Professional Documents
Culture Documents
التكتل الحزبي
1
ح &&د الي &&أس .اال ان الن &&اظر يف األم &&ة جيد اهنا م &&ا زالت أم &&ة معط &&اءة كرمية جتود بفل &&ذات كب &&دها يف سبيل
اخلالص مما تعانيه ،كلما أحست ان هناك طريقًا للخالص ،او ان هناك قيادة موثوقة تسري وراءها.
والناظر يف هذه احلركات ،واملتتبع هلذه احملاوالت جيد اهنا مل تكن أعماًال فردية .وامنا هي
تكتالت او تنظيمات تكتلت على فكرة معينة من اجل حتقيق هدف معني .ومع ذلك فقد فشلت.
وأي خلل يف أي أساس من هذه األسس سيؤدي حتمًا اىل الفشل يف الوصول اىل حتقيق الغاية
اليت يسعى التكتل اىل حتقيقها .وبإلقاء نظرة فاحصة على مجيع احلركات اليت حصلت طيلة القرن
املاضي ،جند أهنا مجيعها قد فشلت من ناحية تكتلية بسبب إمهاهلا هلذه األسس.
حيث أهنا:
كانت تقوم على فكرة عامة غري حمددة .حىت أهنا كانت غامضة ،او شبه غامضة ،عالوة
على اهنا كانت تفتقر اىل التبلور والنقاء والصفاء.
مل تكن تعرف طريقًة لتنفيذ فكرهتا .بل كانت الفكرة تسري بوسائل مرجتلة وملتوية ،فضًال
عن أنه كان يكتنفها الغموض واإلهبام.
كانت تعتمد على أشخاص مل يكتمل فيهم الوعي الصحيح ،ومل ترتكز لديهم اإلرادة
الصحيحة .بل كانوا اشخاصًا عندهم الرغبة واحلماس فقط.
2
ان هؤالء االشخاص الذين كانوا يضطلعون بعبء احلركات مل تكن بينهم رابطة
صحيحة ،سوى جمرد التكتل الذي يأخذ صورًا من االعمال ،وألفاظًا متعددة من األمساء.
أنها كانت تقوم على فكرة عامة غير محددة .حتى أنها كانت غامضة ،او شبه غامضة، -1
عالوة على انها كانت تفتقر الى التبلور والنقاء والصفاء.
نعم ،إن كل تكتل ال بد أن يقوم على فكرة ،فإما ان تكون فكرة عامة او فكرة كلية .فالفكرة
العام &&ة هي الفك &&رة ال &&يت تص &&لح ان تك &&ون أساسًا للتفك &&ري يف اش &&ياء كث &&رية تلتقي يف أساس واح &&د .وأم &&ا
الفك&&رة الكلي&&ة فهي الفك&&رة ال&&يت تص&&لح ان تك&&ون أساسًا لك&&ل ش&&يء .ه&&ذا من حيث التفري&&ق بني الفك&&رة
العامة والفكرة الكلية .فاالفكار القومية واالفكار االقليمية واالفكار الوطنية امنا هي افكار عامة ال تشمل
كافة نواحي احلياة .لكن الفكرة املبدئية هي فكرة كلية تشمل كافة نواحي احلياة.
أضف اىل ذلك أهنا غري حمددة .فالكتل اليت قامت ،منها ما وجد على أساس االسالم (جمد
املسلمني) ،ومنها ما وجد على أساس قومي (عزة العرب والكرامة العربية) ،او على أساس اقليمي وطين
(مثل السوري او …) ،او غري ذلك .فهذه افكار عامة ولكنها غري حمددة.
فمجد املسلمني ،عزة املسلمني ،العودة اىل اهلل ،الرتبية اإلسالمية ،األخوة اإلسالمية ،النهضة
اإلسالمية ،النهضة العربية ،االستقالل ،الوحدة العربية ،الرسالة اخلالدة ،اىل غري ذلك من االفكار او
الشعارات ،ليس هلا معاين حمددة.
– غامضة إعادة جمد املسلمني فقولنا مثًال:
-غامضة عزة املسلمني
-شبه غامضة العودة اىل اهلل
-شبه غامضة الرتبية اإلسالمية
-شبه غامضة ،غامضة األخوة اإلسالمية
-غامضة النهضة اإلسالمية
-غامضة النهضة العربية
-غامضة االستقالل
-شبه غامضة الوحدة العربية
-شبه غامضة الوحدة اإلسالمية
3
وهكذا ،فالغموض هو عدم معرفة القصد وال كيفية الوصول اليه .وأما شبه الغموض فاملعىن
معروف ،ولكنه غري مبني املعامل ،مثل العودة اىل اهلل ،الرتبية اإلسالمية.
وأما فقدانها للتبلور ،فالبلورة هي االنتقال من حالة امليوعة او السيولة اىل احلالة الصلبة.
كتبلور امللح من املاء .واملقصود من عدم البلورة أهنا كانت عبارة عن مشاعر وعواطف عند َمحلتها ،فلم
تتجسد فيهم ،بل مل يستطيعوا حتديد معاملها لو أرادوا شرحها للناس .ولذلك كانت تعتمد على
الشعارات وإثارة املشاعر فقط ،كما هي حاهلا عند معظم احلركات اىل اآلن.
وأما فقدانها النقاء ،فبالنسبة للحركات اإلسالمية ،مل تدرك هذه احلركات ما ُأدخل على
االسالم من افكار غريبة ،مثل القواعد اليت ُأدخلت يف بنية االحكام الشرعية من الفقه الروماين او
الفرنسي .فهناك العديد من القواعد الغربية تدرس على أساس اهنا قواعد وأسس إسالمية ،مثل قاعدة
"العادة حمّك مة" وقاعدة "األصل يف العقود املقاصد واملعاين" وقاعدة "ما ال خيالف االسالم فهو من
االسالم" وغري ذلك.
فالنقاء يعين إبعاد االجسام الغريبة عن الفكرة األساسية لتبقى سليمة بأصوهلا وفروعها .وأما
احلركات غري اإلسالمية كاحلركات القومية والوطنية فلم تدرك خطورة ما محلته من افكار غربية غريبة.
بل اهنم آمنوا هبا وأخلصوا هلا ،مثل احلرية والدميقراطية وغري ذلك .وقد حاولوا ان يفسروا االسالم مبا
يتناسب مع هذه االفكار ،فاّدعوا أهنا من االسالم.
وأما الصفاء فهو وضوح الرؤية .واملقصود هنا بوضوح الرؤية إدراك الصلة بني هذه الفكرة
واألصل الذي انبثقت منه او بنيت عليه .فبالنسبة للمسلمني وَمحلة الدعوة فان صفاء الفكرة يعين ان كل
حكم شرعي تدعو اليه مرتبط بالدليل الذي انبثق منه ،وان كل فكرة تدعو اليها مبنية على فكر أساسي
من عقيدة األمة .ومل يكن ذلك متوفرًا لدى تلك احلركات ومل تستطع ان تفرق بني الشورى
والدميقراطية .بل مل تستطع ان تفرق بني ان الشورى حكم شرعي يرجع اليه االنسان للتوصل اىل رأي
صائب .بغض النظر عما اذا كان هذا االنسان حاكمًا او غري حاكم .فالشورى حكم شرعي مندوب،
وهي اسلوب للتوصل ملا يغلب على الظن بأنه الصواب ،سواءا يف احلكم او يف غريه .وما زلت تسمع
من دعاة االسالم ان نظام احلكم يف االسالم هو نظام الشورى .وبالتايل فهو الدميقراطية احلقيقية.
وأما غري املسلمني من الذين ليس هلم فكرة حمددة ،فقد كان العمل اكرب وأشد .فأخذوا افكار
الغرب كما هي دون إمعان نظر فيما اذا كانت تصلح ألمتهم وجمتمعهم او ال تصلح .وما زالوا على
هذا احلال سواءا يف افكارهم األساسية او يف اساليبهم.
4
أنها لم تعرف طريقًة لتنفيذ فكرتها .بل كانت الفكرة تسير بوسائل مرتجلة وملتوية ،فضًال -2
عن انه كان يكتنفها الغموض واإلبهام.
ان موضوع الطريقة ما زال ملتبسًا فهمه على مجيع احلركات حىت اليوم .بل ال يكادون مييزون
بني الفكرة والطريقة ،واالسلوب والوسيلة .ويتصورون ان أي عمل من االعمال هو طريقة .وأدق من
ذلك ،فاهنم ال مييزون بني الطريقة قبل حتقيق اهلدف ،والطريقة بعد الوصول اليه ،والسري يف تنفيذ
الفكرة.
كثريا ما نقول ان املبدأ هو فكرة وطريقة .فالفكرة هي العقيدة واملعاجلات ومحل الدعوة.
والطريقة هي كيفية احملافظة على العقيدة وكيفية تنفيذ املعاجلات وكيفية محل الدعوة .هذا من حيث
املبدأ ،وأنه فكرة وطريقة .اال ان البحث هنا هو كيفية ايصال هذا املبدأ للحياة ومن مث القيام على
تنفيذه.
وحيث ان البحث هن&&ا ي&&دور ح&&ول التكتالت وفش&&لها من ناحي&&ة تكتلي&&ة ،وليس الفش&&ل يف تنفي&&ذ
فكرهتا ،ف &&إن موض &&وع الطريق &&ة هن &&ا ه &&و الكيفي &&ة ال &&يت ك &&ان على التكت &&ل ان يس &&ري حبس &&بها .أي النظ &&ر اىل
املرحلة املكية من حياة رسول اهلل بالنسبة للتكتلات الإسلامية.
وما هي الاحكام التي قام بها رسول الله . والوعي
على التفريق بين ما هو حكم وما هو وسيلة او اسلوب
لتنفيذ حكم آخر.
5
إذن فالمسألة في هذه الفقرة ليست الطريقة
المقابلة للفكرة في المبدأ .بل هي الطريقة التي
اتبعها رسول الله في ايصال المبدأ للحياة.
وتلخيصها هو:
-تكتل يقوم على مبدأ بفكرته وطريقته،
-وله أمير
-ويقوم هذا التكتل:
)1بايجاد اشخاص مؤمنين به ،و
)2ايجاد أمة او شعب يقبل به ،و
)3ايجاد قوة تمكن هذا التكتل من وضع
المبدأ موضع التنفيذ في الحياة.
-ويتضمن كذلك مجموعة من الاحكام التي تتعلق
بتحقيق هذه الغاية:
فقط، الفكرية بالدعوة )1كالالتزام
والابتعاد عن استعمال الوسائل المادية،
و
)2اطاعة وتنفيذ ما يلزمه به هذا التكتل،
وما يتبناه من افكار ،و
)3تنفيذ ما يتخذه من قرارات.
6
ّم
ولو انهم يحاولون تل سها .واما الإبهام فهو الجهالة
التامة لتلك الكيفية.
7
جهة ثانية فان العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي
تم عليه التكتل عند الجماعات والحركات الإسلامية.
ولكنها اتخذت كفكرة عامة فلا تكفي لأن تكون رابطة.
وحيث ان هذه العقيدة فيها قابلية ان ينبثق عنها
العديد من الاحكام المختلفة التي تؤدي الى تعدد
الأفهام ،واختلاف النظرة للمعالجات وخطوات العمل،
فانه من البديهي ان ينشأ على هذه العقيدة نفسها
ًا
كتل متعددة .ولهذا كان لا بد للجماعة الإسلامية
الواحدة ان يكون لها ثقافة خاصة بها ،أي لا بد لها
ًا
ان تتبنى أحكام لأهدافها وخط سيرها يجتمع الجميع
ًة
تجمعهم لتحقيق على هذه الأحكام فتكون رابط
اهدافهم وتوحد خط سيرهم .فلا يكفي ان يقال ان
العقيدة هي الرابط .بل العقيدة والثقافة الحزبية
هي الرابطة التي تجمع بين الاعضاء ،لتو د الهدف
ِّح
ولتو د العمل ولتحدد خط السير للجميع.
ِّح
هذه هي الحال التي عاشتها تلك الحركات،
واندفعت تريد إنهاض الأمة على أساسها .فمن البديهي
ان فاقد الشيء لا يعطيه .إذ قامت هذه الحركات بتفريغ
مخزونها من الحماس ،وانتهت بالفشل .وقام على
أنقاضها حركات اخرى ،وكان مصيرها كمصير سابقاتها.
ولولا ان هذه الأمة معطاءة وعقيدتها عقيدة عملية
تكتلية لانتهت هذه الحركات الى يأس يصيب الأمة
ويميت فيها روح العمل والتكتل .وهذا ما كان يراد
لها .الا ان عقيدتها -ولله الحمد -والتي تجري فيها
مجرى الدم منعتها من الوصول الى حالة اليأس او
اللامبالاة .مع انها وجدت في قطاع واسع من الناس.
مع انه كان من الطبيعي لهذه الحركات أن تفشل
لأنها لم تقم على فكرة واضحة محددة ،ولم تعرف طريقة
مستقيمة ،ولم تقم على أشخاص واعين ،ولا على رابطة
صحيحة.
8
الأربع .وأما تفصيل ذلك ،فان المتتبع لتلك الحركات
يجد انها حركات إسلامية او حركات قومية.
9
َّج
ُت
فكانت هذه الحركات و ه مباشرة من الغرب وتعقد
اجتماعاتها في لندن او باريس وتدعو الى النهضة على
أساس القومية متخذة من اوروبا مثلها الأعلى ،وكيف
ان دولها قامت على أساس قومي ،وأنها نهضت على أساس
ّل
قومي ،وأنها تخ ت عن افكارها الدينية فنهضت .ولذلك
فلا بد من اقامة الوحدة العربية لتنهض الأمة
العربية على هذا الأساس .وكذلك كان الأتراك يرون ان
نهضتهم يجب ان تقوم على الأساس القومي.
10
كما ان هؤلاء العملاء باستبدادهم وظلمهم،
وفساد الانظمة التي جاءوا بها ،وسوء الاوضاع
الاقتصادية التي خلقوها ،دفعوا الناس الى القيام
بحركات او اعمال او ثورات أدت بالتالي الى تثبيت
أقدام الكفار وعملائهم .كل هذا بسبب غياب الفكرة
والطريقة عن أذهان القائمين على هذه الحركات.
11
ماذا؟ فقولنا عقيدة يحدد ذلك من حيث ان العقيدة هي
الفكرة الكلية عن الكون والانسان والحياة .فبداية
هذا الكون وهذه الحياة وهذا الانسان ،وتقرير
حقيقتها من حيث أنها أزلية أم مخلوقة لخالق ،وبيان
علاقتها بمن أوجدها ،أي ما قبلها ،وتحديد علاقتها
بما بعدها .إن هذا الأمر يقرر حقيقة الفكر الراقي
بصفتيه العمق والشمول .فالعمق يبين ارتباطها
بخالقها أو أزليتها .والشمول يدل على ان البحث قد
ّس
اشتمل على كل ما يمكن ان يقع عليه الح .فجعل هذا
الأساس فكرة أساسية وفهمه بهذا الشكل يو د عند
ِج
الانسان طريقة معينة في التفكير ،وفي نظرته
للأشياء والأحداث .وبهذا يصبح مثل هذا الانسان
ًا ًا ًا
انسان راقي أي ناهض .
12
ايجاد شعب او أمة تقبل بهذه النظم واألحكام ،لتنّف ذ عليهHا .ثم الوصHول الى قHوة تسHتطيع ان تضHع
هHHذه النظم واألحكHHام موضHHع التنفيHHذ .فتقHHوم الدولHHة اإلسHHالمية ،طبيعيًHا ،في ذلHHك القطHHر .فتنفHHذ فيHHه
أحكHHام االسHHالم ،وتبHHدأ بض ّHم أقطHHار العHHالم االسHHالمي ،وحمHHل الHHدعوة الى العHHالم .هHHذه هي طريقHHة
االسالم في الوجود واالنتشار ،باعتباره رسالة انسانية عالمية خالدة.
نعم ،ان الع&&امل كل&&ه مك&&ان ص&&احل لل&&دعوة اإلسالمية .غ&&ري ان&&ه ملا ك&&انت البالد اإلسالمية م&&ا زال
أهلها مسلمون ويعتقدون العقيدة اإلسالمية ،فالدعوة فيهم هلا سببان:
)1السHHبب االول :ت&&ذكري ه&&ؤالء املس&&لمني ب&&ان اجياد االسالم يف واق&&ع احلي&&اة ،وتنفي&&ذ أحكام&&ه ،ومحل&&ه
للعامل فرض عليهم .وقد تعّطل هذا الفرض بسبب غي&&اب اخلالف&&ة .فإعادهتا ف&&رض .وم&&ا زال يف األم&&ة
الكثري من التقاة الذين خيشون اهلل.
)2والس HHبب الث HHاني :أن ه& &&ؤالء املس& &&لمني م& &&ا زالت العقي& &&دة اإلسالمية حي& &&ة يف نفوسهم ،ول& &&و أهنا
اقتصرت على العقيدة الروحية .هلذا كان الواجب ان ُيبدأ هبم لتذكريهم بتق&وى اهلل ووج&وب العم&ل
لع&&ودة االسالم اىل واق&&ع احلي&&اة ،وتوض&&يح العقي&&دة السياسية يف االسالم ،ومزجه&&ا بالعقي&&دة الروحي&&ة،
بشكل ال ينفصل أبدًا.
وملا ك &&انت البالد العربي &&ة ج &&زءا من البالد اإلسالمية وتتكلم اللغ &&ة العربي &&ة ،واللغ &&ة العربي &&ة ج &&زء
ج& &&وهري يف االسالم باعتباره& &&ا لغ& &&ة الق& &&رآن فهي ج& &&زء من& &&ه .وهي عنص& &&ر أساسي من عناص& &&ر الثقاف& &&ة
اإلسالمية .باعتب&&ار ان الثقافة اإلسالمية هي مHا جHاءت بHه العقيHدة – أي النصHوص الشHرعية :آيHات
وأحHHاديث – ،ومHHا كHHانت العقيHHدة اإلسHHالمية سHHببًا في بحثHHه :مثHHل علHHوم اللغHHة العربيHHة .وهبذا اعت&&ربت
اللغ&&ة العربي&&ة عنص&&را أساسيا من عناص&&ر الثقاف&&ة اإلسالمية .إذ أن&&ه ال ميكن فهم م&&ا ج&&اءت ب&&ه العقي&&دة من
آيات وأحاديث اال باللغة العربية .فلهذا كان األوىل ان ُيبدأ بالبالد العربية .هذه واحدة.
وأما األخرى فان البدء يكون حيث كان الشخص الذي ملعت يف ذهنه هذه الفك&&رة ،م&&ا دام ان
االسالم مل حيدد نقط&&ة اإلبت&&داء .فل&&و ملعت ه&&ذه الفك&&رة يف ذهن أح&&د من أبن&&اء اهلن&&د او ف&&ارس لك&&ان علي&&ه
ان يب&&دأ حيث ه&&و ،وه&&و ليس ملزم&ًا ب&&أن ينتق&&ل بدعوت&&ه اىل البالد العربي&&ة .ش&&ريطة ان تك&&ون اللغ&&ة العربي&&ة
هي الوسيلة الوحي &&دة لفهم ه &&ذا ال &&دين وه &&ذه ال &&دعوة .وكHHان ال بHHد من مHHزج الطاقHHة العربيHHة بالطاقHHة
اإلسالمية لتّتِح د اللغة العربية باالسالم كما أرادها اهلل .ولما فيهمHHا من القHHدرة على التHHأثير والتوسHHع
واالنتشار.
13
أم &&ا قHHدرة اللغHHة العربيHHة على التHHأثير ف &&ذلك لس &&عة م &&ا فيه &&ا من املف &&ردات ال &&يت متكن من تص &&وير
الواقع تصويرًا دقيقًا يؤثر يف املقابل حبيث جيّس د احلادث او الواقع له كأنه يراه على حقيقته .فحني وض&&ع
يف اللغ&&ة – على سبيل املث&&ال – سبعني امسًا لألسد ،فق&&د ك&&انت ه&&ذه االمساء تص&&ور األسد يف ك&&ل حال&&ة
هو فيها ،وليست ألفاظًا مرتادفة .ان هذه القدرة على تصوير الوقائع واألحداث هلا أبلغ األثر يف املقاب&&ل.
حيث ان إحساس االنسان إمنا يتأتى من إحساسه بأحد حواسه اخلمس لشيء م&&ا .فال نس&&تطيع ان ن&&درك
حرارة النار اال بعد مّس ها ،أي االحساس هبا حباسة اللمس .فامكانية جتسيد الواقع باأللفاظ حبيث يصبح
واقعًا جمّس دًا أمامه حيّس ه ويلمسه ويسمع به ويشّم ه ،جيعله يتصوره واقعًا جمسدًا أمامه .فان ه&ذا التجس&يد
يلهب املشاعر ويذكي األحاسيس فيحدث التأثري .هذا من حيث التأثري.
وأم&&ا التوسع ف&&ان م&&ا احتوت&&ه اللغ&&ة العربي&&ة من قواع&&د يف النحت واالش&&تقاق والتع&&ريب والتش&&بيه،
جيعله&&ا تتس&&ع ملا يس&&تجّد من أش&&ياء ووق&&ائع وأح&&داث .فعمليHHة التعHHريب وهي أخHHذ االشHHياء المسHHتجدة
باسمائها التي سميت بها ،وإخضاعها فقط للميزان الصHرفي لتصHبح الكلمHة عربيHة الHوزن ،أكHثر من
كافيHHة .وال ض&&رورة فيه&&ا للتع&&ريب ب&&املعىن كم&&ا يظن بعض الن&&اس وكم&&ا تق&&وم ب&&ه جمامع اللغ&&ة العربي&&ة من
جه &&ود ض &&ائعة .فكلم &&ة تلف &&ون تبقى تلف &&ون ألهنا ب &&وزن ع &&ريب ،وال يص& &ّح ان ُتع& &َّر ب ب &&املعىن ك &&أن يق &&ال
"هاتف" .وهبذا تبقى اللغة العربية فيه&ا قابلي&ة االتس&اع لتش&مل ك&ل م&ا ميكن ان يس&تجّد من أمساء وألف&اظ
ومعاين .وقد استعمل القرآن الكرمي هذا االسلوب .وأظن ان اللغ&ة العربي&ة هي اللغ&ة الوحي&دة ال&يت حتتف&ظ
بأص&&التها يف ه&&ذا امليزان الص&&ريف ال&&ذي مييزه&&ا عن غريه&&ا من اللغ&&ات .وبع&&د خض&&وع ه&&ذه الكلم&&ة او تل&&ك
للم&يزان الص&ريف ،يص&ار اىل اش&تقاق أفع&ال من ه&ذه األمساء ،بنفس قواع&د االش&تقاق العربي&ة .فيق&ال :تلفن
يتلفن تلفنة ،وهكذا.
واما االنتشار فاهنا القرتاهنا باالسالم وكوهنا لغ&&ة الق&&رآن وال يق&&رأ اال هبا ،من الب&&ديهي ان تنتش&&ر
يف كل قطر يصل اليه االسالم .هذا من حيث اللغ&ة العربي&ة .أي من حيث الطاق&ة العربي&ة .فال يظّنن ظ&اٌن
أن عب&&ارة الطاق&&ة العربي&&ة يع&&ين الع&&رب والعروب&&ة .ب&&ل املقص&&ود بالطاق&&ة العربي&&ة ه&&و اللغ&&ة العربي&&ة ليس غ&&ري.
ومزجها بالطاقة اإلسالمية يعين جعلها اللغة الرمسية لألمة اإلسالمية والدولة .فال يؤَذن باجراء اية معامل&&ة
اال باللغة العربية.
14
من خ &&ريات ،فكأمنا ينق &&ل الس &&امع اىل تل &&ك اجلن &&ة فيعيش يف ظالهلا .وحني يص &&ف ع &&ذاب جهنم ،تقش &&عّر
جلود السامعني وكأهنم حيسون هليبها .ونالحظ ذلك يف كثرة االفعال لتق&&ريب الفهم وجتس&&يد األم&&ر .من
مث & &&ل قول & &&ه تع & &&اىل :و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان
من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى األرض فمثله كمثل الكلب إن تحمل
عليه يلهث او تتركه يلهث .او قوله :مثل الذين ُح ّم لوا التوراة ثم لم يحملوها
كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كّذ بوا بآياتنا ، فكيف بمن
ْل ُحّم
ل القرآن ثم لم يحم ه؟ او قوله تعالى يا أيها الناس
ُض رب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون هللا لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا لKKه
وإن يسلبهم الذباب شيئًا ال يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب .وهكذا فمن
املالحظ ان ه&ذه االمثل&ة امنا ي&راد منه&ا تق&ريب املف&اهيم لل&ذهن ،بالتش&بيه ،لتجس&يد الواق&ع يف ذهن الس&امع
ليثري فيه من األحاسيس ما يدفعه للتفكري.
وأم&&ا التوسHHع ،فمن املع&&روف ان النص&&وص إمنا ج&&اءت خبط&&وط عريض&&ة فيه&&ا ع&&اجلت األسس يف
حي&&اة االنس&&ان من حيث ه&&و انس&&ان .وُيس&&تنَبط من ه&&ذه اخلط&&وط العريض&&ة معاجلات ملا يس&&تجّد من وق&&ائع
وأح&&داث .ومبا أن الوق&&ائع واألح&&داث دائم&&ة التج&&دد ،فك&&ذلك األحك&&ام املس&&تنَبطة ت&&واكب ه&&ذه الوق&&ائع
واألحداث .وهذا يعين التوسع يف األحك&ام ومواكب&ة ك&ل م&ا يس&تجّد من أح&داث .ومبا أن النص&وص ال&يت
تض&&منت ه&&ذه املعاجلات واألفك&&ار األساسية إمنا هي نص&&وص عربي&&ة وبأساليب عربي&&ة ،وفهمه&&ا وإمكاني&&ة
االستنباط منه&&ا ال ب&&د ل&&ه من فهم اللغ&&ة العربي&&ة فهم&ًا ميكن&&ه من إدراك مفهومه&&ا ومنطوقه&&ا ومعقوهلا ،هلذا
كان التالزم مع إمكانية التوسع أمرًا حتميًا.
واما االنتشار ،فمن البديهي ان االسالم جاء خياطب عقل االنس&&ان من حيث ه&&و انس&&ان ،بغض
النظ &&ر عن لون &&ه او جنس &&ه او موطن &&ه .فإمكاني &&ة االعتق &&اد ب &&ه حتمي &&ة من قب &&ل أي انس &&ان ألن &&ه خياطب ق &&واه
العاقل &&ة .ول &&ذلك ف &&ان االسالم ينتق &&ل من قط &&ر آلخ &&ر ومن انس &&ان آلخ &&ر انتق &&اًال طبيعي &ًا ،ألن االنس &&ان ه &&و
االنس&&ان حيثم&&ا ح&ّل او ارحتل .وق&&د الحظن&&ا كي&&ف ان االسالم ق&&د انتش&&ر يف أق&&ل من نص&&ف ق&&رن ليش&&مل
معظم أج &&زاء املعم &&ورة املعروف &&ة يف ذل &&ك العص &&ر .ويس &&تمر انتش &&اره م &&ع انتق &&ال أبنائ &&ه سواءا باجله &&اد او
التجارة او االنتقال الطبيعي .وقد نالح&ظ كي&ف انتص&&ر االسالم حني ُه زم أهل&ه .انتص&&ر على املغ&&ول حني
ُه زم املس &&لمون أم &&ام املغ &&ول .فلم متِض سوى ف &&رتة قص &&رية ح &&ىت اعتن &&ق املغ &&ول االسالم وق &&اموا بنش &&ره يف
الشرق األقصى.
ونالح&&ظ او مما جيب أن نالح&&ظ أن&&ه حني محل االسالم ممتزج &ًا بالطاق&&ة العربي&&ة جع&&ل البالد ال&&يت
اعتنقت &&ه ممتزج &ًا تص &&بح وكأهنا بالدًا عربي &&ة مث &&ل بالد الش &&ام والع &&راق ومشال افريقي &&ا .وأم &&ا البالد ال &&يت محل
15
االسالم اليه&ا منفص&ًال عن الطاق&ة العربي&ة فان&ه مل حُي دث فيه&ا األث&ر ذات&ه .وك&ان ه&ذا تقص&ريًا من العباسيني
فما بعدهم كالعثمانيني.
وهلذا نقول أنه ال بد من مزج الطاق&ة العربي&ة بالطاق&ة اإلسالمية ،ملا يف امتزاجهم&ا من ق&وة الت&أثري
والتوسع واالنتش&ار .وهلذا ك&ذلك ف&ان من الط&بيعي أن يب&دأ العم&ل يف البالد العربي&ة وأن تق&ام ن&واة الدول&ة
اإلسالمية يف البالد العربي&&ة .ومن مث تق&&وم بض &ّم بقي&&ة األج&&زاء اليه&&ا من البالد العربي&&ة او غريه&&ا ،ح&&ىت يتم
توحيد العامل االسالمي يف دولة واحدة تقوم حبمل االسالم للع&&امل .اال ان&ه وإن ك&ان من احملَّتم ب&دء العم&ل
يف البالد العربي &&ة ،اال ان &&ه من احملَّتم ايض& &ًا ان ُترَس ل ال &&دعوة اىل سائر البالد اإلسالمية ،وأن ُيعَم ل فيه &&ا
ليوَج د فيه &&ا ال &&وعي على وج &&وب استئناف احلي &&اة اإلسالمية ،واالستعداد لإلنض &&مام اىل جس &&م الدول &&ة
الناشئة ،وما ميكن ان يوَض ع لذلك من اساليب.
ه &&ذا م &&ا نعتق &&ده من وج &&وب اجياد هنض &&ة حقيقي &&ة تق &&وم على أساس املب &&دأ االسالمي ،ويص &&ار يف
ذلك بالفكرة اليت بّينا.
أع &&ين :تكتًال يض &&ع مب &&دأ االسالم فك &&رة أساسية ينطل &&ق هبا يف سبيل اجياد النهض &&ة .ه &&ذا املب &&دأ
بفكرت&&ه وطريقت&&ه يق&&وم التكت&&ل حبمل&&ه وال&&دعوة ل&&ه عاملي&ًا .ولكن&&ه يعم&&ل ل&&ه يف البالد العربي&&ة ممتزج&ًا بالطاق&&ة
العربي&&ة ،ح&&ىت يتم حتقي&&ق اقام&&ة دول&&ة إسالمية ،تق&&وم جبم&&ع بقي&&ة البالد اإلسالمية يف دول&&ة واح&&دة ،حتم&&ل
االسالم للعامل.
16
وأم &&ا الطريق HHة في &&ه فهي :فهي األحك &&ام ال &&يت بّينت كيفي &&ة احملافظ &&ة على العقي &&دة ،وكيفي &&ة تنفي &&ذ
املعاجلات ،وكيفية محل الدعوة.
ففي المحافظة على العقيدة :أحكام شرعية حتافظ على العقيدة ،أبرزها قتل املرت&ّد ،وتعزي&&ر من
تبدو منه أية اعمال فيها إساءة للعقيدة ،مثل أخذ العقيدة بالظن.
أما كيفية حمل الدعوة :فقد بنّي الشارع فيه&ا أحكام&ًا كث&رية ج&دًا ،على رأسها اجله&اد وتنظيم
السياسة اخلارجية لألمة اإلسالمية.
وحني نق &&ول ال ب &&د من تفّه مهم &&ا لك &&ل تكت &&ل ،إمنا نع &&ين أن أي مجاع &&ة تس &&تهدف اجياد النهض &&ة
احلقيقية فمن أوجب ما جيب عليها أن تفعله ه&و أن تفهم املب&دأ بفكرت&ه وطريقت&ه .فال تأخ&ذ الفك&رة دون
طريقته&&ا ،وإال ك&&انت فلس&&فة خيالي&&ة .وال تأخ&&ذ الفك&&رة منفص&&لة عن طريقته&&ا ،ب&&ل ال بHHد من الربHHط بين
الفكرة والطريقة .ف&&اذا ُعلم أن طريق&&ة تنفي&&ذ األحك&&ام مجل&&ة وتفص&&يال هي الدول&&ة اإلسالمية ،وأن أحك&&ام
الطريق &&ة بش &&كل ع &&ام إمنا يق &&وم على تنفي &&ذها الدول &&ة ،ب &&ل وحيُر م على الف &&رد مباش &&رة تنفي &&ذ غالبي &&ة ه &&ذه
17
األحكام ،إذن فالتفّه م جيب أن يشمل الدولة اإلسالمية :م&ا هي ،وم&ا هي أحكامه&ا ،وص&الحياهتا ،وك&ل
م&&ا حيي&&ط هبا باعتباره&&ا طريق&&ة تنفي&&ذ املب&&دأ .وال يكفي فهم الفك&&رة فق&&ط .ب&&ل ال ب&&د من فهم الفك&&رة فهم&ًا
واضحًا وفهم الطريقة كذلك .وال بد من فهم األحكام املوصلة القامة الدولة باعتبارها أحكامًا اشتملت
عليها الطريقة ،وهي جزء منها .أي معرفة الطريقة املوصلة الجياد الدولة اليت هي طريقة تنفيذ األحكام.
)7فهم أن&ه ل&و ُعم&ل على نش&ر االسالم وتقّيد ب&ه أبن&اؤه بش&كل ع&ام دون أن تك&ون هلم دول&ة ،فس&يبقى
أ) إقامة احلدود. 4/5االسالم معَّطال .ومن ذلك:
ب) محاية الثغور.
ت) رعاية الشؤون.
ث) محل الدعوة للعامل باجلهاد.
هذا ما نقصده من قولنا بضرورة تفّه م املبدأ مسبقًا ألي تكتل يريد النهوض باألم&ة .أي ه&ذا م&ا
نقص&&ده بوض&&وح الفك&&رة والطريق&&ة .حيث أنن&&ا قلن&&ا أن من اسباب الفش&&ل الرئيس&&ية من ناحي&&ة تكتلي&&ة ع&&دم
وض&&وح الفك&&رة ،وع&&دم وض&&وح الطريق&&ة .فق&&د ح&ّد دنا يف الفك&&رة م&&ا نري&&د ونفين&&ا عنه&&ا امليوع&&ة والت&&أرجح
وأبعدنا عنها كل فكر خارج عنه&&ا من حيث تقّي دنا مبا انبث&ق عن العقي&دة من أحك&ام ،وجعلناه&&ا واض&&حة
بّينة للعيان من حيث ربط كل حكم بالدليل الذي استنبط منه.
بعد ه&ذا البي&ان الش&ايف للمب&دأ وجعل&ه متيس&رًا لك&ل خملص يري&د الس&ري يف طري&ق النهض&ة ،ف&إن أي
تكتل يقوم على مثل هذا الوضوح وهذا الفهم ال بد وأن يك&&ون تكتًال مؤثرًا .وذل&&ك بقدرت&&ه على إن&&زال
افك&&اره على الواق&&ع احلايل مبّين&ًا لألم&&ة ُقرب ذل&&ك أو ُبع&&ده عن عقي&&دهتا .ويس&&تطيع أن حيرك ج&&ذوة االميان
فيها.
18
كم&&ا ال ب&&د أن يك&&ون إنشHHائيًا أي يت&&ابع م&&ا حيص&&ل يف األم&&ة من أح&&داث ووق&&ائع ،مس&&تنبطًا لك&&ل
حادث حكمًا جديدًا يعاجل هذا الواقع .ويرتقي باألم&ة من إدراكه&ا لواقعه&ا احلايل ،اىل الواق&ع ال&ذي يري&د
ان ينقله &&ا الي &&ه .ي &&رتقي باألم &&ة من تفكريه &&ا الس &&طحي ،اىل التفك &&ري العمي &&ق ال &&ذي ال يق &&ف عن &&د مظ &&اهر
االشياء .بل يبحث يف األحداث ،واسباهبا ،ومسبباهتا ،وكيفية معاجلتها ،حماوًال ان يوجد يف األمة طريقة
معينة يف التفكري.
فاذا ما سار التكتل على هذا النحو ،فانه يص&بح ج&ديرًا ب&أن حيتض&نه اجملتم&ع وه&و ي&رى أن&ه الق&ائم
على مص &&احله ،ال &&واعي على م &&ا حُي اك ض &&ده من م &&ؤامرات ،وأن يتكّف ل &&ه ويق &&وم حبمايت &&ه اذا اقتض &&ى األم &&ر.
ذل&&ك ألن&&ه تكت&&ل واعي على م&&ا يق&&ول .فحني يط&&رح فكرت&&ه إمنا يطرحه&&ا بوض&&وح كام&&ل قارن&ًا ك&&ل حكم
فيه&&ا بال&&دليل ال&&ذي استنبط من&&ه ،ب&&ل وبكيفي&&ة االستدالل ،طالب &ًا من الن&&اس أن يس&&ألوا دائم &ًا عن ال&&دليل،
سواء باالفكار او باالحكام او باآلراء .فاالنقياد األعمى ال يري&ده ه&&ذا التكت&ل ،وال يس&عى الي&ه .ب&ل يري&د
قي&&ادة واعي&&ة ،وانقي&&ادًا عن وعي وبص&&رية .ك&&ذلك حني يتح&&دث عن الطريق&&ة يب&&دو مبص&&رًا للطريق&&ة ،سواء
كما جاءت يف الكتاب والس&ّنة ،او مبا فهم من سرية املص&طفى . ويب&دو من ه&ذا الوض&وح يف الرؤي&ة،
والفهم للفكرة ،أن قضية هذا التكتل مفهومة عنده ،وجعلها قضيته املص&ريية .قض&ية ه&ذا التكت&ل النه&وض
باألمة ،وهذا ال يتأتى اال باستئناف احلياة اإلسالمية ،وهذا ال ميكن اال بإقامة دولة إسالمية.
ه & & &&ذا من حيث األساس األول يف التكت & & &&ل وسلوكه طري & & &&ق النهض & & &&ة ،أي من حيث الفك & &&رة
والطريق&ة .أم&ا من حيث األش&خاص الق&ائمني على ه&ذا التكت&ل ووعيهم وإخالص&&هم وطريق&ة ربطهم ،فال
تقل أمهية عن وض&وح الفك&رة ووض&وح الطريق&ة .ول&ذلك ال ب&د من استعراض احلرك&ات الس&ابقة من ه&ذا
املنطلق.
ونتيج &&ة هلذا االستعراض وج &&دنا ان احلرك &&ات ال &&يت ظه &&رت خالل الق &&رن املاض &&ي ك &&انت طريق &&ة
تكتله&&ا فاسدة .فهي مل تقم على أساس ح&&زيب متفهم لفكرت&&ه وطريقت&&ه .إمنا ق&&امت على أساس مجعي ،أو
حزيب إمسًا .والسبب يف ذلك يظهر من استعراض واقع اجملتمع يف حين&ه ،وتص&ّو ر الن&اس ل&ه وفك&رهتم عن&ه.
ونستطيع ان نقسم ذلك اىل مرحلتني :مرحلة ما قبل سقوط الدولة العثمانية ،ومرحلة ما بعدها.
أم&&ا مرحلHة مHا قبHل سHقوط الدولHة فق&&د ك&&ان املس&&لمون يف ذل&&ك ال&&وقت يش&&عرون ب&&أن هلم دول&&ة
إسالمية ،على م& &&ا فيه& &&ا من ض& &&عف وه& &&زال ،وعلى اختالف تص& &&ورها وفهم حقيقته& &&ا ،بع& &&د أن ب& &&دأت
تتس&&رب االفك&&ار القومي&&ة اىل نف&&وس الن&&اس .ول&&ذلك فق&&د ك&&انت الدول&&ة هي موض&&ع البحث ومرك&&ز التنُّب ه
والتفكري .ولذلك فقد كان تفكري املسلمني منصّبًا على حماولة اصالح تلك الدولة ،ك&ٌل حبس&&ب تص&ّو ره.
فق&&د ك&&ان الع&&رب ي&&رون ان ه&&ذه الدول&&ة ق&&د هض&&مت حق&&وقهم ،وظلمتهم ،وأساءت مع&&املتهم .خصوص&ًا
19
وأهنم مؤمن&&ون بأهنا دول&&ة إسالمية ،وهم مس&&لمون ،واالسالم ال يف&&رق بني ع&&ريب وعجمي .اال ان وج&&ود
الفك&&ر الق&&ومي وتس&ّر به للنف&&وس ،جع&&ل النظ&&رة للدول&&ة ال من زاوي&&ة أهنا أساءت التط&&بيق لالسالم ،ب&&ل من
زاوية معاملتها هلم باعتبارهم عربًا .خصوصًا بعد وجود أح&زاب قومي&ة مث&ل ح&زب االحتاد وال&رتّقي ال&ذي
أراد بسياسته وتوجيه الغرب أن يشعر العرب مجيعًا هبذا الشعور ،خصوص&ًا وق&د تبىّن سياسة الترتي&ك ،او
ما قيل من دعايات حول ذلك .وقد ساعد على انتشار مثل ه&ذه الفك&رة فص&ل الطاق&ة العربي&ة عن الطاق&ة
اإلسالمية ،أي ع&&دم جع&&ل اللغ&&ة العربي&&ة لغ&&ة الدول&&ة الرمسية .وهلذا ك&&ان نش&&اط السياسيني واملفك&&رين من
املس &&لمني من أبن &&اء األم &&ة – الع &&رب خاص &&ة – يتج &&ه اىل املطالب &&ة باالص &&الحات ،او العدال &&ة يف املعامل &&ة،
واملس &&اواة .وق &&د انتش &&رت مث &&ل ه &&ذه الفك &&رة يف نف &&وس الن &&اس انتش &&ار الن &&ار يف اهلش &&يم "ح& &ّر يت ع &&دالت
مس&&اوات" ،وهي ختفي وراءه&&ا الكث&&ري .وه&&ذا م&&ا ي&&دل على جهال&&ة الق&&ائمني على ذل&&ك بالنهض&&ة وكيفي&&ة
الوصول اليها.
وهذا ما كان عليه غالبية املسلمني .اال انه يف هذا العصر بال&ذات ،ب&ل من&ذ فش&ل الغ&زو الص&لييب،
ب &&ات الغ &&رب يفك &&ر يف اساليب اخ &&رى حملارب &&ة املس &&لمني ،ب &&ل حملارب &&ة االسالم .فلج &&أ اىل الغ &&زو الثق &&ايف،
خصوص&ًا وأن الدولة العثمانية كHان هّم هHا القHوة العسHكرية ،ولم تتنّب ه ألثHر الناحيHة الفكريHة في حيHاة
النHHاس والمجتمHHع ،إم &&ا جهال &ًة وإم &&ا النش &&غاهلا طيل &&ة الق &&رن الس &&ابق حبرب مس &&تمرة م &&ع الع &&امل بكامل &&ه يف
حينه .اال ان ذلك ال يغري من الواقع شيئًا ،والنتيجة واحدة يف احلالتني .فقد ب&ات الع&امل االسالمي ي&رتدى
يف أودية االحنطاط ،حىت وصل اىل ما وص&ل الي&ه من جهال&ة .ومث&ل ه&ذا الواق&ع سّه ل عملي&ة الغ&زو الثق&ايف
املغّلف &&ة باملس &&اعدات الطبي &&ة ت &&ارة ،وت &&ارة باالرساليات التبش &&ريية ،وأخ &&رى باملس &&اعدات الثقافي &&ة كإدخ &&ال
آالت الطباع&ة وغ&ري ذل&ك ،حامل&ة معه&ا مسوم ال&دعوة القومي&ة ،وال&دعوة اىل االستقالل ،واالنفص&ال وغ&ري
ذلك .هذا يف الداخل .وأما يف اخلارج ،فق&&د فتحت اوروب&ا اب&واب جامعاهتا ألبن&اء املس&لمني حبج&ة العلم.
واحلقيق &&ة أهنا ك &&انت عملي &&ة غس &&ل أدمغ &&ة ،وحتميلهم فك &&ر الغ &&رب وثقافت &&ه .ح &&ىت هتّي أ هلم جمموع &&ات من
الشباب الذين أمجع&وا على ه&دف مش&رتك .وه&و االستقالل واالنفص&ال .واستطاعت فرنس&ا وبريطاني&ا ان
تقيم من ه&&ؤالء تكتالت اجتمعت على ه&&ذا اهلدف ،وب&دأت تعق&&د اجتماعاهتا يف لن&دن وب&اريس وترعاه&&ا
بريطاني&&ا وفرنس&&ا رعاي&&ة كامل&&ة .ونش&&أ يف البالد العربي&&ة تكتالت متع&&ددة كله&&ا تط&&الب هبدف واح&&د ه&&و
االستقالل عن الدول &&ة العثماني &&ة .ح &&ىت أوج &&دوا على ه &&ذا اهلدف رأي &ًا عام &ًا ساعدهم على حتقي &&ق ذل &&ك
اهلدف .ب &&ل أدى يف احلقيق &&ة اىل وج &&ود الث &&ورة العربي &&ة .وك &&انت نتيجت &&ه ه &&دم اخلالف &&ة ومتكني الكف &&ار من
بسط نفوذهم على بالد املسلمني.
وهلذا نق&ول أن ه&ذا النف&ر استطاع مبس&اعدة الغ&رب ان يوِج د فك&رة معين&ة وهي االستقالل ،وأن
يب&&ين عليه&&ا ثقاف&&ة معين&&ة هي ثقاف&&ة الغ&&رب ،ويوِح د ه&&دف اجلمي&&ع على اقام&&ة دول&&ة عربي&&ة ،وازال&&ة اهليمن&&ة
والظلم واالستبداد ال &&ذي ك &&ان يع &&اين من &&ه الش &&عب الع &&ريب حس &&ب رأيهم .فك &&انت على ه &&ذا األساس
20
تكتالت حزبي &&ة امسًا ،وأع &&ين أهنا أوج &&دت العناص &&ر األساسية للتكت &&ل ،ولكنه &&ا أسس غامض &&ة او ش &&به
غامض &&ة ،لكنه &&ا ك &&انت كافي &&ة ألن توّح د بني عق &&وهلم ومش &&اعرهم .ثقاف &&ة أجنبي &&ة ،وحق &&د على الدول &&ة
العثماني &&ة بس &&بب الظلم ،وافك &&ار قومي &&ة او مش &&اعر وطني &&ة توّح دت على ه &&دف واح &&د مجع بني ه &&ؤالء
الناس .هلذا كانت تكتالت حزبية امسًا.
وملا حتق&&ق للغ&&رب هدف&&ه من وج&&ود ه&&ذه التكتالت واالح&&زاب ،أهناه&&ا باقتس&&امها للغن&&ائم وتوزي&&ع
املناص&&ب والكراسي ،ونص&&ب رجاالهتا حكام&ًا لألم&&ة يرّو ض&&ون األم&&ة ويص&&وغوهنا حس&&ب املخط&&ط ال&&ذي
رمسه هلم.
وانتهت تلك املرحلة من حياة األمة هبذه النتيجة املؤملة اليت ما زلنا نعاين منها.
أما املرحلة الثاني&&ة ،وهي مرحلة ما بعد الحHرب العالميHة االولى وهHHدم الخالفHHة ،فق&&د إّتس&&مت
بط&&ابع آخ&&ر خمتل&&ف متام &ًا عن املرحل&&ة االوىل .فوج&&دت تكتالت وأح&&زاب ختتل&&ف متام &ًا عم&&ا ك&&انت علي&&ه
سابقاهتا من حيث االفكار واالهداف ،ولكنها ال ختتلف عنها من الناحية التكتلية .فق&&د بقيت على نفس
النهج ،فلم تراعي أي أساس من األسس ال&يت أش&رنا اليه&ا سابقًا .أي بقيت على دعواهتا العام&ة والتخب&ط
يف طريقته&&ا ،وقي&&ام أن&&اس حبم&&ل تبعته&&ا ليس&&وا مبس&&توى املس&&ؤولية ،وك&&انت املص&&احل اآلني&&ة األناني&&ة هي ال&&يت
جتمعهم .فبقي املرض ه&&و املرض يف املرحل&&تني .ه&&ذا باالض&&افة اىل أن ه&&ذه املرحل&&ة اّتس&&مت هبيمن&&ة الك&&افر
وسيطرته املباش&&رة على الدول&&ة وعلى األم&&ة .وأخ&&ذ يطب&&ق نظام&&ه إم&&ا مباش&&رة وإم&&ا بواسطة رجاالت&&ه ال&&ذين
نّص بهم حكامًا على األمة .وحاول بناء اجملتمع واألمة على األسس ال&يت يراه&ا ه&و ج&اعًال عقيدت&ه وثقافت&ه
ووجهة نظ&ره يف احلي&اة هي األساس ال&ذي جيب أن ُيب&ىن اجملتم&ع علي&ه ،بش&كل خ&بيث ص&ريح حين&ًا وخفّي
أحيانًا ،مستعمًال املال والعمالء للوصول اىل غايته.
وإلدراك الك &&افر ألث &&ر الثقاف &&ة على سلوك االنس &&ان وأفك &&اره فق &&د رّك ز ج &ّل اهتمام &&ه على ه &&ذا
اجلانب ،حبيث ان & &&ه مل ي & &&رتك جماًال من جماالت الثقاف & &&ة او العلم اال ك & &&انت وجه & &&ة نظ & &&ره عن احلي & &&اة هي
األساس يف ذل& &&ك .ومن املع& &&روف ان الثقاف HHة هي مجموع HHة المع HHارف ال HHتي يحص HHل عليه HHا االنس HHان
بالتلقين و اإلخبار ثم المالحظة واالستنباط .وبن&&اءا على تل&&ك الثقاف&&ة تتك&&ون عن&&د االنس&&ان عقلي&&ة تفهم
األم&&ور واألح&&داث بش&&كل معني – أي بالكيفي&&ة ال&&يت لدي&&ه عنه&&ا مق&&اييس وقواع&&د يقيس األم&&ور حبس&&بها.
فاذا كانت هذه القواعد واملقاييس هي نفس القواعد واملقاييس اليت لّق نها ملثقفينا ،فال بد من انش&&اء جي&&ل
يفك&&ر حس&&ب م&&ا يري&&د ه&&ذا الك&&افر املتس&&لط .وب&&ذلك يك&&ون ق&&د ب&&ىن اجملتم&&ع على الكيفي&&ة ال&&يت يري&&د .من
حيث ان انتاج هذا التفكري سيكّو ن املفاهيم اليت تسرّي سلوك الناس وتصرفاهتم يف احلياة.
21
ومن أجل حتقيق هذه الغاية ،جع&ل القواع&د واملق&اييس واألسس (أي فلس&فته ووجه&ة نظ&ره) هي
ال &&يت ُيرج &&ع اليه &&ا يف عملي &&ة التفك &&ري .وهي تتلخص ب &&القول :فص &&ل املادة عن ال &&روح وفص &&ل ال &&دين عن
الدول &&ة .وه &&ذا يع &&ين جع &&ل الن &&اس واملثقفني بش &&كل خ &&اص يعتق &&دون عقيدت &&ه بأسلوب خ &&بيث ،مل ي &&دعهم
ي&&دركون أن ه&&ذه العقي&&دة عقي&&دة كف&&ر ،مع&&ززًا ذل&&ك بقول&&ه :ال&&دين هلل وال&&وطن للجمي&&ع ،وأن ال&&دين ه&&و
العالق &&ة بني الف &&رد وخالق &&ه .أم &&ا تنظيم العالق &&ات بني الن &&اس وتنظيم حي &&اة اجملتم &&ع ،فه &&ذه أم &&ور يق &&وم هبا
املفكرون من الناس .فالرسول يقول :انتم أعلم بأمور دنياكم .وهذه أمور دنيا وليست أمور دين.
ه&&ذا ه&&و األساس ال&&ذي جعل&&ه أساسًا ملن&&اهج التعليم .فمن&&اهج التعليم جيب ان ًتس&&تنبط من ه&&ذه
القاعدة أو أن ُتبىن على هذا األساس .باالضافة اىل جعل شخصيته هي األساس ال&ذي ُتن&تزع من&ه ثقافتن&ا.
وه&&ذا يع&&ين أن ننظ&&ر اىل الوق&&ائع واألح&&داث كم&&ا ينظ&&ر اليه&&ا ه&&و :كي&&ف يع&&اجل األم&&ور وكي&&ف يتعام&&ل م&&ع
األحداث ،وكيف كانت مواقفه يف املسألة الفالني&ة او تل&ك .فاحلري&ة مثًال هي حج&ر الزاوي&ة يف تص&&رفات
الف&&رد فال جيوز ان مُي ن&&ع أح&&د من أي تص&&رف .فحري&&ة الكلم&&ة واملعتق&&د واحلري&&ات الشخص&&ية أم&&ور مقدسة
عن &&ده فال ب &&د أن نقّد سها .أنظ &&روا كي &&ف ساد الع &&امل هبذه املب &&ادئ واألسس .فال ب &&د ان تتض &&من الكتب
الثقافي& &&ة مئ& &&ات األمثل& &&ة عن مث& &&ل ه& &&ذه احلوادث وكي& &&ف عاجله& &&ا .كم& &&ا جيب ان تتض& &&من كتب الت& &&اريخ
واجلغرافي&&ا تارخيه ه&&و ،وال ب&&د ان تك&&ون دراسة تارخيه وبداي&&ة النهض&&ة عن&&ده واألسس ال&&يت ق&&امت عليه&&ا
حض&&ارته – ابت&&داءا من الق&&رن الث&&الث امليالدي – ووض&&ع ال&&رباءة العظمى (او م&&ا يس&&مى املاغناكارت&&ا) أي
الوثيق&&ة ال&&يت قّي دت ص&&الحيات املل&ك -ال ب&&د ان توض&&ع ه&&ذه يف ص&&لب األم&&ور التارخيي&ة ال&&يت ت&&بني م&&دى
فعالي&&ة األم&&ة والش&&عب حني يق&&رر ش&&يئًا .متام &ًا كم&&ا جعل&&وا الث&&ورة الفرنس&&ية من&&ارًا يه&&دي الس&&الكني ،ومن
أق&وال ابراه&&ام لنك&ولن منه&&اج حي&اة لألمم .ناهي&ك عن وض&&ع لغت&ه لغ&&ة رمسية يف الدول&ة ،ولغ&&ة تتقاسم م&&ع
اللغ&&ة العربي&ة حص&&ص ال&دروس .وجع&&ل أي وظيف&&ة موقوف&ًة على م&&دى معرف&ة ط&&الب الوظيف&&ة للغ&&ة اجنبي&ة.
حىت باتت معرفة لغة اجنبية باالضافة اىل اهنا وسيلة للوظيف&&ة والعيش عنوان&ًا على احلض&&ارة والتق&&دم .ح&ىت
أصبح العاّم ّي حياول ان حيفظ بعض كلمات اجنبية فكأنه يريد ان يتّربك هبا .ذل&ك ليق&ال عن&ه ان&ه مثق&ف،
وميزان&ه يف الثقاف&ة مبق&&دار م&&ا حيف&&ظ من ه&&ذه الكلم&ات ح&ىت ل&و ك&ان عاملًا فقيه&ًا خطيب&ًا يف املس&جد اجلامع
فال يغني&ه ذل&ك عن معرفت&ه بش&يء من اللغ&ة االجنبي&ة .وأم&ا عن جغرافي&ة بالده فمن الب&ديهي ان تن&ال احلظ
ال &&وافر من املعرف &&ة وأن خُي ص &&ص هلا كتب معين &&ة ت &&بني تل &&ك البالد وم &&ا فيه &&ا من خ &&ريات وم &&ا متت &&از ب &&ه من
صفات ،وما خّص ها اهلل به من مناخ كان له األثر األكرب على نفسيات أهلها ،حىت ق&الوا أن طبيع&&ة البالد
الب&&اردة جتع &&ل أهل&&ه أذكي&&اء سريعي احلرك&&ة دائمي العم&&ل ،أم &&ا أه &&ل البالد احلارة ف&&اهنم ميت&&ازون ب&&اخلمول
والكسل والنفسيات املريضة .وأخذنا نردد دائمًا تلك املقول&ة ،وكأهنا حقيق&&ة ق&د ج&اء هبا الق&&رآن الك&رمي.
وأص&&بحنا نع&&رف م&&ا حتوي&ه بالده من خ&ريات ونعم أك&ثر مما نع&&رف عن بالدن&ا وبيئتن&ا ،ب&ل اك&ثر مما يع&&رف
22
ه &&و عن بالده .مما جع &&ل البعض يظن ان اهلل ق &&د حب &&اهم ه &&ذه النعم وفّض لهم على الن &&اس ب &&الفطرة .ه &&ذا
بعض م&&ا ح&&رص الك&&افر على ان حنش&&و ب&&ه عقولن&&ا .ف&&إن أردن&&ا املزي&&د ،فال ب&&د من دراسة الفلس&&فة اليوناني&&ة
والفق&ه الروم&اين والفرنس&ي ،وال ب&د من معرف&ة اولئ&ك األعالم الكب&ار يف جمال الفلس&فة ابت&داءًا من سقراط
وانتهاءًا بديكارت ،وكذا يف األدب والشعر واملوسيقى وغري ذلك.
وباالض&&افة اىل حماولت&&ه اخلبيث&&ة املتعم&&دة باعط&&اء ص&&ورة مش&&رقة عن شخص&&يته ،فق&&د إّدعى أن&&ه إمنا
حارب الدولة العثمانية ألهنا دولة ظاملة مستبدة هتيمن على غريها من الشعوب ومتتص دماءها .وم&&ا ج&&اء
ه&&و اال لتخليص الع&&امل من ه&&ذه الش&&رور ،فه&&و نص&&ري الش&&عوب املستض&&عفة ،ومعني األمم الفق&&رية ،ومعِّلم
الن&&اس ومثقفهم .وأن&&ه م&&ا ج&&اء الين&&ا اال لرف&&ع الظلم واجلور عن&&ا أوًال ،مث لتعليمن&&ا كي&&ف نس&&تطيع أن حنكم
أنفسنا ،ويرشدنا اىل ما فيه خرين&ا .مث يقيم معن&ا عالق&ات احملب&ة واالح&رتام املتب&ادل مث يع&&ود من حيث أتى.
فال مطم&&ع ل&&ه فين&&ا ،ب&&ل ان&&ه ينف&&ق االم&&وال ويب&&ذل اجله&&ود وي&&أيت بالعلم&&اء واخلرباء لكي ينهض بن&&ا .ول&&ذلك
فقد سارع ببناء املدارس واملعاهد واملستشفيات يف كل مدينة ويف كل قرية ويف كل حي .مما جعل عامة
الن&&اس ،ب&&ل ال&&رأي الع&&ام بكامل&&ه ،ينظ&&ر الي&&ه نظ&&رة إكب&&ار وإجالل ،وجعل&&ه الق&&دوة الص&&احلة ال&&يت جيب على
الناس إّتباعها .خصوص&ًا وأن ذل&ك ق&د حص&ل يف وقت ك&ان في&ه اجملتم&ع يف هناي&ة احنداره .ويف وقت ك&ان
اجله &&ل في &&ه ق &&د أطب &&ق على البالد ،باالض &&افة اىل فس &&اد الوض &&ع االقتص &&ادي وذل &&ك ألسباب متع &&ددة منه &&ا
انشغال الدولة حبروب دائمة ،ومنها فساد االدارة ،وسوء تطبيق النظ&&ام ،والض&&رائب التعس&&فية الناش&&ئة عن
فس & &&اد النظ & &&ام ،والبطال & &&ة املستش & &&رية .زد على ذل & &&ك االسباب اخلارج & &&ة عن االرادة مث & &&ل اجلدب واحملل
املتواصل لسنوات مما أوجد جماعة يف كثري من البلدان .وملا جاء الكافر اىل البالد مدركًا ما يعانيه الن&&اس،
ح&&اول ختفي&&ف ه&&ذه األزم&&ات بأعم&&ال ظاهره&&ا اخلري وباطنه&&ا قب&&ول الن&&اس ل&&ه واملفاض&&لة بين&&ه وبني سابقه.
ومن األمثل&ة على ه&&ذه االعم&ال اخلبيث&ة تق&&دمي املكاف&آت ملن حيس&ن القي&ام بعم&ل م&&ا .فه&&ذا املزارع أج&اد يف
حمصوله فقدم ل&ه مكاف&أة ،وذل&ك أق&ام دع&ائم االرض ح&ىت ال جترف تربته&ا فق&ّد م ل&ه مكاف&أة .وع&اقب ه&ذا
الذي أساء األدب مع محاره فحَّم له فوق طاقته ،كما أوقع الغرامة على ذل&ك الفالح ال&ذي مل يع&اجل مجل&ه
اجلريح ،وغري ذلك من االعمال امللفتة للنظر ،واحملدثة يف األمة أكرب األثر .وهبذا استطاع ان خيفي وجهه
احلقيقي ليبدو لنا يف صورة املنقذ ،يتواجد اخلري حيث تواَج د.
إن مسألة مناهج التعليم وبراجمه ما زالت ُسّبة يف جبني القائمني عليها اىل اآلن .وما زال وجه
االستعمار خمتفيًا وراءها ،أو بارزًا يف كثري من األحيان .اال ان الكافر وقد حتكم يف هذه املناهج حىت
ال تفلت جزئي&ة من جزئياهتا ،ال ب&د أن يّطل&ع على ك&ل ص&غرية وكب&رية فيه&ا ،وذل&ك بس&بب م&ا للثقاف&ة من
أث&&ر يف حي&&اة الن&&اس .ف&&إن فش&&ل يف اجياد أجي&&ال حتم&&ل عقيدت&&ه ،وت&&ؤمن مبا ي&&ؤمن ب&&ه ،فال أق&&ل من أن يوِج د
أجياًال جاهلة ،مشتتة الذهن ،ليس هلا قاعدة فكري&ة وال طريق&ة يف التفك&ري .وبالت&ايل ستبقى ه&ذه األجي&ال
23
ترب &&ة ص &&احلة ل &&زرع ثقافت &&ه ،وتوجيهه &&ا بالوجه &&ة ال &&يت يري &&دها ،ح &&ىت ل &&و أرادت اإلفالت من قبض &&ته بع &&د
إدراكها غايته ،فهو الذي يرسم هلا طريق النضال لتقع مرة اخرى يف قبضته ،ولكن بشكل آخر وهكذا.
وأما المثقفين :فان انفص&ال الفك&ر عن الش&عور عن&دهم أبني وأوض&ح .ب&ل هم اص&حاب االث&ر يف -2
اجياد هذه العلة عند العامة ويف الرأي العام .فهم نتيجة لتلك الثقافة اليت حتدثنا عنه&&ا آنف&ًا ،ب&&نيت
عقليتهم على عقيدة غري عقيدهتم ،وتعلم&وا كي&ف يفك&ر غ&ريهم ،ال كي&ف جيب ان يفك&روا هم.
حيث ان طريق &&ة التفك &&ري ال &&يت إختذوها هي طريق &&ة الك &&افر يف تفك &&ريه ،والقواع &&د واالسس ال &&يت
يقيس عليها الوقائع واالحداث ،هي القواعد واالسس ال&يت درسوها ،أي هي القواع&&د واالسس
ال& &&يت تعلموه& &&ا يف ثق& &&افتهم .فمن الب& &&ديهي ان يك& &&ون نت& &&اجهم العقلي منبثق& &&ا من تل& &&ك االسس
والقواع &&د .وهلذا ك &&ان تفك &&ريهم كم &&ا يفك &&ر غ &&ريهم ،ال كم &&ا جيب ان يفك &&روا هم كمس &&لمني.
حيث اهنم مل جيعلوا العقيدة اإلسالمية هي القاعدة األساسية يف التفكري ،وال اختذوا من ت&&ارخيهم
وواقعهم وب&&يئتهم مق&&اييس يرجع&&ون اليه&&ا يف تق&&ييم الوق&&ائع واالح&&داث .وهبذا اص&&بحوا ع&&اجزين
24
عن ان يكون& &&وا مفك& &&رين حقيق& &&يني .واص& &&بحوا بوص& &&فهم مفك& &&رين مثقفني ،غرب& &&اء عن جمتمعهم
بعيدين عن مش&اكله ،غ&ري م&دركني حلاجات&ه .وب&ذلك ص&ار ش&عورهم منفص&ال متام&ا عن افك&ارهم
وعقلهم .فهم مبش& &&اعرهم ج& &&زء من ه& &&ذا اجملتم& &&ع ،ش& &&اءوا ام أب& &&وا .ومش& &&اكل ه& &&ذا اجملتم& &&ع هي
املش&&كلة ال&&يت يع&&انون منه&&ا بينهم وبني انفس&&هم .وحاج&&ات ه&&ذا اجملتم&&ع هي نفس احلاج&&ات ال&&يت
حيتاجوهنا .اال اهنم يف تفكريهم على تل&ك االسس ص&اروا غرب&اء طبيعي&ا عن االم&ة وعن ش&عورها
وأحاسيسها .وفئٌة هذا حاهلا من الطبيعي ان ال ت&&درك قض&&يتها ،وان ال تفهم االوض&&اع املوج&&ودة
يف البالد .وال ميكن ان تعي على النهض&&ة وال على الطريق&&ة املؤدي&&ة للنهض&&ة .ف&&اذا م&&ا وج&&د منهم
ما يريد ان يتحرك للنهضة ،فان حتركه ه&&ذا ال ميكن ان يوِج د التكت&ل الص&&حيح ،املس&بوق بتفهم
صحيح للنهضة -ففاقد الشيء ال يعطيه.-
هذا هو الواقع الذي وجد بعد احتالل الكفار لبالد املسلمني ،والنتيج&&ة ال&&يت وص&&لنا إليه&&ا بس&&بب
هيمن&&ة الكف&&ار وت&&وجيههم لل&&رأي الع&&ام ،وفرض&&هم من&&اهج التعليم ال&&يت يري&&دون .فتعق&&دت املش&&كلة ام&&ام من
يري&&د االص&&الح والنه&&وض باالم&&ة من كبوهتا .فبع&&د ان ك&&انت املش&&كلة هي النه&&وض مبجتم&&ع مس&&لم على
أساس العقيدة اإلسالمية ،أصبحت اآلن اكثر تعقي&&دًا .إذ ان&&ه ال بد من ازالة هHHذا االنفصHHام بالشخصHHية،
ومحاولHHة ايجHHاد التناسHHق بين فكHHر االمHHة وشHHعورها ،وايجHHاد التناسHHق بين فكHHر المثقفين وشHHعورهم،
وايجHاد التناسHق بين االمHة وابنائهHا من المثقفين الHذين أمسHوا غربHاء عنهHا .نعم اص&&بحوا غرب&&اء عنه&&ا.
والس &&بب يف ذل &&ك ان ه &&ؤالء املثقفني ق &&د أخلص &&وا للفك &&ر االجن &&يب – ول &&و ان &&ه خ &&ال من الش &&عور -مما
جعلهم يش&&عرون اهنم غرب&&اء عن ه&&ذا اجملتم&&ع .ب&&ل اهنم ب&&اتوا حيتقرون&&ه ،ويعيش&&ون يف عزل&&ة عن&&ه ،وينقم&&ون
على احلي &&اة ال &&يت جعلتهم ينتم &&ون اىل ه &&ذا اجملتم &&ع .وت &&رى أن أح &&دهم ومبج &&رد اص &&طدامه بأي &&ة مش &&كلة
اقتص&ادية او اجتماعي&ة او سياسية ،قف&ل راجع&ًا اىل اوروب&ا ،إن وج&د اىل ذل&ك سبيال .أو ب&ات يتحس&ر إن
مل يستطع .وجتده ال يكرتث مبا يلحق ب&اجملتمع من آف&ات ومص&&ائب ،ه&&ذا إن مل يق&&ف متش&ّف يًا .وانن&ا ن&رى
ب &&أم أعينن &&ا الي &&وم م &&دى تعل &&ق الن &&اس حبب اهلج &&رة وال &&ذهاب اىل تل &&ك البالد ،وت &&رك بالدهم وجمتمعهم،
مت&&ذرعني بس&&وء االوض&&اع السياسية او االقتص&&ادية او االجتماعي&&ة ،غ&&ري ع&&ابئني مبا تعاني&&ه أمتهم وجمتمعهم
من مصائب او كوارث او اوضاع ،يسود فيها الظلم السياسي وارتباط حكامه باالجنيب والتعامل معه.
وقد عم البالء االن ،فبعد ان ك&ان االم&ر مقتص&را على فئ&ة املثقفني ،اص&بح االن أمني&ًة عن&د عام&ة
الن&&اس .ف&&رتى ع&&ائالت بكامله&&ا هتاجر اىل املاني&&ا او الس&&ويد او النمس&&ا او غريه&&ا من البالد االوروبي&&ة .ه&&ذا
من جه&ة ،ومن جه&ة اخ&رى فان&ك تلح&ظ ذل&ك االح&رتام الكب&ري يف النف&وس لالجن&يب ،سواءًا فيم&ا يبّثه من
مسوم عرب وسائل إعالمه او ما يصدر عنه او مبشاهدته او لقائه يف الشارع او يف الدكان او يف السكن او
يف أي جمال من جماالت احلي &&اة .وك &&أن لق &&اءه او احلديث مع &&ه يكس &&ب ذل &&ك الش &&خص مكان &&ة سامية .إن
25
هذا االمر كذلك مل يقتصر على املثقفني ،ب&&ل تع&&داه ليش&&مل عام&&ة الن&&اس ،يبتغون عندهم العزة
فإن العزة هلل جميعا .ه &&ذه هي ح &&ال اجملتم &&ع وح &&ال املثقفني .ومن ك &&انوا ه &&ذا ه &&و ح &&اهلم ،كي &&ف
ميكن هلم ان يتص&&وروا اوض&&اع بالدهم على حقيقته&&ا ،ومعرف&&ة م&&ا ميكن ان ينهض هبا .ول&&ذلك فإن&&ه حني
يتص&&ور اوض&&اع بالده ،امنا يتص&&ورها تقلي&&دا لالجن&&يب يف تص&&وره اوض&&اع بالده .ال يس&&تطيع ان يف&&رق بني
بلده الرازح حتت حكم االستعمار وتوجيهه ،و البلد املستعمر ال&&ذي يتحكم خبريه ويس&&عى لبس&&ط هيمنت&&ه
ونفوذه على غريه .فإذا ما طرح احلديث عن النهضة ووسائل وسبل االنتق&&ال باالم&&ة اىل الوض&&ع االفض&&ل،
يتحدث مرددا العبارات اليت أمليت عليه .فتجده يقول إن آفة جمتمعن&ا الفق&ر واجله&ل واملرض .هك&ذا قي&ل
ل&&ه ،فه&&و ي&&ردد م&&ا يق&&ال .ويق&&ول إن اسباب التخل&&ف ال&&ذي نع&&اين من&&ه هي كبت احلري&&ات ،وع&&دم تط&&بيق
الدميقراطي &&ة واالش &&رتاكية .ويتش &ّد ق باستعمال ألف &&اظ االمربيالي &&ة والرجعي &&ة ،دون ان يعي م &&دلوالت ه &&ذه
االلفاظ ومعانيها .واما أحاسيسه فإهنا ال تتحرك على أساس املبدأ .ان مل أقل ان&ه ال يع&رف ل&ه مب&دًأ .فق&د
تتحرك من اجل ال&وطن .وأسوق على ذل&ك مث&اال بس&يطا :ان مدين&ة الرمث&ا االردني&ة تبع&د عن مدين&ة درع&ا
الس&&ورية بض&&عة كيلوم&&رتات .وكالمها ينتس&&ب اىل عش&&رية واح&&دة تقريب&&ا – آل الزع&&يب – .وم&&ع ذل&&ك ل&&و
ق&ام اليه&&ود مثال باالعت&داء على طرط&&وس او الالذقي&ة ،ف&إن مش&اعر اه&&ل الرمث&ا ال تتح&رك هلا ،بينم&ا تلتهب
مش&&اعر أه&&ل درع&&ا ل&&ذلك .يف حني ل&&و ق&&امت اسرائيل باالعت&&داء على الرمث&&ا نفس&&ها ،فال هتتز هلا مش&&اعر
أهل درعا او العكس .ولو جرى اعت&داء من الكف&ار على تركي&ا او اندونيس&يا او غريه&ا من بالد املس&لمني
ف&&إن االم&&ر ال يع&&نيهم .وهن&&اك م&&ا ه&&و أسوأ من ذل&&ك .ف&&إن اعت&&داء الكف&&ار على ال&&وطن او الش&&عب ق&&د يث&&ري
املشاعر وحيرك االحاسيس .أما االعتداء على املبدأ ،فإن االمر ال يعنيهم ،وللبيت رب حيميه .وحىت حني
يث&&ور من اج&&ل ال&&وطن او الش&&عب ،ف&&إن ثورت&&ه تل&&ك ال تك&&ون ث&&ورة ص&&حيحة ،وتض&&حيته ال تك&&ون كامل&&ة.
ولو استعرضنا الثورات املتتالية ال&يت حتركت فيه&ا االم&ة من&ذ ان ف&رض االستعمار هيمنت&ه على البالد ،فانن&ا
ال جند فيه&ا ث&ورة واح&دة ك&انت مدرك&ة لالوض&اع الس&ائدة ،والظ&روف القائم&ة .م&ع ان يف ه&ذه الث&ورات
ث &&ورات خملص &&ة .إال ان ع &&دم ادراكه &&ا ملا تري &&ده ،وع &&دم احساسها حباج &&ة الن &&اس احساسا حقيقي &ًا ،جعال
مصريها مجيعا الفشل الذريع .اما احلركات واالنتفاضات اليت حدثت مطالب&&ة بالنهض&&ة فإهنا ك&&انت رّدات
فع&&ل لص&&دمة ح&&دثت او ق&&رار اختذ ،او ض&&رب مص&&لحة ،او تقلي&&دًا لغ&&ريهم من االمم والش&&عوب ،ه&&ذا م&&ع
اف &&رتاض ث &&ورة اح &&دهم .ول &&ذلك ال تلبث ان ت &&زول ه &&ذه الث &&ورة ،إم &&ا ل &&زوال اث &&ر ه &&ذه الص &&دمة بانطف &&اء
احلماس ،وإما باستنـزاف ذلك احلماس مبظاهرة صرخ فيها وهت&ف ،وع&رب عن مش&اعره بض&رب حج&ر ،أو
شتم مسؤول ،أو هتف بشعار ،إىل غري ذلك من أعمال صبيانية ،وإما بإلقامه وظيفة تتناسب مع حجم&&ه
ووزن&&ه يف اجملتم&&ع ،أو تعيين&&ه يف مؤسس&&ة من املؤسس&&ات ال&&يت ترض&&ي نزعات&&ه ،أو إعطائ&&ه وكال&&ة أو مص&&لحة
ت&&در علي&&ه رحبا معين&&ا .وق&&د تص&&طدم ه&&ذه الث&&ورة بأنانيت&&ه ومص&&احله حبيث يش&&عر ب&&اخلطر على مص&&لحته أو
26
نفسه ،أو قد يلحقه منها األذى كالس&جن أو غ&ريه ،فيخل&د اىل الراح&ة .ب&ل ق&د يص&بح أح&د أعم&دة النظ&ام
القائم ودعائمه ،وقد يصبح جاسوسا على من كان إىل جانبه يف ثورته.
ومن كان هذا حاله فانه ال ميكن أن يقوم على عاتقه تكت&ل ص&حيح .فه&و ليس أهال لالض&طالع
باملس&&ؤولية .ول&&ذلك ال ب&&د أن يع&&اجل معاجلة أساسية باجياد التناسق أوال بني فك&&ره وش&&عوره ،بتثقيف&&ه ثقاف&&ة
مبدئي &&ة ص &&حيحة .ومع &&ىن ذل &&ك أن التناسق بني الفك &&ر والش &&عور إمنا يت &&أتى من ك &&ون الش &&عور منبثق &&ا عن
العقيدة .فيكون إحساسا فكريا .وش&عورا حقيقي&ا .ف&الفكر حني ي&رتكز يف النفس تنبث&ق عن&ه حتم&ًا مش&اعر
وأحاسيس تتناسق م&ع ذل&ك الفك&ر املرتكز يف النفس .وليس أق&وى مطلق&ًا من فك&ر ل&ه قاع&دة أساسية ب&ين
عليها كالعقيدة .وعملية تثقيفه هبذه الثقافة ليس&ت عملي&ة سهلة يلقن فيه&ا مع&ارف ومف&اهيم ال حتدث يف
نفس&ه األث&ر .ب&ل ال ب&د من إف&رتاض أن&ه خ&اٍل من ك&ل فك&ر .ويص&ار اىل تك&وين عقليت&ه تكوين&ا جدي&دا .أي
أن نوجد عنده طريقة معينة يف التفكري .وذلك بإجياد قناعة مطلقة عنده مبجموعة قواعد ومقاييس منبثق&&ة
من أو مبني &&ة على عقيدت &&ه .ش &&ريطة أن يع &&اد جالء الغم &&وض عن &&ده عن أفك &&ار العقي &&دة وم &&ا عل &&ق هبا من
غشاوات .حبيث تصبح العقيدة عنده يقينية ،واألفكار املتعلقة هبا أفك&ارًا حقيقي&ة ص&&ادقة .مما ي&ؤدي حتم&ا
إىل إحس&&اس ص&&ادق ،ومش&&اعر متناسقة م&&ع ه&&ذه العقي&&دة .وهبذا يتم التناسق بني فك&&ره وش&&عوره .ومن مث
ُينتَق ل إلجياد التناسق بينه وبني جمتمعه.
أما موضوع التناسق بينه وبني اجملتمع ،فإن وضوح املفاهيم واالفكار املنبثقة عن هذه العقيدة
جتعله يؤمن بأنه فرد من هذه األمة ،وعضو من أعضاء هذا اجملتمع .كما ينبثق عنها مفاهيم حتتم عليه أن
يساهم يف إهناض هذه األمة وان يعمل على رفعتها .وهذا يتم ببيان النصوص اليت جاءت هبا العقيدة
مثل قوله صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم " من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " ،وما يفيد
هذا النص وغريه من النصوص ،اليت توجب عليه العمل إلهناض األمة .وبذلك يسهل حل مشكلة
النهوض باجملتمع .ولوال وجود الثقافة األجنبية واألشخاص املضبوعني هبا ،لكانت النهضة أقل تكاليف
مما هي عليه اآلن.
هذا من حيث األمرين اللذين حتدثنا عنهما ،ومها الفكرة والطريقة ،وعدم وضوحهما وأثرمها
يف اجملتمع .مث األشخاص وطريقة الربط بني أعضاء التكتل.
فكيف ميكن إجياد تكتل صحيح مع هذا الواقع الفاسد .من عدم فهم للفكرة أو الطريقة ،أو
على األقل سوء فهم للفكرة أو للطريقة .وكان األمر يقتصر أحيانا على فكرة عامة وتوحيد هدف ال
غري .أما األشخاص ،وطريقة الربط ،فقد بّيّنا أي نوع من األشخاص كان مثقفو األمة ،وأي جمتمع
كان ذلك اجملتمع الذي حّطموا فيه األسس اليت يقوم عليها.
27
ولذلك فانه من املستحيل أن يوجد تكتل صحيح مع وجود هذه الثقافة األحنبية ،وال أن يوجد
على أساسها تكتل صحيح كذلك .أي مع وجود هذه الثقافة يف اجملتمع ،وتشويه مفاهيم الناس عن
احلياة ،فانه يتعذر وجود تكتل صحيح يف جمتمع انفصل فكره عن شعوره .كما أن وجود هذه الثقافة ال
يصلح إلقامة تكتل على أساسها ،من حيث أهنا ثقافة ختالف عقيدة األمة وجمموعة القيم الصادقة اليت ما
زالت حتتفظ هبا يف مركز امياهنا.
ومل يكتف االستعمار هبذه الثقافة ،بل عمل على إفساد األجواء العام&&ة وتس&&ميمها بأفك&&ار وآراء
فلس&&فية وسياسية ،أفس&&د هبا وجه&&ة النظ&&ر عن&&د املس&&لمني ،وأفس&&د هبا اجلو االسالمي ،وبلب&&ل الفك&&ر ل&&دى
املسلمني بلبلة ظاهرة يف خمتلف نواحي احلياة.
أم &&ا تس &&ميم اجلو بأفك &&ار وآراء فلس &&فية وسياسية أفس &&دوا فيه &&ا وجه &&ة النظ &&ر الص &&حيحة عن &&د
املسلمني ،فقد نشروا قاعدة ( ال ينكر تغ&ري األحك&ام بتغ&ري األزم&ان ) ،وفك&رة ( أن م&ا ال خيالف اإلسالم
فهو من اإلسالم ) ،وفكرة ( الدين هلل والوطن للجميع ) ،وفكرة (أن السياسة دجل وخداع) ،وفكرة (
أن األح&&زاب حيرمه&&ا اإلسالم ) ،وفك&&رة ( كم&&ا تكون&&وا ي&&وىل عليكم ) ،وغ&&ري ذل&&ك من األفك&&ار واآلراء
مث&&ل ( أن الدميقراطي&&ة من اإلسالم ،أو على األق&&ل ال تتع&&ارض م&&ع اإلسالم )( ،ومثله&&ا احلري&&ة) .وق&&د ق&&ال
عمر بن اخلطاب "مىت استعبدمت الن&اس وق&د ول&دهتم أمه&اهتم أح&رارا"حيث تس&ميم األج&واء وإفس&اد وجه&ة
النظ &&ر .وأم &&ا من حيث بلبل &&ة الفك &&ر .فمن &&ه ( أن اجله &&اد ح &&رب دفاعي &&ة ) و ( أن اإلسالم م &&ا أعلن حرب &&ا
مبتدئا ،إال حربا وقائية ) ،و ( أن الدميقراطية هي الشورى)،و ( أن الش&ورى هي نظ&ام احلكم ) ،و ( أن
الزك &&اة هي النظ &&ام اإلقتص &&ادي يف اإلسالم ) ،و ( أن طري &&ق الص &&الح هي الع &&ودة إىل اهلل ) ،و ( إص &&لح
نفس &&ك يص &&لح اجملتم &&ع ) ،أو ( الف &&رد فاألسرة ف &&اجملتمع ) .ح &&ىت بل &&غ احلال ب &&القول ( أن اإلحتك &&ام لك &&افر
عادل والرضى حبكمه جائز ،بل أفضل من اإلحتكام إىل املس&لم الظ&امل ) .وق&د أف&ىت بعض أع&وان الكف&ار
مثل الشيخ حممد عبده بوقف اجلهاد ،ووجوب مس&اعدة الدول&ة الربيطاني&ة على أع&دائها ألهنا أق&رب األمم
إىل اإلسالم ،وأهنا أم&&ة عادل&&ة فمس&&اعدهتا واجب&&ة .ذل&&ك باإلض&&افة إىل أفك&&ار اإلستقالل والتح&&رر ،ال&&يت من
شأهنا أن تدفع الناس للقيام بأعمال يستطيع الك&افر احملت&ل أن يتحكم هبا ويوجهه&ا إىل الوجه&ة ال&يت يري&د.
ما دام أن مركز التنُّبه عند األمة قد ُأبعد ،وفقدت تصورها لقضيتها ،وأبعدت فكرة إقامة دولة إسالمية.
فما دام ه&ذا األم&ر ق&د أبع&د ،فال ب&د من إش&غال األم&ة بنفس&ها ،ودفعه&ا للقي&ام بأعم&ال تس&تنزف م&ا عن&دها
من خمزون احلم&&اس ،فتتح&&رك حرك&&ة املذبوح ،فال تلبث أن تس&&قط فاق&&دة الق&&وة واحليوي&&ة واحلي&&اة .وذل&&ك
مث&&ل حمارب&&ة وج&&ود القبع&&ة األوروبي&&ة وط&&رد اجلي&&وش األجنبي&&ة ،ح&&ىت إذا ان&&دفعت األم&&ة يف مث&&ل ه&&ذا اإلجتاه
اختفت القبع&&ة وراء الكوفي&&ة والعق&&ال ،ون&&اب عن اجلن&&دي اإلجنل&&يزي اجلن&&دي أو الش&&رطي املس&&لم يف تنفي&&ذ
ما يريده اإلجنليز.
28
ومن جراء جعل شخصيته -أي شخصية الكافر -هي املثل األعلى عند املسلمني ،ولظروف
التنافس بني الكفار يف امتصاص دماء املسلمني ،صارت اإلستعانة بالكفار أمرًا طبيعيًا ،بل أمرًا ال بد
منه .فقد عمد الفرنسيون اىل مساعدة الفلسطينيني يف ثورهتم ،كما عمد اإلجنليز اىل مساعدة السوريني
واللبنانني يف ثورهتم ،وهكذا .وبات من املؤكد عند السياسيني أنه ال ميكن حتقيق أي هدف أو الوصول
اىل أية غاية بدون اإلستعانة باألجنيب .وكأن اإلستعانة باألجنيب أصبحت حكمًا من أحكام الطريقة،
متامًا مثل الدعاية اليت تقول أنه ال ميكن أن يصبح شخص وزيرًا أو نائبًا يف الربملان أو وكيًال لشركة
كبرية إال إذا كان ماسونيًا .مما دفع أصحاب الطموح إىل البحث هم بأنفسهم عن املاسونية وحمافلها
لعلها حتقق هلم ما يطمحون إليه .وكذا العمالء ،فإنه بات من املؤكد عندهم أنه ال ميكن الوصول
للحكم أو لكرسي من كراسي احلكم أو املصاحل الكربى إال إذا استعان باألجنيب .مما جعل أكثر
التكتالت تستعني باألجنيب أيًا كانت جنسيته ،ومهما كانت أطماعه .وأخذت وسائل اإلعالم بالدعوة
والدعاية هلذا دون اعتبار أو إدراك أن هذه خيانة عظمى .وأن ربط قضيتنا بغرينا إمنا يعترب انتحارًا
سياسيًا .هذا إن كنا ندرك أن لنا قضية ،أو إن أدركنا ما هي قضيتنا .ففي كل األحوال ،يعترب انتحارًا
سياسيًا .والسبب يف ذلك أن اإلنتحار هو أن يعمد اإلنسان اىل قتل نفسه .والكتلة أو الشخص الذي
جيعل قضيته بيد غريه ،كأنه انتحر سياسيًا ،أي قتل نفسه سياسيًا .ألن قضييت هي قضييت وحدي ،ومن
البديهي أن ختالف وتتناقض مع كل قضايا اآلخرين .ووضعها بيد غريي إمنا يعين أنين لن أصل لتحقيق
قضييت .فاألجنيب ال ميكن أن يعينين على قضييت اليت من أوىل أهدافها أن أطرد األجنيب .فهل ميّك نين أو
يساعدين األجنيب على حتقيق قضية من أهدافها األساسية طرده من البالد!؟ لذلك نقول أن وضع القضية
بيد األجنيب إمنا هو انتحار سياسي .ومقضٌّي على هكذا تكتل باملوت أو الفشل أو خيانة األمة .وهلذا
فإنه لن يكون هناك جناح ألي تكتل تسمم فكره باإلتكال على االجنيب أو الرتويج له.
وكذلك مسم اجملتمع بالوطنية ،والقومية ،وباإلشرتاكية .كما مسمه باإلقليمية الضيقة وجعلها
حمور العمل اآلين .ومسمه كذلك باستحالة قيام الدولة اإلسالمية ،وباستحالة وحدة البالد اإلسالمية.
وذلك ملا غرسه يف النفوس من العداء لشعوب العامل اإلسالمي لبعضها ،عداء إقليمي وعداء وطين
وعداء قومي .أو مبا يدعيه من وجود اإلختالف املدين ،والعنصري ،واللغوي ،مع أهنا مجيعًا أمة واحدة
تربطها عقيدة واحدة هي العقيدة اإلسالمية اليت ينبثق عنها نظامها .ومسمه أيضًا باألفكار السياسية
املغلوطة مثل قوهلم ( :خذ وطالب ) ومثل ( األمة مصدر السلطات ) ومثل ( السيادة للشعب ) .مع أن
الذي جيب أن يكون واضحًا ،وال يغيب عن الذهن حلظة واحدة ،هو أن السيادة للشرع وليس
للشعب .وال بد من الرتكيز يف األذهان أن السيادة للشعب هي فكرة كفر ،وتعين جعل الشعب إهلًا
يشرع للناس نظمهم وقوانينهم .وأن السيادة للشعب هي العقيدة الرأمسالية ،ومتارسها الشيوعية كذلك.
29
فالشعب عند الشيوعية أو ممثلي الشعب هم الذين يضعون التشريعات .وكذلك يف النظام الرأمسايل ،فإن
جملس النواب ،ويسمى السلطة التشريعية ،هو الذي يضع النظم ويسن القوانني.
أما ما جاء يف العقيدة اإلسالمية فهو أن التشريع أي وضع النظم وسن القوانني وتسيري حياة
الفرد واجملتمع إمنا هو من عند اهلل .وليس لإلنسان إال فهم ما جاء يف الكتاب والسنة ليستنبط
األحكام اليت تبني له النظم ،وتوضح له القوانني بأحكام شرعية ليس للمسلم أن يستغين عنها .قـال
ما كان لمؤمن وال مؤمنة إذا قضى هللا و رسوله أمرًا أن يكون لهم تعالى:
الخيرة من أمرهم وقال تعاىل :فال و ربك ال يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم .فلو كانت هذه الفكرة واضحة يف األذهان ،حمتلة مركز اإلميان عند األمة ،لرفضت األمة أية
تشريعات وضعها أي إنسان سواء أكان جملس الشعب (الربملان) أو أية جهة أخرى .لكن تسميم أفكار
األمة مبثل هذه الفكرة جعلها بعيدة كل البعد عن إسالمها مع إمياهنا به.
كما مسمه بأفكار خاطئة مثل قوهلم ( الدين هلل والوطن للجميع ) ،ومثل ( توّح دنا اآلالم
واآلمال ) ،ومثل ( الوطن فوق اجلميع ) ،ومثل ( العزة للوطن ) ،وما شابه ذلك.
وّمسمه ايضًا باألفكار الواقعية الرجعية مثل قوهلم ( إننا نأخذ نظامنا من واقعنا) ومثل ( الرضا
باألمر الواقع ) ومثل ( جيب أن نكون واقعيني ) ،وما شاكلها.
أما قولنا األفكار الرجعية والواقعية ،فإن كلمات :رجعية ،أفكار رجعية ،هؤالء رجعيون،
الدول الرجعية .فهي كلمة مضللة ،ومصروفة عن حقيقة معناها .والذين يرددوهنا اليوم إمنا يقصدون هبا
األفكار القدمية املغرقة يف القدم ،ويعنون بذلك اإلسالم .ويتهمون املسلمني بأهنم رجعيون .أي أهنم يف
معتقدهم ومعاجلاهتم ونظمهم ،ونظرهتم للحياة ،إمنا يعودون للماضي ،أي يرجعون للماضي ،فهم
رجعيون هبذا الرجوع .هذا ما يقصده أولئك املضللون واملضللون .وهلذا كان ال بد من حتديد معىن
هذه الكلمة ،وتوضيح حقيقتها .أما حقيقة معناها( :فالرجعية تعني تسيير الحياة بحسب الرجع
الغريزي ،ووضع النظم والمعالجات بناًء على الرجع الغريزي) .فمن أعطى احلرية للغرائز ،وجعل
احلرية قانونه األساسي الذي ُتستنبط منه كافة القوانني املنظمة للحياة ،كان هو الرجعي ألنه نظم حياته
بناًء على الرجع الغريزي ،وترك السيادة للغريزة تتحكم يف احلياة ،ورأى السعادة يف احلصول على أكرب
قدر ممكن من املتع اجلسدية ،أي يف إشباعات الغرائز .هذا هو املعىن احلقيقي لكلمة رجعية .وأما ما
ذهبوا إليه من معىن وهو الرجوع إىل خملفات املاضي لتنظيم احلاضر ،وأرادوا هبا الطعن باإلسالم
واملسلمني ،فلنعد إىل املاضي البعيد أي اىل ما قبل اإلسالم .ولننظر إىل حياة اإلنسان يف ذلك الوقت
كيف كان ينظمها؟
30
لقد كان الفرد قبل اإلسالم منطلقًا يف إشباع جوعاته الغريزية اىل أك&&رب ق&&در ممكن ،دون قي&&د أو
مراعاة لقانون .أي أنه كان يباشر حريته املطلقة متامًا كما ينادي هؤالء الناس اليوم ،وكان بذلك
فجاء اإلسالم وأخذ بيد اإلنسان وميزه بعبوديته هلل .وجعل أفعاله مجيعها مقيدة بأوامر اهلل
ونواهيه .ونظم حياته بنظم وأحكام وقوانني شرعها له .فخطا به خطوة واسعة إىل األمام ،وأنقذه من
عبوديته وإنقياده لغرائزه ،وجعل له حق ممارسة اإلرادة ،وبني له الطريق القومي املؤدي إىل حتقيق السعادة
له واحلصول على رضى سيده ومواله ،ال إله إال هو العزيز الحكيم .
مثال :كانت الفتاة السافرة املتربجة متارس حياهتا اجلنسية كما حيلو هلا .وبقيت هذه حال
القبائل والشعوب اليت مل تعتنق اإلسالم ،أو غريه من األديان السماوية اليت جعلت لإلنسان كرامة .مث
جاء اإلسالم وجعل هلذه الفتاة كرامة ومنزلة ورفعها إىل مستوى أم وربة بيت وعرض جيب أن يصان.
ويكفيها فخرًا أنه أجاز للمسلم أن يقتل أو ُيقتل دفاعًا عن شرفها وكرامتها ،وجعل عقوبًة تشبه القتل
ملن اهتمها جمرد اهتام بالفاحشة.
واليوم ،يصف هؤالء – التقدميون -اإلسالم بالرجعية ويرجعون إىل حياة ما قبله من عصر،
حريصني على السري حبسب رجع غرائزهم .فتصبح الفتاة متعًة للشاب ،وال قيد عليها مينعها من ممارسة
إرادهتا يف كل ما يشبع غريزهتا ،شرط أن تكون قد اجتازت سن الرشد وأن ال تكون مكرهة على
ذلك .فأي الفريقني أحق باألمن؟ أي الفريقني الرجعي؟ هذا ما تعنيه كلمة رجعية وأفكار رجعية.
وأما كلمة الواقعية .مثل قوهلم (علينا أن نكون واقعيني) أو (إننا نأخذ نظامنا من واقعنا) فإمنا
يعني أن يكون الواقع هو مصدر التفكير .بدًال من أن يكون موضع التفكير .نعم ،إن اإلسالم
واقعي .أي أنه ليس خياليًا ،كما انه ليس لعصر من العصور .وإمنا هو أحكام عملية تعاجل الواقع
املوجود .وما على العامل إال فهم الواقع والتفّق ه فيه ومعرفته معرفًة دقيقة .مث البحث يف النصوص اليت هلا
عالقة هبذا الواقع ،ومن مث استنباط املعاجلة هلذا الواقع .هذا ما نعنيه بقولنا أن اإلسالم واقعي ،أي جعل
الواقع موضع التفكري .أما مصدر التفكري فيه فهي جمموعة النصوص اليت جاءت هبا العقيدة ،والقواعد
األصولية اليت انبثقت عنها ،وجمموعة األفكار اليت بنيت على تلك العقيدة .أما الواقعية املذكورة فهي
اليت جتعل الواقع مصدر تفكريها .فتأخذ أحكامها من الواقع ،وتكيف نفسها وسلوكها حسب الواقع.
فال تسعى لتغيري الواقع ،بل تغري سلوكها حبسب الواقع .ولألسف أصبح من القواعد األساسية يف أذهان
الناس كلمة (الرضى باألمر الواقع) ،ويعتربوهنا تقدمية ،فيقولون أن سياسة أمريكا تقوم على األمر
31
الواقع (الربامجاتية) .وعلى هذا عرفوا السياسة بأهنا فن املمكنات ،أي التعامل مع الواقع جلعله على خري
وجه فيه .بينما الواقع الذي نراه إمنا هو (ليست السياسة فن املمكنات) .بل هي اختيار أفضل
املمكنات .أي هي فعالية مؤثرة يف املمكنات لتحقيق ما نريد بغض النظر عما اذا كانت هي األخّف ،
او األسهل ،او األصعب .إذ يجري التعامل مع الواقع لتغييره إلى ما نريد ،ال لنرضى به ولو في
أفضل حاالته ،إن كان خالفًا لما نريد.
هذا هو معىن قوهلم علينا أن نكون واقعيني ،أو أن نرضى باألمر الواقع ،أو أن نأخذ نظمنا من
الواقع .فكلها تعين معىن واحدًا هو أن الواقع مصدر تفكريهم.
أما ما جيب أن يكون فهو جعل الواقع موضع التفكري .واإلسالم إمنا يتعامل مع الواقع لتغيريه
إىل اهليئة اليت جاء اإلسالم هبا .ومن هنا نقول اإلسالم واقعي .أي أنه أحكام عملية منزلة على الواقع
لتغيريه إىل اهليئة اليت أمر اهلل هبا .فأحكامه ليست مستمدة من الواقع ،وال هي معاجلات مثالية ليس هلا
واقع ،بل إن أحكامه معاجلات عملية ال بد من تغيري الواقع حبسبها.
هذا معىن القول االفكار الواقعية .اما ما يؤدي اليه وجود مثل هذه االفكار فهو اليأس
واالستسالم والرضى باالمر الواقع .من مثل هدم اخلالفة ،واستبعاد عودة الدولة اإلسالمية ،والقبول
بالتجزئة ،وغري ذلك .ونتيجة لذلك فان اجملتمع يف العامل االسالمي ومنه البالد العربية اصبح على حالة
ال متكن من اجياد تكتل صحيح .وكان من البديهي ان ختفق كافة احلركات والتكتالت احلزبية إمسًا.
الهنا مل تقم على أساس فكر عميق ،يؤدي اىل تنظيم دقيق واعداد موثوق به .بل قامت على غري
أساس .ومما يؤسف له اهنا ما زالت حىت اليوم مل حتاول أن جتعل هلا أساسًا بالرغم من ثبوت الفشل.
ومن الطبيعي كذلك أن تكون هذه األحزاب والتكتالت احلزبية أحزابًا مفككة ،ألهنا قامت على غري
مبدأ .و َم ن تتَّبَعها يرى أهنا قامت على أساس مناسبات طارئة أوجدهتا ظروف اقتضت قيام تكتالت
حزبية ،مث ذهبت هذه الظروف ،فذهبت بذهاهبا تلك األحزاب .أو ضعفت وتالشت .واألمثلة على
ذلك كثرية ،أسوق منها على سبيل املثال ال احلصر ،ما حصل يف األردن 1956فقد اقتضت الظروف
يف حينه فسح اجملال أمام األحزاب للعمل ،وذلك للظرف السائد من انتشار الناصرية ،وارتفاع درجة
احلرية والتحرر يف البالد .فأجازت الدولة العمل احلزيب ،فوجد يف األردن سبعة أحزاب جمازة رمسيًا.
فلما انتهى الظرف الذي وجدت من أجله ،بافتعال مؤامرة قام هبا ضباط من عمالء القصر (علي
احلياري وعلي أبو نوار) ،وفرضت بسبب ذلك األحكام العرفية ،ومجد النشاط السياسي ،وإذ
باألحزاب تنتهي ،أو تضعف وتتالشى .وما حصل يف األردن دائم احلدوث يف كافة أقطار العامل
اإلسالمي .فباألمس القريب ،أعلن ضياء احلق رئيس مجهورية باكستان إلغاء األحكام العرفية أو ما
32
يسمى بلغتهم ( ،)Marshal Lawكما أجاز العمل السياسي احلزيب .فتشكل يف البالد العديد من
األحزاب أجيز منها رمسيًا أحد عشر حزبًا ،مل يكن لغالبيتها وجود .فكيف مت تشكيلها هبذه السرعة،
لوال أهنا قامت على مصاحل آنية أنانية .أو أهنا متت بني جمموعة أشخاص تربطهم صداقات أو منافع،
أرادوا حتقيق مصاحلهم عن طريق التكتل السياسي .وهبذا مل يكن بني هؤالء األشخاص رابطة حزبية
صحيحة ،ومل يكن تكتلهم على أساس مبدئي.
)1ان وجودها يف اجملتمع حيول دون وجود التكتل الصحيح ،أو يؤخر وجوده على األقل.
فاملسلم بطبعه وعقيدته ميال إىل التكتل والعمل اجلماعي واحلركة .فإذا ما وجد أمامه هذه
التكتالت واخنرط فيها ،وتأثر بأجوائها ،واستنـزفت منه الطاقة الدافعة للعمل ،ووصل إىل
نتيجة أسوأ من النقطة اليت بدأ منها ،كفر باألحزاب والتكتالت .حىت سيطر على أذهان
العامة أن وجود األحزاب ضرر فظيع باألمة ،ومأل الشك قلوب الناس.
)2أصبح الناس ينظرون حبذر شديد اىل كل حركة حزبية حىت لو كانت صحيحة .وما
أسهل أن توجد اإلهتامات ألي تكتل يربز يف اجملتمع ،وذلك ملا عهده الناس يف األحزاب
والتكتالت السابقة.
)3نتيجة لقيام هذه األحزاب على مثل ما ذكرنا من الروابط ،وطبيعة عملها يف التنافس على
املصاحل وحتقيق املطالب ،أو قيامها على أفكار عشائرية أو إقليمية أو وطنية ،فإن وجود
الصراع بينها أمر حتمي ،مما يورث احلزازات واألحقاد .ذلك ألن أيًا منها ليس عنده ثقافة
معينة أو أفكار معينة يصارع اآلخرين حبسبها .فالنتيجة الطبيعية وجود احلزازات
واألحقاد.
)4ما دامت هذه األحزاب قد وجدت من أجل حتقيق املنافع والوصول إىل املكاسب ،فمن
البديهي أن تنتقل هذه األفكار املنحطة إىل أعضائها ،وبالتايل إىل اجملتمع الذي وجدت فيه.
وحني ترى الفرد فيها يتنقل بني حزب وآخر سعيًا وراء هدف يطلبه ،أو منصب يرغبه،
33
فإن وجود فكرة النفاق ،والدوران حول املصاحل ،والتذبذب يف العمل ،نتيجة طبيعية هلذا
احلزب.
هلذا كله فقد أفسدوا على اجلمهور طبيعته النقية .وغرسوا فيه افكارًا سيئًة صارت عبئًا جديدًا
على أي تكتل صحيح يظهر يف مثل هذا اجملتمع .وكما قلنا ما دامت عقيدة املسلم تدفعه للتكتل والعمل
اجلماعي وحترم عليه االستكانة ،فان حتمية وجود التكتل الصحيح مسألة وقت .فال بد من ظهور هذا
التكتل الصحيح.
وقHHامت الى جHHانب الحركHHات اإلسHHالمية والقوميHHة والوطنيHHة ،حركHHات شHHيوعية تق &&وم على
أساس املادي&&ة .وك&&انت ه&&ذه احلرك&&ات تابع&&ة للحرك&&ة الش&&يوعية يف روسيا وموجه&&ة بتوجيهه&&ا .وطريقته&&ا
اهلدم والتخ&&ريب ،ومن غاياهتا -م&&ع اجياد الش&&يوعية يف البالد -التش&&ويش على االستعمار الغ&&ريب لص&&احل
املعس&&كر الش&&رقي ،بوص&&ف الق&&ائمني عليه&&ا عمالء ل&&ه .وقي&&ام الش&&يوعية على أساس املادي&&ة ليس هن&&ا جمال
حبث&ه ،اال ان خمتص&&ر الق&&ول في&ه ان الش&يوعية تق&&وم على العقي&دة املادي&ة أي -ال ال&ه واحلي&اة م&&ادة .-وه&&ذا
يعين ان املادة أزلية ،واملوجودات وجدت بالتطور املادي .سواء وجود االنسان او الكائنات االخ&&رى امنا
كانت نتيجة تطور املادة وانتقاهلا من حال اىل حال افض&ل .ول&ذلك ف&ان املادة أساس ك&ل ش&يء ،والعق&ل
امنا هو حال&ة من ح&االت املادة ،ب&ل ه&و أرقى تط&ور للم&ادة .ونظم االنس&ان يف احلي&اة وقوانين&ه امنا هي من
املادة .هذا هو معىن أهنا تقوم على فكرة املادية.
هذا من حيث الفكرة .أما من حيث طريقتها .فهم يقولون ان كل شيء يف الوجود قائم على
التناقضات ،ولالسراع يف عملية التطور ال بد من حتريك التناقضات يف احلياة .اذن فهذه االحزاب
كانت تقوم على فكرة وطريقة ،بغض النظر عن صالحية هذه الفكرة او بطالهنا .اال اننا نستطيع ان
نقول اهنا وضعت فكرة وطريقة .ولكنها كذلك مل تكن فكرهتا واضحة حمددة .كذلك مل تكن الطريقة
واضحة بينة .ومع ذلك ال ننكر وجود فكره مبدئية لديها ،وطريقة من جنس الفكرة ،وان هلذه
احلركات غاية حمددة هي اجياد الشيوعية يف البالد .اال ان هذه الغاية البعيدة يسبقها اجياد التشويش على
االستعمار الغريب املوجود يف العامل االسالمي .ومن هنا نقول ان الغاية مل تكن واضحة بينة حيث اهنا
أخذت تسري حسب رغبة روسيا وتوجيهها ،ال حبسب ما حتّتمه طريقة املبدأ ،وما متليه من افكار
وأعمال .فكان البارز على اعماهلا اهلدم والتخريب ،واجياد احلقد والبغضاء بني العمال وأرباب العمل،
وبني الفالحني واصحاب األراضي .وقد جنحت اىل حد كبري يف هذه النقطة بالذات ،وأعين اجياد
العداوة والبغضاء بني الناس يف عالقاهتم .وقد استطاعت حتريك األمة يف كثري من األحيان ضد االفكار
الغربية واملصاحل الغربية ولكن خدمًة لروسيا ،ال تنفيذًا لفكرهتا او طريقتها .ولذلك فاننا نستطيع اجلزم
34
بأن القائمني عليها مل يكن هلم أي شعور جتاه هذه األمة ألهنم أصبحوا عمالء لروسيا يسريون حسب
أوامرها ال حسب ما تقتضيه الفكرة او الطريقة.
وهلذا مل تتجاوب األمة مع هذه احلركات ،ومل حتدث أثرًا يذكر ،إال ما أشرنا اليه .وكان
فشلها وإخفاقها أمرًا طبيعيًا .وذلك لألسباب التالية:
.1ألهنا ختالف فطرة االنسان :فاالنسان فطر على أمور وجدت فيه .والقضاء على هذه
األمور مستحيل ألهنا جزء من تكوينه .وحماولة كبتها إلزالتها إمنا تسبب الشقاء لالنسان.
واملالحظ ان هذه العقيدة ال تقّر بوجود أمور فطر االنسان عليها ،بل تعتربها أمورًا
مكتسبة من اجملتمع الذي يعيش فيه االنسان .فالتدّين ليس فطريًا يف االنسان ،وإمنا هو
صفة مكتسبة او فكرة ُلِّقنها وهو طفل .ولذلك فهم ال يقّر ون هبا ،ويعتربون أن األلوهية
فكرة ابتدعها عقل االنسان .هذا من حيث التدين .ومل يقف األمر عند حد التدين ،بل
تعّد ى ذلك اىل الغرائز االخرى املوجودة فطريًا يف االنسان ،كغريزة التملك .أو بتعبري
آخر ،ظاهرة التملك يف غريزة البقاء .فهم يقولون كذلك ان حب التملك ليس فطريًا وإمنا
أملته حياة الناس يف اجملتمع الرأمسايل ،وأن هذه االفكار يتلقنها الفرد منذ نعومة أظفاره،
فتصبح وكأهنا فطرية فيه .مع ان هذا القول مناٍف للحقيقة ،وخطأه واضح للعيان .فالطفل
الذي مل يلّق ن أية فكرة ،ومل يكتسب بعُد أيَة معلومات ،جنده يصرخ اذا حاولنا ان نأخذ
منه شيئًا ميتلكه .وحياول ان حيوز كل شيء يلفت انتباهه .أمل يشاهد أحدهم إبنه او أخيه
يف مثل هذه السن وما قبلها ،وكيف يصرخ إن أخذنا منه ثدي أمه أو زجاجة الرضاعة؟
ومع ذلك يصّر ون على أهنا أفكار مكتسبة ،مكابرًة منهم.
.2ألهنا تناقض عقيدة االسالم :أي تناقض عقيدة األمة .ولذلك مل تكن هذه االحزاب قادرة
على اجلهر بعقيدهتا .بل كثريًا ،إن مل نقل دائمًا ،ما كانت ختاطب الناس من بطوهنم.
وأبرز ما تتحدث به االشرتاكية ،ومعاجلاهتا االقتصادية .والثغرة اليت كانت تنفذ منها اىل
عقول الشباب وبعض الناس هي إعالهنا العداء للغرب الذي هو العدو األول للناس،
وبعض مواقف روسيا املناهضة للغرب واملنافسة له يف اهليمنة على البالد .أما أن جتهر
بإحلادها ومعاداهتا لالسالم ،فهذا أمر مل جترؤ على القيام به .بل أكثر من ذلك ،فقد كانت
تّد عي أهنا حترتم األديان وتقّر باالسالم .ومن غرائب األمور ان احلزب الشيوعي يف
السودان كان يفتتح جلساته بتالوة من القرآن الكرمي .ويف مثل هذه احلالة ،فان هذه
احلركات كان فشلها طبيعيًا.
35
.3تبّنيها القضايا الوطنية :فلم تكن هذه االحزاب فروعًا حلزب واحد او حركة شيوعية
واحدة ،بل كانت الصفة الوطنية ومشاكل القطر الذي هي فيه مها الصفة البارزة لكل
حزب .ففي لبنان حزب شيوعي له قيادته املستقلة ،ويف سوريا كذلك ،ويف كل قطر من
االقطار اإلسالمية حزب شيوعي له قيادته اخلاصة ،وال عالقة سياسية بينه وبني أي حزب
شيوعي آخر .وكل حزب من هذه االحزاب تبىن املشاكل الوطنية وأخذ يعمل على
أساسها .ومثل هذه املواقف من البديهي أن ال جتعل له أثرًا كحزب شيوعي يف العامل
االسالمي.
وهلذا كان وجود احلركات الشيوعية يف العامل االسالمي عقدة تضاف اىل غريها من العقد اليت
يعاين منها اجملتمع .ويعاين منها التكتل الصحيح حني وجوده.
الجمعيات
وقامت تكتالت اخرى أساس اجلمعيات .فقامت يف البالد مجعيات حملية واقليمية هتدف اىل
غايات خريية .فأقامت مدارس ومستشفيات ومالجئ ،وساعدت يف اعمال الرب واخلري .وكانت تغلب
على هذه اجلمعيات الصبغة الطائفية .وقد شجع االستعمار هذه اجلمعيات حىت ظهرت أعماهلا اخلريية
للناس .وكانت اكثرها مجعيات ثقافية او خريية ،ومل يوجد بينها مجعيات سياسية اال نادرًا .وبالرغم من
وضوح عدم جدوى هذه اجلمعيات ،اال اهنا ما زالت تستقطب اآلالف من ابناء املسلمني وفعالياهتم،
وما زال ضررها خفيًا حبيث ان الناس مل يدركوه وما زالوا متأثرين هبذه اجلمعيات ،ويعتربون ما تقوم به
من اعمال هي اعمال خري ولبنة يف بناء اجملتمع ،وخصوصًا اجلمعيات الثقافية او اخلريية .ومن طريف ما
حصل يف هذا اجملال ،إتساع هذه الدائرة حبيث مشلت كل ضيعة تقريبًا ،بل إن بعض الضيع والقرى زاد
فيها عدد اجلمعيات عن واحدة .وقد وصل احلال ان يكون لكل عائلة او عشرية يف القرية الواحدة مجعية
خريية ،ناهيك عن اجلمعيات اليت حتمل أمساء عقائدية كجمعية احملافظة على القرآن ،ومجعية حتفيظ
القرآن الكرمي وتدريسه ،ومجعية الرب واالحسان ،ومجعية االخوان املسلمني ،ومجعية األخت املسلمة .حىت
بلغ عدد اجلمعيات اخلريية اإلسالمية يف لبنان مثًال ألفًا ومائتني وعشرين مجعية خريية إسالمية وعلى
رأسها مجعية املقاصد اإلسالمية ومجعية دار االيتام اإلسالمية ،وغريها .وكلها تقوم باعمال خريية فعًال.
وكثري منها يقوم باعمال خريية جزئيًا وحيصل على مكاسب وأرباح مما جيين من مساعدات تأيت هلذه
اجلمعيات ،حىت أصبحت يف كثري من األحيان وسيلة للكسب والثراء .وقد تأثر هبذا االسلوب كثري من
36
األحزاب والتكتالت حىت جعلت فرعًا منها يقوم بأعمال اخلري كفتح مستوصفات او مدارس او
مستشفيات او غري ذلك .هذا هو واقع اجلمعيات.
هذا ما جيب النظر اليه عند النظر اىل نتائج هذه اجلمعيات .وليس املطلوب النظر اىل ما قامت
به اعمال خريية كبناء مستشفى او بناء مسجد او بناء ملجأ للعجزة او غري ذلك من االعمال اليت يظهر
فيها اهنا اعمال خريية .فليس املقصود ذلك .وإمنا املقصود هو النهوض باجملتمع واجياد النهضة عند األمة.
ان الناظر اىل هذا اجلانب من عملها ال جيد أهنا قدمت شيئًا يف هذا السبيل مطلقًا.
وما دام األمر كذلك ،فهل يقال ان وجودها كعدمه؟ ال .ال يقال ذلك ألن وجودها ضرر
حمض ،ولكن ذلك الضرر ال يدركه اال املدقق يف واقع هذه اجلمعيات والتكالب على وجودها .بغض
النظر عن النفع اجلزئي الذي أشرنا اليه آنفًا .فأين الضرر إذن؟؟؟
ان موضوع البحث هنا هو النهضة هلذه األمة اإلسالمية .حيث ان احلالة اليت وصلت اليها من
التخلف والتجزئة ،واالحنطاط الفكري ،حتّتم على ابناء هذه األمة – خصوصًا من عنده شيء من
الوعي او االخالص – حتّتم عليه ان يبحث عن ويتحسس عوامل النهضة واإلرتقاء هبذه األمة اىل املكانة
السامية الالئقة هبا .وأن األمة برّم تها حبكم وجود بعض االفكار واملفاهيم اإلسالمية فيها ،وحبكم
تطبيقها لبعض أحكام االسالم حىت اآلن ،وحبكم صفاء عقيدهتا ،وحبكم إمياهنا املطلق بأهنا كانت يف
مقدمة األمم قرونًا عديدة ،وحبكم إمياهنا بوجوب عودهتا اىل اهلل ،وعودة سيادهتا لألمم األخرى ،وإمياهنا
املطلق بوجوب اجلهاد ،كل هذا جعل مشاعرها مشاعر إسالمية عارمة ،وعواطفها عواطف إسالمية،
وجعل أحاسيس النهضة موجودة دائمًا فيها .وملا كان هناك العديد من النصوص واالعمال اليت رّك زت
الروح اجلماعية يف األمة ،لذا فقد وجد يف األمة امليل الطبيعي للتكتل .هذا هو واقع األمة .أمة فيها بعض
االفكار واملفاهيم اإلسالمية ،واملشاعر فيها مشاعر إسالمية ،والروح اجلماعية مركزة فيها ،وأحاسيس
النهضة حيركها هذا الواقع الفاسد الذي تعاين منه .فأمة هذا حاهلا ،لو تركت وشأهنا لتحولت هذه
األحاسيس واملشاعر اىل فكر .وهذا أمر طبيعي او منطقي .ولكان هذا الفكر قد أنتج عمال ينهض
37
األمة ،ويرشدها اىل كيفية النهوض .ولكن وجود اجلمعيات هذه حال دون ذلك .إذ أوجد عند األمة
متنّف سًا لعاطفتها املتأججة ،وإستنـزافًا ملا فيها من طاقة للعمل ،وقيامًا بواجب تراه فرضًا عليها ،واستجابة
لقوله تعاىل وتعاونوا على البّر والتقوى .فيرى عضو الجمعية أنه
بنى مدرسة او أنشأ مستشفى ،او ساهم في عمل من أعمال
الخير ،فيشعر بالراحة والطمأنينة ،ويقنع بهذا
ًا
العمل ظن منه أنه قام بما أوجبه الله تعالى على هذه
الأمة .وتراه يقول لو أن كل واحد منا ساهم بما يقدر
عليه من عمل من اعمال الخير والبر ،لأنقذنا الأمة
ّف
مما هي فيه ،او على الأقل لخ فنا من الآلام التي
تعاني منها أمتنا ؟!!!
ًة
فلو لم تكن هذه الجمعيات موجود ،ولم يجد هؤلاء
ّف ًا
الأشخاص متن س يخفف من الضغط الحاصل على نفسياتهم
من إحساسهم بوجوب العمل لاستمروا في البحث حتى يوجد
التكتل الصحيح الذي ينهض بالأمة ،على أساس مبدئي
صحيح .وهذا أمر طبيعي .من حيث ان الواقع ،ومؤثراته،
ومخالفته لما في النفس من مفاهيم وأفكارإسلامية،
ومناقضته وعدائه لما عند الأمة من مشاعر إسلامية،
ووجود الطاقة الحيوية فيها ،من البديهي أن يدفعها
للبحث والتنقيب عن طريقة للخلاص .الا ان وجود
الجمعيات وظهور اعمال خير لها صرف الأمة عن مواصلة
البحث ،وألقى في روع الكثير من أبنائها أن هذه هي
طريق الخلاص.
38
ُي
الحياة الإسلامية؟ هكذا يجب ان نظر الى المسألة.
لا من حيث أن هذا العمل جائز او مندوب او فرض.
39
بهذا الفعل .فقد يتصف بالصدق في قوله ،وقد يتصف
ُد
بالكذب .وقد أوجب الشارع على الفرد أن يص ق في
حديثه ،كما أجاز له أن يكذب في بعض الحالات ،او أن
يواري في حالات اخرى ،وحرم عليه أن يصدق في حالات
غيرها .إذن فالصدق صفة خلقية يتصف بها الفرد أوجبها
عليه الشرع .والعهد عقد بين طرفين .ويتصف
المتعاقدان بصفة معينة قد يلتزمها طرف دون طرف.
فأوجب الشرع على المتعاقدين الوفاء ،إلا ان بعضهم
قد يغرر وقد يخدع .فهذه صفات يتصف بها المتعاقدان،
وهكذا .فالأخلاق صفة للفرد يتلبس بها حين قيامه
بالاعمال او الاقوال التي يريد القيام بها .ونخلص
الى القول بان الاخلاق جزء من مقومات الفرد ،والتي
هي العقيدة والعبادة والاخلاق والمعاملة .وصلاح
الفرد بصلاح هذه المقومات الأربع ،وفساده بفسادها
أو فساد بعضها .فمهما سمت أخلاق الفرد ،ومهما اتصف
ًا
بصفات حميدة ،فلا قيمة لها مطلق إن كانت عقيدته
فاسدة .فلا يقال إن الكافر لا خلق له .إذن أن هناك من
ًا
الكفار او الملحدين من يتصف بصفات حميدة مثل .فهو
لا يكذب ،ولا يخون ،ولا يغدر .ومع ذلك فانه لا يعتبر
ًا ًا
فرد صالح ،لأن الأساس في مقوماته ان تكون مبنية
على عقيدته .من هذا الفهم لواقع الأخلاق ،نعود لفهم
النصوص التي حاولوا الاستدلال بها .فعملية
ّق ّت
الاستدلال بنص من النصوص تح م فهم الواقع والتف ه
ّل ًا
فيه ،تمام كفهم النص وفهم ما د ت عليه ألفاظه
وتراكيبه.
فالنص الاول ،وهو قوله تعالى وإنك لعلى خلق عظيم
ّل ّج
هو خطاب من الباري عز وج مو ه لرسول الله . فقد
ّم
جعله الله على خلق عظيم .فج له بالصفات الحميدة في
كل أفعاله .وبالتالي فان هذا الخطاب هو وصف لشخص
الرسول وليس للمجتمع .والمراد من بحثنا هو كيف
ننهض بالمجتمع؟ فالمسألة مسألة النهضة.
40
الأخلاق) .فإن المعنى المراد هو كافة أفعال
الانسان ،وأنه بعث لبيان كافة الاحكام الشرعية
الواجب على الانسان التقيد بها .فالمسألة إذن ليست
مسألة خلق او صفة ،بل مسألة تكوين الشخصية
الإسلامية كاملة من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة.
ًا
وما زال الموضوع متعلق بصفات الفرد او مقوماته.
41
ًا
وبيان ذلك ،أننا لو قمنا باصلاح الفرد صلاح
َم ًا
تام ،بحيث بلغت نسبة ن أصلحنا من المسلمين أكثر
من %90من الذين اعتقدوا الاسلام عقيدة يقينية
ًا ّن ًا ّي
واضحة ن رة ،ولم يأخذوا فيها شيئ ظ ي ،والتزموا
العبادات على أكمل وجه ،فرائض ونوافل .فالصلاة،
يصلي الفريضة المكتوبة ،والنافلة المؤكدة وغير
المؤكدة ،ويقوم الليل فلا يوتر الا قبيل الفجر.
ويزكي ماله ويتصدق بأكثر من ثلث ماله فلا يترك
ًا ًا
يتيم ولا مسكين إلا أعاله .ويصوم صوم سيدنا داوود
عليه السلام بالاضافة الى شهر رمضان المبارك .ويحج
ّي
ويعتمر معظمم سن حياته ،هذا من حيث العبادات.
بالاضافة الى تلاوة القرآن التي هي خبزه اليومي
ًا ًا
والضراعة الى الله قيام وقعود وعلى جنبه .فهل بعد
ذلك من شيء؟ وأما أخلاقه فخلقه القرآن أي أنه يتصف
بكل صفة حسنة ذكرها الله سبحانه في قرآنه ،وأما
فمقياسه الحلال والحرام ،فلاَّر معاملته مع الناس
ًا
يقدم في معاملته على مح م ابد .
42
فالمجتمع جماعة من الناس بينهم علاقات دائمة.
والعلاقات الدائمة وجودها حتمي عند اية جماعة
يتوافقون على العيش على بقعة واحدة من الارض .إلا ان
وجود هذه العلاقات لا يتم الا بناءا على افكار
يتفقون عليها لتنظيم هذه العلاقات .وبوجود هذه
الافكار والتزامهم بها تتواجد في نفوس هؤلاء الناس
مشاعر متجانسة مع هذ الافكار فيغضبون حين يخرج على
ُي ّر
هذه الافكار أحد ،و س ون حين يلتزم بما اتفقوا
عليه أحد.
43
فصلاح هذا المجتمع بصلاح هذه المقومات ،وفساده
بفساد هذه المقومات .واما ما يقال عنه أنه عرف عام.
فان الافكار والمشاعر حين تأخذ دور العراقة
والتركيز في النفوس يتكون من اتحادهما عرف عام
يصبح له قوة القانون ،بل إنه في كثير من الاحيان
ًا
أقوى أثر من القانون .ويصبح وكأنه رقيب على تصرفات
ًا
الافراد والحكام .بالعرف العام يخيف الحاكم تمام
كما يخيف الفرد.
44
ًا ًا ًا ًا ًا
يجعله قوي مستقيم فعال منتج عامل للخير
ًا
والصلاح والاصلاح .والخلق الذميم يجعله ضعيف
ّم ًا
مسترخي لا نفع منه ولا خير فيه ،ولا ه له في حياته
الا إشباع شهواته وإرضاء أنانيته .ولما كانت
الجماعة إنما يبنيها او يهدمها الفرد ،والفرد إنما
تبنيه او تهدمه أخلاقه ،لذلك ،فقد ساروا في طريق
اصلاح الفرد عن طريق اصلاح أخلاقه.
45
أما قولنا بفساد مشاعرها الجماعية :فيعني أن
ًة
مشاعرها لم تصبح واحد ،فهي لا تثور وهي تشاهد
ّب ًا
الكفر مط ق عليها ،ولا تهتز مشاعرها الجماعية وهي
ترى أبناءها غارقين في الحرمات ،او ترى النظم
ًا ًا ّب
المط قة عليها كفر صراح .
وكقاعدة أساسية يف جناح أي تكتل من ناحية تكتلية يف اجياد هنضة او اصالح ،ال بد أن يكون
هذا التكتل مبنيًا على مبدأ معني ،وأن يكون مسبوقًا بتفّه م صحيح هلذا املبدأ بفكرته وطريقته ،وأن
تكون الرابطة بني اعضاء هذا التكتل رابطة صحيحة جتمع بني اعضاء هذا التكتل ،أي أن يكون
46
اإلنضمام والعضوية فيه مبقدار وعي هذا العضو على ثقافة هذا التكتل وإخالصه هلا .وأن يكون العضو
– حىت يكون عضوًا او مسؤوًال – مؤهًال لإلضطالع باملسؤولية واالستعداد للتضحية.
وبالنظر اىل التكتالت اليت قامت على أساس اجلمعية ،والتكتالت اليت قامت على أساس
التسمية احلزبية ،جند أن فشلها كان طبيعيًا لعدم قيامها على مبدأ معني .ومل يسبق قيامها تفّه م صحيح
هلذا املبدأ ،بفكرته وطريقته ،ومل يكن اجلامع بني افرادها ،أي الرابطة اليت تربط بني افرادها ،رابطة
صحيحة.
زد على هذا فان إخفاقها كان حمققًا ايضًا من ناحية افرادها .فان العضو فيها مل يكن ينظر اليه
من ناحية صالحيته هلذا العمل ،أي من حيث اميانه بالفكرة اليت يقوم عليها التكتل ،أو وعيه على تلك
الفكرة ،او اخالصه هلا واستعداده للتضحية يف سبيلها .وإمنا خُي تار الفرد فيها على أساس مكانته يف
اجملتمع وإمكانية حتقيق الفائدة املعجلة من وجوده عضوا فيها .فقد كان العضو خُي تار على أساس انه
وجيه يف قومه ،او غين بني مجاعته ،او حماٍم ،او طبيب ،او ذو مكانة ونفوذ ،بغض النظر عن كونه
صاحلًا هلذه الكتلة اليت خُي تار هلا أم غري صاحل .ولذلك فانه كان يغلب على اعضاء هذه التكتالت
التفكك ،وعدم االنسجام .كما تغلب عليها الناحية الطبقية .فاعضاء احلزب او اجلمعية يداخلهم تصور
خفي بأهنم ميتازون عن باقي الشعب ،ال مباهلم ووجاهتهم فحسب ،بل بكوهنم اعضاء يف اجلمعية او
احلزب ايضًا .ولذلك ال حيصل بينهم وبني الشعب أي تفاعل او تقارب.
اذن كان اختيار االعضاء على هذا األساس ،أي المكانة االجتماعية ،ضررا كبريا على
التكتل نفسه ،وعلى اجملتمع ايضًا .أما ضرره على الكتلة نفسها ،مجعية كانت أم حزبًا ،فقد كان
التفكك وعدم االنسجام فيما بينهم أمرًا طبيعيًا ،وإمكانية االنتقال من حزب آلخر ،او من مجعية
ألخرى أمرًا بديهيًا ،وكان بقاؤه يف هذه اجلمعية او تلك مبقدار ما يشبع غروره ،او حيقق مآربه ،او
يزيد من مكانته .فقد رأيت يف أحد املكاتب السياسية لبعض هذه التنظيمات إثين عشر حامل دكتوراه،
ورئيس التكتل شبه أّم ي .ومبجرد توقف االنتفاع فّر قتهم أيدي سبأ .وقال يل رئيس تنظيم آخر باحلرف
الواحد" :إن رصيدنا اليوم مليون ونصف املليون لرية ،وأنا أعلم أن هؤالء – ويعين أعضاء املكتب
السياسي لكتلته – إمنا جاؤوا لإلغتنام .فأمتىن عليك لو أخذمت هذا املبلغ .أما أن يأخذه هؤالء فهو واهلل
جرمية".
هذا هو واقع التكتالت ،وهذه خطورة اختيار االعضاء على أساس املكانة االجتماعية.
أما خطورته على المجتمع ،فان اجملتمع يعقد أمله دائمًا على كل بارقة أمل تلوح يف األفق،
ويرى أن أي تكتل يف األمة قد يؤدي اىل إنقاذها او حتسني وضعها على األقل .وحني يدرك اجملتمع
47
واقع هذه التكتالت ،ويرى أهنا إمنا تركض وراء منافعها ،وتلهث وراء زيادة مكاسبها ومكانتها،
خصوصًا وهو يرى أهنم قبعوا يف أبراجهم العاجية ،وال يتصلون بالناس اال حني تكون هلم حاجة،
كاالنتخابات مثًال ،او مجع التربعات او غري ذلك ،حني يدرك اجملتمع ذلك فانه يكفر بالتكتالت
مجيعها ،وال يسمح ألي منها بدخوله ،وال خيلص هلا .وهذا يشكل عقبة كؤودًا أمام أي تكتل صحيح
يظهر يف اجملتمع .وبالفعل ،فان هذه التكتالت بتصرفها هذا مل تستطع ان تدخل اجملتمع وال ان تتفاعل
معه .بل مل جيِر تقارب بينه وبينها ،وبقيت يف عزلتها .فأمست ضغثًا على إّبالة ،أي حزمة فوق احلْم ل.
ومبعىن اصطالحي آخر – صنمًا على مزبلة ،-و ّمهًا جديدًا فوق داٍء عضال.
وهلذا نستطيع ان نقول بعد دراسة معظم التكتالت واجلمعيات اليت قامت يف العامل االسالمي
بأكمله ومعرفة األسس اليت قامت عليها ،والظروف اليت أوجدهتا ،واالوضاع اليت الءمت بني افرادها،
وبعد التفكر يف املفاهيم اليت طرحتها ،وبعض االفكار اليت أوجدهتا ،واآلثار اليت تركتها ،وبعد استقراء
معظم هذه احلركات وتتّبعها من مولدها اىل نشأهتا وموهتا ،او تتّبع حياهتا إن كانت ما زالت حية،
وباستقراء كافة االقاليم اإلسالمية ،ورؤية أهنا ما زالت تعاين من االحنطاط والتخلف ،وما زال
االستعمار يهيمن عليها مجيعها هيمنة فكرية وثقافية واقتصادية وسياسية ،ومل تبد تباشري أي هنضة او
افكار تؤدي او ميكن ان تؤدي اىل النهضة ،بعد هذه الدراسة والتفكر واالستقراء نستطيع أن جنزم أنه مل
ينشأ خالل القرن الفائت أي تكتل صحيح ،يؤدي اىل هنضة صحيحة ،وأن مجيع التكتالت واحلركات
اليت حصلت قد أخفقت ،والدليل على ذلك بقاء األمة على حاهلا ،إن مل نقل أهنا تزداد سوءًا يومًا بعد
يوم .وسبب ذلك هو أهنا قامت على أساس مغلوط.
مع ان األمة ال تنهض اال بالتكتل ،فان املالحظ ان العمل الفردي ال يجدي ،وال ميكن أن
يؤدي اىل اية نتيجة اطالقًا .ولو أراد أحد ان ينهض باألمة على أساس واضح فسيجد نفسه حتمًا يعمل
على اجياد تكتل ،ذلك أنه حني يدعو الناس افرادًا او مجاعات اىل ما حيمل من دعوة ،أي اىل األساس
الذي يريد ان ينهض األمة على أساسه ،فقد يستجيب له فرد او افراد ،فال بد له من تثقيفهم بالثقافة
اليت أعّد ها ،او توضيح اهلدف الذي يسعى اليه .مث إن هؤالء االفراد حني ينطلقون مبا حفظوا ،وما آمنوا
به ،يدعون الناس لفكرهتم وهدفهم ،فاهنم سيبقون حتمًا على اتصال بداعيتهم االول ،يوّج ههم مبا يراه
ويرسم هلم خطة العمل وأساليبه ،وجييبهم على تساؤالت الناس ،او تساؤالهتم هم واستفساراهتم عن
بعض األمور .ويف هذه احلالة سيجد هذا االنسان نفسه يقود كتلة معينة ،شاء أم أىب ،هذا مع افرتاض
االخالص عند هذا االنسان (وهذا هو األصل) .أما اذا افرتضنا غري ذلك من ارتباط او عمالة ،فان
عمله الفردي ال يؤدي اىل نتيجة ،وال يستجيب اليه أحد .وبالتايل فهو عمل فاشل .وال يعّو ل عليه،
وهلذا نقول ان اية عملية تغيري يف األمة ال ميكن لفرد ان يقوم هبا مبفرده ،بل ال بد من تكتل يقوم على
48
ذلك .فكيف اذا كانت عملية التغيري هذه هي النهوض باألمة؟؟ إنه ال بد وأن يقوم هبذا األمر تكتل.
فما هو هذا التكتل الصحيح الذي يسبب هنضة األمة؟؟؟ هذا ما حنتاج اىل بيانه.
التكتل الصحيح
مّر بنا نوعان من التكتالت :مجعي ،و حزيب .أما النوع اجلمعي فقد بّينا فساده ،ونوجز ذلك
بأن النظام اجلمعي إمنا يقوم على اسس معينة .أي ان تقوم اجلمعية بأعمال وأقوال ،او بأعمال فقط ،او
بأقوال فقط.
فاجلمعيات اليت تقوم على أساس اعمال واقوال ،مثل اجلمعيات اليت تقوم مثًال ببناء املدارس
واملستشفيات ،ويف الوقت نفسه تقوم حبمالت وعظ وارشاد او تدريس القرآن او غري ذلك من االفعال
القولية .وهذا النوع من اجلمعيات كثري ،حىت من الذين اختذوا ذلك وسيلة للثراء.
اما اجلمعيات اليت تقوم على أساس اعمال فقط ،فهي اجلمعيات اليت تقوم على بناء املساجد او
املدارس وما شاكل ذلك .وال تقوم يف الوقت نفسه بأعمال قولية.
وهناك اجلمعيات اليت تقوم على اسس قولية .أي تقوم على الوعظ واالرشاد ،واالفعال القولية،
أي تعقد ندوات ،وتوزع نشرات او غري ذلك.
ان مثل هذه اجلمعيات ال جيوز ان ُيشّج ع وجودها يف األمة اليت توّد النهوض .وذلك لألسباب
اليت ذكرناها سابقًا ،أي من حيث اهنا تسبب اليأس عند األمة نتيجة تكرار الفشل ،هذا من جهة ،ومن
جهة اخرى ،فاهنا تصرف الناس ومن فيهم احليوية بشكل خاص عن البحث عن التكتل الصحيح.
هذا من حيث اجلمعيات ،أما من حيث التكتالت اليت تقوم على أساس حزيب إمسًا ،أي
التكتالت السياسية كاليت وجدت يف العامل االسالمي منذ احلرب العاملية االوىل حىت اآلن .فان هذه
التكتالت ال جيوز تشجيعها يف اجملتمع .فهي ال تقل ضررًا عن التكتل اجلمعي .خصوصًا بعد أن
سيطرت على عقليتها فكرة االستعانة باالجنيب ،وأمثاهلا من االفكار القاتلة .وما خّلفته يف اجملتمع من
مفاهيم مغلوطة.
49
وإمنا التكتل الصحيح هو الذي يقوم على أساس حزيب مبدأي اسالمي .شريطة ان يتالىف تلك
االخطاء اليت أشرنا اليها واليت كانت سببًا يف فشل تلك التكتالت السالفة الذكر .اذن فال بد ان يقوم
هذا احلزب على أساس مبدأي اسالمي كما قلنا ،تكون الفكرة فيه هي الروح جلسم احلزب ،وهي
نواته ،وهي سّر حياته .وتكون خليته االوىل انسانًا تتجسد فيه الفكرة ،وطريقة من جنسها ،حىت يكون
انسانًا من جنس الفكرة يف نقائه وصفائه ،ومثل الطريقة يف وضوحه واستقامته.
وملا قلنا انه حزب مبدأي اسالمي ،تكون الفكرة هي الروح جلسم احلزب ،وهي نواته ،وسّر
حياته ،فاملعروف ان املبدأ هو عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام .نظام ينتظم حياة الفرد واجملتمع ،ويبني
كيفية تنفيذ هذا النظام .أي انه فكرة وطريقة .اذن عقيدة هذا المبدأ وما ينبثق عنها هي الروح
لجسم هذا الحزب .فالعقيدة اإلسالمية وما ينبثق عنها من معاجلات ومحلها اىل العامل وكيفية احملافظة
عليها وكيفية تنفيذ معاجلاهتا وكيفية محلها للناس ،هي الفكرة اليت هي سر حياة هذا التكتل .وهذا ال
يعين ان نضع أسس هذه العقيدة الستة "االميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقضاء
والقدر خريمها وشرمها من اهلل" فقط ،مث نقول ان العقيدة هي اجلامع بني اعضاء التكتل .فاألمة
مبجموعها تعتقد هذه العقيدة .وإهنا لتجري يف عروق ابنائها جمرى الدم ،ومل جير عليها أي تغيري عرب
العصور ،اللهم اال بعض الغشاوات على بعض افكارها .وقد كانت التكتالت االخرى كاجلمعيات
واالحزاب امسًا يعتقد افرادها هذه العقيدة .فلم جُي ِد نفعًا .ومل تصلح ألن تكون رابطة تربط بني اعضاء
هذه التكتالت .بل املقصود من الفكرة – أي عقيدة املبدأ – فهم هذه العقيدة ،وفهم ما جاءت به
هذه العقيدة من معاجلات ونظم وأهداف ،وتثبيتها كثقافة هلذا التكتل جيري بناء االعضاء على أساس
هذه الثقافة ،ويكون صالحهم للعضوية واملسؤولية مبقدار وعيهم على هذه الثقافة واخالصهم هلا.
وهبذا تكون هي الرابط بين اعضاء التكتل عن ايمان واخالص .فاذا ما وجدت هذه الثقافة،
وما وّض حته من طريقة للوصول اىل غايتها وحتقيق هدفها فقد وجدت نواة احلزب ،وكانت فعًال هي
روح احلزب ،وسر حياته .وهي اجلامع الوحيد بني افراده .اذ ان عدم قناعة أي فرد بفكرة أساسية من
هذه العقيدة جيعل هذا الفرد بعيدا عن هذا احلزب ولو كان عضوا فيه .وعدم اميانه حبكم من احكام
طريقته يؤدي بالتايل اىل ابتعاد هذا الفرد عن جسم احلزب ،ولو كان أحد مسؤوليه .هذا معىن قولنا ان
هذه الفكرة وهذه الطريقة هي نواة احلزب وسر حياته.
هذا من حيث الناحية الفكرية املسطحة على الورق .أي من حيث أساس ما جيب ان يكون.
اما وجود الخلية االولى فامنا هي انسان من جنس هذه الفكرة في نقائه .أي انه آمن هبذه وحدها،
ومل ميتزج فكره مبجموعة من االفكار اختلط فيها الغث والسمني .فكما ان هذه العقيدة هلا مصدر
50
واحد فقط هو الوحي ،فان هذا االنسان ال بد ان يكون له قاعدة واحدة للتفكري ،هي العقيدة وما
جاءت به من نصوص ليس غري ،وان عقله فقط لعقل هذه العقيدة وفهم نصوصها ،وال يتخذ أي قاعدة
او نص غري هذه .هذا ما نعنيه بنقائه ،نقاء الفكرة .أي ان الفكرة ليس هلا اال مصدرًا واحدًا هو
الوحي ،وترفض ان يشرتك فيها غري هذا املصدر .وكذلك هذا االنسان مل يتخذ أي مصدر لتفكريه اال
هذا املصدر.
وأما القول انه مثل الطريقة في استقامته .فمن املعروف ان الطريقة جاءت هبا العقيدة ونفذها
رسول اهلل ال تأخذه يف اهلل لومة الئم .فها هو رسول اهلل جييب عمه وقومه حني جاءوا ملساومته
(و اهلل يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا األمر ما تركته
حتى يظهره اهلل أو أهلك دونه) او كما قال .وها هو ايضا يقول للمتشفعني يف املخزومية اليت سرقت
(و اهلل لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) .هذا هو الوضوح واالستقامة .تتنـّز ل سورة
املسد يف حق عمه وزوجة عمه تبكيتًا وتقريعًا وتوّعدًا تبت يدا أبي لهب وتّب
الآيات ،فيعلنها رسول اهلل وحيفظها الناس ويهرولون هبا اىل أيب هلب واىل سادة قريش .فلم
تأخذ رسول اهلل لومة الئم ،ومل يأبه ملن يقول له :أهكذا تقول يف عمك وزوجة عمك ،وهو السيد
يف قومه ،الزعيم يف عشريته؟! نعم مل يأبه لذلك ،ألن الطريقة تقتضي االستقامة والوضوح.
فاذا ما وجد االنسان املتصف هبذه الصفات من النقاء واالستقامة ،فقد وجدت اخللية احلية
االوىل .ثم ال تلبث هذه الخلية ان تتكاثر – حيث ان من طبيعة اخلاليا احلية ان تتكاثر .-وعملية
التكاثر هذه ستؤدي حتمًا اىل اجياد احللقة االوىل .وكما ذكرنا سابقا فان أي انسان خملص حني يبدأ
بالدعوة لفكرة ما فسيجد من يستجيب له ،وأن من استجاب سيتحرك أيضا يف الدعوة ،إال أنه سيبقى
مرتبطًا باملصدر االول للتشاور معه وأخذ التوجيه منه للسري هبذه الدعوة .وبهذا تكون قيادة الدعوة
قد وجدت طبيعيا من هذه الخاليا االولى .واليت باشرت الدعوة وقيادهتا .وبهذا تكون قد نبتت
الكتلة الحزبية.
وحني تنبت الكتلة احلزبية حتتاج اىل اجلامع بني افرادها .أي حتتاج اىل الرابطة اليت تربط بني
افرادها الذين آمنوا بفكرهتا وطريقتها .فتكون بذلك العقيدة ،عقيدة املبدأ ،هي الرابطة احلزبية .وتكون
هذه العقيدة هي املصدر الوحيد الذي تنبثق عنه فلسفة احلزب ،أي افكار احلزب األساسية ،واملصدر
الوحيد لثقافة احلزب.
وعودة اىل كلمة ثقافةُ .أحب ان اذكر ان الثقافة اإلسالمية أي ثقافة الحزب انما هي ما
جاءت به العقيدة من النصوص أي الكتاب والسنة وكذلك ما كانت هذه العقيدة سببا في بحثه
51
وفهمه ،وهي اللغة العربية ومجموعة معارفها .وهلذا كان مصدر ثقافة احلزب هو العقيدة اإلسالمية
ومعارف اللغة العربية ليس غري .فاذا ما وضعت هذه الكتلة احلزبية ثقافتها وجعلتها هي الرابطة بني
اعضاء هذه الكتلة وبنت الكتلة على أساس االميان هبذه الثقافة ،ومدى الوعي عليها ،واالخالص هلا،
حينئذ تكون الكتلة احلزبية قد وجدت ،وسارت يف معرتك احلياة.
وحني تبدأ الكتلة السري يف معرتك احلياة تتقلب عليها االجواء حارة وباردة ،وهتب عليها الرياح
عاصفة ولينة ،وتتناوهبا االجواء صافية وملب&&دة .وه&&ذا يع&&ين ان ه&&ذه الكتل&&ة تع&&اين اوض&&اعًا ثالث .الحفاظ
على ذاتها ،وتنمية نفسها ،وتنمية المجتمع الذي تعمل فيه ،وخصوصا الذين يناصبونها العداء.
اما الوضع االول وهي العمل على تنمية نفسها وزيادة عدد اعضائها ،وايجاد أجواء لها
ووعي عام على فكرتها .فان عملها هذا تنتابه حاالت من القوة والضعف والرتدد ،فيندفع افرادها
حبماس وقوة ،اال اهنم حني يصطدمون مبا يف اجملتمع من عقبات تصيبهم حسرة ،ويسقط يف أيديهم ،مما
يؤدي اىل ضعف نشاطهم وفتور ّمهتهم .فأجواؤهم حارة تارة وباردة اخرى.
وأما تصّد ي خصومهم لهم من السلطة او من حملة االفكار االخرى ،فهي متقلبة كذلك.
فتقوم السلطة باعتقاهلم تارة وباالفراج عنهم تارة اخرى ،حتارهبم يف أرزاقهم ومتنعهم من الوظائف
وحتول دون نشاطهم تارة ،وتارة تغض النظر عنهم لظرف ما ،او حملاولة معرفة املزيد عنهم .وكذلك
محلة االفكار االخرى فال يفتأون يطرحون الدعايات املغرضة ،واالفرتاءات الكاذبة ،واالقاويل الباطلة
عن هذه الكتلة وشباهبا .فتارة حياربوهنا باالمهال وجتاهل وجودها ومنع وسائل االعالم من احلديث عنها
ال مدحا وال قدحا .وتارة يقومون بنشر االكاذيب املفضوحة دون خجل .فقد بلغ احلال بإحدى
اجلهات اإلسالمية أن أّلف أحد أفرادها كتابا يقول فيه ان هذا احلزب يرى ان الصالة يف هذه املرحلة
ليست واجبة .ويقول يف كتابه ان هذا احلزب يقول يف كتابه "نظام االسالم " يف الصفحة 17يف
السطر العاشر ما نصه " ان الصالة يف هذه املرحلة ليست واجبة لقوله تعاىل الذين إن مّك ّناهم
في األرض أقاموا الصالة ،وما دمنا مل منكن يف االرض فالصالة ليست واجبة" ،انتهى
كالم ذلك املؤلف .والذي ساعده على انتشار ِفْر يته عدم وجود او توفر كتاب "نظام االسالم " يف
املكتبات ،النه ممنوع من التداول .هذا منوذج من الرياح اليت كانت هتب على هذه الكتلة ،عاصفًة حينًا
ولّينًة أحيانا.
واما المجتمع الذي تعمل فيه هذه الكتلة ،فاهنا بتصديها ملا فيه من مفاسد ،وما يقوم فيه من
نظم ،وما يهيمن عليه من رأي عام ،وما يكتنفه من ال مباالة ،كان هذا اجملتمع يتقبل مرة ويصّد عنها
مرات .خصوصًا حني هتاجم ما يهيمن عليه من رأي عام كالقومية ،والناصرية ،واالشرتاكية يف حينه.
فانه يضع أصابعه يف أذنيه ،ويتغشى ثوبه ،ويصد ويستكرب استكبارا .اما حني تطرح افكارا وآراء
52
تستغرهبا االمة وتراها بعيدة عن الواقع ،مث ال تلبث ان تتبني حقيقة هذه االفكار واآلراء ومطابقتها
للواقع ،فاهنا تعيد النظر يف موقفها من هذه الكتلة ،ولكنها عودة مرتددة.
هذه هي االوضاع الثالث اليت جتابه هذه الكتلة حني سريها يف معرتك احلياة ،فاذا ثبتت هلذه
العوامل فاهنا تكون قد اجتازت خط الدفاع االول ألفكار الكفر وحصلت على النتيجة االتية:
تبلور فكرتها :فاالصطدام باالفكار االخرى ومناقشتها وبيان فسادها ،يؤدي حتما اىل جتسيد -1
هذه الفكرة وبلورهتا .أي انتقاهلا من حالة امليوعة اىل حالة التجسيد ،أي انتقاهلا من افكار
خالية خيالية اىل رؤية الواقع وانطباقها عليه .فالفرد حني كان يتثقف هبذه الثقافة على الورق
كان يصعب عليه تلُّم س واقعها ،وحماولة جتسيده ،اما بعد اصطدامه باالفكار االخرى فقد
ادرك صدق افكاره واهنا افكار تنطبق على واقعها .فمثًال حني كان يقرأ عن املبادئ االخرى
وفساد عقيدهتا وبطالن افكارها،مل يكن يتصور ان افكاره تستطيع ان هتزم تلك االفكار .وملا
خاض معها تلك املناقشات وجد تلك االفكار أوهى من بيت العنكبوت ،وثبت لديه ان فكرته
هي احلق.
وضوح طريقتها :ان هذه املناقشات احلادة لالفكار واملعتقدات االخرى جعلت الشاب حياول -2
تطبيق ما يقوم به مع سرية سيد املرسلني ،فيجد انه يقتدي خبطواته خطوة خطوة وان ما جيده
هو عني ما وجده املصطفى . وهذا ما وّض ح له الفرق بني املرحلة املكية واملرحلة املدنية،
وبني له الفرق بني ما هو وسيلة او اسلوب وبني الطريقة الواضحة الثابتة .وميز له بني حكٍم
ملعاجلة من املعاجلات وحكٍم لتنفيذ حكم ملعاجلة من املعاجلات .ففّر ق بني احكام حفظ النسل
مثًال واالحكام املبينة لكيفية تنفيذ احكام حفظ النسل ،اىل غري ذلك من احكام الطريقة املبينة
لكيفية تنفيذ احكام الفكرة .أي ادرك ان االسالم له كيفية معينة يف تنفيذ احكامه ،فهو ليس
جمموعة من الوصايا يقوم الفرد اميانًا منه بتنفيذها .وادرك ان الدولة هي احلكم األساسي من
احكام الطريقة ،املنفذة لالحكام.
أعّد ت أشخاصها :حني وجد حامل الدعوة نفسه وحيدا اال من اخوة له يف هذه الدعوة ،فقد -3
ناصبه العداَء أقرُب املقربني اليه حىت والديه وأهل بيته ،ومع ذلك مل تأخذه يف اهلل لومة الئم،
وفهم معىن وجوده يف احلياة ،وعرف انه امنا يعيش من اجل االسالم .كان صادقا يف قوله
قل ان صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب العالمين ،ال شريك له ،وبذلك
ُأمرت وأنا من المسلمين . ومن كان هذا حاله فانه يكون قد ُأعَّد إعدادا حقيقيا
53
يؤهله لقيادة االمة واألخذ بيدها يف طريق النهوض .وكان حريًا مبن هذا حاله ان يضطلع
بأعباء الدعوة والسري هبا يف سبيل حتقيق غايتها.
قَّو ت رابطتها :ان هذه الكتلة الواعية ،والكتلة العاملة ،حني جتد نفسها وحيدة يف امليدان وال -4
معني هلا اال افرادها العاملني ،وحني جتد ان االمة اليت تعتقد عقيدهتا ،وحني جتد الكثري من
الفئات اليت تدعو لالسالم كذلك تعتقد ما تعتقده هذه الكتلة ،ومع ذلك تناصب هذه الكتلة
العداء وجتاهرها باملقاطعة ،تدرك هذه الكتلة حينها أن الرابطة احلقيقية اليت تربط بينها هي
الثقافة احلزبية .فال رابطة قومية وال رابطة مصلحية ،وال حىت بني املرء وأهله ،وال العقيدة
جمردًة عما ينبثق عنها من مفاهيم .بل الرابطة احلقيقية هي العقيدة مبا انبثق عنها من مفاهيم
حسب فهم معني ليس غري.
وأحب ان ألفت النظر لتثبيت هذه احلقيقة يف النفس ،اىل أنه من الصعب ادراك كيف ان
العقيدة وحدها ليست كافية للربط بني اعضاء التكتل الواحد .بل ال بد من العقيدة بكافة ما ينبثق عنها
من احكام وما بين عليها من افكار تكون مبجموعها ثقافة احلزب حىت تكون رابطة .فكلنا يعرف االئمة
االربعة ،ابو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل ،وكلنا يعرف اهنم مؤمنون خملصون ،واهنم يعتقدون
العقيدة اإلسالمية باميان يقيين صادق .ومع ذلك مل جتعل هذه العقيدة منهم كتلًة واحدًة ،وال جعلت
من املقّلدين هلم كتلة واحدة .فلو كانت مدارسهم ومقلدوهم كتلة سياسية ،لكانت كتًال متعددة،
ولربز الصراع عنيفا بينهم .وحىت مع كوهنم مدارس فقهية ،فقد حصلت صراعات حادة يف بعض
االحيان بني هذه املذاهب.
وكذلك ،فقد حصل وحيصل وسيحصل بني الفئات اإلسالمية صراعاٌت فكريٌة الختالفها يف
الرأي يف مجلة مسائل .وهذا هو االمر الطبيعي .فالرابطة الفكرية ال بد ان يتوفر فيها رابطة واحدة،
وهدف واحد ،وافكار واحكام واحدة مما يتعلق باجلامع بينهم ،وباهلدف الذي وضعوه ألنفسهم،
وباالحكام اليت تبني كيفية سريها ،والطريقة اليت ينتهجوهنا ،حىت تكون رابطة جتمع بني اعضاء هذا
التكتل او ذاك ،مجعًا حقيقيًا يتقدم على أية رابطة اخرى ،مثل القومية او الوطنية او العصبية وتتقدم حىت
على الرابطة بني املرء ووالديه ،وبني املرء وزوجه.
هذا هو التكتل الصحيح ،الذي يعمل للنهضة الصحيحة .وهو التكتل الذي تكون نواته
الفكرة ،وثقافته هي الرابطة ،وهو الذي يستطيع ان ينتقل من كتلة حزبية اىل حزب مبدئي متكامل
ويستطيع ان يضطلع بأعباء املسؤولية ،وخيطو حنو غايته خبطى ثابتة .ألنه هاضم لفكرته ،مبصر لطريقته،
54
مؤمن هبدفه ،ال يثنيه عن الوصول اليه شيء ،وال يلهيه عنه التعامل مع جزئيات االمور ،وتعقيدات
احلياة ،والصخور اليت ُتلقى يف طريقه إلعاقته عن حتقيق غايته وهدفه.
نشأة هذا التكتل الحزبي المبدئي في األمة
أما كيف ينشأ هذا التكتل يف األمة اليت تريد النهوض ،نشوءا طبيعيًا .فهاك البيان:
األمة جزء واحٌد ال يتجزأ ،وهي يف تكوينها الكلي كاإلنسان .وبالرغم من القائلني بتكون
اجملتمع من أفراد ،ومن حماولة تركيز مبدأ الفردية املأخوذ من النظام الرأمسايل يف نفوس الناس ،وتأثر
الكثريين به ،إال أن املكونات األساسية لألمة تبقى هي األساس يف تكوين األمة .فعقيدهتا وما ينبثق عنها
من مشاعر ،وما يتكون على أساسهما من عرف عام ،هي األساس يف تكوين األمة .فما دامت األمة
حتمل عقيدة معينة ،وينبثق عن هذه العقيدة أفكار وأحكام أساسية تنتظم حياهتا ،وما دام هلذه العقيدة
أثر على مشاعر الناس ،وما دام هلذه العقيدة أثر على طريقة التفكري عندها -أي عند األمة -فإهنا تبقى
أمة ،مهما حلقها من أمراض ،ومهما اعرتاها من هزال .وتبقى كأهنا إنسان يعيش يف احلياة.
فاحلياة يف اإلنسان ،هي العقيدة يف األمة .واإلنسان مهما أصاب أعضاءه من مرض ،أو حلقه
من شلل ،وبقيت فيه احلياة (أي الروح) يبقى إنسانًا حيًا ميكن معاجلته .وكذلك األمة ،مهما اعرتى
بنيها من خور ،ومهما أصاهبم من وهن ،ومهما طغى عليهم من فساد ،تبقى األمة حية ما بقيت فيها
عقيدهتا .ولو أهنا أمست منحطة .إال أن إمكانية معاجلتها بقيت قائمة.
واإلنسان املريض الذي أشرف على اهلالك ،مث متاثل للشفاء فإن احلياة تدب يف عروقه ومجيع
أوصاله ،ألنه كائن حي .كذلك األمة حني تدب فيها احلياة واحليوية فإهنا تدب فيها مجيعا بوصفها
جمموعة إنسانية واحدة باعتبارها كًال .واحلياة لألمة هي الفكرة اليت تصحبها طريقة من جنسها ،لتنفذ
هبا ،فيتكون من جمموعهما ما يسمى املبدأ .إذن ،ال يكفي وجود العقيدة الروحية يف األمة لنهضتها،
وال يكفي وجود العقيدة منفصلة عن طريقتها اليت تنفذ هبا كي توجد النهضة يف األمة.
أمتنا حتمل العقيدة الروحية بشكل جيد ،واالميان بان االسالم يعاجل كافة مشاكل احلياة ،من
سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية ،موجود يف األمة كذلك .اال ان طريقة تنفيذ هذه
املعاجلات مل تصحب هذا االميان .بل مل يدرك لذلك طريقة .ولذلك مل يؤثر كل ذلك على وجود احلياة
يف األمة ،وال حىت احليوية يف كثري من األحيان.
إذن فوجود املبدأ يف األمة ليس كافيا لبحث احلياة فيها ،وإمنا الذي يبعث احلياة فيها هو
اهتداؤها هلذا املبدأ ووضعه موضع التنفيذ .فاألمة مبجموعها ،صغريها وكبريها يتغىن بوجود املبدأ
االسالمي عنده ،وان االسالم فيه كل معاجلات احلياة ،وانه لو طبق ألضفى على العامل كله السعادة
الكاملة ،اىل غري ذلك من التمنيات و األماين .وليس هناك اال النـزر اليسري من مثقفي األمة واملضبوعني
55
بالثقافة الغربية ممن يرون ان االسالم عاجز عن جماراة العصر وحل مشاكل األمة .وقد عمد الكثري منهم
اىل حماولة التوفيق بني االسالم وغريه ،او حماولة تأويل النصوص الشرعية حىت جتاري العصر ،وتوافق
االفكار الغربية .ومع كل ذلك نقول اهنا مل تتحسس طريق النهضة ،ومل يؤد وجود هذه املفاهيم فيها
اىل وجود احلياة فيها .ألهنا مل تضع هذا املبدأ موضع التنفيذ ،مع وجوده كنصوص مقدسة بني يديها فال
هي اهتدت لفكرته ،و ال أدركت طريقته ،وال عرفت وجوب ربط فكرته بطريقته .وبالتايل فان وجود
هذا املبدأ العظيم بفكرته وطريقته يف األمة ويف تارخيها ويف تراثها التشريعي ،وتغنيها مباضيها العريق،
وأهنا كانت سيدة الدنيا ،كل ذلك مل يؤد اىل وجود احلياة فيها.
ان املضبوع ال يصحو حىت يرى دمه يسيل .واملضبوع هو املأخوذ من حيوان امسه الضبع.
وهذا احليوان حني يلتقي انسانًا وحياول افرتاسه ،فانه يلجأ اىل أساليب ورائحة كريهة خترج منه حبيث
يفقد هذا االنسان السيطرة على أعصابه فيتبع الضبع اىل حيث يريد ،وهو يصرخ انتظرين يا أيب،
والضبع يسري أمامه حىت يصل به اىل مكان افرتاسه .فال يصحو هذا املضبوع من اتباع الضبع حىت
يرتطم حبجر فيسيل دمه ،او يضربه شخص ما يريد إنقاذه فيسيل دمه .واال بقي متبعًا الضبع اىل وكره
ومكان افرتاسه.
ومن فقد وعيه لسبب من االسباب ال يصحو بسهولة ،بل ال بد من سكب املاء عليه ،او وض&&ع
النشادر يف أنفه ،او أية مادة فاعلة تعيد عمل األعصاب الطبيعي .واما االمة املنحطة ،اليت فق&دت وعيه&ا،
وراحت تغّط يف ن&وم عمي&ق ،فاهنا حتت&اج اىل م&ا يعي&د اليه&ا ص&واهبا ،ويعي&د احليوي&ة اىل أوص&اهلا .حتت&اج اىل
ما ُيسيل دمها ،ويوقظ أعصاهبا النائمة الغافلة .وغالبا ما تك&ون اهلزات العنيف&&ة ال&يت تص&&يب جمم&وع الن&اس
من أفض &&ل املنبه &&ات .من حيث ان ه &&ذه اهلزات ينتج عنه &&ا إحس &&اس مش &&رتك .وه &&ذا االحس &&اس اجلم &&اعي
هبذه الصدمات يؤدي اىل ح&وار ومناقش&ات بني الن&اس ،من حيث اسباب ه&&ذه اهلزات ،وم&&ا ال&ذي سببها
وكيفي&&ة تاليف مثيالهتا ،اىل غ&&ري ذل&&ك من املناقش&&ات ،سواء بني املثقفني والسياسيني او بني عام&&ة الن&&اس.
فاالحساس مشرتك ،ولو انه يتف&اوت ق&وة وض&عفا .ومن ه&ذه املناقش&ات احلادة ،وبت&وايل املص&ائب ،وتت&ابع
البل &&وى ،يس &&تمر البحث بني الن &&اس ،مما ي &&ؤدي اىل عملي &&ة فكري &&ة .ينتج عنه &&ا قض &&ايا من ج &&راء البحث يف
أسباب ومسببات هذه املصائب .فمن الناس من يتناوهلا مبنتهى الس&طحية والبس&اطة ،فيق&ول :أنن&ا نس&تحق
ذل &&ك ألنن &&ا مل نل &&تزم مبا أمرن &&ا اهلل .ومن &&ا من يق &&ول :تل &&ك مش &&يئة اهلل .وذاك يص &&رخ :ع &&ودوا اىل ربكم.
وآخ&رون حياولون رب&ط واقعهم مبا حص&&ل هلم ،ويبحث&ون يف كيفي&ة معاجلة ه&&ذه االم&&ور معاجلة تنق&&ذهم مما
هم في&&ه .ومن الب&&ديهي ان حياول ك&&ل منهم اقام&&ة ال&&دليل على ص&&حة م&&ا ذهب الي&&ه ،وي&&ربهن على ص&&دق
النتيج &&ة ال &&يت توص &&ل اليه &&ا .وهبذه الكيفي &&ة من املناقش &&ات واحلوار ،ومن رب &&ط الواق &&ع احملس &&وس بأسبابه
ومس&&بباته ينتج الفك&&ر الص&&حيح .من حيث ان القض&&ايا احلس&&ية املربهن عليه&&ا باالدل&&ة وال&&رباهني يتول&&د عنه&&ا
نت&&ائج ص&&حيحة .ه&&ذا ه&&و املنط&&ق الس&&ليم .قض&&ايا حس&&ية ص&&حيحة ك&&ربى ،وقض&&ايا حس&&ية ص&&غرى ،ونتيج&&ة
56
حسية .واصطحاب هذه العملية املنطقية هو الذي ينتج الفكر الص&حيح .ويبقى ه&ذا الفك&ر مرتبط&ا بأدلت&ه
وبراهين &&ه .ودوام ه &&ذا االتص &&ال ،والرتاب &&ط بني القض &&ايا ،ي &&ؤدي حتم &ًا اىل حبث ماض &&ي االم &&ة وم &&ا ك &&انت
عليه ،واحلال&ة ال&يت هي فيه&ا ،واملس&تقبل ال&ذي تس&ري إلي&ه إن بقيت على ه&ذا احلال .ومن الب&ديهي ان ي&دفع
هذا البحث اىل حبث عالقة االمة بغريها من االممم والشعوب وتارخيها والوقائع واالحداث ال&&يت أث&&رت يف
مسري حياة االمم ،وأسباب هنوض كل أمة منها ،اىل م&&ا يص&&حب ذل&ك من مقارن&ات وم&&داخالت ت&ؤدي
بالت&ايل اىل اهت&داء العق&&ل للمب&دأ بفكرت&ه وطريقت&ه ،في&ؤمن ب&ه ،بع&&د أن ت&ربهن القض&&ايا املنطقي&ة على ص&&حته
وانتاج&ه .وحني نق&ول القض&ايا احلّس ية فانن&ا نع&ين هبا القض&ايا ال&يت دل ال&دليل العقلي املب&ين على احلس على
صدقها ،أي كل قضية ُأقيم الدليل احلسي والربه&ان العقلي على أهنا ص&حيحه ص&ادقة .ه&ذا م&ا ت&ؤدي الي&ه
غالب &ًا اهلزات العنيف &&ة والص &&دمات القوي &&ة يف االمم النائم &&ة .اال ان &&ه ق &&د يق &&وم أع &&داء ه &&ذه االم &&ة بتض &&ليلها،
وإهلائه &&ا باالعم &&ال املرجتل &&ة ال &&يت تبع &&دها عن وقف &&ة التفك &&ري تل &&ك .فتنتق &&ل من االحس &&اس اىل العم &&ل دون
تفكري .فاذا ما استمر ذلك ،فقد يؤدي اىل حالة من الي&أس ت&ؤدي باألم&&ة اىل االستس&الم والي&أس .ويك&ون
ذل&&ك مما ي&&ؤخر عملي&&ة االهت&&داء اىل املب&&دأ ف&&رتة أط&&ول .اال ان االم&&ر الط&&بيعي ان ت&&ؤدي تل&&ك اهلزات اىل م&&ا
ذكرنا.
ويك &&ون االهت &&داء للمب &&دأ مجاعي &ًا يف اجلماع &&ة ،الن االحس &&اس املش &&رتك فيه &&ا أدى اىل البحث بني
ك&&ل فئاهتا ،وبالت&&ايل ،ونتيج&&ة للح&&وار واملناقش&&ات ،واستعمال منط&&ق العق&&ل ،ي&&ؤدي حتم&ًا اىل االهت&&داء اىل
املب&&دأ بش&&كل مجاعي .ألن ال&&ذي أدى لالهت&&داء الي&&ه ه&&و االحس&&اس اجلم&&اعي ال&&ذي وج&&د يف االم&&ة نتيج&&ة
للهزات.
نعم ان االحس & &&اس يتف & &&اوت بني ش & &&خص وآخ & &&ر ،واملؤثرات يف االحساس تتفاوت ك & &&ذلك من
حيث الق &&وة والض &&عف ال من حيث النوعي &&ة .فحني حنس ب &&الظلم ،او املص &&يبة ،او اهلزمية ،ف &&ان االحس &&اس
املتول&&د عن ه&&ذا الواق&&ع واح&ٌد من حيث نوعيت&&ه ،فه&&و إحس&&اس ب&&الظلم او اهلزمية .ولكن تفاوت&&ه إمنا يك&&ون
من حيث الق &&وة والض &&عف ،وذل &&ك حبس &&ب م &&ا هيئ &&أهم اهلل ل &&ه ،وم &&ا اختص &&هم ب &&ه من استعدادات ممت &&ازة.
ول&&ذلك يظ&&ل اهت&&داء األم&&ة اىل الفك&&رة كامن&ًا فيه&&ا ،اىل أن يتجم&&ع ت&&أثري ذل&&ك االحس&&اس فيمن ن&&الوا ق&&درًا
أعلى من االحساس ،فيوقظهم ويلهمهم ،ويبعث فيهم احلركة ،أي زي&ادة مناقش&ة القض&ايا -كم&ا أسلفنا
-والبحث ملعرفة أسباب تلك املصائب ،والطرق املؤدية للخالص .فتظه&ر على ه&ذه الفئ&ة أع&راض احلي&اة
قبل غريها.
ان هذه الفئة اليت نالت قدرًا أعلى من االحساس هم املرآة اليت تنعكس عليها إحساسات
اجلماعة .ألنه كما قلنا فإن املصيبة الباعثة على التفكري إمنا كانت شاملة للجميع .وكون هذه الفئة اليت
تتمتع حبس مرهف كان أثر تلك املصيبة عليها أكرب ،فإن ذلك دفعها اىل البحث والتنقيب حىت توصلت
للفكرة ،ومتركزت فيها .فدفعتها اىل التحرك ،ولكن عن وعي وإدراك .فكانت هذه الفئة هي العرق
57
النابض باحلياة ،والقلة الواعية يف األمة .وهم عيون األمة اليت تراقب وتالحظ ما حيصل يف اجملتمع من
أحداث وما جيري فيه من تغري.
ووجود هذه الفئة الواعية يف األمة أمر طبيعي .واندفاعها للعمل أمر طبيعي .وكثريًا ما وقعت
هذه الفئة الواعية يف مطبات االنتقال من االحساس اىل العمل مباشرة مما أدى اىل اجهاض ثورهتا وإفراغ
خمزون محاسها .ولذلك نقول ان هذه القلة الواعية تكون حائرة قلقة .حيث اهنا تبصر أمامها دروبًا
متعددة ،فتحتار أي الطرق تسلك .منهم كما قلنا من ينتقل من االحساس اىل العمل .ومنهم من خيتار
طريقًا ال يتناسب مع الفكرة اليت توصل اليها ،فاختار مثًال الوعظ واالرشاد .ومنهم من محل السالح
مع الوعظ واالرشاد .ومنهم من رأى بناء شخصية الفرد ،اىل غري ذلك من اختالف يف اختيار الدرب.
وذلك نظرًا للتفاوت يف نسبة الوعي املوجود فيها .وبناءًا على ذلك يكون منطق االحساس أي الفكر
الناشئ عن إحساس صادق أقوى يف بعضها من البعض اآلخر .وهي الفئة اليت ال تقف عند حّد املظاهر
يف حكمها على األشياء ،بل اليت باالضافة اىل معرفتها أسباب االحنطاط يف األمة ،والبلوى اليت حتيط
هبا ،ومعرفة الفكرة اليت يعاجَل هبا هذا الواقع ،مل تقف عند هذا احلد لرتجتل طريقة من الطرق ،أو دربًا
من الدروب ،ألهنا اعتادت أن يكون الفكر الناشيء عن إحساس "منطق اإلحساس" منهجًا لتفكريها.
فتنكّب على دراسة الطرق مجيعها لتهتدي اىل الطريق الصحيح الذي تضمنته الفكرة نفسها .وهي
معرفة اهلدف والغاية أوًال .مث معرفة الطريق املوصل اىل هذه الغاية مما تضمنته الفكرة نفسها .فتحدد
غايتها ،وتعرف هدفها ،وتبصر الطريق املوصل اليه بوضوح كامل .وبذلك تكون قد اهتدت اىل املبدأ
بفكرته وطريقته .فتعتقده عقيدة راسخة ألهنا مبنية على براهينها ،وموافقة ملا فطر عليه االنسان.
وباعتقادها هذا يكون املبدأ قد جتّس د فيها او كان عقيدة هلا .فتكون هذه العقيدة مع ما يبىن عليها من
أفكار وما ينبثق عنها من مفاهيم "حسب فهم هذه اجملموعة" ،أي ثقافة احلزب ،هي الرابط بني
أشخاص هذه الفئة .إذن فالرابطة احلزبية هي العقيدة العقلية أي املبدأ والثقافة احلزبية .ونعين بالثقافة
الحزبية (جمموعة االفكار اليت تبّناها احلزب -حسب فهمه – مبنيًة على العقيدة وجمموعة املفاهيم
واألحكام اليت انبثقت عن هذه العقيدة وجمموعة املعارف واملقاييس اليت آمن هبا وتبّناها) .هذه هي
الرابطة احلزبية وليس فقط العقيدة ،وهي مبجموعها على اساسها تتكون عقلية األعضاء ،وتنصقل على
أساسها نفسياهتم ،وهي معيار إنتمائهم هلذا احلزب.
إن االنسان إمنا يسرّي ه مفاهيمه عن احلياة .ومبقدار اميانه بفكرة ما يكون اندفاعه فيها .فاذا
وصلت الفكرة اىل حد القناعة املطلقة ،بل وصلت اىل حد انعقاد القلب عليها ،فمن البديهي أن تكون
هي املوِّج ه له يف سلوكه .وحني يقنع القناعة املطلقة والتصديق اجلازم بوجوب محل فكرة ما ،فان
املشاعر املنبثقة عن هذا االميان تدفعه دفعًا للقيام مبا جيب عليه .وحني نقول ان املبدأ قد جتّس د يف
58
شخص ما ،فان ذلك يعين أن ذلك الشخص قد أصبح مبدًأ ميشي على االرض .أي ان هذا الشخص
أصبح منقادًا بكليته (فكره وشعوره) هلذا املبدأ .وهذا يعين أن املبدأ ال يطيق أن يبقى حبيسًا ،أي أقل ما
يقال فيه أنه ُيرى جمّس دًا يف هذا الشخص .ناهيك عن وجود مفاهيم يف هذا املبدأ توجب على َم ن
جتّس د فيه محَلها للناس .فمن جهة سلوكهم الطبيعي إمنا يكون حبسب مفاهيم املبدأ وأحكامه ،مسرَّي ًة
حسب منهجه .وأما ما جاء فيه من حيث حتديد اهلدف والغاية ،فإن من يتجسد فيه املبدأ يرى أن
وجوده يف احلياة هو من أجل املبدأ ،وأن غايته يف هذه احلياة إمنا هي من أجل حتقيق غاية املبدأ واهلدف
الذي بّينه .فهو كما نقول يف تالوتنا قل إن صالتي ونسكي ومحياي ومماتي هلل رب
العالمين ،ال شريك له ،وبذلك ُأمرت وأنا من المسلمين .
وحني نقول انه أصبح وجوده من أجل املبدأ ،وعرف معىن وجوده يف احلياة ،فإمنا يعين ذلك:
أ) أوال االلتزام سلوكيا باحكام هذا املبدأ ،والتقيد مبا أمر به او هنا عنه ،ب) ثانيا العمل على نشره يف
الناس ،بالدعوة اليه وحده ،واجياد الوعي العام عليه .وحني يتجسد املبدأ يف هذه الفئة االوىل اليت
اهتدت اليه ،ال تلبث احللقة االوىل ان تتحول اىل كتلة حزبية .مث تتحول الكتلة احلزبية اىل حزب مبدئي
متكامل .فيأخذ يف النمو الطبيعي يف ناحيتني :االوىل التكاثر يف خالياه ،باجياد خاليا جديدة تعتنق املبدأ
وتؤمن به عن و عي وادراك تامني حبيث يعمل على جتسيد املبدأ فيها كذلك ،متاما كما جتسد يف الفئة
االوىل دون متييز .واما الناحية الثانية فهي باجياد الوعي العام عليه عند األمة كلها .وكنتيجة طبيعية
الجياد الوعي العام عند األمة على هذا املبدأ ،تتوحد اآلراء واالفكار واملعتقدات ،توحدًا مجاعيًا إن مل
يكن إمجاعيًا .وبذلك يتوحد هدف األمة وتتوحد عقيدهتا ووجهة نظرها يف احلياة .وحني نقول تتوحد
األفكار فإمنا نعين األفكار العامة املتعلقة مبعاجلة املشاكل اليت تكتنف األمة يف حياهتا اخلاصة .كالقول
بأن الدولة االسالمية هي اخلالفة ،فمن هو اخلليفة ،وما هي صالحياته ،ومن الذي يعّينه ،ومىت ُيعزل.
وما هو النظام االقتصادي ،أو كيف تعاجل األمة مشاكلها االقتصادية او االجتماعية او السياسية ،ومثل
ذلك .وأما حني نقول تتوحد اآلراء ،فذلك فيما يتعلق بنظرة املسلمني اىل غريهم وعالقتهم مع هذا
الغري .مثل توضيح أحكام الذّم ي والنظرة اليه .وأما توحيد املعتقدات ،فقد تسرب اىل األمة بعض
االفكار العقيدية املتأثرة بالفلسفة اهلندية او اليونانية ،كالصوفية والكالمية وغريمها .ومما يقطع الطرق
على مثل هذه االفكار اجياد القاعدة الثابتة عند األمة بأن العقيدة ال تؤخذ اال عن يقني ،وأن خرب اآلحاد
يفيد الظن وال يفيد اليقني .وكاجياد القاعدة املتعلقة باالعمال والقائلة بأن الشريعة هي من عند اهلل ،وأن
أفعال االنسان مقيدة باحلكم الشرعي ،وال جمال للعقل يف التشريع ،بل مهمة العقل هي فقط فهم
النصوص الشرعية ،واستنباط األحكام منها .فيكون مصدر التشريع هو الوحي فقط .هذا ما نعنيه
بتوحيد األفكار واآلراء واملعتقدات .وأبرز ما يؤدي اليه ذلك هو وحدة اهلدف عند األمة ،وذلك باجياد
59
اخلالفة القّو امة على التطبيق والتنفيذ .حىت يتم حتقيق الغاية اليت هي استئناف االسالمية ومحل االسالم
للعامل.
واذا ما قام احلزب هبذا الدور من توحيد االفكار واآلراء واملعتقدات ،فانه يكون قد اصبح
بوتقًة تصهر األمة .والبوتقة هي الوعاء الذي تصهر فيه املعادن ،وتتنقى مما علق هبا من أوساخ او رمال
او معادن اخرى .وصهر األمة يف بوتقة احلزب وتوحيد االفكار واآلراء واملعتقدات فيها إمنا يؤدي اىل
استبعاد االفكار الدخيلة واآلراء الضعيفة واملعتقدات الباطلة اليت أدت اىل احنطاط األمة .مثل فصل
الطاقة العربية عن الطاقة االسالمية الذي أدى اىل ضعف فهم االسالم يف النفوس ،وتطبيق بعض
األحكام اخلاطئة اليت أدت اىل كثري من الفنت واملصائب مثل والية العهد يف نظام احلكم ،او االفكار اليت
وجدت بعد احنطاط األمة مثل نظرية التعايش بني األديان "الدين هلل والوطن للجميع" ،وأمثال هذه
األفكار الكثري .فالعملية الصهرية تعين إبعاد هذه االفكار الفاسدة ،وتوحيد اهلدف والغاية ،وبعث قواعد
التفكري وغري ذلك.
والذي يتوىل هذه العملية هو احلزب .وهي اليت تسبب النهضة يف األمة .وذلك باجياد قاعدة
معينة للتفكري للوصول اىل أرقى االفكار – أي النهضة .-وهي عملية شاقة ال يقدر عليها اال احلزب.
ألن احلزب يعيش بفكرهتا ،بل إن الفكرة هي حياته ،أو ألن حياته وقف على هذه الفكرة ،وهو يدرك
كل خطوة من خطواته.
قلنا ان اإلحساس العام الذي كان يكتنف األمة عند تعرضها للمصائب واهلزات ،قد أوجد
عمليات فكرية عند األمة .وأوجد قضايا يبحث فيها عن األسباب واملسببات .وظهر نتيجة لذلك ثّلة
واعية توصلت مبنطق اإلحساس اىل جمموعة من األفكار – او اختلفت يف طرق متعددة ودروب خمتلفة.
وكان من بني هذه االفكار اليت أشرقت يف األمة فكر احلزب الناشيء عن إحساسه .فكان هذا الفكر
واحدًا من جمموعة افكار متعددة .كان واحدًا منها ،ولكنه كان أضعفها ،ألنه أحدثها والدًة ،وأجّد
وجودًا ،ومل يتمركز بعد ،ومل توجد له أجواء .لكنه نشأ عن منطق اإلحساس ،أي أن فهمه ناتج عن
االدراك احلسي ،الذي يوجد االحساس الفكري ،أي يوجد إحساسًا واضحًا نتيجة للفكر العميق.
واالدراك احلسي إمنا ينشأ حني نفكر يف واقع حمسوس ،ونربط هذا الواقع احملسوس مبعلومات سابقة
حمسوسة مقطوع بصّح تها ،وخنلص اىل نتيجة حسية ،فتكون هذه النتيجة فكرًا صحيحًا صادقًا .أي ان
ذلك يسري حسب قواعد املنطق .حيث نضع مقدمًة صغرى حسية صحيحة ،ومقدمًة كربى صحيحة،
ونستنتج من ذلك نتيجة حسية ،فتكون هذه النتيجة صحيحة اذا ُأمن اإلنزالق يف متاهة .والطريق
العقلي املنطقي طريق جيد للوصول اىل أرقى االفكار اذا اقتصر البحث به على القضايا احلسية.
60
وفكر احلزب إمنا جاء نتيجة التفكري احلسي ،أي البحث يف القضايا احملسوسة .فكان فهمًا ناشئًا
عن االدراك احلسي ،ال الومهي وال اخليايل ،وال اإلفرتاضي .وفكر هذا حاله ،حرٌّي به أن يرتكز يف
النفس وأن يؤمن به االنسان .ونتيجة هلذا االميان والرتكز فانه حيرك يف النفس األحاسيس الصادقة
الناشئة عن مشاهدة الواقع بناءًا على ما يف النفس من اميان ،أي ما يف النفس من فكر عميق .مثال (لو
التقى شخص فتاًة ال يعرفها فأعجبه شكلها ،وأعجبه حديثها ،فرغبت نفسه بالزواج منها ،ففاحتها
باألمر ،فقبلت .فكانت مشاعره وأحاسيسه جتاهها باعتبار أهنا زوجة املستقبل ،ونظرته اليها أهنا زوجة
املستقبل .وهي كذلك .ولكن عند مفاحتة األهل تبنّي أهنا أخته يف الرضاع .فماذا تصبح مشاعره
وأحاسيسه اآلن .بدًال من النظرة اليها على أهنا زوجة املستقبل ،صارت النظرة اآلن أهنا األخت اليت
عليه محايتها .فتغريت أحاسيسه جتاهها بتغري فكرته عنها .وكذلك تتغري أحاسيسه يف اجتاه ثالث مغاير
هلذا فيما لو عرف منها أهنا شيوعية او درزية او علوية) .فاألحاسيس الفكرية هي األحاسيس اليت تنطلق
من أفكار عميقة مركزة يف النفس .وملا كان فكر احلزب ناشئًا عن إحساس فإن فكره يكون عميقًا
ناجتًا عن االدراك احلسي .ونتيجة لعمق ذلك الفكر ،فان األحاسيس اليت توجد عنده إمنا يكون
مصدرها ذلك الفكر العميق الذي آمن به .ومن متتع مبثل هذا النوع من االدراك العميق ،وهذا
اإلحساس الصادق ،من البديهي ان ينطبع به ،فيجعله خملصًا .ولو أراد أن ال يكون خملصًا فإنه ال يقدر
على ذلك ،ألن ذلك االدراك وهذا االحساس يكون قد ملك عليه نفسه وسرّي ه يف الوجهة اليت حيّتمها
هذا الفكر واالحساس.
وحني يتجسد هذا الفكر يف املخلص عقيدًة وثقافًة فإنه حيدث يف نفسه ثورة جاحمة .وليست
هذه الثورة سوى انفجار بعد احرتاق يف الشعور والفكر .والتقاء الفكر والشعور على نقطة معينة إمنا
يدفع من حيمله دفعًا اىل اإلقدام والتضحية بكل شيء .فاملشاعر واالحاسيس من أقوى الدوافع للعمل
عند االنسان .وحني تتضافر مع هذه األحاسيس األفكاُر املوجبة للعمل ،فانه ال يبقى أي تردد يف النفس
يدفعها اىل التقاعس او اإلحجام ،بل يشيع يف النفس التلهب واحلماس والصدق .ومن البديهي أن يؤدي
ذلك اىل املنطق والفكر ،فيكون نارًا حترق الفساد ،ونورًا يضيء طريق الصالح.
ونتيجة لذلك فان الدعوة ال بد هلا أن تدخل يف صراع فكري حاّد مع االفكار الفاسدة،
والعقائد املتداعية ،والعادات البالية ،فتحاول هذه أن تدافع عن نفسها .وهبذا حيصل االحتكاك باملبدأ
اجلديد ،وهذا ما يزيد يف قوته ،ويبلور فكرته يف نفوس محلة الدعوة ،وينّم ي عقلياهتم ،ويصقل
نفسياهتم .وما هي اال فرتة صراع قصرية حىت تتداعى االفكار والعقائد والطرق ،ويبقى مبدأ احلزب
وحده يف األمة هو وحده فكرها وهو عقيدهتا .هذا لو كانت االوضاع طبيعية ،وترك باب الصراع
مفتوحًا .اال ان وعي الكفار على ذلك جعلهم يلجأون اىل أخبث األساليب يف التصدي للدعوة،
61
كاإلمهال والتجاهل ،ومنع وسائل اإلعالم من الكتابة او اإلعالن عن أي أمر يتعلق باحلزب باملدح او
القدح ،وحماربة محلة الدعوة يف أرزاقهم ،وأجسادهم ،ونشر الدعايات اخلبيثة ضدهم ،وحماولة حرف
احلزب عن خط سريه ،وإبعاده عن الطريق اليت تبناها .ما جعل الفرتة الزمنية تطول أكثر مما كان
متوقعًا.
ومىت وّح د احلزب االفكار واملعتقدات واآلراء ،فانه يكون قد صنع األمة على عني بصرية،
وصهرها ونّق اها .فكانت أمة واحدة ،ووجدت الوحدة الصحيحة .فالعربة يف وحدة االفكار العامة اليت
تتعلق بتنظيم حياة املسلمني .وهذا ال يتأتى اال بقيام دولة اخلالفة بتبنيها افكارًا وأحكامًا حمددة تنظم هبا
حياة الناس .أما وحدة املعتقدات ،فمن فضله تعاىل أن األسس يف العقيدة مل يلحقها ضالل او ُبعد ،ولو
أنه أصاب بعض فرعيات افكارها غشاوات او سوء فهم ،سرعان ما يزول بتثبيت فكرة واحدة يف األمة
وهي ان العقائد ال تؤخذ اال عن يقني .فبهذه الفكرة وحدها نستطيع إبعاد كل ما حلق بافكار العقيدة
من خزعبالت او تّر هات ،او تأثر بالفلسفة اهلندية او اليونانية او الرأمسالية او غري ذلك .وأما وحدة
اآلراء ،فان األمة االسالمية مبجموعها ترى أهنا أمة من دون الناس ،ومن سواها الكفار .وأهنا مبجموعها
متيز يف عالقاهتا مع الكفار يف كثري من األحكام .فهي متيز بني الكتايب وغري الكتايب مثًال يف قضايا
اللحوم والزواج وغري ذلك.
وبناءا على هذا النجاح يف وحدة األمة ،ينتقل احلزب بنجاح يف قيادة األمة القيادة العملية يف
محل الرسالة للعامل ،وتنفيذ أحكام االسالم مجيعها ،وإجياد الطريقة الصحيحة يف التفكري الجياد النهضة
احلقيقية على اساس ذلك املبدأ ،والعمل على نشره عند كافة األمم والشعوب تنفيذًا المياهنا بأهنا إمنا
تعيش من أجل االسالم ،ومن أجل محل هذا املبدأ اىل العامل تنفيذًا ملا جاء يف عقيدة هذا املبــدأ
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.
وقد شهد علينا رسول اهلل ،حيث بّلغ الرسالة وأدى األمانة ،ووصلنا كتاب اهلل جّل ثناؤه وسنة
رسوله ومها احلجة علينا يوم الدين .فبقي أن نتمكن من إقامة احلجة على الناس ،أي على العامل ،بأن
نوصل اليهم االسالم ،ونقيم عليهم احلجة أمام اهلل عز وجل.
الحركة الجماعية
إن هذا التكتل احلزيب حركة مجاعية ،وال ميكن أن يكون إال حركة مجاعية ،ألن التكتل
الصحيح ال يكون إال حركة مجاعية وليس حركة فردية .إذ أن احلركة الفردية ال ميكن أن تنهض
باألمة ،وال أن تصل اىل اهلدف الذي أملته الفكرة – أي عقيدة املبدأ .وملا كان األمر كذلك ،كان
لزامًا على القائمني على احلزب يف البالد االسالمية أن يبحثوا البحث الدقيق عن احلركات اجلماعية،
62
وأن يفهموها فهمًا عميقًا .ألن فهم احلركات اجلماعية يسّه ل علينا أن نزن كل حركة مجاعية مبيزاهنا
السوّي ،وذلك بدراسة البيئة اليت عاشت او تعيش فيها ،والظروف اليت البستها او تالبسها ،ومدى
عمل االفراد الناهبني يف تسيري أمرها ،وتسهيل مهمتها يف القضاء على ما يعوق جناحها ،او يعرقل
سريها.
ويقاس جناح احلركة اجلماعية بقدرهتا على إثارة روح االمتعاض يف الناس ،وحثهم على إظهار
امتعاضهم كلما جّد من السلطة احلاكمة او النظام القائم ما ميّس مبدأها هذا ،او حتكم به وفق مصاحل
السلطة وهواها.
ومن مالحظة احلركات اجلماعية اليت هلا قوة التأثري يف عصرها ،يظهر أهنا ال تنشأ حني يكون
الرخاء ميسورًا ،واحلقوق الطبيعية لالنسان حمققة ،والرفاهية متوفرة ،والكفاية الشخصية هي املقياس
لتويّل األمور اهلامة .ذلك ألن دوافع احلركة عند الناس ليست موجودة .فاحلاجة متوفرة ،واحلقوق
حمفوظة ،وفرص حتقيق الرفاهية وتأمني الكماليات مؤمنة ،وال شعور بالظلم ،ألن األمور تسري من حيث
املسؤوليات بوضع الرجل املناسب يف املكان املناسب بغض النظر عن وزنه االجتماعي .ومثل هذه
األمور ،اليت تغطي حاجات االنسان وجوعاته ،متنع وجود أية رغبة عنده يف التغيري ،فهو بطبعه ال يتطلع
اىل أكثر من هذه األمور .فمىت توفرت ،أخلد اىل اهلدوء والراحة واالستمتاع مبا هو متوفر لديه .وحىت
لو كان طموحًا ،فان باب الطموح مفتوح على مصراعيه ،ألن تويّل املسؤوليات واحلصول على أعلى
الوظائف موقوف على االمكانيات الشخصية ،فال واسطة وال حمسوبية وال رشوة .ولذلك فانه ال
يلحظ حدوث حركات مجاعية يف مثل هذه اجملتمعات ،وخصوصًا حني يكون العرف العام قد استقر
على مفاهيم معينة هي عني املفاهيم والنظم اليت تقوم السلطة بتنفيذها.
ولذلك حني جند حركة مجاعية يف قطر من االقطار ال بد من معرفة الظرف الذي نشأت فيه،
واألحداث والوقائع اليت أدت اىل ظهورها ،او تزامنت مع ظهورها .أي ال بد من معرفة طبيعة ذلك
اجملتمع مبا فيه من عادات وتقاليد وأعراف ،ومعرفة األحداث السياسية او االجتماعية اليت دفعت بالناس
بشكل مجاعي اىل احلركة ،ومعرفة املالبسات اليت استغلتها احلركة حىت حركت الناس معها ،وأهل
الفعاليات يف هذه احلركة ،هل هم من أهل الفكر يقودون احلركة فانقاد الناس هلم ،أم هم من أهل
البندقية والسيف ،أم هم من أهل املال وحتقيق املصاحل .ومعرفة ما هي األوتار اليت ضرب عليها هؤالء،
ومدى امكانية هؤالء الناس يف تسيريها واالستمرار هبا ،ومدى قدرهتم على حتقيق ما مّنوا به الناس من
آمال او مصاحل ،ومدى قدرهتم على إزالة ما يعرقل سري هذه احلركة او القضاء على ما يعيق جناحها.
ومعرفة ما اذا كان النافذون والناهبون يف هذه احلركة هم القادة املباشرين للناس ،وهم احملّر كني للناس،
باملخاطبة املباشرة ،أم من خالل مفاتيح معينة ،أي من خالل الزعامات احمللية يف اجملتمع بل يف املدينة
63
واألحياء .ومعرفة ما هي الوسائل واألساليب اليت يستعملها هؤالء الناس ألخذ هذه الزعامات احمللية،
إن كان عن طريق الزعامة احمللية ،او كان باملخاطبة املباشرة للناس من قبل الناهبني يف هذه احلركة .وما
هي األساليب والوسائل اليت تتبع يف اثارة االمتعاض والتعبري عن هذا االمتعاض حني تقدم السلطة على
تصرف يتعارض مع مبادئ هذه احلركة ،أم أهنا تسرّي ما تنادي به احلركة من قبل السلطة احلاكمة
حسب هوى هذا احلاكم ومصلحته.
بعد فهم هذه احلركات ومدى فعاليتها وأساليبها ووسائلها ،ال بد لنا كحركة مجاعية من فهم
واقع اجملتمع الذي نعيش فيه ،واجملتمعات احمليطة بنا .أي معرفة الرأي العام ،ومعرفة األعراف العامة،
ومعرفة العادات والتقاليد ،ومعرفة القضايا احلساسة اليت يتأثر الناس هبا ،ومعرفة الفعاليات يف اجملتمع وما
يسمى باملفاتيح والزعامات احمللية ،ومدى تأثريها على الناس .هذا من حيث دراسة اجملتمع .أما من
حيث عالقة اجملتمع بالسلطة أي باحلكام ،وعالقة هؤالء احلكام باألمة ،وقوام كل منها ،وحقيقته ،من
حيث ارتباطه باالسالم واميانه به ،واآلراء واالفكار واألحكام اليت دعا اليها االسالم .فهل هؤالء احلكام
مؤمنون باالسالم ،وهل فيهم القابلية لتقبل هذه املفاهيم ،وهل فيهم قابلية اإلنفكاك عن أسيادهم،
واألخذ مبا جاء به االسالم؟ أم أهنم عمالء ال يرجى انفكاكهم ،أو أهنم أنفسهم أعداء لالسالم
وحياربونه ويرفضون أي فكر له؟ وذلك ملعرفة كيفية التعامل مع هؤالء احلكام ،ومعرفة كيفية تقدمي
النصح هلم ،او إثارة األمة ضدهم .وهل أن ما وصلت اليه حال هذه االفكار واألحكام واآلراء يف
اجملتمع من إبعاد عن احلياة يثري امتعاضهم ،ويأسفون ملا حصل ،أم أهنم من العاملني على إبعاد هذه
األحكام عن احلياة؟ وإن وجد من يهتم مبثل هذه األمور ،فإىل أي مدى يكون اهتمامه هبا؟ فقد حدث
تغيري يف أحكام االسالم ،كما استبدلت به أحكام كفر صراح ،كما حدثت اجتهادات أو ُز عم أهنا
اجتهادات .فهل اهتم هؤالء هبذه االجتهادات ،إن كانت اجتهادات صحيحة أم أهنا حماولة لعدم إثارة
اجملتمع .وسواء حصلت هذه االجتهادات يف األصول او الفروع ،وهل يقّر ها االسالم أم ال يقّر ها
االسالم .كل هذا ،ال بد من معرفته وإدراكه بالنسبة لكل حاكم من حكام املسلمني.
هذا بالنسبة للحكام .أما بالنسبة لألمة ،فال بد من معرفة حالتها النفسية ،ومعرفة اهتمامها هبذا
األمر ،وهل يثري فيها النقمة وهي ترى أحكام االسالم ختتفي من حياهتا ويستبدل هبا أحكام كفر صريح
وتطبق عليها أنظمة احلكم واالقتصاد واالجتماع اليت جاء هبا الكافر وطبقها عليها بالقوة وباملكر
وباملال .فما هو موقف األمة من هذه األمور؟ وهل يف الضرب على هذا الوتر ما حيرك مشاعر األمة ،أم
أهنا مشغولة بتدبري عيشها وتأمني مصاحلها؟ ذلك ألننا إن أردنا حتريك األمة فال بد من إدراك األوتار
اليت جيب الضرب عليها .ولذلك ال بد من التأكد مما اذا كان االسالم ما زال حيتل مركز التنُّبه فيها،
64
وهل اإلساءة اليه تثريها؟ ألننا امنا نريد ان حنركها على اساس عقيدهتا .وهل تشعر هذه األمة أن أسباب
شقائها وتعاستها إمنا هي بسبب غياب إسالمها عن واقع احلياة؟
أضف اىل ذلك معرفة مجهرة املفكرين واملثقفني يف األمة ،وموقفهم من االسالم ،وما عندهم
من ميول ،ومدى تقّبلهم للنظم القائمة املطبقة على الناس .وما الذي يشغل تفكريهم :هل هو فساد
النظام ،أم فساد تطبيق النظام كما يّد عون؟ وهل يرون فساد الدميقراطية وافكارها ،أم اهنم يرون ان
املفسدة سببها اساءة تطبيق الدميقراطية وكبت احلريات او تقييدها؟ وذلك ملعرفة كيفية خماطبتهم
واألمور اليت تناقش معهم .وال بد من معرفة مدى صالبتهم وقوة عودهم ،او ضعفهم وانصياعهم
لإلغراء والتهديد.
إن هذه املعرفة ضرورية للحركة اجلماعية ألهنا على ضوء هذه املعرفة تستطيع ان ختتار
األساليب والوسائل اليت يقتضيها احلال عند حماولة قيادة األمة ودفعها للعمل .كما تستطيع ان تتخذ ما
يلزم جتاه احلاكم وزمرته ،او مجهرة ما يسمى باملفكرين واملثقفني وأصحاب الفعاليات .حيث جيب
استعمال الكلمة يف موضعها والسيف يف موضعه .كما قال الشاعر:
"ووضع الندى يف موضع السيف دائمًا مضٌّر ،كوضع السيف يف موضع الندى"
فقد قامت هذه الكتلة نتيجة منطق االحساس .فهل ما زال إحساسها مرهفًا ،فال تفوهتا هزة يف
اجملتمع ،وال تغفل عن أي تغيري او تبديل يطرأ من حوهلا؟ أي هل أهنا ما زالت تعيش مع الناس ،فتحّس
بإحساسهم ،وتشعر بشعورهم ومبا يعانون من عسف وظلم؟ أم أن كثرة املصائب وعظمها بّلد
إحساسها ،وعيشها بأفكارها ومفاهيمها جعلها تعيش يف عزلة عن الناس ومدى متابعتها لألحداث
وانفعاالهتا معها ،أم أن الناس قد سبقوها نتيجة توّقفها ولو للحظة ،وأخذت تركض وتلهث حماولة
اللحاق باجملتمع ،حىت أضحى هو القائد هلا بدًال من أن تقوده هي؟
65
كما أنه من املعروف أهنا قامت على الفكر العميق .وسارت تعاجل القضايا بفكر عميق .فهل
تأثرت بسطحية اجملتمع ،وتفاهة التكتالت االخرى .وأخذت تعاجل األمور بسطحية وتفاهة ،وتأخذ
مبظاهر االشياء مبتعدًة عن العمق يف البحث حبجة أن الناس ال يدركون العمق وال يستوعبونه .وبالتايل
فان اجملتمع أدار لنا ظهره ،وعزف عن مساع آرائنا ،وقراءة نشراتنا ،واالطالع على كتبنا .وهلذا ال بد
من التبسيط ،فأدى ذلك اىل السطحية والتفاهة وترديد التعابري املبتذلة وسلكت طريق الوعظ واالرشاد؟
كما سارت الكتلة يف طريق اإلخالص اخلالص .فهل ما زالت تعرف هدفها ،وتعيش من أجله.
وال تسري اال يف الطريق الذي حدده املبدأ؟ أم اهنا أخذت تلجأ اىل املناورات ،وحتاول التقرب من
اآلخرين حبجة وحدة األمة ،ووحدة احلركات ،وتوحيدها؟ وحبجة احملافظة على شباهبا ،وعدم تعرضهم
لألذى؟ إن الدعوة ال تقبل االشرتاك .وال بد أن تغرس يف نفوس أبنائها أهنم إمنا يعيشون من اجل
االسالم ،وأن عملهم احليايت إمنا هو من أجل مساعدهتم على محل الدعوة .أي على االميان املطلق بأهنم
باعوا أنفسهم وأمواهلم هلل تعاىل.
وهل تقبل اجملتمع من حوهلا ألفكار الكفر واحتضانه هلا كاحلرية والدميقراطية والوطنية ،وما
يقوم فيه من تكتالت او مجعيات او تنظيمات او اعمال قد أضعف ثقتها بشريعة االسالم ،وأضعف
امياهنا به ،حىت بدأ يرتدد على بعض األلسن أننا نريد اسالمًا يتناسب مع القرن العشرين .او ما يالحظ
من بعض التصرفات اليت تأثر فيها شباب التكتل مبا يف اجملتمع من عادات وتقاليد ،مع وضوح خمالفتها
لالسالم؟ او حماولة تربير هذه املخالفات مبخارج يبيحون هبا ألنفسهم مثل هذه املخالفات؟ كالذي
يستعمل الكولونيا حبجة أهنا كحول ميثيلية ،او أن نسبة الكحول فيها أكثر من %60فأصبحت حبكم
السم ،اىل غري ذلك؟
وال بد من مالحظة مدى تأثرها مبا يقوم به احلكام يف جماهلا من أعمال ظلم وتعسف ،وما
تعرض له شباهبا من تعذيب وتشريد وسجن وقتل ،وحماربة يف لقمة العيش ،وما حتاوله من إغراءات او
تقدمي منح ومساعدات .فال بد ان تكون الكتلة ثابتة صلبة مل يؤثر فيها ذلك بشيء.
بعد ذلك كله ،ال بد هلذه الكتلة من التحقق مما عندها من قيم ذاتية ،ومن أن منطقة امياهنا
آمنة ،وكذلك من تشُّبعها باالفكار االسالمية العميقة ،وتبّنيها للمصاحل العامة ،وشعورها باملسؤولية.
فكل ذلك ال بد أن يكون كامًال .فلم تؤثر عليها األحداث بشيء ،ومل يثنها عن عزمها ما حلقها من
عسف و جور ،حبيث اصبح املبدأ يف حصن حصني يف قلوب وعقول املؤمنني.
66
وأخريًا ال بد من التأكد دائمًا من ان هذه الفئة املؤمنة قد وّطدت العزم على املضّي قدمًا حىت
حتقق هدفها ،وتبلغ غايتها ،وتضطلع باملسؤولية كاملة ،مع تقديرها جلميع النتائج واستعدادها لتحّم لها
والقيام بأعبائها.
إن هذه الدراسة العميقة للحركات اجلماعية تارخييًا وواقعيًا ،ترشد اىل حقيقة سري احلزب
باعتباره حركة مجاعية ،والتأكد من كونه مستكمًال شرائطه ،سائرًا يف طريقه الطبيعي .وقد وضعنا هذه
األسس املستقاة من الدراسة الدقيقة للحركات اجلماعية ،وما جيب ان تكون عليه .وذلك جلعلها مقياسًا
تراقب على أسسه هذه احلركة اجلماعية ،وميزانًا تعرف مبوجبه مواقف هذه احلركة وخط سريها .حىت
اذا لوحظ منها أي زلل ،او تنّك ب او خروج عن الطريق ،أو لوحظ ان هذه الدراسة تقتضي تعديًال يف
اجلهاز ،من حيث جلانه وأجهزته وصالحياهتا وقانونه االداري ،او من حيث املرونة يف السري حسب
مقتضى ما يتطلبه األمر ،او اقتضى صالبة يف الكفاح ،يصار عندها اىل اجياد األساليب والوسائل اليت
تضمن له أداء رسالته يف إهناض األمة ،وبنائها على اساس اهنا أمة حتمل رسالة جلميع الشعوب واألمم.
لذلك ال بد أن يرتكز يف األمة معىن اآلية الكرمية وكذلك جعلناكم أمًة وسطًا لتكونوا شهداَء
على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . وال ميكن أن أشهد على أحٍد إن مل أكن قد بّلغته
وأقمت احلجة عليه .متامًا كما فعل رسول اهلل ه وهو يقول (أال هل بّلغت ،اللهم فاشهد).
67
اتصاهلم بناءًا على معرفة سابقة ،وال لصداقة قدمية ،وال ملصلحة آنية ،وإمنا كان اتصاهلم باملبدأ
وحده ،وجرى تكتلهم على املبدأ وحده .فكان املبدأ هو حمور هذا التكتل ،وكان االميان به
ووجوب العمل له هو القوة اجلاذبة هلم حوله ،أي أن الرابطة اليت مجعت بينهم هي املبدأ،
واملبدأ وحده.
تكون احللقة االوىل – عادة – قليلة العدد ،بطيئة احلركة .وهذا أمر طبيعي .فبالرغم من اهنا -2
تعرب عن احساس اجملتمع الذي تعيش فيه ،اال اهنا حني تعرب عن هذا االحساس فاهنا تستعمل
ألفاظًا وتعابري ختتلف عما اعتاد اجملتمع مساعه ،مثل حتديد معىن املبدأ ،حتديد معىن العقيدة،
توضيح معىن االستعمار .وبدًال من كلمة استقالل – تلك الكلمة املبتذلة – تستعمل هذه
احللقة تعبري "استئناف احلياة االسالمية ،وعودة االسالم للحياة ،وإقامة اخلالفة" ،وهتاجم الرابطة
القومية والوطنية واملصلحية والروحية ،اىل غري ذلك من التعابري اليت مل يعتد اجملتمع مساعها .هذا
باالضافة اىل طرحها مفاهيم ختالف مفاهيم اجملتمع السائدة ،وإن كانت تعرب عن احاسيس
اجملتمع حني جتعل قضية اجملتمع هي عودة االسالم للحياة ،وتوضح ان املبادئ االخرى
كالشيوعية والرأمسالية إمنا هي افكار كفر ،وأن أفكار احلرية والدميقراطية إمنا هي افكار كفر.
وحني تبني ان العقائد ال تؤخذ اال عن يقني ،وأن األحكام الشرعية مصدرها الوحيد هو
الوحي ،وأن كل مسلم مسؤول أمام اهلل ،وليس األمر مقتصرًا على العلماء والفقهاء .وأنه ال
رجال دين يف االسالم ،وأن غري املسلمني من الرعية جيب ان ُينظر اليهم على اهنم أهل ذمة،
هلم أحكامهم اخلاصة .ان هذه املفاهيم وإن كانت مما حيس به اجملتمع ،اال انه مل يعتد مساعها.
وهذا ما جيعل هذه الكتلة قليلة العدد بطيئة احلركة ،ألن الناس ينظرون اليها نظرة استغراب.
بل اهنم يعتربوهنا غريبة عنهم .ولذلك فانه ال ينجذب اليها اال من حباه اهلل قدرًا وافرًا من
االحساس املرهف ،الذي جعل فيه قابلية اإلجنذاب اىل مغناطيسية املبدأ املتجسد يف هذه احللقة
االوىل.
يكون تفكري هذه احللقة االوىل "القيادة" عادة عميقًا ،وطريقتها يف النهضة جذرية ،أي تبدأ من -3
اجلذور .أي اهنا تعمل للنهضة انطالقًا من العقيدة لتوجد يف األمة أمرين يف طريقة تفكريها( :أ)
العمق في البحث :حبيث يصل يف أي حبث اىل األصل الذي نشأ عنه .و(ب) الشمول ،متامًا
مثل العقيدة اليت بنوا عليها هنضتهم .حيث ان العقيدة فكرة كلية عن احملسوسات مجيعها،
وعما قبلها وما بعدها .ومن كان هذا حاله يف البحث ال بد له ان يرتفع عن الواقع السيء
الذي يعيش فيه ،فال جيعله مصدر تفكريه .بل ال بد ان حيلق يف األجواء العليا حىت يستطيع ان
جيعل الواقع موضع تفكريه .فريى كل ما يف اجملتمع من سوء على حقيقته ،كما ترى الكتلة
68
بوضوح الواقع اجلديد الذي تريد ان تنقل اجملتمع اليه .أي تبصر هدفها وغايتها حبيث اهنا
تستطيع ان تضع له املخطط اهلندسي الذي يبني هيكليته وقواعده وأجزاءه .كما اهنا بسمّو ها
عن هذا الواقع ،ورؤيتها للواقع اجلديد تستطيع ان تبصر الطريق املؤدية اليه ،فتسلكه آمنًة
مطمئنًة .وبذلك التحليق فوق الواقع الذي تعيش فيه ،فاهنا تبصر ما وراء اجلدار.
أما بقية الناس فهم مرتبطون بالواقع يرون ما حوهلم فقط .فكان مصدر تفكريهم هو الواقع
الذي يعيشونه ،وال يستطيعون ان يروا أبعد من ذلك .ولذلك جتد معاجلتهم منبثقة من الواقع
الذي يعيشونه حياولون تكييف أنفسهم للعيش مع الواقع ،وال يعملون لتغيري الواقع ألهنم ال
يتصورون الواقع الذي يريدون ان ينتقلوا اليه .وهلذا جتد ان مجيع احلركات اليت وجدت مل
تستطع ان ترسم هلا صورة واضحة عن اهدافها وغاياهتا .وإن دعت اىل اهداف ،فاهنا مل حتدد
طبيعة هذه االهداف وهيكليتها .فأفكارها ما زالت بدائية ،والصور اليت يف أذهاهنا مستمدة من
الواقع الذي تعيش فيه ،وقياسها األمور قياس مشويل مغلوط .فطورًا ترى االسالم اشرتاكيًا،
وطورًا تراه دميقراطيًا ،وترى ان نظام احلكم شورى ،فالشورى هي نظام احلكم يف االسالم،
والدميقراطية هي الشورى ،إذن فاالسالم دميقراطي .مبثل هذه القياسات واملغالطات ،تكونت
عقليات عامة الناس مبا فيها التكتالت القائمة ،ألن تفكريها مستمد من هذا الواقع السيء.
ولذلك ما على االنسان اال ان يكّيف نفسه للعيش هبذا الواقع ،ولذلك جيعل منافعه تدور مع
هذا الواقع ،ألن هذا هو ما عليه واقع اجملتمع واحلالة اليت وصل اليها .وكونه فرد او تكتل
يعيش يف هذا اجملتمع ومل يستطع ان يسمو فوق ما عليه اجملتمع ألنه ال ميلك مقومات السمو
عن الواقع .وهذا خيتلف متامًا عن احللقة االوىل – القيادة – ألهنا تستند بفكرها اىل قاعدة
ثابتة وهي ان الفكر ال بد ان يتصل بالعمل ،وأن الفكر والعمل ال بد ان يكونا من اجل غاية
معينة يهدفان اليها ،وان هذا كله ال بد وأن يكون يف جو امياين .هذه هي القاعدة العملية
الثابتة :فكر ،يتبعه عمل ،من اجل غاية ،في جو ايماني.
أما تفصيل ذلك فهو ان فكر هذه القيادة فكر عملي ،أي هو فكر يراد به معاجلة واقع معني،
والتعامل به ال جملرد بيان حقيقته وصدقه ،بل للعمل به .فهو ليس فكرا فلسفيا للبحث عن
حقيقة معينة ،او للبحث يف ما وراء الطبيعة ،او فكر يف نظريات او افرتاضات يراد بيان
صحتها او بطالهنا .وألنه فكر فقهي الستنباط احكام وبيان مسائل ،سواء أخذ هبا الناس أم مل
يأخذوا .مع ان الفكر الفقهي هو حبث يف افكار عملية من حيث انه حبث يف االحكام
الشرعية ،واالحكام الشرعية احكام عملية ،اال ان الفرق هو ان الفقيه يهمه استنباط احلكم
الشرعي من األدلة التفصيلية ،سواء قّلده غريه او التزمه بنفسه .وهذا خالف ما قلنا عن هذا
الفكر الذي هو مناط البحث ،فهذا الفكر ال بد ان يكون مقرتنًا بالعمل ،كي ال يعيش الفرد
69
يف خيال ،او وهم ،او على آماله ومتنياته ،كالفالسفة او املتكلمني او علماء الرياضيات
والفيزياء ،او الفقهاء واجملتهدين .ال ليس كذلك ،بل افكار عملية ُفهمت لُيعمل هبا يف هذا
الواقع لتغيريه.
واقرتان الفكر بالعمل دون غاية حمددة او هدف معني ،دوران يف حلقة مفرغة ،يدور حامله
حول نفسه .ومثل هذا شخص آمن بفكرة ما ،ورأى فيها كل اخلري فطفق يعمل هبا ويدعو هلا
دون ان حيدد له هدفًا ،او يعني له غايًة ،فهو يعمل ويعمل ،ولكنه يدور على نفسه يف مكانه،
مثله مثل املخلصني من وّعاظ املساجد وخطبائها ،والكّتاب الذين يبذلون اجلهود املضنية يف
البحث والتنقيب واالستنباط ومن مث التأليف والكتابة ،آملني بغريهم ان يسري على هذا النهج،
او ان يؤدي انتشار هذه االفكار تدرجييًا اىل التغيري .وهلذا كان ال بد من وضع األساس الثالث
هلذه القاعدة ،وهو اهلدف من العمل .وليس املقصود هنا من اهلدف أَّي هدٍف كان ،كأن
تقول :نوال الثواب ،او الوصول اىل رضوان اهلل ،فذلك غاية الغايات .بل املقصود هو النتيجة
املرجوة من القيام بالعمل ،وتقّص د الوصول اىل اهلدف املعني ،باالضافة اىل رضوان اهلل ،ألن
املقصود من العمل هو تغيري الواقع الفاسد املوجود يف اجملتمع ،واجياد واقع حسن.
األساس الثالث هو اهلدف .إن حتديد اهلدف ووضع الغاية املعينة هو كسر لتلك احللقة املفرغة
وجعل خط السري مستقيمًا حىت يصل اىل نقطة معينة هي اهلدف املرسوم .ورسم اهلدف يعني
جتسيد هذا اهلدف يف نفس حامل هذه الفكرة ،والذي دفعه اميانه هبا اىل العمل هلا .فبدًال من
ان يكون عمله دورانًا حول نفسه دون غاية ،صار عمله على خط مستقيم يؤدي بالنتيجة اىل
حتقيق غايته .ومبقدار وضوح هذا اهلدف وبلورته يف نفس الشخص ،بقدر ما يكون اندفاعه
حنو غايته وأمله يف حتقيقها .خصوصًا حني يكون اهلدف قد حددته الفكرة نفسها ،وبّينته
بكلياته وجزئياته وبينت الطريق املؤدي لتحقيقه .وال يكفي ان يكون اهلدف فكرًة عامة غري
حمددة ،بل ال بد ان يكون واضحًا وضوح الفكرة نفسها ،ألنه هو الغاية من العمل .فحني
يقول انه يعمل لتغيري اجملتمع على اساس هذه االفكار ،ال بد وأن يكون متصورًا للمجتمع
اآلخر الذي يريد ان ينتقل اليه .فال ينخدع مبظاهر سطحية ،او افكار جزئية ،او بتطبيق بعض
االفكار واالحكام متومهًا انه بذلك وصل اىل هدفه ،او هي خطوة اوىل يف سبيل الوصول اىل
هدفه .وكون هذه الفكرة قد انبثقت عن قاعدة اساسية ،وأن العمل هلا قد انبثق ايضا من نفس
القاعدة االساسية ،واهلدف كذلك بّينته وفسرته االحكام املنبثقة عن القاعدة نفسها ،وهي
القاعدة اليت آمن هبا واحتلت مركز اميانه ،وآمن بانه امنا يعيش من اجلها ،من اجل ذلك ،صار
اجلو االمياين هو الدافع للعمل.
70
وهذا هو االساس الرابع هلذه القاعدة العملية الثابتة .وأعين به اجلو االمياين (فاجلو االمياين هو
اإلدراك الكامل ألن ما يقوم به من اعمال وما آمن به من افكار وما حدده من اهداف إمنا هي
احكام عملية حتتمها عليه قاعدته االميانية) .ومعىن ذلك ان هذا االنسان وهو يصطدم هبذا
الواقع الفاسد ،وما فيه من صعوبات ،وما جياهبه من مشاّق ،وما يالقيه من حمن ،قد تفرت
عزميته ،وتفرت ّمهته ،ويتسرب اىل نفسه اليأس او اإلستيئاس ،ويعود ملراجعة فكرته واألمر الدافع
له للعمل .فحني جيد ان هذا األمر منبثق من عقيدته بدليل ،وحني جيد ان اهلل ال يضيع عمل
عامل ،وأن اجلزاء املوعود به أكرب بكثري من الثمن املدفوع ،وحني يدرك يقينًا ان مرّده اىل اهلل
تعاىل ،واميانه به هو الركن األساسي من تلك القاعدة ،فانه مبراجعته تلك خلط سريه ،وإدراكه
انه يقتفي خطوات رسول اهلل فانه بمثل هذه المراجعة وعيشه
ًا ًا
في هذا الجو الايماني يجد باعث قوي على
ًة
العمل ،وطاق لا حدود لها .وبهذا الجو الايماني
ّي ُي
يستطيع ان خضع الواقع ويغ ره .لأن مثل هذا
الفكر المقترن بالعمل من اجل هدف معين وفي هذا
الجو الايماني لا يتغير ،ولا يتأثر بما يلاقيه
ّر
او يم به .بل على العكس ،انه فكر ثابت لأنه من
قاعدة ثابتة ،ويغير ما يمر به ،ويتأثر به
الآخرون لانه فكر عملي يعالج وقائع عملية
ومنبثق من قاعدة ايمانية ثابتة وهي العقيدة.
وذلك بخلاف المجتمع المنحط ،لأنه لا توجد
ّد
لأفكاره قاعدة ،واعماله ناشئة عن ر ات فعل او
تقليد لغيره من المجتمعات ،وهو بمجموعه لا
يعرف الغاية التي يفكر ويعمل من اجلها ،وتكون
الغايات عند افراده فردية آنية أنانية .ومثل
هذا التفكير بلا قاعدة ثابتة "عقيدة" تكون
ًا
اساس لأفكاره وميوله واهدافه ،مثل هذا
ًا ًا
التفكير لا يوجد له جو ايماني ،ولا يؤثر في
غيره ،بل هو عرضة للتأثر بغيره ،ويجد نفسه
ًا
مضطر ان يتشكل بالجو المحيط به .ومن هذا يأتي
التضارب بين الحلقة الاولى وبين المجتمع الذي
تعيش فيه أول الأمر.
ان من أوجب الواجبات على هذه احللقة االوىل أن توِج د اجلو االمياين ألنه يفرض طريقة معينة -4
يف التفكري ،أي انه جيعل التفكري دائمًا إما مبنيًا على القاعدة الفكرية – العقيدة – او منبثقًا
71
عنها .ومن اجل حتقيق ذلك ،فان عليها ان تقوم باعمال وحركات مقصودة حىت تسارع يف
بناء نفسها ،وتنمية جسمها ،وتنقية أجوائها ،بإبعاد أي حماولة قياس على غري تلك القاعدة
الفكرية ،حىت يتسىن هلا ان تنتقل من حلقة حزبية اىل كتلة حزبية مث اىل حزب متكامل يفرض
نفسه على اجملتمع ،حبيث يكون فاعًال يف اجملتمع ال منفعًال به .فالتقيد بالقاعدة الفكرية وجعلها
مقياسًا لكل فكر ،ومنبثقًا لكل حكم ،يؤدي اىل رفض ما تركز يف اجملتمع من مفاهيم مغلوطة،
وعقائد فاسدة ،وعادات سيئة .فالضابط من االنفعال باجملتمع هو اختاذ هذه القاعدة – العقيدة
– وجعل ما انبثق عنها من مفاهيم وما بين عليها من افكار جوًا اميانيًا هو العنصر الفعال املؤثر
يف اجملتمع.
هذه احلركات املقصودة نعين هبا الدراسة الواعية ألمور هي: -5
الدراسة الواعية للمجتمع :وذلك ملعرفة العرف العام املهيمن على أجوائه ،والرأي العام أ-
فيه حول قضاياه ،واالشخاص الفاعلني فيه ،ومعرفة الوسائل واالساليب اليت تؤثر يف
أعرافه وعاداته وتقاليده ،وهل ما زال فيه بعض النقاء واالخالص ،أم أن عنصر النفاق
اصبح من االفكار املركزة فيه ،او ان عنصر الالمباالة هو املهيمن على نفسيات الناس
فيه .وما هو موقف اجملتمع من انظمة الكفر املطبقة عليه ،ومدى حرصه على مفاهيم
االسالم وآرائه وتأثره هبا ،وما هو موقفه من حكامه وأعواهنم.
دراسة واعية لالشخاص :ونعين باالشخاص ذوي الفعاليات بشكل اساسي .وهل ب-
زعامتهم حقيقية أم أهنم زعماء بقضاء املصاحل وحتقيق املنافع ،أم اهنم مفروضون فرضًا
على الناس .ومعرفة الفئة املثقفة ومدى اخالصها لثقافتها االجنبية ،وفهمها هلا.
ومعرفة املتعلمني من ابناء املسلمني ،ما مدى اهتمامهم باالسالم ووعيهم عليه،
وامياهنم بأحكامه وآرائه.
الدراسة الواعية لألجواء ملعرفة املقاييس واألسس اليت يرجع اليها الناس يف تفكريهم، ت-
والقواعد اليت يرجعون اليها يف مفاهيمهم وآرائهم .وهل تتقدم مصاحل اجملتمع على
مصاحلهم ،وهل ما زالت ثقتهم باألجنيب هتيمن على نفسياهتم ،وهل ما زالت
شخصية الكافر هي املثل األعلى يف نفوسهم.
الرقابة احلذرة جلسم احلزب من أن: ث-
( )1يتسلل اىل جسم احلزب عنصر فاسد يعمل على الوصول اىل مركز القرار او
العمل على انشطار احلزب على نفسه ،او التشكيك بإمكانية الوصول اىل
72
اهلدف وحتقيق الغاية ،او أن مييل او حياول إمالة احلزب عن الصراط السوّي
الذي يسري عليه والطريقة اليت تبّناها.
حيصل خطأ يف تركيب جهاز من أجهزة احلزب اليت يكون التكتل حبسبها. ()2
كأن تقوم إحدى جلانه بغري الصالحية املعطاة هلا ،او ان تتخذ جلنة من جلانه
قرارًا مبعزل عن القيادة ،أي ان خترج عن مركزية القرار وقيادته.
األمر اجلامع بني أفراد الكتلة :أي الطريقة احلزبية ،جيب ان تكون العقيدة الراسخة الثابتة، -6
والثقافة احلزبية الناضجة هي الرابط بني اعضاء احلزب ،وان تكون هي القانون الذي يسري
اجلماعة ال القانون االداري املسطر على الورق .وملا كان األمر اجلامع بني افراد احلزب هو
العقيدة والثقافة فال بد إذن من العمل على تقويتها وذلك بالدراسة والفكر ،حىت يتكون من
هذه الدراسة والفكر طريقة منتجة يف التفكري ،وتفهم األمور والوقائع واألحداث بشكل معني،
وكيفية معينة .وذلك بتثبيت قواعد ومقاييس ُيرجع اليها حني احلكم على االشياء والوقائع.
وبذلك نستطيع ان نربط بني الفكر والشعور .وجبعل العقيدة اليقينية الثابتة هي املقياس
االساسي جلميع االفكار واملفاهيم ،نكون قد حافظنا على اجلو االمياين مهيمنًا على احلزب.
وأبرز ما يلحظ هذا لدى الشباب يف السؤال عن الدليل يف كل مسألة .وهذا ما نعين هبيمنة
اجلو االمياين على احلزب ألنه ربٌط بالعقيدة يف جزئيات االحداث والوقائع .وهبذا يكون اجلامع
بني االعضاء القلب والعقل .فاالميان باملبدأ وجعله مركز التنبه جيعل القلب جامعًا بني الشباب،
ودراسة املبدأ دراسة دقيقة وحفظ ما انبثق عنه من افكار واحكام واستظهار املقاييس واألسس
اليت جاء هبا املبدأ جيعل العقل هو اجلامع الثاين للشباب بتكوين عقلية معينة عند اجلميع .أي
يوجد عند اجلميع طريقة واحدة معينة يف التفكري .وبذلك يكون احلزب قد أعّد إعدادًا
صحيحًا ،وتكون رابطته متينة متانة متكنه من الثبات أمام مجيع الزعازع والعقبات.
تشبه قيادة احلزب "احللقة االوىل" املوتور الصناعي من جهة ،وختالفه من جهة اخرى .ووجه -7
الشبه فيها هو ان املوتور الصناعي للغاز مثًال له طاقة حرارة تتولد من الشعلة والبنـزين يف
احلركة املوتورية ،وهذه الطاقة احلرارية تنتج ضغطًا يف اهلواء ،وهذا الضغط يدفع الذراع ،وهو
احملرك الذي يفرض حركته على القطع االخرى فتدور اآللة .وعليه فان وجود الشعلة والبنـزين
واحلركة املوتورية هو األصل .ألنه بتوليده للحرارة ينتج ضغطًا ،وهذا الضغط يفرض حركته
على باقي القطع ويدير املوتور .فاذا وقفت حركة املوتور وقفت مجيع القطع .إذن ال بد من
وجود الشعلة والبنـزين واحلركة املوتورية ،حىت يدور املوتور ،ويدير مجيع اآللة .وكذلك قيادة
73
احلزب .فان الفكرة فيها بمقام الشعلة ،واالحساس المتولد في االشخاص الواعين في
القيادة بمنزلة البنزين ،واالنسان الذي يتأثر احساسه بالفكرة هو الحركة الموتورية .وعليه
فان الفكرة حني تتصل باالحساس يف االنسان توجد طاقة احلرارة فتدفع القيادة اىل احلركة،
وحركتها هذه تفرض على سائر قطع احلزب من افراد وحلقات وجلان حملية وغري ذلك ،فتتأثر
حبرارهتا ،فتتحرك وتدور مجيعها دوران اآللة .وهنا يبدأ سري احلزب باحلركة :فيأخذ دور النمو
يف تشكيله.
وعليه فانه ال بد من انبعاث طاقة احلرارة من القيادة لسائر اجزاء احلزب حىت تتحرك أجزاؤه
مجيعها .متامًا كحركة املوتور .وهذا هو وجه الشبه بني احلزب واملوتور الصناعي.
و امهية هذا التشبيه ان يالحظ قادة احلزب هذه الناحية ملراقبة حركة بقية االجزاء ،فاذا أحّس
هؤالء القادة ان بقية االجزاء او بعضها مل يتحرك ،فان عليهم زيادة اتصاالهتم ،الن اآللة ال
تدور اال اذا دار املوتور ،و بعث احلرارة منه.
اال ان القيادة ال يكون حتريكها مؤثرًا بفرض احلركة على احلزب كاملوتور الصناعي ،بل يكون
حتريكها كذلك اول االمر فحسب .اما بعد سري احلزب فال يكون كذلك ،الن املفروض يف
كل عضو من اعضاء احلزب ان يكون هو نفسه موتورًا .فالشعلة والبنزين واحلركة املوتورية
جيب ان تتوفر يف كل فرد .فالفكرة يف كل منهم مبثابة الشعلة املوجودة فيه ،وإحساسه
بوجوب العمل مبثابة البنزين ،والتأثر احلاصل بني الفكرة واالحساس هو احلركة املوتورية.
وعلى هذا فان التشبيه ينطبق يف البداية ،او حني يلحظ تقصري او نفور .فاملفروض ان تنبعث
احلرارة من القيادة للتحريك.
هذا باالضافة اىل ان القيادة هي موتور اجتماعي ،واعضاء احلزب ،بلجانه وحلقاته هم من بين
البشر ،ويتأثرون مجيعا حبرارة املبدأ املتجسد يف القيادة ،فيصبحون جزءا من املوتور .فمجرد
احلركة يف املوتور حترك كافة االجزاء طبيعيا ،الهنا بصفتها موتورًا اجتماعيًا تكون كال فكريا
شائعا يف مجيع احلزب .أي ان كل شاب يف احلزب آمن بنفس املبدأ ،وجتسدت فيه نفس
الفكرة وارتبط بغريه بعقله وقلبه .فصار احلزب كله ،كاجلسم الواحد ،أي كال فكريًا ،يفكر
بطريقة واحدة .ويف هذه احلالة ال تكون القيادة وحدها هي اليت حتمل احلركة املوتورية .بل –
بنموها وتكامل تشكيل احلزب – أي بتكاثر اخلاليا واحللقات ،وتنظيم االجهزة واللجان،
وحتديد املسؤوليات والواجبات يكون احلزب كله حامال للحركة املوتورية .وعلى هذا ال
حيتاج سري احلزب اىل حركة القيادة ،وال اىل بعث حرارهتا .بل يسري احلزب بوصفه كال
74
فكريا ،الن املبدأ قد جتسد يف مجيع شبابه ،وتسري احللقات واللجان سريًا آليًا ،دون حاجة اىل
حرارة القيادة ،الن حرارة كل جزء منبثقة منه ،ومن الكل الفكري الشائع يف احلزب ،واملتصل
هبذه االجزاء اتصاال طبيعيا.
– 8يسري احلزب يف ثالث مراحل ،حىت يبدأ تطبيق مبدئه يف جمتمعه:
اوال :مرحلة الدراسة والتعلم الجياد الثقافة احلزبية ،أي اجياد وإعداد جمموعة من الشباب
املستعد للتضحية.
ثانيا :مرحلة التفاعل مع اجملتمع الذي يعيش فيه ،حىت يصبح املبدأ عرفا عاما ناجتا عن وعي،
وتعتربه اجلماعة كلها مبدأها .حىت تدافع عنه مجاعيا .ويف هذه املرحلة يبدأ الكفاح بني األمة
وبني من يقوم حائال دون تطبيق املبدأ من االستعمار او من يضعهم من احلكام والظالميني
واملضبوعني بالثقافة االجنبية .الهنا تعترب املبدأ مبدأها ،واحلزب قائدًا هلا .أي اجياد أمة تثق باملبدأ
وبقيادة احلزب.
ثالثا :مرحلة تسلم زمام احلكم عن طريق األمة تسلما كامال ،حىت يتخذ احلكم طريقة لتطبيق
املبدأ على األمة .ومن هذه املرحلة تبدأ الناحية العملية يف احلزب يف معرتك احلياة ،وتظل ناحية
الدعوة للمبدأ العمل االصلي للدولة واحلزب .الن املبدأ هو الرسالة اليت حتملها االمة والدولة.
–9أما املرحلة االوىل فهي املرحلة التأسيسية .وهي تتلخص يف اعتبار مجيع افراد االمة سواءًا يف اهنم
خالون من كل ثقافة ،والبدء بتثقيف من يريدون ان يكونوا اعضاء يف احلزب بثقافته ،و اعتبار اجملتمع
كله مدرسة للحزب حىت خيّر ج احلزب يف اقصر مدة الفئَة اليت تكون قادرة على االتصال باجلماعة
للتفاعل معها .فعلى الرغم من ان من يقبل ان يكون عضوًا يف احلزب ال بد له من االميان باملبدأ وبعقيدة
املبدأ وااللتزام باحكام هذه العقيدة والسري حبسبها ،اال اننا اشرنا اىل ان الرابطة بني اعضاء هذا احلزب،
باالضافة اىل العقيدة ،هي الثقافة اليت أعدها احلزب ،ألن املسألة هي اجياد كل فكري.
واجياد الكل الفكري امنا يعين توحيد طريقة التفكري ،وتوحيد اآلراء واالحكام والنظرة اىل الوقائع
واالحداث .و هذا ال يتأتى اال بتوحيد الثقافة وفهم االسس اليت يتم قياس املفاهيم عليها .وهلذا ال بد
من اعتبار أي عضو -يقبل ان يكون عضوًا -خاليًا من اية ثقافة فيصار اىل تثقيفه هبذه الثقافة احلزبية،
حىت يتم تأهيله لالتصال باجلماعة وإعداده للقيام بأعباء هذه الدعوة ،وجتسيد املبدأ فيه ليصبح فعًال
جزءًا من هذا الكل الفكري .باالضافة اىل اعتبار اجملتمع كله مدرسة للحزب ،دون أي اعتبار ملا يف
اجملتمع من فئات أو تقسيمات أو طبقات .فال فرق بني متعلم وأمي ،اال مبقدار ما يستوعب من هذه
الثقافة و خيلص هلا ،ومبقدار استعداده للتضحية والقيام باالعباء.
وحيب أن يكون واضحًا ان هذا التثقيف ليس تعليمًا .فهناك فرق كبري بني الثقافة والتعليم أعين
اكتساب املعارف واملعلومات ،ولو ان كالمها اكتساب معارف وتنمية معلومات .و ان هناك فرقًا بني
75
الثقافة والعلم ،وهذا الفرق بني الثقافة والعلم آٍت من ناحية حتصيلها .فالثقافة حنصل عليها بالتلقني
واإلخبار مث املالحظة واالستنباط .بينما حنصل على العلم من وضع املادة يف ظروف غري ظروفها و
إجراء التجارب عليها مث االستنتاج .ويف هذا حبث مفصل يف غري هذا املوضع .بينما يف هذه العبارة فان
املقصود بالتفريق بني التثقيف والتعليم ،ان املعلومات املكتسبة يف التعليم معلومات ومعارف مدرسية قد
حيتاجها االنسان يف حياته ،وقد ال حيتاجها ابدًا .فالتعليم يقصد به اكتساب معارف ومعلومات او تنمية
ما عنده من معارف ومعلومات .بينما التثقيف يقصد به تنمية معارف ومعلومات تبىن شخصية الفرد
على اساسها ،وتكون مقّو مة لسلوكه .فالثقافة هي احلصول على معلومات ومعارف حيتاجها الفرد يف
احلياة ويسري مبوجبها .هذا ما نعنيه بكلميت تثقيف وتعليم يف هذه الفقرة .وهذا ما يبني الفرق بني عملية
التثقيف هذه ،وبني التعليم يف املدرسة .وهلذا ال بد ان تكون الثقافة يف احللقات سائرة على اعتبار ان
املبدأ هو املعلم ،وان املعارف اليت تعطى يف هذه احللقات يقتصر فيها على املبدأ ،وعلى ما يلزم خلوض
معرتك احلياة.
اما ما يقتصر فيه على املبدأ ،فهو العقائد واملعاجلات ومحل الدعوة وبيان كيفية تنفيذ هذه
املعاجلات ومعرفة الواقع الذي يراد نقل اجملتمع اليه ،ومعرفة اجملتمع الذي هو فيه ،ومعرفة ما
يقتضيه فهم املبدأ من قواعد واحكام ولغة وغري ذلك ،وما هو من هذا القبيل .واما ما يلزم
خلوض معرتك احلياة ،فاملقصود به فهم ما يف اجملتمع من عقائد وافكار وعادات باطلة سيخوض
معها مرحلة صراع عنيفة ،فال بد من االحاطة هبا ملعرفة الرد عليها كالشيوعية والدميقراطية
والوطنية وغريها ،مما هو من هذا الباب .هذا من جهة ،ومن جهة اخرى ان تؤخذ هذه
املعارف واملعلومات للعمل هبا حاال يف معرتك احلياة .وحني نقول للعمل هبا يف معرتك احلياة،
فاننا ال نعين هبا االقتصار على تسيري سلوكه الشخصي مبوجبها بل املراد محلها للناس ،وخوض
الصراع الفكري مع خصومها ،او نشر افكار املبدأ وآرائه ومعتقداته.
وهلذا ال بد ان تكون الثقافة عملية ،سواء من حيث سلوك الفرد ،او من حيث محلها ونشرها
للناس وخوض الصراع الفكري هبا .وال بد ان تستبعد الناحية املدرسية العلمية ،فال هو امتحان
وال سؤال وإجابة ،وال هو مسألة حفظ واستظهار .بل مسألة فهم وعمل .مسألة تثقيف
وتفاعل وجتسيد للمبدأ يف الدارس.
– 10احلزب هو تكتل يقوم على فكرة وطريقة أي على مبدأ آمن أفراده به .وهنا نذكر ان الفكرة
هي العقيدة العقلية اليت انبثق عنها نظام مبا حوى من معاجلات ملشاكل االنسان يف احلياة ،ومحل للدعوة
اىل الناس .واما الطريقة فهي كيفية احملافظة على هذه العقيدة وكيفية تنفيذ املعاجلات وكيفية محل
76
الدعوة اىل العامل .باالضافة اىل كيفية ايصال هذا املبدأ بفكرته وطريقته للحياة ،أي الطريقة اليت يسلكها
هذا التكتل يف عملية الوصول اىل غايته متبعًا طريقة الرسول يف املرحلة املكية.
ويف هذه املرحلة ال بد له من االشراف على فكر اجملتمع وحسه ،ليسريمها حبركة تصاعدية.
وعملية االشراف هذه ال تعين مراقبة ما يف اجملتمع من افكار فحسب ،بل إنزال افكاره على الوقائع
اجلارية واجياد الوعي عليها ومراقبة تقبل الناس هلا وتأثرهم هبا .مث ان عملية اشرافه هذه امنا تعين
احلؤول دون االنتكاس يف الفكر واحلس ،كما حدث يف 1967م حني اندفع الناس بافكارهم
ومشاعرهم وراء املنظمات الفلسطينية ،واالعمال العسكرية .ومل يستطع احلزب يف حينه ان حيول بني
الناس وبني تلك االنتكاسة .وهلذا ال بد له من هذا االشراف النه مدرسة األمة اليت تثقفها وخترجها
وتدفعها اىل معرتك احلياة العاملية .وهو املدرسة احلقيقية ،وال تغين عنه املدارس مهما تعددت وكثرت
ومشلت .اال ان هناك فرقا بين الحزب وبين المدرسة ال بد من إدراكه ،وهذا الفرق واضح يف عدة
نقاط منها:
أ – من املعروف ان للمدرسة برناجما معينا :تسري ضمن هذا الربنامج بشكل رتيب ،وال خترج
عنه .ولو أرادت ان خترج عن هذا الربنامج فاهنا حتتاج اىل فرتة زمنية معينة .ولذلك فهي ال
تسري حبسب وقائع احلياة اجلارية اليت تتغري وتتبدل باستمرار .فالثقافة اليت تعطيها املدرسة
واملواضيع اليت تدرسها ال ترتبط بالوقائع واألحداث اجلارية .وحىت لو حرصت على ذلك،
فسيكون ارتباطها متعلقًا بفرتة زمنية معينة .و هبذا تكون املعارف واملعلومات املعطاة من
املدرسة جمردة من واقعها ،فال يكون هلا التأثري اجلماعي ،الهنا معلومات ال تالمس أحاسيس
الناس ومشاعرهم .وهلذا فان املدرسة ليست معّد ة إلهناض األمة ،وامنا وضعت لتعليم الناس
وتنمية معارفهم .بينما احلزب ُو جد أساسا الجياد النهضة يف األمة ،وحني يطرح أفكاره وآراءه
او يثقف شبابه بثقافته املركزة ،او يثقف األمة بالثقافة اجلماعية ،امنا يثقفها بافكار منزلة على
الوقائع اجلارية واالحداث وخياطب مشاعر األمة وأحاسيسها املتأثرة مبا يدور يف اجملتمع من
أمور ،او ما تعانيه األمة من صعوبات .فانزال االفكار على وقائعها هو الذي حيدث األثر،
ويدفع األمة دفعًا اىل التفكري بطريقة معينة ،مما يوجد النهضة فيها .واملدرسة ليست قادرة على
ذلك مهما كان نوعها او اختصاصها او امكانياهتا.
77
التطور :فهو ينتقل من حال اىل حال ،إذ ينتقل من التثقيف وإعداد الشباب للصراع -2
والتصدي لألفكار األخرى ،والكفاح السياسي وجماهبة احلكام ،مث اىل تنفيذ ما يؤمن
به حني يتمكن من ذلك.
احلركة :من حيث انه ينتقل يف كل ناحية من نواحي اجملتمع ،يف العقائد ،يف األفكار، -3
يف اآلراء ،يف السياسة ،يف احلكم ،يف االقتصاد ،يف االجتماع ،يف القضاء ،يف
العقوبات ،يف كل نظام من انظمة احلياة .باالضافة اىل تنقله يف كل جزء من اجزاء
البالد ،يف املدينة ويف القرية ويف مضارب البدو ،يف املدرسة واملصنع واملعمل وغري
ذلك.
احلس :ان احلزب مبجموعة شبابه كائن حي حيس بكل ما جيري يف اجملتمع ،ويشعر -4
بكل ما حيصل ،وحياول التأثري فيه ،مبا لديه من افكار او معاجلات.
وذلك ألنه أعد هلذه الغاية وهبذه الكيفية ،أي انه يتشكل حبسب احلياة واملشاعر .وهو
يف تطور دائم ويعد لكل حال يسوسها ،ويف تغري مستمر .ففي الوقت الذي يناقش
مسألة حكم ،يناقش مسألة اقتصادية او اجتماعية او سياسية حسب مقتضى احلال.
وال يسري على طريقة رتيبة .فاألصل فيه اإلبداع يف االساليب ،والتطوير يف الوسائل.
فالوسيلة عنده حيتمها العصر ،واالسلوب حيتمه واقع العمل .فهو يسري مع احلياة
وأشكاهلا ،اال انه حياول دائمًا ان يشكل اجلو االمياين ،أي ان جيعل لتفكري األمة قاعدة
تنطلق منها ،أي عقيدهتا،كما حياول تغيري الواقع وتكييفه حسب املبدأ.
ت -ان املدرسة حىت ولو كانت مدرسه دينية فاهنا تقوم على هتذيب الفرد وتعليمه باعتباره
فردًا معينًا .وهي وبالرغم من كوهنا مجاعة صغرية اال اهنا فردية من ناحية تعليمية ،فالعربة مبا
تقوم عليه ،ال من حيث كوهنا هي .فمهمتها وما تقوم عليه هو هتذيب الفرد وتعليمه .ولذلك
فان نتائجها فردية حتمًا؟ وأحب أن أذكر مبقومات الفرد – وهي العقيدة والعبادة واالخالق
واملعاملة – اليت حىت لو بنتها تلك املدرسة ،فحرصت على صفاء العقيدة ،وبنتها على
العقل ،وجعلتها يقينية يف الفرد ،وبينت له أحكام العبادات بأدلتها وألزمته هبا ،وشجعته على
القيام باملندوبات إضافة اىل الفروض ،وحاولت معه ان يتصف بالصفات احلسنة وكل خلق
محيد ،وجعلته يف معامالته يسأل دائمًا عن احلالل واحلرام ،فما كان حالًال قبله وما كان
حرامًا ابتعد عنه ،فإهنا كمدرسة مبنهاجها يكون هّم الطالب فيها حتقيق النجاح .فقد يستظهر
كل النصوص املعطاة له ،ولكنه ينساها مبجرد ختطيه عتبة املدرسة.
78
هذا من جهة ،ومن جهة ثانية ،أي يف مرحلة التزامه مبا درس ،فان ذلك ال يتعداه كفرد ،وال
عالقة له بفكر اجلماعة او مشاعرها .فهو ال يعرف شيئا عن انظمة اجملتمع والعالقات العامة
فيه ،وليست موضع اهتمامه ليعرف ذلك .فلو افرتضنا ان غالبية اجملتمع قد وصلت اىل هذا
احلد من االلتزام ،فان اجملتمع يبقى على فساده ما دامت نظمه وعالقاته قائمة على غري
االساس الذي يعرفه .وسواٌء عنده َأَح َك َم ه خملٌص او خائٌن ،مؤمٌن او كافٌر .وحىت لو ٌأتيح له
ان حيُك م فانه ال يعرف من ذلك شيئًا ،ألن ذلك ليس من ضمن اختصاصه كفرد .فالعالقات
العامة ،وتنفيذ االحكام ،وإقامة احلدود ،ورعاية الشؤون ،واستخراج الثروات الطبيعية للناس،
ومحاية الثغور ،وجتهيز اجليش حلمل الدعوة ،كل هذا ليس من ضمن اختصاصه .ولذلك تبقى
النتائج فرديًة مهما كثر عدد الذين هتذبوا وتعلموا حسب املنهج املدرسي.
ث -ان القيام على تربية اجلماعة خيتلف متاما عن القيام على تربية الفرد .فحني القيام على
تربية اجلماعة وتثقيفها فامنا ينظر اليها بوصفها مجاعة واحدة ،بغض النظر عن افرادها .وحني
نقول بوصفها مجاعة ،فإمنا نعين أن ينظر اىل األمر الذي جعلها مجاعة واحدة ،أي ينظر
للعالقات الدائمة اليت تقوم عليها اجلماعة .وهذه العالقات امنا تقوم على افكار عامة وينتظمها
نظام معني .ولذلك فانه يثقف اجلماعة كي تغري كيفية تنظيمها لعالقاهتا الداخلية منها
واخلارجية ،وتغري النظام الذي ينتظم عالقاهتا بناءًا على قاعدة معينة .مما يوجد عند األمة –
اجلماعة – قاعدة تنطلق منها يف تفكريها ،لتغيري افكارها ونظمها ،وتكّو ن على ذلك عرفًا عامًا
يكون له الفعالية املؤثرة يف تنظيم العالقات .وهلذا تكون النتائج اليت حنصل عليها نتائج مجاعية.
وحني يثقف فردا او افرادا امنا يثقفهم ليصبحوا صاحلني جلزئية اجلماعة ،ال لفرديتهم ،كما
حصل عند تثقيف الفرد لفرديته .وهذا ما ال يتحقق مطلقا يف املدرسة مهما بذلت من جهد،
او أمضت من زمن ،او خرجت من تالميذ.
وقد اثبت الواقع القائم حاليا يف أي قطر من اقطار العامل االسالمي صحة ذلك .حيث ان محلة
الشهادات العالية ويف كافة احلقول قد بلغ اآلالف بل املاليني ،وفاقت نسبتهم فيه نسبتهم يف
أي بلد يف العامل ،ومع ذلك مل يؤثروا يف هنضة االمة ،بل مل يستطيعوا وقف احندارها .حىت
املدارس واملعاهد واجلامعات القائمة على اساس االسالم ،وتدرس االسالم وخترج العلماء
والفقهاء باآلالف كاألزهر وكليات الشريعة والنجف جبامعاهتا وفروعها ،مل تؤد اىل النهضة،
واىل السري يف طريق النهوض ،ومل توقف احندار اجملتمع.
79
تقوم املدرسة على هتيئة الفرد ليؤثر يف اجلماعة اليت يعيش فيها – حسب تقديرهم – ج-
ومع افرتاض صحة ذلك فانه ال يستطيع ان يؤثر اال جزئيا ،النه حيتل جزءا شعوريا
ضعيف األثر يف إيقاظ الفكر .فما دام ان الفرد قد تلقى ما يصلح حاله كفرد ،أي
اقتصر تفكريه وتثقيفه وتربيته على ما هو من مقومات الفرد ،فان ما يعرتيه من شعور
وما حيس به بشكل عام هو هذا اجلانب من حياة اجلماعة ،وهو جانب شعوري فقط
أي منبثق عن احساسه بانه فرد يف هذه اجلماعة ،وليس راعيًا وقائدًا يتمىن هلا اخلري
والسعاده .أما ما يوقظ الفكر فهو االحساس الصحيح مبا تعانيه اجلماعة ،وما تقاسيه
من سوء نتيجة تطبيق النظم الفاسدة عليها ،مما أفسد العالقات القائمة بني أجزائها،
وأفسد العالقات بينها وبني غريها من اجلماعات ،ويكاد يفسد أفرادها .فرتكيز مفهوم
الفردية عند الفرد ،وتصوره ان اجملتمع مكون من افراد جيعل أحاسيسه تنصب على
هذا اجلانب ،فيتأمل حني يقّل عدد املصلني ،او يرى ما يراه من فساد خلقي او من
انتشار املوبقات واحملرمات .ومثل هذا االحساس ال خيرج عن دائرة الشعور وال ميثل
اال جزءًا يسريًا من حياة اجلماعة.
األصل هو هتيئة اجلماعة لتؤثر يف الفرد .وبالتأكيد فهي القادرة على التأثري .وكلنا ح-
نالحظ ان هيمنة عرف عام ،او حىت عادات او تقاليد على سلوك اجلماعة جتعل الفرد
جيد نفسه وهو يعيش يف هذه اجلماعة جمربًا على السري والسلوك حسب هذه األعراف
او العادات والتقاليد .فضغط العرف العام له قوة اكرب من قوة القانون .فرتى الفَس قة
الذين يعيشون يف قرى حمافظة او أحياء منها ،يبتعدون بفسقهم عن أجواء اجلماعة
وأعرافها ويذهبون اىل أحياء أخرى تتقبل مثل هذه االعمال خوفًا من تلك االعراف.
مع ان القانون والنظام املطبق حيميهم من الناس .وحني ندرك ان العرف العام هو
عبارة عن مشاعر تتولد نتيجة ألفكار أخذت دور العراقة والرتكيز يف النفوس ،حني
ندرك ذلك ،نقول ان هذا الشعور القوي قادر على التأثري الكلي على األفراد مجيعًا،
وقادر على ايقاظ الفكر ،أي دفع الناس ألن يبحثوا املسائل حبثًا فكريًا ،ويتوصلوا
ببحوثهم تلك اىل نتائج منطقية تكون بداية لنهضة فكرية سريعة ،وبأقل جهد ممكن.
ألن الشعور القوي هو الذي يوقظ الفكر.
وما الثورات الشعبية ،واالنتفاضات ،وحىت املظاهرات ،اال دفع شعوري عام ،حركته
يف الناس فئة تعرف كيف تثري الشعور العام عند اجلماعة .فاندفع الناس مقودين هبذا
الشعور العام .وقد يندفع فيها من مل يكن يشعر او حيس مبا أثري يف اجلماعة من
80
مشاعر .مثل ما يسمى باالنتفاضة يف الضفة الغربية ،فقد عرفت الفئة او الفئات
احملركة كيف تثري املشاعر العامة ،فتوقظ هذا االحساس ،مع ان عيشهم عند اليهود
وتعسف اليهود وظلمهم ليس جديدًا .وقد احتلت هذه املشاعر كافة األفراد فانساقوا
وراءها .ومثل هذا الشعور يوقظ الفكر ،فيؤدي اىل التفكري يف االسباب واملسببات
والنتائج واالهداف .مما يوجد عمليات فكرية ،تؤدي اىل السري يف طريق النهضة ،لو
سلمت من التضليل واالحتواء.
– 11يف هذه املرحلة الدقيقة -مرحلة التثقيف – ال بد من ادراك ان اجملتمع بأكمله هو مدرسة
احلزب الكربى ،مع دوام ادراك الفرق الشاسع بني املدرسة وبني احلزب يف حلقاته الثقافية.
المجتمع :هو املدرسة.
المبدأ :هو املعلم.
الثقافة الحزبية :هي املادة اليت تدرس.
المشرفون (أي االشخاص الذين جتسد فيهم املبدأ وثقافة احلزب) :هم األساتذة املباشرون
للتدريس.
الحلقات :هي صفوف املدرسة.
اللجان المحلية :هي االدارة املشرفة على تعيني املدرسني ومالحظة التدريس.
وملا كانت وظيفة احلزب يف هذه الفرتة هي بعث العقائد الصادقة ،واجياد مفاهيم صحيحة ،وملا
كان املشرفون -أي االساتذة أي األشخاص الذين جتسد فيهم املبدأ والثقافة احلزبية -ال بد
81
هلم من دراسة عميقة هلذه االفكار ،وفهمها فهمًا صحيحًا ،ومذاكرة الثقافة احلزبية يف كل
وقت ،واستظهارًا لدستوره ،ولألحكام العامة والقواعد العامة اليت يتبناها احلزب ،ليحسنوا
القيام باملهمة املوكلة اليهم ،وهي االشراف على احللقات أي تدريس الصفوف هذه املادة،
وهذا ال يتأتى اال بتطبيق الصورة املدرسية ،ولو اهنا خالية من االمتحانات وأوراق األسئلة
ووضع العالمات .اال ان ذلك يتم اال من خالل مالحظة االستاذ للدارسني ومعرفة مدى
استيعاهبم وقدرهتم على الفهم ويف أي املراحل اصبحوا ،ومالحظة تفاعلهم مع هذه األفكار
واندفاعهم يف فهمها ونشرها وااللتزام مبا جاء فيها ،وتبين ما تضمنته األفكار .ومن هنا كان ال
بد من احلرص على هذه الناحية مع كل من يدخل يف هذا احلزب بغض النظر عن حقيقته
الثقافية سواء أكان جامعيًا او متخرجًا من األزهر او كان انسانًا بسيطًا عاميًا وفيه استعداد
للتثقف .وليكن معلومًا ان أي تساهل يف هذه املسألة مع أي فرد يعترب تقصريًا كبريًا ،ورمبا
ينتج عن ذلك ضرر عام .من حيث ان هذا الشخص الذي جرى التهاون معه ،مل يتفاعل مع
هذه الثقافة وكان عنده خلفية ثقافية أخرى .فإن حتدث بني الناس فانه ال يعرب عن رأي احلزب
فيما حتدث به .وان كلف باالشراف على احدى احللقات ،فسيتخرج عنه افراد حيملون مثل ما
حيمل – أي أفكارًا ومفاهيم ختتلف عما تبناه اجلزب -وهبذا قد يؤدي اىل االنشطار او البلبلة
على االقل ،او ان يبقى عضو شرف ،وليس يف احلزب اعضاء شرف .وأسوأ من ذلك لو
تسرب مثل هذا الشخص اىل أحد االجهزة يف احلزب فسيكون ضرره أمشل و أعّم.
وما دامت هذه املرحلة مرحلة تثقيف وإعداد شباب للقيادة ذوي استعداد للتضحية والقيام
بأعباء الدعوة ،فانه ال جيوز مطلقا ان ينصرف عن هذه الناحية أبدًا .فهي مرحلة تثقيف
وإعداد ،ال مرحلة عمل او تفاعل .ولذلك ال بد من وضع حاجز كثيف بني احلزب وبني
العمل يف هذه املرحلة ،أي قبل ان يوجد االشخاص املثقفون هبذه الثقافة ،املستعدون
لإلضطالع بأعبائها ،املؤهلون لقيادة األمة ،ويف الوقت نفسه االنقياد للقيادة بانقيادها للفكرة.
وهلذا كانت هذه املرحلة مرحلة ثقافية ليس غري.
واما ضرورة دوام مالحظة الفرق بني املدرسة واحلزب يف الثقافة ،فذلك لالسباب
التالية:
أ – حىت ال تصبح الثقافة احلزبية ثقافة مدرسية ،أي دراسة رتيبة لكتبه ولو أدى ذلك اىل
حفظها واستظهارها .النه يف هذه احلالة يفقد فعاليته ،فال يتفاعل الدارس مبا يدرس ،وال حيمل
لغريه ما فهم ،وال يهتم مبا جيري حوله من احداث وال ما حيصل من وقائع .مع ان ما يدرسه
82
هو افكار واحكام وآراء هلا واقع او تعاجل واقعًا ،وحني تدرس ال بد من ادراك واقعها وإنزاهلا
عليه ،وااللتزام مبا فهم.
ب -وحىت ال تبقى تعليمًا أو ثقافًة مدرسية ال بد ان يدرك منذ البداية ان هذه االفكار
واملفاهيم امنا تؤخذ لتغيري املفاهيم والعقائد يف اجملتمع ،وللعمل هبا يف معرتك احلياة ،وحلملها
قيادة فكرية يف االمة .ويف هذا إشارة ملن حيمل هذه االفكار ان يشعر بانه قائد هلذه االمة هبذه
االفكار ،وليس جمرد فرد يف الرعية يريد ان يفهم االسالم.
ت -ان حُي ال بني الراغبني يف العلم وبني هذه الثقافة .فليست الغاية من هذه الثقافة تنمية
املعلومات او استغالهلا يف التحصيل العلمي ،والوصول اىل شهادة معينة ،او االستعانة هبا ألهنا
تساعده يف مادة معينة او يف تأليف كتاب يبتغي الربح من ورائه .ومن كانت له حاجة علمية
فان سبيلها املدرسة او اجلامعة او الكلية ،وال جيوز ان تتخذ احللقة وسيلة لذلك.
بل ان من اخلط&ر على ال&دعوة االن&دفاع يف الناحي&ة العلمي&ة ،الهنا تس&لبه خاص&ية العم&ل ،وبالت&ايل
تؤدي اىل التأخري يف االنتقال اىل املرحلة الثانية.
-12املرحلة الثانية هي مرحلة التفاعل مع األمة .وهي املرحلة اليت يبدأ فيها الصراع الفكري مع
الفئات االخرى ،ومع ما يف األمة من عقائد وأفكار وعادات .كما يبدأ فيها الكفاح السياسي
والتصدي لألنظمة الفاسدة والقائمني عليها .وهذا يتطلب ان تكون املرحلة اليت سبقت قد هيأت
االشخاص القادرين على حتمل أعباء الدعوة يف هذه املرحلة .أي انه ال يكفي ان يكون الشاب قد
استوعب تلك الثقافة وهضمها وتبناها ،بل ال بد ان يكون قد عرف عنه يف وسطه انه حامل دعوة،
وان الروح اجلماعية قد تكونت فيه ،أي يهتم بلقاء الناس كحامل دعوة ،حىت اذا انتقل اىل املرحلة
الثانية كان من السهل عليه ان يتصل بالناس وكان االستعداد اجلماعي موجودًا فيه ،واصبح فيه قابلية
التأثري يف الناس الذين يعيش معهم .هذا ما جيب ان يتم يف مرحلة التثقيف ،ال جمرد التعلم واالستيعاب
وااللتزام .ألن جناح احلزب يف املرحلة الثانية متوقف متامًا على جناحه يف املرحلة األوىل ،واالخفاق يف
هذه املرحلة دليل على وجود خلل يف مرحلة التكوين .وال بد من البحث عن هذا اخللل ومعاجلته.
فباختصار ،ال بد ان يكون مجهرة اعضاء احلزب مؤهلني لإلنتقال اىل املرحلة الثانية ،بالتثقيف الواعي،
مث االلتزام والتبين وعدم التهاون يف ذلك ،باالضافة اىل االستعداد النفسي والتأهيل للتضحية .وال بد أن
تكون رغبتهم اجلاحمة هي العيش بني الناس .واألهم من ذلك ،شعورهم بأهنم يعيشون يف الناس قادًة هلم
أو رعاًة ملصاحلهم ،أو حراسًا لكياهنم ،وأهنم مسؤولني أمام اهلل تعاىل عن محل هذه الدعوة للناس كافة.
أي اإلرتفاع بنفسيتهم من التبعية إىل القيادة .فهذا ما حيقق النجاح يف املرحلة الثانية.
83
-13وتأكيدًا وتوضيحًا ملا تقدم نقول :أن عضو احلزب ال ينتقل من دور الثقافة إىل دور التفاعل إال
إذا نضج ثقافيًا نضجًا جعله شخصية إسالمية ،أي تتجاوب عقليته مع نفسيته .إذ أن الشخصية قوامها
العقلية والنفسية .واملقصود بالعقلية هي الكيفية اليت يتم إدراك األمور حبسبها .فاإلنسان حني يبحث يف
مسألة ما ،أو يريد الوصول ملعاجلة ما ،حيتاج إىل معلومات تفسر له هذا الواقع لكي يربطها هبذا
الواقع ،فيحصل على نتيجة ما .إال أنه قبل أن يربط بني الواقع واملعلومات فإنه حيتاج إىل قاعدة أو
مقياس يقيس عليه الواقع ،ويقيس عليها املعلومات فيجري الربط بناءًا على هذه القاعدة أو املقياس
الذي جلأ إليه حني الربط .إن هذه العملية أي الرجوع إىل قاعدة أو قواعد معينة ،هي اليت حتدد الكيفية
اليت يعقل هبا األشياء ،وعلى أساسها تتكون عقليته .وباختصار ،نستطيع القول أن تكوين العقلية
متوقف على جمموعة املقاييس والقواعد اليت يستعملها حني الربط.
مثًال :شخص يتخذ قاعدة " أن صيغة األمر تفيد الوجوب " ،وآخر لديه قاعدة " صيغة األمر
تفيد جمرد الطلب وال تنصرف عن ذلك إال بقرينه " .عندما يبحث هذان يف مسألة إعفاء
اللحية ،فإن كًال منهما يصل إىل نتيجة مغايرة لنتيجة صاحبه ،ألن الكيفية اليت يتم مبوجبها
عقل هذه املسألة خمتلفة بينهما ،وهذا اإلختالف سببه اإلختالف يف القاعدة اليت استند كل
منهما إليها.
وهكذا ،فالعقلية اإلسالمية هي اليت تضع جمموعة القواعد واملقاييس اإلسالمية مرجعًا تقيس
عليها الواقع واملعلومات قبل عملية حكمها على األشياء .أي أن جعل جمموعة النصوص وما تقاس عليه
هذه النصوص منطلقًا للحكم على األشياء واستنباط األحكام هلا هو العقلية اإلسالمية .وجمرد السؤال
عن دليل مسألة ما ،ملعرفة ما إذا كان هذا الرأي مستندًا إىل دليل شرعي ،جيعل العقلية عقلية إسالمية،
فهي ليست خاصة بالفقهاء أو اجملتهدين.
وأما النفسية فإهنا سلوك اإلنسان يف احلي&اة بن&اءًا على مف&اهيم عنه&ا .فالنفس&ية اإلسالمية هي ال&يت
تسأل عن احلالل واحلرام يف كل عم&ل هلا ،فتق&وم مبا ه&و حالل ومتتن&ع عم&ا ه&و ح&رام .وليس&ت هي فق&ط
النفس &&ية املتبتل &&ة املنقطع &&ة للعب &&ادة ،أو املتص &&وفة .ب &&ل جمرد جع &&ل احلالل و احلرام قاع &&دة للس &&لوك إمنا يع &&ين
وجود النفسية اإلسالمية .وتنمية العقلية يأيت بزيادة املعارف عن الشريعة والوعي على القواعد واملقاييس
الشرعية .وهذا يتأتى حبفظ العديد من النصوص كالقرآن الكرمي واألحاديث الشريفة والقواع&&د األص&&ولية
و الفقهية .وأما تنمية النفسية فإهنا ت&أيت من ك&ثرة التق&رب إىل اهلل بالطاع&ات أي القي&ام ب&الفروض وم&ا ه&و
فوق الفروض من النوافل والسنن وصيام التطوع وقراءة القرآن وغري ذلك.
84
هبذه العقلية والنفسية تتكون الشخصية اإلسالمية اليت البد منها حلامل الدعوة .قال رسول اهلل
" ال يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به".
هذا ما جيب أن يكون عليه عضو احلزب باإلضافة إىل ظهور امليول اجلماعية فيه أي حبه
لإلتصال بالناس كحامل دعوة ،وإخراجه من العزلة ،اليت غالبًا ما يتصف هبا الشباب املؤمن امللتزم
هروبًا من فساد اجملتمع ،وابتعادًا عن مشاهدة املوبقات املنتشرة يف اجملتمع .إن هذه العزلة قاتلة للروح
اجلماعية اليت جيب توفرها يف حامل الدعوة ،حيث أن هذه العزلة هي مزيج من اجلنب واليأس .وتكاد أن
تكون هاتان الصفتان تطغيان على نفوس معظم الشباب امللتزم ،فهو خائف من اضطهاد اجملتمع له،
ويائس من صالحه.
ولكن اخلوف بل &&غ عن &&ده ح &&د اجلنب املقع &&د عن العم &&ل .فال ب &&د حلام &&ل ال &&دعوة أن يتخطى ه &&اتني
الص&&فتني .وال ب&&د من حماول&&ة قلعهم&&ا من أف&&راد اجملتم&&ع بش&&كل ع&&ام ،ألهنم&&ا أص&&بحتا من املف&&اهيم املرك&&زة يف
اجملتمع.
-14أما انتقال احلزب من دور الثقافة إىل دور التفاعل ،فإنه انتقال طبيعي ،أي بعد أن تستكمل يف
دور الثقافة نقطة اإلبتداء .والغاية من هذا الدور وجود أشخاص جتسد فيهم املبدأ ،وآمنوا بأهنم إمنا
يعيشون به ومن أجله .هذا من جهة ،ومن جهة ثانية فإن اجملتمع من حوهلم بدأ حيس بالدعوة وباملبدأ
إحساسًا واضحًا .فإذا حتقق له ذلك صار انتقاله إىل دور التفاعل انتقاًال طبيعيًا .إذ أنه ميكن القول بأن
املبدأ أصبح موجودًا يف األمة ،وال خيشى عليه .وهذا يعين اإلنتهاء من نقطة اإلبتداء واإلنتقال إىل نقطة
أخرى هي نقطة اإلنطالق .وباحلديث عن النقاط ،ال بد من وقفة لتحديد معىن هذه العبارة.
هناك ثالث نقاط تتضمن كل نقطه مرحلة تليها .فالنقطة االوىل هي نقطة االبتداء – أي
نقطة التأسيس والوجود – فال يعترب احلزب موجودًا اال اذا مت تأسيسه أي باجياد نقطة االبتداء .وتبدأ
هذه النقطة منذ اللحظة اليت أشرقت فيها هذه الدعوة يف ذهن الشخص االول ،أي اخللية االوىل ،مرورًا
بالبحث عن خاليا اخرى لتكوين احللقة االوىل –القيادة -وإعداد الكتلة احلزبية ،مث املرور مبرحلة
الثقافة واليت تعين اجياد جمموعة من الناس مؤهلة لتحمل الدعوة ،أقوياء بإمياهنم ،خملصني بدعوهتم،
يعيشون هبذه الثقافة ،ونذروا أنفسهم هلا .باالضافة اىل اجياد أجواء حوهلم .أي جعل اجملتمع الذي
يعيشون فيه حيس باملبدأ وحيس هبم كحملة دعوة .وهبذا نستطيع القول ان احلزب قد وجد ،وان هذا
احلزب عليه ان ينتقل للعمل يف األمة والتعامل معها .هذا ما نعنيه بالنقطة االوىل املتضمنة ملرحلة
التثقيف .وهي ما نطلق عليه نقطة االبتداء.
85
أما النقطة الثانية ،وهي نقطة االنطالق ،فتشتمل على مرحل&ة التفاع&ل م&ع األم&ة ،أي جع&ل األم&ة
يف أح &&د أقطاره &&ا حتتض &&ن املب &&دأ ،وحتتض &&ن دع &&اة املب &&دأ .أي تقب &&ل هبذا املب &&دأ لتنظيم عالقاهتا وتقب &&ل بقي &&ادة
احلزب هلا .أي ان التفاعل قد مت بني املبدأ واألمة وبني األمة واحلزب.
وأما النقطة الثالثة ،وهي نقطة االرتكاز ،فبعد التحقق من ان األمة قد احتضنت الفكرة أي
املبدأ وقبلت باحلزب قائدًا هلا ،ومت التفاعل على هذا االساس ،يقوم احلزب باالنتقال من مرحلة التفاعل
اىل ما يسمى بنقطة االرتكاز .أي انه اصبح مهيئًا للرتكز وتطبيق فكرته يف احلياة .فتبدأ هذه النقطة
بالبحث عن مراكز القوة الذين هلم القدرة على كسر احلاجز املادي الذي حيول بني احلزب وتطبيق
مبدئه .فإذا مت للحزب العثور على مراكز القوة ،ونفذوا ذلك انتقل احلزب اىل مرحلة احلكم وتنفيذ
املبدأ.
إذن نقطة الابتداء وتتضمن مرحلة التثقيف
ونقطة الانطلاق وتتضمن مرحلة التفاعل
ونقطة الارتكاز وتتضمن مرحلة الحكم
وهبذا يك&&ون احلزب ق&&د وص&&ل اىل هدف&&ه وسار يف حتقي&&ق غايت&&ه ،وهي إستئناف احلي&&اة االسالمية
ومحل االسالم للعامل.
-15عودًا اىل عملية االنتقال اىل نقطة االنتقال ،نقول ان احلزب حني يريد ان ينتقل انتقاًال طبيعيًا ال
بد له من خماطبة األمة مباشرة .اال انه قبل ان يبدأ مبخاطبتها مباشرة ،ال بد له ان يقوم مبحاولة خماطبتها.
فإذا جنح يف حماولة املخاطبة ،خاطبها مباشرة .ونعين باملخاطبة املباشرة دعوَة األمة للقيام بأعباء الدعوة،
واعتبار املبدأ مبدأها .وذلك قبل البدء هبذا االسلوب ،ال بد من حماولة املخاطبة ملعرفة مدى جتاوب
األمة مع هذه احملاولة .وهذا يعين ان يضيفه احلزب اىل العمليتني السابقتني :التثقيف املركز يف احللقات،
والتثقيف اجلماعي اللتني كان احلزب يقوم هبما يف مرحلة التثقيف .أي ان يضيف اليهما عملني آخرين
مها تبني مصالح األمة وكشف خطط االستعمار .وتبين املصاحل إما ان يكون تبنيًا فكريًا او عمليًا .أما
التبني الفكري فهو بيان ما تبىن احلزب من آراء ومعاجلات ملصاحل األمة .واما التبني العملي فهو ان
يأخذ على عاتقه حتقيق مصلحة من مصاحل األمة حني يقدر على ذلك او كان مما جيب عمله .وهذا أمر
ليس بالسهل ألن املصاحل امنا يقوم على رعايتها النظام الفاسد املطبق عليها.
وأم&&ا كشف خطط االستعمار فإمنا يع&&ين االستعداد للكف&&اح السياسي .ف&&ان ه&&ذا العم&&ل يش&&كل
خط&رًا جس&يمًا على االستعمار بك&ل أش&كاله .ومن ع&ادة كش&ف اخلط&ط أن ي&ؤدي ذل&ك اىل إحب&اط اخلط&ة
ومنع تنفيذها ،ألن االستعمار وأعوانه مهما بلغوا من تس&لط وج&ربوت ،ف&اهنم ال يباش&رون تنفي&ذ خططهم
86
وأساليبهم بشكل مكشوف ،ألهنم خيشون غضب األمة ونقمتها .ولذلك ف&&اهنم خيف&&ون غاي&&اهتم وأه&&دافهم
حتت ستار ك&&ثيف من اخلداع والتض&&ليل ح&&ىت ينطلي عملهم على األم&&ة ،ويب&&دأ ترويض&&ها بقب&&ول م&&ا رمسوا
هلا .فعملي &&ة الكش &&ف حني تتقبله &&ا األم &&ة وتث &&ار نقمته &&ا ،امنا تع &&ين اجياد النقم &&ة عن &&د األم &&ة على االستعمار
وأعوان&&ه .ومن الب&&ديهي ان يتص&&دى الك&&افر ملقاوم&&ة ال&&دعوة بواسطة عمالئ&&ه وأعوان&&ه .وهن&&ا يب&&دأ الكف&&اح
السياسي واجملاهبة بني احلزب والس &&لطة القائم &&ة .ه &&ذا باالض &&افة اىل الص &&راع الفك &&ري ال &&رهيب بني احلزب
والفئ &&ات املناهض &&ة ل &&ه من محل &&ة االفك &&ار الفاسدة وم &&ا يتبعه &&ا من ع &&داء ودعاي &&ة وجماهبات ،تتطلب نفوسًا
عالي&&ة لتحم&&ل ه&&ذه األعم&&ال .ف&&اذا جنح احلزب يف القي&&ام هبذه األعم&&ال االربع&&ة (التثقي&&ف املرك&&ز والتثقي&&ف
اجلماعي وتبين مصاحل األمة وكشف خطط االستعمار) ،صار انتقاله ملخاطبة األمة مباشرة انتق&اًال طبيعي&ًا.
ومعىن جناحه يف هذا األمر ثالث نقاط:
ثبات شبابه واستعدادهم جملاهبة أمر مل يعهدوه من سجن وتعذيب وتشريد وحماربة يف ()1
األرزاق ،واستمرار استعدادهم للتضحية والفداء.
إجبار الفئات االخرى اليت ختالفه الرأي على خوض الصراع الفكري معه ،وجعل ()2
األمة تنتظر رأيه وتأخذه باملناقشة ،سواء قبلت به او رفضته.
إجبار السلطة على التصدي له ولو بالسجن او التعذيب والتشهري واملنع ،وكسر ()3
الطوق املفروض عليه من الالمباالة او التعتيم االعالمي عليه.
هذا ما يعنيه جناحه يف العملني األخريين ،بعد ان جنح جناحًا منقطع النظري يف التثقيف واإلع&&داد.
وجناحه هذا هو الذي جيعل انتقاله اىل مرحلة التفاعل انتقاًال طبيعيًا.
-16ان التفاعل مع األمة ضروري جدًا .ألنه ال بد من إدراك معىن التفاعل مع األمة .فاملعىن املقصود
من التفاعل هو قبول األمة للمبدأ واعتباره مبدأها ،وقبوهلا بقيادة احلزب هلا .وليس املقصود بالتفاعل
جعَل األمة او غالبيتها أعضاء يف احلزب ويدرسون يف حلقاته .فهذا أمر خيايل وال ميكن ان يتحقق ،ألن
الفئة املتحركة يف القضايا العامة ،واليت هتتم بالشؤون السياسية يف أرقى األمم مل تتعدى يف تارخيها نسبة
% 6وهي نسبة الصحابة اىل جمموع املسلمني عند وفاة رسول اهلل .وكذا احلال يف الدول
الناهضة واليت مر على هنضتها قرون وأجيال .فان نسبة العاملني فيها يف أحزاهبا السياسية مل تتعَد نسبة
. % 5فاذا علم ان يف األمة فئاتًا وأحزابًا متعددة ،والكل يف صراع للحصول على هذه الفئة املتحركة
(فئة ال )% 5فان العربة ال تكون يف الكثرة او القلة ،وإمنا مبقدار انتزاع ثقة األمة واحتضاهنا للفكرة
وقبوهلا بقيادة احلزب .هذا ما نعنيه بالتفاعل.
87
وأمهية هذا التفاعل تكمن يف ان احلزب ال يستطيع ان يقوم بعمله والنجاح يف مهمته اال اذا
تفاعل مع االمة .وال يستطيع ان يسوقها للقيام بعمل اال اذا تفاعلت معه .والذي يسهل عملية التفاعل
هذه كون املبدأ موجودًا يف تراث األمة الثقايف والتارخيي ،وعقيدة املبدأ هي عقيدة األمة اليت تثري
مشاعرها وتنبه أحاسيسها .وحني حتولت هذه االحاسيس اىل فكر ،تبلور يف الفئة املختارة ،اليت تكون
منها احلزب ،وكانت القاعدة الثابتة هلذه االحاسيس ،وهي " الفكر والعمل والعمل من اجل غاية " هي
التعبري احلقيقي للمبدأ .ولذلك كان املبدأ هو إحساس األمة الداخلي ،ويكون احلزب معربًا عن هذا
االحساس .واذا كان احلزب فصيح التعبري ،أي يوضح ما يريد بال تورية وال مواربة ،من حيث ان
الفصاحة هي إبراز املعىن املراد ،فحني ينادي باحلكم االسالمي فال يتخفى وراء كلمة دولة اسالمية ،او
حكومة اسالمية ،او مجهورية اسالمية ،بل يقوهلا "خالفة" بلسان فصيح بال مواربة .وحني يتحدث عن
االستعمار ال يكتفي بذلك بل يصفه بصفته احلقيقية "الكافر املستعمر" .هذا من حيث الفصاحة يف
التعبري .أي واضح اللغة .فاللغة هي القالب الذي تصب فيه املعاين املوجودة يف النفس .ولذلك ال بد له
من استعمال اللغة اليت يفهمها الناس بسهولة ويسر ،متصفًا بصدق اللهجة .هذا وصدق اللهجة امنا يعين
اجلرأة يف احلق ال تأخذه يف اهلل لومة الئم ،فال يداهن و ال يداجي وال خيادع .يقول رأيه بكل صراحة
وال خيشى أحدًا اال اهلل وال يستعني اال باهلل.
فاذا سار احلزب متصفًا بصدق اللهجة ،ووضوح اللغة ،وفصاحة التعبري ،فهمت األمة املبدأ
سريعًا ،وتفاعلت مع احلزب ،واعتربت مبجموعها هي احلزب ،واعترب احلزب قائدًا هلذه األمة ،يسري حنو
املرحلة الثالثة خبطى ثابتة ،وطريق واضح ،وهي مرحلة تطبيق املبدأ تطبيقًا انقالبيا عن طريق احلكم
باعتباره الطريقة الوحيدة لتنفيذ الفكرة ،أي باعتبار احلكم جزءًا من املبدأ.
اال ان هنالك صعوبات عديدة تقف يف وجه هذا التفاعل .وال بد من معرفتها ،ومعرفة
طبيعتها ،للعمل على التغلب عليها .وهذه الصعوبات كثرية أمهها ما يلي:
أ – تناقض املبدأ مع النظام املطبق يف اجملتمع.
ب -اختالف الثقافة املوجودة يف اجملتمع مع ثقافة املبدأ.
ت -وجود الواقعيني يف األمة.
ث -ارتباط الناس مبصاحلهم.
ج -ما يتوهم انه صعوبة مثل االختالف املدين بني املدينة والقرية.
.1أما تناقض املبدأ مع النظام املطبق .فان مبدأ احلزب نظام جديد
بالنسبة للمجتمع احلاضر .وهو يتناقض مع النظام املطبق يف اجملتمع
تناقضًا تامًا ،وال جمال مطلقًا لاللتقاء او التوافق .وذاك ان نظام املبدأ
88
نظام جاء به الوحي من عند اهلل ،وأما النظام املطبق يف اجملتمع فهو
نظام وضعي ،أي ان اإلنسان هو الذي وضعه انطالقا من مبدأ آخر
هو املبدأ الدميقراطي وهو مبدأ كفر وضعه اإلنسان .وقد فرضه
الكفار على هذا اجملتمع فرضا ،وما زالوا حياولون تركيز مناهجه يف
أذهان الناس وتركيز األسس اليت بين عليها مثل فكرة احلرية ،وفكرة
احلل الوسط وغريمها .وحماولة التضليل والتوفيق يف اوجه الشبه
بالفروع او األسس كتشبيه الدميقراطية باإلسالم يف نظام احلكم
حيث يتصورون ان نظام احلكم يف اإلسالم هو الشورى وان
الدميقراطية هي الشورى .مع ان احلكم يف اإلسالم ليس شورى .بل
ان الشورى نفسها ليست نظام حكم ،وإمنا هي – الشورى-
أسلوب يستعمله اإلنسان – أي إنسان – للتوصل اىل رأي حني
يلتبس عليه أمر ما .أي أسلوب يستعمله الفرد العادي كما يستعمله
احلاكم ،ويستعمله احلاكم املسلم كما يستعمله احلاكم الشيوعي او
الرأمسايل .واحلاكم املسلم يندب له ان يستشري ،وليس فرضًا عليه ان
يستشري .ومثل هذه األمور من حماوالت التضليل .وأقام الكافر على
رقاب الناس حكامًا يطبقون هذا النظام ويروضون الناس لقبوله،
وحياولون إقناعهم بذلك ،ووضعوا مناهج التعليم والتثقيف يف األمة
على أساسه .فمن البديهي ان يتصدى هؤالء احلكام للمبدأ اجلديد
وحياربوه بكل الوسائل ،مثل الدعاية ضده ،ومطاردة محلة الدعوة،
وحماربتهم يف أرزاقهم ،او السجن او التعذيب ،او غري ذلك .وعلى
هذا فال بد ان يكون هذا األمر واضحا عند الشباب منذ عزمهم
على محل الدعوة ليوطدوا العزم على جماهبة هذا األمر .ولذا ال بد ان
يكون هلم العربة من سرية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وما جاء
يف القرآن الكرمي من سري األنبياء السابقني وموقف أقوامهم منهم.
كما كان يطمئن القرآن رسول اهلل " ما قيل لك اال ما قد قيل
للرسل من قبلك " .وقد قص اهلل تعاىل علينا سري الكثريين من
األنبياء وقال إن في قصصهم لعبرة ألولي األلباب .
وبناءًا عليه جيب ان تكون قدوة الشباب سريُة رسول اهلل صلى اهلل
89
عليه وسلم ،وأن يكونوا كلهم استعدادًا للمحاربة والتضحية
والفداء.
90
ومعاهد كلها تسري حبسب الثقافة األجنبية .باالضافة أن كافة احلركات السياسية
املوجودة سائرة مع الثقافة األجنبية ومتبنية هلا .وهلذا ال بد للحزب يف ثقافته من
الدخول يف صراع عنيف مع الثقافات واألفكار األخرى .وهذا يتطلب منه الوعي
على تلك الثقافات ،وبيان مناقضتها للمبدأ ،وبيان فسادها ،حىت يظهر لألمة التعبري
الصحيح عن أحاسيسها وشعورها فتسري معه .وهلذا فان من احملتم أن جيري صراع
حاد بني احلزب وغريه من الفئات .اال انه جيب ان ال يغيب عن الذهن ان هذا الصراع
هو صراع أبناء األمة الواحدة ،وليس صراعًا بني املسلمني والكفار .صحيح انه صراع
بني أفكار االسالم وثقافته يقوده مسلمون ،وبني أفكار كفر ومفاهيم كفر وثقافة
كفر يقودها مسلمون ايضًا .اال أنه جيب أال يغيب عن الذهن طبيعة هذا الصراع .فهو
تصادم بني أبناء األمة الواحدة ،ولذلك ال جيوز أن يأخذ دور اجلدل العقيم ،بل يكتفى
برسم اخلط املستقيم أمام اخلط األعوج ،ألن اجلدل العقيم يصم اآلذان واألبصار.
وهلذا فإن على الشاب وهو خيوض مثل هذا الصراع ،ان يشرح أفكار احلزب وعقيدته
ومفاهيمه مبينًا األدلة والرباهني ،وموضحًا فساد األفكار األخرى وزيفها ونقاط
بطالهنا ،بأسلوب فكري مبين على العقل ،وشارحًا ما يف نتائج هذه الثقافات الفاسدة
من أخطار على األمة ،ووجودها كله .ويف هذه احلالة تتحول األمة عن هذه الثقافات
وتتجه اىل ثقافة احلزب وفكره .بل ان أصحاب هذه الثقافات قد ينصرفوا عنها إن
كانوا خملصني واعني ،ألن زيفها واضح وخطرها متبني.
اال ان هذه العملية هي من أشق العمليات .فهي صراع مع مجيع الناس ،وكلما كانت
البالد غارقة يف الثقافة األجنبية كلما كانت العملية أشق وأصعب ،وكانت قابلية
النهضة يف البالد اليت تقل فيها الثقافة األجنبية أيسر وأسهل .وهذا يتطلب معرفة الواقع
الذي يعمل فيه الشاب ،ليضع له األساليب املناسبة له .وقد الحظنا كيف ان القرآن
الكرمي ما ترك فئة يف اجملتمع او فكرة خاطئة اال رد عليها ،وبني بطالهنا ،وكشف
زيفها باحلجة والربهان.
ومن الصعوبات وجود الواقعيني يف األمة ،نتيجة هليمنة الثقافة األجنبية ،وتسميم -3
األجواء باملفاهيم واألفكار الفاسدة .فنتيجة لغياب الثقافة اإلسالمية وعملية التجهيل
القائمة هلا ،واجلهل العام املطبق الذي أحاط باألمة منذ عهد االحنطاط ،نشأ من ذلك
كله فئتان متثالن الواقعية .وقد سبق تعريف الواقعية.
91
أما الفئة االولى فهي الفئة الواقعية ،اليت تدعو اىل الواقع ،واىل الرضا باألمر الواقع،
وتسّلم به كأمر حتمي .ولذلك فهي فئة عاملة متحركة لكنها انتهجت هذا النهج
وجعلت الواقع مصدر تفكريها ،وعلى أساسه تبحث عن حل ملشاكلها .وهي ما
يسمى بالربامجاتية .مع االختالف يف األصل ،من حيث ان مذهب الواقعيني عند محلة
املبادئ هو التعامل مع الواقع كما هو واالستفادة منه .بينما الواقعية عند الناس
املتخلفني واخلاضعني لغريهم تؤدي اىل اإلقرار هبذا اخلضوع وتبحث عن كيفية التعامل
مع هذا الواقع .وهلذا كان الواقع مصدر تفكريها .ولكوهنا فئة عاملة متحركة فان
التعامل معها سهل ،فال حتتاج ألكثر من التعمق معها يف البحث ،وإقناعها بان الواقع
جيب ان يكون موضع التفكري ال مصدر التفكري ،وال بد من تغيري الواقع تبعًا للفكرة
اليت نؤمن هبا ،وليس التخلي عن الفكرة ،او تأجيلها للتكيف مع الواقع .وبذلك ميكن
ان ترجع عن تفكريها ،وأن يستفاد منها من حيث اهنا فئة عاملة متحركة ،يراد
تصحيح خط سريها ،وتوضيح طريقة التفكري الصحيحة هلا.
وأما الفئة الثانية من الواقعيين ،فهي فئة الظالميين اليت تأىب ان تعيش يف النور ،ألهنا
ألفت احلياة يف الظالم وتعودت التفاهة والسطحية .أصيبت مبرض الكسل اجلسمي
والكسل العقلي ،ومجدت على القدمي .ولذلك فهي واقعية فعًال ألهنا من جنس الواقع،
وهي جامدة فكرًا .ومثل هذه الفئة حتتاج اىل معاناة أكرب .وطريقة التغلب على
صعوبتها ،هي حماولة تثقيفها ،واالجتهاد يف تصحيح مفاهيمها .اال أن الصعوبة األكرب
هي عملية إقناعها بقبول التثقيف .ألن التثقيف عمل ،وهي جامدة ليس عندها
االستعداد للعمل .وهلذا أرى أن عملية إثارهتا والضرب على أوتار حساسة عندها
ميكن ان خيرجاها عن مجودها .وإال فان العمل على إبعادها عن وسطها املتأثر هبا او
إبعاد وسطها عنها هو العالج الناجح .ومن أولئك :العلماء والزعماء واملوجهون،
الذين هلم وسط يعيشون فيه .فال بد من اختبار األساليب املناسبة البعاد أثرهم عن
الوسط الذي يعيشون فيه ،وإنفضاض الناس عنهم .فهم آخر من يؤمن ،وأول من
حياول العصيان.
إرتباط الناس مبصاحلهم .إن االنسان يرتبط مبصاحله الشخصية ،وأعماله اليومية. -4
ولذلك فان من الصعوبة التأثري على الناس وكسبهم جلسم احلزب او الحتضانه الن
ذلك يتناقض مع مصاحلهم املرتبطة بالنظام وأعوان النظام ومنفذيه .والكافر كان
حريصًا على أن يستويل على الناس من بطوهنا ليصل اىل أفكارها .وملا كان احلزب ال
92
ميلك القدرة على تأمني مصاحل الناس وحتقيقها فان امكانية تأثريه يف الناس تكون
قليلة ،وذلك الحنطاط الناحية الفكرية يف األمة ،وحرصها على حتقيق مصاحلها .وحىت
لو تأثرت بالناحية الفكرية فاهنا ال ينتظر منها االندفاع فيها ،اال بأمل قوي ونفس
قصري .وألصبحت كما قال الفرزدق عن أهل العراق للحسني بن علي رضوان اهلل
عليهما " قلوهبم معك وسيوفهم مع بين أمية ".
هذا من حيث الناس واجملتمع .أما من حيث الشاب العضو يف احلزب ،فال بد له ان
يؤمن االميان املطلق أن وجوده يف احلياة إمنا هو من أجل االسالم ،فهو حيىي به ومن
أجله .وهبذا يكون املبدأ واحلزب مها املركز الذي تدور حوله مصاحله الشخصية ،بل
ان ما يكسبه يف احلياة إمنا هو من أجل إعانته على محل هذا املبدأ واحملافظة عليه .أي
انه شرى نفسه وماله ابتغاء مرضاة اهلل يف محله للدعوة .ويف هذه احلالة ال جيوز له ان
يشتغل يف عمل يتناقض مع الدعوة ،أي فيه خمالفة شرعية ،سواء يف طبيعته كالعمل
احلرام ،مثل العمل يف البنك او مزاولة القمار او ما شاكل ذلك ،او عضوًا يف مؤسسة
تتعامل باحلرام كالصريفة والشركات املسامهة وأمثاهلا .كما ال جيوز له ان يعمل يف
عمل ينسيه الدعوة او يعوقه عنها كالعمل سحابة النهار وشطرًا من الليل يف عمل
ليس للدعوة فيه وجود ،أي انه ال ميكنه من االتصال بالناس واالحتكاك هبم
ومناقشتهم او دعوهتم لفكرته .واألمثلة على ذلك كثرية .كأن يعمل مزارعًا يف مزرعة
تأخذ عليه وقته كله ،او يف معمل او مصنع او غري ذلك .فإذا التزم مبثل هذا ،أي امتنع
عن الشغل يف عمل متناقض مع الدعوة ،او يف عمل ينسيه الدعوة ،فانه يكون يف هذه
احلالة قد ختطى هذه الصعوبات ،وجعل الدعوة مركز تنبهه وقطب الرحى يف دائرة
مصاحله .وأصبحت مصاحله تدور حول الدعوة ،فهي األساس يف حياته .وأبعد عن
كون الدعوة تدور حول مصاحله .فهو يدعو هلا وقت فراغه ويرتكها عند تعارضها مع
مصاحله ،او حني هتدد مصاحله ،او يلحقه منها أذى.
ومن الصعوبات يف مثل هذا اجملتمع املنحط ،إجياد مفاهيم التضحية والفداء وتركيز -5
معىن قوله تعاىل ان هللا اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم .
فمفهوم التضحية باملال والتجارة ومباهج احلياة الدنيا وزينتها يف سبيل اهلل ،أي الدعوة
اىل اإلسالم ،جيب ان يرتكز كمفهوم عند شباب الدعوة عن قناعة وإميان ،ال باألمر
واإللزام .ولذلك يكتفى معهم بالتذكري ،ويرتك هلم اخليار يف التضحية يف هذه
الشؤون ،فال يستكرهون على شيء .ولكن يالحظ فيهم مدى استعدادهم للقيام مبثل
93
هذه التضحيات ،حىت اذا ملس ضعف يف هذا اجلانب ُيعمل على تنميته مبعاجلة منطقة
إميانه ،وتوضيح مفاهيم الرزق ،والتوكل على اهلل ،وسبب املوت وغري ذلك من أفكار
العقيدة.
كتب عليه الصالة و السالم كتابًا لعبد اهلل بن جحش حني بعثه على رأس سرية
ليرتصد قريشًا يف خنلة بني مكة والطائف ،وقد جاء يف ذلك الكتاب " وال تكرهّن
أحدًا من أصحابك على المسير معك ،وامضي ألمري فيمن تبعك " .أي ان
توضح الفكرة للشاب ويذّك ر هبا ويرتك له خيار العمل وااللتزام بالتكليف اخلاص.
هذه هي بعض أهم الصعوبات اليت جتابه احلزب ،وهذه هي كيفية ختطي هذه
الصعوبات .أما ما يتوّه م أنه صعوبة مما يسمى باالختالف املدين ،وتلك حجة من امتنعوا عن
الوحدة بني االقطار اليت كانوا حيكموهنا مع ان الوحدة هدف من أهدافهم كما يزعمون.
فحزب البعث مثال كان حاكما يف سورية والعراق وقبل ان يصبح حزبني ،أي حني كانت
قيادته قومية واحدة ،إمتنع عن دمج القطرين حبجة االختالف املدين بني سورية والعراق .ان
االختالف املدين يف اجملتمعات أمر بديهي ،فأوساط املدن غري أوساط القرى واألرياف وغري
أوساط البدو .واملظاهر املدنية يف املدينة غريها يف القرية ،وغريها يف مضارب اخليام .وقد
يوحي هذا باختالف الثقافة ،وبالتايل اختالف التثقيف او التوجيه املبدئي .وهذا من أخطر
االشياء ألن األمة مهما اختلفت فيها األوساط املدنية فإحساسها واحد وفكرها واحد،
ومبدأها واحد .ولذلك ال بد ان تكون الدعوة فيها واحدة ،ال فرق بني مدينة وقرية ،وأن
يكون العمل للتفاعل معها واحدًا .وهلذا فإننا ال نعترب ان االختالف املدين عقبة او صعوبة يف
وجه الدعوة.
– 17يتعرض احلزب يف هذه املرحلة ،أي مرحلة التفاعل اىل خطرين .خطر على المبدأ ،وخطر
طبقي .أما الخطر المبدئي فانه يتأتى من تيار اجلماعة ،والرغبة يف االستجابة لطلباهتا امللحة ،ومن
تغلب الرواسب املوجودة يف آراء اجلماعة على الفكرة احلزبية .وبيان ذلك ،ان احلزب حني خيوض
اجملتمع للتفاعل معه مزودًا باملبدأ فإنه يصطدم مبجتمع مليء باملتناقضات ،مما ورثه عن اجليل السابق،
ومن أفكار رجعية قدمية ،ومما أوجده الكفار فيه من مفاهيم مغلوطة ،او آراء سياسية او فكرية ،او من
مقاييس نفعية او مصلحية .واالصطدام باجملتمع مبا فيه من هذه االفكار سيؤدي حتما اىل التفاعل معه
وأخذ قيادته على أساس املبدأ .فعلى احلزب ان جييد إنزال أفكاره على الوقائع اجلارية وان يظهر بطالن
وفساد ما يف اجملتمع من آراء وأفكار ،وان يعمل على إجياد العرف العام الصاحل القائم على املفاهيم
املنبثقة عن هذا املبدأ حىت ينجح يف قيادة األمة ،لتحتضن فكرته ،وتسلس االنقياد له .وهذا ما يسهل
94
أمامه عملية تنمية جسمه ،واإلكثار من عدد شبابه املؤمنني العاملني ،ليكونوا القادة الفعليني لألمة
يتصرفون معها تصرف الضابط يف قيادة اجليش .فان أجاد احلزب ذلك ،أِم ن االحنراف ،وضمن انقياد
األمة له حسب املبدأ .ألن انقيادها يف هذه احلالة ،انقياد وعي ،وليس انقيادًا عاطفيًا أعمى ،وهذا هو
الطريق السليم.
أما اذا جلأ احلزب اىل طريق أقصر ،وأراد ان يقود اجلمهور قبل ان يكتمل التفاعل ،وقبل ان
يوجد الوعي العام عند األمة ،فان هذه القيادة ال تكون باألفكار ،وهذا اإلنقياد منها ال يكون بناءًا على
مفاهيم ،وإمنا إنقياد عاطفة سرعان ما ختبو وتزول .نعم ،إنه من السهل انقياد األمة انقيادًا عاطفيًا،
وذلك بإثارة ما جييش يف صدرها من مشاعر ،وما يكتنفها من أحاسيس ،وتصوير مطالبها وغاياهتا بأهنا
قريبة املنال .فان مثل هذا التصوير واإلثارة يف األمة أشبه باخلمر املعّتقة ،فاذا كررت هذه اإلثارة وهذا
التصوير أفقد األمة الوعي ،وانقادت انقيادًا أعمى وراءه تريد حتقيق أهدافها وغاياهتا ،مستسلمًة له،
وتنقاد حسب أمره ،فيسوقها سوقًا بعاطفتها ال بفكرها .ويكون أعضاؤه هم القادة هلا.
اال ان هذا النوع من القيادة واالنقياد يشكل اخلطر املبدئي على احلزب .وذلك ان هذا اجلمهور
املشبع بالتناقضات ،املليء باملشاعر الوطنية والقومية والروحية والكهنوتية ،يثري التحرك اجلماعي فيه
عادًة مثل هذه املشاعر ،فتظهر يف اجملتمع العنعنات التافهة مثل الطائفية واملذهبية واالفكار القدمية
كاالستقالل واحلرية ،كما تظهر فيه النعرات الفاسدة كالعنصرية والعائلية ،فيبدأ التناقض بني اجملتمع
واحلزب .ألن اجملتمع املندفع هبذا احلماس ،حياول ان يفرض لنفسه مطالب وأهداف ،وينادي بغايات
آنية أنانية مضّر ة باألمة ،ويف الوقت نفسه تتعارض مع املبدأ .ويزيد اندفاع هذا اجملتمع مطالبًا بتنفيذ ما
يريد ،فيصبح احلزب بني نارين :اإللتزام باملبدأ ،وختّلي اجلمهور عنه ،أو التخّلي عن املبدأ واإللتزام
باجلمهور .ومها أمران أحالمها مّر .فاإللتزام باملبدأ يعين غضب األمة ونقمتها ،وهدم ما بىن ،وإبعاده عن
القيادة ،او السيطرة على اجلماعة ،وهذه خسارة كبرية جدًا .أما األمر الثاين وهو التمسك باألمة
والتخلي عن املبدأ ،او التساهل فيه ،فهذا يعين انتحارًا سياسيًا ،وفقدانًا لروح احلزب .ولذلك كان على
رجال احلزب أن يلتزموا املبدأ حني يتعارض املبدأ مع مطالب اجلمهور ولو تعرضوا لنقمة األمة ،ألهنا
نقمة ال تلبث ان تزول ،وهي سحابة صيف ال تلبث ان تنقشع ،وثباهتم على املبدأ سيعيد هلم ثقة األمة
بشكل أقوى مما كان .واحلذر كل احلذر من خمالفة أي حكم من أحكام املبدأ او التهاون فيه ،او احليد
عنه قيد شعرة ،ألن املبدأ هو حياة احلزب وهو روحه .وهو الذي يضمن له البقاء والتجدد ،حىت لو
انفّض عنه الناس مجيعًا ،وانفّض عنه جزء من شبابه ،فال جيوز له التهاون يف املبدأ او يف أي حكم من
أحكامه.
وهلذا كان على احلزب أن يدمي صلته بالناس على اساس املبدأ وأن يعمل دائمًا على إنزال
أفكاره وأحكامه على الوقائع اجلارية مبنيًة على أدّلتها ،مستندًة اىل قاعدهتا ،حريصًا على اجياد القاعدة
95
الفكرية عند األمة وتعويدها قياس األحداث والوقائع على هذه القاعدة املبدئية .فجعل العقيدة يقينية
عقلية يضمن إبعاد اخلرافات واخلزعبالت ،واالفكار العقيدية السقيمة .وجعل الشريعة وحيًا من عند
اهلل ،ومقياس احلكم الشرعي هو دليله الذي جاءت به العقيدة ،أي اآلية او احلديثُ ،يبعد املقاييس
العقلية عن األحكام واألفعال وينفي حتكيم العقل يف األحكام الشرعية ويبعد حتكيم النفعية واملصلحية
عن جعلها مقياسًا للمطالب واألحكام .وهذا يتطلب االعتناء الكامل يف مرحلة التثقيف باجياد القدرة
لدى الشباب على تثبيت هذه القواعد عند األمة .جلعلها املقاييس اليت تعود اليها حني تفكر يف أي
مطلب هلا او تسعى ألي هدف .ومبقدار جناح احلزب يف مرحلة التثقيف وتوعية الناس على ما عنده من
مقاييس وقواعد ،ونقل األمة الجياد قاعدة فكرية هلا ،مبقدار ما يتالىف خطر هذا اخلطر املبدئي.
هذا باالضافة اىل وجوب التنقيب دائمًا يف افكار احلزب ومفاهيمه لبقائها صافية نقية ،ودوام
السهر على مصاحل األمة وحماولة رعايتها ،ومراقبة ما يكيد الكفار هلذه األمة وكشف خططهم
وأساليبهم وأعواهنم كشفًا دقيقًا ،ودون مداهنة او خداع.
وأما الخطر الطبقي ،فانه يتسرب اىل رجال احلزب ال اىل األمة .وهذا يكون حني يصبح
احلزب ممثًال ألكثرية األمة ،وهو القائد الفعلي هلا ،تكون له املكانة املرموقة ،واملنزلة املوّقرة ،واإلكبار
التام من قبل األمة واخلاصة من الناس .ومثل هذه احلالة تبعث الغرور يف النفس .فقد يرى رجال احلزب
او بعضهم اهنم أعلى مكانًة من األمة ،وأفضل منها ،وأن منهم األمر وعلى األمة الطاعة .فيرتفعون عن
الناس ،دون أن حيسبوا لذلك حسابًا .إال ان ذلك سيؤدي اىل تكوين فكرة عند األمة أن هذا احلزب
طبقة اخرى غريها ،وصار احلزب كذلك يشعر بالطبقية .وهذا اول طريق اإلهنيار ،ألن مكانة احلزب
وقدرته على العمل إمنا تكمن يف مقدار ثقة األمة باحلزب وخصوصًا البسطاء من الناس وهم العامة .فاذا
أنفضت األمة عنه نتيجة شعورها بأنه طبقة أخرى مستعلية عليها ،فان حركة احلزب ُتشّل ،ويفقد
القدرة على تصريف أعماله ،ويسّه ل الطريق خلصومه للكيد له .وال يستطيع إعادة الثقة به اال جبهود
مضنية ،وأعمال عظيمة ،الستعادة هذه الثقة الذي اشتغل يف سبيل حتصيلها عقودًا من الزمن .ولذلك
فان على أعضاء احلزب ان يكون منطلقهم الوحيد يف عملهم السياسي قاعدة واحدة "أهنم خدم األمة".
وأن ُيشعروا األمة بذلك لتزداد ثقة األمة هبم .فقد إكتوت بنار الطبقية احلزبية يف كثري من أقطارها،
خصوصًا وأن املفاهيم واألفكار اليت محلناها لألمة يف املرحلة السابقة تنّص صراحًة على ان القيادة هي
خدمة األمة ،او أن من يكون يف مركز املسؤولية ،عليه دوام السهر على راحة الناس ومصاحلهم ،حىت
قيل وهذا قول حق "أمري القوم خادمهم".
-18املرحلة الثالثة هي مرحلة الوصول اىل احلكم .سبق أن بّينا ان كل مرحلة يسبقها نقطة ،ومنها ان
مرحلة احلكم يسبقها نقطة اإلرتكاز ،أي ان مرحلة احلكم تتضمنها نقطة اإلرتكاز .ويدخل احلزب
96
نقطة اإلرتكاز حني يدرك ان األمة قد إحتضنت الفكرة أوًال ،مث إحتضنت َمحَلة هذه الفكرة ،أي
إحتضنت املبدأ ،ومحلت هذا املبدأ .فاذا حتقق ذلك ،انتقل احلزب انتقاًال طبيعيًا اىل نقطة اإلرتكاز وهي
البحث عن مراكز القوى لدفعهم اىل نصرة املبدأ ،والعمل على ايصاله للحكم ،أي لتنفيذه على الناس.
وهذا يتطلب ان يضيف احلزب اىل أعماله األربعة عمًال آخر ،وهو البحث عن مراكز القوى
وتحميلهم هذا المبدأ .إال ان هذا العمل قد ال يكون شامًال لكل أجهزة احلزب ،بل قد خيصص له
جهاز خاص مرتبط بقيادة احلزب او ان تباشره القيادة نفسها .هذه هي بداية نقطة اإلرتكاز ،مث يصار
اىل املعىن الثاين من نقطة اإلرتكاز ،وهي استالم احلكم يف قطر من األقطار ليكون نقطة إرتكاز جلميع
األقطار األخرى ،وتوحيد األمة يف دولة واحدة هي دولة اخلالفة .أما نقطة اإلرتكاز بشموليتها فهي
تعين انتقال احلزب من مرحلة التفاعل بعد حصول التفاعل للبحث عن مراكز القوى .وجيب اال يغيب
عن الذهن أن االنتقال من مرحلة اىل اخرى ال يعين ترك ما كان يقوم له من أعمال ،بل إضافة اعمال
جديدة اىل ما كان يقوم به من اعمال.
ففي مرحلة التثقيف كان يقوم بالتثقيف اجلماعي والتثقيف املرّك ز .وحني انتقل اىل مرحلة
التفاعل أضاف اىل عمليه السابقني عملني آخرين مها كشف خطط االستعمار وتبين مصاحل األمة.
وحني انتقل اىل نقطة اإلرتكاز أضاف اىل اعماله عمًال آخر ،هو طلب النصرة .واستمر يف التثقيف
املركز واجلماعي ،وكشف اخلطط وتبيّن املصاحل وما يتطلبه ذلك من وسائل وما يلزمه من إبداع يف
األساليب .فاذا انتقل اىل املرحلة الثالثة كان انتقاله طبيعيًا ،وسار يف تطبيق املبدأ سريًا طبيعيًا .كما انه
سار يف عمله – إهناض األمة – ال يتخلى عنه حيث أن هدفه وغايته استئناف احلياة االسالمية ،وهذا ال
يتأتى اال باجياد النهضة فيها ،واجياد النهضة يتطلب جهودًا جبارة قبل استالم احلكم وبعده ،اال ان
اعماله تصبح التثقيف املركز والتثقيف اجلماعي ومراقبة احلاكم وحماسبته.
اما كيف يتم االنتقال اىل مرحلة احلكم ،فان ذلك يتم عن طريق األمة .وينّف ذ تنفيذًا إنقالبيًا
دفعًة واحدًة ،وهذا ما يسمى بالطريقة االنقالبية .وهذه الطريقة ال تقبل احلكم جمّز ًأ ،بل تأخذ احلكم
كله وتتخذه طريقة لتنفيذ املبدأ .كما أهنا ال تقبل التدريج يف التطبيق .أي اهنا تطّبقه منذ اليوم األول
كامًال – مهما كانت الظروف .إذن فالطريقة اإلنقالبية الشاملة تعين أخذ احلكم كله دفعًة واحدًة
وليس التسلل اىل احلكم بوزارة مث إثنتني وهكذا حىت يتم االستيالء على احلكم ،بل تأخذه كامًال منذ
اليوم األول .كما أهنا تعين عدم التدرج يف التنفيذ .بل اهنا تنفذ كافة األحكام وال تبقي مسألة واحدة
خارجة عن أحكام املبدأ ،او ان تتدرج هبا حىت توصلها اىل حكم احلايل ،كما قيل من أن رسول اهلل
تدّر ج يف تطبيق األحكام ،مثل أحكام الربا وأحكام اخلمر وأحكام الرقيق .ال يقال ذلك ،ألن رسول
َع
اهلل كان يلتزم التشريع ،ولا شر قبل ورود الشرع،
97
فكان يسير بالشرع كما نزل .واليوم قد اكتمل الشرع
وليس ألحد أن يزيد ان ُينقص فيه .فهذه احلالة اليت عليها الشرع اليوم هي الواجبة التنفيذ .ومبجرد
الوصول اىل احلكم تبدأ الدولة بالسري يف أمور ثالث هي :األول تنفيذ المبدأ من حيث أنها هي
الطريقة الوحيدة لتنفيذ المبدأ .ثانيًا العمل على جمع أقطار العالم االسالمي في دولة واحدة .وثالثًا
– وهو العمل األصلي لها – هو حمل المبدأ الى العالم .فتضع يف ميزانيتها بابًا خاصًا للدعوة
والدعاة.
أما احلزب فيبقى قائمًا على العمل على هنضة األمة بأعمال ثالث هي :التثقيف المركز
والتثقيف الجماعي ومراقبة تنفيذ المبدأ ومحاسبة الحاكم سواء كان رجاله يف احلكم او مل يكونوا
يف احلكم.
هذه هي اخلطوات ال&يت يس&ري فيه&&ا احلزب يف مع&&رتك احلي&اة ،لينق&&ل الفك&رة اىل ال&دور العملي ،أي
الستئناف احلي&&اة االسالمية ،وهنض&&ة األم&&ة ،ومحل ال&&دعوة اىل الع&&امل .ف&&احلزب ه&&و الض&&مانة الجياد الفك&&رة
وإقام &&ة الدول &&ة وتط &&بيق االسالم ومحل &&ه اىل الع &&امل ،ومراقب &&ة سري التط &&بيق ،ويف ال &&وقت نفس &&ه محل ال &&دعوة
لإلرتقاء باألمة او اىل العامل.
98