You are on page 1of 21

‫عصمة األنبياء‪ ،‬العصمة‪ ،‬والذنوب واملعاصي‪ :‬هل يذنب األنبياء؟‬

‫الرسالة والنبوة‪:‬‬
‫أما مقام النبوة‪ ،‬فمقام مدح واجتباء واصطفاء‪ ،‬ونعمة ومنة وتفضيل وثناء على صفوة خلق هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وهو األصل واملبتدأ‪ ،‬إذ يوحي هللا لكل نبي بشرعة ومنهاج‪ 1‬في كتاب منزل‪( 2‬خاص به أو أنزل على‬
‫نبي قبله)‪ ،‬ويبعثه هللا تعالى لينهض بمهمة التبليغ والدعوة والبشارة والنذارة‪ ،‬والحكم بين الناس فيما‬
‫اختلفوا فيه‪ ، 3‬فينبئ (أي يخبر) الناس بكتب هللا ورساالته‪ ،‬فال يكون الرسول رسوال مبلغا عن هللا تعالى‬
‫ًا‬
‫إال بعد أن ينال مقام النبّو ة أوال‪ ،‬وال يكون النبي نبي إال بمعجزٍة تثبت صدق إخباره عن هللا تعالى‪ ،‬وال‬
‫ُف‬
‫يوص بالنبوِة أحٌد من البشِر إال من اصطفاُه هللا تعالى لذلك املقام‪ ،‬أما الرسوُل فمقام ثناء‪ ،‬وشرف‬
‫ُف‬
‫ومنة واصطفاء‪ ،‬وُر ُس ُل ِهللا هم صفوة الصفوة‪ّ ،‬ض لوا‪ ،‬ورفع بعضهم فوق بعض درجات في املنزلة‬
‫السامقة‪ ،‬ومقام الرسالة أخص من مقام النبوة‪ ،‬وُي ستعمل فيما يستعمل فيه لفظ النبوة‪ ،‬من التبليغ‬
‫ًا‬
‫والدعوة إلى دين هللا تعالى‪ ،‬ويمتلك أيض املعجزة التي تثبت صدق إرساله ونبوته‪ ،‬ويستعمل كذلك في‬
‫اللغة في أي رسول يرسل إلى الغير برسالة ما‪ ،‬كرسل رسول هللا ﷺ إلى امللوك‪ ،‬ومثلهم ال يكون صاحب‬
‫معجزة‪ ،‬لكن اسم الرسول بمعناه الشرعي ال يقع إال على من خصه هللا برسالة خاصة به‪ ،‬قال تعالى‬
‫َّل َخ َت َّن َن‬ ‫ُك َٰل‬ ‫َأ َأ‬ ‫َك َن‬
‫﴿َّم ا ا ُم َح َّم ٌد َب ا َح ٍد ِّم ن ِّر َج اِل ْم َو ِك ن َّر ُس وَل ال ِه َو ا َم ال ِب ِّي ي ﴾‪ ،‬وملا كانت رتبة الرسول ال‬
‫ُت‬
‫نال إال بعد رتبة النبوة‪ ،‬اكتفى الشارع بنفي نبوة أي نبي بعد الرسول محمد ﷺ‪ ،‬داللة على انتفاء‬
‫الرسل أيضا من بعده‪ ،‬فهو خاتم النبيين وخاتم املرسلين من باب أولى‪.‬‬
‫واملدح بصفة النبي يشتمل على معان شريفة خاصة‪ ،‬واملدح بصفة الرسول يشتمل على معان عالية‬
‫خاصة أخرى‪ ،‬لذلك صوب النبي ﷺ قول البراء رضي هللا عنه حين حاول استذكار الدعاء الذي نصه‪:‬‬
‫«آمنت بكتابك الذي أنزلت‪ ،‬وبنبيك الذي أرسلت» حين قال البراء‪ :‬فقلت أستذكرهن‪" :‬وبرسولك الذي‬
‫أرسلت؟" فقال ﷺ «ال‪ ،‬ونبيك الذي أرسلت» رواه البخاري‪ ،‬ليجمع النبي ﷺ بين مدائح وصف النبوة‬
‫وخصوصياتها‪ ،‬إلى مدائح وصف الرسالة وخصوصياتها‪ ،‬وتخصيصه بفضائل الوصفين‪ ،‬وليكون أجزل‬

‫ًة‬ ‫ْل ُك‬ ‫‪َّ 1‬ن َأ َز ْل َن َّت ْو َر َة َه ُه ًد َو ُن ٌر َي ْح ُك ُم َه َّن ُّي َن‬


‫ُك‬
‫‪[ ﴾...‬املائدة ‪ِ﴿ ]44‬ل ٍّل َج َع َن ا ِم ن ْم ِش ْر َع َو ِم ْن َه اًج ا﴾ [املائدة ‪.]48‬‬
‫ِب ا ال ِب و‬ ‫﴿ِإ ا ن ا ال ا ِف ي ا ى و‬
‫ْخ َل‬ ‫ُك َن َّن‬ ‫ْل‬ ‫ْل َت‬ ‫َأ ْن‬
‫‪َ﴿ 2‬ك اَن الَّن اُس ُأ َّم ًة َو ا َد ًة َف َبَع َث الَّل ُه الَّن يَن ُم َب يَن‬
‫َو ُم ْن ِذ ِر يَن َو َز َل َم َع ُه ُم ا ِك اَب ِب ا َح ِّق ِل َي ْح َم َبْي ال اِس ِف يَم ا ا َت ُف وا ِف يِه ﴾ [البقرة‪:‬‬
‫ِّش ِر‬ ‫ِب ِّي‬ ‫ِح‬
‫‪]213‬‬
‫‪ 3‬فمن األنبياء من يتحقق له أن يحكم بين الناس برساالت هللا وكتبه‪ ،‬كرسول هللا ﷺ‪ ،‬وكأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬إذ حكموا بالتوراة‪ ،‬ومنهم من ال يتمكن من ذلك بسبب صد قومه عن كتب هللا‪ ،‬لكن مهمة النبي والكتاب أن يحكم بين الناس‪.‬‬
‫بالغة‪ ،‬على أن اسم الرسول يقع على الكافة‪ ،‬واسم النبي ال يتناول إال األنبياء خاصة‪ 4.‬وإن كانت رتبة‬
‫الرسول أخص من رتبة النبي وأفضل‪.‬‬
‫واملعجزة‪ ،‬عالوة على أنها دليل من هللا تعالى على صدق مدعي النبوة فيما ادعاه‪ ،‬فُي جري هللا تعالى‬
‫على يديه ما يخرق به العادة وسنن الكون‪ ،‬فتكون عالمة على صدق املنهج الذي أتى به النبي للبشر‬
‫ليهديهم إلى ربهم‪ ،‬وإلى دين ربهم الحق‪ ،‬عالوة على ذلك كله‪ ،‬فهي عالمة من هللا تعالى تدل على أولئك‬
‫النفر من الخلق الذين استحقوا شرف أن يكونوا رسل هللا وأنبياءه‪ ،‬فهم صفوة الخلق‪ ،‬انتخبهم رب‬
‫العاملين واصطفاهم من بين جميع الخالئق ليحملوا شرف إبالغ هذه الرسالة للناس‪ ،‬فكانت املعجزة‬
‫عالمة للخلق تدلهم على هؤالء النفر‪ ،‬ليقدروهم حق قدرهم‪.‬‬
‫ُة‬ ‫ُة‬
‫أما النبُّي ‪ :‬فهو إما أن يوحى إليه بشرع نفسه‪ ،‬أي بشرٍع جديٍد ‪( ،‬فتجتمع فيه الِّر سال والنبو‬
‫ًا‬ ‫َغ‬ ‫ُخ‬
‫حينذاك إذ َّص بوحٍي خاٍص ِب ِه ‪ِ ،‬ل ُيَب ِّل ُه ) أو يوحى إليه بشرع غيره (فيكون نبي فقط وال يكون رسوال‬
‫حينذاك‪ ،‬بحسب املعنى الشرعي لكلمتي رسول ونبي) ويؤمر النبي بتبليغ الشرع في الحالتين‪ ،‬وأما‬
‫الّر سوُل فالذي يوحى إليه بشرع نفسه ويؤمر بتبليغه‪ ،‬فكُّل رسوٍل نبٌّي في الوقت نفسه‪ ،‬ولكن األنبياء‬
‫الذين لم يخصهم الوحُي برسالٍة خاصٍة بهم يؤمرون بتبليغها فهم ليسوا من الرسل باالصطالح‬
‫الشرعي‪ ،‬فسيدنا موسى عليه الصالة والسالم يطلق عليه وصف رسوٍل ونبٍي في الوقت نفسه‪ ،‬ألنه‬
‫أوحي إليه بشرٍع وأمر بتبليغه‪ ،‬وأما سيدنا هارون عليه الصالة والسالم فيطلق عليه وصف نبٍّي فقط‪،‬‬
‫َغ‬
‫مع أنه مكلف بتبليغ شريعة موسى عليه سالم هللا‪ ،‬أي ألَّن الشرَع الذي أوحَي له به ِل ُيَب ِّل ُه لغيره هو‬
‫ُأ‬
‫ليس رسالة له وإنما هو رسالة ملوسى عليه السالم‪ ،‬وليس سيدنا هارون برسوٍل ألنه مر بتبليغ شريعة‬
‫سيدنا موسى عليه سالم هللا‪ .‬وهذا وفقا للمعنى الشرعي للنبي وللرسول‪ ،‬فالنبي والرسول يوحى‬
‫ٰٓى‬ ‫ْل َٰت‬ ‫ْذ ُك‬
‫إليهما‪ ،‬وهما مكلفان بالتبليغ‪ ،‬والفرق بينهما هو في خصوصية الرسالة‪َ﴿ .‬و ٱ ْر ِف ى ٱ ِك ِب ُم وَس ۚ ِإ َّنُه ۥ‬
‫اًل‬ ‫َك‬ ‫َك ْخ َل‬
‫اَن ُم ًص ا َو اَن َر ُس و َّن ِب ًّي ا﴾‪ ،‬فاجتماع الوصفين داللة على املغايرة‪.‬‬
‫هذا كله حين النظر من زاوية وجود رسالٍة خاصٍة بالنبِّي أو خاصٍة بنبٍّي غيره‪ ،‬أما حين النظر من‬
‫زاوية التبليغ‪ ،‬ومن زاوية الوحي‪ ،‬ومن زاوية أن هللا تعالى أرسل الرسل وأرسل األنبياء أيضا‪ ،‬كما نصت‬
‫نصوص القرآن والسنة‪ ،‬فواقع التبليغ يدل على أن كل رسول نبي‪ ،‬وأن كل نبي مرسل‪ ،‬ألن النبي‬
‫والرسول كليهما أمرا بالتبليغ‪ ،‬وأرسلهما هللا تعالى إرساال للناس برساالته‪ .‬والّر سالة سفارة العبد بين‬
‫ُج ُّل‬ ‫ُع‬
‫هللا وبين العباد‪ ،‬ليبين ما يعالج ما يحتاجونه من مصالح الدنيا واآلخرة‪ .‬والشر هو املنه ‪ ،‬وك أمٍر‬
‫َش‬
‫ونهٍي رٌع ‪ . 5‬والنبوة تشتق من النبأ أي اإلخبار‪ ،‬فالنبي يخبر الناس بما أوحي إليه من ربه‪ ،‬لذلك فمقام‬

‫‪ 4‬أنظر‪ :‬الفروق اللغوية ألبي هالل العسكري‪ ،‬الفرق بين النبي والرسول‪ ،‬وكذلك‪ :‬املستدرك على معجم املناهي اللفظية للشيخ بكر أبو‬
‫زيد‪.‬‬
‫‪ 5‬أنظر‪ :‬الشخصية اإلسالمية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬تقي الدين النبهاني‪ ،‬باب‪ :‬األنبياء والرسل‪.‬‬
‫ًا‬
‫النبوة هو األصل واملبتدأ‪ ،‬يصطفي هللا من خلقه صفوتهم‪ ،‬ويوحي للنبي بوحي فيصير نبي ‪ ،‬ثم يأمره‬
‫ّل ُن‬
‫بالتبليغ أي يرسله ليب غ ما بئ به‪ ،‬فإن كان شَّر فه هللا برسالة خاصة فقد شَّر فه بلقب نبي رسول‪ ،‬أما‬
‫ُل‬
‫إذا اصطفاه واجتباه من الخلق ونبأه برسالة رسول آخر في َّق ب بالنبي‪ ،‬ومع ذلك فإنه يؤمر بتبليغ تلك‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫الرسالة أيض ‪ ،‬والنبوة أيض ‪ :‬الرفعة والشرف واملقام الرفيع‪ ،‬والنبوة تشتق أيضا من النباوة‪ ،‬وهي‬
‫الطريق الواضحة املوصلة إلى مرضاة هللا عز وجل‪ ،‬والرسول مأخوذ من اإلرسال أي البعث والتوجيه‪،‬‬
‫أو هو حامل الرسالة املكّل ف بتبليغها‪ ،‬والنبُّي مرسٌل أيضا من هللا‪ ،‬قال تعالى‪َ﴿ :‬و َم ا َأ ْر َس ْل َن ا ْن َق ْب َك ْن‬
‫ِم ِل ِم‬
‫ٌف‬ ‫اَل َن ٓاَّل َذ َت‬
‫َر ُس وٍل َو ِب ٍّى ِإ ِإ ا َم َّن ٰى ٓ﴾ [الحج ‪ ]2‬أي إن النبي مرسٌل ‪ ،‬وهو معطو على الرسوِل فيشتركان في‬
‫مصدر النبوة والرسالة وهو الوحي‪ ،‬وفي وظيفتها وهو التبليغ‪ ،‬أي إنه مبلغ عن ربه للرسالة التي نبئ بها‬
‫ًة‬ ‫ًة‬ ‫ًة‬
‫سواء كانت رسال خاص به أو خاص برسوٍل غيره‪ ،‬وقال النبي ﷺ «آمنت بكتابك الذي أنزلت‪،‬‬
‫وبنبيك الذي أرسلت»‪ ،‬من هنا يخطئ من يظن النبي هو الذي يوحى إليه بشرٍع وال يؤمر بتبليغ ما أوحي‬
‫إليه‪ ،‬إذ إن أصل هذه الفكرة هي من الفرق اللغوي بين النبي والرسول‪ ،‬فتحتمل اللغة أن ال تحّم ل‬
‫النبيء مهمة اإلخبار بما أنبأته به‪ ،‬بخالف الرسول‪ ،‬فال بد أن يتحمل مهمة اإلبالغ‪ ،‬ورد في كتاب‬
‫الفروق اللغوية ألبي هالل العسكري‪ " :‬اإلنباء عن الشيء قد يكون من غير تحميل النبأ‪ ،‬بينما اإلرسال‬
‫ال يكون إال بتحميل" لكن مصطلحي (لفظي) النبي والرسول شرعيان‪ ،‬لكل منهما معنى شرعي خاص‬
‫يستنبط من الوحي‪ ،‬ونصوص القرآن أوضحت أن األنبياء ال بد أن يبِّل غوا ويحملوا الدعوة للغير‪ ،‬وأن‬
‫هللا أرسلهم‪.‬‬
‫ويفتري على هللا الكذب من يدعي أن النبوة تتضمن آراء شخصية أو اجتهادات للنبّي لم يوَح إليه بها‪،‬‬
‫ًا‬
‫فال تجب طاعته فيها‪ ،‬وسيأتي ‪-‬بحول هللا‪ -‬إثبات عدم جواز أن يكون النبي ﷺ مجتهد بعد قليل‪،‬‬
‫َن‬ ‫َأ ْلَٰن َٰش‬ ‫َّن‬ ‫َٰٓي َأ‬ ‫َك‬
‫َو ُي ِّذ ُب القرآُن الكريُم ادعاَء هم هذا بقوله تعالى‪ُّ ﴿ :‬ي َه ا ٱل ِب ُّى ِإ َّن ٓا ْر َس َك ِه ًد ا َو ُم َب ِّش ًر ا َو ِذ يًر ا﴾‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ُأ‬ ‫ًا‬
‫[األحزاب ‪ ،]45‬فهو بوصفه نبّي قد أرسَل أي مَر النبُّي بالتبليغ وكان مبشر ونذير ‪ ،‬أي أوحي إلى النبي‬
‫ُق َّن ُأ ُك ْل‬ ‫ًا‬
‫بوصفه نبي بشرع فيه بشارة ونذارة وأمر بتبليغه‪ ،‬وقال تعالى أيضا‪ْ ﴿ :‬ل ِإ َم ا نِذ ُر م ِب ا َو ْح ِي ﴾‬
‫[األنبياء ‪ ،]45‬و ﴿ِإ َّن َم ا﴾ عند الجمهور للحصر قيل باملنطوق‪ ،‬وقيل‪ :‬باملفهوم"‪ ،6‬صيغة حصر وتوكيد‪،‬‬
‫فهو بوصفه نبي له مهمة اإلنذار‪ ،‬وحصر ما ينذر به بالوحي بنص القرآن الكريم نفسه‪ ،‬فال مدخل ألي‬
‫رأي بشري فيما ينذر به النبي ﷺ‪ ،‬وقد أمر القرآن الكريم باتباعه بعد أن وصفه بالرسول النبي األمي‪،‬‬
‫وال يأمر ُهللا تعالى باتباٍع مطلٍق غير مقيٍد إال ملعصوٍم عن الخطأ في التبليغ‪ .‬من هنا قلنا أعاله‪" :‬أما حين‬
‫النظر من زاوية التبليغ فكل رسول نبي‪ ،‬وكل نبي رسول‪ ،‬ألن النبي والرسول كليهما أمرا بالتبليغ‪،‬‬
‫اَل َن ٓاَّل َذ َت‬ ‫َق‬ ‫َأ ْل‬
‫وأرسلهما هللا تعالى إرساال للناس برساالته" ﴿َو َم ا ْر َس َن ا ِم ْن ْب ِل َك ِم ْن َر ُس وٍل َو ِب ٍّى ِإ ِإ ا َم َّن ٰى ٓ﴾ فكل‬

‫‪ 6‬السيوطي رحمه هللا‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن‪ :‬النوع الخامس والخمسون في الحصر واالختصاص‪.‬‬
‫َذ َط َّل‬ ‫َٰٓيَأ‬
‫نبٍّي ُم رَس ٌل من هللا‪ ،‬فهو رسوٌل بهذا االعتبار‪ ،‬قال تعالى‪ُّ ﴿ :‬ي َه ا ٱلَّن ِب ُّى ِإ ا ْق ُت ُم ٱلِّن َس ٓاَء ﴾ [الطالق ‪،]1‬‬
‫ُق‬ ‫َٰٓيَأ‬
‫فيها حكم شرعي يعم املسلمين كلهم في أحكام الطالق والعدة‪ ،‬أمر النبي بتبليغه! ﴿ ُّي َه ا ٱلَّن ِب ُّى ل‬
‫ٱُمْلْؤ يَن‬ ‫َأِّل ْز َٰو َك َو َب َن ا َك َو َس ٓا ٱُمْلْؤ يَن ُي ْد يَن َع َل ْي َّن ن َج َٰل ي َّن ﴾ [األحزاب ‪َٰٓ﴿ ،]59‬يَأ ُّي َه ا ٱلَّن ُّى َح‬
‫ِب ِّر ِض ِم ِن‬ ‫ِب ِب ِه‬ ‫ِه ِم‬ ‫ِن‬ ‫ِت ِن ِء ِم ِن‬ ‫ِج‬
‫َت‬ ‫َع َل ْل‬
‫ى ٱ ِق اِل ۚ ﴾ [األنفال ‪ ،]65‬أي إن هللا تعالى خاطب النبي ﷺ بصفة النبوة وأمره بتبليغ تشريعات ربانية‬
‫ُي لزم بها املسلمين‪ ،‬وقد أمر هللا تعالى باتباع النبي األمي‪ ،‬واالتباع يتضمن االنقياد‪ ،‬والطاعة عالمة‬
‫االنقياد‪ ،‬فكذب من ادعى أن القرآن خال من آيات تأمر بطاعة النبي ﴿ٱَّل ِذ يَن َي َّت ُع وَن ٱلَّر ُس وَل ٱلَّن َّى‬
‫ِب‬ ‫ِب‬
‫َن‬ ‫َّن ُأْل َّل ُي ْؤ ُن َّل َو َك َٰم َو َّت ُع ُه َل َع َّلُك‬ ‫َف َٔـ ْا َّل‬ ‫ُأْل‬
‫و ﴾‬ ‫َتُد‬ ‫ْه‬ ‫َت‬ ‫ْم‬ ‫ٱ ِّم َّى ﴾ ﴿ اِم ُن و ِب ٱل ِه َو َر ُس وِل ِه ٱل ِب ِّى ٱ ِّم ِّى ٱ ِذ ى ِم ِب ٱل ِه ِل ِتِه ۦ ٱ ِب و‬
‫[األعراف‪ 157‬و ‪" ،]158‬والقرآن الكريم هو أول ما يرُّد على منكري السنة زعَم هم الفصل بين مقام‬
‫النبوة ومقام الرسالة‪ ،‬وادعاءهم بأن مقام النبوة بشري يصيب ويخطئ‪ ،‬وليس مختصا بالرسالة‪،‬‬
‫اًل‬
‫فإَّن هم ادعوا أن النبي يعني الجانب البشري‪ ،‬فال يبِّل غ عن هللا إال حال كونه رسو ‪ ،‬وهو قوٌل ناجٌم عن‬
‫عدم قراءة القرآن؛ إذ نجد فيه قول هللا الصريح‪ُ﴿ :‬ق وُل وا آَم َّن ا الَّل َو َم ا ُأ ْن َل َل ْي َن ا َو َم ا ُأ ْن َل َل ى ْب َر ا يَم‬
‫ِز ِإ ِإ ِه‬ ‫ِب ِه ُأ ِز ِإ‬
‫َو ْس َم ا يَل َو ْس َح اَق َو َي ْع ُق وَب َو اَأْل ْس َب ا َو َم ا ُأ و َي ُم وَس ى َو يَس ى َو َم ا و َي الَّن ُّي و ْن َر ْم ُنَف ُق َبْي َن‬
‫اَل‬ ‫َن‬
‫ِّر‬ ‫ِم ِّب ِه‬ ‫ِت ِب‬ ‫ِع‬ ‫ِت‬ ‫ِط‬
‫َل‬
‫َأ ِإ ِع ِإ‬
‫َّن‬ ‫َّن‬ ‫َن‬ ‫ُه‬ ‫ُن‬ ‫ْح‬ ‫َح ْن ُه ْم َو َن‬
‫ُم ْس ِل ُم و ﴾ [البقرة‪ ،]136 :‬فأثبت هللا لألنبياء أ هم أوتوا الكتب‪ ،‬وأ هللا أنزل إليهم‬ ‫ٍد ِم‬
‫َن‬ ‫ُم‬ ‫ْس‬ ‫ُم‬ ‫ُه‬ ‫َو َن ْح ُن َل‬
‫ِل و ﴾‪ ،‬فصفة النبوة ال تعني الجانب‬ ‫الكتب‪ ،‬وأمر باالستسالم والخضوع واالنقياد لهم‪﴿ ،‬‬
‫البشري؛ بل النبي أصله من اإلنباء أي الذي يؤتى النبوة أي يوحى إليه‪ ،‬ويؤتى الكتاَب ليقضي في أمور‬
‫الناس‪ ،‬وهو أمٌر شرعي بحت ووحي من هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬على خالف ادعاء املنكرين بأن تحُّم ل الكتاب‬
‫َمَل‬ ‫َو ْذ َأ َخ َذ َّل َث‬
‫ال ُه ِم ي اَق الَّن ِب ِّي يَن ا‬ ‫وتبليغه إ ما هو مهمة الرسول فقط دون النبي‪ ،‬ومثلها قوله تعالى‪ِ ﴿ :‬إ‬
‫َّن‬
‫ْك‬ ‫َت ُك‬
‫آ ْي ُت ْم ِم ْن ِك َت اٍب َو ِح َم ٍة ﴾ [آل عمران‪ ،]81 :‬فهؤالء األنبياء وصفهم هللا بالُّن بوة ومع ذلك فقد أوتوا‬
‫ُّن َة‬
‫الكتاب ‪ ...‬ولم يصف ُهللا ال بو فقط بأَّن أهلها قد أوتوا الكتاب ‪-‬وإن كان هذا كافًي ا في رد زعم‬
‫منكري السنة‪ -‬بل قد أثبت هللا لألنبياء من األعمال ما أثبته للرسل‪ ،‬وهي التي ينفونها ويزعمون أَّن‬
‫األنبياء ال يقومون بها وإنما هي خاصة بالرسل‪ ،‬وذلك مثل التبليغ عن هللا‪ ،‬فإن كان قولهم هذا حقا‬
‫فماذا يصنعون بقوله تعالى‪َ﴿ :‬ك اَن الَّن اُس ُأ َّم ًة َو ا َد ًة َف َبَع َث الَّل ُه الَّن يَن ُم َب يَن َو ُم ْن يَن َو َأ ْن َز َل َم َع ُه ُم‬
‫ِذ ِر‬ ‫ِّش ِر‬ ‫ِب ِّي‬ ‫ِح‬
‫ْخ َل‬ ‫ُك َن َّن‬ ‫ْل‬ ‫ْل َت‬
‫ا ِك اَب ِب ا َح ِّق ِل َيْح َم َبْي ال اِس ِف يَم ا ا َت ُف وا ِف يِه ﴾ [البقرة‪]213 :‬؟! فليس األنبياء قد أوتوا الكتب‬
‫حسب هذه اآلية فحسب؛ بل بعثهم هللا ليبشروا وينذروا‪ ،‬ويحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه‪ ،‬في كل‬
‫شأن يحصل فيه خالف وعليه نذارة‪ ،‬في كل أنظمة الحياة ولكل أنواع سلوك البشر وعالقاتهم تلك‪ ،‬وإذ‬
‫يحكم بينهم بالحق‪ ،‬فإنه يقيم العدل والقسط‪ ،‬وهو عين ما وصف به الرسل حين قال تعالى‪َ﴿ :‬ل َق ْد‬
‫ْل‬ ‫ْل‬ ‫َأ ْل‬ ‫َل ْل‬ ‫َأ ْل‬
‫ْر َس َن ا ُر ُس َن ا ِب ا َب ِّي َن اِت َو نَز َن ا َم َع ُه ُم ا ِك َت اَب َو اِمْل يَز اَن ِل َي ُق وَم الَّن اُس ِب ا ِق ْس ِط ﴾ [‪ 25‬الحديد] فوظيفة‬
‫الكتب التي أرسلت مع األنبياء والرسل‪ ،‬ووظيفة الرسل واألنبياء أن يحكموا بين الناس بالحق‪ ،‬ويقيموا‬
‫ميزان العدل والقسط‪ ،‬وهي أعمال الرسل فقط حسب زعم املنكرين‪ ،‬لكن هذه اآلية جعلتها أعمال‬
‫ًا ‪7‬‬
‫األنبياء أيض "‪.‬‬
‫ولو احتمل مقام النبوة أن يخطئ النبي فحاش هلل أن يأمر باتباعه في الخطأ‪ ،‬وهذا وحده ينسف‬
‫افتراءاتهم كلها‪ ،‬وهذا يقودنا لبحث ملخص عنوانه‪:‬‬
‫العصمة‪ ،‬والذنوب واملعاصي‪ :‬هل يذنب األنبياء؟‬
‫العصمة في معجم مقاييس اللغة‪(" :‬عصم) العين والصاد وامليم أصل واحد صحيح يدل على إمساك‬
‫ومنع ومالزمة‪ .‬واملعنى في ذلك كله معنى واحد‪ .‬من ذلك العصمة‪ :‬أن يعصم هللا ‪ -‬تعالى ‪ -‬عبده من سوء‬
‫يقع فيه‪ .‬واعتصم العبد باهلل ‪ -‬تعالى ‪ ،-‬إذا امتنع‪ .‬واستعصم‪ :‬التجأ"‪.‬‬
‫واملعصية‪ ،‬في معجم مقاييس اللغة‪(" :‬عصو‪/‬ى) العين والصاد والحرف املعتل أصالن صحيحان‪ ،‬إال‬
‫أنهما متباينان يدل أحدهما على التجمع‪ ،8‬ويدل اآلخر على الفرقة‪ .‬واألصل اآلخر‪ :‬العصيان واملعصية‪.‬‬
‫يقال‪ :‬عصى‪ ،‬وهو عاص‪ ،‬والجمع عصاة وعاصون‪ .‬والعاصي‪ :‬الفصيل إذا عصى أمه في اتباعها"‪،‬‬
‫و"العصيان‪ :‬خالف الطاعة‪ ،‬عصى العبُد رَّب ُه ‪ ،‬إذا خالف أمره" كما قال في لسان العرب‪.‬‬
‫َخ‬ ‫َخ‬ ‫َّذ ْن‬ ‫َّل‬
‫وهناك فروق‪ 9‬بين الُج رم والُج ناِح وال َم ِم والَج َن ِف وال ِب والَّس يئة والَّز لل وال طأ وال طيئة‬
‫ْل ْغ َغ ْل‬ ‫ُّط‬
‫واملعصية واإلثم‪ 10‬والُب هتاِن والِو ْز ِر والِف ْس ِق والظلم والُع دواِن ‪ ،‬وال غياِن ‪َ ،‬و ا َب َي ِب ْي ِر ا َح ِّق ‪ ،‬والفاحشة‬
‫ُة‬
‫‪ 7‬طاع الرسول ﷺ في القرآن‪ ..‬بين فهِم مثبتي الُّس َّن ة وعبِث منكريها‪ ،‬فرحات عياط‪ ،‬الجزائر بتصرف كبير‪.‬‬
‫‪ 8‬قال ابن فارس‪" :‬فاألول العصا‪ ،‬سميت بذلك الشتمال يد ممسكها عليها‪ ،‬ثم قيس ذلك فقيل للجماعة عصا‪ .‬يقال‪ :‬العصا‪ :‬جماعة‬
‫اإلسالم‪ ،‬فمن خالفهم فقد شق عصا املسلمين‪ .‬وإذا فعل ذلك فقتل قيل له‪ :‬هو قتيل العصا‪ ،‬وال عقل له وال قود فيه‪ .‬قال أبو عبيد‪:‬‬
‫وأصل العصا االجتماع واالئتالف‪ .‬وفي لسان العرب‪" :‬روى األصمعي عن بعض البصريين قال‪ :‬سميت العصا عصا‪ :‬ألن اليد واألصابع‬
‫تجتمع عليها‪ ،‬مأخوذ من قول العرب عصوت القوم أعصوهم‪ ،‬إذا جمعتهم على خير أو شر"‪.‬‬
‫ًا‬
‫‪ 9‬ملخص بتصرف كبير من كتاب الفروق اللغوية للعسكري‪ ،‬ومعجم املصطلحات الفقهية للدكتور محمود عبد الرحمن عبد‬
‫املنعم‪ ،‬وكتاب الكليات أليوب الكفوي‪ ،‬وتفسير الرازي‪ ،‬وابن عاشور‪ ،‬واآللوسي‪ ،‬وإسالم ويب‪ ،‬ومنهل الثقافة التربوية د‪ .‬أحمد محمد أبو‬
‫عوض‪ ،‬ومعاجم اللغة‪.‬‬
‫َّن‬ ‫َو ُه َو ْل ُب ْط ُء َو َّت َأ ُّخ ُر ُي َق ُل َن َق ٌة َم ٌة َأ ْي ُم َت َأ َر ٌة‬ ‫َو‬ ‫ْص‬ ‫َأ َث َم ْل َه ْم َز ُة َو َّث ُء َو ُم َتُد ُّل َع َل َأ‬
‫ال ‪ .‬ا ‪ :‬ا آِث ‪ِّ : ،‬خ ‪ ،‬أي متأِّخ رة في سيرها‪ .‬أل ذا‬ ‫ا‬ ‫ى ٍل اِح ٍد ‪،‬‬ ‫ال ا اِمْل ي‬ ‫‪ 10‬اإلثم‪ ) ( :‬ا‬
‫اإلثِم بطيء عن الخير متأِّخ ر عنه (مقاييس اللغة)‪ ،‬وملا كانت الذنوب تحول دون وصول الخيرات إلى اإلنسان فقد سميت "إثما"‪ .‬واآلثام‪:‬‬
‫اسم لألفعال املبطئة عن الثواب وعن الخيرات‪ .‬قال أبو حيان في البحر املحيط ‪ 2/291‬في تفسير آية [البقرة ‪" :]85‬اإلثم فيه قوالن‪:‬‬
‫َّل‬ ‫َّذ‬
‫أحدهما أنه الفعل الذي يستحُّق عليه صاحبه ال َّم واللوم‪ .‬والثاني‪ :‬أنه الذي تنفر منه النفس وال يطمئن إليه القلب"‪ .‬ود ت عبارته بعد‬
‫ذلك على ترجيحه للمعنى الثاني؛ حيث ساق حديث النبي ﷺ‪« :‬اإلثم ما حاك في صدرك»‪ .‬ونحن نذهب إلى ترجيح الوجه الذي رَّج حه أبو‬
‫ُف‬ ‫ُف‬
‫حيان في تفسيره لإلثم؛ ألن النبي ﷺ فَّس ره‪ ،‬والُّس َّن ة ُم َب ِّي نة للقرآن بال نزاع‪ .‬وفى اإلثم معنى التعُّم د حيث ِّس ر الَج َن في آية [البقرة ‪]182‬‬
‫بامليل عن الحق على سبيل الخطأ‪ ،‬واإلثم بتعُّم د الجور والظلم واألذى‪ .‬وفى آية [النساء ‪ُ ]112‬ع ِط ف اإلثم على الخطيئة ب "أو"‪ ،‬وعلى‬
‫البهتان بالواو‪ ،‬والعطف بـ "أو" يدل على املغايرة في املعنى بين اإلثم والخطيئة‪ ،‬وللمفسرين في ذلك أقوال عديدة‪ ،‬فبعضهم جعلهما بمعنى‬
‫واحد‪ ،‬وأكثرهم رَّج ح أن املراد بالخطيئة‪ :‬صغائر الذنوب‪ ،‬وباإلثم‪ :‬كبائر الذنوب‪ ،‬وثمة أقوال أخرى غير ذلك‪ .‬على أن األرجح من بين هذه‬
‫ُذ‬ ‫َن ْظ‬
‫األقوال كما يوحى به ُم اآلية الكريمة ‪ -‬حيث العطف يوجب املغايرة‪ ،‬وفى ضوء استقراء النصوص األخرى التي ِك َر فيها اإلثم ‪ -‬أن‬
‫املراد بالخطيئة‪ :‬املعصية الصغيرة‪ ،‬أو فعل خالف األولى‪ ،‬واملراد باإلثم‪ :‬املعصية الكبيرة‪ .‬وهذا ما ذهب إليه أكثر املفسرين [الكشاف‬
‫والُح وب والُّس حِت والكبيرة‪ ،‬مع مالحظة مهمة وهي أنه في الوقت الذي يطلق على كل منها اسم الذنب‪،‬‬
‫َظ ًا‬
‫أو الجريمة‪ ،‬أو السيئة‪ ،‬أو املعصية‪ ،‬أو اإلثم‪ ،‬أو املنكر ولكن يمكن أن تتدرج تصاعديا ِع م ‪ ،‬بحسب‬
‫نوعها وتقُّص د القيام بها‪ ،‬ونوع الزجر الذي تخالفه أو اإلصرار عليها‪ ،‬فتنقلب من ملٍم وصغيرٍة إلى‬
‫خطيئٍة ‪ 11‬محيطٍة ‪ ،12‬وكبيرٍة وسحٍت ماحٍق للطاعاِت ‪ .‬ونستفيد من وضع اليد على الفروق بينها في فهم‬
‫آيات ذكرت غفران ذنب الرسول ﷺ‪ ،‬أو وضع الوزر عنه‪ ،‬أو أن آدم عصى ربه‪ ،‬لنفهم عصمة األنبياء‬
‫في ضوء هذه الفروق اللغوية الشرعية‪.‬‬
‫فاإلثم‪ ،‬بتتبع معانيه في القرآن وفي السنة وفي اللغة‪ :‬بدء حديث النفس باملعصية أو بامليل عن الحق‪،‬‬
‫أو بإيقاع الجور والظلم واألذى‪ ،‬أو بفعل قبيح يستوجب الذم واللوم‪ ،‬أو يؤخر عن الخيرات‪ ،‬فإن تعمد‬
‫َّث‬
‫الوقوع فيه يقال أثم‪ ،‬أو ارتكب إثما‪ ،‬وإن أحجم عنه يقال تأ َم ‪ ،‬وبحسب نوع هذا الجور أو املعصية أو‬
‫الفعل القبيح يتراوح اإلثم من الذنب الصغير الذي يبطئ صاحبه عن نيل الثواب‪ ،‬أو يؤخر الخيرات‬
‫َّل َف َق ْف َت ْث‬ ‫ْش‬
‫عنه‪ ،‬إلى أعظم الذنوب‪ :‬الشرك باهلل‪ ،‬الذي وصف بأنه إثم عظيم ﴿َو َم ْن ُي ِر ْك ِب ال ِه ِد ا َر ى ِإ ًم ا‬
‫َع ِظ يًم ا﴾ [النساء ‪.]48‬‬
‫َّذ ْن‬ ‫ْل‬ ‫ْنَق‬
‫والجرم َم ا َي ِط ع ِب ِه َع ن ا َو اِج ب‪ ،‬و (َج َر م) أيضا كسب‪( .‬الصحاح)‪ ،‬والُج ْر ُم ال ُب ‪،‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫ألنه كسب والكسب اقتطاع‪( .‬مقاييس اللغة)‪ .‬والذنب‪ 13‬مطلق الجرم ‪-‬عمد أو سهو ‪ -‬بخالف اإلثم‪،‬‬
‫ْث‬ ‫َف‬
‫‪ ،1/563‬البحر املحيط ‪ ،3/346‬التحرير والتنوير ‪ ،5/196‬التفسير الوسيط ‪ ]3/400‬واألثيم املتمادي ِف ي االثم واآلثم اعل اِإْل م‪.‬‬
‫ًا‬ ‫ْث اَّل‬ ‫اَل‬ ‫ْل َخ َئ‬
‫‪ 11‬وا ِط ي ة (صغائر الذنوب) قد تكون من غير تعمد َو يكون اِإْل م ِإ تعمدا (الفروق اللغوية للعسكري)‪ ،‬فالخطيئة‪ ،‬إذا كانت عمد ‪،‬‬
‫ْخ ُط‬
‫فإنها تطابق اإلثم‪ .‬بمعنى الذنب‪ ،‬وأصلها من خطا َي و‪ ،‬أي تعَّد ى الشيء وذهب عنه‪ ،‬ويقال ملن تعدى الخير وتركه‪ :‬أخطأ‪ ،‬وفَّر ق ابن‬
‫ْط‬ ‫ْط‬ ‫َخ َط‬
‫منظور بين ال ِأ والخطيئة‪ ،‬فنقل عن بعض اللغويين‪" :‬الخطأ‪ :‬ما لم ُي َت َع َّم ْد ‪ .‬والِخ ُء والخطيئة‪ :‬الذنب على عمد" والِخ ُء ذنب عظيم‪،‬‬
‫َخ َئ‬ ‫َّل َأ ْط َأ ْغ‬
‫وفى آية ﴿َو ا ِذ ي َم ُع ْن َي ِف َر ِل ي ِط ي ِت ي َي ْو َم الِّد يِن ﴾ [الشعراء ‪ ]82‬أضيفت الخطيئة إلى الخليل إبراهيم عليه سالم هللا‪ ،‬مما يقطع بأنها‬
‫صغيرة‪ ،‬بل فعل خالف األولى‪ ،‬ألن األنبياء ‪-‬صلوات هللا وسالمه عليهم ‪ -‬معصومون من الكبائر‪ ،‬وألن السنة فّس رت ما كان من إبراهيم‬
‫عليه سالم هللا بثالث كذبات من املعاريض كما سيأتي‪ ،‬وأنها خالف األولى‪ ،‬فهذه هي الخطيئة‪ ،‬وهكذا يتضح أن الخطيئة تعني‪ :‬الذنب‬
‫ُّل‬
‫الصغير‪ ،‬أو فعل خالف األولى "وأكثر استعماالتها فيما ال يكون مقصوًد ا لنفسه‪ ،‬بل يكون القصد سبًب ا لتو د ذلك الفعل منه‪ ،‬كمن رمى‬
‫ُّذ ُن‬ ‫َذ‬ ‫َأ ْأ َث‬ ‫ُّلَغ‬ ‫ْث‬
‫صيًد ا فأصاب إنساًن ا [مفردات األصفهاني (خ ط أ)]‪ .‬واِإْل م ِف ي أصل ال ة الَّتْق ِص ير ثٌم َي م ِإ ذا قّص ر‪ ،‬ثَّم كثر ِل ك َح َّت ى سميت ال وب‬
‫َز ْل‬ ‫َخ َط َك‬
‫ككلها اَي ا‪َ ،‬م ا سميت إسرافا‪ ،‬وأصل اإلسراف ُم َج او ة ا َح د ِف ي الَّش ْي ء‪.‬‬
‫‪ 12‬من أحاطت به خطيئته‪ ،‬ليس بمؤمن‪ ،‬فقد كسب سيئة وأحاطت به خطيئته‪ ،‬إذ إن املؤمن ال تحيط به خطيئته‪ ،‬بل ال يخلو من عمل‬
‫صالح‪.‬‬
‫َج ُة‬ ‫ُم‬ ‫ْر‬ ‫ُج‬
‫‪ 13‬أما الذنب ‪( :‬باب الذال والنون وما يثلثهما) (ذنب) الذال والنون والباء أصول ثالثة أحدها الجرم‪( ،‬مقاييس اللغة)‪( ،‬ال ) و(ال ريم )‬
‫َت‬
‫الذنب تقول منه‪َ( :‬ج َر َم ) و(أْج َر َم ) و(اْج َر م)‪ .‬و (َج َر م) أيضا كسب‪( .‬الصحاح)‪( ،‬جرم) الجيم والراء وامليم أصل واحد يرجع إليه الفروع‪.‬‬
‫فالجرم القطع‪ .‬قولهم جرم أي كسب ألن الذي يحوزه فكأنه اقتطعه وفالن جريمة أهله أي كاسبهم‪ ،‬والجرم والجريمة الذنب وهو من‬
‫ُّل َغ ْل‬ ‫َذ َأ َأ‬ ‫ْل‬
‫األول ألنه كسب والكسب اقتطاع‪( .‬مقاييس اللغة) "والجرم َم ا َي ْنَق ِط ع ِب ِه َع ن ا َو اِج ب‪َ ،‬و ِل َك ن صله ِف ي ال ة ا قطع َو ِم ْن ه قيل للصرام‬
‫الجرام َو ُه َو قطع الَّت ْم ر‪،‬‬
‫َق‬ ‫َت َت َل‬ ‫َّذ َأ‬ ‫َّذ‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫والفرق بين الذنب واإلثم‪ :‬أن الذنب مطلق الجرم ‪-‬عمد أو سهو ‪ -‬بخالف اإلثم‪ .‬وال نُب َم ا يتبعُه ال م و َم ا ُي َّب ُع َع ْي ِه الَع ْب د من ِب يح‬
‫َّت‬ ‫اَل‬ ‫ْل‬ ‫ْل‬ ‫ْن‬ ‫ْل َك‬ ‫َذ َأ‬
‫فعله‪َ ،‬و ِل َك ن أصل ا ِل َم ة ااِل ِّت َب اع‪ ،‬ومنه قيل ذنب الدابة ألنه كالتابع لها‪ ،‬والذ ب ُه َو ا َق ِب يح من ا ِف ْع ل َو ُي ِف يد معنى ال ِب َع ة‪ .‬ويجوز أن‬
‫فإنه ‪-‬حال اإلقدام عليه‪ -‬متعمٌد ‪ .‬والذنب دون اإلثم‪ ،‬أو الذنب هو انقطاٌع عن الواجب إذ تساوي‬
‫معاجم اللغة بين الجرم وبين الذنب‪ ،‬والسيئة في االستعمال القرآني‪ :‬الذنب القبيح الذي يسوء صاحبه‪،‬‬
‫أو يسوء في عيون الناس‪ ،‬أي ُي ْس َتْق َب ح‪ ،‬وهي ضد الحسنة‪ ،‬والخطيئة (صغائر الذنوب) مخالفة ال عمد‬
‫فيها‪ ،‬ويقرب منها اللمم‪ ،‬واملعصية مخالفة الطاعة‪ ،‬أو مخالفة األمر‪ ،‬والوزر‪ 14‬ثقل الذنب‪ ،‬واإلثم تعمد‬
‫املعصية‪ ،‬وتعمد التقصير‪،‬‬
‫ْلَك‬ ‫َأ‬ ‫َذ‬ ‫َق‬ ‫َت َت َل‬ ‫َأ‬ ‫َّذ‬ ‫َّذ‬
‫وال نُب َم ا يتبعُه ال م و َم ا ُي َّبُع َع ْي ِه الَعْب د من ِب يح فعله‪َ ،‬و ِل َك ن أصل ا ِل َم ة ااِل ِّت َب اع‪ ،‬ومنه‬
‫َذ َن‬
‫قيل ُب الدابة ألنه كالتابع لها‪ ،‬فهذه األنواع تكون في ذنب يكون فيه فعل معصية أو ترك واجب‪،‬‬
‫ْث‬ ‫ُذ َّل‬ ‫َق‬
‫وثمة نوع أخر من الذنوب‪ ،‬وهو ما ْد ُي ؤاِخ ال ُه َع لى َم ِل ِه من كان في منزلة عالية سامقٍة لو حصل‬
‫منه‪ ،‬فيهبط به عن تلك املكانة‪ ،‬ال ألنه مخالفة أو جريمة‪ ،‬بل ‪-‬وقد علمنا أن الذنب لغة قد يقع سهوا‪،‬‬
‫َت َت‬
‫وبال قصد‪ ،‬وبال َّب ٍع ‪ ،‬وبال ذم‪ -‬فيكون مثال حاله‪ :‬أن ال يبلغ حق شكر تلك املنزلة بالعمل‪ ،‬أو أن يعمل‬
‫َّق‬
‫خالف األولى‪ ،‬أو أن يتخلف ‪-‬أحيانا قليلة‪ -‬عن فعل مندوب ُي َت َو ُع ِم َّم ْن هو في منزلته أن يفعله‪ ،‬أو أن‬
‫ًا َذ‬
‫يفعل في أحياٍن قليلٍة مكروه ال َّم عليه‪ ،‬ولكنه ال يتوقع من مثله‪ ،‬ويبقى في دائرة الذنب وال يصل‬
‫ملرحلة اإلثم املستحق للعقوبة أو املؤاخذة والتتبع‪.‬‬
‫والذنب الكسُب ‪ ،‬ويتعلق بسيئٍة ‪ ،‬أو فعل رذل أو قبيح‪ ،‬والقبح هنا من حيث املفهوم قد يتراوح بين‬
‫ًا‬
‫أن يكون كبيرة أو فعال شائن إذا ما قيس بشرع أو عرف‪ ،‬أو أن يكون صغيرة‪ ،‬أو أن يكون فعال ال يليق‬
‫َت َت‬ ‫َئ‬ ‫َك‬
‫بمقام الفاعل‪َ ،‬و معنى ونه َس ِّي ة (أي يسوء صاحبه) أو إثما (أي ُي َّبُع عليه صاحبه‪ ،‬ويذم) أو ذنبا‬
‫َت َت‬
‫(وقد يتتبع عليه صاحبه (كالكبائر من الذنوب)‪ ،‬أو ال ُي َّبُع عليه صاحبه‪ ،‬بحسب نوع الذنب‪،‬‬
‫والتتبع املعاقبة والذم‪ ،‬وما ال يتتبع عليه فمغفور ومعفو عنه)‪ :‬ومثل هذا النوع يخرج َص احبه َع ن‬
‫ْذ‬ ‫َذ‬ ‫َت‬
‫يقال االثم هو القبيح الذي عليه ِب َع ة‪ ،‬والذنب هو القبيح من الفعل وال يفيد معنى التبعة‪َ ،‬و ِل َه ا قيل للَّص ِب ّي قد أ نب (مجازا)‪َ ،‬و لم نقل‬
‫َذ َن‬ ‫ْن‬ ‫َّل‬ ‫ْل‬ ‫َّذ‬ ‫َأْل‬ ‫َأ‬
‫قد ثم‪َ ،‬و ا ْص ل ِف ي ال نب الرذل من ا ِف ْع ل كالذنب ا ِذ ي ُه َو أرذل َم ا ِف ي َص احبه" (معجم الفروق اللغوية)‪ ،‬إذ إن‪ :‬الذ َب ‪ :‬مصدر َب ‪،‬‬
‫ْل‬ ‫َذ َأ َأ‬ ‫َأ‬ ‫ْل‬ ‫َذ َن‬
‫يقال َب الشرطُّي اللَّص تبعه فلم يفارق أثره‪ .‬وا ُح وب ُي ِف يد نه مزجور َع نُه َو ِل َك ن صله ِف ي ا َع َر بَّي ة الّز جر‪.‬‬
‫َق َت َل‬ ‫ّث‬ ‫َأ‬ ‫َأ‬ ‫ْل‬
‫‪ 14‬وأما الفرق بين اإلثم والوزر فوصفي‪ ،‬إذ إن الوزر وضٌع للقوة‪ .‬وا وزر ُي ِف يد نه يثقل َص احبه َو صله ال قل‪َ ،‬و ِم ْن ه ْو له َع ا ى ﴿ووضعنا‬
‫ْن‬ ‫َّل‬ ‫ْن‬
‫َع ك ِو ْز َر َك ا ِذ ي أنقض ظهرك﴾‪ ،‬فالوزر ثقل الذنب أو الحمل الثقيل‪﴿ .‬ووضعنا َع ك﴾‪ :‬عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك‪ ،‬لو‬
‫كان ذلك الذنب ممكن الحصول‪( ،‬تخيل حال النبي ﷺ لو أذنب‪ ،‬كم كان ذلك ليشق عليه وينقض ظهره‪ ،‬ولكن هللا وقاه ذلك الحمل‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫الثقيل وعصمه) فسمى العصمة وضع مجاز ‪ ،‬ووضع اإلثم للذة‪ ،‬ألن الشرور لذيذة‪ .‬وأما املعصية والذنب فهما بمعنى‪ ،‬ألنهما اسم لفعٍل‬
‫محرٍم يقصد املرء فعل الحرام بالوقوع فيه‪.‬‬
‫أما السيئة في اللغة‪ :‬فالذنب القبيح يشين صاحبه‪ ،‬وهي ما يتعلق بها الذنب في العاجل والعقاب في اآلجل‪ .‬وأما الفاحشة فهي ما عظم فيه‬
‫اَّل ْأ ْل َش‬ ‫ًة‬
‫من األقوال واألفعال‪ ،‬وتطلق الفاحشة على الزنا كناي ‪ ،‬قال تعالى‪َ﴿ :‬و ال ِت ي َي ِت يَن ا َف اِح ة﴾ [النساء‪ ،]15:‬وأما الحرام والسحت‪ ،‬فُي َق ال‬
‫َأ‬ ‫َق‬ ‫َأ‬ ‫اَل‬ ‫َظ‬ ‫َأ‬ ‫اَل‬
‫حَر ام سحٌت َو ُي َق ال سحٌت حَر اٌم ‪َ ،‬و قيل الُّس حت ُي ِف يد نه حَر اٌم اهٌر ‪ ،‬فقولنا حَر ام ُي ِف يد نه سحٌت ‪َ ،‬و ْو لَن ا سحٌت ُي ِف يد نه حَر اٌم ‪،‬‬
‫َق‬ ‫َّط‬ ‫َّل‬ ‫ْل‬ ‫َأ‬
‫َو يجوز ن ُي َق ال ِإ ن الُّس حت ا َح َر ام ا ِذ ي يستأصل ال اَع ات من ْو لَن ا سحته ِإ ذا استأصلته‪ .‬يقول أبو هالل العسكري رحمه هللا‪" :‬الفرق‬
‫بين الفسق والفجور‪ :‬أن الفسق هو الخروج من طاعة هللا بكبيرة‪ .‬والفجور االنبعاث في املعاصي‪ ،‬والتوسع فيها" والفاحشة القول أو‬
‫الفعل عظيم القبح‪ ،‬والحوب الوقوع في أمر مزجور عنه‪ ،‬والسحت حرام يستأصل الطاعات‪.‬‬
‫َأ‬ ‫َذ‬ ‫َف‬ ‫َق‬
‫م ام املقربين‪ُ ،‬ي حرم درجاتهم‪َ ،‬و ِل َك ِم َّم ا يسوء من ُي ِر يد ن يكون من املقربين‪ ،15‬أي يهبط بدرجة‬
‫صاحبه عن املكانة السامقة التي كان ليصلها لو لم يفعله‪ ،‬كحال سيدنا إبراهيم كان ليكون شفيعا‬
‫للخالئق‪ ،‬وهو مقام لم يدركه باستعماله املعاريض‪ ،‬وهذا يدل على أن الرسول ﷺ إذ أدرك هذا‬
‫املقام‪ ،‬فإنه لم يرتكب أي ذنب‪ ،‬أو ما يهبط بمقامه عن تلك املنزلة السامقة البتة‪،‬‬
‫فكما ترى‪ ،‬فإن لكل من هذه املصطلحات معنى مخففا‪ ،‬ومعنى مثقال‪ ،‬فاإلثم يتراوح بين فعل يذم‬
‫ويالم فاعله‪ ،‬وبين فعل يحوك في الصدر تخشى أن يطلع عليه الناس‪ ،‬لعدم اطمئنان القلب لصالحه‪،‬‬
‫وقد ال يتحول لفعل‪ ،‬بل يبقى حبيس الصدر‪ ،‬قال اإلمام النووي‪ :‬معنى «َح اَك في صدرك» أي‪َ :‬ت حَّر َك‬
‫َت‬
‫فيه و َر َّد َد ‪ ،‬ولم ينشرح له الَّص در‪ ،‬وحصل في القلب منه الَّش ُّك وخوف كونه ذنًب ا (صحيح مسلم بشرح‬
‫النووي)‪.‬‬
‫َو ْل َف َو َش اَّل‬ ‫َب َر‬ ‫َك‬ ‫َن‬ ‫َت‬ ‫َّل‬
‫وقد يكون ملما‪ ،‬وقد يتحول إلثم كبير وفاحشة‪﴿ ،‬ا ِذ يَن َيْج ُب‬
‫ِن و اِئ اإلثم ا اِح ِإ‬
‫الَّل َم َم ﴾‪ ،‬فقد وصف من يجتنب كبائر اإلثم والفواحش باإلحسان في اآلية السابقة‪َ﴿ ،‬و َيْج َي ٱَّل يَن‬
‫ِز ِذ‬
‫َأ ُن ْا ْل َن‬
‫ْح َس و ِب ٱ ُح ْس ى﴾‪ ،‬واستثناء اللمم استثناء منقطع ألن اللمم ليس من كبائر اإلثم وال من الفواحش‪.‬‬
‫فاالستثناء بمعنى االستدراك‪ ،‬ووجهه أن ما سمي باللمم ضرٌب من املعاصي املحذر منها في الدين‪ ،‬فقد‬

‫‪ 15‬فإبراهيم الخليل عليه السالم عّد "كذباته" التي وقعت منه هلل؛ وكانت على الحقيقة معاريض ال كذبات‪ ،‬وكانت في سبيل الخير والصالح‬
‫وإقامة الحجة على الكفار‪ ،‬عَّد ها سيئة‪ ،‬واعتذر بسببها عن أن يكون أهال ألن يشفع في الناس‪ ،‬أي أنه بسببها هبط عن مقاٍم يستحقه وهو‬
‫مقام الشفاعة ال أنه اقترف ذنبا‪ ،‬كما روى البخاري (‪ ،)3361‬ومسلم (‪)194‬؛ قال النبي ﷺ‪" :‬لم يكذب إبراهيم النبي عليه السالم قط إال‬
‫َٰه َذ‬ ‫َف َل َك‬ ‫َق‬
‫ثالث كذبات‪ ،‬ثنتين في ذات هللا‪ .‬قوله‪ِ﴿ :‬إ ِّن ي َس ِق يٌم ﴾‪ ،‬وقوله‪ ﴿ :‬اَل َب ْل َع ُه ۥ ِب يُر ُه ْم ا﴾‪ ،‬وواحدة في شأن سارة‪ ،‬فإنه قدم أرض جبار‬
‫ومعه سارة‪ ،‬وكانت أحسن الناس‪ ،‬فقال لها‪ :‬إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك‪ ،‬فإن سألك فأخبريه أنك أختي‪ ،‬فإنك أختي في‬
‫ًا‬
‫اإلسالم‪ ،‬فإني ال أعلم في األرض مسلم غيري وغيرك ‪ ...‬الحديث"‪ .‬وهذا لفظ مسلم‪ ،‬فقوله أنها أخته في اإلسالم من املعاريض‪ ،‬وفيها‬
‫ُت‬
‫مندوحة عن الكذب‪ ،‬وهو ما ُص ور ه الكذب عند السامع‪ ،‬لكنه ليس كذلك عند القائل‪ ،‬بل يقول ما يقصُد ُه هو من اللفظ والذي يحتمل‬
‫معاني متعددة منها املعنى املستعمل ‪ ،‬أو ينطبق على الواقع بصورة غير التي يفهمها السامع‪ ،‬ولكنها صورة صحيحة حقيقية‪ ،‬فاملسلم أخو‬
‫املسلمة أخّو ة عقيدة ال رابطة دم تحّر مهما‪ ،‬والكذب يجوز في حالة الخوف الصرف وليس بذنب‪ ،‬وال ُي ذم عليه‪ ،‬فإن كان املرء بين أن‬
‫يكذب أو ُي قتل ظلما وجورا‪ ،‬فإن الكذب في حقه عندها يكون حسنة‪ ،‬وقد يكون واجبا‪ ،‬كمثل الكذب على األعداء في الحرب‪ ،‬وهو واجب‪،‬‬
‫َٰه َذ‬ ‫َك ُن ْا‬ ‫َٰه َذ َف َٔـُل‬ ‫َف َل َك‬ ‫َق‬
‫والكذب في قوله ﴿ اَل َب ْل َع ُه ۥ ِب يُر ُه ْم ا ْس وُه ْم ِإ ن ا و َي نِط ُق وَن ﴾ [األنبياء ‪ ،]63‬وفي قوله‪ ﴿ :‬ا َر ِّب يۖ ﴾ [األنعام ‪ ،]77‬قاله على‬
‫طريق االستفهام الذي يقصد به التوبيخ‪ ،‬أو على طريق االحتجاج على قومه تنبيًه ا على أن الذي ال ينطق وال يفهم ما يدور حوله‪ ،‬وال‬
‫ْك ُن َظ‬
‫يستطيع منع من يقوم بتكسير نظرائه ليس بإله‪( ،‬وثم ثالث احتماالت للفهم‪ :‬أولها‪ :‬عدم منِعِه َم ْن َي ِس ُر َر اَء ُه ِف ْع ٌل للتكسير أو مشاركة‬
‫ٌة‬
‫فيه ‪-‬مجازا‪ ،-‬إذ يفترض في الصنم لو كان إلها القدرة على املنع‪ ،‬فإحجامه عنها لو كان عن قصٍد ‪ ،‬مع قدرته على املنِع مشارك في الفعل بل‬
‫ًا‬ ‫ُّل‬ ‫َك‬
‫هو وحده من يتحمل مسئولية الفعل حقيقة عندها‪ ،‬لذلك قال‪ِ ﴿ :‬ب يُر ُه ْم ﴾ فك هم كان إله في نظرهم ولم يستطع أي منهم منع رجٍل من‬
‫ٌة‬
‫تكسير نفسه أو نظيره ‪ ،‬وثانيها‪ :‬أن إيمان قومه بقدرته على املنع‪ ،‬وعدم قيامه باملنع مشارك فيه في حقهم ومما يلزم عن اعتقادهم‪،‬‬
‫َٰه َذ‬
‫وثالثها‪ :‬أن إشراكه في الفعل ونسبته إليه تنبيٌه على االحتمالين السابقين) ومثل ذلك يقال في قوله ﴿ ا َر ِّب يۖ ﴾ بصورة االستفهام أو‬
‫َف‬
‫االحتجاج على أن الشمس والقمر املتغيران ليسا بآلهة‪ ،‬وال يصلحان للربوبية‪ .‬وأما قوله ﴿ َق اَل ِإ ِّن ي َس ِق يٌم ﴾ [الصافات ‪ ،]89‬فمن‬
‫َأل‬ ‫َأ‬ ‫َأ‬
‫املعاريض أي يقصد فيها معناه ِإ ني س ْس ُق ُم فيما ستقبل ِإ ذا حان ا جُل ‪ ،‬وهذا من معارض الكالم‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ﴿ :‬إ َّن َك َم ِّي ٌت وِإ ِّن هم‬
‫َم ِّي تون﴾؛ املعنى ِإ نك َس َت ُم وت وإنهم سيموتون؛ كما في لسان العرب‪ ،‬فال كذب على الحقيقة نهائيا ثمة‪.‬‬
‫ٌة‬
‫يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر اإلثم فلذلك حق االستدراك‪ ،‬وفائدة هذا االستدراك عام‬
‫ٌة‬
‫وخاص ‪ ،‬أما العامة فلكي ال يعاِم ل املسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر‪ ،‬وأما الخاصة‬
‫ًة‬
‫فرحم باملسلمين الذين قد يرتكبونها فال َي ُف ّل ارتكابها من نشاط طاعة املسلم‪ ،‬ولينصرف اهتمامه إلى‬
‫ٌة‬
‫تجنب الكبائر‪ .‬فهذا االستدراك بشار لهم‪ ،‬وليس املعنى أن هللا رخص في إتيان اللمم‪ .‬واللمم الفعل‬
‫الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم‪ ،‬وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفى منهم‬
‫بعدم اإلكثار من ارتكابه‪ .‬وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع اآلخر‬
‫بالكبائر‪ ،‬ويتمثل اللمم في الشهوات املحرمة بالنظرة تتبع النظرة‪ ،‬ومن املفسرين من فسر الَّل مم الَه ّم‬
‫ِب‬
‫بالسيئة وال يفعلها فهو إملام مجازي (ابن عاشور) (كحديث النفس أو الشهوة التي ال تتحرك لتتحول‬
‫لفعل حرام)‪ ،‬وال يكون اللمم بهذا املعنى فعال للحرام‪ ،‬وهذا املعنى أقرب للصحة تفسيرا لآلية الكريمة‪،‬‬
‫ْث‬
‫بدليل وصف املسَت َن يَن باملحسنين‪ ،‬ووجه إحسانهم أنهم ملا حاك اإلثم أو الشهوة في صدورهم‪ ،‬خافوا‬
‫هللا ولم يترجموها إلى فعل تفعله الجوارح‪ ،‬فكانوا بهذا محسنين‪ ،16‬وقد يسمى باسم اإلثم أيضا هنا‬
‫وكما أسلفنا نوٌع من أنواع اإلثم أن يحوك في الصدر وال يتقبله‪ ،‬وينفر منه القلب وال تحققه الجوارح‬
‫فعال!‬
‫ُت ُث‬
‫من هنا‪ ،‬فقد َح ِّد الرجَل نفُس ُه باإلثم أو باملعصية أو يهم بها‪ ،‬وال يفعلها‪ ،‬فيغفر هللا له حديث‬
‫نفسه‪ ،‬وهذا ال يجعله مرتكبا ملعصية‪ ،‬ويسمى فعله بالذنب مجازا‪ ،‬خصوصا إذا كان مقامه عاليا‬
‫سامقا‪ ،‬ولم يلحق هللا تعالى أمثال هؤالء بما وصف به من يرتكب كبائر اإلثم والفواحش‪ ،‬وأبقى عليهم‬
‫وصف املحسنين‪ ،‬وحمل بعض العلماء إمكان حصول مثل هذه الصغائر من األنبياء وال يطعن هذا وال‬
‫يقدح في عصمتهم وال في إحسانهم‪.‬‬

‫َك َت ْل َح َن‬ ‫ّن‬ ‫َم َي ْر َع ْن َر ّب َت َب َر َك َو َت َع َل َق‬ ‫ّل‬


‫ا ى‪ ،‬اَل «ِإ هللا َب ا َس اِت‬ ‫ِه ا‬ ‫‪ 16‬روى البخاري ومسلم في صحيحهما واللفظ ملسلم‪َ ،‬ع ْن َر ُس وِل ال ِه ﷺ ِف ي ا ِو ي‬
‫َو الّس ّي َئ ا ‪ُ .‬ث ّم َبّي َن َذ َك ‪َ ،‬ف َم ْن َه ّم َح َس َن َف َل ْم َي ْعَم ْل َه ا َك َت َبَه ا هللا ْنَد ُه َح َس َن ًة َك ا َلًة َو ْن َه ّم َه ا َف َع َل َه ا َك َت َبَه ا هللا َع ّز َو َج ّل ْنَد ُه َع ْش َح َن‬
‫َر َس اٍت‬ ‫ِع‬ ‫ِم‬ ‫ِب‬ ‫ِم ِإ‬ ‫ِع‬ ‫ِب ٍة‬ ‫ِل‬ ‫ِت‬
‫َس ّي َئ ًة‬ ‫َبَه‬ ‫َت‬ ‫ْنَد ُه َح َس َن ًة َك َلًة َو ْن َه ّم َه َف َع َل َه َك‬ ‫َبَه‬ ‫َت‬ ‫َل َس ْب َئ ْع َل َأ ْض َع َك َر َو ْن َه ّم َس ّي َئ َف َل ْم َي ْعَم ْل َه َك‬
‫ِب ا ِم ا‪ ،‬ا هللا‬ ‫اِم ‪ِ ...‬إ‬ ‫ا ا هللا ِع‬ ‫ِب ٍة‬ ‫ِإ ى ِعِم ا ِة ِض ٍف ِإ ى اٍف ِث ي ٍة ‪ِ .‬إ‬
‫ًة‬
‫َو اِح َد »‬
‫َّل‬ ‫ْن ْز‬
‫واملعنى األلصق لكلمة الوزر‪ 17‬في آية ﴿ووضعنا َع ك ِو َر َك ا ِذ ي أنقض ظهرك﴾‪ :‬الحمل الثقيل‬
‫أي وحططنا عنك حملك الثقيل‪ ،‬ويدل عليه قول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة‪(" :‬وزر) الواو‬
‫والزاء والراء أصالن صحيحان‪ :‬أحدهما امللجأ واآلخر الثقل في الشيء" وهو يناسب شرح الصدر‬
‫وثقل مسئولية حمل الرسالة‪ ،‬فأعانه هللا تعالى عليها فلم تعد تثقل ظهره وتنقضه‪ ،‬ال بمعنى أن ذنبه‬
‫عظيم ينوء به ظهره!‬
‫الدليل على عصمة األنبياء قطعي‪:‬‬
‫ودليُل عصمِة األنبياء دليٌل عقلٌي ‪ ،‬ألن ثبوت نبوة النبي ورسالة الرسول ملن أرسل إليهم عقلية تثبت‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫بمعجزٍة محسوسٍة ‪ ،‬فكوُن النبِّي معصوم ال بد أن يكون عقلي ألنه من مقتضيات ثبوت نبوة األنبياء‬
‫والرسل‪ ،‬إذ لو تطرق الشك والخلل إلى إمكانية عدم العصمة في التبليغ‪ ،‬النتفى الوثوق به فيما يصدر‬
‫ًال‬ ‫ًا‬
‫عنه من قوٍل أو فعٍل ‪ ،‬ويكون غير مأموٍن من الخطِأ أو الكذِب ‪ ،‬ويصبح نصُب ُه نبي أو رسو من‬
‫العبث‪ ،‬فال ُي عرف مراُد الرِّب من الخلِق ‪ ،‬والذي ألجله أرسَل الّر سَل ‪ ،‬ونّب أ األنبياء‪ ،‬وهذا نقيض‬
‫الغرض من إرسالهم وتكليفهم بالتبليغ ‪ ،‬ولو جاز عليه الخطأ‪ ،‬في الوقت الذي أمر هللا تعالى باتباعه‬
‫والتأسي به وبطاعته‪ ،‬فإن هذا يعني اجتماع الضدين‪ :‬األمر باملتابعة والطاعة والتأسي به ألنه نبي‪،‬‬
‫ووجوب مخالفته في الخطأ‪ ،‬وهذا مستحيٌل ‪ ،‬وألفضى ذلك إلى تضليل الناس عن الشرع نفسه‪ ،‬فيتبعه‬
‫ّل‬
‫قوٌم في الخطأ فَي ض ون‪ ،‬فعدم عصمة النبي أو الرسول موجب النهيار النبوة والرسالة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ُأ َٰل َّل‬ ‫َّال َط ْذ َّل‬ ‫َأ ْل‬
‫﴿َو َم ا ْر َس َن ا ِم ن َّر ُس وٍل ِإ ِل ُي اَع ِبِإ ِن ال ِه ﴾ [النساء ‪ ،]64‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬و ِئ َك ا ِذ يَن َه َد ى‬
‫ّل‬ ‫ْق‬ ‫َّل َف‬
‫ال ُه ۖ ِب ُه َد اُه ُم ا َت ِد ْه ۗ ﴾ [األنعام ‪ ،]90‬واملشار إليهم باسم اإلشارة هم املشار إليهم بقوله ﴿أولئك ا ذين‬
‫ْق‬ ‫َّل َف‬ ‫ُأ َٰل َّل‬ ‫ّن‬
‫آتيناهم الكتاب والحكم وال بوة﴾ [األنعام ‪ ،]87‬وفي آية ﴿ و ِئ َك ا ِذ يَن َه َد ى ال ُه ۖ ِب ُه َد اُه ُم ا َت ِد ْه ۗ ﴾‬
‫دليل على أن األنبياء مخصوصون بالهدى الذي يجدر االقتداء به في كليته وعمومه وخصوصه‪ ،‬ألنه لو‬
‫ُة‬ ‫َّل‬ ‫ُأ َٰل َّل‬
‫هدى جميع املكلفين على هذه الصورة لم يكن لقوله‪ ﴿ :‬و ِئ َك ا ِذ يَن َه َد ى ال ُه ۖ﴾ فائد تخصيص‬
‫‪ 17‬وأما وضع الوزر عنه‪ ،‬إن حمل على معنى ثقل الذنب‪ ،‬فعناية خاصة به بداللة قوله ﴿َع ْنَك ﴾‪ ،‬وهو حاصل بهدايته إلى الحق التي أزالت‬
‫ًال‬
‫حيرته قبل النبوة بالتفكر في حال قومه وهو ما أشار إليه قوله تعالى ﴿ووجدك ضا فهدى﴾ [الضحى ‪ ،]7‬وليس ذلك بذنب عصا به‬
‫اإلله‪ ،‬بل ضاللة عن الحق قبل نزول الهدى بالحق‪ ،‬وأما ثقل ذلك على نفسه الذي أزاله هللا‪ ،‬وشرح له صدره‪ ،‬فقد كان يكره أحوال أهل‬
‫الجاهلية قبل اإلسالم‪ ،‬من نبذ توحيد هللا ومن مساوي األعمال‪ .‬وكان في حرج من كونه بينهم وال يستطيع صرفهم عما هم فيه‪ ،‬ولم يكن‬
‫يترقب طريقها ألن يهديهم‪ ،‬أو لم يصل إلى معرفة كنه الحق الذي يجب أن يكون قومه عليه‪ ،‬ولم يطمع إال في خويصة نفسه يوّد أن يجد‬
‫ًا‬
‫لنفسه قبس نور يضيء له سبيل الحق مما كان باعث له على التفكر والخلوة وااللتجاء إلى هللا‪ ،‬فكان يتحنث في غار حراء‪ ،‬فلما انتشله هللا‬
‫ًا‬
‫من تلك الوحلة بما أكرمه به من الوحي‪ ،‬كان ذلك شرح مما كان يضيق به صدره يومئذ‪ ،‬فانجلى له النور‪ ،‬وأِم ر بإنقاذ قومه‪ ،‬وقد يظنهم‬
‫َّال‬
‫ط ب حق وأزكياء نفوس‪ ،‬فلما قابلوا إرشاده باِإل عراض وُم الطفته لهم باالمتعاض‪ ،‬حدث في صدره ضيق آخر أشار إلى مثل قوله تعالى‬
‫ُط‬
‫﴿لعلك باخع نفسك أال يكونوا مؤمنين﴾ [الشعراء ‪ .]3‬وذلك الذي لم يزل ينزل عليه في شأنه َر ْب جأشه بنحو قوله تعالى ﴿ليس عليك‬
‫ًا‬ ‫َّل‬
‫هداهم ولكن ال ه يهدي من يشاء﴾ [البقرة ‪ ]272‬فكلما نزل عليه وحي من هذا أكسبه شرح لصدره‪ ،‬ووضع عنه ما كان عليه من الضاللة‬
‫قبل الهداية بالنبوة‪.‬‬
‫(الرازي‪ ،‬بتصرف)‪ ،‬وتكرير اسم اإلشارة لتأكيد تمييز املشار إليه وملا يقتضيه التكرير من االهتمام‬
‫ًال‬ ‫ّل‬
‫بالخبر‪ .‬وأفاد تعريف املسند واملسند إليه قصُر جنِس ا ذين هداهم هللا على املذكورين تفصي‬
‫ْق‬ ‫َف‬ ‫ًال‬
‫وإجما ‪ ،‬وقوله ﴿ ِب ُه َد اُه ُم ا َت ِد ْه ۗ ﴾ تفريٌع على كمال ذلك الُه َد ى‪( ،‬ابن عاشور) أي على اتصافه بصفات‬
‫ًا‬
‫الكمال املنزه عن النقص والخطأ واملعصية‪ ،‬لكن هللا تعالى هدى من آمن من البشر أيض ‪ ،‬ولم يدخل‬
‫ذلك الهدى في االختصاص الذي خص به هدي األنبياء في هذه اآلية‪ ،‬فدل ذلك على أن جدارة األنبياء‬
‫بأن يكونوا محل اقتداٍء خاٍص هو عصمتهم عن الخطأ‪ ،‬وُس ُم ّو منزلتهم التي ميزتهم بخصاٍل ال يضل من‬
‫اقتدى بها‪ ،‬فال يشاركون في ذلك البشر غير املعصومين‪ ،‬الذين إذا أصاب أحدهم اقُت دي به‪ ،‬وإن أخطأ‬
‫لم يكن محال للقدوة‪ .‬واالقتداء يكون باتباع األمر والنهي‪ ،18‬ويكون باتباع القول والعمل‪ ،‬ويكون أيضا‬
‫َّل َف ُمْل‬
‫بالقيام بالفعل فعال مشابها لفعلهم‪ ،19‬وقال تعالى ﴿َم ن َي ْه ِد ال ُه ُه َو ا ْه َت ِد ﴾ [الكهف ‪ ،]17‬أي أن من‬
‫يهده هللا فلن يضل‪ ،‬واألمر باالقتداء بهداهم يدل على عصمتهم عن الخطأ فال يأمر هللا تعالى باالقتداء‬
‫َل‬ ‫َت َن‬
‫بمخطئ في خطئه‪ ،‬وقال عن األنبياء‪َ﴿ :‬و اْج َب ْي اُه ْم َو َه َد ْي َن اُه ْم ِإ ى ِص َر اٍط ُّم ْس َت ِق يٍم ﴾ [األنعام ‪ ،]87‬وال‬
‫ًة‬ ‫ًة‬
‫يخطئ من هداه هللا تعالى إلى صراٍط مستقيٍم هداي محَّق ق توالها الهادي رب العاملين سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫َك ّل‬ ‫ٌة‬ ‫َل ّل‬ ‫َئَّال ُك َن َّن‬ ‫ًال‬
‫وقال تعالى ﴿ُّر ُس ُّم َب ِّش ِر يَن َو ُم نِذ ِر يَن ِل َي و ِل ل اِس َع ى ال ِه ُح َّج َب ْع َد الُّر ُس ِل َو اَن ال ُه َع ِز يًز ا‬
‫ٌأ‬
‫َح ِك يًم ا﴾ [‪ 165‬النساء]‪ ،‬ولو َص َد َر عن املنِذ ر أو املبِّش ِر خط في التبليغ‪ ،‬ملا أقيمت الحجة‪.‬‬
‫﴿َع ا ُم اْل َغ ْي ‪َ 20‬ف ال ُي ْظ ُر َع َل ى َغ ْي َأ َح ًد ا ۝ َّال َم اْر َت َض ى ن َّر ُس و َف َّنُه َي ْس ُل ُك ن َبْي َي َد ْي‬
‫ِم ِن ِه‬ ‫ٍل ِإ‬ ‫ِم‬ ‫ِإ ِن‬ ‫ِب ِه‬ ‫ِه‬ ‫ِب‬ ‫ِل‬
‫ًد‬ ‫َد‬ ‫َع‬ ‫َش‬ ‫ُك‬ ‫َص‬ ‫ْح‬ ‫َأ‬ ‫َو‬ ‫ْم‬ ‫ْي‬ ‫َد‬ ‫َل‬ ‫َم‬ ‫َط‬ ‫َح‬ ‫َأ‬ ‫َو‬ ‫ْم‬ ‫َر‬ ‫َس‬ ‫ُغ‬ ‫َل‬ ‫ْب‬ ‫َأ‬ ‫ْد‬ ‫َق‬ ‫َأ‬ ‫َم‬ ‫َل‬ ‫َيْع‬ ‫ًد‬ ‫َص‬ ‫َر‬ ‫َو ْن َخ ْل‬
‫ا﴾‬ ‫ى َّل ْي ٍء‬ ‫ِه‬ ‫ا‬ ‫ِب‬ ‫ا‬ ‫ِّب ِه‬ ‫ِت‬ ‫اال‬ ‫ِر‬ ‫وا‬ ‫ن‬ ‫ِل‬ ‫۝‬ ‫ا‬ ‫ِه‬ ‫ِف‬ ‫ِم‬
‫[الجن ‪ ،]28-26‬وهذه اآليات من أبلغ ما يدل على استحالة حصول أي خطأ في التبليغ‪ ،‬ويمنع تسرب‬

‫‪ 18‬حيث إن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا‪ ،‬وحيث إن شرائع األنبياء قبلنا اختلفت في بعض املواطن فكان بعضها يحل األمر وبعضها‬
‫يحرمه‪ ،‬وال مجال لالقتداء بها في هذا‪ ،‬فإن اآلية تشير إلى اقتداء النبي ﷺ بفعل األنبياء في التبليغ‪ ،‬وفي صفاتهم التي امتازوا به كصفة‬
‫الشكر لداود‪ ،‬وصفة الصبر أليوب‪ ،‬والعزيمة في التبليغ لنوح‪ ،‬حتى تجتمع فيه ﷺ صفات الخير كلها‪ ،‬وفي االقتداء بالهدي الذي أنزل‬
‫ًة‬ ‫ْل ُك‬ ‫ُك‬
‫عليهم باإليمان به وتصديقه‪ ،‬لكن بالعمل وفقا لشرعة هللا التي نزلت عليه ﷺ‪ِ﴿ ،‬ل ٍّل َج َع َن ا ِم ن ْم ِش ْر َع َو ِم ْن َه اًج ا﴾ [املائدة ‪.]48‬‬
‫ْث‬ ‫َف‬ ‫َف‬ ‫َخ ْط ْق َخ ْط َت َّث‬ ‫ْق‬ ‫ْق‬ ‫ْق‬ ‫ْق ُت ْق َت‬
‫‪ 19‬ا َتَد ْي ‪ ،‬أ ِد ي‪ِ ،‬ا َت ِد ‪ ،‬مصدر ِا ِت داٌء ‪ِ :‬ا َتَد ى َو ُه ‪ِ :‬ا َتَف ى َو ُه ‪ ،‬م َل ِب ِه ‪ ،‬أْي َع ل ِم ثَل ِف ْع ِل ِه ‪َ .‬ع ل ِم َل ِف ْع ِل ه تشُّبًه ا به‪ ،‬وقال تعالى‬
‫عن الكفار في اتباعهم األفكار التي وجدوا آباءهم عليها‪َ﴿ :‬و َك َٰذ ِل َك َم ا َأ ْر َس ْل َن ا ِم ن َق ْب ِل َك ي َق ْر َي ٍة ِّم ن َّن ِذ ي اَّل َق اَل ُم ْت َر ُف وَه ا َّن ا َو َج ْد َن ا آَب اَء َن ا َع َل ٰى‬
‫ِإ‬ ‫ٍر ِإ‬ ‫ِف‬ ‫ُأ‬
‫ْق َت َن‬ ‫َل َث‬
‫َّم ٍة َو ِإ َّن ا َع ٰى آ اِر ِه م ُّم ُد و ﴾ [الزخرف ‪ ،]23‬أي على ملة ودين‪ ،‬اعتقاد ونظام عيش اقتدينا بهم فيه أي حملنا عين األفكار التي حملوها‪.‬‬
‫ْل َغ‬ ‫ْل َغ‬
‫‪ 20‬و ﴿ا ْي ِب ﴾‪ :‬مصدر غاب إذا استتر وخفي عن األنظار وتعريفه تعريف الجنس‪ ،‬أي جنس الغيب‪ ،‬وإضافة صفة‪َ﴿،‬ع اِل ُم ﴾ إلى ﴿ا ْي ب﴾‬
‫ًا‬
‫تفيد العلم بكل الحقائق املغيبة سواء كانت ماهيات أو أفراد ‪ ،‬فيشمل املعنى املصدري للغيب‪ ،‬مثل علم هللا بذاته وصفاته‪ ،‬ويشمل األمور‬
‫الغائبة بذاتها مثل املالئكة والجن‪ .‬ويشمل الذوات املغيبة عن علم الناس مثل الوقائع املستقبلة التي يخبر عنها أو التي ال يخبر عنها‪ ،‬فإيثار‬
‫املصدر هنا ألنه أشمل ِإل حاطة علم هللا بجميع ذلك‪ ،‬وتعريف املسند مع تعريف املسند إليه املقدر يفيد القصر‪ ،‬أي هو عالم الغيب ال أنا‪.‬‬
‫َف ْظ َل َغ َأ‬
‫وفرع على معنى تخصيص هللا تعالى بعلم الغيب جملة ﴿ ال ُي ِه ُر َع ى ْي ِب ِه َح ًد ا﴾‪ ،‬فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم املفرع إتمام‬
‫َف ْظ َل َغ َأ‬
‫للتعليل وتفصيل ألحوال عدم االطالع على غيبه‪ ،‬ومعنى ﴿ ال ُي ِه ُر َع ى ْي ِب ِه َح ًد ا﴾ ال ُي طلع وال ينبئ به‪ ،‬وهو أقوى من يطلع‬
‫َل‬ ‫ْظ‬
‫ألن ﴿ُي ِه ُر ﴾ جاء من الظهور وهو املشاهدة ولتضمينه معنى‪ :‬يطلع‪ ،‬عدي بحرف ﴿َع ى﴾‪ ،‬ووقوع الفعل في حّي ز النفي يفيد العموم‪،‬‬
‫وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حّي زه يفيد العموم‪،‬‬
‫أي شك إلى صحة ودقة الرسالة كلها‪ ،‬واإلحاطة الكاملة تلك الرسالة التي ستقوم حجة قاطعة على‬
‫الخالئق‪ ،‬واستثنى من نفي إظهار وإطالع الغير على علمه بالغيب‪ ،‬من ارتضاه ليطلعه على بعض‬
‫الغيب‪" ،‬أي على غيب أراد هللا إظهاره من الوحي فإنه من غيب هللا‪ ،‬وكذلك ما أراد هللا أن يؤيد به‬
‫ّال ًا‬ ‫ًا‬ ‫َت‬
‫رسوله ﷺ من ِإ خبار بما سيحدث‪ ،‬فقوله‪﴿ :‬اْر َض ى﴾ مستثنى من عموم ﴿أَح د ﴾ لتقدير‪ :‬إ أحد‬
‫ارتضاه‪ ،‬أي اختاره لالطالع على شيء من الغيب لحكمة أرادها هللا تعالى‪ ،‬واِإل تيان باملوصول والصلة في‬
‫َت‬ ‫َّال‬
‫قوله ﴿ِإ َم ِن اْر َض ى ِم ن َّر ُس وٍل ﴾ لقصد ما تؤذن به الصلة من اِإل يماء إلى تعليل الخبر‪ ،‬أي يطلع هللا‬
‫بعض رسله ألجل ما أراده هللا من الرسالة إلى الّن اس‪ ،‬فُيْع لم من هذا اِإل يمان أن الغيب الذي يطلع هللا‬
‫عليه الرسل هو من نوٍع ما له تعلق بالرسالة‪ ،‬وهو غيٌب ما أراد هللا إبالغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو‬
‫أن يفعلوه‪ ،‬وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور اآلخرة‪ ،‬أو أمور الدنيا‪ ،‬وما يؤيد به الرسل‬
‫عن اِإل خبار بأمور مغيبة و ﴿ِم ن رسوٍل ﴾ بيان ِإل بهام ﴿َم ِن ﴾ املوصولة‪ ،‬فدل على أن َم ا ْص َد َق ﴿َم ِن ﴾‬
‫ّال‬ ‫ٌة‬
‫جماع من الرسل‪ ،‬أي إ الرسل الذين ارتضاهم‪ ،‬أي اصطفاهم‪ .‬وشمل ﴿رسول﴾ كّل مرسل من هللا‬
‫تعالى فيشمل املالئكة املرسلين إلى الرسل بإبالغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السالم‪ .‬وشمل الرسل من‬
‫البشر املرسلين إلى الناس بإبالغ أمر هللا تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صالحهم‪ .‬وهنا أربعة‬
‫ضمائر غيبة‪ :‬األول ضمير ﴿فإنه﴾ وهو عائد إلى هللا تعالى‪ .‬والثاني الضمير املستِت ر في ﴿يسلك﴾ وهو ال‬
‫محالة عائد إلى هللا تعالى كما عاد إليه ضمير ﴿فإنه﴾‪ .‬والثالث والرابع ضميَر ا ﴿ ن َبْي َي َد ْي َو ْن‬
‫ِم ِن ِه ِم‬
‫ًا‬ ‫َخ ْل‬
‫ِف ِه ﴾‪ ،‬وهما عائدان إلى ﴿رسوٍل ﴾ أي فإن هللا يسلك أي يرسل للرسول رَص د ‪ 21‬من بين يدي الرسول‬
‫ًا‬
‫ﷺ ومن خلفه رصد ‪ ،‬أي مالئكة يحفظون الرسول ﷺ من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما‬
‫أطلعه هللا عليه من غيبه‪[ ،‬ويحفظون الرسالة من أن يختلط بها أي أمر ينقصها‪ ،‬أو يتسرب إليها من‬
‫خارجها (من خارج دائرة الوحي)]‪.‬‬
‫ْن َس َل َأ َأ‬ ‫ُت‬ ‫َس َلْك‬ ‫ْل‬
‫الشيء في الشيء فا ك ي دخلته فيه فدخل؛ (لسان العرب)‪.‬‬ ‫والَّس ُك ‪ ،‬بالفتح‪ :‬مصدر‬
‫ُأ‬ ‫ُل‬
‫والسلك‪ 22‬في اآلية‪ :‬أي يرسل إليه مالئكة متجهين إليه ال يبتعدون عنه حتى َيْب َغ إليه ما وحي إليه‬
‫من الغيب‪ ،‬كأّن هم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم‪ .‬وهذا من جملة الحفظ‬
‫َل َل ُظ‬ ‫ْك‬ ‫َن َن ْل‬
‫الذي حفظ هللا به ذكره في قوله‪ِ﴿ :‬إ َّن ا ْح ُن َّز َن ا الِّذ َر َو ِإ َّن ا ُه َح اِف وَن ﴾ [الحجر ‪]9‬‬

‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬


‫‪ 21‬والرصد‪ :‬اسم جمع كما تقدم آنف في قوله ﴿يجد له شهاب رصد ﴾ [الجن ‪ ،]9‬وانتصب ﴿رصد ﴾ على أنه مفعول به لفعل ﴿يسلك﴾‪.‬‬
‫ْل‬
‫‪ 22‬والّس ك حقيقته‪ :‬اِإل دخال كما في قوله تعالى ﴿كذلك نْس لكه في قلوب املجرمين﴾ [الحجر ‪ ،]12‬وأطلق الَّس لك على اِإل يصال املباشر‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫تشبيه له بالدخول في الشيء بحيث ال مصرف له عنه كما تقدم آنف في قوله ﴿ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذاب صَع َد ﴾ [الجن‪،]17:‬‬
‫ْذ‬ ‫َّط َأ ُلُك‬ ‫َل‬
‫"(َس َك ) السين والالم والكاف أصٌل يدُّل على نفوذ شيٍء في شيء‪ .‬يقال سلكت ال ريَق س ه‪ .‬وَس لكت الشيء في الشيء‪ :‬أنف ته‪( ".‬مقاييس‬
‫اللغة)‪.‬‬
‫َخ ْل‬
‫واملراد ب ﴿ِم ن َبْي ِن َي َد ْي ِه َو ِم ْن ِف ِه ﴾ الكناية عن جميع الجهات‪ ،‬ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية‬
‫أخرى عن السالمة من التغيير والتحريف‪ .‬ويتعلق ﴿ليعلم﴾‪ 23‬بقوله‪﴿ :‬يسلك﴾‪ ،‬أي يفعل هللا ذلك‬
‫ّل‬
‫ليب غ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه ال يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم هللا أن الرُس ل‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫َث‬
‫أبلغوا ما أوحي إليه كما بع ه دون تغيير‪ ،‬فلما كان علم هللا بتبليغ الرسول الوحي مفرع ومسبب عن‬
‫ًا‬ ‫ّل‬ ‫ُمل‬
‫تبليغ الوحي كما أنزل هللا‪ ،‬جعل ا َس بب ع ة وأقيم مقام الَّس بب إيجاز في الكالم ألن علم هللا بذلك ال‬
‫ّال‬
‫يكون إ على وفق ما وقع وهذه العلة هي املقصد األهم من اطالع من ارتضى من رسول على الغيب‪،‬‬
‫وذكر هذه العلة ال يقتضي انحصار علل االطالع فيها واملراد‪ :‬لَي علم هللا أن قد أبلغوا رساالت هللا وأدوا‬
‫ًا‬
‫األمانة علم يترتب عليه جزاؤهم الجزيل"‪.24‬‬
‫إذن‪ ،‬فعصمة النبي والرسول في التبليغ حتمية‪ ،‬والتبليغ يشمل القول ويشمل الفعل‪ ،‬فإذا تطرقت‬
‫املعصية للقول أو للفعل تطرقت إلى التبليغ نفسه‪ ،‬أي إلى الوحي الذي يصدر عنه الرسول أو النبي في‬
‫أقواله وأفعاله‪ ،‬وهذا يناقض النبوة والرسالة نفسها‪ ،‬لذلك وجبت لألنبياء العصمة في التبليغ‪ ،‬كما‬
‫وجبت لهم العصمة عن الكبائر‪ ،‬بل العصمة عن ترك الواجبات‪ ،‬وعن فعل املحرمات‪ ،‬كبيرها‬
‫وصغيرها‪ ،‬فاألنبياء معصومون‪ 25‬عن املعصية بعد إرسالهم‪ ،‬أما املكروهات واملندوبات وخالف األولى‪،‬‬
‫فهم غير معصومين عنه‪ ،‬ألنه ال يتناقض مع الرسالة‪ ،‬وال معصية معه‪" ،‬وعصمة النبي والرسول عن‬
‫ًا‬
‫األفعال املخالفة ألوامر هللا ونواهيه دل الدليل العقلي على أنه معصوم عن الكبائر حتم ‪ ،‬فال يفعل‬
‫ًا‬
‫كبيرة من الكبائر مطلق ألن فعل الكبيرة يعني ارتكاب املعصية‪ .‬والطاعة ال تتجزأ واملعصية ال تتجزأ‪.‬‬
‫فإذا تطرقت املعصية إلى الفعل تطرقت إلى التبليغ‪ ،‬وهي تناقض الرسالة والنبوة‪ .‬ولذلك كان األنبياء‬
‫والرسل معصومين عن الكبائر كما هم معصومون بالتبليغ عن هللا‪ .‬أما العصمة عن الصغائر‪ ،‬فإنه قد‬

‫َل َأ َق َأ َل ُغ‬
‫‪ 23‬الواو واو الحال أو اعتراضية ألن مضمونها تذييل لجملة ﴿ِل َيْع َم ن ْد ْب وا ِر َس االِت َر ِّب ِه ْم ﴾‪ ،‬أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ‬
‫َأ َط َل‬
‫وغيره‪ ،‬وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك‪ ،‬فقوله ﴿َو َح ا ِب َم ا َد ْي ِه ْم ﴾ تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلِم ه بتبليغهم ما أرسل إليهم‪ ،‬وقوله‬
‫ُك‬ ‫َأ‬
‫﴿َو ْح َص ى َّل َش ْي ٍء َع َد ًد ا﴾ تعميم أشمل بعد تعميٍم َّم ا‪.‬‬
‫‪ 24‬تفسير ابن عاشور‪ ،‬بتصرف بسيط‬
‫‪ 25‬ولم يرد عن األنبياء والرسل عليهم الصالة والسالم أي دليل نقلي قاطع سواء في كتاب هللا أو في سنة متواترة لرسول هللا على معصية‬
‫ارتكبها أحد منهم بعد الرسالة‪ ،‬وما ورد جاء في أدلة ظنية الداللة‪ ،‬والظني ال يعاِر ُض الدليل العقلي القطعي على العصمة‪ ،‬بل الدليل‬
‫القطعي يقضي عليه كما يقضي املحكم على املتشابه‪ ،‬فيفهم في ضوئه‪ ،‬وأي معنى يعارض القطعي يصار إلى رفضه مباشرة‪ ،‬فالوحي ال‬
‫يناقض بعضه بعضا‪ ،‬أي إنه قد أسيء فهم هذه األدلة ‪ ،‬كما سنثبت في هذا الفصل بخصوص ما ينسب إلى الرسول ﷺ من أمور قيل إنه‬
‫أخطأ فيها ‪-‬حاشاه‪ .-‬أما ما ورد عن آدم عليه الصالة والسالم في القرآن الكريم من أكله من الشجرة بعد أن نهاه هللا عنها‪ ،‬فإن هذا ال‬
‫يناقض مقتضى العصمة الناتجة عن تبليغ الرسالة للناس في الدنيا‪ ،‬ألن ما حدث من آدم عليه السالم كان في الجنة لحكمٍة يعلمها هللا‬
‫وهو موضوع آخر ألن العصمة متعلقة بالرسالة للناس على األرض في الدنيا‪ ،‬و"العصمة مسبب‪ ،‬وسببها النبوة؛ ألنه ال تقوم الحجة إال‬
‫بمعصوم‪ ،‬وهذا يقتضي أن النبي ال يكون معصوما قبل النبوة‪ ،‬وبمثل هذا نفهم قوله سبحانه‪َ﴿ :‬و َع َص ٰى آَد ُم َر َّب ُه َف َغ َو ٰى * ُث َّم اْج َت َب اُه َر ُّب ُه‬
‫َل‬ ‫َف‬
‫َت اَب َع ْي ِه َو َه َد ٰى ﴾؛ فاجتباؤه واصطفاؤه نبيا كان بعد املعصية‪ ،‬فحصلت له بذلك العصمة" (علي أبو الحسن)‪.‬‬
‫اختلف العلماء فيها‪ ،‬فمنهم من قال إنهم غير معصومين عنها‪ ،‬ألنها ليست معصية‪ ،‬ومنهم من قال إنهم‬
‫ًا‬
‫معصومون عنها ألنها معصية‪ .‬والحق أن كل ما كان طلب فعله أو طلب تركه جازم ‪ -‬أي جميع الفروض‬
‫واملحرمات ‪ -‬هم معصومون بالنسبة لها‪ ،‬معصومون عن ترك الواجبات‪ ،‬وعن فعل املحرمات‪ ،‬سواء‬
‫أكانت كبائر أو صغائر‪ .‬أي معصومون عن كل ما يسمى معصية ويصدق عليه أنه معصية‪ .‬وما عدا ذلك‬
‫من املكروهات واملندوبات وخالف األولى‪ ،‬فهم غير معصومين عنه‪ ،‬ألنه ال يتناقض مع النبّو ة والرسالة‬
‫حسب الدليل العقلي‪ .‬فيجوز عليهم فعل املكروه وترك املندوب‪ ،‬ألنه ال يترتب عليه إثم‪ ،‬ويجوز عليهم‬
‫فعل خالف األولى‪ ،‬وهو فعل بعض املباحات دون البعض‪ ،‬ألن ذلك في جميع وجوهه‪ ،‬ال يدخل تحت‬
‫ًال‬
‫مفهوم كلمة معصية‪ .‬هذا ما يحتمه العقل ويقتضيه كونهم أنبياء ورس "‪.26‬‬
‫وعصمتهم ال تعني سلب قدرتهم على االختيار‪ ،‬وجبرهم على الحق والهدى‪ ،‬إذ أشارت اآليات إلى‬
‫َف‬ ‫َّل‬
‫استطاعتهم فعل النقيض‪ ،‬لكن تقواهم العالية‪ ،‬وعلمهم وفضلهم يحجبهم قال تعالى‪َ﴿ :‬و ِإ ن ۡم َتۡف َع ۡل َم ا‬
‫ُل‬ ‫َك ُن‬ ‫َل َأ ْش ُك َل َط‬ ‫َل‬ ‫َّل‬
‫َب ۡغَت ِر َس ا َتُه ۚۥ﴾‪ ،‬وقال عن األنبياء‪َ﴿ :‬و ْو َر وا َح ِب َع ْن ُه م َّم ا ا وا َي ْعَم وَن ﴾ [األنعام ‪ ،]88‬وهذا كله‬
‫من كمال املنزلة أن تصدر العصمة عن نفس تقية نقية مجتباة مختارة‪ ،‬اجتمع ذلك فيها مع تسديد روح‬
‫القدس‪ ،‬ومع توفيق هللا تعالى وهدايته‪ ،‬وصرفه عنهم السوء والفحشاء‪.‬‬
‫ال يجوز في حق النبي ﷺ أن يكون مجتهدا‪،‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫وال يجوز في حق الرسول ﷺ أنه مجتهٌد ‪ ،27‬كما ذهب بعض العلماء قديم وحديث ‪ ،‬حتى إن بعضهم‬
‫ًا‬
‫جزأ الوحي‪ ،‬فأخرج منه ما حسبه اجتهاد من الرسول ﷺ‪ ،‬من باب أن املجتهد يصيب ويخطئ‪ ،‬فإن‬
‫أخطأ صَّو به الوحي‪ ،‬ولكنه مع ذلك قبل "تصويب الوحي" يحتمل الخطأ‪ ،‬وكالمهم خطأ محض‪ ،‬بدليل‬
‫أن الدليل الشرعي القطعي الداللة دَّل على أن تبليغه الرسالة في كلياتها‪ ،‬وجزئياتها إنما كان عن الوحي‪،‬‬
‫وهو ﷺ معصوم‪ ،‬فقد أمر هللا بطاعته‪ ،‬واألمر بطاعة الرسول ﷺ على سبيل الجزم والقطع يدل داللة‬
‫ًا‬
‫قاطعة على أنه ﷺ معصوم عن الخطأ‪" ،‬إذ لو لم يكن معصوم عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على‬
‫ًا‬
‫الخطأ يكون ُهللا قد أمر بمتابعته‪ ،‬فيكون ذلك أمر بفعل ذلك الخطأ‪ ،‬والخطأ لكونه خطأ منهٌّي عنه‪،‬‬
‫فهذا يفضي إلى اجتماع األمر والنهي في الفعل الواحد باالعتبار الواحد‪[ ،‬أي اجتماع األمر باتباع الخطأ‪،‬‬
‫والنهي عن اتباعه في آٍن ] وهو محال"‪ ،28‬ويناقض حصر النذارة بالوحي‪ ،‬فيصرح في أن الرسول ﷺ ال‬
‫ينطق عن الهوى‪ ،‬وأنه وحي يوحى‪ ،‬فيكون افتراض صدور الخطأ عنه أن يكون الوحي مصدرا للخطأ‬
‫ًا‬
‫نفسه‪ ،‬وهذا تناقض فج‪ .‬فال يجوز في حقه ﷺ الخطأ في التبليغ مطلق ‪ ،‬ألن جواز الخطأ على الرسول‬

‫‪ 26‬الشخصية اإلسالمية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬تقي الدين النبهاني‪ ،‬باب‪ :‬عصمة األنبياء‪.‬‬
‫‪ 27‬يراجع فصل‪ :‬عصمة األنبياء‪ ،‬وفصل‪ :‬ال يجوز في حق الرسول ﷺ أن يكون مجتهدا‪ ،‬في كتاب‪ :‬الشخصية اإلسالمية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬تقي‬
‫الدين النبهاني‪ ،‬فيهما تفاصيل كثيرة ورد على سائر الشبهات املتعلقة باملوضوع برد مفصل دقيق حري أن يكتب بماء الذهب الخالص!‬
‫‪ 28‬تفسير مفاتيح الغيب للرازي‪ ،‬تفسير اآلية ‪ 59‬من سورة النساء‪.‬‬
‫ﷺ ينافي الرسالة والنبّو ة‪ ،‬ويخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ وحصر النذارة بالوحي‪ ،‬وال‬
‫تستقيم مع االعتقاد بأن كل فعل من أفعاله ﷺ وكل قول من أقواله سنة وشريعة هو وحي من هللا‪ ،‬إذ‬
‫إن احتمال الخطأ في أي جزئية من التشريع يعني أن يتسرب الشك إلى التشريع كله‪ ،‬لذلك‪ ،‬فما ثبت أنه‬
‫ًا‬
‫سنة عن رسول هللا ﷺ فقد ثبت صدوره عن املعصوم‪ ،‬قطعيه قطعي‪ ،‬وظنيه ظني‪ ،‬ثبوت (أي اتصاال‬
‫بالوحي) وداللة‪.‬‬
‫وال ينفي ادعاء "تصويب الوحي" له احتمال نقل االجتهاد الخطأ عنه‪ ،‬دون نقل التصويب‪ ،‬مما‬
‫ًا‬
‫يدخل الشك للتبليغ جملة وتفصيال‪ ،‬وهو محال‪ ،‬أو يجعل اتباعه في الخطأ واجب ما بين صدوره عنه‬
‫وتصويب الوحي له‪ ،‬وهذا أيضا محال ألنه يوجب اتباع الخطأ وينهى عنه في آن‪ .‬على أن الواقع يضج‬
‫َت ْش ُك‬ ‫َج ْتُه َأ ُة َأ ْو‬
‫و‬ ‫بحوادث لم يجتهد فيها الرسول ﷺ‪ ،‬مع الحاجة املاسة للبيان‪ ،‬فقد اَء اْم َر ِس ْب ِن الَّص اِم ِت‬
‫إَل ْي ِه َأ ْو ًس ا‪َ ،‬ف َل ْم ُي ِج ْبَه ا َح َّت ى َن َز َل َع َل ْي ِه ‪َ﴿ :‬ق ْد َس ِم َع الَّل ُه َق ْو َل اَّل ِت ي ُت َج اِد ُل َك ِف ي َز ْو ِج َه ا﴾‪َ ،‬و َج اَء ُه اْل َع ْج اَل ِن ُّي‬
‫َي ْق ُف اْم َر َأ َت ُه ‪َ ،‬ف َق اَل ‪َ :‬ل ْم ُي ْن َز ْل يُك َم ا َو اْنَت َر ا اْل َو ْح َي ‪َ ،‬ف َل َّم ا َأ ْن َز َل الَّل ُه َع َّز َو َج َّل َع َل ْي ‪َ :‬د َع اُه َم ا‪َ ،‬و اَل َع َن‬
‫ِه‬ ‫ِظ‬ ‫ِف‬ ‫ِذ‬
‫َمل ّخ‬ ‫َّل‬ ‫َأ‬ ‫َك‬
‫َبْي َن ُه َم ا‪َ ،‬م ا َم َر ال ُه َع َّز َو َج َّل ‪ ،‬فلو جاز له االجتهاد ا أ ر الحكم بل يجتهد‪ ،‬وبما أنه كان يؤخر الحكم‬
‫حتى ينـزل الوحي فدَّل على أنه لم يجتهد‪ ،‬ودل على أنه ال يجوز له االجتهاد‪ ،‬إذ لو جاز ملا أَّخ ر الحكم مع‬
‫ًا‬
‫الحاجة إليه‪ .‬ولم يحـصـل من الرسـول اجتهاد في تبليغ أي حكم من أحكام هللا مطلق ‪ ،‬بل الثابت بنص‬
‫ًا‬
‫القـرآن وبصحيح السنة أنه ‪ ‬كان يبلغ عن الوحي‪ ،‬وال يبلغ شيئ من التشريع والعقائد واألحكام‬
‫ونحوها إال إذا جـاءه عن طريق الوحي‪ .‬وأنه كان حين ال ينـزل الوحي في حادثة ينتظره حتى ينـزل‪.‬‬
‫َأل‬ ‫ُظ‬
‫وأما ما َّن أنه اجتهاد منه فكان فعل خالف ا ْو لى‪ ،‬أو كان يعمل بحكم سابق معلوٍم له (كحكم‬
‫َم َك َن َن‬
‫الذي نزل في سورة محمدَأْلوقد نزلت قبل األنفال) فدلت اآلية الالحقة في األنفال ﴿ ا ا ِل ِب ٍّى‬ ‫َأ‬
‫األسرى‬
‫ْث‬ ‫َل‬ ‫َأ ُك‬
‫ن َي وَن ُه ٓۥ ْس َر ٰى َح َّت ٰى ُي ِخ َن ِف ى ٱ ْر ِض ۚ ﴾ [األنفال ‪ ]67‬أيضا على جواز األسر لكن بعد إثخان أكثر مما‬
‫حصل في بدر‪ ،‬فحكم األسرى لم ينزل في آية األنفال ‪ ،67‬بل نزل حكم األسرى قبل ذلك في سورة‬
‫ٰٓى َذ‬ ‫َق‬ ‫َّل َك ْا َف‬ ‫َف َذ َل‬
‫محمد‪ ،‬وكان معروفا‪ ،‬وبه عمل الرسول ﷺ‪ِ ﴿ :‬إ ا ِق يُت ُم ٱ ِذ يَن َف ُر و َض ْر َب ٱلِّر اِب َح َّت ِإ ٓا‬
‫َه‬ ‫َر‬ ‫َز‬ ‫ْو‬ ‫َأ ْث َخ ُت ُم ُه ْم َف ُش ُّد ْا ْل َو َث َق َف َّم َم ًّۢن َب ْع ُد َو َّم َد ًء َح َّت ٰى َت َض َع ْل َح ْر ُب َأ‬
‫ا اۚ ﴾ [محمد ‪ ]4‬واملراد‬ ‫ٱ‬ ‫ِإ ا ِف ٓا‬ ‫و ٱ ا ِإ ا ا‬ ‫ن و‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫َت‬ ‫َق‬
‫باإلثخان هو القتل والتخويف الشديد‪ .‬وال شك أن الصحابة لوا يوم بدٍر خلق عظيم وكسبوا‬
‫املعركة‪ ،‬وليس من شرط اإلثخان في األرض قتل جميع الناس‪ .‬ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة‪.‬‬
‫وهذا جائز من آية سورة محمد التي هي سورة القتال ومن هذه اآلية نفسها‪ ،‬فإنها تدل على أنه بعد‬
‫اإلثخان يجوز األسر‪ .‬فال يكون الرسول قد اجتهد في حكم األسرى حين أسر وجاءت اآلية تصحح‬
‫ًا‬
‫اجتهاده‪ ،‬وال يكون األسر الذي فعله الرسول في بدر تشريع فجاءت اآلية تبين خطأه‪ .‬وكذلك ال يكون‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫هذا األسر ذنب مخالف للحكم الذي نزل‪ ،‬ولكن يدل على أن الرسول في تطبيق حكم األسرى الوارد في‬
‫ٰٓى َذ َأ ْث َخ‬
‫آية محمد ﴿َح َّت ِإ ٓا نُت ُم وُه ْم ﴾ على هذه الحادثة في غزوة بدر كان األولى أن يكون القتل أكثر حتى‬
‫يكون اإلثخان أبرز‪ ،‬فنزلت اآلية تعاتب النبي ﷺ على تطبيقه الحكم على وجه خالف األولى‪ ،‬فهي عتاب‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫على فعٍل قام به تطبيق لحكٍم سابٍق وليست تشريع لحكم جديد وال تصحيح الجتهاد‪،29‬‬
‫ومثل ذلك أيضا حين أذن الرسول ﷺ ملن يستأذن في تبوك‪ ،‬في اآلية ‪ 43‬من سورة التوبة‪ ،‬فإنه أذن‬
‫لهم بناء على جواز أن يأذن ملن شاء منهم كما في سورة النور اآلية ‪ 62‬التي نزلت قبل سورة التوبة‪ ،‬وأما‬
‫َأل‬
‫عتابه في قصة ابن أم مكتوم فكان لفعله خالف ا ْو لى‪ ،‬ولم يكن عن خطأ ارتكبه ‪-‬حاشاه ﷺ‪" -‬فإن‬
‫ًا‬
‫الرسول ﷺ مأمور بتبليغ الدعوة للناس جميع ‪ ،‬وبتعليم املسلمين اإلسالم‪ .‬وكال األمرين للرسول ﷺ‬
‫أن يقوم به في كل وقت‪ .‬وعبد هللا بن أم مكتوم أسلم وتعلم اإلسالم‪ .‬وقد أتى رسول هللا ‪ ‬وعنده‬
‫صناديد قريش‪ ،‬عتبة وشيبه ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد املطلب وأمية بن خلف‬
‫والوليد ابن املغيرة يدعوهم إلى اإلسالم‪ ،‬رجاء أن يسلم بإسالمهم غيرهم‪ ،‬فقال ابن أم مكتوم للنبي ﷺ‬
‫وهو في هذه الحالة يا رسول هللا أقرئني وعلمني ّم ما علمك هللا‪ ،‬وكرر ذلك وهو ال يعلم تشاغله بالقوم‪،‬‬
‫فكره رسول هللا ‪ ‬قطعه لكالمه وعبس وأعرض عنه‪ ،‬فنـزلت هذه السورة‪ ،‬فالرسول ﷺ مأمور‬
‫بالتبليغ‪ ،‬ومأمور بتعليم اإلسالم‪ ،‬فقام بالتبليغ وأعرض عن تعليم من طلب التعليم النشغاله بالتبليغ‪.‬‬
‫وكان األولى أن يعِّل م ابن أم مكتوم ما سأله‪ ،‬ولكنه لم يفعل فعاتبه هللا على ذلك‪ ،‬إذ كان إعراضه ﷺ‬
‫عن ابن أم مكتوم خالف األولى‪ ،‬فعاتبه هللا على قيامه بما هو خالف األولى وليس في هذا أي اجتهاد في‬
‫حكم وال تصحيح الجتهاد‪ ،‬وإنما هو تطبيق لحكم هللا في حادثة معينة على خالف األولى عاتبه هللا على‬
‫هذا"‪.30‬‬
‫‪َٰٓ 31‬يَأ ُّي َه َّن ُّي َم ُت َح ُم َم َأ َح َّل َّل ُه َلَۖك َت ۡب َت َم ۡر َض َت َأ ۡز َٰو َۚك‬
‫ِج‬ ‫ا‬ ‫ِغ ي‬ ‫ٱل‬ ‫ِّر ٓا‬ ‫وأما عتابه في ابتغائه مرضاة أزواجه ‪ ﴿ :‬ا ٱل ِب ِل‬
‫َّل َغ‬
‫َو ٱل ُه ُف و‪ٞ‬ر َّر ِح ي‪ٞ‬م ﴾ [التحريم ‪ ،]1‬فالتحريم هنا هو االمتناع عن االنتفاع (بجاريته مارية‪ ،‬أو بالعسل)‬
‫مع اعتقاده بأنه حالل‪ ،‬وإنما كره أن يخرج منه ريح مغافير‪ ،‬وهي ريح كريهة‪ ،‬فألزم نفسه بأن ال يتناوله‬
‫ثانية‪ ،‬وهذا أمر ال خطأ فيه وال معصية‪ ،‬فأكل العسل حالل‪ ،‬ويمكن أن يمتنع املرء عنه‪ ،‬وعن أي أكل‬
‫مباح يخرج ريحا كريهة‪ ،‬ومثل ذلك يجوز له أن يمتنع عن وطء جاريته‪ ،‬ومعروف أن من اعتقد حرمة‬
‫ما أحل هللا يكفر‪ ،‬فال يمكن فهم اآلية بأنه ﷺ غّي ر في حكم هللا وشرعه‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬فال معصية وال‬
‫خطأ في الواقعة‪ ،‬قال النووي في «شرح مسلم»‪( :‬الصحيح أن اآلية في قصة العسل ال في قصة مارية‬
‫ًا‬ ‫ًال‬
‫املروية في غير «الصحيحين»‪ ،‬ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نق عنه أيض ‪:‬‬

‫‪ 29‬يراجع فصل‪ :‬ال يجوز في حق الرسول ﷺ أن يكون مجتهدا‪ ،‬في كتاب‪ :‬الشخصية اإلسالمية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬تقي الدين النبهاني‪ ،‬لتفاصيل‬
‫أكثر تتعلق باملوضوع لم ننقلها اختصارا‪ ،‬وتجيب على كل التساؤالت املتعلقة بهذه القضايا بالتفصيل الشديد‪.‬‬
‫ًا‬
‫‪ 30‬الشخصية اإلسالمية‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬تقي الدين النبهاني‪ ،‬باب‪ :‬ال يجـوز في حـق الـرسـول أن يكون مجتهد‬
‫‪ 31‬تفسير الرازي‪ ،‬واآللوسي وابن عاشور‪.‬‬
‫ُت‬
‫الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي هللا تعالى عنها)‪" ،‬واالستفهام في قوله ﴿ِل َم حِّر م﴾‬
‫َّل‬
‫مستعمل في معنى النفي‪ ،‬أي ال يوجد ما يدعو إلى أن تحّر م على نفسك ما أحّل ال ه لك‪ ،‬ذلك أنه ملا‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزام بيمين أو بدون يمين أراد االمتناع منه في املستقبل قاصد‬
‫ْأل‬
‫بذلك تطمين أزواجه الالئي تما َن عليه ِل فرط غيرتهن‪ ،‬أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في‬
‫ًا‬
‫املعاشرة‪ 32‬إن كانت فيما ال هضم فيه لحقوقهن‪ ،‬وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حرام‬
‫كما في قوله تعالى ﴿قل من حرم زينة هللا التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ [األعراف ‪ ،]32‬وفي‬
‫ًا‬
‫قوله ﴿تبتغي مرضات أزواجك﴾ عذر للنبي ﷺ فيما فعله من أنه أراد به خير ‪ ،‬وهو جلب رضا األزواج‬
‫ألنه أعون على معاشرته مع اإلشعار بأن مثل هذه املرضاة ال يعبأ بها"‪.‬‬
‫َي ْغ َر َل َك َّل ُه َم َتَق َّد َم َذ ۢن َك َو َم َت َأ َّخ‬
‫َر ﴾‪ ،‬هل أذنب الرسول ﷺ؟‬ ‫ا‬ ‫ِم ن ِب‬ ‫ٱل ا‬ ‫﴿ِّل ِف‬
‫وأما اآليات واألحاديث التي ذكرت مغفرة الذنوب وأمرت باالستغفار في حق النبي ﷺ‪ ،‬فقال‬
‫الشافعي في "األم" (‪ُ" :)7/310‬ث َّم َأ ْن َز َل َع َل ى َن َأ ْن َق ْد َغ َف َر َل ُه َم ا َتَق َّد َم ْن َذ ْن َو َم ا َت َأ َّخ َر ‪َ .‬ي ْع ي َو َا لَّل ُه‬
‫ِن‬ ‫ِم ِب ِه‬ ‫ِب ِّي ِه‬
‫ْن َض اُه َع ْنُه َو َأ َّنُه‬ ‫ُل‬ ‫َأ ْع َل ُم َم ا َتَق َّد َم ْن َذ ْن َق ْبَل اْل َو ْح ‪َ ،‬و َم ا َت َأ َّخ َر ‪َ :‬أ ْن َي ْع َم ُه َف اَل ُي ْذ ُب َف َع َم َم ا َي ْف َع‬
‫ِب ِه ِم ِر‬ ‫ِل‬ ‫ِن‬ ‫ِص‬ ‫ِي‬ ‫ِم ِب ِه‬
‫َأ َّو ُل َش َو ُم َش َّف َيْو َم ْل َي َم َو َس ُد ْل َخ اَل‬
‫ا ِق ا ِة ِّي ا ِئ ِق " انتهى‪ .‬ويؤيد هذا منطوق القرآن الكريم في حق موسى‬ ‫ٍع‬ ‫ٍع‬ ‫اِف‬
‫ُل‬ ‫َأ‬ ‫َأ‬ ‫َل‬
‫َو ُه ْم َع َل َّى َذ ۢن ٌب َف َخ ُف‬
‫ا ن َي ْق ُت وِن ﴾ [الشعراء ‪ ]14‬ويعني قتله رجال منهم قبل النبوة‪ ،‬كما‬ ‫عليه السالم‪﴿ :‬‬
‫ًال‬ ‫َف‬ ‫اًّل‬ ‫َك‬
‫يدل عليه قوله تعالى في حق رسوله ﷺ‪َ﴿ :‬و َو َج َد َض ٓا َه َد ٰى ﴾ [الضحى ‪ ]7‬أي ضا قبل الوحي فهدى‬
‫بالنبوة‪.‬‬
‫َل‬ ‫َذ‬ ‫َّل‬
‫قال تعالى في سورة الفتح ﴿ َي ْغ َر َك ال ُه ما َتَق َّد َم ن ْن َك وما َت أَّخ َر وُي َّم ْعَم َتُه َع ْي َك وَي ْه َي َك‬ ‫َل‬
‫ِد‬ ‫ِت ِن‬ ‫ِم ِب‬ ‫ِل ِف‬
‫َّس ْت‬ ‫ْظ‬ ‫ًط‬
‫ِص را ا ُم ْس َت ِق يًم ا﴾ [الفتح ‪ ،]2‬جاء في معجم مقاييس اللغة‪" :‬غفر‪ :‬الغين والفاء والراء ُع ُم باِب ه ال ر‪،‬‬
‫َغ ًا‬ ‫َغ‬ ‫ُّذ‬
‫ثم يِش عنه ما ُي ذكر‪ .‬فالَغْف ر‪ :‬الَّس تر‪ .‬والُغْف ران والَغْف ُر بمعَن ًى ‪ .‬يقال‪َ :‬ف ر هللا ذنبه ْف ر " انتهى فأصل‬
‫َّط‬ ‫ْت‬
‫الغفران في اللغة الستر‪ ،‬والستر حجاب وغطاء‪" ،‬الِّس ُر ‪ :‬ساتر‪ِ ،‬ح جاب‪ ،‬ما ُي ستتر به وُي تغ ى"‪ ،‬جاء في‬
‫ْت‬ ‫ًا‬ ‫ٌة‬
‫مقاييس اللغة‪" :‬السين والتاء والراء كلم تدُّل على الِغ طاِء ‪ ،‬تقول‪ :‬سترت الشيء ستر ‪ ،‬والُّس َر ة‪ :‬ما‬
‫استترت به‪".‬‬
‫وللغفران صور منها التجاوز والستر والعفو واملسامحة عن الذنوب والخطايا بعد وقوعها‪ ،‬أو‬
‫الوقاية منها والستر منها في حال إمكان وقوعها‪ ،‬قبل وقوعها‪ ،‬أي أن يجعل بينك وبينها حجابا وسترا‬
‫وغطاء يحول بينك وبينها‪ ،‬فيصلح حالك فال تقع في الذنب املمكن‪ ،33‬ففي اللغة "غفر األمر أصلحه"‪،‬‬

‫‪ 32‬تفسير ابن عاشور‪.‬‬


‫ْت‬ ‫ْغ‬
‫‪ 33‬قال الشعراوي في خواطره‪" :‬وكلمة ﴿ِّل َي ِف َر ﴾ من غفر والغفر هو الستر‪ ،‬وَس ر الذنب إما أْن يكون بعده بمنع العقوبة عليه أو يستر‬
‫َت َأ‬ ‫َذ‬ ‫ًال‬
‫الذنب قبل أْن يحدث فال يحدث أص ‪ ،‬هذا معنى ﴿َم ا َتَق َّد َم ِم ن نِب َك َو َم ا َّخ َر ﴾ ما تقدم يستر عقوبته‪ ،‬وما تأخر يستر الذنب نفسه فال‬
‫يقع" انتهى‪ ،‬ونحن نوافقه في الثانية‪ ،‬ونعممها على األولى‪ ،‬أي إنه ستره عن الذنب قبل الفتح وبعده‪.‬‬
‫سواء أكان إصالحه بعد وقوعه أو تداركه باإلصالح قبل وقوعه (وهو ما اصطلح عليه القرآن بالتطهير‬
‫واإلذهاب )‪ ،‬وفي حال النبي ﷺ كان الستر بالعصمة من ارتكاب املعصية التي يرتكبها البشر بما جبلوا‬
‫عليه من هوى النفس‪ ،‬فمَّن هللا تعالى عليه بتلك العصمة وأصلح حاله وجعل بينه وبين الذنب وقاية‬
‫وسترا‪ ،‬فيما تقدم قبل الفتح وما بعده‪ ،‬لعظيم مكانة الرسول ﷺ عند ربه‪ ،‬فكانت تلك هي مغفرته‬
‫للذنب املمكن عليه‪.‬‬
‫ويدل على ذلك تمام اآلية إذ يقول هللا تعالى فيها‪ِ﴿ :‬ل َي ْغ ِف َر َل َك الَّل ُه ما َتَق َّد َم ِم ن َذ ْن َك وما َت أَّخ َر وُي ِت َّم‬
‫ِب‬
‫َت‬ ‫ًط‬ ‫َل‬
‫ِن ْعَم َتُه َع ْي َك وَي ْه ِد َي َك ِص را ا ُم ْس ِق يًم ا﴾‪ ،‬فاهلل تعالى َم َّن على رسوله ﷺ بالهداية للصراط املستقيم‬
‫ُل‬ ‫َّل َل‬ ‫ْن‬
‫منذ بعثه رسوال‪ ،‬ولم تتأخر هدايته إلى يوم الفتح‪ ،‬أِل َّن إ عاَم ال ِه َع ْي ِه َم ْع وٌم وِه داَي َتُه للصراط‬
‫ْخ‬ ‫ُل ٌة‬
‫املستقيم َم ْع وَم وإَّن ما أ َب َر ِب اْز ِد ياِد ِه ما‪ ،‬مما يدل على أن تمام النعمة كان بالهداية للصراط املستقيم‬
‫وبالستر والعصمة من كل ذنب قبل البعثة وبعدها‪ ،‬وجمعت آية الضحى بين هذين الفضلين‪﴿ :‬ووجدك‬
‫ضاال فهدى﴾‪.‬‬
‫ْط‬ ‫َت‬ ‫ُك‬ ‫َط‬ ‫ْل‬ ‫َأ‬ ‫ُك‬ ‫ْذ‬
‫ويدل على ذلك قوله تعالى ﴿ِإ َّن َم ا ُي ِر يُد ُهللا ِل ُي ِه َب َع ن ُم الِّر ْج َس ْه َل ا َب ْي ِت َو ُي ِّه َر ْم ِه يًر ا﴾‬
‫َن‬
‫[األحزاب ‪ ]33‬والرجس في اللغة العمل القبيح أو الحرام‪ ،‬فهو نص على التطهير ِم ن د ِس املعاصي‬
‫ُّذ‬
‫وال نوِب ؛ وفي رواية للبيهقي للحديث‪« :‬فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب»‪ ،‬قال محمد رشيد رضا‪" :‬‬
‫(ال) فيه للجنس أو‬
‫لالستغراق‪ ،‬واملراد بالتطهير‪ ،‬على ما قيل‪ :‬إنما يريد هللا ليذهب عنكم الذنوب واملعاصي فيما نهاكم‪،‬‬
‫ًة ًة‬
‫ويحليكم بالتقوى تحلي بليغ فيما أمركم‪ .‬وجوز أن يراد به الصون‪ ،‬واملعنى‪ :‬إنما يريد سبحانه‬
‫ًغ‬
‫ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من املعاصي صوًن ا بلي ا فيما أمر ونهى جل شأنه"‪.34‬‬
‫كما أننا أسلفنا في معنى الذنب‪ ،‬وأنه قد يطلق على صغائر تحوك في الصدر وال تتحقق في الجوارح‪،‬‬
‫أو يهم بها املؤمن ثم يحول تقواه بينه وبينها‪ ،‬فيكتب في املحسنين‪ ،‬ويغفر هللا له حديث نفسه‪ ،‬ومثل‬
‫هذا ال يقدح في العصمة‪ ،‬ويعني هذا أيضا أنه ال يقصد بالذنب في هذه اآليات معصية األوامر أو فعل‬
‫القوادح والسيئات‪ ،‬فالكلمة حمالة أوجه‪ ،‬وال بد من حملها على ما ال يتعارض مع الدليل القطعي على‬
‫العصمة‪ ،‬وأن تفهم في ضوئه‪.‬‬
‫والواقع أن كل من أحاط بالنبي ﷺ من أصحابه وأزواجه وأعدائه كان ينقل بدقة كل ما يصدر عنه‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫ﷺ من قول أو فعل‪ ،‬ولو كان ارتكب معصية أو إثم أو ذنب ‪ ،‬لكان نقله لنا أحد هؤالء‪ ،‬سواء قبل نزول‬
‫آية الفتح أو بعد نزولها‪ ،‬ولم يحصل‪ ،‬والفترة بين نزولها وبين وفاته ﷺ قريبة‪ ،‬وكانت األنظار كلها‬
‫ًا‬
‫تتجه إليه بعد أن دخل الناس في دين هللا أفواج ‪ ،‬فكما أنه لم يحصل منه ذنب بعد هذه اآلية‪ ،‬لم‬

‫‪ 34‬رد املنار على الناقد لذكرى املولد النبوي‪ ،‬محمد رشيد رضا‪ ،‬ربيع األول ‪1337 -‬هـ املنار‪.‬‬
‫َت َأ‬
‫يحصل منه ذنب قبلها‪ ،‬أي إن داللة ﴿َو َم ا َّخ َر ﴾ التي لم تترجم في الواقع على صورة أي ذنب‪ ،‬تدل على‬
‫ًا‬ ‫َتَق‬
‫أن داللة ﴿َم ا َّد َم ﴾ كذلك أيض ‪ ،‬فيحمل معنى املغفرة على الستر والوقاية والتطهير من الذنب املمكن‬
‫وقوعه‪ ،‬ال على ذنب وقع فعال‪ .‬كذلك‪ ،‬ومما يعضد ذلك أن القرآن الكريم نقل لنا كل فعل منه ﷺ‬
‫ًا‬
‫خالف فيه األولى‪ ،‬أو حدث به نفسه وأخفاه‪ ،‬فأبداه هللا تعالى‪ ،‬ولو كان ارتكب معصية أو ذنب ‪ ،‬لنقله‬
‫الوحي من باب أولى‪ ،‬ولم يحصل شيء من ذلك‪ ،‬بل لقد أثبت لنا القرآن استحالة ذلك بقوله تعالى‪:‬‬
‫ْل‬ ‫ُث َل َق َط‬ ‫ْل‬ ‫َأَل َخ ْذ َن‬ ‫َأْل َق‬ ‫َل‬ ‫َل َتَق‬
‫ا ِم ْنُه ِب ٱ َي ِم يِن ۝ َّم ْع َن ا ِم ْنُه ٱ َو ِت يَن ﴾ [الحاقة ‪،]46-44‬‬ ‫﴿َو ْو َّو َل َع ْي َن ا َب ْعَض ٱ اِو يِل ۝‬
‫وهذا ينفي عنه أي قول غير صادر عن الوحي‪ ،‬أو مناقض للوحي‪ ،‬يتقّو له على هللا تعالى‪ ،‬وهدده لو فعل‬
‫ذلك لقطع نياط قلبه‪ ،‬والوتين عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات منه اإلنسان‪ ،‬فلو قدر أن الرسول ‪-‬‬
‫ًا‬
‫حاشا وكال‪ -‬تقّو ل على هللا لعاجله بالعقوبة‪ ،‬وأما عن الفعل والقول مع ومخالفة املنهج أي املعصية‪،‬‬
‫واألخذ من غير الوحي من البشر‪ ،‬فقال تعالى ‪-‬نافيا إمكان حصول ذلك‪َ﴿ :-‬و َل ْو ٓاَل َأ ن َث َّب ْت َٰن َك َل َق ْد دَّت‬
‫ِك‬
‫َف َمْل ُث اَل َت َل َل َن‬ ‫َف ْل‬ ‫ًذ َأَّل َذ ْق َٰن‬ ‫َت َك َل َش ًٔـ َق ًال‬
‫َك ِض ْع ٱ َح َيٰو ِة َو ِض ْع ٱ َم اِت َّم ِج ُد َك َع ْي َن ا ِص يًر ا﴾‬ ‫ْر ُن ِإ ْي ِه ْم ْي ا ِل ي ۝ ِإ ا‬
‫[اإلسراء ‪ ،]75-74‬فلو قال أو فعل فعال يخرجه عن جادة الصراط‪ ،‬يقترب فيه من منهج الكفار ويبعد‬
‫فيه عن منهج الحق‪ ،‬أو أن يعصي أمرا من الشرع‪ ،‬لعاجله بالعقوبة املغلظة‪ .‬وهللا تعالى أعلى وأعلم‬
‫وأحكم‪.‬‬
‫ومن العلماء من رآى أنها من باب التقصير عن بلوغ حق شكر هللا على نعمه على النبي‪ ،‬والتقصير في‬
‫العبادة بما يليق بمقام هللا تعالى‪ ،‬إذ لن يستطيع البشر بلوغ شيء من ذلك حق شكره وحق عبادته‪،‬‬
‫واعتبرها الرسول ﷺ خطيئة‪ ،‬إذ إن حسنات األبرار سيئات املقربين‪ ،‬فمقام النبوة السامق العالي‬
‫يقتضي سموا في العمل ال يدانيه سمو‪ ،‬وهمة نفسه ﷺ ترى أنه ما بلغ حق شكر ربه وعبادته‪ ،‬فاعتبر‬
‫ًا‬
‫ذلك خطيئة وإسراف في حقه‪ ،‬وليس ذلك من باب املعصية بل من باب فعل األولى‪ ،‬أو أنه إنما كان‬
‫ُي عِّل ُم املسلمين هذا الدعاء الراقي‪ ،‬ليستغفروا به عن أخطائهم وإسرافهم‪ ،‬قال القرطبي في تفسيره‬
‫"الجامع ألحكام القرآن" (‪َ" :)20/233‬ف ْن يَل ‪َ :‬ف َم اَذ ا ُي ْغَف ُر لَّن ﷺ َح َّت ى ُي ْؤ َم َر ا ْس ْغَف ا ؟ يَل َل ُه ‪َ :‬ك اَن‬
‫ِب اِل ِت ِر ِق‬ ‫ِل ِب ِّي‬ ‫ِإ ِق‬
‫َل‬ ‫َأ‬ ‫ْنَت‬ ‫َأ‬ ‫ُك‬ ‫َأ‬ ‫َئ‬ ‫َخ‬ ‫ْغ‬
‫ْع ُم ِب ِه ِم ِّن ي‪.‬‬ ‫الَّن ِب َّي ﷺ َي ُق وُل ِف ي ُد َع اِئِه ‪َ« :‬ر ِّب ا ِف ْر ِل ي ِط ي ِت ي َو َج ْه ِل ي‪َ ،‬و ِإ ْس َر اِف ي ِف ي ْم ِر ي ِّل ِه ‪َ ،‬و َم ا‬
‫َأ‬ ‫َق‬ ‫َّل ْغ‬ ‫ُك َذ‬ ‫َخ َط‬ ‫َّل ْغ‬
‫ال ُه َّم ا ِف ْر ِل ي ِئ ي َو َع ْم ِد ي‪َ ،‬و َج ْه ِل ي َو َه ْز ِل ي‪َ ،‬و ُّل ِل َك ِع ْن ِد ي‪ .‬ال ُه َّم ا ِف ْر ِل ي َم ا َّد ْم ُت َو َم ا َّخ ْر ُت ‪َ ،‬و َم ا‬
‫َظ‬ ‫َف َك‬ ‫َق‬ ‫َأ ُمْلَق‬ ‫َأ‬ ‫َأ َل‬
‫ْع ْنُت َو َم ا ْس َر ْر ُت ‪ْ ،‬نَت ا ِّد ُم وأنت املؤخر‪ ،‬إنك على شي ِد يٌر »‪ .‬اَن ﷺ َي ْس َتْق ِص ُر َنْف َس ُه ‪ِ ،‬ل ِع ِم َم ا‬
‫َذ ُذ ُن‬ ‫ْل‬ ‫ُق‬ ‫َل‬ ‫َّل‬ ‫َأ ْن‬
‫َعَم ال ُه ِب ِه َع ْي ِه ‪َ ،‬و َي َر ى ُص وَر ُه َع ِن ا ِق َي اِم ِب َح ِّق ِل َك وًب ا" انتهى‪ .‬هذا‪ ،‬وقد سبق أن بينا معنى كلمة‬
‫خطيئة‪( ،‬الصغائر) بمخالفة ال عمد فيها‪ ،‬ويقرب منها اللمم‪ ،‬حديث نفس ال تحققه الجوارح في الواقع‪.‬‬
‫ونختم بنقل عظيم من العالمة ابن عاشور في تفسيره إذ يقول‪" :‬وَق ْو ُل ُه ﴿ِل َي ْغ ِف َر َل َك الَّل ُه ﴾ َب َد ُل‬
‫َل‬ ‫ْت‬ ‫َّل َل‬ ‫َف‬ ‫ّن َف‬ ‫َل‬ ‫ْش‬
‫ا ِت ماٍل ِم ن َض ِم يِر َك ‪ .‬والَّتْق ِد يُر ‪ :‬إ ا َت ْح نا ْت ًح ا ُم ِب يًن ا أِل ْج ِل َك ِل ُغْف راِن ال ِه َك وإ ماِم ِن ْعَم ِتِه َع ْي َك ‪،‬‬
‫ُغ ْف َن‬ ‫و داَي َك راًط ا ُم ْس َت يًم ا وَن ْص َك َن ْص ًر ا َع يًز ا‪ .‬فاَملْع نى‪ :‬أَّن الَّل َه َج َع َل ْنَد ُح ُص و َه ذا الَف ْت‬
‫را‬ ‫ِح‬ ‫ِل‬ ‫ِع‬ ‫ِز‬ ‫ِر‬ ‫ِق‬ ‫ِه ِت ِص‬
‫الَف ْض‬ ‫َج ي ما َق ْد ُي ؤا ُذ الَّل ُه َع لى َم ْث ُر ُس َل ُه َح ّت ى ال َيْب قى َر ُس و ﷺ ما َي ْق ُص ُر َع ْن ُب ُل و هاَي‬
‫ِل‬ ‫ِغ ِن ِة‬ ‫ِب ِه‬ ‫ِل ِه‬ ‫ِل‬ ‫ِل ِه‬ ‫ِخ‬ ‫َنِم ِع‬
‫َّت‬ ‫َن‬ ‫ْج‬ ‫ُأ‬ ‫َّل‬ ‫ْع‬ ‫ْت‬ ‫ُه‬ ‫َل‬
‫ا َر َج زاًء َع‬ ‫َة‬ ‫ْغ‬‫َمل‬ ‫َه‬ ‫َج َع‬ ‫َف‬ ‫ُل‬ ‫َملْخ‬ ‫َبْي‬
‫لى إ ماِم أ ماِل ِه ا ِت ي ْر ِس َل أِل ِل ها ِم ال ْب ِل يِغ والِج هاِد‬ ‫ا وقاِت ‪َ .‬ل ِذ ِه ِف‬
‫والَن َص والَّر ْغ َب إلى الَّل ‪ .‬وَل ْي َس ْت إاّل َم ْغ َر َة َج ي الُّذ ُن و سا ها وما َع سى أْن َي ْأ َي نها ّم ا َي ُع ُّد ُه‬
‫ِت ِم ِم‬ ‫ِب ِب ِق‬ ‫ِم ِع‬ ‫ِف‬ ‫ِه‬ ‫ِة‬ ‫ِب‬
‫الَّن يُء ﷺ َذ ْن ًب ا َّد الَخ ْش َي ن أَق الَّتْق ي َك ما ُي قاُل ‪َ :‬ح َس ناُت األْب را َس ئاُت اُملَق َّر يَن ‪ ،‬وإْن كاَن‬
‫ِب‬ ‫ِر ِّي‬ ‫ِص ِر‬ ‫ْأ ِة ِم ِّل‬ ‫ِل ِش ِة‬ ‫ِب‬
‫ُف‬ ‫َّتْش‬ ‫َمل‬ ‫َّن‬ ‫َة‬ ‫َل‬ ‫ُذ‬ ‫َخ‬ ‫َد‬ ‫ْن‬
‫ْع‬
‫ْي ِه ‪ .‬وقاَل ا ِط َّي ‪ :‬وإ ما ا نى ال ِر ي ِب َه ذا‬ ‫َع‬ ‫ُن‬ ‫ْب‬ ‫َع‬ ‫ُي‬
‫وًم ا ِم ن أ ِت َي ها ِب ما ؤا‬ ‫ْع‬ ‫َب‬ ‫َي‬ ‫ْعُص‬ ‫َم‬ ‫الَّن ِب يُء ﷺ‬
‫الُح ْك وَل ْو َل ْم َتُك ْن َل ُه ُذ ُن وٌب ‪ ،‬واُملراُد ـ ﴿ما َتَق َّد َم ﴾‪َ :‬ت ْع يُم اَملْغ ِف َر ِل لَّذ ْن َك َق ْو ِل ِه ﴿َي ْع َل ُم ما َبْي َن أْي ِد ي ْم‬
‫ِه‬ ‫ِة ِب‬ ‫ِم‬ ‫ِب‬ ‫ِم‬
‫وما َخ ْل َف ُه ْم ﴾ [البقرة ‪ ،]255‬فَال َي ْق َت ي َذ َك أَّنُه َف َر َط نُه َذ ْن ٌب أْو أَّنُه َس َي َق ُع نُه َذ ْن ٌب وإَّن ما اَملْق ُص وُد‬
‫ِم‬ ‫ِم‬ ‫ِض ِل‬
‫ْع‬ ‫َم‬ ‫َب‬ ‫ٌء‬ ‫َش‬ ‫َم‬ ‫ْد‬ ‫َق‬ ‫ُه‬ ‫ُه‬ ‫ُر‬ ‫ُد‬ ‫ُص‬ ‫َر‬ ‫ُق‬ ‫ْو‬ ‫َل‬ ‫ْن‬ ‫َذ‬ ‫َذ‬ ‫َر َف َع َق ْد َر ُه َر ْف َع َة َع َد ُمل َخ‬ ‫َّنُه َت‬
‫و ِم ن ‪ ،‬و ضى ْي ِم ن ياِن نى‬ ‫ِّد‬ ‫ِب ٍب‬ ‫ِة‬ ‫ؤا‬ ‫ا‬ ‫ِم‬ ‫‪-‬‬ ‫عالى‬ ‫أ ‪-‬‬
‫َك‬ ‫ْن‬ ‫َذ‬ ‫َتْغ‬ ‫َت‬ ‫َق‬ ‫ْنَد‬ ‫َّذ ْن‬
‫‪35‬‬
‫ال ِب ِع ْو ِل ِه عالى ﴿واْس ِف ْر ِل ِب ﴾ [محمد ‪ ]19‬في ُس وَر ِة الِق تاِل ‪".‬‬
‫هذا‪ ،‬ويجب الحمل على هذه الوجوه من التفسير لألسباب التي ذكرناها أعاله والتي تقتضي‬
‫وجوب العصمة في حق األنبياء‪ ،‬وقد قلنا بأن القطعي يقضي على الظني‪ ،‬واملحكم يقضي على املتشابه‪،‬‬
‫فلما كان أي تأويل للذنب أو الخطيئة بمعنى املعصية يتنافى مع الدليل القطعي على العصمة‪ ،‬فوجب‬
‫حمله على معاٍن ال يتعارض فيها مع األدلة القطعية‪ ،‬وهذه الوجوه التي أثبتناها في تأويل اآليات مبنية‬
‫على فهم دقيق للغة واستعماالتها ملعاني الكالم‪ ،‬ومبنية على فهم صحيح للمعاني الشرعية املحتملة‬
‫للمغفرة‪ ،‬ولدرجات الذنوب والسيئات واملعاصي التي أوضحناها سابقا‪ ،‬وعلى النقل التاريخي الذي لم‬
‫ينقل لنا فيه الوحي وال أصحاب الرسول ﷺ‪ ،‬وال أزواجه وال حتى أعداؤه أي ذنب أو معصية أو مخالفة‬
‫َل َل ُخ ُل‬
‫ملا يأمر به ﷺ‪ ،‬وتكفيه شهادة ربه تعالى فيه‪َ﴿ :‬و ِإ َّنَك َع ٰى ٍق َع ِظ يٍۢم ﴾ [القلم ‪ ،]4‬أي لعلى دين وخلق‬
‫عظيم‪ ،‬وعلى سلوك قويم‪ ،‬في كل ما تأتيه وما تتركه من أقوال وأفعال‪ ،‬والتعبير بلفظ ﴿لعلى﴾ يشعر‬
‫َف ْل َيْح َذ َّل َن ُي َخ ُف َن َع ْن َأ ْم َأ‬
‫ِر ِه ٓۦ ن‬ ‫ِر ٱ ِذ ي اِل و‬ ‫بتمكنه ﷺ ورسوخه في كل خلق كريم‪ .‬وهذا أبلغ رد‪ ،‬قال تعالى ﴿‬
‫َذ َأ‬ ‫ٌة َأ‬ ‫ُت‬
‫ِص يَبُه ْم ِف ْتَن ْو ُي ِص يَبُه ْم َع اٌب ِل يٌم ﴾‪ ،‬وال يتصور بعد هذا البيان اإللهي أن يكون الرسول نفسه ﷺ‬
‫خالف األمر وعصى‪.‬‬
‫لقد تبين لنا بكل وضوح أن هللا تعالى نفى نفيا قاطعا أن يدخل الرسالة أي أثر بشري يخالط الوحي‬
‫فيها‪ ،‬إذ إن نفيه نطق الرسول ﷺ عن الهوى نفي لكل أثر نفسي‪ ،‬ونفيه لوجود االجتهاد واحتمال‬
‫تسرب الخطأ في الرأي نفي لكل أثر عقلي‪ ،‬ونفيه التباع الكفار وامليل إليهم قيد أنملة نفي لكل أثر للتأثر‬
‫بالعادات واألعراف‪ ،‬والحضارات والثقافات البشرية‪ ،‬ونفي لتقليد القوانين البشرية‪ ،‬وتقريره القاطع‬
‫باملراقبة الحثيثة من بين يدي الرسول ومن خلفه‪ ،‬لرصد كل ما يبلغه وليعلم أن الرساالت وصلت‬

‫‪ 35‬تفسير ابن عاشور‬


‫كاملة بما يقوم به الحجة على الخالئق‪ ،‬وبإحاطة تامة بكل التفاصيل‪ ،‬وفي كل هذا النفي ينفي عنه أي‬
‫أثر لنذارة إال ما حصره بالوحي‪ ،‬كما أنه ينفي إمكان دخول الخلل أو الخطأ أو تسرب الشك للرسالة‬
‫بكل تفاصيلها‪ ،‬تلك الرسالة التي تمت بها النعمة‪ ،‬وكانت صفتها الكمال‪ ،‬وارتضاها رب العاملين للبشر‬
‫دينا لن يقبل منهم غيره‪.‬‬

You might also like