Professional Documents
Culture Documents
محاضرات في مقياس:
علوم القرآن
مطبوعة بيداغوجية
سنة األولى ليسانس (ل م د).
مو ّجهة إلى طلبة ال ّ
من إعداد:
د ،إلياس بلّيح.
3
أعالمه ،نقده.
التّفسير اللغوي :خصائصه ،أعالمه ،نقده. 11
التّفسير البياني واألدبي :خصائصه ،أعالمه ،نقده. 12
اإلعجاز اللغوي والبياني. 13اإلعجاز القرآني:
اإلعجاز اإلخباري والتّشريعي. 14
4
المحاضرة االفتتاحية:
التّعريف بعلوم القرآن:
اطالعا موجزا على مقدّمات المؤلّفات الّتي اهت ّمت بالقرآن الكريم واشتغلت إن ّ
ّ
على علومه؛ يجعلنا نالحظ اتّفاقهم على البدء بتعريف( :علوم القرآن) ،مع اختالفهم
شيخ:سعا في هذه المسألة هو :األستاذ ال ّ في درجات التّفصيل ،ولع ّل أكثر العلماء تو ّ
الزرقاني ،في مناهل العرفان ،فبعد أن أورد إيضاحا لطريقة مح ّمد عبد العظيم ّ
عرضه وخصائص أسلوبه وغاياته ،وأشار إلى جهود علماء األ ّمة في جمع (المادّة)،
ث ّأو ٍل وسمه بـ( :في معنى علوم القرآن)؛ وقد ل ّخصه مح ّمد بكر افتتح عمله بمبح ٍ
إسماعيل في مقدّمة كتابه :دراسات في علوم القرآن على الوجه التّالي (:)1
علوم القرآن مر َّكب إضافي ،مؤلَّف من كلمتين ,ويقتضي منهج البحث
عرف كل كلمة على حدة ا
أوال ،ثم نب ِّّين معنى كلمة علوم مضافة إلى التحليلي أن ن ِّ ّ
القرآن الكريم ،فنقول:
/1أما العلوم فجمع علم ،والعلم مصدر "علم -يعلم" وهو مرادف للفهم والمعرفة
واليقين ،والجزم على الجملة ،وبينها فروق دقيقة ت ْ
طلب من كتب فقة اللغة ،مثل كتاب
"الفروق اللغوية" ألبي هالل العسكري.
والعلم مصدر يصح إطالقه على المفرد والجمع ..فإن أريد الكثرة ،جمع على علوم,
ولهذا سميت المباحث القرآنية" :علوم القرآن" لكثرتها وتشعُّب مسائلها .كما يقول
الفقهاء في كتبهم" :باب البيع" ،فإن أرادوا الكثرة قالوا" :باب البيوع".
ومعناه عند علماء التدوين :المعلومات المنضبطة بجهة واحدة ،أي :موضوع
معين .فمسائل النحو ا
مثال تس َّمى :علم النحو .ومسائل الفقة تس َّمى :علم الفقه .أو هو
إدراك المسائل المنضبطة تحت موضوع معين .أو هو الملكة التي تحصل بها تلك
المعارف .والتعريف األول هو األ ْولى بالقبول ،وهو األشهر عند العلماء.
/2أما القرآن في اللغة فهو مصدر "قرأ" .يقال :قرأ يقرأ قراءة ،وقرآ انا .قال تعالى
في سورة القيامة{ :ال تح ِّ ّر ْك ِّب ِّه ِّلسانك ِّلت ْعجل ِّب ِّه ،إِّ َّن عليْنا ج ْمعه وق ْرآنه ،فإِّذا قرأْناه
فاتَّ ِّب ْع ق ْرآنه} [آية ..]18-16 :ثم نقل من هذا المعنى المصدري ،وج ِّعل اس اما للكالم
المنز ِّل على النبي -صلى للا عليه وسلم ،من باب إطالق المصدر على َّ المعج ِّز
ِّ
:) 1ينظرّ :
الزرقاني ،مناهل العرفان في علوم القرآن( ،جزءان) ،ط ،عيسى البابي الحلبي ،القاهرة ،دت ،صـ:
.28-12
5
مفعوله .فالقرآن على هذا يكون بمعنى المقروء .هذا ما اختاره أكثر العلماء استناداا
إلى موارد اللغة وقوانين االشتقاق.
وأما مفهومه في اصطالح علماء العقيدة والشريعة واللغة ,فهو منتزعٌ من
المعجز،
ِّ خصائصه ومقاصده الكبرى .وأشهر تعريف له قولهم :القرآن كالم للا
المنزل على محمد -صلى للا عليه وسلم ،-المكتوب في المصاحف ،المنقول بالتواتر، َّ
عرفه أكثر أهل العلم.
المتعبَّد بتالوته .وبهذا َّ
/3وأما تعريف علوم القرآن بالمعنى اإلضافي ،أي :باعتبار إضافة العلوم إلى هذا
َّ
المنزل ،فهو عبارة عن طوائف المعارف المتصلة بالقرآن. الكتاب
وهذا التعريف يشمل بعمومه جميع العلوم الشرعية من التفسير والحديث
والفقه ،وأصول الفقه ،وجميع العلوم التي تعين على فهم معانيه ومقاصده ،كالعلوم
اللغوية والتاريخية ،وغيرها ,فكل ما يتصل بالقرآن من قريب أو من بعيد داخل تحت
هذا التعريف.
غير أن المشت ِّغ ِّلين بدراسة القرآن الكريم -فيما يبدو لنا -يقتصرون في بحوثهم
على العلوم الوثيقة الصلة بالقرآن الكريم ،والتي تعين على فهمه بطريق مباشر ،مثل
البحوث التي تض َّمنها كتاب "البرهان" للزركشي ،وكتاب "اإلتقان" للسيوطي.
وقد انفرد التفسير عن هذه العلوم بالتأليف والتصنيف ،مع أنه داخل فيها
لمسيس الحاجة إليه من غيره عند جميع المكلَّفين بال استثناء.
أما غيره من علوم القرآن ،فال يكاد يحتاج إليه ّإال المتخصصون في دراسة
تفسيرا صحي احا ،وفق هذه العلوم التي
ا كتاب للا تعالى ،على نحو من تفسيره للناس،
يعنون بدراستها .فعلوم القرآن سوى التفسير ،من شأن أولي العلم وال ُّنهى ،ورجال
التفسير والتأويل الذي يناط بهم فهم القرآن ا
أوال ،وبيان معانيه للناس ثانياا.
مالحظة:
سيوطي في كتابه اإلتقان وأطلقمن بين جميع المباحث الّتي أشار إليها ال ّ
عليها مس ّمى :أنواع علوم القرآن ،نبّهنا ّ
الطلبة إلى ما له عالقة مباشرة فقط من هذه
األنواع بمفردات المقياس المبيّنة في الجدول أعاله.
6
المحاضرة :01تعريفات:
عناصر المحاضرة:
/1أه ّمية القرآن وعلومه في الدّراسات اللّغوية واألدبية.
/2تعريف القرآن ،الكتاب ،الوحي ،المعجزة ،ال َّنبي.
7
/2تعريف القرآن ،الكتاب ،الوحي ،المعجزة ،ال َّنبي:
أ /تعريف القرآن:
التحرج في تعامل العلماء مع ال ّنص القرآني تعريفا وتأويال ،لما
ّ تغلب صفة
يتميّز به (القرآن) من قدسية ،وما يترتّب على القول فيه بغير علم من وعيد .وقد
يأخذنا هذا إلى تعريف القرآن بقولنا :القرآن هو القرآن ! والوقوف عند هذا الحدّ.
غير أ ّننا نجد في كتب علوم القرآن حيّزا قام فيه العلماء بعرض مجموعة من
التّعريفات للقرآن الكريم ،لغة من حيث االشتقاق ،واصطالحا من وجهات نظر
مختلفة :أصولية وكالمية وغيرها ..
ٌ
موجز لك ّل ذلك(:)2 عرض
ٌ وفيما يلي
• القرآن لغة:
ال ما كان من هذهلم يرد أي تعريف للقرآن في معجم العين للخليل بن أحمد إ ّ
اإلشارة ،في كتاب القاف ،باب :ق ر (اويء) معهما « :قرء :وقر ْأت القرآن عن
ب أو نظرت فيه ،هكذا يقال وال يقال :قرأت إال ما نظرت فيه من شعر أو ظهر ْقل ٍ
حديث .وقرأ فالن قِّراءة ا حسنة ،فالقرآن مقرو ٌء ،وأنا قارئٌ .ورجل قار ٌ
ئ عابد ناسك
وفعله التَّ ّ
قري وال ِّقراءة »(.)3
وقد «اختلف العلماء في لفظ القرآن لك ّنهم اتّفقوا على أ ّنه اسم وليس بفع ٍل وال
حرف .فذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي إلى أنه اسم جامد غير مهموز وبه قرأ
ابن كثير وهو اسم للقرآن مثل التوراة واإلنجيل.
وذهبت طائفة إلى أن هذا االسم مشتق ثم افترقوا إلى فرقتين:
فقال ت فرقة منهم إن النون أصلية وعلى هذا يكون االسم مشتقا من مادة "ق ر ن"
ثم اختلفوا:
-1فقالت طائفة منهم األشعري( :)4إنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته
إليه ومنه قولهم :قرن بين البعيرين إذا جمع بينهما ومنه سمي الجمع بين الحج
والعمرة في إحرام واحد قران.
:)2اإلشارة إلى عدم اهتمام أكثر المراجع بهذه الجزئية رغم أهميتها.
:)3معجم العين ،الخليل بن أحمد ،كتاب القاف ،باب :ق ر (اويء) معهما.
:)4البرهان في علوم القرآن :الزركشي ج 1ص .278
8
-2وقالت طائفة منهم الفراء( :)5إنه مشتق من القرائن جمع قرينة ألن آياته يشبه
بعضها بعضا.
وقالت فرقة منهم :إن الهمزة أصلية ثم افترقوا أيضا إلى فرقتين:
-1فقالت طائفة منهم اللحياني( :)6إن القرآن مصدر مهموز بوزن الغفران مشتق
من قرأ بمعنى تال سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر ومنه قوله تعالىِّ { :إ َّن
عليْنا ج ْمعه وق ْرآنه ،فإِّذا قرأْناه فاتَّ ِّب ْع ق ْرآنه}( )7أي قراءته.
-2وقالت طائفة منهم الزجاج( :)8إنه وصف على وزن فعالن مشتق من الق ْرء
بمعنى الجمع ومنه :قرأ الماء في الحوض إذا جمعه قال ابن األثير" :وسمي القرآن
قرآ انا ألنه جمع القصص واألمر والنهي والوعد والوعيد واآليات والسور بعضها إلى
بعض وهو مصدر كالغفران والكفران"(.)9
• القرآن اصطالحا:
اختص القرآن الكريم بخصائص كثيرة ولعل هذه الخصائص سبب االختالف في
تعريف القرآن بين العلماء ،فكل تعريف يذكر خاصية للقرآن يعرف بها ال يذكرها
اآلخر ولهذا تعددت التعريفات.
فإذا كان هناك رجل طويل ويلبس ثوباا أبيض ورداء أحمر وحوله أشخاص أقصر
ضا ،فإن قلت :فالن هو الطويل فقد
منه قامة ويلبسون ثياباا ملونة وأردية بي ا
عرفته ،وإن قلت :إنه الذي يلبس الثوب األبيض فقد عرفته وإن قلت الذي يلبس
الرداء األحمر فقد عرفته والمقصود في الكل واحد وإن اختلفت التعريفات.
وللعلماء في تعريف القرآن الكريم صيغ متعددة بعضها طويل ولعل أقربها تعريفهم
للقرآن بأنه« :كالم للا تعالى المنزل على محمد -صلى للا عليه وسلم -المتعبد
بتالوته»»(.)10
9
ب /تعريف الوحي:
ٌ
مبثوث في جميع كتب علوم القرآن، ّ
إن تعريف الوحي لغة واصطالحا
وسنختار من بينها ما قام به د ،مصطفى ديب البغا من تلخيص في كتابه
(الواضح)(:)11
-الوحي لغة:
يقال وحيت إليه وأوحيت :إذا كلّمته بما تخفيه عن غيره .والوحي :اإلشارة
مجرد
ّ السريعة ،ويكون ذلك على سبيل الرمز والتعريض ،وقد يكون بصوت
وبإشارة ببعض الجوارح .فمادة الكلمة إذا تدل على معنيين أصليين هما الخفاء
والسرعة ،ولذا قيل في معناه :اإلعالم الخفي السريع الخاص بمن يو ّجه إليه بحيث
يخفى على غيره .وهذا المعنى اللغوي للوحي يشمل:
- 1اإللهام الغريزي :كالوحي إلى النحل؛ قال للا تعالى :وأ ْوحى ربُّك ِّإلى ال َّنحْ ِّل أ ِّن
اتَّ ِّخذِّي ِّمن ْال ِّجبا ِّل بيوتا ا و ِّمن ال َّ
شج ِّر و ِّم َّما ي ْع ِّرشون [النحل.]68 :
- 2اإللهام الفطري؛ كالوحي إلى أ ّم موسى :وأ ْوحيْنا ِّإلى أ ِّ ّم موسى أ ْن أ ْر ِّ
ض ِّعي ِّه
[القصص.]7 :
- 4اإلشارة السريعة على سبيل الرمز ،كإيحاء زكريا عليه السالم لقومه:
:) 11ينظر :الواضح في علوم القرآن( ،تأليف مشترك مع :محيى الدين ديب مستو) ط ،2دار الكلم الطيب /دار
العلوم اإلنسانية–دمشق 1998 ،م .صـ.16،17 :
10
ووحي للا إلى أنبيائه قد روعي فيه المعنيان األصليان لكلمة الوحي وهما:
الخفاء والسرعة ،وهذا معنى المصدر .ويطلق الوحي على متعلّقه وهو ما وقع به
عرفهم به من أنباء
الوحي ،أي اسم المفعول :وهو ما أنزله للا تعالى على أنبيائه وما ّ
الغيب والشرائع والحكم ،ومنهم من أعطاه كتابا ،أي تشريعا ،ومنهم من لم يعطه.
-الوحي اصطالحا:
ي
أما التعريف الشرعي للوحي إلى األنبياء فقد عرفوه بأنه :إعالم للا تعالى لنب ّ
من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه .أو :هو كالم للا تعالى المنزل على نبي من أنبيائه.
وهو تعريف له بمعنى اسم المفعول ،أي :للموحى به.
وعرفه الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد ،فقال« :عرفان يجده الشخص ّ
من نفسه مع اليقين بأنه من قبل للا بواسطة أو بغير واسطة ،واألول بصوت يتمثّل
ويفرق بينه وبين اإللهام ،بأن اإللهام وجدان تستيقنه النفس
ّ لسمعه أو بغير صوت.
فتنساق إلى ما يطلب من غير شعور منها من أين أتى ،وهو أشبه بوجدان الجوع
والعطش والسرور».
وهو تعريف للوحي بمعنى المصدر ،وبدايته تشمل ما يس ّمونه بحديث النفس
أو الكشف ،ولكن التفريق بين الوحي وبين اإللهام في عجز التعريف ينفي هذا ويفسر
ي من خارج نفسه نازال عليها من السماء، معنى الوحي الشرعي :على ما يتلقاه النب ّ
قال تعالى :و ِّإ َّنك لتلقَّى ْالق ْرآن ِّم ْن لد ْن ح ِّك ٍيم ع ِّل ٍيم [النمل.]6 :
11
المحاضرة :02تاريخ القرآن (أوال):
عناصر المحاضرة:
/1نزول القرآن.
/2بدايات الوحي.
/3التّنجيم.
/1نزول القرآن(:)12
يعتبر هذا المبحث من المباحث المهمة؛ إذ به يعرف تنزالت القرآن الكريم
ومتى نزل وكيف نزل وعلى من نزل وكيف كان يتلقاه جبريل عليه السالم من للا
تبارك وتعالى وعلى أي حال كان يتلقّاه الرسول صلوات للا وسالمه عليه من جبريل
وال شك أن العلم بذلك يتوقف عليه كمال اإليمان بأن القرآن من عند للا وأنه المعجزة
العظمى للنبي ،كما أن كثيرا من المباحث التي تذكر في هذا الفن يتوقف على العلم
بنزوله ،فهو كاألصل بالنسبة لغيره ،والعلم باألصل مقدم على العلم بالفرع.
-النّزول لغة:
النزول لغة يطلق على :الحلول يقال نزل فالن بالمدينة :ح ّل بها ،وبالقوم :ح ّل
بينهم ،والمتعدي منه معناه :اإلحالل ،يقال :أنزلته بين القوم ،أي أحللته بينهم ،ومنه
قوله تعالى{ :ربّ ِّ أ ْن ِّز ْل ِّني م ْنز اال مباركا ا وأ ْنت خيْر ْالم ْن ِّز ِّلين} [سورة المؤمنون.]29 :
علو إلى أسفل ،يقال :نزل فالن من ويطلق أيضا :على تحرك الشيء من ّ
الجبل ،والمتعدي منه معناه :التحريك من علو إلى أسفل ،ومنه قوله تعالى{ :أ ْنزل ِّمن
ماء ما اء }...اآلية [سورة الرعد.]17 :
س ِّال َّ
:) 12ينظر :أبو شهبة ،محمد محمد :المدخل إلى دراسة القرآن الكريم ،ط ،3دار اللّواءّ ،
الرياض1987 ،م .ص
47وما بعدها( .بتصرف).
12
-النّزول اصطالحا:
يستفاد من األخبار الصحيحة واآلراء الّتي أوردها العلماء أن القرآن الكريم
نزل من لدن الحق -تبارك وتعالى -على ثالث مراحل أو ثالث تنزالت:
أ /التنزيل األول:
هو صدور القرآن وانبثاقه من الذات اإللهية إلى اللوح المحفوظ وذلك أمر من
األمور الغيبية األزلية التي جاء بها الخبر الصادق ولزمنا اإليمان بها دون علم
بكيفيتها إذ ال يعلم كيفية ذلك إال للا -تعالى ،-وكان هذا التنزيل جملة ال مفرقاا ،وللا
-تعالى -يقول[ :بل هو قرآن مجيد ( )21في لوح محفوظ (( ])22سورة البروج).
والظاهر أن تنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ كان بطريقة وفي وقت ال يعلمها
إال للا ،وكان جملة ال مفرقاا فوجب اإليمان به مع تفويض علم كيفيته إلى للا -عز
وجل -وربما يسأل سائل ويقول :ما الحكمة في تنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ؟
والجواب :أن الحكمة في هذا التنزل ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح
المحفوظ نفسه ،حيث جعله للا سجالا جام اعا لكل ما قضى للا وقدَّر وكل ما كان وما
يكون فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة للا -سبحانه
وتعالى .-
ب/التنزيل الثاني:
فكان من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ،والدليل قوله -تعالى:
{إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} {الدخان .}3 :وقوله تعالى { :إنا أنزلناه
في ليلة القدر}{القدر ،}1 :وقوله -تعالى { :-شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}
{البقرة ،} 185 :فقد دلت هذه اآليات الثالث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة
توصف بأنها مباركة أخذاا من آية الدخان ،وتسمى ليلة القدر أخذاا من آية القدر ،وهي
من ليالي شهر رمضان أخذاا من آية البقرة ،وهذا جمعاا بين النصوص في العمل بها،
ومعلوم باألدلة القاطعة أن القرآن أنزل على النبي -صلى للا عليه وسلم -مفرقاا ال
في ليلة واحدة ،بل على مدى سنين عديدة ،فيتعين أن يكون هذا النزول الذي نوهت به
اآليات الثالث نزوالا آخر غير النزول على النبي -صلى للا عليه وسلم –..
ج /التنزيل الثالث:
وهو المرحلة األخيرة التي منها شع النور على العالم ،ووصلت هداية للا إلى
الخلق ،وكان النزول بواسطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب النبي -صلى للا
13
عليه وسلم { :-نزل به الروح األمين ( )193على قلبك لتكون من المنذرين ()194
بلسان عربي مبين} {الشعراء ،}195 -193 :حيث كان ينزل به مفرقاا على حسب
الحوادث واألحوال حسب مشيئة للا -تعالى -فيوحي به إلى النبي -صلى للا عليه
وسلم ،-حيث كان للا -تعالى -يجمعه له في صدره ،وينطقه على لسانه{ :ال تحرك
به لسانك لتعجل به ( )16إن علينا جمعه وقرآنه ((})17سورة القيامة)
وقد د ام هذا التنزيل ثالثة وعشرين سنة حيث ابتدأ من بدء الوحي باآليات
األولى وانتهى بآخر ما أنزل من القرآن قبيل وفاته.
/2بدايات الوحي(:)13
منذ أن نزل أول شعاع من نور القرآن الكريم والمسلمون يولونه عنايتهم
واهتمامهم إلى يومنا هذا ،بل إلى يوم الدين ،حتى بلغت عنايتهم أن عرفوا ما نزل
بمكة وما نزل بالمدينة وما نزل بالطائف وما نزل بالجحفة وما نزل ببيت المقدس
وما نزل بالحديبية ،وما نزل في الليل وما نزل بالنهار وما نزل في الصيف وما نزل
في الشتاء ،وما نزل في السفر وما نزل في الحضر ،ومن ذلك معرفة أول ما نزل
وآخر ما نزل.
ومعرفة ذلك علم توقيفي يعتمد على النقل عن الصحابة أو التابعين وال مجال
لالجتهاد فيه إال للترجيح بين األدلة والنقول.
ويرجع االختالف في معرفة أول ما نزل ومعرفة آخر ما نزل إلى أن صاحب
كل قول يخبر عن حد علمه أو عما بلغه من الدليل ،أو أنه أراد أولية مخصوصة
ففهمت على غير ما أراد ونحو ذلك.
وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة منها:
[القول األول]:
إن أول ما نزل من القرآن "صدر سورة اقرأ" ،وهو قوله تعالى{ :ا ْقرأْ ِّباس ِّْم
ق ،ا ْقرأْ وربُّك ْاأل ْكرم ،الَّذِّي علَّم ِّب ْالقل ِّم ،علَّم ر ِّّبك الَّذِّي خلق ،خلق ْ ِّ
اإل ْنسان ِّم ْن عل ٍ
اإل ْنسان ما ل ْم ي ْعل ْم} [سورة العلق ]5-1وهذا القول أصح األقوال وأرجحها. ْ ِّ
[القول الثاني]:
أول ما نزل سورة المدثر.
14
[القول الثالث]:
إن أول ما نزل سورة الفاتحة.
[القول الرابع]:
إن أول ما نزل "بسم للا الرحمن الرحيم".
/3التّنجيم:
من األدلة على نزول القرآن الكريم منج اما:
ث ون َّز ْلناه ت ْن ِّز ا
يال} [سورة -1قوله تعالى{ :وق ْرآ انا فر ْقناه ِّلت ْقرأه على ال َّن ِّ
اس على م ْك ٍ
اإلسراء.]106 ،
-2قوله تعالى{ :وقال الَّذِّين كفروا ل ْوال ن ِّ ّزل عل ْي ِّه ْالق ْرآن ج ْملةا و ِّ
احدة ا كذ ِّلك ِّلنث ِّّبت ِّب ِّه
يال}[سورة الفرقان.]32 ، فؤادك ورتَّ ْلناه ت ْر ِّت ا
-3ما هو معلوم بالضرورة من سيرة الرسول -صلى للا عليه وسلم -من نزول
القرآن عليه مفرقاا من بعثته إلى وفاته عليه الصالة والسالم.
وليس هناك مقدار ثابت لما ينزل من القرآن الكريم في كل مرة ،وتفصيل ذلك
على النحو التالي:
-1اآليات.
-2قصار السور.
-3طوال السور.
أما بالنسبة لآليات فقد ينزل خمس آيات أو أكثر أو أقل ،بل قد ينزل بعض آية
{من ْالفجْ ِّر} من قوله تعالى{ :وكلوا وا ْشربوا حتَّى يتبيَّن لكم ْالخيْطكقوله تعالىِّ :
ْاألبْيض ِّمن ْالخي ِّْط ْاألسْو ِّد ِّمن ْالفجْ ِّر} [سورة البقرة ]187 ،وكقوله تعالى{ :غيْر
أو ِّلي الضَّر ِّر} [سورة النساء ]95 ،ولعل غالب ما ينزل خمس آيات وعشر آيات .أما
قصار السور فمنها ما كان ينزل جملة واحدة كالفاتحة والمعوذات ،ومنها ما ينزل
مفرقاا كسورة العلق والمدثر والضحى .وأما السبع الطول فلم ينزل منها سورة جملة
واحدة إال سورة األنعام.
15
المحاضرة :03تاريخ القرآن (ثانيا):
عناصر المحاضرة:
/1مراحل جمع القرآن.
/2معايير ترتيب آيات وسور القرآن الكريم.
16
عهد أبي بكر الصديق رضي للا عنه "جمع في مصحف واحد" .والمراد بجمع
القرآن في عهد عثمان رضي للا عنه "نسخه" في مصاحف متعددة.
ويظهر بهذا أن الجمع بمعناه الحقيقي كان في عهد أبي بكر الصديق رضي للا عنه.
وسنتحدث عن كل مرحلة من مراحل هذه الجمع:
ا
أوال :جمع القرآن بمعنى كتابته وتدوينه في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم:
-كتاب الوحي:
اتخذ الرسول -صلى للا عليه وسلم -عدداا من الصحابة كان إذا نزل عليه شيء من
القرآن أمر أحدهم بكتابته وتدوينه ويعرف هؤالء الصحابة بـ "كتّاب الوحي"
ومنهم:الخلفاء األربعة ،وزيد بن ثابت ،وأبي بن كعب ،ومعاوية بن أبي سفيان ،ويزيد
بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاصي وحنظلة بن الربيع ،والزبير بن العوام
وعامر بن فهيرة ،وعمرو بن العاص ،وعبد للا بن األرقم ،والمغيرة بن شعبة ،وعبد
للا بن رواحة ،وخالد بن الوليد ،وثابت بن قيس ،وغيرهم.
-صفة هذا الجمع:
وصف هذا الجمع صحابيان جليالن فقال زيد بن ثابت رضي للا عنه" :كنا عند
رسول للا -صلى للا عليه وسلم -نو ِّلّف القرآن من ِّ ّ
الرقاع" أي نجمعه لترتيب آياته
من الرقاع ،وروى عثمان بن عفان -رضي للا عنه -أن رسول للا صلى للا عليه
وسلم :كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتبه فيقول" :ضعوا هذه في
السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" .الحديث.
-أدوات الكتابة:
لم تكن أدوات الكتابة ميسرة للصحابة في ذلك الوقت فكانوا يكتبونه على كل ما تناله
أيديهم من العسب "وهي جريد النخل".
واللّخاف" :وهي الحجارة الرقيقة".
ِّ
والرقاع" :وهي القطعة من الجلد أو الورق".
الكرانيف" :وهي أطراف العسب العريضة".
واألقتاب" :جمع قتب وهي الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه".
واألكتاف" :جمع كتف وهي عظم عريض لإلبل والغنم".
17
وكان كتاب الوحي -رضي للا عنهم -يضعون كل ما يكتبون في بيت رسول للا -
صلى للا عليه وسلم -وينسخون ألنفسهم منه نسخة.
-مميزات جمع القرآن في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم:
-1ثبت في السنة نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف ومما ورد في ذلك حديث
عمر بن الخطاب -رضي للا عنه -وفيه قال رسول للا صلى للا عليه وسلم" :إن هذا
القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" وقد كانت كتابة القرآن في عهد
الرسول -صلى للا عليه وسلم -على األحرف السبعة.
-2أجمع العلماء على أن جمع القرآن في عهد رسول للا -صلى للا عليه وسلم -كان
مرتب اآليات أما ترتيب السور ففيه خالف.
-3بعض ما كتب في عهد الرسول -صلى للا عليه وسلم -نسخت تالوته وظل مكتوباا
حتى توفي رسول للا -صلى للا عليه وسلم -وفي الحديث عن عائشة رضي للا عنها
أنها قالت :كان فيما أنزل من القرآن" :عشر رضعات معلومات يحرمن" ثم نسخن
"بخمس معلومات" فتوفي رسول للا -صلى للا عليه وسلم -وهن فيما يقرأ من
القرآن.
عا ف ي
-4لم يكن القرآن الكريم في عهد الرسول للا -صلى للا عليه وسلم -مجمو ا
مصحف واحد ،بل كان مفرقا في الرقاع واألكتاف واللخاف وغيرها؛ ولهذا قال زيد
بن ثابت رضي للا عنه" :قبض النبي -صلى للا عليه وسلم -ولم يكن القرآن جمع في
ضا لما أمر بجمع القرآن في عهد أبي بكر رضي للا عنه" :فتتبعت شيء" ،وقال أي ا
القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال".
ثانيا :جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي هللا عنه:
-سببه:
بعد وفاة الرسول -صلى للا عليه وسلم -ارتدت بعض قبائل العرب فأرسل أبو
بكر -رضي للا عنه -خليفة الرسول -صلى للا عليه وسلم -الجيوش لقتال المرتدين
وكان قوام هذه الجيوش هم الصحابة رضوان للا عليهم وفيهم حفاظ القرآن ،وكانت
حروب الردة شديدة قتل فيها عدد من القراء الذين يحفظون القرآن الكريم ،فخشي
بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته ،فأراد أن يجمع القرآن في
مصحف واحد بمحضر من الصحابة.
18
وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي للا عنه قال :أرسل
إلي أبو بكر -مقتل أهل اليمامة -فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي للا
عنه :إن عمر أتاني فقال :إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ،وإني أخشى
أن يستحر القتل بالقرآء بالموطن فيذهب كثير من القرآن ،وإني أرى أن تأمر بجمع
القرآن ،قلت لعمر :كيف تفعل شيئاا لم يفعله رسول للا عليه وسلم .قال عمر :هذا وللا
خير ،فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح للا صدري لذلك ،ورأيت في ذلك الذي كنت
تكتب الوحي لرسول للا -صلى للا عليه وسلم -فتتبع القرآن فاجمعه ،فوللا لو كلفوني
نق ل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ،قلت :كيف
تفعلون شيئاا لم يفعله رسول للا -صلى للا عليه وسلم -قال :هو وللا خير فلم يزل أبو
بكر يراجعني حتى شرح للا صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي للا
عنهما ،فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر
سورة التوبة مع أبي خزيمة األنصاري لم أجدها مع أحد غيره{ :لق ْد جاءك ْم رسو ٌل
يز عل ْي ِّه ما ع ِّنتُّ ْم} حتى خاتمة براءة ،فكانت الصحف عند أبي بكر
ِّم ْن أنفسِّك ْم ع ِّز ٌ
حتى توفاه للا ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي للا عنها".
-تاريخ هذا الجمع:
هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة ،وفي السنة الثانية عشرة من الهجرة.
-أسباب اختيار زيد بن ثابت رضي هللا عنه لهذا الجمع:
ترجع أسباب اختيار زيد بن ثابت ألمور منها:
-1أنه كان من حفاظ القرآن الكريم.
-2أنه شهد العرضة األخيرة للقرآن الكريم ،وقد روى البغوي عن أبي عبد الرحمن
السلمي أنه قال :قرأ زيد بن ثابت عن رسول للا -صلى للا عليه وسلم -في العام الذي
توفاه للا فيه مرتين إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه" :شهد العرضة األخيرة ،وكان
يقرئ الناس بها حتى مات ،ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه ،وواله عثمان
كتبة المصاحب رضي للا عنهم أجمعين".
-3أنه من كتاب الوحي للرسول صلى للا عليه وسلم.
-4خصوبة عقله ،وشدة ورعه ،وكمال خلقه ،واستقامة دينه ،وعظم أمانته ويشهد
لذلك قول أبي بكر رضي للا عنه له" :إنك رجل شاب ،عاقل ،وال نتهمك وقد كنت
تكتب الوحي لرسول للا صلى للا عليه وسلم" وقوله نفسه رضي للا عنه" :فوللا لو
كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن".
19
-منهج زيد في هذا الجمع:
من المعلوم أن زيد بن ثابت رضي للا عنه كان يحفظ القرآن كله في صدره,
وكان القرآن مكتوباا عنده ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه وال على ما كتب بيده،
وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب ،وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب؛ ولهذا
يقول الزركشي رحمه للا تعالى عن زيد" :وتتبعه للرجال كان لالستظهار ال
الستحداث العلم" وقال ابن حجر رحمه للا تعالى" :وفائدة التتبع المبالغة في
االستظهار والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى للا عليه وسلم".
وقد رسم أبو بكر -رضي للا عنه -لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر بن
الخطاب رضي للا عنه" :اقعدوا على باب المسجد ،فمن جاءكما بشاهدين على شيء
من كتاب للا فاكتباه" .وقد امتثال ذلك فقد قام عمر في الناس فقال" :من كان تلقى من
رسول للا -صلى للا عليه وسلم -شيئاا من القرآن فليأتنا به".
وقد بين زيد نفسه المنهج الذي سلكه بقوله رضي للا عنه" :فتتبعت القرآن
أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال".
وعلى هذا فإن منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -
رضي للا عنه -يقوم على أسس أربعة:
-األول :ما كتب بين يدي رسول للا صلى للا عليه وسلم.
-الثاني :ما كان محفو ا
ظا في صدور الرجال.
-الثالث :أن ال يقبل شيئاا من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كتب بين يدي
الرسول -صلى للا عليه وسلم -قال السخاوي معناه" :من جاءكم بشاهدين على شيء
من كتاب للا الذي كتب بين يدي رسول للا صلى للا عليه وسلم".
وقال ابن حجر العسقالني رحمه للا تعالى" :وكان غرضهم أن ال يكتب إال من عين
ما كتب بين يدي النبي -صلى للا عليه وسلم -ال من مجرد الحفظ".
-الرابع :أن ال يقبل من صدور الرجال إال ما تلقوه من فم الرسول -صلى للا عليه
وسلم -فإن عمر رضي للا عنه ينادي" :من كان تلقى من رسول للا -صلى للا عليه
وسلم -شيئاا من القرآن فليأتنا به" ولم يقل من حفظ شيئاا من القرآن فليأتنا به.
20
-مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي هللا عنه:
-1جمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري واإلتقان على
الوجه الذي أشرنا إليه في منهج الجمع.
-2أهمل في هذا الجمع ما نسخت تالوته من اآليات.
-3أن هذا الجمع كان باألحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم كما كان في
الرقاع التي كتبت في عهد الرسول صلى للا عليه وسلم.
-4أن هذا الجمع كان مرتب اآليات باتفاق واختلف العلماء في السور هل كانت
مرتبة في هذا الجمع أم أن ترتيبها كان في عهد عثمان رضي للا عنه.
-5اتفق العلماء على أنه كتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر
ألنه إمام المسلمين.
-6ظفر هذا الجمع بإجماع األمة عليه وتواتر ما فيه.
-مكانة هذا الجمع:
ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة -رضي للا عنهم -على صحته ودقته
وأجمعوا على سالمته من ال زيادة أو النقصان ،وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها
حتى قال علي بن أبي طالب رضي للا عنه" :أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو
بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين".
ثالثا :جمع القرآن بمعنى نسخه في عهد عثمان بن عفان رضي هللا عنه:
سببه:
عندما اتسعت الفتوحات اإلسالمية انتشر الصحابة -رضي للا عنهم -في
البالد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين ،وكان كل صحابي يعلم بالحرف
الذي تلقاه من األحرف السبعة ،فكان أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب -رضي
ضا .وعندما اتجه جيش للا عنه -فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بع ا
المسلمين لفتح "أرمينيه" و"أذربيجان" كان الجنود من أهل العراق وأهل الشام فكان
لشقاق والنزاع يقع بينهم ورأى حذيفة بن اليمان رضي للا عنه اختالفهم في القراءة
وبعض ذلك مشوب باللحن مع إلف كل منهم لقراءته واعتياده عليها واعتقاده أنها
الصواب وما عداها تحريف وضالل ،حتى كفر بعضهم بعضا فأفزع هذا حذيفة -
رضي للا عنه -فقال وللا ألركبن إلى أمير المؤمنين "يعني عثمان بن عفان رضي
21
للا عنه" ،وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة ,فقد كان المعلم يعلم بقراءة
والمعلم اآلخر يعلم بقراءة فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة اآلخر فبلغ ذلك
عثمان -رضي للا عنه -فقام خطيباا وقال" :أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون فمن نأى
عني من األمصار أشد فيه اختالفاا وأشد لح انا ،اجتمعوا يا أصحاب محمد ،واكتبوا
للناس إما اما".
فلما جاء حذيفة إلى عثمان -رضي للا عنهما -وأخبره بما جرى تحقق عند
عثمان ما توقعه ،وقد روى البخاري في صحيحه قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن
مالك -رضي للا عنه -قال" :إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل
الشام في فتح "أرمينيه" و"أذربيجان" مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختالفهم في
القراءة ف قال حذيفة لعثمان :يا أمير المؤمنين أدرك هذه األمة قبل أن يختلفوا في
الكتاب اختالف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف
ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان.
-تاريخ هذا الجمع:
كان ذلك في أواخر سنة 24وأوائل سنة .25
فكرة الجمع:
لما سمع عثمان -رضي للا عنه -ما سمع وأخبره حذيفة -رضي للا عنه-
بما رأى استشار الصحابة فيما يفعل ،فقد روى ابن أبي داود بإسناد صحيح -كما يقول
ابن حجر -من طريق سويد بن غفلة قال :قال علي بن أبي طالب رضي للا عنه" :يا
خيرا في المصاحف ..فوللا ما فعل أيها الناس ال تغلوا في عثمان وال تقولوا له إال ا
الذي فعل في المصاحف إال عن مأل منا جمي اعا ،قال ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد
كفرا ،قلنا:
بلغني أن بعضهم يقول :إن قراءتي خير من قراءتك ،وهذا يكاد أن يكون ا
ف ما ترى؟ قال :نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فال تكون فرقة وال يكون
اختالف .قلنا :فنعم ما رأيت ..قال علي :وللا لو وليت لفعلت مثل الذي فعل.
اللجنة المختارة:
اختار عثمان -رضي للا عنه -أربعة لنسخ المصاحف هم:
زيد بن ثابت ،وعبد للا بن الزبير ،وسعيد بن العاص ،وعبد الرحمن بن الحارث بن
هشام ،وهؤالء الثالثة من قريش.
22
فقد سأل عثمان -رضي للا عنه -الصحابة :من أكتب الناس؟ قالوا :كاتب رسول للا -
صلى للا عليه وسلم -زيد بن ثابت قال :فأي الناس أعرب؟ وفي رواية أفصح .قالوا:
سعيد بن العاص ،قال عثمان :فليمل سعيد ،وليكتب زيد".
-المنهج في هذا الجمع:
بعد أن اتفق عثمان مع الصحابة -رضي للا عنهم -أجمعين على جمع القرآن
على حرف سلك منه اجا فريداا ،وطريقاا سلي اما ،أجمعت األمة على سالمته ودقته.
-1فبدأ عثمان رضي للا عنه بأن خطب في الناس فقال" :أيها الناس عهدكم بنبيكم
منذ ثالث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون" :قراءة أبي" و"قراءة عبد للا"
يقول الرجل" :وللا ما تقيم قراءتك"!! فأعزم على كل رجل منكم ما كان من كتاب
للا شيء لما جاء به ،وكان الرجل يجيء بالورقة واألديم فيه القرآن حتى جمع من
رجال فناشدهم ،لسمعت رسول للا عليه وسلما ا
رجال ذلك كثرة ،ثم دخل عثمان فدعاهم
وهو أماله عليك؟ فيقول :نعم".
-2وأرسل عثمان -رضي للا عنه -إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر -رضي للا
عنهما -أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك ،فأرسلت بها
إليه ،ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق -
رضي للا عنه -على أدق وجوه البحث والتحري.
-3ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثالثة وأمرهم بنسخ مصاحف منها وقال
عثمان للقرشيين" :إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان
قريش ،فإنما نزل بلسانهم".
-4إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب اآلية خالية من أية عالمة تقصر النطق بها
على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعاا مثل:
أ{ -فتبيَّنوا} التي قرأت أيضا "فتثبتوا".
ب{ -ننشِّزها} قرأت أيضا "ننشرها".
أما إذا لم يكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم
يدل على قراءة ،وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة األخرى مثل:
صى ِّبها إِّبْرا ِّهيم} ،هكذا تكتب في بعض المصاحف وفي بعضها "وأوصى".
أ{ -وو َّ
23
ارعوا ِّإلى م ْغ ِّفرةٍ ِّم ْن ر ِّّبك ْم} ،بواو قبل السين في بعض المصاحف وفي
ب{ -وس ِّ
بعضها بحذف الواو.
وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان بنسخ منها إلى األمصار اإلسالمية حيث
نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها لألفراد ,وكان زيد بن ثابت في المدينة يتفرغ
في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه وبين يديه
مصحف أهل المدينة.
-مزايا جمع القرآن في عهد عثمان رضي هللا عنه:
تميز هذا الجمع بمزايا عديدة منها:
-1االقتصار على حرف واحد من األحرف السبعة ،قال ابن القيم رحمه للا تعالى:
جمع عثمان رضي للا عنه الناس على حرف واحد مناألحرف السبعة التي أطلق لهم
رسول للا -صلى للا عليه وسلم -القراءة بها لما كان ذلك مصلحة".
-2إهمال ما نسخت تالوته:
فقد كان قصد عثمان -رضي للا عنه -جمع الناس على مصحف ال تقديم فيه
وال تأخير وال تأويل أثبت مع تنزيل ،وال منسوخ تالوته كتب مع مثبت رسمه،
ومفروض قراءته وحفظه ،خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد.
-3االقتصار على ما ثبت في العرضة األخيرة وإهمال ما عداه.
فقد روى ابن أبي داود في المصاحف عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح
رجال من قريش ا قال :لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر
واألنصار فيهم أبي بن كعب ،وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر
فجيء بها ،قال وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه ،قال محمد:
فقلت لكثير وكان منهم فيمن يكتب :هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال :ال ،قال محمد
فظننت ظنا أنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهداا بالعرضة األخيرة فيكتبونها
على قوله.
-4االقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول -صلى للا عليه وسلم-
وإلغاء ما لم يثبت.
-5كان مرتب اآليات والسور على الوجه المعروف اآلن.
24
قال الحاكم في المستدرك" :إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة ،فقد جمع بعضه
بحضرة الرسول -صلى للا عليه وسلم -ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق،
والجمع الثالث هو في ترتيب السور وكان في خالفة أمير المؤمنين عثمان بن عثمان
رضي للا عنهم أجمعين".
-الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي هللا عنهما:
ظاهرا في جمع القرآن في عهد أبي بكر فقد كان القرآن
ا كان معنى "الجمع"
مفرقاا فأمر بجمعه كما قال المحاسبي" :كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت
رسول للا -صلى للا عليه وسلم -فيها القرآن منتشر ،فجمعها جامع ،وربطها بخيط
حتى ال يضيع منها شيء".
إذاا فمعنى الجمع فيه ظاهر ال يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد
الرسول -صلى للا عليه وسلم -لكن اإلشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث،
إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر -رضي للا عنهما-
ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد
عثمان عنايتهم إلزالة هذا اللبس ،ويذكرون فروقاا.
قال القاضي أبو بكر في االنتصار" :لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع
القرآن بين لوحين وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي -صلى
للا عليه وسلم -وإلغاء ما ليس كذلك" وقال ابن التين وغيره" :الفروق بين جمع أبي
بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب
عا في أي موضع واحد فجمعه في صحائف مرتباا آليات حملته ألنه لم يكن مجمو ا
سوره على ما وقفهم عليه النبي -صلى للا عليه وسلم -وجمع عثمان كان لما كثر
االختالف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات؛ فأدى ذلك
بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم األمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في
مصحف واحد مرتباا لسوره ،واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محت اجا بأنه
نزل بلغتهم.
ومن هذين النصين نستطيع أن نستخلص أهم الفروق وهي:
-1أن الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي للا عنه -خشية أن يذهب شيء
من القرآن بذهاب حفظته ،وذلك حين استحر القتل بالقراء في حروب الردة ،أما
جمعه في عهد عثمان -رضي للا عنه -فلكثرة االختالف في وجوه القراءة.
25
-2أن جمع أبي بكر -رضي للا عنه -على األحرف السبعة ،أما جمعه في عهد
عثمان فقد كان على حرف واحد.
-3أن جمع أبي بكر -رضي للا عنه -كان مرتب اآليات وفي ترتيب السور خالف،
أما جمع عثمان فقد كان مرتب اآليات والسور باتفاق.
-4أن الجمع في عهد أبي بكر -رضي للا عنه -بمعنى الجمع في مصحف واحد وأما
الجمع في عهد عثمان -رضي للا عنه -فبمعنى نسخه في مصاحف متعددة.
/2معايير ترتيب آيات وسور القرآن الكريم:
هذا مبحث مهم من المباحث الجليلة ،أواله العلماء اهتمامهم وعنايتهم وزادت
قيمته ومكانته حين ظهر االتجاه الحديث في الدراسات القرآنية بتناول السور القرآنية
مستقلة بناء على الوحدة الموضوعية ،وأن كل سورة ذات هدف معين وغرض أساس
مدخال لفهم معانيها وكشف أسرارهاا أنزلت ألجله ،وأكدوا على هذا المعنى باعتباره
وحكمها ,ثم بنوا على ذلك الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم وبيان المناسبات بين
اآليات والسور.
وتقسيم القرآن إلى سور وآيات من خصائصه التي ال يشاركه فيها كتاب آخر
قال الجاحظ" :سمى للا كتاباا اسمه مخالفاا لما سمى العرب كالمهم على الجمل
والتفصيل سمى جملته قرآ انا كما سموا ديوا انا ،وبعضه سورة كقصيدة ،وبعضها آية
كالبيت وآخرها فاصلة كقافية(.)15
وللعلماء في ترتيب السور في القرآن الكريم ثالثة أقوال:
األول :أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف اآلن توقيفي وأنه لم
توضع سورة في مكانها إال بأمر من الرسول -صلى للا عليه وسلم -عن جبريل عليه
السالم عن ربه عز شأنه كترتيب اآليات سواء بسواء.
القول الثاني :أن ترتيب السور اجتهاد من فعل الصحابة رضي للا عنهم.
وهذا قول جمهور العلماء ،قال ابن فارس :جمع القرآن على ضربين :أحدهما :تأليف
السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو الذي تولته الصحابة وأما الجمع
اآلخر وهو جمع اآليات في السور فهو توقيفي تواله النبي -صلى للا عليه وسلم -كما
أخبر به جبريل عن أمر ربه.
26
القول الثالث :أن ترتيب بعض السور كان توقيفيًّا وبعضها كان باجتهاد
كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها
ا الصحابة :قال الزركشي :مال ابن عطية إلى أن
في حياته -صلى للا عليه وسلم -كالسبع الطوال والحواميم والمفصل وأن ما سوى
ذلك يمكن أن يكون قد فوض األمر فيه إلى األمة بعده ،وقال أبو جعفر بن الزبير
اآلثار تشهد بأكث ر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه
الخالف.
27
مكونات النَّص القرآني (أوال):
المحاضرة ّ :04
عناصر المحاضرة:
/1اللّفظة ،العبارة ،اآلية ،ال ّ
سورة (.)16
/1معنى اآلية:
/1تطلق اآلية في اللغة على المعجزة ،والعالمة ،والدليل ،والعبرة ،واألمر العجيب.
وهذه المعاني كلها مرادة في تسمية القطعة ذات المبتدى والمنتهى ،المدرجة في
السورة من القرآن.
فاآلية القرآنية معجزة ،يعجز الجن واإلنس عن اإلتيان بمثلها ،إذا كانت في
طوال .وهي أمر عجيب غاية في العجب لما لها من حالوة ا مثل سورة الكوثر
وطالوة ،وتأثير خاص يأخذ بتالبيب العقول ،ومجامع القلوب .وهي عالمة على أنها
من عند للا تعالى ،ال يسع القارئ والسامع ّإال أن يشهد بذلك طو ا
عا أو كرهاا .وهي
ي ال يقرأ وال يكتب ،ولم يجلس في دليل قاطع على صدق من نزلت عليه؛ ألنه أم ٌّ
تقشعر منها جلود الذين
ُّ حياته إلى معلم .وهي عبرة لمن اعتبر ،وعظة لمن اتعظ،
يخشون ربهم ،وتلين قلوبهم إلى ذكر للا.
/2واآلية القرآنية في اصطالح العلماء :طائفة من القرآن لها مبدأ ومقطع ,مندرجة
في سورة.
سورة:
/2معنى ال ّ
السورة في اللغة إما أن تكون مشتقة من سور المدينة ،شبهت به إلحاطتها
التسور ،بمعنى التصاعد
ّ بآياتها واجتماعها كاجتماع البيوت بالسور .أو من
ضا -تطلق على المنزلة لعلو شأنها وشأن قارئها .والسورة -في اللغة أي ا
والتركيبِّ ّ ،
الرفيعة ،قال النابغة الذبياني:
ألم تر أن للا أعطاك سورة .....ترى كل ملك حولها يتذبذب
وهي في االصطالح :طائفة من اآليات القرآنية لها بدء ونهاية.
:) 16ينظر :إسماعيل ،محمد بكر ،م س ،ملخص المبحث 10و ،11صـ.65-52 :
28
:مكونات النَّص القرآني (ثانيا):
المحاضرة ّ 05
عناصر المحاضرة:
صة القرآنية :خصائصها ،تعريفها (.)17
/1الق ّ
-تعريف القصة في القرآن:
صا :حدثت به على وجهه ،واالسم
جاء في المصباح المنير :قصصت الخبر ق ّ
القصص ،وقد جاء في القرآن الكريمِّ :إ َّن هذا لهو ْالقصص ْالح ُّق [آل عمران]62 :
ب [يوسف.]111 : ص ِّه ْم ِّعبْرة ٌ ِّألو ِّلي ْاأل ْلبا ِّ
وكذلك :لق ْد كان فِّي قص ِّ
صة :الشأن واألمر،
والقصة :األمر والخبر والشأن ،جاء في المصباح :والق ّ
صة -بالكسر -األمر والتي
صتك؟ أي :ما شأنك .وفي القاموس المحيط :والق ّ
يقال :ما ق ّ
صها علينا القرآن يمكن أن يطلق عليها لفظ:
تكتب .وعلى هذا :فما جاء من أخبار ق ّ
القصة.
-القيمة التاريخية للقصة القرآنية:
صة في القرآن كتلك القصص الحرة الطليقة الصادرة من نفوس ليست الق ّ
بشرية ،تجعل أمامها أهدافا خاصة ،ثم ال تبالي أن تستمدّ ما تقوله من خيال غير
صادق ،أو أن تعرض حوادث لم تقع ،أو تدور حول بطل ال وجود له أصال ،أو
تخرج من جدّ إلى هزل ،أو تضع الباطل إلى جانب الحق ،وج ّل اهتمامها أن تظهر
صة في القرآن حقيقة تاريخية ثابتة ،تصاغ في صور البراعة البيانية لمؤلفها .وإنما الق ّ
بديعة من األلفاظ المنتقاة واألساليب الرائعة .وهذه حقيقة قامت األدلة عليها بما ال يدع
مجاال للشك ،وذلك:
أ -أن األدلة القاطعة قامت على أن القرآن الكريم كالم للا المنزل ،وأن محمد بن عبد
للا صلوات للا وسالمه عليه قد بلّغ ما أنزل إليه من ربّه ،وإذا كان كذلك فك ّل ما جاء
في القرآن من خبر فهو صادق ،وإذا كان صادقا فال بد أن يكون مطابقا للواقع.
ب -القرآن ح ّجة للا على خلقه جملة وتفصيال ،وإطالقا وعموما ،وهذا يأبى أن يحكى
بحق ثم ال ينبّه عليه ،فك ّل ما ورد فيه على وجه اإلخبار فهو ّ
حق موافق ّ فيه ما ليس
للواقع.
:) 17ينظر :الفصل األول من الباب الثّامن من كتاب الواضح في علوم القرآن ،مصطفى ديب البغا ،م س ،وهو قائم على أساليب
القرآن الكريم ،ومن بينها القصة القرآنية .صـ .197-181
29
ج -ما جاء في القرآن من قصص إنما هو كالم ربّ العزة ،أوحى به إلى الرسول
األكرم ليكون مأخذ عبرة ،أو موضع قدوة ،أو مجالة حكمة ،وما كان كذلك ال يكون
إال حقّا من صميم الواقع.
كل هذه األدلة -وغيرها كثير -تبرهن على أن القصة القرآنية حقيقة تاريخية
ال تحوم حولها شبهة .ولذا فقد اعتبرها المتقدّمون والمتأخرون من المؤرخين عمدة
رصينة في ك ّل ما كتبوه من أبحاث تاريخية ،سواء كانت تتعلق بحوادث حاضرة
وقت نزوله ،أم تتعلّق بحوادث األمم الغابرة .ولقد كانوا على بيّنة من أمرهم في ذلك
إذ إن القرآن أص ّح مصدر عرفه التاريخ في هذا المجال ،يشهد بذلك أن الباحثين-
على اختالف مذاهبهم ونحلهم -اعتمدوا القرآن ّأول وثيقة تاريخية تعرف بها أحداث
الجزيرة العربية وأوضاعها في صدر اإلسالم ،وإذا كان كذلك فما هو عمدة في حقبة
هو عمدة في كل الحقب .ويشهد لذلك أن التاريخ والمؤرخين عاجزون عن أن يأتوا
برواية قريبة أو بعيدة تعارض ما جاء به القرآن من أخبار ،وإذا ثبت هذا فال يلتفت
إلى الهراء الذي يطلقه البعض ،مما ال تقوم عليه أثارة من دليل عقلي أو نقلي ،إال
الحقد على اإلسالم والكيد لدعوته.
لذا فإنه بعد ما ثبت الدليل على أن القرآن كالم للا المنزل فإن التاريخ هو الذي
قوته من أخبار التاريخ. قوته من حديث القرآن وأخباره ،وليس القرآن يستمدّ ّ يستمدّ ّ
صدِّيق الَّذِّي بيْن يد ْي ِّه
وحسبنا في ذلك قول للا تعالى :ما كان حدِّيثا ا ي ْفترى ول ِّك ْن ت ْ
ى ورحْ مةا ِّلق ْو ٍم يؤْ ِّمنون [يوسف.]111 :صيل ك ِّّل ش ْيءٍ وهد ا وت ْف ِّ
-أغراض القصة في القرآن:
القرآن كالم للا تعالى المنزل ليأخذ بيد الناس إلى ما فيه صالحهم في الدنيا
ونجاتهم في اآلخرة ،فهو كتاب هداية أوال وآخرا ،وللقرآن وسائل متعدّدة لتحقيق هذه
صة في القرآن الغايةصة القرآنية إحدى هذه الوسائل ،ولكي تح ّقق الق ّ
الهداية ،والق ّ
األساسية له ،فقد سيقت ألغراض متعدّدة ،أهمها:
أ -إثبات الوحي والرسالة لمحمد صلّى هللا عليه وسلّم:
من المعلوم أن مح ّمد بن عبد للا -صلوات للا وسالمه عليه -كان أميّا لم
يعرف قراءة ولم تعهد عنه كتابة ،كما س ّجل ذلك القرآن إذ يقول :وما ك ْنت ت ْتلوا ِّم ْن
طه ِّبي ِّمي ِّنك إِّذا ا ال ْرتاب ْالمب ِّْطلون [العنكبوت .]48:كما أنه لم ب وال تخ ُّ
ق ْب ِّل ِّه ِّم ْن ِّكتا ٍ
يجالس أهل علماء الكتاب أو غيرهم ليأخذ عنهم العلم وخبر من قبله .وهذه حقيقة لم
ينكرها أحد ممن عاصره أو جاء بعده ،إال ما كان من ذاك الهراء الذي ردّه القرآن
بحكم البداهة إذ يقول :ولق ْد ن ْعلم أ َّنه ْم يقولون إِّ َّنما يع ِّلّمه بش ٌر ِّلسان الَّذِّي ي ْل ِّحدون إِّل ْي ِّه
30
ي م ِّب ٌ
ين [النحل ]103 :ولقد ردّد هذا الهراء أناس مغرضون، ي وهذا ِّل ٌ
سان عر ِّب ٌّ أعْج ِّم ٌّ
عوراتهم بادية ،ال يؤبه بهم.
وعليه :فإذا ما ثبتت هذه الحقيقة وجاء القرآن بقصص األنبياء السابقين،
وأحوال الناس الغابرين ،في دقّة وتفصيل ،على نحو يتفق مع ما هو معلوم لدى أهل
الكتاب من هذه القصص ويفوقه صحة ووضوحا ،إذا كان كل هذا :فقد ثبت بالدليل
القاطع أن مح ّمد بن عبد للا -صلوات للا وسالمه عليه -ما كان ينطق عن الهوى ،إن
ينص على هذا الغرض في ّ هو إال وحي يوحى .هذا وإن القرآن الكريم كثيرا ما
صة مقدمات بعض القصص أو في ذيولها ،ومن أمثلة ذلك:قوله تعالى في مقدمة ق ّ
ص ِّبما أ ْوحيْنا ِّإليْك هذا ْالق ْرآن و ِّإ ْن ص عليْك أحْ سن ْالقص ِّ يوسف عليه السالم :نحْ ن نق ُّ
ك ْنت ِّم ْن ق ْب ِّل ِّه ل ِّمن ْالغا ِّف ِّلين [يوسف.]3 :وقوله تعالى بعد قصة نوح عليه السالمِّ :ت ْلك
وحيها إِّليْك ما ك ْنت ت ْعلمها أ ْنت وال ق ْومك ِّم ْن ق ْب ِّل هذا فا ْ
ص ِّب ْر إِّ َّن باء ْالغ ْي ِّ
ب ن ِّ ِّم ْن أ ْن ِّ
ْالعاقِّبة ِّل ْلمتَّ ِّقين [هود.]49 :
ب -بيان وحدة الوحي اإللهي:
صة القرآنية التنبيه على أن الدين السماوي الذي بعث من األغراض الهامة للق ّ
وأن جميع الشرائع المنزلة -بأصالتها -ال تعارض للا به األنبياء والمرسلين واحدّ ،
فيها وال اختالف .وتحقيقا لهذا الغرض نجد القرآن الكريم يورد قصص عدد من
تكرر مجيء هذه القصص على هذا النحو األنبياء مجتمعة في سورة واحدة ،وربما ّ
« ،»1ك ّل ذلك بغرض تأييد هذه الحقيقة وتثبيتها في األذهان وتوكيدها في النفوس،
يصرح بهذا الغرض أحيانا .ومثال ذلك ما جاء في سورة األنبياء- ّ ولذا نجد القرآن
بعد ذكر قصص عدد منهم -من قوله تعالىِّ :إ َّن ه ِّذ ِّه أ َّمتك ْم أ َّمةا ِّ
واحدةا وأنا ربُّك ْم
ون [األنبياء.]92 :
فاعْبد ِّ
ج -العبرة والموعظة:
صة القرآنية أن تشدّ الناس إلى غابر األزمان ،ليلقوا نظرة على من ومن أغراض الق ّ
يصور لهم موقف أولئك األجيال ّ سبقهم من األمم ،ويستعرضوا في مخيلتهم شريطا:
وما آل إليه حالهم ،فيأخذوا العبرة من واقعهم ،ويتعظوا من عاقبة أمرهم ،ويروا
ّ
يتواله للا ّ
الحق الذي سسوا بمشاعرهم نتيجة العناد واالستكبار عن بعقولهم ويتح ّ
بعنايته ،ويدفع عنه ببالغ بطشه وجبروته ،فيضع هؤالء المخاطبون في حسابهم .أنهم
إن سلكوا سبيلهم سيصلون حتما إلى تلك النهاية الخاسرة والعاقبة األليمة ،وبالتالي
ّ
الحق واإلذعان إليه. ربما حملهم ك ّل ذلك على قبول
31
ي صلّى للا عليه وسلّم في مجال الدعوة وبث الطمأنينة في نفوس
د -تثبيت النب ّ
المؤمنين:
صة القرآنية ،وتحقيقا له فقد ورد كثير
ولعل هذا الغرض من أهم أغراض الق ّ
ويتكرر فيها العرض
ّ من قصص األنبياء مع أقوامهم مجتمعة تارة ،ومنفردة أخرى،
أحيانا .واقرأ في ذلك ما جاء في سورة هود والعنكبوت ،ففي كل منهما بيان وجالء
لهذا الغرض من ناحيتين:
- 1بيان أن طريقة األنبياء جميعا في الدعوة إلى للا تعالى واحدة ،تتجلّى في إشفاقهم
على أقوامهم وصبرهم على أذاهم ،إلى جانب تشابه مواقف أولئك األقوام في
إعراضهم وسوء استقبالهم ألنبيائهم.
- 2بيان أن للا ّ
عز وج ّل ينصر أنبياءه ومن تبعهم في النهاية ،مهما نزل بهم.
-خصائص القصة القرآنية:
إن القصة في القرآن تقوم على أسس وخصائص فنية رائعة ،فهي تحقق
الغرض الديني عن طريق جمالها الفني ،الذي يجعل ورودها إلى النفس أيسر،
ووقعها في الوجدان أعمق.
وأهم هذه الخصائص ما يلي:
أ -العرض التصويري:
إن القرآن الكريم عند ما يأتي بالقصة ال يخبر بها إخبارا مجردا ،بل يعرضها
بأسلوب تصويري ،يتناول جميع المشاهد والمناظر المعروضة ،فإذا بالقصة حادث
يقع ومشهد يجري ،ال قصة تروى وال حادثا قد مضى.
-ألوانه وأمثلته:
والتصوير في مشاهد القصة القرآنية ألوان تبدو في قوة العرض واإلحياء،
وفي تخييل ا لعواطف واالنفعاالت ،كما تبدو في رسم الشخصيات .وهذه األلوان
ظاهرة في مشاهد القصص القرآني جميعا ،ال ينفصل بعضها عن بعض ،وقد يبرز
أحدهافي بعض المواقف عن بعض ،فيطبع المشهد باسمه.
32
فمن أمثلة القصص التي برزت فيها قوة العرض واإلحياء :قصة أصحاب الجنة،
ومشهد إبراهي م وإسماعيل عليهما السالم في بناء الكعبة ،ومشهد نوح عليه السالم
وابنه في الطوفان ،وقصة أصحاب الكهف.
ومن أمثلة ما برز فيه تصوير العواطف واالنفعاالت :قصة صاحب الجنتين
وصاحبه الذي يحاوره ،وقصة موسى عليه السالم مع الرجل الصالح ،وقصة مريم
عند ميالدها عيسى عليهما السالم.
وأما أمثلة اللون الثالث وهو :رسم الشخصيات وبروزها في القصة القرآنية:
فهو القصص القرآني كله ،واقرأ على سبيل المثال :قصة موسى عليه السالم مع
فرعون ،وقصة إبراهيم عليه السالم مع قومه ،وقصة يوسف عليه السالم ،وقصة
سليمان عليه السالم مع بلقيس ،فكلها قصص يبرز فيها تصوير الشخصيات ورسمها
على أدق ما يكون الرسم وأبرع ما يكون التصوير.
33
المحاضرة :06سياقات النّص القرآني (أوال):
عناصر المحاضرة:
سببي :أسباب ال ّنزول.
سياق ال ّ
/1ال ّ
سياق المكاني :الم ّكي والمدني.
/2ال ّ
:) 18ينظر :الحمد ،غانم قدّوري :محاضرات في علوم القرآن ،ط ،1دار ع ّمار ،ع ّمان-األردن2003 ،م .المبحث
السّابع ،صـ .40-35
34
إذا تأملت هذه اآليات أحسست أن نزولها ارتبط بسؤال ،ومن اآليات ما ارتبط
نزوله بحادثة وقعت أو مشكلة ظهرت في المجتمع اإلسالمي وقت التنزيل.
وقد عبّر السلف من الصحابة والتابعين ،ومن جاء بعدهم من العلماء
والدارسين ،عن ذلك السؤال وتلك الواقعة أو المشكلة التي تنزل عقبها اآلية أو اآليات
بعبارة (سبب النزول) فيقولون :نزلت هذه اآلية بسبب كذا ،وهذه األسباب في الواقع
«ما هي إال مناسبات ال أسباب حقيقية ،وإن س ّميت أسبابا على طريق التسامح
والتجوز».
وقد قسم العلماء آيات القرآن بالنسبة إلى ارتباط نزولها بسؤال أو حادثة على
قسمين:
- 1قسم نزل ابتداء.
- 2قسم نزل عقب حادثة أو سؤال.
ويالحظ أن القسم األول الذي نزل ابتداء تتحدث أكثر آياته عن أمور العقيدة
ووصف مشاهد القيامة ،ووصف الجنة ونعيمها والنار وأهوالها ،وكذلك تتحدث عن
أخبار األمم الغابرة وما ح ّل بأهلها .أما القسم الثاني ،وهو ما نزل مرتبطا بأسباب
ووقائع ،فمعظم آياته مما يتعلق بالتشريع واألحكام واآلداب.
وفي ارتباط نزول اآليات بمناسبة معينة ،وهو ما يس ّمى بأسباب النزول-
حكمة تشريعية وتربوية عظيمة ،تجعل من الحكم الذي تتضمنه تلك اآليات تجربة
واقعية ،وتطبيقا عمليا في المجتمع ،يتم تحت نظر النبي صلى للا عليه وسلم
وتوجيهه ،ويدرك حكمة التشريع الذي تتضمنه تلك اآليات كل من كان شاهدا وقت
نزولها ،وكل من وقف على تلك المناسبة وعرف قصتها ،فنزول الحكم وقت الحاجة
إليه يكون أبعد أثرا في نفوس المخاطبين ،ويكونون أكثر استجابة له.
-أهمية معرفة أسباب النزول:
لهذا النوع من البحث التأريخي في اآليات الكريمة أهمية كبيرة في تيسير فهم
معناها واستنباط الحكم الشرعي منها «المتناع معرفة تفسير اآلية وقصد سبيلها دون
الوقوف على قضيتها وبيان سبب نزولها» ،فإن بعض من تال هذه اآلية ليْس على
ت جنا ٌح ِّفيما ط ِّعموا ِّإذا ما اتَّق ْوا وآمنوا وع ِّملوا صا ِّلحا ِّ الَّذِّين آمنوا وع ِّملوا ال َّ
ّللا ي ِّحبُّ ْالمحْ ِّس ِّنين ([ )93المائدة] ظن
ت ث َّم اتَّق ْوا وآمنوا ث َّم اتَّق ْوا وأحْ سنوا و َّ
صا ِّلحا ِّ
ال َّ
أن من كان كذلك جاز له أن يأكل ما يشاء ،ويشرب ما يشاء ،حتى ولو كان ذلك ّ
محرما .لكن الوقوف على مناسبة نزول هذه اآلية يوضّح حقيقة معناها ،ومن يشملهم
35
ي ومسلم وغيرهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال بعض
حكمها ،فقد روى البخار ّ
الصحابة:
كيف ألصحابنا الذين ماتوا وكانوا يشربونها؟ قبل نزول التحريم طبعا ،فنزلت
ت جنا ٌح فِّيما ط ِّعموا .)93( ... هذه اآلية ليْس على الَّذِّين آمنوا وع ِّملوا ال َّ
صا ِّلحا ِّ
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم اآلية التي تنزل بسبب سؤال من شخص
معين ،أو عقب حادثة تتعلق بشخص معين ،يشمل الحاالت التي تشبه حالة من نزلت
سبب). اآلية بسببه ،وهو ما يعبرون عنه بعبارة (األخذ بعموم اللفظ ال بخصوص ال ّ
فمن ذلك قول الطبري ،بعد أن تحدث عن سبب نزول قوله تعالى :هو الَّذِّي أ ْنزل
ب وأخر [ ...آل عمران] ،وهو« :وهذه عليْك ْال ِّكتاب ِّم ْنه آياتٌ محْ كماتٌ ه َّن أ ُّم ْال ِّكتا ِّ
ي بها كل اآلية وإن كانت نزلت فيمن ذكرناه أنها نزلت فيه من أهل الشرك ،فإنه معن ّ
مبتدع في دين للا بدعة ،فمال قلبه إليها ،تأويال منه لبعض متشابه آي القرآن».
سياق المكاني :المكّي والمدني:
/2ال ّ
نكتفي هنا باإلشارة إلى تعريفهما ،وكيفية معرفة المكي من المدني(:)19
-تعريف المكي والمدني من القرآن:
ناقش علماء القرآن تعريف المكي والمدني ،واتخذ بعضهم زمان النزول
أساسا للتعريف ،وجعل تأريخ الهجرة حدا فاصال .واستند بعضهم إلى مكان النزول
في صياغته للتعريف.
التعريف بحسب الزمان :المكي هو ما نزل قبل الهجرة ،والمدني هو ما نزل
بعدها ،سواء نزل بمكة أم بالمدينة ،عام الفتح أو عام حجة الوداع ،في سفر أو في
حضر .وهذا هو التعريف المشهور في كتب علوم القرآن.
التعريف بحسب المكان :المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ،والمدني ما نزل
سم هبة للا بن سالمة المفسر البغدادي (ت 410هـ) المكي على قسمين، بالمدينة .وق ّ
هما :المكي األول ،وهو ما نزل في مكة قبل الهجرة ،والمكي األخير :وهو ما نزل
فيها بعد الفتح.
36
-كيفية معرفة المكي والمدني:
لم يحدثنا التاريخ أن النبي صلى للا عليه وسلم كان قد أمر أصحابه بحفظ
اآليات والسور على زمان النزول ،وإنما تشير الروايات إلى أنه كان يحدد لهم
مواضع اآليات من السور وقت التنزيل وعند كتابتها في الرقاع .ومن ثم فإن
الصحابة كانت جهودهم متجهة إلى حفظ القرآن مرتبا على نحو ما يرتبه لهم رسول
للا صلى للا عليه وسلم ،ولكن بقي في ذاكرتهم ما الحظوه من مكان وزمان نزول
كثير من اآليات والسور ،ونقل ذلك عنهم تالمذتهم من التابعين.
والحظ العلماء أن معرفة المكي والمدني من سور القرآن يمكن أن يكون من
طريقين :سماعي وقياسي .فالسماعي :ما وصل إلينا الخبر بنزوله في مكة أو المدينة،
قبل الهجرة أو بعدها ،وكان عدد من الصحابة قد أبدوا اهتماما بهذا الجانب من تأريخ
القرآن ..أما القياسي :فإنه يعتمد على جملة من الضوابط التي استخلصها العلماء من
الروايات المنقولة عن عدد من الصحابة والتابعين في بيان خصائص السور المكية
والسور المدنية ،فمن تلك الروايات:
أ -عن عبد للا بن مسعود ،رضي للا عنه ،قال« :كل شيء في القرآن يا أيُّها
ال َّناس أنزل بمكة ،وكل شيء في القرآن يا أيُّها الَّذِّين آمنوا أنزل بالمدينة» .والحظ
بعض العلماء أن (يا أيها الناس) منه مكي ومنه مدني وأكثره مكي.
ب -عن عروة بن الزبير ،قال« :ما كان من حدّ أو فريضة أنزلها للا عز
وجل بالمدينة ،وما كان من ذكر األمم والقرون أنزل بمكة».
ج -قال المفسر محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (ت 741هـ) في تسهيله:
«واعلم أن السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد ،والرد على المشركين ،وفي
قصص األنبياء ،وأن السور المدنية نزل أكثرها في األحكام الشرعية ،وفي الرد على
اليهود والنصارى وذكر المنافقين ،والفتوى في مسائل ،وذكر غزوات النبي صلى للا
عليه وسلم ،وحيث ورد :يا أيُّها الَّذِّين آمنوا فهو مدني ،وأما يا أيُّها ال َّناس فقد وقع في
المكي والمدني»(.)20
التحري.
ّ :) 20يرجع في النقوالت المض ّمنة إلى المرجع األصلي من أجل زيادة
37
المحاضرة :07سياقات النّص القرآني (ثانيا):
عناصر المحاضرة:
سياق التّداولي :القراءات القرآنية( ،)21مفهومها ،أنواعها ،الحكمة منها:
/1ال ّ
-القراءات لغة:
القراءات جمع قراءة ،والقراءة مصدر سماعي لقرأ ،تقول :قرأ يقرأ قراءة،
وقرآنا ،وقر اءا ،والقرء في اللغة الجمع والضم ،تقول قرأت الماء في الحوض :إذا
جمعته ،وسميت القراءة قراءة ألن القارئ يجمع الحرف مع الحرف فتكون الكلمة،
والكلمة مع الكلمة فتكون جملة والجملة مع الجملة .فهو يقرأ يعني يجمع ذلك كله.
-القراءات اصطال احا:
يخلط كثير من الباحثين بين تعريف القراءات وتعريف علم القراءات ،والفرق
بين القراءات وعلم القراءات كالفرق بين القرآن الكريم وعلوم القرآن الكريم.
فالقراءة :هي مذهب من مذاهب النطق بالقرآن الكريم؛ يذهب إليه إمام من
األئمة مذهباا يخالف غيره مع اتفاق الروايات والطرق عنه ،سواء أكانت هذه المخالفة
في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها.
ومذهب النطق بالكلمة القرآنية له مسميات هي:
قراءة ،رواية ،طريق ،وجه.
فالقراءة :ما نسب إلى أحد أئمة القراءات إذا اتفقت الروايات والطرق عنه.
والرواية :ما نسب إلى األخذ عن هذا اإلمام ولو بواسطة.
والطريق :ما نسب إلى اآلخذ عن الراوي ولو نزل.
والوجه :ما نسب إلى تخير القارئ من قراءة يثبت عليها وتؤخذ عنه.
38
تعريف علم القراءات:
هو :علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية ،وطريق أدائها اتفاقاا أو
معزوا
ًّ اختالفاا مع عزو كل وجه لناقله ،أو "علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختالفها
لناقله".
موضوعه:
كلمات القرآن الكريم من حيث أحوال النطق بها ،وكيفية أدائها.
استمداده:
النقول الصحيحة والمتواترة عن علماء القراءات إلى رسول للا صلى للا عليه وسلم.
حكمه:
فرض كفاية تعل اما وتعلي اما.
ثمرته وفائدته:
العصمة من الخطأ في النطق بالكلمات القرآنية ،وصيانتها عن التحريف والتغيير،
والعلم بما يقرأ به كل إمام من األئمة القراء ،والتمييز بين ما يقرأ به ،وما ال يقرأ به.
تاريخ القراء:
يرجع عهد القراء الذين أقاموا الناس على طرائقهم في التالوة إلى عهد
الصحابة رضي للا عنهم فقد اشتهر باإلقراء عدد كبير منهم تلقوه مشافهة من
ضا.
الرسول -صلى للا عليه وسلم -وتلقاه عنهم عدد كبير من التابعين بالمشافهة أي ا
وذكر الذهبي -رحمه للا تعالى -أن المشتهرين بإقراء القرآن من الصحابة سبعة هم:
-1عثمان بن عفان رضي للا عنه.
-2علي بن أبي طالب رضي للا عنه.
-3أبي بن كعب رضي للا عنه.
-4عبد للا بن مسعود رضي للا عنه.
-5زيد بن ثابت رضي للا عنه.
-6أبو موسى األشعري رضي للا عنه.
39
-7أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي للا عنه.
ثم قال رحمه للا تعالى" :فهؤالء الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في حياة النبي
ضا ،وعليهم دارت أسانيد قراءة األئمة العشرة.-صلى للا عليه وسلم -وأخذ عنهم عر ا
وقد جمع القرآن غيرهم من الصحابة؛ كمعاذ بن جبل ،وأبي زيد ،وسالم مولى أبي
حذيفة ،وعبد للا بن عمر ،وعتبة بن عامر ،ولكن لم يتصل بنا قراءتهم ،فلهذا
اقتصرت على هؤالء السبعة رضي للا عنهم".
وأخذ عن هؤالء الصحابة خلق كثير من التابعين في كل بلد من بلدان
المسلمين كما ذكرنا فيما مضى.
واشتهر سبعة من القر اء هم الذين ترجم لهم ابن مجاهد في كتابه السبعة،
وألحق بهم ثالثة من القراءة وسموا جمي اعا بالعشرة ،وزاد بعضهم أربعة آخرين حتى
صاروا أربعة عشر.
أما السبعة فهم:
-1ابن عامر "أبو عمران عبد للا بن عامر اليحصبي"118 -8هـ" تابعي جليل أخذ
القرآن عن المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان رضي للا عنه وقيل :إنه قرأ على
عثمان نفسه ،وهو إمام أهل الشام وقاضيهم ،وهو قاضي دمشق في خالفة الوليد بن
عبد الملك وراوياه هشام وابن ذكوان "بواسطة".
-2ابن كثير "عبد للا بن كثير الداري "120-45هـ" إمام القراء بمكة ،قرأ على عبد
للا بن السائب وقرأ عبد للا على أبي بن كعب وعمر بن الخطاب -رضي للا عنهما-
وراوياه البزي وقنبل "بواسطة".
-3عاصم بن أبي النجود "أبو بكر" "127-00هـ" انتهت إليه رئاسة اإلقراء في
الكوفة قرأ على زر بن حبيش على عبد للا بن مسعود ،وقرأ على أبي عبد الرحمن
السلمي الذي قرأ على علي بن أبي طالب رضي للا عنه وراوياه شعبة وحفص "بال
واسطة".
-4أبو عمرو بن العالء "زبان بن العالء البصري" "154-68هـ" ليس في السبعة
أكثر شيو اخا منه ،قرأ على الحسن البصري ،وأبي العالية وسعيد بن جبير وعاصم بن
أبي النجود وابن كثير المكي ،وعكرمة مولى ابن عباس ،وابن محيص ،ونصر بن
عاصم ،ويحيى بن يعمر وقرأ أبو العالية على عمر بن الخطاب وأبي بن كعب -
رضي للا عنهما -وراوياه الدوري والسوسي "بواسطة".
40
-5نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني "أبو رويم" "169-70هـ" إمام دار
الهجرة ،وكان إمام المسجد النبوي .أخذ القراءة عن جماعة من التابعين كأبي جعفر
وعبد الرحمن األعرج ،وبلغ شيوخه السبعين وهم أخذوا عن ابن عباس وأبي بن
كعب وأبي هريرة رضي للا عنهم .وراوياه قالون وورش "بال واسطة".
-6حمزة بن حبيب الزيات الكوفي "158-80هـ" قرأ علي األعمش على يحيى بن
وثاب على زر بن حبيش على عثمان وع لي وابن مسعود رضي للا عنهم وراوياه
خلف وخالد "بواسطة".
-7الكسائي "علي بن حمزة النحوي الكوفي" "189-119هـ" كان من أعلم الناس
بالنحو ،أخذ القراءة عن حمزة الزيات وابن أبي ليلى وعيسى الهمداني ،وقرأ عيسى
على عاصم وراوياه أبو الحارث والدوري "بال واسطة".
وأما الثالثة تكملة العشرة فهم:
-1أبو جعفر "يزيد بن القعقاع" " 130-هـ" إمام أهل المدينة أخذ عن ابن عباس
وأبي هريرة رضي للا عنهم عن أبي بن كعب ،وراوياه ابن وردان وابن جماز.
-2أبو محمد "يعقوب بن إسحاق "215-117هـ" إمام أهل البصرة وراوياه رويس
وروح.
-3خلف بن هشام " 229-150هـ" وقراءته في اختياره لم تخرج عن قراءة الكوفيين
وراوياه إسحاق وإدريس.
وأما األربعة تكملة األربعة عشر فهم:
-1ابن محيضن المكي" 123-هـ".
-2اليزيدي "أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي البصري"202-128هـ".
-3الحسن البصري "110-21هـ".
-4األعمش أبو محمد سليمان بن مهران الكوفي "148-60هـ".
41
المحاضرة :08مناهج التّفسير ونقدها ّ
(أوال)(:)22
عناصر المحاضرة:
/1معنى التّفسير والتّأويل وال ّ
شرح.
سر (العلمية والذّاتية).
/2شروط المف ّ
صحابة والتّابعين ،وعصر التّدوين).
/3تاريخ التّفسير (في عهد ال ّ
:) 22رجعنا في هذه المحاضرة والتي تليها إلى :الذّهبي ،محمد حسين :التّفسير والمفسرون 3( ،أجزاء) ،ط ،مكتبة وهبة ،القاهرة،
دت .وجميع األقوال المقتبسة يرجع فيها إلى األصل من أجل زيادة التحري.
42
ويرى بعض آخر منهم :أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد
الكلية ،أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد ،فيتكلَّف له التعريف ،فيذكر في ذلك
علوما ا أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن ،كاللغة ،والصرف ،والنحو ،والقراءات ...
وغير ذلك.
وإذا نحن تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلَّفوا الحد للتفسير ،وجدناهم قد ع َّرفوه
بتعاريف كثيرة ،يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها ،فهي وإن كانت مختلفة من جهة
اللفظ ،إال أنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه.
عرفه أبو حيان في البحر المحيط بأنه" :علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظفقد َّ
القرآن ،ومدلوالتها ،وأحكامها اإلفرادية والتركيبية ،ومعانيها التي تحمل عليها حالة
التركيب ،وتتمات لذلك".
خرج التعريف فقال" :فقولنا" :علم" ،هو جنس يشمل سائر العلوم ،وقولنا: ثم َّ
"يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن" ،هذا هو علم القراءات ،وقولنا:
"ومدلوالتها" أي مدلوالت تلك األلفاظ ،وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا
العلم ،وقولنا" :وأحكامها اإلفرادية والتركيبة" ،هذا يشمل علم التصريف ،وعلم
اإلعراب ،وعلم البيان ،وعلم البديع ،وقولنا" :ومعانيها التي تحمل عليها حالة
التركيب" ،يشمل ما داللته عليه بالحقيقة ،وما داللته عليه بالمجاز ،فإن التركيب قد
يقتضى بظاهره شيئا ا ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج ألجل ذلك أن يحمل
على الظاهر وهو المجاز ،وقولنا" :وتتمات لذلك" ،هو معرفة النسْخ وسبب النزول،
وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ،ونحو ذلك".
وعرفه الزركشي بأنه" :علم يفهم به كتاب للا المن َّزل على نبيه محمد صلى
َّ
للا عليه وسلم وبيان معانيه ،واستخراج أحكامه وحكمه".
وعرفه بعضهم بأنه" :علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد ،من حيث َّ
داللته على مراد للا تعالى ،بقدر الطاقة البشرية".
والناظر ألول وهلة في هذين التعريفين األخيرين ،يظن أن علم القراءات
وعلم الرسم ال يدخالن في علم التفسير ،والحق أنهما داخالن فيه ،وذلك ألن المعنى
يختلف باختالف القراءتين أو القراءات ،كقراءة{ :و ِّإذا رأيْت ث َّم رأيْت ن ِّعيما ا وم ْلكا ا
ك ِّبيراا} [البقرة -]222 :بضم الميم وإسكان الالم ،فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ:
طه ْرن} -بالتسكين ،فإن "وم ِّلكا ا كبيراا" -بفتح الميم وكسر الالم .وكقراءة {حتى ي ْ
معناها مغاير لقراءة من قرأ" :يط َّهرن" -بالتشديد ،كما أن المعنى يختلف أيضا ا
باختالف الرسم القرآني في المصحف ،فمثالا قوله تعالى{ :أ َّمن ي ْمشِّي س ِّو ّياا} [الملك:
43
-]22بوصل "أ َّمن" ،يغاير فى المعنى{ :أ ْم َّمن يكون عل ْي ِّه ْم و ِّكيالا} [النساء-]109 :
بفصلها ،فإن المفصولة تفيد معنى "بل" دون الموصولة.
وعرفه بعضهم بأنه" :علم نزول اآليات ،وشئونها ،وأقاصيصها ،واألسباب َّ
النازلة فيها ،ثم ترتيب مكيها ومدنيها ،ومحكمها ومتشابهها ،وناسخها ومنسوخها،
سِّرها ،وحاللها وحرامها ،ووعدها
وخاصها وعامها ،ومطلقها ومقيدها ،ومجملها ومف ّ
ووعيدها ،وأمرها ونهيها ،و ِّعبرها وأمثالها".
وهذه التعاريف األربعة تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد للا
تعالى بقدر الطاقة البشرية ،فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى ،وبيان المراد.
التأويل فى اللغة:
التأويل :مأخوذ من األول وهو الرجوع ،قال فى القاموس" :آل إليه أوالا
سره، وأول الكالم تأويالا َّ
وتأوله :دبَّره وقدَّره وف َّ ومآال :رجع ،وعنه :ارتد ...ثم قالَّ :
والتأويل :عبارة الرؤيا".
وقال في لسان العرب" :األول :الرجوع ،آل الشيء يؤول أوالا ومآالا رجع،
وآول الشئ :رجعه ،وألت عن الشيء :ارتددت ،وفى الحديث" :من صام الدهر فال
وتأوله :دبَّره وقدَّره.
َّ وأول الكالم
صام وال آل" أي :وال رجع إلى خير ...ثم قالَّ :
سره ...الخ".
وتأوله :ف َّ
وأوله َّ
َّ
وعلى هذا فيكون التأويل مأخوذا ا من األول بمعنى الرجوع ،إنما هو باعتبار
المؤول أرجع الكالم إلى ما يحتمله من المعاني.
ّ ِّ أحد معانيه اللغوية ،فكأن
المؤول يسوس الكالم
ّ ِّ وقيل :التأويل مأخوذ من اإليالة وهى السياسة ،فكأن
ويضمه فى موضعه -قال الزمخشري فى أساس البالغة" :آل الرعية يؤولها إيالة
حسنة ،وهو حسن اإليالة ،وائتالها ،وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم ،أي سائس
محتكم".
والناظر فى القرآن الكريم يجد أن لفظ التأويل قد ورد فى كثير من آياته على
معان مختلفة ،فمن ذلك قوله تعالى فى سورة آل عمران آية [{ : ]7فأ َّما الَّذِّين في
قلو ِّب ِّه ْم ز ْي ٌغ فيتَّ ِّبعون ما تشابه ِّم ْنه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأ ْ ِّوي ِّل ِّه وما ي ْعلم تأ ْ ِّويله ِّإالَّ للا}
..فهو في هذه اآلية بمعنى التفسير والتعيين .وقوله في سورة النساء آية [{ : ]59فإِّن
تنازعْت ْم فِّي ش ْيءٍ فردُّوه إِّلى للا والرسول إِّن ك ْنت ْم تؤْ ِّمنون باهلل واليوم اآلخر ذلك خي ٌْر
وأحْ سن تأ ْ ِّويالا} ..فهو في هذه اآلية بمعنى العاقبة والمصير .وقوله فى سورة
األعراف آية [{ : ]53ه ْل ينظرون ِّإالَّ تأ ْ ِّويله ي ْوم يأ ْ ِّتي تأْ ِّويله} ..
44
-التأويل في االصطالح:
45
سر (العلمية والذّاتية):
/2شروط المف ّ
ورد النهي عن القول في القرآن بغير علم والوعيد الشديد على من اجترأ على
ذلك ،ولذلك وضع العلماء شرو ا
طا لمن أراد أن يفسر القرآن ليخرج من هذا الوعيد
ويصبح من أهل التفسير والتأويل.
وال عجب أن يكون للمفسر شرو ا
طا بل العجب أن يجترئ على كالم للا كل
من هب ودب.
كثيرا من الناس يجترئون على تفسير القرآن ا وكم يحز في النفس حين نرى
بغير علم وال يحسبون لذلك حساباا فال تتلكأ ألسنتهم ،وال ت ْوجف قلوبهم وكأنهم قد
أحاطوا بالقرآن علما ،وأصبح من مداركهم القريبة ،ومن معارفهم الدانية.
وكم من رجل منهم فسر آية لو عرضت على أبي بكر -رضي للا عنه -لقال:
"أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما ال أعلم" ،وإن
أحدهم ليفسر اآلية ولو سمعه عمر -رضي للا عنه -لقرعه بدرته.
وقد يقول قائل لم وضع العلماء هذه الشروط؟ أليس القرآن للناس كافة وتدبره
واجب على الجميع؟ ونقول لهذا وأمثاله نعم إن تالوة القرآن حق لكل مسلم ،لكن
تفسيره للناس وبيانه لهم ليس حقا لكل إنسان ،كأي علم آخر ،فالطب مثال حق لكل
إنسان أن يدرسه لكن عالج الناس ليس حقا لكل إنسان إال إذا درس علم الطب
وحذقه ،فما بالنا نصرخ في وجوه أدعياء الطب ونستعدي عليهم السلطة ،وال ننهر
المجترئين على تفسير كالم للا وهم ليسوا من أهل التفسير.
ومجمل الشروط التي وضعها العلماء للمفسر هي:
ا
أوال :سالمة العقيدة:
فإن من انحرفت عقيدته يعتقد رأيا ثم يحمل ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف
من الصحابة والتابعين ،فإذا فسر القرآن َّأول اآليات التي تخالف مذهبه الباطل،
وحرفها حتى توافق مذهبه ،ومثل هذا ال يطلب الحق فكيف يطلب منه! ومن هؤالء
فرق الخوارج والروافض والمعتزلة وغالة الصوفية وغيرهم.
ثانياا :التجرد عن الهوى:
فإن الهوى يحمل صاحبه على نصرة مذهبه ولو كان باطال ،ويصرفه عن
غيره ولو كان حقا.
46
ثالثاا :أن يكون المفسر عالما بأصول التفسير:
وذلك أن أصول التفسير بمثابة المفتاح لعلم التفسير ،فال بد للمفسر أن يكون
عالما بالقراءات والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ونحوها.
راب اعا :أن يكون عالما بالحديث رواية ودراية:
إذ إن أحاديث الرسول -صلى للا عليه وسلم -هي المبينة للقرآن ،بل قد قال
اإلمام الشافعي رحمه للا تعالى" :كل ما حكم به رسول للا -صلى للا عليه وسلم-
فهو مما فهمه من القرآن" .وقال اإلمام أحمد رحمه للا تعالى" :السنة تفسر القرآن
وتبينه".
سا :أن يكون عال اما بأصول الدين:
خام ا
وهو "علم التوحيد" حتى ال يقع في آيات األسماء والصفات في التشبيه أو
التمثيل أو التعطيل.
سا :أن يكون عال اما بأصول الفقه:
ساد ا
إذ به يعرف كيف تستنبط األحكام من اآليات ،ويستدل عليها ،ويعرف اإلجمال
والتبيين ،والعموم والخصوص ،والمطلق المقيد ،وداللة النص وإشارته وداللة األمر
والنهي ..وغير ذلك.
سابعاا :أن يكون عال اما باللغة وعلومها:
كالنحو والصرف واالشتقاق ،والبالغة بأقسامها الثالثة "المعاني والبيان
والبديع".
ذلكم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين ،وهذه العلوم مما يتوصل بها
إلى معرفة المعنى وخواص التركيب ووجوه اإلعجاز فيه.
وهذه الشروط -كما يظهر -عزيزة المنال .ولهذا تحرج كثير من السلف من
القول في القرآن بغير علم لتمكن اإليمان من قلوبهم واستحضارهم الخوف من للا
تعالى ،وإذا رأيت من يجترئ على القول في القرآن بغير علم فاعلم أنه من نقص
إيمانه.
47
صحابة والتّابعين ،وعصر التّدوين):
/3تاريخ التّفسير (في عهد ال ّ
ضا على درجة
لم يكن الصحابة -رضي للا عنهم -وال الناس من بعدهم أي ا
واحدة في فهم القرآن الكريم ،بل كانوا يتفاوتون في ذلك ،فقد كان يشكل على بعضهم
ما ال يشكل على بعضهم اآلخر.
ويرجع ذلك إلى تفاوتهم في معرفة اللغة ومعرفة ما يحيط بنزول اآلية من
أحداث ومالبسات كأسباب النزول ،زد على ذلك تفاوتهم في القدرة العقلية شأن البشر
كلهم.
ولو تساوت األذهان في إدراك معاني القرآن لبطل التنافس وخمدت الهمم
لزوال ما يحملهما على القدح وإعمال الذهن والتفكير والتدبر ،لكن للا جلت حكمته
جعل ألفاظ القرآن تحتمل أحيا انا معاني كثيرة وأمر الناس بالتدبر والتفكر فيها وحث
على ذلك فتنافس الصحابة وسائر المسلمين من بعدهم في تفسيرها لينالوا األجر
العظيم والثواب الجزيل.
48
المحاضرة :09مناهج التّفسيرونقدها (ثانيا):
عناصر المحاضرة:
/1التّفسير بالمأثور :خصائصه ،أعالمه ،نقده،
/2التّفسير ّ
بالرأي :أعالمه ،نقده.
قال تعالى :وأ ْنز ْلنا ِّإليْك ال ِّذّ ْكر ِّلتب ِّّين ِّلل َّن ِّ
اس ما ن ِّ ّزل ِّإل ْي ِّه ْم ولعلَّه ْم يتف َّكرون}
1وقال اإلمام أحمد رحمه للا تعالى" :السنة تفسر القرآن وتبينه".
49
ومن أمثلة تفسير القرآن بالسنة تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين
بالنصارى .وتفسير الخيط األبيض والخيط األسود بأنه بياض النهار وسواد الليل.
-3أقوال الصحابة:
وإذا لم تجد تفسير القرآن في القرآن وال في السنة فعليك بتفسير الصحابة -
رضي للا عنهم -فإنهم أعلم بذلك لما اختصوا به من مجالسة الرسول -صلى للا عليه
وسلم -ومشاهدة القرائن واألحداث والوقائع.
-4أقوال التابعين:
وقد اختلف العلماء -رحمهم للا تعالى -في الرجوع إلى أقوال التابعين إذا لم
نجد التفسير في القرآن وال في السنة وال في أقوال الصحابة ،فمنهم من عد أقوال
مصدرا من مصادر التفسير بالمأثور ومنهم من عدها كسائر أقوال العلماء.
ا التابعين
-أعالمه:
-ابن جرير ال ّ
طبري:
هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ،ولد في "آمل" في طبرستان سنة
224هـ وتوفي في بغداد سنة "."310
عا في الحديث ،وشي اخا كان عال اما بالقراءات ،وإما اما في التفسير ،بار ا
للمؤرخين ،انفرد في الفقه بمذهب مستقل وأقاويل واختيارات ،وله أتباع ومقلدون.2
وقال ابن خزيمة" :ما أعلم على أديم األرض أعلم من محمد بن جرير" ،3وله
مؤلفات كثيرة منها :كتاب في القراءات و"تاريخ الرجال" في الصحابة والتابعين،
و"لطيف القول" جمع في مذهبه الذي اختاره" ،وتهذيب اآلثار" ،ومن أهم كتبه
"تاريخ األمم والملوك وأخبارهم".
تفسيره:
أما تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" فلم يؤلَّف قبله وال بعده مثله في
موضوعه ،وال يزال المفسرون عالة على تفسيره في التفسير بالمأثور ،ويتميز
تفسيره بمزايا منها:
-1اعتماده على التفسير بالمأثور عن الرسول -صلى للا عليه وسلم -وأصحابه
والتابعين.
-2التزامه باإلسناد في الرواية.
50
-3عنايته بتوجيه األقوال والترجيح.
-4ذكره لوجوه اإلعراب.
-5دقته في استنباط األحكام الشرعية من اآليات.
وكان هذا التفسير مفقوداا إلى وقت قريب حيث عثر على نسخة مخطوطة منه
عند أحد أمراء حائل ،وهو حمود بن عبيد الرشيد ،وقد تم طبعه على هذه النسخة في
ثالثين جز اءا سنة .1319
ثم قام الشيخان الفاضالن محمد وأحمد شاكر بتحقيق الكتاب والتعليق عليه
ومراجعته وتخريج أحاديثه وصدر منه ستة عشر جز اءا إلى نهاية تفسير اآلية 27من
سورة إبراهيم ،ثم توقف العمل ،نسأل للا أن يهيئ من عباده العلماء من يت ُّمه.
قال الخطيب" :وكتاب التفسير لم يصنف أحد مثله" وقال الذهبي" :وله كتاب
في التفسير لم يصنف مثله" وقال النووي" :أجمعت األمة على أنه لم يصنف مثل
تفسير الطبري".
وقال أبو حامد اإلسفراييني" :لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير
كثيرا".
محمد بن جرير لم يكن ذلك ا
وقال ابن تيمية" :وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير
الطبري ،فإنه يذكر مقاالت السلف باألسانيد الثابتة .وليس فيه بدعة ،وال ينقل عن
المتهمين ،كمقاتل بن بكير والكلبي".
-التفسير بالرأي وأهم المؤلفات فيه:
-تعريفه:
هو تفسير القرآن باالجتهاد.
-أقسامه:
ينقسم التفسير بالرأي إلى قسمين:
األول :التفسير بالرأي المحمود:
وهو التفسير المستمد من القرآن ومن سنة الرسول -صلى للا عليه وسلم-
وكان صاحبه عال اما باللغة العربية وأساليبها ،وبقواعد الشريعة وأصولها.
51
حكمه:
أجاز العلماء -رحمهم للا تعالى -هذا النوع من التفسير ولهم أدلة كثيرة على ذلك
منها:
52
أهم المؤلفات في التفسير بالرأي:
والمؤلفات في التفسير بالرأي كثيرة أه ّمها:
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون األقاويل في وجوه التأويل :للزمخشري.
المؤلف:
هو أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري 1المعتزلي ،الملقب بجار للا ،ولد
سنة 467في زمخشر من قرى خوارزم ،بعد أن تلقى العلم رحل إلى مكة وألف فيها
تفسيره الكشاف ،ثم عاد إلى خوارزم ،وتوفي فيها سنة 538وهو إمام من أئمة اللغة،
ال يأنف من انتمائه إلى االعتزال بل يجاهر به ،ويدعو إليه ،ومن مؤلفاته" :أساس
البالغة" و"الفائق في غريب الحديث" و"المفصل" في النحو ..وغيرها.
تفسيره:
اعتنى الزمخشري في تفسيره هذا ببيان وجوه اإلعجاز القرآني وإظهار جمال
النظم وبالغته ،وخال هذا التفسير من الحشو والتطويل ،وإيراد اإلسرائيليات إال
القليل.
والزمخشري قليل االستشهاد بالحديث ،ويورد أحيا انا األحاديث الموضوعة،
خاصة في فضائل السور.
ومأل تفسيره بعقائد المعتزلة واالستدالل لها وتأويل اآليات و ْفقها ويدس ذلك
سا ال يدركه إال حاذق حتى قال البلقيني" :استخرجت من الكشاف اعتزاال د ًّ
بالمناقيش".
وهو شديد على أهل السنة والجماعة ويذكرهم بعبارات االحتقار ويرميهم
باألوصاف المقذعة ،ويمزج حديثه عنهم بالسخرية واالستهزاء.
ولهذه األمور وغيرها نبه كثير من العلماء إلى أخذ الحيطة والحذر عند
المطالعة في تفسيره أو النقل منه ،فقال اإلمام الذهبي" :محمود بن عمر الزمخشري
المفسر النحوي صالح ،لكنه داعية إلى االعتزال أجارنا للا ،فكن حذرا من كشافه".
وقال علي القاري" :وله دسائس خفيت على أكثر الناس فلهذا حرم بعض فقهائنا
مطالعة تفسيره لما فيه من سوء تعبيره في تأويله وتعبيره".
وينبغي لمن أراد أن يقرأ فيه أن يرجع لكتاب "اإلنصاف فيما تضمنه الكشاف من
االعتزال" البن المنير وهو مطبوع مع الكشاف وفيه كشف العتزالياته وضالالته.
53
قائمة المصادر والمراجع:
-القرآن الكريم.
55
عتر ،نور الدّين:
صباح ،دمشق.1993 ،
علوم القرآن الكريم ،ط،1مطبعة ال ّ
غزالن ،عبد الوهاب:
البيان في مباحث من علوم القرآن ،ط ،مطبعة دار التأليف ،القاهرة ،دت.
المزيني ،عبد العزيز بن سليمان:
مباحث في علم القراءات ،ط ،1دار كنوز إشبيليا ،الرياض 2011 ،م.
56
فهرس الموضوعات:
-مقدّمة ............................................................................... :ص03 :
المحاضرة االفتتاحية :التّعريف بعلوم القرآن ................................. :ص05 :
المحاضرة :01تعريفات .......................................................... :ص07 :
/1أه ّمية القرآن وعلومه في الدّراسات اللّغوية واألدبية .......................ص07 :
/2تعريف القرآن ،الكتاب ،الوحي ،المعجزة ،ال َّنبي ...........................ص08 :
المحاضرة :02تاريخ القرآن (أوال) ............................................ :ص12 :
/1نزول القرآن ......................................................................ص12 :
/2بدايات الوحي .....................................................................ص14 :
/3التّنجيم ..............................................................................ص14 :
المحاضرة :03تاريخ القرآن (ثانيا) ........................................... :ص16 :
/1مراحل جمع القرآن ..............................................................ص16 :
/2معايير ترتيب آيات وسور القرآن الكريم .....................................ص26 :
مكونات النَّص القرآني (أوال) ................................. :ص28 :
المحاضرة ّ :04
اللّفظة ،العبارة ،اآلية ،ال ّ
سورة .....................................................ص28 :
مكونات النَّص القرآني (ثانيا) ................................ :ص29 :
المحاضرة ّ :05
صة القرآنية :خصائصها ،تعريفها .........................................ص29 :
/1الق ّ
المحاضرة :06سياقات النّص القرآني ّ
(أوال) ................................ :ص34 :
سببي :أسباب ال ّنزول ................................................ص34 :
سياق ال ّ
/1ال ّ
سياق المكاني :الم ّكي والمدني ...............................................ص36 :
/2ال ّ
المحاضرة :07سياقات النّص القرآني (ثانيا) .............................. :ص38 :
سياق التّداولي :القراءات القرآنية ،مفهومها ،أنواعها ،الحكمة منها .... :ص38 :
/1ال ّ
57
المحاضرة :08مناهج التّفسير ونقدها ّ
(أوال) ..................................:ص42 :
/1معنى التّفسير والتّأويل وال ّ
شرح ................................................ص42 :
سر (العلمية والذّاتية) ..............................................ص46 :
/2شروط المف ّ
صحابة والتّابعين ،وعصر التّدوين) ............ص48 :
/3تاريخ التّفسير (في عهد ال ّ
المحاضرة :09مناهج التّفسير ونقدها (ثانيا) ................................. :ص49 :
/1التّفسير بالمأثور :خصائصه ،أعالمه ،نقده ...................................ص49 :
/2التّفسير ّ
بالرأي :أعالمه ،نقده ...................................................ص.52 :
58