Professional Documents
Culture Documents
المحاضرة5 الفكرا لاسلامي 2
المحاضرة5 الفكرا لاسلامي 2
تمهيد:
حاول العديد من المفكرين المسلمين األوائل تفسير بعض الظواهر االقتصادية ،ويرجع اليهم الفضل في وضع
اللبنات األولى لبعض النظريات الحديثة.
وقد تأثر الفالسفة المسلمون األوائل بالفلسفة اليونانية ،فنجد الفارابي يتأثر بأراء ارسطو التي تبرر قيام الدولة على
اساس اجتماعي ليحقق الفرد اإلشباع لحاجاته الخاصة بالتعاون مع غيره من البشر ،ونادى ابن سينا بمكافحة البطالة،
وبيّن ان أساس المبادالت هو قيمة المنفعة للسلعة التي يتم تبادلها ،وأكدّ على تحريم الميّسر باعتباره نوعا من الكسب
بال عمل او منفعة.
ومن أشهر العلماء المسلمين الذين تضمنت كتاباتهم إسهامات إقتصادية مهمة :ابن خلدون ،الدمشقي والمقريزي.
أوال-ابن خلدون(:)1
بالرغم من كون ابن خلدون عالم من علماء االجتماع ،اال انه من األوائل الذي خص المسائل االقتصادية بدراسة
عميقة في مقدمته الشهيرة ،الى الحد ّ الذي يعتبره بعص الكتاب بأنه أبو االقتصاد السياسي الحقيقي ،سابقا بذلك أدم
سميث ،فقد اقر ابن خلدون بوجود نوع من التالزم بين االقتصاد والسياسة ،فحضارة الدول( العمران) تقوم على
دعامتين ،االولى اجتماعية سياسية تقتضيها الحاجة الى التأنس ،والثانية اقتصادية قوامها سعي الناس إلى الكسب.
ويمكن تلخيص أهم اسهاماته في الفكر االقتصادي في النقاط التالية:
العملية اإلنتاجية كما وصفها ابن خلدون تتألف من حلقات أو عمليات متشابكة ومتراكبة ،ولذلك فإن إتمامها
أو القيام بها يخرج عن طاقة الواحد من البشر ،التعاون بين مجموعة من الناس وقيام كل واحد منهم بدور معين.
فالعملية اإلنتاجية مهما كا نت صغيرة أو كبيرة تتركب من مجموعة من التوليفات أو العناصر سواء كانت زراعية
أو صناعية ،حيث تحتاج في مجال الزراعة إلى عوامل متعددة من مواد غذائية وعقاقير وأدوية لتحسين النوع
وزيادة الجودة ،بل وإنتاج ثروات جديدة ،كما تحتاج العمليات اإلنتاجية الصناعية إلى كثير من المواد األولية
والسلع المصنعة ونصف المصنعة ،وغير ذلك .وبناء على تعقد العمليات اإلنتاجية وترابط أجزائها وتكاملها فإن
الناتج الذي يحصل عليه أفراد المجتمع من جراء التعاون فيما بينهم يؤدي إلى سداد حاجاتهم األصلية ،كما ينتج
فائضا يكفي ألكثر منهم بأضعاف.
تصن يف الحاجات البشرية الى حاجات ضرورية وكمالية ،فاالنسان يحتاج لأشياء أساسية كالغذاء والملبس،
وهي الضروريات ،تتفرع منها حاجات أخرى أسماها ثانوية ،ولكنها الزمة إلنتاج الحاجات األساسية ،وهي ما
تعرف في عصرنا هذا بـ "الكماليات" ،وذكر ابن خلدون أن حجم السكان عامل مهم في تحديد حجم االحتياجات
البشرية ،اما تطور العمران فحدد صنف االحتياجات ذات األولية.
ا لنشاط االقتصادي بشكله العام هو السعي المستمر لكسب المعاش والحصول على ما يؤمن حاجات اإلنسان
ويلبي رغباته ،ولتحقيق ذلك يتعين على الفرد أن يعمل ويبذل الثمن من جهده وعمله وملكه .ولفظ المعاش في
فصل كتب ابن خلدون “وجوه المعاش وأصنافه” أفاد معنيين مختلفين ،أولهما يقصد بالمعاش الكسب حينما يكفي
لقضاء الضرورات أو الحاجات ،والمعنى الثاني يقصد بالمعاش ذلك النشاط اإلنساني التي يترتب عنه الحصول
على دخل (مكسب) إلنفاقه.
وهذا المعنى الثاني هو المقصود بالنشاط االقتصادي في اإلصالح الحديث .وأغلب ما قصده ابن خلدون في
توظيفه لمصطلح المعاش ينصرف إلى المعنى الثاني وهو النشاط االقتصادي.
( )1ابن خلدون( 732-808ه) :عبد الرحمن محمد بن محمد ،فيلسوف ومؤرخ ،العالم االجتماعي ،أصله من اشبيلية ومولده ونشأته في تونس ،اشتهر بكتابه” العبر
وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر” في تسعة مجلدات أولها المقدمة.
1
II االسالمي االقتصادي الفكر الخامسة: المحاضرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية 2023_2022
تحليالت ابن خلدون للعمل وتقسيمه والتخصص قائمة على االفكار التالية:
-1يقوم النشاط االقتصادي على فكرة تقسيم العمل الى عمل منتج وغير منتج ،سابقا بذلك الطبيعيين
و االقتصاديين التقليديين ،حيث فرق بين وجوه المعاش الطبيعية التي تخلق قيمة كالتجارة والفالحة والصناعة،
ومن بين وجوه المعاش غير الطبيعية التي ال تخلق القيمة كاإلمارة بمفهومها عنده وهي حكم الدولة وإدارة
شؤونها ،فهي فقط قدرة على جمع األموال والضرائب من الناس لما للدولة من سيادة وسلطة ،كما إلى نظر
للوظائف الحكومية بصفتها مصدرا الكتساب الدخل بشكل غير عادي وال طبيعي ،ألنها وظائف ونشاطات
قائمة أساسا على القوة والتسلط المستمد من طبيعة الهيئة أو الشخص المخدوم.
في نفس السياق السابق ،ا عتبر ابن خلدون الخدمة نشاطا اقتصاديا غير طبيعي ألنها ليست ضرورية
الستمرار حياة الناس مقارنة بالتجارة والفالحة والصناعة ،إذ تعتبر هذه النشاطات طبيعية وعادية نظرا
ألهميتها وضرورتها لتلبية حاجات الناس وضما ن استمرار حياتهم وتطور المجتمع ،في حين أن الخدمة
خاصة تلك الموجهة للحكام أو أصحاب الدخول العالية ليست بتلك األهمية في التطور االقتصادي في المجتمع
وال تتوقف عليها مصالح وحاجات عامة الناس.
-2أهمية تقسيم العمل لجعل العمال أكثر مهارة وإتقانا للعمل ألن العامل يقوم بجزء يسير من عملية صناعية،
ويرفع بذلك التخصص من الكفاءة اإلنتاجية للعامل .في هذا االمر وضح ابن خلدون اسباب كل من العمل ،
تقسيم العمل والتعاون وسببه .وهذه المبادئ األساسية تشكل مشاكل اقتصادية التي اهتم بها الكثير من رجال
االقتصاد في مختلف المدارس والمذاهب االقتصادية.
-3عدم اقتصار تقسيم العمل على النطاق الوطني بل يتجاوزه الى النطاق الدولي نظرا الختالفات الحاجات
بين الدول ،ولتخصص كل دولة بأعمال تميزها عن غيرها ،والختالف البلدان في درجة عمرانها سابقا بتحليله
اطروحات ادم سميث ودافيد ريكاردو حول قضايا التقسيم الدولي العمل والتخصص الدولي( التجارة الدولية).
-4التمييز بين العمل الظاهر المنتج لقيمة مباشرة ،والعمل المستتر المنتج لقيمة مخزونة ،سابقا في ذلك كل من
ادم سميث ،ريكاردو وماركس.
الربط بين القيمة والعمإلذ اعتبره عنصرا مهما في تحديد القيمة مهما كان نوعها ،فالعمل معيار تحديد قيمة
أي منتج وهذا ما يمثل جوهر الفكر اإلسالمي ،وفي كثير من صيغ التمويل وطرق اإلنتاج في اإلسالم من خالل
عقود المضاربة والمزارعة وغيرها فإن قيمة المنتج فيها يتحدد من خالل :العمل ورأس المال والموارد الطبيعية.
وبمقارنة رأي ابن خلدون مع نظريات مماثلة في الفكر االقتصادي الوضعي يثبت سبقه وتفوقه في التأصيل
لنظرية القيمة.
ميّز بن خلدون بين القيمة االستعمالية والقيمة التبادلية:
-1القيمة االستعمالية :استعمل ابن خلدون لفظ الرزق مرادفا لمفهوم القيمة االستعمالية في مفاهيم المصطلحات
االقتصادية الحديثة ،وب المقارنة يتوصل إلى أنها ما يحصل عليه الفرد ويستعمله إلشباع حاجاته المباشرة وتحقيق
مصالحه الخاصة .وعليه فإن تحقيق هذه القيمة للسلعة أو الخدمة ال يتأتى للفرد إال ببذل الجهد والعمل اإلنساني.
وللقيمة االستعمالية شروط حتى تتحقق هي:
أ -الحصول على السلعة واقتناؤها لتحقيق القيمة االستعمالية للسلعة يتعين حصول الفرد عليها وأن يكون قادرا
على التصرف فيها ،ألن مجرد وجود الرغبة والحاجة إلى سلعة معينة والدافع إلى اقتنائها والحصول عليها ال
يعطي لها قيمة استعمالية مادام الطلب عليها قائم والحصول عليها غير متحقق.
ب -تحقيق المنفعة من الشيء المقتنى يضاف إلى الشرط األول شرطا آخر يكمله ،إذ ال يقوم وال يتحقق الهدف
من الشرط األول إال به ،فمجرد توفر السلعة أو الخدمة وحصول الفرد عليها ليس كافيا لتكسب السلعة أو الخدمة
2
II االسالمي االقتصادي الفكر الخامسة: المحاضرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية 2023_2022
صفة القيمة االستعمالية .فقد تتوفر السلعة ويتم االقتناء لكنها ال تكون موجهة لالستعمال الشخصي المباشر ،لذا
يتعين توفر الشرط الثاني حيث تكون السلعة أو الخدمة ذات منفعة تعود على الفرد ويمكنه استعمالها فعال.
ج -القدرة على اإلشباع اعتبر ابن خلدون أن السلعة ال تكون لها أي قيمة استعمالية إن لم تكن قادرة على إشباع
حاجة وتحقيق مصلحة خاصة للفرد ،فيتعين الحصول على المقتنى وأن يحقق منفعة وأن يكون قادرا على إشباع
حاجة من حاجات المقتني ويقدم له مصلحة معينة حسب طبيعة الشيء المقتنى .وبذلك يكون قد استوفى شروط
القيمة االستعمالية.
وتبرز القيمة االسعمالية للسلعةبمجرد استعمال السلعة والحصول عليها فهي ال تتطلب وجود سوق أو مبادلة بين
األفراد.
-2القيمة التبادلية :تبرز القيمة التبادلية في الجماعات وتعامل وتبادل األفراد فيما بينهم وهذا ما يعرف
القيمة االجتماعية للسلعة أو الخدمة .ولتحقيق هذه القيمة تتطلب المعاملة سلعتين ،إذ تختلف وتتميز السلعة عن
األخرى بمواصفات مختلفة .فالنوع الثاني من األشياء المقتناة التي ذكرها ابن خلدون ال يكون الهدف منها مجرد
االقتناء لالستعمال الشخصي ،بل هدف اقتنائها هو إجراء مبادلة بغيرها ،وعليه تكسب قيمة تبادلية ،وهي قيمة
تقتصر وتختص فقط بالسلع االقتصادية.
وتتطلب المبادلة توفر السوق لغرض عرضها .فالقيمة التبادلية هي محور العمليات التبادلية في المقايضة وفي
تحديد األسعار في المعامالت التجارية .وقد حدد ابن خلدون شروطا للقيمة التبادلية ،وهي:
أ -اقتناء السلعة والحصول عليها فعال وهو ذاته شرط القيمة االستعمالية ،فعدم الحصول على السلعة أو
الخدمة ينفي بالضرورة القيمة التبادلية لها ،فهو شرط أساسي يجب تحققه ،وما ال يتم الواجب إال به فهو
واجب.
ب -ليس بالضرورة توجيهها للمصلحة الفردية الخاصة ألن هذه القيمة تبرز في الجماعات ،وتبرز هذه
القيمة للسلعة أو الخدمة سواء في المبادالت فيما مضى بين السلع المختلفة فيما بينها أي ما يعرف بالمقايضة،
أو في السلع النقدية أو النقود السلعية ،حيث برزت سلع معينة اتخذت أداة للتبادل والتداول ،أو التبادل باستعمال
النقود التي تمثل ثمن أي سلعة أو خدمة أو قيمتها التبادلية مقارنة بالوحدات النقدية.
استخدام التحليل الديناميكي في تحليل مزايا تقسيم العمل ،من خالل تبيان تحليل تتابع المؤثرات واالثار عبر
الزمن ،بحيث يؤثر حدوث حدث معين في الماضي على األحداث التالية لها ،هكذا يربط التحليل بين الفترات
الزمنية المختلفة السبب بالنتيجة ،وهي طريقة لم تستخدم في دراسة التطور االقتصادي اال مع بدايات القرن
العشرين من قبل المفكرين السويديون.
التأكيد على أهمية التعليم والتدريب في اإلرتقاء بالصناعات ،فالصناعة عند ابن خلدون نشاط اقتصادي مهم
ودقيق ويحتاج إلى جهد عقلي وفكري وكفاءة معينة عكس الفالحة ،ولقد أوالها أهمية في بحثه وتحليله ألنواع
النشاط االقتصادي الرتباطها بنظرية العمران البشري ،وعليه ربط بين انتشار البداوة في عصره وقلة الصنائع
لسببين :األول :أن البدو أعرق في البداوة وأبعد ما يكونون عن العمران الحضري ،وعليه فال حاجة لهم إلى
الصنائع األمر الذي يفسر قلة الصنائع لديهم .والثاني :أن الصناعة عكس الزراعة -في نظره -فهي تحتاج إلى
قدرة وملكة وتفوق ويتحقق ذلك التفوق والكفاءة عن طريق التكرار والتعود حتى يصل منتحلها إلى مرتبة اإلجادة
وهذا ال يتصور تحققه إال في ظل العمران الحضري .تطور الصنائع مرتبط أيضا بحجم الطلب الفعلي عليها فهي
إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها .
اسهامات ابن خلدون في تحليل األسعار كان اساسها مايلي:
3
II االسالمي االقتصادي الفكر الخامسة: المحاضرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية 2023_2022
-1الثمن هو التعبير النقدي لهذه القيمة يتحدد الثمن او السعر على اساس نفقة االنتاج .وال يظهر إال في
األسواق .فتقلب اثمان السلع نتيجة قوى العرض والطلب ،ففائض الطلب يؤدي ال ارتفاع االسعار ،بينما يؤدي
فائض العرض الى انخفاضها.
-2النقود مقياس لألثمان ،ومستودع للقيمة ووسيط للتبادل ،وهو المتعارف عليه في الفكر االقتصادي الحديث،
فيقول “ :إن هللا خلق الحجرين المعدنين الذهب والفضة قيمة لكل متمول ،وهما الذخيرة والقنية ،وألهل العلم
في الغالب وان اقتنى سواهما في بعض األحيان فإنما هو يقصد تحصيلها بما يقع في غيرهما من حوالة
األسواق (تغير أسعارها) والتي هما عنها بمعزل (يتميز بثبات قوتها الشرائية) منها أصل المكاسب والقنية
والذخيرة” .فقوله بان للذهب والفضة قيمة لكل متمول ما هو اال اشارة الى ان النقود مقياس للقيم ،واما قوله
هما الذخيرة فهي اشارة الى انها مستودع للقيمة ،واما قوله انهما القنية فهي اشارة الى انهما وسيط للمبادلة،
واما قوله وان اقتنى سواهما في بعض االحيان فإنما يقصد تحصيلهما لما يقع في غيرهما ،فهي اشارة واضحة
الى تغيير اسعار صرفهما.
التأكيد على اهمية النمو االقتصادي الذي يكتمل بكمال العمران الحضاري.
أهمية وجود المؤسسات والنظم القانونية والقضائية لتنظيم العملية االقتصادية.
اعتبر ابن خلدون التجارة الخارجية أكثر ربحا من التجارة الداخلية ،وذلك بحكم الفترة الزمنية التي عالج
فيها الموضوع حيث كان العائد واألرباح المحققة من التجارة الخارجية باهضا باعتبار بعد المسافة والمخاطر
المحدقة بعملية االستيراد والتصدير .ولعل تلك الظروف والعوامل ظلت قائمة طويال ،إال أن التطور الهائل الذي
حدث في مجال النقل والمواصالت التي عرفها العالم خالل القرن التاسع عشر وما بعده غير تلك المفاهيم وقلل من
شأن األرباح الهائلة التي تحدث عنها ،مع أن األمر ال يخلو من عوائد وأرباح مهمة يحققها االستيراد والتصدير.
ورغم التحليل الجاد البن خلدون للتجارة الخارجية ،إال أنه ركز فقط على األرباح ،في حين لم يتحدث عن
أهميتها في تنمية اقتصاديات الدول وزيادة الدخل القومي ورفع المستوى المعيشي لألفراد ونوعية الخدمات
االجتماعية ،ثم إنه أغفل الحديث عن أهمية التجارة الخارجية في تصدير الفائض من اإلنتاج إلى سوق خارجي
وكذا تغطية العجز المسجل لدى العديد من الدول وعدم تحقيق االكتفاء الذاتي إلشباع وتلبية رغبات المستهلكين.
سبق ابن خلدون دافيد ريكاردو في تفسيره للريع اقتصاديا ،إذ ربطه بالنفقات التي تنفق على األراضي
الزراعية ،فكلما قلت جودة االراضي الزراعية ازدادت نفقات الزراعة .كما أن لآلفات الطبيعية تأثيرا على
اإلنتاج الزراعي من حيث الكم والنوع ،أما من حيث الكم فإنه تؤدي إلى قلة المنتوج ومنه قلة العرض وارتفاع
الطلب مما يؤدي إلى ارتفاع األسعار .إضافة إلى ارتفاع تكاليف المواد األولية كالسماد ،أو بسبب رداءة
األراضي الزراعية وحاجتها للخدمة ،وغيره .فترتفع تكاليف اإلنتاج األمر الذي يؤدي إلى ارتفاع األسعار.
تحديد مهام ووظائف الدولة خاصة وظيفة االستقرار كمطلب اساسي لقيام النشاط االقتصادي ،مع التركيز
على دور النظام الضريبي في ضمان ايرادات مالية دائمة لدولة على أساس العدالة في فرضها ،والكفاءة
االقتصادية في تحصيلها( التوازن بين الحصيلة والنمو).
ناقش ابن خلدون مسألة ممارسة الدولة لبعض أوجه النشاط االقتصادي في مجالي اإلنتاج والتجارة حيث
ركز على بيان أهم أسباب هذا التدخل ونتائجه ،إذ يرى أن الدولة ال تقوم بذلك إال لتغطية العجز والنقص المسجل
لديها لقلة إيراداتها من الجباية أو لقلتها مقارنة بالنفقات المتزايدة .ويرى ابن خلدون أن هذا القصور أو الخلل في
اإليرادات الضريبية ال يحدث إال في أواخر عهد الدولة حيث وفور العمران وانتشار والترف ،حيث ترتفع نفقات
الدولة على األفراد والجنود فتتضخم النفقات .ونظرا للخلل الذي يشهده النشاط االقتصادي تبعا لذلك إضافة إلى
حافز الربح المتوقع تقدم الدولة على ممارسة النشاط التجاري أو اإلنتاجي الذي يمكن أن يقوم به األفراد ،إال أن
ممارسة التجارة من قبل الدولة فيه ضرر للرعايا وفساد للجباية .وأبرز ابن خلدون أهم المضار الناجمة عن
4
II االسالمي االقتصادي الفكر الخامسة: المحاضرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية 2023_2022
ممارسة التجارة من قبل السلطان على الرعايا وأثر ذلك في الجباية ،حيث يؤدي ذلك إلى مضايقة الفالحين
والتجار ،إضافة إلى ما يوفره لهم سلطانها من القدرة على االحتكار من ناحية الشراء أو من ناحية البيع للتجار،
وغيره من األضرار التي تبرز من ناحية فساد الجباية .فالرعايا القائمون بالنشاط التجاري واإلنتاجي متساوون أو
على األقل متقاربون من حيث القدرة المالية أو االقتصادية مما يضمن مبدأ المنافسة بينهم ،لكن دخول الدولة في
هذا المجال وممارسة النشاط بما تتمتع به من قوة سياسية واقتصادية يجعل الرعايا غير قادرين على المنافسة
واالستمرار في مم ارسة النشاط االقتصادي وتحقيق أغراضهم لعدم تكافؤ الفرص وغياب المنافسة.
( )2
أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي ،لم تذكر المصادر التاريخية تاريخا محددا لوالدته ،إال أن أكثر الروايات تشير إلى انه عاش في القرن الخامس للهجرة.
5
II االسالمي االقتصادي الفكر الخامسة: المحاضرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية 2023_2022
االخذ في تحليله للقيمة الجوانب والعوامل االقتصادية التي تدخل في تكوينها وبالتالي استطاع أن يحدد
ويفسر القيمة على أساس العوامل الذاتية والموضوعية ،فيحدد العوامل الموضوعية بنفقة اإلنتاج ويضمنها العمل،
وبهذا فإنه يعطي العمل األساس في تكوين القيمة التبادلية ،ويذكر التكاليف األخرى غير العمل في تكوين القيمة
عندما يشير إلى الفوالذ بأنه يأخذ شكل السلعة (ألنه مصنوع وليس يخرج من المعادن فوالذا ً) إال عندما ينسب إلى
صنّاعه واألماكن التي عُمل بها ،وبهذا نستطيع القول بأن الصناع الحاذقين بعمله وأما الحديد فإنه يختلف بحسب ُ
"الدمشقي" ميّّ ز بين العمل الماهر وبين العمل غير الماهر في تحديد قيمة السلعة ،فقد أشار إلى المهارة
والحذق كأحد العناصر التي تدخل في مكونات القيمة ،وبهذا يكون قد بيّّ ن العوامل الموضوعية في تحديد القيمة
التبادلية بنفقة اإلنتاج ويضمنها العمل ،أما العوامل الذاتية فإنه يرى أن لها دورا ً كبيرا ً في تحديد القيمة ،فالمنفعة
المتوقعة من الحصول على السلعة هي التي تخلق الرغبة عند المستهلك لحيازتها وعلى هذا األساس فإن القيمة
تزيد وتنقص على أساس المنفعة والرغبة المتحققة من الحصول عليها ،والعالقة بين المنفعة والرغبة من جهة
والقيمة من جهة أخرى يصورها الدمشقي بقوله( :أن أصل التجارة في البيع والشراء ،أن يشتري من زاهد أو
مضطر إلى أخذ الثمن ،ويبيع من راغب أو محتاج إلى الشراء ألن ذلك من أوكد األسباب إلى مكان االستصالح
في المشتري وتوفير الربح) ،ومن النص السابق يحدّّ د الدمشقي عاملي العرض والطلب في تحديد القيمة
التبادلية ،وزيادة على هذا أشار إلى عدد من العوامل والظروف المؤثرة في طلب وعرض السلعة وبالتالي كيفية
تحديد القيمة والسعر من خالل فهم اآللية التي يعمل من خاللها كل منهما فقد بين بصورة ال تختلف عما هو عليه
في التحليل االقتصادي العوامل المؤثرة في كل من العرض والطلب( الضرائب ،دخل المستهلك)....
سباقا في تشخيص العوامل المؤثرة في تحديد القيمة التبادلية نخلص مما تقدم إلى أن أبا الفضل الدمشقي كان ّ
ويرى أن جميع العوامل المحيطة بالسلعة تعمل على تحديدها ومن الخطأ االعتماد على عامل واحد كمحور للقيمة وهذا
هو جوهر نظرية التوازن بين العرض والطلب التي لم يتوصل إليها الفكر االقتصادي الغربي إال بعد سلسلة من
االفتراضات والنظريات ابتداءا ً من نظرية العمل مرورا ً بنظرية المنفعة الحدية حتى وصل بالنهاية على يد "الفريد
مارشال" إلى القول بنظرية العرض والطلب في نهاية القرن التاسع عشر الميالدي مما يعطي ألبي الفضل الدمشقي
خاصية السبق الزمني في مالحظته لهذه النظرية وجوهرها قبل أن يفطن إليها رواد الفكر االقتصادي الحديث.
باإلضافة إلى ذلك هناك السبق التاريخي للدمشقي على علماء الغرب فهذا "سان توماس األكويني" الفيلسوف
الذي عاش في الفترة من 1225م إلى 1274م أي أنه جاء بعد الدمشقي بحوالي قرن من الزمان أو أكثر ،وفي تاريخ
الفكر االقتصادي األوربي يشار إلى آرائه كأحد رموز الفكر االقتصادي الذي وجد في عصره ،ففي عصر األكويني
كان الفكر األوربي عن الثمن محكوما ً بفكر أرسطو عن الثمن العادل ولكن الحقيقة أنها فكرة ال تتضمن تحليالً للواقع
فهي تخضع لمنهج ما يجب أن يكون ،ويذكر أن األكويني حاول أن يجعل فكرة الثمن العادل تحمل أثرا ً لقوى العرض
والطلب أي يخضعها لمنهج ما هو كائن ويعتبر الفكر األوربي هذه المحاولة لألكويني خطوة متقدمة نحو تقديم أفكار
اقتصادية صحيحة نسبيا ً.
وبالتالي فإن المقابلة بين آراء الدمشقي ومنهجه الذي كان يعتمد على دراسة وتحليل ما هو كائن وليس ما يجب أن
يكون وبين األكويني يتبين تفوق الدمشقي الواضح ومن ثم ،فإن هذا األمر يثبت أن مساهمة األكويني والتي يقومها
الفكر األوربي تقويما ً إيجابيا ً على اعتبار أنها أرقى األفكار في عصرها هذه المساهمة جاءت بعد الدمشقي بأكثر من
قرن من الزمان ومن حيث المضمون فإنها أدنى بكثير من مساهمة الدمشقي.
6
II االسالمي االقتصادي الفكر الخامسة: المحاضرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية 2023_2022
ثالثا -المقريزي(:)3
اهتم المقريزي بعديد القضايا ذات الطابع والبعد االقتصادي من خالل تسجيلها وتدوينها كظاهرة تاريخية بدقة ،ثم
االهتمام بأسباب هذه الظواهر .ولعله في ذلك تأثر كثيرا بمنهج أستاذه ابن خلدون في تمحيص الظواهر وتحليلها
وكشف قوانينها .وتبرز أهم مساهمات المقريزي في االقتصاد باهتمامه بتحليل بالمشكالت االقتصادية والظواهر
النقدية المختلفة.
ويعدّ كتاب المقريزي “إغاثة األمة بكشف الغمة“ أو تاريخ المجاعات في مصر ال كتيبا قصيرا مقارنة بباقي
مؤلفاته ،إال انه احتوى نظريتين هامتين :النظرية األولى تعليله لألزمة االقتصادية التي حلت بمصر في الربع األول من
القرن الخامس عشر بأنها ناشئة عن فساد النظام النقدي ،وبذلك يكون أول من وضع النظرية النقدية في تفسير األزمات
االقتصادية ،مقترحا على السلطات إصالح السياسة النقدية كوسيلة من وسائل معالجة األزمة .أما النظرية الثانية
فهيبحثه لنتائج التضخم وأثره على مختلف فئات المجتمع ،وقد عرض بعمق وتفصيل قضية القوة الشرائية الحقيقية
للنقد وقوته الشرائية االسمية،وطالب باستبعاد العمالت االعتبارية الرمزية واألخذ بالنقد المستند إلى الذهب والفضة.
كما شخص المقريزي النقص في إنتاج قيم االستعمال من المنتجات والسلع وارتفاع أثمانها ،وبيّن أثر العامل
النقدي( فيما يتعلق بكمية النقود المتداولة في النشاط االقتصادي )على المستوى العام لألثمان ،اضافة الى إبراز ظاهرة
اختفاء النقود المعدنية النفيسة تاركة المجال للنقود النحاسية بسبب ارتفاع األثمان الذي أدى إلى خفض القيمة الشرائية
للنقود في مقابل ارتفاع ثمن الذهب والفضة مقارنة مع سعر الصرف مما جعل العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة ،والتي
طورها في أوائل القرن الرابع عشر الميالدي ،قبل أن يعيد اكتشافها في القرن السادس عشر الميالدي السير ويليام ّ
غريشام الذي اشتهرت النظرية ظل ًما باسمه في ما عُرف باسم "قانون غريشام".
وساهم المقريزي دراسة األثر المتباين للتضخم في توزيع الدخل بين فئاته في المجتمع ،ما يعكس فهمه الفرق
سا
بين القيمة االسمية والقيمة الحقيقية ،وما يخلقه "الوهم النقدي" من تصورات خاطئة ،واقتراحه معيار الذهب أسا ً
وأن على الدولة ضبط قيمتها ،وكذا معارضته ضرائب المكوس إلصدار العملة المعدنية من معادن غير نفيسةّ ،
والمبالغة فيها كونها بدعة من المماليك ال تتالءم مع التعاليم الدينية وآلثارها السلبية في االقتصاد؛ وكذلك عدّه زيادة
كمية النقود سببًا في ارتفاع األسعار ،مقتربًا بذلك من "النظرية الكمية للنقود" التي ظهرت بعده بعدة قرون.
من جانب اخر درس المقريزي موضوع السياسة االقتصادية للدولة وعالقتها بمحاربة االحتكار والحدّ من نشاط
المحتكرين ،فمحاربة االحتكار لن تحقق ال عن طريق الحسبة التي تعتبر أداة للتدخل المباشر في السوق .وتمثل الحسبة
في عمومها المحرك االجتماعي إليقاظ الضمائر وصقلها من أجل بلورة السلوك السوي في جميع األحوال واألفعال
إيجابا وسلبا.
كما من وسائل محاربة االحتكار والذي يمثل في الوقت ذاته صورة ووجها لتدخل الدولة في النشاط االقتصادي
عند المقريزي هو التسعير الرسمي الذي يضمن للتجار هامشا معقوال من الربح ،وفي الوقت ذاته يحد من االرتفاع
الحاد في األسعار ،ويتحقق وتحقق ذلك من خالل تدخل الدولة لفرض سعر محدد تباع به السلع ويمنع تجاوزه ويسهر
المحتسب على تطبيق ذلك بمراقبة السوق واألسعار ومعاقبة التجار الذين يبيعون بسعر أكثر من السعر المحدد.
لقد حلل المقريزي أزمات نقص اإلنتاج ،وحدد أهم األسباب لحدوث األزمات االقتصادية والمجاعات العنيفة،
سواء أكانت بسبب الطبيعة(حاالت الجفاف والقحط التي تصيب المحاصيل) ،أو بسبب سلوك اإلنسان وتصرفاته
كالصراع السياسي وتفشي الرشوة ،وغالء أطيان الزراعة وارتفاع إيجارها ،وانخفاض قيمة النقود. .
وبالرجوع مبدأ تدخل الدولة في النشاط االقتصادي وممارسة التجارة ،درس المقريزي هذا المبدأ دراسة عملية
من خالل ما حدث في عصره ،حيث يرى أن تجارة السلطان مضرة بالرعية وفي ذلك موافقة تامة لما ذهب إليه أستاذه
( )3أبو العباس تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد المقريزي ،مؤرخ مسلم ولد وتوفي في القاهرة ( 764ـ 845هـ) الموافق لـ(1442 - 1364م)
7
II االسالمي االقتصادي الفكر الخامسة: المحاضرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية 2023_2022
ي ،أسباب ذلك ومنشأ الضرر من حيث التأثير في أسعار السلع التي يشارك فيها السلطان رعيته في ابن خلدون .وقد ب ّ
شرائها وبيعها ،وقد يصل به األمر إلى حد االحتكار لحماية تجارته وتحقيق مصالحه بحكم موقعه وسلطته ،مخالفا بذلك
مبدأ تدخل الدولة لحماية النشاط االقتصادي ومنع االحتكار من خالل التسعير ،فيصبح السلطان محتكرا بدل كونه
محاربا لالحتكار ممثال في مؤسسة الحسبة أو في آلية التسعير .وهنا يتعذر فرض مبدأ التسعير أو وضع أي سياسة
اقتصادية من شأنها وضع حد لالحتكار وارتفاع األسعار ،وفي ذلك ضرر بالغ بعموم الرعية وضياع للمصلحة العامة
من أجل تحقيق مصلحة خاصة.
وبتحليل رأي المقريزي فإنه ركز على سبب الضرر الواقع على عامة الناس من المسلمين ،وهو أن قيام السلطان
بتجارة الغالل تجعله يسلك سلوك التجار المحتكرين في السوق في رفع السعر حتى يربح ،بل ربما اعتمد السلطان على
سلطته في رفع السعر بأكثر مما يفعل المحتكرون .ثم إن مجرد ممارسة السلطان للتجارة يجعله غير قادر على فرض
أي سياسة اقتصادية من شأنها تحقيق العدالة وضمان حرية السوق وتطبيق قانون العرض والطلب ،ألن أي إجراء
سيتخذه سيؤثر عليه أوال باعتباره تاجرا ،وعدم تدخله يؤثر على سير النشاط االقتصادي وارتفاع األسعار وتراجع
مستوى المعيشة النخفاض القدرة الشرائية لألفراد ،ألنه طالما قام بمشاركة التجار في بيع األقوات الرئيسة فقد ارتبطت
مصلحته بمصالحهم وصار من العسير عليه وضع أي سياسة للحد من استغاللهم لعامة الناس ،وفي ذلك ضرر كبير
على الرعية نتيجة ممارسة الراعي للتجارة فيزداد االحتكار وترتفع األسعار .هذا إضافة إلى ما فيه من ضياع لهيبة
الملك والسلطان وتجرأ العامة عليه لفشله وعدم قدرته على حمايتهم وتنظيم المعامالت التجارية واألنشطة االقتصادية
في المجتمع وإيثاره لمصلحته الخاصة على حساب المصلحة العامة.
وبتحليل للنشاط التجاري في قسميه النافع والضار ،أبان المقريزي عن وعي اقتصادي ومنهج تحليلي بالنسبة
للسياسة االقتصادية للدولة ويقرر في بداية مؤلفه أن الغالء والرخاء ظاهرتان متعاقبتان عرفتا منذ القدم ،فهي عامة
على مر الزمن واختالف األقطار .وربط الغالء بسوء الحالة االقتصادية للناس ،والرخاء برخص األسعار.
بناءا على ما سبق ذكره ،من المؤسف عدم اإلشارة إلى إسهامات هذا المفكر االقتصادي الذي يلقب بأبي
النقود،حيث يعتبر من أوائل الذين كتبوا في األزمات ،وأول من تكلم عن أثر السياسة النقدية في األوضاع االقتصادية
واالجتماعية (التضخم واألسعار) ،وأول من ربط بين السياسة النقدية والتقلبات االقتصادية (األزمات والمجاعات) ،أين
حلل ظاهرة المجاعة وأهم العوامل واألسباب التي تؤدي إلى حدوثها أو ما يمكن االصطالح عليه باألزمة في المجتمع
الرأسمالي ،وتعاقب حالات لرواج والكساد بالنشاط االقتصادي وهو مرادف مصطلح دورية االزمات بالنظام
الراسمالي اليوم.
8