You are on page 1of 9

‫جامعة بـاجي مختـار– عنابة‬

‫‪Université Badji Mokhtar – Annaba‬‬


‫كلـية العــلوم اإلقتصادية والتجارية وعلـوم‬
‫التسييـر‬
‫‪Faculté des Sciences Economiques et commerciale et Sciences de‬‬
‫‪gestion‬‬
‫قسم الجذع المشترك‬

‫المحاضرة الخامسة في مقياس تاريخ الفكر‬


‫اإلقتصادي‪:‬‬
‫الفكر اإلقتصادي االسالمي ‪II‬‬

‫من إعداد األستاذة بونعيجة نجوى‬

‫موجهة لطلبة السنة األولى جذع مشترك (كل المجموعات)‬

‫السنة الجامعية‪2023/2022 :‬‬


‫‪II‬‬ ‫االسالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫الفكر‬ ‫الخامسة‪:‬‬ ‫المحاضرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية ‪2023_2022‬‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫حاول العديد من المفكرين المسلمين األوائل تفسير بعض الظواهر االقتصادية‪ ،‬ويرجع اليهم الفضل في وضع‬
‫اللبنات األولى لبعض النظريات الحديثة‪.‬‬
‫وقد تأثر الفالسفة المسلمون األوائل بالفلسفة اليونانية‪ ،‬فنجد الفارابي يتأثر بأراء ارسطو التي تبرر قيام الدولة على‬
‫اساس اجتماعي ليحقق الفرد اإلشباع لحاجاته الخاصة بالتعاون مع غيره من البشر‪ ،‬ونادى ابن سينا بمكافحة البطالة‪،‬‬
‫وبيّن ان أساس المبادالت هو قيمة المنفعة للسلعة التي يتم تبادلها‪ ،‬وأكدّ على تحريم الميّسر باعتباره نوعا من الكسب‬
‫بال عمل او منفعة‪.‬‬
‫ومن أشهر العلماء المسلمين الذين تضمنت كتاباتهم إسهامات إقتصادية مهمة‪ :‬ابن خلدون‪ ،‬الدمشقي والمقريزي‪.‬‬

‫أوال‪-‬ابن خلدون(‪:)1‬‬
‫بالرغم من كون ابن خلدون عالم من علماء االجتماع ‪ ،‬اال انه من األوائل الذي خص المسائل االقتصادية بدراسة‬
‫عميقة في مقدمته الشهيرة‪ ،‬الى الحد ّ الذي يعتبره بعص الكتاب بأنه أبو االقتصاد السياسي الحقيقي‪ ،‬سابقا بذلك أدم‬
‫سميث‪ ،‬فقد اقر ابن خلدون بوجود نوع من التالزم بين االقتصاد والسياسة‪ ،‬فحضارة الدول( العمران) تقوم على‬
‫دعامتين‪ ،‬االولى اجتماعية سياسية تقتضيها الحاجة الى التأنس‪ ،‬والثانية اقتصادية قوامها سعي الناس إلى الكسب‪.‬‬
‫ويمكن تلخيص أهم اسهاماته في الفكر االقتصادي في النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ ‬العملية اإلنتاجية كما وصفها ابن خلدون تتألف من حلقات أو عمليات متشابكة ومتراكبة‪ ،‬ولذلك فإن إتمامها‬
‫أو القيام بها يخرج عن طاقة الواحد من البشر‪ ،‬التعاون بين مجموعة من الناس وقيام كل واحد منهم بدور معين‪.‬‬
‫فالعملية اإلنتاجية مهما كا نت صغيرة أو كبيرة تتركب من مجموعة من التوليفات أو العناصر سواء كانت زراعية‬
‫أو صناعية‪ ،‬حيث تحتاج في مجال الزراعة إلى عوامل متعددة من مواد غذائية وعقاقير وأدوية لتحسين النوع‬
‫وزيادة الجودة‪ ،‬بل وإنتاج ثروات جديدة‪ ،‬كما تحتاج العمليات اإلنتاجية الصناعية إلى كثير من المواد األولية‬
‫والسلع المصنعة ونصف المصنعة‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وبناء على تعقد العمليات اإلنتاجية وترابط أجزائها وتكاملها فإن‬
‫الناتج الذي يحصل عليه أفراد المجتمع من جراء التعاون فيما بينهم يؤدي إلى سداد حاجاتهم األصلية‪ ،‬كما ينتج‬
‫فائضا يكفي ألكثر منهم بأضعاف‪.‬‬
‫‪ ‬تصن يف الحاجات البشرية الى حاجات ضرورية وكمالية‪ ،‬فاالنسان يحتاج لأشياء أساسية كالغذاء والملبس‪،‬‬
‫وهي الضروريات‪ ،‬تتفرع منها حاجات أخرى أسماها ثانوية‪ ،‬ولكنها الزمة إلنتاج الحاجات األساسية‪ ،‬وهي ما‬
‫تعرف في عصرنا هذا بـ "الكماليات"‪ ،‬وذكر ابن خلدون أن حجم السكان عامل مهم في تحديد حجم االحتياجات‬
‫البشرية‪ ،‬اما تطور العمران فحدد صنف االحتياجات ذات األولية‪.‬‬
‫‪ ‬ا لنشاط االقتصادي بشكله العام هو السعي المستمر لكسب المعاش والحصول على ما يؤمن حاجات اإلنسان‬
‫ويلبي رغباته‪ ،‬ولتحقيق ذلك يتعين على الفرد أن يعمل ويبذل الثمن من جهده وعمله وملكه‪ .‬ولفظ المعاش في‬
‫فصل كتب ابن خلدون “وجوه المعاش وأصنافه” أفاد معنيين مختلفين‪ ،‬أولهما يقصد بالمعاش الكسب حينما يكفي‬
‫لقضاء الضرورات أو الحاجات‪ ،‬والمعنى الثاني يقصد بالمعاش ذلك النشاط اإلنساني التي يترتب عنه الحصول‬
‫على دخل (مكسب) إلنفاقه‪.‬‬
‫وهذا المعنى الثاني هو المقصود بالنشاط االقتصادي في اإلصالح الحديث‪ .‬وأغلب ما قصده ابن خلدون في‬
‫توظيفه لمصطلح المعاش ينصرف إلى المعنى الثاني وهو النشاط االقتصادي‪.‬‬

‫(‪ )1‬ابن خلدون( ‪732-808‬ه)‪ :‬عبد الرحمن محمد بن محمد‪ ،‬فيلسوف ومؤرخ‪ ،‬العالم االجتماعي‪ ،‬أصله من اشبيلية ومولده ونشأته في تونس‪ ،‬اشتهر بكتابه” العبر‬
‫وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر” في تسعة مجلدات أولها المقدمة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪II‬‬ ‫االسالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫الفكر‬ ‫الخامسة‪:‬‬ ‫المحاضرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية ‪2023_2022‬‬

‫‪ ‬تحليالت ابن خلدون للعمل وتقسيمه والتخصص قائمة على االفكار التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬يقوم النشاط االقتصادي على فكرة تقسيم العمل الى عمل منتج وغير منتج‪ ،‬سابقا بذلك الطبيعيين‬
‫و االقتصاديين التقليديين‪ ،‬حيث فرق بين وجوه المعاش الطبيعية التي تخلق قيمة كالتجارة والفالحة والصناعة‪،‬‬
‫ومن بين وجوه المعاش غير الطبيعية التي ال تخلق القيمة كاإلمارة بمفهومها عنده وهي حكم الدولة وإدارة‬
‫شؤونها ‪ ،‬فهي فقط قدرة على جمع األموال والضرائب من الناس لما للدولة من سيادة وسلطة‪ ،‬كما إلى نظر‬
‫للوظائف الحكومية بصفتها مصدرا الكتساب الدخل بشكل غير عادي وال طبيعي‪ ،‬ألنها وظائف ونشاطات‬
‫قائمة أساسا على القوة والتسلط المستمد من طبيعة الهيئة أو الشخص المخدوم‪.‬‬
‫في نفس السياق السابق‪ ،‬ا عتبر ابن خلدون الخدمة نشاطا اقتصاديا غير طبيعي ألنها ليست ضرورية‬
‫الستمرار حياة الناس مقارنة بالتجارة والفالحة والصناعة‪ ،‬إذ تعتبر هذه النشاطات طبيعية وعادية نظرا‬
‫ألهميتها وضرورتها لتلبية حاجات الناس وضما ن استمرار حياتهم وتطور المجتمع‪ ،‬في حين أن الخدمة‬
‫خاصة تلك الموجهة للحكام أو أصحاب الدخول العالية ليست بتلك األهمية في التطور االقتصادي في المجتمع‬
‫وال تتوقف عليها مصالح وحاجات عامة الناس‪.‬‬
‫‪ -2‬أهمية تقسيم العمل لجعل العمال أكثر مهارة وإتقانا للعمل ألن العامل يقوم بجزء يسير من عملية صناعية‪،‬‬
‫ويرفع بذلك التخصص من الكفاءة اإلنتاجية للعامل ‪ .‬في هذا االمر وضح ابن خلدون اسباب كل من العمل ‪،‬‬
‫تقسيم العمل والتعاون وسببه‪ .‬وهذه المبادئ األساسية تشكل مشاكل اقتصادية التي اهتم بها الكثير من رجال‬
‫االقتصاد في مختلف المدارس والمذاهب االقتصادية‪.‬‬
‫‪ -3‬عدم اقتصار تقسيم العمل على النطاق الوطني بل يتجاوزه الى النطاق الدولي نظرا الختالفات الحاجات‬
‫بين الدول‪ ،‬ولتخصص كل دولة بأعمال تميزها عن غيرها‪ ،‬والختالف البلدان في درجة عمرانها سابقا بتحليله‬
‫اطروحات ادم سميث ودافيد ريكاردو حول قضايا التقسيم الدولي العمل والتخصص الدولي( التجارة الدولية)‪.‬‬
‫‪ -4‬التمييز بين العمل الظاهر المنتج لقيمة مباشرة‪ ،‬والعمل المستتر المنتج لقيمة مخزونة‪ ،‬سابقا في ذلك كل من‬
‫ادم سميث‪ ،‬ريكاردو وماركس‪.‬‬
‫‪ ‬الربط بين القيمة والعمإلذ اعتبره عنصرا مهما في تحديد القيمة مهما كان نوعها‪ ،‬فالعمل معيار تحديد قيمة‬
‫أي منتج وهذا ما يمثل جوهر الفكر اإلسالمي‪ ،‬وفي كثير من صيغ التمويل وطرق اإلنتاج في اإلسالم من خالل‬
‫عقود المضاربة والمزارعة وغيرها فإن قيمة المنتج فيها يتحدد من خالل‪ :‬العمل ورأس المال والموارد الطبيعية‪.‬‬
‫وبمقارنة رأي ابن خلدون مع نظريات مماثلة في الفكر االقتصادي الوضعي يثبت سبقه وتفوقه في التأصيل‬
‫لنظرية القيمة‪.‬‬
‫‪ ‬ميّز بن خلدون بين القيمة االستعمالية والقيمة التبادلية‪:‬‬
‫‪ -1‬القيمة االستعمالية‪ :‬استعمل ابن خلدون لفظ الرزق مرادفا لمفهوم القيمة االستعمالية في مفاهيم المصطلحات‬
‫االقتصادية الحديثة‪ ،‬وب المقارنة يتوصل إلى أنها ما يحصل عليه الفرد ويستعمله إلشباع حاجاته المباشرة وتحقيق‬
‫مصالحه الخاصة‪ .‬وعليه فإن تحقيق هذه القيمة للسلعة أو الخدمة ال يتأتى للفرد إال ببذل الجهد والعمل اإلنساني‪.‬‬
‫وللقيمة االستعمالية شروط حتى تتحقق هي‪:‬‬
‫أ‪ -‬الحصول على السلعة واقتناؤها لتحقيق القيمة االستعمالية للسلعة يتعين حصول الفرد عليها وأن يكون قادرا‬
‫على التصرف فيها‪ ،‬ألن مجرد وجود الرغبة والحاجة إلى سلعة معينة والدافع إلى اقتنائها والحصول عليها ال‬
‫يعطي لها قيمة استعمالية مادام الطلب عليها قائم والحصول عليها غير متحقق‪.‬‬
‫ب‪ -‬تحقيق المنفعة من الشيء المقتنى يضاف إلى الشرط األول شرطا آخر يكمله‪ ،‬إذ ال يقوم وال يتحقق الهدف‬
‫من الشرط األول إال به‪ ،‬فمجرد توفر السلعة أو الخدمة وحصول الفرد عليها ليس كافيا لتكسب السلعة أو الخدمة‬

‫‪2‬‬
‫‪II‬‬ ‫االسالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫الفكر‬ ‫الخامسة‪:‬‬ ‫المحاضرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية ‪2023_2022‬‬

‫صفة القيمة االستعمالية‪ .‬فقد تتوفر السلعة ويتم االقتناء لكنها ال تكون موجهة لالستعمال الشخصي المباشر‪ ،‬لذا‬
‫يتعين توفر الشرط الثاني حيث تكون السلعة أو الخدمة ذات منفعة تعود على الفرد ويمكنه استعمالها فعال‪.‬‬
‫ج‪ -‬القدرة على اإلشباع اعتبر ابن خلدون أن السلعة ال تكون لها أي قيمة استعمالية إن لم تكن قادرة على إشباع‬
‫حاجة وتحقيق مصلحة خاصة للفرد‪ ،‬فيتعين الحصول على المقتنى وأن يحقق منفعة وأن يكون قادرا على إشباع‬
‫حاجة من حاجات المقتني ويقدم له مصلحة معينة حسب طبيعة الشيء المقتنى‪ .‬وبذلك يكون قد استوفى شروط‬
‫القيمة االستعمالية‪.‬‬
‫وتبرز القيمة االسعمالية للسلعةبمجرد استعمال السلعة والحصول عليها فهي ال تتطلب وجود سوق أو مبادلة بين‬
‫األفراد‪.‬‬
‫‪ -2‬القيمة التبادلية‪ :‬تبرز القيمة التبادلية في الجماعات وتعامل وتبادل األفراد فيما بينهم وهذا ما يعرف‬
‫القيمة االجتماعية للسلعة أو الخدمة‪ .‬ولتحقيق هذه القيمة تتطلب المعاملة سلعتين‪ ،‬إذ تختلف وتتميز السلعة عن‬
‫األخرى بمواصفات مختلفة‪ .‬فالنوع الثاني من األشياء المقتناة التي ذكرها ابن خلدون ال يكون الهدف منها مجرد‬
‫االقتناء لالستعمال الشخصي‪ ،‬بل هدف اقتنائها هو إجراء مبادلة بغيرها‪ ،‬وعليه تكسب قيمة تبادلية‪ ،‬وهي قيمة‬
‫تقتصر وتختص فقط بالسلع االقتصادية‪.‬‬
‫وتتطلب المبادلة توفر السوق لغرض عرضها‪ .‬فالقيمة التبادلية هي محور العمليات التبادلية في المقايضة وفي‬
‫تحديد األسعار في المعامالت التجارية‪ .‬وقد حدد ابن خلدون شروطا للقيمة التبادلية‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أ‪ -‬اقتناء السلعة والحصول عليها فعال وهو ذاته شرط القيمة االستعمالية‪ ،‬فعدم الحصول على السلعة أو‬
‫الخدمة ينفي بالضرورة القيمة التبادلية لها‪ ،‬فهو شرط أساسي يجب تحققه‪ ،‬وما ال يتم الواجب إال به فهو‬
‫واجب‪.‬‬
‫ب‪ -‬ليس بالضرورة توجيهها للمصلحة الفردية الخاصة ألن هذه القيمة تبرز في الجماعات‪ ،‬وتبرز هذه‬
‫القيمة للسلعة أو الخدمة سواء في المبادالت فيما مضى بين السلع المختلفة فيما بينها أي ما يعرف بالمقايضة‪،‬‬
‫أو في السلع النقدية أو النقود السلعية‪ ،‬حيث برزت سلع معينة اتخذت أداة للتبادل والتداول‪ ،‬أو التبادل باستعمال‬
‫النقود التي تمثل ثمن أي سلعة أو خدمة أو قيمتها التبادلية مقارنة بالوحدات النقدية‪.‬‬
‫‪ ‬استخدام التحليل الديناميكي في تحليل مزايا تقسيم العمل‪ ،‬من خالل تبيان تحليل تتابع المؤثرات واالثار عبر‬
‫الزمن‪ ،‬بحيث يؤثر حدوث حدث معين في الماضي على األحداث التالية لها‪ ،‬هكذا يربط التحليل بين الفترات‬
‫الزمنية المختلفة السبب بالنتيجة‪ ،‬وهي طريقة لم تستخدم في دراسة التطور االقتصادي اال مع بدايات القرن‬
‫العشرين من قبل المفكرين السويديون‪.‬‬
‫‪ ‬التأكيد على أهمية التعليم والتدريب في اإلرتقاء بالصناعات‪ ،‬فالصناعة عند ابن خلدون نشاط اقتصادي مهم‬
‫ودقيق ويحتاج إلى جهد عقلي وفكري وكفاءة معينة عكس الفالحة‪ ،‬ولقد أوالها أهمية في بحثه وتحليله ألنواع‬
‫النشاط االقتصادي الرتباطها بنظرية العمران البشري‪ ،‬وعليه ربط بين انتشار البداوة في عصره وقلة الصنائع‬
‫لسببين‪ :‬األول‪ :‬أن البدو أعرق في البداوة وأبعد ما يكونون عن العمران الحضري‪ ،‬وعليه فال حاجة لهم إلى‬
‫الصنائع األمر الذي يفسر قلة الصنائع لديهم‪ .‬والثاني‪ :‬أن الصناعة عكس الزراعة‪ -‬في نظره‪ -‬فهي تحتاج إلى‬
‫قدرة وملكة وتفوق ويتحقق ذلك التفوق والكفاءة عن طريق التكرار والتعود حتى يصل منتحلها إلى مرتبة اإلجادة‬
‫وهذا ال يتصور تحققه إال في ظل العمران الحضري‪ .‬تطور الصنائع مرتبط أيضا بحجم الطلب الفعلي عليها فهي‬
‫إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها ‪.‬‬
‫‪ ‬اسهامات ابن خلدون في تحليل األسعار كان اساسها مايلي‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫‪II‬‬ ‫االسالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫الفكر‬ ‫الخامسة‪:‬‬ ‫المحاضرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية ‪2023_2022‬‬

‫‪ -1‬الثمن هو التعبير النقدي لهذه القيمة يتحدد الثمن او السعر على اساس نفقة االنتاج‪ .‬وال يظهر إال في‬
‫األسواق‪ .‬فتقلب اثمان السلع نتيجة قوى العرض والطلب‪ ،‬ففائض الطلب يؤدي ال ارتفاع االسعار‪ ،‬بينما يؤدي‬
‫فائض العرض الى انخفاضها‪.‬‬
‫‪ -2‬النقود مقياس لألثمان‪ ،‬ومستودع للقيمة ووسيط للتبادل‪ ،‬وهو المتعارف عليه في الفكر االقتصادي الحديث‪،‬‬
‫فيقول‪ “ :‬إن هللا خلق الحجرين المعدنين الذهب والفضة قيمة لكل متمول‪ ،‬وهما الذخيرة والقنية‪ ،‬وألهل العلم‬
‫في الغالب وان اقتنى سواهما في بعض األحيان فإنما هو يقصد تحصيلها بما يقع في غيرهما من حوالة‬
‫األسواق (تغير أسعارها) والتي هما عنها بمعزل (يتميز بثبات قوتها الشرائية) منها أصل المكاسب والقنية‬
‫والذخيرة” ‪ .‬فقوله بان للذهب والفضة قيمة لكل متمول ما هو اال اشارة الى ان النقود مقياس للقيم‪ ،‬واما قوله‬
‫هما الذخيرة فهي اشارة الى انها مستودع للقيمة‪ ،‬واما قوله انهما القنية فهي اشارة الى انهما وسيط للمبادلة‪،‬‬
‫واما قوله وان اقتنى سواهما في بعض االحيان فإنما يقصد تحصيلهما لما يقع في غيرهما‪ ،‬فهي اشارة واضحة‬
‫الى تغيير اسعار صرفهما‪.‬‬
‫‪ ‬التأكيد على اهمية النمو االقتصادي الذي يكتمل بكمال العمران الحضاري‪.‬‬
‫‪ ‬أهمية وجود المؤسسات والنظم القانونية والقضائية لتنظيم العملية االقتصادية‪.‬‬
‫‪ ‬اعتبر ابن خلدون التجارة الخارجية أكثر ربحا من التجارة الداخلية‪ ،‬وذلك بحكم الفترة الزمنية التي عالج‬
‫فيها الموضوع حيث كان العائد واألرباح المحققة من التجارة الخارجية باهضا باعتبار بعد المسافة والمخاطر‬
‫المحدقة بعملية االستيراد والتصدير‪ .‬ولعل تلك الظروف والعوامل ظلت قائمة طويال‪ ،‬إال أن التطور الهائل الذي‬
‫حدث في مجال النقل والمواصالت التي عرفها العالم خالل القرن التاسع عشر وما بعده غير تلك المفاهيم وقلل من‬
‫شأن األرباح الهائلة التي تحدث عنها‪ ،‬مع أن األمر ال يخلو من عوائد وأرباح مهمة يحققها االستيراد والتصدير‪.‬‬
‫ورغم التحليل الجاد البن خلدون للتجارة الخارجية‪ ،‬إال أنه ركز فقط على األرباح‪ ،‬في حين لم يتحدث عن‬
‫أهميتها في تنمية اقتصاديات الدول وزيادة الدخل القومي ورفع المستوى المعيشي لألفراد ونوعية الخدمات‬
‫االجتماعية‪ ،‬ثم إنه أغفل الحديث عن أهمية التجارة الخارجية في تصدير الفائض من اإلنتاج إلى سوق خارجي‬
‫وكذا تغطية العجز المسجل لدى العديد من الدول وعدم تحقيق االكتفاء الذاتي إلشباع وتلبية رغبات المستهلكين‪.‬‬
‫‪ ‬سبق ابن خلدون دافيد ريكاردو في تفسيره للريع اقتصاديا‪ ،‬إذ ربطه بالنفقات التي تنفق على األراضي‬
‫الزراعية‪ ،‬فكلما قلت جودة االراضي الزراعية ازدادت نفقات الزراعة‪ .‬كما أن لآلفات الطبيعية تأثيرا على‬
‫اإلنتاج الزراعي من حيث الكم والنوع‪ ،‬أما من حيث الكم فإنه تؤدي إلى قلة المنتوج ومنه قلة العرض وارتفاع‬
‫الطلب مما يؤدي إلى ارتفاع األسعار‪ .‬إضافة إلى ارتفاع تكاليف المواد األولية كالسماد‪ ،‬أو بسبب رداءة‬
‫األراضي الزراعية وحاجتها للخدمة‪ ،‬وغيره‪ .‬فترتفع تكاليف اإلنتاج األمر الذي يؤدي إلى ارتفاع األسعار‪.‬‬
‫‪ ‬تحديد مهام ووظائف الدولة خاصة وظيفة االستقرار كمطلب اساسي لقيام النشاط االقتصادي‪ ،‬مع التركيز‬
‫على دور النظام الضريبي في ضمان ايرادات مالية دائمة لدولة على أساس العدالة في فرضها‪ ،‬والكفاءة‬
‫االقتصادية في تحصيلها( التوازن بين الحصيلة والنمو)‪.‬‬
‫‪ ‬ناقش ابن خلدون مسألة ممارسة الدولة لبعض أوجه النشاط االقتصادي في مجالي اإلنتاج والتجارة حيث‬
‫ركز على بيان أهم أسباب هذا التدخل ونتائجه‪ ،‬إذ يرى أن الدولة ال تقوم بذلك إال لتغطية العجز والنقص المسجل‬
‫لديها لقلة إيراداتها من الجباية أو لقلتها مقارنة بالنفقات المتزايدة‪ .‬ويرى ابن خلدون أن هذا القصور أو الخلل في‬
‫اإليرادات الضريبية ال يحدث إال في أواخر عهد الدولة حيث وفور العمران وانتشار والترف‪ ،‬حيث ترتفع نفقات‬
‫الدولة على األفراد والجنود فتتضخم النفقات‪ .‬ونظرا للخلل الذي يشهده النشاط االقتصادي تبعا لذلك إضافة إلى‬
‫حافز الربح المتوقع تقدم الدولة على ممارسة النشاط التجاري أو اإلنتاجي الذي يمكن أن يقوم به األفراد‪ ،‬إال أن‬
‫ممارسة التجارة من قبل الدولة فيه ضرر للرعايا وفساد للجباية‪ .‬وأبرز ابن خلدون أهم المضار الناجمة عن‬
‫‪4‬‬
‫‪II‬‬ ‫االسالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫الفكر‬ ‫الخامسة‪:‬‬ ‫المحاضرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية ‪2023_2022‬‬

‫ممارسة التجارة من قبل السلطان على الرعايا وأثر ذلك في الجباية‪ ،‬حيث يؤدي ذلك إلى مضايقة الفالحين‬
‫والتجار‪ ،‬إضافة إلى ما يوفره لهم سلطانها من القدرة على االحتكار من ناحية الشراء أو من ناحية البيع للتجار‪،‬‬
‫وغيره من األضرار التي تبرز من ناحية فساد الجباية‪ .‬فالرعايا القائمون بالنشاط التجاري واإلنتاجي متساوون أو‬
‫على األقل متقاربون من حيث القدرة المالية أو االقتصادية مما يضمن مبدأ المنافسة بينهم‪ ،‬لكن دخول الدولة في‬
‫هذا المجال وممارسة النشاط بما تتمتع به من قوة سياسية واقتصادية يجعل الرعايا غير قادرين على المنافسة‬
‫واالستمرار في مم ارسة النشاط االقتصادي وتحقيق أغراضهم لعدم تكافؤ الفرص وغياب المنافسة‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬أبو الفضل الدمشقي(‪:)2‬‬


‫امتاز منهج الدمشقي في كتابه باالعتماد على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والمصادر التشريعية األخرى‬
‫حيث استسقى معارفه من خالل معطيات الفكر اإلسالمي كما امتازت دراسته بالواقعية‪.‬‬
‫بداية يؤكد الدمشقي أن قيام الدولة راجع ألسباب اقتصادية‪ ،‬نظرا لتعدد حاجات االنسان وعجزه أن يشبعها جميعا‬
‫بنفسه‪ ،‬مما يتطلب تعاون الناس جميعا إلشباع حاجاتهم‪ ،‬متقفا في هذه النقطة مع مقدمات ابن خلدون‪.‬‬
‫من جانب خصص الدمشقي فصال للقيمة واألسعار في كتابه (اإلشارة إلى محاسن التجارة)‪ ،‬خاصة انه تاجرا له‬
‫باع طويل في أنواع التجارة خصوصا التجارة الخارجية ولذلك جاءت أفكاره وتصوراته جامعة بين ما تحصل عليه من‬
‫ثقافة علمية وبين ما تجمع له من خبرة عملية واسعة في الحياة االقتصادية‪ ،‬فقد عبر في كتابه عن رؤية اقتصادية شاملة‬
‫للمال بعامة والنقد بخاصة بوصفها المحور الذي يدور حوله النشاط االقتصادي‪.‬‬
‫وقد عالج قضايا اقتصادية أخرى بفروعها وفي مقدمتها القيمة والقيمة المتوسطة والرشد االقتصادي وعوامل‬
‫تكوين الثروة وأنماط العمل التجاري‪ .‬ويمكن تلخيص اهم اسهامات الدمشقي في النقاط التالية‪:‬‬
‫استند في تحليله للقيمة والسعر على مبدأ التراضي بين البائع والمشتري في اطار تكوين السعر على‬ ‫‪‬‬
‫اساس التوازن السوقي‪ ،‬إذ يندرج العرض‪ ،‬تحت مبدأ التراضي‪ ،‬في األخذ بنظر االعتبار نفقة اإلنتاج ومن‬
‫ضمنها العمل‪ ،‬أما الطلب فتعكسه المنفعةً المقرة شرعا والرغبة التي تدفع المشتري للحصول على السلعة‪ ،‬يقول‬
‫هللا ‪-‬تعالى‪( -‬يا أيها الذين أمنوا ال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إال أن تكون تجارة ً عن تر ٍ‬
‫اض منكم)‪.‬‬
‫تناول تطور شكل التبادل من شكله البدائي المتمثل بالمقايضة حتى شكله النقدي‪ ،‬وإبرازه العامل‬ ‫‪‬‬
‫الحاسم في سياق هذا التطور وهو تعدّّ د الحاجات اإلنسانية و تطور اإلنتاج‪ .‬فصعوبات عملية التبادل السلعي‬
‫القائم على المقايضة أدى إلى إيجاد مقياس مشترك يلقى قبوالً عاما ً بين الناس في عملية التبادل‪ ،‬وهو ما يفسر‬
‫الشكل النقدي للقيمة المعبّر عنها بالسعر‪.‬‬
‫كما أن الوحدات النقدية ال تحمل قيمة ذاتية خاصة وإنما تكمن قيمتها في وظائفها إال إذا تحول الذهب والفضة‬
‫إلى استعماالت أخرى غير النقود‪ ،‬وهنا نجد السعر هو الذي يعبر عن القيمة بوحدات نقدية معينة ‪.‬‬
‫محاولته ايجاد أفضل صيغة للتبادل التجاري على الصعيد الدولي من خالل وضع معيار عام تتحدد في‬ ‫‪‬‬
‫ضوئه قيم السلع المتعددة‪ ،‬فاهتدى إلى المعرفة بالقيمة المتوسطة لسائر األعراض‪ ،‬فيقول” فإن لكل بضاعة ولكل‬
‫شيء ما يمكن بيعه قيمة متوسطة معروفة عند أهل الخبرة”‪ ،‬وقد أدرك أن اختالف قيم السلع على صعيد التبادل‬
‫التجاري الخارجي إنما يكون بسب اختالف تكاليف اإلنتاج وفنونه‪ .‬وبهذا يحدد الدمشقي على ضوء معرفة القيمة‬
‫المتوسطة السلوك االقتصادي التجاري الرشيد‪ ،‬ويمكن القول أنه وضع بدايات لنظرية التكاليف النسبية‬
‫"لريكاردو" ولنظرية "هكشر أولين" في التجارة الخارجية‪.‬‬

‫( ‪)2‬‬
‫أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي‪ ،‬لم تذكر المصادر التاريخية تاريخا محددا لوالدته‪ ،‬إال أن أكثر الروايات تشير إلى انه عاش في القرن الخامس للهجرة‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫‪II‬‬ ‫االسالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫الفكر‬ ‫الخامسة‪:‬‬ ‫المحاضرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية ‪2023_2022‬‬

‫االخذ في تحليله للقيمة الجوانب والعوامل االقتصادية التي تدخل في تكوينها وبالتالي استطاع أن يحدد‬ ‫‪‬‬
‫ويفسر القيمة على أساس العوامل الذاتية والموضوعية‪ ،‬فيحدد العوامل الموضوعية بنفقة اإلنتاج ويضمنها العمل‪،‬‬
‫وبهذا فإنه يعطي العمل األساس في تكوين القيمة التبادلية‪ ،‬ويذكر التكاليف األخرى غير العمل في تكوين القيمة‬
‫عندما يشير إلى الفوالذ بأنه يأخذ شكل السلعة (ألنه مصنوع وليس يخرج من المعادن فوالذا ً) إال عندما ينسب إلى‬
‫صنّاعه واألماكن التي عُمل بها‪ ،‬وبهذا نستطيع القول بأن‬ ‫الصناع الحاذقين بعمله وأما الحديد فإنه يختلف بحسب ُ‬
‫"الدمشقي" ميّّ ز بين العمل الماهر وبين العمل غير الماهر في تحديد قيمة السلعة‪ ،‬فقد أشار إلى المهارة‬
‫والحذق كأحد العناصر التي تدخل في مكونات القيمة‪ ،‬وبهذا يكون قد بيّّ ن العوامل الموضوعية في تحديد القيمة‬
‫التبادلية بنفقة اإلنتاج ويضمنها العمل‪ ،‬أما العوامل الذاتية فإنه يرى أن لها دورا ً كبيرا ً في تحديد القيمة‪ ،‬فالمنفعة‬
‫المتوقعة من الحصول على السلعة هي التي تخلق الرغبة عند المستهلك لحيازتها وعلى هذا األساس فإن القيمة‬
‫تزيد وتنقص على أساس المنفعة والرغبة المتحققة من الحصول عليها‪ ،‬والعالقة بين المنفعة والرغبة من جهة‬
‫والقيمة من جهة أخرى يصورها الدمشقي بقوله‪( :‬أن أصل التجارة في البيع والشراء‪ ،‬أن يشتري من زاهد أو‬
‫مضطر إلى أخذ الثمن‪ ،‬ويبيع من راغب أو محتاج إلى الشراء ألن ذلك من أوكد األسباب إلى مكان االستصالح‬
‫في المشتري وتوفير الربح)‪ ،‬ومن النص السابق يحدّّ د الدمشقي عاملي العرض والطلب في تحديد القيمة‬
‫التبادلية‪ ،‬وزيادة على هذا أشار إلى عدد من العوامل والظروف المؤثرة في طلب وعرض السلعة وبالتالي كيفية‬
‫تحديد القيمة والسعر من خالل فهم اآللية التي يعمل من خاللها كل منهما فقد بين بصورة ال تختلف عما هو عليه‬
‫في التحليل االقتصادي العوامل المؤثرة في كل من العرض والطلب( الضرائب‪ ،‬دخل المستهلك‪)....‬‬

‫سباقا في تشخيص العوامل المؤثرة في تحديد القيمة التبادلية‬ ‫نخلص مما تقدم إلى أن أبا الفضل الدمشقي كان ّ‬
‫ويرى أن جميع العوامل المحيطة بالسلعة تعمل على تحديدها ومن الخطأ االعتماد على عامل واحد كمحور للقيمة وهذا‬
‫هو جوهر نظرية التوازن بين العرض والطلب التي لم يتوصل إليها الفكر االقتصادي الغربي إال بعد سلسلة من‬
‫االفتراضات والنظريات ابتداءا ً من نظرية العمل مرورا ً بنظرية المنفعة الحدية حتى وصل بالنهاية على يد "الفريد‬
‫مارشال" إلى القول بنظرية العرض والطلب في نهاية القرن التاسع عشر الميالدي مما يعطي ألبي الفضل الدمشقي‬
‫خاصية السبق الزمني في مالحظته لهذه النظرية وجوهرها قبل أن يفطن إليها رواد الفكر االقتصادي الحديث‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك هناك السبق التاريخي للدمشقي على علماء الغرب فهذا "سان توماس األكويني" الفيلسوف‬
‫الذي عاش في الفترة من ‪1225‬م إلى ‪1274‬م أي أنه جاء بعد الدمشقي بحوالي قرن من الزمان أو أكثر‪ ،‬وفي تاريخ‬
‫الفكر االقتصادي األوربي يشار إلى آرائه كأحد رموز الفكر االقتصادي الذي وجد في عصره‪ ،‬ففي عصر األكويني‬
‫كان الفكر األوربي عن الثمن محكوما ً بفكر أرسطو عن الثمن العادل ولكن الحقيقة أنها فكرة ال تتضمن تحليالً للواقع‬
‫فهي تخضع لمنهج ما يجب أن يكون‪ ،‬ويذكر أن األكويني حاول أن يجعل فكرة الثمن العادل تحمل أثرا ً لقوى العرض‬
‫والطلب أي يخضعها لمنهج ما هو كائن ويعتبر الفكر األوربي هذه المحاولة لألكويني خطوة متقدمة نحو تقديم أفكار‬
‫اقتصادية صحيحة نسبيا ً‪.‬‬
‫وبالتالي فإن المقابلة بين آراء الدمشقي ومنهجه الذي كان يعتمد على دراسة وتحليل ما هو كائن وليس ما يجب أن‬
‫يكون وبين األكويني يتبين تفوق الدمشقي الواضح ومن ثم‪ ،‬فإن هذا األمر يثبت أن مساهمة األكويني والتي يقومها‬
‫الفكر األوربي تقويما ً إيجابيا ً على اعتبار أنها أرقى األفكار في عصرها هذه المساهمة جاءت بعد الدمشقي بأكثر من‬
‫قرن من الزمان ومن حيث المضمون فإنها أدنى بكثير من مساهمة الدمشقي‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪II‬‬ ‫االسالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫الفكر‬ ‫الخامسة‪:‬‬ ‫المحاضرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية ‪2023_2022‬‬

‫ثالثا‪ -‬المقريزي(‪:)3‬‬
‫اهتم المقريزي بعديد القضايا ذات الطابع والبعد االقتصادي من خالل تسجيلها وتدوينها كظاهرة تاريخية بدقة‪ ،‬ثم‬
‫االهتمام بأسباب هذه الظواهر ‪ .‬ولعله في ذلك تأثر كثيرا بمنهج أستاذه ابن خلدون في تمحيص الظواهر وتحليلها‬
‫وكشف قوانينها ‪.‬وتبرز أهم مساهمات المقريزي في االقتصاد باهتمامه بتحليل بالمشكالت االقتصادية والظواهر‬
‫النقدية المختلفة‪.‬‬
‫ويعدّ كتاب المقريزي “إغاثة األمة بكشف الغمة“ أو تاريخ المجاعات في مصر ال كتيبا قصيرا مقارنة بباقي‬
‫مؤلفاته‪ ،‬إال انه احتوى نظريتين هامتين ‪:‬النظرية األولى تعليله لألزمة االقتصادية التي حلت بمصر في الربع األول من‬
‫القرن الخامس عشر بأنها ناشئة عن فساد النظام النقدي‪ ،‬وبذلك يكون أول من وضع النظرية النقدية في تفسير األزمات‬
‫االقتصادية‪ ،‬مقترحا على السلطات إصالح السياسة النقدية كوسيلة من وسائل معالجة األزمة ‪.‬أما النظرية الثانية‬
‫فهيبحثه لنتائج التضخم وأثره على مختلف فئات المجتمع‪ ،‬وقد عرض بعمق وتفصيل قضية القوة الشرائية الحقيقية‬
‫للنقد وقوته الشرائية االسمية‪،‬وطالب باستبعاد العمالت االعتبارية الرمزية واألخذ بالنقد المستند إلى الذهب والفضة‪.‬‬

‫كما شخص المقريزي النقص في إنتاج قيم االستعمال من المنتجات والسلع وارتفاع أثمانها‪ ،‬وبيّن أثر العامل‬
‫النقدي( فيما يتعلق بكمية النقود المتداولة في النشاط االقتصادي )على المستوى العام لألثمان‪ ،‬اضافة الى إبراز ظاهرة‬
‫اختفاء النقود المعدنية النفيسة تاركة المجال للنقود النحاسية بسبب ارتفاع األثمان الذي أدى إلى خفض القيمة الشرائية‬
‫للنقود في مقابل ارتفاع ثمن الذهب والفضة مقارنة مع سعر الصرف مما جعل العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة‪ ،‬والتي‬
‫طورها في أوائل القرن الرابع عشر الميالدي‪ ،‬قبل أن يعيد اكتشافها في القرن السادس عشر الميالدي السير ويليام‬ ‫ّ‬
‫غريشام الذي اشتهرت النظرية ظل ًما باسمه في ما عُرف باسم "قانون غريشام"‪.‬‬
‫وساهم المقريزي دراسة األثر المتباين للتضخم في توزيع الدخل بين فئاته في المجتمع‪ ،‬ما يعكس فهمه الفرق‬
‫سا‬
‫بين القيمة االسمية والقيمة الحقيقية‪ ،‬وما يخلقه "الوهم النقدي" من تصورات خاطئة‪ ،‬واقتراحه معيار الذهب أسا ً‬
‫وأن على الدولة ضبط قيمتها‪ ،‬وكذا معارضته ضرائب المكوس‬ ‫إلصدار العملة المعدنية من معادن غير نفيسة‪ّ ،‬‬
‫والمبالغة فيها كونها بدعة من المماليك ال تتالءم مع التعاليم الدينية وآلثارها السلبية في االقتصاد؛ وكذلك عدّه زيادة‬
‫كمية النقود سببًا في ارتفاع األسعار‪ ،‬مقتربًا بذلك من "النظرية الكمية للنقود" التي ظهرت بعده بعدة قرون‪.‬‬
‫من جانب اخر درس المقريزي موضوع السياسة االقتصادية للدولة وعالقتها بمحاربة االحتكار والحدّ من نشاط‬
‫المحتكرين‪ ،‬فمحاربة االحتكار لن تحقق ال عن طريق الحسبة التي تعتبر أداة للتدخل المباشر في السوق‪ .‬وتمثل الحسبة‬
‫في عمومها المحرك االجتماعي إليقاظ الضمائر وصقلها من أجل بلورة السلوك السوي في جميع األحوال واألفعال‬
‫إيجابا وسلبا‪.‬‬
‫كما من وسائل محاربة االحتكار والذي يمثل في الوقت ذاته صورة ووجها لتدخل الدولة في النشاط االقتصادي‬
‫عند المقريزي هو التسعير الرسمي الذي يضمن للتجار هامشا معقوال من الربح‪ ،‬وفي الوقت ذاته يحد من االرتفاع‬
‫الحاد في األسعار‪ ،‬ويتحقق وتحقق ذلك من خالل تدخل الدولة لفرض سعر محدد تباع به السلع ويمنع تجاوزه ويسهر‬
‫المحتسب على تطبيق ذلك بمراقبة السوق واألسعار ومعاقبة التجار الذين يبيعون بسعر أكثر من السعر المحدد‪.‬‬
‫لقد حلل المقريزي أزمات نقص اإلنتاج‪ ،‬وحدد أهم األسباب لحدوث األزمات االقتصادية والمجاعات العنيفة‪،‬‬
‫سواء أكانت بسبب الطبيعة(حاالت الجفاف والقحط التي تصيب المحاصيل)‪ ،‬أو بسبب سلوك اإلنسان وتصرفاته‬
‫كالصراع السياسي وتفشي الرشوة‪ ،‬وغالء أطيان الزراعة وارتفاع إيجارها‪ ،‬وانخفاض قيمة النقود‪. .‬‬
‫وبالرجوع مبدأ تدخل الدولة في النشاط االقتصادي وممارسة التجارة‪ ،‬درس المقريزي هذا المبدأ دراسة عملية‬
‫من خالل ما حدث في عصره‪ ،‬حيث يرى أن تجارة السلطان مضرة بالرعية وفي ذلك موافقة تامة لما ذهب إليه أستاذه‬

‫(‪ )3‬أبو العباس تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد المقريزي‪ ،‬مؤرخ مسلم ولد وتوفي في القاهرة (‪ 764‬ـ ‪ 845‬هـ) الموافق لـ(‪1442 - 1364‬م)‬
‫‪7‬‬
‫‪II‬‬ ‫االسالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫الفكر‬ ‫الخامسة‪:‬‬ ‫المحاضرة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ السنة الجامعية ‪2023_2022‬‬

‫ي‪ ،‬أسباب ذلك ومنشأ الضرر من حيث التأثير في أسعار السلع التي يشارك فيها السلطان رعيته في‬ ‫ابن خلدون‪ .‬وقد ب ّ‬
‫شرائها وبيعها‪ ،‬وقد يصل به األمر إلى حد االحتكار لحماية تجارته وتحقيق مصالحه بحكم موقعه وسلطته‪ ،‬مخالفا بذلك‬
‫مبدأ تدخل الدولة لحماية النشاط االقتصادي ومنع االحتكار من خالل التسعير‪ ،‬فيصبح السلطان محتكرا بدل كونه‬
‫محاربا لالحتكار ممثال في مؤسسة الحسبة أو في آلية التسعير‪ .‬وهنا يتعذر فرض مبدأ التسعير أو وضع أي سياسة‬
‫اقتصادية من شأنها وضع حد لالحتكار وارتفاع األسعار‪ ،‬وفي ذلك ضرر بالغ بعموم الرعية وضياع للمصلحة العامة‬
‫من أجل تحقيق مصلحة خاصة‪.‬‬
‫وبتحليل رأي المقريزي فإنه ركز على سبب الضرر الواقع على عامة الناس من المسلمين‪ ،‬وهو أن قيام السلطان‬
‫بتجارة الغالل تجعله يسلك سلوك التجار المحتكرين في السوق في رفع السعر حتى يربح‪ ،‬بل ربما اعتمد السلطان على‬
‫سلطته في رفع السعر بأكثر مما يفعل المحتكرون‪ .‬ثم إن مجرد ممارسة السلطان للتجارة يجعله غير قادر على فرض‬
‫أي سياسة اقتصادية من شأنها تحقيق العدالة وضمان حرية السوق وتطبيق قانون العرض والطلب‪ ،‬ألن أي إجراء‬
‫سيتخذه سيؤثر عليه أوال باعتباره تاجرا‪ ،‬وعدم تدخله يؤثر على سير النشاط االقتصادي وارتفاع األسعار وتراجع‬
‫مستوى المعيشة النخفاض القدرة الشرائية لألفراد‪ ،‬ألنه طالما قام بمشاركة التجار في بيع األقوات الرئيسة فقد ارتبطت‬
‫مصلحته بمصالحهم وصار من العسير عليه وضع أي سياسة للحد من استغاللهم لعامة الناس‪ ،‬وفي ذلك ضرر كبير‬
‫على الرعية نتيجة ممارسة الراعي للتجارة فيزداد االحتكار وترتفع األسعار‪ .‬هذا إضافة إلى ما فيه من ضياع لهيبة‬
‫الملك والسلطان وتجرأ العامة عليه لفشله وعدم قدرته على حمايتهم وتنظيم المعامالت التجارية واألنشطة االقتصادية‬
‫في المجتمع وإيثاره لمصلحته الخاصة على حساب المصلحة العامة‪.‬‬
‫وبتحليل للنشاط التجاري في قسميه النافع والضار‪ ،‬أبان المقريزي عن وعي اقتصادي ومنهج تحليلي بالنسبة‬
‫للسياسة االقتصادية للدولة ويقرر في بداية مؤلفه أن الغالء والرخاء ظاهرتان متعاقبتان عرفتا منذ القدم‪ ،‬فهي عامة‬
‫على مر الزمن واختالف األقطار‪ .‬وربط الغالء بسوء الحالة االقتصادية للناس‪ ،‬والرخاء برخص األسعار‪.‬‬

‫بناءا على ما سبق ذكره ‪ ،‬من المؤسف عدم اإلشارة إلى إسهامات هذا المفكر االقتصادي الذي يلقب بأبي‬
‫النقود‪،‬حيث يعتبر من أوائل الذين كتبوا في األزمات‪ ،‬وأول من تكلم عن أثر السياسة النقدية في األوضاع االقتصادية‬
‫واالجتماعية (التضخم واألسعار)‪ ،‬وأول من ربط بين السياسة النقدية والتقلبات االقتصادية (األزمات والمجاعات)‪ ،‬أين‬
‫حلل ظاهرة المجاعة وأهم العوامل واألسباب التي تؤدي إلى حدوثها أو ما يمكن االصطالح عليه باألزمة في المجتمع‬
‫الرأسمالي‪ ،‬وتعاقب حالات لرواج والكساد بالنشاط االقتصادي وهو مرادف مصطلح دورية االزمات بالنظام‬
‫الراسمالي اليوم‪.‬‬

‫‪8‬‬

You might also like