Professional Documents
Culture Documents
اللغة و الفكر
اللغة و الفكر
-1 -طرح المشكلة :لقد إقترن وجود اإلنسان بقدرته على التواصل مع بني جنسه من خالل ملكة اللغة التي
يميل عدد من الفالسفة والمفكرين إلى تعريفها بأنها ذلك النسق المنظم من اإلشارات و الرموز التي تصلح
للتواصل بين بني البشر مع القصد في إستعمالها و تطويرها ,و كما يعرفها الجرجاني (هي كل ما يعبر بها كل
قوم عن أغراضهم) ,إال أن تطور مفهوم اللغة إرتبط بماهية الفكر باعتباره نشاط ذهني معقد تتشابك فيه
القدرات العليا من إدراك و تخيل وتذکر و تحلیل و ترکیب و تأويل ,فالتفكير يعتمد على أدوات هي المعاني و
يقابلها في اللغة األلفاظ ,مما أثار إهتمام الفالسفة و العلماء حول طبيعة العالقة بين اللغة و الفكر فإنقسمو إلى
موقفين متعارضين :فريق أول يرى بأن العالقة بينهما هي عالقة إنفصال باعتبارهما شيئين مختلفين ,وفريق
ثان يؤكد بإن العالقة بينهما هي عالقة إتصال بإعتبارهما شيء واحد ,فطرحو التساؤل :هل هناك تطابق بين
نظام األفكار و نظام الكلمات؟ و هل كل ما نفكر فيه بالذهن يمكن التعبير عنه باأللفاظ ؟ وبصيغة أخرى هل
اللغة والفكر متصالن أم منفصالن؟
-2-محاولة حل المشكلة:
أ ) األطروحة :يجب الفصل و التمييز بين اللغة والفكر (اإلتجاه الثنائي (
يذهب أنصار اإلتجاه الثنائي و خاصة النزعة الحدسية بزعامة الفرنسي برغسون أنه يجب الفصل و التمييز
بين اللغة والفكر ,فاللغة وسيلة ينتجها الفكر تعيقه و تشوهه وال تستطيع التعبير عنه يقول برغسون ( :اللغة
عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر) .حجتهم في ذلك أن الفكر أسبق من اللغة زمنيا بحيث أن اإلنسان يفكر بعقله
أوال ثم يعبر يلسانه ثانيا كما أنه كثيرا ما تعجز اللغة عن التعبير عن أفكارنا و مشارنا و عواطفنا و إنفعاالتنا
خاصة بالنسبة للرومنسيين و المبدعين و الفنانين فيلجلون إلى الرسم و الموسيقى و التمثيل و النحت للتعبير
عن مشاعرهم وأفكارهم ,يقول الشاعر الفرنسي فاليري ( :يأتي الفن ليكمل ما تعجز عنه اللغة) فالتأمل
العميق و الشعور الحدسي الباطني يبقى تجربة ذاتية أصيلة يعيشها الفرد لوحده وتعجز اللغة عن نقلها
لآلخرين ,لهذا قيل ( :ما أرخس الحب حين يتحول إلى كلمات ( ,وهذا ما أكده الشاعر العربي نزار قباني
بقوله '' :الحزن يا بلقيس بعصر مهجتي كالبرتقالة… .ولست أعرف مأزق الكلمات ....أنا الذي اخترع
الرسائل ......لست أعرف كيف أبدأ الرسالة'' .
فاللغة غير قادرة على إحتواء المعاني العميقة والمشاعر الدافئة والعواطف الجياشة .لذلك قيل ( :إذا كانت
كلماتي من ثلج فكيف تحتوي بداخلها النيران) ,كما أن األفكار متصلة في تطور مستمر بينما األلفاظ مركبة
منفصلة جامدة محدودة ,لهذا قيل( :األلفاظ قبور المعاني) أي تؤدي إلى قتل األفكار وتجميد حيويتها ,يقول
الشاعر الفرنسي فاليري ( أجمل األفكار هي التي ال تستطيع التعبير عنها) .إضافة أن اللغة تشكل خطرا على
الفكر أحيانا مثلما يحدث في حالة سوء التفاهم ,فكثيرا ما يتوقف الخطيب أو األستاذ عن الكالم لعجز األلفاظ
عن التعبير عن أفكاره ,ضف إلى ذلك التوقف أثناء الكتابة و التردد في التعبير و تعويض ألفاظ بأخرى دليل
على عدم التناسب بين المعاني و األلفاظ وهذا ما اكده الفرنسي ديكارت أن اللغة تعيق الفكر وال تستطيع
1
التعبير عنه حيث يقول ( :ألفاظ اللغة تضللني ) ويضيف ايضا ( :الفكر سابق عن اللغة فهي األداة التي
يستعملها للخروج من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل وجعله مدركا من طرف الغير) ,كما أنه لو سألنا
األدباء و الشعراء كم إستهلكو من األوراق لكتابة قصصهم و مؤلفاتهم لوجدنا أن األوراق التي رموها أكثر من
التي كتبو عليها ,يقول األلماني شوبنهاور( :تموت األفكار لحظة تجسيدها في كلمات( ,فالعبارة تضيق حدود
المعنى و تجعل الفكرة في أذهاننا تبدو أوسع وأجمل يقول ديدرو ( :أعتقد أننا نملك أفكارا أكثر مما نملك
أصواتا) ولقد أشار افالطون قديما إلى أسبقية الفكر عن اللغة الطولوجيا (وجوديا) .ذلك أن األفكار مصدرها
عالم المثل في حين تنتمي األلفاظ إلى العالم الحسي و بما أن المعالم األول أسبق من الثاني فإن الفكر أسبق من
اللغة و أوسع منها ,كما أن الفكرة إذا قمنا بترجمتها من لغة إلى أخرى يختل معناها لهذا قبل ( :كل مترجم
خائن) مثل إيطالي إضافة أن الطفل الصغير ترسخ في ذهنه الصور واألشكال البدوية أكثر من األلفاظ
والكلمات لهذا قيل ( الصورة خير من ألف كلمة( مثل صيني ,ونفس الموقف نجده عند الجاحظ بأن اللغة تقف
عاجزة عن مسايرة زخم األفكار حيث يقول ( :إن حكم المعاني خالف حكم األلفاظ ألن المعاني مبسوطة إلى
غير نهاية و أسماء األلفاظ محدودة ومعدودة ) .ضف إلى ذلك أن الكلمات تأني غير متوافقة ومتاخرة و ففي
ذروة األلم ال نملك غير الصباح فقط وال تتكلم عن األلم لنصفه أو باألحرى لنصف ذكرياته ومخلفاته إال بعد
هدونه و زواله كما أن األم ال تستطيع اللغة التعبير عن فرحتها بنجاح إبنها أو إبنتها في شهادة البكالوريا
فتنفعل وتلجا إلى البكاء و الدموع يقول برغسون( :إن اللغة ال تقوى على وصف المعطيات المباشرة للحدس
وصفا حيا فهي ال تصف العواطف والمشاعر المرهقة إال وصفا خارجيا) .فلو سألنا العشاق والمحبين عن
اللغة فإنهم لن يترددو في وصفها بالعاجزة طالما ال تبلغ لهم مرادهم ,وقد حدث لي مرة اني إلتقيت صديق
الطفولة صدفة الذي لم اراه منذ مدة طويلة فتلعثم لساني ولم أستطع التعبير عن مشاعر االشتياق نحوه بلغة
األلفاظ ولكني وجدت نفسي مهروال مسرعا نحوه و إحتضنته بقوة ،كما يؤكد الصوفية انهم يعيشون حاالت
وجدانية ال يمكن لأللفاظ أن تعبر عنها وال يمكن للكلمات أن تستوعب المعرفة اإلشراقية والدرجة العرفانية ،
يقول المتصوف العربي الحالج (المعرفة ديمومة دائمة طرقها مسدودة ما إليها سبيل ،معانيها بينة ما عليها
دليل ال تلحقها أوصاف الناس ،).أي أن المعرفة الصوفية تتميز بالديمومة تتجلى كمعان واضحة حدسية بدون
دليل ولكن ال يمكن وصفها بالكلمات
مناقشة :لقد بالغ أنصار اإلتجاه الثنائي في تمجيد الفكر و التقليل من شأن اللغة ألن معطيات علم النفس
الحديث أثبتت أن الطفل يتعلم اللغة والفكر في أن واحد ،فالفكر بدون لغة مجرد شعور ،كما أن العجز الذي
توصف به اللغة هو عجز في التفكير اإلفتقار المتكلم للثروة اللغوية.
ب) نقيض األطروحة ال يمكن الفصل و التمييز بين اللغة والفكر (االتجاه األحادي)
و هذا ما ذهب إليه أنصار اإلتجاه األحادي بأنه ال يمكن الفصل و التمييز بين اللغة و الفكر ألن هناك تطابقا
تاما بينهما فال يمكن أن يوجد فكر بدون لغة كما ال توجد لغة من دون فكر ,فاللغة ليست أداة للتبنيغ والتعبير
فحسب ,بل هي األساس الذي يقوم عليه الفكريقول ستالين( :ال وجود ألفكار عارية مستقلة عن مواد اللغة).
وهذا ما أكده الفيل بقوله ( :ليست اللغة كما يعتقد البعض ثوب الفكر و لكن جسمه الحقيقي) حجتهم في ذلك
أنه كلما اتسعت ثروة الفرد اللغوية كلما زادت قدرته على التفكير و
التبليغ والتعبيرو أن وضوح األفكار ناتج عن وضوح األلفاظ يقول هاملتون ( :األلفاظ حصون المعاني ) .كما
أن اللغة تصبغ الفكر بصبغة إجتماعية موضوعية تنقله من طابعه اإلنفعالي الذاتي ليصير خبرة إنسانية قابلة
للتحليل و الفهم واإلنتقال بين الناس ,يقول هيجل ( :اللغة وعاء الفكر ) ويضيف ايضا ( نحن نفكر داخل
الكلمات ) حيث أثبت علم نفس الطفل أن تكوين المعاني عاد الطفل يتم في نفس الوقت الذي يكتسب فيه اللغة
وأن نمو الفكر عنده مرتبط بنموه اللغوي .يقول اآلن( :إن الطفل يكتشف أفكاره في العبارات التي يتعلمها)،
2
فحتى عندما نفكر فإن هذا التفكير حسب انصار اإلتجاه األحادي يعتبر حوارا داخليا ال يمكن أن يكون ما لم
تكن هناك لغة إضافة أن األستاذ يقيم التالميذ من خالل الواجبات والمشاركة في القسم ,ألنه عندما يتكلم التلميذ
يستطيع األستاذ أن يقدر ذكاته فالعالقة وطيدة بين اللغة والفكر يقول دوالكروا ( :إن الفكر يصنع اللغة في
نفس الوقت الذي يصنع فيه الفكر من طرف اللغة ).وهذا ما عبر عنه األمريكي واطسن بقوله( :التفكير ما هو
إال ضرب من الكالم الصامت) اذن هناك تالزم بين ما تفكر فيه وما تعبر عنه إذ يمكن تشبيه العالقة بين اللغة
والفكر بالقطعة النقدية وجهها الفكرو ظهرها اللفظ يقول المفكر العربي زكي نجيب محمود( :الفكر هو
التركيب اللفظي أو الرمز ال أكثر وال أقل) إضافة أن اإلصابات الدماغية تسبب العجز عن الكالم ,فإصابة
منطقة بروكا يؤدي إلى مرض الحبسة الحركية أي عدم القدرة على النطق و فقدان اللغة ومعانيها .مما يثبت
صلة كل من الفكر و اللغة و إستحالة الفصل بينهما يقول هيجل ( :إن الكلمة تعطي للفكرة وجودها األسمى و
الرغبة في التفكير بدون كلمات محاولة عديمة المعنى) و نفس الموقف نجده لدى زعيم الفلسفة الظواهرية
مرلوبونتي بقوله ( :الفكر ال يوجد خارج عن العالم و بمعزل عن الكلمات) .كما اكد ارسطو قديما أن العالقة
بين اللغة والفكر عالقة إتصال بحيث يمثالن وحدة عضوية كما أشار إلى ذلك في كتابه :األرغنون في مبحث
الحدود والتصورات وكذا في مبحث القضايا واألحكام ,حيث يقول ( :ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية).
ولهذا سمو المسلمين قديما علم المنطق بـ :علم الكالم السليم و هذا لتأكيدهم أن اللفظ والمعنى شئ واحد،
فبفضل اللغة إستطاع اإلنسان القيام بمختلف العمليات العقلية مثل التحليل ,التركيب ,المقارنة .كما إستطاع أن
يرتقي من المستوى الحسي إلى المستوى العقلي المجرد و يكشف عن المعاني المجردة كما يبدو لنا ذلك في
فلسفة الرياضيات ,يقول إميل بنفنيست ( :إن التفكير ليس من الداخل في شيء وال وجود له خارج عالم
األلفاظ) ،و هذا ما أكدته جوليا كريستيفا بقولها ( :اللغة مادة الفكر فهما متالزمان).
مناقشة :لو كانت اللغة و الفكر شيء واحد إلكتفينا بإحضار أحدهما دون األخر ,ولكانت أفكارنا و لغتنا
واحدة ولو كان اإلتحاد بين اللغة والفكر مطلقا لوجدنا انفسنا بين مشكلة هي إما أن تكون أفكارنا جامدة ثابتة
لثبات االلفاظ وإما أن تصبح اللغة متغيرة بتغير المعاني وهنا نفقد اإلثنين معا.
ج) التركيب :من خالل طرحنا للموقفين المتعارضين يتضح لنا أننا ال نستطيع أن نفصل عمليا بين اللغة
والفكر ,وال يوجد فاصل زمني بين عملية التفكير وعملية التعبير ,فإذا كانت بينهما أسبقية فهي منطقية ال
زمنية ,وإن كان بينهما تمييز فهو نظري ال عملي ،فالتفكير الخالص بدون لغة كالشعور الفارغ ال وجود له
فكل فكرة تتكون في قالب رموز يحتويها و يعطي لها وجودها المضمون وهذا ما عبر عنه هاملتون بقوله:
(إن المعاني شبيهة بشرار النار ال تومض إال لتغيب ،فال يمكن إظهارها و تثبيتها إال باأللفاظ) ،فالعالقة بين
اللغة والفكر هي عالقة إتصال فاإلنسان هو الكائن الوحيد القادر على ترجمة أفكاره ونقلها إلى غيره مع وعي
هذا الفعل وما يقصد إليه ,و إذا كانت اللغة خاصية إنسانية فهذا أكبر دليل على إرتباطها الوثيق بالفكر,
وتميزها عن منطق الحيوان و أشكال التعبيراإلنفعالي.
-3-حل المشكلة :من كل مما سبق نستنتج أن العالقة بين اللغة والفكر هي عالقة تكاملية وطيدة فكالهما
يؤثر و يتأثر باآلخر ,فبالرغم أن الفكر هو عمل العقل الذي يحدث في الذهن و أن اللغة اصوات و رموز
خارجية يتلفظ بها اإلنسان ,فإن العالقة بينهما هي عالقة تكامل وتفاعل ,فالفكر بالنسبة لـ اللغة كالروح بالنسبة
للجسد ,يقول دوالكروا ( :نحن ال نفكر بصورة حسنة أو سيئة إال ألن لغتنا مصنوعة صناعة حسنة أو سيئة).
أي أنه يستحيل الفصل بينهما عمليا ألنهما يمثالن جوهر اإلنسان و السبب الرئيسي في إخراجه من الحظيرة
الحيوانية إلى الحظيرة اإلنسانية.
3