You are on page 1of 11

‫جامعة التكوين المتواصل ‪-‬الجزائر‬

‫فرع علوم انسانية‬

‫وحدة‪ :‬مدخل إلى الفلسفة العامة‬

‫األستاذ المحاضر‪ :‬رابح عيسو‬

‫المحور األول‪ :‬الفلسفة أهميتها وصلتها بغيرها من فروع المعرفة‪.‬‬

‫المحاضرة الثانية‪ :‬عالقة الفلسفة بـ (العلم‪ ،‬الدين‪ ،‬الفن)‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫تعتبر إشكالية العالقة بين الفلسفة وغيرها من ميادين المعرفة اإلنسانية ومن أبرزها الدين‬
‫والعلم والفن من أبرز اإلشكاليات الفلسفية التي انشغل بها الفالسفة منذ مدة غير قريبة‪ ،‬ولكنهم‬
‫اختلفوا في طبيعة العالقة بينها وبين هذه الميادين‪ .‬ومن هنا يمكننا التساؤل ما طبيعة العالقة‬
‫بين الفلسفة وغيرها من فروع المعرفة؟ هل هي عالقة اتصال ام انفصال؟‬
‫‪ -1‬عالقة الفلسفة بالعلم‪:‬‬
‫هناك مقولة شائعة مفادها‪" :‬تبدأ الفلسفة حيث ينتهي العلم"‪ ،‬والتي يفهم منها أن النقطة‬
‫التي ينتهي عندها العلم تمثل نقطة البدء بالنسبة للفلسفة والفيلسوف‪ .‬وكأن الفلسفة والعلم‬
‫منفصلين ال عالقة ألحدهما باآلخر ومن هنا نتساءل هل يمكن القول إن هذه المقولة تعبر‬
‫عن العالقة الحقيقية بين الفلسفة والعلم؟‬
‫أ‪ -‬االختالف بين الفلسفة والعلم‪.‬‬
‫يستهدف العلم وصف الحقائق أو الظواهر والكشف عن قوانينها‪ ،‬أما الفلسفة فهدفها تفسير‬
‫تلك الحقائق أو الظواهر وبيان سبب وقوعها‪ .‬بمعنى أن العلم وصفي تقريري ومن ثم ينحصر‬

‫‪1‬‬
‫في بحث الظواهر فيتوقف عند العلل القريبة المباشرة‪ ،‬في حين الفلسفة تفسيرية تعليلية أي‬
‫تتجاوز التقرير وتهتم بما وراء الظواهر فتبحث عن العلل غير المباشرة‪.‬‬
‫العلم موضوعي بينما الفلسفة ذاتية تشمل مواقف خاصة أي وجهات نظر شخصية ال‬
‫تحتمل التحقيق العلمي الذي نجريه على المشاكل العلمية فنصل بصددها إلى حلول يقينية‬
‫حاسمة‪ .‬مما يعني أنه ال يمكننا الوصول إلى إجابات قاطعة بصدد أي مشكلة فلسفية‪.‬‬
‫تنظر الفلسفة إلى الكون أو الوجود نظرة كلية شاملة‪ ،‬بينما ينظر العلم إلى الظواهر نظرة‬
‫ليكون موضوعات تدرسها مختلف‬ ‫جزئية متخصصة‪ ،‬فيقتطع أجزاء من هذا الكل (الوجود) ّ‬
‫العلوم أي إذا كان العالم متخصصاَ في علم البيولوجيا فإنه يركز على دراسة ظواهر الحياة أو‬
‫الظواهر البيولوجية وإذا كان متخصصاَ في علم الفلك فإنه يدرس الظواهر الفلكية فقط وإذا كان‬
‫متخصصاَ في الطب فإنه يدرس الظواهر الصحية‪...‬إلخ بمعنى أن كل علم من العلوم يختص‬
‫بفرع من فروع المعرفة ويدرس جانباَ من جوانب الوجود ال يتعداه‪ ،‬أما الوجود ككل في شموليته‬
‫واتساعه‪ ،‬الوجود المطلق فإن العلم الوحيد القادر على دراسته هو الفلسفة‪.‬‬
‫بمرحل ثالث هي‪ :‬مرحلة البحث وتشمل‬
‫يقوم العلم على المنهج التجريبي الذي يمر ا‬
‫أخير مرحلة البرهان وتشمل الطرق‬
‫المالحظة والتجربة‪ ،‬ومرحلة الكشف وتشمل الفروض‪ ،‬و ا‬
‫التجريبية للتحقق من صحة الفروض أو ما يسمى" التحقيق التجريبي للفروض"‪ ،‬أما الفلسفة‬
‫فتقوم على المنهج التأملي‪.‬‬
‫درسة كمية مغفال الناحية الكيفية بينما تركز الفلسفة على‬
‫يدرس العلم التجريبي الظواهر ا‬
‫درستها للظواهر‪ .‬أحكام العلم تقريرية أي ال تقرر أكثر مما هو موجود في‬
‫الجانب الكيفي عند ا‬
‫الواقع الخارجي‪ ،‬أما أحكام الفلسفة فهي أحكام معيارية تبحث فيما ينبغي أن يكون أو فيما‬
‫يجب أن يكون وليس ما هو كائن بالفعل‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ب‪ -‬نقاط االلتقاء بين العلم والفلسفة‪.‬‬
‫ال شك أن التفكير الفلسفي بوصفه تفكي اَر منهجياَ منظماَ يتالقى مع التفكير العلمي في‬
‫عدة نقاط أهمها‪:‬‬
‫إذا التفكير العلمي تفكي اَر نقدياَ يتجنب اآلراء السابقة واألهواء الذاتية واألحكام المتسرعة فإن‬
‫التفكير الفلسفي أيضاَ تفكير نقدي ال يتقبل فيه الفيلسوف أي حكم إالّ بعد أن يتساءل عن قيمة‬
‫هذا الحكم‪.‬‬
‫يدور التفكير العلمي في معظمه حول وقائع‪ ،‬في حين أن التفكير الفلسفي قّلما يهتم بمالحظة‬
‫الظواهر واستقراء الواقع‪ ،‬كذلك يالحظ أنه إذا كان الفالسفة فدأبوا حيناَ من الزمن على االكتفاء‬
‫بالمعلومات التي تقدمها التجربة الحسية العادية فإن من المؤكد اليوم أن االستعانة بالكشوف‬
‫العلمية الحديثة قد أصبحت هي قاعدة التفكير الفلسفي الحديث‪.‬‬
‫ج‪ -‬صلة الفلسفة بالعلم‪.‬‬
‫صلة الفلسفة بالعلم وثيقة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ فاليونانيون كانوا يربطون بين‬
‫العلم والفلسفة فطاليس كان شخصية تجتمع فيها تجربة العالم وفكر الفيلسوف وكان فيثاغورس‬
‫رياضياَ وفيلسوفاَ وكانت مدرسته التي عرفت بالفيثاغورية بمثابة نهضة فكرية متعددة الجوانب‬
‫واهتمت بعلوم كثيرة في الزمن القديم كالرياضيات والموسيقى والفلك والطب‪ ،‬وكان أفالطون‬
‫يطالب بضرورة دراسة الفيلسوف للرياضيات إلى جانب الفلسفة ومن ثم كتب على باب أكاديميته‬
‫"ال يطرق بابنا ما لم يكن رياضياَ"‪ .‬كما أن مؤلفات أرسطو كانت بمثابة دائرة معارف حاوية‬
‫لعلوم عصره‪.‬‬
‫فالفلسفة عند اليونان كانت مرتبطة بالعلم ارتباطاَ وثيقاَ‪ ،‬وقد ظل هذا االرتباط قائماَ في‬

‫العصر الوسيط في الشرق اإلسالمي والغرب المسيحي على السواء فالكندي مثالَ كان عالماَ‬
‫قبل أن يكون فيلسوفاَ ألنه اهتم بالدراسات الرياضية والطبيعية‪ .‬ما نريد أن نؤكده أن الفلسفة‬
‫ظلت مرتبطة بالعلم في العصور الوسطى بدليل اهتمام فالسفة اإلسالم وغيرهم بالدراسات‬
‫واألبحاث العلمية المختلفة في فروع المعرفة من طب وصيدلة ورياضيات‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫إن هذا االرتباط بين العلم والفلسفة لم يدم طويالَ‪ ،‬ولكن سرعان ما بدأت العلوم في‬
‫االنفصال أو االستقالل مع مطلع العصر الحديث خاصة بعد الثورة التي قام بها أوغست‬
‫كونت ارئد االتجاه الوضعي‪ ،‬وظهور التيار التجريبي على يد فرنسيس بيكون فاستقلت الفيزياء‬
‫أوالَ في القرن السابع عشر بفضل غاليليو وديكارت ونيوتن ألنها أرت ضرورة استناد أبحاثها‬
‫على المالحظة والتجربة دون أية فروض ميتافيزيقية‪.‬‬
‫ولكن يمكن القول إن نزعة العداء بين العلم والفلسفة التي شهدها القرن التاسع عشر لم‬
‫تدم طويالَ إذ سرعان ما تغير الحال في القرن العشرين وبدأ الوفاق يعود بينهما‪ ،‬ألن العداء‬
‫أو االنفصال ال يمكن إال أن يكون إجحافاَ لكل منهما‪ ،‬وعلى هذا األساس فقد أشار الفيلسوف‬
‫الفرنسي المعاصر غاستون باشالر ‪ (1884-1962) Gaston Bachelard‬إلى ضرورة‬
‫الربط بين العلم والفلسفة إذ ال يحق للفيلسوف أن ينفصل عن أرض التجارب العلمية أثناء‬
‫تفلسفه‪ ،‬وأنه يجب أن يأخذ العلماء في اعتبارهم مذاهب الفالسفة ومجهوداتهم وخاصة التي‬
‫تهتم بالنقد وأن ال يستخفون بها‪ ،‬فلكي يتقدم العلم ويستمر في تقدمه البد من االقتراب من‬
‫الفلسفة‪ .‬مما يعني أن العالقة بين العلم والفلسفة عالقة وثيقة ومن ثم أصبح االنفصال الذي‬
‫يتصوره بعض العلماء فيما مضى ال معنى له‪.‬‬

‫‪ -2‬عالقة الفلسفة بالدين‪:‬‬


‫أ‪ -‬عالقة التعارض‪:‬‬
‫ذهب العديد من الفالسفة إلى القول باالختالف والتعارض في طبيعة العالقة التي‬
‫تربط الفلسفة والدين فهذا الفيلسوف الهولندي باروخ سبينو از )‪(Baroche Spinoza‬‬
‫(‪ )1677-1632‬يرى بوجوب الفصل التام بين الطرفين فقال‪« :‬ال صلة تقرنهما وأن كل‬
‫منهما يمثل طريق سعادة ألهله كل في مجاله» أما في التراث اإلسالمي فنجد أبا سليمان‬
‫السجستاني (‪ )1000-932‬اإليراني يؤكد هو اآلخر على ضرورة الفصل بين الطرفين لما‬
‫بينهما من خالف في الغاية والمصدر والطبيعة‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫ب‪ -‬عالقة االتصال‪:‬‬
‫لقد استخدمت الفلسفة عند قدماء الشرقيين كأداة لخدمة الدين وتأكيد المعتقدات‬
‫الدينية‪ ،‬واستخدمت في العصور الوسطى كأداة للتوفيق بين العقل والنقل أو بين الحكمة‬
‫والشريعة‪ ،‬واستخدمها علماء الالهوت في الغرب وعلماء الكالم في اإلسالم للدفاع عن العقيدة‬
‫الدينية‪ .‬فقد أرى القديس أنسلم ‪ St. Anselm‬أن اإليمان ضروري للعقل وشرط أساسي‬
‫لصحة التفكير‪ .‬كما حدد علماء الالهوت مهمتهم في البحث في مسألة اإللهيات بطريقة منطقية‬
‫وبتحليل منطقي وهذا لغرض فهم العقيدة المسيحية والدفاع عنها للوقوف في وجه االنتقادات‬
‫التي تعرضت إليها‪ ،‬مع محاولة تسهيل اإلصالح الديني ونشر المسيحية‪ ،‬األمر الذي نستشفه‬
‫مع المصلح الديني األلماني مارتن لوثر )‪ )1546-1483( (Martin Luther‬م مؤسس‬
‫المذهب البروتستانتي‪.‬‬
‫كثير عند المسلمين الذين أسسوا علم الكالم لغرض الدفاع عن العقيدة‬
‫وال يختلف األمر اَ‬
‫اإلسالمية بالحجاج العقلية وهو ما يتضح من تعريف ابن خلدون (‪ )1406-1333‬لهذا العلم‬
‫عندما يقول عنه‪ « :‬هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد اإليمانية باألدلة العقلية‪ ،‬والرد على‬
‫المبتدعة المنحرفين في االعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة»‪.‬‬
‫أما الفالسفة المسلمين فقد ساروا على نهج التوفيق سواء بالنسبة للكندي أو الفارابي‬
‫أو ابن سينا‪ ،‬إال أن ابن رشد حسب الكثير من الباحثين أحسن من عبر عن هذا التوافق في‬
‫كتابه المسمى «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة من االتصال» حيث قال‪« :‬وإذا كانت‬
‫هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق‪ ،‬فإنا معشر المسلمين‪ ،‬نعلم على‬
‫القطع أنه ال يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع‪ .‬فإن الحق ال يضاد الحق‪،‬‬
‫بل يوافقه ويشهد له»‪ .‬وهذا معناه أن النظر الذي دعا إليه الدين هو نفسه تطبيق للفلسفة‪.‬‬
‫‪ -3‬عالقة الفلسفة بالفن‪:‬‬
‫ال شك أن عالقة اإلنسان باألعمال الفلسفية تختلف عن عالقته باآلثار الفنية ذلك أن‬
‫أعمال الفلسفة تقدم لنا معرفة عقلية تقتضي جهدا فكريا وتتوجه إلى فهمنا وعقلنا‪ .‬فهي تقدم‬
‫‪5‬‬
‫في الغالب معارفا مجردة‪ ،‬في حين األثار الفنية تزين وجودنا وتتوجه إلى أحاسيسنا‪ ،‬أي أن‬
‫الفن يرتد إلى المحسوس ويجلب المتعة‪ ،‬والتساؤل المطروح ما العالقة بين هذين المفهومين‬
‫اللذان ينتميان إلى مجالين مختلفين من النشاط اإلنساني؟ وهل هناك قواسم مشتركة بينهما أم‬
‫أنهما ال يتقاطعان؟ وبتعبير آخر ما هو تصور الفالسفة للعالقة بين الفن والفلسفة؟ هل العالقة‬
‫بينهما عالقة انسجام وتجانس أم عالقة صراع وتوتر؟‬
‫أ‪ -‬الداللة العامة للفظ الفن‪:‬‬
‫الفن بمفهومه العام قبل القرن الثامن عشر كان يرادف التقنية أي كل نشاط منتج‪ ،‬ولم‬
‫يكن يدل على النشاط المبدع آلثار جميلة‪ ،‬بحيث أن الفن عند أرسطو هو مجال "البويزيس‬
‫)‪ (Poiesis‬أي النشاط الصناعي الذي يبدع آثا ار خارجية استنادا إلى قواعد محددة سلفا‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫مميز عن الحرفة‪ ،‬إنه فعل خارجي يستهدف تحويل الطبيعة‪.‬‬


‫ا‬ ‫عموما لم يكن الفن‬
‫وبهذا ارتبط الفن بالعمل اليدوي (الشغل) وابتعد عن العمل الفكري وبالتالي عن الفلسفة‬
‫في التصور اليوناني القديم‪.‬‬
‫غير أن الفن ما لبث أن تحرر من طابعه الحرفي المنتج‪ ،‬ليدل على نشاط حر سام يعمل‬
‫الفنان من خالله على بلورة أحاسيسه الداخلية في عمل فني يعكس نظرته الخاصة للعالم‬
‫واإلنسان والعالقة بينهما‪.‬‬
‫ب‪ -‬مفهوم الفلسفة‪:‬‬
‫كتعريف أولي تاريخي عام‪ ،‬تتحدد الفلسفة منذ سقراط باعتبارها تساؤال نقديا ألفكارنا‬
‫المسبقة‪ ،‬يساعدنا على اتخاذ مسافة مقبولة من مقتضيات المعيش اليومي حتى نتمكن من‬
‫رؤيته بكيفية واضحة‪ ،‬بعيدا عن مظاهره المباشرة‪ .‬وهي أيضا تساؤل حول وضع اإلنسان‬
‫ومعنى الحياة‪ ،‬وأصل الكون وطبيعته‪ ،‬فتبحث عن ماهية األشياء وحقيقتها‪ ،‬مما يجعل منها‬
‫مرادفة للميتافيزيقا‪ .‬وباختصار إنها المجال الذي يمارس فيه التفكير فعاليته بكل وضوح وتميز‬

‫‪ Poiesis - 1‬كلمة يونانية تدل على عمل ابداعي لم يكن موجودا من قبل‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫اعتمادا على المفاهيم‪ .‬وبعبارة موجزة فهي تمثل نشاطا عقالنيا ال يرتد إلى العقل فقط بل‬
‫ويتوجه إليه أيضا‪.‬‬
‫ج‪ -‬االختالف بين الفلسفة والفن‪:‬‬
‫انطالقا من المفهومين السابقين يبدو للوهلة األولى أنه ال وجود ألية عالقة بين هذين‬
‫النشاطين مادام الفن يتعلق بالمحسوس كمحتوى ووسيلة للتعبير‪ ،‬أما الفلسفة فترتبط بالمجرد‬
‫كمحتوى والمفهوم كوسيلة للتعبير‪ ،‬وبالواقع المفكر فيه باعتباره أكثر صدقا من المظاهر‬
‫المباشرة‪ .‬ومن هنا يبدو أنه ال وجود للفلسفة في الفن وال وجود للفن في الفلسفة‪ .‬بصيغة أخرى‬
‫إن الفلسفة ليست فنا‪ ،‬كما أن الفن ليس فلسفة‪ .‬ويتجلى االختالف بينهما بصورة جلية من‬
‫حيث المنهج بحيث يرتبط الفن بالعاطفة والخيال في حين ترتبط الفلسفة بالعقل‪ ،‬ثم أن الفن‬
‫يتسم بالغموض‪ ،‬وتدفق المعاني بينما تقوم الفلسفة على المفهوم وتتوخى صرامة المعاني‬
‫ووضوحها‪ .‬ولهذا عندما يربط كانط الفن بالعبقرية يريد بذلك أن يقنعنا بأن الفن مختلف عن‬
‫الفلسفة من حيث إنه متعلق بالعبقرية‪ .‬فالقول بأن الفنان عبقري معناه أنه ال يعرف بالضبط‬
‫ما يقوم به‪ ،‬وال يستطيع تفسير عمله‪ ،‬إننا هنا بعيدون عن روح الوعي بالذات‪ ،‬بل وأيضا عن‬
‫مجال الوضوح‪ ،‬فالعبقرية كما يحددها كانط كملكة األفكار اإلستيطيقية أي كتمثالت غير قابلة‬
‫لالختزال وال يمكن ردها إلى مفهوم محدد ألنها غير قابلة للتفكير‪.‬‬
‫وهكذا فنحن عندما نحلل عمال فنيا فنحن نهدف إلى إبراز مجمل الحياة اإلنسانية التي‬
‫ال يمكن اإلحاطة بدالالتها المتعددة‪ ،‬وفي مقابل ذلك فالفلسفة عندما تتحدث عن هذه الحياة‬
‫فإنها تسعى إلى ذلك بقدر كبير من الوضوح‪ .‬إن الفيلسوف الذي يدعي التفكير استنادا إلى‬
‫العبقرية ال يعتبر فيلسوفا‪ ،‬إذ أن الفلسفة ليست وليدة العبقرية‪.‬‬
‫أما من حيث المضمون كما أشرنا من قبل فالفن ينتمي إلى مجال المظاهر الحسية التي‬
‫ال تقود إال إلى سطح األشياء‪ ،‬في حين الفيلسوف يتعارض مع هذا المجال‪ ،‬باعتبار الفلسفة‬
‫هي بحث عن الحقيقة فال تكتفي بما هو سطحي‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وعلى هذا األساس استبعد افالطون الفن من حقل الفلسفة واعتبره مقابال لها‪ ،‬بل ويشكل‬
‫خطر عليها‪ ،‬باعتبار الفن عنده ينتمي إلى مجال الخطابة‪ ،‬فهو يخدع الحواس ويدجنها وبالتالي‬
‫ا‬
‫فهو يبعدنا عن الحقيقة‪ .‬إن صورة الشاعر في الجمهورية (الكتابين ‪3‬و‪ )9‬تتعارض مع صورة‬
‫الفيلسوف التي يرسمها لنا في الكتاب السابع‪ .‬إن الفنان أو الشاعر بعيد عن الحقيقة بثالث‬
‫مرتب‪ ،‬فعندما ينقل شيئا ما فإن ما ينقله ال يعدو أن يكون نسخة مشوهة لمثال الحقيقة‪ .‬إن‬
‫ا‬
‫الشاعر يحيد عن الحقيقة ويدعي بلوغها في حين أنه ال يمتلك أية معرفة حقيقية‪ .‬لذلك فهو‬
‫مختلف مع الفيلسوف‪ ،‬ويمكن أن يعيقه عن القيام بوظيفته‪ .‬إن الفن خطير والفلسفة تقوم بدور‬
‫التنبيه إلى ذلك‪ .‬تتحدد الفلسفة إذن من خالل تعارضها مع الفن بتفوقها عليه‪ ،‬لذلك ينبغي أن‬
‫تحل محله‪.‬‬
‫د‪ -‬تجاوز التعارض بين الفلسفة والفن‬
‫● حاجة الفلسفة للفن‪:‬‬
‫إن الصراع األصلي بين والشعر والفلسفة الذي يتحدث عنه أفالطون في الكتاب السابع‬
‫من الجمهورية‪ ،‬يعود أصله إلى خطاب الفيلسوف الذي يدل على أن الفلسفة جاءت لتحل محل‬
‫الشعر‪ .‬في اليونان القديمة نشأ العقل ليحل محل األسطورة ويعارض مجال المظاهر الحسية‪.‬‬
‫غير أن هذا التحول يدل أيضا على أن الفن ضروري للفلسفة‪ .‬لقد كانت الفلسفة باستمرار‬
‫تساؤال عن ماهية الفن‪ ،‬فاعتبر هيجل الفن موضوعا جدي ار بالمعالجة الفلسفية إلى حد القول‬
‫بأن هناك فلسفة الفن توجد في قلب الفلسفة ذاتها‪ .‬لقد شكل الفن بمفاهيمه الخاصة موضوعا‬
‫للتفكير والمساءلة الفلسفيين‪.‬‬
‫إننا نجد فالسفة أمثال جورج فيليب فريدريك المعروف باسم نوفاليس (‪)1801-1772‬‬
‫أو نيتشه )‪- )1900-1844( (Nietzsche‬صاحب كتاب هكذا تكلم زرادشت‪ -‬قد وجدا أن‬
‫أفضل وسيلة لتمرير محتوى فلسفي هو الفن‪ ،‬بالرغم مما ذهب إليه هيجل )‪-1770( (Hegel‬‬
‫‪ )1831‬من أن للفن نفس مضمون الفلسفة‪ ،‬غير أن الفن يعبر عنه بصورة أدنى من الصورة‬
‫التي تعبر بها الفلسفة‪ .‬كما نجد الفرنسي ذو األصل الفرنسي وسيلي كانديسكي ‪(Wassily‬‬
‫‪8‬‬
‫)‪-)1944-1866( Kandisky‬مؤسس الفن التجريدي‪ -‬يطابق بين الفن والميتافيزيقا فيرى‬
‫في كتابه البعد الروحي في الفن أن الفن يتوخى معرفة مطلقة باألشياء‪ ،‬بحيث يجعلنا نرى ما‬
‫تخفيه عنا المظاهر الحسية‪.‬‬
‫● الفن من أفضل الوسائل لعرض مضمون الفلسفة‪:‬‬
‫هل صحيح أن مضمون الفلسفة‪ ،‬كما نعتقد‪ ،‬غير مالئم كأسلوب للعرض؟ أال يمكن‬
‫أن يكون الفن على العكس من ذلك أفضل وسيلة لنقل نمط من األفكار التي يريد الفيلسوف‬
‫أو الميتافيزيقي تقريبها؟‬
‫يرى رودولف كارناب )‪- )1970-1891( (R. Carnap‬من فالسفة الوضعية‬
‫درسة له موسومة بتجاوز الميتافيزيقا بفضل التحليل المنطقي للغة ‪(Le‬‬
‫المنطقية‪ -‬في ا‬
‫)‪Dépassement de la métaphysique par l ‘analyse logique du langage‬‬
‫عام ‪ 1929‬م‪ ،‬أنه كلما حاول الفيلسوف نقل رؤيته أو إحساسه تجاه العالم كلما تعارض مع‬
‫صرمة‬
‫االنخرط ضمن مجال الفن‪ ،‬إن الفلسفة ليست أكثر ا‬
‫ا‬ ‫العلم‪ ،‬والنتيجة أنه ال مفر له من‬
‫من الفن‪ ،‬وهذا األخير بإمكانه أن يقوم بما ال تستطيع الفلسفة القيام به‪ .‬فضال عن هذا فمن‬
‫المؤكد أنه عندما يكون الفن أو الفلسفة في أزمة‪ ،‬فإن الواحد منهما يأخذ مكان اآلخر‪ ،‬فبالرغم‬
‫باستمرر‪ ،‬وهذا‬
‫ا‬ ‫من الطابع التقابلي الذي تتخذه العالقة بينهما يبدو أنهما يتبادالن دائما األدوار‬
‫ما يوحي بأن الحدود بينهما تتسم‬
‫بالمرونة‪ .‬هكذا نالحظ مثال أن الرومانسيين األلمان أمثال جوتليب فيخته ‪(Gottlieb‬‬
‫)‪ )1814-1762( Fichte‬و فريدريك شيلينغ (‪)1854-1775‬‬
‫)‪ (F.Schelling‬و نوفاليس )‪ )1801-1772( (Novalis‬كان هدفهم استبدال الفلسفة‬
‫بالفن‪ ،‬ففي نظرهم أن الفلسفة ما دامت سجينة الخطاب المفاهيمي أو خطاب (الذات‪/‬العالم)‬
‫فإنها لن تحقق ما تسعى جاهدة إلى اكتشافه‪ ،‬والفن وحده القادر على اكتشاف ما ال تستطيع‬
‫الفلسفة استجالءه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫●حقيقة التعاقب بين الفن والفلسفة‪:‬‬
‫إن الخضوع الفلسفي للفن ينبغي أن يقود إلى نقد الموقف الفلسفي من الفن الذي ال ينئ‬
‫عن سوء فهم خصوصية الفن‪ ،‬إضافة إلى أنه يمكنه أن يقع ضحية هذا الخضوع مثلما نالحظه‬
‫اليوم‪ ،‬كما لو أن بعض الفنانين تنتابهم الغيرة تجاه الفلسفة أو يظنون أن عليهم القيام بفن‬
‫فلسفي‪ .‬ومن شأن هذا أن يؤدي فقط إلى إفقاد الفن لخصوصيته‪ ،‬بل وإلى إفقاره أيضا‪.‬‬
‫االعترف‬
‫ا‬ ‫لكن بأي حق يمكن اعتبار الفن والفلسفة ينتميان إلى مجال واحد؟ لماذا ال يتم‬
‫باختالفهما؟‬
‫إن الفلسفة ال يمكنها إال أن تخطيء في حق الفن عندما تريد أن تبحث فيه عما يدعمها‬
‫ويضفي عليها المشروعية‪ ،‬ترغب الفلسفة في تحديد وضع الفن بالبحث عن اتخاذ مسافة منه‬
‫باالقتراب من القيم العليا للفلسفة‪ ،‬وهو الشيء الذي يؤدي إلى التفكير في الفن من الخارج‪،‬‬
‫وهذا ما قاد أفالطون إلى االنتقاص من الفن كما رأينا‪ ،‬إن الفلسفة هي التي تؤسس غياب‬
‫انتمائها إلى الفن‪ ،‬ففي التصانيف التي أقامها الفالسفة ألنماط الفنون نجد أن الشعر أو األدب‬
‫يحتالن أعلى المراتب‪ ،‬وعندما يريد الفالسفة استبدال الفلسفة بالفن فإن هذين النمطين من الفن‬
‫هما اللذان يتم التركيز عليهما‪ ،‬وفي هذا الصدد يبدو مهما اإلحالة على األطروحة التي يعرضها‬
‫مارتن هايدجر )‪ )1976-1889( (M. Heidegger‬في أصل العمل الفني في كتابه‬
‫(‪.)Chemins qui ne mènent nulle part‬‬
‫االستنتاج‪:‬‬
‫ننتهي مما سبق إلى أنه وبالرغم من أن الحقيقة في الدين تنزل من السماء إلى األرض‬
‫أي من الفوق إلى التحت عن طريق األنبياء والرسل مما يحصر مهمة اإلنسان أو المخلوق‬
‫في اإلصغاء والتطبيق والحمد والشكر في حين الحقيقة في الفلسفة تصعد من األرض إلى‬
‫السماء أي من األسفل إلى األعلى يبدعها اإلنسان بنفسه‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أن الفلسفة تعادي‬
‫الدين فالدين الحق ال يقف حجرة عثر أمام التفكير الفلسفي‪ .‬وفي األخير يمكننا التساؤل هل‬

‫‪10‬‬
‫الصرع بين الفلسفة لم ينته بعد فال الفلسفة‬
‫ا‬ ‫الصرع بين الفلسفة والدين؟ والجواب إن‬
‫ا‬ ‫انتهى‬
‫تقهقرت وال التعاليم الدينية سقطت ولذا بقيت المشكلة عالقة لم تحل‪.‬‬
‫كما يمكن القول إنه ورغم االختالف الظاهري بين الفلسفة والعلم إال أن الفلسفة عاشت‬
‫في وئام مع العلم تماما كما تعيش األم مع ابنها الذكي‪ .‬فهناك صالت ووشائج وثيقة تربط‬
‫بين العلم والفلسفة إذ الفلسفة بغير علم عاجزة والعلم بغير فلسفة قليل الرؤية مما يعني أن‬
‫العالقة بينهما هي عالقة تكامل‪ ،‬فالعلم ال يستغني عن الفلسفة التي تمده باألسس والمناهج‬
‫والعالقات والقدرة على الربط والتعليل والشمول‪ ،‬فالفيلسوف على حد تعبير هنتر ميد يشغل‬
‫مركز االستقبال العقلي لكل نتائج العلوم‪ .‬مما يدل أن النقطة التي ينتهي عندها العلم ال تمثل‬
‫نقطة البدء بالنسبة للفلسفة‪ .‬والفيلسوف قد يهتدي بآخر ما وصل إليه العلم من نتائج عصره‪.‬‬
‫التيارت‬
‫ا‬ ‫ذلك أن الفيلسوف كما يقال‪ " :‬الفيلسوف ابن عصره" فهو ابن عصره سواء من ناحية‬
‫التيارت السياسية‪ ،‬االجتماعية واالقتصادية واألدبية‪.‬‬
‫ا‬ ‫العلمية السائدة أو من ناحية‬
‫أما عن عالقة الفلسفة بالفن فنستطيع القول إنه وبالرغم من الطابع التقابلي الذي تتخذه‬
‫باستمرر‪ ،‬وهو ما يعني أن الحدود بينهما تتسم‬
‫ا‬ ‫العالقة بينهما يبدو أنهما يتبادالن دائما األدوار‬
‫بالمرونة ذلك أن الفلسفة في حاجة إلى الفن كما أن الموضوعات الفنية تخضع للتساؤل‬
‫والتحليل الفلسفيين‪.‬‬

‫‪11‬‬

You might also like