You are on page 1of 93

‫برتراند راسل‬

‫مشكالت الفلسفة‬

‫ترجمة‬
‫سمي عبده‬
‫ر‬
‫‪Bertrand Russell‬‬
‫‪THE PROPLEMS OF PHILOSOPHY‬‬

‫الطبعة األوىل ‪2016‬‬


‫ر‬
‫والنش ©‬ ‫والتجمة واالقتباس محفوظة لدار التكوين للتأليف ر‬
‫والتجمة‬ ‫النش ر‬
‫حقوق ر‬

‫هاتف‪00963 112236468 :‬‬


‫فاكس‪00963112257677.‬‬
‫ص‪ .‬ب‪ ،11418 :‬دمشق‪ .‬سوريا‬
‫مقدمة المترجم‬
‫الماض) عرف هذا المفكر العظيم‬‫ي‬ ‫األختة من حياة برتراند رسل (أي يف الستينيات من القرن‬
‫ر‬ ‫يف السنوات‬
‫كثتون أن رسل يف دنيا الفكر هو هذا‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫واالجتماع؛ حت لقد ظن ر‬
‫ي‬ ‫السياس‬
‫ي‬ ‫أكت ما عرف عن طريق فكره‬
‫السياس بصفة خاصة» مع أن مكانة الرجل يف تاري خ الفكر إنما‬
‫ي‬ ‫الذي يكتب عنه يف الصحف حول نشاطه‬
‫‪.‬أهلته لها جهوده الفلسفية الخالصة‬

‫اعتف لألشياء الخارجية جود مستقل عن وجود اإلنسان‪،‬‬ ‫وقد امتاز رسل بالواقعية الجديدة بحيث أنه ر‬
‫الخارج ال يعدو‬
‫ي‬ ‫المثاليي من الفالسفة الذين يديرون مذهبهم عىل محور رئيس‪ ،‬هو أن الوجود‬ ‫ر‬ ‫ذلك أن‬
‫ً‬
‫أن يكون تمثال يف الذات العارفة‪ ،‬وأنه ال سبيل أمام اإلنسان أن يخرج من إهابه لينظر يف الخارج بمعزل عن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الخارج موجود وجودا مستقال عن اإلنسان‪ ،‬وأن عملية‬
‫ي‬ ‫حي أن رسل يرى أن العالم‬ ‫نفسه وفكره‪ .‬يف ر‬
‫الخارج ثم تطرق الحاسة ثم تنتقل عن طريق األعصاب إىل‬ ‫ر‬
‫الشء‬
‫ي‬ ‫ه سلسلة سببية تبدأ من ي‬ ‫اإلدراك ي‬
‫‪.‬المخ‬

‫إن الكالم عىل رسل وفلسفته يطول ويتطلب المجلدات وهو الذي ُعد عدو الخرافة وربيب العقل بحيث‬
‫الكبت‪ :‬ي‬
‫إنت مدين بعدد ال يحىص من الساعات السعيدة لقراءة مؤلفات‬ ‫ر‬ ‫قال عنه ألتت أينشتاين العالم‬
‫علم معارص آخر‬ ‫سء ال أستطيع أن أقول مثيله عن أي كاتب‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫‪.‬رسل‪ ،‬وهو ي‬
‫الماض من خالل ترجمات كتبه؛‬ ‫ي‬ ‫وإذا كان هذا الفيلسوف قد عرف ربي قراء العربية منذ منتصف القرن‬
‫وبي تعريب أفكاره أو‬ ‫ر‬
‫(خاصة بعد نيله جائزة نوبل)؛ فقد تفاوتت التجمات ربي النقل لنصوصه فيما ندر ر‬
‫بالتجمة‪ ،‬فإن الكتاب الذي نضعه ربي أيدي‬ ‫تلخيصها أو حذف بعض الفصول منها‪ .‬ومع تقديرنا لمن قام ر‬
‫الكثت من‬
‫ر‬ ‫الماض‪ ،‬محذوفا منه‬
‫ي‬ ‫القارئ هو ترجمة جديدة لنص سبق وترجم منذ ستينيات القرن‬
‫مشوع ترجمة مؤلفات هذا الفيلسوف‪ ،‬وهو التاسع يف‬ ‫الصفحات والسطور‪ ،‬وجاءت ترجمتنا له من خالل ر‬
‫‪.‬هذه السلسلة‬
‫ً‬
‫كان مقدرا لهذا الكتاب أن يصدر عام ‪ 1987‬بعد نيلنا الموافقة عىل طباعته؛ ولكن أحد األصدقاء طلب أن‬
‫عتت عىل النص ر‬ ‫ً‬
‫مفقودا إىل أن ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫المتجم بخط يدي عام‬ ‫وبق‬
‫يطلع عىل التجمة رقيل النش‪ ،‬فأضاعه‪ ،‬ي‬
‫ً‬
‫اف المركونة قبل طباعته عىل اآللة الطابعة‪ ،‬وبذلك أصبح جاهزا للطبع‬ ‫‪ 2015.‬من ربي أور ي‬
‫ً‬ ‫وقد ضمنا ر‬
‫الكثت من المصطلحات‬ ‫متخطي بها ر‬
‫ر‬ ‫التجمة ثبتا بالمصطلحات األجنبية المستعملة يف الكتاب‪،‬‬
‫اإلنكلتية؛‬
‫ر‬ ‫الت شاع استعمالها مع كونها ليست دقيقة بالضبط‪ ،‬وكانت ترجمتنا (كاملة) لنص الطبعة‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫ي‬
‫بحيث لم نحذف شيئا من الكتاب‪ ،‬أو نزيد عليه عىل أمل أن يتمكن قارئ الفلسفة من أن يطلع عىل‬
‫‪.‬مشكالت الفلسفة كما يراها رسل‬

‫‪.‬سمير عبده‬
‫دمشق‬
‫مقدمة المؤلف‬

‫يمكنت التحدث بشأنها بصورة‬ ‫ر‬


‫الت‬
‫ي‬ ‫حاولت عت هذه الصفحات االقتصار عىل المشكالت الفلسفية ي‬
‫السلت فقط هو خارج عن نطاق هذا البحث‪ ،‬ولهذا السبب احتلت‬ ‫ألن أعتقد أن النقد‬ ‫إيجابية وبناءة؛‬
‫ي‬ ‫يً‬
‫حتا يف هذا الكتاب أعظم مما احتلته نظريات ما وراء الطبيعة‪ .‬أما الموضوعات الفلسفية‬ ‫نظرية المعرفة ر‬
‫كثتا بالبحث والنقاش فقد عالجتها بإيجاز إذ جاز يىل هذا القول‪ .‬ولقد حصلت عىل‬ ‫ً‬ ‫الت تناولها الفالسفة ر‬ ‫ر‬
‫ي‬
‫غت المنشورة للعالمة ج‪ .‬أ‪ .‬مور والعالمة ج‪ .‬م‪ .‬كيت‪ ،‬فقد أفدت من األول‬‫مساعدة قيمة من البحوث ر‬
‫معرفت بروابط الحقائق الحسية يف األشياء المادية‪ ،‬كما أن أفدت من اآلخر ما يتعلق بمبدأي األرجحية‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫ومقتحات التوفيسور‪ ،‬جلتت مورى‬ ‫‪.‬واالستقراء‪ ،‬وأفدت أيضا إىل درجة عظم من انتقادات‬
‫الواقع والظاهر‬
‫اليقي ال يستطيع اإلنسان العاقل الشك فيها؟ هذا السؤال الذي ال يبدو عند‬
‫ر‬ ‫هل ثمة معرفة يف العالم تبلغ إىل درجة من‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫الت تقف يف سبيل جواب‬ ‫عستا» هو ف الحقيقة من أصعب ما يمكن التساؤل عنه؛ وحينما ندرك العقبات ي‬ ‫ر‬ ‫النظرة األوىل‬
‫صحيح موثوق به نكون قد رشعنا ف دراسة ا لفلسفة‪ ،‬فما الفلسفة سوى المحاولة لإلجابة عن هذه األسئلة القصوى‪ ،‬إجابة‬
‫ال توصف بالخلو من العناية وال بالمذهبية كما نفعل ف الحياة العادية بل ر‬
‫حت يف العلوم‪ ،‬ولكن من الناحية النقدية بعد‬
‫محتة؛ وبعد التأكد من الغموض واالضطراب اللذين تنطوي عليهما أفكارنا‬ ‫اكتشاف كل ما من شأنه أن يجعل هذه األسئلة ر‬
‫‪.‬العادية‬

‫التفكت‬
‫ر‬ ‫كثتة عىل أنها حقيقة عىل أساس الفحص الدقيق وال يمكننا إال بعد قر عظيم من‬ ‫إننا يف حياتنا اليومية نفرض أشياء ر‬
‫لبقي يصبح من‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ض البحث عن ا ر‬ ‫العميق أن نعرف ما الذي يمكننا أن نعتقد به ف ما يتعلق بالحقيقة هذا إىل أنه يف مع ِر ٍ‬
‫المعان يجب دون شك أن نستمد المعرفة منهاء ولكن أي حكم عما يمكن أن‬ ‫ي‬ ‫وف معت من‬ ‫الطبيع البدء بتجارينا الحارصة» ي‬ ‫ي‬
‫كرس حول منضدة‬ ‫عىل‬ ‫اآلن‬ ‫جالس‬ ‫أن‬ ‫ىل‬ ‫يبدو‬ ‫قد‬ ‫‪.‬‬‫للخطأ‬ ‫األرجح‬ ‫عىل‬ ‫معرض‬ ‫حكم‬ ‫هو‬ ‫معرفته»‬ ‫إىل‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫المباش‬ ‫تجاربنا‬ ‫تؤدي‬
‫ًي‬ ‫ي ي‬
‫المبان‬
‫ي‬ ‫أس أبرص خالل الناقذة عددا من‬ ‫‪.‬‬
‫ذات شكل محدود» حيث أرى فوقها صحائف مكتوبة أو مطبوعة وإذا أدرت ر ي‬
‫وتسعي مليون ميل عن األرضء وأنها كرة حارة أكت من األرض مرات‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫وإن ألعتقد أن الشمس تبعد ثالثة‬ ‫والسحب والشمس‪ .‬ي‬
‫غت محدود يف المستقبل‪ .‬وأعتقد أيضا أن أي‬ ‫ر‬
‫عديدة؛ وأنها بسبب دوران األرض تشق كل صباح؛ وستستمر يف ذلك إىل أجل ر‬
‫ه ذات‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الت أراها ي‬ ‫والمناضد والكتب واألوراق» وأن المنضدة ي‬ ‫ي ً‬
‫غرفت هذه يرى نفس ما أرى من الكراس‬ ‫ي‬ ‫إنسان سوي يدخل‬
‫اع‪ .‬كل ذلك بدو واضحا لدرجة تكاد أن ال تستحق الذكر ؛ إال يف جواب لرجل يشك‬ ‫ر‬‫ذ‬ ‫عىل‬ ‫تضغط‬ ‫بأنها‬ ‫أشعر‬ ‫ر‬
‫الت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ي‬ ‫المنضدة ي‬
‫يقتىص نقاشا دقيقا قبل أن‬ ‫ي‬ ‫بأنت ألم بأي قدر من المعرفة‪ .‬ومع ذلك فكل هذا يمكن من الناحية العقلية الشك فيه؛ وهو ما‬ ‫ي‬
‫‪.‬تصل إىل الثقة بأننا قد أفصحنا عنه بصورة صحيحة كاملة‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫للعي مستطيلة» بنية اللون المعة؛‬ ‫فه ر‬ ‫الت تعتضنا واضحة دعنا تركز اهتمامنا عىل المنضدة‪ .‬ي‬ ‫ولك نجعل الصعوبات ي‬ ‫ي‬
‫مع يف هذا الشأن أي شخص يرى هذه المنضدة‬ ‫وسيتفق‬ ‫‪.‬‬‫خشت‬ ‫صوت‬ ‫منها‬ ‫لخرج‬ ‫عليها‬ ‫طرقت‬ ‫ولو‬ ‫صلبةء‬ ‫باردة‬ ‫وللمس‬
‫حت ال تنشأ أية صعوية يف هذا الشأن»ي ولكن حالما نجرب أن نكون ر‬
‫أكت دقة تبدأ‬ ‫حي تطرق» ر‬
‫ي‬ ‫ويلمسها ويسمع صوتها ر‬
‫ر‬
‫الت تعكس الضوء‬ ‫ي‬ ‫اءها‬
‫ز‬ ‫أج‬ ‫فإن‬ ‫الواقع»»‬ ‫«ف‬
‫ي‬ ‫واحد‬ ‫لون‬ ‫ذات‬ ‫ائها‬
‫ز‬ ‫أج‬ ‫بجميع‬ ‫المنضدة‬ ‫أن‬ ‫أعتقد‬ ‫الظهور‪ .‬ومع ي‬
‫أن‬
‫ً‬
‫متاعبنا يف‬
‫ر‬
‫بأنت إذا تحركت ف‬
‫وأن ألعلم ي‬ ‫تبدو أشد لمعانا من أجزائها األخرى وبعض تلك األجزاء تبدو بيضاء بسبب الضوء المتعكس‪ .‬ي‬
‫حت ليختلف التوزي ع الظاهري لأللوان عىل وجه المنضدة‪ .‬ويأخذ من ذلك أنه لو كان‬ ‫الت تعكس الضوء؛ ر‬ ‫ر‬
‫تختلف األجزاء ي‬
‫عدد من‬

‫‪10‬‬
‫الناس ينظرون إىل المنضدة يف لحظة واحدة لما اتفق إثتان متهم عىل ما يريان من توزي ع األلوان بدقة» ذلك ألنه يتعذر أن‬
‫الت ينعكس فيها الضوء‬‫ر‬
‫تغيتا يف الطريقة ي‬
‫يقتىص ر‬
‫ي‬ ‫تغت يف وجهة النظر‬‫‪.‬يراها اثتان من وجهة نظر واحدة» وكل ر‬

‫يقىص عىل‬
‫ي‬ ‫إن هذه االختالفات ليست مهمة ألغلب األهداف العملية» ولكنها تتصف باألهمية الكاملة للرسام» إذ عليه أن‬
‫التفكت الذي يدعوه ألن يرى أن األجسام تبدو ولها من األلوان ما تراه الفطرة السليمة أنه ألوانها الحقة» وأن‬ ‫ر‬ ‫ما تعوده من‬
‫يعا ببداءة ذلك التميت الذي ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫التميت‬
‫ر‬ ‫وهو‬ ‫للفلسفة‬ ‫العناء‬ ‫من‬ ‫كثت‬
‫ر‬ ‫منه‬ ‫يأن‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫نلتق‬ ‫نحن‬ ‫وها‬ ‫‪.‬‬‫تبدو‬ ‫كما‬ ‫ء‬‫األشيا‬ ‫الصبار‬ ‫يتعود‬
‫ه‪ .‬فأما ما يريد أن يعرفه الرسام فهو األشياء كما تبدو»‬ ‫التميت ربي األشياء كما تبدوء واألشياء كما ي‬
‫ر‬ ‫ربي «الظاهر» ودالواقم»‬
‫ر‬
‫الت تعتض الجواب التام للسؤال بعينه‬ ‫ر‬
‫عىل أن رغبة الفيلسوف ف المعرفة أشد من رغبة الرجل العادي؛ وعلمه بالصعاب ي‬ ‫ر‬
‫‪.‬أكت من صاحب الشأن‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫الحقيق للمنفدة؛‬
‫ي‬ ‫غته كيما يكون اللون‬
‫إذا عدنا إىل المنضدة يتضح لنا مما رأيناه أن ثمة لونا يبدو بصورة بارزة بالنسبة إىل ر‬
‫معي منها فإنها تبدو ذات ألوان من مختلف وجوه النظر تتعدد بتعدد وجهات النظر إليهاء وليس هناك‬ ‫حت وال لون جزء ر‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫سبب العتبار بعضها أكت واقعية من األخرى‪ .‬بل نحن نعلم أنه حت نقطة رؤية معينة واحدة يبدو اللون مختلفا من جراء‬
‫تتغت‬
‫الضوء المصطنع؛ أو لرجل يستعمل نظارات زرقاء » ولو أن المنضدة يف الظالم ال لون لها عىل اإلطالق مع أنها ال ر‬
‫بسبب اللمس‬

‫‪11‬‬

‫ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬


‫الت يسقط النور عىل المنضدة‪ .‬وحينما‬‫سء يرتكز إىل الناظر والطريقة ي‬ ‫والسمع» منطويا يف طبيعة المنضدة» ولكنه ي‬
‫نعت نوع اللون كما يدو لمشاهد سوى من وجهة نظر عادية يف ظروف‬ ‫نتحدث يف حياتنا العادية عن لون المنضدة؛ فإننا ي‬
‫ً‬
‫الت ُتبدو تحت شوط أخرى جديرة بأن تعد مثل ذلك اللون» ألوانا حقيقية‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫عادية من الحياة‪ .‬ولكن األلوان راألخرى ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مجتون عىل إنكار أن للمنضدة ة يف ذاتهاء ؛ لونا خاصا معينا‪ .‬إن مثل هذا يصدق‬ ‫التحت فنحن ر‬
‫ر‬ ‫لك نتجنب‬ ‫حقيقية؛ لذلك ي‬
‫للعي المجردة»؛ فيما عدا خطوط األلياف الخشبية» صقيلة مستوية‪ .‬ولكنا لو نظرنا إليها‬ ‫عىل تركيية المتضدة‪ .‬فه ًتبدو ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العي‬
‫من خالل المجهر لرأينا شيئا من الخشونة يف سطحهاء إذ نرى خشونة ولمعانا وأنماطا أخرى من االختالفات ال تشعر ر‬
‫المجردة بهاء فأيهما المنضدة «الواقعية»؟ نحن بالطبع أميل إىل القول بأن ما نراه خالل المجهر أقرب إىل أن يكون المنضدة‬
‫بالعي المجردة» فكيف يكون‬ ‫ر‬ ‫الواقعية» ولكن ذلك الذي تراه يختلف لو نظرنا خالل مجهر أقوى» فإن كنا ال نثق بما نرى‬
‫معي؟ وهكذا تهجرنا مرة ثانية ثقتنا‬
‫لنا أن نثق بما نراه خالل مجهر ر‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫الت عوكنا عليها يف البدء‪ .‬ليس شكل المنضدة بأحسن حاال من لونها وتركيبها‪ .‬فكلنا نجري عىل سننا يف الحكم عىل‬
‫بحواستا ي‬
‫حت لنحسب أننا نرى يف الحقيقة األشكال الواقعية‪ .‬ولكن إن أردت‬‫تفكت ر‬
‫ر‬ ‫األشكال «الواقعية» لألشياء؛ ونفعل ذلك من دون‬
‫حي نحاول الرسم»‬ ‫سء من األشياء يختلف شكله باختالف وجهة النظر إليه كما يكون علينا أن نتعلم ذلك ر‬ ‫ر‬
‫الحق» فإن أي ي‬
‫فلو كانت المنضدة مستطيلة‬

‫‪12‬‬
‫ً‬
‫متفرجتي‪ .‬ولو كانت «‬
‫ر‬ ‫وأخريي‬
‫ر‬ ‫حادتي‬
‫ر‬ ‫اويتي‬
‫يف الواقع»؛ فإنها سوف تبدو من جميع نقط الرؤية إليها تقريباء وكأن لها ز ر‬
‫متوازيتي» فإنهما تبدوان كأنهما تلتقيان يف نقطة بعيدا‬
‫ر‬ ‫ًالجهتان المتقايلتان‬

‫ان أطول من الجهة البعيدة وكل هذه أمور ال‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ذان طول متساوء فإنهما تبدوان وكأن الجهة القريية من الر ي‬
‫ان» وإن كانتا ي‬
‫عن الر ي‬
‫«الواقع» من الشكل الظاهر» والشكل‬ ‫ي‬ ‫تالحظ عادة عند الرؤية للمنضدة» ذلك ألن التجربة علمتنا أن نؤلف الشكل‬
‫يتغت‬
‫ر‬ ‫اه‬
‫ر‬ ‫ت‬ ‫وما‬ ‫اه؛‬
‫ر‬ ‫ن‬ ‫مما‬ ‫مستنتج‬ ‫ء‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫وهو‬ ‫اه‬
‫ر‬ ‫«الواقع» ليس كما ت‬ ‫عمليي‪ .‬ولكن الشكل‬
‫ر‬ ‫«الواقع» هو الذي يعيننا كأناس‬
‫ي‬ ‫ًي‬ ‫ي‬
‫شكله باستمرار حيثما نتحرك خالل الغرفة» فالحواس هنا أيضا ال تعطينا الحقيقة عن المنضدة ذاتهاء بل عىل ظاهرة‬
‫المنضدة فحسب‬
‫ً‬
‫ولو تأملنا حاسة اللمس لنشأت لنا صعاب مشابهة‪ .‬فصحيح أن المنضدة تجعلنا نحس دوما بالصالبة» ونشعر أنها تقاوم‬
‫هذا الضغط» لكن ما نشعر به من إحساس يعتمد عىل مقدار ضغطنا وعىل الجزء الضاغط من جسمناء وعىل هذا‬
‫فاألحاسيس المتأتية من درجات متفاوتة من الضغوط أو من أجزاء مختلفة من الجسم » ال يمكن اعتبارها كاشفة بصورة‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫ه المسببة‬ ‫ي‬ ‫تشت إىل صفة ماء ولعل هذه الصفة‬
‫مباشة عن صفة محددة من صفات المنضدة؛ بل غالبا ما تكون إشارات ر‬
‫لما نشعر به من أحاسيس؛ وإن لم تكن ف الواقع ظاهرة بالفعل ف تلك األحاسيس نفسها‪ .‬ومثل هذا يصدق بوضوح ر‬
‫أكت‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫‪.‬عىل ما ينبعث من المنضدة من أصوات حينما يطرق عليها‬

‫‪13‬‬

‫ولهذاء فمن الجىل إن صحة هذه الصفة ف المنضدة الحقيقية ال تطابق ما نعانيه ر‬
‫مباشة من خالل البرص أو اللمس أو‬
‫ر‬ ‫ي ً‬
‫قطعا مما نعرفه ر‬
‫ي‬
‫المباشة‪.‬‬ ‫مباشة وال تعدو أن تكون نتيجة نستنتجها من تلك المعرفة‬ ‫السمع‪ .‬إنها عىل فرض وجودها ليست‬
‫ً‬
‫عستان وهما‬
‫ر‬ ‫‪:‬ولذلك ينشا عن ذلك سؤاالئ‬

‫هل هناك منضدة واقعية؟‪1-‬‬

‫سء يا‪2-‬‬‫ر‬
‫إن كان الجواب إن فأي ي‬
‫واضحا محددة ولذلك فسنطلق لفظ «الحقائق الحسية» عىل تلك األشياء ر‬ ‫ً‬
‫الت نصل‬ ‫بعىص االصطالحات مما يكون ممناما‬
‫مباشة عن طريق األحاسيس‪ :‬كاأللوان واألصوات والروائح والصالبة والخشونة وهلم جراء وسنطلق لفظ‬ ‫إىل معرفتها ر‬
‫حت نعرف هذه األشياء معرفة ر‬
‫مباشة بتلك األشياء‪ .‬وهكذاء حينما نرى لونا ماء فإن ما نقوم به هو اإلحساس‬ ‫«اإلحساس» ر‬
‫الوع فهو‬
‫ي‬ ‫فأحد موضوعات الحس» وليس هو باإلحساس‪ً .‬فاللون هو ما نكون عىل ي‬
‫وع به؛ أما‬
‫ً‬
‫باللون» أما اللون نفسه‬
‫ظاهرة حسية وليس إحساسا‪ .‬ويتضح من هذا أنه إذا كان لنا أن نعرف شيئا عن المنضدة» فسبيلنا إىل ذلك إنما هو الحقائق‬
‫الحسية ‪ -‬اللون البتء الشكل المستطيل» النعومة… إلخ مما تعرفه عادة بالمنضدة؛ وال يمكنناء لما تقدم من األسباب‬
‫مباشة للمنضدة‪ .‬ومن هنا‬‫حت وال القول بأن الحقائق الحسية خصائص ر‬ ‫القول بأن المنضدة إنما ه الحقائق الحسية» ر‬
‫ي‬
‫‪.‬تتجم مشكلة العالقة ربي الحقائق الحسية والمتضدة الواقعية هذا عىل فرض وجودها‬

‫‪14‬‬
‫ر‬
‫«الشء المادي»‪ .‬وعلينا أن ننظر ف العالقة ربي الحقائق الحسية‬ ‫أما المنضدة الواقعية» إذا وجدت؛ فسنطلق عليها‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫يىل‬
‫اآلنق الذكر كما ي‬
‫ي‬ ‫الت يطلق عليها جميعا اصطالح «المادة»‪ .‬وستعدل سؤالينا‬
‫‪:‬واألشياء المادية ي‬
‫هل هناك مادةة يف الوجود؟‪1-‬‬
‫ً‬
‫إن كان الجواب إثاتا؛ فما طبيعتها؟‪2-‬‬

‫غت مستقلة عنا هو‬ ‫الت تدعو لحسبان األشياء المؤثرة ف حواسنا ر‬
‫مباشة ر‬ ‫عت خاصة بذكر األسباب ر‬ ‫وقد كان أول فيلسوف ر‬
‫ي‬
‫المتتشككي والمالحدة‬
‫ر‬ ‫كىل (‪ .)1753 - 1685‬فقد حاول يف كتابه المحاورات الثالث ربي هيالس وفيلونوس إزاء‬ ‫األسقف ربت ي‬
‫سء يدع مادة قطء وأن العالم ال يتألف إال من العقول واألفكار» ويبدأ «هيالس» يف‬ ‫أن شد يثبت أن ليس هناك من ر‬
‫ً‬ ‫ي‬ ‫ً‬
‫الحوار مؤمنا بالمادة ولكنه لم يكن قرينا ل «فيلونوس» الذي يدفع به دون رحمة إىل جملة من المتضادات والنقائض»‬
‫خطت‬ ‫الت يستخدمها فذات رصوب مختلفة؛ منها ما هو‬ ‫ر‬ ‫وينته إىل تقرير إنكاره للمادة وكاية أمر فطري سليم‪ .‬أما الت ر‬
‫ر‬ ‫اهي ي‬
‫كىل فضل أنه من ربي أن وجود المادة أمر يمكن‬ ‫واضح الحجة سليمهاء ومنها ما هو مضطرب أو ما يقوم عىل اإلبهام‪ .‬لكن ر‬
‫لبت ي‬
‫ر‬
‫إتكاره دون أن يكون موضع سخف» وأنه إن كانت ثمة أشياء موجودة مستقلة عنا فه حتما ليست الموضوعات المباشة‬
‫‪ ١‬ألحاسيسنا‪.‬‬

‫ثمة مشكلتان مختلفتان ينطوي قيهما السؤال عما إذا كانت المادة موجودة؛ ومن المهم أن نوضحهما‪ .‬ونحن ي‬
‫نعت عادة‬
‫ًبالمادة شيئا‬

‫‪15‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫الوع‪ .‬وب هذا‬
‫ي‬ ‫وغت قابل بصورة جذرية ألي شكل من أشكال الفكر أو‬ ‫يقابل العقل» شيثا نفكر فيه باعتباره يشغل مكانا ر‬
‫ه يف‬ ‫ر‬
‫الت نعدها عادة عالمات عىل وجود المنضدة ي‬ ‫كىل المادة» أي أنه ال يتكر أن الحقائق الحسية ي‬
‫المعت خاصة ينكر ربت ي‬
‫عقىل» أي الاهر بعقل وال بابتكار ينطوي عليها‬ ‫غت‬‫الشء هو ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫سء مستقل عناء ولكنه ال ينكر أن هذا ي‬ ‫الواقع عالمات عىل ي‬
‫عقل ماء وهو يقر أنه ال بد أن يكون هناك رسء ما مستمر الوجود إذا غادرنا الغرفة أو أغمضنا عيوناء وأن ما ندعوه رؤية‬
‫ر‬ ‫بشء ما يستمر وجوده ر‬ ‫ر‬
‫الشء ال يمكن‬
‫ً‬ ‫حي ال ننظر إليه‪ .‬ولكنه يرى أن هذا ي‬ ‫حت ر‬ ‫ً‬ ‫المنضدة يحملنا يف الحقيقة عىل االعتقاد ي‬
‫أن يختلف يف جوهره عما نراه وال يمكنه أن يكون مختلفا بصورة جوهرية عما نرى» وإن كان من الالزم أن يكون مستقال عن‬
‫كىل بهذه الصورة إىل أن يعد المنضدة «الواقعية؟ فكرة يف عقل هللا‪ .‬وهذه الفكرة تحتوي عىل الديمومة‬ ‫رؤيتنا‪ .‬وينساق ربت ي‬
‫ً‬
‫ه الحال يف المادة شيئا ال يمكن معرفته بمعت أننا ال نستطيع إال أن‬ ‫تكون كما ي‬ ‫واالستقالل عن ذواتناء من دون أن‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫‪.‬نستنتجه؛ وال يمكنا إال معرفته وشيكا ومباشة‬
‫ً‬
‫كىل أنه؛ بالرغم من أن وجود المنضدة مثال ال يعتمد عىل رؤيتنا لها فإنه يعتمد عىل أن يراها أو‬
‫وقد أقر فالسفة آخرون بعد ربت ي‬
‫ً‬
‫الجماع للكون‪ .‬وهم يتمسكون بهذا‬ ‫ي‬ ‫العقل‬ ‫الغالب‬ ‫ف‬‫ي‬ ‫ولكن‬ ‫هللا‬ ‫عقل‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫حتما‬ ‫وليس‬ ‫يدركها يف اإلحساس عقل ماء‬
‫ر‬
‫حقيق » وعىل كل حال يمكن أن يعلم أنه‬ ‫سء‬‫ر‬
‫ي‬ ‫كىل ألنهم أوال يرون أنه ال يمكن أن يكون هناك ي‬
‫الرأيء كما يتمسك به ربت ي‬
‫ر‬
‫‪.‬حقيق العقول وما فيها من أفكار ومشاعر‬
‫ي‬

‫‪16‬‬

‫ر‬
‫الت يؤيدون فيها رأيهم يف‬
‫ويمكتنا اإلفصاح عن الحجة ي‬
‫ر‬
‫التفكت فيه سوى األفكار‬
‫ر‬ ‫سء يمكن‬‫يقة كهذه‪« :‬كل ما يمكن أن نتفكر فيه؛ هو رأي يف عقل الشخص الذي يفكر به» إذن ال ي‬
‫‪ ».‬يًف صميم العقول» وإذن فكل ما عدا ذلك ال يمكن تصوره وكل ما ال يمكن تصوره ال يكون موجودا‬
‫ً‬
‫كثتا؛ سواء أكان‬
‫أن وقد عرضته ر‬ ‫فه دليل فاسد يف رر ي‬
‫وهذه الحجةً وإن كان من يأخذون بها ال يعرضونها بالطبع بصورة فجةء ي‬
‫وكثت من الفالسفة» وريما أكتهم قد اعتقدوا بأن ال يوجد‬ ‫ذلك صحيحا أم الء وقد عرضت هذه الحجة بصورة مختلفة‪ .‬ر‬
‫تفست المادة؛ إما أن يقولواء كما‬
‫ر‬ ‫(مثالي؟ وهم حينما يعالجون‬
‫ر‬ ‫واقع سوى العقول وأفكارها‪ .‬ويسم مؤالء الفالسفة‬ ‫سء‬ ‫ر‬
‫‪ »)1716‬إن ما يدو (‪ 1646‬قال بتكىل إن المادة ليست ف الحقيقة إال مجموعة من األفكار ‘وإما أن يقولوا كما قال ر‬‫ي‬ ‫ي‬
‫ليبنت‬ ‫ي‬ ‫ر ي‬
‫ر‬
‫‪.‬مادة هو يف الواقع مجموعة من العقول األكت أو األقل بدائية‬

‫عىل أن هؤالء الفالسفة بالرغم من أنهم ينكرون المادة باعتبارها مقابلة للعقل» فهم مع ذلك يقبلون المادة بمعت آخر‪.‬‬
‫سؤالي» وهما‬
‫ر‬ ‫‪:‬ولعلنا نتذكر أننا سألتا‬

‫أهناك منضدة واقعية عىل اإلطالق؟‪1-‬‬


‫ر‬ ‫ً‬
‫ه أفكار ‪2-‬‬‫كىل يقول إنما ي‬
‫كىل وليينت ًيقران أن هناك متضدة واقعية» إنما ربت ي‬
‫وإذا كان األمر كذلك فسا رماهيتها؟ وكال من ربت ي‬
‫ه مستوطنة نفوسا‪ .‬فكالهما يجيبان عن سؤالنا األول إيجابيا وإنما يختلفان عما يراه‬ ‫معينة يف عقل هللا؛ وليبتت يقول إنما ي‬

‫‪17‬‬

‫ً‬
‫الثان‪ .‬ويبدو يف الواقع أن كل الفالسفة تقريبا يتفقون عىل أن ثمة منضدة واقعية‪:‬‬
‫ي‬ ‫الناس العاديون يف الجواب عن السؤال‬
‫ً‬
‫فكلهم تقريبا يتفقون بأنه مهما تكن حقائقنا الحسية ‪ -‬كاللون والشكل والنعومة إل معتمدة عليناء فإن حدوثها عالمة عىل‬
‫ً‬
‫وجود رسء مستقل عناء رسء لعله يختلف تماما عن حقائقنا الحسية ‪ -‬ومع ذلك فإنه يعتت سببا يف حقائقنا الحسية كلما‬
‫‪.‬كنا عىل صلة مالئمة بالمنضدة الواقعية‬
‫ويبدو أن هذا الرأي الذي يتفق عليه الفالسصفة ‪ -‬أي أن هناك منضدة واقعية؛ مهما تكن طبيعتها ‪ -‬رأي حيوي» ومن‬
‫الجدير بالعناية أن نتحرى األسباب لقبول هذا الرأي قبل أن نتوجه بالسؤال عن طبيعة المتضدة الواقعية‪ .‬ولذلك فسنعت‬
‫الت تدعو إىل وجود منضدة واقعية‬ ‫ر‬
‫الثان باألسباب ي‬
‫ي‬ ‫‪ .‬يف الفصل‬

‫حت اآلن‪ .‬فقد بدا لنا أننا إذا أخذنا أي رسء‬


‫وقبل أن نتبسط ف الموضوع» يجدر بنا أن نتأمل برهة ما أوصلنا إليه البحث ر‬
‫ي‬
‫مباشة عنه» ليس مقدار ما هو متفصل عناء بل‬ ‫عادي مما يظن أننا نعرفه عن طريق الحواس» فإن ما تبشابه الحواس ر‬
‫الشء ذاته‪.‬‬‫ر‬ ‫الحقيقة المتعلقة ببعض الحقائق الحسية ‪ -‬ر‬
‫وبي ي‬ ‫الت تعتمد» بقدذر ما نرىء عىل ما يتعلق بالروابط بيننا ر‬
‫مباشة «ظاهر» الذي نعتقد بأنه إشارة ل «واقع» ينطوي وراءه؛ ولكن إذا كان الواقع ليس‬ ‫وهكذا فإن ما نبرصه ونشعر به ر‬
‫هو ما يظهرء فهل لدينا أي وسيلة نعلم بها وجود واقع عىل اإلطالق؟ وإذا كان األمر كذلك» فهل لدينا أي وسيلة للكشف‬
‫عن طبيعة هذا الواقعم؟‬

‫‪18‬‬

‫حت الفرضيات الغريية قد ال تكون صادقة‪ .‬فالممضدة‬ ‫مثل هذه األسثلة تبدو مذهلة؛ ومن الصعب علينا أن نعلم أنه ر‬
‫ر‬
‫حت اآلن» أصبحت مشكلة مكتنفة باالحتماالت العجيبة‪ .‬والشء الوحيد الذي نعلمه‬ ‫الت أثارت أقل األفكار فينا ر‬
‫المألوفة ر‬
‫ر‬
‫فليبت يقول‬ ‫التخمي‪.‬‬ ‫عنها هموأنها ليست كما تبدو‪ .‬أما ما هو أبعد من تلك النتيجة المعتدلة» فإنا نجوز عىل أكمل حرية يف‬
‫ر‬
‫كىل يقول إنها فكرة يف عقل هللا» والعلم الحديث يكاد أن يكون أقل عجباء فه (المنضدة)‬ ‫وبت ي‬
‫إنها طائفة من النفوس» ر‬
‫‪.‬مجموعة عظيمة من الشحنات الكهربائية يف حركة عنيفة‬
‫ً‬ ‫وف ر‬
‫معتك هذه االحتماالت العجيبة؛ يوج بنا الشك بأن ليس ثمة منضدة مطلقا‪ .‬والفلسفة إن لم تستطع اإلجابة عىل‬
‫تثت أسئلة تزيد من اهتمامنا بالكون وتكشف عن الغرابة والدهشة‬
‫كثتة كما نرغب» فإنها عىل األقل تستطيع أن ر‬
‫أسئلة ر‬
‫حت ف ر‬
‫أكت األشياء إلفة يف الحياة اليومية‬ ‫‪.‬الكامني وراء سطح األشياء ر‬
‫ي‬ ‫ر‬

‫‪19‬‬

‫أ لجا‬

‫وجود المادة‬
‫ذان مستمر حينما‬ ‫ر‬
‫المعان حقيقة وجود المادة» وهل هناك منضدة لها وجود ي‬ ‫ي‬ ‫يف هذا الفصل سنسائل أنفسناء بأي معت من‬
‫ه إال‬ ‫ما‬ ‫الت‬‫ال ينظر الر ران إليهاء آم ه منضدة خيالية ف حلم طويل األمدء وليست إال منضدة وهمية تبدو لنا ف حياتنا ر‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي ً‬ ‫ً‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫يقي من وجود األشياء وجودا مستقالء فكذلك ال تكون‬ ‫حلم ممتد؟ هذه مسألة بالغة األهمية» ذلك أننا إن لم نكن عىل ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يقي من أن ألجسام الناس وجودا مستقالء ولذلك فليس ثمة دليل لوجود عقول للناس إال ما هو مستمد من مشاهدة‬ ‫عىل ر‬
‫ً‬
‫تائهي يف يف الصحراء بمفردنا وقد ال يكون‬‫ر‬ ‫كأننا‬ ‫فتصبح‬ ‫مستقال»‬ ‫وجودا‬ ‫لألشياء‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫الوثوق‬ ‫تستطع‬ ‫لم‬ ‫فإذا‬ ‫أجسامهم»‬
‫غت مري ح لما يبيعثه من شعور‬ ‫الخارج كله سوى حلم عابر » ونحن منفردون يف الوجود فحسب» وهذا المكان ر‬ ‫ي‬ ‫العالم‬
‫بالوحشة والمضايقة» وكما كان من المتعذر التهان عىل بطالن هذا الفرض؛ فليس لدينا أوه دليل عىل صدقه؛ وعىل ذلك‬
‫‪.‬ستى يف هذا الفصل ِل ْم كان األمر كذلك‬‫ر‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫تعيي نقطة ثابتة نوعا ما نبد منها البحث» ذلك أننا رغم‬ ‫عىل أننا قبل الخوض يف بحث األمور المشكوك فيها ستلجاأ إىل ر‬
‫الت جعلتنا ندرك أن هناك منضدة ونحن‬ ‫ر‬
‫شكنا يف الوجود المادي للمنضدة» ليس لنا سبيل إىل الشك يف الحقائق الحسية ي‬
‫معيني يظهران‬
‫ر‬ ‫حي نتظر إىل المنضدة ال يساورنا الشك قيما ثراه من لون وشكل‬ ‫ر‬

‫‪21‬‬

‫معي بالصالبة» عىل أننا ال نتناول هذه األمور بالبحث‬


‫لنا كما هو الحال وتحن نضغط عليها فيما نجربه من إحساس ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والتساؤل» وال نشك بكل هذا من الناحية النفسية؛ مهما يكن هناك من الشك يدو أكيدا تماما؛ فال يجوز لنا أن نشك يف‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫الت تبدو أمورا مستيقنة ال يجوز الشك بواقعها‬
‫‪.‬بعض هذه اإلدراكات عىل األقل ي‬
‫كبت الجدوى ‪ -‬وهو نسق‬ ‫إن ديكارت (‪ )1650-1596‬مؤسس الفلسفة الحديثة هو الذي ابتكر منهجه الذي ال يزال إىل اليوم ر‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫سء مالم يتبينه أنه حق بوضوح ودقة فهو يشك يف كل ما وجد سبيال إىل‬ ‫المنهج الذي به يقرر أنه ال يعتقد بأي ي‬
‫ي‬ ‫الشك‬
‫حت يرى الذي يمتعه من الشك» وقد أوصلته طريقته بالتدري ج إىل االقتناع بأن األمر الوحيد‬ ‫الشك فيه ويستمر ف الشك ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫غت حقيقية ف‬ ‫يقي تام من وجوده هو وجوده نفسه» فلقد تصور شيطانا خداعا قد عرض ألحاسيسه صور ر‬ ‫الذي هو عىل ر‬
‫أالعيب التخيل الدائمةء وهذا الشيطان عىل األرجح غ رت موجود ولكنه عىل أية حال ممكن الوجود؛ وعليه فمن الجائز أن‬
‫‪.‬يشك المرء فيما يدركه من أشياء يف حواسه‬
‫ً‬
‫فغت ممكن ألنه إذا لم يكن موجودا فال يستطيع الشيطان أن يخدعه ؛ وإذا شك فهو إذن ‪ ٠‬أما شك المرء‬ ‫يف وجوده نفسه ر‬
‫ً‬
‫‪.‬‬
‫يعان المرء أية تجارب ليكون موجودا ولذا فإن وجوده ذاته كان حقيقة مطلقة بالنسية إليه (أنا أفكر‬
‫ي‬ ‫يكق أن‬
‫موجودء إذ ي‬
‫ً‬ ‫اليقي ر‬
‫يبت عالم المعرفة الذي هدمه بشكوكه‪ .‬ولقد قدم ديكارت بابتكاره فهما‬ ‫ع‬‫ش‬ ‫ر‬ ‫هذا‬ ‫أساس‬ ‫وعىل‬ ‫موجود)ء‬ ‫فأنا إذن‬
‫ي ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫مديني‬
‫ر‬ ‫ه أكت األشياء تأكيدا خدمة جىل للفلسفة ال يزال الباحثون فيها إىل الوقت الراهن‬‫الت ي‬
‫وتبي األشياء الذاتية ي‬
‫للشك ر‬
‫له بالعرفان الجميل بسبيها‬

‫‪22‬‬
‫ً‬
‫إن ديكارت أدى خدمة جىل للقلسفة جعلته بصورة مستمرة دليال لكل طالب العلم الذين يتحرون عن الذات ألنا أفكر فأنا‬
‫اليقي من أنه اليوم هو نفسه باألمس؛ وهذا حق ال ريب فيه يف وجه من‬ ‫ر‬ ‫ويعت ذلك أن الواحد منا عىل تمام‬
‫ي‬ ‫إذن موجود)ء‬
‫يقي بالمنضدة الواقعية فهذه الذات‬ ‫عست عش الوصول إىل ر‬ ‫يقي مطلق يف الذات الواقعية أمر ر‬ ‫الوجوه‪ .‬ولكن الوصول إىل ر‬
‫البت فالذي‬ ‫لونها‬ ‫وأرى‬ ‫ر‬
‫منضدن‬ ‫أرى‬ ‫فحينما‬ ‫الجزئية؛‬ ‫للتجارب‬ ‫يكون‬ ‫الذي‬ ‫القاطع‬ ‫المطىل‬ ‫اليقي‬ ‫الواقعية ال يدو أن لها ذلك‬
‫ر‬
‫ي ً‬ ‫ي‬ ‫ً ً‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬
‫يكون يقينا يف الحال ليس (أنا أرى لونا بنيا اآلن» بل إن لونا بنيا هو ف حالة الرؤية‪ .‬وهذا القول يتضمن يف الحقيقة شيئا أو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫البت؛ ولكنه اليدل عىل وجود شخص عىل حال من الدوام والثبات نوعا ما يدع (أنا) فأقىص ما‬ ‫(إنسانا) يرى ذلك اللون ي‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الشء الذي‬
‫يقي المباش هنا هو أن نقول أن هذا الشء الذي يرى اللون البت مؤقت تماما؛ وأنه ليس ذات ي‬ ‫نصل إليه من ال ر‬
‫‪.‬يقوم عىل تجرية أخرى يف التهة التالية‬

‫يقي إنما هو أفكارنا ومشاعرنا الخاصةء ويصدق هذا عىل األحالم واألوهام كما يصدق عىل‬
‫ولهذا فإن ما نكون منه عىل ر‬
‫ر‬
‫حقيق‬ ‫وجود‬ ‫له‬ ‫بنا‬ ‫تمر‬ ‫أحاسيس‬ ‫من‬ ‫نظنه‬ ‫ما‬ ‫أن‬ ‫المؤكد‬ ‫فمن‬ ‫طيفاء‬ ‫تشاهد‬ ‫أو‬ ‫نحلم‬ ‫حينما‬ ‫فنحن‬ ‫اإلدراكات الحسية السوية‪:‬‬
‫ي‬ ‫ً‬
‫سء مادي يطابق تلك األحاسيس‪ .‬ولهذاء فليس علينا‬ ‫ر‬
‫يف تجاربناء لكن هناك أسبابا متعددة تحمل عىل القول بأن ليس من ي‬
‫ر‬
‫اليقي الذي نصل إليه من معرفتنا بتجاربنا الخاصة عىل الحاالت العادية بل أنه ليشمل حت الحاالت الشاذة‬
‫أن نقترص ر‬
‫في أيدينا إذن أساس صلب ر‬
‫نشع منه بتتبع بم المعرفة‬ ‫ر‬ ‫واألوهام؛‬ ‫‪.‬كاألحالم‬

‫‪23‬‬

‫ً‬
‫ه‪ :‬لو فرضنا أننا متأكدون من حقالقنا الحسية» فهل لدينا أي سبب ألن نعدها دليال عىل وجود‬
‫إن المسألة الجديرة بالنظر ي‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫الت يجب أن نعتتها مرتبطة بالمنضدة‬
‫غتها مما يمكن أن ندعوه شيئا ماديا» فإذا أحصينا ًكل الحقائق الحسية ي‬
‫سء أخر ر‬ ‫ي‬
‫ر‬
‫غتها ليس بالحقيقة الحسية؛ فما يمكن أن يياع ويشتى‬‫فهل هذا كل ما يجب أن ما نقوله عن المنضدة أم أن ثمة شيئا آخر ر‬
‫وينقل من مكان إىل مكان ويغىط بهذا الغطاء أو ذاك» ال يمكن أن يكون مجموعة من حقائق حسية فحسب إذا غطينا‬
‫ر‬
‫المنضدة بالغطاء ولم نقتبس أي حقائق من المنضدة؛ ولهذا لو كانت المنضدة حقائق حسية» النتقت عن الوجود ويق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غت معقول» ولكن عىل من‬‫الغطاء معلقا ف القضاء قائما بمعجزة يف المكان الذي كانت تشغله المنضدة سابقا؛ وهو قول ر‬
‫غت المعقولة‬
‫‪.‬يصاب بالوجل أن يروض نفسه عىل أال تصده عن البحث األشياء ر‬

‫سء مادي» عالوة عىل الحقائق الحسية» يف أن الناس‬ ‫ر‬


‫ويكمن السبب المهم الذي يجعلنا نشعر بأنه ال بد من وجود ي‬
‫عشة رجال حول منضدة الطعام» فمن هذر القول أن ال يروا‬ ‫الشء المادي نفسه‪ .‬فإذا جلس ر‬ ‫المختلف ري يتأثرون بذلك ر‬
‫ري‬
‫والسكاكي والمالعق واألكواب» ولكن ما يصدر عن هذه األشياء حقائق حسية يختلف‬
‫ر‬ ‫جميعهم غطاء المنضدة والشوك‬
‫ر‬
‫الجالسي حقائق حسية خاصة به ألن ما هو ماثل مباش ة أمام نظر أحدهم ليس هو الماثل‬
‫ً ر‬ ‫باختالف كل فرد» فلكل من‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫مباشة أمام نظر اآلخرء فهم جميعا يرون األشياء من وجوه نظر مختلفة اختالفا ضئيال؛ وما يرونه جميعا يختلف باختالف‬
‫أفرادهم؛ فإذا أريد وجود أشياء مادية عامة‬
‫مشاعة بي الجميع بحيث يكون من الممكن أن ر‬
‫يشتك يف معرفتها‬ ‫ر‬
‫‪24‬‬

‫المختلفي‪.‬‬
‫ر‬ ‫غت الحقائق الحسية الجزئية الخاصة ر‬
‫الت تبدو مختلفة للناس‬ ‫الناس المختلفوت» فال بد أن تكون هذه األشياء ر‬
‫ولذا ما الذي يحملنا عىل االعتقاد بوجود أشياء عامة ملك الكل؟‬

‫ختلفي يمكن أن يختلفوا يف رؤيتهم‬ ‫ر‬ ‫وأول جواب يخطر بصورة طبيعية عىل بال اإلنسان» هو أنه عىل الرغم من أن الناس الم‬
‫ً‬
‫قواني‬
‫ر‬ ‫التغيتات فيما يرون تتبع‬ ‫ر‬ ‫للمنضدة فهم كلهم يرون أشياء متشابهة أبعد شبها حينما ينظرون إىل المنضدةء وهذه‬
‫حت أنه من السهل الوصول إىل رسء ثابت ينتطوي ف جميع حقائق الناس الحسية‪ .‬فأنا حي ر‬
‫اشتيت‬ ‫المنظور وانعكاسه» ر‬
‫ر‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ولكت‬ ‫ر‬
‫الت اختفث بتكه الغرفة»‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫غرفت لم أستطع أن أشتي حقاقه ًالحسية ي‬ ‫ي‬ ‫منضدن من الرجل الذي كان يسكن‬
‫ي‬
‫الت كانت لذلك الرجلء وعىل‬ ‫ر‬ ‫امستطعت أن ر‬
‫للحقائق الحسية ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أشتي ما توقعت أن يكون له حقائق حسية مشابهة تقريا‬
‫وف أوقات مختلفة يملك‬ ‫مختلفي يملكون حقائق حسية متشابهة وأن شخصا واحدا يف كل مكان ما‬ ‫ر‬ ‫هذا فإن كون أناس‬
‫يً ً‬ ‫ً‬
‫حقائق ف حسية متشابهة؛ هو الذي يحملنا عىل الظن بأن هناك فوق الحقائق الحسية شيئا عاما ثابتا يكمن وراء الحقائق‬
‫ً‬
‫‪.‬الحسية ويكون سببا فيما يراه الناس المختلفون يف األوقات المختلفة منها‬
‫ً‬
‫غتنا نحن يرمون إىل الجواب المطلوب نفسهء فإن ما ‪-‬‬
‫واآلن بما أن االعتبارات السابقة ترتبط بظننا أن هناك أناسا آخرين ر‬
‫حقائق اللحسية» فليس لدي سبب لالعتقاد بأن‬ ‫ر‬ ‫الناس ار فا سا ا مادية مستفلة عن‬
‫ي‬

‫‪25‬‬

‫ه نقسها‬ ‫النامس اآلخرين موجودون إال كجزء من حلمء؛ والنستطيع أن نعود إىل شهادة اآلخرين ألن هذه الشهادة تتضمن ي‬
‫‪.‬‬
‫حقائق حسية وال تظهر تجارب الناس اآلخرين» إال إذا كانت حقائق أحاسيسنا ه عالمات عن األشياء المستقلة عنا من‬
‫ً‬
‫تبي أن ثمة يف العالم‬
‫تتمت بها هذه التجارب تتع إىل ر‬
‫أجل ذلك أصبح لزاما علينا إذا”أمكن أن نجد يف تجاربنا الرصفة صفات ر‬
‫ً‬ ‫أشياء غت ذواتنا وغت تجاربنا الخاصة‪ .‬علينا أن ر‬
‫نعتف عىل وجه ما أننا ال نستطيع أبدا أن نتهن يف معت ما عىل وجود‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫تفش ومن أفكاري ومشاعري وأحاسيش وأن كل ما‬ ‫مت‬ ‫األشياء سوى وجودتنا وتجاربتاء فالفرض القائل بأن العالم مؤلف‬
‫ي‬ ‫يً‬ ‫ر‬
‫ولكت أجد عند اليقظة أنه‬‫ي‬ ‫أمام‬
‫ي‬ ‫يمثل‬ ‫التعقيد‬ ‫شديد‬ ‫عالما‬ ‫منطقء فقد يبدو يف األحالم أن‬ ‫عدا ذلك ليس إال بهذر وسخف‬
‫الت نستنتج وجودها‬ ‫ر‬ ‫كان محض وهم (وبعبارة أخرى إن الحقائق الحسية يف األحالم ال بيدو أن لها ما يطابقها من األشياء‬
‫ي ً‬
‫بصورة طبيعية يف حالة البيقظة وصحيح أنه إذا فرضنا وجود العالم المادي كان من الممكن أن نجد أسبابا مادية للحقائق‬
‫ً‬
‫حي يغلق بشدة مثال إىل حلم بمعركة بحرية» ولكن عىل الرغم من أنه يوجد يف‬ ‫الحسية يف األحالم» فقد يبعث قرع الباب ر‬
‫الت تطابق بها معركة‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫سء مادي مطابق للحقائق الحسية بالكيفية ي‬ ‫هذه الحالة سبب مادي للحقائق الحسية فليس من ي‬
‫ه إال حلم نتخيل فيه‬ ‫بحرية حقيقية حقائقها الحسية)‪ .‬وليس من استحالة منطقية ف الفرض القائل بأن الحياة كلها ما ي‬
‫الت تتمثل أمامناء إال أنه بالرغم من أن هذا الفرض ليس‬ ‫ر‬
‫بأنفسنا جميع األشياء ي‬
‫‪26‬‬
‫لتفست كل ما يقع يف حياتنا الخاصة لكان‬ ‫مستحيال منطقيا فليس من سبب ر‬
‫الفتاض صحته بل أنه فقرض لو اتخذناه وسيلة‬
‫ر‬
‫توج به الفطرة السليمة من وجود أشياء مستقلة عنا تماما يتسبب عن فعلها فينا أحاسيسنا‬
‫ي‬ ‫‪.‬أصعب من الغرض الذي‬
‫ً‬
‫حي‬‫وإذا كان األمر كذلك فإنه ليدو جليا لماذا نصف بالسهولة الغرض القائل بأن يف الحياة أشياء مادية حقيقية‪ .‬مثل ذلك ر‬
‫الطبيع أن نظن أنه قفز من المكان‬
‫ي‬ ‫وف لحظة أخرى يقفز إىل مكان آخ قمن‬ ‫يظهر القط يف لحظة يف مكان ما من الحجرة ي‬
‫األول إىل مكان جديد مارا بمجموعة من األمكنة ربي المكان الذي بدأ منه والمكان الحسية نه ال يمكن أن يكون قد وجد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مطلقا يف أي مكانأرا يه وبناء عىل ذلك» يجب أن نفرض أنه لم يكن موجودا مطلقا حينما لم أكن ناظرا إليه ؛ ولكنه قفز إىل‬
‫ً‬
‫تجارن كيف يجوع‬
‫ي‬ ‫فإن أستطيع أن أفهم من‬ ‫كان القط موجودا سواء رأيته ًأو لم أره ي‬ ‫الوجود فجأة فوجد يف مكان جديد؛ وإذا‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫ربي وجبة وأخرى؛ ولكنه إذا لم يكن موجودا حينما ال أراه فإنه يدو غريا أن شهيته للطعام تنشأ من خالل فتة عدم وجوده‬
‫فتة وجوده؛ وإذا كان القط يتكون من حقائق حسية فقط فإنه ال يمكن أن يجوع ألن الجوع‬ ‫الت تنشأ بها خالل ر‬
‫ر‬
‫بالشعة ي‬
‫ر‬
‫الذي يكون حقيقة حسية ىل هو جوع أنا فقطء فهذه الحقائق الحسية الت تمثل يىل ما يقوم به القط وهو جائع بالرغم من‬
‫ستغتة مثلها‬
‫ر‬ ‫تفستها قط إذا اعتتناها مجرد حركاتء وبقع من اللون‬ ‫ر‬ ‫كتعبت عن الجوع ال يمكن‬
‫ر‬ ‫أنها تبدو يىل بصورة طبيعية‬
‫‪.‬ف عدم قابليتها للشعور بالجوع مثل المثلث يف عدم قابليته ألن يلعب كرة القدم‬ ‫ي‬

‫‪27‬‬

‫ً‬
‫تفست سلوك الناس‪ .‬فعندما يتكلم الناس ‪ -‬أي‬ ‫ر‬ ‫تفست سلوك القط ال تعد شيئا إذا قورنت بالصعوبة يف‬ ‫ر‬ ‫عىل أن الصعوبة ف‬
‫ً‬
‫لتحابت الوه د فمن‬
‫ر‬ ‫وتغتات معينة‬
‫وف الوقت نفسه نرى حركات معينة للشفاه ر‬ ‫تسمع أصواتا معينة ُنقرنها باألفكار» ً ي‬ ‫حيثما‪:‬‬
‫ً‬
‫تعبتا عن فكرة؛ كما تعرف عن أنفسنا حينما نخرج من أفواهنا تلك األصوات‬ ‫الصعب جدا أن نظن أن ما تسمعه ليس ر‬
‫الت نكون فيها عىل خطأ فيما يتصل بوجود الناس اآلخرين واألشياء‬ ‫نفسها‪ .‬ومثل هذه األشياء تحدث بالطبع ف األحالم؛ ر‬
‫ي‬ ‫ي ً‬
‫تفستها بمقتىص‬ ‫توج بها إىل درجة ما تسميه حياة البقظةء وممكن‬ ‫مما‬ ‫استلهاما‬ ‫المادية األخرى‪ .‬ولكن األحالم ه ر‬
‫أكت‬
‫ر‬ ‫ي ً‬ ‫ي ً‬ ‫ً‬ ‫» إذا ر‬
‫افتضنا أن ثمة عالما حقيقيا يف الواقع‪ .‬وإذا‪ .‬كل مبدا للبساطة يدفعتنا إىل اختيار النظرة الطبيعية» ألن ‪ ٠‬مبادئ علمية‬
‫ً‬
‫وغت حقائقنا الحسية وأن لها وجودا ال يعتمد عىل إدراكنا لها‬‫غت أنفسنا ر‬ ‫– …هنالك أشياء أخرى يف الحقيقة ر‬

‫خارج مستقل عن طريق إقامة الدليل؛ بل‬ ‫ي‬ ‫الطبيع أننا ال نستطيع عن طريق الحجة بأننا وصلنا يف اعتقادنا إىل عالم‬
‫ي‬ ‫ومن‬
‫التفكت وهو ما يمكن أن يدع باالعتقاد الغريزي» وما كان يجب علينا‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫أننا نجد هذا االعتقاد شيئا يف صميمنا حينما نشع يف‬
‫ه‬ ‫أنها‬ ‫بالغريزة‬ ‫اإلنسان‬ ‫يعتقد‬ ‫ت‬‫أن نشك ف هذا االعتقاد لوال حالة الرؤية عىل األقل؛ كأنما الحقيقة الحسية نفسها ه ال ر‬
‫ي‬ ‫ً‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬
‫الخارج ال يمكن أن يكون مطابقا للحقيقة الحسية‪ .‬وهذا‬ ‫ء‬ ‫الش‬ ‫تبي لنا الحجة بأن ر‬
‫ر‬ ‫بينما‬ ‫»‬ ‫المستقل»‬ ‫الخارج‬ ‫ر‬
‫الشء‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫االكتشاف ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬الذي ال يتناقض أبدا يف حالة الشم والذوق والصوت‬

‫‪28‬‬
‫غت ناقص ألن هناك أشياء تقايل دقائق‬ ‫وإىل حد ضئيل يف حالة اللمس إن هذا االكتشاف مع ذلك يدع اعتقادنا الغريزي ر‬
‫تفستنا لتجارينا؛ فال يبدو أن‬
‫ر‬ ‫حسنا‪ .‬ويما أن هذا االعتقاد ال يؤدي إىل أية مصاعب؛ بل عىل العكس يتع إىل اختصار منهج‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الخارج هو موجود يف‬
‫ي‬ ‫هناك سبا وجيها إلنكاره‪ .‬نحن إذن نستطيع أن نقبل مع شك قليل مستمد من األحالم ‪ -‬بأن العالم‬
‫‪.‬الواقع وال يرتبط وجوده باستمرارنا إلدراكنا‬

‫لكثت من الحجج الفلسفية؛‬


‫وه نموذج ر‬ ‫ر‬
‫إن الحجة الت أدت بنا إىل هذه النتيجة ه دون شك أقل قوة مما كنا نرغب فيه؛ ي‬
‫نبي باختصار صحتها وصفتها العامة‪ .‬وقد وجدنا أن كل معرفة نصل إليها يجب أن تبت عىل عقائدنا‬ ‫ولهذا فإن المجدي أن ر‬
‫اآلخر»‬ ‫البعض‬ ‫من‬ ‫أقوى‬ ‫القطرية‬ ‫معتقداتنا‬ ‫بعض‬ ‫أن‬ ‫نجد‬ ‫أندا‬ ‫عىل‬ ‫ذلك؛‬ ‫بعد‬ ‫ء‬ ‫س‬ ‫الفطرية» فإذا رفضت هذه ال ر‬
‫يبق ثمة ر‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫المفتض خطأ أنها‬ ‫واالقتان لست يف الواقع معتقدات غريزية؛ ولكن من‬ ‫بينما أصبحت معتقداتنا الغريزية عن طريق العادة‬
‫‪.‬تؤلف جزءا مما يعتقد أنه غريزي‬

‫الت نتمسك بها تمسكا شديدا بحيث تعرض كل واحدة‬ ‫ر‬


‫معتقداتنا الغريزية مبتدئة بتلك ي‬
‫ً‬
‫تبت لنا التدرج يف‬
‫الفلسفة أن ي‬
‫ً‬
‫وعىل‬
‫غت المالئمة» ما أمكن ذلك» كما يجب أن نعت ببنيان أن‬
‫منها منفصال عن المعتقدات األخرى ومجردا عن اإلضافات ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫الت تعرض فيها ال يتضارب بعضها مع بعض» بل تؤلف نظاما منسقا وليس لدينا من‬ ‫األختة ي‬
‫ر‬ ‫معتقداتنا الغريزية يف الصورة‬
‫سبب إلتكار معتقد غريزي» وليس ثمة سبب لرفضها إال إذا اصطدمت مع‬

‫‪29‬‬

‫ً‬
‫‪.‬المعتقدات الغريزية األخرى‪ .‬ولكن إذا وجدت المعتقدات الغريزية متناغمة فالنظام بجملته يصبح جديرا بالقبول‬
‫ً‬
‫يست من الشك؛ ولكن‬ ‫ومن الممكن بالطبع أن كل المعتقدات أو بعضها قد يكون خطاء فالواجب أن نعتتها‪ ,‬جميعا مع قدر ر‬
‫غته» ولهذا تستطيع بتنظيم معتقداتنا الغريزية ونتائجها وبالتأمل‬
‫ليس لدينا سيب لرفض معتقد إال عىل أساس معتقد آخر ر‬
‫فيما هو أحرى أن يعدل أو يرفض إذا اقتضت الرصورة عىل أساس قبول المعتقدات الغريزية وحدها أن نقبل حقائق وحيدة‬
‫ً‬
‫تبق فيها إمكانية الخطأ موجودة بحيث أن احتمالها يتناقص ربتابط‬ ‫الت قد ر‬
‫ر‬
‫نسق بمعرفتنا ي‬
‫ي‬
‫غريزيا بتنظيم نظام ر‬ ‫الت نؤمن بها‬
‫ي‬
‫ر‬
‫‪.‬أجزائها وبتدقيق الناققد الذي يسبق القبول بها‬
‫ً‬
‫إن الفلسفة تستطيع أن تؤدي هذه الوظيفة عىل األقلء وأغلب الفالسفة يعتقدون سواء كانوا خطأ أم صوابا أن الفلسفة‬
‫ر‬
‫الت ال يمكن الوصول إليهاء المعرفة المتعلقة‬ ‫ر‬
‫بكثت من هذاء أي أنها تستطيع أن تمنحنا المعرفة ي‬
‫تستطيع أن تعمل أكت ر‬
‫الت رأشنا إليها يمكن‬
‫ر‬
‫النهان‪ .‬وسواء كان األمر كذلك أو لم يكن » فإن الخدمة المتواضعة ي‬
‫ي‬ ‫بالكون؛ والمتعلقة بطبيعة الواقع‬
‫أن تؤديها الفلسفة» وهذه خدمة تكق ف نظر هؤالء الذين يشكون ف كفاية الفطرة السليمة لتسوي غ الجهود الشاقة‬
‫الت تنطوي المشكالت الفلسفية عليها‬ ‫ر‬
‫‪.‬والحادة ي‬
‫‪30‬‬

‫طبيعة المادة‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫اهي قاطعة أن من المعقول أن نؤمن بأن حقائقنا الحسية مثال تلك‬ ‫لقد اتفقنا يف الفصل السابق دون أن نستطيع إيجاد بر ر‬
‫سء مستقل عنا وعن مداركنا الحسية‪ .‬ومعت ذلك أنت‬ ‫مقتنة بالمنضدة ‪ -‬ه ف الحقيقية إشارات عىل وجود ر‬ ‫الت تعدها ر‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫ي ي‬ ‫ً‬
‫وغت ذلك» الذي يؤلف مظهر المتضدة كما تبدو يىل؛‬ ‫أفرض أن هناك شيئا ييخىط إحساسات اللون والصالبة والصخب ر‬
‫ر‬
‫عيت؛ وإحساس‬ ‫الشء‪ .‬فإحساس اللون ينقطع عن الوجود إذا أغمضت ي‬ ‫وليست هذه الحقائق الحسية إال مظاهر لهذا ي‬
‫اع عن مالمسة المنضدة؛ وإحساس الصوت ينقطع عن الوجود إذا كففت عن نقر‬ ‫الصالبة ينقطع عن الوجود إذا أبعدت ذر ي‬
‫إن ألعتقد عىل العكس من‬ ‫ولكت ال أعتقد أن المنضدة تتقطع عن الوجود حينما تتقطع هذه األشياء؛ بل ي‬ ‫ي‬ ‫بأصابع‪.‬‬
‫ي‬ ‫المنضدة‬
‫اع‬
‫عيت أو أعيد وضع ذر ي‬
‫ذلك أنه بسبب استمرار ًوجود المنضدة ال بد أن يتكرر ظهور جميع الحقائق الحسية حينما أفتح ي‬
‫بأصابع والسؤال الذي يجب أن نبحثه ف هذا الفصل هو‪ :‬ما طبيعة هذه المنضدة‬ ‫ي‬ ‫عىل المنضدة وحينما أبدا ثانية بنقرها‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫الحش؟‬
‫ي‬ ‫الت يستمر وجودها مستقال عن إدراكنا‬ ‫‪.‬الحقيقية ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غت تام نوعا ماء وال يزال فرضيا يف بعض نواحيه؛ ومع‬
‫الطبيع عن هذا السؤال؛ وإن كان جوابه يف الحقيقة ر‬ ‫ي‬ ‫ويجيبنا العلم‬
‫الطبيع‬
‫ي‬ ‫العلم‬ ‫أن‬ ‫عىل‬ ‫‪.‬‬‫ما‬ ‫حد‬ ‫إىل‬ ‫بالتقدير‬ ‫جدير‬ ‫ذلك فهو‬

‫‪31‬‬

‫غت واعية دفع إىل األخذ بالرأي القائل أن جميع الظواهر الطبيعية يجب أن تتحول إىل حركات» فالضوء والحرارة‬ ‫بصورة ر‬
‫والصوت» ترجع كلها إىل حركات تموجية تنتقل من الجسم الذي تصدر عنه إىل الشخص الذي يرى الضوء أو يشعر بالحرارة‬
‫األثت وأما أن تكون ف المادة الفجةء أي فيما يدعوه الفيلسوف‬ ‫أو يسمع الصوت‪ .‬وهذه الحركات التموجية إما أن تكون يف ر‬
‫الحالتي كلتيهما‪ .‬والخاصيتان الوحيدتان اللتان ينسبهما العلم إىل المادة هما الوجود يف مكان والقدرة عىل الحركة‬
‫ر‬ ‫مادة يف‬
‫‪.‬‬
‫لقواني الحركة وال ينكر العلم أنه قد يكون لها خصائص أخرى» فإذا كان األمر كذلك» فإن مثل هذه الخصائص‬ ‫ر‬ ‫طبقا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تفست الظواهر‪ .‬يقال أحيانا «إن الضوء هو رصب من رصوب الحركة‬ ‫ر‬ ‫عىل‬ ‫مطلقا‬ ‫تساعده‬ ‫وال‬ ‫العلم»‬ ‫رجل‬ ‫تفيد‬ ‫ال‬ ‫األخرى‬
‫ً‬ ‫التموجية»» ولكن هذا القول مضلل ألن الضوء الذي نراه ف الحال والذي نعرفه ر‬
‫مباشة بأحاسيسنا ليس رصبا من الحركات‬ ‫ي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ً ر‬ ‫ر‬
‫سء نعرقه جميعا إذا لم نكن عمانا؛ ولو أننا ال تستطيع وصفه بحيث تقل‬ ‫سء يختلف عنها اختالفا تاما؛ ي‬ ‫التموجية بل هو ي‬
‫معرفتنا عنه إىل رجل رصير» والحركة التموجية عىل العكس من ذلك يمكن أن توصف وصفا دقيقا لرجل رصيرء؛ إذذ‬
‫يستطيع أن يفهم معرفة المكان بحاسة اللمس ويستطيع أن يجرب حركة تموجية يف رحلة بحرية» كما نستطيع أن نفعل»‬
‫ً‬
‫نعت بالضوء شيئا ال يستطيع الرصير أن يفهمه‬‫ولكن ً هذا الذي يستطيع أن يفهمه الرصير» ليس ما نعنيه بالضوء» فنحن ي‬
‫مطلقا؛ كما ال نستطيع‬

‫‪ً.‬أن نصفه له أبدا‬


‫‪32‬‬

‫ر‬ ‫ر‬
‫الخارج‪ .‬إنما هو ي‬
‫سء‬ ‫ي‬ ‫الشء الذي يعرفه المبرصون منا ال يوجد يف الحقيقة‪ .‬كما ر‬
‫يمت بذلك العلم» يف العالم‬ ‫وإن هذا ي‬
‫عيت وأعصاب ودماغ الرجل الذي يرى الضوء‪ .‬حينما يقال بأن الضوء هو أمواج‬ ‫تأثت بعض التموجات عىل ي‬ ‫يتسبب بفعل ر‬
‫الشء الذي يجربه‬‫ر‬
‫ألحاسيسنا بالضوءء ولكن الضوء نفسه» أي ي‬ ‫ً‬
‫لطبيع‬
‫ي‬ ‫ه السبب ا‬ ‫يقصد بذلك يف الحقيقة أن األمواج ر ي‬
‫المبرصون وال يجربه العميان؛ ال يفتض العلم أنه يؤلف جزءا من العالم المستقل عنا وعن حواستاء ومشل هذه المالحظات‬
‫ً‬
‫‪.‬تماما تنطبق عىل األنواع األخرى من األحاسيس‬
‫ً‬
‫وال يرى العلم أن األلوان واألصوات وما شاكلها وحدها خارجة عن المادة» بل المكان أيضا كما تتصل به عن طريق النظر‬
‫ً‬
‫واللمس‪ .‬فمن الرصوري للعلم أن تشغل مادته مكانا ماء ولكن هذا المكان الذي تشغله ال يمكن أن يكون تماما المكان الذي‬
‫ً‬
‫نراه ونشعر به» فالمكان أوال كما نراه ليس هو المكان نفسه؛ كما ندركه بحاسة اللمس‪ .‬وإنما نتعلم عن طريق التجربة يف‬
‫الت نشعر أنها تمسنا» ولكن المكان كما يعرفه العلم»‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الت نراها أو كيف نرى األشياء ي‬
‫الطفولة فقطء كيف تلمس األشياء ي‬
‫‪.‬يختلف عن المكان المدرك باللمس وعن المدرك بالنظر» فال يمكن أن يكون هذا أو ذاك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫نقىص‬
‫ي‬ ‫الشء نفسه بأشكال مختلفة طبقا لوجهة نظرهم‪ .‬خذ مثال قطعة النقد المستديرة؛ مع أننا‬‫إن ًمختلف الناس يرون ي‬
‫دائما يأنها مستديرة تبدو بيضاوية الشكل» إذا لم تكن أمامنا تماماء فنحن حينما نحكم بأنها مستديرة يكون معت ذلك أن لها‬

‫‪33‬‬

‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫الحقيق هو الذي‬
‫ي‬ ‫شكال حقيقيا؛ ولكنه ليس الشكل الظاهري» بل الشكل الذي يتعلق بجوهرها دون مظهرها‪ .‬هذا الشكل‬
‫ر‬
‫الحقيق شامل»‬ ‫الف المكان الذي ريتاءدى لمختلف الناس‪ .‬فالمكان‬
‫حقيق » ي‬‫ي‬
‫ر‬ ‫ُيعت العلم به ويجب يجب أن يكون يف مكان‬
‫ر‬
‫حقيق ال‬ ‫الحقيق الذي يحوز عىل شكل‬ ‫ر‬ ‫والشء نه يدو بأشكال مختلفة» ولذا فإن المكان‬ ‫والمكان الظاهر خاص بالمشاهد‪ .‬ر‬
‫ي ً‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬
‫بد أن يكون مختلفا عن األماكن الخاصة‪ .‬فالمكان يف نظر العلم مع أنه مرتبط مع األمكنة ي‬
‫الت نراها أو نشعر بها ليس مطابقا‬
‫ر‬
‫تقتىص البحث‬
‫ي‬ ‫‪.‬لها‪ .‬والطريقة ي‬
‫الت يرتبط بها‬
‫ً‬
‫لقد اتفقنا بصورة مؤقتة أن األشياء الطبيعية ال يمكن أن تكون مشابهة تماما لحقائقنا الحسية وتعتت مسببة ألحاسيسنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وه ما نسميه مكانا (طبيعيا)‪ .‬ومن المهم أن نالحظ بأن أحاسيسنا‬ ‫ه يف المكان الذي يعتته العلم؛ ي‬ ‫وهذه األشياء الطبيعية ي‬
‫طبيع يضم هذه األشياء كما يضم أعضاء الحس‬ ‫ي‬ ‫مكان‬ ‫ثمة‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫بد‬ ‫فال‬ ‫طبيعية‬ ‫أشياء‬ ‫عن‬ ‫إذا أريد أن تكون ناشئة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫حتا يف المكان‬ ‫سء نتصل به؛ أي حينما يشغل جزءا من جسمنا ر‬ ‫بالشء بواسطة ي‬ ‫ي‬ ‫واألعصاب والدماغ؛ ونحن نظل عىل حس‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الشء‬
‫الشء ً بصورة تقريبية حينما ال يحول جسم معتم ربي ي‬ ‫الشء ونرى ي‬‫‪.‬‬ ‫الطبيع قريبا تماما من المكان الذي يشغله ي‬ ‫ي‬
‫الطبيع‪ .‬وكذلك نسمع أو نشم أو نتذوق شيئا من األشياء حيتما تكون عىل مقربة كافية منه أو حينما‬ ‫ي‬ ‫وعيوننا يف المكان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يلمس لساننا أو يشغل موضعا مالئما يف‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫سء ما يف‬ ‫الطبيع بال بة لج منا‪ .‬والز تطيع أن ‪ :‬شع يف التحدث عن األحاسيس المختلفة ي‬
‫الت نستمدها من ي‬ ‫ي‬ ‫المكان‬

‫‪34‬‬

‫طبيع واحد‪ .‬وبصورة رئيسة تكون المواضع النسبية‬ ‫ر‬


‫ي‬ ‫مختلف الظروف» إال إذا‪ .‬نظرنا إىل ي‬
‫الشء وإىل جسمنا كليهما يف مكان‬
‫ر‬
‫الشء المذكور‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الت نستمدها من ي‬ ‫الت تحدد األحاسيس ي‬‫ه ي‬ ‫‪.‬بالشء وجسمنا ي‬
‫ي‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫األكت غموضا» تظهر لنا أحاسيس أخرى‪ .‬فإذا كان األمر‬ ‫إن أمكنتنا الخاصة سواء أكانت مكانا للنظر أم مكانا للمس أم األمكنة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أين جواب ر‬
‫تتمت فيه األشياء الطبيعية‪ .‬فاألشياء‬
‫الشط كما يفرض العلم والفطرة السليمةء فإنثمة مكانا طبيعيا شامال ر‬
‫أكت مقابلة بمواضعنا النسبية والحقائق الحسية ف أماكنها الخاصة؛‬ ‫الطبيعية ف المكان الطبيع يجب أن تكون أقل أو ر‬
‫ً‬
‫وليس هناك من صعوبة ف اف رتاض أنت أزى كذلك‪ .‬فإذا رأينا عىل طريق ما بيتا أقرب إلينا من بيت آخرء فإن حواسنا األخرى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ستؤيد ما وصلنا إليه بحاسة النظر» فالوصول إليه مثال يأخذ زمنا أقل مما يأخذه البيت الثان‪ .‬وسيتفق معنا الناس اآلخرون‬
‫ً‬
‫التخطيىط‬
‫ي‬ ‫عىل القول بأن البيت الذي يظهر لنا أقرب من اآلخر هو يف الحقيقة أقرب منه؛ وسيؤيدنا يف ذلك أيضا الرسم‬
‫البيتي مطابقة للعالقة المكانية ربي الحقائق‬ ‫يشت إىل عالقة مكانية ربي‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫سء إذن ر‬ ‫الت يقع فبها المتالن» فكل ي‬ ‫للجهة ي‬
‫ر‬
‫البيتي» ولنا أن نفرض إذن وجود مكان مادي يكون لألشياء المادية الت تحل فيه‬ ‫ر‬
‫الت ندركها ونحن ننظر إىل‬
‫ر‬ ‫الحسية ي‬
‫الت تقوم ربي الحقائق الحسية المقابلة لتلك األشياء يف أماكنها الخاصة؛ وهذا هو‬ ‫ر‬
‫عالقات مكانية مقابلة لتلك العالقات ي‬
‫والفتياء‬ ‫ر‬
‫‪.‬المكان المادي الذي تتناوله الهندسة ويفتضه علما الفلك‬
‫ر‬

‫‪35‬‬

‫أما إذا فرضنا أنه بوجود مكان مادي وأنه يقابل األم كنة الخاصة عىل التحو الذي ذكرناه» فما الذي نستطيع أن نعرفه عن‬
‫يعت أننا ال نستطيع أن نعرف ما‬ ‫ر‬
‫الت بها ضمان المطابقة» وهذا ي‬ ‫هذا المكان؟ إننا تستطيع أن نعرف فقط األمور الرصورية ي‬
‫هو ذلك المكان المادي يف ذاته؛ ولكننا نستطيع أن نعرف نوع ترتيب األشياء المادية الذي ينتج من عالقاتها المكانية فنعرف‬
‫ً‬
‫مثال أن األرض والقمر والشمس تكون يف خط مستقيم واحد عند الخسوف ولو أننا ال نستطيع أن نعرف ما هو الخط‬
‫الطبيع يف ذاته مثل معرفتنا بشكل الخط المستقيم يف مكاننا التظري» وب هذه الصورة تعرف عن عالقات‬ ‫ي‬ ‫المستقيم‬
‫ر‬
‫المسافات يف المكان المادي أكت مما نعرف عن المسافات تفسهاء أي أننا نستطيع أن تعرف أن مسافة واحدة أطول من‬
‫مسافة أخرى أو أنها عىل امتداد الخط نفسه الذي عليه المسافة األخرى» ولكننا ال نستطيع أن نصل إىل معرفة ر‬
‫مباشة‬
‫غتها من الحقائق‬ ‫ر‬
‫الت نصل إليها بالمسافات ف أماكننا الخاصة أو باأللو ان أو األصوات أو ر‬
‫بالمسافات المادية كتلك ي‬
‫الحسية؛ فكل ما نستطيع أن نعرفه عن األشياء يف المكان المادي هو ما قد يعرفه رجل ولد رصيرا عن المكان كما يبدو للنظر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫الت ال يستطيع الرجل الذي ولد رصيرا أن يعرفها مطلقا عن المكان‬ ‫عن طريق ما يخته به الناس اآلخرون» أما تلك األشياء ي‬
‫كما يبدو للنظر فنحن أيضا ال نستطيع أن نعرفها كذلك عن المكان الماديء فنستطيع أن نعرف خواص تلك العالقات‬
‫ر‬
‫الت تقوم بينها تلك‬
‫الرصورية لضمان مطابقة األشياء المادية للحقائق الحسية ولكننا ال نستطيع أن نعرف طبيعة الحدود ي‬
‫‪.‬العالقات‬

‫‪36‬‬

‫غت موثوق بالنسية إىل الزمن الذي تسجله الساعةء فاألزمنة‬ ‫بمىص الوقت دليل ر‬
‫ي‬ ‫وفيما يخص الزمن فشعورنا بالديمومة أو‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫منرصفي إىل عمل لذيذ ممتع تمر شاعاء‬
‫ر‬ ‫الت نكون فيها‬
‫نقاس منها آالما تمر بطيشة»؛ واألزمئة ي‬ ‫ي‬ ‫الت‬
‫الت تثقل علينا أو ي‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫بالتميت ربي‬ ‫تقىص‬ ‫الت ننام فيها تمر وكأنها لم تكن موجودة؛ وعىل قدر ما يدو الزمن مؤلفا من مدة فإن الرصورة‬ ‫واألزمشة ي‬
‫رً‬ ‫ي‬
‫بالتميت ربي مكان عام ومكان خاص» ولكن بقدر ما يبدو الزمن مؤلفا من‬ ‫ر‬ ‫زمان عام وزمن خاص كما قضت الرصورة نفسها‬
‫مت الذي تبدو فيه الحوادث كما نشاهدها‬ ‫التميتء فالنظام الز ي‬
‫ر‬ ‫ترتيب سابق والحق ال نتكون يف حاجة إىل أن نقيم مثل هذا‬
‫النظامي مختلفان‪.‬‬ ‫أن‬ ‫اض‬ ‫بأية حال ر‬
‫الفت‬ ‫سبب‬ ‫يوجد‬ ‫وال‬ ‫الحقيقة؛‬ ‫الزمت نفسه الذي تملكه هذه الخوادث يف‬ ‫هو النظام‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫ومثل هذا يصدق غالبا عىل المكان» فإذا سارت كتيبة من الجنود فإن شكلها سيبدو مختلفا باختالف وجهات النظر‬
‫مرتبي يف النظام نفسه من جميع وجهات النظر ومن ثم فلنا أن نعد النظام يصدق أيضا‬ ‫ر‬ ‫المختلفة‪ .‬ولكن الجنود سيظهرون‬
‫‪.‬عىل المكان الماديء أما الشكل فال يعد مطابقا للمكان المادي إال بقدر ما يكون رصوريا لضمان حصول النظام فقط‬

‫وف قولنا بأن ترتيب الزمن الذي يبدو بأن الحوادث تتصف به هو ترتيب نظام الزمن نفسه الذي يكون عليه الواقع؛ وهو ما‬
‫ي‬
‫يجعل من الرصوري عندئذ أن ر‬
‫نحتس من سوء الفهم الممكن» وال يجب أن نفرض أن الحاالت المختلفة لألشياء الطبيعية‬
‫ر‬
‫الت تولف‬ ‫ر‬
‫المتنوعة لها التتيب نفسه الذي للحقائق الحسية ي‬

‫‪37‬‬

‫المدركات الحسية لألشياء‪ .‬ولنأخذ عىل سبيل المثال الرعد والتق من حيث هما شيئان ماديانء فهما يحدثان يف وقت‬
‫واحدء أي أن التق يحدث يف وقت واحد مع اضطراب الهواء ف المكان الذي يبدا فيه ذلك االضطراب أي حينما يحدث‬
‫الت ندعوها سماع الرعد ال تحدث إال بعد انتقال اضطراب الهواء ف المكان الذي نكون فيه؛‬ ‫التق؛ ولكن الحقيقة الحسية ر‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫الت مىص‬‫ر‬ ‫ر‬
‫ثمان دقائق حت يصل إليتاء فحينما نرى الشمس فإننا نتى الشمس ي‬ ‫وشبيه بذلك ضوء الشمس» فهو يأخذ تقريبا ي‬
‫األختة‬
‫ر‬ ‫ثمان دقائق» والدليل الذي تهدينا به الحقائق الحسية إىل الشمس المادية عن الوجود خالل الدقائق الثمان‬‫عليها ي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫التميت ربي الحقائق‬
‫ر‬ ‫ورة‬‫رص‬ ‫عىل‬ ‫واضحا‬ ‫مثال‬ ‫لنا‬ ‫يقدم‬ ‫وهذا‬ ‫‪.‬‬‫الشمس‬ ‫رؤية‬ ‫نسميها‬ ‫الت‬
‫ي‬ ‫الحسية‬ ‫الحقيقة‬ ‫من‬ ‫ذلك‬ ‫غت‬
‫لما ر‬
‫‪:‬الحسية واألشياء المادية‬

‫سء من األشياء يدو لنا‬ ‫ر‬


‫ما وجدناه بالنسبة للمكان هو ما نجده بالنسبة إىل الحقائق الحسية بمقابالتها الطبيعية» فإذا كان ي‬
‫اللوني» وإذا‬
‫ر‬ ‫الماديي يقابل االختالف الذي نشهده ربي‬
‫ر‬ ‫الشيئي‬
‫ر‬ ‫أزرق وآخر أحمر فإن لنا الحق أن نفرض وجود اختالف ربي‬
‫اللوني» ولكننا ال نأمل‬
‫ر‬ ‫أزرقي قلنا أن نفرض وجود تشابه بينهما يقابل التشابه الذي نشهده ربي‬
‫ر‬ ‫كان الشيئان كالهما بدوان‬
‫ر‬
‫الت نجعله يبدو مرة أزرق ومرة أحمر» والعلم يختنا أن‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الشء ًالمادي ي‬ ‫الحصول عىل معرفة مباشة عن الصفة الموجودة يف ي‬
‫معي من محطات تموجية؛ وهذا يبدو مألوفا ألننا نرى الحركات التموجية يف المكان الذي نكون فيه‪ .‬ولكن‬
‫هذه الصفة نوع ر‬
‫الحركات التموجية يجب حقيقة أن تكون يف مكان مادي‬

‫‪38‬‬

‫ر‬
‫تأن إال من‬ ‫ر‬ ‫ال نستطيع أن نتكون عىل معرفة ر‬
‫الست ال ي‬
‫ي‬ ‫مباشة به؛ فلسنا عىل ألفة بالحركات التموجية الحقيقية» تلك األلفة‬
‫المعرفة بالعيان‪ .‬وما يقال عن األلوان يقال عن الحقائق الحسية األخرى» وهكذا نجد أنه بالرغم من أن العالقات ربي‬
‫األشياء المادية لها جميع رصوب الخصائص القابلة للمعرفة المستنبطة من مقابلتها للعالقات الموجودة ربي الحقاثق‬
‫غت معروفة ف جوهرها بالنسبة إىل الحواس عىل األقل» ر‬
‫ويبق ربي أيدينا السؤال‬ ‫الحسيةء فإن األشياء المادية نفسها ر‬
‫ي‬ ‫تبق ر‬
‫‪.‬فيما إذا كان هناك وسيلة أخرى للكشف عن الماهية الذاتية لألشياء المادية‬

‫ه يف ما‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬


‫للدفاع عنهاء ي‬
‫ً‬
‫غت واضحة يف نهاية األمر‬ ‫الت تختارها بالدرجة األوىل مع أنها ليست أكتها ر‬‫وأكت الفرضيات طبيعية ي‬
‫الت كنا نعالجها أن تكون تماما كالحقائق‬‫ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الطبيعية ال يمكن لألسباب ي‬‫ً‬
‫يتعلق بالحقائق الحسية البرصية» مع أن األشياء‬
‫ً‬
‫أكت أ و أقرب شبها بهاء وتبعا لهذا الرأي يكون لألشياء الطبيعية مثال ألوان يف الحقيقة وقد نرى شيئا‬ ‫الحسية؛ ومع ذلك ه ر‬
‫ً‬
‫بيق يف الغالب متشابها من نقط الرؤية‬ ‫الشء فيه ف أية لحظة ر‬ ‫بالمصادفة ف لونه ي ر‬
‫الحقيق » فهذا اللون الذي يبدو هذا ر‬
‫ي‬
‫ر‬
‫“الحقيق” هو لون وسيط»‬ ‫اللون‬ ‫أن‬ ‫إذن‬ ‫نزعم‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫فنستطيع‬ ‫الحاالت»‬ ‫هذه‬ ‫جميع‬ ‫ف‬ ‫نفسه‬ ‫هو‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫وإن‬ ‫المختلفة‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫الت تبدو من وجوه النظر المختلفة‬ ‫‪.‬متوسط ربي ظالل األلوان المختلفة ر‬
‫ي‬
‫إن نظرية كهذه ال يمكن دحضها بصورة جازمة ولكن يمكن التهان عىل أنها ال ترتكز إىل أساس» فظاهر أوال أن اللون الذي‬
‫العي‬
‫الت تقع عىل ر‬‫ر‬
‫تراه يعتمد عىل طبيعة الحركات الضوئية ي‬

‫‪39‬‬

‫الت ينعكس الضوء بها من‬ ‫ر‬ ‫ر‬


‫ً‬ ‫بتأثت الكيفية ي‬
‫ر ً‬
‫الشء المادي وكذلك‬
‫وبي ي‬ ‫الوسيط القائم الذي بيننا ر‬ ‫يتغت بتأثت‬
‫ر ً‬ ‫فقط» وهو لذلك ر‬
‫سيغتها تماماء‬
‫ر‬ ‫يغت األلوان ما لم يكن صافيا؛ وأي انعكاس قوي‬ ‫العي أيضا‪ .‬فالهواء الذي يتوسط بيننا ر‬
‫الشء المادي باتجاه ر‬‫ر‬
‫ي‬
‫وبشط أن‬ ‫الشء الذي يصدر اإلشعاع عنه؛ ر‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫العي» وليس صقة ي‬ ‫وهكذاء فاللون الذي نراه هو نتيجة لإلشعاع الذي يصل إىل ر‬
‫الشء الذي صدرت عنه التموجات الضوتية لونا ماء وفيما إذا‬ ‫العي حيث ستى لونا ماء سواء أكان ر‬ ‫تصل بعض األمواج إىل ر‬
‫ي‬
‫الشء الذي تصدر عنه األمواج له لون أم لم يكن» إذن ليس هناك ما يتر اتخاذ مثل هذا الفرض‪ .‬ومشل هذا التدليل‬ ‫كان ر‬
‫ي ً‬
‫‪.‬ينطبق تماما عىل الحقائق الحسية األخرى‬

‫اهي فلسفية شاملة تمكننا‬ ‫ر‬


‫وييق بعد ذلك أن نتساءل هل ثمة بر ر‬
‫ً‬ ‫من القول بأن المادة حقيقة واقعية بحيث تكون طبيعة لصفة بأخرى؟ وكما أسلفنا من ر‬
‫كثت جدا من الفالسفة بل‬ ‫الشح» ر‬ ‫ً‬
‫واقع ب يجب أن يكون عقليا بمعت من المعان‪ .‬وأمثال همؤالء الفالفة يسمون‬ ‫ي‬ ‫ريما غالبيتهم قد اعتقدوا أن كل ما هو‬
‫ر‬
‫ذهت؛ أي (كما قال لييت) عقول أولية‪.‬‬ ‫(المشاليي)‪ .‬فالمشاليون يختوننا أن الذي ييدو أمامنا كمادة هو يف الحقيقة‬
‫عقىل أو ي‬‫ي‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫كشء يختلف‬‫الت (تدرك) المادة» كما نقول عادة‪ .‬فالمثاليون يرون وجود المادة ي‬ ‫ه أفكار يف العقول ي‬‫كىل) ي‬
‫(كما قال ربت ي‬
‫ً‬
‫أو‬
‫وف‬ ‫الخاصة»‬ ‫أحاميسنا‬ ‫عن‬ ‫مستقل‬ ‫موجود‬ ‫ء‬ ‫س‬ ‫تماما عن العقل ولو أنهم ال ينكرون أن حقائقنا الحسية عالمات عىل ر‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫غت صائبة‬ ‫الت قدمها المثاليون لتأييد نظريتهم ‪ -‬ولو أنها يف تظري آراء ر‬ ‫ر‬
‫‪.‬القصل القادم ستناول بإيجاز األسباب ي‬

‫‪40‬‬

‫الثالية‬

‫سء يكون موجوداء أو‬ ‫ر‬


‫يتخدم الفالسفة كلمة «المثالية» بمعان مختلفة إىل حد ماء وستقصد ًبها هنا ال ًرأي القائل بأن أي ي‬
‫يمكن أن يعرف بأن له وجودا عىل األقل‪ .‬ال بد أن يكون يف معت ما عقليا أو ذهنيا‪ .‬وهذا الرأي يأخذ به معظم الفالسفة يف‬
‫ً‬
‫واسعا ر‬ ‫ً‬ ‫كثتة مختلفة؛ البل ر‬
‫حت أن أي استعراض‬ ‫انتش هذا المذهب انتشارا‬ ‫أشكال عدة؛ وهم يدافعون عنه بأسباب ر‬
‫‪.‬للفلسفة ال بد أن يعرض له إذ أنه مذهب ممتع ر يف حد ذاته‬

‫الفلسق قد يتعون إىل رفض عقيدة كهذه لرأي غ رت مقبول‪ .‬فليس من شك أن النظرة السليمة‬
‫ي‬ ‫هؤالء الذين لم يعتادوا التأمل‬
‫‪.‬‬
‫تعد المناضد والكراس والشمس والقمر واألشياء المادية عامة» قد يستمر ولو اختفت هذه العقول فنحن تفكر يف المادة‬
‫الذهت فقط؛ ومهما‬
‫ي‬ ‫العست علينا أن نعد المادة مجرد نتاج للنشاط‬
‫ر‬ ‫باعتبارها موجودة قبل وجود العقول بزمن طويل؛ ومن‬
‫جىل البهتان‬
‫‪.‬يكن تصيب هذا المذهب من صحة أو فساد فليس أمامنا ما يدعو إىل رفضه واعتباره ي‬
‫وسبق لنا أن رأينا ف األشياء المادية؛ ر‬
‫حت ولو كانت الطبيعة ذات وجود مستقل» ال بد أن تختلف بصورة واسعة عن‬
‫الحقائق الحسية» وليس لها سوى التطابق مع هذه الحقائق» بنفس الطريقة‬

‫‪41‬‬

‫الت يصارع فيها تقويم ما يقابله من األشياء الواردة يف هذا التقويم‪ .‬إذن النظرة السليمة ال تهدينا إىل الطبيعة الذاتية لألشياء‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫ي‬
‫مشوعة ألنه يفاجئنا‬‫المادية» وإذا توافر لدينا سبب صحيح لحسبانها مدركات ذهنية؛ فإننا ال نجد مترا لرفضه بصورة ر‬
‫بغرائبه؛‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فحقيقة األشياء المادية يجب أن تكون شيئا غريبا؛ ولعلها مما يمكن الوصول إليه» ولكن إذا اعتقد أي فيلسوف أنه استطاع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ينبع أن يتخذ سببا لمخالفة رأيه أو إتكاره‬
‫‪.‬معرفة كهنهاء فإن كون ما وصل إليه من حقيقة يبدو غريبا أمر ال ي‬
‫الت يجب أن تتوافر ف‬ ‫الشوط ر‬ ‫وقد قامت المثالية ودعمت عىل أسس مستمدة من نظرية المعرفة» أعت من مناقشة ر‬
‫ه محاولة األسقف‬ ‫لك تستطيع معرفتها‪ .‬وكانت أول محاولة جدية إلقامة هذه المثالية عىل مثل هذه األسس ي‬ ‫األشياء ي‬
‫كىل؛ ودعواه هذه تكون إىل هذا الحد صحيحة» ولو لم تكن بعض أدلته بمثل هذه الصحة» ولكنه ذهب إىل أبعد «من؟»‬ ‫ربت ي‬
‫ر‬
‫الشء‬ ‫ر‬
‫الحش لهاء وقال إن معت أن يكون ي‬ ‫ي‬ ‫الت يؤكذ وجودها إدراكنا‬
‫يً‬
‫ه األشياء الوحيدة‬
‫ذلك ًفدلل عىل أن الحقائق الحسية ي‬
‫ه إال أمور ذعنية» ومن ثم استتج‬‫ي‬ ‫ما‬ ‫األشياء‬ ‫أن‬ ‫ذلك‬ ‫ومعت‬ ‫‪.‬‬‫عقليا‬ ‫يكون‬ ‫أي‬ ‫العقول»‬ ‫معروفا هو أن يكون «ف عقل» من‬
‫سء يعرف‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫سء تمكن معرفته ال بد أن يكون يف ذهن من األذهانء وأن أي ي‬ ‫أن كل ي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫بدون وجوده ف عقىل ال بد أن يكون ف عقل آخر‪ .‬ر‬
‫وحت تدرك حجته نرى لزاما علينا أن نعرف أوال ما يعنيه بكلمة «فكرة‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫‪ً.‬‬ ‫ر‬
‫سء يعرف رشة كمعرقة الحقائق الحسية مثال فاللون الخاص الذي تراه‬ ‫فقد أطلق كلمة «فكرة» عىل أي ي‬

‫‪42‬‬

‫هو «فكرة» وكذلك الصوت الذي نسمعه وهكذا جميع الحقائق الحسية‪ .‬ولكن كلمة فكرة ليست مقترصة عىل الحقائق‬
‫ً‬
‫أيضا أشياء تستذكر وتتخيل وتكون عىل معرفة ر‬
‫مباشة بها يف لحظة التذكر والتخيل» فهو يطلق عىل جميع‬ ‫الحسية؛ فهناك‬
‫ر‬
‫المباشة «األفكار‬ ‫‪».‬الحقائق‬
‫يشع ف دراسة األشياء العامة كالشجرة؛ ويرينا أن كل ما تعرفه ر‬
‫مياشة حينما «ندرك»‪ .‬الشجرة إدراكا حسيا يتكون من‬ ‫ثم ر‬
‫ي‬
‫حقيق يتعىل بالشجرة»‬ ‫ر‬ ‫سء‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫مدلول كلمته» ويقيم الدليل عىل وجود أي دعامة تدفعه إىل افتاض وجود ي‬‫ً‬
‫أفكار عىل حسب‬
‫ً‬
‫إال ما يدرك إدراكا حسيا» فوجودها يتألف من كونها مدركة» وف اللغة الالتينية ما يسميه الباحثون ‪ 25503‬كينونتها وتكون‬
‫ً‬ ‫حت لو أغمضنا عيونناء ولو لم يكن هنثالك ر ٌ‬ ‫إدراكها ‪3‬م‪ 027‬ر‬
‫بش قريبا منهاء ولكن هذا الوجود المستمر يعزى إىل استمرارنا‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫الالهث رف إدراكها‪ .‬فالشجرة «الحقيقية» الت تطابق ما نسميه ي‬
‫الشء المادي تتألف من أفكار يف ذهن هللا؛ تشبه بصورة‬
‫حي رأينا الشجرةء ولكنها تختلف يف كونها دائمة يف ذهن هللا ما دامت الشجرة‬ ‫الت أحسسنا الواقعية بها ر‬ ‫أقل أو أكت تلك ر‬
‫ر‬
‫بمقتىص قوله تتألف من مشاركة جزئية‪ .‬وبسبب هذه المشاركة تكون الشجرة ي‬
‫الت يراها لناس‬
‫ً‬
‫موجودة وكل إدراكاتنا الحسية‬
‫سء‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫غت العقول وأفكارها» وليس من الممكن أن يعرف أي ي‬ ‫سء ر‬ ‫المختلفون واحدة عند الجميع تقريا؛ وهكذا ليس يف العالم ي‬
‫‪.‬غتها ألن كل ما يعرف يكون بالرصورة فكرة‬ ‫ر‬

‫‪43‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬


‫الت كانت ذات أهمية يف تاري خ الفلسفة؛ وخليق بنا أن تكشف عنها‪ .‬فأوال نرى أن شيئا‬
‫كثت من األخطاء ي‬ ‫إن يف هذه الحجة ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫من التشويش نشأ عن استعمال كلمة «فكرة»» فنحن نعد الفكرة ف جوهرها شيئا ما موجودا أساسيا ف عقل ماء وعىل ذلك‬
‫الطبيع أن نظن إذا كان األمر كذلك» أن الشجرة ال بد أن تكون بتمامها‬
‫إذا قيل لنا أن الشجرة تتألف بتمامها من أفكار فمن ً ي‬
‫يف العقولء ولكن القول بأنها يف «العقل» يبدو غامضاء فحينما نتكلم عن وجود شخص يف عقولنا ال تقصد بذلك أن‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫الت يف عقولنا‪ .‬وحينما يقول إنسان إن عمال من األعمال كان‬‫ه ي‬ ‫نقصد أن فكرة ما عنه ي‬ ‫الشخص بذاته يكون يف عقولناء بىل‬
‫ً‬ ‫ي ً‬
‫عليه أن يؤديه قد انمج من عقله تماما» فإنه بال شك ال يقصد بذلك أن العمل نفسه كان حاال ف ذهنه» بل أن فكرة العمل‬
‫ر‬
‫كىل إذا استطعنا أن نعرف الشجرة‬‫فقط ه الت كانت تشغل عقله؛ ولكنها بعد ذلك زالت من عقله‪ .‬وهكذا حينما يقول ربت ي‬
‫فال بد أن تكون يف عقولناء فالذي يجوز له أن يقوله إن فكرة ما عن الشجرة ال بد أن تكون يف العقول» والحجة بأن الشجرة‬
‫نفسها ال فكرتها ال بد أن تكون يف عقولنا» يشبه القول بأن الشخص الذي يرد يف خواطرنا هو نفسه يف عقولناء وقد يدو هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فجا ر‬
‫ولك نرى كيف كان‬ ‫حي يرتكبه فيلسوف كفؤء ولكن هناك ظروف مختلفة مصاحبة تجعله ممكنا»؛ ي‬ ‫حت ر‬ ‫التشويش‬
‫ً‬
‫‪.‬ذلك ممكنا ال بد لنا أن ننعم النظر يف المشكلة المتعلقة بطبيعة األفكار‬
‫ً‬
‫ناشتتي عن الحقائق‬
‫ر‬ ‫منفصلتي تماما‬
‫ر‬ ‫مشكلتي‬
‫ر‬ ‫وقبل أن نتناول المشكلة الشاملة عن طبيعة األفكار يجب أن نفك ارتباط‬
‫الحسية‬

‫‪44‬‬

‫ر‬
‫الحسية ر‬ ‫ً‬
‫الت تؤلف إدراكنا ل‪* ١‬‬
‫ي‬ ‫كىل كان مصيبا يف معالجة الحقائق‬
‫كثتة أن ربت ي‬‫واألشياء المادية؛ وقد رأينا ألسباب تفصيلية ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫بصورة ر‬
‫أكت أو أقل ذاتيا» بمعت أنها مرتبطة بنا مقدار ارتباطها بالشجرة وما كانت لتوجد لو لم تكن الشجرة مدركة حساء‬
‫الت حاول ربتكىل أن يتهن بها عىل أن كل ما يمكن معرفته ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬
‫مباشة يجب أن‬ ‫ي‬ ‫ولكن هذه المسألة تختلف تماما عن المسألة ي‬
‫يكون‬
‫ر‬
‫فه كهذا الغرض عديمة الجدوى؛ ذلك أنه من‬ ‫الت تتصل بالتفاصيل حول كون الحقائق تعتمد علينا ي‬ ‫يف العقل‪ .‬آما األدلة ي‬
‫كىل نفسه أنه قام به؛ فهذه‬
‫الرصوري التهنة بصفة عامة عىل أن األشياء تشكل ذهنية ما دامت معروضة وهو ما اعتقد ربت ي‬
‫ه‬ ‫ر‬
‫الت يجب أن نهتم بها اآلن» وليست المسألة السابقة المتعلقة بالفرق ربي الحقائق الحسية واألشياء المادية ي‬ ‫ه المسألة ي‬‫ي‬
‫‪.‬ما يجب أن يهمنا اآلن‬

‫متمتين جديرين بالتأمل حينما تخطر يف الذهن‬ ‫ر‬ ‫شيئي‬


‫ر‬ ‫كىل نجد‬‫حي ننظر إىل كلمة «فكرة» بالمعت الذي قصده ربت ري‬ ‫فنحن ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫الشء أي العمل‬
‫ً‬ ‫الفعىل بذلك ي‬
‫ي‬ ‫منضدن مثال ومن جهة أخرى الشعور‬
‫ر‬ ‫ي‬ ‫الشء الذي نشعر به كلون‬‫فكرة ما‪ .‬فهنالك من جهة ي‬
‫الشء المدرك يكون ذهنيا بأي‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الذهت ف إدراك الشء؛ فالعمل الذهت هو بدون شك ذهىل» ولكن أئمة سبب الفتاض أن ي‬ ‫ي‬
‫ذهتء ولكتها أثبتت فقط»ء أن وجوده‬ ‫المدرك‬ ‫ء‬ ‫ر‬
‫الش‬ ‫أن‬ ‫تثبت‬ ‫لم‬ ‫باللون‬ ‫المتعلقة‬ ‫السابقة‬ ‫أدلتنا‬ ‫أن‬ ‫‪.‬‬‫المعان‬ ‫من‬ ‫معت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫يً‬ ‫ي‬
‫ر‬
‫ي‬
‫والشء المادي كالعالقة ربي حواسنا والمنضدة مثال» أي أنها أثبتت ت أن لونا معينا يف‬ ‫ي‬ ‫يتوقف عىل العالقة ربي حواستا‬
‫معي سوف‬ ‫ضوء ر‬

‫‪45‬‬

‫معي بالنسبة إىل المنضدة ولكتها لم تثبت أن اللون نفسه يف ذهن المدرك‬
‫العي بحالتها الطبيعية يف وضع ر‬
‫‪.‬يوجد إذا كانت ر‬
‫الشء المدرك‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫تعت أن اللون يجب أن يوجد يف العقل يبدو أنها ترتبط بمعقوليتها عىل مزج ي‬ ‫الت ي‬
‫كىل ؛ ي‬
‫إن وجهة نظر ربت ي‬
‫كىل كان يطلق عىل كل منهما كلمة فكرة؛ ففعل‬ ‫بت‬
‫ر ي‬ ‫أن‬ ‫المرجح‬ ‫ومن‬ ‫«فكرة»؛‬ ‫يسم‬ ‫أن‬ ‫يمكن‬ ‫منهما‬ ‫وكل‬ ‫بعملية اإلدراك»‬
‫اإلدراك بدون شك يف العقل ومن ثم حينما نتحدث عن فعل اإلدراك نسلم بالرأي القائل بأن «األفكار يجب أن تكون ف‬
‫العقل»»؛ ولكننا نتش أن هذا الرأي ال يصدق إال عىل األفكار إذا اعتتناها عمليات إدراك» فنتقل الحكم القائل بأن األفكار‬
‫توجد يف الذهن إىل األفكار بالمعت اآلخرء أي إىل األشياء المدركة بعملية اإلدراك‪ .‬وعىل هذه الصورة تصل بمغالطة غ رت‬
‫كىل‬
‫مقصودة إىل استتتاج أن ًكل ما نستطيع إدراكه يجب أن يكون يف أذهاننا وهذا كما يدو هو التحليل الصحيح لتدليل ربت ي‬
‫‪.‬ولما يقوم عليه من خطأ وفساد يف الرأي‬

‫والشء المدرك موضوع بالغ األهمية ألن كل قدرتنا عىل اكتساب المعرفة متصلة‬ ‫التميت ربي فعل اإلدراك ر‬
‫ر‬ ‫ويبدو موضوع‬
‫ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ر‬
‫الرئيش؛ ومعرفة‬
‫ي‬ ‫ه صفة العقل‬ ‫الت يمكن التعرف بواسطتها عىل األشياء الالذاتية ي‬‫بهذه المسألة اتصاال وثيقا‪ .‬فملكة العقل ي‬
‫وف هذا تتجىل قدرة العقل عىل‬ ‫‪.‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫غت العقل ي‬ ‫وسء آخر ر‬ ‫األشياء معرفة مباشة تتألف يف جوهرها من العالقة ربي العقل ي‬
‫غت‬
‫معرفة األشياء؛ فإذا قلنا األشياء المعروفة ال بد أن تكون «ف العقل» فنحن بهذا القول إما أن نكون قد حددنا بصورة ر‬
‫مالئمة قوة العقل يف‬

‫‪46‬‬

‫اف العقل» نفس المعت الذي نعنيه يف عبارة‬ ‫نعت عبارة ي‬


‫مغلوط»؛ فنحن إذا كنا ي‬ ‫المعرفة و[ما أننا نكرر المسألة عىل نحو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نعت مجرد كونه مدركا بالعقل» فإن كالمنا يكون تكرار أو تردادا لنفس المعت» ولكن إذا كان هذا هو‬
‫«أمام العقل» أي إذا كنا ي‬
‫ر‬
‫ما نعنيه فإننا سنضطر إىل االعتاف بأن الذي يكون يف العقل بهذا المعت قد ال يكون مع‬
‫ذلك ذهنياء وعىل هذا حينما لتحقق من طبيعة المعرفة يبدو جليا فساد تدليل بتكىل ف جوهره وف شكله وأدلته ر‬
‫الفتاض‬ ‫ر‬
‫ً‬
‫أن األفكار ‪ -‬أي األشياء المدركة يجب أن تكون عقلية ليس لها نصيب من الصحة مطلقا‪ .‬وعىل ذلك فأدلته لتأيد المثالية‬
‫‪.‬أوىل بها أن تهمل» وعلينا بعد ذلك أن نبحث عن أدلة أخرى لتأييد المثالية‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫وكثتا ما يقال بأننا ال تستطيع أن نعرف وجود أي ر‬
‫سء‬
‫وبيستتج من ذلك أن أي ي‬ ‫بده يف طبيعته»‬
‫ي‬ ‫سء ال نعرفه وكأن هذا‬
‫ي‬ ‫ر‬
‫يمكن أن يتصل بتجاربنا عىل أي صورة من الصور ال بد أن نكون عىل األقل قادرين عىل معرفته‪ .‬ر‬
‫ويتتب عىل ذلك أنه إذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شيئا ال نستطيع أن نعرفه معرفة ر‬
‫مباشة فتكون حينئذ شيئا ال نستطيع أن نعرف أنه موجود»‬ ‫كانت المادة يف جوهرها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والتكوندله أهمية مطلقا عندنا» وهذا القول يتضمن أيضا بصفة عامة ألسباب‬
‫ً‬ ‫ال تزال غامضة أن ر‬
‫الشء الذي ال أهمية له عندنا اليمكن أن يكون حقيقيا وأن المادة بناء عىل ذلك إذا لم تكن مؤلفة من‬
‫‪.‬العقول أو األفكار العقلية تكون مستحيلة الوجود ومجرد وهم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يثت مسائل تتطلب نقاشا تمهيديا طويال» ولكن‬
‫ومن الصعب أن نتبسط تماما يف مرحلتنا الحالية يف هذه الحجة ألن ذلك ر‬
‫»يمكن ألسباب معينة يف رفض التدليل أن تالحظ يف الحال‬
‫‪47‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬


‫الشء الذي ال تكون له أهمية عمليا لنا ليس حقيقيا؛ وصحيح أنه إذا كانت‬ ‫ولنبدأ من النهاية فتقول ليس لدينا دليل عىل أن ي‬
‫ر‬
‫الت نحن ف سياقهاء فإن كل رسء حقيق ال بد أن تكون له أهمية بالنسبة لناء ألننا‬ ‫األهمية النظرية داخلة ضمن األهمية ر‬
‫سء يحتويه؛ فإذا كانت هذه اللذة منطوية يف هذه األهمية فال‬ ‫ر‬
‫كأفراد يرغبون يف معرفة حقيقة هذا الكون تجد لذة يف كل ي‬
‫ر‬
‫غت مهمة لنا شط وجودها‪ .‬ومن الواضح أننا تستطيع أن نفرض إمكان وجودها ثم تتساءل ي‬
‫أه‬ ‫يصح أن نقول إن المادة ر‬
‫ترض رغبتنا يف المعرفة وأما أن‬
‫ي‬ ‫موجودة حقاء ومن أجل هذا تكون متصلة برغبتنا يف المعرفة» وتكون أهميتها يف أنها إما أن‬
‫‪.‬تحبطها‬

‫سء‪.‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬


‫الشء موجود طالما ال نعرفه قول ربي الخطآء وليس من الحق يف ي‬ ‫إضاقة إىل ذلك فالقول بأننا ال نستطيع أن نعرف أن ي‬
‫ه ضد الخطاء أي‬ ‫ر‬
‫الت ي‬
‫مختلفي (‪ )1‬فاستعمالها ف المعت األول بمعت المعرفة ي‬
‫ر‬ ‫بمعنيي‬
‫ر‬ ‫أن كلمة «نعرف» استعملت هنا‬
‫ف المعت الذي يدل عىل أن ما نعرفه صحيح‪ .‬وهذا المعت هو ال ذي ينطبق عىل اعتقاداتنا وكل ما نقتنع به من أفكار» أي أنه‬
‫ً‬
‫ينطبق عىل ما نسميه أحكاما» وب هذا المعت نصل إىل العلم بأن قضية ما صادقة؛ ولنا أن نصف هذا النوع من المعرفة بأنه‬
‫الت يمكن أن‬‫ر‬
‫الثان يطلق عىل المعرفة باألشياء» تلك المعرفة ي‬
‫ي‬ ‫معرفة بالحقائق(‪ )2‬واستعمال كلمة «اتعرف» يف المعت‬
‫ندعوها المعرفة العيانية‪ .‬وهذا هو المعت الذي نعرف به الحقائق الحسية‪( .‬والفارق ُمنطو بصورة ‪ 7‬تقريبية بالفرق ما ربي‬
‫ر‬
‫الشء ما يقابله باللغة األلمانية‬
‫فعل ‪ 5277105‬و©‪ ©0072 17‬بمعت عرف الشخص ف اللغة الفرنسية؛ ونفس ي‬
‫‪ 1318560).‬و‪ 162001651‬يف نفس المعت‬

‫‪48‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫يىل ‪« :‬أننا ال نستطيع أن نحكم حكما صادقا عىل وجود‬ ‫بده يصبح حينما يعاد قوله كما ي‬
‫ي‬ ‫فهذا القول الذي يبدو وكأنه أمر‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫بده» بل بالعكس» إنه ظاهر الخطأ‪ .‬فأنا مثال‬‫ي‬ ‫سء ال نتكون عىل معرقة مباشة به»‪ .‬وال يمكن أن يقال عن هذا ي‬
‫الشء أنه‬
‫حكم هذا‬ ‫الطبيع أن يقال أن‬ ‫بأنت عرفته ‪ .‬ومن‬ ‫الصي معرفة ر‬
‫ي ً‬ ‫ي‬ ‫يقي ي‬ ‫ولكت أحكم عن ر‬‫ي‬ ‫مباشة؛‬ ‫ر‬ ‫لم أسعد بمعرفة إمتاطور‬
‫مباشة‪ .‬ولكن مثل هذا القول ال صلة له بالموضوع» ألنه إذا كان هذا المبدأ صحيحا فإنه‬ ‫مبتور من معرفة اآلخرين له معرفة ر‬
‫مباشة‪ .‬وعدا هذا وذاك ليس لدينا من سبب‬ ‫يقتىص أنت ال أستطيع أن أعرف أن أي شخص آخر يعرف اإلمتاطور معرفة ر‬
‫ي ي‬
‫مباشة» وهذه نقطة مهمة وتتطلب الوقوف عندها‬ ‫يبي لنا لماذا ال نستطيع أن نعرف وجود رسء ال يعرقه أحد قط معرفة ر‬ ‫‪ .‬ر‬
‫ي‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫حي أكون عىل معرفة ر‬
‫مباشة ر‬
‫تجعلت عالما بوجوده‪ .‬وعىل عكس ذلك فليس‬ ‫ي‬ ‫المباشة‬ ‫بشء موجودء فإن هذه المعرفة‬ ‫ر‬
‫ً‬
‫صحيحا أن أقول أنه حينما أستطيع أن أعلم وجود ر‬
‫غتي عىل معرفة‬ ‫معي فال بد أن أكون أنا أو شخص آخر ر‬ ‫سء من رصب ر‬ ‫ي‬
‫الشء بالوصفء‬ ‫مباشة أنت أعرف ر‬‫الت أحصل فيها عىل حكم صحيح بدون معرفة ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫مباشة به» فالذي يحدث يف الحاالت ي‬
‫ر‬
‫سء آخر أكون عىل معرفة مباشة به وذلك‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫الش ًء الذي ينطيق عليه هذا الوصف يمكن أن ب يستنتج من وجود ي‬ ‫وجود ي‬ ‫ً‬
‫وأن‬
‫ولك نفهم هذه النقطة عىل حقيقتها ال بد لنا من البحث أوال عن الفرق‬ ‫اعتمادا عىل مبدا بع الميادئ العامة ي‬
‫‪49‬‬

‫اليقي‬
‫ر‬ ‫ربي المعرفة بالعيان والمعرفة بالوصف » ثم تبحث بعد ذلك يف أي الميادئ العامة تصل معرفتنا بها إىل درجة‬
‫اليقي كدرجة يقيئنا يوجود تجاربنا الخاصة‪ .‬وهذه‬
‫كدرجة يقيتتا بوجود تجاربنا العامة تصل معرفتنا بها إىل درجة ر‬
‫‪.‬الموضوعات ستتناولها يف الفصول القاأمة‬

‫‪50‬‬

‫المعرفة بالعيان واللعرفة بالهوصف‬

‫نوعي من المعرفة‪ :‬معرفة األشياء» ومعرفة الحقائق‪ .‬وسيتحرص تناولنا يف هذا الفصل‬‫ر‬ ‫تبي لنا من الفصل السابق أن هناك‬‫ر‬
‫نوعي منها‪ :‬معرفة األشياء عندما تكون من النوع الذي نسميه معرفة‬
‫ر‬ ‫بي‬ ‫نمت‬
‫ر ر‬ ‫أن‬ ‫علينا‬ ‫سيكون‬ ‫كما‬ ‫األشياء؛‬ ‫معرفة‬ ‫يف‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫عيانية» تكون بالرصورة أبسط من أي نوع من أنواع معرفة الحقاء ثقء؛ كما أنها منطقيا تكون مستقلة عنها وإن كان من‬
‫نفتض أن اإلنسان يحصل عىل معرفة األشياء العيانية؛ دون أن يعرف ف الوقت نفسه أية حقيقة عنهاء أما‬ ‫الشطط أن ر‬
‫معرفة األشياء بالوصف فعىل العكس من ذلك تتضمن» كما ستى يف هذا الفصل بعض معرفة الحقائق كأسس لها مصادنء‬
‫نعت بكلمة بالوصف‬ ‫نعت بكلمة المعرفة بالعيان وما ي‬
‫نبي بوضوح ماذا ي‬ ‫‪.‬وواجبنا اآلن أن ر‬
‫ر ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫مباشا دون وساطة أية عملية استنتاجية أو أية معرفة بالحقائق‪.‬‬ ‫بشء ماء لما تدركه إدراكا‬
‫معرفة مباشة ي‬ ‫حي نقول أن لنا‬
‫ر‬
‫الت تؤلف مظهر هذه المنضدة؛ وهذه‬ ‫ر‬ ‫الحسية‬ ‫بالحقائق‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫مباش‬ ‫معرفة‬ ‫عىل‬ ‫أكون‬ ‫فإن‬ ‫أمام‬ ‫ماثلة‬ ‫ر‬
‫منضدن‬ ‫كانت‬ ‫ذلك‬ ‫وف‬
‫ر ً‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫مباشا حينما أنظر إىل‬ ‫وإن ألدرك هذه الحقائق الحسية إدراكا‬ ‫الحقائق الحسية بلونها وشكلها وصالبتها ونعومتها إلخ» ي‬
‫منضدن وألمسهاء فالدرجة الخاصة للون الذي أراه ف هذه المنضدة أستطيع أن أحكم عليها بعدة أحكام ‪ -‬فقد أقول أنه لون‬ ‫ر‬
‫ي‬
‫بت وأنه ضارب إىل الدكنة وهكذا‪ .‬ولكن هذه األحكام عىل الرغم من‬ ‫ي‬

‫‪51‬‬

‫تزيدن معرفة باللون ذاته‪ .‬أما ً معرفة اللون من حيث هو لون؛ وهو ر‬
‫غت‬ ‫ي‬ ‫تهديت إىل معرفة بعض الحقائق عن اللون» ال‬
‫ي‬ ‫أنها‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫ولكت ال أستطيع حت من‬ ‫ي‬ ‫‪:‬‬‫فإن أستطيع أن أصل إليه كامال من الوجوه جميعا حينما أنظر إليه‬ ‫معرفة بعض الحقائق ف عنه» ي‬
‫ه‬ ‫ىل‬ ‫بالنسبة‬ ‫ة‬ ‫المنضد‬ ‫مظهر‬ ‫تؤلف‬ ‫الت‬‫الناحية النظرية أن أذهب إىل أبعد من ذللك ف معرفة ذاته‪ .‬فالحقائق الحسية ر‬
‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫الت أعرفها كما ه ر‬
‫مباشة‬ ‫الت أكون عىل معرفة ر‬
‫مباشة بهاء أي األمور ر‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫‪.‬األمور ي‬
‫ر‬
‫المباشة» لكننا نصل إليها عن طريق المعرفة‬ ‫سء مادي يكون ذلك من حيث المعرفة‬ ‫ر‬
‫ه ي‬ ‫وف معرفة المنضدة من حيث ي‬ ‫ي‬
‫الت تؤلف مظهر المنضدة‪ .‬وسبق ورأينا أن يف استطاعتنا أن نشك يف وجود منضدة عىل وجه‬ ‫ر‬
‫العياتية يف الحقائق الحسية ي‬
‫حي أنه ليس ف استطاعتنا أن نشك ف الحقائق الحسية لهذه المتضدة‪.‬‬ ‫اإلطالق دون أن يوصف كالمنا هذا بالعته؛ ف ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫«الشء المادي الذي‬
‫ي‬ ‫ومعرفت بالمنضدة تكون من ذلك النوع الذي سنطلق عليه «المعرفة بالوصف»‪ .‬فالمنضدة ي‬
‫ه‬
‫ر‬
‫سء عن المنضدة ال بد لنا من معرفة بعض حقائق تربط‬ ‫ولك نعرف أي ي‬ ‫نصدر عنه هذه أو تلك من الحقائق الحسية»‪ .‬ي‬
‫ر‬ ‫المنضدة بأشياء أخرى نكون عىل معرفة ر‬
‫مباشة بها‪ .‬نعم علينا أن نعرف أن هذه أو تلك من الحقائو ثت الحسية مسببة عن‬
‫ً ر ً‬ ‫ر‬
‫سء مادي وال توجد حالة عقلية ندرك بها المنضدة نفسها إدراكا مباشاء وكل علمنا بالمنضدة هو يف الحقيقة علم ببعض‬ ‫ي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫الشء الموجود بالفعل فهو المنضدة» إذا تحرينا الدقة فليس معروفا لنا عىل اإلطالق‪ .‬أننا نعرف وصفا‬
‫الحقائق» أما ي‬
‫سء ينطبق عليه هذا الوصفء‬ ‫ر‬
‫ونتعرف أنه يوجد ي‬

‫‪52‬‬

‫ً‬
‫معروفا لنا معرفة مباششة‪ .‬فمعرفتنا ر‬ ‫ر‬
‫بالشء المادي يف هذه القضية تكون معرفة‬
‫ي‬ ‫الشء المادي نفسه ليس‬
‫ولو أن ي‬
‫‪.‬بالوصف‬

‫وكل معرفة لنا سواء كانت معرفة باألشياء؛ أم معرفة بالحقائق» تقوم عىل المعرفة بالعيان كأساس لهاء ومن المهم إذن أن‬
‫ر‬
‫الت نكون عىل المعرفة العيانية بها‬
‫‪.‬نتأمل أنواع هذه األشياء ي‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬
‫وه يف الحقيقة تمدنا بأوضح‬‫وكما بينا آنفا» فإن الحقائق الحسية ه من ربي األشياء الت نكون عىل معرفة مباشة بهاء ي‬
‫ه النوع الوحيد الذي نكون عىل معرفة عيانية به فإن معرفتنا‬ ‫العيانية؛ ولكن إذا كانت الحقائق الحسية ي‬ ‫مثال وأبرزه للمعرفة‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫ً‬
‫الشء الذي يكون ماثال لحواستاء وال نستطيع أن‬ ‫ه عليه» ألننا حيتئذ ال نعرف إال ي‬ ‫تتحرص يف حدود ضيقة جدا بالنسبة لما ي‬
‫الماض ‪ -‬كما ال نعلم أية حقيقة تتصل بالحقائق الحسية» ألن‬ ‫اسمه‬ ‫ء‬ ‫س‬ ‫نعلم أي رسء يتعىل بالماض ‪ -‬بل ال نعلم وجود ر‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ستى» يتطلب المعرفة العيانية بأشياء تختلف يف صفاتها الجوهرية عن الحقاثق الحسية؛‬ ‫الحقائقء كما ر‬ ‫كل علم بمثل هذه‬
‫ً‬
‫أي ما يسم أحيانا «األفكار المجردة»» وهو ما نسميه «الكليات»‪ .‬فواجبنا إذن أن نتأمل المعرفة العيانية ف األشياء األخرى‬
‫‪.‬غت الحقائق الحسية إذا كنا نريد أن نحصل بقدر اإلمكان عىل تحليل واف للمعرفة‬ ‫ر‬

‫إن أول امتداد لدا ئرة المعرفة العيانية يتجاوز حدود الحقائق الحسية هو المعرفة بالعيان عن طريق الذاكرة» فمن الجىل إننا‬
‫ماثال ألية حاسة من حواسنا وإنا لنظل ف مثل هذه الحاالت عىل وع ر‬‫ً‬ ‫ً‬
‫مباش بما‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫كثتا ما تتذكر ما رأيناه أو سمعناه أو ما كان‬
‫ر‬

‫‪53‬‬
‫ه المصدر لكل معرفة لنا‬
‫تذكرناء بالرغم من أنه يدو لنا كماض وليس كحارص؛ وهذه المعرفة العيانية عن طريق الذاكرة ي‬
‫بالماض‪ .‬فبدونها ال نتستطيع أن نصل إىل معرفة بالماض عن طريق االستتتاج» ألننا ال يمكن أن نعرف أي رسء مىص ر‬
‫حت‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫‘ وليس ثمة ماض نستنتجة‪.‬‬

‫وع‬‫فتحن ال ًتكون عىل ي‬ ‫الباطت أو االستبطان‬


‫ي‬ ‫وثان امتداد لداثرة المعرفة بالعيان هو المعرفة العيانية عن طريق التأمل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بكون أرى‬
‫ي‬ ‫عالما‬ ‫غالبا‬ ‫أكون‬ ‫الشمس»‬ ‫أرى‬ ‫حينما‬ ‫نع هذه األشياء‪ .‬فأنا‬
‫باألشياء فقط بل غالبا ما نتكون عىل علم بأننا ي‬
‫رغبت يف‬‫ر‬ ‫«رؤيت الشمس» موضوع أكون عىل معرفة عيانية به؛ وأنا حيتما أرغب يف الطعام أعرف‬ ‫ر‬ ‫الشمسء وعىل ذلك فإن‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫‪.‬‬
‫ه الموضيوع الذي أنا عىل معرفة عيانية به وعىل غرار ذلك نستطيع أن نعرف‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫«رغبت يف الطعام» ي‬ ‫ي‬ ‫هذا الطعام؛ وإذن تكون‬
‫الت تحدث يف عقولنا دائما‪ .‬فهذا النوع من المعرفة العيانية الذي يمكننا أن نطلق عليه‬ ‫الشعور باللذة أو األلم فينا والعمليات ر‬
‫ي‬ ‫ر‬
‫البي أن مثل هذا التوع من المعرفة العيانية مقصور عىل ما‬ ‫الذان» هو األصل لكل معرفة لنا باألمور العقلية‪ .‬ومن ر‬ ‫ي‬ ‫«الوع‬
‫ي‬
‫يدور يف عقل الواحد منا فقط » أما ما يدور ف عقول اآلخرين فتكون معرفتنا به عن طريق إدراكنا ألحاسيسهم؛ أي عن‬
‫ر‬
‫المقتنة بتلك األجسام» ولوال أن معرفتنا العيانية بما تحتويه عقولنا لما كان يف استطاعتنا أن‬ ‫طريق الحقائق الحسية فينا‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نتصور عقول اآلخرين» ولعجزنا لذلك عن أن نصل إىل العلم بأن لهم عقوال‪ .‬وييدو طبيعيا أن نفتض أن الشعور بالذات هو‬
‫األناس‬ ‫تمت‬ ‫ر‬
‫الت ر‬
‫ي‬ ‫الممتات ي‬ ‫ر‬ ‫إحدى‬

‫‪54‬‬

‫ٌ ُ‬ ‫الع ُُجماوات» ولنا أن ر‬


‫عن ٌ‬
‫العُجماوات ولو أن لها معرفة بالعيان يف الحقائق الحسية ال يمكن أن تكون عىل وعي‬ ‫نفتض أن‬
‫بهذه المعرفة العيانية‪ .‬وبناء عىل ذلك ال تكون عىل معرفة بوجودها نفسها‪ .‬ولست أقصد أنها تشك ف وجودهاء بل أقصد‬
‫ً‬
‫ه ذوات تقوم باألحاسيس والشعور أنها موجودة‬ ‫تع من حيث ي‬ ‫تع أبدا أن لها أحاسيس ومشاعر كما أنها ال ي‬
‫‪.‬أنها ال ي‬
‫الت تتعلق بما تحتويه عقولنا كشعور بالذات» فإن هذا الشعور ال يكون بالطبع؛ معرفة‬ ‫وإذا كنا قد تناولنا المعرفة العيانية ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بذواتتا كاملة‪ :‬بل معرفة باألفكار والمشاعر الجزئية‪ .‬وأن السؤال أنحن أيضا عىل معرفة عيانيا بذواتنا المجردة ف مقابل‬
‫بيقي عىل ذلك» فنحن‬ ‫معرفتتا العيانية باألفكار والمشاعر الخاصة سؤال يبدو غاية يف الصعوية؛ وإنه لمن التهور أن نتكلم ر‬
‫بعض األفكار أو المشاعر الجزئية وال تصل إىل «أنا»» أي ر‬ ‫ً‬
‫ذان‬
‫ي‬ ‫حينما نحاول أن نتأمل يف أنفسنا يبدو لنا دائما أننا نصل إىل‬
‫الت تتولد عنها األفكار والمشاعر‪ .‬ومع ذلك» فهنالك أسباب تحملنا عىل الظن بأننا عىل معرفة عيانية ب «أنا»» ولو أنه من‬ ‫ر‬
‫ي‬
‫ولك نظهر بوضوح نوع هذه األسباب» دعنا نتأمل ولو للحظة ما‬ ‫الصعب أن نخلص هذه المعرفة العيانية من أمور أخرى‪ .‬ي‬
‫تتضمنه ف الحقيقة معرفتنا العيانية بأفكارنا الخاصة‪ .‬ا‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫مختلفي يتصل أحدهما باآلخر‪ .‬فهناك‬
‫ر‬ ‫بشيئي‬
‫ر‬ ‫فإنت أكون عىل معرفة عيانية‬
‫«رؤيت للشمس» ي‬‫ي‬ ‫حي أتيقن توا من‬
‫ييدو جليا ر‬
‫ر‬
‫الت تمثل الشمس يىلء وهناك من‬
‫وه ي‬ ‫من ناحية الحقيقة الحسية ي‬

‫‪55‬‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫الت تمشل‬‫ناحية أخرى» الذات الت ترى هذه الحقيقة الحسية‪ .‬وكل معرفة بالعيان كالمعرفة رالعيانية يف الحقيقة الحسية ي‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫الشء المعروف‪ .‬ي‬
‫فق حالة‬ ‫وبي ذلك ي‬‫الشء معرفة شهودية ر‬ ‫إىل الشمس» تبدو بوضوح أنها عالقة ربي الشخص الذي عرف ي‬ ‫ي‬
‫الت تمثل الشمس‬ ‫الت أكون عىل علم عيان بها (كما أكون عىل معرفة عيانية بأن أعرف الحقيقة الحسية ر‬ ‫المعرفة بالعيان ر‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫معرفة عيانية) كما يكون من الواضح أن الشخص الذي وصل إىل هذه المعرفة العيانية هو أنا نفش‪ .‬وعىل ذلك فإذا كلت‬
‫العيان لحقيقة حسية‬ ‫ر‬
‫برؤيت للشمس فكل ما أنا عىل معرفة عيانية به هو «التعرف‬ ‫‪».‬عىل معرفة عيانية‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بأنت تعرقت عيانيا عىل هذه الحقيقة الحسية» ومن‬
‫ي‬ ‫يقي‬‫القائلة وه «إن عىل ر‬ ‫وفضال عن ذلك فتحن نعرف هذه الحقيقة‬
‫ً‬
‫الصعب أن نفهم ما نعنيه إال إذا كنا تعرفنا عيانيا عىل رسء ندعوه باألناء إنه ليس من الرصوري فيما يبدو أن ر‬
‫نفتض أننا‬ ‫ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عيانيا بشخص ر‬
‫أكت أو أقل ديمومة» سواء أكان هذا اليوم أم باألمس» ولكن يبدو أن من الواجب أن نتعرف عيانيا عىل‬ ‫تعرفنا‬
‫‪.‬‬ ‫‪.‬‬
‫الشء مهما كانت طبيعته؛ وهو الذي يرى الشمس ويعايتها بالحقائق الحسية وب هذه الصورة يبدو عىل وجه من‬ ‫ر‬
‫ذلك ي‬
‫الوجوه أننا ال بد أن نكون عىل معرفة عيانية بذواتنا مقابل تجارينا الخا صة» وهذه مسألة شائكة يمكن أن تورد عليها أدلة‬
‫معقدة إلئباتها أو نفيها‪ .‬ومن أجل هذا فالمعرفة العيانية بذواتنا بالرغم أنها مرجحة قليس من الحكمة أن تقرر أنها ال شك‬
‫‪.‬واقعة‬

‫‪56‬‬

‫بإمكاننا إذن تلخيص كل ما قيل‪.‬عن المعرفة العيانية بالموجودات وذلك يكون لنا معرفة عيانية عن طريق اإلحساس بحقائق‬
‫الباطت بما يمكن أن يسم حقائق الحاسة الباطنية ‪ -‬أي باألفكار‬
‫ي‬ ‫الحواس الخارجية‪ .‬والمعرفة العيانية عن طريق التأمل‬
‫لتلك‬
‫والوجداتيات والرغبات إلخء وإن لنا معرفة عياتية عن طريق الذاكرة بأشياء كانت حقائق إما للحواس الخارجية وإما ِ‬
‫الحاسة الباطنية» وباإلضافة إىل هذا فمن المرجح إن لم يكن من المؤكد أننا عىل معرفة عيانية ب(الذات) باعتبارها عارفة‬
‫وه لها رغبات مقابل األشياء‬
‫‪.‬أشياء ي‬
‫ً‬
‫أما يف ما يتعلق بمعرفتنا العيانية بالموجودات الجزئية؛ فإندا نالحظ أيضا أن لنا معرفة عيانية بما يطل عليه الكليات أي‬
‫األفكار العامة‪ .‬كالبياض والتنوع واألخوة وهكذا‪ .‬وال بد أن تحتوي كل جملة تامة عىل األقل عىل كلمة ترمز إىل واحد من هذه‬
‫سء نكون عىل معرفة عيانية به ال بد أن يكون‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫وف الوقت الحارص علينا أن نتحفظ من افتاض أن أي ي‬ ‫الكليات يف فصل ‪ »9‬ي‬
‫ً‬
‫‪ً.‬خاصا» فإدراك الكليات هو ما يسم التصور والواحد من الكليات الذي ندركه تصورا‬

‫غتنا من الناس اآلخرين ليست من ربي ما‬ ‫وسيتبي لنا أن األشياء المادية باعتبارها «مقابلة للحقائق الحسية»» ر‬
‫وحت عقول ر‬ ‫ر‬
‫نكون عىل معرفة عيانية به؛ وإنما تكون معرفتنا بهذه األشياء عن طريق ما سميناه «المعرفة بالوصف» وهو ما يجب أن‬
‫‪.‬نتناوله اآلن‬

‫‪57‬‬
‫تأن عىل‬ ‫ر‬ ‫الفالن»‪.‬‬ ‫ر‬ ‫تأن عىل هذه النصورة ر‬ ‫أعت بكلمة «وصف» أية عبارة ر‬
‫‪,‬وسأسم أية عبارة ً ي‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫«الشء‬
‫فالن» أو ر ي‬ ‫ي‬ ‫«اسء‬
‫ي‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫وصفا اغامضا)ء وأي عبارة ر‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫(ف حالة المقرد) سأدعوها وصفا محددا‪.‬‬ ‫»‬ ‫فالن‬ ‫ء‬ ‫«س‬‫تأن عىل كلمة ر‬ ‫»‬ ‫فالن‬ ‫ء‬ ‫«س‬‫صورة ر‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫فكلمة «رج لء وصف غامض» وكلمة «الرجل ذو القناع الحديدي» وهو وصف محدد» وهناك مشكالت عديدة مشتلفة‬
‫وه طبيعة معرفتنا فيما يتعلق‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫الت نناقشها أال ي‬ ‫ولكت سأعدوها ألنها ال تتعلق مباشة بالمادة ي‬ ‫ي‬ ‫متصلة باألوصاف الغامضة‬
‫الشء‪ .‬وهذا أمر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫متعرفي عيانا بذلك ي‬
‫ر‬ ‫غت‬ ‫سء يتجاوب مع وصفنا المحدد» مع أننا ر‬ ‫باألشياء يف حاالت نعرف فيها وجود ي‬
‫‪.‬‬
‫يىل «األوصاف» حينما أعت بها «األوصاف المحددة» فالوصف‬ ‫مقصور عىل األوصاف المحددة» ولهذا ر‪ -‬أتناول يف ما ي‬
‫الفالن» يف حالة المفرد‪.‬‬ ‫«الشء‬ ‫ر‬ ‫‪ ١‬يعت أي عبارة من شكل‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫«الشء‬ ‫الفالن» إلخ؛ » أي حينما نعرف أن هناك ‪ ٠‬وستذهب يف القول إننا «نعرف شيئا ما بالوصف» حينما تعرف أنه‬
‫ي‬
‫واحدا فقط ينفرد بصفة معينة ويتضمن ذلك عادة أننا لسنا عىل معرفة عيانية بذلك ر‬ ‫ً ي ً‬
‫الشء نفسه» إننا نعرف أن‬ ‫ي‬ ‫شيئا‬
‫ً‬
‫كثتة ت‪ :‬بهء عىل أننا ال نعرف من كان ذلك الرجلء وجل ما نعرفه أن‬ ‫ر‬ ‫أحكاما‬ ‫ونعرف‬ ‫موجود‬ ‫الحديدي‬ ‫القناع‬ ‫ذا‬ ‫الرجل‬
‫أكتية األصوات سينتخب» وربما نكون يف غالب الظن عىل معرفة عيانية بالمرشح (بالمعت‬ ‫المرشح الذي يحصل عىل ر‬
‫ر‬
‫بغتنا من الناس) الذي سينال أكتية األصوات» بيد أننا ال تعرف أي‬ ‫الوحبد الذي ربما يف غالب الظن عىل معرفة عيانية ر‬
‫المرشحي سوف‬
‫ر‬ ‫هؤالء‬
‫ً‬
‫يكون ذلك الرجل» أي أننا لن نتمكن من أن نصدر حكما عىل‬

‫‪58‬‬

‫المرشحي‪ .‬وستذهب يف القول إن لدينا «معرفة بالوصف» أي «‬ ‫ر‬ ‫أ» الذي سينال أغلبية األصوات» إذا كان أ هو اسم أحد‬
‫المعي موجود؛ ورغم أننا قد تكون عىل معرفة عيانية بهذا‬ ‫ر‬ ‫الفالن» إذا كنا بالرغم من معرفتنا أن الشخص‬
‫ي‬ ‫بالشخص‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫الفالن؟ إذا عنينا بأء شيئا نتكون عىل معرفة عيانية به‬
‫ي‬ ‫الشخص‬ ‫هو‬ ‫«أء‬ ‫أن‬ ‫عن‬ ‫حكم‬ ‫أي‬ ‫تعرف‬ ‫فإنتا‬ ‫‪.‬الشخص؛‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫الفالن» وال‬
‫ي‬ ‫«بالشء‬
‫ي‬ ‫الفالن» أي أن أ» يتصف‬
‫ي‬ ‫الشء‬
‫إذا قلنا دسء فالن» موجود فإننا نقصد أن شيئا واحدا فقط هو ي‬
‫غته يشاركه يف هذه الصفة؛ فالقول «مرشح‬ ‫االتحادي لهذه الدائرة؟» وال أحد ر‬ ‫غته‪ .‬فإذا قيل «أن أ هو المرشح‬
‫سء آخر ر‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫ي‬
‫غته يشاركه ف هذه الصفة»‪ .‬وف‬ ‫يعت «أن شخصا ما هو مرشح اتحادي لهذه الدائرة وال أحد ر‬ ‫اتحادي لهذه الدائرة موجود» ي‬
‫الشء‬‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الفالن موجود» ولكننا نعلم أن ي‬
‫ي‬ ‫الشء‬
‫الفالن فإننا نعلم أن ي‬
‫ي‬ ‫بالشء‬
‫ي‬ ‫بشء موصوف‬‫حي نكون عىل معرفة عيانية ي‬ ‫ر‬
‫ر‬
‫الفالن ؛ وحت حينما ال تكون لنا معرفة عيانية‬ ‫ر‬
‫الشء‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫سء نعرف أنه ي‬‫حي أنتا لسنا عىل معرفة عيانية بأي ي‬‫الفالن موجود يف ر‬
‫ي‬
‫الفالن‬ ‫ء‬ ‫‪.‬بأي رسء هو ر‬
‫الش‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ه يف أغلب األحيان أوصاف حقيقية‪ .‬وأن ما يكون يف العقل من فكرة تتصل‬
‫الشائعة» ال ًبل األسماء الخاصة» ي‬ ‫إن الكلمات‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫باسم َعلم اتصاال صحيحا يمكن اإلفصاح عنها تمام اإلفصاح إذا استبدل اسم العلم بوصف من األوصاف» وعالوة عىل‬
‫للتعبت به عن الفكرة يختلف باختالف الناس» أو باختالف الشخص نفسه يف أزمنة مختلفة‪.‬‬
‫ر‬ ‫ذلك؛ فإن الوصف الرصوري‬
‫ر‬
‫الشء‬ ‫ر‬
‫شء الوحيد الثابت (ما دام استعمال االسم يطابق الواقم) هو ي‬ ‫وال ي‬
‫‪59‬‬

‫ً‬ ‫ر‬
‫الشء ثابتا ال يؤثر يف‬
‫الذي ينطب عليه هذا االسمء ولكن الوصف المخاص الذي يتضمته هذا االسم العلم ما دام هذا ي‬
‫‪.‬صدق أو كذب الحكم الذي يرد فيه هذا االسم‬

‫افتضنا أن ف إمكان المرء أن يكون عىل معرفة‬‫ولنذكر بعض األمثال عىل ذلك‪ .‬إذا فرضنا قو ًال ما قيل عن بسمارك‪ .‬فإذا ر‬
‫وف‬ ‫عيانية بنفسه» فبسمارك قد يكون استعمال اسمه ليدل به ر‬
‫المعي الذي هو عىل معرفة عيانية به ي‬
‫ر‬ ‫مباشة عىل الشخص‬
‫ً‬
‫هذه الحالة إذا أصدر بسمارك حكما عىل نفسه» فمن الجائز أن يكون هو نفسه مصدر هذا الحكم؛ وهنا يكون لالسم العلم‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الشء‪ .‬ولكن‬‫معي فقط وال يدل عىل وصف لذلك ي‬ ‫سء ر‬ ‫ينبع أن يكون له دائما باعتياره اسما يدل عىل ي‬
‫ي‬ ‫العيان الذي‬
‫ي‬ ‫مدلوله‬
‫الحالة تختلف إذا أصدر شخص ما حقائق حسية قرنها اإبصورة صحية كما نحسب)» بجسم بسمارك‪ .‬فجسده كحقيقة‬
‫طبيعية؛ وعقله باألحرى عرف فقط كجسد وعقل بارتباطهما بهذه الحقائق الحسيةء أي أنهما عرفا عن طريق الوصف عرفه‬
‫ه أن‬‫ه حقائق حسية قرنها «بصورة» صحيحة فيما نحسب «جسم بسمارك»‪ .‬والنقطة الجوهرية ي‬ ‫هذا الشخص إنما ي‬
‫ه موضع‬ ‫ر‬
‫الت ي‬
‫األوصاف المختلفة كلها تنطبق عىل الذات نفسها بالرغم من عدم وجود معرفة عيانية بهذه الذات الحقيقية ي‬
‫‪.‬البحث‬
‫ً‬
‫حي تصدر نحن الذين ال نعرف بسمارك حكما عنه؛ فالوصف الذي يف عقولنا سيكون عىل األرجح كتلة من المعرفة‬ ‫إننا ر‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫بكثت يف معظم الحاالت لمعرفة هويته‪ .‬ولكن عىل سبيل التمثيل» دعنا نفتض‬
‫التاريخية أقل أو أكت إبهاما وأكت من ذلك ر‬

‫‪60‬‬

‫أننا نفكر فيه باعتباره «المستشار األول لإلمتاطورية األلمانية»‪ .‬فكل الكلمات هنا كلمات مجردة سوى كلمة *«ألمانيا» فإنها‬
‫بدورها تختلف باختالف الناس‪ .‬فقد تحمل بعض الناس عىل تذكر رحالت قاموا بها إىل ألمانيا‪ .‬وقد تحمل البعض اآلخر عىل‬
‫ً‬
‫اف وهلم جرا‪ .‬ولكن إذا كان لنا أن نحصل عىل وصف نعرف أنه منطبق تماما» فنحن مجتون‬ ‫تذكر ألمانيا عىل المصور الجغر ي‬
‫للماض والحارص‬ ‫‪.‬‬
‫الت تعرفنا عليها ومصدر كهذا ينطوي يف أي ذكر‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫ندىل بمصدر إلحدى الخصائص ي‬ ‫يف ناحية ما أن ي‬
‫والمستقبل (مقايل أزمئة محددة) كما تشمل أشياء من هنا وهناك أو ما رواه اآلخرون لناء وعىل ذلك يبدو بطريقة أو أخرى‬
‫الشء‬ ‫ر‬
‫يشتمل عىل إشارة إىل صفة أخرى ً نعرفها بالعيانء إذا ًكانت معرفتنا بذلك ي‬‫ً‬
‫عرف بانطباقه عىل صفة خاصة ال بد أن‬
‫ر‬
‫ه وصف يشتمل عىل‬ ‫‪.‬‬
‫الموصوف ليس مجرد نتيجة تتتب منطقيا عىل الوصف فهذه العبارة مثال «أطول ًالناس عمرا» ي‬
‫وه ال بد أن تنطبق عىل شخص ماء ولكنا ال نستطيع أن تصدر أحكاما تتعلق بهذا الشخص تتضمن معرفة به‬ ‫كليات فقط؛ ي‬
‫ً‬
‫أبعد مما نصل إلبه عن طريق الوصف» فإذا قلنا «أن المستشار األول لإلمتاطورية األلمانية كان ديلوماسيا لبقا فنحن نكون‬
‫الغت ر‬ ‫ً‬
‫الت نصل إليها ‪ -‬عن طريق السمع أو القراءة‪.‬‬
‫ي‬ ‫متأكدين فقط من صدق حكمنا اعتمادا عىل معرفة عيانية به هو شهادة ر‬
‫ر‬
‫الحقيق» مما يجعل لحكمنا‬ ‫الت نوصلها إىل اآلخرين» أو عما يمكن أن يعلم عن بسمارك‬ ‫وبغض النظر عن المعلومات ر‬
‫ً‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫الت تدور ف أذهاننا ف الحقيقة تحتوي صفة أو ر‬ ‫ر‬
‫أكت من الصفات الخاصة وتتألف فضال عن ذلك كلها من‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫أهمية‪ .‬فالفكرة ي‬
‫‪..‬التصورات‬
‫‪61‬‬

‫وانجلتا وأوربا واألرض والنظام الشمش ‪ -‬يشتمل حينما يستعمل عىل أوصاف تنبثق عن صقات‬ ‫ر‬ ‫فجمع اسم المكان كلندن‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الميتافتيقيا يشتمل عىل صفة كهذه‬
‫ر‬ ‫الت عرفتاها عيانا‪ .‬ي‬
‫وإن ألتوقع أنه حت الكون كما تتناوله‬ ‫أكت أو أكت خصوصية من ي‬
‫المنطت؛ فعىل العكس من ذلك حيث ال نهتم بما هو موجود فحسب بل بما يجب أن يكونء فليس‬ ‫ر‬ ‫بالصفات الخاصة‪ .‬أما‬
‫‪.‬ثمة إشارة لصفات واقعية خاصة منطوية فيها‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫الت تتضمن‬‫ششء ال نعرفه إال بالوصف» فغالبا نقصد بأن نجعل قولنا ليس يف الصيغة ي‬ ‫ي‬ ‫ويبدو أننا حينما نرصح بقولنا عن‬
‫ً‬
‫الواقع الموصوف»؛ ومعت ذلك حينما تقول أي رسء عن بسمارك فإنتا نرغب ما استطعنا أن نجعل الحكم‬ ‫ي‬ ‫الشء‬ ‫ر‬
‫وصفا بل ي‬
‫الذي يستطيع بسمارك وحده أن يعنيه ؛ أي الحكم الذي قوامه بسمارك نفسه» وال بد أن نبوء بالفشل يف هذا ما دام‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الشء يسم بسمارك وأن ب هذا كان دبلوماسيا لبقا‪ .‬وب هذه الصورة‬‫غت معروف لناء ولكننا نعلم أن ي‬ ‫الحقيق ر‬
‫ي‬ ‫بسمارك‬
‫الشء الذي هو بسمارك‪.‬‬ ‫نستطيع أن نصف الحكم الذي نرغب أن نثبته وهو «لقد كان ب دبلوماسيا لبقا»» وب هنا هو ر‬
‫ي‬
‫فإذا وصفنا بمارك بأنه «المستشار األول لالمتاطورية األلمانية»» فالحكم الذي نريد أن نثبته يمكن أن يوصف هكذا‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫«الحكم الذي يؤكد فيما يتعلق ر‬
‫الحقيق الذي كان المستشار األول لإلمتاطورية دبلوماسيا لبقا»‪ .‬ويمكتنا بذلك أن‬ ‫بالشء‬
‫الشء الذي بسمارك نفسه» ومهما اختلفنا يف‬ ‫ر‬
‫حي كان ب دبلوماسيا لبقا حيث يكون هو ي‬ ‫نصف الحكم الذي نود أن نثبته؛ ر‬
‫)ًالوصف (مادام هذا الوصف صحيحا‬

‫‪62‬‬

‫يبق هوهو‪ .‬وهذا الحكم الذي يوصف ويعرف بصدقه هو ما يهمتاء ولكننا لسنا عىل‬ ‫فإن الحكم الذي عرضنا له بالوصف ر‬
‫‪.‬معرفة عياتية بالحكم نفسه» وال عىل معرفة به ولو أننا نعرف أنه حكم صادق‬

‫ويتبي من ذلك أن ثمة مراحل مختلقة ف االنتقال من الصفات الخاصة‪ :‬فهناك بسمارك ألناس عرفوه» وهناك بسمارك‬ ‫ر‬
‫بالنسبة آلخرين عرفوه بوساطة التاري خ فقطء وهناك معرفة بالرجل ذي القناع الحديدي» وهناك المعرفة بأطول الناس‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ه بالتدري ج مختلفة اختالفا تدريجيا من المعرفة العيانية للصفات الخاصة‪ .‬فالقضية األوىل أقرب ما‬ ‫عمرا‪ .‬وهذه الصفات ي‬
‫يمكن إىل المعرفة العيانية حينما تتعلق المعرفة بشخص آخرء والقضية الثانية ه أن من عرف يسمارك من التاري خ يمكن‬
‫أن يقال عنه أنه يعرف «من كان بسمارك»؛ أما يف القضية الثلثة فنحن ال نعلم من كان الرجل ذو القناع الحديدي ولو كان يف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كثتا من األحكام عنه ر‬
‫الت يمكن أن دآ تستنتج منطقيا من كونه كان ذا قناع حديدي» أما يف القضية‬ ‫ي‬ ‫امستطاعتنا أن نعلم ر‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫المنطق من تعريف الرجل‪ .‬وكما يوجد تدرج مشابه يف الجزئيات يوجد أيضا مثل‬ ‫ي‬ ‫الرابعة فإن معرفتنا ال تتعدى االستنتاج‬
‫وف حالة الكليات كما يف‬
‫كثت من الجزئيات نعرفها عن طريق الوصف» ي‬ ‫فكثت من الكليات مثلها مثل ر‬‫هذا التدرج يف الكليات» ر‬
‫بالشء الموصوف يمكن إرجاعه يف النهاية إىل العلم الذي يعرف بالعيانية‬ ‫‪.‬حالة الجزئيات نرى أن العلم ر‬
‫ي‬
‫ه هكذا ‪ :‬كل حكم تستطيع أن نفهمه يجب أن يتألف بكامله‬ ‫ر‬
‫الت تتضمن األوصاف ي‬
‫األساس يف تحليل األحكام ي‬
‫ي‬ ‫إن المبدأ‬
‫‪ً.‬من أجزاء نعرفها عيانيا‬
‫‪63‬‬

‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬


‫سنشت‬
‫ر‬ ‫األساس؛ إننا‬
‫ي‬ ‫الت قد تثار ضد هذا المبدا‬
‫ونحن يف هذه المرحلة لن نحاول أن نجيب عن جميع االعتاضات ي‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫االعتاضات‪ .‬ألنه ال يمكن التصور بأننا‬ ‫يف الوقت الحارص بطريقة أو بأخرى أنه بإمكانتا أن نجد سيال ممكنا لمواجهة هذه‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الت‬
‫نستطيع أن نصدر حكما أو ُصوغ فرضا بدون معرفة ماهية ما نحكم عليه أو تفتضه» وال بد أن نقرن معت ما بالكلمات ي‬
‫نريد أن نقولهاء إذا أردنا أن يكون لكالمنا قيمة وأال تحدث جعجعةء والمعت الذي نقرنه بالكلمات يجب أن يكون شيا تكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عىل معرفة عيانية به‪ .‬فحينما نتصدر حكما حول يوليوس قيرص من الواضح أن يوليوس قيرص نفسه ليس ماثال أمام أذهاتنا‬
‫ر‬
‫ألننا لسنا عىل معرفة عيانية به؛ وما يف عقولنا عه إنما هو وصف محدد اليوليوس قيرص» «الرجل الذي قتل يف الخامس‬
‫ر‬
‫وف هذا الوصف‬
‫ً‬ ‫اإلمتاطورية ً الرومانية» أو ريما ًفقط «الرجل المسم يوليوس قيرص»‪ .‬ي‬‫عش من آذار» وهو «مؤسس ر‬
‫ضجيجا أو ًجعجعة أو شكال‪ .‬وهكذا فإن حكمنا ال يبدو كما يظهرء بل ي‬
‫يعت شيئا ما‬
‫ً‬
‫األخت تكون كلمة ايوليوس قيرص»‬
‫ً‬
‫ر‬
‫‪.‬يتضمن بدال من يوليوس قيرص وصفا له مؤلفا كله من أجزاء وكليات تعرف بالعيان‬

‫وأهم ما يف المعرفة الوصفية أنه ا تمكننا أن نتجاوز حدود تجاربنا الخاصة» وبالرغم من ذلك فإننا ال نستطيع أن نعرف سوى‬
‫الت تؤلف بكاملها من عبارات ختتاها ف المعرفة العيانية عن طريق تجاربناء ومع ذلك نستطيع أن تصل إىل‬ ‫الحقائق ر‬
‫ر‬
‫المباشة فإن هذه اللتيجة حيوية وإىل أن‬ ‫ر‬
‫الت لم نختتها مطلقاء وبالنظر إىل المجال الضيق لتجاربنا‬
‫ً‬ ‫المعرفة الوصفية ي‬
‫الكثت من معرفتنا غامضا وهو لذلك موضع شك‬ ‫ر‬ ‫‪.‬تصبح مفهومة سيظل‬

‫‪64‬‬

‫يف كل مناقشاتنا االبقة تقر يبا ركزنا اهتمامنا عىل محاولة االستيضاح بشأن الحقائق الحسية المتعلقة بمعرفة الوجود‪ .‬لقد‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫الت نعلم وجودها يف هذا الكون اعتمادا عىل معرفتنا العيانية بها؟ وكان جوابنا إىل اآلن أننا‬
‫كان عندنا سؤال يتعلق باألشياء ي‬
‫ً‬
‫عىل معرفة عيانية بالحقائق الحسية» وأننا عىل األرجح عىل معرفة عيانيا بذواتنا‪ .‬هذه أمور نعلم وجودها‪ .‬كما أننا نعلم أن ما‬
‫ر‬
‫الت نتشدماء ‪ 0‬ا‬
‫نتذكره من حقائق حسية ماضية كانت موجودة ف الماض»؛ وهذه المعرفة تزودنا بالحقائق ي‬
‫عىل أننا إذا أردنا أن نكون قادرين عىل استخالص التتائج من هذه الحقائق أي إذا كان لنا أن نعرف وجود المادة؛ ووجود‬
‫الناس اآلخرين» ووجود ما كان ف الماض قبل أن تبدأ ذاكرتاء وما سيكون يف المستقبل» إذا كان لنا أن نفعل ذلك فيجب أن‬
‫ر‬
‫سء من نوع‬ ‫نعرف بعض مبادئ عامة نتمكن من خاللها أن نستخلص مثل تلك االستدالالت‪ .‬كما علينا أن نعرف أن وجود ي‬
‫سء آخر هو (ب)؛ سواء أكان وجوده بنفس الوقت الذي يوجد فيه (أ) أو يف زمن مبكر أو متأخرء كما‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫عىل وجود ي‬ ‫ً‬
‫ما (أ) دليل‬
‫هو الحال مثال يف أن الرعد هو إشارة إىل الوجود السابق للتق؛ فإذا لم يكن هذا معلوما لدينا فال نستطيع أن نبسط معرفتنا‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫هء أيكون يف‬ ‫وراء نطاق ختتنا الخاصة» وهذا مجال‪ .‬كما رأينا سابقا‪ .‬جد محدود‪ .‬والقضية ي‬
‫الت علينا أن نتأملها اآلن ي‬
‫‪65‬‬

‫إمكاننا أن تتسع معرفتنا مثل هذا االتساع» وإذا كان األمر هكذا فكيف يتم لنا ذلك؟‬
‫ً‬
‫مثال ال يشعر واحدنا بأدن شك فيه حيث أننا كلنا قانعون بأن الشمس ر‬
‫ستشق ف الغد‪ .‬ولماذا؟ أيكون هذا االعتقاد‬ ‫لنورد‬
‫ً‬
‫مجرد نتيجة عمياء للختة الماضية؛ أو هل يمكن أن يتر كاعتقاد معقول؟ إنه ليس من السهل أن تجد معيارا نحكم به عىل‬
‫تكق إذا كانت صادقة؛‬ ‫ر‬
‫الت ي‬ ‫هذا المعتقد أهو معقول أم ال ولكننا نستطيع ً عىل األقل أن نتحقق من نوع المعتقدات العامة ي‬
‫كثتة تقوم عليها أعمالنا يف الحياة‬ ‫‪.‬لتسوي غ الحكم بأن الشمس سوف ر‬
‫تشق غداء؛ وكذلك ما يمائله من أحكام ر‬
‫غداء أجبنا بصورة عفوية «ألنها عىل الدوام ر‬‫ً‬ ‫ويبدو أننا إذا سألنا لماذا نخمن أن الشمس ر‬
‫تشق كل يوم)ء فنحن نؤمن‬ ‫ستشق‬
‫الماض‪ .‬ولو تحدانا أحدهم بسؤالنا لماذا تعتقد أنها سوف‬
‫ي‬ ‫تشق ف المستقبلء ألنها رأشقت ف‬ ‫إيمانا راسخا بأنها سوف ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ه جسم دائر بصورة طليقة» وهذا‬ ‫قائلي‪ :‬إن األرض ي‬
‫قواني الحركة ر‬ ‫ر‬ ‫ه حت اآلنء فإننا نعود به إىل‬ ‫تستمر يف الشوق كما ي‬
‫سء خارج نطاقه؛ وليس ثمة حائل خارج هذا النطاق للتدخل يف األرض ربي‬ ‫ر‬
‫الجسم ال ينقطع عن الدوران إال إذا تدخل ي‬
‫ر‬
‫سء يف الخارج يعتض حركة األرض؛ ولكن‬ ‫ر‬ ‫الحارص والغد‪ .‬وقد يشك بالطبع يف كوننا عىل تمام‬
‫اليقي أن ليس هناك من ي‬ ‫ر‬
‫ر‬
‫قواني الحركة ستستمر يف عملها حت الغد‪ .‬فإذا قام هذا الشك لوجدنا‬
‫ر‬ ‫ليس هذا هو الشك الهام؛ فالشك الهام ينحرص يف أن‬
‫ر‬
‫حي أطلقنا الشك يف شوق الشمس‬ ‫‪.‬أنفنا يف الموقف نفسه الذي بدأنا منه ر‬

‫‪66‬‬

‫قواني الحركة سوف تعمل عملها هو أنها بقيت تقوم بذلك من قبل إىل الحد الذي تمكندا‬ ‫ر‬ ‫والحجة الوحيدة يف االعتقاد أن‬
‫معرفتنا بالماض أن نحكم هذا الحكم‪ .‬وبي أننا نملك الحجة مما حدث ف الماض ف تأبيد قواني ن الحركة ر‬
‫أكت مما لدينا‬ ‫ر‬ ‫ي ي‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫ي‬
‫قواني الحركة؛ وهناك حاالت‬
‫ر‬ ‫من األدلة يف تأييد رشوق الشمس؛ ألن رشوق الشمس ال يعدو أن يكون حالة خاصة إلتجاز‬
‫ً‬ ‫الحقيق ر‬
‫ر‬
‫يبق ملحا وهو ‪ :‬أيكون حدوث أي عدد من الحاالت‬ ‫ي‬ ‫القواني» عىل أن السؤال‬
‫ر‬ ‫خاصة أخرى ال تحىص لفعل تلك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الماض دليآل عىل أنها سوف تحدث يف المستقبل؟ وإذا كان الجواب نفيا فإن من الواضح أال نجد ربي أيدينا‬
‫ي‬ ‫لفعل قانون يف‬
‫ر‬
‫أي سبب يحملنا عىل أن نتوقع أن الشمس سوف تشق غداء أو أن نتوقع أن الخت الذي سستأكله ف وجبتنا المقبلة سوف‬
‫الوع تضبط حياتنا اليومية» أو أن نتوقع أي أمر سيحصل‪ .‬ومن المالحظ أن‬ ‫ي‬ ‫لن يسبب لنا التسممء أو ألي توقعات نادرة‬
‫ه يف حدود األرجحية» ولذلك ليس لنا أن نفتش عن برهان يثبت أنها ستنجز» ألي سبب يؤيد الرأي‬ ‫هذه التوقعات كلها ي‬
‫‪.‬بأن من األرجح إتمامها‬
‫ً‬
‫يفىص ينا األمر إىل الواقع الذي ال أمل فيه‪ .‬فقد بينت‬
‫ي‬ ‫تميتا مهماء بدونه ال بد أن‬‫وعلينا بصدد معالجة كهذه أن نقيم ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫حت اآلن تكرار حدوث * شيئي أو ر‬ ‫التجربة لنا ر‬
‫أكت معا بالتعايش بصورة مطردة مرات عديدة كان با ألن نتوقع مجيثهما معا‬ ‫ر‬
‫أو بالتعاقب‬
‫ً‬
‫المعي مذاقا خاصاء وتصاب توقعاتنا بصدمة قاسية إذا وجد أن المظهر‬
‫ر‬ ‫يف المرة المقبلة‪ .‬فإن يف للغالب للطعام ذي المظهر‬
‫ٌ‬
‫مقرون بذوق غت معتاد‪ .‬وما نبرصه من أشياء ر‬
‫تقتن‬ ‫ر‬ ‫المألوف‬

‫‪6‬‬

‫ر‬
‫الت‬ ‫ر‬
‫حي نلمس تلك األشياء» وأن من األهوال ي‬ ‫الت نتوقع أن نجدها ر‬
‫ه األحاسيس ي‬ ‫بتأثت العادة بأحاسيس لمسية معينة؛ ي‬
‫ر‬
‫وكثت من الناس الذين تنفعهم الثقافة‬
‫ر‬ ‫‪.‬‬ ‫ه أنها تفشل يف منحنا أحاسيس اللمس‬‫كثت من قصص األشباح) ي‬ ‫(ف ر‬‫تبثها األشباح ي‬
‫غت مفهومة من‬‫ر‬ ‫األصلية‬ ‫لغتهم‬ ‫أن‬ ‫يجدون‬ ‫حي‬
‫ر‬ ‫التصديق‬ ‫عليهم‬ ‫ليتعذر‬ ‫ر‬
‫حت‬ ‫يدهشون‬ ‫مرة‬ ‫أول‬ ‫ليالدهم‬ ‫عند مغادرتهم‬
‫‪.‬األجانب‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫إن هذا النوع من ر‬
‫االقتان ليس مقصورا عىل اإلنسان» بل أنه يف الحيوانات فعال قوي األثر‪ .‬فالحصان ِإذا اعتاد أن يساق ف‬
‫حي تبرص‬‫معي يقاوم أشد المقاومة محاولة سوقه يف اتجاه آخر‪ .‬وتتظر الحيوانات الداجنة أن تظفر بالطعام ر‬ ‫طريق ر‬
‫الشخص الذي اعتاد إطعامها‪ .‬وإنا للعلم كيف أن جميع هذه التوقعات الساذجة الطراد حدوث األشياء معرضة للخطأ‬
‫ً‬
‫أختا إىل لوي رقاب‬‫والفساد‪ .‬فقد ينته األمر بيد الرجل الذي اعتاد أن يطعم الدجاجات كل يوم طوال حياتها أن يلجأ ر‬
‫ً‬
‫كثتا‬
‫‪ً.‬الدجاجات» مظهرا بذلك أن آراء الساذج باطراد وقوع الحوادث الطبيعية ال يجدي الدجاجات ر‬

‫الماض‬ ‫سء ما قد وقع عددا من المرات يف‬ ‫ر‬


‫ي‬ ‫وبالرغم من تضليل هذه التوقعات» فإنها مع ذلك موجودة؛ فإن مجرد كون ي‬
‫يؤدي بالحيوان واإلنسان إىل أن يتوقع أنه سيحدث مرات أخرى يف المستقيل‪ .‬وعىل هذه الصورة فإن غرائزنا تحملنا بالتأكيد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫التخمي بأن الشمس سوف ر‬
‫حي لويت رقابها‪.‬‬ ‫ختا من حال الدجاجات ر‬ ‫تشق غداء ولكن حالنا يف ذلك قد ال تكون ر‬ ‫ر‬ ‫عىل‬
‫الماض بسبب ما نتوقعه فيما يتصل‬
‫ي‬ ‫نمت ربي كون االطراد يف‬
‫ولهذا يلزمنا أن ر‬

‫‪68‬‬

‫حي يكون صدقها‬


‫وبي المشكلة حول وجود أو عدم وجود أي متر معقول لالعتماد عىل هذه التوقعات» ر‬
‫بالمستقبل» ر‬
‫‪.‬موضع سؤال ومتاقشة‬

‫ه أيوجد أي سبب لالعتقاد بما يسم االطراد يف «وقوع النمطية الطبيعية»‪.‬‬ ‫ر‬
‫الت علينا أن نمعن يف مناقشتها ي‬
‫إن القضية ي‬
‫سء حدث أو سيحدث إنما هو حالة من حاالت فعل قانون عام‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫واإليمان باطراد وقوع الحوادث الطبيعية هو اإليمان بأن أي ي‬
‫ر‬
‫وه معرضة إذن ألن‬ ‫فه خاضعة للشذوذء ي‬ ‫ال يقبل الشذوذ والتوقف‪ .‬أما رصوب التوقع الساذجة ي‬
‫الت استعرضتاها آنفا ي‬
‫الت لها شواذ يمكن أن يستبدل بها قواعد‬‫تخيب ظن من يتمسكون بهاء ولكن العلم قد درج عىل فرض أن القواعد العامة ر‬
‫ر‬
‫الت ال سند لهاء تسقط من الفضاء ء عىل األرض وهذه قاعدة عامة تشذ عنها البالونات‬ ‫عامة ال شواذ لها‪« .‬فاألجسام ي‬
‫والطائر ات‪ .‬ولكن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫الت تفش معا سقوط أغلب األجسام» تفش أيضا استطاعة البالونات والطائرات االرتفاع‬ ‫قواني الحركة وقانون الجذب» ي‬ ‫ر‬
‫ً‬
‫قواني ‪ ,‬الحركة وقانون الجذب معا ال تخضع لهذا الشذوذ‬ ‫ر‬ ‫فإن‬ ‫وإذن‬ ‫ان»‬‫‪.‬والطت‬
‫ر‬
‫ً‬ ‫واالعتقاد الذي يقول بأن الشمس ر‬
‫كبت يخرب عىل دورانها‪.‬‬‫ستشق غدا هو قول زائف إذا اصطدمت األرض فجأة بجرم ر‬
‫قواني‬
‫وقواني الجاذبية ال يتأثران بحادث كهذاء ومهمة العلم أن يكشف حاالت االطراد» مثل ً ر‬‫ر‬ ‫قواني ن الحركة‬
‫ر‬ ‫ولكن‬
‫ً‬ ‫الحركة وقانون الجاذبية ر‬
‫الت ليس فيها شذوذ إىل الحد الذي تمتد إليه تجاربنا‪ .‬وقد كان نجاح العلم يف هذا نجاحا بارزاء وإننا‬
‫ي‬
‫لنسلم‬

‫‪69‬‬

‫حت اآلن‪ .‬ويؤدي بنا هذا إىل السؤال التاىل‪ :‬إذا ر‬


‫افتضنا أن تلك الحاالت حدثت يف‬ ‫بان حاالت االطراد هذه بقيت صحيحة ر‬
‫ي‬ ‫ر‬
‫الماض بال انقطاع فهل من سبب يحملنا عىل افتاض أنه سيستمر حدوثها يف المستقبل؟‬
‫ي‬
‫ً‬
‫الماض» ألن ما كان مستقبال عاد بال انقطاع‬
‫ي‬ ‫وثمة رأي ماده أن هناك ما يحملنا عىل االعتقاد بأن المستقبل سوف يماثل‬
‫ً‬
‫الماض عىل الدوام» بحيث أصبحنا يف الحقيقة عىل ختة بالمستقبل» أي بأزمنة كانت فيما‬‫ي‬ ‫ماضيا» وقد ظهر أنه كان يشبه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مستقبال ماضيا‪ .‬ولكن هذا تدليل يقوم ف الحقيقة عىل ر‬
‫افتاض صحة ما تريد إثياته فإنتا‬ ‫ي‬ ‫مىص تمشل المستقبل وقد نسميها‬
‫يهت لنا أن نعرف‬ ‫عىل ختة بالمستقبل الماض وليس بالمستقبل الماض فحسب‪ .‬وإذن فال يزال علينا أن نبحث عن مبدأ ر‬
‫ماض‬ ‫ر‬
‫الت خضع لها ال‬
‫ي‬ ‫القواني ي‬
‫ر‬ ‫‪.‬أن المستقبل سوف يخضع لنفس‬
‫ر‬
‫الت نعلم فعلها‬
‫القواني ي‬
‫ر‬ ‫حي نطبق‬‫إن اإلشارة إىل المستقبل ليست باألمر الهام يف هذا السؤال» ألننا نواجه المشكلة نفسها ر‬
‫الت تدور حول نشأة‬ ‫ر‬
‫بالتجربة عىل أشياء ماضية ليست لنا ختة بها ‪ -‬كما هو الحال يف علم طبقات األرضء أو رة يف النظريات ي‬
‫يقتىص اإلجابة عنه هو‪« :‬إذا وجد شيئان مقتنان أحدهما باآلخر مرات ر‬
‫كثتة‬ ‫ي‬ ‫المجموعة الشمسية‪ .‬فالسؤال الملح والذي‬
‫يقتن فيها حدوث أحدهما بحدوث اآلخرء فهل يتيح حدوث أحدهما يف حالة جديدة أي متر لتوقع‬ ‫ولم تعرف أي حالة ال ر‬
‫الت نصل إليها عن‬ ‫ر‬
‫حدوث اآلخر» وال بد أن نسند إجابتنا يف ذلك عىل صدق جميع توقعاتنا يف المستقبل» وجميع النتائج ي‬
‫طريق‬

‫‪70‬‬

‫ر‬
‫الت تؤلف األساس لحياتنا اليومية تقريا‬
‫‪ً.‬االستقراء بل تعتمد عليها يف الحقيقة؛ سائر معتقداتنا ي‬
‫يكق بذاته للتهان بصورة‬ ‫ر‬
‫شيئي معأ مرات متكررة وال يفتقان قط» أمر ال ي‬
‫ر‬ ‫وعلينا أن نسلم (بداية) بأن حقيقة حدوث‬
‫ً‬
‫‪.‬‬
‫ه موضع عبثنا وقصارى ما يمكن أن تأمل الوصول إليه هو أنه‬ ‫ر‬
‫الت ي‬
‫قاطعة عىل أنهما سوف يحدثان معا يف الحالة الجديدة ي‬
‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الت يحدثان فيها معا؛ ازداد رجحان حدوثهما معا يف مرة أخرى‪ .‬وكلما بلغت مرات حدوثهما معا حدا كافيا‬ ‫كلما كتت المرات ي‬
‫ً‬
‫زاد رجحان حدوثهما معا ف المرة األخرى ر‬
‫اليقي ‪ 7‬تقريباء وهذا االحتمال أو الرجحان ال يصل إىل درجة‬ ‫ر‬ ‫حت يصل إىل درجة‬ ‫ي‬
‫ً‬
‫كتة تكرار حدوثهما معأ فإن هناك أحيانا ما يخل بهذا ر‬ ‫اليقي المطلق؛ ألننا نعلم أنه بالرغم من ر‬
‫االقتان يف النهاية؛ كماهو‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫الت تعتض هذا‬ ‫ينبع أن نسع يف طلبه‪ .‬والحجة ي‬ ‫ي‬ ‫الحال يف الدجاج الذي لوى رقبته‪ .‬ولذلك فاالحتمال أو الرجحان هو كل ما‬
‫القول الذي أيدتاه هو أننا نعرف أن جميع الظواهر الطبيعية تخضع لحكم القانونء وأننا نستطيع أحيانا» اعتمادا عىل‬
‫ر‬
‫االعتاض‬ ‫ه موضع امتحاننا‪ .‬ولهذا‬ ‫ر‬
‫الت ي‬ ‫المالحظة» أن نجد أن قانونا واحدا فقط يمكن أن ينطبق عىل وقائع الحالة ي‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫جوابان‪ :‬األول هو أنه حت إذا كان هناك قانون ما ال يقبل الشذوذ ينطب عىل الحالة ي‬
‫الت ربي أيديناء فإنتا ال نستطيع أن‬
‫الثان هو أن‬
‫ي‬ ‫نكون يف الواقع عىل يقن قط؛ بأن ما اكتشقناه هو هذا القانون نفسه وليس قانونا آخر قابال للشذوذ‪ .‬والجواب‬
‫ً‬ ‫حكم القانون ال ييدو ر‬
‫أكت من كونه محتمال فقط» وأن اعتقادنا‬

‫‪71‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫الماض» اعتقاد قائم عىل هذا المبدأ الذي هو موضع بحثنا‬
‫ي‬ ‫سيبق نافذا يف المستقبل» أو ر يف حاالت لم نختتها يف‬
‫ر‬ ‫بأنه‬
‫‪.‬وسؤالنا‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫يأن‬
‫‪:‬يمكننا أن ندعو هذا المبدا االستقران» ويمكن أن نعد قسميه كما ي‬
‫سء من نوع (ب)ء فإنه كلما زاد عدد‬‫ر‬ ‫مقت ًنا ر‬
‫أ ‪ -‬إذا وجد رسء من نوع (أ) ر‬
‫يوجد قط منفصال عن ي‬ ‫بشء من نوع آخر (ب) ولم‬
‫ً‬ ‫ي‬ ‫الت ي ر‬
‫اقتن فيها الشيئان (أ) و(ب) زاد احتمال ر‬
‫اقتانهما معا يف حالة جديدة نكون عىل معرفة بوجود أحدهما فيها‬ ‫‪.‬الحاالت ر‬

‫االقتان بينهما» ف الظروف ذاتها سوف يجعل االحتمال ر‬


‫القتان جديد بينهما يصل إىل‬ ‫ب إن حدوث عدد كاف من حاالت ر‬
‫ً‬
‫تدريجيا» ويجعله ر‬
‫غت حد‬ ‫اليقي إىل ر‬
‫ر‬ ‫يقتب من‬ ‫اليقي‬
‫ر‬ ‫‪.‬درجة‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫الت عتنا عنه بهاء إال عىل صدق توقعنا لحالة جديدة واحدة‪ .‬ولكتا تريد أن نتعلم أيضا أن‬‫المبدآء ال ينطبق بالصورة ي‬ ‫إن هذا‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫ً‬
‫هناك احتماال يف جانب القانون العام الذي ينص أن األشياء من نوع (أ) مقتنة دائما باألشياء من نوع (ب)؛ بشط أننا نعلم‬
‫االقتان» واحتمال صدق القانون العام الشك‬ ‫االقتانف وأننا ال نعلم أية حالة اختل فيها هذا ر‬
‫حدوث عدد كاف من حاالت ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أقل من احتمال صدق الحالة الخاصة» ألنه إذا كان القانون العام صادقا» فإن الحالة الخاصة يجب أن تكون صادقة أيضاء‬
‫ً‬
‫حي أن الحالة الخاصة قد تكون صادقة من دون أن يكون القانون العام نفسه صادقا‪ .‬ومع ذلك فإن احتمال صدق‬ ‫ف ر‬
‫ه الحال يف احتمال صدق‬ ‫ر‬
‫القانون العام يزيد بزيادة مرات االقتان» كما ي‬
‫‪72‬‬

‫ً‬
‫ان لينطبق عىل وجه العموم يف الصورة التالية‬
‫قسم المبدا االستقر ي‬
‫ي‬ ‫‪:‬الحالة الخاصة» ولذا لنا أن نضع‬
‫ً‬
‫دائما ر‬ ‫بشء من نوع (ب) زاد احتمال ر‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫(بشط أال‬ ‫اقتان (أ) ب (ب)‬ ‫سء من نوع () ي‬
‫الت يقتن فيها ي‬
‫أ ‪ -‬كلما زاد عدد الحاالت ي‬
‫ر‬
‫‪).‬تعرف حاالت يختل فيها االقتان‬
‫ً‬
‫تقريبا ر‬ ‫ب إن حدوث عدد كاف من ر‬
‫اقتان (أ) مع (ب) دائماء‬ ‫اقتان (أ) ب (ب) يف الظروف نفسها سوف يجعل من المؤكد‬
‫اليقي بال حد‬ ‫‪.‬ويجعل القانون العام ر‬
‫يقتب من‬
‫ر‬
‫ً‬
‫ويقتىص االنتباه إىل أن االحتمال إنما هو دائما احتمال بالنسبة إىل حقائق معينة‪ .‬وهذه الحقائق يف مثالنا ليست إال ما يعلم‬
‫كثتا‪.‬‬ ‫من حاالت ر‬
‫اقتان (أ) مع (ب)‪ .‬وقد‬
‫فتغت بذلك من درجة االحتمال ر‬ ‫بعي االعتبار ر‬ ‫يكون هناك حقائق أخرى» ريما تؤخذ ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كبتا من البجع أبيض» وقد يكون دليله هذا عىل صواب‪ .‬وال ينقصه كون بعض البجع‬ ‫فقد يحكم الشخص ًالذي رأى عددا ر‬
‫ً‬
‫فق حالة اليجع قد يعلم المرء‬‫ي‬ ‫‪.‬‬‫الوقوع‬ ‫محتمل‬ ‫غت‬
‫ر‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫أم‬ ‫تجعله‬ ‫لحقائق‬ ‫ا‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫بالرغم‬ ‫أسودء وذلك ألن شيئا ما قد يحدث‬
‫كثتة من الحيوانات» ولذلك فإن أي استقراء حول ألوان الحيوانات استقراء معرض‬ ‫أن اللون صفة شديدة التباين يف أنواع ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫للخطأ‪ .‬ولكن هذه المعرفة تؤلف حقيقة جديدة ال تثبته مطلقا أن االحتمال بالنسبة إىل الحقائق األوىل كان احتماال قائما‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫تأن مخالفة لما نتوقع ال ينهض حجة عىل أن توقعاتنا سوف ال تكون‬ ‫كثتا ما ي‬ ‫عىل تقدير خاط‪ .‬ولذلك فإن كون األشياء ر‬
‫محتملة الوقوع يف حالة‬

‫‪73‬‬

‫ً‬
‫غت قابل عىل األقل ألن يدحض عىل كل حال‬ ‫معي من الحاالت‪ .‬وهكذا فإن المبدا االستقر ي‬
‫ان ر‬ ‫‪.‬معينة أو نوع ر‬
‫ً‬
‫ان‬
‫صحة المبدأ االستقر ي‬ ‫غت قابل أيضا ألن تثبت صحته باللجوء إىل التجربة‪ .‬ويمكن تصور أن التتجربة توكد‬ ‫لكن هذا المبدأ ر‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫ان وحده هو الذي‬ ‫غت المغربلة فإن الميدأ االستقر ي‬‫الت امتحنت وغربلت قبال؛ أما فيما يخص الحاالت ر‬ ‫فيما يخص الحاالت ي‬
‫الت تم غربلتها» فجميع رصوب‬ ‫ر‬
‫غت المغربلة بناء عىل الحاالت ي‬ ‫يمكن أن يسوغ الوصول إىل استدالل حول تلك الحاالت ر‬
‫تفتض صحة المبدأ‬ ‫الماض أو الحارصء ر‬ ‫اء‬‫ز‬ ‫أج‬ ‫من‬ ‫يمكن‬ ‫لم‬ ‫ما‬ ‫عىل‬ ‫الت تحكم عىل المستقبل اعتمادا عىل التجربة أو‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫التدليل ي‬
‫ان» ومن ثم ال نستطيع أن نستخدم التجربة إلثبات المبدأ االستقران من دون أن نقرض صحة ما تريد إثباته‪ .‬ولذلك‬ ‫االستقر ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ان بناء عىل صحته ذاتهاء وإما أن نتجاوز كل تتير لتوقعاتنا عن المستقبيل» فإن كان المبدا‬ ‫يلزمنا إما أن نسلم بالمبدا االستقر ي‬
‫ً‬
‫غداء أو أن نتوقع أن الخت ر‬ ‫غت سليم فليس لنا أن نتوقع أن الشمس ر‬
‫أكت تغذية من الحجر أو أن نتوقع أنتا إذا ألقينا‬ ‫تشق‬ ‫ر‬
‫ً‬
‫بأنفسنا من سطح سوف نسقط عىل األرض‪ .‬وحيثما نبرص من يبدو لنا كأنه صديقنا العزيز مقبال عليناء فليس ربي أيدينا أي‬
‫ً‬
‫سبب ألن نفرض أن جسمه ال يحل فيه عقل أشد أعدائنا عداوة لناء أو عقل شخص غريب عنا تماما‪ .‬فكل سلوكنا قائم عىل‬
‫الماض» ونعدها لذلك محتملة النجاح يف المستقبل؛ وإنما تعتمد صحة احتمال نجاحها عىل‬ ‫مقتنات كانت ناجحة يف‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫ً‬
‫ان‬
‫‪.‬المبدا االستقر ي‬

‫‪74‬‬
‫ر‬
‫ومبادئ العلم العامة كاالعتقاد بحكم القانون واالعتقاد بأن كل حادثة ال بد أن يكون لها سبب ماء تعتمد كل االعتماد عىل‬
‫القواني العامة إنما يعتقد فيها اإلنسان ر‬ ‫ً‬
‫البشي‬ ‫ر‬ ‫المبدا االستقراثت مثلما تعتمد عليه اعتقاداتنا ف حياتنا اليومية‪ .‬وجميع هذه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قد وجدت أمثاال ال تحىص لتحقيقها؛ ولم تجد أمثاال عن بطالنها‪ .‬وليس يف هذا أية حجة لصدقها يف المستقبل» ما لم‬
‫ً‬
‫ان‬
‫‪.‬تفرض صحة المبدا االستقر ي‬
‫ه معرفة قائمة عىل اعتقاد ال تستطيع‬ ‫ر‬
‫سء لم يقع يف تجاربناء ي‬
‫وعىل هذا فإن كل معرفة تنبئنا بناء عىل التجربة؛ بأمر ما عن ي‬
‫التجربة أن تثبته أو تدحضه» ومع ذلك فهو اعتقاد يبدو عىل األقل يف تطبيقاته الخاصة الحسية شديد الرسوخ فينا مثل‬
‫ً‬
‫والمبدا االستقران» كما ر‬
‫ستى قرياء ليس‬ ‫ي‬ ‫كثت من حقائق التجربة نفسها ووجود مثل هذه المعتقدات وتتيرها ‪-‬‬ ‫شدة رسوخ ر‬
‫ً‬ ‫بالمشل الوحيد ‪ -‬يثت بعض مشكالت من أصعب مشكالت الفلسفة ر‬
‫وأكتها مثارا للخالف والمنافسة‪ .‬وف الفصل التاىل‬ ‫ر‬
‫تفست مثل هذه المعرفة وعن مداها ودرجتها‬
‫ر‬ ‫ستناول بإيجاز ما يقال يف‬

‫اليقي‬
‫ر‬ ‫‪.‬من‬

‫‪75‬‬

‫‪76‬‬

‫يف معرفتنا البادن العامة‬


‫ً‬ ‫ر‬ ‫ً‬
‫ان السيما وهو رصوري لتقم جميع الحجج المستدة إىل التجرية» ليس قابال للتهان‬ ‫رأينا يف الفصل السابق أن المبدا االستقر ي‬
‫عن طريق التجربة» وهو مع ذلك عىل األقل يف تطبيقاته الحسية يصدق من كل شخص دون تردد‪ .‬وف هذه الخصائص ال‬
‫ان لوحده؛ وثمة عدد من مبادئ أخرى ال يمكن التهان عليها أو دحضها بواسطة االختبارء ولكنها‬ ‫يقوم المبدأ االستقر ي‬
‫الت تصدر عم هو مجرب‬ ‫‪.‬تستعمل ف الحجج ر‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫اليقي مثل‬ ‫ان وتصل معرفتنا بها إىل درجة من‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫وتشمل فئة هذه المبادئ أدلة تؤيدها أقوى من تلك الت تدعم المبدأ االستقر ي‬
‫الت تصل إليها معرفتنا بوجود الحقائق الحسية نفسهاء‬‫ر‬ ‫ر‬
‫الت نستمد منها االستدالل مما ‪ ٠‬الدرجة ً ي‬
‫وه تؤلف الوسائل ي‬ ‫ي‬
‫ر‬
‫نستخلصه من أحاسيس» وإذا صح أن ما نستنتجه يكون صادقا فال بد أن تكون المبادئ الت نستخدمها ف االستدالل‬
‫الت تستخلص منها تلك االستدالالت» ومبادئ االستدالل هذه معروضة ألن يتجاوزها النظر‬ ‫صادقة صدق الحقائق ر‬
‫تبي أنه مجرد فرضء ولكن من المهم‬ ‫ويتحداها التأمل» ذلك ألنها بينة واضحة ‪ -‬وما فيها من فرض يسلم به حال ‪.‬من دون ر‬
‫جداء إذا كان لنا أن نصل إىل نظرية صحيحة يف المعرفة» أن نكون عىل بينة من استخدام هذه المبادئء ذلك ألن معرقتنا‬
‫تثت المشاكل الصعبة والطريفة‬
‫‪.‬بها ر‬
‫‪77‬‬

‫تلتق بمثل واحد خاص ينطبق عليه هذا المبدآء ثم تخيل‬ ‫ً ر‬


‫حقيقة معرفتنا بهذه المبادئ العامة هو أننا أوال ي‬
‫ً‬
‫إن ما يحدث ف‬
‫ً‬
‫تفكت مألوف‬
‫أن كونه مثال خاصا أمر ال يختص بهذه الحاالت الخاصة» وأن ما يصدق عليه يصدق يف مجموعه هذا بالتأكيد ر‬
‫ً‬
‫يف أمور مثل تعلم الحساب‪( :‬فاثان واثئات يساويان أربعة) حقيقة نتعلمها أوال فيما يخص ر‬
‫اثني من األزواج» ونجدها يف‬
‫اثني من األزواج‪ .‬إن مثل هذا‬
‫حت يصبح من الممكن يف النهاية أن نرى أنها تصدق عىل أي ر‬ ‫حالة ثانية وثالثة وهكذا دواليك ر‬
‫شخصي يتباحثان يف أي يوم من الشهر هما فيه؛ فيقول األول‪:‬‬
‫ر‬ ‫يحدث فيما يتعلق بالمبادئ المنطقية‪ .‬لنذهب يف القول إن‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫«إنك لتقر عىل األقل بأنه إذا كان أمس هو اليوم الخامس عشء فإن اليوم يجب أن يكون السادس عشء‪ .‬أما اآلخر فيقول‪:‬‬
‫عشء فقد تناولت طعام الغذاء مع جونز»‬ ‫ألعتف بهذاء» فيقول األول «أنت تعلم أن أمس كان اليوم الخامس ر‬ ‫«إن ر‬ ‫ر‬
‫ي‬
‫عش‬‫فتد الشان‪« :‬نعم» فاليوم هو السادس ر‬ ‫عش)»؛ ر‬ ‫‪».‬وستذكرك مذكرتك بأن ذلك كان ف اليوم الخامس ر‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫وليس ف هذا التهان ما يجعل متابعته مهمة شاقة؛ ر‬
‫وحت إذا سلمنا بأن مقدماته صادقة يف الواقع؛ فليس هناك من يتت أن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫ر‬
‫المنطق هو‪« :‬أفرض أننا تعلم‬ ‫المبدا‬ ‫وهذا‬ ‫‪.‬‬‫عام‬ ‫ر‬
‫منطق‬ ‫مبدأ‬ ‫عىل‬ ‫صدقه‬ ‫ف‬ ‫يقوم‬ ‫تدليل‬ ‫لكنه‬ ‫‪.‬‬‫أيضا‬ ‫صادقة‬ ‫ستكون‬ ‫التتيجة‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬
‫‪.‬‬ ‫ر‬
‫أنه إذا كان صادقا فيتتب من ذلك أن ذاك صادقء وأفرض أننا نعلم أن هذا صادق فيستتبع من ذلك أن ذاك صادق» وإذا‬
‫ًكانت القضية مؤلفة من أنه إذا كان هذا صادقا‬

‫‪78‬‬

‫فذاك صادق» فإننا نقول أن هذا «ينطوي» ف ذاك» وأن ذاك «يصدر عنه» هذا‪ .‬وهكذا فإن هذا المبدأ ينص عىل أنه إذا‬
‫ً‬
‫كان هذا يتضمن ذاك» وكان هذا صادقا فإن ذلك صادق»؛ وبكلمات أخرى «كل ما تتضمئه قضية صادقة فهو صادق»؛ أو‬
‫‪«».‬كل ما ريتتب عىل قضية صادقة فهو صادق‬
‫ً‬
‫اهي‪ .‬فحيثما اتخذنا أمرا تعتقده إلثبات أمر آخرء يكون‬
‫إن هذه الحجة ‪ ً-‬أو عىل األقل أمثلتها المحسوسة ‪ -‬تدخل ف كل الت ر‬
‫هذا المبدأ مالئما‪ .‬فإذا سأل شخص‪« :‬لماذا يتحتم أن تسلم بتتائج الدليل الصادق القائمة عىل مقدمات صادقة؟» فليس لنا‬
‫ً‬
‫وف الواقع؛ من المستحيل الشك يف صدق هذا المبداء وهو يصل من الوضوح إىل درجة‬ ‫أن نجيب إال باللجوء إىل هذا المبدأ‪ .‬ي‬
‫يبدو فيها ألول نظرة أنه أمر تافه‪ .‬عىل أن مشثل هذه المبادئ» ليست بسيطة يف نظر الفيلسوف؛ ألنها مبادئ تكشف لنا‬
‫‪.‬أننا قد نصل إىل معرفة ال يجوز الشك فيها ليست مستمدة بأي صورة من األشياء المحسوسة‬
‫ً‬
‫ربما كان هذا المبدأ ليس إال واحدا من المبادئ المنطقية الواضحة بذاتهاء وال بد من التسليم ببعض هذه األسس عىل األقل‬
‫ً‬
‫قبل أن يكون ممكنا أن يقوم المرء بأي تدليل أو يصل إىل أي برهان عليها‪ .‬وإذا تم التسليم بيعضهاء كان من الممكن التهنة‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫الت تم التسليم بصدقها‪ .‬وقد‬
‫عىل صدق البعض األآخر» وإذا كان هذا البعض بسيطا فإنه يصبح واضحا وضوح المبادئ ي‬
‫لقواني الفكر‬ ‫الت توضع تحت اسم‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫تبيي ثالثة من هذه المبادئ ي‬
‫‪».‬جرت العادة دون حجة قوية عىل ر‬
‫‪79‬‬

‫ر‬
‫«الشء هو هو )‪(1‬‬ ‫‪».‬قانون الذاتية‪:‬‬
‫ي‬
‫ر‬
‫«الشء ال يمكن أن يكون وال يكون )‪(2‬‬ ‫‪».‬قانون التناص‪:‬‬
‫ي‬
‫‪ ١‬قانون استبعاد الوسط‪« :‬كل رسء يجب أن يكون إما كذا أو ال كذا»‪(3) , .‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتعتت هذه المبادئ الثالثة نماذج للمبادئ المنطقية البينة بذاتها كالمبدا الذي استعرضناه آنفا والذي مضمونه أن ما ريتتب‬
‫ً‬
‫«قواني الفكر» اسم مضللء » ألن المهم فيها ليس يف كوننا نفكر تبعا لهذه‬ ‫ر‬ ‫‪ ٠‬عىل مقدمة صادقة فهو صادق‪ .‬إن اسم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تفكتنا يكون صحيحا‪ .‬ولكن هذه‬ ‫ر‬ ‫القواني فإن‬
‫ر‬ ‫تفكتا مطابقا لهذه‬‫القواني بل ألن األشياء تجري وفقا لهاء أي إذا كنا تفكر ر‬
‫ر‬
‫كبتة ال بد أن تعود إليها يف مرحلة الحقة من البحث‬‫‪.‬مشكلة ر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫الت تمكتنا من التهنة اعتمادا عىل مقدمة معينة عىل أن أمرا ما صادق عىل وجه‬ ‫وتوجدء باإلضافة إىل المبادئ المنطقية ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اليقي مبادئ منطقية أخرى تمكننا من التهنة اعتمادا عىل مقدمة معيئة عىل أن هناك احتماال يزيد أو ينقص لصدق أمر ما‬ ‫ر‬
‫ان الذي بحثناه يف الفصل السابق‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫االستق‬ ‫المبدأ‬ ‫لها‬ ‫مثل‬ ‫أهم‬ ‫ولعله‬ ‫لمبادئ‬ ‫ا‬ ‫هذه‬ ‫أمثلة‬ ‫ومن‬ ‫‪.‬‬

‫والعقليي»‪ .‬فالتجريبيوت ‪-‬‬ ‫«التجريبيي»‬ ‫ر‬


‫مدرست‬ ‫الت جرت ربي‬‫ر‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫ومن أكت المناظرات التاريخية ف الفلسفة» تلك المناظرة ي‬
‫كىل وهيوم ‪ -‬تمسكوا بأن كل معرفتنا مستمدة من التجربة؛ أما العقليون ‪-‬‬
‫وخت من يمثلهم الفالسفة التيطانيون» لوك ؛ ربت ي‬
‫ر‬
‫عشء وخاصة‬ ‫ومثلهم الفالسقة األوربيون ف القرن السابع ر‬
‫ي‬

‫‪80‬‬

‫سء من بعض «أفكار فطرية» و«امبادئ فطرية»» نعرفها‬ ‫ر‬ ‫ر‬


‫ديكارت وليبنت ‪ -‬فيقولون باإلضافة إىل ما نعرفه بالتجربة؛ يوجد ي‬
‫ر‬
‫هاتي‬
‫بشء من الثقة عىل صدق أو كذب ر‬ ‫بصورة مستقلة عن التجربة‪ .‬وقد أصبح يف اإلمكان يف الوقت الحارص أن نحكم ي‬
‫المتعارضتي» فيجب أن نسل‬ ‫المدرستي‬ ‫الت ذكرناها آنفاء بأنتا عىل معرفة بمبادئ فطرية» ال تمكن التهنة‪٠‬‬‫ر‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫لألسباب ي‬
‫ً‬ ‫عىل صحتها بالتجربة‪ .‬ذلك ألن كل برهان ر‬
‫يفتض صحتها مقدما‪ .‬لذلك كانت هذه النقطة أهم ما يف المناظرة وكان العقليون‬

‫‪.‬صادقي بالقول بها‬


‫ر‬

‫ًأما الطرف اآلخر فقد كان القسم من المعرفة المستقل منطقيا‬

‫عن التجربة (أي أن التجربة ال يمكن التهنة عليها) تبعثه وتسببه التجربة‪ .‬فنحن نعرف المبادئ العامة ف حاالت التقائنا‬
‫الت تمثل تلك المبادئ ما بينها من ارتباط‪ .‬وأن من توافه األمور أن نفرض أن هناك مبادئ فطرية بمعت‬‫ر‬
‫بالتجارب الخاصة ي‬
‫أن الطفل يولد وله معرفة تتصل بكل ما يعرفه الكبار دون أن تستنتج من التجاربء لهذاء فإن كلمة «فطرية» ال تستعمل‬
‫ً‬ ‫عتاض عليها أقل» وه ر‬ ‫اآلن لوصف معرفتنا بالمبادئ المنطقية‪ .‬أما كلمة (قبلية» «‪«7‬و‪«7‬م ‪7‬ئ» فإن اال ر‬
‫أكت شيوعا ربي‬ ‫ي‬
‫المحدثي‪ .‬ولذلك فإننا إذ تسلم بأن كل معرفة تبعثها وتشبهها التجربة نرى مع ذلك أن بعض المعرفة «قبلية»‬
‫ر‬ ‫الكتاب‬
‫تكق للتهنة عل صحتهاء ولكن التجربة تقترص عىل توجيه اهتمامنا إليها‬ ‫ر‬
‫التفكت فيها ال ي‬
‫ر‬ ‫الت تحملنا عىل‬
‫بمعت أن التجربة ي‬
‫ر‬
‫‪.‬حت لتى حقيقتها دونما حاجة إىل برهان تدعمه‬

‫‪81‬‬

‫ه أننا ال نستطيع أن‬ ‫بهاء تلك ي‬ ‫للعقليي عىل صواب‬


‫ر‬ ‫هناك نقطة أخرى ذات أهمية كتى كان فيها التجرييون يف معارضتهم‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نعرف أن شيئا ما موجود إال باالستعانة بالتجربة‪ .‬وبعبارة أخرىء إذا أردنا أن نك نثبت أن شيئا ما لسنا عىل تجربة مباشة به‬
‫أكت مما نكون عىل تجربة ر‬‫الت بي أيدينا وجود رسء أو ر‬
‫مباشة به‪ .‬فإيماننا بأن‬ ‫ي‬ ‫موجود فال بد أن يكون من المقدمأت ر ي ر‬
‫ً‬
‫النهان» من حقائق حسية رأيناها أو‬‫ي‬ ‫الصي موجود مثال قائم عىل شهادة ماء وتتألف هذه الشهادة يف التحليل‬ ‫ر‬ ‫إمتاطور‬
‫‪.‬‬ ‫ر‬
‫سمعناها عن طريق القراءة واألسماع أما العقليون فيعتقدون أنهم يستطيعون بالمالحظة الشاملة أن يستنتجوا وجود هذا أو‬
‫ذاك من األشياء يف عالم الواقع‪ .‬ويبدو أنهم مخطئون يف هذا االعتقاد‪ .‬فكل معرفة تستطيع اكتسابها بصورة قبلية بما يتعلق‬
‫ً‬
‫موجودا» فال بد أن يكون ر‬ ‫ً‬
‫فرضيا‪ :‬فه تنبئنا أنه إذا كان ر‬ ‫ً‬
‫سء آخر موجوداء أو بصورة أعم» إذا‬ ‫ي‬ ‫سء ما‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫بالوجود تبدو أمرا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫الت استعرضناها سابقا مثل لهذاء «إذا كان هذا صادقا وانطوى تحت‬
‫ني مرات عديدة» فإن من المحتمل أن ر‬ ‫صدقت قضية لزم أن تصدق قضية أخرى‪ .‬والمبادئ ر ي‬
‫يقتنا ف الحالة الجديدة التر‬ ‫ذاك فإذا باألمر صحيح»‪.‬؛ أو «إذا وجد هذا وذاك مقت ر‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫فيها أحدهما»؛ ولذلك فإن مجال المبادئ القبلية وقوتها جد محدودين حيث كل معرفة بأن شيئا ما موجود» ال بد أن‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫بشء» فإننا نعرف وجود بالتجربة وحدهاء ولكن حينما‬ ‫تعتمد إىل حد ما عىل التجربة‪ .‬وحينما نكون عىل معرفة مباشة ي‬
‫مباشة به» فإننا ال بد أن نحتاج إىل التجربة والمبادئ القبلية معا‬ ‫‪ .‬رنتهن عىل وجود رسء من دون أن نكون معرفة ر‬
‫ي‬

‫‪82‬‬

‫ه معرفة فرضية؛ تهدينا إىل الصالت واالرتباطات ربي األشياء الموجودة أو الممكنة‬ ‫ر‬
‫سء ي‬ ‫ولذلك» فكل معرفة تقرر وجود ي‬
‫ر‬
‫الحقيق‬ ‫‪.‬الوجود؛ ولكنها ال تؤدي إىل معرفة الوجود‬
‫ي‬
‫ر‬
‫غت المنطقية؛‬‫المنطق الذي تناولناه إىل اآلن‪ .‬ولعل أهم مثل عىل المعرفة القبلية ر‬
‫ي‬ ‫وقد ال تكون كل معرفة قبلية من النوع‬
‫إنما هو المعرفة بالقيمة الخلقية» ولست بصدد تناول األحكام المتعلقة بما هو مقيد ونافع وبما هو فاضل» وألن مشل هذه‬
‫ً‬
‫األحكام تحتاج إىل مقدمات تجريبية؛ وإنما سأتناول األحكام المتعلقة بما هو مرغوب بذاته من األشياء‪ .‬فإذا كان رسء ما نافعا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ال بد أن يكون نافعا ألنه يحقق غاية ماء أما هذه الغاية فال بد إذا مضينا يف التحليل بعيدا؛ أن تكون ذات قيمة بذاتهاء وليس‬
‫‪.‬ذلك ألنها نافعة لغاية بعيدة فحسب‪ .‬وهكذا فإن كل األحكام عما هو ناقع تعتمد عىل أحكام حول ما هو ذو قيمة بحد ذاته‬
‫ً‬
‫مثال بأن السعادة مرغوية ر‬
‫أكت من التعاسة»؛ وأن المعرفة أفضل من الجهل» وأن اإلرادة الطيية أفضل من‬ ‫ونحن نحكم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ه ككل أحكامنا القبلية يمكن استخالصها‬
‫ي‬ ‫و‬ ‫وقبلية؛‬ ‫وشيكة‬ ‫األقل»‬ ‫عىل‬ ‫جزئيا‬ ‫تكون‬ ‫أن‬ ‫يجب‬ ‫كهذه‬ ‫أحكاما‬ ‫البغض‪ .‬إن‬
‫سء ما بأنه ذو قيمة بذاته؛ ما لم‬‫ر‬
‫غت ًالممكن أن نحكم عىل ي‬
‫بالتجريةء وكذلك يجب أن تكون يف الواقع» ألنه ييدو أن من ر‬
‫نكن قد مررنا يف تجاربتا عىل مثل من نوعه‪ .‬ولكن من الواضح جدا أنه ال يمكن التهنة عىل هذه األحكام بالتجربة ألن كون‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫ختا أو أنه واجب الوجود أو أنه رش‪ .‬وبحث هذا األمر يتصل بعلم‬ ‫غت موجود ال يمكن أن يثبت كونه ر‬ ‫سء ما موجودا أو ر‬
‫ي‬
‫األخالق‪ .‬حيث يكون عىل الباحث أن يقرر‬

‫‪83‬‬

‫ه‬ ‫ينبع أن يكون مما هو كائن‪ .‬ومن المهم يف هذا المقام أن ر‬


‫نتبي فقط أن معرفة ما هو ذو قيمة بذاته ي‬ ‫ي‬ ‫استحالة استنتاج ما‬
‫‪.‬‬ ‫ً‬
‫معرفة قبلية بنفس المعت الذي يكون فيه المنطق أوال أي بمعت صدق مثل هذه المعرفة ال يمكن إثياته أو دحضه‬
‫‪.‬بالتجرية‬
‫ً‬
‫إن الرياضيات الخالصة كلها قبلية» كالمنطق» وكان الفالسفة التجريبيون أشد الناس نكرانا لهاء وهم الذين استشفوا أن‬
‫وشيئي‬
‫ر‬ ‫شيئي‬
‫ر‬ ‫ه مصدر معرفقتنا بالجغرافية‪ .‬ورأوا أن تكرار تجربتنا لرؤية‬ ‫ه مصدر معرقتنا يف الحساب كما ي‬ ‫التجربة ي‬
‫ً‬
‫وشيئي آخرين يؤلفان معا أربعة‬ ‫شيئي‬ ‫أن‬ ‫ستنتاج‬ ‫ا‬ ‫عىل‬ ‫اء‬
‫ر‬ ‫باالستق‬ ‫حملتنا‬ ‫أربعة»‬ ‫يؤلفان‬ ‫الزوجي‬ ‫أن‬ ‫واكتشاف‬ ‫آخرين»‬
‫ر ً‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ً‬
‫غت الطريق الذي‬ ‫واثتي أربعةء فإننا يجب أن نسلك طريقا آخر ر‬ ‫ر‬ ‫دائما‪ .‬عىل أنه إذا كان هذا هو مصدر معرفتنا بأن ر‬
‫اثني‬
‫ً‬
‫تفكتا‬
‫اثني ر‬ ‫التفكت يف ر‬
‫ر‬ ‫معي من الحاالت لنصل إىل‬ ‫تسلكه يف الواقع إلقناع أنفستا بصدق النتيجة‪ .‬فنحن نحتاج إىل عدد ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اثني من نوع خاص‪ .‬ولكنا أول ما‬ ‫اثني من الناس» أو ر‬ ‫اثني من الكتب أو ر‬‫اثني من قطع النقود أو ر‬ ‫التفكت يف ر‬
‫ر‬ ‫مجردا؛ بدال من‬
‫اثني‬
‫غت المالئمة» كما ً يمكننا أن نع وندرك المبدا العام الذي يقول بأن ر‬ ‫نستطيع أن نجرد من أفكارنا ما يعلق بها من األمثلة ر‬
‫واثني هما أربعة» وأن أي حالة تصادفها ف هذا الصدد نعدها نموذجا لهذا المبداء وال تعود بنا من حاجة إىل تمحيص‬ ‫ر‬
‫‪!”.‬حاالت أخرى‬
‫ً‬
‫مانا بجانكتبنونا ددهت‬

‫‪84‬‬

‫حي رنتهن عىل خاصية ما يف جميع المثلشات» فإننا ترسم مثلقا ما ونبدأ‬ ‫ويمكنا يف ذلك االستشهاد بالهندسة‪ .‬فحن ر‬
‫نتحاس االعتماد عىل أية خاصية ال يشارك فيها هذا المثلث المثلثشات األخرى»‬ ‫ر‬ ‫باستداللنا حوله» ولكنننا نستطيع أن‬
‫يقي يف‬‫وب هذه الصورة نصل» بناء عىل الحالة الخاصة إىل نتيجة عامةء وف ذلك ال نشعر يف الحقيقة بأن ما نحن عليه من ر‬
‫واثني هما أربعة يزيد بالنظر ف حاالت جديدة» ذلك ألننا أول ما ندرك صدق هذا الحكم» حيث يقيننا يصل إىل‬ ‫ر‬ ‫اثني‬
‫أن ر‬
‫واثني هما أربعة»‬
‫ر‬ ‫«اثني‬
‫ر‬ ‫بشء من الرصورة إىل أن الحكم‬ ‫كبتة ال يمكن أن يتجاوزها‪ .‬وإضافة إىل ذلك» فإنتا نشعر ر‬
‫ر‬ ‫درجة‬
‫ي‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫وهو ما ال نشعر به حت يف التعميمات التجريية الموثوق بهاء إن هذه التعميمات تبق لنا مجرد حقائق» وربما كان هناك‬
‫الواقع صحيحة‪ .‬وعىل العكس فإننا نشعر أن محصلة ر‬
‫اثني‬ ‫ي‬ ‫عالم آخر تكون فيه هذه الحقائق مخطئةء وإن كانت يف العالم‬
‫سء موجود‬‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ه رصورة يجب أن يجري وفقها أي ي‬
‫سء واقع بل ي‬
‫واثني تبق أربعة يف أي عالم آخرء وليست هذه مجرد ي‬
‫ر‬
‫‪.‬بالفعل أو يحتمل وجوده‬

‫الحقيق كالحكم «كل الناس فانون»‪ .‬فظاهر أننا نؤمن بهذا‬ ‫ر‬ ‫التجريت‬ ‫استشاف هذه القضية علينا بالتعميم‬‫ر‬ ‫ر‬
‫وحت نتمكن من‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫معي» وثانيا ألنه يظهر أن هناك أسبابا‬ ‫ألناس امتد بهم العمر إىل أبعد من مدى ر‬ ‫الحكم أو ال ألننا ال تعلم بحادث واحد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عضويا كجسم اإلنسان ال بد أن ر‬ ‫ً‬
‫الشان جانباء‬
‫ي‬ ‫األمر‬ ‫ولنضع‬ ‫‪.‬‬ ‫آجال‬ ‫أو‬ ‫عاجال‬ ‫إن‬ ‫يفت‬ ‫فتيولوجية تدعو إىل أن نرى أن كائتا‬‫ر‬
‫ونقترص يف تأملنا عىل ما مر يف تجارينا عن فتاء اإلنسان» فظاهر‬

‫‪85‬‬

‫نكتق‬
‫ي‬ ‫حي أننا يف قضية «اثنان واثنان يساويان أربعة» ال‬ ‫نكتق بحالة واحدة لفناء شخص تلم بها تمام اإللمام» يف ر‬ ‫ي‬ ‫إننا ال‬
‫ر‬ ‫ً‬
‫االعتاف لدى‬ ‫مدفوعي إىل‬
‫ر‬ ‫أيضا‬ ‫انا‬
‫ر‬ ‫وت‬ ‫‪.‬‬‫أخرى‬ ‫حالة‬ ‫أية‬ ‫عىل‬ ‫يصدق‬ ‫الحكم‬ ‫هذا‬ ‫أن‬ ‫لنقتنع‬ ‫فيها‬ ‫النظر‬ ‫ننعم‬ ‫واحدة‬ ‫بحالة‬
‫ضئيال ف كل الناس فانون‪ .‬ويتضح هذا بأن تحاول ر‬ ‫ً‬
‫عالمي‬
‫ر‬ ‫تخيل‬ ‫ي‬ ‫التأمل الدقيق بأنه ريما كان هناك يعض ائشك» مهما كان‬
‫وحي طلب إلينا‬‫ر‬ ‫‪.‬‬‫الثان يكون اثنان واثنان خمسة‬
‫ي‬ ‫مختلفي» يف أحدهما عالم واحد ال يعت الناس فيه؛ بينما يف العالم‬
‫ر‬
‫األديب األرلندي سويقت أن نتأمل يف ذلك الجنس من األحياء الذي أسماه ه‪( 0014‬أسماء أسطورية) الذي ال يموت قطء‬
‫الخياىل‪ .‬عىل أن الكيان الذي فيه اثنان واثتان يساوي خمسة كيان آخر‪ .‬فنحن نشعر أن‬ ‫ي‬ ‫ف استطاعتنا أن نسلم بهذا العالم‬
‫ً‬
‫‪.‬مثل هذا الكيان‪ .‬لو كان موجودا؛ سوف يهدم بناء معرفتنا ويحيلنا إىل حال من الشك المقلق‬
‫ً‬
‫كثت من القضايا المنطقية أيضاء‬ ‫وف ر‬‫والواقع أننا يف القضايا الرياضية البسيطة مثل «اثنان واثنان مجموعهما أربعة» » ي‬
‫تستطيع أن تصل إىل معرفة الحكم العام من دون أن نستنتجه من حاالت خاصةء ولو أنه ال بد لنا من حالة واحدة توضح لنا‬
‫ما يدل عليه هذا الحكم العام‪ .‬ي‬
‫وف ذلك تكمن فائدة االستنتاج؛ وفيها يكون االنتقال من العام إىل العام أو من العام إىل‬
‫الخاص» باإلضافة إىل عملي ة االستقراء وفيه يكون االنتقال من األخص أو من الخاص إىل العام وقد ظل الفالسفة منذ القدم‬
‫ويتبي لنا اآلن أنه يف بعض‬
‫ر‬ ‫يتناقشون يف كون القياس يؤدي إىل معرفة جديدة‪.‬‬

‫‪86‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫واثني أربعة دائما؛ ونعلم أن براون وجونز‬‫ر‬ ‫اثني‬
‫حاالت عىل األقل» يؤدي فعال إىل معرفة جديدة ألننا إذا كنا نعلم مقدما أن ر‬
‫الت ربي أيديتاء ألن الحكم العام «اثتان واثنان‬‫ر‬
‫إثنان وأن روبنسون وسميث أربعة؛ وهذه معرفة ًجديدة ال تتضمنها المقدمات ي‬
‫يساوي أربعة»» ولم ينبئنا قط بأن هناك أشخاصا هم براون وجونز وروبنسون وسميث» والمقدمة الخاصة لم تنبثنا بأن‬
‫الخصوض الذي استخلصناه باالستنتاج ينبئنا باألمرين معا‬
‫ي‬ ‫حي أن الحكم‬
‫‪ً.‬هناك أربعة من األشخاص يف ر‬
‫ر‬ ‫ً‬ ‫ر‬
‫تأن يف كتب المنطق» وه «كل الناس فانون» وسقراط إنسان» إذن سقراط هو‬ ‫كثتا ما ي‬
‫الت ر‬
‫أما إذا أخذنا معرفة االستتتاج ي‬
‫ً‬
‫غت شك هو أن أشخاصا‬ ‫فان» فإن يقيننا بحدة المعرفة هنا أضعف مما ف المشل السابقء ألن ما نعلمه ف هذه الحالة من ر‬
‫ً‬
‫()؛ (ب)ء (ج) أشخاص فانون ألنهم قد ماتوا بالفعل‪ .‬فإذا كان سقراط واحدا منهم» فمن السخف أن نسلك طريقا مواريا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫معتمدين عىل «كل الناس فانون» لنصل إىل النتيجة أن سقراط من المحتمل أن يكون فانيا؛ وإذا كان سقراط ليس واحدا من‬
‫ً‬ ‫األشخاص الذين يقوم استحاجنا عليهم؛ فإنه خت لنا أن ر‬
‫يأن تدليلنا من (أ)» (ب)» (ج) رأسا إىل سقراط» من أن نسلك الطر‬ ‫ر‬
‫ً‬
‫يق الملتوي باالعتماد عىل الحكم العام «كل الناس فانون» ألن احتمال كون سقراط هو فان أكت اعتمادا عىل الحقائق ر‬
‫الت‬
‫ي‬
‫ربي أيدينا» من احتمال كون كل الناس فانون‪( .‬وواضح هذا ألنه إذا كان كل الناس فانون فكذلك أن سقراط فان» ولكن إذا‬
‫)كان سقراط هو فان» فإن هذا ال ريتتب عليه أن الناس فانون‬

‫‪87‬‬

‫باقتاب ر‬
‫أكت من الحقيقة إذا جعلنا وجهتنا استقرائية رصفة من أن نذهب عن‬ ‫ولذلك نصل إىل النتيجة بأن سقراط هو فان ر‬
‫ً‬
‫‪.‬طريق يقول أن «كل الناس قانون» قتلجأ بذلك إىل االستنتاج‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫وبي التعميمات التجريبية‬‫الت تعرفها بصورة قبلية مثل «اثنان واثنان أربعة»» ر‬
‫الرف ربي األحكام العامة ي‬
‫يتبي لنا ي‬
‫ومن هنا ر‬
‫مثل «كل الناس فانون»» فاالستتتاج للحالة األوىل هو الطريقة المناسية الصحيحة للحجة»؛ أما بالنسبة إىل األخرى‬
‫ً‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ه أقل يقينيا من كل‬‫فاالمستقراء يكون دائما مفضال من الوجهة النظرية» ويضمن ثقة أكت ألن كل التعميمات التجريبية ي‬
‫‪.‬األمثلة األخرى‬
‫ً‬
‫ويتبي من ذلك أن هناك أحكاما تعرفها بصورة قبلية؛ وأن من ربي هذه األحكام؛ أحكام المنطق والرياضيات الرصفة؛ واألحكام‬ ‫ر‬
‫‪:‬‬
‫الت علينا أن نوجه إليها انتباهنا بعد هذا ه كيف يمكن أن تشغلنا مثل هذه المعرفة؟‬ ‫ر‬ ‫‪.‬‬
‫األساسية يف األخالق والمشكلة ي‬
‫والت ال نستطيع ف‬‫الت لم نمحص فيها جميع األمثلة ر‬ ‫وعىل وجه خاص» كيف تكون المعرفة باألحكام العامة ف الحاالت ر‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫األلمان كنط (‪)1804 - 1724‬‬ ‫الفيلسوف‬ ‫مرة‬ ‫ألول‬ ‫آثارها‬ ‫غت متناه؟ هذه األسثلة» ر‬
‫الت‬ ‫الحقيقة أن نمحصها ألن عددها ر‬
‫ي‬
‫‪.‬أسئلة عويصة ولها مكانة تاريخية‬

‫‪88‬‬

‫كيف تكون المعرفة القبلية مكنة‬

‫المحدثي‪ .‬ومع أنه عارص حرب السبع ر‬


‫سئي والشورة الفرنسية فهو لم‬ ‫ر‬ ‫يعتت عمانويل كنط بصورة عامة أعظم الفالسفة‬
‫سم «بالفلسفة‬ ‫ر‬ ‫‪.‬‬ ‫ر‬
‫الفلسفة يف مدينة كونغستغ يف شق بروسيا وأكت عطاياه أهمية كان ابتكار ما ي‬ ‫ينقطع عن تدريس‬
‫الت بدأ فيها ر‬
‫بافتاض وجود أنواع مختلف ة للمعرفة؛ ثم تساءل عن كيفية إمكان مثشل هذه المعرفة» واستنتج‬ ‫ر‬
‫النقدية»؛ ي‬
‫الت تعلق بطبيعة العالم‪ .‬أما صحة هذه النتائج فقد تكون موضع شك‪ .‬ولكن‬ ‫ر‬
‫الميتافتيقية ي‬
‫ر‬ ‫كثتا من التائج‬
‫بهذا التحقيق ر‬
‫وه ليست محض «تحليلية» بحيث أن ضدها‬ ‫ي‬ ‫قبلية‬ ‫معرفة‬ ‫لنا‬ ‫أن‬ ‫اكه‬
‫ر‬ ‫إلد‬ ‫األول»‬ ‫‪:‬‬ ‫لشيئي‬
‫ر‬ ‫شك‬ ‫دون‬ ‫التقدير‬ ‫كنط يستحق‬
‫والثان أنه أوضح األهمية الفلسفية لنظرية المعرفة‬
‫ي‬ ‫‪.‬يناقض ذاته‬
‫ً‬
‫وقبل زمن كنط كان االعتقاد سائدا بأن أي معرفة قبلية يجب أن تكون تحليلية‪ .‬وما تدل عليه هذه العبارة يمكن أن يوضح‬
‫ً‬
‫باألمثلة اآلتية‪« :‬الرجل األصلع هو رجل»؛ «الشكل المستوي هر شكل؟ء «الشاعر الرديء هو شاعر»» وبذا أعىط حكما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحليال رصقا‪ :‬فكل موضوع يف الجمل قد نسبت إليه صفتان عىل األقل» أفردت إحداهما وأنبتت له‪ .‬ومشل هذه األحكام تعد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تافهة وال تستخدم يف حياتنا العامة إال تمهيدا كرصب من السفسطة عىل لسان خطيب‪ .‬وإنما تسم أحكاما «تحليلية» ألننا‬
‫‪.‬تصل إىل مفهوم المحمول بمجرد تحليل مفهوم الموضوع‬

‫‪89‬‬

‫ه من هذا النوع‪: :‬ذلك أن‬ ‫ر‬


‫الت نكون متأكدين من أنها أحكام قبلية ي‬
‫لكنط كانت الفكرة السائدة ًأن األحكام ي‬
‫ً‬
‫وف الزمن السابق‬
‫ُّ‬ ‫ي‬
‫كل ما ُي َعد منها محموال ال يعدو أن يكون جزءا من الموضوع الذي يثبت له ذلك المحمول وإذا كان األمر كذلك» فال بد أن‬
‫‪.‬‬
‫ً‬
‫نقع يف تناقض ظاهر إذا حاولنا أن نتكر أي حكم تعرفه معرقة قبلية‪ .‬قمن المؤكد أن القول «الرجل األصلع ليس أصلعا»‬
‫ويتق الصلع يف الرجل نفسه؛ وهو لذلك يناقض نفسه‪ .‬وعىل هذه الصورة تبعا للفالسفة الذين جاؤوا قبل كنط»‬ ‫ي‬ ‫قول يثبت‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫يكق وحده أن يكون أو‬
‫سء صفة وال يملكها يف وقت واحدء قانونا ي‬ ‫كان قانون التناقض الذي ينص عىل أنه اليمكن أن يملك ي‬
‫‪.‬ال يكون لتقرير صدق جميع المعارف القبلية‬

‫أما هيوم (‪ )1776 - 1711‬الذي سبق كنط» وقبل الوجهة السائدة حول رشوط المعرفة القبليةء فقد اكتشف أن الصلة‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫الت كان يظن سابقا أنها تحليلية وخاصة يف حالة السبب والنتيجة‪ .‬وقبل هيوم ظن العقليون أن‬ ‫كثت من الحاالت ي‬‫تركيبية يف ر‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫النتيجة يمكن استنتاجها من السبب إذا حصلنا عىل معرفة كافية‪ .‬وقد ناقش هذا األمر وكان صحيحا كما هو مقبول اآلن‬
‫ر‬
‫األكت واألممن شكوكية بأن ال رسء يمكن معرفته‬ ‫بصورة شاملة ناقش بأن هذا ال يمكن أن يكون ولذا فقد استنتج الرأي‬
‫ً‬
‫العقليي» فجد ف‬
‫ر‬ ‫قبال عن الصلة ربي السبب والنتيجة‪ .‬ولقد أثار شك هيوم القلق الشديد عند كط الذي ترن يف أحضان‬
‫ه تركيبية ال تحليلية‪:‬‬
‫أن يجد جوابا لهذا الشك‪ .‬وقد أدرك الصلة ربي السبب والنتيجة يف أن األحكام الحسابية والهندسية ي‬
‫قق كل هذه األحكام‬‫ي‬

‫‪90‬‬

‫يكت من إيراده هو ‪ 547-12‬حيث ربي بحق أن ‪ 7‬و‪5‬‬ ‫ال يؤدي تحليل الموضوع إىل الكشف عن المحمول‪ .‬والمثال الذي ر‬
‫ر‬
‫يجب أن تعطيا النتيجة ‪ :12‬فالفكرة ‪ 12‬ليست متضمنة يف مفهوم العدد ‪ 7‬أو مفهوم العدد ‪ .5‬وهكذا انته إىل النتيجة ي‬
‫الت‬
‫فه تركيبية؛ ولقد ولدت هذه النتيجة مشكلة جديدة سع كنط أن يجد‬
‫تذهب إىل أن كل الرياضيات المحضة ولو أنها قيلية ي‬
‫ً‬
‫حال لها‬

‫وعست وال بد‬


‫ر‬ ‫والسؤال الذي طرحه كنط يف بدء فلسفته هو‪« :‬كيف تكون الرياضيات المحضة ممكنة؟»؛ إنه سؤال ممتع‬
‫ً‬
‫استخالصها‬ ‫معارفنا الرياضية يمكن ً‬ ‫التجرييي أن‬
‫ر‬ ‫لكل فلسفةة تقوم عىل الشك المحض أن تجد له جوابا ماء وكان جواب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لسبيي‪ :‬أوال» أن صحة المبدأ االستقران‬
‫ر‬ ‫غت كافية‬
‫باالستقراء من الحاالت الخاصةء ووجهة النظر هذه رأيناها سابقا وه ر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نفسه ال يمكن أن ريتهن عليه باالستقراء» وثانيا‪ .‬أن األحكام الرياضية العامة مشل «اثنان واثنان دائما أربعة» » يمكن أن‬
‫تستبقن بتأمل مثال واحد وال تزيد معرفتنا بتعداد حاالت أخرى» تظهر فيها صحة هذه األلحكام‪ .‬فمعرفتنا باألحكام العامة‬
‫ً‬
‫تفستنا لمعرفتنا (االحتمالية الرصفة») بالتعميمات التجريبية»‬
‫ر‬ ‫الرياضية (ومثل هذا ينطبق أيضا عىل المنطق) تؤول بخالف‬
‫‪».‬كقولنا «كل الناس فانون‬
‫ً‬
‫ه خاصة» ولقد يبدو غريبا أننا نستطيع أن‬
‫حي أن كل تجربة ي‬
‫ه عامة؛ يف ر‬ ‫نشأت هذه المشكلة من أن مثل هذه المعرفة ي‬
‫ر‬
‫الت لم تمر يف تجارينا إىل اآلن» ولكنته ليس من السهل الشك يف أن المنطق والحساب‬
‫نعرف مقدما بعض الحقائق الخاصة ي‬
‫ينطبقان عىل مثل هذه األمور‪ .‬فنحن ال نتعرف ممن سيكون سكان‬

‫‪91‬‬

‫اشني آخرين سيؤلفون أربعة‪ .‬فهذه القدرة الظاهرة لتوقع الحقائق‬‫اثني منهم أو ر‬ ‫لندن بعد ماثة سنة» ولكننا نعرف أن أي‬
‫ً‬ ‫رً‬ ‫ر‬
‫أن؛ فهو حل ممتع‪ . .‬وكيفما‬‫ر‬
‫ي ي‬‫ف‬ ‫صحيحا‬ ‫ليس‬ ‫أنه‬ ‫ولو‬ ‫للمشكلة‬ ‫كنط‬ ‫حل‬ ‫أما‬ ‫‪.‬‬‫حقا‬ ‫الت لم نجرب ها قدرة مدهشة‬
‫عن األشياء ي‬
‫ً‬ ‫كان األمر فهو حل شديد الصعوبة يدركه الفالسفة عىل وجوه ر‬
‫شت ‪ .‬وقصارى ما نستطيع أن نعرض هذه المشكلة عرضا‬
‫‪ً.‬موجزاء ولو أن أغلب أعالم الطريقة الكنطية يرون يف ذلك تضليال‬

‫متمتين» أحدهما يعود إىل الموضوع (أي ما نطلق‬ ‫وكانت وجهة نظر كنط تلخص يف أن كل تجربة من تجاربنا لها عنرصين ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫عليه الشء المادي)» روالثان يعود إىل طبيعتنا الخاصة‪ .‬وقد مر معنا عند الببحث يف المادة و الحقائق الحسية أن ي‬
‫الشء‬
‫الشء المادي‬ ‫المادي يختلف عما يقتن به من الحقائق الحسيةء وأن الحقائق الحسية يجب اعتبارها نتيجة للتفاعل ربي ر‬
‫الت يخصص فيها حصصا تخص‬ ‫ر‬ ‫ونفوسنا‪ .‬وإىل هذا الحد ترانا‬
‫تمت به كنط طريقته ي‬ ‫متفقي مع كنط يف ذلك» ولكن أهم ما ر‬
‫ر‬
‫الشء المادي» وإنها‬ ‫ر‬ ‫الشء المادي بالتعاقب‪ .‬فهو يرى‬ ‫ر‬
‫المادة األوىل كما تظهر يف األحاسيس اللون» الصالبة إل ‪ -‬راجعة إىل ي‬
‫ر‬ ‫ي‬
‫الشء وما نزوده نحن هو التتيب يف الزمان والمكان» وجميع الصالت ربي الحقائق الحسية تنجم عن المقارنة‬ ‫ر‬
‫تعزى إىل ي‬
‫بعضها ببعض أو باعتبار أحدها السبب لآلخر أو بأي طريقة أخرى‪ .‬وحجته الرئيسة يف تأييد هذا الرأي ي‬
‫ه أن لنا كما بيدو‬
‫معرفة قبلية عن المكان والزمان والسببية والمقارنة» ولكن ليس لنا مثل هذه المعرفة القبلية عن المادة األوىل لألحاسيس‪.‬‬
‫يقي من أن أي‬‫وهو يقول» أننا يمكن أن نكون عىل ر‬

‫‪92‬‬
‫ر‬
‫الت أثبتناها له يف معرفتنا القبلية ذلك ألن هذه الصفات تعود إىل طبيعتنا الخاصة‬ ‫ر‬
‫سء نجربه ال بد أن تظهر له الصفات ي‬
‫ي‬
‫سء يف تجاربنا يدون أن يكتسب تلك الصفات‬ ‫ر‬
‫‪.‬ولذلك ال يمكن أن يمر ي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الشء المادي فقد دعاه كنط ر‬ ‫ويصدد ر‬
‫غت قابل للمعرفة مطلقا؛ أما ما يمكن أن يكون معروفا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫(الشء ف ذاته)!” وهو يرى أنه ر‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الشء ء كما يدخل يف نطاق تجاربنا؛ وهو ما دعاه «الظاهرة»‪ .‬فالظاهرة باعتبارها نسيجا مشتكا منا ومن ي‬
‫الشء‬ ‫لنا فهو ي‬
‫بذاته» ال بد أن يكون لها هذه الصفات ر‬
‫الت تعود إلينا» ولذلك ال بد أن تطابق هذه الظاهرة معرفتنا القبلية‪ .‬وبعد ذلك نرى‬
‫أن هذه المعرقة ولو أنها تصدق عىل جميع تجاربنا الواقعية والممكنة علينا أن ال نذهب يف االفخراض أنها تنطبق عىل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الشء الذي ال‬
‫الشء بذاته أو عن ي‬ ‫سء عن ي‬ ‫التجربة الخارجية‪ .‬وبالرغم من وجود معرفتنا القبلية ال نستطيع أن نعرف أي ي‬
‫التجريييي‬
‫ر‬ ‫العقليي وحجج‬
‫ر‬ ‫‪.‬يمكن أن يدخل يف نطاق التجربة‪ .‬وب هذه الوسيلة حاول أن يطابق ويوائم ربي آراء‬
‫أما إذا أغفلنا النظر عن األدلة الفرعية التي ريما يعرض لها النقد في فلسفة كنط» فإتنا نرى أن هناك اعتراضا ً أساسيا ً ييدو أنه‬
‫يقضي على أي محاولة لبحث مشكلة المعرفة القبلية بهذا المنهج‪ .‬والسبب‬

‫الشء الماديء؛ أي سبب األحاسيس ‪.‬وف الخصائص )‪(1‬‬ ‫ي‬ ‫الشء يف ذاته هو متطابق يف التجديد عىل‬‫ي‬ ‫أن رأي كنط من‬
‫الشء؛ ألن كنط اعتقد (وذلك بالرغم من عدم التماسك فيما يتعلق بالعلة )‬ ‫المستتجة من التحديد نرى أنها ال تنطبق عىل ي‬
‫الشء يف ذاته‬
‫ي‬ ‫عىل‬ ‫تتطبق‬ ‫ال‬ ‫جميعها‬ ‫المقوالت‬ ‫أن‬ ‫نعرف‬ ‫أن‬ ‫تستطيع‬ ‫أننا‬ ‫‪.‬من‬

‫‪93‬‬

‫الذي يجب أن نعلله هو تيقننا أن الحقائق ال بد أن تجري دائما ً على معيار ما يقرره المنطق والحساب‪ .‬والقول بأن المنطق والحساب‬
‫من نتاج أنفسنا ال يحل المشكلة» فطبيعتنا هي كأي حقيقة أخرى من حقائق العالم الموجود» وال يمكن أن نصل إلى يقين من أن‬
‫هذه الطبيعة ستبقى ثابتة بدون تغ ِيير‪ .‬فقد يحدث إذا كان كنط على صواب أن طبيعتنا غداً ستتغير حتى نجعل االثنين واالثنين‬
‫تساوي خمسة‪ .‬وإمكان هذا الغرض لم يخطر بباله قط» ومع هذا فبإمكانه أن يحطم تماما ً ما يثبته ويؤكده لألحكام الرياضية من‬
‫اليقين والشمول» ومن الواضح أن هذه اإلمكانية من الناحية الصورية ال تتسجم مع الرأي الكتطي بأن الزمن في ذاته هو شكل‬
‫تفرضه الذات على الظواهر» حتى أن الذات الحقيقية ليس لها زمن؛ وليس لها غد ولكن ال بد أن يضرض بأن النظام الزمني‬
‫‪.‬للظاهرات تقوره الصفات التي تكمن خلف الظواهرء وهذا يكفي لمحتوى حجتنا‬

‫وفوق هذا وذ اك» فإن التشكير يذهب با إلى أنه إذا كانت المعتقدات الحسابية صادقة فإنها تنطيق على األشياء بالتساوي سواء‬
‫أمعنا النظر فيها أو لم نمعن» فشيثان ماديان وشيئان ماديان آخران يجب أن يكون مجموعهما أربعة» حتى ولو لم تدخل‬
‫الموضوعات المادية في نطاق تجاربنا‪ .‬وتقرير هذا يكفي بال ريب ضمن نطاق ما نقصده حينما تقرر أن اثنين والنين مجموعهما‬
‫أريعة» وصدق هذا القول ال يداخله شك كصدق الحكم بأن ظاهرتين أخريين يساويان أربع ظواهر‪ .‬وهكذا نرى أن حل كنط‬
‫‪.‬يسرف في التحديد غير المالئم لدى اآلراء القبلية؛ فضالًا عن فشله في محاولة تفسير هذا اليقين‬

‫‪94‬‬

‫أما إذا تخطينا وجهات النظر الخاصة التى دعا إليها كنطء نرى أن الشائع بين الفالسفة زعمهم أن ما هو قبلي هو ذهني؛ أي يتعلق‬
‫بالطريقة التي ال بد أن نفكر بها أكثر مما يتعلق بأي حادثة من حوادث األلم الخارجي‪ .‬وسبق لنا في الفصل الماضي مالحظة‬
‫المبادئ الثالثة التي تدعى عادة لقوانين الفكر»‪ .‬والرأي الذي قادنا إلى تسميتها هكذا رأي طبيعىء ولكن هناك أسبابا ً أخرى قوية‬
‫الحجة تحملنا على االعتقاد بأن هذا الرأي خاطئ؛ ولتأخذ مثالً على ذلك في قانون التناقض‪ .‬فهذا القانون يوضح عادة بالشكل‬
‫التالي «ال يمكن أن يكون الشيء وال يكون في وقت واحد»؛ ويقصد به بيان أن أي شيء ال يمكن أن تكون له في وقت واحد صفة‬
‫وال تكون» أي تثبت له صفة وتنقى فى وقت واحد‪ .‬وإذا ضرينا مثالً لذلك نرى» إذا كان هناك شجرة وكانت شجرة زان فال يمكن‬
‫أال تكون شجرة زان‪ .‬وإذا كانت منضدتى مستطيلة فهي بالتأكيد مستطيلة وهلم جراً‪ ْ .‬إن الذي جعل من الطبيعي أن يعد هذا المبداً‬
‫من قوانين الفكرء هو أننا بالتفكير أكثر منا بالمالحظة بالخارجية ققد وصلنا إلى االقتناع بضرورة صدقه‪ .‬فإذا تأكدنا من أن شجرة‬
‫ما هي شجرة زان فلستا في حاجة إلى أن نكرر النظر إليها لتتأكد من أنها ليست في نفس الوقت شجرة زان‪ .‬فالفكر وحده يجعلنا‬
‫تعرف هذا المستحيل‪ .‬ولكن القول بأن قانون التناقض قانون من قوانين الفكر قول مع ذلك غير صحيح» فما نعتقده حين نعتقد‬
‫قانون التناقض ليس هو» أن من طبيعة الفعل أن يعتقد قانون التناقض بالضرورة» فهذا االعتقاد هو نتيجة محصلة التفكير‬
‫السيكولوجي‬

‫‪95‬‬

‫الذي يفترض االعتقاد بقاتون التناقض‪ .‬فاالعتقاد بقانون التناقفض هو اعتقاد يتعلق باألشياء» وليس باألفكار فقط» وبعبارة أخرى‬
‫أن اعتقادنا بهذا القانون ليس معناه اعتقادنا بأنتا إذا فكرنا بأن شجرة ما هي شجرة زان فإننا ال نستطيع أن نفكر فيها في الوقت‬
‫على أنها ليست بشجرة زان بل معناه االعتقاد بأنه إذا كانت شجرة ما هي شجرة زان فإنه ال يمكن أن تكون هذه الشجرة إال شجرة‬
‫زان فى نفس الوقت‪ .‬ولذا فإن قانون التناقض يتعلق باألشياء وال يدور حول األفكار فقط‪ .‬وعلى الرغم من أن االعتقاد بقانون‬
‫التناقض هو فكرة» ف القانون نفسه ليس بفكرة بل هو حقيقة تتعلق باألشياء الموجودة في العالم» ولذا كان قانون التناقض الذي‬
‫نعتقده ال يصدق على األشياء الموجودة في العالم» فإن كوننا ومن هذا يتضح أن هذا القانون ليس قانونا ً من قوانين الفكر‪ .‬ومثل‬
‫هذه الحجة يمكن أن توافق أي حكم قبليء فح يث نحكم أن اثنين واثنين هما أربعة؛ فإن هذا الحكم ال يدور حول أفكارنا بل يدور‬
‫حول األشياء الزوجية الموجودة بالفعل أو الممكنة الوقوع‪ .‬وكون أذهاننا مركبة بحيث نعتقد أن اثنين واثنين هما أربعة ولو كان‬
‫هذا صحيحا ً ال يعني ما نقصده بالتأكيد حينما نقرر أن اثنين واث نين هما أربعة‪ .‬وما من حقيقة تتعلق بتركيب أذهاننا تكفل صدق‬
‫هذا الحكم» وهو أن اثنين واثنين يساويان أربعة» وعلى هذا فمعرفتنا القبلية إن لم تكن مغلوطة فهي ليست مجرد معرفة حول‬
‫تركيب عقولناء بل أنها يمكن أن تنطبق على أي شيء يحتوي عليه العالم» سواء كان عقليا ً أم غير‬

‫‪96‬‬

‫عقلى‪ .‬وأنه ليبدو أن كل معارفنا القبلية تتعلق بذوات ليس لها وجود في العالم المادي أو العالم العقلي‪ .‬وهي التي تتضمن العكيمات‬
‫‪.‬والعالقات» وهذه الذات ممكن أن تسمى بأجزاء من الكلم ال تتجاوز األسماء هي ذوات تتضمن ن صفات وصالت‬

‫فلنفرض مثالً أنني في غرفتي حيث أنا موجود وغرفتي موجودة» ومع هذاء فهل كلمة «في» موجودة وتدل على العالقة التي‬
‫تربط بيني وبين غرفتي‪ .‬وهذه العالقة هي شيء ما ال نستطيع أن نقول أنه موجود بنفس المعنى الذي به أكون أنا والغرفة‬
‫موجودان‪ .‬فالعالقة «في» هي شيء ما نستطيع أن نفكر فيه أو نفهمه؛ ذلك أننا إذا لم نستطع أن نفهمه ال نستطيع أن نفهم معنى‬
‫الجملة» «أنا في غرفتي»» وقد رأى كثير من الفالسفة الذين خلفوا كنط أن العالقات هي من عمل العقل وأن األشياء بذواتها ليس‬
‫‪ .‬لها عالقات ولكن الفعل هو الذي يجمع بينها في عملية فكرية واحدة ويوجد بذلك العالقات التي يحكم على األشياء بأنها تتضمنها‬

‫ومهما يكن بعد هذا الرأي حقاء فهو يثير احتجاجات شبيهة باالحتجاجات التي أثرناها من قبل ضد كنط‪ .‬فمن الجلي أن الفكر ليس‬
‫هو الذي ينتج صدق الحقيقة» ألن هذه الحقيقة تتعلق فقط بالغرفة» وال تعتمد على شيء آخر‪ .‬فالعالقات كما سيتضح لنا في الفصل‬
‫القادم؛ ال بد أن يكون لها عالم آخر غير العالم المادي أو العالم العقلي» وهذا العالم أهميته كبيرة جداً للفلسفة؛ وفي األخص ما‬
‫يتعلق بمشكالت المعرفة القبلية‪ .‬وفي الفصل القادم ستحاول رفع الستاررعن طبيعة هذا العالم وصصلته بالمشكالت التي درسناها‬
‫‪.‬بالتمحيص‬

‫‪97‬‬

‫‪98‬‬

‫عالم الكليات‬

‫عند نهاية الفصل السابق رأينا أن للعالقات وجوداً يختلف بعض االختالف عن وجود األشياء الطبيعية» وكذلك يختلف عن وجود‬
‫العقول والحقائق الحسية»؛ وفى الفصل الحالى علينا أن نتأمل في طبيعة هذا النوع من الكينونة؛ وما هي األشياء الستي تحوز‬
‫النوع نفسه من الكينونة؛ ونبتدئ بالقضية الثانية وبهذا‬

‫القسم األخر من المشكلة‪ .‬والمشكلة التي تعني بها اآلن هي قديمة جداًء منذ أن حملها إلى الفلسقة أفالطون‪ .‬و«نظرية األفكار»‬
‫ألفالطون هي محاولة لحل هذه المشكلة في الصميم؛ وفي تصوري أنها من أهم المحاوالت توفيقا حتى اآلن‪ .‬والنظرية التي‬
‫مستقررها فيما يلي هي إلى درجة كبيرة نظرية أفالطون مع بعض التعديالت التي‬

‫كشف الزمن عن أهميتها‪ .‬والصورة التى نشأت فيها هذه المشكلة لدى أفالطون هى إلى حد أقل أو أكثر كاآلئى‪ :‬دعنا نتأمل فكرة‬
‫كفكرة العدالة» فإذا سألنا أنفسنا ما العدالة؟ فمن الطبيعى أن ننصرف إلى بحث أمثلة من األعمال العادلة واحداً واحداً حتى يتسنى‬
‫لنا أن نكتشف عما تشترك فيه كل هذه األعمال» وال بد أن تسهم جميعا ً في طبيعة مشتركة‪ .‬وهذه الطبيعة التي تكون بها األمور‬
‫عادلة هي العدالة بذاتهاء أي الجوهر الخاص الذي ينتج عن مزيج بوقائع الحياة‬

‫‪99‬‬

‫العادية متعدد األعمال المختلفة‪ .‬وتستطيع أن نقيس على ذلك أي كلمة يمكن أن تنطبق على الحقائق العامة «كالبياض» مثال‪ .‬فإن‬
‫هذه الكلمة يمكن أن تنطبق على عدد من األشياء الخاصة ألنها كلها تشترك في طبيعة أو جوهر عام‪ .‬وهذا الجوهر الخاص هو‬
‫الذي سماه أفالطون «الفكرة» أو «الصورة»‪( .‬ويجب أال يظن أن «األفكار» في رأيه موجودة في العقول وإن كان باإلمكان‬
‫إدراكها بواسطة العقول)‪ .‬ف «فكرة» العدالة ليست هى بعينها الشىء العادل‪ :‬بل هي شيء آخر يختلف عن األشياء الخاصة‪.‬‬
‫وتلك األشياء الخاصة» تشترك فيهاء وإذا لم تكن العدالة شيئا ً خاصا فال يمكن أن توجد بذاتها في عالم الحس‪ .‬وفضالً عن ذلك‬
‫فهي ليست بالشىء الزائل أو العابر القابل للتغيير بل هى فى ذاتهاء أبدية ثابتة ال تقنى‪0 .‬‬

‫بهذه الطريقة اهتدى أفالطون إلى وجود عالم فوق المعقول؛ عالم أكثر واقعية في ظل الحس المشترك؛ عالم األفكار الذي ال يعتريه‬
‫تغيير» والذي هو وحده يمد العالم المعقول بما يملكه من ظل باهت للحقيقة‪ .‬فالعالم الحقيقي تماما ً عند أفالطون هو عالم األفكار‪,‬‬
‫ألننا مهما حاولنا أن نتحدث عن أشياء في عالم الحس النتجح قط إال بقولنا أنها تشترك في هذه أو تلك من األفكار التي تؤلف منها‬
‫صفتها كلها؛ فقد نأمل في إشراق صوفي في أن نرى األفكار» كما نرى األشياء الحسية» وقد نتخيل بأن األفكار موجودة في‬
‫‪.‬السماء‪ .‬وهذه التغيرات الصوفية هي جد طبيعية» ولكن القاعدة النظرية هي التي تستند إلى المنطق الذي علينا أن نناقشه‬

‫‪100‬‬

‫إن كلمة «فكرة» قد اكتسبت مع مضي الزمن؛ كثيراً من مقترنات الي هي مضللة تماما حينا تطبق على أفكار أفالطون” ولهذا‬
‫ستستعمل كلمة «كليات» بدالً من كلمة «فكر؛ لنصف ما عناه أفالطون بكلمته؛ وجوهر هذا النوع من الذوات الذي عناه أفالطون‬
‫مضاد لألشياء الخاصة التي تيدو للحس‪ .‬وستتحدث عن أي شيء يبدوة في الحس أو هو من نفس الطبيعة كاألشياء التي‬

‫تشترك فيه خصوصيات كثرة؛ وله هذه الصفات التي تميز العدل‬

‫‪.‬والبياض من األعمال العادلة واألشياء البيضاء‬

‫إنتا حين نمتحن الكلمات العامة نجد أن األعالم تدل بصورة واسعة على الخصوصيات‪ :‬بيتما األسماء األخرى والصفات وحروف‬
‫الجر واألفعال تدل على الكليات‪ .‬والضمائر تدل على الخصوصيات» ولكنها غامضة‪ :‬وال نعرف الخصوصيات التى تدل عليها‬
‫هذه الضمائر إال بالقرائن والمالبسات‪ .‬إن كلمة «اآلن» تدل على الخاص أي على اللحظات الحاضرة؛ ولكنها تشبه الضمائر في‬
‫‪ً.‬أنها تدل على خاص مشترك ألن الحاض ر يكون دائما ً متغيرا‬

‫وسيتضح لنا أنه ال يمكن أن تُرك ٍ‬


‫ب جملة بدون كلمة على األقل تدل على معنى كلى‪ .‬ولعل أقرب مثال لذلك العبارة التالية‪« :‬أنا‬
‫أرغب فى هذا»‪ .‬لكن كلمة «أرغب» حتى فى مثل هذه العبارة تدل على كلي» ألني ربما أرغب في أشياء أخرى؛ وقد يرغب‬
‫اآلخرون في أشياء أخرى كذلك‪ .‬وهكذا كل الحقائق تتضمن كليات» وكل معرفة بالحقائق تتضمن معرفة مباشرة بالكليات‪ .‬وإذا‬
‫كانت كل كلمات القاموس تقريبا ً تدل على كليات» فمن‬

‫‪101‬‬

‫العجيب أن يكون من التادر أن نرى غير طالب الفلسفة يدركون مثل هذه الكليات‪ .‬قنحن عادة ال نتعم التظر في هذه الكلمات التي‬
‫ال تشير إلى خصوصيات حينما نراها في جملة ماء وإذا اضطررنا إلى إمعان النظر في كلمة نشير إلى كلي؛ فتحن عادة نفكر‬
‫فيها باعتبارها تدل على خاصة من الخصوصيات التي تتندرج تحت الكلي‪ .‬إننا عادة» حين نسمع جملة كهذه «قطعت رأس شارل‬
‫األول»» فمن الطبيعي أن نفكر في شارل األول» وفي رأس شارل األولء وفي عملية قطع رأس شارل األول وهذه كلها‬
‫خصوصبيات» ولكننا ال نفكر عادة فيما يقصد بكلمة «رأس» أو كلمة «يقطع) وكالهما كلي‪ .‬ونحن نشعر أن مشل هذه الكلمات‬
‫ناقصة»؛ وييدو أنها محتاجة إلى نص كيما تنستفيد مها في التعبير‪ .‬ومن ثم تجد ما يبرر عدم وقوفنا أمام هذه الكلمات طويال حتى‬
‫‪.‬تفرضها علينا دراسة الفلسفة وتحملنا على تمحيصها‬
‫ومن الجائز القول» إن من الفالسقة من ال يفترضون عادة من الكليات إال تلك التي تشير عليها الصفات واألسماء غير األعالم»‬
‫في حين أن تلك التي تدل عليها األفعال و حروف الجر يتجاوزوها في الغالب األعي وال تحظى منهم سوى باإلهمال‪ .‬ولسنا‬
‫بمبالغين حين نقول إن غالبية الدراسات الميتافيزيقية» منذ سبينوزا» تأثئرت بهذا اإلهمال‪ .‬أما كيف حصل ذلك فهو بإيجاز كما‬
‫يأتي ‪ :‬يمكن القول إجماالً؛ أن الصفات واألسماء العامة تدل على كيفيات وخصائص األشياء المقررة» بينما حروف الجر واألفهال‬
‫تنصرف إلى الداللة على العالقات بين شيئين أو أكثر‪ .‬فإهعمال حروف الجر واألفعال أدى إلى االعتقاد بأن كل حكم يمكن أن‬

‫‪102‬‬

‫يعد أنه ييسب صفة من الصفات إلى شيء مفرد أكثر من أن يعمد بأنه يدل على عالقة بين شيئين أو أكثرء ومن ثم كان هنالك من‬
‫يزعم وجود ما يعد عالقات بين األشياء‪ .‬وبناء عليه يمكن أن يكون هناك شيء واحد في العالم» أو أن يكون في العالم أشياء كثيرة‬
‫ولكن ال يؤثر بعضها في بعض ألن أي تأثير لبعضها في بعض يدل على وجود عالقة والعالقات مستحيلة في ظنهم‪ .‬إن الرأي‬
‫األو ل هو الذي عرضه سبيتوزاء وفي أيامنا هذه نادى به برادلى وفالسفة آخرون كثيرون وهو ما يدعى بمذهب الواحدية؛‬
‫والثاني» هو ما أعلنه ليبنتز ولكنه ليس شائعا ً في أيامناء ويسمى بمذهب الجوهر الفرد أو مذهب المونادات؛ ألن واحد من األشياء‬
‫المنفصلة يسمى جوهراً فدا‪ .‬وكال ها تين الفلسفتين المتعارضتين مهما يكونا ممتعتين فإنهما في رأيي متأتيتان من اهتمام مبالغ فيه‬
‫‪.‬بنوع واحد من الكلياتء ذلك النوع الذي تمثله الصفات واألسماء غير األعالم وليس األفعال والحروف‬

‫وفي الواقع» إذا وجد من يحرص على أن ينكر إطالقا ً أن تكون هناك كلياتء فإننا نستطيع أن نبرهن بدقة عن وجود النعوت‬
‫إلخ» أي الكليات التي تتمثل في الصفات واألسماء غير األعالم» بينما نستطيع البرهنة على ضرورة وجود العالقات إلخ؛ أي‬
‫ذلك النوع من الكليات الممثلة عادة في األفعال وحروف الجر‪ .‬وفي ذلك ستأخذ مثالً على الكلي وهو البياض‪ .‬فنحن إذا اعتقدنا‬
‫بوجود مشل هذا الكلي فإنتا تقول أن األشياء تكون بيضاء» ألن فيها صفة البياض‪ .‬على أن بيركلي وهيوم قد أنكرا بشدة هذا القول‬
‫وتبعهما في ذلك من أتى بعدهما من التجرييين‬

‫‪103‬‬

‫المتأخرين‪ .‬وتجلى إنكارهما في شكل عدم االعتراف بوجود «األفكار المجردة»‪ .‬إنهما يقوالن أنتا حينما نفكر في البياض تؤلف‬
‫صورة لشيء خاص موضع استداللنا بشرط أال نستتج أي شيء عنه ال يصدق على أي شيء أبيض غيره؛ وهذا وصف يصدق‬
‫بال شك على عملياتنا الذهنية الحقيقية‪ .‬فقي الهندسة؛ على سبيل االستشهادء إذا أردنا أن نبرهن على شيء تشترك فيه المثلثئات‬
‫جميعها نرسم مثلكا ً ما ونحاول أن نثبت نثبت فيه ذلك الشيء مفضلين أي صفة ال يشارك فيها هذا المثلث المثلشات األخرى‪.‬‬
‫وغالبا ً يجد المبتدئ أن من المفيد له لكي يأمن الخطأ ً أن يرسم عدة ثلثات ال يشبه أحدها اآلخر بقدر اإلمكان ليتأكد من أن تدليله‬
‫ينطيق عليها جميعاً‪ .‬على أن نا نلتقي بصعوية أول ما نبادر بسؤال أنفسنا عن كيفية معرفة ما هو أبيض أو م مثلثاء‪ .‬حتى إذا أردنا‬
‫أن نتجنب كليا ً البياض والمثلثة؛ ينبغي أن نختار بقعة بيضاء أو مثلثا ً معينا ً ونقول أن أي شيء يكون أبيض أو مثلكا ً ألن يتشابه‬
‫تماما ً مع هذا الشيء الخاص الذي اخترناه؛ بيد أن هذا التشابه المطلوب ال بد أن يكون كلياً؛ فإذا وجدت أشياء كثيرة بيضاء فالتشابه‬
‫يجب أن يكون بين أزواج كثيرة من األشياء البيضاء الخاصة» وهذه صفة الكلي‪ .‬ومن العيث أن نقول أن لكل زوج تشابها ً يختلف‬
‫عن تشابه الزوج اآلخر ألن علينا حينشذ أن نقول بأن هذه المتشابهات كل منها يشبه اآلخرء وهذا األمر سيرغمنا أخيراً على‬
‫االعتراف بأن التشابه شيء كلي‪ .‬فعالقة التشابه إذن ال بد أن تكون كليا ً حقيقيا ً وباضطرارنا إلى االعتراف بهذا الكلي نرى أنه‬
‫‪.‬ليس بذي قيمة أن نلجأ ً إلى اختراع نظرية صعبة غير موائمة لتجنب اإلقرار بكليات مثل البياض والمثلتة‬

‫‪104‬‬

‫وإذا كان بيركلي وهيوم قد فشال في إدراك هذا الدحض لرفضهم «األفكار المجردة» فإنهما كخصومهما فكرا في الصفات وتجاهال‬
‫العالت ككليات‪ .‬وهذه ناحية أخرى يبدو فيها العقليون أقرب إلى الصواب من التجريييين بالرغم من أن استنتاجات العقليين»‬
‫‪.‬بسبب إغفال أو إنكار العالقات» كانت أقرب إلى الخطأ من استنتاجات التجريبيين‬

‫أما وقد رأينا اآلن أنه ال بد أن يكون هناك أشياء تعد كلياتء فالموضوع الثاني الذي يتطلب البرهنة على أن وجود هذه الكليات‬
‫ليس ذهنيا ً فقطء هو أن وجود أي شيء من هذه الكليات مستقل عن كونه موضوع إدراك بأي شكل من األشكال‪ .‬وقد المحنا إلى‬
‫‪.‬ذلك فى نهاية الفصل السابق» واآلن حان لنا من بسط البحث في نوع وجود هذه الكليات‬

‫وإذا أمعنا النظر في عبارة أن «ادتبره هي في شمال لندن» فتحن هنا إزاء صلة بين مكانين» وييدو واضحا ً أن هذه الصلة تبقى‬
‫مستقلة عن معرفتنا بها‪ .‬فمتى وصلنا إلى المعرفة بأن أدثيره هي في شمال لندن فإننا تصل إلى شيء له اتصال بأدنيره ولندن فقط‬
‫‪ :‬إن علمنا بهذا الشيء ال يكفي ألن يكون علة لصدق هذا الحكم» بل على العكس يقتصر على إدراك حقيقة موجودة من قبل أن‬
‫نعلمها‪ .‬إن الجزء من سطح األرض الذي تقع فيه أدنبره يجب أن يكون شمال الجزء الذي تقع فيه مدينة لندن» حتى ولو لم يوجد‬
‫ًكائن من كان يعرف شيئا ً عن الشمال أو الجنوب؛ وحتى لو خال الكون من العقول‪ .‬ومثل هذا الرأي ينكره طبعا‬

‫‪105‬‬

‫كثير من الفالسفة سواء كان هذا اإلنكار قائما ً على ما أدلى به بيركلي أم كنط من حجج‪ .‬أما وقد تأملنا هذه الحجج وقدرنا أنها غير‬
‫كافية فلنا إذن أن نفترض صدق عدم وجود شيء عقلي في القول بأن أدنبره هي في شمال لندن‪ .‬على أن هذا االدعاء يتضمن‬
‫عالقة «شمال ذلك»؛ وهو من الكليات»؛ وأنه لمن المستحيل أال يتضمن هذا الحكم جميعه شيئا ً عقليا ً إذا كانت العالقة «شمال‬
‫ذلك»» وهو من الكليات»؛ التي هي جزء مؤلف من الحكم تتضمن أي شيء عقلي‪ .‬ومن ذلك نقرر أن العالقة‪ .‬شأنها شأن المتعلقات‬
‫‪.‬التي تتصل بهاء ال تقدم على الفكر بل تتصل بعالم مستقل يدركه الفكر‬

‫إن هذه المحصلة في أي حال من األحوال تفترضها أن عالقة «شمال ذلك» ليست كما تبدو موجودة بنفس المعنى الذي تكون فيه‬
‫لندن وأدنبره موجودتين‪ .‬فإذا سألنا «أين ومتى توجد هذه العالقة؟» فجواب ذلك يكون اليس لوجودها مكان وال زمان»‪ .‬وال يوجد‬
‫مكان وال زمان نستطيع أن نجد فيه العالقة «شمال ذلك»‪ .‬وهي ليست في أدنيره وال في لندن بل إنما تربط االثنين معاً‪ .‬فقهي‬
‫محايدة بينهماء وكذلك ال نستطيع أن نقول أنها موجودة في زمن معين‪ .‬ولكن أي شيء يمكن إدراكه باإلحساس أو باالستبطان‬
‫يكون موجوداً في زمن معين» ومن ثم فالعالقة «شمال ذلك» تختلف اختالفا ً أساسيا ً عن مثل هذه األشياء التي تدرك باألحاسيس‬
‫‪.‬أو باالستبطان فهي ليست في زمان وال في مكان وليست مادية وال ذهنية» ومع ذلك فهي شيء ما‬

‫‪106‬‬

‫وهي إلى حد بعيد نوع خاص جداً من الموجودات التي تمت إلى الكليات والتي ظن كثير من التاس أنها أمور عقلية في الحقيقة؛‬
‫فنحن نفكر في الكلي» وتفكيرنا تبعا ً لذلك موجود بالمعنى العادي تماما ً كأي عملية عقلية أخرى‪ .‬لنفرض على سبيل المثال أننا‬
‫المياض موجود «في أذهاننا»‪ .‬وهنا يعترضنا الغموض نفسه كما‬
‫ٍ‬ ‫نفكر في البياض‪ .‬فنحن حيعذ نستطيع أن نقول على وجه ما أن‬
‫الحظنا سابقا ً عند مناقشة أقوال بيركلي في الفصل الرابع‪ .‬وبمعنى أدق؛ ليس البياض هو الذي في عقولنا بل الذي في عقولنا عملية‬
‫في الوقت نفسه» يسبب هنا شيئا ً من الخلط ‪ ٠‬التفكير في البياض‪ .‬فالغموض الذي اتصل بكلمة «فكرة» والذي الحظناه‬
‫واالضطراب أيضاً‪ .‬ففي أحد معاني هذه ال كلمة أي المعنى الذي فيه تدل الكلمة على موضوع لعملية فكرة يكون البياض «ة ق»‪.‬‬
‫ومن ثم» إذا لم تأخذ حذرنا أمام هذا الغموض فإننا قد نصل إلى التفكير بأن البياض هو «فكرة» بالمعنى اآلخرء أي أنه عملية من‬
‫عمليات التفكير» وهكذا نتهي إلى التكهن أن البياض شيء عقلي‪ .‬ولك ننا بمثل هذا التفكير ننزع عن البياض صفته األساسية وهي‬
‫الشمول‪ .‬فعملية تفكير لرجل واحد تختلف بالضرورة عن عملية تفكير لرجل آخرء وعملية التفكير لرجل معين في وقت محدد‬
‫تختلف عن عملية التفكير للرجل نفسه في وقت آخر‪ .‬ومن ثم إذا كان البياض عملية تفكير وليس موضوعا ً للتفكير فال يمكن الثنين‬
‫مختلفين أن يتفقا في التفكير فيه‪ .‬كما اليمكن لرجل واحد أن ينفق تفكيره فيه في وقت ما مع تفكيره في وقت آخر‪ .‬ذلك أن ما‬
‫تشترك فيه جميع األفكار حول البياض؛ إنما هو موضوعهاء؛ وهذا الموضوع غير األفكار» بل يختلف عنها جميعاً‪ .‬فالكليات إذن‬
‫‪.‬ليست أفكاراً ولكنها متى عرفت تكون موضوعات التفكير‬

‫‪107‬‬

‫وسيتبين لنا أن مما يسهل األمر أن نقتصر على وصف األشياء في أنها موجودة متى كان لها زمن» أي حينما نشير إلى زمن‬
‫تكون فيه موجودة (دون حسبان إمكان وجودها في كل األزمتة) فاألفكار والمشاعرء العقول واألشياء المادية كلها موجودة‪ .‬ولكن‬
‫الكليات ليست موجودة بهذا المعنى؛ فنحن سنقول أن لها «كينونة» حين يراد بالكينونة شيء يقابل «الوجود» الذي ال زمن فيه‪.‬‬
‫فعالم الكليات؛ قد يوصف أنه عالم الوجود‪ .‬وعالم الوجود غير قابل للتغير وهو محكم دقيق فيه متعة للرياضي» والمنطقي » وبناة‬
‫ا لنظم الميتافيزيقية‪ .‬أما عالم الوجود فهو عابر وغامض‪ .‬ليس له معالم واضحة وال يجري على نسق واضح من النظام والترتيب»‬
‫ولكنه يشتمل على كل األفكار والمشاعر وجميع الحقائق الحسية واألشياء المادية؛ وكل ما يمكن أن يصدر عنه الخير أو الشر‬
‫وكل ما يغير في قيّم الحياة وال عالم‪ .‬والتطلع إلى هذا العالم أو ذاك واستشرافه أمر يعود إلى المزاج والطبع» فإذا كنا نؤثر النظر‬
‫في عالم الكليات بدا لنا العالم اآلخر كأنه ظل باهت لهذا العالم الذي تفضله؛ ومن العسير أن يستحتى وصفنا له بأنه عالم حقيقي‬
‫على أي وجه من الوجه‪ .‬وفي الواقع فإن كال من العالمين يستدعي منا النظر واالهتمام من دون تحيزء فكالهما حقيقي وكالهما‬
‫‪.‬هام للباحث الميتافيزيقي‪ .‬وقبل أن نميز بين عالمين يغدو من الضروري أن نتأمل في العالقات بينهما‬
‫ولكن قبل أي شيء علينا أن نمعن النظر في معرفتنا بالكليات‪ .‬وهذا البحث هو محور حديثا في الفصل اآلتي ؛ حيث ترى فيه حالً‬
‫‪.‬لمشكلة المعرفة القبلية التي هدتنا إلى البحث في الكليات‬

‫‪108‬‬

‫معرفتنا بالكليات‬

‫فيما يتعلق بمعرفة الفرد في زمن معين يمكن أن تنقسم الكليات كالخصوصيات؛ إلى تلك التي تعرفها بالعيان أو تلك التي نعرفها‬
‫‪.‬بالوصف وتلك التي ال نعرفها ال بالعيان وال بالوصف‬

‫ولتتأمل بادئ ذي بدء الكليات بطريق العيان» فمن الجلي أوالً أننا على معرفة عيانية بالكليات كاألبيض واألحمر واألسود والحلو‬
‫والحامض» والصوت العالي إلخ‪ .‬أي أنتا على معرفة بالصفات التي تتمثل بالحقائق الحسية‪ .‬فحينما نرى بقعة بيضاء ألول مرة‬
‫تكون على محرفة عيانية بتلك البقعة؛ ولكننا برؤيتتا بقعا ً بيضاء كثيرة نستطيع بسهولة أن نصل إلى تجريد البياض الذي تشترك‬
‫فيه البقع البيضاء جميعها؛ ومتى استطعنا هذا التجريد نكون قد وصلنا إلى أن نكون على معرفة عيانية بالبياض‪ .‬وعلى هذا النمط‬
‫نستطيع أن تصل إلى معرقة عيان ية بكليات أخرى مماثلة» وكليات هذا النوع هي التي تسمى «الصفات المحسوسة»‪ .‬ويمكن فهمها‬
‫‪.‬بجهد أقل من التجريد بالنسبة إلى الصفات األخرى» ويبدو أنها أقل بعداً عن الخصوصبات من الكليات‬

‫في العودة إلى العالقات نجد أن أيسرها على الفهم تلك العالقات التى تربط بين أجزاء مختلفة لحقيقة حسية مركبة‪ .‬فمثالً أستطيع‬
‫بلمحة واحدة أن أرى أن شمولية الصفحة التي أخط عليها ومعنى ذلك لي أن كل الصفحة قد احتوتها حقيقة حسية‬

‫‪109‬‬

‫واحدة» على أنني أشعر أن بعض أجزاء الصفحة يكون على يسار البعض اآلخرء وأن بعضها فوق البعض اآلخرء فعملية التجريد‬
‫في هذه الحالة توضع على النحو التالي‪ :‬بما أنني أرى على التعاقب عددا من الجقاثق الحسية كل جزء منها يقع على يسار الجزء‬
‫اآلخر» فأنا أدرك» كما في حالة البقع البيضاءءء أن كل الحقائق الحسية تشترك في شيء ماء وأرى بعملية التجريد أن هذا الشيء‬
‫المشترك بينها إنما هو ع القة معينة تربط بين أجزائهاء أي العالقة التى أدعوها «كونه على يسار ذلك»‪ .‬وفى هذه الحالة أصير‬
‫‪ -‬على معرفة عيانية تتصل بالعالقة الكلية‪.‬‬

‫في مثل ذلك أكون على معرفة بعالقة القبل والبعد في الزمن‪ .‬دعنا نفترض أنني أسمع قرع األجراس‪ :‬فحينما أسمع رنين الجرس‬
‫األخير» فباستطاعتي أن أحتفظ بهذه السلسلة من الرنين» وهذا ما يمكنني أن أدرك أن رنين األجراس األولى كانت قبل رنين‬
‫األجراس األخيرة‪ .‬ومثل هذا يقال من الذاكرة» فأنا أدرك أن ما أتذكره اآلن حدث في وقت سابق على الوقت الذي أنا فيه‪ .‬إنني‬
‫أستطيع أن أجرد من أي واحد من هذه المصادر العالقة الكلية للقبل والبعد بنفس الطريقة التي «جددت بها العالقة» كونه على‬
‫‪.‬يسار ذلك‪ .‬ومن هذا نرى أن العالقات الزمنية؛ كالعالقات المكانية هي مما نكون على معرفة عيانية به‬
‫وتوجد عالقة أخرى نكون على معرفة عيانية بها بالطريقة نفسها وهي عالقة المشابهة‪ .‬فإذا رأيت ظلين من اللون األخضر في‬
‫وقت واحد فإني أستطيع أن أرى أن أحدهما يشبه اآلخرء وإذا رأيت‬

‫‪110‬‬

‫أيضا ً في الوقت نفسه لونا ً أحمر فإني أستطيع أن الحظ أن كالً من الظلين من اللون األخضر أكثر شبها ً باآلخر من اللون األحمر‪.‬‬
‫‪.‬وفي هذه الحالة أكون على معرفة كلية بعالقة التمائل والتشابه الكليين‬

‫وبما أنه تقوم بين الخصوصيات عالقات» كذلك تقوم بين الكليات عالقات يمكن أن تكون على وعي مباشر بها‪ .‬وفي ذلك أصبحنا‬
‫نستطيع أن نعي أن التمائل بين ظلين من اللون األخضر أشد من التماثل بين لون أخضر وآخر أحمر‪ .‬إننا في ذلك نتتاول تعالقا ً‬
‫بين عالقتين» يُدعى «أولق من»‪ .‬فمعرفتنا بمشل هذه العالقات ولو أنها تتطلب جهداً في التجريد أعظم مما تتطلبه إلدراك صفات‬
‫الحقائق الحسية تبدو أنها معرفة مباشرة أيضا ً وأنها (ولو في بعض الحاالت) ال يخامرها الشك كما هي الحال في إدراك صفات‬
‫‪.‬الحقائق الحسية تفها‪ .‬فهناك معرفة مباشرة بالكليات كما أن هناك معرفة مباشرة بالحقائق الحسية‬

‫وحيث إننا عدنا في ذلك إلى مسألة المعرفة القبلّة التي تركناها بدون حل حيتما بدأنا النظر فى الكليات» فإننا تجد أنفسنا في وضع‬
‫نستطيع فيه أن نعالجها عالجا ً مقنعا ً ما كنا لنستطيعه من قبل‪ .‬ولنعدٌ ثانية إلى فكرة «اثنين واثنين يساويان أربعة»‪ .‬فمن الجلى كما‬
‫قلنا سابقا ً أن هذه الفكرة تقرر وجود عالقة بين الكلى «النين» والكلي «أربعة» وهذا يوحي بالحكم الذي سنسعى إلى إثباته ويعني‪:‬‬
‫كل معرفة قبلية ال تتناول إال العالقات بين الكليات‪ .‬وهذا الرأي عظيم األهمية؛ ألنه يمهد لنا السبيل إلى حل مشاكلنا السابقة التي‬
‫‪.‬تتصل بالمعرفة القيلية‬

‫‪111‬‬

‫إن الرأي الوحيد الذي يبدو فيه هذا الحكم ألول وهلة كأنه غي ر صحيح » هو الرأي الذي ينص فيه حكم قبلي على أن كل‬
‫الخصوصيات التي تتصل بجنس واحد يمكن أن تنسب إلى جنس آخرء أو (ما يماثل ذلك) فى أن كل الخصوصيات التى لها‬
‫خاصية معينة قد تكون لها خاصية أخرى‪ .‬وهنا يتبين لنا أننا إنما نبحث في خصوصيات لها خاصية معينة وال تبحث في الخاصية‬
‫نفسها‪ .‬فإذا أخذنا الفكرة التي كنا بصددها وهي «اثنان واثان يساويان أربعةة أو «أي مجموعة مؤلفة من تكرار اثنين مرتين هى‬
‫‪.‬مجموعة مؤلفة من أربعة»» وإذا استطعنا أن نبين أن هذه األقوال تتناول في الحقيقة البحث فإن رأينا قد يعتبر برهانا ً على ذلك‬

‫إن إحدى ال طرق للكشف عما تتناوله أي فكرة من األفكار هى أن نسأل أنفسنا ما الكلمات التى يجب أن نفهمها ‪ -‬وبعبارة أخرى»‬
‫ما األشياء التي يجب أن نتعرف عليهاء لتعرف ماذا يقصد بهذه الفكرة‪ .‬ومتى علمنا ما ترمي إليه الفكرة ولو لم نعرف إن كانت‬
‫صادقة أو كاذبة» قمن الواضح أننا ال بد أن نكون على معرقة عيانية بأي شيء نبحث فيه هذه الفكرة»؛ وباستعمال هذا يتجلى لنا‬
‫أن كثيراً من األفكار التى تبدو أنها تدور حول الخصوصيات هى فى الحقيقة تتناول فقط الكليات‪ .‬ففى الحالة الخاصة «اثثان‬
‫واثنات يساويان أربعة» حتى نفسرها بالصيغة التالية «أي مجموعة مؤلفة من اثنين مرتين هي مجموعة مؤلفة من أربعة» يبدو‬
‫واضحا ً أننا نستطيع أن نفهم الفكرة أي أننا نستطيع أن نهتدي إلى ما تقرره الفكرة حيتما نعرف المقصود من كلمات «مجموعة»‬
‫والثنين» و«أربعة»‪ .‬وليس من الضروري أن نعرف كل زوجين في العالم؛‬

‫‪112‬‬

‫ولو كان ذلك ضروريا ً لكان من الواضح أننا ال نستطيع أن نفهم هذه الفكرة ألن هناك عددا من األزواج ال يتشاهى عديدها‪ .‬وهكذاء‬
‫فبالرغم من أن الفكرة ة التي أبديناها إجماالً ال تتضمن أقواالً تخفي أزواجاً»‪ .‬خاصة ما دمنا نعرف وجود هذه األزواج الخاصة»‬
‫إال أنها قى حد ذاتها ال تؤكد أو ال تت ضمن وجود مثل هذه األزواج الخاصة‪ .‬كما أن هذه الفكرة تعجز عن أن تبين لنا أي وصف‬
‫‪.‬ألي زوجين في الواقع‪ .‬فهذه الفكرة تتناول (الزوج) من حيث أنه كلي وال تتناول هذا الزوج أو ذاك‬

‫فالفكرة التي تقول بأن (اثنين واثنين يساويان أربعة» مقصورة على تناول الكليات» وإذن فهذه الفكرة قد يدركها أي إنسان يكون‬
‫على معرفة عيانية بالكليات المتعلقة بها ويستطيع أن يدرك العالقة بين هذه الكليات التي يتناولها ذلك الرأي‪ .‬وال بد لنا أن نقرر‬
‫أن لنا قدرة على إدراك مثل هذه العالقات بين الكليات أحياناً؛ ويتبع ذلك قدرتنا على معرفة األحكام القبلية العامة كأحكام الحساب‬
‫والمنطق‪ .‬وهذا أمر ثابت وصلنا إليه عن طريق التأمل في معرفتتاء والشيء الذي بدا لنا غامضا ً حينما بحثنا المعرفة القبلية؛ هو‬
‫أنها تبدو أنها تنيثنا بالتجربة وتضبطها‪ .‬إال أن ذلك محض خطأ‪ .‬فليس هناك من واقع يتصل بأي شيء يمكن أن يدخل في نطاق‬
‫التجربة نستطيع أن ندركه مستقالً عن ذلك‪ .‬إننا نعرف قبليا ً أن شيئين وشيئين آخرين هما أربعة أشياء؛ ولكنا ال نعرف قبليا ً إذا‬
‫كان براون وجونسون يكونان انين وروبنسون وسميث يكونان اثنين؛ وعلى ذلك يكون براون وجونسون وروبنسون وسميث‬
‫أربعة‪ .‬والسبب في ذلك أن هذا الرأي‬

‫‪113‬‬

‫ال يمكن أن يفهم مطلقا ً ما لم نعرف أن هناك أفراداً هم براون وجونسون وروبنسون وسميث» وال يتأتى ذلك إال عن طريق‬
‫التجرية فقط» ومن ثم» ولو أن الحكم الذي عرضتاه إجماال حكم قبلي» فكل تطبيق له على الخصوصيات الواقعة يتضمن تجربة»‬
‫ويترتب على ذلك أن هذا الحكم أو الرأي يشتمل على عنصر تجريبى‪ .‬وبهذا فإن ما كان غامضا حول معرفتنا القبلية؛ يظهر لنا‬
‫‪.‬جليا ً أنه قائم على ضالل‬

‫ويمكننا أن نوضح هذه الناحية كثيراً إذا قابلنا الحكم القبلي البحت بالحكم القائم على التجربة مثل «كل الناس فانون»» وهنا كما‬
‫سبق» نستطيع أن نفهم ماذا ي رمي إليه هذا الرأي حينما نفهم الكليات التي يتضمنها رجل فان‪ .‬ومن الجلي أنه ليس من الضروري‬
‫أن نكون على معرفة عيانية فردية بكل أفراد الجنس البشري لكي ندرك ما يرمي إليه هذا الرأي‪ .‬فالفرق بين حكم قبي عام وحكم‬
‫تجريبي عام ال يتجلى في مدلول الحكم» بل في البرهان عل يه‪ .‬ففى حالة التجربة» يتألف البرهان من أمثلة جزكية‪ .‬ونتحن نعتقد‬
‫أن الرجال فانون ألننا نعرف أن أفراداً ال حصر لهم يموتون» وليس لدينا أمثلة على أنهم يعيشون بعد سن معينة؛ ذلك أن اعتقادنا‬
‫بهذا الرأي آتيا ً من إدراكنا للعالقة بين الكلى الرجل وبين الكلي فان‪ .‬صحيح أنه إذا استطاعت الفيزيولوجبا (علم وظائف األعضاء)‬
‫أن تبرهن» مفترضة صحة القوانين العامة التي تتحكم في الكائنات الحية» فإن الكائن الحي ال يمكن أن يدوم باستمرارء ألن ذلك‬
‫يكشف لنا عن العالقة؛ بين اإلنسان والفتاء» تلك العالقة التي تجعلنا نصدر أحكامنا بدون اسستعانة‬

‫‪114‬‬

‫بدليل خاص على أن الناس يموتون» ولكن ذلك يعني فقط أن تصميمنا مندرج تحت تصميم أشمل يكون دليله أيضا ً من النوع نفسه‬
‫ولو أنه أكثر شموالً‪ .‬وبذلك وضع لنا أساسا ً ثابتا ً قائما ً على االستقراء لغرض التقدم العلمي‪ .‬وعلى الرغم من أن هذا يصل بنا إلى‬
‫درجة أعظم م ن البقين فإنه ال يكشف عن نوع مختلف منه‪ :‬فالقاعدة النهائية تبقى استقرائية» أي مشتقة من األمثلة وليست صلة‬
‫‪.‬قبلية بين الكليات كما في المنطق والرياضيات‬

‫هناك نقطتان متقابلتان تتعلقان باألحكام العامة جديرتان بالمالحظة العامة القبلية‪ .‬األولى أنه إذا عرف كثير من األمثلة الخاصة‬
‫فإن حكمنا العام يمكن التوصل إليه باستقراء للوهلة األولى» والعالقة بين الكليات يمكن فقط أن تدرك بعد ذلك‪ .‬أننا نعرف أننا إذا‬
‫رسمنا أعمدة على أوضاع المثلث من الزوايا المقابلة فإن األعمدة الثالثة تلتقي في نقطة» وال بد أن يكون من الممكن لنا تماما ً أن‬
‫تهتدي إلى هذا الحكم أوالً بالرسم العملي لألعمدة في حاالت كثيرة حيث نجد أنها دائما ً تلتقي في نقطة» فهذه التجرية قد تهدينا‬
‫‪.‬إلى البحث عن البرهان العام حتى تصل إليه؛ وهذه حاالت مألوفة شائعة يمر بها كل رياضي في تجاربه‬

‫ويبدو أن التاحية األخرى هي أكثر أهمية فلسفية؛ ذلك أننا أحيانا ً تستطيع أن تصل إلى معرفة حكم عام في حاالت ال يكون لدينا‬
‫فيها مثال واحد‪ .‬لتأخذ مثالً على ذلك في الحالة التالية‪ : :‬أننا تعرف أن أي عددين يمكن أن يضرب أحدهما في اآلخر وينتجان‬
‫عدداً ثالثا ً يسمى حاصل الضرب‪ .‬كما نعرف أن أي زوج من األعداد الصحيحة يكون حاصل ضربه أقل من ماثة قد ضرب‬

‫‪115‬‬

‫أحدهما في اآلخر في الواقع» ويحل حاصل الضرب في جدول الضرب‪ .‬ولكننا تعلم أيضا ً أن األعداد ال متناهية وأن كل ما فكر‬
‫فيه اإلنسان أو ما يفكر فيه من أزواج األعداد هو أعداد صحيحة؛ ومن ثم فهناك أزواج من األعداد لم يفكر ولن يفكر فيها أي‬
‫إنسان وحاصل ضربهما يكون أكثر من ‪ 100‬وعلى هذا نستطبع أن نصل إلى الرأي التالي ‪« :‬كل حاصل ضرب لعددين صحيحين‬
‫لم ولن يفكر فيهما اإلنسان يكون أكثشر من ‪ . 100‬هنا يكون الحكم العام ال مجال لالختالف في صدقه ولكننا بطبيعة الحال ال‬
‫‪.‬نستطيع أن نعطي مثاالً عنه؛ ألن أي عددين يمكن أن نفكر فيهما خارجان عن حدود الحكم‬

‫وهذه اإلمكانية لمعرفة األحكام العامة ال يمكن أن نجد مثل لهاء هي كثيراً ما تكون موضع اإلنكار» ألنه ال يتصور أن معرفة مثل‬
‫هذه األحكام تتطلب فقط معرفة بالعالقات بين الكليات وال تتطلب أي معرفة بأمثلة الكليات‪ .‬ومع ذلك؛ فمعرفة مثل هذه األحكام‬
‫العامة هامة جداً لكثير من األمور التي تعد عادة أنها معروفة‪ .‬وعلى سبيل المثال؛ رأينا فى الفصول األولى أن األشياء المادية‬
‫باعتبارها مخالفة الحقائق الحسية نحصل عليها فقط بطريق االستنتاج» وليست باألشياء التي نكون على معرفة عيانية بهاء ومن‬
‫ثم فنحن ال نستطيع أن نعرف مطلقا ً أي حكم في الصورة التالية «هذا شيء مادي»؛ حيث يكون ‪«١‬هذا» شيئا نحن على معرفة‬
‫مباشرة به‪ .‬ويترتب على ذلك أن كل معرفتنا التى تتعلق باألشياء المادية ال نستطيع أن نجد لها مثاالً واقعيا ً نطبقها عليه‪ .‬ونحن‬
‫نستطيع أن نعطي أمثلة للحقائق الحسية المقترنة باألشياء‬

‫‪116‬‬

‫المادية» على أننا ال نستطيع أن نورد أمثلة لهذه األشياء المادية الحقيقية» ومن ثم فمعرفتنا فيما يتعلق باألشياء المادية تحتمد‬
‫بتمامها على هذه اإلمكانية للمعرفة العامة حيث ال يكون من المستطاع إيراد أي مثل عليها‪ .‬وهذا نفسه ينطبتىق على معرفتنا بقول‬
‫‪.‬الناس اآلخرين أو بأي نوع من األشياء التي ال يعرف لها أي مثل خاص معرفة عيانية‬

‫اآلن نستطيع أن نلقي نظرة شاملة على مصادر معرفتنا كما تبينت لنا من خالل استعراضها وتحليلها‪ .‬وال بد لنا أوالً أن نميز‬
‫معرقتنا باألشياء من معرفتنا بالحقائق» فكل معرفة هي اثنين إما مباشرة أو مكتسبة‪ .‬فمعرفتنا المباشرة يطلق عليها المعرفة‬
‫العيانية وهي تتألف من نوعين تبعا ً لكون األشياء المعروفة لنا إما أن تكون جزثيات أو كليات‪ .‬فمن الجزئيات التي نكون على علم‬
‫مباشر بها الحقائق الحسية» وفي «األرجح» أنفسنا‪ .‬أما الكليات؛ فليس لدينا مبدأ نستطيع به أن نقرر ما يمكننا أن نعرفه متها‬
‫معرفة عيانية؛ ومن الجلي أن من بين هذه الكليات التي نستطيع معرفتها معرفة مباشرة النعوت المحسوسة» وعالقات الزمان‬
‫والمكان والمشابهة وبعض الكليات المنطقية المجردة‪ .‬أما معرفتنا المكتسبة باألشياء وهي التي نسميها معرفة بالوصف؛ فهي‬
‫أيضا ً تتضمن معرفة عيانية باألشياء ومعرفة الحقائق‪ .‬ال تسمى معرفتنا المباشرة بالحقائق المعرفة الحدسية» وهذه الحقائق التي‬
‫نعرفها بالحدس نستطيع أن نطلق عليها الحقائق الواضحة بذاتهاء ومن بينها تلك التي تقرر ما يرد إلينا عن طريق الحس»؛ وكذلك‬
‫)بعض المبادئ الحسابية والمنطقية المجردة» وأن (كانت هذه أقل إدراكا‬

‫‪117‬‬

‫بعض األحكام األخالقية‪ .‬أما معرفتنا المكتسبة بالحقائق فتتألف من كل شيء يمكن أن نستنبطه بالقياس من الحقائق الواضحة‬
‫‪.‬بذاتها باستخدام قوانين االستنتاج الواضحة بذاتها‬

‫أما إذا كان ما أفضنا به صحيحاًء فإن كل معرفتنا بالحقائق تعتمد على معرفتنا الحدسية‪ .‬ومن األهمية بمكان أن نتأمل طبيعة‬
‫المعرفة البدهية ومداها بالطريقة نفسها التى سلكناها آنفاء فى تناول طبيعة المعرفة العيانية ومداها‪ .‬على أن المعرفة بالحقائق تتشأ‬
‫عنها مشكلة جديدة لم يظهر لها مثيل في معرفتنا باألشياء؛ وهذه هى مشكلة الخطأ‪ .‬ذلك أن بعض معتقداتنا تبدو فيها أشياء من‬
‫الخطأ أو الفساد عند البحث» وإذن فمن الضروري أن تمعن النظر فى كيفية تميز المعرفة من الخطاء فهذه المسألة ال تتصل بالعلم‬
‫الذي يأتينا عن طريق المعرفة العيانية؛ ألن أي شيء يصح أن يكون موضوعا ً للمعرفة العيانية حتى في األحالم والهذيان‪ .‬ال‬
‫يتضمن خطأ ما دمنا ال نذهب بعيداً عن الموضيع المباشر‪ :‬ذلك أن الخطا ً ينجم حينما تتأمسل الموضوع المباشر أي الحقائق‬
‫الحسية» كدليل على الشيء المادي‪ .‬وعلى هذا فالمسائل التي تتصل بمعرفة الحقائق أصعب من التي تتصل بمعرفة األشياء‪ .‬وبما‬
‫‪.‬أن أولى هذه المشكالت تتصل بمعرفة الحقائق‪ .‬فإن علينا أن نلتفت اآلن إلى غريلة ماهية األحكام الحدسية ومداها‬

‫‪118‬‬

‫هناك انطباع عام بأن كل شيء نؤمن به يجب أن يكون قابالً للبرهان‪ .‬وعلى األقل أن يبين بأنه مرجح‪ .‬ويشعر كثير من النداس‬
‫بأن اعتقاداً ال يدعمه سبب هو اعتقاد غير مقبول‪ . .‬وبصورة رئيسة يكون هذا الرأي صحيحاً‪ .‬فجميع معتقداتنا تقريبا ً إما أن تكون‬
‫مستنتجة من معتقدات أخرى يمكن أن تعد أسبابا ً لها وبراهين عليهاء وإما أن تكون قابلة لمثل هذا االستنباط» وقد ننى عادة السبب‬
‫الذي يقوم عليه المعتقد أو قد ال يكون قد خطر ببالنا قط‪ .‬ونجد قلّة من األشخاص يسألون أنفسهم عن السبب الذي يدعوهم إلى‬
‫االعتقاد أن الطعام الذي هو مقدم إليهم ليس ساماً‪ .‬ولكنا نشعر أننا نستطيع حين نطالب بإلحاح أن نجد سيا ً يؤيد معتقدناء ونحن‬
‫‪.‬على األرجح على صواب في هذا الشعور‬

‫ولنتصور رجالً ملحاحا ً كسقراط يتساءل عن سبب ما يعرض له ويستمر في السؤال عن سيب السيب» فال بد أن تدقع إلى نقطة‬
‫ال نستطيع أن نجد بعدها أي سبب؛ وحيث يصبح من المؤكد تقريبا ً بأن أي سبب آخر ال يمكن أن يكتكشف حتى من الوجهة‬
‫التظرية‪ .‬فقد نبدأ بالمعتقدات العامة في الحياة اليومية فننتقل في الجواب من نقطة إلى نقطة حتى نصل إلى مبدأ من المبادئ العامة‬
‫أو إلى حالة من حاالت ذلك المبدأ حيث يبدو لنا جليا ً متألقاً؛ حتى أنه لييدو غير قابل بذاته ألن يستتتج من أي حقيقة أكثر وضوحا ً‬
‫منه» والمبدأ الذي نعتمد عليه في نهاية األمر‬

‫‪119‬‬

‫في معظم المشاكل المتعلقة بالحياة اليومية؛ كاعتقادنا بأن ما نحن مقدمون عليه من طعام مخذ وليس ساماء فنتدفع حيشذ عائدين‬
‫إلى المبدأ االستقرائي الذي ناقشناه قي الفصل السادس‪ .‬ولكن يبدو أننا ال تستطيع أن ترجع أقصى من ذلك‪ . .‬ونحن نستعمل في‬
‫استدالالتنا المبدأ نفسه باستمرار» نستعمله تارة عن وعي وتارة بدون وعيء غير أننا ال نستطيع أن نقوم باستدالل يبدأ من مبدأ‬
‫أبسط وأكثر بيانا ً بذاته ليتتهي بنا إلى مبداً االستقراء كتتيجة له‪ .‬ومثل هذا يصدق على مبادئ منطقية أخرى‪ .‬فحقيقتها واضحة لناء‬
‫‪.‬وتحن نستخدمها في تعليالتنا إما هي نفسهاء أو على األقل بعضها فغير قابلة للبرهان‬

‫ولعل كون الشيء بينا ً بذاته ليس مقصوراً على تلك األسس غير القابلة للبرهان فقطاء صحيحء إذا تم القبول بعدد من المبادئ‬
‫المنطقية أمكن استنتاج المبادئ اال ى منهاء ولكن هذه المي ادئ المستنتجة كثيرا ما تكون بيتة بذاتها كتلك التي تم افتراضها من‬
‫دون برهان؛ وفوق هذا فالحساب جميعه يمكن استنتاجه من مبادئ المنطق العامة ومع ذلك فاألحكام البسيطة فى الحساب مثل‬
‫‪«.‬اثنين واثنين يساويان أربعة» بينة بذاتها كما هى الحال في مبادئ المنطق‬

‫‪».‬ويبدو أن ذلك ت ُ َعدُ موضوعا ً للخالف ألن هناك بعض المبادئ األخالقية الواضحة بذاتها ك «يجب علينا أن نتبع ما هو خير‬
‫علينا مالحظة أن الحاالت الخاصة التي تتناول أموراً مألوفة أوضح من الميدأ العام الذي تنسحب تحته تلك الحاالت الخاصة‪ .‬وإذا‬
‫أخذنا مثالً قانون التناقض الذي ينص على أنه‬

‫‪120‬‬

‫ال يمكن أن يملك شىء صقة ما وال يملكها فى الوقت نمسه» فإن هذا المبداً يتضح صدقه متى فهم المقصود منه؛ ولكن ليس أكثر‬
‫وضوحا ً من القول بأن وردة ما ال يمكن أن تكون حمراء وليست حمراء معا ً (في بعض األحيان تكون بعض أجزاء الوردة حمراء‬
‫ويعضها غير حمراء؛ أو أن تكون ظالً من اللون الوردي الذي نكاد ال ندري أن ندعوه أحمراً أم الء فأما في الحالة األولى فظاهر‬
‫أن الوردة بجملتها ليست حمراء وأما في الحالة الثانية فإن الجواب يصبح محدداً نظريا ً أول ما نقسر تعريقا ً معينا ً للفظ «أحمره)‪.‬‬
‫وإنما نصل على األغلب إلى فهم المبداً العام عن طريق الحاالت الخاصة» وال نستطيع أن نحيط على الفور بمبداً عام من دون‬
‫‪.‬عون من النظر في الحاالت الخاصة» إال أولئك الذين تمرسوا على التفكير المجرد‬

‫وعالوة على المبادئ العامة فإن الحقائق ذات الداللة الذاتية من نوع آخر هي مستمدة مباشرة من الحس» ونحن ندعو هذه الحقائق‬
‫«حقائق اإلدراك» واألحكام التي تفصح عنها ندعوها «أحكام اإلدراك»‪ .‬ولكن نحتاج هنا إلى شيء من العناية لتصل إلى معرفة‬
‫الطبيعة الدقيقة بالحقائق ذات البرهان الذاتيء فالحقائق الحسية الواقعية هي ليست حقيقية وال كاذبة‪ .‬قإن بقعة خاصة من اللون‬
‫الذي أراه مثالً موجودة بصورة بسيطة‪ :‬وليست هي نوع الشيء الحقيقي أو الخاطئ‪ .‬فالحقيقة أن هنالك بقعة كهذه وهى فى الحقيقة‬
‫ذات شكل خاص ودرجة من التألق‪ .‬والحقيقة أيضا ً أنها محاطة بألوان أخرى ولكن البقعة نفسها ككل شيء آخر في عالم الحس‬
‫هي من نوع مختلف بصورة جذرية عن‬

‫‪121‬‬

‫األشياء التي هي حقيقية أو خاطئة» ولهذا ال يمكن القول بشكل خاص بأنها حقيقية‪ .‬لذا فإن أية حقائق قى بينة فى ذاتها يمكن‬
‫‪.‬الحصول عليها من أحاسيسنا يجب أن تختلف عن الحقائق الحسية التي استمدت منها‬

‫ويظهر أن هناك نوعين من حقائق اإلدراك الحسي الواضحة بذاتها وإن كان التوعان لدى التحليل النهائي قد يمتزج أحدهما‬
‫باآلخر‪ .‬فهناك أوالً ذلك النوع الذي نؤكد به وجود حقيقة حسية فقط» من دون أن تحللها أي تحليل‪ .‬فلقد نظر إلى بقعة من اللون‬
‫األحمر ثم تحكم «هناك نقطة حمراء أو بنوع ما» أو بصورة دقيقة «أنها موجودة»؛ وهذا نوع من أحكام اإلدراك الحدسي‪ .‬أما‬
‫النوع اآلخر فينشأ حينما يكون الشيء الذي تدركه الحواس معقدا فتخضعه إلى شيء من التحليل‪ .‬فإذا رأينا مثالً بقعة حمراء‬
‫مستديرة قلنا ‪« :‬تلك البقعة الحمراء مستديرة» كان هذا حكما ً من أحكام اإلدراك أيضا ولكنه يختلف عن النوع السابق‪ .‬فهنا في‬
‫هذا النوع األخير حقيقة حسية واحدة ذات لون وشكل» وبالنسبة للون فأحمر وأما الشكل فمستدير‪ .‬وحكمنا يحلل هذا الموضوع‬
‫إلى لون وشكلء ثم يجمع بينهما حين يقدر أن اللون األحمر مستدير الشكل» ومشل ذلك قولنا‪« :‬أن هذا إلى يمين ذاك)؛ حيث يرى‬
‫«هذاء و«اذاك» في آن واحد‪ .‬ف قي هذا النوع من الحكم يؤدي موضوع الحس على أجزاء أو مقومات يرتبط بعضها ببعض بعالقة‬
‫‪.‬ماء ويقرر الحكم على أن لهذه األجزاء تلك العالقة‬

‫إن هناك مثالً آخر من األحكام الحدسية؛ مشابه لتلك المتصلة بالحواس ولكنه مع ذلك متميز عنها وهو أحكام الذاكرة؛ ثمة‬

‫‪122‬‬

‫خطر من التشويش في ما يتعلق بطبيعة الذاكرة بالنظر إلى الواقع في أن تذكر شيء ما معرض لالقتران بشيء من ذلك وال يمكن‬
‫أن يقال إن هذه الصورة هي ما يتألف منه التذكر‪ .‬ويتجلى ذلك بمالحظة أن الصورة تكون فى الحاضرء فى حين أن ما يتذكر‬
‫يعرف باعتباره قد حدث في الماضي» وفوق هذا فإننا قادرون على أن نقايل إلى حد ما بين الصورة والشيء خالفا ً للصورة إزاء‬
‫العقل بطريقة ما» وعلى هذا فجوهر الذاكرة ال يتألف من الصورة بل من وجود شيء إزاء العقل مباشرة يمكن تمييزه بأنه يعود‬
‫إلى الماضي‪ .‬ومن دون الذاكرة بهذا المعنى ال يمكن أن نعرف أن هناك ماضيا ً فقطء وال يمكن أن نفهم المقصود من كلمة «ماض»‬
‫كما ال يستطيع رجل ولد أعمى أن يفهم لفظ «الضوء»‪ .‬وبناء على ذلك ال بد أن تكون هناك أحكام حدسية تتصل بالذاكرة وإنما‬
‫‪.‬من يقوم عليها علمنا بالماضي في نهاية األمر‬

‫إن الذاكرة يتسبب عنها بعض الصعوية» ألنها كما هو معلوم معرضة لالحتماالت» وفي ذلك تلقى كثيراً من الشك في دارة‬
‫األحكام الحدسية عامة بالثقة وليست هذه الصعوبة باليسيرة؛ ويتطلب األمر أن نضيق من مجالها ما وسعنا ذلك‪ .‬ويمكن االقتراض‬
‫إجماالً أن الذاكرة يصح االعتماد عليها بمقدار وضوح التجربة التي تتصل بها وقرب عهدها‪ .‬فإذا افترضنا أنه نزلت بالبيت‬
‫المجاور لي صاعقة قبل دقيقة فدكته دكا فإن تذكري لما رأيت ولما سمعت يكون موثوقا ً بحيث يكون من السخف الشك في وجود‬
‫ما في الصاعقة من وميض شديد‪ .‬ومشل هذا يصدق على تجارب أقل وضوحا ً في هذا المشثال» طالما كانت قريبة‬

‫‪123‬‬

‫العهد‪ .‬فأنا على يقين راسخ أنني قبل مضي نصف دقيقة كلت جالسا ً على نفس الكرسي الذي أنا جالس عليه اآلن» وإذا عدنا إلى‬
‫الوراء من خالل ما حدث لي في هذا اليوم وجدت أموراً أنا على تمام اليقين منهاء وأموراً أكاد أكون على يقين منهاء وأموراً ال‬
‫أكون على يقين منها إال بالتأمل والتفكير وبعد استرجاع ما أحاط بها من ظروف ومالبسات» وأموراً أخرى لست على يقين منهاء‬
‫فأنا على يقين أنني تناولت فطوري هذا الصباحء ولكني لو كنت ال آبه بالفطور كما ال يأبه به الفيلسوف عادة لجاز لي الشك في‬
‫أنني تناولت ذلك الفطور‪ .‬أما فيما يخص بما دار على مائدة اإلفط ار من حديث فإني أستطيع أن أسترجع بالذاكرة بعضه بيسر‬
‫وسهولة؛ وبعضه بشيء من المحاولة والجهد؛ وبعضه مع شيء كبير من الشك» أما البقية قال أستطيع أن أسترجعها بتاتا‪ .‬وفي‬
‫‪ .‬ذلك نرى تدرج مطرد في مراتب الوضوح بالذات لما أستطيع أن أتذكر» يقابله مثل هذا التدرج في الثقة به واالعتماد عليه‬
‫وعلى ذلك فأول جواب لتلك الصعوبة التى تنشا ً عن خطأ الذاكرة هو أنها درجات في كونها بينة بالذات» لها درجات في الثقة بها‬
‫واالعتماد عليهاء وأعلى الدرجات التي تكون فيها الذاكرة بينة بذاتها وهي أعلى درجات الثقة واالعتماد عليها إنما هي حين تتصل‬
‫‪.‬الذاكرة بحوادث شديدة الوضوح لم يمض عليها وقت طويل‬

‫ًيظهر أن هناك حاالت من االعتقاد الراسخ خ بذكرى باطلة تماما‬

‫من الراجح في مثل هذه الحاالت أن ما يعذكر حقيقة؛ أي ما‬

‫‪124‬‬

‫يكون ماثالً أمام العقل مباشرة؛ هو شيء يختلف عما يعتقد به اعتقادا قائما على الخطأ ً والفسادء وإن كان مقترنا به على العموم‪.‬‬
‫ويروى أن جورج الرابع اعتقد في النهاية بأنه حضر موقعة واترلوء لكثرة ما تحدث بذلك وأكده‪ .‬ولكن ما يتذكر مباشرة في هذه‬
‫الحالة إنما هو تأكيده المتكررء أما االعتقاد بما يؤكده (إن كان موجوداً) فيأتي من اقترانه بتأكيده وتقريره لذلك األمرء وهو لهذا‬
‫ليس مثال للذاكرة الخاصة‪ .‬ومن المرجح تفسير جميع حاالت الذاكرة المخطئة على هذا النحوء أي أنها ليست حاالت للذاكرة‬
‫‪.‬الخالصة‬

‫والحديث حول الذاكرة يكشف عن نقطة مهمة تتصل بكون الشيء واضحا ً بذاته» تلك هي أن للوضوح بالذات درجات‪ .‬فهو ليس‬
‫صفة تكون م وجودة أو ال تكون ولكته صفة موجودة أو تنقص فتأتي في تدرج يبتدئ من اليقين السام إلى أمر غامض ال يشعر به‪.‬‬
‫وحقائق اإلدراك الحسى وبعض مبادئ المنطق لها أعلى درجات الوضوح بالذات» وتكون مثل هذه الخطوة العالية من نصيب‬
‫حقائق الذاكرة مباشرة أيضاً‪ .‬أما مبدأ االستقراء فحظه من الوضوح بالذات أقل من بعض مبادئ المنطتقى األخرى مثل مبدأ «إن‬
‫كل ما يترتب على مقدمة صحيحة فهو صحيح» ويتناقص حظ ما يتذكر من الوضوح بالذات كلما اتصل بحوادث غامضة وأكثر‬
‫شحوياً» ويقل حظ حقائق المنطق والرياضيات» وبصورة واسعة ذات برهان ذاتي ناقص حينما تصبح أكثر تعقيداً‪ .‬أما المتعلقة‬
‫بالقيم األخالقية أو الجمالية الجوهرية فلها بعض الحظ‬

‫‪.‬من الوضوح بالذات» ولكنه حظ ليس بالكبير‬

‫‪125‬‬

‫وحيث أن الوضوح بالذات على درجات أمر مهم في نظرية المعرفة ألنه أمكن (كما يبدو مرجحا) أن يكون لألحكام حظ أو درجة‬
‫من الوضوح بالذات من دون أن تكون أحكاما صادقة؛ فليس من الضروري أن نغفل كل صلة بين الوضوح بالذات وبين الصدق»‬
‫بل أن نقول في حالة الشك والتردد كلما كان الحكم واضحا بذاته لزم االحتفاظ به» وكلما كان على حظ قليل من الوضوح بالذات‬
‫‪.‬لزم رفضه وإنكاره‬
‫بيد أنه من المرجح أن تكون هناك فكرتين تدخالن في الوضوح بالذات كما شرحنا ذلك من قبلء أوالهما تلك التي تقابل أعلى‬
‫درجات الوضوح بالذات؛ وهي ضمان معصوم من الخطأ لصدق الحكم ‪ 1‬أما الثانية فتلك التي تقابل الدرجات الدتيا وهي ليست‬
‫ضمانا قاطعا لصدق الحكم؛ بل لحظة من االحتمال‪ .‬وما ذكرناه إنما هو مجرد ظن نقترحه وال نستطيع اآلن أن نتوسع فيه»؛ ولكنا‬
‫‪.‬بعد أن نتتاول طبيعة الصدق سنعود إلى موضوع الوضوح بالذات بسبب صلته بالتمييز بين المعرفة والخطأ‬

‫‪126‬‬

‫إن معرفتنا بالحقائق ال تشبه معرفتنا باألشياء» فلها نقيض يسمى بالخطاء أما في ما يتعلتى باألشياء فيمكننا أن نعرفها أو ال‬
‫نعرقهاء ولكن ليس ثمة حالة إيجابية للعقل يمكن أن تسمى معرفة خاطئة باألشياء» طالما كنا على أية حال متحصرين فى المعرفة‬
‫العيانية‪ .‬كل ما نعرفه بالعيان ال بد أن يكون شيثا ً من األشياء» قلقد نستمد استنتاجات خاطئة من معرفتنا العيانية؛ ولكن المعرفة‬
‫العيانية ذاتها ال يمكن أن تكون خادعة‪ .‬ولهذا فإن هنالك ثنائية فى ما يتعلق بالمعرفة العيانية» أما ما يتعلتق بمعرفة الحقائق فهناك‬
‫معرفة ثنائية‪ .‬فقد نعتقد ما هو خاطئ مثلما نعتقد ما هو حقيقي‪ .‬ونحن نعلم أن اآلراء حول كثير من األمور تختلف باختالف‬
‫األشخاص» ومن ثم لزم أن تكون بعض هذه اآلراء غير متالئمة‪ .‬والناس يتمسكون بالصالت الباطلة مشل تمسكهم بالصالت‬
‫الصحيحة؛ ولذلك كان من الصعب تميز هذين النوعين من الصالت» فإذا سألتاء كيف يتهيا ً لنا أن تعرف أن ما نعتقده يكون‬
‫حقيقياً؛ فإنما نسأل سؤاالً على جانب كبير من الصعوبة ال يمكن اإلجابة عنه إجابة شافية‪ .‬غير أنه لديئا سؤاالً يصح أن يكون‬
‫تقدمة وتمهيداً لسؤالنا األول» والصعوبة قيه أقل من الصعوبة األولى وهذا السؤال هو‪ :‬ما الذي يمير بين الحقيقة والخطأً؟ وهذا‬
‫‪.‬السؤال هو محور بحثنا في هذا الفصل‬

‫‪127‬‬

‫إننا سوف ال نتساءل في هذا الفصل عن كيف يتهيا ً لنا أن تكون على علم بحقيقة معتقد أو كذبه؛ بل سنقتصر بحثنا على ما تعنيه‬
‫بقولنا إن معتقداً من المعتقدات هو حقيقي أو خاطئ؛ ولقد نأمل أن يكون في الجواب الواضح عن هذا السؤال عونا ً لنا في اإلجابة‬
‫عن السؤال فيما أي المعتقدات حق؟ ولكنا نسأل اآلن لما هى الحقيقة؟» و«ما هو الخطاً؟»؛ والنسأل «أي المعتقدات حقيقية»‬
‫و«أيهما خاطئة»‪ .‬ومن المهم جداً أن نفصل بين هذين السؤالين فصالً قاطعاً» ذلك ألن أي خلط بينهما ال بد أن يؤدي إلى جواب‬
‫‪.‬غير متطبيق على كليهما‬

‫هناك ثالثة أمور يجب مالحظتها فى محاولة الكشف عن طب يعة الحقيقة؛ وهذه األمور الثالثة ال بد أن تستوفيها أية نظرية في هذا‬
‫‪.‬الصدد‬

‫إذا أردنا أن نصوغ نظرية حول الحقيقة يجب أن تتكون بطريقة تنطوي عىل تقيل أن عكسها قد يكون خاطا ‪.‬وقد فشل )‪(1‬‬
‫تقتض أن يكون ُجماع تفكينا تفكيا صادقا صجيحا‬
‫ي‬ ‫كثي من الفالسفة يف مالحظة هذا الشط ‪:‬فأقاموا نظرياتهم بحيث ‪7‬‬
‫كيى يف أن يتناولوا الخطأ يف نظرياتهم ‪.‬وال بد أن تختلف نظريتنا ف هذا الصدد عن تظريتنا ف المعرفة‬
‫ووجدوا صعوية ر‬
‫‪.‬العيانية؛ ذلك أنه يف حالة المعرقة العيانية لم يكن من المحتم علينا أن تتناول عكسها‬

‫ويبدو أن من البي تقريبا أنه إذا لم يكن ثمة معتقدات فلن يكون هنالك وجه للخطا ‪.‬وأال تكون حقيقة أيضا يف المعن )‪(2‬‬

‫‪128‬‬

‫الذي فيه الحقيقة مشتركة بعالقة ما بالخطأ‪ .‬إذاً؛ فلن يكون مكان للخطأ فيه» بالرغم من أن مثل هذا العالم يحتوي على ما يمكن‬
‫أن يدعى «حقائق واقعية» فإنه ال يسكن أن يحتوي على أية حقيقة؛ بالمعنى الذي تكون فيه الحقائق من نوع األخطاء نفسها‪.‬‬
‫متكونا ً من مادة خام ال يمكن أن تنضوي على اعتقادات أو آراء ‪-‬‬
‫فالحقيقة والخطأ هما من صفات العقائد واآلراء» لذا فَإنَ عالما ً ْ‬
‫‪ ١‬من حيث المبدأ يمكن أن توصف بالحقيقة أو الخطاء وبالتالي عالم كهذا ال مجال فيه للحقيقة أو الخطأ‪.‬‬

‫شء ما يتجاوز المعتقد )‪(3‬‬


‫يالحظ خالفا لما قلناه آنفاء أن حقيقة المعتقد أو بطالنه أمر يعتمد دائما عىل ي‬ ‫ولكن يجب أن‬
‫شء خارج عنه تماما ‪. .‬فإذا كنت أعتقد أن تشارلز األول قد مات عىل المشنقة؛‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪ »٠‬فإن ما اعتقده يعد صادقا وال نفسه ي‬
‫يرجع ذلك إىل صفة خاصة بالمعتقد ذاته؛ يمكن الكشف عنها بتمحيصه وامتحانه »بل إىل حادثة تاريخية حدثت قبل قرني‬
‫ونصف قرن ‪.‬وإذا كنت أعتقد أن تشارلز األول مات عىل فراشه فإن ما اعتقده هو خاط؛ ومهما كان اعتقادي واضحا وكنت‬
‫الن‬
‫شديد االطمثان إل ليه كثي التحرز من الزلل فيه؛ فإن ذلك ال يمنع من كونه خاطا؛ ويعود هذا أيضا إىل تلك الحادثة ي‬
‫وقعت قبل قرني ونصف قرنء ال إىل صقة المعتقد ذاته ‪.‬ومن ثم فإن الحقيقة والخطأ ولو أنهما صفتان من صفات المعتقدات‬
‫‪.‬فهما تعتمدان عىل العالقات القائمة بي المعتقدات وأشياء أخرى»؛ ال عىل أي صفة من صفات المعتقدات نفسها‬

‫وثالث األمور يقودتا إلى أن تأخذ بالرأي القائل وهو على‬

‫‪129‬‬

‫العموم أكثر اآلراء في هذا الصدد شيوعا ً بين الفالسفة ‪ -‬بأن الحقيقة هي التطابق بين الطول والواقع‪ .‬على أنه ليس من السهل أن‬
‫نجد نوعا ً من المطابقة ال يمكن أن توجه إليه اعتراضات الاتدحض‪ .‬ولكن هذا من ناحية ‪ -‬ومن ناحية أخرى إن شعورنا إذا كانت‬
‫الحقيقة نَحة تتضمن ثقابالً بين الفكر وشيء خارج الفكرة فإن الفكر ال يمكن أن يعرف أبداً معرفة من حيث متى يتم الوصول إلى‬
‫الحقيقة فإن كثيراً من الفالسفة انصرفوا إلى محاولة إيجاد تعريف للحقيقة ال يقوم على عالقة بين المعتقد وشيء خارج عنه‪. .‬‬
‫وأهم محاولة لمثل هذا التعريف هي النظرية القائلة بأن الحقيقة تتألف من الترابط‪ .‬فالعالمة الفارقة للخطأ تبعا ً لهذه النظرية هي‬
‫قصور المعتقد الخاطئ عن أن يلتثم مع مجموعة المعتقدات التي يعيها العقل؛ وأن من طبيعة ما هو حقيقي أن يؤلف جزءاً من‬
‫‪.‬المنظومة الكاملة التي هي الحقيقة أو الحتق بجملته‬

‫على أن هناك صعوبة كبيرة أو» باألحرى» صعوبتين تعترضان هذه النظرية‪ .‬أوالهما أنه ليس من سبب ألن نفرض أنه ليس في‬
‫اإلمكان وجود أكثر من مجموعة واحدة من المعتقدات‪ .‬فلقد يوفق قصصي على حظ من الخيال ألن يرسم صورة مبتكرة لماضي‬
‫العالم تلتثم تماما ً مع ما نعرفه عنه؛ ولكنها مع ذلك تختلف تماما ً عن الماضي الحقيقي كما وقع بالفعل‪ .‬وكثيراً ما نجد تفسيراً‬
‫للحقائق ق المروفة عن بض المواضيع» وضع أن رجال العلم في كثير من الحاالت يسعون ليجدوا حقائق من شأنها أن تحذف‬
‫‪ً.‬كل الفرضيات ما عدا واحدة منهاء فليس هناك سبب يدعوهم إلى أن يؤدي ذلك بهم إلى النجاح دائما‬

‫‪130‬‬

‫من المعروف أنه في الفلسفة يوجد فرضان مختلفان كالهما يفسر جميع أنواع الواقع أيضاً‪ .‬فمن الممكن مثالً أن الحياة ليست إال‬
‫حلما ً طويالً وأن ما للعالم الخارجي من حظ ‪٠‬ن الحفيقة ال يزيد على حظ مواد الحلم وموضوعاته منهاء ولكن بالرغم من أن هذا‬
‫الرأي ال يبدو أنه يناقض الواقع المعروف» فليس من سبب ألن نفضله على نظرة الفطرة السليمة القائلة بأن الناس اآلخرين‬
‫واألشياء في العالم موجودة في الحقيقة‪ .‬وعلى هذه الصورة يكون تعريف الحقيقة بأنها تتألف من االرتباط بين المعتقدات» تعريف‬
‫‪.‬فيه نقص وقصور ألنه ليس هناك من برهان قاطع بوجود منظومة ملتئمة واحدة من المعتقدات فقط‬

‫واالعتراض الثانى فى هذا التعريف للحقيقة أنه يفتقرض أن معنى «الترابط» معروف بينما يفترض أن «الترابط» في الحقيقة‬
‫من قوانين المنطق‪ .‬فإن حكمين من األحكام يكون أحدهما ملتئما ً مع اآلخر إذا كان كالهما صحيحا ً وصادقاً» أما إذا كان أحدهما‬
‫على األقل خاطا ً فإنهما غير ملكمين‪ .‬ولكنا لكيما نعرف هل هذان الحكمان صحيحان صادقان معاً؟ ال بد لنا أن نعرف بعض حقائق‬
‫مثل قانون التناقض‪ .‬فإن الحكمين «هذه الشجرة شجرة زان» واهذه الشجرة ليست بشجرة زان» مثالً حكمان غير ملثمين» وذلك‬
‫بسبب قانون التناقض‪ .‬ولكنا إذا أخضعنا قانون التناقض نفسه لمعيار االلتثام فإننا نجدء إذا شئنا أن نفرض أنه قانون خاطئ؛ أنه‬
‫ال يمكن أن يلتثم أي ح كم مع حكم آخر‪ .‬ويهذا الشكل تزودنا قوانين المنطق بالهيكل أو اإلطار الذي يمكن تطبيق معيار التماسك‬
‫‪.‬ضمن نطاقه؛ ولكن هذه القوانين ال يمكن أن تثبيت صحتها بذلك المعيار‬

‫‪131‬‬

‫وللسببين السابقين ال يمكن قبول التماسك باعتبار أنه يهدي إلى معنى الحقيقة بالرغم من أنه كثيراً ما يكون أهم معيار تقاس به‬
‫‪.‬الحقيقة وذلك بعد الوصول إلى معرفة حد معين من الحقائق‬

‫ولذا فنحن نعود إلى اتخاذ التقابل مع الواقعة باعتبار أنها العنصر الذي يؤلف طبيعة الحقيقة‪ .‬ويبقى علينا بعد ذلك أن نحدد بدقة‬
‫‪ً.‬ما نعنيه بكلمة «حقيقة واقعة» وما هي طبيعة المطابقة التي يجب أن تقوم بين المعتقد والواقع لكيما يكون ذلك المعتقد صادقا‬

‫وفقا ً للمقتضيات الثالثة السالفة يلزمنا أن نبحث عن الحقيقة بحيث (‪ )1‬تسمح أن تجوز الحقيقة على أمر مضاد لها أي الخطأ‪)2( .‬‬
‫‪.‬أن الحقيقة صفة من صفات العقائد‪ )3( .‬ولكنها صفة ترتبط كلتيها بالعالقة بين المعتقدات واألشياء الخارجية‬
‫والضرورة التي تقتضي وجود الخطأ تجعل من المستحيل أن نعد المعتقد بأنه يتألف من عالقة العقل بموضوع واحد بمفردة»‬
‫يمكن أن يقال عنه‪ .‬ولذا فإن اعتقاده ال يمكن أن يتضمن أي عالقة بهذا الشكل «ديدمونا تحب كاسيو» موجود‪ .‬ولذلك يحسن بنا‬
‫‪.‬أن نبحث عن نظرية للمعتقدات ال تجعل الواحد منها يتألف من عالقة العقل بموضوع واحد‬

‫ومن المألوف التفكير بأن الصالت ال تقوم إال بين طرفين ولكن الواقع ليس دائما مطابق‪ .‬فبعض العالقات تستدعي ثاللة حدود‬
‫وبعضها أربعة أو أكثر وهكذا‪ .‬خذ مثالً لذلك العالقة «بين» فإن هذه العالقة مستحيل أن تقوم ما دام هناك حدان فقط» وأقل ما‬
‫تستدعيه هذه الصلة هو ثالثة حدود‪ .‬فتقول يورك بين‬

‫‪132‬‬

‫لندن وادنبرة» ولو كانت لندن وادتبرة المكانان الوحيدان في العالم» لما كان هناك مكان بينهما‪ .‬وبالمثل تتطلب الغيرة ثالثة‬
‫أشخاص» فليس هنالك حالة من حاالت الغيرة ال يدخل فيها ثالثة على األقل‪ .‬والقول بأن «أ» يرغبً في أن يعمل ب على تهيئة‬
‫زواج ث من د» قول يتضمن عالقة بين أربعة حدود» أي أن األشخاص األربعة أ؛ ب» ثء د كلهم تربطهم تلك العالقة التي ال‬
‫يمكن التعبير عنهاء » إال بذكرهم جميعاً‪ .‬ويمكن أن نورد أمثل ة لذلك بال حد ولكنا ذكرنا ما فيه الكقاية ليتضح أن هناك صالت‬
‫‪.‬تتطلب أكثر من حدين قبل إمكان قيامها‬

‫إن العالقة المنطوية في الحكم واالعتقاد يجب أن ‪ 5‬تعتبر عالقة‬

‫بين أطراف متعددة ال بين طرقين؛ هذا إذا أحذنا الخطا بحي االعتبار‪ .‬وحينما يعتقد عطيل بأن ديدمونا تحب كاسيوء فال يجب‬
‫يجب أن يضع نصب عينيه شيئا ً فريداً مثل «حب ديدمونا لكاسيو» أو «ديدمونا تحب كاسيو»؛ فلو كان األمر كذلك القتضى الحال‬
‫وجود مزاعم موضوعية» يمكن أن توجد مستقلة عن العقول المفكرة وهذا الرأي علينا أن نتجنبه كليا ً بالرغم من أنه ال يمكن‬
‫دحضه منطقياً‪ .‬وعلى هذا يكون أيسر علينا أن نفسح المجال للخطا ً إذا ما أخذتا أن الحكم عالقة يشترك فيها العقل والموضوعات‬
‫المتعددة التي هي موضع االعتقادات جميعاء ويعنى هذا أن ديدمونا والحب وكاسيو ال بد أن تكون جميعها حدوداً للعالقة التي‬
‫تقوم حين يعتقد عطيل أن ديدمونا تحب كاسيو‪ .‬فهذه العالقة إذن عالقة ذات أربيعة حدود ألن عطيل نفسه حد في هذه العالقة‬
‫أيضاً‪ .‬أما إذا قلنا إنها عالقة من أربعة‬

‫‪133‬‬

‫حدود قإننا ال نقصد بذلك أن ل«عطيل» عالفة معينة بديدمونا وأن له هذه العالقة نفسها بالحب وبكاسيو أيضاً‪ .‬وإذا كان هذا‬
‫يصدق على عالقات غير عالقة االعتقاد فإن االعتقاد كما هو ظاهر ليس عالقة بين عطيل وبين أي واحد من الحدود الثالثة التي‬
‫هي موضع االعتقاد» ولكنها عالقة تقوم بينه وبيتها كلها مجموعة وليس هناك إال حالة واحدة متضمنة لعالقة االعتقادء على أن‬
‫هذه الحالة تجمع الحدود األربحعة معا ً وتربطها بنسيج واحد‪ .‬فما يحدث في الواقع حين يذهب بمعتقده هو أن العالقة التي تسميها‬
‫«االعتقاد» تجمع في منظومة معقدة واحدة الحدود األريعة‪ :‬عطيل وديدمونا والحب وكاسيو‪ .‬وما يقال له المعتقد أو الحكم ما هو‬
‫إال هذه العالقة‪ .‬أي صلة االعتقاد أو الحكم التي تربط بين الذهن وبين عدة أشياء أخرى خارجة عنه‪ .‬ولهذا فإن أي فعل من نوع‬
‫‪.‬االعتقاد أو الحكم يعني القيام به حصول صلة االعتقاد أو الحكم بين حدود معينة في وقت ما‬

‫إننا في ذلك أصبحنا في موقف نستطيع فيه أن نفهم ما الذي يميز بين حكم حقيقي وحكم خاطئ‪ .‬ويقتضي الحال أن نتخذ بعض‬
‫التعريفات لهذا الغرض‪ .‬ففي كل فعل من أفعال الحكم يوجد عقل يحكم وحدود يدور حكمه حولها‪ .‬وهو ما ستدعوه العقل الذات‬
‫في هذا الحكمء؛ أما األبعاد األخرى قنسمها الموضوعات‪ .‬فحين يحكم عطيل بأن ديدمونا تحب كاسيو فعطيل هو الذات بينما تكون‬
‫الموضوعات ديدمونا والحب وكاسيو‪ .‬ويطلق على الذات والموضوعات جميعا ً تعبير عناصر الحكم‪ .‬وقد يالحظ أن لعالقة الحكم‬
‫اتجاها ً معينا ً ولعلنا أن نقول‬

‫‪134‬‬

‫على سبيل المجاز أن هذه العالقة تضفى على الموضوعات «نظاماً» أو «ترتيبا ً معينا»؛ قد يظهر في ترتيب الكلمات في الجملة‪.‬‬
‫(ويبدو هذا في تصريف الكلمات في ال لغات التي تسير على التصريف وتغيير الكلمات من حالة ألخرى» كما هو الحال في الفرق‬
‫بين الفاعل والمفعول به)‪ .‬فحكم عطيل أن كاسيو يحب ديدمونا يختلف عن حكمه أن ديدمونا تحب كاسيو بالرغم من أن مقومات‬
‫الحكم في الحالتين واحدة؛ ألن عالقة الحكم تضع المقومات في ترتيب يخت لف في الحالة األولى عنه في الحالة الثانية‪ .‬وبالمقابل‬
‫إذا حكم كاسيو أن ديدموننا تحب عطيل» فالمقومات هي واحدة هنا أيضا ولكن الترتيب مختلف‪ .‬وهذه الميزة التي تذهب في أن‬
‫يكون للعالقة اتجاه معين ميزة تشارك فيها عالقة االعتقاد سائر العالقات األخرى‪ .‬و«اتجاه» العالقات هو المصدر األساسي لما‬
‫يبدو في التسلسل الرياضي وكثير غيره من التصورات الرياضية من نظام» وهذه ناحية ال يتطلب بحثها أكثر مما ذكرناه‪ .‬وحين‬
‫تناولنا عالقة «الحكم» أو «االعتقاد» وقلنا إنها عالقة تجمع الذات والموضوعات معا في منظومة معقدة واحدة» فإن هذا هو‬
‫الشأن تماما ً في سائر العالقات األخرىء فحيثما تقوم عالقة بين حدين أو أكثر فإنها توجد بين الحدود في منظومة معقدة واحدة»‬
‫فإذا كان عطيل يحب ديدمونا فهذه المنظومة المعقدة هي «حب عطيل لديدمونا» وقد تكون معقدة وحيثما كانت هناك عالقة تربط‬
‫بين حدود معينة فال بد أن يكون هناك موضوع معقد مؤلف من اتحاد هذه الحدود واجتماعها معاً‪ .‬ويصدق العكس أيضاء فكلما‬
‫كان هناك موضوع معقد فهناك‬

‫‪135‬‬

‫صلة تربط بين مقوماته» وحين يحصل فعل االعتقاد فهناك منظومة معقدة يكون فيها «االعتقاد» العالقة الموحدة بين الحدود‬
‫والجامعة بينهاء ويتم ترتيب «الذات» والموضوعات على حسب ترتيب معين وفقا ً لالتجاه الذي تتخذه صلة االعتقاد» وال بد أن‬
‫يكون من بين الموضوعات صلة مآ وذلك كما وجدنا في تدبر الحكم «عطيل يعتقد أن ديدمونا تحب كاسيو» والصلة في هذه الحالة‬
‫هي «الحب»‪ .‬ولكن هذه الصلة كما تظهر في عملية االعتقاد ليست هي الصلة التى تنشأ ببببها الوحدة التى تتجلى فى المنظومة‬
‫المعقدة من الذات الفاعلة والموضوعات؛ ولكنهاء أي صلة الحب؛ كما تظهر في عملية االعتقاد؛ هي أحد الموضوعات» فهي لبئة‬
‫في البنيان التام وليست المالط الذي يربط األحجار المختلفة في ذلك البنيان‪ .‬أما المالط فهو صلة «االعتقاد»» وحين يكون المعتقد‬
‫حقيقياً» فإن هناك وحدة مركبة أخرى تؤلف بين الموضوعات فيها تلك الصلة التي كانت أحد موضوعات االعتقاد وهي هذه‬
‫الصورة‪ .‬إذا كان عطيل يعتقد اعتقاداً حقيقيا ً أن ديدمونا تحب كاسيو» فإن هناك حينئذ وحدة معقدة هي حب ديدمونا لكاسيو مؤلفة‬
‫من موضوعات االعتقاد فقطء وهذه الموضوعات تأتى فى هذه الوحدة بنفس الترتيب الذي ظهرت به فى المعتقد؛ أما الصلة التى‬
‫كانت أحد الموضوعات فهى هنا المالط الذي يربط بين موضوعات المعتقد األخرى‪ .‬أما من التاحية األخرى حين يكون المعتقد‬
‫خاططا ً فليس هناك وحدة معقدة مؤلفة من موضوعات المعتقد» فإذا اعتقد عطيل اعتقاداً خاطئا ً أن ديدمونا تحب كاسيو فليس هناك‬
‫‪».‬وحدة معقدة كاحب ديدمونا لكاسيو‬

‫‪136‬‬

‫وعلى ذلك يكون المعتقد حقيقيا ً حين يطابق منظومة معقدة مرتبطة» وخاطا ً حين تعوزه هذه المطابقة‪ .‬فإذا قرضنا لغرض الوضوح‬
‫والدقة أن م وضوعات االعتقاد التي تتألف منها المنظومة حدان وعالقة وأن الحدي ين يأتيان في ترتيب معين يقرره «االتجاه؟‬
‫الذي يتخذه االعتقاد» فالمعتقد حينشذ حقيقي إذا تم توحيد الحدين على ذلك الترتيب بتلك العالقة وانتظامها بواسطتها فى منظومة‬
‫معقدة معينة» أما إذا لم يتم ذلك ف المعتقد خاطئ‪ .‬وهذا هو ما يؤلف ما نسعى إليه من تعريف الحقيقة والخطاء فالحكم أو االعتقاد‬
‫منظومة ذات وحدة معقدة معينة يكون العقل جزءاً منهاء وإذا تألف من األجزاء األخرى حين تؤخذ بالترتيب نفسه الذي أتت به‬
‫‪.‬في المعتقد منظومة أخرى ذات وحدة معقدة فالمعتقد حيتئذ حقيقي» وإال فهو خاطئ‬

‫ورغم هذا وذاك فإن الحقيقة والخطأ خاصيتان من خصائص المعتقدات إال أنهما على معنى ما خاصيتان تفرضان من الخارجء‬
‫ذلك ألن شرط حقيقة المعتقد شرط ال يتضمن المعتقدات أو أي عقل من العقول (فى اإلجمال)» بل موضوعات المعتقد فقط‪ .‬فالعقل‬
‫الذي يحكم ويعتقدء يعتقد اعتقاداً حقيقيا ً حين تكون هناك منظومة مطابقة للمعتقد ال تتضمن العقل بل موضوعات فقط‪ .‬فهذه‬
‫المطابقة هي التي يقوم عليها حقيقة المعتقد؛ ويعني انعدامها بطالن ذلك المعتقد‪ .‬ومن ثم يمكننا أن نفسر في وقت واحد الحقيقتين‬
‫‪.‬االثنتين وهما (أ) تستمد المعتقدات وجودها من العقل (ب) على أنها ال تعتمد عليه في حقيقتها‬

‫‪137‬‬

‫ًيمكننا اآلن أن نصيغ نظريتنا بالصورة اآلتية‪ :‬إذا أخذنا معتقدا‬

‫مثل «عطيل يعتقد أن ديدمونا تحب كاسيو» فإنا نطلق على ديدمونا وكاسيو الحدين اللذين هما موضوعان من موضوعات المعتقد‬
‫ونسمي الحب العالقة؛ وهي أيضا ً موضوع من موضوعات المعتقد‪ .‬فإذا كان هناك منظومة ذات وحدة معقدة ك «حب ديدمونا‬
‫لكاسيو» مؤلفة من الحدين الموضوعين قد ربطت بينهما العالقة التي هي الموضوع الثالث بنفس الترتيب الذي أتيا به في المعتقد»‬
‫فهذه المنظومة ذات الوحدة المعقدة تدعى إذن الواقعة المطا بقة للمعتقد‪ .‬وعلى هذا فالمعتقد حقيقي إذا كانت هناك واقعة مطابقة له‬
‫‪.‬وخاطئ إذا لم تكن هناك واقعة مطابقة له‬
‫ويبدو أن العقول ال تخلق الحقيقة أو الخطاء بل هى تخلق المعتقدات‪ .‬ولكن متى خلقت هذه المعتقدات يكون العقل عاجزاً عن أن‬
‫يجعلها حقيقية أو خاطئة» باستثناء تلك الحالة الخاصة التي تتصل هذه المعتقدات بأمور في المستقبل يكون في طاقة المرء أن‬
‫يقوم بهاء مثل اللحاق بالقطار وركويه في الوقت المعين» وما يجعل المعتقد حقيقيا إنما هو واقعة» وهذه الواقعة (باستثناء حاالت‬
‫‪.‬خاصة) ال تتضمن بأية صورة عقل المرء الذي يؤمن بذلك المعتقد‬

‫وبما أننا حددنا ما المقصود بالحقيقة والخطاء علينا أن نعير االنتباه إلى الطرق التي تعلم بها أحقيقي هذا المعتقد أو ذاك أم خاطئ؟‬
‫‪.‬وهذا ما سيدور عليه بحثنا في الفصل القادم‬

‫‪138‬‬

‫إن القضية التي تبحث عن معنى الحقيقة والخطأ والتي نظرنا إليها في الف صل السابق هي أقل أهمية بكثير من القضية التي نستطيع‬
‫بواسطتها أن نعرف ما هو حقيقي وما هو خاطئ‪ .‬وستشغلنا هذه القضية بالفصل الحالي‪ .‬وال شك أن بعض معتقداتنا خاطئة» ولذا‬
‫فنحن مضطرون إلى البحث عن اليقين الذي يمكن أن تصل إليه» وبأن هذا وذاك من المعتقدات ليس خاططا ً‪ .‬وبعبارة أخرى هل‬
‫نستطيع أن نعرف أي شيء أبداًء أو نحن نعتقد فقط بمجرد حسن الحظ أحيانا ً بأنه حقيقى؟ وقبل معالجة هذه القضية يجب علينا‬
‫‪.‬مع ذلك أن تقرر ما نعنيه «بالمعرفة»» وهذه القضية ليست من السهولة كما يظن‬

‫ألول وهلة يمكننا أن نتصور بأن المعرفة قد تعرف على أنها «عقيدة حقيقية»‪ .‬وإذا كان ما نعتقد فيه حقيقياً» فقد يظن بأننا قد‬
‫أنجزنا معرفة ما نؤمن به» ولكن هذا ال يتفق والطريقة التى تستعمل بها الكلمة عادة‪ .‬لتضرب مثالً بسيطا ً لذلك‪ :‬إذا كان شخص‬
‫يعتقد أن اسم رئيس الوزراء السابق يبدأ بحرف ب» فإن معتقده صادق» ذلك آلن رئيس الوزراء السابق هو السير هنري كامبل‬
‫بانيرمان”*‪ .‬ولكنه إذا اعتقد أن رئيس الوزراء السابق هو‬

‫‪ .‬يعني رسل بذلك القترة التي كتب بها هذا الكتاب والذي صدر عام ‪(«) 1912‬‬

‫‪139‬‬

‫المستر بلفور» فهو ال يزال يعتقد أن اسم رئيس الوزراء السابق يبدأ بحرف ب‪ .‬ولكن معتقده وإن كان صادقا ً ال يمكن أن يقال‬
‫عنه إنه يؤلف معرفة‪ .‬وإذا استطاعت جريدة يومية أن تسبق الحوادث فتعلن نهاية معركة من المعارك قبل أن تصل أية برقية‬
‫تكشف عن هذه النهاية حقيقة» فقد يكون ما نشرته بمبحض الصدفة هو النهاية الصحيحة» وبذلك تحمل قراءها من غير المجربين‬
‫على اال عتقاد بصحة ما تقول‪ .‬على أنه بالرغم من صدق معتقدهم» فإنهم ال يمكن أن يقال لهم إنهم بذلك قد بلغوا المعرفة‪ .‬ويتضح‬
‫‪.‬من ذلك أن الرأي الحقيقي حين يستنبط من رأي خاطئ ال يعتبر معرفة‬

‫وفى المقابل» ال يمكن أن يسمى معرفة المعتقد الصادق إذا كان قد استنبط باستدالل خاطىة» ولو كانت المقدمات التى استنتج منها‬
‫حقيقية‪ .‬قإذا كنت أعلم أن كل اإلغريقيين بشرء وأن سقراط إنسان» ثم استتتجت من هاتين المقدمتين أن سقراط كان إغريقياً» فال‬
‫يمكن القول إنى أعرف أن سقراط كان إغريقياً» ألنه بالرغم من أن المقدمتين صحيحتان والتيجة صحيحة» فهذه النتيجة ال تترتب‬
‫‪.‬على هاتين المقدمتين‬

‫أيحق لنا القول أن ما يسمى معرفة هو ما استنبط باستدالل واقعي من مقدمات حقيقية؟ ظاهر القول أنه ال يمكن ذلك فهذا وصف‬
‫واسع من ناحية وضيق من طرف آخرء إنه في البدء واسع ألنه ال يكفى أن تكون المداخل صحيحة» بل أن تكون معروفة أيضاً‪.‬‬
‫فالشخص الذي أعتقد أن المستر بلفور كان رئيس الوزراء السابق قد يتصرف إلى أن يستخلص استنتاجات واقعية من‬

‫‪140‬‬

‫المقدمة الواقعية القائلة بأن اسم رئيس الوزراء السابق بيدأ بحرب ب ولكنه ال يمكن أن يقال عنه إنه يعرف النتائج التي يصل إليها‬
‫بذلك القياس» وهكذا يكون علينا أن نصحح تعريفتا» ويمكن أن نقول بأن المعرفة هي ما استنتج نتج باستدالل حقيقي من مقدمات‬
‫معروفة‪ . .‬على أن هذا تعريف يدور في دائرة مفرغة؛ فهو يفرض أننا نعرف مقدما المقصود د «بالمداخل المعروفة»‪ .‬وال يفيدنا‬
‫باستدالل ‪ ٠‬إال في تعريف المعرفة المكتسبة خالفا ً لل معرفة الحدسية‪ .‬وعلى هذا نقول إن «المعرفة المشتقة هي ما استنبطناه‬
‫صحيح من مقدمات معروفة بصورة حدسية»‪ .‬وال يتضمن هذا التعريف أي نقص شكلي»؛ ولكنه يدع تعريف المعرفة الحدسية‬
‫‪.‬أمراً غير مقطوع به ويحثنا على البحث عنه‬

‫وهنا ندع مسألة المعرفة الحدسية جانبا ً لتأمل في التعريف السابق للمعرفة المشتقة‪ .‬أن أول اعتراض يمكن أن يوجه فى ذلك هو‬
‫أن يضيق المعرفة ويحددها أكثر مما ينبغى‪ .‬فكثيراً ما يحدث أن يؤمن الناس بمعتقد حقيقي نشأ فيهم بسبب معرفة حدسية لهم‪.‬‬
‫وفي حين يكون المعتقد الحقيقي قابل لالستنتاج باستدالل صحيح من تلك المعرفة الحدسية على أن من يعتقدون به لم يختطوا في‬
‫‪.‬استنباطه واقعيا ً أية عملية منطقية‬

‫لهذا سنورد مثالً بما تؤول إليه القراءة من معتقدات في عقلية القارئ» وذلك إذا افترضنا أن الصحف أعلنت موت الملك‪ .‬ففى ذلك‬
‫تكون على شىء من الحق فى االعتقاد بأن الملك قد ماتء ألن مثل هذا الخبر ال يمكن نشره إذا كان خاطاً‪ .‬ونحن على حق في‬
‫االعتقاد بأن الصحف تؤكد موت الملك؛ ولكن‬

‫‪141‬‬

‫المعرفة الحدسية التي يقوم عليها معتقدنا هنا هي في المعرفة بوجود حقائق حسية مستمدة من النظر إلى العبارات المطبوعة التي‬
‫جاء بها الخبر‪ .‬ومن النادر أ ن تظهر هذه المعرفة في مجال الشعور إال باستثناء شخص ال يحسن القراءة‪ .‬فقد يعتي الطفل المبتدئ‬
‫بتعلم القراءة أشكال الحروف وينتقل رويداً رويداً وبشىء من العناء إلى تبين معانيها» على أن الشخص الذي اعتاد القراءة وأتقنها‬
‫يتقل فى الحال إلى ما تعنيه الحروف وال يعى هذا المعرفة التى حصل عليها إنما استمدها من الحقائق الحسية اللتى تأتي من النظر‬
‫إلى الحروف المطبوعة» إال حين يتأمل في ذلك عن دراية‪ .‬هذاء وفي حين يكون االستتتاج الصحيح لمعاني الحروف من النظر‬
‫إليها أمر ممكن» ويستطيع الشخص أن يقوم به؛ إال أنه ال يقوم في الواقع في هذا الصدد بأية عملية يمكن أن تسمى استتاجا ً منطقياً‪.‬‬
‫‪.‬ومع ذلك فإن من الهرطقة القول إن القارئ ال يعلم أن الصحف قد أعلنت وفاة الملك‬

‫وفى ذلك ال بد من التأكيد أن ما جاء نتيجة لمعرفة حدسية معروفة مشتقة حتى إذا كانت تلك التيجة قائمة على محض التداعى‬
‫شريطة أن تكو ن هناك صلة منطقية صحيحة» وأن يكون الشخص المعتقد بإمكانه أن يعي هذه الصلة لدى التأمل فيها‪ .‬وهناك في‬
‫الواقع عدة سبل بجانب االستتتاج المنطقي يستطيع أن ينتقل بها المرء من معتقد إلى آخرء واالنتقال من العيارات المكتوبة في‬
‫القراءة تصور هذه الطرق‪ .‬وهو ما يمكن أن ن سميه «االستنتاج النفسي»» وسنعتبره إذن وسيلة للوصول إلى المعرفة المشتقة‬
‫على شريطة أن يكون هناك استتاج منطقي قابل ألن‬

‫‪142‬‬

‫يكشف عنه يوازي االستنتاج النفسي‪ .‬وبذلك يصبح تعريفنا للمعرفة المشتقة تعريفا ً أقل دقة مما ترغب فيه » ألن جملة دقابل ألن‬
‫يكشف عنه» جملة غ امضة ال نستطيع أن نعرف منها مدى ما نحتاج إليه من تأمل لنصل إلى ذلك الكشف‪ .‬لكن تصور المعرفة‬
‫في الواقع ليس بالتصور الدقيق» ألنها تتحد مع الرأي الراجح وتتلبس به كما سيمر بنا بصورة واقية في هذا الفصل‪ .‬لهذا وذاك‬
‫‪.‬علينا أن نكف عن تعريف دقيق ألن ذلك يقودنا إلى الزيغ‬

‫على أن الصعوية الكبرى في ما يتعلق بالمعرفة ال تترتب على المعرفة المشتقة وإنما حول المعرفة الحدسية‪ .‬فإذا ما تناولنا المعرفة‬
‫المشتقة فإن بين أيدينا معياراً عن المعرفة الحدسية نستخدمه ونعود إليه‪ .‬أما فيما يخص المعتقدات الحدسية فليس من اليسير قطعا ً‬
‫أن نجد أي معيار يمكن أن نميز به ما هو حقيقي وما هو خاطئ منهاء ومن الصعوبة الوصول في هذه القضية إلى أية نتيجة دقيقة؛‬
‫فكل معرفتنا بالحقائق مشوبة بشيء من الشك وأية نظرية ال تأخذ بذلك هي نظرية يتلبسها الخطاء بيد أننا نجهد للتهوين من‬
‫‪.‬الصعوبات التي تقف عقبة حيال ذلك‬

‫ل قد زودتنا نظريتنا عن الحقيقة بادئ ذي بدء إمكان تمييز بعض الحقائق باعتبارها واضحة بذاتها بالمعنى الذي يضمن أن تكون‬
‫معصومة من الخطاء وقد ذهبنا فى القول إنه إذا كان المعتقد حقيقيا ً فإن له واقعة تطابقه تؤلف موضوعات الرأي المعتقد فيه‬
‫منظومة معقدة واحدة‪ .‬ويقال عن الرأي أنه هو المعرفة بهذه الواقعة» شريطة أن يستكمل الشروط الغامضة نوعا ً ما تلك التى‬
‫بحثناها في هذا الفصل‪ .‬ولكنا قد نصل أيضا ً في ما يتعلق بأية واقعة‬

‫‪143‬‬

‫إلى ذلك النوع من المعرفة الذي يتألف من اإلدراك الخسي (حين نتناول هذه الكلمة بأوسع معانيها) إلى جانب المعرفة التي يتألف‬
‫منها الرأي‪ .‬فأنت إذا علمت مثالً بساعة غروب الشمس تمكنت أن تعرف في تلك الساعة واقعة أن الشمس تغرب؛ وهذا نوع من‬
‫معرفة الحقائقء ولكنك تستطيع أيضا ً إذا كان الجو صحواً أن تنظر إلى الغروب وتبصر الشمس الغاربة في الواقع فيتعين حيتئذ‬
‫‪.‬بالواقعة نفسها عن طريق المعرفة باألشياء‬

‫‪:‬ولمعرفة الناحية النظرية فيما يخص أية واقعة مركبة طريقان‬

‫‪.‬عن طريق حكم نقرر به أن أجزاءها المختلفة متصل بعضها ببعض كاتصالها ف يف الواقع )‪(1‬‬

‫عن طريق المعرفة العيانية بالواقعة المعقدة نفسهاء تلك المعرفة العيانية التي يمكن أن تدعى (بمعنى شامل) إدراكا ً حسيا ً حتى )(‬
‫إذا لم يكن مقصوراً على موضوعات الحس» كما يالحظ أن الطريق الثانى للمعرفة بواقعة معقدة عن طريق المعرفة العيانية ال‬
‫يكون ممكنا ً إال إذا كان هناك شيء من هذه الواقعة في الواقع؛ بينما النوع األول من المعرفة شأنه شأن كل حكم معرض للخطأ‪.‬‬
‫ويؤدي بنا النوع الثاني إلى المعرفة بالمنظومة المغقدة بجملتهاء وهو لذلك ليس ممكنا ً إال إذا كان بين أجزاء المنظومة في الواقع‬
‫تلك العالقة التي تجعلها تؤلف مثل تلك المنظومة‪ .‬أما ارج األول فعلى العكس يهدينا إلى األجزاء وإلى العالقة منتفصلة عن‬
‫األجزاء» وال يستدعي إال حقيقة وجود األجزاء وحقيقة وجود العالقة» وقد ال تربط العالقة األجزاء بنفس الكيفية التي تربط في‬
‫‪.‬الواقع» ومع ذلك فالحكم حاصل الوقوع‬

‫‪144‬‬

‫وقد سبق لنا القول في نهاية الفصل الحادي عشر إنه ريما كان هتاك نوعان من الوضوح بالذات يؤدي األول إلى ضمان مطلق‬
‫‪.‬بصدق المعرفة وال يؤدي الثاني إال إلى ضمان جزشي‪ .‬ولنا اآلن أن نميز هذين النوعين‬

‫بعض األحيان نصف الحقيقة بأنها واضحة بذاتها بالمعنى المطلق األول حينما نكون على معرفة عيانية بالحالة الذي تدل على‬
‫الحقيقة؛ أعني التطابق بين القول والواقع‪ .‬فعطيل حين يعتقد أن ديدمونا تحب كاسيو فالحادثة التى تطابق الحقيقة هى حين يكون‬
‫معتقده صادقا ً «حب ديدمونا لكاسيو»‪ .‬وتلك حادثة ال يمكن ألحد أن يكون على معرفة عيانية بها إال ديدموناء ومن ثمة فحقيقة أن‬
‫ديدمونا تحب كاسيو (إذا كانت حقيقة) ال يمكن أن تكون بذاتها واضحة إال لديدموناء» ولكل الحقائق الذهنية المتعلقة بالحقائق‬
‫الحسية مثل هذه الخصوصية» فهناك شخص واحد فقط يمكن أن تكون له هذه األمور واضحة بذاتها بالمعنى الذي هو موضوع‬
‫بحثنا اآلن‪ .‬ذلك ألن هناك شخصا ً واحداً يستطيع أن يكون على معرفة عيانية باألمور الذهنية أو الحقائق الحسية المخصوصة‪.‬‬
‫وإذن فليس من واقعة عن وجود خاص يمكن أن تكون واضحة بذاتها ألكثر من شخص واحد‪ .‬وليس للواقع حول الكليات» من‬
‫الناحية الثانية مثل هذا الخصوص‪ .‬فقد تعرف عقول كثيرة كليات واحدة معرفة مباشرةء ولذلك فالعالقة بين هذه الكليات قد تكون‬
‫معروفة من قبل أناس مختلفين معرفة عيانية ومن جميع الحاالت التي نعلم فيها عن طريق المعرفة العيانية بواقعة مركبة من‬
‫حدود معينة مرتبطة بعالقة معينة» فإننا‬

‫‪145‬‬
‫نقول إن حقيقة هذه الحدود مرتبطة فيما بينها بتلك العالقة حقيقة مطلقة واضحة بذاتها والحكم بأن هذه الحدود مرتبطة بتلك الكيفية‬
‫‪.‬في جميع الحاالت حكم ال بد أن يكون صادقاً‪ .‬وهذا الوضوح بالذات ضمان مطل لحقيقة الحكم‬

‫إال أنه بالرغم من أن الوضوح بالذات ضمان مطلق لصدق الحكم» على أنه ال نستطيع في حالة أي حكم معين من أن نكون على‬
‫يقين تام بأن هذا الحكم حكم حقيقي‪ .‬دعنا بادئ ذي بدء ندرك الشمس وهي تشرقء وتلك واقعة معقدة ونتصرف من ثم إلى أن‬
‫نحكم أن «الشمس مشرقة»‪ .‬ومن الضروري في االنتقال من اإلدراك إلى الحكم أن نحلل الواقعة المعقدة؛ ولذلك علينا أن نعرف‬
‫بين «الشمس» وبين «مشرقها» باعتبارها جزتين يؤلفان تلك الواقعة‪ .‬وقد يقع المرء في هذه العملية في خطأ ومن ثم فالحكم الذي‬
‫يعتقد أنه يطابق الواقعة حتى حين يكون للواقعة النوع األول أو المطلق من الوضوح بالذات ال يمكن أن يكون معصوما ً من الخطأ‬
‫‪ً.‬تماماًء ذلك ألنه قد يطابق الواقعة في الحقيقة‪ .‬ولكنه حين يطابقها (بمثل ما بيناه ة في الفصل السابق) ال بد أن يكون صادقا‬

‫أما النوع الثاني من الوذ ضوح بالذات فهو الذي يتعلق باألحكام أوالً» وال يكون مستمداً من اإلدراك العياني لواقعة ما باعتبارها‬

‫‪.‬منظومة معقدة بجملتها‪ .‬ولهذا النوع من الوضوح بالدذات مراتب ودرجات؛ من مرتبة عليا جداً إلى مجرد ميل إلى تأبيد ا المعتقد‬

‫وعرء فيقينتا من سماع صوت حوافره وهو يضرب بها األرض‬

‫‪146‬‬

‫الصلبة يقين تام في البدء» حتى تأتي تدريجا ً فترة نحسب فيها إذا أصغينا بدقة أن هذا الصوت ريما كان من صنع الخيال وأنه‬
‫صوت الستاثر في الطابق األعلى أو أنه صوت دقات قلبناء ثم يخالجنا الشك في أننا نسمع أي صوت أبداء ثم نزعم في القول أننا‬
‫ال نسمع أي صوت بتاتاء إلى أن نصل إلى معرفة أننا المع‬

‫أي صوت قطعاً‪ .‬ففي هذا الموضرعء ثمة تسلسل مستمر في البيان بالذات من المرتبة العليا إلى الدنياء ويبدو ذلك في الحكم القائم‬
‫‪.‬على الحقائق الحسية‬

‫لتأخذ المثل التالي‪ :‬نفرض أننا نقابل ظلي لوني ن أحدهما أزرق واآلخر أخضرء فتحن في البدء على يقين من أنهما ظالل مختلفا‬
‫اللون ولكنا إذا غيرتا اللون األخضر تدريجيا ً وزدنا فيه ليقترب شيئا ً فشيئا ً من اللون األزرق» فيكون أوالً مزيجا ً من األزرق‬
‫المائل إلى االخضرار ثم االخضرار المائل للزرققة؛ ثم أزرق تماماًء ف ال بد أن تأتي فترة نشك فيها أن يكون هناك أي فرق بين‬
‫اللونين ثم فترة أخرى نعرف فيها أننا ال نستطيع أن نجد فرقا ً بينهما‪ . .‬ومثل هذا الوضع يحدث في تهيئة اآللة الموسيقية بشد‬
‫أوتارها مثالً بصورة متدرجة؛ أو في أية حالة أخرى يحصل فيها التدرج المطرد‪ .‬فالوضوح بالذات من هذا النوع على مراتب»‬
‫‪.‬وجلي أن الثقة بالمراتب العليا أكبر منها بالمراتب الدنيا‬

‫وفي الواقع تتضمن المقدمات األساسية في المعرفة المكتسبة درجة من الوضوح بالذات» ومثل هذا يجب أن يكون للصلة بين‬
‫المقدمات والنتيجة‪ .‬لتأخذ على سبيل المشال نموذجا ً من االستدالل في الهندسة» فال يكفي في هذا االستدالل أن تكون‬

‫‪147‬‬
‫البدهيات التى نبداً منها واضحة بذاتهاء بل من الضروري أن تكون الصلة بين المقدمات التتيجة في كل خطوة تخطوها بينة بذاتها‬
‫أيضاً‪ .‬ولهذه الصلة فى األمثلة الصحيحة من االستدالل صلة ضئيلة من الوضوح بالذات» ومن ثم فاألخطاء في االستدالالت حين‬
‫‪ً.‬تكون الصعوبة كبيرة يبح احتمال وقوعها واردا‬

‫ويتبين مما شرحناء ما يخص المعرفة الحدسية أو فيما يخص المعرفة المكتسبة» هذا إذا فرضنا أن المعرفة الحدسية يمكن أن‬
‫يوثق بها بنسبة حظها من الوضوح بالذات ودرجتها منه؛ أن هناك تتايعا في اليقين يبتدئ من وجود الحقائق الحسية وحقائق النطق‬
‫والحساب البسيطة؛ وهذه يمكن اعتبارها ذات يقين تام» إلى األحكام التي تبدو أنها أكثر رجحانا ً من أضدادهاء وما تعتقده بأنه‬
‫اعتقاد جازم لذا صح؛ يدعي معرفة؛ بشرط أن يكون إما حدسيا ً وإما مستحجا ً (منطقيا ً أو حدسياً) من معرفة حدسية يترتب عليها‬
‫بصورة موضوعيةء ويدعى ما نعتقده اعتقاداً جازما ً أن كان باطالً خطأ‪ .‬أما ما نعتقده اعتقاداً جازما ً إن لم يكن معرفة وال خطاء‬
‫وكذلك ما نعتقده ونحن مترددين ألنه ليس له مرتبة عالية من الوضوح بالذات فيدعى الرأي المرجح‪ .‬وبناء على ذلك» فإن الكثرة‬
‫‪.‬الغالبة مما يدعى معرفة ما هي إال من الرأي المرجح وتصيبه من ذلك االحتمال قابل للزيادة أو النقصان‬

‫إننا نجد معرفة كبيرة فيما يخص الرأي المرجح من فكرة التماسك التي سبق ورفضناها كتعريف للحقيقة والتي قد نستفيد منها‬
‫كمعيار له‪ .‬إذا كان لمجموعة من اآلراء المرجحة على انفراد تماسك بين بعضها وبعض فإنها تصبح أكثر رجحانا ً وهي مجتمعة‬

‫‪148‬‬

‫من أي واحد منها بمفرده‪ .‬وبهذه الطريقة تكتسب الفرضيات العلمية أرجحيتها فهي إذ تنسجم في منظومة من اآلراء الراجحة‬
‫الملتغمة؛ تصبح بذلك أكثر رجحانا ً منها وهي منفصلة متفرقة؛ وشأن ذلك ما ي نطبق على الفروض الفلسفية العامة‪ .‬ثرا ما تكون‬
‫مثل هذه الفروض مشكوكا فيها في حين أنها تصبح حين نتأمل الترابط الذي تضفيه على مجموعة م اآلراء المرجمة على نصيب‬
‫من اليقين التام تقريباً‪ .‬ومثل هذا ينطبق خاصة على أمور مثل التمييز بين األحالم واليقظة؛ فلو كانت أحالمنا وهي تأتي ليلة بعد‬
‫ليلة على شيء من الترابط فيما بينها كما هي الحال في أحوال اليقظة يوما ً بعد يوم ألصبح من العسير علينا أن نعلم أيها نصدق‬
‫األحالم أو عالم اليقظة‪ .‬على أن معيار الترابط يرفض األحالم ويؤيد عالم اليقظة» بل أن هذا المعيار بالرغم من أنه يزيد في‬
‫الرجحان حين يتم انطباقه» فإنه ال يؤدي إلى اليقين التام ما لم يكن هناك يقين سابق في قسم من أقسام المنظومة الملتثمة‪ .‬وفي هذا‬
‫‪.‬وذاك ال يمكن القول أن مجرد انتظام الرأي المرجح في منظومة ملتمة ال يحول بذاته إلى علم مشكوك فيه على اإلطالق‬

‫‪149‬‬

‫‪1350‬‬
‫حدود المعرفة الفلسفقية‬

‫ما تحدثنا عنه حتى اآلن في ما يتعلق بالفلسفة لم نتطرق إال نادرا إلى كثير من الموضوعات التي تشغل حيزا كبيرا في كتابات‬
‫معظم الفالسفة» وأغلب الفالسفة على كل حال عدد كبير منهم ‪ -‬يدعون أنهم قادرين على البرهان بتفكير قبلي ميتافيزيقي كالعقائد‬
‫األساسية في الدين والعقالنية الجوهرية في الكون ووهمية وتجرد كل الشرور من القابلية الواعية وهلم جراء وذلك باالستدالل‬
‫األول فقط‪ .‬وال شك أن الرغبة في الوصول إلى أسباب تبرر االعتقاد بمثل هذه اآلراء كانت الباعث لكثير من طالب القلسفة إلى‬
‫بذل جهود مضتية دائبة؛ وع ندي أن هذه الرغية هي من التمنيات الخاوية‪ .‬ذلك أن المعرفة التي تتتاول الكون بجملته» كما يبدو»‬
‫ال يمكن الوصول إليها عن طريى الميتافيزيقا‪ .‬وما يورد من براهين مقترحة تقوم بمقتضى المنطق لتثبت أن هذه األشياء أو تلك‬
‫ال بد أن تكون موجودة وأن أشياء أخرى ال يمكن أن تكون كذلك» براهين ال تتحمل التمحيص الدقيق والنقد النافذ‪ .‬وفي هذا الفصل‬
‫سأتناول نوعية المسالك التي اتيعها الباحثون في محاولتهم مثل هذا االستدالل لتوضح إن كان يجوز لنا أن نتوقع في أن يكون مثل‬
‫‪ً.‬هذا االستدالل واقعيا‬

‫ويقف هيغل (‪ )1831-1770‬على رأس من يمثل هذا ا التجاه الذي نرغب في امتحانه وتمحيصه في العصور الحديثة‪ .‬وفلسفة‬
‫هيغل‬

‫‪151‬‬

‫كثيرة التعقيد» وتع َّددٌ الشارحون حول ما يمكن أن يكون تفسيرها الصحيح‪ .‬وتقوم الفكرة األساسية فيها طبقا ً للتفسير الذي نراه‬
‫وهو الذي سار عليه الكثير من الشارحين» إن لم يكن معظمهم؛ ‪ +‬أنه يبين نمطا مهما وممتعا ً من الفلسفة هي أن كل ما هو دون‬
‫الكل فهو ناقص وغير قابل للوجود من دون التكملة التي مدها به ما في العالم من أشياء أخرى غيره‪ .‬فكما يهتدي العالم الذي‬
‫يشتغل بالتشريح المقارن من النظر في عظم واحد إلى الحيوان بجملته الذي ال بد أن يكون ذلك العظم جزءا منه؛ كذلك يصل‬
‫الفيلسوف الميتافيزيقي تبعا ً لهيغل من جزء الحقيقة إلى ما يجب أن تكون عليه الحقيقة كلهاء على األقل في حدودها البارزة العامة‪.‬‬
‫ذلك أن كل جزء من الحقيقة ‪ -‬منفصل في الظاهر إلى نتوءات تشتبك بالجزء اآلخر فيحدث الترابط معا‪ .‬ولهذا الجزء اآلخر‬
‫ن توءات تربطه بجزء ثالث وهكذاء حتى يتم إعادة تأليف الكون بجملته» ويبدو هذا النقص والقصور األساسي كما يذهب هيغل؛‬
‫في عالم الفكر وفي عالم الواقع على السواء‪ .‬ففي عالم الفكر إذا أخذنا أية فكرة مجردة أو ناقصة وجدنا إذا أغفلنا تقضها لدى‬
‫االتحان والتمحيص أننا نقع في كثير من التناقض الذي يحيل الفكرة إلى ضدها أو إلى ما يقابلهاء وال بد لنا لكي نخلص من هذا‬
‫التناقض أن نجد فكرة أخرى أقل نقصا ً من األولى تقف من األولى موقف المكملة والمقابلة لها‪ .‬وهذه الفكرة الجديدة هى أقل‬
‫رجحانا ً من الفكرة التي بدأنا بهاء ‪ +‬إال أنها مع هذا أقل كماالً» وال بد لها من االنتقال إلى ما يقابلها لتتحد معها جاعلة تركيبا ً جديداً‬
‫وبهذه الطريقة يتابع هيغل حتى يصل إلى الفكرة المطلقة» وهي كما يرى ال تنطوي‬

‫‪152‬‬
‫على نقص أو قصور وال يوجد لها مضاد أو نقيض حاجة إلى زيادة النماء والتطور‪ .‬ويذلك تكون الفكرة المطلقة هي التي تفي‬
‫بوصف الحقيقة المطلقة ولكن ما دونها من الحقائق إنما تصف الحقيقة كما تبدو لصاحب النظر المحدد الناقص فقط» ال لمن‬
‫يستعرض الكل في آن واحد» وفي ذلك يجعل هيغل الحقيقة المطلقة تؤلف منظومة منسجمة واحدة ليست في الزمان وال في المكان‬
‫وليس لها أي نصيب من الشرء بل هي عاقلة تماما ً روحية بتماثلها وأي شكل لهذه الحقيقة المطلقة تبدو فيه على العكس من ذلك‬
‫ألنه يمكن إثبات ذلك منطقيا ً ‪ -‬كما يعتقد هيغل ‪ -‬بإرجاعه بأكمله إلى نظرنا الجزئي الناقص الحدود للكون‪ .‬ولو تطلعنا إلى الكون‬
‫بكامله كما يتطلع إليه هللا الختفى الزم ان والمكان والمادة والشر والسعي والكفاح؛ ولرأينا بدل ذلك وحدة روحية كاملة أزلية غير‬
‫‪.‬مستقرة‬

‫وفي هذا التطلع شيء من اإلجالل نود لو تسلم به ونرضاء؛ ومع هذاء فإنه إذا تم غربلة الشواهد التي تسنده؛ لتبين أنها تحوي‬
‫الكثير من االضطراب وأنها تتضمن تخمينات ليس لها ما يسندهاء والفكرة األساسية التي يقوم عليها نظام هيغل الفلسفي إنما هي؛‬
‫أن كل ما هو ناقص ال يعتمد في وجوده على ذاته بل يحتاج إلى برهان من األشياء األخرى قبل أن يتهيا ً له الوجود‪ .‬وهو يرى أن‬
‫كل ما له صالت بأشياء خارجة عنه ال بد أن يحتوي فى طبيعته على صلة بهذه األشياء الخارجية» وإذن فال يمكن أن يكون كما‬
‫هو لو لم تكن هذه األشياء الخارجية موجودة‪ .‬إن طبيعة اإلنسان هي مجموع ذكرياته ومعارفه وخواطره وما ينطوي عليه من‬
‫الحب والكراهيةء ولهذا ال يمكن أن يكون كما هو لوال هذه األشياء‬

‫‪153‬‬

‫‪.‬التي يعرفها أو يحبها أو يبغضها‪ .‬فهو في أساسه دون أي ريب جزء ناقص‪ :‬إذا عددتاه جماع الحقيقة فهو جزء من تناقض بذاته‬

‫بيد أن هذه النظرة الشاملة تدور حول فكرة «طبيعة» الشىء التي يبدو أنها تعني «جميع الحقائق المتصلة به»‪ .‬وبالطبع ال تكون‬
‫الحقيقة التي تربط بين شيء وآخر موجودة لو لم يكن الشيء اآلخر موجوداً‪ .‬على أن الحقيقة عن شيء ليست جزءاً من ذلك الشىء‬
‫نفسه ولو أنها طبقا ً للفظ «طبيعة» األنف الذكر هى جزءاً من طبيعة ذلك الشيء‪ .‬فإذا عنينا «بطبيعة» الشيء جميع الحقائق‬
‫المتعلقة به قجلى أننا ال يمكن أن نعرف هذه «الطبيعة؛ ما لم تعرف جميع عالقات ذلك الشيء باألشياء األخرى في الكون‪ .‬أما إذا‬
‫استعملنا كلمة «طبيعة» وفي كل الظروف من دون أن تعرف تماماً؛ فإن استعمال كلمة «طبيعة» بهذا المعنى» يؤدي إلى الزعزعة‬
‫ب بين المعرفة باألشياء والمعرفة بالحقائق تى ألننا قد نعرف شيئا ً عن طريق المعرفة العيانية حتى ولو لم نعرف إال أحكاما ً قليلة‬
‫عنه ‪ -‬بل أننا ال تحتاج من الناحية النظرية إلى أن نعرف أي حكم من هذه األحكام‪ .‬وهذه الصيغة ال تتضمن المعرفة العيانية‬
‫بشيء» المعرفة «بطبيعته» بالمعنى السابق‪ .‬وعلى الرغم من أن المعرفة العيانية بشيء تعني أن تكون داخلة في معرفة أي حكم‬
‫عنه»ء فالمعرفة «بطبيعته» بالمعنى السابق ليست داخلة فى معرفة هذا الحكم ومن ثم (‪ )1‬تكون المعرفة العيانية بشيء ال تشمل‬
‫منطقيا ً المعرفة بعالقاته‪ ) 2( .‬كما أن المعرفة ببعض عالقاته ال تشمل المعرفة بجميع عالقاته وال المعرفة «بطبيعته» بالمعنى‬
‫السابق» ربما أكون على معرفة عيانية بألم في أسناني» وقد تبلغ‬

‫‪154‬‬
‫هذه المعرفة العيانية من التمام أقصى ما تصل إليه أية معرفة عيانية من دون أن أعرف كل ما يستطيع طبيب األستان (وهو ليس‬
‫على معرفة عيانية باأللم) أن يخبرني به عن سبب الداءء ولذلك ال أكون على معرفة «بطبيعته» بالمعنى السابق‪ .‬وبهذا المعنى»‬
‫فإن وجود عالقات للشىء ال يبت أن هذه العالقات ضرورية منطقياً؛ أي أننا ال يمكن أن نستنتج من كون الشيء هو ذاته أنه ال بد‬
‫‪.‬أن تكون له مختلف العالقات التي له في الواقع وإنما يتبين هذا منطقيا ً في الظاهر فقط» ألننا على معرفة مسبقة به‬

‫يتبين من هذا أننا ال يمك ن أن نحكم بأن الكون بجملته يؤلف منظومة منسجمة واحدة؛ كما يذهب هيغل‪ .‬وإذا لم نتمكن من أن تبرهن‬
‫على هذا فإننا ال نتمكن من أن نبرهن على عدم وجود حقيقة للزمان والمكان والمادة والشرء ألن هيغل إنما استخلص هذا لما‬
‫للزمان والمكان والمادة والشر من صفة الجزئية وكما في ذلك من عالقات باألشياء األخرى‪ .‬وهكذا ال نرى بين أيدينا إال البحث‬
‫الجزئي للعالم ونحن لسنا بقادرين على معرفة صفات تلك األجزاء من الكون البعيدة عن نطاق تجارناء وهذه المحصلة المخييبة‬
‫لآلمال التي تتعلسق بالنظم الفلسفية» تبدو متسجمة مع روح العصر العلمية االستقرائية؛ وهي قائمة على االستدالل الكامل للمعرفة‬
‫اإلنسانية» ذلك االستدالل الذي كان محور أفكارنا في الفصول السابقة‪ .‬وقد كانت بداية البحوث الطموحة لفالسقة ما وراء الطبيعة‬
‫‪ .‬تبدأ بمحاولة البرهنة على أن الظواهر الخارجية في العالم الواقعي تنطوي بذاتها على تناقض بحيث ال يمكن أن تكون حقيقية‬

‫‪155‬‬

‫بيد أن وجهة التفكير الحديث بجملتها انصرفت إلى بيان أن التناقض المزعوم وهمي» وأن قليالً من األمور يمكن البرهنة عليه‬
‫بصورة قبلية وذلك بتأمل ما يجب أن تكون عليه األشياء‪ .‬وخير ما يمثل هذاء الزمان والمكان‪ .‬فالزمان والمكان يبدوان ال متناهيين‬
‫فى االمتداد» قابلين للتجزثة بال نهاية‪ .‬فإذا سافرنا على خط مستقيم في أي اتجاه لبدا لنا أنه من الصعوبة بمكان أن نصل في النهاية‬
‫إلى نقطة أخيرةء ليس وراءها شىء؛ حتى وال المكان الخاوي‪ .‬وكذلك لو استطعنا السفر في خيالنا جيشة وذهابا ً فى الزمان من‬
‫‪.‬الصعب أن نعتقد أننا ستصل للمرة األولى أو األخيرة‪ .‬فالزمان والمكان كما يبدوان ال متناهيان في االمتداد‬

‫عالوة على هذا وذاك إذا أخذنا أي نقطتين على خط فمن الواضح أنه ال بد أن توجد نقاط أخرى بيتهماء ومهما تناهمت المسافة‬
‫بينهماء فكل مسافة يمكن أن تقسم إلى قسمين والقسمان يمكن أن ينقسما أيضا ً وهكذا بصورة غير متناهية‪ .‬والحال كذلك في‬
‫الزمانت» بحيث أنه مهما كانت الفترة بين لحظتين قصيرة» فال بد أن تكون هناك لحظات أخرى بينهما‪ .‬وإذن فالمكان والزمان‬
‫يبدوان قابلين للتجزتة بال نهاية ولكن الفالسفة فى معارضة هذه الوقائع الظاهرة ‪ -‬وهي االمتداد وقابلية التجزئة الالنهائيان ‪-‬‬
‫أوردوا من البراهين ما يرجح بيان أنه ال يمكن أن توجد مجموعة غير متناهية من األشياء» ولهذا فإن النقاط فى المكان واللحظات‬
‫في الزمان ال بد أن تكون متناهية‪ .‬وبهذا الشكل ينشأ تناقض بين طبيعة المكان والزمان الظاهرة وبين ما يظن من استحالة وجود‬
‫‪.‬مجموعات ال متناهية‬

‫‪156‬‬

‫وذهب كنط في استنتاجه؛ وهو أول من أكد هذا التناقضء إلى استحالة وجود المكان والزمان وقرر أنهما ذاتيان فقط» وقد أخذ‬
‫كثير من الفالسفة بعده بهذا الرأي معتقدين أن الزمان والمكان ليسا خاصيتين ذاتيتين للعالم كما هو في الحقيقة» بل هما مجرد‬
‫مظهر له» ولكن اتضح اآلن بفضل جهود الرياضيين وعلى رأسهم جورج كانتورء أن القول باستحالة وجود مجموعة ال متناهية‬
‫قول ال يجانب الواقع‪ .‬فالمجموعات الالمتناهية ال تنطوي بذاتها على تناقض» ولكن تناقضها إنما هو بعض سوابق األحكام التي‬
‫برر اعتبار الزمان والمكان غير حقيقيين لم يعد صالحا ً‬‫يصر عليها أصحابها إصراراً قائما ً على الهوى العقلي‪ .‬ومن أجل هذا فإن ُم َ‬
‫‪.‬وبذلك نضب منبع من المنابع الكبيرة التي تستمد منها المنظومات الميتافيزيقية مقوماتها‬

‫ومع ذلك؛ فالرياضيون لم يكتفوا بتبيين أن المكان كما يظن بشكل عام هو ممكن» فقد بينوا أيضا ً بأن كثيراً من أشكال المكان هي‬
‫أيضا ً ممكنة كما يبين لنا المنطقء وبعض بدهيات إقليدس التي تبدو ضرورية للفطرة السليمة والتي كان يظن فيما سبق أنها‬
‫ضرورية من قبل الفالسفة» قد عرف اآلنأنهار تشتق ظاهرها بالضرورة بمجرد ألفتنا للمكان الحقيقي» وليس على أي أساس‬
‫منطقي قبلي‪ .‬وقد تصور الرياضيون عوالم تكون فيها هذه البدهيات خاطئة واستخدموا المنطق لينقضوا سوابق األحكام التي تتعلق‬
‫بها الفطرة السليمة وتصر عليها» وليكشفوا عن إمكان وجود أمكنة تختلف قليالً أو كثيراً عن المكان الذي نعيش فيه‪ .‬وال يختلف‬
‫بعض هذه األمكنة عن المكان كما يتصوره إقليبدس‬

‫‪157‬‬

‫وهو يدور حول المسافات الممكن قياسهاء إال قليالً حتى أن من المستحيل أن تكشف بالمالحظة» عما إذا كان المكان الحقيقي الذي‬
‫نحن فيه يجري وفق تصور إقليدس تماماًء وأنه واحد من هذه األمكنة األخرى» وبهذا الوضع انعكست الصورة تماماً‪ .‬فقد كان‬
‫» ثم كشف المنطق عن استحالة وجود هذا النوع من المكان‪ ٠ .‬يبدو قبالً أن التجربة لم تدع إال نوعا ً واحداً من المكان للمنطق؛‬
‫أما اآلن فالمنطتق يبين أنواعا ً كثيرة للمكان ويعتبرها ممكنة الوجود مستقلة عن التجربة؛ وأن التجربة إنما تفصل بينها إلى حد ما‬
‫فقط‪ .‬ولهذا بينما أصبحت معرفتنا بما هو موجود أقل مما كان يظن سابقاً»؛ فإن معرفتنا بما يمكن أن يكون قد زادت كثيراً» وبدالً‬
‫من أن نبقى محصورين ضمن حدود ضيقة يمكن أن يكتشف كل زواياها وأركانهاء نجد أنفنا في عالم رحب طليق ملىء بالممكنات»‬
‫‪.‬ال نعرف الكثير عنه ألن ما يمكن أن يعرف متناهي االتساع‬

‫إن ما جرى في حالة المكان والزمان جرى إلى حد ما في نواح أخرى‪ .‬ذلك أنه فشلت المحاولة لتحديد الكون وحصره اعتماداً‬
‫ئ قبلية‪ .‬وبدالً من أن يكون المنطق حاجزاً يقف في وجه ضروب اإلمكان ويحد منهاء كما كان سابقاً؛ أصبح المحرض‬ ‫على مباد ّ‬
‫على انطالق الخيال وتحرره حيث يبين عددا ال يحصى من الوجوه المحتملة الوجود» المحجوبة عن الفطرة السليمة التى تنأى‬
‫عن التأمل» تاركة للتجربة مهمة البت حينما يكون ذلك ممكناً»؛ في أمر هذه لسوال الكثيرة التي يعرض المنطق بين يديها» وبهذا‬
‫الشكل تصبح المعرفة بما هو موجود محدودة بما‬

‫‪158‬‬

‫نتمكن من أن نتعلمه من التجربة وليس بما نتمكن أن نجربه في الواقع؛ ألنه كما مر معنا توجد معرفة عن طريق الوصف واسعة‬
‫تتعلق بأشياء ليست لنا تجربة عيانية بهاء على أننا نحتاج في جميع حاالت المعرفة بالوصف إلى شيء من االرتباط والعالقة بين‬
‫الكليات تساعدنا على االستدالل بما يكون بين أيدينا من معلومات عن وجود شيء من نوع معين تتضمنه تلك المعلومات‪ .‬ففى ما‬
‫يتعلق باألشياء المادية مثالء يكون المبداً الذي ينص على أن الحقائق الحسية إنما هى رموز ودالئل على األشياء المادية هو نقسه‬
‫عالق ة بين الكليات» ولكن تمكننا التجربة بفضل هذا المبدأ فقط من أن نتكسب معرفة حول األشياء المادية‪ .‬ومثل هذا يصدق على‬
‫‪.‬قانون السببية» أوء إذا تدرجنا إلى ما هو أقل شموالًء على مبادئ مثل قانون الجاذبية‬

‫إن األسس العامة مثل قانون الجاذبية يرهن عليها أو يكشغف عن كبر رجحانها بالجمع بين التجربة وبين مبدأ قيلي خالص كمبداً‬
‫االستقراء‪ .‬وهكذا فإن المعرفة الحدسية وهي مصدر جميع معرفتنا بالحقائق ذات نوعين‪ :‬معرفة تجريبية خالصة تنبئنا بوجود‬
‫الخصوصيات التي نكون على معرفة عيانية بها وببعض خصائصهاء ومعرفة قبلية خالصة وهي التي تقودنا إلى العالقات‬
‫والصالت بين الكليات وتمكننا من أن نستنتج استنتاجات من الوقائع الخصوصية الواردة في المعرفة التجريبية» وتحتمد المعرفة‬
‫‪ً.‬المكتسبة دوما على شىء من المعرفة القبلية الخالصة» كما تعتمد عادة على شيء من المعرفة التجريبية الخالصة أيضا‬

‫‪159‬‬

‫إذا كان لنا أن تقول إن ما ذكرناه صحيحاً» فإن المعرفة الفلسفية ال تختلف في جوهرها عن المعرفة العلمية؛ ذلك أنه ليس هناك‬
‫من ينبوع للحكمة تنهل منه القلسفة وال ينهل منه العلم‪ .‬والتائج التي تهتدي ٍ إليها الفلسفة ال تختلف في األساس عن تلك التي يحصل‬
‫عليّها العلم؛ ولكن السم ة األساسية للفلسفة التي تجعل منها دراسة متميزة عن العلم إنما هي التقدء فهي تعرض المبادئ التي‬
‫يستخدمها العلم وتبدو في الحياة اليومية على النقد الفاحص» وتبحث عما قد يكون فيها من تناقض» وال نقبلها بعد التمحيص الدقيق‬
‫إال بعد أن يتفي كل سبب لرفضهاء وإذا كانت هذ ه المبادئ التي يقوم عليها العلم قادرة» بعد أن تنتزع منها التفاصيل الزائدة غير‬
‫المناسية» على أن تمدنا بالمعرفة حول الكون بجملته كما يعتقد كثير من الفالسفة فإن هذه المعرفة جديرة بإيمانتا جدارة المعرفة‬
‫العلمية بها‪ .‬لكن بحثنا السابق لم يبين مثل هذه المعرفة؛ وعلى هذا فاللتيجة منه فيما يتعلق بالمذاهب الخاصة للمقدامين من فالسقة‬
‫ما وراء الطبيعة نتيجة سالبة‪ .‬أما فيما يخص ما يسلم به في العموم من المعرفة؛ فقد كانت نتيجة بحثنا إجماالً إيجابية؛ ومن النادر‬
‫أن نجد سببا ً لرقض هذه المعرفة ودحضها على أساس ماتوصال إليه من الن قدء ولم نر أي سبب الفتراض أن اإلنسان غير قادر‬
‫‪.‬على هذا النوع من المعرفة الذي يستطيع القدرة عليها في العادة‬

‫لكن من الضروري حين نتناول الفلسفة باعتبارها نقداً للمعرفة أن نضع بعض الحدود لهذا الوصف الذي تصفها به‪ .‬فنحن إذا‬
‫اتخلنا موقف الشك الكامل» واضعين أنفسنا خارج نطاق المعرفة تماماًء‬

‫‪160‬‬

‫محاولين من هذا الموقف الخارجى أن نعود إلى حدود المعرفة وندخل ضمن دائرتهاء فإننا نكون بذلك كمن يطلب المستحيل‪ .‬ذلك‬
‫أنه ال يمكن أن يدحض هذا الشك أو يرد ألن كل دحض له ال بد أن يبدأ بجزء من المعرفة يشترك في التسليم به جميع المتخاصمين»‬
‫وليس من برهان يمكن أن يبدأ من الشك الخالص‪ .‬ولهذا فإن النقد الذي تصطعه الفلسفة يجب أال يكون من هذا النوع المخرب إذا‬
‫كان لنا أن نأمل الوصول إلى أية نتيجة منه‪ .‬ففي مجابهة الشك المطلقء ال يمكن أن يقوم أي دليل منطقي بل من اليسير أن يتبين‬
‫المرء أن هذا الشك شك غير معقول‪ .‬و«الشك المنهجي» الذي أوجده ديكارت وبدأت مته الفلسفة الحديثة ليس من هذا النوع» بل‬
‫هو النقد الذي أكدنا أنه عنوان الفلسفة وجوهرها‪ .‬إن شكه المنهجي يتألف من الشك في كل ما يبدو موضعا ً للشك والسؤال» أي‬
‫من الوقوف لدى كل جزء من المعرفة ليسأل نفسه فيما إذا كان يشعر لدى التأمل فيه باليقين من أنه يعرفه سابقاً؛ وهذا هو النقد‬
‫الذي تتألف منه الفلسفة» فبعض المعرفة كمعرفة وجود الحقائق الحسية يبدو غير قابل للشك فيها مهما تأملنا بهدوء وبصورة‬
‫كاملة» والنقد الفلسفى ال يتطلب منا فى ما يتصل بمثل هذه المعرفة أن نكف عن االعتقاد بهاء ولكن هناك افتراضات كاالفتراض‬
‫الذي يذهب إلى أن األشياء المادية تشابه الحقائق الحسية تماما ً تقول بها حتى نبدأً بتأملهاء فإذا أخضعناها للتمحيص الدقيق تبددت‬
‫وذهيت هباء‪ .‬ومثل هذه االفتراضات التي ال يورد عليها أي اعتراض» مهما مضينا في تمحيصها تمحيصا ً دقيقا ً أمر غير معقول»‬
‫‪.‬وليس هذا هدف الفلسقة بالتأكيد‬

‫‪161‬‬

‫إن النقد الذي تبغيه الفلسفة؛ بمختصر القول؛ ليس هو ما يصر على الرفض واإلنكار دون ما سبب واضح؛ بل هو الذي يتناول‬
‫بالبحث كل جزء من المعرفة حسب قدرته وأهميته؛ ويحتفظ بكل ما يصمد لهذا البحث ويخلص من االمتحان باعتياره معرفة‬
‫صحيحة‪ .‬أ ًما التعرض للهفوات فأمر ال تنكره ألن اإلنسان غير معصوم من الخطأ‪ .‬وقد تنسب الفلسفة لنفسها أنها تنقص من خطر‬
‫الزلل حتى لتجعل خشية الوقوع فيه في بعض الحاالت ضئيلة بحيث يمكن إغفالها عمليا‪ .‬وليس بمستطاع الفلسفة أن تفعل أكثر‬
‫‪.‬من هذا فى دنيا ال بد أن يحصل فيها الخطاء وال يوجد داعية من دعاة الفلسفة يقول بأنها تستطيع القيام بأكثر من هذا‬

‫‪162‬‬

‫قيمة الفلسفة‬

‫في نهاية استعراضنا الموجز لمشكالت الفلسقة بما يتضمن من نقصء يجدر بنا في النهاية التمعن في قيمة الفلسفة والمبررات‬
‫التي تدعو إلى دراستهاء وأهمية ذلك أن الكثير من الناس يجنحون إلى الشك في الفلسفة بتأثير من العلم أو الشؤون العلمية‪ .‬ولسان‬
‫حالهم يقول إنها ال تعدو أن تكون أكثر من تناول أمور ليست ذات قيمة وتحديدات محيرة مربكة تدور حول مسائل من الصعب‬
‫الوصول إلى معرفتها؟‬

‫وينجم هذا الرأي في الفلسفة إما بسبب تصور خاطئ عن أهداف الحياة وإما عن تصور خاطئ عن أنواع الخير التي تسعى الفلسفة‬
‫إلنجازه» والعلم الطبيعي في ذلك محصلة جيدة للالس الذين يجهلونه بواسطة المخترعات التي أوجدهاء ولهذا قدراسة العلم‬
‫الطبيعي ال يحض عليها لمجرد تأثيرها على دارسيها فقط؛ بل لما تتركه من أثر في الحياة اإلنسانية عامة؛ والفلسقة في ذلك يكون‬
‫محصور في دارسيهاء ومن هنا نلتمس قيمة الفلسفة بادئ ذي بدء‬
‫ٌ‬ ‫أثرها في دائرة طالبها وهو أثر غير مباشر فقط» ألن أثرها‬
‫‪.‬في هذا المجال‬
‫وفوق هذا إذا أردنا أن نتجنب الفشل في سعينا لتحديد قيمة الفلسفة يجب أوالً أن نحرر عقولنا من الهوى السابق لمن يدعون خطأ‬
‫أناس «عملين»‪ .‬فاإلنسان «العملي» تبعا ً لالستعمال العام‬

‫‪163‬‬

‫لهذا اللفظ هو الذي ال يعترف إال بالحاجات الماديةء فيرى أن الناس يجب أن ينالوا غذاء الجسد وينسوا أن عقولهم تحتاج إلى غذاء‬
‫لها أيضاً‪ .‬ولو كان جميع الناس على حال من اليسر والرخاء» وتم القضاء على الفقر والمرض إلى أقصى ما يمكن» لبقي الكثير‬
‫مما ال بد من القيام به إليجاد مجتمع فاضل» بل إن حاجات العقل حتى في العالم الحاضر ال تقل في أهميتها على األقل عن حاجات‬
‫الجسدء وإنما تكون قيمة الفلسفة فى صلت ها بحاجات العقل فقط» والذين يؤمنون بدراسة الفلسفة ويعطونها أبعادها وهي ليست لهم‬
‫‪.‬مضيعة للوقت؛ أولتك هم الذين يقدرونها ويشعرون بحاجة العقل لها‬

‫إن الفلسقة تهدف ككل الدراسات األخرى بادئ ذي بدء إلى المعرقة» والمعرفة التي تهدف إليها هي ذلك النوع من المعرفة الذي‬
‫يكسب مجموعة العلوم وحدة ونسقاء ذلك النوع الذي يأتي من التمحيص الدقيق والنقد المتين للقواعد التي تقو آراؤنا وأحكامنا‬
‫ومعتقداتنا‪ .‬غير أنه ال يمكن أن يقال إن الفلسفة قد نجحت نجاحا ً كبيراً في محاولتها اإلجابة عن مث ٍل هذه القضايا إجابة دقيقة‬
‫محددة‪ .‬ولو سألت رياضيا ً أو عالما ً في التعدين أو مؤرخا ً أو أي رجل آخر مختص بعلوم أخرى عما وصل إليه ذلك النوع من‬
‫العلوم الذي خصه برعايته من الحقائق المنظمة المحددة المتد جوابه ما وسعك أن تصغى إليه‪ .‬أما إذا عرضت هذا السؤال نفسه‬
‫على فيلسوف ألقر إذا كان صريحا ً بأن دراسته لم تنته بنتائج إيجابية مثل تلك التي انتهت إليها العلوم األخرى‪ .‬ويمكن تفسير ذلك‬
‫أنه إذا ما ‪ 7‬تم الوصول إلى معرفة محددة في‬

‫‪164‬‬

‫موضوع معين؛ لم يعد هذا الموضوع قسما ً من الفلسفة بل يصبح علما ً منفصالً عنها‪ .‬لقد كانت دراسة األجرام السماوية قسما ً من‬
‫الفلسفة ولكنها أصبح ت فيما بعد علم الفلك حتى أن نيوتن سمى مؤلفه العظيم «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية»‪ .‬وقد كان الحال‬
‫كذلك في دراسة العقل اإلنساني حيث كانت حتى وقت قريب جزءا من الفلسفة بيد أنها انفصلت عنها وأصبحت علم النفس‪ .‬ومن‬
‫هذا يتبين أن ما في الفلسفة من عدم اليقين إنما هو أمر ظاهر أكثر من كونه حقيقيا ً فتلك القضايا التي تم الوصول فيها إلى أجوبة‬
‫‪.‬محددة؛ قد ألحقت بالعلم» أما تلك التي لم يهتد في الوقت الحاضر إلى أجوبة محددة عنها فقد بقيت ما ندعوه بالفلسفة‬

‫لكن هذا يعتبر بعض الحق فيما يخص عدم اليقين في الفلسفة فقط‪ .‬نعم توجد أسثلة كثيرة ومن بينها ما هو ذو متعة كبيرة لحياتنا‬
‫الروحية ‪ -‬ال بد أن تبقى بقدر ما يتهيا ً ال أنها غير قابلة للحل بالنسبة للعقل اإلنساني ما لم تستطع قواها تغيير نوع مختلف تماما ً‬
‫مما هي عليه اآلن‪ . .‬ومن هذه األسئلةء اللكون أية وحدة في الخطة والقصد » أم أنه مجرد اختالط ذرات بعضها مع بعض‬
‫اختالطا ً اعتباطياً؟ هل الفكر جزء دائم ثابت في الكونء يفتح باب األمل في الوصول إلى نمو غير محدد في الحكمة والعقل أم هو‬
‫حادثة عارضة في كوكب صغير ال بد أن تكون الحياة عليه في النهاية أمراً مستحيالً؟ وهل للخير والشر أهمية للكون بأجمعه آم‬
‫لإلنسان فقط؟ هذه أسئلة تثيرها الفلسقة» وقد اختلفت اإلجابات عنها باختالف الفالسفة» لكن هذه اإلجابات الفلسفية تبدو في كل‬
‫األحوال غير صحيحة بالطبع‪ .‬ومع هذاء‬

‫‪165‬‬

‫فمهما اضمحل األمل في الكشف عن جواب لهذه األسثلة؛ فإن من شأن الفلسفة أن تمعن النظر إليها بال انقطاع» وأن تبعث فينا‬
‫الشعور بأهميتها وأن تمبحص جميع ما يحيط بها من أفكار أو يؤدي إلى جواب عنها وأن تبقى فينا حماسة الشوق إلى تأمل الكون‬
‫‪.‬وتديره» ذلك الشوق المعرض للخطر إذا حصرنا أنفسنا في نطاق المعرفة التي تم تبينها‬

‫لقد آمن الكثير من الفالسقة بأنهم يستطيعون تقدير الحقيقة ببعض األجوبة لهذه األسئلة األساسية؛ وذهبوا في زعمهم أن ما هو‬
‫على جانب كبير من األهمية والخطورة من بين المعتقدات الدينية يمكن التدليل على صدقه بالبرهان الدقيق المضبوط‪ .‬ولكنا حتى‬
‫نستطيع أن نحكم على مثل تلك المحاوالت في التدليل ال بد لنا من أن نستعرض استعراضنا شامال للمعرفة اإلنسانية بجملتها وأن‬
‫نكون رأيا ً حول مناهجها في البحث وحدودها التى تقف عندها‪ .‬وأنه من الضالل التحدث فى مثل هذا الموضوع بلهجة اليقين‬
‫والتأكيد » ولكن إذا كانت البحوث التي سرنا عليها في الفصول السابقة لم تذهب بنا إلى مهاوي الخطاء فإننا ملزمين بأمل العثور‬
‫على براهين فلسفية للمعتقدات الدينية‪ .‬وعلى هذا ال يمكن أن تدخل في نطاق الفلسفة ونحسبه من قيمتها أية مجموعة محدودة من‬
‫األجوبة عن تلك المسائل‪ .‬ولهذا وذاك تكون قيمة القلسفة في اعتمادها على أية مجموعة محرفة من المعارف المحددة الممكن‬
‫‪.‬التحقق عنها والتي يخيل لدارس الفلسقة أن ينالها ويصل إليها‬

‫‪166‬‬

‫إن قيمة الفلسفة؛ هي في الحقيقة؛ بما تكون عليه من عدم يقين بالذات» واإلنسان الذي لم ينهل من الفلسفة تكون حياته أسيرة أحكام‬
‫سابقة استمدها من الفطرة السليمة المشاعة ومما أخذ به أهل عصره ه وقومه؛ ومما نش في ذهنه من آراء لم يص ٍل إليها بفضل‬
‫عقل نير أو نقد متميز‪ . .‬وبذلك يبدو له العالم عدداً محصوراً واضحا ً جال وال تثير تثير فيه األشياء العادية أي سؤال» وكل ما‬
‫ليس مألوفا ً عارقا ً به فهو ال يأبه به‪ .‬أما حين يبدا المرء يتفلسف فيكون على النقيض من ذلك‪ .‬ألنه يجد كما وجدنا فى الفصول‬
‫األولى أنه حتى األشياء العادية المألوفة فى الحياة اليومية تثير من المشكالت التي ال يمكن اإلجابة عنها إجابة تامة قط؛ فإذا كانت‬
‫الفلسفة عاجزة عن أن تهدينا على وجه اليقين إلى الجواب الصحيح عم تثيره من شكوك» فهي قادرة على أن توحي بكثير من‬
‫الصور التي توسع عقولنا وتحررها من عقال العرف والتقاليد» فإذا أنقصت شعورنا باليقين من األشياء كما هي » زادت في‬
‫معرفتنا باألشياء كما قد تتكون» بل هي تقضي على الثقة واالطمثنان المشوبين بالزهو والخيالء ألولئك الذين لم يسلكوا دروب‬
‫‪.‬الشك المؤدي إلى ال تحرر واالنعتاق» وتزيد الرغبة في االطالع بما تبينه من أشياء قريبة منا في صور لم نعتادها‬
‫وبعيداً عما تكشفه لنا الفلسفة من صور لم نكن لتتصورهاء؛ تبقى لها قيمة ‪ -‬بل هي قيمتها الرئيسة التي يبدو من التأمل في‬
‫موضوعاتها من عظمة وخطورة» وما تؤدي إليه من حرية وان عتاق من المطالب الشخصية الضيقة المحدودة عن طريق ذلك‬
‫التأمل‪ .‬إن حياة اإلنسان الذي تتحكم فيه الغريزة حياة محصورة في دائرة‬

‫‪167‬‬

‫ضيقة من الحاجات الخاصة» وهي داثرة قد تشمل األسرة واألصدقاء ولكنها ال تتعدى ذلك إلى العالم الخارجي الذي ال يؤبه به‬
‫إال بمقدار ما يع ني على تحقيق الرغبات الغريزية أو يعمل على صدهاء ففي هذه الحياة شيء من القلق والضيق يقابلهما في الحياة‬
‫الفلسفية الهدوء واالنطالق‪ .‬والعالم الذي كب _وامع اليد أن يني على ذلك العالم اللصغير إن صاجا ً از آجالً فيحطمه ويقضي‬
‫عليه‪ .‬وما لم تتمكن من توسيع دائرة حاجاتنا ومطالبنا حتى تمتد فتشمل العالم الخارجي بجملته؛ ‪ 7‬كالكتيبة التي تحاصر في قلعة‬
‫تلوذ بهاء وهي تعلم علم اليقين أن ْن العدو يحول بينها وبين الهرب وأن ال مقر من التسليم في النهاية‪ .‬وليس في مثل هذه الحياة‬
‫سالم» بل هو النزاع الذي ال ينتقطع بين إلحاح الرغبة وعجر اإلرادة؛ وال بد لنا إن كنا نبغي الحياة الحرة الكريمة أن نفر من ذاك‬
‫‪.‬األسر وذلك التطاحن‬

‫هناك طريق واحد للهرب من التأمل الفلسفي؛ فهذا التأمل الفلسفي» في بحثه الواسع الشامل ال يقسم الكون إلى معسكرين متنازعين‬
‫‪ -‬أصدقاء وخصوم» أنصار وأعدل‪ :‬وأخيار وأشرار ‪ -‬بل أنه لينظر إليه نظرة التجرد عن الغرض والهوى‪ .‬وليس غاية هذا التأمل‬
‫الفلسفي حين يكون خالصا إثبات شبه بين اإلنسان وغيره ومن األشياء في الكون» إن كل اكتساب للمعرفة هو توسيع للذات ومد‬
‫لحدودهاء ولكنه توسيع خير ما يكون حينما ال يقصد مباشرة وال يتم الوصول إليه إال حين تكون الرغبة في المعرفة هي وحدها‬
‫المؤثرة الفاعلة ععن طريسق الدوامسة الستى‬

‫‪168‬‬

‫ال تصبو مقدما ً إلى أن يكون لما تتناوله من موضوعات هذه الصفات أو تلك» بل تحمل الذات على أن تتكيف وفقا ً لما نجده في‬
‫تلك الموضوعات من صفات» وال يمكن بلوغ هذا التوسع للذات بأن يحاول المرء أن يبني» وهو ينظر إلى الذات كما هي؛ إن‬
‫العالم شبيه بهذه الذات بحيث أن معرفتها ممكنة من دون أن تتناول ما هو غريب عنها مخالف لها‪ .‬والرغبة في البرهنة على هذا‬
‫القول نوع من تأكيد الذات وهي ككل نوع من تأكيد الذات يمكن أن يكون عقبة في سبيل نمو الذات» ذلك النمو الذي نطمح إليه؛‬
‫والذي تدرك الذات أنها قادرة عليه‪ .‬إذن تأكيد الذات سواء في التأمل الفلسفي أو في غيره يكون في التطلع إلى العالم من حيث هو‬
‫وسيلة إلى غاياته؛ وهو بهذا يجعل العالم ذا أهمية أدنى من أهمية الذات» فكأنما الذات تضع حدوداً دون نمو أغراضها وحاجاتها‪.‬‬
‫واألمر في التأمل الفلسفي على العكس من ذلك ألننا نبدأ فيه بما ليس ذاتاً؛ وعن طريق ما فيه من العظمة والكبر تتسع حدود الذات‬
‫‪.‬وتمتدء فعن طريق ما في الكون من ال نهاية يبلغ الفكر الذي يتأمله بعض تلك الالنهاية‬
‫ومن أجل ذلك فإن رفعة النفس وسموها ال تأتياند عن طريق تلك الفلسفات التي تدمج الكون في اإلنسان وتلحقه به‪ .‬ذلك أن المعرفة‬
‫نوع من االتحاد‪ .‬وهناك نزعة فلسفية آخذة في االنتشار تميل إلى األخذ بالرأي القائل بأن اإلنسان هو الميزان الذي تقاس به األشياء‬
‫وأن الحقيقة من صنع اإلنسان» وأن الزمان والمكان والكليات كلها من خصائص العقل» وأنه إذا كان هناك شيء ليس من خلق‬
‫العقل فهو غير قابل للمعرفة وليس بذي قيمة لنا‪ .‬وهذه‬

‫‪1069‬‬

‫النظرة غير صحيحة إذا اعتبرنا بحوثا السالفة صائبة ألنها عدا عن كونها غير صحيحة تفرغ التأمل الفلسفي من قِيَمهِ» ألنه يفيد‬
‫ذلك التأمل فى حدود الذات‪ .‬وما يدعى معرفة تبعا ً لذلك الرأي ليس اتحاداً بين الذات وغيرهاء بل مجموعة من سوابق األحكام‬
‫والعادات والرغبات تكون كالمحاجز الذي يفصل بيننا وبين العالم الكبير الواسع‪ .‬واإلنسان الذي يجد متعة في مثل هذه النظرية‬
‫‪.‬للمعرفة يكون كمن يأبى أن يبرح دائرة أسرته ومحيطه خشية أال تكون كلمته حيتئذ نافذة كنفاذ القانون‬

‫وعلى العكس من ذلك يكون التأمل الفلسفي الصحيح؛ متعة في ازدياد ماليس بالذاتء ويزيد موضوعات الذات المتأملة ويرتفع‬
‫بهاء فكل ما هو في التأمل شخصي وخاص» وكل ما يعتمد على العادة والحاجة الذاتية يحرف الموضوع وبيشوهه؛ وبذلك يسيء‬
‫إلى االتحاد الذي يسعى إليه الفكر‪ .‬إن األمور الشخصية الخاصة هذه بما تصفه من حاجز بين الموضيع والذات تحبس الفكر‬
‫وتقيده‪ .‬والفكر الحر الطليق يرى األشياء كما قد تراها اآللهة من دون أن يتقيد بهذا أو ذاك أو باآلمال والمخاوف» ومن دوت أن‬
‫تفسد تأمله العاطقة ورغيته فى ذلك المعرفة المعرفة الخالصة البعيدة عن األهواء الشخصية بمقدار ما يتهيا ذلك إلنسان‪ .‬ومن ثم‬
‫فهذا الفكر الحر الطليق يقدر المعرفة المجردة الشاملة التي تقتحم حماها حوادث الحياة الخاصة أكثر مما يقدر المعرفة اآلتية عن‬
‫طريق الحواس» تلك المعرفة التي ال بد لها أن تعتمد على النظرة الشخصية المحضة المحصورة وعلى جسم تشوه أعضاء الحس‬
‫‪.‬فيه المعرفة التي تبسطها على ضوء ما بينها وتكشفها‬

‫‪170‬‬

‫إن العقل الذي اعتاد على الحرية والتجرد عن الهوى مما هو ضروري في التأمل الفلسفي يستبقي شيئا ً من هذه الحرية والتجرد‬
‫عن اله وى في مجال العمل والوجدان‪ .‬فال ينظر إلى أغراضه ورغباته إال باعتبار ها أجز اء من الكل الشامل ومن دون ذلك‬
‫اإلصرار واإللحاح الذي يأتي من النظر إليها باعتبارها أجزاء ال متناهية في الصغر في عالم ال يكون ألفعال المرء أي أشر على‬
‫األشياء األخرى‪ .‬وهذه الصوفية التي تظهر في التأمل بشكل الرغبة الخالصة في الحقيقة؛ تظهر في العمل في صورة العدل وفي‬
‫الوجدان في صورة المحبة التي يمكن أن تضفي على الجميع وال تقتصر على أولئك الذين يراد منهم النفع أو يدور حولهم اإلعجاب‪.‬‬
‫لهذا ال يوسع التأمل موضع التفكير فقط بل موضوعات العمل والوجدان أيضاء ويجعل منا مواطنين للكون أجمع ال لمدينة ضيقة‬
‫واحدة؛ تكون في حرب من األخريات‪ .‬وفي هذه الوطنية العالمية تقوم حرية الفرد الحقة وتخلصه من العبودية لآلمال والمخاوف‬
‫‪.‬المحدودة‬
‫لهذا نوجز بحثنا فى قيمة الفلسفة فنقول‪ :‬إن الفلسفة إنما تدرس ليس من أجل أية أجوبة محدودة بما تثير من أسئلة» ذلك ألنه ال‬
‫توجد عادة مشل هذه األجوبة المحدودة التي يمكن التحقق من صدقهاء لكن من أجل تلك المشكالت نفهاء ألن هذه األسثلة توسع‬
‫من تصورنا لما هو ممكن؛ وتغني الخيال الفكري فيناء وهي تنقص من االدعاء الخاوي باليقين الذي يحول بين العقل وبين التأمل‬
‫والتديرء ولهذه األسباب مجتمعة» وعبر عظمة الكون للتأمل الفلسفي» تدرس الفلسفة لتصبح قادرة على االتحاد بالكون الذي هو‬
‫‪.‬غاية الخير األعلى‬

‫‪171‬‬

‫‪172‬‬

‫الصطلحات األآساسية‬

‫اهل‬

‫ع‬

‫م (اه اها ‪:‬دنا له مها اللد له وها‪7‬‬

‫إه وهر‬

‫ام نه را‬

‫[ه مهما‪3‬‬

‫‪8‬‬

‫‪17/7/70‬‬

‫‪1/016‬‬

‫‪272/0‬‬

‫و‪ 1‬اه‪11/61/1027 6‬‬

‫اا ار دا دزا‬
‫[ه‪-/2‬ورو‪70‬م‪ /‬وين ‪11‬و[‬

‫‪22/2‬‬

‫امعوموارم زب‪/‬درددم ]ربز ‪1‬‬

‫‪173‬‬

‫أفكار مجردة فكرة ذلقة‬

‫ار ‪175 55021‬‬

‫‪1050710162-6/‬‬

‫ا ينه ال راءا ‪4‬‬

‫‪110/7‬‬

‫‪72‬‬

‫‪1056 2 1777 0/8‬‬

‫م‪6377‬‬

‫‪0 02‬‬

‫خل يلراش ‪87:‬‬

‫‪77‬‬

‫‪1101001‬‬

‫بووأده؟م]ئنبز‪/‬م[ ‪717» 7‬‬


‫‪0 110/01‬‬

‫ا‬

‫زىزم درمز‬

‫ااسرا م لسال زرو ‪:‬جز‬

‫ع‪[1‬طوطورطم ‪7‬‬

‫‪60/01 11/2‬‬

‫دنع م ‪7‬‬
‫ع[ ي‬
‫‪1‬‬

‫)رار بال ‪8‬‬

‫بارس زا ف‬

‫اع ‪-‬زاءى ‪ 765/01‬عاطامومءى‬

‫عكرودى ‪77 -‬‬

‫ريز نت ‪ 76-0‬ميري ‪ 0117704010‬زات‬

‫أءى[‬

‫‪77‬‬
‫ام ‪2‬ر‪7‬‬

‫‪1174‬‬

‫‪17/5 71-1716601 6‬‬

‫جز‬

‫‪7721‬‬

‫ص‪127‬‬

‫‪)0‬‬

‫‪17702‬‬

‫ابدرا اسن‬

‫‪1‬‬

‫ل‪0‬‬

‫‪1/6‬‬

‫ه ع‪101‬ر‪1‬ر‪51‬‬

‫”آممم‪/7‬‬

‫‪275 112:001077/‬‬
‫دم ا موصبرط الرديته بر[‬

‫مقدمة المترجم ا ممم موي ممم مم‪ 3‬مقدمة المؤلف ا الواقع والظاهر مجم مي عم قم ممعم ممع ومع ممم ممم ممه ممعي ممم اميه‬
‫‪ 9‬وجود المادة ململ ممعم مم ممم ممه عم ممم وميم ممو ميم ‪ 21‬طبيعة المادة ممه وم م معة مع قعة ممه مو وجوه ممعي مم‬
‫يميه مي مع يه ‪ 31‬المثالية ل المعرفة بالعيان والمعرفة بالوصف ممه مجم ممع ممعم ‪ 51‬فى االستقراء ممم م عم ممم ممم ممم‬
‫ممم ممم ومع ممم ممم مم وم وميه ‪ 63‬فى معرفتنا المبادئ العامة ا كيف تكون المعرفة القبلية ممكنة ل عالم الكليات لمم مم مم‬
‫ممه ممم م ممه عمو مجعة ممه مج فيه مم مايه ‪ 99‬معرفتنا بالكليات ل فى المعرفة الحدسية ا الحقيقة والخطأ ً ممه مع عم عق‬
‫ممم ‪ 127‬المعرفة والخطأ والرأي المرجح ا حدود المعرفة الفلسفية قيمة الفلسفة ل المصطلحات األساسية المستعملة في الكتاب‬
‫‪0‬‬

‫‪1175‬‬

‫ال ل ‪5‬‬

‫ل أن مانا‬

‫حاولت عب رهذه الصفحات االقتصار على الملشكالت الفلسفية التي يمكنني التحدث بشأنها بصورة إيجابية وبناءة؛ ألني أعتقد‬
‫أن النقد السلبي فقط هو خارج عن نطائى هذا البحث؛ ولبذا السبب احثلث نظرية المعرفة حيزاً هذا الكتاب أعظم مها احتلته‬
‫نظريات ما فزاء الطبيعة‪ .‬ما الموشوعات الفلسشية التي تناولها الفالسفة كثيرا بالبحث والنقاش فقد عالجتها بإيجاز إذ جاز لي هذا‬
‫القول‪ .‬ولقد حصلت على مساعدة قيمة من البحوث غير المنشورة للعالمةج‪ .‬أ‪ .‬مور والعالمة ج‪ .‬م‪ .‬كينز؛ فقد أفدت من األول‬
‫روابط الحقائق الحسية ب األشياء المادية‪ .‬كما أني أفغدت من اآلخر ما يتعلق بمبدأي األرجسية واالستقراء‪ .‬وأفدت أيضا ً إلى‬
‫‪.‬درجة عظمى من انتقادات ومقترحات البروفيسور؛ جلبرت مورى‬

‫ل‬

‫‪8”812 ‘ 9‬‬

‫‪“#9706‬‬

‫‪9-70-5‬‬

You might also like