You are on page 1of 58

‫الجمهورية الجزائرية الدّيمقراطية الشّعبية‬

‫وزارة التّعليم العالي والبحث العلمي‬


‫جامعة اإلخوة منتوري‪ ،‬قسنطينة ‪1‬‬

‫قسم اآلداب واللّغة العربية‬ ‫كلّية اآلداب واللّغات‬

‫محاضرات في مقياس‪:‬‬
‫علوم القرآن‬

‫مطبوعة بيداغوجية‬
‫سنة األولى ليسانس (ل م د)‪.‬‬
‫مو ّجهة إلى طلبة ال ّ‬

‫من إعداد‪:‬‬
‫د‪ ،‬إلياس بلّيح‪.‬‬

‫سنة الجامعية‪.2020-2019 :‬‬


‫ال ّ‬
2
‫مقدّمة‪:‬‬
‫تحتوي هذه المطبوعة البيداغوجية على محاضرات في مقياس‪ :‬علوم القرآن‪،‬‬
‫سنة الجامعية‪ ،2020-2019 :‬وهي مو ّجهةٌ إلى طلبة ال ّ‬
‫سنة األولى‬ ‫ألقيت في خالل ال ّ‬
‫ليسانس (نظام‪ :‬ل م د) ‪ ،‬بقسم اآلداب واللغة العربية‪ ،‬جامعة اإلخوة منتوري‪،‬‬
‫قسنطينة‪.‬‬
‫قرر من الجهات الوصيّة‪،‬‬
‫وقد حاولنا فيها المحافظة على روح البرنامج الم ّ‬
‫توزعت على أربعة عشر محاضرة؛ وفقا‬ ‫وذلك بعرض أه ّم مفردات المقياس الّتي ّ‬
‫للمحاور اآلتية‪:‬‬
‫‪ /1‬تعريفات‪.‬‬
‫‪ /2‬تاريخ القرآن‪.‬‬
‫مكونات ال ّنص القرآني‪.‬‬
‫‪ّ /3‬‬
‫‪ /4‬سياقات ال ّنص القرآني‪.‬‬
‫‪ /5‬مناهج التّفسير ونقدها‪.‬‬
‫‪ /6‬اإلعجاز القرآني‪.‬‬
‫وقد جاء تفصيلها على الوجه اآلتي‪:‬‬
‫أه ّمية القرآن وعلومه في الدّراسات اللّغوية واألدبية‪،‬‬ ‫‪ 01‬تعريفات‪:‬‬
‫تعريف القرآن‪ ،‬الكتاب‪ ،‬الوحي‪ ،‬المعجزة‪ ،‬النّبي‪،‬‬
‫الوحي‪.‬‬
‫نزول القرآن‪ ،‬بداية الوحي‪ ،‬التّنجيم‬ ‫‪ 02‬تاريخ القرآن‪:‬‬
‫مراحل جمع القرآن‪ ،‬معايير ترتيب السّور واآليات‪.‬‬ ‫‪03‬‬
‫اللّفظة‪ ،‬العبارة‪ ،‬اآلية‪ ،‬السّورة‪.‬‬ ‫مكونات ال ّنص القرآني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪04‬‬
‫صة القرآنية‪ :‬خصائصها‪ ،‬أهدافها‪.‬‬ ‫الق ّ‬ ‫‪05‬‬
‫السّياق السّببي‪ :‬أسباب النّزول‪.‬السّياق المكاني‪ :‬الم ّكي‬ ‫‪ 06‬سياقات النّص القرآني‪:‬‬
‫والمدني‪.‬‬
‫ّ‬
‫السّياق التراتبي‪ّ :‬أول وآخر ما نزل‪ ،‬الناسخ والمنسوخ‪.‬‬‫ّ‬ ‫‪07‬‬
‫السّياق التّداولي‪ :‬القراءات القرآنية‪ :‬مفهومها‪ ،‬أنواعها‪،‬‬ ‫‪08‬‬
‫الحكمة منها‪.‬‬
‫شرح‪ ،‬شروط المفسّر‪ ،‬تاريخ‬ ‫معنى التّفسير والتّأويل وال ّ‬ ‫‪ 09‬مناهج التّفسير ونقدها‪:‬‬
‫صحابة‪ ،‬والتّابعين‪ ،‬وعصر التّدوين)‪.‬‬ ‫التّفسير (في عهد ال ّ‬
‫التّفسير بالمأثور‪ :‬خصائصه‪ ،‬أعالمه‪ ،‬التّفسير ّ‬
‫بالرأي‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪3‬‬
‫أعالمه‪ ،‬نقده‪.‬‬
‫التّفسير اللغوي‪ :‬خصائصه‪ ،‬أعالمه‪ ،‬نقده‪.‬‬ ‫‪11‬‬
‫التّفسير البياني واألدبي‪ :‬خصائصه‪ ،‬أعالمه‪ ،‬نقده‪.‬‬ ‫‪12‬‬
‫اإلعجاز اللغوي والبياني‪.‬‬ ‫‪ 13‬اإلعجاز القرآني‪:‬‬
‫اإلعجاز اإلخباري والتّشريعي‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫وأ ّما عن المراجع فقد كان اعتمادنا بالدّرجة األولى على‪:‬‬


‫سيوطي‪.‬‬
‫‪ /1‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬لل ّ‬
‫‪ /2‬التّصوير الف ّني في القرآن‪ ،‬لـ سيّد قطب‪.‬‬
‫سرون‪ ،‬لـ مح ّمد حسين الذّهبي‪.‬‬
‫‪ /3‬التّفسير والمف ّ‬
‫‪ /4‬دراسات في علوم القرآن الكريم‪ ،‬د‪ ،‬فهد الرومي‪.‬‬
‫متنوعة‪ ،‬منها التّراثي ومنها المعاصر‪ ،‬وسنأتي على‬ ‫ّ‬ ‫باإلضافة إلى قائمة‬
‫ذكرها في قائمة المصادر والمراجع في آخر هذه المطبوعة‪ .‬مع اإلشارة إلى تعاملنا‬
‫الخاص مع بعض الجزئيات؛ فيما يتعلّق بقضية تعريف القرآن‪ ،‬والتّفريق بين التّفسير‬
‫والتّأويل‪ ،‬وقضيّة اإلعجاز القرآني‪ ،‬وعرض المدارس التّأويلية‪ ،‬في أثناء الدّرس‪ .‬أ ّما‬
‫على العموم‪ ،‬فإننا نرجع إلى أ ّمهات الكتب ونحاول تبسيط المعلومات منها وفقا لما‬
‫تقتضيه الغاية التّعليمية‪ ،‬إذ يندرج هذا المقياس ضمن‪:‬‬
‫وحدة التّدريس االستكشافية‪ ،‬بمعامل‪ ،01 :‬ورصيد‪ ،01 :‬وهو ما اليجعلنا نتع ّمق‬
‫كثيرا في المسائل خوفا من تعقيد المعارف‪ ،‬وتنفير ّ‬
‫الطالب المبتدئ‪.‬‬
‫وهذا أوان البدء في المقصود‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫المحاضرة االفتتاحية‪:‬‬
‫التّعريف بعلوم القرآن‪:‬‬
‫اطالعا موجزا على مقدّمات المؤلّفات الّتي اهت ّمت بالقرآن الكريم واشتغلت‬ ‫إن ّ‬
‫ّ‬
‫على علومه؛ يجعلنا نالحظ اتّفاقهم على البدء بتعريف‪( :‬علوم القرآن)‪ ،‬مع اختالفهم‬
‫شيخ‪:‬‬‫سعا في هذه المسألة هو‪ :‬األستاذ ال ّ‬ ‫في درجات التّفصيل‪ ،‬ولع ّل أكثر العلماء تو ّ‬
‫الزرقاني‪ ،‬في مناهل العرفان‪ ،‬فبعد أن أورد إيضاحا لطريقة‬ ‫مح ّمد عبد العظيم ّ‬
‫عرضه وخصائص أسلوبه وغاياته‪ ،‬وأشار إلى جهود علماء األ ّمة في جمع (المادّة)‪،‬‬
‫ث ّأو ٍل وسمه بـ‪( :‬في معنى علوم القرآن)؛ وقد ل ّخصه مح ّمد بكر‬ ‫افتتح عمله بمبح ٍ‬
‫إسماعيل في مقدّمة كتابه‪ :‬دراسات في علوم القرآن على الوجه التّالي (‪:)1‬‬
‫علوم القرآن مر َّكب إضافي‪ ،‬مؤلَّف من كلمتين‪ ,‬ويقتضي منهج البحث‬
‫عرف كل كلمة على حدة ا‬
‫أوال‪ ،‬ثم نب ِّّين معنى كلمة علوم مضافة إلى‬ ‫التحليلي أن ن ِّ ّ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫‪ /1‬أما العلوم فجمع علم‪ ،‬والعلم مصدر "علم ‪ -‬يعلم" وهو مرادف للفهم والمعرفة‬
‫واليقين‪ ،‬والجزم على الجملة‪ ،‬وبينها فروق دقيقة ت ْ‬
‫طلب من كتب فقة اللغة‪ ،‬مثل كتاب‬
‫"الفروق اللغوية" ألبي هالل العسكري‪.‬‬
‫والعلم مصدر يصح إطالقه على المفرد والجمع ‪ ..‬فإن أريد الكثرة‪ ،‬جمع على علوم‪,‬‬
‫ولهذا سميت المباحث القرآنية‪" :‬علوم القرآن" لكثرتها وتشعُّب مسائلها‪ .‬كما يقول‬
‫الفقهاء في كتبهم‪" :‬باب البيع"‪ ،‬فإن أرادوا الكثرة قالوا‪" :‬باب البيوع"‪.‬‬
‫ومعناه عند علماء التدوين‪ :‬المعلومات المنضبطة بجهة واحدة‪ ،‬أي‪ :‬موضوع‬
‫معين‪ .‬فمسائل النحو ا‬
‫مثال تس َّمى‪ :‬علم النحو‪ .‬ومسائل الفقة تس َّمى‪ :‬علم الفقه‪ .‬أو هو‬
‫إدراك المسائل المنضبطة تحت موضوع معين‪ .‬أو هو الملكة التي تحصل بها تلك‬
‫المعارف‪ .‬والتعريف األول هو األ ْولى بالقبول‪ ،‬وهو األشهر عند العلماء‪.‬‬
‫‪ /2‬أما القرآن في اللغة فهو مصدر "قرأ"‪ .‬يقال‪ :‬قرأ يقرأ قراءة‪ ،‬وقرآ انا‪ .‬قال تعالى‬
‫في سورة القيامة‪{ :‬ال تح ِّ ّر ْك ِّب ِّه ِّلسانك ِّلت ْعجل ِّب ِّه‪ ،‬إِّ َّن عليْنا ج ْمعه وق ْرآنه‪ ،‬فإِّذا قرأْناه‬
‫فاتَّ ِّب ْع ق ْرآنه} [آية‪ ..]18-16 :‬ثم نقل من هذا المعنى المصدري‪ ،‬وج ِّعل اس اما للكالم‬
‫المنز ِّل على النبي ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ ،‬من باب إطالق المصدر على‬ ‫َّ‬ ‫المعج ِّز‬
‫ِّ‬

‫‪ :) 1‬ينظر‪ّ :‬‬
‫الزرقاني‪ ،‬مناهل العرفان في علوم القرآن‪( ،‬جزءان)‪ ،‬ط‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دت‪ ،‬صـ‪:‬‬
‫‪.28-12‬‬

‫‪5‬‬
‫مفعوله‪ .‬فالقرآن على هذا يكون بمعنى المقروء‪ .‬هذا ما اختاره أكثر العلماء استناداا‬
‫إلى موارد اللغة وقوانين االشتقاق‪.‬‬
‫وأما مفهومه في اصطالح علماء العقيدة والشريعة واللغة‪ ,‬فهو منتزعٌ من‬
‫المعجز‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫خصائصه ومقاصده الكبرى‪ .‬وأشهر تعريف له قولهم‪ :‬القرآن كالم للا‬
‫المنزل على محمد ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ ،-‬المكتوب في المصاحف‪ ،‬المنقول بالتواتر‪،‬‬ ‫َّ‬
‫عرفه أكثر أهل العلم‪.‬‬
‫المتعبَّد بتالوته‪ .‬وبهذا َّ‬
‫‪ /3‬وأما تعريف علوم القرآن بالمعنى اإلضافي‪ ،‬أي‪ :‬باعتبار إضافة العلوم إلى هذا‬
‫َّ‬
‫المنزل‪ ،‬فهو عبارة عن طوائف المعارف المتصلة بالقرآن‪.‬‬ ‫الكتاب‬
‫وهذا التعريف يشمل بعمومه جميع العلوم الشرعية من التفسير والحديث‬
‫والفقه‪ ،‬وأصول الفقه‪ ،‬وجميع العلوم التي تعين على فهم معانيه ومقاصده‪ ،‬كالعلوم‬
‫اللغوية والتاريخية‪ ،‬وغيرها‪ ,‬فكل ما يتصل بالقرآن من قريب أو من بعيد داخل تحت‬
‫هذا التعريف‪.‬‬
‫غير أن المشت ِّغ ِّلين بدراسة القرآن الكريم ‪-‬فيما يبدو لنا‪ -‬يقتصرون في بحوثهم‬
‫على العلوم الوثيقة الصلة بالقرآن الكريم‪ ،‬والتي تعين على فهمه بطريق مباشر‪ ،‬مثل‬
‫البحوث التي تض َّمنها كتاب "البرهان" للزركشي‪ ،‬وكتاب "اإلتقان" للسيوطي‪.‬‬
‫وقد انفرد التفسير عن هذه العلوم بالتأليف والتصنيف‪ ،‬مع أنه داخل فيها‬
‫لمسيس الحاجة إليه من غيره عند جميع المكلَّفين بال استثناء‪.‬‬
‫أما غيره من علوم القرآن‪ ،‬فال يكاد يحتاج إليه ّإال المتخصصون في دراسة‬
‫تفسيرا صحي احا‪ ،‬وفق هذه العلوم التي‬
‫ا‬ ‫كتاب للا تعالى‪ ،‬على نحو من تفسيره للناس‪،‬‬
‫يعنون بدراستها‪ .‬فعلوم القرآن سوى التفسير‪ ،‬من شأن أولي العلم وال ُّنهى‪ ،‬ورجال‬
‫التفسير والتأويل الذي يناط بهم فهم القرآن ا‬
‫أوال‪ ،‬وبيان معانيه للناس ثانياا‪.‬‬
‫مالحظة‪:‬‬
‫سيوطي في كتابه اإلتقان وأطلق‬‫من بين جميع المباحث الّتي أشار إليها ال ّ‬
‫عليها مس ّمى‪ :‬أنواع علوم القرآن‪ ،‬نبّهنا ّ‬
‫الطلبة إلى ما له عالقة مباشرة فقط من هذه‬
‫األنواع بمفردات المقياس المبيّنة في الجدول أعاله‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫المحاضرة ‪ :01‬تعريفات‪:‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫‪/1‬أه ّمية القرآن وعلومه في الدّراسات اللّغوية واألدبية‪.‬‬
‫‪ /2‬تعريف القرآن‪ ،‬الكتاب‪ ،‬الوحي‪ ،‬المعجزة‪ ،‬ال َّنبي‪.‬‬

‫‪ /1‬أه ّمية القرآن وعلومه في الدّراسات اللّغوية واألدبية‪:‬‬


‫ينبغي أن نحدّد المقصود بك ٍّل من الدّراسات اللغوية والدّراسات األدبية‪ ،‬وفقا‬
‫الطالب في خالل سنوات التّدرج من مقاييس‪ ،‬ث ّم نحاول أن نتل ّمس أه ّمية‬ ‫لما يدرسه ّ‬
‫ألن ضبط هذه المجاالت الغارقة في التّعميم‬ ‫القرآن بال ّنسبة إليهما‪ ،‬ث ّم أه ّمية علومه‪ّ ،‬‬
‫ي من ال ّناحية المنهجية‪.‬‬
‫ضرور ٌّ‬
‫فأ ّما عن الدّراسات اللغوية فنجد تلك األه ّمية حاضرة في المقاييس اآلتية‪:‬‬
‫صرف‪ -:‬في ال ّسداسي ‪ -:02‬علم ال ّنحو‪ -:‬فقه‬ ‫‪ -‬في ال ّسداسي ‪ -:01‬علم ال ّ‬
‫سداسي‬‫سماع‪ -،‬في ال ّ‬ ‫سداسي ‪ -:03‬علم ال ّنحو‪ -:‬أصول ال ّنحو (‪:)01‬ال ّ‬‫اللغة‪ -:‬في ال ّ‬
‫سداسي ‪ -:05‬اللسانيات العربية ولسانيات‬ ‫صرف‪ -:‬فلسفة اللغة‪ -:‬في ال ّ‬
‫‪ -:04‬علم ال ّ‬
‫ال ّنص والمدارس ال ّنحوية وعلم الدّاللة والمعجمية ونظرية ال ّنظم‪ -‬في ال ّ‬
‫سداسي‬
‫‪:06‬أصول ال ّنحو ‪ ،02‬وعلم المفردات وال ّ‬
‫صوتيات‪.‬‬
‫وأ ّما عن الدّراسات األدبية فنجد أه ّمية القرآن وعلومه حاضرة في المقاييس‬
‫شعر في صدر اإلسالم‪،‬‬ ‫سداسي ‪ -:01‬ال ّنص األدبي القديم (شعر)‪:‬ال ّ‬ ‫اآلتية‪ -:‬في ال ّ‬
‫سياسي في‬ ‫شعر ال ّ‬ ‫والتصوف‪ ،‬ال ّ‬
‫ّ‬ ‫وشعر الفتوحات‪ ،‬المراثي ال ّنبوية‪ ،‬شعر ّ‬
‫الزهد‬
‫شعر عند ال ّنقاد المشارقة‬ ‫المشرق والمغرب‪ -،‬ال ّنقد األدبي القديم (‪ :)1‬مفهوم ال ّ‬
‫صة ما يتعلّق بالمجاز‪ ،‬واإلعجاز‬ ‫والمغاربة‪ ،‬نظرية ال ّنظم‪ -.‬البالغة العربية‪:‬وخا ّ‬
‫سداسي ‪ -:02‬ال ّنص األدبي القديم (نثر)‪:‬الخطابة في صدر اإلسالم‪،‬‬ ‫القرآني‪ -.‬في ال ّ‬
‫والمقامات والمنامات‪ -.‬ال ّنقد األدبي القديم (‪ :)2‬ال ّنقد وقضية اإلعجاز‪ ،‬قضية‬
‫التّأويل‪ -.‬مصادر اللغة واألدب وال ّنقد‪:‬وذلك باعتبار القرآن مصدرا للمصادر‪- ،‬‬
‫تاريخ الحضارة اإلنسانية‪:‬الحضارة العربية اإلسالمية‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ /2‬تعريف القرآن‪ ،‬الكتاب‪ ،‬الوحي‪ ،‬المعجزة‪ ،‬ال َّنبي‪:‬‬
‫أ‪ /‬تعريف القرآن‪:‬‬
‫التحرج في تعامل العلماء مع ال ّنص القرآني تعريفا وتأويال‪ ،‬لما‬
‫ّ‬ ‫تغلب صفة‬
‫يتميّز به (القرآن) من قدسية‪ ،‬وما يترتّب على القول فيه بغير علم من وعيد‪ .‬وقد‬
‫يأخذنا هذا إلى تعريف القرآن بقولنا‪ :‬القرآن هو القرآن ! والوقوف عند هذا الحدّ‪.‬‬
‫غير أ ّننا نجد في كتب علوم القرآن حيّزا قام فيه العلماء بعرض مجموعة من‬
‫التّعريفات للقرآن الكريم‪ ،‬لغة من حيث االشتقاق‪ ،‬واصطالحا من وجهات نظر‬
‫مختلفة‪ :‬أصولية وكالمية وغيرها ‪..‬‬
‫ٌ‬
‫موجز لك ّل ذلك(‪:)2‬‬ ‫عرض‬
‫ٌ‬ ‫وفيما يلي‬

‫• القرآن لغة‪:‬‬
‫ال ما كان من هذه‬‫لم يرد أي تعريف للقرآن في معجم العين للخليل بن أحمد إ ّ‬
‫اإلشارة‪ ،‬في كتاب القاف‪ ،‬باب‪ :‬ق ر (اويء) معهما‪ « :‬قرء‪ :‬وقر ْأت القرآن عن‬
‫ب أو نظرت فيه‪ ،‬هكذا يقال وال يقال‪ :‬قرأت إال ما نظرت فيه من شعر أو‬ ‫ظهر ْقل ٍ‬
‫حديث‪ .‬وقرأ فالن قِّراءة ا حسنة‪ ،‬فالقرآن مقرو ٌء‪ ،‬وأنا قارئٌ‪ .‬ورجل قار ٌ‬
‫ئ عابد ناسك‬
‫وفعله التَّ ّ‬
‫قري وال ِّقراءة »(‪.)3‬‬
‫وقد «اختلف العلماء في لفظ القرآن لك ّنهم اتّفقوا على أ ّنه اسم وليس بفع ٍل وال‬
‫حرف ‪ .‬فذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي إلى أنه اسم جامد غير مهموز وبه قرأ‬
‫ابن كثير وهو اسم للقرآن مثل التوراة واإلنجيل‪.‬‬
‫وذهبت طائفة إلى أن هذا االسم مشتق ثم افترقوا إلى فرقتين‪:‬‬
‫فقال ت فرقة منهم إن النون أصلية وعلى هذا يكون االسم مشتقا من مادة "ق ر ن"‬
‫ثم اختلفوا‪:‬‬
‫‪ -1‬فقالت طائفة منهم األشعري(‪ :)4‬إنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته‬
‫إليه ومنه قولهم‪ :‬قرن بين البعيرين إذا جمع بينهما ومنه سمي الجمع بين الحج‬
‫والعمرة في إحرام واحد قران‪.‬‬

‫‪ :)2‬اإلشارة إلى عدم اهتمام أكثر المراجع بهذه الجزئية رغم أهميتها‪.‬‬
‫‪ :)3‬معجم العين‪ ،‬الخليل بن أحمد‪ ،‬كتاب القاف‪ ،‬باب‪ :‬ق ر (اويء) معهما‪.‬‬
‫‪ :)4‬البرهان في علوم القرآن‪ :‬الزركشي ج‪ 1‬ص ‪.278‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ -2‬وقالت طائفة منهم الفراء(‪ :)5‬إنه مشتق من القرائن جمع قرينة ألن آياته يشبه‬
‫بعضها بعضا‪.‬‬
‫وقالت فرقة منهم‪ :‬إن الهمزة أصلية ثم افترقوا أيضا إلى فرقتين‪:‬‬
‫‪ -1‬فقالت طائفة منهم اللحياني(‪ :)6‬إن القرآن مصدر مهموز بوزن الغفران مشتق‬
‫من قرأ بمعنى تال سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر ومنه قوله تعالى‪ِّ { :‬إ َّن‬
‫عليْنا ج ْمعه وق ْرآنه‪ ،‬فإِّذا قرأْناه فاتَّ ِّب ْع ق ْرآنه}(‪ )7‬أي قراءته‪.‬‬
‫‪ -2‬وقالت طائفة منهم الزجاج(‪ :)8‬إنه وصف على وزن فعالن مشتق من الق ْرء‬
‫بمعنى الجمع ومنه‪ :‬قرأ الماء في الحوض إذا جمعه قال ابن األثير‪" :‬وسمي القرآن‬
‫قرآ انا ألنه جمع القصص واألمر والنهي والوعد والوعيد واآليات والسور بعضها إلى‬
‫بعض وهو مصدر كالغفران والكفران"(‪.)9‬‬

‫• القرآن اصطالحا‪:‬‬

‫اختص القرآن الكريم بخصائص كثيرة ولعل هذه الخصائص سبب االختالف في‬
‫تعريف القرآن بين العلماء‪ ،‬فكل تعريف يذكر خاصية للقرآن يعرف بها ال يذكرها‬
‫اآلخر ولهذا تعددت التعريفات‪.‬‬
‫فإذا كان هناك رجل طويل ويلبس ثوباا أبيض ورداء أحمر وحوله أشخاص أقصر‬
‫ضا‪ ،‬فإن قلت ‪:‬فالن هو الطويل فقد‬
‫منه قامة ويلبسون ثياباا ملونة وأردية بي ا‬
‫عرفته‪ ،‬وإن قلت ‪:‬إنه الذي يلبس الثوب األبيض فقد عرفته وإن قلت الذي يلبس‬
‫الرداء األحمر فقد عرفته والمقصود في الكل واحد وإن اختلفت التعريفات‪.‬‬
‫وللعلماء في تعريف القرآن الكريم صيغ متعددة بعضها طويل ولعل أقربها تعريفهم‬
‫للقرآن بأنه‪« :‬كالم للا تعالى المنزل على محمد ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬المتعبد‬
‫بتالوته»»(‪.)10‬‬

‫‪ :)5‬االتقان‪ :‬ج‪ 1‬ص‪.87‬‬


‫‪ :)6‬االتقان‪ :‬ج‪ 1‬ص‪.87‬‬
‫‪ :)7‬سورةالقيامة‪ :‬اآلية ‪.18-17‬‬
‫‪ :)8‬البرهان في علوم القرآن‪ :‬الزركشي ج‪ 1‬ص ‪. 278‬‬
‫‪ :)9‬النهاية في غريب الحديث واألثر‪ :‬ابن األثير ج‪ 4‬ص ‪.30‬‬
‫‪ :)10‬ينظر‪ :‬فهد الرومي‪ ،‬دراسات في علوم القرآن الكريم‪ ،‬وهو من القالئل الّذين عرضوا هذا التعريف بمثل‬
‫أن الهوامش‪ :‬من (‪ )04‬إلى (‪ )09‬كلّها نقال عن هذا المرجع‪.‬‬ ‫هذا االختصار المحكم‪ .‬مع اإلشارة إلى ّ‬

‫‪9‬‬
‫ب‪ /‬تعريف الوحي‪:‬‬
‫ٌ‬
‫مبثوث في جميع كتب علوم القرآن‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إن تعريف الوحي لغة واصطالحا‬
‫وسنختار من بينها ما قام به د‪ ،‬مصطفى ديب البغا من تلخيص في كتابه‬
‫(الواضح)(‪:)11‬‬

‫‪ -‬الوحي لغة‪:‬‬

‫يقال وحيت إليه وأوحيت‪ :‬إذا كلّمته بما تخفيه عن غيره‪ .‬والوحي‪ :‬اإلشارة‬
‫مجرد‬
‫ّ‬ ‫السريعة‪ ،‬ويكون ذلك على سبيل الرمز والتعريض‪ ،‬وقد يكون بصوت‬
‫وبإشارة ببعض الجوارح‪ .‬فمادة الكلمة إذا تدل على معنيين أصليين هما الخفاء‬
‫والسرعة‪ ،‬ولذا قيل في معناه‪ :‬اإلعالم الخفي السريع الخاص بمن يو ّجه إليه بحيث‬
‫يخفى على غيره‪ .‬وهذا المعنى اللغوي للوحي يشمل‪:‬‬

‫‪ - 1‬اإللهام الغريزي‪ :‬كالوحي إلى النحل؛ قال للا تعالى‪ :‬وأ ْوحى ربُّك ِّإلى ال َّنحْ ِّل أ ِّن‬
‫اتَّ ِّخذِّي ِّمن ْال ِّجبا ِّل بيوتا ا و ِّمن ال َّ‬
‫شج ِّر و ِّم َّما ي ْع ِّرشون [النحل‪.]68 :‬‬

‫‪ - 2‬اإللهام الفطري؛ كالوحي إلى أ ّم موسى‪ :‬وأ ْوحيْنا ِّإلى أ ِّ ّم موسى أ ْن أ ْر ِّ‬
‫ض ِّعي ِّه‬
‫[القصص‪.]7 :‬‬

‫ياطين ليوحون ِّإلى‬


‫ش ِّ‬‫‪ - 3‬وسوسة الشيطان وتزيينه الشر في نفس اإلنسان‪ :‬و ِّإ َّن ال َّ‬
‫أ ْو ِّليا ِّئ ِّه ْم ِّليجادِّلوك ْم [األنعام‪.]121 :‬‬

‫‪ - 4‬اإلشارة السريعة على سبيل الرمز‪ ،‬كإيحاء زكريا عليه السالم لقومه‪:‬‬

‫فخرج على ق ْو ِّم ِّه ِّمن ْال ِّمحْ را ِّ‬


‫ب فأ ْوحى ِّإل ْي ِّه ْم أ ْن س ِّّبحوا ب ْكرة ا وع ِّشيًّا [مريم‪.]11 :‬‬

‫وحي ربُّك ِّإلى ْالمال ِّئك ِّة أ ِّّني معك ْم‬


‫‪ - 5‬وما يلقيه للا إلى مالئكته من أمر ليفعلوه‪ِّ :‬إ ْذ ي ِّ‬
‫فث ِّّبتوا الَّذِّين آمنوا [األنفال‪.]126 :‬‬

‫‪ :) 11‬ينظر‪ :‬الواضح في علوم القرآن‪( ،‬تأليف مشترك مع‪ :‬محيى الدين ديب مستو) ط‪ ،2‬دار الكلم الطيب‪ /‬دار‬
‫العلوم اإلنسانية–دمشق‪ 1998 ،‬م‪ .‬صـ‪.16،17 :‬‬

‫‪10‬‬
‫ووحي للا إلى أنبيائه قد روعي فيه المعنيان األصليان لكلمة الوحي وهما‪:‬‬
‫الخفاء والسرعة‪ ،‬وهذا معنى المصدر‪ .‬ويطلق الوحي على متعلّقه وهو ما وقع به‬
‫عرفهم به من أنباء‬
‫الوحي‪ ،‬أي اسم المفعول‪ :‬وهو ما أنزله للا تعالى على أنبيائه وما ّ‬
‫الغيب والشرائع والحكم‪ ،‬ومنهم من أعطاه كتابا‪ ،‬أي تشريعا‪ ،‬ومنهم من لم يعطه‪.‬‬

‫‪ -‬الوحي اصطالحا‪:‬‬

‫ي‬
‫أما التعريف الشرعي للوحي إلى األنبياء فقد عرفوه بأنه‪ :‬إعالم للا تعالى لنب ّ‬
‫من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه‪ .‬أو‪ :‬هو كالم للا تعالى المنزل على نبي من أنبيائه‪.‬‬
‫وهو تعريف له بمعنى اسم المفعول‪ ،‬أي‪ :‬للموحى به‪.‬‬

‫وعرفه الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد‪ ،‬فقال‪« :‬عرفان يجده الشخص‬ ‫ّ‬
‫من نفسه مع اليقين بأنه من قبل للا بواسطة أو بغير واسطة‪ ،‬واألول بصوت يتمثّل‬
‫ويفرق بينه وبين اإللهام‪ ،‬بأن اإللهام وجدان تستيقنه النفس‬
‫ّ‬ ‫لسمعه أو بغير صوت‪.‬‬
‫فتنساق إلى ما يطلب من غير شعور منها من أين أتى‪ ،‬وهو أشبه بوجدان الجوع‬
‫والعطش والسرور»‪.‬‬

‫وهو تعريف للوحي بمعنى المصدر‪ ،‬وبدايته تشمل ما يس ّمونه بحديث النفس‬
‫أو الكشف‪ ،‬ولكن التفريق بين الوحي وبين اإللهام في عجز التعريف ينفي هذا ويفسر‬
‫ي من خارج نفسه نازال عليها من السماء‪،‬‬ ‫معنى الوحي الشرعي‪ :‬على ما يتلقاه النب ّ‬
‫قال تعالى‪ :‬و ِّإ َّنك لتلقَّى ْالق ْرآن ِّم ْن لد ْن ح ِّك ٍيم ع ِّل ٍيم [النمل‪.]6 :‬‬

‫‪11‬‬
‫المحاضرة ‪ :02‬تاريخ القرآن (أوال)‪:‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫‪ /1‬نزول القرآن‪.‬‬
‫‪ /2‬بدايات الوحي‪.‬‬
‫‪ /3‬التّنجيم‪.‬‬

‫‪ /1‬نزول القرآن(‪:)12‬‬
‫يعتبر هذا المبحث من المباحث المهمة؛ إذ به يعرف تنزالت القرآن الكريم‬
‫ومتى نزل وكيف نزل وعلى من نزل وكيف كان يتلقاه جبريل عليه السالم من للا‬
‫تبارك وتعالى وعلى أي حال كان يتلقّاه الرسول صلوات للا وسالمه عليه من جبريل‬
‫وال شك أن العلم بذلك يتوقف عليه كمال اإليمان بأن القرآن من عند للا وأنه المعجزة‬
‫العظمى للنبي‪ ،‬كما أن كثيرا من المباحث التي تذكر في هذا الفن يتوقف على العلم‬
‫بنزوله‪ ،‬فهو كاألصل بالنسبة لغيره‪ ،‬والعلم باألصل مقدم على العلم بالفرع‪.‬‬
‫‪ -‬النّزول لغة‪:‬‬
‫النزول لغة يطلق على‪ :‬الحلول يقال نزل فالن بالمدينة‪ :‬ح ّل بها‪ ،‬وبالقوم‪ :‬ح ّل‬
‫بينهم‪ ،‬والمتعدي منه معناه‪ :‬اإلحالل‪ ،‬يقال‪ :‬أنزلته بين القوم‪ ،‬أي أحللته بينهم‪ ،‬ومنه‬
‫قوله تعالى‪{ :‬ربّ ِّ أ ْن ِّز ْل ِّني م ْنز اال مباركا ا وأ ْنت خيْر ْالم ْن ِّز ِّلين} [سورة المؤمنون‪.]29 :‬‬
‫علو إلى أسفل‪ ،‬يقال‪ :‬نزل فالن من‬ ‫ويطلق أيضا‪ :‬على تحرك الشيء من ّ‬
‫الجبل‪ ،‬والمتعدي منه معناه‪ :‬التحريك من علو إلى أسفل‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪{ :‬أ ْنزل ِّمن‬
‫ماء ما اء‪ }...‬اآلية [سورة الرعد‪.]17 :‬‬
‫س ِّ‬‫ال َّ‬

‫‪ :) 12‬ينظر‪ :‬أبو شهبة‪ ،‬محمد محمد‪ :‬المدخل إلى دراسة القرآن الكريم‪ ،‬ط‪ ،3‬دار اللّواء‪ّ ،‬‬
‫الرياض‪1987 ،‬م‪ .‬ص‬
‫‪ 47‬وما بعدها‪( .‬بتصرف)‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ -‬النّزول اصطالحا‪:‬‬
‫يستفاد من األخبار الصحيحة واآلراء الّتي أوردها العلماء أن القرآن الكريم‬
‫نزل من لدن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬على ثالث مراحل أو ثالث تنزالت‪:‬‬
‫أ‪ /‬التنزيل األول‪:‬‬
‫هو صدور القرآن وانبثاقه من الذات اإللهية إلى اللوح المحفوظ وذلك أمر من‬
‫األمور الغيبية األزلية التي جاء بها الخبر الصادق ولزمنا اإليمان بها دون علم‬
‫بكيفيتها إذ ال يعلم كيفية ذلك إال للا ‪ -‬تعالى ‪ ،-‬وكان هذا التنزيل جملة ال مفرقاا‪ ،‬وللا‬
‫‪ -‬تعالى ‪ -‬يقول‪[ :‬بل هو قرآن مجيد (‪ )21‬في لوح محفوظ (‪( ])22‬سورة البروج)‪.‬‬
‫والظاهر أن تنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ كان بطريقة وفي وقت ال يعلمها‬
‫إال للا‪ ،‬وكان جملة ال مفرقاا فوجب اإليمان به مع تفويض علم كيفيته إلى للا ‪ -‬عز‬
‫وجل ‪ -‬وربما يسأل سائل ويقول‪ :‬ما الحكمة في تنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ؟‬
‫والجواب‪ :‬أن الحكمة في هذا التنزل ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح‬
‫المحفوظ نفسه‪ ،‬حيث جعله للا سجالا جام اعا لكل ما قضى للا وقدَّر وكل ما كان وما‬
‫يكون فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة للا ‪ -‬سبحانه‬
‫وتعالى ‪.-‬‬
‫ب‪/‬التنزيل الثاني‪:‬‬
‫فكان من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا‪ ،‬والدليل قوله ‪-‬تعالى‪:‬‬
‫{إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} {الدخان‪ .}3 :‬وقوله تعالى ‪{ :‬إنا أنزلناه‬
‫في ليلة القدر}{القدر‪ ،}1 :‬وقوله ‪ -‬تعالى ‪ { :-‬شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}‬
‫{البقرة‪ ،} 185 :‬فقد دلت هذه اآليات الثالث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة‬
‫توصف بأنها مباركة أخذاا من آية الدخان‪ ،‬وتسمى ليلة القدر أخذاا من آية القدر‪ ،‬وهي‬
‫من ليالي شهر رمضان أخذاا من آية البقرة‪ ،‬وهذا جمعاا بين النصوص في العمل بها‪،‬‬
‫ومعلوم باألدلة القاطعة أن القرآن أنزل على النبي ‪ -‬صلى للا عليه وسلم ‪ -‬مفرقاا ال‬
‫في ليلة واحدة‪ ،‬بل على مدى سنين عديدة‪ ،‬فيتعين أن يكون هذا النزول الذي نوهت به‬
‫اآليات الثالث نزوالا آخر غير النزول على النبي ‪ -‬صلى للا عليه وسلم –‪..‬‬
‫ج‪ /‬التنزيل الثالث‪:‬‬
‫وهو المرحلة األخيرة التي منها شع النور على العالم‪ ،‬ووصلت هداية للا إلى‬
‫الخلق‪ ،‬وكان النزول بواسطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب النبي ‪ -‬صلى للا‬

‫‪13‬‬
‫عليه وسلم ‪{ :-‬نزل به الروح األمين (‪ )193‬على قلبك لتكون من المنذرين (‪)194‬‬
‫بلسان عربي مبين} {الشعراء‪ ،}195 -193 :‬حيث كان ينزل به مفرقاا على حسب‬
‫الحوادث واألحوال حسب مشيئة للا ‪ -‬تعالى ‪ -‬فيوحي به إلى النبي ‪ -‬صلى للا عليه‬
‫وسلم ‪ ،-‬حيث كان للا ‪ -‬تعالى ‪ -‬يجمعه له في صدره‪ ،‬وينطقه على لسانه‪{ :‬ال تحرك‬
‫به لسانك لتعجل به (‪ )16‬إن علينا جمعه وقرآنه (‪(})17‬سورة القيامة)‬
‫وقد د ام هذا التنزيل ثالثة وعشرين سنة حيث ابتدأ من بدء الوحي باآليات‬
‫األولى وانتهى بآخر ما أنزل من القرآن قبيل وفاته‪.‬‬
‫‪ /2‬بدايات الوحي(‪:)13‬‬
‫منذ أن نزل أول شعاع من نور القرآن الكريم والمسلمون يولونه عنايتهم‬
‫واهتمامهم إلى يومنا هذا‪ ،‬بل إلى يوم الدين‪ ،‬حتى بلغت عنايتهم أن عرفوا ما نزل‬
‫بمكة وما نزل بالمدينة وما نزل بالطائف وما نزل بالجحفة وما نزل ببيت المقدس‬
‫وما نزل بالحديبية‪ ،‬وما نزل في الليل وما نزل بالنهار وما نزل في الصيف وما نزل‬
‫في الشتاء‪ ،‬وما نزل في السفر وما نزل في الحضر‪ ،‬ومن ذلك معرفة أول ما نزل‬
‫وآخر ما نزل‪.‬‬
‫ومعرفة ذلك علم توقيفي يعتمد على النقل عن الصحابة أو التابعين وال مجال‬
‫لالجتهاد فيه إال للترجيح بين األدلة والنقول‪.‬‬
‫ويرجع االختالف في معرفة أول ما نزل ومعرفة آخر ما نزل إلى أن صاحب‬
‫كل قول يخبر عن حد علمه أو عما بلغه من الدليل‪ ،‬أو أنه أراد أولية مخصوصة‬
‫ففهمت على غير ما أراد ونحو ذلك‪.‬‬
‫وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة منها‪:‬‬
‫[القول األول]‪:‬‬
‫إن أول ما نزل من القرآن "صدر سورة اقرأ"‪ ،‬وهو قوله تعالى‪{ :‬ا ْقرأْ ِّباس ِّْم‬
‫ق‪ ،‬ا ْقرأْ وربُّك ْاأل ْكرم‪ ،‬الَّذِّي علَّم ِّب ْالقل ِّم‪ ،‬علَّم‬ ‫ر ِّّبك الَّذِّي خلق‪ ،‬خلق ْ ِّ‬
‫اإل ْنسان ِّم ْن عل ٍ‬
‫اإل ْنسان ما ل ْم ي ْعل ْم} [سورة العلق ‪ ]5-1‬وهذا القول أصح األقوال وأرجحها‪.‬‬ ‫ْ ِّ‬
‫[القول الثاني]‪:‬‬
‫أول ما نزل سورة المدثر‪.‬‬

‫‪ :) 13‬ينظر‪ :‬فهد الرومي‪ ،‬م س‪ ،‬صـ‪( 232 -227 :‬باختصار)‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫[القول الثالث]‪:‬‬
‫إن أول ما نزل سورة الفاتحة‪.‬‬
‫[القول الرابع]‪:‬‬
‫إن أول ما نزل "بسم للا الرحمن الرحيم"‪.‬‬
‫‪ /3‬التّنجيم‪:‬‬
‫من األدلة على نزول القرآن الكريم منج اما‪:‬‬
‫ث ون َّز ْلناه ت ْن ِّز ا‬
‫يال} [سورة‬ ‫‪ -1‬قوله تعالى‪{ :‬وق ْرآ انا فر ْقناه ِّلت ْقرأه على ال َّن ِّ‬
‫اس على م ْك ٍ‬
‫اإلسراء‪.]106 ،‬‬
‫‪ -2‬قوله تعالى‪{ :‬وقال الَّذِّين كفروا ل ْوال ن ِّ ّزل عل ْي ِّه ْالق ْرآن ج ْملةا و ِّ‬
‫احدة ا كذ ِّلك ِّلنث ِّّبت ِّب ِّه‬
‫يال}[سورة الفرقان‪.]32 ،‬‬ ‫فؤادك ورتَّ ْلناه ت ْر ِّت ا‬

‫‪ -3‬ما هو معلوم بالضرورة من سيرة الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬من نزول‬
‫القرآن عليه مفرقاا من بعثته إلى وفاته عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫وليس هناك مقدار ثابت لما ينزل من القرآن الكريم في كل مرة‪ ،‬وتفصيل ذلك‬
‫على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ -1‬اآليات‪.‬‬
‫‪ -2‬قصار السور‪.‬‬
‫‪ -3‬طوال السور‪.‬‬
‫أما بالنسبة لآليات فقد ينزل خمس آيات أو أكثر أو أقل‪ ،‬بل قد ينزل بعض آية‬
‫{من ْالفجْ ِّر} من قوله تعالى‪{ :‬وكلوا وا ْشربوا حتَّى يتبيَّن لكم ْالخيْط‬‫كقوله تعالى‪ِّ :‬‬
‫ْاألبْيض ِّمن ْالخي ِّْط ْاألسْو ِّد ِّمن ْالفجْ ِّر} [سورة البقرة‪ ]187 ،‬وكقوله تعالى‪{ :‬غيْر‬
‫أو ِّلي الضَّر ِّر} [سورة النساء‪ ]95 ،‬ولعل غالب ما ينزل خمس آيات وعشر آيات‪ .‬أما‬
‫قصار السور فمنها ما كان ينزل جملة واحدة كالفاتحة والمعوذات‪ ،‬ومنها ما ينزل‬
‫مفرقاا كسورة العلق والمدثر والضحى‪ .‬وأما السبع الطول فلم ينزل منها سورة جملة‬
‫واحدة إال سورة األنعام‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫المحاضرة ‪ :03‬تاريخ القرآن (ثانيا)‪:‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫‪ /1‬مراحل جمع القرآن‪.‬‬
‫‪ /2‬معايير ترتيب آيات وسور القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪ /1‬مراحل جمع القرآن(‪:)14‬‬


‫يطلق جمع القرآن الكريم ويراد به أحد ثالثة أنواع‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬جمعه بمعنى حفظه في الصدور واستظهاره‪.‬‬
‫‪ -‬الثاني‪ :‬جمعه بمعنى كتابته وتدوينه كله حروفاا وكلمات وآيات وسورا‪.‬‬
‫‪ -‬الثالث‪ :‬جمعه بمعنى تسجيله تسجيال صوتيا‪.‬‬
‫ولكل نوع من هذه األنواع الثالثة تاريخ وخصائص ومزايا‪ ،‬وسنر ّكز في‬
‫سياق على ال ّجمع بالمفهوم الثّاني‪ ،‬وقد جمع القرآن الكريم بهذا المعنى ثالث‬
‫هذا ال ّ‬
‫مرات‪:‬‬
‫‪ -‬الجمع األول‪ :‬في عهد الرسول صلى للا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -‬الجمع الثاني‪ :‬في عهد أبي بكر الصديق رضي للا عنه‪.‬‬
‫‪ -‬الجمع الثالث‪ :‬في عهد عثمان بن عفان رضي للا عنه‪.‬‬
‫‪-‬المراد بالجموع الثالثة‪:‬‬
‫قد يشكل على الذهن كيف يجمع الشيء الواحد ثالث مرات فإذا كان ج ِّمع في عهد‬
‫الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬فكيف يجمع في عهد أبي بكر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬وإذا‬
‫جمع في عهد أبي بكر ثانية فكيف يجمع ثالثة‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬أنه ال يراد بالجمع معناه الحقيقي في جميع المراحل‪ .‬فالمراد بجمع القرآن‬
‫في عهد الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم "كتابته وتدوينه" والمراد بجمع القرآن في‬

‫الرومي‪ ،‬م س‪ ،‬ملخص لفصل من صـ ‪.97-66‬‬


‫‪ ) 14‬ينظر‪ :‬فهد ّ‬

‫‪16‬‬
‫عهد أبي بكر الصديق رضي للا عنه "جمع في مصحف واحد"‪ .‬والمراد بجمع‬
‫القرآن في عهد عثمان رضي للا عنه "نسخه" في مصاحف متعددة‪.‬‬
‫ويظهر بهذا أن الجمع بمعناه الحقيقي كان في عهد أبي بكر الصديق رضي للا عنه‪.‬‬
‫وسنتحدث عن كل مرحلة من مراحل هذه الجمع‪:‬‬
‫ا‬
‫أوال‪ :‬جمع القرآن بمعنى كتابته وتدوينه في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫‪ -‬كتاب الوحي‪:‬‬
‫اتخذ الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬عدداا من الصحابة كان إذا نزل عليه شيء من‬
‫القرآن أمر أحدهم بكتابته وتدوينه ويعرف هؤالء الصحابة بـ "كتّاب الوحي"‬
‫ومنهم‪:‬الخلفاء األربعة‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وأبي بن كعب‪ ،‬ومعاوية بن أبي سفيان‪ ،‬ويزيد‬
‫بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاصي وحنظلة بن الربيع‪ ،‬والزبير بن العوام‬
‫وعامر بن فهيرة‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬وعبد للا بن األرقم‪ ،‬والمغيرة بن شعبة‪ ،‬وعبد‬
‫للا بن رواحة‪ ،‬وخالد بن الوليد‪ ،‬وثابت بن قيس‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪ -‬صفة هذا الجمع‪:‬‬
‫وصف هذا الجمع صحابيان جليالن فقال زيد بن ثابت رضي للا عنه‪" :‬كنا عند‬
‫رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬نو ِّلّف القرآن من ِّ ّ‬
‫الرقاع" أي نجمعه لترتيب آياته‬
‫من الرقاع‪ ،‬وروى عثمان بن عفان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬أن رسول للا صلى للا عليه‬
‫وسلم‪ :‬كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتبه فيقول‪" :‬ضعوا هذه في‬
‫السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"‪ .‬الحديث‪.‬‬
‫‪ -‬أدوات الكتابة‪:‬‬
‫لم تكن أدوات الكتابة ميسرة للصحابة في ذلك الوقت فكانوا يكتبونه على كل ما تناله‬
‫أيديهم من العسب "وهي جريد النخل"‪.‬‬
‫واللّخاف‪" :‬وهي الحجارة الرقيقة"‪.‬‬
‫ِّ‬
‫والرقاع‪" :‬وهي القطعة من الجلد أو الورق"‪.‬‬
‫الكرانيف‪" :‬وهي أطراف العسب العريضة"‪.‬‬
‫واألقتاب‪" :‬جمع قتب وهي الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه"‪.‬‬
‫واألكتاف‪" :‬جمع كتف وهي عظم عريض لإلبل والغنم"‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫وكان كتاب الوحي ‪-‬رضي للا عنهم‪ -‬يضعون كل ما يكتبون في بيت رسول للا ‪-‬‬
‫صلى للا عليه وسلم‪ -‬وينسخون ألنفسهم منه نسخة‪.‬‬
‫‪ -‬مميزات جمع القرآن في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫‪ -1‬ثبت في السنة نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف ومما ورد في ذلك حديث‬
‫عمر بن الخطاب ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬وفيه قال رسول للا صلى للا عليه وسلم‪" :‬إن هذا‬
‫القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" وقد كانت كتابة القرآن في عهد‬
‫الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬على األحرف السبعة‪.‬‬
‫‪ -2‬أجمع العلماء على أن جمع القرآن في عهد رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬كان‬
‫مرتب اآليات أما ترتيب السور ففيه خالف‪.‬‬
‫‪ -3‬بعض ما كتب في عهد الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬نسخت تالوته وظل مكتوباا‬
‫حتى توفي رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬وفي الحديث عن عائشة رضي للا عنها‬
‫أنها قالت‪ :‬كان فيما أنزل من القرآن‪" :‬عشر رضعات معلومات يحرمن" ثم نسخن‬
‫"بخمس معلومات" فتوفي رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬وهن فيما يقرأ من‬
‫القرآن‪.‬‬
‫عا ف ي‬
‫‪ -4‬لم يكن القرآن الكريم في عهد الرسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬مجمو ا‬
‫مصحف واحد‪ ،‬بل كان مفرقا في الرقاع واألكتاف واللخاف وغيرها؛ ولهذا قال زيد‬
‫بن ثابت رضي للا عنه‪" :‬قبض النبي ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬ولم يكن القرآن جمع في‬
‫ضا لما أمر بجمع القرآن في عهد أبي بكر رضي للا عنه‪" :‬فتتبعت‬ ‫شيء"‪ ،‬وقال أي ا‬
‫القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال"‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي هللا عنه‪:‬‬
‫‪ -‬سببه‪:‬‬
‫بعد وفاة الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬ارتدت بعض قبائل العرب فأرسل أبو‬
‫بكر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬خليفة الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬الجيوش لقتال المرتدين‬
‫وكان قوام هذه الجيوش هم الصحابة رضوان للا عليهم وفيهم حفاظ القرآن‪ ،‬وكانت‬
‫حروب الردة شديدة قتل فيها عدد من القراء الذين يحفظون القرآن الكريم‪ ،‬فخشي‬
‫بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته‪ ،‬فأراد أن يجمع القرآن في‬
‫مصحف واحد بمحضر من الصحابة‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي للا عنه قال‪ :‬أرسل‬
‫إلي أبو بكر ‪-‬مقتل أهل اليمامة‪ -‬فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي للا‬
‫عنه‪ :‬إن عمر أتاني فقال‪ :‬إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن‪ ،‬وإني أخشى‬
‫أن يستحر القتل بالقرآء بالموطن فيذهب كثير من القرآن‪ ،‬وإني أرى أن تأمر بجمع‬
‫القرآن‪ ،‬قلت لعمر‪ :‬كيف تفعل شيئاا لم يفعله رسول للا عليه وسلم‪ .‬قال عمر‪ :‬هذا وللا‬
‫خير‪ ،‬فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح للا صدري لذلك‪ ،‬ورأيت في ذلك الذي كنت‬
‫تكتب الوحي لرسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬فتتبع القرآن فاجمعه‪ ،‬فوللا لو كلفوني‬
‫نق ل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن‪ ،‬قلت‪ :‬كيف‬
‫تفعلون شيئاا لم يفعله رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬قال‪ :‬هو وللا خير فلم يزل أبو‬
‫بكر يراجعني حتى شرح للا صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي للا‬
‫عنهما‪ ،‬فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر‬
‫سورة التوبة مع أبي خزيمة األنصاري لم أجدها مع أحد غيره‪{ :‬لق ْد جاءك ْم رسو ٌل‬
‫يز عل ْي ِّه ما ع ِّنتُّ ْم} حتى خاتمة براءة‪ ،‬فكانت الصحف عند أبي بكر‬
‫ِّم ْن أنفسِّك ْم ع ِّز ٌ‬
‫حتى توفاه للا ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي للا عنها"‪.‬‬
‫‪ -‬تاريخ هذا الجمع‪:‬‬
‫هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة‪ ،‬وفي السنة الثانية عشرة من الهجرة‪.‬‬
‫‪ -‬أسباب اختيار زيد بن ثابت رضي هللا عنه لهذا الجمع‪:‬‬
‫ترجع أسباب اختيار زيد بن ثابت ألمور منها‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه كان من حفاظ القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ -2‬أنه شهد العرضة األخيرة للقرآن الكريم‪ ،‬وقد روى البغوي عن أبي عبد الرحمن‬
‫السلمي أنه قال‪ :‬قرأ زيد بن ثابت عن رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬في العام الذي‬
‫توفاه للا فيه مرتين إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه‪" :‬شهد العرضة األخيرة‪ ،‬وكان‬
‫يقرئ الناس بها حتى مات‪ ،‬ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه‪ ،‬وواله عثمان‬
‫كتبة المصاحب رضي للا عنهم أجمعين"‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه من كتاب الوحي للرسول صلى للا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -4‬خصوبة عقله‪ ،‬وشدة ورعه‪ ،‬وكمال خلقه‪ ،‬واستقامة دينه‪ ،‬وعظم أمانته ويشهد‬
‫لذلك قول أبي بكر رضي للا عنه له‪" :‬إنك رجل شاب‪ ،‬عاقل‪ ،‬وال نتهمك وقد كنت‬
‫تكتب الوحي لرسول للا صلى للا عليه وسلم" وقوله نفسه رضي للا عنه‪" :‬فوللا لو‬
‫كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن"‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫‪ -‬منهج زيد في هذا الجمع‪:‬‬
‫من المعلوم أن زيد بن ثابت رضي للا عنه كان يحفظ القرآن كله في صدره‪,‬‬
‫وكان القرآن مكتوباا عنده ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه وال على ما كتب بيده‪،‬‬
‫وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب‪ ،‬وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب؛ ولهذا‬
‫يقول الزركشي رحمه للا تعالى عن زيد‪" :‬وتتبعه للرجال كان لالستظهار ال‬
‫الستحداث العلم" وقال ابن حجر رحمه للا تعالى‪" :‬وفائدة التتبع المبالغة في‬
‫االستظهار والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى للا عليه وسلم"‪.‬‬
‫وقد رسم أبو بكر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر بن‬
‫الخطاب رضي للا عنه‪" :‬اقعدوا على باب المسجد‪ ،‬فمن جاءكما بشاهدين على شيء‬
‫من كتاب للا فاكتباه"‪ .‬وقد امتثال ذلك فقد قام عمر في الناس فقال‪" :‬من كان تلقى من‬
‫رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬شيئاا من القرآن فليأتنا به"‪.‬‬
‫وقد بين زيد نفسه المنهج الذي سلكه بقوله رضي للا عنه‪" :‬فتتبعت القرآن‬
‫أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال"‪.‬‬
‫وعلى هذا فإن منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق ‪-‬‬
‫رضي للا عنه‪ -‬يقوم على أسس أربعة‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬ما كتب بين يدي رسول للا صلى للا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -‬الثاني‪ :‬ما كان محفو ا‬
‫ظا في صدور الرجال‪.‬‬
‫‪ -‬الثالث‪ :‬أن ال يقبل شيئاا من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كتب بين يدي‬
‫الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬قال السخاوي معناه‪" :‬من جاءكم بشاهدين على شيء‬
‫من كتاب للا الذي كتب بين يدي رسول للا صلى للا عليه وسلم"‪.‬‬
‫وقال ابن حجر العسقالني رحمه للا تعالى‪" :‬وكان غرضهم أن ال يكتب إال من عين‬
‫ما كتب بين يدي النبي ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬ال من مجرد الحفظ"‪.‬‬
‫‪ -‬الرابع‪ :‬أن ال يقبل من صدور الرجال إال ما تلقوه من فم الرسول ‪-‬صلى للا عليه‬
‫وسلم‪ -‬فإن عمر رضي للا عنه ينادي‪" :‬من كان تلقى من رسول للا ‪-‬صلى للا عليه‬
‫وسلم‪ -‬شيئاا من القرآن فليأتنا به" ولم يقل من حفظ شيئاا من القرآن فليأتنا به‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪ -‬مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي هللا عنه‪:‬‬
‫‪ -1‬جمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري واإلتقان على‬
‫الوجه الذي أشرنا إليه في منهج الجمع‪.‬‬
‫‪ -2‬أهمل في هذا الجمع ما نسخت تالوته من اآليات‪.‬‬
‫‪ -3‬أن هذا الجمع كان باألحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم كما كان في‬
‫الرقاع التي كتبت في عهد الرسول صلى للا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -4‬أن هذا الجمع كان مرتب اآليات باتفاق واختلف العلماء في السور هل كانت‬
‫مرتبة في هذا الجمع أم أن ترتيبها كان في عهد عثمان رضي للا عنه‪.‬‬
‫‪ -5‬اتفق العلماء على أنه كتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر‬
‫ألنه إمام المسلمين‪.‬‬
‫‪ -6‬ظفر هذا الجمع بإجماع األمة عليه وتواتر ما فيه‪.‬‬
‫‪ -‬مكانة هذا الجمع‪:‬‬
‫ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة ‪-‬رضي للا عنهم‪ -‬على صحته ودقته‬
‫وأجمعوا على سالمته من ال زيادة أو النقصان‪ ،‬وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها‬
‫حتى قال علي بن أبي طالب رضي للا عنه‪" :‬أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو‬
‫بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين"‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬جمع القرآن بمعنى نسخه في عهد عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪:‬‬
‫سببه‪:‬‬
‫عندما اتسعت الفتوحات اإلسالمية انتشر الصحابة ‪-‬رضي للا عنهم‪ -‬في‬
‫البالد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين‪ ،‬وكان كل صحابي يعلم بالحرف‬
‫الذي تلقاه من األحرف السبعة‪ ،‬فكان أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب ‪-‬رضي‬
‫ضا‪ .‬وعندما اتجه جيش‬ ‫للا عنه‪ -‬فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بع ا‬
‫المسلمين لفتح "أرمينيه" و"أذربيجان" كان الجنود من أهل العراق وأهل الشام فكان‬
‫لشقاق والنزاع يقع بينهم ورأى حذيفة بن اليمان رضي للا عنه اختالفهم في القراءة‬
‫وبعض ذلك مشوب باللحن مع إلف كل منهم لقراءته واعتياده عليها واعتقاده أنها‬
‫الصواب وما عداها تحريف وضالل‪ ،‬حتى كفر بعضهم بعضا فأفزع هذا حذيفة ‪-‬‬
‫رضي للا عنه‪ -‬فقال وللا ألركبن إلى أمير المؤمنين "يعني عثمان بن عفان رضي‬

‫‪21‬‬
‫للا عنه"‪ ،‬وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة‪ ,‬فقد كان المعلم يعلم بقراءة‬
‫والمعلم اآلخر يعلم بقراءة فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة اآلخر فبلغ ذلك‬
‫عثمان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬فقام خطيباا وقال‪" :‬أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون فمن نأى‬
‫عني من األمصار أشد فيه اختالفاا وأشد لح انا‪ ،‬اجتمعوا يا أصحاب محمد‪ ،‬واكتبوا‬
‫للناس إما اما"‪.‬‬
‫فلما جاء حذيفة إلى عثمان ‪-‬رضي للا عنهما‪ -‬وأخبره بما جرى تحقق عند‬
‫عثمان ما توقعه‪ ،‬وقد روى البخاري في صحيحه قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن‬
‫مالك ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬قال‪" :‬إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل‬
‫الشام في فتح "أرمينيه" و"أذربيجان" مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختالفهم في‬
‫القراءة ف قال حذيفة لعثمان‪ :‬يا أمير المؤمنين أدرك هذه األمة قبل أن يختلفوا في‬
‫الكتاب اختالف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف‬
‫ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان‪.‬‬
‫‪ -‬تاريخ هذا الجمع‪:‬‬
‫كان ذلك في أواخر سنة ‪ 24‬وأوائل سنة ‪.25‬‬
‫فكرة الجمع‪:‬‬
‫لما سمع عثمان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬ما سمع وأخبره حذيفة ‪-‬رضي للا عنه‪-‬‬
‫بما رأى استشار الصحابة فيما يفعل‪ ،‬فقد روى ابن أبي داود بإسناد صحيح ‪-‬كما يقول‬
‫ابن حجر‪ -‬من طريق سويد بن غفلة قال‪ :‬قال علي بن أبي طالب رضي للا عنه‪" :‬يا‬
‫خيرا في المصاحف‪ ..‬فوللا ما فعل‬ ‫أيها الناس ال تغلوا في عثمان وال تقولوا له إال ا‬
‫الذي فعل في المصاحف إال عن مأل منا جمي اعا‪ ،‬قال ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد‬
‫كفرا‪ ،‬قلنا‪:‬‬
‫بلغني أن بعضهم يقول‪ :‬إن قراءتي خير من قراءتك‪ ،‬وهذا يكاد أن يكون ا‬
‫ف ما ترى؟ قال‪ :‬نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فال تكون فرقة وال يكون‬
‫اختالف‪ .‬قلنا‪ :‬فنعم ما رأيت‪ ..‬قال علي‪ :‬وللا لو وليت لفعلت مثل الذي فعل‪.‬‬
‫اللجنة المختارة‪:‬‬
‫اختار عثمان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬أربعة لنسخ المصاحف هم‪:‬‬
‫زيد بن ثابت‪ ،‬وعبد للا بن الزبير‪ ،‬وسعيد بن العاص‪ ،‬وعبد الرحمن بن الحارث بن‬
‫هشام‪ ،‬وهؤالء الثالثة من قريش‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫فقد سأل عثمان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬الصحابة‪ :‬من أكتب الناس؟ قالوا‪ :‬كاتب رسول للا ‪-‬‬
‫صلى للا عليه وسلم‪ -‬زيد بن ثابت قال‪ :‬فأي الناس أعرب؟ وفي رواية أفصح‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫سعيد بن العاص‪ ،‬قال عثمان‪ :‬فليمل سعيد‪ ،‬وليكتب زيد"‪.‬‬
‫‪ -‬المنهج في هذا الجمع‪:‬‬
‫بعد أن اتفق عثمان مع الصحابة ‪-‬رضي للا عنهم‪ -‬أجمعين على جمع القرآن‬
‫على حرف سلك منه اجا فريداا‪ ،‬وطريقاا سلي اما‪ ،‬أجمعت األمة على سالمته ودقته‪.‬‬
‫‪ -1‬فبدأ عثمان رضي للا عنه بأن خطب في الناس فقال‪" :‬أيها الناس عهدكم بنبيكم‬
‫منذ ثالث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون‪" :‬قراءة أبي" و"قراءة عبد للا"‬
‫يقول الرجل‪" :‬وللا ما تقيم قراءتك"!! فأعزم على كل رجل منكم ما كان من كتاب‬
‫للا شيء لما جاء به‪ ،‬وكان الرجل يجيء بالورقة واألديم فيه القرآن حتى جمع من‬
‫رجال فناشدهم‪ ،‬لسمعت رسول للا عليه وسلم‬‫ا‬ ‫ا‬
‫رجال‬ ‫ذلك كثرة‪ ،‬ثم دخل عثمان فدعاهم‬
‫وهو أماله عليك؟ فيقول‪ :‬نعم"‪.‬‬
‫‪ -2‬وأرسل عثمان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر ‪-‬رضي للا‬
‫عنهما‪ -‬أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك‪ ،‬فأرسلت بها‬
‫إليه‪ ،‬ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق ‪-‬‬
‫رضي للا عنه‪ -‬على أدق وجوه البحث والتحري‪.‬‬
‫‪ -3‬ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثالثة وأمرهم بنسخ مصاحف منها وقال‬
‫عثمان للقرشيين‪" :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان‬
‫قريش‪ ،‬فإنما نزل بلسانهم"‪.‬‬
‫‪ -4‬إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب اآلية خالية من أية عالمة تقصر النطق بها‬
‫على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعاا مثل‪:‬‬
‫أ‪{ -‬فتبيَّنوا} التي قرأت أيضا "فتثبتوا"‪.‬‬
‫ب‪{ -‬ننشِّزها} قرأت أيضا "ننشرها"‪.‬‬
‫أما إذا لم يكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم‬
‫يدل على قراءة‪ ،‬وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة األخرى مثل‪:‬‬
‫صى ِّبها إِّبْرا ِّهيم}‪ ،‬هكذا تكتب في بعض المصاحف وفي بعضها "وأوصى"‪.‬‬
‫أ‪{ -‬وو َّ‬

‫‪23‬‬
‫ارعوا ِّإلى م ْغ ِّفرةٍ ِّم ْن ر ِّّبك ْم}‪ ،‬بواو قبل السين في بعض المصاحف وفي‬
‫ب‪{ -‬وس ِّ‬
‫بعضها بحذف الواو‪.‬‬
‫وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان بنسخ منها إلى األمصار اإلسالمية حيث‬
‫نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها لألفراد‪ ,‬وكان زيد بن ثابت في المدينة يتفرغ‬
‫في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه وبين يديه‬
‫مصحف أهل المدينة‪.‬‬
‫‪ -‬مزايا جمع القرآن في عهد عثمان رضي هللا عنه‪:‬‬
‫تميز هذا الجمع بمزايا عديدة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬االقتصار على حرف واحد من األحرف السبعة‪ ،‬قال ابن القيم رحمه للا تعالى‪:‬‬
‫جمع عثمان رضي للا عنه الناس على حرف واحد مناألحرف السبعة التي أطلق لهم‬
‫رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬القراءة بها لما كان ذلك مصلحة"‪.‬‬
‫‪ -2‬إهمال ما نسخت تالوته‪:‬‬
‫فقد كان قصد عثمان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬جمع الناس على مصحف ال تقديم فيه‬
‫وال تأخير وال تأويل أثبت مع تنزيل‪ ،‬وال منسوخ تالوته كتب مع مثبت رسمه‪،‬‬
‫ومفروض قراءته وحفظه‪ ،‬خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد‪.‬‬
‫‪ -3‬االقتصار على ما ثبت في العرضة األخيرة وإهمال ما عداه‪.‬‬
‫فقد روى ابن أبي داود في المصاحف عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح‬
‫رجال من قريش‬ ‫ا‬ ‫قال‪ :‬لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر‬
‫واألنصار فيهم أبي بن كعب‪ ،‬وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر‬
‫فجيء بها‪ ،‬قال وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه‪ ،‬قال محمد‪:‬‬
‫فقلت لكثير وكان منهم فيمن يكتب‪ :‬هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قال محمد‬
‫فظننت ظنا أنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهداا بالعرضة األخيرة فيكتبونها‬
‫على قوله‪.‬‬
‫‪ -4‬االقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪-‬‬
‫وإلغاء ما لم يثبت‪.‬‬
‫‪ -5‬كان مرتب اآليات والسور على الوجه المعروف اآلن‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫قال الحاكم في المستدرك‪" :‬إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة‪ ،‬فقد جمع بعضه‬
‫بحضرة الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق‪،‬‬
‫والجمع الثالث هو في ترتيب السور وكان في خالفة أمير المؤمنين عثمان بن عثمان‬
‫رضي للا عنهم أجمعين"‪.‬‬
‫‪ -‬الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي هللا عنهما‪:‬‬
‫ظاهرا في جمع القرآن في عهد أبي بكر فقد كان القرآن‬
‫ا‬ ‫كان معنى "الجمع"‬
‫مفرقاا فأمر بجمعه كما قال المحاسبي‪" :‬كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت‬
‫رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬فيها القرآن منتشر‪ ،‬فجمعها جامع‪ ،‬وربطها بخيط‬
‫حتى ال يضيع منها شيء"‪.‬‬
‫إذاا فمعنى الجمع فيه ظاهر ال يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد‬
‫الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬لكن اإلشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث‪،‬‬
‫إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر ‪-‬رضي للا عنهما‪-‬‬
‫ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد‬
‫عثمان عنايتهم إلزالة هذا اللبس‪ ،‬ويذكرون فروقاا‪.‬‬
‫قال القاضي أبو بكر في االنتصار‪" :‬لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع‬
‫القرآن بين لوحين وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي ‪-‬صلى‬
‫للا عليه وسلم‪ -‬وإلغاء ما ليس كذلك" وقال ابن التين وغيره‪" :‬الفروق بين جمع أبي‬
‫بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب‬
‫عا في أي موضع واحد فجمعه في صحائف مرتباا آليات‬ ‫حملته ألنه لم يكن مجمو ا‬
‫سوره على ما وقفهم عليه النبي ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬وجمع عثمان كان لما كثر‬
‫االختالف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات؛ فأدى ذلك‬
‫بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم األمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في‬
‫مصحف واحد مرتباا لسوره‪ ،‬واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محت اجا بأنه‬
‫نزل بلغتهم‪.‬‬
‫ومن هذين النصين نستطيع أن نستخلص أهم الفروق وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬خشية أن يذهب شيء‬
‫من القرآن بذهاب حفظته‪ ،‬وذلك حين استحر القتل بالقراء في حروب الردة‪ ،‬أما‬
‫جمعه في عهد عثمان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬فلكثرة االختالف في وجوه القراءة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫‪ -2‬أن جمع أبي بكر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬على األحرف السبعة‪ ،‬أما جمعه في عهد‬
‫عثمان فقد كان على حرف واحد‪.‬‬
‫‪ -3‬أن جمع أبي بكر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬كان مرتب اآليات وفي ترتيب السور خالف‪،‬‬
‫أما جمع عثمان فقد كان مرتب اآليات والسور باتفاق‪.‬‬
‫‪ -4‬أن الجمع في عهد أبي بكر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬بمعنى الجمع في مصحف واحد وأما‬
‫الجمع في عهد عثمان ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬فبمعنى نسخه في مصاحف متعددة‪.‬‬
‫‪ /2‬معايير ترتيب آيات وسور القرآن الكريم‪:‬‬
‫هذا مبحث مهم من المباحث الجليلة‪ ،‬أواله العلماء اهتمامهم وعنايتهم وزادت‬
‫قيمته ومكانته حين ظهر االتجاه الحديث في الدراسات القرآنية بتناول السور القرآنية‬
‫مستقلة بناء على الوحدة الموضوعية‪ ،‬وأن كل سورة ذات هدف معين وغرض أساس‬
‫مدخال لفهم معانيها وكشف أسرارها‬‫ا‬ ‫أنزلت ألجله‪ ،‬وأكدوا على هذا المعنى باعتباره‬
‫وحكمها‪ ,‬ثم بنوا على ذلك الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم وبيان المناسبات بين‬
‫اآليات والسور‪.‬‬
‫وتقسيم القرآن إلى سور وآيات من خصائصه التي ال يشاركه فيها كتاب آخر‬
‫قال الجاحظ‪" :‬سمى للا كتاباا اسمه مخالفاا لما سمى العرب كالمهم على الجمل‬
‫والتفصيل سمى جملته قرآ انا كما سموا ديوا انا‪ ،‬وبعضه سورة كقصيدة‪ ،‬وبعضها آية‬
‫كالبيت وآخرها فاصلة كقافية(‪.)15‬‬
‫وللعلماء في ترتيب السور في القرآن الكريم ثالثة أقوال‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف اآلن توقيفي وأنه لم‬
‫توضع سورة في مكانها إال بأمر من الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬عن جبريل عليه‬
‫السالم عن ربه عز شأنه كترتيب اآليات سواء بسواء‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن ترتيب السور اجتهاد من فعل الصحابة رضي للا عنهم‪.‬‬
‫وهذا قول جمهور العلماء‪ ،‬قال ابن فارس‪ :‬جمع القرآن على ضربين‪ :‬أحدهما‪ :‬تأليف‬
‫السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو الذي تولته الصحابة وأما الجمع‬
‫اآلخر وهو جمع اآليات في السور فهو توقيفي تواله النبي ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬كما‬
‫أخبر به جبريل عن أمر ربه‪.‬‬

‫‪ :)15‬اإلتقان السيوطي ج‪ 1،‬ص‪.50‬‬

‫‪26‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أن ترتيب بعض السور كان توقيفيًّا وبعضها كان باجتهاد‬
‫كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها‬
‫ا‬ ‫الصحابة‪ :‬قال الزركشي‪ :‬مال ابن عطية إلى أن‬
‫في حياته ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬كالسبع الطوال والحواميم والمفصل وأن ما سوى‬
‫ذلك يمكن أن يكون قد فوض األمر فيه إلى األمة بعده‪ ،‬وقال أبو جعفر بن الزبير‬
‫اآلثار تشهد بأكث ر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه‬
‫الخالف‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫مكونات النَّص القرآني (أوال)‪:‬‬
‫المحاضرة ‪ّ :04‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫‪ /1‬اللّفظة‪ ،‬العبارة‪ ،‬اآلية‪ ،‬ال ّ‬
‫سورة (‪.)16‬‬

‫‪ /1‬معنى اآلية‪:‬‬
‫‪ /1‬تطلق اآلية في اللغة على المعجزة‪ ،‬والعالمة‪ ،‬والدليل‪ ،‬والعبرة‪ ،‬واألمر العجيب‪.‬‬
‫وهذه المعاني كلها مرادة في تسمية القطعة ذات المبتدى والمنتهى‪ ،‬المدرجة في‬
‫السورة من القرآن‪.‬‬
‫فاآلية القرآنية معجزة‪ ،‬يعجز الجن واإلنس عن اإلتيان بمثلها‪ ،‬إذا كانت في‬
‫طوال‪ .‬وهي أمر عجيب غاية في العجب لما لها من حالوة‬ ‫ا‬ ‫مثل سورة الكوثر‬
‫وطالوة‪ ،‬وتأثير خاص يأخذ بتالبيب العقول‪ ،‬ومجامع القلوب‪ .‬وهي عالمة على أنها‬
‫من عند للا تعالى‪ ،‬ال يسع القارئ والسامع ّإال أن يشهد بذلك طو ا‬
‫عا أو كرهاا‪ .‬وهي‬
‫ي ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬ولم يجلس في‬ ‫دليل قاطع على صدق من نزلت عليه؛ ألنه أم ٌّ‬
‫تقشعر منها جلود الذين‬
‫ُّ‬ ‫حياته إلى معلم‪ .‬وهي عبرة لمن اعتبر‪ ،‬وعظة لمن اتعظ‪،‬‬
‫يخشون ربهم‪ ،‬وتلين قلوبهم إلى ذكر للا‪.‬‬
‫‪ /2‬واآلية القرآنية في اصطالح العلماء‪ :‬طائفة من القرآن لها مبدأ ومقطع‪ ,‬مندرجة‬
‫في سورة‪.‬‬
‫سورة‪:‬‬
‫‪ /2‬معنى ال ّ‬
‫السورة في اللغة إما أن تكون مشتقة من سور المدينة‪ ،‬شبهت به إلحاطتها‬
‫التسور‪ ،‬بمعنى التصاعد‬
‫ّ‬ ‫بآياتها واجتماعها كاجتماع البيوت بالسور‪ .‬أو من‬
‫ضا‪ -‬تطلق على المنزلة‬ ‫لعلو شأنها وشأن قارئها‪ .‬والسورة ‪-‬في اللغة أي ا‬
‫والتركيب‪ِّ ّ ،‬‬
‫الرفيعة‪ ،‬قال النابغة الذبياني‪:‬‬
‫ألم تر أن للا أعطاك سورة ‪ .....‬ترى كل ملك حولها يتذبذب‬
‫وهي في االصطالح‪ :‬طائفة من اآليات القرآنية لها بدء ونهاية‪.‬‬

‫‪ :) 16‬ينظر‪ :‬إسماعيل‪ ،‬محمد بكر‪ ،‬م س‪ ،‬ملخص المبحث ‪ 10‬و ‪ ،11‬صـ‪.65-52 :‬‬

‫‪28‬‬
‫‪:‬مكونات النَّص القرآني (ثانيا)‪:‬‬
‫المحاضرة ‪ّ 05‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫صة القرآنية‪ :‬خصائصها‪ ،‬تعريفها (‪.)17‬‬
‫‪ /1‬الق ّ‬
‫‪ -‬تعريف القصة في القرآن‪:‬‬
‫صا‪ :‬حدثت به على وجهه‪ ،‬واالسم‬
‫جاء في المصباح المنير‪ :‬قصصت الخبر ق ّ‬
‫القصص‪ ،‬وقد جاء في القرآن الكريم‪ِّ :‬إ َّن هذا لهو ْالقصص ْالح ُّق [آل عمران‪]62 :‬‬
‫ب [يوسف‪.]111 :‬‬ ‫ص ِّه ْم ِّعبْرة ٌ ِّألو ِّلي ْاأل ْلبا ِّ‬
‫وكذلك‪ :‬لق ْد كان فِّي قص ِّ‬
‫صة‪ :‬الشأن واألمر‪،‬‬
‫والقصة‪ :‬األمر والخبر والشأن‪ ،‬جاء في المصباح‪ :‬والق ّ‬
‫صة‪ -‬بالكسر‪ -‬األمر والتي‬
‫صتك؟ أي‪ :‬ما شأنك‪ .‬وفي القاموس المحيط‪ :‬والق ّ‬
‫يقال‪ :‬ما ق ّ‬
‫صها علينا القرآن يمكن أن يطلق عليها لفظ‪:‬‬
‫تكتب‪ .‬وعلى هذا‪ :‬فما جاء من أخبار ق ّ‬
‫القصة‪.‬‬
‫‪ -‬القيمة التاريخية للقصة القرآنية‪:‬‬
‫صة في القرآن كتلك القصص الحرة الطليقة الصادرة من نفوس‬ ‫ليست الق ّ‬
‫بشرية‪ ،‬تجعل أمامها أهدافا خاصة‪ ،‬ثم ال تبالي أن تستمدّ ما تقوله من خيال غير‬
‫صادق‪ ،‬أو أن تعرض حوادث لم تقع‪ ،‬أو تدور حول بطل ال وجود له أصال‪ ،‬أو‬
‫تخرج من جدّ إلى هزل‪ ،‬أو تضع الباطل إلى جانب الحق‪ ،‬وج ّل اهتمامها أن تظهر‬
‫صة في القرآن حقيقة تاريخية ثابتة‪ ،‬تصاغ في صور‬ ‫البراعة البيانية لمؤلفها‪ .‬وإنما الق ّ‬
‫بديعة من األلفاظ المنتقاة واألساليب الرائعة‪ .‬وهذه حقيقة قامت األدلة عليها بما ال يدع‬
‫مجاال للشك‪ ،‬وذلك‪:‬‬
‫أ‪ -‬أن األدلة القاطعة قامت على أن القرآن الكريم كالم للا المنزل‪ ،‬وأن محمد بن عبد‬
‫للا صلوات للا وسالمه عليه قد بلّغ ما أنزل إليه من ربّه‪ ،‬وإذا كان كذلك فك ّل ما جاء‬
‫في القرآن من خبر فهو صادق‪ ،‬وإذا كان صادقا فال بد أن يكون مطابقا للواقع‪.‬‬
‫ب‪ -‬القرآن ح ّجة للا على خلقه جملة وتفصيال‪ ،‬وإطالقا وعموما‪ ،‬وهذا يأبى أن يحكى‬
‫بحق ثم ال ينبّه عليه‪ ،‬فك ّل ما ورد فيه على وجه اإلخبار فهو ّ‬
‫حق موافق‬ ‫ّ‬ ‫فيه ما ليس‬
‫للواقع‪.‬‬

‫‪ :) 17‬ينظر‪ :‬الفصل األول من الباب الثّامن من كتاب الواضح في علوم القرآن‪ ،‬مصطفى ديب البغا‪ ،‬م س‪ ،‬وهو قائم على أساليب‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ومن بينها القصة القرآنية‪ .‬صـ ‪.197-181‬‬

‫‪29‬‬
‫ج‪ -‬ما جاء في القرآن من قصص إنما هو كالم ربّ العزة‪ ،‬أوحى به إلى الرسول‬
‫األكرم ليكون مأخذ عبرة‪ ،‬أو موضع قدوة‪ ،‬أو مجالة حكمة‪ ،‬وما كان كذلك ال يكون‬
‫إال حقّا من صميم الواقع‪.‬‬
‫كل هذه األدلة‪ -‬وغيرها كثير‪ -‬تبرهن على أن القصة القرآنية حقيقة تاريخية‬
‫ال تحوم حولها شبهة‪ .‬ولذا فقد اعتبرها المتقدّمون والمتأخرون من المؤرخين عمدة‬
‫رصينة في ك ّل ما كتبوه من أبحاث تاريخية‪ ،‬سواء كانت تتعلق بحوادث حاضرة‬
‫وقت نزوله‪ ،‬أم تتعلّق بحوادث األمم الغابرة‪ .‬ولقد كانوا على بيّنة من أمرهم في ذلك‬
‫إذ إن القرآن أص ّح مصدر عرفه التاريخ في هذا المجال‪ ،‬يشهد بذلك أن الباحثين‪-‬‬
‫على اختالف مذاهبهم ونحلهم‪ -‬اعتمدوا القرآن ّأول وثيقة تاريخية تعرف بها أحداث‬
‫الجزيرة العربية وأوضاعها في صدر اإلسالم‪ ،‬وإذا كان كذلك فما هو عمدة في حقبة‬
‫هو عمدة في كل الحقب‪ .‬ويشهد لذلك أن التاريخ والمؤرخين عاجزون عن أن يأتوا‬
‫برواية قريبة أو بعيدة تعارض ما جاء به القرآن من أخبار‪ ،‬وإذا ثبت هذا فال يلتفت‬
‫إلى الهراء الذي يطلقه البعض‪ ،‬مما ال تقوم عليه أثارة من دليل عقلي أو نقلي‪ ،‬إال‬
‫الحقد على اإلسالم والكيد لدعوته‪.‬‬
‫لذا فإنه بعد ما ثبت الدليل على أن القرآن كالم للا المنزل فإن التاريخ هو الذي‬
‫قوته من أخبار التاريخ‪.‬‬ ‫قوته من حديث القرآن وأخباره‪ ،‬وليس القرآن يستمدّ ّ‬ ‫يستمدّ ّ‬
‫صدِّيق الَّذِّي بيْن يد ْي ِّه‬
‫وحسبنا في ذلك قول للا تعالى‪ :‬ما كان حدِّيثا ا ي ْفترى ول ِّك ْن ت ْ‬
‫ى ورحْ مةا ِّلق ْو ٍم يؤْ ِّمنون [يوسف‪.]111 :‬‬‫صيل ك ِّّل ش ْيءٍ وهد ا‬ ‫وت ْف ِّ‬
‫‪ -‬أغراض القصة في القرآن‪:‬‬
‫القرآن كالم للا تعالى المنزل ليأخذ بيد الناس إلى ما فيه صالحهم في الدنيا‬
‫ونجاتهم في اآلخرة‪ ،‬فهو كتاب هداية أوال وآخرا‪ ،‬وللقرآن وسائل متعدّدة لتحقيق هذه‬
‫صة في القرآن الغاية‬‫صة القرآنية إحدى هذه الوسائل‪ ،‬ولكي تح ّقق الق ّ‬
‫الهداية‪ ،‬والق ّ‬
‫األساسية له‪ ،‬فقد سيقت ألغراض متعدّدة‪ ،‬أهمها‪:‬‬
‫أ‪ -‬إثبات الوحي والرسالة لمحمد صلّى هللا عليه وسلّم‪:‬‬
‫من المعلوم أن مح ّمد بن عبد للا‪ -‬صلوات للا وسالمه عليه‪ -‬كان أميّا لم‬
‫يعرف قراءة ولم تعهد عنه كتابة‪ ،‬كما س ّجل ذلك القرآن إذ يقول‪ :‬وما ك ْنت ت ْتلوا ِّم ْن‬
‫طه ِّبي ِّمي ِّنك إِّذا ا ال ْرتاب ْالمب ِّْطلون [العنكبوت‪ .]48:‬كما أنه لم‬ ‫ب وال تخ ُّ‬
‫ق ْب ِّل ِّه ِّم ْن ِّكتا ٍ‬
‫يجالس أهل علماء الكتاب أو غيرهم ليأخذ عنهم العلم وخبر من قبله‪ .‬وهذه حقيقة لم‬
‫ينكرها أحد ممن عاصره أو جاء بعده‪ ،‬إال ما كان من ذاك الهراء الذي ردّه القرآن‬
‫بحكم البداهة إذ يقول‪ :‬ولق ْد ن ْعلم أ َّنه ْم يقولون إِّ َّنما يع ِّلّمه بش ٌر ِّلسان الَّذِّي ي ْل ِّحدون إِّل ْي ِّه‬
‫‪30‬‬
‫ي م ِّب ٌ‬
‫ين [النحل‪ ]103 :‬ولقد ردّد هذا الهراء أناس مغرضون‪،‬‬ ‫ي وهذا ِّل ٌ‬
‫سان عر ِّب ٌّ‬ ‫أعْج ِّم ٌّ‬
‫عوراتهم بادية‪ ،‬ال يؤبه بهم‪.‬‬
‫وعليه‪ :‬فإذا ما ثبتت هذه الحقيقة وجاء القرآن بقصص األنبياء السابقين‪،‬‬
‫وأحوال الناس الغابرين‪ ،‬في دقّة وتفصيل‪ ،‬على نحو يتفق مع ما هو معلوم لدى أهل‬
‫الكتاب من هذه القصص ويفوقه صحة ووضوحا‪ ،‬إذا كان كل هذا‪ :‬فقد ثبت بالدليل‬
‫القاطع أن مح ّمد بن عبد للا‪ -‬صلوات للا وسالمه عليه‪ -‬ما كان ينطق عن الهوى‪ ،‬إن‬
‫ينص على هذا الغرض في‬ ‫ّ‬ ‫هو إال وحي يوحى‪ .‬هذا وإن القرآن الكريم كثيرا ما‬
‫صة‬ ‫مقدمات بعض القصص أو في ذيولها‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‪:‬قوله تعالى في مقدمة ق ّ‬
‫ص ِّبما أ ْوحيْنا ِّإليْك هذا ْالق ْرآن و ِّإ ْن‬ ‫ص عليْك أحْ سن ْالقص ِّ‬ ‫يوسف عليه السالم‪ :‬نحْ ن نق ُّ‬
‫ك ْنت ِّم ْن ق ْب ِّل ِّه ل ِّمن ْالغا ِّف ِّلين [يوسف‪.]3 :‬وقوله تعالى بعد قصة نوح عليه السالم‪ِّ :‬ت ْلك‬
‫وحيها إِّليْك ما ك ْنت ت ْعلمها أ ْنت وال ق ْومك ِّم ْن ق ْب ِّل هذا فا ْ‬
‫ص ِّب ْر إِّ َّن‬ ‫باء ْالغ ْي ِّ‬
‫ب ن ِّ‬ ‫ِّم ْن أ ْن ِّ‬
‫ْالعاقِّبة ِّل ْلمتَّ ِّقين [هود‪.]49 :‬‬
‫ب‪ -‬بيان وحدة الوحي اإللهي‪:‬‬
‫صة القرآنية التنبيه على أن الدين السماوي الذي بعث‬ ‫من األغراض الهامة للق ّ‬
‫وأن جميع الشرائع المنزلة‪ -‬بأصالتها‪ -‬ال تعارض‬ ‫للا به األنبياء والمرسلين واحد‪ّ ،‬‬
‫فيها وال اختالف‪ .‬وتحقيقا لهذا الغرض نجد القرآن الكريم يورد قصص عدد من‬
‫تكرر مجيء هذه القصص على هذا النحو‬ ‫األنبياء مجتمعة في سورة واحدة‪ ،‬وربما ّ‬
‫«‪ ،»1‬ك ّل ذلك بغرض تأييد هذه الحقيقة وتثبيتها في األذهان وتوكيدها في النفوس‪،‬‬
‫يصرح بهذا الغرض أحيانا‪ .‬ومثال ذلك ما جاء في سورة األنبياء‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫ولذا نجد القرآن‬
‫بعد ذكر قصص عدد منهم‪ -‬من قوله تعالى‪ِّ :‬إ َّن ه ِّذ ِّه أ َّمتك ْم أ َّمةا ِّ‬
‫واحدةا وأنا ربُّك ْم‬
‫ون [األنبياء‪.]92 :‬‬
‫فاعْبد ِّ‬
‫ج‪ -‬العبرة والموعظة‪:‬‬
‫صة القرآنية أن تشدّ الناس إلى غابر األزمان‪ ،‬ليلقوا نظرة على من‬ ‫ومن أغراض الق ّ‬
‫يصور لهم موقف أولئك األجيال‬ ‫ّ‬ ‫سبقهم من األمم‪ ،‬ويستعرضوا في مخيلتهم شريطا‪:‬‬
‫وما آل إليه حالهم‪ ،‬فيأخذوا العبرة من واقعهم‪ ،‬ويتعظوا من عاقبة أمرهم‪ ،‬ويروا‬
‫ّ‬
‫يتواله للا‬ ‫ّ‬
‫الحق الذي‬ ‫سسوا بمشاعرهم نتيجة العناد واالستكبار عن‬ ‫بعقولهم ويتح ّ‬
‫بعنايته‪ ،‬ويدفع عنه ببالغ بطشه وجبروته‪ ،‬فيضع هؤالء المخاطبون في حسابهم‪ .‬أنهم‬
‫إن سلكوا سبيلهم سيصلون حتما إلى تلك النهاية الخاسرة والعاقبة األليمة‪ ،‬وبالتالي‬
‫ّ‬
‫الحق واإلذعان إليه‪.‬‬ ‫ربما حملهم ك ّل ذلك على قبول‬

‫‪31‬‬
‫ي صلّى للا عليه وسلّم في مجال الدعوة وبث الطمأنينة في نفوس‬
‫د‪ -‬تثبيت النب ّ‬
‫المؤمنين‪:‬‬
‫صة القرآنية‪ ،‬وتحقيقا له فقد ورد كثير‬
‫ولعل هذا الغرض من أهم أغراض الق ّ‬
‫ويتكرر فيها العرض‬
‫ّ‬ ‫من قصص األنبياء مع أقوامهم مجتمعة تارة‪ ،‬ومنفردة أخرى‪،‬‬
‫أحيانا‪ .‬واقرأ في ذلك ما جاء في سورة هود والعنكبوت‪ ،‬ففي كل منهما بيان وجالء‬
‫لهذا الغرض من ناحيتين‪:‬‬
‫‪ - 1‬بيان أن طريقة األنبياء جميعا في الدعوة إلى للا تعالى واحدة‪ ،‬تتجلّى في إشفاقهم‬
‫على أقوامهم وصبرهم على أذاهم‪ ،‬إلى جانب تشابه مواقف أولئك األقوام في‬
‫إعراضهم وسوء استقبالهم ألنبيائهم‪.‬‬
‫‪ - 2‬بيان أن للا ّ‬
‫عز وج ّل ينصر أنبياءه ومن تبعهم في النهاية‪ ،‬مهما نزل بهم‪.‬‬
‫‪ -‬خصائص القصة القرآنية‪:‬‬
‫إن القصة في القرآن تقوم على أسس وخصائص فنية رائعة‪ ،‬فهي تحقق‬
‫الغرض الديني عن طريق جمالها الفني‪ ،‬الذي يجعل ورودها إلى النفس أيسر‪،‬‬
‫ووقعها في الوجدان أعمق‪.‬‬
‫وأهم هذه الخصائص ما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬العرض التصويري‪:‬‬
‫إن القرآن الكريم عند ما يأتي بالقصة ال يخبر بها إخبارا مجردا‪ ،‬بل يعرضها‬
‫بأسلوب تصويري‪ ،‬يتناول جميع المشاهد والمناظر المعروضة‪ ،‬فإذا بالقصة حادث‬
‫يقع ومشهد يجري‪ ،‬ال قصة تروى وال حادثا قد مضى‪.‬‬
‫‪ -‬ألوانه وأمثلته‪:‬‬
‫والتصوير في مشاهد القصة القرآنية ألوان تبدو في قوة العرض واإلحياء‪،‬‬
‫وفي تخييل ا لعواطف واالنفعاالت‪ ،‬كما تبدو في رسم الشخصيات‪ .‬وهذه األلوان‬
‫ظاهرة في مشاهد القصص القرآني جميعا‪ ،‬ال ينفصل بعضها عن بعض‪ ،‬وقد يبرز‬
‫أحدهافي بعض المواقف عن بعض‪ ،‬فيطبع المشهد باسمه‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫فمن أمثلة القصص التي برزت فيها قوة العرض واإلحياء‪ :‬قصة أصحاب الجنة‪،‬‬
‫ومشهد إبراهي م وإسماعيل عليهما السالم في بناء الكعبة‪ ،‬ومشهد نوح عليه السالم‬
‫وابنه في الطوفان‪ ،‬وقصة أصحاب الكهف‪.‬‬
‫ومن أمثلة ما برز فيه تصوير العواطف واالنفعاالت‪ :‬قصة صاحب الجنتين‬
‫وصاحبه الذي يحاوره‪ ،‬وقصة موسى عليه السالم مع الرجل الصالح‪ ،‬وقصة مريم‬
‫عند ميالدها عيسى عليهما السالم‪.‬‬
‫وأما أمثلة اللون الثالث وهو‪ :‬رسم الشخصيات وبروزها في القصة القرآنية‪:‬‬
‫فهو القصص القرآني كله‪ ،‬واقرأ على سبيل المثال‪ :‬قصة موسى عليه السالم مع‬
‫فرعون‪ ،‬وقصة إبراهيم عليه السالم مع قومه‪ ،‬وقصة يوسف عليه السالم‪ ،‬وقصة‬
‫سليمان عليه السالم مع بلقيس‪ ،‬فكلها قصص يبرز فيها تصوير الشخصيات ورسمها‬
‫على أدق ما يكون الرسم وأبرع ما يكون التصوير‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫المحاضرة ‪ :06‬سياقات النّص القرآني (أوال)‪:‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫سببي‪ :‬أسباب ال ّنزول‪.‬‬
‫سياق ال ّ‬
‫‪ /1‬ال ّ‬
‫سياق المكاني‪ :‬الم ّكي والمدني‪.‬‬
‫‪ /2‬ال ّ‬

‫سببي‪ :‬أسباب النّزول(‪:)18‬‬


‫سياق ال ّ‬
‫‪ /1‬ال ّ‬
‫‪ -‬معنى أسباب النزول‪:‬‬
‫سالم بالقرآن على النبي صلى للا عليه وسلم‬‫لم يرتبط نزول جبريل عليه ال ّ‬
‫بأمر معين‪ ،‬كما أن رسول للا صلى للا عليه وسلم لم يكن يملك اختيار الوقت الذي‬
‫ينزل فيه القرآن عليه‪ ،‬فذلك أمر مرتبط بمشيئة للا تعالى‪ ،‬وما على الرسول إال‬
‫البالغ المبين‪ ،‬فكان القرآن يتنزل عليه في الليل أو النهار‪ ،‬في السفر أو في الحضر‪،‬‬
‫قائما أو قاعدا‪ ،‬ماشيا أو راكبا‪ ،‬من غير أن يكون له في ذلك رأي أو اختيار‪.‬‬
‫وكان نزول القرآن‪ -‬مع ذلك‪ -‬يواكب سير الدعوة‪ ،‬ويربّي المؤمنين ويسدد‬
‫خطواتهم‪ ،‬ومن ث ّم فإن نزول عدد من اآليات والسور ارتبط بأحداث معينة‪ ،‬فرسول‬
‫للا صلى للا عليه وسلم كان يسأل من أصحابه أو من غيرهم‪ .‬فربما أجاب من فوره‪،‬‬
‫وربما انتظر نزول القرآن مبيّنا الجواب‪ ،‬أو موضحا الحكم‪ ،‬فإذا تأملت هذه اآليات‬
‫الكريمة‪:‬‬

‫اس و ْالح ّ ِّ‬


‫ج (‪[ )189‬البقرة]‪.‬‬ ‫يسْئلونك ع ِّن ْاأل ِّهلَّ ِّة ق ْل ِّهي موا ِّقيت ِّلل َّن ِّ‬
‫يسْئلونك ماذا ي ْن ِّفقون ق ْل ما أ ْنف ْقت ْم ِّم ْن خي ٍْر ف ِّل ْلوا ِّلدي ِّْن ‪[ )215( ...‬البقرة]‪.‬‬
‫ساع ِّة أيَّان م ْرساها ق ْل ِّإ َّنما ِّع ْلمها ِّع ْند ر ِّّبي (‪[ )187‬األعراف]‪.‬‬
‫يسْئلونك ع ِّن ال َّ‬
‫الروح ِّم ْن أ ْم ِّر ر ِّّبي (‪[ )85‬اإلسراء]‪.‬‬
‫وح ق ِّل ُّ‬
‫الر ِّ‬
‫ويسْئلونك ع ِّن ُّ‬

‫‪ :) 18‬ينظر‪ :‬الحمد‪ ،‬غانم قدّوري‪ :‬محاضرات في علوم القرآن‪ ،‬ط‪ ،1‬دار ع ّمار‪ ،‬ع ّمان‪-‬األردن‪2003 ،‬م‪ .‬المبحث‬
‫السّابع‪ ،‬صـ ‪.40-35‬‬

‫‪34‬‬
‫إذا تأملت هذه اآليات أحسست أن نزولها ارتبط بسؤال‪ ،‬ومن اآليات ما ارتبط‬
‫نزوله بحادثة وقعت أو مشكلة ظهرت في المجتمع اإلسالمي وقت التنزيل‪.‬‬
‫وقد عبّر السلف من الصحابة والتابعين‪ ،‬ومن جاء بعدهم من العلماء‬
‫والدارسين‪ ،‬عن ذلك السؤال وتلك الواقعة أو المشكلة التي تنزل عقبها اآلية أو اآليات‬
‫بعبارة (سبب النزول) فيقولون‪ :‬نزلت هذه اآلية بسبب كذا‪ ،‬وهذه األسباب في الواقع‬
‫«ما هي إال مناسبات ال أسباب حقيقية‪ ،‬وإن س ّميت أسبابا على طريق التسامح‬
‫والتجوز»‪.‬‬
‫وقد قسم العلماء آيات القرآن بالنسبة إلى ارتباط نزولها بسؤال أو حادثة على‬
‫قسمين‪:‬‬
‫‪ - 1‬قسم نزل ابتداء‪.‬‬
‫‪ - 2‬قسم نزل عقب حادثة أو سؤال‪.‬‬
‫ويالحظ أن القسم األول الذي نزل ابتداء تتحدث أكثر آياته عن أمور العقيدة‬
‫ووصف مشاهد القيامة‪ ،‬ووصف الجنة ونعيمها والنار وأهوالها‪ ،‬وكذلك تتحدث عن‬
‫أخبار األمم الغابرة وما ح ّل بأهلها‪ .‬أما القسم الثاني‪ ،‬وهو ما نزل مرتبطا بأسباب‬
‫ووقائع‪ ،‬فمعظم آياته مما يتعلق بالتشريع واألحكام واآلداب‪.‬‬
‫وفي ارتباط نزول اآليات بمناسبة معينة‪ ،‬وهو ما يس ّمى بأسباب النزول‪-‬‬
‫حكمة تشريعية وتربوية عظيمة‪ ،‬تجعل من الحكم الذي تتضمنه تلك اآليات تجربة‬
‫واقعية‪ ،‬وتطبيقا عمليا في المجتمع‪ ،‬يتم تحت نظر النبي صلى للا عليه وسلم‬
‫وتوجيهه‪ ،‬ويدرك حكمة التشريع الذي تتضمنه تلك اآليات كل من كان شاهدا وقت‬
‫نزولها‪ ،‬وكل من وقف على تلك المناسبة وعرف قصتها‪ ،‬فنزول الحكم وقت الحاجة‬
‫إليه يكون أبعد أثرا في نفوس المخاطبين‪ ،‬ويكونون أكثر استجابة له‪.‬‬
‫‪ -‬أهمية معرفة أسباب النزول‪:‬‬
‫لهذا النوع من البحث التأريخي في اآليات الكريمة أهمية كبيرة في تيسير فهم‬
‫معناها واستنباط الحكم الشرعي منها «المتناع معرفة تفسير اآلية وقصد سبيلها دون‬
‫الوقوف على قضيتها وبيان سبب نزولها» ‪ ،‬فإن بعض من تال هذه اآلية ليْس على‬
‫ت جنا ٌح ِّفيما ط ِّعموا ِّإذا ما اتَّق ْوا وآمنوا وع ِّملوا‬ ‫صا ِّلحا ِّ‬ ‫الَّذِّين آمنوا وع ِّملوا ال َّ‬
‫ّللا ي ِّحبُّ ْالمحْ ِّس ِّنين (‪[ )93‬المائدة] ظن‬
‫ت ث َّم اتَّق ْوا وآمنوا ث َّم اتَّق ْوا وأحْ سنوا و َّ‬
‫صا ِّلحا ِّ‬
‫ال َّ‬
‫أن من كان كذلك جاز له أن يأكل ما يشاء‪ ،‬ويشرب ما يشاء‪ ،‬حتى ولو كان ذلك‬ ‫ّ‬
‫محرما‪ .‬لكن الوقوف على مناسبة نزول هذه اآلية يوضّح حقيقة معناها‪ ،‬ومن يشملهم‬
‫‪35‬‬
‫ي ومسلم وغيرهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال بعض‬
‫حكمها‪ ،‬فقد روى البخار ّ‬
‫الصحابة‪:‬‬
‫كيف ألصحابنا الذين ماتوا وكانوا يشربونها؟ قبل نزول التحريم طبعا‪ ،‬فنزلت‬
‫ت جنا ٌح فِّيما ط ِّعموا ‪.)93( ...‬‬ ‫هذه اآلية ليْس على الَّذِّين آمنوا وع ِّملوا ال َّ‬
‫صا ِّلحا ِّ‬
‫وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم اآلية التي تنزل بسبب سؤال من شخص‬
‫معين‪ ،‬أو عقب حادثة تتعلق بشخص معين‪ ،‬يشمل الحاالت التي تشبه حالة من نزلت‬
‫سبب)‪.‬‬ ‫اآلية بسببه‪ ،‬وهو ما يعبرون عنه بعبارة (األخذ بعموم اللفظ ال بخصوص ال ّ‬
‫فمن ذلك قول الطبري‪ ،‬بعد أن تحدث عن سبب نزول قوله تعالى‪ :‬هو الَّذِّي أ ْنزل‬
‫ب وأخر ‪[ ...‬آل عمران]‪ ،‬وهو‪« :‬وهذه‬ ‫عليْك ْال ِّكتاب ِّم ْنه آياتٌ محْ كماتٌ ه َّن أ ُّم ْال ِّكتا ِّ‬
‫ي بها كل‬ ‫اآلية وإن كانت نزلت فيمن ذكرناه أنها نزلت فيه من أهل الشرك‪ ،‬فإنه معن ّ‬
‫مبتدع في دين للا بدعة‪ ،‬فمال قلبه إليها‪ ،‬تأويال منه لبعض متشابه آي القرآن»‪.‬‬
‫سياق المكاني‪ :‬المكّي والمدني‪:‬‬
‫‪ /2‬ال ّ‬
‫نكتفي هنا باإلشارة إلى تعريفهما‪ ،‬وكيفية معرفة المكي من المدني(‪:)19‬‬
‫‪ -‬تعريف المكي والمدني من القرآن‪:‬‬
‫ناقش علماء القرآن تعريف المكي والمدني‪ ،‬واتخذ بعضهم زمان النزول‬
‫أساسا للتعريف‪ ،‬وجعل تأريخ الهجرة حدا فاصال‪ .‬واستند بعضهم إلى مكان النزول‬
‫في صياغته للتعريف‪.‬‬
‫التعريف بحسب الزمان‪ :‬المكي هو ما نزل قبل الهجرة‪ ،‬والمدني هو ما نزل‬
‫بعدها‪ ،‬سواء نزل بمكة أم بالمدينة‪ ،‬عام الفتح أو عام حجة الوداع‪ ،‬في سفر أو في‬
‫حضر‪ .‬وهذا هو التعريف المشهور في كتب علوم القرآن‪.‬‬
‫التعريف بحسب المكان‪ :‬المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة‪ ،‬والمدني ما نزل‬
‫سم هبة للا بن سالمة المفسر البغدادي (ت ‪ 410‬هـ) المكي على قسمين‪،‬‬ ‫بالمدينة‪ .‬وق ّ‬
‫هما‪ :‬المكي األول‪ ،‬وهو ما نزل في مكة قبل الهجرة‪ ،‬والمكي األخير‪ :‬وهو ما نزل‬
‫فيها بعد الفتح‪.‬‬

‫‪ :) 19‬ينظر‪ :‬الحمد‪ ،‬غانم قدّوري‪ :‬م س‪ ،‬صـ ‪.80-77‬‬

‫‪36‬‬
‫‪ -‬كيفية معرفة المكي والمدني‪:‬‬
‫لم يحدثنا التاريخ أن النبي صلى للا عليه وسلم كان قد أمر أصحابه بحفظ‬
‫اآليات والسور على زمان النزول‪ ،‬وإنما تشير الروايات إلى أنه كان يحدد لهم‬
‫مواضع اآليات من السور وقت التنزيل وعند كتابتها في الرقاع‪ .‬ومن ثم فإن‬
‫الصحابة كانت جهودهم متجهة إلى حفظ القرآن مرتبا على نحو ما يرتبه لهم رسول‬
‫للا صلى للا عليه وسلم‪ ،‬ولكن بقي في ذاكرتهم ما الحظوه من مكان وزمان نزول‬
‫كثير من اآليات والسور‪ ،‬ونقل ذلك عنهم تالمذتهم من التابعين‪.‬‬
‫والحظ العلماء أن معرفة المكي والمدني من سور القرآن يمكن أن يكون من‬
‫طريقين‪ :‬سماعي وقياسي‪ .‬فالسماعي‪ :‬ما وصل إلينا الخبر بنزوله في مكة أو المدينة‪،‬‬
‫قبل الهجرة أو بعدها‪ ،‬وكان عدد من الصحابة قد أبدوا اهتماما بهذا الجانب من تأريخ‬
‫القرآن ‪ ..‬أما القياسي‪ :‬فإنه يعتمد على جملة من الضوابط التي استخلصها العلماء من‬
‫الروايات المنقولة عن عدد من الصحابة والتابعين في بيان خصائص السور المكية‬
‫والسور المدنية‪ ،‬فمن تلك الروايات‪:‬‬
‫أ‪ -‬عن عبد للا بن مسعود‪ ،‬رضي للا عنه‪ ،‬قال‪« :‬كل شيء في القرآن يا أيُّها‬
‫ال َّناس أنزل بمكة‪ ،‬وكل شيء في القرآن يا أيُّها الَّذِّين آمنوا أنزل بالمدينة»‪ .‬والحظ‬
‫بعض العلماء أن (يا أيها الناس) منه مكي ومنه مدني وأكثره مكي‪.‬‬
‫ب‪ -‬عن عروة بن الزبير‪ ،‬قال‪« :‬ما كان من حدّ أو فريضة أنزلها للا عز‬
‫وجل بالمدينة‪ ،‬وما كان من ذكر األمم والقرون أنزل بمكة»‪.‬‬
‫ج‪ -‬قال المفسر محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (ت ‪ 741‬هـ) في تسهيله‪:‬‬
‫«واعلم أن السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد‪ ،‬والرد على المشركين‪ ،‬وفي‬
‫قصص األنبياء‪ ،‬وأن السور المدنية نزل أكثرها في األحكام الشرعية‪ ،‬وفي الرد على‬
‫اليهود والنصارى وذكر المنافقين‪ ،‬والفتوى في مسائل‪ ،‬وذكر غزوات النبي صلى للا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وحيث ورد‪ :‬يا أيُّها الَّذِّين آمنوا فهو مدني‪ ،‬وأما يا أيُّها ال َّناس فقد وقع في‬
‫المكي والمدني»(‪.)20‬‬

‫التحري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ :) 20‬يرجع في النقوالت المض ّمنة إلى المرجع األصلي من أجل زيادة‬

‫‪37‬‬
‫المحاضرة ‪ :07‬سياقات النّص القرآني (ثانيا)‪:‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫سياق التّداولي‪ :‬القراءات القرآنية(‪ ،)21‬مفهومها‪ ،‬أنواعها‪ ،‬الحكمة منها‪:‬‬
‫‪ /1‬ال ّ‬
‫‪ -‬القراءات لغة‪:‬‬
‫القراءات جمع قراءة‪ ،‬والقراءة مصدر سماعي لقرأ‪ ،‬تقول‪ :‬قرأ يقرأ قراءة‪،‬‬
‫وقرآنا‪ ،‬وقر اءا‪ ،‬والقرء في اللغة الجمع والضم‪ ،‬تقول قرأت الماء في الحوض‪ :‬إذا‬
‫جمعته‪ ،‬وسميت القراءة قراءة ألن القارئ يجمع الحرف مع الحرف فتكون الكلمة‪،‬‬
‫والكلمة مع الكلمة فتكون جملة والجملة مع الجملة‪ .‬فهو يقرأ يعني يجمع ذلك كله‪.‬‬
‫‪ -‬القراءات اصطال احا‪:‬‬
‫يخلط كثير من الباحثين بين تعريف القراءات وتعريف علم القراءات‪ ،‬والفرق‬
‫بين القراءات وعلم القراءات كالفرق بين القرآن الكريم وعلوم القرآن الكريم‪.‬‬
‫فالقراءة‪ :‬هي مذهب من مذاهب النطق بالقرآن الكريم؛ يذهب إليه إمام من‬
‫األئمة مذهباا يخالف غيره مع اتفاق الروايات والطرق عنه‪ ،‬سواء أكانت هذه المخالفة‬
‫في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها‪.‬‬
‫ومذهب النطق بالكلمة القرآنية له مسميات هي‪:‬‬
‫قراءة‪ ،‬رواية‪ ،‬طريق‪ ،‬وجه‪.‬‬
‫فالقراءة‪ :‬ما نسب إلى أحد أئمة القراءات إذا اتفقت الروايات والطرق عنه‪.‬‬
‫والرواية‪ :‬ما نسب إلى األخذ عن هذا اإلمام ولو بواسطة‪.‬‬
‫والطريق‪ :‬ما نسب إلى اآلخذ عن الراوي ولو نزل‪.‬‬
‫والوجه‪ :‬ما نسب إلى تخير القارئ من قراءة يثبت عليها وتؤخذ عنه‪.‬‬

‫‪ :) 21‬ينظر‪ :‬فهد الرومي‪ ،‬م س‪ ،‬صـ ‪.338-315‬‬

‫‪38‬‬
‫تعريف علم القراءات‪:‬‬
‫هو‪ :‬علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية‪ ،‬وطريق أدائها اتفاقاا أو‬
‫معزوا‬
‫ًّ‬ ‫اختالفاا مع عزو كل وجه لناقله‪ ،‬أو "علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختالفها‬
‫لناقله"‪.‬‬
‫موضوعه‪:‬‬
‫كلمات القرآن الكريم من حيث أحوال النطق بها‪ ،‬وكيفية أدائها‪.‬‬
‫استمداده‪:‬‬
‫النقول الصحيحة والمتواترة عن علماء القراءات إلى رسول للا صلى للا عليه وسلم‪.‬‬
‫حكمه‪:‬‬
‫فرض كفاية تعل اما وتعلي اما‪.‬‬
‫ثمرته وفائدته‪:‬‬
‫العصمة من الخطأ في النطق بالكلمات القرآنية‪ ،‬وصيانتها عن التحريف والتغيير‪،‬‬
‫والعلم بما يقرأ به كل إمام من األئمة القراء‪ ،‬والتمييز بين ما يقرأ به‪ ،‬وما ال يقرأ به‪.‬‬
‫تاريخ القراء‪:‬‬
‫يرجع عهد القراء الذين أقاموا الناس على طرائقهم في التالوة إلى عهد‬
‫الصحابة رضي للا عنهم فقد اشتهر باإلقراء عدد كبير منهم تلقوه مشافهة من‬
‫ضا‪.‬‬
‫الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬وتلقاه عنهم عدد كبير من التابعين بالمشافهة أي ا‬
‫وذكر الذهبي ‪-‬رحمه للا تعالى‪ -‬أن المشتهرين بإقراء القرآن من الصحابة سبعة هم‪:‬‬
‫‪ -1‬عثمان بن عفان رضي للا عنه‪.‬‬
‫‪ -2‬علي بن أبي طالب رضي للا عنه‪.‬‬
‫‪ -3‬أبي بن كعب رضي للا عنه‪.‬‬
‫‪ -4‬عبد للا بن مسعود رضي للا عنه‪.‬‬
‫‪ -5‬زيد بن ثابت رضي للا عنه‪.‬‬
‫‪ -6‬أبو موسى األشعري رضي للا عنه‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ -7‬أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي للا عنه‪.‬‬
‫ثم قال رحمه للا تعالى‪" :‬فهؤالء الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في حياة النبي‬
‫ضا‪ ،‬وعليهم دارت أسانيد قراءة األئمة العشرة‪.‬‬‫‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬وأخذ عنهم عر ا‬
‫وقد جمع القرآن غيرهم من الصحابة؛ كمعاذ بن جبل‪ ،‬وأبي زيد‪ ،‬وسالم مولى أبي‬
‫حذيفة‪ ،‬وعبد للا بن عمر‪ ،‬وعتبة بن عامر‪ ،‬ولكن لم يتصل بنا قراءتهم‪ ،‬فلهذا‬
‫اقتصرت على هؤالء السبعة رضي للا عنهم"‪.‬‬
‫وأخذ عن هؤالء الصحابة خلق كثير من التابعين في كل بلد من بلدان‬
‫المسلمين كما ذكرنا فيما مضى‪.‬‬
‫واشتهر سبعة من القر اء هم الذين ترجم لهم ابن مجاهد في كتابه السبعة‪،‬‬
‫وألحق بهم ثالثة من القراءة وسموا جمي اعا بالعشرة‪ ،‬وزاد بعضهم أربعة آخرين حتى‬
‫صاروا أربعة عشر‪.‬‬
‫أما السبعة فهم‪:‬‬
‫‪ -1‬ابن عامر "أبو عمران عبد للا بن عامر اليحصبي"‪118 -8‬هـ" تابعي جليل أخذ‬
‫القرآن عن المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان رضي للا عنه وقيل‪ :‬إنه قرأ على‬
‫عثمان نفسه‪ ،‬وهو إمام أهل الشام وقاضيهم‪ ،‬وهو قاضي دمشق في خالفة الوليد بن‬
‫عبد الملك وراوياه هشام وابن ذكوان "بواسطة"‪.‬‬
‫‪ -2‬ابن كثير "عبد للا بن كثير الداري "‪120-45‬هـ" إمام القراء بمكة‪ ،‬قرأ على عبد‬
‫للا بن السائب وقرأ عبد للا على أبي بن كعب وعمر بن الخطاب ‪-‬رضي للا عنهما‪-‬‬
‫وراوياه البزي وقنبل "بواسطة"‪.‬‬
‫‪ -3‬عاصم بن أبي النجود "أبو بكر" "‪127-00‬هـ" انتهت إليه رئاسة اإلقراء في‬
‫الكوفة قرأ على زر بن حبيش على عبد للا بن مسعود‪ ،‬وقرأ على أبي عبد الرحمن‬
‫السلمي الذي قرأ على علي بن أبي طالب رضي للا عنه وراوياه شعبة وحفص "بال‬
‫واسطة"‪.‬‬
‫‪ -4‬أبو عمرو بن العالء "زبان بن العالء البصري" "‪154-68‬هـ" ليس في السبعة‬
‫أكثر شيو اخا منه‪ ،‬قرأ على الحسن البصري‪ ،‬وأبي العالية وسعيد بن جبير وعاصم بن‬
‫أبي النجود وابن كثير المكي‪ ،‬وعكرمة مولى ابن عباس‪ ،‬وابن محيص‪ ،‬ونصر بن‬
‫عاصم‪ ،‬ويحيى بن يعمر وقرأ أبو العالية على عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ‪-‬‬
‫رضي للا عنهما‪ -‬وراوياه الدوري والسوسي "بواسطة"‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫‪ -5‬نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني "أبو رويم" "‪169-70‬هـ" إمام دار‬
‫الهجرة‪ ،‬وكان إمام المسجد النبوي‪ .‬أخذ القراءة عن جماعة من التابعين كأبي جعفر‬
‫وعبد الرحمن األعرج‪ ،‬وبلغ شيوخه السبعين وهم أخذوا عن ابن عباس وأبي بن‬
‫كعب وأبي هريرة رضي للا عنهم‪ .‬وراوياه قالون وورش "بال واسطة"‪.‬‬
‫‪ -6‬حمزة بن حبيب الزيات الكوفي "‪158-80‬هـ" قرأ علي األعمش على يحيى بن‬
‫وثاب على زر بن حبيش على عثمان وع لي وابن مسعود رضي للا عنهم وراوياه‬
‫خلف وخالد "بواسطة"‪.‬‬
‫‪ -7‬الكسائي "علي بن حمزة النحوي الكوفي" "‪189-119‬هـ" كان من أعلم الناس‬
‫بالنحو‪ ،‬أخذ القراءة عن حمزة الزيات وابن أبي ليلى وعيسى الهمداني‪ ،‬وقرأ عيسى‬
‫على عاصم وراوياه أبو الحارث والدوري "بال واسطة"‪.‬‬
‫وأما الثالثة تكملة العشرة فهم‪:‬‬
‫‪ -1‬أبو جعفر "يزيد بن القعقاع" " ‪130-‬هـ" إمام أهل المدينة أخذ عن ابن عباس‬
‫وأبي هريرة رضي للا عنهم عن أبي بن كعب‪ ،‬وراوياه ابن وردان وابن جماز‪.‬‬
‫‪ -2‬أبو محمد "يعقوب بن إسحاق "‪215-117‬هـ" إمام أهل البصرة وراوياه رويس‬
‫وروح‪.‬‬
‫‪ -3‬خلف بن هشام "‪ 229-150‬هـ" وقراءته في اختياره لم تخرج عن قراءة الكوفيين‬
‫وراوياه إسحاق وإدريس‪.‬‬
‫وأما األربعة تكملة األربعة عشر فهم‪:‬‬
‫‪ -1‬ابن محيضن المكي" ‪123-‬هـ"‪.‬‬
‫‪ -2‬اليزيدي "أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي البصري"‪202-128‬هـ"‪.‬‬
‫‪ -3‬الحسن البصري "‪110-21‬هـ"‪.‬‬
‫‪ -4‬األعمش أبو محمد سليمان بن مهران الكوفي "‪148-60‬هـ"‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫المحاضرة ‪ :08‬مناهج التّفسير ونقدها ّ‬
‫(أوال)(‪:)22‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫‪ /1‬معنى التّفسير والتّأويل وال ّ‬
‫شرح‪.‬‬
‫سر (العلمية والذّاتية)‪.‬‬
‫‪ /2‬شروط المف ّ‬
‫صحابة والتّابعين‪ ،‬وعصر التّدوين)‪.‬‬
‫‪ /3‬تاريخ التّفسير (في عهد ال ّ‬

‫‪ /1‬معنى التّفسير والتّأويل والشّرح‪:‬‬


‫التفسير فى اللغة‪ :‬التفسير هو اإليضاح والتبيين‪ ،‬ومنه قوله تعالى فى سورة‬
‫الفرقان آية [‪{ : ]33‬وال يأْتونك ِّبمث ٍل إِّالَّ ِّج ْئناك بالحق وأحْ سن ت ْفسِّيراا} ‪ ..‬أى بيانا ا‬
‫وتفصيالا‪ ،‬وهو مأخوذ من الفسر وهو اإلبانة والكشف‪ ،‬قال في القاموس‪" :‬الفسر‪:‬‬
‫اإلبانة وكشف المغطى كالتفسير‪ ،‬والفعل‪ :‬كضرب ونصر"‪.‬‬
‫سره ‪-‬‬
‫سِّره ‪ -‬بالكسر ويف ُّ‬
‫سر الشيء يف ّ‬
‫وقال في لسان العرب‪" :‬الفسر‪ :‬البيان ف َّ‬
‫سره أبانه‪ .‬والتفسير مثله ‪ ...‬ثم قال‪ :‬الفسر كشف المغطى‪ ،‬والتفسير‬ ‫بالضم فسراا‪ .‬وف َّ‬
‫كشف المراد عن اللفظ المشكل ‪" ...‬‬
‫وقال أبو حيان في البحر المحيط‪ ... " :‬ويطلق التفسير أيضا ا على التعرية‬
‫عريته لينطلق في حصره‪ ،‬وهو راجع‬ ‫لالنطالق‪ ،‬قال ثعلب‪ :‬تقول‪ :‬فسرت الفرس‪َّ :‬‬
‫لمعنى الكشف‪ ،‬فكأنه كشف ظهره لهذا الذى يريده منه من الجري"‪.‬‬
‫سي‪ ،‬وفى الكشف‬
‫ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يستعمل لغة في الكشف الح ِّ ّ‬
‫عن المعاني المعقولة‪ ،‬واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في األول‪.‬‬
‫التفسير في االصطالح‪ :‬يرى بعض العلماء‪ :‬أن التفسير ليس من العلوم التي‬
‫يتكلف لها حد‪ ،‬ألنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم‬
‫التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية‪ ،‬ويكتفى في إيضاح التفسير بأنه بيان كالم للا‪،‬‬
‫أو أنه المب ِّّين أللفاظ القرآن ومفهوماتها‪.‬‬

‫‪ :) 22‬رجعنا في هذه المحاضرة والتي تليها إلى‪ :‬الذّهبي‪ ،‬محمد حسين ‪ :‬التّفسير والمفسرون‪ 3( ،‬أجزاء)‪ ،‬ط‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫دت‪ .‬وجميع األقوال المقتبسة يرجع فيها إلى األصل من أجل زيادة التحري‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫ويرى بعض آخر منهم‪ :‬أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد‬
‫الكلية‪ ،‬أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد‪ ،‬فيتكلَّف له التعريف‪ ،‬فيذكر في ذلك‬
‫علوما ا أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن‪ ،‬كاللغة‪ ،‬والصرف‪ ،‬والنحو‪ ،‬والقراءات ‪...‬‬
‫وغير ذلك‪.‬‬
‫وإذا نحن تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلَّفوا الحد للتفسير‪ ،‬وجدناهم قد ع َّرفوه‬
‫بتعاريف كثيرة‪ ،‬يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها‪ ،‬فهي وإن كانت مختلفة من جهة‬
‫اللفظ‪ ،‬إال أنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه‪.‬‬
‫عرفه أبو حيان في البحر المحيط بأنه‪" :‬علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ‬‫فقد َّ‬
‫القرآن‪ ،‬ومدلوالتها‪ ،‬وأحكامها اإلفرادية والتركيبية‪ ،‬ومعانيها التي تحمل عليها حالة‬
‫التركيب‪ ،‬وتتمات لذلك"‪.‬‬
‫خرج التعريف فقال‪" :‬فقولنا‪" :‬علم"‪ ،‬هو جنس يشمل سائر العلوم‪ ،‬وقولنا‪:‬‬ ‫ثم َّ‬
‫"يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن"‪ ،‬هذا هو علم القراءات‪ ،‬وقولنا‪:‬‬
‫"ومدلوالتها" أي مدلوالت تلك األلفاظ‪ ،‬وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا‬
‫العلم‪ ،‬وقولنا‪" :‬وأحكامها اإلفرادية والتركيبة"‪ ،‬هذا يشمل علم التصريف‪ ،‬وعلم‬
‫اإلعراب‪ ،‬وعلم البيان‪ ،‬وعلم البديع‪ ،‬وقولنا‪" :‬ومعانيها التي تحمل عليها حالة‬
‫التركيب"‪ ،‬يشمل ما داللته عليه بالحقيقة‪ ،‬وما داللته عليه بالمجاز‪ ،‬فإن التركيب قد‬
‫يقتضى بظاهره شيئا ا ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج ألجل ذلك أن يحمل‬
‫على الظاهر وهو المجاز‪ ،‬وقولنا‪" :‬وتتمات لذلك"‪ ،‬هو معرفة النسْخ وسبب النزول‪،‬‬
‫وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن‪ ،‬ونحو ذلك"‪.‬‬
‫وعرفه الزركشي بأنه‪" :‬علم يفهم به كتاب للا المن َّزل على نبيه محمد صلى‬
‫َّ‬
‫للا عليه وسلم وبيان معانيه‪ ،‬واستخراج أحكامه وحكمه"‪.‬‬
‫وعرفه بعضهم بأنه‪" :‬علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد‪ ،‬من حيث‬ ‫َّ‬
‫داللته على مراد للا تعالى‪ ،‬بقدر الطاقة البشرية"‪.‬‬
‫والناظر ألول وهلة في هذين التعريفين األخيرين‪ ،‬يظن أن علم القراءات‬
‫وعلم الرسم ال يدخالن في علم التفسير‪ ،‬والحق أنهما داخالن فيه‪ ،‬وذلك ألن المعنى‬
‫يختلف باختالف القراءتين أو القراءات‪ ،‬كقراءة‪{ :‬و ِّإذا رأيْت ث َّم رأيْت ن ِّعيما ا وم ْلكا ا‬
‫ك ِّبيراا} [البقرة‪ -]222 :‬بضم الميم وإسكان الالم‪ ،‬فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ‪:‬‬
‫طه ْرن} ‪ -‬بالتسكين‪ ،‬فإن‬ ‫"وم ِّلكا ا كبيراا" ‪ -‬بفتح الميم وكسر الالم‪ .‬وكقراءة {حتى ي ْ‬
‫معناها مغاير لقراءة من قرأ‪" :‬يط َّهرن" ‪ -‬بالتشديد‪ ،‬كما أن المعنى يختلف أيضا ا‬
‫باختالف الرسم القرآني في المصحف‪ ،‬فمثالا قوله تعالى‪{ :‬أ َّمن ي ْمشِّي س ِّو ّياا} [الملك‪:‬‬
‫‪43‬‬
‫‪ -]22‬بوصل "أ َّمن"‪ ،‬يغاير فى المعنى‪{ :‬أ ْم َّمن يكون عل ْي ِّه ْم و ِّكيالا} [النساء‪-]109 :‬‬
‫بفصلها‪ ،‬فإن المفصولة تفيد معنى "بل" دون الموصولة‪.‬‬
‫وعرفه بعضهم بأنه‪" :‬علم نزول اآليات‪ ،‬وشئونها‪ ،‬وأقاصيصها‪ ،‬واألسباب‬ ‫َّ‬
‫النازلة فيها‪ ،‬ثم ترتيب مكيها ومدنيها‪ ،‬ومحكمها ومتشابهها‪ ،‬وناسخها ومنسوخها‪،‬‬
‫سِّرها‪ ،‬وحاللها وحرامها‪ ،‬ووعدها‬
‫وخاصها وعامها‪ ،‬ومطلقها ومقيدها‪ ،‬ومجملها ومف ّ‬
‫ووعيدها‪ ،‬وأمرها ونهيها‪ ،‬و ِّعبرها وأمثالها"‪.‬‬
‫وهذه التعاريف األربعة تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد للا‬
‫تعالى بقدر الطاقة البشرية‪ ،‬فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى‪ ،‬وبيان المراد‪.‬‬
‫التأويل فى اللغة‪:‬‬
‫التأويل‪ :‬مأخوذ من األول وهو الرجوع‪ ،‬قال فى القاموس‪" :‬آل إليه أوالا‬
‫سره‪،‬‬ ‫وأول الكالم تأويالا َّ‬
‫وتأوله‪ :‬دبَّره وقدَّره وف َّ‬ ‫ومآال‪ :‬رجع‪ ،‬وعنه‪ :‬ارتد ‪ ...‬ثم قال‪َّ :‬‬
‫والتأويل‪ :‬عبارة الرؤيا"‪.‬‬
‫وقال في لسان العرب‪" :‬األول‪ :‬الرجوع‪ ،‬آل الشيء يؤول أوالا ومآالا رجع‪،‬‬
‫وآول الشئ‪ :‬رجعه‪ ،‬وألت عن الشيء‪ :‬ارتددت‪ ،‬وفى الحديث‪" :‬من صام الدهر فال‬
‫وتأوله‪ :‬دبَّره وقدَّره‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وأول الكالم‬
‫صام وال آل" أي‪ :‬وال رجع إلى خير ‪ ...‬ثم قال‪َّ :‬‬
‫سره ‪ ...‬الخ"‪.‬‬
‫وتأوله‪ :‬ف َّ‬
‫وأوله َّ‬
‫َّ‬
‫وعلى هذا فيكون التأويل مأخوذا ا من األول بمعنى الرجوع‪ ،‬إنما هو باعتبار‬
‫المؤول أرجع الكالم إلى ما يحتمله من المعاني‪.‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫أحد معانيه اللغوية‪ ،‬فكأن‬
‫المؤول يسوس الكالم‬
‫ّ ِّ‬ ‫وقيل‪ :‬التأويل مأخوذ من اإليالة وهى السياسة‪ ،‬فكأن‬
‫ويضمه فى موضعه ‪ -‬قال الزمخشري فى أساس البالغة‪" :‬آل الرعية يؤولها إيالة‬
‫حسنة‪ ،‬وهو حسن اإليالة‪ ،‬وائتالها‪ ،‬وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم‪ ،‬أي سائس‬
‫محتكم"‪.‬‬
‫والناظر فى القرآن الكريم يجد أن لفظ التأويل قد ورد فى كثير من آياته على‬
‫معان مختلفة‪ ،‬فمن ذلك قوله تعالى فى سورة آل عمران آية [‪{ : ]7‬فأ َّما الَّذِّين في‬
‫قلو ِّب ِّه ْم ز ْي ٌغ فيتَّ ِّبعون ما تشابه ِّم ْنه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأ ْ ِّوي ِّل ِّه وما ي ْعلم تأ ْ ِّويله ِّإالَّ للا}‬
‫‪ ..‬فهو في هذه اآلية بمعنى التفسير والتعيين‪ .‬وقوله في سورة النساء آية [‪{ : ]59‬فإِّن‬
‫تنازعْت ْم فِّي ش ْيءٍ فردُّوه إِّلى للا والرسول إِّن ك ْنت ْم تؤْ ِّمنون باهلل واليوم اآلخر ذلك خي ٌْر‬
‫وأحْ سن تأ ْ ِّويالا} ‪ ..‬فهو في هذه اآلية بمعنى العاقبة والمصير‪ .‬وقوله فى سورة‬
‫األعراف آية [‪{ : ]53‬ه ْل ينظرون ِّإالَّ تأ ْ ِّويله ي ْوم يأ ْ ِّتي تأْ ِّويله} ‪..‬‬
‫‪44‬‬
‫‪ -‬التأويل في االصطالح‪:‬‬

‫سلَف‪ :‬التأويل عند السلَ َ‬


‫ف له معنيان‪:‬‬ ‫‪ -1‬التأويل عند ال َ‬
‫أحدهما‪ :‬تفسير الكالم وبيان معناه‪ ،‬سواء أوافق ظاهره أو خالفه‪ ،‬فيكون‬
‫التأويل والتفسير على هذا مترادفين‪ ،‬وهذا هو ما عناه مجاهد من قوله‪" :‬إن العلماء‬
‫يعلمون تأويله" يعنى القرآن‪ ،‬وما يعنيه ابن جرير الطبري بقوله في تفسيره‪" :‬القول‬
‫فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا" وبقوله‪" :‬اختلف أهل التأويل في هذه اآلية" ‪ ...‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬فإن مراده التفسير‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬هو نفس المراد بالكالم‪ ،‬فإن كان الكالم طلبا ا كان تأويله نفس الفعل‬
‫المطلوب‪ ،‬وإن كان خبراا‪ ،‬كان تأويله نفس الشيء ْ‬
‫المخبر به‪ ،‬وبين هذا المعنى والذى‬
‫قبله فرق ظاهر‪ ،‬فالذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكالم‪ ،‬كالتفسير‪،‬‬
‫والشرح‪ ،‬واإليضاح‪ ،‬ويكون وجود التأويل في القلب‪ ،‬واللسان‪ ،‬وله الوجود الذهني‬
‫واللفظي والرسمي‪ ،‬وأما هذا فالتأويل فيه نفس األمور الموجودة في الخارج‪ ،‬سواء‬
‫أكانت ماضية أم مستقبلة‪ ،‬فإذا قيل‪ :‬طلعت الشمس‪ ،‬فتأويل هذا هو نفس طلوعها‪،‬‬
‫وهذا في نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التي نزل بها‪ ،‬وعلى هذا فيمكن إرجاع كل ما‬
‫جاء في القرآن من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني‪.‬‬
‫والمتصوفة‪:‬‬
‫ّ ِّ‬ ‫‪ - 2‬التأويل عند المتأخرين من المتفقهة‪ ،‬والمتكلمة‪ ،‬والمح ّدِّثة‬
‫التأويل عند هؤالء جميعاا‪ :‬هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى‬
‫المرجوح لدليل يقترن به‪ ،‬وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه‬
‫ؤول أو محمول‬ ‫ومسائل الخالف‪ .‬فإذا قال أحد منهم‪ :‬هذا الحديث ‪ -‬أو هذا النص ‪ -‬م َّ‬
‫فالمتأول‬
‫ّ ِّ‬ ‫على كذا‪ .‬قال اآلخر‪ :‬هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل‪ .‬وعلى هذا‬
‫مطالب بأمرين‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬أن يب ِّّين احتمال اللفظ للمعنى الذى حمله عليه وادَّعى أنه المراد‪.‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬أن يب ِّّين الدليل الذى أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى‬
‫معناه المرجوح‪ ،‬وإال كان تأويالا فاسداا‪ ،‬أو تالعبا ا بالنصوص‪.‬‬
‫قال في جمع الجوامع وشرحه‪" :‬التأويل حمل الظاهر على المحتمل‬
‫المرجوح‪ ،‬فإن ح ِّمل عليه لدليل فصحيح‪ ،‬أو لما يظن دليالا في الواقع ففاسد‪ ،‬أو ال‬
‫شيء فلعب ال تأويل"‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫سر (العلمية والذّاتية)‪:‬‬
‫‪ /2‬شروط المف ّ‬
‫ورد النهي عن القول في القرآن بغير علم والوعيد الشديد على من اجترأ على‬
‫ذلك‪ ،‬ولذلك وضع العلماء شرو ا‬
‫طا لمن أراد أن يفسر القرآن ليخرج من هذا الوعيد‬
‫ويصبح من أهل التفسير والتأويل‪.‬‬
‫وال عجب أن يكون للمفسر شرو ا‬
‫طا بل العجب أن يجترئ على كالم للا كل‬
‫من هب ودب‪.‬‬
‫كثيرا من الناس يجترئون على تفسير القرآن‬ ‫ا‬ ‫وكم يحز في النفس حين نرى‬
‫بغير علم وال يحسبون لذلك حساباا فال تتلكأ ألسنتهم‪ ،‬وال ت ْوجف قلوبهم وكأنهم قد‬
‫أحاطوا بالقرآن علما‪ ،‬وأصبح من مداركهم القريبة‪ ،‬ومن معارفهم الدانية‪.‬‬
‫وكم من رجل منهم فسر آية لو عرضت على أبي بكر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬لقال‪:‬‬
‫"أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما ال أعلم"‪ ،‬وإن‬
‫أحدهم ليفسر اآلية ولو سمعه عمر ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬لقرعه بدرته‪.‬‬
‫وقد يقول قائل لم وضع العلماء هذه الشروط؟ أليس القرآن للناس كافة وتدبره‬
‫واجب على الجميع؟ ونقول لهذا وأمثاله نعم إن تالوة القرآن حق لكل مسلم‪ ،‬لكن‬
‫تفسيره للناس وبيانه لهم ليس حقا لكل إنسان‪ ،‬كأي علم آخر‪ ،‬فالطب مثال حق لكل‬
‫إنسان أن يدرسه لكن عالج الناس ليس حقا لكل إنسان إال إذا درس علم الطب‬
‫وحذقه‪ ،‬فما بالنا نصرخ في وجوه أدعياء الطب ونستعدي عليهم السلطة‪ ،‬وال ننهر‬
‫المجترئين على تفسير كالم للا وهم ليسوا من أهل التفسير‪.‬‬
‫ومجمل الشروط التي وضعها العلماء للمفسر هي‪:‬‬
‫ا‬
‫أوال‪ :‬سالمة العقيدة‪:‬‬
‫فإن من انحرفت عقيدته يعتقد رأيا ثم يحمل ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف‬
‫من الصحابة والتابعين‪ ،‬فإذا فسر القرآن َّأول اآليات التي تخالف مذهبه الباطل‪،‬‬
‫وحرفها حتى توافق مذهبه‪ ،‬ومثل هذا ال يطلب الحق فكيف يطلب منه! ومن هؤالء‬
‫فرق الخوارج والروافض والمعتزلة وغالة الصوفية وغيرهم‪.‬‬
‫ثانياا‪ :‬التجرد عن الهوى‪:‬‬
‫فإن الهوى يحمل صاحبه على نصرة مذهبه ولو كان باطال‪ ،‬ويصرفه عن‬
‫غيره ولو كان حقا‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ثالثاا‪ :‬أن يكون المفسر عالما بأصول التفسير‪:‬‬
‫وذلك أن أصول التفسير بمثابة المفتاح لعلم التفسير‪ ،‬فال بد للمفسر أن يكون‬
‫عالما بالقراءات والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ونحوها‪.‬‬
‫راب اعا‪ :‬أن يكون عالما بالحديث رواية ودراية‪:‬‬
‫إذ إن أحاديث الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬هي المبينة للقرآن‪ ،‬بل قد قال‬
‫اإلمام الشافعي رحمه للا تعالى‪" :‬كل ما حكم به رسول للا ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪-‬‬
‫فهو مما فهمه من القرآن"‪ .‬وقال اإلمام أحمد رحمه للا تعالى‪" :‬السنة تفسر القرآن‬
‫وتبينه"‪.‬‬
‫سا‪ :‬أن يكون عال اما بأصول الدين‪:‬‬
‫خام ا‬
‫وهو "علم التوحيد" حتى ال يقع في آيات األسماء والصفات في التشبيه أو‬
‫التمثيل أو التعطيل‪.‬‬
‫سا‪ :‬أن يكون عال اما بأصول الفقه‪:‬‬
‫ساد ا‬
‫إذ به يعرف كيف تستنبط األحكام من اآليات‪ ،‬ويستدل عليها‪ ،‬ويعرف اإلجمال‬
‫والتبيين‪ ،‬والعموم والخصوص‪ ،‬والمطلق المقيد‪ ،‬وداللة النص وإشارته وداللة األمر‬
‫والنهي‪ ..‬وغير ذلك‪.‬‬
‫سابعاا‪ :‬أن يكون عال اما باللغة وعلومها‪:‬‬
‫كالنحو والصرف واالشتقاق‪ ،‬والبالغة بأقسامها الثالثة "المعاني والبيان‬
‫والبديع"‪.‬‬
‫ذلكم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين‪ ،‬وهذه العلوم مما يتوصل بها‬
‫إلى معرفة المعنى وخواص التركيب ووجوه اإلعجاز فيه‪.‬‬
‫وهذه الشروط ‪-‬كما يظهر‪ -‬عزيزة المنال‪ .‬ولهذا تحرج كثير من السلف من‬
‫القول في القرآن بغير علم لتمكن اإليمان من قلوبهم واستحضارهم الخوف من للا‬
‫تعالى‪ ،‬وإذا رأيت من يجترئ على القول في القرآن بغير علم فاعلم أنه من نقص‬
‫إيمانه‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫صحابة والتّابعين‪ ،‬وعصر التّدوين)‪:‬‬
‫‪ /3‬تاريخ التّفسير (في عهد ال ّ‬
‫ضا على درجة‬
‫لم يكن الصحابة ‪-‬رضي للا عنهم‪ -‬وال الناس من بعدهم أي ا‬
‫واحدة في فهم القرآن الكريم‪ ،‬بل كانوا يتفاوتون في ذلك‪ ،‬فقد كان يشكل على بعضهم‬
‫ما ال يشكل على بعضهم اآلخر‪.‬‬
‫ويرجع ذلك إلى تفاوتهم في معرفة اللغة ومعرفة ما يحيط بنزول اآلية من‬
‫أحداث ومالبسات كأسباب النزول‪ ،‬زد على ذلك تفاوتهم في القدرة العقلية شأن البشر‬
‫كلهم‪.‬‬
‫ولو تساوت األذهان في إدراك معاني القرآن لبطل التنافس وخمدت الهمم‬
‫لزوال ما يحملهما على القدح وإعمال الذهن والتفكير والتدبر‪ ،‬لكن للا جلت حكمته‬
‫جعل ألفاظ القرآن تحتمل أحيا انا معاني كثيرة وأمر الناس بالتدبر والتفكر فيها وحث‬
‫على ذلك فتنافس الصحابة وسائر المسلمين من بعدهم في تفسيرها لينالوا األجر‬
‫العظيم والثواب الجزيل‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫المحاضرة ‪ :09‬مناهج التّفسيرونقدها (ثانيا)‪:‬‬
‫عناصر المحاضرة‪:‬‬
‫‪ /1‬التّفسير بالمأثور‪ :‬خصائصه‪ ،‬أعالمه‪ ،‬نقده‪،‬‬

‫‪ /2‬التّفسير ّ‬
‫بالرأي‪ :‬أعالمه‪ ،‬نقده‪.‬‬

‫‪ /1‬التّفسير بالمأثور‪ :‬خصائصه‪ ،‬أعالمه‪ ،‬نقده‪:‬‬


‫يشمل التفسير المأثور ما جاء فى القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض‬
‫آياته‪ ،‬وما نقل عن الرسول صلى للا عليه وسلم‪ ،‬وما ن ِّقل عن الصحابة رضوان للا‬
‫عليهم‪ ،‬وما ن ِّقل عن التابعين‪ ،‬من كل ما هو بيان وتوضح لمراد للا تعالى من‬
‫نصوص كتابه الكريم‪.‬‬
‫مالحظة‪:‬‬
‫إنما أدرج في التفسير المأثور ما ر ِّوى عن التابعين ‪-‬وإن كان فيه خالف ‪:‬هل‬
‫هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي – ألن كتب التفسير المأثور‪ ،‬كتفسير ابن‬
‫جرير وغيره‪ ،‬لم تقتصر على ِّذ ْكر ما ر ِّوى عن النبي صلى للا عليه وسلم وما ر ِّوى‬
‫عن أصحابه‪ ،‬بل ضمت إلى ذلك ما ن ِّقل عن التابعين في التفسير‪.‬‬
‫‪ -‬مصادر التفسير بالمأثور‪:‬‬
‫وتسمى "طرق التفسير بالمأثور" وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬القرآن‪:‬‬
‫تفسير القرآن بالقرآن أفضل طرق التفسير ومن أمثلته تفسير الكلمات في قوله‬
‫تعالى‪{ :‬فتلقَّى آدم ِّم ْن ر ِّّب ِّه ك ِّلماتٍ}‪ .‬بقوله تعالى‪{ :‬قاال ربَّنا ظل ْمنا أ ْنفسنا و ِّإ ْن ل ْم ت ْغ ِّف ْر‬
‫لنا وت ْرح ْمنا لنكون َّن ِّمن ْالخا ِّس ِّرين}‪.‬‬
‫‪ -2‬السنة‪:‬‬

‫قال تعالى‪ :‬وأ ْنز ْلنا ِّإليْك ال ِّذّ ْكر ِّلتب ِّّين ِّلل َّن ِّ‬
‫اس ما ن ِّ ّزل ِّإل ْي ِّه ْم ولعلَّه ْم يتف َّكرون}‬
‫‪1‬وقال اإلمام أحمد رحمه للا تعالى‪" :‬السنة تفسر القرآن وتبينه"‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ومن أمثلة تفسير القرآن بالسنة تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين‬
‫بالنصارى‪ .‬وتفسير الخيط األبيض والخيط األسود بأنه بياض النهار وسواد الليل‪.‬‬
‫‪ -3‬أقوال الصحابة‪:‬‬
‫وإذا لم تجد تفسير القرآن في القرآن وال في السنة فعليك بتفسير الصحابة ‪-‬‬
‫رضي للا عنهم‪ -‬فإنهم أعلم بذلك لما اختصوا به من مجالسة الرسول ‪-‬صلى للا عليه‬
‫وسلم‪ -‬ومشاهدة القرائن واألحداث والوقائع‪.‬‬
‫‪ -4‬أقوال التابعين‪:‬‬
‫وقد اختلف العلماء ‪-‬رحمهم للا تعالى‪ -‬في الرجوع إلى أقوال التابعين إذا لم‬
‫نجد التفسير في القرآن وال في السنة وال في أقوال الصحابة‪ ،‬فمنهم من عد أقوال‬
‫مصدرا من مصادر التفسير بالمأثور ومنهم من عدها كسائر أقوال العلماء‪.‬‬
‫ا‬ ‫التابعين‬
‫‪ -‬أعالمه‪:‬‬
‫‪ -‬ابن جرير ال ّ‬
‫طبري‪:‬‬
‫هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري‪ ،‬ولد في "آمل" في طبرستان سنة‬
‫‪224‬هـ وتوفي في بغداد سنة "‪."310‬‬
‫عا في الحديث‪ ،‬وشي اخا‬ ‫كان عال اما بالقراءات‪ ،‬وإما اما في التفسير‪ ،‬بار ا‬
‫للمؤرخين‪ ،‬انفرد في الفقه بمذهب مستقل وأقاويل واختيارات‪ ،‬وله أتباع ومقلدون‪.2‬‬
‫وقال ابن خزيمة‪" :‬ما أعلم على أديم األرض أعلم من محمد بن جرير"‪ ،3‬وله‬
‫مؤلفات كثيرة منها‪ :‬كتاب في القراءات و"تاريخ الرجال" في الصحابة والتابعين‪،‬‬
‫و"لطيف القول" جمع في مذهبه الذي اختاره‪" ،‬وتهذيب اآلثار"‪ ،‬ومن أهم كتبه‬
‫"تاريخ األمم والملوك وأخبارهم"‪.‬‬
‫تفسيره‪:‬‬
‫أما تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" فلم يؤلَّف قبله وال بعده مثله في‬
‫موضوعه‪ ،‬وال يزال المفسرون عالة على تفسيره في التفسير بالمأثور‪ ،‬ويتميز‬
‫تفسيره بمزايا منها‪:‬‬
‫‪ -1‬اعتماده على التفسير بالمأثور عن الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬وأصحابه‬
‫والتابعين‪.‬‬
‫‪ -2‬التزامه باإلسناد في الرواية‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫‪ -3‬عنايته بتوجيه األقوال والترجيح‪.‬‬
‫‪ -4‬ذكره لوجوه اإلعراب‪.‬‬
‫‪ -5‬دقته في استنباط األحكام الشرعية من اآليات‪.‬‬
‫وكان هذا التفسير مفقوداا إلى وقت قريب حيث عثر على نسخة مخطوطة منه‬
‫عند أحد أمراء حائل‪ ،‬وهو حمود بن عبيد الرشيد‪ ،‬وقد تم طبعه على هذه النسخة في‬
‫ثالثين جز اءا سنة ‪.1319‬‬
‫ثم قام الشيخان الفاضالن محمد وأحمد شاكر بتحقيق الكتاب والتعليق عليه‬
‫ومراجعته وتخريج أحاديثه وصدر منه ستة عشر جز اءا إلى نهاية تفسير اآلية ‪ 27‬من‬
‫سورة إبراهيم‪ ،‬ثم توقف العمل‪ ،‬نسأل للا أن يهيئ من عباده العلماء من يت ُّمه‪.‬‬
‫قال الخطيب‪" :‬وكتاب التفسير لم يصنف أحد مثله" وقال الذهبي‪" :‬وله كتاب‬
‫في التفسير لم يصنف مثله" وقال النووي‪" :‬أجمعت األمة على أنه لم يصنف مثل‬
‫تفسير الطبري"‪.‬‬
‫وقال أبو حامد اإلسفراييني‪" :‬لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير‬
‫كثيرا"‪.‬‬
‫محمد بن جرير لم يكن ذلك ا‬
‫وقال ابن تيمية‪" :‬وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير‬
‫الطبري‪ ،‬فإنه يذكر مقاالت السلف باألسانيد الثابتة‪ .‬وليس فيه بدعة‪ ،‬وال ينقل عن‬
‫المتهمين‪ ،‬كمقاتل بن بكير والكلبي"‪.‬‬
‫‪ -‬التفسير بالرأي وأهم المؤلفات فيه‪:‬‬
‫‪ -‬تعريفه‪:‬‬
‫هو تفسير القرآن باالجتهاد‪.‬‬
‫‪ -‬أقسامه‪:‬‬
‫ينقسم التفسير بالرأي إلى قسمين‪:‬‬
‫األول‪ :‬التفسير بالرأي المحمود‪:‬‬
‫وهو التفسير المستمد من القرآن ومن سنة الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪-‬‬
‫وكان صاحبه عال اما باللغة العربية وأساليبها‪ ،‬وبقواعد الشريعة وأصولها‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫حكمه‪:‬‬
‫أجاز العلماء ‪-‬رحمهم للا تعالى‪ -‬هذا النوع من التفسير ولهم أدلة كثيرة على ذلك‬
‫منها‪:‬‬

‫‪ -1‬قوله تعالى‪{ :‬أفال يتدبَّرون ْالق ْرآن أ ْم على قلو ٍ‬


‫ب أ ْقفالها}‪ .‬وغيرها من اآليات التي‬
‫تدعو إلى التدبر في القرآن‪.‬‬
‫‪ -2‬دعاء الرسول ‪-‬صلى للا عليه وسلم‪ -‬البن عباس بقوله‪" :‬اللهم فقهه في الدين‬
‫مقصورا على النقل وال يجوز االجتهاد فيه لما كان‬
‫ا‬ ‫وعلمه التأويل" ولو كان التفسير‬
‫البن عباس مزية على غيره‪.‬‬
‫‪ -3‬أن الصحابة ‪-‬رضي للا عنه‪ -‬اختلفوا في التفسير على وجوه‪ ،‬فدل على أنه من‬
‫اجتهادهم‪.‬‬
‫وبهذا يظهر أن التفسير بالرأي المحمود جائز‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التفسير بالرأي المذموم‪:‬‬
‫هو التفسير بمجرد الرأي والهوى‪.‬‬
‫وأكثر الذين فسروا القرآن بمجرد الرأي هم أهل األهواء والبدع الذين اعتقدوا‬
‫معتقدات باطلة ليس لها سند وال دليل‪ ،‬ففسروا آيات القرآن بما يوافق آراءهم‬
‫ومعتقداتهم الزائفة وحملوها على ذلك بمجرد الرأي والهوى‪.‬‬
‫حكمه‪:‬‬
‫وهذا النوع من التفسير محرم ال يجوز‪ ،‬قال ابن تيمية رحمه للا تعالى‪" :‬فأما تفسير‬
‫القرآن بمجرد الرأي فحرام"‪ .‬واألدلة على ذلك كثيرة منها‪:‬‬

‫‪ -1‬قوله تعالى‪{ :‬وأ ْن تقولوا على َّ ِّ‬


‫ّللا ما ال ت ْعلمون}‪.‬‬
‫وقال سبحانه‪{ :‬وال ت ْقف ما ليْس لك ِّب ِّه ِّع ْل ٌم}‪.‬‬
‫‪ -2‬حديث‪" :‬من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار"‪ .‬وحديث‪" :‬من قال‬
‫في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫أهم المؤلفات في التفسير بالرأي‪:‬‬
‫والمؤلفات في التفسير بالرأي كثيرة أه ّمها‪:‬‬
‫الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون األقاويل في وجوه التأويل‪ :‬للزمخشري‪.‬‬
‫المؤلف‪:‬‬
‫هو أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري‪ 1‬المعتزلي‪ ،‬الملقب بجار للا‪ ،‬ولد‬
‫سنة ‪ 467‬في زمخشر من قرى خوارزم‪ ،‬بعد أن تلقى العلم رحل إلى مكة وألف فيها‬
‫تفسيره الكشاف‪ ،‬ثم عاد إلى خوارزم‪ ،‬وتوفي فيها سنة ‪ 538‬وهو إمام من أئمة اللغة‪،‬‬
‫ال يأنف من انتمائه إلى االعتزال بل يجاهر به‪ ،‬ويدعو إليه‪ ،‬ومن مؤلفاته‪" :‬أساس‬
‫البالغة" و"الفائق في غريب الحديث" و"المفصل" في النحو‪ ..‬وغيرها‪.‬‬
‫تفسيره‪:‬‬
‫اعتنى الزمخشري في تفسيره هذا ببيان وجوه اإلعجاز القرآني وإظهار جمال‬
‫النظم وبالغته‪ ،‬وخال هذا التفسير من الحشو والتطويل‪ ،‬وإيراد اإلسرائيليات إال‬
‫القليل‪.‬‬
‫والزمخشري قليل االستشهاد بالحديث‪ ،‬ويورد أحيا انا األحاديث الموضوعة‪،‬‬
‫خاصة في فضائل السور‪.‬‬
‫ومأل تفسيره بعقائد المعتزلة واالستدالل لها وتأويل اآليات و ْفقها ويدس ذلك‬
‫سا ال يدركه إال حاذق حتى قال البلقيني‪" :‬استخرجت من الكشاف اعتزاال‬ ‫د ًّ‬
‫بالمناقيش"‪.‬‬
‫وهو شديد على أهل السنة والجماعة ويذكرهم بعبارات االحتقار ويرميهم‬
‫باألوصاف المقذعة‪ ،‬ويمزج حديثه عنهم بالسخرية واالستهزاء‪.‬‬
‫ولهذه األمور وغيرها نبه كثير من العلماء إلى أخذ الحيطة والحذر عند‬
‫المطالعة في تفسيره أو النقل منه‪ ،‬فقال اإلمام الذهبي‪" :‬محمود بن عمر الزمخشري‬
‫المفسر النحوي صالح‪ ،‬لكنه داعية إلى االعتزال أجارنا للا‪ ،‬فكن حذرا من كشافه"‪.‬‬
‫وقال علي القاري‪" :‬وله دسائس خفيت على أكثر الناس فلهذا حرم بعض فقهائنا‬
‫مطالعة تفسيره لما فيه من سوء تعبيره في تأويله وتعبيره"‪.‬‬
‫وينبغي لمن أراد أن يقرأ فيه أن يرجع لكتاب "اإلنصاف فيما تضمنه الكشاف من‬
‫االعتزال" البن المنير وهو مطبوع مع الكشاف وفيه كشف العتزالياته وضالالته‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‪:‬‬
‫‪-‬القرآن الكريم‪.‬‬

‫اإلبراهيم‪ ،‬موسى إبراهيم‪:‬‬


‫بحوث منهجية في علوم القرآن الكريم‪ ،‬ط‪ ،2‬دار ع ّمار‪ ،‬ع ّمان‪-‬األردن‪،‬‬
‫‪.1996‬‬
‫أبو شهبة‪ ،‬محمد محمد‪:‬‬

‫المدخل إلى دراسة القرآن الكريم‪ ،‬ط‪ ،3‬دار اللّواء‪ّ ،‬‬


‫الرياض‪1987 ،‬م‪.‬‬
‫إسماعيل‪ ،‬مح ّمد بكر‪:‬‬
‫‪ -‬دراسات في علوم القرآن‪ ،‬ط‪ ،2‬دار المنار‪ ،‬القاهرة‪.1999 ،‬‬
‫‪ -‬قصص القرآن من آدم عليه السالم إلى أصحاب الفيل‪ ،‬ط‪ ،2‬دار المنار‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط ‪ 1997 ،2‬م‪.‬‬
‫البغا‪ ،‬مصطفى ديب‪:‬‬
‫الواضح في علوم القرآن‪( ،‬تأليف مشترك مع‪ :‬محيى الدين ديب مستو) ط‪،2‬‬
‫دار الكلم الطيب‪ /‬دار العلوم اإلنسانية–دمشق‪ 1998 ،‬م‪.‬‬
‫ال ُجدَيع‪ ،‬عبد هللا بن يوسف‪:‬‬
‫سسة الر ّيان‪ ،‬بيروت‪2001 ،‬م‪.‬‬
‫المقدّمات األساسية في علوم القرآن‪ ،‬ط‪ ،1‬مؤ ّ‬
‫ابن الجوزي‪ ،‬أبوالفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن (‪ 597‬هـ)‪:‬‬
‫فنون األفنان في عيون علوم القرآن‪ ،‬تح‪ ،‬د‪ ،‬حسن عتر‪ ،‬ط‪ ،1‬دار البشائر‬
‫اإلسالمية‪ ،‬بيروت‪.1987 ،‬‬
‫الحمد‪ ،‬غانم قدّوري‪:‬‬
‫محاضرات في علوم القرآن‪ ،‬ط‪ ،1‬دار ع ّمار‪ ،‬ع ّمان‪-‬األردن‪2003 ،‬م‪.‬‬
‫الذّهبي‪ ،‬محمد حسين‪:‬‬
‫التّفسير والمفسرون‪ 3( ،‬أجزاء)‪ ،‬ط‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دت‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫ّ‬
‫الزرقاني‪ ،‬مح ّمد عبد العظيم‪( :‬ت ‪ 1948‬م)‪:‬‬
‫مناهل ال عرفان في علوم القرآن‪( ،‬جزءان)‪ ،‬ط‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫دت‪.‬‬
‫الزركشي‪ ،‬محمد بن عبد هللا‪:‬‬
‫البرهان في علوم القرآن‪ ،‬تح‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم ط‪ ،1‬دار إحياء الكتب‬
‫العربية‪ -‬عيسى البابى الحلبي وشركائه‪ 1957 ،‬م‪.‬‬
‫الرومي‪ ،‬فهد بن عبد الرحمن‪:‬‬
‫ّ‬
‫دراسات في علوم القرآن الكريم‪ ،‬الطبعة‪ ،12 :‬الرياض‪2003 ،‬م‪ .‬دون ذكر‬
‫الدار‪.‬‬
‫السيوطي‪ ،‬عبد الرحمن بن أبي بكر جالل الدين‪( :‬ت ‪ 911‬هـ)‪:‬‬
‫اإلتقان في علوم القرآن (‪ 4‬أجزاء) ‪ ،‬تح‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم ط‪ ،‬الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب‪ 1974 ،‬م‪.‬‬
‫الشايع‪ ،‬محمد بن عبد الرحمن‪:‬‬
‫معجم مصطلحات علوم القرآن‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار التدمرية‪ ،‬الرياض‪ 2012 ،‬م‪.‬‬
‫الص ّباغ‪ ،‬مح ّمد بن لطفي‪:‬‬
‫لمحات في علوم القرآن واتّجاهات التّفسير‪ ،‬ط‪ ،3‬المكتب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1990‬م‪.‬‬
‫الصالح‪ ،‬صبحي‪:‬‬
‫مباحث في علوم القرآن‪ ،‬ط ‪ ،10‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ 1977 ،‬م‪.‬‬
‫العبيد‪ ،‬علي بن سليمان‪:‬‬
‫‪ -‬جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة‪ ،‬مجمع الملك فهد لطباعة المصحف‬
‫الشريف‪ ،‬ضمن ندوة‪:‬عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه‬
‫‪1421‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬الوجيز في علوم القرآن العزيز‪ ،‬ط ‪ ،3‬دار التدمرية‪ ،‬الرياض‪ 2015 ،‬م‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫عتر‪ ،‬نور الدّين‪:‬‬
‫صباح‪ ،‬دمشق‪.1993 ،‬‬
‫علوم القرآن الكريم‪ ،‬ط‪،1‬مطبعة ال ّ‬
‫غزالن‪ ،‬عبد الوهاب‪:‬‬
‫البيان في مباحث من علوم القرآن‪ ،‬ط‪ ،‬مطبعة دار التأليف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دت‪.‬‬
‫المزيني‪ ،‬عبد العزيز بن سليمان‪:‬‬
‫مباحث في علم القراءات‪ ،‬ط ‪ ،1‬دار كنوز إشبيليا‪ ،‬الرياض‪ 2011 ،‬م‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫فهرس الموضوعات‪:‬‬
‫‪-‬مقدّمة‪ ............................................................................... :‬ص‪03 :‬‬
‫المحاضرة االفتتاحية‪ :‬التّعريف بعلوم القرآن‪ ................................. :‬ص‪05 :‬‬
‫المحاضرة ‪ :01‬تعريفات‪ .......................................................... :‬ص‪07 :‬‬
‫‪/1‬أه ّمية القرآن وعلومه في الدّراسات اللّغوية واألدبية ‪ .......................‬ص‪07 :‬‬
‫‪ /2‬تعريف القرآن‪ ،‬الكتاب‪ ،‬الوحي‪ ،‬المعجزة‪ ،‬ال َّنبي ‪ ...........................‬ص‪08 :‬‬
‫المحاضرة ‪ :02‬تاريخ القرآن (أوال)‪ ............................................ :‬ص‪12 :‬‬
‫‪ /1‬نزول القرآن ‪ ......................................................................‬ص‪12 :‬‬
‫‪ /2‬بدايات الوحي ‪ .....................................................................‬ص‪14 :‬‬
‫‪ /3‬التّنجيم ‪ ..............................................................................‬ص‪14 :‬‬
‫المحاضرة ‪ :03‬تاريخ القرآن (ثانيا)‪ ........................................... :‬ص‪16 :‬‬
‫‪ /1‬مراحل جمع القرآن ‪ ..............................................................‬ص‪16 :‬‬
‫‪ /2‬معايير ترتيب آيات وسور القرآن الكريم ‪ .....................................‬ص‪26 :‬‬
‫مكونات النَّص القرآني (أوال)‪ ................................. :‬ص‪28 :‬‬
‫المحاضرة ‪ّ :04‬‬
‫اللّفظة‪ ،‬العبارة‪ ،‬اآلية‪ ،‬ال ّ‬
‫سورة ‪ .....................................................‬ص‪28 :‬‬
‫مكونات النَّص القرآني (ثانيا)‪ ................................ :‬ص‪29 :‬‬
‫المحاضرة ‪ّ :05‬‬
‫صة القرآنية‪ :‬خصائصها‪ ،‬تعريفها ‪ .........................................‬ص‪29 :‬‬
‫‪ /1‬الق ّ‬
‫المحاضرة ‪ :06‬سياقات النّص القرآني ّ‬
‫(أوال)‪ ................................ :‬ص‪34 :‬‬
‫سببي‪ :‬أسباب ال ّنزول ‪ ................................................‬ص‪34 :‬‬
‫سياق ال ّ‬
‫‪ /1‬ال ّ‬
‫سياق المكاني‪ :‬الم ّكي والمدني ‪ ...............................................‬ص‪36 :‬‬
‫‪ /2‬ال ّ‬
‫المحاضرة ‪ :07‬سياقات النّص القرآني (ثانيا)‪ .............................. :‬ص‪38 :‬‬
‫سياق التّداولي‪ :‬القراءات القرآنية‪ ،‬مفهومها‪ ،‬أنواعها‪ ،‬الحكمة منها‪ .... :‬ص‪38 :‬‬
‫‪ /1‬ال ّ‬

‫‪57‬‬
‫المحاضرة ‪ :08‬مناهج التّفسير ونقدها ّ‬
‫(أوال)‪ ..................................:‬ص‪42 :‬‬
‫‪ /1‬معنى التّفسير والتّأويل وال ّ‬
‫شرح ‪ ................................................‬ص‪42 :‬‬
‫سر (العلمية والذّاتية) ‪ ..............................................‬ص‪46 :‬‬
‫‪ /2‬شروط المف ّ‬
‫صحابة والتّابعين‪ ،‬وعصر التّدوين) ‪ ............‬ص‪48 :‬‬
‫‪ /3‬تاريخ التّفسير (في عهد ال ّ‬
‫المحاضرة ‪ :09‬مناهج التّفسير ونقدها (ثانيا)‪ ................................. :‬ص‪49 :‬‬
‫‪ /1‬التّفسير بالمأثور‪ :‬خصائصه‪ ،‬أعالمه‪ ،‬نقده ‪ ...................................‬ص‪49 :‬‬

‫‪ /2‬التّفسير ّ‬
‫بالرأي‪ :‬أعالمه‪ ،‬نقده ‪ ...................................................‬ص‪.52 :‬‬

‫‪58‬‬

You might also like