You are on page 1of 49

‫جامعة سيدي‬

‫كلية الشريعة فاس‬ ‫محمد بن عبد الل‬

‫مقاالت حول الدبلوماسية الدينية المغربية‬

‫ماستر الديبلوماسية الدينية‬

‫‪1‬‬
‫إمارة المؤمنين واستراتيجية األمن الروحي بالمغرب‬

‫الدكتور عبد الرزاق وورقية‬


‫جامعة سيدي محمد بن عبد هللا ‪ -‬فاس‬

‫تمهيد‬
‫ينعم بلدنا المغرب والحمد هلل‪ .‬بنعم كثيرة ولعل أبرزها‪ :‬نعمة األمن بمفهومه القومي‬
‫الشامل‪ ،‬ومن فروعه الكبرى ما يصطلح عليه في علم االجتماع الديني باألمن الروحي ومداره‬
‫على حفظ الدين في إطار السيادة الوطنية‪ ،‬والذي يجيل النظر في السياق التاريخي والسياسي‬
‫للبلد يستنتج بشكل واضح أن المؤسسة إمارة المؤمنين الحظ األوفر في استثمار مقومات‬
‫المجتمع المغربي لتحقيق األمن الروحي للمغاربة‪ ،‬وفي هذا السياق وبناء على تلك المقومات‬
‫وضع أمير المؤمنين جاللة الملك محمد السادس نصره للا استراتيجية واضحة األهداف‪،‬‬
‫وقائمة األركان‪ ،‬ويانعة الثمار‪ ،‬وقد أعلن عنها سنة ‪ 2004‬م عبر خطاب تاريخي مؤسس‪،‬‬
‫وأتبعها بإجراءات إصالحية عميقة منها المؤسسية‪ ،‬ومنها التشريعية‪ ،‬ومنها التأطيرية‪ ،‬كل‬
‫ذلك توخيا لحماية األمن الروحي للمغاربة‪.‬‬
‫ولم تمر بضع سنوات حتى أخذت تلك اإلصالحات مجراها التنفيذي‪ ،‬وأتت أكلها‬
‫وأنتجت االستراتيجية نتائجها األولية‪ ،‬فترسخ النموذج المغربي المتسامح في التدين‪ ،‬ونال‬
‫إعجاب العالم المتحضر‪ ،‬حتى سارعت العديد من الدول راغبة في االقتداء به‪ ،‬طالبة تجربة‬
‫المغرب في تنظيم الشأن الديني بما يحقق األمن الروحي للمجتمع‪ .‬ونظرا ألهمية هذه‬
‫االستراتيجية المولوية الناجحة ارتأيت أن أتطرق إليها من جهة مقوماتها وأهدافها وأركانها‬
‫وبعض انعكاساتها اإليجابية وذلك وفق العناصر اآلتية‪:‬‬
‫مفهوم األمن الروحي‬ ‫•‬
‫مقومات استراتيجية األمن الروحي ومركزية إمارة المؤمنين في استثمارها‬ ‫•‬
‫أهداف استراتيجية األمن الروحي‬ ‫•‬
‫األركان الثالثة الستراتيجية األمن الروحي بالمغرب‬ ‫•‬
‫االنعكاسات اإليجابية لالستراتيجية‬ ‫•‬

‫‪2‬‬
‫أوال مفهوم األمن الروحي‬
‫نشأ وتطور مفهوم األمن الروحي في مقابل أنواع األمن األخرى كاألمن الغذائي‬
‫واالقتصادي واالجتماعي والسياسي والقومي‪ ..‬بناء على أن األصل في اإلنسان ليس فقط‬
‫الجانب المادي ولكن لديه حاجيات روحية‪ ،‬أصبحت من حقوقه األساسية‪ ،‬وكان هذا المعنى‬
‫موجودا في الديانات السماوية‪ ،‬وتطور إلى أن ظهر المصطلح‪" :‬األمن الروحي" ولعل من‬
‫أوائل المؤلفين بهذا العنوان الكاتب ويسنر فاالو ‪ ،Wesner Fallaw‬في كتابه‪" :‬نحو األمن‬
‫الروحي" ‪ ،1 Toward spiritual security‬وكان التركيز فيه على المنهج المسيحي في‬
‫التقرب إلى للا‪.‬‬
‫أما في الدين اإلسالمي فيمكن تنزيل مفهوم األمن الروحي على المعنى الذي قصده‬
‫أهل المقاصد من عبارتهم المشهورة‪" :‬حفظ الدين"‪ 2‬أي ضمان حق التدين للناس وذلك بتوفير‬
‫الشروط إلقامة األركان من صالة وصيام وحج وزكاة‪...‬‬
‫فمن هنا يمكن تحديد مفهوم األمن الروحي تعلقه بالفرد بأنه ضمان الحق في التعبد‬
‫والتدين للفرد وحمايته من أي اضطهاد في حريته الدينية‪.‬‬
‫ولكن عندما يتعلق األمر بالدولة والمجتمع يأخذ األمن الروحي بعدا أوسع‪ ،‬أي حماية‬
‫الدولة لحقوق المواطنين في التدين والتعبد في إطار األمن القومي والسيادة الوطنية‪ ،3‬إذ ال‬
‫يمكن فصل الحفاظ على تدين األفراد عن الحفاظ على استقرار الدولة واستمراريتها‪ ،‬فال يمكن‬
‫تصور ضمان حقوق األفراد الدينية خارج سيادة الدولة ومؤسساتها‪ ،‬فخارجها ال يوجد إال‬
‫الفوضى والعنف والتفرق‪ ..‬وهذا على خالف المقاصد الشرعية الداعية إلى الوحدة والنظام‬
‫واالنضباط‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مقومات استراتيجية األمن الروحي ومركزية إمارة المؤمنين في استثماره‬
‫إذا تقررت قاعدة حفظ الدين في إطار األمن القومي والسيادة الوطنية‪ ،‬فإن استراتيجية‬
‫إمارة المؤمنين اتجهت في ذلك الحفظ إلى بناء النموذج الديني المغربي على مقومات تاريخية‬
‫وجغرافية وثقافية ودينية‪...‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Wesner Fallaw. Toward spiritual security. Westminister Press, 1952.‬‬
‫‪ 2‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬أبو إسحاق الشاطبي‪ ،‬تحقيق عبد هللا دراز‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬ط ‪.‬د ‪.‬ت ‪.‬‬
‫المكتبة التجارية الكبرى‪8/2:‬‬
‫‪3‬‬
‫‪une décennie de réformes au Maroc (1999-2009). Sous la direction du Centre‬‬
‫‪d'études Internationales, Editions KARTHALA. Paris. p 124.‬‬

‫‪3‬‬
‫أ‪ -‬المقوم التاريخي لألمن الروحي بالمغرب‬
‫تفرد المغرب تاريخيا‪ .‬منذ دخول اإلسالم إليه‪ .‬بدولة مستقلة تأسست على يد المولى‬
‫إدريس األول واستمرت على مدى أزيد من اثني عشر قرنا إلى يومنا هذا‪ ،‬أدامها للا وحفظها‪،‬‬
‫والذي يجيل النظر في تاريخها وتعاقب الدول عليها يجد أن لها ثوابت ال تتزحزح عنها‪ ،‬وهي‬
‫سر استقاللها واستمراريتها‪ ،‬ومن أكبر هذه الثوابت مؤسسة إمارة المؤمنين القائمة على البيعة‬
‫وتمسك الشعب المغربي بالسلطان أمير المؤمنين‪ ،‬والذي يعتبر في الثقافة المغربية الموحد‬
‫لألمة ورمز سيادتها وقوتها‪ ،‬ويسمى باألمازيغية "أكليد" أو "أجليد"‪ ،‬أي صاحب القوة‬
‫والسلطان والسمو‪... 1‬‬
‫لم يتأت لألمة المغربية عبر تاريخها أن تتوحد وتتحضر وتتقدم خارج إطار مؤسسة‬
‫إمارة المؤمنين‪ ،‬حتى أصبح األمر قاعدة مطردة تاريخيا وسياسيا‪ ،‬يدل عليه من الناحية‬
‫التاريخية كون جميع فترات االستقرار والقوة والمنعة كانت إمارة المؤمنين هي صاحبة‬
‫المبادرة فيها‪ ،‬حتى أن المغرب عرف عند كثير من األمم بملوكه المصلحين والصالحين‪.‬‬
‫ويدل عليه من الناحية السياسية أن أغلب المحاوالت الداعية إلى التفرقة على أساس‬
‫عرقي أو مذهبي أو مصالح سلطوية سياسية ضيقة‪ ،‬أو نزعات تعصبية أو متطرفة‪ ..‬لم تفلح‬
‫في النيل من وحدة المغرب والضامن الثابت في ذلك كله هو إمارة المؤمنين‪.‬‬
‫وإذا تقرر أن مؤسسة إمارة المؤمنين هي الضامن الستقرار المغرب ووحدته‪ ،‬أي‬
‫ألمنه الشامل‪ ،‬فإنها بذلك تعتبر الضامن لألمن الروحي إذ هو نوع من أنواع األمن المطلوبة‬
‫في الوقت المعاصر‪ ،‬فهي القائمة على حفظ دين المغاربة في كلياته وجزئياته‪ ،‬وقد تحقق هذا‬
‫بفضل كثير من اإلجراءات العملية كما سيأتي فيما بعد‪.‬‬
‫ب‪-‬المقوم الديني‬
‫من الناحية الدينية يعتبر المغرب سنيا أشعريا مالكيا جنيديا منذ قرون‪ ،‬وهذا االختيار‬
‫الديني أصبح قاعدة أصلية يبنى عليها غيرها من األمور الدينية‪ ،‬فعن طريقها حسمت‬
‫الصراعات التي ما زالت دول كثيرة في العالم العربي واإلسالمي تعاني منها‪ ،‬والتي مردها‬
‫إلى النزاعات الطائفية المقيتة المضعفة لوحدة المجتمع‪ ،‬وتماسك الدولة‪.‬‬
‫فعلى مستوى العقيدة كان أهل المغرب على عقيدة أهل السنة منذ المرحلة اإلدريسية‬
‫تبعا للمقدمات العقدية األئمة المالكية‪ ،‬وتوثق المصادر النوازلية لنا أن اإلقرار الرسمي للعقيدة‬
‫السنية األشعرية كان مع األمير المرابطي الثاني‪ :‬أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين‬
‫(‪537‬هـ) بعد استفتائه البن رشد الجد في صحة عقيدة أئمة األشعرية كأبي الحسن األشعري‬

‫‪ 1‬ترجمة خاصة حسب معنى اللفظ في أمازيغية الريف والمغرب الشرقي‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المؤسس والباقالني والجويني والغزالي والباجي‪ ...‬حيث كان جواب اإلمام ابن رشد بأن هؤالء‬
‫‪1‬‬
‫"هم أئمة خير وهدی وبهم يجب االقتداء"‬
‫إن العقيدة األشعرية بقواعدها المبنية على التسليم في الثابت القطعي من العقائد‬
‫والتفويض في تأويلها وتفاصيلها‪ ،‬وقفت سدا منيعا ضد الجدل المذموم في الدين الذي تسلكه‬
‫بعض الطوائف‪ ،‬فعلماء األشعرية صرفوا نظر المكلف واهتمامه إلى ما ينبني عليه عمل دون‬
‫غيره‪ ،‬بناء على القاعدة المقررة عندهم‪" :‬كل مسألة ال ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض‬
‫‪2‬‬
‫فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي"‬
‫إن التزام المغاربة بالمذهب المالكي وأصوله جعلهم يسلكون مسلك التيسير والوسطية‪،‬‬
‫ال مفرطين وال مفرطين‪ ،‬آخذين بمراعاة الخالف والمصالح المرسلة وما جرى به العمل‪...‬‬
‫وهي مسالك مشعرة بمرونة المذهب وواقعتيه‪ ،‬مما جعل الناس ينزلون كثيرا من القواعد‬
‫الفقهية على تصرفاتهم اليومية حتى أصبحت األحكام التكليفية سلوكا شعبيا يمتثل لها الناس‬
‫بشكل اعتيادي‪ ،‬ويستوي في معرفتها العامي والعالم‪.‬‬
‫وأما التصوف الجنيدي فهو خالصة علم السلوك واألخالق عند السلف الصالح‬
‫فالمغارية انخرطوا فيه علما وعمال‪ ،‬حيث إن الناظر في سلوكهم التعبدي واألخالقي عبر‬
‫التاريخ يجد األثر التربوي الصوفي متجليا من خصال حميدة مطردة‪ :‬كعمارة المساجد‪ ،‬والكرم‬
‫وحسن الضيافة‪ ،‬والتعلق بالقرآن وبذكر للا‪ ،‬والتوكل على للا‪ ،‬والصبر عند المصيبة‪ ،‬وبر‬
‫الوالدين‪ ،‬والتسامح والعفو والصفح‪ ...‬إلى غير ذلك من الخصال التي قررها كبار القوم في‬
‫وصاياهم التربوية‪.‬‬
‫أمام هذه الثوابت الدينية المؤسسة التحضر المغربي لم تفلح المذاهب السياسية والفكرية‬
‫المنحرفة الوافدة في التغلغل في المجتمع المغربي‪ ،‬ودخولها حتى وإن وقع في بعض المراحل‬
‫التاريخية فال يعدو أن يكون دخول غريب غير مرغوب فيه‪ ،‬فسرعان ما ينقلب على عقبيه‬
‫مذموما مدحو‪ ،‬ويلفظه المغاربة‪ ،‬والدليل على ذلك أن فرق الخوارج والشيعة‪... ،‬حين حاولت‬
‫الدخول إبان العصر الوسيط إلى المغرب فلم تستطع المكوث فيه إال قليال‪ ،‬وقد تصدى لها‬
‫العلماء والمجتمع على حد سواء‪ ،‬واندرست وتخلصت منها األمة المغربية البتة‪.‬‬
‫وفي العصر الحاضر مازالت بعض المذاهب الطائفية المتطرفة تعاود المحاولة للولوج‬
‫إلى المجتمع المغربي‪ ،‬قصد استصحاب وإحياء تلك النزاعات التي دارت في الزمن األول بين‬
‫الطوائف المتطرفة وتدور اليوم في بعض مناطق العالم اإلسالمي‪ ،‬لكن محاوالتها المتكررة‬
‫باءت بالفشل‪ ،‬بفضل االستراتيجية الحكيمة إلمارة المؤمنين بأبعادها ورؤيتها الحصيفة‪ ،‬حيث‬

‫‪ 1‬ينظر نص فتوى ابن رشد في العقيدة األشعرية في فتاوى ابن رشد‪ ،‬ألبي الوليد محمد بن رشد‪ ،‬تحقيق ‪:‬د ‪.‬‬
‫المختار التليلي‪ ،‬ط‪.‬ت دار الغرب اإلسالمي‪ 802/1 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 2‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬أبو إسحاق الشاطبي‪ ،‬تحقيق عبد هللا دراز‪ ،‬ط د‪.‬ت‪ ،‬المكتبة التجارية‪ ،‬مصر‪:‬‬
‫‪.46/1‬‬

‫‪5‬‬
‫وقت سدا منيعا وحصنا متينا ضدها‪ ،‬وجعلت التمسك بالهوية الدينية المغربية والمذهب السني‬
‫المالكي واجبا وطنيا‪ .‬يقول جاللته أعزه للا مخاطبا شعبه الوفي‪ ..." :‬فمن واجبك الوطني‬
‫والديني الحفاظ على هويتك والتمسك بالمذهب السني المالكي الذي ارتضاه المغاربة أبا عن‬
‫جد‪ 1"...‬وكان رفض جاللة الملك نصره للا للخروج عن المرجعية السنية المالكية واضحا‬
‫وصارما حيث تابع مخاطبا شعبه الوفي‪ " :‬فال تسمح ألحد من الخارج أن يعطيك الدروس في‬
‫دينك وال تقبل دعوة أحد التباع أي مذهب أو منهج قادم من الشرق أو الغرب‪ ،‬أو من الشمال‬
‫أو الجنوب‪ ...‬وعليك أن ترفض دوافع التفرقة وأن تظل كما كنت دائما‪ ،‬غيورا على وحدة‬
‫‪2‬‬
‫مذهبك ومقدساتك‪ ،‬ثابتا على مبادئك‪ ،‬ومعتزا بدينك‪ ،‬وبانتمائك لوطنك"‪.‬‬
‫فالمتأمل لخطاب أمير المؤمنين نصره للا يستنتج دون أدنى عناء مقدار حرص إمارة‬
‫المؤمنين على أمن المغاربة الروحي باعتباره أحد ركائز أمنهم القومي‪ ،‬فالتمسا المذهب‬
‫واالعتزاز بالهوية الدينية ال ينفصالن عن حب الوطن والذود عن أمنه‪ ،‬بهذه الرؤية العميقة‬
‫استطاعت إمارة المؤمنين استثمار المقوم الديني من أجل حفظ وحدة المغاربة‪ ،‬وذر بتثمين‬
‫هذا المقوم واإلعالء من شأنه وترتيب وتنظيم مؤسساته‪ ،‬وترسيخ ثوابته العقدية والفقهية‬
‫والسلوكية‪.‬‬
‫ت‪-‬المقوم الثقافي‪ :‬استثمار التنوع لخدمة الوحدة‬
‫استطاع المغرب على المستوى الثقافي التوفيق بين وحدة هويته الحضارية‪ ،‬وتعدد‬
‫ثقافاته‪ ،‬وغناها اإليجابي‪ ،‬وكذا أعراف مجتمعه الصالحة‪ ،‬والتي اتخذ منها علماء المالكية‬
‫مصدرا الكثير من األحكام االجتهادية الفقهية في الفالحة والعمران والصناعة والصلح‬
‫والنزاعات‪ ،... 3‬مما كان له أثر إيجابي على تماسك المجتمع المغربي وتضامنه في السراء‬
‫والضراء‪.‬‬
‫فالمغرب جامع األعراق وثقافات متنوعة ومنصهرة في بعضها البعض‪ ،‬والمغاربة‬
‫عربا وأمازيغ ويهودا وأندلسيين وصحراويين وزنوجا‪ ...‬كلهم عاشوا تحت سقف دولة البيعة‬
‫وإمارة المؤمنين‪ ،‬وتحت راية اإلسالم‪ ،‬والمغرب من الدول القالئل التي تمسكت بوحدة الهوية‬
‫وتعدد الثقافات دون تمييز أو إقصاء‪ ،‬بل يتعايش الكل سواسية في إطار مواطنة كاملة للجميع‪،‬‬
‫وهذه الخصوصية الحضارية ساعدت كثيرا في بناء الدولة المغربية العصرية وتفادي‬
‫االنجرار وراء الصراعات القبلية أو العرقية المقيتة‪ ،‬وشكلت الهوية الوطنية حضنا جامعا‬
‫للتنوع الثقافي اإليجابي البناء‪.‬‬

‫‪ 1‬من الخطاب الملكي االمي بمناسبة عيد العرش المجيد‪ 13 .‬شوال ‪1436‬هـ موافق لـ ‪ 30‬يوليوز‪ 2015‬م‪.‬‬
‫‪ 2‬من الخطاب الملكي االمي بمناسبة عيد العرش المجيد‪ 13 .‬شوال ‪1436‬هـ موافق لـ ‪ 30‬يوليوز‪ 2015‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬ومن ذلك أعراف ألواح جزولة‪ ،‬وما جرى به العمل المتنوع بتنوع اجتهادات القضاة والفقهاء في الحواضر‬
‫المغربية‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫إن حرص إمارة المؤمنين على رعاية التنوع الثقافي خادم بدوره الستراتيجية األمن‬
‫الروحي نظرا للعالقة الثابتة بين الديني والثقافي‪ ،‬فالتوع على مستوى التعبيرات الثقافية فسح‬
‫المجال وفتح األفق أمام علماء المغرب لمراعاة الخصوصيات الثقافية عند تنزيل الكثير من‬
‫األحكام المتعلقة بالمعامالت‪ ،‬وهذا ما يفسر تنوع ما جرى به العمل واختالفه من حاضرة إلى‬
‫أخرى ومن بادية إلى أخرى فتجد عمل فاس وعمل مراكش وعمل سوس‪...‬‬
‫كما أننا نجد على مستوى األجوبة على النوازل اختالفا من منطقة إلى أخرى وفق‬
‫اختالف األعراف الثقافية بين مناطق المغرب في المأكل والملبس والمشرب والزواج والبيوع‬
‫وإصالح ذات البين‪...‬‬
‫ث‪ -‬المقوم الجغرافي واستثماره في تثبيت األمن الروحي‬
‫يقع المغرب في غرب العالم العربي واإلسالمي‪ ،‬وفي شمال إفريقيا وفي جنوب‬
‫أوروبا‪ ،‬فهذا الموقع الجغرافي االستراتيجي يجعل منه دولة مهمة حضاريا وثقافيا وسياسيا‬
‫ودينيا‪ ،‬فمن الناحية الحضارية يمثل المغرب الوجه الحضاري للعالم العربي واإلسالمي في‬
‫مقابل الحضارة الغربية من الضفة األخرى‪ ،‬لقد كان على الدوام جسر التماس والتواصل مع‬
‫الحضارة الغربية‪ ،‬ومعبرا لنقل العلوم والمعارف إليها‪ ،‬وبذلك كان متميزا ومبدعا‪ ،‬فعلماء‬
‫المغرب من األوائل الذين ترجموا جزءا مهما من علوم اليونان ونقلوها إلى أوربا حيث كانت‬
‫األساس في بناء الحضارة اإلنسانية‪.‬‬
‫ومن الناحية السياسية بعد استقرار أوروبا وأمنها مرتبطين بشكل كبير بأمن المغرب‬
‫واستقراره وكل ذلك يدور على قضايا تتعلق بمحاربة اإلرهاب والهجرة غير النظامية‬
‫واالتجار في البشر واألمن االقتصادي‪...‬‬
‫وفي هذا الصدد استثمرت إمارة المؤمنين هذا المقوم بشكل إيجابي فجعلت المغرب‬
‫مساهما مبدعا في الحضارة اإلنسانية‪ ،‬ونموذجا ناجحا لصورة اإلسالم الحقيقية‪ ،‬حيث كان‬
‫المغرب هو السباق إلقرار إصالحات عميقة على مستوى فهم الدين اإلسالمي وتنزيله بصورة‬
‫خادمة لمقاصده الكبرى‪ ،‬مما فسح المجال لإلسهام في حوار األديان والحضارات دون أي‬
‫مركب نقص بل بكثير من الرصيد اإليجابي على مستوى تمثل اإلسالم السمح‪.‬‬
‫ج‪ -‬المقوم الدستوري‬
‫كما هو معلوم وتتويجا للمقومات السابقة تم إقرار دستور ‪2011‬م الذي أبانت فيه إمارة‬
‫المؤمنين عن حكمة بالغة شهد بها العالم المتحضر‪ ،‬حيث تمت صياغة الوثيقة الدستورية بشكل‬
‫استثمر المقومات السالفة الذكر‪ ،‬واستجاب لطموحات المجتمع المغربي بجميع فئاته‪ ،‬ومن‬
‫جملة العناصر ذات الشأن الكبير التي وردت في الدستور تلك المتعلقة بحفظ الدين وتحقيق‬
‫األمن الروحي للمغاربة وتحمل إمارة المؤمنين مسؤولية ذلك حصرا وتمييز الشأن الديني عن‬
‫األمور الدنيوية ذات الطابع التدبيري السياسي‪ ،‬رفعا من شأن الدين وحمايته من أي استغالل‬

‫‪7‬‬
‫يسيء إليه‪ ،‬وبهذا شكل دستور ‪2011‬م مقوما أساسيا الستراتيجية األمن ال حيث يرتكز‬
‫األساس الدستوري على أصول حاكمة مقررة تمثل فيها إمارة المؤمنين األمر كله‪ ،‬ونورد في‬
‫هذا الصدد أصلين بارزين في الوثيقة الدستورية‪:‬‬
‫• األصل األول‪ :‬التنصيص على أن اإلسالم هو دين الدولة وأن إمارة المؤمنين هي‬
‫الضامنة لحفظه‪ ،‬وبهذا أصبحت الدولة تحت إشراف أمير المؤمنين هي المسؤولة على حماية‬
‫الشأن الديني‪ ،‬وليس األشخاص أو الجمعيات أو األحزاب وبذلك تفادي المغرب االنسياق وراء‬
‫صراع التأويالت الدينية وفق المصالح واألهواء‪ .‬وقد جعل دستور ‪2011‬م حفظ الدين وحماية‬
‫حرية ممارسة الشعائر من اختصاصات الملك بوصفه أميرا للمؤمنين‪ .‬وأغلب الوثائق‬
‫الدستورية نصت على أن اإلسالم هو دين الدولة‪ ،‬ولكن حماية الدين وضمان حرية ممارسة‬
‫الشعائر الدينية هي من مهام الملك أمير المؤمنين‪ ،‬جاء في الفصل ‪" :41‬الملك‪ ،‬أمير المؤمنين‬
‫وحامي حمى الملة والدين‪ ،‬والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية‪.‬‬
‫يرأس الملك‪ ،‬أمير المؤمنين‪ ،‬المجلس العلمي األعلى‪ ،‬الذي يتولى دراسة القضايا التي‬
‫يعرضها عليه‪.‬‬
‫ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة إلصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا‪ ،‬في شأن‬
‫المسائل المحالة إليه‪ ،‬استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين اإلسالمي الحنيف‪ ،‬ومقاصده السمحة"‪.‬‬
‫بهذا األساس قطع الدستور الطريق أمام المتطفلين على اإلفتاء من غير المؤهلين له‬
‫علميا وتكليفيا‪ ،‬فالفتوى بما هي إخبار عن حكم الشرع في النازلة الواقعة أو المتوقعة‪ ،‬منصب‬
‫من مناصب االجتهاد التنزيلي الذي يتطلب شروطا علمية وتكليفية وخلقية‪ ، 1‬وهذا ال يتحقق‬
‫إال عن طريق هيئة علمية مسؤولة أمام أمير المؤمنين وتحت إشرافه‪ ،‬عالمة بالشرع ومقاصده‬
‫ومستوعبة للعصر ونوائبه ومراعية لمصالح الدولة وأمنها القومي‪ ،‬وبهذا يتم دفع التعارض‬
‫المفتعل بين الفتاوي الدينية والمصالح العليا للبالد‪.‬‬
‫• األصل الثاني‪ :‬منع تأسيس األحزاب السياسية على أساس ديني حيث جاء في الفصل‬
‫‪" :7‬ال يجوز أن تؤسس األحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي‪،‬‬
‫وبصفة عامة‪ ،‬على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق اإلنسان"‪.‬‬
‫وهذا الفصل من الدستور موافق لمقاصد الدين‪ ،‬إذ أن المجال المشترك بين جميع أفراد‬
‫المجتمع‪ .‬ومنه الشأن الديني‪ .‬ال يجوز بأي حال أن يكون مجاال لالستغالل السياسي ما دامت‬
‫الدولة حافظة له‪ ،‬ألن تأسيس األحزاب على أساس المجال المشترك يفضي إلى تنازع الشرعية‬
‫التمثيلية عند تعدد األحزاب‪ ،‬وعندما يكون مجال النازع هو الدين نفسه يؤول األمر إلى مخالفة‬
‫المقاصد الكلية للدين‪ ،‬فيدعي كل طرف أحقية موقفه التأويلي االجتهادي فيتفرق الناس تبعا‬

‫‪ 1‬للتوسع في مناصب االجتهاد التنزيلي وشروطها ينظر ضوابط االجتهاد التنزيلي عبد الرزاق وورقية‪ ،‬ط‬
‫‪2003‬م‪ ،‬دار لبنان‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص‪ :40‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫لهذا التنازع فينشأ الصراع الطائفي المذموم الذي يؤدي إلى نتائج هادمة قطعا لحفظ الدين أي‬
‫لألمن الروحي للمجتمع‪ ،‬ومن ثم تهديد باقي أنواع األمن وعلى رأسها األمن القومي للبلد‪.‬‬
‫وقد تنبهت مؤسسة إمارة المؤمنين لهذا المحذور الخطير فحسمت الموقف بتحديد مجال‬
‫التنافس السياسي في المجال التدبيري الدنيوي‪ ،‬مع ضمان حفظ الدين للجميع‪ ،‬وبهذا تم حل‬
‫إشكالية العالقة بين الديني والسياسي‪.‬‬
‫وحيث إن تفادي الخلط بين الديني والسياسي ال يتحقق إال بالتمييز بين المجالين بجملة‬
‫تدابير منها القانونية‪ ،‬ومنها التنظيمية المؤسسية‪ ،‬فقد تم تعزيز ذلك بإجرائين هامين خادمين‬
‫للتمييز المذكور‪:‬‬
‫• اإلجراء األول‪ :‬يتمثل في سن قوانين تنص على تحييد الشخصيات الدينية المكلفة‬
‫بالوعظ والخطابة واإلفتاء من التدخل في األمور السياسية ذات البعد التدبيري المصلحي‬
‫والدنيوي‪ ،‬والحد من استغاللها لسلطتها الروحية والدينية في نصرة طرف من األطراف أو‬
‫تيار سياسي معين‪ ،‬مع التأكيد على حق الناس ‪ -‬ومنهم هذه الشخصيات ‪ -‬في التعبير عن آرائها‬
‫السياسية‪ ،‬ولكن ليس فوق المنبر الديني وباسم السلطة الدينية‪ ،‬وإنما بالمشاركة السياسية عبر‬
‫أحزاب غير دينية‪ ،‬في إطار الدستور والقانون‪.‬‬
‫وهنا ال بد من التنويه بالظهير الشريف الذي نص على منع األئمة والقيمين الدينيين من‬
‫التعبير عن آرائهم السياسية على منابر المساجد تفاديا الستغالل الديني في السياسي‪ ،‬مع اإلبقاء‬
‫على حقهم محفوظا في المشاركة السياسية ولكن بشرط التخلي عن صفة اإلمامة الدينية‪ ،‬حيث‬
‫نص الظهير الملكي الصادر في هذا الشأن على أنه يمنع على األئمة والخطباء وجميع‬
‫المشتغلين في المهام الدينية خالل مدة اشتغالهم‪ ،‬ممارسة أي نشاط سياسي أو نقابي‪ ،‬أو اتخاذ‬
‫أي موقف يكتسي صبغة سياسية أو نقابية أو القيام بأي عمل من شأنه وقف أو عرقلة أداء‬
‫الشعائر الدينية أو اإلخالل بشروط الطمأنينة والسكينة والتسامح واإلخاء‪ ،‬الواجبة في األماكن‬
‫المخصصة إلقامة شعائر الدين اإلسالمي"‪.1‬‬
‫• اإلجراء الثاني‪ :‬مأسسة الشأن الديني وإعادة هيكلته بما يضمن حضورا حقيقيا للعلماء‬
‫ذوي االختصاص في الجانب العلمي الديني لسد الباب أمام الفوضى في الفتاوى والمواعظ‬
‫والخطب‪ ،‬ففي كثير من األحيان ال يتوفر المتصدرون لإلفتاء والوعظ والخطابة على أية‬
‫شهادة علمية أكاديمية تؤهلهم للحديث باسم الدين‪ ،‬لذلك تراهم يسقطون فريسة لتفسيرات‬
‫التيارات المتشددة فيجنون على المجتمع الذي يعيشون فيه‪ ،‬كما يلحقون ضررا بالغا بصور‬
‫الدين الذي ينتسبون إليه‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر نص الظهير الملكي )‪ ،(2014‬رقم ‪ 1.14.104‬الصادر في ‪ 20‬ماي ‪ ،2014‬والمنشور في الجريدة الرسمية‬


‫المغربية‪ ،‬عدد ‪ 26( 6868‬يونيو ‪ ،)2014‬ص ‪.5437‬‬

‫‪9‬‬
‫ثالثا‪ :‬أهداف استراتيجية األمن الروحي‬
‫من المعلوم عند خبراء التفكير االستراتيجي أن أي استراتيجية ناجحة وناجعة ينبغي‬
‫أن تكون لها أهداف محددة بدقة‪ ،‬وهذا بالضبط ما يصدق على استراتيجية إمارة المؤمنين‬
‫التحقيق األمن الروحي للمغاربة‪ ،‬فقد حدد الخطاب الملكي المؤسس لها أهدافا واضحة خادمة‬
‫لألمن القومي للدولة المغربية على المدى الطويل فضال عن المدى القصير‪ ،‬ونذكر منها ثالثة‬
‫أهداف رئيسة‪:‬‬
‫الهدف األول‪ :‬الحفاظ على األمن الروحي للمغرب‪ ،‬ووحدة المذهب المالكي‪ :1‬هذا‬
‫الهدف هو األساس واألصل في وضع االستراتيجية‪ ،‬فاألمن الروحي يمثل جزءا كبيرا من‬
‫األمن القومي العام‪ ،‬وال يمكن ألمة لم تحسم خياراتها الروحية ولم تحافظ عليها أن تستمر‬
‫مستقرة موحدة‪ ،‬فقد أثبت التاريخ أن التردد واالضطراب واالختراق في الشأن الديني يؤدي‬
‫غالبا إلى النزاعات الطائفية التي ال تنتهي‪ ،‬فلذلك أعلن أمير المؤمنين نصره للا صراحة أن‬
‫الهدف هو حماية األمن الروحي للمغاربة‪.‬‬
‫ولما كانت الوحدة على مستوى مقتضيات هذا األمن ضرورية‪ ،‬كان التنصيص أيضا‬
‫على وحدة المذهب الذي عليه المغاربة في التعبد والتدين‪ ،‬وهو المذهب المالكي‪ ،‬وهذا ليس‬
‫من باب التعصب المذهبي بقدر ما هو من باب التمسك بثوابت الدولة الراسخة عبر التاريخ‪،‬‬
‫وهو أمر يجري به العمل في أغلب الدول المتحضرة‪ ،‬وتسمى‪" :‬قيم الدولة العليا" هذه القيم‬
‫هي تلك الثوابت العامة المؤطرة لجميع تقاليد الدولة في الجانب الدستوري واألخالقي العام‪...‬‬
‫فالتخلي عنها أو التفريط فيها مؤذن باالضطراب واالختالل في نظم الدولة العليا‪.‬‬
‫الهدف الثاني‪ :‬تأهيل الحقل الديني وتجديده‪ ،‬وتحصين المغرب من نوازع التطرف‬
‫واإلرهاب‪ ،‬والحفاظ على هويته المتميزة بالوسطية واالعتدال والتسامح ‪.2‬‬
‫وهذا الهدف مبني على استحضار المقومات التي أوردناها سابقا‪ ،‬والسيما المقوم‬
‫الدستوري‪ ،‬الذي يمنح الصالحية الكاملة إلمارة المؤمنين للقيام بكل ما من شأنه تنظيم وضبط‬
‫وهيكلة الشأن الديني ألن ذلك من اختصاصها حصرا‪ ،‬فلما كان التدين فطريا في الناس‪ ،‬وكان‬
‫المغاربة متدينين في عمومهم كان طبيعيا أن يخضع المجال الروحي للتنظيم والهيكلة ليسد‬
‫الباب أمام النوازع المتطرفة المهددة ألمن المواطنين وحياتهم‪ ،‬ويفتح أمام التسامح ومكارم‬
‫األخالق‪ ،‬كما عرف بذلك المغرب عبر تاريخه المجيد‪.‬‬

‫‪ 1‬من خطاب صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا في تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلم‬
‫وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع األول ‪ ،1425‬الموافق ل ‪ 30‬أبريل ‪ 2004‬بالدار البيضاء‪.‬‬
‫‪ 2‬من خطاب صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا في تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية‬
‫المحلية وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع األول ‪1425‬هـ‪ ،‬الموافق ل ‪ 30‬أبريل ‪2004‬م بالدار البيضاء‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الهدف الثالث‪ :‬اإلسهام العقالني الهادف لتصحيح صورة اإلسالم‪ ،‬مما لحقها من‬
‫تشويه مغرض وحمالت شرسة‪ ،‬بفعل تطرف األوغاد الضالين‪ ،‬وإرهاب المعتدين‪ ،‬الذي ال‬
‫وطن وال دين له‪ .1‬فصورة اإلسالم تعرضت إلساءة عظيمة في هذا العصر أكثر من أي عصر‬
‫مضى‪ ،‬نظرا ألن العصر عصر صورة وإعالم‪ ،‬بمجرد ما يقع فيه فعل مسيء لإلنسانية باسم‬
‫اإلسالم انتشر بسرعة الضوء في جميع بقاع العالم وسمعه الناس ورأوه في حينه‪ ،‬وأصبح‬
‫لصيقا بالدين اإلسالمي وترسخ في مخيال األمم األخرى‪ ،‬والخطير في األمر عندما تسوق هذه‬
‫الصور المشينة من قبل أناس يدعون ويزعمون أن ما قاموا به هو الدين الحق‪ ،‬فتتم المطابقة‬
‫في أذهان الناس بين هؤالء‪ .‬وهم متطرفون إرهابيون‪ .‬وبين اإلسالم وهو دين الرحمة والسالم‪.‬‬
‫فينتقل المعادون اإلسالم من اتهام تلك المجموعة المتطرفة إلى اتهام اإلسالم نفسه وهو بريء‬
‫مما يفعلون‪.‬‬
‫لذلك استحضرت إمارة المؤمنين األمانة التاريخية الملقاة عليها فجعلت من أهداف‬
‫االستراتيجية اإلسهام في تصحيح صورة اإلسالم‪ ،‬وقد حققت الكثير في هذا المسار من خالل‬
‫مؤسسات ومؤتمرات وإجراءات عملية‪...‬‬
‫رابعا‪ :‬األركان الثالثة االستراتيجية األمن الروحي بالمغرب‬
‫تم اإلعالن عن استراتيجية األمن الروحي بأركانها سنة ‪2004‬م عبر الخطاب الملكي‬
‫السامي الذي يعد مؤسسا لها‪ ،‬والذي ألقاه صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره للا‬
‫بمناسبة إعادة تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية المحلية وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع‬
‫األول ‪1425‬ه‪ ،‬الموافق ل ‪ 30‬أبريل ‪2004‬م بالدار البيضاء‪.‬‬
‫حيث جاء فيه‪" :‬وتجسيدا لما أعلنا عنه في خطاب العرش األخير‪ ،‬وخطاب ‪ 29‬ماي‬
‫‪2003‬م بالدار البيضاء‪ ،‬وما اتخذناه من إجراءات وتدابير الزمة لذلك‪ ،‬ها نحن اليوم‪ ،‬نشرع‬
‫في إرساء وتفعيل ما سهرنا على إعداده‪ ،‬من استراتيجية مندمجة وشمولية‪ ،‬متعددة األبعاد‪،‬‬
‫ثالثية األركان‪ ،‬لتأهيل الحقل الديني وتجديده‪ ،‬تحصينا للمغرب من نوازع التطرف واإلرهاب‪،‬‬
‫وحفاظا على هويته المتميزة بالوسطية واالعتدال والتسامح"‬
‫في هذا الخطاب صرح جاللته بوضوح باألركان الثالثة التي ستقوم عليها استراتيجية‬
‫إمارة المؤمنين في حفظ األمن الروحي للمغاربة‪ ،‬وهي‪ :‬الركن المؤسسي‪ ،‬والركن التأطيري‬
‫الفعال‪ ،‬عقلنة وتحديث وتوحيد التربية اإلسالمية‪.‬‬
‫الركن األول‪ :‬المؤسسي‬
‫بناء على األساس الدستوري السابق قام األساس المؤسسي على هيكلة الشأن الديني من‬
‫خالل إعادة هيكلة الوزارة الوصية على الشأن الديني وهي وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‬
‫‪ 1‬من خطاب صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا في تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية‬
‫المحلية وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع األول ‪1425‬هـ‪ ،‬الموافق ل ‪ 30‬أبريل ‪2004‬م بالدار البيضاء‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫إذ نص الخطاب الملكي على هذا الركن المؤسسي بإصالحاته‪ ،‬حيث جاء فيه‪" :‬أما الركن‬
‫المؤسسي‪ ،‬فيقوم على إعادة هيكلة وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬بإصدارنا لظهير‬
‫شريف‪ ،‬بإحداث مديرية للتعليم العتيق‪ ،‬وأخرى مختصة بالمساجد‪ ،‬وإعادة النظر في التشريع‬
‫المتعلق بأماكن العبادات‪ ،‬بما يكفل مالءمتها للمتطلبات المعمارية‪ ،‬األداء الشعائر الدينية في‬
‫جو من الطمأنينة‪ ،‬وكذا ضبط مصادر تمويلها‪ ،‬وشفافيتها وشرعيتها واستمراريتها‪.‬‬
‫وقد أمرنا بتعيين مندوبين جهويين للوزارة‪ ،‬ليسهروا على التدبير الميداني الحديث‬
‫للشؤون اإلسالمية‪ ،‬مؤكدين على إحياء مؤسسة األوقاف‪ ،‬وعقلنة تسييرها‪ ،‬لتظل وفية‬
‫‪1‬‬
‫لمقاصدها الشرعية والتضامنية االجتماعية‪ ،‬ومتنامية بإسهام المحسنين فيها‪".‬‬
‫ويبدو واضحا أن الركن المؤسسي قام على إجراءات إصالحية عملية ثالثة‪:‬‬
‫أولها‪ :‬استحداث مديريات جديدة‪ ،‬كمديرية للتعليم العتيق ومديرية المساجد‪ ...‬وهذا فيه‬
‫إشعار واضح بتثمين إمارة المؤمنين المؤسسات الشأن الديني التعليمية منه والعبادية‪...‬‬
‫ثانيها‪ :‬إعادة النظر في التشريعات المؤطرة للشأن الديني عموما ومنها تلك المتعلقة‬
‫بأماكن العبادة وضبط تمويلها‪ ،‬فبعد اإلعالن عن هذه االستراتيجية توالى إصدار الظهائر‬
‫الشريفة المنظمة للمساجد بناء وتمويال وتدبيرا وعمارة‪ ،2‬وكذلك الظهائر الشريفة المنظمة‬
‫‪3‬‬
‫المهام القيمين الدينيين وتحديد وضعياتهم‪.‬‬
‫وبهذه التشريعات السامية المواكبة أخذت المساجد موقعها داخل مؤسسات المجتمع مع‬
‫مزيد قدسية واحترام‪ ،‬مضبوطة البناء من حيث المعمار والجمالية الفنية المغربية‪ ،‬منظمة‬
‫الوظائف العبادية وفق المقاصد التعبدية المطلوبة‪ ،‬يسهر عليها قيمون دينيون متخصصون من‬
‫أئمة ومؤذنين ومرشدين ووعاظ وخطباء خريجي المعاهد المتخصصة مؤطرين بتشريع يحدد‬
‫مهامهم ويحفظ حقوقهم‪.‬‬

‫‪ 1‬من خطاب صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا في تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية‬
‫المحلية وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع األول ‪1425‬هـ‪ ،‬الموافق ل ‪ 30‬أبريل ‪2004‬م بالدار البيضاء‪.‬‬
‫‪ 2‬منها الظهير الشريف الصادر بتنفيذ القانون رقم ‪ 29.04‬القاضي بتغيير وتتميم الظهير الشريف المعتبر بمثابة‬
‫قانون رقم ‪ 1.84.150‬المتعلق باألماكن المخصصة إلقامة شعائر الدين اإلسالمي فيها‪ .‬الجريدة الرسمية عدد‬
‫‪2007/5513‬م‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬الظهير الشريف رقم ‪ 1.14.121‬الصادر في ‪ 25‬رمضان ‪1435‬هـ (‪ 23‬يوليوز ‪2014‬م) في شأن مراقبة‬
‫حالة بنايات المساجد‪ .‬الجريدة الرسمية عدد ‪2014/6276‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬ينظر الظهير الشريف رقم ‪ 1.14.121‬الصادر في ‪ 20‬رجب ‪1435‬هـ (‪ 20‬ماي ‪2014‬م) في شأن تنظيم ميام‬
‫القيمين الدينيين وتحديد وضعياتهم‪ ،‬الجريدة الرسمية عدد‪2014/6268 :‬م‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ثالثها‪ :‬توسعة التغطية اإلدارية لوزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية على مستوى جميع‬
‫جهات المملكة‪ ،‬وذلك باستحداث مندوبيات جهوية للسهر على التدبير الميداني الحديث للشؤون‬
‫‪1‬‬
‫اإلسالمية‪".‬‬
‫الركن الثاني‪ :‬التأطيري الفعال‬
‫ويقوم هذا الركن على تقوية عمل المؤسسات المكلفة بالتأطير العلمي والتوجيه‬
‫والتكوين‪ ،‬والتكوين المستمر‪ ،‬وهي أساسا تلك المؤسسات الدينية المشرفة على الجانب العلمي‬
‫في الشأن الديني وعلى تكوين وتوجيه القيمين الدينيين من مرشدين وخطباء وأئمة‪ ...‬وقد تجلى‬
‫عمل إمارة المؤمنين في هذا الركن بتقوية وإعادة تنظيم مؤسسات كانت موجودة‪ ،‬وباستحداث‬
‫مؤسسات جديدة‪ ،‬ونذكر من هذه المؤسسات على سبيل المثال‪:‬‬
‫• تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية المحلية‬
‫من أبرز التدابير التي اتخذها أمير المؤمنين أعزه للا‪ ،‬إعادة هيكلة المجلس العلمي‬
‫األعلى ووضعه تحت إشرافه‪ 2‬وتنظيم المجالس العلمية المحلية وتجديدها وتوسيع تغطيتها‬
‫الترابية‪ ،‬وذلك لتدبير الشأن الديني عن قرب‪ ،‬وذلك بتشكيلها من علماء‪ ،‬مشهود لهم باإلخالص‬
‫لثوابت األمة ومقدساتها‪ ،‬والجمع بين فقه الدين واالنفتاح على قضايا العصر‪ ،‬حاثين إياهم على‬
‫اإلصغاء إلى المواطنين‪ ،‬والسيما الشباب منهم‪ ،‬بما يحمي عقيدتهم وعقولهم من الضالين‬
‫المضلين‪ ،‬حريصين على إشراك المرأة المتفقهة في هذه المجالس‪ ،‬إنصافا لها‪ ،‬ومساواة مع‬
‫‪3‬‬
‫شقيقها الرجل‪".‬‬
‫• إحياء الرابطة المحمدية للعلماء‬
‫بناء على موقع العلماء وأثرهم في المجتمع المغربي‪ ،‬أبت إمارة المؤمنين إال أن تعتني‬
‫بهم وتشركهم في مشروع األمن الروحي الذي رسمت معالمه‪ ،‬قال جاللته في سياق عرض‬
‫أركان االستراتيجية "وفي هذا الصدد‪ ،‬أبينا إال أن يشمل إصالحنا رابطة علماء المغرب‪،‬‬
‫إلخراجها من سباتها العميق‪ ،‬وإحيائها بشكل يجعل منها جهازا متفاعال مع المجالس العلمية‪،‬‬
‫وذلك بإصدار ظهير شريف لتنظيمها وتركيبها في إطار يحمل اسمنا الشريف‪ ،‬بحيث نطلق‬

‫‪ 1‬من خطاب صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا في تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية‬
‫المحلية وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع األول ‪1425‬هـ‪ ،‬الموافق لـ ‪ 30‬أبريل ‪2004‬م بالدار البيضاء‪.‬‬
‫‪ 2‬ظهير شريف رقم ‪ 1.03.300‬صادر في ‪ 2‬ربيع األول ‪1425‬هـ (‪ 22‬أبريل ‪2004‬م) بإعادة تنظيم المجالس‬
‫العلمية‪ ،‬الجريدة الرسمية عدد ‪ 06 ،5210‬ماي ‪2004‬م‪.‬‬

‫‪ 3‬من خطاب صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا في تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية‬
‫المحلية وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع األول ‪1425‬هـ‪ ،‬الموافق ل ‪ 30‬أبريل ‪2004‬م بالدار البيضاء‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫عليها اسم الرابطة المحمدية لعلماء المغرب‪ ،‬مكونة من العلماء الموفرين‪ ،‬الذين يحظون‬
‫‪1‬‬
‫بسامي رضانا وعطفنا‪".‬‬
‫• هيكلة جامعة القرويين‬
‫في إطار الركن التأطيري أعاد جاللته تنظيم جامعة القرويين بوصفها أقدم مؤسسة‬
‫للتعليم العالي اإلسالمي في العالم‪ ،‬لتستعيد إشعاعها المعرفي ودورها الريادي الذي اضطلعت‬
‫به منذ نشأتها‪ ،‬ورغب جاللته في جعل هذه الجامعة مؤسسة علمية مرجعية للتكوين‬
‫‪2‬‬
‫المتخصص والمتميز والرصين في علوم الدين وفي تاريخ الفكر والحضارة اإلسالمية‪.‬‬
‫• إحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء األفارقة‬
‫واستكماال للركن التأطيري الفعال أيضا وبناء على أهمية الروابط الدينية والتاريخية والثقافية‬
‫التي تجمع المغرب بإفريقيا أحدث جاللته مؤسسة محمد السادس للعلماء األفارقة‪ ،‬والقصد من‬
‫ذلك توحيد جهود علماء المغرب وباقي الدول اإلفريقية لخدمة مصالح الدين اإلسالمي‪ ،‬وفي‬
‫مقدمتها التعريف بقيمه السمحة ونشره‪ ،‬وتشجيع األبحاث والدراسات في مجال الفكر والثقافة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫ورغب جاللته من خالل هذه المؤسسة تعزيز األمن الروحي المشترك بين المغرب‬
‫وباقي الدول اإلفريقية وذلك بتحصين التدين اإلفريقي من أي اختراق متوقع من المتطرفين‬
‫وحماية العقيدة اإلسالمية والوحدة الروحية للشعوب اإلفريقية من كل النزعات والتيارات‬
‫‪3‬‬
‫واألفكار التضليلية التي تمس بقدسية اإلسالم وتعاليمه ومقاصده‪.‬‬
‫الركن الثالث‪ :‬عقلنة وتحديث وتوحيد التربية اإلسالمية‬
‫لما كان التدين فطريا‪ ،‬وكانت التربية اإلسالمية ضرورية لتخريج نشء سالم العقيدة‬
‫مستقيم األخالق‪ ،‬معتزا بمواطنته وهويته المغربية‪ ،‬اقتضى األمر إعادة النظر في مناهج‬
‫ومقررات التربية الملقنة في التعليم الديني‪ ،‬وتوجيهها نحو التحضر والعمران والتعايش‪،‬‬
‫والتربية على الحقوق األساسية‪ ،‬وتلقين النشء المفهوم اإليجابي للدولة وقيم المواطنة‬
‫الصالحة‪ ،‬واحترام اآلخر‪ ،‬ومراعاة التعدد الثقافي‪.‬‬

‫‪ 1‬من خطاب صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا في تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية‬
‫المحلية وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع األول ‪1425‬هـ‪ ،‬الموافق لـ ‪ 30‬أبريل ‪2004‬م بالدار البيضاء‪.‬‬
‫‪ 2‬ظهير شريف رقم ‪ 1.15.71‬صادر في ‪ 7‬رمضان ‪1436‬هـ‪ 24 ،‬يونيو ‪2015‬م يقضي بإعادة تقيم جامعة‬
‫القرويين الجريدة الرسمية عدد ‪ 25( 6372‬يونيو ‪2015‬م)‬

‫‪ 3‬ينظر ديباجة الظهير الشريف المؤسس‪ :‬ظهير شريف رقم ‪ 1.15.75‬صادر في ‪ 7‬رمضان ‪1436‬هـ‪24 ،‬يونيو‬
‫‪ 2015‬م‪ ،‬يتعلق بإحداث مؤسسة محمد السادس العلماء األفارقة‪ .‬الجريدة الرسمية عدد ‪ 25( 6372‬يونيو‬
‫‪2015‬م)‬

‫‪14‬‬
‫لذلك صار من الالزم التعديل في بعض المقررات التعليمية وتحيينها وفق القيم الدينية‬
‫واإلنسانية المشتركة‪ ،‬لتخريج أجيال إنسانية بالمعنى الكوني للكلمة مع التربية على احت‬
‫األديان والمعتقدات ومختلف الثقافات‪ ،‬وفي هذا السياق جاء مشروع إمارة المؤمنين في ركنه‬
‫الثالث الموسوم بـ "عقلنة وتحديث وتوحيد التربية اإلسالمية" والذي كان تأسيسا استباقيا‬
‫للتحصين الفكري والتربوي ألجيال الحاضر والمستقبل من نزعات التطرف واإلرهاب‬
‫وأخطارها المهلكة‪ ،‬وقد مهد جاللته أعزه للا لذلك بالخطاب التاريخي المؤسس سنة ‪2004‬م‪،‬‬
‫حيث جاء فيه‪" :‬وعلما منا بأن الوظائف التأطيرية المنوطة بهذه الهيئات‪ ،‬ستظل صورية‪ ،‬ما‬
‫لم تقم على الركن الثالث األساس‪ ،‬المتمثل في التربية اإلسالمية السليمة‪ ،‬والتكوين العلمي‬
‫العصري‪ ،‬فإننا‪ ،‬مواصلة للجهود الرائدة التي بذلها والدنا المنعم‪ ،‬جاللة الملك الحسن الثاني‪،‬‬
‫قدس للا روحه‪ ،‬نصدر تعليماتنا لحكومتنا‪ ،‬قصد اتخاذ التدابير الالزمة‪ ،‬بأناة وتبصر‪ ،‬لعقلنة‬
‫وتحديث وتوحيد التربية اإلسالمية‪ ،‬والتكوين المتين في العلوم اإلسالمية كلها‪ ،‬في نطاق‬
‫مدرسة وطنية موحدة‪.‬‬
‫وفي هذا السياق‪ ،‬حرصنا على تأهيل المدارس العتيقة‪ ،‬وصيانة وحفظ القرآن الكريم‪،‬‬
‫وتحصينها من كل استغالل أو انحراف يمس بالهوية المغربية‪ ،‬مع توفير مسالك وبرامج‬
‫للتكوين‪ ،‬تدمج طلبتها في المنظومة التربوية الوطنية‪ ،‬وتجنب الفكر المنغلق‪ ،‬وتشجيع االنفتاح‬
‫‪1‬‬
‫على الثقافات‪".‬‬
‫خامسا‪ :‬االنعكاسات اإليجابية لالستراتيجية‬
‫من البديهي في كل استراتيجية أن تحقق ولو جزءا من نتائجها على المدى القريب‬
‫والمتوسط‪ ،‬وتسعى لتحقيق أغلب نتائجها على المدى البعيد‪ ،‬لذلك وبعد مرور حوالي ‪ 12‬سنة‬
‫على اإلعالن المؤسس لالستراتيجية الملكية لألمن الروحي من المناسب أن نسوق هنا بعضا‬
‫من االنعكاسات اإليجابية التي ظهرت وخلفت آثارا مستحسنة على األمن القومي للوطن ووحده‬
‫نسيجه المجتمعي‪ ،‬حتى أصبح العالم المتحضر يتحدث عن النموذج المغربي وجاذبيته في‬
‫مجال الصورة الصحيحة لإلسالم السمح الحنيف‪ ،‬وإذا أردنا تعداد هذه اآلثار اإليجابية لهذا‬
‫النموذج‪ ،‬فإننا سنحتاج إلى مؤلف مستقل في الموضوع ونكتفي هنا بإيراد بعضها على سبيل‬
‫اإلشارة والتقريب وليس على سبيل الحصر والتحديد‪:‬‬
‫أ‪ -‬إبراز النموذج المغربي في التدين‬
‫كان من النتائج الكبرى واآلثار المباشرة لالستراتيجية إبراز النموذج المغربي في‬
‫التدين‪ ،‬حتى غدا معروفا بين األمم األخرى بخصائصه المشعرة بالتسامح والوسطية‬
‫واالعتدال‪ ،‬وقد تم ذلك بترسيخ ثوابت هذا النموذج‪ ،‬وتثمينها عبر إعادة االعتبار للشأن الديني‬

‫‪ 1‬من خطاب صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا في تنظيم المجلس العلمي األعلى والمجالس العلمية‬
‫المحلية وذلك بتاريخ ‪ 10‬ربيع األول ‪1425‬هـ‪ ،‬الموافق لـ ‪ 30‬أبريل ‪2004‬م بالدار البيضاء‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫والعناية بالقيمين الدينيين‪ ،‬وإعطاء قيمة للرأسمال الروحي الذي تمثله تلك الثوابت‪ ،‬وتأطيرها‬
‫مؤسسيا وتشريعيا وميدانيا حتى أضحى الدين عند المغاربة داعما لتحضرهم ولتعايشهم مع‬
‫بعضهم البعض ومع غيرهم من األمم‪ ،‬وتطورت نظرة النخب المغربية للدين فهما وممارسة‪،‬‬
‫مما جعلها تستطيع التوفيق بين الهوية الدينية ومقتضياتها والحداثة وسماتها اإليجابية‪ ،‬وانعكس‬
‫هذا التوفيق الموفق أيضا على الخطط الدينية والشرعية من خطب ومواعظ وفتوى وعلى‬
‫بعض التشريعات كقانون األسرة‪ 1‬وغيره‪.‬‬
‫ب‪-‬تحقيق االستقرار الروحي واألمني‬
‫إن االستقرار والطمأنينة أو األمن بمفهومه الواسع هي غايات أي مجتمع إنساني يبحث‬
‫عن السعادة لذلك لم تقف استراتيجية أمير المؤمنين أعزه للا عند حفظ التعبد بمعناه الخاص‬
‫وإنما استطاعت أن تفتح للمغاربة أفقا واسعا في حياتهم الروحية حيث لم تجعلهم يأمنون على‬
‫دينهم وعلى أماكن عبادتهم فحسب بل جعلتهم يأمنون على الكليات الشرعية الكبرى التي عليها‬
‫مدار الوجود اإلنساني‪ :‬الدين والنفس والعقل والنسل والمال‪ .‬بعبارة أهل المقاصد‪ .‬وهي األمور‬
‫الضرورية للحياة السعيدة‪ ،‬فاالستراتيجية الملكية استثمرت الطاقة الروحية في اتجاه إيجابي‬
‫بناء‪ ،‬يروم التوفيق بين العبادة والعمارة‪ ،‬حتى إن الزائر للمغرب يتعجب من حال المغاربة في‬
‫شدة وقوة غيرتهم على دينهم واحتشادهم في المساجد واإلصرار على مكارم األخالق‪ ...‬وفي‬
‫المقابل يلحظ سعة أفقهم وانفتاحهم على الحضارة المعاصرة بتنوع ثقافاتها وفنونها‪ ،...‬وهذا‬
‫يدل أيما داللة على االنسجام الحاصل عندهم في فكرهم وسلوكهم بين التدين والتحضر‪ ،‬كما‬
‫يدل ذلك على استقرار روحي وأمني تحقق بفضل تلك االجراءات واإلصالحات التاريخية‬
‫التي قام بها أمير المؤمنين نصره للا‪.‬‬
‫وكان من نتائج هذا االستقرار وتجلياته تحصين المغرب من غوائل التطرف واالرهاب‬
‫الذي هدد وضرب دوال‪ ،‬وحطم مجتمعات بكاملها‪ ،‬وفرقها طرائق قددا‪ ،‬وأغرقها في الدماء‬
‫والقتل والفوضى‪ ،...‬فالمجتمع المغربي‪ .‬والحمد هلل‪ .‬اكتسب مناعة ذاتية فكرية وحضارية‬
‫وسلوكية ضد نزعات التطرف المقيتة‪ ،‬وقد استوعب الدروس والعبر من التاريخ ومن الواقع‬
‫الحاضر‪ ،‬فتراه متمسكا بنموذجه ومعتزا به‪ ،‬ومتشبثا بإمارة المؤمنين صاحبة المبادرة‬
‫االستراتيجية في حماية األمن الروحي للمغاربة‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر مقالي باللغة اإلسبانية‪:‬‬


‫‪Abderrazak OURKIA,"Las fuentes del Derecho Maleki y su influencia sobre el‬‬
‫‪Código de Familia de Marruecos", publicado en "Estudios e Informes sobre la‬‬
‫‪inmigración extranjera en la provincia de Jaén 2009 2011". (coordinadores):‬‬
‫‪Gloria Esteban de la Rosa y José Alfonso Menor Toribio, Editorial Comares,‬‬
‫‪2012. (pags: 340) -352 .Granada‬‬

‫‪16‬‬
‫ت‪-‬استثمار النموذج المغربي وجاذبيته‪:‬‬
‫بعد صياغة النموذج وتثبيته وتثمينه وإبرازه‪ ،‬أصبح محل جاذبية لدى مجتمعات ودول‬
‫أخرى أوروبية وإفريقية وعربية‪ ،...‬وهنا سيتخذ أبعادا طبيعية بوصفه نموذجا ناجحا‪ ،‬مما‬
‫سيكسب المغرب سمعة طيبة على المستوى الدولي في االعتدال والتسامح ومحاربة التطرف‪،‬‬
‫فسنوات قليلة بعد اإلعالن عن االستراتيجية والشروع في تنفيذها أصبحت النتائج تتوالى‬
‫مبشرة بنجاح النموذج‪ ،‬األمر الذي شهد به الخبراء األجانب‪ ،‬قال الصحفي األمريكي المرموق‬
‫‪1‬‬
‫بيني أفني ‪ Benny Avni‬في مقال له نشرته نيويورك بوست األمريكية‪" :‬كان هذا البرنامج‬
‫ناجحا حيث بات يستقطب خبراء من كل حدب وصوب ‪ -‬من نيجيريا إلى فنلندا ‪ -‬يأتون إلى‬
‫المغرب لمعرفة كيفية محاربة السكان المحليين للتطرف اإلسالمي"‪ ، 2‬وبالفعل‪ ،‬قد أقبلت‬
‫العديد من الدول على االقتداء بالمغرب في كثير من اإلجراءات اإلصالحية‪ ،‬بل ذهبت أبعد‬
‫من ذلك فتقدمت بطلب للمغرب من أجل تكوين قيميها الدينيين وفق النموذج المغربي‪ ،‬كتونس‬
‫ومالي وفرنسا ‪ ... 3‬هذه السمعة ستدفع بكثير من الدول لالستفادة من الخبرة المغربية في تنظيم‬
‫الشأن الديني‪ ،‬وعلى سبيل المثال ال الحصر سنورد بعضا منها فيما يلي‬
‫• دولة مالي‪:‬‬
‫وقد ابتدأت عملية تكوين األئمة من دولة مالي سنة ‪2013‬م حيث قدوم أول فوج من‬
‫الشباب الماليين الذين سيتلقون تكوينا في المغرب ليكونوا أئمة في مساجد جمهورية مالي‪.‬‬
‫ومعلوم أن صاحب الجاللة الملك محمد السادس أعزه للا كان قد أعلن في خطابه في‬
‫حفل تنصيب الرئيس المالي الجديد عن قرار المملكة المغربية االستجابة لطلب رئاسة‬
‫جمهورية مالي المتمثل في تكوين خمسمائة إمام في خمس دورات مدة كل دورة سنتان‪.‬‬
‫وقد كان الخطاب الملكي بهذه المناسبة واضحا في بيان المنطلقات السياقية لالستجابة للطلب‬
‫الذي قدمته جمهورية مالي من أجل تكوين القيمين الدينيين بهذا البلد‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬
‫‪ -‬العالقات التاريخية والحضارية الخاصة بين البلدين‪ ،‬وهي تمتد إلى قرون مضت كان‬
‫المغرب يمثل مرجعية روحية وعلمية وسياسية للدول اإلفريقية جنوب الصحراء‪.‬‬
‫‪ -‬الثوابت الدينية والروحية المشتركة وذلك كما ورد في الخطاب الملكي السامي‪" :‬إن‬
‫اإلسالم في المغرب وفي مالي واحد‪ ،‬ممارسة وتقاليد‪ .‬إنه إسالم متشبع بنفس القيم المبنية على‬

‫‪ 1‬يقصد برنامج تكوين القيمين الدينيين‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫‪Benny Avni. Fighting terror Bogart-style: How Morocco counters radical Islam,‬‬
‫‪New York Post. Augus 13.2015.‬‬
‫‪ 3‬ينظر نص إعالن التعاون المغربي الفرنسي في موضوع تكوين األئمة الموقع يوم ‪ 19‬شتنبر ‪2015‬م بطنجة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫الوسطية واالعتدال‪ ،‬وبنفس تعاليم التسامح واالنفتاح على األخر‪ .‬كما أنه يظل عماد الوشائج‬
‫الروحية التي تجمع على الدوام بين بلدينا" ‪.1‬‬
‫‪ -‬حرص المغرب على دعم الدول اإلفريقية الشقيقة في تحقيق أمنها الروحي واكتساب‬
‫مناعة في وجه التطرف واإلرهاب الذي بات يهدد المنطقة‪.‬‬
‫• تونس وغينيا وليبيا‬
‫وفيما يخص هذه الدول اإلفريقية الثالثة فقد توصلت وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية سنة‬
‫‪2014‬م بثالث طلبات تعاون في مجال تدبير الشأن الديني‪ ،‬ويتعلق األمر بالجهات اآلتية‪:‬‬
‫‪ -‬وزارة الشؤون الدينية بالجمهورية التونسية وموضوعها تكوين أئمة تونسيين بالمغرب‬
‫واالستفادة من الخبرة المغربية في عمارة المساجد‪.‬‬
‫‪ -‬األمانة العامة للشؤون الدينية بجمهورية غينيا كوناكري) وموضوعها طلب تكوين‬
‫أئمة غينيين بالمغرب؛‬
‫‪ -‬معهد اإلمامة والخطابة التابع لوزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بالجمهورية الليبية‬
‫ويتعلق بطلب االستفادة من دورات في مجال تدبير الشأن الديني‪.‬‬
‫وقد أعلنت وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية في بالغ لها أنه "وبعد اطالع موالنا‬
‫أمير المؤمنين صاحب الجاللة الملك محمد السادس أعز للا أمره على هذه الملتمسات تفضل‬
‫حفظه للا فأعطى أمره السامي المطاع بإخبار هذه الجهات بالموافقة المبدئية على تلبية‬
‫رغباتها‪ ،‬آمرا وزير جاللته في األوقاف والشؤون اإلسالمية باالنكباب على دراسة مختلف‬
‫الجوانب التطبيقية المتعلقة بهذه الطلبات"‪.‬‬
‫• دولة فرنسا‪:‬‬
‫فرنسا أيضا من الدول األوروبية التي تعاني من تهديدات التطرف واإلرهاب‪ ،‬فبعدما‬
‫تتبعت التجربة المغربية عن كثب‪ ،‬انجذبت إلى االستفادة من النموذج المغربي في تدبير الشأن‬
‫الديني فتقدمت بطلبها إلى المغرب من أجل هذا الغرض‪ ،‬فتم اإلعالن عن االتفاق المشترك‬
‫الذي بموجبه سيتولى المغرب تكوين أئمة لفرنسا على أن يختارهم المغرب وفق مقاييس معهد‬
‫محمد السادس لتكوين األئمة والمرشدات وبتوافق مع مساجد فرنسا وجمعيات المساجد‪.‬‬
‫وقد أشار السيد وزير األوقاف والشؤون اإلسالمية عند توقيع االتفاق إلى أن "تكوين‬
‫األئمة في المغرب ليس باألمور المستجدة‪ ،‬في حين أن تكوين األئمة في بلد مثل فرنسا يبقى‬
‫من األمور الجديدة "‪ ،‬مبرزا أن "االعتراف بأهمية تكوين األئمة هو اعتراف بالنموذج‬
‫المغربي‪ ،‬الذي ينبع من إمارة المؤمنين‪ ،‬التي هي حامية الملة والدين من كل ما يسيء إليه‬
‫والساهرة على ترقية األمور المرتبطة بالدين‪ ،‬ومواكبة ما استجدت عليه من أمور عديدة‪ ،‬منها‬

‫‪ 1‬من نص الخطاب الذي ألقاه صاحب الجاللة الملك محمد السادس‪ ،‬نصره هللا‪ ،‬يوم الخميس ‪ 19‬شتنبر ‪2013‬م‬
‫بباماكو‪ ،‬خالل حفل تنصيب الرئيس المالي الجديد فخامة السيد إبراهيم بوباكار كيتا‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ما يتعلق بتفاصيل الحضارة الحديثة وما ينبغي األجوبة عنه من أسئلة هذه الحضارة‪ ،‬ومواكبة‬
‫ما يقع من تقدم في العلوم اإلنسانية‪ ،‬ومواجهة ما وقع من تلوث في الجو السياسي ومحاولة‬
‫استغالل الدين في السياسة"‪.‬‬
‫وتنص ديباجة اإلعالن المشترك المغربي الفرنسي على " أمور مشتركة حول إرادة‬
‫تكوين جيل جديد من األئمة من أجل إسالم بعيد عن التحريف والفتنة‪ ،‬التي هي عدوة الدين‪،‬‬
‫وبعيدا عن كل ما يسيء إلى هذا الدين‪ ،‬وهي مسألة مشتركة ألن المسلمين أينما كانوا ترعاهم‬
‫إمارة المؤمنين‪ ،‬خاصة إذا كانوا من رعايا أمير المؤمنين في المغرب أو في غيره من البلدان‪".‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫حاولت في هذا المقال قدر االستطاعة بيان استراتيجية إمارة المؤمنين في حفظ األمن‬
‫الروحي للمغاربة‪ ،‬وقد تتبعت الخطب الملكية السامية من الموضوع‪ ،‬والظهائر الشريفة‬
‫المحلية االجراءات والتدابير التنفيذية لتلك االستراتيجية‪ ،‬فخلصت إلى أن أمير المؤمنين أعزه‬
‫للا قد أفصح عن استراتيجيته في حماية األمن الروحي للشعب المغربي سنة ‪2004‬م في‬
‫خطاب مؤسس مشهود‪ ،‬ومفصح عن مقومات االستراتيجية وأهدافها وأركانها‪ ،‬وأبعادها‪ ،‬وتال‬
‫ذلك اإلعالن اإلشراف على التنفيذ والتنزيل من خالل القيام بنهضة إصالحية عميقة في الشأن‬
‫الديني تناولت المؤسسات ذات الصلة‪ ،‬والتأطير بل والفكر الديني برمته‪ ،‬حيث لم تمر بضع‬
‫سنوات حتى أسفرت تلك اإلصالحات عن استقرار أمني وروحي في المغرب وقيام تموج‬
‫فريد للتدين المغربي متسم بالتسامح واالعتدال والوسطية‪ ،‬ومحل جانية لكثير من الدول لألخذ‬
‫به‪.‬‬
‫وبناء على هذا يليق بالباحثين المغاربة في هذا الشأن استثمار جانبية النموذج المغربي‬
‫من أجل ترسيخ مسلك قويم للبحث العلمي يجلي هذا النموذج ويدفع به إلحداث إصالح ديني‬
‫في العالم يحد من غلواء التطرف والعنف الذي شوه صورة اإلسالم السمح الرحيم‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫حوار الحضارات عند أمير المؤمنين*‪ :‬مرتكزات أساسية وجهود‬
‫عملية‬
‫*صاحب الجاللة محمد السادس نصره هللا‬

‫الدكتور عبد الرزاق وورقية‬


‫جامعة سيدي محمد بن عبد هللا ‪ -‬فاس‬

‫تمهيد‬
‫يتميز المغرب بخصائص جغرافية وحضارية جعلت منه على مدى تاريخه الطويل‬
‫جسر التواصل العلمي والثقافي والحضاري بين الشرق والغرب‪ .‬وقد انخرط سالطين المغرب‬
‫منذ قرون خلت في الحفاظ على هذه المكانة المتميزة للمملكة المغربية‪ ،‬وذلك بترتيب العالقات‬
‫مع الحضارات االخرى على أساس التعايش والتسامح واالستفادة المتبادلة‪ ،‬حتى إننا ال نعاني‬
‫كثيرا في العثور على بعثات علمية وثقافية من حضارات مجاورة درست في المغرب وتتلمذت‬
‫على يد علمائه في مراحل متميزة من تاريخه‪ ،‬والعكس صحيح‪ .‬كما قام ملوك المغرب ومنذ‬
‫القديم بتبادل السفارات‪ ،‬والمشاركة في المحافل الدولية‪ ،‬واإلسهام في صياغة القانون الدولي‪،‬‬
‫واالعتراف باستقالل دول كبرى‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه هذا األمر غير مستساغ عند بلدان‬
‫أخرى‪ ،‬وحفاظا على هذا الرقي الحضاري الذي بلغه المغرب سار المغفور له محمد الخامس‬
‫على النهج نفسه‪ ،‬منبها في خطاباته على األخوة اإلنسانية‪ ،‬حاثا على ضرورة التعايش بين‬
‫الثقافات‪ ،‬دون تمييز وال استعالء‪ ،‬فعلى الرغم من قيود سلطات الحماية لم يدفعه ذلك إلى‬
‫التخلي عن مبدا الحوار والتسامح‪ ،‬ولما تولى المغفور له الحسن الثاني مقاليد األمور ثبت هذه‬
‫ال خصوصية الحضارية‪ ،‬عبر براهين عملية وتاريخية وعلمية‪ ،‬فمن يتتبع خطبه وحواراته‬
‫يجدها مليئة بالحجج الدامغة‪ ،‬واإلثباتات القاطعة الدالة على أن ال خيار لألمم من غير انخراطها‬
‫في حوار إنساني على اسس متينة‪ ،‬فالصدام لن ينفع بني اإلنسان في شيء‪ ،‬وأن رابط األخوة‬
‫اآلدمية أسمى من مصالح ونزوعات ضيقة‪ ،‬وهكذا تحصل لدى المغرب رصيد ثمين‪ ،‬ومكسب‬
‫عظيم‪ ،‬يستطيع من خالله القيام بمهام جليلة في إصالح العالقات بين الحضارات‪.‬‬
‫انطالقا من هذا الرصيد النفيس‪ ،‬وبناء على أوامر القرآن الكريم بضرورة التعارف‬
‫والتعايش والحور بين بني اإلنسان‪ ،‬صاغ جاللة الملك محمد السادس نصره للا بصفته أميرا‬
‫للمؤمنين مشروعه الكبير شي قامة حوار بين الحضارات‪ ،‬على مرتكزات رئيسة منها‪:‬‬
‫المرتكز الديني‪ ،‬والجغرافي‪ ،‬والتاريخي‪ ،‬وكذا المرتكز المستقبلي واإلنساني‪ ،‬وقد سعى إلى‬
‫تحقيق المقاصد الكبرى لهذا الحوار متبعا وسائل عملية فعلية‪ ،‬حيث اتبع تصوراته وأقواله في‬

‫‪20‬‬
‫الموضوع بأفعال وخطوات واقعية للدفع بمسيرة الحوار الحضاري نحو تواصل إيجابي‪.‬‬
‫وسنحاول في هذا المقال بسط الكالم عن مرتكزات جاللته في التأسيس إلسهام المغرب في‬
‫حوار جاد بين الحضارات‪ ،‬والجهود العملية التي بذلها أعزه للا في تحقيق المقاصد النبيلة من‬
‫هذا الحوار‪ ،‬مدللين على استنتاجاتنا بمقتطفات نفيسة من الخطب والرسائل الملكية‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مرتكزات أمير المؤمنين نصره هللا في حوار الحضارات‬
‫إن مشروع أمير المؤمنين نصره للا في مجال العالقة بين الحضارات تم بناؤه على‬
‫اسس ومرتكزات ذ ات اصول متجذرة في الثقافة المغربية‪ ،‬حيث استلهم الكثير منها من‬
‫موروثنا الديني والتاريخي والجغرافي واإلنساني‪ ،‬فصاغ من تلك العناصر كلها توجها إيجابيا‬
‫في التعامل مع االخر‪ ،‬سالكا مسلك الحوار والتعايش والتسامح‪ ،‬حاثا على التمسك بالقيم النبيلة‬
‫المشتركة بين بني اإل نسان‪ ،‬وسوف نعرف فيما يلي بعض المرتكزات في مشروعه أعزه للا‬
‫كما دلت عليها خطبه ورسائله التي توجه بها إلى شعبه العزيز‪ ،‬وإلى مؤتمرات عالمية في‬
‫مناسبات عديدة‪:‬‬
‫‪ -1‬المرتكز الديني‬
‫ارتكز أمير المؤمنين محمد السادس نصره للا في مشروعه الحواري بين الحضارات‬
‫على مستندات دينية قوية‪ ،‬فمنها ما يرجع إلى النصوص النقلية الداعية إلى حوار عميق بين‬
‫الثقافات‪ ،‬وتعارف متبادل بين األمم‪ ،‬ومنها ما يرجع إلى صفته أميرا للمؤمنين‪ ،‬والتي تمنحه‬
‫الصالحية في تمثيل األمة في عالقتها مع اآلخر‪ ،‬ومنها ما يرجع إلى المشترك القيمي بين‬
‫الديانات السماوية الثالث المتمثل في المثل العليا النبيلة التي تسمو إليها األمم الراقية‪.‬‬
‫أ‪ -‬المستند النقلي‬
‫استند أمير المؤمنين نصره للا إلى المصدر األول لإلسالم الذي هو القرآن الكريم‬
‫لتجلية موقف اإلسالم الواضح في دعوته إلى التعارف والحوار بين األمم‪ ،‬وترسيخ القيم النبيلة‬
‫التي جاء بها ديننا اإلسالمي الحنيف‪ ،‬حيث ال تنفك خطبه ورسائله في الموضوع عن‬
‫االستشهاد بنصوص من كتاب للا ناصعة في الداللة على ضرورة قيام حوار بين الحضارات‬
‫من أجل تعارف أفضل‪ .‬ومن أمثلة هذا ما رامه جاللته في رسالته إلى المشاركين في الندوة‬
‫الدولية حول موضوع »الحوار بين الحضارات في عالم متغير« المنعقدة بالرباط سنة ‪2001‬م‪،‬‬
‫حيث قال أعزه للا‪» :‬إن المأمول من هذه الندوة أن توفق إلى صياغة مبادئ عامة وخالصات‬
‫موجهة لتركيز هذه الدعائم وترسيخ تلكم المفاهيم بغية نشر التالف بين الشعوب في إبراز‬
‫للعناية الفائقة التي أوالها ديننا الحنيف للتحاور بشتى أشكاله ومستلزماته وفق ما يجليه القران‬
‫الكريم وفي إلحاح على عنصر القيم وما تستوجب من أخالق بدونها ال يمكن أن يسود التعارف‬

‫‪21‬‬
‫الذي هو في منظور اإلسالم غاية اجتماعية‪ ،‬ووسيلة في الوقت نفساء لتجاوز االختالف به‬
‫‪21‬‬
‫لقوله تعالی‪ { :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}‬
‫وكلمة لتعارفوا في هذه اآلية التي استشهاد بها هي أصل عظيم في الحوار بين األمم‪،‬‬
‫فقاد ذكر للا تعالى االختالف الذي قدره على الناس حيث جعلهم شعوبا وقبائل شتى‪ ،‬وجعل‬
‫التعارف المفضي للتقارب غاية ذلك االختالف‪ ،‬وليس التفاخر المفضي للصراع‪ ،‬وإلى هذا‬
‫المعنى ذهب علماء التفسير حيث قالوا في تفسير قوله عز وجل "لتعارفوا" بمعنى‪" :‬جعلناكم‬
‫كذلك لتعارفوا ال لتفاخروا"‪.3‬‬
‫ب‪ -‬صفة أمير المؤمنين‬
‫طبقا لما جاء في دستور المملكة المغربية‪ ،4‬وبناء على المشروعية التاريخية والدينية‬
‫فجاللة الملك ‪ -‬بوصفه أميرا للمؤمنين ‪ -‬هو الذي يمثل األمة في إبداء المواقف تجاه الحضارات‬
‫األخرى‪ ،‬لذلك قام أعزه للا بمخاطبة األمم في المحافل الدولية بوصفه أميرا للمؤمنين‪،‬‬
‫وصادرت مواقفه في موضوع الحوار بين الثقافات على هذا األساس وباالستناد إلى ما يخوله‬
‫له الدين اإلسالمي بمقتضى منصب اإلمامة العظمي‪ .‬وبهذه الصفة استطاع نصره للا تصحيح‬
‫كثير من المفاهيم‪ ،‬وتوجيه األمة إلى االتجاه الصحيح‪ ،‬فارتفعت بذلك مكانة المغرب سامية‬
‫بين األمم‪ ،‬حتى أصبح وجهة كثير من الفرقاء في حل النزاعات الدولية واإلقليمية‪ ،‬ونشر السلم‬
‫في العالم‪ ،‬ونال بذلك جاللته عدة جوائز على هذه المساعي الجليلة‪.‬‬
‫ث‪ -‬المشترك القيمي بين األديان السماوية الثالث‬
‫ينطلق جاللة الملك محمد السادس نصره للا في هذا الصدد من القاعدة األساسية التي‬
‫نص عليها اإلسالم‪ ،‬وهي كون الديانات الثالث راجعة إلى أصل واحد‪ ،‬وأن العقيدة اإلسالمية‬
‫لم تفرق بين الرسل رغم اختالف اقوامهم‪ ،‬حيث أكد أعزه للا على «أن المسلمين كانوا رمز‬
‫التسامح والتعايش المرتكز على احترام أهل الكتاب‪ .‬وان هذا السلوك من جانب المسلمين ظل‬
‫سلوكا متميزا عبر العصور ألنه نابع من العقيدة اإلسالمية التي تعتبر الرساالت السماوية دينا‬
‫واحدا مصداقا لقوله عز وجل {ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن باهلل‬
‫ومالئكته وكتبه ورسله ال نفرق بين أحد من رسله}‪.5‬‬

‫‪ 1‬سورة الحجرات‪ :‬اآلية‬


‫‪ 2‬من الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في الندوة الدولية حول موضوع‪" :‬الحوار بين الحضارات‬
‫في عالم متغير" في الرباط‪ :‬الثالثاء ‪ 10‬يوليوز ‪2001‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬عبد الرحمن بن الجوزي‪ ،‬زاد المسير‪ ،‬بروة‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪ ،‬ط‪1404 ،3‬ه‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪.474‬‬
‫‪ 4‬جاء في الفصل ‪ 19‬من الدستور المغربي لسنة ‪1996‬م ما يلي‪" :‬الملك أمير المؤمنين‪ ،‬والممثل األسمى لالمه‬
‫ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها‪ ،‬وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور‪ ،‬وله‬
‫صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهبات‪ .‬وهو الضامن الستقالل البالد وحوزة المملكة في دائرة‬
‫حدودها الحقة"‬
‫‪ 5‬سورة البقرة‪ :‬اآلية ‪285‬‬

‫‪22‬‬
‫لذلك وبناء على هذا األصل المشترك بين الديانات السماوية‪ ،‬وعلى تلك القيم والفضائل‬
‫المتفق عليها فيما بينها يرى موالنا أمير المؤمنين أن (أجدر الناس بالحوار اليوم لهم الذين‬
‫يشتركون في اإليمان باهلل الواحد وبالكتب السماوية المنزلة التي أكدت كلها مسؤولية البشر‬
‫جميعا أمام خالقهم يوم الجزاء‪ ،‬ومساواتهم فيما بينهم‪ ،‬وأن للا تعالی جعلهم مختلفين شعوبا‬
‫وقبائل والوانا ولغات ليتعارفوا ال ليتناكروا‪ .‬كما أدانت تلك الكتب المقدسة الظلم والعدوان في‬
‫كل صورهما داعية إلى التأخي والتضامن في نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة‪ .‬فهذه القيم‬
‫المشتركة بين أديانا‪ ،‬كلها تمكننا إن نحن استطعنا تفعيلها في سلوكنا السياسي واالجتماعي‬
‫والثقافي‪ ،‬من أن نصنع عالما جديدا ينعم باألمن واالستقرار والتفاهم والوفاق)‪.1‬‬
‫كما أكد جاللته أعزه للا على القواعد الثابتة في عالقة األديان بالحضارات‪ ،‬والتي‬
‫تدور في مجملها على خدمة حوار األديان لتعايش الحضارات‪ ،‬وعلى انبثاق الحضارات من‬
‫العقيدة الدينية‪ ،‬وبذلك ال يليق أن يكون هناك صراع بين الثقافات بقدر ما ينبغي أن يكون هناك‬
‫تالقح وتكامل بينها‪ ،‬وفي بيان هذه القواعد يقول جاللته‪" :‬إن الحوار بين األديان هو الوجه‬
‫االخر للحوار بين الحضارات والثقافات‪ .‬وهو من مسؤولية جميع المؤمنين مثلكم بأن‬
‫الحضارات اإلنسانية لم تكن أبدا في موقع الصراع فيما بينها ألنها كانت على الدوام حضارات‬
‫متكاملة فيما بينها ومتفاعلة ومتالحقة‪ ،‬إلى حد أنه لم توجد حضارة منغلقة على ذاتها أو‬
‫مستغنية عن عطاءات الحضارات االخرى‪ .‬وإذا كانت الحضارات كلها قد انبثقت من ينبوع‬
‫العقيدة الدينية أو ما يماثلها فإن الحوار بين األديان الذي يعد خير مدخل للحوار بين الحضارات‬
‫والثقافات يستلزم انفتاح العقل والخيال‪ ،‬كما يتطلب التحلي بروح المسؤولية وقوة اإليمان‬
‫وباإلرادة القوية في مقاومة كل ما من شأنه أن يمس حريات األفراد وحقوقهم باعتبارهم ينتمون‬
‫‪2‬‬
‫إلى نفس المجموعة البشرية)‪.‬‬
‫‪ -2‬المرتكز الجغرافي‬
‫يتمتع المغرب بموقع جغرافي متميز‪ ،‬لذلك حظي ومنذ القديم بأهمية كبرى في العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬وكذا في مجال العالقات بين الحضارات المختلفة‪ ،‬فأصالة يعتبر المغرب بلدا إفريقيا‪،‬‬
‫ولكنه في الوقت ذاته بوابة إلى أوروبا‪ ،‬كما أنه امتداد لحضارة المشرق‪ ،‬وبهذه األبعاد‬
‫الجغرافي ة والحضارية المتعددة كان المغرب جسرا مهما بين الشرق والغرب من جهة‪ ،‬وبين‬
‫إفريقيا وأوروبا من جهة ثانية‪ ،‬وهذا ما أكده جاللته أعزه للا في مناسبات متعددة‪ ،‬حيث قال‬
‫في أول خطاب للعرش سنة ‪1999‬م‪" :‬وإذا كان المغرب ينتمي إلى العالم العربي واإلسالمي‬
‫فإن موقعه الجغرافي على رأس القارة اإلفريقية مطال في شماله على أوروبا وفي غربه على‬
‫أمريكا يحتم علينا متابعة سياسة والدنا المقدس المتسمة بالتفتح والحوار بتقوية روابط التعاون‬

‫‪ 1‬من خطاب جاللة الملك محمد السادس في افتتاح المجلس اإلداري لوكالة بيت مال القدس‪ ،‬مراكش اإلثنين ‪14‬‬
‫فبراير ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪ 2‬رسالة أمير المؤمنين إلى المشاركين في ملتقى حوار األديان المنعقد ببروكسيل في موضوع "سلم هللا في‬
‫العالم" يوم األربعاء ‪ 19‬دجنبر ‪2001‬م‬

‫‪23‬‬
‫مع أشقائنا األفارقة وتمتين أواصر التبادل مع أصدقائنا األوروبيين واالمريكيين بما يعود على‬
‫منطقتنا والع الم كله بالنفع والخير في إطار أخذ وعطاء مستمرين‪ ،‬وفي نطاق التقدير واالحترام‬
‫والسعي إلى أن يعم األمن والسالم"‪.1‬‬
‫وفي النداء السامي الموجه إلى الشعب المغربي بمناسبة الحملة الدولية النطالق ثقافة‬
‫السالم سنة ‪1999‬م يقول جاللته مؤكدا على أهمية الموقع الجغرافي للمغرب في إسهامه في‬
‫الحوار بين الحضارات‪" :‬والمغرب بحكم موقعه الجغرافي الذي يجعل منه ملتقى الطرق‬
‫والقارات والعقائد والثقافات وانتسابه الحضاري المتمثل في جذوره اإلفريقية وفي انتماءاته‬
‫المغاربية والعربية وعالقاته المتوسطية عليه أن يجعل من السنة الدولية لثقافة السالم مناسبة‬
‫للتركيز على قيم السلم والتضامن والتعايش والتفاهم في صلب ثقافتنا‪ ،‬وتوعية الجميع بأصولها‬
‫والعمل على تعزيز تلك القيم وترسيخها حاضرا ومستقبال‪ ،‬وذلكم هو التوجه الصحيح الذي‬
‫ينبغي أن تقوم عليه خطة العمل التي يتبناها المغرب اليوم حتى تتخذ مساعدته في تخليد السنة‬
‫الدولية لثقافة السالم معناها العميق وأثرها المجدي الجدير باإلسالم الحق ومقاصد شريعته‬
‫‪2‬‬
‫السمحة والكفيل ببناء حصون السالم في عقول البشر وقلوبهم"‬
‫إن هذا الموقع الجغرافي كما أتاح للمغرب القيام بمهمة أساسية وهي إصالح العالقة‬
‫بين الثقافات المختلفة‪ ،‬ف قد مكنه ايضا من الحفاظ داخليا على تعددية ثقافية تمتلك من الثراء‬
‫والغني الشيء الكثير‪ ،‬لذلك لم تشكل مسألة التعددية الثقافية مشكال لدى المملكة المغربية البتة‪،‬‬
‫وإنما كانت دائما مصدر التنوع اإليجابي المؤدي إلى النماء والتطور والسالم‪ .‬ولهذا السبب‬
‫ينوه جاللة المل ك بالتعدد الثقافي الذي كان وليد الموقع الجغرافي للمغرب‪ ،‬فيقول أعزه للا‪:‬‬
‫"فالموقع الجغرافي للمغرب جعله ملتقى للتعددية الثقافية والحضارية منفتحا على ثقافات‬
‫الشعوب المتوسطية خاصة‪ ،‬واألخذ بالالئق من حضاراتها دون حرج في معايشة هذه التعددية‬
‫إيمانا منه بكونها قوام غناه الحضاري‪ .‬وهذا ما مكن بلدنا من أن يضطلع بدور مهم في محيطه‬
‫الجهوي والعالمي‪ ،‬ومن أن يستجيب كلما دعي إلى دله وبكل ما في وسعه لإلسهام في أي‬
‫مبادرة دولية لتحقيق السالم والقضاء على التوتر ودعم أي مفاوض أو حوار إلحالل السلم‬
‫محل النزاع"‪.3‬‬
‫‪ -3‬المرتكز التاريخي‬
‫يعتبر تاريخ المغرب أيضا في بعض مراحله لوحات رائعة لتدبير االختالف مع اآلخر على‬
‫أساس المشترك القيمي بين الحضارات المتمثل في ترسيخ قيم التسامح والتعايش ونبذ شرور‬

‫‪ 1‬مقتطف من خطاب العرش‪ ،‬الرباط‪ :‬الجمعة ‪ 30‬يوليوز ‪1999‬م‪.‬‬


‫‪ 2‬مقتطف من النداء السامي الذي وجهه أمير المؤمنين الملك محمد السادس إلى الشعب المغربي بمناسبة له‬
‫الدولية لثقافة السالم‪ ،‬وجدة‪ :‬الثالثاء ‪ 14‬شتنبر ‪1999‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬الرسالة التي وجهها أمير المؤمنين إلى المشاركين في ملتقى حوار األديان المنعقد بروكسيل في موضوع "سلم‬
‫هللا في العالم" يوم األربعاء ‪ 19‬دجنبر ‪2001‬م‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫العدوان والتظالم‪ ،‬وقد أسهم المغرب في التالقح العلمي والحضاري بين األمم‪ ،‬وذلك بتنوير‬
‫أوربا في مراحل متقادمة بلور العلم واألخالق‪ ،‬فعبر جهود علمائه وحكامه انتشرت بعض‬
‫العلوم والمعارف التي عليها بنيت الحضارة اإلنسانية المعاصرة‪ ،‬لذلك كان المغفور له جاللة‬
‫الملك الحسن الثاني يؤكد دائما على دور المغرب في الوصل بين الحضارات حيث قال رحمه‬
‫للا‪" :‬لقد كنت دائما أرى في بلدي صلة وصل بين الحضارات والثقافات‪ ،‬وخاصة بين اإلسالم‬
‫‪1‬‬
‫والغرب"‬
‫وهكذا وفي كثير من األحيان يستند أمير المؤمنين محمد السادس نصره للا على تاريخ‬
‫المغرب وتقاليد ملوكه في ترسيخ الحوار بين الحضارات والثقافات المختلفة‪ ،‬حيث يؤكد ذلك‬
‫بقوله‪" :‬وإن التار يخ المعاصر ليسجل باعتزاز أن والدي المنعم جاللة الملك الحسن الثاني‬
‫قدس للا روحه كان رائدا في انتهاج سبل الحوار ثاقب النظر في كل مواقفه متشبثا بالقيم‬
‫الروحية واإلنسانية وتحكيمها في كل النزاعات الدولية‪ ،‬جاعال من الحوار واالعتدال والجنوح‬
‫للسلم ومناصرة الحق قو ام مذهبه في الحكم واضعا مكانته الروحية والزمنية كملك أمير‬
‫للمؤمنين في سبيل ترسيخ ثقافة الوفاق والتفاهم والتعايش بين األمم والشعوب‪ ،‬مما جعله رحمه‬
‫للا مثاال يحتذى به ومرجعا في التقريب بين األديان والحضارات والثقافات وبذل المشورة‬
‫والرأي السديد في كل المعضالت بما شهد به الجميع بمن فيهم الذين كانوا خصوما ثم اقروا‬
‫بما كان لجاللته من بعد نظر وصواب وحكمة وريادة"‪.2‬‬
‫‪ -4‬المرتكز المستقبلي‬
‫إن التدبير الحكيم لألمور هو ذلك الذي يتفادى فيه صاحبه قصر النظر‪ ،‬ويمد عينيه‬
‫إلى المستقبل البعيد‪ ،‬ألن أعمار األمم والحضارات أطول من أعمار أفرادها‪ ،3‬لذلك كان من‬
‫الحكمة تجاوز التخطيط القصير األمد الذي قد ينفع الفرد ولكن ال ينفع الحضارة البتة‪ ،‬ومن‬
‫يتأمل أقوال وخطوات موالنا أمير المؤمنين يجدها كلها حكمة وبعد نظر إلى مستقبل اإلنسانية‬
‫جمعاء ومآلها‪ ،‬فهو دائم التأكيد على أن مصير العالم مرهون بحسن تدبير العالقة بين‬
‫الحضارات اإلنسانية على أساس التعايش والسلم‪ ،‬وحل النزاعات بالطرق السلمية‪ ،‬ومواجهات‬
‫النزعات العنصرية والمتطرفة‪ ،‬وهذه النظرة المستقبلية ر بوصفها أساسا متينا لتدبير التوافق‬
‫على المستوى الوطني‪ ،‬ودعا إلى العمل بها على المستوى الدول ويدل على ذلك قوله أعزه‬
‫للا‪" :‬وسيكون على دولة األلفية الجديدة أال تكتفي بدور مهندس التوافق الوطني‪ ،‬بل عليها‬
‫أيضا أن تكون‪ ،‬وباألساس‪ ،‬منظما للحوار المثمر بين الثقافات والحضارات‪ ،‬ومن ثم عنصرا‬

‫‪ 1‬الحسن الثاني‪ :‬عبقرية االعتدال‪ ،‬حوارات مع إيريك لوران‪ ،‬تقديم صاحب الجاللة الملك محمد السادس‪ ،‬الناشر‬
‫عثمان العمير‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪ 2‬الرسالة التي وجهها أمير المؤمنين إلى المشاركين في ملتقى حوار األديان المنعقد بروكسيل في موضوع "سلم‬
‫هللا في العالم" يوم األربعاء ‪ 19‬دجنبر ‪2001‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬يقول األنثروبولوجي األمريكي رالف لنتون (‪1893‬م – ‪1945‬م)‪" :‬وللفرد عمر محدود‪ ،‬أما المجتمع والحضارة‬
‫ف مستمر ان دون تحديد‪ ،‬وهما يستمران عادة إلى عدد أطول من عمر أي فرد من أعضائها"‪ .‬ينظر‪ :‬شجرة‬
‫الحضارة‪ ،‬رالف لنتون‪ ،‬موفم للنشر‪1990 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.64-63‬‬

‫‪25‬‬
‫مكثفا لروح المواطنة على الصعيد العالمي‪ .‬هذه الروح التي تفرض على كل واحد منا أن يفكر‬
‫في مواجهة مشاكل العالم الحالي بكيفية شمولية قبل التصرف على المستوى المحلي مع الوعي‬
‫العام بطبيعة سلوكنا وانعكاساته على اآلخرين جميعهم"‪.1‬‬
‫‪ -5‬المرتكز اإلنساني‬
‫إن القيم اإلنسانية النبيلة تقتضي تضافر الجهود من أجل التفكير في مصير اإلنسان‬
‫فوق هذه األرض والسيما فيما يتعلق بالعالقات بين األمم والحضارات‪ ،‬فاستمرار األمن‬
‫والسالم والرخاء رهين بدوام التعايش بين الناس وعدم اعتداء بعضهم البعض‪ ،‬وهذا ال يتأتى‬
‫إال بحوار بين ال حضارات الكبرى في العالم يتوج بمواثيق تمنع كل إخالل بحقوق الشعوب‬
‫والثقافات المختلفة‪ ،‬وهذا بالضبط ما سعى إليه موالنا أمير المؤمنين في مناسبات عديدة حث‬
‫من خاللها على ضرورة ترسيخ ثقافة التعايش وخدمة القضايا اإلنسانية‪ ،‬ومن ذلك ما جاء في‬
‫رسالته السامية التي وجهه ا إلى المشاركين في المؤتمر الثالثين لجمعيات الهالل األحمر‬
‫والصليب األحمر العربية المنعقد بالرباط يوم الخميس ‪ 28‬يونيو ‪2001‬م‪ ،‬حيث قال أعزه للا‪:‬‬
‫"وإنه لمن دواعي ابتهاجنا واعتزازنا أن ينعقد هذا المؤتمر للمرة الثانية في المملكة المغربية‬
‫ليس فقط لما لذلك من داللة على حضور المغرب كبلد للحوار في كل الملتقيات الدولية وإسهامه‬
‫في ترسيخ ثقافة التعايش وخدمة القضايا اإلنسانية وفي مقدمتها السالم والتسامح وحوار‬
‫الحضارات واألديان‪ ،‬ولكن أيضا لما الحتضان هذا المؤتمر من تأكيد النخراط المغرب الفعلي‬
‫والجاد في كل المبادرات والمس اعي اإلنسانية النبيلة ذات التوجه التطوعي والتعبئة الجماعية‬
‫لخدمة البشرية في أي مجال من مجاالت الحياة الصحية واألمنية والوقائية وتقديم الغوث الالزم‬
‫لألفراد والجماعات المتضررة والسيما تلك التي تعاني الفاقة أو التعرض للكوارث الطبيعية‪.‬‬
‫فالمغرب من منطلق هويته الحضارية وقيمه اإلسالمية يهب ألداء واجبه تجاه هذا الواقع الذي‬
‫ال يمكن تطويق أفاته وانعكاساته المؤلمة إال بالتضامن الفعلي والتطوع التلقائي من لدن الدول‬
‫والمنظمات غير الحكومية وكل مكونات المجتمع المدني جاعال من أرضه منذ عقود من السنين‬
‫ملتقى الحوار في هذا الشأن"‪.2‬‬
‫لذلك قدم جاللته على الدوام دعمه الكريم للقضايا اإلنسانية‪ ،‬وفي مناسبات مختلفة‬
‫وحرجة كالكوارث الطبيعية والحروب‪ ،‬وذلك بالمشاركة في أعمال اإلنقاذ والتدخل لحل‬
‫النزاعات‪ ،‬وهذا يدل بوضوح على التجسيد الفعلي لمنظوره اإلنساني الحضاري‪.‬‬

‫‪ 1‬مقتطف من كلمة صاحب الجاللة الملك محمد السادس بمناسبة الحفل الذي أقامته جامعة جورج واشنطن على‬
‫شرف جاللته‪ ،‬واشنطن‪ :‬الخميس ‪ 22‬يونيو ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪ 2‬الرسالة السامية التي وجهها أمير المؤمنين إلى المشاركين في المؤتمر الثالثين لجمعيات الهالل األحمر‬
‫والصليب األحمر العربية‪ ،‬الرباط‪ :‬الخميس ‪ 28‬يونيو ‪2001‬م‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ثانيا‪ :‬بعض الجهود العملية التي بذلها أمير المؤمنين من أجل ترسيخ حوار‬
‫الحضارات‬
‫لم تكن خطابات ورسائل موالنا أمير المؤمنين مجرد أقوال‪ ،‬وإنما أيدها باألفعال العملية‬
‫في الواقع‪ ،‬حيث سعى أعزه للا عمليا إلى تحقيق هذه المقاصد النبيلة وذلك بخطوات عملية‬
‫منها‪ :‬رده على دعاة صدام الحضارات‪ ،‬ومسعاه التصحيحي لصورة اإلسالم لدى اآلخر‪ ،‬وكذا‬
‫تشجيعه للدبلوماسية الثقافية الخادمة للتقارب بين األمم المختلفة‪.‬‬
‫‪ -1‬الرد على دعاة صدام الحضارات‬
‫إن طريق الحوار بين الحضارات لم يخل أبدا من عراقيل ومشوشات تصدر عن‬
‫أصحاب النظرة الصراعية المتطرفة‪ ،‬فما أن أعلن عقالء البشرية في العقود األخيرة عن‬
‫مشروع الحوار بين الثقافات‪ ،‬حتى ظهرت محاوالت يائسة تلوح بالصدام والصراع‪ ،‬وتسعى‬
‫إلى إشعال فتيل الحروب تحت ذرائع إيديولوجية زائفة‪ .‬وقد تنبه موالنا أمير المؤمنين أعزه‬
‫للا لهذا المنزلق الخطير‪ ،‬فاستثمر أغلب خطبه ورسائله ومساعيه من أجل الرد على مثل هذه‬
‫النزعات الصدامية مبرهنا على أنها جانبت الصواب والمنطق السليم العتبارات شتى‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬إن دعاة هذه النظرية هم األعداء الحقيقيون للعقائد السماوية‪ ،‬على الرغم من محاولة‬
‫انتسابهم إليها‪ ،‬وذلك لمخالفتهم للمقاصد السامية لهذه الديانات‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إن أهداف أصحاب نظرية الصدام دنيئة حيث تتمثل في استعداء ثقافة على أخرى من‬
‫أجل إشعال فتيل النزاع وبث العنف والتطرف‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬جهل هؤالء باألصل الواحد والقيم المشتركة لألديان السماوية الثالثة الداعية إلى‬
‫التعارف بين بني البشر‪ ،‬واحترام االخوة اإلنسانية‪.‬‬
‫وهكذا يفند أعزه للا مزاعم القائلين بصدام الحضارات‪ ،‬ويعتبرها فخا ينبغي تجنبه‪،‬‬
‫ويشرح ذلك بقوله‪" :‬لقد كثر الحديث عن صدام الحضارات الذي قيل إنه سيطبع القرن الحادي‬
‫والعشرين مثلما تميز القرن التاسع عشر بالمواجهات بين القوميات والقرن العشرون بصراع‬
‫اإليديولوجيات‪ .‬إن هذا الطرح الذي تغذيه وتؤججه كل المخاوف إنما هو فخ يحاول أن يوقعنا‬
‫فيه من يرفضون مواجهة المعضلة الحقيقية التي يطرحها زمننا المعاصر زمن اإلذعان لمنطق‬
‫الهوة الروحية والفلسفية الذي ينذر بالسقوط في الكمين الذي نصبه االعداء الحقيقيون للعقيدة‬
‫سواء كانت عقيدة إسالمية أو يهودية أو مسيحية‪.‬‬
‫وإن الذين يحاولون تأليب بعضنا على البعض واستعداء ثقافة على أخرى ودين على‬
‫دين هم دعاة الظالمية والتقهقر الذين يحاولون أن ينسونا أن الديانات السماوية التي هي جميعها‬

‫‪27‬‬
‫جوهر رسالة إبراهيم الخليل عليه السالم في اإليمان باهلل الواحد األحد قد جاءت كلها برسالة‬
‫اإلنقاذ لإلنسانية والعمل على تقدمها المناهض للهمجية والعنف والتطرف"‪.1‬‬
‫‪ -2‬تصحيح صورة اإلسالم لدى األخر‬
‫إن أمير المؤمنين أعزه للا بوصفه الممثل األسمى لألمة والحامي لدينها تنبه لما تروجه‬
‫دوائر إعالمية مغرضة في العالم من تشويه لصورة اإلسالم‪ ،‬وكذا التخويف منه‪ ،‬والسيما بعد‬
‫أحداث ‪ 11‬سبتمبر األليمة حيث بذل مساعي جدية من أجل تصحيح صورة ديننا الحنيف لدى‬
‫االخر بعد التشويه الشديد الذي لقيته‪ ،‬ويالحظ المتتبع لرسائله وخطبه تلك الصورة الناصعة‬
‫التي يقدمها جاللته عن اإلسالم‪ ،‬والمفاهيم الكثيرة التي يصححها‪ ،‬والسيما تلك التصورات‬
‫الخاطئة التي ألصقت باإلسالم في السنوات األخيرة يقول جاللة الملك في خطاب العرش العام‬
‫‪2000‬م‪" :‬وباعتبارنا أميرا للمؤمنين فقد اولينا عناية خاصة لنصرة قضايا اإلسالم والمسلمين‬
‫وتصحيح صورة اإلسالم لدى األخر وبيان حقيقته السمحة المعتدلة والسلمية"‬
‫وفي سياق بيان أبرز المهام المنوطة بالمجالس العلمية والمتعلقة بتصحيح صورة‬
‫اإلسالم يقول جاللة الملك محمد السادس نصره للا وهو يلقي خطابا أمام المجلس العلمي‬
‫األعلى والمجالس العلمية المحلية بالدار البيضاء عام ‪2004‬م‪" :‬وإننا لنتوخى من كل ذلك ليس‬
‫فقط تمكين بالدنا من إستراتيجية متناسقة كفيلة بتأهيلها لرفع كل التحديات في مجال الحقل‬
‫الديني بقيادة إمارة المؤمنين باعتبارها موحدة لألمة ورائدة لتقدمها‪ ،‬بل أيضا باإلسهام العقالني‬
‫الهادف لتصحيح صورة اإلسالم مما لحقها من تشويه مغرض وحمالت شرسة بفعل تطرف‬
‫األوغاد الضالين وإرهاب المعتدين الذي ال وطن وال دين له"‪.‬‬
‫وفي سياق دعوته األمة اإلسالمية جميعها حكاما وشعوبا إلى تصحيح صورة اإلسالم جاء في‬
‫الرسالة التي وجهها جاللة الملك محمد السادس إلى ملوك ورؤساء الدول اإلسالمية بمناسبة‬
‫حلول العام الهجري الجديد ‪1429‬هـ‪..." :‬إنها لرسالة حضارية خالدة ندعو للا تعالى أن يعيننا‬
‫جميعا على النهوض بها قيادات وشعوبا أفرادا وجماعات التصحيح صورة اإلسالم لدى اآلخر‬
‫وتبوئ أمتنا اإلسالمية المكانة الجديرة بها كخير أمة أخرجت للناس"‪.‬‬
‫‪ -3‬تشجيع الدبلوماسية الثقافية والحضارية‬
‫المقصود بالدبلوماسية الثقافية تلك األنشطة الثقافية والعلمية التي تسمح بالتعرف على‬
‫اآلخر على وجه يقع به التعارف المتبادل‪ ،‬ومن ثم الحوار الثقافي من أجل التوصل إلى التعاون‬
‫والتعايش السلمي‪.‬‬
‫وهذا التعارف الذي هو أساس ومقدمة ألي حوار ممكن بين الحضارات يحتاج إلى‬
‫تواصل ثقافي ضروري‪ ،‬وتبادل علمي و معرفي مسبق‪ ،‬وفي هذا االتجاه سعى موالنا أمير‬

‫‪ 1‬الرسالة التي وجهها أمير المؤمنين إلى المشاركين في ملتقى حوار األديان المنعقد بروكسيل في موضوع "سلم‬
‫هللا في العالم" يوم األربعاء ‪ 19‬دجنبر ‪2001‬م‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫المؤمنين بشكل عملي ومؤسساتي ؛ فمن جهة أسس مجموعة من الهيات محددا مهامها في‬
‫العمل من أجل إقامة حوار بين الحضارات‪ ،‬كمؤسسة الثقافات الثالث بإسبانيا‪ ،‬ومركز حوار‬
‫الحضارات بالشيلي‪ ،‬ومن جهة ثانية ال يفتر عن تقديم الدعم والرعاية السامية لألنشطة العلمية‬
‫والثقافية الخادمة لمسعى التقارب بين الحضارات المختلفة‪ ،‬وفيما يلي سنحاول تقديم تعريف‬
‫مقتضب ببعض هذه المؤسسات وكذا الجهود الملكية في هذا السياق‪.‬‬
‫أ‪ -‬مؤسسة الثقافات الثالث‬
‫وهي مؤسسة اسهم المغرب في تأسيسها بتعاون مع الحكومة األندلسية سنة ‪1999‬م‪،‬‬
‫واتخذت من مدينة إشبيلية مقرا لها‪ ،‬وتلقى رعاية سامية خاصة من قبل أمير المؤمنين جاللة‬
‫الملك محمد السادس نصره للا‪ ،‬وذلك من أجل جعلها جسرا عمليا لتقريب الهوة بين شعوب‬
‫البحر األبيض المتوسط‪ ،‬ونفى جميع االلتباسات المثيرة للشبهة فيما يخص العالقة بين ثقافات‬
‫المنطقة‪ ،‬حيث يقول جاللته في بيان المبدأ الحضاري الذي قامت عليه هذه المؤسسة‪" :‬وقد‬
‫تأتي قيام مؤسستنا‪ ،‬مؤسسة الثقافات الثالث واألديان الثالث لحوض المتوسط‪ ،‬انطالقا من‬
‫مبدأ الترفع المقصود عن مظاهر التخوف السائدة والتغاضي عن االلتباسات األكثر إثارة‬
‫‪1‬‬
‫للشبهة"‬
‫كما يشيد جاللته بالدور الذي قامت به مؤسسة الثقافات الثالث في دحض نظرية صدام‬
‫الحضارات من جهة‪ ،‬ونفي القطيعة المزعومة بين األمم من جهة ثانية‪ ،‬وفي هذا الصدد يقول‬
‫أعزه للا‪" :‬لقد كانت مؤسستنا رائدة ألكثر من سبب‪ ،‬ذلك أنها كانت محقة وسباقة إلى توقع‬
‫إثارة الجدل الزائف حول الصدام المزعوم للحضارات‪ .‬كما بادرت قبل األوان إلى بلورة الرد‬
‫المناسب على أنصار نظرية االنكفاء على الذات والقائلين بوجود قطيعة روحية بين‬
‫الشعوب"‪.2‬‬
‫ب‪ -‬مركز محمد السادس لحوار الحضارات بالشيلي‬
‫هذه أيضا مؤسسة ثقافية وحضارية أسسها أمير المؤمنين نصره للا في دولة الشيلي‬
‫حيث أعطى أمر السامي لبناء هذا المركز على نفقته الخاصة أثناء زيارته للشيلي عام ‪2004‬م‪.‬‬
‫ويمثل هذا المركز جسر حوار الحضارات بين المغرب وأمريكا الالتينية‪ ،‬ويخصص نشاطاته‬
‫للتعريف باإل سالم والتقريب بين الديانات المختلفة‪ ،‬وهذا يدل على البعد الدولي لجهود موالنا‬
‫أمير المؤمنين المنصور باهلل في ترسيخ الحوار بين الحضارات ونشر التفاهم والوئام بين‬
‫الناس‪.‬‬
‫ج‪ -‬دعم األنشطة الثقافية والعلمية الخادمة لحوار الحضارات‪.‬‬

‫‪ 1‬الرسالة الملكية السامية‪ ،‬التي وجهها أمير المؤمنين إلى المشاركين في اجتماع مجلس إدارة مؤسسة الثقافات‬
‫الثالث واألديان الثالث لحوض المتوسط‪ ،‬بمناسبة ذكرى تأسيسها العاشرة‪.‬‬
‫‪ 2‬نفس الرسالة الملكية‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫ومن أجل استكمال جهوده العملية المبذولة إلقامة حوار جاد بين الثقافات‪ ،‬وتجسيدا‬
‫لرؤيته المستنيرة في مجال العالقة بين الحضارات يقدم جاللة الملك دعمه الكريم لكافة‬
‫األنشطة العلمية والثقافية الخادمة للحوار والتسامح بين األمم والشعوب‪ ،‬وتحظى أغلب هذه‬
‫النشاطات بالرعاية السامية‪ ،‬ومن ذلك على سبيل المثال ال الحصر‪:‬‬
‫‪ -‬مؤتمرات حوار األديان والثقافات سواء المنعقدة بالمغرب أو خارجه‪.‬‬
‫‪ -‬مؤتمرات المنظمات اإلنسانية الدولية كالمؤتمر الثالثين لجمعيات الهالل األحمر‬
‫والصليب األحمر العربية‪ ،‬حيث أعرب جاللة الملك عن اعتزازه النعقاد "هذا المؤتمر للمرة‬
‫الثانية في المملكة المغربية‪ ،‬ليس فقط لما لذلك من داللة على حضور المغرب كبلد للحوار في‬
‫كل الملتقيات الدولية وإسهامه في ترسيخ ثقافة التعايش وخدمة القضايا اإلنسانية وفي مقدمتها‬
‫السالم والتسامح وحوار الحضارات واألديان‪ ،‬ولكن أيضا لما الحتضان هذا المؤتمر من تأكيد‬
‫االنخراط المغرب الفعلي والجاد في كل المبادرات والمساعي اإلنسانية النبيلة"‪.‬‬
‫‪ -‬أغلب التظاهرات الثقافية والعلمية الدولية المتعددة األطراف والخادمة لمقصد حوار‬
‫الحضارات‪.‬‬
‫خاتمة‬
‫إن الذي يدقق النظر في خطب ورسائل أمير المؤمنين جاللة الملك محمد السادس أعزه‬
‫للا‪ ،‬وفي جهوده ا لعملية الداعمة للحوار بين الثقافات‪ ،‬ليلحظ انها مشروع جدي وطموح‬
‫إلصالح العالقة بين الحضارات على اساس التعارف والحوار والتعايش‪ ،‬كما انها البرهان‬
‫العملي للمساعي المباركة التي يقوم بها الممثل األسمى لالمة في إبراز الصورة الناصعة لديننا‬
‫الحنيف‪ ،‬ونفي الشبه عنه ؛ فعلى مستوى خطبه ورسائله صاغ خطابا برهانيا ومتماسكا للداللة‬
‫على أهمية مسلك الحوار بين األمم‪ ،‬وبطالن ما عاداه من السبل الصراعية المضرة بمصير‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وعلى مستوى المساعي العملية جسد جاللته اإلشعاع الدولي لرؤيته الحوارية وذلك‬
‫بتأسيس مؤسسات ومراكز ودعم نشاطات تخدم هذا المسلك النبيل‪ ،‬وبهذا يستحق عمل موالنا‬
‫أمير المؤمنين كل التقدير بل التمثل واالقتداء من أجل إبراز الدور الهام لبالدنا في تحقيق‬
‫التعايش والسلم في العالم من أجل مستقبل أفضل لإلنسانية‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫دبلوماسية إمارة المؤمنين في إفريقيا‬

‫د‪ .‬هاني عبد الكريم‬


‫أستاذ باحث – الرباط‬

‫تمهيد‬
‫جاء في خطاب أمير المؤمنين جاللة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثالثة عشر‬
‫لتربعه على العرش‪ " :‬ستظل الدبلوماسية المغربية وفية لثوابتها العريقة في التعامل مع العالم‬
‫الخارجي‪ ،‬على أساس الثقة في الذات‪ ،‬واحترام الشرعية الدولية‪ ،‬وااللتزام بكل ما يعزز السلم‬
‫واألمن الدوليين‪ ،‬ومناصرة القضايا العادلة‪ ،‬وتقوية التعاون الدولي في كل مجاالته" ويقول‬
‫الدكتور عبد الهادي التازي إن "الحديث عن الدبلوماسية في المغرب هو في حقيقة األمر حديث‬
‫عن التاريخ الدولي لبالد اإلسالم‪ "1‬على اعتبار أنه يوجد بالمغرب ثابت ديني ال يوجد في‬
‫غيره‪ ،‬وهو إمارة المؤمنين التي في مقدمة التزاماتها بكليات الشرع حماية الملة والدين‪ ،‬وهذا‬
‫ما جعل المغرب يتمتع بمقومات مؤسساتية لتحصين ثوابته التي تشكل جوامع مشتركة مع‬
‫البلدان اإلفريقية‪.2‬‬
‫ومن هذا المنطلق يأت ي البحث في دور دبلوماسية إمارة المؤمنين في تعزيز العالقات‬
‫المغربية اإلفريقية في أفق تحقيق المعجزة اإلفريقية المنشودة‪ ،3‬فإمارة المؤمنين عملت على‬
‫توجيه دبلوماسيتها من خالل سياسة خارجية منفتحة مرتكزة على التعاون وحسن استثمار‬
‫الخصوصية المغربية واالنخراط في تعزيز شراكة خالقة للتعاون جنوب‪-‬جنوب وخاصة مع‬
‫‪4‬‬
‫الدول اإلفريقية‪".‬‬

‫‪ 1‬د‪ .‬عبد الهادي التازي" الدبلوماسية في التاريخ المغربي" مالحق التاريخ الدبلوماسي للمغرب‪ ،‬الجزء الثاني‪،‬‬
‫منشورات وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪2009 ،‬م‪ ،‬ص ‪627‬‬
‫‪ 2‬العالقات بين المغرب ودول غرب إفريقيا" كلمة السيد أحمد التوفيق‪ ،‬وزير األوقاف والشؤون اإلسالمية خالل‬
‫الدورة الثالثة واألربعون ألكاديمية المملكة المغربية‪ 10 ،‬دجنبر ‪2015‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في االجتماع الخامس والعشرين لمنتدى کرانس مونتانا‬
‫الذي افتتحت أشغاله بوم ‪ 20‬يونيو ‪2014‬م‪ ،‬بالرباط حول موضوع "العالقات جنوب‪-‬جنوب‪ :‬من خيار استراتيجي‬
‫إلى ضرورة ملحة"‪ ،‬أعرب صاحب الجاللة الملك محمد السادس‪ ،‬نصره هللا‪ ،‬عن ثقته بأن القارة اإلفريقية بما‬
‫تزخر به من موارد طبيعية متكاملة‪ ،‬وبما يتوفر عليه اإلنسان اإلفريقي من مؤهالت‪ ،‬قادرة على خلق "معجزة‬
‫إفريقية"‪.‬مؤكدا " إننا لواثقون بأن قارتنا‪ ،‬بما تزخر به من موارد طبيعية متكاملة‪ ،‬وبما يتوفر عليه اإلنسان‬
‫اإل فريقي من مؤهالت‪ ،‬لقادرة على خلق معجزة إفريقية‪ ،‬قوامها ضمان األمن واالستقرار‪ ،‬والنهوض بالتنمية‬
‫البشرية‪ ،‬وتحقيق التقدم واالزدهار لشعوبها‪".‬‬
‫‪ 4‬مونية سيلغوة‪" ،‬المغرب والفضاء اإلفريقي"‪ ،‬الدليل المغربي لالستراتيجية والعالقات الدولية‪ ،‬كتاب جماعي‬
‫صادر عن المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات االستراتيجية والدولية‪ ،‬دار النشر الرمتان ‪2012‬م‪ ،‬ص‬
‫‪.143‬‬

‫‪31‬‬
‫ويمكن رصد معالم دبلوماسية إمارة المؤمنين في إفريقيا من خالل القرارات‬
‫والمبادرات الدبلوماسية التي اتخذها ملوك المملكة المغربية لتعزيز الزخم الروحي المغربي‬
‫اإلفريقي الذي يمتد إلى أزيد من عشرة ق رون‪ ،‬وبالتالي تحقيق االنصهار الحضاري بين كل‬
‫من المغرب والدول اإلفريقية‪ ،‬الشيء الذي يؤكده استمرار الحضور الديني لألمراء‬
‫والسالطين المغاربة في القارة اإلفريقية المتمثل في عقد البيعة الشرعية بين المؤمنين في‬
‫الدول اإلفريقية وإمارة المؤمنين بالمملكة المغربية‪ ،‬ففي الخطاب الملكي بمناسبة اجتماع‬
‫المجلس العلمي األعلى بالدار البيضاء يوم ‪ 30‬أبريل ‪ ،2004‬أكد جاللة الملك محمد السادس‪،‬‬
‫نصره للا‪ ،‬على دور إمارة المؤمنين في النهوض بالشأن الديني ليس في المغرب وإنما في كل‬
‫البالد اإلسالمية‪.‬‬
‫وإذا كان العامل الجغرافي هو المحدد األساسي في توجيه السياسة الخارجية‪ ،‬فإن انتماء‬
‫المغرب جغرافيا إلفريقيا يجعل من البلدان اإلفريقية فضاء طبيعيا وامتدادا استراتيجيا كوحدة‬
‫ترابية جيوبوليتيكية بفضل الروابط الروحية والثوابت المشتركة التي تساهم في تقوية التفاعل‬
‫والتماسك بين الشعوب‪ ،‬وذلك نظرا للدور المتنامي للدبلوماسية الموازية التي تنخرط فيها‬
‫بفعالية الطرق الصوفية والزوايا والتي ال يمكن إغفالها في تاريخ المغرب مع إفريقيا‪ ،‬من‬
‫خالل توظيفها للعامل الديني في تعزيز العالقات الحضارية والسياسية المغربية اإلفريقية عبر‬
‫الدبلوماسية الروحية أو دبلوماسية الزوا يا التي تؤثر بطريقة غير مباشرة في حث الحكومات‬
‫على إصدار قرارات سياسية تحقق أهدافا سياسية معينة‪ ،‬وبذلك تتبوأ دبلوماسية إمارة المؤمنين‬
‫مكانة محورية في تعزيز أواصر الصداقة والتعاون والثقة مع الدول اإلفريقية‪ ،‬كما جاء في‬
‫خطاب العرش بتاريخ ‪ 30‬يوليوز ‪" 2004‬وبنفس الحزم والعزم‪ ،‬فإننا لم نفتأ نجعل قارتنا‬
‫اإلفريقية في صدارة سياستنا الخارجية‪ ،‬مكرسين جهودنا لتعزيز عالقاتنا مع كافة بلدانها‬
‫الشقيقة‪"...‬‬
‫وتبرز أهمية الموضوع من خالل دبلوماسية متكاملة مندمجة وفعالة واستباقية لظاهرة‬
‫اإلرهاب‪ ،‬دبلوماسية ناعمة وهادئة أكثر عمقا ووقائية من المقاربة األمنية‪ ،‬وهنا سنحاول‬
‫اإلجابة على إشكالية محورية مفادها مدى مساهمة دبلوماسية إمارة المؤمنين في تبوئ المغرب‬
‫موقع القائد الجيو‪ -‬استراتيجي‪ ،‬فإلى أي حد ساهمت دبلوماسية إمارة المؤمنين في تقوية‬
‫الحضور المغربي على الساحة اإلفريقية؟ وما هي المزايا الجيواستراتيجية لتفعيل الدبلوماسية‬
‫الروحية في إفريقيا؟‬
‫وعموما سنحاول اإلجابة على هذه اإلشكالية من خالل العناصر التالية‪:‬‬
‫• مرتكزات الواجب المغربي تجاه إفريقيا كمحدد أساسي في دبلوماسية إمارة المؤمنين‪.‬‬
‫• تجليات دبلوماسية إمارة المؤمنين في عهد جاللة الملك محمد السادس نصره للا‪.‬‬
‫• األفاق الواعدة لدبلوماسية إمارة المؤمنين في إفريقيا‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫مرتكزات الواجب المغربي تجاه إفريقيا كمحدد أساسي في دبلوماسية إمارة‬
‫المؤمنين‬
‫إن الواجب المغربي تجاه إفريقيا يجد تبريره في الوحدة الدينية والمذهبية والتواصل‬
‫الروحي والوجداني المتجذر بين مؤسسة إمارة المؤمنين وشعوب غرب ووسط إفريقيا عبر‬
‫طرقها الصوفية‪ ،‬لقد اقترن التطور التاريخي للمغرب بالمرجعية الدينية للسلطة المتمثلة في‬
‫إمارة المؤمنين بمقاصدها الشرعية‪ 1‬وغاياتها السامية‪ ،2‬وفي عهد الدولة العلوية الشريفة‬
‫ازدادت هذه المؤسسة قوة ورسوخا وشموال ووضوحا وامتدادا حتى أضحت مؤسسة فوق‬
‫وطنية‪ ،‬وبذلك شكلت هذه المؤسسة ضمانة أساسية لتحقيق األمن الروحي للبلدان اإلفريقية‪.‬‬
‫ويتم تع الملك بوصف أمير المؤمنين دستوريا وتاريخيا‪ ،‬باعتباره حامي حمى الملة‬
‫والدين‪ ،‬وبصفته "حاكما يحكم" أما السلطات المعهودة لرئيس الحكومة والسلطات الوزارية‬
‫األخرى في مجال العالقات الدولية في سلطات ممنوحة على أساس التفويض‪ ،‬ومن ثم فللملك‬
‫سلطات واسعة في مجال السياسة الخارجية‪ ،‬وهذه المسؤولية تخوله سلطات واسعة لحماية‬
‫السيادة المغربية‪ ،‬وحرية التصرف واتخاذ المبادرات على الصعيد الخارجي‪ ،3‬كما أن الملك‬
‫يستلهم البعد الديني للحكم من تجربة الملك الوراثي‪ ،‬حيث كان الخليفة هو الممثل األسمى لألمة‬
‫تجاه األمم األخرى والمسؤول األول عن األمن الخارجي للجماعة المسلمة‪.4‬‬
‫فتاريخ العالقات المغربية اإلفريقية يعود على وجه التحديد إلى عهد الدولة المرابطية‬
‫التي نشأت في صحراء موريتانيا وامتدت إلى شمال إفريقيا بل وحتى إلى األندلس‪ ،‬حيث اتخذ‬
‫المرابطون في جيوشهم عددا كثيرا من سكان إفريقيا الغربية والوسطى الذين شاركوا في‬
‫الفتوحات اإلسالمية األولى لألندلس‪ ،‬على اعتبار أن اإلسالم انتشر في إفريقيا من المغرب‬
‫إلى السنغال ثم إلى باقي دول غرب ووسط إفريقيا (غانا ومالي والسنغال وغامبيا‪ ،)...‬وذلك‬
‫منذ أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الميالديين عبر الطرق الصوفية القادرية‬

‫‪ 1‬تتمثل المقاصد الشرعية إلمارة المؤمنين في حفظ الدين‪ ،‬حفظ العقل‪ ،‬حفظ دماء المسلمين‪ ،‬حفظ األعراض‪،‬‬
‫واألموال وسياسة المسلمين‪.‬‬
‫‪ 2‬تتمثل الغابات السامية في‪:‬‬
‫• توحيد المرجعية الدينية لألمة وحفظ الخصوصية المذهبية‪.‬‬
‫• تحقيق اإلجماع حول مفهوم موحد للمصلحة والمفسدة الشرعية‬
‫• ضمان الحقوق والحريات لجميع األفراد الذين تحت إمرة أمير المؤمنين‪.‬‬
‫• تنظيم وتأطير المجال الديني‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Radouane Alami « La place de L'islam dans la constitution 2011 », Revue‬‬
‫‪ALMANARA pour les études juridiques et Administratives, N 8, JANVIER 2025‬‬
‫‪p.p 78-81‬‬
‫‪ 4‬سعيد الصديقي "صنع السياسة الخارجية المغربية" أطروحة دكتوراه في القانون العام‪ ،‬كلية العلوم القانونية‬
‫واالقتصادية واالجتماعية بوجده‪ ،‬مارس ‪2002‬م‪ ،‬ص ‪51.‬‬

‫‪33‬‬
‫والتيجانية ‪ ، 1‬والشاذلية والسنوسية التي ساهمت في نشر اإلسالم في عموم إفريقيا الغربية‬
‫والوسطى‪ ،‬وبذلك تكرس البعد الروحي للمغرب في إفريقيا في تبني الثوابت الدينية المغربية‪،2‬‬
‫حيث امتد هذا العمق الروحي في عهد الدولة المرابطية إلى حدود من السينغال جنوبا‪ ،‬وتؤكد‬
‫مجموعة من الوثائق التاريخية عالقات الوالء التي كانت تربط بين األقطار اإلفريقية والدول‬
‫التي تعاقبت على حكم المغرب‪ ،‬وإلى يومنا هذا يمكن أن نالحظ انجذاب الطرق الصوفية‬
‫بإفريقيا (القادرية والتجانية) نحو المغرب ومدى تعلقها بإمارة المؤمنين‪.‬‬
‫وتعود الجذور التاريخية لمصطلح أمير المؤمنين إلى تحقيق المغرب الستقالله عن‬
‫الخالفة المشرقية‪ ،‬حيث أصبح يوسف بن تاشفين يلقب بأمير المغرب ثم اتخذ لنفسه لقب أمير‬
‫المسلمين وناصر الدين‪ ،‬واستمر ذلك إلى أن تولى عبد المومن الموحدي الحكم ليلقب نفسه‬
‫بالخليفة أمير المؤمنين‪ ،‬واستمر هذا اللقب مع الدولتين السعدية والعلوية‪ ،3‬وعلى اعتبار أن‬
‫مريدي وأتباع الطرق الصوفية ارتبط شيوخهم المؤسسون بروابط البيعة الشرعية مع ملوك‬
‫المغرب‪ ،‬فإن فلسفة دبلوماسية إمارة المؤمنين تكمن في استثمار الروابط الدينية والزخم‬
‫الروحي والوجداني لمؤسسة إمارة المؤمنين في رسم معالم السياسة الخارجية المغربية في‬
‫صيغتها اإلفريقية وإعادة تأسيس التوازنات الجيو‪-‬استراتيجية في منطقة الساحل وإفريقيا‬
‫الغربية على وجه الخصوص لمواجهة تحديات التنمية والتهديدات اإلرهابية التي تؤثر على‬
‫استقرار وأمن البلدان اإلفريقية‪.‬‬
‫و يمكن جرد مرتكزات الواجب المغربي تجاه إفريقيا من خالل تحليل مجموعة من‬
‫العناصر‬
‫أوال‪ :‬روابط البيعة بين إمارة المؤمنين والشعوب اإلفريقية‬
‫كانت البيعات في الدولة العلوية تنص بعناية على مسؤولية اإلمام الخليفة مع اشتراط‬
‫حفظ األمور الخمسة‪ :‬الدين والنفس والعقل والمال والعرض‪ ،4‬وكانت معلقة بجدران ضريح‬
‫موالي إدريس بفاس‪ ،‬لتكون دستورا مكتوبا يطلع عليه من شاء ليظل وفيا له‪ ،5‬وتعتبر البيعة‬

‫‪ 1‬أحمد بن محمد التجاني‪ ،‬ارتحل من مسقط رأسه (عين ماضي) وهو ابن إحدى وعشرون سنة لطلب العلم بمدينة‬
‫فاس وأصبح فقيها مالكيا ملما باألصول والفروع‪ ،‬وصار شيخا للطريقة التي تنسب إليه والتي عملت على نشر‬
‫اإلسالم في إفريقيا بوسائل سلميه تتمثل في التجارة والتعليم وبذلك شكلت الطريقة التيجانية إحدى الجسور‬
‫الروحية المثبتة والقوية بين المغرب وإفريقيا‪.‬‬
‫‪ 2‬أبو بكر القادري " الدعوة اإلسالمية في إفريقيا ونظرة على أحوال المسلمين ببعض أقطارها الغربية‪ ،‬دعوة‬
‫الحق‪ ،‬إفريقيا القارة اإلسالمية‪ :‬ماضيا وحاضرا ومستقبال‪ ،‬العدد ‪ ،269‬أبريل ‪ -‬ماي ‪1988‬م‪ ،‬ص‪.‬ص ‪160-‬‬
‫‪.193‬‬
‫‪ 3‬محمد إدريسي توراغي " إمارة المؤمنين‪ :‬دعامة لألمن الروحي" مجلة دعوة الحق‪ ،‬مطبعة المعارف الجديدة‬
‫الرباط‪ ،‬العدد ‪397‬شعبان ‪ 1431‬يوليوز ‪ ،2010‬ص ‪.26‬‬
‫‪ 4‬الدرس الحسني الذي ألقاه األستاذ أحمد التوفيق‪ ،‬وزير األوقاف والشؤون اإلسالمية بتاريخ فاتح يوليوز ‪2014‬‬
‫في موضوع خول "حماية الملة والدين وألياتها في المملكة المغربية"‪ .‬الدروس الحسنية ‪ ،1435/ 2014،‬ص‪19‬‬
‫‪ 5‬حسن السابع" تطور عقد البيعة بتطور مستجدات التزامات الدولة" البيعة والخالفة في اإلسالم‪ ،‬الدروة الثانية‪،‬‬
‫العيون‪ ،‬يوليوز ‪ ،.1994‬ص‬

‫‪34‬‬
‫بمثابة اآللية الشرعية لتولية وتنصيب أمير المؤمنين‪ ،‬وتجدر اإلشارة إلى أن البيعة في التجربة‬
‫المغربية تتميز بأنها عقد مكتوب ومشهود عليه وأنها ذات قيمة رمزية كبرى وتعطي مكانة‬
‫خاصة باالعتقاد في بركة العهد الجديد المترتب‪ ،‬في عقد ملزم‪ ،1‬كما أن عنصر النسب الشريف‬
‫جعل من البيعة رابطة وجدانية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية المعاصرة وتقدم مؤسسة‬
‫إمارة المؤمنين باعتبارها رمزا لإلمامة العظمى التي من أولوياتها حفظ الدين وسياسة الدنيا‪،‬‬
‫وفي المقابل السمع والطاعة يعززهما الوالء واالنتماء والمناصرة والتأييد امتثاال ألمر للا‬
‫‪2‬‬
‫تعالى‪.‬‬
‫على هذا األساس‪ ،‬تعتبر إمارة المؤمنين دعامة من دعائم حفظ الدين وركيزة من ركائز‬
‫حماية الوطن‪ ،‬فهي جزء ال يتجزأ من اإلسالم‪ ،‬وممارسة الحكم في ظلها ممارسة تعبدية‪،‬‬
‫وتتلخص حماية حفظ الدين في إقامة شعائره وإلزام العامة بتطبيق أحكامه‪ ،‬والدفاع عن‬
‫مصالحه والعناية بمسؤولياته في حراسة الدين وسياسة الدنيا‪ ،3‬وتحقيق األمن‪ ،‬وفي هذا السياق‬
‫يقول فضيلة األستاذ محمد يسف األمين العام للمجلس العلمي األعلى أن "لقب أمير المؤمنين‬
‫ونظام البيعة والخالفة يمثل االختيار السديد لنظام الحكم الذي أجمعت األمة على التمسك به‬
‫والعض بالنواجذ عليه‪ ،‬والتف حوله علماء الملة وفقهاء الشريعة‪ ،"4‬فإمارة المؤمنين هي‬
‫الحصن الحصين في الحفاظ على الدين وصونه ورعاية أموره‪ ،‬لذلك أوجب اإلسالم االلتفاف‬
‫حولها وطاعة ما يصدر عنها من التوجيهات‪ ،5‬فمهام أمير المؤمنين في حفظ الدين وحماية‬
‫بيضة اإلسالم والمسلمين تحققت وفق تصور قائم على احترام العبادات‪ ،‬وتأهيل المؤسسات‬
‫ورسم اآلليات الخادمة للثوابت والمقدسات‪ ،6‬ولتأكيد استمرارية هذه الخصوصية تمت دسترة‬
‫هذه المؤسسة في مختلف الدساتير المغربية بما في ذلك دستور ‪ 2011‬الذي نص في الفصل‬
‫‪ 41‬منه على أن "الملك هو أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة‬
‫الشؤون الدينية"‪ ،‬كما أن رعاية الشأن الديني يندرج في صلب صالحيات أمير المؤمنين حيث‬
‫ينص الفصل ‪ 5‬من دستور ‪ 2011‬على " أن اإلسالم دين الدولة ‪ ،‬والدولة تضمن لكل واحد‬
‫جربة ممارسة شؤونه الدينية‪".‬‬

‫‪1‬‬
‫‪http://habous.gov.ma/2012-01-26-16-09-45.html?limitstart‬‬
‫‪ 2‬إبراهيم صالح الحسيني "مكانة أولي األمر في اإلسالم" ضمن كتاب "الدروس الحسنية" منشورات وزارة‬
‫األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬دار أبي رقراق للطباعة والنشر‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2008‬ص ‪.77‬‬
‫‪ 3‬يظهر ذلك جليا من خالل مقتضيات الفصل ‪ 42‬من دستور ‪ 2011‬الذي ينص على أن "الملك رئيس الدولة‪،‬‬
‫وممثلها األسمى‪ ،‬ورمز وحدة األمة‪ ،‬وضامن دوام الدولة واستمرارها‪"...‬‬
‫‪ 4‬خطب إمارة المؤمنين في الشأن الديني والنصوص المنظمة للمؤسسة العلمية منشورات المجلس العلمي األعلى‬
‫دجنبر ‪2008‬م‪ .‬ص ‪16‬‬
‫‪" 5‬برنامج تأهيل أئمة المساجد في إطار خطة ميثاق العلماء"‪ ،‬اللقاء الثاني‪ ،‬السبت ‪ 16‬يناير ‪2010‬م‪ ،‬منشورات‬
‫وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬ص ‪3‬‬
‫‪ 6‬األستاذ عبد الحميد العلمي" إمارة المؤمنين وتحقيق قصد الحفاظ على الدين " دعوة الحق‪ ،‬العدد ‪ ،393‬السنة‬
‫‪ ،52‬يوليوز ‪2009‬م‪ ،‬ص ‪.130‬‬

‫‪35‬‬
‫ثانيا‪ :‬تعلق مريدي وأتباع الطرق الصوفية بشخص الملك‬
‫تعد الزيارة الملكية إلفريقيا بمثابة زيارة إمام ألمة تعتقد فيه وفي بركته ونسبه الشريف‪،‬‬
‫كما يستغل أتباع الطرق الصوفية الزيارات الملكية لتجديد بيعتهم الشرعية ألمير المؤمنين‬
‫باعتبارها بيعة روحية قبل كل شيء‪.‬‬
‫وقد تغلغلت الطرق الصوفية‪ 1‬ذات المنشأ المغربي في إفريقيا وساهمت في تأسيس نوع‬
‫من التواصل الصوفي المغربي اإلفريقي في إطار شبكة من العالقات التاريخية التي تربط بين‬
‫المغرب واألقطار اإلفريقية وخاصة غرب ووسط إفريقيا‪ ،2‬ويمثل أحد أوجه الدبلوماسية‬
‫الموازية أو الهادئة أو غير الرسمية من خالل مساهمتها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في‬
‫التأثير على صناع القرار السياسي اإلفريقي بما يحقق أهداف السياسات الخارجية‪.‬‬
‫وهكذا استمر هذا التواصل الصوفي ونما على امتداد الدول المتعاقبة على حكم‬
‫المغرب‪ ،‬وبذلك عرف هذا التواصل تطورا ملحوظا برز من خالل مجموعة من المظاهر‬
‫الروحانية التي شكلت هذه العالقات‪ ،‬من خالل إعادة بعث األدوار التربوية والروحية التي‬
‫يمكن أن تقوم بها الزوايا‪ .‬ففي لقاء سيدي شيكر الذي ضم كل متصوفي العالم‪ ،‬كان الرهان‬
‫على دور الطرق الصوفية‪ ،‬في تعزيز روابط التواصل مع العمق اإلفريقي للمغرب وبناء‬
‫عالقات جديدة تقوم على تمكين أتباع الزوايا وخاصة الطريقتين التيجانية والقادرية من أدوار‬
‫دبلوماسية تساهم في تقوية الروابط بين المغرب والدول اإلفريقية‪ ،‬وبالتالي تقوية دور هذه‬
‫الطرق كقنوات دبلوماسية غير رسمية من شأنها التأثير على الفاعل الرسمي في السياسة‬
‫الخارجية اإلفريقية ‪.3‬‬
‫وقد راهنت إمارة المؤمنين على الطرق الصوفية في الجزء الجنوبي والغربي إلفريقيا‬
‫بشكل خاص کورقة رابحة في العالقات المغربية اإلفريقية بالنظر للدور الدبلوماسي الذي تقوم‬
‫به هذه الطرق الصوفية‪ ،‬وخاصة الزاوية التيجانية في توجيه وتكييف العالقات المغربية‬
‫اإلفريقية من خالل قدرتها على التأثير السياسي واالنتخابي في البلدان اإلفريقية‪.‬‬

‫‪ 1‬الطرق الصوفية مدارس دينية علمية تربوية سلوكية‪ ،‬ظهرت كتنظيمات سلوك جماعي في العصور المتأخرة‪،‬‬
‫ومعظم هذه الطرق راجعة إلى أصول ثالثة‪:‬‬
‫‪ .1‬قادرية‪ :‬نسبة إلى عبد القادر الجيالني دفين بغداد؛‬
‫‪ .2‬شاذلية‪ :‬نسبة إلى أبي الحسين الشاذلي نزيل مصر ودفينها؛‬
‫‪ .3‬تجانية‪ :‬نسبة إلى أبي العباس التجاني دفين فاس‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪John O. HUNWICK « Les rapports intellectuels entre le Maroc et l’Afrique sub-‬‬
‫‪saharienne à travers les ages >> chaire du Patrimoine Maroco - Africain Série‬‬
‫‪Conférences (2) Publications de L'institut des Études Africaines 2014, p16.‬‬
‫‪ 3‬عادل مساوي " عالقات المغرب مع إفريقيا جنوب الصحراء بعد انتهاء القطبية الثنائية" أطروحة دكتوراه في‬
‫القانون العام‪ ،‬جامد محمد الخامس أكدال الرباط‪ ،‬الموسم الجامعي ‪ ،2002-2003‬ص‪ .‬ص ‪75-79‬‬

‫‪36‬‬
‫وقد جرت العادة أن يحرص ملوك المغرب على عقد لقاءات مع رموز التصوف خالل‬
‫زياراتهم المتعاقبة للدول اإلفريقية‪ ،‬دل على ذلك االستقبال الكبير الذي يخص به شيوخ وأتباع‬
‫الطريقة التيجانية في السينغال الزيارات الملكية للسينغال بحيث يحرص جاللة الملك محمد‬
‫السادس نصره للا‪ ،‬بصفته أميرا للمؤمنين منذ توليه العرش على رعاية هذه الوشائج الروحية‪،‬‬
‫خاصة العالقات مع الطرق الصوفية‪ ،‬ورعاية اللقاءات الصوفية بإفريقيا (االحتفال السنوي‬
‫الذكرى خروج الشيخ أحمد أمباكي مؤسس الطريقة المريدية إلى المنفي‪ ،‬احتفاالت المولد‬
‫النبوي الشريف بالسينغال‪)...‬‬
‫ثالثا‪ :‬مبادرات إمارة المؤمنين بإفريقيا‬
‫يمكن التمييز بين ثالث محطات أساسية في دبلوماسية إمارة المؤمنين بإفريقيا وهي‪:‬‬
‫‪-1‬منذ فجر استقالل الدول اإلفريقية التزمت المملكة المغربية بتحقيق وحدة القارة اإلفريقية‪ ،‬حيث‬
‫انخرط المغرب في تأسيس منظمة الوحدة اإلفريقية‪.‬‬
‫‪ -2‬في ثمانينات القرن العشرين انسحب المغرب من منظمة الوحدة اإلفريقية وفي المقابل تم‬
‫تعزيز العالقات الثنائية مع الدول اإلفريقية إلى مستوى شراكة حقيقية وتضامنية في إطار‬
‫مقاربة جديدة للتنمية‪.‬‬
‫‪ -3‬العودة المظفرة للمغرب إلى حظيرة االتحاد اإلفريقي كقرار منطقي جاء بعد تفكير عميق ‪.1‬‬
‫وقد خصصت دبلوماسية إمارة المؤمنين هدفا استراتيجيا للرفع من التعاون مع البلدان‬
‫اإلفريقية ليصل إلى مستوى شراكة حقيقية فاعلة وتضامنية وإعطاء دفعة قوية للتعاون جنوب۔‬
‫جنوب للمغرب مع فضائه اإلفريقي عبر سياسة التعاون التي تتكفل بها الوكالة المغربية للتعاون‬
‫الدولي‪ 2‬التي تضمن نشر ونقل التجربة والخبرة المغربية ألطر ومعاهد البلدان اإلفريقية‪،‬‬
‫باإلضافة إلى االلتزام مع عدد من الممولين (فرنسا وبلجيكا واليابان واالتحاد األوروبي‬
‫ومنظمة األمم المتحدة للتغذية والزراعة‪ ،‬إلى جانب وكاالت تنموية أخرى) من أجل تنفيذ‬
‫مشاريع كبرى في إ فريقيا وعلى الصعيد السياسي قدم المغرب دعمه لمبادرات األمم المتحدة‬
‫الرامية إلى استتباب االستقرار في إفريقيا كما لعب دورا مهما في إيجاد حل لبعض الصراعات‬
‫اإلقليمية كما هو الشأن للوساطة التي قامت بها إمارة المؤمنين والتي توجت سنة ‪2002‬‬
‫باجتماع رؤساء كل من ليبيريا وسيراليون وغينيا لتسوية خالفاتها‪ ،3‬وسبق للمغرب أن عبر‬
‫عن تضامنه مع الدول اإلفريقية في مواجهة المشاكل االقتصادية واالجتماعية اآلنية‬

‫‪ 1‬صادق البرلمان المغربي على قانون رقم ‪ 01.17‬يوافق بموجبه على القانون التأسيسي لالتحاد اإلفريقي الموقع‬
‫في "لومي بالطوغو" في ‪ 11‬يوليوز ‪ 2000‬كما تم تعديله بالبروتوكول الملحق به‪ ،‬المعتمد بأديس أبابا بإثيوبيا‬
‫في ‪ 3‬فبراير ‪ ،2003‬وبمابوتو بالموزمبيق في ‪ 11‬يوليوز ‪.2003‬‬
‫‪ 2‬تتكلف الوكالة المغربية للتعاون الدولي بـ‪ :‬تكوين األطر والتعاون التقني والتعاون االقتصادي والمالي‬
‫والمساعدات اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ 3‬حسني محمد حسن "التوجهات اإلفريقية للسياسة الخارجية المغربية" آفاق إفريقية‪ ،‬المجلد الحادي عشر‪،‬‬
‫العدد ‪ ،2013 ،38‬ص‪-‬ص ‪100-98‬‬

‫‪37‬‬
‫والمستقبلية‪ ،‬حيث ألغي جميع ديون البلدان اإلفريقية األقل نموا تجاه المملكة المغربية ورفع‬
‫كل الحواجز الجمركية عن المواد المستوردة من هذه البلدان‪.1‬‬
‫فمؤسسة إمارة المؤمنين تقوم بتثمين رمزيتها الدينية والروحية وتوظيفها في تدعيم‬
‫وتعزيز العالقات المغربية اإلفريقية وخاصة بدول الساحل وإفريقيا الغربية‪ ،‬والسيما أمام‬
‫تزايد الدول الشقيقة الراغبة في االحتذاء بالتجربة المغربية في مجال تدبير الحقل الديني على‬
‫ضوء الرؤية االستباقية والمرنة لمحاربة اإلرهاب ( يتعلق األمر بـ‪ :‬مالي وتونس‪ ،‬وغينيا‬
‫كوناكري والكوت ديفوار‪ ،‬ونيجيريا وليبيا)‪ ،‬مما يبرز الدور القيادي الرائد والطالئعي‬
‫للمشروع المغربي الديني في إفريقيا من خالل استعادته إلشعاعه الروحي في القارة اإلفريقية‬
‫والحضور المتميز للمحدد الديني ضمن المقاربة األمنية لمحاربة اإلرهاب في ترسيخ فكر‬
‫الوسطية واالعتدال وتأكيد دور إمارة المؤمنين كمؤسسة وطنية تمثل صمام األمان لنموذج‬
‫رائد يقوم على الوسطية واالعتدال في تدبير الشأن الديني اإلفريقي وتأهيله لمواجهة الغلو‬
‫والتطرف‪ ،‬وفي هذا السياق يمكن اإلشارة إلى إنشاء المجلس الوزاري المغاربي للشؤون‬
‫الدينية ‪ -‬إبان انعقاد الدورة ‪ 31‬لمجلس وزراء خارجية دول اتحاد المغرب العربي‪ :‬بالرباط‬
‫بتاريخ ‪ 05‬ماي ‪2013‬م ‪ -‬تبعا لتوصية "بيان نواكشوط"‪ 2‬الصادر عن االجتماع األول لوزراء‬
‫الشؤون الدينية لدول اتحاد المغرب العربي المنعقد بنواكشوط في ‪ 24‬شتنبر ‪2012‬م‪ ،‬والذي‬
‫تناول الوضع األمني في منطقة المغرب العربي وجوارها اإلقليمي‪ ،‬بحيث تبنى المطالب‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪ -‬ضرورة إبراز صورة اإلسالم الحقيقية مع التركيز على المنهج السني الوسطي الذي‬
‫يرفض التطرف والغلو‪.‬‬
‫‪ -‬ضرورة التحصين الفكري والثقافي للمجتمعات المغاربية عبر التشبث بالمذهب‬
‫المالكي والعقيدة الشعرية بوصفهما قاسمين مشتركين للبلدان المغاربية‪.‬‬
‫‪ -‬العمل على التنسيق بين المؤسسات الحاضنة لإلسالم في منطقة المغرب العربي‪.‬‬
‫ولعل من بين مبادرات إمارة المؤمنين بإفريقيا‪ ،‬الدعم المالي والتقني لبناء المساجد‬
‫بإفريقيا وتفريشها وصيانتها ‪ ،‬بحيث تفضل أمير المؤمنين صاحب الجاللة الملك محمد السادس‬
‫نصره للا فوافق على بناء مسجد كبير بالعاصمة التشادية أنجامينا (شهر أكتوبر‪ )2007‬إضافة‬
‫إلى بنا ء مركب ديني وثقافي بجوار المسجد‪ ،‬وبناء مسجد محمد السادس ومرافقه بمدينة‬

‫‪ 1‬رشيد العرجيوي " عشر سنوات من إنجازات أمير المؤمنين صاحب الجاللة الملك محمد السادس نصره هللا"‬
‫دعوة الحق‪ ،‬العد ‪ ،393‬السنة ‪ ،52‬يوليوز ‪ ،2009‬ص ‪.85‬‬
‫‪ 2‬بتاريخ ‪ 09‬أبريل ‪ 2013‬تم التوقيع على محضر االجتماع األول لكبار الموظفين في الوزارات المسؤولة عن‬
‫الشؤون الدينية في دول اتحاد المغرب العربي بالرباط‪ ،‬والذي وضع برنامجا تنفيذيا لتطبيق بيان نواكشوط عن‬
‫طريق برمجة ‪ 18‬اجتماعا في نطاق المجلس الوزاري المغاربي للشؤون الدينية تتعلق بعقد ندوات فكرية في‬
‫الفقه المالكي والعقيدة األشعرية وترشيد الطرق الصوفية في بلدان المغرب العربي واالهتمام بالسنة النبوية‬
‫والحديث الشريف وطباعة القرآن الكريم بروايتي ورش وقالون‪ ،‬باإلضافة إلى عقد لقاء مغاربي في مجال تكوين‬
‫الوعاظ والمرشدين‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫كوناكري (‪ 24‬فبراير ‪ ،)2017‬ليكون جاهزا في غضون ‪ 28‬شهرا‪ ،‬وكذا إصالح مسجد‬
‫السالم بياموسوکرو بجمهورية كوت ديفوار‪ ،‬باإلضافة إلى بناء مسجد محمد السادس ومرافقه‬
‫بمدينة دار السالم على قطعة أرضية مساحتها ‪ 7400‬متر مربع تابعة للمجلس األعلى للشؤون‬
‫اإلسالمية بتانزانيا (‪ 25‬أكتوبر ‪ ،)2016‬كما حرص أمير المؤمنين إبان زيارته للبلدان‬
‫اإلفريقية على أداء صالة الجمعة ببعض مساجدها‪ :‬مسجد الشورى بزنجبار بجمهورية تنزانيا‬
‫االتحادية (‪ 28‬أكتوبر ‪ ،)2016‬والمسجد الكبير بدكار بالسنغال(‪ 11‬نوفمبر ‪ ،)2016‬ومسجد‬
‫أنتسيرابي بمدغشقر (‪ 23‬نونبر ‪،) 2016‬ومسجد أنتاناناريفو بمدغشقر (‪ 25‬نونبر ‪،)2016‬‬
‫والمسجد الوطني بأبوجا بجمهورية نيجيريا(‪ 02‬دجنبر ‪ ،)2016‬ومسجد أهل السنة والجماعة‬
‫بكوناكري بالجمهورية الغينية (‪ 24‬فبراير ‪ ،)2017‬والمسجد الكبير لحي ريفيرا بأبيدجان‬
‫بجمهورية الكوت ديفوار (‪ 03‬مارس ‪ ،)2017‬وعقب صالة الجمعة تفضل أمير المؤمنين‬
‫بإهداء هبة مكونة من ‪ 10‬آالف نسخة من المصحف المحمدي ‪ -‬باإلضافة إلى نسخ مترجمة‬
‫إلى اللغة الفرنسية ‪ -‬لكل مسجد من المساجد التي أدى بها جاللته صالة الجمعة‪.‬‬
‫تجليات دبلوماسية إمارة المؤمنين في عهد جاللة الملك محمد السادس نصره‬
‫هللا‬
‫تتجلى دبلوماسية إمارة المؤمنين في عهد جاللة الملك محمد السادس نصره للا في‪:‬‬
‫‪ -‬الزيارات الملكية الميمونة للدول اإلفريقية (أوال)‬
‫‪ -‬الجانب التأطيري (ثانيا)‬
‫‪ -‬الجانب التكويني (ثالثا)‬
‫أوال‪ :‬الزيارات الملكية الميمونة للدول اإلفريقية‬
‫في كل زيارة يقوم بها أمير المؤمنين إلفريقيا يتم استقباله كقائد جديد‪ ،‬وثقت فيه شعوب‬
‫إفريقيا وقاداتها‪ ،‬يحمل آمالها وحلمها بمستقبل واعد‪ ،‬ويتقدمهم للدفاع عن مصالحهم في‬
‫المحافل الدولية‪ ،1‬ثم إن القراءة المتأنية للزيارات الملكية بالبلدان اإلفريقية تعكس النظرة‬
‫التكاملية التي طبعت كل تحركات ونشاطات جاللة الملك محمد السادس‪ ،‬نصره للا‪ ،‬خاللها‪،‬‬
‫فقد غطت كل المجاالت بلقاءاته ومباحثاته الرسمية‪ ،‬كما شكلت هذه الزيارات مناسبة لتجديد‬
‫العالقات الروحية بين المغرب ودول غرب إفريقيا‪ ،‬وتندرج الجوالت اإلفريقية التي يقودها‬
‫الملك أمير المؤمنين في عدد من البلدان اإلفريقية‪ ،‬في أفق تعزيز العالقات الثنائية‪ ،‬وعلى‬
‫رأسها عالقات التعاون الديني‪ ،‬وبذلك يقدم المغرب استراتيجية مندمجة وشاملة ومتعددة األبعاد‬

‫‪ 1‬عبد هللا بوصوف "المغرب وإفريقيا نحو آفاق جديدة لعالقات متجددة" دعوة الحق‪ ،‬العدد ‪ ،421‬السنة ‪،59‬‬
‫يونيو ‪2017‬م‪ ،‬ص ‪31‬‬

‫‪39‬‬
‫تستهدف الحفاظ على األمن الروحي اإلفريقي‪ ،‬وفي هذا السياق فإن الزيارات التي قام بها‬
‫الملك محمد السادس إلى السنغال والغابون والكوت ديفوار في مارس ‪2013‬م‪ ،‬كرست‬
‫توجهات الدبلوماسية الملكية في استثمار الخصوصية الدينية المغربية المتمثلة في ممارسة‬
‫اإلسالم الوسطي المعتدل والتمسك بالتصوف السني والمذهب المالكي والعقيدة األشعرية‬
‫كصمام أمان للحيلولة دون أي اختراق فكري من شأنه تهديد أمن القارة اإلفريقية‪.‬‬
‫وعموما فقد قام الملك محمد السادس بزيارات رسمية أو زيارات صداقة وعمل إلفريقيا‬
‫إلى كل من‪ :‬الكاميرون (‪2001‬و‪ ،)2004‬والسينغال (‪2001‬و‪ 2005‬و‪ 2006‬و‪2008‬‬
‫و)‪ ،)2013‬والغابون (‪ 2002‬و‪ 2004‬و‪ 2005‬و‪ 2006‬و‪ ،)2013‬وجنوب إفريقيا )‪،(2002‬‬
‫والبنين )‪ ،(2004‬والنيجر (‪ 2004‬و‪ ،)2005‬وبوركينافاصو )‪ ،(2006‬والكونغو )‪(2006‬‬
‫وغينيا االستوائية )‪ ،(2009‬والكوت ديفوار )‪ ،(2013‬وإلى كل من مالي وغينيا والكوت‬
‫ديفوار والغابون في فبراير ‪ ،2014‬وتمثل هذه الزيارات تجسيدا اللتزام المملكة المغربية من‬
‫‪1‬‬
‫أجل استقرار ورفاهية القارة اإلفريقية‬
‫ثانيا‪ :‬الجانب التأطيري‬
‫في هذا الجانب يمكن الحديث عن دور كل من رابطة علماء المغرب والسينغال للصداقة‬
‫والتعاون اإلسالمي ومؤسسة محمد السادس للعلماء األفارقة‬
‫• رابطة علماء المغرب والسينغال للصداقة والتعاون اإلسالمي‪.‬‬
‫تم تأسيس رابطة علماء المغرب والسنغال للصداقة والتعاون اإلسالمي ‪ -‬تحت الرعاية‬
‫السامية للمغفور له جاللة الملك الحسن الثاني وفخامة الرئيس السابق لجمهورية السنغال عبدو‬
‫ضيوف وذلك بمقر مجلس النواب مجلس النواب يوم ‪ 13‬رمضان األبرك ‪ 1405‬الموافق ل‬
‫‪ 03‬يونيو ‪ ، 1985‬وذلك بهدف إبراز التمازج الحضاري واإلنساني والتاريخي والجغرافي‬
‫والعل مي والديني الذي يربط بين شعبي المملكة المغربية وجمهورية السنغال‪ ،‬وتقوية أواصر‬
‫المودة ووشائج المحبة والتعاون بين البلدين الصديقين‪ ،‬وتقوية لحضور المملكة المغربية الديني‬
‫والروحي وإشاعة القيم اإلسالمية السمحة وتعزيز وحدة المذهب المالكي والتصوف السني‪،‬‬
‫وتدعيما لإلشعاع الديني والفكري والعلمي لبالدنا في القارة اإلفريقية‪.‬‬
‫وخالل الفترة الممتدة من ‪ 02‬إلى ‪ 04‬فبراير ‪1988‬م انعقد بالعاصمة السينغالية دكار‬
‫المؤتمر ألول لرابطة علماء المغرب والسينغال للصداقة والتعاون اإلسالمي تحت الرعاية‬
‫السامية للمغفور له الملك الحسن الثاني والرئاسة الفعلية للرئيس السينغالي السابق عبدو‬
‫ضيوف‪ ،‬مع حضور ممثلين عن بلدان إفريقية وهي نيجيريا وغامبيا وموريتانيا وتشاد وغينيا‬

‫‪ 1‬عبد الحق المريني‪ ،‬مؤرخ المملكة لمغربية‪" ،‬الزيارة الملكية السامية للجمهورية المالية" المطبعة الملكية‬
‫بالرباط‪2013 ،‬م‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪40‬‬
‫ومالي والتي عبرت عن رغبتها خالل المؤتمر في االنضمام إلى رابطة علماء المغرب‬
‫والسينغال‪.‬‬
‫• مؤسسة محمد السادس للعلماء األفارقة‬
‫تم إح داث مؤسسة محمد السادس للعلماء األفارقة بمقتضى الظهير الشريف رقم ‪1.15.75‬‬
‫الصادر في ‪ 24‬يونيو ‪ -2015‬استنادا إلى الروابط الدينية والثقافية التي تجمع المملكة المغربية‬
‫بعدد من بلدان إفريقيا‪ ،‬وبحكم ما تستوجبه الظروف الراهنة من إيجاد إطار من التعاون بين‬
‫علماء المغرب وعلماء البلدان اإلفريقية من جهة‪ ،‬وبين هؤالء العلماء بعضهم مع البعض‪ ،‬من‬
‫جهة أخرى‪ ،‬على ما يحفظ الدين من التحريف والتطرف‪ ،‬وما يجعل قيمه السمحة في خدمة‬
‫االستقرار والتنمية في هذه البلدان‪.‬‬
‫في هذا السياق جاءت مبادرة أمير المؤمنين‪ ،‬صاحب الجاللة الملك محمد السادس‪،‬‬
‫أعزه للا‪ ،‬بإحداث هذه المؤسسة‪ ،‬لتكون إطارا مؤسساتيا يضطلع فيه العلماء بمسؤولية أداء‬
‫واجبهم والقيام بأمانتهم‪ ،‬سيما وأن ما يهم بلدا إفريقيا في مجال فكرة السلم والبناء بهم بلدان‬
‫إفريقيا بأسرها‪.‬‬
‫وينص الظهير الشريف المحدث للمؤسسة على إمكانية إحداث فروع لها في مختلف البلدان‪،1‬‬
‫ويؤكد على أن إحداث تلك الفروع يتم وجوبا في مراعاة لقوانين البلد وأوضاعه‪ ،‬وينبغي أن‬
‫يفهم من هذا التأكيد أن فرع المؤسسة في بلد ما ال يمكن أن يكون بديال ألي هيئة وطنية أو‬
‫محلية رسمية أو أهلية‪ ،‬وأنه‪ ،‬إن جاز له أن يتعاون مع الجهات ذات األهداف المشابهة‪ ،‬فإنه‬
‫ملزم بالعمل بالتي هي أحسن وبإخالص وحكمة وصبر ويقظة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الجانب التكويني‬
‫يتعلق األمر بجامعة القرويين وبعض المؤسسات التابعة لها كمعهد محمد السادس‬
‫لتكوين األئمة المرشدين والمرشدات ومؤسسة دار الحديث الحسنية ومعهد محمد السادس‬
‫للقر اءات والدراسات القرآنية‪ ،‬فجامعة القرويين تشكل حلقة مهمة ومركزية في خريطة التعليم‬
‫الديني بالمغرب‪ ،‬نظرا لعراقتها وعمقها التاريخي الحضاري‪ ،‬وفي سنة ‪ 2015‬تمت إعادة‬
‫هيكلة جامعة القرويين التي توضع تحت الرعاية السامية للملك‪ ،‬وتخضع لوصاية الدولة التي‬
‫يمارسها وزير ا ألوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬وهو ما يعني دخولها في قائمة مؤسسات التعليم‬
‫العالي التابعة لجامعة القرويين في صيغتها الجديدة فهي‪:‬‬
‫• مؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط‬
‫• معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية بالرباط‬
‫• معهد محمد السادس لتكوين األئمة والمرشدين والمرشدات بالرباط‬

‫‪ 1‬أحدثت مؤسسة محمد السادس للعلماء األفارقة ‪ 32‬فرعا لها بإفريقيا‬

‫‪41‬‬
‫• المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب‬
‫• معهد الفكر والحضارة اإلسالمية بالدار البيضاء‬
‫• جامع للتعليم النهائي العتيق بفاس‬
‫‪1‬‬
‫وأضحت جامعة القرويين منوطة بالمهام التالية‪:‬‬
‫‪ -‬تكوين األئمة والمرشدين والمرشدات وتأهيلهم تأهيال معمقا‪ ،‬يمكنهم من اكتساب‬
‫المناهج والمعارف الالزمة لقيامهم بمهامهم الدينية على الوجه المطلوب‪.‬‬
‫‪ -‬إعداد برامج خاصة للتكوين والتأهيل والتكوين المستمر في مجال التأطير الديني‬
‫والسهر على تنفيذها‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية البحث العلمي في مجال الدراسات القرآنية والحديثية والعقدية والفقهية وقضايا‬
‫الفكر اإلسالمي المعاصر‪ ،‬واإلسهام في التطوير والتشجيع على القيام به‪.‬‬
‫‪ -‬اإلسهام في التعريف بالعلوم اإلسالمية وتاريخها والعمل على نشر الدراسات واألبحاث‬
‫والمصادر المتعلقة بها‪.‬‬
‫‪ -‬اإلسهام في التعريف بتاريخ المغرب وتوثيقه وإنجاز الدراسات واألبحاث المتعلقة به‪.‬‬
‫‪ -‬اإلسهام في التعريف بال تراث الفقهي اإلسالمي‪ ،‬وبالفقه المالكي منه على الخصوص‪،‬‬
‫والعناية بمصادره‪ ،‬والعمل على نشره‪.‬‬
‫‪ -‬إنجاز دارسات وأبحاث والقيام بأعمال الخبرة في مجال اختصاصها‪.‬‬
‫‪ -‬إقامة عالقات للتعاون العلمي مع الجامعات والمؤسسات والهيئات العلمية العامة‬
‫والخاصة الوطنية واألجنبية التي تسعى إلى تحقيق نفس األهداف‪.‬‬
‫ويأتي إحداث معهد محمد السادس لتكوين األئمة المرشدين والمرشدات نظرا للدور‬
‫الذي يقوم به األئمة المرشدون والمرشدات في التأطير الديني للمواطنين‪ ،‬وللحاجة الملحة إلى‬
‫تطوير أدائهم‪ ،‬والرقي بمستواهم العلمي والمعرفي‪ ،‬ورغبة في توفير تكوين متميز للقائمين‬
‫بمهمتي اإلمامة واإلرشاد بما يضمن لهم اكتساب المناهج والمعارف التي تساعدهم على القيام‬
‫بمهامهم على الوجه المطلوب‪ ،‬وصيانة األمن الروحي للمغاربة ووحدة المذهب المالكي‪.‬‬
‫وسعيا إلى فسح المجال أمام الدول الشقيقة والصديقة لالستفادة من التجربة المغربية‬
‫في مجال تكوين وتأهيل واستكمال تكوين القيمين الدينيين‪ ،2‬انخرط هذا المعهد بفعالية في‬
‫تفعيل االتفاقيات المبرمة مع دول إفريقية والمتعلقة بتكوين أئمتتها بالمغرب لالستفادة من‬

‫‪ 1‬ظهير شريف رقم ‪ ،1.15.71‬صادر في ‪ 7‬رمضان ‪1436‬هـ (‪ 24‬يونيو ‪ )2015‬الجريدة الرسمية عدد ‪-6372‬‬
‫‪ 8‬رمضان ‪ 1436‬هـ (‪ 25‬يونيو ‪ )2015‬ص ‪.5992/5991‬‬
‫‪ 2‬يتم تكوين القيمين الدينيين األجانب أو تأهيلهم أو استكمال تكوينهم في طور خاص تحدد بقرار للسلطة الحكومية‬
‫المكلفة باألوقاف والشؤون اإلسالمية‪ ،‬كيفية تنظيمه وتحديد مضمونه ومدته بحسب اختالف الحاالت المتفق‬
‫عليها مع الجهات المتقدمة بطلب التكوين‪ ،‬مع استفادة الطلبة األئمة األجانب من اإليواء والتغذية بالمعهد ومنحة‬
‫شهرية بمبلغ ‪ 2000‬درهم شهريا طيلة مدة التكوين‪ ،‬باإلضافة إلى تحمل مصاريف تذاكر سفرهم من وإلى بلدانهم‬
‫ذهابا وإيابا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫التجربة المغربية في المجال الديني لمحاربة التطرف ونبذ العنف الذي أصبح يهدد استقرار‬
‫‪2‬‬
‫الدول اإلفريقية‪( ،1‬مالي وتونس وغينيا كوناكري وتشاد ونيجيريا االتحادية والكوت ديفوار)‬
‫لتمكينهم من تكوين يؤهلهم للقيام بمهمة تبليغ أحكام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬والمذهب المالكي‬
‫والتعاليم الفقهية واألخالقية التي تنبذ كل أنواع الغلو والتطرف‪ ،‬ويرتكز تأهيل المغرب لألئمة‬
‫والمرشدين الدينيين األفارقة‪ ،‬على توفير تكوين (تأهيل) علمي وديني متنور‪ ،‬متشبع بقيم‬
‫الوسطية واالعتدال‪ ،‬وبالتالزم بين الحفاظ على الثوابت اإلسالمية‪ ،‬ونهج االجتهاد واالنفتاح‪،‬‬
‫وذلك بهدف تحصين المجتمعات اإلفريقية من نزوعات التطرف واالنحراف‪.‬‬
‫اآلفاق الواعدة لدبلوماسية إمارة المؤمنين بإفريقيا‬
‫تضمنت الرسالة الملكية الموجهة لسفراء المغرب بالعالم الذين اجتمعوا في الرباط‬
‫بمناسبة انعقاد ندوة محددات الدبلوماسية المغربية بتاريخ ‪ 30‬غشت ‪ ،2013‬دعوة صريحة‬
‫إلى تطوير العالقات الثنائية مع دول جنوب الصحراء‪ ،‬وتقوية العالقات المغربية مع المنظمات‬
‫اإلقليمية‪ ،‬وخاصة منظمات إفريقيا الغربية والوسطى‪ ،3‬ونظرا لمكانة المملكة المغربية كفاعل‬
‫ديناميكي على الساحة اإلفريقية‪ ،‬وانطالقا من االهتمام البالغ التسوية األزمات في إفريقيا‪ ،‬فإن‬
‫المغرب يؤسس دبلوماسيته الروحية على قيم التضامن والدعم الالمشروط لمجهودات البلدان‬
‫اإلفريقية الهادفة لتحقيق االستقرار والرفاه اإلفريقي من خالل‪:‬‬
‫‪ -‬دعم األمن واالستقرار (أوال)‬
‫‪ -‬دعم التنمية البشرية (ثانيا)‬
‫‪ -‬الزعامة الجيواستراتيجية (ثالثا)‪.‬‬
‫أوال‪ :‬دعم األمن واالستقرار بإفريقيا‬
‫في خطاب األمير المؤمنين جاللة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثانية عشر‬
‫لتربعه على العرش‪ ،‬أكد على أن "‪ ...‬عالقتنا مع عمقنا اإلفريقي‪ ،‬الذي يشكل مجاال لفرص‬
‫واعدة‪ .‬فإننا حريصون على نهج مقاربة متجددة‪ ،‬قائمة على التضامن‪ ،‬ومبنية على تعزيز‬
‫األمن واالستقرار‪ ،"...‬وفي جلسة باألمم المتحدة ‪ -‬يوم ‪ 30‬شتنبر ‪ 2014‬بنيويورك ‪ -‬حول‬
‫موضوع التجربة المغربية في مبدان محاربة اإلرهاب‪ ،‬وذلك في إطار الجلسات التي نظمتها‬

‫‪Charlotte Bazinet « Rabat mise sur sa diplomatie religieuse » LE MONDE, n 1‬‬


‫‪21857, samedi 25 Avril2015‬‬
‫‪« LE FAIT RELIGIEUX -débat autour d'une constante de l'identité marocaine 2‬‬
‫‪» M. AHMED TOUFIQ: Ministre des Habous et des Affaires Islamiques en‬‬
‫‪présence des nombreux Ambassadeurs et chefs de Mission Diplomatique‬‬
‫‪accrédités à RABAT, Carrefour Diplomatique, Diplomatica, N 68, 2015, p.p 46-47‬‬
‫‪ 3‬ملتقى السفراء المغاربة المعتمدين بإفريقيا حول موضوع " الدبلوماسية المغربية في إفريقيا‪ :‬مقاربة مجددة‬
‫ألولوية استراتيجية " الرباط‪ 10 ،‬غشت ‪2012‬م‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫لجنة مكافحة اإلرهاب التابعة لمجلس األمن الدولي‪ ،‬قدم وزير األوقاف والشؤون اإلسالمية‪،‬‬
‫األستاذ أحمد التوفيق المقاربة المغربية في مجال مناهضة اإلرهاب من خالل الشروط التالية‪:‬‬
‫‪ -‬إرساء المشروعية السياسية ودعمها باإلصالح في جميع الميادين؛‬
‫‪ -‬وجود مؤطرين دينيين من علماء وأئمة متكونين وواعين بمقاصد الدين ومصالح‬
‫األمة في انسجام مع شروط السلم والعلم والمعرفة؛‬
‫‪ -‬توفير الخدمات الدينية الكافية‪ ،‬بعيدا عن االستغالل اإليديولوجي‪ ،‬ومن ضمنها تأهيل‬
‫التعليم الديني‪.‬‬
‫كما جاء تطور استراتيجية المملكة المغربية في مكافحة التطرف لمواكبة التحوالت‬
‫التي يعرفها المغرب داخليا‪ ،‬وللتغييرات والتحديات التي تشهدها الساحة الدولية وخاصة الدول‬
‫اإلفريقية‪ ،‬فتجربة الدولة في محاربة التطرف الديني ساهمت في تأسيس نموذج إسالمي ذي‬
‫خصوصية مغربية‪ ،‬على اعتبار أن المغرب يتقاسم مع مجموع دول غرب إفريقيا نفس القيم‬
‫والمرتكزات الدينية والروحية‪ ،‬حيث أضحى نموذجا رائدا يحتذى به في التعايش والتسامح‪،‬‬
‫األمر الذي دفع الكثير من الدول لتقديم طلباتها لالستفادة من تجربته في المجال الديني‪ 1‬لمحاربة‬
‫التطرف و نبذ العنف الذي أصبح يهدد استقرار البلدان اإلفريقية‪.‬‬
‫وبما أن ظاهرة اإلرهاب ترتبط بالتيارات الراديكالية في كل الديانات‪ ،‬وأن أسبابها‬
‫تعود باألساس إلى االعتماد على أطروحات شاذة ومتطرفة في الخطاب الديني‪ ،‬ووعيا‬
‫بخطورة التطرف الديني انخرط المغرب منذ ‪ 13‬سنة في برنامج استباق طموح إلعادة هيكلة‬
‫الشأن الديني من خالل تنظيم وضبط المدارس القرآنية والمساجد‪ ،‬وإعداد برنامج طموح‬
‫لتكوين األئمة والمرشدين والمرشدات وفق ضوابط االعتدال والوسطية والتسامح‪ ،‬مع فسح‬
‫هذا المجال أمام الدول الشقيقة والصديقة لالستفادة من التجربة المغربية‪.‬‬
‫فمنبع اإلرهاب هو الجهل والتطرف والغلو‪ ،‬وأن الوسيلة المثلى للقضاء عليه هي تفنيد‬
‫ودحض مرجعياته وتجفيف منابعه‪ ،‬من خالل التحصين روحا وفكرا وعقيدة بالمفاهيم‬
‫اإلسالمية والعقيدة الصحيحة‪ ،‬وبالفكر السني الوسطي المعتدل باعتباره القاسم المشترك بين‬
‫دول المنطقة منذ قرون‪ ،‬التي أجمعت على األخذ بالمذهب المالكي والعقيدة األشعرية‪ ،‬حتى ال‬
‫تكون الدول اإلفريقية فريسة لمروجي األفكار المنحرفة والهدامة‪.‬‬

‫‪ 1‬يتعلق األمر بإبرام اتفاقيات بشأن تكوين األئمة بالمملكة المغربية وعلى سبيل المثال‪:‬‬
‫‪ -‬بروتوكول اتفاق بشأن تكوين األئمة بين حكومة المملكة المغربية وحكومة جمهورية مالي‪ ،‬الموقع بباماكو‬
‫بتاريخ ‪ 20‬شتنبر ‪2013‬م‪.‬‬
‫‪ -‬بروتوكول اتفاق بشأن تكوين األئمة بين وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بالمملكة المغربية ووزارة‬
‫الشؤون الدينية بالجمهورية التونسية‪ ،‬الموقع بالرباط بتاريخ ‪ 05‬شتنبر ‪2014‬م‪.‬‬
‫‪ -‬بروتوكول اتفاق بشأن تكوين األئمة بين وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بالمملكة المغربية واألمانة العامة‬
‫للشؤون الدينية بجمهورية غينيا‪ ،‬الموقع بالرباط بتاريخ ‪ 10‬شتنبر ‪2014‬م‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫وهذه األهمية المتزايدة للبعد الديني‪ ،‬والروابط الدينية والتاريخية العريقة أعطت‬
‫للدبلوماسية المغربية في إفريقيا نقلة نوعية في تدبير عدد من األزمات والنزاعات اإلفريقية‬
‫(األزمة المالية مثال)‪ ،‬وتقديم التجربة المغربية في مجال مكافحة التحريض على ارتكاب‬
‫أعمال إرهابية بدافع التطرف والالتسامح القائمة على التحكم في الشأن الديني من خالل تكوين‬
‫األئمة‪ ،‬على اعتبار أنه الضمان مكافحة فعالة للتطرف العنيف يلزم تطوير التزام استراتيجي‬
‫وقائي على المستويين الثقافي والعقائدي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬دعم التنمية البشرية بإفريقيا‬
‫جاء في خطاب أمير المؤمنين جاللة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثالثة عشر‬
‫لتربعه على العرش‪ " :‬وبخصوص الدول اإلفريقية جنوب الصحراء‪ ،‬فإن المملكة المغربية‬
‫تظل منخرطة في المشاريع الفعالة للتعاون معها‪ ،‬هدفها دعم برامج التنمية البشرية المحلية‬
‫في القطاعات ذات األولوية"‪ .‬ويعتبر ورش التنمية البشرية في إفريقيا مقاربة جديدة في‬
‫مو اجهة التطرف من خالل القضاء على جيوب الفقر واإلقصاء والتهميش التي تشكل مرتعا‬
‫خصبا لبزوغ اإلرهاب‪ .‬ثم إن دبلوماسية إمارة المؤمنين تجعل من إفريقيا أولوية استراتيجية‬
‫نظرا للعالقات الثقافية والدين واالنتماء العميق للمغرب اإلفريقي‪ ،‬من خالل مبادراتها الهادفة‬
‫إلى ا الستجابة لتطلعات الشعوب اإلفريقية‪ ،‬وحقها في االستقرار والتنمية المستدامة‪ ،‬ومن‬
‫خالل العالقات السياسية واالقتصادية المتميزة التي يقيمها المغرب مع الدول اإلفريقية‪( ،‬أزيد‬
‫من ‪ 40‬دولة إفريقية ويرتبط معها بما يفوق ‪ 500‬اتفاقية تهم كل مجاالت التعاون والشراكة)‪،‬‬
‫حيث تعززت العالقات بفضل الزيارات التي قام بها جاللة الملك محمد السادس لعدد من الدول‬
‫اإلفريقية والمبادرات التي اتخذها المغرب من أجل تعزيز هذه العالقات السياسة اإلفريقية‬
‫لبالدنا‪ ،‬مما أعطى نفسا جديدا لعالقاتها بالدول اإلفريقية‪ ،‬لذلك جعل المغرب من التكوين‬
‫عنصرا مهما وضروريا في برامج التعاون مع البلدان اإلفريقية بهدف الرقي بعالقات التعاون‬
‫إلى مستوى الشراكة االستراتيجية جنوب‪ -‬جنوب‪( ،‬دور الوكالة المغربية للتعاون الدولي في‬
‫نشر ونقل التجربة المغربية ألطر ومعاهد الدول الصديقة)‪ ،‬خاصة وأن المقاربة الملكية في‬
‫إفريقيا تستمد ق وتها من التنمية البشرية والمندمجة‪ ،‬والجانب الروحي واالستقرار‪ ،‬وكذا أفاق‬
‫وضع آليات جديدة لتعزيز التعاون جنوب‪-‬جنوب‪.‬‬
‫ويأتي االهتمام بورش التنمية البشرية بإفريقيا وفاء بااللتزامات الدولية ذات العالقة‬
‫باألهداف اإلنمائية لأللفية‪ ،‬وتبعا للتوجهات الدولية في مجال التنمية البشرية التي تحث على‬
‫االهتمام باإلنسان‪ ،‬وبذلك فالمغرب مطالب بترشيد تدبير مساعداته وإمكانياته مع االعتماد‬
‫عل ى بدائل أخرى التحقيق الطموح اإلفريقي للمغرب كالتعاون الثالثي‪ ،‬كآلية مبتكرة لالستثمار‬
‫األمثل لإلمكانات المتوفرة‪ ،‬سواء بين المجموعات االقتصادية اإلقليمية لدول الجنوب‪ ،‬أو في‬
‫إطار شراكات مع دول الشمال‪ ،‬على أساس التوازن والنفع المتبادل‪ ،‬حيث يقدم المغرب تجاربه‬
‫ا لتقنية وخبراته لدولة إفريقية‪ ،‬معينة في حين تتكلف دولة أخرى من الدول المتقدمة كطرف‬
‫ثالث بتمويل المشاريع ذات العالقة بمجاالت هذا التعاون الثالثي‪ ،‬بالنظر للتجربة المغربية‬

‫‪45‬‬
‫الرائدة في مختلف القضايا اإلفريقية‪ ،‬وقد عبر المغرب عن استعداده التام لوضع ما راكمه من‬
‫خب رات وتجارب‪ ،‬وما تحظى به من ثقة ومصداقية لدى شركائها‪ ،‬ولدى المؤسسات الدولية‪،‬‬
‫في خدمة التعاون الثالثي‪ ،‬لصالح الشعوب اإلفريقية‪.‬‬
‫فالنهوض بالتنمية البشرية بإفريقيا من شأنه المساهمة في اجتثاث األسباب المؤدية‬
‫للتطرف واإلرهاب‪ ،‬وتكريس ثقافة التضامن والتكافل كقيم مجتمعية تؤسس لألمن االجتماعي‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الزعامة الجيو‪ -‬استراتيجية إلمارة المؤمنين‬
‫خالل الحرب الباردة كانت االعتبارات االقتصادية توظف لخدمة أهداف سياسية‬
‫وإيديولوجية‪ ،‬وبعد ذلك سرعان ما عرفت العالقات الدولية تحوال جذريا من خالل توظيف‬
‫الدوافع السياسية لخدمة األهداف االقتصادية (العولمة االقتصادية وظاهرة التكتالت‬
‫االقتصادية الجهوية)‪ ،‬إال أن الجديد الذي تطرحه دبلوماسية إمارة المؤمنين يتمثل في عرض‬
‫االعتبارات الروحية والدينية التحقيق أهداف أمنية بإفريقيا‪ ،‬وهذا من شأنه تبرئ المغرب موقع‬
‫القائد الجيو‪-‬استراتيجي بإفريقيا‪ ،‬عبر تكييف سياسته الخارجية مع استراتيجيات القوى الكبرى‬
‫في إفريقيا جنوب الصحراء‪ ،‬من خالل االستثمار األمثل للبعد الروحي للعالقات المغربية‬
‫اإلفريقية للتصدي ومواجهة نفوذ هذه القوى داخل عمقه االستراتيجي اإلفريقي (الواليات‬
‫المتحدة األمريكية‪ ،‬فرنسا القوة االستثمارية السابقة في إفريقيا‪ ،‬الصين ‪ ،‬اليابان)‪ ،‬ولعل‬
‫الرهانات المغربية على البعد الديني كأحد محددات السياسة الخارجية المغربية تجاه إفريقيا‪،‬‬
‫تبقى واعدة في تأكيد البعد االستراتيجي للمغرب في إفريقيا عبر شبكة قنوات الدبلوماسية غير‬
‫الرسمية يأتي على رأسها دور إمارة ال مؤمنين المؤسسة الفوق وطنية والزوايا الصوفية‬
‫بإفريقيا‪.‬‬
‫وما دامت أن المبادئ األساسية للدبلوماسية المغربية تتمثل في حسن الجوار ومبدأ عدم‬
‫التدخل في الشؤون الداخلية وتسوية المنازعات بالطرق السلمية ‪ ،‬وبالتالي عدم التهديد‬
‫باستعمال القوة في العالقات الدولية‪ ،‬وسلوك سياسة مطبوعة بعدم االنحياز والحياد اإليجابي‪،‬‬
‫وترسيخ سبل التعاون الدولي المشفوع بالعمل على تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة‪ ،1‬فإن‬
‫الرهانات ذات البعد الديني المطروحة على السياسة الخارجية المغربية اإلفريقية من شأنها‬
‫إعطاء قوة الدفع األساسية الدبلوماسية مغربية ‪ -‬متكاملة وفعالة ‪ -‬تجاه إفريقيا للدفاع عن‬
‫المصالح المغربية تبعا للتحوالت التي حدثت في الجيوسياسية اإلفريقية والدولية‪ ،‬والقيام بأدوار‬
‫طالئعية في مكافحة التطرف العنيف بشكل وقائي أثبتت فعاليتها مقارنة مع المقاربة األمنية‬
‫لمعالجة هذه الظاهرة‪.‬‬

‫‪ 1‬محمد تاج الدين الحسيني "الدبلوماسية المغربية في الخطاب الملكي" مرجع سابق‪ ،‬ص‪-‬ص ‪38-48‬‬

‫‪46‬‬
‫وفي هذا السياق فالمغرب مطالب باالنخراط بقوة في آليات العمل الدبلوماسي المغربي‬
‫اإلفريقي‪ ،‬خاصة على مستوى تعزير التمثيل الدبلوماسي وتفعيل الدبلوماسية الثنائية والتأقلم‬
‫مع األولويات الجديدة للتعاون المتعدد األطراف بإفريقيا‪.‬‬
‫ومادام أن من المواقع الجغرافية ما يحقق بذاته قيمة سياسية على حد قول "فريدريك‬
‫راتزل" ‪ ،‬على اعتبار أن للعوامل الجيوسياسية دورا حيويا ومهما في تحديد سلوكيات الدول‬
‫تجاه محيطها الخارجي مما يكرس األهمية االستراتيجية للمواقع الجغرافية في العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬فإن القارة اإلفريقية أضحت كمركز استراتيجي تسعى كل القوى العالمية للتواجد فيه‬
‫في إطار سباق دولي حول النفوذ االقتصادي إلعادة توزيع القوة االقتصادية العالمية‪ ،‬وفي هذا‬
‫السياق فالمغرب كمركز ثقل استراتيجي مهم‪ ،‬مؤهل بامتياز للعب دور القائد الجيواستراتيجي‬
‫والزعيم الروحي في القارة اإلفريقية ‪ -‬التي تعد ضمن مجاالته الحيوية‪ -‬من خالل تعزيز‬
‫مكانته في صناعة القرار اإلفريقي‪ ،‬وبالتالي االسهام في إعادة تشكيل خريطة سياسية جديدة‬
‫إلفريقيا‪ ،‬خاصة وأن االستقطاب األوربي األمريكي للمنطقة اإلفريقية تتحكم فيه االعتبارات‬
‫االقتصادية واالستراتيجية بالدرجة األولى‪.‬‬
‫إن تكريس الواجب المغربي تجاه إفريقيا من خالل اعتماد البعدين اإلسالمي واإلفريقي‬
‫كثوابت مدسترة لسياسته الخارجية‪ ،‬يمثل تتويجا للمسؤوليات التاريخية اإلمارة المؤمنين‬
‫بإفريقيا‪ ،‬وللمضي قدما في المساهمة في تأمين وتثمين األمن الروحي للشعوب اإلفريقية قصد‬
‫إعطاء قوة الدفع األساسية للعالقات المغربية اإلفريقية نحو آفاق أوسع‪.‬‬
‫وتستمد دبلوماسية إمارة المؤمنين مقوماتها من طبيعة النظام المغربي الذي يتميز‬
‫بتوظيف البعد الديني ضمن الفلسفة السياسية للحكم من خالل إعطاء مكانة خاصة للسياسة‬
‫الدينية في إطار تدبير شؤون الدولة‪ ،‬ويتجلى هذا التوظيف في مفهوم إمارة المؤمنين باعتبارها‬
‫المرجعية التاريخية التي تشكل صمام أمان للسياسة الدينية التي ترتكز على أن ولي األمر‪،‬‬
‫يستمد مشروعيته من كونه أميرا للمؤمنين‪ ،‬ملتزما بحماية الدين‪ ،‬وحماية الثوابت الدينية‬
‫المشتركة مع البلدان اإلفريقية‪ ،‬ومعلوم أن هذه الثوابت المتمثلة في العقيدة والمذهب والسلوك‬
‫الروحي‪ ،‬ثوابت يرعاها ويدرسها العلماء‪ ،‬ويعمل بمقتضاها األئمة‪.1‬‬

‫‪ 1‬مقتطف من كلمة وزير األوقاف والشئون اإلسالمية السيد أحمد التوفيق في جلسة باألمم المتحدة ‪ -‬يوم ‪30‬‬
‫شتنبر ‪ 2014‬بنيويورك ‪ -‬حول موضوع التجربة المغربية في ميدان محاربة اإلرهاب‪ ،‬وذلك في إطار الجلسات‬
‫التي نظمتها لجنة مكافحة اإلرهاب التابعة لمجلس األمن الدولي‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫الفهرس‬
‫الروح بالمغرب _____________________ ‪2‬‬ ‫ر‬
‫واستاتيجية األمن‬ ‫ن‬
‫المؤمني‬ ‫إمارة‬
‫ي‬

‫تمهيد___________________________________________________ ‪2‬‬
‫الروح_______________________________________ ‪3‬‬ ‫ي‬ ‫أوال مفهوم األمن‬
‫ن ن‬ ‫ثانيا‪ :‬مقومات ر‬
‫الروح ومركزية إمارة المؤمني يف استثماره ______ ‪3‬‬
‫ي‬ ‫استاتيجية األمن‬
‫أ‪ -‬المقوم التاريخ لألمن الروح بالمغرب____________________________ ‪4‬‬
‫ب‪ -‬المقوم الدين __________________________________________ ‪4‬‬
‫ت‪ -‬المقوم الثقاف‪ :‬استثمار التنوع لخدمة الوحدة ______________________ ‪6‬‬
‫ث‪ -‬المقوم الجغراف واستثماره ف تثبيت األمن الروح____________________ ‪7‬‬
‫ج‪ -‬المقوم الدستوري ________________________________________ ‪7‬‬
‫الروح _____________________________ ‪10‬‬ ‫استاتيجية األمن‬‫ثالثا‪ :‬أهداف ر‬
‫ي‬
‫الهدف األول‪ :‬الحفاظ عىل األمن الروح للمغرب‪ ،‬ووحدة المذهب المالك _______ ‪10‬‬
‫الهدف الثان‪ :‬تأهيل الحقل الدين وتجديده __________________________ ‪10‬‬
‫الهدف الثالث‪ :‬السهام العقالن الهادف لتصحيح صورة السالم _____________ ‪11‬‬
‫الروح بالمغرب _________________ ‪11‬‬ ‫ر‬
‫االستاتيجية األمن‬ ‫رابعا‪ :‬األركان الثالثة‬
‫ي‬
‫الركن األول‪ :‬المؤسس _______________________________________ ‪11‬‬
‫التأطيي الفعال____________________________________ ‪13‬‬ ‫ر‬ ‫الركن الثان‪:‬‬
‫اليبية السالمية ___________________ ‪14‬‬ ‫الركن الثالث‪ :‬عقلنة وتحديث وتوحيد ر‬
‫لالستاتيجية _________________________ ‪15‬‬ ‫ر‬ ‫خامسا‪ :‬االنعكاسات اإليجابية‬
‫أ‪ -‬إبراز النموذج المغرن ف التدين _______________________________ ‪15‬‬
‫ب‪ -‬تحقيق االستقرار الروح واألمن _____________________________ ‪16‬‬
‫ت‪ -‬استثمار النموذج المغرن وجاذبيته‪17 ___________________________ :‬‬
‫خاتمة‪19 _________________________________________________ :‬‬

‫ن‬
‫المؤمني*‪ :‬مرتكزات أساسية وجهود عملية________ ‪20‬‬ ‫حوار الحضارات عند أمت‬

‫‪20‬‬ ‫تمهيد__________________________________________________‬
‫ن‬ ‫ن‬
‫‪21‬‬ ‫المؤمني نرصه للا يف حوار الحضارات ________________‬ ‫أوال‪ :‬مرتكزات أمت‬
‫‪21‬‬ ‫‪ 1-‬المرتكز الدين _________________________________________‬
‫‪23‬‬ ‫‪ 2-‬المرتكز الجغراف ________________________________________‬

‫‪48‬‬
‫‪ 3-‬المرتكز التاريخ ________________________________________ ‪24‬‬
‫‪ 4-‬المرتكز المستقبىل_______________________________________ ‪25‬‬
‫‪ 5-‬المرتكز النسان ________________________________________ ‪26‬‬
‫ن‬ ‫ر‬
‫المؤمني من أجل ترسيخ حوار الحضارات‬ ‫ثانيا‪ :‬بعض الجهود العملية ي‬
‫الت بذلها أمت‬
‫______________________________________________________ ‪27‬‬
‫‪ 1-‬الرد عىل دعاة صدام الحضارات_______________________________ ‪27‬‬
‫‪ 2-‬تصحيح صورة السالم لدى األخر _____________________________ ‪28‬‬
‫‪ 3-‬تشجيع الدبلوماسية الثقافية والحضارية _________________________ ‪28‬‬
‫خاتمة _________________________________________________ ‪30‬‬
‫ن ن‬
‫المؤمني يف إفريقيا ______________________________ ‪31‬‬ ‫دبلوماسية إمارة‬

‫‪31‬‬ ‫تمهيد__________________________________________________‬
‫ن‬ ‫ن‬
‫‪33‬‬ ‫المؤمني‬ ‫أساس يف دبلوماسية إمارة‬
‫ي‬ ‫المغرب تجاه إفريقيا كمحدد‬
‫ي‬ ‫مرتكزات الواجب‬
‫‪34‬‬ ‫المؤمني والشعوب الفريقية __________________‬ ‫ر‬ ‫أوال‪ :‬روابط البيعة ربي إمارة‬
‫‪36‬‬ ‫ثانيا‪ :‬تعلق مريدي وأتباع الطرق الصوفية بشخص الملك __________________‬
‫‪37‬‬ ‫المؤمني بإفريقيا_______________________________‬ ‫ر‬ ‫ثالثا‪ :‬مبادرات إمارة‬
‫ن ن‬
‫‪39‬‬ ‫تجليات دبلوماسية إمارة المؤمني يف عهد جاللة الملك محمد السادس نرصه للا _‬
‫‪39‬‬ ‫أوال‪ :‬الزيارات الملكية الميمونة للدول الفريقية ________________________‬
‫‪40‬‬ ‫التأطيي _______________________________________‬ ‫ر‬ ‫ثانيا‪ :‬الجانب‬
‫‪41‬‬ ‫ثالثا‪ :‬الجانب التكوين ________________________________________‬
‫‪43‬‬ ‫ن‬
‫المؤمني بإفريقيا _____________________‬ ‫اآلفاق الواعدة لدبلوماسية إمارة‬
‫‪43‬‬ ‫أوال‪ :‬دعم األمن واالستقرار بإفريقيا________________________________‬
‫‪45‬‬ ‫البشية بإفريقيا_________________________________‬ ‫ثانيا‪ :‬دعم التنمية ر‬
‫‪46‬‬ ‫المؤمني ________________________‬ ‫اسياتيجية لمارة‬ ‫ثالثا‪ :‬الزعامة الجيو‪ -‬ر‬
‫ر‬

‫الفهرس ________________________________________________ ‪48‬‬

‫‪49‬‬

You might also like