You are on page 1of 6

‫المية‬ ‫اث إس‬ ‫أبح‬

‫النقود اإللزامية والنقود في اإلسالم‬


‫بقلم‪ :‬محمد خالد‬
‫النقد‬
‫كلمة (النقد) يف اللغة من األلفاظ املشرتكة‪ ،‬وتطلق للداللة على عدة معان‪ .‬ورد يف لسان العرب‪ :‬النقد هو‬
‫خالف النسيئة وهو أيضًا متييز الدراهم وإخراج الزيف منها ويقال نقده الدراهم أي أعطاه إياها ويقال نقد الشيء أي‬
‫نقره بإصبعه وغري ذلك من املعاين‪.‬‬
‫والنقد اصطالحًا هو املعيار املتعارف عليه لتقاس به املنفعة يف األشياء‪ .‬وبعبارة أخرى‪ :‬هو وحدة قياس مثن السلعة‬
‫وقيمة اخلدمات واألجور‪ ،‬بغض النظر أكان هذا النقد معدنًا أم غريه‪ ،‬إذ يكفي أن يكون الشيء صاحلًا لالستعمال عادة‬
‫كوسيط للتبادل وكوحدة للحساب‪ ،‬باإلضافة إىل كونه مقبوًال يف الوفاء بااللتزامات عند مجيع األفراد‪ ،‬لكي يسمى ذلك‬
‫الشيء نقدًا‪.‬‬
‫تطور النقد‬
‫كان اإلنسان ابتداء ينتج من املصادر الطبيعية املباشرة ما حيتاج إليه الستهالكه املباشر‪ ،‬ولكن بعد أن توسعت‬
‫معرفته وشكل جمموعة بشرية‪ ،‬احتاج إىل ما ينتجه غريه‪ ،‬فأصبح يستبدل الفائض عن حاجته من إنتاجه ما حيتاج من إنتاج‬
‫غريه‪ ،‬فظهر بذلك التبادل بني أفراد اجملموعة البشرية‪ ،‬ونظرًا الختالف احلاجة وتعددها‪ ،‬واتساع رقعة التبادل‪ ،‬أخذت‬
‫السلع األساسية اليت ال غىن للمجموعة البشرية عنها‪ ،‬أخذت دور الوسيط يف التبادل وأصبحت األشياء األخرى تقّو م‬
‫بإحدى هذه السلع‪ .‬وملا كانت هذه السلع حبد ذاهتا سلعًا استهالكية‪ ،‬ومع االتساع يف رقعة التعامل بني أفراد اجملموعة‬
‫البشرية وبني اجملموعات البشرية بعضها مع بعض‪ ،‬ولوجود الصعوبة يف التصرف بتلك السلع األساسية من نقل وختزين‪...‬‬
‫برزت املعادن النفيسة بروزًا طبيعيًا لتفرض نفسها كسلعة وسيطة للتبادل‪ .‬خاصة أن هذه املعادن وأمهها الفضة والذهب ال‬
‫هتلك مع مرور الزمن ومتتاز بندرهتا النسبية‪ ،‬فللقطع الصغرية منها قوة شرائية عالية‪ ،‬ولكن ملا كان الذهب والفضة ـ وقد‬
‫أصبحا يشكالن الوسيطني الرئيسني للتبادل ـ ال يوجدان يف الطبيعة منفصلني عن الشوائب‪ُ ،‬ضربت القطع املعدنية من‬
‫هذين املعدنني وغريمها من املعادن بعد تنقيتها من الشوائب وُس ّك ت بأشكال وأوزان معينة‪ .‬ومع التطور املستمر يف التجارة‬
‫وحاجة اإلنسان إىل االتصال والتعامل مع شىت التجمعات البشرية املتباعدة‪ ،‬ولتفادي ضياع هذه املسكوكات أو سرقتها‬
‫أثناء نقلها ظهرت اإليصاالت الورقية بني طبقة التجار خاصة‪ ،‬وهي تعهد خطي من شخص إىل شخص آخر بأن يرد‬
‫األول للثاين ما استودعه من مال حني املطالبة‪.‬‬
‫وكان التجار يستعملون هذه اإليصاالت لتسوية حساباهتم بأن يوقع املشرتي للبائع على ظهر إيصال حبوزة‬
‫املشرتي فيكون بذلك قد نقل ملكية ما لديه من مال حمفوظ عند مصدر اإليصال إىل البائع فكانت هذه اإليصاالت أوراقًا‬
‫نائبة عن عني املال األصلي‪ .‬مث تطور التعامل هبذه اإليصاالت إىل أن تدخلت احلكومات لإلشراف على إصدار األوراق‬
‫النائبة‪ ،‬وملراقبة تلك الفئة من التجار اليت حبوزهتا إيداعات الناس‪ ،‬وذلك حلماية املوِد عني من تالعب املوَدع لديهم‪ .‬ولكن‬

‫الـوعـي – العـدد الثاني عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬رمضان ‪1408‬هـ ‪ -‬أيار ‪1988‬م‬
‫‪1‬‬
‫إصدار هذه األوراق النائبة مل يغري النظام النقدي‪ ،‬إذ أنه بقي نظامًا معدنيًا‪ ،‬وبقيت العملة املعدنية قابلة للتداول‪ ،‬وما‬
‫األوراق النائبة إال ممثل للنقد املعدين لتسهيل عملية التداول‪.‬‬
‫وحيث لوحظ من املودع لديهم أن األموال املطلوبة من املودعني يف أي وقت ال تزيد عن عشر األموال املودعة‪،‬‬
‫فوجدوا أن بإمكاهنم إصدار أوراق نائبة أكثر من املعدن املودع لديهم وبذلك ميكنهم إقراض هذه األموال النائبة بنسبة من‬
‫الفائدة تدر عليهم رحبًا جيدًا‪ .‬وبقي العامل سائرًا على النظام املعدين حىت قبيل احلرب العاملية األوىل‪ .‬مث مع نشوب احلرب‪،‬‬
‫والزدياد النفقات احلربية احلكومية جلأت احلكومات إىل االقرتاض من البنوك‪ ،‬فأصدرت البنوك املركزية أوراقًا مالية تفوق‬
‫بكثري ما لديها من خمزون معدين من ذهب وفضة‪ .‬مث صدرت قوانني تعفي البنوك املركزية من تعهدها تبديل األوراق‬
‫النقدية بذهب أو بفضة‪ ،‬وبذلك ألغي النظام النقدي املعدين وأصبحت األوراق النقدية أوراقًا إلزامية تستمد صالحيتها من‬
‫القانون‪ ،‬مث بعد احلرب العالية األوىل رجع العامل إىل النظام املعدين رجوعًا جزئيًا ولكن ما لبث أن بدأ استعمال الذهب‬
‫والفضة بالتقلص حىت ألغي إلغاء كليًا بقطع آخر عالقة للذهب بالنقد اإللزامي‪ ،‬وكان ذلك حني قرر الرئيس األمريكي‬
‫نيكسون يوم ‪ 15/8/1971‬إلغاء نظام (بريتون وودز) القاضي بتغطية الدوالر بالذهب وربطه به بسعر ثابت‪.‬‬
‫وظهر نتيجة للتوسع الكبري استعمال األوراق النقدية إصدار ما ينوب عنها يف االستعمال‪ ،‬وهي الشيكات‪.‬‬
‫وحصل من إيداع هذه األوراق النقدية لدى البنوك وتكدسها فيها أن أصدرت البنوك نقود الودائع أو النقود الدفرتية‪،‬‬
‫وكلها تنوب عن النقود القانونية‪ .‬إال أن نقود الودائع غري ملزمة يف إبراء الذمة إال إذا قبلها املستفيد‪.‬‬
‫النقد في اإلسالم‬
‫عندما جاء اإلسالم أقر الرسول ‪ ‬تعامل العرب بالدنانري اهلرقلية الذهبية والدراهم الفارسية الفضية‪ ،‬كما أقر عليه‬
‫الصالة والسالم األوزان اليت كانت توزن هبا الدنانري والدراهم‪ .‬عن طاووس عن ابن عمر قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪« :‬الوزن‬
‫وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة»‪ .‬وقد أورد عبد القدمي زلوم يف كتابه "األموال في دولة الخالفة" يف‬
‫الصفحة ‪ 201‬ما نصه‪( :‬وبقي املسلمون يستعملون الدنانري اهلرقلية والدراهم الكسروية على شكلها وضرهبا وصورها‬
‫طيلة حياة الرسول ‪ ‬وطيلة خالفة أيب بكر الصديق وأيام خالفة عمر األوىل‪ ،‬ويف سنة عشرين من اهلجرة‪ ،‬وهي السنة‬
‫الثامنة من خالفة عمر‪ ،‬ضرب عمر دراهم جديدة على الطراز الساساين وأبقاها على شكلها وأوزاهنا الكسروية‪ ،‬وأبقى‬
‫فيها الصور والكتابة البهلوية‪ ،‬وزاد عليها كتابة بعض الكلمات باحلروف العربية الكوفية (بسم اهلل) و(وبسم اهلل ربي)‪.‬‬
‫واستمر املسلمون يف استعمال الدنانري على الطراز البيزنطي والدراهم على الطراز الساساين‪ ،‬مع كتابة بعض الكلمات‬
‫اإلسالمية باحلروف العربية‪ ،‬إىل أيام عبد امللك بن مروان‪ .‬ففي سنة ‪ 75‬وقيل ‪ 76‬من اهلجرة ضرب عبد امللك الدراهم‬
‫وجعلها على طراز إسالمي خاص حيمل نصوصًا إسالمية نقشت على الدراهم باخلط الكويف بعد أن ترك الطراز الساساين‪.‬‬
‫ويف سنة ‪ 77‬من اهلجرة ضرب الدنانري على طراز إسالمي خاص‪ .‬ونقش عليها نصوصًا إسالمية باخلط العريب الكويف‬
‫وترك الطراز البيزنطي الذي كانت الدنانري عليه‪ .‬وبعد أن ضرب عبد امللك بن مروان الدراهم والدنانري على طراز إسالمي‬
‫خاص‪ ،‬صار للمسلمني نقدهم اخلاص على طراز إسالمي معني‪ ،‬وختلوا عن نقد غريهم)‪.‬‬
‫ومع أن الرسول ‪ ‬أقر النقد الذي كانت عليه العرب‪ ،‬وصرح بأن الوزن هو وزن أهل مكة‪ ،‬ولكنه عليه الصالة‬
‫والسالم مل يفرض أيًا من الذهب أو الفضة أو كليهما ليكونا أداة التداول الوحيدة بني الناس‪ ،‬وال املقياس الوحيد للمنفعة‪.‬‬
‫بل ترك الناس أحرارًا ليتبادلوا السلع كما شاءوا‪ ،‬ويتقاضوا األجور كما شاءوا‪ ،‬فلم يلزمهم بالذهب والفضة دون غريمها‬
‫الـوعـي – العـدد الثاني عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬رمضان ‪1408‬هـ ‪ -‬أيار ‪1988‬م‬
‫‪2‬‬
‫كوسيط للمبادلة بل ترك لإلنسان أن يبادل السلعة باجلهد أو بالسلعة أو بالنقد‪ .‬ولكنه بإقراره للنقد املعترب عند العرب‬
‫يكون قد حدد للناس النقود اليت تكون املبادلة هبا‪ .‬وبإقراره لألوزان يكون قد حدد مقدار هذه النقود فيكون بذلك قد‬
‫حدد املقياس النقدي الذي يرجع إليه يف قياس السلع واجلهود‪.‬‬
‫وحني ضرب عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه الدرهم الشرعي أبقاه على ما تعارفت عليه العرب من وزن للدرهم‪،‬‬
‫وهو الوزن املتوسط للدراهم الساسانية‪ ،‬ويزن ‪ 14‬قرياطًا (‪ 2,975‬غم) وهو نفس وزن الدرهم اإلسالمي الذي ضربه‬
‫عبد امللك بن مروان‪ ،‬وكذلك الدينار الشرعي هو نفس وزن الدينار البيزنطي (السوليدوس) الذي كان متداوًال عند‬
‫العرب ونفس وزن الدرامخا‪.‬‬
‫والدينار الشرعي يزن مثقاًال من الذهب أي (‪ 4,25‬غرام)‪ .‬وأيضًا فإن الشرع قد علق أحكامًا شرعية بالذهب‬
‫والفضة‪ ،‬وبالنظر يف هذه األحكام جند أهنا تشمل الذهب والفضة بصفتهما املعدنية كسلعة هلا قيمة‪ ،‬وبصفتهما النقدية‪ ،‬أي‬
‫كوهنما مقياسًا للسلع واخلدمات‪ .‬فقد حرم اإلسالم كنزمها ومل حيرم كنز غريمها من األموال والكنز ال يظهر إال يف األموال‬
‫النقدية‪ .‬أما باقي األموال فيظهر فيها االحتكار‪ .‬كما أن اإلسالم عنّي يف الذهب والفضة نصاب الزكاة‪ ،‬وعنّي مقدار الدية‬
‫يف الذهب والفضة‪ ،‬وهي عند أهل الذهب ألف دينار وعند أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم‪( .‬ويف النفس املؤمنة الدية مائة‬
‫من اإلبل وعلى أهل الذهب ألف دينار)‪ .‬وكذلك حني أوجب اإلسالم القطع يف السرقة عنّي املقدار الذي يناط به حكم‬
‫القطع وهو ربع دينار من الذهب‪ ،‬وجعل ذلك مقياسًا لكل ما يسرق‪ .‬روي عن عائشة رضي اهلل عنها عن النيب ‪ ‬أنه‬
‫قال‪« :‬تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» وكذلك عن ابن عمر‪« :‬أن الرسول ‪ ‬قطع سارقًا في مجّن ثمنه ثالثة‬
‫دراهم»‪ ،‬كما أن الرسول عليه الصالة والسالم هنى عن تبادل الذهب بالذهب والفضة بالفضة إال سواء بسواء ويدًا بيد‬
‫وأباح شراء الذهب بالفضة والفضة بالذهب كما نشاء على أن يكون يدًا بيد‪ ،‬كما ورد يف الصحيحني‪ ،‬عالوة على ذلك‬
‫فإن أحكام الصرف اليت جاء هبا اإلسالم جاءت بالذهب والفضة وحدمها‪ ،‬والصرف هو مبادلة نقد بنقد أي أنه معاملة‬
‫نقدية ال غري‪.‬‬
‫وبذلك يكون اإلسالم قد عنّي األساس النقدي‪ ،‬وهو الذهب والفضة‪ ،‬وقد أباح التبادل بغريمها إال أنه جعلهما‬
‫وحدمها أساس النقد‪ .‬فكان إقراره إقرارًا هلما حسب واقعهما آنذاك‪ .‬ومل يأمر باختاذ غريمها نقدًا‪ ،‬ومل جيعل غريمها مقياسًا‬
‫نقديًا تقاس به السلع واجلهود‪ .‬ولكنه اعترب الذهب والفضة مها وحدمها املقياس األساسي ال غري‪ .‬ومع أن الشارع قد ربط‬
‫أحكام الدية والزكاة مثًال هبما وبغريمها من األموال فأجار دفع الدية باإلبل وغريها من املاشية‪ ،‬وبالثياب‪ ،‬وأوجب الزكاة‬
‫يف املاشية ويف الزروع والثمار‪ ،‬وأخذ اجلزية من املاشية‪ ،‬ولكنه يف اعتباره للنقد مل يتناول غري الذهب والفضة ومل يعترب‬
‫بذلك غريمها من األموال نقدًا‪ .‬من كل ذلك فهم أن اإلسالم جييز التبادل للجهود والسلع مبا نشاء وجييز اختاذ الذهب‬
‫والفضة وغريمها من األموال العينية والورقية وسيلة للتبادل‪ .‬ولكنه يشرتط أن يكون الذهب أو الفضة فقط املقياس النقدي‪،‬‬
‫أي مها األساس الذي يرجع إليه يف تقييم النقود‪ .‬وبعبارة أخرى فإن النقد يف اإلسالم إما أن يكون قطعًا معدنية من الذهب‬
‫أو الفضة أو أوراقًا نائبة عن مقدار معني من الذهب أو الفضة‪ .‬أما النقود اإللزامية املتداولة حاليًا يف شىت أقطار العامل فإن‬
‫املقياس النقدي هلا هو قوة وهيمنة اجلهة املصدرة هلذه النقود وليس هلا قيمة ذاتية يف ذاهتا‪ .‬كما ليس هلا قيمة ثابتة بالنسبة‬
‫للذهب أو الفضة‪ .‬فهذا الواقع هو خروج عن األصل‪ ،‬حسب أحكام الشرع‪ ،‬وخروج عن األصل أيضًا أساسيات االقتصاد‬
‫النقدي‪ .‬وذلك أن اختاذ نقد غري نائب عن كمية معينة ثابتة من األموال العينية املقبولة عند اجلميع قابل لالستبدال هبا يف‬
‫الـوعـي – العـدد الثاني عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬رمضان ‪1408‬هـ ‪ -‬أيار ‪1988‬م‬
‫‪3‬‬
‫أي وقت‪ ،‬وتعليق الصالحية والقوة الشرائية هلذا النقد بني دولة تسريه حسب مصاحلها‪ ،‬ما هو إال وسيلة من أقوى وسائل‬
‫بسط نفوذ هذه الدولة على بقية شعوب العامل‪ .‬ولكنه مع ذلك ال ميكن إال أن يعترب نقدًا ألنه هو مقياس املنفعة الذي‬
‫اصطلح الناس عليه واعتادوا علي استعماله مقياسًا‪.‬‬
‫فهو واقعًا نقد‪ ،‬وتنطبق عليه األحكام الشرعية املتعلقة بالنقد‪ ،‬ولكن لتحديد املقدار الشرعي هلذا النقد البديل جيب‬
‫الرجوع إىل ما اعتربه الشرع نقدًا وتقييمه به‪ .‬فمن ميلك مبلغًا من الدوالرات مثًال‪ ،‬وحال عليه احلول ُينظر‪ ،‬فإن كانت ال‬
‫تساوي ‪ 85‬غرامًا من الذهب (وهو نصاب زكاة الذهب) كما أهنا ال تساوي ‪ 595‬غرامًا من الفضة (وهو نصاب زكاة‬
‫الفضة)‪ .‬ولكن من ميلك منها ما يساوي قيمة النصاب وال خيرج عنها الزكاة حبجة أهنا ليست نقدًا حقيقيًا‪ ،‬إذ أهنا ليست‬
‫ذهبًا وال فضة وال نائبة عن الذهب أو الفضة‪ ،‬فهو خمطئ‪ .‬نعم هي ليست نائبة عن الذهب وال عن الفضة بشكل ثابت‬
‫وحمدد‪ ،‬أي أهنا ليست مربوطة ربطًا ثابتًا بأي منهما وال بأي سلعة أخرى ولكنها وسيلة لتقييم السلع واجملهودات ومطلوبة‬
‫من مجيع األفراد ومقبولة يف إبراء الذمة ال لذاهتا بل لتمتعها بقابلية االستبدال بأي مال عيين كالذهب والفضة‪ ،‬فهي واقعًا‬
‫نقد‪ ،‬واصطالحًا نقد‪ .‬وهبا تقاس الثورة فهي بديلة عن النقد الذهيب والفضي‪ ،‬وحكمها يف الزكاة حكم عروض التجارة‪.‬‬
‫ويف الصرف ال جيوز تبادهلا إال مثًال مبثل‪ .‬أما شبهة تبادل الفلوس بزيادة ونقصان فلها واقع آخر‪ .‬فقد ضربت‬
‫بعض الفلوس من املعادن الرخيصة كالنحاس والرصاص واستعملت يف شراء حمقرات األشياء نظرًا ألن الندرة النسبية‬
‫املتوفرة يف الذهب والفضة جتعل قطعهما الصغرية ذات قوة شرائية عالية‪ .‬فلو احتاج شخص ما رقعة لكتابة وصيته عليها أو‬
‫حبًال يربط به مجله فإن عليه إما استبدال ما يريد بسلعة أخرى قليلة القيمة‪ ،‬أو شراء فوق ما حيتاج‪ ،‬فكان التساع احلاجة‬
‫حملقرات األشياء وتعدد احلرف والصناعات أن ضربت مسكوكات رخيصة ذات قوة شرائية منخفضة‪ .‬وكانت عبارة عن‬
‫وسيط تبادل رخيص القيمة‪ .‬واعتربت يف حد ذاهتا سلعة ملا هلا من قيمة ذاتية فيها‪ ،‬وهي كسلعة تتأثر بالعرض والطلب‪.‬‬
‫ولفهم آراء الفقهاء الذين أباحوا تبادل الفلوس بتفاضل ونسيئة‪ ،‬ال بد من فهم واقع الفلوس اليت أباح الفقهاء‬
‫تبادهلا بتفاضل ونسيئة‪ .‬فقد استدل الفقهاء بأن الفلوس سلعة وإن راجت‪ ،‬وان حديث التحرمي مل يشملها‪ ،‬كما استدلوا‬
‫بعدم حتقيق الثمنية يف الفلوس‪ ،‬أي أهنا ليست نقدًا‪ ،‬واستدلوا بعدم اشرتاك الفلوس يف علة التحرمي‪ ،‬إذ أهنا ال موزون وال‬
‫مكيل‪ .‬وذلك أن حديث الرسول ‪« :‬الذهب بالذهب ـ والفضة بالفضة ـ والبر بالبر ـ والشعير بالشعير ـ والتمر بالتمر‬
‫ـ والملح بالملح مثًال بمثل‪ ،‬سواء بسواء يدًا بيد‪ ،‬فإذا اختلفت هذه األصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد»‪،‬‬
‫«وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر كيف شئنا إذا كان يدًا بيد» حني تناوله الفقهاء‪ ،‬يف رواياته املتعددة اختلفت‬
‫افهامهم له‪ ،‬فمنهم من قال إن القمح والشعري والذهب إخل هي أمساء جامدة غري مفهمة للعلية‪ ،‬فهي ليست وصفًا مفهمًا‬
‫كقوله ‪« :‬في الغنم السائبة زكاة» وعليه ال وجه للتعليل فيقتصر التحرمي على األصناف الستة‪ :‬فالنحاس والرصاص‬
‫وغريمها من املعادن مضروبة أم غري مضروبة ال يشملها التحرمي‪ ،‬فهي سلعة كباقي السلع‪ ،‬كما أهنا ليست نقدًا فال تأخذ‬
‫حكم النقد‪.‬‬
‫وبعض الفقهاء حبث عن العلة يف التحرمي‪ ،‬فمنهم من قال إهنا ـ أي العلة ـ موجودة يف الوزن والكيل‪ ،‬فقاسوا على‬
‫ذلك كل مكيل وموزون ومنهم من خصص املكيل بالطعام وهكذا نظر لتعدد االفهام للغة والنص‪ .‬لذلك تناول الفقهاء‬
‫موضوع إباحة تبادل الفلوس بتفاضل ونسيئة من زوايا متعددة كل حسب فهمه املبين على اللغة والنص‪ .‬ويظهر ذلك‬
‫باستعراض خمتصر لبعض آراء الفقهاء‪ ،‬فعند األحناف الذهب والفضة مها أمثان خلقة‪ ،‬أما الفلوس فليست كذلك‪ .‬وعند‬
‫الـوعـي – العـدد الثاني عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬رمضان ‪1408‬هـ ‪ -‬أيار ‪1988‬م‬
‫‪4‬‬
‫الشافعية علة التحرمي هي متتع الذهب والفضة بالثمنية الغالبة والفلوس تنتفي فيها الثمنية الغالبة‪ .‬وعند احلنابلة العلة يف‬
‫التحرمي هي الوزن والثمنية‪ ،‬والفلوس ال ُتَتبادل وزنًا‪ ،‬وتنتفي فيها الثمنية الغالبة‪ .‬وعند املالكية الفلوس ليست كالدنانري‬
‫والدراهم وال مبنزلتها‪ .‬قال اإلمام النووي يف روضة الطالبني‪( :‬النقد بالنقد‪ ،‬أي الذهب والفضة مضروبًا وغري مضروب‬
‫كطعام بطعام‪ .‬وال ربا يف الفلوس الرائجة)‪ ،‬فهنا مل يعترب اإلمام النووي الفلوس نقدًا ويؤيد ذلك قوله‪( :‬الصحيح أنه ال ربا‬
‫يف الفلوس ولو راجت النتفاء الثمنية الغالبة)‪.‬‬
‫ومفهوم القول هذا أنه لو توفرت الثمنية الغالبة لكان تبادل الفلوس بتفاضل ربا‪ .‬ويف املغين البن قدامة‪( :‬الراجح‬
‫جواز بيع الفلس بالفلسني‪ ،‬ألنه ال مكيل وال موزون) ويف نيل املأرب‪( :‬ال جيري الربا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن‪،‬‬
‫غري الذهب والفضة)‪.‬‬
‫مما سبق من استعراض آلراء الفقهاء جند أن اإلباحة يف تبادل الفلوس بتفاضل ونسيئة مبنية على انتفاء علة التحرمي‬
‫يف الفلوس من كيل ووزن عند من عّلل‪ ،‬وعلى انتفاء النقدية أيضًا عند من عّلل وعند من مل يعّلل‪ ،‬وعلى كون الفلوس من‬
‫العروض أي السلع التجارية‪ .‬وال جند رأيًا واحدًا أباح تبادل الفلوس بتفاضل ونسيئة مع اعتبارها نقدًا أو بديًال للنقد عالوة‬
‫على اعتبارها أساسًا نقديًا‪ .‬وحنن إذ نسرتشد بآراء الفقهاء األفاضل جيب علينا أن نتبني كيف استنبط الفقهاء آراءهم‪.‬‬
‫فكانوا رضوان اهلل عليهم قبل أن يبدي أحدهم رأيه يف املسألة‪ ،‬يفهم واقع املسألة‪ ،‬مث يطبق النص عليه لكون النص قد عاجل‬
‫مسألة مماثلة أو مشاهبة‪ .‬وبذلك نكون قد فهمنا الواقع الذي عاجله الفقهاء وكيفية استنباطهم للرأي‪ .‬ونكون قد احتطنا من‬
‫أن خنلط بني واقع وواقع آخر يغايره جملرد وجود شبهة يف اللفظ‪ ،‬عالوة على ذلك فإن آراء الفقهاء ليست من الداللة‬
‫الشرعية رغم ما هلم من منزلة كرمية‪ ،‬بل هي مناذج من اآلراء الفقهية اليت تنري لنا الطريق لفهم األحكام الشرعية فهمًا‬
‫سليمًا‪.‬‬
‫نعم إن الذهب والفضة جيب أن يكونا األساس النقدي للمسلمني خاصة‪ ،‬وللعامل أمجع‪ ،‬ألن ما يعانيه املسلمون‬
‫والعامل من االستعمار االقتصادي‪ ،‬نظرًا لتحكم العمالت اإللزامية‪ ،‬ال يقل عن املعاناة حتت االستعمار العسكري‪ ،‬عالوة‬
‫على أن احلكم الشرعي هو أن يكون الذهب والفضة أساسًا لتقييم النقود‪ .‬وعدم كون النقد ذهبًا أو فضة أو نائبًا عن‬
‫الذهب والفضة أو عن أموال عينية أخرى هلا قيم ثابتة أو شبة ثابتة عند اجملموعات البشرية‪ ،‬ليس إال وسيلة بسط نفوذ‬
‫اقتصادي وسياسي وهذا ال خيرج النقد البديل عن كونه نقدًا‪ ،‬واقعًا وعرفًا‪ .‬وعليه تنطبق على هذا النقد كل األحكام‬
‫الشرعية احملددة لكيفية التعامل بالنقد‪ ،‬أي األحكام الشرعية ملتعلقة بالذهب والفضة بصفتهما النقدية‪ .‬إذ أن األحكام‬
‫الشرعية تناولت الذهب والفضة‪ ،‬ال كسلعة فيها منفعة فحسب‪ ،‬بل كنقد أيضًا‪ .‬وكي حيتاط املسلم لدينه‪ ،‬عليه حني‬
‫إخراج زكاته أو دفع أي دية وجبت عليه أن يقّو م نصاب الزكاة ومقدار الدية الشرعيني مبا ميلك من النقد احلايل‪ ،‬فالدية‬
‫شرعًا هي ألف دينا من الذهب أي (‪ 4250‬غم) وتساوي اآلن ما مقداره ستون ألف دوالر تقريبًا‪ .‬‬
‫واهلل وراء القصد‪.‬‬

‫مراجع البحث ـ بعد كتاب اهلل وكتب احلديث‪:‬‬


‫‪ -1‬كتاب األموال يف دولة اخلالفة (لعبد القدمي زلوم ‪.)1983‬‬
‫‪ -2‬كتاب النظام االقتصادي يف اإلسالم (لتقي الدين النبهاين ‪.)1953‬‬

‫الـوعـي – العـدد الثاني عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬رمضان ‪1408‬هـ ‪ -‬أيار ‪1988‬م‬
‫‪5‬‬
‫‪ -3‬كتاب اقتصاديات النقود والبنوك (لعبد اهلادي سويفي ‪.)1980‬‬

‫الريان‬
‫عن سهل رضي اهلل عنه عن النيب ‪ ‬قال‪« :‬إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون ال يدخل‬
‫منه أحد غيرهم‪ ،‬يقال‪ :‬أين الصائمون فيقومون‪ ،‬ال يدخل منه أحد غيرهم‪ ،‬فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد»‪.‬‬

‫الـوعـي – العـدد الثاني عشر ‪ -‬السـنـة األولى ‪ -‬رمضان ‪1408‬هـ ‪ -‬أيار ‪1988‬م‬
‫‪6‬‬

You might also like