ‫الوحي‪ً :‬‬
‫‪ ،5-4‬وهو جربيل ‪-‬عليه السالم‪.‬‬
‫وب‬‫َين مع ُكم فَثَبِّتُوا الَّ ِذين آمنُوا سأُلْ ِقي ِيف قُلُ ِ‬
‫ِّ‬ ‫أ‬ ‫ك إِ َىل الْم َالئِ َك ِ‬
‫ة‬ ‫َ‬ ‫ب‬
‫ر‬
‫ُّ‬ ‫ي‬ ‫وأما الوحي التكليفي فكما يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :-‬إِ ْذ ي ِ‬
‫وح‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫اض ِربوا ِمْن هم ُك َّل ب نَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ان} األنفال‪ ،12 :‬فهذا وحي تكليفي‪ ،‬فاهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يكلف املالئكة‬ ‫اض ِربُوا فَ ْو َق ْاأل َْعنَاق َو ْ ُ ُ ْ َ‬
‫ب فَ ْ‬
‫الر ْع َ‬
‫ين َك َفُروا ُّ‬
‫ال ذ َ‬
‫بتثبيت قلوب املؤمنني‪ ،‬وبضرب أعناق الكافرين‪ ،‬وتقطيع طرفهم‪ ،‬فال يستطيعون محل السالح‪ ،‬وكذلك كما يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪َ { :-‬وإِ ْذ‬
‫قُ ْلنَا لِلْم َالئِ َك ِة اسج ُدوا ِآلدم فَسج ُدوا} البقرة‪ ،34 :‬فهذا وحي تكليفي‪ ،‬وكذلك كما يف قوله‪{ :‬علَي ها م َالئِ َكةٌ غِ َال ٌ ِ‬
‫صو َن اللَّهَ‬
‫ظ ش َد ٌاد َال يَ ْع ُ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫َما أ ََمَرُه ْم} التحرمي‪ 6 :‬أي‪ :‬ما كلفهم به‪.‬‬
‫واالستعمال السادس وهو الوحي إلى الحواريين‪ ،‬وهم خالصة أصحاب عيسى ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬بعضهم يقول‪ :‬هم اثنا عشر‬
‫رجال‪ ،‬وبعضهم يوصلهم إىل أكثر من ذلك‪ ،‬حيث يبلغون السبعني‪ ،‬وال يثبت يف ذلك شيء‪ ،‬وميكن أن جيمع بني هذا وهذا‪ ،‬فيقال‪ :‬لرمبا‬
‫ني أَ ْن ِآمنُوا ِِّب‬
‫ت إِ َىل ا ْحلََوا ِريِّ َ‬
‫بلغوا السبعني‪ ،‬وصفوهتم وخالصتهم ورءوسهم هم هؤالء االثنا عشر‪ ،‬فاهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪َ { :‬وإِ ْذ أ َْو َحْي ُ‬
‫َوبَِر ُس ِويل قَالُوا َآمنَّا َوا ْش َه ْد بِأَنَّنَا ُم ْسلِ ُمو َن} املائدة‪ ،111 :‬فما معىن هذا الوحي إىل احلواريني؟ ميكن أن يقال‪ :‬أوحى إليهم عن طريق عيسى‬
‫‪-‬عليه السالم‪ ،-‬أمر اهلل عيسى أن يبلغهم‪ :‬أن اهلل يأمرهم بذلك‪ ،‬وميكن أن يقال‪ :‬إن اهلل أهلمهم ذلك‪ ،‬وقذف يف قلوهبم صدق عيسى ‪-‬‬
‫عليه السالم‪ ،‬فآمنوا به‪.‬‬
‫واالستعمال السابع وهو الوحي اإللهامي التسخيري لبعض المخلوقات‪ ،‬وهو خاص وعام‪.‬‬
‫• فالعام‪ :‬ميكن أن يقال‪ :‬إن كل ما يف الوجود مسخر بأمر اهلل ‪-‬عز وجل‪.‬‬
‫• واخلاص‪ :‬ما ورد فيه أن اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬أوحى إىل بعض املخلوقات فيما أخربنا‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن النحل‪َ { :‬وأ َْو َحى‬
‫َّج ِر َوِممَّا يَ ْع ِر ُشو َن} النحل‪ ،68 :‬فأوحى إىل النحل ما معناه؟ هل معىن ذلك‪ :‬أنه‬ ‫ِ‬ ‫اخت ِذي ِمن ِْ ِ‬
‫اجلبَال بُيُوتًا َوم َن الش َ‬ ‫َ‬
‫ك إِ َىل النَّح ِل أ َِن َِّ‬
‫ْ‬ ‫َربُّ َ‬
‫أرسل إىل كل حنلة امللك؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬وإمنا معىن ذلك ‪-‬واهلل تعاىل أعلم‪ :‬أنه أهلمها‪ ،‬وغرس يف فطرها هذا األمر‪.‬‬
‫واالستعمال الثامن وهو نوع آخر من استعماالت الوحي‪ ،‬وهو الوحي التسخيري لبعض الجمادات‪ ،‬كقوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪:‬‬
‫ني} فصلت‪-11:‬‬ ‫ات ِيف يَوَم ْ ِ‬‫ض ائْتِيا طَوعا أَو َكرها قَالَتَا أَتَي نَا طَائِعِني * فَ َقضاه َّن سبع َمساو ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َر‬
‫أل‬ ‫ال َهلا ولِ‬‫ق‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ا‬‫خ‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫السم ِاء وِ‬ ‫{ ُمثَّ ْ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ََ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ ْ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫استَ َوى إ َىل َّ َ َ َ‬
‫ه‬
‫أيضا قال اهلل ‪-‬عز‬ ‫ال َهلا ولِ ْألَر ِ ِ‬
‫ض ائْتيَا طَْو ًعا أ َْو َكْرًها}‪ ،‬وهذا من أنواع الوحي‪ ،‬مث ً‬ ‫‪ ،12‬هنا كلمها مباشرة‪ ،‬كما هو ظاهر هذه اآلية‪{ :‬فَ َق َ َ َ ْ‬
‫وجل‪ -‬يف متام هذه اآلية‪َ { :‬وأ َْو َحى ِيف ُك ِّل َمسَ ٍاء أ َْمَرَها} فصلت‪ ،12 :‬فيحتمل أن يكون‪ :‬أوحى إليها ما يقوم به أمرها ونظامها‪ ،‬أو أنه‬
‫أوحى إىل مالئكة كل مساء‪ ،‬أوحى إليهم بأوامره إليهم‪ ،‬فهذا حمتمل‪ ،‬فيكون على تقدير‪ ،‬وميكن أن جيمع بني املعنيني‪ ،‬فيقال‪ :‬إن اهلل ‪-‬عز‬
‫أيضا إىل مالئكة كل مساء مبا شاء ‪-‬سبحانه وتعاىل‪ -‬مما كلفهم‬ ‫وجل‪ -‬أوحى إىل كل مساء ما يقوم به نظامها‪ ،‬وما يقوم به أمرها‪ ،‬وأوحى ً‬
‫ك أ َْو َحى‬ ‫َخبَ َارَها} الزلزلة‪ ،4 :‬هذه األرض حتدث أخبارها‪{ :‬بِأ َّ‬
‫َن َربَّ َ‬ ‫به من التكاليف‪ ،‬وقال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن األرض‪{ :‬يَ ْوَمئِ ٍذ ُحتَد ُ‬
‫ِّث أ ْ‬
‫ك أ َْو َحى‬ ‫َخبَ َارَها * بِأ َّ‬
‫َن َربَّ َ‬ ‫ِّث أ ْ‬ ‫َهلَا} الزلزلة‪ ،5 :‬أي‪ :‬حتدث أخبارها بسبب وحي اهلل هلا‪ ،‬فالباء ميكن أن تكون‪ :‬سببية‪ ،‬فقوله‪{ :‬يَ ْوَمئِ ٍذ ُحتَد ُ‬
‫َخبَ َارَها * بِأ َّ‬
‫َن‬ ‫ِّث أ ْ‬‫َهلَا} الزلزلة‪ ،5-4 :‬أي‪ :‬حتدث أخبارها بسبب أن ربك أوحى هلا‪ ،‬أو أهنا تنطق مبا أوحى اهلل إليها‪ ،‬فقوله‪{ :‬يَ ْوَمئِ ٍذ ُحتَد ُ‬
‫ك أ َْو َحى َهلَا} الزلزلة‪ ،5-4 :‬أي‪ :‬مبا أوحى اهلل إليها‪ ،‬فعلى الثاين‪ :‬تكون حمدِّثة باملوحى إليها‪ ،‬وعلى األول‪ :‬تتحدث بسبب أن اهلل أوحى‬ ‫َربَّ َ‬
‫إليها أن تتحدث‪ ،‬أي‪ :‬أمرها أن تتحدث‪ ،‬فتخرب مبا عُ ِمل عليها‪ ،‬وهذا هو األقرب‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َج َع ْلنَا ل ُك ِّل نَِ ٍّ‬
‫يب َع ُد ًّوا‬ ‫واالستعمال التاسع وهو وحي الشياطين إلى أوليائهم‪ ،‬وجاء ذلك يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪َ { :‬وَك َذل َ‬
‫ض ُز ْخر َ ِ‬ ‫وحي ب ْع ُ ِ‬ ‫اإلنْ ِ ِ ِ‬ ‫ني ِْ‬ ‫ِ‬
‫ك َما فَ َعلُوهُ فَ َذ ْرُه ْم َوَما يَ ْفتَ ُرو َن} األنعام‪ ،112 :‬فهؤالء يوحي‬ ‫ورا َولَْو َشاءَ َربُّ َ‬
‫ف الْ َق ْول غُُر ً‬ ‫ض ُه ْم إ َىل بَ ْع ٍ ُ‬ ‫س َوا ْجل ِّن يُ َ‬ ‫َشيَاط َ‬
‫غرورا‪ ،‬فشياطني اجلن توسوس لشياطني اإلنس‪ ،‬وتوحي هلم‪ ،‬وتقذف يف قلوهبم الشبهات اليت يربزوهنا‬ ‫بعضهم إىل بعض زخرف القول ً‬
‫ويظهروهنا‪ ،‬فيشككون فيما جاء به األنبياء ‪-‬عليهم السالم‪ ،‬ويوحون إليهم باألمور اليت حيصل هبا اإلفساد للخلق‪ ،‬وقد جاء عن ابن عمر‬
‫زوجا ألخت املختار الثقفي الذي ادعى النبوة يف آخر أمره‪ ،‬مث قتله مصعب بن الزبري ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬فقيل البن‬ ‫‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬وكان ً‬
‫وحو َن إِ َىل أ َْولِيَائِ ِه ْم لِيُ َج ِادلُوُك ْم} األنعام‪،121 :‬‬ ‫ِ‬
‫عمر‪ :‬إن املختار يزعم أنه يوحى إليه‪ ،‬فقال‪ :‬صدق‪ ،‬مث قرأ هذه اآلية‪َ { :‬وإِ َّن الشَّيَاط َ‬
‫ني لَيُ ُ‬
‫فهو يوحى إليه‪ ،‬لكن من الذي يوحي إليه؟‪ ،‬يوحي إليه الشيطان‪ ،‬فالشياطني توحي إىل اآلدميني‪.‬‬
‫ض ُز ْخر َ ِ‬ ‫وحي ب ْع ُ ِ‬ ‫س و ِْ ِ‬ ‫ني ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ورا} األنعام‪:‬‬ ‫ف الْ َق ْول غُُر ً‬ ‫ض ُه ْم إ َىل بَ ْع ٍ ُ‬ ‫اجل ِّن يُ َ‬ ‫اإلنْ ِ َ‬ ‫يب َع ُد ًّوا َشيَاط َ‬ ‫ك َج َع ْلنَا ل ُك ِّل نَِ ٍّ‬ ‫وأما آية األنعام‪َ { :‬وَك َذل َ‬
‫‪ ،112‬فمما كانوا يوحونه إليهم‪ :‬أهنم كانوا يقولون هلم‪ :‬ما ذْبتموه بأيديكم تقولون‪ :‬حالل‪ ،‬وما ذْبه اهلل تعاىل بيده الكرمية تقولون‪ :‬حرام‬
‫وحو َن إِ َىل أ َْولِيَائِ ِه ْم لِيُ َج ِادلُوُك ْم‬ ‫ِ‬
‫‪-‬يعنون‪ :‬امليتة‪ ،‬إذن أنتم أحسن من اهلل‪ ،‬فألقوا إليهم هذه الشبهة‪ ،‬فقال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :-‬وإِ َّن الشَّيَاط َ‬
‫ني لَيُ ُ‬
‫وه ْم إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْش ِرُكو َن} األنعام‪ 121 :‬يعين‪ :‬أطعتموهم يف استحالل ما حرم اهلل‪ ،‬يف استحالل امليتة إنكم ملشركون‪ ،‬وهذا النوع هو‬
‫َوإِ ْن أَطَ ْعتُ ُم ُ‬
‫من األنواع اليت وردت يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬وهي من الوحي باملعىن العام‪.‬‬
‫وأما الوحي بالمعنى الخاص فهو الذي يعنينا‪ ،‬وهو المهم؛ ألن إثبات الرساالت يتوقف عليه‪ ،‬وملا قال اليهود على سبيل‬
‫اب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫َّ‬
‫حجرا‪ ،‬فقال‪{ :‬قُ ْل َم ْن أَنْ َزَل الْكتَ َ‬ ‫املكابرة‪َ { :‬ما أَنْ َزَل اللهُ َعلَى بَ َشر م ْن َش ْيء} األنعام‪ 91 :‬احتج اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عليهم ْبجة ألقمتهم ً‬
‫ردا لنبوة حممد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ { :-‬ما أَنْ َزَل اللَّهُ َعلَى بَ َش ٍر ِم ْن‬ ‫وسى} األنعام‪ ،91 :‬فلما قالوا على سبيل املكابرة؛ ًّ‬ ‫م‬ ‫الَّ ِذي جاء بِِ‬
‫ه‬
‫ََ ُ َ‬
‫َش ْي ٍء} األنعام‪ ،91 :‬فعمموا؛ ألن كلمة‪" :‬شيء" هذه اللفظة نكرة جاءت يف سياق النفي‪َ { ،‬ما أَنْ َزَل اللَّهُ َعلَى بَ َش ٍر ِم ْن َش ْي ٍء}‪ ،‬يعين‪ :‬وال‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسى}‪ ،‬فمعىن ذلك‪ :‬أنكم تنكرون نبوة موسى ‪-‬عليه السالم‪.-‬‬ ‫اب الَّذي َجاءَ به ُم َ‬ ‫بشر‪ ،‬فقال اهلل تعاىل‪{ :‬قُ ْل َم ْن أَنْ َزَل الْكتَ َ‬
‫فالوحي باملعىن اخلاص ميكن أن يفسر بأن يقال‪ :‬هو إعالم اهلل ألنبيائه ورسله مبا يريد إبالغه هلم من شرع أو كتاب‪ ،‬بالكيفية اليت‬
‫يريدها‪ ،‬وعرفه بعضهم كاحلافظ ابن حجر بأنه‪ :‬اإلعالم بالشرع الوحي باملعىن اخلاص ميكن أن يفسر بأن يقال‪ :‬هو إعالم اهلل ألنبيائه ورسله‬
‫مبا يريد إبالغه هلم من شرع أو كتاب‪ ،‬بالكيفية اليت يريدها‪ ،‬وعرفه بعضهم كاحلافظ ابن حجر بأنه‪ :‬اإلعالم بالشرع‪.‬‬
‫أوال‪ :‬بالكيفية اليت يريدها‪ ،‬فهذا ما يطلق عليه‪ :‬أنواع الوحي مبعناه ومفهومه اخلاص إىل األنبياء ‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وهذا‬ ‫فقولنا ً‬
‫ِ ِِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النوع من الوحي أمجع آية وردت فيه هي‪َ { :‬وَما َكا َن لبَ َش ٍر أَ ْن يُ َكلِّ َمهُ اللَّهُ إَّال َو ْحيًا أ َْو م ْن َوَراء ح َجاب أ َْو يُْرس َل َر ُس ًوال فَيُوح َي بإ ْذنه َما يَ َشاءُ‬
‫اب} هذه الثانية‪،‬‬ ‫نوعا ذُكر؟ {وما َكا َن لِب َش ٍر أَ ْن ي َكلِّمهُ اللَّهُ إَِّال و ْحيا} هذه واحدة‪{ ،‬أَو ِمن ور ِاء ِحج ٍ‬
‫ً‬ ‫فكم‬ ‫‪،‬‬‫‪51‬‬‫الشورى‪:‬‬ ‫}‬ ‫يم‬‫ك‬‫إِنَّه علِي ح ِ‬
‫ْ ْ ََ َ‬ ‫َ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ٌّ َ ٌ‬
‫{أ َْو يُْرِس َل َر ُس ًوال} هذه الثالثة‪ ،‬فانظروا‪ :‬كيف مجعت هذه اآلية عامة أنواع الوحي!‬
‫فقوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :‬إَِّال َو ْحيًا} ما الذي يدخل حتته؟ كيف ندخل أنواع الوحي حتت هذه اآلية؟ انظروا‪ :‬يف قوله‪{ :‬إَِّال َو ْحيًا}‪،‬‬
‫أمورا متعددة من أنواع الوحي‪ ،‬أوهلا‪ :‬الرؤيا الصادقة‪ ،‬وهي من أنواع الوحي‪ ،‬تقول عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬كما يف الصحيحني‪( :‬أول‬ ‫يشمل ً‬
‫ما بُ ِدئ به رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬الرؤيا الصادقة ‪-‬أو الصاحلة‪ ،‬فكان ال يرى رؤيا إال جاءت مثل فلق الصبح)‪ ،‬فأول ما بُ ِدئ‬
‫به النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬هي‪ :‬الرؤيا الصاحلة‪ ،‬وقد استمرت ستة أشهر‪ ،‬والنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان يرى رؤى صاحلة‪ ،‬لكن‬
‫قبل نزول امللك بقي ستة أشهر يرى هذه الرؤى اليت تأيت مثل فلق الصبح‪ ،‬وقد صح عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪( :-‬أن الرؤيا الصاحلة‬
‫جزء أو شعبة من ست وأربعني شعبة من شعب النبوة)‪ ،‬وهنا سؤال‪ :‬ما وجه قول النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن الرؤيا الصاحلة بأهنا جزء‬
‫من ستة وأربعني جزءًا من النبوة؟ واجلواب يتبني من خالل ما سأذكره‪ ،‬فقوله‪( :‬جزء من ستة وأربعني جزءًا من النبوة)‪ ،‬يتبني باآليت‪ :‬مدة بقاء‬
‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف مكة كم؟ عشر سنوات‪ ،‬ويف املدينة على األرجح‪ :‬ثالث عشرة سنة‪ ،‬فاجملموع ثالث وعشرون سنة‪ ،‬فثالث‬
‫شهرا‪ ،‬فلو قسمت هذه الثالث والعشرين على ستة أشهر‪ ،‬كم يكون فيها من ستة أشهر؟‬ ‫وعشرون سنة لو قسمتها‪ ،‬فالسنة اثنا عشر ً‬
‫قسما‪ ،‬فالرؤيا الصاحلة استمرت ستة أشهر‪ ،‬فهي‪ :‬جزء من ستة وأربعني جزءًا من النبوة‪ ،‬فهذا ميكن أن يفسر به‬ ‫سيكون فيها ستة وأربعون ً‬
‫احلديث‪ ،‬والعلم عند اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬وال يقطع به‪ ،‬ولكنه احتمال‪ ،‬فلو قسمنا السنة إىل فصلني دراسيني‪ ،‬ففي ثالث وعشرين سنة كم‬
‫فصال دراسيًّا فيها؟ فيها ستة وأربعون فصال دراسيًّا‪ ،‬فلو فرضنا‪ :‬أن كل فصل دراسي ستة أشهر‪ ،‬فكم فصال دراسيًّا سيكون عندنا؟ سيكون‬
‫عندنا ستة وأربعون فصال‪ ،‬فالستة األشهر األوىل إذن‪ :‬هي جزء من ستة وأربعني جزءًا من النبوة‪ ،‬فيمكن أن يفسر احلديث بذلك‪ ،‬واهلل تعاىل‬
‫أعلم‪.‬‬
‫ومما ورد يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬من هذا النوع من الوحي ‪-‬وهو الرؤيا الصادقة‪ -‬قول اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن إبراهيم ‪-‬عليه‬
‫ك فَانْظُْر َماذَا‬ ‫ين إِ ِّين أ ََرى ِيف الْ َمنَ ِام أ ِّ‬
‫َين أَ ْذ َْبُ َ‬ ‫ال يَا بُ ََّ‬
‫الس ْع َي} الصافات‪ ،102 :‬يعين‪ :‬إمساعيل ‪-‬عليه السالم‪{ ،-‬قَ َ‬ ‫السالم‪{ :‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ َّ‬
‫ك}‪ ،‬فهذا موضع يستشهد به من اآلية‪ ،‬فاحتج‬ ‫ت افْ َع ْل َما تُ ْؤَمُر} الصافات‪ ،102 :‬فهنا قال‪{ :‬إِ ِّين أ ََرى ِيف الْ َمنَ ِام أ ِّ‬
‫َين أَ ْذ َْبُ َ‬ ‫ال يا أَب ِ‬
‫تََرى قَ َ َ َ‬
‫الرْؤيَا} الصافات‪ ،105 :‬وكذلك‬ ‫ت ُّ‬ ‫ص َّدقْ َ‬ ‫ني} الصافات‪ ،103 :‬وقال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عنه‪{ :‬قَ ْد َ‬ ‫بالرؤيا‪ ،‬وبىن عليها العمل‪{ ،‬وتَلَّهُ لِلْ َجبِ ِ‬
‫َ‬
‫ت افْ َع ْل َما تُ ْؤَمُر‪ ،‬ويف قوله‪ :‬افْ َع ْل َما تُ ْؤَمُر} دل على أنه أمر من اهلل ‪-‬عز وجل؛ وهلذا قال‬ ‫استجابة إمساعيل ‪-‬عليه السالم‪ -‬بقوله‪{ :‬يا أَب ِ‬
‫َ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :‬ونَادي ناه أَ ْن يا إِب ر ِ‬
‫ني} الصافات‪ ،105-104 :‬وكذلك قال يف حق‬ ‫ك َْجن ِزي الْ ُم ْحسن َ‬ ‫الرْؤيَا إِنَّا َك َذل َ‬
‫ت ُّ‬ ‫ص َّدقْ َ‬
‫يم * قَ ْد َ‬ ‫اه‬
‫َ َ َْ ُ َ ْ َ ُ‬
‫َّاس} اإلسراء‪ ،60 :‬وهذه الرؤيا بعض العلماء يقولون‪ :‬هي ما رآه‬ ‫اك إَِّال فِْت نَةً لِلن ِ‬
‫الرْؤيَا الَِّيت أ ََريْنَ َ‬
‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ { :-‬وَما َج َع ْلنَا ُّ‬
‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ليلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬فهي رؤيا عني‪ ،‬وليست رؤيا يف املنام‪ ،‬والقول اآلخر ‪-‬وهو األقرب‪ -‬هو أهنا تفسر بقوله‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫احلَ ِّق لَتَ ْد ُخلُ َّن الْ َم ْس ِج َد ْ‬‫الرْؤيَا بِ ْ‬
‫ص ِر َ‬
‫ين‬ ‫وس ُك ْم َوُم َق ِّ‬
‫ني ُرءُ َ‬ ‫ني ُحمَلِّق َ‬ ‫احلََر َام إِ ْن َشاءَ اللَّهُ آمن َ‬ ‫ص َد َق اللَّهُ َر ُسولَهُ ُّ‬ ‫‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬يف سورة الفتح‪{ :‬لََق ْد َ‬
‫ك فَ ْت ًحا قَ ِريبًا} الفتح‪ ،27 :‬وهو فتح خيرب‪ ،‬فاآلن هذه الرؤيا اليت رآها النيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬ ‫َال َختافُو َن فَعلِم ما َمل تَعلَموا فَجعل ِمن د ِ ِ‬
‫ون َذل َ‬ ‫َ َ َ ْ ْ ُ ََ َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫وسلم‪ ،‬رأى نفسه يطوف آمنًا مع أصحابه بالبيت‪ ،‬وتعلقت قلوب الصحابة ‪-‬رضي اهلل عنهم‪ -‬مبقتضى هذه الرؤيا‪ ،‬ومضموهنا‪ ،‬ورؤيا األنبياء‬
‫ال شك أهنا حق‪.‬‬
‫وحينما نقول بأن الرؤيا الصاحلة جزء من ستة وأربعني جزءًا من النبوة نقول‪ :‬رؤى األنبياء ‪-‬عليهم السالم‪ -‬مقطوع هبا‪ ،‬وأما غري‬
‫األنبياء فال جيوز أن يُبىن على الرؤى حكم من األحكام‪ ،‬ال يف األمور الشرعية‪ ،‬وال يف غريها من القضايا العلمية‪ ،‬أو العملية‪ ،‬مبعىن‪ :‬أنه ال‬
‫جيوز لإلنسان أن يتعبد بعبادة بناء على رؤيا رآها‪ ،‬وهذه العبادة مل يشرعها اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬وال جيوز لإلنسان أن يبين على ذلك قضية علمية‪،‬‬
‫أو عملية‪ ،‬مبعىن‪ :‬أنه مثال‪ :‬رأى يف املنام أن تركيب الدواء الفالين يفيد من املرض الفالين‪ ،‬فهذا ال يُبىن عليه حكم‪ ،‬وال يصح أن يعتمد عليه‪،‬‬
‫أيضا فيما يتعلق بقضايا احلب والبغض‪ ،‬واعتقاد والية إنسان أو فساده‪ ،‬أو حنو ذلك‪ ،‬وهكذا حينما يرى أنه يف املنام يؤمر بكذا‬ ‫وهكذا ً‬
‫وكذا من األشياء اليت يطالَب بفعلها‪ ،‬فإنه ال يُبىن على ذلك حكم‪ ،‬كأن يأتيه إنسان فيقول له مثال‪ :‬سافر إىل املكان الفالين‪ ،‬أو ال تسافر‪،‬‬
‫أو اذهب إىل فالن‪ ،‬أو اش ِرت الشيء الفالين‪ ،‬فهذا كله ال يُبىن عليه حكم من األحكام‪.‬‬
‫وحينما نقول بأن رؤى األنبياء حق‪ ،‬وأنه يقطع هبا‪ ،‬وحنن نتحدث عن موضوع الوحي‪ ،‬وأن الرؤيا الصاحلة جزء من الوحي‪ ،‬ونوع‬
‫أيضا هناك سؤال‬ ‫من أنواعه‪ ،‬فهل معىن ذلك‪ :‬أن من رأى رؤيا صاحلة أنه أوحي إليه وحي هو من نظري الوحي إىل األنبياء؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬مث ً‬
‫آخر‪ :‬حينما نقول بأن رؤيا األنبياء حق‪ ،‬وأن األنبياء ‪-‬عليهم السالم‪ -‬من أنواع الوحي إليهم‪ :‬الرؤى‪ ،‬فهل معىن ذلك‪ :‬أن شيئًا من القرآن‬
‫قد نزل على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وهو يف حال النوم؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬نعم لقد أوحي إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بأشياء وهو‬
‫يف حال النوم‪ ،‬لكن ليس منها القرآن‪ ،‬وقد يسأل بعضكم‪ :‬ما تقول فيما صح عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬كما أخرج اإلمام مسلم‬
‫متبسما‪ ،‬فقلنا‪ :‬ما‬
‫ً‬ ‫يف صحيحه‪ ،‬من حديث أنس‪( :‬بينما رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بني أظهرنا‪ ،‬إذ أغفى إغفاءة‪ ،‬مث رفع رأسه‬
‫اك الْ َك ْوثََر} الكوثر‪ 1:‬إىل آخرها)‪ ،‬فما‬ ‫علي آنفا سورة‪ ،‬فقرأ‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم {إِنَّا أ َْعطَْي نَ َ‬‫أضحكك يا رسول اهلل؟ فقال‪ :‬أنزل ّ‬
‫اجلواب؟ فنقول‪ :‬هذه اإلغفاءة كما عرب بذلك أنس بن مالك ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬مل تكن نومة‪ ،‬ومعلوم أن اإلغفاءة هي نومة يسرية‪ ،‬نومة‬
‫خفيفة‪ ،‬فالنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬جالس بني أصحابه حيدثهم‪ ،‬وال يتصور أنه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬ينام بينهم يف جملسه‪ ،‬وإمنا هذه‬
‫هي احلالة اليت كانت تعرتيه عند نزول الوحي‪ ،‬اليت يقال هلا‪ :‬بَُرحاء الوحي‪ ،‬فقد كانت تعرتي النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬حالة يرتبد هلا‬
‫وجهه‪ ،‬ويسيل منه العرق‪ ،‬يالحظ ذلك أصحابه‪ ،‬فاعرتته هذه احلالة‪ ،‬فعُِّرب عنها بذلك‪.‬‬
‫مناما‪ ،‬وبني أن الرؤيا نوع من أنواع الوحي‪ ،‬وبني أن بعض‬ ‫فإذن‪ :‬ينبغي أن نفرق بني ثالثة أشياء‪ :‬بني دعوى ما نزل من القرآن ً‬
‫القرآن نزل عليه وهو يف فراشه‪ ،‬فيمكن أن نقول‪ :‬إن بعض القرآن نزل والنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف فراشه‪ ،‬ولكن وجود اإلنسان يف‬
‫قبل‪ :‬بالفراشي والنومي‪ ،‬فنقول‪ :‬نزل على النيب ‪-‬صلى‬ ‫فراشه ال يعين أنه نائم‪ ،‬وهذا ما يسميه السيوطي فيما قرأناه من العناوين اليت سردهتا ُ‬
‫َّاس املائدة‪67 :‬؛ ألن النيب ‪-‬صلى اهلل‬ ‫ك ِم َن الن ِ‬ ‫ص ُم َ‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ -‬بعض اآليات وهو يف فراشه‪ ،‬كما يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪ :-‬واللَّه ي ع ِ‬
‫َ ُ َْ‬
‫عليه وسلم‪ -‬بات ليلة قل ًقا‪ ،‬ومتىن أن ُحيرس‪ ،‬فسمع قعقعة السالح‪ ،‬فقال‪ :‬من هذا؟ فقال‪ :‬سعد بن أِّب وقاص ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،-‬فهيأ اهلل‬
‫َّاس} املائدة‪67 :‬؛ فقال‪:‬‬ ‫ك ِم َن الن ِ‬ ‫‪-‬عز وجل‪ -‬له ما متناه من حراسة سعد ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عليه‪{ :‬واللَّه ي ع ِ‬
‫ص ُم َ‬ ‫َ ُ َْ‬
‫انصرفوا‪ ،‬فأمرهم أن ينصرفوا‪ ،‬وكذلك أيضا‪ :‬اآلية اليت يف توبة اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬على الثالثة الذين خلفوا‪ ،‬فقد جاء يف الصحيح‪ :‬أهنا نزلت‬
‫وقد بقي من الليل ثلثه ‪-‬يعين‪ :‬يف آخر الليل‪ -‬وهو ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عند أم سلمة يف فراشها‪ ،‬فإذن كون النيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬يف فراشه ال يعين أنه نائم‪ ،‬فيمكن أن ينزل شيء من القرآن على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وهو يف فراشه‪ ،‬وأما وهو نائم فيوحى‬
‫إليه بالرؤى الصاحلة‪ ،‬وحنو ذلك‪ ،‬وأما بالقرآن فلم يرد‪.‬‬
‫وهنا سؤال‪ ،‬وهو أن هذا احلديث الذي يف الصحيح‪ :‬أن اآليات اليت تاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬فيها على الثالثة الذين خلفوا نزلت‬
‫عليه وهو يف فراش أم سلمة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ ،‬وقد أخرج الشيخان من حديث عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬أهنا قالت‪( :‬كان الناس يتحرون‬
‫هبداياهم يوم عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬فاجتمعن صواحيب‪ ،‬يعين‪ :‬أزواج النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬اجتمعن إىل أم سلمة‪ ،‬فقلن هلا‪ :‬إن الناس يتحرون‬
‫هبداياهم يوم عائشة‪ ،‬وإنا نريد اخلري كما تريده عائشة‪ ،‬فقويل لرسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يأمر الناس‪ :‬أن يهدوا له أينما كان‪ ،‬فذكرت‬
‫أم سلمة له ذلك‪ ،‬فسكت‪ ،‬فلم يرد عليها‪ ،‬فعادت الثانية‪ ،‬فلم يرد عليها‪ ،‬فلما كانت الثالثة قال‪ :‬يا أم سلمة‪ ،‬ال تؤذيين يف عائشة‪ ،‬فإنه‬
‫علي الوحي وأنا يف حلاف امرأة منكن غريها)‪ ،‬فاآلن اإلشكال يف‪ :‬أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬نفى أن يكون نزل شيء‬ ‫واهلل ما نزل ّ‬
‫من الوحي وهو يف حلاف امرأة غري عائشة‪ ،‬ويف احلديث السابق‪ :‬نزل وهو يف فراش أم سلمة‪ ،‬وذلك يف أواخر حياة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬أي‪ :‬حديث أم سلمة‪ ،‬ملا نزل الوحي يف توبة الثالثة الذين خلفوا‪ ،‬ويف رواية أخرى يف الصحيحني‪ ،‬قال فيه‪( :‬ال تؤذيين يف عائشة‪،‬‬
‫فإن الوحي مل يأتين وأنا يف ثوب امرأةٍ إال عائشة)‪ ،‬فما اجلواب؟ ميكن أن يقال‪ :‬هذا قبل أن ينزل عليه يف آخر األمر‪ ،‬وهو يف فراش أم سلمة‬
‫‪-‬رضي اهلل عنها‪ ،-‬وميكن أن جياب جبواب آخر‪ ،‬وهو‪ :‬ما جاء عن عائشة من طرق متعددة ال ختلو من ضعف‪ ،‬وقد صحح بعض أهل‬
‫العلم بعض هذه الطرق‪ ،‬ومنهم الذهيب ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬واحلاكم‪ ،‬فعن عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬قالت‪( :‬يل خالل تسع ‪-‬أي‪ :‬خصال تسع‪ ،‬مل‬
‫فخرا على صواحبايت‪ ،‬وذكرت منها قالت‪ :‬وكان يأتيه الوحي وأنا وهو‬
‫تكن ألحد إال ما آتى اهلل مرمي ‪-‬عليها السالم‪ ،-‬واهلل ما أقول هذا ً‬
‫تسعا ما أعطيتها امرأة بعد مرمي بنت عمران‪ ،‬وذكرت‪ :‬وإ ْن كان الوحي‬
‫يف حلاف)‪ ،‬أي‪ :‬واحد‪ ،‬وأيضا جاء عنها أهنا قالت‪( :‬لقد أعطيت ً‬
‫لينزل عليه وإين ملعه يف حلافه)‪ ،‬ويف رواية عن أِّب يعلى‪ ،‬وهي الشاهد‪( :‬وإن كان الوحي لينزل عليه وهو يف أهله‪ ،‬يعين‪ :‬وهو مع إحدى نسائه‬
‫يف فراشه‪ ،‬فينصرفون عنه‪ ،‬تنصرف عنه امرأته‪ ،‬وإن كان لينزل عليه وأنا معه يف حلافه)‪ ،‬فيكون هذا ‪-‬لو صح‪ -‬فيه جواب عن هذا اإلشكال‪،‬‬
‫فنجيب هبذا اجلواب‪ ،‬فنقول‪ :‬إنه ينزل عليه واملرأة يف حلافه‪ ،‬فلما ينزل عليه تنصرف عنه‪ ،‬وأما عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬فهي الوحيدة اليت‬
‫كانت تبقى معه يف حلافه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬وامللَك ينزل عليه‪ ،‬هذا ما يتعلق بالرؤيا الصاحلة‪ ،‬وهي النوع األول الذي يدخل حتت‬
‫قوله‪{ :‬إَِّال َو ْحيًا} الشورى‪.51 :‬‬
‫الروع‪ ،‬كما صح عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬‫النوع الثاني الذي يدخل حتت قوله‪{ :‬إَِّال َو ْحيًا} الشورى‪ ،51 :‬وهو‪ :‬النفث في ُّ‬
‫وسلم‪( :-‬إن روح القدس ‪-‬يعين‪ :‬جربيل ‪-‬عليه السالم‪ -‬نفث يف ُروعي‪ :‬أنه لن متوت نفس حىت تستويف رزقها وأجلها‪ ،‬فاتقوا اهلل وأمجلوا‬
‫الروع داخل حتت قوله‪ :‬إَِّال َو ْحيًا‪.‬‬
‫يف الطلب)‪ ،‬فالنفث يف ُّ‬
‫والنوع الثالث الداخل حتت قوله‪{ :‬إَِّال َو ْحيًا}‪ ،‬هو‪ :‬االلهام‪ ،‬وهو يشبه النوع الثاين‪ ،‬وحقيقته‪ :‬إلقاء املعاين يف القلب‪ ،‬ولو من‬
‫غري نزول امللك‪ ،‬يعين‪ :‬حينما يلقي امللك املعىن يف القلب يقال فيه‪ :‬نفث يف الروع‪( ،‬إن روح القدس نفث يف روعي)‪ ،‬وإلقاء املعىن يف القلب‬
‫ولو من غري نزول امللك ميكن أن يقال عنه‪ :‬إهلام‪ ،‬ومها متقاربان‪ ،‬فهذا هو الفرق بني اإلهلام واإللقاء يف الروع‪ ،‬وهذه الكلمة ‪-‬اإلهلام‪ -‬وردت‬
‫ورَها َوتَ ْق َو َاها} الشمس‪،8-7 :‬‬ ‫س َوَما َس َّو َاها * فَأَ ْهلََم َها فُ ُج َ‬‫يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يف موضع واحد‪ ،‬وهو قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪َ { :-‬ونَ ْف ٍ‬
‫اخلرية‪ ،‬واآلية تبطل ذلك‪ ،‬لكن‬ ‫فذكر‪ :‬اإلهلام باخلري‪ ،‬واإلهلام بالشر‪ ،‬وهذا فيه رد على من قال‪ :‬إن اإلهلام إمنا يكون باخلري‪ ،‬إلقاء املعاين ِّ‬
‫ميكن أن يقال‪ :‬إن اإلهلام غالبًا يكون يف عرف االستعمال بإلقاء املعاين الطيبة يف القلب‪ ،‬فيقال‪ :‬فالن رجل ُم َلهم‪ ،‬أهلمه اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫اخلرية‪ ،‬وإذا قيدت فهي ْبسب ما قيدت به‪ ،‬فيقال‪ :‬أهلمه‬ ‫رشده‪ ،‬وميكن أن يقال‪ :‬إن هذه الكلمة إذا أطلقت فقيل‪ :‬إهلام فهي يف املعاين ِّ‬
‫ورَها َوتَ ْق َو َاها} الشمس‪ ،8-7 :‬ومعىن‪{ :‬فَأَ ْهلََم َها فُ ُج َ‬
‫ورَها َوتَ ْق َو َاها}‪ :‬أنه بني هلا‬ ‫رشده‪ ،‬أو أهلمه فجوره‪َ { ،‬ونَ ْف ٍ‬
‫س َوَما َس َّو َاها * فَأَ ْهلََم َها فُ ُج َ‬
‫َّج َديْ ِن} البلد‪.10 :‬‬
‫طريق اخلري وطرق الشر‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :‬وَه َديْنَاهُ الن ْ‬
‫الفصيل ضرع أمه‪ :‬إذا أخذه بنهم وامتص ما فيه‪ ،‬ويقولون‪ :‬التَ َهم الطعام يعين‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وأما أهل اللغة فهم يفسرون اإلهلام بقوهلم‪َ :‬هلَم‬
‫أيضا‪ :‬إلقاء الشيء يف الروع‪ ،‬وبعضهم خيصه مبا كان من جهة اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬واملأل األعلى‪ ،‬واإلهلام‬ ‫أخذه وأكله بسرعة‪ ،‬ويقولون‪ :‬منه ً‬
‫إحساسا تفرق به بني اهلدى والضالل‪ ،‬وهذا ميكن‬
‫ً‬ ‫يفسر مبا ذكرت أوال ‪-‬واهلل تعاىل أعلم‪ ،‬فاهلل أهلم النفس فجورها وتقواها‪ ،‬أي‪ :‬ألقى فيها‬
‫أن يطلق عليه‪ :‬اإلهلام الفطري‪ ،‬أو يقال‪ :‬بني هلا طريق اخلري وطريق الشر مبا أرسل إليها من الرسل‪ ،‬ومبا غرس فيها من الفطر‪ ،‬ومبا أوجد فيها‬
‫من العقل الذي تفرق به بني كثري من األمور النافعة والضارة‪ .‬وأيضا من اآليات الواردة اليت تفسر قوله‪{ :‬فَأَ ْهلََم َها فُ ُج َ‬
‫ورَها َوتَ ْق َو َاها} الشمس‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫السبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ورا} اإلنسان‪.3 :‬‬ ‫‪ 8‬قوله ‪-‬تبارك تعاىل‪{ :‬إنَّا َه َديْنَاهُ َّ َ‬
‫يل إ َّما َشاكًرا َوإ َّما َك ُف ً‬
‫ساجدا‪ ،‬وأدعو رِّب مبا قد‬ ‫ً‬ ‫(فأخر حتت ساق العرش‬ ‫ّ‬ ‫ومما ورد يف السنة حديث الشفاعة الطويل‪ ،‬املخرج يف الصحيحني‪ ،‬وفيه‪:‬‬
‫تعطه‪ ،‬واشفع يف هؤالء)‪ ،‬وجاء يف دعاء النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪( :-‬اللهم أهلمين رشدي)‪ ،‬وجاء‬ ‫يلهمنيها‪ ،‬فيقال‪ :‬ارفع رأسك‪ ،‬وسل ْ‬
‫أيضا يف وصف أهل اجلنة‪( :‬أهنم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون الن َفس)‪ ،‬وصح عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أنه قال‪( :‬لقد‬ ‫ً‬
‫كان فيمن قبلكم حمدَّثون ‪-‬أو قال‪ُ :‬م َلهمون‪ ،‬فإن يكن يف أميت فعمر)‪ ،‬ومعىن‪( :‬فإن يكن يف أميت فعمر) أي‪ :‬على سبيل التحقيق‪ ،‬وهو‬
‫أسلوب عرِّب معروف‪ ،‬تقول‪ :‬إن كان فيه م نابغ فهو فالن‪ ،‬إن كان فيهم كرمي فهو فالن‪ ،‬وأنت تقصد حتقيق الصفة يف هذا املذكور‪ ،‬وهو‬
‫أحد املعاين اليت فُسر هبا قول النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪( :-‬لو كنت متخ ًذا خليال الختذت أبا بكر خليال)‪.‬‬
‫فما معىن حمدَّثون؟ ميكن أن يفسر‪ :‬بأهنم يلهمون الشيء كأهنم ُحدثوا به‪ ،‬يعين‪ :‬خوطبوا به‪ ،‬وميكن أن يكون‪ :‬أن امللك يلقيه يف‬
‫قلوهبم‪ ،‬وهي أمور تُلقى يف قلب هذا احملدَّث‪ ،‬وينشرح هلا صدره‪ ،‬ويتبعها التوفيق يف األعمال واألقوال‪ ،‬وكان عمر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬من‬
‫هؤالء‪ ،‬فلما كان يستعرض األجناد وهم يذهبون إىل العراق‪ ،‬فمروا باملدينة‪ ،‬وكان يستعرضهم خارجها‪ ،‬فوصلت بعض الكتائب من الشباب‪،‬‬
‫فلما بلغوا عمر وهو يستعرض اجليش كتيبة كتيبة‪ ،‬فلما بلغت تلك الكتيبة من الشباب عمر عند استعراضه للجيش أشاح عنهم بوجهه‪،‬‬
‫أعرض عنهم‪ ،‬كأنه كره النظر إليهم‪ ،‬يقول بعض من شهد بعض هذا املوقف‪ :‬فرأيت عامتهم يطاعنوننا يوم النهروان مع اخلوارج‪ ،‬فعمر ‪-‬‬
‫رضي اهلل عنه‪ -‬ملا كان يستعرض اجليش الذي ذهب للجهاد مرت به كتيبة فكره النظر إليها‪ ،‬وأعرض عنها‪ ،‬فيقول بعض من شاهد‪ :‬رأيت‬
‫امللهمني‪ ،‬وهذا من الكشف الذي يذكره شيخ االسالم ابن‬ ‫عامتهم يطاعنوننا يوم النهروان‪ ،‬يقاتلوننا يوم النهروان‪ ،‬فعمر من هؤالء احملدَّثني َ‬
‫تيمية ‪-‬رمحه اهلل‪ ، -‬الكشف الصحيح‪ ،‬ليس الكشف الصويف‪ ،‬إمنا الكشف الذي يقره أهل السنة واجلماعة‪ ،‬وليس معىن ذلك أنه معصوم‪،‬‬
‫مجيعا‪ ،‬إذن‪ :‬هذه‬ ‫ومعلوم أن عمر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أخطأ يف أشياء‪ ،‬وجادل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف قضايا الصلح‪ ،‬كما تعلمون ً‬
‫ثالثة أنواع تدخل حتت قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :-‬إَِّال َو ْحيًا} الشورى‪.51:‬‬
‫اب} الشورى‪ ،51:‬فكما كلم اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬موسى ‪-‬عليه السالم‪ ،‬وكما كلم‬ ‫وأما قول اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :-‬أَو ِمن ور ِاء ِحج ٍ‬
‫ْ ْ ََ َ‬
‫وسى لِ ِمي َقاتِنَا َوَكلَّ َمهُ َربُّهُ}‬
‫يما} النساء‪ ،164 :‬وقال‪َ { :‬ولَ َّما َجاءَ ُم َ‬
‫ِ‬
‫حممدا ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ ،-‬قال تعاىل‪َ { :‬وَكلَّ َم اللَّهُ ُم َ‬
‫وسى تَ ْكل ً‬ ‫ً‬
‫َّاس بِ ِر َس َاالِيت َوبِ َك َال ِمي} األعراف‪ ،144 :‬وأما النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فقد وقع له‬ ‫ك َعلَى الن ِ‬ ‫اصطََفْيتُ َ‬‫األعراف‪ ،143 :‬وقال‪{ :‬إِ ِّين ْ‬
‫الكالم اإلهلي يف ليلة املعراج‪ ،‬ويفهم ذلك من آية النجم‪ ،‬ومن حديث املعراج‪ ،‬ففي آية النجم قال اهلل ‪-‬عز وجل‪ُ { :-‬مثَّ َدنَا} يعين‪ :‬جربيل‪،‬‬
‫اب قَو َس ْ ِ‬
‫ني أ َْو أ َْد َن} النجم‪ ،9-8 :‬يعين‪ :‬فكان قربه من حممد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قاب قوسني أو أدن‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫{ ُمثَّ َدنَا فَتَ َد َّىل * فَ َكا َن قَ َ ْ‬
‫قرب جربيل من النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪{ ،-‬فَأ َْو َحى إِ َىل َعْب ِدهِ َما أ َْو َحى} النجم‪ ،10 :‬أي‪ :‬فأوحى جربيل إىل عبد اهلل‪ ،‬وهو حممد ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ما أوحى‪ ،‬يعين‪ :‬ما أمره اهلل أن يوحيه إليه‪ ،‬هذا املعىن املشهور‪ ،‬وهو األرجح يف تفسري اآلية‪ ،‬وال شاهد فيه‪ ،‬وإمنا‬
‫الدنو هو دنو النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬من‬ ‫ذكرت هذه اآلية بناء على التفسري اآلخر‪ ،‬وهو أن قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪ُ { :-‬مثَّ َدنَا فَتَ َد َّىل}‪ُّ ،‬‬
‫اجلبار ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬فكان منه بالقرب القريب‪ ،‬وهذا توضحه رواية عند البخاري يف النسخة اليونانية‪( :‬مث دنا للجبار فأوحى اهلل إىل عبده‬
‫ما أوحى) ‪ ،‬ففي هذه الرواية هذه اللفظة‪( :‬مث دنا للجبار)‪ ،‬فلما دنا أوحى اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ما أراد إحياءه‪،‬‬
‫ويف بعض النسخ‪( :‬مث دنا اجلبار)‪ ،‬واألقرب‪ :‬أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬دنا من جربيل‪ ،‬القرب كان من جربيل ‪-‬عليه الصالة والسالم‪-‬‬
‫ُخَرى} النجم‪ ،13 :‬رأى جربيل مرة أخرى على هيئته احلقيقية‬ ‫وترجحه القرينة اليت يف اآلية‪ ،‬وهي قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪َ { :-‬ولََق ْد َرآهُ نَْزلَةً أ ْ‬
‫املالئكية‪.‬‬
‫وأما من السنة فحديث مالك بن صعصعة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬الذي أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬يف قصة فرض الصالة‪ ،‬وفيه‪:‬‬
‫علي مخسون صالة‪ ،‬فقال‪ :‬أنا أعلم بالناس‬ ‫علي مخسون صالة‪ ،‬فأقبلت حىت جئت موسى‪ ،‬فقال‪ :‬ما صنعت؟ قلت‪ :‬فُرضت ّ‬ ‫(مث فُرضت ّ‬
‫منك‪ ،‬عاجلت بين إسرائيل أشد املعاجلة‪ ،...‬إىل أن قال‪ :‬فرجعت‪ ،‬يعين‪ :‬إىل اهلل‪ ،‬فسألته‪ ،‬فجعلها أربعني‪ ،‬مث كرر ذلك مع موسى‪ ،‬مث يرجع‬
‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إىل ربه ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،-‬مث بعد ذلك نودي‪ :‬أين قد أمضيت فريضيت‪ ،‬وخففت عن عبادي‪ ،‬وأج ِزي احلسنة‬
‫عشرا)‪ ،‬ويف رواية‪( :‬فراجعت رِّب فقال‪ :‬هي مخس‪ ،‬وهي مخسون‪ ،‬يعين‪ :‬مخس فرائض‪ ،‬واحلسنة بعشر أمثاهلا‪ ،‬فهي مخسون يف امليزان‪ ،‬ال‬ ‫ً‬
‫لدي)‪ ،‬فظاهره‪ :‬أنه كالم مباشر من اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬فاهلل كلم موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬وهو يف الطور بتكليم مباشر‪ ،‬وكلم النيب‬ ‫يبدل القول ّ‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وهو يف السماء‪.‬‬
‫ومن النصوص املتعلقة بالكالم اإلهلي املباشر وهي داخلة حتت الكالم من وراء حجاب ما ورد يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يف ثالث‬
‫ض ِمْن ُه ْم َم ْن َكلَّ َم اللَّهُ}‬ ‫ض ُه ْم َعلَى بَ ْع ٍ‬ ‫ض ْلنَا بَ ْع َ‬
‫الر ُس ُل فَ َّ‬
‫ك ُّ‬ ‫سور‪ ،‬وهي أربع آيات ال خامس هلا‪ ،‬ففي سورة البقرة قال اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :‬تِْل َ‬
‫ب‬
‫ال َر ِّ‬‫وسى لِ ِمي َقاتِنَا َوَكلَّ َمهُ َربُّهُ قَ َ‬
‫يما} النساء‪ 164 :‬وآيتان يف األعراف‪َ { :‬ولَ َّما َجاءَ ُم َ‬ ‫ً‬
‫البقرة‪ ،253 :‬ويف النساء‪{ :‬وَكلَّم اللَّه موسى تَ ْكلِ‬
‫َ َ ُُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاس بِ ِر َس َاالِيت َوبِ َك َال ِمي فَ ُخ ْذ َما آتَْيتُ َ‬
‫ين}‬‫ك َوُك ْن م َن الشَّاك ِر َ‬ ‫ك َعلَى الن ِ‬ ‫وسى إِ ِّين ْ‬
‫اصطََفْيتُ َ‬ ‫ال يَا ُم َ‬ ‫ك} األعراف‪ ،143 :‬وكذا‪{ :‬قَ َ‬ ‫أَِرِين أَنْظُْر إِلَْي َ‬
‫األعراف‪.144 :‬‬
‫وأما قوله‪{ :‬أ َْو يُْرِس َل َر ُس ًوال} الشورى‪ ،51 :‬فيحتمل معنيني‪:‬‬
‫• املعىن األول‪ :‬أنه يرسل رسوال مالئكيًّا إىل رسول بشري؛ ألن هذه عادة اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬مع األنبياء ‪-‬عليهم السالم‪ ،‬يرسل إليهم‬
‫امللَك‪.‬‬
‫• واملعىن الثاين‪ :‬ميكن أن يكون‪{ :‬أ َْو يُْرِس َل َر ُس ًوال}‪ ،‬أن يرسل رسوال من البشر إىل نظرائه من اآلدميني؛ ألن اهلل ال يوحي إىل كل‬
‫واحد من بين آدم‪ ،‬وإمنا يرسل منهم رسوال؛ لينذرهم ويبشرهم‪ ،‬فهي حتتمل املعنيني‪ ،‬وال تعارض بينهما‪ ،‬فكالمها صحيح‪.‬‬
‫وهذا امللَك كيف يأيت للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؟‪ ،‬يأيت للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بصور متعددة‪ ،‬أذكرها يف الدرس القادم‬
‫بإذن اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬وصلى اهلل على نبينا حممد‪ ،‬وآله‪ ،‬وصحبه‪.‬‬
‫الدرس الثاني من الوحدة الثانية‪ :‬فضل طلب العلم وآداب التعامل مع العلماء‬ ‫الدرس‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله‪ ،‬وصحبه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬ ‫الثاين من‬
‫أذكر بقضية أظن أهنا مهمة‪ ،‬وهي‪ :‬أن هذه الدورات والدروس اليت حتضروهنا‪ ،‬هي‪ :‬عمل صاحل جتتمعون عليه‪ ،‬واهلل‬ ‫فقبل أن أبدأ ِّ‬ ‫الوحدة‬
‫صل‪ ،‬فكلكم يف عبادة‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫حصل من العلم شيئًا أو مل ُحي ِّ‬‫الثانية‪- :‬عز وجل‪ -‬جيزيكم عليه اجلزاء األوىف‪ ،‬إذا كان لإلنسان فيه نية‪ ،‬سواء يف ذلك َّ‬
‫من أجل العبادات‪ ،‬وال أعلم عمالً بعد الفرائض أفضل وأشرف مما أنتم فيه‪ ،‬فهذه واحدة‪.‬‬ ‫فضل‬
‫األمر اآلخر‪ :‬أن هذه الدروس وهذه الدورات مل تعقد من أجل ختريج علماء‪ ،‬وإمنا كما قيل‪:‬‬ ‫طلب‬
‫ولكن تأخذ األذهان منه *** على قدر القرائح والفهوم‬ ‫العلم‬
‫وآداب فكل إنسان ْبسب ما أعطاه اهلل ‪-‬عز وجل‪.-‬‬
‫فهذه دروس مبختلف العلوم مبسطة وميسرة‪ ،‬يفهم منها كل واحد ْبسب ما أعطاه اهلل من الفهوم واملدارك‪ ،‬مث بعد ذلك يستطيع‬ ‫التعامل‬
‫الواحد منكم أن يسلك الطريق‪ ،‬وأن يسري على اجلادة‪ ،‬وأن يستمر يف التحصيل‪ ،‬وأن يتتبع أهل العلم‪ ،‬وأن ينظر يف الكتب‪ ،‬وأن يسأل‪،‬‬ ‫مع‬
‫كثريا‪ ،‬إذا كان له جد وتشمري مع ذهن ونية‪ ،‬ولكن كل إنسان يف مثل هذه اجملالس يأخذ ْبسب‬ ‫ال‬
‫ً‬ ‫حتصي‬ ‫حيصل‬ ‫ذلك‬ ‫بعد‬ ‫مث‬ ‫يناقش‪،‬‬ ‫أن‬
‫و‬ ‫العلماء‬
‫ً‬
‫ما أعطاه اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬على قدر أخذه‪ ،‬فهذه قضية ينبغي أن تكون واضحة‪ ،‬ومل نعقد هذه الدورات من أجل أن خنرج علماء‪ ،‬مث بعد‬
‫ذلك نُ ْسأَل‪ ،‬ويقال‪ :‬أين هؤالء العلماء الذين خترجوا؟ فلم تعقد هذه الدورات من أجل هذا‪.‬‬
‫مث أيضا من األمور اليت ينبغي التنبه هلا يف مثل هذه الدورات واجملالس‪ :‬أن من حضرها يستفيد علما‪ ،‬ويستفيد أدبا‪ ،‬ويستفيد هديا‬
‫ودال ومستا‪ ،‬وصحبة صاحلة‪ ،‬وحتفه املالئكة بأجنحتها‪ ،‬وتغشاه السكينة‪ ،‬ويذكره اهلل يف من عنده‪ ،‬وقد يقوم من هذا اجمللس مغفورا له‪ ،‬وأي‬
‫اجملالس حيصل فيها مثل هذه الفضائل سوى جمالس العلم؟!‬
‫فهذه األمور ينبغي أن تالحظ‪ ،‬إضافة إىل ما يف هذه الدروس والدورات من‪ :‬إحياء العلم‪ ،‬وحتبيبه للنفوس‪ ،‬وإلف الشباب يف‬
‫مقتبل العمر هلذه اجملالس‪ ،‬حينما حيملون الكتاب والقلم‪ ،‬وحيضرون‪ ،‬ويدونون‪ ،‬ويرتبون هذه الرتبية اليت هي‪ :‬من أرقى وأفضل مراتب الرتبية‪،‬‬
‫فهذا يكفي أن حيضر الشاب يف مقتبل عمره‪ ،‬وهو‪ :‬حيمل كتابا‪ ،‬وكذلك حيضر الكبري‪ ،‬وهو‪ :‬حيمل كتابا‪ ،‬فيتعلم األدب والتواضع‪ ،‬ويتعلم‬
‫التعلُّم‪ ،‬مث حيصل له من بركة اجمللس أشياء كثرية جدا يف الفهم ال حتصل له إذا قرأ يف بيته‪،‬‬
‫أشياء كثرية مما يتعلق باإللقاء وطريقة التعليم و َ‬
‫وانظروا أنتم يف هذا الوقت اليسري بني املغرب والعشاء لو جلست يف بيتك كيف تفرق عليك الوقت‪ ،‬بينما أنت هنا قد جتد أن هذا الوقت‬
‫يف غاية الطول‪ ،‬وهذا ال حيصل إذا خرج اإلنسان من املسجد‪ ،‬فانظر ماذا تقضي أنت من الفوائد‪ ،‬وانظر ماذا يقضي كثري من الناس يف مثل‬
‫هذا الوقت خارج املسجد‪ ،‬فهو‪ :‬وقت قصري‪ ،‬وهكذا األوقات األخرى اليت حيضرها اإلنسان يف جمالس العلم‪ ،‬فيحصل له من أنواع الربكات‬
‫شيء كثري؛ ولذلك أحث اإلخوان على احلرص على جمالس العلم‪ ،‬ويكون ذلك بإذن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عاصما هلم من كثري من الشرور‪،‬‬
‫والفنت واآلفات‪ ،‬وبنيات الطريق‪ ،‬وقطاع الطرق‪ ،‬وما أشبه ذلك ممن يقطعون عليهم سريهم إىل اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬فهذه أمور مهمة‪.‬‬
‫وأما من مل يعتد ثين الركب يف جمالس العلم اليت بكى عليها معاذ بن جبل ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬عند موته‪ ،‬فقال‪" :‬أبكي على ثالث‪،‬‬
‫حصل من الكتب‪،‬‬ ‫وذكر منها‪ :‬مزامحة العلماء بالركب"‪ ،‬من مل يعتد على هذه اجملالس‪ ،‬ويثين ركبته‪ ،‬ويتعلم كيف يتواضع ويتأدب‪ ،‬فإنه وإن َّ‬
‫فإنه حيصل حتصيال مع خلل كثري يف األدب‪ ،‬يتطاول فيه على الكبري والصغري‪ ،‬ويرتفع ويتكرب ويتعاىل على عباد اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬وال ميأل‬
‫عينه أحد‪ ،‬ال من السلف وال من اخللف‪ ،‬فهو‪ :‬يغمز هذا‪ ،‬ويلمز هذا‪ ،‬ويقع يف عرض هذا‪ ،‬وينتقد هذا‪ ،‬وينتقص ذاك‪ ،‬بينما إذا تعلم‬
‫الطالب كيف يتأدب‪ ،‬وكيف حيضر هذه اجملالس‪ ،‬ارتفعت عنه كثري من هذه اآلفات‪ ،‬فإذا تكلم يتكلم بأدب‪ ،‬وحيفظ لسانه‪ ،‬ويراقب حركاته‬
‫صل من حضر جمالس العلم يف املساجد من خري كثري‪.‬‬ ‫وسكناته‪ ،‬وال يرتفع‪ ،‬وال يتكرب عن فائدة أو عن جملس علم‪ ،‬فكم ُحي ِّ‬
‫أسأل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يبارك لنا ولكم يف مثل هذه اجملالس‪ ،‬وصلى اهلل على نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله‪ ،‬وصحبه‪.‬‬
‫الدرس الثالث من الوحدة الثانية‪ :‬الصورة األوىل من نزول الوحي‬ ‫الدرس‬
‫بعد ذلك أقول‪ :‬بقي من موضوعنا السابق بقية يسرية‪ ،‬فكنا نتحدث عن آية الشورى‪ ،‬وهي قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪َ { :‬وَما َكا َن لِبَ َش ٍر‬ ‫الثالث‬
‫وح َي بِِإ ْذنِِه َما يَ َشاءُ} الشورى‪ ،51:‬وقلنا إن قوله‪{ :‬إَِّال َو ْحيًا}‪ ،‬يشمل‪:‬‬ ‫ِ ِ ِ ٍ‬
‫اب أَو ي رِسل رسوالً فَي ِ‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫أَ ْن يُ َكلِّ َمهُ اللَّهُ إَّال َو ْحيًا أ َْو م ْن َوَراء ح َج ْ ُْ َ َ ُ ُ‬
‫‪ .1‬الرؤيا الصاحلة‪.‬‬ ‫الوحدة‬
‫‪ .2‬والنفث يف الروع‪.‬‬ ‫الثانية‪:‬‬
‫‪ .3‬واإلهلام‪.‬‬ ‫الصورة‬
‫اب}‪ ،‬يتضمن‪ :‬التكليم اإلهلي املباشر‪.‬‬‫وقوله‪{ :‬أَو ِمن ور ِاء ِحج ٍ‬ ‫األوىل من‬
‫ْ ْ ََ َ‬
‫وقوله‪{ :‬أ َْو يُْرِس َل َر ُسوالً}‪ ،‬أي‪ :‬أن يرسل رسوال من املالئكة إىل رسول من البشر‪ ،‬أو أن يرسل رسوال بشريا إىل الناس؛ ألن اهلل‬ ‫نزول‬
‫الوحي ال خياطب الناس فيما أراد منهم‪ ،‬وإمنا يرسل رسوال إليهم خياطبهم مبا أراد اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ .‬وامللَك حينما يأيت للرسول البشري‪ ،‬أو قل‬
‫َ‬
‫لنبينا ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬يأتيه بصور متعددة‪ ،‬فهذه هي الصور‪:‬‬
‫الصورة األولى منها‪ :‬أن يأتيه على صورته الحقيقية‪ ،‬وقد حصل ذلك للنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مرتين‪ ،‬املرة األوىل‪،‬‬
‫وهي‪ :‬أنه رآه النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على كرسي‪ ،‬أو عرش بني السماء واألرض‪ ،‬كما يف حديث جابر الذي يفسر قول اهلل ‪-‬عز‬
‫ُخَرى * ِعْن َد ِس ْد َرةِ الْ ُمْنتَ َهى} النجم‪ ،14-13 :‬فهذه هي املرة الثانية‪ :‬عند سدرة املنتهى‪ ،‬واملرة األوىل‪ :‬كانت يف‬
‫وجل‪َ { :-‬ولََق ْد َرآهُ نَْزلَةً أ ْ‬
‫األرض‪ ،‬كما يف حديث جابر‪( :‬فبينا أنا أمشي مسعت صوتا من السماء‪ ،‬فرفعت رأسي‪ ،‬فإذا امللك الذي جاءين ْبراء جالس على كرسي‬
‫بني السماء واألرض)‪ ،‬ويف رواية‪( :‬مث نوديت‪ ،‬فرفعت رأسي‪ ،‬فإذا هو قاعد على عرش يف اهلواء‪ ،‬يعين‪ :‬جربيل ‪-‬عليه السالم‪ ،‬فأخذتين رجفة‬
‫شديدة)‪ ،‬فهذه هي احلالة األوىل‪ :‬أن يأيت على صورته احلقيقية‪ ،‬وقد حصل ذلك للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مرتني‪.‬‬
‫الدرس الرابع من الوحدة الثانية‪ :‬الصورة الثانية من نزول الوحي‬ ‫الدرس‬
‫الصورة الثانية‪ :‬أن يأتيه وال يراه النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولكن تُرى بعض اآلثار على النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬ ‫الرابع من‬
‫الوحدة وقد تُ ْسمع بعض األصوات‪ ،‬ولكن جبريل ال يُرى‪ ،‬فالصحابة ‪-‬رضي اهلل عنهم‪ -‬كانوا يسمعون عند وجه النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫الثانية‪ :‬إذا نزل عليه جربيل‪ ،‬يسمعون صوتا كدوي النحل عند وجهه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬ويتفصد العرق من جبينه يف اليوم الشايت‪ ،‬ويدل على‬
‫الصورة ذلك‪ :‬حديث عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ :‬أن احلارث بن هشام سأل رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل! كيف يأتيك‬
‫الثانية من الوحي؟ فقال النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬أحيانا يأتيين مثل‪ :‬صلصلة اجلرس‪ ،‬وهو‪ :‬أشد علي‪ ،‬فيفصم عين وقد وعيت ما قال)‪ ،‬يأيت مثل‬
‫صلصلة اجلرس‪ ،‬وذكر النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬احلالة الثانية للحارث بن هشام‪ ،‬وهو‪ :‬أن يأتيه على هيئة رجل‪ ،‬فيكلمه‪ ،‬فيعي ما يقول‪.‬‬ ‫نزول‬
‫فاحلاصل أن احلالة اليت تأتيه هنا‪ ،‬احلالة األوىل املذكورة يف حديث احلارث بن هشام‪ :‬أن يأتيه على مثل صلصلة اجلرس‪ ،‬يعين‪ :‬أن‬ ‫الوحي‬
‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يسمع صوتا كصلصلة اجلرس‪ ،‬والصلصلة هي‪ :‬صوت متدارك‪ ،‬وهو معروف‪ ،‬واجلرس معروف‪ ،‬هو اجللجل‪.‬‬
‫وبعض أهل العلم يقولون‪ :‬إن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يسمع هذا الصوت‪ ،‬والصحابة يسمعون كأزيز النحل عند وجهه ‪-‬‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬فبالنسبة إليهم يسمعون صوت النحل‪ ،‬كدوي النحل‪ ،‬وبالنسبة للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يسمع صوتا كصلصلة‬
‫اجلرس‪.‬‬
‫أيضا حديث عمر بن اخلطاب ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أنه قال‪( :‬كان النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إذا نزل عليه‬ ‫ومما يدل على ذلك ً‬
‫يوما‪ ،‬فمكثنا ساعة‪ ،‬مث سري عنه‪ ،‬فقرأ‪{ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح الْ ُم ْؤِمنُو َن} املؤمنون‪ ،)1:‬وكذلك‬
‫الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل‪ ،‬فأُنْ ِزل عليه ً‬
‫ب لذلك‪ ،‬وتََربَّد له وجهه)‪.‬‬‫حديث عبادة بن الصامت ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قال‪( :‬كان نيب اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إذا نزل عليه‪َ :‬ك ِر َ‬
‫وقالت عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪( :-‬ولقد رأيته ينزل عليه الوحي يف اليوم الشديد الربد‪ ،‬فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا)‪ ،‬وهذا‬
‫هو‪ :‬الغالب من احلاالت اليت كان يأيت هبا جربيل إىل رسول اهلل ‪-‬عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫الدرس اخلامس من الوحدة الثانية‪ :‬الصورة الثانية من نزول الوحي‬ ‫الدرس‬
‫الحالة الثالثة‪ :‬أن يأتي للنبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على هيئة‪ ،‬أو على صورة رجل‪ ،‬ويدل على ذلك‪ :‬حديث احلارث بن‬ ‫اخلامس‬
‫هشام الذي روته عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ ،-‬وفيه‪( :‬وأحيانا يتمثل يل امللك رجال‪ ،‬فيكلمين‪ ،‬فأعي ما يقول)‪.‬‬ ‫من‬
‫وكذا حديث ابن عمر ‪-‬رضي اهلل عنهما‪( :-‬كان جربيل يأيت النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف صورة دحية الكليب)‪ ،‬وهو رجل‬ ‫الوحدة‬
‫من الصحابة‪ ،‬فيأيت يف صورته‪ ،‬وكذلك حديث عمر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،-‬وهو ما يعرف ْبديث جربيل املشهور‪ :‬ملا جاء جربيل يف هيئة رجل‪،‬‬ ‫الثانية‪:‬‬
‫أيضا‪ :‬ما وقع للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬ ‫الصورة‬
‫شديد بياض الثياب‪ ،‬شديد سواد الشعر‪ ،‬ال يعرفه منهم أحد‪ ،‬وال يرى عليه أثر السفر‪ ،‬ومن ذلك ً‬
‫وسلم‪ -‬يف طفولته‪ :‬حيث جاءه رجالن‪ ،‬فشقا صدر النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،...-‬احلديث‪ ،‬فهذا كله مما يستدل به على هذه احلالة‪.‬‬ ‫الثانية من‬
‫وهنا سؤال‪ ،‬وهو‪ :‬أن احلارث بن هشام عندما سأل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن كيفية جميء الوحي إليه؛ أجابه النيب ‪-‬صلى‬ ‫نزول‬
‫اهلل عليه وسلم‪ -‬بصورتني‪ :‬كصلصلة اجلرس‪ ،‬وعلى صورة رجل‪ ،‬مع أن هناك بعض الصور األخرى من صفات الوحي وحاالته‪ :‬كدوي‬ ‫الوحي‬
‫النحل‪ ،‬والنفث يف الروع‪ ،‬واإلهلام‪ ،‬والرؤيا‪ ،‬والتكليم بال واسطة‪ ،‬وكذلك جميء جربيل إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بصورته احلقيقية‪،‬‬
‫فهذه مخس صور ذكرناها فيما سبق مل ترد يف حديث احلارث بن هشام ملا سأل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فلماذا ذكر له النيب ‪-‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ -‬حالتني فقط؟‬
‫فيقال‪ :‬ألهنا هي الغالب‪ ،‬سأله فأجابه النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بالغالب‪ ،‬فيمكن أن يقال هذا‪ .‬أو أن ما ذكر وقع بعد سؤال‬
‫احلارث بن هشام؛ وهذا فيه بُعد‪ ،‬بل هو غلط‪ ،‬وإن قاله بعض أهل العلم؛ ألن جربيل جاء للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بصورته احلقيقية‬
‫يف أول النزول يف مكة‪ ،‬وقصة احلارث بن هشام كانت يف أواخر العهد املدين‪ ،‬ألن احلارث بن هشام ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أسلم عام الفتح‪ ،‬ملا‬
‫دخل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مكة فاحتا‪ ،‬وهذا يف أواخر حياة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فهذا اجلواب ال يصلح‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬مل يذكر النيب‬
‫أو أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مل يذكر صورة امللك حينما يأيت بصورته احلقيقية مثال؛ ألن ذلك نادر‪ ،‬و ً‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬اإلهلام والرؤيا؛ ألن هذه أمور قد تقع وال غرابة فيها‪ ،‬وإمنا سأله‪ :‬كيف يأيت إليه امللَك فيوحي إليه بالوحي الذي‬
‫تظهر آثاره على رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؟ أو كيف يأتيه بصورة ال يأيت هبا إىل الناس سوى رسول اهلل ‪-‬عليه الصالة والسالم‪-‬؟‬
‫أما اإلهلام فيقع للناس‪ ،‬وكذلك الرؤيا الصاحلة‪ ،‬فهو‪ :‬مل يسأل عن ذلك‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬بأن دوي النحل ال يتعارض مع صلصلة اجلرس اليت ذكرها النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؛ لالعتبار اليت ذكرته‬ ‫وميكن أن يقال ً‬
‫الروع‪ ،‬أن يعاد إىل إحدى احلالتني‪ ،‬فيمكن أن يأتيه امللك‬‫فيما سبق‪ ،‬والعلم عند اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،-‬وهكذا ميكن أن حيمل النفث يف ُّ‬
‫فينفث يف ُروعه‪ ،‬إما عن طريق‪ ،‬بأن يأيت بصفة صلصلة اجلرس‪ ،‬الذي يسمعه النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬أو يأيت على هيئة رجل‪ ،‬مث‬
‫ينفث يف ُروع النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ال مانع من ذلك‪ ،‬واألحاديث حتتمله‪ ،‬والعلم عند اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪.-‬‬
‫وميكن أن يكون السؤال‪ :‬عن صفة الوحي الذي يأيت ْبامل‪ ،‬ال جمرد الرؤيا‪ ،‬وال جمرد اإلهلام‪ ،‬وهكذا‪ :‬التكليم اإلهلي املباشر‪ ،‬كالتكليم‬
‫ليلة املعراج‪ ،‬فإنه مل يسأل عن ذلك‪.‬‬
‫وهناك احتمال‪ :‬أن يكون سأل عن احلاالت اليت يأيت هبا امللك يف اليقظة‪ ،‬فتخرج من ذلك الرؤيا الصاحلة‪ ،‬أو ألن بعض احلاالت‬
‫ال ختفى على السائل‪ ،‬فهذه احتماالت يذكرها العلماء ‪-‬رمحهم اهلل‪ -‬يف اجلواب عن هذا اإلشكال‪.‬‬
‫بعد ذلك أورد سؤاالً آخر‪ ،‬وهو‪ :‬أن آية الشورى تضمنت األنواع اخلمسة اليت ذكرناها‪ ،‬وقلنا‪ :‬هي‪ :‬أمجع آية يف أنواع الوحي‪ ،‬لكن‬
‫هنا سؤال‪ ،‬وهو‪ :‬أن من أنواع الوحي‪ :‬أن يكتب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬لنيب من األنبياء كتابًا‪ ،‬أن ينزل عليه كتابًا‪ ،‬وهذا مل يرد يف آية الشورى فيما‬
‫يتبادر ملن نظر فيها؛ فما اجلواب عن ذلك؟‬
‫فيقال‪ :‬إن مسألة الكتابة وإنزال الكتب‪ ،‬هذه ثابتة ال شك فيها‪ ،‬واهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أخرب‪ :‬بأنه أنزل التوراة على موسى ‪-‬عليه الصالة‬
‫صيالً لِ ُكل َشي ٍء فَخ ْذها بُِق َّوةٍ‬
‫والسالم‪ -‬يف األلواح‪ ،‬وأنه كتبها له‪ ،‬يف سورة األعراف قال‪{ :‬وَكتَب نَا لَه ِيف ْاألَلْو ِاح ِمن ُك ِّل َشي ٍء مو ِعظَةً وتَ ْف ِ‬
‫ِّ ْ ُ َ‬ ‫ْ َْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫َح َسنِ َها} األعراف‪.145 :‬‬
‫ك يَأْ ُخ ُذوا بِأ ْ‬
‫َوأْ ُمْر قَ ْوَم َ‬
‫َخ ِيه َجيُُّرهُ إِلَْي ِه} األعراف‪،150 :‬‬
‫وكذلك يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬عن موسى ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪{ :-‬وأَلْ َقى ْاألَلْواح وأَخ َذ بِرأْ ِس أ ِ‬
‫َََ َ َ‬ ‫َ‬
‫اح َوِيف نُ ْس َختِ َها ُه ًدى َوَر ْمحَةٌ} األعراف‪ ،154 :‬ويف احلديث‪( :‬إن اهلل خلق آدم‬ ‫َخ َذ ْاألَلْ َو َ‬
‫بأَ‬ ‫ضُ‬ ‫وسى الْغَ َ‬‫ت َع ْن ُم َ‬
‫وكذا يف قوله‪َ { :‬ولَ َّما َس َك َ‬
‫بيد ه‪ ،‬وغرس جنة عدن بيده‪ ،‬وكتب التوراة بيده)‪ ،‬وهذه األلواح األقرب أهنا هي‪ :‬التوراة‪ ،‬بدليل هذا احلديث‪ ،‬وكذلك يف قوله ‪-‬تبارك‬
‫صيالً لِ ُك ِّل َش ْي ٍء} األعراف‪.145 :‬‬ ‫وتعاىل‪{ :-‬وَكتَب نَا لَه ِيف ْاألَلْو ِاح ِمن ُك ِّل َشي ٍء مو ِعظَةً وتَ ْف ِ‬
‫ْ َْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫وبعض أهل العلم يقولون‪ :‬إن األلواح هي‪ :‬الوصايا العشر‪ ،‬وهذا فيه نظر‪ ،‬لكن ميكن أن يقال يف اجلواب‪ :‬بأنه يؤخذ من نفس‬
‫اآلية‪َ { :‬وَما َكا َن لِبَ َش ٍر أَ ْن يُ َكلِّ َمهُ اللَّهُ إَِّال َو ْحيًا} الشورى‪ ،51 :‬فاآلية تكلمت عن طرق تكليم اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬ألنبيائه ‪-‬صلى اهلل عليهم‬
‫أيضا هذا اجلواب‪.‬‬ ‫وسلم‪ ،-‬وما تكلمت عن الكتابة‪ ،‬ميكن أن يقال هذا‪ ،‬وميكن أن يناقش ً‬
‫وميكن أن يقال‪ ،‬ملن أراد أن يرد هذا اجلواب‪ ،‬ويقول‪ :‬إن الكتابة هي‪ :‬أحد اللسانيني‪ ،‬فهي‪ :‬لون من الكالم‪ ،‬ميكن أن يقال‪ :‬إن‬
‫الكالم يف قوله‪{ :‬أَ ْن يُ َكلِّ َمهُ اللَّهُ إَِّال َو ْحيًا} إخل‪ ،‬أن يكون عن طريق الوحي‪ ،‬وميكن أن يكون منه الكتابة‪.‬‬
‫اب} الشورى‪ ،51:‬إما مباشرة‪ ،‬أو أن يرسل‬ ‫أو يقال‪ :‬الكالم يف قوله‪{ :‬وما َكا َن لِب َش ٍر أَ ْن ي َكلِّمهُ اللَّهُ إَِّال و ْحيا أَو ِمن ور ِاء ِحج ٍ‬
‫َ ً ْ ْ ََ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫رسوال‪ ،‬فيكون امللك قد جاء هبذه األلواح‪ ،‬أو بالتوراة‪ ،‬فيكون داخالً يف قوله‪{ :‬أ َْو يُْرِس َل َر ُسوالً} الشورى‪ ،51:‬فهي‪ :‬إما تدخل حتت قوله‪:‬‬
‫{إَِّال َو ْحيًا}‪ ،‬أو تدخل حتت قوله‪{ :‬أ َْو يُْرِس َل َر ُسوالً}‪.‬‬
‫وميكن أن يقال‪ :‬إن اآلية تكلمت عن الكالم‪ ،‬كما يدل عليه أوهلا‪- ،‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫الدرس السادس من الوحدة الثانية‪ :‬تنزالت القرآن‬ ‫الدرس‬
‫أيضا‪ :‬بنزول القرآن‪.‬‬ ‫السادس‬
‫بعد ذلك أنتقل إىل موضوع آخر‪ ،‬وهو‪ :‬الكالم على‪ :‬تنزالت القرآن‪ ،‬ويعرب عنه ً‬
‫ضا َن الَّ ِذي أُنْ ِزَل فِ ِيه الْ ُقْرآ ُن} البقرة‪ ،185 :‬ويقول‪{ :‬إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} القدر‪ ،1:‬فالقرآن‬
‫اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪َ { :‬ش ْهُر َرَم َ‬
‫من‬
‫ضا َن الَّ ِذي أُنْ ِزَل فِ ِيه الْ ُقْرآ ُن} البقرة‪ ،185:‬وأخرب عن الليلة اليت أنزل القرآن فيها‪،‬‬ ‫أخرب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن نزوله يف شهر رمضان‪َ { :‬ش ْهُر َرَم َ‬
‫الوحدة‬
‫الثانية‪ :‬وهي‪ :‬ليلة القدر‪ ،‬فالقرآن نزل إىل مساء الدنيا ليلة القدر مجلة واحدة‪ ،‬مث نزل بعد ذلك منجما يف‪ :‬عشرين سنة‪ ،‬أو ثالث وعشرين سنة‪ ،‬أو‬
‫تنزالت مخس وعشرين سنة‪ ،‬على حسب اخلالف يف مدة إقامة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بعد البعثة يف مكة‪ ،‬وهبذا تعرف جوابًا عن إشكال‬
‫ضا َن الَّ ِذي أُنْ ِزَل فِ ِيه الْ ُقْرآ ُن} البقرة‪ ،185 :‬مع أن‬ ‫ِ‬
‫لرمبا يرد‪ ،‬وهو‪ :‬أن اهلل تعاىل قال‪{ :‬إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَة الْ َق ْد ِر} القدر‪ ،1:‬وقال‪َ { :‬ش ْهُر َرَم َ‬
‫القرآن‬
‫القرآن نزل على الليايل واأليام والشهور يف ربيع‪ ،‬وذي القعدة‪ ،‬وذي احلجة‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬ويف أماكن خمتلفة‪ ،‬ويف رمضان وغري رمضان‪ ،‬ويف‬
‫ليلة القدر ويف غري ليلة القدر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬بإنزاله يف شهر رمضان ويف ليلة القدر منه؛ أنه نزل مجلةً إىل مساء الدنيا‪ ،‬مث بعد ذلك نزل مفرقا يف األيام والليايل املختلفة‪ ،‬وقد‬
‫صح عن ابن عباس من طرق متعددة أنه قال‪" :‬أنزل القرآن يف ليلة القدر مجلة واحدة إىل مساء الدنيا‪ ،‬وكان مبواقع النجوم‪ ،‬وكان اهلل ينزله‬
‫على رسوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بعضه يف أثر بعض"‪ ،‬وهذا ثابت عن ابن عباس‪.‬‬
‫وكذلك جاء عنه أنه قال‪" :‬أنزل القرآن يف ليلة واحدة إىل مساء الدنيا ليلة القدر‪ ،‬مث أنزل بعد ذلك بعشرين سنة‪ ،‬مث قرأ‪َ { :‬وَال‬
‫َّاس علَى م ْك ٍ‬
‫ث َونََّزلْنَاهُ تَْن ِزيالً} اإلسراء‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِمبَثَ ٍل إَِّال ِجْئ نَ َ‬
‫اك بِ ْ‬
‫َح َس َن تَ ْفس ًريا} [الفرقان‪ ،]33:‬وقرأ‪َ { :‬وقُ ْرآنًا فَ َرقْ نَاهُ لتَ ْقَرأَهُ َعلَى الن ِ َ ُ‬
‫احلَ ِّق َوأ ْ‬ ‫يَأْتُونَ َ‬
‫‪.106‬‬
‫صل القرآن من الذكر‪ ،‬فوضع يف بيت العزة من السماء الدنيا‪ ،‬فجعل جربيل ينزل به على النيب ‪-‬صلى اهلل‬ ‫وصح عنه أنه قال‪" :‬فُ ِ‬
‫عليه وسلم‪ ."-‬وجاء بإسناد حسن أيضا عنه أنه قال‪" :‬أنزل القرآن يف ليلة القدر يف شهر رمضان إىل مساء الدنيا مجلة واحدة‪ ،‬مث أنزل‬
‫جنوما"‪ ،‬وأيضا بإسناد حسن عنه أنه قال‪" :‬أنزل القرآن مجلة واحدة حىت وضع يف بيت العزة يف السماء الدنيا‪ ،‬ونزله جربيل على حممد ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬جبواب كالم العباد وأعماهلم"‪ ،‬وبإسناد حسن أيضا عنه قال‪" :‬دفع إىل جربيل يف ليلة القدر مجلة واحدة‪ ،‬فوضعه يف‬
‫بيت العزة‪ ،‬مث جعل ينزله تنزيالً"‪ .‬فهذه الروايات اليت ثبتت عن عبد اهلل بن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ -‬تدل على هذا املعىن‪ ،‬وال جيوز العدول‬
‫عنها؛ ألن هلا حكم الرفع إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم؛ وألن ذلك ال يقال من جهة الرأي‪.‬‬
‫وال مانع أن يقال‪ :‬بأن اهلل أنزل القرآن إىل مساء الدنيا يف رمضان يف ليلة القدر‪ ،‬وأن أول ما نزل على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫أيضا يف رمضان يف ليلة القدر‪ ،‬فهذا ال مانع من أن يقال‪ ،‬وإن كان ال يقطع به‪ ،‬وهبذا جيمع بني بعض األقوال اليت‬ ‫أيضا كان ً‬ ‫من القرآن ً‬
‫ضا َن الَّ ِذي أُنْ ِزَل فِ ِيه الْ ُقْرآ ُن} البقرة‪ ،185 :‬و{إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ ِيف‬
‫وردت عن بعض السلف ‪-‬رضي اهلل عنهم‪-‬؛ ألن بعضهم محل قوله‪َ { :‬ش ْهُر َرَم َ‬
‫لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} القدر‪ ،1:‬على أن اهلل ابتدأ إنزاله على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فيمكن أن جيمع بني هذه األقوال فيقال‪ :‬اهلل أنزله مجلة‬
‫إىل مساء الدنيا يف ليلة القدر يف رمضان‪ ،‬وحيتمل أن يكون ابتدأ اهلل إنزاله إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أيضا يف رمضان يف ليلة القدر‪،‬‬
‫مث صار ينزل على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف األيام والليايل املختلفة‪.‬‬
‫وإذا قلنا‪ :‬إن اهلل أنزله يف ليلة القدر إىل مساء الدنيا‪ ،‬فمن أين أخذه جربيل ‪-‬عليه السالم؟ وهذه مسألة من املسائل املهمة اليت بىن‬
‫عليها أهل السنة اعتقادهم يف هذه القضية‪ ،‬فعقيدة أهل السنة واجلماعة‪ :‬أن جربيل مسع القرآن من اهلل مباشرًة‪ ،‬ونزل به على النيب ‪-‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وقد يسأل البعض فيقول‪ :‬إذا كان مسعه من اهلل‪ ،‬فلماذا نزل يف اللوح احملفوظ‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن القرآن بأنه‪:‬‬
‫وع ٍة ُمطَ َّهَرةٍ * بِأَيْ ِدي َس َفَرةٍ * كَِرٍام بََرَرةٍ} عبس‪-13:‬‬ ‫ٍ‬
‫ف ُم َكَّرَمة * َمْرفُ َ‬‫وظ} الربوج‪22-21:‬؟ وملاذا جعله‪ِ{ :‬يف صح ٍ‬
‫ُُ‬
‫{قُرآ ٌن َِجمي ٌد * ِيف لَو ٍح َْحم ُف ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫‪16‬؟ ولماذا جعله اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬في بيت العزة في سماء الدنيا؟‬
‫فنقول‪ :‬هذا يدل على مزيد عناية اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هبذا القرآن‪ ،‬فهو‪ :‬حينما كتبه اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يف اللوح احملفوظ مل مينع ذلك من‬
‫إنزاله إىل بيت العزة يف مساء الدنيا‪ ،‬وال مينع ذلك من أن جربيل يسمعه من اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬مباشرة‪ .‬وكلمة التنزيل تدل على‪ :‬نزول‪ ،‬كما‬
‫يدل عليه ظاهرها‪ ،‬نزول من أعلى‪ ،‬وهذه الكلمة تدل على هذا املعىن جبميع استعماالهتا‪ ،‬وحنن حينما ننظر إىل القرآن حينما حيدثنا اهلل ‪-‬‬
‫عز وجل‪ -‬عن إنزاله‪ ،‬وننظر إلى استعماالت هذه اللفظة‪ :‬النزول‪ ،‬في كتاب اهلل ‪-‬عز وجل؛ نجد أن ذلك على ثالثة أنواع ال رابع‬
‫لها‪:‬‬
‫• النوع األول‪ :‬اإلخبار بأن الشيء منزل منه ‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،‬أي‪ :‬أن يضيف ذلك إليه سبحانه‪.‬‬
‫• الثاني‪ :‬أن يقيده بأمر آخر‪ ،‬أو بشيء آخر‪ ،‬كالسماء وغريها‪.‬‬
‫• الثالث‪ :‬وهو‪ :‬أن يطلقه من غري قيد‪.‬‬
‫أما النوع األول‪ ،‬وهو‪ :‬اإلنزال الذي قيده اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬بأنه منه؛ فلم يرد يف مجيع املواضع يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬؛ إال يف‬
‫إنزال القرآن فقط‪ ،‬واآليات اليت يف هذا املعىن كثرية جدا‪ ،‬كقوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :-‬والَّ ِ‬
‫اب يَ ْعلَ ُمو َن أَنَّهُ ُمنَ َّزٌل ِم ْن َربِّ َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫اه ُم الْكتَ َ‬
‫ين آتَْي نَ ُ‬
‫َ َ‬‫ذ‬
‫احل ِّق} النحل‪ ،102:‬وهكذا يف قوله‪{ :‬تَْن ِزيل الْ ِكتَ ِ‬
‫اب‬ ‫احل ِّق} األنعام‪ ،114:‬ومل يقل‪ :‬من السماء‪ ،‬وكقوله‪{ :‬قُل نََّزلَهُ روح الْ ُق ُد ِس ِمن ربِّ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ك ب َْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫ب َْ‬
‫احلَ ِكي ِم} الزمر‪ ،1:‬وهكذا أيضا يف سائر املواضع اليت من هذا القبيل‪.‬‬ ‫ِم َن اللَّ ِه الْ َع ِزي ِز ْ‬
‫والنوع الثاني‪ :‬ما كان اإلنزال فيه بقيد‪ ،‬لكن بقيد آخر؛ مثل‪ :‬اإلخبار بأن هذا أنزل من السماء‪ ،‬كقوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬مثال عن‬
‫الس َم ِاء َماءً احلجر‪ ،22:‬واملقصود‪ :‬مطلق العلو‪ ،‬والسحاب يقال له‪ :‬مساء‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬ ‫املطر‪ :‬فَأَنْ َزلْنَا ِم َن َّ‬
‫إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا‬
‫وكذلك يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬مما يفسر هذا املعىن‪{ :‬أَأَنْتُ ْم أَنْ َزلْتُ ُموهُ ِم َن الْ ُمْزِن} الواقعة‪ ،69:‬فحينما خيرب عن إنزال املطر من السماء‪،‬‬
‫ج ِم ْن ِخ َاللِِه} النور‪ ،43:‬من خالل السحاب‪.‬‬
‫يعين‪ :‬من السحاب‪ ،‬وكقوله‪{ :‬فَتَ َرى الْ َوْد َق َخيُْر ُ‬
‫وهكذا حينما أخرب اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬عن بعض األشياء أنه أنزهلا بقيد‪ ،‬كقوله‪َ { :‬وأَنْ َزَل لَ ُك ْم ِم َن ْاألَنْ َع ِام َمثَانِيَةَ أ َْزَو ٍاج} الزمر‪،6:‬‬
‫على أحد التفسريات يف اآلية‪ ،‬مما يصلح هنا أن يكون شاهدا‪َ { :‬وأَنْ َزَل لَ ُك ْم ِم َن ْاألَنْ َع ِام َمثَانِيَةَ أ َْزَو ٍاج}‪ ،‬ميكن أن يكون‪ :‬أنزل أصوهلا‪ ،‬ويكون‬
‫هذا من قبيل اإلنزال املطلق‪ ،‬وهو‪ :‬النوع الثالث الذي سيأيت‪ ،‬وميكن أن يكون‪َ { :‬وأَنْ َزَل لَ ُك ْم ِم َن ْاألَنْ َع ِام َمثَانِيَةَ أ َْزَو ٍاج}‪ ،‬أي‪ :‬أن أوالد األنعام‬
‫تنزل‪ ،‬إما ألهنا إذا ولدت سقطت أوالدها إىل األرض‪ ،‬فهذا نزول‪ ،‬أو ألن فحوهلا تنزو على إناثها‪ ،‬وهذا فيه معىن النزول‪ ،‬فيستقر ذلك يف‬
‫األرحام‪.‬‬
‫وأما النوع الثالث‪ ،‬وهو‪ :‬اإلنزال املطلق‪ ،‬الذي مل يقيده بشيء‪ ،‬ال بالسماء وال بغريها‪ ،‬فكما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يف إنزال السكينة‪:‬‬
‫الس ِكينَةَ ِيف قُلُ ِ ِ ِ‬ ‫ني} التوبة‪ ،26:‬من أين أنزهلا؟ ما أخرب‪ ،‬وكقوله‪ُ { :‬ه َو الَّ ِذي أَنْ َزَل َّ‬‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ني}‬ ‫وب الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫{ ُمثَّ أَنْ َزَل اللَّهُ َسكينَتَهُ َعلَى َر ُسوله َو َعلَى الْ ُم ْؤمن َ‬
‫ني}‬ ‫الس ِكينَةَ ِيف قُلُ ِ ِ ِ‬
‫وب الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫الفتح‪ ،4:‬فما قال‪ :‬أنزل السكينة منه‪ ،‬أو ما قال‪ :‬أنزل السكينة من السماء‪ ،‬وإمنا قال‪ُ { :‬ه َو الَّ ِذي أَنْ َزَل َّ‬
‫الفتح‪.4:‬‬
‫ك إِ َىل الْ َم َالئِ َك ِة أ ِّ‬
‫َين َم َع ُك ْم فَثَبِّتُوا‬ ‫وحي َربُّ َ‬‫وهكذا‪ :‬قد تنزل املالئكة بالسكينة يف قلوب املؤمنني‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :-‬إِ ْذ ي ِ‬
‫ُ‬
‫ين َآمنُوا} األنفال‪ ،12:‬فتنزل املالئكة بالسكينة يف قلوهبم‪ ،‬وحيصل الثبات من جراء ذلك‪ ،‬وهكذا قول النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪:-‬‬ ‫الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ‬
‫(إن األمانة نزلت يف جذر قلوب الرجال‪ ،‬مث علموا من القرآن‪ ،‬مث علموا من السنة)‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هبذا نعرف أنه مل يرد‪ :‬إنزال شيء يف كتاب اهلل‪ ،‬ومل ترد هذه اللفظة‪ :‬لفظة التنزيل واإلنزال والنزول مقيدة بأهنا من اهلل إال يف‬
‫شيء واحد‪ ،‬وهو‪ :‬القرآن فقط‪ ،‬وأما الباقي مما أخرب اهلل أنه أنزل؛ فإما أن يُذكر باإلنزال والتنزيل املطلق‪ ،‬أو يقيد بشيء آخر كالسماء‪ ،‬وهذا‬
‫يدل على‪ :‬أن القرآن خيتص باهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬وأنه كالمه ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬وهذا هو‪ :‬االعتقاد املنجي الذي ال جيوز ألحد أن يعتقد يف القرآن‬
‫سواه‪ ،‬واآليات الدالة على نزول القرآن أو غريه من الوحي تقارب مخسني ومائة آية‪ ،‬وهذا يدل على‪ :‬أمهية هذه العقيدة‪ ،‬ومنزلتها‪ ،‬فاهلل‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ب الْعالَ ِمني * نَزَل بِِه الُّروح ْاأل َِمني * علَى قَ ْلبِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين}‬‫ك لتَ ُكو َن م َن الْ ُمْنذر َ‬‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫يل َر ِّ َ َ َ‬ ‫سبحانه يكررها بصور شىت‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :-‬وإنَّهُ لَتَ ْنز ُ‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِرهِ َعلَى َم ْن يَ َشاءُ ِم ْن ِعبَ ِادهِ}‬ ‫وح‪ ،‬يعين‪ :‬الوحي‪ ،‬يُنَ ِّزُل الْ َم َالئِ َكةَ بِ ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫الر ِ‬ ‫الشعراء‪ ،194-192 :‬وكما قال‪{ :‬يُنَ ِّزُل الْ َم َالئِ َكةَ بِ ُّ‬
‫النحل‪.2:‬‬
‫ومما يدل على ذلك‪ ،‬وعلى اخلصوص‪ :‬أن جربيل يأخذ الوحي من اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬مباشرة‪ ،‬وال يأخذه من بيت العزة‪ ،‬وال من اللوح‬
‫احملفوظ؛ احلديث املشهور‪ :‬حديث النواس بن السمعان ‪-‬رضي اهلل عنه‪ :-‬أنه حدث عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أنه قال‪( :‬إذا أراد‬
‫اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يوحي باألمر تكلم بالوحي‪ ،‬أخذت السماوات منه رجفة‪ ،‬أو قال‪ :‬رعدة شديدة؛ خوفًا من اهلل‪ ،‬فإذا مسع بذلك أهل‬
‫سجدا‪ ،‬فيكون أول من يرفع رأسه جربيل‪ ،‬فيكلمه اهلل من وحيه مبا أراد‪ ،‬مث مير جربيل على املالئكة‪ ،‬كلما مر‬ ‫السماوات صعقوا‪ ،‬وخروا هلل ً‬
‫بسماء سأله مالئكتها‪ :‬ماذا قال ربنا يا جربيل؟ فيقول جربيل ‪-‬عليه السالم‪ :-‬قال‪ :‬احلق وهو العلى الكبري‪ ،‬فينتهي جربيل بالوحي حيث‬
‫أمر اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،)-‬فهذا احلديث نص صريح يف أن اهلل يتكلم بالوحي‪ ،‬وأن أهل السماوات يصعقون‪ ،‬وأن جربيل يكون أول من يفيق‪،‬‬
‫مث يتلقف هذا الوحي من اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬مث ينزل به من مساء إىل مساء حىت يبلغ به ما أراد اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪.-‬‬
‫مرفوعا إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وموقوفا على ابن مسعود‬ ‫ويدل على ذلك أيضا‪ :‬حديث ابن مسعود ‪-‬رضي اهلل عنه‪ً -‬‬
‫مرفوعا‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬وهكذا حديث أِّب هريرة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ً -‬‬ ‫ً‬
‫وجاء يف ذلك عدد من األحاديث‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬حديث ابن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ -‬قال‪" :‬أخربين رجل من أصحاب النيب ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬من األنصار‪ :‬أهنم بينما هم جلوس ليلةً مع رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬رمي بنجم فاستنار"‪ ،‬يعين‪ :‬رأوا شهابًا‪،‬‬
‫أمرا‪ ،‬سبح محلة العرش‪ ،‬مث سبح أهل السماء الذين يلوهنم حىت يبلغ التسبيح أهل‬ ‫إىل أن قال‪( :‬ولكن ربنا ‪-‬تبارك وتعاىل امسه‪ -‬إذا قضى ً‬
‫هذه السماء الدنيا‪ ،‬مث قال الذين يلون محلة العرش حلملة العرش‪ :‬ماذا قال ربكم؟ فيخربوهنم ماذا قال)‪ ،‬احلديث‪.‬‬
‫نقيضا من فوقه‬
‫أيضا عن ابن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ -‬أنه قال‪( :‬بينما جربيل قاعد عند النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مسع ً‬ ‫وثبت ً‬
‫أي‪ :‬مسع صوتًا فوقه‪ ،‬فرفع رأسه‪ ،‬فقال‪ :‬هذا باب من السماء فتح اليوم مل يفتح قط إال اليوم‪ ،‬فنزل منه ملك فقال‪ :‬هذا ملك نزل إىل‬
‫األرض‪ ،‬مل ينزل قط إال اليوم‪ ،‬فسلم‪ ،‬وقال‪ :‬أبشر بنورين أوتيتهما مل يؤهتما نيب قبلك‪ :‬فاحتة الكتاب‪ ،‬وخواتيم سورة البقرة)‪ ،‬واحلديث يف‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬فهذا امللك جاء هبذه البشارة إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وهذا واضح‪.‬‬
‫وهنا سؤال‪ :‬فقد فهم فامهون من هذا احلديث‪ :‬أن غري جربيل قد يأيت ببعض القرآن إىل الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واهلل يقول‪:‬‬
‫ني}‪ ،‬وعن‬ ‫ِ‬ ‫ني} الشعراء‪ ،193:‬فهؤالء الذين فهموا من هذا احلديث هذا الفهم أجابوا عن اآلية‪{ :‬نََزَل بِِه ُّ‬ ‫ِ‬ ‫{نََزَل بِِه ُّ‬
‫وح ْاألَم ُ‬
‫الر ُ‬ ‫وح ْاألَم ُ‬
‫الر ُ‬
‫وح الْ ُق ُد ِس} النحل‪ ،102:‬قالوا‪ :‬هذا باعتبار الغالب‪ ،‬وال مينع أن يكون نزل بآية أو سورة أو حنو ذلك غري جربيل‪.‬‬ ‫قوله‪{ :‬قُ ْل نََّزلَهُ ُر ُ‬
‫وهذا فيه نظر‪ ،‬وإمنا ذكرته؛ ألنه كتب يف بعض الكتب املفيدة املتداولة يف األيدي‪ ،‬يقرؤها العامة واخلاصة يف موضوع الرسل‬
‫والرساالت‪ ،‬فهذا فيه نظر‪ ،‬واهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬أعلم؛ إذ إن هذا امللك جاء بالبشرى‪ ،‬والبشارة قد تكون قبل وجود الشيء‪ ،‬كما بشرت املالئكة‬
‫إبراهيم ‪-‬عليه السالم‪ -‬بغالم حليم‪ ،‬فمن جاء بالبشارة ال يعين‪ :‬أنه جاء بالشيء‪ ،‬وقد تكون البشارة بعده‪ ،‬كما نبشر حنن من رزق بغالم‬
‫بذلك‪ ،‬وهو‪ :‬بعد حصول هذا الشيء‪.‬‬
‫فاملقصود‪ :‬إذا نظرنا إىل ما بشر به هذا امللك حني قال‪( :‬أبشر بنورين أوتيتهما‪ ،‬فاحتة الكتاب‪ ،‬وخواتيم سورة البقرة)‪ ،‬فهذه الواقعة‬
‫قطعا يف مكة‪ ،‬وهذا احلديث الذي يف صحيح‬ ‫وقعت يف املدينة‪ ،‬والذي حيدث هبا هو‪ :‬ابن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ ،‬وسورة الفاحتة نزلت ً‬
‫مسلم محل بعض أهل العلم إىل قول غريب‪ ،‬وهو‪ :‬أن سورة الفاحتة نزلت يف املدينة‪ ،‬وملا استشكلوا ردا قال فيه بعض أهل العلم‪ :‬إن النيب ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مل يكن يصلي مبكة من غري الفاحتة‪ ،‬ومعلوم أهنا من السور املكية‪ ،‬وهذا مشهور ومستفيض؛ قالوا‪ :‬إذن‪ :‬نزلت مرتني‪،‬‬
‫وبعضهم قال‪ :‬نزلت نصفني‪ ،‬وهذا غريب غاية الغرابة‪.‬‬
‫فسورة الفاحتة نزلت يف مكة‪ ،‬وهذا امللك جاء بالبشارة‪ ،‬وأما سورة البقرة فقد نزلت يف أول ما نزل بعد اهلجرة يف املدينة‪ ،‬وهبذا يتضح‬
‫معىن هذا احلديث‪ ،‬وما يرد عليه من إشكال‪ ،‬واجلواب عنه‪ ،‬والعلم عند اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ .‬ومما يدل على مسألتنا األصلية‪ ،‬وهي‪ :‬أن جربيل‬
‫أخذ الوحي من اهلل مباشرة‪ :‬حديث أِّب سعيد اخلدري ‪-‬رضي اهلل تعاىل عنه‪ ،‬عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬أنه قال‪( :‬أال تأمنوين وأنا‬
‫صباحا ومساءً)‪.‬‬
‫أمني من يف السماء‪ ،‬يأتيين خرب السماء ً‬
‫عهدا بالعرش آية الدين"‪ ،‬وهذا يدل على‪ :‬أن االعتقاد‬ ‫أيضا‪ :‬قول ابن شهاب الزهري ‪-‬رمحه اهلل‪" :-‬آخر القرآن ً‬ ‫ومما يدل عليه ً‬
‫عهدا بالعرش‬
‫السائد عند السلف ‪-‬رضي اهلل عنهم‪ :‬أن القرآن ينزل من اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬مباشرًة؛ وهلذا عرب الزهري بقوله‪" :‬آخر القرآن ً‬
‫عهدا بالعرش‪ ،‬فهذه مسألة مهمة حيتاج من نظر يف هذا العلم‬ ‫آية الدين"‪ ،‬فمعناه‪ :‬لو كان ينزل من السماء الدنيا‪ ،‬كان ما كان آخر القرآن ً‬
‫إىل معرفتها؛ ألنه قد يشكل عليه بعض األشياء اليت جيدها يف كثري من الكتب‪.‬‬
‫وهنا سؤال‪ ،‬وهو‪ :‬أن قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :-‬إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} القدر‪ ،1:‬هذا إخبار عن نزول مجلة القرآن يف ليلة القدر‪،‬‬
‫وه ذه اآلية من سورة القدر هي جزء من القرآن‪ ،‬فهل نزلت معه‪ ،‬أو نزلت بعد إنزاله مجلة؟ فالسؤال هو‪ :‬اهلل يقول‪{ :‬إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة‬
‫الْ َق ْد ِر} القدر‪ ،1:‬وهذه اآلية هي بعض القرآن‪ ،‬فهل نزلت هذه بعد أن أنزله اهلل سوى هذه اآلية‪ ،‬مث أخربت هذه اآلية عنه‪{ :‬إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ ِيف‬
‫لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} القدر‪ ،1:‬أو أهنا نزلت معه؟ فكيف جاءت مخبرة بنزوله في ليلة القدر وهي‪ :‬واحدة منه؟‬
‫فاجلواب أن يقال‪ :‬ميكن أن يكون‪{ :‬إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ} يعين‪ :‬حكمنا بإنزاله؛ فهي‪ :‬إخبار عن أمر مستقبل‪ ،‬فهذا جواب‪ ،‬وإذا فهمت ما‬
‫سبق‪ :‬من أن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬كتبه يف اللوح احملفوظ‪ ،‬وأنزله إىل السماء الدنيا‪ ،‬وأن اهلل يتكلم به فيسمعه جربيل‪ ،‬فينزل باآلية على النيب ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬ارتفع عنك هذا اإلشكال‪ ،‬فاهلل كتب القرآن مجيعا يف اللوح احملفوظ‪ ،‬ومنه هذه اآلية‪ ،‬وأنزله إىل بيت العزة يف السماء‬
‫الدنيا‪ ،‬ومنه هذه اآلية‪ ،‬مث هو يتنزل على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إما ابتداء وإما بسبب معني‪ ،‬وال إشكال‪ ،‬فنزل على النيب ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬من مجلة ما نزل مما حيدثه عن هذا القرآن هذه اآلية‪{ :‬إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} القدر‪ ،1:‬وأما التمحل والتكلف يف مثل هذه‬
‫املسائل‪ ،‬فلم يكن من شأن السلف ‪-‬رضي اهلل عنهم‪ ،-‬ولوال كثرة من يذكر هذه األشياء ملا ذكرهتا؛ ألهنا قد تصادف اإلنسان وجيد أجوبة‬
‫ال تصلح لذلك‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫ومما يدل على ذلك‪ :‬حديث واثلة بن األسقع ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،-‬أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬أنزلت التوراة ٍ‬
‫لست مضني‬
‫من رمضان‪ ،‬واإلجنيل لثالث عشرة خلت منه‪ ،‬والزبور لثمان عشرة خلت منه‪ ،‬والقرآن ألربع وعشرين خلت منه)‪ ،‬ويف وراية‪( :‬وصحف‬
‫إبراهيم ألول ليلة)‪ ،‬وهذا بإسناد حسن‪ ،‬وهو مطابق لقول اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :-‬إِنَّا أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} القدر‪.1:‬‬
‫وقد يسأل بعض الناس فيقول‪ :‬المشهور‪ :‬أن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬نُبِّئ في شهر ربيع‪ ،‬فكيف نزل القرآن في ليلة‬
‫القدر في رمضان؟ فاجلواب أنه ميكن أن يقال‪ :‬نزل إىل مساء الدنيا يف رمضان‪ ،‬ونُبِّئ النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف ربيع‪ ،‬وإذا عرفتم أن‬
‫ابتدئ بالرؤيا الصاحلة ستة أشهر‪ ،‬كما يف حديث عائشة السابق‪ ،‬مث بعد ذلك نزل عليه القرآن‪ ،‬فلو قلنا‪ :‬من‬ ‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ِ -‬‬
‫ربيع إىل رمضان‪ ،‬هذه ستة أشهر‪ ،‬مث نزل عليه القرآن يف ربيع‪ ،‬فإذا قلنا‪ :‬إنه نزل إىل السماء الدنيا فال إشكال‪ ،‬وإذا قلنا‪ :‬ابتدأ إنزاله إىل‬
‫ابتدئ بالرؤيا الصاحلة ستة أشهر من ربيع إىل‬ ‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وهو‪ :‬الوجه اآلخر الذي مجعنا به مع القول األول‪ ،‬فيكون ِ‬
‫رمضان‪ ،‬مث نزل عليه القرآن يف رمضان‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫بعد ذلك هنا سؤال آخر‪ ،‬وهو‪ :‬حنن عرفنا أن القرآن كتب يف اللوح احملفوظ‪ ،‬وأنزل مجلة إىل السماء الدنيا‪ ،‬مث فرق بعد ذلك‪ ،‬فما‬
‫احلكمة من نزول القرآن مفرقًا؟ ملاذا فرقه اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬؟‬
‫أوالً‪ :‬ما الحكمة من نزول القرآن جملة إلى سماء الدنيا؟ أو نسأل سؤاال قبله‪ :‬القرآن نزل مفرقا على النبي ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،-‬والكتب السابقة هل نزلت مفرقة أو نزلت جملة؟‬
‫اجلواب‪ :‬نزلت مجلة‪ ،‬والدليل على ذلك‪ :‬صحف موسى ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ ،-‬كما يدل عليه قوله تعاىل‪َ { :‬وأَلْ َقى ْاألَلْ َو َ‬
‫اح}‬
‫ك} األعراف‪{ ،144:‬فَ ُخ ْذ َها بُِق َّوةٍ} األعراف‪ ،145 :‬فهذا كله يدل على ذلك‪.‬‬ ‫األعراف‪{ ،150:‬فَ ُخ ْذ َما آتَْيتُ َ‬
‫أيضا يدل عليه‪ :‬ما جاء عن ابن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪" :-‬قالت اليهود‪ :‬يا أبا القاسم! لوال أنزل هذا القرآن مجلة واحدة‪ ،‬كما‬ ‫و ً‬
‫ت بِِه فُ َؤ َاد َك}‬ ‫اح َدةً َك َذلِ ِ‬ ‫ال الَّ ِذين َك َفروا لَوَال نُِّزَل علَي ِه الْ ُقرآ ُن ُمجلَةً و ِ‬
‫ك لنُثَبِّ َ‬‫َ‬ ‫َْ ْ ْ َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫أنزلت التوراة على موسى‪ ،‬فنزلت اآلية‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪َ { :‬وقَ َ‬
‫الفرقان‪ ،"32:‬فسبب النزول له حكم الرفع إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فهؤالء قالوا للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ :-‬لوال أنزل هذا‬
‫اح َد ًة}‪.‬‬ ‫ال الَّ ِذين َك َفروا لَوَال نُِّزَل علَي ِه الْ ُقرآ ُن ُمجلَةً و ِ‬
‫َْ ْ ْ َ‬ ‫القرآن مجلة واحدة‪ ،‬كما أنزلت التوراة على موسى‪ .‬وكذلك يف نفس اآلية‪َ { :‬وقَ َ َ ُ ْ‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬هذا األثر عن ابن عباس‪ ،‬والقول الذي في اآلية حكاه اهلل عن اليهود‪ ،‬هو‪ :‬قول اليهود‪ ،‬وقول اليهود ال‬
‫يعني‪ :‬أنه صحيح‪ ،‬فكيف تحتج باآلية‪ ،‬وبقول ابن عباس في سبب النزول على‪ :‬أن الكتب السابقة نزلت جملة واحدة؟‬
‫فاجلواب‪ :‬أن اهلل أقر ذلك؛ ولو كان هذا األمر على خالف هذه احلقيقة اليت ذكروها‪ ،‬كان اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬قال هلم‪ :‬هكذا أنزلنا‬
‫ول يَأْ ُك ُل الطَّ َع َام َوميَْ ِشي ِيف ْاألَ ْس َو ِاق}‬
‫الرس ِ‬ ‫ِ‬
‫الكتب السابقة‪ ،‬أو هكذا سنة إنزال الكتب‪ ،‬فاهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬ملا قالوا‪َ { :‬وقَالُوا َمال َه َذا َّ ُ‬
‫الفرقان‪ ،7:‬أخربهم اهلل ‪-‬عز وجل‪ :-‬أنه جعل املرسلني كذلك‪ ،‬فلما أقر اهلل ذلك دل على صحته‪.‬‬
‫ومعلوم‪ :‬أن حكايات األقوام اليت حيكيها اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن قوم أهنم قالوها‪ ،‬إذا مل تعقب يف القرآن مبا يدل على إبطاهلا‪ ،‬فإن‬
‫هذا يدل على صحتها‪ ،‬إال ما ندر‪ ،‬يعين‪ :‬غالبًا يدل ذلك على صحتها‪ ،‬مثل‪ :‬ما جاء يف خرب أصحاب الكهف‪َ { :‬سيَ ُقولُو َن ثََالثَةٌ َرابِعُ ُه ْم‬
‫ب‪ ،‬مث قال‪َ :‬ويَ ُقولُو َن َسْب َعةٌ َوثَ ِامنُ ُه ْم َكلْبُ ُه ْم} الكهف‪،22:‬‬ ‫َك ْلبُ ُهم ويَ ُقولُو َن مخَْسةٌ َس ِاد ُس ُهم َك ْلبُ ُهم} الكهف‪ ،22:‬ماذا قال‪{ :‬ر ْمجًا بِالْغَْي ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫يل}‪ ،‬فهذا يشعر أن هذا القول يف عدد أصحاب الكهف هو‪ :‬الصحيح‪،‬‬ ‫َِّ ِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫فما أنكره وما أبطله‪{ ،‬قُ ْل َرِِّّب أ َْعلَ ُم بعدَّهت ْم َما يَ ْعلَ ُم ُه ْم إال قَل ٌ‬
‫اح َشةً قَالُوا َو َج ْدنَا َعلَْي َها آبَاءَنَا َواللَّهُ أ ََمَرنَا ِهبَا} األعراف‪ ،28:‬فأبطل أحد األمرين‪،‬‬ ‫وهذا له أمثله كثرية‪ ،‬كقوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :-‬وإِذَا فَعلُوا فَ ِ‬
‫َ َ‬
‫وسكت عن اآلخر؛ مما يدل على صحته‪ :‬قُ ْل إِ َّن اللَّهَ َال يَأْ ُمُر بِالْ َف ْح َش ِاء‪ ،‬وسكت عن‪َ :‬و َج ْدنَا َعلَْي َها آبَاءَنَا‪ ،‬وهذا معىن صحيح‪.‬‬
‫ومما يدل على أن الكتب السابقة نزلت مجلةً‪ :‬ما جاء عن ابن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ -‬بإسناد حسن‪ ،‬قال‪" :‬أعطي موسى‬
‫التوراة يف سبعة ألواح"‪ ،‬يعين‪ :‬أنه أعطي ذلك مجلة‪.‬‬
‫فإذا عرفنا هذا‪ ،‬فأقول بعده‪ :‬بأن هذا القرآن الذي نزل مفرقا على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬تارة ينزل على النيب ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬السورة بكاملها‪ ،‬وتارة ينزل عليه صدر السورة‪ ،‬وتارة ينزل عليه آية‪ ،‬وتارة ينزل عليه آيات‪ ،‬وتارة ينزل عليه بعض آية‪ ،‬فآيات‬
‫اإلفك‪ ،‬وهي‪ :‬عشر آيات‪ ،‬نزلت مجلة‪ ،‬وسورة الفاحتة نزلت مجلةً‪ ،‬وسورة اإلخالص نزلت مجلة‪ ،‬وهكذا سور كثرية من القرآن‪ ،‬ونزل أول‬
‫ُويل الضََّرِر} النساء‪ ،95:‬بعد ما جاء ابن أم مكتوم‪،‬‬ ‫سورة‪{ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح الْ ُم ْؤِمنُو َن} املؤمنون‪ ،1:‬عشر آيات دفعة واحدة‪ ،‬وصح نزول‪َ { :‬غْي ُر أ ِ‬
‫ُّج ِوم} الواقعة‪ ،75:‬قال‪" :‬أنزل اهلل القرآن‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫وقد نزل أول اآلية‪ ،‬وهذا يف البخاري‪ ،‬وصح عن عكرمة يف تفسري قوله تعاىل‪{ :‬فَ َال أُقْس ُم مبََواق ِع الن ُ‬
‫جنوما‪ :‬ثالث آيات‪ ،‬وأربع آيات‪ ،‬ومخس آيات"‪ ،‬يعين‪ :‬وأكثر من ذلك وأقل‪ ،‬فهذا النزول‪ ،‬منه‪ :‬ما يكون بسورة كاملة‪ ،‬ومنه‪ :‬ما يكون بأقل‬ ‫ً‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫الدرس السابع من الوحدة الثانية احلكمة من نزول القرآن مفرقا‬ ‫الدرس‬
‫بعد ذلك نرجع إلى السؤال الذي ذكرته ساب ًقا‪ :‬ما الحكمة في نزول القرآن جملةً واحدة إلى سماء الدنيا؟ ميكن أن‬ ‫السابع‬
‫يقال‪ :‬هذا أمر غييب ال خنوض فيه بأفهامنا وآرائنا‪ ،‬فنمسك عنه‪ ،‬ونفوض العلم إىل عامله‪ ،‬فنحن نعلم أنه نزل مجلة‪ ،‬ونسلم بذلك‪ ،‬لكن ال‬ ‫من‬
‫الوحدة شك أن هذا يدل على معىن‪ ،‬وهو‪ :‬عظم عناية اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هبذا القرآن‪ ،‬ونقف عند هذا‪ ،‬وأما التفاصيل اليت يذكرها بعض أهل العلم‪،‬‬
‫فهذا نتوقف عنه‪ ،‬فال خنوض فيه؛ ألنه من أمر الغيب‪ ،‬ومل خيربنا اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عنه‪.‬‬ ‫الثانية‬
‫منجما على النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؟‬ ‫احلكمة‬
‫نأيت إىل سؤال آخر‪ ،‬وهو‪ :‬ما الحكمة في نزول القرآن مفرقًا ً‬
‫حكما كبرية يندرج حتتها أشياء‪ ،‬فأذكر احلكمة مث أذكر ما يدخل حتتها‪ ،‬أو وجه ذلك‪:‬‬ ‫من نزول‬
‫اجلواب‪ :‬ميكن أن أذكر ً‬
‫ت بِِه فُ َؤ َاد َك َوَرتَّ ْلنَاهُ تَ ْرتِيالً} الفرقان‪،32:‬‬ ‫• فاألوىل‪ :‬تثبيت فؤاد النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬كما قال اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :-‬ك َذلِ ِ‬ ‫القرآن‬
‫ك لنُثَبِّ َ‬
‫َ‬
‫فهذه واحدة‪ ،‬وهذا التثبيت من مخسة أوجه‪ ،‬ما وجه هذا التثبيت بإنزاله مفرقا؟‬ ‫مفرقاً‬
‫• هذه الوجوه الداخلة حتته أقول‪ :‬أوهلا‪ :‬أن يف جتدد الوحي للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مرة بعد مرة؛ انشراح لصدره ‪-‬عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬ملا يف ذلك من عناية اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬به‪ ،‬حينما يتعاهده امللك‪.‬‬
‫• والثاين‪ :‬أن ذلك أيسر لفهمه وحفظه‪ ،‬فيكون ذلك من تثبيت فؤاد النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬هبذا القرآن من جهة الفهم واحلفظ‪.‬‬
‫يدا من التثبيت لرسول اهلل ‪-‬صلى‬ ‫• وكذلك ً‬
‫أيضا‪ :‬أنه يف كل مرة ينزل عليه القرآن‪ ،‬هو يف الواقع‪ :‬يأتيه مبعجزة جديدة‪ ،‬فيكون ذلك مز ً‬
‫اهلل عليه وسلم‪.-‬‬
‫تأييدا له مرة بعد مرة؛ ألنه إذا نزل يدحض شبه املبطلني‪ ،‬ويرد على افرتاءاهتم‪ ،‬ويكسرهم‪ ،‬وهم‬
‫أيضا‪ :‬أن نزوله مفرقًا يكون ذلك ً‬‫• و ً‬
‫زورا وهبتانًا‪.‬‬
‫وناصرا له على هؤالء الذين يتقولون عليه ً‬
‫ً‬ ‫أعداء النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬فيكون ذلك مقويًا له‪،‬‬
‫• وخامسها‪ :‬أن يف ذلك من تعاهد اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬لرسوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عند اشتداد األمور ما فيه‪ ،‬فكلما تعددت الشدائد‬
‫كلما تعدد ما يرفعها ويدفعها‪ ،‬فيخف عنه األمل والبالء‪ ،‬ويتسلى رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بذلك‪ ،‬ولو اجتمع عليه من‬
‫بأقطارها‪ .‬فهذه مخسة أوجه تدخل حتت هذا األمر األول‪ ،‬وهو‪ :‬تثبيت فؤاد لنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬
‫ننتقل إلى الثانية من الحكم التي تذكر في نزول القرآن مفرقا‪ ،‬نقول‪ :‬التدرج في تربية األمة‪ ،‬في األمور العلمية واألمور‬
‫ضا من خمسة أوجه‪:‬‬
‫العملية‪ ،‬وهذا أي ً‬
‫• أوهلا‪ :‬تيسري احلفظ على األمة؛ فلو نزل مجلة واحدة لشق عليهم‪ ،‬لكن يف ثالث وعشرين سنة‪ ،‬مرة تنزل آية‪ ،‬ومرة تنزل ثالث‪ ،‬ومرة‬
‫مخس‪ ،‬فيتلقفوهنا فيحفظوهنا‪.‬‬
‫• وهكذا‪ :‬تيسري الفهم‪ ،‬فيتعلمون العلم والعمل ً‬
‫مجيعا‪ ،‬ال سيما مع معايشة الوقائع‪ ،‬فرتسخ؛ ألهنا نزلت يف حادثة يشاهدوهنا‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬التمهيد لكمال ختليهم عن عقائدهم الباطلة؛ كما قالت عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪" :-‬لو كان أول ما نزل‪ :‬ال تشربوا‬ ‫• وهكذا ً‬
‫أبدا"‪ ،‬وهكذا‪ :‬لو نزل ألول وهلة كل ما يف القرآن من األحكام والشرائع؛ ملا أطاقه هؤالء الناس‪ ،‬ولكنه نزل‬
‫اخلمر؛ لقالوا‪ :‬ال ندعها ً‬
‫شيئًا فشيئًا حىت يتخلوا عن باطلهم الذي نشؤوا وشبوا وشابوا عليه‪.‬‬
‫• وهكذا‪ :‬التدرج معهم يف األحكام‪ ،‬وتربيتهم هبدايات القرآن شيئًا بعد شيء‪ ،‬ولو أنه فاجأهم هبذه األحكام ً‬
‫مجيعا‪ ،‬وطالبهم بتطبيقها‪،‬‬
‫ما استطاعوا‪.‬‬
‫أيضا اخلامس‪ :‬تثبيت قلوب املؤمنني‪ ،‬وتسليحهم بعزمية الصرب واليقني؛ ألن القرآن حينما ينزل عليهم يعاجل احلوادث‪ ،‬ويبني هلم‬ ‫• مث ً‬
‫األحكام مرة بعد مرة‪ ،‬ففي مرة يذكر هلم قصة نيب‪ ،‬ويف مرة يذكر هلم واقعة من الوقائع‪ ،...‬إىل آخره؛ فهذه األمور هي‪ :‬تربية يرتبون‬
‫عليها‪.‬‬
‫والحكمة الثالثة هي‪ :‬مسايرة الحوادث والوقائع‪ ،‬وذلك من ثالثة أوجه‪:‬‬
‫• األول‪ :‬إجابة األسئلة؛ فالنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬توجه له األسئلة‪ ،‬فيأيت الوحي‪.‬‬
‫ُناس عن غزوة تبوك‪ ،‬وإذا فعل املنافقون فعالً‪ ،‬وقال اليهود قوالً‪ ،‬فنزلت‬ ‫• و ً‬
‫أيضا‪ :‬األحداث اليت تكون يف السرية‪ ،‬فينزل‪ ،‬كما ختلف أ ٌ‬
‫اآليات تتحدث عن هذا األمر‪ ،‬وتبني املوقف منه‪ ،‬وجتلي حقيقته‪ ،‬وأنت جتد الناس اليوم إذا وقع حدث بدأوا يبحثون عن احملللني‪،‬‬
‫ومن يطمئنون إليهم‪ ،‬ويثقون هبم؛ ليحللوا هلم خلفيات هذا احلدث‪ ،‬فالقرآن كان ينزل‪ ،‬فيعاجل هذه القضايا‪ ،‬ويبني املوقف الصحيح‬
‫منها‪ ،‬فهذه أمة رباها القرآن‪.‬‬
‫• ثالثها‪ :‬كشف حال املنافقني‪ ،‬وأعداء اإلسالم؛ وهلذا مسيت سورة براءة‪ :‬بالفاضحة واملقشقشة؛ حىت قال ابن عباس‪" :‬ما زال اهلل ‪-‬‬
‫ول ائْ َذ ْن ِيل َوَال تَ ْفتِ ِّين التوبة‪َ ،49:‬وِمْن ُه ْم َم ْن يَ ْل ِمُزَك ِيف‬
‫عز وجل‪ -‬يقول‪ :‬ومنهم‪ ،‬ومنهم‪ ،‬ومنهم‪ ،‬ومنهم‪- ،‬يعين‪َ { :‬وِمْن ُه ْم َم ْن يَ ُق ُ‬
‫أحدا"‪ ،‬ففضحتهم وكشفتهم‪.‬‬ ‫ات} التوبة‪ ،58:‬ومنهم من يقول كذا‪ -‬حىت ظننا أهنا ال تبقي ً‬ ‫الص َدقَ ِ‬
‫َّ‬
‫➢ إذن‪ :‬الحكمة األولى هي‪ :‬تثبيت فؤاد النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬
‫➢ والثانية‪ :‬التدرج في تربية األمة في العلم والعمل‪.‬‬
‫➢ والثالثة‪ :‬مسايرة الحوادث‪.‬‬
‫وأما الرابعة من هذه الحكم واألخيرة‪ :‬فاإلرشاد إلى مصدر القرآن‪ ،‬فحينما ينزل هذا القرآن يف ثالث عشرين سنة على النيب ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وعلى نفس املستوى من البالغة والفصاحة والقوة‪ ،‬فهذا يعين‪ :‬أن مصدره من اهلل ‪-‬عز وجل‪.‬‬
‫فاآلن حينما يؤلف اإلنسان كتابًا يف ثالث وعشرين سنة‪ ،‬لو نظرت إىل السنة األوىل والسنة الرابعة أو اخلامسة والسنة العاشرة والسنة‬
‫كبريا‪ ،‬بل إن اإلنسان يكتب‪ ،‬فإذا قرأ ما كتب بعد سنتني أو ثالث أو أربع؛ لرمبا يعجب كيف‬ ‫اخلامسة عشرة والسنة األخرية؛ جتد تفاوتًا ً‬
‫كتب هذا الكالم؟! واحتاج إىل إعادته‪.‬‬
‫ين‬ ‫فكونه ينزل على نفس املستوى‪ ،‬ونفس النمط‪ ،‬من أول مرة‪{ :‬اقْ رأْ بِاس ِم ربِّك الَّ ِذي خلَق} العلق‪ ،1:‬وقوله تعاىل‪{ :‬يا أَيُّها الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫ك الَّ ِذي َخلَ َق} العلق‪ ،1:‬فهل جتد‬ ‫ني} البقرة‪ ،278:‬آخر آية‪ ،‬وأول آية‪{ :‬اقْ َرأْ بِ ْ‬
‫اس ِم َربِّ َ‬ ‫ِِ‬ ‫َآمنُوا اتَّ ُقوا اللَّهَ َو َذ ُروا َما بَِق َي ِم َن ِّ‬
‫الربَا إِ ْن ُكْنتُ ْم ُم ْؤمن َ‬
‫أبدا‪ ،‬وبني هذه وهذه ثالث وعشرون سنة‪.‬‬ ‫فرقًا يف الفصاحة والعذوبة والقوة؟! ً‬
‫وحنن حينما نرى بعض الكتب اليت يكون العامل قد ُوفِّق فيها‪ ،‬وكتبها بأسلوب حمرر‪ ،‬نقول‪ :‬لعل هذا من آخر مؤلفاته‪ ،‬وإذا رأينا له‬
‫صل‬ ‫صل امللَكات‪ ،‬ويتدرج يف سلم الكمال‪ ،‬حىت ُحي ِّ‬ ‫كتابا فيه شيء من الضعف‪ ،‬قلنا‪ :‬هذا لعله من أول تصانيفه؛ ألن اإلنسان ال يزال ُحي ِّ‬
‫َ‬
‫من ذلك ما يشاء اهلل ‪-‬عز وجل‪.‬‬
‫عظيما‪ ،‬وهذا‬ ‫أما هذا القرآن؛ فهو‪ :‬كالم رب العاملني‪ ،‬ال ترى فيه هذا التفاوت‪ ،‬ولو كان من عند أحد من البشر؛ لرأيت فيه تفاوتًا ً‬
‫صورا‬ ‫ِ‬ ‫داخل حتت عموم قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :‬ولَو َكا َن ِمن ِعْن ِد َغ ِري اللَّ ِه لَوج ُدوا فِ ِيه ِ‬
‫اخت َالفًا َكث ًريا} النساء‪ ،82:‬فهذا االختالف يشمل ً‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫متعددة‪ ،‬منها‪ :‬هذا التباين يف الفصاحة والبالغة‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫الدرس األول من الوحدة الثالثة‪ :‬أسباب النزول‬ ‫الوحدة‬
‫بعد ذلك نأتي إلى الموضوع اآلخر‪ ،‬وهو‪ :‬أسباب النزول‪.‬‬ ‫الثالثة‬
‫الدرس‬
‫األول من‬
‫فسبب النزول ما هو؟ نقول‪ :‬هو ما نزلت اآلية أو اآليات متحدثة عنه‪ ،‬أو مبينة حلكمه أيام وقوعه‪ ،‬سواء كان حادثة أو سؤال‪،‬‬ ‫الوحدة‬
‫لكن أيام وقوعه‪ ،‬وأيام وقوعه هذه العبارة ما الفائدة منها؟ ماذا نستفيد من قولنا‪ :‬أيام وقوعه؟ يعين‪ :‬مثالً يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :-‬أَ َملْ‬ ‫الثالثة‬
‫اب الْ ِف ِيل} الفيل‪ ،1:‬هي حتدثت عن قصة الفيل‪ ،‬لكن هل يقال‪ :‬سبب نزول سورة الفيل هو قدوم أبرهة؟‬ ‫َصح ِ‬ ‫ف فَ َعل ربُّ َ ِ‬
‫ك بأ ْ َ‬ ‫تََر َكْي َ َ َ‬ ‫أسباب‬
‫الجواب‪ :‬ال‪ ،‬وكذلك اآليات اليت حتدثت عن فلق البحر ملوسى ‪-‬عليه السالم‪ ،‬هل نقول‪ :‬سبب نزول اآلية‪ :‬لما فلق اهلل البحر‬ ‫النزول‬
‫لموسى؟‬
‫اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬فقولنا‪ :‬أيام وقوعه‪ ،‬ال يعين‪ :‬ما نزل مما حكاه القرآن قبل ذلك مبدة طويلة‪ ،‬لكن سبب النزول هو‪ :‬حينما تنزل والقضية‬
‫جديدة‪ ،‬فيتحد ث القرآن عنها‪ ،‬وليست قضية غابرة قدمية قصها القرآن علينا‪ ،‬فهذا من قصص القرآن‪ ،‬ومن أخبار القرآن‪ ،‬فسبب النزول‬
‫يتحدث عن‪ :‬واقعة نزلت‪ ،‬وعايشها الصحابة‪ ،‬فينزل القرآن مبينا هلا‪.‬‬
‫ونزول القرآن منه‪ :‬ما ينزل ابتداء‪ ،‬وهو‪ :‬األكثر والغالب‪ ،‬ومنه‪ :‬ما ينزل بسبب واقعة أو سؤال‪ ،‬كأن حتصل حادثة‪ ،‬أو النيب ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يوجه له سؤال‪ ،‬فتنزل آيات معينة‪.‬‬
‫وإذا عرفت هذا‪ ،‬حصل لك التوسط بني من بالغ‪ ،‬وأراد أن يبحث لكل آية عن سبب نزول‪ ،‬حىت صار يتكلف يف أشياء مل يرد‬
‫فيها رواية أصالً‪ ،‬ويقول‪ :‬سبب نزول هذه اآلية كذا‪ ،‬ومل يرد فيها رواية‪ ،‬وبني من مل يلتفت إىل هذا أصالً؛ كأِّب عبيدة‪ ،‬معمر بن املثىن‬
‫الس َم ِاء َماءً لِيُطَ ِّهَرُك ْم‬
‫اس أ ََمنَةً ِمْنهُ َويُنَ ِّزُل َعلَْي ُك ْم ِم َن َّ‬ ‫املعتزيل‪ ،‬صاحب جماز القرآن‪ ،‬فإنه يأيت فيفسر قول اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :-‬إِ ْذ يُغَشِّي ُك ُم الن َ‬
‫ُّع َ‬
‫ت بِِه ْاألَقْ َد َام} األنفال‪ ،11:‬فيقول‪" :‬يربط على القلوب‪ ،‬فتثبت األقدام يف املعركة‪،‬‬ ‫ان َولِيَ ْربِ َ‬
‫ط َعلَى قُلُوبِ ُك ْم َويُثَبِّ َ‬
‫بِِه وي ْذ ِهب عْن ُكم ِرجز الشَّيطَ ِ‬
‫َُ َ َ ْ َْ ْ‬
‫فال تفر إذا ربط على القلوب"‪ ،‬فهذا الكالم هنا غري صحيح؛ ألن سبب النزول موجود‪ ،‬فكان من املفرتض أن ينظر يف سبب النزول قبل‬
‫أن يفسر هذا التفسري اللغوي؛ ألن سبب النزول يدل على‪ :‬أن الصحابة كانوا يف أرض دهسة‪ ،‬تسوخ فيها األقدام‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫عليها املطر‪ ،‬فتلبدت‪ ،‬فثبتت األقدام عليها‪ ،‬فمن عرف سبب النزول‪ ،‬والواقعة‪ ،‬واملالبسات؛ عرف معىن اآلية‪ ،‬وسيأيت ذلك يف فوائد معرفة‬
‫أسباب النزول‪.‬‬
‫وهلذا نقول‪ :‬إن معرفة هذا الباب‪ ،‬أي‪ :‬أسباب النزول‪ ،‬أمر ضروري ملن أراد أن يفهم القرآن‪ ،‬فهو‪ :‬من الشروط األساسية لذلك‪،‬‬
‫مع أننا نقول‪ :‬بأن أسباب النزول ليست على وترية واحدة يف األمهية من حيث انكشاف املعىن الذي يرتتب على معرفتها‪ ،‬وهذا سأذكره؛‬
‫ألنه على مراتب مخس‪ ،‬ففائدة معرفة سبب النزول‪ ،‬وأمهية معرفة سبب النزول ليس على وترية واحدة‪ ،‬فأحيانًا حىت لو ما عرفناه يكون املعىن‬
‫اضحا‪ ،‬وأحيانا ال‪ ،‬فقد ال نفهم اآلية إال بسبب النزول‪ ،‬فهو على مخس مراتب من حيث األمهية‪ ،‬سيأيت ذكرها‪.‬‬ ‫و ً‬
‫الدرس الثاني من الوحدة الثالثة‪ :‬فوائد معرفة أسباب النزول‪.‬‬ ‫الدرس‬
‫بعد ذلك أنتقل إىل النقطة األخرى‪ :‬ما الفوائد من معرفة سبب النزول؟ أقول‪ :‬هناك فوائد كثرية‪،‬‬ ‫الثاين من‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫الوحدة‬
‫ول‬
‫الر ُس َ‬
‫اجْيتُ ُم َّ‬ ‫منها مثالً‪ :‬معرفة الحكمة التي من أجلها ُش ِرع هذا الحكم‪ ،‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫ين َآمنُوا إ َذا نَ َ‬
‫ص َدقَةً} اجملادلة‪ ،12:‬قد يتساءل اإلنسان‪ ،‬فيقول‪ :‬ما الحكمة من هذه الصدقة؟! لماذا؟! فإذا عرف سبب‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫جن‬‫َ‬ ‫ي‬‫د‬ ‫ي‬ ‫ني‬ ‫ب‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫ِّم‬
‫د‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫الثالثة‬
‫ْ‬
‫ُ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫النزول‪ ،‬وهو‪ :‬أهنم أكثروا على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬من النجوى‪ ،‬كل حلظة جيي واحد إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يقول‪:‬‬ ‫فوائد‬
‫أريدك يف موضوع خاص‪ ،‬أريد أتكلم معك على جنب‪ ،‬فكثر ذلك على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وشق عليه‪ ،‬وكان النيب ‪-‬صلى اهلل‬ ‫معرفة‬
‫ص َدقَةً}‬ ‫ِ‬ ‫عليه وسلم‪ -‬يستحي من الناس أن يردهم‪ ،‬فنزلت هذه اآلية‪{ :‬يا أَيُّها الَّ ِ‬
‫ني يَ َد ْي َْجن َوا ُك ْم َ‬
‫ِّموا بَ ْ َ‬
‫ول فَ َقد ُ‬
‫الر ُس َ‬
‫اجْيتُ ُم َّ‬
‫ين َآمنُوا إذَا نَ َ‬
‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ َ‬ ‫أسباب‬
‫اجملادلة‪ ،12:‬فهذا فيه‪ :‬نفع للفقراء‪ ،‬وفيه‪ :‬تزكية لإلنسان حينما يتصدق‪.‬‬ ‫النزول‬
‫أيضا‪ :‬األصل من شرع الحكم والحكمة منه‪ ،‬وهو‪ :‬التخفيف على رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فلما شرع هذا‬
‫وفيه ً‬
‫احلكم توقفوا عن النجوى‪ ،‬فالنجوى بصدقة‪ ،‬تصدق مث تعاىل تناجي رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فاسرتاح النيب ‪-‬عليه الصالة والسالم‪-‬‬
‫‪ ،‬فإذا عرفت سبب النزول تعرف احلكمة اليت من أجلها شرع هذا احلكم‪ ،‬فهذه فائدة‪.‬‬
‫وهناك فائدة أخرى‪ ،‬وال حاجة بنا إليها على قول اجلمهور‪ ،‬وهي‪ :‬تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص‬
‫السبب‪ ،‬والواقع‪ :‬أن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب‪ ،‬وبالتايل ال حاجة بنا إىل هذه الفائدة‪ ،‬إمنا حيتاج إليها من يقول‪ :‬بأن العربة‬
‫خبصوص السبب‪.‬‬
‫عاما‪ ،‬وقد يأتي دليل مخصص يخرج بعض األفراد‪ ،‬فصورة السبب قطعية الدخول يف‬ ‫والفائدة الثالثة‪ :‬أن اللفظ قد يكون ً‬
‫العام‪ ،‬وال جيوز إخراجها منه‪ ،‬فنعرف هذا‪ ،‬فإذا عرفنا السبب‪ ،‬فإن صورة السبب قطعية الدخول يف العام‪ ،‬وال جيوز إخراجها منه باالجتهاد‪،‬‬
‫ومسألة التخصيص هي‪ :‬مسألة اجتهادية‪ ،‬جتمع بني دليلني‪ ،‬هذا عام وهذا خاص‪ ،‬وتقول‪ :‬حىت جنمع بني الدليلني‪ ،‬نقول‪ :‬إن هذا اخلاص‬
‫خيرج بعض األفراد من العام‪ ،‬فنقول له‪ :‬أخرج ما شئت مما ميكن أن خيرجه هذا اخلاص‪ ،‬بشرط‪ :‬أال تتعرض لصورة سبب النزول؛ ألهنا قطعية‬
‫الدخول يف هذا العام الذي نزلت اآلية فيه‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬الوقوف على المعنى وإزالة اإلشكال؛ ألنه يف كثري من األحيان ال ميكن الوقوف على املعىن إال مبعرفة سبب النزول؛ وهلذا‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رمحه اهلل‪" :‬إن معرفة سبب النزول يعني على فهم اآلية‪ ،‬فإن العلم بالسبب يورث العلم باملسبب"‪.‬‬
‫يما طَعِ ُموا إِ َذا َما اتَّ َق ْوا‬‫ات جناح فِ‬ ‫الص ِ‬
‫احل ِ‬ ‫َّ‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫نعطيكم مثاالً أو مثالني يف ذلك‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬لَيس علَى الَّ ِذين آمنُوا وع ِ‬
‫م‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ ََ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ِِ‬ ‫َح َسنُوا َواللَّهُ ُِحي ُّ‬ ‫وآمنُوا وع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫ني} املائدة‪ ،93:‬فليس عليهم جناح فيما طعموا‪ ،‬فيأكلون ما‬ ‫ب الْ ُم ْحسن َ‬ ‫الصاحلَات ُمثَّ اتَّ َق ْوا َو َآمنُوا ُمثَّ اتَّ َق ْوا َوأ ْ‬ ‫َ َ ََ‬
‫يريدون‪ ،‬ويشربون ما شاءوا‪ ،‬فقدامة بن مظعون ‪-‬رضي اهلل تعاىل عنه‪ -‬ممن شهد بدرا‪ ،‬شرب اخلمر‪ ،‬وجيء به يف عهد عمر ‪-‬رضي اهلل‬
‫ات‬‫احل ِ‬ ‫عنه‪ ،‬وكان هو‪ :‬يف البحرين‪ ،‬فجيء به من البحرين‪ ،‬فقيل له‪ :‬ملاذا شربت اخلمر؟ فقال‪ :‬اهلل يقول‪{ :‬لَيس علَى الَّ ِذين آمنوا وع ِملُوا َّ ِ‬
‫الص َ‬ ‫َ َُ َ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ني}‪ ،‬وليس عليهم جناح‪ ،‬يعين‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ات ُمثَّ اتَّ َق ْوا َو َآمنُوا ُمثَّ اتَّ َق ْوا َوأَ ْح َسنُوا َواللَّهُ ُِحي ُّ‬ ‫جناح فِيما طَعِموا إِذَا ما اتَّ َقوا وآمنوا وع ِملُوا َّ ِ‬
‫احل ِ‬
‫ب الْ ُم ْحسن َ‬ ‫الص َ‬ ‫َ ْ َ َُ َ َ‬ ‫َُ ٌ َ ُ‬
‫بدرا مع النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فشربت اخلمر‪ ،‬فبني له عمر‪ :‬أن هذا ليس هو املقصود‬ ‫حرج‪ ،‬وقال‪ :‬وأنا آمنت‪ ،‬وهاجرت‪ ،‬وشهدت ً‬
‫من اآلية‪ ،‬وبني له سبب النزول‪ ،‬فهذه اآلية نزلت بسبب‪ ،‬وهو‪ :‬أن بعض الصحابة ‪-‬رضي اهلل عنهم‪ -‬قبل حترمي اخلمر خرجوا إىل أحد وقد‬
‫شربوا من اخلمر ما شربوا‪ ،‬ومنهم‪ :‬محزة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬أمل يشرب محزة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬اخلمر‪ ،‬وعقر الشارفني لعلي ‪-‬رضي اهلل تعاىل‬
‫عنه‪ ،‬اليت أخذها من سهمه يف بدر‪ ،‬وملا جاء بالنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إليه قال‪" :‬هل أنتم إال عبيد ألِّب"‪ ،‬يقول لعلي‪ ،‬ويقول للنيب‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وهو‪ :‬سكران قبل حترمي اخلمر؟! فخرجوا إىل أحد‪ ،‬وكثري منهم قد شرب ما شرب من اخلمر‪ ،‬فقتلوا واخلمر يف‬
‫س‬ ‫أجوافهم‪ ،‬فلما حرمت اخلمر استشكل الصحابة ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيف بإخواننا الذين قتلوا وهي يف أجوافهم؟ فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :-‬لَْي َ‬
‫َح َسنُوا َواللَّهُ ُِحي ُّ‬ ‫ات جنَاح فِيما طَعِموا إِذَا ما اتَّ َقوا وآمنُوا وع ِملُوا َّ ِ ِ‬ ‫احل ِ‬ ‫الص ِ‬ ‫علَى الَّ ِذين آمنُوا وع ِ‬
‫ب‬ ‫الصاحلَات ُمثَّ اتَّ َق ْوا َو َآمنُوا ُمثَّ اتَّ َق ْوا َوأ ْ‬ ‫َ ْ َ َ ََ‬ ‫َ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ َ ََ‬ ‫َ‬
‫ني} املائدة‪ ،93:‬أي‪ :‬قبل حترمي اخلمر‪ ،‬الحظت! كيف يكون سبب النزول يف غاية األمهية؟!‬ ‫ِِ‬
‫الْ ُم ْحسن َ‬
‫وخذ مثاال آخر‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬فَأَيْنَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ اللَّ ِه} البقرة‪ ،115:‬فلو جاء إنسان وأخذ اآلية كما هي يف‬
‫ظاهرها‪ ،‬لقال‪ :‬إن الصالة ما يشرتط فيها االجتاه إىل القبلة‪ ،‬وما يذكره الفقهاء من هذا االشرتاط‪ ،‬فإن اآلية تدل على خالفه‪ ،‬فصل يف أي‬
‫قوما اجتهدوا يف السفر‪ ،‬فصلى كل رجل حسب اجتهاده‪ ،‬ووضعوا خطوطًا‬ ‫جهة‪ ،‬فنقول‪ :‬معرفة سبب النزول تزيل هذا اإلشكال‪ ،‬وذلك‪ :‬أن ً‬
‫يف ليلة غائمة‪ ،‬فلما أصبحوا وجدوا أن بعضهم صلى إىل غري القبلة‪ ،‬فأنزل اهلل‪{ :‬فَأَيْنَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ اللَّ ِه} البقرة‪.115:‬‬
‫أيضا‪ :‬صح أن اليهود ملا حولت القبلة من بيت املقدس احتجوا على املؤمنني‪ ،‬فقال اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :-‬فَأَيْنَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ‬ ‫و ً‬
‫اللَّ ِه} البقرة‪ ،115:‬وليس معناه‪ :‬أنك تتجه حيث شئت‪.‬‬
‫الص َفا َوالْ َمْرَوَة ِم ْن َش َعائِِر اللَّ ِه فَ َم ْن َح َّج‬
‫وهكذا‪ :‬عروة بن الزبري حينما جاء إىل عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬يقول يف قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن َّ‬
‫ف هبِِ َما} البقرة‪ ،158:‬يعين‪ :‬إن أراد أن يسعى بني الصفا واملروة يف احلج والعمرة سعى‪ ،‬وإال فال‬ ‫اح َعلَْي ِه أَ ْن يَطََّّو َ‬
‫ت أَ ِو ْاعتَ َمَر فَ َال ُجنَ َ‬
‫الْبَ ْي َ‬
‫اح َعلَْي ِه}‪ ،‬أي‪ :‬ال حرج عليه‪ ،‬فال جيب السعي عليه‪ ،‬هكذا فهم‪ ،‬فردت عليه عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪،‬‬ ‫حرج‪ ،‬فهو‪ :‬خمري‪ ،‬لقوله‪{ :‬فَ َال ُجنَ َ‬
‫وبينت سبب النزول‪ ،‬وهو‪ :‬أن األنصار ‪-‬رضي اهلل تعاىل عنهم‪ -‬األوس واخلزرج كانوا يتحرجون من السعي بني الصفا واملروة؛ ألنه كان على‬
‫الصفا صنمان‪" ،‬إساف ونائلة"‪ ،‬فكانوا يطوفون هبما يف اجلاهلية‪ ،‬يسعون ويدورون على هذه األصنام تقربًا إليها‪ ،‬فظنوا أن السعي بني الصفا‬
‫الص َفا َوالْ َمْرَوةَ ِم ْن َش َعائِِر اللَّ ِه فَ َم ْن َح َّج‬
‫واملروة من شعائر اجلاهلية‪ ،‬فلما أسلموا حترجوا من السعي‪ ،‬فاهلل قال هلم‪ :‬ال‪ ،‬فقال اهلل تعاىل‪{ :‬إِ َّن َّ‬
‫ف هبِِ َما} البقرة‪ ،158:‬ال حرج عليه أن يسعى بني الصفا واملروة‪ ،‬فزال اإلشكال مبعرفة سبب النزول؟!‬ ‫اح َعلَْي ِه أَ ْن يَطََّّو َ‬
‫ت أَ ِو ْاعتَ َمَر فَ َال ُجنَ َ‬
‫الْبَ ْي َ‬
‫وهكذا يف أمثلة أخرى‪.‬‬
‫يل ُحمََّرًما َعلَى طَاعِ ٍم يَطْ َع ُمهُ إَِّال أَ ْن يَ ُكو َن‬ ‫ُوح َي إِ ََّ‬ ‫واخلامس هو‪ :‬دفع توهم الحصر‪ ،‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬قُل َال أ َِج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫س أ َْو فِ ْس ًقا أ ُِه َّل لِغَ ِْري اللَّ ِه بِِه} األنعام‪ ،145:‬فذكر ثالثة أشياء‪ ،‬أين باقي األشياء احملرمة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ج‬‫ْ‬ ‫وحا أ َْو َحلْم ِخْن ِزي ٍر فَِإنَّهُ ِ‬
‫ر‬ ‫َ‬ ‫َمْيتَةً أ َْو َد ًما َم ْس ُف ً‬
‫كاألشياء الضارة؟ وأين حلوم احلمر األهلية؟ وأين كل ذي ناب من السباع‪ ،‬وكل ذي خملب من الطري؟ مع أن اآلية ظاهرها احلصر‪ ،‬فمن‬
‫عرف السبب الذي نزلت اآلية جميبة عنه احنل عنه اإلشكال‪ ،‬وذلك أن املشركني يف مكة كانوا حيللون أشياء وحيرمون أشياء‪ ،‬كما قال اهلل‬
‫اس َم اللَّ ِه َعلَْي َها افِْ َرتاءً َعلَْي ِه}‬ ‫ِ‬ ‫تعاىل‪{ :‬وقَالُوا ه ِذهِ أَنْعام وحر ٌ ِ‬
‫ورَها َوأَنْ َع ٌام َال يَ ْذ ُكُرو َن ْ‬ ‫ث ح ْجٌر َال يَطْ َع ُم َها إَِّال َم ْن نَ َشاءُ بَِز ْعم ِه ْم َوأَنْ َع ٌام ُحِّرَم ْ‬
‫ت ظُ ُه ُ‬ ‫َ َ َ ٌ َ َْ‬
‫صةٌ لِ ُذ ُكوِرنَا َوُحمََّرٌم َعلَى أ َْزَو ِاجنَا َوإِ ْن يَ ُك ْن َمْيتَةً فَ ُه ْم فِ ِيه ُشَرَكاءُ} األنعام‪،139:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫األنعام‪ ،138:‬وقال‪َ { :‬وقَالُوا َما ِيف بُطُون َهذه ْاألَنْ َعام َخال َ‬
‫فاهلل رد عليهم أعنف الرد‪ ،‬كأنه قال هلم‪ :‬احلالل ما حرمتم‪ ،‬واحلرام ما أحللتم‪ ،‬على سبيل املبالغة يف الرد‪{ :‬قُل َال أ َِج ُد ِيف ما أ ِ‬
‫ُوح َي إِ َيلَّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وحا أ َْو َحلْ َم ِخْن ِزي ٍر} األنعام‪ ،145:‬ال هذه السفسطة اليت حترمون هبا‪ ،‬وحتللون‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُحمََّرًما َعلَى طَاع ٍم يَطْ َع ُمهُ إَّال أَ ْن يَ ُكو َن َمْيتَةً أ َْو َد ًما َم ْس ُف ً‬
‫الظهور‪ ،‬وما يف األحشاء‪ ... ،‬إىل آخره‪ ،‬من عند أنفسكم‪ ،‬فهذا هو‪ :‬اخلامس‪.‬‬
‫والسادس واألخري‪ :‬معرفة المبهم‪ ،‬أو اسم من نزلت فيه اآلية؛ وهذا قليل الفائدة واجلدوى‪ ،‬إال يف بعض احلاالت القليلة‪ ،‬فمن‬
‫هذه احلاالت القليلة‪ :‬أن مروان بن احلكم حينما كان خيطب على منرب النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وذكر عهد معاوية إىل ابنه يزيد باخلالفة‪،‬‬
‫وقال‪ :‬سنة أِّب بكر وعمر‪ ،‬فقال له عبد الرمحن بن أِّب بكر الصديق ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬سنة هرقل وقيصر جتعلوهنا ألبنائكم‪ ،‬فقال مروان‬
‫ال لَِوالِ َديِْه‬
‫للحرس‪ :‬خذوه‪ ،‬فدخل يف بيت عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ ،‬وهي‪ :‬أخته‪ ،‬فقال مروان على املنرب‪ :‬هذا الذي أنزل اهلل فيه‪َ { :‬والَّ ِذي قَ َ‬
‫ُف لَ ُك َما أَتَعِ َدانِِين} األحقاف‪ ،17:‬فقالت عائشة من وراء احلجاب‪" :‬واهلل ما نزلت فينا‪ ،‬وما نزل فينا شيء من القرآن غري عذري‪ ،‬يعين‪:‬‬ ‫أ ٍّ‬
‫يف قصة اإلفك‪ ،‬يف براءهتا ‪-‬رضي اهلل عنها‪ ،-‬ولو شئت أن أمسي من نزلت فيه لسميته"‪ ،‬فاستفدنا من معرفة سبب النزول من هو‪ :‬النازل‬
‫فيه اآلية‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬وصلى اهلل على نبينا حممد‪ ،‬وآله‪ ،‬وصحبه‪.‬‬
‫الدرس الثالث من الوحدة الثالثة‪ :‬مناذج من أسباب النزول‬ ‫الدرس‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله‪ ،‬وصحبه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬ ‫الثالث‬
‫فكان حديثنا يف آخر ما حتدثنا عنه سابقا عن فوائد معرفة أسباب النزول‪ ،‬وبقي أن أقول‪ :‬بأن معرفة هذه الفوائد ليس على وزان‬ ‫من‬
‫واحد من حيث األمهية‪ ،‬فبعض هذه املعرفة أهم من بعض‪ ،‬فأحيانًا يتوقف املعىن على معرفة سبب النزول‪ ،‬وعلى الوقوف عليه‪ ،‬فال تفهم‬ ‫الوحدة‬
‫اآلية حىت تعرف سبب النزول‪ ،‬وهذا يف هذه احلال يكون معرفة سبب النزول فيه يف غاية األمهية؛ ألن التفسري يتوقف عليه؛ وألن فهم املعىن‬ ‫الثالثة‬
‫مناذج من يتوقف عليه‪ ،‬وهذا له أمثلة متعددة منها‪:‬‬
‫صنًا} النور‪ ،33:‬والبغاء معروف‪ :‬مصدر‬ ‫المثال األول‪ :‬أن اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬قال‪َ { :‬وَال تُ ْك ِرُهوا فَتَ يَاتِ ُك ْم َعلَى الْبِغَ ِاء إِ ْن أ ََرْد َن َحتَ ُّ‬ ‫أسباب‬
‫باغت اجلارية بغاء‪ ،‬فهي‪ :‬بغي‪ ،‬يعين‪ :‬إذا فجرت بأجرة‪ ،‬فهذه اآلية لو بقينا مع ظاهرها‪َ { :‬وَال تُ ْك ِرُهوا فَتَ يَاتِ ُك ْم َعلَى الْبِغَ ِاء إِ ْن أ ََرْد َن َحتَ ُّ‬
‫صنًا}‬ ‫النزول‬
‫النور‪ ،33:‬فمفهوم املخالفة‪ :‬أهنا إذا ما أرادت التحصن فال مانع من إكراهها‪ ،‬فإذا كانت ال تريد العفاف‪ ،‬وليست بعفيفة‪ ،‬فال مانع من‬
‫صنًا} النور‪ ،33:‬فاليت ال تريد حتصنا ال مانع من إكراهها‬ ‫إكراهها‪ ،‬وإمنا املمنوع يف ظاهر اآلية‪َ { :‬وَال تُ ْك ِرُهوا فَتَ يَاتِ ُك ْم َعلَى الْبِغَ ِاء إِ ْن أ ََرْد َن َحتَ ُّ‬
‫على هذا العمل‪ ،‬أي‪ :‬غري الشريفة‪ ،‬وهل هذا هو املعىن؟‬
‫صنًا} ‪ ،‬وهو‪ :‬أن عبد اهلل بن أِّب بن‬ ‫أبدا‪ ،‬فإذا عرفت سبب النزول اتضح لك وجه هذا الشرط يف اآلية‪{ :‬إِ ْن أ ََرْد َن َحتَ ُّ‬ ‫الجواب‪ً :‬‬
‫سلول‪ ،‬رئيس املنافقني‪ ،‬كان له جاريتان‪ ،‬فأسلمتا‪ ،‬فكان يكرههن على البغاء‪ ،‬وهن بعد اإلسالم عرفن أن ذلك أمر حمرم‪ ،‬وتباعدن عنه‪،‬‬
‫فكان يضربوهن من أجل أن يتكسب ‪-‬قبحه اهلل‪ -‬هبذا العمل الشنيع‪ ،‬فاهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أنزل هذه اآلية هبذا السبب ‪ ،‬كما صح يف الرواية؛‬
‫ليعاجل واقعة حاصلة‪ ،‬وقعت من بعض الناس‪ ،‬وإن كان املعىن أعم من ذلك‪ ،‬فال جيوز هلا أن تفعل هذا الفعل‪ ،‬وال جيوز لوليها أو لسيدها أن‬
‫صنًا} ؟ ألن هذا يتناسب مع الواقعة اليت نزل القرآن‬ ‫يسمح هلا‪ ،‬سواء كانت تريد التحصن أو ال تريد التحصن‪ ،‬لكن ملاذا قال‪{ :‬إِ ْن أ ََرْد َن َحتَ ُّ‬
‫ليعاجلها‪ ،‬فسبب النزول يبني املعىن هنا‪.‬‬
‫وت ِم ْن ظُ ُهوِرَها َولَ ِك َّن الِْربَّ َم ِن اتَّ َقى‬‫س الِْربُّ بِأَ ْن تَأْتُوا الْبُيُ َ‬
‫المثال الثاني‪ :‬خذ مثاالً آخر‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول يف سورة البقرة‪َ { :‬ولَْي َ‬
‫س‬ ‫ي‬‫َ‬‫ل‬‫و‬ ‫{‬ ‫باني؟‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫التوجيه‬ ‫هذا‬ ‫معنى‬ ‫ما‬ ‫ظهره؟‬ ‫من‬ ‫البيت‬ ‫يأتي‬ ‫أحد‬ ‫هناك‬ ‫هل‬ ‫الكالم؟‬ ‫هذا‬ ‫معنى‬ ‫ما‬ ‫‪،‬‬ ‫‪189‬‬ ‫البقرة‪:‬‬ ‫}‬ ‫ا‬ ‫وأْتُوا الْب يوت ِمن أَب و ِ‬
‫اهب‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُُ َ ْ ْ َ‬
‫وت ِم ْن أَبْ َو ِاهبَا} البقرة‪ ،189:‬ما معنى هذا الكالم؟ فهذا قد ال يفهم اإلنسان‬ ‫ِ‬ ‫الِْ ُّرب بِأَ ْن تَأْتُوا الْب ي ِ‬
‫وت م ْن ظُ ُهوِرَها َولَك َّن الِْ َّرب َم ِن اتَّ َقى َوأْتُوا الْبُيُ َ‬ ‫ُُ َ‬
‫املراد منه إال إذا عرف سبب النزول‪ ،‬وهو‪ :‬أن بعض األحياء من أحياء العرب‪ ،‬أو من أهل املدينة‪ ،‬كان الواحد منهم إذا أحرم باحلج أو‬
‫العمرة يرى ديانة أن من حمظورات اإلحرام‪ :‬أنه ال يدخل بيتًا من بابه‪ ،‬فما كانوا يستظلون أصال بسقف‪ ،‬وإمنا إن كانت له حاجة عرضت‪،‬‬
‫فيتسور من وراء اجلدار‪ ،‬حىت يأخذ حاجته‪ ،‬فاهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪ :‬هذا ليس هو الرب الذي يتقرب به إىل اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬أنكم تتسورون‬
‫البيوت من ظهورها‪ ،‬وال تدخلون من األبواب تقربًا إىل اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬فاهلل ال يتقرب إليه هبذا‪ ،‬وإمنا الرب التقوى‪َ { ،‬ولَ ِك َّن الِْ َّرب َم ِن اتَّ َقى َوأْتُوا‬
‫وت ِم ْن أَبْ َو ِاهبَا} البقرة‪ ،189:‬فهذا الذي يقرأ اآلية قد ال يفهم املعىن إال إذا عرف سبب النزول‪.‬‬ ‫الْبُيُ َ‬
‫اح َعلَْي ِه أَ ْن‬
‫ت أَ ِو ْاعتَ َمَر فَ َال ُجنَ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫المثال الثالث‪ :‬وهكذا ما ذكرنا سابقا يف قوله‪{ :‬إِ َّن َّ‬
‫الص َفا َوالْ َمْرَوةَ م ْن َش َعائ ِر اللَّه فَ َم ْن َح َّج الْبَ ْي َ‬
‫ف هبِِ َما} البقرة‪ ،158:‬فظاهرها أن الطواف‪ ،‬يعين‪ :‬السعي بني الصفا واملروة أمر مرفوع فيه احلرج‪ ،‬إذن هو‪ :‬ليس بالزم‪ ،‬كما فهم عروة‬ ‫يَطََّّو َ‬
‫بن الزبري‪ ،‬فبينت له عائشة سبب نزول اآلية‪ ،‬فهذا هو القسم األول الذي يتوقف عليه التفسري‪.‬‬
‫ب ذلك تشريعات قررها اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬في كتابه واضحة بينة‪ ،‬فهي ْبد‬
‫فسبَّ َ‬
‫القسم الثاني هو‪ :‬حوادث ووقائع حصلت‪َ ،‬‬
‫وضوحا على ما يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬األمر‬
‫ً‬ ‫ذاهتا يف القرآن واضحة مشروحة‪ ،‬سبب النزول إذا عرفته ال يؤثر يف احلكم شيئًا‪ ،‬وال يزيدك‬
‫واضح يف القرآن مشروح‪ ،‬فلو مل نعرف سبب النزول مل يقع لنا أي إشكال‪ ،‬فإذا عرفنا سبب النزول‪ ،‬فيكون هذا من باب زيادة العلم فقط‪،‬‬
‫مثاله‪ :‬قصة عويمر العجالني لما قذف امرأته‪ ،‬وكذلك هالل بن أمية لما قذف أمرأته‪ ،‬ولعل الواقعتني بينهما تقارب‪ ،‬فنزلت اآلية بعد‬
‫الواقعتني‪ ،‬وذلك حينما جاء ورمى امرأته‪ ،‬فقال له النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬البينة أو حد يف ظهرك)‪ ،‬يعين‪ :‬حيضر أربعة شهود بالشهادة‬
‫َح ِد ِه ْم أ َْربَ ُع‬ ‫ِ‬
‫اج ُه ْم َوَملْ يَ ُك ْن َهلُ ْم ُش َه َداءُ إَّال أَنْ ُف ُس ُه ْم فَ َش َه َادةُ أ َ‬
‫ين يَْرُمو َن أ َْزَو َ‬
‫َّ ِ‬
‫املعروفة‪ ،‬أو حد‪ ،‬وهو‪ :‬مثانون جلدة‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :‬والذ َ‬
‫ني} النور‪ ،6:‬اآليات يف اللعان‪ ،‬فهذه لو وقفنا مع اآليات فقط‪ ،‬وما عرفنا سبب النزول‪ ،‬هل يقع فيه إشكال‬ ‫ات بِاللَّ ِه إِنَّه لَ ِمن َّ ِ ِ‬
‫َشهاد ٍ‬
‫الصادق َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫يف معىن اآليات؟ الجواب‪ :‬ال‪ ،‬فسبب النزول إذا عرفته فهو من باب زيادة العلم‪ ،‬لكن املعىن ال يتوقف عليه‪ ،‬وال حيصل لك إشكال يف‬
‫املعىن بسبب جهلك فيه مبعرفة سبب النزول‪ ،‬فهذا النوع معرفته ليست أصلية‪ ،‬وليست ضرورية‪.‬‬
‫حمرما مع النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬ ‫ومن أمثلته‪ :‬أن كعب بن عجرة لما كان القمل يتساقط على وجهه من كثرته‪ ،‬وكان ً‬
‫يضا أ َْو بِِه أَ ًذى ِم ْن َرأْ ِس ِه فَِف ْديَةٌ ِم ْن ِصيَ ٍام أ َْو‬ ‫ِ‬
‫فلما رأى النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ما به‪ ،‬نزلت فيه هذه اآليات‪{ :‬فَ َم ْن َكا َن مْن ُك ْم َم ِر ً‬
‫ك} البقرة‪ ،196:‬يقول‪ :‬كعب بن عجرة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ :‬هي خاصة يل‪ ،‬ولكم عامة‪ ،‬فلو أننا مل نعرف قصة كعب بن عجرة‬ ‫ص َدقٍَة أَو نُس ٍ‬
‫َ ْ ُ‬
‫يضا أَو بِِه أَ ًذى ِمن رأْ ِس ِه فَِف ْديةٌ ِمن ِصي ٍام أَو ص َدقٍَة أَو نُس ٍ‬ ‫ِ‬
‫ك} البقرة‪،196:‬‬ ‫َ ْ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫َْ‬ ‫‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬واهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬قال‪{ :‬فَ َم ْن َكا َن مْن ُك ْم َم ِر ً ْ‬
‫افرتض أننا ما مسعنا سبب نزول اآلية‪ ،‬ماذا نفسر اآلية؟ سنقول‪ :‬من كان به أذى من رأسه من قروح حيتاج معها إىل إزالة الشعر‪ ،‬إىل حلقه‪،‬‬
‫مثل‪ :‬تنفط اجللد بسبب إحراق الشمس‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬أو هوام يف الشعر‪ ،‬كهذا الذي وقع لكعب بن عجرة‪ ،‬ألن اهلل قال‪{ :‬أ َْو بِِه أَذًى‬
‫ِم ْن َرأْ ِس ِه}‪ ،‬فيصدق على كل أذى‪ ،‬ولو مل نعرف سبب النزول‪ ،‬فهذا النوع إذن‪ :‬ليس من الضروري أن يعرفه املفسر‪ ،‬أو طالب العلم؛ لكنه‬
‫يفيد يف اجلملة بيان رمحة اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬وتوسعته على املكلفني‪ ،‬وما شابه ذلك‪.‬‬
‫ضا‪ :‬حوادث كثيرة ج ًدا‪ ،‬أنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬بها آيات‪ ،‬حكمها عام‪ ،‬جاء اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬بها في سياق‬
‫ويلحق به أي ً‬
‫عام‪ ،‬فقد يتوهم من نزلت فيه اآلية‪ :‬أن هذا الموضوع يخصه‪ ،‬بينما يؤخذ عموم اآلية‪ ،‬وهو‪ :‬واضح املعىن‪ ،‬وإن مل نعرف السبب‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫الرجل الذي لقي امرأة‪ ،‬وقارف معها بعض ما ال يليق‪ ،‬مما ال يوجب احلد‪ ،‬فندم‪ ،‬وجاء إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وأخربه‪ ،‬فأنزل اهلل‬
‫السيِّئ ِ‬ ‫الص َال َة طَر َِيف النَّها ِر وزلًَفا ِمن اللَّي ِل إِ َّن ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ات} هود‪ ،114:‬فلو مل نعرف سبب النزول؛ لبقي احلكم‬ ‫نب َّ َ‬ ‫احلَ َسنَات يُ ْذه ْ َ‬ ‫‪-‬عز وجل‪َ { :‬وأَق ِم َّ َ َ َ ُ َ ْ‬
‫الص َالةَ طَر َِيف النَّها ِر وزلًَفا ِمن اللَّي ِل إِ َّن ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫نب‬
‫احلَ َسنَات يُ ْذه ْ َ‬ ‫اضحا‪ ،‬فمن قارف شيئًا من السيئات‪ ،‬فعليه أن يتبعه باحلسنات مع التوبة‪َ { ،‬وأَق ِم َّ َ َ َ ُ َ ْ‬ ‫و ً‬
‫ك ِذ ْكرى لِ َّ ِ‬ ‫ات ذَلِ‬
‫السيِّئ ِ‬
‫ين} هود‪ ،114:‬وأمثلة ذلك كثيرة‪.‬‬ ‫لذاك ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫ين يَ ْشتَ ُرو َن بِ َع ْه ِد اللَّ ِه َوأَْميَاهنِِ ْم َمثَنًا قَلِيالً} آل‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ومنها‪ :‬ما أخرجه البخاري ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف صحيحه‪ ،‬يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :‬إ َّن الذ َ‬
‫عمران‪ 77:‬اآلية‪ ،‬قال ابن مسعود ‪-‬رضي اهلل عنه‪ :-‬قال رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪( :-‬من حلف على ميني صرب‪ ،‬يقتطع هبا مال‬
‫ين يَ ْشتَ ُرو َن بِ َع ْه ِد اللَِّه َوأَْميَاهنِِ ْم َمثَنًا قَلِيالً} آل عمران‪ 77:‬اآلية‪،‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫امرئ مسلم‪ ،‬لقي اهلل وهو عليه غضبان)‪ ،‬فأنزل اهلل تصديق ذلك‪{ :‬إ َّن الذ َ‬
‫فدخل األشعث بن قيس ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬يف هذه األثناء‪ ،‬وابن مسعود قد حدث أصحابه هبذا احلديث‪ ،‬فقال‪ :‬ما حدثكم أبو عبد‬
‫يف أنزلت‪ ،‬يل بئر يف أرض ابن عم يل‪ ،...‬إىل آخر ما ذكر‪.‬‬ ‫الرمحن؟! ماذا قال لكم؟! فقالوا‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫ين يَ ْشتَ ُرو َن بِ َع ْه ِد اللَّ ِه َوأَْميَاهنِِ ْم َمثَنًا قَلِيالً}‪ ،‬والنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يقول‪(:‬من حلف‬
‫َ‬
‫فابن مسعود محلها على العموم‪{ :‬إِ َّن الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫على ميني صرب‪ ،‬يقتطع هبا مال امرئ مسلم)‪ ،‬فاحلديث مطابق لآلية‪ ،‬وكون األشعث بن القيس ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬وقعت له قصة مع ابن‬
‫عمه‪ ،‬فحلف ذاك‪ ،‬فنزلت اآلية‪ ...‬إىل آخره‪ ،‬فهذا ال يؤثر يف معرفة املعىن‪ ،‬وال يغري من احلكم شيئًا‪ ،‬ال بتخصيص‪ ،‬وال بتقييد‪ ،‬وال برفع‬
‫إشكال بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬ما يذكره السلف ويعبرون عنه بقولهم‪ :‬نزلت هذه اآلية في كذا‪ ،‬وال يقصدون به سبب النزول في الغالب‪،‬‬
‫وسيأيت الكالم عليه عند الكالم صيغة سبب النزول‪ ،‬يقولون‪ :‬نزلت هذه اآلية يف كذا وكذا‪ ،...‬نزلت يف الرجل يعمل كذا وكذا‪ ،...‬وال‬
‫يقصدون سبب النزول‪ ،‬يعين‪ :‬نزلت يف هذا املعىن‪ ،‬أن هذا مما يدخل يف عموم اآلية‪ ،‬وإن مل تكن نزلت فيه‪ ،‬يعين‪ :‬مثال ذلك‪ :‬ابن عمر ‪-‬‬
‫ال َال تُ ْل ِهي ِه ْم ِجتَ َارةٌ َوَال بَْي ٌع َع ْن‬
‫رضي اهلل عنه‪ -‬مر بسوق املدينة‪ ،‬فأذن املؤذن‪ ،‬فرأى الناس يغلقون حوانيتهم‪ ،‬فقال‪ :‬يف هؤالء نزلت‪ِ { :‬ر َج ٌ‬
‫الزَكاةِ} النور‪ ،37:‬واآلية نازلة قبل ذلك بكثري‪ ،‬ومل تنزل يف هؤالء‪ ،‬ليسوا هم سبب النزول‪ ،‬وإمنا يقصدون‪ :‬أهنم‬ ‫الص َالةِ َوإِيتَ ِاء َّ‬
‫ِذ ْك ِر اللَّ ِه َوإِقَ ِام َّ‬
‫كثريا ما يعربون هبذا التعبري‪ ،‬يقولون‪ :‬نزلت هذه اآلية يف كذا‪ ،‬وال يقصدون سبب النزول‪ ،‬وهذا كثري‪ ،‬ومثل‬ ‫مما يدخل يف عمومها‪ ،‬فالسلف ً‬
‫أيضا ال يتوقف عليه فهم املعىن‪ ،‬وال يرتفع به اإلشكال‪.‬‬ ‫هذا ً‬
‫ضا‪ :‬ما أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬يف الرواية اليت ذكر فيها نزاع الزبري بن العوام ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬مع الرجل‬ ‫ومن أمثلته أي ً‬
‫األنصاري يف شراج احلرة‪ ،‬مسيل املاء‪ ،‬فكان يأيت املاء‪ ،‬السيل‪ ،‬املطر من هذا املسيل‪ ،‬يأيت إىل مزرعة الزبري بن العوام أوالً‪ ،‬ومزرعة األنصاري‬
‫خلفه‪ ،‬فاألنصاري منزعج‪ ،‬يريد أن املاء مير مرورا على مزرعة الزبري‪ ،‬مث ال حيبسه حابس‪ ،‬فينطلق مباشرة إىل مزرعته‪ ،‬فالنيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬أرشد الزبري إىل أن يسقي‪ ،‬مث يرسل املاء إىل جاره‪ ،‬فغضب األنصاري‪ ،‬وقال‪ :‬أَ ْن كان ابن عمتك يا رسول اهلل‪ ،‬يعين‪ :‬ألنه ابن عمتك‬
‫حابيته‪ ،‬مع أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬رفق باألنصاري‪ ،‬وإال فمن حق الزبري أن حيبس املاء حىت يكتفي متاما‪ ،‬فالنيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬قال له‪( :‬اسق‪ ،‬مث أرسل املاء إىل جارك)‪ ،‬أي‪( :‬ال ضرر وال ضرار)‪ ،‬فغضب النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقال للزبري‪( :‬اسق يا زبري‬
‫حىت يبلغ املاء اجلدر)‪ ،‬أي‪ :‬أن هذا من حقك‪ ،‬لكنه ما ذكره للزبري أوالً رف ًقا باألنصاري‪ ،‬فلما أساء األدب األنصاري‪ ،‬ذكر النيب ‪-‬صلى‬
‫ك َال يُ ْؤِمنُو َن َح َّىت ُحيَ ِّك ُم َ‬
‫وك‬ ‫اهلل عليه وسلم‪ -‬احلق الثابت للزبري‪ ،‬فماذا حصل؟ يقول‪ :‬فما أحسب هذه اآلية إال نزلت يف ذلك‪{ :‬فَ َال َوَربِّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما} النساء‪ ،65:‬نزلت يف ذلك‪ ،‬يعين‪ :‬هذا مما يدخل يف معناها‪،‬‬ ‫ت َويُ َسلِّ ُموا تَ ْسل ً‬ ‫يما َش َجَر بَْي نَ ُه ْم ُمثَّ َال َِجي ُدوا ِيف أَنْ ُفس ِه ْم َحَر ًجا ممَّا قَ َ‬
‫ضْي َ‬ ‫فَ‬
‫وليس هذا هو سبب النزول‪.‬‬
‫تماما عليه‪ ،‬يعين‪ :‬هو دون األول‪ ،‬لكن يبقى بعض الغموض‪،‬‬
‫القسم الرابع وهو‪ :‬مما يحتاج إليه‪ ،‬وإن كان ال يتوقف المعنى ً‬
‫وبعض اإلشكال‪ ،‬فإذا عرف سبب النزول اجنلى هذا اإلشكال‪ ،‬فهذا مما حنتاج إىل معرفته‪.‬‬
‫َن ِشْئتُ ْم} البقرة‪ ،223:‬ما معناها؟ قد يفهم منها فاهم معىن مل‬ ‫مثاله‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬نِ َسا ُؤُك ْم َحْر ٌ‬
‫ث لَ ُك ْم فَأْتُوا َحْرثَ ُك ْم أ َّ‬
‫َن ِشْئتُ ْم}‪ ،‬لكن إذا عرفت‬
‫يرده اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬وحيتج هبا على فعل ال جيوز‪ ،‬واملقصود واضح‪ ،‬فاهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬فَأْتُوا َحْرثَ ُك ْم أ َّ‬
‫سبب النزول‪ ،‬وهو‪ :‬أن اليهود كانوا يقولون‪ :‬إذا أتى امرأته مدبرة‪ ،‬يعين‪ :‬يف موضوع الولد‪ ،‬جاء الولد أحول‪ ،‬فكذهبم اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫َن ِشْئتُ ْم} البقرة‪ ،223 :‬يعين‪ :‬كل ذلك يف حمل احلرث‪ ،‬وأما غريه فال جيوز‪ ،‬فهذا يزول به اإلشكال‪،‬‬ ‫{نِ َسا ُؤُك ْم َحْر ٌ‬
‫ث لَ ُك ْم فَأْتُوا َحْرثَ ُك ْم أ َّ‬
‫لكن ال يتوقف فهم املعىن عليه‪ ،‬وهبذا نكون انتهينا من هذه القضية‪.‬‬
‫الدرس الرابع من الوحدة الثالثة‪ :‬كيف نعرف أسباب النزول‪.‬‬ ‫الدرس‬
‫بقي أن نعرف مسألة أخرى‪ ،‬وهي‪ :‬كيف نعرف سبب النزول بال مبالغة؟ فإذا نظرت يف كتب التفسري‪ ،‬وقد استغرب هذا‬ ‫الرابع من‬
‫الوحدة بعض اإلخوان‪ ،‬جتد أهنم يذكرون أشياء من غري روايات‪ ،‬يقولون‪ :‬سبب نزول اآلية كذا وكذا وكذا‪ ،‬أشياء يأتون هبا‪ ،‬ال أدري من أين جاؤوا‬
‫هبا‪ ،‬ال يوجد فيها رواية‪ ،‬وقد رأيت ابن عاشور ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف أول تفسريه يبدي امتعاضه من ذلك‪ ،‬من كثرة ما يذكره بعض املفسرين‪،‬‬ ‫الثالثة‬
‫ويقولون‪ :‬سبب نزول هذه اآلية كذا‪ ،‬من غري أن يكون هناك رواية أصال يف املوضوع‪ ،‬فهذه مشكلة‪.‬‬ ‫كيف‬
‫هل نعرف أسباب النزول عن طريق الحدس‪ ،‬أو االجتهاد‪ ،‬أو النظر‪ ،‬أو االستنباط؟‬ ‫نعرف‬
‫الجواب‪ :‬ال‪ ،‬ال ميكن أن نعرف سبب النزول إال بشيء واحد فقط‪ ،‬ما هو هذا الطريق؟ هو‪ :‬النقل‪ ،‬النقل عمن؟ عمن شاهدوا‬ ‫أسباب‬
‫النزول التنزيل‪ ،‬وهم الصحابة‪ ،‬هم الذين حيكون لنا‪ ،‬ويقولون‪ :‬حصل كذا‪ ،‬سأل رجل‪ ،‬فعل فالن كذا‪ ،‬فنزلت اآلية‪ ،‬فهذا هو الطريق الوحيد ملعرفة‬
‫سبب النزول‪.‬‬
‫إذا نقل لنا من لم يشاهدوا التنزيل رواية‪ ،‬مثل‪ :‬التابعين‪ ،‬فهل يكون ذلك مقبوالً؟‬
‫الجواب‪ :‬أ ن هذا من قبيل املرسل‪ ،‬وهو‪ :‬نوع من أنواع الضعيف؛ ألن الواسطة غري معلومة‪ ،‬فقد يكون روى عن صحاِّب‪ ،‬وقد‬
‫يكون روى من تابعي آخر‪ ،‬املقصود‪ :‬أن حكم هذا هو حكم املرسل‪.‬‬
‫كيف يحصل هذا للصحابة ‪-‬رضي اهلل عنهم‪-‬؟ حيصل هلم بقرائن وبأمور يف معايشتهم للنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.-‬‬
‫أيضا يف هذا الباب‪ :‬باب أسباب النزول‪ ،‬مسألة‪ :‬وهي سبب النزول هل هو من قبيل‪ ،‬أو يأخذ حكم‬
‫ومما ينبغي أن يعلم ً‬
‫الحديث المرفوع‪ ،‬أو أنه يأخذ حكم الحديث الموقوف‪ ،‬أو األثر الموقوف‪ ،‬يعني‪ :‬من قول الصحابي؟ فالذي حيدثنا بأسباب النزول‬
‫ليس النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وإمنا الصحابة عادة‪ ،‬فهل حنكم على هذه الرواية‪ :‬أهنا من قول الصحاِّب فتكون موقوفة؟ ‪-‬وموقوفة‬
‫يعين‪ :‬قول صحاِّب‪ ،‬أو نقول‪ :‬إهنا من قبيل املرفوع؟ يعين‪ :‬هلا حكم ما يسند إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬؟ فما حكم سبب النزول؟‬
‫الجواب‪ :‬ننظر إىل الصيغة‪ ،‬فإن كانت صرحية حكمنا له ْبكم الرفع‪ ،‬وسيأيت معنا الصيغة الصرحية بعد قليل إن شاء اهلل تعاىل‪،‬‬
‫فسبب النزول الذي جاء بصيغة صرحية له حكم الرفع‪ ،‬وما جاء بصيغة غري صرحية‪ ،‬فليس له حكم الرفع‪ ،‬على خالف يف هذا النوع‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬وبعضهم ال جيعله‪.‬‬
‫فبعضهم جيعله يف قسم املرفوع ً‬
‫الدرس اخلامس من الوحدة الثالثة‪ :‬صيغ أسباب النزول‪.‬‬ ‫الدرس‬
‫ما هي الصيغ التي ترد فيها أسباب النزول في الروايات التي يعبر بها الراوي؟ نقول‪ :‬هي‪ :‬على قسمين‪:‬‬ ‫اخلامس‬
‫من‬
‫القسم األول‪ :‬قسم صريح‪ ،‬وهو‪ :‬أن يقول الراوي‪ ،‬الصحاِّب يعين مثالً‪ ،‬يذكر قصة‪ ،‬أو واقعة‪ ،‬أو سؤال‪ ،‬أو حادثة‪ ،‬أو حنو ذلك‪،‬‬ ‫الوحدة‬
‫مث يقول‪ :‬فأنزل اهلل كذا وكذا‪ ،‬أو يقول‪ :‬فنزلت هذه اآلية‪ ،‬يعين‪ :‬يعقب الواقعة أو السؤال بقوله‪ :‬فنزلت‪ ،‬أو فأنزل اهلل‪ ،‬أو يقول‪ :‬سبب نزول‬ ‫الثالثة‬
‫اآلية الفالنية كذا وكذا‪ ،‬فهذا يكون من قبيل الصريح‪ ،‬وله حكم الرفع إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم؛ ألنه ال حيتمل أن يكون من قبيل‬ ‫صيغ‬
‫التفسري من الصحاِّب حىت حنكم له أنه من قول الصحاِّب‪ ،‬ال‪ ،‬فنقول‪ :‬هذا سبب نزول لقضية تتعلق بنزول الوحي على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬ ‫أسباب‬
‫وسلم‪ -‬إىل آخره‪ ،‬فهذه هلا شأن‪ ،‬فنلحقها بأحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أو باألحاديث املرفوعة‪ ،‬فلها حكمها‪.‬‬ ‫النزول‬
‫القسم الثاني وهو‪ :‬غير الصريح‪ ،‬وهو‪ :‬ما يعربون عنه بقوهلم‪ :‬نزلت هذه اآلية يف الرجل يفعل كذا وكذا‪ ،‬نزلت هذه اآلية فينا‬
‫ال َال تُلْ ِهي ِه ْم ِجتَ َارةٌ َوَال بَْي ٌع َع ْن ِذ ْك ِر اللَّ ِه} النور‪ ،37:‬مع أن اآلية نازلة قبل‬ ‫معشر األنصار‪ ،‬نزلت هذه اآلية مثال‪ ،‬أو يف هؤالء نزلت‪ِ { :‬ر َج ٌ‬
‫بسنني طويلة‪ ،‬يعين‪ :‬أن هذا مما يدخل يف عمومها ومعناها‪ ،‬فغري الصريح ليس له حكم الرفع‪ ،‬وأما الصريح فهو‪ :‬يف حكم املرفوع‪.‬‬
‫نعطيكم مثاال على غير الصريح‪ :‬أخرج البخاري من حديث حذيفة بن اليمان ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬يف قوله تعاىل‪َ { :‬وأَنِْف ُقوا ِيف َسبِ ِيل‬
‫َّهلُ َك ِة} البقرة‪ ،195:‬قال‪ :‬نزلت يف النفقة‪ ،‬هل هذا صريح أو غري صريح؟ هذا غري صريح‪ ،‬قال‪ :‬نزلت يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اللَّه َوَال تُ ْل ُقوا بِأَيْدي ُك ْم إِ َىل الت ْ‬
‫َّهلُ َك ِة} البقرة‪ ،195:‬قال‪ :‬نزلت يف النفقة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النفقة‪ ،‬يعين‪ :‬أن مما يدخل يف معناها‪ :‬النفقة‪َ { ،‬وأَنْف ُقوا ِيف َسبِ ِيل اللَّه َوَال تُ ْل ُقوا بِأَيْدي ُك ْم إِ َىل الت ْ‬
‫مثال آخر‪ :‬أخرج البخاري ً‬
‫أيضا من حديث نافع‪ ،‬عن ابن عمر ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ :-‬أنه كان إذا قرأ القرآن مل يتكلم حىت يفرغ منه‪،‬‬
‫يوما‪ ،‬فقرأ سورة البقرة حىت انتهى إىل مكان؛ قال‪ :‬تدري فيم أنزلت؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬أنزلت يف كذا وكذا‪ ،‬مث مضى‪،‬‬
‫يقول‪ :‬فأخذت عليه ً‬
‫يعين‪ :‬ليس بسبب النزول‪ ،‬وإمنا مما يدخل يف معناها‪.‬‬
‫وهنا تنبيه البد منه‪ :‬وهو أن هذه الرواية اليت نقول‪ :‬إهنا وردت بصيغة صرحية؛ قد جندها إذا استقرأنا الروايات أحيانًا يف بعض املواضع‬
‫غري صرحية‪ ،‬فلو مجعنا الروايات أحيانا نكتشف أهنا يف بعض الروايات جاءت بطريقة غري صرحية‪ ،‬بل أحيانًا قد تأيت يف أول الرواية صرحية‪،‬‬
‫ويف آخرها بصيغة غري صرحية‪ ،‬أو العكس‪ ،‬وهلذا حنن نقول‪ :‬إن هذا هو الغالب‪ ،‬أنه إذا قال‪ :‬سبب نزول هذه اآلية كذا‪ ،‬أو يذكر احلادثة‪،‬‬
‫مث يقول‪ :‬فنزلت هذه اآلية‪ ،‬الغالب أن هذا هو‪ :‬سبب النزول‪ ،‬وليس مقصوده التفسري‪ ،‬هذا الغالب‪ ،‬لكن قد يكون األمر على خالف‬
‫ذلك‪ ،‬وحنن نعرف أن كل قاعدة هلا شواذ‪ ،‬فالقواعد أغلبية‪ ،‬هذا غاية ما يقال يف هذا األمر‪.‬‬
‫نعطيكم مثاال على ما ورد فيه األمران‪ ،‬يأتيك يف بعض الرواية بصيغة صرحية‪ ،‬يف نفس الرواية‪ ،‬ويف املوضع الثاين بصيغة غري صرحية‪،‬‬
‫مثاله‪ :‬أثر ابن عمر السابق‪ ،‬الذي قال فيه‪ :‬نزلت يف كذا وكذا‪ ،‬يقصد اآلية‪{ :‬نِ َسا ُؤُك ْم َحْر ٌ‬
‫ث لَ ُك ْم} البقرة‪ ،223:‬فهذا األثر جاء يف موضع‬
‫آخر بصيغة صرحية‪ ،‬وهي‪ :‬قضية واحدة‪ ،‬فهذا يف روايتني‪.‬‬
‫أما يف نفس الرواية‪ ،‬فخذ هذا املثال‪ ،‬وهو‪ :‬ما أخرجه البخاري يف صحيحة‪ ،‬عن الرباء ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪:‬‬
‫وت ِم ْن أَبْ َو ِاهبَا} البقرة‪ ،189:‬قال‪ :‬نزلت هذه اآلية فينا‪ ،‬هل هذا صريح أو غير صريح؟ غري صريح‪ ،‬لو بقينا معه؛ لقلنا هذا‬ ‫{ َوأْتُوا الْبُيُ َ‬
‫من قبيل التفسري‪ ،‬وليس من قبيل سبب النزول‪ ،‬قال‪ :‬نزلت هذه اآلية فينا‪ ،‬مث قال‪ :‬كان األنصار إذا حجوا فجاؤوا مل يدخلوا من قبل أبواب‬
‫ت ِم ْن ظُ ُهوِرَها}‬
‫س الِْ ُّرب بِأَ ْن تَأْتُوا الْبُيُو َ‬
‫بيوهتم‪ ،‬ولكن من ظهورها‪ ،‬فجاء رجل من األنصار فدخل من قبل بابه‪ ،‬فكأنه عُ ّري بذلك‪ ،‬فنزلت‪َ { :‬ولَْي َ‬
‫البقرة‪ ،189:‬قوله‪ :‬فنزلت‪ ،‬بعد ذكر الواقعة‪ ،‬هذا يكون من قبيل الصريح‪ ،‬وأنه يف نفس الرواية‪ ،‬يف أوهلا غري صريح‪ ،‬ويف آخرها صريح‪.‬‬
‫نعطيكم مثاالً على الصريح فقط‪ ،‬وقد أعطيناكم أمثلة على غري الصريح‪ ،‬وعلى ما اجتمع فيه األمران يف رواية واحد‪ ،‬أو جاء يف‬
‫روايتني لنفس احلديث‪ ،‬فاملثال على الصريح‪ :‬ما أخرجه البخاري‪ ،‬من حديث الرباء ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قال‪ :‬ملا نزل صوم رمضان كانوا ال‬
‫يقربون النساء رمضان كله‪ ،‬وكان رجال خيونون أنفسهم‪ ،‬فأنزل اهلل‪َ { :‬علِ َم اللَّهُ أَنَّ ُك ْم ُكْنتُ ْم َختْتَانُو َن أَنْ ُف َس ُك ْم} البقرة‪ ،187:‬فقوله‪ :‬فأنزل اهلل‪،‬‬
‫هذا من قبيل الصريح‪.‬‬
‫مسألة أخرى في النزول وأسباب النزول‪ ،‬وهي‪ :‬فائدة مليحة‪ ،‬وهي‪ :‬أحيانا تنزل اآلية أو اآليات قبل الحكم‪ ،‬وال أقصد باحلكم‬
‫احلالل واحلرام‪ ،‬وإمنا أقصد‪ :‬املعىن‪ ،‬أو القضية‪ ،‬أو الواقعة‪ ،‬أو األمر الذي ترتبط به اآلية‪ ،‬وتتحدث عنه‪ ،‬حىت لو كان حدثًا تارخييًا‪ ،‬فأحيانا‬
‫تنزل قبله اآليات‪ ،‬وحيصل هو بعد مدة‪ ،‬وأحيانا تنزل معه‪ ،‬وأحيانا يشرع احلكم‪ ،‬أو حتصل واقعة‪ ،‬فتنزل اآليات بعد ذلك‪.‬‬
‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نعطيكم مثاال على ذلك‪ ،‬ما نزل مع تشريع الحكم‪ ،‬وهذا كثري‪ ،‬مثل‪ :‬حترمي اخلمر‪{ ،‬إَِّمنَا ْ‬
‫اب َو ْاأل َْزَال ُم ر ْج ٌ‬
‫ص ُ‬‫اخلَ ْمُر َوالْ َمْيسُر َو ْاألَنْ َ‬
‫حكما‪ ،‬وهو‪ :‬حترمي‬ ‫ان فَ ِ‬
‫ِمن عم ِل الشَّيطَ ِ‬
‫اجتَنبُوهُ} املائدة‪ ،90:‬ملا نزلت هذه اآلية نزل معها مباشرة حترمي اخلمر‪ ،‬بل كانت هذه اآلية حتمل ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ََ‬
‫اخلمر‪ ،‬فما حرم اخلمر قبل ذلك‪ ،‬وال حرم بعد نزول هذه اآلية بفرتة‪ ،‬وإمنا نزل احلكم هبذه اآلية‪ ،‬فاآلية كانت حتمل هذا احلكم الشرعي‪.‬‬
‫ب َعلَْي ُك ُم‬ ‫ضا‪ :‬فرض الصيام‪ ،‬يقول تعاىل‪َ { :‬شهر رمضا َن الَّ ِذي أُنْ ِزَل فِ ِيه الْ ُقرآ ُن} البقرة‪ ،185:‬وقوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪ُ { :‬كتِ‬ ‫ومثل أي ً‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ ََ َ‬
‫ين ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم} البقرة‪ ،183:‬مىت فرض الصوم؟ ملا نزلت هذه اآليات‪ ،‬فهذا مع تقرير احلكم‪ ،‬اآلية تنزل حتمل‬ ‫َّ ِ‬
‫ب َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬
‫الصيَ ُام َك َما ُكت َ‬
‫ِّ‬
‫حكما يطبق مباشرة‪.‬‬
‫وأما الصورة الثانية‪ ،‬وهي‪ :‬ما نزل قبل تقرير الحكم‪ ،‬فهذا له أمثلة‪ ،‬وإن كانت هذه األمثلة بعضها حيتاج إىل مناقشة‪ ،‬وحنن يف‬
‫األمثلة نوسع اجملال‪ ،‬فال نضيق يف املثال؛ من أجل أن يتضح املعىن فقط؛ فهي معتربة على قول بعض العلماء‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫ت ِحلٌّ ِهبَ َذا الْبَلَ ِد} البلد‪ ،2-1:‬ما المعنى؟‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يقول‪َ{ :‬ال أُقْس ُم هبَ َذا الْبَ لَد * َوأَنْ َ‬
‫ت ِحلٌّ ِهبَ َذا الْبَ لَ ِد}‪ِ ،‬ح ّل‪ :‬ليس‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫هلا أكثر من معىن عند املفسرين‪ ،‬لكن املعىن املشهور‪َ{ :‬ال أُقْس ُم هبَ َذا الْبَ لَد}‪ ،‬يعين‪ :‬مكة‪َ { ،‬وأَنْ َ‬
‫حال‪ ،‬أي‪ :‬نازل‪ ،‬وإمنا من اإلحالل‪ ،‬أي‪ :‬احلِل ضد احلرمة‪ ،‬أي‪ :‬أنك حالل‪ ،‬وهذه اآلية من سورة البلد مىت نازلة؟ نزلت والنيب ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬مستضعف يف مكة‪ ،‬فاآلية تشري إىل قول النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬أحلت يل ساعة من هنار)‪ ،‬قاله ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫ت ِحلٌّ ِهبَ َذا الْبَ لَ ِد}‪ ،‬يعين‪ :‬مكة‪ ،‬وحل يعين‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وسلم‪ -‬يف أواخر حياته‪ ،‬يف عام الفتح‪ ،‬مع أن سورة البلد مكية‪َ{ ،‬ال أُقْس ُم هبَ َذا الْبَ لَد * َوأَنْ َ‬
‫حالل‪ ،‬أي‪ :‬أهنا ستحل لك يف يوم من الدهر‪ ،‬فأحلت له يف أواخر حياته ساعة من هنار‪ ،‬فاآلية نازلة قبل احلكم الذي يتعلق هبا‪ ،‬ما حصل‬
‫بعد‪.‬‬
‫وكذلك يف قوله تعاىل‪َ { :‬سيُ ْهَزُم ا ْجلَ ْم ُع َويُ َولُّو َن الدُّبَُر} القمر‪ ،45:‬عمر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬يقول‪ :‬يف مكة نزلت هذه اآلية‪ ،‬وأنا‬
‫أقول‪ :‬أين مجع؟ وأين الدبر الذي يولونه؟ ألهنم يف مكة كانوا مستضعفني‪ ،‬فمن الذين سيولون الدبر؟ ومن الجمع؟ فاملسألة فيها جيوش‪،‬‬
‫اجلَ ْم ُع َويُ َولُّو َن الدُّبَُر} القمر‪ ،45:‬يقول‪ :‬فما فهمتها حىت رأيت النيب‬ ‫وهم كانوا أفراد يف مكة‪ ،‬فسيكون هناك لقاء‪ ،‬وسيكون فرار‪َ { ،‬سيُ ْهَزُم ْ‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يثب يوم بدر بالدرع‪ ،‬عليه الدرع‪ ،‬وهو‪ :‬سربال من حديد‪ ،‬ثوب من حديد معروف ذو حلق‪ ،‬يثب يف درعه ‪-‬‬
‫اجلَ ْم ُع َويُ َولُّو َن الدُّبَُر}‪ ،‬يقول‪ :‬ففهمتها‪ ،‬فاآلية نزلت يف مكة‪ ،‬وكانوا أفرادا مستضعفني‪،‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وهو يردد هذه اآلية‪َ { :‬سيُ ْهَزُم ْ‬
‫فهذا مما نزل قبل تقرير حكمه‪ ،‬واحلكم ال نقصد به‪ :‬احلالل واحلرام‪ ،‬واألمر والنهي‪ ،‬ال‪ ،‬وإمنا متعلق ذلك‪.‬‬
‫اس َم َربِِّه‬
‫وله أمثلة أخرى‪ ،‬ال بأس أن أذكر لكم منها على سبيل الفائدة‪ ،‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن تََزَّكى * َوذَ َكَر ْ‬
‫قطعا‪ ،‬فقوله‪{ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن تََزَّكى}‪ ،‬املعىن األقرب يف تزكى‪ :‬زكى نفسه باإلميان والتقوى‬ ‫صلَّى} األعلى‪ ،15-14:‬فهذه السورة مكية ً‬ ‫فَ َ‬
‫صلَّى}‪ ،‬أي‪ :‬ذكر اسم ربه وصلى الصلوات املفروضة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اس َم َربِّه فَ َ‬
‫وطاعة اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬ومتابعة الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪َ { ،‬وذَ َكَر ْ‬
‫وغري املفروضة‪ ،‬فهذا الذي يفلح‪ ،‬لكن هناك معىن آخر ذكره بعض أهل العلم‪ ،‬وكأن شيخ اإلسالم بىن عليه بعض االستنباطات يف بعض‬
‫مرجوحا‪ ،‬لكن للفائدة أذكره‪ ،‬وقد ذكره مجاعة كبرية من السلف‪ ،‬وهو‪ :‬أن معىن قوله‪{ :‬قَ ْد‬ ‫ً‬ ‫املواضع‪ ،‬وإن كان هذا املعىن فيما أظن معىن‬
‫صلَّى}‪ ،‬قالوا‪ :‬إشارة إىل التكبري وهو‬ ‫ِ‬
‫أَفْ لَ َح َم ْن تََزَّكى}‪ ،‬أي‪ :‬أخرج زكاة الفطر‪ ،‬صدقة الفطر‪ ،‬أي‪ :‬يف عيد الفطر‪ ،‬وقوله‪َ { :‬وذَ َكَر ْ‬
‫اس َم َربِّه فَ َ‬
‫صلَّى أي‪ :‬صالة العيد‪ ،‬مع أن ذلك مل يشرع يف مكة‪ ،‬ففي مكة ليس هناك صدقة فطر‪ ،‬وال صالة عيد‪ ،‬وال تكبري يف‬ ‫خارج إىل العيد‪ ،‬فَ َ‬
‫اخلروج إليها‪ ،‬وال شيء من هذا‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذه اآلية تشري إليه‪ ،‬ومل يشرع إال يف املدينة‪ ،‬وهذا قال به كثري من السلف‪ ،‬ولوال كثرة من قال به‬
‫ما ذكرته‪ ،‬وإن كان املعىن الراجح هو األول‪ ،‬لكن هذا يوضح لك هذه القضية اليت ذكرهتا‪.‬‬
‫آخُرو َن يُ َقاتِلُو َن ِيف َسبِ ِيل اللَّ ِه} املزمل‪ ،20:‬فهذه اآلية نزلت‬
‫مثال أوضح من هذا كله‪ ،‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول يف سورة املزمل‪َ { :‬و َ‬
‫يف أول ما نزل‪ ،‬وما آمن إال أفراد قد ال يزيدون على أصابع اليد الواحدة‪ ،‬فأين الذين يقاتلون يف سبيل اهلل؟ بل فرض يف املدينة‪ ،‬فهذه اآلية‬
‫تشري إىل أمر وقع بعد ذلك مبدة طويلة‪.‬‬
‫وهذا مثال على ما نزل بعد تقرير الحكم‪ :‬ما أخرجه البخاري ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف صحيحه‪ ،‬من حديث عائشة ‪-‬رضي اهلل عنها‪-‬‬
‫قالت‪" :‬خرجنا مع رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف بعض أسفاره‪ ،‬حىت إذا كنا بالبيداء‪ ،‬أو بذات اجليش‪ ،‬وهو‪ :‬مكان‪ ،‬انقطع عقد‬
‫يل‪ ،‬فأقام رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على التماسه‪ ،‬يعين‪ :‬بقي يبحث عنه‪ ،‬وأقام الناس معه‪ ،‬وليسوا على ماء‪ ،"...‬إىل أن قالت‪:‬‬
‫"فقام رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬حني أصبح على غري ماء‪ ،‬فأنزل اهلل آية التيمم‪ :‬فَتَ يَ َّم ُموا املائدة‪ ،6:‬اآلية اليت يف املائدة"‪ ،‬إىل‬
‫الص َالةِ}‪ ،‬فذكر فيها الوضوء‪ ،‬وهي نزلت متأخرة‪ ،‬يف سورة املائدة‪ ،‬وسورة املائدة‬ ‫آخر احلديث‪ .‬فهذه اآلية ذكر فيها الوضوء‪{ ،‬إِذَا قُ ْمتُ ْم إِ َىل َّ‬
‫من أواخر السور نزوالً‪ ،‬فهل معنى ذلك‪ :‬أنهم كانوا يصلون من غير وضوء طوال تلك المدة في مكة وفي المدينة؟ الجواب‪ :‬ال‪ ،‬بل‬
‫الوضوء فرض قبل ذلك بكثري‪ ،‬ولكنه مل يرد يف القرآن‪ ،‬فجاءت اآلية اليت تبني الوضوء وتشري إليه متأخرة بعد ذلك‪.‬‬
‫يقول ابن عبد الرب ‪-‬رمحه اهلل‪" :‬معلوم عند مجيع أهل املغازي أنه ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مل يصل منذ افرتضت الصالة عليه إال‬
‫مفروضا‪ ،‬واملقصود‪ :‬أن اآلية نزلت بعد‬ ‫ً‬ ‫متلوا مع كونه‬
‫بوضوء‪ ،‬وال يدفع ذلك إال جاهل أو معاند"‪ ،‬فأنزهلا اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬ليكون حكمها ً‬
‫تقرير احلكم مبدة طويلة‪.‬‬
‫اس َع ْوا إِ َىل ِذ ْك ِر اللَّ ِه َو َذ ُروا الْبَ ْي َع}‬ ‫لص َالةِ ِمن ي وِم ْ ِ‬ ‫ي لِ َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اجلُ ُم َعة فَ ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ين َآمنُوا إ َذا نُود َ‬
‫وخذ مثاالً آخر‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬يَا أَيُّ َها الذ َ‬
‫اجلمعة‪ ،9:‬فهل هذه السورة مكية أو مدنية؟ هذه السورة مدنية‪ ،‬ومتى فرضت صالة الجمعة؟ فرضت مبكة‪ ،‬ومل يصلها النيب ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬مبكة‪ ،‬لكنه أمر مصعب بن عمري ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬فأقامها للناس يف املدينة‪ ،‬مث صالها النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بعدما‬
‫هاجر‪ ،‬لكنه مل يستطع يف مكة أن يصلي اجلمعة؛ ألنه كان مستضع ًفا‪ ،‬فإذن‪ :‬آية اجلمعة نزلت يف سورة مدنية؛ مع أن حكم اجلمعة قد‬
‫شرع وفرض قبل ذلك يف مكة‪.‬‬
‫ضا في هذا الموضوع أسباب النزول‪ :‬أن النزول أحيانا قد يتكرر‪ ،‬وقد يُ ْستَ ْغَرب من هذا‪،‬‬
‫ومن المسائل التي يحسن معرفتها أي ً‬
‫لكن سأعطيكم شيئًا ال يكابر فيه أحد‪ :‬أن القرآن كان ينزل على حرف واحد يف مكة‪ ،‬وهو‪ :‬حرف قريش‪ ،‬واستمر على ذلك عشر سنني‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬فما معنى هذا‬
‫مث نزلت باقي األحرف الستة يف املدينة‪ ،‬وهذه األحرف الستة‪ ،‬ووجوه املغايرة فيها‪ ،‬موجودة يف ضمن اآليات املكية ً‬
‫الكالم؟ معناه‪ :‬أن جربيل ‪-‬عليه السالم‪ -‬صار ينزل مرة ثانية باآلية اليت تقرأ بأكثر من وجه‪ ،‬أو جاءت ْبروف متنوعة‪ ،‬صار ينزل هبا مرة‬
‫تأكيدا‬
‫قطعا ال يستطيع أحد أن يعرتض على هذا‪ ،‬وإن اعرتض من اعرتض على بعض األمثلة األخرى‪ ،‬فاآلية قد تنزل مرة ثانية ً‬
‫ثانية‪ ،‬وهذا ً‬
‫ملضموهنا‪ ،‬أو ليبني هلم أن احلكم الذي أشكل عليهم‪ ،‬أو الذي هم بصدد اختاذ موقف يف هذه القضية‪ ،‬هو‪ :‬نفس حكم ما سبق يف القضية‬
‫جدا‪ ،‬نعطيكم منها مثالين‪:‬‬ ‫الفالنية‪ ،‬أو مما نزل يف اآلية الفالنية‪ ،‬وهذا له أمثلة كثرية ً‬
‫وم} الروم‪ ،2-1:‬وصح عند الرتمذي من حديث أِّب سعيد اخلدري ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أنه‬ ‫الر‬
‫ُّ‬ ‫اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬امل * غُلِب ِ‬
‫ت‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬ملا كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس‪ ،‬فأعجب ذلك املؤمنني‪ ،‬فنزلت‪{ :‬امل} الروم‪ ،1:‬إىل قوله‪َ { :‬ويَ ْوَمئِ ٍذ يَ ْفَر ُح الْ ُم ْؤِمنُو َن} الروم‪،4:‬‬
‫ففرح املؤمنون بظهور الروم على فارس‪ ،‬هذا بإسناد صحيح عند الرتمذي وغريه‪ ،‬هذا يف يوم بدر‪ ،‬ملا تغلب الروم على الفرس‪.‬‬
‫وهناك رواية أخرى مشهورة جدا‪ ،‬أشهر من هذه الرواية‪ ،‬وهي‪ :‬من حديث ابن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ ،‬يف قصة الرهان املشهورة‬
‫اليت وقعت بني أِّب بكر الصديق ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬وبني بعض املشركني؛ ملا تغلبت الفرس على الروم‪ ،‬والنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف مكة‬
‫قبل اهلجرة‪ ،‬ففرح املشركون بذلك؛ ألن الفرس من الوثنني‪ ،‬والروم من أهل الكتاب‪ ،‬فتفاءلوا هبذا‪ ،‬وقالوا‪ :‬حنن سنغلبكم كما غلب إخواننا‬
‫ض َوُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد غَلَبِ ِه ْم َسيَ ْغلِبُو َن * ِيف بِ ْ‬
‫ض ِع‬ ‫وم * ِيف أ َْد َن ْاأل َْر ِ‬
‫الر ُ‬
‫ت ُّ‬‫من الوثنيني‪ ،‬كما غلبوا أهل الكتاب‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :‬امل * غُلِب ِ‬
‫َ‬
‫ني}‪ ،‬فرتاهنوا مع أِّب بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ننظر أتصدقون أو ما تصدقون؟ فرتاهن‬ ‫ِسنِني} الروم‪ ،4-1:‬فقالوا‪ :‬تقول‪ِ{ :‬يف بِ ْ ِ ِ‬
‫ض ِع سن َ‬ ‫َ‬
‫وم}‪ ،‬فكم مره نزلت‬ ‫معهم أبو بكر يف القصة املشهورة‪ ،‬فحصلت هذه الغلبة يف يوم بدر‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬مرة ثانيه‪{ :‬امل * غُلِب ِ‬
‫الر ُ‬
‫ت ُّ‬ ‫َ‬
‫هذه اآلية؟ نزلت مرتني‪ ،‬مرة ملا افتخر املشركون يف مكة‪ ،‬ومرة ملا حتقق الوعد بانتصار الروم على الفرس‪.‬‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر َرِِّّب َوَما أُوتِيتُ ْم ِم َن الْعِْل ِم إَِّال قَلِيالً}‬ ‫وح قُ ِل ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫نعطيكم مثاالً آخر‪ ،‬يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪َ { :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫اإلسراء‪ ،85:‬اآلية اليت يف اإلسراء‪ ،‬أخرج الشيخان البخاري ومسلم‪ ،‬من حديث ابن مسعود ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قال‪" :‬كنت أمشي مع النيب‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف حرث باملدينة‪ ،‬يف مزرعة‪ ،‬وهو‪ :‬يتوكأ على عسيب‪ ،‬فمر بنفر من اليهود‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬سلوه‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫ال تسألوه‪ ،‬فإنه يسمعكم ما تكرهون‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا أبا القاسم! حدثنا عن الروح‪ ،‬فقام النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ورفع رأسه إىل السماء‪ ،‬قام‬
‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ساعة‪ ،‬وجلس ينتظر فرتة‪ ،‬ورفع رأسه إىل السماء‪ ،‬يقول ابن مسعود‪ :‬فعرفت أنه يوحى إليه‪ ،‬حىت صعد الوحي"‪،‬‬
‫مث قال‪( :‬الروح من أمر رِّب)‪ ،‬هذا كان يف املدينة‪.‬‬
‫وعندنا رواية ثانية صحيحة‪ :‬عند الرتمذي‪ ،‬من حديث ابن عباس ‪-‬رضي اهلل عنهما‪ -‬قال‪" :‬قالت قريش لليهود‪ ،‬وهذا يف مكة‪:‬‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر َرِِّّب}‪،‬‬ ‫وح قُ ِل ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫اعطونا شيئًا نسأل هذا الرجل‪ ،‬فقالوا‪ :‬سلوه عن الروح‪ ،‬فسألوه عن الروح‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل‪َ { :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫فهذه في مكة‪ ،‬وتلك في المدينة‪ ،‬فماذا نقول؟ نقول‪ :‬اآلية نزلت مرتني‪ ،‬بسببني‪ ،‬مرة سأله يف مكة املشركون‪ ،‬فنزلت اآلية‪ ،‬ومرة سأله‬
‫بعض اليهود يف املدينة‪ ،‬فنزلت اآلية‪.‬‬
‫وهنا مسألة أخرى تتعلق بهذا الباب‪ :‬أسباب النزول‪ ،‬وهي‪ :‬أن السبب قد يكون واح ًدا‪ ،‬وتنزل أكثر من آية‪ ،‬وليست آية واحدة‬
‫سردا يف موضع واحد من القرآن‪ ،‬ال‪ ،‬بل آيات من سور‪ ،‬بسبب واقعة واحدة‪ ،‬فهي‪ :‬واقعة واحدة تنزل‬
‫تنزل‪ ،‬وليست أكثر من آية تنزل ً‬
‫بسببها آيات يف سور شىت‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬ما أخرج الرتمذي‪ ،‬وجاء يف روايات كثرية جدا صحيحة‪ ،‬من حديث أم سلمة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬قالت‪" :‬يغزو الرجال‪ ،‬وال‬
‫تغزو النساء‪ ،‬وإمنا لنا نصف املرياث"‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪ ،‬وهذا يرد به على الذين يثريون هذه القضايا‪ ،‬ملاذا املرأة هلا نصف املرياث؟‬
‫ِ‬
‫ض} النساء‪ ،"32:‬يقول الرتمذي‪:‬‬ ‫ض ُك ْم َعلَى بَ ْع ٍ‬ ‫َّل اللَّهُ بِه بَ ْع َ‬
‫ملاذا البد من احملرم؟ ملاذا البد من الويل؟ وهكذا‪ ،‬فأنزل اهلل‪َ { :‬وَال تَتَ َمن َّْوا َما فَض َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ض}‬ ‫َّل اللَّهُ بِه بَ ْع َ‬
‫ض ُك ْم َعلَى بَ ْع ٍ‬
‫ني َوالْ ُم ْسل َمات} األحزاب‪ ،"35:‬فاآلية األوىل‪َ { :‬وَال تَتَ َمن َّْوا َما فَض َ‬ ‫قال جماهد‪" :‬فأنزل فيها‪{ :‬إِ َّن الْ ُم ْسلم َ‬
‫ات} األحزاب‪ ،35:‬من سورة األحزاب‪.‬‬ ‫النساء‪ ،32:‬من سورة النساء‪ ،‬و{إِ َّن الْمسلِ ِمني والْمسلِم ِ‬
‫ُْ ََ ُْ َ‬
‫أيضا‪ :‬أخرج الرتمذي ‪-‬رمحه اهلل تعاىل‪ -‬عنها قالت‪" :‬يا رسول اهلل! ال أمسع اهلل ذكر النساء يف اهلجرة‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬تبارك وتعاىل‪:‬‬ ‫و ً‬
‫يع َع َم َل َع ِام ٍل ِمْن ُك ْم ِم ْن ذَ َك ٍر أ َْو أُنْثَى} آل عمران‪ 195:‬اآلية من سورة آل عمران"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َين َال أُض ُ‬
‫{أ ِّ‬
‫وعند احلاكم عنها قالت‪" :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل! اهلل يذكر الرجال وال يذكر النساء‪ ،‬فأنزل اهلل‪{ :‬إِ َّن الْمسلِ ِمني والْمسلِم ِ‬
‫ات}‬ ‫ُْ َ َ ُْ َ‬
‫يع َع َم َل َع ِام ٍل ِمْن ُك ْم ِم ْن ذَ َك ٍر أ َْو أُنْثَى} آل عمران‪ ،195:‬يف آل عمران"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َين َال أُض ُ‬
‫األحزاب‪ ،35:‬يف األحزاب‪ ،‬وأنزل‪{ :‬أ ِّ‬
‫وعندنا صورة ثانية عكس هذه‪ ،‬وهي‪ :‬أن يحصل أكثر من سبب‪ ،‬وهذا مهم‪ ،‬أن يحصل أكثر من سبب وتنزل آية واحدة‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ورد عنه يف عدد من الروايات الصحيحة‪ ،‬يف قصة التحرمي‪ ،‬يف سورة التحرمي‪ ،‬يف سبب نزول‬
‫صدرها‪ ،‬يف قوله‪{ :‬يا أَيُّها النِ ِ‬
‫ك} التحرمي‪ ،1:‬صح يف بعض الروايات‪ :‬أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬حرم على‬ ‫َح َّل اللَّهُ لَ َ‬
‫َّيب ملَ ُحتَِّرُم َما أ َ‬
‫َ َ ُّ‬
‫نفسه العسل‪ ،‬يف القصة املشهورة‪ ،‬وهي‪ :‬أنه كان يطوف على نسائه بعد صالة العصر‪ ،‬وكان مير على زينب فتسقيه عسال‪ ،‬فغارت منه بعض‬
‫أزواجه‪ ،‬فاتفق هؤالء األزواج‪ ،‬أو بعض األزواج‪ ،‬أن يقلن له كلما دخل على واحدة‪ ،‬أن تقول له‪ :‬إين أجد منك ريح مغافري‪ ،‬وهو‪ :‬طعام له‬
‫رائحة معينة غري مستساغة‪ ،‬والنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان يشق عليه أن يوجد منه الريح‪ ،‬يعين‪ :‬ريح طعام‪ ،‬أو حنو ذلك‪ ،‬فكان يشق‬
‫عليه ذلك‪ ،‬ورائحته أطيب الرائحة ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬فقال‪ :‬إمنا هو عسل شربته عند زينب‪ ،‬فقالت‪ :‬لعل حنله جرست العرفط‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫نبت له رائحة‪ ،‬ومعروف أن النحل إذا امتص رحيق بعض األزهار‪ ،‬أو حنو ذلك‪ ،‬يظهر يف العسل رائحة هذه األزهار اليت امتصها‪ ،‬مث ذهب‬
‫إىل الثانية‪ ،‬فقالت‪ :‬إين أجد منك ريح مغافري‪ ،‬فقال‪ :‬هو عسل شربته عند زينب‪ ،‬فقالت‪ :‬لعل حنله جرست العرفط‪ ،‬فحرمه النيب ‪-‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ -‬على نفسه‪ ،‬وهن ال يريدن منه أن يذهب يشرب عندها العسل‪ ،‬فهن ال يردن ذلك‪ ،‬أن يشرب عندها العسل‪ ،‬فحرمه النيب‬
‫ك} التحرمي‪.1:‬‬ ‫ِ‬
‫ات أ َْزَواج َ‬ ‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على نفسه‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :‬يا أَيُّها النَِّيب ِمل ُحتِّرم ما أَح َّل اللَّه لَ َ ِ‬
‫ض َ‬‫ك تَْبتَغي َمْر َ‬ ‫َ َ ُّ َ َ ُ َ َ ُ‬
‫أيضا يف بعض الروايات‪ ،‬وهو‪ :‬أشهر‪ ،‬أن ذلك بسبب جارية النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬ملا جاءت عائشة ‪-‬رضي اهلل‬ ‫وصح ً‬
‫عنها‪ ،‬واحتجت على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وقالت‪ :‬يف يومي‪ ،‬ويف بييت‪ ،‬ملا وقع على جاريته‪ ،‬فحرمها النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫على نفسه‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هذه اآلية‪.‬‬
‫ومن أمثلته املشهورة املعروفة‪ ،‬ما ذكرته سابقا‪ ،‬عن عومير العجالين‪ ،‬ملا جاء وأخرب النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مبا وقع له‪ ،‬ملا قذف‬
‫أيضا‪ ،‬كل واحد منهم جاء إىل النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على حدة‪ ،‬وإذا نظرنا إىل‬ ‫امرأته‪ .‬وكذلك هالل بن أمية ملا جاء وقذف امرأته ً‬
‫اج ُه ْم} النور‪،6:‬‬ ‫الروايات الواردة يف هذا جند أن بعد كل واحدة منها‪ :‬فنزلت اآلية‪ ،‬أو فأنزل اهلل فيه‪ ،‬وذكر آية اللعان‪{ :‬والَّ ِ‬
‫ين يَْرُمو َن أ َْزَو َ‬
‫َ َ‬‫ذ‬
‫فماذا نقول؟ نقول‪ :‬هذه القصص متقاربة‪ ،‬نزلت هذه اآلية بعدها مجيعا‪ ،‬فكل ذلك سبب لنزوهلا‪.‬‬
‫وهنا مسألة‪ ،‬وهي‪ :‬أهم هذه المسائل‪ ،‬وأنفعها‪ ،‬وهي‪ :‬في كثير من الكتب التي تذكر اآلثار والروايات‪ ،‬سواء في أسباب‬
‫عددا من الروايات واألخبار في سبب نزول اآلية‪ ،‬وهي‪ :‬أخبار متنوعة‪ ،‬يف قصص خمتلفة‪،‬‬
‫النزول خاصة‪ ،‬أو في كتب التفسير‪ ،‬نجد ً‬
‫فما هو سبب النزول يا ترى؟ بعض الناس قد يقول‪ :‬وقد ورد فيها مخسة أسباب يف النزول‪ ،‬األول‪ :‬كذا‪ ،‬والثاين‪ :‬كذا‪ ،‬والثالث‪ :‬كذا‪ ،‬وهذا‬
‫درسا يف التفسري‪ ،‬فإذا وجدنا روايات كثرية متعددة‪ ،‬أكثر من رواية‪ ،‬فماذا نصنع؟ نقول‪ :‬نتبع الخطوات‬
‫يف الواقع نوع من العبث‪ ،‬وليس هذا ً‬
‫اآلتية‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬أول ما ننظر إلى الثبوت‪ ،‬فالروايات الضعيفة نستبعدها‪ ،‬مث ننظر بعد ذلك إىل الصيغة‪ ،‬وعرفنا أن أسباب النزول منه‪ :‬ما‬
‫يكون بصيغة صرحية‪ ،‬ومنه‪ :‬ما ليس بصيغة صرية‪ ،‬فما كان بصيغة غري صحيحة‪ ،‬كالذي يقولون فيه‪ :‬نزلت هذه اآلية يف كذا‪ ،‬يستبعد‪،‬‬
‫فهذا من قبيل التفسري‪ ،‬فما الذي يبقى عندنا اآلن؟ الصحيح الصريح‪ ،‬فإذا اجتمع عندنا هذا الصريح الصحيح‪ ،‬فماذا نصنع؟ ننظر‪ :‬هل‬
‫احلوادث هذه متقاربة‪ ،‬فإن كانت متقاربة حكمنا بأن اآلية نزلت بعد هذه احلوادث‪ ،‬كما ذكرنا يف قصة اللعان قبل قليل‪ ،‬وإذا كانت احلوادث‬
‫متباعدة حكمنا بتكرار النزول‪ ،‬واحنلت املشكلة‪ ،‬وهبذا ال حنتاج أن نقول‪ :‬وقد ورد فيها كذا رواية‪ ،‬يف سبب النزول‪ ،‬ونسردها ومنشي‪ ،‬ال‪،‬‬
‫وإمنا نفصل فيها‪ ،‬وجنريها على هذا الرتتيب‪ ،‬مث بعد ذلك يتلخص لنا يف النهاية حتر ًيرا حيسن أن يقال عند الكالم عن سبب نزول اآلية‪.‬‬
‫نعطيكم أمثلة وتطبيقات على هذا‪ ،‬نعطيكم مثاالً على ما كان فيه بعض الروايات صحيحا‪ ،‬وبعضها غري صحيح‪ ،‬ما اجتمع فيه‬
‫ُّحى * َواللَّْي ِل إِ َذا َس َجى * َما‬
‫الضعيف والصحيح‪ ،‬وكله صريح يف الصيغة‪ ،‬كيف نستخرج سبب النزول؟ اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪َ { :‬والض َ‬
‫ك َوَما قَلَى} الضحى‪ ،3-1:‬اضبطوا يل هذه الروايات‪ ،‬أو على األقل‪ :‬الراوي وموضع الشاهد‪ ،‬أخرج الشيخان من حديث‬ ‫ك َربُّ َ‬
‫َوَّد َع َ‬
‫جندب بن سفيان ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قال‪" :‬اشتكى رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فلم يقوم ليلتني أو ثالثا‪ ،‬فجاءت امرأة‪ ،‬فقالت‪ :‬يا‬
‫ُّحى * َواللَّْي ِل إِ َذا َس َجى}‬
‫حممد! إين ألرجو أن يكون شيطانك قد تركك‪ ،‬مل أره قربك منذ ليلتني أو ثالثا‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :‬والض َ‬
‫الضحى‪ ،"2-1:‬ما تقولون يف صحة هذه الرواية؟ هذه يف الصحيحني‪ ،‬وهل هي صرحية أو غري صرحية؟ صرحية‪ ،‬فهذه ال نستطيع أن‬
‫نستبعدها‪ ،‬بل نبقيها‪.‬‬
‫وعندنا روايات أخرى غري هذه‪ :‬فعند الطرباين بإسناد ضعيف‪ ،‬يف سبب نزوهلا‪ :‬أن الوحي أبطأ‪ ،‬فجربيل وعد النيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬وما جاء‪ ،‬فالنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬ما حدث يف بيت رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،)-‬وأمر اجلارية أن ختم الدار‪،‬‬
‫أي‪ :‬تكنسه‪ ،‬فأدخلت املكنسة حتت السرير‪ ،‬فوجدت جروا قد مات‪- ،‬واجلرو هو‪ :‬الكلب الصغري‪ ،‬فأخرجته وألقته‪ ،‬فجاء جربيل‪ ،‬فسأله‬
‫النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن سبب التأخر‪ ،‬فأخربه أن السبب هو‪ :‬هذا اجلرو‪ ،‬وقال‪(:‬إن املالئكة ال تدخل بيتا فيه كلب أو صورة)‪،‬‬
‫وحديث‪( :‬إن املالئكة ال تدخل بيتا فيه كلب أو صورة)‪ ،‬حديث صحيح ثابت‪ ،‬لكن يف قصة سبب النزول‪ ،‬ملا أخربه أنه مل يدخل بسبب‬
‫هذا اجلرو‪ ،‬ه ذه القصة ضعيفة‪ ،‬فهذه الرواية ال تصح‪ ،‬وهي‪ :‬عند الطرباين‪ ،‬فاحلاصل‪ :‬أن الصيغة صرحية‪ ،‬ولكن الرواية غري صحيحة‪ ،‬فهذه‬
‫تستبعد‪ .‬وسبب ثالث‪ :‬عند ابن جرير الطربي‪ ،‬من طريق ضعيف‪ ،‬عن ابن عباس‪" :‬ملا نزل على رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬القرآن‪،‬‬
‫ك َوَما قَلَى} الضحى‪ ،"3:‬فهذه ضعيفة‪.‬‬ ‫ك َربُّ َ‬
‫أبطأ عنه جربيل أياما‪ ،‬فتغري بذلك‪ ،‬فقالوا‪ :‬ودعه ربه وقاله‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل‪َ { :‬ما َوَّد َع َ‬
‫وعندنا رواية أخرى‪ :‬فرت الوحي حىت شق ذلك على النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬وأحزنه‪ ،‬فقال‪( :‬لقد خشيت أن يكون صاحيب‬
‫ُّحى}‪ ،‬وهذه رواية ضعيفة‪.‬‬ ‫قالين)‪ ،‬يعين‪ :‬جربيل جفاين‪ ،‬فجاء جربيل بسورة‪َ { :‬والض َ‬
‫ُّحى} الضحى‪{ ،1:‬أَ َملْ نَ ْشَر ْح‬
‫ورواية أخرى‪ ،‬وهي‪" :‬فرت الوحي‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو كان من عند اهلل لتتابع‪ ،‬ولكن اهلل قاله‪ ،‬فأنزل اهلل‪َ { :‬والض َ‬
‫ص ْد َرَك} الشرح‪ ،1:‬إىل آخر السورة"‪.‬‬
‫ك َ‬
‫لَ َ‬
‫فهذه الروايات كثرية‪ ،‬ما هو سبب النزول احلقيقي منها؟ الرواية األوىل‪ ،‬وهي‪ :‬عندما جاءت املرأة وقالت‪ :‬إين ألرجو أن يكون شيطانك‬
‫أبدا‪،‬‬
‫قد تركك‪ ،‬ملا فرت الوحي عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ليلتني أو ثالثًا‪ ،‬فهذا هو سبب النزول‪ ،‬والباقي ال حيتاج أن نسرده ونعدده ً‬
‫بل نذكر هذا السبب الوحيد فقط‪ ،‬وال نلتفت إىل الباقي‪.‬‬
‫نعطيكم مثاال على ما صحت فيه بعض الروايات دون بعض‪ ،‬والصحيح منه صريح ومنه غري صريح‪ ،‬أما يف احلالة األوىل‪ ،‬فالروايات‬
‫بعضها صحيح وبعضها غري صحيح‪ ،‬لكنها كلها صرحية‪ ،‬لكن يف هذا النوع منه صحيح ومنه غري صحيح‪ ،‬ومنه صريح ومنه غري صريح‪،‬‬
‫فلنطبق عليه‪ ،‬ولننظر ما هو سبب النزول احلقيقي الذي ينبغي أن يقال ويعتمد‪ ،‬فالتطبيق الذي سأذكره يتعلق بصورة اجتمع فيها روايات‬
‫أيضا صيغ صرحية وغري صرحية‪ ،‬وهذه أبلغ صورة حتمل ألوان التفاوت يف الروايات‪ ،‬مث ننظر كيف نستخلص‬ ‫صحيحة وضعيفة‪ ،‬واجتمع فيها ً‬
‫سبب النزول منها‪.‬‬
‫ب فَأَيْنَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ اللَّ ِه} البقرة‪ ،115:‬انظر إىل الروايات املوجودة! أخرج ابن جرير‬ ‫ِِ‬
‫اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪َ { :‬وللَّه الْ َم ْش ِر ُق َوالْ َم ْغ ِر ُ‬
‫بإسناد جيد‪ ،‬عن ابن عباس قال‪" :‬كان أول ما نسخ من القرآن‪ :‬القبلة‪ ،‬وذلك أن رسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ملا هاجر إىل املدينة‪،‬‬
‫وكان أكثر أهلها اليهود‪ ،‬أمره اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يستقبل بيت املقدس‪ ،‬ففرحت اليهود‪ ،‬فاستقبلها رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بضعة‬
‫حولت القبلة‪ ،‬فارتاب من ذلك‬ ‫شهرا‪ ،‬فكان رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬حيب قبلة إبراهيم ‪-‬عليه السالم‪ ،‬احلاصل‪ :‬إىل أن ّ‬ ‫عشر ً‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب} البقرة‪،142:‬‬ ‫اليهود‪ ،‬وقالوا‪َ { :‬ما َوَّال ُه ْم َع ْن قْب لَت ِه ُم الَِّيت َكانُوا َعلَْي َها} البقرة‪ ،142:‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :‬قُ ْل للَّه الْ َم ْش ِر ُق َوالْ َم ْغ ِر ُ‬
‫وقال‪{ :‬فَأَيْنَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ اللَّ ِه} البقرة‪ ،"115:‬اضبطوا هذه الرواية‪ :‬عن ابن عباس‪ ،‬عند ابن جرير بإسناد جيد‪ ،‬وهل هي صرحية أو غري‬
‫صرحية؟ هي‪ :‬صرحية‪ ،‬قال‪" :‬فأنزل اهلل"‪ ،‬إذن هي‪ :‬بسبب حتويل القبلة ًردا على اليهود‪.‬‬
‫ورواية ثانية‪ :‬عند الرتمذي وابن ماجه‪ ،‬عن حديث عامر بن ربيعة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قال‪" :‬كنا مع النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف‬
‫سفر يف ليلة مظلمة‪ ،‬فلم ندري أين القبلة‪ ،‬فصلى كل رجل منا على حياله‪ ،‬على اجلهة اليت اجتهد فيها‪ ،‬يعتقد أن القبلة منها‪ ،‬واحد صلى‬
‫من هنا‪ ،‬وواحد من هنا‪ ،‬وواحد من هنا‪ ،‬وواحد من هنا‪ْ ،‬بسب اجتهاداهتم‪ ،‬ووضعوا خطوطًا يف الليل‪ ،‬فلما أصبحوا وجدوا أنفسهم بني‬
‫فلما أصبحوا ذكروا لرسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ذلك‪ ،‬فنزلت‪{ :‬فَأَيْنَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ اللَّ ِه} البقرة‪ ،"115:‬وهذه‬ ‫مشرق ومغرب‪ّ ،‬‬
‫رواية صحيحة‪ ،‬وهل هي صرحية أو غري صرحية؟ هي‪ :‬صرحية‪ ،‬فقد ذكر واقعة مث قال‪" :‬فنزلت"‪ ،‬فهذه صرحية‪ ،‬فهي‪ :‬صحيحة صرحية‪ ،‬فهذا‬
‫حديث عامر بن ربيعة‪ ،‬يف أهنا يف من اجتهد يف القبلة فأخطأ‪ ،‬واألوىل يف احتجاج اليهود على حتويل القبلة‪.‬‬
‫والرواية الثالثة‪ :‬عند الرتمذي‪ ،‬من حديث ابن عمر قال‪" :‬كان النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يصلى على راحلته تطوعا حيثما توجهت‬
‫ِِ‬ ‫ٍ‬
‫به‪ ،‬يعين‪ :‬الراحلة‪ ،‬وهو‪ :‬جاء من مكة‪ ،‬يعين‪ :‬وهو‪ :‬قادم من مكة إىل املدينة‪ ،‬مث قرأ ابن عمر هذه اآلية‪َ { :‬وللَّه الْ َم ْش ِر ُق َوالْ َم ْغ ِر ُ‬
‫ب فَأَيْنَ َما‬
‫تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ اللَّ ِه} البقرة‪ ،115:‬قال ابن عمر‪ :‬يف هذا أنزلت هذه اآلية"‪ ،‬وهذه رواية صحيحة‪ ،‬وهل هي صرحية؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬ابن عمر‬
‫يقول‪ :‬هذا مما يدخل يف معناها‪ :‬أن يف صالة السفر التطوع ال يلزم استقبال القبلة‪ ،‬فيصلي اإلنسان حيث ما توجهت به راحلته‪ ،‬وهذا معىن‬
‫صحيح‪ ،‬دل عليه عموم اآلية‪ ،‬لكنه ليس بصريح يف أنه سبب النزول من جهة الصيغة‪ ،‬فماذا نصنع هبذه الرواية؟ نستبعدها‪ ،‬فكم رواية ثبتت‬
‫معنا؟ اثنتان‪.‬‬
‫وعندنا رواية رابعة‪ :‬عند ابن جرير‪ ،‬عن قتادة‪ :‬أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬إن أخاكم النجاشي قد مات‪ ،‬فصلوا عليه)‪،‬‬
‫اب آل عمران‪ 199:‬اآلية‪ ،‬قال قتادة‪" :‬فقالوا‪ :‬إنه كان ال يصلي إىل‬ ‫قالوا‪ :‬نصلي على رجل ليس مبسلم‪ ،‬قال‪ :‬فنزلت‪ :‬وإِ َّن ِمن أ َْه ِل الْ ِكتَ ِ‬
‫َ ْ‬
‫ب فَأَيْنَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ اللَّ ِه} البقرة‪ ،"115:‬ففي هذه الرواية‪" :‬فنزلت"‪ ،‬فهي‪ :‬صرحية‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫القبلة‪ ،‬فأنزل اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :‬وللَّه الْ َم ْش ِر ُق َوالْ َم ْغ ِر ُ‬
‫رديناها للضعف‪ ،‬واليت‬ ‫لكنها ال تصح؛ ألن قتادة يرويه عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهذا من قبيل املرسل‪ ،‬وهو‪ :‬ضعيف‪ ،‬فالرواية هذه ّ‬
‫قبلها رددناها ملاذا؟ ألهنا غري صرحية‪ ،‬فإىل اآلن كم بقيت عندنا رواية؟ اثنتان فقط‪.‬‬
‫ب لَ ُك ْم} غافر‪ ،60:‬قالوا‪ :‬إىل أين؟ فنزلت‪{ :‬فَأَيْنَ َما‬ ‫الرواية اخلامسة‪ :‬عند ابن جرير يف التفسري‪ ،‬عن جماهد‪ :‬ملا نزلت‪{ :‬ادع ِوين أ ِ‬
‫َستَج ْ‬
‫ُْ ْ‬
‫تُ َولُّوا فَثَ َّم َو ْجهُ اللَّ ِه} البقرة‪ ،"115:‬فهي صرحية لكنها ال تصح؛ ألهنا مرسلة‪ ،‬فمجاهد من التابعني‪ ،‬فهي‪ :‬رواية ال تصح‪ ،‬إذن‪ :‬هذه الرواية‬
‫نستبعدها‪.‬‬
‫فهذه خمسة أسباب‪ ،‬الصحيح منها ما هو؟ يف حتويل القبلة‪ ،‬و ً‬
‫أيضا‪ :‬يف من اجتهد وأخطأ يف القبلة‪ ،‬فماذا نقول؟ هل هذه‬
‫احلوادث حصلت يف وقت متقارب؟ إذا كانت حصلت يف وقت متقارب‪ ،‬نقول‪ :‬نزلت اآلية بعدها‪ ،‬لكن ال نعلم أهنا حصلت يف وقت‬
‫متقارب‪ ،‬فنقول‪ :‬إن مل حتصل يف وقت متقارب‪ ،‬فالنزول قد تكرر‪ ،‬نزلت مرة بسبب هذه الواقعة‪ ،‬ومرة بسبب واقعة أخرى‪ ،‬فاآلية نزلت‬
‫مرتني‪ ،‬وال إشكال‪ .‬فأين هذا من سرد مخس روايات‪ ،‬منها‪ :‬الصحيح‪ ،‬ومنها‪ :‬غري الصحيح‪ ،‬مث نقول‪ :‬هذا سبب نزول‪ ،‬ونبقى يف حرية؟!‬
‫نعطيكم مثاالً على ما صحت فيه الروايات‪ ،‬وكانت صريحة مع تقارب النزول‪ ،‬وهو‪ :‬املثال السابق يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪:‬‬
‫اج ُه ْم} النور‪ ،6:‬فالروايات فيها صحيحة وصرحية‪ ،‬يف عومير العجالين‪ ،‬وهالل بن أمية‪ ،‬كلها صحيح‪ ،‬وكلها صريح‪،‬‬ ‫و‬‫َز‬ ‫أ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫م‬‫ر‬ ‫ي‬ ‫ين‬ ‫{والَّ ِ‬
‫ذ‬
‫ْ‬
‫َ َ َْ ُ َ َ‬
‫فالنزول متقارب‪ ،‬نزلت اآلية بعدها مجيعا‪ ،‬كل واحد منها هو‪ :‬سبب النزول‪.‬‬
‫وكذلك حترمي النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬اجلارية‪ ،‬والعسل‪ ،‬نزلت بعدمها‪.‬‬
‫ت‬‫مثال على ما صحت فيه الروايات‪ ،‬وكانت صرحية‪ ،‬ولكن النزول متباعد‪ ،‬وقد سبق مثال على هذا ما هو؟ هو‪{ :‬امل * غُلِب ِ‬
‫َ‬
‫وم} الروم‪ ،2-1:‬فهذه نزلت يف مكة‪ ،‬مث يف املدينة‪ ،‬نزلت هناك ملا فرح املشركون يف مكة‪ ،‬وهنا نزلت ملا فرح املؤمنون‪.‬‬ ‫الر ُ‬‫ُّ‬
‫وح} اإلسراء‪ ،85:‬ملا سأله املشركون‪ ،‬وملا سأله اليهود‪.‬‬‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫ومثاله أيضا‪َ { :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫بعض العلماء إذا ما علموا بأن النزول متقارب‪ ،‬قالوا‪ :‬نلجأ إىل الرتجيح‪ ،‬ما نقول‪ :‬بأن اآلية نزلت مرتني‪ ،‬وما أدري ملاذا ما يقولون‬
‫هبذا؟ مع أنين قلت لكم‪ :‬إن القرآن نزل على سبعة أحرف‪ ،‬وما نزل منه من األحرف املتعلقة بالسور امللكية نزل يف املدينة‪ ،‬فمعىن ذلك‪ :‬أن‬
‫جربيل نزل هبا مرة ثانية‪ ،‬فال غضاضة يف هذا‪ ،‬لكن بعض العلماء يقولون‪ :‬ال‪ ،‬حنن نلجأ إىل الرتجيح‪ ،‬إذا ما قدرنا أن حنكم بأن اآلية نزلت‬
‫فنرجح‪ ،‬كيف نرجح؟ مثل‪ :‬املثال السابق‪ :‬ملا سألوا النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن الروح‪،‬‬ ‫بعد هذه األسباب وهي يف وقت متقارب ّ‬
‫يرجحون رواية الصحيحني‪.‬‬‫فحديث ابن مسعود يف الصحيحني‪ ،‬وحديث ابن عباس ملا سأله املشركون عند الرتمذي‪ ،‬ففي هذه احلالة ّ‬
‫وبعضهم يلجأ إىل طريقة أخرى يف الرتجيح‪ ،‬فيقول‪ :‬نرجح بأن ابن مسعود كان حاضر القصة‪ ،‬كان مع النيب ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬والنيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يتوكأ على عسيب‪ ،‬فهو‪ :‬حاضر‪ ،‬أما ابن عباس فلم حيضر‪ ،‬فهو‪ :‬مرسل صحاِّب‪ ،‬ألنه كان صغريا يف‬
‫مكة‪ ،‬فهو‪ :‬أكيد يرويه عن صاحيب آخر‪ ،‬أو مسعها من النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مرة ثانية‪ ،‬لكن ابن مسعود كان مع النيب ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،-‬فهذا مثاله‪.‬‬
‫الدرس السادس من الوحدة الثالثة‪ :‬أماكن نزول القرآن‪.‬‬ ‫الدرس‬
‫مكان النزول‪ ،‬وهو‪ :‬ما يسمونه‪ :‬بالمكي والمدني‪ ،‬وضابطه باختصار في أجود ما قيل فيه‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬كيف نحكم أن‬ ‫السادس‬
‫هذا مكي‪ ،‬أو هذا مدني؟ كل ما نزل قبل اهلجرة فهو‪ :‬مكي‪ ،‬وما نزل بعد اهلجرة فهو‪ :‬مدين‪ ،‬حىت لو نزل مكة‪ ،‬يعين‪ :‬مثل قوله‪{ :‬الْيَ ْوَم‬ ‫من‬
‫ت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم} املائدة‪ ،3:‬مىت نزلت؟ وأين نزلت؟ نزلت يف مكة‪ ،‬يف عرفة‪ ،‬ومع ذلك حنكم أهنا آية مدنية‪ ،‬فهذا الضابط جيد‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫أَ ْك َم ْل ُ‬ ‫الوحدة‬
‫أحسن ما ذُكِر‪ :‬ما نزل قبل اهلجرة فهو‪ :‬مكي‪ ،‬وما نزل بعد اهلجرة فهو‪ :‬مدين‪.‬‬ ‫الثالثة‬
‫وكيف نعرف أن هذا مكي‪ ،‬أو مدني؟ نقول‪ :‬هذا موقوف على نقل من شاهدوا التنزيل فقط‪ ،‬أما إذا قلنا‪ :‬بعالمات‪ ،‬فهنا ندخل‬ ‫أماكن‬
‫يف متاهات ما هلا ح ّد؛ وهلذا أوردت هذا السؤال‪ ،‬فبعض العلماء يأخذون قرائن‪ ،‬وحيكم لك‪ :‬إن هذه اآلية نزلت يف املدينة‪ ،‬مثالً‪ :‬أي آية‬ ‫نزول‬
‫ذكر فيها اليهود يقول لك‪ :‬هذه نازلة يف املدينة‪ ،‬ومثل‪ :‬سورة األنعام‪ ،‬معروف وصح أهنا نزلت مجلة واحدة‪ ،‬يف ليلة واحدة‪ ،‬كلها من أوهلا‬ ‫القرآن‬
‫إىل آخرها‪ ،‬بروايات صحيحة‪ ،‬نزلت يف مكة‪ ،‬وبعض العلماء يستثين منها بعض اآليات‪ ،‬ويقول‪ :‬نزلت هذه يف املدينة‪ ،‬ملاذا؟ يقول‪ :‬ألنه‬
‫ص ِادهِ} األنعام‪ ،141:‬قالوا‪ :‬الزكاة ما فرضت إال يف املدينة‪ ،‬نقول هلم‪ :‬أصال‬ ‫ِ‬
‫ذُكر فيها بعض األشياء‪ ،‬مثل‪ :‬قضية الزكاة‪َ { :‬وآتُوا َح َّقهُ يَ ْوَم َح َ‬
‫من قال لكم‪ :‬إن الزكاة فرضت يف املدينة؟ الزكاة الراجح‪ :‬أهنا فرضت يف مكة‪ ،‬لكن مل يكن هبذه األنصباء‪ ،‬وليس هناك شيء مق ّدر‪ ،‬إمنا‬
‫فرض أصلها يف مكة بشيء غري مقدر‪ ،‬خيرج اإلنسان عند احلصاد شيئًا مل يقدر‪ ،‬ونزلت هذه األنصباء والتقسيمات واألموال الزكوية‪ ،‬إىل‬
‫آخره‪ ،‬كل ذلك يف املدينة‪ ،‬هذا جواب‪.‬‬
‫واجلواب الثاين‪ :‬أن نقول بكل بساطة‪ :‬إن اآلية قد تنزل قبل تقرير احلكم‪ ،‬وذكرنا لكم أمثلة على هذا‪ ،‬فلماذا خنرج‪َ { :‬وآتُوا َح َّقهُ‬
‫ص ِادهِ} األنعام‪ ،141:‬من سورة جاءت أحاديث صحيحة‪ :‬أهنا جاءت مجلة واحدة‪ ،‬يف مكة‪ ،‬يف ليلة واحدة‪ ،‬ونقول‪ :‬إال هذه‬ ‫يَ ْوَم َح َ‬
‫اآليات؛ هلذا املعىن الذي تبادر لنا؟ فال جيوز أن حنكم على آية بأهنا نزلت يف مكة أو املدينة بناءً على اجتهاد‪ ،‬فهذه حتفظ‪ ،‬وكثري مما جتدونه‬
‫يف كتب التفسري مبين على االجتهاد‪ ،‬الح له يف املعىن فقال به‪ ،‬مثل‪ :‬سورة البلد‪ ،‬أو مثل اآلية اليت ذكرنا يف سورة األعلى يف قوله‪{ :‬قَ ْد‬
‫صلَّى} األعلى‪ ،15-14:‬فهذه السورة مكية‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬ال‪ ،‬هذه اآلية مدنية‪ ،‬كيف مدنية؟ قال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫أَفْ لَ َح َم ْن تََزَّكى * َوذَ َكَر ْ‬
‫اس َم َربِّه فَ َ‬
‫هذه تدل على زكاة الفطر‪ ،‬وزكاة الفطر ما عُرفت إال يف املدينة‪ ،‬عجيب! أوالً‪ :‬املعىن الراجح ذكرته سابقا‪ ،‬وليس هذا‪ ،‬مث لو فرضنا أن معناها‬
‫هو هذا‪ ،‬فماذا يقال؟ يقال‪ :‬نزلت قبل تقرير احلكم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هذا موقوف على النقل والسماع فقط‪ ،‬وال يلتفت إىل اجتهادات وآراء وقرائن؛ لنحكم على اآلية بأهنا مكية أو مدنية‪ ،‬فمن‬
‫يعول عليهم يف معرفة املكي واملدين‪ ،‬وكانوا غاية يف هذه املعرفة‪ ،‬كما‬
‫شاهدوا التنزيل من أصحاب النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬هم الذين َّ‬
‫أخرج البخاري ‪-‬رمحه اهلل تعاىل‪ ،-‬عن ابن مسعود ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أنه قال‪" :‬والذي ال إله غريه ما نزلت آية من كتاب اهلل ‪-‬تعاىل‪ -‬إال‬
‫وأنا أعلم يف من نزلت‪ ،‬وأين نزلت"‪.‬‬
‫وقال أيوب‪" :‬سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن‪ ،‬فقال‪ :‬نزلت يف سفح ذلك اجلبل‪ ،‬وأشار إىل سلع"‪ ،‬أي‪ :‬الذي كان حتته‬
‫اخلندق‪ .‬وأيضا‪ :‬ميكن من خالل الروايات اليت وردت يف أسباب النزول أننا نعرف مكان النزول‪ ،‬يعين‪ :‬مثالً‪ :‬آية التيمم السابقة يف سورة‬
‫املائدة‪ ،‬عائشة تقول‪" :‬كنا بذات اجليش‪ ،‬أو بالبيداء"‪ ،‬فحددت املكان‪ ،‬فنعرف أهنا نزلت يف هذا املكان‪ ،‬وإن مل يكن قصدها بيان املكان‬
‫الذي نزلت فيها اآلية‪ ،‬وإمنا أرادت أن تذكر الواقعة أين حصلت‪.‬‬
‫وهنا مسألة مهمة‪ ،‬وهي‪ :‬كيف نحكم على السورة أنها مكية أو مدنية؟ قد تكون السورة مكية‪ ،‬وبعضها مدين‪ ،‬وقد يكون‬
‫العكس‪ ،‬فكيف حنكم؟ بعض العلماء يقولون‪ :‬العربة بأول السورة‪ ،‬أين نزل؟ فإذا نزل مبكة‪ ،‬فحىت لو نزل بعض اآليات يف املدنية ما يهمنا‪،‬‬
‫فهي‪ :‬مكية‪.‬‬
‫وبعضهم يقول‪ :‬ال‪ ،‬العربة باألغلب‪ ،‬وهذا خالف مشكل‪ ،‬وليس من العادة أن أذكر خالفا يف هذه الدروس‪ ،‬لكن أردت أن أصور‬
‫لكم طريقة خترجون فيها من بعض صور اخلالف‪ ،‬وهي‪ :‬أنه إذا نظرنا إىل الواقع يف اآليات املوجودة عندنا‪ ،‬جند أن كل السور اليت يقال‪ :‬إهنا‬
‫سورة مكية مثال‪ ،‬أن مجيع آياهتا مكية يف الواقع‪ ،‬أو عامة اآليات مكية‪ ،‬وأما املدين فال إشكال فيه؛ ألن كل ما نزل بعد اهلجرة فهو‪ :‬مدين‪،‬‬
‫وإن نزل يف مكة‪ ،‬فهذا ال إشكال فيه‪ ،‬فالواقع‪ :‬أن السورة إما أن تكون مكية بكاملها‪ ،‬أو الغالب على آياهتا أنه مكي‪ ،‬ويقال عنها‪ :‬إهنا‬
‫سورة مكية‪ ،‬وال يوجد سورة يقال عنها‪ :‬بأهنا مكية‪ ،‬وما فيها إال كم آية مكية‪ ،‬يعين‪ :‬قليلة‪ ،‬والباقي كله مدين‪ ،‬يعين‪ :‬األغلب مدين‪ ،‬ال‬
‫يوجد‪ ،‬فهذا اخلالف إذن من الناحية الواقعية‪ :‬هل له قيمة أو ليس له قيمة‪ ،‬يرتتب عليه شيء؟ الجواب‪ :‬ليس له قيمة‪ ،‬وال يرتتب عليه‬
‫شيء‪ ،‬وإن هالَك‪ ،‬وصعب عليك الرتجيح فيه‪ ،‬لكنه يف الواقع‪ ،‬من الناحية الواقعية ما فيه إشكال‪.‬‬
‫نعطيكم أمثلة على هذا الذي يقولون فيه‪ :‬هذه السورة مكية إال اآلية الفالنية‪ ،‬وهذا غري صحيح‪ ،‬بل هو بناء على اجتهادات‪،‬‬
‫مثاله‪ :‬سورة األعلى اليت ذكرت قبل قليل‪ ،‬وفيها‪{ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن تََزَّكى} األعلى‪ ،14:‬فهذا غري مقبول؛ ألهنم بنوه على املعىن‪ ،‬ورأيتم اجلواب‪.‬‬
‫ني} الفاحتة‪ ،7:‬قالوا‪ :‬هذه مدنية‪ ،‬وسورة الفاحتة مكية‪ ،‬ملاذا؟ قالوا‪ :‬من‬ ‫وكذلك بعضهم قال يف سورة الفاحتة‪ :‬إن قوله‪َ { :‬وَال الضَّالِّ َ‬
‫ني}؟ اليهود هم الذين كانوا يف املدينة‪ ،‬فهذه اآلية تكلمت عن اليهود‪ ،‬إذن هذه‪َ { :‬وَال الضَّالِّ َ‬
‫ني}‪،‬‬ ‫ض ِ‬
‫وب َعلَْي ِه ْم َوَال الضَّالِّ َ‬ ‫هم‪َ { :‬غ ِْري الْ َم ْغ ُ‬
‫هذه مدنية‪ ،‬فنقول‪ :‬ال‪ ،‬هذا ليس بصحيح‪ ،‬انظروا إىل أي درجة وصلوا!‪.‬‬
‫ت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم} املائدة‪،3:‬‬
‫وأما ما ورد فيه النقل عن الصحابة ‪-‬رضي اهلل عنهم‪ ،-‬فهو‪ :‬املعتمد املعترب‪ ،‬مثالً‪ :‬يف قوله‪{ :‬الْيَ ْوَم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫كما عند الشيخني‪" :‬ملا جاء الرجل اليهودي إىل عمر‪ ،‬فقال‪ :‬آية يف كتابكم لو نزلت علينا الختذنا ذلك اليوم عيدا‪ ،‬فقال‪ :‬أي آية‪ :‬قال‪:‬‬
‫ت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم} املائدة‪ ، 3:‬فقال له عمر‪ :‬نزلت يوم عرفة‪ "..‬إىل آخره‪ ،‬فهذا نقل لنا عمر فيه مكان نزول اآلية‪ ،‬فهذا هو‪:‬‬ ‫{الْيَ ْوَم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫املعترب املعتمد‪ .‬ومثال آخر‪ :‬حديث عائشة‪" :‬كنا بالبيداء‪ ،‬أو بذات اجليش"‪.‬‬
‫وأما الضوابط التي يذكرها العلماء‪ ،‬فيقولون‪ :‬إذا رأيت سورة فيها كذا‪ ،‬فهي‪ :‬كذا‪ ،‬وإذا رأيت فيها كذا‪ ،‬فهي‪ :‬كذا‪ ،‬فيما مييزون‬
‫به بني املكي واملدين‪ ،‬كقوهلم مثالً‪:‬‬
‫• كل سورة فيها‪" :‬كال"‪ ،‬فهي‪ :‬مكية‪،‬‬
‫• ويقولون مثال‪ :‬كل سورة فيها سجدة‪ ،‬فهي‪ :‬مكية‪،‬‬
‫• وكل سورة يف أوهلا حروف التهجي احلروف املقطعة‪ ،‬فهي‪ :‬مكية‪ ،‬إال البقرة وآل عمران‪ ،‬ويف الرعد خالف‪،‬‬
‫• وكل سورة فيها قصص األنبياء واألمم السابقة‪ ،‬فهي‪ :‬مكية‪ ،‬سوى البقرة‪،‬‬
‫ِ ِ ِ‬
‫• وكل سورة فيها قصة آدم وإبليس‪ ،‬فهي‪ :‬مكية‪ ،‬سوى البقرة‪ ،‬وال أدري أين ذهبت سورة الكهف‪ ،‬وفيها‪َ { :‬وإِ ْذ قُ ْلنَا ل ْل َم َالئ َكة ْ‬
‫اس ُج ُدوا‬
‫ِآل َد َم} الكهف‪ 50:‬اآلية‪،‬‬
‫ين َآمنُوا}‪ ،‬فهي‪ :‬مكية‪ ،‬وهناك أشياء تشكل على هذا‪ ،‬وكل سورة من‬ ‫• وكل سورة فيها‪{ :‬يا أَيُّها النَّاس}‪ ،‬وليس فيها‪{ :‬يا أَيُّها الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫املفصل فهي‪ :‬مكية‪.‬‬
‫• ويقولون يف املدين‪ :‬كل سورة فيها احلدود والفرائض‪ ،‬فهي‪ :‬مدنية‪،‬‬
‫• وكل سورة فيها إذن باجلهاد‪ ،‬وبيان أحكام اجلهاد‪ ،‬فهي‪ :‬مدنية‪،‬‬
‫• وكل سورة فيها ذكر املنافقني‪ ،‬فهي‪ :‬مدنية‪ ،‬ما عدى العنكبوت‪.‬‬
‫أما حنن فنقول‪ :‬هذه األشياء حتتاج إىل مراجعة‪ ،‬ونتتبعها واحدة واحدة‪ ،‬فإن صح االستقراء قلنا به؛ ألهنا مسألة استقرائية‪ ،‬مثل‪ :‬لو‬
‫قلنا هنا مثالً‪ :‬كل واحد يلبس ثوبًا ملونًا‪ ،‬فهو‪ :‬دون العشرين يف عمره‪ ،‬فإذا قلنا هذا بناء على االستقراء‪ ،‬فهذا صحيح‪ ،‬ال إشكال فيه‪،‬‬
‫لكن إذا قلنا هذا هكذا‪ ،‬فنقول‪ :‬هذه قاعدة غري صحيحة‪ ،‬أنا أطلع لك واحد اآلن البس ثوب ملون‪ ،‬وهو‪ :‬فوق العشرين‪ ،‬فهذا مثله‪،‬‬
‫فيحتاج إىل أن نتتبع اجلزئيات اليت قالوها‪ ،‬هل هي فعالً كذلك أو ال‪ ،‬قبل أن نسلم مبثل هذا؟‬
‫وال شك أن املكي من القرآن له بعض السمات‪ ،‬وأن املدين له بعض السمات‪ ،‬فمثال‪ :‬القرآن املكي يركز على قضية الدعوة إىل‬
‫التوحدي‪ ،‬ونبذ الشرك‪ ،‬والرد على املشركني يف حججهم وأباطيلهم يف قضايا معبوداهتم‪ ،‬وما يتعلق هبا‪ ،‬ويكثر فيه ذكر اآلخرة‪ ،‬واليوم اآلخر‪،‬‬
‫أيضا‪ :‬جتد القرآن املكي فيه‪ :‬وضع األساس العامة للتشريع‪ ،‬والقضايا‬ ‫واألدلة على البعث‪ ،‬وما شابه ذلك‪ ،‬وذكر اجلنة ونعيمها‪ ،‬كذلك ً‬
‫األخالق ية بشكل عام‪ ،‬وينتقد املشركني يف وأد البنات‪ ،‬ويف بعض ما كانوا يفعلونه يف بعض عاداهتم السيئة‪ ،‬كذلك يغلب عليه‪ ،‬وفيه كثري‬
‫ُّحى * َواللَّْي ِل إِذَا‬
‫من قصص األنبياء واألمم السابقة‪ ،‬وكيف فعل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هبا‪ ،‬ودمرها‪ ،‬والغالب‪ :‬أن الفواصل قصرية‪ ،‬مثل‪َ { :‬والض َ‬
‫ك َوَما قَلَى} الضحى‪ ،3-1:‬لكن البقرة املدنية‪ :‬الفواصل طويلة‪ ،‬اآليات طويلة‪ ،‬لكن هذا ليس دائما‪ ،‬فسورة األنعام‬ ‫ك َربُّ َ‬
‫َس َجى * َما َوَّد َع َ‬
‫آياهتا طويلة‪ ،‬وهي‪ :‬نازلة يف مكة‪ ،‬لكن حنن نقول‪ :‬الغالب‪.‬‬
‫وأما القرآن املدين‪ ،‬فتجد فيه تقرير كثري من تفاصيل العبادات‪ ،‬وتفاصيل املعامالت‪ ،‬واحلدود‪ ،‬واملواريث‪ ،‬وقضايا اجلهاد‪ ،‬وهكذا‪:‬‬
‫الصلح‪ ،‬والعهود‪ ،‬واملواثيق‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬وخطاب أهل الكتاب‪ ،‬ومناقشة أهل الكتاب‪ ،‬والرد عليهم‪ ،‬والكالم على املنافقني بكثرة‪ ،‬واآليات‬
‫يف الغالب طويلة‪ ،‬فهذه عالمات للقرآن املكي أو املدين‪.‬‬
‫وهنا سؤال‪ :‬ما الفائدة من معرفة هذا؟ ماذا نستفيد؟ نقول‪ :‬أوالً‪ :‬معرفة الناسخ واملنسوخ‪ ،‬فإذا عرفنا أن هذا نازل يف مكة‪ ،‬وهذا‬
‫أيضا‪ :‬نعرف كيف تدرج التشريع‪ ،‬ففي مكة‪ :‬ما هي األمور اليت خاطبهم هبا؟ وما هي األمور اليت‬
‫نازل يف املدينة‪ ،‬عرفنا املتقدم من املتأخر‪ ،‬و ً‬
‫خاطبهم هبا يف املدينة؟ كيف نقلهم طورا بعد طور؟‬
‫وأيضا‪ :‬هذا تاريخ للقرآن‪ ،‬وهو يعطينا ثقة كبرية به‪ ،‬فالصحابة عرفوا أين نزلت كل آية‪ ،‬وضبطوا تواريخ ذلك‪ ،‬فأين هذا من الكتب‬
‫السابقة؟ فهل مثل هؤالء يفرطون يف آية واحدة تضيع منه؟‬
‫أبدا‪ ،‬فكيف بثلثي القرآن أو ما شابه ذلك مما يقوله األفاكون؟! واهلل أعلم‪ ،‬وصلى اهلل على نبينا حممد‪ ،‬وآله‪ ،‬وصحبه‪.‬‬
‫ً‬
‫الدرس األول من الوحدة الرابعة‪ :‬النسخ‬ ‫الدرس‬
‫األول من‬
‫الوحدة‬
‫الرابعة‬
‫النسخ‬
‫الدرس الثاني من الوحدة الرابعة‪ :‬أقسام النسخ‬ ‫الدرس‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬نبينا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬ ‫األول من‬
‫فبقيت بعض املسائل يف موضوع النسخ‪ ،‬أقول‪ :‬من األصول اليت حيتاج إىل معرفتها يف هذا الباب أن األصل عدم النسخ‪ ،‬األصل‬ ‫الوحدة‬
‫الرابعة اإلحكام‪ ،‬وليس النسخ‪ ،‬وبالتايل فال ينتقل عن هذا األصل إال بدليل يوجب ذلك‪ ،‬وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن النسخ ال يثبت باالحتمال‪،‬‬
‫أقسام األصل عدم النسخ‪.‬‬
‫النسخ‬
‫أيضا‪ ،‬أو من اللطائف يف هذا الباب‪ ،‬أو من ملح هذا الباب‪ :‬أنه مل يوجد مثال يف النسخ املعروف الذي بلغ‬ ‫ومن األمور املفيدة ً‬
‫املكلفني تكرر يف شيء واحد بعينه مرتني وأكثر‪ ،‬وإمنا قد ينسخ الشيء مث يؤمر بغريه‪ ،‬أما أنه ينسخ مرتني فهذا ال يوجد له مثال يف ما نعلم‬
‫واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫وال يرد يف ذلك ما جاء يف نسخ الصالة مرة بعد مرة يف ليلة املعراج؛ ألن ذلك ينازع كثري من العلماء فيه هل هو نسخ أم ال؛ ألنه مل‬
‫يبلغ املكلفني‪ ،‬ومل يتمكنوا من فعله‪ ،‬وهذه مسألة حيتاج إليها عند اجلواب والرد على بعض من ادعى النسخ يف بعض الصور‪ ،‬وقد استعمل‬
‫ذلك مثل احلافظ ابن حجر ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬حيث زعم بعضهم أن القبلة كانت مبكة إىل الكعبة‪ ،‬فلما حتول النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إىل‬
‫ضعفه احلافظ قال‪ :‬ويلزم معه دعوى النسخ مرتني‪ .‬ذكره يف الفتح‪.‬‬
‫املدينة حتول إىل بيت املقدس‪ ،‬مث نسخ ذلك إىل الكعبة‪ ،‬هذا ّ‬
‫ومن المسائل المفيدة في هذا الباب‪ :‬أن كل ما وجب امتثاله يف وقت ما لعله تقتضي ذلك احلكم‪ ،‬مث ينتقل بانتقاهلا إىل حكم‬
‫آخر‪ ،‬فليس بنسخ‪ .‬يعين‪ :‬كل حكم ربط بعله‪ ،‬مث ينتقل بانتقاهلا‪ ،‬فليس من قبيل النسخ؛ ألنه ليس برفع للحكم خبطاب شرعي متأخر مرتاخ‬
‫عنه‪ ،‬وإمنا هذا أمر به بسبب‪ ،‬مث زال هذا السبب‪ ،‬فارتفع احلكم بزوال سببه‪ ،‬وهذا خبالف ما حكم به الشارع مطلقا‪.‬‬
‫مثاله‪ :‬كثري من اآليات اليت تأمر بالصرب‪ ،‬وحتمل أذى املشركني‪ ،‬والصفح واإلعراض والعفو‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬حىت إن اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫ني} التني‪ .8:‬فمثل هذه األدلة الكثرية يف العفو والصفح‪ ،‬قال بعض العلماء‪ :‬نسختها مجيعا آية واحدة‪،‬‬ ‫قال‪{ :‬أَلَيس اللَّه بِأَح َك ِم ْ ِ ِ‬
‫احلَاكم َ‬ ‫ْ َ ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫وهي اآلية اخلامسة من سورة براءة‪{ :‬فَِإ َذا انْ َسلَ َخ ْاألَ ْش ُهُر ْ‬
‫وه ْم َواقْ عُ ُدوا َهلُ ْم ُك َّل‬
‫صُر ُ‬
‫اح ُ‬
‫وه ْم َو ْ‬
‫وه ْم َو ُخ ُذ ُ‬
‫ث َو َج ْدُمتُ ُ‬ ‫احلُُرُم فَاقْ تُلُوا الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫ني َحْي ُ‬
‫ص ٍد} التوبة‪ .5:‬فال جمال للصفح‪ ،‬وال جمال لإلعراض‪ ،‬وال جمال للعفو‪ ،‬وال جمال لرتكهم‪ ،‬فليس هلم إال السيف‪ ،‬قالوا‪ :‬نسختها آية السيف‪،‬‬ ‫َمْر َ‬
‫قالوا آية السيف نسخت ‪ 124‬آية‪ ،‬وهذا غري صحيح‪.‬‬
‫ِ‬ ‫صحيح أن آخر ما نزل سورة براءة‪ ،‬ومنه هذه اآلية‪{ :‬فَِإذَا انْ َسلَ َخ ْاألَ ْش ُهُر ْ‬
‫وه ْم} هذا من آخر ما‬ ‫ث َو َج ْدُمتُ ُ‬‫ني َحْي ُ‬ ‫احلُُرُم فَاقْ تُلُوا الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫نزل‪ ،‬لكن آيات الصفح واالعراض اليت حيتج هبا املنهزمون الذين يقولون‪ :‬إن اإلسالم دين صفح وإعراض ومساحمه‪ ،‬ودين تسامح‪ ،‬وليس‬
‫بدين قتال‪ :‬هؤالء يكذبون على اهلل‪ ،‬ويكذبون على الناس‪ ،‬ويزيفون حقائق اإلسالم‪ ،‬هذا كثري من العلماء قالوا إنه نسخ بآية السيف‪،‬‬
‫والعدل يف هذا الباب أن يقال‪ :‬إنه مل ينسخ‪ ،‬لكن ذلك يستعمل يف أحوال الضعف‪ ،‬إذا كانت األمة ضعيفة‪ ،‬ال تستطيع املواجهة‪ ،‬فعند‬
‫ذلك يكون حق التعامل مع الكفار الصفح‪ ،‬واإلعراض‪ ،‬واملساحمة‪ ،‬والتجاوز والصرب‪.‬‬
‫وأما يف حال التمكن والقوة‪ ،‬فليس هلم إال السيف‪ ،‬فهذه حقيقة دين اإلسالم‪ ،‬فهو دين القوة‪ ،‬ودين اجلهاد‪ ،‬فاألصل املصارمة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ان} األنفال‪{ ،12:‬فَِإذَا انْ َسلَ َخ ْاألَ ْش ُهُر ْ‬ ‫اض ِربوا ِمْن هم ُك َّل ب نَ ٍ‬ ‫اض ِربوا فَو َق ْاأل ْ ِ‬
‫وه ْم‬
‫ث َو َج ْدُمتُ ُ‬ ‫احلُُرُم فَاقْ تُلُوا الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫ني َحْي ُ‬ ‫َعنَاق َو ْ ُ ُ ْ َ‬ ‫واألصل‪{ :‬فَ ْ ُ ْ‬
‫ص ٍد} التوبة‪.5:‬‬ ‫وه ْم َواقْ عُ ُدوا َهلُ ْم ُك َّل َمْر َ‬
‫صُر ُ‬
‫اح ُ‬
‫وه ْم َو ْ‬
‫َو ُخ ُذ ُ‬
‫هذا هو األصل‪ ،‬وهذا هو الكمال‪ ،‬لكن يف حال العجز يلجأ إىل الصفح واإلعراض‪ ،‬لكن ال جيعل الصفح واإلعراض هو دين‬
‫اإلسالم‪ ،‬ال جتعل الرخصة يف حال العجز والضعف أن جتعل هي األصل‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا هو دين اإلسالم‪ ،‬إذا ضربك على خدك األمين‪ ،‬تدير‬
‫له خدك األيسر‪ ،‬نقول‪ :‬ال‪ ،‬إذا ضربك على خدك األمين تكسر فكه األيسر‪ ،‬فليس هذا دين الضعف‪ ،‬وإمنا دين القوة‪.‬‬
‫يم‬ ‫ك وب ي نَه ع َداوةٌ َكأَنَّه وِيلٌّ َِ‬
‫مح‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫السيِّئةُ ادفَع بِالَِّيت ِهي أَحسن فَِإذَا الَّ ِ‬
‫ذ‬ ‫هذا مع املشركني‪ ،‬أما مع املسلمني‪َ { :‬وَال تَ ْستَ ِوي ْ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫احلَ َسنَةُ َوَال َّ َ ْ ْ‬
‫ظ َع ِظي ٍم} فصلت‪.35-34:‬‬ ‫اها إَِّال ذُو َح ٍّ‬ ‫* وما ي لَ َّق ِ َّ ِ‬
‫صبَ ُروا َوَما يُلَ َّق َ‬ ‫اها إَّال الذ َ‬
‫ين َ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫أما الكفار فيعاملون مبعاملة تليق هبم‪ ،‬الكفار احملاربني هلل ولرسوله ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فأقول‪ :‬هذه اآليات اليت فيها األمر بالصفح‬
‫ِ‬
‫والعفو هي يف وقت معني‪ ،‬يف حال الضعف‪ ،‬فإذا انتقلت األمة إىل حال القوة‪ ،‬فيستعمل معهم‪{ :‬فَِإ َذا انْ َسلَ َخ ْاألَ ْش ُهُر ا ْحلُُرُم فَاقْ تُلُوا الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫ني‬
‫ص ٍد} التوبة‪ .5:‬فهل يقال‪ :‬إن هذا من قبيل النسخ؟ اجلواب‪ :‬ال‪.‬‬ ‫وه ْم َواقْ عُ ُدوا َهلُ ْم ُك َّل َمْر َ‬‫صُر ُ‬ ‫اح ُ‬‫وه ْم َو ْ‬
‫وه ْم َو ُخ ُذ ُ‬
‫ث َو َج ْدُمتُ ُ‬
‫َحْي ُ‬
‫ومن المسائل المهمة‪ :‬أن كل حكم ورد يف خطاب مشعر بالتوقيت‪ ،‬أو ربط بغاية جمهولة‪ ،‬مث انقضى بانقضائها فليس بنسخ‪.‬‬
‫عاما‪ ،‬مث بعد ذلك يرفع‪ ،‬لكن اخلطابات املقيدة بالتوقيت‪ ،‬أو املشعرة به أن هذا إىل‬ ‫حكما ً‬ ‫النسخ أن يشرع اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬هلم ً‬
‫مثال‪ ،‬مث بعد ذلك يأيت هذا الوقت ويتغري احلكم هذا ليس من قبيل النسخ‪ ،‬غيي بغاية‪ ،‬مث بلغ هذه الغاية‪ ،‬فيتغري احلكم فليس‬ ‫وقت كذا ً‬
‫بنسخ‪.‬‬
‫اح َشةَ ِمن نِسائِ ُكم فَاستَ ْش ِه ُدوا علَي ِه َّن أَرب عةً ِمْن ُكم فَِإ ْن َش ِه ُدوا فَأَم ِس ُكوه َّن ِيف الْب ي ِ‬
‫الالِيت يأْتِني الْ َف ِ‬
‫وت‬ ‫ُُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫ْ َ ْ ْ‬ ‫مثاله‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪َ { :‬و َّ َ َ‬
‫ت أ َْو َْجي َع َل اللَّهُ َهلُ َّن َسبِ ًيال} النساء‪ .15:‬ما حكمها قبل نزول حد الزاين‪- ،‬وهو اجللد للبكر والرجم للثيب؟ ماذا كان‬ ‫َح َّىت يَتَ َوفَّ ُ‬
‫اه َّن الْ َم ْو ُ‬
‫احلكم؟ اإلمساك للنساء يف البيوت حىت متوت‪ ،‬ما خترج‪{ ،‬أ َْو َْجي َع َل اللَّهُ َهلُ َّن َسبِ ًيال} ‪ ،‬النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بعد ذلك مبدة ملا نزل‬
‫سبيال‪ ،‬البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام‪ ،‬والثيب بالثيب جلد‬ ‫عليه حد هذه الفاحشة‪ ،‬قال‪( :‬خذوا عين‪ ،‬خذوا عين‪ ،‬قد جعل اهلل هلن ً‬
‫مائة‪ ،‬والرجم)‪.‬‬
‫فهل هذا يقال‪ :‬إنه من قبيل النسخ؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬غُيي بغاية‪ ،‬فبلغ هذه الغاية‪{ :‬أ َْو َْجي َع َل اللَّهُ َهلُ َّن َسبِ ًيال} فجعل اهلل هلن سبيال‪ ،‬فتغري‬
‫هذا احلكم‪ ،‬واحلديث يف صحيح مسلم‪.‬‬
‫أقسام النسخ‪:‬‬
‫النسخ ينقسم باعتبارات عدة‪ ،‬إىل أقسام خمتلفة‪ ،‬وهذا ال غرابه فيه‪ ،‬الشيء الواحد ينقسم باعتبارات خمتلفة‪ ،‬حنن حينما نقول‪:‬‬
‫اإلنسان باعتبار اجلنس ينقسم إىل ذكر وأنثى‪ ،‬وباعتبار العقل ينقسم إىل عاقل وجمنون‪ ،‬وباعتبار الصحة واملرض ينقسم إىل صحيح ومريض‪،‬‬
‫وباعتبار الدين ينقسم إىل مسلم وكافر‪ ،‬وباعتبار العلم ينقسم إىل عامل وجاهل‪ ،‬وباعتبار اللغة إىل عرِّب وأعجمي‪.‬‬
‫فالشيء الواحد ينقسم باعتبارات عدة‪ ،‬إىل أقسام خمتلفة‪ ،‬فاآلن عندنا النسخ ينقسم باعتبارات عدة‪ ،‬إذا نظرنا إليه من زاوية معني‬
‫فهو أقسام‪ ،‬إذا نظرنا إليه من زاوية أخرى فهو أيضا أقسام‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫فمثال‪ :‬باعتبار األخف واألثقل‪ ،‬النسخ حينما ينتقل الحكم إلى شيء أخف‪ ،‬أو إلى شيء أثقل‪ ،‬ينقسم إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫• األول‪ :‬نسخ إىل األخف‪ ،‬مثل‪ :‬مصابرة الواحد للعشرة‪ ،‬نسخ مبصابرة اثنني يف القتال‪.‬‬
‫• الثاين‪ :‬النسخ باألثقل‪ ،‬مثل‪ :‬صيام رمضان كان على التخيري‪ ،‬مث صار ً‬
‫الزما لكل مستطيع‪ ،‬فهذا نسخ إىل األثقل‪.‬‬
‫• الثالث‪ :‬النسخ إىل املساوي‪ ،‬يعين‪ :‬من ناحية املشقة‪ ،‬القبلة من بيت املقدس إىل املسجد احلرام‪ ،‬هل هذا يكلف مستقبل القبلة تبعة‬
‫زائدة؟ ما عليه إال أن يستدير‪ ،‬فبدل ما يستقبل الشمال مثال يستقبل اجلنوب‪ ،‬إذا كان يف املدينة‪ .‬هذا باعتبار ما ميكن أن يوصف‬
‫به النسخ من كونه إىل أخف أو أثقل‪ ،‬يعين‪ :‬باعتبار التكليف املنتقل إليه‪ ،‬من خفة وثقل‪.‬‬
‫وينقسم بالنظر إلى وقته إلى‪ :‬نسخ قبل التمكن من االمتثال والفعل‪ ،‬وإىل نسخ بعد التمكن‪ ،‬وهذه مسألة مشهورة من مسائل‬
‫الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وإن كان كل صور النسخ كانت بعد التمكن من االمتثال‪ ،‬ما نسخ إال بعدما طبقوا وال عندنا إال مثال واحد هو الذي‬
‫ميثلون به على النسخ قبل التمكن‪ ،‬وهو ذبح إبراهيم البنه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أمره اهلل بالذبح‪ ،‬مث نسخ ذلك قبل أن حيصل هذا الذبح‪،‬‬
‫فهذا نسخ قبل التمكن‪.‬‬
‫وهناك مثال آخر عليه فيه خالف‪ ،‬وهو‪ :‬نسخ الصلوات‪ ،‬لكن هذا قبل بلوغ املكلفني‪ ،‬لكن بعد ما بلغ املكلف‪ ،‬مث ينسخ قبل أن‬
‫يفعل ليس عندنا إال هذا املثال‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫وينقسم باعتبار النظر إلى كونه إلى بدل أو إلى غير بدل‪ ،‬ينقسم إلى قسمين على األشهر واهلل أعلم‪:‬‬
‫ت ِخبٍَْري ِمْن َها أ َْو ِمثْلِ َها} البقرة‪ ،106:‬فالنسخ إىل‬
‫نسخ إىل بدل‪ ،‬وهذا عامة صور النسخ‪ ،‬واهلل يقول‪{ :‬ما نَْنسخ ِمن آي ٍة أَو نُْن ِسها نَأْ ِ‬
‫َ َْ ْ َ ْ َ‬
‫أيضا مصابرة عشرة إىل اثنني‪ ،‬ما قال هلم ما‬ ‫بدل هو الغالب‪ ،‬مثل‪ :‬من بيت املقدس إىل الكعبة‪ ،‬ما قال هلم ما تستقبلون شيء‪ .‬وكذلك ً‬
‫تصابرون أحد‪ ،‬وهكذا يف عامة األمثلة‪.‬‬
‫وأما النسخ إىل غري بدل‪ ،‬فهو نادر‪ ،‬وأشهر مثال له وفيه نزاع مشهور‪ ،‬قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪ -‬يف الصدقة بني يدي النجوى‪{ :‬أَأَ ْش َف ْقتُ ْم‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫الص َال َة} اجملادلة‪ .13:‬فنسخت الصدقة بني يدي النجوى إىل‬ ‫يموا َّ‬ ‫ص َدقَات فَِإ ْذ َملْ تَ ْف َعلُوا َوتَ َ‬
‫اب اللَّهُ َعلَْي ُك ْم فَأَق ُ‬ ‫ني يَ َد ْي َْجن َوا ُك ْم َ‬ ‫أَ ْن تُ َقد ُ‬
‫ِّموا بَ ْ َ‬
‫ال شيء‪ ،‬حنن ال نريد اخلالف هنا‪ ،‬لكن ألن هذا هو أشهر مثال‪ ،‬وأوضح مثال‪ .‬واملخالفون يعرتضون عليه كشيخ اإلسالم ابن تيميه ‪-‬رمحه‬
‫اهلل‪ -‬يقولون‪ :‬النسخ البدل موجود‪ ،‬الصدقة بقيت مستحبة‪ ،‬ومل ترفع بالكلية‪ ،‬وبه تقول ابن القيم ‪-‬رمحه اهلل‪.‬‬
‫ت ِخبٍَْري ِمْن َها أ َْو ِمثْلِ َها}‬
‫فشيخ اإلسالم وابن القيم وطائفة‪ ،‬يقولون‪ :‬ال ميكن أن يكون نسخ إىل غري بدل؛ ألن اهلل وعد‪ ،‬فقال‪{ :‬نَأْ ِ‬
‫البقرة‪ ،106:‬ويبقى اخلالف صوريًا‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم؛ ألن حقيقة اخلالف بني هؤالء هو يف تسمية هذا الشيء‪ ،‬احلكم بعد النسخ‪ ،‬فالذين‬
‫مباحا‬
‫مهال‪ ،‬فنقلهم إىل كون ذلك ً‬ ‫مثال‪ ،‬يقولون‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬نقلهم إىل التخفيف‪ ،‬ومل يرتكهم ً‬ ‫يقولون‪ :‬إن النسخ يكون إىل غري بدل ً‬
‫من غري إجياب شيء آخر معه‪ ،‬فمناجاة النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬رجعت إىل احلكم األصلي قبل ذلك‪ ،‬قبل وجوب الصدقة بني يدي‬
‫مباحا‪ ،‬من غري اشرتاط‪.‬‬ ‫النجوى‪ ،‬فكان ذلك ً‬
‫مهال‪ ،‬فاستووا هبذه الطريقة مع من يقولون ال بد من البدل‪ ،‬فابن القيم ‪-‬رمحه اهلل‪-‬‬ ‫فرجع احلكم إىل ما كان عليه‪ ،‬ومل يبق املكلفون ً‬
‫مهال‪ ،‬فرجع احلكم إىل األصل قبل النسخ‪،‬‬ ‫مهال بال حكم‪ ،‬وأولئك يقولون نعم‪ ،‬اهلل مل يرتكهم ً‬ ‫ومن يشرتطون البدل‪ ،‬يقول‪ :‬اهلل مل يرتكهم ً‬
‫فيبقى أنه ال يرتتب عليها عمل‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪ ،‬فهو خالف لفظي‪.‬‬
‫وينقسم باعتبار القدر الذي يقع عليه النسخ إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫• القسم األول‪ :‬نسخ تالوة فقط‪ ،‬مع بقاء احلكم‪ ،‬مثل آية الرجم‪( :‬والشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها البتة ً‬
‫نكاال من اهلل واهلل عزيز‬
‫حكيم) كانت آية تقرأ فنسخ لفظها‪ ،‬وبقي احلكم ثابتًا مل ينسخ‪ ،‬فهذا نسخ اللفظ فقط‪.‬‬
‫ني} األنفال‪،65 :‬‬ ‫صابِرو َن يَ ْغلِبُوا ِمائَتَ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬‫ر‬ ‫ش‬
‫ْ‬ ‫• القسم الثاين‪ :‬نسخ احلكم فقط مع بقاء اللفظ‪ ،‬مثل‪ :‬آية املصابرة‪{ :‬إِ ْن ي ُكن ِمْن ُكم ِ‬
‫ع‬
‫ُ‬ ‫َ ْ ْ ُ‬
‫فهذه نسخ حكمها‪ ،‬وبقي لفظها‪.‬‬
‫• القسم الثالث‪ :‬وهو ما نسخ حكمه ولفظه‪ ،‬مثل حديث عائشة –رضي اهلل عنها‪( :‬نزل يف القرآن عشر رضعات معلومات‪ ،‬مث نزل‬
‫أيضا مخس معلومات) فهذه العشر كانت من القرآن‪ ،‬كانت آية يف القرآن تدل عليها فنسخ اللفظ ونسخ احلكم‪.‬‬
‫ً‬
‫وينقسم بالنظر إلى دليلة إلى أقسام متعددة‪ ،‬يمكن أن نجملها بقسمين كبيرين‪:‬‬
‫قسم متفق عليه‪ ،‬وقسم خمتلف فيه‪.‬‬
‫فالقسم املتفق عليه‪ ،‬نسخ قرآن بقرآن‪ ،‬هذا باالتفاق‪ ،‬مثل‪ :‬نسخ قرآن بقرآن‪ ،‬مثل‪ :‬مصابرة الواحد للعشرة مبصابرته الثنني‪ ،‬هذا‬
‫نسخ قرآن بقرآن هذا متفق عليه‪.‬‬
‫نسخ السنة املتواترة واألحادية مبتواتر السنة‪ ،‬هذا متفق عليه‪ .‬واملتواتر‪ :‬ما رواه مجع عن مجع يستحيل تواطؤهم على الكذب‪ ،‬وكان‬
‫مستند خربهم احلس‪ .‬هذا املتواتر‪ ،‬مجع عن مجع يف كل طبقة من طبقات اإلسناد‪ ،‬واآلحاد ما مل يبلغ درجة التواتر كالذي يرويه واحد عن‬
‫واحد‪ ،‬أو يف إسناده يف الطبقة اثنان أو ثالثة‪ ،‬ما مل يبلغ حد التواتر‪ ،‬هذا معىن املتواتر واآلحاد‪ .‬فنسخ السنة املتواترة واآلحادية باملتواتر‪ ،‬هذا‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫ونسخ اآلحاد من السنة باآلحاد متفق عليه أنه جائز‪ ،‬وال أحتاج أمثلة؛ ألن موضوعنا بالنسخ يف القرآن ال شأن لنا بنسخ السنة‬
‫بالسنة‪.‬‬
‫أما املختلف فيه‪ :‬فنسخ القرآن بالسنة‪ ،‬السنة هل تنسخ القرآن أم ال؟ فيه خالف مشهور‪ ،‬واألقرب أنه ال مانع منه‪ ،‬وهل وقع نسخ‬
‫مثاال ساملا من معارضة قوية‪ ،‬هو ال مانع منه‪ ،‬لكن ما عندنا مثال يسلم من املعارضة القوية‪ ،‬ال يوجد‪ ،‬حسب‬ ‫القرآن بالسنة؟ أنا ال أعرف ً‬
‫ً‬
‫علمي‪.‬‬
‫ومن األمثلة التي يوردها من يقول به‪ :‬عشر رضعات كانت بالقرآن‪ ،‬نسخ بالسنة‪ ،‬وهي أن األمر بقي على مخس‪ ،‬فرفع ذلك‪ ،‬نقول‬
‫هلم‪ :‬يف الواقع أنه نسخ بقرآن‪ ،‬مث نسخ هذا القرآن؛ ألن اآلية اليت فيها عشر رضعات حيرمن نسخت بآية أخرى أن مخس رضعات حيرمن‪،‬‬
‫مث نسخ لفظ اآلية اليت تقول أن مخس رضعات حيرمن مع بقاء حكمها‪ ،‬فالواقع أنه نسخ لقرآن بقرآن‪.‬‬
‫ت إِ ْن تََرَك َخْي ًرا‬ ‫ومن أمثلته التي يمثلون لها المشهورة‪ :‬آية الوصية‪ ،‬يقول اهلل ‪-‬عز وج ل‪ُ { :‬كتِ‬
‫َح َد ُك ُم الْ َم ْو ُ‬ ‫ب َعلَْي ُك ْم إِذَا َح َ‬
‫ضَر أ َ‬ ‫َ‬
‫وف} البقرة‪ ،180 :‬مع أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يقول‪( :‬ال وصية لوارث) فبعض العلماء يقولون‪:‬‬ ‫الْو ِصيَّةُ لِْلوالِ َدي ِن و ْاألَقْ ربِني بِالْمعر ِ‬
‫َ ْ َ َ َ َ ُْ‬ ‫َ‬
‫أصال اآلية ما هي منسوخة؛ ألن هذا يف الوالدين واألقربني الذين قام هبم مانع من موانع اإلرث‪ ،‬كاألب القاتل‪ ،‬فلالبن أن يوصي له‪ ،‬قد‬ ‫ً‬
‫يقول قائل‪ :‬كيف يوصي له‪ ،‬وهو قتله‪ ،‬مات يوصي بعد موته؟ نقول‪ :‬ال‪ ،‬إذا ضربه ضربة قاتلة يف مقتل‪ ،‬مث أوصى قبل أن ميوت ألبيه‪ ،‬فإنه‬
‫كافرا‬
‫ينفذ‪ ،‬فيما ال يزيد على الثلث‪ .‬أو يكون األب على غري دين الولد‪ ،‬فهو ال يرث؛ ألنه ال يتوارث أهل ملتني شىت‪ ،‬فاألب إذا كان ً‬
‫مسلما‪ ،‬فلالبن أن يوصي ألبيه؛ ألنه ال يرثه‪.‬‬
‫والولد ً‬
‫أصال اآلية ليست مبنسوخة‪ .‬والذين يقولون‪ :‬إهنا منسوخة‪ ،‬بعضهم يقول‪ :‬نسخها احلديث‪(:‬ال وصية لوارث)‬ ‫فبعض العلماء يقولون‪ً :‬‬
‫ني} النساء‪ 11:‬وخالف كثري‪.‬‬‫ظ ْاألُنْثَيَ ْ ِ‬ ‫وصي ُكم اللَّهُ ِيف أ َْوَال ِد ُكم لِ َّ‬
‫لذ َك ِر ِمثْل َح ِّ‬ ‫وبعضهم يقول‪ :‬نسخها آيات املواريث‪{ :‬ي ِ‬
‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وفي النتيجة النهائية‪ :‬ال يرتتب عليه شيء؛ ألنك إذا نظرت إىل حتقيق القول يف اآلية املعينة‪ ،‬هل هي منسوخة أم ال؟ إذا قلنا‪ :‬إن‬
‫مثال منسوخة‪ .‬الشافعي‪ ،‬يقول‪ :‬نسخها آيات املواريث‪ .‬ويقول شيخ اإلسالم وابن القيم‪ ،‬آيات املواريث‬ ‫الذي نسخ إذا كانت آية الوصية ً‬
‫هي اليت نسختها‪ .‬واآلخر يقول‪ :‬نسخها احلديث‪( :‬ال وصية لوارث) النتيجة النهائية ما هي؟ أهنا منسوخة‪ ،‬وأنه ال جيوز أن يوصي لوارث‬
‫سواء قلنا هذه اليت نسختها أو األخ رى‪ ،‬فاحملصلة من الناحية العملية واحدة‪ ،‬لكن فقط بقي اخلالف يف تعيني الذي نسخها‪.‬‬
‫فهذا نسخ القرآن بالسنة‪ ،‬والذين يقولون بأنه جائز هم اجلمهور‪ ،‬والذين منعوا منه أئمة كبار‪ ،‬وليس من شأننا هنا أن نذكر اخلالف‪،‬‬
‫وبالتايل ال أذكر حجج هؤالء‪ ،‬وحجج هؤالء‪ ،‬مث اجلواب عنها وسرد األدلة‪.‬‬
‫نسخ السنة بالقرآن‪:‬‬
‫وعندنا من الصور املختلف فيها‪ :‬نسخ السنة بالقرآن‪ ،‬السنة موضحة للقرآن‪ ،‬فهل ينسخها؟ كيف ينسخها وه ي موضحة له؟‬
‫نقول‪ :‬ال مانع من ذلك‪ ،‬وإن خالف فيه بعض أهل العلم‪ .‬هل وقع؟ نقول‪ :‬نعم وقع‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬التوجه إىل بيت املقدس أمروا به أوال‬
‫ناسخا للسنة‪ ،‬يف أمثلة أخرى فيها خالف‪ ،‬حتتاج‬ ‫ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد ْ‬
‫احلََرِام} البقرة‪ .144:‬فصار القرآن ً‬ ‫بالسنة‪ ،‬مث جاء الناسخ‪{ :‬فَ َوِّل َو ْج َه َ‬
‫جدا‪.‬‬‫إىل ورشة‪ ،‬لكن يكفينا هذا املثال الواضح ً‬
‫نسخ اآلحاد للمتواتر‪:‬‬
‫كثريا وه ي هل اآلحاد ينسخ املتواتر أم ال؟ أقول‪ :‬الراجح أنه ينسخ املتواتر‪ ،‬العربة بالصحة والثبوت‪،‬‬
‫أيضا ً‬
‫هنا مسألة خيتلفون فيه ا ً‬
‫وأما االستدالل هلذا فال جمال له هنا‪.‬‬
‫أقسام النسخ بالنظر إلى الحكم التكليفي‪:‬‬
‫بعد ذلك انتقل إىل صورة أخرى من أقسام النسخ‪ ،‬وهي‪ :‬أن خطاب التكليف أمر ون هي‪ ،‬يعين‪ :‬ميكن جنعل هلا عنوان‪ ،‬نقول‪:‬‬
‫أقسام النسخ بالنظر إىل احلكم التكليفي‪.‬‬
‫الحكم التكليفي خمسة أقسام‪ :‬الواجب‪ ،‬واملندوب‪ ،‬واملباح‪ ،‬واملكروه‪ ،‬واحملرم‪ ،‬هذه مخسة أقسام‪ ،‬وبعضهم جيعلها أربعة‪ ،‬وجيعلون‬
‫املباح تكمله للقسمة؛ ألنه مستوى الطرفني‪ ،‬ال مأمور ب ه‪ ،‬وال منهي عنه‪ .‬فخطاب الشارع يكون إما بطلب الفعل‪ ،‬أو طلب الرتك‪ ،‬طلب‬
‫لزوما‪ ،‬وهو الواجب‪ ،‬وإما أن يكون من غري إلزام فهو مستحب‪ ،‬وطلب الرتك إما إلز ًاما وهو احلرام‪ ،‬وإما من غري إلزام‪ ،‬فهو الكراهة‬
‫الفعل إما ً‬
‫فهذه أربعة أقسام‪.‬‬
‫باقي مستوى الطرفني وهو املباح‪ ،‬فبعضهم يلحقهم به تكملة للقسمة‪ ،‬واألحسن أن يفرق يف هذا‪ ،‬ويقال اإلباحة على قسمني‪ :‬إباحة‬
‫الشرعية‪ ،‬وإباحة أصلية‪ ،‬فاإلباحة الشرعية داخله يف أقسام احلكم التكليفي‪ ،‬واإلباحة األصلية خارجة عنه‪ ،‬دعوا هذا ال شأن لكم به يف‬
‫أمر غري الزم‪ ،‬ن هي الزم ون هي غري الزم‪.‬‬
‫أمر الزم‪ ،‬و ٌ‬ ‫أمرا أو هنيًا‪ ،‬وكل واحد على قسمني ٌ‬
‫موضع النسخ‪ .‬خطاب الشارع إما أن يكون ً‬
‫فاألمر على سبيل اإللزام يقع فيه النسخ على ثالث صور‪ :‬فيمكن أن يتحول من الوجوب إىل التحرمي‪ ،‬مثل‪ :‬استقبال بيت املقدس‪،‬‬
‫حكمه يف السابق‪ :‬واجب‪ ،‬فلو جاء شخص‪ ،‬وقال‪ :‬أريد أصلي إىل بيت املقدس‪ ،‬حىت أكون من أصحاب القبلتني‪ ،‬مل جيز له ذلك‪ ،‬وهذا‬
‫حرام‪ ،‬فانتقل احلكم من الوجوب إىل التحرمي‪.‬‬
‫فإذا األمر الالزم يكون نسخة على ثالثة أوجه‪ :‬إما على سبيل التحرمي‪ ،‬وإما أن ينقل إىل االستحباب‪ ،‬مثل‪ :‬الوضوء لكل صالة‪،‬‬
‫كان واجبًا‪ ،‬مث نسخ ذلك فصار مستحبًا‪.‬‬
‫مباحا‪،‬‬
‫أو ينسخ من الوجوب إىل اإلباحة‪ ،‬مثل‪ :‬كان جيب أن يتوضأ اإلنسان إذا أكل شيئًا مسته النار‪ ،‬مث بعد ذلك صار ذلك ً‬
‫وال يقال إنه يستحب لإلنسان إن أكل شيئًا مما مست النار أن يتوضأ‪ ،‬خبالف الوضوء لكل صالة‪ .‬يعين‪ :‬اآلن لو واحد توضأ لصالة‬
‫العشاء‪ ،‬مث أكل شيئًا مسته النار‪ ،‬ال نقول له يستحب أن تتوضأ‪ ،‬لكن لو قال أريد أن أتوضأ مرة ثانية‪ ،‬أجدد الوضوء‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬نقول‪:‬‬
‫هذا مباح‪.‬‬
‫أيضا يكون نسخه على ثالثة أوجه‪ :‬إىل الوجوب‪ ،‬مثل‪ :‬صوم رمضان كان‬ ‫أمرا غري الزم‪ ،‬وهو املستحب‪ ،‬فهذا ً‬ ‫أما ما أمر به الشارع ً‬
‫خمريا‪ ،‬واألفضل له أن‬ ‫ِ ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫مستحبا {وأَ ْن تَصوموا خي ر لَ ُكم البقرة‪ ،184:‬وعلَى الَّ ِذ ِ‬
‫ين يُطي ُقونَهُ ف ْديَةٌ طَ َع ُام م ْسكني} البقرة‪ ،184:‬فكان اإلنسان ً‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ً َ ُ ُ ٌَْ ْ‬
‫الزما واجبًا لكل مستطيع‪.‬‬ ‫يصوم‪ ،‬مث فنسخ من االستحباب إىل الوجوب‪ ،‬فصار ً‬
‫وقد ينسخ من االستحباب إىل التحرمي‪ ،‬ميكن أن ميثل له‪ ،‬كان يف السابق يستحب العفو عن املشركني والصفح واملساحمة‪ ،‬مث صار‬
‫ذلك حر ًاما؛ ألنه نسخ فصار الواجب هو قتلهم‪ ،‬أو قتاهلم بعبارة أدق‪ ،‬لكن عرفنا أن الراجح أن هذا مل ينسخ‪ .‬أو ينسخ من االستحباب‬
‫إىل اإلباحة‪ ،‬وهذا يذكرون له أمثلة فيها إشكال‪.‬‬
‫املباح هل يدخله النسخ؟ نقول‪ :‬نعم‪ ،‬ممكن ينسخ إل ى التحرمي‪ ،‬مثل‪ :‬حلوم احلمر األهلية كانت مباحة‪ ،‬وحرمت عام خيرب‪ .‬ونوع‬
‫إباحة حلوم احلمر األهلية إباحة أصلية‪ ،‬والفرق بني اإلباحة األصلية واإلباحة الشرعية‪ :‬أن اإلباحة األصلية البقاء على حكم األصل مل يتعرض‬
‫هلا الشارع‪ ،‬وأما اإلباحة الشرعية فتكون بإذن الشارع خبصوصها مثل إباحة أكل الضب‪ ،‬فإباحته شرعية‪ ،‬فقد أكل بني يدي النيب ‪-‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ .‬وسئل أحرام هو؟ (ال‪ ،‬ولكنه مل يكن بأرض قومي فأجدين أعافه)‪ .‬فإباحة الضب إباحة شرعية‪ .‬إباحة احلمر األهلية قبل‬
‫أن حترم إباحة أصلية‪ ،‬فلما حرمت هل يقال له نسخ؟ اجلواب‪ :‬نعم‪.‬‬
‫اإلباحة الشرعية مثل املتعة‪ ،‬كانت مباحة بإذن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مث حرمت‪ ،‬مث أذن هبا عام أوطاس‪ ،‬مث حرمت‪ ،‬فاإلذن‬
‫أوال‪ ،‬وثانيًا‪ ،‬مث نسخت‪ ،‬ماذا يقال فيه؟ يقال‪ :‬إنه نسخ‪ .‬فاحلاصل أن املباح يتصور نسخه إىل التحرمي‪.‬‬ ‫هبا ً‬
‫وأما املنهي فهو إما أن يكون على سبيل اإللزام‪ ،‬فيمكن أن ينسخ إىل اإلباحة‪ ،‬مثل‪ :‬أول ما فرض الصيام كان حيرم املباشرة للنساء‬
‫اس َهلُ َّن} البقرة‪.187:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرفَ ُ ِ ِ ِ‬ ‫ليلة الصيام‪ ،‬مث أبيح ذلك‪{ :‬أ ُِح َّل لَ ُك ْم لَْي لَةَ ِّ‬
‫الصيَ ِام َّ‬
‫اس لَ ُك ْم َوأَنْتُ ْم لبَ ٌ‬ ‫ث إ َىل ن َسائ ُك ْم ُه َّن لبَ ٌ‬
‫كذلك األكل والشرب‪ ،‬كان يف أول فرض الصوم أن اإلنسان يفطر‪ ،‬وله أن يأكل ويشرب إىل الفجر‪ ،‬بشرط أال ينام‪ ،‬فإذا نام‬
‫حىت لو مل يفطر‪ ،‬إذا نام بعد غياب الشمس‪ ،‬ليس له أن يأكل أو يشرب إال بعد غياب الشمس من اليوم الثاين‪ ،‬هكذا كان يف أول األمر‪،‬‬
‫َس َوِد ِم َن الْ َف ْج ِر ُمثَّ أَِمتُّوا ِّ‬
‫الصيَ َام إِ َىل اللَّْي ِل} البقرة‪ ،187:‬فصار‬ ‫ط ْاألَب يض ِمن ْ ِ‬
‫اخلَْيط ْاأل ْ‬ ‫اخلَْي ُ َْ ُ َ‬ ‫ني لَ ُك ُم ْ‬‫فنسخ ذلك‪َ { :‬وُكلُوا َوا ْشَربُوا َح َّىت يَتَبَ َّ َ‬
‫مباحا‪.‬‬
‫األكل والشرب بعد أن كان حر ًاما ً‬
‫وقد ينسخ من التحرمي إىل الكراهة‪.‬‬
‫مسألة الزيادة على النص‪ ،‬هل تعد من قبيل النسخ؟ وكذا نسخ بعض العبادة‪ ،‬عكسها‪ ،‬يعين‪ :‬أو شرط العبادة‪ ،‬هل يعد من‬
‫العبادة أو ال؟ هذه مسألة لعلي أتركها‪ ،‬مسألة دقيقة‪ ،‬وحتتاج إىل شيء من الرتكيز‪ ،‬وفيها تفصيل‪ ،‬دعوها‪.‬‬
‫بعد ذلك أنتقل إىل مسألة مفيدة‪ ،‬وحنتاج إليها‪ ،‬وهي أن النسخ قد يلتبس مع التخصيص‪ .‬أليس التخصيص هو إخراج بعض إفراد‬
‫العام بدليل‪ ،‬مثل قول اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :‬والْمطَلََّقات} هذا عام كل مطلقة‪{ ،‬ي ت ربَّصن بِأَنْ ُف ِس ِه َّن ثََالثَةَ قُر ٍ‬
‫وء} البقرة‪.228:‬‬‫ُ‬ ‫ََ َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ض ْع َن َمحْلَ ُه َّن} الطالق‪ ،4:‬فاحلامل ال ترتبص ثالثة قروء‪ ،‬وإمنا عتدها وضع‬ ‫َجلُ ُه َّن أَ ْن يَ َ‬ ‫ت ْاأل ْ ِ‬
‫َمحَال أ َ‬ ‫ُوال ُ‬
‫ويقول يف موضع آخر‪َ { :‬وأ َ‬
‫ات} يشمل كل مطلقة‪ ،‬مجيع أنواع‬ ‫احلمل‪ ،‬وهذا من قبيل التخصيص‪ ،‬أخرجنا أحد أفراد العام‪ ،‬وهو احلامل‪ ،‬فصار قوله‪ :‬تعاىل‪َ { :‬والْ ُمطَلَّ َق ُ‬
‫الالئِي َملْ َِحي ْ‬
‫ض َن}‬ ‫يض ِم ْن نِسائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَْبتُ ْم فَعِدَّتُ ُه َّن ثََالثَةُ أَ ْش ُه ٍر َو َّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ح‬‫الالئِي يئِسن ِمن الْم ِ‬
‫املطلقات إال احلامل‪ .‬وهكذا يف قوله‪َ { :‬و َّ َ ْ َ َ َ‬
‫الطالق‪.4:‬‬
‫الصغرية اليت مل حتض بعد إذا طلقت ما احلكم؟ نقول‪ :‬اجلسي ثالثة قروء‪ ،‬هي ما حتيض‪ ،‬واآليسة املرأة الكبرية اليت انقطع حيضها‪ ،‬طلقها‬
‫وء} البقرة‪ ،228:‬فهذا عام‪ ،‬هي ما حتيض‪.‬‬ ‫زوجها‪ ،‬نقول هلا‪ :‬اجلسي ثالثة قروء؛ ألن اهلل يقول‪{ :‬والْمطَلَّ َقات ي ت ربَّصن بِأَنْ ُف ِس ِه َّن ثََالثَةَ قُر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ ََ َ ْ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ض َن} الطالق‪ ،4:‬فهذا ختصيص‪ ،‬إخراج لبعض‬ ‫الالئِي َملْ َِحي ْ‬‫يض ِم ْن نِسائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَْبتُ ْم فَعِدَّتُ ُه َّن ثََالثَةُ أَ ْش ُه ٍر َو َّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ح‬‫الالئِي يئِسن ِمن الْم ِ‬
‫{ َو َّ َ ْ َ َ َ‬
‫ملتبسا مع النسخ؛ ألن النسخ رفع جزء العبادة‪.‬‬ ‫العام‪ ،‬فصار التخصيص ً‬
‫سخا؟ وكذلك عكسه‪ ،‬وهو رفع بعض العبادة‪ ،‬أو جزء العبادة‪،‬‬ ‫وهذه املسألة اليت عديتها قبل قليل‪ ،‬قلنا‪ :‬الزيادة على النص هل يعد ن ً‬
‫نسخا أو ال؟ فاآلن النسخ قد يلتبس مع التخصيص‪ ،‬وأعين بالنسخ ليس رفع أصل العبادة‪ ،‬فهذا ال يلتبس معه‬ ‫أو شرط العبادة‪ ،‬هل يعد ً‬
‫التخصيص؛ ألن التخصيص ال يكون من مائة باملائة‪ ،‬وإمنا التخصيص يكون مخسة باملائة‪ ،‬خيرج مخسة باملائة‪ ،‬عشرة باملائة‪ ،‬مخسة عشر‪،‬‬
‫يدا‪ ،‬ما ميكن تقول‪ :‬حضر‬ ‫عشرين باملائة‪ ،‬ثالثني باملائة‪ ،‬لكن ما يقول هلم‪ :‬اذهبوا كلكم إال كلكم‪ ،‬ما ميكن هذا‪ ،‬حضر الضيوف إال ز ً‬
‫عشرة إال عشرة‪ .‬فهذا النوع من النسخ‪ ،‬قد يلتبس مع التخصيص‪.‬‬
‫الفرق بني النسخ والتخصيص‪:‬‬
‫أصال‪.‬‬
‫أوال‪ :‬النسخ رفع للحكم الشرعي بدليل شرعي‪ ،‬وأما التخصيص فهو ليس برفع‪ ،‬إمنا هو بيان أن هذه األفراد غري داخلة ً‬ ‫ً‬
‫ثانيًا‪ :‬التخصيص حقيقته قصر للعام على بعض أفراده‪ ،‬وليس برفع‪ ،‬العام إذا أخرج منه بعض األفراد‪ ،‬فهذه األفراد اليت أخرجناها‬
‫وء} البقرة‪ ،228:‬هذا عام‪ .‬ويقول‪ :‬يف‬ ‫من العام هي ليست مراد ًة للمتكلم‪ ،‬فقول اهلل ‪-‬عز وجل‪{ :‬والْمطَلَّ َقات ي ت ربَّصن بِأَنْ ُف ِس ِه َّن ثََالثَةَ قُر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ ََ َ ْ َ‬ ‫َ ُ‬
‫َجلُ ُه َّن أَ ْن يَ َ‬
‫ض ْع َن َمحْلَ ُه َّن} الطالق‪.4:‬‬ ‫ت ْاأل ْ ِ‬
‫َمحَال أ َ‬ ‫ُوال ُ‬
‫موضع آخر‪َ { :‬وأ َ‬
‫وء} البقرة‪ ،228:‬هل كان‬ ‫أخرج اآلن بعض أفراد العام أليس كذلك؟ فهل حينما قال‪{ :‬والْمطَلَّ َقات ي ت ربَّصن بِأَنْ ُف ِس ِه َّن ثََالثَةَ قُر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ ََ َ ْ َ‬ ‫َ ُ‬
‫أصال؟ مل تدخل‪ .‬وهذا أوضح يف االستثناء‪ ،‬تقول‪ :‬جاء الرجال إال‬ ‫أيضا إىل أن أتت اآلية الثانية؟ أو أهنا مل تدخل ً‬ ‫يقصد إدخال احلوامل ً‬
‫يدا أخرجته‪ .‬فما خرج بالتخصيص مل يكن مر ًادا‪ ،‬وأما ما خرج بالنسخ فهو مراد‪ ،‬مث‬ ‫يدا‪ ،‬دخل معهم يف الظاهر زيد‪ ،‬لكن ملا قلت‪ :‬إال ز ً‬ ‫زً‬
‫رفع بعد ذلك‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬أن التخصيص ال يرد على األمر ملأمور واحد‪ ،‬التخصيص يرد على شيء عام‪ ،‬فيخرج منه بعض األفراد‪ ،‬لكن لو أنه قال‪ :‬أعتق‬
‫يدا إال‬
‫يدا‪ ،‬مأمور ألمر واحد‪ ،‬فهل هذا ميكن أن خيصص؟ تقول‪ :‬أكرم ز ً‬ ‫رقبة‪ ،‬هذا مأمور بشيء واحد‪ ،‬ما يف عام هنا‪ ،‬أعتق رقبة‪ ،‬أكرم ز ً‬
‫يدا‪ .‬فالتخصيص ال يرد يف مثل هذه‬ ‫يدا‪ ،‬مث تقول‪ :‬ال تكرم ز ً‬ ‫يدا إال بعضه؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬لكن ميكن أن ينسخ هذا‪ ،‬تقول‪ :‬أكرم ز ً‬ ‫يدا أكرم ز ً‬
‫زً‬
‫الصورة‪ ،‬أما النسخ ممكن أن يرفع هذا احلكم‪.‬‬
‫ابعا‪ :‬النسخ يبطل حجية املنسوخ‪ ،‬وأما التخصيص فيكون النص العام حجة يف باقي األفراد اليت ما أخرجت‪ .‬فقوله‪َ { :‬والْ ُمطَلَّ َق ُ‬
‫ات‬ ‫رً‬
‫وء} البقرة‪ ،228:‬عام أخرجنا فيه بعض األفراد‪ ،‬وهو أوالت األمحال‪ ،‬والبنت الصغرية اليت ما حاضت واليائسة‪.‬‬ ‫ي ت ربَّصن بِأَنْ ُف ِس ِه َّن ثََالثَةَ قُر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ََ َ ْ َ‬
‫وباقي أفراد العموم كل ما جاءت مطلقة جاءت من هذه األصناف الثالثة‪ ،‬نقول هلا‪{ :‬ي ت ربَّصن بِأَنْ ُف ِس ِه َّن ثََالثَةَ قُر ٍ‬
‫وء}‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ََ َ ْ َ‬
‫فالتخصيص‪ :‬هو إخراج لبعض األفراد‪ ،‬أما النسخ ارتفع وال حيتج به‪ ،‬إال إذا كان ر ً‬
‫افعا لبعض األفراد فالباقي يف النسخ الذي مل ينسخ‬
‫يكون حجه ما بقي فيه‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬على القول أن اآلحاد ال ينسخ املتواتر‪ ،‬أو أن السنة ال تنسخ القرآن‪ ،‬أو القرآن ال ينسخ السنة‪ ،‬هذا غري وارد يف التخصيص‪،‬‬ ‫ً‬
‫الذين مينعون من هذا ال مينعون منه يف التخصيص‪ ،‬يقولون‪ :‬التخصيص بيان‪ ،‬وهو أسهل‪ ،‬أما النسخ فهو رفع‪ ،‬وحيتاج إىل شروط ثقيلة‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬ال مانع أن السنة ختصص القرآن‪ ،‬والقرآن خيصص السنة‪ ،‬واآلحاد خيصص املتواتر‪ ،‬ما فيه مانع عند من مينعون يف ذلك‪.‬‬
‫وه ْم‬ ‫ات ُمثَّ َمل يأْتُوا بِأَرب ع ِة شه َداء فَ ِ‬
‫سادسا‪ :‬التخصيص ال يشرتط فيه الرتاخي‪ .‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬والَّ ِذين ي رمو َن الْمحصنَ ِ‬
‫اجل ُد ُ‬
‫ْ َ َْ َ ُ َ َ ْ‬ ‫َ َ َْ ُ ُ ْ َ‬ ‫ً‬
‫ك وأَصلَحوا فَِإ َّن اللَّه َغ ُف ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم} النور‪.4،5:‬‬ ‫ور َرح ٌ‬
‫َ ٌ‬ ‫ك ُه ُم الْ َفاس ُقو َن * إَّال الذ َ‬
‫ين تَابُوا م ْن بَ ْعد َذل َ َ ْ ُ‬ ‫ني َج ْل َد ًة َوَال تَ ْقبَ لُوا َهلُ ْم َش َه َاد ًة أَبَ ًدا َوأُولَئِ َ‬‫ِ‬
‫َمثَان َ‬
‫متصال بالنص‪.‬‬ ‫فهذا ختصيص باالستثناء‪ ،‬وجاء ً‬
‫اع إِلَْي ِه َسبِ ًيال} آل عمران‪ ،97:‬فصار على املستطيعني‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وكذلك‪{ :‬ولِلَّ ِه علَى الن ِ ِ‬
‫استَطَ َ‬ ‫َّاس ح ُّج الْبَ ْيت} كل الناس‪ ،‬مث قال‪َ { :‬م ِن ْ‬ ‫َ َ‬
‫فخصهم لذلك‪ ،‬وأخرج غري املستطيع‪ ،‬لكن النسخ ال بد فيه من الرتاخي‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬التخصيص يدخل يف األخبار‪ ،‬والنسخ ال يدخل يف األخبار احملضة‪ ،‬فلو جاء إنسان‪ ،‬وأعطانا خرب من األخبار‪ ،‬وقال‪ :‬هلك‬ ‫ً‬
‫آل فالن‪ ،‬مث بعد مدة كان يتكلم عن قضية‪ ،‬مث يقول‪ :‬فالن جنا من املوت بأعجوبة‪ .‬فماذا نقول يف اجلمع بينهما؟ نقول‪ :‬هلكوا‪ ،‬وهذا يدل‬
‫على أنه مل يهلك‪ ،‬فهو ختصيص للعام السابق‪ ،‬فهو مل يقصده فخرج بكالمه اآلخر‪ ،‬وهذا كثري‪.‬‬
‫َصبَ ُحوا َال يَُرى إَِّال َم َساكِنُ ُه ْم}‬ ‫ٍ‬
‫عادا‪{ :‬تُ َد ِّمُر ُك َّل َش ْيء بِأ َْم ِر َربِّ َها فَأ ْ‬
‫فاخلرب ميكن أن خيصص‪ ،‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول عن الريح اليت دمرت ً‬
‫َصبَ ُحوا َال يَُرى إَِّال َم َساكِنُ ُه ْم}‪ ،‬فخصص املساكن مل تدمرها الريح‪ ،‬فهذا ختصيص للخرب‪ ،‬لكن النسخ ال يرد على اخلرب‬ ‫األحقاف‪{ .25:‬فَأ ْ‬
‫النسخ ال يتطرق األخبار احملضة‪ ،‬والتخصيص يدخلها‪.‬‬
‫ثامنًا‪ :‬أن املنسوخ قبل ورود النسخ يعمل به‪ ،‬فإذا جاء النسخ رفعه‪ ،‬أما التخصيص إذا عمل املكلفون بالعام‪ ،‬مث جاء التخصيص بعد‬
‫ذلك‪ ،‬فالواقع أنه نسخ‪ .‬فقضية العمل يف باب ختصيص العموم غري وارده قبل ورود املخصص يف وقت نزول التشريع‪ ،‬فإذا عمل به املكلفون‪،‬‬
‫مث جاء دليل خيصص‪ ،‬فهذه مسألة رفع جزء العبادة‪ ،‬أو بعض العبادة اليت تركت الكالم عليها‪.‬‬
‫فهذه مثانية فروق بني النسخ والتخصيص فال يلتبس بعد ذلك‪.‬‬
‫عله اإلكثار من دعاوى النسخ‪:‬‬
‫عندنا جملدات امسها الناسخ واملنسوخ مليئة‪ ،‬وعندنا كتب يف التفسري مشحونة بدعاوى النسخ فما السبب؟ نقول‪ :‬هذا له أسباب‬
‫يمكن أن نجملها في ستة‪:‬‬
‫• أوال‪ :‬توهم أن ما شرع لسبب‪ ،‬مث زال السبب أن هذا من قبيل النسخ‪ ،‬مثل ما قلنا لكم يف آية العفو والصفح‪ ،‬آية العفو مع آية‬
‫السيف‪ ،‬وما هي بالقليل‪ ،‬عددها‪ 124" :‬آية"‪.‬‬
‫• ثانيًا‪ :‬الظن بأن إبطال اإلسالم ملا كان عليه األمر ً‬
‫أوال أن هذا من قبيل النسخ‪ ،‬بينما هي أحكام شرعت ابتداءً فليس هذا من قبيل‬
‫النسخ كما عرفتم من قبل‪.‬‬
‫• ثالثًا‪ :‬االشتباه بني التخصيص والنسخ‪.‬‬
‫كثريا عن هذه األشياء بالنسخ‪.‬‬ ‫• رً‬
‫ابعا‪ :‬االشتباه بني البيان والنسخ‪ ،‬تقيد املطلق‪ ،‬وبيان اجململ‪ ،‬وقلنا لكم أن السلف يعربون ً‬
‫خامسا‪ :‬توهم وجود تعارض حقيقي بني نصني‪ ،‬ال ميكن اجلمع بينهما‪ ،‬والواقع أنه ميكن اجلمع بينهما يف كثري من احلاالت‪ .‬وهلذا‬
‫ً‬ ‫•‬
‫كان ابن خزمية يقول‪" :‬ال تأتيين بنص يف كتاب أو سنة تدعي فيه التعارض إال مجعت لك بني هذين النصني"‪ .‬فأحيانا العامل يستشكل‬
‫اجلمع بني نصني‪ ،‬فيحكم أن هذه احلالة هي من قبيل النسخ‪ ،‬وليس األمر كذلك‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬وهو محل ألفاظ السلف على غري حمملها يف هذا الباب‪.‬‬
‫ً‬ ‫•‬
‫انتهينا من موضوع النسخ‪.‬‬
‫الدرس الثالث من الوحدة الرابعة األحرف السبعة والقراءات‬ ‫الدرس‬
‫الثالث‬
‫ننتقل بعد ذلك إىل موضوع آخر وهو األحرف والقراءات‪ ،‬وهذا حيتاج إىل شيء من االنتباه‪ ،‬وشيء من الرتكيز‪ ،‬يف هذا املوضوع‬ ‫من‬
‫سنتحدث عن نقاط حمددة‪:‬‬ ‫الوحدة‬
‫أوال‪ :‬معنى األحرف‪.‬‬
‫ً‬ ‫الرابعة‬
‫نقول‪ :‬القرآن نزل على سبعة أحرف‪ ،‬ما معنى األحرف؟ احلرف يف اللغة يطلق على احلد‪ ،‬فما هو حرف هذا املكتب‪ ،‬هذه‬ ‫األحرف‬
‫السبعة الطاولة‪ ،‬ما هو حرفها؟ يعين‪ :‬حدها وطرفها‪ .‬حد السيف‪ ،‬يعين‪ :‬طرفه الذي يقطع به‪ ،‬هذا هو حد السيف‪ ،‬ومنه احلد الذي هو الوجه‪.‬‬
‫َّاس من ي عب ُد اللَّه علَى حر ٍ‬ ‫ِ‬
‫ف} احلج‪ ،11:‬يعين‪ :‬على وجه واحد‪ ،‬يعين إن كانت األمور يف صاحله يف حال السراء‬ ‫تقول‪َ { :‬وم َن الن ِ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ‬ ‫والقراءات‬
‫وقاعدا‪ ،‬ولرمبا ال حيمد اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬لكن أموره ما عليها إشكال‪ ،‬يصلي وطيب‪،‬‬
‫قائما ً‬‫واخلري والرغد والنعمة فهو متام‪ ،‬يلهج ْبمد اهلل ً‬
‫وإذا جاءت األمور يف غري صاحله نكص على عقبيه‪ ،‬فهو يعبد اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬على حرف وحد‪ ،‬ووجه واحد‪ ،‬هذا على بعض املعاين اليت‬
‫ذكرت يف هذه اآلية‪.‬‬
‫أما الحرف في االصطالح‪ ،‬ففيه معان كثرية ً‬
‫جدا‪ ،‬ما معىن نزول القرآن على سبعة أحرف؟ سرد السيوطي يف اإلتقان فيه أربعني‬
‫قوال‪ ،‬وكثري من هذه األقوال أقوال ساقطة بعيدة‪ ،‬وفيها أقوال قوية‪ .‬والذي أظنه أقرب هذه األقوال‪ :‬أن يقال‪ :‬معىن األحرف‪ ،‬أي‪ :‬سبعة‬ ‫ً‬
‫أوجه من وجوه التغاير‪ ،‬وهذا قال به أئمة كبار‪ ،‬وسيأيت ما املقصود بالتغاير؟ هذا قال به أئمة كبار من أشهرهم خامتة املقرئني ابن اجلزري ‪-‬‬
‫رمحه اهلل‪ -‬وقال به أبو الفضل الرازي‪ ،‬ومكي ابن أِّب طالب‪ .‬وقال به مجاعة كثرية من احملققني يصعب حصرهم‪.‬‬
‫أما القراءات فجمع قراءة‪ ،‬واملراد هبا هنا‪ :‬بعض كما سيأيت الفرق بني األحرف والقراءات‪ ،‬ميكن أن نعرفها فنقول‪ :‬هي اختالف‬
‫ألفاظ الوحي ‪-‬القرآن‪ -‬يف احلروف‪ ،‬أو كيفيتها من ختفيف وتشديد وغريمها‪.‬‬
‫وعرفها ابن اجلزري ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬بقوله‪ :‬هي علم بكيفيات أداء كلمات القرآن‪ ،‬واختالفها بعزو الناقلة‪.‬‬
‫أو يقال‪ :‬هي مذهب من مذاهب النطق يف القرآن‪ ،‬يذهب به إمام من األئمة القراء مذهبًا خيالف غريه‪ .‬هذا معىن القراءات‪.‬‬
‫األحرف السبعة‪ :‬هي سبعة أوجه من وجوه التغاير‪ .‬العلماء ‪-‬رمحهم اهلل‪ -‬الذين قالوا هبذا القول حاولوا أن حيددوا األحرف السبعة‬
‫بالعدد والتعيني‪ ،‬واحد‪ ،‬اثنني‪ ،‬ثالثة‪ ،‬أربعة إىل سبعة‪ .‬وجاءوا بذلك عن طريق االستقراء‪ ،‬جلسوا ينظرون يف القراءات املوجودة‪ ،‬ويدققون‬
‫النظر يف الفروقات بينها‪ ،‬فكلما وجدوا فرقًا من الفروقات أخذوه‪ ،‬قالوا‪ :‬هذا واحد‪ ،‬وإذا وجدوا فرقًا ثانيًا أخذوه‪ .‬وهكذا حىت مجعوا سبعة‬
‫أوجه من وجوه التغاير‪.‬‬
‫حاول كثري ممن قال هبذا القول أن يستقرئ القراءات املوجودة‪ ،‬ويستخرجوا وجوه املغايرة بينها‪ ،‬مث يعددوا بعد ذلك سبعة أوجه من‬
‫أحدا تركه على سبيل احلصر والتعيني إال أبو عمرو الداين ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف كتابة األحرف السبعة‪،‬‬
‫وجوه التغاير‪ ،‬عامتهم فعل ذلك‪ ،‬ومل أر ً‬
‫فإنه ملا ذكر هذا املعىن‪ ،‬وهو أن معىن األحرف هي سبعة أوجه من وجوه التغاير قال مثل‪ :‬كذا وكذا وكذا وكذا‪.‬‬
‫ذكر على سبيل التمثيل‪ ،‬أما بقية من رأيت‪ ،‬فهم يذكروهنا على سبيل احلصر‪ ،‬وهذا فيه إشكال؛ ألن هذه األوجه اليت يذكروهنا‬
‫يستنبطوهنا هم من خالل النظر إىل هذه القراءات‪ ،‬وحنن نعرف أن بقية األحرف الستة استعىن الصحابة ‪-‬رضى اهلل عنهم‪ -‬عنها‪ ،‬فما عندنا‬
‫إال بعض األحرف السبعة‪ ،‬فاالستقراء غري تام‪.‬‬
‫األمر اآلخر‪ :‬تفاوت استقراء العلماء‪ ،‬فتجد أن ال يكاد يتفق اثنان على تعدادها وتوصيفها‪ ،‬يتفقون على ثالثة‪ ،‬اجلميع يذكر هذه‬
‫الثالثة تقريبًا وخيتلفون يف الباقي‪.‬‬
‫أو يتفقون على األربعة وخيتلفون يف الباقي‪ ،‬مث إذا نظرت إىل أقواهلم فإن بعض هذه األقوال ميكن أن ميزج‪ ،‬يعين إذا ذكر األول والثاين‬
‫ميكن أحيانًا أن متزج بينهما شيء واحد‪.‬‬
‫فاألحسن أن نقول ذلك على سبيل التمثيل ال على سبيل احلصر؛ ألن احلصر فيه شيء من التحكم‪ ،‬وهو استقراء غري تام‪ ،‬وبالتايل‬
‫يصعب فيه هذا التحديد‪.‬‬
‫ين ُه ْم ِأل ََمانَاهتِِ ْم َو َع ْه ِد ِه ْم َراعُو َن}‬ ‫َّ ِ‬
‫نقول‪ :‬مثل اختالف األسماء‪ ،‬من اإلفراد‪ ،‬التثنية‪ ،‬والجمع‪ ،‬والتذكير‪ ،‬والتأنيث‪ .‬مثال‪َ { :‬والذ َ‬
‫ين ُه ْم ألمانتهم َو َع ْه ِد ِه ْم َراعُو َن} فيه قراء باجلمع {ِأل ََمانَاهتِِ ْم} ويف القراءة الثانية باإلفراد‬ ‫املؤمنون‪ ،8:‬ويف القراءات األخرى‪{ :‬والَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ َ‬
‫مفردا يف حرف آخر يف نفس اآلية‪ ،‬فتقرأ‬ ‫جمموعا‪ ،‬وقد يكون ً‬
‫ً‬ ‫{ألمانتهم} فهذا وجه من وجوه التغاير‪ ،‬أن االسم الواحد قد يذكر يف حرف‬
‫على وجهني‪.‬‬
‫َس َفا ِرنَا} سبأ‪ ،19 :‬هذا فعل طلب‬ ‫ِ‬
‫ووجه آخر اختالف تصريف األفعال‪ ،‬ماضي‪ ،‬ومضارع‪ ،‬وأمر‪ ،‬مثاله‪{ :‬فَ َقالُوا َربَّنَا بَاع ْد بَ ْ َ‬
‫ني أ ْ‬
‫"باعد" يطلبون اهلل أن يباعد بني أسفارهم‪ ،‬لبطرهم ملوا قرب األسفار‪ ،‬فما درى ما يسوون بأنفسهم‪ .‬فهذا فعل طليب‪ .‬فهم جحدوا هذه‬
‫"ربُّنَا"‪ ،‬على سبيل اإلخبار‪ ،‬ويف القراءة‬ ‫ني أ ْ ِ‬
‫َس َفارنَا}‪ ،‬بضم َ‬ ‫اع َد بَ ْ َ‬
‫اع َد} فعل ماضي‪ .‬ويف القراءة األخرى { َربُّنَا بَ َ‬ ‫النعمة‪ ،‬وأخربوا بضدها‪{ ،‬بَ َ‬
‫اع َد؟ بعّد فيها تشديد وزيادة املبىن لزيادة املعىن‪ ،‬كأهنم يقولون بينها بعد كثري‪.‬‬ ‫َس َفا ِرنَا}‪ .‬ما الفرق بني ّبعد بَ َ‬ ‫ني أ ْ‬
‫الثالثة‪َ { :‬ربُّنَا بَ َّع َد بَ ْ َ‬
‫يد} الربوج‪ ،15:‬ويف القراءة الثانية‪:‬‬‫ومن هذه األوجه اختالف وجوه األعراب‪ ،‬كقول اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬ذُو الْ َعْر ِش الْ َم ِج ُ‬
‫يد}‪ ،‬اجمليد تكون عائدة إىل اهلل‪ ،‬موصوف بأنه جميد؛ ألهنا جاءت مرفوعة‪ ،‬فالوصف‬ ‫يد} ذو مرفوعة‪{ ،‬ذُو الْ َعْر ِش الْ َم ِج ُ‬ ‫{ذُو الْعر ِش الْم ِج ِ‬
‫َْ َ‬
‫تابع للموصوف‪ ،‬فذو مرفوع‪ ،‬فصارت وص ًفا هلل ‪-‬عز وجل‪ .‬وأما إذا أعدناها للعرش‪ ،‬فجاء ذلك يف قراءة أخرى {ذُو الْعر ِش الْم ِج ِ‬
‫يد}‬ ‫َْ َ‬
‫فالعرش جمرور؛ ألنه مضاف إليه‪ ،‬فصار اجمليد هبذه القراءة صفة للعرش‪ ،‬فهذا اختالف وجوه اإلعراب‪.‬‬
‫ات}‪،‬‬ ‫ات} البقرة‪ 37:‬آدم متلقي‪ ،‬والكلمات متلقى‪ ،‬ويف القراءة الثانية املتواترة‪{ :‬فَت لَ َّقى ِ ِ ِ‬ ‫{فَتَ لَ َّقى آدم ِمن ربِِّه َكلِم ٍ‬
‫آد َم م ْن َربِّه َكل َم ٌ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ َ َ‬
‫فالكلمات هي اليت تلقت آدم ‪-‬عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫وجه رابع من وجود التغاير‪ :‬االختالف في النقص والزيادة‪ ،‬وكله يف كالم اهلل الذي تكلم به‪ ،‬وأنزله عن نبيه ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬يعين‪ :‬ما أحد نقصها وزادها من البشر‪ ،‬كله يف املنزل‪ ،‬فهذا وجه وهذا وجه‪ .‬مثاله‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول يف أحد املواضع‪َْ { :‬جت ِري‬
‫ِم ْن َْحتتِ َها ْاألَنْ َهار} البقرة‪ ،25:‬ويف األخرى‪َْ { :‬جت ِري ِم ْن حتتها ْاألَنْ َهار}‪ ،‬يف نفس اآلية‪ .‬وقوله‪{ :‬وَما َخلَ َق َّ‬
‫الذ َكَر َو ْاألُنْثَى} الليل‪ ،3:‬ويف‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قراءات غري متواترة‪" :‬والذكر واألنثى"‪ ،‬فهذا فيه زيادة ونقص يف هذا الوجه‪.‬‬
‫احلَ ِّق} ق‪ ،19:‬ويف غري املتواتر يف القراءات‪:‬‬ ‫ت بِ ْ‬ ‫ووجه آخر‪ :‬االختالف في التقديم والتأخير‪ ،‬ففي املتواتر‪{ :‬وجاءت س ْكرةُ الْمو ِ‬
‫َ َ َ ْ َ َ َْ‬
‫"وجاءت سكرة احلق باملوت"‪.‬‬
‫ف نُْن ِشُزَها} البقرة‪ ،259:‬هذا‬ ‫ِ‬
‫ومن الوجوه االختالف في اإلبدال‪ :‬تُبدل كلمة مكان كلمة‪ ،‬كقوله تعاىل‪َ { :‬وانْظُْر إِ َىل الْعظَ ِام َكْي َ‬
‫ود} الواقعة‪ 29:‬يف املتواتر‪ ،‬يف غري املتواتر‪" :‬وطلع منضود"‪.‬‬ ‫يف املتواتر‪ ،‬ويف غري املتواتر‪" :‬كيف ننشرها" بالراء‪{ .‬وطَْل ٍح مْنض ٍ‬
‫َ َ ُ‬
‫ومن وجوه التغاير‪ :‬اختالف اللهجات واللغات‪ ،‬بالفتح واإلمالة‪ ،‬والرتقيق‪ ،‬والتضخيم‪ ،‬واإلظهار‪ ،‬واإلدغام‪ ،‬كقوله‪َ { :‬وَه ْل أَتَ َ‬
‫اك‬
‫ين‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسى} قراءات متواترة‪ .‬سواء يف االسم أو يف الفعل أو يف احلرف‪{ :‬بَلَى قَادر َ‬ ‫يث ُم َ‬ ‫وسى} طه‪ ،9:‬وباإلمالة‪َ { :‬وَه ْل أتيك َحد ُ‬ ‫يث ُم َ‬ ‫َحد ُ‬
‫ِِ‬
‫ي بَنَانَهُ} باإلمالة فهذه متواترة‪ ،‬فهذا يف وجه األداء‪ ،‬وهذه اإلمالة موقوفه بقراءة‬ ‫ين َعلَى أَ ْن نُ َس ِّو َ‬ ‫َعلَى أَ ْن نُ َس ِّو َ‬
‫ي بَنَانَهُ} القيامة‪{ 4:‬بَلى قَادر َ‬
‫محزة‪.‬‬
‫رواة حديث األحرف السبعة‪ :‬النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ّ -‬‬
‫صح عنه أحاديث يف أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف‪ ،‬ولو جلسنا‬
‫نسرد هذه األحاديث حلتاجت إىل جملس مستقل‪ ،‬لكن ال حاجة إليها لشهرهتا‪ .‬وهذه األحاديث رواها عن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫حنو من عشرين صحابيًا منهم‪ :‬عمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلي‪ ،‬وأِّب بن كعب‪ ،‬وعبد اهلل بن مسعود‪ ،‬وأبو هريرة‪ ،‬ومعاذ‪ ،‬وهشام بن حكيم‪ ،‬وابن‬
‫صرد‪ ،‬وأبو بكرة‪ ،‬وأبو طلحة األنصاري‪ ،‬وأنس بواسطة أُِّب‪ ،‬ومسرة بن جندب‪،‬‬ ‫عباس‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬وحذيفة‪ ،‬وعبادة‪ ،‬وسليمان بن ُ‬
‫وأبو جهيم األنصاري‪ ،‬وعبد الرمحن بن عوف‪ ،‬وأِّب أيوب‪.‬‬
‫أوال‪ :‬التيسري على األمة‪ .‬وقد قال النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪(:‬أقرأين جربيل عليه السالم على حرف‪ ،‬فراجعته‪ ،‬فلم أزل أستزيده‬
‫فيزيدين حىت انتهى إىل سبعة أحرف)‪ ،‬فهذا ختفيف‪ .‬وتصور الناس يف ذلك الوقت مبختلف هلجاهتم‪ ،‬وقد شاب الواحد منهم على هلجة‬
‫معينة‪ ،‬ال يستطيع أن ينطق بغريها‪ .‬اآلن لو جئت إىل بعض العجائز اليت اعتادت على جلهة معينة‪ ،‬وأردت أن تُصلح لساهنا بنطق الكلمات‬
‫مرة‪ ،‬هذا مشاهد‪.‬‬
‫على الوجه الفصيح‪ ،‬مل تستطع‪ ،‬وتردد عليها‪ ،‬كأمنا تلقن صبيًا‪ ،‬وهي تعيد مرة ثانية‪ ،‬وعاشرة باللفظة اليت قالتها أول ّ‬
‫احدا؟ وبالتايل فإن‬
‫فتصور أول ما نزل القرآن‪ ،‬كيف كانت هلجات العرب الفصيحة؟ فكيف يستطيع اجلميع أن ينطقوا به نط ًقا و ً‬
‫األحرف الستة الباقية ما نزلت إال يف املدينة‪ ،‬لكثرة الداخلني يف اإلسالم‪ ،‬بينما يف مكة كان النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بني قريش‪ ،‬وهم‬
‫أفصح العرب‪ ،‬فنزل القرآن ْبرف قريش‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬هذا من خصائص هذه األمة‪ ،‬وهلل احلمد كل الكتب كانت تنزل على حرف واحد‪ ،‬وهذا القرآن على سبعة أحرف‪.‬‬
‫يب قُتل َم َعهُ ِربِّيُّو َن َكثِريٌ} آل عمران‪ 146:‬هذه متواترة‬ ‫ِ‬
‫مثال‪َ { :‬وَكأَيِّ ْن م ْن نَِ ٍّ‬
‫ثالثًا‪ :‬تنوع املعاين‪ .‬أن تُكثر عندما املعاين يف وجوه خمتلفة ً‬
‫ب َّ ِ‬ ‫استَ َكانُوا َواللَّهُ ُِحي ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين} آل عمران‪ 146:‬قُتل‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫ضعُ ُفوا َوَما ْ‬ ‫َصابَ ُه ْم ِيف َسبِ ِيل اللَّه َوَما َ‬
‫وقف‪ ،‬قتل مصدر ربيون كثري {فَ َما َوَهنُوا ل َما أ َ‬
‫فت ذلك يف أعضادهم‪ ،‬استمروا على‬ ‫نبيهم معه ربيون كثري‪ ،‬اتباع كثري‪ ،‬مجاعات كثري‪ ،‬فما صنعوا لتقل قيادهتم؟ ما ضعفوا لقتل نبيهم‪ ،‬ما ّ‬
‫نفس الطريق‪ ،‬وماتوا عليه‪.‬‬
‫َصابَ ُه ْم ِيف َسبِ ِيل اللَّ ِه} يعين‪ :‬من قتل أخواهتم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب قُتل َم َعهُ ِربِّيُّو َن َكثريٌ فَ َما َوَهنُوا ل َما أ َ‬
‫وحتمل معىن آخر على الوصل { َوَكأَيِّ ْن م ْن نَِ ٍّ‬
‫فمن الذي قتل؟ مجاعات كثرية من اتباع هذا النيب قتلوا‪ ،‬فاألحياء بقوا صامدين‪ ،‬ثابتني‪ ،‬مل يفت ذلك يف أعضادهم‪ .‬وعلى القراءة األخرى‬
‫َصابَ ُه ْم ِيف َسبِ ِيل اللَّ ِه} آل عمران‪ ،146:‬من اجلراح والقتل واهلزمية‪ ،‬وما إىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب قَاتَ َل َم َعهُ ِربِّيُّو َن َكثريٌ فَ َما َوَهنُوا ل َما أ َ‬‫املتواترة‪َ { :‬وَكأَيِّ ْن م ْن نَِ ٍّ‬
‫ذلك‪ ،‬الحظت كيف تغريت املعاين‪.‬‬
‫َس َفا ِرنَا}‪ ،‬املعاين اختلفت‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َس َفا ِرنَا} سبأ‪ ،19:‬على سبيل الدعاء‪َ { ،‬ربَّنَا بَ ّعد بَ ْ َ‬
‫ني أ ْ‬ ‫َس َفا ِرنَا}‪َ { ،‬ربَّنَا بَاع ْد بَ ْ َ‬
‫ني أ ْ‬ ‫ني أ ْ‬ ‫اع َد بَ ْ َ‬
‫وقوله‪َ { :‬ربُّنَا بَ َ‬
‫ك فَ ْليَ ْفَر ُحوا} يعين‪ :‬أهل اإلميان‪ُ { ،‬ه َو َخْي ٌر ِممَّا َْجي َمعُو َن}‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك فَ ْليَ ْفَر ُحوا ُه َو َخْي ٌر ممَّا َْجي َمعُو َن} يونس‪{ ،58:‬فَبِ َذل َ‬
‫ِ‬
‫وقوله تعاىل‪{ :‬فَبِ َذل َ‬
‫خري مما جيمعه أهل اإلشراك من األموال‪ .‬افرحوا مبا أنعم اهلل عليكم باإلميان بفضل اهلل وبرمحته بعث النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وأنزل‬
‫القرآن‪ ،‬وأن هداكم هلذا الدين‪.‬‬
‫ك فَ ْليَ ْفَر ُحوا ُه َو َخْي ٌر ِممَّا ْجت َمعُو َن} يعين‪ :‬ميكن أن يكون خطابًا ألهل اإلميان‪ ،‬فليفرحوا أهل اإلميان خري‬ ‫ِ‬
‫امسعوا القراءة الثانية‪{ :‬فَبِ َذل َ‬
‫مما جتمعون يا أهل اإلميان من الدنيا‪ ،‬وميكن أن يكون اخلطاب ألهل اإلشراك فبذلك فليفرح أهل اإلميان هو خري مما جتمعون أيها الكفار‪.‬‬
‫ك فَ ْلت ْفَر ُحوا} يا أهل اإلميان { ُه َو َخْي ٌر ِممَّا ْجت َمعُو َن} من الدنيا‪ ،‬الحظت املعاين كيف كثرت يف هذه القراءات؟‬ ‫ِ‬
‫القراءة الثالثة‪{ :‬فَبِ َذل َ‬
‫مثاال آخر يف تكثري املعاين يف قوله اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬عن نوح ‪-‬عليه السالم‪ -‬ملا دعا ربه أن ينجي ابنه الذي غرق‪ ،‬قال اهلل له‪:‬‬ ‫خذ ً‬
‫صالِ ٍح} هود‪ 46:‬ما هو العمل الغري صاحل؟ كثري من املفسرين يقولون‪ :‬هذا السؤال يا نوح‪ ،‬والدعاء بنجاة ابنك عمل غري‬ ‫{إِنَّهُ َع َم ٌل َغْي ُر َ‬
‫صالِ ٍح}‪ ،‬أشرك‪ ،‬كيف تسألين جناته‪ ،‬وقد َع ِمل غري‬ ‫ِ‬ ‫صاحل‪ ،‬كيف تطلب جناة كافر {إِنَّه عمل َغي ر ِ‬
‫صال ٍح}‪ .‬القراءة الثانية‪{ :‬إِنَّهُ َعمل َغْي ُر َ‬
‫ُ َ َ ٌ ُْ َ‬
‫صاحل ال يستحق النجاة‪.‬‬
‫وه َّن َح َّىت يَطْ ُهْر َن} البقرة‪ ،222:‬والقراءة الثانية املتواترة‪َ { :‬ح َّىت يَطَ َّهرن} يعين‪ :‬يتطهرن‪ ،‬فهذا فيه‬
‫ومن أمثلة تكثري املعاين‪َ { :‬وَال تَ ْقَربُ ُ‬
‫زيادة‪ ،‬وزيادة املبين لزيادة املعىن ف { َح َّىت يَطْ ُهْر َن} بانقطاع الدم‪ ،‬وهل يكفي هذا حىت يأتيها زوجها‪ ،‬اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬ال بد من شيء آخر‪ ،‬وهو‬
‫مباحا لزوجها‪.‬‬
‫االغتسال من احليض { َح َّىت يَطَ َّهرن}‪ ،‬فصار هذا دليل على وجوب االغتسال من احليض حىت يكون ذلك ً‬
‫وس ُك ْم}‪ ،‬جمرورة ْبرف الباء‪ ،‬الرأس ميسح‪،‬‬ ‫ومن األمثلة قوله تعاىل‪{ :‬فَا ْغ ِسلُوا وجوه ُكم وأَي ِدي ُكم} املائدة‪6:‬منصوبة‪{ ،‬وامسحوا بِرء ِ‬
‫َ ْ َ ُ ُُ‬ ‫ُُ َ ْ َْ َ ْ‬
‫{ َوأ َْر ُجلِ ُك ْم} معطوفة على الرأس‪ .‬فالرجل متسح أم تغسل؟ الرجل تغسل‪ ،‬فعلى قراءة اجلر هذه ميكن أن يكون فيه إشارة إىل املسح على‬
‫اخلفني؛ ألن الرجل هلا حالتان‪ :‬إما الغسل‪ ،‬وإما املسح‪ ،‬املسح يف حال اجلوربني واخلفني‪ ،‬والغسل إذا كانت متجردة عنها‪.‬‬
‫فقراءة‪َ { :‬وأ َْر ُجلِ ُك ْم} بالكسر‪ ،‬ميكن أن يستدل منها وتستنبط منها املسلح على اجلوربني واخلفني‪ ،‬أما قراءة‪َ { :‬وأ َْر ُجلَ ُك ْم} فهي‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِديَ ُك ْم} يعين‪ :‬وأرجلَكم‪ ،‬فجاء باملمسوح الذي هو الرأس بينها‪ ،‬مما يدل على‬ ‫ِ‬
‫معطوفة على املنصوبات اليت قبل‪{ :‬فَا ْغسلُوا ُو ُج َ‬
‫مسردا‪ ،‬مث ذكر املمسوح بعدها‪.‬‬ ‫أخر‪ ،‬كان ذكر املغسوالت ً‬ ‫اشرتاط الرتتيب‪ ،‬وإال كان ّ‬
‫ابعا‪ :‬حفظ لغة العرب من االندثار‪ .‬وهلذا جند بعض املواضع يف القرآن تأيت الكلمة مرفوعة‪ ،‬ويف بعضها منصوبة‪ ،‬يف بعض األوجه‬ ‫رً‬
‫يف القراءات هذه على لغة متيم‪ ،‬وهذه على لغة احلجاز‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫اح ٍد‬
‫ث َك َاللَةً أَ ِو امرأَةٌ ولَه أَخ أَو أُخت فَلِ ُك ِّل و ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ ُ ٌ ْ ْ ٌ‬ ‫ور ُ‬ ‫ِ‬
‫خامسا‪ :‬بيان األحكام‪ .‬بيان حكم معني‪ ،‬كقول اهلل ‪-‬عز وجل‪َ { :‬وإ ْن َكا َن َر ُج ٌل يُ َ‬ ‫ً‬
‫س} النساء‪ ،12:‬الرجل يورث كالله‪ ،‬يعين‪ :‬من تكلله النسب‪ ،‬أو أحاط به‪ ،‬وال فرع وارث‪ ،‬فمن يرثه؟ ال أصول‪ ،‬وال فروع‪،‬‬ ‫ِمْن ُه َما ُّ‬
‫الس ُد ُ‬
‫س} أي أين‬ ‫د‬ ‫الس‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫اح ٍد ِ‬
‫م‬ ‫ث َك َاللَةً أَ ِو امرأَةٌ ولَه أَخ أَو أُخت فَلِ ُك ِّل و ِ‬ ‫ور ُ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ُ ٌ ْ ْ ٌ‬ ‫يرثه احلواشي‪ .‬فهنا اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪َ { :‬وإ ْن َكا َن َر ُج ٌل يُ َ‬
‫وأخت حىت لو كان شقيق؟ ال‪ ،‬باالتفاق‪ ،‬وأن األخ أو األخت ال بد أن يكون ألم يف مسألة الكاللة‪ .‬هذا الذي يرث السدس‪ ،‬وهلذا جاء‬
‫ت من أم)‪ ،‬يف قراءة سعد بن أِّب وقاص –رضي اهلل عنه‪.‬‬ ‫ُخ ٌ‬
‫يف قراءة غري متواترة‪( :‬وله أخ أو أ ْ‬
‫ني ِم ْن أ َْو َس ِط َما تُطْعِ ُمو َن أ َْهلِي ُك ْم أ َْو كِ ْس َوتُ ُه ْم أ َْو َْحت ِر ُير َرقَبَ ٍة} املائدة‪89:‬‬‫ِ‬
‫مثال آخر‪ :‬يف كفارة اليمني‪{ ،‬فَ َك َّف َارتُهُ إِطْ َع ُام َع َشَرةِ َم َساك َ‬
‫كافرة أو مؤمنة‪ ،‬مطلق‪ ،‬يف قراءة ليست متواترة‪( :‬أو حترير رقبة مؤمنة) (صيام ثالثة أيام) من مل يستطع العتق أو اإلطعام أو الكسوة‪.‬‬
‫صيَ ُام ثََالثَِة أَيَّ ٍام} البقرة‪ 196:‬يف قراءة غري متواترة‪ ،‬لكنها صحيحة اإلسناد‪" :‬ثالثة أيام متتابعات"‪ ،‬فيجب‬ ‫ومثل‪{ :‬فَمن َمل َِجي ْد فَ ِ‬
‫َْ ْ‬
‫التتابع بالصوم يف كفارة اليمني‪.‬‬
‫وه َّن َح َّىت يَطْ ُهْر َن} البقرة‪:‬‬
‫يض َوَال تَ ْقَربُ ُ‬ ‫ِّساءَ ِيف الْ َم ِح ِ‬ ‫وأحيانًا حيصل اجلمع بني حكمني خمتلفني مبجموع القراءتني مثل‪{ :‬فَ ْ ِ‬
‫اعتَزلُوا الن َ‬
‫‪ ،222‬ويف قراءة‪َ { :‬ح َّىت يَطَ َّهرن} فصار ال بد من األمرين انقطاع الدم واالغتسال‪.‬‬
‫وس ُك ْم َوأ َْر ُجلَ ُك ْم‬‫ومن ذلك الداللة على حكمني شرعيني يف حالني خمتلفتني مثل‪{ :‬فَا ْغ ِسلُوا وجوه ُكم وأَي ِدي ُكم إِ َىل الْمرافِ ِق وامسحوا بِرء ِ‬
‫ََ َ ْ َ ُ ُُ‬ ‫ُُ َ ْ َْ َ ْ‬
‫ني} املائدة‪{ ،6:‬وأرجلِكم} يف حال لبس اجلوربني‪ ،‬ويف حال الغسل القراءة دلت‪.‬‬ ‫إِ َىل الْ َك ْعبَ ْ ِ‬
‫اس َع ْوا إِ َىل ِذ ْك ِر اللَّ ِه}‬ ‫لص َالةِ ِمن ي وِم ْ ِ‬‫ي لِ َّ‬ ‫سادسا‪ :‬دفع ما قد يتوهم أنه ليس مبراد‪ .‬اهلل يقول‪{ :‬يا أَيُّها الَّ ِذين آمنُوا إِذَا نُ ِ‬
‫اجلُ ُم َعة فَ ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ‬ ‫ود‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬
‫صى الْ َم ِدينَ ِة يَ ْس َعى} القصص‪ ،20:‬يعين‪ :‬ميشي بسرعة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اجلمعة‪ ،9:‬اسعوا‪ ،‬السعي دون العدو‪ ،‬يعين‪ :‬سري سريع السعي { َو َجاءَ َر ُج ٌل م ْن أَقْ َ‬
‫مع أن النيب –صلى اهلل عليه وسلم– هنى أن نسعى للصالة‪( :‬ال تأتوها وأنتم تسعون) وأمرنا بأن تأتيها ْبال من السكينة والوقار‪.‬‬
‫فهل املراد بالسعي املشي بسرعة لصالة اجلمعة؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬يوضحه القراءة األخرى الغري متواترة‪" :‬فامضوا إىل ذكر اهلل"‪ ،‬فاملراد‬
‫بالسعي‪ :‬العمل على حضورها‪ ،‬وترك التشاغل عنها بالبيع وسائر القصود‪.‬‬
‫وش} القارعة‪ ،5:‬ما معىن العهن؟ يف قراءة‬ ‫ال َكالْعِ ْه ِن الْ َمْن ُف ِ‬
‫اجلِبَ ُ‬
‫سابعا‪ :‬يتبني بذلك لفظ مبهم‪ .‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪َ { :‬وتَ ُكو ُن ْ‬ ‫ً‬
‫غري متواترة‪" :‬وتكون اجلبال كالصوف املنفوش"‪ ،‬فالعهن فسرته القراءة األخرى وهي الصوف‪.‬‬
‫ت‬‫ت َمثَّ َرأَيْ َ‬ ‫ثامنًا‪ :‬بيان أصل من األصول أو عقيدة من العقائد‪ ،‬لرمبا خالف فيها بعض املنحرفني‪ .‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪َ { :‬وإِ َذا َرأَيْ َ‬
‫وملِ ًكا َكبِ ًريا}‪ ،‬وهذا فيه دليل على إثبات‬ ‫يما َ‬
‫نَعِيما وم ْل ًكا َكبِريا} اإلنسان‪ ،20:‬يعين‪ :‬يف اجلنة‪ ،‬ويف القراءة األخرى‪{ :‬وإِ َذا رأَيت َمثَّ رأَي ِ‬
‫ت نَع ً‬ ‫َ َْ َ َْ َ‬ ‫ً‬ ‫ً َُ‬
‫رؤية اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬ألهل اجلنة‪ ،‬وفيه رد على من أنكر ذلك‪.‬‬
‫تاسعا‪ :‬القرآن معجز‪ ،‬فكل هذه الوجوه منزلة‪ ،‬فهي معجزة‪ ،‬فتعددت وجوه اإلعجاز‪ ،‬فكان ذلك من تعدد املعجزات‪ .‬هذا توضيح‬
‫ً‬
‫ملوضوع األحرف السبعة‪.‬‬
‫الدرس الرابع من الوحدة الرابعة‪ :‬القراءات‬ ‫الدرس‬
‫الرابع من الدرس كامالً‬
‫الوحدة‬
‫الرابعة‪:‬‬
‫القراءات‬
‫الدرس اخلامس من الوحدة الرابعة‪ :‬احملكم واملتشابه‬ ‫الدرس‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬نبينا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني‪ ،‬وبعد‪:‬‬ ‫اخلامس‬
‫فبقي موضوعان‪ :‬املوضوع األول‪ :‬احملكم واملتشابه‪ .‬والثاين‪ :‬مجع القرآن‪.‬‬ ‫من‬
‫أما المحكم والمتشابه‪ ،‬فالمحكم‪ :‬أي املتقن‪ ،‬وهذه الكلمة اإلحكام تدور يف استعماالهتا يف كالم العرب على معىن واحد وهو‬ ‫الوحدة‬
‫املنع‪ ،‬فالكالم اإلحكام فيه هو املنع هو منعه من الشطط واخلطل‪ ،‬والغلط وما إىل ذلك‪ ،‬ومن ذلك إحكام القول‪ ،‬فال يكون فيه غلط وال‬ ‫الرابعة‪:‬‬
‫أيضا احلكمة وهي حديدة‬
‫أيضا احلكمة؛ ألهنا متنع صاحبها من وقوع اخلطل يف رأيه‪ ،‬فيقع رأيه على الصواب‪ ،‬وكذلك ً‬
‫شطط‪ ،‬ومن ذلك ً‬
‫احملكم توضع يف فم الدابة متنعها من االنفالت‪ ،‬ومنه احلكم‪ ،‬وقيل له ذلك؛ ألنه حيكم بني اخلصوم فيمنع أحدمها من التعدي على حق اآلخر‪،‬‬
‫واملتشابه فقيل له‪ :‬حكم‪ ،‬وحاكم‪ ،‬وح ّكام‪ ،‬وما إىل ذلك فهذه اللفظة تدور يف مجيع استعماالهتا على هذا املعىن‪ ،‬وهو املنع‪ ،‬فكالم اهلل حينما نقول‪:‬‬
‫إنه حمكم أي‪ :‬متقن ال يداخله خلل وال نقص‪ ،‬وال يعتوره تناقض‪.‬‬
‫نعرفه‪ :‬إن اإلحكام أو احملاكم يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬على نوعني‬ ‫وأما في المعنى االصطالحي للمحكم فنقول قبل أن ّ‬
‫عز وجل‪ -‬وصف كتابه‬ ‫اثنني‪ ،‬لكل واحد منهما معىن خيصه‪ ،‬وهذا يصلح له عنوان‪ :‬وهو (أنواع اإلحكام)‪ ،‬ويأيت بعده أنواع التشابه‪ ،‬فاهلل ‪ّ -‬‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫بأنه حمكم فقال‪{ :‬كِتَاب أ ِ‬
‫ت آيَاتُهُ} هود‪ ،1:‬فوصف اجلميع باإلحكام‪ ،‬ووصف بعضه اإلحكام‪ ،‬وبعضه بالتشابه فقال‪{ :‬مْنهُ آيَ ٌ‬ ‫ُحك َم ْ‬ ‫ٌ ْ‬
‫ات} آل عمران‪ ،7:‬فصل بين هذه اآليات النافض وتعارض؟ الجواب‪ :‬ال‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ات ُه َّن أ ُُّم الْكِتَ ِ‬
‫ُخُر ُمتَ َشاهبَ ٌ‬
‫اب َوأ َ‬ ‫ُْحم َك َم ٌ‬
‫املوضع األول الذي حكم اهلل فيه على كتابه بأنه حمكم خيتلف عن املوضع اآلخر الذي قال‪ :‬منه ومنه‪ ،‬فما معنى األحكام في‬
‫استعمال األول الذي وصف اهلل جميع القرآن بأنه محكم؟ نقول‪ :‬هو املعىن اللغوي‪ ،‬املتقن‪ ،‬فهو حمكم يف ألفاظه‪ ،‬حمكم يف معانيه‪ ،‬ليس‬
‫مجيعا‪ ،‬بأنه أحكمت‬
‫فيه تعارض وال تضارب وال خلل وال نقص يف فصاحته وال بالغته وتراكيبه ومعانيه‪ ،‬هذا حينما جند وصف القرآن ً‬
‫آيات‪ .‬واملوضع اآلخر الذي يصف القرآن بأنه حمكم وأن بعضه متشابه هذا هو اإلحكام والتشابه اخلاص‪ ،‬األول‪ :‬هو اإلحكام العام يعين‬
‫املتقن‪.‬‬
‫اب‬‫ات ُه َّن أ ُُّم الْ ِكتَ ِ‬
‫ات ُْحم َك َم ٌ‬
‫ِ‬
‫والثاين‪ :‬هو اإلحكام اخلاص‪ ،‬ومعىن اإلحكام اخلاص أي‪ :‬ما ذكره اهلل يف آية آل عمران‪{ :‬مْنهُ آيَ ٌ‬
‫ات}‪ ،‬فهذا الذي يسمونه باإلحكام اخلاص والتشابه اخلاص‪ ،‬فما معنى اإلحكام الخاص؟ نقول‪ :‬ما استقل بنفسه ومل حيتج‬ ‫ِ‬
‫ُخُر ُمتَ َشاهبَ ٌ‬
‫َوأ َ‬
‫َح َس َن‬ ‫إىل غريه البيان معناه‪ ،‬هذا اإلحكام اخلاص أما التشابه العام الذي يقابل اإلحكام العام‪ ،‬فهو الذي درن قوله تعاىل‪{ :‬اللَّهُ نََّزَل أ ْ‬
‫ين َخيْ َش ْو َن َربَّ ُه ْم}‪ ...‬الزمر‪ ،23:‬فوصف مجيع القرآن بأنه متشابه فما معىن هذا التشابه؟!‬ ‫يث كِتابا متش ِاهبا مث ِاين تَ ْقشعُِّر ِمْنه جلُ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ود الذ َ‬
‫ا ْحلَد َ ً َُ َ ً َ َ َ َ ُ ُ ُ‬
‫بعضا يف احلسن والفصاحة والبالغة واإلتقان‪.‬‬
‫نقول‪ :‬هذا هو التشابه العام أي‪ :‬يشبه بعضه ً‬
‫وأما التشابه اخلاص الذي ورد يف آية آل عمران‪ ،‬وهو مقابل لإلحكام اخلاص فهو ما مل يستقل بنصه ببيان معناه إمنا حيتاج إىل‬
‫غريه؛ ليفهم املراد منه‪ ،‬فما استقل بنصه فهو حمكم‪ ،‬ما احتاج إىل غريه يف بيان معناه هذا متشابه مثال‪ :‬اهلل حينما يقول‪{ :‬اللَّهُ َال إِلَهَ إَِّال‬
‫ُه َو} آل عمران‪ ،2:‬هل هذه نحتاج نرجعها إلى آية أخرى حتى نفهم معناها؟! اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬فهذا حمكم لكن حينما جند قول اهلل ‪-‬عز‬
‫السماو ِ‬
‫ات َوِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض} األنعام‪ ،3:‬قد يقول‪ :‬إنسان اهلل موجود يف السماوات واألرض يف كل مكان‪ ،‬نقول‪ :‬أرجعها‬ ‫وجل‪َ { :-‬وُه َو اللَّهُ ِيف َّ َ َ‬
‫استَ َوى} طه‪َ { ،5:‬خيَافُو َن َربَّ ُه ْم ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم} النحل‪ ،50:‬فإذن ليس على ما فهمت فإذا أرجعتها‬
‫الر ْمحَ ُن َعلَى الْ َعْر ِش ْ‬
‫إىل اآليات األخرى‪َّ { :‬‬
‫إىل اآليات اتضح لك املعىن‪ ،‬فهذا معىن كونه حيتاج إىل غريه ليفهم معناه‪ ،‬حيتاج أن نرجعه إىل آيات أخرى إىل أحاديث ليتضح املقصود‬
‫منه‪ ،‬ويزل االلتباس‪.‬‬
‫فإذن تعريف احملكم باملعىن العام هو املتقن‪ ،‬وأما احملكم باملعىن اخلاص فهو ما استقل بنفسه ومل حيتج إىل غريه‪.‬‬
‫وأما المتشابه فالتشابه في اللغة قريب من التماثل فهو توافق من بعض الوجوه‪ ،‬فإن كان التطابق من كل وجه قيل له‪ :‬التماثل‪،‬‬
‫فإن وجد فروقات مع وجود شبه مع ندر يف التماثل قيل له‪ :‬تشابه فالتشابه ليس التطابق مائه مبائه فإن هذا التطابق يقال له‪ :‬التماثل‪ ،‬وأما‬
‫إن كان هناك‪ .‬قدر من التماثل مع وجود بعض الفروقات فهذا الذي يقال له‪ :‬التشابه‪.‬‬
‫مجيعا باعتبار‪ ،‬ويوصف بأنه متشابه مج ًيعا باعتبار‪ ،‬يعين على معىن‪ ،‬ويوصف بأن بعضه حمكم وبعضه‬ ‫إذن القرآن يوصف بأنه حمكم ً‬
‫متشابه باعتبار آخر‪ ،‬فهذه اآليات ليس بينها تعارض‪.‬‬
‫اب} آل عمران‪ ،7:‬يعين‬ ‫ات ُه َّن أ ُُّم الْ ِكتَ ِ‬ ‫ات ُْحم َك َم ٌ‬
‫ِ‬
‫مسألة أخرى‪ ،‬وهي‪ :‬هذا القدر الذي قال اهلل عنه يف آية آل عمران‪{ :‬مْنهُ آيَ ٌ‬
‫ِِ‬ ‫اب وأُخر متش ِاهبات فَأ ََّما الَّ ِ‬ ‫هي األصول اليت يرجع إليها عند وجود االلتباس واالشتباه‪ُ { ،‬ه َّن أ ُُّم الْكِتَ ِ‬
‫ين ِيف قُلُوهب ْم َزيْ ٌغ فَيَتَّبِعُو َن َما تَ َشابَهَ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬‫َ‬
‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَ ُقولُو َن َآمنَّا بِِه ُكلٌّ ِم ْن ِعْن ِد َربِّنَا} آل عمران‪ ،7:‬فهذه اآلية أصل‬ ‫ِمْنهُ ابْتِغَاءَ الْ ِفْت نَ ِة َوابْتِغَاءَ تَأْ ِويلِ ِه َوَما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إَِّال اللَّهُ َو َّ‬
‫يف احملكم واملتشابه باملعىن اخلاص‪ ،‬وموضع الوقف فيها صح عن ابن عباس فيه القوالن‪ :‬صح عن ابن عباس الوصل‪َ { ،‬وَما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إَِّال‬
‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَ ُقولُو َن َآمنَّا بِِه ُكلٌّ ِم ْن‬ ‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَ ُقولُو َن َآمنَّا بِِه} اآلية‪ ،‬وصح عن ابن عباس‪َ { :‬وَما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إَِّال اللَّهُ َو َّ‬ ‫اللَّهُ َو َّ‬
‫ِعْن ِد َربِّنَا} ما المعنى على كل تقدير؟‬
‫ِ‬ ‫ات ُه َّن أ ُُّم الْ ِكتَ ِ‬ ‫ِ‬
‫ات} إىل أن قال‪َ { :‬وَما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إَِّال اللَّهُ‬‫ُخُر ُمتَ َشاهبَ ٌ‬
‫اب َوأ َ‬ ‫ات ُْحم َك َم ٌ‬
‫نقول‪ :‬بأنه على الوصل ال إشكال {مْنهُ آيَ ٌ‬
‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَ ُقولُو َن َآمنَّا بِِه ُكلٌّ ِم ْن ِعْن ِد َربِّنَا}‪ ،‬فعلى هذا الوصل يف القراءة يكون اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يعلم معىن املتشابه والراسخون‬ ‫َو َّ‬
‫يف العلم يعلمون معناه كذلك‪ .‬وعليه‪ :‬فال يوجد شيء يف القرآن ال يعرف أحد من األمة معناه ملاذا؟‬
‫ألن اهلل خاطبنا بلغة العرب‪ ،‬وأخرب عن هذا الكتاب بأنه كتاب مبني بني ظاهر واضح‪ ،‬فال ميكن أن اهلل خياطبنا بطلسمات‪ ،‬ورموز‪،‬‬
‫وألغاز‪ ،‬وأمور ال يفهمها أحد‪ ،‬ال الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وال الصحابة‪ ،‬هذا ال يوجد يف القرآن‪ ،‬فكل ما يف القرآن يفهم معناه‪،‬‬
‫لكن قد يلتبس على بعض األمة من ناحية من جهة املعىن‪ ،‬وبناء عليه نقول‪ :‬إن التشابه من جهة املعىن هو أمر نسيب‪ ،‬وقد يقول قائل‪ :‬وهل‬
‫هناك تشابه مطلق؟ نقول‪ :‬نعم‪ ،‬التشابه قسمان‪ :‬تشابه مطلق يعين ال أحد يعرفه إال اهلل‪ ،‬وتشابه نسيب خيفى على البعض ويعلمه البعض‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫من جهة املعىن على قراءة الوصل أن مجيع ما يف القرآن تعرف األمة معناه‪ ،‬وإن خفي على بعضها‪ ،‬ولكن يوجد يف األمة من‬
‫يعرف معناه‪ ،‬وهذا هو الصحيح‪ ،‬وهؤالء الذين خفي عليهم بعض املعىن ماذا يكون هذا يف حقهم؟ نقول‪ :‬الذي أشكل عليهم يكون متشاهبًا‬
‫يف حقهم فالتشابه من هذه احليثية يعترب أمر نسيب وعلى الوقف يف اآلية على قوله‪ :‬إال اهلل { َوَما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إَِّال اللَّهُ}‪ ،‬مث نبدأ من جديد‪:‬‬
‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَ ُقولُو َن َآمنَّا بِِه ُكلٌّ ِم ْن عِْن ِد َربِّنَا} فما املعىن نقول‪ :‬إن املعىن على األرجح‪ ،‬هو أن املقصود هبذا املوضع مبعىن اآلية‬
‫{ َو َّ‬
‫على الوقف هو التشابه املطلق لكن هل هو يف املعاين أو يف الكنه والكيفية واألمور الغيبية‪ ،‬بالضبط على الوقف نقول‪َ { :‬وَما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ‬
‫إَِّال اللَّهُ} أي‪ :‬حقائق األمور الغيبية ما هو معانيها حقائقها‪ ،‬وكنهها‪ ،‬وما تؤول إليه األمور اليت أخرب اهلل عنها من الغيوب فهذه غيب ال‬
‫يعلمه إال اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬فال يعلمه إال هو‪ ،‬اتضح لكم هذا وإال ما اتضح؟ فمعىن الكنه؟ يعين حقيقة الشيء‪ ،‬كيف يد اهلل كيف وجهه‬
‫كيف عينه ال ندري‪ ،‬ال نعرف كنه الصفة‪ ،‬لكن ما معىن الوجه ما معىن العني؟ ما معىن اليد؟ نعرف معناها‪ ،‬فهذا ال يوجد فيه املتشابه‪ ،‬أما‬
‫الكنه فهذا ال نعرفه يف األمور الغيبية‪ ،‬تقول‪ :‬اجلنة تراهبا املسك يأيت واحد يقول‪ :‬مسك أبيض وإال مسك أسود؟‬
‫نقول‪ :‬ال نعرف إذا دخلناها علمناك إن شاء اهلل‪ ،‬أو يأيت ويقول‪ :‬تراهبا املسك‪ ،‬هل هو تربة مثل‪ :‬الرتبة الرملية أو مثل‪ :‬الرتبة‬
‫الطينية؟ نقول‪ :‬ال نعرف‪ ،‬لكن إذا دخلناها علمناك إن شاء اهلل‪ ،‬هذا الكنه والكيفية يف األمور الغيبية ال نعرف حقائقها‪ ،‬هذا معىن كونه‬
‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَ ُقولُو َن َآمنَّا بِِه} يعين يفوضون حقائق‬
‫تشابه مطلق‪ ،‬فإذا وقفت صح الوقف يف آية آل عمران { َوَما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إَِّال اللَّهُ َو َّ‬
‫هذه األشياء وكيفياهتا إىل عاملها ‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،‬فهم ال يعلموهنا؛ ألهنا غيب‪.‬‬
‫إذن إذا سئلت التشابه المطلق هل يوجد في معاني القرآن فماذا تقول؟ تقول‪ :‬ال‪ ،‬ملاذا؟ ألن اهلل خاطبنا بلغة العرب‪ ،‬ومل‬
‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم} يعين أن العلماء يفهمون‬
‫ألغازا‪ ،‬وال طلسمات‪ .‬إذن الوصل يف اآلية واضح { َوَما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إَِّال اللَّهُ َو َّ‬
‫جيعل اهلل كتابه ً‬
‫مجيعا ال يعرفون معىن بعض املواضع يف القرآن وهي املتشابه‪ ،‬نقول‪ :‬ال‪ ،‬كل ما يف‬
‫معانيها‪ ،‬والوقف ال حيمل على املعىن ال يقال‪ :‬إن العلماء ً‬
‫القرآن الب ّد أن يوجد يف األمة من يعرف معناه‪ .‬إذن الوقف بناء على أن املراد الكنه والكيفية وحقائق هذه األشياء الغيبية‪ ،‬فهذا قلب موضوع‬
‫احملكم واملتشابه‪ ،‬وخالصته‪ ،‬ولُبه‪ ،‬إذا فهمته فال شأن لك بغريه‪.‬‬
‫مثال اهلل عز وجل يقول‪:‬‬ ‫املتشابه النسيب كثري إذا خفي عليك معىن آية التبس إذا عندك آيات ظاهرها التعارض ما فهمت معناها يعين ً‬
‫ف َسنَ ٍة ِممَّا تَعُدُّو َن} السجدة‪5:‬كيف جتمع‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ف َسنَة} املعارج‪ ،4:‬ويف موضع آخر‪ِ{ :‬يف يَ ْوم َكا َن م ْق َد ُارهُ أَلْ َ‬
‫ٍ‬
‫ني أَلْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫{ِيف يَ ْوم َكا َن م ْق َد ُارهُ مخَْس َ‬
‫بني هذه اآليات؟‬
‫فإذا كنت ال تعرف فهذا متشابه بالنسبة لك‪ ،‬لكن الذي يعرف حمكمة ما هي متشاهبة بالنسبة له‪ ،‬فالتشابه يف املعاين نسيب‪ ،‬يعين‬
‫بالنسبة لناس دون آخرين‪ ،‬أما يف الكنه والكيفية وحقائق األمور الغيبية فهو مطلق مبعىن ال أحد من الناس يعلم حقائق األمور الغيبية‪ ،‬إال‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ف‬‫وح إِلَْيه ِيف يَ ْوم َكا َن م ْق َد ُارهُ أَلْ َ‬‫ج الْ َم َالئ َكةُ َو ُّ ُ‬
‫ف َسنَة}املعارج‪ ،4:‬ويف املوضع اآلخر‪{ :‬تَ ْعُر ُ‬ ‫إذا رآها فاآلن {ِيف يَ ْوم َكا َن م ْق َد ُارهُ مخَْس َ‬
‫ني أَلْ َ‬
‫َسنَ ٍة} فما املعىن؟ مخسني ألف سنة هذا بالنسبة ليوم القيامة‪ ،‬وأما ألف سنة فيمكن أن يقال‪ :‬نزول امللك من السماء إىل األرض مخسمائة‬
‫عام‪ ،‬كما قال النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بأن املسافة مخسمائة عام‪ ،‬وصعوده مخسمائة عام هذه ألف سنة صعود امللك ونزوله‪ ،‬وأما‬
‫اخلمسني ألف سنة فهو يوم القيامة‪ ،‬يوم طويل‪ ،‬هذا أحد األجوبة‪.‬‬
‫وه ْم إِنَّ ُه ْم َم ْسئُولُو َن} الصافات‪ ،24:‬ويف موضع آخر يقول‪{ :‬فَيَ ْوَمئِ ٍذ َال يُ ْسأ َُل‬ ‫ِ‬
‫مثال آخر‪ :‬اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول يف موضع‪َ { :‬وق ُف ُ‬
‫وه ْم إِنَّ ُه ْم َم ْسئُولُو َن}‪ ،‬ويف موضع يقول‪َ{ :‬ال يُ ْسأ َُل َع ْن ذَنْبِ ِه}؟‬ ‫ِ‬ ‫س َوَال َج ٌّ‬ ‫َعن ذَنْبِ ِه إِ‬
‫ان} الرمحن‪ ،39:‬كيف مرة يقول‪َ { :‬وق ُف ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬‫ن‬ ‫ْ‬
‫نقول‪ :‬يسألون سؤال تبكيت‪ ،‬وال يسألون سؤال استعتاب‪ ،‬سؤال استعتاب يعين سؤال من يعذر‪ ،‬يريد منك أن تقدم العذر وتعتذر‬
‫لنفسك‪ ،‬ال سؤال تبكيت‪ ،‬ما الذي جعلك تفعل هذا الشيء؟ { َما َسلَ َك ُك ْم ِيف َس َقَر} املدثر‪ ،42:‬ال يسأهلم ليجاوبوا مث يلتمس هلم العذر‬
‫يف جواهبم‪ ،‬وإمنا يسأهلم سؤال تبكيت‪ ،‬فال يسألون سؤال استعتاب وإمنا يسألون سؤال تبكيت‪ ،‬أو أن هذا اليوم طويل ففي بعض املواضع‬
‫ال يسأل أحد‪ ،‬ويف بعض املواضع يسألون‪.‬‬
‫ون} املؤمنون‪ ،108:‬ويف موضع آخر يقول فيها‪{ :‬أَ َملْ تَ ُك ْن آيَ ِايت‬ ‫ال اخسئُوا فِيها وَال تُ َكلِّم ِ‬
‫ُ‬ ‫كذلك يف قوله ‪-‬تبارك وتعاىل‪{ :-‬قَ َ ْ َ َ َ‬
‫تُْت لَى َعلَْي ُك ْم} املؤمنون‪ ،105:‬فاهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول عن نفسه { َوَال يُ َكلِّ ُم ُه ُم اللَّهُ} آل عمران‪77:‬إىل آخره‪ ،‬ال يكلمهم كالم تكرمي‪،‬‬
‫ون} فاآليات اليت ظاهرها التعارض إذا التبست على أحد فهي متشاهبة بالنسبة إليه لكن الذي‬ ‫ال اخسئُوا فِيها وَال تُ َكلِّم ِ‬
‫ُ‬ ‫ولكنه يقول هلم‪{ :‬قَ َ ْ َ َ َ‬
‫يعرف معناها؟ ليست متشاهبة حمكمة‪.‬‬
‫السماو ِ‬
‫ات َوِيف ْاأل َْر ِ‬
‫ض} األنعام‪ 3:‬قد يلتبس على بعض‬ ‫وهكذا يف املواضع اليت قد تغمض مثل ما قلنا يف قوله‪َ { :‬وُه َو اللَّهُ ِيف َّ َ َ‬
‫الناس فهي متشاهبة بالنسبة إليه وال تلتبس على آخر فتكون حمكمة بالنسبة إليه‪ ،‬فالتشابه من جهة املعىن أمر نسيب‪.‬‬
‫الدرس السادس من الوحدة الرابعة‪ :‬مجع القرآن‬ ‫الدرس‬
‫إمجاال‪ ،‬وجتوزا‪ ،‬كما قال احلاكم النيسايوري وغريه‪.‬‬
‫إمجاال‪ ،‬ثالث مرات ً‬
‫مراحل مجع القرآن‪ :‬ميكن أن أقول‪ :‬مجع القرآن حصل ً‬ ‫السادس‬
‫العسب واللخاف‪ ،‬وقطع األكتاف‪ ،‬واألضالع‪ ،‬العسب‪ :‬مجع عسيب‪ ،‬يكشطون اخلوص‬ ‫في‬ ‫القرآن‬ ‫جمع‬ ‫األولى‪:‬‬ ‫المرة‬ ‫من‬
‫ُ‬
‫الوحدة ويكتبون يف اجلانب العريض ما عندهم مثل اآلن الورق متوفر وكذا‪ ،‬فيكتبون مبا تيسر هلم‪ ،‬واللحاف‪ :‬هي شرائح احلجارة يكتبون عليها‬
‫الرابعة‪ :‬شرائح‪ ،‬واألقتاب‪ :‬هو اخلشب الذي يوضع على البعري لشداد األقتاب‪ ،‬يكتبون عليها‪ ،‬قطع األكتاف معروف العظم العريض يف الكتف‬
‫من اإلبل والغنم فيكتبون عليه‪ ،‬واألضالع معرفه‪ ،‬واجللود ما تيسري هلم يكتبون عليه‪ ،‬فكانوا يكتبون بني يدي النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬ ‫مجع‬
‫وإذا نزل عليه القرآن فعنده كتّاب ‪-‬رضي اهلل عنه وأرضاهم‪ -‬يكتبون بني يديه هذه اآليات‪ ،‬هبذه الوسائل املتاحة هلم‪ ،‬فلما قبض النيب ‪-‬‬ ‫القرآن‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ومل جيمع القرآن يف صحف وال يف مصحف‪ ،‬كما صح عن زيد بن ثابت ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أنه قال‪" :‬قبض النيب ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ومل يكن القرآن مجع يف شيء"‪ ،‬يعين ال يف صحف وال يف مصحف‪ ،‬كان مفرقًا يف عسب واللخاف وقطع األكتاف‬
‫وما شابه ذلك‪.‬‬
‫لماذا لم يجمع في عهد النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم؟ نقول‪ :‬ألنه لرمبا ‪-‬واهلل أعلم‪ ،‬أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان ينزل‬
‫عليه القرآن حني بعد حني مث ينسخ بعض القرآن‪ ،‬فكان النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يرتقب نزول اجلديد‪ ،‬ويكون هذا يف ثنايا السور‪،‬‬
‫أيضا قد تنسخ بعض اآليات فلم جيمعها النيب ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪،‬‬ ‫ضعوها يف مكان كذا من سورة كذا‪ ،‬مث ً‬
‫اب} البقرة‪ ،2-1:‬مساه كتابًا‪ ،‬وأن يف هذا إشارة إىل ما سيؤول أليه أمره من‬‫ت‬ ‫ك الْ ِ‬
‫ك‬ ‫وبعض العلماء يستنبطون من قوله‪{ :‬امل * َذلِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫الكتابة هلذا بعض أهل العلم ما يصرون من فعل عثمان من مجع املصحف أنه من املصاحل املرسلة‪ ،‬يقولون‪ :‬هذا دل عليه القرآن { َذل َ‬
‫اب}‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الْكتَ ُ‬
‫الجمع الثاني‪ :‬فالحاصل أنه لما توفي النبي ‪-‬صلي اهلل عليه وسلم‪ -‬ووقعت حروب الردة قتل يف اليمامة كما قلت لكم من‬
‫قبل سبعون من القراء‪ ،‬فلما قتل هؤالء فزع عمر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬كما أخرج احلاكم يف املستدرك بسند له شرط الشيخني من حديث زيد‬
‫بن ثابت ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قال‪" :‬كنا عند رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬نؤلف القرآن من الرقاع"‪ .‬واملقصود به تأليف آيات القرآن‪،‬‬
‫مبعىن‪ :‬أن اآليات رتبها النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف السور ليس ألحد دخل يف ذلك إطالقًا‪.‬‬
‫والذي وقع يوم اليمامة هو ما أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت ‪-‬رضي اهلل تعايل عنه‪ -‬قال‪" :‬أرسل إىل أبو بكر مقتل أهل اليمامة‬
‫فإذا عمر بن اخلطاب عنده فقال أبو بكر‪ :‬إن عمر أتاين فقال‪" :‬إن القتل قد استحر‪ ،‬بقراء القرآن‪ -‬استحر مبعىن كثر‪ ،‬وإين أخشى أن‬
‫يستحر القتل بالقراء يف املواطن‪- ،‬يعين يف املواقع القادمة املعارك املستقبلية‪ ،‬فيذهب كثري من القرآن‪- ،‬إين أرى أن تأمر جبمع القرآن‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬لعمر كيف تفعل شئيًا مل يفعله رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم؟ قال عمر‪ :‬هو واهلل خري فما زال يراجعين حىت شرح اهلل صدري‬
‫لذلك‪ ،‬ورأيت ذلك الذي رأى عمر‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬إنك شاب عاقل ال نتهمك‪ ،‬وقد كنت تكتب الوحي لرسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫فتتبع القرآن فامجعه يقول زيد‪ :‬فواهلل لو كلفوين نقل جبل من اجلبال ما كان أثقل على مما أمرين به من مجع القرآن‪ ،‬قلت‪ :‬كيف تفعل شئيًا‬
‫مل يفعله النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم؟ قال‪ :‬هو واهلل خري فلم يزل أبو بكر يراجعين حىت شرح اهلل صدري للذي شرح به صدر أِّب بكر وعمر‬
‫فتتبعت القرآن أمجعه من العسب واللخاف وصدور الرجال‪ ،‬ووجدت آخر سورة التوبة مع أِّب خزمية األنصاري‪ ،"...‬إىل آخر ما ذكر‪.‬‬
‫يقول‪ :‬فكانت الصحف عند أبو بكر حىت توفاه اهلل‪ ،‬مث عند عمر يف حياته‪ ،‬مث عند حفصة بنت عمر‪ ،‬فهذا الذي فعله أبو بكر‬
‫‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬مبشورة عمر شيء دعت احلاجة إليه‪ ،‬فجمعوا هذه املتفرق من العسب واللخاف‪ ،‬ومجعوه يف صحف‪ ،‬وليس يف مصحف‪،‬‬
‫مرتب اآليات‪ ،‬هل مجعوه من األحرف السبعة وإال أنه حرف قريش؟ حيتمل‪ ،‬واألقرب أنه على حرف قريش؛ ألنه دعا زيد بن ثابت فكتبه‪،‬‬
‫كان زيد حضر العريضة األخرية‪ ،‬وكان يقرأ ْبرف قريش فكتبه‪ ،‬ما اهلدف من هذا اجلمع؟‬
‫حفظ القران من الضياع والتفرق‪ ،‬اهلل تكفل ْبفظه‪ ،‬وكان من األسباب اليت يسرها أن شرح صدورهم جلمع ما تفرق يف هذا العسب‪،‬‬
‫واللخاف يف الصحف‪ ،‬إذن اهلدف من مجع أبو بكر حفظ القرآن من التفرق؛ ولئال يضيع شيء منه وما السبب؟ وكثرة قوع القتل يف القراء‪،‬‬
‫أجرا يف‬
‫هذا هو السبب هذا الذي فعله أبو بكر ومبشورة عمر مل ينكره أحد من الصحابة فعلي ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬أنه قال‪" :‬إن أعظم الناس ً‬
‫املصاحف أبو بكر الصديق‪ ،‬كان أول من مجع القرآن بني اللوحني"‪.‬‬
‫أبو بكر هو أول من مجع كتاب اهلل‪ ،‬هل جمعه أبو بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬مرتب السور؟ اجلواب‪ :‬ال‪ ،‬هل جيمع مرتب اآليات؟‬
‫قطعا كل سور القرآن مرتبة اآليات‪.‬‬
‫نعم ً‬
‫بقي الجمع الثالث وهو في زمان عثمان‪ ،‬مجعه على حرف قريش مرتبًا للسور‪ ،‬وأما اآليات فكانت يف زمن رسول اهلل ‪-‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ -‬مرتبة وكتبها أبو بكر مرتبة‪ ،‬وقد أخرج البخاري ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬يف صحيحه عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم علي عثمان‪،‬‬
‫هذا سبب اجلمع هذا احلديث يف البخاري يبني علة مجع عثمان للمصاحف‪ ،‬ملاذا مجعها عثمان يف مصحف؟‬
‫يقول أنس‪ :‬بأن حذيفة بن اليمان قدم علي عثمان وكان يغازي أهل الشام‪- ،‬يعين حذيفة‪ -‬يف فتح خرج أرمينيا وأذربيجان مع‬
‫أهل العراق فأفزع حذيفة اختالفهم يف القراءة‪ ،‬فقال لعثمان‪" :‬أدرك األمة قبل أن خيتلفوا اختالف اليهود والنصارى"‪ ،‬فعثمان ماذا صنع؟ ‪-‬‬
‫ومعلوم أنه وقع بني الغلمان يف الكتاتيب شيء من اللفظ والقرآن‪ ،‬وأنزل له سبعة أحرف ولرمبا قرأ بعض الناس ببعض القراءات املنسوخة وما‬
‫علموا أهنا منسوخة‪ ،‬ولرمبا التبس علي بعض اجلهال بعض األشياء اليت هي من قبيل التغيري مسعوا الصحاِّب‪ ،‬قال‪ :‬كلمة وزاد كلمة من باب‬
‫التفسري ظنًا أهنا قراءة لرمبا‪ ،‬فجاء عثمان ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬ومجع الصحابة فاستشارهم يف هذا األمر‪ ،‬وقالوا‪ :‬ماذا ترى‪ ،‬قال‪ :‬أرى أن جنمع‬
‫الناس علي مصحف واحد‪ ،‬فوافقوا مجيعا –واملقصود هبن الصحابة الذين كانوا يف املدينة‪ ،‬ابن مسعود كان يف الكوفة‪ ،‬ففي البداية طلب‬
‫يف الرسول ‪-‬صلى اهلل‬
‫منهم عثمان أن حيرقوا مجيع املصاحف األخرى تردد ابن مسعود ‪-‬رضي اهلل عنه– قال‪" :‬أنا أخذت سبعون سورة من ّ‬
‫عليه وسلم‪ -‬مث ملا علم ابن مسعود أن هذا إمجاع من الصحابة‪ ،‬واتفاق‪ ،‬وأنه ليس رأيًا انفرد به عثمان ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬قدم ابن مسعود‬
‫مصحفه فأحرقه‪ ،‬فاحلاصل أن عثمان ملا اتفقوا علي هذا ماذا فعل؟‬
‫الخطوة األولى‪ :‬أرسل إلى حفصة قال‪" :‬أرسلي إلينا الصحف ننسخها يف املصاحف مث نردها إليك"‪ ،‬هذا يدل على أن عثمان‬
‫كتب ما يف الصحف اليت مجعها أبو بكر الصديق ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬وأمر زيد بن ثابت وعبد اهلل بن الزبري وسعد بن العاص‪ ،‬وعبد الرمحن بن‬
‫احلارث بن هشام‪ ،‬أربعة ثالث من قريش‪ ،‬وواحد من األنصار وهو زيد بن ثابت هذا من األنصار‪.‬‬
‫هؤالء من احلفاظ‪ ،‬فهذه جلنة كوهنا عثمان من أربعة أشخاص وأمرهم أن ينسخوا املصاحف من الصحف‪ ،‬وقال للثالثة القرشيني‪ :‬إذا‬
‫اختلفتم أنتم‪ ،‬وزيد يف شيء من القرآن فكتبوه بلسان قريش‪ ،‬يعين إذا كان زيد يقرأ بعض املواضع بغري حرف قريش فاملقدم حرف قريش‬
‫رد عثمان إىل حفصة‪ ،‬وأرسل إىل كل أفق مبصحف مما نسخوا‪ ،‬وأمر مبا سواه‬ ‫والقرآن أنزل به‪ ،‬ففعلوا حىت إذا نسخوا املصاحف يف الصحف ّ‬
‫من القرآن بكل صحيفة ومصحف أن حيرق‪ ،‬فجمعها عثمان يف مصاحف‪ ،‬كم عدد هذه املصاحف؟ ال يصح فيه حديث‪ ،‬وال أثر‪ ،‬وجاء‬
‫يف بعض الروايات أهنا سبعة‪ ،‬ويف بعض الروايات أهنا مخسة‪ ،‬ويف بعض الروايات أهنا أربعة‪ ،‬مىت كان هذا احلدث يف زمن عثمان؟! كان يف‬
‫جدا فيها قول زيد‬ ‫سنة ‪25‬ه ‪ ،‬اآلن إذن اآليات كانت ترقب بأمر النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ال دخل ألحد فيها‪ ،‬وهذا أدلته كثرية ً‬
‫السابق‪" :‬كنا عند النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬نؤلف القرآن من الرقاع"‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اجا} اآلية البقرة‪ ،234:‬قد‬ ‫ين يُتَ َوفَّ ْو َن مْن ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أ َْزَو ً‬
‫ومنها‪ :‬ما أخرجه البخاري عن ابن الزبري قال‪" :‬قلت لعثمان‪َ { :‬والذ َ‬
‫ص َن بِأَنْ ُف ِس ِه َّن أ َْربَ َعةَ أَ ْش ُه ٍر‬ ‫اعا إِ َىل ْ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫احلَْول َغْي َر إِ ْخَر ٍاج} البقرة‪ ،240:‬والثانية‪{ :‬يَتَ َربَّ ْ‬ ‫نسختها اآلية األخرى وهي قوله‪َ { :‬وصيَّةً أل َْزَواج ِه ْم َمتَ ً‬
‫َو َع ْشًرا} البقرة‪ ،234:‬فكما قلنا‪ :‬لكم الناسخة قبل املنسوخة فعبد اهلل بن الزبري يقول‪ :‬لعثمان ملاذا مل جتعلها بعدها أو ملاذا مل ترتك املنسوخة‬
‫أصال‪ ،‬يقول‪ :‬فلم تكتبها فتدعها‪ ،‬قال‪" :‬يا ابن أخي ال أغري شيئا منه من مكانه"‪ ،‬يعين هذا ال دخل هلم فيه اطالقًا‪ ،‬وإمنا هو بأمر رسول‬ ‫ً‬
‫اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ومنها ما أخرجه مسلم عن عمر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قال‪" :‬ما سألت النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬عن شيء أكثر ما سألته عن‬
‫الكاللة‪ ،‬حىت طعن بأصبعه بصدري وقال‪( :‬تكفيك آية الصيف اليت يف آخر سورة النساء)‪.‬‬
‫مرفوعا‪( :‬من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)‪ .‬ويف رواية‪( :‬من‬ ‫وكذلك ما أخرجه مسلم عن أِّب الدرداء ً‬
‫مثال‪ :‬قرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء‬
‫جدا‪ ،‬النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ً -‬‬
‫قرأ العشر األواخر من سورة الكهف)‪ ،‬وفيه نصوص أخرى كثرية ً‬
‫يف حديث حذيفة‪.‬‬
‫وقرأ األعراف يف صحيح البخاري أنه قرأها يف املغرب‪.‬‬
‫وكذلك قرأ‪{ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح الْ ُم ْؤِمنُو َن} املؤمنون‪ ،1:‬يف صالة الصبح"‪ ،‬كما عند النسائي‪ ،‬حىت إذا جاء ذكر موسى وهارون أخذته‬
‫سعلة فركع‪.‬‬
‫وقرأ‪ :‬امل تنزيل يعين السجدة‪ ،‬وهل أيت على اإلنسان سورة الدهر‪ ،‬كما عند الشيخني يف صالة الصبح يوم اجلمعة‪.‬‬
‫وكان يقرأ قاف كما يف صحيح مسلم على املنرب يف خطبة اجلمعة‪.‬‬
‫وقرأ الرمحن على اجلن‪ ،‬والنجم قرأها يف مكة على املسلمني واملشركني‪.‬‬
‫وقرأ‪ :‬اقرتبت الساعة مع قاف يف العيد كما يف صحيح مسلم‪.‬‬
‫وكذلك قرأ املنافقون يف صالة اجلمعة كما عند مسلم‪ .‬فهذه السور كان يقرأها النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مرتبة اآليات‪.‬‬
‫أما ترتيب السور فلم يكتب يف الصحف اليت مجعها أبو بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬وإمنا كان يف املصاحف‪- ،‬هذا الرتتيب وأين وجد؟!‬
‫يف املصاحف اليت مجعها عثمان بن عفان ‪-‬رضي اهلل عنه وارضاه‪ ،‬فرتتيب السور يف املصاحف هل هو توفيقي أو اجتهادي؟! بعض العلماء‬
‫يقولون‪ :‬توفيقي‪ ،‬ويستدلون على هذا بأدلة‪ ،‬وهذا القول ليس ببعيد‪ ،‬وبعضهم يقول‪ :‬توفيقي إال سورة براءة واألنفال‪ ،‬وبعضهم يقولون‪:‬‬
‫اجتهادي‪.‬‬
‫واألقرب فيما أظن ‪-‬واهلل تعاىل أعلم‪ ،‬هو أن يقال كما قال اإلمام مالك ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬قال به طائف من األئمة أهنم حني مجعوه مل‬
‫يوقفهم النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬على ذلك ترتيب السور‪ ،‬لكنهم استأنسوا مبا كانوا يسمعون من رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف‬
‫غالب قراءته‪ ،‬استأنسوا هبذا‪ ،‬وإال فمصاحف الصحابة الشخصية كانت متفاوتة‪ ،‬فمنهم من رتبها على النزول كما يف مصحف علي كما‬
‫سبق‪ ،‬وكان أوله اقرأ مث املدثر‪ ،‬مث ن‪ ،‬مث املزمل‪ ،‬مث تبت‪ ،‬مث التكوير‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ومصحف ابن مسعود كان أوله البقرة مث النساء مث آل عمران‪،‬‬
‫وهكذا‪ .‬وهكذا مصحف أُِّب ‪-‬رضي اهلل عنهم أمجعني‪ .‬فلو كان هذا بتوقيف من النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬هبذا الرتتيب لكانوا رتبوها‬
‫به‪.‬‬
‫كثريا من السور كان ترتيبها الذي يف املصاحف اليوم كان معروفًا عندهم‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫فاحلاصل أن أقرب ما يقال ‪-‬واهلل تعاىل أعلم‪ -‬بأن ً‬
‫مثال‪( :‬اقرأ الزهراوين‪ ،)...،‬يعين‪ :‬البقرة وآل عمران‪ ،‬كما عند مسلم‪.‬‬
‫السبع الطوال‪ ،‬واحلواميم‪ ،‬واملفصل‪ ،‬يقول النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ً -‬‬
‫وأن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان جيمع املفصل يف ركعة‪.‬‬
‫وأخرج البخاري من حديث ابن مسعود أنه قال‪( :‬يف بين إسرائيل‪ ،‬والكهف‪ ،‬ومرمي‪ ،‬وطه‪ ،‬واألنبياء‪ ،‬إهنن من العتاق األول)‪ ،‬فهي‬
‫اآلن على نسق مرتبة كما يف املصحف سردها هبذه الطريقة‪ .‬وهكذا يف البخاري أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬كان إذا أوى إىل فراشه قرأ‬
‫كل ليله بعدما جيمع كفيه وينفث فيها يقرأ‪ :‬قل هو اهلل أحد‪ ،‬واملعوذتني‪.‬‬
‫مشهورا عندهم‪ ،‬فرتبوها هذا الرتتيب‪ ،‬والباقي كان هلم اجتهاد فيه‪ ،‬واستأنسوا‬ ‫ً‬ ‫فهذا يدل على أن بعض املواضع يف القرآن كان ترتيبها‬
‫مبا كانوا يرون من غالب قراءة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ينبين على هذا أشياء إذا قلنا‪ :‬إن ترتيب السور ليس بتوقيفي فمعىن هذا‬
‫أن لك أن تقرأ يف الركعة األوىل من سورة آل عمران‪ ،‬ويف الركعة الثانية من سورة البقرة‪ ،‬وجيوز أن تقرأ‪{ :‬إِنَّا أ َْعطَْي نَ َ‬
‫اك الْ َك ْوثََر} الكوثر‪،1:‬‬
‫ويف الركعة الثانية تقرأ من عم‪ ،‬مع مالحظة أن تكون الركعة األوىل أطول من الثانية واضح‪.‬‬
‫منكوسا‪ ،‬فقال‪" :‬ذاك رجل نكس اهلل قلبه"‪ ،‬فألقرب يف‬ ‫ً‬ ‫وأما ما ورد عن ابن مسعود ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬ملا سئل عن رجل يقرأ القرآن‬
‫نفسه أن املقصود به ما يفعله بعض املتمهرين باحلفظ وهذا موجود إىل اليوم يفعلونه بالقصائد‪ ،‬ولرمبا فعله بعضهم يف القرآن‪ ،‬يأتيك بالقصيدة‬
‫لتمهره يف حفظها من أول بيت إىل آخر بيت يعكسها‪ ،‬يأتيك بالسورة من آخر آية إىل أول آية‪ ،‬بالعكس فهذا يفسد املعاين‪ ،‬وال جيوز‪،‬‬
‫هذا حرام‪ ،‬فهذا الذي قصده ابن مسعود ‪-‬رضي اهلل عنه‪ ،‬وعليه نقول‪ :‬ال بأس أن تقرأ يف كل ركعة من سورة وإن كانت بعدها أو قبلها يف‬
‫الرتتيب هذه واحدة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬المناسبات التي تكون بين السور هل هي معتبرة أم ال؟‬
‫واملقصود باملناسبة هي االرتباط بني شيئني فأكثر‪ ،‬هذا معناه يف اللغة‪ ،‬فهذه الكلمة تدور معانيها على اتصال‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬النسب‬
‫لوجود هذه الوشيجة فيه‪ ،‬وشيجة الرحم‪.‬‬
‫ومعنى المناسبات في االصطالح‪ :‬هو العالقة ووجه االرتباط بني اآلية واآلية‪ ،‬وبني السورة والسورة‪ ،‬وبني أول اآلية وآخر اآلية‪،‬‬
‫وبني موضوع اآلية وخامتة اآلية‪ ،‬وبني املقطع واملقطع‪ ،‬وهبذا تعرف أن املناسبات أنواع‪ ،‬مناسبات بني السور‪.‬‬
‫ف قَُريْ ٍ‬ ‫اب الْ ِف ِيل} الفيل‪ ،1:‬وبني سورة {ِِإل َيال ِ‬ ‫َصح ِ‬ ‫ف فَ َعل ربُّ َ ِ‬
‫ش} قريش‪ ،1:‬وهي‬ ‫ك بأ ْ َ‬ ‫مثال‪ :‬ما املناسبة بني سورة {أَ َملْ تََر َكْي َ َ َ‬ ‫ً‬
‫فمثال‬
‫بعدها مباشرة الذين يقولون‪ :‬إن ترتيب القرآن توقيفي‪ ،‬يقولون‪ :‬الب ّد نالحظ باملناسبة السورة هذه ذكرت بعدها السورة هذه الحظت؟ ً‬
‫يل * تَ ْرِمي ِه ْم ِِْب َج َارةٍ ِم ْن ِس ِّج ٍيل}‬ ‫ضلِ ٍيل * وأَرسل َعلَْي ِهم طَْي را أَبابِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫اب الْ ِ‬
‫َصح ِ‬ ‫ف فَ َعل ربُّ َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ً‬ ‫َ‬
‫َ َ‬‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫يف‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫د‬‫َ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫جي‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫مل‬
‫ْ‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫*‬ ‫يل‬ ‫ف‬ ‫ك بأ ْ َ‬ ‫يقول‪{ :‬أَ َملْ تََر َكْي َ َ َ‬
‫ش} فعلنا ذلك إليالف قريش دمرنا أصحاب الفيل إليالف قريش شتت أولئك وشتت مجعهم إليالف قريش‬ ‫ف قَُريْ ٍ‬‫الفيل‪ِِ{ ،4-1:‬إل َيال ِ‬
‫أهلكهم إليالف قريش هذا على القول بأن ترتيب السور توقيفي إذا قلنا‪ :‬ترتيب السور غري توقيفي سقط علم املناسبات بني السور‪ ،‬وهذا‬
‫هو األقرب يف ظين‪- ،‬واهلل أعلم‪ .-‬وهذا فيه كتب مؤلفة‪ ،‬وفيه كتب تعتين به من كتب التفسري‪ ،‬كتفسري الرازي‪ ،‬وفيه كتاب كبري حافل يقع‬
‫يف ثالث وعشرين جملد تقريبًا للبقاعي امسه‪" :‬نظم الدرر يف تناسب اآليات والسور"‪ ،‬فذهب عندنا شيء امسه املناسبات بني السور‪ ،‬وبني‬
‫اآليات‪.‬‬
‫قلتم‪ :‬إن ترتيب اآليات توقيفي‪ ،‬نقول‪ :‬صحيح إذا املناسبة حاصلة بينها‪ ،‬نقول‪ :‬صحيح‪ ،‬فمثال ترتيب اآليات‪ ،‬هذا واضح‪ ،‬اهلل‬
‫ض َوالْ ُمْرِج ُفو َن ِيف الْ َم ِدينَ ِة‬ ‫ِِ‬
‫ين ِيف قُلُوهب ْم َمَر ٌ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫مثال‪ :‬ملا آية احلجاب ماذا قال بعدها مباشرة قال‪{ :‬لَئ ْن َملْ يَْنتَه الْ ُمنَاف ُقو َن َوالذ َ‬ ‫‪-‬عز وجل‪ً -‬‬
‫ني أَيْنَ َما ثُِق ُفوا أ ُِخ ُذوا َوقُتِّ لُوا تَ ْقتِ ًيال} األحزاب‪ ،61-60:‬فهذه يف موضوع وهذه يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ف َيها إَِّال قَل ًيال * َم ْلعُون َ‬
‫لَن ْغ ِري نَّك هبِِم ُمثَّ َال ُجيا ِورونَ ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُ َ َ ْ‬
‫موضوع‪ ،‬لكن إذا الحظنا املناسبة نقول‪ :‬هؤالء الذين يشككون يف احلجاب من الكتاب والصحافيني والعلمانيني ويطعنون فيه‪ ،‬ويلمزون‬
‫ين‬ ‫احملجبات وما إىل ذلك ملا ذكر اهلل آية حلجاب‪ ،‬ذكر بعدها مباشرة آية‪ ،‬وإن كان ما هلا يف النزول تعلق فقال‪{ :‬لَئِن َمل ي ْنت ِه الْمنافِ ُقو َن والَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ َ‬ ‫ْ ْ َ َ َُ‬
‫ني أَيْنَ َما ثُِق ُفوا أ ُِخ ُذوا َوقُتِّ لُوا تَ ْقتِ ًيال}‪ ،‬فنقول‪ :‬أنتم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِيف قُلُوهبِِم مرض والْمرِج ُفو َن ِيف الْم ِدين ِة لَن ْغ ِري نَّك هبِِم ُمثَّ َال ُجيا ِورونَ ِ‬
‫ك ف َيها إَِّال قَل ًيال * َم ْلعُون َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ ْ‬ ‫ْ ََ ٌ َ ُ ْ‬
‫متوعدون هبذا‪.‬‬
‫اب ي ْؤِمنُو َن بِا ْجلِب ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ين أُوتُوا نَصيبًا م َن الْكتَ ُ‬ ‫المناسبة بين المقطع والمقطع مثال قول اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يقول‪{ :‬أَ َملْ تََر إ َىل الذ َ‬
‫وت} النساء‪ ،51:‬هؤالء اليهود كرباء اليهود حيي بن أخطب ومن معه عندما ذهبوا إىل املشركني يف مكة وحرضوهم على قتال النيب‬ ‫والطَّاغُ ِ‬
‫َ‬
‫وت وي ُقولُو َن لِلَّ ِذين َك َفروا هؤَال ِء أَه َدى ِمن الَّ ِذين آمنوا سبِ ًيال * أُولَئِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬إىل آخره‪{ ،‬ي ْؤِمنُو َن بِ ِْ ِ‬
‫ين‬
‫ك ال ذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫َ ُ َُ ْ‬ ‫اجلْبت َوالطَّاغُ َ َ‬ ‫ُ‬
‫ك فَِإ ًذا َال ي ؤتُو َن النَّاس نَِ‬ ‫صيب ِمن الْم ْل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ُم اللَّهُ‬ ‫َّاس َعلَى َما آتَ ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫حي‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َم‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫*‬ ‫ا‬
‫ري‬
‫َ ً‬ ‫ق‬ ‫ُْ‬ ‫لَ َعنَ ُه ُم اللَّهُ َوَم ْن يَ ْل َع ِن اللَّهُ فَلَ ْن َجت َد لَهُ نَص ًريا * أ َْم َهلُ ْم نَ ٌ َ ُ‬
‫َّم َسعِ ًريا * إِ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آل إِب ر ِاهيم الْ ِكتَاب و ِْ‬ ‫ِمن فَ ْ ِ ِ‬
‫يما * فَمْن ُه ْم َم ْن َآم َن بِه َومْن ُه ْم َم ْن َ‬
‫ص َّد َعْنهُ َوَك َفى جبَ َهن َ‬ ‫اه ْم ُم ْل ًكا َعظ ً‬‫احل ْك َمةَ َوآتَْي نَ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ضله فَ َق ْد آتَْي نَا َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ين َآمنُوا‬ ‫ضجت جلُودهم ب َّدلْناهم جلُودا َغي رها لِي ُذوقُوا الْع َذاب إِ َّن اللَّه َكا َن ع ِزيزا ح ِكيما * والَّ ِ‬
‫ذ‬ ‫ف نُصلِي ِهم نَارا ُكلَّما نَ ِ‬‫َ‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫ا‬‫ن‬‫الَّ ِذين َك َفروا بِآياتِ‬
‫ً َ َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ً َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ ُ َ َْ‬
‫اج ُمطَ َّهَرةٌ َونُ ْد ِخلُ ُه ْم ِظ ًّال ظَلِ ًيال} النساء‪-51:‬‬ ‫ِ‬ ‫َّات َجت ِري ِمن َحتتِها ْاألَنْهار خالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها أَبَ ًدا َهلُ ْم ف َيها أ َْزَو ٌ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ات سنُ ْد ِخلُهم جن ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫احل ِ‬
‫َ‬
‫الص ِ‬
‫َّ‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫وع ِ‬
‫م‬ ‫ََ‬
‫‪ ،57‬انتهى هذه نزلت بسبب اليهود‪ ،‬جاءنا مقطع ثاين نزل بقصة ثانية ملا فتح النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مكة‪ ،‬هذه بعد غزوة أحد‪،‬‬
‫فاآليات األوىل املتقدمة يف فتح مكة يف قصة مفاتيح الكعبة‪ ،‬وإن كان بإسنادها نظر‪ ،‬أنزل اهلل اآليات اليت بعدها‪{ :‬إِ َّن اللَّهَ يَأْ ُمُرُك ْم أَ ْن تُ َؤُّدوا‬
‫َّاس أَ ْن َْحت ُك ُموا بِالْ َع ْد ِل إِ َّن اللَّهَ نِعِ َّما يَعِظُ ُك ْم بِِه} النساء‪ ،58:‬فبني النزولني فرتة طويلة حوايل مثان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني الن ِ‬ ‫ْاأل ََمانَات إِ َىل أ َْهل َها َوإِذَا َح َك ْمتُ ْم بَ ْ َ‬
‫سنوات أو ست أو سبع سنوات أو حنو هذا‪ ،‬وهذه هلا قصة وهذه هلا قصة‪.‬‬
‫لكن نقول‪ :‬فيه مناسبة هناك بأمر أو بأداء األمانات إىل أهلها‪ ،‬وهؤالء اليهود كتموا األمانة يف اآليات األخرية‪ ،‬ويف اليت قبلها يقول‪:‬‬
‫ين َك َفُروا َه ُؤَال ِء‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ين أُوتُوا نَصيبًا م َن الْكتَاب يُ ْؤمنُو َن با ْجلْبت َوالطَّاغُوت} النساء‪ ،51:‬سجدوا آلله املشركني‪َ { ،‬ويَ ُقولُو َن للَّذ َ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫{أَ َملْ تََر إ َىل الذ َ‬
‫ين َآمنُوا َسبِ ًيال} النساء‪ ،51:‬يقولون‪ :‬أنتم أهدى من حممد يا عباد األصنام‪ ،‬هؤالء ضيعوا األمانة‪ ،‬وإال ال؟ ويف اآلية األخرى‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫أ َْه َدى م َن الذ َ‬
‫ات إِ َىل أ َْهلِ َها} النساء‪ ،58:‬فظهر أن وجه االرتباط بني املقطعني اآلن‬ ‫اليت نزلت بعد هذا املقطع كله يقول‪{ :‬إِ َّن اللَّه يأْمرُكم أَ ْن تُؤُّدوا ْاألَمانَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُُ ْ َ‬
‫وإال ما الحظت‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السا ِرقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْديَ ُه َما َجَزاءً مبَا َك َسبَا نَ َك ًاال م َن اللَّه َواللَّهُ‬
‫السا ِر ُق َو َّ‬ ‫إذا االرتباط بين آخر اآلية خاتمة اآلية وموضوع اآلية‪َ { ،‬و َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم}‪ ،‬عز فحكم‪ ،‬وجه االرتباط واضح‪.‬‬ ‫يم} املائدة‪ ،38:‬فلم يقل‪ :‬غفور رحيم‪ ،‬وإمنا قال‪َ { :‬ع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك} املائدة‪ ،118:‬ما قال‪ :‬إنك أنت الغفور الرحيم‪،‬‬‫اد َك َوإِ ْن تَ ْغفْر َهلُ ْم فَِإنَّ َ‬
‫وعيسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬يقول‪{ :‬إِ ْن تُ َع ِّذبْ ُه ْم فَِإنَّ ُه ْم عبَ ُ‬
‫يم} املائدة‪ ،118:‬فهذا قد يشكل‪ ،‬نقول‪ :‬هذا اليوم يغضب اهلل فيه غضب مل يغضب قبله مثله‪ ،‬ومل يغضب‬ ‫وإمنا قال‪{ :‬أَنْت الْع ِزيز ْ ِ‬
‫احلَك ُ‬ ‫َ َ ُ‬
‫مدافعا عنهم‪ ،‬لكن يقول‪ :‬بني يديك إن عذبتهم فأنت قادر فهم عبادك‪ ،‬وإن غفرت‬ ‫بعده مثله‪ ،‬فعيسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬ال يريد أن يكون ً‬
‫هلم فليس عن ضعف وعجز‪ ،‬وإمنا عن عزة وحكمة‪ ،‬الحظت كيف االرتباط‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فهذا موضوع املناسبات بعيد اآليات وبني السور‪.‬‬
‫وهبذا نكون قد عرفنا مجع القرآن‪ ،‬وعرفنا علم املناسبات‪ ،‬وعرفنا علم موضوع خاص امسه ترتيب السور واآليات‪.‬‬
‫وبقي أن أقول‪ :‬إن الصحابة في زمن عثمان كتبوه كتابة خاصة بالرسم العثماني‪ ،‬هذا الرسم هل هو توقيفي؟ اجلواب‪ :‬ال‪،‬‬
‫كتبوه هبذه الطريقة‪ ،‬هل جيوز لنا خمالفته؟ ال‪ ،‬لئال يدخل العبث يف كتاب اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬فهذا يكتب على قواعد اإلمالء املغربية‪ ،‬وهذا‬
‫جيدا‪ ،‬ال ألنه‬
‫البغدادية‪ ،‬وهذا كل يوم قواعد إمالء جديدة‪ ،‬فنقول‪ :‬يكتب كما كتب‪ ،‬ومينع من كتابته من اإلمالء احلديث‪ ،‬عرفتم هذا ً‬
‫توقيفي‪ ،‬كتابة الرسم العثماين توقيفة لكن من باب سد الذريعة‪.‬‬
‫هل ألحد أن يكتب مصاحف ويطبعها بترتيب آخر غير ترتيب الصحابة الذين أجمعوا عليه؟ اجلواب‪ :‬ال؛ ألهنم وقع إمجاعهم‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫وبقي أن تعرف أن القرآن يجزأ إلى أجزاء‪ ،‬كان الصحابة يقرؤون به‪ ،‬وهو أحسن من التجزئة إىل ثالثني جزء‪ ،‬السبع الطوال‪ ،‬وتبدأ‬
‫بالبقرة وتنتهي بآخر براءة‪ ،‬واملئون وهي اليت بعد الرباءة مسيت بذلك؛ ألن كل سورة منها تزيد على املائة أو تقارب املائة‪ .‬واملثاين ما بعد‬
‫املائيني؛ ألهنا ثنتها يعين بعدها‪ ،‬فهي هلا ثوان‪ ،‬واملئون هلا أوائل‪ ،‬أو هي اآليات اليت ال تبلغ املائة‪ ،‬يقال هلا‪ :‬املثاين‪ ،‬وميكن أن يكون قيل هلا‬
‫كثريا‪ ،‬تقرأ أكثر من غريها؛ ألهنا ليست طويلة‪ ،‬أو لتثنية العرب‪ ،‬واألمثال فيها‪ ،‬وبعد املثاين يأيت املفصل سواء نقول‪ :‬يبدأ من‬
‫ذلك؛ ألهنا تثىن ً‬
‫احلجرات‪ ،‬أو من ق‪ ،‬على خالف ذلك‪.‬‬
‫فهذه خالصة يف هذا الفن‪ ،‬ونسأل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يبارك يل ولكم هبا‪ ،‬وأن ينفعين وإياكم بالعلم النافع‪ ،‬وأن يرزقين وإياكم العمل‬
‫الصاحل‪ ،‬وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته‪ ،‬وأسأل اهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يوفق اجلميع للخري‪ ،‬وأن يعيننا وإياكم على طاعته‪.‬‬

You might also like