You are on page 1of 14

‫سؤال الجهوية المتقدمة بالمغرب (الجزء األول)‬

‫يونس ابالغ‬
‫باحث بجامعة محمد الخامس ‪-‬الرباط‪-‬‬

‫اعتمد المغرب الحكامة الترابية كطريقة التخاذ القرارات وصياغة السياسات العمومية‪ ،‬وتتبعها‪.‬‬
‫وراهن على ورش الالمركزية‪ ،‬وبدرجة أولى على الجهوية المتقدمة‪ .‬فهناك مبادئ أتى بها الدستور‪،‬‬
‫وقوانين تنظيمية رأت النور‪ ،‬ألجل المرور من جهوية صورية إلى جهوية حقيقية يشعر بها المواطن‪،‬‬
‫محققة بتأهيل النخب‪ ،‬وتبني سياسة فعالة لالتركيز‪ ،‬ثم النهوض بالمرفق العام كما جاء في مضامين‬
‫دستور ‪.2011‬‬
‫إن موضوع الجهوية المتقدمة هو اإلقرار أوال بوضع الدولة سياسة المركزية واضحة المعالم‪،‬‬
‫تقوم على االرتقاء بالجهة مع تعزيز الالتمركز الواسع‪ .‬وال أعلم مبلغ إطالع القارئ الكريم على هذه‬
‫المسألة‪ .‬وإن لم أخطئ‪ ،‬فإن تطبيقاتها قد بدأت لتوها‪ ،‬وسأحاول تقديم إجابة متواضعة للسؤال بصورة‬
‫منتظمة‪ .‬وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فمن المحتمل جدا أن ال يتيسر لي في المقال األول عن هذه المسألة المركبة‬
‫بلوغ الوضوح الكافي واإلفهام (السيما القانوني) بالنسبة للكثيرين من القراء‪ ،‬لذلك‪ ،‬يجب أن تحاط اإلجابة‬
‫عن سؤال الجهوية المتقدمة بمساهمات متتالية ومنسقة‪ .‬وقبل اإلجابة عن سؤال مسألة الجهة؟ وما هو‬
‫جوهرها؟ يجب في الحقيقة التساؤل أوال من وجهة نظر قانونية عن‪ :‬ما هي الجهة من حيث الشكل في‬
‫عالقتها بباقي المستويات الترابية األخرى (الجماعات والعماالت واألقاليم)؟ وكيف تبوأت مكانة الصدارة‬
‫في التنظيم الالمركزي الترابي بعد أن كانت الجماعات (الحضرية والقروية كوحدات المركزية قاعدية)‬
‫هي من يشكل فيه قوام كل تنمية مستدامة؟‬
‫بعد هذه المالحظات واألسئلة المقتضبة‪ ،‬انتقل إلى المسألة نفسها‪ ،‬إلى سؤال ما هي الجهوية‬
‫المتقدمة‪ .‬ولكي ما نتناول هذا المطلب بالشكل األقرب إلى العلم‪ ،‬ينبغي أن نلقي على التاريخ ولو نظرة‬
‫قانونية سريعة‪ ،‬لنرى مكانة الجهة قبل وبعد دستور ‪ ،2011‬وكيف انبثقت من بين باقي الجماعات الترابية‬
‫األخرى‪ ،‬لتحتل مكانة الصدارة بينها‪ ،‬وكيف تطورت‪ .‬ألن الطريقة المأمونة لتناول المسألة بالشكل‬
‫الصحيح‪ ،‬هو عدم نسيان الصلة التاريخية األساسية‪ ،‬والمراحل التي اجتازتها هذه األخيرة وغيرها من‬
‫المستويات الترابية األخرى في تطورها‪ ،‬وما آلت إليه في الوقت الحاضر نتيجة تطورها هذا‪.‬‬
‫عرف الفصل ‪ 135‬من دستور ‪ 2011‬الجماعات الترابية للمملكة بالجهات والعماالت واألقاليم‬ ‫َّ‬
‫والجماعات‪ .‬لكن يجب التذكير بأن التنظيم الالمركزي الترابي في المغرب‪ ،‬يرجع في أول األمر لمستوى‬
‫الجماعات الحضرية والقروية‪ ،‬كوحدات ترابية قاعدية إثر صدور ظهير ‪ 23‬يونيو ‪ ،1960‬في الوقت‬
‫ا لذي لم تكن فيه ال جهات وال عماالت وأقاليم‪ .‬وهو النص الذي أدخلت عليه إصالحات عميقة بتاريخ ‪30‬‬
‫شتنبر ‪ ،1976‬أهمها منح رئيس مجلس الجماعة اختصاص ممارسة الشرطة اإلدارية في مجاالت عدة‬
‫أهمها التعمير‪.‬‬
‫ووعيا من المشرع بأهمية الحكامة الترابية ألجل تنمية مستدامة‪ ،‬تم العمل سنة ‪ 2002‬على توسيع‬
‫اختصاصات الجماعات الحضرية والقروية (علما أن هذا التصنيف حضري‪-‬قروي تم تجاوزه في دستور‬
‫‪ )2011‬وفقا لمقتضيات القانون رقم ‪ 78.00‬المتعلق بالميثاق الجماعي‪ ،‬والتي جعلت من الجماعات بشكل‬
‫جريء‪ ،‬على عكس القواني ن السابقة القوام الرئيسي للتنمية‪ ،‬بعد أن تخلت الدولة عن مجموعة من‬
‫االختصاصات لها‪ ،‬تاركة لها مجال تأدية الدور التوجيهي والقيادي في تدبير الشأن العام المحلي‪ ،‬وكذا في‬
‫صياغة سياسات ترابية تجيب عن إشكاالت التنمية المحلية‪ .‬كما تتضمن مجموعة من المقتضيات التي‬
‫فصلت في اختصاصات المجلس‪ ،‬ووضحتها أكثر‪ ،‬فضال عن تدعيم اختصاص رئيس المجلس‪ ،‬وهي‬
‫المقتضيات القانونية التي تم العمل على تتميمها سنة ‪ 2009‬بالقانون رقم ‪.17.08‬‬
‫أما العماالت واألقاليم كجماعات ترابية (ينبغي التمييز بين العمالة أو اإلقليم كجماعة ترابية‬
‫والعمالة أو اإلقليم كإدارة غير ممركزة لوزارة الداخلية) فتم إصدار أول نص بشأنها بظهير ‪ 12‬شتنبر‬
‫‪ 1963‬الذي اعترف بالعماالت واألقاليم كجماعات محلية إلى جانب الجماعات الحضرية والقروية‪ ،‬وهو‬
‫النص الذي ظل ساري به العمل‪ ،‬إلى أن تم تغيير مقتضياته سنة ‪ 2002‬بالقانون رقم ‪ 79.00‬الذي عدل‬
‫النص السابق بتفصيله في اختصاصات مجلس العمالة واإلقليم ورئيسه‪.‬‬
‫أما الجهات كجماعات ترابية فلم يتم االهتمام بها إال في حقبة زمنية متأخرة نسبيا‪ ،‬إثر إحداث‬
‫الجهات االقتصادية السبع سنة ‪ ،1971‬لتأخذ بعد ذلك مكانة دستورية سنة ‪ 1992‬بعد أن أضاف الفصل‬
‫‪ 94‬من الدستور آنذاك للعماالت واألقاليم والجماعات الحضرية والقروية وحدة محلية أخرى‪ ،‬وهي‬
‫الجهة‪ ،‬الفصل ‪ 94‬من الدستور المذكور‪" :‬الجماعات المحلية بالمملكة هي الجهات والعماالت واألقاليم‬
‫والجماعات الحضرية والقروية ‪ ،‬وال يمكن إحداث أي جماعة محلية أخرى إال بقانون‪ ." .‬وهي التصنيفات‬
‫والتسميات المتمسك بها في التعديل الدستوري لسنة ‪ ،1996‬ليلي ذلك مباشرة سنة ‪ 1997‬إصدار القانون‬
‫رقم ‪ 47.96‬المنظم للجهات كجماعة محلية‪.‬‬
‫ورغبة من السلطات العمومية في تطوير سياسة الالمركزية‪ ،‬ورسم سياسة واضحة بشأنها‪ ،‬وتبعا‬
‫للتعديل الدستوري سنة ‪ 2011‬والمقتضيات الواردة في الباب التاسع منه؛ عرفت الالمركزية الترابية‬
‫تحوالت جد مهمة‪ ،‬ابتدأت باهتمام عميق للمشرع الدستوري‪ ،‬بعد أن جعل من الجهة في مكانة الصدارة‬
‫بين باقي الجماعات الترابية األخرى‪ ،‬وبالنتيجة تراكم صدور النصوص التشريعية كميا‪ ،‬ورأت النور‬
‫مجموعة من النصوص القانونية والتنظيمية المحددة لمجاالت تطبيق الجهوية المتقدمة‪ ،‬لتكلل القفزة‬
‫النوعية بانتداب ‪ 4‬شتنبر ‪ 2015‬المتعلق بانتخاب مجالس الجماعات الترابية‪:‬‬
‫‪ -‬جعل الفصل ‪ 143‬من الدستور الجهة تتبوأ مكانة الصدارة في التنظيم الالمركزي الترابي‪..." :‬تتبوأ‬
‫الجهة‪ ،‬تحت إشراف رئيس مجلسها‪ ،‬مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية األخرى‪ ،‬في عمليات‬
‫إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية‪...،‬؛‬
‫‪ -‬تضمين الباب التاسع من الدستور المذكور لمجموعة من المبادئ والوسائل التي أصبحت تتمتع بها‬
‫الجماعات الترابية ليتسنى لها اإلسهام في تفعيل السياسات العمومية للدولة‪ ،‬وفي إعداد السياسات الترابية‬
‫(فضال عن ما نص عليه الفصل ‪ 137‬هناك مبادئ أخرى كالتفريع‪ ،‬التضامن‪ ،‬الشراكة‪ ،‬التدبير الحر‪ ...‬؛‬
‫‪ -‬صدور القانون التنظيمي رقم ‪ 59.11‬المتعلق بانتخاب مجالس الجماعات الترابية‪ ،‬كما تم تعديله وتتميه‬
‫بالقانون التنظيمي رقم ‪ 34.15‬سنة ‪2015‬؛‬
‫صدور القانون رقم ‪ 131.12‬المتعلق بمبادئ تحديد الدوائر الترابية للجماعات الترابية؛‬ ‫‪-‬‬
‫صدور المرسوم رقم ‪ 2.15.40‬المتعلق بالتقطيع الجهوي الجديد؛‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬صدور القوانين التنظيمية المتعلقة باختصاص الجماعات الترابية‪ :‬القانون التنظيمي رقم ‪ 111.14‬المتعلق‬
‫باختصاصات الجهة‪ ،‬ثم القانون التنظيمي رقم ‪ 112.14‬المتعلق باختصاصات العماالت واألقاليم‪ ،‬ثم‬
‫القانون التنظيمي رقم ‪ 113.14‬المتعلق باختصاصات الجماعات؛‬
‫‪ 4‬شتنبر ‪ 2015‬إجراء أول انتخابات لمجالس الجماعات الترابية في ضوء تجربة الجهوية المتقدمة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫تقود هذه الشروحات إلى إمكانية تصور بلورة سياسات عمومية من طرف الجماعات الترابية‪،‬‬
‫وتكوين جماعة ترابية قائدة للتنمية (‪ )chef de file‬االقتصادية واالجتماعية والبشرية والبيئية‪ ،‬مع تحقيق‬
‫تنظيم المركزي تتبوأه الجهة ويقوم على الجهوية المتقدمة كما أرادها المشرع في ضوء المستجدات‬
‫القانونية المشار إليها آنفا‪ .‬وهذا ما يتعلق بظاهر األمور‪ ،‬ويوحي أن المسألة غاية في البساطة والسهولة‬
‫في االستيعاب‪ .‬ل كن باطنها يوحي بواحد من األسئلة الشائكة المرافقة لسياسة المغرب الجهوي‪ ،‬ألن األخذ‬
‫بهذه المقدمات‪ ،‬هو االقتناع باعتماد ونهج الدولة لسياسة جهوية واضحة المعالم‪ ،‬محدثة لقطيعة مع‬
‫المقاربة المتحكمة في العمل الالمركزي بالمغرب‪ .‬وهو ما سنحاول اإلجابة عليه الحقا‪ ،‬من خالل‬
‫المقاالت القادمة‪.‬‬
‫سؤال الجهوية المتقدمة بالمغرب (الجزء الثاني)‬
‫يونس ابالغ‬
‫باحث بجامعة محمد الخامس ‪-‬الرباط‪-‬‬
‫لئن راهن المغرب منذ سنوات االستقالل األولى على الخيار الالمركزي كأسلوب من أساليب‬
‫التنظيم اإلداري‪ ،‬متوخيا فسح المجال لوحدات ترابية المركزية لتضطلع بمسؤولية تدبير الشؤون الترابية‬
‫بكل أبعادها السياسية واالقتصادية واالجتماعية والبيئية إلى جانب الدولة‪ .‬لكن‪ ،‬ما هو السياق العام‬
‫لالهتمام بالجهة دون باقي الجماعات الترابية األخرى في ضوء متغيرات التنظيم الالمركزي الترابي بعد‬
‫دستور ‪2011‬؟‬
‫يبدأ الجواب بتمييز الجهوية "‪ "Régionalisme‬كمجموعات متماسكة ذات أهداف سياسية‬
‫ودفاعية‪ ،‬عن الجهوية "‪ "Régionalisation‬بمفهومها الحديث والمعاصر‪ ،‬والذي يحيل على كل‬
‫مجموعات ترابية تهدف إلي التكا مل االقتصادي واإلداري والتنموي في الزمان والمكان‪ ،‬ألجل النهوض‬
‫بالمؤهالت وتسخير اإلمكانيات البشرية والطبيعة والمادية في إطار مالئم ومتكامل‪ .‬وهو الطرح الذي‬
‫يقود مباشرة إلى وسيلة الحكامة الترابية كمنهج حديث للتدبير‪ ،‬وبلورة القرارات الترابية وصياغة‬
‫السياسات العمومية وتتبعها‪.‬‬
‫فمنهجية الحكامة وسيلة وليست غاية‪ ،‬والدليل على ذلك أن المشرع الدستوري أتى بعدة تعاريف‬
‫لها‪ ،‬األول لصيق بالنظام السياسي والثاني ربطه بالتراب كمستوى ثاني وهو بيت القصيد‪ ،‬وآنذاك نتحدث‬
‫عن الحكامة الترابية كأساس لبناء جهوية متقدمة بإعادة بناء جماعات ترابية قائدة للتنمية بموارد أكبر‬
‫واختصاصات أوسع‪ ،‬وسلطة حقيقية في اتخاذ القرار مع حرية في تدبير الشؤون الترابية‪ ،‬وتشكيل‬
‫فضاءات متجانسة للتنمية االقتصادية واالجتماعية‪ .‬وهذا ما أكدته مضامين الدستور المذكور حينما بوأت‬
‫الجهة (الفصل ‪ )143‬مكانة الصدارة في التنظيم الالمركزي الترابي‪ ،‬نظرا للتحوالت االقتصادية‬
‫والديمغرافية التي يعرفها المغرب‪ ،‬وأيضا العتبارات سياسية مرتبطة بقضية استكمال الوحدة الوطنية‪،‬‬
‫وكذا محاربة التفاوت واإلقصاء والفوارق بإعادة التوازن بين الجهات‪.‬‬
‫فضال عن ذلك‪ ،‬تستدعي الحكامة الجيدة كوسيلة في تدبير الشؤون الترابية‪ ،‬االرتقاء بالجهة بين‬
‫باقي المستويات الترابية األخرى كمجال أنسب للتنمية‪ .‬ذلك عن طريق إخضاع إجراءات ممارسة السلطة‬
‫العمومية من طرف الجماعات الترابية لمعايير الجودة والشفافية والمسؤولية والمحاسبة‪ ،‬نظرا لهيمنة‬
‫النمط التقليدي للتدبير ا لذي يستدعي تجاوزه األخذ بمضامين الحكامة الترابية في مجال جغرافي أوسع‬
‫ومتكامل‪ ،‬كمدخل رئيسي لكل تنمية المستدامة‪.‬‬
‫ونظرا لتعدد أسباب وأهداف االهتمام بالجهة في المغرب‪ ،‬ينبغي التذكير أن أولى التلميحات‬
‫الرسمية بأخذ الدولة بنظام المركزي تتبوأه الجهة بدأت مع الرسالة الملكية للوزير األول (حاليا رئيس‬
‫الحكومة) المتعلقة بالتدبير الجهوي لالستثمار بتاريخ ‪ 9‬يناير ‪ ،2002‬والتي منحت لوالة الجهة صالحيات‬
‫جديدة في المجال االقتصادي‪ ،‬ليليها بعد ذلك دستور ‪ 2011‬الذي أبرز هذه المكانة بعد أن نص على ذلك‬
‫بشكل صريح في الفصل ‪ .146‬وهو ما ينم على اهتمام السلطات العمومية بتوسيع مجال تنفيذ السياسات‬
‫العمومية من العمالة أو اإلقليم كمجال ضيق إلى فضاء ترابي أوسع (الوالية‪ :‬الالتركيز‪ /‬الجهة‪:‬‬
‫الالمركزية) ألجل تجاوز المعيقات التي تعترض المشاريع ذات البعد االستراتيجي؛ وهي معيقات غالبا ما‬
‫تكمن في صعوبا ت تنفيذ السياسات العمومية وجلب المستثمرين‪ ،‬كما تحد من تقوية مناخ المنافسة‬
‫والتسويق الترابي وتعزيز االستقالل المحلي‪ ،‬بكونه عنصرا أساسيا لالمركزية الترابية تبعا لتخويلها‬
‫الشخصية المعنوية وضمانة التدبير الحر لشؤونها‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل يفيد هذا الشرح أن الجهات وباقي ال جماعات الترابية األخرى‪ ،‬هي البديل األنسب للدولة‬
‫(الجماعة الوطنية)؟ أم أن األخيرة لن تتخلى عن مهمتها الدستورية المتمثلة في المراقبة الدائمة على‬
‫الجماعات التحتية؟‬
‫ال جديد يضاف عند القول إن وجود الجماعات الترابية (ليس بمفهومها الحديث) سابق عن الدولة‪.‬‬
‫وهذه القاعدة يمكن تطبيقها على كل الدول كيفما كان شكلها وحجمها؛ ففي القانون اإلداري سبق وأن أكد‬
‫مجموعة من الباحثين أن قانون الجماعات التحتية سابق عن قانون الجماعة السياسية‪ .‬وقد يكون هناك شك‬
‫حول وجود قانون تحت‪-‬وطني في روما أو اليونان في العصور القديمة‪ .‬لكن في العصر الوسيط‪ ،‬كان في‬
‫فرنسا فيض من األعراف القانونية المحلية والجهوية والتي لم يتطابق نطاقها الترابي دائما مع نفوذ السلطة‬
‫الفيودالية‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فمن مثل هذه التحليالت يصعب الذهاب فيها بعيدا‪ ،‬غير أنها ال تحجب النظر‬
‫عن سؤال جوهري آخر‪ ،‬يثور في سياق وجهات النظر المتعارضة والقائلة في الجهوية المتقدمة بالمغرب‪:‬‬
‫هل يفيد االرتقاء بالجهة بعد أن أخذت مكانة الصدارة بين باقي المستويات الترابية األخرى‪ ،‬التخلي عن‬
‫باقي المستويات الترابية (الجماعات والعماالت واألقاليم) في تنشيط المسلسل التنموي؟‬

‫بطبيعة الحال سيكون الجواب بالنفي إقرارا لمبدأ التكامل بين الجماعات الترابية‪ ،‬بل بينها وبين‬
‫الدولة‪ .‬بمعنى أن أدوار الدولة والجماعات الترابية يجب أن تكون مكملة لبعضها البعض‪ ،‬فما يقوم به‬
‫مستوى ترابي تحتي يجب أن ال يكرره أعلى منه‪ ،‬بل يكمله‪.‬‬
‫سؤال الجهوية المتقدمة بالمغرب (الجزء الثالث)‬
‫يونس ابالغ‬
‫باحث بجامعة محمد الخامس ‪-‬الرباط‪-‬‬

‫إقرارا لمبدأ التكامل بين الجماعات الترابية وبينها والدولة كأهم مبادئ التنظيم الالمركزي‬
‫الترابي‪ ،‬وبصرف النظر عن التفاصيل الهامة الواردة في نصوص القوانين التنظيمية المتعلق بالجماعات‬
‫الترابية‪ .‬يمكن القول‪ ،‬أن الجهات وباقي الجماعات الترابية األخرى مطالبة اليوم بالحرص على توازن‬
‫الجماعات العمومية وصياغة سياسات عمومية في شأن ذلك؛ فبدون شك يبقى تدخل المستويات الترابية‬
‫في قيادة وتنشيط المسلسل التنموي المستدام شرط معلق لبلوغ األنشطة واألهداف المسطرة‪ ،‬كما يجب أخذ‬
‫هذه الوضعية بعين االعتبار ضمانا لتماسك الوحدات الالمركزية المتواجدة بتراب الجهة‪ ،‬بشكل يسمح‬
‫بتحسين وتسهيل قيامها باالختصاصات المنوطة بها أحسن قيام‪ ،‬عبر تطبيق مبدأ التفريع داخل منظور‬
‫منضبط للتنمية المستدامة‪ ،‬يجعل الجهة تقوم بدور ريادي‪-‬استراتيجي في إعداد التراب والتنمية الجهوية‬
‫بتأهيل البنية التحتية وكذا النقل البين حضري‪ ،‬ولما ال صياغتها للمخططات المناخية للطاقة كما سارت في‬
‫ذلك التجربة الفرنسية‪.‬‬
‫بقراءة نص القانون التنظيمي رقم ‪ 113.14‬المتعلق الجماعات‪ ،‬يبدو أن األخيرة مطالبة بصياغة‬
‫سياسات القرب وتكامل المدينة وأجزائها‪ ،‬ألجل شعور المواطن بحقه في مدينته‪ ،‬خصوصا أن النص‬
‫القانوني المذكور‪ ،‬وكسابقيه‪ ،‬منح الجماعة اختصاص تنظيم الحياة اليومية بمجالها في كل ما تتخذه من‬
‫تدابير وقرارات روتينية في هذا الشأن‪ ،‬كالتراخيص واألذون إلى غير ذلك من الصالحيات الموكولة‬
‫للرئيس أو المجلس وكل ما هو مرتبط بالمقتضى العام الختصاصها (التعمير‪ -‬التطهير‪ -‬المرافق‬
‫والتجهيزات‪ -‬حفظ الصحة‪ -‬إحداث وصيانة المقابر‪ -‬األسواق الجماعية‪ .)...‬في حين جعل القانون‬
‫التنظيمي رقم ‪ 112.14‬المتعلق بالعماالت واألقاليم‪ ،‬مهام التنمية القروية والحضرية وإنعاش االستثمارات‬
‫والماء والطاقة من اختصاص العمالة أو اإلقليم كجماعة ترابية‪ ،‬نتيجة ما تتخذه من قرارات لتدبير المجال‬
‫والسيما القروي منه‪ .‬أما الجهات‪ ،‬ولدورها االستشرافي بين باقي الجماعات الترابية األخرى‪ ،‬فهي مطالبة‬
‫بوضع برامج استراتيجية‪-‬أفقية تهم تنمية الجهة‪ ،‬عبر تتبع وتنفيذ برنامج التنمية الجهوية والتصميم‬
‫الجهوي إلعداد التراب‪.‬‬
‫سبق وأن أكد النص القانوني القديم المتعلق بالجماعات (القانون رقم ‪ 17.08‬المعدل والمتمم للقانون‬
‫رقم ‪ 78.00‬المتعلق بالميثاق الجماعي) على آلية لصيقة بالمخططات‪ ،‬ويتعلق األمر بآلية التدبير‬
‫التشاركي؛ وبالقراءة المتأنية للفقرة األولى من المادة ‪ 36‬منه‪ ،‬يتبين أن المخطط الجماعي للتنمية كان‬
‫يستند (طبعا من الناحية النظرية) على المقاربة التشاركية في مسطرة إعداده‪ ،‬كما كان يرتكز على تحديد‬
‫األعمال التنموية بمنهج تشاركي يأخذ بعين االعتبار مقاربة النوع‪ ،‬بل أن المادة المذكورة أكدت على‬
‫ضرورة الحرص على التشاور مع الساكنة واإلدارات والفاعلين المعنيين بمن فيهم القطاع الخاص عند‬
‫تحديد الحاجيات ذات األولوية في نص المخطط‪ .‬مما ينم عن أهمية المخططات والتصاميم الترابية كوسيلة‬
‫لصياغة احتياجات ساكنة تراب الجماعة‪ ،‬وتكامل أجزاء المدينة بتأهيل النسيج الحضري‪ ،‬وتجديده‪ ،‬وكذا‬
‫بجعلها وثائق مرجعية للسياسة الجهوية إلعداد التراب‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬وتبعا النتظار تكامل المخططات الجماعية مع برنامج التنمية الجهوية‪ ،‬وكذا مع التصميم‬
‫الجهوي إلعداد التراب‪ ،‬وتطلعا إلجابة وشرح نصوص القوانين التنظيمية للمبادئ الدستورية بخصوص‬
‫تنسيق العالقات البينية للجماعات الترابية‪ ،‬بجعل مخططات وتصاميم الجماعات وكذا العماالت واألقاليم‬
‫(كمستويات تحتية) وثائق مرجعية للمخططات الجهوية؛ ففيما يتعلق بالمقتضيات الواردة في نص القانون‬
‫التنظيمي رقم ‪ 113.14‬المتعلق بالجماعات‪ ،‬فأكثر ما يمكن أن يقال عنها في هذا الشأن‪ ،‬أنها حافظت على‬
‫نفس مبادئ النص القانوني القديم (المادة ‪ 36‬من القانون رقم ‪ 78.00‬المتعلق بالميثاق الجماعي المعدل‬
‫والمتمم بالقانون رقم ‪ ،) 17.08‬فضال عن تمسكها بنفس مسطرة اإلعداد‪ ،‬أما التغيير فشمل فقط معطى‬
‫االسم‪ ،‬بتغيير "المخطط الجماعي للتنمية" ب "برنامج عمل الجماعة"‪ ،‬وبدون تبيان وتوضيح منهجيات‬
‫تنسيق المخطط ال كلي للتماسك الترابي (التصميم الجهوي إلعداد التراب) إجرائيا مع المخططات الجزئية‬
‫(برنامج عمل الجماعة المذكور)‪ .‬مما يكشف عن إشكالية وضع سياسات عمومية على مستوى الجماعات‬
‫الترابية كما جاء في الفصل ‪ 137‬من دستور ‪.2011‬‬
‫تثور اإلشكالية أيضا مع نص القانون التنظيمي رقم ‪ 111.14‬المتعلق بالجهات‪ ،‬بعد أن قيد‬
‫اختصاص األخيرة في إعداد التصميم الجهوي لتهيئة التراب‪ ،‬بحرصها في مرحلة اإلعداد على مراعاة‬
‫التوجهات المحددة في السياسات العمومية للدولة‪ ،‬وكذا االلتزام باألهداف المعتمدة على المستوى الوطني‪.‬‬
‫وبالنتيجة سيكون من التحصيل الحاصل القول بإلزامية مطابقة قواعد مخططات التنمية االقتصادية‬
‫واالجتماعية الترابية للتوجهات واألهداف المعتمدة في المخطط الوطني للجماعة الوطنية‪ ،‬وبالتالي ستكون‬
‫توجهات آليات السياسات العمومية الترابية (المخططات والتصاميم)‪ ،‬قد ُحدّدت مسبقا‪ ،‬انطالقا من تقييدها‬
‫بالمقتضيات الواردة في السياسة الوطنية الكلية‪ .‬وهو ما يبدو متناقضا والقول بأن من أهم مستجدات‬
‫دستور ‪ 2011‬تأسيسه لسياسات عمومية من نتاج المبادرة الترابية‪ ،‬وبأن الفصل ‪ 137‬شكل قفزة نوعية‬
‫تتماشى مع الرهان على جهوية متقدمة بخصوصية مغربية‪.‬‬
‫يؤدي االتجاه األخير من الحل إلى تجنب الوقوع في القراءة الميكانيكية للفصل ‪ 137‬المذكور‪،‬‬
‫ويتناسب والقول بأن المسألة تتعلق فقط بتنفيذ السياسات العمومية على مستوى الجماعات الترابية وما‬
‫األخيرة إال وعاء لتنفيذ سياسة الدولة‪ .‬فكما سطر العميد "‪" ،"Jean-Marie Auby‬أن مفهوم الالمركزية‬
‫يثير نوعا من تنازل الدولة‪ ،‬ويتماشى مع أفضلية وأسبقية منطقية للمركزية"‪.‬‬
‫سؤال الجهوية المتقدمة بالمغرب (الجزء الرابع)‬
‫يونس ابالغ‬
‫باحث بجامعة محمد الخامس ‪-‬الرباط‪-‬‬

‫لما سبق اإلقرار بمبدأ التكامل بين الوحدات الترابية كشرط معلق الستكمال بناء صرح الجهوية المتقدمة‪،‬‬
‫فيجب التأكيد (من باب االستمرار في البحث عن نجاح الدولة في وضع سياسة المركزية واضحة المعالم)‬
‫على أهمية باقي المبادئ األخرى سواء المؤطرة دستوريا‪ ،‬أو غيرها من مرتكزات التنظيم الالمركزي‬
‫الترابي بالمغرب والسيما االستقالل المالي‪ ،‬ألهمية نتائجها المباش رة وغير مباشرة في تمكين الجماعات‬
‫الترابية من صياغة سياسيات عمومية ترابية من نتاج المبادرة الترابية‪ ،‬وبالتالي األخذ بالجانب من الحل‬
‫الذي يجعل من الدولة قد (تفيد التأكيد وليس االفتراض) نجحت في وضع سياسة المركزية واضحة‬
‫المعالم؟‬
‫يشكل مبدأ التفريع من ناحيته أهمية بالغة في توزيع االختصاص وتكامله‪ ،‬بمعنى إسناد اختصاص‬
‫معين لمستوى من المستويات الترابية المحددة‪ ،‬والتي تكون أكثر قربا وفعالية لممارسته بشكل أفضل من‬
‫المستويات الترابية األخرى؛ بمعنى إذا أسند اختصاص لجماعة ترابية‪ ،‬فينبغي أن تقوم بممارسته بشكل‬
‫أحسن مما كان يمارسه مستوى ترابي آخر‪ :‬من حيث القرب‪ -‬االقتصاد في النفقات‪ -‬السرعة في االنجاز‪-‬‬
‫الجودة في الخدمات إلى غير ذلك‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬يقتضي مبدأ التفريع أن تُعطى لجماعة ترابية محددة‬
‫اختصاصات معينة قادرة على ممارستها بالفعل‪ ،‬نتيجة توفرها على نخبة مؤهلة ووسائل كافية وأطر‬
‫مقتدرة على أساس أن تُعطى لها على سبيل االحتكار‪ ،‬لمنع أي من الجماعات العمومية باالضطالع بها أو‬
‫القيام بنفس ما تقوم به‪.‬‬
‫وحيث سبق التأكيد على مبدأ التكامل بين الجماعات العمومية كأهم مدخل للسياسات العمومية‬
‫الترابية‪ .‬لكن‪ ،‬يجب أن ال ينسينا هذا الطرح بمعطيات أخرى تجعلنا نأخذه على إطالقيته؛ ألن التكامل بين‬
‫الوحدات الالمركزية لن يأخذ صورته الكاملة إال بتكامل النصوص القانونية أوال‪ ،‬ثم تأتي بعد ذلك‬
‫الممارسة العملية وأشياء أخرى‪ .‬ذلك أن بعض مقتضيات القانون اإلداري المحلي يعود جزء كبير منها‬
‫لفترة الحماية‪ ،‬وبالنتيجة يُفرغ المبدأ المذكور من محتواه؟‬
‫وحيث من جهة ثانية يفيد مبدأ التدبير الحر عمليا تخويل الجماعات الترابية حدا أدنى من حرية‬
‫ممارستها لالختصاصات المنوطة بها‪ ،‬باإلضافة إلى تمتيعها بسلطة تدبير مواردها البشرية‪ .‬لكن‪ ،‬أال يجب‬
‫القول مبدئيا‪ ،‬أن المراقبة اإلدارية الممارسة على الوحدات الترابية‪ ،‬تشكل تنافي مع تمتيع األخيرة بحرية‬
‫في تدبير شؤونها‪ ،‬خاصة وأن تعرض سلطات المراقبة اإلدارية على األعمال القانونية للجماعات الترابية‬
‫قائم في كل وقت وحين‪ ،‬ومن ثمة إمكانية طلب إيقاف تنفيذها أمام المحكمة المختصة‪ ،‬وبالتالي إعادة إنتاج‬
‫الوصاية من جديد؟‬
‫يثور غموض تدبير الجماعات الترابية لشؤونها بحرية تامة أيضا‪ ،‬من خالل الجواب عن سؤال‬
‫جوهره آخر‪ ،‬مفاده‪ ،‬ما إذا تم اعتماد المقتضى العام الختصاص الجهة في القانون التنظيمي رقم ‪111.14‬‬
‫المتعلق بالجهة؟‬
‫يتمثل المقتضى العام الختصاص الجهة فيما نصت عليه المادة ‪ 9‬من نص القانون التنظيمي‬
‫المذكور‪ ،‬والتي جاء فيها‪ " :‬يدبر شؤون الجهة مجلس ينتخب أعضاؤه ‪ ،"...‬وأشارت المادة ‪ 80‬إلى أن‬
‫"تناط بالجهة داخل دائرتها الترابية مهام النهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة‪ ،"...‬في حين اعتبرت‬
‫المادة ‪ 81‬ما يلي‪ " ،‬تمارس الجهة اختصاصات ذاتية في مجال التنمية الجهوية ‪ ،‬كما تقوم بإعداد وتتبع‬
‫وتنفيذ برنامج التنمية الجهوية‪."...‬‬
‫من الواضح جدا أن هذه المقتضيات وحدها تسمح للجماعة الترابية الجهوية بأن تقوم بكل شيء ما‬
‫عدا إذا وجدت اختصاصات دقيقة مخولة للدولة أو الجماعات الترابية األخرى‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة‬
‫الختصاص التعمير أو التطهير وغيرها من ما هو موكول للجماعات حسب نص القانون التنظيمي رقم‬
‫‪ ، 113.14‬وال يحد من ممارستها لكافة االختصاصات سوى انعدام اإلمكانيات المالية أو المواقف التي‬
‫تتخذها سلطات الم راقبة بمناسبة ممارستها للرقابة على أعمالها وخاصة بواسطة التأشيرة لها برفض‬
‫بعض مشاريعها ألسباب المالءمة كذلك‪.‬‬
‫في فرنسا‪ ،‬وبعد أن أثار المقتضى العام لالختصاص جدال كبيرا وال يزال‪ ،‬بحيث وصل إلى حد‬
‫اقتراح إلغائه في تقرير "لومبير ‪ ،"Rapport Lambert‬كما اقترح ذلك تقرير "بالدير‪ ."Blladur‬لكن‪،‬‬
‫لم يحصل بشأن ذلك اتفاق إذ احتفظ به في قانون ‪ 13‬غشت ‪ 2004‬المتعلق بالحريات والمسؤوليات‬
‫المحلية بسبب إعادة تأكيده في الدستور على إثر المراجعة الدستورية بتاريخ ‪ 28‬مارس ‪ .2003‬كما أن‬
‫المشرع الفرنسي يقوم بشكل تدريجي بموجب نصوص قانونية خاصة بتوضيح مضمون االختصاصات‬
‫الموكولة للجهات ولباقي الجماعات ا لترابية األخرى‪ ،‬ولو أن المحكمة العليا للحسابات في هذا البلد‪،‬‬
‫انتقدت بشدة االحتفاظ به رغم ثقل اآلثار المترتبة عليه‪.‬‬
‫بدوره لم يقدم المجلس الدستوري الفرنسي معلومات مهمة في قراره المتعلق بقانون إصالح‬
‫الجماعات الترابية حول ما يمكن أن تكون عليه الالمركزية‪ ،‬فبخصوص ما إذا كان يمكن أن تستفيد‬
‫الجماعات الترابية من االختصاص العام‪ ،‬قدم المجلس المذكور جوابا محبطا ِل َما كان ينتظره منه الفقه‪ ،‬ولم‬
‫يحسم في السؤال والموضوع حول إذا ما كان االختصاص العام عنصرا أم ال في تعريف مبدأ التدبير‬
‫الحر للجماعات الترابية بالمعنى الذي نص عليه الفصل ‪ 72‬من الدستور الفرنسي بتدخل الوحدات الترابية‬
‫في كل شيء؟‬
‫أما فيما يخص مبدأ االستقالل المالي للجماعات الترابية‪ ،‬فال محالة أنه بدوره سيرهن مستقبال‬
‫آفاق الجماعات الترابية بالمغرب في صياغة سياسات متكاملة‪ .‬بحيث ورد في التقرير األخير للمجلس‬
‫األعلى للحسابات لسنة ‪ ،2015‬أن الباقي استخالصه وصل إلى ‪ 16,8‬مليار درهم مسجال بذلك تفاقما‬
‫بنسبة إجمالية تصل إلى ‪ % 29‬أي بمعدل سنوي قدره ‪ . % 3،7‬في الوقت الذي أكد فيه التقرير نفسه‪ ،‬أن‬
‫تدبير المالية الترابية يحتل مكانة ثانوية؟‬
‫لهذه األسباب وغيرها كان الفتا للنظر أن يت م العمل على إصالح سياسة الالمركزية بالمغرب‬
‫بمقاربة أكثر تحكُمية‪ ،‬مقرونة بتدخل السلطات العمومية في صياغة القرار الترابي‪ .‬ذلك‪ ،‬وحتى لئن تمت‬
‫دسترة مبدأ "التدبير الحر" كمفهوم يحيل على حرية "التدبير"‪ .‬لكن‪ ،‬ذلك يتم وفق شروط محددة قانونا‪،‬‬
‫وال يمكن أن يتجاوزها في إطار دولة موحدة كالمغرب‪ .‬وفي جميع األحوال‪ ،‬ال يمكن للدولة أن تتخلى عن‬
‫اختصاصاتها في مجال المراقبة اإلدارية‪ ،‬حتى وإن تطورت إلى شكل من أشكال الرقابة "البعدية"‪،‬‬
‫لتفادي أي خرق للقانون أو انحرافات قد تمس بمصداقية التدبير الالمركزي الترابي‪.‬‬
‫سؤال الجهوية المتقدمة بالمغرب (الجزء الخامس)‬
‫يونس ابالغ‬
‫باحث بجامعة محمد الخامس ‪-‬الرباط‪-‬‬

‫بقراءة نصوص القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية تتبين من حيث الشكل مجموعة من نقاط‬
‫الضوء في مقتضياتها‪ ،‬والسيما بعد اعتماد مبدأ التفريع الذي أقره الدستور كأساس لتوزيع االختصاص‪،‬‬
‫سواء عن طريق التعاقد بشأنه خصوصا بين الدولة الجهات‪ ،‬أو عن طريق تفويضه كضمانة لتكييف‬
‫التنظيم الترابي وتمكين مجالس الجماعات بأن تعهد بممارسة اختصاص أو بعض االختصاصات الموكولة‬
‫لها إلى مجلس العمالة أو اإلقليم‪ ،‬بطلب من الجماعة أو الجماعات الراغبة في ذلك أو بطلب من الدولة‬
‫التي تخصص تحفيزات مادية لذلك‪ ،‬أو بمبادرة من العمالة أو اإلقليم المعني‪.‬‬
‫ورغم االحتفاظ بالصيغة العامة الختصاص الجهة‪ ،‬مكن المشرع التنظيمي األخيرة من مجموعة‬
‫من االختصاصات الهامة حددها نص القانون التنظيمي رقم ‪ ،111.14‬فعالوة على االختصاصات الذاتية‪،‬‬
‫تمارس الجهة أيضا اختصاصات مشتركة بينها وبين الدولة بشكل تعاقدي‪ ،‬ويمكن اعتمادا على مبدأ‬
‫التفريع أن تنقل الدولة أيضا بشكل تعاقدي بعض االختصاصات للجهات ألجل النهوض بالتنمية المندمجة‬
‫والمستدامة ثم تنظيمها وتنسيقها وتتبعها‪.‬‬
‫هذا الطرح يجعل من مفهوم المبادرة الترابية أوسع وأشمل‪ ،‬ويؤدي إلى تقبل الجانب القائل من‬
‫الحل بأن الدولة نجحت في اعتماد سياسة المركزية جهوية واضحة المعالم‪ ،‬تقوم عمال بمبدأ التفريع على‬
‫االرتقاء بالجهة مع تعزيز الالتمركز الواسع‪ .‬نعم‪ ،‬يمكن أن تكون من مثل هذه المنهجيات المعتمدة في‬
‫توزيع االختصاص والتعاقد بشأنه مدخال رئيسيا لصياغة سياسات عمومية على مستوى الجماعات‬
‫الترابية إن هي أبانت عن ُمكنتها في القيام باالختصاص المنقول إليها أحسن قيام مع ممارسة‬
‫االختصاصات الذاتية والمشتركة والقابلة للنقل بشكل ناجع ومتناغم‪ ،‬وبطبيعة الحال وبصرف النظر عن‬
‫المنهجيات المصاحبة لتوزيع االختصاص‪ ،‬يستوجب االرتقاء بالجهة توفر مجموعة من الشروط الذاتية‬
‫والموضوعية األخرى التي تسمح بإنتاج المبادرة الترابية‪ ،‬أهمها استئصال السلبيات الملتصقة بالتنظيم‬
‫الالمركزي الترابي بالمغرب‪.‬‬
‫تشمل االختصاصات المشتركة بين الطرفين تلك االختصاصات التي يتبين أن نجاعة ممارستها ال‬
‫يمكن أن تكون إال بشكل مشترك بين الدولة والجهات‪ ،‬في حين يشمل مجال االختصاصات القابلة للنقل‪،‬‬
‫تلك االختصاصات التي تنقل من الدولة إلى الجهة بما يسمح بتوسيع االختصاصات الذاتية لهذه األخيرة‬
‫بشكل تدريجي‪.‬‬
‫ولتمكين الجهة من ممارسة كل من االختصاصات المشتركة أو القابلة للنقل‪ ،‬يتعين على الدولة‬
‫تعبئة الموارد الالزمة لذلك عند االقتضاء‪ ،‬وتعمل في ضوء ذلك على رصد موارد مالية من قبلها ليكون‬
‫كل نقل لالختصاص مقترنا بتحويل الموارد المطابقة له والسيما في حالة نقل اختصاص من الدولة إلى‬
‫الجهة‪.‬‬

‫يتخذ التعاقد بين الدولة والجهات ألجل ممارسة هذه األخيرة االختصاصات المشتركة وكذا‬
‫االختصاصات القابلة للنقل‪ ،‬شكلين‪ :‬إما أن تبادر الدولة إلى ذلك بالعمل على رصد الموارد الالزمة‪ ،‬وإما‬
‫أن تبادر الجهة حينما تسمح لها مواردها الذاتية بتمويل أو المشاركة في تمويل اختصاص ال يندرج ضمن‬
‫اختصاصاتها الذاتية‪ ،‬ويكون تحويل االختصاصات المنقولة إلى اختصاصات ذاتية للجهة أو الجهات‬
‫المعنية بموجب تعديل القانون التنظيمي رقم ‪.111.14‬‬
‫المنهجيات المرافقة لتوزيع االختصاص بين الدولة والجهات وباقي الجماعات الترابية األخرى‬
‫لئن تم اعتماد المراقبة اإلدارية كطريقة تتعرض من خاللها سلطات المراقبة اإلدارية على‬
‫مقرارات الجما عات الترابية (وكذا قرارات الرؤساء المتخذة في مجال السلطة التنظيمية وقرارات رؤساء‬
‫المجالس الجماعية المتخذة في ميدان التعمير إثر إلزامية تبليغها)‪ ،‬والتي نظمتها مقتضيات قانونية جديدة‬
‫ُمدرجة في باب خاص بكل القوانين التنظيمية‪ ،‬إثر تعرض والي الجهة على المقررات التي ال تدخل في‬
‫صالحيات مجلس الجهة‪ ،‬أو المتخذة خرقا ألحكام القانون التنظيمي رقم ‪ 111.14‬المتعلق بالجهات‪.‬‬
‫وبتعرض عامل العمالة أو اإلقليم على المقررات التي ال تدخل في صالحيات مجلس العمالة أو اإلقليم‪ ،‬أو‬
‫المتخذة خرقا ألحكام القانون التنظيمي رقم ‪ 112.14‬المتعلق بالعماالت واألقاليم‪ .‬وكذا بتعرض عامل‬
‫العمالة أو اإلقليم أو من ينوب عنه على مقررات مجلس الجماعة والتي ال تدخل في صالحياته‪ ،‬أو المتخذة‬
‫خرقا ألحكام القانون التنظيمي رقم ‪ 113.14‬المتعلق بالجماعات‪ .‬وفي ضوء ذلك يمكن للوالي أو لعامل‬
‫العمالة أو اإلقليم أو من ينوب عن ه حسب الحالة‪ ،‬أن يبلغ تعرضه إلى رئيس المجلس المعني داخل أجل‬
‫ثالثة أيام من أيام العمل من تاريخ التوصل بالمقرر‪.‬‬
‫وحيث يترتب على التعرض المذكور إجراء مجلس الجماعة الترابية حسب الحالة‪ ،‬لمداولة جديدة‬
‫في شأن المقرر المتخذ‪ ،‬وإذ أبقى عليه‪ ،‬أحال الوالي أو عامل العمالة أو اإلقليم أو من ينوب عنه األمر إلى‬
‫القضاء االستعجالي (قاضي المستعجالت) لدى المحكمة اإلدارية‪ ،‬والذي يبت في طلب إيقاف التنفيذ داخل‬
‫أجل ‪ 48‬ساعة من تاريخ تسجيل هذا الطلب بكتابة الضبط لديها‪ ،‬ويترتب على هذه اإلحالة وقف تنفيذ‬
‫المقرر المذكور إلى حين بت قضاء الموضوع في األمر داخل أجل ثالثين يوم ابتداء تاريخ التوصل‪.‬‬
‫وحيث من جهة ثانية وتأسيسا على ما نصت عليه المادة ‪ 24‬من القانون رقم ‪ 41.90‬المتعلق‬
‫بإحداث المحاكم اإلدارية؛ أن للمحكمة اإلدارية أن تأمر بصورة استثنائية بوقف تنفيذ قرار إداري رفع‬
‫إليها طلب يهدف إلى إل غائه‪ ،‬إذا طلب منها طالب اإللغاء ذلك صراحة‪ .‬األمر الذي يؤدي بالنتيجة إلى‬
‫اختصاص المحكمة وليس قاضي المستعجالت بوقف تنفيذ مقررات المجلس‪ ،‬ويعقد االختصاص لهيئة‬
‫المحكمة التي تختص بالبت في طلبات وقف القرارات والمقررات‪ .‬وبالتالي يكون ما ورد في المادة ‪114‬‬
‫من القانون التنظيمي رقم ‪ 111.14‬المتعلق بالجهات‪ ،‬والمادة ‪ 108‬من القانون التنظيمي رقم ‪112.14‬‬
‫المتعلق بالعماالت واألقاليم‪ ،‬وكذا المادة ‪ 117‬من القانون التنظيمي ‪ 113.14‬المتعلق بالجماعات قد‬
‫عارضت المادة ‪ 24‬من القانون رقم ‪ 41.90‬المحدث للمحاكم اإلدارية‪ ،‬وخولت لرئيس المحكمة اإلدارية‬
‫اختصاص البت بوقف تنفيذ القرارات والمقررات‪ ،‬بصفته قاضيا للمستعجالت كما هو معروف نظام‬
‫القضايا االستعجالية حسب نص المادة ‪ 19‬من القانون ‪ 41.90‬المذكور وكذا الفصل ‪ 149‬من قانون‬
‫المسطرة المدنية‪ ،‬والذي يختص من خاللها بصفته قاضيا للمستعجالت بطلبات إيقاف تنفيذ األعمال المادية‬
‫كاستخالص رسم جماعي وليس األعمال القانونية كمقررات المجالس الجماعية طبقا للمادة ‪ 24‬من قانون‬
‫إحداث المحاكم اإلدارية؟‬
‫وبصرف النظر عن هذه اإلشكالية القانونية التي تحتاج لمبحث خاص‪ ،‬يمكن من خالل القراءة‬
‫المتأنية لنصوص القوانين التنظيمية القول أن مساطر المراقبة على الجماعات الترابية ال تبعث على‬
‫االرتياح للقطع مع المقاربة المتحكمة في العمل الالمركزي خالفا للصيغة العامة للمراقبة اإلدارية‬
‫المنصوص عليها في الفصل ‪ 145‬من دستور ‪ . 2011‬ذلك بعد أن ألزمت التفاصيل الواردة في القوانين‬
‫التنظيمية المذكورة بت بليغ جميع المقررات وإحالة معظمها على تأشيرة الجهة المكلفة بالمراقبة‪ ،‬وفي حالة‬
‫وجود تعرض من األخيرة وعدم قيام المجلس بدراسة جديدة حسب مستنتجاتها‪ ،‬يحال للمحكمة المختصة‬
‫لطلب وقف التنفيذ إلى أن تبت محكمة الموضوع فيه بحكم نهائي‪ ،‬خالفا لما أسند للوالة والعمال حسب‬
‫صيغة الفصل ‪ 145‬المشار إليه؛ مما يفسر ذلك بإعادة إنتاج أشكال الوصاية المتحكمة في العمل‬
‫الالمركزي المعروفة في النصوص السابقة‪ ،‬كالفصل ‪ 74‬من القانون رقم ‪ 17.08‬المعدل والمتمم للقانون‬
‫رقم ‪ 78.00‬المتعلق بالميثاق الجماعي؟‬
‫واقع التنظيم الالمركزي الترابي‬
‫لما كانت المخططات والتصاميم وسائل لصياغة السياسات العمومية‪ ،‬وبصرف النظر عن‬
‫االنتقادات الموجهة لها بكونها فارغة المحتوى ووقتية إلى غير ذلك‪ .‬إال أن أغلب الجماعات تشتغل وإلى‬
‫وقت قريب بدون هياكل تنظيمية‪ ،‬األمر الذي يؤدي بالتبعية إلى غياب المسؤوليات الواضحة‪ ،‬مما ينتج‬
‫عليه الغموض‪ ،‬وبالتالي نتائج غير منتظرة؟‬
‫ولئن كانت هناك تطلعات كبيرة للعمل بأهداف ومستجدات دستور ‪ ،2011‬إال أن واقع الممارسة‬
‫الترابية ينطوي على إشكاالت أخرى موضوعية متجلية في عدم توظيف معظم الجماعات الترابية إلى حد‬
‫اآلن المخططات الجماعية للتنمية‪ ،‬با لرغم من أن هذا المخطط يعود للنص القانوني القديم (القانون رقم‬
‫‪ 17.08‬المعدل والمتمم للقانون رقم ‪ 78.00‬المتعلق بالميثاق الجماعي)‪ ،‬ومن ثمة كيف نطالب بالجديد ولم‬
‫نتصرف بعد في القائم؟‬
‫يعتري أيضا حذف الحساب اإلداري وتعويضه بالتدقيق السنوي (حذف وثيقة سياسية واإلبقاء‬
‫على وثيقة إدارية) أكثر من إشكال‪ ،‬ذلك‪ ،‬ولئن كانت هناك غايات إيجابية لحذفه وتعويضه بالتدقيق‬
‫السنوي ألجهزة الرقابة المختصة‪ ،‬لكن سيصعب مع ذلك التقرير بشأن نجاح التجربة االنتقالية للجهوية‬
‫المتقدمة نظرا لعدد األجهزة الرقابية الحالية‪ ،‬والتي ال يمكنها عمليا أن تدقق حسابات أكثر من ‪1500‬‬
‫جماعة و‪ 75‬عمالة وإقليم و‪ 12‬جهة‪ .‬وبالتالي لماذا نحتاج لهذه المرحلة انتقالية إلى أن نصل إلى مرحلة‬
‫تاريخية معينة‪ ،‬بعد إعادة النظر في األجهزة الرقابية ومدها بالموارد البشرية الكافية؟ سيكون من‬
‫التحصيل الحاصل أن تتفادى مجموعة من الجماعات الترابية التدقيق في حساباتها خالل المرحلة االنتقالية‬
‫الحالية إلى أن نصل إلى تلك المرحلة التاريخية المذكورة؟‬
‫وبالنتيجة يرفض واقع التنظيم الالمركزي الترابي الجانب القائل من الحل بأن الدولة نجحت في‬
‫اعتماد سياسة المركزية جهوية واضحة المعالم‪ ،‬ما لم تتبدد الشكوك بعد بالقطع مع المقاربة المتحكمة في‬
‫العمل الالمركزي‪.‬‬
‫سؤال الجهوية المتقدمة بالمغرب (الجزء السادس)‬
‫يونس ابالغ‬
‫باحث بجامعة محمد الخامس ‪-‬الرباط‪-‬‬
‫شكلت هذه المساهمات المتتالية فرصة لفتح نقاش حقيقي حول الجهوية المتقدمة بالمغرب‪ ،‬عبر‬
‫رصد األدوار التي تقوم بها الجماعات الترابية لقيادة وتنشيط المسلسل التنموي بالمغرب في ضوء القوانين‬
‫التنظيمية للجماعات الترابية التي تم نشرها بالجريدة الرسمية بتاريخ ‪ 23‬يوليوز ‪ ،2015‬كما أتاحت كشف‬
‫مكامن الخلل عبر التعامل مع رهان الجهوية المتقدمة كقضية وليس كحصيلة‪.‬‬
‫وقد يظهر للقارئ الكريم أن هذا العمل طغى عليه النقد اتجاه ورش الجهوية المتقدمة بالمغرب‪،‬‬
‫وذلك رغبة في بسط بعض المستجدات أحيانا‪ ،‬وإثارة االنتباه إلى إشكاليات قانونية أحيانا أخرى‪ .‬وفي هذا‬
‫الشأن‪ ،‬ال يجب أن يفهم انتقاد محدودية عمل الجماعات الترابية تنقيصا من الالمركزية‪ ،‬وإنما غايته توفير‬
‫المناخ المناسب للجهوية المتقدمة‪ .‬فإذا كنا قد أكدنا أن واقع التنظيم الالمركزي الترابي بالمغرب يرفض‬
‫الحل القائل بنجاح الدولة في وضع سياسة المركزية واضحة المعالم‪ ،‬فإن هذا اإلقرار ال يتجاوز التكتيك‪،‬‬
‫بمعن ى أن الهدف هو صياغة سياسة جهوية المركزية واضحة المعالم ترتقي بالجهة مع تعزيز الالتمركز‬
‫الواسع‪ ،‬وتشكل مدخال لصياغة سياسات عمومية على مستوى الوحدات الترابية‪.‬‬
‫سبق وإن اعتبر بعض المعلقين على قوانين الالمركزية في فرنسا‪ ،‬أن توزيع االختصاص بين‬
‫الدولة والجماعات ا لترابية يعد نوعا من العود لألصل‪ ،‬أما بعض اآلراء األخرى فتبدو مفاجئة قياسا‬
‫ببعض الكتابات الفقهية‪ ،‬والتي اعتبرت أن اختصاصات الجماعات الترابية ولئن كانت طبيعيا تعتبر شأنا‬
‫محليا‪ ،‬إال أن مفهوم الشأن المحلي بدوره ال يملك محتوى خاص به‪ ،‬مما يفتح سؤال الجهوية المتقدمة‬
‫بالمغرب على مجاالت بحثية أكثر حراكا واتساعا‪...‬‬
‫ت نصوص‬ ‫ع ِملَ ْ‬
‫وصفوة الكالم أن اإلرهاصات األولى لظهور الدولة في الممارسة الجهوية والتي َ‬
‫القوانين التنظيمية على تأكيدها بتقييد اختصاص الجماعات الترابية بمنهجيات ذات خلفية وصائية‪ ،‬بدأت‬
‫مع الفصل ‪ 143‬من دستور ‪ ،2011‬بعد أن أسند للجهة مكانة الصدارة بين باقي الوحدات الترابية األخرى‬
‫في إعداد وتتبع البرامج التنموية الجهوية والتصاميم الجهوية إلعداد التراب‪ ،‬وفي الوقت ذاته أرسى على‬
‫كاهلها إحدى المهام الكبرى المتمثلة في التخطيط المجالي والزماني على المستوى الجهوي‪.‬‬
‫تحدثت الفقرة الثانية من الفصل ‪ 143‬المذكور عن برامج التنمية الجهوية والتصاميم الجهوية‬
‫إلعداد التراب وهي المصطلحات نفسها التي استعملها الفصل ‪ 145‬من الدستور (تنفيذ المخططات‬
‫والبرامج التنموية)‪ ،‬وبذلك تفسر هذه الوظيفة باستحضار الطبيعة المزدوجة التي تتسم بها االختصاصات‬
‫الممنوحة للجهة؛ فهي اختصاصات جهوية وفي نفس الوقت شبه وطنية إلى حد ما كإنعاش االستثمار‬
‫والشغل والثقافة والرياضة والماء والبيئة والتضامن إلى غير ذلك‪.‬‬
‫ولئن كان واقع التنظيم الالمركزي الترابي يرفض وضع السياسات العمومية على مستوى‬
‫الجماعات الترابية‪ ،‬لكن يجب أن ال ينسينا في كل شيء ويجعل األخذ بهذا الشرح يتم على إطالقيته‬
‫كأساس للقول بظهور الدولة في الممارسة الترابية وتقييدها لصياغة قرار ترابي من نتاج الوحدات‬
‫الالمركزية‪ .‬بالفعل‪ ،‬لن يتم االرتقاء بالجهة لقيادة المبادرة الترابية إال باستئصال الحدود الملتصقة‬
‫بالتطبيقات السابقة‪ ،‬وبأخذ العبرة من بعض التفاصيل والجزئيات العديدة والمتنوعة المصاحبة العتماد‬
‫الالمركزية منذ فجر االستقالل (‪ ،)1960‬إال أن مراعاة طبيعة وأشكال ممارسة بعض االختصاصات‬
‫كأساس للقو ل بعودة ظهور الدولة في الممارسة الترابية ال يخلو بدوره من فائدة كبيرة لفهم منهجيات‬
‫توزيع االختصاص بين الدولة وجماعاتها الترابية؛ فعلى سبيل المثال‪ ،‬إذا أخدنا توزيع اختصاص "البيئة"‪،‬‬
‫فمنطقي أن دور المواطن في هذا الشأن بالحفاظ عليها والجمعيات بالتحسيس والجماعة بجمع النفايات‬
‫والتطهير‪ ،‬أما العمالة أو اإلقليم فبتنسيق تدخالت الوحدات التحتية المتواجدة في ترابها‪ ،‬في حين يناط‬
‫بالجهة محاربة تلوث السواحل‪ ،‬وفي هذا الباب يجب تنظيم التفاعل والتعاضد بين كل الفاعلين بالحث‬
‫والتشجيع والدعم كل حسب اختصاصه‪.‬‬
‫أدرج القانون التنظيمي رقم ‪ 111.14‬االختصاص بشأن البيئة ضمن اختصاصات الجهة الذاتية‬
‫والمشتركة والقابلة للنقل‪ ،‬ذلك بعد إن اعتبرت المادة ‪ 82‬في أول األمر أن االختصاصات الذاتية للجهة‬
‫تشمل في مجال التنمية الجهوية عدة ميادين منها البيئة‪ ،‬بقيام الجماعة الجهوية بتهيئة وتدبير المنتزهات‬
‫ا لجهوية ووضع إستراتيجيات اقتصاد الطاقة والماء وإنعاش المبادرات المرتبطة بالطاقة المتجددة‪،‬‬
‫وصنفت المادة ‪ 91‬الحماية من مخاطر الفيضانات والحفاظ على الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي‬
‫والمناطق المحمية والمنظومة البيئية الغابوية والموارد المائية ثم مكافحة التلوث والتصحر ضمن‬
‫االختصاصات المشتركة بين الدولة والجهة‪ ،‬في حين جعلتها المادة ‪ 94‬ضمن االختصاصات القابلة للنقل‬
‫إلى جانب التجهيزات والبنيات التحتية ذات البعد الجهوي والطاقة والماء‪.‬‬
‫أما القانون التنظيمي رقم ‪ 112.14‬المتعلق بالعماالت واألقاليم‪ ،‬فتحدث عن البيئة مرة واحدة حين‬
‫أسندت المادة ‪ 26‬التنمية القروية والحضرية وإنعاش االستثمارات والماء والطاقة والبيئة ألحد اللجان‬
‫الدائمة التي يحدثها المجلس‪ .‬في حين جاءت مقتضيات نص القانون التنظيمي رقم ‪ 113.14‬المتعلق‬
‫بالجماعات عامة بخصوص البيئة كاختصاص‪ ،‬واعتبرت أن المجلس يفصل بمداوالته في القضايا التي‬
‫تدخل في اختصاصات الجماعة ويمارس الصالحيات الموكولة إليه ويتداول في مجموعة من القضايا‬
‫كالتدابير الصحية والنظافة وحماية البيئة واتخاذ التدابير الالزمة لمحاربة عوامل انتشار األمراض‬
‫وإحداث وتنظيم المكاتب الجماعية لحفظ الصحة‪ .‬في حين جعلته المادة ‪ 87‬ضمن االختصاصات‬
‫المشتركة بين الدولة وهذه الوحدة القاعدية في كلما يتعلق بالمحافظة على البيئة وسالمتها‪.‬‬
‫تُمكن هذه الوقائع من تقبل وبسهولة فكرة أن هذا الجيل من توزيع االختصاص بين الدولة‬
‫والجماعات الترابية لم يصل بعد إلى النجاح المطلوب‪ ،‬كما أن سلطة الخبرة ظلت دائما قائمة في جدل‬
‫توزيع االختصاص بين الدولة والوحدات الالمركزية‪ ،‬خاصة حين يتعلق األمر بتتبع وبتنفيذ مخططات‬
‫وبرامج السياسات العمومية‪.‬‬
‫ومهما كانت اعتبارات تقييد اختصاص الجماعات الترابية‪ ،‬فيمكن فهمها من زاوية أخرى بكونها‬
‫تندرج في إطار تأطير وتنوير الدولة لالختصاصات المخولة للجماعات العمومية‪ ،‬وهي منهجيات نابعة‬
‫من اإليمان أن طبيعة بعض االختصاصات تهم في الغالب الجماعة الوطنية بكاملها‪ ،‬كما يمكن أن‬
‫يتعارض ذلك منح الوحدات الالمركزية اختصاصات مطلقة‪ ،‬تتخلى بموجبها الدولة عن مهمتها الدستورية‬
‫المتمثلة في الم راقبة الدائمة على الجماعات‪ .‬فضال عن ذلك‪ ،‬يملك تقييد اختصاص الوحدات الالمركزية‬
‫تمييزا أكيدا‪ ،‬أوال لعدم تأثيره الجدري على إعطاء الجهات وباقي الجماعات الترابية األخرى سلطات‬
‫واختصاصات متعددة‪ ،‬وثانيا يحفظ في مرات عديدة تناقض المصالح والمآرب‪.‬‬
‫مواقف كهذه ينقصها فقط بعض الوضوح الضروري ألجل إقامة عالقات ثقة جديدة مع المنتخبون‬
‫وإعطاء انطالقة جديدة‪ ،‬إيمانا بالمنظور الشمولي لإلصالح‪ .‬فكما جاء في الخطاب الملكي بتاريخ ‪ 4‬غشت‬
‫‪ 2015‬بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الملك والشعب‪" ،‬إذا كان لكل ثورة رجالها‪ ،‬فإن رجال الثورة‬
‫الحالية بالمغرب هم المنتخبون"‪.‬‬

You might also like