You are on page 1of 117

‫الجمهوريــة الجزائريـــة الديمقراطيــة الشعبيـــة‬

‫وزارة التعليم العالي و البحث العلمي‬

‫جامعــــة الشـــــاذلي بن جديد – الطـــــارف‬

‫كلية العلوم اإلجتماعية و اإلنسانية‬

‫قسم علم اإلجتماع‬

‫مطبوعـ ـ ــة بيداغوجي ـ ــةحول‪:‬‬

‫حماضرات يف األنثروبولوجيا‬
‫دعم بيداغوجـ ـ ـي لطالب علم اإلجتمـ ـاع‬
‫اإلجتماع‪L.M.D‬‬ ‫نظام موجهة إلى طلبة السنة الثانية علم‬

‫إعداد‪:‬‬

‫د‪.‬عواطـــف عطـــيل لمـــوالدي‬

‫السنة الجامعية‪2016/2015 :‬‬


‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي‬
‫جامعة الشاذلي بن جديد‪ -‬الطارف‬
‫كلية العلوم االجتماعية و اإلنسانية‬
‫قسم علم االجتماع‬

‫مدخل إلى األنثروبولوجيا اإلجتماعية و الثقافية‬ ‫اسم المقياس‪:‬‬

‫‪ -‬طلبة السنة الثانية نظام‪L.M.D‬علم اإلجتماع‬ ‫مطبوعة موجهة‬


‫إلى‪:‬‬
‫‪ -‬مفهوم األنثروبولوجيا و أهدافها‬ ‫البرنامج الرسمي‬
‫‪ -‬الفرق بين األنثروبولوجيا و اإلثنولوجيا و اإلثنوغرافيا‬ ‫للمقياس‬
‫‪ -‬نشأتها و عالقتها بالعلوم األخرى‬ ‫(السداسي األول)‬
‫‪ -‬اإلتجاهات النظرية في األنثروبولوجيا ( النظرية التطورية‪ ,‬الثقافوية‪,‬‬
‫اإلتجاه الوظيفي‪)..‬‬
‫‪ -‬فروع األنثروبولوجيا‬

‫‪ -‬عرض مدخل عام حول األنثروبولوجيا (علم اإلنسان) قصد تعريف‬ ‫أهداف المقياس‬
‫الطالب بهذا التخصص العلمي‪ ,‬بدءا من تحديد مفهومه‪ ,‬تاريخه‪ ,‬أهدافه‪,‬‬
‫وأهميته‪.‬‬
‫‪ -‬تعريف الطالب باألقسام الرئيسية لألنثروبولوجيا‪ ,‬في إطار عالقة هذا‬
‫العلم‪ ,‬بغيره من فروع المعرفة العلمية‪ ,‬و بخاصة علم اإلجتماع‪.‬‬
‫‪ -‬توسيع مدارك الطالب‪ ,‬حول أهم المداخل النظرية‪ ,‬في التحليل‬
‫األنثروبولوجي‪.‬‬
‫‪ -‬تدريب الطالب على توظيف المعارف المكتسبة في هذا المقياس‪,‬‬
‫واستثمارها في مجال تخصصه (علم اإلجتماع)‪.‬‬
‫الفهرس‬
‫أ‪-‬ب‬ ‫مقدمة‬

‫‪17 - 4‬‬ ‫المحاضرة األولى‪ :‬مفهوم األ نثروبولوجيا‬

‫‪ -1‬تعريف األنثروبولوجيا‬
‫‪ -2‬الفرق بين األنثروبولوجيا و اإلثنولوجيا و اإلثنوغرافيا‬
‫‪ -3‬موضوعات األنثروبولوجيا‬
‫‪ -4‬أهدافاألنثروبولوجيا‬
‫‪ -5‬أهمية األنثروبولوجيا‬

‫‪40 - 19‬‬ ‫المحاضرة الثانية‪ :‬نشأة األ نثروبولوجيا و تطورها عبر التاريخ‬

‫‪ -1‬العصور القديمة‬
‫‪ -1-1‬الحضارة المصرية القديمة‬
‫‪ -1-2‬الحضارة اإلغريقية‬
‫‪ -1-3‬الحضارة الرومانية‬
‫‪ -1-4‬الحضارة الصينية‬
‫‪ -2‬العصور الوسطى‬
‫‪-1-2‬أوروبا في العصور الوسطى‬
‫‪-2-2‬الحضارة اإلسالمية فيالعصور الوسطى‬
‫‪ -3‬األنثروبولجيا في عصر النهضة‬
‫‪ -1-3‬األنثروبولوجيا في القرنين ‪ 15‬و ‪16‬‬
‫‪ -2-3‬األنثروبولوجيا في القرن ‪17‬‬
‫‪ -3-3‬األنثروبولوجيا في القرن ‪18‬‬
‫‪ -4-3‬األنثروبولوجيا في القرن ‪19‬‬
‫‪ -5-3‬األنثروبولوجيا في القرن ‪20‬‬

‫‪67 - 42‬‬ ‫المحاضرة الثالثة‪ :‬عالقة األ نثروبولوجيا بغيرها من العلوم‬


‫‪ -1‬عالقة األنثروبولوجيا بالبيولوجيا و التشريح و الفسيولوجيا‬

‫‪ -2‬عالقة األنثروبولوجيابالطب‬

‫‪ -3‬عالقة األنثروبولوجيابعلم اإلجتماع‬

‫‪-4‬عالقة األنثروبولوجيا بعلم النفس‬

‫‪-5‬عالقة األنثروبولوجيا بالتاريخ‬

‫‪-6‬عالقة األنثروبولوجيا بعلم اإلقتصاد‬

‫‪-7‬عالقة األنثروبولوجيا بالجغرافيا و الجيولوجيا‬

‫‪-8‬عالقة األنثروبولوجيا بالفلكلور‬

‫‪-9‬عالقة األنثروبولوجيا بعلم اآلثار (األركيولوجيا)‬

‫‪ -10‬عالقة األنثروبولوجيا باللغويات‬

‫‪-11‬عالقة األنثروبولوجيا بعلم السياسة‬

‫‪82 - 69‬‬ ‫المحاضرة الرابعة‪ :‬فروع األ نثروبولوجيا‬

‫‪ ‬األقسام الرئيسية لألنثروبولوجيا العامة‬

‫‪ -1‬األنثروبولوجيا الفيزيقية‬

‫‪-2‬األنثروبولوجيا الثقافية‬

‫‪ -3‬األنثروبولوجيا االجتماعية‬

‫‪ -4‬األنثروبولوجيا التطبيقية‬

‫‪106 - 84‬‬ ‫المحاضرة الخامسة‪ :‬ال تجاهات النظرية الكبرى في الحقل األ نثروبولوجي‬

‫‪ -1‬اإلتجاه النظري التطوري(النظرية التطورية)‬

‫‪ -2‬اإلتجاه النظري اإلنتشاري (نظرية اإلنتشار الثقافي)‬


‫‪ -3‬التطورية المحدثة )‪(New Evolution‬‬

‫‪ -4‬اإلتجاه النظري البنائي الوظيفي(النظرية البنائية الوظيفية)‬

‫‪ -5‬النظريات الحتمية‬

‫‪108‬‬ ‫خاتمة‬

‫قائمة المراجع‬
‫قائمة األشكال‬
‫الصفحة‬ ‫العنوان‬ ‫الرقم‬

‫‪70‬‬ ‫تقسيم لينتون لفروع األ نثروبولوجيا العامة‬ ‫‪1‬‬

‫‪70‬‬ ‫تقسيم كيسينج لفروع األ نثروبولوجيا العامة‬ ‫‪2‬‬

‫‪71‬‬ ‫تقسيم الجامعات الرئيسية األمريكية لفروع األ نثروبولوجيا العامة‬ ‫‪3‬‬

‫‪71‬‬ ‫تقسيم الجامعات البريطانية لفروع األ نثروبولوجيا العامة‬ ‫‪4‬‬

‫‪87‬‬ ‫تطور المجتمعات حسب لويس هنري مورجان‬ ‫‪5‬‬

‫‪91‬‬ ‫طريقة انتشار السمات الثقافية‬ ‫‪6‬‬

‫‪94‬‬ ‫تقسيم بناء الثقافة حسب علماء األ نثروبولوجيا‬ ‫‪7‬‬


‫مقدم ـ ــة‬
‫يسرني أن أضع بين أيدي طلبتنا األعزاء‪ ,‬هذه المطبوعة الموسومة بـ" محاضرات في األنثروبولوجيا"‪,‬‬
‫و هي تشتمل على مجموعة متمفصلة من المحاضرات‪ ,‬ألقيت ضمن مقياس مدخل إلى األنثروبولوجيا‬
‫االجتماعية و الثقافية‪ ,‬على طلبة السنة الثانية‪ ,‬قسم علم االجتماع‪ ,‬و هي تتماشى والمقرر الدراسي‪ ,‬لهذا‬
‫عدلت عنوان المقياس‪ ,‬بما يتناسب و محتواه‪ ,‬كون المحتوى يدور حول‬
‫المستوى التعليمي‪ ,‬غير أنني ّ‬
‫األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬و ليس حول الفرعين المذكورين‪ ,‬في العنوان األصلي للمقياس‪.‬‬

‫تبرز هذه المحاضرات بشكل مبسط و بأسلوب سلس‪ ,‬التعريف باألنثروبولوجيا‪ ,‬تاريخها‪ ,‬أهميتها‪,‬‬
‫وأهدافها‪ ,‬و كذا عالقتها بالحقول المعرفية األخرى‪ ,‬التي تربطها بها عالقة تكامل وظيفي‪ ,‬من حيث‬
‫الموضوعات و المناهج‪ ,‬لذلك عرفت األنثروبولوجيا بأنها الدراسة الشاملة و المتكاملة لإلنسان‪ ,‬إذ تهتم‬
‫بدراسته من النواحي الفيزيقية (الجسمانية)‪ ,‬النفسية‪ ,‬االجتماعية و الثقافية‪ ,..‬و كذلك تفاعالته مع بيئاته‬
‫الطبيعية (الجغرافية) و الثقافية من عادات و معتقدات و طقوس و أعراف‪ ,‬و غيرها من مكونات بناءه‬
‫الثقافي‪ ,‬وأكثر من ذلك‪ ,‬هي العلم الذي يدرس اإلنسان ككل‪.‬‬

‫كما حاولت تكييف محتوى المقياس‪ ,‬بما يتناسب وشعبة علم االجتماع‪ ,‬و ما يحتاجه الطلبة من‬
‫معارف أنثروبولوجية‪ ,‬تخدم تكوينهم ضمن هذا التخصص العلمي‪ ,‬دون الخوض في قضايا قد تكون هامشية‪,‬‬
‫أو معمقة‪ ,‬تتجاوزهم من الناحية المعرفية و الفكرية‪.‬‬

‫فالطالب و من خالل هذه المطبوعة‪ ,‬سوف يدعم مكتسباته المعرفية‪ ,‬التي يتلقاها في مقياس مدخل‬
‫إلى األ نثروبولوجيا‪ ,‬فيتزود بمعارف أساسية حول هذا الحقل المعرفي‪ ,‬إذتتبعهذه المحاضرات منطق التدرج في‬
‫عرض المعلومة‪,‬إذ قمت بإعادة ترتيب بعض المباحث و المطالب‪ ,‬المتضمنة في المقرر‪ ,‬كما ارتأيت دمج‬
‫بعض المباحث كمطالب‪ ,‬لضرورة االنتقال السليم و المنطقي‪ ,‬في عرض محتوى المحاضرات‪ ,‬فينتقل الطالب‬
‫بفهمه من الكل إلى الجزء‪ ,‬حتى يسهل عليه استيعابها‪ ,‬و بالتالي ترسيخها لديه‪.‬‬

‫ذلك‪,‬و من خالل تجربتي المتواضعة في التعليم بالجامعة‪ ,‬و بخاصة في مقياس األنثروبولوجيا‪ ,‬كثي ار‬
‫ما اعترضني موقف الطلبة من المقياس كونه "مقياس صعب و كثير التعقيد"‪ .‬فأردت بذلك أن ارفع التحدي‪,‬‬
‫و أن اعد مطبوعة ألجلهم‪ ,‬تكون دعما بيداغوجيا لهم‪ ,‬و معينا لهم‪ ,‬في فهم محتويات المقياس‪ ,‬الذي يصفونه‬
‫فزودت المادة النظرية لمحتوى المحاضرات‪ ,‬بأمثلة مستقاة من التاريخ‪ ,‬و الواقع االجتماعي الذي‬
‫بالصعب‪ّ .‬‬
‫يعيشه الطلبة‪ ,‬كما أدرجت بعض الصور الفوتوغرافية‪ ,‬للتعريف بأبرز أعالم األنثروبولوجيا القديمة‪,‬‬
‫والمعاصرة‪.‬‬

‫و بحسب المقرر الدراسي لمقياس "مدخل إلى األنثروبولوجيا االجتماعية و الثقافية"‪ ,‬فإن المطبوعة‬
‫تدرس للطلبة‪ ,‬في غضون السداسي األول من السنة الدراسية‪ ,‬حيث‬
‫تضم خمس محاضرات‪ ,‬يفترض أن ّ‬
‫تناولنا في األولى مفهوم األنثروبولوجيا‪ ,‬بنوع من التفصيل‪ ,‬ثم عرضنا إلى أهم موضوعاتها وأهدافها‪ ,‬فأهميتها‬
‫بالنسبة لإلنسان‪ ,‬و المجتمع بوجه عام‪ .‬أما الثانية فقد تناولنا فيها نشأة األنثروبولوجيا و تطورها عبر‬
‫التاريخ‪,‬منذ الحضارات القديمة‪ ,‬وصوال إلى العصر الحديث‪ ,‬و كذا عرض خصائصها كعلم قائم بذاته‪ ,‬مطلع‬
‫القرن العشرين‪ .‬ثم ّبينا في المحاضرة الثالثة عالقتها مع العديد من الحقول المعرفية‪ ,‬التي تربطها بها عالقة‬
‫يمهد‬
‫تكامل منهجي‪ ,‬و نظ ار لكثرة العلوم ذات الصلة باألنثروبولوجيا‪ ,‬إن لم نقل كّلها‪ ,‬فقد انتقينا أهمها‪ ,‬بما ّ‬
‫للخوض في موضوع فروعها الحقا‪ .‬في حين تناولنا في المحاضرة الرابعة والمعنونة بـ" فروع األنثروبولوجيا"‬
‫األقسام الرئيسية لأل نثروبولوجيا‪ ,‬و التي مثلت موضوع خالف بين العلماء‪ ,‬و تحديدا بين األنثروبولوجيين‬
‫البريطانيين‪ ,‬و األمريكيين‪ .‬أما المحاضرة الخامسة فإن موضوعهايدور حول االتجاهات النظرية الكبرى‪ ,‬التي‬
‫أثرت بشكل هام‪ ,‬على تكوين الفكر األنثروبولوجي‪.‬‬

‫و في األخير‪ ,‬آمل أن يجد الطلبة و حتى الباحثين و األساتذة‪ ,‬كل الفائدة في اطالعهم على هذه‬
‫المطبوعة‪ ,‬و هي على كل حال‪ ,‬تبقى قابلة للمناقشة و التوجيه‪ ,‬من اجل إعادتها مستقبال‪ ,‬في صورة أفضل‬
‫و أدق‪.‬‬

‫و هللا ولي التوفيق‬

‫د‪ /‬عواطف عطيل لموالدي عنابة في‪:‬‬

‫م‬
‫‪ 02‬رمضان ‪1437‬ه الموافقلـ‪ 07:‬جوان ‪2016‬‬
‫احمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاضرة األول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى‬

‫مفهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم األنثروبولوجيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫تمثل األنثروبولوجيا حقال معرفيا متشعبا و متداخال‪ ,‬يخترق جل الحقول المعرفية األخرى‪ ,‬سواء‬
‫االجتماعية منها أو اإلنسانية أو حتى الطبيعية‪ ,‬كونه يتناول دراسة اإلنسان من مختلف النواحي البيولوجية‪,‬‬
‫االجتماعية‪ ,‬الثقافية‪ ,‬النفسية‪ ,..‬ما جعل من الصعوبة بمكان‪ ,‬أن تجد إجماعا علميا‪ ,‬حول تعريف شامل‬
‫ودقيق لأل نثروبولوجيا‪ ,‬فقد تعددت التعريفات المنتجة حولها‪ ,‬و اختلفت بين العلماء من مدرسة فكرية إلى‬
‫أخرى‪ ,‬و من مجتمع إلى آخر‪ ,‬و من حقبة زمنية إلى أخرى‪ ,‬بالرغم من اتفاقهم على العديد من موضوعاتها‬
‫الرئيسة مثل‪ :‬الثقافة‪ ,‬الدين‪ ,‬العادات الجمعية‪ ,..‬و عليه تعد األنثروبولوجيا من بين العلوم‪ ,‬التي ثار حولها‬
‫الجدل‪ ,‬الختالف العلماء‪ ,‬في تحديد مفهومها و مجالها و تصورهم لها‪.‬‬

‫‪ -1‬تعريف األ نثروبولوجيا‪:‬‬

‫لغويا‪ :‬األنثروبولوجيا اصطالح علمي‪ ,‬من أصل يوناني‪ ,‬مركبمن مقطعين اثنين‪ ,‬األول‬
‫انثروبوس‪ ,Anthropos‬و يعني اإلنسان‪ ,‬و الثاني لوجوس‪ ,Logos‬و يعني الحقل أو العلم أو الدراسة‪ ,‬و‬
‫أي العلم الذي يدرس اإلنسان‪.‬أما تعريف األنثروبولوجيا من الناحية‬ ‫")‪,(1‬‬ ‫بذلك يكون معناها "علم النسان‬
‫االصطالحية‪ ,‬فإن تراث الفكر األنثروبولوجي‪ ,‬يزخر بتعريفات عديدة حولها‪ ,‬يصعب حصرها‪ ,‬و سوف نورد‬
‫فيما يلي أهمها‪.‬‬

‫تعرف األنثروبولوجيا بأنها‪ ":‬العلم الذي يدرس اإلنسان من حيث هو كائن عضوي حي‪ ,‬يعيش في‬
‫ّ‬
‫مجتمع تسوده نظم و انساق اجتماعية‪ ,‬في ظل ثقافة معينة‪ ,..‬و يقوم بأعمال متعددة‪ ,‬و يسلك سلوكا محددا‪,‬‬
‫و هو أيضا العلم الذي يدرس الحياة البدائية‪ ,‬و الحياة الحديثة المعاصرة‪ ,‬و يحاول التنبؤ بمستقبل اإلنسان‪,‬‬
‫معتمدا على تطوره عبر التاريخ اإلنساني الطويل‪ ,‬و لذا يعتبر علم اإلنسان (األنثروبولوجيا) علما متطورا‪,‬‬
‫يدرس اإلنسان و سلوكه وأعماله "(‪.)2‬‬

‫و في هذا السياق وردت تعريفات أخرى ّ‬


‫عرفت األنثروبولوجيا بأنها‪ " :‬علم النسان من حيث هو كائن‬
‫يعرفه آخرون بأنه‪" :‬علم النسان أفعاله و سلوكه"‪ ,‬أو " علم الجماعات البشرية‬
‫فيزيقي و اجتماعي "‪ ,‬و ّ‬
‫عرفت كذلك بأنها‪ " :‬علم الحضاراتو المجتمعات البشرية "(‪ ,)3‬و بصورة أدق "‬
‫في إنتاجها "‪ ,‬كما ّ‬
‫األنثروبولوجيا علم دراسة اإلنسان طبيعيا‪ ,‬و اجتماعيا‪ ,‬و حضاريا "‪.‬‬
‫تعرف االنثروبولوجيا أيضا بأنها علم " األناسة "‪ ,‬و يعني العلم الذي يدرس اإلنسان كمخلوق‪ ,‬ينتمي‬
‫و ّ‬
‫إلى العالم الحيواني من جهة‪ ,‬و من جهة أخرى‪ ,‬انه الوحيد من بين األنواع الحيوانية كّلها‪ ,‬الذي يصنع‬
‫الثقافة‪ ,‬و يبدعها‪ ,‬و هو لذلك المخلوق الذي يتميز عنها جميعا(‪.)4‬‬

‫و مهما كانت االختالفات بين هذه التعريفات المدرجة‪ ,‬فإن االنثروبولوجيا علم يبحث مختلف الجوانب‬
‫المتعلقة بحياة اإلنسان‪ ,‬و عالقة هذه الجوانب بعالم الطبيعة‪ ,‬و عالم اإلنسان‪ ,‬و ذلك إما في االتجاه الرأسي‬
‫عبر الزمان‪ ,‬أو في االتجاه األفقي عبر المكان‪ .‬فاالنثروبولوجيا إذن‪ ,‬هي الدراسة المتكاملة لإلنسان بما‬
‫تحويه من جوانب بيولوجية‪ ,‬فسيولوجية‪ ,‬اجتماعية‪ ,‬ثقافية و نفسية‪ ,‬إذ تحاول الكشف عن العالقة بين‬
‫المظاهر البيول وجية الموروثة لإلنسان‪ ,‬و ما يتلقاه ضمن عملية التنشئة االجتماعية و التعليم‪ ,‬و مقارنة التنوع‬
‫الهائل للجماعات اإلنسانية و المجتمعات بوجه عام‪ ,‬من حيث التراث الفكري‪ ,‬العادات و التقاليد‪ ,‬اإلبداع‬
‫األدبي و الفني‪ ,‬و مختلف أشكال السلوك و الممارسات‪ ,..‬و هذا ما يتوافق و التعريف الذي صاغه‬
‫عرفها بأنها‪ " :‬الدراسة البيوثقافية المقارنة لإلنسان "(‪.)5‬‬
‫ادواردتايلور‪E .Taylor‬حول االنثروبولوجيا حيث ّ‬

‫ادوارد تايلور‪)1917 -1832(E.B .Taylor‬‬

‫هذا‪ ,‬و قد حددت مرغريت ميد‪ )1979-1910( M.Mead‬طبيعة علم األنثروبولوجيا و أبعاده كالتالي‪" :‬إننا‬

‫نصنف الخصائص اإلنسانية للجنس البشري (البيولوجية و الثقافية) كأنساق مترابطة و ّ‬


‫متغيرة‪ ,‬و ذلك عن‬ ‫ّ‬
‫متطورة‪ .‬كما نهتم أيضا بوصف النظم االجتماعية و التكنولوجية وتحليلها‪,‬‬
‫ّ‬ ‫طريق نماذج و مقاييس و مناهج‬
‫إضافة إلى البحث في اإلدراك العقلي لإلنسان و ابتكاراته و معتقداته و وسائل اتصاالته‪ .‬و بصفة عامة‪,‬‬
‫التطور‪ ,‬أو‬
‫ّ‬ ‫نسعى – نحن األنثروبولوجيون‪ -‬لتفسير نتائج دراساتنا‪ ,‬و الربط فيما بينها‪ ,‬في إطار نظريات‬
‫ضمن مفهوم الوحدة النفسية المشتركة بين البشر"(‪.)6‬‬
‫تقدم فإن األنثروبولوجيا هي‪ " :‬العلم الذي يدرس اإلنسان‪ ,‬من حيث أوجه التماثل‬
‫و بناءا على ما ّ‬
‫واالختالف بينه و بين الكائنات الحية األخرى‪ ,‬و كذلك بينه و بين بني جنسه من البشر‪ ,‬و في الوقت نفسه‪,‬‬
‫يدرس أشكال السلوك اإلنساني‪ ,‬ضمن األطر االجتماعية و الثقافية‪ ,‬التي تصوغه‪ ,‬و حتى البيئة الطبيعية‪,‬‬
‫التي يعيش فيها اإلنسان‪ ,‬على شكل جماعات اجتماعية‪ ,‬و أثرها على نمط اقتصاده‪ ,‬ونموذج حياته بوجه‬
‫عام"‪.‬‬

‫و عليه فإن األ نثروبولوجيا‪ ,‬تتناول موضوعات مختلفة‪ ,‬من العلوم و التخصصات‪ ,‬التي تتعلق باإلنسان‪,‬‬
‫فهي ليست العلم الوحيد الذي ينفرد بدراسته‪ ,‬ذلك أن البيولوجيا و الفسيولوجيا(علم وظائف اإلنسان) تدرس‬
‫البناء الفيزيقي لإلنسان‪ ,‬أما سلوكه‪ ,‬فإن علوما مثل علم النفس‪ ,‬علم االجتماع‪ ,‬علم االقتصاد‪ ,‬علم السياسة‬
‫والتاريخ‪ ,‬تهتم بدراسة هذا الجانب‪ .‬و هكذا‪ ,‬نجد أن األنثروبولوجيا تشترك في دراستها لإلنسان‪ ,‬مع عدد كبير‬
‫من العلوم‪ ,‬إال أن ها تختلف في مقاربتها له‪ ,‬فهي ال تهتم بدراسة اإلنسان الفرد‪ ,‬كما هو الحال في الفسيولوجيا‬
‫و علم النفس‪ ,‬و لكنها تدرس اإلنسان باعتباره كائنا اجتماعيا يعيش في جماعات و أجناس‪ ,‬كما تهتم بدراسة‬
‫ممارسات األفراد و سلوكاتهم‪ .‬و على ذلك يمكن القول‪ " :‬األنثروبولوجيا هي علم دراسة الجماعات اإلنسانية‬
‫و سلوكها و إنتاجها"(‪.)7‬‬

‫و مع ذلك نجد أن العلماء‪ ,‬يختلفون في تعريف األنثروبولوجيا‪ ,‬من مجتمع إلى آخر‪ ,‬و من زمن إلى‬
‫آخر‪ ,‬و يرجع ذلك إلى تباين الخلفيات الثقافية‪ ,‬و المصالح القومية بين المجتمعات (الدول)‪ .‬فيقول العلماء‬
‫األمريكيون أن األنثروبولوجيا‪ ":‬وصف الخصائص اإلنسانية و البيولوجية والثقافية‪ ,‬للنوع البشري عبر‬
‫الزمان"(‪ ,)8‬و هم يستخدمون مصطلح األنثروبولوجيا الفيزيقية ‪Physical Anthropology‬للداللة على الجانب‬
‫العضوي أو الحيوي لإلنسان‪ ,‬بينما يستخدمون مصطلح األنثروبولوجيا الثقافية ‪Cultural Anthropology‬‬

‫للداللة على مجموع التخصصات‪ ,‬التي تدرس الجوانب االجتماعية والثقافية‪ ,‬لحياة اإلنسان‪.‬‬

‫و في المقابل نجد أن ما درج األمريكيون على تسميته األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬يصطلح الفرنسيون على‬
‫تسميته باإلثنولوجيا أو اإلثنوغرافيا‪ ,‬و في بعض األحيان‪ ,‬يدرسونها تحت مظلة علم االجتماع‪ ,‬و تعني‬
‫األنثروبولوجيا لدى العلماء الفرنسيين " دراسة التاريخ الطبيعي لإلنسان "(‪ ,)9‬حيث يرى الباحث الفرنسي جان‬
‫بوارييهأن اصطالح األنثروبولوجيا‪ ,‬قد ظهر أوال في كتابات علماء الطبيعة‪ ,‬إبان القرن ‪ ,18‬لتعنى بدراسة‬
‫التاريخ الطبيعي لإلنسان‪ .‬و في ألمانيا تعني األنثروبولوجيا " دراسة التنوعات الطبيعية الجوهرية بين البشر‪,‬‬
‫أو الدراسة الطبيعية لإلنسان"(‪ ,)10‬و اعتبر البعض أن عالم الطبيعة األلماني جوهان بلومينباخ‪ ,‬أول من‬
‫ادخل مصطلح األنثروبولوجيا‪ ,‬في منهج تدريس التاريخ الطبيعي‪ ,‬بالمقررات الجامعية‪.‬‬
‫في انجلترا‪ ,‬فقد اختار العلماء هناك تسمية هذا العلم "باألنثروبولوجيا اإلجتماعية"‪ ,‬و نظروا إليه باعتباره‬
‫علما قائما بذاته‪ ,‬ال يدرج تحته أي من التخصصات األخرى‪ ,‬كما ميزوا أيضا بين مجال األنثروبولوجيا‬
‫واإلثنولوجيا‪ ,‬هذه األخيرة التي سنأتي إلى بيانها الحقا‪ .‬أما في روسيا فإنه يشيع لديهم‪ ,‬استخدام مصطلح‬
‫اإلثنوغرافيا ‪ Ethnografia‬و تعني دراسة التنظيم االجتماعي للمجتمعات البدائية‪ ,‬وخاصة فيما يتعلق‬
‫بالتحوالت‪ ,‬التي تحدث في تلك المجتمعات‪ ,‬عند تحولها إلى دول جديدة‪ ,‬و ما يتبعه من بروز للطبقات‬
‫اإلجتماعية‪ ,‬كما يهتمون بدراسة المشكالت‪ ,‬المتصلة بالجماعات العرقية‪ ,‬و المشاعر القومية لألقليات‪,‬‬
‫وكذلك تطور المجتمعات اإلنسانية‪ ,‬في إطار النظرية الماركسية‪.‬‬

‫و في هذا السياق‪ ,‬تجدر اإلشارة إلى ضرورة التفرقة بين األنثروبولوجيا و اإلثنولوجيا و اإلثنوغرافيا‪,‬‬
‫كونها علوم تهتم بدراسة اإلنسان‪ ,‬و تتقاطع و األنثروبولوجيا في نواح كثيرة‪ ,‬في تناوله ككائن اجتماعي ذو‬
‫ثقافة‪ ,‬لدرجة أن البعض بالكاد يفرقون فيما بينها‪ ,‬و اعتقد الكثيرون أن األنثروبولوجيا هي نفسها اإلثنولوجيا‪,‬‬
‫نظ ار لتداخل مجال دراستهما لذات الموضوع‪ .‬و فيما يلي سوف نستعرض الفرق‪ ,‬بين كل من هذه العلوم‪,‬‬
‫حتى نزيل اللبس و الضبابية عنها‪ ,‬و يتضح مجال و موضوع دراسة كل منها‪.‬‬

‫‪ -2‬الفرق بين األ نثروبولوجيا و ال ثنولوجيا و ال ثنوغرافيا‪:‬‬

‫نعرف كل من اإلثنولوجيا و اإلثنوغرافيا على حدا‪ ,‬دون التطرق إلى تعريف‬


‫بداية‪ ,‬نجد من المهم أن ّ‬
‫األنثروبولوجيا‪ ,‬ألنه سبق تعريفها‪ ,‬بعد ذلك نستعرض نقاط التقاطع واإلشتراك بين هذه العلوم‪ ,‬و نقاط‬
‫اإلختالف أيضا‪ ,‬و من ثم يتضح الفرق فيما بينها‪.‬‬

‫‪ -1-2‬ال ثنولوجيا‪:Ethnology‬‬

‫يعتبر هذا العلم اقرب العلوم إلى األنثروبولوجيا‪ ,‬بل يوجد قدر كبير من التداخل بينهما‪ ,‬حتى انه كان‬
‫يطلق على األنثروبولوجيا اإلجتماعية في القرن ‪ 19‬و مطلع القرن ‪ 20‬اصطالح إثنولوجيا‪ ,‬و اعتب ار علما‬
‫واحدا‪ ,‬ويعود الفضل في فصلهما‪ ,‬إلى العلماء البريطانيين‪ ,‬الذين جعلوا لكل علم‪ ,‬مجاله‪ ,‬و موضوعاته‪ ,‬لذلك‬
‫مركب من مقطعين من أصل يوناني ‪Ethnos‬و‬
‫تعتبر األنثروبولوجيا علما حديثا نسبيا‪ .‬و اصطالح إثنولوجيا ّ‬
‫تعني جنس أو شعب‪ ,‬و ‪ Logos‬و تعني علم‪ ,‬و قد شاعت ترجمته " بعلم األجناس "‪ ,‬و كذلك " علم دراسة‬
‫الشعوب"(‪.)11‬‬

‫و يعنى هذا العلم بـ‪:‬‬


‫‪ -‬دراسة األجناس و السالالت البشرية‪ ,‬في نشأتها‪ ,‬وخصائصها المميزة لها‪ ,‬و مهادها األولى‪ ,‬و في نموها‬
‫وتطورها و انشعابها‪ ,‬و العوامل التي خضعت لها في هذا اإلنشعاب‪.‬‬
‫‪ -‬دراسة الشعوب و تصنيفها على أساس‪ :‬خصائصها‪ ,‬و مميزاتها الساللية‪ ,‬الثقافية‪ ,‬اللغوية‪ ,‬السياسية‪,‬‬
‫االقتصادية‪ ,‬و الدين‪ ,‬التقاليد‪ ,‬المعتقدات‪ ,‬الفنون الشعبية‪ ,‬فروع المعرفة الصناعية‪ ,‬نوع المباني (المعمار)‪,‬‬
‫المالبس التي يرتدونها‪ ,‬و كذلك المثل العليا‪ ,‬و الفلسفات لهذه الشعوب‪.‬‬
‫‪ -‬مقارنة المميزات الطبيعية لألجناس البشرية‪ ,‬على أساس الخصائص الفيزيقية المميزة للشعوب‪ ,‬والظروف‬
‫الثقافية لكل منها‪.‬‬
‫‪ -‬دراسة الفروض و النظريات‪ ,‬التي وضعت لتصنيف الشعوب‪ ,‬على أساس الخصائص والمميزات الساللية‪,‬‬
‫والثقافية‪ ,‬وببيان مدى رد اإلنسانية‪ ,‬إلى جنس واحد أو أكثر‪ ,‬و ما يثار من جدل‪ ,‬حول الجنس األمثل (خرافة‬
‫الجنس)‪ ,‬و الفروق العنصرية‪ ,‬و أثرها في التنظيم السياسي‪ ,‬االقتصادي واالجتماعي‪ .‬و قد يقصر هذا العلم‪,‬‬

‫على دراسة الشعوب‪ ,‬و الثقافات‪ ,‬و تاريخ حياة الجماعات‪ ,‬دون النظر إلى مدى تطورها و تقدمها‪ .‬وقد ّ‬
‫عرفه‬
‫بريتشارد بأنه‪ " :‬علم تصنيف الشعوب على أساس خصائصها‪ ,‬و مميزاتها الساللية و الثقافية‪ ,‬وتفسير‬
‫توزعها‪ ,‬في الماضي و الحاضر‪ ,‬نتيجة لتحركها‪ ,‬و اختالطها‪ ,‬و انتشار الثقافات "(‪.)12‬‬

‫عرفها هوبل‪ Hoebel‬بأنها " فرع من األنثروبولوجيا‪ ,‬تختص بتحليل المادة الثقافية‪ ,‬و تفسيرها بطريقة‬
‫و قد ّ‬
‫منهجية "(‪ ,)13‬معنى هذا أن اإلثنولوجيا تبقى ذات صلة مباشرة و دائمة باألنثروبولوجيا‪ ,‬طالما أنها فرع منها‪,‬‬
‫و يدرجها علماء األنثروبولوجيا األمريكيون‪ ,‬ضمن قسم األنثروبولوجيا الثقافية‪.‬‬

‫‪ -1-1-2‬الدراسات ال ثنولوجية‪:‬‬

‫من أمثلة المسائل‪ ,‬التي تدخل في صلب الدراسات اإلثنولوجية‪ ,‬مسألة المصادر التاريخية للشعوب‬
‫البولينيزية‪ :‬من أين أتت؟ و أي طريق سلكت؟ كيف احتلت هذه الشعوب المناطق التي تحتلها اآلن؟ و متى‬
‫كان ذلك؟ و من ثم فاإل ثنولوجي يحدد أوجه التماثل و االختالف بين الشعوب‪ ,‬و يصنفها بعد ذلك‪ ,‬على‬
‫أساس الجنس و اللغة و الثقافة‪ .‬و عليه فإن اإلثنولوجيا علم تاريخي‪ ,‬يفترض عند إعادة التركيبات التاريخية‪,‬‬
‫بعض التصميمات‪ ,‬على أساس دراسة استقرائية واسعة‪ ,..‬فهي دراسة تتابعية رأسية ‪Diachronic‬ألنها تعالج‬
‫الظاهرة في ضوء ماضيها‪ ,‬و تدرس الوقائع كما تحدث عبر الزمن‪.‬‬

‫أما من حيث الدراسات‪ ,‬فقد اكتشف اإلثنولوجيون‪ ,‬أن ثمة صلة قريبة جدا‪ ,‬بين اللغة الماالجازية ‪The‬‬

‫‪Malagazy language‬لسكان مدغشقر ‪Madagascar‬و بين لغات أرخبيل ماالي ‪Malay archipego‬و هو‬
‫دليل على وجود عالقة قديمة‪ ,‬بين هاتين المقاطعتين‪ .‬كذلك فإن "وجود األهرامات في السودان شرق دامر‪,‬‬
‫أو شمال كسال‪ ,‬أو في شندي‪ ,‬ربما يرد إلى التأثير المصري القديم‪ ,‬في الفترة من ‪ 2000‬إلى ‪ 5000‬ق‪.‬م‪,‬‬
‫حيث استعاروا من مصر‪ ,‬فكرة اتخاذ األهرامات‪ ,‬مقابر لدفن األسر المالكة"(‪.)14‬‬

‫و قد اهتمت أمريكا بالدراسات اإلثنولوجية‪ ,‬و هي من دون شك مهد و مهجر‪ ,‬لفلول بشرية و سالالت‬
‫عنصرية كثيرة‪ ,‬شهدت أرضها ما لم تشهده منطقة أخرى‪ ,‬من االنصهار بين عناصر بشرية‪ ,‬من كل قارات‬
‫العالم‪ ,‬فهي أشبه ما يكون ببوتقة لكل الدراسات و التجارب‪ ,‬المتصلة باإلثنولوجيا‪ ,‬و قد أنشأت " المكتب‬
‫اإلثنولوجي األمريكي "‪ ,‬الذي يضم نخبة من علماء الرعيل األول‪ ,‬في اإلثنولوجيا و األنثروبولوجيا واإلجتماع‪,‬‬
‫لتعميق الدراسة في هذا الميدان‪.‬‬

‫و لم يفت فرنسا أيضا‪ ,‬أن تعنى باإلثنولوجيا‪ .‬فأنشأت لها معهدا‪ ,‬ألحقته بجامعة باريس ‪Institut‬‬

‫‪d’Ethnologie de l’Université de Paris‬و كان من أبرز مديريه ليفي برول‪ .Levi Bruhl‬و أولت انجلت ار‬
‫الدراسات اإل ثنولوجية اهتماما خاصا‪ ,‬و أنشأت لها عدة أقسام في جامعاتها‪ ,‬و أفادت منها في سياساتها‬
‫التطبيقية و العلمية(‪.)15‬‬

‫‪ -2-2‬ال ثنوغرافيا‪: Ethnography‬‬

‫اإلثنوغرافيا اصطالح علمي مركب من مقطعين من أصل يوناني‪Ethnos ,‬تعني جنس أو شعب‪,‬‬
‫و‪Grapho‬و تعني يكتب أو يرسم‪ ,‬و قد ترجم بكلمتي " وصف الشعوب "(‪ .)16‬إن اإلثنوغرافيا علم يختص‬
‫بالدراسة الوصفية المقارنة‪ ,‬للمجتمعات اإلنسانية‪ ,‬السيما البدائية منها‪ ,‬و التي ال تزال في مراحل التخلف‬
‫االجتماعي‪ ,‬السياسي‪ ,‬الفكري و االقتصادي‪ .‬إن اإلثنوغرافيا دراسة وصفية مقارنة في المكان‪ ,‬و على نحو‬
‫أفقي‪ ,‬و تعنى بجمع المعلومات و شرحها‪ ,‬بطريقة وصفية‪ ,‬أكثر مما تعنى بتحليلها‪ ,‬و استخالص بعض‬
‫الفروض و النظريات منها‪ ,‬على أنها استطاعت في النصف الثاني من القرن العشرين‪ ,‬أن تغذي‬
‫األنثروبولوجيا‪ ,‬بأبحاث نظرية‪.‬‬

‫كما تمثل اإل ثنوغرافيا دراسة متزامنة‪ ,‬تتعلق باألحداث و الوقائع‪ ,‬التي تحدث لشعب معين‪ ,‬أو عدد من‬
‫الجماعات‪ ,‬ترتبط ببعضها‪ ,‬ارتباطا وثيقا‪ ,‬و ذلك في وقت معين بالذات‪ .‬و تقوم اإلثنوغرافيا بتصنيف‬
‫الشعوب‪ ,‬و عقد مقارنات‪ ,‬بين أوجه التماثل‪ ,‬و أوجه االختالف فيها‪ .‬هذا‪ ,‬و يقضي اإلثنوغرافي أثناء دراسته‬
‫الحقلية‪ ,‬فترة زمنية قد تدوم من سنة إلى سنتين‪ ,‬يتعلم من خاللها‪ ,‬لغة األهالي التي تصبح لغته الثابتة‪,‬‬
‫ويناقش اكتشافاته‪ ,‬و وجهات نظره‪ ,‬في ضوء اكتشافات و وجهات نظر أخرى‪ .‬و تفيد هذه الدراسة‪ ,‬في أنها‬
‫تمكن اإل ثنوغرافي‪ ,‬من عقد المقارنات‪ ,‬بين ثقافة مجتمعه‪ ,‬و ثقافة المجتمع الذي يدرسه‪ ,‬و بعد أن يتم‬
‫دراسته‪ ,‬يعود اإل ثنوغرافي مرة ثانية‪ ,‬إلى المجتمع الذي درسه‪ ,‬و يقوم بدراسته مجددا‪ ,‬مما يسمح له بوضع‬
‫نظرية شاملة‪.‬‬

‫و ما تجدر اإلشارة إليه – من الناحية التاريخية ‪ ,-‬أن اإلثنوغرافيا كعلم‪ ,‬قد ارتبط في بداياته‪ ,‬بالرحالت‬
‫التجارية و اإلكتشافية‪ ,‬و بالحروب أيضا‪ ,‬حيث كان الرحالة عبر العالم‪ ,‬يجمعون المعلومات عن المجتمعات‪,‬‬

‫من مختلف المناطق التي يزورونها‪ ,‬فيصفون عاداتهم وتقاليدهم و فنونهم‪..‬الخ‪ ,‬و قد قام ّ‬
‫الرحالة العرب‬
‫بالعديد من الدراسات اإل ثنوغرافية‪ ,‬منذ عهد بعيد‪ ,‬و كان لهم الفضل‪ ,‬في الكشف عن مجتمعات وجماعات‬
‫مقدمتهم‪)17(:‬‬ ‫اجتماعية‪ ,‬لم تكن معروفة من قبل‪ ,‬و في‬

‫‪ -‬المسعودي (‪956‬م) في كتابه " مروج الذهب و معادن الجوهر "‬

‫‪ -‬ابن حوقل (‪977‬م) في كتابه " المسالك و الممالك "‬

‫‪ -‬المقدسي (‪985‬م) في كتابه " حسن التقاسيم "‬

‫‪ -‬اإلدريسي (‪1153‬م) في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق "‬

‫‪ -‬ابن بطوطة (‪1378‬م) في كتابه " تحفة األنظار في عجائب األسفار "‬

‫و مثلتهذه المؤلفات الجغرافية و معاجم البلدان‪ ,‬مادة خصبة‪ ,‬من ناحية المنهج اإلثنوغرافي‪ ,‬في دراسة‬
‫الشعوب و الثقافات اإلنسانية‪ ,‬و سميت هذه المرحلة باإلثنوغرافيا العفوية‪ ,‬و كان للفتوحات اإلسالمية دور‬
‫كبير‪ ,‬في االهتمام بدراسة " أحوال الناس في البالد المفتوحة‪ ,‬و سبل إدارتها‪ ,‬حيث أصبح ذلك من ضرورات‬
‫الرحالة األوروبيون في ذلك فيما بعد‪ ,‬و بخاصة بعد اكتشاف العالم الجديد‪.‬‬
‫توسع ّ‬
‫التنظيم و الحكم"(‪.)18‬و ّ‬

‫أما اإلثنوغرافيا كمفهوم و تخصص علمي‪ ,‬فهي علم حديث‪ ,‬افرزه العصر الحديث‪ ,‬بعد انفصال كثير من‬
‫العلوم‪ ,‬و استقاللها بموضوعها و منهجها‪ ,‬عن الفلسفة‪.‬‬

‫‪ -3-2‬الفرق بين ال ثنوغرافيا و ال ثنولوجيا‪:‬‬

‫‪ -1-3-2‬أوجه االختالف‪:‬‬

‫‪ ‬اإلثنوغرافيا هي الدراسة الوصفية المقارنة‪ ,‬لمجتمعات و ثقافات اإلنسان‪ ,‬مثل‪ :‬مقارنة صناعات وأدوات‬
‫مجتمع معين‪ ,‬ببقية المجتمعات األخرى‪ ,‬و القائمة اآلن بالفعل‪ ,‬و تلك هي المقارنة األفقية‪ .‬كما تنحصر‬
‫دراسة اإلثنوغرافيا في الوصف‪ ,‬حيث يقوم اإلثنوغرافي بتجميع المعلومات‪ ,‬دون تحليلها أو تفسيرها‪.‬‬
‫التعرف على‬
‫‪ ‬أما اإلثنولوجيا تعني الدراسة الرأسية لمظاهر الثقافة‪ ,‬بشقيها المادي و الالمادي‪ ,‬و هي تحاول ّ‬
‫ماضي تلك السمات‪ ,‬أو الظاهرات الثقافية‪ .‬و هذا يعني أن الدراسة اإلثنوغرافية إذا كانت مقارنة في المكان‬
‫‪ Space‬فإن الدراسة اإلثنولوجية إنما هي مقارنة في الزمان ‪Time‬و بخاصة الزمان البعيد المنقرض‪.‬‬

‫‪ -2-3-2‬أوجه التكامل الوظيفي بين ال ثنولوجيا و ال ثنوغرافيا‪:‬‬

‫‪ ‬بعد أن يجمع اإلثنوغرافي البيانات حول جماعة ما‪ ,‬يأت دور اإلثنولوجي كي يستفيد منها‪ ,‬فيقوم بتصنيفها‪,‬‬
‫وتحليلها‪ ,‬و استخالص المبادئ التي تفسر الحقائق اإلثنوغرافية‪ ,‬و إقامة النظريات التي تتعلق بطبيعة‬
‫التصرفات اإلنسانية‪ ,‬و النماذج الحضارية‪ ,‬و وظائفها‪ ,‬فإذا كانت الدراسة اإلثنوغرافية هي دراسة وصفية‪ ,‬فإن‬
‫اإلثنولوجيا هي دراسة تفسيرية‪.‬و من ثم فإن المادة اإلثنوغرافية تشكل قاعدة أساسية لعمل الباحث اإلثنولوجي‪,‬‬
‫وتكمل الواحدة األخرى‪.‬‬
‫فاإلثنوغرافيا و اإلثنولوجيا مرتبطتان ّ‬

‫‪ -4-2‬فيما يشترك ال ثنولوجيا و ال ثنوغرافيا و ال نثروبولوجيا؟‬

‫يشترك كل من اإلثنولوجيا و اإلثنوغرافيا و األنثروبولوجيا‪ ,‬في تصنيف السالالت البشرية‪ ,‬و التي تعد عملية‬ ‫‪‬‬
‫هامة وضرورية‪ ,‬لعقد مقارنات بين المجتمعات األولى‪ ,‬غير أن مقارنة اإلثنولوجيا تكون رأسية (في الزمان)‪,‬‬
‫في حين تكون مقارنة اإلثنوغرافيا أفقية (في المكان)‪ ,‬أما األنثروبولوجيا فإنها تستفيد من كال منهما‪ ,‬حيث‬
‫تمت دراستها‪ ,‬كما تشترك اإلثنولوجيا و األنثروبولوجيا‪ ,‬في الوقوف على‬
‫يمدانها بحقائق عن الشعوب‪ ,‬التي ّ‬
‫أوجه التماثل واالختالف‪ ,‬بين الجماعات البشرية محل الدراسة‪ ,‬ويحاول كليهما إعادة تكوين تاريخ بعض‬
‫الشعوب‪ ,‬التي ال تتوافر فيها الوثائق و المستندات التاريخية‪ ,‬و اآلثار التي يمكن تحليلها‪ ,‬كما يعتمد كل من‬
‫اإلثنولوجيا و اإلثنوغرافيا و األنثروبولوجيا في استقاء المعلومات‪ ,‬على الدراسات الحقلية (الميدانية) ‪Field‬‬

‫‪.Study‬‬

‫‪ -5-2‬فيما يختلف ال ثنولوجيا و ال ثنوغرافيا و األ نثروبولوجيا؟‬

‫هنالك فروق ميثودولوجية‪ ,‬بين اإلثنولوجيا و اإلثنوغرافيا و األنثروبولوجيا اإلجتماعية‪ ,‬تتجلى فيما يلي‪:‬‬

‫‪ ‬تدرس االنثروبولوجيا االجتماعية السلوك االجتماعي‪ ,‬الذي يتخذ في العادة‪ ,‬شكل نظم اجتماعية‪ ,‬مثل‪ :‬نظام‬
‫األسرة‪ ,‬نظام القرابة‪ ,‬النظام السياسي‪ ,‬و النظم التشريعية‪ ,‬و العقائد الدينية‪ ,‬و ما ماثل ذلك‪ ,‬كما تهتم‬
‫بتوضيح العالقة بين هذه النظم‪ ,‬سواء في المجتمعات المعاصرة‪ ,‬أو المجتمعات التاريخية‪ ,‬التي توجد حولها‬
‫معلومات مناسبة‪ ,‬و يستند ذلك إلى التجربة‪ ,‬التي تتحقق بالعمل الحقلي ‪.Field work‬‬
‫‪ ‬بينما تهتم اإل ثنولوجيا‪ ,‬بتصنيف الشعوب‪ ,‬و دراستها من ناحية صفاتها‪ ,‬و الخصائص المميزة ألجناس‬
‫تفسر كذلك توزيع هذه الشعوب‪,‬‬
‫اإلنسان‪ ,‬من ناحية المالمح الفيزيقية‪ ,‬و الخلقية السائدة‪ ,‬بين بني البشر‪ ,‬و ّ‬
‫في الوقت الحاضر‪ ,‬أو في الماضي‪ ,‬عن طريق الهجرات‪ ,‬أو االختالط‪ ,‬أواإلنتشار الثقافي‪.‬‬
‫‪ ‬فيما تشكل اإلثنوغرافيا المادة النظرية األولية‪ ,‬لكل من اإلثنولوجيا و األنثروبولوجيا‪ ,‬من دون تحليل أو تفسير‪,‬‬
‫إذ تكتف بالمقارنة األفقية فحسب‪ ,‬و يقوم اإلثنولوجي و كذلك األنثروبولوجي‪ ,‬بالعمل على هذه المعطيات‪,‬‬
‫حيث يقوم اإلثنولوجي بإجراء مقارنة رأسية‪ ,‬بينما يجمع األنثروبولوجي‪ ,‬بين المقارنة الرأسية و األفقية في‬
‫حده اإلثنوغرافي‪ ,‬لكن كل بطريقته‪.‬‬
‫أثناء دراسته‪ ,‬و من ثم فإن كال العلمين‪ ,‬يواصالن ما يتوقف عند ّ‬
‫‪ -3‬موضوعات األ نثروبولوجيا‪:‬‬

‫قبل الخوض في موضوعات األنثروبولوجيا نجد من المهم أن نطرح السؤال التالي‪ :‬كيف تدرس‬
‫األنثروبولوجيا اإلنسان؟‬

‫إن األ نثروبولوجياال تدرس اإلنسان ككائن وحيد و منعزل‪ ,‬و إنما تدرسه ككائن اجتماعي‪ ,‬يعيش في‬
‫مجتمع‪ ,‬عليه حقوق و واجبات‪ ,‬يؤدي وظائف اجتماعية‪ ,‬منتج للثقافة‪ ,‬ينتشر في األرض زم ار و جماعات‪.‬‬
‫كما تدرس األ نثروبولوجيا اإلنسان في كل زمان و مكان‪ ,‬و ال يقتصر نطاقها على فترة تاريخية محددة‬
‫بعينها‪ ,‬و إنما تهتم باألشكال األولى و المبكرة‪ ,‬لإلنسان و أجداده و أصوله‪ ,‬منذ أقدم العصور و األزمنة‪,‬‬
‫المسجل أو المكتوب‪ ,‬أو ما يصطلح‬
‫ّ‬ ‫حتى يومنا هذا‪ ,‬و هي عادة تهتم بتاريخ الشعوب التي تفتقر إلى التاريخ‬
‫على تسميتها بالبدائية‪ ,‬كما تهتم كذلك بدراسة اإلنسان‪ ,‬في كل مكان من أجزاء الكرة األرضية‪ .‬مثل‪:‬‬

‫‪ ‬اقتصاديات الجماعات التي ال تعرف سوقا ذات نظم للسعر الموحد‪.‬‬


‫‪ ‬الحكومات و السياسات التي ال تؤلف دوال‪.‬‬
‫‪ ‬العالقات االجتماعية التي يقوم فيها العمل و التخصص على أساس القرابة‪.‬‬
‫‪ ‬سيكولوجية الشعوب غير الغربية‪.‬‬
‫‪ ‬دراسة الفروق بين الثقافات و أوجه التماثل بينها‪ ,‬في محاولة منها للتوصل إلى القوانين أو األسس‪ ,‬التي‬
‫تحكم تطور الثقافة‪ ,‬في مختلف المجتمعات اإلنسانية‪.‬‬

‫و هكذا‪ ,‬ال تتقيد األ نثروبولوجيا بفترات الزمان‪ ,‬أو حواجز المكان‪ ,‬و لكنها تتقيد بموضوع واحد هو‬
‫اإلنسان‪ .‬غير أن أوائل األنثروبولوجيون قد ركزوا في دراساتهم على مظاهر الحياة االجتماعية للمجتمعات‬
‫البدائية‪ ,‬فعرفت األ نثروبولوجيا حينذاك بعلم المجتمعات المتأخرة‪ ,‬و يؤكد ذلك‪ ,‬ما ورد في مجلة‬
‫"األنثروبولوجيا األمريكية"‪ ,‬في عدد أكتوبر ‪1960‬م‪ ,‬حول ثقافات عصور ما قبل الفخار في اليابان‪ ,‬و القرابة‪,‬‬
‫و التطور‪ ,‬و التقاليد التاريخية‪ ,‬و الدراسات األثرية في بولينيزيا‪ ,‬و التحوالت و االنحراف الثقافي في تالل‬
‫الهماليا‪ ,‬و مفهوم المرض في الثقافة المكسيكية‪.‬‬

‫و في المجلة نفسها‪ ,‬عدد فبراير من عام ‪1961‬م‪ ,‬عنيت الدراسات الرئيسية التي تضمنها‪ ,‬بالنظرية‬
‫االقتصادية و المجتمع البدائي‪ ,‬التنظيم العشائري في قرية ناطقة بلغة الناهواتل في والية تالكسكاال في‬
‫المكسيك‪ ,‬و القوة و االلتحام في بنية بدنة صومالية شمالية‪.)19(..‬‬

‫و ما تجدر اإلشارة إليه‪ ,‬أن موضوع تلك الدراسات دار حول المجتمعات الصغيرة مثل العشائر‪ ,‬و كان‬
‫االهتمام موجها لدراسة نسق القرابة ‪Kinshipsystem‬والطقوس‪,Rituals‬أما النظم االجتماعية األخرى‪ ,‬فقد‬
‫أهملت لدرجة ما‪ ,‬خاصة النظام السياسي‪.‬‬

‫و في ذلك يقول عالم األنثروبولوجيا األمريكي مانتشب وايت‪ "M. White‬إننا في استخدامنا لتعبير علم‬
‫اإلنسان‪ ,‬ال نقصد دراسة اإلنسان‪ ,‬بقدر ما نقصد دراسة اإلنسان البدائي‪ ,‬و هذا يعني دراسة المجتمعات‬
‫المتطور المعقد‪ ,‬لمجتمعاتنا المتطورة‬
‫ّ‬ ‫الفطرية‪ ,‬أو التي ال زالت اقرب للفطرة‪ ,‬و ذلك أن دراسة اإلنسان‬
‫أوالمتحضرة‪ ,‬بالمعنى الحضري لهذه الكلمة‪ ,‬ليست من مهمة عالم اإلنسان‪ ,‬بل من مهمة عالم االجتماع‬
‫"(‪ .)20‬لذلك عرفت األ نثروبولوجيا بأنها " العلم الذي يدرس بشكل رئيسي المجتمعات البدائية "‪ .‬لكن السؤال‬
‫الذي يطرح نفسه بشدة‪ ,‬لماذا اهتم الرعيل األول من األنثروبولوجيين بدراسة المجتمعات البدائية ؟‬

‫يمكن تلخيص األسباب‪ ,‬التي دفعت بالرعيل األول من األنثروبولوجيين‪ ,‬إلى دراسة المجتمعات‬
‫يلي‪)21(:‬‬ ‫البدائية‪ ,‬فيما‬

‫‪ ‬جذبتهذه المجتمعات انتباه فالسفة القرن ‪ ,18‬كونها تمثل حالة الطبيعة‪ ,‬التي يظن أن اإلنسان كان يعيش‬
‫عليها‪ ,‬قبل أن يظهر نظام الحكومة المدنية‪.‬‬
‫‪ ‬اهتم بها كذلك علماء األنثروبولوجيا في القرن ‪ 19‬العتقادهم‪ ,‬أنهم وجدوا فيها دالئل و شواهد‪ ,‬تساعدهم في‬
‫بحثهم عن أصول النظم االجتماعية‪ ,‬في ابسط صورها‪ ,‬فالمنهج السليم يقتضي التدرج في الدراسة‪ ,‬من النظم‬
‫األكثر بساطة‪ ,‬إلى تلك األشد تعقيدا‪ ,‬حتى يتسنى للباحث أن يستعين في دراسته بما تعلمه‪ ,‬من الدراسة‬
‫السابقة‪.‬‬
‫‪ ‬و ثمة سبب آخر وجيه‪ ,‬لدراسة المجتمعات البدائية‪ ,‬و هو أن هذه المجتمعات أخذت تنفتح على العالم‬
‫الخارجي‪ ,‬و تتغير بسرعة‪ ,‬تحت تأثير الثقافة األوروبية الصناعية‪ ,‬مما استوجب المبادرة إلى دراستها‪ ,‬قبل‬
‫فوات األوان‪ .‬و يرى وورنر‪Worner‬أن المجتمعات البدائية بالنسبة لألنثروبولوجي االجتماعي‪ ,‬بمثابة‬
‫المعمل‪ ,‬الذي يمكن أن يختبر فيه أفكاره‪ ,‬و طرائقه في البحث االجتماعي‪.‬‬

‫حاليا‪ ,‬لم تعد األبحاث األنثروبولوجية‪ ,‬تقتصر على المجتمعات البدائية وحدها‪ ,‬كون أن معظم هذه‬
‫المجتمعات‪ ,‬قد تعرضت لإلبادة‪ ,‬كما هو حال قبائل الهنود الحمر في أمريكا‪ ,‬كما عملت وسائل االتصال بين‬
‫الشعوب‪ ,‬على تطور المجتمعات و الجماعات البدائية و المتخلفة‪ ,‬ذات النظام القبلي‪ .‬و بذلك تحول اهتمام‬
‫األنثروبولوجيون إلى دراسة الجماعات المحلية‪ ,‬القروية و الحضرية‪ ,‬و البيئات الصناعية في ايرلنده و كوبيك‬
‫‪Québec‬و ماساشوسيث‪ ,‬المكسيك و اليابان‪.‬‬

‫‪ -4‬أهداف األ نثروبولوجيا‪:‬‬

‫(‪)22‬‬ ‫يمكن تحديد أهم األهداف‪ ,‬التي يسعى علماء األنثروبولوجيا إلى تحقيقها‪ ,‬في النقاط التالية‪:‬‬

‫‪ ‬وصف مظاهر الحياة البشرية و الحضارية‪ ,‬وصفا دقيقا‪ ,‬و ذلك عن طريق معايشة الباحث‪ ,‬لمجتمع الدراسة‪,‬‬
‫و تسجيل كل ما يقوم به األفراد‪ ,‬من سلوكات و تعامالت فيما بينهم‪.‬‬
‫‪ ‬تصنيف مظاهر الحياة االجتماعية للمجتمعات و الجماعات‪ ,‬بعد دراستها دراسة واقعية‪ ,‬و ذلك من اجل‬
‫التوصل إلى وضع أنماط ثقافية عامة‪ ,‬في سياق الترتيب التطوري الحضاري العام لإلنسان (بدائي‪ ,‬زراعي‪,‬‬
‫صناعي‪ ,‬معرفي‪ ,‬تكنولوجي)‪.‬‬
‫التغير الذي يحدث لإلنسان‪ ,‬و عوامل هذا التغير و عملياته بدقة علمية‪ ,‬و ذلك بالرجوع إلى‬
‫‪ ‬تحديد أصول ّ‬
‫التراث اإلنساني‪ ,‬و ربطه بالحاضر‪ ,‬من خالل المقارنة و التحليل‪ ,‬و إيجاد عناصر التغيير المختلفة‪.‬‬
‫‪ ‬اكتشاف القواسم المشتركة بين البشر‪ ,‬و كيفية زيادة االختالفات في أنماط السلوك البشري‪ ,‬و كذلك معرفة‬
‫الطرق‪ ,‬التي سيطرت بها الجماعات البشرية‪ ,‬على بيئاتها‪ ,‬من خالل األساليب التكنولوجية‪ ,‬والنظم‬
‫االجتماعية(‪.)23‬‬
‫‪ ‬استنتاج المؤشرات و التوقعات‪ ,‬التجاه التغيير المحتمل‪ ,‬في الظواهر اإلنسانية و الحضارية والثقافية‪ ,‬التي‬
‫تتمم دراستها‪ ,‬و التصور بالتالي إلمكانية التنبؤ‪ ,‬و استشراف مستقبل الجماعة البشرية‪ ,‬التي أجريت عليها‬
‫ّ‬
‫الدراسة‪.‬‬
‫‪ -5‬أهمية األ نثروبولوجيا‪:‬‬

‫إن اهتمام األنثروبولوجيا بدراسة المجتمعات كّلها‪ ,‬و على المستويات الحضارية كافة‪ ,‬يعتبر منطلقا‬
‫أساسيا‪ ,‬في فلسفة علم األ نثروبولوجيا‪ ,‬و أهدافها‪ ,‬و لكن على الرغم من التوسع في مجال الدراسات‬
‫األنثروبولوجية‪ ,‬ما زالت االهتمامات التقليدية لألنثروبولوجيا‪ ,‬السيما وصف الثقافات‪ ,‬و أسلوب حياة‬

‫المجتمعات‪ ,‬و دراسة اللغات و اللهجات المحلية‪ ,‬و آثار ما قبل التاريخ‪ ,..‬تؤكد و من دون شك ّ‬
‫تفرد مجال‬
‫األنثروبولوجيا‪ ,‬عن غيرها من العلوم‪ ,‬بما فيها علم االجتماع (‪.)24‬‬

‫و من هنا كانت أهمية الدراسات األنثروبولوجية‪ ,‬في تحديد صفات الكائنات البشرية‪ ,‬و إيجاد القواسم‬
‫المشتركة فيما بينها‪ ,‬بعيدا عن التعصب‪ ,‬و األحكام المسبقة التي ال تستند إلى أصول علمية‪ .‬و إذا كان علم‬
‫األ نثروبولوجيا بدراساته المتعددة‪ ,‬قد استطاع أن يحقق نجاحا‪ ,‬في إثبات الكثير من الظواهر‪ ,‬المتعلقة بنشأة‬
‫تطوره الثقافي و الحضاري‪ ,‬فإن أهم ما أثبته‪ ,‬هو أن الشعوب البشرية‪ ,‬باختالف‬
‫اإلنسان‪ ,‬طبيعته‪ ,‬مراحل ّ‬
‫أجناسها‪ ,‬و ثقافاتها‪ ,‬متماثلة إلى حد التطابق‪ ,‬من حيث طبيعتها اإلنسانية‪ ,‬السيما في النواحي العضوية‬
‫والحيوية‪.‬‬
‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ -1‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬معجم العلوم االجتماعية‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ,1975 ,‬ص‪71‬‬
‫‪ -2‬عيسى الشماس‪ ,‬مدخل إلى علم اإلنسان‪ ,‬منشورات اتحاد الكتّاب العرب‪ -‬دمشق‪ ,2004 ,‬ص‪12‬‬
‫‪ -3‬قباري محمد إسماعيل‪ ,‬األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬منشأة المعارف –اإلسكندرية‪ ,1971 ,‬ص‪11‬‬
‫‪ -4‬علي الجباوي‪ ,‬األنثروبولوجيا‪ -‬علم اإلنسان‪ ,‬جامعة دمشق‪ ,1997,‬ص ‪9‬‬
‫‪ -5‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬األنثروبولوجيا في المجالين النظري و التطبيقي‪ ,‬دار المعرفة الجامعية‪-‬‬
‫اإلسكندرية‪ ,‬ط ‪ ,2009 ,2‬ص ‪5‬‬
‫‪showtheard/php?t=3504alwaha.net/moltaqa/Rabitat-‬‬ ‫‪ -6‬مقدمة في علم األنثروبولوجيا‬
‫‪ -7‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪6‬‬

‫‪-8‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬أصول علم اإلنسان‪ -‬الجزء األول‪ ,‬دار المعرفة الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪,2007 ,‬‬
‫ص‪10‬‬

‫‪-9‬المرجع السابق‪ ,‬ص ‪10‬‬

‫‪-10‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪11‬‬

‫‪ -11‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪11‬‬

‫‪ -12‬المرجع نفسه‬

‫‪Https:// ar.wikipedia.org/wiki/‬‬ ‫‪ -13‬اإلثنولوجيا‬

‫‪ -14‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪77‬‬

‫‪ -15‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪12‬‬

‫‪ -16‬المرجع السابق‪ ,‬ص ‪11‬‬

‫‪-17‬مرجع سابق‬

‫‪ -18‬عيسى الشماس‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪24‬‬


‫‪ -19‬محمد عبده محجوب‪ ,‬األنثروبولوجيا اإلجتماعية (دراسات نظرية و تطبيقية)‪ ,‬دار المعرفة‬
‫الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪ ,2008 ,‬ص ‪40‬‬

‫‪ -20‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪71‬‬

‫‪ -21‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪11‬‬

‫‪ -22‬احمد جعفر صادق األنصاري‪ ,‬مدخل إلى األنثروبولوجيا االجتماعية‬


‫‪www.arts.uokufa.edu.iq/teaching/ph/ahmedalansari/index_files/page514.htm‬‬

‫‪ -23‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪.11‬‬

‫‪ -24‬حسين فهيم‪ ,‬قصة األنثروبولوجيا – فصول في تاريخ علم اإلنسان‪ ,‬عالم المعرفة (‪ )98‬شباط‪ ,‬الكويت‪,‬‬
‫‪1986‬‬
‫احملـ ـ ـ ـ ــاضرة الثاني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫تطورها‬
‫نشأة األنثروبولوجي ـ ـ ـ ـ ـ ــا و ّ‬
‫عبـ ـ ـ ــر الت ـ ـ ـ ـ ـ ــاريخ‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫رغم أن البحث في شؤون المجتمعات اإلنسانية‪ ,‬قديم قدم اإلنسان نفسه‪ ,‬إال أن األنثروبولوجيا‪ ,‬كأحد هذه‬
‫العلوم ‪ ,‬تعد علما حديثا جدا‪ ,‬يقترب عمره من قرن واحد‪ .‬و قد بدأت هذه النوعية من الدراسات منذ القديم‪,‬‬
‫مع تلك التأمالت النظرية األولى‪ ,‬في تاريخ اإلنسان‪ ,‬حيث اهتم الفالسفة و المفكرون‪ ,‬في كل زمان و مكان‪,‬‬
‫بوضع نظريات‪ ,‬عن طبيعة المجتمع و دينه و ساللته‪ ,‬و تقسيمه إلى طبقات اجتماعية‪ ,‬مع بعض مشاعر‬
‫التحيز‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التحامل و‬

‫و ال شك أن الحروب و الرحالت التجارية‪ ,‬قد لعبت منذ عصور ما قبل الميالد‪ ,‬دو ار هاما في حدوث‬
‫اتصال ثقافي‪ ,‬بين الشعوب‪ ,‬و بالتالي اكتساب معرفة فيما بينها‪ ,‬خاصة ما تعلق باللغة‪ ,‬العادات و التقاليد‪,‬‬
‫و على هذا األساس‪ ,‬يكون من الصعب تحديد فترة تاريخية معينة‪ ,‬نقول أن األنثروبولوجيا قد بدأت فيها‪.‬‬
‫غير أن المراحل التاريخية لتطور الفكر االجتماعي عموما‪ ,‬و التي تحمل في طياتها‪ ,‬مالمح نشأة الفكر‬
‫األنثروبولوجي‪ ,‬يمكن أن نقسمها بحسب أولى الحضارات اإلنسانية‪ ,‬و كذا األحداث التاريخية الكبرى فيها‪,‬‬
‫تميز به اإلنتاج المعرفي‪ ,‬في كل مرحلة أو حقبة تاريخية‪ ,‬و التي سنستعرضها على التوالي‪ ,‬بالتدرج من‬
‫وما ّ‬
‫العصور القديمة (الحضارات اإلنسانية الكبرى)‪ ,‬إلى الحديثة منها‪.‬‬

‫‪ -1‬العصور القديمة‪:‬‬
‫‪ -1-1‬الحضارة المصرية القديمة‪:‬‬

‫يجمع معظم علماء اإلجتماع واألنثربولوجيا‪ ,‬أن الرحلة التي قام بها قدماء المصريين‪ ,‬عام ‪ 1493‬ق‪.‬م‬
‫إلى بالد بونت (الصومال حاليا)‪ ,‬بهدف التبادل التجاري‪ ,‬هي أقدم الرحالت التاريخية في التعارف بين‬
‫الشعوب‪ .‬وقد كانت الرحلة مؤلفة من خمسة مراكب‪ ,‬على متن كل منها ‪ 31‬راكبا‪ ,‬وذلك بهدف تسويق‬
‫بضائعهم النفيسة التي شملت البخور والعطور‪ ,‬ونتج عن هذه الرحلة اتصال المصريين القدماء بأقزام أفريقيا‪,‬‬
‫صورت النقوش في معبد الدير البحري‪ ,‬استقبال ملك وملكة بالد‬
‫وتأكيداً إلقامة عالقات معهم فيما بعد‪ ,‬فقد ّ‬
‫بونت لمبعوث مصري(‪.)1‬‬

‫‪ -1-2‬الحضارة الغريقية‪:‬‬

‫اعتبر جل مؤرخي األنثروبولوجيا‪ ,‬أن المؤرخ اإلغريقي هيرودوتس‪Herodotus‬الذي عاش في القرن ‪5‬‬
‫ق‪.‬م‪ ,‬الباحث األنثروبولوجي األول في التاريخ‪ ,‬كونه رحالة محبا لألسفار‪ ,‬وانه أول من صور أحالم‬
‫تنوع وفوارق فيما بينها‪ ,‬من حيث النواحي الساللية والثقافية واللغوية‬
‫الشعوب وعاداتهم‪ ,‬وطرح فكرة وجود ّ‬
‫والدينية(‪ .)2‬و هو أول من قام بجمع معلومات وصفية دقيقة‪ ,‬عن عدد كبير من الشعوب غير األوروبية‬
‫(حوالي خمسين شعبا)‪ ,‬حيث تناول بالتفصيل‪ ,‬تقاليدهم وعاداتهم‪ ،‬ومالمحهم الجسمية وأصولهم الساللية‪ .‬إذ‬
‫قارنبين بعض العادات اإلغريقية والليبية‪,‬فيقول ‪ " :‬يبدو أن ثوب أثينا ودرعها وتماثيلها‪ ،‬نقلها اإلغريق عن‬
‫النساء الليبيات‪ ,‬غير أن لباس الليبيات جلدي‪ ,‬وأن عذبات دروعهن المصنوعة من جلد الماعز‪ ,‬ليست‬
‫ثعابين‪ ,‬بل هي مصنوعة من سيور جلد الحيوان‪ ,‬وأما ما عدا ذلك‪ ,‬فإن الثوب والدرع في الحاليتين سواء ‪..‬‬
‫"(‪.)3‬‬ ‫ومن الليبيين تعلم اإلغريق‪ ,‬كيف يقودون العربات ذات الخيول األربعة‬

‫كما وصف هيرودوتس بإسهاب‪ ,‬التكوين الجسمي ألقوام قديمة‪ ,‬و كذلك عاداتهم‪ ,‬و قدم بعض‬
‫الفروض‪ ,‬حول اللغة األصلية للجنس البشري‪ ,‬و تناول وصف الصراع بين اليونان و الفرس‪ ,‬و عرض بدقة‬
‫الحياة االجتماعية في مصر‪ ,‬و حياة بعض الشعوب البربرية‪ .‬واستنادا إلى هذه اإلسهامات‪ ,‬المبكرة‬
‫والجادة‪ ,‬يعتقد الكثيرون من علماء األنثروبولوجيا‪ ,‬أن منهج هيرودوتس في وصف ثقافات الشعوبوحياتهم‪,‬‬
‫وبعض نظمهم االجتماعية‪ ,‬ينطوي على بعض أساسيات المنهج اإلثنوغرافي‪ ,‬المتعارف عليه في العصر‬
‫الحاضر باسم "وصف الشعوب"‪.‬‬

‫و تناول أفالطون‪ 427-347(Platon‬ق‪.‬م) طبيعة العالقات االجتماعية‪ ,‬و الجماعات العرقية‬


‫‪Ethnic groups‬و وضع تصو ار مثاليا‪ ,‬لتغيير مجتمع أثينا‪ ,‬و ما يجب أن تكون عليه الحياة االجتماعية‪,‬‬
‫وهو ما تبلور في كتابه الشهير " الجمهورية "‪.‬‬

‫أما أرسطو‪ 384 -322(Aristote‬ق‪.‬م) فقد استخدم اصطالح أنثروبولوجيا‪ ,‬لإلشارة إلى العلم الذي يهتم‬
‫بدراسة اإلنسان‪ ,‬و بمعنى أدق‪ ,‬لإلشارة إلى الفرد الذي يتحدث عن نفسه‪ ,‬و هو معنى يختلف تماما عن‬
‫المعنى الحديث لالصطالح‪.‬وكذلك نجد أن أرسطو‪ ,‬كان من أوائل الذين وضعوا بعض أوليات الفكر‬

‫التطوري‪ ,‬للكائنات ّ‬
‫الحية‪ ،‬وذلك من خالل مالحظاته‪ ,‬وتأمالته في التركيبات البيولوجية‪ ,‬وتطورها في الحيوان‬ ‫ّ‬
‫‪ ,..‬كما ينسب إليه أيضا‪ ،‬توجيه الفكر نحو وصف نشأة الحكومات‪ ,‬وتحليل أشكالها وأفضلها‪ ،‬األمر الذي‬
‫يعتبر مساهمة مبدئية‪ ,‬وهامة في دراسة النظم االجتماعية واإلنسانية(‪.)4‬‬
‫أفالطون‪ 427-347(Platon‬ق‪.‬م)‬

‫و هكذا‪ ,‬عرض كل من أفالطون و أرسطو‪ ,‬نظريات هامة في الفكر الفلسفي االجتماعي‪ ,‬إال أنهما لم‬
‫يلما بشيء‪ ,‬خارج العالم الذي يعيشان فيه‪ .‬وعلى الرغم من هذا الطابع الفلسفي‪ ,‬الذي يناقض – إلى حد ما‬
‫– ما تتّجه إليه الدراسات األنثروبولوجية‪ ,‬والسوسيولوجية‪ ,‬من دراسة ما هو قائم‪ ,‬ال ما يجب أن تكون عليه‪,‬‬
‫األحوال االجتماعية والثقافية‪ ،‬فإن فضل الفكر الفلسفي اليوناني‪ ،‬والسيما عند كبار فالسفتهم‪ ،‬ال يمكن التقليل‬
‫من شأنه أبدا‪.‬‬

‫‪ -1-3‬الحضارة الرومانية‪:‬‬

‫امتد عصر اإلمبراطورية الرومانية‪ ,‬حوالي ستة قرون‪ ,‬تابع خاللها الرومان ما طرحه اليونانيون‪ ,‬من‬
‫مسائل وأفكار‪ ,‬حول بناء المجتمعات اإلنسانية‪ ,‬وطبيعتها‪ ,‬وتفسير التباين واالختالف فيما بينها‪ ,..‬ولكنهم لم‬
‫يأخذوا بالنماذج المثالية‪ /‬المجردة للحياة اإلنسانية‪ ،‬بل وجهوا دراساتهم‪ ,‬نحو الواقع الملموس والمحسوس‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ,‬ال يجد األنثروبولوجيون في الفكر الروماني‪ ,‬ما يمكن اعتباره كإسهامات أصيلة في نشأة علم‬
‫مستقل لدراسة الشعوب وثقافاتهم‪ ,‬أو تقاليد راسخة لمثل هذه الدراسات‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬يمكن أن يستثنى من ذلك‪ ،‬لوكريسيوس (‪ 99 -55‬ق‪.‬م)‪ ,‬و يعد اكبر ممثلي األبيقورية*‬
‫الرومانية‪ ,‬كان أديبا و شاعرا‪ ,‬و من أكثر المفكرين الرومان أصالة‪ ,‬و هو من الباحثين في نظرية النشوء‬
‫واإلرتقاء(‪ .)5‬حيث احتوت قصيدته "طبائع األشياء"‪ ,‬على بعض األفكار االجتماعية الهامة‪ .‬فقد تناول‬
‫موضوعات عدة‪ ,‬عرضها في ستة أبواب رئيسة‪ ,‬ضمنها أفكاره ونظرياته‪ ,‬عن المادة وحركة األجرام السماوية‬
‫وشكلها‪ ,‬وتكوين العالم‪ ,..‬وخصص الباب السادس‪ ,‬لعرض فكرتي‪ :‬التطور والتقدم‪ ,‬حيث تحدث عن اإلنسان‬
‫األول والعقد االجتماعي‪ ,‬ونظامي الملكية والحكومة‪ ,‬ونشأة اللغة‪ ،‬إضافة إلى مناقشة العادات والتقاليد‪,‬‬
‫والفنون واألزياء والموسيقى(‪.)6‬‬
‫وقد رأى بعض األنثروبولوجيين‪ ,‬أن لوكريسيوس استطاع أن يتصور مسار البشرية‪ ,‬في عصور حجرية‬
‫ثم برونزية‪ ،‬ثم حديدية‪ ,..‬بينما رأى بعضهم اآلخر في فكره‪ ,‬أن ثمة تطابق مع فكر لويس مورجان‪1881-‬‬
‫‪)1818)L. Morgan‬أحد أعالم األنثروبولوجيا في القرن ‪ ,19‬وذلك من حيث نظريته حول تقدم المجتمعات‬
‫و انتقالها من مرحلة إلى أخرى‪ ,‬في إطار حدوث طفرات مادية‪ ,‬وان كان مردها في النهاية إلى عمليات‬
‫وابتكارات عقلية(‪.)7‬‬

‫هذا‪ ,‬و يدرج البعض دراسة عن القبائل الجرمانية‪ ,‬كان قد أجراها المؤرخ الروماني تاكتوس‪ ,‬بعنوان‬
‫"جرمانيا"‪ ,‬ففيها دراسة مقارنة‪ ,‬لعادات الشعوب و تقاليدها‪ ,‬و صفاتها الجسمية و العقلية(‪ ,)8‬و التي يمكن أن‬
‫تصنف كدراسة أنثروبولوجية‪ ,‬ضمن التراث المعرفي المنتج‪ ,‬عهد الحضارة الرومانية‪.‬‬

‫وعلى الرغم من أن الرومان‪ ,‬قد اهتموا بالواقع‪ ,‬من حيث ربط السالالت البشرية‪ ,‬بإمكانية التقدم‬
‫امتياز وأفضلية على الشعوب األخرى‪ ,‬فكان الروماني‬
‫ا‬ ‫االجتماعي‪ ,‬والحركة الحضارية‪ ,‬فقد وجدوا في أنفسهم‪,‬‬
‫فوق غيره بحكم القانون‪ ,‬حتى أن الرومان إذا أرادوا أن يرفعوا من قدر إنسان‪ ,‬أو شأن ساللة ما‪ ,‬أصدرت‬
‫الدولة ق ار اًر بمنح الجنسية الرومانية ألي منهما(‪ .)9‬ويبدو أن هذا االتجاه العنصري‪ ,‬وجد في معظم الحضارات‬
‫القديمة‪ ,‬السيما الشرقية منها‪,‬مثاللصينية‪.‬‬

‫‪ -1-4‬الحضارة الصينية‪:‬‬

‫يعتقد بعض المؤرخين‪ ,‬والسيما األنثروبولوجيون منهم‪ ,‬أنه على الرغم من اهتمام الصينيين القدماء‪,‬‬
‫بالحضارة الرومانية وتقديرهم لها‪,‬إال أنهم لم يجدوا فيها‪ ,‬ما ينافس حضارتهم‪ .‬فالصينيون القدماء كانوا‬
‫يشعرون باألمن والهدوء داخل حدود بالدهم‪ ,‬وكانوا مكتفين ذاتياً من الناحية االقتصادية المعاشية‪ ,‬حتى أن‬
‫تجارتهم الخارجية‪ ,‬انحصرت فقط في تبادل السلع والمنافع‪ ,‬من دون أن يكون لها تأثيرات ثقافية عميقة‪ ,‬فلم‬
‫يعبأ الصينيون في القديم‪ ,‬بالثقافات األخرى خارج حدودهم‪ ,‬ومع ذلك‪ ,‬لم يخل تاريخهم‪ ,‬من بعض الكتابات‬
‫الوصفية لعادات بعض الجماعات البربرية‪ ,‬والتي اتسمت باالزدراء واالحتقار‪.‬‬

‫وهذا االتجاه نابع من نظرة الصينيين القدماء العنصرية‪ ,‬إذ كانوا يعتقدون – كالرومان – أنهم أفضل‬
‫الخلق‪ ،‬وأنه ال وجود ألية حضارة أو فضيلة خارج جنسهم‪ ,‬بل كانوا يرون أنهم ال يحتاجون إلى غيرهم في‬
‫شيء‪ ,..‬ولكي يؤكد ملوكهم هذا الواقع‪ ,‬أقاموا " سور الصين العظيم " حتى ال تدنس أرضهم بأقدام‬
‫اآلخرين(‪.)10‬‬

‫ولذلك‪ ,‬اهتم فالسفة الصين القدماء‪ ,‬باألخالق وشؤون المجتمعات البشرية‪ ,‬من خالل االتجاهات‬
‫الواقعية ‪ /‬العملية‪ ,‬في دراسة أمور الحياة اإلنسانية ومعالجتها‪ ,‬مثل‪ :‬الكونفشيوسية‪ ,‬الطاوية والماوتسية*‪,..‬‬
‫ألن معرفة األنماط السلوكية‪ ,‬التي ترتبط بالبناء االجتماعي‪ ,‬في أي مجتمع‪ ،‬تسهم في تقديم الدليل الواضح‬
‫على التراث الثقافي لهذا المجتمع‪ ,‬والذي يكشف بالتالي عن طرائق التعامل فيما بينهم من جهة‪ ,‬ويحدد‬
‫أفضل الطرائق للتعامل معهم من جهة أخرى‪ ,‬وهذا ما يفيد الباحثين في العلوم األخرى‪ ,‬والسيما تلك التي‬
‫تعنى باإلنسان‪.‬‬

‫كونفوشيوس‪Confucius‬كما يصوره كتاب "أساطير الصين"‬

‫‪-2‬العصور الوسطى‪:‬‬

‫اجمع جل المؤرخين أن العصور الوسطى‪ ,‬تمتد من القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر الميالدي‪ .‬وقد‬
‫اصطلح على تسميتها بالعصور الوسطى‪,‬ألنها ارتبطت بتدهور الحضارة األوربية‪ ,‬وارتداد الفكر إلى حقبة‬
‫مظلمة‪ ,‬هيمنت فيها الكنيسة الكاثوليكية من جهة‪ ,‬و من جهة أخرى وقعت بين عهدين هما‪ :‬نهاية ازدهار‬
‫الفلسفات األوربية القديمة (اليونانية والرومانية)‪ ,‬وبداية عصر النهضة األوربية (عصر التنوير)‪ ,‬واالنطالق‬
‫إلى مجاالت جديدة من استكشاف العوالم األخرى‪ ,‬واحياء التراث الفكري القديم‪ ,‬وابداعات في الفنون واآلداب‬
‫المختلفة‪ ,‬في الوقت الذي كانت فيه الحضارة العربية اإلسالمية تزدهر‪ ,‬وتتسع لتشمل مجاالت العلوم‬
‫المختلفة(‪.)11‬‬
‫و عليه‪ ,‬سوف نقسم عرض بوادر الفكر األنثروبولوجي‪ ,‬في العصور الوسطى‪ ,‬إلى قسمين اثنين‪,‬‬
‫بحيث نتناول في القسم األول واقع اإلنتاجات المعرفية االجتماعية في أوروبا‪ ,‬أما الثاني نتناول فيه عرض‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ ,‬و أثرها على اإلنتاج المعرفي آنذاك‪.‬‬

‫‪ -1-2‬أوروبا في العصور الوسطى‪:‬‬

‫يذكر المؤرخون أنه في هذه العصور الوسطى (المظلمة) تدهور التفكير العقالني‪ ,‬وأدينت أية أفكار‬
‫تخالف التعاليم المسيحية‪ ,‬أو ما تقدمه الكنيسة الكاثوليكية‪ ,‬من تفسيرات للكون و للحياة اإلنسانية‪ ,‬سواء في‬
‫منشئها أو في مآلها‪ ,‬ولكن إلى جانب ذلك‪ ,‬كانت مراكز أخرى وجهت منطلقات المعرفة‪ ,‬وحددت طبيعة‬
‫الحضارة الغربية في تلك العصور‪ ,‬كبالط الملوك مثال‪ ,‬الذي كان يضم في العادة‪ ,‬فئات من المثقفين‬
‫كرجال اإلدارة والسياسة والشعراء(‪ .)12‬يضاف إلى ذلك‪ ,‬التوسع في دراسة القانون في جامعة بولونيا‪ ,‬ودراسة‬
‫الفلسفة والالهوت في جامعة باريس‪ ,‬مما كانت لـه آثار واضحة‪ ,‬في الحياة األوروبية العامة(السياسية‪,‬‬
‫االجتماعية‪ ,‬الثقافية‪ ,‬الدينية‪ )..‬ومهد بالتالي للنهضة‪ ,‬التي شهدتها أوروبا‪ ,‬بعد هذه العصور‪.‬‬

‫و قد ترنحت محاوالت الكتابةحول بعض الشعوب‪ ,‬في هذه المرحلة‪ ,‬بين كتابات الرحالة‪ ,‬و الوصف‬
‫التخيلي‪ ,‬البعيدعن المشاهدة المباشرة‪ ,‬على أرض الواقع‪ .‬مثال ذلك‪ ,‬ما قام به األسقف إسيدور ‪Isidore‬‬

‫الذي عاش ما بين (‪ 636 -560‬م) حيث أعد في القرن السابع الميالدي‪ ,‬موسوعة عن المعرفة‪ ,‬وأشار فيها‬
‫التحيز‪ .‬و مما‬
‫إلى بعض تقاليد الشعوب المجاورة وعاداتهم‪ ,‬ولكن بطريقة وصفية عفوية‪ ,‬تتسم بالسطحية و ّ‬
‫ذكره‪ ,‬أن قرب الشعوب من أوروبا أو بعدها عنها‪ ,‬يحدد درجة تقدمها‪ ,‬فكلما كانت المسافة بعيدة‪ ,‬كان‬
‫االنحطاط والتدهور الحضاري‪ ,‬مؤكدا لتلك الشعوب‪ ,‬و وصف األفراد الذين يعيشون في أماكن نائية‪ ,‬بأنهم‬
‫من سالالت غريبة الخلق‪ ,‬حيث تبدو وجوههم بال أنوف‪.‬‬

‫وقد ظلت تلك المعلومات سائدة وشائعة‪ ,‬حتى القرن الثالث عشر‪ ,‬حيث ظهرت موسوعة أخرى ّ‬
‫أعدها‬
‫كثير‬
‫الفرنسي باتولوماكوس ‪ ,Batholo Macus‬والتي حظيت بشعبية كبيرة‪ ,‬على الرغم من أنها لم تختلف ا‬
‫عن سابقتها‪ ,‬العتمادها على الخيال‪ .‬غير أن هذه المؤلفات قد اختص بها غير الرحالة‪ ,‬ممن كانوا ال‬
‫يبرحون بالدهم البتة‪.‬‬

‫و في المقابل‪ ,‬تعددت في العصور الوسطى األسفار‪ ,‬التي قام بها المحاربون‪ ,‬في الحروب الصليبية‪,‬‬
‫والمبشرون و التجار‪ ,‬و ظهرت كتابات عديدة‪ ,‬عن تلك األسفار و الرحالت‪ ,‬و حينها صدرت مدونات‬
‫االيطالي جون دي بالنو كاربيني ‪ ,)1252-1182( Carpini‬الذي توجه إلى بالد التتار‪ ,‬بناءا على تكليف‬
‫البابا‪ ,‬لدراسة تقاليدهم و عاداتهم‪ ,‬قصد إنجاح عمليات التنصير فيما بعد‪ .‬و من الرحالة المشهورين‪ ,‬الذين‬
‫عاشوا أيضا في تلك الفترة ماركو بولو‪ Marco polo‬البندقي نسبة إلى مدينة البندقية في ايطاليا (‪-1254‬‬
‫‪ ,)1323‬اشتغل بالتجارة في الصين‪ ,‬لمدة ‪ 24‬عاما‪ ,‬و استطاع أن يقدم وصفا هاما لعادات الصينيين‪,‬‬
‫وحياتهم االجتماعية‪.‬‬

‫و يجب اإلنتباه‪ ,‬إلى أن تاريخ أوروبا منذ القرن ‪ 7‬م‪ ,‬قد اختلط بالفتوحات اإلسالمية‪ ,‬إذ تأثر الفكر‬
‫الغربي آنذاك‪ ,‬بآالف الكتب العربية‪ ,‬التي ترجمت إلى الالتينية‪.‬‬

‫‪ -2-2‬الحضارة السالمية في العصور الوسطى‪:‬‬

‫امتدت من منتصف القرن السابع الميالدي‪ ،‬إلى نهاية القرن الرابع عشر تقريبا‪ ,‬حيث بزغت الحضارة‬
‫اإلسالمية‪ ,‬وأخذت في االنتشار‪ ،‬لتشمل كل المجتمعات العربية‪ ,‬و العديد من المجتمعات غير العربية‬
‫(األسيوية‪ ,‬اإلفريقية‪ ,)..‬وفي تلك العصور‪ ,‬و في الوقت الذي عرفت فيه المجتمعات األوروبية‪ ,‬تكبيال للفكر‬
‫و المعارف‪ ,‬و ضعفا واضحا في مختلف الميادين والمجاالت‪ ,‬بلغت المجتمعات اإلسالمية‪ ,‬أوج قوتها‬
‫وتقدمها الفكري‪ ,‬و رقيها الحضاري‪ ,‬في القرن ‪ 8‬م‪,‬و أصبحت بغداد عاصمة لها‪ ,‬و مرك از ثقافيا هاما‪ .‬فبرزت‬
‫انتاجات فكرية غزيرة‪ ,‬ثرية و متعددة في‪:‬اآلداب‪ ,‬األخالق‪ ,‬الفلسفة‪ ,‬المنطق‪ ,‬الرياضيات‪ ,‬الطب‪ ,..‬كانت‬
‫ذات تأثيرات عظيمة‪ ,‬خاصة في الحياة السياسية واالجتماعية والعالقات الدولية‪.‬‬

‫و قد برز العرب في وضع المعاجم الجغرافية‪ ،‬كمعجم "البلدان" لـ ياقوت الحموي‪ .‬وكذلك إعداد‬
‫الموسوعات الكبيرة التي بلغت ذروتها في القرن الثامن الهجري(الرابع عشر ميالدي)‪ ,‬مثل‪" :‬مسالك األمصار"‬
‫لـإبن فضل هللا العمري‪ ،‬و " نهاية األرب في فنون العرب " لـ النويري‪.‬والى جانب اهتمام هذه الكتب‬
‫الموسوعية بشؤون العمران‪ ،‬فقد اعتمد في استقاء مادتها المعرفية‪ ,‬على المالحظة المباشرة‪ ,‬والخبرة‬
‫الشخصية‪ ،‬وهذا ما جعلها مادة خصبة‪ ,‬بالنسبة للدراسات األنثروبولوجية الالحقة‪ ,‬حيث مثلت أولى تطبيقات‬
‫المنهج األنثروبولوجي‪ ,‬الذي يعتمد أساسا‪ ,‬على تقنية المالحظة بالمشاركة‪ ,‬في دراسة الشعوب والثقافات‬
‫اإلنسانية‪.‬‬

‫و من أمثلة هؤالء الرحالة‪ ,‬الذين يمكن أن نعتبرهم‪ ,‬منأوائل األنثروبولوجيين‪ ,‬و في الوقت نفسه من‬
‫اإل ثنوغرافيين أيضا‪ ,‬لما اثروا به الفكر االجتماعي‪ ,‬من معارف و معلومات‪ ,‬تدور حول وصف ثقافات‬
‫الشعوب التي ارتحلوا إليها‪ ,‬اآلتي ذكرهم‪:‬‬

‫‪ ‬ابن جبير‪:‬‬
‫كان كثير من الحجاج القادمين من األندلس‪ ,‬يزورون المغرب و مصر و الشام‪ ,‬في طريقهم إلى‬
‫الحجاز‪ ,‬ثم ينتهزون هذه الفرصة‪ ,‬للطواف في بعض األقاليم اإلسالمية األخرى‪ ,‬وأعظم أولئك الحجاج شأنا‪,‬‬

‫في القرن ‪( 6‬الثاني عشر ميالدي)‪ ,‬هو ابن جبير‪ ,‬فقد قام بثالث رحالت إلى الشرق‪ ,‬و ّ‬
‫دون أخبار الرحلة‬ ‫ه‬

‫األولى‪ ,‬في شبه مذكرات يومية‪ ,‬باسم " تذكرة باألخبار عن اتفاقات األسفار"‪ ,‬و نشرها المستشرق االنجليزي‬
‫رايت‪W.Wright‬سنة ‪ ,1852‬ثم ظهرت منها طبعة جديدة سنة ‪ ,1907‬راجعها المستشرق الهولندي دي‬
‫خويه(‪.)13‬‬

‫ولد ابن جبير في مدينة بلنسية ‪ Valencia‬مدينة شهيرة من مدن شرق األندلس سنة ‪540‬ه‪1145/‬م‪,‬‬
‫و درس على أبيه‪ ,‬و غيره من علماء العصر‪ ,‬في سبته و غرناطة‪ ,‬ثم دخل خدمة أبي سعيد بن عبد المؤمن‬
‫صاحب غرناطة(‪ .)14‬و من أشهر رحالته تلك التي قام بها إلى األراضي الحجازية سنة ‪578‬ه الموافق لـ‬
‫‪1183‬م‪ ,‬حيث ارتحل على سفينته من مراكش إلى صقلية‪ ,‬و وصف ما مر به من عواصف و أهوال‪ ,‬ثم‬
‫توجه إلى اإلسكندرية‪ ,‬و وصف بدقة إجراءات الجمرك فيها‪ ,‬فورد مما كتبه عن ذلك قوله‪ ..":‬و على ساحل‬
‫البحر أعوان‪ ,‬يتوكلون بهم و بحمل جميع ما انزلوه‪ ,‬إلى الديوان‪ ,‬فاستدعوا واحدا واحدا‪ ,‬و احضر ما لكل‬
‫واحد من األسباب‪ ,‬و الديوان قد غص بالزحام‪ ,‬فوقع التفتيش بجميع األسباب‪ ,‬ما دق منها و ما جل‪,)15("..‬‬
‫شيده السلطان آنذاك‬
‫كما ذكر عمائرها و آثارها‪ ,‬بما فيها مدارس الغرباء‪ ,‬و أشار كذلك إلى المستشفى‪ ,‬الذي ّ‬
‫للغرباء‪.‬‬

‫لكن الجزء الرئيسي في رحلة ابن جبير‪ ,‬هو وصف مكة و المسجد الحرام‪ ,‬و مناسك الحج و زيارته‬
‫الحجاج العراقيين‪ ,‬مثل‪ :‬الموصل‬
‫ّ‬ ‫للمدينة‪ .‬وصف كذلك بعض المدن العراقية التي مر بها رفقة ركب من‬
‫والكوفة‪ ,‬أين تحدث عن حماماتها و أسواقها و مستشفياتها‪ .‬كما وصف بعضا من مدن الشام‪ ,‬مثل وصفه‬
‫التجار المسلمين و النصارى‪ ,‬من جميع األفاق (األماكن)‪.‬‬
‫لعكا‪ ,‬حين قال بأنها ملتقى ّ‬
‫‪ ‬ابن بطوطة‪:‬‬

‫هو أعظم الرحالة المسلمين قاطبة‪ ,‬و أكثرهم طوافا في اآلفاق‪ ,‬و أوفرهم نشاطا و استيعابا لألخبار‪,‬‬
‫تجول فيها‪ .‬ولد محمد ابن بطوطة في مدينة‬ ‫و أشدهم عناية بالتحدث‪ ,‬عن الحالة االجتماعية في البالد التي ّ‬
‫طنجة في المغرب سنة ‪703‬ه ‪1304/‬م من عائلة ثرية‪ ,‬استطاع الكثير من أبنائها النبوغ في العلوم الشرعية‪,‬‬
‫غادر وطنه سنة ‪725‬ه ألداء فريضة الحج‪ ,‬و لكنه ظل حوالي ثمانية و عشرون سنة‪ ,‬في أسفار متواصلة‪,‬‬
‫و رحالت متعاقبة(‪ .)16‬سافر ابن بطوطة إلى مصر و زار منها اإلسكندرية ودمياط‪ ,‬و سافر إلى دمشق في‬
‫سوريا‪ ,‬واليمن‪ ,‬فالجزائر و المغرب و مالي‪ ,‬و الصومال‪ ,‬كما سافر إلى الهند في القرن ‪ ,14‬و وصف الحياة‬
‫االجتماعية فيها‪ ,‬و عادات و معتقدات الهنود‪ ,‬و سافر أيضا إلى الصين‪ ,‬و وصف حياة المسلمين فيها و‬
‫الوثنيين‪ ,‬و بلدان أخرى‪ ,‬ال يسع المجال لذكرها كلها‪.‬‬

‫و من طريف ما ذكره ابن بطوطة عن السودان (تعني تسمية السودان لدى ابن بطوطة ذووا البشرة‬
‫السوداء)‪ ,‬أن منسا موسى احد ملوك مالي‪ ,‬كان قد غضب على قاض من البيض‪ ,‬فنفاه إلى الزنوج الذين‬
‫يأكلون لحوم البشر‪ ,‬و أقام هذا القاضي بينهم أربع سنوات‪ ,‬ثم عاد إلى مملكة مالي‪ ,‬و لم يأكله الزنوج‬
‫لبياضه‪ ,‬فقد كانوا يعتقدون أن أكل األبيض مضر‪ ,‬ألنه لم ينضج بعد‪ ,‬أما األسود فهو وحده ذو اللحم‬
‫الناضج(‪.)17‬‬

‫للعلم‪ ,‬طبعت رحلة ابن بطوطة في باريس مع ترجمة فرنسية منتصف القرن‪ ,20‬على يد المستشرقين‬
‫ديفريمري‪ Deferemory‬و سانجنتي‪Sanguinetti‬و طبعت في القاهرة‪ ,‬طبعتين غربيتين‪ ,‬و نشر األستاذ‬
‫جب‪ Gibb‬ملخصا لها باللغة االنجليزية في سلسلة ‪Broadway traveller’s‬عام ‪.)18(1929‬‬

‫‪ ‬البيروني‪:‬‬

‫هو أبو الريحان البيروني المتوفى سنة ‪440‬ه‪1048/‬م‪ ,‬امتاز باالطالع الواسع‪ ,‬و روح النقد العلمي‬
‫الدقيق‪ ,‬و العمق في التفكير‪ ,‬فحاز قصب السبق في الفلسفة‪ ,‬الفلك‪ ,‬العلوم الرياضية‪ ,‬التاريخ‪ ,‬علوم اللغة‬
‫وتقويم البلدان‪ ,‬و امتدت شهرته في العصور الوسطى إلى أوروبا‪ ,‬و أفاد مما جمعه خالل أسفاره‪ ,‬في تأليفه‬
‫كتابهعن الهند بعنوان " تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة "‪ .‬و الحق‪ ,‬أن كل ما كتبه‬
‫عن الهند يشهد سعة اطالعه‪ ,‬وكثرة تجاربه‪ ,‬ودقة مالحظاته‪ ,‬وبأنه جال طويال في تلك البالد(‪ ,)19‬وحسب‬
‫بعض المراجع فإن البيروني قد مكث في الهند ‪ 40‬عاما‪ ,‬لذلك عرف آفاقها‪ ,‬و بر أهلها‪ ,‬و درس عاداتهم‪,‬‬
‫ومظاهر حضارتهم‪.‬واهتم أيضا بمقارنة النظم الدينية والسلوكيات الثقافية‪ ,‬بمثيالتها عند اليونان والعرب‬
‫والفرس‪ .‬وأبرز البيروني في هذا الكتاب‪ ,‬حقيقة أن الدين يؤدي الدور الرئيس‪ ,‬في تكبيل الحياة الهندية‪,‬‬
‫وتوجيه سلوك األفراد والجماعات‪ ،‬وصياغة القيم والمعتقدات(‪.)20‬‬

‫‪ ‬ابن خلدون‪:‬‬

‫ولد ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الكندي المعروف بابن خلدون في تونس ‪1332‬م وتوفي‬
‫سنة ‪1406‬م في القاهرة‪ ,‬درس على أبيه و أشياخه في تونس‪ ,‬و فاس‪ ,‬و عاش في تلمسان و بجاية‪ ,‬و نزح‬
‫إلى األندلس‪ ,‬و حظي لدى أبي عبد هللا ثالث ملوك بني األحمر‪ ,‬ولي الحجابة في بجاية‪ ,‬ثم فر إلى بسكرة‪,‬‬
‫ففاس‪ ,‬و اعتصم بعدها في قصر من قصور بني عريف في قلعة ابن سالمة‪ ,‬جنوبي قسنطينة‪ ,‬حيث شرع‬
‫في كتابة‪ :‬كتاب "العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي‬
‫السلطان األكبر"‪ .‬و هو الكتاب المعروف بالمقدمة(‪.)21‬‬

‫قام ابن خلدون بأسفار و رحالت‪ ,‬عبر البالد اإلسالمية‪ ,‬من سمرقند إلى المغرب‪ ,‬و كانت دراسته‬
‫واقعية‪ ,‬و في ضوء مالحظاته و تجاربه‪ ,‬حيث وضع قواعد منهجية‪ ,‬أهمها المالحظة و النقد‪ ,‬و ترجع أهمية‬
‫دراسته‪ ,‬إلى استخدام المنهج المقارن‪ ,‬إذ الحظ عن كثب‪ ,‬اختالف بعض الشعوب‪ ,‬و تماثلها‪ ,‬و ارجع ذلك‬
‫إلى عوامل البيئة الجغرافية‪ ,‬و أثرها على أخالقيات الشعوب‪ ,‬و أحوالهم االقتصادية‪ ,‬و مدى تأثر الظواهر‬
‫السياسية‪ ,‬بهذه العوامل‪ .‬من آثاره باإلضافة إلى المقدمة‪ ,‬سيرة حياته بقلمه‪ ,‬و عنوانها" التعريف برحلة ابن‬
‫خلدون"‪.‬‬

‫لقد أرسى ابن خلدون األسس المنهجية‪ ,‬لدراسة المجتمعات البشرية‪ ,‬ودورة الحضارات التي تمر بها‪,‬‬
‫فكان بذلك‪ ,‬أسبق من علماء اإلجتماع في أوروبا‪ .‬ولذلك‪ ,‬يرى بعض الكتاب والمؤرخين‪ ,‬أن ابن خلدون‬
‫يعتبر المؤسس الحقيقي لعلم االجتماع‪ ,‬بينما يرى بعضهم اآلخر‪ ,‬والسيما علماء األنثروبولوجيا البريطانيون‪,‬‬
‫في مقدمة ابن خلدون بعضا من موضوعات األنثروبولوجيا االجتماعية ومناهجها‪,‬وفي أمريكا‪ ,‬أشار‬
‫جونهونجيمان أيضا في كتابه " تاريخ الفكر األنثروبولوجي " أن ابن خلدون تناول بعض األفكار ذات‬
‫الصلة بنظريةمارفين هاريس عـن" المادية الثقافية ‪ " Cultural Materialism‬ونجد أنهاريس ذاته‪ ,‬يذكر‬
‫أفكار وموادا ساعدت في بلورة نظرية الحتمية الجغرافية‪,‬التي سادت‬
‫ا‬ ‫أن ابن خلدون ومن قبله اإلدريسي‪ ,‬قدما‬
‫إبان القرن الثامن عشر (‪.)22‬‬
‫تمثال البن خلدون في قلب العاصمة التونسية ( ساحة االستقالل)‬

‫واستنادا إلى ما تقدم يمكن القول‪ :‬أن الفالسفة والمفكرين العرب أسهموا بفاعلية – خالل العصور‬
‫الوسطى‪ -‬في معالجة كثير من الظواهر االجتماعية‪ ,‬التي يمكن أن تدخل في االهتمامات األنثروبولوجية‪,‬‬
‫والسيما التنوع الثقافي (الحضاري) بين الشعوب‪ ,‬سواء بدراسة خصائص ثقافة أوحضارة بذاتها‪ ,‬أو بمقارنتها‬
‫مصادر للمادة اإلثنوغرافية التي درست (أسلوب الحياة في‬
‫ا‬ ‫مع ثقافة أخرى‪ ,‬ولكن على الرغم من اعتبارها‬
‫مجتمع معين وخالل فترة زمنية محددة) العادات والقيم وأنماط الحياة‪ ,‬فإن األنثروبولوجيا التي تبلورت في‬
‫أواخر القرن التاسع عشر كعلم جديد معترف به‪ ،‬لم تكن ذات صلة تذكر بهذه الدراسات‪ ,‬وال بغيرها من‬
‫الدراسات (اليونانية والرومانية) القديمة (‪.)23‬‬

‫‪-3‬األنثروبولوجيا في عصر النهضة األوروبية‪:‬‬

‫المؤرخون على أن عصر النهضة في أوربا‪,‬قد بدأ في نهاية القرن الرابع عشر الميالدي‪ ,‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫يتفق‬
‫شرع األوروبيون في دراسة انتقائية‪ ,‬للعلوم والمعارف اإلغريقية والعربية‪,‬رافقتها حركة نشطة لالستكشافات‬
‫الجغرافية‪ ,‬وتبع ذلك االنتقال من المنهج الفلسفي إلى المنهج العلمي التجريبي‪ ،‬في دراسة الظواهر الطبيعية‬

‫واالجتماعية‪ ،‬والذي تبلور وتكامل في القرن السابع عشر‪.‬لقد ّ‬


‫تميز عصر النهضة األوربية‪ ,‬بظاهرة كان لها‬
‫تأثير في توليد نظريات جديدة عن العالم واإلنسان‪ ,‬وهي أن المفكرين اتفقوا‪ ,‬على الرغم من تباين وجهات‬
‫نظرهم‪ ,‬على مناهضة فلسفة العصور الوسطى الالهوتية‪ ,‬التي أعاقت فضول العقل اإلنساني‪ ,‬إلى معرفة‬
‫أصول األشياء ومصادرها‪ ,‬وتكوين الطبيعة وقوانينها‪ ,‬وصفات اإلنسان الجسدية والعقلية واألخالقية(‪.)24‬‬
‫و عليه‪ ,‬يرى العديد من األنثروبولوجيين‪ ,‬أن األصول النظرية األولية لألنثروبولوجيا‪ ,‬قد ظهرت في‬
‫عصر النهضة األوروبية‪ ,‬في الوقت الذي بدأ الضعف يتسلل إلى الحضارة اإلسالمية‪ ,‬خاصة مع‬
‫نقدم فيما يلي كرونولوجيا تطور‬
‫االضطرابات السياسية التي شهدتها‪ ,‬و سقوط الدولة العباسية‪ .‬وسوف ّ‬
‫الدراسات األنثروبولوجية‪ ,‬بدءا من عصر النهضة‪ ,‬إلى العصر الحديث‪.‬‬

‫‪ -1-3‬األ نثروبولوجيا خالل القرنين ‪ 15‬و ‪:16‬‬

‫قام الرحالة و المستكشفون األوروبيون‪ ,‬فيما بين القرنين ‪ 15‬و ‪ ,16‬بكتابة تقارير عن عادات وتقاليد‪,‬‬
‫شعوب أمريكا و آسيا‪ ,‬و كانت اهتماماتهم مركزة خاصة‪ ,‬حول الشعوب البدائية المختلفة‪ ,‬التي صارت‬
‫أخبارها تصل إلى أوروبا تباعا‪ .‬و لعل أهم رحلة أو(رحالت) استكشافيـة مشهورة‪ ,‬أثّرت في علم‬
‫الرحالة االسباني كريستوف كولومبوس إلى القارة األمريكيـة‪ ,‬ما بين‬ ‫األنثروبولوجيا‪,‬تلك التي قام بها‬
‫(‪ )1502 -1492‬حيث زخرت مذكراته عن مشاهداته واحتكاكاته‪ ,‬بسكان العالم الجديد‪ ,‬بالكثير من‬
‫المعلومات والمعارف‪ ,‬عن أساليب حياة تلك الشعوب‪ ,‬وعاداتها وتقاليدها‪.‬‬

‫غير أن اغلب أولئك الرحالة و المغامرين‪ ,‬كانوا جهلة‪ ,‬غير مدربين تدريبا علميا‪ ,‬و اتسمت تقاريرهم‬
‫تلك‪ ,‬بالتعصب الذي عرف بها األوروبيون‪ ,‬في الفترة السابقة على النهضة‪.‬‬

‫و بذلك‪ ,‬تميزت تلك الفترة‪ ,‬نتيجة الجهل و التعصب‪ ,‬بشيوع أفكار و انطباعات خاطئة‪ ,‬عن الشعوب‬
‫البدائية‪ ,‬إذ كانت توصف بأنها " بال دين‪ ,‬و ال نظام اجتماعي‪ ,‬و أنها تعيش بشكل‪ ,‬ال يميزها عن‬
‫الحيوانات‪ ,‬إال استعمالها اللغات‪ ,‬و أنها شعوب ال تعرف الضبط‪ ,‬و ال القانون‪ ,‬و تعيش في شيوعية جنسية‪,‬‬
‫و اقتصادية" (‪.)25‬و رغم ذلك فقد اهتم الجمهور المثقف بهذه التقارير‪ ,‬و عرف الناس التنوع الكبير‪ ,‬في النظم‬
‫و العادات‪ ,‬لدى هذه الشعوب المختلفة‪.‬‬

‫في سنة ‪ ,1501‬ظهر مصطلح " أنثروبولوجيا" عنوانا لكتاب المفكر هوندت‪Hundet‬تناول فيه‬
‫الخصائص الجسمانية لإلنسان‪ ,‬من الناحية التشريحية‪ ,‬كما ظهر هذا االصطالح ‪ L’Anthropologie‬في‬
‫كتاب للمفكر كابيال‪Capella‬عام ‪ ,1533‬و تضمن دراسة عن الصفات الفردية لإلنسان‪ .‬و اتخذ العالم‬
‫االسباني ميسي‪Messie‬من التنوع بين عادات و تقاليد الشعوب المختلفة‪ ,‬موضوعا لكتاب ألفه بعنوان "دروس‬
‫متنوعة"‪ ,‬ثم ترجم هذا الكتاب كلود جريجيه إلى الفرنسية عام ‪.)26( 1955‬‬

‫فيما أّلف جون بودان ‪J.Bodin‬عام ‪ ,1557‬كتابا بعنوان » كتب الجمهورية الست ‪Les six livres‬‬

‫» ‪ ,de la république‬ذكر فيه أن االختالفات بين الشعوب‪ ,‬و في شكل نظمهم الحكومية‪ ,‬ال ترجع إلى‬
‫الهرمونات فحسب‪ ,‬بل ترجع إلى اختالف المناطق الجغرافية التي تسكنها‪ ,‬وخص بالذكر "المناخ"‪.‬‬
‫أما الفيلسوف وعالم اإلجتماع الفرنسي‪,‬ميشيل دي مونتاني ‪ M.De. Montaigne‬الذي عاش ما بين‬
‫(‪ )1592-1532‬فقد أجرى مقابالت مع مجموعات من السكان األصليين‪ ,‬في أمريكا المكتشفة‪ ,‬والذين‬
‫أحضرهم بعض المكتشفين إلى أوروبا‪ .‬وبعد أن جمع منهم المعلومات عن العادات والتقاليد‪ ,‬السائدة في‬
‫التنوع الحضاري‬
‫موطنهم األصلي‪ ,‬خرج بالمقولة التالية‪ ":‬إنه لكي يفهم العالم فهما جيدا‪ ,‬ال بد من دراسة ّ‬
‫التنوع "‪ ,‬ويكون بذلك قد طرح فكرة (النسبية األخالقية) مقابل‬
‫للمجتمعات البشرية‪ ,‬واستقصاء أسباب هذا ّ‬
‫الحتمية الجغرافية لـ بودان‪.‬‬

‫ومما قاله في هذا اإلطار‪ ,‬ما كتبه في مقاله الشهير عن " أكلة لحوم البشر "‪ ,‬وجاء فيه‪ " :‬يبدو‬
‫أنليس لدينا أي معيار للحقيقة والصواب‪ ,‬إال في إطار ما نجده سائدا من آراء وعادات على األرض التي‬
‫نعيش عليها (أوروبا)‪ ,‬حيث نعتقد بوجود أكمل الديانات‪ ،‬وأكثر الطرائق فاعلية في الحصول على‬
‫األشياء‪ ,‬إن هؤالء الناس (أكلة لحوم البشر) فطريون ‪ /‬طبيعيون‪ ،‬مثل الفاكهة البرية‪ .‬فقد بقوا على حالهم‬
‫البسيطة‪ ,‬كما شكلتهم الطبيعة بطريقتها الخاصة‪ ،‬وتحكمت فيهم قوانينها‪ ,‬وسيرتهم"(‪ .)27‬ومن هذه‬
‫كبير لدى مؤرخي الفكر األوروبي‬
‫ا‬ ‫الرؤية‪ ،‬القى كتابه الشهير "المقاالت " الصادر عام ‪ ,1579‬اهتماما‬
‫عامة‪ ,‬والفكر الفرنسي خاصة‪.‬‬

‫‪ -2-3‬األ نثروبولوجيا في القرن ‪:17‬‬

‫تقدمت األنثروبولوجيا(ما كتب حول المجتمعات غير األوروبية) في القرن ‪ ,17‬نتيجة االكتشافات‬
‫الجغرافية‪ ,‬التي أدت إلى التعرف على شعوب‪ ,‬لم تكن معروفة من قبل‪ .‬و يكف انه حتى منتصف هذا القرن‪,‬‬
‫لم تكن نيوزلنده معروفة‪ ,‬إال قبيل عام ‪ ,1647‬و لم يعرف الكونغو البلجيكي على الخريطة إال منذ ‪ 70‬سنة‪,‬‬
‫هذا‪ ,‬و قد ألم الحكام اإلداريون بالعديد من المجتمعات المحلية في إفريقيا‪ ,‬و عرفوا أنساقها االجتماعية‪.‬‬

‫و في عام ‪ 1655‬ظهر اصطالح األنثروبولوجيا في كتاب‪ ,‬غير معروف مؤلفه‪ ,‬و قد كتب باللغة‬
‫االنجليزية‪ ,‬عنوانه » ‪« Anthropology abstracted‬و موضوعه الطبيعة البشرية‪ ,‬و قد انقسمت موضوعاته‬
‫إلى قسمين‪ :‬احدهما خاص بعلم النفس‪ ,‬و الثاني بعلم التشريح‪ .‬وقد تبلور االتجاه (المذهب) العلمي في‬
‫الدراسات التجريبية والرياضية‪ ،‬التي ظهرت في أعمال بعض علماء القرن السابع عشر‪ ,‬من أمثال‪:‬‬
‫فرانسيسبيكون ‪)1626-1561( F.Becon‬ورينيهديكارت )‪R.Decartes (1650-1596‬واسحق‬
‫نيوتن ‪ )1727-1642( I.Newton‬وغيرهم‪ .‬حيث أصبحت النظرة الجديدة لإلنسان على أنه ظاهرة طبيعية‪,‬‬
‫ويمكن دراسته من خالل البحث العلمي‪ ,‬والمنهج التجريبي‪,‬ومعرفة القوانين‪ ,‬التي تحكم مسيرة التطور‬
‫اإلنساني‪,‬والتقدم االجتماعي‪ .‬وهذا ما أسهم في تشكيل المنطلقات النظرية للفكر االجتماعي‪ ,‬وأدى بصورة‬
‫تدريجية‪ ,‬إلى بلورة البدايات النظرية لألنثروبولوجيا‪ ,‬خالل عصر التنوير‪.‬‬

‫‪ -3-3‬األ نثروبولوجيا في القرن ‪:18‬‬

‫يعتبر القرن ‪ 18‬نقطة بداية مناسبة‪ ,‬لدراسة الشعوب البدائية‪ ,‬فقد ازدادت المعلومات‪ ,‬عن تلك‬
‫الشعوب بشكل كبير‪ ,‬نتيجة امتداد و توسع‪ ,‬حركة االستيطان األوروبي لألمريكتين‪ ,‬و كذلك لعدد كبير من‬
‫المجتمعات اإلفريقية‪ ,‬اآلسيوية‪ ,‬االسترالية‪ ,‬و غيرها من المجتمعات في أرجاء العالم‪ .‬و ازداد تبعا لذلك‪,‬‬
‫اهتمام العلماء األوروبيون بتلك الشعوب البدائية‪ ,‬و استطاع المبشرون الدينيون‪ ,‬و رجال اإلدارة‪ ,‬أن يتحفوا‬
‫العالم بدراسات عديدة‪ ,‬و رغم أنها لم تكن علمية‪ ,‬إال أنها قد احتوت على الكثير من المعلومات الدقيقة‪,‬‬
‫فعالة و مشجعة‪ ,‬على الدراسات األنثروبولوجية‪.‬‬
‫والمفيدة‪ ,‬فكانت خطوة ّ‬
‫فاحتّلت كتابات جان جاك روسو ‪ )1778-1712( J.J. Rosseau‬أهمية كبيرة لدى مؤرخي علم‬
‫األنثروبولوجيا‪ ,‬وذلك بالنظر لما تضمنته في دراستها اإلثنوغرافية‪ ,‬للشعوب المكتشفة (المجتمعات البدائية)‪,‬‬
‫مقارنة مع المجتمعات الغربية ‪ /‬األوروبية‪.‬‬

‫و في سنة ‪ 1729‬قام الفيتو‪Lafiteau‬بدراسة حول عادات الهنود الحمر‪ ,‬الذين زار بالدهم‪ ,‬وقارن‬
‫بينهم‪ ,‬و بين عادات الجماعات االجتماعية‪ ,‬التي كانت تعيش في العالم القديم‪ ,‬كما وصفها اليونان والرومان‬
‫القدامى‪ .‬و سنة ‪ 1760‬نشر تشارلز دي بروس‪Charles de brosse‬كتابا طابق فيه‪ ,‬بين ديانة المصريين‬
‫القدامى‪ ,‬و ديانة غرب إفريقيا‪ ,‬و هو موضوع ال يزال يشغل اهتمام المدرسة األنثروبولوجية‪ .‬الحديثة إلى‬
‫يومنا هذا‪.‬‬

‫مهدت لظهور األنثروبولوجيا في القرن ‪ ,18‬ما قام به الفيلسوف‬


‫هذا‪ ,‬و من أهم الدراسات التي ّ‬
‫الفرنسي‪ ,‬ميشال دي مونتسكيو‪ )1755-1689(Michel de Montesquieu‬في كتابه " روح القوانين‬
‫‪ "L’esprit des lois‬عام ‪ ,1748‬و هو كتاب يعتمد على القراءة ال الترحال‪ ,‬و قدم من خالله‪ ,‬بحثا يجمع‬
‫عرف القوانين بأنها " الروابط الضرورية التي تنبثق من طبيعة‬
‫بين الفلسفة و السياسة واالجتماع‪ ,‬و فيه ّ‬
‫األشياء"‪ .‬و أكد مونتسكيو انه توجد أنواع عديدة من المجتمعات‪ ,‬و عليه فالقوانين تختلف من مجتمع إلى‬
‫آخر‪ ,‬و أشار إلى أن اإلنسان يتأثر بأسباب مختلفة‪ ,‬كالمناخ‪ ,‬و المعتقدات الدينية‪ ,‬القوانين‪ ,‬العادات‪,..‬و قال‬
‫انه كلما ازدادت احدهذه العوامل في مجتمع ما‪ ,‬ضعفت في اآلخر‪ ,‬فيقول مثال‪ ,‬أن الطبيعة و المناخ‪,‬‬
‫يوجهان تقريبا حياة المجتمعات البدائية‪ ,‬و تسيطر العادات على الصينيين‪ ,‬و تسود القوانين اليابان(‪.)28‬‬
‫و بعد انقضاء ‪ 3‬سنوات على نشر أعمال مونتسكيو‪ ,‬أقام ترجو‪Turgot‬نظريته حول التقدم‬
‫االجتماعي‪ ,‬حيث قال أن أسالفنا‪ ,‬و روادنا من اليونان القدامى‪ ,‬كانوا يشبهون المتوحشين‪ ,‬حين اكتشفت‬
‫أمريكا‪ ,‬و نحن نرى شعوبا متمدينة‪ ,‬في بعض أجزاء العالم‪ ,‬و أخرى تتجول في الغابات‪ ,‬في البعض اآلخر‪,‬‬
‫فهنالك إذن تقدم غير متكافئ‪ .‬أما كوندرسيه‪)1794-1743(Moravis de condercet‬فقد قدم بحثا عام‬
‫‪ ,1793‬اعتبر مسودة لتاريخ تقدم اإلنسان‪.‬‬

‫التفوق العنصري والنزعة القومية الشوفينية‬


‫و في ألمانيا‪ ,‬فقد تبلور الفكر في عصر التنوير‪ ,‬عن ّ‬
‫(التعصبية)‪ ,‬وظهر ذلك واضحا في كتابات كل منفالديمير وليمهيجل ‪,)1831-1770(V.W.Hegel‬‬ ‫ّ‬
‫وجوهان فخته‪ ،)1814-1762( Fichte‬حيث جعال الشعب األلماني‪ ,‬الشعب األمثل‪ ,‬واألنقى بين شعوب‬
‫العالم(‪.)29‬‬

‫و خالصة القول أن فالسفة القرن ‪ 18‬قد مهدوا لظهور علوم موضوعية‪ ,‬تدرس النظم االجتماعية‪,‬‬
‫ومن أهم تلك العلوم‪ ,‬نجد األنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬و كان لذلك تأثير عظيم في القرن ‪.19‬‬

‫‪ -4-3‬األ نثروبولوجيا في القرن ‪:19‬‬

‫أصبحت األنثروبولوجيا‪ ,‬ذات طابع أكاديمي متميز خالل القرن ‪ ,19‬فمع بداية هذا القرن‪ ,‬اهتم عدد‬
‫من الباحثين‪ ,‬بدراسة األطالل و البقايا‪ ,‬التي وجدوها في مناطق جغرافية مختلفة‪ ,‬و قد تقدمت هذه األبحاث‬
‫والدراسات‪ ,‬نتيجة تقدم البحوث الجيولوجية و الباليونتولوجية‪ ,Geological and Palaeontological‬و التي‬
‫كشفت عن عمر األرض التقريبي‪ ,‬و برهنت أنها أقدم بكثير‪ ,‬مما كان يظن‪ ,‬حيث أكد الباحثون الفرنسيون‪,‬‬
‫أن وجود اإلنسان في فرنسا يعود إلى العصر الجليدي‪Ice age‬حيث عثروا على أدوات حجرية في حصى‬
‫الوديان‪ ,‬في بداية سنة ‪ ,1830‬ثم العثور على أدوات أخرى‪ ,‬في الفترة ما بين ‪ 1847‬و ‪.1864‬‬

‫و في هذا القرن أصبحت المجتمعات البدائية‪ ,‬مجال البحث الرئيسي في األنثروبولوجيا‪ ,‬بدال من‬
‫تفكير وتأمالت األنثروبولوجيون األوائل‪ ,‬والمجادالت غير العلمية بين المفكرين‪ .‬و استهدف هذا العلم الكشف‬
‫عن القوانين العامة‪ ,‬التي تحكم تطور المجتمعات البشرية‪ .‬و تعد الفترة من ‪ 1861‬إلى ‪ ,1871‬فترة نشأة‬
‫(‪)30‬‬ ‫األنثروبولوجيا‪ ,‬وذلك لظهور مجموعة معتبرة من المؤلفات‪ ,‬ينتمي أصحابها إلى جنسيات مختلفة‪:‬‬

‫‪ -3-4-1‬األ نثروبولجيون البريطانيون‪:‬‬

‫‪ ‬السير هنري مين‪Sir Henri Main‬من كتبه " المجتمع القديم‪"Ancient society‬عام ‪,1861‬‬
‫و"المجتمعات القروية" عام ‪.1871‬‬
‫‪ ‬السير ادوارد تايلور ‪Sir Edward Taylor‬من كتبه " أبحاث في التاريخ القديم للجنس البشري" عام‬
‫‪ ,1865‬و" الثقافة البدائية "‪ .‬و تناول تايلور في هذين المجلدين تطور األساطير‪ ,‬الفلسفة والدين‪,‬‬
‫درس تايلور بجامعة‬
‫اللغة و الفن و العادات‪ ,‬واهتم اهتماما بالغا بأصل النظم المختلفة للثقافة‪ ,‬و ّ‬
‫أكسفورد*‪ Oxford‬في الفترة ما بين ‪ 1884‬و ‪ ,1909‬و تضمنت األنثروبولوجيا في هذه الجامعة‪,‬‬
‫قسمين رئيسيين‪ ,‬هما‪ :‬األنثروبولوجيا الفيزيقية و األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬مع التركيز على آثار ما قبل‬
‫التاريخ‪ ,‬أكثر من المجتمعات البدائية‪.‬‬

‫‪ ‬السير هنري البوك ‪Sir Henri Labbok‬كانت له إضافة هامة‪ ,‬في هذه الدراسات‪ ,‬بنشره كتابا بعنوان‬
‫" أصل الحضارة ‪."The origine of Civilization‬‬

‫‪ ‬ماكلينان ‪Mc Lennan‬هو محامي اسكنلتدي‪ ,‬بدأ يكتب في الفن‪ ,‬ثم نشر مقاال في دائرة المعارف‬
‫البريطانية عام ‪ ,1857‬بعنوان " القانون "‪ ,‬ثم تاله كتابا آخر بعنوان " الزواج البدائي‬
‫‪ "Primitivemariage‬عام ‪ ,1865‬و عرض حقائق استقاها عن طريق رحلته‪ ,‬إلى مناطق كثيرة‬
‫من العالم‪ ,‬ليبرهن أن عادة وأد البنات كانت منتشرة بين الشعوب المتوحشة‪ ,‬و أدى هذا إلى بروز‬
‫ظاهرة‪ ,‬خطف البنات‪ ,‬من اجل الزواج‪ ,‬و من ثم ظهر نوعان من الزواج‪:‬‬

‫‪ ‬الزواج الخارجي‪ /‬االغترابي ‪Exogamy‬‬

‫‪ ‬الزواج الداخلي ‪Indogamy‬‬

‫‪ -3-4-2‬األ نثروبولوجيون الفرنسيون‪:‬‬

‫‪ ‬برز فوستيل دي كوالنج ‪Fustel de Coulange‬و نشر كتابا بعنوان " المدينة العتيقة ‪La‬‬

‫‪ "cite antique‬عام ‪.1864‬‬

‫‪ -3-4-3‬األ نثروبولوجيون األمريكيون‪:‬‬

‫‪ ‬من أبرزهم لويس هنري مورجان‪LewisHenri Morgan‬حيث قام بدراسة حقلية عن‬
‫قبائل الهنود الحمر‪ ,‬في أمريكا الشمالية‪ ,‬من كتبه‪ " :‬أنساق روابط الدم و المصاهرة في‬
‫العائلة البدائية "عام ‪.1871‬‬

‫‪ -3-4-4‬األ نثروبولوجيون السويسريون‪:‬‬

‫‪ ‬أشهرهم باخوفن ‪It.Bachofen‬و من أهم كتبه " حق األم " نشره عام ‪ ,1861‬تناول فيه‬
‫تطورها‪.‬‬
‫بإسهاب‪ ,‬نظام العائلة األمومية‪ ,‬نشأتها و خواصها و ّ‬
‫‪ ‬االنتقادات الموجهة إلى أنثروبولوجيا القرن ‪:19‬‬

‫تعرض علماء أنثروبولوجيا القرن ‪ ,19‬إلى انتقادات شديدة‪ ,‬نذكر من أهمها التالي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪-4‬‬

‫‪ -‬لم تكن مؤلفاتهم نابعة من تخصصاتهم‪ ,‬حيث كانت المحاماة‪ ,‬هي العمل األصلي‪ ,‬لكل من‬ ‫‪-5‬‬
‫مورجان و باخوفن و ماكلينان‪ ,‬أما فوستيل دي كوالنجفقد كان مؤرخا للعصور القديمة‪,‬‬
‫والوسطى‪ ,‬و كان تايلور متخصصا في دراسة اللغات‪.‬‬

‫‪ -‬تميل دراساتهم إلى السرد و الوصف‪ ,‬و االصطباغ بصبغة أدبية خالصة‪ ,‬و ال يهتمون بالتحليل‬ ‫‪-6‬‬
‫المنهجي‪ ,‬إال في النزر القليل‪.‬‬

‫‪ -‬كانت دراساتهم تنزع نحو التأريخية‪ ,‬فانشغلوا بمسألة األصول ‪ ,Origins‬و إثارة المناقشات‬ ‫‪-7‬‬
‫النظرية‪ ,‬و التأمالت الظنية‪ ,‬حول أصل النظم االجتماعية‪ ,‬كما اهتموا بأصل الطوطمية*‪ ,‬و نشأة‬
‫الدين‪ ,‬و أصل الزواج الخارجي‪.‬‬

‫‪ -‬كان هؤالء األنثروبولوجيون يعرفون باسم "علماء المقاعد الوثيرة‪,Armychairanthropologist‬‬ ‫‪-8‬‬


‫و يقصد بذلك‪ ,‬أنهم لم يعتمدوا على أنفسهم في جمع المعلومات‪ ,‬و لم يستخدموا منهج الدراسة‬
‫الميدانية‪ ,‬و إنما اعتمدوا في أبحاثهم‪ ,‬على ما رواه الرحالة‪ ,‬و المستكشفين و رجال اإلدارة‪ ,‬من‬
‫المستعمرين األوروبيين‪.‬‬

‫و بما أن الدراسة الميدانية‪ ,‬هي احد األركان األساسية لألنثروبولوجيا‪ ,‬فإنه ال يمكن اعتبار‬
‫القرن ‪ ,19‬فترة نضوج األنثروبولوجيا‪ ,‬و استكمال عناصرها‪ ,‬إنما فترة نشأتها(‪.)31‬‬

‫‪ -5-3‬األ نثروبولوجيا في القرن ‪:20‬‬

‫بلغت األنثروبولوجيا مطلع القرن‪ 20 ,‬مرحلة التخصص‪ ,‬و تميزت هذه المرحلة‪ ,‬بمظاهر‬
‫يلي‪)32(:‬‬ ‫متعددة‪ ,‬نوجزها فيما‬

‫‪ -‬وقع الفصل بين األنثروبولوجيا و األثنولوجيا‪ ,‬مع تراجع الدراسات الميدانية أو الحقلية ‪Fieldstudy‬‬

‫عن المجتمعات البدائية‪ ,‬حيث أصبحت أكثر نضجا‪.‬‬


‫‪ -‬كان العالمة البريطاني هادون‪ ,Hadon‬أول من طبق المنهج األنثروبولوجي المتعارف عليه حاليا‪,‬‬
‫في دراسة ميدانية في منطقة توريس ‪ Straits Torrés‬في المحيط الهادي‪ ,‬حيث ترأس بعثة جامعة‬
‫كامبردج‪ ,‬إلى هناك‪ ,‬و المؤلفة من مجموعة من العلماء‪ ,‬و استغرقت تلك الدراسة عامين من ‪1898‬‬
‫عين أستاذا لألنثروبولوجيا‪ ,‬في جامعة كامبردج‪.‬‬
‫إلى ‪ ,1900‬و بعدها ّ‬
‫‪ -‬و كان كل من مالينوفسكي و راد كليف براون‪ ,‬روادا بارزين في دراسة المجتمعات البدائية‪ ,‬حيث‬
‫تعّلم العالمان لغة أهالي المجتمعات‪ ,‬التي قاما بدراستها‪ ,‬وعاشا بينهم‪ ,‬متتبعين عاداتهم‪ ,‬و قاما‬
‫بوصف حياة تلك المجتمعات‪ ,‬في اتجاه بنائي‪ /‬وظيفي‪ .‬و قد كشف هذا االتجاه‪ ,‬اختالالت‬
‫األنثروبولوجيا‪ ,‬في الفترات السابقة‪ ,‬و التي تمثلت في جمع المعلومات‪ ,‬عن طريق غير شخصي‪,‬‬
‫كاالعتماد على المخبرين‪ ,‬أو رجال اإلدارة االستعماريين‪ ,‬غير المدربين‪.‬‬
‫‪ -‬و قد بلغ تعميق و تركيز الدراسة الميدانية‪ ,‬إلى الذروة‪ ,‬على يد العالمة البريطاني الجنسية‪ ,‬والبولندي‬
‫المولد برونسال ومالينوفسكي ‪ ,B.Malinowski‬الذي قضى في دراسة سكان جزر التروبرياند بمنطقة‬
‫ميالينزيا‪ ,‬مدة استطاع من خاللها‪ ,‬أن يفهم و يحلل العالقات االجتماعية بينهم‪ .‬و سنة ‪ 1924‬بدأ‬
‫مالينوفسكي تدريب مجموعة من األنثروبولوجيين األذكياء‪ ,‬في مجال الدراسة الميدانية‪.‬‬
‫ريموند‬ ‫تلك الفترة‪ ,‬دراسة‬ ‫برزت في‬ ‫‪ -‬و من بين الدراسات األنثروبولوجية‪ ,‬التي‬
‫فيرث‪R.Firth‬الشهيرة"نحن أهل تيكوبيا ‪ "We The Tikopia‬سنة ‪.1936‬‬
‫‪ -‬و يعد راد كليف براون‪ ,‬من أشهر علماء األنثروبولوجيا البريطانيين‪ ,‬و هو تلميذ لكل من ريفرز‬
‫وهادون‪ ,‬قام بدراسة سكان األندمان‪ ,‬و هي مجموعة من الجزر‪ ,‬في خليج البنغال‪ ,‬جنوب بورما‪,‬‬
‫وفي سنة ‪ 1937‬أعاد تنظيم معهد األنثروبولوجيا‪ ,‬في جامعة أكسفورد‪ ,‬و عمل على تطور اتجاهاته‪.‬‬
‫‪ -‬أخذ االهتمام بدراسة النظام السياسي يظهر جليا‪ ,‬عندما اتجهت الدراسات الميدانية‪ ,‬نحو إفريقيا‪ ,‬من‬
‫اجل دراسة وضع الرئيس في المجتمعات البدائية‪ ,‬و ذلك من خالل الدراسة التي أجراها العالمة‬
‫ايفانز بريتشارد‪ ,‬حول قبائل النوير‪The Nuer‬في السودان‪ ,‬عام ‪.1940‬‬
‫و بذلك‪ ,‬انتقل الفكر األنثروبولجي‪ ,‬مع بداية النصف الثاني من القرن ‪,20‬في الدراسات‬
‫االجتماعية و الثقافية‪ ,‬من البحوث التاريخية و التطورية‪ ,‬إلى الميدانية (الحقلية)‪ ,‬و أصبحت‬
‫األنثروبولوجيا علما قائما بذاته‪ ,‬له مناهجه و مواضيعه و أهدافه‪ .‬و اخذ يتطور تباعا للتطور الذي‬
‫حدث على المجتمعات البدائية‪ ,‬و اتسع نطاقه اآلن إلى دراسة قرى الفالحين‪ ,‬بما فيها األوروبية‪,‬‬
‫وكذلك البيئات الصناعية‪ ,‬و المدن في المجتمعات النامية‪ ,‬و الشركات متعددة الجنسيات‪ ,..‬كما‬
‫تنوعت فروع األنثروبولوجيا‪ ,‬و تشابكت وعلم البيولوجيا‪ ,‬وصوال إلى دراسات الحياة االجتماعية‬
‫للشعوب المعاصرة‪ ,‬الريفية و الحضرية‪.‬‬
‫و بدأ علم األنثروبولوجيا‪ ,‬يأخذ مسارات عديدة واضحة‪ ,‬تبدو من مراجعة بعض‬
‫الدوريات‪ , Periodicals‬التي تناولت موضوعات‪ ,‬ذات صبغة أنثروبولوجية‪ ,‬ففي أمريكا مثال‪ ,‬ظهرت مع‬
‫بداية القرن العشرين‪ ,‬مجلةالجمعية االثنولوجية األمريكية‪ ,‬و مجلة األ نثروبولوجيا الثقافية عام ‪,1906‬‬
‫و المجلة الدولية لعلم اللغة األمريكية‪ ,‬و مجلة األ ركيولوجيا األمريكية‪ ,‬و في عام ‪ 1941‬ظهرت مجلة‬
‫األ نثروبولوجيا التطبيقية‪ ,‬كما ظهرت مجلة الجنوب الغربي لل نثروبولوجيا عام‪ ,1945‬ومجلة‬
‫األ نثروبولوجيا المعاصرة عام ‪..1960‬الخ (‪.)33‬‬
‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ -1‬احمد جعفر صادق األنصاري‪ ,‬مدخل إلى األنثروبولوجيا االجتماعية‬


‫‪www.arts.uokufa.edu.iq/teaching/ph/ahmedalansari/index_files/page514.htm‬‬

‫‪ -2‬المرجع السابق‬

‫‪-3‬علي فهمي خشيم‪ ,‬نصوص ليبية‪ ,‬دار مكتبة الفكر‪ -‬طرابلس‪ ,1967 ,‬ص ‪87‬‬

‫‪-4‬حسين فهيم‪ ،‬قصة األنثروبولوجيا‪ -‬فصول في تاريخ علم اإلنسان‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة العدد (‪,)98‬‬
‫المجلس الوطني للثقافة و الفنون واآلداب ‪ -‬الكويت‪ ,1986 ,‬ص ‪46‬‬

‫* ‪ -‬األبيقورية‪ :‬نسبة إلى أبيقور (‪ 270-341‬ق‪.‬م) فيلسوف أثيني‪ ,‬أسس مدرسة فلسفية عام‬
‫‪306‬ق‪.‬م‪ ,‬في حديقته الشهيرة‪ ,‬وكان يستقبل تالمذته فيها‪ ,‬حتى توفي‪ .‬ترتكز الفلسفة األبيقورية على‬
‫حدس مؤسس و هو اللذة هي الغاية‪ ,‬و القيمة هي الخير األعلى‪ .‬و األبيقورية هي قبل كل شيء‪ ,‬فن‬
‫للعيش‪ ,‬و رغبة في الحفاظ على اكبر قدر ممكن‪ ,‬على الرضى في عالم متوتر‪ .‬من أهم أعمال أبيقور‬
‫نذكر‪ :‬رسالة إلى هيرودتس (فيزياء)‪ ,‬رسالة إلى بيتوكلس ‪( Pythocles‬علم الظواهر الجوية)‪ ,‬رسالة إلى‬
‫‪ ,Menecee‬وأربعون حكمة رئيسية‪.‬‬

‫شروخ‪ ,‬مدخل في علم االجتماع‪ ,‬دار العلوم للنشر و التوزيع‪-‬عنابة‪ ,2005 ,‬ص ‪51‬‬
‫‪ -5‬صالح الدين ّ‬
‫‪-6‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ‪47‬‬

‫‪-7‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬األنثروبولوجيا في المجالين النظري و التطبيقي‪ ,‬دار المعرفة‬
‫الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪ ,‬ط‪ , 2009 ,2‬ص ‪7‬‬

‫‪-8‬احمد جعفر صادق األنصاري‪ ,‬مرجع سابق‬

‫شروخ‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪53‬‬


‫‪-9‬صالح الدين ّ‬

‫‪-10‬محمد مؤنس‪ ,‬الحضارة – دراسة في أصول وعوامل قيامها وتدهورها‪ ,‬عدد كانون الثاني‪ ,‬عالم‬
‫المعرفة‪ -‬الكويت‪ ,1978,‬ص ‪43‬‬

‫‪-11‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ‪15‬‬


‫*الكونفشيوسية‪ :Confucianism‬نسبة إلى كونفشيوس (‪ )551-44‬ق‪.‬م أعظم المفكرين الصينيين‪,‬‬
‫يعتبر نبي الصين لدى بعضهم‪ ,‬و قد أكسبته أسفاره الكثيرة‪ ,‬و فكره النافذ‪ ,‬خبرة عظيمة و حكمة‪ ,‬و حسبه‬
‫فإن األخالق هي األساس األول‪ ,‬الذي يجب أن تقوم عليه العالقات االجتماعية‪ ,‬فالتنشئة و التربية‬
‫عليهما‪ ,‬يجعل األفراد في غير ما حاجة للقضاة و المصلحين‪ .‬لقد كان كونفيشيوس مصلحا دينيا‪ ,‬وسادت‬
‫ديانته التوحيدية الصين‪ ,‬قرابة ‪ 25‬قرنا‪ ,‬و مازالت‪.‬‬

‫الطاوية‪ :Taoïsm‬و المحور الثاني الهام للفكر االجتماعي الصيني القديم‪ ,‬بنته الطاوية‪ ,‬و هي قائمة على‬
‫وجوب طلب الطاو‪ ,‬أي الوسط بين المكونين االثنين للعالم و هما ألين أي األنثى‪ ,‬و اليانج أي الذكر‪ ,‬و‬
‫ترى الطاوية بأن الطبيعة البشرية ليست حسنة‪ ,‬و ال هي بالسيئة أصال‪ ,‬و بالتالي فإن االستقامة ليست إال‬
‫عادة تكتسب بتكرار السلوك الحسن‪.‬‬

‫الماوتسية‪ :‬و هي العقيدة الصينية الثالثة‪ ,‬و كانت معاصرة الكونفشيوسية‪ ,‬و قبلت بمبدأ الجاذبية فيها‪,‬‬
‫ولكنها أنكرت التدرج في الجاذبية على أساس القرابة‪ ,‬فالحب يجب أن يعم الجنس البشري كّله‪ ,‬و قد آمنت‬
‫الماوتسية بوجود هللا‪ ,‬فالدنيا محكومة حسبها بإرادة مدركة واعية لكائن أعلى‪ ,‬و اعتبرت حب اإلنسانية‬
‫كلها واجبا دينيا‪ ,‬و دعت إلى التقشف‪ ,‬و أن اإلنسان يطلب اللذة عن طريق خدمة البشرية‪.‬‬

‫‪ -12‬حسين فهيم‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪50‬‬

‫‪-13‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ‪52‬‬

‫‪-14‬زكي محمد حسن‪ ,‬الرحالة المسلمون في العصور الوسطى‪ ,‬كلمات للنشر و التوزيع‪ -‬القاهرة‬
‫‪ ,2013,‬ص ‪57‬‬

‫‪ -15‬المرجع نفسه‬

‫‪-16‬المرجع نفسه‬

‫‪-17‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ‪101‬‬

‫‪-18‬المرجع نفسه‪102 ,‬‬

‫‪-19‬المرجع نفسه‬

‫‪-20‬حسين فهيم‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪54‬‬


‫‪-21‬صالح الدين شروخ‪ ,‬مرجع سابق‪,‬ص ‪72‬‬

‫‪ -22‬المرجع نفسه‬

‫‪-23‬احمد جعفر صادق األنصاري‪ ,‬مرجع سابق‬

‫‪ - 24‬المرجع نفسه‬

‫‪-25‬حسين فهيم‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪86‬‬

‫‪-26‬احمد جعفر صادق األنصاري‪ ,‬مرجع سابق‬

‫‪ -27‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص‪46‬‬

‫‪-28‬احمد جعفر صادق األنصاري‪ ,‬مرجع سابق‬

‫‪-29‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪48‬‬

‫‪-30‬احمد جعفر صادق األنصاري‪ ,‬مرجع سابق‬

‫*جامعة اوكسفورد ‪Oxford‬تأسست عام ‪1180‬م‪ ,‬و تعد من أعرق الجامعات في بريطانيا‪ ,‬و كذلك في‬
‫أوروبا‪.‬‬

‫*‪-‬الطوطم ‪ :Totem‬تطلق كلمة "طوطم" التي تنسب إليها "الطوطمية ‪ "Totemism‬على كل أصل‬
‫حيواني أو نباتي‪ ,‬تتخذه عشيرة ما رم از لها‪ ,‬و لقبا لجميع أفرادها‪ ,‬و تعتقد أنها تؤلف معه وحدة‬
‫اجتماعية‪ ,‬و تنزله وتنزل األمور التي ترمز إليه‪ ,‬منزلة التقديس‪.‬‬

‫‪-31‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬أصول علم اإلنسان‪ -‬الجزء األول‪ ,‬دار المعرفة الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪,‬‬
‫‪ ,2007‬ص‪.223‬‬

‫‪-32‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪51‬‬

‫‪ -33‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص‪.22‬‬


‫احمل ـ ـ ـ ـاضرة الثالث ـ ـ ـ ـ ـة‬

‫عالقـ ـ ــة األنثروبولوجي ـ ـ ـ ــا بغريهـ ـ ـ ــا‬

‫من العل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫تهتم األنثروبولوجيا بدراسة اإلنسان‪ ,‬من مختلف جوانبه‪ ,‬الفيزيقية و االجتماعية و الثقافية‪ ,‬سواء في‬
‫الماضي البعيد‪ ,‬أو الوقت الحاضر‪ ,‬و ضمن مختلف البيئات‪ ,‬التي يتواجد فيها(االجتماعية‪ ,‬الطبيعية‪ ,)..‬وفي‬
‫كل بقاع العالم‪ ,‬و بالتالي فإن هذا العلم‪ ,‬يتشارك و علوم إنسانية‪ ,‬و أخرى طبيعية‪ ,‬في دراسة اإلنسان‪ ,‬و من‬
‫ثم فهو يفيد ويستفيد منها‪ ,‬بل و يرتبط معها‪ ,‬و يتداخل و ّإياها‪ ,‬تداخال قويا‪.‬‬

‫فاألنثروبولوجيا تستفيد من معطيات العلوم األخرى‪ ,‬سواء على مستوى النظري أو المنهجي‪ ,‬أو حتى‬
‫على مستوى النتائج المتوصل إليها‪ ,‬ضمن كل من هذه العلوم‪ ,‬و العكس صحيح‪ .‬و من هذا المنطلق‪ ,‬سوف‬
‫نستعرض سويا‪ ,‬بعضا من مجمل العلوم‪ ,‬التي تفيد و تستفيد منها األنثروبولوجيا‪ ,‬أو لنقل أهم العلوم‪ ,‬التي‬
‫ترتبط و تتكامل و الدراسة األنثروبولوجية‪ ,‬و التي يمكن التعبير عنها كذلك‪ ,‬بأنها تلك العلوم‪ ,‬التي ال تستغني‬
‫عنها األنثروبولوجيا‪ ,‬في تجميع مادتها األولية‪.‬‬

‫‪ -1‬عالقة األ نثروبولوجيا بالبيولوجيا و التشريح و الفسيولوجيا‪:‬‬

‫لكي تحقق األنثروبولوجيا أهدافها كعلم‪ ,‬فيما يتعّلق بالدراسة ألصل اإلنسان الطبيعي‪ ,‬فإنها تستعين‬
‫بعلوم البيولوجيا‪Biology‬أوعلم األحياء و هو علم طبيعي ُيعنى بدراسة الحياة والكائنات الحية‪ ,‬بما في ذلك‬
‫هياكلها ووظائفها‪ ,‬ونموها وتطورها وتوزيعها وتصنيفها(‪ ,)1‬و التشريح ‪Anatomy‬وهو فرع منفروع علم‬
‫األحياء المعني بدراسة بنية الكائنات الحية وأجزائها(‪ .)2‬األمر الذي أدى إلى تسمية األنثروبولوجيا الفيزيقية‪,‬‬
‫باسم البيولوجيا النسانية‪ Human biology‬أي أنها الدراسة البيولوجية لإلنسان وحده‪ ,‬دون سائر الكائنات‬
‫‪Comparative‬‬ ‫الحية األخرى‪ .‬كما تستعين األنثروبولوجيا الفيزيقية‪ ,‬بدراسات علم التشريح المقارن‬
‫‪ , anatomy‬لعقد المقارنات بين مختلف أجناس البشر‪ ,‬قصد محاولة إعادة تركيب التاريخ الطبيعي‪ ,‬للجنس‬
‫البشري برمته‪.‬‬

‫تطور األسس‬
‫التطور اإلنساني‪ ,‬خصوصا ّ‬‫ّ‬ ‫إن األنثروبولوجيون يتناولون في دراستهم لإلنسان‪ ,‬عملية‬
‫البيولوجية للسلوك الثقافي‪ ,‬و هذا جعلهم ينهلون من نتائج علم البيولوجيا في هذا الصدد‪ .‬و من ناحية أخرى‪,‬‬
‫التطور‬
‫ّ‬ ‫التطور البيولوجي‪ ,‬و‬
‫ّ‬ ‫يمكن القول أن بداية األنثروبولوجيا المتخصصة‪ ,‬ترجع إلى المماثلة بين‬
‫الثقافي‪ .‬كما استعارت األنثروبولوجيا التركيز التاريخ الطبيعي المبكر‪ ,‬على النزعة المبيريقية ‪,Empiricism‬‬

‫تغير النظريات العلمية المختلفة‪ ,‬و النظرة الكلية ‪ ,Holism‬و ال تزان ‪.Homeostasis‬‬
‫و مع ّ‬
‫أما "علم وظائف األعضاء أو الفسيولوجيا" (باإلنجليزية ‪ )physiology‬وهو علم دراسة وظائف‬
‫األعضاء‪ ,‬واألجهزة الحيوية‪ ,‬ويتضمن ذلك كيف تقوم األجهزة العضوية‪ ,‬والخاليا‪ ,‬والجزيئات الحيوية‪,‬‬
‫بالعمليات الكيميائية‪ ,‬والفيزيائية في الكائنات الحية(‪ ,)3‬فقد استفادت األنثروبولوجيا منه‪ ,‬في دراسةالنظم‬
‫االجتماعية‪ ,‬و كيفية أدائها وظائفها‪.‬‬

‫هذا‪ ,‬و قد اهتم البيولوجيون األوائل‪ ,‬بتصنيف اإلنسان إلى سالالت‪ ,‬غير أن خالفات حادة وقعت‬
‫بينهم‪ ,‬و بين علماءاألنثروبولوجيا الفيزيقية‪ ,‬على مدى فترة طويلة من الزمن‪ ,‬بخصوص عدد السالالت‪ ,‬التي‬
‫كانت موجودة‪ ,‬و من ثم ابتكر األنثروبولوجيون الفيزيقيون‪ ,‬عددا من المعايير المورفولوجية‪ ,‬لتصنيف اإلنسان‬
‫العاقل‪ ,‬إلى عدة أنواع ساللية‪ .‬و من خالل هذه المعايير‪ ,‬تم تطوير بعض فروع االنثروبولوجيا الفيزيقية‪,‬‬
‫مثل‪ :‬علم قياس الجسم البشري ‪Anthropometry‬و هو قائم على قياسات خاصة بالجمجمة‪ ,‬وبعض‬
‫العظام األخرى كالفخذ‪ ,..‬و كذلك علم الفحوص البشرية ‪.)4(Anthroposcopy‬‬

‫‪ -2‬عالقة األ نثروبولوجيا بالطب‪:‬‬

‫تتداخل اهتمامات األطباء و األنثروبولوجيين‪ ,‬بل و يتفقان في كون الصحة و المرض‪ ,‬ال يرتبطان‬
‫بالعوامل البيولوجية فقط‪ ,‬و لكن بالمصادر الثقافية للبشر‪ ,‬و كذلك بالسلوك االجتماعي‪ ,‬الذي يستفيد من هذه‬
‫المصادر‪ .‬و خالل مرحلة تداخل اهتمامات األطباء و األنثروبولوجيين‪ ,‬كان االهتمام الرئيسي لألطباء‪,‬‬
‫يتصل بطرق تأثير السلوك البشري‪ ,‬على قضية الحفاظ على الصحة‪ ,‬و مدى اإلصابة بالمرض‪ ,‬و السيطرة‬
‫عليه‪ ,‬كما شارك األنثروبولوجيون في العديد من البحوث‪ ,‬المتصلة بهذه المشكالت‪ .‬و ترتب على هذه‬
‫األ نثروبولوجيا‬ ‫يسمى‬ ‫جديد‪,‬‬ ‫علمي‬ ‫فرع‬ ‫نشأة‬ ‫واألنثروبولوجيا‪,‬‬ ‫الطب‬ ‫بين‬ ‫العالقة‪,‬‬
‫تعرف األنثروبولوجيا الطبية بأنها‪ ":‬دراسة كلية مقارنة للثقافة‪ ,‬و مدى‬
‫الطبية‪.Medicalanthropology‬و ّ‬
‫تأثيرها على المرض و الرعاية الصحية"(‪.)5‬‬

‫و قد نشأ هذا الفرع وتبلور‪ ,‬انطالقا من اإليمان‪ -‬بعد وجود العديد من المؤشرات و الدالالت‪ -‬بأن‬
‫سبب حدوث المرض‪ ,‬ال يرتبط فقط بالعامل البيولوجي‪ ,‬و لكن العوامل اإلجتماعية و الثقافية‪ ,‬تلعب هي‬
‫األخرى دو ار بالغ األهمية‪ ,‬في مدى اإلصابة باألمراض‪ ,‬و مدى فعالية العالج‪ ,‬خاصة إذا كانت العادات‬
‫تشكل عائقا أمام استفادة األفراد‪ ,‬من البرامج الطبية المقدمة‪ .‬علما أن‬
‫والتقاليد‪ ,‬و النظم االجتماعية عموما‪ّ ,‬‬
‫األنثروبولوجيا الطبية قد ازدهرت‪ ,‬فيما بعد الحرب العالمية الثانية‪ ,‬حيث برزت دراسات تناولت وصف‬
‫المفاهيم األسطورية‪ ,‬و المعتقدات المرتبطة بالمرض و الممارسات الصحية‪ ,‬في المجتمعات البسيطة‪.‬‬
‫فشكلتهذه الدراسات‪,‬محاور أساسية‪ ,‬ضمن فرع األنثروبولوجيا الطبية‪ ,‬نذكر من بينها‪:‬دراسة كل من‬
‫ّ‬
‫ريفرز‪ Rivers‬عام ‪ ,1924‬كلمنتس‪ Clements‬عام ‪ ,1932‬ايفانز بريتشارد ‪PritchardEvans‬عام‬
‫‪ ,1937‬و جيلين‪Gillin‬عام ‪.)6(1948‬‬

‫ومن بين مجاالت البحث في األنثروبولوجيا الطبية نجد موضوع التغذية ‪ ,Nutrition‬فاألنثروبولوجيون‬
‫ينظرون إلى الغذاء و تناوله‪ ,‬على انه احد المقوالت الثقافية الهامة‪ ,‬و ما يترتب عن ذلك من نتائج‬
‫سيكولوجية‪ ,‬و اجتماعية‪ ,‬وصحية‪ .‬كما يهتمون بالربط بين المعتقدات والممارسات المتعلقة بالغذاء‪ ,‬و‬
‫المؤسسات االجتماعية األخرى‪ ,‬و يرون انه من الصعوبة بمكان‪ ,‬فهم األنساق الطبية‪ ,‬و المستويات الصحية‪,‬‬
‫باإلشارة إلى الغذاء فحسب‪.‬‬

‫‪ -3‬عالقة األ نثروبولوجيا بعلم الجتماع‪:‬‬

‫يعرف علم اإلجتماع بأنه‪ " :‬العلم الذي يدرس النماذج االجتماعية‪ ,‬أو النظم االجتماعية‪ ,‬و معظم‬ ‫ّ‬
‫علماء االجتماع البريطانيون‪ ,‬األمريكيون يأخذون بهذا التعريف‪ ,‬أما الفرنسيون وااليطاليون‪ ,‬فإنهم يميلون إلى‬
‫تعريفه بأنه علم دراسة الوقائع الجتماعية ‪ ,Faits sociaux‬أو الظواهر الجتماعية‪Phénomènes sociaux‬‬

‫يعرفونه بأنه دراسة العالقات االجتماعية مثل ديبريل‪ ,‬أو البناء اإلجتماعي مثل عدد‬
‫و ثمة قلة من العلماء‪ّ ,‬‬
‫كبير من العلماء األلمان‪ ,‬و على رأسهم فون فيز‪ ,‬و بعضهم ّ‬
‫يعرفه بأنه دراسة العمليات اإلجتماعية‪ .‬والواقع‬
‫أن كل هذه التعريفات‪ ,‬ال تعارض بينها‪ ,‬ألنها جميعا تدرس الحقيقة اإلجتماعية من زوايا مختلفة(‪.)7‬‬

‫عرف كل من اجبرن ‪Ogburn‬و نيمكوف‪Nimkoff‬علم اإلجتماع بأنه‪ ":‬الدراسة العلمية للحياة‬


‫كما ّ‬
‫اإلجتماعية"‪ .‬ويقوالن أن‪":‬الحياة االجتماعية تقوم على التفاعل‪ ,‬والتفاعل يؤدي إلى التنظيم اإلجتماعي‪ ,‬الذي‬
‫يؤدي بدوره إلى خلق أشياء كثيرة‪ ,‬كالمباني‪ ,‬الموسيقى‪ ,‬األخالق‪ ,‬اآلالت‪ ,..‬أي خلق الثقافة"‪.‬معنى هذا أن‬
‫علم االجتماع ال يدرس التجمعات االجتماعية و المجتمعات فحسب‪ ,‬و إنما يدرس انتاجاتها أيضا‪ ,‬والمتمثلة‬
‫في الثقافات المختلفة‪ .‬بل و ذهب العديد من علماء اإلجتماع إلى اعتبار الثقافة موضوعا رئيسيا في الحقل‬
‫عرف علم اإلجتماع بأنه " العلم الذي يدرس الثقافة‬
‫السوسيولوجي‪ ,‬و من بينهم سوروكين‪ Sorokin‬حيث ّ‬
‫اإلجتماعية "‪ ,‬و قد دعاه هذا إلى القول بأن الحقيقة اإلجتماعية ذات أبعاد ثالثة متداخلة هي‪ :‬الشخصية‬
‫‪Personality‬و الثقافة‪Culture‬و المجتمع‪.Society‬‬

‫و قد أطلق اوغيست كونت‪A. Compte‬على دراسات المجتمع أوال‪ ,‬اصطالح " الفيزيقا اإلجتماعية"‪,‬‬
‫مستعي ار إياه من سان سيمون‪ ,‬و كأنه أراد أن تدرس الظواهر اإلجتماعية‪ ,‬على النحو الذي تدرس به الظواهر‬
‫الطبيعية‪ ,‬ثم احل محلها اصطالح " سوسيولوجيا"‪ ,‬و هو مركب من أصلين احدهما التيني ‪ Socio‬و يعني‬
‫تجمع‪ ,‬و اآلخر يوناني‪ Logos‬و يعني علم أو دراسة‪ ,‬و من ثم يركب األصلين معا‪ ,‬فتصبح‬ ‫مجتمع أو ّ‬
‫التسمية علم المجتمع أو علم اإلجتماع‪ ,‬و األخيرة من عرفت انتشا ار و استخداما واسعين(‪.)8‬‬

‫و الحق‪ ,‬أن عبد الرحمن بن محمد بن خلدون(‪ )1332-1406‬كان أول من أشار بإنشاء "علم‬
‫كرس له كل مقدمته‪ .‬و علم العمران هو علم اإلجتماع‪ ,‬الذي بحث المؤلف في أبوابه الستة‪,‬‬‫العمران" الذي ّ‬
‫معظم فروع علم اإلجتماع‪ ,‬و ذلك قبل إنشاء أوغيست كونت لعلم اإلجتماع بخمسة قرون(‪.)9‬‬

‫و مما تقدم نجد أن ثمة تداخل كبير‪ ,‬بين علم اإلجتماع و األنثروبولوجيا‪ ,‬بل يعتبر علم اإلجتماع‪,‬‬
‫اقرب الفروع العلمية إلى األنثروبولوجيا اإلجتماعية‪ ,‬خاصة من حيث الموضوعات‪ ,‬التي يتناولها الفرعين‬
‫بالدراسة‪ ,‬و ذلك من خالل ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬كالهما يدرس البناء اإلجتماعي‪ ,‬و الوظائف اإلجتماعية‪ ,‬مما دعا راد كليف براون إلى القول‬
‫بأن األنثروبولوجيا اإلجتماعية‪ ,‬فرع من فروع علم اإلجتماع المقارن‪.‬‬
‫‪ -2‬األنثروبولوجيا تدرس الممارسات و الظواهر االجتماعية‪ ,‬في كل المجتمعات القديمة و المعاصرة‪,‬‬
‫المتخلفة والمتقدمة‪ ,‬و تتعرض إلى كثير من الموضوعات‪ ,‬التي تشكل بؤرة اهتمام لدى علماء‬
‫اإلجتماع‪ ,‬مثل‪ :‬مشكالت المجتمع الصناعي‪ ,‬الهجرة‪ ,‬مشكالت التنمية اإلجتماعية‪ ,‬التربية‪,‬‬
‫اإلنحراف‪.‬‬

‫و بالرغم من ذلك‪ ,‬تختلف األنثروبولوجيا عن علم اإلجتماع‪ ,‬فيما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬مجال البحث‪ :‬تركز األنثروبولوجيا على دراسة اإلنسان‪ ,‬من حيث ثقافته‪ ,‬نظمه اإلجتماعية‪ ,‬في‬
‫المجتمعات البدائية و البسيطة‪ .‬أما علم اإلجتماع‪ ,‬فانه يهتم بدراسة المجتمعات المتحضرة‪,‬‬
‫والصناعية الكبرى‪.‬‬
‫‪ -2‬األنثروبولوجيا تدرس المجتمع ككل‪ ,‬إذ تدرس البيئة العامة أو االيكولوجيا‪ ,‬النظم اإلقتصادية‬
‫والقانونية‪ ,‬كما تدرس العائلة و نظم القرابة‪ ,‬الدين‪ ,‬العادات‪ ,‬الفن‪ ,‬التكنولوجيا‪ ,..‬على أنها أجزاء‬
‫من نسق اجتماعي عام‪ .‬حتى و إن درس األنثروبولوجي‪ ,‬ظواهر معينة‪ ,‬فإنه يدرسها من ناحية‬
‫ارتباطها‪ ,‬بالبناء اإلجتماعي الكلي‪ ,‬أو الثقافة الكلية‪ .‬أما علم اإلجتماع فان دراسته‪ ,‬تكون‬
‫متخصصة إلى حد كبير‪ ,‬إذ يقتصر على دراسة ظواهر محددة‪ ,‬أو مشكالت معينة‪ ,‬في‬
‫المجتمعاتالصناعية المتحضرة‪ ,‬كما يهتم بدراسة مشكالت اجتماعية‪ ,‬قائمة بذاتها‪ ,‬مثل‪:‬‬
‫مشكالت األسرة‪ ,‬الطالق‪ ,‬الجريمة‪ ,‬البطالة‪..‬الخ‪.‬‬
‫‪ -3‬من حيث المنهج‪ :‬األنثروبولوجي يدرس المجتمعات‪ ,‬دراسة مباشرة‪ ,‬أي يعيش فيها لفترة زمنية‬
‫معينة (شهور أو سنوات)‪ ,‬حيث يعتمد على المالحظة المباشرة‪ ,‬و التي تكون بالمشاركة‪ ,‬أو قد‬
‫يستعين بالمخبرين‪ ,‬الذين يزودونه بالمعلومات أو التفسيرات‪ ,‬التي يعجز عن إدراكها‪ ,‬كما يتوجب‬
‫عليه أن يلم بلغة المجتمع الذي يدرسه‪ ,‬لتسهيل عملية االتصال بينه‪ ,‬و بين أفراده‪ .‬بينما يعتمد‬
‫عالم اإلجتماع‪ ,‬على الوثائق‪ ,‬اإلحصائيات‪ ,‬االستبيانات‪ ,..‬فاالتجاه الكمي‪ ,‬يعتبر خاصة مميزة‪,‬‬
‫للبحوث السوسيولوجية‪ ,‬أما االتجاه الكيفي‪ ,‬يعتبر احد الخصائص المميزة‪ ,‬للبحوث و التحليالت‬
‫األنثروبولوجية‪.‬‬

‫و مع ذلك‪ ,‬فاالعتماد متبادل بين العلمين‪ ,‬إذ يقدم علماء األنثروبولوجيا‪ ,‬مشاهداتهم و مالحظاتهم‪,‬‬
‫لعلماء اإلجتماع‪ ,‬الذين يستفيدون منها‪ ,‬في صياغة نظرياتهم‪ .‬كما يستفيد علماء األنثروبولوجيا من النظريات‬
‫السوسيولوجية‪ ,‬في فهم بعض الظواهر اإلجتماعية‪ ,‬و الممارسات الثقافية‪ ,‬خارج نطاق المجتمعات البدائية‪,‬‬
‫والبسيطة‪.‬‬

‫‪ -4‬عالقة األ نثروبولوجيا بعلم النفس‪:‬‬

‫يتكون مصطلح علم النفس (سيكولوجيا) من مقطعين يونانيين هما ‪ Psych‬و تعني نفس‪ ,‬و ‪Logos‬‬
‫ّ‬
‫و تعني علم‪ ,‬استخدمه ألول مرة ميالنشتون‪ Melanchthon‬في محاضراته عام ‪ ,1550‬ثم ظهر مطبوعا‬
‫في كتابات ‪ ,Gochen‬و في عامي ‪ 1732‬و ‪ 1734‬نشر ولف ‪ Wolff‬كتابيه علم النفس‬
‫التجريبي‪ Psychologia Empirica‬و علم النفس العقلي‪ ,Psychologia Rationalis‬ثم انتشر استخدام هذا‬
‫المصطلح على يدي الفالسفة أمثال مين دي بيران‪ Main de Brain‬و أتباعه الذين اعتبروه جزءا من دراسة‬
‫الفلسفة(‪.)10‬‬

‫إن علم النفس هو تخصص علمي‪ ,‬يعنى بدراسة الجانب النفسي‪ ,‬أو النفساني لإلنسان‪ .‬يبحث في‬
‫مجال سلوك اإلنسان‪ ,‬دوافعه الداخلية‪ ,‬انفعاالته و ميوله الفردية‪ ,‬تفكيره‪ ,‬إحساسه‪ ,‬إدراكه‪ ,‬و ذكاءه‪ ,‬و بمعنى‬
‫يعرف علم النفس بأنه‪ " :‬العلم الذي يهتم بدراسة العقل البشري‪,‬‬
‫آخر دراسة العقل و الشخصية الفردية‪ .‬و ّ‬
‫والطبيعة البشرية‪ ,‬و السلوك الناتج عنهما‪ ,‬و هذا يعني انه العلم الذي يدرس سلوك اإلنسان‪ ,‬بهدف فهمه‬
‫وتفسيره"‪ .‬كما تهتم الدراسات النفسية‪ ,‬بالخصائص الجسمية الموروثة‪ ,‬و تحديد عالقاتها بالعوامل السلوكية‬
‫لدى الفرد‪ ,‬السيما تلك العالقة بين الصفات الجسمية العامة‪ ,‬و سمات الشخصية‪ ,‬مع األخذ في الحسبان‪,‬‬
‫العوامل البيئية المحيطة‪ ,‬بهذه الشخصية‪.‬‬

‫كذلك‪ ,‬يهتم علم النفس بدراسة األمراض‪ ,‬و المشكالت النفسية‪ ,‬مثل العقد النفسية‪ ,‬المترتبة عن‬
‫الحرمان‪ ,‬حاالت الكبت و التعويض‪ ,‬العدوان‪,..‬إلى جانب اهتمامه باألم ارض العصبية أو العقلية‪ ,‬المترتبة‬
‫عن حالة نفسية معينة‪ .‬و على ذلك‪ ,‬يختلف علم النفس عن األنثروبولوجيا‪ ,‬فعلم النفس يقصر دراسته على‬
‫الفرد‪ ,‬بينما تركز األنثروبولوجيا اهتمامها‪ ,‬على المجموعة‪ ,‬و على كل فرد كعضو في تلك المجموعة‪.‬‬

‫و مع ذلك هناك صلة وثيقة‪ ,‬بين علم النفس و األنثروبولوجيا‪ ,‬فقد صدرت بعض الدراسات المتعلقة‬
‫بعلم النفس االجتماعي ‪ Social psychology‬كشفت أن اإلنسان ال يعيش إال وسط بيئة اجتماعية‪ ,‬يؤثر‬
‫ويتأثر بها‪ ,‬و اهتم الكثير منهم بموضوع تفاعل الفرد مع بيئته‪ ,‬أو التفاعل بين فردين أو أكثر‪ ,‬و كذلك دراسة‬
‫العالقات بين الجماعات‪ .‬علما أن دراسة علم النفس تنصب على موضوعات‪ :‬المحاكاة و التقليد‪ ,‬الميول‪,‬‬
‫الغريزة التجمع‪ ,‬الذوق العام‪ ,‬القيادة‪..‬الخ‪ ,‬و كذلك دراسة االتجاهات‪.‬‬

‫و تمخض عن استخدام الباحثين األنثروبولوجيين‪ ,‬لالختبارات السيكولوجية في فهم البناء األساسي‬


‫لشخصية المجتمعات البدائية‪ ,‬نشأة فرع األنثروبولوجيا النفسية‪,‬و الذي يعنى بدراسة العالقة بينالثقافة‬
‫والشخصية‪ ,‬و قد سبقته إرهاصات من التفكير السطحي‪ ,‬الذي كان يظهر في شكل مالحظات‪ ,‬و انطباعات‬
‫عامة‪ ,‬حول الفروق التي تتميز بها بعض المجتمعات و األمم‪ ,‬كأن يشتهر العرب‪ -‬مثال‪ -‬باألريحية و الكرم‪,‬‬
‫و يتميز البريطانيون ببرودة األعصاب و المحافظة على التقاليد‪ ,‬و يعرف األلمان بالدقة و النظام والصرامة‪,‬‬

‫و يتميز اليابانيون بالطاعة و الثقة بالنفس‪..‬الخ(‪ ,)11‬إن هذه الفروق‪ ,‬و إن كانت ّ‬
‫تقرها المالحظة المباشرة‪,‬‬
‫والمنطق السليم‪ ,‬الختالف هذه المجتمعات من حيث اللغة‪ ,‬الدين‪ ,‬القيم‪ ,‬أساليب التنشئة االجتماعية‪ ,..‬إال‬
‫أنها ال تعدو أن تظل مالحظات غير منظمة‪ ,‬خارجة عن نطاق البحث العلمي الدقيق‪.‬‬

‫و من أمثلة ذلك‪ ,‬ما ظهر من محاوالت لبعض المفكرين األوروبيين‪ ,‬نذكر منهم مونتسكيو‬
‫‪Montesquieu‬في كتابه "روح القوانين"‪ ,‬و دو توكفيل ‪De Tocqueville‬في كتابيه " النظام القديم و الثورة "‬
‫و" الديمقراطية في أمريكا "‪ ,‬اللذين أبديا اهتمامات خاصة‪ ,‬بتبيين الفروق الموجودة في الطباع و السمات‬
‫القومية بين المجتمعات و األمم‪ .‬و يرجع الفضل في وضع األسس العلمية و المنهجية‪ ,‬لدراسة الثقافة‬
‫والشخصية‪ ,‬للعالمتين األنثروبولوجيتين األمريكيتين روث بنيديكت ‪R.Benedict‬التي تعتبر رائدة األبحاث‬
‫العلمية في هذا المجال‪ ,‬و تعقبها في الترتيب العالمة مارغريت ميد ‪M.Mead‬التي خطت بالثقافة والشخصية‪,‬‬
‫خطوات إلى األمام‪ ,‬و عمقتها بفضل الدراسات التي قامت بها في العديد من المجتمعات‪.‬‬

‫و من المميزات المنهجية لهذا الفرع العلمي‪ ,‬انه يتوفر على العديد من المناهج و الطرق العلمية‪,‬‬
‫لكون موضوعه يجمع بين علم النفس و األنثروبولوجيا‪ ,‬و بالتالي يستعين الباحث األنثروبولوجي بمناهج‬
‫البحث في كال البحثين‪ ,‬و من أهم هذه المناهج العلمية المطبقة في دراسة الثقافة و الشخصية نذكر‪ :‬طريقة‬
‫مالحظة السلوك‪ ,‬دراسة سير الحياة‪ ,‬تفسير األحالم‪ ,‬االختبارات اإلسقاطية‪ ,‬دراسة األدب الشعبي(‪.)12‬‬

‫و إذا كان علم النفس يهتم بدراسة الشخصية‪ ,‬فإن األنثروبولوجيا النفسية‪ ,‬تركز دراستها على العالقة‬
‫بين الثقافة و الشخصية‪ ,‬حيث يؤدي فهم المتغيرات السيكولوجية‪ ,‬إلى فهم المتغيرات السوسيوثقافية‪ ,‬و قد اخذ‬
‫االهتمام بهذا الفرع يتزايد‪ ,‬بعد تركيز األنثروبولوجيين‪ ,‬على دراسة عمليات التغير الثقافي‪ ,‬في المجتمعات‬
‫البدائية و النامية‪ ,‬و الحظوا أن الفهم الدقيق لظاهرة " التكامل الثقافي " و عمليات " التغير الثقافي " يتطلب‬
‫الرجوع إلى علم النفس‪ .‬و ألن األنساق الثقافية ليست واحدة لدى المجتمعات و الجماعات االجتماعية‪ ,‬فان‬
‫األنثروبولوجيا النفسية تدرس الخصائص العقلية و السيكولوجية السائدة في مختلف األنماط الثقافية‪ .‬غير أن‬
‫بعض العلماء األمريكيين‪ ,‬قاموا باستغالل بعض نتائج دراستهم ضمن هذا الفرع‪ ,‬في إثبات النزعة العنصرية‪,‬‬
‫حيث طبقوا اختبا ار للذكاء‪ ,‬على مجموعة من األطفال الزنوج و البيض‪ ,‬و أكدوا بعد المقارنة بينهم‪ ,‬أن‬
‫األطفال البيض‪ ,‬هم األذكى من الزنوج‪ .‬لكن التجارب التي قام بها العالم األمريكي جارت‪ ,‬قد بينت أن الفروق‬
‫في الذكاء‪ ,‬ترتبط بعامل البيئة التربوية‪ ,‬ال الوراثية‪ .‬و عن طريق هذه التجارب في علم النفس‪ ,‬حاول‬
‫األنثروبولوجيون تحديد الفروق الوراثية‪ ,‬بين السالالت‪ ,‬ومعرفة ما يرجع منها إلى البيئة االجتماعية‪.‬‬

‫و يمكن القول أن البدايات األولى لألنثروبولوجيا النفسية‪ ,‬تمتد إلى المعالجة التي أتى بها المفكر‬
‫الفرنسي ليفي برول‪Levey Brul‬و تحليله للعقلية البدائية‪ ,‬عن طريق التطور و النمو السيكولوجي لإلنسان‪ ,‬و‬
‫هي العقلية التي تميزت بخصائصها و سماتها الفكرية السابقة عن المنطق ‪.prélogique‬‬

‫‪ -5‬عالقة األ نثروبولوجيا بالتاريخ‪:‬‬

‫دونه‪,‬‬
‫من الناحية اللغوية‪ ,‬نجد أن التاريخ مشتق من الفعل الماضي "أرخ" و أرخ الشيء يعني كتبه و ّ‬
‫و هذا يعني أن التاريخ لغويا مرتبط بالتأريخ‪ .‬أما من الناحية االصطالحية‪ ,‬فإن التاريخ هو "عبارة عن سجل‬
‫للخبرات السابقة المتعلقة بموضوع معين‪ ,‬أو بمشكلة معينة‪ ,‬في كافة ميادين الحياة‪ ,‬من اجل فهمها فهما جيدا‬
‫حاضرا‪ ,‬و التنبؤ لما ستؤول عليه مستقبال"(‪.)13‬‬
‫وتدل كلمة تاريخ على معان متعددة‪ ,‬منها‪ :‬تعريف الوقت‪ ,‬أو ذكر األخبار الخاصة بمجتمع أوجيل‪,‬‬
‫و كيفما كان فإن مفردة تاريخ تدل بصفة عامة‪ ,‬على العلم الذي يسعى إلى إنقاذ الحقائق الماضية‪ ,‬من‬
‫النسيان‪ .‬فهو يسعى إلى دراسة تطور الماضي للمجتمعات اإلنسانية‪ ,‬و ترابط األحداث التاريخية‪ ,‬واألسباب‬
‫والدوافع التي أدت إلى حدوثها‪ ,‬و هو يمثل تجارب الماضي‪ ,‬خاصة خالل المرحلة التي كانت فيها السجالت‬
‫المكتوبة متيسرة‪.‬‬

‫و في ذات السياق‪ ,‬ندرج ما جاء على لسان العالمة عبد الرحمن ابن خلدون‪ ,‬حول أهمية االستعانة‬
‫بالتاريخ‪ ,‬قوله‪ " :‬إن فن التاريخ فن عزيز المذهب‪ ,‬جم الفوائد‪ ,‬شريف الغاية‪ ,‬إذ هو يوقفنا على أحوال‬
‫الماضين من األمم‪ ,‬في أخالقهم و األنبياء في سيرهم و الملوك في دولهم و سياستهم‪ ,‬حتى تعم فائدة‬
‫االقتداء في ذلك‪ ,‬لما يرونه في أحوال الدين و الدنيا‪ ,‬فهو(أي المؤرخ) محتاج إلى معارف متنوعة‪ ,‬و حسن‬
‫نظر‪ ,‬و تثبت يفضيان إلى الحق‪ ,‬و ينكبان عن المزالت و المغالط‪ ,‬ألن األخبار إذا اعتمد فيها على مجرد‬
‫النقل‪ ,‬لم يؤمن مزلة القدم‪ ,‬و التاريخ في ظاهره‪ ,‬ال يزيد عن أخبار األيام و الدول و السوابق‪ ,‬من القرون‬
‫األولى‪ ,‬و في باطنه (أي التاريخ) نظر و تحقيق و تحليل‪ ,‬و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها"(‪.)14‬‬

‫و التاريخ بذلك ليس علما تجريبيا‪ ,‬لما يوجد من فروق واضحة‪ ,‬تفصل بينه و بين العلوم التجريبية‪,‬‬
‫فالتاريخ بمعناه الخاص‪ ,‬ال يدرس سوى " أفعال األفراد و تجاربهم‪ ,‬في الماضي و ما يترتب عليها‪ ,‬من آثار‬
‫نفسية‪ ,‬و حضارية‪ ,‬و مادية"(‪ . )15‬و من ثم فهو ليس علم تجربة و اختبار‪ ,‬و إنما هو علم نقد و تحقيق‪,‬‬
‫يستند إلى الوثائق‪ ,‬التي يفحصها المؤرخ فحصا دقيقا‪ ,‬و يحكم عليها حكما احتماليا‪ .‬إذ يميز المؤرخ بين‬
‫الحسن و القبيح‪ ,‬و يحكم على الوقائع باعتبارها وقائع حسنة أم سيئة‪ ,‬مما يسمح باالتجاه الذاتي‪ ,‬و التعبير‬
‫عن الموضوعات‪ ,‬من وجهة نظره الشخصية‪ ,‬و هو ما يتنافى و خصائص البحث العلمي‪ ,‬الذي يقتضي‬
‫الموضوعية‪ ,‬و هو ما جعل البعض (اإلبستيمولوجيين) يرون أن التاريخ ليس جدي ار بأن يكون علما‪ ,‬و يرون‬
‫كذلك أن المؤرخ‪ ,‬ال يالحظ الظواهر التي يدرسها بشكل مباشر‪ ,‬و يعتمد عادة‪ ,‬على ما ينقله من اآلخرين‪,‬‬
‫أو اعتماده على بعض الوثائق و التراجم‪ ,‬التي يكتبها بعض األفراد‪ ,‬الذين عايشوا الحدث أو سمعوا عنه‪.‬‬
‫وهنا نجد أنه من البديهي أن يحذر الباحثون‪ ,‬من مثل هذه الطرق‪ ,‬و أن يشكوا فيها‪ ,‬ألن كثي ار من األفراد‪,‬‬
‫يعمدون إلى تشويه الحقائق حال نقلها‪ ,‬و هو ما سبقت اإلشارة إليه في قول بن خلدون‪.‬‬

‫‪ -1-5‬المنهج التاريخي‪:‬‬

‫فيما يخص منهجية المؤرخ في العمل‪ ,‬فإنه يمر بمرحلتين أساسيتين‪:‬‬


‫‪ ‬التحليل‪ :‬تبدأ بجمع الوثائق‪ ,‬نقدها‪ ,‬التأكد من هوية أصحابها‪ ,‬و تنته إلى تحديد الحقائق‬
‫التاريخية الجزئية‪.‬‬
‫‪ ‬التركيب‪ :‬يصنف المؤرخ الحقائق الجزئية‪ ,‬و يحدد بعض الصيغ العامة‪ ,‬ومن ثم‬
‫الوصول إلى القوانين التي تحكم تاريخ البشرية‪.‬‬

‫و من بين العلوم التي تساعد المؤرخ في أداء عمله‪ :‬علم قراءة الكتابات القديمة‪ ,‬علم المسكوكات*‬
‫القديمة‪ ,‬علم البناءات اللغوية‪ ,‬علم تنظيم المراجع‪ ,..‬أما عن عالقة التاريخ باألنثروبولوجيا‪ ,‬فقد ظهرت‬
‫كتابات عديدة‪ ,‬تبين أن العلمين يشتركان في الكثير من النقاط‪ ,‬و يلتقيان في أكثر من موقع‪ ,‬سواء من حيث‬
‫المنهج أو من حيث الهدف‪ .‬يمكن تحديدها فيما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬على غرار المؤرخ‪ ,‬يقوم األنثروبولوجي‪ ,‬بتجميع الحقائق عن موضوع دراسته‪.‬‬


‫‪ -‬يهتم األنثروبولوجي بوصف األحداث‪ ,‬و التعرف على األسباب و العوامل التاريخية‪ ,‬التي أسهمت في‬
‫نشأة الظاهرة الحضارية‪ ,‬و تكوينها‪ ,‬و هو بذلك يستخدم مناهج البحوث التاريخية‪ ,‬في المجتمعات‬
‫التي يدرسها‪ ,‬و التي ليس لها سجالت مكتوبة‪ ,‬و على ذلك فإن مناهج البحث في األنثروبولوجيا‬
‫والتاريخ‪ ,‬متكاملة‪ .‬إذ كتب ميتالند‪ Maitland‬عام ‪ 1899‬يقول‪ " :‬يجب على األنثروبولوجيا أن‬
‫تختار بين أن تكون تاريخا‪ ,‬أو ال تصبح شيئا على اإلطالق"‪ .‬و كان ميتالند من المهتمين بالمراحل‬
‫التتابعية‪ ,‬التي يمر بها المجتمع البشري‪ ,‬و للعلم فإن ميشيل اوكيشوت‪ M.Oakeshott‬يتفق وميتالند‬
‫فيما ذهب إليه‪ ,‬و هو يكرر قوله‪.‬‬

‫كما يرى ليفي ا‬


‫ستروس‪ Levi Strauss‬أن كال من التاريخ و األنثروبولوجيا‪ ,‬يشتركان في أصل واحد‪.‬‬
‫ذلك أن معرفة الماضي‪ ,‬تعتبر خطوة ضرورية‪ ,‬لفهم أية ظواهر اجتماعية‪ ,‬و مع ذلك تختلف األنثروبولوجيا‬
‫يعبر أكثر عن هذا االختالف‪,‬‬
‫االجتماعية عن التاريخ‪ ,‬و نجد أن ما ذهب إليه األستاذ نادل ‪ّ S.E.Nadel‬‬
‫حيث قال‪ ":‬حين ننظر إلى العالقة بين األنثروبولوجيا و التاريخ‪ ,‬فإننا نرى أن عالم األنثروبولوجي االجتماعي‬
‫ليس مؤرخا‪ ,‬فالمؤرخون يدرسون األحداث و الوقائع‪ ,‬التي مضت و انقضت‪ ,‬و لكن األنثروبولوجي يدرس و‬
‫يصنف ما يوجد (هنا و اآلن ‪ )NowHere and‬أما التاريخ أو المؤرخ‪ ,‬فال دخل له بالحاضر‪ ,‬و إنما يدرس‬
‫األحداث و الظاهرات السابقة" (‪ .)16‬لذلك فإن أهداف األنثروبولوجيا‪ ,‬تكون أكثر وضوحا من التاريخ‪ ,‬خاصة‬
‫فيما يتعلق بالمقارنة و التعميم‪.‬‬

‫‪ -6‬عالقة األ نثروبولوجيا بعلم القتصاد‪:‬‬


‫يهتم علم اإلقتصاد بالحياة المادية للمجتمع‪ ,‬و وسائل تنمية ثرواته‪ ,‬و إنتاج هذه الثروات‪ ,‬تداولها‪,‬توزيعها‬
‫واستهالكها‪ ,‬كمايهتم بالعوامل أو العناصر التي تنتج السلع‪ ,‬و الخدمات‪ ,‬و هي األرض و الموارد الطبيعية‪,‬‬
‫و القيم الثقافية‪ ,‬و المعرفة الفنية‪ ,‬العمل الذي يتمثل في مهارات األفراد‪ ,‬و دوافعهم‪ ,‬و رأس المال‪ ,‬و الموارد‬
‫المتاحة لإلنتاج‪ ,‬و التنظيم و توزيع الدخول بين األفراد والجماعات نتيجة للعمل اإلقتصادي‪ .‬هذا‪ ,‬و يهتم علم‬
‫اإلقتصاد اهتماما بالغا بالنقود و األسعار‪ ,‬حيث ال يوجد مجتمع‪ ,‬يخلو من تبادل السلع‪ ,‬من اجل الحصول‬
‫على النقود‪ .‬و فيما يخص تعريف علم اإلقتصاد فقد تعددت تعريفاته وفقا لتعدد وجهات نظر العلماء‪ ,‬نذكر‬
‫بينها‪)17(:‬‬ ‫من‬

‫عرفه آدم سميث ‪ A. Smith‬بأنه‪ " :‬علم الثروة و أسبابها‪ ,‬و ميدانه يقتصر على دراسة طبيعة ثروة‬
‫ّ‬
‫األمم‪ ,‬و أسبابها و مظاهرها الخارجية"‪ .‬ربط سميث اإلقتصاد بالثروة‪ ,‬و كأن األخيرة حسبه‪ ,‬تمثل الموضوع‬
‫الرئيسي له‪ ,‬دون التطرق إلى عملياته‪.‬‬

‫عرفه بيرو ‪ Biru‬بأنه‪ " :‬العلم الذي يبحث في مبادلة األشياء بين األفراد‪ ,‬و الذي بمقتضاه يتنازل‬
‫ّ‬
‫فرد عما في حوزته لفرد آخر‪ ,‬مقابل حصوله على ما في حوزة اآلخر من سلعة أخرى"‪ .‬و هنا إشارة إلى‬
‫رغبة اإلنسان‪ ,‬في إشباع حاجته من ثروة‪ ,‬أو مادة ما‪ ,‬عن طريق التبادل (المقايضة)‪ ,‬وهي تمثل أولى طرق‬
‫االستفادة من الموارد الطبيعية بين الجماعات االجتماعية‪ ,‬التي عرفتها قديما‪ ,‬غير أن بيرو لم يبرز طريقة‬
‫التعامل النقدية بين البشر‪ ,‬رغم أهميتها فيما بعد التبادل‪ ,‬بل حددها أساسا في عملية المقايضة بين األفراد‪.‬‬

‫عرف علم‬
‫أما رايموند فيرث ‪R.Firth‬العالم الشهير في اقتصاديات المجتمعات الصغيرة‪ ,‬فقد ّ‬
‫اإل قتصاد بأنه‪ ":‬العلم الذي يهتم بالمصادر و تحديدها‪ ,‬و استخداماتها و التنظيم‪ ,‬و عالقة ذلك باحتياجات‬
‫اإلنسان"‪ .‬يقترب تعريف فيرث إلى حد كبير‪ ,‬و تعريف سميث‪ ,‬حيث تمثل المصادر أو الثروات الموضوع‬
‫الرئيسي لعلم اإل قتصاد‪ ,‬و نجد من المهم أن تدرج العمليات االقتصادية‪ ,‬مثل‪ :‬البيع ‪ /‬الشراء‪ ,‬و اإلنتاج ‪/‬‬
‫االستهالك‪ ,..‬ضمن تعريف علم اإلقتصاد‪ ,‬ألنها تمثل هي األخرى أهم موضوعاته‪ ,‬و بخاصة بعد التطور‬
‫الكبير الذي شهدته المجتمعات في استغالل الطاقة‪ ,‬و طرق االستفادة منها‪ ,‬و ما تجره من مداخيل قومية‪.‬‬
‫ويندرج كل ذلك ضمن ما يعرف بالنشاط اإلقتصادي‪.‬‬

‫والنشاط اإلقتصادي‪ ,‬هو احد مظاهر التنظيم االجتماعي‪ ,‬الذي ال يخلو منه مجتمع من المجتمعات‪,‬‬
‫وهو لذلك يعتبر نشاطا اجتماعيا بطبيعته‪ ,‬فاإلنسان يحتاج إلى آالت متنوعة‪ ,‬في عمله‪ ,‬قد ال يمكنه إنتاجها‬
‫بنفسه‪ ,‬حتى في المراحل األولى في المجتمعات اإلنسانية‪ ,‬و كذلك الشأن إذا كان مستهلكا‪ ,‬ألن الفرد يستهلك‬
‫أشياء من إنتاج غيره‪ ,‬و اإلنسان في المجتمعات المعاصرة‪ ,‬ال ينتج ما يستهلكه‪ ,‬و ال يستهلك كل ما ينتجه‪,‬‬
‫و إنما يستبدل عمال و مجهودا بعمل اآلخرين‪ ,‬فتنشأ بذلك عالقات متعددة‪ ,‬تنظمها قواعد و قوانين و نظم‪,‬‬
‫تشرف على تنظيمها السلطة المركزية في الدولة‪ ,‬و لذاك تختلف المجتمعات البشرية‪ ,‬في نظمها اإلقتصادية‬
‫و التشريعية و السياسية‪ ,‬بل إن هذه النظم تختلف في المجتمع الواحد‪ ,‬باختالف العصور‪ ,‬وفقا للتطور‬
‫االجتماعي العام‪ ,‬الذي يط أر على المجتمع‪.‬‬

‫وقد أكدت الدراسات‪ ,‬الترابط القوي بين النظم االقتصادية‪ ,‬و باقي النظم االجتماعية‪ ,‬في المجتمعات‬
‫البدائية‪ ,‬وعلى ذلك ظهرت األنثروبولوجيا االقتصادية‪ ,‬و هي فرع من فروع األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬ذات تاريخ‬
‫طويل‪ ,‬و مع ذلك فالمصطلح حديث نسبيا‪ ,‬و يختص هذا الفرع بدراسة النظم االقتصادية‪ ,‬في المجتمعات‬
‫البدائية‪ ,‬و الزراعية‪ .‬تهتم األنثروبولوجيا االقتصادية بالدراسة المقارنة لألنساق االقتصادية‪ ,‬و التي تتدرج من‬
‫المجتمعات المحلية المنعزلة و البدائية‪ ,‬من حيث التكنولوجيا‪ ,‬إلى تلك القروية‪ ,‬المتأثرة بالتصنيع‪ .‬و رأى‬
‫بعض األنثروبولوجيون‪ ,‬إمكانية تحويل كل المبادالت السوسيو‪-‬اقتصادية (الجوانب االجتماعية واإلقتصادية)‪,‬‬
‫لتصبح موضعا لتحليالت اقتصادية‪ .‬كتلك الدراسات التي أنجزت عام ‪ 1960‬م‪ ,‬و التي اعتبرت مهر‬
‫العروس ‪Birde weelth‬ثمن يدفع مقابل الخدمات الجنسية و المنزلية‪.‬‬

‫هذا‪ ,‬و يعتبر المدخل االقتصادي‪ ,‬مدخال ممتا از لدراسة البناء االنقسامي‪ ,‬داخل نسق البدنات‪ ,‬و ذلك‬
‫ألن العالقات اإل قتصادية‪ ,‬التي تقوم بين الوحدات القرابية و اإلقليمية‪ ,‬تلعب دو ار هاما‪ ,‬وواضحا‪ ,‬في تحقيق‬
‫وحدة و تضامن و تماسك‪ ,‬هذه الوحدات االجتماعية‪ ,‬فإشباع حاجاتهم االقتصادية‪ ,‬يتوقف على مدى‬
‫تعاونهم‪ ,‬مع الوحدات األخرى المماثلة‪.‬‬

‫‪-7‬عالقة األ نثروبولوجيا بالجغرافيا والجيولوجيا‪:‬‬

‫لم يتمكن الجغرافيون حتى اآلن‪ ,‬من صياغة تعريف شامل‪ ,‬و محدد لعلم الجغرافيا‪ ,‬و مرد ذلك إلى‬
‫الطبيعة المركبة لهذا العلم‪ ,‬بل و المعقدة من جهة‪ ,‬و الختالف المراحل و المذاهب المتعددة‪ ,‬التي بحثت في‬
‫هذا الميدان من جهة ثانية‪ .‬و لعل أقدم تعريف للجغرافيا‪ ,‬قد اشتق من المعنى الحرفي للمصطلح اليوناني‬
‫المركب من ‪ Geo‬و تعني األرض‪ ,‬و ‪ Graphein‬و تعني وصف‪ ,‬و عليه فإن اصطالح جغرافيا يعني‬
‫وصف األرض‪ ,‬أو وصف سطح القشرة األرضية(‪.)18‬‬

‫تعرف الجغرافيا بأنها " دراسة علمية وصفية‪ ,‬توضح ما اشتملت عليه األرض من نبات وحيوان‪ ,‬و ما‬
‫ّ‬
‫استحدثه اإلنسان فيها من مدن و عمران‪ ,‬و هي متعددة المجاالت‪ ,‬فإن اقتصرت على الطبيعة كانت جغرافيا‬
‫طبيعية‪ ,‬و إن انصبت على الظواهر الكونية كانت جغرافيا فلكية‪ ,‬و إن عنيت بسالالت اإلنسان و خصائصه‬
‫كانت جغرافيا بشرية "(‪ ,)19‬و لذلك هي وثيقة الصلة بدراسات كثيرة من بينها األنثروبولوجيا‪.‬‬

‫و لعل أهم االتجاهات النظرية‪ ,‬التي برزت في القرن ‪ ,19‬و أثرت على التوجه الفكري للجغرافيين‬
‫واألنثروبولوجيين في آن معا‪ ,‬في تفسير العالقة بين اإلنسان والبيئة الطبيعية‪" ,‬الحتمية الجغرافية" و يبدأ‬
‫المنهج الحتمي‪ ,‬من األهمية المطلقة للمعطيات الطبيعية‪ ,‬و تأثيرها على سلوك اإلنسان‪ ,‬و نمط معيشته‪,‬‬
‫وأنواع تنظيماته االجتماعية‪ .‬علما أن جذور الحتمية الجغرافية ضاربة في القدم‪ ,‬فنجد كتابات هيبوقراط (‬
‫القرن الخامس ق‪.‬م) و أرسطو ( القرن الثالث ق‪.‬م) حيث وصفا األحوال االجتماعية‪ ,‬لسكان األقاليم الجبلية‬
‫الباردة و الحارة‪ ,‬عند اليونانيين و اإلثيوبيين‪.‬‬

‫أما ابرز الفالسفة المسلمون و العرب‪ ,‬الذين اهتموا بدراسة العالقة بين المكان (البيئة) و جسم اإلنسان‬
‫و طبائعه‪ ,‬العالمة ابن خلدون في مقدمته المشهورة‪ ,‬التي أوضح فيها العالقة بين حوادث التاريخ والجغرافيا‪,‬‬
‫محددا العوامل الجغرافية‪ ,‬التي تؤدي إلى قيام الحضارة‪ ,‬و ارتقائها‪ ,‬و تلك التي تؤدي إلى تدهورها‪ .‬كما‬
‫تحدث عن اختالف أحوال العمران في الخصب و الجوع‪ ,‬و ما ينشأ عن ذلك من آثار في أبدان البشر‬
‫وأخالقهم‪ .‬و يقول في هذا الشأن‪ " :‬إن األقاليم المعتدلة ليست كلها يوجد فيها الخصب‪ ,‬و تجد الفاقدين‬
‫للحبوب من أهل القفار‪ ,‬أحسن حاال في أجسادهم و أخالقهم‪ ,‬من المنغمسين في العيش‪ ,‬فألوانهم أصفى‪,‬‬
‫وأبدانهم أنقى‪ ,‬و أشكالهم أحسن‪ ,‬و أخالقهم ابعد عن االنحراف"(‪.)20‬‬

‫و في هذا السياق ندرج ما قاله الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان‪ " :Victor Cousin‬إذا حصلنا على‬
‫خريطة بلد معين أمكن تحديد‪ :‬تضاريسه‪ ,‬مناخه‪,‬مياهه‪ ,‬رياحه‪ ,‬منتجاته الطبيعية‪ ,‬أنواع النباتات والحيوانات‬
‫التي تتواجد فيه‪ ,‬و أمكن لنا أن نحدد بصفة أولية كيف يكون هذا المكان‪ ,‬أو كيف يكون اإلنسان الذي يعيش‬
‫فيه‪ ,‬و نستطيع أن نحدد حتى الدور الذي سوف يلعبه في التاريخ‪ ,‬بالضرورة و ليس عن طريق الصدفة"‪ .‬كما‬
‫يعرض بيرسنت العوامل الجغرافية األربعة التي تؤثر في الحياة‪ ,‬و في المصادر الطبيعية في المجتمع‪ .‬وهي‪:‬‬
‫(‪)21‬‬

‫‪ -‬حركة األرض و ما ينتج عنها‪ ,‬من تعاقب الليل و النهار‪ ,‬و الفصول األربعة‪ ,‬و ما لكل ذلك من‬
‫أهمية في تحديد أنماط السلوك‪ ,‬التي تصدر عن اإلنسان‪.‬‬
‫‪ -‬مصادر المياه في األراضي الخصبة‪ ,‬وحول المصادر الطبيعية للمياه‪ ,‬تحدد كل منها مدى الجماعة‬
‫التي تعيش معها‪ ,‬كما تحدد طبيعة اإلنتاج‪.‬‬
‫‪ -‬للمناخ تأثير على مزاج األفراد و أخالقهم ( و هو ما يتطابق مع ما توصل إليه ابن خلدون )‪.‬‬
‫‪ -‬مصادر الثروة الطبيعية‪ ,‬تحدد القدرة اإلنتاجية‪ ,‬للجماعة التي تعيش فيها‪.‬‬

‫و من ثم فإن عالم األنثروبولوجيا و على غرار علماء الجغرافيا‪ ,‬يولي أهمية كبيرة لموضوعات البيئة‬
‫الطبيعية‪ ,‬طبيعة األرض‪ ,‬الموقع الجغرافي‪ ,‬المناخ‪ ,‬البحار‪ ,‬األنهار‪ ,‬الحيوانات‪ ,‬النباتات في المنطقة موضوع‬
‫الدراسة‪ .‬كونها تلعب دو ار هاما في تحديد نمط االقتصاد‪ ,‬أماكن اإلقامة (التجمعات السكانية)‪ ,‬أنواع المهن‬
‫السائدة‪ .‬أشكال العالقات االجتماعية‪..‬الخ‪ .‬فندرة األمطار أو قلتها‪ ,‬تؤدي إلى قلة المحاصيل الزراعية‪ ,‬والتي‬
‫قد تفضي إلى المجاعة‪ ,‬التي تعمل على تشتت األفراد‪ ,‬و ارتحالهم إلى مناطق جغرافية أخرى‪ ,‬و بالتالي‬
‫تكوين عالقات اجتماعية جديدة ( حالة البدو الرحل)‪ .‬علما أن العديد من الحروب‪ ,‬التي وقعت بين البشر‪,‬‬
‫كانت الثروات الطبيعية أهم عواملها‪ ,‬حتى بالنسبة للقبائل قديما‪ ,‬كانت الصراعات و النزاعات بينها‪ ,‬بسبب‬
‫الحصول على المياه‪ ,‬من األنهار و اآلبار‪ .‬و لذلك فإن الدراسات األنثروبولوجية‪ ,‬تركز على العالقة بين‬
‫المجتمعات المحلية‪ ,‬و البيئة الطبيعية‪ ,‬و هي ما يطلق عليها "اليكولوجيا النسانية"‪.‬‬

‫و مثلما تستفيد األنثروبولوجيا من الجغرافيا‪ ,‬فإنها تستفيد أيضا من الدراسات الجيولوجية‪ .‬و الجيولوجيا‬
‫الداخلية(الزالزل‬ ‫والعوامل‬ ‫الداخلي‪,‬‬ ‫وتركيبها‬ ‫األرض‪,‬تاريخها‪,‬‬ ‫بدراسة‬ ‫يهتم‬ ‫الذي‬ ‫هو"العلم‬
‫والبراكين)والخارجية(التعرية والتجوية)‪ ,‬التي أثرت وال زالت تؤثر على سطح األرض‪ ,‬وعالقتها باألجرام‬
‫السماوية‪ .‬أما عن أصل كلمة جيولوجيا‪,‬فهي مشتقة من اللغة اليونانية‪ ,‬حيث أن‪ Geo‬تعني "أرض"‪ ,‬و ‪Logos‬‬

‫تعني علم وبذلك يعني مصطلح جيولوجيا علم األرضأوالراضة"(‪ .)22‬و للجيولوجيا فروع عديدة‪ ,‬منها‪:‬‬

‫جيولوجيا حيوية‪ ,‬جيولوجيا فيزيائية‪ ,‬علم الصخور‪ ,‬علم البلورات‪ ,‬جيولوجيا النفط‪...‬وغيرها‪.‬‬

‫تساعد الدراسات الجيولوجية التاريخية‪ ,‬في تحديد الفترات الزمنية التي عاش فيها كلنوع من الجنس‬
‫البشري‪,‬لوجود البقايا العظمية‪ ,‬على شكل بقايا مستحاثة حفرية‪ ,‬بين ثنايا القشرة األرضية الرسوبية‪ ,‬و‬
‫المنضدة‬
‫ّ‬
‫بعضها فوق بعض‪ ,‬وفق خاصية النشوء والتقادم لكل منها‪ ,‬بحيث يكون أسفلها أقدمها‪ ,‬و أعالها أحدثها‪.‬‬

‫و بذلك‪ ,‬يتمكن الباحث األنثروبولوجي‪ ,‬من معرفة الفترة الزمنية‪ ,‬التي عاش فيها ذلك اإلنسان الحفري‪,‬‬
‫إلى جانب معرفة العالم الحيواني اآلخر‪ ,‬الذي كان يعاصره في بيئة جغرافية واحدة‪ ,‬من خالل التعرف إلى‬
‫البقايا العظمية المستحاثية‪ ,‬لألنواع الحيوانية (حيوان الماموت‪Mammouth‬مثال)‪ .‬كما يمكن التع ّرف إلى‬
‫الظروف المناخية التي كانت سائدة‪ ,‬عندما كان يعيش هذا اإلنسان أو ذاك‪ ,‬في تلك األزمنة السحيقة من‬
‫التاريخ البشري(‪.)23‬‬
‫مقيـــــاس زمنــــــي جيولوجــــــــــي‬

‫المصدر‪:‬الجيولوجيا أو علم األرض أو اإلراضة ‪Https:// ar.wikipedia.org/wiki/‬‬

‫‪-8‬األ نثروبولوجيا و عالقتها بالفلكلور‪:‬‬

‫يتكون اصطالح فولكلور من مقطعين األول "فولك‪ "Folk‬و يعني عامة الشعب‪ ,‬والثاني " لور‪"Lore‬‬

‫و يعني معرفة‪ ,‬و بهذا يكون المعنى الحرفي للمصطلح "معارف العامة"(‪ .)24‬و ّ‬
‫يعرف الفلكلور ‪Folklore‬‬

‫بأنه " التراث الروحي للشعب‪ ,‬خاصة التراث الشفاهي ‪ Oral tradition‬و هو كذلك العلم الذي يدرس هذا‬
‫التراث"(‪ . )25‬و إذا كانت االتجاهات الكالسيكية تميل إلى اعتباره " مجرد دراسة لألدب الشعبي‪ ,‬أو لثقافة‬
‫قطاع معين من المجتمع"‪ ,‬فإن المفهوم الحديث لهذا العلم يختلف عن ذلك‪ ,‬إذ أصبح يمثل " دراسة شاملة‬
‫متكاملة‪ ,‬للثقافة التقليدية أو الشعبية " أو " هو علم دراسة الحياة الشعبية "‪ ,‬يختار منه البعض جانبا معينا هو‬
‫التراث الشفاهي‪ ,‬أو األدب الشعبي ‪ Popular Literature‬و يتخصصون فيه‪ ,‬ويعرف باسم الفولكلور‪ ,‬و هذا‬
‫هو االتجاه األمريكي أساسا‪.‬‬

‫بينما تجمع كل الهيئات العلمية‪ ,‬على تسمية الميدان كله باسم ال ثنولوجيا القليمية‪ ,‬و لهذا العلم‬
‫تسميات محلية خاصة‪ ,‬لكن دالالتها تظل واحدة‪ :‬في الدول الناطقة باللغة األلمانية يصطلح على تسميته‬
‫فولكسكنده‪ ,Volkskunde‬أما في الدول االسكندينافية يعرف بـ" دراسات الحياة الشعبية "‪ .‬و كان لأللمان‬
‫قصب السبق‪ ,‬في دراسة الفولكلور‪ ,‬حيث "درس مانهارت‪ )1880-1831( W.Mannhardt‬األساطير‬
‫السائدة في األديان‪ ,‬و درس فربنيوس‪ Frobenius‬سنة ‪1910‬م العادات الشعبية في الكاميرون"(‪ .)26‬و قد‬
‫أصبح الفولكلور علما تاريخيا‪ ,‬منذ زمن بعيد‪ ,‬و استقرت مناهج البحث فيه‪ ,‬و غدت له جمعيات و متاحف‪,‬‬
‫في كثير من الدول في العالم‪ ,‬و هو يشترك مع علوم أخرى‪ ,‬في دراسة حياة اإلنسان الغابرة‪ ,‬السيما علوم‬
‫اللغة‪ ,‬التاريخ( بما فيه تاريخ األديان)‪ ,‬اإلثنوغرافيا‪ ,‬و كذلك األنثروبولوجيا‪.‬‬

‫يقولجوزيف ريسان ‪":Joseph Rysan‬يمكن تعريف الفولكلور بأنه التجسيم الجماعي للعواطف‬
‫األساسية مثل الرهبة‪ ,‬الخوف‪ ,‬البغض‪ ,‬اإلحترام ‪Reverence‬والرغبة من قبل جزء من المجموعة االجتماعية‬
‫"(‪ .)27‬فيما يوضحه الدكتور محمد الجوهري‪ ":‬إن علم الفولكلور إنما هو علم ثقافي‪ ,‬يختص بقطاع معين من‬
‫الثقافة (هو الثقافة التقليدية أو الشعبية)"‪ " .‬إن اسم " فولكلور يطلق على التراث الروحي للشعب (خاصة‬
‫التراث الشفاهي)"(‪.)28‬‬

‫و في عام ‪1846‬م‪ ,‬اشتق عالم اآلثار االنجليزي ويليام جون توماس ‪ W.J.Thomas‬اصطالح‬
‫فولكلور ‪ Folklore‬ليحل محل األثريات الشعبية‪ ,‬و قد القى هذا االصطالح القبول وبالتالي االنتشار‪,‬‬
‫السيما في الدول األوروبية‪ .‬و يراد به األدب غير المكتوب و المنقول شفهيا‪ ,‬في امة من األمم‪ ,‬أو مجتمع‬
‫من المجتمعات‪ ,‬فهو أدب نابع من الشعب‪ ,‬و متداول بين طبقاته‪ ,‬وهو غير األدب الرفيع‪ ,‬المقصور على‬
‫خاصة المفكرين و األدباء(‪ .)29‬و يشمل‪ :‬األحاجي و األلغاز الشعبية‪ ,‬األساطير و الخرافات و الحكايات‪,‬‬
‫األمثال والحكم المتداولة بين األفراد‪ ,‬األغاني والشعر‪ ,‬األلعاب واألذواق والميول‪ ..‬إلى غير ذلك من الجوانب‬
‫التي تدل على نفسية الشعب(‪.)30‬‬

‫أما اصطالح فولكسكنده فقد كان أوسع استخداما‪ ,‬كونه يشمل دراسة فن الفالحين‪ ,‬وخصائصه‬
‫اليدوية‪ ,‬في حين يقتصر الفولكلور على دراسة المأثورات غير المدونة للشعب‪ ,‬كما هو الحال فيما يخص‪:‬‬
‫القصص الشعبي‪ ,‬العادات الجمعية‪ ,‬المعتقدات‪ ,‬الطقوس‪ ,‬السحر‪..‬الخ‪ .‬لكن االعتراض الذي يثار حول هذا‬
‫االصطالح‪ ,‬انه يحمل معنيين‪:‬‬

‫األول‪ :‬يدل على المادة (مجال العلم)‬

‫الثاني‪ :‬يدل على العلم الذي يحاول أن يدرسها (يدرس المادة)‬


‫غير أن هذا اإلشكال‪ ,‬ال يخص الفولكلور فحسب‪ ,‬بل إن هنالك علوما أخرى يعترضها‪ ,‬مثل التاريخ‬
‫الذي يعني العلم (الدراسة التاريخية)‪ ,‬و كذلك المادة التي يدرسها‪ ,‬كأن نقول مثال تاريخ الحرب العالمية‬
‫الثانية‪ ,‬أو تاريخ ظهور الطباعة‪..‬الخ‪.‬‬

‫و قد ازدهرت دراسات الفولكلور‪ ,‬في مناطق كثيرة من العالم‪ ,‬ففي إفريقيا تم جمع الكثير من المواد‬
‫الفولكلورية‪ ,‬خاصة خالل القرن ‪ ,20‬عن طريق البعثات التبشيرية‪ ,‬و الرحالة‪ ,‬و رجال اإلدارة‪ ,‬و اللغويين‪,‬‬
‫واأل نثروبولوجيين‪ ,‬و لذلك تعتبر إفريقيا حقال خصبا بالنسبة للثقافات التقليدية‪ ,‬و من ثم للمواد الفولكلورية‪,‬‬
‫حيث قام الباحثون األمريكيون‪ ,‬بإعداد أطروحات دكتوراه في الفولكلور‪ ,‬خالل قيامهم بدراسات ميدانية في‬
‫إفريقيا‪ .‬و من أمثلة تلك الدراسات الفولكلورية‪ ,‬في شرق إفريقيا‪ ,‬دراسة جون أمبيتي‪John Imbiti‬عن‬
‫الحكايات الشفهية المتداولة‪ ,‬بين أفراد جماعات األكمبا في كينيا‪ ,‬ونشرها ضمن كتاب بعنوان " قصص‬
‫األكمبا"‪.‬‬

‫و على العموم يمكن القول أن دراسات الفولكلور أو التراث الشعبي‪ ,‬تعتبر – بشكلها العلمي المتقدم‬
‫اآلن‪ -‬جديدة في مجال األنثروبولوجيا‪ ,‬و إن كانت العالقة جد قديمة‪ ,‬تعود إلى فترة تقارير الرحالة‪,‬‬
‫والمبشرين‪ ,‬والمستكشفين‪ ,‬و من ثم بداية الدراسات اإلثنوغرافية‪ ,‬و األخيرة كانت تضم معلومات أنثروبولوجية‪,‬‬
‫و فولكلورية في الوقت ذاته‪ ,‬فهي بمثابة المادة الخام لكليهما‪ .‬و هو ما جعل علماء األنثروبولوجيا و علماء‬
‫االجتماع المعاصرين‪ ,‬ال ينظرون بكثير من االحترام إلى الفولكلور‪ ,‬والى جهود الفولكلوريين‪ ,‬و يميلون إلى‬
‫إخراجه‪ ,‬من نطاق العلوم االجتماعية‪ .‬فاألنثروبولوجيون ينظرون إلى الفولكلوريون‪ ,‬على أنهم جامعي مادة‬
‫علمية‪ ,‬دون االهتمام بالتحليل أو الرؤية النظرية‪ ,‬و في المقابل‪ ,‬ينظر الفولكلوريون إلى األنثروبولوجيون‪,‬‬
‫على أنهم ال يدرسون مواد التراث الشعبي‪ ,‬في ممارستها الحية‪ ,‬و يرون في االتجاهات النظرية مثل البنيوية‬
‫و غيرها‪ ,‬أنها " تجريد " و " تطويع " للمادة العلمية‪ ,‬لتقف مع هذه االتجاهات النظرية أو تلك‪.‬‬

‫و الواقع أن للفولكلوريين أساليبهم المتطورة‪ ,‬في جمع المادة العلمية‪ ,‬خاصة في تسجيل المادة‪ ,‬و لذلك‬
‫يكون األنثروبولوجيون في حاجة دائمة إليهم‪ .‬و رغم ذلك نجد أن البحوث والدراسات االجتماعية‬
‫(السوسيولوجية و األ نثروبولوجية‪ ,)..‬تكاد تخلو من استخدام مصطلح فولكلور‪ ,‬و إن كانت الكثير من‬
‫المعلومات‪ ,‬و الحقائق اإل ثنوغرافية‪ ,‬التي تعتمد عليها هذه الكتابات‪ ,‬تندرج بشكل أوبآخر‪ ,‬تحت الفولكلور‪,‬‬
‫وتؤلف مادته األساسية‪ .‬فالكثير من الدراسات األنثروبولوجية‪ ,‬تدرس العديد من الموضوعات‪ ,‬التي يهتم بها‬
‫الفولكلوريين‪ ,‬تحت عناوين و مسميات مختلفة‪ ,‬مثل‪ :‬الفنون الكالمية‪ ,‬اآلداب الشفهية‪ ,‬الحكايات الشعبية‪,..‬‬
‫ومن بين هؤالء األنثروبولوجيين نذكر تايلور‪ Taylor‬الذي خصص جزءا من كتابه الثقافة‬
‫البدائية‪Primitive culture‬لدراسة الخرافات واألساطير‪ ,‬و المأثورات الشعبية‪ ,‬في المجتمعات البدائية‪ ,‬تحت‬
‫اسم ميثولوجيا ‪ Mythology‬دون أن يذكر كلمة فولكلور‪ .‬و هو الشأن كذلك بالنسبة للعالمة سيرجيمس‬
‫فريزر ‪ S.J.Fraser‬في كتابه "الغصن الذهبي"‪ ,‬على الرغم من انه يعد احد الكتب األساسية في هذا‬
‫العلم(‪.)31‬‬

‫إن هذا الموقف المعادي للفلكلور‪ ,‬لم يمنع عددا من علماء األنثروبولوجيا المعاصرين‪ ,‬من أن يعيدوا‬
‫النظر في المادة و المعلومات الفولكلورية المتوفرة‪ ,‬و أن يخضعوها لمناهج األنثروبولوجيا‪ ,‬و معالجتها كجزء‬
‫من الثقافة‪ ,‬و البناء االجتماعي السائد‪ ,‬و من ثم دراستها في عالقتها ببقية عناصر الثقافة‪ ,‬و عالقتها بالنظم‬
‫االجتماعية‪ ,‬التي تؤلف بناء المجتمع‪ .‬مثال‪ ,‬نجد أن عالم األنثروبولوجيا الفرنسي كلود لوفي ستراوس‬
‫‪Claude levi Strawss‬قد اهتم بدراسة األساطير والخرافات في المجتمعات البدائية‪ ,‬و قدم تحليال عميقا لتلك‬
‫المادة‪ ,‬عن طريق ربطها‪ ,‬ببقية أجزاء ومكونات البناء االجتماعي‪.‬‬

‫هذا‪ ,‬و نشير أن هناك تداخال واضحا بين الفولكلور و اإلثنولوجيا و كذلك األنثروبولوجيا‪ ,‬فالعديد من‬
‫الموضوعات تعتبر قاسما مشتركا فيما بينهم‪ ,‬مثل‪:‬‬

‫‪ -‬دراسة المعتقدات و الخرافات‪ ,‬سواء في المجتمعات البدائية‪ ,‬أو التقليدية‪ ,‬أو المتقدمة‪ ,‬و كذلك دراسة‬
‫الفنون و الصناعات‪ ,‬و الحرف اليدوية‪ ,‬مراسيم الزواج‪ ,‬األعياد و االحتفاالت الشعائرية‪ ,‬التي تقام‬
‫في المناسبات المختلفة‪.‬‬
‫‪ -‬تشترك هذه العلوم في طرق البحث‪ ,‬التي تعتمد أساسا‪ ,‬على المالحظة و الجمع و التسجيل بطريقة‬
‫مباشرة‪ ,‬و حتى على مستوى نوعية األسئلة و المشكالت‪ ,‬التي أصبح الفولكلوريون المحدثون يهتمون‬
‫ببحثها‪ ,‬و هي تقترب إلى حد كبير‪ ,‬لما يثيره اإلثنولوجيون و األنثروبولوجيون‪ ,‬من أسئلة ومشكالت‪.‬‬

‫إجماال‪ ,‬لقد تخطى الفولكلوريون اهتماماتهم التقليدية‪ ,‬و ارتادوا آفاقا جديدة‪ ,‬من البحث والدراسة‪ ,‬مثل‪:‬‬
‫العالقة بين الفرد و العادات الشعبية في المجتمع‪ ,‬و مدى الحرية التي تتاح للتعبير عن الفردية‪ ,‬في مجال‬
‫العادات الشعبية‪,..‬و هي موضوعات يمكن القول أنها تتقاطع مع ما تدرسه حقول اجتماعية أخرى‪ ,‬على‬
‫رأسها األنثروبولوجيا‪.‬‬

‫‪-9‬األ نثروبولوجيا و عالقتها بعلم اآلثار(األ ركيولوجيا)‪:‬‬

‫األركيولوجيامصطلح مركب‪ ,‬مشتق من اليونانية أرخيوس‪ Archaios‬و يعني قديم أما ‪Logia‬‬

‫فيعني دراسة‪ ,‬و على هذا يصبح المعنى الحرفي للمصطلح "دراسة القديم"(‪.)32‬‬
‫إن علم اآلثار هو ذلك العلم‪ ,‬الذي يدرس اآلثار القائمة ( بقايا المباني‪ ,‬التحف‪ ,)..‬و ما تستحدثه‬
‫الكشوف األثرية‪ ,‬دراسة وصفية تحليلية‪ ,‬محاوال تحليل مكوناتها‪ ,‬و عناصرها‪ ,‬و نسبتها إلى عصورها‬
‫التاريخية‪ ,‬و إلى الذين أسهموا في تشييدها‪ ,‬و االستفادة من ذلك في الوقوف على تاريخ الشعوب التي‬
‫خلفتها‪ ,‬و مظاهر حضاراتها‪ ,‬و لغاتها‪ ,‬وعاداتها‪ ,‬و فنونها‪ ,‬و المستويات الثقافية و الحضارية و االجتماعية‬
‫التي عاصرتها‪ .‬مع االهتمام بالدراسة التحليلية المقارنة‪ ,‬بين مجاميع اآلثار‪ ,‬التي ترجع إلى عصر واحد‪ ,‬في‬
‫شعب معين‪ ,‬أو في مجموعة من الشعوب‪ .‬و تستخدم كذلك في تصحيح الكثير من الحقائق التاريخية (‪.)33‬‬
‫كما يدرس علم اآلثار مجتمعات وثقافات ما قبل التاريخ‪.Prehistoric humanculture‬‬

‫يعرفه ديفيد توماس ‪David Thomas‬في كتابه " التنبؤ بالماضي" كالتالي‪ " :‬إن األركيولوجيا هي‬
‫ّ‬
‫دراسة الماضي‪ ,‬أو دراسة اإلنسان في عهوده القديمة‪ ,‬و هي تركز على الجانب المادي من ثقافة اإلنسان"‪.‬‬
‫ويرى هاموند ‪P.Hammond‬في كتاب له بعنوان " مقدمة فياأل نثروبولوجيا الثقافية" حيث يقول‪":‬‬
‫األركيولوجيا تهدف إلى إعادة البناء التاريخي القائم‪ ,‬على األدلة المادية‪ ,‬لنمو ثقافة اإلنسان‪ ,‬خالل الزمن‪,‬‬
‫وأن عمل األركيولوجي‪ ,‬يمدنا برؤية مساوية نسبيا‪ ,‬الهتمامات األنثروبولوجي االجتماعي‪ ,‬أو الثقافي‪ ,‬ألنه‬
‫يبحث حول سؤال أساسي‪ ,‬أال و هو كيف تنمو الثقافات‪ ,‬و تتغير عبر الزمن؟ "‪.‬‬

‫و لذلك يستخدم علماء اآلثار في دراساتهم‪ ,‬مناهج علمية متعددة‪ ,‬مستعينين بنتائج دراسات‪ ,‬أجريت‬
‫ضمن حقول معرفية‪ ,‬ذات صلة بموضوعات التاريخ البشري و تطوره‪ ,‬مثل علوم التاريخ‪ ,‬والجغرافيا‪,‬‬
‫واإلثنولوجيا‪ ,‬و علم اللغات المقارن (الفيلولوجيا) و األنثروبولوجيا و ما إلى ذلك‪ ,‬و هم يستعينون حاليا إلى‬
‫جانب هذه العلوم‪ ,‬بالدراسات اإلشعاعية‪ ,‬و االلكترونية‪ ,‬في قياس عمر اآلثار‪ ,‬و كشف طبيعة عناصرها‪,‬‬
‫ومكوناتها‪.‬‬

‫و يتناول علم اآلثار – رغم كونه علما حديث نسبيا‪ -‬أقدم المجتمعات اإلنسانية‪ ,‬منذ ظهور النسان‬
‫العاقل ‪Homo sapiens‬و يتابع التغير الثقافي و الحضاري‪ ,‬على مر العصور‪ ,‬و تطور أساليب الحياة‪ ,‬لهذه‬
‫الشعوب القديمة‪ ,‬و ذلك باالستناد إلى االكتشافات‪ ,‬و أعمال الحفريات والمخلفات و البقايا‪ ,‬التي تركها‬
‫اإلنسان األول‪ ,‬فيما قبل التاريخ‪ ,‬حيث ال توجد سجالت‪ ,‬و وثائق مكتوبة‪ .‬و هو بذلك‪ ,‬يساعد على إعادة‬
‫بناء التاريخ الماضي‪ -‬االجتماعي و الثقافي لإلنسان‪ -‬ويوضح سيطرة اإلنسان على الطبيعة‪ ,‬و تكيفه‬
‫ومجهوداته و نضاله وصراعه مع البيئة‪ ,‬و صراع اإلنسان ضد اإلنسان‪ ,‬و النمو البطيء للثقافات عبر‬
‫الزمن‪.‬‬
‫و تشمل المخلفات و البقايا في‪ :‬بعض األدوات الحجرية‪ ,‬و األسلحة التي صنعها ذلك اإلنسان‬
‫البدائي‪ ,‬إضافة إلى األواني و بعض األدوات المدفونة في باطن األرض‪ ,‬سواء مع صاحبها الذي كان‬
‫يستخدمها‪ ,‬أو في أكوام مكدسة مكان إنتاجها‪.‬‬

‫بقايا أدوات حجرية استخدمها النسان البدائيفي عصور سحيقة‬

‫و قد يعثر عالم اآلثار‪ ,‬على بعض الرسوم و النقوش الحجرية‪ ,‬و األشكال المصنوعة من الطين‬
‫المحروق (الفخار)‪ ,‬و أعداد ال حصر لها من المواد األخرى‪ ,‬التي استطاعت أن تقاوم الزمن‪ .‬كما يمكن‬
‫لعالم اآلثار العثور على أطالل المباني‪ ,‬و المعابد‪ ,‬و البيوت‪ ,‬و أسوار المدن القديمة‪.‬‬

‫رسوم تصف عملية الصيد لدى جماعات بدائية‬

‫و مما تم عرضه‪ ,‬نخلص إلى أن عمالألنثروبولوجي‪ ,‬يبدأ من حيث ينتهي األركيولوجي‪,‬‬


‫فاألنثروبولوجي يبحث‪ ,‬يصف‪ ,‬و يفسر الثقافات‪ ,‬التي اكتشف عالم اآلثار بقاياها‪ ,‬و هنا يكمن الفرق بين‬
‫العلمين‪ ,‬ذلك أن عالم اآلثار يهتم دائما بالحضارات و الجماعات الزائلة‪ ,‬أو بتعبير آخر‪ ,‬بقايا الثقافة المادية‬
‫لحضارة أو جماعة زائلة‪ ,‬بينما األنثروبولوجي‪ ,‬يدرس المجتمعات البدائية‪ ,‬المعاصرة والحالية‪ ,‬و يعتمد على‬
‫ما يكتشفه عالم اآلثار‪ ,‬لفهم و تفسير طرق عيش تلك الجماعات‪ ,‬أو تغيرها‪ ,‬و هكذا نجد أن ثمة ترابط قوي‪,‬‬
‫بل و تكامل وظيفي‪ ,‬بين كل من األركيولوجيا و األنثروبولوجيا‪.‬‬

‫‪-10‬األ نثروبولوجيا و عالقتها باللغويات‪:‬‬

‫يهتم علم اللغويات بتحليل اللغة‪ ,‬في زمن معين‪ ,‬و يدرس النظم الصوتية‪ ,‬و قواعد اللغة‪ ,‬والمفردات‪.‬‬
‫و يدرس العالقات التاريخية بين اللغات‪ ,‬التي يمكن متابعتها تاريخيا‪ ,‬عن طريق وثائق مكتوبة‪ ,‬كما يهتم‬
‫عرف ستورتيفانت‪ Sturtevant‬اللغة بأنها‪ " :‬رموز صوتية تعارف عليها األفراد‪ ,‬وهي‬
‫أيضا باللغة الكالمية‪ّ .‬‬
‫تعمل على أن يتفاعلوا و يتعاونوا‪ ,‬و هي عنصر من عناصر الثقافة‪ ,‬ويكتسبها اإلنسان من خالل معيشته‬
‫في المجتمع"(‪ . )34‬معنى هذا أن اللغة أداة لالتصال‪ ,‬و بالتالي التفاعل الذي يمثل أساس الحياة االجتماعية‪,‬‬
‫و من خواصها زيادة على اختالفها من مجتمع إلى آخر‪ -‬تباعا الختالف الثقافات‪ -‬أنها تكتسب من البيئة‬
‫االجتماعية للفرد‪ ,‬فهي إذن غير فطرية‪.‬‬

‫هذا‪ ,‬وقد ظهرت اللغة في الجماعات البدائية‪ ,‬على شكل إشارات‪ ,‬هزات الرأس‪ ,‬حركات اليدين‬
‫والكتفين‪ ,‬قسمات الوجه (اإليماءات)‪ ,‬حتى أن بعض القبائل البدائية في إفريقيا‪ ,‬ال يستطيع أفرادها التفاهم‬
‫ليال‪ ,‬إال إذا جلسوا حول النار‪ .‬و مع مرور الزمن تطورت اللغة من مجرد إشارات‪ ,‬إلى أصوات‪ ,‬و بدأ حينها‬
‫اإلنسان في تقليد أصوات من الطبيعة‪ ,‬مثل أصوات بعض الحيوانات (زقزقة العصافير)‪ ,‬ثم تطورت اللغة من‬
‫التقليد‪ ,‬إلى أصوات رمزية اصطالحية‪ ,‬حيث تقدمت اللغة نحو مزيد من سهولة االستعمال‪ ,‬و الداللة على‬
‫المعنى المقصود‪ ,‬و االعتماد على الرمز‪ ,‬و كانت اللغة طوال هذه المرحلة تنتقل شفاهيا بين األفراد‪.‬‬

‫و لما احتاج اإلنسان إلى تسجيل بعض المعلومات‪ ,‬التي يهمه الرجوع إليها‪ ,‬و التي يخشى نسيانها‪,‬‬
‫(‪)35‬‬ ‫حاول اختراع الكتابة‪ .‬فانتقلت اللغة بذلك إلى مراحل أخرى‪ ,‬نوردها على التوالي‪:‬‬

‫‪ -1‬بدأ اإلنسان برسم األشياء التي يرغب التعبير عنها‪.‬‬


‫‪ -2‬ثم انتقل إلى التعبير عن األفعال بصور‪ ,‬تمثل حركات هذه األفعال‪.‬‬
‫‪ -3‬ثم بدأت هذه الصور‪ ,‬تختصر بعض األجزاء منها‪ ,‬في شكل رموز لها‪.‬‬
‫‪ -4‬بعدها تم االكتفاء بالرموز فقط‪ ,‬للداللة على األشياء و األفعال‪ .‬و هذه المرحلة األخيرة تعرف‬
‫باسم المرحلة الصوتية ‪ Phonetic period‬التي تدل فيها الرموز على األصوات المختلفة‪ ,‬وهي‬
‫الرموز المعروفة بالحروف الهجائية‪.‬‬

‫و للعلم فإنها قد ظهرت عند المصريين القدامى الكتابة الهيلوغريفية‪ ,‬ثم هذبها الفينيقيون واإلغريق‬
‫(الفينيقيون ‪ 26‬حرفا صامتا‪ ,‬أضاف لها اإلغريقيون الحروف المتحركة)‪ ,‬ثم اكتملت اللغة كأداة للتفاهم والعلم‪,‬‬
‫باختراع األرقام‪ ,‬و بذلك أمكن التعبير عن جميع هذه المعاني‪ ,‬بالرموز االصطالحية المتفق عليها‪ .‬وعليه‬
‫تعرف اللغة بأنها‪ ":‬أصوات مركبة‪ ,‬ذات مقاطع تتألف من كلمات و جمل‪ ,‬ذات دالالت وضعية‪ ,‬يعبر بها‬
‫ّ‬
‫اإلنسان تعبي ار مقصودا‪ ,‬عما يجول بخاطره‪ ,‬من معان‪ ,‬و يتفاهم بها مع أبناء جنسه"(‪.)36‬‬

‫و الواقع أن العالقة بين اللغة و المجتمع و الثقافة‪ ,‬عالقة وثيقة‪ " ,‬فاللغة هي وعاء الفكر وأداة‬
‫التعبير‪ ,‬و وسيلة االتصال‪ ,‬و قد ثبت أن اللغة‪ ,‬تتأثر بحضارة األمة‪ ,‬و نظمها‪ ,‬و تقاليدها‪ ,‬وعقائدها‪,‬‬
‫"(‪.)37‬‬ ‫واتجاهاتها الفكرية‪ ,‬و درجة ثقافتها‪ ,‬و نظرتها إلى الحياة و الشؤون االجتماعية عامة‬

‫كما يؤدي االختالف الطبقي في بعض المجتمعات‪ ,‬و بخاصة األوروبية‪ ,‬و ما يفرزه من فوارق‪ ,‬في‬
‫مظاهر الحياة االجتماعية‪ ,‬و االقتصادية‪ ,‬إلى التمييز بينها في المفردات التي تطلق على شؤون كل طبقة‬
‫منها‪ .‬و نستدل على ذلك بالدراسة التي قام بها بيار بورديو ‪)2002-1930(P. Bourdieu‬حول االختالف‬
‫الثقافي‪ ,‬بين الطبقات االجتماعية في فرنسا‪ ,‬في كتابه " التمييز ‪ " La Distinction‬وتوصل إلى أن الثقافة‬
‫المهيمنة‪ ,‬و البارزة‪ ,‬تكون من إنتاج الطبقة البورجوازية‪ ,‬ال البسيطة‪ ,‬و أن لكل طبقة اجتماعية‪ ,‬ثقافتها‬
‫الخاصة بها‪ ,‬حتى على مستوى المفردات‪ ,‬المستخدمة في اللغة‪.‬‬

‫و حيث أن اللغة ظاهرة اجتماعية و ثقافية‪ ,‬فهي تعد احد الميادين الهامة‪ ,‬التي يهتم بدراستها فرع‬
‫األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬إذ يدرس‪:‬‬

‫‪ -1‬اللغات العديدة المنطوقة في عالمنا المعاصر‪.‬‬


‫‪ -2‬نشأة اللغات في الجماعات االجتماعية‪ ,‬و ذلك بمتابعة اللغة‪ ,‬و تفرعاتها إلى لهجات‪ ,‬ومدى‬
‫انتشار هذه اللغات و لهجاتها*‪.‬‬
‫‪ -3‬الصراع الذي يحدث بين اللغات و القوانين التي تسيطر على هذا الصراع‪.‬‬
‫‪ -4‬تأثر اللغات ببعضها البعض و باألديان و العلوم‪.‬‬
‫فعن طريق اللغة‪ ,‬نستطيع أن نتوصل إلى طبيعة و تفسير االحتكاك الثقافي‪ ,‬الذي يحدث بين سائر‬
‫اللهجات‪ ,‬مما ينجم عنه‪ ,‬بعض التماثالت في اللغة‪ ,Similarity of language‬مثال نجد أن اللغة االنجليزية‬
‫تضم بعض المفردات الفرنسية‪ ,‬مما يؤكد االحتكاك الثقافي بين انجلت ار وفرنسا‪ ,‬و كذلك اللغة الهندية التي‬
‫تضم مفردات من لغات عديدة منها االنجليزية و العربية‪ .‬و في ضوء هذا االحتكاك اللغوي‪ ,‬يمكننا تقسيم‬
‫األجناس‪ ,‬و تصنيف البشر‪ ,‬استنادا إلى اللغة‪ ,‬و هو ما ذهب إليه عالم األنثروبولوجيا هادون‪ .Hadon‬علما‬
‫أن الجانب األكبر‪ ,‬من الدراسات اللغوية األنثروبولوجية‪ ,‬تنصرف إلى دراسة اللغات الغربية‪ ,‬مثل لغة الهنود‬
‫الحمر األمريكيين‪ ,‬التي تختلف اختالفا كبيرا‪ ,‬عن اللغات العالمية المعروفة‪ ,‬كاللغة االنجليزية‪ ,‬الصينية‪,‬‬
‫الروسية‪.‬‬

‫و من ثم‪ ,‬تمخض عن اهتمام األنثروبولوجيين الثقافيين‪ ,‬المتزايد باللغة‪ ,‬تخصص يعرف بـ‬
‫اللغوياتاأل نثروبولوجية ‪ ,Anthropological Linguistics‬و هو يركز على دراسة الشعوب غير الغربية‪ ,‬و‬
‫يقوم باختبار نظريات اللغة المبنية أساسا‪ ,‬على اللغات األوروبية‪ ,‬كما تركز على عالقة ما تنفرد به‬
‫األنثروبولوجيا اللغوية – بإطارها االجتماعي و الثقافي‪ .‬و السمة الهامة المميزة‪ ,‬لدراسات األنثروبولوجيا‬
‫اللغوية‪" ,‬طابعها الميداني"‪ ,‬حيث يقوم األنثروبولوجيون اللغويون بد ارساتهم الميدانية‪ ,‬بالطريقة نفسها التي‬
‫يطبقها األنثروبولوجيون الثقافيون‪ ,‬فهم يحاولون أن يصبحوا جزءا من المجتمع المحلي‪ ,‬و يعتمدون على‬
‫اإلخباريين* لمساعدتهم‪ ,‬في الحصول على تفاصيل اللغة المحلية‪ .‬و تستغرق الدراسة الميدانية ساعات‬
‫طويلة‪ ,‬من المقابالت الواعية‪ ,‬مع ا إلخباريين المهرة‪ ,‬و المدربين على تقويم الكلمات و العبارات المختلفة‪ ,‬في‬
‫إجاباتهم على تساؤالت الباحث‪ .‬أما أدوات العمل األساسية فتشمل‪ :‬المذكرات‪ ,‬األقالم‪ ,‬شرائط التسجيل‪,‬‬
‫واألذن المرهفة‪ .‬و إلى جانب اإلخباريين فإن األنثروبولوجيون اللغويون‪ ,‬يستخدمون المالحظة بالمشاركة‪,‬‬
‫لإللمام بمختلف األنشطة‪ ,‬في المجتمع محل الدراسة‪ .‬و من أهم األنثروبولوجيون اللغويون‪ ,‬نذكر فرانس‬
‫بواز‪ F.Boas‬و ادوارد سابير‪ ,E.Sapir‬و يعتبران من آباء األنثروبولوجيا األمريكية الحديثة‪ ,‬و من‬
‫المتخصصين في لغات و ثقافات الهنود األمريكيين‪ ,‬حيث درسا عالقة لغاتهم بثقافاتهم‪.‬‬

‫كما صاغ كل من بنيامين هورف ‪B.whorf‬و ادوارد سابير ‪E.Sapir‬فروضهما حول دراسة اللغة‪ ,‬و‬
‫نظ ار إليها‪ ,‬على أنها المرشد الحي‪,‬لطبيعة الواقع االجتماعي‪ ,‬الذي يعيشه األفراد‪ ,‬في الثقافات المحلية‪ .‬أما‬
‫ستانلي نيومان‪ Stanley Newman‬فإنه ال يرى أهمية حقيقية‪ ,‬في إقبال الباحث األنثروبولوجي‪ ,‬على دراسة‬
‫الخصائص البنائية للغة ( اإلعراب‪ ,‬االشتقاق اللغوي‪ ,)..‬و إنما عليه أن يقوم بدراستها كظاهرة اجتماعية‪ ,‬أو‬
‫كمظهر ثقافي‪ ,‬عن طريق تحليل عالقة اللغة‪ ,‬باألنماط االجتماعية‪ ,‬واألمزجة و الطباع ‪ Ethos‬الخاصة‬
‫بشعب معين‪ ,‬في ضوء دراسة موجهات القيم‪ ,‬والتقاليد المحلية‪ ,‬و عالقتها باللغة‪.‬‬

‫‪-11‬األ نثروبولوجيا و عالقتها بعلم السياسة‪:‬‬

‫علم السياسة هو فرع من العلوم االجتماعية‪ ,‬يعرف بأنه " علم الدولة "‪ ,‬و يختص بدراسة ممارسة‬
‫الدولة لسلطتها‪ ,‬و التنظيم و الحكومة‪ ,‬و أسلوب حكمها‪ ,‬و اختصاص الحكومات القائمة‪ ,‬و عالقة الحاكم‬
‫بالمحكومين‪ -‬عالقة الطبقة الحاكمة بأفراد المجتمع‪ -‬و حقوق و واجبات األفراد‪ ,‬و مدى مراعاة السالم‬
‫والنظام‪ ,‬داخل المجتمع‪ .‬كما يهتم علماء السياسة‪ ,‬بالسلوك السياسي‪ ,‬و سعي الجماعات والتنظيمات‪ ,‬والنظم‬
‫المميزة عن الدولة‪ ,‬وراء السلطة‪ ,‬و تنظيم و نشاطات األحزاب السياسية‪ ,‬والجماعات الضاغطة‪ ,‬و طبيعة‬
‫الرأي العام‪ ,‬والدعاية‪ .‬و يشمل هذا العلم موضوعات‪ ,‬مثل‪ :‬أصل و تطور الدولة‪ ,‬تفسير و تحليل و مقارنة‬
‫النظم القائمة‪ ,‬في الحاضر‪ ,‬العمليات و الهيئات التي تشرع من خاللها القوانين(‪.)38‬‬

‫ي مارس النسق السياسي تأثي ار واضحا‪ ,‬على مختلف األنساق االجتماعية‪ ,‬و لذلك فإنه يلعب دو ار‬
‫رئيسيا‪ ,‬يغير من صميم الحياة االقتصادية‪ ,‬و عليه ظهر فرع من األنثروبولوجيا العامة يعرف باألنثروبولوجيا‬
‫السياسية‪ ,‬و هو يهتم بأشكال و نظم الحكم‪ ,‬سواء تركزت السلطة في يد "رئيس" أو " زعيم"‪ ,‬أو تحت إشراف‬
‫مجلس كبار السن‪ ,‬أو هيئة شيوخ القبيلة‪ ,‬كما يهتم بمشكالت اإلدارة‪ ,‬ومعرفة طبيعة القوانين و العادات‪ ,‬عند‬
‫الشعوب البدائية‪ ,‬و من بين أهم الدراسات‪ ,‬التي أنجزت ضمن هذا الفرع‪ ,‬نذكر دراسة العالمة ايفانز‬
‫بريتشارد حول وضعية الرئيس لدى قبائل األزاندي في السودان عام ‪ .1927‬كما اهتم لويس مورجان‪,‬‬
‫قسم التطور السياسي للبشرية‪ ,‬إلى مرحلتين اثنتين‪:‬‬
‫بموضوع التعريف بالسياسة‪ ,‬حيث ّ‬

‫المرحلة األولى‪ :‬تأسس الحكومات على العالقات الشخصية البحتة (القرابة) و أطلق عليها التنظيم‬
‫االجتماعي‪.‬‬

‫المرحلة الثانية‪ :‬ظهور الملكية‪ ,‬و ذلك في وقت متأخر من تطور اإلنسان‪ .‬و يقول مورجان انه‬
‫ظهرت في الوقت نفسه‪ ,‬فكرة الحدود اإلقليمية‪ ,‬للحكومة التي تقوم فيها السلطة‪ ,‬و تسمى بالدولة‪.‬‬

‫و نافلة القول‪ ,‬أن األنثروبولوجيا تعتمد في استقاء مادتها المعرفية‪ ,‬من جل العلوم الطبيعية‪,‬‬
‫االجتماعية و اإلنسانية‪ ,‬كونها تدرس اإلنسان من مختلف جوانبه المكونة لذاته‪ ,‬بيولوجيا‪ ,‬اجتماعيا‪ ,‬نفسيا‪,‬‬
‫تكون حقال كبي ار لفهم اإلنسان‪ ,‬و دراسته بشكل شامل‬
‫ثقافيا‪ .‬فاألنثروبولوجيا و بالتعاون مع كل هذه العلوم ّ‬
‫ومتكامل‪.‬‬
‫الهوامش‪:‬‬

‫‪Https:// ar.wikipedia.org/wiki/‬‬ ‫‪ -1‬البيولوجيا‬


‫‪ -2‬التشريح‪ ,‬المرجع نفسه‬
‫‪ -3‬الفسيولوجيا‪ ,‬المرجع نفسه‬
‫‪ -4‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬األنثروبولوجيا في المجالين النظري و التطبيقي‪ ,‬دار المعرفة الجامعية‪-‬‬
‫اإلسكندرية‪ ,‬ط‪ ,2009 ,2‬ص ‪60‬‬
‫‪ -5‬علي محمد المكاوي‪ ,‬األنثروبولوجيا و قضايا اإلنسان المعاصر (مدخل اجتماعي وثقافي)‪ ,‬الدار الدولية‬
‫لالستثمارات الثقافية‪ -‬القاهرة‪ ,2007 ,‬ص ‪213‬‬
‫‪ -6‬علي محمد المكاوي‪ ,‬األنثروبولوجيا الطبية (دراسات نظرية و بحوث ميدانية)‪ ,‬دار النصر للتوزيع‬
‫والنشر‪ -‬القاهرة‪ ,2006 ,‬ص ص ‪20-19‬‬
‫‪ -7‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬معجم العلوم اإلجتماعية‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ,1975 ,‬ص‪407‬‬
‫‪ -8‬المرجع نفسه‬
‫‪ -9‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ‪408‬‬
‫‪ -10‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ص ‪420-419‬‬
‫‪ -11‬احمد بن نعمان‪ ,‬نفسية الشعب الجزائري‪ ,‬شركة دار األمة – برج الكيفان‪ ,‬الطبعة الثانية‪,1997 ,‬‬
‫ص‪37‬‬

‫‪-12‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ص ‪45-42‬‬

‫‪-13‬عبد الناصر جندلي‪ ,‬تقنيات و مناهج البحث في العلوم السياسية و االجتماعية‪ ,‬ديوان المطبوعات‬
‫الجامعية‪ -‬الجزائر‪ ,2005 ,‬ص ‪156‬‬

‫‪-14‬مقدمة العالمة ابن خلدون‪ ,‬دار الرائد العربي‪ -‬بيروت‪ ,‬ط ‪ ,1982 ,5‬ص ص ‪10-9‬‬

‫* ‪ -‬مسكوكات‪ :‬قطع نقدية معدنية تحمل خاتما من السلطة العامة‪.‬‬

‫‪62 -15‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص‬

‫‪-16‬المرجع نفسه‬
‫‪ -17‬علي وهب‪ ,‬الجغرافيا البشرية‪ ,‬المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع‪ -‬بيروت‪ ,‬ط‪,1‬‬
‫‪ ,1986‬ص ‪10‬‬

‫‪ -18‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ‪14‬‬

‫‪ -19‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص‪211‬‬

‫‪-20‬علي وهب‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪14‬‬

‫‪-21‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‬

‫‪Http:// www.4shared.com‬‬ ‫‪ -22‬عالقةاألنثروبولوجيا بالعلوم األخرى‬

‫‪http://www.maarefa.org‬‬ ‫‪-23‬جيولوجيا‬

‫‪Http:// ency.najah.edu/sites/default/files‬‬ ‫‪ - 24‬تعريف الفولكلور‬


‫‪ -25‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬أصول علم اإلنسان‪ -‬الجزء األول‪ ,‬دار المعرفة الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪,‬‬
‫‪ ,2007‬ص ‪55‬‬

‫‪ -26‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪24‬‬

‫‪ -27‬يحيمرسي عيد بدر‪ ,‬مرجع سابق‬

‫‪Http:// 4all student.blogspot .com‬‬ ‫‪-28‬شريف كناعنة‪ ,‬االفولكلور‬

‫‪ -29‬المرجع نفسه‬

‫‪ -30‬فايز مقدسي‪ ,‬مناهج التعليم السومرية‪ -‬البابلية منذ األلف الثالث ق‪.‬م‪ ,‬مجلة المعرفة‪ ,‬و ازرة‬
‫الثقافة السورية‪ ,‬العدد‪ ,558 :‬آذار ‪ ,2010‬ص ‪( 137‬بتصرف)‬

‫‪-31‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪59‬‬

‫‪-32‬المرجع نفسه‬

‫‪ -33‬إبراهيممذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪406‬‬

‫‪-34‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬مرجع سابق‬


‫‪-35‬المرجع نفسه‬

‫‪-36‬إبراهيممذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪495‬‬

‫‪-37‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪35‬‬

‫*‪ -‬اللهجة هي تجلي جغرافي للغة كأن نقول لغة عربية و من لهجاتها الجزائرية‪ ,‬التونسية‪ ,‬اللبنانية‪..‬‬

‫*‪ -‬الخباريون‪ :‬هم أفراد أصليون من المجتمع محل الدراسة‪ ,‬يساعدون الباحث األنثروبولوجي في‬

‫فهم بعض العادات و الطقوس و األعراف و اللهجات‪ ,‬التي استعصي عليه فهمها‪ ,‬كما يتميز البعض‬
‫منهم بمهارتهم في الترجمة و اإلتصال مع اآلخرين‪ ,‬و معرفتهم بتاريخ منطقتهم‪.‬‬

‫‪-38‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪80‬‬


‫احملـ ـ ـ ـ ـاضرة الرابع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬

‫ف ـ ـ ـ ـ ـ ـروع األنثروبولوجيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫تناولنا في المحاضرة السابقة‪ ,‬عالقة األنثروبولوجيا بالعديد من العلوم منها علم االجتماع‪ ,‬التاريخ‬
‫و األركيولوجيا‪ ,..‬و كلها علوم تمد األنثروبولوجيا بالمادة النظرية و المنهجية‪ ,‬التي تحتاج إليها‪,‬‬
‫وتزودها من خالل دراساتها و نتائجها‪ ,‬بما يسهم في تطوير أبحاثها‪ ,‬و أطرها التفسيرية كذلك‪ ,‬حيث‬
‫تمخض عن هذا التكامل المنهجي‪ ,‬بين كل هذه العلوم و األنثروبولوجيا‪ ,‬ظهور فروع متخصصة‪,‬‬
‫ضمن حقل األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬مثل األنثروبولوجيا النفسية‪ ,‬األنثروبولوجيا الطبية‪ ,‬األنثروبولوجيا‬
‫السياسية‪ ,‬اللغويات األنثروبولوجية‪..‬الخ‪ .‬و إن كان العديد من هذه الفروع (التي تم تناولها)‪ ,‬قد انبثقت‬
‫أو تفرعت‪ ,‬عن فروع اشمل منها‪ ,‬يصطلح األنثروبولوجيون على تسميتها‪ ,‬باألقسام الرئيسية‬
‫لألنثروبولوجيا‪ ,‬علما أن هذه األقسام‪ ,‬هي محل خالف و جدل‪ ,‬بين علماء األنثروبولوجيا أنفسهم‪ ,‬إذ ال‬
‫يوجد إجماع علمي بينهم‪ ,‬يحدد عدد أقسامها الرئيسة أو الفروع المنبثقة عنها‪ ,‬و التي تختلف من‬
‫مدرسة إلى أخرى‪ ,‬و من دولة إلى أخرى‪ ,‬و هو ما سوف نستفيض في عرضه‪ ,‬ضمن هذه المحاضرة‪.‬‬

‫(‪) 1‬‬ ‫‪ ‬األقسام الرئيسية للنثروبولوجيا العامة‪:‬‬

‫فيما يلي سوف ندرج أهم التقسيمات‪ ,‬التي وضعها علماء األنثروبولوجيا‪ ,‬من مختلف اتجاهاتهم‬
‫الفكرية (مدارسهم الفكرية)‪ ,‬و دولهم أيضا‪ ,‬و البداية سوف تكون من أمريكا‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أقسام األ نثروبولوجيا في أمريكا‪:‬‬

‫رالف‬ ‫األمريكي‬ ‫األنثروبولوجيا‬ ‫عالم‬ ‫حسب‬ ‫األنثروبولوجيا‬ ‫أقسام‬ ‫تنحصر‬


‫لينتون‪R.Linton‬في قسمين رئيسيين‪:‬‬
‫األ نثروبولوجيا العامة‬

‫األ نثروبولوجيا الثقافية‬ ‫األ نثروبولوجيا الفيزيقية‬

‫علم‬ ‫االثنوغرافيا‬ ‫االثنولوجيا‬


‫اللغويات‬

‫االنثروبولوجيا‬
‫علم‬
‫االثار‬ ‫االجتماعية‬ ‫االنثروبولوجيا‬
‫النفسية‬

‫الشكل رقم (‪ )01‬يبين تقسيم لينتون لفروع األ نثروبولوجيا العامة‬

‫و حسب بوجر كيسينج ‪Poger Keesing‬تنقسم األنثروبولوجيا العامة إلى قسمين رئيسيين(وهو بذلك ال‬
‫يختلف عن لينتون فيما ذهب إليه) هما‪:‬‬

‫األ نثروبولوجيا العامة‬

‫األ نثروبولوجيا الثقافية‬ ‫األ نثروبولوجياالفيزيقية‬

‫علم آثار ما قبل التاريخ‬ ‫األنثروبولوجيا اإلجتماعية‬

‫اللغويات األنثروبولوجية‬ ‫( و تتعدد فروعها بحسب تعدد‬

‫األنساق المكونة للبناء اإلجتماعي‬

‫سياسية‪ ,‬اقتصادية‪ ,‬دينية‪)...‬‬

‫الشكل رقم (‪ )02‬يبين تقسيم كيسينج لفروع األ نثروبولوجيا العامة‬


‫فإنهاتقسم األنثروبولوجيا إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫ّ‬ ‫أماالجامعات الرئيسية في الواليات المتحدة األمريكية‪,‬‬

‫االنثروبولوجيا العامة‬

‫األنثروبولوجيا الفيزيقية‬ ‫األنثروبولوجيا الثقافية‬

‫اللغويات األنثروبولوجية‬ ‫علم آثار ما قبل التاريخ (األركيولوجيا)‬

‫الشكل رقم (‪ )03‬يبين تقسيم الجامعات الرئيسية األمريكية لفروع األ نثروبولوجيا العامة‬

‫نالحظ من خالل األشكال المبينة لتفريعات األنثروبولوجيا العامة في أمريكا‪ ,‬غياب األنثروبولوجيا‬
‫االجتماعية‪ ,‬ألن علماء األنثروبولوجيا األمريكيون‪ ,‬يعتبرونها فرعا من األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬على‬
‫أساس أنها الفرع الذي يتخصص في دراسة جانب العالقات االجتماعية من الثقافة‪ ,‬في حين يرى‬
‫علماء المدرسة البريطانية‪ ,‬أن األنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬و األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬كالهما يمثل فرعا‬
‫مستقال بذاته‪ ,‬ضمن األنثروبولوجيا العامة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أقسام األ نثروبولوجيا في بريطانيا‪:‬‬

‫تقسم األنثروبولوجيا إلى ثالثة أقسام رئيسية‪ ,‬وهي‪:‬‬


‫فيجل الجامعات البريطانية ّ‬
‫األ نثروبولوجيا العامة‬

‫االنثروبولوجيا‬
‫الثقافية‬
‫األ نثروبولوجيا الجتماعية‬ ‫االنثروبولوجيا الفيزيقية‬

‫االثنوغرافيا‬ ‫( و تتعدد فروعها بحسب تعدد‬


‫اللغويات‬
‫االركيولوجيا‬
‫االثنولوجيا‬ ‫األنساق المكونة للبناء اإلجتماعي)‬

‫الشكل رقم (‪ )04‬يبين تقسيم الجامعات البريطانية لفروع األ نثروبولوجيا العامة‬

‫تدرس‬
‫و نشير في هذا السياق‪ ,‬أن جل الدول األوروبية‪ ,‬بما فيها فرنسا وألمانيا‪ّ ,‬‬
‫األنثروبولوجيا‪ ,‬من خالل قسمين رئيسيين هما‪ :‬األنثروبولوجيا البيولوجية‪ ,‬واألنثروبولوجيا الثقافية‪.‬‬
‫يوحد فيه بين الفرعين معا‪,‬‬
‫أما البعض منها‪ ,‬فإنه يفرد فرعا مستقال ضمن األنثروبولوجيا العامة‪ّ ,‬‬
‫فيكون بذلك فرع األ نثروبولوجيا االجتماعية و الثقافية‪ .‬و فيما يلي سوف نتناول أهم الفروع‬
‫ّ‬
‫الرئيسية في األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬علما أن هذا التفريع يؤخذ به في المدرسة البريطانية‪ ,‬و قد‬
‫تبنيناه نظ ار ألهمية الفروع نفسها‪ ,‬و هي على التوالي‪:‬‬

‫‪ -1‬األ نثروبولوجيا الفيزيقية‪:Physical Anthropology‬‬


‫يعرف هذا الفرع كذلك باألنثروبولوجية البيولوجية أو الطبيعية‪ ,‬و هو أقدم فروع األنثروبولوجيا‬
‫العامة‪ ,‬و قد ظهر بشكل متميز أواخر القرن ‪ ,18‬و أوائل القرن ‪ ,19‬تحت تأثير النظرية‬
‫التطورية (الداروينية)‪ ,‬و نشأ هذا الفرع‪ ,‬نتاج الجمع بين علم التشريح‪ ,‬و األبحاث المنسقة‪ ,‬التي‬
‫أجريت على الحيوانات خالل تلك الفترة‪ .‬حيث بين داروين في كتابه "أصل األنواع" أن األشكال‬
‫المختلفة للحياة‪ ,‬ذات أصل مشترك‪ ,‬تطورت عنه تدريجيا‪ ,‬و أن من يصمد في وجه الصراع‪ ,‬من‬
‫اجل الحياة‪ ,‬هي الكائنات الحية التي تكون أكثر تكيفا‪ ,‬و ظروف الحصول على الغذاء‪ ,‬و تجنب‬

‫هجمات المتنافسين من الكائنات الحية األخرى‪ ,‬و ّ‬


‫عبر عن ذلك بمقولته " البقاء لألصلح"‪ .‬و كان‬
‫داروين من خالل صياغته لهذه النظرية‪ ,‬يهدف إلى الرد على العقائد الدينية‪ ,‬التي تقول بثبات‬
‫األنواع‪ ,‬فيما يتعلق بخلق الكون(‪.)2‬‬
‫و كان األنثروبولوجيون الفيزيقيون‪ ,‬يجمعون القوائم األكثر تعقيدا‪ ,‬و أشكال السالالت‬
‫البشرية‪ ,‬و لكن هذه التصنيفات و النظريات‪ ,‬لم تكن مبنية على البحوث الميدانية‪ ,‬ولكنها كانت‬
‫تتم من خالل االعتماد على تقارير المستكشفين‪ ,‬و رجال اإلدارة االستعمارية والرحالة‪ ,‬و يعتبر‬
‫الباحث الفرنسي جورج لويس ليكليرك‪ G.Louis Liclerc‬احد هؤالء الذين صنفوا البشر‪ ,‬كما‬
‫طور بعض النظريات الخاصة باالختالفات الفيزيقية بين البشر‪ .‬أما اآلن أصبح األنثروبولوجيون‬
‫ّ‬
‫الفيزيقيون‪ ,‬يقصدون المواقع الميدانية‪ ,‬للبحث عن الحفريات‪ ,‬و جمع المعلومات عن الخصائص‬
‫يدرس هذا الفرع في كليات الطب و العلوم‪ ,‬و معظم المتخصصين فيه من‬
‫البيولوجية للبشر‪ .‬و ّ‬
‫يدرس أيضا‪ ,‬في كليات العلوم االجتماعية‪ ,‬في أقسام‬
‫األطباء وعلماء الحياة‪ ,‬ولكنه ّ‬
‫األنثروبولوجيا‪.‬‬

‫بقايا هيكل عظمي لنسان بدائي‬

‫تهتم األنثروبولوجيا الفيزيقية‪ ,‬بدراسة اإلنسان من حيث سماته الفيزيقية‪ ,‬مثل‪ :‬الخصائص‬
‫الجسمية‪ ,‬الصفات التشريحية (حجم الجمجمة ‪ ,Skull‬طول القامة‪ ,‬لون البشرة‪ ,‬لون العينين‪ ,‬شكل‬
‫األنف‪ ,‬نوع الشعر‪ ,)..‬فإذا كانت األنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬تهتم أو تعالج ما يسمى بالبناء‬
‫االجتماعي‪ ,‬فإن األ نثروبولوجيا الفيزيقية‪ ,‬تهتم و تدرس الخصائص و المالمح العامة‪ ,‬للبناء‬
‫الفيزيقي لإلنسان‪ .‬هذا‪ ,‬و تدرس األنثروبولوجيا الفيزيقية‪ ,‬اإلنسان العضوي في نشأته األولى‪ ,‬وفي‬
‫تطوره عبر التاريخ‪ ,‬وصوال إلى اكتسابه للصفات و الخصائص‪ ,‬الوراثية و الساللية التي تميز‬
‫جنسه‪" .‬حيث بين المختصون في هذا الفرع‪ ,‬أن مخ اإلنسان قد نمى بصورة واضحة‪ ,‬خالل‬
‫األحقاب التاريخية المختلفة‪ ,‬في حين تضاءل حجم وجهه‪ ,‬و هذا ما أكدته الدراسة المقارنة‪ ,‬التي‬
‫أجريت بين اإلنسان الحديث‪ Modern man‬واإلنسان المنتصب القامة ‪Homo erectus‬‬

‫والشامبانزي ‪.)3("Champanzee‬‬

‫صورة فوتوغرافية تظهر قردة الشامبانزي (أم و صغيرها)‬

‫و من بين أهم التساؤالت‪ ,‬التي تسعى األنثروبولوجيا الفيزيقية إلى اإلجابة عنها‪ ,‬و التي‬
‫كانت موضع اهتمام الباحثين و العلماء و الدارسين منذ القدم‪ ,‬حتى العصر الحديث‪ :‬أين و متى‬
‫ظهرت الكائنات الحية ألول مرة؟ و ما هي صفات هذه الشعوب؟ و ما هي أوجه التماثل‬
‫واالختالف بينها؟ كيف تغيرت الخصائص الجسمية لإلنسان خالل األزمنة المتعاقبة على وجه‬
‫األرض؟‬
‫كما تهتم كذلك بمسالة‪ :‬هل هناك أنواع أقوى من غيرها تستطيع أن تورث صفاتها لغيرها‬
‫من الشعوب؟ و هل هناك صلة بين التركيب الجسمي لإلنسان‪ ,‬و بين الصفات األخرى كالمزاج‬
‫و الذكاء و النواحي النفسية؟‬
‫و كي تحقق األنثروبولوجيا الفيزيقية أهدافها العلمية‪ ,‬فإنها تستعين بمجموعة من العلوم‬
‫الطبيعية‪ ,‬نذكر منها‪ :‬البيولوجيا‪ ,Biology‬علم وظائف األعضاء ‪ ,Physiology‬علم التشريح‬
‫‪ ,Anatomy‬الهستولوجي ‪ Histology‬الذي هو علم األنسجة العضوية الحية‪ ,‬علم الوراثة‪ ,‬علم‬
‫العظام ‪ ,Osteology‬علم البناء اإلنساني ‪ ,Human morphology‬مقاييس حجم اإلنسان‪ ,‬دراسة‬
‫مقاييس األجسام الحية ‪ ,Biometrics‬علم الجراحة اإلنساني ‪ ,Human serology‬علم األجنة‬
‫‪ .Imbryology‬باإلضافة إلى علوم أخرى اجتماعية‪ ,‬مثل‪ :‬علم آثار ما قبل التاريخ‬
‫‪ ,Prehistoricarcheology‬و علم أصول السالالت البشرية الذي هو اإلثنولوجيا ‪,Ethnology‬‬
‫كما ال يخلو عمل األنثروبولوجي الفيزيقي من دراسة اللغويات ‪ ,Linguistics‬و كذلك‬
‫األنثروبولوجيا االجتماعية(‪.)4‬‬
‫‪ -2‬األ نثروبولوجيا الثقافية ‪:Cultural Anthropology‬‬
‫األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬فرع من فروع األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬موضوعها الرئيسي الثقافة‪ ,‬في كل‬
‫األمكنة و األزمنة‪ ,‬مهما تعددت و اختلفت‪ .‬إذ تشمل الثقافة قواعد العرف‪ ,‬العادات‪ ,‬التقاليد‪,‬‬
‫المعتقدات و الممارسات و غيرها‪ ,‬و تعتبر أداة االتصال و التواصل مع اآلخرين‪ ,‬سواء ضمن‬
‫الجماعة المحلية‪ ,‬أو الجماعات االجتماعية المجاورة لها‪ ,‬في بيئاتها الطبيعية المختلفة‪ ,‬ولذلك‬
‫كان احد أهداف األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬دراسة هذا التباين‪ ,‬أو التماثل الثقافي‪ ,‬باإلضافة إلى‬
‫االهتمام بتاريخ هذه الثقافات‪ ,‬و أصولها‪ ,‬و نموها‪ ,‬و تطورها‪.‬‬
‫و يمكن القول أن الثقافة‪ ,‬هي كل ما ال يولد به البشر‪ ,‬كونها تشمل كل انتاجاتهم‪ ,‬المادية‬
‫تورث‪ ,‬و تنتقل من جيل إلى آخر‪ ,‬وبالتالي‬
‫و الالمادية‪ ,‬عبر الزمان‪ ,‬و أكثر من ذلك فإن الثقافة ّ‬
‫هي مكتسبة (فوق عضوية)‪ ,‬و إن كان شق من العلماء يقول بأنها فطرية‪ ,‬و ربطوها بالقدرات‬
‫العقلية‪ ,‬و االستعدادات النفسية لإلنسان‪ .‬و حول هذه النقطة يوضح مالينوسكي‪Malinowski‬‬

‫قائال‪ " :‬اإلنسان كائن له شكله الفيزيقي‪ ,‬و تراثه االجتماعي‪ ,‬وسماته الثقافية‪ .‬إن الطفل قد يولد‬
‫زنجيا من الناحية الفيزيقية‪ ,‬و لكنه لو ينشأ في فرنسا مثال‪ ,‬فإنه يكتسب عادات اجتماعية‪,‬‬
‫وسيتصف بسمات ثقافية‪ ,‬تميزه عن أقرانه‪ ,‬الذين لم يبرحوا موطنهم األصلي"(‪.)5‬‬
‫و من ثم ندرك أن الثقافة‪ ,‬تؤثر في شخصية األفراد‪ ,‬و بالتالي الشخصية االجتماعية‬
‫(القومية)‪ ,‬و عليه فإن المجتمعات تختلف بحسب تنوع ثقافاتها‪ ,‬كما تختلف الثقافة نفسها من فترة‬
‫زمنية إلى أخرى‪ ,‬بفعل عوامل التغير االجتماعي‪ ,‬و هي لذلك دينامية‪ ,‬متغيرة‪ ,‬متطورة‪ ,‬و نسبية‬
‫أيضا‪ .‬فاألزياء التي كان يرتديها األفراد مثال فترة السبعينيات من القرن العشرين‪ ,‬و التي كانوا‬
‫يتباهون بارتدائها‪ ,‬قد تبدو غريبة و مضحكة‪ ,‬لو ارتداها فرد ما أيامنا هذه‪ .‬و أن ما يعتبره مجتمع‬
‫ما جريمة‪ ,‬قد يعد بالنسبة آلخر طقسا دينيا (مثل تقديم قرابين بشرية إرضاءا إلله مزعوم)‪ .‬و قس‬
‫على ذلك كل المنتجات المادية‪ ,‬و المفاهيم و المعارف و النظريات و القوانين العلمية‪ ,‬فهي‬
‫ليست بالجامدة أو الثابتة عبر الزمان‪ .‬معنى ذلك أن اإلنسان في كل مكان و زمان‪ ,‬له تراثه‬
‫الثقافي‪ ,‬هذا األخير الذي يمثل الموضوع الرئيسي لألنثروبولوجيا الثقافية‪ .‬وهي تعنى كذلك بدراسة‬
‫الثقافة القديمة للشعوب‪ ,‬و ذلك بالكشف عن البقايا المادية لطرائق الحياة‪ ,‬و هذا من اجل إعادة‬
‫تركيب البناء الثقافي لشعب معين‪ ,‬في مرحلة زمنية معينة‪ ,‬ومنطقة إقليمية معينة‪.‬‬
‫كما تهتم االأنثروبولوجيا الثقافية بدراسة الثقافة البدائية‪ ,‬ثقافة المجتمعات المحلية‬
‫المعاصرة‪ ,‬في أوروبا و أمريكا‪ ,‬و التي تمتاز بالتقدم و الرقي الحضاري‪ ,‬و من ثم تعقد مقارنات‬
‫بين طرائق حياة المجتمعات المنقرضة و الحالية‪ ,‬والبدائية والمتقدمة‪ .‬إنها بذلك تدرس وظائف‬
‫الثقافات اإلنسانية‪ ,‬في الماضي و الحاضر‪ ,‬بمعنى آخر أن األنثروبولوجيا الثقافية تهتم بالثقافة‬
‫في ذاتها‪ ,‬سواء كانت ثقافة األسالف‪ ,‬أو ثقافة المعاصرين‪.‬‬
‫إن عالم األنثروبولوجيا في اهتمامه بالثقافة‪ ,‬يحاول الوصول إلى مجموعة من المبادئ‪,‬‬
‫التي تحكم تطور اإلنسان‪ ,‬من الناحية الثقافية‪ ,‬و لهذا فإنه يثير العديد من التساؤالت‪ ,‬حول‬
‫أسباب التنوع الثقافي و اللغوي عند اإلنسان؟ ما هي طبيعة الثقافة؟ كيف تتغير الثقافات؟ كيف‬
‫يستجيب األفراد للقيم و المثل و المعايير و األهداف التي تحددها لهم الثقافة؟ ما هي العالقة بين‬
‫الثقافة و الشخصية؟‪..‬الخ‪ ,‬و قد يأخذ شكل االهتمام بالثقافة لدى األنثروبولوجيون جانبين‪ ,‬األول‬
‫يمثل الدراسة المتزامنة‪ ,‬أي دراسة المجتمعات و الثقافات في نقطة معينة من تاريخها‪ ,‬و الجانب‬
‫الثاني يتمثل في الدراسة التتابعية أو التاريخية‪ ,‬أي دراسة المجتمعات و الثقافات عبر التاريخ(‪.)6‬‬
‫و نظ ار لتعدد و تنوع الموضوعات التي تدخل في نطاق الثقافة‪ ,‬و التي تمثل في‬
‫مجموعها موضوع األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬و بخاصة فيما تعّلق بتفسير الدين‪ ,‬الشعوذة و السحر‪,‬‬
‫األساطير‪ ,..‬و التي ظلت موضوعات مفضلة لدى بعض العلماء المتأخرين نسبيا‪ ,‬مثل‪:‬‬
‫ماريت‪ MarretR.R.‬في بريطانيا‪ ,‬و بول رادين‪ P.Radin‬و روبرت لوي‪ R.Lowie‬في أمريكا(‪,)7‬‬
‫فإنه يمكن تقسيم هذا التخصص العلمي إلى عدة فروع‪ ,‬تندرج كلها ضمن العلوم االجتماعية‪ ,‬و‬
‫هي على التوالي‪ :‬اإلثنولوجيا‪ ,‬اإلثنوغرافيا‪ ,‬علم اآلثار‪ ,‬علم اللغويات الذي ينقسم هو اآلخر إلى‬
‫علم اللغويات الوصفي‪ ,‬و علم أصول اللغة‪ .‬و حسب التصنيف األمريكي لفروع األنثروبولوجيا‬
‫العامة‪ ,‬فإن األنثروبولوجيا االجتماعية تعد فرعا ضمن األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬فيما يدرج آخرون‬
‫فرع االأنثروبولوجيا النفسية‪ ,‬كون األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬تعنى بدراسة الثقافة و الشخصية‪.‬‬
‫أما عن تاريخها‪ ,‬لم تظهر األنثروبولوجيا الثقافية كميدان له أهمية‪ ,‬إال بعد الحرب‬
‫الرحالة و غيرهم‪ ,‬لم تشكل أهمية كبرى‪ ,‬من الناحية‬
‫العالمية الثانية‪ ,‬فالكتابات التي جمعها ّ‬
‫النظرية‪ ,‬أو حتى من الناحية العملية‪ ,‬و هي على كل حال‪ ,‬وضعية الحقل األنثروبولوجي بصفة‬
‫عامة في بداياته‪ ,‬حيث كان يعتمد على المبشرين الدينيين‪ ,‬و رجال اإلدارة االستعمارية‪ ,‬في جمع‬
‫المعلومات عن المجتمعات البدائية و المستعمرات‪ ,‬لذلك غلب على معظم هذه الدراسات‪ ,‬الطابع‬
‫التحيز‪ ,‬واستخدمت األنثروبولوجيا عموما‪ ,‬لغير‬
‫ّ‬ ‫المشبع بمشاعر االزدراء و السخرية و‬
‫ّ‬ ‫التقريري‪,‬‬
‫األغراض العلمية‪ .‬لكن الوضع تغير‪ ,‬بعد الحرب العالمية الثانية‪" ,‬خاصة بعد بروز أمريكا قوة‬
‫عظمى‪ ,‬لها دور في السياسة الدولية‪ ,‬حيث بدأت الحكومة األمريكية‪ ,‬ترصد األموال‪ ,‬للقيام‬
‫بدراسات عن الثقافات األخرى‪ ,‬أيا كان نوعها‪ ,‬خاصة المجتمعات النامية‪ ,‬و ثقافاتها التقليدية"(‪.)8‬‬
‫لقد أنشأت في أمريكا مراكز تدريب‪ ,‬و تخريج المتخصصين‪ ,‬في الثقافات األخرى‬
‫المختلفة‪ ,‬و يوجد اآلن متخصصون في الثقافات العربية واإلفريقية‪..‬الخ‪ ,‬بل قد برز أيضا‬
‫وسع علماء األنثروبولوجيا‬
‫االهتمام بالثقافات الفرعية داخل الثقافة الكلية‪ ,‬و من ناحية أخرى‪ّ ,‬‬
‫األمريكيون‪ ,‬دائرة دراستهم االجتماعية والثقافية‪ ,‬بحيث تشمل الثقافات القروية‪ ,‬والحضرية وغيرها‪.‬‬
‫‪ -3‬األ نثروبولوجيا االجتماعية ‪:Social Anthropology‬‬
‫استخدم اصطالح األنثروبولوجيا اإلجتماعية في بريطانيا‪ ,‬و إلى حد ما في الواليات‬
‫المتحدة األمريكية‪ ,‬ليشير إلى ذلك الفرع من فروع األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬وهو يعنى بدراسة البناء‬
‫االجتماعي للمجتمع‪ ,‬و النظم االجتماعية في نشأتها‪ ,‬و تطورها في المجتمعات البدائية‪ ,‬فيدرس‬
‫األسرة و النظم االقتصادية‪ ,‬التربوية‪ ,‬الدينية‪ ,‬الجمالية‪ ,‬السياسية‪ ,‬القضائية‪..‬إلى آخر ذلك من‬
‫النظم المختلفة‪.‬‬
‫إن هذا الفرع حديث النشأة‪ ,‬ال يتجاوز عمره بالكاد قرنا من الزمن‪ ,‬و قد أوجده العلماء‬
‫البريطانيون‪ ,‬كي يتميز بمجال مختلف عن مجال اإلثنولوجيا‪ ,‬و قد استخدم هذا المصطلح الجديد‬
‫ألول مرة‪ ,‬العالمة سير جيمس فريزر‪( Sir James Fraser‬الذي كان أستاذ كرسي في هذا الفرع‬
‫عرفها بأنها‬
‫بجامعة ليفربول)‪ ,‬في محاضرته تحت عنوان " مجال األنثروبولوجيا االجتماعية"‪ ,‬و ّ‬
‫"محاولة علمية للكشف عما يسميه (بالقوانين العامة) التي تحكم الظواهر المختلفة في حياة‬
‫اإلنسان‪ ,‬و تفسر ماضي الظواهر للتمكن – على ضوءها‪ -‬من التنبؤ بمستقبل المجتمعات‬
‫البشرية‪ ,‬استنادا إلى اإلد ارك الدقيق لتلك القوانين السوسيولوجية العامة‪ ,‬التي تنظم حياة اإلنسان‬
‫مكان"(‪)9‬‬ ‫عبر الزمان‪ ,‬حيث يعتقد بأن الطبيعة البشرية واحدة بعينها في كل زمان و‬
‫و تجدر اإلشارة هنا‪ ,‬إلى وجود بعض االختالف بين العلماء‪ ,‬حول مفهوم األنثروبولوجيا‬
‫االجتماعية‪ ,‬حيث اعتبر علماء المدرسة األمريكية‪ ,‬أن األنثروبولوجية االجتماعية‪ ,‬فرع من‬
‫األ نثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬على أساس أنها الفرع الذي يتخصص في دراسة جانب العالقات‬
‫االجتماعية من الثقافة‪ ,‬في حين يرى علماء المدرسة البريطانية‪ ,‬أن األنثروبولوجيا االجتماعية‬
‫والثقافية‪ ,‬كالهما تمثل قسما مستقال بذاته‪ ,‬في نطاق األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬لذلك فإنهم يرون‬
‫ضرورة الفصل بينهما‪ .‬أما ما يسميه البريطانيون باألنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬فإنه يعرف في‬
‫أوروبا باسم اإلثنولوجيا أو علم االجتماع(‪.)10‬‬
‫في حين يخلط بعض الباحثين‪ ,‬بين األنثروبولوجيا االجتماعية و األنثروبولوجيا الثقافية‪,‬‬
‫وال يفرقون بين الفرعين‪ ,‬على الرغم من أن الفرق بينهما واضح‪ .‬غير انه يمكن تفسير هذا الخلط‪,‬‬
‫بتداخل مجال الفرعين معا‪ ,‬و هو على حد ما ذهب إليه موس‪ Mauss‬و‬
‫مالينوفسكي‪ "Malinowski‬إن األشياء المادية كاألدوات الصناعية و األسلحة و اآلالت‪ ,‬يمكن‬
‫أن تتضمن في مجال كل من األننثروبولوجيا االجتماعية و الثقافية"‪ .‬فيما يرى العالمة ايجان‬
‫‪ Eggan‬ضرورة التعاون بين الفرعين‪ ,‬الستمرار و ازدهار الدراسات األنثروبولوجية‪ ,‬و للوصول‬
‫إلى نتائج أكثر عمقا و نضجا‪.‬‬
‫فاألنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬تمثل دراسة من نوع خاص‪ ,‬قوامها التجربة و الفرض‪ ,‬حيث‬
‫تستند التجربة الحقلية‪ ,‬على فروض نظرية موجهة‪ ,‬و تقوم على المالحظة العلمية المنظمة‪ .‬تهتم‬
‫األ نثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬بدراسة أنماط السلوك االجتماعي‪ ,‬الذي يتخذ في العادة‪ ,‬شكل نظم‬
‫وانساق اجتماعية‪ ,‬كالعائلة‪ ,‬القرابة‪ ,‬النظام السياسي‪ ,‬اإلجراءات القانونية‪ ,‬و العبادات الدينية‪ ,‬كما‬
‫تدرس العالقة بين هذه النظم‪ ,‬سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية‪ ,‬التي‬
‫تتوفر حولها معلومات مناسبة‪ ,‬يمكن معها القيام بمثل هذه الدراسات‪ .‬أي أنها تدرس ما يعرف‬
‫بالبناء االجتماعي ‪ Social structure‬الذي يتفق العلماء على تعريفه بأنه‪ ":‬شبكة معقدة من‬
‫العالقات‪ ,‬تربط بين األفراد أو الزمر االجتماعية‪ ,‬و تأخذ شكل نظم و انساق اجتماعية‪ ,‬و تتميز‬
‫بالثبات و االستمرار عبر الزمن"(‪ .)11‬و يمثل العالمة راد كليف براون‪Rad Cliff Brown‬ابرز‬
‫رواد األنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬و أهم المنظرين البنيويين‪.‬‬
‫وهكذا إذا كان علماء األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬يهتمون بدراسة اإلنسان باعتباره كائنا‬
‫حضاريا‪ ,‬يعيش في ثقافة‪ ,‬و يركزون دراستهم على ثقافة الشعوب‪ ,‬بشقيها المادي و الالمادي‪ ,‬في‬
‫نشأتها وتطورها وانتشارها‪ .‬فإن علماء األنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬يهتمون بد ارسة اإلنسان‬
‫االجتماعي‪ ,‬و النظم و العالقات اإلنسانية‪ ,‬و البناءات االجتماعية‪ ,‬في نشأتها و تطورها‪.‬‬
‫ولألنثروبولوجيا االجتماعية فروع تشمل‪ :‬األنثروبولوجيا االقتصادية‪ ,‬أنثروبولوجيا القرابة‬
‫واألنثروبولوجيا الدينية(‪ .)12‬لنتصور مثال أن باحثا في األنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬يقوم ببحث‬
‫حول نظام القرابة في مجتمع قروي‪ ,‬و أن باحثا آخ ار في األنثروبولوجيا الثقافية‪ ,‬يقوم بدراسة‬
‫عادات و تقاليد الزواج الداخلي لهذه األسر في المجتمع نفسه‪ ,‬و من ثم نالحظ الفرق بين‬
‫الفرعين‪ ,‬في طريقة تناول الموضوع‪ ,‬وفي ذات الوقت‪ ,‬فإننا نستشف التداخل فيما بينهما(بين‬
‫االجتماعي و الثقافي)‪ ,‬فإذا كان يمكن الفصل بين الفرعين من الناحية النظرية‪ ,‬فإنه – في‬
‫تقديرنا‪ -‬من الصعب جدا أن نفصل بينهما في الواقع‪.‬‬
‫‪ -4‬األ نثروبولوجيا التطبيقية ‪:Applied Anthropology‬‬
‫األنثروبولوجيا التطبيقية فرع متخصص من األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬يهدف إلى االستفادة‬
‫من الدراسات األنثروبولوجية النظرية‪ ,‬في ضبط التغير االجتماعي‪ ,‬و توجيهه في المجتمعات‬
‫البدائية‪ ,‬و التقليدية‪ .‬إن مصطلح األنثروبولوجيا التطبيقية‪ ,‬حديث نسبيا‪ ,‬استخدمه ألول مرة‪ ,‬راد‬
‫كليف براون ‪Rad Cliffe Brown‬في مقال له بعنوان " األنثروبولوجيا التطبيقية " عام ‪,1930‬‬
‫وكان المصطلح الشائع قبله " األ نثروبولوجيا العملية ‪."Pratical Anthropology‬‬
‫يعرفها د‪.‬حسن شحاته سعفان بأنها‪ ":‬العلم الذي يبين كيف يمكن االستفادة من علوم‬
‫ّ‬
‫األ نثروبولوجيا النظرية‪ ,‬في إدارة المجتمعات البدائية‪ ,‬و تربيتها‪ ,‬و النهوض بها و تطويرها‪ ,‬و في‬
‫النهوض بوسائل رفاهيتها فهو – مثال‪ -‬يشترك في وضع خطة للتعليم‪ ,‬في مثل تلك المجتمعات‪,‬‬
‫أو خطة لتهيئة مجتمع ما للحكم الذاتي‪ ,‬و كذلك الخطط االقتصادية‪ ,‬و التغير الديني إلى آخر‬
‫ذلك"(‪ .)13‬ندرك من خالل هذا التعريف‪ ,‬أن األنثروبولوجيا التطبيقية‪ ,‬أداة للتعرف على أفضل‬
‫الطرق‪ ,‬وأنجع األساليب لتنمية المجتمعات الضعيفة‪ ,‬في شتى مجاالت الحياة االجتماعية‪ ,‬و ذلك‬
‫باالعتماد على نظريات الفروع األنثروبولوجية األخرى‪ ,‬فيما يخص المجتمعات المراد إصالحها‪,‬‬
‫حيث يتم إشراك أفراد هذه المجتمعات‪ ,‬و توجيههم بما يخدم المجتمعات القوية و المهيمنة عليهم‪,‬‬
‫السيما إذا كانت المجتمعات المهيمن عليها‪ ,‬ضمن مستعمرات المجتمعات القوية‪.‬‬
‫و يرجع ظهور هذا الفرع من األنثروبولوجيا‪ ,‬إلى رغبة بعض الحكومات االستعمارية‪ ,‬في‬
‫حكم الشعوب و القبائل الخاضعة لها‪ ,‬بطريقة ال تتعارض مع القيم التقليدية المتوارثة‪ .‬و كانت‬
‫بريطانيا أول دولة استعمارية‪ ,‬استعانت باألنثروبولوجيين‪ ,‬في دراسة األنساق االجتماعية‪ ,‬و النظم‬
‫للتعرف على أفضل الطرق‬
‫و القيم السائدة في مستعمراتها‪ ,‬في فترة ما بين الحربين العالميتين‪ّ ,‬‬
‫والوسائل‪ ,‬لتوجيه خططها‪ ,‬و وضع مشروعاتها الخاصة‪ ,‬و الستغالل الثروة القومية لهذه‬
‫المستعمرات‪ .‬نفهم من ذلك أن الغرض من األنثروبولوجية التطبيقية‪ -‬ظاهريا‪ -‬هو اإلصالح‬
‫والتنمية‪ ,‬غير أنه يستخدم ألغراض استعمارية‪ ,‬هدفها األساسي الهيمنة على المستعمرات‪ ,‬من‬
‫خال ل التعرف على بناءاتها االجتماعية و الثقافية‪ ,‬حتى يسهل التحكم فيها‪ ,‬و بالتالي االستفادة‬
‫من ثرواتها‪ ,‬بشكل غير مباشر‪ ,‬و عن طريق أفرادها (مواطنيها أو أهاليها)(‪.)14‬‬
‫و قد زاد اهتمام المسؤولين عن وضع سياسات التنمية و التخطيط‪,‬في كثير من‬
‫المجتمعات النامية‪ ,‬باألنثروبولوجيا التطبيقية‪ ,‬خاصة السنوات األخيرة‪ ,‬نتيجة ازدياد اقتناعهم‪ ,‬بأن‬
‫مشكالت التنمية‪ ,‬ليست اقتصادية أو تكنولوجية فحسب‪ ,‬و إنما هي في جوهرها مشكالت‬
‫اجتماعية‪ ,‬و أن إغفال النواحي االجتماعية‪ ,‬كثي ار ما يؤدي إلى إخفاق المشروعات التنموية‪ ,‬و في‬

‫وسع األنثروبولوجيون‪ ,‬أن ّ‬


‫يبصروا أفراد المجتمع‪ ,‬بما لهذه المشروعات من مزايا (‪ .)15‬و بالتالي‪,‬‬
‫تعد األنثروبولوجيا التطبيقية العلم الذي يستعين به رجال السياسة و العلماء‪ ,‬عندما يريدون‬
‫إصالح المجتمعات البدائية‪ ,‬و تطويرها في النواحي االجتماعية المختلفة‪ ,‬كإصالح النظم‬
‫التعليمية‪ ,‬القضائية‪ ,‬و الوسائل التكنولوجية في الزراعة‪ ,‬و الشؤون االقتصادية عامة‪ .‬و قد تطور‬
‫هذا الفرع كثيرا‪ ,‬خاصة منذ الحرب العالمية الثانية‪ ,‬وتنوعت مجاالته‪ ,‬بتطور أقسام األنثروبولوجيا‬
‫و فروعها‪ ,‬إذ أنه يمثل الجانب التطبيقي لهذه األقسام و الفروع‪ ,‬و ال يعد فرعا مستقال عنها‪ ,‬وانما‬
‫هو األداة الرئيسية‪ ,‬لتطبيق نتائج بحوث كل فروع األنثروبولوجيا‪ ,‬و التي تجد طموحاتها لخدمة‬
‫اإلنسان و المجتمع‪.‬‬
‫إن الدراسات األنثروبولوجية (على المستوى االقتصادي) تفيد من ناحية تطور تكنولوجيا‬
‫وسائل اإلنتاج‪ ,‬حيث كشفت أن العامل البشري‪ ,‬هو األساس الذي يسمح برفع المستوى المادي‪,‬‬
‫واالقتصادي للمشروع‪ .‬و بهذا تسهم األنثروبولوجيا التطبيقية‪ ,‬في أنها تسهل على رجال األعمال‪,‬‬
‫و أصحاب رؤوس المال المستثمرة‪ ,‬الحصول على أصلح العمال‪ ,‬و أكثرهم مالءمة للنواحي‬
‫اإلنتاجية‪ ,‬بأقل تكلفة‪ ,‬و بأدنى اجر‪ .‬كما تفيد األنثروبولوجيا التطبيقية أيضا‪ ,‬في مجال تسويق‬
‫السلع المصنعة‪ ,‬بحيث تتعرف من خالل دراسات األنثروبولوجيا الثقافية مثال‪ ,‬عن نوعية األكل‬
‫أواللباس‪ ,‬الذي يمكن تسويقه إلى هذه المجتمعات‪ ,‬حيث يتم تسويق األرز إلى المجتمعات التي‬
‫تستهلك األرز‪ ,‬أو تلك التي يمثل غذاءها األساسي أو التقليدي‪ .‬كذلك األمر بالنسبة لنوعية‬
‫األقمشة‪ ,‬فقد يمثل الصوف أو القطن أو الحرير‪ ,‬احد األنواع المفضلة لدى بعض المجتمعات‪,‬‬
‫الستخدامها في صناعة اللباس التقليدي لها‪ .‬و هو ما يمكن أن نقيس عليه المنتجات األخرى‪.‬‬
‫لقد كشفت األبحاث األنثروبولوجية‪ ,‬أن الجماعات البشرية‪ ,‬تخضع ألنماط معينة من‬
‫الثقافات‪ ,‬تجعل سلوك هذه الجماعات‪ ,‬متمي از بصفات معينة‪ ,‬قد تتعارض و األسس االقتصادية‪,‬‬
‫و من أمثلة ذلك‪ ,‬نذكر‪ :‬في جزر تروبرياند قد يرفض المواطنون الغوص‪ ,‬من اجل أصداف‬
‫اللؤلؤ‪ ,‬التي يدفع فيها التجار مبالغ كبيرة‪ ,‬و لكن هؤالء يفضلون الخروج في حملة صيد‪ ,‬من اجل‬
‫القبيلة‪ ,‬و قد ال يكسبون منها إال قليال جدا‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬في شرق جنوب إفريقيا‪ ,‬تكون حراسة القطعان‪ ,‬جزءا من الحياة القبلية‪ ,‬حيث يجد‬
‫سكان هذه المنطقة‪ ,‬أن هذا العمل هو اشرف األعمال‪ ,‬و لذلك يرفضون مزاولة أي عمل آخر‬
‫سواه‪ ,‬ألنهم يعتبرونه حقيرا‪ ,‬بالنسبة إلى الرعي‪ ,‬مهما كانت األجور مغرية‪.‬‬
‫هذا‪ ,‬و يستفيد من دراسات األ نثروبولوجيا التطبيقية‪ ,‬العديد من العلوم‪ ,‬مثل‪ :‬علم االجتماع‪,‬‬
‫االقتصاد‪ ,‬الدين‪ ,‬علم اللغة و السياسة‪.‬‬
‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬أصول علم اإلنسان‪ -‬الجزء األول‪ ,‬دار المعرفة الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪,‬‬
‫‪ ,2007‬ص ص ‪( 25-23‬بتصرف)‬
‫‪ -2‬إبراهيم مذكور وآخرون‪ ,‬معجم العلوم االجتماعية‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ,1975 ,‬ص‪151‬‬
‫‪ -3‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬األنثروبولوجيا في المجالين النظري و التطبيقي‪ ,‬دار المعرفة‬
‫الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪ ,‬ط‪ ,2009 ,2‬ص ‪58‬‬
‫‪ -4‬فاروق إسماعيل‪ ,‬التغير و التنمية في المجتمع الصحراوي‪ -‬دراسة أنثروبولوجية في منطقة‬
‫مريوط‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ,1980 ,‬ص ص ‪28-27‬‬
‫‪ -5‬احمد بن نعمان‪ ,‬نفسية الشعب الجزائري‪ ,‬شركة دار األمة – برج الكيفان‪ ,‬الطبعة الثانية‪,1997 ,‬‬
‫ص ‪23‬‬
‫‪ -6‬محمد احمد بيومي‪ ,‬المجتمع و الثقافة و الشخصية (دراسة في علم االجتماع الثقافي)‪ ,‬دار‬
‫المعرفة الجامعية‪-‬اإلسكندرية‪ ,1986 ,‬ص ‪76‬‬
‫‪ -7‬احمد أبو زيد‪ ,‬البناء االجتماعي‪ -‬مدخل لدراسة المجتمع‪ ,‬الجزء األول المفهومات‪ ,‬الدار القومية‬
‫للطباعة و النشر‪ -‬اإلسكندرية‪ ,1965 ,‬ص ‪185‬‬
‫‪ -8‬محمد احمد بيومي‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪79‬‬
‫‪ -9‬قباري محمد إسماعيل‪ ,‬األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬منشأة المعارف‪ -‬اإلسكندرية‪ ,1971 ,‬ص‪12‬‬

‫‪-10‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪26‬‬

‫‪ -11‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ‪27‬‬


‫‪ -12‬محمد عبده محجوب‪ ,‬مقدمة في االتجاه السوسيو أنثروبولوجي‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪-‬‬
‫اإلسكندرية‪ ,1977 ,‬ص ص ‪53 -51‬‬
‫‪-13‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪69‬‬

‫‪ -14‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪72‬‬

‫‪ -15‬المرجع نفسه‬
‫احملـ ـ ـ ـ ــاضرة اخلامس ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫االجت ـ ــاهات النظري ـ ـ ـ ــة الكب ـ ـ ـ ــرى‬

‫يف احلقل األنثروبولـ ـ ـ ـ ــوجي‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫لقد تعددت اإلتجاهات النظرية‪ ,‬و التيارات الفكرية‪ ,‬التي أثرت على الحقل األنثروبولوجي‪ ,‬وعلى‬
‫مختلف الحقول المعرفية األخرى ‪ ,‬بما فيها حقل العلوم االجتماعية‪ ,‬حيث عملت على توجيه الفكر‬
‫األ نثروبولوجي‪ ,‬و تنوعه‪ ,‬و بالتالي تفيئته إلى عدة مدارس‪ ,‬كان لها دورها في تفسير الظواهر‬
‫االجتماعية‪ ,‬و مختلف األنماط الثقافية‪ ,‬السائدة في المجتمعات‪ .‬و نحن في هذه المحاضرة‪ ,‬سوف‬
‫نستعرض سويا‪ ,‬مجموعة من أهم هذه اإلتجاهات النظرية‪ ,‬التي و رغم تعددها و اختالفها‪ ,‬فإنها‬
‫تستهدف جميعا‪ ,‬دراسة و فهم اإلنسان‪ ,‬في ماضيه و حاضره‪ ,‬من منظور كلي‪.‬‬

‫‪ -1‬اإلتجاه النظري التطوري ( النظرية التطورية )‪:Evolutionism‬‬

‫يدل اصطالح التطور ‪Evolution‬على الحركة الطبيعية‪ ,‬التي تنتج تغيرا‪ ,‬أو تؤدي إلى نوع جديد‪,‬‬
‫و بمعنى أدق‪ ,‬يدل على عملية التغير المتصلة‪ ,‬التي يخرج من خاللها شيء جديد‪ ,‬دون أي مساس‬
‫بهوية الوحدة األصلية و فرديتها‪ ,‬و في معناه الضيق‪ ,‬يدل على التطور العضوي‪ ,‬و هو تفاعل‬
‫الكائن الحي‪ ,‬مع بيئته الطبيعية(‪ .)1‬و قد ارتبط هذا المصطلح باسم دارون‪Darwin‬الذي صاغ نظرية‬
‫التطور‪ ,‬و أحلها محل االقتناع القديم‪ ,‬بثبات األنواع‪ ,‬الذي دعمته العقيدة الدينية‪ ,‬عن خلق الكون‪,‬‬
‫ولذلك يصطلح البعض على تسميتها‪ ,‬بالنظرية الداروينية نسبة إلى صاحبها‪ .‬علما أن التطورية هي‬
‫احد االتجاهات النظرية الكبرى‪ ,‬التي برزت بقوة في القرن ‪.19‬‬

‫‪ -1-1‬تاريخ النظرية التطورية‪:‬‬

‫إن فكرة التطور ترجع إلى ‪ 2500‬سنة قبل زمن دارون‪ ,‬و هو ما تؤكده كتابات فلسفية و فكرية‪,‬‬
‫تعود إلى أزمنة قديمة و متفاوتة‪ .‬إن أرسطو اعتقد أن األشكال الجديدة للحياة‪ ,‬ظهرت بعد األشكال‬
‫القديمة‪ ,‬بمعنى أن األشكال الجديدة‪ ,‬هي نتاج تطور األشكال القديمة‪ ,‬فاألشكال الجديدة إذن‪ ,‬لم تنشأ‬
‫كما هي عليه‪ ,‬من مواصفات أو خصائص‪ .‬كما تأثر المفسرون األوائل للتوراة‪ ,‬بأفكار أرسطو‪ ,‬و قالوا‬
‫بإمكانية ظهور أنواع جديدة‪ ,‬تنبثق عن األنواع األولى‪ ,‬التي خلقها هللا‪ .‬و اعتقد رجال الدين المسيحي‪,‬‬
‫أن كل شكل من أشكال الحياة‪ ,‬قد تشكل من خالل عملية الخلق األصلية‪ .‬لكن لم يثبت تاريخيا أن‬
‫علماء الدين اإلسالمي‪ ,‬قد آمنوا أو أيدوا النظرية التطورية‪ ,‬ألن اآليات القرآنية الكريمة‪ ,‬تتضمن في‬
‫مجملها‪ ,‬تأكيدا حول قدرة هللا‪ ,‬في خلق أنواع و أشكال من الكائنات الحية‪ ,‬ال عالقة لها ببعضها‪ ,‬وأن‬
‫اإلختالف هو سنة هللا في خلقه‪ .‬علما أن كلمة تطور لم تذكر البتة في النصوص الشرعية‪ ,‬وعليه لم‬
‫تلق النظرية التطورية‪ ,‬اإلنتشار والقبول أو التأييد‪ ,‬بين العلماء المسلمين‪ ,‬على اختالف تخصصاتهم‬
‫العلمية‪.‬‬

‫إراسموس‬ ‫مع‬ ‫‪,16‬‬ ‫القرن‬ ‫إلى‬ ‫التطورية‬ ‫النظرية‬ ‫بدايات‬ ‫آخرون‪,‬‬ ‫يرجع‬ ‫بينما‬
‫داروين‪ )1802-1731(E.Darwin‬و هو جد تشارلز دارون مؤسس نظرية التطور الحديثة‪ ,‬و قدم‬
‫إراسموس داروين نظريته باالشتراك مع العالم الفرنسي كومت دي فون(‪ )1707-1788‬و التي‬
‫مؤداها أن " األحياء تكتسب صفات معينة خالل تكيفها مع الطبيعة‪ ,‬و تنتقل هذه الصفات إلى‬
‫األجيال‪ ,‬عن طريق الوراثة‪ ,‬فقد تكتسب مثال بعض الحيوانات المتعرضة للصدمات و الجروح‪ ,‬جلودا‬
‫تشبه الدرع‪ ,‬ثم تنتقل إلى أنسالها" (‪.)2‬‬

‫هناك كذلك نظرية المارك‪ )1829-1744(Lamarck‬و هي نظرية مماثلة للنظرية السابقة‪,‬‬


‫ولكنها تختلف عنها بفارق بسيط‪ ,‬و هو أن المارك اعتبر "حاجات" الكائن الحي‪ ,‬هي العامل األساسي‬
‫للتطور‪ .‬مثال‪ :‬استطال عنق الزرافة‪ ,‬بعد دوام محاولتها‪ ,‬الوصول إلى أوراق األشجار العالية‪ .‬و‬
‫تكيفت أقدام البط بشكلها المعروف‪ ,‬بعد دوام سباحتها في المياه‪ .‬و بالمقابل تضمر األعضاء‪ ,‬التي ال‬
‫تستعملها األحياء‪ ,‬و ال تشعر بالحاجة إليها (‪ .)3‬إال أن معالم و براهين و أسس تلك النظرية‪ ,‬قد‬
‫اكتملت في عرض تشارلز داروين لها‪.‬‬

‫كان تشارلز داروين (‪ )1809-1882‬متخصصا في البيولوجيا و الطب‪ ,‬نشر كتابا له بعنوان‬


‫"أصل األنواع ‪ "Origins of species‬عام ‪ ,1859‬و آخر عن "ساللة النسان ‪The Descent of‬‬

‫‪"man‬عام‪.1871‬و تفترض نظرية داروين أن كل أشكال الحياة‪ ,‬لم تخلق خلقا متخصصا لكل نوع‪,‬‬
‫و إنما يرتبط بعضها ببعض‪ ,‬فالجنس البشري تطور تطو ار بطيئا‪ ,‬من التنظيمات الحيوانية الدنيا‪ ,‬و‬
‫ينتج عن ذلك التكيف مع البيئة الطبيعية‪ ,‬وعلى ذلك فإن أشكال الحياة تمثل وحدة توضع تحت قانون‬
‫التطور‪ .‬و اعتمد داروين‪ ,‬على المالحظة المباشرة للحقائق (الكائنات الحية كما هي في الطبيعة)‪.‬‬
‫وقد اثر كتاب داروين تأثي ار كبيرا‪ ,‬في علوم البيولوجيا‪ ,‬علم النفس‪ ,‬والعلوم االجتماعية بشكل عام‪ ,‬بل‬
‫و الموسيقى خالل ‪ 50‬سنة التي تلت نشره‪.‬‬

‫‪ -1-2‬اثر النظرية التطورية في الحقل األ نثروبولوجي‪:‬‬

‫ظهر االتجاه النظري التطوري‪ ,‬في الحقل األنثروبولوجي‪ ,‬في القرن ‪ ,19‬حيث استعار علماء‬
‫األنثروبولوجيا المفهوم البيولوجي للتطور‪ ,‬و أسقطوه على المجتمع اإلنساني‪ ,‬و اعتبروا أن السير‬
‫الرتيب للمجتمع‪ ,‬ال يمكن أن يكون اعتباطيا‪ ,‬أو خاضعا للمسيرات الفردية أو األهواء أو المصادفات‪,‬‬
‫و لكنه يقع في مراحل متعاقبة‪ ,‬ينظمها قانون واحد هو التطور‪ ,‬و بذلك ظهرت نظرية التطور‬
‫االجتماعي‪ ,‬في حقل العلوم االجتماعية‪ ,‬و أثرت فيه بقوة‪ ,‬السيما الحقل السوسيولوجي‪ ,‬و كذلك‬
‫األنثروبولوجي‪ ,‬و ماثلت بين المجتمع و الكائن الحي في نموه‪ ,‬الذي يكون عبر مراحل محددة‪.‬‬

‫يهتم االتجاه التطوري في األنثروبولوجيا‪ ,‬بدراسة األصول ‪ Origins‬و تخمين البدايات األولى‬
‫للنظم‪ ,‬مثل‪ :‬أصل الدين‪ ,‬أصل اللغة‪ ,‬أصل القانون‪ ,..‬أي أنها تعالج مشكالت األصول‪ ,‬التي صدرت‬
‫عنها النظم االجتماعية‪ .‬كما يهتم بالدراسة التتابعية ‪Genetic study‬إذ يحاول هذا االتجاه‪ ,‬تتبع‬
‫نشأة الظواهر االجتماعية‪ ,‬و تغيرها من حاالت بدائية ساذجة و بسيطة‪ ,‬إلى أخرى معقدة و أكثر‬
‫تركيبا‪ ,‬و من حالة التجانس إلى التباين‪ ,‬و إيجاد العلل و األسباب‪ ,‬التي توضح لنا كيف يحدث‬
‫التغير في النظم‪ .‬حيث أكد بعض العلماء على سبيل المثال‪ ,‬أن تطور األسرة كان وفق المراحل‬
‫المتتالية‪:‬‬

‫األسرة الزواجية الصغيرة‬ ‫األسرة األبوية‬ ‫األسرة األمومية‬ ‫اإلباحية الجنسية‬

‫كما يرى أصحاب هذا اإلتجاه‪ ,‬أن النظام اإلقتصادي للمجتمعات‪ ,‬يمر عبر المراحل المتتالية‪:‬‬

‫الصناعة‬ ‫الزراعة‬ ‫الصيد و رعي الماشية‬ ‫جمع الطعام‬

‫و أن التكنولوجيا‪ ,‬شهدت عصو ار ثالثة‪ ,‬تعبر عن مراحل تطورها‪ ,‬و انتقالها من مرحلة إلى أخرى‪,‬‬
‫وهي على التوالي‪:‬‬

‫العصر الحديدي‬ ‫العصر البرونزي‬ ‫العصر الحجري‬

‫‪ -1-3‬أهم رواد نظرية التطور االجتماعي في االنثروبولوجيا‪:‬‬

‫يعد لويس هنري مورجان‪ )1881-1818( L.H.Morgan‬من أوائل األنثروبولوجيين األمريكيين‪,‬‬


‫الذين تأثروا بهذا االتجاه النظري‪ ,‬و صاغوا نظريات حوله‪ .‬عمل مورجان في البدء محاميا‪ ,‬ثم تحول‬
‫إلى مختص في ال ثنولوجيا ‪ , Ethnologist‬و لعل أهم كتبه‪ ,‬التي عكست التطور في مفهومه‪ ,‬الذي‬
‫كان سائدا في القرن ‪ ,19‬كتابه " المجتمع القديم‪ "Ancient society‬عام ‪ ,1877‬الذي كان يحاول‬
‫من خالله تتبع المراحل التي مرت بها اإلنسانية‪ ,‬وهي على التوالي‪:‬‬

‫المرحلة األولى‪ :‬الوحشية أو الهمجية ‪Savagery‬‬


‫المرحلة الثانية‪ :‬البربرية ‪Barbarism‬‬

‫المرحلة الثالثة‪ :‬الحضارة أو المدنية ‪Civilization‬‬

‫قسم مورجان كل من المرحلة األولى و الثانية‪ ,‬إلى ثالثة مراحل فرعية‪ ,‬و تتولد كل مرحلة من هذه‬
‫و ّ‬
‫المراحل العامة و الفرعية‪ ,‬بواسطة اختراع تكنولوجي عظيم‪ .‬الحظ الشكل الموالي‪:‬‬

‫تطور المجتمعات‬

‫البربرية الحضارة‬ ‫الوحشية‬

‫تمثلها الحضارة األوروبية‬ ‫‪-1‬البربرية الدنيا‪:‬‬ ‫‪ -1‬الوحشية الدنيا‪:‬‬


‫واألمريكية‬
‫يمثلها هنود األركواي‬ ‫(ماقبل اكتشاف النار‬
‫(بداية استخدام الكتابة)‬ ‫(مرحلة صنع الفخار)‬ ‫و اختراع الكتابة)‬

‫‪-2‬البربرية الوسطى‪ :‬يمثلها هنود‬ ‫‪-2‬الوحشية الوسطى‪:‬‬

‫‪ Zuni‬و هنود ‪Hopi‬‬ ‫يمثلها سكان استراليا األصليين‬

‫(ترويض الحيوانات وزراعة النباتات)‬ ‫(تميزت بصيد السمك‪ ,‬استخدام النار‬

‫‪-3‬البربرية العليا‪:‬‬ ‫ظهور اللغة)‬

‫يمثلها اليونانيون القدامى‬ ‫‪-3‬الوحشية العليا‪:‬‬

‫(مرحلة استخدام الحديد)‬ ‫يمثلها سكان بولينيزيا‬

‫(مرحلة استخدام القوس والسهام‬

‫في قنص الحيوانات)‬

‫الشكل رقم (‪ )05‬يمثل تطور المجتمعات حسب لويس هنري مورجان‬


‫هذا‪ ,‬و يرى مورجان أن التقدم التكنولوجي‪ ,‬يؤدي إلى حدوث تغيرات جوهرية‪ ,‬في النظم االجتماعية‬
‫السائدة‪ ,‬مثل‪ :‬العائلة‪ ,‬نظام الملكية‪ ,‬الحكومة‪ .‬علما أن مورجان‪ ,‬ألف كتابا آخر قبل كتابه "المجتمع‬
‫القديم"‪ ,‬يحمل عنوان‪":‬انساق روابط الدم و المصاهرة في العائلة النسانية ‪System ofconsonguinity‬‬

‫‪ "and affinity of human familly‬عام ‪ ,1871‬تناول فيه إعادة تركيب كل تاريخ الزواج و العائلة‪,‬‬
‫وبين أن كليهما‪ ,‬تطور من الحالة األصلية للجنسية الجماعية (إباحة جنسية) إلى األسرة األمومية‪ ,‬ثم‬
‫ّ‬
‫األسرة األبوية‪ ,‬إلى المدنية حيث الزواج األحادي ‪.Monogamy‬‬

‫لويس هنري مورجان‪)1881-1818(L.H.Morgan‬‬

‫‪ -1-4‬ال نتقادات الموجهة إلى النظرية التطورية‪:‬‬

‫وجهت جملة من االنتقادات إلى النظرية التطورية‪ ,‬تبرز عيوبها و نقائصها‪ ,‬و فيما يلي سوف‬
‫ّ‬
‫نلخص أهمها‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪ ‬تبين لعلماء التاريخ‪ ,‬و آثار ما قبل التاريخ‪ ,‬أن ثمة مجتمعات تقدمت‪ ,‬و قطعت شوطا بعيدا‬
‫في التقدم‪ ,‬من دون أن تمر بتلك المراحل المفترضة عند التطوريون‪ ,‬زد على ذلك‪ ,‬تجاهل هذه‬
‫النظرية‪ ,‬للتنوعات الهائلة للثقافات المختلفة‪ ,‬فال يمكن بأي حال أن نرسم خطا‪ ,‬و ندعي أن‬
‫كل المجتمعات‪ ,‬قد عبرته‪ ,‬فبعض الثقافات‪ ,‬قد اندثرت‪ ,‬و بعضها اآلخر تقدم‪ ,‬و بذلك فالتتابع‬
‫غير حتمي‪.‬‬
‫‪ ‬اعتماد التطوريون على معلومات غير دقيقة‪ ,‬جمعها الرحالة و المبشرون و التجار‪ ,‬إلى جانب‬
‫االعتماد على التاريخ الظني و التخميني‪ ,‬حيث لم يقدموا األسانيد و التفسيرات‪ ,‬التي تدعم‬
‫أفكارهم حول التطور المتوازي للثقافات‪ ,‬و المرتبطة بالتقدم الحتمي‪ .‬إذ نجد مجتمعا مثل‬
‫االسكيمو في أالسكا‪ ,‬قد انتقل من مرحلة الصيد‪ ,‬إلى الزراعة المنظمة‪ ,‬على نحو غير مماثل‬
‫لمجتمعات الشرق األوسط‪ ,‬أو مصر مثال‪ .‬و زيادة على ذلك‪ ,‬افتقار هذه النظرية إلى‬
‫األسانيد‪ ,‬التي تثبتها‪ ,‬نظ ار لكون أصحاب هذه النظريات‪ ,‬لم يقوموا بالدراسات الميدانية‪,‬‬
‫الختبار نظرياتهم هذه‪.‬‬
‫‪ ‬كشف األستاذ راد كليف براون‪ ,‬عن نقطة الضعف الشديد في دراسة جنود‪M.Junod‬التي‬
‫اقتصر فيها‪ ,‬على جمع المعلومات المؤيدة لنظريته التاريخية‪ ,‬حول الخال في مجتمع التونجا‪,‬‬
‫حيث قال أن الخال مسيطر تماما على توجيه‪ ,‬و حماية ابن األخت‪ ,‬و يقدم القرابين‬
‫واألضاحي‪ ,‬إلى اآللهة حين يمرض طلبا للشفاء‪ ,‬إضافة إلى أن ابن األخت يطالب ببعض‬
‫تركات خاله‪ ,‬ما جعل جنوديتمسك بنظرية تطور المجتمعات األمومية‪ ,‬و أسبقيتها على‬
‫المجتمعات األبوية‪ .‬في حين وجد براون أن تلك المظاهر في التونجا‪ ,‬التي يتخذها الخال تجاه‬
‫ابن األخت‪ ,‬توجد أيضا في مجتمعات أبوية بحتة‪ ,‬مثل مجتمع باتونجا ‪,Bathonga‬‬
‫الناما‪ ,Nama‬في بولينيزيا ‪ ,Polynesia‬و في جزر فيجي‪ ,‬ففي كل هذه المجتمعات‪ ,‬نجد‬
‫الشواهد و العادات نفسها‪ ,‬التي تدور حول الخال‪ ,‬على الرغم من أنها مجتمعات ينتسب فيها‬
‫الطفل‪ ,‬إلى زمرة أبيه‪ ,‬ال إلى عشيرة أمه‪ ,‬كما تورث فيها الملكية في خط الذكور(‪.)3‬‬

‫‪ -2‬ال تجاه النظري ال نتشاري ( النظرية ال نتشارية )‪:Diffusionism‬‬

‫برز اإلتجاه النظري اإلنتشاري‪ ,‬أو ما يعرف كذلك باالنتشار الثقافي‪ ,‬في القرن ‪ ,19‬كرد فعل لالتجاه‬
‫التاريخي التطوري‪ ,‬حيث انتقد اإلنتشاريون بشدة‪ ,‬ما تم طرحه‪ ,‬في إطار نظرية التطور االجتماعي‪,‬‬
‫مبرزين جوانب الضعف و القصور فيها‪ ,‬قائلين‪ " :‬إذا كان التطوريون يعتقدون‪ ,‬أن الثقافة تتطور ذاتيا‪,‬‬
‫وأن المجتمع البشري‪ ,‬ينتقل من مرحلة بسيطة‪ ,‬إلى أخرى معقدة‪ ,‬وأكثر تقدما‪ ,‬بمجرد توفر العوامل‬
‫والشروط الكافية‪ ,‬لظهور المرحلة الحديثة‪ .‬فإن الحقيقة‪ -‬يؤكد اإلنتشاريون‪ -‬تتمثل في انتشار السمات‬
‫الثقافية‪ ,‬بين المجتمعات المتباعدة‪ ,‬أو القريبة‪ ,‬التي تساعد على تهيئة الشروط الكفيلة‪ ,‬إلحداث التغير‬
‫الثقافي‪ ,‬أو االنتقال من مرحلة إلى أخرى"‪ .‬و من ثم فقد ابرزوا أهمية ال تصال الثقافي‪Cultural contact‬‬

‫أو التفاعل بين الجماعات االجتماعية‪ ,‬و بالتالي انتقال السمات الثقافية‪ ,‬من مجتمع إلى آخر‪.‬‬
‫و بناءا على ذلك‪ ,‬فإن تماثل النظم االجتماعية‪ ,‬و العادات في المجتمعات المختلفة‪ ,‬ال ينشأ عن‬
‫النمو التلقائي‪ ,‬الناتج عن اإلمكانيات االجتماعية و الطبيعية لإلنسان‪ ,‬و إنما توصل إليها مجتمع واحد في‬
‫مكان معين‪ ,‬و في فترة زمنية من تاريخيه‪ ,‬ثم انتقلت بعد ذلك‪ ,‬كل أو بعض سماته الثقافية‪ ,‬إلى‬
‫المجتمعات األخرى‪ .‬و مع ذلك فإن كال المدرستين التطورية و االنتشارية‪ ,‬تهتم بالماضي‪ ,‬بحيث عند‬
‫دراستهما للنظم تقومان بتتبع تاريخها‪.‬‬

‫‪ -2-1‬المبدأ األساسي للنظرية ال نتشارية ‪ /‬نظرية ال نتشار الثقافي‪:‬‬

‫إن المبدأ األساسي‪ ,‬الذي تقوم عليه معظم نظريات اإلنتشار الثقافي‪ ,‬هو إذا تساوت كل الظروف‬
‫االجتماعية‪ ,‬فإن عناصر الثقافة‪ ,‬ستتبناها أو تستعيرها أوال‪ ,‬تلك المجتمعات القريبة من منابعها أو‬
‫مصادرها األصلية‪ ,‬ثم تتبناها المجتمعات األبعد‪ ,‬أو المجتمعات التي يكون احتكاكها المباشر بالمنبع‬
‫األصلي‪ ,‬اضعف منه في حالة المجتمعات األخرى‪ .‬و يستند هذا المبدأ‪ ,‬إلى الحقيقة الواضحة التالية‪,‬‬
‫وهي أن انتشار أي سمة ثقافية‪ ,‬يتطلب وجود عاملين معا‪ ,‬هما‪ :‬الحتكاك و الوقت (‪.)4‬‬

‫إذا افترضنا أن هناك ثالثة قبائل‪ ,‬هي‪":‬أ"‪" ,‬ب"‪" ,‬ج"‪ .‬بحيث أن القبيلة "ب" تتوسط القبيلتين "أ" و "ج"‪,‬‬
‫يعني هذا أن القبيلة "ب"‪ ,‬تحول دون احتكاك مباشر بينهما‪ ,‬في حين أنها األقرب من القبيلة "أ"‪ ,‬التي لو‬
‫افترضنا أن بعض السمات الثقافية‪ ,‬تنتشر لعوامل معينة (هجرة أو تجارة‪ )..‬من القبيلة "أ" إلى"ب"‪ ,‬فإن‬
‫القبيلة "ج"‪ ,‬سوف تحتاج مزيدا من الوقت‪ ,‬حتى يقع اإلحتكاك‪ ,‬أو لنقل تنتقل إليها‪ ,‬سمات القبيلة "أ"‪,‬‬
‫والعكس صحيح بالنسبة إلى القبيلة "ج"‪ ,‬و احتكاكها بالقبيلة "أ"‪ ,‬و بذلك نتوصل إلى أن القبيلتين‪:‬‬

‫"أ" و "ب" يتم بينهما احتكاك مباشر‪ ,‬و بالتالي وقت أقصر النتشار السمة الثقافية‪.‬‬

‫"أ" و "ج" يتم بينهما احتكاك غير مباشر‪ ,‬و بالتالي وقت أطولإلنتشار السمة الثقافية‪.‬‬

‫للتوضيح‪ ,‬الحظ الشكل الموالي‪:‬‬


‫انتشارالسمات الثقافية‬

‫القبيلة "ج"‬ ‫القبيلة "ب"‬ ‫القبيلة "أ"‬

‫الوقت‪ /‬المدة الزمنية ‪.......................‬‬

‫الشكل رقم (‪ )06‬يوضح طريقة انتشار السمات الثقافية‬

‫و بطبيعة الحال‪ ,‬فإن هذا النموذج المقدم يمكن إسقاطه في الواقع‪ ,‬كأن نعوض القبائل اإلفتراضية‬
‫"أ"‪",‬ب"‪",‬ج"‪ ,‬بمجتمعات حقيقية‪ ,‬لتكن مثال‪ :‬مصر‪ ,‬تونس‪ ,‬الجزائر‪ .‬و التدخين بالشيشة‪ ,‬التي نجدها‬
‫منتشرة بكثرة في مصر‪ ,‬في تونس مستعملة بشكل اقل‪ ,‬فيما تقل عنهما في الجزائر‪ .‬وسوف يتضح ذلك‬
‫أكثر‪ ,‬إذا تمت اإلستعانة بخريطة‪ ,‬لتحديد نوعية اإلحتكاك (مباشر‪ /‬غير مباشر) و من ثم الوقت الذي قد‬
‫يستغرقه‪ ,‬انتشار أي سمة ثقافية‪.‬و يمكن أن نضرب مثاال‪ ,‬حول انتشار السمات الثقافية‪ ,‬بين جماعتين أو‬
‫قبيلتينمتجاورتين‪ ,‬عن أقزام إفريقيا االستوائية‪ ,‬الذين يطلق عليهم تسمية ‪ ,Negrillos‬و هم يعيشون في‬
‫شمال شرق حوض الكونغو‪ ,‬قرب منابع نهري النيل و الكونغو‪ ,‬و جنوب شرق الكونغو‪ ,‬و شمال زامبيا‪ .‬و‬
‫يعتبر أقزام إفريقيا بقايا السالالت الزنجية(‪ .)5‬كان هؤالء األقزام من قبل عراة كليا‪ ,‬حتى النساء أيضا‪ ,‬لكن‬
‫بعد احتكاكهم واختالطهم بقبائل البانتو‪ ,‬لمدة زمنية‪ ,‬قلّدوهم في بعض سماتهم الثقافية‪ ,‬ببرد أسنانهم‪ ,‬و‬
‫خزم أنوفهم‪ ,‬و شفاههم‪ ,‬لوضع قطعة أو حلقة من الحديد‪ ,‬و أصبح األقزام يرتدون بعض األلبسة‪,‬‬
‫المصنوعة من أغصان و أوراق األشجار‪ ,‬أو من جلود بعض الحيوانات‪ ,‬و ذلك كغطاء للعورة فقط‪.‬‬

‫‪ -2-2‬مدارس ال نتشار الثقافي‪:‬‬

‫إن االتجاه النظري اإلنتشاري‪ ,‬قد عرف منذ ظهوره في القرن ‪ ,19‬ثالثة مدارس رئيسية‪ ,‬نوردها على‬
‫التوالي‪:‬‬

‫‪ ‬المدرسة البريطانية‪:‬‬

‫يمثلها إليوت سميث ‪ ,)1931-1871( E. Smith‬و تلميذه وليام بيري‪ ,W.Berry‬و كذلك‬
‫ريفرز‪ ,W.Rivers‬وترى أن هناك مرك از رئيسيا للحضارة هو "مصر"‪ ,‬التي عرفت الزراعة و بناء‬
‫األهرامات وعبادة الشمس منذ ‪ 5000‬سنة ق‪.‬م‪ ,‬و منها انتقلت إلى كثير من الشعوب في أنحاء العالم‪,‬‬
‫هذه الشعوب التي عجزت عن االبتكار و االختراع‪ ,‬فعوضت ذلك باالستعارة و التقليد‪ .‬وبذلك عرفت هذه‬
‫المدرسة باسم "مدرسة المصدر الوحيد للثقافة"‪ ,‬و هو ما جعلها تتلقى انتقادات الذعة‪ ,‬بهذا الخصوص‪,‬‬
‫من طرف الكثير من أصحاب االتجاهات النظرية األخرى‪ ,‬إذ أن التسليم بما ذهبت إليه هذه المدرسة‪,‬‬
‫يبرز تنحية صفة االبتكار و اإلبداع ‪ -‬التي هي من خواص العقل البشري‪-‬عن كل المجتمعات‪ ,‬و‬
‫انحصارها في مجتمع واحد‪ ,‬باعتباره المنتج للثقافة‪ ,‬والمصدر األول لها‪ ,‬إلى المجتمعات و الجماعات‬
‫االجتماعية‪ ,‬عبر مختلف مناطق العالم‪.‬‬

‫‪ ‬المدرسة األلمانية النمساوية‪:‬‬

‫و يتزعمها كل من فرتيز جوايبتور(‪ ,)1877-1934‬و األب ولهم شميدت‪ ,W.Shmidt‬وعالم الدراسات‬


‫اإلنسانية جريبنر‪ ,Graebner‬و قد رفضوا فكرة المنشأ الواحد للحضارة اإلنسانية‪ ,‬و اقترحوا وجود دوائر‬
‫ثقافية‪ ,‬وأن ثمة مراكز حضارية متعددة‪ ,‬و ليس مرك از حضاريا واحدا (و هم بذلك يناقضون ما ذهبت إليه‬
‫المدرسة البريطانية)‪ ,‬و هذه الدوائر تشترك في سمات ثقافية واحدة‪ ,‬و تشتد هذه السمات كلما كانت أقرب‬
‫إلى المراكز‪ .‬و قد اعترف العديد من العلماء بأهمية هذه المدرسة‪ ,‬و نظروا إليها على أنها‪ ,‬أهم مدارس‬
‫اإلنتشار الثقافي‪ .‬غير أنها انتقدت بشدة‪ ,‬من كثير من أصحاب المذاهب األنثروبولوجية األخرى‪ ,‬حتى من‬
‫بين أتباعها‪ ,‬السيما أتباع و‪.‬كوبرز‪ W.Koopers‬الذي قرر أن األفكار التي جاءت بها هذه المدرسة‪ ,‬غير‬
‫سليمة‪ ,‬و أنها ليست ضرورية للمنهج التاريخي‪ ,‬الذي يسيرون عليه‪.‬‬

‫‪ ‬المدرسة األمريكية‪:‬‬

‫و يمثلها كالرك ويسلر‪ ,Wissler‬و كروبر‪ ,KroeberA.L.‬و كالكهون‪ ,G.Kluckhon‬تؤيد هذه‬


‫المدرسة‪ ,‬فكرة أن المالمح المميزة لثقافة ما‪ ,‬قد وجدت أوال في مركز ثقافي جغرافي محدد‪ ,‬ثم انتقلت إلى‬
‫مناطق أخرى‪ ,‬وان كانت هذه المدرسة‪ ,‬ترى إمكانية التطور الموازي المستقل‪ ,‬و أن األفراد مبتكرين‬
‫بطبعهم‪ .‬و لقد رفض األنثروبولوجيون األمريكيون‪ ,‬و على رأسهم فرانس بواز‪ ,F.Boas‬النظرية التطورية‬
‫التي كانت سائدة في القرن ‪ ,19‬و رفضوا كذلك محاوالت إعادة بناء تاريخ اإلنسان‪ ,‬من خالل جمع‬
‫الحقائق‪ ,‬من أجزاء مختلفة من العالم‪ .‬و بدال من ذلك اهتموا بتعريف "المناطق الثقافية ‪Cultural‬‬

‫‪"areas‬المتجانسة جغرافيا‪ ,‬واعادة بناء تاريخ المجتمعات المتجاورة‪ ,‬و ركزوا على قبائل شمال أمريكا‪,‬‬
‫لتحقيق ذلك الهدف‪.‬‬
‫فرانس بواز‪)1942-1858( Franz Boas‬‬

‫و يعد ويسلر‪Wissler‬أول من صاغ نظرية المناطق الثقافية‪ ,‬حيث تبين له من خالل دراسته‪ ,‬للهنود‬
‫الحمر في أمريكا‪ ,‬أن بعض العناصر الثقافية أو لنقل ثقافات‪ ,‬تميل إلى التجمع في أقاليم معينة‪ ,‬ولذلك‬
‫أطلق عليها‪ ,‬تسمية المناطق الثقافية‪ ,‬و أن لكل شعب من الشعوب أو القبائل‪ ,‬منطقة ثقافية معينة‪ ,‬تتميز‬
‫بالعناصر المميزة للمنطقة‪ ,‬بدرجة قد تقل أو تكثر‪ ,‬من شعب إلى آخر‪.‬‬

‫و من ناحية أخرى‪ ,‬توصل كل من كروبر و كالكهون‪ ,‬إلى ما يسمىبـ "األنماط‬


‫الثقافية‪ ," PatternsCultural‬إذ تتكون كل ثقافة من نظم اجتماعية (نظم اقتصادية‪ ,‬دينية‪ ,‬عائلية‪,‬‬
‫سياسية‪ ,‬لغوية‪ )..‬و كل نظام يتألف من أنماط‪ .‬فإذا أخذنا مثال الدين اإلسالمي كنظام اجتماعي‪ ,‬فإننا‬
‫نجد نمط الزكاة‪ ,‬و نمط الزواج‪ ,‬و نمط الصيام‪ ,‬و نمط الحج‪ ,..‬و هذه األنماط التي يتألف منها نظام‬
‫الدين اإلسالمي‪ ,‬تختلف طبعا‪ ,‬عن األنماط الثقافية التي يتألف منها أي دين آخر‪ ,‬و كل نمط ثقافي‬
‫يتألف من وحدات تسمى سمات ثقافية ‪ Culture Traits‬و هي اصغر وحدة‪ ,‬يمكن تمييزها من الوحدات‬
‫المماثلة‪ ,‬في البناء الثقافي‪ ,‬و قد تكون صفة أو خاصية ثقافية معينة‪ ,‬و من السمات الثقافية‪ ,‬تتألف‬
‫مضامين ثقافية خاصة‪ .‬فاستخدام الشوكة و السكين مثال‪ ,‬أو استخدام األصابع في تناول الطعام سمة‬
‫ثقافية‪ ,‬وطرق التحية و آدابها‪ ,‬كانحناء الياباني أو مصافحة الفرنسي أو مالمسة األنوف لدى السعوديين‪,‬‬
‫تكون مع‬
‫سمة ثقافية أخرى‪ .‬و السمة الثقافية هي الوحدة‪ ,‬التي ال تنقسم إلى اقل أو اصغر منها‪ ,‬و التي ّ‬
‫مجموعة السمات األخرى نمطا ثقافيا بأكمله‪ .‬مثال‪:‬‬
‫نمط الحج‪ ,‬يتضمن سمات مثل‪ :‬الطواف‪ ,‬السعي بين الصفا و المروة‪ ,‬رمي الجمرات‪..‬الخ‪ ,‬على أن‬
‫التفرقة بين النمط و النظام‪ ,‬لم تستقر تماما بين الباحثين‪ ,‬فقد يعتبر البعض الزواج نظاما‪ ,‬فيما يعتبره‬
‫البعض اآلخر نمطا‪ .‬و ننبه في هذا السياق أن السمات الثقافية‪ ,‬تفقد معناها‪ ,‬خارج السياق الثقافي الذي‬
‫تنتج فيه‪ ,‬أي تصبح غير مفهومة‪ ,‬لمن يجهل النمط الثقافي‪ .‬هذا ويرى كل من كروبر و كالكهون‪ ,‬أن‬
‫األنماط الثقافية‪ ,‬تميل إلى البقاء ككيانات منظمة‪ ,‬من قواعد العرف‪ ,‬و ذلك على الرغم من التغيرات‪ ,‬في‬
‫عناصر محتوياتها‪ ,‬و المتمثلة في السمات الثقافية‪.‬‬

‫و للتوضيح‪ ,‬الحظ الشكل الموالي‪:‬‬

‫الثقافــــــــــة‬

‫نظم اجتماعية‬

‫أنماط ثقافية‬

‫سمات ثقافية‬

‫الشكل رقم (‪ )07‬يمثل تقسيم بناء الثقافة حسب علماء االنثروبولوجيا‬

‫‪ -3‬النظرية التطورية المحدثة ‪:New Evolution‬‬

‫حاول أصحاب النظرية التطورية المحدثة‪ ,‬تدارك إخفاق النظرية التطورية الكالسيكية‪ ,‬حول التطور‬
‫االجتماعي‪ ,‬للمجتمعات عبر التاريخ‪ ,‬و التي تعرضت إلى انتقادات الذعة‪ ,‬قللت إلى حد ما من أهميتها‪,‬‬
‫أما النظرية التطورية المحدثة‪ ,‬و بخاصة في الحقل األنثروبولوجي‪ ,‬فقد احتلت آراء أصحابها‪ ,‬أهمية كبيرة‪,‬‬
‫على مستوى الدراسات األنثروبولوجية المعاصرة‪ ,‬من أبرزهم‪ :‬ليزلي هوايت‪ ,Lesli White‬جوليان ستيوارد‬
‫‪ ,Julian Steward‬و جوردن تشايلد‪.Gordon Childe‬‬
‫و رغم أن تساؤالتهم جاءت مماثلة إلى حد كبير‪ ,‬و الخطوط األساسية ألفكار التطوريين في القرن‬
‫‪ , 19‬إال أنهم أضافوا إليها بعض التعديالت‪ ,‬و األفكار وثيقة الصلة‪ ,‬بميكانيزمات التغير‪ ,‬و القوانين‬
‫العامة‪ ,‬التي تحكم التغير الثقافي‪ .‬إن التطورية الكالسيكية‪ ,‬لم تربط عملية التطور االجتماعي‪ ,‬بعوامل‬
‫معينة‪ ,‬و تركته تلقائيا‪ .‬أما التطورية المحدثة‪ ,‬فقد ربطته على مستوى الثقافة‪ ,‬بعوامل متعددة‪.‬‬

‫يتحدث هوايت‪ White‬عن مراحل التطور الثقافة‪ ,‬التي يراها تنمو و ترقى‪ ,‬تباعا الزدياد كمية‬
‫الطاقة‪ ,‬و الكفاءة المتخصصة لهذه الطاقة‪ ,‬بمعنى أن الخبرة اإلنسانية المتراكمة‪ ,‬في مجال التحكم في‬
‫الطاقة‪ ,‬هي عامل مهم‪ ,‬للتطور الثقافي للمجتمع‪.‬‬

‫فيما يرى جوردن تشايلد‪Gordon Childe‬أن الثورة التكنولوجيا و العلمية‪ ,‬و كل التحوالت الكبرى في‬
‫التطور اإلنساني‪ ,‬هي عوامل أساسية‪ ,‬في تغيير النسيج الكلي للحياة الثقافية‪ ,‬سواء على مستوى األبنية‬
‫االجتماعية‪ ,‬أو السياسية‪ ,‬أو التنظيمات األخرى‪.‬‬

‫‪ -4‬االتجاه النظري البنائي الوظيفي (النظرية البنائية الوظيفية) ‪:Fonctionalism-Structure‬‬

‫ترتبط بنية المجتمع في األنثروبولوجيا‪ ,‬بالتحليل الوظيفي‪ ,‬ذلك أن الوظيفة في مجال األنثروبولوجيا‪ ,‬يقصد‬
‫بها الدور الذي يلعبه النظام االجتماعي‪ ,‬في البناء االجتماعي الشامل‪ ,‬فالشعائر الجنائزية – في الواقع‪-‬‬
‫من حيث هي وظيفة اجتماعية‪ ,‬تعبر عن الترابط الوجداني بين أفراد المجتمع‪ ,‬ذلك التعبير الذي يؤكد‬
‫روابط التضامن‪ ,‬التي تربطهم بعضهم ببعض‪ .‬و من ثم يمكن النظر إلى شبكة البناء االجتماعي‪ ,‬في‬
‫ضوء العالقات بين المراكز االجتماعية‪ ,‬و األدوار االجتماعية‪ .‬و بداية‪ ,‬و حتى يمكن توضيح ذلك‪,‬‬
‫سوف نتناول النظرية الوظيفية‪ ,‬ثم نتدرج إلى البناء االجتماعي‪ ,‬فالبنائية الوظيفية‪.‬‬

‫‪ -4-1‬النظرية الوظيفية‪:‬‬

‫انتقلت األنثروبولوجيا‪ ,‬خالل مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية‪ ,‬بدراسة الثقافة من العام إلى‬
‫الخاص‪ ,‬وبمعنى آخر من دراسة الثقافة أو الحضارة اإلنسانية في مجملها‪ ,‬إلى دراسة الثقافات اإلنسانية‬
‫في جزئياتها‪ ,‬و كوحدات متنوعة‪ ,‬لكل منها كيانه الخاص و المميز عن اآلخر‪ ,‬سواء من حيث‬
‫تكوينهالتاريخي‪ ,‬أو نظمه االجتماعية‪ .‬و بذلك أبرزت الطابع النسبي للثقافة‪ ,‬أي اختالفها عبر األماكن‬
‫عرفها‬
‫ّ‬ ‫والعصور‪ ,‬و من ثم لم تعد الثقافة‪ ,‬تفسر كما تناولها تايلور‪ .Taylor‬حيث‬
‫مالينوفسكي‪ Malinowski‬و هو من رواد المدرسة الوظيفية‪ ,‬بأنها " وحدة كلية‪ ,‬يمكن تحليلها إلى أجزاء و‬
‫النظم المكونة لها‪ ,‬و اخذ العالقات المتبادلة بين هذه األجزاء‪ ,‬مع عدم إغفال عالقة ذلك‪ ,‬بحاجات الكائن‬
‫البشري‪ ,‬و البيئة الطبيعية‪ ,‬و تلك التي من صنع اإلنسان"(‪ .)6‬و قد أكد كذلك‪ ,‬على أهمية النظرة‬
‫الوظيفية‪ ,‬فإذا عرفنا وظيفة النظام‪ ,‬فإننا نستطيع تفسيره وفهمه‪ .‬ولذلك‪ ,‬فإن الوظيفية تستخدم لإلشارة إلى‬
‫الحاجات األساسية‪ ,‬أو االحتياجات التي ينبغي إشباعها‪ ,‬حتى تستمر الجماعة في الوجود‪.‬‬

‫برونسالو مالينوفسكي ‪)1942 -1884( MalinowskiBronislaw‬‬

‫ونستطيع من خالل الوظيفية‪ ,‬إدراك أن النظم تقام و تؤسس كأنماط سلوك‪ ,‬تتواءم مع معايير وقيم‬
‫محددة‪ ,‬فالوظيفية تتناول النظم كمفاهيم اجتماعية نفسية‪ ,‬تستغني عن المشاكل المتعلقة باألصول‬
‫التاريخية‪ ,‬و عمليات التغير‪ ,‬كما أنها تشكل اتجاها محافظا‪ ,‬متمي از في الفكر‪ ,‬فكل شيء يثبت انه وظيفي‬
‫(له وظيفة) البد أن يكون ضروريا (له مكانة في المجتمع)‪.‬‬

‫إن الوظيفيون‪ ,‬ال يؤمنون بما يعرف بالتطور أو التغير‪ ,‬و إنما يقولون بأن ثمة اختالالت وظيفية‪,‬‬
‫تصيب األنساق في المجتمع‪ ,‬لكن سرعان ما يستعيد المجتمع توازنه‪ ,‬عن طريق خلق بدائل‬
‫‪ Alternatives‬إلعادة توازنه من جديد‪ ,‬فما يسميه البعض "التغير"‪ ,‬يسميه الوظيفيون "الخلل الوظيفي"‪.‬‬

‫‪ -2-4‬اثر الوظيفية في الحقل االنثروبولوجي‪:‬‬

‫يعتبر فرانس بواز ‪F.Boas‬من أنصار المدرسة الوظيفية‪ ,‬و قد انتقد االتجاه التطوري اإلثنولوجي‬
‫القديم‪ ,‬الذي يدرس األصول‪ ,‬التي تتعلق بالنظم االجتماعية‪ ,‬عن طريق جمعالمعلومات‪ ,‬و الظاهرات من‬
‫مختلف األزمنة‪ ,‬و المجتمعات‪ .‬و يقول أن الظواهر عند دراستها‪ ,‬ال يجب أن تنتزع من سياقها‪ ,‬و إال ال‬
‫يمكننا فهمها"‪ .‬و يضرب مثاال فيقول‪ ":‬إن ظاهرة تقديم الطفل كأضحية أو قربان‪ ,‬عند بعض الجماعات‪,‬‬
‫قد نفهمها على أنها عملية قتلحال عزلها عن سياقها‪ ,‬و لكنها من وجهة نظر البناء الثقافي‪ ,‬التي هي جزء‬
‫منه‪ ,‬فإنها تعبر عن معنى آخر‪ ,‬و مغاير تماما‪ ,‬لما قد يظهر" (‪.)7‬‬

‫و من ثم فالمدرسة الوظيفية‪ ,‬تهتم بتوضيح وظيفة أي عنصر‪ ,‬أو طقس من طقوس الثقافة‪,‬‬
‫وبالتالي فإن الباحث األنثروبولوجي‪ ,‬يهتم بالبحث عن الوظيفة الحقيقية للسمة الثقافية‪ ,‬و التي تكون حسب‬
‫ما ذهب إليه روبرت ميرتون‪ R.Merton‬كامنة غير ظاهرة‪ ,‬و هي تختلف بالطبع عن تلك الوظيفة‬
‫الظاهرة و الواضحة للسمة الثقافية‪ ,‬التي يدركها جيدا أعضاء المجتمع‪ ,‬و قد ال تمثل هذه الوضعية‬
‫"الوظيفة الحقيقية لها"‪ .‬و بذلك فإن الوظيفة الحقيقية ال تتضح لنا‪ ,‬إال من خالل الدراسة األنثروبولوجية‬
‫الميدانية‪ ,‬و التي تتجه اتجاها وظيفيا‪.‬‬

‫هذا‪ ,‬و قد ساهمت نتائج الدراسات الميدانية األنثروبولوجية الحديثة‪ ,‬و خصوصا التي تنتهج‬
‫الوظيفة كمنهج و نظرية‪ ,‬ظهور مصطلح النسبية الثقافية‪ .‬فبعد أن كان األنثروبولوجيون األوائل‪ ,‬يهدفون‬
‫إلى تحقيق علم عام لإلنسان‪ ,‬و اكتشاف القوانين االجتماعية‪ ,‬التي تحكم عملية تطوره‪ ,‬و من ثم الوصول‬
‫إلى تعميمات عن الجنس البشري‪ ,‬و ذلك من خالل مقارنة المعلومات‪ ,‬التي تتعلق بمدى التنوع البشري‪,‬‬
‫في الماضي و الحاضر‪ ,‬و بدال من كل ذلك‪ ,‬أصبح العلماء‪ ,‬يركزون على دراسة ثقافات جزئية محددة‪,‬‬
‫وفي هذا الصدد‪ ,‬قدمت روث بنديكت‪ Ruth Benedict‬عدة دراسات تؤيد فيها فكرة النسبية الثقافية‪ ,‬و قد‬
‫هامتين‪)8(:‬‬ ‫أوضحت من خاللها‪ ,‬نقطتين‬

‫‪ ‬إن الثقافات تختلف من مكان ألخر‪ ,‬و أن هناك تنوعا ثقافيا كبيرا‪.‬‬
‫‪ ‬عدم وجود مطلق‪ ,‬ألن المبادئ التي قد نستخدمها للحكم على السلوك‪ ,‬أو أي شيء آخر‪ ,‬تعتبر‬
‫نسبية‪ ,‬و مرتبطة بالثقافات التي نشأنا فيها‪.‬‬

‫‪ -3-4‬نشأة االتجاه البنائي الوظيفي‪:‬‬


‫ارتبط االتجاه النظري الوظيفي بنظرية البناء االجتماعي ‪ ,Social Structure‬التي برزت في القرن‬
‫‪ ,20‬خاصة في حقلي علم االجتماع و األنثروبولوجيا‪ ,‬التجاه العديد من الباحثين في هذه الحقول‪ ,‬إلى‬
‫الدراسات الميدانية‪ ,‬في المجتمعات الصغيرة‪ ,‬أو قليلة السكان‪ ,‬كوسيلة لفهم المجتمع اإلنساني في عمومه‪.‬‬
‫و قد الحظ العلماء و بخاصة األنثروبولوجيون منهم‪ ,‬أثناء دراستهم لتلك المجتمعات الصغيرة‪ ,‬التفاعل‬
‫القائم بين مختلف نظمها االجتماعية‪ ,‬على أساس أن الحياة االجتماعية‪ ,‬في أي مجتمع‪ ,‬عبارة عن نسيج‬
‫متماسك متشابك‪ ,‬من العالقات المتداخلة‪ .‬و بذلك اخذ مفهوم البناء االجتماعي‪ ,‬يفرض نفسه بشكل‬
‫واضح‪ ,‬على معظم الدراسات الحديثة‪ ,‬بعد أن كان فكرة غامضة‪ .‬و كان التجاه العلماء البريطانيين‬
‫األوائل‪ ,‬إلى دراسة المجتمعات التقليدية بإفريقيا بالذات‪ ,‬أثره الكبير‪ ,‬في تبلور فكرة البناء االجتماعي‪.‬‬
‫"ويعود الفضل األكبر في انتشار مصطلح البناء االجتماعي‪ ,‬إلى المحاضرة التي ألقاها األستاذ راد كليف‬
‫براون‪Rad Cliffe Brown‬عام ‪ ,1940‬بعنوان " في البناء االجتماعي ‪.)9( "On Social Structure‬‬

‫ألفرد راد كليف براون‪)1955 -1881( Rad Cliffe BrownAlfred‬‬

‫‪ -4-4‬مفهوم البناء االجتماعي‪:‬‬

‫يعرف البناء االجتماعي في قواميس األ نثروبولوجيا بأنه‪ ":‬نسيج يتكون من العالقات‪ ,‬التي تربط‬
‫ّ‬
‫بين أعضاء مجتمع ما"‪ .‬و في آخر‪ ":‬يتكون ذلك النسيج من العالقات‪ ,‬التي تربط بين الجماعات‬
‫اإلنسانية‪ ,‬في مجتمع ما"‪.‬‬
‫و يذكر العالمة ايفانز بريتشارد في مؤلفاته بان البناء االجتماعي هو‪ ":‬الجماعات االجتماعية‪ ,‬المستمرة‬
‫في الوجود لوقت كاف‪ ,‬بحيث تستطيع االحتفاظ بكياناتها كجماعات‪ ,‬رغم التغيرات التي تحدث لألفراد‪,‬‬
‫الذين يكونون تلك الجماعات"‪.‬‬

‫و يقول العالمة كيسينج‪ ":Kessing‬يقصد بالبناء االجتماعي‪ ,‬النظم االجتماعية‪ ,‬التي عن طريقها تصل‬
‫مجموعة من السكان‪ ,‬إلى حالة التكامل و الترابط‪ ,‬و هي الحالة الالزمة لتكوين المجتمع"‪.‬‬

‫و يرى راد كليف براونأن المالحظة المباشرة تكشف أن األفراد‪ ,‬إنما يرتبطون معا بشبكة من العالقات‬
‫االجتماعية‪ ,‬القائمة بالفعل‪ ,‬و هي التي تكون البناء االجتماعي‪ ,‬و هي موضوع األ نثروبولوجيا‬
‫االجتماعية‪ .‬و يضيف براون أن البناء االجتماعي‪ ,‬يشتمل على ثالث ‪ 03‬مجموعات من الظواهر‪,‬‬
‫هي‪)10(:‬‬

‫‪ ‬الجماعات االجتماعية المستمرة في الوجود‪ ,‬لفترة كافية من الزمن‪ ,‬و تعرف هذه باألشكال‬
‫المورفولوجية للمجتمع اإلنساني‪ ,‬و هي أشكال تكتل اإلنسان‪ ,‬في وحدات اجتماعية مختلفة‪ ,‬قي‬
‫الحجم و الوظيفة‪.‬‬
‫‪ ‬كل العالقات االجتماعية بين فرد و آخر‪ ,‬من أعضاء مجتمع ما‪.‬‬
‫‪ ‬ظواهر التنوع بين أفراد و جماعات مجتمع ما‪.‬‬

‫ستروس‪ Claude Levi Strauss‬يرى أن البنية تتألف من‬


‫أما عالم األنثروبولوجيا الفرنسي كلود لوفي‪ -‬ا‬
‫عناصر‪ ,‬يكون من شأن أي تحول‪ ,‬يعرض الواحد منها‪ ,‬أن يحدث تحوال في باقي العناصر األخرى‪.‬‬

‫كلود لوفي ستراوس‪)2009 -1908( Claude Levi Strauss‬‬


‫و رغم تعدد و اختالف التعريفات المدرجة‪ ,‬حول تعريف البناء االجتماعي‪ ,‬لكبار المتخصصين في‬
‫األنثروبولوجيا االجتماعية‪ ,‬فإن هذا المفهوم يتضمن مبدأين أساسيين و متكاملين‪:‬‬

‫األول‪ :‬االستمرار في الزمن‪ ,‬و يصدق ذلك على الجماعات و العالقات االجتماعية‪ ,‬التي تؤلف البناء‬
‫اإلجتماعي‪.‬‬

‫الثاني‪:‬إن العالقات الثابتة المستمرة‪ ,‬التي تقوم بالضرورة بين الجماعات المتماسكة‪ ,‬التي ينقسم إليها‬
‫المجتمع الواحد‪ ,‬تتخذ شكل انساق و نظم‪ ,‬و تلعب دو ار هاما‪ ,‬في الحياة اإلجتماعية‪ ,‬بمعنى‪ :‬أنها تؤدي‬
‫وظيفة اجتماعية معينة‪ ,‬كما هو شأن عالقات القرابة‪ ,‬و العالقات السياسية‪ ,‬و العالقات االقتصادية‪.‬‬

‫‪ -5-4‬تطور ال تجاه البنائي الوظيفي‪:‬‬

‫لقد تطور االتجاه النظري البنائي الوظيفي‪ ,‬إلى حد بعيد‪ ,‬على يدي كبار األنثروبولوجيين‪,‬‬
‫وبخاصة البريطانيين منهم‪ ,‬نذكر من بينهم‪ :‬سير هنري مين‪ ,‬ماكلينان‪ ,‬راد كليف براون‪ ,‬فقد درس هؤالء‬
‫العلماء النظم اإلجتماعية دراسة وظيفية‪ ,‬و سوف نلخص فيما يلي أهم دراساتهم‪.‬‬

‫‪ -‬درس هنري مين‪ H.Mean‬الظواهر االجتماعية‪ ,‬في ضوء ظواهر اجتماعية أخرى‪ ,‬مثل العالقة‬
‫بين القانون و الدين و األخالق‪ ,‬و تأثير القانون في الظروف التاريخية المختلفة‪,‬‬
‫‪ -‬و ّبين السويسري باخوفن في كتابه " حق األم "‪ ,‬أن ظاهرة سيادة األم في األسرة‪ ,‬ال يمكن فهمها‪,‬‬
‫و دراستها كظاهرة معزولة‪ ,‬بانتزاعها عن غيرها‪ ,‬من سائر الظواهر االجتماعية األخرى‪.‬‬
‫فسر ماكلينان النظم االجتماعية‪ ,‬استنادا إلى ظاهرة الزواج االغترابي ‪ Exogamy‬حيث ّبين أن‬
‫‪ -‬و ّ‬
‫للنظام الطوطمي‪ ,‬عداوة الدم‪ ,‬اآلخذ بالثار‪ ,‬وأد البنات‪ ,‬عالقة بظهوره‪ ,‬فيربط بينها‪ ,‬في تسلسل‬
‫القضايا المنطقية‪ ,‬التي تؤلف فيما بينها نسقا برهانيا‪ ,‬بحيث تكون كل قضية منها‪ ,‬نتيجة لقضية‬
‫سابقة‪ ,‬ومقدمة لقضية الحقة‪.‬‬
‫‪ -‬أما راد كليف براونيرى أن البناء االجتماعي‪ ,‬يمثل موضوع األنثروبولوجيا اإلجتماعية‪ ,‬و هو‬
‫يستبعد الدراسة الوصفية للثقافة‪ ,‬ويطالب بالتركيز على العالقات المتبادلة المكونة للبناء‬
‫اإل جتماعي‪ ,‬و الذي يمثل حسبه" شبكة العالقات االجتماعية الفعلية التي تقوم بين األفراد"‪ .‬فالبناء‬
‫يكون من العالقات الثنائية‪ ,‬كالعالقة بين األب و االبن‪ ,‬أو بين‬
‫القرابي آلي مجتمع – مثال‪ّ -‬‬
‫الخال و ابن األخت‪ ,‬و ال يقتص البناء اإلجتماعي على هذه العالقات فحسب‪ ,‬و إنما يتضمن‬
‫أيضا‪ ,‬ذلك التمايز بين األفراد و الطبقات‪ ,‬بحسب أدوارهم اإلجتماعية‪.‬‬
‫ميز راد كليف براون‪ ,‬بين البناء اإلجتماعي من حيث هو صورة بنائية‪ ,‬خاضعة للمالحظة‬
‫هذا‪ ,‬و ّ‬
‫المباشرة‪ ,‬و بين كونه بناءا واقعيا‪ .‬فيقول‪:‬‬
‫" إذا نظرنا إلى استمرار و دوام البناء اإلجتماعي خالل الزمن‪ ,‬فاستمرار هذا البناء‪ ,‬ال يكون‬
‫استم ار ار استاتيكيا كبناء البيت‪ ,‬و إنما يكون استم ار ار ديناميكيا‪ ,‬تتغير و تتجدد فيه الحياة‬
‫اإلجتماعية‪ ,‬كما يتجدد البناء العضوي بالنسبة للكائن الحي‪ .‬و هكذا نجد أن العالقات الواقعة بين‬
‫األفراد و الجماعات‪ ,‬تتغير من عام آلخر‪ ,‬و من يوم آلخر‪ ,‬فيدخل في المجتمع أفراد جدد‪ ,‬عن‬
‫طريق الميالد و الهجرة إليه‪ ,‬في حين يخرج آخرون بالموت أو الهجرة أو النزوح عنه"(‪.)11‬‬
‫فعندما يتغير البناء الواقعي بهذه الطريقة‪ ,‬تظل الصورة البنائية العامة ثابتة نسبيا‪ ,‬لفترة قد تطول‬
‫أو تقصر عبر الزمن‪.‬‬

‫‪ -6-4‬ال نتقادات الموجهة للنظرية البنائية الوظيفية‪:‬‬

‫لقي االتجاه النظري البنائي الوظيفي‪ ,‬انتقادات شديدة‪ ,‬من جانب عدد من علماء األنثروبولوجيا‪ ,‬نلخصها‬
‫فيما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬ال يظهر االتجاه البنائي الوظيفي‪ ,‬الجانب التطوري للنظم اإلجتماعية‪ ,‬ألنها خاضعة لتطور‬
‫وتغير مستمرين‪.‬‬
‫تكون؟)‪ ,‬و هو ما أهمله هذا االتجاه‬
‫‪ -‬لفهم المجتمع البد من الرجوع إلى تاريخه (كيف نشأ و ّ‬
‫النظري‪.‬‬
‫‪ -‬اعترض العالم البريطاني فورتس ماير‪ Fortes Mayer‬على فكرة البناء اإلجتماعي‪ ,‬حسب‬
‫رادكليف براون‪ ,‬حيث قال‪ " :‬ال يمكن للبناء اإلجتماعي‪ ,‬أن يخضع للرؤية العينية المباشرة‪ ,‬و‬
‫إنما ينكشف عن طريق المقارنة و اإلستقرار‪ ,‬و أن اصطالح البناء الصوري‪ ,‬هو اصطالح عام‬
‫غير محدد‪ ,‬ألن ‪ Form‬أو صورة‪ ,‬هي كلمة مرنة شاع استخدامها عند الكثيرين‪ ,‬دون أي تحديد‬
‫لها‪.‬‬

‫‪ -5‬النظريات الحتمية‪:Determinism‬‬

‫تركز النظريات الحتمية في تفسير عمليات التغير اإلجتماعي‪ ,‬أو نشوء ظواهر اجتماعية معينة‪,‬‬
‫على عامل محدد (العامل االقتصادي‪ ,‬العامل الجغرافي‪ ,‬العامل التكنولوجي‪ ,)..‬واعتباره المؤثر الوحيد‪,‬‬
‫والعامل الرئيسي‪ ,‬المتحكم في بروز الظاهرة‪ ,‬أو تطورها‪ ,‬أو تغيرها‪ ,‬فاصطلح عليها لذلك بالنظريات‬
‫العاملية‪ .‬و يشرح ماكيفر‪ Mc Ivre‬معنى الحتمية في قوله‪ ":‬نحن نعني بالنظريات الحتمية أي مذاهب‬
‫و هو‬ ‫المادية"(‪.)12‬‬ ‫تفسير السلوك اإلنساني و التغيرات فيه‪ ,‬تفسي ار أوليا بالظروف البيئية و الخارجية و‬
‫في تعريفه هذا‪ ,‬يحدد النظريات الحتمية‪ ,‬في العوامل الخارجية و المادية المنفصلة عن ذات اإلنسان‪ ,‬فيما‬
‫يوسع آخرون نطاقها‪ ,‬لتشمل العوامل السيكولوجية‪ ,‬البيولوجية و الوراثية أيضا‪.‬‬

‫علما أن فكرة الحتمية هذه‪ ,‬قد هيمنت منذ آالف السنين (العصر القديم) مع فالسفة اليونان‪ ,‬على‬
‫الفكر اإلجتماعي‪ ,‬حتى ظهرت النظريات التي تعتمد تفسيراتها‪ ,‬على أكثر من عامل‪ ,‬بعدما تبين أن‬
‫الظاهرة اإل جتماعية‪ ,‬مركبة بطبيعتها‪ ,‬من عوامل متعددة و متداخلة‪ ,‬و ال يمكن بأي حال التركيز على‬
‫عامل بعينه‪ ,‬و اعتباره األساسي و الحاسم‪ ,‬في نشأة الظواهر‪ ,‬وتطورها أو اندثارها‪ .‬و سوف نتناول فيما‬
‫يلي اثنين من أهم النظريات الحتمية‪ ,‬التي أثرت بقوة في الحقل األنثروبولوجي‪ ,‬وهي على التوالي الحتمية‬
‫الجغرافية‪ ,‬و كذلك الحتمية اإلقتصادية‪.‬‬

‫‪ -5-1‬الحتمية الجغرافية‪:‬‬

‫تعرف نظرية الحتمية الجغرافية كذلك‪ ,‬باسم االيكولوجيا الثقافية‪ ,‬و "هو مفهوم مستعار من‬
‫علم األحياء (البيولوجيا)‪ ,‬و يعنى بدراسة العالقات القائمة بين الكائنات الحية و البيئة‪ ,‬أما في علم‬
‫االجتماع و األنثروبولوجيا‪ ,‬يقتصر استخدام مصطلح "ايكولوجيا"‪ ,‬على دراسة العالقات القائمة‪ ,‬بين‬
‫المجموعات البشرية‪ ,‬وبيئاتها‪ .‬وتتفق كل التعريفات‪ ,‬على هذه الخاصية الجوهرية لمجال الدراسة"(‪.)13‬‬
‫وتفسر نظرية الحتمية الجغرافية التغير االجتماعي‪ ,‬على انه استجابة للعوامل الجغرافية‪ ,‬مثل‪ :‬المناخ‪,‬‬
‫ّ‬
‫التربة‪ ,‬الموقع و ما إلى ذلك من الحقائق الجغرافية‪ .‬ولإلشارة فإن هذا اإلتجاه النظري‪ ,‬حديث نسبيا في‬
‫الحقل األنثروبولوجي‪ ,‬نجد من أقطابه كل من‪:‬‬

‫جوليان ستيوارد‪ ,J.Steward‬فريديريك بارث‪ ,F.Barth‬ماكس جلوكمان‪ ,M.Glukman‬و غيرهم‪.‬‬

‫و هم يركزون في دراساتهم‪ ,‬على العالقة الدينامية المتبادلة‪ ,‬بين اإلنسان و البيئة الطبيعية التي يعيش‬
‫فيها‪ ,‬و من ثم فإنهم يبحثون عن عمليات التكيف‪ ,‬التي تؤدي إلى ظهور صيغ‬
‫ثقافية‪ CulturalConfigurations‬متباينة‪.‬‬

‫مهدوا لهذا االتجاه‪ ,‬كانوا من الجغرافيين القدامى‪ ,‬مثل ابن خلدون (‪1406 -1332‬م)‬‫ومعظم الذين ّ‬
‫في مقدمته‪ ,‬التي تناول فيها اثر البيئة الطبيعية‪ ,‬على طباع البشر و مزاجهم‪" .‬و اليعقوبي(القرن ‪ 10‬م)‬
‫الذي درس في كتابه " أحسن التقاسيم في معرفة األقاليم " النواحي اإلقتصادية و التضاريسية‪ .‬وابن حوقل‬
‫(‪ 977‬م) الذي ربط بين المناخ و الظواهر الجغرافية‪ ,‬و تأثيرها على اإلنسان في كتابه "صورة األرض"‪.‬‬
‫أما في أوروبا فقد برز كل من جان بودان (‪ 1530-1596‬م) الذي ربط بين المناخ و طبائع البشر‪ ,‬في‬
‫كتابه "كتب الجمهورية الست"‪ .‬و مونتسكيو (‪ 1679-1755‬م) الذي كان متحمسا لمبدأ الحتمية‬
‫الجغرافية‪ ,‬إذ حاول الربط بين المناخ و التربة و طبائع البشر‪ ,‬فاعتبر اإلنسان كائنا يقابله المناخ و التربة‪,‬‬
‫و كان يعتبر أن المناخ ال يشتمل على غير الح اررة‪ ,‬و أن التربة في نظره تقتصر على الخصوبة والجدب‪,‬‬
‫مهد لهذا االتجاه كذلك‪,‬‬
‫و على هذه الركائز حاول مونتسكيو تحديد صفات البشر و أخالقهم"(‪ .)14‬كما ّ‬
‫األنثروبولوجيون ذوي الميول الجغرافية‪ ,‬و ذهبوا إلى توضيح اثر البيئة الجغرافية‪ ,‬في تشكيل و تطور‬
‫الثقافة‪ .‬و هم يحددون لنا نوعين من التكيف‪ :‬التكيف اإلنساني مع الطبيعة‪ ,‬و التكيف الثقافي‪.‬‬

‫‪ ‬التكيف النساني مع الطبيعة‪:‬‬

‫و يقصد به التكيف البيولوجي ‪ ,Biological Adaptaion‬و هو يعتمد على قدرة الجسم البشري‪ ,‬على‬
‫التكيف بذاته بيولوجيا‪ ,‬مع بيئات معينة‪ .‬ومن أمثلة ذلك‪:‬‬

‫إن سكان جبال األ نديز بأمريكا الجنوبية‪ ,‬يعيشون على ارتفاعات شاهقة‪ ,‬و لكنهم يحيون حياة‬
‫طبيعية‪ ,‬حيث أن نسبة الهيموجلوبين في رئاتهم‪ ,‬تزيد عن المعدل العادي بمقدار مرة و نصف‪ ,‬باإلضافة‬
‫إلى قوة رئاتهم مقارنة مع أولئك الذين يعيشون على مستوى سطح البحر‪ ,‬في حين نجد أن هؤالء‪ ,‬يشعرون‬
‫بالدوار و صعوبة التنفس‪ ,‬و عدم القدرة على التركيز‪ ,‬بسبب نقص األكسجين‪ ,‬ألنهم لم يتعودوا على هذه‬
‫االرتفاعات‪ ,‬و بالتالي لم يتمكنوا من التكيف معها‪ .‬أما سكان مرتفعات األنديز‪ ,‬عندما ينزلون في أماكن‬
‫بمستوى سطح البحر‪ ,‬مثل منطقة البيرو‪ ,‬فنجدهم يعانون من زيادة كمية خاليا الدم‪ ,‬و زيادة نسبة‬
‫أحماض الجسم العامة‪ .‬و بهذا فإن التكيف الناتج في إحدى البيئات‪ ,‬قد يصبح نقطة ضعف‪ ,‬في بيئة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫كذلك‪" ,‬إذا كان اإلنسان يعيش في بيئة جبلية‪ ,‬يكون تأثيرها باإليجاب على تقوية عضالت الرجلين‪ ,..‬أما‬
‫إذا كانت بحرية‪ ,‬فإنها تقوي عضالت اليدين"(‪.)15‬‬

‫‪ ‬التكيف الثقافي‪:Cultural Adaptation‬‬

‫و ذلك من خالل بناء الثقافات‪ ,‬حيث يمكن لألفراد أن يتخطوا معوقات البيئة‪ ,‬التي يعيشون فيها‪,‬‬
‫بفضل الثقافة‪ ,‬و التي تشمل كل منتجات و ابتكارات العقل البشري‪ ,‬فالمالبس مثال‪ ,‬تمكنهم من‬
‫المعيشة في مناطق‪ ,‬لم يكن بإمكانهم العيش فيها من قبل‪ ,‬فالمناطق الباردة و المثلجة‪ ,‬تتطلب من‬
‫األفراد ارتداء مالبس صوفية سميكة‪ ,‬حتى تدفئ أجسامهم‪.‬‬

‫كما أن تطور التكنولوجي‪ ,‬قد عمل على تناقص تأثير العديد من الظواهر الطبيعية‪ ,‬على أنماط الحياة‬
‫البشرية‪ ,‬فاألفراد في مجتمعات ما قبل الصناعة‪ ,‬كانوا يعتمدون على الشمس كمصدر وحيد لإلضاءة‪,‬‬
‫أو على ضوء القمر ليال‪ ,‬فأنشطتهم اليومية ‪ -‬في العادة‪ -‬تحكمها دورة الليل و النهار‪ ,‬بينما يسمح‬
‫الضوء الصناعي( اإلنارة ) للبشر‪ ,‬بمد نطاق نشاطاتهم‪ ,‬طوال اليوم‪.‬‬

‫‪ -5-2‬الحتمية القتصادية‪:‬‬

‫اعتبر بعض العلماء في الحقل األنثروبولوجي‪ ,‬أن العامل اإلقتصادي هو الوحيد‪ ,‬الذي يفسر الحياة‬
‫اإلجتماعية‪ ,‬و التغير اإلجتماعي بشكل عام‪ ,‬و "من أنصار هذا اإلتجاه سان سيمون‪S.Simon‬الذي‬
‫عاش في القرن ‪ ,18‬و شهد الثورة الصناعية الكبرى‪ ,‬و كان أول المفكرين الذي تنبأ بتأثير التنمية‬
‫اإلقتصادية و التكنولوجية‪ ,‬على التنظيم اإلجتماعي‪ ,‬حيث تبنى سان سيمون شعا ار مؤداه " كل شيء‬
‫مناجل الصناعة "(‪ .)16‬و هذا نظ ار لما خلفته الثورة الصناعية و التكنولوجية‪ ,‬من تغير في التنظيم‬
‫اإل جتماعي للمجتمع‪ ,‬كظهور الفردانية‪ ,‬و نمو نسق العلم و العقالنية‪ ,‬و بالتالي تراجع األفكار المثالية‬
‫والالهوتية‪ ,‬ظهور نمط األسر النووية‪ ,‬في المجتمعات التقليدية و المحافظة‪..‬الخ‪.‬‬

‫طور الفيلسوف اإلشتراكي األلماني كارل ماركس‪Karl Marx‬هذه‬ ‫و في منتصف القرن ‪ّ ,19‬‬
‫النظرية‪ ,‬متخذا طروحات المفكرين من قبله‪ ,‬عناصر أساسية لفلسفته‪ .‬حيث "رفض فكرة أن األفراد أوالدين‬
‫أو العوامل األخرى‪ ,‬من تسبب التغيير السياسي في المجتمع‪ ,‬و حاول بدال من ذلك‪ ,‬توضيح أن التغييرات‬
‫السياسية‪ ,‬ال تنتج إال عن التغييرات‪ ,‬في كيفية إنتاج المجتمع للبضائع و الخدمات و توزيعها‪ .‬فقد اعتقد‬
‫ماركس أن األنظمة السياسية للمجتمعات الرأسمالية‪ ,‬نتجت عن نمو المصانع‪ ,‬والتطورات اإلقتصادية‬
‫األخرى‪ .‬كما يشار بالحتمية اإلقتصادية‪ ,‬إلى نظرية ماركس حول الصراع الطبقي‪ ,‬الذي يعده حتميا"(‪.)17‬‬
‫يكون بنيته الطبقية‪ ,‬وذلك أن الطبقة ذات القوة‬ ‫ويرى ماركس أن النظام اإلقتصادي للمجتمع‪ ,‬من ّ‬
‫اإل قتصادية األكبر‪ ,‬تمتلك القوة السياسية األكبر‪ ,‬إذن فالطبقات ذات القوة السياسية القليلة‪ ,‬ال تستطيع أن‬
‫تكتسب القوة‪ ,‬إال بوساطة تغيير النظام اإلقتصادي‪ .‬و من ثم فإن العامل اإلقتصادي حسبه‪ ,‬هو" العامل‬
‫األساسي‪ ,‬في تحديد بناء المجتمع‪ ,‬و تطوره"(‪.)18‬‬

‫‪ -5-3‬ال نتقادات الموجهة إلى النظريات الحتمية‪:‬‬


‫إن تركيز النظريات الحتمية أو العاملية‪ ,‬على عامل واحد‪ ,‬في تفسير التغير اإلجتماعي‪ ,‬أو نشوء‬
‫شكل أهم اإلنتقادات الموجهة لها‪ ,‬من طرف علماء التيارات الفكرية األخرى‪ ,‬كون‬
‫الظواهر اإلجتماعية‪ ,‬قد ّ‬
‫الظاهرة اإل جتماعية‪ ,‬تختص بتداخل و تشابك عدة عوامل‪ ,‬سواء من حيث نشأتها‪ ,‬أو من حيث تطورها‬
‫أو اندثارها‪ ,‬فاإلكتفاء بعامل واحد في تفسير عمليات المجتمع‪ ,‬دون اعتبار لظروف الزمان و المكان‪,‬‬
‫والتراث اإلجتماعي‪ ,‬أدى بها إلى اإلنحراف عن حقائق علمية اجتماعية واضحة‪ ,‬و لذلك وصفها الكثيرون‬
‫بأنها غير منطقية‪ ,‬و أن تفسيراتها قاصرة‪ ,‬و غير ملمة بأبعاد الظاهرة‪ ,‬و لهذا‪ ,‬أخفقت النظريات الحتمية‪,‬‬
‫في ما ذهبت إليه من تفسيرات‪ ,‬رغم تعددها‪ ,‬و أن ما يعاب على إحداها‪ ,‬يصدق عليها جميعا‪ .‬فالظاهرة‬
‫اإلجتماعية‪ ,‬و العالقات اإلجتماعية‪ ,‬و مختلف عمليات المجتمع‪ ,‬ال يمكن فهمها‪ ,‬بعزل العوامل عن‬
‫بعضها‪ ,‬أو التركيز على إحداها‪ ,‬ألن كل العوامل تؤثر معا‪ ,‬و تتفاعل فيما بينها‪ ,‬لكن بدرجات متفاوتة‪,‬‬
‫و هو ما أغفلته النظريات الحتمية‪ /‬العاملية‪.‬‬
‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ -1‬إبراهيم مذكور وآخرون‪ ,‬معجم العلوم اإلجتماعية‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ,1975 ,‬ص‬
‫‪151‬‬
‫‪ -2‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬أصول علم اإلنسان‪ -‬الجزء األول‪ ,‬دار المعرفة الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪,‬‬
‫‪ ,2007‬ص ‪173‬‬
‫‪ -3‬المرجع نفسه‬
‫‪ -4‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬األنثروبولوجيا في المجالين النظري و التطبيقي‪ ,‬دار المعرفة‬
‫الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪ ,‬ط‪ ,2009 ,2‬ص‪22‬‬
‫‪ -5‬علي وهب‪ ,‬الجغرافيا البشرية‪ ,‬المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع‪ -‬بيروت‪ ,‬ط‪,1‬‬
‫‪ ,1986‬ص‪134‬‬
‫‪ -6‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص‪27‬‬
‫‪ -7‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ‪28‬‬
‫‪ -8‬المرجع نفسه‪ ,‬ص ص ‪29-28‬‬
‫‪ -9‬المرجع نفسه‪31 ,‬‬
‫‪ -10‬المرجع نفسه‪33 ,‬‬
‫‪ -11‬المرجع نفسه‬

‫‪ -12‬حمدي عبد الحميد احمد مصطفى‪ ,‬النظريات الحتمية و نقدها‬

‫‪Http:// hamdisocio.blogspot.com‬‬

‫‪ -13‬إبراهيم مذكور و آخرون‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪88‬‬

‫‪-14‬علي وهب‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪15‬‬

‫‪Http:// goo.gl/ efW8Ef‬‬ ‫‪-15‬النظرية الحتمية‬

‫‪-16‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬ص ‪25‬‬

‫‪Http:// www .bsociology.com‬‬ ‫‪-17‬نظرية الحتمية اإلقتصادية‬


‫‪Http:// www .marefa.org‬‬ ‫‪ -18‬الحتمية اإلقتصادية‬
‫خامتة‬
‫و بهذا‪ ,‬نكون قد استوفينا محتوى كل المحاضرات‪ ,‬حول األنثروبولوجيا‪ ,‬من حيث مفهومها‪,‬‬
‫تاريخها‪ ,‬فروعها‪ ,‬تكاملها المنهجي و العلوم األخرى‪ ,‬و أهم اإلتجاهات النظرية‪ ,‬المهيمنة على حقلها‪,‬‬
‫ونأمل في األخير‪ ,‬أن يجد المطلع على هذه المطبوعة‪ ,‬كل الفائدة‪ ,‬وأن تسهم و لو بالقدر القليل‪ ,‬في‬
‫تنويره‪ ,‬حول بعض القضايا‪ ,‬و المسائل المعرفية المستعصية‪ ,‬و أن يدرك أن ما قدم ليس بالكامل‪ ,‬و إنما‬
‫بالمهم‪ ,‬ألن الهدف األساسي من إعداد هذه المطبوعة‪ ,‬هو إثراء الرصيد المعرفي‪ ,‬للمطلع و المهتم بميدان‬
‫األنثروبولوجيا أو علم اإلنسان‪ ,‬بأسلوب سلس‪ ,‬بسيط‪ ,‬و واضح‪ .‬و ما عسانا إال أن نردد قوله تعالى‪:‬‬

‫﴾سورة البقرة‪ :‬اآلية ‪286‬‬ ‫﴿ربنا ال تؤاخذان إن نسينا أو أخطاان‬


‫قائمة المصادر و المراجع‪:‬‬

‫أ‪ -‬المصادر‪:‬‬
‫‪ -1‬مقدمة العالمة ابن خلدون‪ ,‬دار الرائد العربي‪ -‬بيروت‪ ,‬ط ‪1982 ,5‬‬
‫ب‪ -‬المراجع‪:‬‬

‫‪-1‬إبراهيم مذكور وآخرون‪ ,‬معجم العلوم اإلجتماعية‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪1975 ,‬‬

‫‪ -2‬احمد أبو زيد‪ ,‬البناء اإلجتماعي‪ -‬مدخل لدراسة المجتمع‪ ,‬الجزء األول المفهومات‪ ,‬الدار القومية‬
‫للطباعة و النشر‪ -‬اإلسكندرية‪1965 ,‬‬
‫‪ -3‬احمد بن نعمان‪ ,‬نفسية الشعب الجزائري‪ ,‬شركة دار األمة – برج الكيفان‪ ,‬الطبعة الثانية‪1997 ,‬‬
‫‪ -4‬حسين عبد الحميد احمد رشوان‪ ,‬األنثروبولوجيا في المجالين النظري و التطبيقي‪ ,‬دار المعرفة‬
‫الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪ ,‬الطبعة الثانية‪2009 ,‬‬
‫‪ -5‬حسين فهيم‪ ,‬قصة األنثروبولوجيا – فصول في تاريخ علم اإلنسان‪ ,‬عالم المعرفة (‪ )98‬شباط‪,‬‬
‫الكويت‪1986 ,‬‬
‫‪ -6‬زكي محمد حسن‪ ,‬الرحالة المسلمون في العصور الوسطى‪ ,‬كلمات للنشر و التوزيع‪ -‬القاهرة‪,‬‬
‫‪2013‬‬
‫شروخ‪ ,‬مدخل في علم االجتماع‪ ,‬دار العلوم للنشر و التوزيع‪-‬عنابة‪2005 ,‬‬
‫‪ -7‬صالح الدين ّ‬
‫‪ -8‬عبد الناصر جندلي‪ ,‬تقنيات ومناهج البحث في العلوم السياسية و االجتماعية‪ ,‬ديوان المطبوعات‬
‫الجامعية‪ -‬الجزائر‪2005 ,‬‬
‫‪ -9‬علي الجباوي‪ ,‬األنثروبولوجيا‪ -‬علم اإلنسان‪ ,‬جامعة دمشق‪1997,‬‬

‫‪-10‬علي فهمي خشيم‪ ,‬نصوص ليبية‪ ,‬دار مكتبة الفكر‪ -‬طرابلس‪1967 ,‬‬

‫‪-11‬علي محمد المكاوي‪ ,‬األنثروبولوجيا الطبية (دراسات نظرية و بحوث ميدانية)‪ ,‬دار النصر‬
‫للتوزيع والنشر‪ -‬القاهرة‪( ,‬د‪.‬ت)‬

‫‪-12‬علي وهب‪ ,‬الجغرافيا البشرية‪ ,‬المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع‪ -‬بيروت‪ ,‬ط‪,1‬‬
‫‪1986‬‬

‫‪-13‬عيسى الشماس‪ ,‬مدخل إلى علم اإلنسان‪ ,‬منشورات اتحاد الكتّاب العرب‪ -‬دمشق‪2004 ,‬‬
‫‪-14‬محمد احمد بيومي‪ ,‬المجتمع و الثقافة و الشخصية (دراسة في علم االجتماع الثقافي)‪ ,‬دار‬
‫المعرفة الجامعية‪-‬اإلسكندرية‪1986 ,‬‬

‫‪ -15‬محمد عبده محجوب‪ ,‬مقدمة في االتجاه السوسيو أنثروبولوجي‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪-‬‬
‫اإلسكندرية‪1977 ,‬‬

‫‪-16‬محمد عبده محجوب‪ ,‬األنثروبولوجيا االجتماعية (دراسات نظرية و تطبيقية)‪ ,‬دار المعرفة‬
‫الجامعية‪ -‬اإلسكندرية‪2008 ,‬‬

‫‪-17‬محمد مؤنس‪ ,‬الحضارة – دراسة في أصول وعوامل قيامها وتدهورها‪ ,‬عدد كانون الثاني‪ ,‬عالم‬
‫المعرفة‪ -‬الكويت‪1978 ,‬‬

‫‪-18‬فاروق إسماعيل‪ ,‬التغير و التنمية في المجتمع الصحراوي‪ -‬دراسة أنثروبولوجية في منطقة‬


‫مريوط‪ ,‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪1980 ,‬‬

‫‪ -19‬فايز مقدسي‪ ,‬مناهج التعليم السومرية‪ -‬البابلية منذ األلف الثالث ق‪.‬م‪ ,‬مجلة المعرفة‪ ,‬العدد‪:‬‬
‫‪,558‬و ازرة الثقافة السورية‪ ,‬آذار ‪2010‬‬

‫‪-20‬قباري محمد إسماعيل‪ ,‬األنثروبولوجيا العامة‪ ,‬منشأة المعارف‪ -‬اإلسكندرية‪1971 ,‬‬

‫‪-21‬يحي مرسي عيد بدر‪ ,‬أصول علم اإلنسان‪ -‬الجزء األول‪ ,‬دار المعرفة الجامعية‪-‬‬
‫اإلسكندرية‪2007,‬‬

‫جـ‪ -‬المواقع ال لكترونية‪:‬‬

‫‪ -1‬احمد جعفر صادق األنصاري‪ ,‬مدخل إلى األنثروبولوجيا االجتماعية‬


‫‪www.arts.uokufa.edu.iq/teaching/ph/ahmedalansari/index_files/page514.htm‬‬
‫‪Https:// ar.wikipedia.org/wiki/‬‬ ‫‪ -2‬البيولوجيا‬
‫‪ -3‬التشريح‬
‫‪ -4‬اإلثنولوجيا‬
‫‪ -5‬الفيسيولوجيا‬
‫‪ -6‬مقدمة في علم األنثروبولوجيا‬
www.arts.uokufa.edu.iq/teaching/ph/ahmedalansari/index_files/page514.htm

Http:// ency.najah.edu/sites/default/files ‫ تعريف الفولكلور‬-7


Http:// 4all student.blogspot .com ‫ االفولكلور‬,‫ شريف كناعنة‬-8
Http:// goo.gl/ efW8Ef ‫ النظرية الحتمية‬-9
Http:// www .bsociology.com ‫ نظرية الحتمية اإلقتصادية‬-10
‫ النظريات الحتمية و نقدها‬,‫ حمدي عبد الحميد احمد مصطفى‬-11

Http:// hamdisocio.blogspot.com

‫ الحتمية اإلقتصادية‬-12
Http:// www .marefa.org

Http:// www .marefa.org ‫جيولوجيا‬-13

Http:// www.4shared.com ‫عالقةاألنثروبولوجيا بالعلوم األخرى‬-14

Https:// ar.wikipedia.org/wiki/ ‫ الصور الفوتوغرافية‬

You might also like