You are on page 1of 98

‫شـــرح كتـاب‬

‫التكتل الحزبي‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬


‫التكّتل‬
‫عندما تتواىل املصائب على األمة‪ ،‬وتتتابع عليها األحداث‪ ،‬ويسود فيها الظلم‪ ،‬وُيوّس د األم&&ر اىل‬
‫غري أهله‪ ،‬يبدأ الن&اس بالت&ذمر‪ .‬مث ينتق&ل ه&ذا الت&ذمر اىل إحس&اس ع&ام ب&الظلم‪ .‬فيتجس&د ه&ذا االحس&اس يف‬
‫بعض الن & &&اس حبيث ي & &&دفعهم اىل احلرك & &&ة ل & &&دفع الظلم‪ ،‬وإبع & &&اد الفس & &&اد‪ ،‬ورف & &&ع ش & &&أن جمتمعهم وأمتهم‪،‬‬
‫والنه&&وض هبا اىل املس&&توى ال&&ذي يتمن&&ون الوص&&ول الي&&ه‪ .‬ومن الب&&ديهي أن يلج&&أ ه&&ؤالء اىل التكت&&ل إلجياد‬
‫الق &&وة الق &&ادرة على التغي &&ري حس &&ب تق &&ديرهم‪ ،‬وأن جيتمع &&وا على ه &&دف او فك &&رة يلتّف ون حوهلا تتض &&من‬
‫أه&&دافهم وخ&&ط سريهم‪ .‬وب&&النظر اىل م&&ا يعاني&&ه عاملن&&ا االسالمي من احنط&&اط وت&&أخر‪ ،‬وم&&ا يقاسيه من ظلم‬
‫وتعسف‪ ،‬فقد تتابعت فيه احلركات اليت استهدفت وقف تدهوره‪ ،‬ورفعة شأنه‪ ،‬والنه&&وض ب&&ه اىل املرتقى‬
‫السامي الذي يليق ب&ه‪ .‬إال ان ه&ذه احلرك&ات مجيعه&ا من&ذ م&ا يزي&د على مائ&ة سنة ق&د فش&لت يف حتقي&ق م&ا‬
‫تصبو اليه‪ .‬والدليل على فشلها‪ ،‬واقع عاملنا االسالمي اليوم‪ .‬فقد استمر يف احنداره حىت بل&&غ احلض&&يض او‬
‫كاد‪ ،‬ومل حنصل من تلك احلرك&ات اال على ه&ذه الرغب&ة اجلاحمة العارم&ة يف التغي&ري‪ .‬فنس&تطيع ان نق&ول ان‬
‫خري ما تركت لنا تلك احلركات هذا الشعور العام بالرغبة يف التغيري‪ ،‬ولو أهنا كادت ان تصل باألمة اىل‬

‫‪1‬‬
‫ح &&د الي &&أس‪ .‬اال ان الن &&اظر يف األم &&ة جيد اهنا م &&ا زالت أم &&ة معط &&اءة كرمية جتود بفل &&ذات كب &&دها يف سبيل‬
‫اخلالص مما تعانيه‪ ،‬كلما أحست ان هناك طريقًا للخالص‪ ،‬او ان هناك قيادة موثوقة تسري وراءها‪.‬‬
‫والناظر يف هذه احلركات‪ ،‬واملتتبع هلذه احملاوالت جيد اهنا مل تكن أعماًال فردية‪ .‬وامنا هي‬
‫تكتالت او تنظيمات تكتلت على فكرة معينة من اجل حتقيق هدف معني‪ .‬ومع ذلك فقد فشلت‪.‬‬

‫أسباب فشل الحركات والمحاوالت السابقة‬


‫وملعرفة أسباب الفشل كان ال بد من دراسة هذه احلركات من ناحيتني‪:‬‬
‫‪ -1‬الناحية االوىل هي الفكرة واهلدف الذي جرى التجمع من أجله‪ .‬هل هي فكرة‬
‫صحيحة أم خاطئة؟‬
‫‪ -2‬أما الناحية الثانية فهي الناحية التكتلية‪ .‬وال نعين بالناحية التكتلية النظاَم الداخلي لتلك‬
‫الكتل‪ .‬وإمنا األسس اليت يقوم عليها أي تكتل‪ ،‬بغض النظر عن الفكرة اليت يتبناها او‬
‫الطريق الذي يسلكه‪.‬‬

‫فالتكتل‪ ،‬أي تكتل‪ ،‬إمنا يقوم على أسس أربع هي‪:‬‬


‫الفكرة اليت تضمنت اهلدف واليت يتم مجع الناس عليها‪،‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫ب‪ -‬الطريقة اليت يسلكها هذا التكتل يف سبيل الوصول اىل غايته‪،‬‬
‫ت‪ -‬األشخاص القائمني على هذا التكتل ومدى امياهنم بفكرته وطريقته‪،‬‬
‫ث‪ -‬الكيفية اليت يتم هبا انضمام الناس اىل هذا التكتل‪.‬‬

‫وأي خلل يف أي أساس من هذه األسس سيؤدي حتمًا اىل الفشل يف الوصول اىل حتقيق الغاية‬
‫اليت يسعى التكتل اىل حتقيقها‪ .‬وبإلقاء نظرة فاحصة على مجيع احلركات اليت حصلت طيلة القرن‬
‫املاضي‪ ،‬جند أهنا مجيعها قد فشلت من ناحية تكتلية بسبب إمهاهلا هلذه األسس‪.‬‬
‫حيث أهنا‪:‬‬
‫‪ ‬كانت تقوم على فكرة عامة غري حمددة‪ .‬حىت أهنا كانت غامضة‪ ،‬او شبه غامضة‪ ،‬عالوة‬
‫على اهنا كانت تفتقر اىل التبلور والنقاء والصفاء‪.‬‬
‫‪ ‬مل تكن تعرف طريقًة لتنفيذ فكرهتا‪ .‬بل كانت الفكرة تسري بوسائل مرجتلة وملتوية‪ ،‬فضًال‬
‫عن أنه كان يكتنفها الغموض واإلهبام‪.‬‬
‫‪ ‬كانت تعتمد على أشخاص مل يكتمل فيهم الوعي الصحيح‪ ،‬ومل ترتكز لديهم اإلرادة‬
‫الصحيحة‪ .‬بل كانوا اشخاصًا عندهم الرغبة واحلماس فقط‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ ‬ان هؤالء االشخاص الذين كانوا يضطلعون بعبء احلركات مل تكن بينهم رابطة‬
‫صحيحة‪ ،‬سوى جمرد التكتل الذي يأخذ صورًا من االعمال‪ ،‬وألفاظًا متعددة من األمساء‪.‬‬

‫وسنبحث فيما يلي كل واحد من هذه األسس بشيء من التفصيل‪:‬‬

‫أنها كانت تقوم على فكرة عامة غير محددة‪ .‬حتى أنها كانت غامضة‪ ،‬او شبه غامضة‪،‬‬ ‫‪-1‬‬
‫عالوة على انها كانت تفتقر الى التبلور والنقاء والصفاء‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬إن كل تكتل ال بد أن يقوم على فكرة‪ ،‬فإما ان تكون فكرة عامة او فكرة كلية‪ .‬فالفكرة‬
‫العام &&ة هي الفك &&رة ال &&يت تص &&لح ان تك &&ون أساسًا للتفك &&ري يف اش &&ياء كث &&رية تلتقي يف أساس واح &&د‪ .‬وأم &&ا‬
‫الفك&&رة الكلي&&ة فهي الفك&&رة ال&&يت تص&&لح ان تك&&ون أساسًا لك&&ل ش&&يء‪ .‬ه&&ذا من حيث التفري&&ق بني الفك&&رة‬
‫العامة والفكرة الكلية‪ .‬فاالفكار القومية واالفكار االقليمية واالفكار الوطنية امنا هي افكار عامة ال تشمل‬
‫كافة نواحي احلياة‪ .‬لكن الفكرة املبدئية هي فكرة كلية تشمل كافة نواحي احلياة‪.‬‬

‫أضف اىل ذلك أهنا غري حمددة‪ .‬فالكتل اليت قامت‪ ،‬منها ما وجد على أساس االسالم (جمد‬
‫املسلمني)‪ ،‬ومنها ما وجد على أساس قومي (عزة العرب والكرامة العربية)‪ ،‬او على أساس اقليمي وطين‬
‫(مثل السوري او …)‪ ،‬او غري ذلك‪ .‬فهذه افكار عامة ولكنها غري حمددة‪.‬‬
‫فمجد املسلمني‪ ،‬عزة املسلمني‪ ،‬العودة اىل اهلل‪ ،‬الرتبية اإلسالمية‪ ،‬األخوة اإلسالمية‪ ،‬النهضة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬النهضة العربية‪ ،‬االستقالل‪ ،‬الوحدة العربية‪ ،‬الرسالة اخلالدة‪ ،‬اىل غري ذلك من االفكار او‬
‫الشعارات‪ ،‬ليس هلا معاين حمددة‪.‬‬
‫– غامضة‬ ‫إعادة جمد املسلمني‬ ‫فقولنا مثًال‪:‬‬
‫‪ -‬غامضة‬ ‫عزة املسلمني‬
‫‪ -‬شبه غامضة‬ ‫العودة اىل اهلل‬
‫‪ -‬شبه غامضة‬ ‫الرتبية اإلسالمية‬
‫‪ -‬شبه غامضة‪ ،‬غامضة‬ ‫األخوة اإلسالمية‬
‫‪ -‬غامضة‬ ‫النهضة اإلسالمية‬
‫‪ -‬غامضة‬ ‫النهضة العربية‬
‫‪ -‬غامضة‬ ‫االستقالل‬
‫‪ -‬شبه غامضة‬ ‫الوحدة العربية‬
‫‪ -‬شبه غامضة‬ ‫الوحدة اإلسالمية‬

‫‪3‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فالغموض هو عدم معرفة القصد وال كيفية الوصول اليه‪ .‬وأما شبه الغموض فاملعىن‬
‫معروف‪ ،‬ولكنه غري مبني املعامل‪ ،‬مثل العودة اىل اهلل‪ ،‬الرتبية اإلسالمية‪.‬‬

‫وأما فقدانها للتبلور‪ ،‬فالبلورة هي االنتقال من حالة امليوعة او السيولة اىل احلالة الصلبة‪.‬‬
‫كتبلور امللح من املاء‪ .‬واملقصود من عدم البلورة أهنا كانت عبارة عن مشاعر وعواطف عند َمحلتها‪ ،‬فلم‬
‫تتجسد فيهم‪ ،‬بل مل يستطيعوا حتديد معاملها لو أرادوا شرحها للناس‪ .‬ولذلك كانت تعتمد على‬
‫الشعارات وإثارة املشاعر فقط‪ ،‬كما هي حاهلا عند معظم احلركات اىل اآلن‪.‬‬

‫وأما فقدانها النقاء‪ ،‬فبالنسبة للحركات اإلسالمية‪ ،‬مل تدرك هذه احلركات ما ُأدخل على‬
‫االسالم من افكار غريبة‪ ،‬مثل القواعد اليت ُأدخلت يف بنية االحكام الشرعية من الفقه الروماين او‬
‫الفرنسي‪ .‬فهناك العديد من القواعد الغربية تدرس على أساس اهنا قواعد وأسس إسالمية‪ ،‬مثل قاعدة‬
‫"العادة حمّك مة" وقاعدة "األصل يف العقود املقاصد واملعاين" وقاعدة "ما ال خيالف االسالم فهو من‬
‫االسالم" وغري ذلك‪.‬‬
‫فالنقاء يعين إبعاد االجسام الغريبة عن الفكرة األساسية لتبقى سليمة بأصوهلا وفروعها‪ .‬وأما‬
‫احلركات غري اإلسالمية كاحلركات القومية والوطنية فلم تدرك خطورة ما محلته من افكار غربية غريبة‪.‬‬
‫بل اهنم آمنوا هبا وأخلصوا هلا‪ ،‬مثل احلرية والدميقراطية وغري ذلك‪ .‬وقد حاولوا ان يفسروا االسالم مبا‬
‫يتناسب مع هذه االفكار‪ ،‬فاّدعوا أهنا من االسالم‪.‬‬

‫وأما الصفاء فهو وضوح الرؤية‪ .‬واملقصود هنا بوضوح الرؤية إدراك الصلة بني هذه الفكرة‬
‫واألصل الذي انبثقت منه او بنيت عليه‪ .‬فبالنسبة للمسلمني وَمحلة الدعوة فان صفاء الفكرة يعين ان كل‬
‫حكم شرعي تدعو اليه مرتبط بالدليل الذي انبثق منه‪ ،‬وان كل فكرة تدعو اليها مبنية على فكر أساسي‬
‫من عقيدة األمة‪ .‬ومل يكن ذلك متوفرًا لدى تلك احلركات ومل تستطع ان تفرق بني الشورى‬
‫والدميقراطية‪ .‬بل مل تستطع ان تفرق بني ان الشورى حكم شرعي يرجع اليه االنسان للتوصل اىل رأي‬
‫صائب‪ .‬بغض النظر عما اذا كان هذا االنسان حاكمًا او غري حاكم‪ .‬فالشورى حكم شرعي مندوب‪،‬‬
‫وهي اسلوب للتوصل ملا يغلب على الظن بأنه الصواب‪ ،‬سواءا يف احلكم او يف غريه‪ .‬وما زلت تسمع‬
‫من دعاة االسالم ان نظام احلكم يف االسالم هو نظام الشورى‪ .‬وبالتايل فهو الدميقراطية احلقيقية‪.‬‬

‫وأما غري املسلمني من الذين ليس هلم فكرة حمددة‪ ،‬فقد كان العمل اكرب وأشد‪ .‬فأخذوا افكار‬
‫الغرب كما هي دون إمعان نظر فيما اذا كانت تصلح ألمتهم وجمتمعهم او ال تصلح‪ .‬وما زالوا على‬
‫هذا احلال سواءا يف افكارهم األساسية او يف اساليبهم‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أنها لم تعرف طريقًة لتنفيذ فكرتها‪ .‬بل كانت الفكرة تسير بوسائل مرتجلة وملتوية‪ ،‬فضًال‬ ‫‪-2‬‬
‫عن انه كان يكتنفها الغموض واإلبهام‪.‬‬

‫ان موضوع الطريقة ما زال ملتبسًا فهمه على مجيع احلركات حىت اليوم‪ .‬بل ال يكادون مييزون‬
‫بني الفكرة والطريقة‪ ،‬واالسلوب والوسيلة‪ .‬ويتصورون ان أي عمل من االعمال هو طريقة‪ .‬وأدق من‬
‫ذلك‪ ،‬فاهنم ال مييزون بني الطريقة قبل حتقيق اهلدف‪ ،‬والطريقة بعد الوصول اليه‪ ،‬والسري يف تنفيذ‬
‫الفكرة‪.‬‬
‫كثريا ما نقول ان املبدأ هو فكرة وطريقة‪ .‬فالفكرة هي العقيدة واملعاجلات ومحل الدعوة‪.‬‬
‫والطريقة هي كيفية احملافظة على العقيدة وكيفية تنفيذ املعاجلات وكيفية محل الدعوة‪ .‬هذا من حيث‬
‫املبدأ‪ ،‬وأنه فكرة وطريقة‪ .‬اال ان البحث هنا هو كيفية ايصال هذا املبدأ للحياة ومن مث القيام على‬
‫تنفيذه‪.‬‬

‫وحيث ان البحث هن&&ا ي&&دور ح&&ول التكتالت وفش&&لها من ناحي&&ة تكتلي&&ة‪ ،‬وليس الفش&&ل يف تنفي&&ذ‬
‫فكرهتا‪ ،‬ف &&إن موض &&وع الطريق &&ة هن &&ا ه &&و الكيفي &&ة ال &&يت ك &&ان على التكت &&ل ان يس &&ري حبس &&بها‪ .‬أي النظ &&ر اىل‬
‫املرحلة املكية من حياة رسول اهلل ‪ ‬بالنسبة للتكتلات الإسلامية‪.‬‬
‫وما هي الاحكام التي قام بها رسول الله ‪ . ‬والوعي‬
‫على التفريق بين ما هو حكم وما هو وسيلة او اسلوب‬
‫لتنفيذ حكم آخر‪.‬‬

‫فالجهر بالتبليغ حكم شرعي‪ .‬وأن يقف الرسول ‪ ‬على‬


‫الصفا وينادي‪ :‬واصباحاه‪ ،‬حتى يجتمع اليه القوم‪،‬‬
‫اسلوب‪ .‬واستعمال صوته ‪ ‬في النداء وسيلة‪ .‬يماثلها‬
‫تبليغ حكم شرعي او إنذار بمخطط استعماري حكم شرعي‪،‬‬
‫استعملت له وسيلة هي النشرة‪ ،‬وباسلوب النشر الواسع‬
‫‪ -‬كفاحي‪.-‬‬
‫فالحكم الشرعي‪ :‬هو العمل المطلوب أداؤه على‬
‫وجهه‪.‬‬
‫والوسيلة‪ :‬هي الأداة التي تستعمل كالنشرة او‬
‫الراديو او مكبرات الصوت‪ .‬ويحددها العصر او‬
‫الظرف‪.‬‬
‫والاسلوب‪ :‬هو الكيفية التي تستعمل في ايصال تلك‬
‫الوسيلة‪ ،‬وتحدده طبيعة العمل‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫إذن فالمسألة في هذه الفقرة ليست الطريقة‬
‫المقابلة للفكرة في المبدأ‪ .‬بل هي الطريقة التي‬
‫اتبعها رسول الله ‪ ‬في ايصال المبدأ للحياة‪.‬‬
‫وتلخيصها هو‪:‬‬
‫‪ -‬تكتل يقوم على مبدأ بفكرته وطريقته‪،‬‬
‫‪ -‬وله أمير‬
‫‪ -‬ويقوم هذا التكتل‪:‬‬
‫‪ )1‬بايجاد اشخاص مؤمنين به‪ ،‬و‬
‫‪ )2‬ايجاد أمة او شعب يقبل به‪ ،‬و‬
‫‪ )3‬ايجاد قوة تمكن هذا التكتل من وضع‬
‫المبدأ موضع التنفيذ في الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬ويتضمن كذلك مجموعة من الاحكام التي تتعلق‬
‫بتحقيق هذه الغاية‪:‬‬
‫فقط‪،‬‬ ‫الفكرية‬ ‫بالدعوة‬ ‫‪ )1‬كالالتزام‬
‫والابتعاد عن استعمال الوسائل المادية‪،‬‬
‫و‬
‫‪ )2‬اطاعة وتنفيذ ما يلزمه به هذا التكتل‪،‬‬
‫وما يتبناه من افكار‪ ،‬و‬
‫‪ )3‬تنفيذ ما يتخذه من قرارات‪.‬‬

‫وبناءا على ذلك‪ ،‬فان تلك التكتلات‪ ،‬الإسلامية‬


‫منها وغير الإسلامية‪ ،‬لم يكن لديها تصور للطريق‬
‫الذي عليها ان تسلكه‪ .‬فكان ما تقوم به من افعال هو‬
‫ردود فعل لما يحصل في المجتمع (افعال مرتجلة دون فهم‬
‫مسبق او تخطيط‪ ،‬بالاضافة الى تقليد ما يجري في‬
‫العالم مثل الاضرابات والتظاهرات ورفع الشعارات)‪.‬‬

‫واما كونها ملتوية فهي الدخول في مساومات مع‬


‫الحكام والمسؤولين‪ ،‬او الدخول مع غيرها من‬
‫التكتلات‪ ،‬والالتواء في عمل جبهة او منظمة او غير‬
‫ذلك‪ .‬اما إن كانت تلك التكتلات تتصور ان لها طريقة‬
‫معينة فهي غامضة‪ .‬فحين تطالب بالوحدة الإسلامية او‬
‫الوحدة العربية فان طريقة تحقيق ذلك غامضة فلا‬
‫يستطيعون معرفة الكيفية التي توصل لهذه الغاية‪،‬‬

‫‪6‬‬
‫ّم‬
‫ولو انهم يحاولون تل سها‪ .‬واما الإبهام فهو الجهالة‬
‫التامة لتلك الكيفية‪.‬‬

‫أن القائمين على هذه التكتلات أناس دفعهم‬ ‫‪-3‬‬


‫الحماس والرغبة الى التغيير‪ ،‬نتيجة لظروف مرت‬
‫ًا‬
‫بها البلاد او ادراك لفساد الاوضاع‪ ،‬فاندفعوا‬
‫بحماس الى التغيير دون ان تتمركز فيهم الارادة‬
‫والوعي‪.‬‬

‫فالوعي على الفكرة والطريقة هو الجو الايماني‬


‫الذي يجعل صاحبه في حماس دائم حين يربط أعماله‬
‫بالقاعدة الأساسية التي ينطلق منها‪ .‬وعدم الوعي‬
‫يجعله عرضة للتردد او التقاعس او المساومة‪ .‬أما‬
‫الارادة فهي ناشئة عن شدة الايمان بوجوب تحقيق ذلك‬
‫الهدف‪ .‬وتمتاز عن الرغبة بأنها رغبة مقترنة بأمر‬
‫يجب تنفيذه‪ .‬أما الرغبة التي لم تقترن بدافع آخر‬
‫فأقصى ما تصل اليه هو الحماس‪ .‬فاذا فتر ذلك الحماس‬
‫فترت الهمم وقعد عن العمل‪ .‬ولو ألقينا نظرة فاحصة‬
‫على ما تركته هذه الحركات من مخلفات لا نجد فيها‬
‫ًا‬
‫أثر للوعي ومعرفة ما تريد‪.‬‬

‫أن الرابطة التي تجمع بين افراد هذه التكتلات‬ ‫‪-4‬‬


‫لم تكن رابطة صحيحة‪ .‬فقد كانت تقتصر عادة على‬
‫مجرد الرغبة في التكتل‪.‬‬
‫فالتكتل يبحث عادة عن اشخاص لهم مكانة في‬
‫المجتمع كالطبيب والمحامي والمختار وغيرهم ممن‬
‫لهم مركز اجتماعي‪ .‬والعضو كذلك يبحث عن تكتل ينتمي‬
‫اليه ليعزز مركزه الاجتماعي‪ .‬ولهذا نجد الكثير‬
‫منهم دائم التنقل بين هذا الحزب وذاك‪ ،‬إما للقيام‬
‫بأعمال‪ ،‬او الانضواء تحت العديد من الاسماء‪.‬‬
‫قد يقال هنا أن العقيدة هي افضل رابطة تجمع بين‬
‫الناس‪ .‬هذا كلام صحيح‪ ،‬ولكن بشرط ان تكون العقيدة هي‬
‫الأساس في التكتل‪ .‬فجميع ابناء هذه التكتلات‬
‫مسلمون وتجمعهم العقيدة الإسلامية‪ .‬الا انهم لم‬
‫ًا‬
‫يتخذوا العقيدة أساس لتكتلهم‪ .‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن‬

‫‪7‬‬
‫جهة ثانية فان العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي‬
‫تم عليه التكتل عند الجماعات والحركات الإسلامية‪.‬‬
‫ولكنها اتخذت كفكرة عامة فلا تكفي لأن تكون رابطة‪.‬‬
‫وحيث ان هذه العقيدة فيها قابلية ان ينبثق عنها‬
‫العديد من الاحكام المختلفة التي تؤدي الى تعدد‬
‫الأفهام‪ ،‬واختلاف النظرة للمعالجات وخطوات العمل‪،‬‬
‫فانه من البديهي ان ينشأ على هذه العقيدة نفسها‬
‫ًا‬
‫كتل متعددة‪ .‬ولهذا كان لا بد للجماعة الإسلامية‬
‫الواحدة ان يكون لها ثقافة خاصة بها‪ ،‬أي لا بد لها‬
‫ًا‬
‫ان تتبنى أحكام لأهدافها وخط سيرها يجتمع الجميع‬
‫ًة‬
‫تجمعهم لتحقيق‬ ‫على هذه الأحكام فتكون رابط‬
‫اهدافهم وتوحد خط سيرهم‪ .‬فلا يكفي ان يقال ان‬
‫العقيدة هي الرابط‪ .‬بل العقيدة والثقافة الحزبية‬
‫هي الرابطة التي تجمع بين الاعضاء‪ ،‬لتو د الهدف‬
‫ِّح‬
‫ولتو د العمل ولتحدد خط السير للجميع‪.‬‬
‫ِّح‬
‫هذه هي الحال التي عاشتها تلك الحركات‪،‬‬
‫واندفعت تريد إنهاض الأمة على أساسها‪ .‬فمن البديهي‬
‫ان فاقد الشيء لا يعطيه‪ .‬إذ قامت هذه الحركات بتفريغ‬
‫مخزونها من الحماس‪ ،‬وانتهت بالفشل‪ .‬وقام على‬
‫أنقاضها حركات اخرى‪ ،‬وكان مصيرها كمصير سابقاتها‪.‬‬
‫ولولا ان هذه الأمة معطاءة وعقيدتها عقيدة عملية‬
‫تكتلية لانتهت هذه الحركات الى يأس يصيب الأمة‬
‫ويميت فيها روح العمل والتكتل‪ .‬وهذا ما كان يراد‬
‫لها‪ .‬الا ان عقيدتها ‪ -‬ولله الحمد ‪ -‬والتي تجري فيها‬
‫مجرى الدم منعتها من الوصول الى حالة اليأس او‬
‫اللامبالاة‪ .‬مع انها وجدت في قطاع واسع من الناس‪.‬‬
‫مع انه كان من الطبيعي لهذه الحركات أن تفشل‬
‫لأنها لم تقم على فكرة واضحة محددة‪ ،‬ولم تعرف طريقة‬
‫مستقيمة‪ ،‬ولم تقم على أشخاص واعين‪ ،‬ولا على رابطة‬
‫صحيحة‪.‬‬

‫هذه هي الاسباب الرئيسية التي أدت الى فشل جميع‬


‫الحركات والمحاولات التي وجدت في العالم الاسلامي‬
‫من ناحية تكتلية‪ ،‬والتي أوجزناها في تلك النقاط‬

‫‪8‬‬
‫الأربع‪ .‬وأما تفصيل ذلك‪ ،‬فان المتتبع لتلك الحركات‬
‫يجد انها حركات إسلامية او حركات قومية‪.‬‬

‫فالحركات الإسلامية كانت وما زالت تقوم على‬


‫الدعوة الى الاسلام بشكل مفتوح‪:‬‬
‫فمنهم من يدعو الى التزام المسلم بالعبادات‬
‫وتنظيم العلاقة بينه وبين ربه ويحرم العمل‬
‫السياسي‪ ،‬وليس له أي تصور لمجتمع اسلامي او‬
‫دولة إسلامية او غير ذلك‪.‬‬
‫ومنهم من يدعو الى الاسلام بالعودة الى الله‬
‫دون تحديد‪.‬‬
‫ومنهم من يدعو الى الاسلام ودراسة العقيدة‬
‫الإسلامية وفهم العقيدة الإسلامية‪.‬‬
‫ومنهم من يدعو الى الاسلام عن طريق اصلاح الفرد‬
‫ليصل بالتالي الى صلاح المجتمع‪.‬‬
‫ومنهم من كان يرى ان طريق الخلاص والنهضة‬
‫بالمسلمين هو بجعلهم أمة واحدة ترتبط دولهم‬
‫بجامعة إسلامية‪.‬‬

‫وجميعهم يحاول تأويل الاسلام بشكل يتفق مع‬


‫الاوضاع السائدة‪ ،‬والنظم القائمة‪ ،‬حتى جعلوا قاعدة‬
‫أساسية ينطلقون منها وهي قولهم " لا ينكر تغير‬
‫الأحكام بتغير الأزمان "‪ .‬وبنوا على ذلك الكثير‪،‬‬
‫ًا‬
‫حتى جعلوا أفكار الكفر الصراح أفكار إسلامية‬
‫كالديمقراطية والحرية وغير ذلك من الافكار‪ .‬فكانت‬
‫عملية تأويل أحكام الاسلام ونصوصه من الافكار‬
‫الأساسية عندهم‪ ،‬بحجة تقريب الاسلام الى الأذهان‪.‬‬
‫مع أن الغاية من ذلك قبول تلك النظم والافكار‬
‫والأحكام من قبل الناس وإقرارهم لها‪.‬‬

‫اما الحركات القومية‪ ،‬فإنه بعد ان نجح الغرب في‬


‫فصل اوروبا الشرقية ‪ -‬دول البلقان‪ -‬عن جسم الدولة‬
‫الإسلامية بالافكار القومية‪ ،‬غرس هذه الافكار في‬
‫ًا‬
‫نفوس العرب والأتراك قاصد تمزيق وحدة المسلمين‬
‫وانشاء الدول القومية على انقاض الدولة الإسلامية‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫َّج‬
‫ُت‬
‫فكانت هذه الحركات و ه مباشرة من الغرب وتعقد‬
‫اجتماعاتها في لندن او باريس وتدعو الى النهضة على‬
‫أساس القومية متخذة من اوروبا مثلها الأعلى‪ ،‬وكيف‬
‫ان دولها قامت على أساس قومي‪ ،‬وأنها نهضت على أساس‬
‫ّل‬
‫قومي‪ ،‬وأنها تخ ت عن افكارها الدينية فنهضت‪ .‬ولذلك‬
‫فلا بد من اقامة الوحدة العربية لتنهض الأمة‬
‫العربية على هذا الأساس‪ .‬وكذلك كان الأتراك يرون ان‬
‫نهضتهم يجب ان تقوم على الأساس القومي‪.‬‬

‫وجرت مناقشات حادة على صفحات الجرائد والصحف‬


‫بين رجال الحركتين القومية والإسلامية حول فكرة‬
‫خيالية هي‪ :‬أيهما أفضل وأقرب الجامعة العربية‪ ،‬أم‬
‫الجامعة الإسلامية؟ وكأن المشكلة هي التجزئة‪ ،‬مع‬
‫ان التجزئة لم تكن قائمة قبل الحرب العالمية‬
‫الاولى‪ .‬ومع ذلك فقد كانت تلك المناقشات الحادة‪ .‬إما‬
‫ًة‬
‫جهال ‪ ،‬او لتضليل الرأي العام وصرفه عن التفكير‬
‫السليم في سبل النهضة وطريقة الوصول اليها‪ .‬مع ان‬
‫ًا‬
‫الراجح هو التضليل‪ .‬وقد وصلوا اخير الى ايجاد‬
‫الجامعة العربية سنة ‪1945‬م‪ .‬فماذا كانت النتيجة؟‬
‫ًا‬ ‫ّي‬
‫وهل غ رت من الواقع شيئ ؟ إذن فقد كان القصد هو صرف‬
‫الأذهان عن التفكير الجدي بالدولة الإسلامية‬
‫والأساس الذي تقوم عليه نهضة الأمم‪.‬‬

‫وقامت الى جانب الحركات القومية والحركات‬


‫الإسلامية حركات وطنية في مختلف اقطار العالم‬
‫الاسلامي‪ .‬فكانت ردة فعل لاحتلال الكفار لبلاد‬
‫المسلمين‪ ،‬واستيلاء الكفار على البلاد‪ .‬فقامت‬
‫ثورات وأعمال تطالب بالثورة والاستقلال لطرد‬
‫ّب‬
‫الكافر وإبعاد ق عة الكافر عن ارض الوطن‪ .‬وتحرك‬
‫الشارع في العراق والشام وفلسطين وغيرها من اجل‬
‫الاستقلال‪ ،‬فكانت المطالبة بتثبيت عملاء الكافر في‬
‫ّي‬
‫كراسي الحكم‪ .‬فع ن الملك فيصل للعراق وعبدالله‬
‫للأردن‪ ،‬وجمهورية في سوريا‪ .‬وهكذا فقد توجهت‬
‫القيادات الى تثبيت الكافر عن طريق تثبيت عملائه في‬
‫قيادة الناس وحكمهم وتثبيت أنظمته وقوانينه‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫كما ان هؤلاء العملاء باستبدادهم وظلمهم‪،‬‬
‫وفساد الانظمة التي جاءوا بها‪ ،‬وسوء الاوضاع‬
‫الاقتصادية التي خلقوها‪ ،‬دفعوا الناس الى القيام‬
‫بحركات او اعمال او ثورات أدت بالتالي الى تثبيت‬
‫أقدام الكفار وعملائهم‪ .‬كل هذا بسبب غياب الفكرة‬
‫والطريقة عن أذهان القائمين على هذه الحركات‪.‬‬

‫ما نؤمن به‬

‫اننا نعتقد ان الفكرة الأساسية للنهضة إنما هي‬


‫ًا‬
‫مبدأ يجمع الفكرة والطريقة مع ‪ .‬وأن هذا المبدأ هو‬
‫الاسلام‪ .‬وحين نقول النهضة‪ ،‬إنما نعني بها الرقي‬
‫الفكري‪ .‬وللتمييز بين الافكار لا بد من تحديد صفة‬
‫الفكر الراقي لمعرفته‪ .‬ولذلك فاننا نقول ان الفكر‬
‫الراقي هو الفكر الذي يمتاز بصفتين‪( :‬العمق‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫والشمول)‪ .‬وإلا كان فكر منخفض أو منحط أو سطحي ‪.‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫فالفكر حتى يكون راقي لا بد أن يكون عميق يبحث في‬
‫ًا‬
‫أصل الاشياء وتكوينها ومصدرها‪ ،‬وان يكون شامل لكل‬
‫جوانب المسألة المبحوث عنها‪ .‬وعلى هذا حين نقول عن‬
‫الفكرة الأساسية للنهضة إنما نعني بها الفكرة‬
‫الأساسية التي تكون قاعدة للرقي الفكري‪ ،‬أي لبحث‬
‫ًا‬
‫الأمور جميعها بعمق وشمول بحيث لا نترك أمر دون‬
‫بحث‪ .‬وهذا يعني أن نبحث في الانسان منذ بدايته‬
‫وبصفته الإنسانية‪ ،‬وعيشه مع غيره من الكائنات‬
‫الحية في هذا الكون الواسع‪ .‬ومن البديهي في هذه‬
‫الحالة ان البحث في الفرد يعني الأنانية‪ .‬وان البحث‬
‫ًا‬
‫في الوطن يعني إنحطاط من مستوى الانسانية‪ .‬والبحث‬
‫ًا‬
‫عن المستوى اللائق‬ ‫في القومية يعني انخفاض‬
‫بالانسان كإنسان‪ .‬والاكتفاء ببحث الظواهر والظواهر‬
‫إنما يعني السطحية في البحث‪ .‬فمثل هذا الانتقال‬
‫بالأمة هو النهضة‪ .‬وهذا لا يتأتى الا بمبدأ‪ .‬من حيث‬
‫ّر‬
‫أن المبدأ كما ع ف هو عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام‪.‬‬
‫وأنه فكرة وطريقة‪ .‬باعتبار ان المبدأ هو معالجة‬
‫الأمور وفهمها منذ البداية‪ ،‬فهو مصدر ميمي لكلمة‬
‫"بدأ"‪ .‬والبداية التي ليس قبلها أي سؤال‪ ،‬وبداية‬

‫‪11‬‬
‫ماذا؟ فقولنا عقيدة يحدد ذلك من حيث ان العقيدة هي‬
‫الفكرة الكلية عن الكون والانسان والحياة‪ .‬فبداية‬
‫هذا الكون وهذه الحياة وهذا الانسان‪ ،‬وتقرير‬
‫حقيقتها من حيث أنها أزلية أم مخلوقة لخالق‪ ،‬وبيان‬
‫علاقتها بمن أوجدها‪ ،‬أي ما قبلها‪ ،‬وتحديد علاقتها‬
‫بما بعدها‪ .‬إن هذا الأمر يقرر حقيقة الفكر الراقي‬
‫بصفتيه العمق والشمول‪ .‬فالعمق يبين ارتباطها‬
‫بخالقها أو أزليتها‪ .‬والشمول يدل على ان البحث قد‬
‫ّس‬
‫اشتمل على كل ما يمكن ان يقع عليه الح ‪ .‬فجعل هذا‬
‫الأساس فكرة أساسية وفهمه بهذا الشكل يو د عند‬
‫ِج‬
‫الانسان طريقة معينة في التفكير‪ ،‬وفي نظرته‬
‫للأشياء والأحداث‪ .‬وبهذا يصبح مثل هذا الانسان‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫انسان راقي أي ناهض ‪.‬‬

‫هذا ما نؤمن به‪ .‬والاسلام جاء بذلك‪ ،‬وأرادنا أن‬


‫ّي‬
‫نكون بهذا المستوى من الرق ‪ .‬والاسلام عقيدة عقلية‪:‬‬
‫فالايمان بالله عقلي‪ ،‬والايمان بأن القرآن كلام‬
‫ّو‬
‫الله عقلي‪ ،‬والايمان بنب ة محمد عقلي‪ ،‬والايمان‬
‫بما جاء به القرآن وما جاء به الرسول من عقائد غيبية‬
‫ّن‬
‫او ما انبثق من الكتاب والس ة من أحكام ونظم ثبت‬
‫ّن‬
‫أصلها بالعقل‪ .‬وقد انبثق من الكتاب والس ة نظم‬
‫وقوانين شملت كافة نواحي الحياة‪ ،‬وعالجت مشاكل‬
‫الانسان جميعها‪ ،‬وبينت كيفية تطبيق وتنفيذ هذه‬
‫المعالجات‪ .‬كما بينت الطريق لحمل هذا المبدأ وإسعاد‬
‫البشرية على أساسه‪ .‬أي عالجت مشكلة الفرد كفرد‪،‬‬
‫وعالجت المجتمع كمجتمع وكدولة ترعى شؤون الناس‪،‬‬
‫ونظرت لإنقاذ البشرية كلها‪.‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫ومع كون الاسلام نظام عالمي ‪ ،‬بعقيدته ونظمه‬
‫ونظرته للانسان‪ ،‬الا انه ليس من طريقته أن يعمل له‬
‫بشكل عالمي‪ .‬فمن حيث الدعوة له‪ ،‬فهي دعوة عالمية ولا‬
‫ّد‬
‫شك‪ .‬الا ان العمل لا ب أن يتركز في قطر من الاقطار‪،‬‬
‫ويكون هذا القطر هو مجال العمل‪ ،‬وفيه يجري السير‬
‫بطريقة الاسلام في العمل‪ .‬أي ايجاد كتلة واعية‪،‬‬
‫تأخذ على عاتقها مسؤولية القيام بأعباء الدعوة‪ ،‬حتى تصل الى غايتها‪ .‬ثم‬

‫‪12‬‬
‫ايجاد شعب او أمة تقبل بهذه النظم واألحكام‪ ،‬لتنّف ذ عليه‪H‬ا‪ .‬ثم الوص‪H‬ول الى ق‪H‬وة تس‪H‬تطيع ان تض‪H‬ع‬
‫ه‪HH‬ذه النظم واألحك‪HH‬ام موض‪HH‬ع التنفي‪HH‬ذ‪ .‬فتق‪HH‬وم الدول‪HH‬ة اإلس‪HH‬المية‪ ،‬طبيعي‪ًH‬ا‪ ،‬في ذل‪HH‬ك القط‪HH‬ر‪ .‬فتنف‪HH‬ذ في‪HH‬ه‬
‫أحك‪HH‬ام االس‪HH‬الم‪ ،‬وتب‪HH‬دأ بض ‪ّH‬م أقط‪HH‬ار الع‪HH‬الم االس‪HH‬المي‪ ،‬وحم‪HH‬ل ال‪HH‬دعوة الى الع‪HH‬الم‪ .‬ه‪HH‬ذه هي طريق‪HH‬ة‬
‫االسالم في الوجود واالنتشار‪ ،‬باعتباره رسالة انسانية عالمية خالدة‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬ان الع&&امل كل&&ه مك&&ان ص&&احل لل&&دعوة اإلسالمية‪ .‬غ&&ري ان&&ه ملا ك&&انت البالد اإلسالمية م&&ا زال‬
‫أهلها مسلمون ويعتقدون العقيدة اإلسالمية‪ ،‬فالدعوة فيهم هلا سببان‪:‬‬
‫‪ )1‬الس‪HH‬بب االول‪ :‬ت&&ذكري ه&&ؤالء املس&&لمني ب&&ان اجياد االسالم يف واق&&ع احلي&&اة‪ ،‬وتنفي&&ذ أحكام&&ه‪ ،‬ومحل&&ه‬
‫للعامل فرض عليهم‪ .‬وقد تعّطل هذا الفرض بسبب غي&&اب اخلالف&&ة‪ .‬فإعادهتا ف&&رض‪ .‬وم&&ا زال يف األم&&ة‬
‫الكثري من التقاة الذين خيشون اهلل‪.‬‬
‫‪ )2‬والس ‪HH‬بب الث ‪HH‬اني‪ :‬أن ه& &&ؤالء املس& &&لمني م& &&ا زالت العقي& &&دة اإلسالمية حي& &&ة يف نفوسهم‪ ،‬ول& &&و أهنا‬
‫اقتصرت على العقيدة الروحية‪ .‬هلذا كان الواجب ان ُيبدأ هبم لتذكريهم بتق&وى اهلل ووج&وب العم&ل‬
‫لع&&ودة االسالم اىل واق&&ع احلي&&اة‪ ،‬وتوض&&يح العقي&&دة السياسية يف االسالم‪ ،‬ومزجه&&ا بالعقي&&دة الروحي&&ة‪،‬‬
‫بشكل ال ينفصل أبدًا‪.‬‬

‫وملا ك &&انت البالد العربي &&ة ج &&زءا من البالد اإلسالمية وتتكلم اللغ &&ة العربي &&ة‪ ،‬واللغ &&ة العربي &&ة ج &&زء‬
‫ج& &&وهري يف االسالم باعتباره& &&ا لغ& &&ة الق& &&رآن فهي ج& &&زء من& &&ه‪ .‬وهي عنص& &&ر أساسي من عناص& &&ر الثقاف& &&ة‬
‫اإلسالمية‪ .‬باعتب&&ار ان الثقافة اإلسالمية هي م‪H‬ا ج‪H‬اءت ب‪H‬ه العقي‪H‬دة – أي النص‪H‬وص الش‪H‬رعية‪ :‬آي‪H‬ات‬
‫وأح‪HH‬اديث –‪ ،‬وم‪HH‬ا ك‪HH‬انت العقي‪HH‬دة اإلس‪HH‬المية س‪HH‬ببًا في بحث‪HH‬ه‪ :‬مث‪HH‬ل عل‪HH‬وم اللغ‪HH‬ة العربي‪HH‬ة‪ .‬وهبذا اعت&&ربت‬
‫اللغ&&ة العربي&&ة عنص&&را أساسيا من عناص&&ر الثقاف&&ة اإلسالمية‪ .‬إذ أن&&ه ال ميكن فهم م&&ا ج&&اءت ب&&ه العقي&&دة من‬
‫آيات وأحاديث اال باللغة العربية‪ .‬فلهذا كان األوىل ان ُيبدأ بالبالد العربية‪ .‬هذه واحدة‪.‬‬

‫وأما األخرى فان البدء يكون حيث كان الشخص الذي ملعت يف ذهنه هذه الفك&&رة‪ ،‬م&&ا دام ان‬
‫االسالم مل حيدد نقط&&ة اإلبت&&داء‪ .‬فل&&و ملعت ه&&ذه الفك&&رة يف ذهن أح&&د من أبن&&اء اهلن&&د او ف&&ارس لك&&ان علي&&ه‬
‫ان يب&&دأ حيث ه&&و‪ ،‬وه&&و ليس ملزم&ًا ب&&أن ينتق&&ل بدعوت&&ه اىل البالد العربي&&ة‪ .‬ش&&ريطة ان تك&&ون اللغ&&ة العربي&&ة‬
‫هي الوسيلة الوحي &&دة لفهم ه &&ذا ال &&دين وه &&ذه ال &&دعوة‪ .‬وك‪HH‬ان ال ب‪HH‬د من م‪HH‬زج الطاق‪HH‬ة العربي‪HH‬ة بالطاق‪HH‬ة‬
‫اإلسالمية لتّتِح د اللغة العربية باالسالم كما أرادها اهلل‪ .‬ولما فيهم‪HH‬ا من الق‪HH‬درة على الت‪HH‬أثير والتوس‪HH‬ع‬
‫واالنتشار‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫أم &&ا ق‪HH‬درة اللغ‪HH‬ة العربي‪HH‬ة على الت‪HH‬أثير ف &&ذلك لس &&عة م &&ا فيه &&ا من املف &&ردات ال &&يت متكن من تص &&وير‬
‫الواقع تصويرًا دقيقًا يؤثر يف املقابل حبيث جيّس د احلادث او الواقع له كأنه يراه على حقيقته‪ .‬فحني وض&&ع‬
‫يف اللغ&&ة – على سبيل املث&&ال – سبعني امسًا لألسد‪ ،‬فق&&د ك&&انت ه&&ذه االمساء تص&&ور األسد يف ك&&ل حال&&ة‬
‫هو فيها‪ ،‬وليست ألفاظًا مرتادفة‪ .‬ان هذه القدرة على تصوير الوقائع واألحداث هلا أبلغ األثر يف املقاب&&ل‪.‬‬
‫حيث ان إحساس االنسان إمنا يتأتى من إحساسه بأحد حواسه اخلمس لشيء م&&ا‪ .‬فال نس&&تطيع ان ن&&درك‬
‫حرارة النار اال بعد مّس ها‪ ،‬أي االحساس هبا حباسة اللمس‪ .‬فامكانية جتسيد الواقع باأللفاظ حبيث يصبح‬
‫واقعًا جمّس دًا أمامه حيّس ه ويلمسه ويسمع به ويشّم ه‪ ،‬جيعله يتصوره واقعًا جمسدًا أمامه‪ .‬فان ه&ذا التجس&يد‬
‫يلهب املشاعر ويذكي األحاسيس فيحدث التأثري‪ .‬هذا من حيث التأثري‪.‬‬

‫وأم&&ا التوسع ف&&ان م&&ا احتوت&&ه اللغ&&ة العربي&&ة من قواع&&د يف النحت واالش&&تقاق والتع&&ريب والتش&&بيه‪،‬‬
‫جيعله&&ا تتس&&ع ملا يس&&تجّد من أش&&ياء ووق&&ائع وأح&&داث‪ .‬فعملي‪HH‬ة التع‪HH‬ريب وهي أخ‪HH‬ذ االش‪HH‬ياء المس‪HH‬تجدة‬
‫باسمائها التي سميت بها‪ ،‬وإخضاعها فقط للميزان الص‪H‬رفي لتص‪H‬بح الكلم‪H‬ة عربي‪H‬ة ال‪H‬وزن‪ ،‬أك‪H‬ثر من‬
‫كافي‪HH‬ة‪ .‬وال ض&&رورة فيه&&ا للتع&&ريب ب&&املعىن كم&&ا يظن بعض الن&&اس وكم&&ا تق&&وم ب&&ه جمامع اللغ&&ة العربي&&ة من‬
‫جه &&ود ض &&ائعة‪ .‬فكلم &&ة تلف &&ون تبقى تلف &&ون ألهنا ب &&وزن ع &&ريب‪ ،‬وال يص& &ّح ان ُتع& &َّر ب ب &&املعىن ك &&أن يق &&ال‬
‫"هاتف"‪ .‬وهبذا تبقى اللغة العربية فيه&ا قابلي&ة االتس&اع لتش&مل ك&ل م&ا ميكن ان يس&تجّد من أمساء وألف&اظ‬
‫ومعاين‪ .‬وقد استعمل القرآن الكرمي هذا االسلوب‪ .‬وأظن ان اللغ&ة العربي&ة هي اللغ&ة الوحي&دة ال&يت حتتف&ظ‬
‫بأص&&التها يف ه&&ذا امليزان الص&&ريف ال&&ذي مييزه&&ا عن غريه&&ا من اللغ&&ات‪ .‬وبع&&د خض&&وع ه&&ذه الكلم&&ة او تل&&ك‬
‫للم&يزان الص&ريف‪ ،‬يص&ار اىل اش&تقاق أفع&ال من ه&ذه األمساء‪ ،‬بنفس قواع&د االش&تقاق العربي&ة‪ .‬فيق&ال‪ :‬تلفن‬
‫يتلفن تلفنة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫واما االنتشار فاهنا القرتاهنا باالسالم وكوهنا لغ&&ة الق&&رآن وال يق&&رأ اال هبا‪ ،‬من الب&&ديهي ان تنتش&&ر‬
‫يف كل قطر يصل اليه االسالم‪ .‬هذا من حيث اللغ&ة العربي&ة‪ .‬أي من حيث الطاق&ة العربي&ة‪ .‬فال يظّنن ظ&اٌن‬
‫أن عب&&ارة الطاق&&ة العربي&&ة يع&&ين الع&&رب والعروب&&ة‪ .‬ب&&ل املقص&&ود بالطاق&&ة العربي&&ة ه&&و اللغ&&ة العربي&&ة ليس غ&&ري‪.‬‬
‫ومزجها بالطاقة اإلسالمية يعين جعلها اللغة الرمسية لألمة اإلسالمية والدولة‪ .‬فال يؤَذن باجراء اية معامل&&ة‬
‫اال باللغة العربية‪.‬‬

‫وأما الطاقة اإلسالمية وما فيها من التأثير والتوسع واالنتشار‪.‬‬


‫فمن حيث الت ‪HH‬أثير‪ ،‬سبق وبّيّن ا أن الت &&أثري إمنا حيص &&ل من جتس &&يد الوق &&ائع واألح &&داث واألش &&ياء‬
‫بشكل يثري مشاعر الس&امع‪ ،‬ويش&ّد انتباه&ه‪ ،‬فيت&أثر مبا يس&مع‪ .‬وبتعب&ري آخ&ر أن ختاطب العواط&ف واملش&اعر‬
‫أوًال‪ ،‬مث تنـزل احلكم على الواقعة اليت خاطبت العواطف واملشاعر فيها‪ .‬فحني يصف نعيم اجلنة وم&&ا فيه&&ا‬

‫‪14‬‬
‫من خ &&ريات‪ ،‬فكأمنا ينق &&ل الس &&امع اىل تل &&ك اجلن &&ة فيعيش يف ظالهلا‪ .‬وحني يص &&ف ع &&ذاب جهنم‪ ،‬تقش &&عّر‬
‫جلود السامعني وكأهنم حيسون هليبها‪ .‬ونالحظ ذلك يف كثرة االفعال لتق&&ريب الفهم وجتس&&يد األم&&ر‪ .‬من‬
‫مث & &&ل قول & &&ه تع & &&اىل‪  :‬و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان‬
‫من الغاوين ‪ ‬ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى األرض فمثله كمثل الكلب إن تحمل‬
‫عليه يلهث او تتركه يلهث ‪ .‬او قوله‪  :‬مثل الذين ُح ّم لوا التوراة ثم لم يحملوها‬
‫كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كّذ بوا بآياتنا ‪ ، ‬فكيف بمن‬
‫ْل‬ ‫ُحّم‬
‫ل القرآن ثم لم يحم ه؟ او قوله تعالى ‪ ‬يا أيها الناس‬
‫ُض رب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون هللا لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا ل‪KK‬ه‬
‫وإن يسلبهم الذباب شيئًا ال يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ‪ .‬وهكذا فمن‬
‫املالحظ ان ه&ذه االمثل&ة امنا ي&راد منه&ا تق&ريب املف&اهيم لل&ذهن‪ ،‬بالتش&بيه‪ ،‬لتجس&يد الواق&ع يف ذهن الس&امع‬
‫ليثري فيه من األحاسيس ما يدفعه للتفكري‪.‬‬

‫وأم&&ا التوس‪HH‬ع‪ ،‬فمن املع&&روف ان النص&&وص إمنا ج&&اءت خبط&&وط عريض&&ة فيه&&ا ع&&اجلت األسس يف‬
‫حي&&اة االنس&&ان من حيث ه&&و انس&&ان‪ .‬وُيس&&تنَبط من ه&&ذه اخلط&&وط العريض&&ة معاجلات ملا يس&&تجّد من وق&&ائع‬
‫وأح&&داث‪ .‬ومبا أن الوق&&ائع واألح&&داث دائم&&ة التج&&دد‪ ،‬فك&&ذلك األحك&&ام املس&&تنَبطة ت&&واكب ه&&ذه الوق&&ائع‬
‫واألحداث‪ .‬وهذا يعين التوسع يف األحك&ام ومواكب&ة ك&ل م&ا يس&تجّد من أح&داث‪ .‬ومبا أن النص&وص ال&يت‬
‫تض&&منت ه&&ذه املعاجلات واألفك&&ار األساسية إمنا هي نص&&وص عربي&&ة وبأساليب عربي&&ة‪ ،‬وفهمه&&ا وإمكاني&&ة‬
‫االستنباط منه&&ا ال ب&&د ل&&ه من فهم اللغ&&ة العربي&&ة فهم&ًا ميكن&&ه من إدراك مفهومه&&ا ومنطوقه&&ا ومعقوهلا‪ ،‬هلذا‬
‫كان التالزم مع إمكانية التوسع أمرًا حتميًا‪.‬‬

‫واما االنتشار‪ ،‬فمن البديهي ان االسالم جاء خياطب عقل االنس&&ان من حيث ه&&و انس&&ان‪ ،‬بغض‬
‫النظ &&ر عن لون &&ه او جنس &&ه او موطن &&ه‪ .‬فإمكاني &&ة االعتق &&اد ب &&ه حتمي &&ة من قب &&ل أي انس &&ان ألن &&ه خياطب ق &&واه‬
‫العاقل &&ة‪ .‬ول &&ذلك ف &&ان االسالم ينتق &&ل من قط &&ر آلخ &&ر ومن انس &&ان آلخ &&ر انتق &&اًال طبيعي &ًا‪ ،‬ألن االنس &&ان ه &&و‬
‫االنس&&ان حيثم&&ا ح&ّل او ارحتل‪ .‬وق&&د الحظن&&ا كي&&ف ان االسالم ق&&د انتش&&ر يف أق&&ل من نص&&ف ق&&رن ليش&&مل‬
‫معظم أج &&زاء املعم &&ورة املعروف &&ة يف ذل &&ك العص &&ر‪ .‬ويس &&تمر انتش &&اره م &&ع انتق &&ال أبنائ &&ه سواءا باجله &&اد او‬
‫التجارة او االنتقال الطبيعي‪ .‬وقد نالح&ظ كي&ف انتص&&ر االسالم حني ُه زم أهل&ه‪ .‬انتص&&ر على املغ&&ول حني‬
‫ُه زم املس &&لمون أم &&ام املغ &&ول‪ .‬فلم متِض سوى ف &&رتة قص &&رية ح &&ىت اعتن &&ق املغ &&ول االسالم وق &&اموا بنش &&ره يف‬
‫الشرق األقصى‪.‬‬

‫ونالح&&ظ او مما جيب أن نالح&&ظ أن&&ه حني محل االسالم ممتزج &ًا بالطاق&&ة العربي&&ة جع&&ل البالد ال&&يت‬
‫اعتنقت &&ه ممتزج &ًا تص &&بح وكأهنا بالدًا عربي &&ة مث &&ل بالد الش &&ام والع &&راق ومشال افريقي &&ا‪ .‬وأم &&ا البالد ال &&يت محل‬

‫‪15‬‬
‫االسالم اليه&ا منفص&ًال عن الطاق&ة العربي&ة فان&ه مل حُي دث فيه&ا األث&ر ذات&ه‪ .‬وك&ان ه&ذا تقص&ريًا من العباسيني‬
‫فما بعدهم كالعثمانيني‪.‬‬
‫وهلذا نقول أنه ال بد من مزج الطاق&ة العربي&ة بالطاق&ة اإلسالمية‪ ،‬ملا يف امتزاجهم&ا من ق&وة الت&أثري‬
‫والتوسع واالنتش&ار‪ .‬وهلذا ك&ذلك ف&ان من الط&بيعي أن يب&دأ العم&ل يف البالد العربي&ة وأن تق&ام ن&واة الدول&ة‬
‫اإلسالمية يف البالد العربي&&ة‪ .‬ومن مث تق&&وم بض &ّم بقي&&ة األج&&زاء اليه&&ا من البالد العربي&&ة او غريه&&ا‪ ،‬ح&&ىت يتم‬
‫توحيد العامل االسالمي يف دولة واحدة تقوم حبمل االسالم للع&&امل‪ .‬اال ان&ه وإن ك&ان من احملَّتم ب&دء العم&ل‬
‫يف البالد العربي &&ة‪ ،‬اال ان &&ه من احملَّتم ايض& &ًا ان ُترَس ل ال &&دعوة اىل سائر البالد اإلسالمية‪ ،‬وأن ُيعَم ل فيه &&ا‬
‫ليوَج د فيه &&ا ال &&وعي على وج &&وب استئناف احلي &&اة اإلسالمية‪ ،‬واالستعداد لإلنض &&مام اىل جس &&م الدول &&ة‬
‫الناشئة‪ ،‬وما ميكن ان يوَض ع لذلك من اساليب‪.‬‬

‫ه &&ذا م &&ا نعتق &&ده من وج &&وب اجياد هنض &&ة حقيقي &&ة تق &&وم على أساس املب &&دأ االسالمي‪ ،‬ويص &&ار يف‬
‫ذلك بالفكرة اليت بّينا‪.‬‬
‫أع &&ين‪ :‬تكتًال يض &&ع مب &&دأ االسالم فك &&رة أساسية ينطل &&ق هبا يف سبيل اجياد النهض &&ة‪ .‬ه &&ذا املب &&دأ‬
‫بفكرت&&ه وطريقت&&ه يق&&وم التكت&&ل حبمل&&ه وال&&دعوة ل&&ه عاملي&ًا‪ .‬ولكن&&ه يعم&&ل ل&&ه يف البالد العربي&&ة ممتزج&ًا بالطاق&&ة‬
‫العربي&&ة‪ ،‬ح&&ىت يتم حتقي&&ق اقام&&ة دول&&ة إسالمية‪ ،‬تق&&وم جبم&&ع بقي&&ة البالد اإلسالمية يف دول&&ة واح&&دة‪ ،‬حتم&&ل‬
‫االسالم للعامل‪.‬‬

‫الفلسفة الحقيقية للنهضة‬


‫ان الفلس&&فة احلقيقي&&ة للنهض&&ة – نع&&ين بالفلس&&فة هن&&ا الفك&&رة األساسية – هي مب&&دأ جيم&&ع الفك&&رة‬
‫والطريقة معًا‪ .‬ومها ال بد من تفّه مهما لكل تكتل يهدف اىل القيام بعمل جّد ي يؤدي اىل النهضة‪.‬‬
‫وحني نقول املبدأ الذي جيمع الفكرة والطريقة مع&ًا (وق&د سبق أن عّر فن&ا املب&دأ بأن&ه عقي&دة عقلي&ة‬
‫ينبثق عنها نظام) فان الفكرة فيه هي‪:‬‬
‫‪ .1‬عقيدة املبدأ‪ :‬أي االميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪.‬‬
‫‪ .2‬املعاجلات‪ :‬وهي األحك&&ام الش&&رعية ال&&يت نظمت حي&&اة االنس&&ان‪ ،‬مبا يف‬
‫ذلك مش&اكله (مث&ل‪ :‬أحك&ام العب&ادات وأحك&ام ال&بيع وأحك&ام ال&زواج‬
‫وغريها)‪.‬‬
‫‪ .3‬محل الدعوة‪ :‬وهي تبليغ الناس ودعوهتم العتناق عقيدة املبدأ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫وأم &&ا الطريق ‪HH‬ة في &&ه فهي‪ :‬فهي األحك &&ام ال &&يت بّينت كيفي &&ة احملافظ &&ة على العقي &&دة‪ ،‬وكيفي &&ة تنفي &&ذ‬
‫املعاجلات‪ ،‬وكيفية محل الدعوة‪.‬‬

‫ففي المحافظة على العقيدة‪ :‬أحكام شرعية حتافظ على العقيدة‪ ،‬أبرزها قتل املرت&ّد ‪ ،‬وتعزي&&ر من‬
‫تبدو منه أية اعمال فيها إساءة للعقيدة‪ ،‬مثل أخذ العقيدة بالظن‪.‬‬

‫ويف تنفيذ المعالجات فيها ما يلي‪:‬‬


‫معاجلة احلف &&اظ على النفس‪ :‬كيفي &&ة احملافظ &&ة على النفس بقت &&ل القات &&ل او الدي& &ّة‪ ،‬وفيم &&ا دون‬ ‫‪-‬‬
‫النفس األرش والقصاص‪.‬‬
‫معاجلة احملافظة على عق&ل االنس&ان‪ :‬كيفي&ة احملافظ&ة على ذل&ك جل&د الس&كران‪ ،‬وتعزي&ر ص&انع‬ ‫‪-‬‬
‫اخلمرة وحاملها وبائعها‪.‬‬
‫معاجلة احملافظ&&ة على ن&&وع االنس&&ان‪ :‬كيفي&&ة احملافظ&&ة على ذل&&ك جل&&د ال&&زاين أو رمجه وم&&ا دون‬ ‫‪-‬‬
‫ذلك‪.‬‬
‫معاجلة احملافظ &&ة على الن &&وع االنس &&اين‪ :‬كيفي &&ة احملافظ &&ة على ذل &&ك ف &&رض الدّي ة على اجلّب أو‬ ‫‪-‬‬
‫اخلصي أو التعقيم‪.‬‬
‫معاجلة احملافظ &&ة على كرام &&ة االنس &&ان‪ :‬كيفي &&ة احملافظ &&ة على ذل &&ك ف &&رض جل &&د الق &&اذف‪ ،‬فم &&ا‬ ‫‪-‬‬
‫دون‪.‬‬
‫معاجلة احملافظ&&ة على م&&ال االنس&&ان‪ :‬كيفي&&ة احملافظ&&ة على ذل&&ك ف&&رض قط&&ع ي&&د الس&&ارق‪ ،‬فم&&ا‬ ‫‪-‬‬
‫دون‪.‬‬
‫معاجلة احملافظ & &&ة على األمن‪ :‬كيفي & &&ة احملافظ & &&ة على ذل & &&ك ف & &&رض قت & &&ل او ص & &&لب او نفي من‬ ‫‪-‬‬
‫االرض ملن يعيثون يف االرض الفساد‪.‬‬
‫اجياد االسالم يف واقع احلياة‪ :‬مبايعة خليفة‪ ،‬ينوب عن األمة يف التنفيذ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫أما كيفية حمل الدعوة‪ :‬فقد بنّي الشارع فيه&ا أحكام&ًا كث&رية ج&دًا‪ ،‬على رأسها اجله&اد وتنظيم‬
‫السياسة اخلارجية لألمة اإلسالمية‪.‬‬

‫وحني نق &&ول ال ب &&د من تفّه مهم &&ا لك &&ل تكت &&ل‪ ،‬إمنا نع &&ين أن أي مجاع &&ة تس &&تهدف اجياد النهض &&ة‬
‫احلقيقية فمن أوجب ما جيب عليها أن تفعله ه&و أن تفهم املب&دأ بفكرت&ه وطريقت&ه‪ .‬فال تأخ&ذ الفك&رة دون‬
‫طريقته&&ا‪ ،‬وإال ك&&انت فلس&&فة خيالي&&ة‪ .‬وال تأخ&&ذ الفك&&رة منفص&&لة عن طريقته&&ا‪ ،‬ب&&ل ال ب‪HH‬د من الرب‪HH‬ط بين‬
‫الفكرة والطريقة‪ .‬ف&&اذا ُعلم أن طريق&&ة تنفي&&ذ األحك&&ام مجل&&ة وتفص&&يال هي الدول&&ة اإلسالمية‪ ،‬وأن أحك&&ام‬
‫الطريق &&ة بش &&كل ع &&ام إمنا يق &&وم على تنفي &&ذها الدول &&ة‪ ،‬ب &&ل وحيُر م على الف &&رد مباش &&رة تنفي &&ذ غالبي &&ة ه &&ذه‬

‫‪17‬‬
‫األحكام‪ ،‬إذن فالتفّه م جيب أن يشمل الدولة اإلسالمية‪ :‬م&ا هي‪ ،‬وم&ا هي أحكامه&ا‪ ،‬وص&الحياهتا‪ ،‬وك&ل‬
‫م&&ا حيي&&ط هبا باعتباره&&ا طريق&&ة تنفي&&ذ املب&&دأ‪ .‬وال يكفي فهم الفك&&رة فق&&ط‪ .‬ب&&ل ال ب&&د من فهم الفك&&رة فهم&ًا‬
‫واضحًا وفهم الطريقة كذلك‪ .‬وال بد من فهم األحكام املوصلة القامة الدولة باعتبارها أحكامًا اشتملت‬
‫عليها الطريقة‪ ،‬وهي جزء منها‪ .‬أي معرفة الطريقة املوصلة الجياد الدولة اليت هي طريقة تنفيذ األحكام‪.‬‬

‫وباختصار أقول‪ :‬ان هذا التفّه م ال بد وأن يشمل ما يلي‪:‬‬


‫فهم األحكام اليت تعاجل مشاكل األفراد وعالقاهتم مع بعضهم‪.‬‬ ‫‪)1‬‬
‫فهم األحكام اليت تعاجل عالقات املسلمني بغريهم‪.‬‬ ‫‪)2‬‬
‫فهم األحكام اليت تقام هبا الدولة أو توصل إلقامتها‪.‬‬ ‫‪)3‬‬
‫فهم أحكام الدولة ووضع املخطط اهلندسي هلا‪ ،‬أي وضع مشروع دستور هلا‪.‬‬ ‫‪)4‬‬
‫فهم عالقة هذه الدولة بغريها من الدول‪.‬‬ ‫‪)5‬‬
‫فهم األساس الذي أقيمت الدولة من أجله‪ ،‬وهو تطبيق االسالم يف الداخل‪ ،‬ومحله اىل العامل‪.‬‬ ‫‪)6‬‬

‫‪ )7‬فهم أن&ه ل&و ُعم&ل على نش&ر االسالم وتقّيد ب&ه أبن&اؤه بش&كل ع&ام دون أن تك&ون هلم دول&ة‪ ،‬فس&يبقى‬
‫أ) إقامة احلدود‪.‬‬ ‫‪ 4/5‬االسالم معَّطال‪ .‬ومن ذلك‪:‬‬
‫ب) محاية الثغور‪.‬‬
‫ت) رعاية الشؤون‪.‬‬
‫ث) محل الدعوة للعامل باجلهاد‪.‬‬

‫هذا ما نقصده من قولنا بضرورة تفّه م املبدأ مسبقًا ألي تكتل يريد النهوض باألم&ة‪ .‬أي ه&ذا م&ا‬
‫نقص&&ده بوض&&وح الفك&&رة والطريق&&ة‪ .‬حيث أنن&&ا قلن&&ا أن من اسباب الفش&&ل الرئيس&&ية من ناحي&&ة تكتلي&&ة ع&&دم‬
‫وض&&وح الفك&&رة‪ ،‬وع&&دم وض&&وح الطريق&&ة‪ .‬فق&&د ح&ّد دنا يف الفك&&رة م&&ا نري&&د ونفين&&ا عنه&&ا امليوع&&ة والت&&أرجح‬
‫وأبعدنا عنها كل فكر خارج عنه&&ا من حيث تقّي دنا مبا انبث&ق عن العقي&دة من أحك&ام‪ ،‬وجعلناه&&ا واض&&حة‬
‫بّينة للعيان من حيث ربط كل حكم بالدليل الذي استنبط منه‪.‬‬

‫بعد ه&ذا البي&ان الش&ايف للمب&دأ وجعل&ه متيس&رًا لك&ل خملص يري&د الس&ري يف طري&ق النهض&ة‪ ،‬ف&إن أي‬
‫تكتل يقوم على مثل هذا الوضوح وهذا الفهم ال بد وأن يك&&ون تكتًال مؤثرًا‪ .‬وذل&&ك بقدرت&&ه على إن&&زال‬
‫افك&&اره على الواق&&ع احلايل مبّين&ًا لألم&&ة ُقرب ذل&&ك أو ُبع&&ده عن عقي&&دهتا‪ .‬ويس&&تطيع أن حيرك ج&&ذوة االميان‬
‫فيها‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫كم&&ا ال ب&&د أن يك&&ون إنش‪HH‬ائيًا أي يت&&ابع م&&ا حيص&&ل يف األم&&ة من أح&&داث ووق&&ائع‪ ،‬مس&&تنبطًا لك&&ل‬
‫حادث حكمًا جديدًا يعاجل هذا الواقع‪ .‬ويرتقي باألم&ة من إدراكه&ا لواقعه&ا احلايل‪ ،‬اىل الواق&ع ال&ذي يري&د‬
‫ان ينقله &&ا الي &&ه‪ .‬ي &&رتقي باألم &&ة من تفكريه &&ا الس &&طحي‪ ،‬اىل التفك &&ري العمي &&ق ال &&ذي ال يق &&ف عن &&د مظ &&اهر‬
‫االشياء‪ .‬بل يبحث يف األحداث‪ ،‬واسباهبا‪ ،‬ومسبباهتا‪ ،‬وكيفية معاجلتها‪ ،‬حماوًال ان يوجد يف األمة طريقة‬
‫معينة يف التفكري‪.‬‬

‫فاذا ما سار التكتل على هذا النحو‪ ،‬فانه يص&بح ج&ديرًا ب&أن حيتض&نه اجملتم&ع وه&و ي&رى أن&ه الق&ائم‬
‫على مص &&احله‪ ،‬ال &&واعي على م &&ا حُي اك ض &&ده من م &&ؤامرات‪ ،‬وأن يتكّف ل &&ه ويق &&وم حبمايت &&ه اذا اقتض &&ى األم &&ر‪.‬‬
‫ذل&&ك ألن&&ه تكت&&ل واعي على م&&ا يق&&ول‪ .‬فحني يط&&رح فكرت&&ه إمنا يطرحه&&ا بوض&&وح كام&&ل قارن&ًا ك&&ل حكم‬
‫فيه&&ا بال&&دليل ال&&ذي استنبط من&&ه‪ ،‬ب&&ل وبكيفي&&ة االستدالل‪ ،‬طالب &ًا من الن&&اس أن يس&&ألوا دائم &ًا عن ال&&دليل‪،‬‬
‫سواء باالفكار او باالحكام او باآلراء‪ .‬فاالنقياد األعمى ال يري&ده ه&&ذا التكت&ل‪ ،‬وال يس&عى الي&ه‪ .‬ب&ل يري&د‬
‫قي&&ادة واعي&&ة‪ ،‬وانقي&&ادًا عن وعي وبص&&رية‪ .‬ك&&ذلك حني يتح&&دث عن الطريق&&ة يب&&دو مبص&&رًا للطريق&&ة‪ ،‬سواء‬
‫كما جاءت يف الكتاب والس&ّنة‪ ،‬او مبا فهم من سرية املص&طفى ‪ . ‬ويب&دو من ه&ذا الوض&وح يف الرؤي&ة‪،‬‬
‫والفهم للفكرة‪ ،‬أن قضية هذا التكتل مفهومة عنده‪ ،‬وجعلها قضيته املص&ريية‪ .‬قض&ية ه&ذا التكت&ل النه&وض‬
‫باألمة‪ ،‬وهذا ال يتأتى اال باستئناف احلياة اإلسالمية‪ ،‬وهذا ال ميكن اال بإقامة دولة إسالمية‪.‬‬

‫ه & & &&ذا من حيث األساس األول يف التكت & & &&ل وسلوكه طري & & &&ق النهض & & &&ة‪ ،‬أي من حيث الفك & &&رة‬
‫والطريق&ة‪ .‬أم&ا من حيث األش&خاص الق&ائمني على ه&ذا التكت&ل ووعيهم وإخالص&&هم وطريق&ة ربطهم‪ ،‬فال‬
‫تقل أمهية عن وض&وح الفك&رة ووض&وح الطريق&ة‪ .‬ول&ذلك ال ب&د من استعراض احلرك&ات الس&ابقة من ه&ذا‬
‫املنطلق‪.‬‬
‫ونتيج &&ة هلذا االستعراض وج &&دنا ان احلرك &&ات ال &&يت ظه &&رت خالل الق &&رن املاض &&ي ك &&انت طريق &&ة‬
‫تكتله&&ا فاسدة‪ .‬فهي مل تقم على أساس ح&&زيب متفهم لفكرت&&ه وطريقت&&ه‪ .‬إمنا ق&&امت على أساس مجعي‪ ،‬أو‬
‫حزيب إمسًا‪ .‬والسبب يف ذلك يظهر من استعراض واقع اجملتمع يف حين&ه‪ ،‬وتص&ّو ر الن&اس ل&ه وفك&رهتم عن&ه‪.‬‬
‫ونستطيع ان نقسم ذلك اىل مرحلتني‪ :‬مرحلة ما قبل سقوط الدولة العثمانية‪ ،‬ومرحلة ما بعدها‪.‬‬

‫أم&&ا مرحل‪H‬ة م‪H‬ا قب‪H‬ل س‪H‬قوط الدول‪H‬ة فق&&د ك&&ان املس&&لمون يف ذل&&ك ال&&وقت يش&&عرون ب&&أن هلم دول&&ة‬
‫إسالمية‪ ،‬على م& &&ا فيه& &&ا من ض& &&عف وه& &&زال‪ ،‬وعلى اختالف تص& &&ورها وفهم حقيقته& &&ا‪ ،‬بع& &&د أن ب& &&دأت‬
‫تتس&&رب االفك&&ار القومي&&ة اىل نف&&وس الن&&اس‪ .‬ول&&ذلك فق&&د ك&&انت الدول&&ة هي موض&&ع البحث ومرك&&ز التنُّب ه‬
‫والتفكري‪ .‬ولذلك فقد كان تفكري املسلمني منصّبًا على حماولة اصالح تلك الدولة‪ ،‬ك&ٌل حبس&&ب تص&ّو ره‪.‬‬
‫فق&&د ك&&ان الع&&رب ي&&رون ان ه&&ذه الدول&&ة ق&&د هض&&مت حق&&وقهم‪ ،‬وظلمتهم‪ ،‬وأساءت مع&&املتهم‪ .‬خصوص&ًا‬

‫‪19‬‬
‫وأهنم مؤمن&&ون بأهنا دول&&ة إسالمية‪ ،‬وهم مس&&لمون‪ ،‬واالسالم ال يف&&رق بني ع&&ريب وعجمي‪ .‬اال ان وج&&ود‬
‫الفك&&ر الق&&ومي وتس&ّر به للنف&&وس‪ ،‬جع&&ل النظ&&رة للدول&&ة ال من زاوي&&ة أهنا أساءت التط&&بيق لالسالم‪ ،‬ب&&ل من‬
‫زاوية معاملتها هلم باعتبارهم عربًا‪ .‬خصوصًا بعد وجود أح&زاب قومي&ة مث&ل ح&زب االحتاد وال&رتّقي ال&ذي‬
‫أراد بسياسته وتوجيه الغرب أن يشعر العرب مجيعًا هبذا الشعور‪ ،‬خصوص&ًا وق&د تبىّن سياسة الترتي&ك‪ ،‬او‬
‫ما قيل من دعايات حول ذلك‪ .‬وقد ساعد على انتشار مثل ه&ذه الفك&رة فص&ل الطاق&ة العربي&ة عن الطاق&ة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬أي ع&&دم جع&&ل اللغ&&ة العربي&&ة لغ&&ة الدول&&ة الرمسية‪ .‬وهلذا ك&&ان نش&&اط السياسيني واملفك&&رين من‬
‫املس &&لمني من أبن &&اء األم &&ة – الع &&رب خاص &&ة – يتج &&ه اىل املطالب &&ة باالص &&الحات‪ ،‬او العدال &&ة يف املعامل &&ة‪،‬‬
‫واملس &&اواة‪ .‬وق &&د انتش &&رت مث &&ل ه &&ذه الفك &&رة يف نف &&وس الن &&اس انتش &&ار الن &&ار يف اهلش &&يم "ح& &ّر يت ع &&دالت‬
‫مس&&اوات"‪ ،‬وهي ختفي وراءه&&ا الكث&&ري‪ .‬وه&&ذا م&&ا ي&&دل على جهال&&ة الق&&ائمني على ذل&&ك بالنهض&&ة وكيفي&&ة‬
‫الوصول اليها‪.‬‬
‫وهذا ما كان عليه غالبية املسلمني‪ .‬اال انه يف هذا العصر بال&ذات‪ ،‬ب&ل من&ذ فش&ل الغ&زو الص&لييب‪،‬‬
‫ب &&ات الغ &&رب يفك &&ر يف اساليب اخ &&رى حملارب &&ة املس &&لمني‪ ،‬ب &&ل حملارب &&ة االسالم‪ .‬فلج &&أ اىل الغ &&زو الثق &&ايف‪،‬‬
‫خصوص&ًا وأن الدولة العثمانية ك‪H‬ان هّم ه‪H‬ا الق‪H‬وة العس‪H‬كرية‪ ،‬ولم تتنّب ه ألث‪H‬ر الناحي‪H‬ة الفكري‪H‬ة في حي‪H‬اة‬
‫الن‪HH‬اس والمجتم‪HH‬ع‪ ،‬إم &&ا جهال &ًة وإم &&ا النش &&غاهلا طيل &&ة الق &&رن الس &&ابق حبرب مس &&تمرة م &&ع الع &&امل بكامل &&ه يف‬
‫حينه‪ .‬اال ان ذلك ال يغري من الواقع شيئًا‪ ،‬والنتيجة واحدة يف احلالتني‪ .‬فقد ب&ات الع&امل االسالمي ي&رتدى‬
‫يف أودية االحنطاط‪ ،‬حىت وصل اىل ما وص&ل الي&ه من جهال&ة‪ .‬ومث&ل ه&ذا الواق&ع سّه ل عملي&ة الغ&زو الثق&ايف‬
‫املغّلف &&ة باملس &&اعدات الطبي &&ة ت &&ارة‪ ،‬وت &&ارة باالرساليات التبش &&ريية‪ ،‬وأخ &&رى باملس &&اعدات الثقافي &&ة كإدخ &&ال‬
‫آالت الطباع&ة وغ&ري ذل&ك‪ ،‬حامل&ة معه&ا مسوم ال&دعوة القومي&ة‪ ،‬وال&دعوة اىل االستقالل‪ ،‬واالنفص&ال وغ&ري‬
‫ذلك‪ .‬هذا يف الداخل‪ .‬وأما يف اخلارج‪ ،‬فق&&د فتحت اوروب&ا اب&واب جامعاهتا ألبن&اء املس&لمني حبج&ة العلم‪.‬‬
‫واحلقيق &&ة أهنا ك &&انت عملي &&ة غس &&ل أدمغ &&ة‪ ،‬وحتميلهم فك &&ر الغ &&رب وثقافت &&ه‪ .‬ح &&ىت هتّي أ هلم جمموع &&ات من‬
‫الشباب الذين أمجع&وا على ه&دف مش&رتك‪ .‬وه&و االستقالل واالنفص&ال‪ .‬واستطاعت فرنس&ا وبريطاني&ا ان‬
‫تقيم من ه&&ؤالء تكتالت اجتمعت على ه&&ذا اهلدف‪ ،‬وب&دأت تعق&&د اجتماعاهتا يف لن&دن وب&اريس وترعاه&&ا‬
‫بريطاني&&ا وفرنس&&ا رعاي&&ة كامل&&ة‪ .‬ونش&&أ يف البالد العربي&&ة تكتالت متع&&ددة كله&&ا تط&&الب هبدف واح&&د ه&&و‬
‫االستقالل عن الدول &&ة العثماني &&ة‪ .‬ح &&ىت أوج &&دوا على ه &&ذا اهلدف رأي &ًا عام &ًا ساعدهم على حتقي &&ق ذل &&ك‬
‫اهلدف‪ .‬ب &&ل أدى يف احلقيق &&ة اىل وج &&ود الث &&ورة العربي &&ة‪ .‬وك &&انت نتيجت &&ه ه &&دم اخلالف &&ة ومتكني الكف &&ار من‬
‫بسط نفوذهم على بالد املسلمني‪.‬‬
‫وهلذا نق&ول أن ه&ذا النف&ر استطاع مبس&اعدة الغ&رب ان يوِج د فك&رة معين&ة وهي االستقالل‪ ،‬وأن‬
‫يب&&ين عليه&&ا ثقاف&&ة معين&&ة هي ثقاف&&ة الغ&&رب‪ ،‬ويوِح د ه&&دف اجلمي&&ع على اقام&&ة دول&&ة عربي&&ة‪ ،‬وازال&&ة اهليمن&&ة‬
‫والظلم واالستبداد ال &&ذي ك &&ان يع &&اين من &&ه الش &&عب الع &&ريب حس &&ب رأيهم‪ .‬فك &&انت على ه &&ذا األساس‬

‫‪20‬‬
‫تكتالت حزبي &&ة امسًا‪ ،‬وأع &&ين أهنا أوج &&دت العناص &&ر األساسية للتكت &&ل‪ ،‬ولكنه &&ا أسس غامض &&ة او ش &&به‬
‫غامض &&ة‪ ،‬لكنه &&ا ك &&انت كافي &&ة ألن توّح د بني عق &&وهلم ومش &&اعرهم‪ .‬ثقاف &&ة أجنبي &&ة‪ ،‬وحق &&د على الدول &&ة‬
‫العثماني &&ة بس &&بب الظلم‪ ،‬وافك &&ار قومي &&ة او مش &&اعر وطني &&ة توّح دت على ه &&دف واح &&د مجع بني ه &&ؤالء‬
‫الناس‪ .‬هلذا كانت تكتالت حزبية امسًا‪.‬‬
‫وملا حتق&&ق للغ&&رب هدف&&ه من وج&&ود ه&&ذه التكتالت واالح&&زاب‪ ،‬أهناه&&ا باقتس&&امها للغن&&ائم وتوزي&&ع‬
‫املناص&&ب والكراسي‪ ،‬ونص&&ب رجاالهتا حكام&ًا لألم&&ة يرّو ض&&ون األم&&ة ويص&&وغوهنا حس&&ب املخط&&ط ال&&ذي‬
‫رمسه هلم‪.‬‬
‫وانتهت تلك املرحلة من حياة األمة هبذه النتيجة املؤملة اليت ما زلنا نعاين منها‪.‬‬

‫أما املرحلة الثاني&&ة‪ ،‬وهي مرحلة ما بعد الح‪H‬رب العالمي‪H‬ة االولى وه‪HH‬دم الخالف‪HH‬ة‪ ،‬فق&&د إّتس&&مت‬
‫بط&&ابع آخ&&ر خمتل&&ف متام &ًا عن املرحل&&ة االوىل‪ .‬فوج&&دت تكتالت وأح&&زاب ختتل&&ف متام &ًا عم&&ا ك&&انت علي&&ه‬
‫سابقاهتا من حيث االفكار واالهداف‪ ،‬ولكنها ال ختتلف عنها من الناحية التكتلية‪ .‬فق&&د بقيت على نفس‬
‫النهج‪ ،‬فلم تراعي أي أساس من األسس ال&يت أش&رنا اليه&ا سابقًا‪ .‬أي بقيت على دعواهتا العام&ة والتخب&ط‬
‫يف طريقته&&ا‪ ،‬وقي&&ام أن&&اس حبم&&ل تبعته&&ا ليس&&وا مبس&&توى املس&&ؤولية‪ ،‬وك&&انت املص&&احل اآلني&&ة األناني&&ة هي ال&&يت‬
‫جتمعهم‪ .‬فبقي املرض ه&&و املرض يف املرحل&&تني‪ .‬ه&&ذا باالض&&افة اىل أن ه&&ذه املرحل&&ة اّتس&&مت هبيمن&&ة الك&&افر‬
‫وسيطرته املباش&&رة على الدول&&ة وعلى األم&&ة‪ .‬وأخ&&ذ يطب&&ق نظام&&ه إم&&ا مباش&&رة وإم&&ا بواسطة رجاالت&&ه ال&&ذين‬
‫نّص بهم حكامًا على األمة‪ .‬وحاول بناء اجملتمع واألمة على األسس ال&يت يراه&ا ه&و ج&اعًال عقيدت&ه وثقافت&ه‬
‫ووجهة نظ&ره يف احلي&اة هي األساس ال&ذي جيب أن ُيب&ىن اجملتم&ع علي&ه‪ ،‬بش&كل خ&بيث ص&ريح حين&ًا وخفّي‬
‫أحيانًا‪ ،‬مستعمًال املال والعمالء للوصول اىل غايته‪.‬‬

‫وإلدراك الك &&افر ألث &&ر الثقاف &&ة على سلوك االنس &&ان وأفك &&اره فق &&د رّك ز ج &ّل اهتمام &&ه على ه &&ذا‬
‫اجلانب‪ ،‬حبيث ان & &&ه مل ي & &&رتك جماًال من جماالت الثقاف & &&ة او العلم اال ك & &&انت وجه & &&ة نظ & &&ره عن احلي & &&اة هي‬
‫األساس يف ذل& &&ك‪ .‬ومن املع& &&روف ان الثقاف ‪HH‬ة هي مجموع ‪HH‬ة المع ‪HH‬ارف ال ‪HH‬تي يحص ‪HH‬ل عليه ‪HH‬ا االنس ‪HH‬ان‬
‫بالتلقين و اإلخبار ثم المالحظة واالستنباط‪ .‬وبن&&اءا على تل&&ك الثقاف&&ة تتك&&ون عن&&د االنس&&ان عقلي&&ة تفهم‬
‫األم&&ور واألح&&داث بش&&كل معني – أي بالكيفي&&ة ال&&يت لدي&&ه عنه&&ا مق&&اييس وقواع&&د يقيس األم&&ور حبس&&بها‪.‬‬
‫فاذا كانت هذه القواعد واملقاييس هي نفس القواعد واملقاييس اليت لّق نها ملثقفينا‪ ،‬فال بد من انش&&اء جي&&ل‬
‫يفك&&ر حس&&ب م&&ا يري&&د ه&&ذا الك&&افر املتس&&لط‪ .‬وب&&ذلك يك&&ون ق&&د ب&&ىن اجملتم&&ع على الكيفي&&ة ال&&يت يري&&د‪ .‬من‬
‫حيث ان انتاج هذا التفكري سيكّو ن املفاهيم اليت تسرّي سلوك الناس وتصرفاهتم يف احلياة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ومن أجل حتقيق هذه الغاية‪ ،‬جع&ل القواع&د واملق&اييس واألسس (أي فلس&فته ووجه&ة نظ&ره) هي‬
‫ال &&يت ُيرج &&ع اليه &&ا يف عملي &&ة التفك &&ري‪ .‬وهي تتلخص ب &&القول‪ :‬فص &&ل املادة عن ال &&روح وفص &&ل ال &&دين عن‬
‫الدول &&ة‪ .‬وه &&ذا يع &&ين جع &&ل الن &&اس واملثقفني بش &&كل خ &&اص يعتق &&دون عقيدت &&ه بأسلوب خ &&بيث‪ ،‬مل ي &&دعهم‬
‫ي&&دركون أن ه&&ذه العقي&&دة عقي&&دة كف&&ر‪ ،‬مع&&ززًا ذل&&ك بقول&&ه‪ :‬ال&&دين هلل وال&&وطن للجمي&&ع‪ ،‬وأن ال&&دين ه&&و‬
‫العالق &&ة بني الف &&رد وخالق &&ه‪ .‬أم &&ا تنظيم العالق &&ات بني الن &&اس وتنظيم حي &&اة اجملتم &&ع‪ ،‬فه &&ذه أم &&ور يق &&وم هبا‬
‫املفكرون من الناس‪ .‬فالرسول يقول‪ :‬انتم أعلم بأمور دنياكم‪ .‬وهذه أمور دنيا وليست أمور دين‪.‬‬

‫ه&&ذا ه&&و األساس ال&&ذي جعل&&ه أساسًا ملن&&اهج التعليم‪ .‬فمن&&اهج التعليم جيب ان ًتس&&تنبط من ه&&ذه‬
‫القاعدة أو أن ُتبىن على هذا األساس‪ .‬باالضافة اىل جعل شخصيته هي األساس ال&ذي ُتن&تزع من&ه ثقافتن&ا‪.‬‬
‫وه&&ذا يع&&ين أن ننظ&&ر اىل الوق&&ائع واألح&&داث كم&&ا ينظ&&ر اليه&&ا ه&&و‪ :‬كي&&ف يع&&اجل األم&&ور وكي&&ف يتعام&&ل م&&ع‬
‫األحداث‪ ،‬وكيف كانت مواقفه يف املسألة الفالني&ة او تل&ك‪ .‬فاحلري&ة مثًال هي حج&ر الزاوي&ة يف تص&&رفات‬
‫الف&&رد فال جيوز ان مُي ن&&ع أح&&د من أي تص&&رف‪ .‬فحري&&ة الكلم&&ة واملعتق&&د واحلري&&ات الشخص&&ية أم&&ور مقدسة‬
‫عن &&ده فال ب &&د أن نقّد سها‪ .‬أنظ &&روا كي &&ف ساد الع &&امل هبذه املب &&ادئ واألسس‪ .‬فال ب &&د ان تتض &&من الكتب‬
‫الثقافي& &&ة مئ& &&ات األمثل& &&ة عن مث& &&ل ه& &&ذه احلوادث وكي& &&ف عاجله& &&ا‪ .‬كم& &&ا جيب ان تتض& &&من كتب الت& &&اريخ‬
‫واجلغرافي&&ا تارخيه ه&&و‪ ،‬وال ب&&د ان تك&&ون دراسة تارخيه وبداي&&ة النهض&&ة عن&&ده واألسس ال&&يت ق&&امت عليه&&ا‬
‫حض&&ارته – ابت&&داءا من الق&&رن الث&&الث امليالدي – ووض&&ع ال&&رباءة العظمى (او م&&ا يس&&مى املاغناكارت&&ا) أي‬
‫الوثيق&&ة ال&&يت قّي دت ص&&الحيات املل&ك ‪ -‬ال ب&&د ان توض&&ع ه&&ذه يف ص&&لب األم&&ور التارخيي&ة ال&&يت ت&&بني م&&دى‬
‫فعالي&&ة األم&&ة والش&&عب حني يق&&رر ش&&يئًا‪ .‬متام &ًا كم&&ا جعل&&وا الث&&ورة الفرنس&&ية من&&ارًا يه&&دي الس&&الكني‪ ،‬ومن‬
‫أق&وال ابراه&&ام لنك&ولن منه&&اج حي&اة لألمم‪ .‬ناهي&ك عن وض&&ع لغت&ه لغ&&ة رمسية يف الدول&ة‪ ،‬ولغ&&ة تتقاسم م&&ع‬
‫اللغ&&ة العربي&ة حص&&ص ال&دروس‪ .‬وجع&&ل أي وظيف&&ة موقوف&ًة على م&&دى معرف&ة ط&&الب الوظيف&&ة للغ&&ة اجنبي&ة‪.‬‬
‫حىت باتت معرفة لغة اجنبية باالضافة اىل اهنا وسيلة للوظيف&&ة والعيش عنوان&ًا على احلض&&ارة والتق&&دم‪ .‬ح&ىت‬
‫أصبح العاّم ّي حياول ان حيفظ بعض كلمات اجنبية فكأنه يريد ان يتّربك هبا‪ .‬ذل&ك ليق&ال عن&ه ان&ه مثق&ف‪،‬‬
‫وميزان&ه يف الثقاف&ة مبق&&دار م&&ا حيف&&ظ من ه&&ذه الكلم&ات ح&ىت ل&و ك&ان عاملًا فقيه&ًا خطيب&ًا يف املس&جد اجلامع‬
‫فال يغني&ه ذل&ك عن معرفت&ه بش&يء من اللغ&ة االجنبي&ة‪ .‬وأم&ا عن جغرافي&ة بالده فمن الب&ديهي ان تن&ال احلظ‬
‫ال &&وافر من املعرف &&ة وأن خُي ص &&ص هلا كتب معين &&ة ت &&بني تل &&ك البالد وم &&ا فيه &&ا من خ &&ريات وم &&ا متت &&از ب &&ه من‬
‫صفات‪ ،‬وما خّص ها اهلل به من مناخ كان له األثر األكرب على نفسيات أهلها‪ ،‬حىت ق&الوا أن طبيع&&ة البالد‬
‫الب&&اردة جتع &&ل أهل&&ه أذكي&&اء سريعي احلرك&&ة دائمي العم&&ل‪ ،‬أم &&ا أه &&ل البالد احلارة ف&&اهنم ميت&&ازون ب&&اخلمول‬
‫والكسل والنفسيات املريضة‪ .‬وأخذنا نردد دائمًا تلك املقول&ة‪ ،‬وكأهنا حقيق&&ة ق&د ج&اء هبا الق&&رآن الك&رمي‪.‬‬
‫وأص&&بحنا نع&&رف م&&ا حتوي&ه بالده من خ&ريات ونعم أك&ثر مما نع&&رف عن بالدن&ا وبيئتن&ا‪ ،‬ب&ل اك&ثر مما يع&&رف‬

‫‪22‬‬
‫ه &&و عن بالده‪ .‬مما جع &&ل البعض يظن ان اهلل ق &&د حب &&اهم ه &&ذه النعم وفّض لهم على الن &&اس ب &&الفطرة‪ .‬ه &&ذا‬
‫بعض م&&ا ح&&رص الك&&افر على ان حنش&&و ب&&ه عقولن&&ا‪ .‬ف&&إن أردن&&ا املزي&&د‪ ،‬فال ب&&د من دراسة الفلس&&فة اليوناني&&ة‬
‫والفق&ه الروم&اين والفرنس&ي‪ ،‬وال ب&د من معرف&ة اولئ&ك األعالم الكب&ار يف جمال الفلس&فة ابت&داءًا من سقراط‬
‫وانتهاءًا بديكارت‪ ،‬وكذا يف األدب والشعر واملوسيقى وغري ذلك‪.‬‬

‫وباالض&&افة اىل حماولت&&ه اخلبيث&&ة املتعم&&دة باعط&&اء ص&&ورة مش&&رقة عن شخص&&يته‪ ،‬فق&&د إّدعى أن&&ه إمنا‬
‫حارب الدولة العثمانية ألهنا دولة ظاملة مستبدة هتيمن على غريها من الشعوب ومتتص دماءها‪ .‬وم&&ا ج&&اء‬
‫ه&&و اال لتخليص الع&&امل من ه&&ذه الش&&رور‪ ،‬فه&&و نص&&ري الش&&عوب املستض&&عفة‪ ،‬ومعني األمم الفق&&رية‪ ،‬ومعِّلم‬
‫الن&&اس ومثقفهم‪ .‬وأن&&ه م&&ا ج&&اء الين&&ا اال لرف&&ع الظلم واجلور عن&&ا أوًال‪ ،‬مث لتعليمن&&ا كي&&ف نس&&تطيع أن حنكم‬
‫أنفسنا‪ ،‬ويرشدنا اىل ما فيه خرين&ا‪ .‬مث يقيم معن&ا عالق&ات احملب&ة واالح&رتام املتب&ادل مث يع&&ود من حيث أتى‪.‬‬
‫فال مطم&&ع ل&&ه فين&&ا‪ ،‬ب&&ل ان&&ه ينف&&ق االم&&وال ويب&&ذل اجله&&ود وي&&أيت بالعلم&&اء واخلرباء لكي ينهض بن&&ا‪ .‬ول&&ذلك‬
‫فقد سارع ببناء املدارس واملعاهد واملستشفيات يف كل مدينة ويف كل قرية ويف كل حي‪ .‬مما جعل عامة‬
‫الن&&اس‪ ،‬ب&&ل ال&&رأي الع&&ام بكامل&&ه‪ ،‬ينظ&&ر الي&&ه نظ&&رة إكب&&ار وإجالل‪ ،‬وجعل&&ه الق&&دوة الص&&احلة ال&&يت جيب على‬
‫الناس إّتباعها‪ .‬خصوص&ًا وأن ذل&ك ق&د حص&ل يف وقت ك&ان في&ه اجملتم&ع يف هناي&ة احنداره‪ .‬ويف وقت ك&ان‬
‫اجله &&ل في &&ه ق &&د أطب &&ق على البالد‪ ،‬باالض &&افة اىل فس &&اد الوض &&ع االقتص &&ادي وذل &&ك ألسباب متع &&ددة منه &&ا‬
‫انشغال الدولة حبروب دائمة‪ ،‬ومنها فساد االدارة‪ ،‬وسوء تطبيق النظ&&ام‪ ،‬والض&&رائب التعس&&فية الناش&&ئة عن‬
‫فس & &&اد النظ & &&ام‪ ،‬والبطال & &&ة املستش & &&رية‪ .‬زد على ذل & &&ك االسباب اخلارج & &&ة عن االرادة مث & &&ل اجلدب واحملل‬
‫املتواصل لسنوات مما أوجد جماعة يف كثري من البلدان‪ .‬وملا جاء الكافر اىل البالد مدركًا ما يعانيه الن&&اس‪،‬‬
‫ح&&اول ختفي&&ف ه&&ذه األزم&&ات بأعم&&ال ظاهره&&ا اخلري وباطنه&&ا قب&&ول الن&&اس ل&&ه واملفاض&&لة بين&&ه وبني سابقه‪.‬‬
‫ومن األمثل&ة على ه&&ذه االعم&ال اخلبيث&ة تق&&دمي املكاف&آت ملن حيس&ن القي&ام بعم&ل م&&ا‪ .‬فه&&ذا املزارع أج&اد يف‬
‫حمصوله فقدم ل&ه مكاف&أة‪ ،‬وذل&ك أق&ام دع&ائم االرض ح&ىت ال جترف تربته&ا فق&ّد م ل&ه مكاف&أة‪ .‬وع&اقب ه&ذا‬
‫الذي أساء األدب مع محاره فحَّم له فوق طاقته‪ ،‬كما أوقع الغرامة على ذل&ك الفالح ال&ذي مل يع&اجل مجل&ه‬
‫اجلريح‪ ،‬وغري ذلك من االعمال امللفتة للنظر‪ ،‬واحملدثة يف األمة أكرب األثر‪ .‬وهبذا استطاع ان خيفي وجهه‬
‫احلقيقي ليبدو لنا يف صورة املنقذ‪ ،‬يتواجد اخلري حيث تواَج د‪.‬‬

‫إن مسألة مناهج التعليم وبراجمه ما زالت ُسّبة يف جبني القائمني عليها اىل اآلن‪ .‬وما زال وجه‬
‫االستعمار خمتفيًا وراءها‪ ،‬أو بارزًا يف كثري من األحيان‪ .‬اال ان الكافر وقد حتكم يف هذه املناهج حىت‬
‫ال تفلت جزئي&ة من جزئياهتا‪ ،‬ال ب&د أن يّطل&ع على ك&ل ص&غرية وكب&رية فيه&ا‪ ،‬وذل&ك بس&بب م&ا للثقاف&ة من‬
‫أث&&ر يف حي&&اة الن&&اس‪ .‬ف&&إن فش&&ل يف اجياد أجي&&ال حتم&&ل عقيدت&&ه‪ ،‬وت&&ؤمن مبا ي&&ؤمن ب&&ه‪ ،‬فال أق&&ل من أن يوِج د‬
‫أجياًال جاهلة‪ ،‬مشتتة الذهن‪ ،‬ليس هلا قاعدة فكري&ة وال طريق&ة يف التفك&ري‪ .‬وبالت&ايل ستبقى ه&ذه األجي&ال‬

‫‪23‬‬
‫ترب &&ة ص &&احلة ل &&زرع ثقافت &&ه‪ ،‬وتوجيهه &&ا بالوجه &&ة ال &&يت يري &&دها‪ ،‬ح &&ىت ل &&و أرادت اإلفالت من قبض &&ته بع &&د‬
‫إدراكها غايته‪ ،‬فهو الذي يرسم هلا طريق النضال لتقع مرة اخرى يف قبضته‪ ،‬ولكن بشكل آخر وهكذا‪.‬‬

‫بعض نتائج زرع ثقافة الكافر في بالد المسلمين‬


‫فكانت نتيجة ما حدث‪ ،‬أي نتيجة زرع ثقافة الكافر يف بالد املسلمني‪ ،‬ما يلي‪:‬‬

‫الرأي العام والمثقفون‪:‬‬


‫أم &&ا ال &&رأي الع &&ام‪ :‬فق &&د طغت علي &&ه مف &&اهيم مغلوط &&ة كث &&رية‪ ،‬أدت ب &&اجملتمع اىل حال &&ة من انفص &&ال‬ ‫‪-1‬‬
‫الفك &&ر عن الش &&عور‪ .‬فه &&ذا اجملتم &&ع ال &&ذي يعتق &&د العقي &&دة اإلسالمية‪ ،‬ويس &&وده ش &&عور بأن &&ه جمتم &&ع‬
‫مس& &&لم‪ ،‬وتتح& &&رك أحاسيس& &&ه وعواطف& &&ه على أساس االسالم‪ ،‬جنده ي& &&ردد مف& &&اهيم الدميقراطي &&ة‪،‬‬
‫ويط&&الب بتط&&بيق الدميقراطي&&ة واحلري&&ة‪ ،‬او بالعدال&&ة واملس&&اواة واالش&&رتاكية‪ ،‬وغ&&ري ذل&&ك من افك&&ار‬
‫الكفر‪ .‬فتارة ينادي بالقومية‪ ،‬وط&ورًا ين&ادي بالوطني&ة او االقليمي&ة‪ .‬وم&ع ذل&ك فه&و مس&لم مل&تزم‪،‬‬
‫م& &&ؤمن ك& &&ل االميان بعقيدت& &&ه‪ .‬وكث& &&ريًا م& &&ا تن& &&اقش ه& &&ؤالء الن& &&اس حماوًال الرب& &&ط بني أق& &&واهلم وبني‬
‫مش&&اعرهم‪ .‬فتس&&أل أح&&دهم إن ك&&ان يقب&&ل أن ي&&زّو ج ابنت&&ه لنص&&راين او يه&&ودي او مطل&&ق ك&&افر؟!‬
‫فيث &&ور‪ ،‬ألن مش &&اعره م &&ا زالت مش &&اعر إسالمية‪ .‬وحني تس &&أله إن ك &&ان يقب &&ل أن تتنق &&ل ابنت &&ه يف‬
‫أحضان الشباب متمتعة حبريتها؟! فيثور‪ .‬وتس&أله كي&ف قب&ل أن يطّبق علي&ه ق&انون حيمي الزن&اة؟!‬
‫فيسكت‪ .‬ففي كل مسألة من املسائل الشرعية اليت يؤمن هبا‪ ،‬ال يقب&&ل أن مُت ّس ‪ ،‬يف ال&&وقت ال&&ذي‬
‫ينادي هو بنقيضها‪ .‬هذه أمثلة بسيطة‪ ،‬تبني اإلنفصال بني الفكر والشعور‪ ،‬عن&&د عام&&ة الن&&اس أي‬
‫يف اجملتمع‪.‬‬

‫وأما المثقفين‪ :‬فان انفص&ال الفك&ر عن الش&عور عن&دهم أبني وأوض&ح‪ .‬ب&ل هم اص&حاب االث&ر يف‬ ‫‪-2‬‬
‫اجياد هذه العلة عند العامة ويف الرأي العام‪ .‬فهم نتيجة لتلك الثقافة اليت حتدثنا عنه&&ا آنف&ًا‪ ،‬ب&&نيت‬
‫عقليتهم على عقيدة غري عقيدهتم‪ ،‬وتعلم&وا كي&ف يفك&ر غ&ريهم‪ ،‬ال كي&ف جيب ان يفك&روا هم‪.‬‬
‫حيث ان طريق &&ة التفك &&ري ال &&يت إختذوها هي طريق &&ة الك &&افر يف تفك &&ريه‪ ،‬والقواع &&د واالسس ال &&يت‬
‫يقيس عليها الوقائع واالحداث‪ ،‬هي القواعد واالسس ال&يت درسوها‪ ،‬أي هي القواع&&د واالسس‬
‫ال& &&يت تعلموه& &&ا يف ثق& &&افتهم‪ .‬فمن الب& &&ديهي ان يك& &&ون نت& &&اجهم العقلي منبثق& &&ا من تل& &&ك االسس‬
‫والقواع &&د‪ .‬وهلذا ك &&ان تفك &&ريهم كم &&ا يفك &&ر غ &&ريهم‪ ،‬ال كم &&ا جيب ان يفك &&روا هم كمس &&لمني‪.‬‬
‫حيث اهنم مل جيعلوا العقيدة اإلسالمية هي القاعدة األساسية يف التفكري‪ ،‬وال اختذوا من ت&&ارخيهم‬
‫وواقعهم وب&&يئتهم مق&&اييس يرجع&&ون اليه&&ا يف تق&&ييم الوق&&ائع واالح&&داث‪ .‬وهبذا اص&&بحوا ع&&اجزين‬

‫‪24‬‬
‫عن ان يكون& &&وا مفك& &&رين حقيق& &&يني‪ .‬واص& &&بحوا بوص& &&فهم مفك& &&رين مثقفني‪ ،‬غرب& &&اء عن جمتمعهم‬
‫بعيدين عن مش&اكله‪ ،‬غ&ري م&دركني حلاجات&ه‪ .‬وب&ذلك ص&ار ش&عورهم منفص&ال متام&ا عن افك&ارهم‬
‫وعقلهم‪ .‬فهم مبش& &&اعرهم ج& &&زء من ه& &&ذا اجملتم& &&ع‪ ،‬ش& &&اءوا ام أب& &&وا‪ .‬ومش& &&اكل ه& &&ذا اجملتم& &&ع هي‬
‫املش&&كلة ال&&يت يع&&انون منه&&ا بينهم وبني انفس&&هم‪ .‬وحاج&&ات ه&&ذا اجملتم&&ع هي نفس احلاج&&ات ال&&يت‬
‫حيتاجوهنا‪ .‬اال اهنم يف تفكريهم على تل&ك االسس ص&اروا غرب&اء طبيعي&ا عن االم&ة وعن ش&عورها‬
‫وأحاسيسها‪ .‬وفئٌة هذا حاهلا من الطبيعي ان ال ت&&درك قض&&يتها‪ ،‬وان ال تفهم االوض&&اع املوج&&ودة‬
‫يف البالد‪ .‬وال ميكن ان تعي على النهض&&ة وال على الطريق&&ة املؤدي&&ة للنهض&&ة‪ .‬ف&&اذا م&&ا وج&&د منهم‬
‫ما يريد ان يتحرك للنهضة‪ ،‬فان حتركه ه&&ذا ال ميكن ان يوِج د التكت&ل الص&&حيح‪ ،‬املس&بوق بتفهم‬
‫صحيح للنهضة ‪ -‬ففاقد الشيء ال يعطيه‪.-‬‬

‫هذا هو الواقع الذي وجد بعد احتالل الكفار لبالد املسلمني‪ ،‬والنتيج&&ة ال&&يت وص&&لنا إليه&&ا بس&&بب‬
‫هيمن&&ة الكف&&ار وت&&وجيههم لل&&رأي الع&&ام‪ ،‬وفرض&&هم من&&اهج التعليم ال&&يت يري&&دون‪ .‬فتعق&&دت املش&&كلة ام&&ام من‬
‫يري&&د االص&&الح والنه&&وض باالم&&ة من كبوهتا‪ .‬فبع&&د ان ك&&انت املش&&كلة هي النه&&وض مبجتم&&ع مس&&لم على‬
‫أساس العقيدة اإلسالمية‪ ،‬أصبحت اآلن اكثر تعقي&&دًا‪ .‬إذ ان&&ه ال بد من ازالة ه‪HH‬ذا االنفص‪HH‬ام بالشخص‪HH‬ية‪،‬‬
‫ومحاول‪HH‬ة ايج‪HH‬اد التناس‪HH‬ق بين فك‪HH‬ر االم‪HH‬ة وش‪HH‬عورها‪ ،‬وايج‪HH‬اد التناس‪HH‬ق بين فك‪HH‬ر المثقفين وش‪HH‬عورهم‪،‬‬
‫وايج‪H‬اد التناس‪H‬ق بين االم‪H‬ة وابنائه‪H‬ا من المثقفين ال‪H‬ذين أمس‪H‬وا غرب‪H‬اء عنه‪H‬ا‪ .‬نعم اص&&بحوا غرب&&اء عنه&&ا‪.‬‬
‫والس &&بب يف ذل &&ك ان ه &&ؤالء املثقفني ق &&د أخلص &&وا للفك &&ر االجن &&يب – ول &&و ان &&ه خ &&ال من الش &&عور ‪ -‬مما‬
‫جعلهم يش&&عرون اهنم غرب&&اء عن ه&&ذا اجملتم&&ع‪ .‬ب&&ل اهنم ب&&اتوا حيتقرون&&ه‪ ،‬ويعيش&&ون يف عزل&&ة عن&&ه‪ ،‬وينقم&&ون‬
‫على احلي &&اة ال &&يت جعلتهم ينتم &&ون اىل ه &&ذا اجملتم &&ع‪ .‬وت &&رى أن أح &&دهم ومبج &&رد اص &&طدامه بأي &&ة مش &&كلة‬
‫اقتص&ادية او اجتماعي&ة او سياسية‪ ،‬قف&ل راجع&ًا اىل اوروب&ا‪ ،‬إن وج&د اىل ذل&ك سبيال‪ .‬أو ب&ات يتحس&ر إن‬
‫مل يستطع‪ .‬وجتده ال يكرتث مبا يلحق ب&اجملتمع من آف&ات ومص&&ائب‪ ،‬ه&&ذا إن مل يق&&ف متش&ّف يًا‪ .‬وانن&ا ن&رى‬
‫ب &&أم أعينن &&ا الي &&وم م &&دى تعل &&ق الن &&اس حبب اهلج &&رة وال &&ذهاب اىل تل &&ك البالد‪ ،‬وت &&رك بالدهم وجمتمعهم‪،‬‬
‫مت&&ذرعني بس&&وء االوض&&اع السياسية او االقتص&&ادية او االجتماعي&&ة‪ ،‬غ&&ري ع&&ابئني مبا تعاني&&ه أمتهم وجمتمعهم‬
‫من مصائب او كوارث او اوضاع‪ ،‬يسود فيها الظلم السياسي وارتباط حكامه باالجنيب والتعامل معه‪.‬‬

‫وقد عم البالء االن‪ ،‬فبعد ان ك&ان االم&ر مقتص&را على فئ&ة املثقفني‪ ،‬اص&بح االن أمني&ًة عن&د عام&ة‬
‫الن&&اس‪ .‬ف&&رتى ع&&ائالت بكامله&&ا هتاجر اىل املاني&&ا او الس&&ويد او النمس&&ا او غريه&&ا من البالد االوروبي&&ة‪ .‬ه&&ذا‬
‫من جه&ة‪ ،‬ومن جه&ة اخ&رى فان&ك تلح&ظ ذل&ك االح&رتام الكب&ري يف النف&وس لالجن&يب‪ ،‬سواءًا فيم&ا يبّثه من‬
‫مسوم عرب وسائل إعالمه او ما يصدر عنه او مبشاهدته او لقائه يف الشارع او يف الدكان او يف السكن او‬
‫يف أي جمال من جماالت احلي &&اة‪ .‬وك &&أن لق &&اءه او احلديث مع &&ه يكس &&ب ذل &&ك الش &&خص مكان &&ة سامية‪ .‬إن‬

‫‪25‬‬
‫هذا االمر كذلك مل يقتصر على املثقفني‪ ،‬ب&&ل تع&&داه ليش&&مل عام&&ة الن&&اس‪  ،‬يبتغون عندهم العزة‬
‫فإن العزة هلل جميعا ‪ .‬ه &&ذه هي ح &&ال اجملتم &&ع وح &&ال املثقفني‪ .‬ومن ك &&انوا ه &&ذا ه &&و ح &&اهلم‪ ،‬كي &&ف‬
‫ميكن هلم ان يتص&&وروا اوض&&اع بالدهم على حقيقته&&ا‪ ،‬ومعرف&&ة م&&ا ميكن ان ينهض هبا‪ .‬ول&&ذلك فإن&&ه حني‬
‫يتص&&ور اوض&&اع بالده‪ ،‬امنا يتص&&ورها تقلي&&دا لالجن&&يب يف تص&&وره اوض&&اع بالده‪ .‬ال يس&&تطيع ان يف&&رق بني‬
‫بلده الرازح حتت حكم االستعمار وتوجيهه‪ ،‬و البلد املستعمر ال&&ذي يتحكم خبريه ويس&&عى لبس&&ط هيمنت&&ه‬
‫ونفوذه على غريه‪ .‬فإذا ما طرح احلديث عن النهضة ووسائل وسبل االنتق&&ال باالم&&ة اىل الوض&&ع االفض&&ل‪،‬‬
‫يتحدث مرددا العبارات اليت أمليت عليه‪ .‬فتجده يقول إن آفة جمتمعن&ا الفق&ر واجله&ل واملرض‪ .‬هك&ذا قي&ل‬
‫ل&&ه‪ ،‬فه&&و ي&&ردد م&&ا يق&&ال‪ .‬ويق&&ول إن اسباب التخل&&ف ال&&ذي نع&&اين من&&ه هي كبت احلري&&ات‪ ،‬وع&&دم تط&&بيق‬
‫الدميقراطي &&ة واالش &&رتاكية‪ .‬ويتش &ّد ق باستعمال ألف &&اظ االمربيالي &&ة والرجعي &&ة‪ ،‬دون ان يعي م &&دلوالت ه &&ذه‬
‫االلفاظ ومعانيها‪ .‬واما أحاسيسه فإهنا ال تتحرك على أساس املبدأ‪ .‬ان مل أقل ان&ه ال يع&رف ل&ه مب&دًأ‪ .‬فق&د‬
‫تتحرك من اجل ال&وطن‪ .‬وأسوق على ذل&ك مث&اال بس&يطا‪ :‬ان مدين&ة الرمث&ا االردني&ة تبع&د عن مدين&ة درع&ا‬
‫الس&&ورية بض&&عة كيلوم&&رتات‪ .‬وكالمها ينتس&&ب اىل عش&&رية واح&&دة تقريب&&ا – آل الزع&&يب – ‪ .‬وم&&ع ذل&&ك ل&&و‬
‫ق&ام اليه&&ود مثال باالعت&داء على طرط&&وس او الالذقي&ة‪ ،‬ف&إن مش&اعر اه&&ل الرمث&ا ال تتح&رك هلا‪ ،‬بينم&ا تلتهب‬
‫مش&&اعر أه&&ل درع&&ا ل&&ذلك‪ .‬يف حني ل&&و ق&&امت اسرائيل باالعت&&داء على الرمث&&ا نفس&&ها‪ ،‬فال هتتز هلا مش&&اعر‬
‫أهل درعا او العكس‪ .‬ولو جرى اعت&داء من الكف&ار على تركي&ا او اندونيس&يا او غريه&ا من بالد املس&لمني‬
‫ف&&إن االم&&ر ال يع&&نيهم‪ .‬وهن&&اك م&&ا ه&&و أسوأ من ذل&&ك‪ .‬ف&&إن اعت&&داء الكف&&ار على ال&&وطن او الش&&عب ق&&د يث&&ري‬
‫املشاعر وحيرك االحاسيس‪ .‬أما االعتداء على املبدأ‪ ،‬فإن االمر ال يعنيهم‪ ،‬وللبيت رب حيميه‪ .‬وحىت حني‬
‫يث&&ور من اج&&ل ال&&وطن او الش&&عب‪ ،‬ف&&إن ثورت&&ه تل&&ك ال تك&&ون ث&&ورة ص&&حيحة‪ ،‬وتض&&حيته ال تك&&ون كامل&&ة‪.‬‬
‫ولو استعرضنا الثورات املتتالية ال&يت حتركت فيه&ا االم&ة من&ذ ان ف&رض االستعمار هيمنت&ه على البالد‪ ،‬فانن&ا‬
‫ال جند فيه&ا ث&ورة واح&دة ك&انت مدرك&ة لالوض&اع الس&ائدة‪ ،‬والظ&روف القائم&ة‪ .‬م&ع ان يف ه&ذه الث&ورات‬
‫ث &&ورات خملص &&ة‪ .‬إال ان ع &&دم ادراكه &&ا ملا تري &&ده‪ ،‬وع &&دم احساسها حباج &&ة الن &&اس احساسا حقيقي &ًا‪ ،‬جعال‬
‫مصريها مجيعا الفشل الذريع‪ .‬اما احلركات واالنتفاضات اليت حدثت مطالب&&ة بالنهض&&ة فإهنا ك&&انت رّدات‬
‫فع&&ل لص&&دمة ح&&دثت او ق&&رار اختذ‪ ،‬او ض&&رب مص&&لحة‪ ،‬او تقلي&&دًا لغ&&ريهم من االمم والش&&عوب‪ ،‬ه&&ذا م&&ع‬
‫اف &&رتاض ث &&ورة اح &&دهم‪ .‬ول &&ذلك ال تلبث ان ت &&زول ه &&ذه الث &&ورة‪ ،‬إم &&ا ل &&زوال اث &&ر ه &&ذه الص &&دمة بانطف &&اء‬
‫احلماس‪ ،‬وإما باستنـزاف ذلك احلماس مبظاهرة صرخ فيها وهت&ف‪ ،‬وع&رب عن مش&اعره بض&رب حج&ر‪ ،‬أو‬
‫شتم مسؤول‪ ،‬أو هتف بشعار‪ ،‬إىل غري ذلك من أعمال صبيانية‪ ،‬وإما بإلقامه وظيفة تتناسب مع حجم&&ه‬
‫ووزن&&ه يف اجملتم&&ع‪ ،‬أو تعيين&&ه يف مؤسس&&ة من املؤسس&&ات ال&&يت ترض&&ي نزعات&&ه‪ ،‬أو إعطائ&&ه وكال&&ة أو مص&&لحة‬
‫ت&&در علي&&ه رحبا معين&&ا‪ .‬وق&&د تص&&طدم ه&&ذه الث&&ورة بأنانيت&&ه ومص&&احله حبيث يش&&عر ب&&اخلطر على مص&&لحته أو‬

‫‪26‬‬
‫نفسه‪ ،‬أو قد يلحقه منها األذى كالس&جن أو غ&ريه‪ ،‬فيخل&د اىل الراح&ة‪ .‬ب&ل ق&د يص&بح أح&د أعم&دة النظ&ام‬
‫القائم ودعائمه‪ ،‬وقد يصبح جاسوسا على من كان إىل جانبه يف ثورته‪.‬‬

‫ومن كان هذا حاله فانه ال ميكن أن يقوم على عاتقه تكت&ل ص&حيح‪ .‬فه&و ليس أهال لالض&طالع‬
‫باملس&&ؤولية‪ .‬ول&&ذلك ال ب&&د أن يع&&اجل معاجلة أساسية باجياد التناسق أوال بني فك&&ره وش&&عوره‪ ،‬بتثقيف&&ه ثقاف&&ة‬
‫مبدئي &&ة ص &&حيحة‪ .‬ومع &&ىن ذل &&ك أن التناسق بني الفك &&ر والش &&عور إمنا يت &&أتى من ك &&ون الش &&عور منبثق &&ا عن‬
‫العقيدة‪ .‬فيكون إحساسا فكريا‪ .‬وش&عورا حقيقي&ا‪ .‬ف&الفكر حني ي&رتكز يف النفس تنبث&ق عن&ه حتم&ًا مش&اعر‬
‫وأحاسيس تتناسق م&ع ذل&ك الفك&ر املرتكز يف النفس‪ .‬وليس أق&وى مطلق&ًا من فك&ر ل&ه قاع&دة أساسية ب&ين‬
‫عليها كالعقيدة‪ .‬وعملية تثقيفه هبذه الثقافة ليس&ت عملي&ة سهلة يلقن فيه&ا مع&ارف ومف&اهيم ال حتدث يف‬
‫نفس&ه األث&ر‪ .‬ب&ل ال ب&د من إف&رتاض أن&ه خ&اٍل من ك&ل فك&ر‪ .‬ويص&ار اىل تك&وين عقليت&ه تكوين&ا جدي&دا‪ .‬أي‬
‫أن نوجد عنده طريقة معينة يف التفكري‪ .‬وذلك بإجياد قناعة مطلقة عنده مبجموعة قواعد ومقاييس منبثق&&ة‬
‫من أو مبني &&ة على عقيدت &&ه‪ .‬ش &&ريطة أن يع &&اد جالء الغم &&وض عن &&ده عن أفك &&ار العقي &&دة وم &&ا عل &&ق هبا من‬
‫غشاوات‪ .‬حبيث تصبح العقيدة عنده يقينية‪ ،‬واألفكار املتعلقة هبا أفك&ارًا حقيقي&ة ص&&ادقة‪ .‬مما ي&ؤدي حتم&ا‬
‫إىل إحس&&اس ص&&ادق‪ ،‬ومش&&اعر متناسقة م&&ع ه&&ذه العقي&&دة‪ .‬وهبذا يتم التناسق بني فك&&ره وش&&عوره‪ .‬ومن مث‬
‫ُينتَق ل إلجياد التناسق بينه وبني جمتمعه‪.‬‬

‫أما موضوع التناسق بينه وبني اجملتمع‪ ،‬فإن وضوح املفاهيم واالفكار املنبثقة عن هذه العقيدة‬
‫جتعله يؤمن بأنه فرد من هذه األمة‪ ،‬وعضو من أعضاء هذا اجملتمع‪ .‬كما ينبثق عنها مفاهيم حتتم عليه أن‬
‫يساهم يف إهناض هذه األمة وان يعمل على رفعتها‪ .‬وهذا يتم ببيان النصوص اليت جاءت هبا العقيدة‬
‫مثل قوله صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم " من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم "‪ ،‬وما يفيد‬
‫هذا النص وغريه من النصوص‪ ،‬اليت توجب عليه العمل إلهناض األمة‪ .‬وبذلك يسهل حل مشكلة‬
‫النهوض باجملتمع‪ .‬ولوال وجود الثقافة األجنبية واألشخاص املضبوعني هبا‪ ،‬لكانت النهضة أقل تكاليف‬
‫مما هي عليه اآلن‪.‬‬

‫هذا من حيث األمرين اللذين حتدثنا عنهما‪ ،‬ومها الفكرة والطريقة‪ ،‬وعدم وضوحهما وأثرمها‬
‫يف اجملتمع‪ .‬مث األشخاص وطريقة الربط بني أعضاء التكتل‪.‬‬

‫فكيف ميكن إجياد تكتل صحيح مع هذا الواقع الفاسد‪ .‬من عدم فهم للفكرة أو الطريقة‪ ،‬أو‬
‫على األقل سوء فهم للفكرة أو للطريقة‪ .‬وكان األمر يقتصر أحيانا على فكرة عامة وتوحيد هدف ال‬
‫غري‪ .‬أما األشخاص‪ ،‬وطريقة الربط‪ ،‬فقد بّيّنا أي نوع من األشخاص كان مثقفو األمة‪ ،‬وأي جمتمع‬
‫كان ذلك اجملتمع الذي حّطموا فيه األسس اليت يقوم عليها‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫ولذلك فانه من املستحيل أن يوجد تكتل صحيح مع وجود هذه الثقافة األحنبية‪ ،‬وال أن يوجد‬
‫على أساسها تكتل صحيح كذلك‪ .‬أي مع وجود هذه الثقافة يف اجملتمع‪ ،‬وتشويه مفاهيم الناس عن‬
‫احلياة‪ ،‬فانه يتعذر وجود تكتل صحيح يف جمتمع انفصل فكره عن شعوره‪ .‬كما أن وجود هذه الثقافة ال‬
‫يصلح إلقامة تكتل على أساسها‪ ،‬من حيث أهنا ثقافة ختالف عقيدة األمة وجمموعة القيم الصادقة اليت ما‬
‫زالت حتتفظ هبا يف مركز امياهنا‪.‬‬

‫ومل يكتف االستعمار هبذه الثقافة‪ ،‬بل عمل على إفساد األجواء العام&&ة وتس&&ميمها بأفك&&ار وآراء‬
‫فلس&&فية وسياسية‪ ،‬أفس&&د هبا وجه&&ة النظ&&ر عن&&د املس&&لمني‪ ،‬وأفس&&د هبا اجلو االسالمي‪ ،‬وبلب&&ل الفك&&ر ل&&دى‬
‫املسلمني بلبلة ظاهرة يف خمتلف نواحي احلياة‪.‬‬
‫أم &&ا تس &&ميم اجلو بأفك &&ار وآراء فلس &&فية وسياسية أفس &&دوا فيه &&ا وجه &&ة النظ &&ر الص &&حيحة عن &&د‬
‫املسلمني‪ ،‬فقد نشروا قاعدة ( ال ينكر تغ&ري األحك&ام بتغ&ري األزم&ان )‪ ،‬وفك&رة ( أن م&ا ال خيالف اإلسالم‬
‫فهو من اإلسالم )‪ ،‬وفكرة ( الدين هلل والوطن للجميع )‪ ،‬وفكرة (أن السياسة دجل وخداع)‪ ،‬وفكرة (‬
‫أن األح&&زاب حيرمه&&ا اإلسالم )‪ ،‬وفك&&رة ( كم&&ا تكون&&وا ي&&وىل عليكم )‪ ،‬وغ&&ري ذل&&ك من األفك&&ار واآلراء‬
‫مث&&ل ( أن الدميقراطي&&ة من اإلسالم‪ ،‬أو على األق&&ل ال تتع&&ارض م&&ع اإلسالم )‪( ،‬ومثله&&ا احلري&&ة)‪ .‬وق&&د ق&&ال‬
‫عمر بن اخلطاب "مىت استعبدمت الن&اس وق&د ول&دهتم أمه&اهتم أح&رارا"حيث تس&ميم األج&واء وإفس&اد وجه&ة‬
‫النظ &&ر‪ .‬وأم &&ا من حيث بلبل &&ة الفك &&ر‪ .‬فمن &&ه ( أن اجله &&اد ح &&رب دفاعي &&ة ) و ( أن اإلسالم م &&ا أعلن حرب &&ا‬
‫مبتدئا‪ ،‬إال حربا وقائية )‪ ،‬و ( أن الدميقراطية هي الشورى)‪،‬و ( أن الش&ورى هي نظ&ام احلكم )‪ ،‬و ( أن‬
‫الزك &&اة هي النظ &&ام اإلقتص &&ادي يف اإلسالم )‪ ،‬و ( أن طري &&ق الص &&الح هي الع &&ودة إىل اهلل )‪ ،‬و ( إص &&لح‬
‫نفس &&ك يص &&لح اجملتم &&ع )‪ ،‬أو ( الف &&رد فاألسرة ف &&اجملتمع )‪ .‬ح &&ىت بل &&غ احلال ب &&القول ( أن اإلحتك &&ام لك &&افر‬
‫عادل والرضى حبكمه جائز ‪ ،‬بل أفضل من اإلحتكام إىل املس&لم الظ&امل )‪ .‬وق&د أف&ىت بعض أع&وان الكف&ار‬
‫مثل الشيخ حممد عبده بوقف اجلهاد‪ ،‬ووجوب مس&اعدة الدول&ة الربيطاني&ة على أع&دائها ألهنا أق&رب األمم‬
‫إىل اإلسالم‪ ،‬وأهنا أم&&ة عادل&&ة فمس&&اعدهتا واجب&&ة‪ .‬ذل&&ك باإلض&&افة إىل أفك&&ار اإلستقالل والتح&&رر‪ ،‬ال&&يت من‬
‫شأهنا أن تدفع الناس للقيام بأعمال يستطيع الك&افر احملت&ل أن يتحكم هبا ويوجهه&ا إىل الوجه&ة ال&يت يري&د‪.‬‬
‫ما دام أن مركز التنُّبه عند األمة قد ُأبعد‪ ،‬وفقدت تصورها لقضيتها‪ ،‬وأبعدت فكرة إقامة دولة إسالمية‪.‬‬
‫فما دام ه&ذا األم&ر ق&د أبع&د‪ ،‬فال ب&د من إش&غال األم&ة بنفس&ها‪ ،‬ودفعه&ا للقي&ام بأعم&ال تس&تنزف م&ا عن&دها‬
‫من خمزون احلم&&اس‪ ،‬فتتح&&رك حرك&&ة املذبوح‪ ،‬فال تلبث أن تس&&قط فاق&&دة الق&&وة واحليوي&&ة واحلي&&اة‪ .‬وذل&&ك‬
‫مث&&ل حمارب&&ة وج&&ود القبع&&ة األوروبي&&ة وط&&رد اجلي&&وش األجنبي&&ة‪ ،‬ح&&ىت إذا ان&&دفعت األم&&ة يف مث&&ل ه&&ذا اإلجتاه‬
‫اختفت القبع&&ة وراء الكوفي&&ة والعق&&ال‪ ،‬ون&&اب عن اجلن&&دي اإلجنل&&يزي اجلن&&دي أو الش&&رطي املس&&لم يف تنفي&&ذ‬
‫ما يريده اإلجنليز‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ومن جراء جعل شخصيته ‪ -‬أي شخصية الكافر ‪ -‬هي املثل األعلى عند املسلمني‪ ،‬ولظروف‬
‫التنافس بني الكفار يف امتصاص دماء املسلمني‪ ،‬صارت اإلستعانة بالكفار أمرًا طبيعيًا‪ ،‬بل أمرًا ال بد‬
‫منه‪ .‬فقد عمد الفرنسيون اىل مساعدة الفلسطينيني يف ثورهتم‪ ،‬كما عمد اإلجنليز اىل مساعدة السوريني‬
‫واللبنانني يف ثورهتم‪ ،‬وهكذا‪ .‬وبات من املؤكد عند السياسيني أنه ال ميكن حتقيق أي هدف أو الوصول‬
‫اىل أية غاية بدون اإلستعانة باألجنيب‪ .‬وكأن اإلستعانة باألجنيب أصبحت حكمًا من أحكام الطريقة‪،‬‬
‫متامًا مثل الدعاية اليت تقول أنه ال ميكن أن يصبح شخص وزيرًا أو نائبًا يف الربملان أو وكيًال لشركة‬
‫كبرية إال إذا كان ماسونيًا‪ .‬مما دفع أصحاب الطموح إىل البحث هم بأنفسهم عن املاسونية وحمافلها‬
‫لعلها حتقق هلم ما يطمحون إليه‪ .‬وكذا العمالء‪ ،‬فإنه بات من املؤكد عندهم أنه ال ميكن الوصول‬
‫للحكم أو لكرسي من كراسي احلكم أو املصاحل الكربى إال إذا استعان باألجنيب‪ .‬مما جعل أكثر‬
‫التكتالت تستعني باألجنيب أيًا كانت جنسيته‪ ،‬ومهما كانت أطماعه‪ .‬وأخذت وسائل اإلعالم بالدعوة‬
‫والدعاية هلذا دون اعتبار أو إدراك أن هذه خيانة عظمى‪ .‬وأن ربط قضيتنا بغرينا إمنا يعترب انتحارًا‬
‫سياسيًا‪ .‬هذا إن كنا ندرك أن لنا قضية‪ ،‬أو إن أدركنا ما هي قضيتنا‪ .‬ففي كل األحوال‪ ،‬يعترب انتحارًا‬
‫سياسيًا‪ .‬والسبب يف ذلك أن اإلنتحار هو أن يعمد اإلنسان اىل قتل نفسه‪ .‬والكتلة أو الشخص الذي‬
‫جيعل قضيته بيد غريه‪ ،‬كأنه انتحر سياسيًا‪ ،‬أي قتل نفسه سياسيًا‪ .‬ألن قضييت هي قضييت وحدي‪ ،‬ومن‬
‫البديهي أن ختالف وتتناقض مع كل قضايا اآلخرين‪ .‬ووضعها بيد غريي إمنا يعين أنين لن أصل لتحقيق‬
‫قضييت‪ .‬فاألجنيب ال ميكن أن يعينين على قضييت اليت من أوىل أهدافها أن أطرد األجنيب‪ .‬فهل ميّك نين أو‬
‫يساعدين األجنيب على حتقيق قضية من أهدافها األساسية طرده من البالد!؟ لذلك نقول أن وضع القضية‬
‫بيد األجنيب إمنا هو انتحار سياسي‪ .‬ومقضٌّي على هكذا تكتل باملوت أو الفشل أو خيانة األمة‪ .‬وهلذا‬
‫فإنه لن يكون هناك جناح ألي تكتل تسمم فكره باإلتكال على االجنيب أو الرتويج له‪.‬‬

‫وكذلك مسم اجملتمع بالوطنية‪ ،‬والقومية‪ ،‬وباإلشرتاكية‪ .‬كما مسمه باإلقليمية الضيقة وجعلها‬
‫حمور العمل اآلين‪ .‬ومسمه كذلك باستحالة قيام الدولة اإلسالمية ‪،‬وباستحالة وحدة البالد اإلسالمية‪.‬‬
‫وذلك ملا غرسه يف النفوس من العداء لشعوب العامل اإلسالمي لبعضها‪ ،‬عداء إقليمي وعداء وطين‬
‫وعداء قومي‪ .‬أو مبا يدعيه من وجود اإلختالف املدين‪ ،‬والعنصري‪ ،‬واللغوي‪ ،‬مع أهنا مجيعًا أمة واحدة‬
‫تربطها عقيدة واحدة هي العقيدة اإلسالمية اليت ينبثق عنها نظامها‪ .‬ومسمه أيضًا باألفكار السياسية‬
‫املغلوطة مثل قوهلم‪ ( :‬خذ وطالب ) ومثل ( األمة مصدر السلطات ) ومثل ( السيادة للشعب )‪ .‬مع أن‬
‫الذي جيب أن يكون واضحًا‪ ،‬وال يغيب عن الذهن حلظة واحدة‪ ،‬هو أن السيادة للشرع وليس‬
‫للشعب‪ .‬وال بد من الرتكيز يف األذهان أن السيادة للشعب هي فكرة كفر‪ ،‬وتعين جعل الشعب إهلًا‬
‫يشرع للناس نظمهم وقوانينهم‪ .‬وأن السيادة للشعب هي العقيدة الرأمسالية‪ ،‬ومتارسها الشيوعية كذلك‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫فالشعب عند الشيوعية أو ممثلي الشعب هم الذين يضعون التشريعات‪ .‬وكذلك يف النظام الرأمسايل‪ ،‬فإن‬
‫جملس النواب‪ ،‬ويسمى السلطة التشريعية‪ ،‬هو الذي يضع النظم ويسن القوانني‪.‬‬

‫أما ما جاء يف العقيدة اإلسالمية فهو أن التشريع أي وضع النظم وسن القوانني وتسيري حياة‬
‫الفرد واجملتمع إمنا هو من عند اهلل‪ .‬وليس لإلنسان إال فهم ما جاء يف الكتاب والسنة ليستنبط‬
‫األحكام اليت تبني له النظم‪ ،‬وتوضح له القوانني بأحكام شرعية ليس للمسلم أن يستغين عنها‪ .‬قـال‬
‫‪ ‬ما كان لمؤمن وال مؤمنة إذا قضى هللا و رسوله أمرًا أن يكون لهم‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫الخيرة من أمرهم ‪ ‬وقال تعاىل‪  :‬فال و ربك ال يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر‬
‫بينهم‪ .‬فلو كانت هذه الفكرة واضحة يف األذهان‪ ،‬حمتلة مركز اإلميان عند األمة‪ ،‬لرفضت األمة أية‬
‫تشريعات وضعها أي إنسان سواء أكان جملس الشعب (الربملان) أو أية جهة أخرى‪ .‬لكن تسميم أفكار‬
‫األمة مبثل هذه الفكرة جعلها بعيدة كل البعد عن إسالمها مع إمياهنا به‪.‬‬

‫كما مسمه بأفكار خاطئة مثل قوهلم ( الدين هلل والوطن للجميع )‪ ،‬ومثل ( توّح دنا اآلالم‬
‫واآلمال )‪ ،‬ومثل ( الوطن فوق اجلميع )‪ ،‬ومثل ( العزة للوطن )‪ ،‬وما شابه ذلك‪.‬‬

‫وّمسمه ايضًا باألفكار الواقعية الرجعية مثل قوهلم ( إننا نأخذ نظامنا من واقعنا) ومثل ( الرضا‬
‫باألمر الواقع ) ومثل ( جيب أن نكون واقعيني )‪ ،‬وما شاكلها‪.‬‬

‫أما قولنا األفكار الرجعية والواقعية‪ ،‬فإن كلمات‪ :‬رجعية‪ ،‬أفكار رجعية‪ ،‬هؤالء رجعيون‪،‬‬
‫الدول الرجعية‪ .‬فهي كلمة مضللة‪ ،‬ومصروفة عن حقيقة معناها‪ .‬والذين يرددوهنا اليوم إمنا يقصدون هبا‬
‫األفكار القدمية املغرقة يف القدم‪ ،‬ويعنون بذلك اإلسالم‪ .‬ويتهمون املسلمني بأهنم رجعيون‪ .‬أي أهنم يف‬
‫معتقدهم ومعاجلاهتم ونظمهم‪ ،‬ونظرهتم للحياة‪ ،‬إمنا يعودون للماضي‪ ،‬أي يرجعون للماضي‪ ،‬فهم‬
‫رجعيون هبذا الرجوع‪ .‬هذا ما يقصده أولئك املضللون واملضللون‪ .‬وهلذا كان ال بد من حتديد معىن‬
‫هذه الكلمة‪ ،‬وتوضيح حقيقتها‪ .‬أما حقيقة معناها‪( :‬فالرجعية تعني تسيير الحياة بحسب الرجع‬
‫الغريزي‪ ،‬ووضع النظم والمعالجات بناًء على الرجع الغريزي)‪ .‬فمن أعطى احلرية للغرائز‪ ،‬وجعل‬
‫احلرية قانونه األساسي الذي ُتستنبط منه كافة القوانني املنظمة للحياة‪ ،‬كان هو الرجعي ألنه نظم حياته‬
‫بناًء على الرجع الغريزي‪ ،‬وترك السيادة للغريزة تتحكم يف احلياة‪ ،‬ورأى السعادة يف احلصول على أكرب‬
‫قدر ممكن من املتع اجلسدية‪ ،‬أي يف إشباعات الغرائز‪ .‬هذا هو املعىن احلقيقي لكلمة رجعية‪ .‬وأما ما‬
‫ذهبوا إليه من معىن وهو الرجوع إىل خملفات املاضي لتنظيم احلاضر‪ ،‬وأرادوا هبا الطعن باإلسالم‬
‫واملسلمني‪ ،‬فلنعد إىل املاضي البعيد أي اىل ما قبل اإلسالم‪ .‬ولننظر إىل حياة اإلنسان يف ذلك الوقت‬
‫كيف كان ينظمها؟‬

‫‪30‬‬
‫لقد كان الفرد قبل اإلسالم منطلقًا يف إشباع جوعاته الغريزية اىل أك&&رب ق&&در ممكن‪ ،‬دون قي&&د أو‬
‫مراعاة لقانون‪ .‬أي أنه كان يباشر حريته املطلقة متامًا كما ينادي هؤالء الناس اليوم‪ ،‬وكان بذلك‬

‫رجعيًا مسريًا بالرجع الغريزي‪.‬‬

‫فجاء اإلسالم وأخذ بيد اإلنسان وميزه بعبوديته هلل‪ .‬وجعل أفعاله مجيعها مقيدة بأوامر اهلل‬
‫ونواهيه‪ .‬ونظم حياته بنظم وأحكام وقوانني شرعها له‪ .‬فخطا به خطوة واسعة إىل األمام‪ ،‬وأنقذه من‬
‫عبوديته وإنقياده لغرائزه‪ ،‬وجعل له حق ممارسة اإلرادة‪ ،‬وبني له الطريق القومي املؤدي إىل حتقيق السعادة‬
‫له واحلصول على رضى سيده ومواله‪ ،‬ال إله إال هو العزيز الحكيم ‪.‬‬

‫مثال‪ :‬كانت الفتاة السافرة املتربجة متارس حياهتا اجلنسية كما حيلو هلا‪ .‬وبقيت هذه حال‬
‫القبائل والشعوب اليت مل تعتنق اإلسالم‪ ،‬أو غريه من األديان السماوية اليت جعلت لإلنسان كرامة‪ .‬مث‬
‫جاء اإلسالم وجعل هلذه الفتاة كرامة ومنزلة ورفعها إىل مستوى أم وربة بيت وعرض جيب أن يصان‪.‬‬
‫ويكفيها فخرًا أنه أجاز للمسلم أن يقتل أو ُيقتل دفاعًا عن شرفها وكرامتها‪ ،‬وجعل عقوبًة تشبه القتل‬
‫ملن اهتمها جمرد اهتام بالفاحشة‪.‬‬

‫واليوم‪ ،‬يصف هؤالء – التقدميون ‪ -‬اإلسالم بالرجعية ويرجعون إىل حياة ما قبله من عصر‪،‬‬
‫حريصني على السري حبسب رجع غرائزهم‪ .‬فتصبح الفتاة متعًة للشاب‪ ،‬وال قيد عليها مينعها من ممارسة‬
‫إرادهتا يف كل ما يشبع غريزهتا‪ ،‬شرط أن تكون قد اجتازت سن الرشد وأن ال تكون مكرهة على‬
‫ذلك‪ .‬فأي الفريقني أحق باألمن؟ أي الفريقني الرجعي؟ هذا ما تعنيه كلمة رجعية وأفكار رجعية‪.‬‬

‫وأما كلمة الواقعية‪ .‬مثل قوهلم (علينا أن نكون واقعيني) أو (إننا نأخذ نظامنا من واقعنا) فإمنا‬
‫يعني أن يكون الواقع هو مصدر التفكير‪ .‬بدًال من أن يكون موضع التفكير‪ .‬نعم‪ ،‬إن اإلسالم‬
‫واقعي‪ .‬أي أنه ليس خياليًا‪ ،‬كما انه ليس لعصر من العصور‪ .‬وإمنا هو أحكام عملية تعاجل الواقع‬
‫املوجود‪ .‬وما على العامل إال فهم الواقع والتفّق ه فيه ومعرفته معرفًة دقيقة‪ .‬مث البحث يف النصوص اليت هلا‬
‫عالقة هبذا الواقع‪ ،‬ومن مث استنباط املعاجلة هلذا الواقع‪ .‬هذا ما نعنيه بقولنا أن اإلسالم واقعي‪ ،‬أي جعل‬
‫الواقع موضع التفكري‪ .‬أما مصدر التفكري فيه فهي جمموعة النصوص اليت جاءت هبا العقيدة‪ ،‬والقواعد‬
‫األصولية اليت انبثقت عنها‪ ،‬وجمموعة األفكار اليت بنيت على تلك العقيدة‪ .‬أما الواقعية املذكورة فهي‬
‫اليت جتعل الواقع مصدر تفكريها‪ .‬فتأخذ أحكامها من الواقع‪ ،‬وتكيف نفسها وسلوكها حسب الواقع‪.‬‬
‫فال تسعى لتغيري الواقع‪ ،‬بل تغري سلوكها حبسب الواقع‪ .‬ولألسف أصبح من القواعد األساسية يف أذهان‬
‫الناس كلمة (الرضى باألمر الواقع)‪ ،‬ويعتربوهنا تقدمية‪ ،‬فيقولون أن سياسة أمريكا تقوم على األمر‬

‫‪31‬‬
‫الواقع (الربامجاتية)‪ .‬وعلى هذا عرفوا السياسة بأهنا فن املمكنات‪ ،‬أي التعامل مع الواقع جلعله على خري‬
‫وجه فيه‪ .‬بينما الواقع الذي نراه إمنا هو (ليست السياسة فن املمكنات)‪ .‬بل هي اختيار أفضل‬
‫املمكنات‪ .‬أي هي فعالية مؤثرة يف املمكنات لتحقيق ما نريد بغض النظر عما اذا كانت هي األخّف ‪،‬‬
‫او األسهل‪ ،‬او األصعب‪ .‬إذ يجري التعامل مع الواقع لتغييره إلى ما نريد‪ ،‬ال لنرضى به ولو في‬
‫أفضل حاالته‪ ،‬إن كان خالفًا لما نريد‪.‬‬

‫هذا هو معىن قوهلم علينا أن نكون واقعيني‪ ،‬أو أن نرضى باألمر الواقع‪ ،‬أو أن نأخذ نظمنا من‬
‫الواقع‪ .‬فكلها تعين معىن واحدًا هو أن الواقع مصدر تفكريهم‪.‬‬

‫أما ما جيب أن يكون فهو جعل الواقع موضع التفكري‪ .‬واإلسالم إمنا يتعامل مع الواقع لتغيريه‬
‫إىل اهليئة اليت جاء اإلسالم هبا‪ .‬ومن هنا نقول اإلسالم واقعي‪ .‬أي أنه أحكام عملية منزلة على الواقع‬
‫لتغيريه إىل اهليئة اليت أمر اهلل هبا‪ .‬فأحكامه ليست مستمدة من الواقع‪ ،‬وال هي معاجلات مثالية ليس هلا‬
‫واقع‪ ،‬بل إن أحكامه معاجلات عملية ال بد من تغيري الواقع حبسبها‪.‬‬

‫هذا معىن القول االفكار الواقعية‪ .‬اما ما يؤدي اليه وجود مثل هذه االفكار فهو اليأس‬
‫واالستسالم والرضى باالمر الواقع‪ .‬من مثل هدم اخلالفة‪ ،‬واستبعاد عودة الدولة اإلسالمية‪ ،‬والقبول‬
‫بالتجزئة‪ ،‬وغري ذلك‪ .‬ونتيجة لذلك فان اجملتمع يف العامل االسالمي ومنه البالد العربية اصبح على حالة‬
‫ال متكن من اجياد تكتل صحيح‪ .‬وكان من البديهي ان ختفق كافة احلركات والتكتالت احلزبية إمسًا‪.‬‬
‫الهنا مل تقم على أساس فكر عميق‪ ،‬يؤدي اىل تنظيم دقيق واعداد موثوق به‪ .‬بل قامت على غري‬
‫أساس‪ .‬ومما يؤسف له اهنا ما زالت حىت اليوم مل حتاول أن جتعل هلا أساسًا بالرغم من ثبوت الفشل‪.‬‬
‫ومن الطبيعي كذلك أن تكون هذه األحزاب والتكتالت احلزبية أحزابًا مفككة‪ ،‬ألهنا قامت على غري‬
‫مبدأ‪ .‬و َم ن تتَّبَعها يرى أهنا قامت على أساس مناسبات طارئة أوجدهتا ظروف اقتضت قيام تكتالت‬
‫حزبية‪ ،‬مث ذهبت هذه الظروف‪ ،‬فذهبت بذهاهبا تلك األحزاب‪ .‬أو ضعفت وتالشت‪ .‬واألمثلة على‬
‫ذلك كثرية‪ ،‬أسوق منها على سبيل املثال ال احلصر‪ ،‬ما حصل يف األردن ‪ 1956‬فقد اقتضت الظروف‬
‫يف حينه فسح اجملال أمام األحزاب للعمل‪ ،‬وذلك للظرف السائد من انتشار الناصرية‪ ،‬وارتفاع درجة‬
‫احلرية والتحرر يف البالد‪ .‬فأجازت الدولة العمل احلزيب‪ ،‬فوجد يف األردن سبعة أحزاب جمازة رمسيًا‪.‬‬
‫فلما انتهى الظرف الذي وجدت من أجله‪ ،‬بافتعال مؤامرة قام هبا ضباط من عمالء القصر (علي‬
‫احلياري وعلي أبو نوار)‪ ،‬وفرضت بسبب ذلك األحكام العرفية‪ ،‬ومجد النشاط السياسي‪ ،‬وإذ‬
‫باألحزاب تنتهي‪ ،‬أو تضعف وتتالشى‪ .‬وما حصل يف األردن دائم احلدوث يف كافة أقطار العامل‬
‫اإلسالمي‪ .‬فباألمس القريب‪ ،‬أعلن ضياء احلق رئيس مجهورية باكستان إلغاء األحكام العرفية أو ما‬

‫‪32‬‬
‫يسمى بلغتهم (‪ ،)Marshal Law‬كما أجاز العمل السياسي احلزيب‪ .‬فتشكل يف البالد العديد من‬
‫األحزاب أجيز منها رمسيًا أحد عشر حزبًا‪ ،‬مل يكن لغالبيتها وجود‪ .‬فكيف مت تشكيلها هبذه السرعة‪،‬‬
‫لوال أهنا قامت على مصاحل آنية أنانية‪ .‬أو أهنا متت بني جمموعة أشخاص تربطهم صداقات أو منافع‪،‬‬
‫أرادوا حتقيق مصاحلهم عن طريق التكتل السياسي‪ .‬وهبذا مل يكن بني هؤالء األشخاص رابطة حزبية‬
‫صحيحة‪ ،‬ومل يكن تكتلهم على أساس مبدئي‪.‬‬

‫أثر التكتالت السابقة‬


‫إن هذه التكتالت بالرغم من كثرهتا‪ ،‬وتعاقب وجودها‪ ،‬وما تبذله من جهد ونشاط‪ ،‬فإن‬
‫وجودها مل يكن خاليًا من املنفعة فحسب‪ ،‬بل كان ضارًا باألمة‪ .‬وذلك ألن‪:‬‬

‫‪ )1‬ان وجودها يف اجملتمع حيول دون وجود التكتل الصحيح‪ ،‬أو يؤخر وجوده على األقل‪.‬‬
‫فاملسلم بطبعه وعقيدته ميال إىل التكتل والعمل اجلماعي واحلركة‪ .‬فإذا ما وجد أمامه هذه‬
‫التكتالت واخنرط فيها‪ ،‬وتأثر بأجوائها‪ ،‬واستنـزفت منه الطاقة الدافعة للعمل‪ ،‬ووصل إىل‬
‫نتيجة أسوأ من النقطة اليت بدأ منها‪ ،‬كفر باألحزاب والتكتالت‪ .‬حىت سيطر على أذهان‬
‫العامة أن وجود األحزاب ضرر فظيع باألمة‪ ،‬ومأل الشك قلوب الناس‪.‬‬

‫‪ )2‬أصبح الناس ينظرون حبذر شديد اىل كل حركة حزبية حىت لو كانت صحيحة‪ .‬وما‬
‫أسهل أن توجد اإلهتامات ألي تكتل يربز يف اجملتمع‪ ،‬وذلك ملا عهده الناس يف األحزاب‬
‫والتكتالت السابقة‪.‬‬

‫‪ )3‬نتيجة لقيام هذه األحزاب على مثل ما ذكرنا من الروابط‪ ،‬وطبيعة عملها يف التنافس على‬
‫املصاحل وحتقيق املطالب‪ ،‬أو قيامها على أفكار عشائرية أو إقليمية أو وطنية‪ ،‬فإن وجود‬
‫الصراع بينها أمر حتمي‪ ،‬مما يورث احلزازات واألحقاد‪ .‬ذلك ألن أيًا منها ليس عنده ثقافة‬
‫معينة أو أفكار معينة يصارع اآلخرين حبسبها‪ .‬فالنتيجة الطبيعية وجود احلزازات‬
‫واألحقاد‪.‬‬

‫‪ )4‬ما دامت هذه األحزاب قد وجدت من أجل حتقيق املنافع والوصول إىل املكاسب‪ ،‬فمن‬
‫البديهي أن تنتقل هذه األفكار املنحطة إىل أعضائها‪ ،‬وبالتايل إىل اجملتمع الذي وجدت فيه‪.‬‬
‫وحني ترى الفرد فيها يتنقل بني حزب وآخر سعيًا وراء هدف يطلبه‪ ،‬أو منصب يرغبه‪،‬‬

‫‪33‬‬
‫فإن وجود فكرة النفاق‪ ،‬والدوران حول املصاحل‪ ،‬والتذبذب يف العمل‪ ،‬نتيجة طبيعية هلذا‬
‫احلزب‪.‬‬

‫هلذا كله فقد أفسدوا على اجلمهور طبيعته النقية‪ .‬وغرسوا فيه افكارًا سيئًة صارت عبئًا جديدًا‬
‫على أي تكتل صحيح يظهر يف مثل هذا اجملتمع‪ .‬وكما قلنا ما دامت عقيدة املسلم تدفعه للتكتل والعمل‬
‫اجلماعي وحترم عليه االستكانة‪ ،‬فان حتمية وجود التكتل الصحيح مسألة وقت‪ .‬فال بد من ظهور هذا‬
‫التكتل الصحيح‪.‬‬

‫وق‪HH‬امت الى ج‪HH‬انب الحرك‪HH‬ات اإلس‪HH‬المية والقومي‪HH‬ة والوطني‪HH‬ة‪ ،‬حرك‪HH‬ات ش‪HH‬يوعية تق &&وم على‬
‫أساس املادي&&ة‪ .‬وك&&انت ه&&ذه احلرك&&ات تابع&&ة للحرك&&ة الش&&يوعية يف روسيا وموجه&&ة بتوجيهه&&ا‪ .‬وطريقته&&ا‬
‫اهلدم والتخ&&ريب‪ ،‬ومن غاياهتا ‪ -‬م&&ع اجياد الش&&يوعية يف البالد ‪ -‬التش&&ويش على االستعمار الغ&&ريب لص&&احل‬
‫املعس&&كر الش&&رقي‪ ،‬بوص&&ف الق&&ائمني عليه&&ا عمالء ل&&ه‪ .‬وقي&&ام الش&&يوعية على أساس املادي&&ة ليس هن&&ا جمال‬
‫حبث&ه‪ ،‬اال ان خمتص&&ر الق&&ول في&ه ان الش&يوعية تق&&وم على العقي&دة املادي&ة أي ‪ -‬ال ال&ه واحلي&اة م&&ادة ‪ .-‬وه&&ذا‬
‫يعين ان املادة أزلية‪ ،‬واملوجودات وجدت بالتطور املادي‪ .‬سواء وجود االنسان او الكائنات االخ&&رى امنا‬
‫كانت نتيجة تطور املادة وانتقاهلا من حال اىل حال افض&ل‪ .‬ول&ذلك ف&ان املادة أساس ك&ل ش&يء‪ ،‬والعق&ل‬
‫امنا هو حال&ة من ح&االت املادة‪ ،‬ب&ل ه&و أرقى تط&ور للم&ادة‪ .‬ونظم االنس&ان يف احلي&اة وقوانين&ه امنا هي من‬
‫املادة‪ .‬هذا هو معىن أهنا تقوم على فكرة املادية‪.‬‬

‫هذا من حيث الفكرة‪ .‬أما من حيث طريقتها‪ .‬فهم يقولون ان كل شيء يف الوجود قائم على‬
‫التناقضات‪ ،‬ولالسراع يف عملية التطور ال بد من حتريك التناقضات يف احلياة‪ .‬اذن فهذه االحزاب‬
‫كانت تقوم على فكرة وطريقة‪ ،‬بغض النظر عن صالحية هذه الفكرة او بطالهنا‪ .‬اال اننا نستطيع ان‬
‫نقول اهنا وضعت فكرة وطريقة‪ .‬ولكنها كذلك مل تكن فكرهتا واضحة حمددة‪ .‬كذلك مل تكن الطريقة‬
‫واضحة بينة‪ .‬ومع ذلك ال ننكر وجود فكره مبدئية لديها‪ ،‬وطريقة من جنس الفكرة‪ ،‬وان هلذه‬
‫احلركات غاية حمددة هي اجياد الشيوعية يف البالد‪ .‬اال ان هذه الغاية البعيدة يسبقها اجياد التشويش على‬
‫االستعمار الغريب املوجود يف العامل االسالمي‪ .‬ومن هنا نقول ان الغاية مل تكن واضحة بينة حيث اهنا‬
‫أخذت تسري حسب رغبة روسيا وتوجيهها‪ ،‬ال حبسب ما حتّتمه طريقة املبدأ‪ ،‬وما متليه من افكار‬
‫وأعمال‪ .‬فكان البارز على اعماهلا اهلدم والتخريب‪ ،‬واجياد احلقد والبغضاء بني العمال وأرباب العمل‪،‬‬
‫وبني الفالحني واصحاب األراضي‪ .‬وقد جنحت اىل حد كبري يف هذه النقطة بالذات‪ ،‬وأعين اجياد‬
‫العداوة والبغضاء بني الناس يف عالقاهتم‪ .‬وقد استطاعت حتريك األمة يف كثري من األحيان ضد االفكار‬
‫الغربية واملصاحل الغربية ولكن خدمًة لروسيا‪ ،‬ال تنفيذًا لفكرهتا او طريقتها‪ .‬ولذلك فاننا نستطيع اجلزم‬

‫‪34‬‬
‫بأن القائمني عليها مل يكن هلم أي شعور جتاه هذه األمة ألهنم أصبحوا عمالء لروسيا يسريون حسب‬
‫أوامرها ال حسب ما تقتضيه الفكرة او الطريقة‪.‬‬

‫وهلذا مل تتجاوب األمة مع هذه احلركات‪ ،‬ومل حتدث أثرًا يذكر‪ ،‬إال ما أشرنا اليه‪ .‬وكان‬
‫فشلها وإخفاقها أمرًا طبيعيًا‪ .‬وذلك لألسباب التالية‪:‬‬

‫‪ .1‬ألهنا ختالف فطرة االنسان‪ :‬فاالنسان فطر على أمور وجدت فيه‪ .‬والقضاء على هذه‬
‫األمور مستحيل ألهنا جزء من تكوينه‪ .‬وحماولة كبتها إلزالتها إمنا تسبب الشقاء لالنسان‪.‬‬
‫واملالحظ ان هذه العقيدة ال تقّر بوجود أمور فطر االنسان عليها‪ ،‬بل تعتربها أمورًا‬
‫مكتسبة من اجملتمع الذي يعيش فيه االنسان‪ .‬فالتدّين ليس فطريًا يف االنسان‪ ،‬وإمنا هو‬
‫صفة مكتسبة او فكرة ُلِّقنها وهو طفل‪ .‬ولذلك فهم ال يقّر ون هبا‪ ،‬ويعتربون أن األلوهية‬
‫فكرة ابتدعها عقل االنسان‪ .‬هذا من حيث التدين‪ .‬ومل يقف األمر عند حد التدين‪ ،‬بل‬
‫تعّد ى ذلك اىل الغرائز االخرى املوجودة فطريًا يف االنسان‪ ،‬كغريزة التملك‪ .‬أو بتعبري‬
‫آخر‪ ،‬ظاهرة التملك يف غريزة البقاء‪ .‬فهم يقولون كذلك ان حب التملك ليس فطريًا وإمنا‬
‫أملته حياة الناس يف اجملتمع الرأمسايل‪ ،‬وأن هذه االفكار يتلقنها الفرد منذ نعومة أظفاره‪،‬‬
‫فتصبح وكأهنا فطرية فيه‪ .‬مع ان هذا القول مناٍف للحقيقة‪ ،‬وخطأه واضح للعيان‪ .‬فالطفل‬
‫الذي مل يلّق ن أية فكرة‪ ،‬ومل يكتسب بعُد أيَة معلومات‪ ،‬جنده يصرخ اذا حاولنا ان نأخذ‬
‫منه شيئًا ميتلكه‪ .‬وحياول ان حيوز كل شيء يلفت انتباهه‪ .‬أمل يشاهد أحدهم إبنه او أخيه‬
‫يف مثل هذه السن وما قبلها‪ ،‬وكيف يصرخ إن أخذنا منه ثدي أمه أو زجاجة الرضاعة؟‬
‫ومع ذلك يصّر ون على أهنا أفكار مكتسبة‪ ،‬مكابرًة منهم‪.‬‬

‫‪ .2‬ألهنا تناقض عقيدة االسالم‪ :‬أي تناقض عقيدة األمة‪ .‬ولذلك مل تكن هذه االحزاب قادرة‬
‫على اجلهر بعقيدهتا‪ .‬بل كثريًا‪ ،‬إن مل نقل دائمًا‪ ،‬ما كانت ختاطب الناس من بطوهنم‪.‬‬
‫وأبرز ما تتحدث به االشرتاكية‪ ،‬ومعاجلاهتا االقتصادية‪ .‬والثغرة اليت كانت تنفذ منها اىل‬
‫عقول الشباب وبعض الناس هي إعالهنا العداء للغرب الذي هو العدو األول للناس‪،‬‬
‫وبعض مواقف روسيا املناهضة للغرب واملنافسة له يف اهليمنة على البالد‪ .‬أما أن جتهر‬
‫بإحلادها ومعاداهتا لالسالم‪ ،‬فهذا أمر مل جترؤ على القيام به‪ .‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬فقد كانت‬
‫تّد عي أهنا حترتم األديان وتقّر باالسالم‪ .‬ومن غرائب األمور ان احلزب الشيوعي يف‬
‫السودان كان يفتتح جلساته بتالوة من القرآن الكرمي‪ .‬ويف مثل هذه احلالة‪ ،‬فان هذه‬
‫احلركات كان فشلها طبيعيًا‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫‪ .3‬تبّنيها القضايا الوطنية‪ :‬فلم تكن هذه االحزاب فروعًا حلزب واحد او حركة شيوعية‬
‫واحدة‪ ،‬بل كانت الصفة الوطنية ومشاكل القطر الذي هي فيه مها الصفة البارزة لكل‬
‫حزب‪ .‬ففي لبنان حزب شيوعي له قيادته املستقلة‪ ،‬ويف سوريا كذلك‪ ،‬ويف كل قطر من‬
‫االقطار اإلسالمية حزب شيوعي له قيادته اخلاصة‪ ،‬وال عالقة سياسية بينه وبني أي حزب‬
‫شيوعي آخر‪ .‬وكل حزب من هذه االحزاب تبىن املشاكل الوطنية وأخذ يعمل على‬
‫أساسها‪ .‬ومثل هذه املواقف من البديهي أن ال جتعل له أثرًا كحزب شيوعي يف العامل‬
‫االسالمي‪.‬‬

‫وهلذا كان وجود احلركات الشيوعية يف العامل االسالمي عقدة تضاف اىل غريها من العقد اليت‬
‫يعاين منها اجملتمع‪ .‬ويعاين منها التكتل الصحيح حني وجوده‪.‬‬

‫الجمعيات‬
‫وقامت تكتالت اخرى أساس اجلمعيات‪ .‬فقامت يف البالد مجعيات حملية واقليمية هتدف اىل‬
‫غايات خريية‪ .‬فأقامت مدارس ومستشفيات ومالجئ‪ ،‬وساعدت يف اعمال الرب واخلري‪ .‬وكانت تغلب‬
‫على هذه اجلمعيات الصبغة الطائفية‪ .‬وقد شجع االستعمار هذه اجلمعيات حىت ظهرت أعماهلا اخلريية‬
‫للناس‪ .‬وكانت اكثرها مجعيات ثقافية او خريية‪ ،‬ومل يوجد بينها مجعيات سياسية اال نادرًا‪ .‬وبالرغم من‬
‫وضوح عدم جدوى هذه اجلمعيات‪ ،‬اال اهنا ما زالت تستقطب اآلالف من ابناء املسلمني وفعالياهتم‪،‬‬
‫وما زال ضررها خفيًا حبيث ان الناس مل يدركوه وما زالوا متأثرين هبذه اجلمعيات‪ ،‬ويعتربون ما تقوم به‬
‫من اعمال هي اعمال خري ولبنة يف بناء اجملتمع‪ ،‬وخصوصًا اجلمعيات الثقافية او اخلريية‪ .‬ومن طريف ما‬
‫حصل يف هذا اجملال‪ ،‬إتساع هذه الدائرة حبيث مشلت كل ضيعة تقريبًا‪ ،‬بل إن بعض الضيع والقرى زاد‬
‫فيها عدد اجلمعيات عن واحدة‪ .‬وقد وصل احلال ان يكون لكل عائلة او عشرية يف القرية الواحدة مجعية‬
‫خريية‪ ،‬ناهيك عن اجلمعيات اليت حتمل أمساء عقائدية كجمعية احملافظة على القرآن‪ ،‬ومجعية حتفيظ‬
‫القرآن الكرمي وتدريسه‪ ،‬ومجعية الرب واالحسان‪ ،‬ومجعية االخوان املسلمني‪ ،‬ومجعية األخت املسلمة‪ .‬حىت‬
‫بلغ عدد اجلمعيات اخلريية اإلسالمية يف لبنان مثًال ألفًا ومائتني وعشرين مجعية خريية إسالمية وعلى‬
‫رأسها مجعية املقاصد اإلسالمية ومجعية دار االيتام اإلسالمية‪ ،‬وغريها‪ .‬وكلها تقوم باعمال خريية فعًال‪.‬‬
‫وكثري منها يقوم باعمال خريية جزئيًا وحيصل على مكاسب وأرباح مما جيين من مساعدات تأيت هلذه‬
‫اجلمعيات‪ ،‬حىت أصبحت يف كثري من األحيان وسيلة للكسب والثراء‪ .‬وقد تأثر هبذا االسلوب كثري من‬

‫‪36‬‬
‫األحزاب والتكتالت حىت جعلت فرعًا منها يقوم بأعمال اخلري كفتح مستوصفات او مدارس او‬
‫مستشفيات او غري ذلك‪ .‬هذا هو واقع اجلمعيات‪.‬‬

‫النتائج التي أدت إليها الجمعيات‬


‫ال بد من النظرة الدقيقة اىل هذه النتائج ملعرفة ما اذا كانت قد قدمت لألمة شيئًا يساعد على‬
‫النهضة‪ .‬حيث ان املوضوع هو النهضة‪ .‬وهل أن الطريق الذي تسلكه يساعد على النهضة؟ وهل أن ما‬
‫تقوم به من مساعدات يقدم شيئًا للنهضة؟‬

‫هذا ما جيب النظر اليه عند النظر اىل نتائج هذه اجلمعيات‪ .‬وليس املطلوب النظر اىل ما قامت‬
‫به اعمال خريية كبناء مستشفى او بناء مسجد او بناء ملجأ للعجزة او غري ذلك من االعمال اليت يظهر‬
‫فيها اهنا اعمال خريية‪ .‬فليس املقصود ذلك‪ .‬وإمنا املقصود هو النهوض باجملتمع واجياد النهضة عند األمة‪.‬‬
‫ان الناظر اىل هذا اجلانب من عملها ال جيد أهنا قدمت شيئًا يف هذا السبيل مطلقًا‪.‬‬

‫وما دام األمر كذلك‪ ،‬فهل يقال ان وجودها كعدمه؟ ال‪ .‬ال يقال ذلك ألن وجودها ضرر‬
‫حمض‪ ،‬ولكن ذلك الضرر ال يدركه اال املدقق يف واقع هذه اجلمعيات والتكالب على وجودها‪ .‬بغض‬
‫النظر عن النفع اجلزئي الذي أشرنا اليه آنفًا‪ .‬فأين الضرر إذن؟؟؟‬

‫ان موضوع البحث هنا هو النهضة هلذه األمة اإلسالمية‪ .‬حيث ان احلالة اليت وصلت اليها من‬
‫التخلف والتجزئة‪ ،‬واالحنطاط الفكري‪ ،‬حتّتم على ابناء هذه األمة – خصوصًا من عنده شيء من‬
‫الوعي او االخالص – حتّتم عليه ان يبحث عن ويتحسس عوامل النهضة واإلرتقاء هبذه األمة اىل املكانة‬
‫السامية الالئقة هبا‪ .‬وأن األمة برّم تها حبكم وجود بعض االفكار واملفاهيم اإلسالمية فيها‪ ،‬وحبكم‬
‫تطبيقها لبعض أحكام االسالم حىت اآلن‪ ،‬وحبكم صفاء عقيدهتا‪ ،‬وحبكم إمياهنا املطلق بأهنا كانت يف‬
‫مقدمة األمم قرونًا عديدة‪ ،‬وحبكم إمياهنا بوجوب عودهتا اىل اهلل‪ ،‬وعودة سيادهتا لألمم األخرى‪ ،‬وإمياهنا‬
‫املطلق بوجوب اجلهاد‪ ،‬كل هذا جعل مشاعرها مشاعر إسالمية عارمة‪ ،‬وعواطفها عواطف إسالمية‪،‬‬
‫وجعل أحاسيس النهضة موجودة دائمًا فيها‪ .‬وملا كان هناك العديد من النصوص واالعمال اليت رّك زت‬
‫الروح اجلماعية يف األمة‪ ،‬لذا فقد وجد يف األمة امليل الطبيعي للتكتل‪ .‬هذا هو واقع األمة‪ .‬أمة فيها بعض‬
‫االفكار واملفاهيم اإلسالمية‪ ،‬واملشاعر فيها مشاعر إسالمية‪ ،‬والروح اجلماعية مركزة فيها‪ ،‬وأحاسيس‬
‫النهضة حيركها هذا الواقع الفاسد الذي تعاين منه‪ .‬فأمة هذا حاهلا‪ ،‬لو تركت وشأهنا لتحولت هذه‬
‫األحاسيس واملشاعر اىل فكر‪ .‬وهذا أمر طبيعي او منطقي‪ .‬ولكان هذا الفكر قد أنتج عمال ينهض‬

‫‪37‬‬
‫األمة‪ ،‬ويرشدها اىل كيفية النهوض‪ .‬ولكن وجود اجلمعيات هذه حال دون ذلك‪ .‬إذ أوجد عند األمة‬
‫متنّف سًا لعاطفتها املتأججة‪ ،‬وإستنـزافًا ملا فيها من طاقة للعمل‪ ،‬وقيامًا بواجب تراه فرضًا عليها‪ ،‬واستجابة‬
‫لقوله تعاىل ‪ ‬وتعاونوا على البّر والتقوى ‪ .‬فيرى عضو الجمعية أنه‬
‫بنى مدرسة او أنشأ مستشفى‪ ،‬او ساهم في عمل من أعمال‬
‫الخير‪ ،‬فيشعر بالراحة والطمأنينة‪ ،‬ويقنع بهذا‬
‫ًا‬
‫العمل ظن منه أنه قام بما أوجبه الله تعالى على هذه‬
‫الأمة‪ .‬وتراه يقول لو أن كل واحد منا ساهم بما يقدر‬
‫عليه من عمل من اعمال الخير والبر‪ ،‬لأنقذنا الأمة‬
‫ّف‬
‫مما هي فيه‪ ،‬او على الأقل لخ فنا من الآلام التي‬
‫تعاني منها أمتنا ؟!!!‬
‫ًة‬
‫فلو لم تكن هذه الجمعيات موجود ‪ ،‬ولم يجد هؤلاء‬
‫ّف ًا‬
‫الأشخاص متن س يخفف من الضغط الحاصل على نفسياتهم‬
‫من إحساسهم بوجوب العمل لاستمروا في البحث حتى يوجد‬
‫التكتل الصحيح الذي ينهض بالأمة‪ ،‬على أساس مبدئي‬
‫صحيح‪ .‬وهذا أمر طبيعي‪ .‬من حيث ان الواقع‪ ،‬ومؤثراته‪،‬‬
‫ومخالفته لما في النفس من مفاهيم وأفكارإسلامية‪،‬‬
‫ومناقضته وعدائه لما عند الأمة من مشاعر إسلامية‪،‬‬
‫ووجود الطاقة الحيوية فيها‪ ،‬من البديهي أن يدفعها‬
‫للبحث والتنقيب عن طريقة للخلاص‪ .‬الا ان وجود‬
‫الجمعيات وظهور اعمال خير لها صرف الأمة عن مواصلة‬
‫البحث‪ ،‬وألقى في روع الكثير من أبنائها أن هذه هي‬
‫طريق الخلاص‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬فإدراك خطر وجود هذه الجمعيات مسألة‬


‫ًا‬
‫دقيقة يتطلب عمق وإمعان نظر‪ .‬ولا نعني أن القيام‬
‫ًا‬
‫بأعمال الخير والبر أمر محرم ولا يجوز شرع ‪ .‬بل إن‬
‫ًا‬
‫المسألة هي خلاف ذلك‪ .‬فعمل الخير يبقى خير ‪ ،‬وجزاؤه‬
‫الثواب‪ ،‬والتعاون على عمل الخير هو تعاون على البر‬
‫والتقوى‪ .‬الا ان المسألة لا تبحث على هذا الصعيد‪.‬‬
‫ًا‬
‫وإنما تبحث من حيث أنها طريق للنهضة‪ ،‬او ليست طريق‬
‫ًا‬
‫لها؟ وهل يجوز أن تعتبر هذه الجمعيات طريق للنهضة‪،‬‬
‫وعملا من اعمال استئناف الحياة الإسلامية؟ وهل إن‬
‫ٌق‬ ‫ٌن‬
‫وجودها معي او معي للقيام بالنهضة واستئناف‬

‫‪38‬‬
‫ُي‬
‫الحياة الإسلامية؟ هكذا يجب ان نظر الى المسألة‪.‬‬
‫لا من حيث أن هذا العمل جائز او مندوب او فرض‪.‬‬

‫هذه هي مسألة الجمعيات الخيرية‪ ،‬وأثرها على‬


‫ايجاد تكتل صحيح في المجتمع‪.‬‬

‫وقامت ‪ -‬الى جانب الجمعيات الثقافية والخيرية‬


‫‪ -‬جمعيات أخلاقية تعمل لإنهاض الأمة على أساس‬
‫الاخلاق بالوعظ والارشاد والمحاضرات والنشرات‪،‬‬
‫ُل‬
‫على اعتبار أن الخ ق أساس النهضة‪ .‬وقد بذلت في هذه‬
‫الجمعيات جهود وأموال‪ ،‬ولكنها لم تكن لها نتائج‬
‫ّف‬
‫هامة‪ .‬ون ست عاطفة الأمة بهذه الأحاديث المملولة‬
‫ًا‬
‫المكررة‪ .‬وقد كان قيام هذه الجمعيات مبني على‬
‫ًا‬
‫الفهم المغلوط لقوله تعالى مخاطب الرسول ‪  ‬وإنك‬
‫لعلى خلق عظيم ‪ ،‬ولقوله ‪( ‬إن الله بعثني لتمام مكارم‬
‫الأخلاق)‪ ،‬ولقوله ‪( ‬إنما بعثت لأتمم مكارم‬
‫الأخلاق)‪ ،‬او ما ذهب اليه الشاعر بقوله‪:‬‬
‫وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت‬
‫أخلاقهم ذهبوا‬

‫إن فهم هذه الأدلة التي ذهبوا اليها في‬


‫ّت‬
‫استدلالهم على الأخلاق يح م علينا ان نتساءل عن‬
‫معنى الأخلاق التي أرادوها‪ .‬فهل أرادوا بالأخلاق‬
‫كل عمل يقوم به الانسان‪ ،‬أم أرادوا بها الأخلاق‬
‫التي يتصف بها الفرد أثناء قيامه بالعمل او القول؟‬

‫فإن قالوا إنما المراد بالأخلاق‪ :‬كل عمل يقوم‬


‫به الانسان‪ .‬فان هذا القول غير صحيح‪ .‬وهو تحميل‬
‫ُو‬ ‫ًى‬
‫للكلمة معن غير المعنى الذي ضعت له‪ .‬فالتجارة‬
‫والزراعة وكتابة العقود والجهاد وغير ذلك من‬
‫الاعمال لا توصف بأنها أخلاق‪ .‬وإنما هي اعمال يقوم‬
‫بها الانسان‪ ،‬ويتصف بصفات معينة حين قيامه بها‪ .‬فهو‬
‫حينما يتحدث بحديث كنقل واقعة او خبر أو أداء‬
‫شهادة‪ ،‬فهذا عمل قائم بذاته‪ .‬وحكمه حكم ما جاء به‬
‫ًا‬
‫الشرع‪ .‬الا ان هناك حكم آخر يتعلق بالفرد حين قيامه‬

‫‪39‬‬
‫بهذا الفعل‪ .‬فقد يتصف بالصدق في قوله‪ ،‬وقد يتصف‬
‫ُد‬
‫بالكذب‪ .‬وقد أوجب الشارع على الفرد أن يص ق في‬
‫حديثه‪ ،‬كما أجاز له أن يكذب في بعض الحالات‪ ،‬او أن‬
‫يواري في حالات اخرى‪ ،‬وحرم عليه أن يصدق في حالات‬
‫غيرها‪ .‬إذن فالصدق صفة خلقية يتصف بها الفرد أوجبها‬
‫عليه الشرع‪ .‬والعهد عقد بين طرفين‪ .‬ويتصف‬
‫المتعاقدان بصفة معينة قد يلتزمها طرف دون طرف‪.‬‬
‫فأوجب الشرع على المتعاقدين الوفاء‪ ،‬إلا ان بعضهم‬
‫قد يغرر وقد يخدع‪ .‬فهذه صفات يتصف بها المتعاقدان‪،‬‬
‫وهكذا‪ .‬فالأخلاق صفة للفرد يتلبس بها حين قيامه‬
‫بالاعمال او الاقوال التي يريد القيام بها‪ .‬ونخلص‬
‫الى القول بان الاخلاق جزء من مقومات الفرد‪ ،‬والتي‬
‫هي العقيدة والعبادة والاخلاق والمعاملة‪ .‬وصلاح‬
‫الفرد بصلاح هذه المقومات الأربع‪ ،‬وفساده بفسادها‬
‫أو فساد بعضها‪ .‬فمهما سمت أخلاق الفرد‪ ،‬ومهما اتصف‬
‫ًا‬
‫بصفات حميدة‪ ،‬فلا قيمة لها مطلق إن كانت عقيدته‬
‫فاسدة‪ .‬فلا يقال إن الكافر لا خلق له‪ .‬إذن أن هناك من‬
‫ًا‬
‫الكفار او الملحدين من يتصف بصفات حميدة مثل ‪ .‬فهو‬
‫لا يكذب‪ ،‬ولا يخون‪ ،‬ولا يغدر‪ .‬ومع ذلك فانه لا يعتبر‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫فرد صالح ‪ ،‬لأن الأساس في مقوماته ان تكون مبنية‬
‫على عقيدته‪ .‬من هذا الفهم لواقع الأخلاق‪ ،‬نعود لفهم‬
‫النصوص التي حاولوا الاستدلال بها‪ .‬فعملية‬
‫ّق‬ ‫ّت‬
‫الاستدلال بنص من النصوص تح م فهم الواقع والتف ه‬
‫ّل‬ ‫ًا‬
‫فيه‪ ،‬تمام كفهم النص وفهم ما د ت عليه ألفاظه‬
‫وتراكيبه‪.‬‬

‫فالنص الاول‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ ‬وإنك لعلى خلق عظيم ‪‬‬
‫ّل ّج‬
‫هو خطاب من الباري عز وج مو ه لرسول الله ‪ . ‬فقد‬
‫ّم‬
‫جعله الله على خلق عظيم‪ .‬فج له بالصفات الحميدة في‬
‫كل أفعاله‪ .‬وبالتالي فان هذا الخطاب هو وصف لشخص‬
‫الرسول ‪ ‬وليس للمجتمع‪ .‬والمراد من بحثنا هو كيف‬
‫ننهض بالمجتمع؟ فالمسألة مسألة النهضة‪.‬‬

‫وأما النصان الآخران‪ ،‬قوله ‪( ‬إن الله بعثني‬


‫لتمام مكارم الأخلاق) وقوله (إنما بعثت لأتمم مكارم‬

‫‪40‬‬
‫الأخلاق)‪ .‬فإن المعنى المراد هو كافة أفعال‬
‫الانسان‪ ،‬وأنه ‪ ‬بعث لبيان كافة الاحكام الشرعية‬
‫الواجب على الانسان التقيد بها‪ .‬فالمسألة إذن ليست‬
‫مسألة خلق او صفة‪ ،‬بل مسألة تكوين الشخصية‬
‫الإسلامية كاملة من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة‪.‬‬
‫ًا‬
‫وما زال الموضوع متعلق بصفات الفرد او مقوماته‪.‬‬

‫وأما قول الشاعر‪ ،‬فلا مجال للإستدلال به‪ ،‬لأنه‬


‫ّن‬
‫قول شاعر‪ ،‬والاستدلال إنما يكون بالكتاب والس ة‬
‫فقط‪ .‬هذا بالاضافة الى خطأ الشاعر فيما ذهب اليه‪ .‬إذ‬
‫أن الأمم بعقيدتها والافكار التي تحملها‪ ،‬والنظم‬
‫التي تطبقها‪ ،‬والكيان السياسي الذي يحفظ لهذه‬
‫الأمة وحدتها‪ ،‬ويوجد لها مكانتها‪.‬‬
‫ًا‬
‫لذلك فان الخطأ في الفهم إنما كان مبني على‬
‫الفهم المغلوط للمجتمع‪ ،‬والتصور بانه مكون من‬
‫أفراد‪ .‬ولذلك لا بد من معرفة مكونات المجتمع لتعرف‬
‫مقوماته‪ ،‬ويصار الى تقويمه بناءا على هذه‬
‫المقومات‪.‬‬
‫ُي‬
‫وبالنظر في مكونات المجتمع‪ ،‬رى أنه جماعة من‬
‫الناس‪ ،‬وأفكار ومشاعر ونظام‪ .‬هذه هي مكونات اي‬
‫مجتمع‪ .‬وفساد المجتمع وصلاحه متوقف على صلاح‬
‫الافكار والمشاعر والنظام‪ .‬حيث ان الناس هم الناس‬
‫َم‬
‫وهم ح لة هذه الافكار وبصلاحها يصلحون وبفسادها‬
‫يفسدون‪ .‬أما مقومات الفرد فهي كما أسلفنا عقيدة‬
‫وعبادة وأخلاق ومعاملة‪ .‬وصلاح الفرد إنما يكون‬
‫ُيَت ّو‬
‫بصلاح مقوماته وفساده بفسادها كذلك‪ .‬أما أن ص ر‬
‫ان المجتمع مكون من افراد‪ ،‬فهذا تصور خاطئ‪ ،‬والسير‬
‫بصلاح الفرد للوصول الى صلاح المجتمع سير خاطئ‪،‬‬
‫ولا يمكن أن يحقق تلك النتيجة على الاطلاق‪ .‬فهما‬
‫ًا‬
‫طريقان مختلفان لا يصلان أبد الى نفس التنيجة‪.‬‬
‫وليست المسألة أن هذا الطريق أقصر أو أبعد‪ ،‬بل‬
‫المسألة انهما طريقان مختلفان لا يؤديان الى نفس‬
‫التنيجة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ًا‬
‫وبيان ذلك‪ ،‬أننا لو قمنا باصلاح الفرد صلاح‬
‫َم‬ ‫ًا‬
‫تام ‪ ،‬بحيث بلغت نسبة ن أصلحنا من المسلمين أكثر‬
‫من ‪ %90‬من الذين اعتقدوا الاسلام عقيدة يقينية‬
‫ًا ّن ًا‬ ‫ّي‬
‫واضحة ن رة‪ ،‬ولم يأخذوا فيها شيئ ظ ي ‪ ،‬والتزموا‬
‫العبادات على أكمل وجه‪ ،‬فرائض ونوافل‪ .‬فالصلاة‪،‬‬
‫يصلي الفريضة المكتوبة‪ ،‬والنافلة المؤكدة وغير‬
‫المؤكدة‪ ،‬ويقوم الليل فلا يوتر الا قبيل الفجر‪.‬‬
‫ويزكي ماله ويتصدق بأكثر من ثلث ماله فلا يترك‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫يتيم ولا مسكين إلا أعاله‪ .‬ويصوم صوم سيدنا داوود‬
‫عليه السلام بالاضافة الى شهر رمضان المبارك‪ .‬ويحج‬
‫ّي‬
‫ويعتمر معظمم سن حياته‪ ،‬هذا من حيث العبادات‪.‬‬
‫بالاضافة الى تلاوة القرآن التي هي خبزه اليومي‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫والضراعة الى الله قيام وقعود وعلى جنبه‪ .‬فهل بعد‬
‫ذلك من شيء؟ وأما أخلاقه فخلقه القرآن أي أنه يتصف‬
‫بكل صفة حسنة ذكرها الله سبحانه في قرآنه‪ ،‬وأما‬
‫فمقياسه الحلال والحرام‪ ،‬فلا‬‫َّر‬ ‫معاملته مع الناس‬
‫ًا‬
‫يقدم في معاملته على مح م ابد ‪.‬‬

‫لو افترضنا أن غالبية المسلمين جعلناهم على‬


‫ًا‬ ‫ًا‬
‫مثل هذا النمط‪ ،‬فهل يصبح مجتمعهم مجتمع اسلامي ؟‬
‫ُي َك‬
‫مع أن فيه قابلية أن ح م بأنظمة الكفر‪ ،‬ويسوده‬
‫ويتحكم فيه أناس كفرة‪ ،‬والفاسق او الفاجر ومن يفعل‬
‫الموبقات ليس هناك من يقيم عليه حد‪ ،‬والبلاد التي‬
‫يحيون فيها نهب لغيرهم‪ ،‬وليس لهم أي قوة يعتمدونها‬
‫ًا‬
‫في حمل الدعوة للعالم‪ .‬فهل يكون مجتمعهم هذا مجتمع‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫اسلامي ؟؟؟ هل يكون مجتمعهم مجتمع اسلامي إن لم‬
‫يكن لهم كيان سياسي‪ ،‬ودولة تطبق فيها أنظمة‬
‫المجتمع؟ هل يكون لهم مجتمع اسلامي وليس لهم خليفة‬
‫ينوب عنهم في تطبيق الاسلام في الداخل وإقامة‬
‫الحدود وتنفيذ العقوبات على المخالف‪ ،‬ويحمي ثغور‬
‫هذاُّدالبلد ويحفظ أمنه من أي اعتداء‪ ،‬ويجهز الجيوش‬
‫ويع العدة لحمل الدعوة الى العالم؟؟؟‬
‫لا‪ ،‬والف لا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫فالمجتمع جماعة من الناس بينهم علاقات دائمة‪.‬‬
‫والعلاقات الدائمة وجودها حتمي عند اية جماعة‬
‫يتوافقون على العيش على بقعة واحدة من الارض‪ .‬إلا ان‬
‫وجود هذه العلاقات لا يتم الا بناءا على افكار‬
‫يتفقون عليها لتنظيم هذه العلاقات‪ .‬وبوجود هذه‬
‫الافكار والتزامهم بها تتواجد في نفوس هؤلاء الناس‬
‫مشاعر متجانسة مع هذ الافكار فيغضبون حين يخرج على‬
‫ُي ّر‬
‫هذه الافكار أحد‪ ،‬و س ون حين يلتزم بما اتفقوا‬
‫عليه أحد‪.‬‬

‫فحين يتفقون على اشباع غريزة النوع بالزواج‪،‬‬


‫تجد القرية فرحة مسرورة حين يقوم أحد أبنائها‬
‫بالالتزام بهذه الفكرة‪ .‬وتقام في القرية الأفراح‬
‫والأهازيج والأغاني‪ .‬أما اذا حصل العكس وحاول‬
‫أحدهم أن يخالف ما اتفقوا عليه‪ ،‬بأن أراد اشباع‬
‫غريزة النوع عنده بغير ما اتفقوا عليه كالزنا‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫مثل ‪ ،‬او الإقامة سفاح مع امرأة‪ ،‬فان القرية كلها‬
‫ُت‬
‫تثور عليه وقد قدم على قتله‪ .‬وهكذا مع كل فكرة‬
‫اتفقت الجماعة عليها‪ .‬فمبادلة السلع والبيع‪ ،‬اذا‬
‫ّم‬
‫خرج عنها أحد غضب عليه الجميع وس وه حرامي‪ .‬وحاولوا‬
‫ًا‬
‫معاقبته‪ .‬ولأجل أن يبقى الأمر منضبط ‪ ،‬تنيب هذه‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫الجماعة عنها أمير او شيخ او رئيس او مختار‬
‫يتولى الاشراف على تنفيذ تلك الافكار التي اتفقوا‬
‫عليها‪ .‬هذه طبيعة تكوين المجتمعات ليس غير‪ .‬وإلا فان‬
‫ًا‬
‫اجتماع آلاف من البشر على ظهر سفينة لا يكون مجتمع ‪.‬‬
‫لأنهم لا يشتركون في افكار واحدة‪ ،‬ومشاعرهم ليست‬
‫واحدة‪ ،‬ولم يتفقوا على نظام واحد‪ .‬بل يخضعون لنظام‬
‫السفينة‪ ،‬ولم ينيبوا عنهم من يشرف على تنفيذ ما‬
‫ًا‬
‫اتفقوا عليه لأنهم لم يتفقوا على شيء أصل ‪ .‬ونخلص‬
‫الى القول أن المجتمع هو جماعة من الناس بينهم‬
‫علاقات دائمة تنظمها افكار واحدة‪ ،‬ومشاعر واحدة‪،‬‬
‫تكون على أساسها نظاما واحدا‪ ،‬ويناب عنهم أحدهم‬
‫لتنفيذ ذلك النظام‪ .‬ومن هذا يتبين ان مقومات‬
‫المجتمع هي افكاره ومشاعره والنظام المنبثق عن هذه‬
‫الافكار ونائب ينوب عنهم (أي حاكم) يتولى التنفيذ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫فصلاح هذا المجتمع بصلاح هذه المقومات‪ ،‬وفساده‬
‫بفساد هذه المقومات‪ .‬واما ما يقال عنه أنه عرف عام‪.‬‬
‫فان الافكار والمشاعر حين تأخذ دور العراقة‬
‫والتركيز في النفوس يتكون من اتحادهما عرف عام‬
‫يصبح له قوة القانون‪ ،‬بل إنه في كثير من الاحيان‬
‫ًا‬
‫أقوى أثر من القانون‪ .‬ويصبح وكأنه رقيب على تصرفات‬
‫ًا‬
‫الافراد والحكام‪ .‬بالعرف العام يخيف الحاكم تمام‬
‫كما يخيف الفرد‪.‬‬

‫وحين نريد اصلاح مجتمع ما‪ ،‬علينا أن نقوم‬


‫باصلاح العرف العام فيه عن طريق اصلاح الافكار‬
‫والمشاعر الموجودة فيه‪ .‬وبالتالي يصار الى تغيير‬
‫النظم المطبقة‪ ،‬وتغيير الحاكم المنفذ لتلك‬
‫الافكار‪ .‬فالعمل مباشرة يكون عملية اصلاح وتغيير‬
‫العرف العام‪ .‬وذلك ببيان فساد الافكار العامة‬
‫الموجودة وبيان فسادها للناس حتى يقتنع الناس‬
‫بفسادها فيعمدوا لتغييرها‪ .‬وبالتالي تتغير نظرتهم‬
‫للحاكم ويعمدوا لتغييره‪ .‬هذه هي طريقة تغيير‬
‫المجتمع واصلاحه‪ .‬لا عن طريق الفرد‪ ،‬لأن طريق اصلاح‬
‫ًا‬
‫الفرد تختلف تمام عن هذا الطريق‪.‬‬

‫الا ان الفئة او الجماعة او التكتل او الحزب‬


‫القائم على عملية التغيير لا بد وأن يكون افراده‬
‫جميعهم قد أصلحت عقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم‬
‫ومعاملاتهم‪ .‬ولا يقبلون في صفوفهم أي عنصر فاسد‪،‬‬
‫لأنه لا يكون من جنسهم‪ .‬فعملية اصلاح الفرد تكون فقط‬
‫لأعضاء التكتل او الحزب‪ .‬واما التكتل او الحزب فانه‬
‫يسير بمجموعه في طريق اصلاح المجتمع‪.‬‬

‫إن عدم وضوح هذا الفهم لدى تلك الجمعيات جعلها‬


‫تتخبط في سيرها‪ .‬ولا تؤدي الى أي شيء يمكن ان يحقق‬
‫ّك‬ ‫ًا‬
‫للأمة نهضتها‪ .‬خصوص وانهم كانوا متأثرين بما تر ز‬
‫في أذهان الكثير من المصلحين وعلماء الأخلاق من أن‬
‫الفرد إنما تبنيه او تهدمه أخلاقه‪ .‬فالخلق القويم‬

‫‪44‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫يجعله قوي مستقيم فعال منتج عامل للخير‬
‫ًا‬
‫والصلاح والاصلاح‪ .‬والخلق الذميم يجعله ضعيف‬
‫ّم‬ ‫ًا‬
‫مسترخي لا نفع منه ولا خير فيه‪ ،‬ولا ه له في حياته‬
‫الا إشباع شهواته وإرضاء أنانيته‪ .‬ولما كانت‬
‫الجماعة إنما يبنيها او يهدمها الفرد‪ ،‬والفرد إنما‬
‫تبنيه او تهدمه أخلاقه‪ ،‬لذلك‪ ،‬فقد ساروا في طريق‬
‫اصلاح الفرد عن طريق اصلاح أخلاقه‪.‬‬

‫وهذا الفهم الخاطئ لعلماء الأخلاق والمصلحين‬


‫ًا‬
‫جعل خطأهم مزدوج ‪ .‬خطأ الظن بتكون المجتمع من‬
‫أفراد‪ ،‬وخطأ تقويم الفرد بالأخلاق‪ .‬وقد سبق وأشرنا‬
‫الى ان الاخلاق هي صفة من صفات الفرد وليست هي‬
‫ًا‬
‫الأساس في حياته او سلوكه‪ .‬فلو أن شخص خلقه كخلق‬
‫ًا‬
‫الأنبياء ولكنه ملحد فهل يعتبر صالح ؟ أم أنه يبقى‬
‫ًا‬
‫كافر ولا خير فيه؟ فالأساس في حياة الفرد عقيدته‪.‬‬
‫وأما بقية أعماله وصفاته فيمكن تقويمها‪ ،‬ولا يخرجه‬
‫ٌة‬
‫اعوجاجها عن الاسلام‪ .‬فلو ارتكب فرد عقيدته جيد‬
‫ًة‬ ‫ًة‬
‫إساء خلقي ‪ ،‬أو حتى إساءات‪ ،‬فان ذلك لا يخرجه عن‬
‫ًا‬
‫كونه مسلم ‪ .‬ويمكن اصلاحه بسهولة ما دامت عقيدته‬
‫صالحة‪ .‬فالقول بأن الفرد إنما تبنيه أخلاقه او‬
‫تهدمه أخلاقه قول خطأ‪.‬‬

‫ومما يؤسف له ان هذه الفكرة‪ :‬فكرة أص ح الفرد‬


‫ِل‬
‫يصلح المجتمع‪ ،‬وفكرة إصلاح الفرد عن طريق الأخلاق‪،‬‬
‫بالرغم من فشل جميع الحركات التي قامت على أساسها‪،‬‬
‫ما زالت هذه الافكار تقتنع بها العامة‪ ،‬وبانها‬
‫أساس الاصلاح‪ ،‬وما زالت تنشأ على أساسها جمعيات‬
‫متعددة تسير في نفس الطريق والاسلوب‪.‬‬

‫مع ان الحقيقة هي أن وسائل اصلاح الجماعة غير‬


‫وسائل اصلاح الفرد‪ .‬ولو كان الفرد جزءا في الجماعة‪،‬‬
‫لأن فساد الجماعة آ من فساد مشاعرها الجماعية‪،‬‬
‫ًا‬ ‫ٍت‬
‫ومن فساد أجوائها الفكرية والروحية‪ ،‬وآ ايض من‬
‫ٍت‬
‫وجود المفاهيم المغلوطة عند الجماعة‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬آ من فساد العرف العام‪.‬‬
‫ٍت‬

‫‪45‬‬
‫أما قولنا بفساد مشاعرها الجماعية‪ :‬فيعني أن‬
‫ًة‬
‫مشاعرها لم تصبح واحد ‪ ،‬فهي لا تثور وهي تشاهد‬
‫ّب ًا‬
‫الكفر مط ق عليها‪ ،‬ولا تهتز مشاعرها الجماعية وهي‬
‫ترى أبناءها غارقين في الحرمات‪ ،‬او ترى النظم‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ّب‬
‫المط قة عليها كفر صراح ‪.‬‬

‫واما فساد أجوائها الفكرية والروحية‪ :‬فيعني‬


‫أننا نجد أن افكار الغرب او افكار الكفر قد وجدت الى‬
‫ًا‬
‫عقلها طريق ‪ .‬فقد امتزجت هذه الافكار بأفكارها‬
‫(الإسلامية) فنادت بالديمقراطية‪ ،‬ونادت بالحرية‪،‬‬
‫ًة‬
‫ونادت بالاشتراكية‪ ،‬محاول المزج بينها وبين‬
‫ًة‬
‫الاسلام تار ‪ ،‬ومجردة تارة اخرى‪ ،‬لفساد الأجواء‬
‫الروحية‪ .‬أي غياب ربط هذه الافكار بعقيدتها‪،‬‬
‫وأستبدلت بها مقاييس النفعية‪ .‬وصار ينظر الى الحكم‬
‫الشرعي من حيث ما فيه من منفعة‪ ،‬لا من حيث انبثاقه‬
‫عن عقيدتها‪ .‬بل انها تنفر من حكم شرعي صريح اذا لم‬
‫تكن النفعية ظاهرة فيه او حسب مطابقته للعقل‪.‬‬
‫بالاضافة الى تسرب بعض المفاهيم المغلوطة من جواز‬
‫َر‬ ‫ّل‬
‫تو ي الكفار أمو المسلمين‪ ،‬او امكانية تغير‬
‫الأحكام بتغير الأزمان وغير ذلك من المفاهيم‬
‫الخاطئة مما أدى الى فساد العرف العام‪ .‬ولم يعد هناك‬
‫أثر للعرف العام على مجتمعنا‪ .‬بل ان الفردية أصبحت‬
‫ًة‬
‫مطلق في حياته‪ .‬وأصبحت اللامبالاة في حياة الناس‬
‫فكرة أساسية فيهم‪ ،‬وزال من بينهم ما هو من أبرز‬
‫أعرافهم كمسلمين‪ ،‬وأعني به الأمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر‪ .‬فلا يقبل من أحد أن يأمر بمعروف او ينهى‬
‫ّد‬
‫عن منكر‪ .‬فتجد الكثير ممن ير على من يحاول القيام‬
‫بهذا الأمر قائلين له‪ :‬وما دخلك أنت؟ هذا ما نعنيه‬
‫بفساد العرف العام‪.‬‬

‫وكقاعدة أساسية يف جناح أي تكتل من ناحية تكتلية يف اجياد هنضة او اصالح‪ ،‬ال بد أن يكون‬
‫هذا التكتل مبنيًا على مبدأ معني‪ ،‬وأن يكون مسبوقًا بتفّه م صحيح هلذا املبدأ بفكرته وطريقته‪ ،‬وأن‬
‫تكون الرابطة بني اعضاء هذا التكتل رابطة صحيحة جتمع بني اعضاء هذا التكتل‪ ،‬أي أن يكون‬

‫‪46‬‬
‫اإلنضمام والعضوية فيه مبقدار وعي هذا العضو على ثقافة هذا التكتل وإخالصه هلا‪ .‬وأن يكون العضو‬
‫– حىت يكون عضوًا او مسؤوًال – مؤهًال لإلضطالع باملسؤولية واالستعداد للتضحية‪.‬‬

‫وبالنظر اىل التكتالت اليت قامت على أساس اجلمعية‪ ،‬والتكتالت اليت قامت على أساس‬
‫التسمية احلزبية‪ ،‬جند أن فشلها كان طبيعيًا لعدم قيامها على مبدأ معني‪ .‬ومل يسبق قيامها تفّه م صحيح‬
‫هلذا املبدأ‪ ،‬بفكرته وطريقته‪ ،‬ومل يكن اجلامع بني افرادها‪ ،‬أي الرابطة اليت تربط بني افرادها‪ ،‬رابطة‬
‫صحيحة‪.‬‬
‫زد على هذا فان إخفاقها كان حمققًا ايضًا من ناحية افرادها‪ .‬فان العضو فيها مل يكن ينظر اليه‬
‫من ناحية صالحيته هلذا العمل‪ ،‬أي من حيث اميانه بالفكرة اليت يقوم عليها التكتل‪ ،‬أو وعيه على تلك‬
‫الفكرة‪ ،‬او اخالصه هلا واستعداده للتضحية يف سبيلها‪ .‬وإمنا خُي تار الفرد فيها على أساس مكانته يف‬
‫اجملتمع وإمكانية حتقيق الفائدة املعجلة من وجوده عضوا فيها‪ .‬فقد كان العضو خُي تار على أساس انه‬
‫وجيه يف قومه‪ ،‬او غين بني مجاعته‪ ،‬او حماٍم ‪ ،‬او طبيب‪ ،‬او ذو مكانة ونفوذ‪ ،‬بغض النظر عن كونه‬
‫صاحلًا هلذه الكتلة اليت خُي تار هلا أم غري صاحل‪ .‬ولذلك فانه كان يغلب على اعضاء هذه التكتالت‬
‫التفكك‪ ،‬وعدم االنسجام‪ .‬كما تغلب عليها الناحية الطبقية‪ .‬فاعضاء احلزب او اجلمعية يداخلهم تصور‬
‫خفي بأهنم ميتازون عن باقي الشعب‪ ،‬ال مباهلم ووجاهتهم فحسب‪ ،‬بل بكوهنم اعضاء يف اجلمعية او‬
‫احلزب ايضًا‪ .‬ولذلك ال حيصل بينهم وبني الشعب أي تفاعل او تقارب‪.‬‬

‫اذن كان اختيار االعضاء على هذا األساس‪ ،‬أي المكانة االجتماعية‪ ،‬ضررا كبريا على‬
‫التكتل نفسه‪ ،‬وعلى اجملتمع ايضًا‪ .‬أما ضرره على الكتلة نفسها‪ ،‬مجعية كانت أم حزبًا‪ ،‬فقد كان‬
‫التفكك وعدم االنسجام فيما بينهم أمرًا طبيعيًا‪ ،‬وإمكانية االنتقال من حزب آلخر‪ ،‬او من مجعية‬
‫ألخرى أمرًا بديهيًا‪ ،‬وكان بقاؤه يف هذه اجلمعية او تلك مبقدار ما يشبع غروره‪ ،‬او حيقق مآربه‪ ،‬او‬
‫يزيد من مكانته‪ .‬فقد رأيت يف أحد املكاتب السياسية لبعض هذه التنظيمات إثين عشر حامل دكتوراه‪،‬‬
‫ورئيس التكتل شبه أّم ي‪ .‬ومبجرد توقف االنتفاع فّر قتهم أيدي سبأ‪ .‬وقال يل رئيس تنظيم آخر باحلرف‬
‫الواحد‪" :‬إن رصيدنا اليوم مليون ونصف املليون لرية‪ ،‬وأنا أعلم أن هؤالء – ويعين أعضاء املكتب‬
‫السياسي لكتلته – إمنا جاؤوا لإلغتنام‪ .‬فأمتىن عليك لو أخذمت هذا املبلغ‪ .‬أما أن يأخذه هؤالء فهو واهلل‬
‫جرمية"‪.‬‬

‫هذا هو واقع التكتالت‪ ،‬وهذه خطورة اختيار االعضاء على أساس املكانة االجتماعية‪.‬‬
‫أما خطورته على المجتمع‪ ،‬فان اجملتمع يعقد أمله دائمًا على كل بارقة أمل تلوح يف األفق‪،‬‬
‫ويرى أن أي تكتل يف األمة قد يؤدي اىل إنقاذها او حتسني وضعها على األقل‪ .‬وحني يدرك اجملتمع‬

‫‪47‬‬
‫واقع هذه التكتالت‪ ،‬ويرى أهنا إمنا تركض وراء منافعها‪ ،‬وتلهث وراء زيادة مكاسبها ومكانتها‪،‬‬
‫خصوصًا وهو يرى أهنم قبعوا يف أبراجهم العاجية‪ ،‬وال يتصلون بالناس اال حني تكون هلم حاجة‪،‬‬
‫كاالنتخابات مثًال‪ ،‬او مجع التربعات او غري ذلك‪ ،‬حني يدرك اجملتمع ذلك فانه يكفر بالتكتالت‬
‫مجيعها‪ ،‬وال يسمح ألي منها بدخوله‪ ،‬وال خيلص هلا‪ .‬وهذا يشكل عقبة كؤودًا أمام أي تكتل صحيح‬
‫يظهر يف اجملتمع‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فان هذه التكتالت بتصرفها هذا مل تستطع ان تدخل اجملتمع وال ان تتفاعل‬
‫معه‪ .‬بل مل جيِر تقارب بينه وبينها‪ ،‬وبقيت يف عزلتها‪ .‬فأمست ضغثًا على إّبالة‪ ،‬أي حزمة فوق احلْم ل‪.‬‬
‫ومبعىن اصطالحي آخر – صنمًا على مزبلة ‪ ،-‬و ّمهًا جديدًا فوق داٍء عضال‪.‬‬

‫وهلذا نستطيع ان نقول بعد دراسة معظم التكتالت واجلمعيات اليت قامت يف العامل االسالمي‬
‫بأكمله ومعرفة األسس اليت قامت عليها‪ ،‬والظروف اليت أوجدهتا‪ ،‬واالوضاع اليت الءمت بني افرادها‪،‬‬
‫وبعد التفكر يف املفاهيم اليت طرحتها‪ ،‬وبعض االفكار اليت أوجدهتا‪ ،‬واآلثار اليت تركتها‪ ،‬وبعد استقراء‬
‫معظم هذه احلركات وتتّبعها من مولدها اىل نشأهتا وموهتا‪ ،‬او تتّبع حياهتا إن كانت ما زالت حية‪،‬‬
‫وباستقراء كافة االقاليم اإلسالمية‪ ،‬ورؤية أهنا ما زالت تعاين من االحنطاط والتخلف‪ ،‬وما زال‬
‫االستعمار يهيمن عليها مجيعها هيمنة فكرية وثقافية واقتصادية وسياسية‪ ،‬ومل تبد تباشري أي هنضة او‬
‫افكار تؤدي او ميكن ان تؤدي اىل النهضة‪ ،‬بعد هذه الدراسة والتفكر واالستقراء نستطيع أن جنزم أنه مل‬
‫ينشأ خالل القرن الفائت أي تكتل صحيح‪ ،‬يؤدي اىل هنضة صحيحة‪ ،‬وأن مجيع التكتالت واحلركات‬
‫اليت حصلت قد أخفقت‪ ،‬والدليل على ذلك بقاء األمة على حاهلا‪ ،‬إن مل نقل أهنا تزداد سوءًا يومًا بعد‬
‫يوم‪ .‬وسبب ذلك هو أهنا قامت على أساس مغلوط‪.‬‬

‫مع ان األمة ال تنهض اال بالتكتل‪ ،‬فان املالحظ ان العمل الفردي ال يجدي‪ ،‬وال ميكن أن‬
‫يؤدي اىل اية نتيجة اطالقًا‪ .‬ولو أراد أحد ان ينهض باألمة على أساس واضح فسيجد نفسه حتمًا يعمل‬
‫على اجياد تكتل‪ ،‬ذلك أنه حني يدعو الناس افرادًا او مجاعات اىل ما حيمل من دعوة‪ ،‬أي اىل األساس‬
‫الذي يريد ان ينهض األمة على أساسه‪ ،‬فقد يستجيب له فرد او افراد‪ ،‬فال بد له من تثقيفهم بالثقافة‬
‫اليت أعّد ها‪ ،‬او توضيح اهلدف الذي يسعى اليه‪ .‬مث إن هؤالء االفراد حني ينطلقون مبا حفظوا‪ ،‬وما آمنوا‬
‫به‪ ،‬يدعون الناس لفكرهتم وهدفهم‪ ،‬فاهنم سيبقون حتمًا على اتصال بداعيتهم االول‪ ،‬يوّج ههم مبا يراه‬
‫ويرسم هلم خطة العمل وأساليبه‪ ،‬وجييبهم على تساؤالت الناس‪ ،‬او تساؤالهتم هم واستفساراهتم عن‬
‫بعض األمور‪ .‬ويف هذه احلالة سيجد هذا االنسان نفسه يقود كتلة معينة‪ ،‬شاء أم أىب‪ ،‬هذا مع افرتاض‬
‫االخالص عند هذا االنسان (وهذا هو األصل)‪ .‬أما اذا افرتضنا غري ذلك من ارتباط او عمالة‪ ،‬فان‬
‫عمله الفردي ال يؤدي اىل نتيجة‪ ،‬وال يستجيب اليه أحد‪ .‬وبالتايل فهو عمل فاشل‪ .‬وال يعّو ل عليه‪،‬‬
‫وهلذا نقول ان اية عملية تغيري يف األمة ال ميكن لفرد ان يقوم هبا مبفرده‪ ،‬بل ال بد من تكتل يقوم على‬

‫‪48‬‬
‫ذلك‪ .‬فكيف اذا كانت عملية التغيري هذه هي النهوض باألمة؟؟ إنه ال بد وأن يقوم هبذا األمر تكتل‪.‬‬
‫فما هو هذا التكتل الصحيح الذي يسبب هنضة األمة؟؟؟ هذا ما حنتاج اىل بيانه‪.‬‬

‫التكتل الصحيح‬
‫مّر بنا نوعان من التكتالت‪ :‬مجعي‪ ،‬و حزيب‪ .‬أما النوع اجلمعي فقد بّينا فساده‪ ،‬ونوجز ذلك‬
‫بأن النظام اجلمعي إمنا يقوم على اسس معينة‪ .‬أي ان تقوم اجلمعية بأعمال وأقوال‪ ،‬او بأعمال فقط‪ ،‬او‬
‫بأقوال فقط‪.‬‬

‫فاجلمعيات اليت تقوم على أساس اعمال واقوال‪ ،‬مثل اجلمعيات اليت تقوم مثًال ببناء املدارس‬
‫واملستشفيات‪ ،‬ويف الوقت نفسه تقوم حبمالت وعظ وارشاد او تدريس القرآن او غري ذلك من االفعال‬
‫القولية‪ .‬وهذا النوع من اجلمعيات كثري‪ ،‬حىت من الذين اختذوا ذلك وسيلة للثراء‪.‬‬

‫اما اجلمعيات اليت تقوم على أساس اعمال فقط‪ ،‬فهي اجلمعيات اليت تقوم على بناء املساجد او‬
‫املدارس وما شاكل ذلك‪ .‬وال تقوم يف الوقت نفسه بأعمال قولية‪.‬‬

‫وهناك اجلمعيات اليت تقوم على اسس قولية‪ .‬أي تقوم على الوعظ واالرشاد‪ ،‬واالفعال القولية‪،‬‬
‫أي تعقد ندوات‪ ،‬وتوزع نشرات او غري ذلك‪.‬‬

‫ان مثل هذه اجلمعيات ال جيوز ان ُيشّج ع وجودها يف األمة اليت توّد النهوض‪ .‬وذلك لألسباب‬
‫اليت ذكرناها سابقًا‪ ،‬أي من حيث اهنا تسبب اليأس عند األمة نتيجة تكرار الفشل‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬ومن‬
‫جهة اخرى‪ ،‬فاهنا تصرف الناس ومن فيهم احليوية بشكل خاص عن البحث عن التكتل الصحيح‪.‬‬

‫هذا من حيث اجلمعيات‪ ،‬أما من حيث التكتالت اليت تقوم على أساس حزيب إمسًا‪ ،‬أي‬
‫التكتالت السياسية كاليت وجدت يف العامل االسالمي منذ احلرب العاملية االوىل حىت اآلن‪ .‬فان هذه‬
‫التكتالت ال جيوز تشجيعها يف اجملتمع‪ .‬فهي ال تقل ضررًا عن التكتل اجلمعي‪ .‬خصوصًا بعد أن‬
‫سيطرت على عقليتها فكرة االستعانة باالجنيب‪ ،‬وأمثاهلا من االفكار القاتلة‪ .‬وما خّلفته يف اجملتمع من‬
‫مفاهيم مغلوطة‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وإمنا التكتل الصحيح هو الذي يقوم على أساس حزيب مبدأي اسالمي‪ .‬شريطة ان يتالىف تلك‬
‫االخطاء اليت أشرنا اليها واليت كانت سببًا يف فشل تلك التكتالت السالفة الذكر‪ .‬اذن فال بد ان يقوم‬
‫هذا احلزب على أساس مبدأي اسالمي كما قلنا‪ ،‬تكون الفكرة فيه هي الروح جلسم احلزب‪ ،‬وهي‬
‫نواته‪ ،‬وهي سّر حياته‪ .‬وتكون خليته االوىل انسانًا تتجسد فيه الفكرة‪ ،‬وطريقة من جنسها‪ ،‬حىت يكون‬
‫انسانًا من جنس الفكرة يف نقائه وصفائه‪ ،‬ومثل الطريقة يف وضوحه واستقامته‪.‬‬

‫وملا قلنا انه حزب مبدأي اسالمي‪ ،‬تكون الفكرة هي الروح جلسم احلزب‪ ،‬وهي نواته‪ ،‬وسّر‬
‫حياته‪ ،‬فاملعروف ان املبدأ هو عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام‪ .‬نظام ينتظم حياة الفرد واجملتمع‪ ،‬ويبني‬
‫كيفية تنفيذ هذا النظام‪ .‬أي انه فكرة وطريقة‪ .‬اذن عقيدة هذا المبدأ وما ينبثق عنها هي الروح‬
‫لجسم هذا الحزب‪ .‬فالعقيدة اإلسالمية وما ينبثق عنها من معاجلات ومحلها اىل العامل وكيفية احملافظة‬
‫عليها وكيفية تنفيذ معاجلاهتا وكيفية محلها للناس‪ ،‬هي الفكرة اليت هي سر حياة هذا التكتل‪ .‬وهذا ال‬
‫يعين ان نضع أسس هذه العقيدة الستة "االميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقضاء‬
‫والقدر خريمها وشرمها من اهلل" فقط‪ ،‬مث نقول ان العقيدة هي اجلامع بني اعضاء التكتل‪ .‬فاألمة‬
‫مبجموعها تعتقد هذه العقيدة‪ .‬وإهنا لتجري يف عروق ابنائها جمرى الدم‪ ،‬ومل جير عليها أي تغيري عرب‬
‫العصور‪ ،‬اللهم اال بعض الغشاوات على بعض افكارها‪ .‬وقد كانت التكتالت االخرى كاجلمعيات‬
‫واالحزاب امسًا يعتقد افرادها هذه العقيدة‪ .‬فلم جُي ِد نفعًا‪ .‬ومل تصلح ألن تكون رابطة تربط بني اعضاء‬
‫هذه التكتالت‪ .‬بل املقصود من الفكرة – أي عقيدة املبدأ – فهم هذه العقيدة‪ ،‬وفهم ما جاءت به‬
‫هذه العقيدة من معاجلات ونظم وأهداف‪ ،‬وتثبيتها كثقافة هلذا التكتل جيري بناء االعضاء على أساس‬
‫هذه الثقافة‪ ،‬ويكون صالحهم للعضوية واملسؤولية مبقدار وعيهم على هذه الثقافة واخالصهم هلا‪.‬‬

‫وهبذا تكون هي الرابط بين اعضاء التكتل عن ايمان واخالص‪ .‬فاذا ما وجدت هذه الثقافة‪،‬‬
‫وما وّض حته من طريقة للوصول اىل غايتها وحتقيق هدفها فقد وجدت نواة احلزب‪ ،‬وكانت فعًال هي‬
‫روح احلزب‪ ،‬وسر حياته‪ .‬وهي اجلامع الوحيد بني افراده‪ .‬اذ ان عدم قناعة أي فرد بفكرة أساسية من‬
‫هذه العقيدة جيعل هذا الفرد بعيدا عن هذا احلزب ولو كان عضوا فيه‪ .‬وعدم اميانه حبكم من احكام‬
‫طريقته يؤدي بالتايل اىل ابتعاد هذا الفرد عن جسم احلزب‪ ،‬ولو كان أحد مسؤوليه‪ .‬هذا معىن قولنا ان‬
‫هذه الفكرة وهذه الطريقة هي نواة احلزب وسر حياته‪.‬‬

‫هذا من حيث الناحية الفكرية املسطحة على الورق‪ .‬أي من حيث أساس ما جيب ان يكون‪.‬‬
‫اما وجود الخلية االولى فامنا هي انسان من جنس هذه الفكرة في نقائه‪ .‬أي انه آمن هبذه وحدها‪،‬‬
‫ومل ميتزج فكره مبجموعة من االفكار اختلط فيها الغث والسمني‪ .‬فكما ان هذه العقيدة هلا مصدر‬

‫‪50‬‬
‫واحد فقط هو الوحي‪ ،‬فان هذا االنسان ال بد ان يكون له قاعدة واحدة للتفكري‪ ،‬هي العقيدة وما‬
‫جاءت به من نصوص ليس غري‪ ،‬وان عقله فقط لعقل هذه العقيدة وفهم نصوصها‪ ،‬وال يتخذ أي قاعدة‬
‫او نص غري هذه‪ .‬هذا ما نعنيه بنقائه‪ ،‬نقاء الفكرة‪ .‬أي ان الفكرة ليس هلا اال مصدرًا واحدًا هو‬
‫الوحي‪ ،‬وترفض ان يشرتك فيها غري هذا املصدر‪ .‬وكذلك هذا االنسان مل يتخذ أي مصدر لتفكريه اال‬
‫هذا املصدر‪.‬‬
‫وأما القول انه مثل الطريقة في استقامته‪ .‬فمن املعروف ان الطريقة جاءت هبا العقيدة ونفذها‬
‫رسول اهلل ‪ ‬ال تأخذه يف اهلل لومة الئم‪ .‬فها هو رسول اهلل ‪ ‬جييب عمه وقومه حني جاءوا ملساومته‬
‫(و اهلل يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا األمر ما تركته‬
‫حتى يظهره اهلل أو أهلك دونه) او كما قال‪ .‬وها هو ايضا يقول للمتشفعني يف املخزومية اليت سرقت‬
‫(و اهلل لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)‪ .‬هذا هو الوضوح واالستقامة‪ .‬تتنـّز ل سورة‬
‫املسد يف حق عمه وزوجة عمه تبكيتًا وتقريعًا وتوّعدًا ‪‬تبت يدا أبي لهب وتّب ‪‬‬
‫الآيات‪ ،‬فيعلنها رسول اهلل ‪ ‬وحيفظها الناس ويهرولون هبا اىل أيب هلب واىل سادة قريش‪ .‬فلم‬
‫تأخذ رسول اهلل ‪ ‬لومة الئم‪ ،‬ومل يأبه ملن يقول له‪ :‬أهكذا تقول يف عمك وزوجة عمك‪ ،‬وهو السيد‬
‫يف قومه‪ ،‬الزعيم يف عشريته؟! نعم مل يأبه لذلك‪ ،‬ألن الطريقة تقتضي االستقامة والوضوح‪.‬‬

‫فاذا ما وجد االنسان املتصف هبذه الصفات من النقاء واالستقامة‪ ،‬فقد وجدت اخللية احلية‬
‫االوىل‪ .‬ثم ال تلبث هذه الخلية ان تتكاثر – حيث ان من طبيعة اخلاليا احلية ان تتكاثر‪ .-‬وعملية‬
‫التكاثر هذه ستؤدي حتمًا اىل اجياد احللقة االوىل‪ .‬وكما ذكرنا سابقا فان أي انسان خملص حني يبدأ‬
‫بالدعوة لفكرة ما فسيجد من يستجيب له‪ ،‬وأن من استجاب سيتحرك أيضا يف الدعوة‪ ،‬إال أنه سيبقى‬
‫مرتبطًا باملصدر االول للتشاور معه وأخذ التوجيه منه للسري هبذه الدعوة‪ .‬وبهذا تكون قيادة الدعوة‬
‫قد وجدت طبيعيا من هذه الخاليا االولى‪ .‬واليت باشرت الدعوة وقيادهتا‪ .‬وبهذا تكون قد نبتت‬
‫الكتلة الحزبية‪.‬‬
‫وحني تنبت الكتلة احلزبية حتتاج اىل اجلامع بني افرادها‪ .‬أي حتتاج اىل الرابطة اليت تربط بني‬
‫افرادها الذين آمنوا بفكرهتا وطريقتها‪ .‬فتكون بذلك العقيدة‪ ،‬عقيدة املبدأ‪ ،‬هي الرابطة احلزبية‪ .‬وتكون‬
‫هذه العقيدة هي املصدر الوحيد الذي تنبثق عنه فلسفة احلزب‪ ،‬أي افكار احلزب األساسية‪ ،‬واملصدر‬
‫الوحيد لثقافة احلزب‪.‬‬

‫وعودة اىل كلمة ثقافة‪ُ .‬أحب ان اذكر ان الثقافة اإلسالمية أي ثقافة الحزب انما هي ما‬
‫جاءت به العقيدة من النصوص أي الكتاب والسنة وكذلك ما كانت هذه العقيدة سببا في بحثه‬

‫‪51‬‬
‫وفهمه‪ ،‬وهي اللغة العربية ومجموعة معارفها‪ .‬وهلذا كان مصدر ثقافة احلزب هو العقيدة اإلسالمية‬
‫ومعارف اللغة العربية ليس غري‪ .‬فاذا ما وضعت هذه الكتلة احلزبية ثقافتها وجعلتها هي الرابطة بني‬
‫اعضاء هذه الكتلة وبنت الكتلة على أساس االميان هبذه الثقافة‪ ،‬ومدى الوعي عليها‪ ،‬واالخالص هلا‪،‬‬
‫حينئذ تكون الكتلة احلزبية قد وجدت‪ ،‬وسارت يف معرتك احلياة‪.‬‬

‫وحني تبدأ الكتلة السري يف معرتك احلياة تتقلب عليها االجواء حارة وباردة‪ ،‬وهتب عليها الرياح‬
‫عاصفة ولينة‪ ،‬وتتناوهبا االجواء صافية وملب&&دة‪ .‬وه&&ذا يع&&ين ان ه&&ذه الكتل&&ة تع&&اين اوض&&اعًا ثالث‪ .‬الحفاظ‬
‫على ذاتها‪ ،‬وتنمية نفسها‪ ،‬وتنمية المجتمع الذي تعمل فيه‪ ،‬وخصوصا الذين يناصبونها العداء‪.‬‬
‫اما الوضع االول وهي العمل على تنمية نفسها وزيادة عدد اعضائها‪ ،‬وايجاد أجواء لها‬
‫ووعي عام على فكرتها‪ .‬فان عملها هذا تنتابه حاالت من القوة والضعف والرتدد‪ ،‬فيندفع افرادها‬
‫حبماس وقوة‪ ،‬اال اهنم حني يصطدمون مبا يف اجملتمع من عقبات تصيبهم حسرة‪ ،‬ويسقط يف أيديهم‪ ،‬مما‬
‫يؤدي اىل ضعف نشاطهم وفتور ّمهتهم‪ .‬فأجواؤهم حارة تارة وباردة اخرى‪.‬‬

‫وأما تصّد ي خصومهم لهم من السلطة او من حملة االفكار االخرى‪ ،‬فهي متقلبة كذلك‪.‬‬
‫فتقوم السلطة باعتقاهلم تارة وباالفراج عنهم تارة اخرى‪ ،‬حتارهبم يف أرزاقهم ومتنعهم من الوظائف‬
‫وحتول دون نشاطهم تارة‪ ،‬وتارة تغض النظر عنهم لظرف ما‪ ،‬او حملاولة معرفة املزيد عنهم‪ .‬وكذلك‬
‫محلة االفكار االخرى فال يفتأون يطرحون الدعايات املغرضة‪ ،‬واالفرتاءات الكاذبة‪ ،‬واالقاويل الباطلة‬
‫عن هذه الكتلة وشباهبا‪ .‬فتارة حياربوهنا باالمهال وجتاهل وجودها ومنع وسائل االعالم من احلديث عنها‬
‫ال مدحا وال قدحا‪ .‬وتارة يقومون بنشر االكاذيب املفضوحة دون خجل‪ .‬فقد بلغ احلال بإحدى‬
‫اجلهات اإلسالمية أن أّلف أحد أفرادها كتابا يقول فيه ان هذا احلزب يرى ان الصالة يف هذه املرحلة‬
‫ليست واجبة‪ .‬ويقول يف كتابه ان هذا احلزب يقول يف كتابه "نظام االسالم " يف الصفحة ‪ 17‬يف‬
‫السطر العاشر ما نصه " ان الصالة يف هذه املرحلة ليست واجبة لقوله تعاىل ‪ ‬الذين إن مّك ّناهم‬
‫في األرض أقاموا الصالة ‪ ،‬وما دمنا مل منكن يف االرض فالصالة ليست واجبة"‪ ،‬انتهى‬
‫كالم ذلك املؤلف‪ .‬والذي ساعده على انتشار ِفْر يته عدم وجود او توفر كتاب "نظام االسالم " يف‬
‫املكتبات‪ ،‬النه ممنوع من التداول‪ .‬هذا منوذج من الرياح اليت كانت هتب على هذه الكتلة‪ ،‬عاصفًة حينًا‬
‫ولّينًة أحيانا‪.‬‬
‫واما المجتمع الذي تعمل فيه هذه الكتلة‪ ،‬فاهنا بتصديها ملا فيه من مفاسد‪ ،‬وما يقوم فيه من‬
‫نظم‪ ،‬وما يهيمن عليه من رأي عام‪ ،‬وما يكتنفه من ال مباالة‪ ،‬كان هذا اجملتمع يتقبل مرة ويصّد عنها‬
‫مرات‪ .‬خصوصًا حني هتاجم ما يهيمن عليه من رأي عام كالقومية‪ ،‬والناصرية‪ ،‬واالشرتاكية يف حينه‪.‬‬
‫فانه يضع أصابعه يف أذنيه‪ ،‬ويتغشى ثوبه‪ ،‬ويصد ويستكرب استكبارا‪ .‬اما حني تطرح افكارا وآراء‬

‫‪52‬‬
‫تستغرهبا االمة وتراها بعيدة عن الواقع‪ ،‬مث ال تلبث ان تتبني حقيقة هذه االفكار واآلراء ومطابقتها‬
‫للواقع‪ ،‬فاهنا تعيد النظر يف موقفها من هذه الكتلة‪ ،‬ولكنها عودة مرتددة‪.‬‬

‫هذه هي االوضاع الثالث اليت جتابه هذه الكتلة حني سريها يف معرتك احلياة‪ ،‬فاذا ثبتت هلذه‬
‫العوامل فاهنا تكون قد اجتازت خط الدفاع االول ألفكار الكفر وحصلت على النتيجة االتية‪:‬‬

‫تبلور فكرتها‪ :‬فاالصطدام باالفكار االخرى ومناقشتها وبيان فسادها‪ ،‬يؤدي حتما اىل جتسيد‬ ‫‪-1‬‬
‫هذه الفكرة وبلورهتا‪ .‬أي انتقاهلا من حالة امليوعة اىل حالة التجسيد‪ ،‬أي انتقاهلا من افكار‬
‫خالية خيالية اىل رؤية الواقع وانطباقها عليه‪ .‬فالفرد حني كان يتثقف هبذه الثقافة على الورق‬
‫كان يصعب عليه تلُّم س واقعها‪ ،‬وحماولة جتسيده‪ ،‬اما بعد اصطدامه باالفكار االخرى فقد‬
‫ادرك صدق افكاره واهنا افكار تنطبق على واقعها‪ .‬فمثًال حني كان يقرأ عن املبادئ االخرى‬
‫وفساد عقيدهتا وبطالن افكارها‪،‬مل يكن يتصور ان افكاره تستطيع ان هتزم تلك االفكار‪ .‬وملا‬
‫خاض معها تلك املناقشات وجد تلك االفكار أوهى من بيت العنكبوت‪ ،‬وثبت لديه ان فكرته‬
‫هي احلق‪.‬‬

‫وضوح طريقتها‪ :‬ان هذه املناقشات احلادة لالفكار واملعتقدات االخرى جعلت الشاب حياول‬ ‫‪-2‬‬
‫تطبيق ما يقوم به مع سرية سيد املرسلني‪ ،‬فيجد انه يقتدي خبطواته خطوة خطوة وان ما جيده‬
‫هو عني ما وجده املصطفى ‪ . ‬وهذا ما وّض ح له الفرق بني املرحلة املكية واملرحلة املدنية‪،‬‬
‫وبني له الفرق بني ما هو وسيلة او اسلوب وبني الطريقة الواضحة الثابتة‪ .‬وميز له بني حكٍم‬
‫ملعاجلة من املعاجلات وحكٍم لتنفيذ حكم ملعاجلة من املعاجلات‪ .‬ففّر ق بني احكام حفظ النسل‬
‫مثًال واالحكام املبينة لكيفية تنفيذ احكام حفظ النسل‪ ،‬اىل غري ذلك من احكام الطريقة املبينة‬
‫لكيفية تنفيذ احكام الفكرة‪ .‬أي ادرك ان االسالم له كيفية معينة يف تنفيذ احكامه‪ ،‬فهو ليس‬
‫جمموعة من الوصايا يقوم الفرد اميانًا منه بتنفيذها‪ .‬وادرك ان الدولة هي احلكم األساسي من‬
‫احكام الطريقة‪ ،‬املنفذة لالحكام‪.‬‬

‫أعّد ت أشخاصها‪ :‬حني وجد حامل الدعوة نفسه وحيدا اال من اخوة له يف هذه الدعوة‪ ،‬فقد‬ ‫‪-3‬‬
‫ناصبه العداَء أقرُب املقربني اليه حىت والديه وأهل بيته‪ ،‬ومع ذلك مل تأخذه يف اهلل لومة الئم‪،‬‬
‫وفهم معىن وجوده يف احلياة‪ ،‬وعرف انه امنا يعيش من اجل االسالم‪ .‬كان صادقا يف قوله ‪‬‬
‫قل ان صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين‪ ،‬ال شريك له‪ ،‬وبذلك‬
‫ُأمرت وأنا من المسلمين ‪ . ‬ومن كان هذا حاله فانه يكون قد ُأعَّد إعدادا حقيقيا‬

‫‪53‬‬
‫يؤهله لقيادة االمة واألخذ بيدها يف طريق النهوض‪ .‬وكان حريًا مبن هذا حاله ان يضطلع‬
‫بأعباء الدعوة والسري هبا يف سبيل حتقيق غايتها‪.‬‬

‫قَّو ت رابطتها‪ :‬ان هذه الكتلة الواعية‪ ،‬والكتلة العاملة‪ ،‬حني جتد نفسها وحيدة يف امليدان وال‬ ‫‪-4‬‬
‫معني هلا اال افرادها العاملني‪ ،‬وحني جتد ان االمة اليت تعتقد عقيدهتا‪ ،‬وحني جتد الكثري من‬
‫الفئات اليت تدعو لالسالم كذلك تعتقد ما تعتقده هذه الكتلة‪ ،‬ومع ذلك تناصب هذه الكتلة‬
‫العداء وجتاهرها باملقاطعة‪ ،‬تدرك هذه الكتلة حينها أن الرابطة احلقيقية اليت تربط بينها هي‬
‫الثقافة احلزبية‪ .‬فال رابطة قومية وال رابطة مصلحية‪ ،‬وال حىت بني املرء وأهله‪ ،‬وال العقيدة‬
‫جمردًة عما ينبثق عنها من مفاهيم‪ .‬بل الرابطة احلقيقية هي العقيدة مبا انبثق عنها من مفاهيم‬
‫حسب فهم معني ليس غري‪.‬‬

‫وأحب ان ألفت النظر لتثبيت هذه احلقيقة يف النفس‪ ،‬اىل أنه من الصعب ادراك كيف ان‬
‫العقيدة وحدها ليست كافية للربط بني اعضاء التكتل الواحد‪ .‬بل ال بد من العقيدة بكافة ما ينبثق عنها‬
‫من احكام وما بين عليها من افكار تكون مبجموعها ثقافة احلزب حىت تكون رابطة‪ .‬فكلنا يعرف االئمة‬
‫االربعة‪ ،‬ابو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل‪ ،‬وكلنا يعرف اهنم مؤمنون خملصون‪ ،‬واهنم يعتقدون‬
‫العقيدة اإلسالمية باميان يقيين صادق‪ .‬ومع ذلك مل جتعل هذه العقيدة منهم كتلًة واحدًة ‪ ،‬وال جعلت‬
‫من املقّلدين هلم كتلة واحدة‪ .‬فلو كانت مدارسهم ومقلدوهم كتلة سياسية‪ ،‬لكانت كتًال متعددة‪،‬‬
‫ولربز الصراع عنيفا بينهم‪ .‬وحىت مع كوهنم مدارس فقهية‪ ،‬فقد حصلت صراعات حادة يف بعض‬
‫االحيان بني هذه املذاهب‪.‬‬

‫وكذلك‪ ،‬فقد حصل وحيصل وسيحصل بني الفئات اإلسالمية صراعاٌت فكريٌة الختالفها يف‬
‫الرأي يف مجلة مسائل‪ .‬وهذا هو االمر الطبيعي‪ .‬فالرابطة الفكرية ال بد ان يتوفر فيها رابطة واحدة‪،‬‬
‫وهدف واحد‪ ،‬وافكار واحكام واحدة مما يتعلق باجلامع بينهم‪ ،‬وباهلدف الذي وضعوه ألنفسهم‪،‬‬
‫وباالحكام اليت تبني كيفية سريها‪ ،‬والطريقة اليت ينتهجوهنا‪ ،‬حىت تكون رابطة جتمع بني اعضاء هذا‬
‫التكتل او ذاك‪ ،‬مجعًا حقيقيًا يتقدم على أية رابطة اخرى‪ ،‬مثل القومية او الوطنية او العصبية وتتقدم حىت‬
‫على الرابطة بني املرء ووالديه‪ ،‬وبني املرء وزوجه‪.‬‬

‫هذا هو التكتل الصحيح‪ ،‬الذي يعمل للنهضة الصحيحة‪ .‬وهو التكتل الذي تكون نواته‬
‫الفكرة‪ ،‬وثقافته هي الرابطة‪ ،‬وهو الذي يستطيع ان ينتقل من كتلة حزبية اىل حزب مبدئي متكامل‬
‫ويستطيع ان يضطلع بأعباء املسؤولية‪ ،‬وخيطو حنو غايته خبطى ثابتة‪ .‬ألنه هاضم لفكرته‪ ،‬مبصر لطريقته‪،‬‬

‫‪54‬‬
‫مؤمن هبدفه‪ ،‬ال يثنيه عن الوصول اليه شيء‪ ،‬وال يلهيه عنه التعامل مع جزئيات االمور‪ ،‬وتعقيدات‬
‫احلياة‪ ،‬والصخور اليت ُتلقى يف طريقه إلعاقته عن حتقيق غايته وهدفه‪.‬‬
‫نشأة هذا التكتل الحزبي المبدئي في األمة‬
‫أما كيف ينشأ هذا التكتل يف األمة اليت تريد النهوض‪ ،‬نشوءا طبيعيًا‪ .‬فهاك البيان‪:‬‬
‫األمة جزء واحٌد ال يتجزأ‪ ،‬وهي يف تكوينها الكلي كاإلنسان‪ .‬وبالرغم من القائلني بتكون‬
‫اجملتمع من أفراد‪ ،‬ومن حماولة تركيز مبدأ الفردية املأخوذ من النظام الرأمسايل يف نفوس الناس‪ ،‬وتأثر‬
‫الكثريين به‪ ،‬إال أن املكونات األساسية لألمة تبقى هي األساس يف تكوين األمة‪ .‬فعقيدهتا وما ينبثق عنها‬
‫من مشاعر‪ ،‬وما يتكون على أساسهما من عرف عام‪ ،‬هي األساس يف تكوين األمة‪ .‬فما دامت األمة‬
‫حتمل عقيدة معينة‪ ،‬وينبثق عن هذه العقيدة أفكار وأحكام أساسية تنتظم حياهتا‪ ،‬وما دام هلذه العقيدة‬
‫أثر على مشاعر الناس‪ ،‬وما دام هلذه العقيدة أثر على طريقة التفكري عندها ‪ -‬أي عند األمة ‪ -‬فإهنا تبقى‬
‫أمة‪ ،‬مهما حلقها من أمراض‪ ،‬ومهما اعرتاها من هزال‪ .‬وتبقى كأهنا إنسان يعيش يف احلياة‪.‬‬
‫فاحلياة يف اإلنسان‪ ،‬هي العقيدة يف األمة‪ .‬واإلنسان مهما أصاب أعضاءه من مرض‪ ،‬أو حلقه‬
‫من شلل‪ ،‬وبقيت فيه احلياة (أي الروح) يبقى إنسانًا حيًا ميكن معاجلته‪ .‬وكذلك األمة‪ ،‬مهما اعرتى‬
‫بنيها من خور‪ ،‬ومهما أصاهبم من وهن‪ ،‬ومهما طغى عليهم من فساد‪ ،‬تبقى األمة حية ما بقيت فيها‬
‫عقيدهتا‪ .‬ولو أهنا أمست منحطة‪ .‬إال أن إمكانية معاجلتها بقيت قائمة‪.‬‬
‫واإلنسان املريض الذي أشرف على اهلالك‪ ،‬مث متاثل للشفاء فإن احلياة تدب يف عروقه ومجيع‬
‫أوصاله‪ ،‬ألنه كائن حي‪ .‬كذلك األمة حني تدب فيها احلياة واحليوية فإهنا تدب فيها مجيعا بوصفها‬
‫جمموعة إنسانية واحدة باعتبارها كًال‪ .‬واحلياة لألمة هي الفكرة اليت تصحبها طريقة من جنسها‪ ،‬لتنفذ‬
‫هبا‪ ،‬فيتكون من جمموعهما ما يسمى املبدأ‪ .‬إذن‪ ،‬ال يكفي وجود العقيدة الروحية يف األمة لنهضتها‪،‬‬
‫وال يكفي وجود العقيدة منفصلة عن طريقتها اليت تنفذ هبا كي توجد النهضة يف األمة‪.‬‬
‫أمتنا حتمل العقيدة الروحية بشكل جيد‪ ،‬واالميان بان االسالم يعاجل كافة مشاكل احلياة‪ ،‬من‬
‫سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية‪ ،‬موجود يف األمة كذلك‪ .‬اال ان طريقة تنفيذ هذه‬
‫املعاجلات مل تصحب هذا االميان‪ .‬بل مل يدرك لذلك طريقة‪ .‬ولذلك مل يؤثر كل ذلك على وجود احلياة‬
‫يف األمة‪ ،‬وال حىت احليوية يف كثري من األحيان‪.‬‬

‫إذن فوجود املبدأ يف األمة ليس كافيا لبحث احلياة فيها‪ ،‬وإمنا الذي يبعث احلياة فيها هو‬
‫اهتداؤها هلذا املبدأ ووضعه موضع التنفيذ‪ .‬فاألمة مبجموعها‪ ،‬صغريها وكبريها يتغىن بوجود املبدأ‬
‫االسالمي عنده‪ ،‬وان االسالم فيه كل معاجلات احلياة‪ ،‬وانه لو طبق ألضفى على العامل كله السعادة‬
‫الكاملة‪ ،‬اىل غري ذلك من التمنيات و األماين‪ .‬وليس هناك اال النـزر اليسري من مثقفي األمة واملضبوعني‬

‫‪55‬‬
‫بالثقافة الغربية ممن يرون ان االسالم عاجز عن جماراة العصر وحل مشاكل األمة‪ .‬وقد عمد الكثري منهم‬
‫اىل حماولة التوفيق بني االسالم وغريه‪ ،‬او حماولة تأويل النصوص الشرعية حىت جتاري العصر‪ ،‬وتوافق‬
‫االفكار الغربية‪ .‬ومع كل ذلك نقول اهنا مل تتحسس طريق النهضة‪ ،‬ومل يؤد وجود هذه املفاهيم فيها‬
‫اىل وجود احلياة فيها‪ .‬ألهنا مل تضع هذا املبدأ موضع التنفيذ‪ ،‬مع وجوده كنصوص مقدسة بني يديها فال‬
‫هي اهتدت لفكرته‪ ،‬و ال أدركت طريقته‪ ،‬وال عرفت وجوب ربط فكرته بطريقته‪ .‬وبالتايل فان وجود‬
‫هذا املبدأ العظيم بفكرته وطريقته يف األمة ويف تارخيها ويف تراثها التشريعي‪ ،‬وتغنيها مباضيها العريق‪،‬‬
‫وأهنا كانت سيدة الدنيا‪ ،‬كل ذلك مل يؤد اىل وجود احلياة فيها‪.‬‬
‫ان املضبوع ال يصحو حىت يرى دمه يسيل‪ .‬واملضبوع هو املأخوذ من حيوان امسه الضبع‪.‬‬
‫وهذا احليوان حني يلتقي انسانًا وحياول افرتاسه‪ ،‬فانه يلجأ اىل أساليب ورائحة كريهة خترج منه حبيث‬
‫يفقد هذا االنسان السيطرة على أعصابه فيتبع الضبع اىل حيث يريد‪ ،‬وهو يصرخ انتظرين يا أيب‪،‬‬
‫والضبع يسري أمامه حىت يصل به اىل مكان افرتاسه‪ .‬فال يصحو هذا املضبوع من اتباع الضبع حىت‬
‫يرتطم حبجر فيسيل دمه‪ ،‬او يضربه شخص ما يريد إنقاذه فيسيل دمه‪ .‬واال بقي متبعًا الضبع اىل وكره‬
‫ومكان افرتاسه‪.‬‬
‫ومن فقد وعيه لسبب من االسباب ال يصحو بسهولة‪ ،‬بل ال بد من سكب املاء عليه‪ ،‬او وض&&ع‬
‫النشادر يف أنفه‪ ،‬او أية مادة فاعلة تعيد عمل األعصاب الطبيعي‪ .‬واما االمة املنحطة‪ ،‬اليت فق&دت وعيه&ا‪،‬‬
‫وراحت تغّط يف ن&وم عمي&ق‪ ،‬فاهنا حتت&اج اىل م&ا يعي&د اليه&ا ص&واهبا‪ ،‬ويعي&د احليوي&ة اىل أوص&اهلا‪ .‬حتت&اج اىل‬
‫ما ُيسيل دمها‪ ،‬ويوقظ أعصاهبا النائمة الغافلة‪ .‬وغالبا ما تك&ون اهلزات العنيف&&ة ال&يت تص&&يب جمم&وع الن&اس‬
‫من أفض &&ل املنبه &&ات‪ .‬من حيث ان ه &&ذه اهلزات ينتج عنه &&ا إحس &&اس مش &&رتك‪ .‬وه &&ذا االحس &&اس اجلم &&اعي‬
‫هبذه الصدمات يؤدي اىل ح&وار ومناقش&ات بني الن&اس‪ ،‬من حيث اسباب ه&&ذه اهلزات‪ ،‬وم&&ا ال&ذي سببها‬
‫وكيفي&&ة تاليف مثيالهتا‪ ،‬اىل غ&&ري ذل&&ك من املناقش&&ات‪ ،‬سواء بني املثقفني والسياسيني او بني عام&&ة الن&&اس‪.‬‬
‫فاالحساس مشرتك‪ ،‬ولو انه يتف&اوت ق&وة وض&عفا‪ .‬ومن ه&ذه املناقش&ات احلادة‪ ،‬وبت&وايل املص&ائب‪ ،‬وتت&ابع‬
‫البل &&وى‪ ،‬يس &&تمر البحث بني الن &&اس‪ ،‬مما ي &&ؤدي اىل عملي &&ة فكري &&ة‪ .‬ينتج عنه &&ا قض &&ايا من ج &&راء البحث يف‬
‫أسباب ومسببات هذه املصائب‪ .‬فمن الناس من يتناوهلا مبنتهى الس&طحية والبس&اطة‪ ،‬فيق&ول‪ :‬أنن&ا نس&تحق‬
‫ذل &&ك ألنن &&ا مل نل &&تزم مبا أمرن &&ا اهلل‪ .‬ومن &&ا من يق &&ول‪ :‬تل &&ك مش &&يئة اهلل‪ .‬وذاك يص &&رخ‪ :‬ع &&ودوا اىل ربكم‪.‬‬
‫وآخ&رون حياولون رب&ط واقعهم مبا حص&&ل هلم‪ ،‬ويبحث&ون يف كيفي&ة معاجلة ه&&ذه االم&&ور معاجلة تنق&&ذهم مما‬
‫هم في&&ه‪ .‬ومن الب&&ديهي ان حياول ك&&ل منهم اقام&&ة ال&&دليل على ص&&حة م&&ا ذهب الي&&ه‪ ،‬وي&&ربهن على ص&&دق‬
‫النتيج &&ة ال &&يت توص &&ل اليه &&ا‪ .‬وهبذه الكيفي &&ة من املناقش &&ات واحلوار‪ ،‬ومن رب &&ط الواق &&ع احملس &&وس بأسبابه‬
‫ومس&&بباته ينتج الفك&&ر الص&&حيح‪ .‬من حيث ان القض&&ايا احلس&&ية املربهن عليه&&ا باالدل&&ة وال&&رباهني يتول&&د عنه&&ا‬
‫نت&&ائج ص&&حيحة‪ .‬ه&&ذا ه&&و املنط&&ق الس&&ليم‪ .‬قض&&ايا حس&&ية ص&&حيحة ك&&ربى‪ ،‬وقض&&ايا حس&&ية ص&&غرى‪ ،‬ونتيج&&ة‬

‫‪56‬‬
‫حسية‪ .‬واصطحاب هذه العملية املنطقية هو الذي ينتج الفكر الص&حيح‪ .‬ويبقى ه&ذا الفك&ر مرتبط&ا بأدلت&ه‬
‫وبراهين &&ه‪ .‬ودوام ه &&ذا االتص &&ال‪ ،‬والرتاب &&ط بني القض &&ايا‪ ،‬ي &&ؤدي حتم &ًا اىل حبث ماض &&ي االم &&ة وم &&ا ك &&انت‬
‫عليه‪ ،‬واحلال&ة ال&يت هي فيه&ا‪ ،‬واملس&تقبل ال&ذي تس&ري إلي&ه إن بقيت على ه&ذا احلال‪ .‬ومن الب&ديهي ان ي&دفع‬
‫هذا البحث اىل حبث عالقة االمة بغريها من االممم والشعوب وتارخيها والوقائع واالحداث ال&&يت أث&&رت يف‬
‫مسري حياة االمم ‪ ،‬وأسباب هنوض كل أمة منها‪ ،‬اىل م&&ا يص&&حب ذل&ك من مقارن&ات وم&&داخالت ت&ؤدي‬
‫بالت&ايل اىل اهت&داء العق&&ل للمب&دأ بفكرت&ه وطريقت&ه‪ ،‬في&ؤمن ب&ه‪ ،‬بع&&د أن ت&ربهن القض&&ايا املنطقي&ة على ص&&حته‬
‫وانتاج&ه‪ .‬وحني نق&ول القض&ايا احلّس ية فانن&ا نع&ين هبا القض&ايا ال&يت دل ال&دليل العقلي املب&ين على احلس على‬
‫صدقها‪ ،‬أي كل قضية ُأقيم الدليل احلسي والربه&ان العقلي على أهنا ص&حيحه ص&ادقة‪ .‬ه&ذا م&ا ت&ؤدي الي&ه‬
‫غالب &ًا اهلزات العنيف &&ة والص &&دمات القوي &&ة يف االمم النائم &&ة‪ .‬اال ان &&ه ق &&د يق &&وم أع &&داء ه &&ذه االم &&ة بتض &&ليلها‪،‬‬
‫وإهلائه &&ا باالعم &&ال املرجتل &&ة ال &&يت تبع &&دها عن وقف &&ة التفك &&ري تل &&ك‪ .‬فتنتق &&ل من االحس &&اس اىل العم &&ل دون‬
‫تفكري‪ .‬فاذا ما استمر ذلك‪ ،‬فقد يؤدي اىل حالة من الي&أس ت&ؤدي باألم&&ة اىل االستس&الم والي&أس‪ .‬ويك&ون‬
‫ذل&&ك مما ي&&ؤخر عملي&&ة االهت&&داء اىل املب&&دأ ف&&رتة أط&&ول‪ .‬اال ان االم&&ر الط&&بيعي ان ت&&ؤدي تل&&ك اهلزات اىل م&&ا‬
‫ذكرنا‪.‬‬
‫ويك &&ون االهت &&داء للمب &&دأ مجاعي &ًا يف اجلماع &&ة‪ ،‬الن االحس &&اس املش &&رتك فيه &&ا أدى اىل البحث بني‬
‫ك&&ل فئاهتا‪ ،‬وبالت&&ايل‪ ،‬ونتيج&&ة للح&&وار واملناقش&&ات‪ ،‬واستعمال منط&&ق العق&&ل‪ ،‬ي&&ؤدي حتم&ًا اىل االهت&&داء اىل‬
‫املب&&دأ بش&&كل مجاعي‪ .‬ألن ال&&ذي أدى لالهت&&داء الي&&ه ه&&و االحس&&اس اجلم&&اعي ال&&ذي وج&&د يف االم&&ة نتيج&&ة‬
‫للهزات‪.‬‬
‫نعم ان االحس & &&اس يتف & &&اوت بني ش & &&خص وآخ & &&ر‪ ،‬واملؤثرات يف االحساس تتفاوت ك & &&ذلك من‬
‫حيث الق &&وة والض &&عف ال من حيث النوعي &&ة‪ .‬فحني حنس ب &&الظلم‪ ،‬او املص &&يبة‪ ،‬او اهلزمية‪ ،‬ف &&ان االحس &&اس‬
‫املتول&&د عن ه&&ذا الواق&&ع واح&ٌد من حيث نوعيت&&ه‪ ،‬فه&&و إحس&&اس ب&&الظلم او اهلزمية‪ .‬ولكن تفاوت&&ه إمنا يك&&ون‬
‫من حيث الق &&وة والض &&عف‪ ،‬وذل &&ك حبس &&ب م &&ا هيئ &&أهم اهلل ل &&ه‪ ،‬وم &&ا اختص &&هم ب &&ه من استعدادات ممت &&ازة‪.‬‬
‫ول&&ذلك يظ&&ل اهت&&داء األم&&ة اىل الفك&&رة كامن&ًا فيه&&ا‪ ،‬اىل أن يتجم&&ع ت&&أثري ذل&&ك االحس&&اس فيمن ن&&الوا ق&&درًا‬
‫أعلى من االحساس‪ ،‬فيوقظهم ويلهمهم‪ ،‬ويبعث فيهم احلركة‪ ،‬أي زي&ادة مناقش&ة القض&ايا ‪ -‬كم&ا أسلفنا‬
‫‪ -‬والبحث ملعرفة أسباب تلك املصائب‪ ،‬والطرق املؤدية للخالص‪ .‬فتظه&ر على ه&ذه الفئ&ة أع&راض احلي&اة‬
‫قبل غريها‪.‬‬
‫ان هذه الفئة اليت نالت قدرًا أعلى من االحساس هم املرآة اليت تنعكس عليها إحساسات‬
‫اجلماعة‪ .‬ألنه كما قلنا فإن املصيبة الباعثة على التفكري إمنا كانت شاملة للجميع‪ .‬وكون هذه الفئة اليت‬
‫تتمتع حبس مرهف كان أثر تلك املصيبة عليها أكرب‪ ،‬فإن ذلك دفعها اىل البحث والتنقيب حىت توصلت‬
‫للفكرة‪ ،‬ومتركزت فيها‪ .‬فدفعتها اىل التحرك‪ ،‬ولكن عن وعي وإدراك‪ .‬فكانت هذه الفئة هي العرق‬

‫‪57‬‬
‫النابض باحلياة‪ ،‬والقلة الواعية يف األمة‪ .‬وهم عيون األمة اليت تراقب وتالحظ ما حيصل يف اجملتمع من‬
‫أحداث وما جيري فيه من تغري‪.‬‬
‫ووجود هذه الفئة الواعية يف األمة أمر طبيعي‪ .‬واندفاعها للعمل أمر طبيعي‪ .‬وكثريًا ما وقعت‬
‫هذه الفئة الواعية يف مطبات االنتقال من االحساس اىل العمل مباشرة مما أدى اىل اجهاض ثورهتا وإفراغ‬
‫خمزون محاسها‪ .‬ولذلك نقول ان هذه القلة الواعية تكون حائرة قلقة‪ .‬حيث اهنا تبصر أمامها دروبًا‬
‫متعددة‪ ،‬فتحتار أي الطرق تسلك‪ .‬منهم كما قلنا من ينتقل من االحساس اىل العمل‪ .‬ومنهم من خيتار‬
‫طريقًا ال يتناسب مع الفكرة اليت توصل اليها‪ ،‬فاختار مثًال الوعظ واالرشاد‪ .‬ومنهم من محل السالح‬
‫مع الوعظ واالرشاد‪ .‬ومنهم من رأى بناء شخصية الفرد‪ ،‬اىل غري ذلك من اختالف يف اختيار الدرب‪.‬‬
‫وذلك نظرًا للتفاوت يف نسبة الوعي املوجود فيها‪ .‬وبناءًا على ذلك يكون منطق االحساس أي الفكر‬
‫الناشئ عن إحساس صادق أقوى يف بعضها من البعض اآلخر‪ .‬وهي الفئة اليت ال تقف عند حّد املظاهر‬
‫يف حكمها على األشياء‪ ،‬بل اليت باالضافة اىل معرفتها أسباب االحنطاط يف األمة‪ ،‬والبلوى اليت حتيط‬
‫هبا‪ ،‬ومعرفة الفكرة اليت يعاجَل هبا هذا الواقع‪ ،‬مل تقف عند هذا احلد لرتجتل طريقة من الطرق‪ ،‬أو دربًا‬
‫من الدروب‪ ،‬ألهنا اعتادت أن يكون الفكر الناشيء عن إحساس "منطق اإلحساس" منهجًا لتفكريها‪.‬‬
‫فتنكّب على دراسة الطرق مجيعها لتهتدي اىل الطريق الصحيح الذي تضمنته الفكرة نفسها‪ .‬وهي‬
‫معرفة اهلدف والغاية أوًال‪ .‬مث معرفة الطريق املوصل اىل هذه الغاية مما تضمنته الفكرة نفسها‪ .‬فتحدد‬
‫غايتها‪ ،‬وتعرف هدفها‪ ،‬وتبصر الطريق املوصل اليه بوضوح كامل‪ .‬وبذلك تكون قد اهتدت اىل املبدأ‬
‫بفكرته وطريقته‪ .‬فتعتقده عقيدة راسخة ألهنا مبنية على براهينها‪ ،‬وموافقة ملا فطر عليه االنسان‪.‬‬
‫وباعتقادها هذا يكون املبدأ قد جتّس د فيها او كان عقيدة هلا‪ .‬فتكون هذه العقيدة مع ما يبىن عليها من‬
‫أفكار وما ينبثق عنها من مفاهيم "حسب فهم هذه اجملموعة"‪ ،‬أي ثقافة احلزب‪ ،‬هي الرابط بني‬
‫أشخاص هذه الفئة‪ .‬إذن فالرابطة احلزبية هي العقيدة العقلية أي املبدأ والثقافة احلزبية‪ .‬ونعين بالثقافة‬
‫الحزبية (جمموعة االفكار اليت تبّناها احلزب ‪ -‬حسب فهمه – مبنيًة على العقيدة وجمموعة املفاهيم‬
‫واألحكام اليت انبثقت عن هذه العقيدة وجمموعة املعارف واملقاييس اليت آمن هبا وتبّناها)‪ .‬هذه هي‬
‫الرابطة احلزبية وليس فقط العقيدة‪ ،‬وهي مبجموعها على اساسها تتكون عقلية األعضاء‪ ،‬وتنصقل على‬
‫أساسها نفسياهتم‪ ،‬وهي معيار إنتمائهم هلذا احلزب‪.‬‬

‫إن االنسان إمنا يسرّي ه مفاهيمه عن احلياة‪ .‬ومبقدار اميانه بفكرة ما يكون اندفاعه فيها‪ .‬فاذا‬
‫وصلت الفكرة اىل حد القناعة املطلقة‪ ،‬بل وصلت اىل حد انعقاد القلب عليها‪ ،‬فمن البديهي أن تكون‬
‫هي املوِّج ه له يف سلوكه‪ .‬وحني يقنع القناعة املطلقة والتصديق اجلازم بوجوب محل فكرة ما‪ ،‬فان‬
‫املشاعر املنبثقة عن هذا االميان تدفعه دفعًا للقيام مبا جيب عليه‪ .‬وحني نقول ان املبدأ قد جتّس د يف‬

‫‪58‬‬
‫شخص ما‪ ،‬فان ذلك يعين أن ذلك الشخص قد أصبح مبدًأ ميشي على االرض‪ .‬أي ان هذا الشخص‬
‫أصبح منقادًا بكليته (فكره وشعوره) هلذا املبدأ‪ .‬وهذا يعين أن املبدأ ال يطيق أن يبقى حبيسًا‪ ،‬أي أقل ما‬
‫يقال فيه أنه ُيرى جمّس دًا يف هذا الشخص‪ .‬ناهيك عن وجود مفاهيم يف هذا املبدأ توجب على َم ن‬
‫جتّس د فيه محَلها للناس‪ .‬فمن جهة سلوكهم الطبيعي إمنا يكون حبسب مفاهيم املبدأ وأحكامه‪ ،‬مسرَّي ًة‬
‫حسب منهجه‪ .‬وأما ما جاء فيه من حيث حتديد اهلدف والغاية‪ ،‬فإن من يتجسد فيه املبدأ يرى أن‬
‫وجوده يف احلياة هو من أجل املبدأ‪ ،‬وأن غايته يف هذه احلياة إمنا هي من أجل حتقيق غاية املبدأ واهلدف‬
‫الذي بّينه‪ .‬فهو كما نقول يف تالوتنا ‪ ‬قل إن صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب‬
‫العالمين‪ ،‬ال شريك له‪ ،‬وبذلك ُأمرت وأنا من المسلمين ‪.‬‬

‫وحني نقول انه أصبح وجوده من أجل املبدأ‪ ،‬وعرف معىن وجوده يف احلياة‪ ،‬فإمنا يعين ذلك‪:‬‬
‫أ) أوال االلتزام سلوكيا باحكام هذا املبدأ‪ ،‬والتقيد مبا أمر به او هنا عنه‪ ،‬ب) ثانيا العمل على نشره يف‬
‫الناس‪ ،‬بالدعوة اليه وحده‪ ،‬واجياد الوعي العام عليه‪ .‬وحني يتجسد املبدأ يف هذه الفئة االوىل اليت‬
‫اهتدت اليه‪ ،‬ال تلبث احللقة االوىل ان تتحول اىل كتلة حزبية‪ .‬مث تتحول الكتلة احلزبية اىل حزب مبدئي‬
‫متكامل‪ .‬فيأخذ يف النمو الطبيعي يف ناحيتني‪ :‬االوىل التكاثر يف خالياه‪ ،‬باجياد خاليا جديدة تعتنق املبدأ‬
‫وتؤمن به عن و عي وادراك تامني حبيث يعمل على جتسيد املبدأ فيها كذلك‪ ،‬متاما كما جتسد يف الفئة‬
‫االوىل دون متييز‪ .‬واما الناحية الثانية فهي باجياد الوعي العام عليه عند األمة كلها‪ .‬وكنتيجة طبيعية‬
‫الجياد الوعي العام عند األمة على هذا املبدأ‪ ،‬تتوحد اآلراء واالفكار واملعتقدات‪ ،‬توحدًا مجاعيًا إن مل‬
‫يكن إمجاعيًا‪ .‬وبذلك يتوحد هدف األمة وتتوحد عقيدهتا ووجهة نظرها يف احلياة‪ .‬وحني نقول تتوحد‬
‫األفكار فإمنا نعين األفكار العامة املتعلقة مبعاجلة املشاكل اليت تكتنف األمة يف حياهتا اخلاصة‪ .‬كالقول‬
‫بأن الدولة االسالمية هي اخلالفة‪ ،‬فمن هو اخلليفة‪ ،‬وما هي صالحياته‪ ،‬ومن الذي يعّينه‪ ،‬ومىت ُيعزل‪.‬‬
‫وما هو النظام االقتصادي‪ ،‬أو كيف تعاجل األمة مشاكلها االقتصادية او االجتماعية او السياسية‪ ،‬ومثل‬
‫ذلك‪ .‬وأما حني نقول تتوحد اآلراء‪ ،‬فذلك فيما يتعلق بنظرة املسلمني اىل غريهم وعالقتهم مع هذا‬
‫الغري‪ .‬مثل توضيح أحكام الذّم ي والنظرة اليه‪ .‬وأما توحيد املعتقدات‪ ،‬فقد تسرب اىل األمة بعض‬
‫االفكار العقيدية املتأثرة بالفلسفة اهلندية او اليونانية‪ ،‬كالصوفية والكالمية وغريمها‪ .‬ومما يقطع الطرق‬
‫على مثل هذه االفكار اجياد القاعدة الثابتة عند األمة بأن العقيدة ال تؤخذ اال عن يقني‪ ،‬وأن خرب اآلحاد‬
‫يفيد الظن وال يفيد اليقني‪ .‬وكاجياد القاعدة املتعلقة باالعمال والقائلة بأن الشريعة هي من عند اهلل‪ ،‬وأن‬
‫أفعال االنسان مقيدة باحلكم الشرعي‪ ،‬وال جمال للعقل يف التشريع‪ ،‬بل مهمة العقل هي فقط فهم‬
‫النصوص الشرعية‪ ،‬واستنباط األحكام منها‪ .‬فيكون مصدر التشريع هو الوحي فقط‪ .‬هذا ما نعنيه‬
‫بتوحيد األفكار واآلراء واملعتقدات‪ .‬وأبرز ما يؤدي اليه ذلك هو وحدة اهلدف عند األمة‪ ،‬وذلك باجياد‬

‫‪59‬‬
‫اخلالفة القّو امة على التطبيق والتنفيذ‪ .‬حىت يتم حتقيق الغاية اليت هي استئناف االسالمية ومحل االسالم‬
‫للعامل‪.‬‬

‫واذا ما قام احلزب هبذا الدور من توحيد االفكار واآلراء واملعتقدات‪ ،‬فانه يكون قد اصبح‬
‫بوتقًة تصهر األمة‪ .‬والبوتقة هي الوعاء الذي تصهر فيه املعادن‪ ،‬وتتنقى مما علق هبا من أوساخ او رمال‬
‫او معادن اخرى‪ .‬وصهر األمة يف بوتقة احلزب وتوحيد االفكار واآلراء واملعتقدات فيها إمنا يؤدي اىل‬
‫استبعاد االفكار الدخيلة واآلراء الضعيفة واملعتقدات الباطلة اليت أدت اىل احنطاط األمة‪ .‬مثل فصل‬
‫الطاقة العربية عن الطاقة االسالمية الذي أدى اىل ضعف فهم االسالم يف النفوس‪ ،‬وتطبيق بعض‬
‫األحكام اخلاطئة اليت أدت اىل كثري من الفنت واملصائب مثل والية العهد يف نظام احلكم‪ ،‬او االفكار اليت‬
‫وجدت بعد احنطاط األمة مثل نظرية التعايش بني األديان "الدين هلل والوطن للجميع"‪ ،‬وأمثال هذه‬
‫األفكار الكثري‪ .‬فالعملية الصهرية تعين إبعاد هذه االفكار الفاسدة‪ ،‬وتوحيد اهلدف والغاية‪ ،‬وبعث قواعد‬
‫التفكري وغري ذلك‪.‬‬
‫والذي يتوىل هذه العملية هو احلزب‪ .‬وهي اليت تسبب النهضة يف األمة‪ .‬وذلك باجياد قاعدة‬
‫معينة للتفكري للوصول اىل أرقى االفكار – أي النهضة ‪ .-‬وهي عملية شاقة ال يقدر عليها اال احلزب‪.‬‬
‫ألن احلزب يعيش بفكرهتا‪ ،‬بل إن الفكرة هي حياته‪ ،‬أو ألن حياته وقف على هذه الفكرة‪ ،‬وهو يدرك‬
‫كل خطوة من خطواته‪.‬‬

‫قلنا ان اإلحساس العام الذي كان يكتنف األمة عند تعرضها للمصائب واهلزات‪ ،‬قد أوجد‬
‫عمليات فكرية عند األمة‪ .‬وأوجد قضايا يبحث فيها عن األسباب واملسببات‪ .‬وظهر نتيجة لذلك ثّلة‬
‫واعية توصلت مبنطق اإلحساس اىل جمموعة من األفكار – او اختلفت يف طرق متعددة ودروب خمتلفة‪.‬‬
‫وكان من بني هذه االفكار اليت أشرقت يف األمة فكر احلزب الناشيء عن إحساسه‪ .‬فكان هذا الفكر‬
‫واحدًا من جمموعة افكار متعددة‪ .‬كان واحدًا منها‪ ،‬ولكنه كان أضعفها‪ ،‬ألنه أحدثها والدًة‪ ،‬وأجّد‬
‫وجودًا‪ ،‬ومل يتمركز بعد‪ ،‬ومل توجد له أجواء‪ .‬لكنه نشأ عن منطق اإلحساس‪ ،‬أي أن فهمه ناتج عن‬
‫االدراك احلسي‪ ،‬الذي يوجد االحساس الفكري‪ ،‬أي يوجد إحساسًا واضحًا نتيجة للفكر العميق‪.‬‬
‫واالدراك احلسي إمنا ينشأ حني نفكر يف واقع حمسوس‪ ،‬ونربط هذا الواقع احملسوس مبعلومات سابقة‬
‫حمسوسة مقطوع بصّح تها‪ ،‬وخنلص اىل نتيجة حسية‪ ،‬فتكون هذه النتيجة فكرًا صحيحًا صادقًا‪ .‬أي ان‬
‫ذلك يسري حسب قواعد املنطق‪ .‬حيث نضع مقدمًة صغرى حسية صحيحة‪ ،‬ومقدمًة كربى صحيحة‪،‬‬
‫ونستنتج من ذلك نتيجة حسية‪ ،‬فتكون هذه النتيجة صحيحة اذا ُأمن اإلنزالق يف متاهة‪ .‬والطريق‬
‫العقلي املنطقي طريق جيد للوصول اىل أرقى االفكار اذا اقتصر البحث به على القضايا احلسية‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫وفكر احلزب إمنا جاء نتيجة التفكري احلسي‪ ،‬أي البحث يف القضايا احملسوسة‪ .‬فكان فهمًا ناشئًا‬
‫عن االدراك احلسي‪ ،‬ال الومهي وال اخليايل‪ ،‬وال اإلفرتاضي‪ .‬وفكر هذا حاله‪ ،‬حرٌّي به أن يرتكز يف‬
‫النفس وأن يؤمن به االنسان‪ .‬ونتيجة هلذا االميان والرتكز فانه حيرك يف النفس األحاسيس الصادقة‬
‫الناشئة عن مشاهدة الواقع بناءًا على ما يف النفس من اميان‪ ،‬أي ما يف النفس من فكر عميق‪ .‬مثال (لو‬
‫التقى شخص فتاًة ال يعرفها فأعجبه شكلها‪ ،‬وأعجبه حديثها‪ ،‬فرغبت نفسه بالزواج منها‪ ،‬ففاحتها‬
‫باألمر‪ ،‬فقبلت‪ .‬فكانت مشاعره وأحاسيسه جتاهها باعتبار أهنا زوجة املستقبل‪ ،‬ونظرته اليها أهنا زوجة‬
‫املستقبل‪ .‬وهي كذلك‪ .‬ولكن عند مفاحتة األهل تبنّي أهنا أخته يف الرضاع‪ .‬فماذا تصبح مشاعره‬
‫وأحاسيسه اآلن‪ .‬بدًال من النظرة اليها على أهنا زوجة املستقبل‪ ،‬صارت النظرة اآلن أهنا األخت اليت‬
‫عليه محايتها‪ .‬فتغريت أحاسيسه جتاهها بتغري فكرته عنها‪ .‬وكذلك تتغري أحاسيسه يف اجتاه ثالث مغاير‬
‫هلذا فيما لو عرف منها أهنا شيوعية او درزية او علوية)‪ .‬فاألحاسيس الفكرية هي األحاسيس اليت تنطلق‬
‫من أفكار عميقة مركزة يف النفس‪ .‬وملا كان فكر احلزب ناشئًا عن إحساس فإن فكره يكون عميقًا‬
‫ناجتًا عن االدراك احلسي‪ .‬ونتيجة لعمق ذلك الفكر‪ ،‬فان األحاسيس اليت توجد عنده إمنا يكون‬
‫مصدرها ذلك الفكر العميق الذي آمن به‪ .‬ومن متتع مبثل هذا النوع من االدراك العميق‪ ،‬وهذا‬
‫اإلحساس الصادق‪ ،‬من البديهي ان ينطبع به‪ ،‬فيجعله خملصًا‪ .‬ولو أراد أن ال يكون خملصًا فإنه ال يقدر‬
‫على ذلك‪ ،‬ألن ذلك االدراك وهذا االحساس يكون قد ملك عليه نفسه وسرّي ه يف الوجهة اليت حيّتمها‬
‫هذا الفكر واالحساس‪.‬‬

‫وحني يتجسد هذا الفكر يف املخلص عقيدًة وثقافًة فإنه حيدث يف نفسه ثورة جاحمة‪ .‬وليست‬
‫هذه الثورة سوى انفجار بعد احرتاق يف الشعور والفكر‪ .‬والتقاء الفكر والشعور على نقطة معينة إمنا‬
‫يدفع من حيمله دفعًا اىل اإلقدام والتضحية بكل شيء‪ .‬فاملشاعر واالحاسيس من أقوى الدوافع للعمل‬
‫عند االنسان‪ .‬وحني تتضافر مع هذه األحاسيس األفكاُر املوجبة للعمل‪ ،‬فانه ال يبقى أي تردد يف النفس‬
‫يدفعها اىل التقاعس او اإلحجام‪ ،‬بل يشيع يف النفس التلهب واحلماس والصدق‪ .‬ومن البديهي أن يؤدي‬
‫ذلك اىل املنطق والفكر‪ ،‬فيكون نارًا حترق الفساد‪ ،‬ونورًا يضيء طريق الصالح‪.‬‬
‫ونتيجة لذلك فان الدعوة ال بد هلا أن تدخل يف صراع فكري حاّد مع االفكار الفاسدة‪،‬‬
‫والعقائد املتداعية‪ ،‬والعادات البالية‪ ،‬فتحاول هذه أن تدافع عن نفسها‪ .‬وهبذا حيصل االحتكاك باملبدأ‬
‫اجلديد‪ ،‬وهذا ما يزيد يف قوته‪ ،‬ويبلور فكرته يف نفوس محلة الدعوة‪ ،‬وينّم ي عقلياهتم‪ ،‬ويصقل‬
‫نفسياهتم‪ .‬وما هي اال فرتة صراع قصرية حىت تتداعى االفكار والعقائد والطرق‪ ،‬ويبقى مبدأ احلزب‬
‫وحده يف األمة هو وحده فكرها وهو عقيدهتا‪ .‬هذا لو كانت االوضاع طبيعية‪ ،‬وترك باب الصراع‬
‫مفتوحًا‪ .‬اال ان وعي الكفار على ذلك جعلهم يلجأون اىل أخبث األساليب يف التصدي للدعوة‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫كاإلمهال والتجاهل‪ ،‬ومنع وسائل اإلعالم من الكتابة او اإلعالن عن أي أمر يتعلق باحلزب باملدح او‬
‫القدح‪ ،‬وحماربة محلة الدعوة يف أرزاقهم‪ ،‬وأجسادهم‪ ،‬ونشر الدعايات اخلبيثة ضدهم‪ ،‬وحماولة حرف‬
‫احلزب عن خط سريه‪ ،‬وإبعاده عن الطريق اليت تبناها‪ .‬ما جعل الفرتة الزمنية تطول أكثر مما كان‬
‫متوقعًا‪.‬‬
‫ومىت وّح د احلزب االفكار واملعتقدات واآلراء‪ ،‬فانه يكون قد صنع األمة على عني بصرية‪،‬‬
‫وصهرها ونّق اها‪ .‬فكانت أمة واحدة‪ ،‬ووجدت الوحدة الصحيحة‪ .‬فالعربة يف وحدة االفكار العامة اليت‬
‫تتعلق بتنظيم حياة املسلمني‪ .‬وهذا ال يتأتى اال بقيام دولة اخلالفة بتبنيها افكارًا وأحكامًا حمددة تنظم هبا‬
‫حياة الناس‪ .‬أما وحدة املعتقدات‪ ،‬فمن فضله تعاىل أن األسس يف العقيدة مل يلحقها ضالل او ُبعد‪ ،‬ولو‬
‫أنه أصاب بعض فرعيات افكارها غشاوات او سوء فهم‪ ،‬سرعان ما يزول بتثبيت فكرة واحدة يف األمة‬
‫وهي ان العقائد ال تؤخذ اال عن يقني‪ .‬فبهذه الفكرة وحدها نستطيع إبعاد كل ما حلق بافكار العقيدة‬
‫من خزعبالت او تّر هات‪ ،‬او تأثر بالفلسفة اهلندية او اليونانية او الرأمسالية او غري ذلك‪ .‬وأما وحدة‬
‫اآلراء‪ ،‬فان األمة االسالمية مبجموعها ترى أهنا أمة من دون الناس‪ ،‬ومن سواها الكفار‪ .‬وأهنا مبجموعها‬
‫متيز يف عالقاهتا مع الكفار يف كثري من األحكام‪ .‬فهي متيز بني الكتايب وغري الكتايب مثًال يف قضايا‬
‫اللحوم والزواج وغري ذلك‪.‬‬

‫وبناءا على هذا النجاح يف وحدة األمة‪ ،‬ينتقل احلزب بنجاح يف قيادة األمة القيادة العملية يف‬
‫محل الرسالة للعامل‪ ،‬وتنفيذ أحكام االسالم مجيعها‪ ،‬وإجياد الطريقة الصحيحة يف التفكري الجياد النهضة‬
‫احلقيقية على اساس ذلك املبدأ‪ ،‬والعمل على نشره عند كافة األمم والشعوب تنفيذًا المياهنا بأهنا إمنا‬
‫تعيش من أجل االسالم‪ ،‬ومن أجل محل هذا املبدأ اىل العامل تنفيذًا ملا جاء يف عقيدة هذا املبــدأ‬
‫‪‬وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا‪.‬‬
‫وقد شهد علينا رسول اهلل‪ ،‬حيث بّلغ الرسالة وأدى األمانة‪ ،‬ووصلنا كتاب اهلل جّل ثناؤه وسنة‬
‫رسوله ‪ ‬ومها احلجة علينا يوم الدين‪ .‬فبقي أن نتمكن من إقامة احلجة على الناس‪ ،‬أي على العامل‪ ،‬بأن‬
‫نوصل اليهم االسالم‪ ،‬ونقيم عليهم احلجة أمام اهلل عز وجل‪.‬‬

‫الحركة الجماعية‬
‫إن هذا التكتل احلزيب حركة مجاعية‪ ،‬وال ميكن أن يكون إال حركة مجاعية‪ ،‬ألن التكتل‬
‫الصحيح ال يكون إال حركة مجاعية وليس حركة فردية‪ .‬إذ أن احلركة الفردية ال ميكن أن تنهض‬
‫باألمة‪ ،‬وال أن تصل اىل اهلدف الذي أملته الفكرة – أي عقيدة املبدأ‪ .‬وملا كان األمر كذلك‪ ،‬كان‬
‫لزامًا على القائمني على احلزب يف البالد االسالمية أن يبحثوا البحث الدقيق عن احلركات اجلماعية‪،‬‬

‫‪62‬‬
‫وأن يفهموها فهمًا عميقًا‪ .‬ألن فهم احلركات اجلماعية يسّه ل علينا أن نزن كل حركة مجاعية مبيزاهنا‬
‫السوّي ‪ ،‬وذلك بدراسة البيئة اليت عاشت او تعيش فيها‪ ،‬والظروف اليت البستها او تالبسها‪ ،‬ومدى‬
‫عمل االفراد الناهبني يف تسيري أمرها‪ ،‬وتسهيل مهمتها يف القضاء على ما يعوق جناحها‪ ،‬او يعرقل‬
‫سريها‪.‬‬
‫ويقاس جناح احلركة اجلماعية بقدرهتا على إثارة روح االمتعاض يف الناس‪ ،‬وحثهم على إظهار‬
‫امتعاضهم كلما جّد من السلطة احلاكمة او النظام القائم ما ميّس مبدأها هذا‪ ،‬او حتكم به وفق مصاحل‬
‫السلطة وهواها‪.‬‬

‫ومن مالحظة احلركات اجلماعية اليت هلا قوة التأثري يف عصرها‪ ،‬يظهر أهنا ال تنشأ حني يكون‬
‫الرخاء ميسورًا‪ ،‬واحلقوق الطبيعية لالنسان حمققة‪ ،‬والرفاهية متوفرة‪ ،‬والكفاية الشخصية هي املقياس‬
‫لتويّل األمور اهلامة‪ .‬ذلك ألن دوافع احلركة عند الناس ليست موجودة‪ .‬فاحلاجة متوفرة‪ ،‬واحلقوق‬
‫حمفوظة‪ ،‬وفرص حتقيق الرفاهية وتأمني الكماليات مؤمنة‪ ،‬وال شعور بالظلم‪ ،‬ألن األمور تسري من حيث‬
‫املسؤوليات بوضع الرجل املناسب يف املكان املناسب بغض النظر عن وزنه االجتماعي‪ .‬ومثل هذه‬
‫األمور‪ ،‬اليت تغطي حاجات االنسان وجوعاته‪ ،‬متنع وجود أية رغبة عنده يف التغيري‪ ،‬فهو بطبعه ال يتطلع‬
‫اىل أكثر من هذه األمور‪ .‬فمىت توفرت‪ ،‬أخلد اىل اهلدوء والراحة واالستمتاع مبا هو متوفر لديه‪ .‬وحىت‬
‫لو كان طموحًا‪ ،‬فان باب الطموح مفتوح على مصراعيه‪ ،‬ألن تويّل املسؤوليات واحلصول على أعلى‬
‫الوظائف موقوف على االمكانيات الشخصية‪ ،‬فال واسطة وال حمسوبية وال رشوة‪ .‬ولذلك فانه ال‬
‫يلحظ حدوث حركات مجاعية يف مثل هذه اجملتمعات‪ ،‬وخصوصًا حني يكون العرف العام قد استقر‬
‫على مفاهيم معينة هي عني املفاهيم والنظم اليت تقوم السلطة بتنفيذها‪.‬‬

‫ولذلك حني جند حركة مجاعية يف قطر من االقطار ال بد من معرفة الظرف الذي نشأت فيه‪،‬‬
‫واألحداث والوقائع اليت أدت اىل ظهورها‪ ،‬او تزامنت مع ظهورها‪ .‬أي ال بد من معرفة طبيعة ذلك‬
‫اجملتمع مبا فيه من عادات وتقاليد وأعراف‪ ،‬ومعرفة األحداث السياسية او االجتماعية اليت دفعت بالناس‬
‫بشكل مجاعي اىل احلركة‪ ،‬ومعرفة املالبسات اليت استغلتها احلركة حىت حركت الناس معها‪ ،‬وأهل‬
‫الفعاليات يف هذه احلركة‪ ،‬هل هم من أهل الفكر يقودون احلركة فانقاد الناس هلم‪ ،‬أم هم من أهل‬
‫البندقية والسيف‪ ،‬أم هم من أهل املال وحتقيق املصاحل‪ .‬ومعرفة ما هي األوتار اليت ضرب عليها هؤالء‪،‬‬
‫ومدى امكانية هؤالء الناس يف تسيريها واالستمرار هبا‪ ،‬ومدى قدرهتم على حتقيق ما مّنوا به الناس من‬
‫آمال او مصاحل‪ ،‬ومدى قدرهتم على إزالة ما يعرقل سري هذه احلركة او القضاء على ما يعيق جناحها‪.‬‬
‫ومعرفة ما اذا كان النافذون والناهبون يف هذه احلركة هم القادة املباشرين للناس‪ ،‬وهم احملّر كني للناس‪،‬‬
‫باملخاطبة املباشرة‪ ،‬أم من خالل مفاتيح معينة‪ ،‬أي من خالل الزعامات احمللية يف اجملتمع بل يف املدينة‬

‫‪63‬‬
‫واألحياء‪ .‬ومعرفة ما هي الوسائل واألساليب اليت يستعملها هؤالء الناس ألخذ هذه الزعامات احمللية‪،‬‬
‫إن كان عن طريق الزعامة احمللية‪ ،‬او كان باملخاطبة املباشرة للناس من قبل الناهبني يف هذه احلركة‪ .‬وما‬
‫هي األساليب والوسائل اليت تتبع يف اثارة االمتعاض والتعبري عن هذا االمتعاض حني تقدم السلطة على‬
‫تصرف يتعارض مع مبادئ هذه احلركة‪ ،‬أم أهنا تسرّي ما تنادي به احلركة من قبل السلطة احلاكمة‬
‫حسب هوى هذا احلاكم ومصلحته‪.‬‬

‫بعد فهم هذه احلركات ومدى فعاليتها وأساليبها ووسائلها‪ ،‬ال بد لنا كحركة مجاعية من فهم‬
‫واقع اجملتمع الذي نعيش فيه‪ ،‬واجملتمعات احمليطة بنا‪ .‬أي معرفة الرأي العام‪ ،‬ومعرفة األعراف العامة‪،‬‬
‫ومعرفة العادات والتقاليد‪ ،‬ومعرفة القضايا احلساسة اليت يتأثر الناس هبا‪ ،‬ومعرفة الفعاليات يف اجملتمع وما‬
‫يسمى باملفاتيح والزعامات احمللية‪ ،‬ومدى تأثريها على الناس‪ .‬هذا من حيث دراسة اجملتمع‪ .‬أما من‬
‫حيث عالقة اجملتمع بالسلطة أي باحلكام‪ ،‬وعالقة هؤالء احلكام باألمة‪ ،‬وقوام كل منها‪ ،‬وحقيقته‪ ،‬من‬
‫حيث ارتباطه باالسالم واميانه به‪ ،‬واآلراء واالفكار واألحكام اليت دعا اليها االسالم‪ .‬فهل هؤالء احلكام‬
‫مؤمنون باالسالم‪ ،‬وهل فيهم القابلية لتقبل هذه املفاهيم‪ ،‬وهل فيهم قابلية اإلنفكاك عن أسيادهم‪،‬‬
‫واألخذ مبا جاء به االسالم؟ أم أهنم عمالء ال يرجى انفكاكهم‪ ،‬أو أهنم أنفسهم أعداء لالسالم‬
‫وحياربونه ويرفضون أي فكر له؟ وذلك ملعرفة كيفية التعامل مع هؤالء احلكام‪ ،‬ومعرفة كيفية تقدمي‬
‫النصح هلم‪ ،‬او إثارة األمة ضدهم‪ .‬وهل أن ما وصلت اليه حال هذه االفكار واألحكام واآلراء يف‬
‫اجملتمع من إبعاد عن احلياة يثري امتعاضهم‪ ،‬ويأسفون ملا حصل‪ ،‬أم أهنم من العاملني على إبعاد هذه‬
‫األحكام عن احلياة؟ وإن وجد من يهتم مبثل هذه األمور‪ ،‬فإىل أي مدى يكون اهتمامه هبا؟ فقد حدث‬
‫تغيري يف أحكام االسالم‪ ،‬كما استبدلت به أحكام كفر صراح‪ ،‬كما حدثت اجتهادات أو ُز عم أهنا‬
‫اجتهادات‪ .‬فهل اهتم هؤالء هبذه االجتهادات‪ ،‬إن كانت اجتهادات صحيحة أم أهنا حماولة لعدم إثارة‬
‫اجملتمع‪ .‬وسواء حصلت هذه االجتهادات يف األصول او الفروع‪ ،‬وهل يقّر ها االسالم أم ال يقّر ها‬
‫االسالم‪ .‬كل هذا‪ ،‬ال بد من معرفته وإدراكه بالنسبة لكل حاكم من حكام املسلمني‪.‬‬

‫هذا بالنسبة للحكام‪ .‬أما بالنسبة لألمة‪ ،‬فال بد من معرفة حالتها النفسية‪ ،‬ومعرفة اهتمامها هبذا‬
‫األمر‪ ،‬وهل يثري فيها النقمة وهي ترى أحكام االسالم ختتفي من حياهتا ويستبدل هبا أحكام كفر صريح‬
‫وتطبق عليها أنظمة احلكم واالقتصاد واالجتماع اليت جاء هبا الكافر وطبقها عليها بالقوة وباملكر‬
‫وباملال‪ .‬فما هو موقف األمة من هذه األمور؟ وهل يف الضرب على هذا الوتر ما حيرك مشاعر األمة‪ ،‬أم‬
‫أهنا مشغولة بتدبري عيشها وتأمني مصاحلها؟ ذلك ألننا إن أردنا حتريك األمة فال بد من إدراك األوتار‬
‫اليت جيب الضرب عليها‪ .‬ولذلك ال بد من التأكد مما اذا كان االسالم ما زال حيتل مركز التنُّبه فيها‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫وهل اإلساءة اليه تثريها؟ ألننا امنا نريد ان حنركها على اساس عقيدهتا‪ .‬وهل تشعر هذه األمة أن أسباب‬
‫شقائها وتعاستها إمنا هي بسبب غياب إسالمها عن واقع احلياة؟‬

‫أضف اىل ذلك معرفة مجهرة املفكرين واملثقفني يف األمة‪ ،‬وموقفهم من االسالم‪ ،‬وما عندهم‬
‫من ميول‪ ،‬ومدى تقّبلهم للنظم القائمة املطبقة على الناس‪ .‬وما الذي يشغل تفكريهم‪ :‬هل هو فساد‬
‫النظام‪ ،‬أم فساد تطبيق النظام كما يّد عون؟ وهل يرون فساد الدميقراطية وافكارها‪ ،‬أم اهنم يرون ان‬
‫املفسدة سببها اساءة تطبيق الدميقراطية وكبت احلريات او تقييدها؟ وذلك ملعرفة كيفية خماطبتهم‬
‫واألمور اليت تناقش معهم‪ .‬وال بد من معرفة مدى صالبتهم وقوة عودهم‪ ،‬او ضعفهم وانصياعهم‬
‫لإلغراء والتهديد‪.‬‬

‫إن هذه املعرفة ضرورية للحركة اجلماعية ألهنا على ضوء هذه املعرفة تستطيع ان ختتار‬
‫األساليب والوسائل اليت يقتضيها احلال عند حماولة قيادة األمة ودفعها للعمل‪ .‬كما تستطيع ان تتخذ ما‬
‫يلزم جتاه احلاكم وزمرته‪ ،‬او مجهرة ما يسمى باملفكرين واملثقفني وأصحاب الفعاليات‪ .‬حيث جيب‬
‫استعمال الكلمة يف موضعها والسيف يف موضعه‪ .‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫"ووضع الندى يف موضع السيف دائمًا مضٌّر ‪ ،‬كوضع السيف يف موضع الندى"‬

‫معرفة الكتلة نفسها‬


‫‪ ‬أتأمرون الناس بالبّر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفال تعقلون ‪‬‬
‫إن من يبتغي القوامة على اجملتمع‪ ،‬ويريد أن حييط علمًا مبا جيري حوله‪ ،‬ومعرفة أحوال اجملتمع‬
‫وأحوال حكامه‪ ،‬وعالقة احلاكم باجملتمع‪ ،‬واجملتمع باحلاكم‪ ،‬وموقف كل منهما من مبدئه‪ ،‬ومن االسالم‬
‫وأحكامه وآرائه‪ ،‬وما حلقها من تغيري وتبديل واجتهاد‪ ،‬ال بد له من دوام مراقبة كتلته‪ ،‬ومعرفة واقعها‪،‬‬
‫والتأكد من األسس اليت قامت عليها الكتلة‪ ،‬والتأكد من أهنا ما زالت سائرة على تلك األسس‪.‬‬

‫فقد قامت هذه الكتلة نتيجة منطق االحساس‪ .‬فهل ما زال إحساسها مرهفًا‪ ،‬فال تفوهتا هزة يف‬
‫اجملتمع‪ ،‬وال تغفل عن أي تغيري او تبديل يطرأ من حوهلا؟ أي هل أهنا ما زالت تعيش مع الناس‪ ،‬فتحّس‬
‫بإحساسهم‪ ،‬وتشعر بشعورهم ومبا يعانون من عسف وظلم؟ أم أن كثرة املصائب وعظمها بّلد‬
‫إحساسها‪ ،‬وعيشها بأفكارها ومفاهيمها جعلها تعيش يف عزلة عن الناس ومدى متابعتها لألحداث‬
‫وانفعاالهتا معها‪ ،‬أم أن الناس قد سبقوها نتيجة توّقفها ولو للحظة‪ ،‬وأخذت تركض وتلهث حماولة‬
‫اللحاق باجملتمع‪ ،‬حىت أضحى هو القائد هلا بدًال من أن تقوده هي؟‬

‫‪65‬‬
‫كما أنه من املعروف أهنا قامت على الفكر العميق‪ .‬وسارت تعاجل القضايا بفكر عميق‪ .‬فهل‬
‫تأثرت بسطحية اجملتمع‪ ،‬وتفاهة التكتالت االخرى‪ .‬وأخذت تعاجل األمور بسطحية وتفاهة‪ ،‬وتأخذ‬
‫مبظاهر االشياء مبتعدًة عن العمق يف البحث حبجة أن الناس ال يدركون العمق وال يستوعبونه‪ .‬وبالتايل‬
‫فان اجملتمع أدار لنا ظهره‪ ،‬وعزف عن مساع آرائنا‪ ،‬وقراءة نشراتنا‪ ،‬واالطالع على كتبنا‪ .‬وهلذا ال بد‬
‫من التبسيط‪ ،‬فأدى ذلك اىل السطحية والتفاهة وترديد التعابري املبتذلة وسلكت طريق الوعظ واالرشاد؟‬

‫كما سارت الكتلة يف طريق اإلخالص اخلالص‪ .‬فهل ما زالت تعرف هدفها‪ ،‬وتعيش من أجله‪.‬‬
‫وال تسري اال يف الطريق الذي حدده املبدأ؟ أم اهنا أخذت تلجأ اىل املناورات‪ ،‬وحتاول التقرب من‬
‫اآلخرين حبجة وحدة األمة‪ ،‬ووحدة احلركات‪ ،‬وتوحيدها؟ وحبجة احملافظة على شباهبا‪ ،‬وعدم تعرضهم‬
‫لألذى؟ إن الدعوة ال تقبل االشرتاك‪ .‬وال بد أن تغرس يف نفوس أبنائها أهنم إمنا يعيشون من اجل‬
‫االسالم‪ ،‬وأن عملهم احليايت إمنا هو من أجل مساعدهتم على محل الدعوة‪ .‬أي على االميان املطلق بأهنم‬
‫باعوا أنفسهم وأمواهلم هلل تعاىل‪.‬‬

‫وهل تقبل اجملتمع من حوهلا ألفكار الكفر واحتضانه هلا كاحلرية والدميقراطية والوطنية‪ ،‬وما‬
‫يقوم فيه من تكتالت او مجعيات او تنظيمات او اعمال قد أضعف ثقتها بشريعة االسالم‪ ،‬وأضعف‬
‫امياهنا به‪ ،‬حىت بدأ يرتدد على بعض األلسن أننا نريد اسالمًا يتناسب مع القرن العشرين‪ .‬او ما يالحظ‬
‫من بعض التصرفات اليت تأثر فيها شباب التكتل مبا يف اجملتمع من عادات وتقاليد‪ ،‬مع وضوح خمالفتها‬
‫لالسالم؟ او حماولة تربير هذه املخالفات مبخارج يبيحون هبا ألنفسهم مثل هذه املخالفات؟ كالذي‬
‫يستعمل الكولونيا حبجة أهنا كحول ميثيلية‪ ،‬او أن نسبة الكحول فيها أكثر من ‪ %60‬فأصبحت حبكم‬
‫السم‪ ،‬اىل غري ذلك؟‬

‫وال بد من مالحظة مدى تأثرها مبا يقوم به احلكام يف جماهلا من أعمال ظلم وتعسف‪ ،‬وما‬
‫تعرض له شباهبا من تعذيب وتشريد وسجن وقتل‪ ،‬وحماربة يف لقمة العيش‪ ،‬وما حتاوله من إغراءات او‬
‫تقدمي منح ومساعدات‪ .‬فال بد ان تكون الكتلة ثابتة صلبة مل يؤثر فيها ذلك بشيء‪.‬‬

‫بعد ذلك كله‪ ،‬ال بد هلذه الكتلة من التحقق مما عندها من قيم ذاتية‪ ،‬ومن أن منطقة امياهنا‬
‫آمنة‪ ،‬وكذلك من تشُّبعها باالفكار االسالمية العميقة‪ ،‬وتبّنيها للمصاحل العامة‪ ،‬وشعورها باملسؤولية‪.‬‬
‫فكل ذلك ال بد أن يكون كامًال‪ .‬فلم تؤثر عليها األحداث بشيء‪ ،‬ومل يثنها عن عزمها ما حلقها من‬
‫عسف و جور‪ ،‬حبيث اصبح املبدأ يف حصن حصني يف قلوب وعقول املؤمنني‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وأخريًا ال بد من التأكد دائمًا من ان هذه الفئة املؤمنة قد وّطدت العزم على املضّي قدمًا حىت‬
‫حتقق هدفها‪ ،‬وتبلغ غايتها‪ ،‬وتضطلع باملسؤولية كاملة‪ ،‬مع تقديرها جلميع النتائج واستعدادها لتحّم لها‬
‫والقيام بأعبائها‪.‬‬

‫إن هذه الدراسة العميقة للحركات اجلماعية تارخييًا وواقعيًا‪ ،‬ترشد اىل حقيقة سري احلزب‬
‫باعتباره حركة مجاعية‪ ،‬والتأكد من كونه مستكمًال شرائطه‪ ،‬سائرًا يف طريقه الطبيعي‪ .‬وقد وضعنا هذه‬
‫األسس املستقاة من الدراسة الدقيقة للحركات اجلماعية‪ ،‬وما جيب ان تكون عليه‪ .‬وذلك جلعلها مقياسًا‬
‫تراقب على أسسه هذه احلركة اجلماعية‪ ،‬وميزانًا تعرف مبوجبه مواقف هذه احلركة وخط سريها‪ .‬حىت‬
‫اذا لوحظ منها أي زلل‪ ،‬او تنّك ب او خروج عن الطريق‪ ،‬أو لوحظ ان هذه الدراسة تقتضي تعديًال يف‬
‫اجلهاز‪ ،‬من حيث جلانه وأجهزته وصالحياهتا وقانونه االداري‪ ،‬او من حيث املرونة يف السري حسب‬
‫مقتضى ما يتطلبه األمر‪ ،‬او اقتضى صالبة يف الكفاح‪ ،‬يصار عندها اىل اجياد األساليب والوسائل اليت‬
‫تضمن له أداء رسالته يف إهناض األمة‪ ،‬وبنائها على اساس اهنا أمة حتمل رسالة جلميع الشعوب واألمم‪.‬‬
‫لذلك ال بد أن يرتكز يف األمة معىن اآلية الكرمية ‪ ‬وكذلك جعلناكم أمًة وسطًا لتكونوا شهداَء‬
‫على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ‪ . ‬وال ميكن أن أشهد على أحٍد إن مل أكن قد بّلغته‬
‫وأقمت احلجة عليه‪ .‬متامًا كما فعل رسول اهلل ه ‪ ‬وهو يقول (أال هل بّلغت‪ ،‬اللهم فاشهد)‪.‬‬

‫سير التكتيل الحزبي الصحيح‬

‫يسري تكتيل احلزب تكتيًال صحيحًا يف الطريق اآليت‪:‬‬


‫اإلهتداء اىل املبدأ من قبل شخص فائق الفكر واإلحساس‪ .‬قلنا أن العملية الفكرية وتكوين‬ ‫‪-1‬‬
‫القضايا والبحث يف أسباب األزمات ينشأ يف األمة نتيجة للهزات واملصائب اليت حتيط هبا‪.‬‬
‫ونتيجة هلذه العملية يهتدي أحد افراد هذه األمة اىل املبدأ ويبصر طريق اخلالص‪ .‬وملا كان هذا‬
‫االهتداء للمبدأ نتيجة لعملية فكرية مبنية على احساس صادق‪ ،‬فان من الطبيعي أن يتفاعل هذا‬
‫الشخص هبذا املبدأ‪ ،‬فيتبلور فيه حىت يصبح جزءًا من كيانه‪ .‬فالفكرة واضحة بنيت على العقل‪،‬‬
‫والطريقة تضمنتها الفكرة كذلك‪ ،‬باالضافة اىل ان الغاية واهلدف قد حددهتما الفكرة ايضًا‪.‬‬
‫وهبذا تكون اخللية االوىل قد تكونت‪ .‬وقد بّينا ان الفكر ال يطيق ان يبقى حبيسًا‪ ،‬لذلك ال‬
‫تلبث هذه اخللية ان تتكاثر‪ .‬اال انه تكاثر بطيء‪ .‬حيث يوجد اشخاص آخرون من نوعية‬
‫الشخص االول او قريبًا منها يكّو نون خاليا كذلك‪ .‬فيتم االتصال ببعضهم البعض اتصاًال كليًا‬
‫باملبدأ‪ ،‬فيتكون منهم احللقة االوىل للكتلة احلزبية‪ ،‬واليت تتكون منها قيادة احلزب‪ .‬فلم يكن‬

‫‪67‬‬
‫اتصاهلم بناءًا على معرفة سابقة‪ ،‬وال لصداقة قدمية‪ ،‬وال ملصلحة آنية‪ ،‬وإمنا كان اتصاهلم باملبدأ‬
‫وحده‪ ،‬وجرى تكتلهم على املبدأ وحده‪ .‬فكان املبدأ هو حمور هذا التكتل‪ ،‬وكان االميان به‬
‫ووجوب العمل له هو القوة اجلاذبة هلم حوله‪ ،‬أي أن الرابطة اليت مجعت بينهم هي املبدأ‪،‬‬
‫واملبدأ وحده‪.‬‬

‫تكون احللقة االوىل – عادة – قليلة العدد‪ ،‬بطيئة احلركة‪ .‬وهذا أمر طبيعي‪ .‬فبالرغم من اهنا‬ ‫‪-2‬‬
‫تعرب عن احساس اجملتمع الذي تعيش فيه‪ ،‬اال اهنا حني تعرب عن هذا االحساس فاهنا تستعمل‬
‫ألفاظًا وتعابري ختتلف عما اعتاد اجملتمع مساعه‪ ،‬مثل حتديد معىن املبدأ‪ ،‬حتديد معىن العقيدة‪،‬‬
‫توضيح معىن االستعمار‪ .‬وبدًال من كلمة استقالل – تلك الكلمة املبتذلة – تستعمل هذه‬
‫احللقة تعبري "استئناف احلياة االسالمية‪ ،‬وعودة االسالم للحياة‪ ،‬وإقامة اخلالفة"‪ ،‬وهتاجم الرابطة‬
‫القومية والوطنية واملصلحية والروحية‪ ،‬اىل غري ذلك من التعابري اليت مل يعتد اجملتمع مساعها‪ .‬هذا‬
‫باالضافة اىل طرحها مفاهيم ختالف مفاهيم اجملتمع السائدة‪ ،‬وإن كانت تعرب عن احاسيس‬
‫اجملتمع حني جتعل قضية اجملتمع هي عودة االسالم للحياة‪ ،‬وتوضح ان املبادئ االخرى‬
‫كالشيوعية والرأمسالية إمنا هي افكار كفر‪ ،‬وأن أفكار احلرية والدميقراطية إمنا هي افكار كفر‪.‬‬
‫وحني تبني ان العقائد ال تؤخذ اال عن يقني‪ ،‬وأن األحكام الشرعية مصدرها الوحيد هو‬
‫الوحي‪ ،‬وأن كل مسلم مسؤول أمام اهلل‪ ،‬وليس األمر مقتصرًا على العلماء والفقهاء‪ .‬وأنه ال‬
‫رجال دين يف االسالم‪ ،‬وأن غري املسلمني من الرعية جيب ان ُينظر اليهم على اهنم أهل ذمة‪،‬‬
‫هلم أحكامهم اخلاصة‪ .‬ان هذه املفاهيم وإن كانت مما حيس به اجملتمع‪ ،‬اال انه مل يعتد مساعها‪.‬‬
‫وهذا ما جيعل هذه الكتلة قليلة العدد بطيئة احلركة‪ ،‬ألن الناس ينظرون اليها نظرة استغراب‪.‬‬
‫بل اهنم يعتربوهنا غريبة عنهم‪ .‬ولذلك فانه ال ينجذب اليها اال من حباه اهلل قدرًا وافرًا من‬
‫االحساس املرهف‪ ،‬الذي جعل فيه قابلية اإلجنذاب اىل مغناطيسية املبدأ املتجسد يف هذه احللقة‬
‫االوىل‪.‬‬

‫يكون تفكري هذه احللقة االوىل "القيادة" عادة عميقًا‪ ،‬وطريقتها يف النهضة جذرية‪ ،‬أي تبدأ من‬ ‫‪-3‬‬
‫اجلذور‪ .‬أي اهنا تعمل للنهضة انطالقًا من العقيدة لتوجد يف األمة أمرين يف طريقة تفكريها‪( :‬أ)‬
‫العمق في البحث‪ :‬حبيث يصل يف أي حبث اىل األصل الذي نشأ عنه‪ .‬و(ب) الشمول‪ ،‬متامًا‬
‫مثل العقيدة اليت بنوا عليها هنضتهم‪ .‬حيث ان العقيدة فكرة كلية عن احملسوسات مجيعها‪،‬‬
‫وعما قبلها وما بعدها‪ .‬ومن كان هذا حاله يف البحث ال بد له ان يرتفع عن الواقع السيء‬
‫الذي يعيش فيه‪ ،‬فال جيعله مصدر تفكريه‪ .‬بل ال بد ان حيلق يف األجواء العليا حىت يستطيع ان‬
‫جيعل الواقع موضع تفكريه‪ .‬فريى كل ما يف اجملتمع من سوء على حقيقته‪ ،‬كما ترى الكتلة‬

‫‪68‬‬
‫بوضوح الواقع اجلديد الذي تريد ان تنقل اجملتمع اليه‪ .‬أي تبصر هدفها وغايتها حبيث اهنا‬
‫تستطيع ان تضع له املخطط اهلندسي الذي يبني هيكليته وقواعده وأجزاءه‪ .‬كما اهنا بسمّو ها‬
‫عن هذا الواقع‪ ،‬ورؤيتها للواقع اجلديد تستطيع ان تبصر الطريق املؤدية اليه‪ ،‬فتسلكه آمنًة‬
‫مطمئنًة‪ .‬وبذلك التحليق فوق الواقع الذي تعيش فيه‪ ،‬فاهنا تبصر ما وراء اجلدار‪.‬‬
‫أما بقية الناس فهم مرتبطون بالواقع يرون ما حوهلم فقط‪ .‬فكان مصدر تفكريهم هو الواقع‬
‫الذي يعيشونه‪ ،‬وال يستطيعون ان يروا أبعد من ذلك‪ .‬ولذلك جتد معاجلتهم منبثقة من الواقع‬
‫الذي يعيشونه حياولون تكييف أنفسهم للعيش مع الواقع‪ ،‬وال يعملون لتغيري الواقع ألهنم ال‬
‫يتصورون الواقع الذي يريدون ان ينتقلوا اليه‪ .‬وهلذا جتد ان مجيع احلركات اليت وجدت مل‬
‫تستطع ان ترسم هلا صورة واضحة عن اهدافها وغاياهتا‪ .‬وإن دعت اىل اهداف‪ ،‬فاهنا مل حتدد‬
‫طبيعة هذه االهداف وهيكليتها‪ .‬فأفكارها ما زالت بدائية‪ ،‬والصور اليت يف أذهاهنا مستمدة من‬
‫الواقع الذي تعيش فيه‪ ،‬وقياسها األمور قياس مشويل مغلوط‪ .‬فطورًا ترى االسالم اشرتاكيًا‪،‬‬
‫وطورًا تراه دميقراطيًا‪ ،‬وترى ان نظام احلكم شورى‪ ،‬فالشورى هي نظام احلكم يف االسالم‪،‬‬
‫والدميقراطية هي الشورى‪ ،‬إذن فاالسالم دميقراطي‪ .‬مبثل هذه القياسات واملغالطات‪ ،‬تكونت‬
‫عقليات عامة الناس مبا فيها التكتالت القائمة‪ ،‬ألن تفكريها مستمد من هذا الواقع السيء‪.‬‬
‫ولذلك ما على االنسان اال ان يكّيف نفسه للعيش هبذا الواقع‪ ،‬ولذلك جيعل منافعه تدور مع‬
‫هذا الواقع‪ ،‬ألن هذا هو ما عليه واقع اجملتمع واحلالة اليت وصل اليها‪ .‬وكونه فرد او تكتل‬
‫يعيش يف هذا اجملتمع ومل يستطع ان يسمو فوق ما عليه اجملتمع ألنه ال ميلك مقومات السمو‬
‫عن الواقع‪ .‬وهذا خيتلف متامًا عن احللقة االوىل – القيادة – ألهنا تستند بفكرها اىل قاعدة‬
‫ثابتة وهي ان الفكر ال بد ان يتصل بالعمل‪ ،‬وأن الفكر والعمل ال بد ان يكونا من اجل غاية‬
‫معينة يهدفان اليها‪ ،‬وان هذا كله ال بد وأن يكون يف جو امياين‪ .‬هذه هي القاعدة العملية‬
‫الثابتة‪ :‬فكر‪ ،‬يتبعه عمل‪ ،‬من اجل غاية‪ ،‬في جو ايماني‪.‬‬
‫أما تفصيل ذلك فهو ان فكر هذه القيادة فكر عملي‪ ،‬أي هو فكر يراد به معاجلة واقع معني‪،‬‬
‫والتعامل به ال جملرد بيان حقيقته وصدقه‪ ،‬بل للعمل به‪ .‬فهو ليس فكرا فلسفيا للبحث عن‬
‫حقيقة معينة‪ ،‬او للبحث يف ما وراء الطبيعة‪ ،‬او فكر يف نظريات او افرتاضات يراد بيان‬
‫صحتها او بطالهنا‪ .‬وألنه فكر فقهي الستنباط احكام وبيان مسائل‪ ،‬سواء أخذ هبا الناس أم مل‬
‫يأخذوا‪ .‬مع ان الفكر الفقهي هو حبث يف افكار عملية من حيث انه حبث يف االحكام‬
‫الشرعية‪ ،‬واالحكام الشرعية احكام عملية‪ ،‬اال ان الفرق هو ان الفقيه يهمه استنباط احلكم‬
‫الشرعي من األدلة التفصيلية‪ ،‬سواء قّلده غريه او التزمه بنفسه‪ .‬وهذا خالف ما قلنا عن هذا‬
‫الفكر الذي هو مناط البحث‪ ،‬فهذا الفكر ال بد ان يكون مقرتنًا بالعمل‪ ،‬كي ال يعيش الفرد‬

‫‪69‬‬
‫يف خيال‪ ،‬او وهم‪ ،‬او على آماله ومتنياته‪ ،‬كالفالسفة او املتكلمني او علماء الرياضيات‬
‫والفيزياء‪ ،‬او الفقهاء واجملتهدين‪ .‬ال ليس كذلك‪ ،‬بل افكار عملية ُفهمت لُيعمل هبا يف هذا‬
‫الواقع لتغيريه‪.‬‬
‫واقرتان الفكر بالعمل دون غاية حمددة او هدف معني‪ ،‬دوران يف حلقة مفرغة‪ ،‬يدور حامله‬
‫حول نفسه‪ .‬ومثل هذا شخص آمن بفكرة ما‪ ،‬ورأى فيها كل اخلري فطفق يعمل هبا ويدعو هلا‬
‫دون ان حيدد له هدفًا‪ ،‬او يعني له غايًة‪ ،‬فهو يعمل ويعمل‪ ،‬ولكنه يدور على نفسه يف مكانه‪،‬‬
‫مثله مثل املخلصني من وّعاظ املساجد وخطبائها‪ ،‬والكّتاب الذين يبذلون اجلهود املضنية يف‬
‫البحث والتنقيب واالستنباط ومن مث التأليف والكتابة‪ ،‬آملني بغريهم ان يسري على هذا النهج‪،‬‬
‫او ان يؤدي انتشار هذه االفكار تدرجييًا اىل التغيري‪ .‬وهلذا كان ال بد من وضع األساس الثالث‬
‫هلذه القاعدة‪ ،‬وهو اهلدف من العمل‪ .‬وليس املقصود هنا من اهلدف أَّي هدٍف كان‪ ،‬كأن‬
‫تقول‪ :‬نوال الثواب‪ ،‬او الوصول اىل رضوان اهلل‪ ،‬فذلك غاية الغايات‪ .‬بل املقصود هو النتيجة‬
‫املرجوة من القيام بالعمل‪ ،‬وتقّص د الوصول اىل اهلدف املعني‪ ،‬باالضافة اىل رضوان اهلل‪ ،‬ألن‬
‫املقصود من العمل هو تغيري الواقع الفاسد املوجود يف اجملتمع‪ ،‬واجياد واقع حسن‪.‬‬
‫األساس الثالث هو اهلدف‪ .‬إن حتديد اهلدف ووضع الغاية املعينة هو كسر لتلك احللقة املفرغة‬
‫وجعل خط السري مستقيمًا حىت يصل اىل نقطة معينة هي اهلدف املرسوم‪ .‬ورسم اهلدف يعني‬
‫جتسيد هذا اهلدف يف نفس حامل هذه الفكرة‪ ،‬والذي دفعه اميانه هبا اىل العمل هلا‪ .‬فبدًال من‬
‫ان يكون عمله دورانًا حول نفسه دون غاية‪ ،‬صار عمله على خط مستقيم يؤدي بالنتيجة اىل‬
‫حتقيق غايته‪ .‬ومبقدار وضوح هذا اهلدف وبلورته يف نفس الشخص‪ ،‬بقدر ما يكون اندفاعه‬
‫حنو غايته وأمله يف حتقيقها‪ .‬خصوصًا حني يكون اهلدف قد حددته الفكرة نفسها‪ ،‬وبّينته‬
‫بكلياته وجزئياته وبينت الطريق املؤدي لتحقيقه‪ .‬وال يكفي ان يكون اهلدف فكرًة عامة غري‬
‫حمددة‪ ،‬بل ال بد ان يكون واضحًا وضوح الفكرة نفسها‪ ،‬ألنه هو الغاية من العمل‪ .‬فحني‬
‫يقول انه يعمل لتغيري اجملتمع على اساس هذه االفكار‪ ،‬ال بد وأن يكون متصورًا للمجتمع‬
‫اآلخر الذي يريد ان ينتقل اليه‪ .‬فال ينخدع مبظاهر سطحية‪ ،‬او افكار جزئية‪ ،‬او بتطبيق بعض‬
‫االفكار واالحكام متومهًا انه بذلك وصل اىل هدفه‪ ،‬او هي خطوة اوىل يف سبيل الوصول اىل‬
‫هدفه‪ .‬وكون هذه الفكرة قد انبثقت عن قاعدة اساسية‪ ،‬وأن العمل هلا قد انبثق ايضا من نفس‬
‫القاعدة االساسية‪ ،‬واهلدف كذلك بّينته وفسرته االحكام املنبثقة عن القاعدة نفسها‪ ،‬وهي‬
‫القاعدة اليت آمن هبا واحتلت مركز اميانه‪ ،‬وآمن بانه امنا يعيش من اجلها‪ ،‬من اجل ذلك‪ ،‬صار‬
‫اجلو االمياين هو الدافع للعمل‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫وهذا هو االساس الرابع هلذه القاعدة العملية الثابتة‪ .‬وأعين به اجلو االمياين (فاجلو االمياين هو‬
‫اإلدراك الكامل ألن ما يقوم به من اعمال وما آمن به من افكار وما حدده من اهداف إمنا هي‬
‫احكام عملية حتتمها عليه قاعدته االميانية)‪ .‬ومعىن ذلك ان هذا االنسان وهو يصطدم هبذا‬
‫الواقع الفاسد‪ ،‬وما فيه من صعوبات‪ ،‬وما جياهبه من مشاّق ‪ ،‬وما يالقيه من حمن‪ ،‬قد تفرت‬
‫عزميته‪ ،‬وتفرت ّمهته‪ ،‬ويتسرب اىل نفسه اليأس او اإلستيئاس‪ ،‬ويعود ملراجعة فكرته واألمر الدافع‬
‫له للعمل‪ .‬فحني جيد ان هذا األمر منبثق من عقيدته بدليل‪ ،‬وحني جيد ان اهلل ال يضيع عمل‬
‫عامل‪ ،‬وأن اجلزاء املوعود به أكرب بكثري من الثمن املدفوع‪ ،‬وحني يدرك يقينًا ان مرّده اىل اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬واميانه به هو الركن األساسي من تلك القاعدة‪ ،‬فانه مبراجعته تلك خلط سريه‪ ،‬وإدراكه‬
‫انه يقتفي خطوات رسول اهلل ‪ ‬فانه بمثل هذه المراجعة وعيشه‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫في هذا الجو الايماني يجد باعث قوي على‬
‫ًة‬
‫العمل‪ ،‬وطاق لا حدود لها‪ .‬وبهذا الجو الايماني‬
‫ّي‬ ‫ُي‬
‫يستطيع ان خضع الواقع ويغ ره‪ .‬لأن مثل هذا‬
‫الفكر المقترن بالعمل من اجل هدف معين وفي هذا‬
‫الجو الايماني لا يتغير‪ ،‬ولا يتأثر بما يلاقيه‬
‫ّر‬
‫او يم به‪ .‬بل على العكس‪ ،‬انه فكر ثابت لأنه من‬
‫قاعدة ثابتة‪ ،‬ويغير ما يمر به‪ ،‬ويتأثر به‬
‫الآخرون لانه فكر عملي يعالج وقائع عملية‬
‫ومنبثق من قاعدة ايمانية ثابتة وهي العقيدة‪.‬‬
‫وذلك بخلاف المجتمع المنحط‪ ،‬لأنه لا توجد‬
‫ّد‬
‫لأفكاره قاعدة‪ ،‬واعماله ناشئة عن ر ات فعل او‬
‫تقليد لغيره من المجتمعات‪ ،‬وهو بمجموعه لا‬
‫يعرف الغاية التي يفكر ويعمل من اجلها‪ ،‬وتكون‬
‫الغايات عند افراده فردية آنية أنانية‪ .‬ومثل‬
‫هذا التفكير بلا قاعدة ثابتة "عقيدة" تكون‬
‫ًا‬
‫اساس لأفكاره وميوله واهدافه‪ ،‬مثل هذا‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫التفكير لا يوجد له جو ايماني ‪ ،‬ولا يؤثر في‬
‫غيره‪ ،‬بل هو عرضة للتأثر بغيره‪ ،‬ويجد نفسه‬
‫ًا‬
‫مضطر ان يتشكل بالجو المحيط به‪ .‬ومن هذا يأتي‬
‫التضارب بين الحلقة الاولى وبين المجتمع الذي‬
‫تعيش فيه أول الأمر‪.‬‬

‫ان من أوجب الواجبات على هذه احللقة االوىل أن توِج د اجلو االمياين ألنه يفرض طريقة معينة‬ ‫‪-4‬‬
‫يف التفكري‪ ،‬أي انه جيعل التفكري دائمًا إما مبنيًا على القاعدة الفكرية – العقيدة – او منبثقًا‬

‫‪71‬‬
‫عنها‪ .‬ومن اجل حتقيق ذلك‪ ،‬فان عليها ان تقوم باعمال وحركات مقصودة حىت تسارع يف‬
‫بناء نفسها‪ ،‬وتنمية جسمها‪ ،‬وتنقية أجوائها‪ ،‬بإبعاد أي حماولة قياس على غري تلك القاعدة‬
‫الفكرية‪ ،‬حىت يتسىن هلا ان تنتقل من حلقة حزبية اىل كتلة حزبية مث اىل حزب متكامل يفرض‬
‫نفسه على اجملتمع‪ ،‬حبيث يكون فاعًال يف اجملتمع ال منفعًال به‪ .‬فالتقيد بالقاعدة الفكرية وجعلها‬
‫مقياسًا لكل فكر‪ ،‬ومنبثقًا لكل حكم‪ ،‬يؤدي اىل رفض ما تركز يف اجملتمع من مفاهيم مغلوطة‪،‬‬
‫وعقائد فاسدة‪ ،‬وعادات سيئة‪ .‬فالضابط من االنفعال باجملتمع هو اختاذ هذه القاعدة – العقيدة‬
‫– وجعل ما انبثق عنها من مفاهيم وما بين عليها من افكار جوًا اميانيًا هو العنصر الفعال املؤثر‬
‫يف اجملتمع‪.‬‬

‫هذه احلركات املقصودة نعين هبا الدراسة الواعية ألمور هي‪:‬‬ ‫‪-5‬‬
‫الدراسة الواعية للمجتمع‪ :‬وذلك ملعرفة العرف العام املهيمن على أجوائه‪ ،‬والرأي العام‬ ‫أ‪-‬‬
‫فيه حول قضاياه‪ ،‬واالشخاص الفاعلني فيه‪ ،‬ومعرفة الوسائل واالساليب اليت تؤثر يف‬
‫أعرافه وعاداته وتقاليده‪ ،‬وهل ما زال فيه بعض النقاء واالخالص‪ ،‬أم أن عنصر النفاق‬
‫اصبح من االفكار املركزة فيه‪ ،‬او ان عنصر الالمباالة هو املهيمن على نفسيات الناس‬
‫فيه‪ .‬وما هو موقف اجملتمع من انظمة الكفر املطبقة عليه‪ ،‬ومدى حرصه على مفاهيم‬
‫االسالم وآرائه وتأثره هبا‪ ،‬وما هو موقفه من حكامه وأعواهنم‪.‬‬
‫دراسة واعية لالشخاص‪ :‬ونعين باالشخاص ذوي الفعاليات بشكل اساسي‪ .‬وهل‬ ‫ب‪-‬‬
‫زعامتهم حقيقية أم أهنم زعماء بقضاء املصاحل وحتقيق املنافع‪ ،‬أم اهنم مفروضون فرضًا‬
‫على الناس‪ .‬ومعرفة الفئة املثقفة ومدى اخالصها لثقافتها االجنبية‪ ،‬وفهمها هلا‪.‬‬
‫ومعرفة املتعلمني من ابناء املسلمني‪ ،‬ما مدى اهتمامهم باالسالم ووعيهم عليه‪،‬‬
‫وامياهنم بأحكامه وآرائه‪.‬‬
‫الدراسة الواعية لألجواء ملعرفة املقاييس واألسس اليت يرجع اليها الناس يف تفكريهم‪،‬‬ ‫ت‪-‬‬
‫والقواعد اليت يرجعون اليها يف مفاهيمهم وآرائهم‪ .‬وهل تتقدم مصاحل اجملتمع على‬
‫مصاحلهم‪ ،‬وهل ما زالت ثقتهم باألجنيب هتيمن على نفسياهتم‪ ،‬وهل ما زالت‬
‫شخصية الكافر هي املثل األعلى يف نفوسهم‪.‬‬
‫الرقابة احلذرة جلسم احلزب من أن‪:‬‬ ‫ث‪-‬‬
‫(‪ )1‬يتسلل اىل جسم احلزب عنصر فاسد يعمل على الوصول اىل مركز القرار او‬
‫العمل على انشطار احلزب على نفسه‪ ،‬او التشكيك بإمكانية الوصول اىل‬

‫‪72‬‬
‫اهلدف وحتقيق الغاية‪ ،‬او أن مييل او حياول إمالة احلزب عن الصراط السوّي‬
‫الذي يسري عليه والطريقة اليت تبّناها‪.‬‬
‫حيصل خطأ يف تركيب جهاز من أجهزة احلزب اليت يكون التكتل حبسبها‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫كأن تقوم إحدى جلانه بغري الصالحية املعطاة هلا‪ ،‬او ان تتخذ جلنة من جلانه‬
‫قرارًا مبعزل عن القيادة‪ ،‬أي ان خترج عن مركزية القرار وقيادته‪.‬‬

‫األمر اجلامع بني أفراد الكتلة‪ :‬أي الطريقة احلزبية‪ ،‬جيب ان تكون العقيدة الراسخة الثابتة‪،‬‬ ‫‪-6‬‬
‫والثقافة احلزبية الناضجة هي الرابط بني اعضاء احلزب‪ ،‬وان تكون هي القانون الذي يسري‬
‫اجلماعة ال القانون االداري املسطر على الورق‪ .‬وملا كان األمر اجلامع بني افراد احلزب هو‬
‫العقيدة والثقافة فال بد إذن من العمل على تقويتها وذلك بالدراسة والفكر‪ ،‬حىت يتكون من‬
‫هذه الدراسة والفكر طريقة منتجة يف التفكري‪ ،‬وتفهم األمور والوقائع واألحداث بشكل معني‪،‬‬
‫وكيفية معينة‪ .‬وذلك بتثبيت قواعد ومقاييس ُيرجع اليها حني احلكم على االشياء والوقائع‪.‬‬
‫وبذلك نستطيع ان نربط بني الفكر والشعور‪ .‬وجبعل العقيدة اليقينية الثابتة هي املقياس‬
‫االساسي جلميع االفكار واملفاهيم‪ ،‬نكون قد حافظنا على اجلو االمياين مهيمنًا على احلزب‪.‬‬
‫وأبرز ما يلحظ هذا لدى الشباب يف السؤال عن الدليل يف كل مسألة‪ .‬وهذا ما نعين هبيمنة‬
‫اجلو االمياين على احلزب ألنه ربٌط بالعقيدة يف جزئيات االحداث والوقائع‪ .‬وهبذا يكون اجلامع‬
‫بني االعضاء القلب والعقل‪ .‬فاالميان باملبدأ وجعله مركز التنبه جيعل القلب جامعًا بني الشباب‪،‬‬
‫ودراسة املبدأ دراسة دقيقة وحفظ ما انبثق عنه من افكار واحكام واستظهار املقاييس واألسس‬
‫اليت جاء هبا املبدأ جيعل العقل هو اجلامع الثاين للشباب بتكوين عقلية معينة عند اجلميع‪ .‬أي‬
‫يوجد عند اجلميع طريقة واحدة معينة يف التفكري‪ .‬وبذلك يكون احلزب قد أعّد إعدادًا‬
‫صحيحًا‪ ،‬وتكون رابطته متينة متانة متكنه من الثبات أمام مجيع الزعازع والعقبات‪.‬‬

‫تشبه قيادة احلزب "احللقة االوىل" املوتور الصناعي من جهة‪ ،‬وختالفه من جهة اخرى‪ .‬ووجه‬ ‫‪-7‬‬
‫الشبه فيها هو ان املوتور الصناعي للغاز مثًال له طاقة حرارة تتولد من الشعلة والبنـزين يف‬
‫احلركة املوتورية‪ ،‬وهذه الطاقة احلرارية تنتج ضغطًا يف اهلواء‪ ،‬وهذا الضغط يدفع الذراع‪ ،‬وهو‬
‫احملرك الذي يفرض حركته على القطع االخرى فتدور اآللة‪ .‬وعليه فان وجود الشعلة والبنـزين‬
‫واحلركة املوتورية هو األصل‪ .‬ألنه بتوليده للحرارة ينتج ضغطًا‪ ،‬وهذا الضغط يفرض حركته‬
‫على باقي القطع ويدير املوتور‪ .‬فاذا وقفت حركة املوتور وقفت مجيع القطع‪ .‬إذن ال بد من‬
‫وجود الشعلة والبنـزين واحلركة املوتورية‪ ،‬حىت يدور املوتور‪ ،‬ويدير مجيع اآللة‪ .‬وكذلك قيادة‬

‫‪73‬‬
‫احلزب‪ .‬فان الفكرة فيها بمقام الشعلة‪ ،‬واالحساس المتولد في االشخاص الواعين في‬
‫القيادة بمنزلة البنزين‪ ،‬واالنسان الذي يتأثر احساسه بالفكرة هو الحركة الموتورية‪ .‬وعليه‬
‫فان الفكرة حني تتصل باالحساس يف االنسان توجد طاقة احلرارة فتدفع القيادة اىل احلركة‪،‬‬
‫وحركتها هذه تفرض على سائر قطع احلزب من افراد وحلقات وجلان حملية وغري ذلك‪ ،‬فتتأثر‬
‫حبرارهتا‪ ،‬فتتحرك وتدور مجيعها دوران اآللة‪ .‬وهنا يبدأ سري احلزب باحلركة‪ :‬فيأخذ دور النمو‬
‫يف تشكيله‪.‬‬
‫وعليه فانه ال بد من انبعاث طاقة احلرارة من القيادة لسائر اجزاء احلزب حىت تتحرك أجزاؤه‬
‫مجيعها‪ .‬متامًا كحركة املوتور‪ .‬وهذا هو وجه الشبه بني احلزب واملوتور الصناعي‪.‬‬

‫و امهية هذا التشبيه ان يالحظ قادة احلزب هذه الناحية ملراقبة حركة بقية االجزاء‪ ،‬فاذا أحّس‬
‫هؤالء القادة ان بقية االجزاء او بعضها مل يتحرك ‪ ،‬فان عليهم زيادة اتصاالهتم ‪ ،‬الن اآللة ال‬
‫تدور اال اذا دار املوتور‪ ،‬و بعث احلرارة منه‪.‬‬

‫اال ان القيادة ال يكون حتريكها مؤثرًا بفرض احلركة على احلزب كاملوتور الصناعي‪ ،‬بل يكون‬
‫حتريكها كذلك اول االمر فحسب‪ .‬اما بعد سري احلزب فال يكون كذلك ‪ ،‬الن املفروض يف‬
‫كل عضو من اعضاء احلزب ان يكون هو نفسه موتورًا‪ .‬فالشعلة والبنزين واحلركة املوتورية‬
‫جيب ان تتوفر يف كل فرد‪ .‬فالفكرة يف كل منهم مبثابة الشعلة املوجودة فيه‪ ،‬وإحساسه‬
‫بوجوب العمل مبثابة البنزين‪ ،‬والتأثر احلاصل بني الفكرة واالحساس هو احلركة املوتورية‪.‬‬
‫وعلى هذا فان التشبيه ينطبق يف البداية‪ ،‬او حني يلحظ تقصري او نفور‪ .‬فاملفروض ان تنبعث‬
‫احلرارة من القيادة للتحريك‪.‬‬

‫هذا باالضافة اىل ان القيادة هي موتور اجتماعي‪ ،‬واعضاء احلزب‪ ،‬بلجانه وحلقاته هم من بين‬
‫البشر‪ ،‬ويتأثرون مجيعا حبرارة املبدأ املتجسد يف القيادة‪ ،‬فيصبحون جزءا من املوتور‪ .‬فمجرد‬
‫احلركة يف املوتور حترك كافة االجزاء طبيعيا‪ ،‬الهنا بصفتها موتورًا اجتماعيًا تكون كال فكريا‬
‫شائعا يف مجيع احلزب‪ .‬أي ان كل شاب يف احلزب آمن بنفس املبدأ‪ ،‬وجتسدت فيه نفس‬
‫الفكرة وارتبط بغريه بعقله وقلبه‪ .‬فصار احلزب كله‪ ،‬كاجلسم الواحد‪ ،‬أي كال فكريًا‪ ،‬يفكر‬
‫بطريقة واحدة‪ .‬ويف هذه احلالة ال تكون القيادة وحدها هي اليت حتمل احلركة املوتورية‪ .‬بل –‬
‫بنموها وتكامل تشكيل احلزب – أي بتكاثر اخلاليا واحللقات‪ ،‬وتنظيم االجهزة واللجان‪،‬‬
‫وحتديد املسؤوليات والواجبات يكون احلزب كله حامال للحركة املوتورية‪ .‬وعلى هذا ال‬
‫حيتاج سري احلزب اىل حركة القيادة‪ ،‬وال اىل بعث حرارهتا‪ .‬بل يسري احلزب بوصفه كال‬

‫‪74‬‬
‫فكريا‪ ،‬الن املبدأ قد جتسد يف مجيع شبابه‪ ،‬وتسري احللقات واللجان سريًا آليًا‪ ،‬دون حاجة اىل‬
‫حرارة القيادة‪ ،‬الن حرارة كل جزء منبثقة منه‪ ،‬ومن الكل الفكري الشائع يف احلزب‪ ،‬واملتصل‬
‫هبذه االجزاء اتصاال طبيعيا‪.‬‬
‫‪ – 8‬يسري احلزب يف ثالث مراحل ‪ ،‬حىت يبدأ تطبيق مبدئه يف جمتمعه‪:‬‬
‫اوال ‪ :‬مرحلة الدراسة والتعلم الجياد الثقافة احلزبية‪ ،‬أي اجياد وإعداد جمموعة من الشباب‬
‫املستعد للتضحية‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬مرحلة التفاعل مع اجملتمع الذي يعيش فيه‪ ،‬حىت يصبح املبدأ عرفا عاما ناجتا عن وعي‪،‬‬
‫وتعتربه اجلماعة كلها مبدأها‪ .‬حىت تدافع عنه مجاعيا‪ .‬ويف هذه املرحلة يبدأ الكفاح بني األمة‬
‫وبني من يقوم حائال دون تطبيق املبدأ من االستعمار او من يضعهم من احلكام والظالميني‬
‫واملضبوعني بالثقافة االجنبية‪ .‬الهنا تعترب املبدأ مبدأها‪ ،‬واحلزب قائدًا هلا‪ .‬أي اجياد أمة تثق باملبدأ‬
‫وبقيادة احلزب‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬مرحلة تسلم زمام احلكم عن طريق األمة تسلما كامال‪ ،‬حىت يتخذ احلكم طريقة لتطبيق‬
‫املبدأ على األمة‪ .‬ومن هذه املرحلة تبدأ الناحية العملية يف احلزب يف معرتك احلياة‪ ،‬وتظل ناحية‬
‫الدعوة للمبدأ العمل االصلي للدولة واحلزب‪ .‬الن املبدأ هو الرسالة اليت حتملها االمة والدولة‪.‬‬
‫‪ –9‬أما املرحلة االوىل فهي املرحلة التأسيسية‪ .‬وهي تتلخص يف اعتبار مجيع افراد االمة سواءًا يف اهنم‬
‫خالون من كل ثقافة‪ ،‬والبدء بتثقيف من يريدون ان يكونوا اعضاء يف احلزب بثقافته‪ ،‬و اعتبار اجملتمع‬
‫كله مدرسة للحزب حىت خيّر ج احلزب يف اقصر مدة الفئَة اليت تكون قادرة على االتصال باجلماعة‬
‫للتفاعل معها‪ .‬فعلى الرغم من ان من يقبل ان يكون عضوًا يف احلزب ال بد له من االميان باملبدأ وبعقيدة‬
‫املبدأ وااللتزام باحكام هذه العقيدة والسري حبسبها‪ ،‬اال اننا اشرنا اىل ان الرابطة بني اعضاء هذا احلزب‪،‬‬
‫باالضافة اىل العقيدة‪ ،‬هي الثقافة اليت أعدها احلزب‪ ،‬ألن املسألة هي اجياد كل فكري‪.‬‬
‫واجياد الكل الفكري امنا يعين توحيد طريقة التفكري‪ ،‬وتوحيد اآلراء واالحكام والنظرة اىل الوقائع‬
‫واالحداث‪ .‬و هذا ال يتأتى اال بتوحيد الثقافة وفهم االسس اليت يتم قياس املفاهيم عليها‪ .‬وهلذا ال بد‬
‫من اعتبار أي عضو ‪ -‬يقبل ان يكون عضوًا ‪ -‬خاليًا من اية ثقافة فيصار اىل تثقيفه هبذه الثقافة احلزبية‪،‬‬
‫حىت يتم تأهيله لالتصال باجلماعة وإعداده للقيام بأعباء هذه الدعوة‪ ،‬وجتسيد املبدأ فيه ليصبح فعًال‬
‫جزءًا من هذا الكل الفكري‪ .‬باالضافة اىل اعتبار اجملتمع كله مدرسة للحزب‪ ،‬دون أي اعتبار ملا يف‬
‫اجملتمع من فئات أو تقسيمات أو طبقات‪ .‬فال فرق بني متعلم وأمي‪ ،‬اال مبقدار ما يستوعب من هذه‬
‫الثقافة و خيلص هلا‪ ،‬ومبقدار استعداده للتضحية والقيام باالعباء‪.‬‬
‫وحيب أن يكون واضحًا ان هذا التثقيف ليس تعليمًا‪ .‬فهناك فرق كبري بني الثقافة والتعليم أعين‬
‫اكتساب املعارف واملعلومات‪ ،‬ولو ان كالمها اكتساب معارف وتنمية معلومات‪ .‬و ان هناك فرقًا بني‬

‫‪75‬‬
‫الثقافة والعلم‪ ،‬وهذا الفرق بني الثقافة والعلم آٍت من ناحية حتصيلها‪ .‬فالثقافة حنصل عليها بالتلقني‬
‫واإلخبار مث املالحظة واالستنباط‪ .‬بينما حنصل على العلم من وضع املادة يف ظروف غري ظروفها و‬
‫إجراء التجارب عليها مث االستنتاج‪ .‬ويف هذا حبث مفصل يف غري هذا املوضع‪ .‬بينما يف هذه العبارة فان‬
‫املقصود بالتفريق بني التثقيف والتعليم‪ ،‬ان املعلومات املكتسبة يف التعليم معلومات ومعارف مدرسية قد‬
‫حيتاجها االنسان يف حياته‪ ،‬وقد ال حيتاجها ابدًا‪ .‬فالتعليم يقصد به اكتساب معارف ومعلومات او تنمية‬
‫ما عنده من معارف ومعلومات‪ .‬بينما التثقيف يقصد به تنمية معارف ومعلومات تبىن شخصية الفرد‬
‫على اساسها‪ ،‬وتكون مقّو مة لسلوكه‪ .‬فالثقافة هي احلصول على معلومات ومعارف حيتاجها الفرد يف‬
‫احلياة ويسري مبوجبها‪ .‬هذا ما نعنيه بكلميت تثقيف وتعليم يف هذه الفقرة‪ .‬وهذا ما يبني الفرق بني عملية‬
‫التثقيف هذه‪ ،‬وبني التعليم يف املدرسة‪ .‬وهلذا ال بد ان تكون الثقافة يف احللقات سائرة على اعتبار ان‬
‫املبدأ هو املعلم‪ ،‬وان املعارف اليت تعطى يف هذه احللقات يقتصر فيها على املبدأ‪ ،‬وعلى ما يلزم خلوض‬
‫معرتك احلياة‪.‬‬
‫اما ما يقتصر فيه على املبدأ‪ ،‬فهو العقائد واملعاجلات ومحل الدعوة وبيان كيفية تنفيذ هذه‬
‫املعاجلات ومعرفة الواقع الذي يراد نقل اجملتمع اليه‪ ،‬ومعرفة اجملتمع الذي هو فيه‪ ،‬ومعرفة ما‬
‫يقتضيه فهم املبدأ من قواعد واحكام ولغة وغري ذلك‪ ،‬وما هو من هذا القبيل‪ .‬واما ما يلزم‬
‫خلوض معرتك احلياة‪ ،‬فاملقصود به فهم ما يف اجملتمع من عقائد وافكار وعادات باطلة سيخوض‬
‫معها مرحلة صراع عنيفة‪ ،‬فال بد من االحاطة هبا ملعرفة الرد عليها كالشيوعية والدميقراطية‬
‫والوطنية وغريها‪ ،‬مما هو من هذا الباب‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة اخرى ان تؤخذ هذه‬
‫املعارف واملعلومات للعمل هبا حاال يف معرتك احلياة‪ .‬وحني نقول للعمل هبا يف معرتك احلياة‪،‬‬
‫فاننا ال نعين هبا االقتصار على تسيري سلوكه الشخصي مبوجبها بل املراد محلها للناس‪ ،‬وخوض‬
‫الصراع الفكري مع خصومها‪ ،‬او نشر افكار املبدأ وآرائه ومعتقداته‪.‬‬
‫وهلذا ال بد ان تكون الثقافة عملية‪ ،‬سواء من حيث سلوك الفرد‪ ،‬او من حيث محلها ونشرها‬
‫للناس وخوض الصراع الفكري هبا‪ .‬وال بد ان تستبعد الناحية املدرسية العلمية‪ ،‬فال هو امتحان‬
‫وال سؤال وإجابة ‪ ،‬وال هو مسألة حفظ واستظهار‪ .‬بل مسألة فهم وعمل‪ .‬مسألة تثقيف‬
‫وتفاعل وجتسيد للمبدأ يف الدارس‪.‬‬

‫‪ – 10‬احلزب هو تكتل يقوم على فكرة وطريقة أي على مبدأ آمن أفراده به‪ .‬وهنا نذكر ان الفكرة‬
‫هي العقيدة العقلية اليت انبثق عنها نظام مبا حوى من معاجلات ملشاكل االنسان يف احلياة‪ ،‬ومحل للدعوة‬
‫اىل الناس‪ .‬واما الطريقة فهي كيفية احملافظة على هذه العقيدة وكيفية تنفيذ املعاجلات وكيفية محل‬

‫‪76‬‬
‫الدعوة اىل العامل‪ .‬باالضافة اىل كيفية ايصال هذا املبدأ بفكرته وطريقته للحياة‪ ،‬أي الطريقة اليت يسلكها‬
‫هذا التكتل يف عملية الوصول اىل غايته متبعًا طريقة الرسول ‪ ‬يف املرحلة املكية‪.‬‬

‫ويف هذه املرحلة ال بد له من االشراف على فكر اجملتمع وحسه‪ ،‬ليسريمها حبركة تصاعدية‪.‬‬
‫وعملية االشراف هذه ال تعين مراقبة ما يف اجملتمع من افكار فحسب‪ ،‬بل إنزال افكاره على الوقائع‬
‫اجلارية واجياد الوعي عليها ومراقبة تقبل الناس هلا وتأثرهم هبا‪ .‬مث ان عملية اشرافه هذه امنا تعين‬
‫احلؤول دون االنتكاس يف الفكر واحلس ‪ ،‬كما حدث يف ‪1967‬م حني اندفع الناس بافكارهم‬
‫ومشاعرهم وراء املنظمات الفلسطينية‪ ،‬واالعمال العسكرية‪ .‬ومل يستطع احلزب يف حينه ان حيول بني‬
‫الناس وبني تلك االنتكاسة‪ .‬وهلذا ال بد له من هذا االشراف النه مدرسة األمة اليت تثقفها وخترجها‬
‫وتدفعها اىل معرتك احلياة العاملية‪ .‬وهو املدرسة احلقيقية‪ ،‬وال تغين عنه املدارس مهما تعددت وكثرت‬
‫ومشلت‪ .‬اال ان هناك فرقا بين الحزب وبين المدرسة ال بد من إدراكه‪ ،‬وهذا الفرق واضح يف عدة‬
‫نقاط منها‪:‬‬

‫أ – من املعروف ان للمدرسة برناجما معينا‪ :‬تسري ضمن هذا الربنامج بشكل رتيب‪ ،‬وال خترج‬
‫عنه‪ .‬ولو أرادت ان خترج عن هذا الربنامج فاهنا حتتاج اىل فرتة زمنية معينة‪ .‬ولذلك فهي ال‬
‫تسري حبسب وقائع احلياة اجلارية اليت تتغري وتتبدل باستمرار‪ .‬فالثقافة اليت تعطيها املدرسة‬
‫واملواضيع اليت تدرسها ال ترتبط بالوقائع واألحداث اجلارية‪ .‬وحىت لو حرصت على ذلك‪،‬‬
‫فسيكون ارتباطها متعلقًا بفرتة زمنية معينة‪ .‬و هبذا تكون املعارف واملعلومات املعطاة من‬
‫املدرسة جمردة من واقعها‪ ،‬فال يكون هلا التأثري اجلماعي‪ ،‬الهنا معلومات ال تالمس أحاسيس‬
‫الناس ومشاعرهم‪ .‬وهلذا فان املدرسة ليست معّد ة إلهناض األمة‪ ،‬وامنا وضعت لتعليم الناس‬
‫وتنمية معارفهم‪ .‬بينما احلزب ُو جد أساسا الجياد النهضة يف األمة‪ ،‬وحني يطرح أفكاره وآراءه‬
‫او يثقف شبابه بثقافته املركزة‪ ،‬او يثقف األمة بالثقافة اجلماعية‪ ،‬امنا يثقفها بافكار منزلة على‬
‫الوقائع اجلارية واالحداث وخياطب مشاعر األمة وأحاسيسها املتأثرة مبا يدور يف اجملتمع من‬
‫أمور‪ ،‬او ما تعانيه األمة من صعوبات‪ .‬فانزال االفكار على وقائعها هو الذي حيدث األثر‪،‬‬
‫ويدفع األمة دفعًا اىل التفكري بطريقة معينة‪ ،‬مما يوجد النهضة فيها‪ .‬واملدرسة ليست قادرة على‬
‫ذلك مهما كان نوعها او اختصاصها او امكانياهتا‪.‬‬

‫ب‪ -‬أن برنامج احلزب الصحيح يقوم على ما يلي‪:‬‬


‫‪ -1‬احليوية‪ :‬فإنه ينمو وال قيد على منوه وال توقف‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫التطور‪ :‬فهو ينتقل من حال اىل حال‪ ،‬إذ ينتقل من التثقيف وإعداد الشباب للصراع‬ ‫‪-2‬‬
‫والتصدي لألفكار األخرى‪ ،‬والكفاح السياسي وجماهبة احلكام‪ ،‬مث اىل تنفيذ ما يؤمن‬
‫به حني يتمكن من ذلك‪.‬‬
‫احلركة‪ :‬من حيث انه ينتقل يف كل ناحية من نواحي اجملتمع‪ ،‬يف العقائد‪ ،‬يف األفكار‪،‬‬ ‫‪-3‬‬
‫يف اآلراء‪ ،‬يف السياسة‪ ،‬يف احلكم‪ ،‬يف االقتصاد‪ ،‬يف االجتماع‪ ،‬يف القضاء‪ ،‬يف‬
‫العقوبات‪ ،‬يف كل نظام من انظمة احلياة‪ .‬باالضافة اىل تنقله يف كل جزء من اجزاء‬
‫البالد‪ ،‬يف املدينة ويف القرية ويف مضارب البدو‪ ،‬يف املدرسة واملصنع واملعمل وغري‬
‫ذلك‪.‬‬
‫احلس‪ :‬ان احلزب مبجموعة شبابه كائن حي حيس بكل ما جيري يف اجملتمع‪ ،‬ويشعر‬ ‫‪-4‬‬
‫بكل ما حيصل‪ ،‬وحياول التأثري فيه‪ ،‬مبا لديه من افكار او معاجلات‪.‬‬

‫وذلك ألنه أعد هلذه الغاية وهبذه الكيفية‪ ،‬أي انه يتشكل حبسب احلياة واملشاعر‪ .‬وهو‬
‫يف تطور دائم ويعد لكل حال يسوسها‪ ،‬ويف تغري مستمر‪ .‬ففي الوقت الذي يناقش‬
‫مسألة حكم‪ ،‬يناقش مسألة اقتصادية او اجتماعية او سياسية حسب مقتضى احلال‪.‬‬
‫وال يسري على طريقة رتيبة‪ .‬فاألصل فيه اإلبداع يف االساليب‪ ،‬والتطوير يف الوسائل‪.‬‬
‫فالوسيلة عنده حيتمها العصر‪ ،‬واالسلوب حيتمه واقع العمل‪ .‬فهو يسري مع احلياة‬
‫وأشكاهلا‪ ،‬اال انه حياول دائمًا ان يشكل اجلو االمياين‪ ،‬أي ان جيعل لتفكري األمة قاعدة‬
‫تنطلق منها‪ ،‬أي عقيدهتا‪،‬كما حياول تغيري الواقع وتكييفه حسب املبدأ‪.‬‬

‫ت‪ -‬ان املدرسة حىت ولو كانت مدرسه دينية فاهنا تقوم على هتذيب الفرد وتعليمه باعتباره‬
‫فردًا معينًا‪ .‬وهي وبالرغم من كوهنا مجاعة صغرية اال اهنا فردية من ناحية تعليمية‪ ،‬فالعربة مبا‬
‫تقوم عليه‪ ،‬ال من حيث كوهنا هي‪ .‬فمهمتها وما تقوم عليه هو هتذيب الفرد وتعليمه‪ .‬ولذلك‬
‫فان نتائجها فردية حتمًا؟ وأحب أن أذكر مبقومات الفرد – وهي العقيدة والعبادة واالخالق‬
‫واملعاملة – اليت حىت لو بنتها تلك املدرسة‪ ،‬فحرصت على صفاء العقيدة‪ ،‬وبنتها على‬
‫العقل‪ ،‬وجعلتها يقينية يف الفرد‪ ،‬وبينت له أحكام العبادات بأدلتها وألزمته هبا‪ ،‬وشجعته على‬
‫القيام باملندوبات إضافة اىل الفروض‪ ،‬وحاولت معه ان يتصف بالصفات احلسنة وكل خلق‬
‫محيد‪ ،‬وجعلته يف معامالته يسأل دائمًا عن احلالل واحلرام‪ ،‬فما كان حالًال قبله وما كان‬
‫حرامًا ابتعد عنه‪ ،‬فإهنا كمدرسة مبنهاجها يكون هّم الطالب فيها حتقيق النجاح‪ .‬فقد يستظهر‬
‫كل النصوص املعطاة له‪ ،‬ولكنه ينساها مبجرد ختطيه عتبة املدرسة‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ ،‬أي يف مرحلة التزامه مبا درس‪ ،‬فان ذلك ال يتعداه كفرد‪ ،‬وال‬
‫عالقة له بفكر اجلماعة او مشاعرها‪ .‬فهو ال يعرف شيئا عن انظمة اجملتمع والعالقات العامة‬
‫فيه‪ ،‬وليست موضع اهتمامه ليعرف ذلك‪ .‬فلو افرتضنا ان غالبية اجملتمع قد وصلت اىل هذا‬
‫احلد من االلتزام‪ ،‬فان اجملتمع يبقى على فساده ما دامت نظمه وعالقاته قائمة على غري‬
‫االساس الذي يعرفه‪ .‬وسواٌء عنده َأَح َك َم ه خملٌص او خائٌن ‪ ،‬مؤمٌن او كافٌر ‪ .‬وحىت لو ٌأتيح له‬
‫ان حيُك م فانه ال يعرف من ذلك شيئًا‪ ،‬ألن ذلك ليس من ضمن اختصاصه كفرد‪ .‬فالعالقات‬
‫العامة‪ ،‬وتنفيذ االحكام‪ ،‬وإقامة احلدود‪ ،‬ورعاية الشؤون‪ ،‬واستخراج الثروات الطبيعية للناس‪،‬‬
‫ومحاية الثغور‪ ،‬وجتهيز اجليش حلمل الدعوة‪ ،‬كل هذا ليس من ضمن اختصاصه‪ .‬ولذلك تبقى‬
‫النتائج فرديًة مهما كثر عدد الذين هتذبوا وتعلموا حسب املنهج املدرسي‪.‬‬

‫ث‪ -‬ان القيام على تربية اجلماعة خيتلف متاما عن القيام على تربية الفرد‪ .‬فحني القيام على‬
‫تربية اجلماعة وتثقيفها فامنا ينظر اليها بوصفها مجاعة واحدة‪ ،‬بغض النظر عن افرادها‪ .‬وحني‬
‫نقول بوصفها مجاعة‪ ،‬فإمنا نعين أن ينظر اىل األمر الذي جعلها مجاعة واحدة‪ ،‬أي ينظر‬
‫للعالقات الدائمة اليت تقوم عليها اجلماعة‪ .‬وهذه العالقات امنا تقوم على افكار عامة وينتظمها‬
‫نظام معني‪ .‬ولذلك فانه يثقف اجلماعة كي تغري كيفية تنظيمها لعالقاهتا الداخلية منها‬
‫واخلارجية‪ ،‬وتغري النظام الذي ينتظم عالقاهتا بناءًا على قاعدة معينة‪ .‬مما يوجد عند األمة –‬
‫اجلماعة – قاعدة تنطلق منها يف تفكريها‪ ،‬لتغيري افكارها ونظمها‪ ،‬وتكّو ن على ذلك عرفًا عامًا‬
‫يكون له الفعالية املؤثرة يف تنظيم العالقات‪ .‬وهلذا تكون النتائج اليت حنصل عليها نتائج مجاعية‪.‬‬
‫وحني يثقف فردا او افرادا امنا يثقفهم ليصبحوا صاحلني جلزئية اجلماعة‪ ،‬ال لفرديتهم‪ ،‬كما‬
‫حصل عند تثقيف الفرد لفرديته‪ .‬وهذا ما ال يتحقق مطلقا يف املدرسة مهما بذلت من جهد‪،‬‬
‫او أمضت من زمن‪ ،‬او خرجت من تالميذ‪.‬‬

‫وقد اثبت الواقع القائم حاليا يف أي قطر من اقطار العامل االسالمي صحة ذلك‪ .‬حيث ان محلة‬
‫الشهادات العالية ويف كافة احلقول قد بلغ اآلالف بل املاليني‪ ،‬وفاقت نسبتهم فيه نسبتهم يف‬
‫أي بلد يف العامل‪ ،‬ومع ذلك مل يؤثروا يف هنضة االمة‪ ،‬بل مل يستطيعوا وقف احندارها‪ .‬حىت‬
‫املدارس واملعاهد واجلامعات القائمة على اساس االسالم‪ ،‬وتدرس االسالم وخترج العلماء‬
‫والفقهاء باآلالف كاألزهر وكليات الشريعة والنجف جبامعاهتا وفروعها‪ ،‬مل تؤد اىل النهضة‪،‬‬
‫واىل السري يف طريق النهوض‪ ،‬ومل توقف احندار اجملتمع‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫تقوم املدرسة على هتيئة الفرد ليؤثر يف اجلماعة اليت يعيش فيها – حسب تقديرهم –‬ ‫ج‪-‬‬
‫ومع افرتاض صحة ذلك فانه ال يستطيع ان يؤثر اال جزئيا‪ ،‬النه حيتل جزءا شعوريا‬
‫ضعيف األثر يف إيقاظ الفكر‪ .‬فما دام ان الفرد قد تلقى ما يصلح حاله كفرد‪ ،‬أي‬
‫اقتصر تفكريه وتثقيفه وتربيته على ما هو من مقومات الفرد‪ ،‬فان ما يعرتيه من شعور‬
‫وما حيس به بشكل عام هو هذا اجلانب من حياة اجلماعة‪ ،‬وهو جانب شعوري فقط‬
‫أي منبثق عن احساسه بانه فرد يف هذه اجلماعة‪ ،‬وليس راعيًا وقائدًا يتمىن هلا اخلري‬
‫والسعاده‪ .‬أما ما يوقظ الفكر فهو االحساس الصحيح مبا تعانيه اجلماعة‪ ،‬وما تقاسيه‬
‫من سوء نتيجة تطبيق النظم الفاسدة عليها‪ ،‬مما أفسد العالقات القائمة بني أجزائها‪،‬‬
‫وأفسد العالقات بينها وبني غريها من اجلماعات‪ ،‬ويكاد يفسد أفرادها‪ .‬فرتكيز مفهوم‬
‫الفردية عند الفرد‪ ،‬وتصوره ان اجملتمع مكون من افراد جيعل أحاسيسه تنصب على‬
‫هذا اجلانب‪ ،‬فيتأمل حني يقّل عدد املصلني‪ ،‬او يرى ما يراه من فساد خلقي او من‬
‫انتشار املوبقات واحملرمات‪ .‬ومثل هذا االحساس ال خيرج عن دائرة الشعور وال ميثل‬
‫اال جزءًا يسريًا من حياة اجلماعة‪.‬‬

‫األصل هو هتيئة اجلماعة لتؤثر يف الفرد‪ .‬وبالتأكيد فهي القادرة على التأثري‪ .‬وكلنا‬ ‫ح‪-‬‬
‫نالحظ ان هيمنة عرف عام‪ ،‬او حىت عادات او تقاليد على سلوك اجلماعة جتعل الفرد‬
‫جيد نفسه وهو يعيش يف هذه اجلماعة جمربًا على السري والسلوك حسب هذه األعراف‬
‫او العادات والتقاليد‪ .‬فضغط العرف العام له قوة اكرب من قوة القانون‪ .‬فرتى الفَس قة‬
‫الذين يعيشون يف قرى حمافظة او أحياء منها‪ ،‬يبتعدون بفسقهم عن أجواء اجلماعة‬
‫وأعرافها ويذهبون اىل أحياء أخرى تتقبل مثل هذه االعمال خوفًا من تلك االعراف‪.‬‬
‫مع ان القانون والنظام املطبق حيميهم من الناس‪ .‬وحني ندرك ان العرف العام هو‬
‫عبارة عن مشاعر تتولد نتيجة ألفكار أخذت دور العراقة والرتكيز يف النفوس‪ ،‬حني‬
‫ندرك ذلك‪ ،‬نقول ان هذا الشعور القوي قادر على التأثري الكلي على األفراد مجيعًا‪،‬‬
‫وقادر على ايقاظ الفكر‪ ،‬أي دفع الناس ألن يبحثوا املسائل حبثًا فكريًا‪ ،‬ويتوصلوا‬
‫ببحوثهم تلك اىل نتائج منطقية تكون بداية لنهضة فكرية سريعة‪ ،‬وبأقل جهد ممكن‪.‬‬
‫ألن الشعور القوي هو الذي يوقظ الفكر‪.‬‬
‫وما الثورات الشعبية‪ ،‬واالنتفاضات‪ ،‬وحىت املظاهرات‪ ،‬اال دفع شعوري عام‪ ،‬حركته‬
‫يف الناس فئة تعرف كيف تثري الشعور العام عند اجلماعة‪ .‬فاندفع الناس مقودين هبذا‬
‫الشعور العام‪ .‬وقد يندفع فيها من مل يكن يشعر او حيس مبا أثري يف اجلماعة من‬

‫‪80‬‬
‫مشاعر‪ .‬مثل ما يسمى باالنتفاضة يف الضفة الغربية‪ ،‬فقد عرفت الفئة او الفئات‬
‫احملركة كيف تثري املشاعر العامة‪ ،‬فتوقظ هذا االحساس‪ ،‬مع ان عيشهم عند اليهود‬
‫وتعسف اليهود وظلمهم ليس جديدًا‪ .‬وقد احتلت هذه املشاعر كافة األفراد فانساقوا‬
‫وراءها‪ .‬ومثل هذا الشعور يوقظ الفكر‪ ،‬فيؤدي اىل التفكري يف االسباب واملسببات‬
‫والنتائج واالهداف‪ .‬مما يوجد عمليات فكرية‪ ،‬تؤدي اىل السري يف طريق النهضة‪ ،‬لو‬
‫سلمت من التضليل واالحتواء‪.‬‬

‫ويتلخص الفرق بني احلزب واملدرسة يف ثالث نقاط هي‪:‬‬ ‫خ‪-‬‬


‫‪ )1‬ان املدرسة رتيبة وغري قادرة على التشكل حسب مقتضى احلال‪ .‬بينما احلزب‬
‫غري رتيب وهو قادر على التشكل حسب مقتضى احلياة‪ ،‬يف كل االجتاهات‪ ،‬ويف‬
‫كل املناطق‪ ،‬وبني مجيع القطاعات‪.‬‬
‫‪ )2‬املدرسة تثقف الفرد ليؤثر يف اجلماعة‪ ،‬فنتائجها فردية‪ .‬بينما احلزب يقوم على‬
‫تثقيف اجلماعة لتؤثر يف الفرد‪ ،‬فتكون النتيجة مجاعية‪.‬‬
‫‪ )3‬املدرسة هتيئ اجلزء الشعوري يف الفرد ليؤثر يف مشاعر اجلماعة فال يستطيع‪ .‬يف‬
‫حني ان احلزب يهيئ الكل الشعوري يف اجلماعة – بضربه على العالقات العامة‬
‫يف اجلماعة ‪ -‬فيؤثر يف االفراد‪ ،‬ويكون قادرًا على ايقاظ الفكر‪.‬‬

‫‪ – 11‬يف هذه املرحلة الدقيقة ‪ -‬مرحلة التثقيف – ال بد من ادراك ان اجملتمع بأكمله هو مدرسة‬
‫احلزب الكربى‪ ،‬مع دوام ادراك الفرق الشاسع بني املدرسة وبني احلزب يف حلقاته الثقافية‪.‬‬
‫المجتمع‪ :‬هو املدرسة‪.‬‬
‫المبدأ‪ :‬هو املعلم‪.‬‬
‫الثقافة الحزبية‪ :‬هي املادة اليت تدرس‪.‬‬
‫المشرفون (أي االشخاص الذين جتسد فيهم املبدأ وثقافة احلزب)‪ :‬هم األساتذة املباشرون‬
‫للتدريس‪.‬‬
‫الحلقات‪ :‬هي صفوف املدرسة‪.‬‬
‫اللجان المحلية‪ :‬هي االدارة املشرفة على تعيني املدرسني ومالحظة التدريس‪.‬‬

‫هذه هي الصورة املدرسية‪.‬‬

‫وملا كانت وظيفة احلزب يف هذه الفرتة هي بعث العقائد الصادقة‪ ،‬واجياد مفاهيم صحيحة‪ ،‬وملا‬
‫كان املشرفون ‪ -‬أي االساتذة أي األشخاص الذين جتسد فيهم املبدأ والثقافة احلزبية ‪ -‬ال بد‬

‫‪81‬‬
‫هلم من دراسة عميقة هلذه االفكار‪ ،‬وفهمها فهمًا صحيحًا‪ ،‬ومذاكرة الثقافة احلزبية يف كل‬
‫وقت‪ ،‬واستظهارًا لدستوره‪ ،‬ولألحكام العامة والقواعد العامة اليت يتبناها احلزب‪ ،‬ليحسنوا‬
‫القيام باملهمة املوكلة اليهم‪ ،‬وهي االشراف على احللقات أي تدريس الصفوف هذه املادة‪،‬‬
‫وهذا ال يتأتى اال بتطبيق الصورة املدرسية‪ ،‬ولو اهنا خالية من االمتحانات وأوراق األسئلة‬
‫ووضع العالمات‪ .‬اال ان ذلك يتم اال من خالل مالحظة االستاذ للدارسني ومعرفة مدى‬
‫استيعاهبم وقدرهتم على الفهم ويف أي املراحل اصبحوا‪ ،‬ومالحظة تفاعلهم مع هذه األفكار‬
‫واندفاعهم يف فهمها ونشرها وااللتزام مبا جاء فيها‪ ،‬وتبين ما تضمنته األفكار‪ .‬ومن هنا كان ال‬
‫بد من احلرص على هذه الناحية مع كل من يدخل يف هذا احلزب بغض النظر عن حقيقته‬
‫الثقافية سواء أكان جامعيًا او متخرجًا من األزهر او كان انسانًا بسيطًا عاميًا وفيه استعداد‬
‫للتثقف‪ .‬وليكن معلومًا ان أي تساهل يف هذه املسألة مع أي فرد يعترب تقصريًا كبريًا‪ ،‬ورمبا‬
‫ينتج عن ذلك ضرر عام‪ .‬من حيث ان هذا الشخص الذي جرى التهاون معه‪ ،‬مل يتفاعل مع‬
‫هذه الثقافة وكان عنده خلفية ثقافية أخرى‪ .‬فإن حتدث بني الناس فانه ال يعرب عن رأي احلزب‬
‫فيما حتدث به‪ .‬وان كلف باالشراف على احدى احللقات‪ ،‬فسيتخرج عنه افراد حيملون مثل ما‬
‫حيمل – أي أفكارًا ومفاهيم ختتلف عما تبناه اجلزب ‪ -‬وهبذا قد يؤدي اىل االنشطار او البلبلة‬
‫على االقل‪ ،‬او ان يبقى عضو شرف‪ ،‬وليس يف احلزب اعضاء شرف‪ .‬وأسوأ من ذلك لو‬
‫تسرب مثل هذا الشخص اىل أحد االجهزة يف احلزب فسيكون ضرره أمشل و أعّم‪.‬‬
‫وما دامت هذه املرحلة مرحلة تثقيف وإعداد شباب للقيادة ذوي استعداد للتضحية والقيام‬
‫بأعباء الدعوة‪ ،‬فانه ال جيوز مطلقا ان ينصرف عن هذه الناحية أبدًا‪ .‬فهي مرحلة تثقيف‬
‫وإعداد‪ ،‬ال مرحلة عمل او تفاعل‪ .‬ولذلك ال بد من وضع حاجز كثيف بني احلزب وبني‬
‫العمل يف هذه املرحلة‪ ،‬أي قبل ان يوجد االشخاص املثقفون هبذه الثقافة‪ ،‬املستعدون‬
‫لإلضطالع بأعبائها‪ ،‬املؤهلون لقيادة األمة‪ ،‬ويف الوقت نفسه االنقياد للقيادة بانقيادها للفكرة‪.‬‬
‫وهلذا كانت هذه املرحلة مرحلة ثقافية ليس غري‪.‬‬

‫واما ضرورة دوام مالحظة الفرق بني املدرسة واحلزب يف الثقافة‪ ،‬فذلك لالسباب‬
‫التالية‪:‬‬
‫أ – حىت ال تصبح الثقافة احلزبية ثقافة مدرسية‪ ،‬أي دراسة رتيبة لكتبه ولو أدى ذلك اىل‬
‫حفظها واستظهارها‪ .‬النه يف هذه احلالة يفقد فعاليته‪ ،‬فال يتفاعل الدارس مبا يدرس‪ ،‬وال حيمل‬
‫لغريه ما فهم‪ ،‬وال يهتم مبا جيري حوله من احداث وال ما حيصل من وقائع‪ .‬مع ان ما يدرسه‬

‫‪82‬‬
‫هو افكار واحكام وآراء هلا واقع او تعاجل واقعًا‪ ،‬وحني تدرس ال بد من ادراك واقعها وإنزاهلا‬
‫عليه‪ ،‬وااللتزام مبا فهم‪.‬‬

‫ب‪ -‬وحىت ال تبقى تعليمًا أو ثقافًة مدرسية ال بد ان يدرك منذ البداية ان هذه االفكار‬
‫واملفاهيم امنا تؤخذ لتغيري املفاهيم والعقائد يف اجملتمع‪ ،‬وللعمل هبا يف معرتك احلياة‪ ،‬وحلملها‬
‫قيادة فكرية يف االمة‪ .‬ويف هذا إشارة ملن حيمل هذه االفكار ان يشعر بانه قائد هلذه االمة هبذه‬
‫االفكار‪ ،‬وليس جمرد فرد يف الرعية يريد ان يفهم االسالم‪.‬‬

‫ت‪ -‬ان حُي ال بني الراغبني يف العلم وبني هذه الثقافة‪ .‬فليست الغاية من هذه الثقافة تنمية‬
‫املعلومات او استغالهلا يف التحصيل العلمي‪ ،‬والوصول اىل شهادة معينة‪ ،‬او االستعانة هبا ألهنا‬
‫تساعده يف مادة معينة او يف تأليف كتاب يبتغي الربح من ورائه‪ .‬ومن كانت له حاجة علمية‬
‫فان سبيلها املدرسة او اجلامعة او الكلية‪ ،‬وال جيوز ان تتخذ احللقة وسيلة لذلك‪.‬‬
‫بل ان من اخلط&ر على ال&دعوة االن&دفاع يف الناحي&ة العلمي&ة‪ ،‬الهنا تس&لبه خاص&ية العم&ل‪ ،‬وبالت&ايل‬
‫تؤدي اىل التأخري يف االنتقال اىل املرحلة الثانية‪.‬‬

‫‪ -12‬املرحلة الثانية هي مرحلة التفاعل مع األمة‪ .‬وهي املرحلة اليت يبدأ فيها الصراع الفكري مع‬
‫الفئات االخرى‪ ،‬ومع ما يف األمة من عقائد وأفكار وعادات‪ .‬كما يبدأ فيها الكفاح السياسي‬
‫والتصدي لألنظمة الفاسدة والقائمني عليها‪ .‬وهذا يتطلب ان تكون املرحلة اليت سبقت قد هيأت‬
‫االشخاص القادرين على حتمل أعباء الدعوة يف هذه املرحلة‪ .‬أي انه ال يكفي ان يكون الشاب قد‬
‫استوعب تلك الثقافة وهضمها وتبناها‪ ،‬بل ال بد ان يكون قد عرف عنه يف وسطه انه حامل دعوة‪،‬‬
‫وان الروح اجلماعية قد تكونت فيه‪ ،‬أي يهتم بلقاء الناس كحامل دعوة‪ ،‬حىت اذا انتقل اىل املرحلة‬
‫الثانية كان من السهل عليه ان يتصل بالناس وكان االستعداد اجلماعي موجودًا فيه‪ ،‬واصبح فيه قابلية‬
‫التأثري يف الناس الذين يعيش معهم‪ .‬هذا ما جيب ان يتم يف مرحلة التثقيف‪ ،‬ال جمرد التعلم واالستيعاب‬
‫وااللتزام‪ .‬ألن جناح احلزب يف املرحلة الثانية متوقف متامًا على جناحه يف املرحلة األوىل‪ ،‬واالخفاق يف‬
‫هذه املرحلة دليل على وجود خلل يف مرحلة التكوين‪ .‬وال بد من البحث عن هذا اخللل ومعاجلته‪.‬‬
‫فباختصار‪ ،‬ال بد ان يكون مجهرة اعضاء احلزب مؤهلني لإلنتقال اىل املرحلة الثانية‪ ،‬بالتثقيف الواعي‪،‬‬
‫مث االلتزام والتبين وعدم التهاون يف ذلك‪ ،‬باالضافة اىل االستعداد النفسي والتأهيل للتضحية‪ .‬وال بد أن‬
‫تكون رغبتهم اجلاحمة هي العيش بني الناس‪ .‬واألهم من ذلك‪ ،‬شعورهم بأهنم يعيشون يف الناس قادًة هلم‬
‫أو رعاًة ملصاحلهم‪ ،‬أو حراسًا لكياهنم‪ ،‬وأهنم مسؤولني أمام اهلل تعاىل عن محل هذه الدعوة للناس كافة‪.‬‬
‫أي اإلرتفاع بنفسيتهم من التبعية إىل القيادة‪ .‬فهذا ما حيقق النجاح يف املرحلة الثانية‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ -13‬وتأكيدًا وتوضيحًا ملا تقدم نقول‪ :‬أن عضو احلزب ال ينتقل من دور الثقافة إىل دور التفاعل إال‬
‫إذا نضج ثقافيًا نضجًا جعله شخصية إسالمية‪ ،‬أي تتجاوب عقليته مع نفسيته‪ .‬إذ أن الشخصية قوامها‬
‫العقلية والنفسية‪ .‬واملقصود بالعقلية هي الكيفية اليت يتم إدراك األمور حبسبها‪ .‬فاإلنسان حني يبحث يف‬
‫مسألة ما‪ ،‬أو يريد الوصول ملعاجلة ما‪ ،‬حيتاج إىل معلومات تفسر له هذا الواقع لكي يربطها هبذا‬
‫الواقع‪ ،‬فيحصل على نتيجة ما‪ .‬إال أنه قبل أن يربط بني الواقع واملعلومات فإنه حيتاج إىل قاعدة أو‬
‫مقياس يقيس عليه الواقع‪ ،‬ويقيس عليها املعلومات فيجري الربط بناءًا على هذه القاعدة أو املقياس‬
‫الذي جلأ إليه حني الربط‪ .‬إن هذه العملية أي الرجوع إىل قاعدة أو قواعد معينة‪ ،‬هي اليت حتدد الكيفية‬
‫اليت يعقل هبا األشياء‪ ،‬وعلى أساسها تتكون عقليته‪ .‬وباختصار‪ ،‬نستطيع القول أن تكوين العقلية‬
‫متوقف على جمموعة املقاييس والقواعد اليت يستعملها حني الربط‪.‬‬
‫مثًال‪ :‬شخص يتخذ قاعدة " أن صيغة األمر تفيد الوجوب "‪ ،‬وآخر لديه قاعدة " صيغة األمر‬
‫تفيد جمرد الطلب وال تنصرف عن ذلك إال بقرينه "‪ .‬عندما يبحث هذان يف مسألة إعفاء‬
‫اللحية‪ ،‬فإن كًال منهما يصل إىل نتيجة مغايرة لنتيجة صاحبه‪ ،‬ألن الكيفية اليت يتم مبوجبها‬
‫عقل هذه املسألة خمتلفة بينهما‪ ،‬وهذا اإلختالف سببه اإلختالف يف القاعدة اليت استند كل‬
‫منهما إليها‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فالعقلية اإلسالمية هي اليت تضع جمموعة القواعد واملقاييس اإلسالمية مرجعًا تقيس‬
‫عليها الواقع واملعلومات قبل عملية حكمها على األشياء‪ .‬أي أن جعل جمموعة النصوص وما تقاس عليه‬
‫هذه النصوص منطلقًا للحكم على األشياء واستنباط األحكام هلا هو العقلية اإلسالمية‪ .‬وجمرد السؤال‬
‫عن دليل مسألة ما‪ ،‬ملعرفة ما إذا كان هذا الرأي مستندًا إىل دليل شرعي‪ ،‬جيعل العقلية عقلية إسالمية‪،‬‬
‫فهي ليست خاصة بالفقهاء أو اجملتهدين‪.‬‬

‫وأما النفسية فإهنا سلوك اإلنسان يف احلي&اة بن&اءًا على مف&اهيم عنه&ا‪ .‬فالنفس&ية اإلسالمية هي ال&يت‬
‫تسأل عن احلالل واحلرام يف كل عم&ل هلا‪ ،‬فتق&وم مبا ه&و حالل ومتتن&ع عم&ا ه&و ح&رام‪ .‬وليس&ت هي فق&ط‬
‫النفس &&ية املتبتل &&ة املنقطع &&ة للعب &&ادة‪ ،‬أو املتص &&وفة‪ .‬ب &&ل جمرد جع &&ل احلالل و احلرام قاع &&دة للس &&لوك إمنا يع &&ين‬
‫وجود النفسية اإلسالمية‪ .‬وتنمية العقلية يأيت بزيادة املعارف عن الشريعة والوعي على القواعد واملقاييس‬
‫الشرعية‪ .‬وهذا يتأتى حبفظ العديد من النصوص كالقرآن الكرمي واألحاديث الشريفة والقواع&&د األص&&ولية‬
‫و الفقهية‪ .‬وأما تنمية النفسية فإهنا ت&أيت من ك&ثرة التق&رب إىل اهلل بالطاع&ات أي القي&ام ب&الفروض وم&ا ه&و‬
‫فوق الفروض من النوافل والسنن وصيام التطوع وقراءة القرآن وغري ذلك‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫هبذه العقلية والنفسية تتكون الشخصية اإلسالمية اليت البد منها حلامل الدعوة‪ .‬قال رسول اهلل‬
‫‪ " ‬ال يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"‪.‬‬
‫هذا ما جيب أن يكون عليه عضو احلزب باإلضافة إىل ظهور امليول اجلماعية فيه أي حبه‬
‫لإلتصال بالناس كحامل دعوة‪ ،‬وإخراجه من العزلة ‪ ،‬اليت غالبًا ما يتصف هبا الشباب املؤمن امللتزم‬
‫هروبًا من فساد اجملتمع‪ ،‬وابتعادًا عن مشاهدة املوبقات املنتشرة يف اجملتمع‪ .‬إن هذه العزلة قاتلة للروح‬
‫اجلماعية اليت جيب توفرها يف حامل الدعوة‪ ،‬حيث أن هذه العزلة هي مزيج من اجلنب واليأس‪ .‬وتكاد أن‬
‫تكون هاتان الصفتان تطغيان على نفوس معظم الشباب امللتزم‪ ،‬فهو خائف من اضطهاد اجملتمع له‪،‬‬
‫ويائس من صالحه‪.‬‬
‫ولكن اخلوف بل &&غ عن &&ده ح &&د اجلنب املقع &&د عن العم &&ل‪ .‬فال ب &&د حلام &&ل ال &&دعوة أن يتخطى ه &&اتني‬
‫الص&&فتني‪ .‬وال ب&&د من حماول&&ة قلعهم&&ا من أف&&راد اجملتم&&ع بش&&كل ع&&ام‪ ،‬ألهنم&&ا أص&&بحتا من املف&&اهيم املرك&&زة يف‬
‫اجملتمع‪.‬‬

‫‪ -14‬أما انتقال احلزب من دور الثقافة إىل دور التفاعل‪ ،‬فإنه انتقال طبيعي‪ ،‬أي بعد أن تستكمل يف‬
‫دور الثقافة نقطة اإلبتداء‪ .‬والغاية من هذا الدور وجود أشخاص جتسد فيهم املبدأ‪ ،‬وآمنوا بأهنم إمنا‬
‫يعيشون به ومن أجله‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية فإن اجملتمع من حوهلم بدأ حيس بالدعوة وباملبدأ‬
‫إحساسًا واضحًا‪ .‬فإذا حتقق له ذلك صار انتقاله إىل دور التفاعل انتقاًال طبيعيًا‪ .‬إذ أنه ميكن القول بأن‬
‫املبدأ أصبح موجودًا يف األمة‪ ،‬وال خيشى عليه‪ .‬وهذا يعين اإلنتهاء من نقطة اإلبتداء واإلنتقال إىل نقطة‬
‫أخرى هي نقطة اإلنطالق‪ .‬وباحلديث عن النقاط‪ ،‬ال بد من وقفة لتحديد معىن هذه العبارة‪.‬‬

‫هناك ثالث نقاط تتضمن كل نقطه مرحلة تليها‪ .‬فالنقطة االوىل هي نقطة االبتداء – أي‬
‫نقطة التأسيس والوجود – فال يعترب احلزب موجودًا اال اذا مت تأسيسه أي باجياد نقطة االبتداء‪ .‬وتبدأ‬
‫هذه النقطة منذ اللحظة اليت أشرقت فيها هذه الدعوة يف ذهن الشخص االول‪ ،‬أي اخللية االوىل‪ ،‬مرورًا‬
‫بالبحث عن خاليا اخرى لتكوين احللقة االوىل –القيادة ‪ -‬وإعداد الكتلة احلزبية‪ ،‬مث املرور مبرحلة‬
‫الثقافة واليت تعين اجياد جمموعة من الناس مؤهلة لتحمل الدعوة‪ ،‬أقوياء بإمياهنم‪ ،‬خملصني بدعوهتم‪،‬‬
‫يعيشون هبذه الثقافة‪ ،‬ونذروا أنفسهم هلا‪ .‬باالضافة اىل اجياد أجواء حوهلم ‪ .‬أي جعل اجملتمع الذي‬
‫يعيشون فيه حيس باملبدأ وحيس هبم كحملة دعوة‪ .‬وهبذا نستطيع القول ان احلزب قد وجد‪ ،‬وان هذا‬
‫احلزب عليه ان ينتقل للعمل يف األمة والتعامل معها‪ .‬هذا ما نعنيه بالنقطة االوىل املتضمنة ملرحلة‬
‫التثقيف‪ .‬وهي ما نطلق عليه نقطة االبتداء‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫أما النقطة الثانية‪ ،‬وهي نقطة االنطالق‪ ،‬فتشتمل على مرحل&ة التفاع&ل م&ع األم&ة‪ ،‬أي جع&ل األم&ة‬
‫يف أح &&د أقطاره &&ا حتتض &&ن املب &&دأ‪ ،‬وحتتض &&ن دع &&اة املب &&دأ‪ .‬أي تقب &&ل هبذا املب &&دأ لتنظيم عالقاهتا وتقب &&ل بقي &&ادة‬
‫احلزب هلا‪ .‬أي ان التفاعل قد مت بني املبدأ واألمة وبني األمة واحلزب‪.‬‬

‫وأما النقطة الثالثة‪ ،‬وهي نقطة االرتكاز‪ ،‬فبعد التحقق من ان األمة قد احتضنت الفكرة أي‬
‫املبدأ وقبلت باحلزب قائدًا هلا‪ ،‬ومت التفاعل على هذا االساس‪ ،‬يقوم احلزب باالنتقال من مرحلة التفاعل‬
‫اىل ما يسمى بنقطة االرتكاز‪ .‬أي انه اصبح مهيئًا للرتكز وتطبيق فكرته يف احلياة‪ .‬فتبدأ هذه النقطة‬
‫بالبحث عن مراكز القوة الذين هلم القدرة على كسر احلاجز املادي الذي حيول بني احلزب وتطبيق‬
‫مبدئه‪ .‬فإذا مت للحزب العثور على مراكز القوة‪ ،‬ونفذوا ذلك انتقل احلزب اىل مرحلة احلكم وتنفيذ‬
‫املبدأ‪.‬‬
‫إذن نقطة الابتداء وتتضمن مرحلة التثقيف‬
‫ونقطة الانطلاق وتتضمن مرحلة التفاعل‬
‫ونقطة الارتكاز وتتضمن مرحلة الحكم‬
‫وهبذا يك&&ون احلزب ق&&د وص&&ل اىل هدف&&ه وسار يف حتقي&&ق غايت&&ه‪ ،‬وهي إستئناف احلي&&اة االسالمية‬
‫ومحل االسالم للعامل‪.‬‬

‫‪ -15‬عودًا اىل عملية االنتقال اىل نقطة االنتقال‪ ،‬نقول ان احلزب حني يريد ان ينتقل انتقاًال طبيعيًا ال‬
‫بد له من خماطبة األمة مباشرة‪ .‬اال انه قبل ان يبدأ مبخاطبتها مباشرة‪ ،‬ال بد له ان يقوم مبحاولة خماطبتها‪.‬‬
‫فإذا جنح يف حماولة املخاطبة‪ ،‬خاطبها مباشرة‪ .‬ونعين باملخاطبة املباشرة دعوَة األمة للقيام بأعباء الدعوة‪،‬‬
‫واعتبار املبدأ مبدأها‪ .‬وذلك قبل البدء هبذا االسلوب‪ ،‬ال بد من حماولة املخاطبة ملعرفة مدى جتاوب‬
‫األمة مع هذه احملاولة‪ .‬وهذا يعين ان يضيفه احلزب اىل العمليتني السابقتني‪ :‬التثقيف املركز يف احللقات‪،‬‬
‫والتثقيف اجلماعي اللتني كان احلزب يقوم هبما يف مرحلة التثقيف‪ .‬أي ان يضيف اليهما عملني آخرين‬
‫مها تبني مصالح األمة وكشف خطط االستعمار‪ .‬وتبين املصاحل إما ان يكون تبنيًا فكريًا او عمليًا‪ .‬أما‬
‫التبني الفكري فهو بيان ما تبىن احلزب من آراء ومعاجلات ملصاحل األمة‪ .‬واما التبني العملي فهو ان‬
‫يأخذ على عاتقه حتقيق مصلحة من مصاحل األمة حني يقدر على ذلك او كان مما جيب عمله‪ .‬وهذا أمر‬
‫ليس بالسهل ألن املصاحل امنا يقوم على رعايتها النظام الفاسد املطبق عليها‪.‬‬
‫وأم&&ا كشف خطط االستعمار فإمنا يع&&ين االستعداد للكف&&اح السياسي‪ .‬ف&&ان ه&&ذا العم&&ل يش&&كل‬
‫خط&رًا جس&يمًا على االستعمار بك&ل أش&كاله‪ .‬ومن ع&ادة كش&ف اخلط&ط أن ي&ؤدي ذل&ك اىل إحب&اط اخلط&ة‬
‫ومنع تنفيذها‪ ،‬ألن االستعمار وأعوانه مهما بلغوا من تس&لط وج&ربوت‪ ،‬ف&اهنم ال يباش&رون تنفي&ذ خططهم‬

‫‪86‬‬
‫وأساليبهم بشكل مكشوف‪ ،‬ألهنم خيشون غضب األمة ونقمتها‪ .‬ولذلك ف&&اهنم خيف&&ون غاي&&اهتم وأه&&دافهم‬
‫حتت ستار ك&&ثيف من اخلداع والتض&&ليل ح&&ىت ينطلي عملهم على األم&&ة‪ ،‬ويب&&دأ ترويض&&ها بقب&&ول م&&ا رمسوا‬
‫هلا‪ .‬فعملي &&ة الكش &&ف حني تتقبله &&ا األم &&ة وتث &&ار نقمته &&ا‪ ،‬امنا تع &&ين اجياد النقم &&ة عن &&د األم &&ة على االستعمار‬
‫وأعوان&&ه‪ .‬ومن الب&&ديهي ان يتص&&دى الك&&افر ملقاوم&&ة ال&&دعوة بواسطة عمالئ&&ه وأعوان&&ه‪ .‬وهن&&ا يب&&دأ الكف&&اح‬
‫السياسي واجملاهبة بني احلزب والس &&لطة القائم &&ة‪ .‬ه &&ذا باالض &&افة اىل الص &&راع الفك &&ري ال &&رهيب بني احلزب‬
‫والفئ &&ات املناهض &&ة ل &&ه من محل &&ة االفك &&ار الفاسدة وم &&ا يتبعه &&ا من ع &&داء ودعاي &&ة وجماهبات‪ ،‬تتطلب نفوسًا‬
‫عالي&&ة لتحم&&ل ه&&ذه األعم&&ال‪ .‬ف&&اذا جنح احلزب يف القي&&ام هبذه األعم&&ال االربع&&ة (التثقي&&ف املرك&&ز والتثقي&&ف‬
‫اجلماعي وتبين مصاحل األمة وكشف خطط االستعمار)‪ ،‬صار انتقاله ملخاطبة األمة مباشرة انتق&اًال طبيعي&ًا‪.‬‬
‫ومعىن جناحه يف هذا األمر ثالث نقاط‪:‬‬

‫ثبات شبابه واستعدادهم جملاهبة أمر مل يعهدوه من سجن وتعذيب وتشريد وحماربة يف‬ ‫(‪)1‬‬
‫األرزاق‪ ،‬واستمرار استعدادهم للتضحية والفداء‪.‬‬
‫إجبار الفئات االخرى اليت ختالفه الرأي على خوض الصراع الفكري معه‪ ،‬وجعل‬ ‫(‪)2‬‬
‫األمة تنتظر رأيه وتأخذه باملناقشة‪ ،‬سواء قبلت به او رفضته‪.‬‬
‫إجبار السلطة على التصدي له ولو بالسجن او التعذيب والتشهري واملنع‪ ،‬وكسر‬ ‫(‪)3‬‬
‫الطوق املفروض عليه من الالمباالة او التعتيم االعالمي عليه‪.‬‬

‫هذا ما يعنيه جناحه يف العملني األخريين‪ ،‬بعد ان جنح جناحًا منقطع النظري يف التثقيف واإلع&&داد‪.‬‬
‫وجناحه هذا هو الذي جيعل انتقاله اىل مرحلة التفاعل انتقاًال طبيعيًا‪.‬‬

‫‪ -16‬ان التفاعل مع األمة ضروري جدًا‪ .‬ألنه ال بد من إدراك معىن التفاعل مع األمة‪ .‬فاملعىن املقصود‬
‫من التفاعل هو قبول األمة للمبدأ واعتباره مبدأها‪ ،‬وقبوهلا بقيادة احلزب هلا‪ .‬وليس املقصود بالتفاعل‬
‫جعَل األمة او غالبيتها أعضاء يف احلزب ويدرسون يف حلقاته‪ .‬فهذا أمر خيايل وال ميكن ان يتحقق‪ ،‬ألن‬
‫الفئة املتحركة يف القضايا العامة‪ ،‬واليت هتتم بالشؤون السياسية يف أرقى األمم مل تتعدى يف تارخيها نسبة‬
‫‪ % 6‬وهي نسبة الصحابة ‪ ‬اىل جمموع املسلمني عند وفاة رسول اهلل ‪ .‬وكذا احلال يف الدول‬
‫الناهضة واليت مر على هنضتها قرون وأجيال‪ .‬فان نسبة العاملني فيها يف أحزاهبا السياسية مل تتعَد نسبة‬
‫‪ . % 5‬فاذا علم ان يف األمة فئاتًا وأحزابًا متعددة‪ ،‬والكل يف صراع للحصول على هذه الفئة املتحركة‬
‫(فئة ال ‪ )% 5‬فان العربة ال تكون يف الكثرة او القلة‪ ،‬وإمنا مبقدار انتزاع ثقة األمة واحتضاهنا للفكرة‬
‫وقبوهلا بقيادة احلزب‪ .‬هذا ما نعنيه بالتفاعل‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫وأمهية هذا التفاعل تكمن يف ان احلزب ال يستطيع ان يقوم بعمله والنجاح يف مهمته اال اذا‬
‫تفاعل مع االمة‪ .‬وال يستطيع ان يسوقها للقيام بعمل اال اذا تفاعلت معه‪ .‬والذي يسهل عملية التفاعل‬
‫هذه كون املبدأ موجودًا يف تراث األمة الثقايف والتارخيي‪ ،‬وعقيدة املبدأ هي عقيدة األمة اليت تثري‬
‫مشاعرها وتنبه أحاسيسها‪ .‬وحني حتولت هذه االحاسيس اىل فكر‪ ،‬تبلور يف الفئة املختارة‪ ،‬اليت تكون‬
‫منها احلزب‪ ،‬وكانت القاعدة الثابتة هلذه االحاسيس‪ ،‬وهي " الفكر والعمل والعمل من اجل غاية " هي‬
‫التعبري احلقيقي للمبدأ‪ .‬ولذلك كان املبدأ هو إحساس األمة الداخلي‪ ،‬ويكون احلزب معربًا عن هذا‬
‫االحساس‪ .‬واذا كان احلزب فصيح التعبري‪ ،‬أي يوضح ما يريد بال تورية وال مواربة‪ ،‬من حيث ان‬
‫الفصاحة هي إبراز املعىن املراد‪ ،‬فحني ينادي باحلكم االسالمي فال يتخفى وراء كلمة دولة اسالمية‪ ،‬او‬
‫حكومة اسالمية‪ ،‬او مجهورية اسالمية‪ ،‬بل يقوهلا "خالفة" بلسان فصيح بال مواربة‪ .‬وحني يتحدث عن‬
‫االستعمار ال يكتفي بذلك بل يصفه بصفته احلقيقية "الكافر املستعمر"‪ .‬هذا من حيث الفصاحة يف‬
‫التعبري‪ .‬أي واضح اللغة‪ .‬فاللغة هي القالب الذي تصب فيه املعاين املوجودة يف النفس‪ .‬ولذلك ال بد له‬
‫من استعمال اللغة اليت يفهمها الناس بسهولة ويسر‪ ،‬متصفًا بصدق اللهجة‪ .‬هذا وصدق اللهجة امنا يعين‬
‫اجلرأة يف احلق ال تأخذه يف اهلل لومة الئم‪ ،‬فال يداهن و ال يداجي وال خيادع‪ .‬يقول رأيه بكل صراحة‬
‫وال خيشى أحدًا اال اهلل وال يستعني اال باهلل‪.‬‬
‫فاذا سار احلزب متصفًا بصدق اللهجة‪ ،‬ووضوح اللغة‪ ،‬وفصاحة التعبري‪ ،‬فهمت األمة املبدأ‬
‫سريعًا‪ ،‬وتفاعلت مع احلزب‪ ،‬واعتربت مبجموعها هي احلزب‪ ،‬واعترب احلزب قائدًا هلذه األمة‪ ،‬يسري حنو‬
‫املرحلة الثالثة خبطى ثابتة‪ ،‬وطريق واضح‪ ،‬وهي مرحلة تطبيق املبدأ تطبيقًا انقالبيا عن طريق احلكم‬
‫باعتباره الطريقة الوحيدة لتنفيذ الفكرة‪ ،‬أي باعتبار احلكم جزءًا من املبدأ‪.‬‬

‫اال ان هنالك صعوبات عديدة تقف يف وجه هذا التفاعل‪ .‬وال بد من معرفتها‪ ،‬ومعرفة‬
‫طبيعتها‪ ،‬للعمل على التغلب عليها‪ .‬وهذه الصعوبات كثرية أمهها ما يلي‪:‬‬
‫أ – تناقض املبدأ مع النظام املطبق يف اجملتمع‪.‬‬
‫ب‪ -‬اختالف الثقافة املوجودة يف اجملتمع مع ثقافة املبدأ‪.‬‬
‫ت‪ -‬وجود الواقعيني يف األمة‪.‬‬
‫ث‪ -‬ارتباط الناس مبصاحلهم‪.‬‬
‫ج‪ -‬ما يتوهم انه صعوبة مثل االختالف املدين بني املدينة والقرية‪.‬‬

‫‪ .1‬أما تناقض املبدأ مع النظام املطبق‪ .‬فان مبدأ احلزب نظام جديد‬
‫بالنسبة للمجتمع احلاضر‪ .‬وهو يتناقض مع النظام املطبق يف اجملتمع‬
‫تناقضًا تامًا‪ ،‬وال جمال مطلقًا لاللتقاء او التوافق‪ .‬وذاك ان نظام املبدأ‬

‫‪88‬‬
‫نظام جاء به الوحي من عند اهلل‪ ،‬وأما النظام املطبق يف اجملتمع فهو‬
‫نظام وضعي‪ ،‬أي ان اإلنسان هو الذي وضعه انطالقا من مبدأ آخر‬
‫هو املبدأ الدميقراطي وهو مبدأ كفر وضعه اإلنسان‪ .‬وقد فرضه‬
‫الكفار على هذا اجملتمع فرضا‪ ،‬وما زالوا حياولون تركيز مناهجه يف‬
‫أذهان الناس وتركيز األسس اليت بين عليها مثل فكرة احلرية‪ ،‬وفكرة‬
‫احلل الوسط وغريمها‪ .‬وحماولة التضليل والتوفيق يف اوجه الشبه‬
‫بالفروع او األسس كتشبيه الدميقراطية باإلسالم يف نظام احلكم‬
‫حيث يتصورون ان نظام احلكم يف اإلسالم هو الشورى وان‬
‫الدميقراطية هي الشورى‪ .‬مع ان احلكم يف اإلسالم ليس شورى‪ .‬بل‬
‫ان الشورى نفسها ليست نظام حكم‪ ،‬وإمنا هي – الشورى‪-‬‬
‫أسلوب يستعمله اإلنسان – أي إنسان – للتوصل اىل رأي حني‬
‫يلتبس عليه أمر ما‪ .‬أي أسلوب يستعمله الفرد العادي كما يستعمله‬
‫احلاكم‪ ،‬ويستعمله احلاكم املسلم كما يستعمله احلاكم الشيوعي او‬
‫الرأمسايل‪ .‬واحلاكم املسلم يندب له ان يستشري‪ ،‬وليس فرضًا عليه ان‬
‫يستشري‪ .‬ومثل هذه األمور من حماوالت التضليل‪ .‬وأقام الكافر على‬
‫رقاب الناس حكامًا يطبقون هذا النظام ويروضون الناس لقبوله‪،‬‬
‫وحياولون إقناعهم بذلك‪ ،‬ووضعوا مناهج التعليم والتثقيف يف األمة‬
‫على أساسه‪ .‬فمن البديهي ان يتصدى هؤالء احلكام للمبدأ اجلديد‬
‫وحياربوه بكل الوسائل‪ ،‬مثل الدعاية ضده‪ ،‬ومطاردة محلة الدعوة‪،‬‬
‫وحماربتهم يف أرزاقهم‪ ،‬او السجن او التعذيب‪ ،‬او غري ذلك‪ .‬وعلى‬
‫هذا فال بد ان يكون هذا األمر واضحا عند الشباب منذ عزمهم‬
‫على محل الدعوة ليوطدوا العزم على جماهبة هذا األمر‪ .‬ولذا ال بد ان‬
‫يكون هلم العربة من سرية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وما جاء‬
‫يف القرآن الكرمي من سري األنبياء السابقني وموقف أقوامهم منهم‪.‬‬
‫كما كان يطمئن القرآن رسول اهلل ‪ " ‬ما قيل لك اال ما قد قيل‬
‫للرسل من قبلك "‪ .‬وقد قص اهلل تعاىل علينا سري الكثريين من‬
‫األنبياء وقال ‪ ‬إن في قصصهم لعبرة ألولي األلباب ‪. ‬‬
‫وبناءًا عليه جيب ان تكون قدوة الشباب سريُة رسول اهلل صلى اهلل‬

‫‪89‬‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأن يكونوا كلهم استعدادًا للمحاربة والتضحية‬
‫والفداء‪.‬‬

‫‪ .2‬اختالف الثقافة‪ :‬من البديهي أن يكون يف األمة ثقافات خمتلفة وذلك‬


‫بسبب تعدد الفئات فيها‪ ،‬فلكل منها ثقافة معينة يدعو إليها‪،‬‬
‫باالضافة اىل الثقافة اليت يفرضها النظام بسبب مناهج التعليم ووسائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬باالضافة اىل تعدد االفكار وتباينها واختالفها‪ ،‬فلكٍل وجهٌة‬
‫هو موّليها‪ .‬إال أن األمة هلا إحساس واحد وتكون هذه األفكار‬
‫وهذه الثقافات تعبريًا معكوسًا عن أحاسيس األمة‪ .‬ألهنا ليست‬
‫منبثقة عن عقيدة األمة ومبدئها‪ .‬أما ثقافة املبدأ أي الثقافة اإلسالمية‬
‫فهي التعبري الصادق عن أحاسيس األمة وشعور األمة بعزهتا‬
‫وكرامتها‪ ،‬وسيادهتا للعامل وقيادته‪ ،‬وليس أمر ذلك ببعيد عنها‪ .‬فلم‬
‫تغب قيادهتا للعامل أكثر من مائة سنة‪ ،‬ومل تنـزل من مقعدها يف‬
‫مقدمة األمم اال منذ فرتة وجيزة أزاهلا عن ذلك الكافر املستعمر‪ .‬إن‬
‫هذه احلقائق التارخيية توجد لدى األمة االحساس العام بأهنا جيب أن‬
‫تعود سيدة العامل‪ ،‬ومفاهيم األعماق فيها املنبثقة من عقيدهتا‪،‬‬
‫والقائلة هلا كنتم خري أمة أخرجت للناس‪ ،‬إن هذه احلقائق التارخيية‬
‫وهذه املفاهيم العقيدية‪ ،‬توجد عندها أحاسيس تدفعها للنهضة‪ .‬إن‬
‫هذه األحاسيس ال متت اىل الثقافة واألفكار املفروضة عليها بصلة‪،‬‬
‫هلذا فهي تعبري عكسي عن أحاسيس األمة‪ .‬وحيضرين يف هذه املسألة‬
‫مثال ملسته يف كراتشي باحتفال أقيم بذكرى حممد بن القاسم فاتح‬
‫السند‪ .‬فقد أحتفل به املسلمون باعتباره هاديهم ومرشدهم اىل‬
‫االسالم ولو بفتح عسكري‪ .‬ونقم اهلنود الكفار على ذلك باعتباره‬
‫قاتًال لبالدهم هادمًا لسلطاهنم‪ .‬وهلذا نقول ان أحاسيس العزة‬
‫والكرامة واجملد تتناىف وتتناقض مع ثقافة نشأت نتيجة هزمية األمة‬
‫وزوال سلطاهنا‪ ،‬وانبثقت من مبدأ حيتل الصدارة يف عدائها‪.‬‬
‫هلذا كانت هذه الثقافة تعبريًا معكوسًا عن حقيقة أحاسيسها‪ .‬أما ثقافة املبدأ فهي‬
‫التعبري احلقيقي عن هذه األحاسيس‪ .‬ومع ذلك فإن الرأي العام الثقايف يف اجملتمع‪،‬‬
‫واملنهاج الثقايف املدرسي‪ ،‬ووسائل األعالم مجيعها من صحف وجمالت ونوادي‬

‫‪90‬‬
‫ومعاهد كلها تسري حبسب الثقافة األجنبية‪ .‬باالضافة أن كافة احلركات السياسية‬
‫املوجودة سائرة مع الثقافة األجنبية ومتبنية هلا‪ .‬وهلذا ال بد للحزب يف ثقافته من‬
‫الدخول يف صراع عنيف مع الثقافات واألفكار األخرى‪ .‬وهذا يتطلب منه الوعي‬
‫على تلك الثقافات‪ ،‬وبيان مناقضتها للمبدأ‪ ،‬وبيان فسادها‪ ،‬حىت يظهر لألمة التعبري‬
‫الصحيح عن أحاسيسها وشعورها فتسري معه‪ .‬وهلذا فان من احملتم أن جيري صراع‬
‫حاد بني احلزب وغريه من الفئات‪ .‬اال انه جيب ان ال يغيب عن الذهن ان هذا الصراع‬
‫هو صراع أبناء األمة الواحدة‪ ،‬وليس صراعًا بني املسلمني والكفار‪ .‬صحيح انه صراع‬
‫بني أفكار االسالم وثقافته يقوده مسلمون‪ ،‬وبني أفكار كفر ومفاهيم كفر وثقافة‬
‫كفر يقودها مسلمون ايضًا‪ .‬اال أنه جيب أال يغيب عن الذهن طبيعة هذا الصراع‪ .‬فهو‬
‫تصادم بني أبناء األمة الواحدة‪ ،‬ولذلك ال جيوز أن يأخذ دور اجلدل العقيم‪ ،‬بل يكتفى‬
‫برسم اخلط املستقيم أمام اخلط األعوج‪ ،‬ألن اجلدل العقيم يصم اآلذان واألبصار‪.‬‬
‫وهلذا فإن على الشاب وهو خيوض مثل هذا الصراع‪ ،‬ان يشرح أفكار احلزب وعقيدته‬
‫ومفاهيمه مبينًا األدلة والرباهني‪ ،‬وموضحًا فساد األفكار األخرى وزيفها ونقاط‬
‫بطالهنا‪ ،‬بأسلوب فكري مبين على العقل‪ ،‬وشارحًا ما يف نتائج هذه الثقافات الفاسدة‬
‫من أخطار على األمة‪ ،‬ووجودها كله‪ .‬ويف هذه احلالة تتحول األمة عن هذه الثقافات‬
‫وتتجه اىل ثقافة احلزب وفكره‪ .‬بل ان أصحاب هذه الثقافات قد ينصرفوا عنها إن‬
‫كانوا خملصني واعني‪ ،‬ألن زيفها واضح وخطرها متبني‪.‬‬
‫اال ان هذه العملية هي من أشق العمليات‪ .‬فهي صراع مع مجيع الناس‪ ،‬وكلما كانت‬
‫البالد غارقة يف الثقافة األجنبية كلما كانت العملية أشق وأصعب‪ ،‬وكانت قابلية‬
‫النهضة يف البالد اليت تقل فيها الثقافة األجنبية أيسر وأسهل‪ .‬وهذا يتطلب معرفة الواقع‬
‫الذي يعمل فيه الشاب‪ ،‬ليضع له األساليب املناسبة له‪ .‬وقد الحظنا كيف ان القرآن‬
‫الكرمي ما ترك فئة يف اجملتمع او فكرة خاطئة اال رد عليها‪ ،‬وبني بطالهنا‪ ،‬وكشف‬
‫زيفها باحلجة والربهان‪.‬‬

‫ومن الصعوبات وجود الواقعيني يف األمة‪ ،‬نتيجة هليمنة الثقافة األجنبية‪ ،‬وتسميم‬ ‫‪-3‬‬
‫األجواء باملفاهيم واألفكار الفاسدة‪ .‬فنتيجة لغياب الثقافة اإلسالمية وعملية التجهيل‬
‫القائمة هلا‪ ،‬واجلهل العام املطبق الذي أحاط باألمة منذ عهد االحنطاط‪ ،‬نشأ من ذلك‬
‫كله فئتان متثالن الواقعية‪ .‬وقد سبق تعريف الواقعية‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫أما الفئة االولى فهي الفئة الواقعية‪ ،‬اليت تدعو اىل الواقع‪ ،‬واىل الرضا باألمر الواقع‪،‬‬
‫وتسّلم به كأمر حتمي‪ .‬ولذلك فهي فئة عاملة متحركة لكنها انتهجت هذا النهج‬
‫وجعلت الواقع مصدر تفكريها‪ ،‬وعلى أساسه تبحث عن حل ملشاكلها‪ .‬وهي ما‬
‫يسمى بالربامجاتية‪ .‬مع االختالف يف األصل‪ ،‬من حيث ان مذهب الواقعيني عند محلة‬
‫املبادئ هو التعامل مع الواقع كما هو واالستفادة منه‪ .‬بينما الواقعية عند الناس‬
‫املتخلفني واخلاضعني لغريهم تؤدي اىل اإلقرار هبذا اخلضوع وتبحث عن كيفية التعامل‬
‫مع هذا الواقع‪ .‬وهلذا كان الواقع مصدر تفكريها‪ .‬ولكوهنا فئة عاملة متحركة فان‬
‫التعامل معها سهل‪ ،‬فال حتتاج ألكثر من التعمق معها يف البحث‪ ،‬وإقناعها بان الواقع‬
‫جيب ان يكون موضع التفكري ال مصدر التفكري‪ ،‬وال بد من تغيري الواقع تبعًا للفكرة‬
‫اليت نؤمن هبا‪ ،‬وليس التخلي عن الفكرة‪ ،‬او تأجيلها للتكيف مع الواقع‪ .‬وبذلك ميكن‬
‫ان ترجع عن تفكريها‪ ،‬وأن يستفاد منها من حيث اهنا فئة عاملة متحركة‪ ،‬يراد‬
‫تصحيح خط سريها‪ ،‬وتوضيح طريقة التفكري الصحيحة هلا‪.‬‬
‫وأما الفئة الثانية من الواقعيين‪ ،‬فهي فئة الظالميين اليت تأىب ان تعيش يف النور‪ ،‬ألهنا‬
‫ألفت احلياة يف الظالم وتعودت التفاهة والسطحية‪ .‬أصيبت مبرض الكسل اجلسمي‬
‫والكسل العقلي‪ ،‬ومجدت على القدمي‪ .‬ولذلك فهي واقعية فعًال ألهنا من جنس الواقع‪،‬‬
‫وهي جامدة فكرًا‪ .‬ومثل هذه الفئة حتتاج اىل معاناة أكرب‪ .‬وطريقة التغلب على‬
‫صعوبتها‪ ،‬هي حماولة تثقيفها‪ ،‬واالجتهاد يف تصحيح مفاهيمها‪ .‬اال أن الصعوبة األكرب‬
‫هي عملية إقناعها بقبول التثقيف‪ .‬ألن التثقيف عمل‪ ،‬وهي جامدة ليس عندها‬
‫االستعداد للعمل‪ .‬وهلذا أرى أن عملية إثارهتا والضرب على أوتار حساسة عندها‬
‫ميكن ان خيرجاها عن مجودها‪ .‬وإال فان العمل على إبعادها عن وسطها املتأثر هبا او‬
‫إبعاد وسطها عنها هو العالج الناجح‪ .‬ومن أولئك‪ :‬العلماء والزعماء واملوجهون‪،‬‬
‫الذين هلم وسط يعيشون فيه‪ .‬فال بد من اختبار األساليب املناسبة البعاد أثرهم عن‬
‫الوسط الذي يعيشون فيه‪ ،‬وإنفضاض الناس عنهم ‪ .‬فهم آخر من يؤمن‪ ،‬وأول من‬
‫حياول العصيان‪.‬‬

‫إرتباط الناس مبصاحلهم‪ .‬إن االنسان يرتبط مبصاحله الشخصية‪ ،‬وأعماله اليومية‪.‬‬ ‫‪-4‬‬
‫ولذلك فان من الصعوبة التأثري على الناس وكسبهم جلسم احلزب او الحتضانه الن‬
‫ذلك يتناقض مع مصاحلهم املرتبطة بالنظام وأعوان النظام ومنفذيه‪ .‬والكافر كان‬
‫حريصًا على أن يستويل على الناس من بطوهنا ليصل اىل أفكارها‪ .‬وملا كان احلزب ال‬

‫‪92‬‬
‫ميلك القدرة على تأمني مصاحل الناس وحتقيقها فان امكانية تأثريه يف الناس تكون‬
‫قليلة‪ ،‬وذلك الحنطاط الناحية الفكرية يف األمة‪ ،‬وحرصها على حتقيق مصاحلها‪ .‬وحىت‬
‫لو تأثرت بالناحية الفكرية فاهنا ال ينتظر منها االندفاع فيها‪ ،‬اال بأمل قوي ونفس‬
‫قصري‪ .‬وألصبحت كما قال الفرزدق عن أهل العراق للحسني بن علي رضوان اهلل‬
‫عليهما " قلوهبم معك وسيوفهم مع بين أمية "‪.‬‬
‫هذا من حيث الناس واجملتمع‪ .‬أما من حيث الشاب العضو يف احلزب‪ ،‬فال بد له ان‬
‫يؤمن االميان املطلق أن وجوده يف احلياة إمنا هو من أجل االسالم‪ ،‬فهو حيىي به ومن‬
‫أجله‪ .‬وهبذا يكون املبدأ واحلزب مها املركز الذي تدور حوله مصاحله الشخصية‪ ،‬بل‬
‫ان ما يكسبه يف احلياة إمنا هو من أجل إعانته على محل هذا املبدأ واحملافظة عليه‪ .‬أي‬
‫انه شرى نفسه وماله ابتغاء مرضاة اهلل يف محله للدعوة‪ .‬ويف هذه احلالة ال جيوز له ان‬
‫يشتغل يف عمل يتناقض مع الدعوة‪ ،‬أي فيه خمالفة شرعية‪ ،‬سواء يف طبيعته كالعمل‬
‫احلرام‪ ،‬مثل العمل يف البنك او مزاولة القمار او ما شاكل ذلك‪ ،‬او عضوًا يف مؤسسة‬
‫تتعامل باحلرام كالصريفة والشركات املسامهة وأمثاهلا‪ .‬كما ال جيوز له ان يعمل يف‬
‫عمل ينسيه الدعوة او يعوقه عنها كالعمل سحابة النهار وشطرًا من الليل يف عمل‬
‫ليس للدعوة فيه وجود‪ ،‬أي انه ال ميكنه من االتصال بالناس واالحتكاك هبم‬
‫ومناقشتهم او دعوهتم لفكرته‪ .‬واألمثلة على ذلك كثرية‪ .‬كأن يعمل مزارعًا يف مزرعة‬
‫تأخذ عليه وقته كله‪ ،‬او يف معمل او مصنع او غري ذلك‪ .‬فإذا التزم مبثل هذا‪ ،‬أي امتنع‬
‫عن الشغل يف عمل متناقض مع الدعوة‪ ،‬او يف عمل ينسيه الدعوة‪ ،‬فانه يكون يف هذه‬
‫احلالة قد ختطى هذه الصعوبات‪ ،‬وجعل الدعوة مركز تنبهه وقطب الرحى يف دائرة‬
‫مصاحله‪ .‬وأصبحت مصاحله تدور حول الدعوة‪ ،‬فهي األساس يف حياته‪ .‬وأبعد عن‬
‫كون الدعوة تدور حول مصاحله‪ .‬فهو يدعو هلا وقت فراغه ويرتكها عند تعارضها مع‬
‫مصاحله‪ ،‬او حني هتدد مصاحله‪ ،‬او يلحقه منها أذى‪.‬‬

‫ومن الصعوبات يف مثل هذا اجملتمع املنحط‪ ،‬إجياد مفاهيم التضحية والفداء وتركيز‬ ‫‪-5‬‬
‫معىن قوله تعاىل ‪ ‬ان هللا اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ‪. ‬‬
‫فمفهوم التضحية باملال والتجارة ومباهج احلياة الدنيا وزينتها يف سبيل اهلل‪ ،‬أي الدعوة‬
‫اىل اإلسالم‪ ،‬جيب ان يرتكز كمفهوم عند شباب الدعوة عن قناعة وإميان‪ ،‬ال باألمر‬
‫واإللزام‪ .‬ولذلك يكتفى معهم بالتذكري‪ ،‬ويرتك هلم اخليار يف التضحية يف هذه‬
‫الشؤون‪ ،‬فال يستكرهون على شيء‪ .‬ولكن يالحظ فيهم مدى استعدادهم للقيام مبثل‬

‫‪93‬‬
‫هذه التضحيات‪ ،‬حىت اذا ملس ضعف يف هذا اجلانب ُيعمل على تنميته مبعاجلة منطقة‬
‫إميانه‪ ،‬وتوضيح مفاهيم الرزق‪ ،‬والتوكل على اهلل‪ ،‬وسبب املوت وغري ذلك من أفكار‬
‫العقيدة‪.‬‬
‫كتب عليه الصالة و السالم كتابًا لعبد اهلل بن جحش حني بعثه على رأس سرية‬
‫ليرتصد قريشًا يف خنلة بني مكة والطائف‪ ،‬وقد جاء يف ذلك الكتاب " وال تكرهّن‬
‫أحدًا من أصحابك على المسير معك‪ ،‬وامضي ألمري فيمن تبعك "‪ .‬أي ان‬
‫توضح الفكرة للشاب ويذّك ر هبا ويرتك له خيار العمل وااللتزام بالتكليف اخلاص‪.‬‬

‫هذه هي بعض أهم الصعوبات اليت جتابه احلزب‪ ،‬وهذه هي كيفية ختطي هذه‬
‫الصعوبات‪ .‬أما ما يتوّه م أنه صعوبة مما يسمى باالختالف املدين‪ ،‬وتلك حجة من امتنعوا عن‬
‫الوحدة بني االقطار اليت كانوا حيكموهنا مع ان الوحدة هدف من أهدافهم كما يزعمون‪.‬‬
‫فحزب البعث مثال كان حاكما يف سورية والعراق وقبل ان يصبح حزبني‪ ،‬أي حني كانت‬
‫قيادته قومية واحدة‪ ،‬إمتنع عن دمج القطرين حبجة االختالف املدين بني سورية والعراق‪ .‬ان‬
‫االختالف املدين يف اجملتمعات أمر بديهي‪ ،‬فأوساط املدن غري أوساط القرى واألرياف وغري‬
‫أوساط البدو‪ .‬واملظاهر املدنية يف املدينة غريها يف القرية‪ ،‬وغريها يف مضارب اخليام‪ .‬وقد‬
‫يوحي هذا باختالف الثقافة‪ ،‬وبالتايل اختالف التثقيف او التوجيه املبدئي‪ .‬وهذا من أخطر‬
‫االشياء ألن األمة مهما اختلفت فيها األوساط املدنية فإحساسها واحد وفكرها واحد‪،‬‬
‫ومبدأها واحد‪ .‬ولذلك ال بد ان تكون الدعوة فيها واحدة‪ ،‬ال فرق بني مدينة وقرية‪ ،‬وأن‬
‫يكون العمل للتفاعل معها واحدًا‪ .‬وهلذا فإننا ال نعترب ان االختالف املدين عقبة او صعوبة يف‬
‫وجه الدعوة‪.‬‬

‫‪ – 17‬يتعرض احلزب يف هذه املرحلة‪ ،‬أي مرحلة التفاعل اىل خطرين‪ .‬خطر على المبدأ‪ ،‬وخطر‬
‫طبقي‪ .‬أما الخطر المبدئي فانه يتأتى من تيار اجلماعة‪ ،‬والرغبة يف االستجابة لطلباهتا امللحة‪ ،‬ومن‬
‫تغلب الرواسب املوجودة يف آراء اجلماعة على الفكرة احلزبية‪ .‬وبيان ذلك‪ ،‬ان احلزب حني خيوض‬
‫اجملتمع للتفاعل معه مزودًا باملبدأ فإنه يصطدم مبجتمع مليء باملتناقضات‪ ،‬مما ورثه عن اجليل السابق‪،‬‬
‫ومن أفكار رجعية قدمية‪ ،‬ومما أوجده الكفار فيه من مفاهيم مغلوطة‪ ،‬او آراء سياسية او فكرية‪ ،‬او من‬
‫مقاييس نفعية او مصلحية‪ .‬واالصطدام باجملتمع مبا فيه من هذه االفكار سيؤدي حتما اىل التفاعل معه‬
‫وأخذ قيادته على أساس املبدأ‪ .‬فعلى احلزب ان جييد إنزال أفكاره على الوقائع اجلارية وان يظهر بطالن‬
‫وفساد ما يف اجملتمع من آراء وأفكار‪ ،‬وان يعمل على إجياد العرف العام الصاحل القائم على املفاهيم‬
‫املنبثقة عن هذا املبدأ حىت ينجح يف قيادة األمة‪ ،‬لتحتضن فكرته‪ ،‬وتسلس االنقياد له‪ .‬وهذا ما يسهل‬

‫‪94‬‬
‫أمامه عملية تنمية جسمه‪ ،‬واإلكثار من عدد شبابه املؤمنني العاملني‪ ،‬ليكونوا القادة الفعليني لألمة‬
‫يتصرفون معها تصرف الضابط يف قيادة اجليش‪ .‬فان أجاد احلزب ذلك‪ ،‬أِم ن االحنراف‪ ،‬وضمن انقياد‬
‫األمة له حسب املبدأ‪ .‬ألن انقيادها يف هذه احلالة‪ ،‬انقياد وعي‪ ،‬وليس انقيادًا عاطفيًا أعمى‪ ،‬وهذا هو‬
‫الطريق السليم‪.‬‬
‫أما اذا جلأ احلزب اىل طريق أقصر‪ ،‬وأراد ان يقود اجلمهور قبل ان يكتمل التفاعل‪ ،‬وقبل ان‬
‫يوجد الوعي العام عند األمة‪ ،‬فان هذه القيادة ال تكون باألفكار‪ ،‬وهذا اإلنقياد منها ال يكون بناءًا على‬
‫مفاهيم‪ ،‬وإمنا إنقياد عاطفة سرعان ما ختبو وتزول‪ .‬نعم‪ ،‬إنه من السهل انقياد األمة انقيادًا عاطفيًا‪،‬‬
‫وذلك بإثارة ما جييش يف صدرها من مشاعر‪ ،‬وما يكتنفها من أحاسيس‪ ،‬وتصوير مطالبها وغاياهتا بأهنا‬
‫قريبة املنال‪ .‬فان مثل هذا التصوير واإلثارة يف األمة أشبه باخلمر املعّتقة‪ ،‬فاذا كررت هذه اإلثارة وهذا‬
‫التصوير أفقد األمة الوعي‪ ،‬وانقادت انقيادًا أعمى وراءه تريد حتقيق أهدافها وغاياهتا‪ ،‬مستسلمًة له‪،‬‬
‫وتنقاد حسب أمره‪ ،‬فيسوقها سوقًا بعاطفتها ال بفكرها‪ .‬ويكون أعضاؤه هم القادة هلا‪.‬‬
‫اال ان هذا النوع من القيادة واالنقياد يشكل اخلطر املبدئي على احلزب‪ .‬وذلك ان هذا اجلمهور‬
‫املشبع بالتناقضات‪ ،‬املليء باملشاعر الوطنية والقومية والروحية والكهنوتية‪ ،‬يثري التحرك اجلماعي فيه‬
‫عادًة مثل هذه املشاعر‪ ،‬فتظهر يف اجملتمع العنعنات التافهة مثل الطائفية واملذهبية واالفكار القدمية‬
‫كاالستقالل واحلرية‪ ،‬كما تظهر فيه النعرات الفاسدة كالعنصرية والعائلية‪ ،‬فيبدأ التناقض بني اجملتمع‬
‫واحلزب‪ .‬ألن اجملتمع املندفع هبذا احلماس‪ ،‬حياول ان يفرض لنفسه مطالب وأهداف‪ ،‬وينادي بغايات‬
‫آنية أنانية مضّر ة باألمة‪ ،‬ويف الوقت نفسه تتعارض مع املبدأ‪ .‬ويزيد اندفاع هذا اجملتمع مطالبًا بتنفيذ ما‬
‫يريد‪ ،‬فيصبح احلزب بني نارين‪ :‬اإللتزام باملبدأ‪ ،‬وختّلي اجلمهور عنه‪ ،‬أو التخّلي عن املبدأ واإللتزام‬
‫باجلمهور‪ .‬ومها أمران أحالمها مّر ‪ .‬فاإللتزام باملبدأ يعين غضب األمة ونقمتها‪ ،‬وهدم ما بىن‪ ،‬وإبعاده عن‬
‫القيادة‪ ،‬او السيطرة على اجلماعة‪ ،‬وهذه خسارة كبرية جدًا‪ .‬أما األمر الثاين وهو التمسك باألمة‬
‫والتخلي عن املبدأ‪ ،‬او التساهل فيه‪ ،‬فهذا يعين انتحارًا سياسيًا‪ ،‬وفقدانًا لروح احلزب‪ .‬ولذلك كان على‬
‫رجال احلزب أن يلتزموا املبدأ حني يتعارض املبدأ مع مطالب اجلمهور ولو تعرضوا لنقمة األمة‪ ،‬ألهنا‬
‫نقمة ال تلبث ان تزول‪ ،‬وهي سحابة صيف ال تلبث ان تنقشع‪ ،‬وثباهتم على املبدأ سيعيد هلم ثقة األمة‬
‫بشكل أقوى مما كان‪ .‬واحلذر كل احلذر من خمالفة أي حكم من أحكام املبدأ او التهاون فيه‪ ،‬او احليد‬
‫عنه قيد شعرة‪ ،‬ألن املبدأ هو حياة احلزب وهو روحه‪ .‬وهو الذي يضمن له البقاء والتجدد‪ ،‬حىت لو‬
‫انفّض عنه الناس مجيعًا‪ ،‬وانفّض عنه جزء من شبابه‪ ،‬فال جيوز له التهاون يف املبدأ او يف أي حكم من‬
‫أحكامه‪.‬‬
‫وهلذا كان على احلزب أن يدمي صلته بالناس على اساس املبدأ وأن يعمل دائمًا على إنزال‬
‫أفكاره وأحكامه على الوقائع اجلارية مبنيًة على أدّلتها‪ ،‬مستندًة اىل قاعدهتا‪ ،‬حريصًا على اجياد القاعدة‬

‫‪95‬‬
‫الفكرية عند األمة وتعويدها قياس األحداث والوقائع على هذه القاعدة املبدئية‪ .‬فجعل العقيدة يقينية‬
‫عقلية يضمن إبعاد اخلرافات واخلزعبالت‪ ،‬واالفكار العقيدية السقيمة‪ .‬وجعل الشريعة وحيًا من عند‬
‫اهلل‪ ،‬ومقياس احلكم الشرعي هو دليله الذي جاءت به العقيدة‪ ،‬أي اآلية او احلديث‪ُ ،‬يبعد املقاييس‬
‫العقلية عن األحكام واألفعال وينفي حتكيم العقل يف األحكام الشرعية ويبعد حتكيم النفعية واملصلحية‬
‫عن جعلها مقياسًا للمطالب واألحكام‪ .‬وهذا يتطلب االعتناء الكامل يف مرحلة التثقيف باجياد القدرة‬
‫لدى الشباب على تثبيت هذه القواعد عند األمة‪ .‬جلعلها املقاييس اليت تعود اليها حني تفكر يف أي‬
‫مطلب هلا او تسعى ألي هدف‪ .‬ومبقدار جناح احلزب يف مرحلة التثقيف وتوعية الناس على ما عنده من‬
‫مقاييس وقواعد‪ ،‬ونقل األمة الجياد قاعدة فكرية هلا‪ ،‬مبقدار ما يتالىف خطر هذا اخلطر املبدئي‪.‬‬
‫هذا باالضافة اىل وجوب التنقيب دائمًا يف افكار احلزب ومفاهيمه لبقائها صافية نقية‪ ،‬ودوام‬
‫السهر على مصاحل األمة وحماولة رعايتها‪ ،‬ومراقبة ما يكيد الكفار هلذه األمة وكشف خططهم‬
‫وأساليبهم وأعواهنم كشفًا دقيقًا‪ ،‬ودون مداهنة او خداع‪.‬‬

‫وأما الخطر الطبقي‪ ،‬فانه يتسرب اىل رجال احلزب ال اىل األمة‪ .‬وهذا يكون حني يصبح‬
‫احلزب ممثًال ألكثرية األمة‪ ،‬وهو القائد الفعلي هلا‪ ،‬تكون له املكانة املرموقة‪ ،‬واملنزلة املوّقرة‪ ،‬واإلكبار‬
‫التام من قبل األمة واخلاصة من الناس‪ .‬ومثل هذه احلالة تبعث الغرور يف النفس‪ .‬فقد يرى رجال احلزب‬
‫او بعضهم اهنم أعلى مكانًة من األمة‪ ،‬وأفضل منها‪ ،‬وأن منهم األمر وعلى األمة الطاعة‪ .‬فيرتفعون عن‬
‫الناس‪ ،‬دون أن حيسبوا لذلك حسابًا‪ .‬إال ان ذلك سيؤدي اىل تكوين فكرة عند األمة أن هذا احلزب‬
‫طبقة اخرى غريها‪ ،‬وصار احلزب كذلك يشعر بالطبقية‪ .‬وهذا اول طريق اإلهنيار‪ ،‬ألن مكانة احلزب‬
‫وقدرته على العمل إمنا تكمن يف مقدار ثقة األمة باحلزب وخصوصًا البسطاء من الناس وهم العامة‪ .‬فاذا‬
‫أنفضت األمة عنه نتيجة شعورها بأنه طبقة أخرى مستعلية عليها‪ ،‬فان حركة احلزب ُتشّل‪ ،‬ويفقد‬
‫القدرة على تصريف أعماله‪ ،‬ويسّه ل الطريق خلصومه للكيد له‪ .‬وال يستطيع إعادة الثقة به اال جبهود‬
‫مضنية‪ ،‬وأعمال عظيمة‪ ،‬الستعادة هذه الثقة الذي اشتغل يف سبيل حتصيلها عقودًا من الزمن‪ .‬ولذلك‬
‫فان على أعضاء احلزب ان يكون منطلقهم الوحيد يف عملهم السياسي قاعدة واحدة "أهنم خدم األمة"‪.‬‬
‫وأن ُيشعروا األمة بذلك لتزداد ثقة األمة هبم‪ .‬فقد إكتوت بنار الطبقية احلزبية يف كثري من أقطارها‪،‬‬
‫خصوصًا وأن املفاهيم واألفكار اليت محلناها لألمة يف املرحلة السابقة تنّص صراحًة على ان القيادة هي‬
‫خدمة األمة‪ ،‬او أن من يكون يف مركز املسؤولية‪ ،‬عليه دوام السهر على راحة الناس ومصاحلهم‪ ،‬حىت‬
‫قيل وهذا قول حق "أمري القوم خادمهم"‪.‬‬

‫‪ -18‬املرحلة الثالثة هي مرحلة الوصول اىل احلكم‪ .‬سبق أن بّينا ان كل مرحلة يسبقها نقطة‪ ،‬ومنها ان‬
‫مرحلة احلكم يسبقها نقطة اإلرتكاز‪ ،‬أي ان مرحلة احلكم تتضمنها نقطة اإلرتكاز‪ .‬ويدخل احلزب‬

‫‪96‬‬
‫نقطة اإلرتكاز حني يدرك ان األمة قد إحتضنت الفكرة أوًال‪ ،‬مث إحتضنت َمحَلة هذه الفكرة‪ ،‬أي‬
‫إحتضنت املبدأ‪ ،‬ومحلت هذا املبدأ‪ .‬فاذا حتقق ذلك‪ ،‬انتقل احلزب انتقاًال طبيعيًا اىل نقطة اإلرتكاز وهي‬
‫البحث عن مراكز القوى لدفعهم اىل نصرة املبدأ‪ ،‬والعمل على ايصاله للحكم‪ ،‬أي لتنفيذه على الناس‪.‬‬
‫وهذا يتطلب ان يضيف احلزب اىل أعماله األربعة عمًال آخر‪ ،‬وهو البحث عن مراكز القوى‬
‫وتحميلهم هذا المبدأ‪ .‬إال ان هذا العمل قد ال يكون شامًال لكل أجهزة احلزب‪ ،‬بل قد خيصص له‬
‫جهاز خاص مرتبط بقيادة احلزب او ان تباشره القيادة نفسها‪ .‬هذه هي بداية نقطة اإلرتكاز‪ ،‬مث يصار‬
‫اىل املعىن الثاين من نقطة اإلرتكاز‪ ،‬وهي استالم احلكم يف قطر من األقطار ليكون نقطة إرتكاز جلميع‬
‫األقطار األخرى‪ ،‬وتوحيد األمة يف دولة واحدة هي دولة اخلالفة‪ .‬أما نقطة اإلرتكاز بشموليتها فهي‬
‫تعين انتقال احلزب من مرحلة التفاعل بعد حصول التفاعل للبحث عن مراكز القوى‪ .‬وجيب اال يغيب‬
‫عن الذهن أن االنتقال من مرحلة اىل اخرى ال يعين ترك ما كان يقوم له من أعمال‪ ،‬بل إضافة اعمال‬
‫جديدة اىل ما كان يقوم به من اعمال‪.‬‬
‫ففي مرحلة التثقيف كان يقوم بالتثقيف اجلماعي والتثقيف املرّك ز‪ .‬وحني انتقل اىل مرحلة‬
‫التفاعل أضاف اىل عمليه السابقني عملني آخرين مها كشف خطط االستعمار وتبين مصاحل األمة‪.‬‬
‫وحني انتقل اىل نقطة اإلرتكاز أضاف اىل اعماله عمًال آخر‪ ،‬هو طلب النصرة‪ .‬واستمر يف التثقيف‬
‫املركز واجلماعي‪ ،‬وكشف اخلطط وتبيّن املصاحل وما يتطلبه ذلك من وسائل وما يلزمه من إبداع يف‬
‫األساليب‪ .‬فاذا انتقل اىل املرحلة الثالثة كان انتقاله طبيعيًا‪ ،‬وسار يف تطبيق املبدأ سريًا طبيعيًا‪ .‬كما انه‬
‫سار يف عمله – إهناض األمة – ال يتخلى عنه حيث أن هدفه وغايته استئناف احلياة االسالمية‪ ،‬وهذا ال‬
‫يتأتى اال باجياد النهضة فيها‪ ،‬واجياد النهضة يتطلب جهودًا جبارة قبل استالم احلكم وبعده‪ ،‬اال ان‬
‫اعماله تصبح التثقيف املركز والتثقيف اجلماعي ومراقبة احلاكم وحماسبته‪.‬‬

‫اما كيف يتم االنتقال اىل مرحلة احلكم‪ ،‬فان ذلك يتم عن طريق األمة‪ .‬وينّف ذ تنفيذًا إنقالبيًا‬
‫دفعًة واحدًة‪ ،‬وهذا ما يسمى بالطريقة االنقالبية‪ .‬وهذه الطريقة ال تقبل احلكم جمّز ًأ‪ ،‬بل تأخذ احلكم‬
‫كله وتتخذه طريقة لتنفيذ املبدأ‪ .‬كما أهنا ال تقبل التدريج يف التطبيق‪ .‬أي اهنا تطّبقه منذ اليوم األول‬
‫كامًال – مهما كانت الظروف‪ .‬إذن فالطريقة اإلنقالبية الشاملة تعين أخذ احلكم كله دفعًة واحدًة‬
‫وليس التسلل اىل احلكم بوزارة مث إثنتني وهكذا حىت يتم االستيالء على احلكم‪ ،‬بل تأخذه كامًال منذ‬
‫اليوم األول‪ .‬كما أهنا تعين عدم التدرج يف التنفيذ‪ .‬بل اهنا تنفذ كافة األحكام وال تبقي مسألة واحدة‬
‫خارجة عن أحكام املبدأ‪ ،‬او ان تتدرج هبا حىت توصلها اىل حكم احلايل‪ ،‬كما قيل من أن رسول اهلل ‪‬‬
‫تدّر ج يف تطبيق األحكام‪ ،‬مثل أحكام الربا وأحكام اخلمر وأحكام الرقيق‪ .‬ال يقال ذلك‪ ،‬ألن رسول‬
‫َع‬
‫اهلل ‪ ‬كان يلتزم التشريع‪ ،‬ولا شر قبل ورود الشرع‪،‬‬

‫‪97‬‬
‫فكان يسير بالشرع كما نزل‪ .‬واليوم قد اكتمل الشرع‬
‫وليس ألحد أن يزيد ان ُينقص فيه‪ .‬فهذه احلالة اليت عليها الشرع اليوم هي الواجبة التنفيذ‪ .‬ومبجرد‬
‫الوصول اىل احلكم تبدأ الدولة بالسري يف أمور ثالث هي‪ :‬األول تنفيذ المبدأ من حيث أنها هي‬
‫الطريقة الوحيدة لتنفيذ المبدأ‪ .‬ثانيًا العمل على جمع أقطار العالم االسالمي في دولة واحدة‪ .‬وثالثًا‬
‫– وهو العمل األصلي لها – هو حمل المبدأ الى العالم‪ .‬فتضع يف ميزانيتها بابًا خاصًا للدعوة‬
‫والدعاة‪.‬‬
‫أما احلزب فيبقى قائمًا على العمل على هنضة األمة بأعمال ثالث هي‪ :‬التثقيف المركز‬
‫والتثقيف الجماعي ومراقبة تنفيذ المبدأ ومحاسبة الحاكم سواء كان رجاله يف احلكم او مل يكونوا‬
‫يف احلكم‪.‬‬

‫هذه هي اخلطوات ال&يت يس&ري فيه&&ا احلزب يف مع&&رتك احلي&اة‪ ،‬لينق&&ل الفك&رة اىل ال&دور العملي‪ ،‬أي‬
‫الستئناف احلي&&اة االسالمية‪ ،‬وهنض&&ة األم&&ة‪ ،‬ومحل ال&&دعوة اىل الع&&امل‪ .‬ف&&احلزب ه&&و الض&&مانة الجياد الفك&&رة‬
‫وإقام &&ة الدول &&ة وتط &&بيق االسالم ومحل &&ه اىل الع &&امل‪ ،‬ومراقب &&ة سري التط &&بيق‪ ،‬ويف ال &&وقت نفس &&ه محل ال &&دعوة‬
‫لإلرتقاء باألمة او اىل العامل‪.‬‬

‫‪98‬‬

You might also like