Professional Documents
Culture Documents
السيد بدر السماوي
السيد بدر السماوي
األكاديمية النقابية
سبتمبر 2020
التخطيط
المالحق
لقد كان للنقابات في جميع أنحاء العالم وخاصة في البلدان الرأسمالية حيث نمت
وتطورت الطبقة العاملة دور هام في بلورة المطالب وتأطير النضاالت في مجال الضمان
االجتماعي وكذلك كان األمر في البلدان المستعمرة أو ما يسمى ببلدان العالم الثالث سواء في
مرحلة النضال ضد االستعمار أو في مرحلة بناء الدولة الوطنية.
وفي تونس كان للحركة النقابية دور كبير في تبني المطالب المتعلقة بالضمان
االجتماعي خالل الفترة االستعمارية بداية بنضاالت العمال في ظل جامعة عموم العملة
التونسية تحت قيادة الزعيم محمد علي الحامي أو في ظل االتحاد العام التونسي للشغل تحت
قيادة الشهيد فرحات حشاد .كما كان لقادة االتحاد العام التونسي للشغل دور في تأسيس أنظمة
الضمان االجتماعي في نهاية الخمسينات من القرن الماضي في ظل مسار بناء الدولة
الوطنية ونخص بالذكر الزعيم أحمد بن صالح رحمة هللا عليه.
لذلك تسعى هذه الدراسة إلى التعريف بأهم المحطات التي مرت بها أنظمة
الضمان االجتماعي في العالم ومميزاتها .كما تستعرض أبرز تواريخ نشأة الضمان
االجتماعي في تونس مع إبراز دور الحركة النقابية في هذا المجال بالذات والذي لم ينل حظه
من قبل المؤرخين إلى حد الساعة.
وعسى أن تنجح األكاديمية النقابية في تدارك هذا النقص وإبراز دور االتحاد
العام التونسي للشغل في تأسيس أنظمة الضمان االجتماعي في تونس.
وفي الختام الشكر موصول لقسم التكوين النقابي واألنشطة الثقافية ولألمين العام
المساعد األخ محمد المسلمي.
د .بدر السماوي
4
عرف الضمان االجتماعي منذ نشأته أشكاال متنوعة بداية من المجتمع التقليدي إلى
المجتمع المعاصر واختلف تطبيقه من بلد إلى بلد آخر.
منذ أن وجد اإلنسان على وجه األرض وهو يصارع من أجل البقاء معتمدا أساسا على
مواجهة قوى الطبيعة وساعيا إلى توفير القوت والملبس والمأوى وغيرها من وسائل الحياة
الضرورية .لقد كان العمل هو سالح اإلنسان للمحافظة على وجوده وكان انقطاعه عنه
خطرا مباشرا يتهدده.
وإن كان العمل مرتبطا بقدرة اإلنسان على بذل الجهد فإن هذه القدرة كثيرا ما تتعرض
إلى مخاطر والى عراقيل ال مفر منها مثل المرض أو العجز أو اإلصابة ،لذلك لجأ اإلنسان
إلى وسائل متعددة لتوقي هذه المخاطر أو لعالج آثارها.
ولو عدنا إلى الوسائل التي اعتمدها اإلنسان منذ أن وجد على وجه البسيطة نجدها ال
تخرج عن وسيلتين اثنتين وهما التضامن االجتماعي واالدخار أو تركيم الثروة .وقد تواصل
االعتماد على هذين الوسيلتين إلى أن ظهر المجتمع الرأسمالي في أوروبا في أخر القرن
الثامن عشر حيث تحللت العالقات التقليدية وتطور نمط جديد من العالقات قائم على الفردية.
وأولها المساعدة الفردية وتتمثل في تقديم العون بصفة فردية من شخص إلى شخص
آخر وتكمن حدود هذه الوسيلة في أنها محدودة الفاعلية.
أما الطريقة الثانية فهي التعاون العائلي وتتمثل في تقديم مساعدات من بعض أفراد
األسرة إلى البعض اآلخر بحكم صلة القرابة .ولئن كان هذا الشكل يصلح في بعض الحاالت
البسيطة إال أنه ال يمكن أن يمثل حال دائما للمخاطر التي تتسبب في أضرار طويلة المدى أو
عميقة التأثير.
وأخيرا يمثل التعاون الجماعي وسيلة تقوم بها الجمعيات الخيرية ولكن تدخلها غير
إلزامي وبالتالي فهي محدودة التأثير.
وأول هذه الوسائل هي االدخار الفردي والمتمثل في قيام الفرد بادخار جزء من دخله
لوقت الحاجة .إال أن هذه الوسيلة غير مضمونة نظرا إلى أن اإلنسان قد ال يجد ما يدخره كما
أن ما ادخره قد يفقد قيمته بمرور الوقت.
وثاني هذه الوسائل جمعيات العون التبادلي وهي جمعيات أنشأت للقيام بادخار
جماعي من قبل مجموعة من األفراد وما يميزها عن التعاون العائلي أنها ال تنتظر الخطر بل
تحتاط له مسبقا بجمع مال أو ما قد يصلح عينا عند الحاجة.
وأخيرا نشير إلى التأمين التجاري الذي يتميز بوجود وسيط مهمته جمع االشتراكات
ودفع التعويضات لمن يستحقها وذلك مقابل ربح يحصل عليه.
مثل قيام المجتمع الصناعي على المستوى االقتصادي وقيام الثورة الفرنسية على
المستوى السياسي نقطة تحول كبيرة في تاريخ البشرية أثرت في الجوانب االجتماعية .فقد
تفككت العالقات االجتماعية التقليدية المرتبطة بالمجتمع الزراعي ونشأت طبقات اجتماعية
جديدة .ورفعت البورجوازية شعارات الحرية الفردية واالقتصاد الحر مما شجع الرأسماليين
على استغالل العمال وهضم حقوقهم .كما انهارت في ظل هذه الظروف أشكال التضامن
وتراجعت أساليب التأمين التقليدية وساءت أحوال العمال وازدادت أخطار المهنة وارتفع عدد
حوادث الشغل وعجز العمال عن القيام بأعبائهم العائلية.
إال أن تحركات العمال الموالية التي اضطروا للقيام بها والنضاالت التي خاضوها
فرضت على البورجوازية االستجابة إلى بعض المطالب من أجل الحفاظ على وجودها.
فبدأت تظهر في هذا اإلطار أول المكاسب في شكل تأمينات اجتماعية.
أ -ألمانيا :نمت الرأسمالية بسرعة في ألمانيا ونمت معها طبقة عاملة ناضجة وقوية مما أدى
إلى صعود االشتراكيين إلى البرلمان في سبعينات القرن التاسع عشر .وقد اضطر المستشار
األلماني بسمارك Bismarckإلى سحب البساط من تحت أرجل االشتراكيين فقدم بعض
التنازالت مثل إقرار قانون التأمين على المرض سنة 1883وقانون التأمين على حوادث
الشغل سنة 1884وقانون التأمين على الشيخوخة والعجز سنة .1889
ب -فرنسا :كانت فرنسا من أول البلدان التي تأثرت بالتشريع األلماني فقد صدر سنة 1898
قانون التأمين على حوادث الشغل .أما بعد الحرب العالمية األولى وبعد استرجاع فرنسا
لمقاطعتي االلزاس واللوران فقد أصبح العمال الفرنسيون يطالبون بتنظيرهم بما هو معمول
به في المقاطعتين .فاضطرت السلطات الفرنسية إلى إصدار قانون للتأمينات االجتماعية سنة
.1928
ثم عرفت فرنسا إصدار مذكرة 4أكتوبر 1945حول الضمان االجتماعي االجباري
والشامل على يدي حكومة المقاومة برئاسة شارل ديغول الذي قد يكون تأثر باقتراح بيفردج
سنة 1942لما كان مقيما في منفاه في لندن .وساندها في هذا التوجه الحزب الشيوعي
الفرنسي والجامعة العامة للشغل .كما أن فرنسا وجدت نفسها في أشد الحاجة إلى النهوض
بقواها العاملة من أجل إعادة اعمار ما خلفته الحرب العالمية الثانية.
د .بدر السماوي
7
ج -الواليات المتحدة األمريكية :تعتبر الواليات المتحدة من البلدان التي تأخر فيها ظهور
الضمان االجتماعي نسبيا .وقد يعود ذلك إلى التقدم االقتصادي الذي وفر ازدهارا اجتماعيا
و ظروفا مريحة للعمال ولمجموع السكان ،إضافة إلى عدم دخول الواليات المتحدة الحرب
العالمية األولى .إال أن األزمة التي عصفت بها في 1929جعلت عمالها يعرفون البطالة
والتشرد وتزامن ذلك مع صعود البديل السوفياتي بما يحمله من أفكار اشتراكية تغري الطبقة
العاملة .فصدر سنة 1935قانون الضمان االجتماعي .وكانت أهم أهدافه تلبية الحاجة عن
طريق إقامة تأمين على البطالة وتأمين على الشيخوخة.
د -بريطانيا :شهدت بريطانيا صدور أول قانون سنة 1911وهو قانون التأمين الوطني الذي
أقر بالتأمين في حاالت المرض واألمومة والعجز والبطالة .إال أن أهم إضافة تحسب لهذا
البلد التقرير الذي أعده اللورد " بيفريدج" Beveridgeحول الضمان االجتماعي والذي
قدمه إلى البرلمان سنة .1942فقد نادى بيفريدج باعتبار الضمان االجتماعي " نظام القضاء
على الحاجة " ودعا الدولة إلى إتباع سياسة تعتمد على توفير العمل لكل من هو قادر عليه.
ويتم التوصل إلى ضمان القدرة على العمل بواسطة االهتمام بصحة العمال ووقايتهم
وعالجهم .وبصفة عامة فقد تميزت دعوته بضرورة توحيد المساهمات والمنافع والهياكل.
هـ -االتحاد السوفياتي :برزت التجربة السوفياتية على نقيض تام مع كل التجارب السابقة
مكرسة مفهوما جديدا لتنظيم المجتمع قائما على الملكية المشتركة لوسائل اإلنتاج على
أنقاض المجتمع الرأسمالي .لذلك طبق االتحاد السوفياتي التغطية الشاملة لكافة أفراد
المجتمع ضد األخطار التي يمكن أن تهددهم أو تلحق بهم .وصدر سنة 1933قانون
التأمينات االجتماعية الذي تموله الدولة دون اللجوء إلى أي اقتطاع من أجور العمال.
أدت التحوالت الكبرى التي عرفتها البشرية خاصة في القرن العشرين وبسبب
الحربين العالميتين إلى تبلور مفهوم جديد للضمان االجتماعي باعتباره وسيلة تضمن
استقرار هذه المجتمعات وتقيها من أخطار التقلبات.
صدر اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان سنة 1948وقد خصص فصله الثاني
والعشرون للضمان االجتماعي:
" لكل شخص باعتباره عضوا في المجتمع الحق في الضمان االجتماعي وله الحق في
الحصول على إشباع حاجاته االقتصادية واالجتماعية والثقافية التي ال غنى عنها لكرامته
وللتطور الحر لشخصيته وذلك بفضل المجهود الوطني والتعاون الدولي مع مراعاة ظروف
كل دولة ومصادرها ".
" لكل شخص الحق في مستوى معيشة كاف لتأمين صحته وحاجته المادية وصحة وحاجات
أسرته وخاصة تلك المتعلقة بالمأكل والملبس والمسكن والخدمات الصحية والخدمات
االجتماعية الضرورية وله الحق في الضمان في حالة البطالة والمرض والعجز والترمل
والشيخوخة أو في الحاالت األخرى التي يفقد فيها وسائل العيش نتيجة ظروف خارجة عن
إرادته".
أقرت المنظمة الدولية للشغل االتفاقية الدولية عدد 102لسنة 1952المعروفة بالحد
األدنى لل ضمان االجتماعي والصادرة عن المؤتمر الدولي الخامس والثالثون سنة 1952
والتي دخلت حيز التطبيق سنة .1955وقد حددت هذه االتفاقية تسعة مخاطر يتعين مواجهتها
عن طريق الضمان االجتماعي وهي :العناية الطبية ،المرض ( التعويض عن األجر
المفقود) ،البطالة ،الشيخوخة ،حوادث الشغل واألمراض المهنية ،الوالدة ،العجز ،الوفاة،
األعباء العائلية.
وتلتزم كل دولة موقعة على االتفاقية بضمان ثالثة مخاطر على األقل من المخاطر
التسعة المذكورة على أن يكون من بينها بصورة إجبارية أحد المخاطر الخمسة التالية:
البطالة ،الشيخوخة ،العجز ،حوادث الشغل واألمراض المهنية ،الوفاة.
وتميزت هذه االتفاقية بمرونة من حيث تطبيقها على األشخاص فهي تقتضي أن تشمل
التغطية إما % 50من مجموع العمال أو % 20من مجموع المقيمين.
ج – العهد الدولي الخاص بالحقوق االقتصادية واالجتماعية والثقافية والذي اعتمد وعرض
للتوقيع والتصديق واالنضمام بموجب قرار الجمعية العامة لألمم المتحدة 2200المؤرخ في
16ديسمبر 1966حيث تنص المادة 9على ما يلي :تقر الدول األطراف في هذا العهد بحق
كل شخص في الضمان االجتماعي ،بما في ذلك التأمينات االجتماعية.
أشار تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية سنة 2011أن ثلث البلدان فقط ( يسكنها
% 28من السكان في العالم ) توفر أنظمة للحماية االجتماعية تشمل كافة المنافع المنصوص
عليها في االتفاقية الدولية عدد 102الصادرة سنة .1952أما بقية البلدان فال يتوفر فيها
سوى جزء من المنافع وال يستفيد بالتغطية االجتماعية سوى جزء من السكان .وإذا أخذنا
بعين االعتبار العدد الجملي للسكان بما في ذلك أولئك غير الناشطين فإن % 20فقط من
السكان في سن العمل في العالم يتمتعون هم وعائالتهم بالحماية االجتماعية الحقيقية والشاملة.
ونظ را لتواصل حرمان عدد ال بأس به من السكان في العالم من الحماية االجتماعية
في بداية القرن الواحد والعشرين أصدرت منظمة العمل الدولية التوصية عدد 202لسنة
2012المتعلقة باألرضية الدنيا للحماية االجتماعية .وتتضمن هذه األرضية مجموعة من
التعهدات األساسية في مجال الضمان االجتماعي على الصعيد الوطني من شأنها أن تحد من
الفقر والفاقة واإلقصاء االجتماعي .وتوفر هذه التعهدات أيضا لكل إنسان طيلة حياته الحق
في الصحة وحدا أدنى من وسائل العيش .وينطبق هذا االلتزام أيضا على من هم في سن
العمل وحرموا من الحصول على دخل محترم بسبب المرض أو األمومة أو العجز أو
البطالة ،وكذلك توفير دخل أدنى للمسنين.
تمثلت أهم المنافع في المنح العائلية واألجر الوحيد والجرايات والتأمين على المرض.
أ -المنح العائلية :استفاد الموظفون مباشرة إثر الحرب العالمية األولى بإسنادهم المنح العائلية
وذلك سنة 1918حيث سعت السلطات الفرنسية لتشجيع الوالدات لتعويض ما خسرته
خالل الحرب العالمية األولى وحث الموظفين الفرنسيين على االستقرار في تونس بضمان
مستوى عيش الئق بهم.
ب -الزيادة عن األجر الوحيد :كانت تسمى " منحة الزوجة في البيت" وأسندت إلى موظفي
القطاع العمومي سنة .1944وكان الهدف من ذلك تحسين المقدرة الشرائية لألعوان
العموميين التي تدهورت جراء الحرب العالمية الثانية .وكانت هذه المنحة تسند بصفة
متالزمة مع المنح العائلية لكل رجل ال تشتغل زوجته.
ت -الجرايات :كانت البداية باألمر العلي الصادر في 20جانفي 1898الذي أحدث نظاما
للتقاعد والعجز للموظفين واألعوان التونسيين وأسس " الجمعية االحتياطية للموظفين
واألعوان التونسيين" .وقد شملت الموظفين والمستخدمين المدنيين والعسكريين التابعين
للحكوم ة التونسية وكذلك الموظفين العاملين في األحباس والبلديات والمدرسة الصادقية.
غير أن أهم شريحة بعثت ألجلها هذه الجمعية كانت الموظفين الفرنسيين خاصة بعد أن تم
حشر اإلدارة بهم في السنوات األولى التي عقبت دخول االستعمار الفرنسي لتونس.
وكان النظام المعتمد هو الرسملة ويغطي الشيخوخة فقط .وكانت الجمعية تتمتع
بالشخصية المدنية المستقلة لكن ما لبثت أن حولتها السلط االستعمارية إلى صندوق تقاعد
تابع للدولة منذ سنة .1908
وتم إثر ذلك إنشاء صندوق تقاعد عمال التبغ سنة 1914وأسند التصرف فيه إلى
الجمعية االحتياطية وآخر للسكك الحديدية سنة .1925كما تم سنة 1948إحداث صندوق
للتقاعد ألعوان مؤسسات النقل والمؤسسات التي لها امتياز إنتاج وتوزيع الكهرباء والغاز
وعهد له بالتصرف في أنظمة التأمين على الشيخوخة والعجز والباقين على قيد الحياة بعد
وفاة المنتفع بالنسبة إلى المستخدمين والعملة للمؤسسات التالية التي يكون انخراطهم فيها
إجباريا :شركة شمال افريقيا للكهرباء والغاز والماء (صفاقس) واتحاد الكهرباء التونسي
(سوسة) وشركة الطاقة الكهربائية لمدينة بنزرت وشركة الطاقة الكهربائية لمنطقة فيفريفيل
واتحاد الكهرباء الكولونيال وأمنيون تونس للكهرباء ثم أصبح يعرف بصندوق مستخدمي
المصالح العمومية للكهرباء والغاز والنقل .وقد تمتع هذا الصندوق بضمان الدولة.
ث -أحدث نظام للحيطة االجتماعية لفائدة القطاع العام وأعوانه بمقتضى األمر العلي المؤرخ
في 12أفريل 1951ليشمل العمال واألعوان القارين التابعين للمؤسسات العمومية
والبلديات .وتتمثل الحيطة االجتماعية التي جاء بها هذا األمر في التعويض الجزئي عن
مصاريف العالج الخاص باألمراض الطويلة المدى والعمليات الجراحية كما تضمن إحداث
رأس مال عند الوفاة .وقد أسند التصرف فيه إلى الجمعية االحتياطية إلى أن تم تعويضها
بصندوق الحيطة االجتماعية المحدث سنة .1959
اقتصرت المنافع االجبارية على المنح العائلية والتعويض عن أضرار حوادث الشغل
واقتصرت المنافع االختيارية على التقاعد.
أ -المنح العائلية :ت م إحداث نظام للتعويض عن المنح العائلية بمقتضى األمر المؤرخ في 8
جوان .1944وكان الهدف جلب الفرنسيين لالستقرار بتونس من ناحية واستنهاض
العمال في القطاع الخاص لحثهم على المساهمة في مجهود إعادة االعمار في تونس على
غرار ما قامت به في بقية المستعمرات مثل الجزائر والمغرب .وقد كلفت ثالثة صناديق
بالتصرف فيه وهي:
وقد كانت هذه الصناديق النواة التي أسست الصندوق المركزي للمنافع العائلية سنة
1958والذي تحول إلى الصندوق الوطني للضمان االجتماعي سنة .1960
ب -التعويض عن األضرار الناجمة عن حوادث الشغل واألمراض المهنية :تم بمقتضى
األمر المؤرخ في 15مارس 1921إحداث نظام للتعويض عن األضرار الناتجة عن حوادث
الشغل .وهو يكاد يكون نسخة مطابقة للقانون الفرنسي الصادر سنة .1898وقد كانت أسباب
إصدار أمر 1921في تونس اضطرار السلطات الفرنسية إلى تأمين شروط استغالل اليد
العاملة إلنجاح المشروع االستعماري خاصة في قطاعي المناجم والرصيف حيث كانت تكثر
حوادث الشغل وألن السلطات الفرنسية كانت تعول على هذين القطاعين لتحسين مداخيلها
بعد الحرب العالمية األولى .وتواصل العمل بهذا القانون حتى سنة 1957حيث قامت السلطة
التونسية الجديدة بتنقيحه مضيفة إليه حوادث الطريق واألمراض المهنية.
ت -التقاعد :لم ي وجد في الفترة االستعمارية أي نظام قانوني للتأمين على الشيخوخة أو
العجز أو الباقين على قيد الحياة بعد وفاة المنتفع بجراية .بل وجدت أنظمة تعاقدية أي
اختيارية كان يتصرف فيها الصندوق التونسي للتقاعد المحدث سنة 1949وجمعية شمال
افريقيا للحيطة بتونس ويعمل الصندوقان تحت نظام الجمعيات .وفي فترة الحقة تم ادماج
هذه المؤسسات في " الشركة االحتياطية العامة للحيطة االجتماعية وذلك سنة 1962والتي
تم إدماجها في صندوق التأمين على الشيخوخة سنة .1978ومن أهم القطاعات التي
استفادت من هذا النظام التعاقدي البنوك والمؤسسات المالية التي كان يشتغل فيها أساسا
الفرنسيون.
الفصل الثاني :دور االتحاد العام التونسي للشغل في تأسيس منظومة الضمان االجتماعي
كان لالتحاد العام التونسي للشغل دور أساسي في تأسيس منظومة التغطية االجتماعية
سواء من خالل نضاالته ضد السلطات الفرنسية أو عبر مساهمته في وضع أسس الضمان
االجتماعي خالل السنوات األولى لالستقالل.
-1نضاالت االتحاد ومطالبه خالل الفترة االستعمارية
اهتم االتحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه بالمسألة االجتماعية وتحديدا التغطية
االجتماعية من ذلك ما ورد في التقرير األدبي الذي تقدم به فرحات حشاد أمام أول مؤتمر
لالتحاد والذي تحول إلى برنامج قاد النقابيين في نضاالتهم في السنوات الموالية .ومن بين
نقاط هذا البرنامج المطالبة " بالترفيع في المنح العائلية ومنحة التقاعد للعملة المسنين ومنح
البطالة وتطبيق التشريع االجتماعي على العملة الفالحيين".
وتفطن االتحاد إلى أالعيب النقابات الفرنسية التي كان أول همها توفير المنافع
االجتماعية لجاليتها وعند االقتضاء تمكين بعض التونسيين من بعض المنافع في محاولة
المتصاص الغضب وهو ما حذر منه فرحات حشاد عندما قال " :إن نظام الحماية الذي شعر
بخطر الموت واالضمحالل قام بمحاوالت بائسة إلدخال إصالحات اجتماعية غير متماسكة
األجزاء ال ترمي إال لحمل الطبقة الشغيلة على العدول عن أحد أعز طلباتها أال وهو إحداث
نظام حقيقي للضمان االجتماعي مطابق لحالة البالد االقتصادية واالجتماعية ".
فقد مارست النقابات الفرنسية التي كان يسيطر عليها االشتراكيون ويهيمن على
قيادتها الموظفون تأثيرا كبيرا في تلك الفترة في اتجاه محاولة إنقاذ وضعيتهم خاصة بعد أن
زاد ضغط التونسيين الحاصلين على شهادات والمطالبين بالعمل في اإلدارة التونسية .وكانت
الجامعة العامة للموظفين وهي نقابة فرنسية تستميت في الدفاع عن الموظفين الفرنسيين
الذين تعتبرهم " الركائز األكثر صالبة في هيكلة الحضور الفرنسي بتونس وإلدارة البالد ".
وكان حشاد مدركا للخطر الذي كانت تمثله هذه الجامعة على مصالح الموظفين التونسيين
فكتب " لقد أصبنا حين وقفنا في وجه جامعة المتوظفين الفرنسية إلحباط مساعيها الشيطانية
التي حاولت ولم تزل تحاول تدعيم أسباب السيطرة على هاته البالد".
وكانت مواقف االتحاد نابعة من قناعته بارتباط سوء األحوال االجتماعية بتدهور
الظروف االقتصادية مثلما أن الظروف االقتصادية ناشئة عن االستعمار السياسي .فقد توجه
فرحات حشاد في خطاب إلى العمال التونسيين يوم 26جويلية 1952قائال " :أين هي
ضماناتكم المشتركة وما ينبغي أن تجره عليكم من فوائد؟ وأين هو نظام األمن واإلسعاف
االجتماعي ؟ فإن انعدامه ألبلغ اعتراف وأكبر حجة على قلة اهتمام اإلدارة وأصحاب
رؤوس األموال بحياتكم نفسها".
وجدت السلطة التونسية نفسها بعد االستقالل أمام تشريعات مبعثرة وغير مالئمة
لألوضاع االقتصادية للبالد في أغلبها .وكانت أنظمة الضمان االجتماعي تركة من تركات
االستعمار الفرنسي الذي وضعها على قياس جاليته .واعترفت الحكومة الجديدة بهذا الفراغ
في تقرير صدر سنة 1957حول واقع الضمان االجتماعي بعد خروج االستعمار جاء فيه "
ال يوجد في تونس نظام متقن في هذا الميدان وإن كان بعض أصحاب العمل مثل البنوك
وشركات المناجم وشركات البترول قد وضعوا لعملتهم نظاما يضمن لهم األمن وسالمة
العيش عند الشيخوخة أو السقوط (العجز) أو اإلصابة بغير األمراض المتولدة عن المهنة
ويضمن لذويهم العيش الكريم في حالة الوفاة " .
وكان للبرنامج االقتصادي واال جتماعي الذي تبناه االتحاد العام التونسي للشغل في
مؤتمره السادس في سبتمبر 1956الفضل في ما شهدته تونس في الفترة الموالية من
انجازات في المجال االجتماعي .وقد اعتبر هذا التقرير وثيقة أساسية تبناها االتحاد ليناضل
من أجل تحقيقها إيمانا منه بأن التحرر االجتماعي ال يمكن أن يتم دون تحرر سياسي .وليس
من المبالغة ال قول أن االتحاد العام التونسي للشغل كان له برنامج أوضح من الحكومة بل
وأشمل بحيث تضمن مجموعة من اإلجراءات الواجب اتخاذها لمكافحة التخلف وتحسين
المداخيل بل إنه كان مصرا على إثبات كون االتحاد أصبح قوة من واجبها أن تتحمل
مسؤولياتها في بناء الدولة حسب ما ورد في التقرير األدبي للمؤتمر السادس المنعقد في
سبتمبر 1956أي بعد بضعة أشهر فقط من االستقالل.
وقد لعب أحمد بن صالح األمين العام السابق لالتحاد العام التونسي للشغل دورا هاما
في تنفيذ البرامج االجتماعية بعد تعيينه وزيرا للصحة ثم وزيرا للشؤون االجتماعية .وقد
عمل خالل توليه وزارة الصحة العمومية على تطهير البالد من عدة أمراض معدية مثل
السل والرمد وغيرها .وتم في ظرف ثالث سنوات ونصف مضاعفة التجهيزات الصحية.
وكان هذا العمل يندرج في إطار مجهود وطني اشترك فيه قادة نقابيون تولوا مناصب
وزارية إلى جانب أحمد بن صالح منهم عز الدين العباسي ومحمود الخياري ومصطفى
الفياللي واألمين الشابي ،وكان جميعهم مدركين أن هذه التدابير كانت تمثل " الشروط األولية
إلعداد سياسة اقتصادية متجانسة بدأ تطبيقها في الستينات " .وقد شرعت الحكومة في اتخاذ
عديد اإلجراءات التي كانت تصب بشكل أو بآخر في اتجاه توفير الظروف المالئمة لتأسيس
منظومة متكاملة للتغطية االجتماعية قادرة أن تكون رافدا للتنمية االقتصادية .فقد " أرادت
السلطات الرسمية أن تنشئ ضمانا اجتماعيا منسقا عندما تسمح الظروف االقتصادية والمالية
" .ومن بين اإلجراءات التي اندرجت ضمن هذا التوجه إصدار مجلة األحوال الشخصية
وإلغاء األوقاف وتنظيم النسل وهي إجراءات تسير في نسق النموذج المجتمعي الذي بدأ
بورقيبة بتكريسه .وقد لخص بن صالح اإلجراءات المتخذة بعد االستقالل واضعا الضمان
االجتماعي في نفس مستوى المجلس التأسيسي .فقد اعتبر أن أهم اإلصالحات بعد االستقالل
كانت " تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي وإصدار مجلة األحوال الشخصية والنصوص
المختلفة حول التعليم وإلغاء أمر فرنسي يمنع استعمال حبوب منع الحمل وأخيرا بعث
الصندوق الوطني للضمان االجتماعي الذي يبقى إلى اليوم أهم بنك ادخار في تونس ".
ومن أولى التشريعات التي صدرت بعد االستقالل القانون المتعلق بالتعويض عن
أضرار حوادث الشغل في ديسمبر 1957الذي عوض األمر العلي لسنة 1921وأضاف
التعويض عن األمراض المهني وحوادث الطريق .لذلك اعتبر أحمد بن صالح أثناء مشاركته
في الدورة 42لمنظمة العمل الدولية يوم 19جوان 1958أن أهم إنجاز تم منذ 1956هو
إصدار قانون التعويض عن األضرار الناتجة عن حوادث الشغل واألمراض المهنية.
أما في م جال الضمان االجتماعي في القطاع الخاص فقد تم اللجوء إلى خبراء من
منظمة العمل الدولية الذين أوصوا بإحداث منح المرض واألمومة والوفاة وكذلك بتوفير
العالج كما دعو ا إلى إحداث جرايات الشيخوخة والعجز والباقين بعد وفاة المنتفع .وكان
الهدف من إحداث هذه المنافع توفير ما من شأنه أن يحث العمال على العمل والكد من ناحية
وعلى االطمئنان على المستقبل من ناحية أخرى .وقد عبر عن ذلك أحمد بن صالح في
عرضه ألهداف المشروع المعد للغرض " :لئن تشبث العامل بهذا الضمان ذلك أنه أكثر
تعرضا من سواه لألخطار فإذا تحقق له أنه عندما يكون مريضا ال يلحق أبناءه الجوع وإن
مرض هؤالء األطفال يقع عالجهم مجانا وأنه بالتالي سوف ينتفع – عندما تميل شمسه إلى
د .بدر السماوي
17
الغروب -بجراية تقاعد قلنا إذا تحقق فإن ضميره يحمله ال محالة على العمل بأكثر نزاهة
وإخالصا" .وهكذا صدر سنة 1960القانون المؤسس للصندوق القومي للضمان االجتماعي
ولنظام الضمان االجتماعي في القطاع الخاص الذي أقر بحق العالج للمضمونين
االجتماعيين في المؤسسات العمومية مجانا .كما تم في نفس الوقت إصدار قانون يقر بحق
األجراء في القطاع الخاص بالحصول على جراية شيخوخة.
لم يكن أمام الدولة غير الشروع في تقديم بعض المنافع بما يمكنها من السيطرة على
الوضع السياسي ،وكان االتحاد العام التونسي للشغل آنذاك متماشيا مع هذا التوجه حيث ساند
مجلسه الوطني المنعقد يوم 26افريل 1959برنامج الحكومة في مختلف المجاالت وخاصة
قرارها بتوحيد صناديق الضمان االجتماعي في صندوق واحد " بما يساهم في تخفيف
مصاريف التصرف واالستجابة لمطالب العمال . ".كما أصدر المجلس الئحة تحتوي على
ست نقاط نصت النقطة األولى منها على مطالبة السلط العمومية بمواصلة الدراسة المتعلقة
بتوسيع الضمان االجتماعي في إطار المخطط االقتصادي للتنمية.
وهكذا تمكنت السلطة الجديدة بمساهمة فعالة من االتحاد العام التونسي للشغل من
وضع األسس األولية لنظام الضمان االجتماعي كشرط أساسي للنهوض باالقتصاد وبداية
إنجاز المخططات التنموية في بداية الستينات بما توفره المنافع االجتماعية من زرع
الطمأنينة في نفوس السكان الذين ظلوا يعيشون تحت وطأة البؤس لمدة عقود على أمل الظفر
بمستقبل زاهر وحياة حرة.