Professional Documents
Culture Documents
السنن الإلهية في بناء الحضارات في القرن الكريم دراسة موضوعية
السنن الإلهية في بناء الحضارات في القرن الكريم دراسة موضوعية
net/publication/327690347
CITATIONS READS
0 320
1 author:
SEE PROFILE
All content following this page was uploaded by اﺣﻤﺪ رﺷﻴﺪ ﺣﺴﻴﻦ اﺣﻤﺪon 17 September 2018.
بحث بعنوان
اعداد
المقدمة
الحمد هلل رب العالمين والصالة والسالم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى أله
وصحبه وسلم اما بعد :
فان البحث في سنن التخلق الحضاري في القران الكريم ،له اهميته ذلك انه يعطينا
التصور الحق للتخلق الحضاري فالحضارة تظل من اضخم انجازات الكائن البشري
ذلك وقف منها موقفين متباينين الرهبة والعجز او التفهم و اخطرها ،و ألجل
والتخطيط ،ان الوقوف على قوانين الحضارة وسنن وجودها وحركتها وتطورها
وانطفائها في عالقتها بالمتغير البشري يجعلنا نحيط علما بالطرق الصحيحة في
المحافظة على بنائنا الحضاري بهدي من تعاليم القران الكريم وتوجيهاته ،ذلك ان
للحضارة االسالمية خصوصية في التخلق وااليجاد .ان الدراسات الحضارية اليوم
تتصدر قائمة اهتمامات المفكرين العرب والمسلمين ،فبعد قرن كامل من التجارب
وجدت األمة أن الحصيلة عاجزة عن أن تقدم اجابات جوهرية فيما يتعلق بقضية
النهوض الحضاري ،وتفسير العلل الحقيقية وراء المأزق الذي تعيشه هذه االمة ،
باإلضافة الى أن سلسلة التجارب الفاشلة واالنكسارات المتالحقة وما كرسته من
خيبات افقدت الثقة في االجتهادات التي قدمت واالختبارات التي تم تطبيقها .ان هذه
الورقة البحثية تحاول دراسة مواجهة الظاهرة الحضارية على ضوء النص القرآني ،
وتحاول ان تعطي اجابة واضحة عن سنن البناء الحضاري في القران الكريم بعيدا
عن سلطان المأزق الذي يوجه الدراسات العربية غالبا ويقودها في المسار الخاطئ
الن األزمات الحضارية تعرض تجليات خادعة لحقيقتها واشكالياتها تنبع من صميم
سنة البناء الحضاري وتقدم غير شروطه فما يكون علة يصير نتيجة وتنعكس
المعادلة في المنقلب .ان سنة البناء الحضاري الذي ّ
ركز عليه القران الكريم
كأساس لبناء حضارة اسالمية مثلى هو الذي يعطي االجابات الصحيحة لالزمات
التي تعصف باألمة االسالمية ،كما انه يرسم الخطوط لبناء حضاري اسالمي متين
3
ان الحضارة االسالمية ما افل نجمها اال بسبب غياب القانون القرآني في البناء
الحضاري .اذن هذا البحث ينتمي الى فلسفة الحضارة فهو يهتم بتحديد مفهوم
الحضارة ويبحث في قضية الدور الحضاري وشروط بناء الظاهرة الحضارية
وانهيارها على ضوء القوانين القرآنية والسنن اإللهية الماضية لذا وسمت هذه الورقة
البحثية بـ(السنن االلهية في بناء الحضارات وزوالها في القرآن الكريم –دراسة
موضوعية) حاولت فيها االستعانة بهذا القانون القرآني من اجل الكشف عن اسباب
انهيار الحضارة االسالمية ومالبسات انحطاطها منذ هجمة المغول وحتى سقوط
الخالفة وتأتي اهمية هذا البحث الستجابته لمتطلبات المرحلة الحضارية التي تعيشها
هذه االمة المتحرقة الى ما ينتشلها من وهدة االنحطاط التي علقت فيها واضاعت
خزان طاقتها الولودة
السبيل الى ذلك فتواكلت على االسباب المفقودة وغفلة عن ّ
واقعدتها المها والمحن ناسية ان ال شيء يجعلنا اقوياء مثل االلم ان غفلة االمة عن
السنن القرآنية الثابتة هو الذي اوقعها في االلم وجعلها اسيرة الماضي دون عمل
مثمر لتثوير هذا الماضي واستئناف البناء من جديد .قسمت البحث على مبحثين
جاعل المبحث االول للحديث عن مفهوم الحضارة والسنن الحضارية ،والمبحث
الثاني لسنن البناء الحضاري في القران الكريم شروطه واسسه ،وقد افاد البحث من
كثير من النظريات واآلراء المتوافرة فيما يتعلق بقضية الحضارة اال انه قدم الرؤيا
القرآنية عن طريق السنن االلهية المنثورة في كتاب هللا تعالى وقوانينه الكونية التي ال
تتخلف .وبعد فالحمد هلل الذي افاض علينا من تيسيره و ّايدنا به من هدايته ،وانعم
علينا من اسباب خدمة كتابه المعجز وكالمه الهادي للتي هي اقوم .
ّ
الباحث
4
المبحث االول
ان تحديد المفاهيم اولوية مهمة في البحث العلمي ذلك ان الوقوف على المفهوم
لمضمون ما تعريفا وتصو ار سوف يفتح االفق لفهم التطور التركيبي والمضموني لهذا
المفهوم ،ومفهوم الحضارة من أكثر المفاهيم صعوبة في التحديد ،وذلك بفعل
التطور الداللي الذي حظي به عبر تاريخ الحضارة نفسها ،ولعل من أهم أسباب
أيضا ما يرجع إلى الخلفية الفكرية لصاحب كل تعريف،االختالف في تعريفها ً
والمنظور الذي يقدم من خالله تعريفه ،وكذلك تكوينه العلمي وزاده المعرفي؛
فالمؤرخ ،واألنثربولوجي ،وعالم االجتماع ،واللغوي ،وعالم النفس،كل يعرفها انطال ًقا
من أرضيته الفلسفية ومنظوره المعرفي الذي ينظم أفكاره ،ونتيجة لحيوية التنقيب
والبحث في حقل الدراسات الحضارية ،ظهرت تعريفات متعددة ومتنوعة لظاهرة
الحضارة ،كما أن هناك تعريفات ولدت ضمن إطار الوعي العقدي الغربي وأخرى
صيغت استجابة للوعي العقدي التوحيدي .ولذلك نحاول تناول مفهوم الحضارة من
الوجهتين؛اللغوية ،واالصطالحية ،وتحديد مفهوم السنن االلهية في بناء الحضارات
للتمكن من الوقوف على سنن التخلق الحضاري في القران الكريم و تحديده ضمن
منظور الدراسة الذي نحاول صياغته.
المطلب االول
ضري،
بالبادية ،ويقال :فالن من أهل الحاضرة ،وفالن من أهل البادية ،وفالن َح َ
وفالن َب َدوي ،والحضارة اإلقامة في الحضر ،وروي عن األصمعي كان يقول:
ض َارة ،بالفتح ،قال القطامي:
الح َ
َ
فأي رجال ِ
بادَية ترانا َع َجَب ْته
ضارة أ ْ
الح َ
فمن تكن َ
والحضر ،والحضرة ،و ِ
الحاض َرة :خالف البادية ،وهي المدن ،والقرى، َ َْ َ َ
حضروا األمصار ،ومساكن الديار التي تكون لهم
والريف ،سميت بذلك ألن أهلها َ
بها قرار.1فالحضارة في عرف اللغة كما رأينا ترتبط بالحضر ،والعمران ،أي أن
المصطلح من ناحية اللغة العربية ذاتها يحمل المعنى االجتماعي ،وذلك عند
اعتبار الحضارة عالمة على الحضور واإلقامة واالستقرار ،وهذه كلها تحمل
معاني اجتماعية ،فإذا سكن الناس واستقروا نشأت بينهم صالت اجتماعية
أكثر،وارتبطت مصالحهم ،ونشأت بينهم سبل التعاون ،واتجهوا إلى بناء المدن
واإلبداع واالنتظام والتنظيم ،وكأن اللغة تشير إلى أن الحضارة مفهوم اجتماعي
منذ نشأته ،كما أنها ال تكون إال حيث توجد عالقات اجتماعية متبادلة بين الناس
تظهر فيها معاني التعاون والتنظيم و االنتظام في إطار مكاني محدد هو
المدينة ،ولعل هذا فيه إشارة الهتمام النبي –صلى هللا عليه وسلم -بتسمية
(يثرب) باسم (المدينة) ،بما يتضمنه لفظ المدينة من قيم اجتماعية وحضارية
بعيدة األثر في النفس اإلنسانية.2
الالتيني تفيد اإلنماء والحرث ،واستمر مفهومها في حراثة األرض وتنميتها ،إلى
نهاية القرن الثامن عشر ،حيث كما يذكر معجم أكسفورد أنها اكتسبت معنى
يشير إلى المكاسب العقلية واألدبية والذوقية ،وتقابل في العربية مصطلح
ثقافة.4فالمصطلح نفسه لم يأخذ معناه المعروف لدينا اليوم عن الحضارة في
اللغات األوربية ،إال مع القرن الثامن عشر ، 5باعتبار ما اقترن به من
مصطلحات داللية أخرى ،وأقرب المعاني اللغوية المستعملة اليوم أن الحضارة:
(مرحلة متقدمة من النمو الفكري والثقافي والمادي في المجتمع اإلنساني) ، 6أو
هي( :مرحلة متقدمة من التقدم االجتماعي اإلنساني ،أو هي ثقافة وطريقة حياة
7
شعب أو أمة أو فترة من مراحل التطور في مجتمع منظم)
4
-في معركة الحضارة – قسطنطين زريق -دار العلم للماليين – بيروت –ط -1891-4ص33-32
5
-ينظر :الحضارة – الثقافة – المدنية – سلسة المفاهيم والمصطلحات – نصر دمحم عارف -المعهد العالمي للفكر االسالمي –
هيرندن،فرجينيا1414 -هـ1884 -م -ص 33و في مفهوم الحضارة -د -بدران بن الحسن ص2-1
7
-في مفهوم الحضارة – د -بدران بن الحسن – ص2
5
-في معركة الحضارة – قسطنطين زريق -ص34
9
-مقدمة ابن خلدون -عبد الرحمن بن خلدون -دار القلم –بيروت -ط -1894 -5ص455
8
-المصدر نفسه -ص.455
5
ابن خلدون في مقدمته،وتقل أخالق البناء ،وتظهر أخالق الفتور ،فالحضارة بهذا
10
التعبير الخلدوني درجة من التقدم تبلغها المجتمعات .ويزيد ابن خلدون تعريفاً
آخر للحضارة يسميها "سر هللا في ظهور العلم والصنائع" وذلك في الفصل الذي
يفسر فيه لماذا أن "حملة العلم في اإلسالم أكثرهم العجم" مما يجعل من العلم
والصناعة منتوجات حضارية ،كما أن الحضارة تصطبغ بذلك الطابع
ض ِر ،وإن االجتماعي العمراني ،يقول ابن خلدون( :إن الصنائع من منتحل َ
الح َ
الحضر لذلك العهد هم
العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوملذلك حضرية ..و َ
العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم
في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف).11
فالعرب حسب ابن خلدون كانوا في بدايات اتصالهم بهذه المنجزات الحضارية
من علوم وصنائع غير أنهم شغلوا عنها بمهمات بناء الدولة الجديدة ،والتي كانت
إحدى مراحل بناء الحضارة التي ابتدأها النبي -صلى هللا عليه وسلم -في المدينة
بل من غار حراء عندما اتصلت األرض بالسماء عن طريق الوحي ،لكن ابن
خلدون ال يقف عند هذه المرحلة من تطور الحضارة ،بل يرصد حركتها ،حيث
يجعل استمرار العلوم والصنائع والتطور العمراني نتيجة الستمرار عمل قانون
سببا في استمرارها ،حيث يقول( :فلم يزل ذلك
الحضارة في تلك األمصار وليس ً
في األمصار ما دامت الحضارة في العجم وبالدهم من العراق وخراسان وما وراء
14
-ينظر :في مفهوم الحضارة – د -بدران بن الحسن – ص3
11
-المقدمة -ص.544
12
-المصدر نفسه – ص544
9
النهر ،فلما خربت تلك األمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر هللا في
13
حصول العلم والصنائع ذهب العلم من العجم)
فالحضارة سر هللا في وجود العمران والعلم،وإذا فقدت شروطها فإنها تنتقل إلى
مكان آخر تتوفر فيه شروطها الموضوعية ،ولعل تعبير ابن خلدون عن الحضارة
بالسر ،نستشف منه معنى القانون الذي يتحكم في انتقالها .14وعرفها العالم
الغربي (ديورانت) (نظام اجتماعي يعين اإلنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي،
وإن الحضارة تتألف من عناصر أربعة :الموارد االقتصادية ،والنظم السياسية،
والتقاليد الخلقية ،ومتابعة العلوم والفنون،وهي تبدأ حيث ينتهي االضطراب
والقلق) ،15ويعرفها تايلور بأنها( :درجة من التقدم الثقافي ،تكون فيها الفنون
والعلوم والحياة السياسية في درجة متقدمة).16وعرف مالك بن نبي الحضارة من
الجانب التحليلي يرى ان الحضارة عبارة عن عدة جوانب فمن
(إنسان+تراب+وقت ،وتحت هذا الشكل تشير الصيغة إلى أن مشكلة الحضارة
تنحل إلى ثالث مشكالت أولية :مشكلة اإلنسان ،مشكلة التراب ،مشكلة الوقت ،
فلكي نقيم بناء حضارة ال يكون ذلك بأن نكدس المنتجات وإنما بأن نحل
المشكالت الثالثة من أساسها .17)..فمالك بن نبي يجمل أي جهد أو منتج
حضاري ،في صورة هذا التفاعل األولي بين عنصر اإلنسان صاحب الجهد
المنجز ،وعنصر التراب بصنوفه التي هي مصدر اإلنجاز المادي ،وعنصر
الزمن الذي هو شرط أساسي ألي عملية إنجازية يقوم بها اإلنسان ،18وباعتبار
أن الحضارة إنجاز موجه في التاريخ؛ فإنه ال شك إنتاج لفكرة تطبع صبغتها على
جهد اإلنسان فتميزها في التاريخ ،ولهذا فمالك بن نبي ال يكتفي بهذه العناصر
ِّ
المركَبة؛ التي هي الفكرة التركيبية األولية للحضارة فقط ،بل يضيف إليها الفكرة
مركب القيم االجتماعية ،ويقوم الدين بهذا الدور في حالته الدينية (الدين)ِّ ،
13
-المصدر نفسه – ص545
14
-ينظر :قصة الحضارة -ول ديورنت -جامعةالدول العربية1855 ،م -ج/1ص،4و في مفهوم الحضارة – د -بدران بن الحسن –
ص3
15
-قصة الحضارة –ج/1ص5
17
، -شروط النهضة – مالك بن نبي -ترجمة :عبد الصبور شاهين : -دار الفكر – دمشق -1887 -ص45
15
-وجهة العالم اإلسالمي -مالك بن نبي – ترجمة عبد الصبور شاهين – دار الفكر – دمشق -ص32
19
-ينظر : :في مفهوم الحضارة – د -بدران بن الحسن – ص5
8
الناشئة ،حالة انتشاره وحركته ،عندما يعبر عن فكرة جماعية أي ال يكون فكرة
هم جماعي وأداء اجتماعي مشترك .19اما من الناحية
مجردة بعيدة عن صياغة ّ
الوظيفية فقد عرف مالك بن نبي الحضارة بانها (مجموع الشروط األخالقية
والمادية التي تتيح لمجتمع معين ،أن يقدم لكل فرد من أفراده ،في كل طور من
أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة ،المساعدة الضرورية له في هذا الطور،
20
فهي ذلك العمل االجتماعي الذي يقوم به المجتمع في أو ذاك من أطوار نموه)
سبيل توفير الضمانات التي تؤهل الفرد لممارسة دوره في التاريخ .انطالقا مما
تقدم يمكن القول ان اي امة من االمم مهما كانت -بدائية او متقدمة – ال تخلو
من ان تكون لها ثقافة ما تربطها وتكسبها طابعها المتميز ،والثقافة هي طريقة
في العيش وموقف من الحياة والوجود ونظام قيمي واجتماعي يحكم مظاهر
الحياة ومفرداتها جميعها وينعكس في اشكال النشاط والسلوك كلها ،ويمنح
المجتمع هويته ويحافظ على تماسكه .اما الحضارة فوصف زائد على الوجود
الثقافي للجماعة ،يتضمن معنى التقدم ،والتفوق النوعي والكمي ،واالنجاز على
مستوى الواقع ،ودرجة ملحوظة من التأثر في المحيط التاريخي ،وفعالية في
صنع احداثه وتوجيهها ،فعالية قد تصل حد تشكيل منعطف ومفصل مشع فيه
،زمانيا ومكانيا .ويمتاز اللفظ العربي (حضارة ) المشتق من الحضور كما اشرنا
في المعنى اللغوي في الداللة على معنى الفعالية فالعالمة الفارقة في الفعل
الحضاري هي حضور المشهد التاريخي وشهوده وعدم الغياب عنه ولعب دور
فيه (وكثير من المجتمعات االنسانية تقتصر على مجرد الوجود دون الحضور
،ومن ثم ال يمكن اطالق مفهوم الحضارة عليها مهما كان نتاجها الذهني والمادي
21
واذا كانت كل حضارة تمتلك ،شرطا ، ،طالما وقفت فقط عند مجرد الوجود)
خصوصي ًة ثقافية هي بمثابة الروح لها ،فإن الحضارة ليست الزمة لوجود االمة
الثقافي .22وعلى اساس هذا الفهم للحضارة يمكننا القول بم اررة ان التحدي
18
-ميالد مجتمع -مالك بن نبي -ترجمة :عبد الصبور شاهين -دار الفكر -دمشق – ط -1897 -3ص.25
24
-آفاق جزائرية -مالك بن نبي -مكتبة عمار -القاهرة – -1851ص39
21
-الحضارة – الثقافة – المدنية -سلسة المفاهيم والمصطلحات – نصر دمحم عارف -ص74
22
-على عتبات الحضارة – بحث في السنن وعوامل التخلق واالنهيار -د -بنول احمد جندية – دار الملتقى -سورية – حلب –
ط1432 -1هـ2411 -م -ص27
14
الخطير الذي تواجهه االمة العربية واالسالمية اليوم ،يتمثل في انه على الرغم
من غيابها عن المشهد التاريخي ،وفقدانها القدرة على التأثير فيه ،بله توجيهه،
فإنها تتعرض الزمة هوية خطيرة وبلبلة ثقافية متفاقمة ما يعني أن أزمتها أزمة
حضارية وجودية في آن ،الن هوية االمة الثقافية هي جوهر وجودها نفسه ،ال
درجة هذا الوجود.
المطلب الثاني
سن له اصل واحد مطرد وهو -1السنن لغة :يرى صاحب مقاييس اللغة ان لفظ ّ
جريان الشيء واطراده في سهولة ويسر ،23واالصل فيه قولهم :سننت الماء
24
على وجهي أسنه سناً إذا أرسلته إرساالً ،ويرى الزمخشري ان ّ
سن عبارة
عن مطلق الطريق خي اًر كان أو ش اًر ،فيقال :سن سنة حسن ًة ؛ أي طرق
25
،اذن السنة من ناحية اللغة تطلق على الطريقة أو السيرة ، طريق ًة حسن ًة
قال الشاعر الهذلي:26
وانما سميت بذلك ألنها تجري جرياً .ومن ذلك قولهم :امض على سنتك و
27
سننك ؛أي على وجهك
-2السنة اصطالحا:
23
-ينظر :معجم مقاييس اللغة – ابو الحسين احمد بن فارس بن زكريا – -ج/17/3مادة سن
24
-المصدر نفسه ج17/3
25
-ينظر :أساس البالغة – جار هللا أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري -ت539 -هـ -تحقيق -األستاذ عبد الرحيم محمود –
مطبعة أوالد أورفاند – القاهرة – ص1352 -1هـ1853 -م -ص /311مادة سن
27
-هو خالد بن زهير أبو ذؤيب الهذلي – ينظر :ديوانه – دار بيروت للطباعة والنشر1388 -هـ1858 -م -ص155
25
-ينظر :الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية – إسماعيل بن حماد الجوهري – تحقيق – أحمد عبد الغفور عطار -ط1892 -2م-
ج/5ص/2138مادة سن
11
ال ريب ان بين المصطلحات الشرعية ،و أصولها اللغوية وشائج قوية ،وقد
تتطابق أحياناً في كل شيء ،وقد يزيد اإلطالق الشرعي إضافات جديدة يتطلبها
عرفه .ومع تنوع الفنون الشرعية ،وتعدد المدارس العلمية ،اختلفت وجهات نظر
كل مدرسة عن غيرها في تعريف السنن االلهية ،االّ اني سأركز على مفهوم
السنن عند علماء التفسير لصلته بموضوع البحث .والمفسرون قد اختلفت وجهات
نظرهم في تعريف السنن حسب ورود اللفظة في النص القرآني ومالبسات سياق
النص ،فقد عرف ابن جرير السنة بانها (مثالت سير بها ،فيهم – اي في االقوام
السابقة -و فيمن كذبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم بإمهالي أهل التكذيب
28
،وقال القرطبي ( إن السنة تعني بهم ،واستدراجي إياهم ...........الخ)
29
،وقال الشوكاني : طريقة هللا وعادته السالفة في نصر أوليائه على أعدائه)
30
،وقال االمام الرازي (إن السنة (المراد بالسنن ما سنه هللا في األمم من وقائع)
هي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع) ،31وعرفها صاحب تفسير المنار بانها
(النظام الذي جرى عليه أمر األمم ،و إن ما يقع للناس في كل زمن من
األزمان ،وفي كل مكان من الوجود في شؤون اجتماعهم و حياتهم مطابق لتلك
السنن التي ال تتحول وال تتبدل) ،32ويرى سيد قطب ( :أًن السنن هي النواميس
التي تحكم حياة البشر وفق مشيئة هللا الطليقة ،وأن ما وقع في الماضي يقع في
الحاضر إذا أصبحت حال الحاضرين مثل حال السابقين) .33مما سبق يمكننا
القول أن اقرب التعريفات الى مفهوم السنن اإللهية بمعناها العام هو ما ذهب اليه
سيد قطب رحمه هللا وهو أن السنن اإللهية عبارة عن النواميس التي تحكم حياة
34
البشر وفق مشيئة هللا .فهي الناموس األزلي الذي وضعه هللا عز وجل للكون.
29
-جامع البيان عن تأويل آي القرآن المشهور بتفسير الطبري – ابو جعفر دمحم بن جرير الطبري – ت314 -هـ -تحقيق االستاذ
أحمد شاكر -شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأوالده – مصر – ط1399 -3هـ -ج88/4
2828
-الجامع ألحكام القرآن – ابو عبد هللا دمحم بن أحمد األنصاري – دار الشعب – ج7144/5
34
-فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدرية من علم التفسير – دمحم بن علي بن دمحم الشوكاني – ت1254 -هـ -شركة ومطبعة
مصطفى البابي الحلبي وأوالده بمصر – ط1393 -2هـ1874 -م -ج/1ص93
31
-مفاتيح الغيب – التفسير الكبير -دمحم الرازي فخر الدين ابن العالمة ضياء الدين عمر المشتهر بخطيب الري – ت744 -هـ -دار
الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – ط1441 -1هـ1891 -م-ج22/15
32
-تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار – دمحم رشيد رضا -دار المعرفة بيروت -لبنان – ج141/4
33
-في ظالل القرآن – سيد قطب – دار الشروق – ط1388 -2هـ1858 -م -ج458/1
34
-ينظر :حديث األحاديث – علي فهمي خشيم – الدار العربية للكتاب – طرابلس الغرب1859 -1389 -م -ص131
12
عرفنا الحضارة والسنن ،نأتي لكي نقف على مفهوم سنة التخلق الحضاري
بعد أن ّ
بمعناها التركيبي فنقول :ان سنن التخلق الحضاري هي تلك القوانين التي أودعها
هللا في هذا الكون ،وأخضعه لها بما فيه من مخلوقات ،لتكون تلك السنن حاكمة لكل
صغيرة وكبيرة ،وتتصف تلك السنن بمجموعة من الصفات التي تعطيها صفة القانون
الرياضي الصارم ،فهي من جهة ال تتبدل وال تتحول ،ومن جهة أخرى فهي مطردة،
تتكرر على الوتيرة نفسها كلما توفرت الشروط ،وانتفت الموانع ،قال تعالى (سن َة ّللاِ
ين َخَل ْوا ِم ْن َقْبل َوَل ْن تَ ِج َد لِسن ِة ّللاِ تَ ْب ِديال) ،35وهذه السنن والقوانين هي وفق ِ ِ
في الذ َ
إرادة هللا الكونية ،ومشيئته النافذة ،ولذلك ال تختل ،وال تتبدل ،والتحابي أحداًِ(،إنا كل
،ويعلمنا القرآن الكريم أن للبناء الحضاري قوانينه وسننه ،وأن َشيء َخَلْقَناه ِبَق َدر) 36
ْ
التخلف والتأخر ليسا إال ثمرة لغياب هذه السنن والقوانين ،فليس التقدم والبناء أماني
وأحالماً للكسالى والقاعدين ،حتى ولو حسنت منهم النيات ،وصحت لديهم المعتقدات
النظرية ،فحتى اإليمان الديني ال يكتمل إال إذا جاء العمل ليجسد التصديق ،وشواهد
القرآن الكريم على هذه الحقيقة تتعدى اقتران اإليمان بالعمل في آيات الكريمةالكثيرة-
وهو ملحظ له داللته الكبرى -وإنما نرى هذه الشواهد في مثل قوله تعالى ( َل ْي َس
اب َم ْن َي ْع َم ْل سوءاً ي ْج َز ِب ِه َوال َي ِج ْد َله ِم ْن دو ِن ّللاِ َوِلّياً
َه ِل اْل ِكتَ ِ ِبأَم ِانِيكم وال أ ِ
َمان ِّي أ ْ
َ ّ ْ َ َ
38 37
صي ار ) . والن ِ
َ َ
إن معرفة هذه السنـن في البناء الحضاري جزء من معرفة الدين ،وهي معرفة
ضرورية ومن الواجبات الشرعية ألنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة
حتى ال نقع في الخطأ ،39ثم إن اكتشافها ،وحسن التعامل معها ضروري لعملية
اإلستخالف ،وعمارة األرض التي كلفنا هللا تعالى بها.40
35
-سورة االحزاب – اآلية 72
37
-سورة القمر اآلية 48 -
35
-سورة النساء – اآلية 123
39
-ينظر :هل اإلسالم هو الحل لماذا وكيف – دمحم عمارة – دار الشروق – القاهرة – ط1419 -2هـ1889 -م -ص38
38
-ينظر :السنن اإللهية في األمم والجماعات واألفراد في الشريعة اإلسالمية – د -عبد الكريم زيدان -مؤسسة الرسالة – ط-3
1415هـ1887 -م -ص17
44
-ينظر :أثر اإليمان في بناء الحضارة اإلنسانية – أحمد معاذ علوان حقي – مجلة المنارة – المجلد -12العدد -2447 - 1
ص15-17
13
التي ذكرت السنن اإللهية وبينت الكثير من اآليات وردت في القرآن الكريم
خصائصها ،وحددت نواميسها في الكون والحياة اإلنسانية ،ويمكن اجمال هذه
الخصائص على النحو اآلتي :
41
-سورة االحزاب – اآلية72
42
-سورة فاطر -من اآلية 43
43
-ينظر :مغني اللبيب عن كتب األعاريب – جمال الدين هشام االنصاري – ت -572تحقيق الدكتور – مازن المبارك ودمحم علي
حمد هللا – دار الفكر بيروت ط 3ص353
44
-ينظر :في ظالل القرآن – سيد قطب – 2247/4
14
45
.وقد جاءت نصوص كثيرة تؤكد طابع نفسها التي حلت باألمة السابقة
االستمرار واالطراد في سنن هللا تعالى ،وتستنكر أن يكون هناك استثناء
46
( فمن سار على ألحد ،فسنة هللا مطردة ،من التزمها تحقق له الجزاء
ال -ظفر بمشيئة هللا ،وان كان ملحدا ،أو وثنياً ،من
سنته في الحرب –مث ً
تنكبها خسر وان كان صديقاً نبياً ،وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في
َه ِلأ يِ (ًليس ِبأَم ِانِيكم وَال أَم ِ
ان َ : تعالى قوله النصوص هذه ومن 47
وقعة أحد )
َْ َ ّ ْ َ َ ّ ْ
ير)، 48 ص ًا اب من يعمل سوءا يج َز ِب ِه وَال ي ِجد َله ِمن دو ِن ّللاِ وِليًّا وَال ن ِ ِ ِ
َ َ َ ْ َ َ ْ اْلكتَ َ ْ َ ْ َ ْ ً ْ
ين َخَل ْوا ِم ْن ِ ِ ِ
َن تَ ْدخلوا اْل َجن َة َوَلما َيأْتك ْم َمَثل الذ َ
وقوله تعالى ( :أ َْم َحس ْبت ْم أ ْ
ِ ِ
آمنوا َم َعه َمتَى ين َ
ول الرسول َوالذ َ ْساء َوالضراء َوزْل ِزلوا َحتى َيق َ َقْبلك ْم َمس ْتهم اْلَبأ َ
ص َر ّللاِ َق ِريب)49فهذه اآليات وامثالها تستنكر على من ِ ِ
صر ّللا أ ََال إن َن ْ َن ْ
يطمع في أن يكون في حالة استثنائية من سنن هللا تعالى .50هكذا اثبتت لنا
نصوص التنزيل الحكيم عموم وشمول هذه السنن الحضارية .
-3الحكمة والعدل -:ومن خصائص سنن هللا سبحانه وتعالى في التخلق
الحضاري انها تتسم بالحكمة والعدل ألنها من فعله عز وجل ،وفعل هللا هذه
صفته دائماً ،ألن من اسماء هللا الحسنى عز وجل الحكيم والعدل فهو عز
51
وجل حكيم في افعاله ،بل انه عز وجل له الغاية والكمال األتم في ذلك
.فكل ما يقع من تغيرات او تطورات او نتائج ،انما يقع بفعل هللا تعالى وقدره
على مقتضى حكمته ،وعدله فال خالق اال هللا ،و ال مصرف لشؤون الكون ،
وال مقدر لسننه اال هو سبحانه وتعالى.
45
-ينظر :جامع الرسائل – ابن تيمية أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم – المجموعة االولى – تحقيق دمحم رشاد سالم –
ط1398 -1هـ1878 -م -ص55
47
-ينظر :السنن اإللهية في الحياة اإلنسانية واثر اإليمان بها في العقيدة والسلوك – د -شريف الشيخ صالح احمد الخطيب -مكتبة
الرشد للنشر والتوزيع – السعودية – ط1425 -1هـ2444 -م -ج -1ص51-54
45
-تفسير المنار – دمحم رشيد رضا – 141/4
49
-سورة النساء –آالية 123
48
-سورة البقرة – آالية 214
54
-ينظر :مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن – السيد دمحم باقر الصدر – دار التوجيه اإلسالمي – بيروت – ط1444 -1هـ
1894 -م -ص71
51
-ينظر :المقصد األسنى في شرح معاني اسماء هللا الحسنى – حجة اإلسالم أبو حامد دمحم بن دمحم الغزالي – ت 545هـ -تحقيق
فضلة شحادة – دار المشرق – بيروت ص131-134
15
-4الواقعية :ومن خصائص سنن هللا في التكوين الحضاري انها تترتب وفق
معتقدات البشر وافعالهم ،فأفعال الناس الصدرة عن معتقدات معينة هي التي
52
وحتى بعض السنن يجعلها هللا عز وجل سبباً في ترتب بعض السنن عليها
التي ال تترتب مباشرة على ذلك كسنته سبحانه وتعالى في ابتالء الناس
ان بالتكاليف ،انما تقع ابتداء من غير فعل ،أو اعتقاد سابق (ِإنا َخَلْقَنا ِْ
اإل ْن َس َ ً
ير) فان موقف الناس من هذا 53 ِ
يعا َبص ًا ِ ِِ ِم ْن ن ْ
طَفة أ َْم َشاج َن ْبَتليه َف َج َعْلَناه َسم ً
االبتالء يستتبع سنن معينة ،فان اطاع الناس تحققت فيهم سنن الثواب
والدوام الحضاري ،وان لم يطيعوا حلت بهم سنن العقاب والتداول الحضاري.
و ال شك ان هذه منحة الهية لإلنسان ان يكون مسؤول عن اعماله وان
تتحقق في الناس سننه تعالى باعتبار اعمالهم.
سنن هللا الحضارية النفذ وعدم -5النفذ وعدم التخلف -:ومن خصائص
اهر َف ْو َق ِعَب ِادِه َوه َو ( وهو اْلَق ِ
التخلف ،54فهي قاهرة لمن يتعرض لها ،
َ َ
اْل َح ِكيم اْل َخِبير) 55نافذة ال تتخلف ،متحققة
ضى أ َْم ًار َفِإن َما َيقول الوقوع (ِإ َذا َق َ
ين ) 57وال يحول َغرْقناهم أ ِ
ونا ْانتََق ْمَنا ِم ْنه ْم 56
َج َمع َ
َفأ ْ َ َ ْ ْ َله ك ْن َفَيكون) (َفَلما َ
آسف َ
دون هذا النفذ جهل األمم ،فمن تعرض لسنة من سننه – والتي جهلها
58
َص َاب ْتك ْم
بتقصيره – حلت به تلك السنة ،وال يعذر بذلك الجهل (أ ََوَلما أ َ
ّللا َعَلى ك ِّل ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َص ْبت ْم م ْثَل ْي َها قْلت ْم أَنى َه َذا ق ْل ه َو م ْن ع ْند أ َْنفسك ْم إن َ
مص َيبة َق ْد أ َ
َشيء َق ِدير) 59فسنة هللا في التخلق والتداول الحضاري نافذة فكم من أمة
ْ
كانت متمكنة في األرض صاحبة جبروت وقوة اهلكها هللا وحلت بها سنته في
التداول الحضاري.
52
-ينظر :في ظالل القرآن – سيد قطب – ج1519/1
53
-سورة األنسان – االية2
54
-ينظر :في ظالل القرآن – ج457/1
55
-سورة األنعام – اآلية 19
57
-سورة أل عمران -من اآلية 45
55
-سورة الزخرف -آية 55
59
-ينظر :في ظالل القرآن ج457/1
58
-سورة أل عمران -اآلية 175
17
المبحث الثاني
ليس تنشأ حضارة إال في فضاء اجتماعي صلب ومتماسك ،بحيث يحقق هذا
المجتمع معنى األمة ،و إن العوامل الالزمة لصياغة أمة صلبة من الداخل هي
60
ذاتها الالزمة للتخلق الحضاري .فما هي عوامل تكوين أمة ذات صالبة وتماسك
والتي هي نفسوها سنن التخلق الحضاري؟ نحاول تبين ذلك عبر مطالب هذا
المبحث.
المطلب األول
إن تاريخ الحضارات هو تاريخ االفكار ،وكل أمة او حضارة تطفو على سطح
التاريخ تقدم فكرة خاصة او روحاً فريداً يتحقق في نظام وعمران وعلوم وفنون
وعادات وأساليب قانون عام يحكم في الجماعات كما يحكم في االفراد فاإلنسان
ردود أفعاله .إننا ال نبالغ و ال
موجه بخارطته الذهنية ويملي عليه وعيه أفعاَله و َ
نتبنى االتجاه المثالي حين نعزو الطاقة المحركة الى الفكرة ،بل إن العالم يتجه اليوم
الى اعتماد فكر اقتصادي يقوم على الرأسمال البشري ويرضى بالدافعية اإلنسانية
74
-ينظر :على عتبات الحضارة – د -بتول أحمد جندية – ص33
15
ضماناً ومحركاً للعالم المادي ،مع عدم إنكار تدخل العناصر األخرى ؛ المادية
والمعنوية .ولذلك فإن العناصر الجوهرية في هذا الفكر هي :الهدف والقيادة
والموارد البشرية والمعلومات .ما يعني أن هذا الطرح ال يطعن في ذلك الطرح اآلخر
61
.الن الفكرة او الذي يقول :إن التاريخ يتحرك من خالل سير العظماء أو الصفوة
نزوع الجماعة وتطلعاتها تتمثل عادة في شخصية ف ّذ أو عبقري من الناس تقدم نفسها
من خالله وتجسد معانيها فيه ،وذاك العبقري يحرص على ان يحرك الناس بفكره
71
-ينظر :في معركة الحضارة – زريق قسطنطين – ص 132-131و على عتبات الحضارة – د -بتول أحمد جندية – ص34-33
72
، -مقدمة ابن خلدون -أبن خلدون -ص.84
73
-ينظر :المصدر نفسه – ص 122-121
74
-ينظر ، :مدخل إلى تاريخ الحضارة -شحادة الناطور وآخرون : -دار الكندي ، -عمان1881 -م ،و الحضارة اإلسالمية -دمحم
ضيف هللا البطاينة -دار الفرقان -عمان –ص1423 - 1هـ -2442/ص24-18
19
ناتجاً عن الضربات الداخلية أو الخارجية ،فقد يحدث أن تنهزم أمة ما فتمثل هذه
الهزيمة صدمة قاسية ،فإذا استطاعت هذه األمة أن تستجيب لهذا التحدي بنجاح فإن
المجتمع يستثير طاقاته اإلبداعية الكامنة ،وتنهض مدافعة عن نفسها بقوة
مضاعفة .65نستخلص مما سبق أن نهضة الحضارة تبدأ بباعث قوي يحمل أفراد
األمة على النهوض ،وأن أعظم باعث على النهوض في التصور القرآني هو
اإليمان ،ألنه الروح الوثابة ،وهو معين ال ينضب من القوة ،التصاله باهلل تعالى،
وهذا ما يحمل المؤمن على الشهود الحضاري ،قال تعالىَ ( :وَك َذلِ َك أ َْو َح ْيَنا ِإَل ْي َك روحاً
اإليمان َوَل ِك ْن َج َعْلَناه نو اًر َن ْه ِدي ِب ِه َم ْن َن َشاء ِ ِ ِ ِ
م ْن أ َْمرَنا َما ك ْن َت تَ ْدري َما اْلكتَاب َوال َ
ول ِإ َذا َد َعاك ْم لِ َما ين آمنوا استَ ِجيبوا ِلِلِ ولِلرس ِ ِمن ِعب ِادنا( ،66وهو حياة (يا أَيُّها ال ِ
ذ ْ َ َ
َ ْ َ َ َ َ
ي ْحِييك ْم( ،67فاإليمان يفجر الطاقات والمعارف في نفس المؤمن ،بل يحِّفزه إلى العال
بما يزرع في نفسه من العزة واإلباء ،وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته فقال:
( إن الدولة العامة االستيالء العظيمة الملك أصلها الدين ،إما من نبوة ،أو دعوة
حق) ،68ومن جهة أخرى فإن المؤمن يعلم أن هللا خلقه لغاية سامية ،وجعله خليفة
ض َخِل َيف ًة )، 69ومن اعل ِفي األ َْر ِ الئ َك ِة ِإِني ج ِ
في هذه األرض( ،وِإ ْذ َقال ربُّك لِْلم ِ
ّ َ َ َ َ َ َ
استَ ْع َم َرك ْم ِ ِ
المهمات الرئيسة التي أنيطت به عمارتها( ،ه َو أ َْن َشأَك ْم م َن األ َْرض َو ْ
يها( ،70وأي تقصير في هذا الجانب سيسأل عنه ،واآليات تؤكد على استم اررية ِ
فَ
استََقاموا َعَلى ِ
الجزاء على الفعل ،وتواصله في األرض والسمـاء ،قال تعالىَ ( :وأَلو ْ
اء َغ َدقاً)(.71ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثالً لم يكن بها قبل ِ
الط ِريَقة أل ْ
َسَق ْيَناه ْم َم ً
نزول القرآن إال شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته ً
هباء ال ينتفع به،
لذلك فقد كانت العوامل الثالثة :اإلنسان والتراب والوقت راكدة خامدة ،وبعبارة أصح،
مكدسة ال تؤدي دو اًر ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء ...نشأت
من بين هذه العناصر الثالثة المكدسة حضارة جديدة ،فكأنما ولدتها كلمة (اق أر) التي
75
-ينظر :في فلسفة الحضارة االسالمية – عفت الشرقاوي – دار النهضة العربية – بيروت – ط -1895 -4ص،248-249و
أسس مفهوم الحضارة في االسالم – سليمان الخطيب – الزهراء لالعالم العربي – ط1447 -1هـ1897 -م -ص59 -55
77
-سورة الشورى – اآلية52 -
75
-سورة االنفال – اآلية24 -
79
-مقدمة ابن خلدون -ص112
78
-سورة البقرة – اآلية34 -
54
-سورة هود – اآلية 71 -
51
-سورة الجن – اآلية 17 -
18
أدهشت النبي األمي ،وأثارت معه وعليه العالم ،فمن تلك اللحظة وثبت القبائل
العربية على مسرح التاريخ ،حيث ظلت قروناً طواالً تحمل للعالم حضارة جديدة،
وتقوده إلى التمدن والرقي)( ،72فاإليمان هو الذي يعطي الحضارة اإلسالمية هويتها،
هو الذي يربط بين أجزائها ،وهو الذي يطبع كل ما يدخل إليها من عناصر فيزنها
بميزان الحق عز وجل ،فتخرج من عبورها خالل العقيدة اإلسالمية متجانسة مع
كل ما حولها) .73ودور العقيدة في تكوين الحضارات ،وبناء األنفس ،والمجتمعات
قضية مسلمة في كل المذاهب الفكرية والتاريخية ،وهو الذي يخرج القوى الكامنة في
النفس البشرية إلى واقع عملي ،74وهذا ما حمل علم االجتماع أن يقول في تعريف
اإلنسان بأنه حيوان ديني ،75ومعلومات القوانين الطبيعية فقط ،ال يمكن أن تكون
ألن هذه المشاهدات والمعلومات ال تجعل اإلنسان إال
أساساً لحضارة إنسانية ساميةّ ،
في منـزلة حيوان عاقل ،وال تعين إال على أن تتخذ للحياة تلك النظرية التي هي
أن حياة اإلنسان تنحصر كلها في هذه الدنيا ،وغايته النهائية
الماديين ،وهي ّ
ّ نظرية
أن يحقق رغباته الحيوانية بأكثر ما يكون من الجودة والكمال ،وأن الوجه الحقيقي
الستعمال القوة هو أن ينسجم اإلنسان مع ما يجري في هذا الكون من قانون التنازع
للبقاء ،واالنتخاب الطبيعي ،وبقاء األصلح ،والحضارة الغربية اتخذت هذه النظرية
في الحياة ،وكانت عاقبة أمرها أن جميع القوى التي تسلحت بها غدت تستعمل
لهالك اإلنسانية ال لسعادتها ،وعاد الغربيون يشعرون بأنهم في حاجة إلى حضارة
إنسانية أسمى مما هم فيه من الحضارة الحيوانية.76ولن تستطيع الفكرة ان تتحول الى
قوة محركة ما لم تتحقق جملة من الشروط اشار اليها القرآن الكريم يمكن اجمالها في
االتي :
-ان تكون فكرة وجودية تحمل تفسي ار كليا للحياة والعالم ،ونسقا متكامال من
الغايات والوسائل والمواقف تستغرق تفاصيل الحياة كلها .
52
-شروط النهضة – مالك بن نبي – ص55 -57
53
-أسس مفهوم الحضارة في االسالم – سليمان الخطيب – ص124
54
-ينظر :سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها – دمحم هيشور -دار الوفاء المنصورة – ط1415 -1هـ1885 -م -ص125
55
-ينظر :ميالد مجتمع -مالك بن نبي – ص78
57
-ينظر :نحن والحضارة الغربية – ابو االعلى المودودي – الدار السعودية للنشر – والتوزيع – جدة – 1444هـ1894 -م-
ص ،85و اثر االيمان في بناء الحضارة االنسانية – أحمد حقي – ص25-24
24
-الشمول واالستغراق فعلى قدر شمول الفكرة واستغراقها للعناصر الضرورية في
الحياة االنسانية تمد سلطانها.
-أن تصير الفكرة عقيدة تبلغ في النفوس درجة من االيقان بحيث ال يعرض لها
شك أو نسبية أو تردد ،ويحمل االيمان بها على البذل والتضحية والتنافس
فيها لتصير هدفا مركزيا وحاجة ضرورية في حياة الناس وأفعالهم وتطلعاتهم
اليها يحتكم وبها تقاس االمور ولها االولوية في سلم القيم والسلطات
والمرجعيات
-أن تتحد الفكرة بالمصلحة ،وتضمن تأمين الضرورات االنسانية
-أن تكون فكرة حية تتمثل في صفوة مختارة او قيادة مخلصة رشيدة .
أمة أو جماعة . -أن تكون فكرة حية في ّ
-أن تكون فكرة حية متحققة أو قابلة للتحقق في دولة ونظام اجتماعي متكامل.
وتشد من وحدة
تعزز الوالء الجماعي للفكرة ّ
ومعصبة ّ
ّ -أن تكون الفكرة جامعة
االمة وتمتّن أواصرها.77
المطلب الثاني
االساس الثاني االنسان محور التخلق الحضاري
55
-ينظر :على عتبات الحضارة – بحث في السنن وعوامل التخلق واالنهيار -د -بتول أحمد جندية – ص41 -35
59
-سورة االسراء – اآلية 54 -
21
58
-سورة الجاثية – اآلية 13-
94
-سورة االنفال – اآلية 24 -
91
-سورة فاطر – اآلية – 22 -18
92
-سورة االنبياء – اآلية 25 -
22
ألنه متى استقر اإليمان في النفسأو ثمرة من ثمار هذا اإليمان السليمّ ،
استقر معه في الوقت ذاته النظام الذي تمثل فيه هذا اإليمان ،ولما بدأ البناء
بالفعل -في المدينة المنورة -شمخ خالل سنوات قالئل ،بل إن الحضارة
اإلسالمية بسطت نفوذها على العالم القديم بسرعة مذهلة حتى عد ذلك
معجزة ،83ولوال هذا األساس لما تحقق ذلك كله( ولقد كانت حركة هذه األمة
بإيمانها في مجاالت الحياة المختلفة أعظم حركة في التاريخ ،فلزم في أن
يكون األساس الذي يقوم عليه بناؤها أرسخ األساس ،وأعمقها ...كانت الهداية
إلى التوحيد هي قمة العطاء الرباني لهذه األمة ،وهي كذلك قمة العطاء الذي
قدمته هذه األمة للبشرية) ،84لقد كانت الجزيرة العربية تعيش جاهلية جهالء،
وفي ظالم دامس ،دون أن تستفيد من الحضارات األخرى التي كانت تبسط
نفوذها على أطرافها ،بل تكون أحياناً عرضة لتصارع نفوذ تلك الحضارات
فما أن شع نور اإلسالم حتى كون اإلسالم أعظم حضارة ،وهذه الحضارة
ولدت في ظل اإليمان ،بل انبثقت منه ،ونمت وازدهرت في ظله ،ولم تخرج
من ظله ،إال حينما أصابها االنحراف ،وكما قال اإلمام مالك -رحمه هللا -
(ن يصلح آخر هذه األمة إال ما صلح به أولها).85
وإذا كان محور الدين هو إخالص العبادة هلل ،وهو تزكية للنفس
اإلنسانية ،وتطهير لها من األدران ،قال تعالىَ ( :ق ْد أَْفَل َح َم ْن تََزكى( ،86وهي
من مهام الرسل -عليهم السالم – (وليست تزكية النفس بدورها إال الشرط
األساسي لتحمل اإلنسان مسؤولياته الحضارية بصدق وجد ...فبمقدار ما
تتزكى النفس وتصفو كدورات األهواء ،والرعونات ،يخلص صاحبها في تحمل
كل ما يجب أن يتحمله في سبيل بني جنسه من المهام ،والواجبات المختلفة،
وبمقدار ما تنطوي تلك النفس على شوائبها ورعوناتها ،يغدو صاحبها مجرد
أداة لإلفساد في األرض ،وإلهالك الحرث والنسل ،ابتغاء مصالحه ،وأهوائه
93
-ينظر :أثر االيمان في بناء الحضارة – أحمد حقي – ص27
94
-رؤية اسالمية ألحوال العالم المعاصر – دمحم قطب – دار الوطن للنشر – الرياض ط1411 -1هـ1881 -م -ص135 -131
95
-تنقيح أحاديث التعليق – ابن عبد الهادي – يوسف بن عبد الهادي الحنبلي – تحقيق – أيمن صالح شعبان -دار الكتب العلمية –
بيروت – ج442 --3
97
-سورة االعلى اآلية 14
23
95
-منهج الحضارة االنسانية في القرآن – دمحم سعيد رمضان البوطي – دار الفكر – دمشق ط1418 -2هـ1889 -م -ص24
99
-ينظر :أثر االيمان في بناء الحضارة – أحمد حقي – ص31
98
-سورة االعراف – اآلية 87 -
84
-سورة هود -اآلية 71 -
81
-ينظر :تفسير القرطبي – ج -8ص57
82
-سورة البقرة – اآلية 34 -
83
-سورة القصص -اآلية 5 -
24
الخاتمة والتوصيات
بعد أن وقفنا في هذا البحث المختصر على سنن التخلق الحضاري في القرآن الكريم
يمكن لنا تلخيص اهم النتائج التي خرج بها البحث على النحو األتي :
-1عناية القرآن الكريم ببيان السنن اإللهية في التخلق الحضاري عناية كبيرة
وعرضه لهذه السنن بأساليب متنوعة .
-2ان السنن اإللهية في بناء الحضارات وتخلقها ثابتة ال تتحول وال تتغير بل
هي أكثر ثباتا من سنن هللا الكونية ثم هي شاملة عامة ال تحابي أحدا واقعية
قاهرة قائمة على مبدأ العدل والحكمة .
-3سنن هللا في بناء وتكوين الحضارات تقوم على ارتباط االسباب بالمسببات
وسلبا على ارتفاع موانع تلك السنن وقيامها على مبدأ السببية ال ينافي القدر
اإللهي فقدر هللا مبني على علم هللا االزلي باألسباب والمسببات جميعا.
-4يعد القرآن الكريم مستودع لقوانين وسنن ربانية في قيام الحضارات واندثارها.
-5ان الحضارة تولد من رحم فكرة يقينية كلية جامعة هي روحها وخ ّزان طاقتها ،
وتؤول الى االنحدار اذا انقطعت صلتها بتلك الفكرة او ضعفت .
-6من السمات البارزة للحضارة اإلسالمية أنها حضارة إنسانية سامية ،إنها
حضارة العلم واإليمان ،ولم ترتق إلى هذا السمو حضارة أخرى.
-7ان االنسان يعد في التصور القرآني احد شروط التخلق الحضاري وان هذا
االنسان يجب ان يحمل مواصفات معينة حتي يكون له الدور المنشود في
البناء الحضاري واالجتماعي.
-8القرآن الكريم يؤكد على ان الحضارة لن تموت اال اذا فقدت الدافع والدافع
فكرة ومصلحة .
27
-التوصيات :
-1لعل اهم ما نوصي به هو ان تتجه عناية الدارسين والباحثين الى القرآن
الكريم لصياغة تصور وفلسفة قرآنية خاصة عن التخلق الحضاري بناء
وهدما فالقرآن حث ونبه على هذا االمر في الكثير من آياته.
اهتماما يليق بها
ً -2أن تنال دراسة السنن الربانية في الكون والحياة واإلنسان
في الدراسات القرآنية بخاصة ،وفي سائر الدراسات العلمية ،ويساعد على
ذلك أن تكون مقر اًر دراسياً في أقسام الدراسات اإلسالمية واإلنسانية.