Professional Documents
Culture Documents
1
فهرس المحتويات
مدخل
2
مدخل:
البسيطة وهو يكافح من أجل البقاء وتعمير األرض التي استخلف فيها،
منذ وجود اإلنسان على هذه َ
مستعينا بذلك بكل ما حباه الخالق من موارد ومقومات .فلتأمين حاجته من الغذاء والكساء والمسكن
واألمان ولتحسين وضعه المعيشي واالقتصادي عمل اإلنسان على تطوير أساليب اإلنتاج والتبادل ،كما
حسن من مستوى األداء اإلداري وتبنى السياسات االقتصادية ،واخترع النقود ،و أحدث ثورة في عالم
االتصاالت و المعلومات..
ولقد صاحب هذا التطور ظهور كثير من اآلراء واألفكار االقتصادية لكثير من الكتاب ،إضافة إلى ما
أتت به األديان السماوية من قواعد وأحكام وتشريعات اقتصادية إال أن هذه األفكار االقتصادية كانت
متناثرة في كثير من الكتب وتمثل جزء من آراء وقوانين أخرى تتصل بالسلوك اإلنساني وفلسفته في الحياة
ولم يظهر فكر اقتصادي بشكل مستقل واضح المعالم إال في النصف الثاني من القرن الثامن عشر
الميالدي عند ظهور كتاب ثروة األمم لالقتصادي آدم سميث.
أما الفكر االقتصادي اإلسالمي فبالرغم من كونه لم يكن متمتعا بذاتية مستقلة ،ولم يكن هناك خط
فاصل بينه وبين جوانب الحياة الفكرية اإلسالمية األخرى −فقد تبلور هذا الفكر واتسعت آفاقه من خالل
الممارسة العملية والتطبيق الواقعي في عصور اإلسالم األولى فقد كانت الزكاة وغيرها من الفرائض المالية
تجبى بالطرق الشرعية وكان الفيء وغنيمة الحرب يقسم بين المستحقين من الفقراء والمقاتلين وكان هذا
السلوك نواة لبيت المال ( الخزانة العامة ) وتنظيما إليراداته ومصروفاته وهكذا فتح التطبيق العملي للفكر
االقتصادي اإلسالمي طريقا للدراسة والبحث من خالل الوقائع والمشكالت المالية التي برزت واستفحلت
بسبب الممارسة والتطبيق.
والمتصفح للمؤلفات الفقهية اإلسالمية ال يعدم الطريق إلى العديد من الدراسات واألبحاث المالية
واالقتصادية ،باإلضافة إلى مؤلفات إسالمية متخصصة في أحكام األموال في الشريعة اإلسالمية من
أبرزها كتاب األموال ألبي عبيد القاسم بن سالم المتوفى سنة 224ه ،والخراج ليحيى بن آدم المتوفى
سنة 203ه ،والخراج أيضا ألبي يوسف يعقوب بن إبراهيم األنصاري المتوقي سنة 182ه ،والحسبة
للشيخ ابن تيمية ،ومقدمة ابن خلدون ،ولعل أهم هذه المؤلفات من الناحية المالية البحتة هو كتاب الخراج
ألبي يوسف الذي كان يشغل منصب قاضي القضاة في عهد الخليفة هارون الرشيد ،وقد انطوى كتاب
الخراج على مجموعة إجابات عن أسئلة وجهها الخليفة إليه فيما يتعلق بنظام جباية الخراج وغيره من
3
موارد بيت المال .كما تعتبر مقدمة ابن خلدون التي صاغها في القرن الثامن الهجري وقبل أربعة قرون
من ظهور آدم سميث قمة من القمم بالقياس لعصرها بالنسبة لما تضمنته من دراسات اقتصادية ومالية،
ومن المعلوم إن مصادر االقتصاد اإلسالمي هي القرآن والسنة واألحكام الفقهية المتراكمة ،وأصول
التشريع المعتمدة حيث تستجيب للحاجات المتجددة للمجتمع اإلسالمي .والنظام االقتصادي اإلسالمي
نظام شامل ألن دين اإلسالم دين يشمل عالقة العبد بربه وعالقته بإخوانه في المجتمع ,فقد قدم النظام
االقتصادي اإلسالمي القواعد لكل أنواع العالقات والمعامالت االقتصادية في مجاالت الملكية والحرية
والعدالة والضمان االجتماعي وتدخل الحكومة وتوازن المصالح ونظم شؤون الفرد والجماعة والدولة في
مختلف النواحي الشخصية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية في السلم والحرب وكل ذلك على قواعد
ثابتة وأحوال مستقرة تخدم أغراضا محددة وتحقق أهدافا معروفة بتنظيم دقيق ومنطق راق.
توجد بعض المصطلحات في المجال االقتصادي يجب التعرف عليها حتى نتبين موقع الفكر
االقتصادي منها ،وتتمثل هذه المصطلحات في اآلتي:
.1االقتصاد :رغم وضوح هذا المفهوم فإن كتاب االقتصاد اختلفوا في تعريفه ليس اختالفا لفظيا وانما
يمتد هذا الخالف إلى كنهه وحدوده حتى قال البعض" :إن هناك تعاريف خاصة لالقتصاد تساوى
تقريبا عدد مدرسيه ،واذا حاولنا أن نختار منها تعريفا يحظى بقبول عام فإنه يمكن القول :إن
االقتصاد بشكل عام يدور حول كيفية االختيار من بين االستخدامات البديلة للموارد االقتصادية
المتاحة إلشباع الحاجات اإلنسانية.
.2النشاط االقتصادي :ويتمثل فيما يقوم به الناس من أعمال إلنتاج السلع والخدمات ،وتجهيزها
لالستهالك ،وما يرتبط بذلك من أنشطة أخرى مثل :التمويل واالستثمار واإلنفاق والتبادل ،وهذا
النشاط يمارسه كل إنسان في جميع األوقات منذ وجود اإلنسان.
.3الفكر االقتصادي :إن الفكر في معناه العام هو إعمال العقل في العلوم للوصول إلى المجهول،
وبتطبيق ذلك على االقتصاد يمكن القول :إن الفكر االقتصادي هو ما يبذله علماء االقتصاد من
مجهود عقلي في فهم وتفسير الوقائع االقتصادية وتحديد السياسات المناسبة لممارسة النشاط
االقتصادي واالختيار من بينها في ضوء القيم التي تسود في المجتمع لتحقيق الكفاءة في استخدام
4
الموارد والعدالة في توزيعها ،ومن الجدير بالذكر أن أي نشاط اقتصادي بصفته نشاطا إنسانيا
يحتاج إلى الفكر ،غير أن طريقة التفكير االقتصادي قديما كانت تتم بطريقة عفوية وفردية وغير
منظمة وتستند إلى خبرات اإلنسان المتراكمة ،دون أن يكون له وجود منظم ومصنف ينتج عنه
علم االقتصاد الذي نوضحه في النقطة التالية.
.4علم االقتصاد :وهو نتاج الفكر االقتصادي ويدور موضوعه حول أمرين ،األمر األول :دراسة
سلوك الناس في ممارستهم لألنشطة االقتصادية وتحليل هذا السلوك من حيث دوافعه وأهدافه
والمتغيرات المؤثرة عليه وعالقتها يبعضها ثم استنباط القواعد التي تحكم هذا السلوك وهو ما
يطلق عليه في األدب االقتصادي "دراسة ما هو كائن " أو" االقتصاد الوضعي" .األمر الثاني:
ويقوم على استخدام المعلومات التي يمدنا بها االقتصاد الوضعي أو دراسة ما هو كائن ثم
األحكام األخالقية المستمدة من الدين والمثل العليا في المجتمع لتحديد وتأييد سياسة معينة من
بين السياسات أو الطرق البديلة للممارسة األفضل للنشاط االقتصادي ،وهذا األمر يطلق عليه في
األدب االقتصادي "دراسة ما يجب أن يكون" أو النظام االقتصادي أو االقتصاد المعياري.
ويميل بعض االقتصاديين إلى قصر مجال علم االقتصاد على األمر األول "دراسة ما هو كائن "
وبالتالي يكون دور االقتصاد هو تحديد السياسات البديلة دون أن يمتد هذا الدور إلى تأييد سياسة معينة
تتفق مع القيم والمثل العليا ،نظ ار ألنهم يختلفون حول ما هي القيم والمثل العليا التي يجب االلتزام بها،
وحيث أن مصدر هذه القيم في األصل هو الدين لذا جاء قولهم السابق اإلشارة إليه بأن األخالق والدين ال
يمتان لالقتصاد بصلة.
هذه هي المفاهيم األساسية لالقتصاد من وجهة نظر االقتصاد المعاصر ،فأين موقع الفكر
االقتصادي اإلسالمي من ذلك؟
5
لالقتصاد اإلسالمي ،لذلك جاء اختالف علماء االقتصاد اإلسالمي المعاصر في تعريفه بشكل
يجعل كل تعريف منها يركز على مفهوم من المفاهيم الثالثة" :النشاط -الفكر -العلم " ومع ذلك
فكلهم يتفق على ربط االقتصاد باإلسالم ومن هذه التعريفات ما يلي:
( أ ) االقتصاد اإلسالمي :هو ذلك الفرع من المعرفة الذى يساعد على تحقيق رفاهة اإلنسان من
خالل تخصيص وتوزيع الموارد النادرة بما ينسجم مع التعاليم اإلسالمية.
(ب) االقتصاد اإلسالمي هو علم من العلوم االجتماعية يدرس المشكالت االقتصادية ألناس
يتحلون بقيم اإلسالم.
(جـ) االقتصاد اإلسالمي هو ذلك الجهد المنظم الذي يبذل في محاولة فهم المشكلة االقتصادية
وسلوك اإلنسان نحوها من منظور إسالمي.
6
الفصل األول :الفكر االقتصادي الوضعي
.1النظام البدائي:
-تعريفه :هو نظام حياتي يعتمد على االستغالل العشوائي لألراضي ،ظهرت فيه األشكال األولى
للعالقات في ميدان العمل.
-الخصائص االقتصادية للمجتمع البدائي:
كانت أولى أدوات العمل المستخدمة هي :العصي و الحجارة ،لتتطور فيما بعد من خالل اكتشاف
النار و األقواس ،و تطوير نشاط الصيد .أما أهم ما ميز هذا النظام فقد تمثل أساسا في:
أ .تطوير عالقات العمل من خالل استحداث اللغة بواسطة الرموز الصوتية.
ب .المساعدة على تطوير الخبرات اإلنتاجية و قوى اإلنتاج الجماعية.
-الخصائص االجتماعية:
يعتبر أول شكل من أشكال العالقات االجتماعية هو "القطيع البشري" ،و هو جماعة موحدة
متجانسة ،و مع تنويع أدوات العمل انتقلنا من النظام البدائي إلى نظام جديد أال و هو "النظام
العشيري".
.2النظام العشيري:
-تعريف العشيرة :هي جماعة من األفراد تربطهم عالقة الدم ،و يفرض النظام العشيري مجموعة
من القيود ،حيث أن النسب يتصل باألم ،لهذا كان أول شكل من أشكال العشيرة هو العشيرة
األمية ،ثم انتقل فيما بعد إلى العشيرة األبوية.
-األفكار االقتصادية السائدة في النظام العشيري:
العمل الجماعي و الملكية الجماعية لوسائل االنتاج :و هذا يرجع إلى عدم قدرة االنسان
البدائي على تسخير قوى الطبيعة بمفرده ،إضافة إلى ضعف أدوات العمل مما يستلزم
التشارك لالستفادة ،و الدفاع المشترك في مواجهة قوى الطبيعة .أما فيما يتعلق بالتوزيع
المتساوي للمنتجات ،فقد كان رئيس العشيرة يقوم بتوزيع تلقائي للعمل دون األخذ بعين
االعتبار نوعية النشاط الممارس ،و مجهود كل فرد.
7
ظهور التقسيم االجتماعي للعمل ،و تبادل البضاعة :و من أهم مظاهره "ظهور المنتوج
الفائض" ،و هذا كنتيجة لتطور قوى اإلنتاج باإلضافة إلى استخدام أدوات العمل األكثر
تخصصا ،مما أدى إلى ارتفاع ملموس في إنتاجية العمل ،انعكس بدوره على عالقات
اإلنتاج ،و لهذا ظهر مفهوم "المنتوج الفائض" في الحياة االقتصادية .و أفضل مثال على
ذلك هو انفصال نشاط الزراعة عن الرعي كتقسيم أولي يليه تقسيمات أخرى.
فالفكر االقتصادي األساسي الحاكم لهذه التشكيلة االقتصادية و االجتماعية هو إذن:
"إنتاج الخيرات الضرورية لسد حاجات القبيلة بواسطة األدوات البسيطة و على أساس
العمل الجماعي"
8
.3النظام العبودي:
-تعريفه :هو نظام اقتصادي اجتماعي يقوم على استغالل اإلنسان ألخيه ،و استغالل الطبقة
الغنية للطبقة الفقيرة .تشكل هذا النظام خالل األلفية الرابعة قبل الميالد ،و استمر حتى القرن
الخامس ميالدي بانهيار اإلمبراطورية الرومانية.
-البنية الطبقية للمجتمع العبودي :يمكن التمييز بين ثالثة أنواع من الطبقات:
أ .طبقة المالك :و هي الطبقة التي تمتلك مختلف الوسائل و قوى اإلنتاج.
ب .طبقة المنتجين :تمثل الفئة الوسيطة ذات الدخل المحدود.
ج .طبقة العبيد :و هي الفئة المحرومة من ملكية و سائل اإلنتاج و المكرهة على العمل
المباشر.
-الخصائص االقتصادية للمجتمع العبودي:
الملكية الخاصة لوسائل اإلنتاج.
انفصال العمل الفيزيولوجي عن العمل الذهني :مما يعكس تخصص العبيد بالعمل
الفيزيولوجي ،و تخصص مالكي العبيد بالعمل الذهني ،و كنتيجة لهذا تركزت اإلدارة
الحكومية و السياسية في يد طبقة مالكي العبيد.
كل ما سبق و غيره ساعد في تطوير الفكر و الثقافة اإلنسانية كبناء القصور و تنظيم
االقتصاد و التشريع و نشأة الكتابة ،.....و بالمختصر المفيد ،أصبح العبيد محور كل إنتاج
يؤلف القاعدة التي يمر عليها التركيب الفوقي للمجتمع .فالفالسفة و المفكرون يرون في هذا
النظام خلود الطبيعة .و هكذا نرى أفالطون مثال يعبر عن هذا النظام في المجتمع العبودي
اليوناني قائال" :الرقيق هو األداة الحية في حين أن األداة هي الرقيق الذي ال حياة فيه".
"أن إنتاج الخيرات المادية موجه لسد مختلف حاجات مالكي العبيد المتزايدة باستمرار،
وكان يتم عن طريق االستثمار في العبيد".
9
التناقض بين المدينة و الريف :باختصاص أصحاب المدينة في الجهد الفكري ،أما
أصحاب الريف ففي الجهد العضلي ،مما أدى إلى انحطاط الريف و هذا بسبب استنزاف
المدينة للريفيين.
بعد انهيار اإلمبراطورية الرومانية ،عمد األسياد إلى تقسيم أراضيهم إلى قطع صغيرة،
وسلموها إلى مستأجرين من الفالحين األحرار و العبيد مقابل شروط الحصول على جزء من
المنتوج كإيجار أو ريع ،و بذلك تشكل النظام اإلقطاعي.
.1النظام اإلقطاعي:
-تعريفه :هو نظام يقوم على ملكية األرض التي تعتبر جوهر النظام االقتصادي ،حيث أن األرض
و ما تنتجه ملك لإلقطاعي ،و يجوز للفالح أن يعمل بأدواته الخاصة من أجل استغالل هذه
األرض ،و العمل اإلضافي يذهب لصاحب األرض.
-مميزاته:
العالقة االقتصادية و االجتماعية لإلنتاج تدور حول األرض.
حق استعمال األرض للفالح و حق ملكيتها يعود لإلقطاعي.
-أشكال اإلنتاج اإلقطاعي:
أ .النظام السعري :و المقصود بهذا النظام عمل الفالح بأدواته الخاصة مجانا بضعة أيام في
األراضي التي تتبع اإلقطاعي ،و الباقي من أيام األسبوع ،يقوم الفالح بخدمة األرض التي
يقدمها له اإلقطاعي الستثمارها و دفع ربح معين.
ب .نظام الربح العيني :و هو أن يعمل الفالح الذي يستخدم األرض التي يقدمها له اإلقطاعي
على مدار األسبوع بكامله ،و يقوم الفالح بدال عن ذلك بدفع المنتوج العيني.
ج .نظام الربح النقدي :و هو أن يتخلى المنتج للمالك ،ليس عن جزء من الناتج ،و إنما عن
ثمن هذا الجزء.
-أهم األفكار االقتصادية في ظل النظام اإلقطاعي:
كان للدين تأثير و دور كبير على سلوك األفراد في ظل النظام اإلقطاعي ،و قد كان للكنيسة
نفوذ متزايد كانت تنافس من خالله السلطة اإلقطاعية .يقوم هذا المذهب الذي ينادي به رجال
10
الكنيسة على ضرورة تكافؤ التبادل االقتصادي ،و من هذا المبدأ األساسي انبثقت مجموعة من
األفكار االقتصادية:
أ .الثمن العادل :هو الثمن الذي يخضع آللية العرض و الطلب.
ب .األجر العادل :هو األجر الذي يؤمن حياة كريمة للطبقات المنتجة ،و مستوى معيشي مقبول
للطبقات الفقيرة.
ج .تحريم الفائدة و الربا :هاجم رجال الكنيسة اإلقرار بالفائدة انطالقا من المقولة أن" :الفائدة
هي ثمن الوقت ،و أن الوقت ملك هلل" ،و لهذا السبب تم التحريم المطلق للفائدة و اإلقراض.
د .مبدأ تدخل الدولة :يرى رجال الكنيسة أن تدخل الدولة ضروري لتنظيم المجتمع ،فعليها أن
تتدخل لتحديد الثمن العادل و األجر العادل ،باإلضافة إلى تحريم الفائدة و الربا.
-أهم مظاهر انحالل النظام اإلقطاعي:
التطورات االقتصادية و االجتماعية المتمثلة في تحرير العبيد ،حيث كان هناك هروب
للفالحين باتجاه المدينة ،و من ثم تخفيض اليد العاملة في المجال الزراعي لالتجاه نحو
الصناعة و بعض النشاطات التجارية.
التحوالت التي عرفها رأس المال التجاري و الربوي ،و التي أدت إلى تحويل المنتج
الصغير إلى عامل مأجور.
ظهور المرحلة التحضيرية بأسلوب اإلنتاج الرأسمالي ،حيث تم االعتماد على أربعة
مصادر لتراكم رأس المال:
استعمال القوة (اإلكراه غير االقتصادي المباشر).
تجارة المستعمرات.
نشاط الشركات التجارية الضخمة.
اإلصدار السندي ( السندات عبارة عن أوراق مالية قصيرة األجل مضمونة
،%011ذات فائدة عالية جدا ،تستعملها الدولة من أجل تغطية نفقاتها ،حيث
تقوم باالقتراض و ترد بالفائدة).
ظهور المؤسسات الصناعية بدال عن جمعيات الحرف كشكل أولي لإلنتاج الرأسمالي.
ثالثا :الفكر االقتصادي في مرحلة االنتقال
.0مذهب التجاريين
11
أدى تغير األوضاع السياسية واالقتصادية واالجتماعية بعد انهيار طبقة اإلقطاع في أوربا ،ونمو
المراكز التجارية في المدن ،وظهور الدولة الحديثة والوحدة القومية ،واكتشاف العالم الجديد ،واتساع
نطاق التعامل بالنقود إلى تحول طبقة التجار إلى قوة مسيطرة توجه االقتصاد .
ولم يقتصر دور التاجر على مجرد شراء المنتجات التي يصنعها الحرفيون ،بل تجاوزها إلى
السيطرة على النشاط الصناعي من خالل استغالل رأسماله في إنتاج السلع الصناعية التي يحتاجها في
تجارته ،أو بالقيام بدور المنظم الذي يجمع هؤالء الحرفيين داخل مصنع واحد يعملون تحت إشرافه،
فقامت تبعا لذلك عالقات عمل جديدة بين الصناع والتجار أو المنتجين ،فأصبحت معها الصناعة تابعة
للتجارة ،بما يعرف بالرأسمالية التجارية .
وقد واكب هذه التغيرات تطور فكرى و سياسي تميز بالثورة على المألوف ،بحيث أصبحت كثي ار
من العقائد والمسلمات في أمور الدين والسياسة محال للجدل والنقاش ،وظهر من يرى ( كالفن وتابعوه )
أن السعي إلى الغنى والثراء ال يتعارض مع الدين ،ألن توفيق اإلنسان في الحصول على الربح دليل على
رضا الرب عنه ،وأن قيام دولة قوية يحتاج إلى أمير قوى ال تقيده سلطة دينية ،مما جعل ميكافيللى
)( 1469- 1527صاحب الكتاب الشهير "األمير " The Princeيدعو إلى ضرورة فصل السياسة
عن األخالق أو الدين ،وأن الغاية تبرر الوسيلة .و قد مهد كل ذلك الطريق نحو النزعة الفردية ،وتعظيم
المصلحة الشخصية ،والعمل على تحقيق أقصى ربح ،و االعتقاد بأن سعى الفرد إلى ذلك يصب
لصالح الدولة التي يجب أن تكون قوية .
ومن هنا انطلقت أفكار التجاريين Mercantilismمن ضرورة الحصول على مصدر القوة،
وهى الثروة ،وجمع أكبر قدر منها ،سواء على مستوى الفرد أو الدولة .و تتمثل الثروة عند التجاريين
األوائل في الذهب والفضة ،وان كان المتأخرون منهم توسعوا في مفهومها ليشمل ما يحققه البلد من
منتجات.
وقد نادى التجاريون بضرورة أن تحافظ الدولة على أن يكون ميزانها التجاري لصالحها عند
التعامل مع الدول األخرى ،وذلك بأن تحقق فائضا إيجابيا ،عن طريق الحصول على حصة أكبر من
الذهب والفضة ،وقد اختلفت السياسات المتبعة لتحقيق هذا الهدف ،تبعا لظروف كل دولة :
12
أ -السياسة األسبانية :استغلت أسبانيا كونها من أكبر الدول األوربية التي استفادت بالكشوف
الجغرافية في االستيالء على عدد كبير من المستعمرات وخاصة في إفريقيا ،الغنية بالذهب والفضة ،في
العمل على جلب الذهب والفضة – مصدر الثروة – إلى أسبانيا من هذه المستعمرات ،ومنع خروجهما
منها ،وألزمت السفن ال تي تنقل بضائع أسبانية إلى الخارج أن تعود محملة بذهب وفضة مقابل لها ،وأن
ال يسمح للتجار األجانب الذين يبيعون بضائع داخل أسبانيا أن ال يخرجوا منها بذهب أو فضة ،بل
يمكن أن ينقلوا إلى بالدهم بضائع أسبانية بدال عنهما.
ب -السياسة الفرنسية :اتجهت فرنسا ،وخاصة في عهد الوزير كولبير )،( 1619-1683
نحو الصناعة لتكون مصدر الحصول على الذهب والفضة ،وذلك بتشجيع قيام الصناعة ،وزيادة اإلنتاج
الصناعي لتصديره إلى الخارج ،باعتبار أن الصناعة تفضل الزراعة في كونها يمكن التحكم في كميات
إنتاجها دون تأثر بالظروف المناخية أو الطبيعية كالزراعة ،وأن قيمتها تزيد عن قيمة الزراعة عند تساوى
حجمهما.
ولتشجيع الصادرات الصناعية اتبعت فرنسا عددا من السياسات المالية و الحمائية ،منها إقامة
صناعات حكومية ،وفرض ضرائب جمركية عالية على الواردات المنافسة ،والعمل على تخفيض أثمان
الحاصالت الزراعية والمواد األولية الداخلة في اإلنتاج الصناعي ،وتكوين شركات لتوزيع وتصدير
المنتجات الصناعية إلى الخارج .
جـ -السياسة اإلنجليزية :استفادت إنجلت ار من سيادتها البحرية بأسطولها الكبير في الحصول
على الثروة عن طريق التجارة الخارجية ،وذلك عن طريق فرض القوانين التي تلزم بأن تكون السفن التي
تنقل البضائع بين انجلت ار ومستعمراتها سفنا إنجليزية ،وأن يكون ثالثة أرباع البحارة الذين يعملون على
السفن من اإلنجليز ،وأن تنقل السفن البريطانية البضائع الواردة من الخارج ،أو السفن التي تتبع البالد
التي ترد منها البضائع.
13
يرجع إلى التجاريين الفضل في تخليص أوربا من الكثير من األفكار المتخلفة ،والتي كانت
تكرس الخمول والكسل ،إلى مبادئ تدعو للعمل وتحقيق أقصى ربح ،مما ساهم في نهضة أوربا
الصناعية والتجارية .
.0ال تقتصر الثروة على الذهب و الفضة ،كما أن السباق المحموم بين الدول لجلب الذهب والفضة
قيد حرية التجارة الدولية ،وزاد من حده الصراع بين الدول فدخلت في حروب عسكرية ،وزادت
من المد االستعماري الذي نهب ثروات الشعوب المحتلة .
.2أضرت السياسات المتبعة في الداخل لإلبقاء على الثروة بالدولة ذاتها ؛ فعلى سبيل المثال أدت
السياسة التي اتبعتها فرنسا لتشجيع الصناعة على حساب الزراعة إلى اإلضرار بطبقة الفالحين
الذين انخفض دخلهم .
.3ال تحقق زيادة الثروة الرفاهية دائما ،إذا أدت هذه الثروة إلى زيادة الدخل ،ومن ثم زيادة القوة
الشرائية ،التي إن لم تقابل بزيادة في اإلنتاج فإنها ترفع أسعار السلع داخل الدولة ،مما يقلل من
فرص هذه الدولة في تصدير سلعها للدول األخرى ،وتزيد من واردتها على خالف ما يهدف
التجاريون بتحقيق فائض في الميزان التجاري للدولة .
.2مذهب الطبيعيين
ولدت أفكار التجاريين سياسات اقتصادية أضرت بالزراع والصناع ،نتيجة التحديد الذي فرضته
هذه السياسة على أثمان المحاصيل ،أو القيود التي وضعت على االستيراد ،فضاقت الطبقات المنتجة
من تدخل الدولة ،وراجت الدعوة إلى إطالق حرية النشاط االقتصادي من خالل العودة إلى قوانين
الطبيعة .
وقد تزعم هذه الدعوة جماعة من المفكرين بفرنسا ،وعلى رأسهم فرانسوا كيناي )( 1694-1774
طبيب الملك لويس الخامس عشر .وأطلق عليهم بالطبيعيين Physiocratesلحرصهم على التعلق
بالنظام الطبيعي ،وما يفرزه من قوانين ،توجب التركيز على الناتج الصافي الذي يتحقق من األرض :
أ -النظام الطبيعي:
14
يرى الطبيعيون أن الظواهر االقتصادية كالظواهر الطبيعية والبيولوجية تحكمها قوانين طبيعية أو إلهية ،
ال دخل لإلنسان فيها ،وال تختلف من دولة إلى أخرى ،كما ال تتغير بتغير األزمان .فهي قوانين أزلية ،
وعالمية ،ومطلقة ال استثناء فيها ،ومن ثم ال يجوز الخروج عنها ،أو تجاهلها ،أو التدخل البشرى لتغييرها.
و تقوم القوانين الطبيعية التي تحكم النشاط االقتصادي على فكرتي المصلحة الشخصية و المنافسة،
فالفرد يسعى دائما لتحقيق مصلحته الذاتية بهدف تحقيق أعلى عائد أو ربح خاص له .ويواجه الفرد
المنافسة من اآلخرين الذين يسعون كذلك لتحقيق مصلحة كل منهم الشخصية ،مما يؤدى في النهاية إلى
تحقيق مصلحة المجتمع ،التي تتكون من مجموع مصالح اآلخرين .
ب -الناتج الصافي:
نظر الطبيعيون إلى اإلنتاج كأساس لتكوين الثروة وزيادتها .ويتمثل اإلنتاج عندهم في كل عمل يخلق
ناتجا صافيا جديدا ،وذلك بأن يضيف إلى العملية اإلنتاجية أشياء أو مواد جديدة لم تكن موجودة من
قبل ،أو تزيد عما كانت موجودة قبل هذا العمل.
وال يتحقق الناتج الصافي بهذا المفهوم – من وجهة نظرهم – إال عن طريق الزراعة ،ألن األرض
وحدها هي التي تنتج الفائض الذي لم يكن موجودا من قبل .وال تنافسها في ذلك صناعة أو تجارة ،
حيث تقتصر الصناعة على مجرد تحويل المادة الموجودة من شكل إلى آخر ،كما تقوم التجارة بنقل
المنتجات الموجودة من مكان آلخر .
و يتحقق الناتج الصافي من األرض عن طريق دورة طبيعية كالدورة الدموية في جسم اإلنسان.
ويصور ذلك الطبيب كيناي من خالل تقسيم المجتمع إلى ثالث طبقات هي :طبقة الزراع أو الطبقة
المنتجة ،وطبقة المالك ،وطبقة الصناع والتجار وأصحاب النشاط الحر والخدم وتسمى بالطبقة العقيمة
) ،)classe Stérileحيث يتحقق الفائض الصافي من خالل الطبقة الزراعية المنتجة ،إذ يستخدم جزء
من هذا الفائض في اإلنفاق على األرض ،بينما يستخدم الجزء الباقي منه على مالك األرض أصحاب
الحق الطبيعي فيها ،وعلى الصناع والزراع وغيرهم لشراء ما يلزم من أدوات ومهمات الزمة للحياة .على
أن ما يحصل عليه المالك والصناع وغيرهم من ذلك الفائض يعود تالية إلى الزراع مقابل استهالك
المحاصيل الزراعية التي ينتجونها .ويدل ذلك على أن المنتجات والدخول يتم تداولها من خالل دورة
15
مغلقة تبدأ م ن األرض وتنتهي عندها ،تشبه الدورة الدموية داخل جسم اإلنسان التي تبدأ من القلب وتنتهي
عنده ،في حركة دائبة ومتكررة.
وهذا النموذج المبسط الذي أسماه كيناي بالجدول االقتصادي Reproduction Scheme
لبيان تجدد اإلنتاج من وقت آلخر كتجدد الدم في جسم اإلنسان ،يقوم على عدة فروض أهمها:
و يترتب على هذا التصور ضرورة أن تزيد قيمة دخول األرض عن قيمة النفقات المتكبدة إلنتاجها،
حتى يتمكن الزراع من أداء جزء من هذا الدخل لمالك األرض نظير حق الملكية و إعدادهم األرض
للزراعة ،والى الطبقات األخرى لتوفير المواد الالزمة للزراعة أو لحياة الزراع ،مما يتطلب ضرورة توفير
نظام اقتصادي حر ،يتيح للطبقات المختلفة أن تحدد أثمان السلع والخدمات التي ينتجونها بما يالئمهم ،
و يحقق حرية انتقال السلع والخدمات دون قيود.
ولما كان الدخل الحقيقي هو الدخل الصافي الذي تنتجه األرض ،وأن األرض هي منبع هذا
الدخل ومصبه ،فإن الطبيعيين يرون أنه ال داعي من أن تفرض الضرائب على الدخول في أيدي كل
طبقة ،أو بمناسبة حصولها عليه ،وانما يكفى ضريبة دخل وحيدة تفرض على األرض ؛ ألن تنوع
الضرائب على صور الدخل المختلفة ستؤدى إلى زيادة تكاليف وارتفاع أسعار المواد التي يحتاجها
الفالحون ،ومن ثم ترتفع تكلفة إنتاج األرض .ويعنى ذلك أن األرض هي التي تحملت كافة الضرائب
المختلفة ،وهكذا ؛ فال جدوى من تعدد الضرائب ،ولتفرض الضريبة على من يتحمل عبئها حقيقة ،وهى
األرض .
16
"دعه يعمل -دعه يمر " Laisser faire , laisser passerالتي تعني مبدأ الحرية
االقتصادية ،والتي تقوم على إطالق العنان لألفراد كي يعملون ،وللسلع كي تنتقل ،دون تدخل من
الدولة ،التي عليها أن تقوم بوظائفها الحارسة التقليدية ،أي على الحفاظ على األمن ،وتحقيق العدل ،
واقرار القوانين الطبيعية ،والحرص على تطبيقها .
يرجع الفضل إلى الطبيعيين في إبراز واستقاللية االقتصاد كعلم له أفكاره ومبادئه الذاتية ،التي تخلصه
من تبعيته ألفكار الفالسفة ورجال الدين .كما أنهم المؤسسون الحقيقيون للمذهب االقتصادي الحر.
و لهم الفضل أيضا في تغيير النظرة إلى الثروة من حصرها في النقود إلى شمولها لإلنتاج.
والطبيعيون هم أول من أعطى فكرة عن دورة الناتج الكلى و تداوله ،و توزيعه داخل الدولة ،أو بين
الدول المختلفة .
كما أنهم من أوائل من نادوا بتحرير التجارة سواء داخل الدولة ،أو خارجها ،حيث طالبوا بعدم
فرض القيود على التصدير.
ولم يروا مانعا من أن تتدخل الدولة في حدود وظيفتها الحارسة ،إلقرار األمن الداخلي والخارجي
وتحقيق العدل ،بما يعطيها الحق في التدخل لضمان أمن الدولة والتزام األفراد بواجباتهم تجاهها .
.0أخطأ الطبيعيون في حصر اإلنتاج في صورته المادية ،التي تشكل إضافة أو زيادة مادية للسلع
الموجودة فقط ،مما جعلهم يركزون على األرض واعتبارها المصدر الوحيد لهذا النوع من
اإلنتاج ،وتجاهلوا نوعا آخر من اإلنتاج ال يقل أهمية وهو إنتاج المنفعة ،الذي تحققه طبقة
الصناع والتجار وأصحاب المهن األخرى ،ألن هذه الطبقات تزاول أنشطة إنتاجية ،فهي تخلق
المنفعة التي لم تكن موجودة من قبل ،أو تزيد من المنافع الموجودة.
17
.2أن فرض ضريبة على األرض ال يحقق العدالة في توزيع األعباء العامة ،حيث يقتصر تحمل
عبء هذه الضريبة على فرع واحد من فروع النشاط االقتصادي وهو الزراعة ،دون غيره من
األنشطة األخرى .
ومن ثم فإن اتساع مفهوم اإلنتاج ليشمل كال من األنشطة المادية واألنشطة غير المادية أو
المنافع يؤدى إلى نبذ فكرة الطبيعيين التي تنادى بفرض ضريبة وحيدة هي ضريبة األرض ،لتحل محلها
فكرة تعدد الضرائب على كل طبقة منتجة من الزراع والصناع والتجار وغيرهم ،بما يتناسب مع الدخول
التي يحققها كل منهم .
.3ال تتفق نظرة الطبيعيين إلى القوانين التي تحكم النشاط االقتصادي على أنها قوانين طبيعية ثابتة
وعامة وأزلية ال تتغير دائما مع الواقع ،ذلك ألن الظروف االقتصادية تتغير وتتطور ،بتغير
وتطور المجتمعات ،تبعا للتطور االجتماعي .مما يستلزم أن تتغير القوانين التي تحكم النشاط
االقتصادي بما يتالءم مع تغير الظروف .
برز خالل العصر الحديث صراع بين نظامين اقتصاديين هما النظام الرأسمالي والنظام االشتراكي،
لما بينهما من تناقض في األهداف والوسائل .وقد ظل هذا الصراع محتدما خالل القرون الثالثة السابقة،
إلى أن شهد نهاية القرن العشرين انهيا ار للنظام االشتراكي في معظم الدول التي اتخذته مذهبا لها.
.1النظام الرأسمالي:
-ظهور الرأسمالية :أدت عدة عوامل داخلية وخارجية إلى تضاؤل قوة النظام اإلقطاعي إلى أن
تدهورت .ومن هذه العوامل شدة الظلم الذي تعرض له العبيد وهروبهم ،أو هجرتهم ،من
اإلقطاعيات إلى المدن الواسعة حيث ينعمون بقدر من الحرية ،تشجعهم طبقة التجار والصناع
لالستفادة من جهودهم ،وحكام األقاليم إلضعاف نفوذ اإلقطاعيين الذي يهدد سلطتهم ،والدعوة
المتزايدة إلى تقوية نفوذ الدولة المركزية في مواجهة نفوذ الوحدات اإلقطاعية التي تتعارض مع
مصلحة الدولة .
18
كما أدت الحروب الصليبية التي خاضتها الدول األوربية مع دول المشرق إلى إرهاق أمراء
الحروب بالديون فزادت من ضعفهم ،فضال عن اتساع نطاق التجارة بين الدول ،مما قوى في
المقابل طبقة التجار لتقوم على أنقاض الطبقة اإلقطاعية
و كان الكتشاف العالم الجديد عن طريق الرحالة األوربيين ،وتحسين طرق االتصال بين دول
العالم ،أثره في زيادة الثروة ،وتدفق الذهب والفضة على المدن التجارية األوربية ،والى تقوية مركز
النقود وشيوع استعمالها في المبادالت ،وتقلص التبادل العيني للسلع على النحو الذي كان سائدا في ظل
النظام اإلقطاعي ،لتنهض بذلك طبقة التجار قوية فتية على أنقاض طبقة اإلقطاع التي تضاءلت إلى أن
انهارت .
وقد واكب هذه الفترة ثورة صناعية فجرها استخدام البخار وتطور استخدام اآلالت ،مما زاد من
اإلنتاج ،ليصب في صالح التجار كذلك ،ولتنشأ طبقة من التجار األغنياء ولدت على أيديهم الرأسمالية
األولى.
ويختلف أنصار هذا النظام في تحديد أساس الحق في الملكية الخاصة ،فمنهم من يرجعه إلى
بدء التاريخ اإلنساني حين كان اإلنسان يتملك ما يقوم على إنتاجه ،ومنهم من يقرره على أساس العدالة،
حيث يحق لكل من أنتج شيئا أن يتملكه ،على الرغم من عدم دقة كال الرأيين .حيث يذهب العديد من
المؤرخين إلى أن الفترات األولى للبشرية شهدت ملكية جماعية ألدوات اإلنتاج ،ولم يكن للفرد حرية
الملكية خاصة ،كما أنه ليس كل ما يدر دخال من عوامل اإلنتاج الموجودة فى الطبيعة كاألرض
والمناجم يعود إلى جهد الفرد وحده ،بل هو هبة من اهلل موجود فى الطبيعة قبل أن يتملكه أو يستغله
اإلنسان .
19
ولذلك تبرز الملكية الفكرية في العصر الحديث على أساس الرفاهية االجتماعية ،ألن االعتراف
بهذا الحق وتوفير الحماية له يحقق رفاهية للمجتمع ككل ،باعتبار أن الملكية الفردية هي الباعث على
النشاط االقتصادي ،ولالستثمار واالدخار الذي يساعد في تراكم األموال اإلنتاجية .
وال يمنع اعتراف النظام الرأسمالي بحق األفراد في الملكية الخاصة من أن تتملك الدولة جزء من
الثروة القومية ملكية عامة ،تتمثل في المباني الحكومية ،وأراضى الدولة ،والمناجم ،والغابات ،والمرافق
العامة أو البنية األساسية للنشاط االقتصادي ،كالمصارف والطرق الجسور.
كما ال يحول هذا االعتراف من أن تقوم الدولة بوضع بعض القيود التي تحد من حرية أو حق
األفراد في الملكية الخاصة ،بهدف تنظيم استعمال هذه الحرية أو الحق بما ال يضر بحريات األفراد
اآلخرين ومصالحهم الخاصة ،ومن ذلك إصدار القوانين التي تنظم قواعد البناء لضمان عدم االعتداء
على حقوق الجيران ،أو منع إقامة المصانع في المناطق السكنية تجنبا لضرر التلوث البيئي.
ومن شأن تمتع المستهلك بالحرية االقتصادية أن يجعله ينفق من ماله ما يشاء فيما يشاء على
السلع والخدمات التي يراها تحقق أكبر إشباع له وفق تقديره الذاتي أو ظروفه الخاصة .كما أن الحرية
التي يتمتع بها المنتج تكفل له اختيار ما يشاء من عوامل اإلنتاج ليستثمره في المجال الذي يراه محققا
أكبر منفعة له ،متمثلة في الربح الذي يحفزه على بذل مزيد من الجهد ،وبحيث يعترف له بالحق في
إعادة استثمار أو إنفاق أرباحه أو إيراداته في هذا المجال أو غيره .
كذلك تعترف الحرية االقتصادية بحق العامل في أن يختار ما يناسبه من عمل ،وباألجر الذي
يرتضيه ،وله الحق في أن ينتقل من عمل إلى آخر دون أن يجبره رب العمل على البقاء معه ،إال وفقا
20
لما تمليه شروط التعاقد الحر بينهما ،والتي توجب على العامل إخطار رب العمل برغبته في ترك العمل
بعد فترة معينة .
وال يقيد هذه الحرية االقتصادية إال تدخل محدود من الدولة لمنع اآلثار الضارة الناشئة عن هذه
الحرية ،كمنع احتكار المنتجين للسلع ،وتحديد أسعار بعض السلع الضرورية لصالح المستهلكين ،
والزام األفراد بأداء الضرائب والرسوم التي تفرض على األنشطة االقتصادية ،واحترام الحقوق التى تقررها
القوانين للعمال .
وليس في تضييق حدود تدخل الدولة افتئات على مصلحة الجماعة لصالح الفرد ،كما يبدو في
الظاهر ،ألن الفرد وهو يعمل بحرية ليحقق ذاته إنما يساهم في تحقيق صالح الجماعة ،ألن الجماعة ما
هي إال مجموع األفراد ،وحريتهم تتحقق من حاصل تمتع كل منهم بحريته ،ومن ثم يتحرك كل فرد فى
إطار الحرية الخاصة التي يتمتع بها وكأنه مدفوع بيد خفية Invisible hand -على حد تعبير آدم
سميث -لتحقيق صالح الجماعة ككل.
وبعبارة أخرى :يمكن جهاز الثمن من تحديد السلع المنتجة ،وكيفية إنتاجها ،والفئة المستهدفة
من هذا اإلنتاج ،إذ يؤدى زيادة اإلنتاج إلى ارتفاع الدخول للمنتجين والعاملين فيزيد الطلب على السلع
مما يزيد من أثمانها ،ثم يتحقق التوازن نتيجة عودة نقص الطلب عليها بسبب االرتفاع الحادث فى
ارتفاع ثمنها ،ومن ثم يقل إنتاجها ،مما يعيد التوازن بين العرض والطلب.
ويشترط لقيام جهاز األثمان بهذا الدور التوجيهي أن تتمتع عوامل اإلنتاج بحرية االنتقال بين
فروع اإلنتاج المختلفة.
21
وجهاز الثمن بهذا المعنى ال يعنى شيئا ماديا يمكن أن نلمسه ،أو إدارة حكومية تباشره ،وانما
هو تعبير اقتصادي لمعنى أوسع ،يشتمل على مجموعة العالقات التي تربط بين الظواهر المختلفة ،
وتحكم سلوك األفراد ،وتبين ردود أفعالهم تجاه التغير الذي يحدث في األسعار .فعندما تنخفض أسعار
سلعة بسبب زيادة الكميات المعروضة منها ،يتجه المنتجون إلى تخفيض كميات إنتاجها ،مما يؤدى في
المستقبل إلى توازن الطلب والعرض عليها فتتجه أسعارها إلى االرتفاع .
والعكس صحيح بالنسبة للسلعة التي ترتفع أثمانها بسبب نقص الكميات المعروضة منها حيث
يشجع زيادة ثمنها المنتجين إلى إنتاج كميات إضافية منها ،مما يؤدى في المستقبل إلى توازن طلبها مع
العرض منها فينخفض ثمنها ،ويزيد هذا االنخفاض بزيادة المعروض من هذه السلعة .
وال ينفرد النظام الرأسمالي بتوفير حافز الربح دون غيره من األنظمة االقتصادية لتشجيع األفراد
على بذل أقصى طاقة إنتاجية ،وانما تقدم كل األنظمة على اختالف مذاهبها حوافز لذلك ،إال أن ما
ينفرد به النظام الرأسمالي في هذا الخصوص هو االعتراف بحق الفرد في تحقيق أقصى ربح دون قيود
على معدل الربح الذي يمكن أن يحققه ،أو في طريقة الحصول عليه .
وال ينظر إلى الربح في النظام االقتصادي على أنه مجرد عائد يحصل عليه المنظمون نتيجة
استثمار رؤوس أموالهم فقط ،ولكنه أيضا عنصر من العناصر األساسية للنظام االقتصادي التي تساعد
على تطوير وتنمية هذا النظام ،إذ يدفع حافز الربح كل منظم إلى زيادة إنتاجه ،مما يعود بالنفع على
المجتمع ككل في صورة زيادة كبيرة في اإلنتاج .
22
تشكل المنافسة صمام األمان الذي يحمى المجتمع من شرور االحترام الشديد للملكية الفردية
والحرية االقتصادية وتحقيق أقصى ربح ،حيث تضمن المنافسة حرية الجميع في اإلنتاج والعمل
واالستهالك دون قيود ،مما يجعل المنتجين في سعى دائم لتوفير أجود السلع بأرخص األثمان لجذب
أكبر عدد من المستهلكين ،الذين توفر لهم المنافسة الفرصة الختيار السلع التي تناسب قدراتهم ورغباتهم
فى سوق يكتظ بالمنتجين وبأنواع مختلفة من السلع .
كما يتمكن العمال في إطار المنافسة من اختيار مجاالت العمل التي تالئم قدراتهم ،وباألجور
التي تناسبهم ،ويمارس أصحاب رؤوس األموال حريتهم في اختيار أفضل السبل الستثمار أموالهم في
مجال اإلنتاج أو االدخار ،مما يصب في النهاية في صالح المجتمع كله.
ويلزم لتحقيق كل ذلك أن تكون المنافسة كاملة ،بمعنى أن تتوافر فيها الشروط الالزمة التي
تضمن كثرة عدد البائعين والمشترين ،وحرية الدخول في األسواق أو الخروج منها ،وتوفير المعلومات
الكاملة عن ظروف السوق ،بما يمنع انفراد البائعين أو المشترين باإلنتاج أو االستهالك الذي يخلق حالة
احتكارية ضارة بالحرية االقتصادية .
-نقد الرأسمالية :إن من أهم العيوب التي توجه إلى النظام الرأسمالي ما يلي:
.0سوء توزيع الدخول والثروات
يتسم النظام الرأسمالي بالتفاوت الكبير في توزيع الدخول والثروات بين أفراد المجتمع ،حيث يحوز
قلة من األغنياء الثروة والدخول الكبيرة ،بينما ال ينال الفقراء إال جزء يسير منها ،مما يترتب على هذا
التفاوت آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة .
وفى ظل هذا التفا وت يملك األغنياء القوة الشرائية الكبيرة التي تمكنهم من توجيه الموارد
االقتصادية نحو إنتاج السلع التي يرغبونها ،ولو كانت سلعا كمالية أو ترفيهية ،بينما يعجز الفقراء عن
الحصول على السلع األساسية أو الضرورية الرتفاع ثمنها وعجزهم عن تدبير الثمن الالزم لها .
كما أن ارتفاع الدخول من شأنه أن يتيح لألغنياء فرصة الحصول على التعليم والتدريب عالي
الجودة ،الذي يمكنهم من تولى األعمال أو الوظائف المرموقة ،في حين يحرم الفقراء ممن التحق
23
بالتعليم األقل جودة من هذه الفرصة ،ال لنقص في موهبة أو مهارة ذاتية ،وانما لحرمانه من مهارة
مكتسبة لم تتوافر له في التعليم أو التدريب المتاح له.
وتمكن زيادة الدخول والثروات أصحابها من تكوين المدخرات التي تساهم في زيادة تراكم رأس
المال لديها ،فضال عن فرصة حصولهم على أموال أخرى بالميراث ،مما يؤدى إلى زيادة التفاوت في
الدخول والثروات بين الفقراء واألغنياء .
ولهذا التفاوت آثار اجتماعية سلبية ،فهو يؤدى إلى حقد طبقة الفقراء على األغنياء ،والى توتر
فى العالقات بين طبقات المجتمع الواحد ،وحرمان المجتمع من مواهب شخص كفء ،ال لشيء إال ألنه
فقير لم يحصل على الفرص التي حصل عليها شخص أقل كفاءة منه ،ولكنه أكثر منه غنى.
كما أن تراكم الثروة والدخل في يد طبقة صغيرة في المجتمع يجعل منها قوة سياسية مؤثرة ،
تستطيع أن تسيطر بنفوذها على البرلمان ،لتوجه إصدار القوانين لصالحها ،مما يزيد من حدة الصراع
الطبقي ،وقد تؤدى إلى قيام الثورات.
وال يهم أن تكون السلع التي يقبل المنتجون عليها الرتفاع ثمنها سلعا مفيدة أو ضارة ،أو تخالف
قيم المجتمع وتقاليده ،ومن ذلك زيادة اإلقبال على إنتاج السجائر والخمور .
ولدفع المستهلكين إلى زيادة طلبهم على سلع معينة يخصص المنتجون بعض األموال للدعاية
واإلعالن على هذه السلع ،مما يحرم المجتمع من االستفادة من هذه األموال في اإلنتاج المفيد ،فضال
عن ترسيخ عادات استهالكية ضارة بموارد المجتمع .
24
كما قد يتجه المنتجون إلى التأثير على حجم الطلب على السلع عن طريق التخفيض العمدي
إلنتاج كميات منها ،بهدف تقليل العرض ،ومن ثم ارتفاع ثمنها ،مما يزيد من أعباء المستهلكين لهذه
السلع ،وتزيد أرباح المنتجين ،بشكل يسيء استخدام الموارد ،ويجعل جهاز الثمن أداة لتكريس جشع
المنتجين وظلم المستهلكين.
ويزيد من حجم البطالة في المجتمع الرأسمالي ما يعمد إليه المنتجون من تخفيض حجم إنتاجهم ،
بقصد خلق ندرة ،تزيد من أثمان هذه المنتجات ،مما يؤدى إلى تقليص عدد العاملين في الوحدات
اإلنتاجية التي تقرر تخفيض حجم إنتاجها.
كما يترتب على تعرض المجتمع الرأسمالي ألزمات دورية ،أو تقلبات اقتصادية ،تجعله يمر
بحاالت من الركود والكساد إلى تخفيض في اإلنتاج ،ومن ثم التخلي عن عدد من العمال ،فتزداد
البطالة في الطبقة العاملة.
في فترات الرواج يزيد الطلب على المنتجات فيزيد ثمنها ،مما يؤدى إلى التضخم ،كما أنه في
فترات الركود يقل الطلب على اإلنتاج وتنخفض األثمان واألرباح ويتقلص حجم العمالة .
وحتى يتغلب االقتصاد على اآلثار السلبية لكل حالة منها يحتاج إلى بعض الوقت ،إما لزيادة
إنتاجه وتحقيق التوازن بين العرض والطلب لكبح التضخم الناشئ في فترات الرواج ،أو للعمل على زيادة
الدخول لحفز المستهلكين على الشراء فيزيد الطلب ،ومن ثم يزداد اإلنتاج للتغلب على حالة الركود .
25
وال ريب أن العودة إلى حالة االستقرار السابقة على التضخم واالنكماش لن تكون بالصورة التى
كانت عليها من قبل ،بل تكون غالبا أقل منها ،مما يضطر االقتصاد إلى أن يعمل من نقطة سابقة
على الدرجة التي كان قد بلغها في السابق .
كما يالحظ أن المجتمع االقتصادي ال يتمتع بمستوى واحد من التطور في جميع أجزائه ،بل إن
من هذه المجتمعات ما يكون متطو ار بدرجة أكبر من غيره ،سواء على مستوى الدول ،أو داخل الدولة
الواحدة ،فمستوى التطور االقتصادي في الواليات المتحدة يزيد كثي ار عن مستوى التطور في دولة مثل
إيطاليا ،كما أن تطور شمال فرنسا – مثال –يفوق التطور في جنوبه.
وقد شهد التاريخ أمثلة عديدة لالستعمار واالحتالل العسكري ألسباب اقتصادية ،ارتبطت كثي ار
برغبات الدول الرأسمالية المعتدية في االستيالء على ثروات الشعوب المهزومة .
يؤمن أصحاب هذا الفكر بالمبادئ العامة للرأسمالية التي تقوم على حرية النشاط االقتصادي،
واحترام الملكية الخاصة ،وتدعيم المنافسة ،واالعتماد على جهاز الثمن ،وتكريس حرية التجارة الخارجية .
.0آدم سميث
يعتبر كثير من االقتصاديين آدم سميث Adam Smithرائد المذهب الرأسمالي التقليدي ،وأن
كتابه بحث في طبيعة وأسباب ثروة األمم An inquiry into nature and causes of the wealth
،of Nationsالذي نشر عام ،1776هو البداية الحقيقية لبناء النظرية الرأسمالية التقليدية ،دون إغفال
الدور الذي قام به الرواد األوائل ،أمثال سير وليم بيتي في بريطانيا ،والطبيعيون في فرنسا .
26
وقد تأثر آدم سميث بأفكار الطبيعيين ،ولكنه قام بتطويرها ،وخاصة في نظريته لإلنتاج ،حيث
اعتبر أن اإلنتاج ال يتمثل في خلق السلع المادية فقط ،وانما يتمثل في خلق المنافع أو زيادتها .
واعتبر العمل هو العنصر الرئيسي أو األكثر أهمية من بين عناصر اإلنتاج المختلفة (العمل
ورأس المال والموارد الطبيعية).
ويرجع الفضل إلى آدم سميث في بيان أهمية تقسيم العمل ،ورأى أن عنصر رأس المال ينشأ في
المجتمعات المتطورة نتيجة العمل .
وقد ميز آدم سميث بين رأس المال الثابت ورأس المال المتغير .وأشار إلى أهمية االدخار في
تكوين رأس المال ،واعتبر أن االدخار استهالك مؤجل ،وأن نظام السوق الذي تتبادل فيه المنتجات هو
الذي يضمن التوازن االقتصادي عن طريق تغيرات األثمان.
.2مالتس
آمن مالتس Malthusبأن القوانين الطبيعية هي التي تحكم النشاط االقتصادي ،وأن هذه
القوانين تؤدى إلى آثار سلبية يعانى منها البشر .
واليه ينسب الفضل في إرساء دعائم النظرية التقليدية للسكان ،التي تلخص نظرته التشاؤمية ،
حيث يرى أن السكان يتزايدون بمعدالت أكبر من معدالت زيادة إنتاج الحاصالت الزراعية ،مما ينذر
بوقوع األوبئة والمجاعات ،أو نشوب الحروب والصراعات ،التي تقتل عددا كبي ار من البشر ،ومن ثم
يعود التوازن تالية بين حجم السكان والمواد الغذائية المتاحة.
ومع ذلك فقد كان مالتس نصي ار للحرية االقتصادية ،ورافضا لسياسات تحديد النسل ،معتب ار أن
الحرية أخف ضر ار على المجتمع من سياسات التقييد أو المنع .
.3ريكاردو
27
ساهم ريكاردو Ricardoفي تدعيم البناء الرأسمالي الذي أقامه سميث ،دفاعا عن رجال
الصناعة الناشئة وعن المستعمرات ،وكانت ألفكاره عن التوزيع ،وخاصة فيما يتعلق بكيفية تحديد الريع
واألجور .
وقد اعتبر ريكاردو أن التوزيع هو المشكلة الرئيسية التي يجب أن يهتم بها علم االقتصاد ،وبرر
حصول مالك األرض على ريع أرضهم بسبب أن األرض محدودة ومملوكة ملكية خاصة ،وأن هذا الريع
يتوقف على درجة خصوبة األرض ومدىٌ بعدها عن أماكن االستهالك ،ومن ثم يمثل الريع الفرق بين
الثمن الذي يحدد في السوق الذي يحصل عليه مالك األرض األكثر خصوبة ،وبين نفقة اإلنتاج .
كما يتحدد األجر على أساس كمية المواد الغذائية الضرورية لحفظ حياة العامل ،بحيث ال يجب
زيادة هذا األجر أو تخفيضه عن هذا الحد ،ألن في كل من زيادته وتخفيضه ضر ار بالمجتمع ؛ حيث
تؤدى الزيادة إلى تشجيع العمال على الزواج وزيادة النسل مما يزيد من عدد العمال ،وينخفض األجر ،
كذلك يؤدى انخفاض األجر إلى سوء حالة العمال الصحية واالجتماعية باألمراض أو نقص معدالت
الزواج ،ما يقلل على المدى الطويل من عدد العمال ،فتزيد األجور وترتفع األسعار .
ولذلك سميت القواعد الصارمة التي وضعها ريكاردو لتحديد األجر بالقانون الحديدي لألجور.
كان لجهود جون ستيوارت ميل في تقنين مبادئ الرأسمالية التقليدية األثر في اعتبار مؤلفه عن
مبادئ االقتصاد الصادر عام 1884هو المرجع األساسي لد ارسة االقتصاد في الجامعات األوربية مدة
طويلة.
وله مساهمات مهمة في التفرقة بين القوانين االقتصادية التي تحكم اإلنتاج وتلك التي تحكم
التوزيع ،فبينما يعتبر األولى ثابتة ال يمكن تعديلها ،فإنه يمكن تعديل نظام التوزيع ،من خالل :
-استبدال نظام تعاوني يشارك العامل فيه صاحب رأس المال في الربح بنظام األجر الذي
يحصل عليه العامل ،منعا من انخفاض األجور عن الحد األدنى.
28
-فرض الضريبة العقارية على زيادة قيمة العقارات لمصادرة الريع لصالح الجماعة ،ألن هذا
الريع لم يتحقق نتيجة جهد خاص لمالك األراضي ،وانما جاء نتيجة لعوامل خارجة عنهم أهمها زيادة
السكان.
-تحديد حق اإلرث في مبلغ معين يحصل عليه الوارث تحقيقا لتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع.
ونادى ميل بأن تتخصص كل دولة في إنتاج السلعة التي تتمتع فيها بأكبر ميزة نسبية مقارنة
بالدول األخرى ،لما يفيد هذا التخصص فى حصول كل دولة على كمية مناسبة من المنتجات ،ويفيد
المجتمع كله من مجموع هذه الكميات .
وهذا هو جوهر النظرية الكالسيكية للتجارة الخارجية ،التي تقوم على التخصص .
قام ساي بعرض النظرية الرأسمالية التقليدية في فرنسا ،ومن مؤلفاته :مبادئ االقتصاد السياسي
principes d économie politiqueالذي صدر عام .1848
وهو صاحب قانون األسواق والنوافذ ،الذي يتلخص في أن المنتجات تتبادل مع المنتجات .أي
أن كل عرض يخلق طلبا مساويا له ،مما يعنى أن االقتصاد يتجه دائما إلى التوازن التلقائي ،وأن أي
اختالل عارض لزيادة العرض أو لزيادة الطلب يتم عالجه دون تدخل من الدولة ،عن طريق نظام
األسعار ،أو زيادة اإلنتاج.
وترجع أهمية هذا القانون في أنه يمثل الركيزة األساسية التي يعتمد عليها الفكر التقليدي في
تفسير نظرية التشغيل ،والتوازن االقتصادي.
.2النظام االشتراكي:
29
تقوم االشتراكية على مبادئ تخالف ما تقوم الرأسمالية عليه ،ولقد وجدت هذه المبادئ أنصارها
من المفكرين ،الذين اختلفت مذاهبهم ،وعليها ظهرت قوانين اقتصادية خاصة بها .
-ماهية االشتراكية :تقوم االشتراكية Socialismعلى قيام الدولة بملكية معظم أدوات اإلنتاج ،
وادارته ،لتوزيعه على أفراد لمجتمع ،وفق تخطيط مركزي شامل يهدف إلى زيادة اإلنتاج القومي،
ثم توزيعه على أفراد المجتمع على نحو يحقق العدالة االجتماعية بينهم .
-خصائص النظام االشتراكي :يتسم النظام االشتراكي بعدد من الخصائص ،أهمها:
.0الملكية العامة أو الجماعية لوسائل اإلنتاج:
يركز النظام االشتراكي على أن ملكية وسائل أو أدوات اإلنتاج هي ملك للمجتمع ككل ،وال يجب أن
تنفرد به فئة من المجتمع لمجرد أنها تحوز القدرة المالية التي تمكنها من السيطرة على هذه الوسائل .
ويترتب على ذلك أن الدولة مالكة وسائل اإلنتاج تقوم بدور المنظم الذي يدير رأس المال العام
لصالح أفراد المجتمع جميعا ،من خالل توزيع الناتج القومي على كل فرد من أفراده على حسب مساهمته
في اإلنتاج.
وهى خطة شاملة ،ألنها تغطى كافة المجاالت االقتصادية ،وتحدد الكميات المنتجة ،وكيفية
إنتاجها ،ووسائل توزيعها ،أو التصرف فيها بعد إنتاجها ،وحصة كل مدينة أو قرية أو فئة من هذه
المنتجات ،والجهات القائمة بتنفيذ العملية اإلنتاجية أو التوزيع ،سواء كانت جهات عامة ،أو من
القطاع الخاص الذي يسمح له في بعض األحيان بأن يكون له دور محدود .
وهى خطة ملزمة ،ألنها تصدر من اإلدارة المركزية المسيطرة على الحكم ،وتجبر كافة الجهات
المعنية بتنفيذ هذه الخطة وعدم الخروج عليها إال بعد أن توافق اإلدارة المركزية عليها .
وتبعا لذلك ال يكون لجهاز األثمان ،أو نظام السوق من اعتبار في وضع الخطة أو تنفيذها ،
ذلك ألن النظام االشتراكي يسعى إلى التنسيق بين المشروعات ال إلى التنافس فيما بينها ،كما أنه يتدخل
30
في تحديد األثمان التي تضمن حصول األفراد على ما يحتاجونه من السلع ،ومن ثم فال يجعل الربح
هدفا أساسيا يسعى إليه ،بل قد يحدد سع ار اجتماعيا للسلعة يمثل قيمة التكلفة التي دفعت فيها أو أقل
منها ألغراض اجتماعية.
ويتطلب النجاح في هذا الهدف العمل على زيادة اإلنتاج و تنويعه وتطويره باستمرار لضمان
تلبية الحاجات المتنوعة والمتزايدة ألفراد المجتمع .
ويساعد على تحقيق هذا الهدف سيطرة الدولة ،أو القطاع العام ،على معظم أدوات اإلنتاج ،ال
تعوقه ملكية خاصة ،أو سيطرة أفراد معدودين .غير أن مشكلته األساسية لتحقيق أهدافه هو حسن إدارة
نشاطه االقتصادية بروح الملكية الخاصة ،وهو ما يفتقده هذا النظام ،مما يجعل إنتاجه قاص ار أو
متخلفا.
31
ه .صاحب تطبيق هذا النظام في العديد من الدول تقييد للديمقراطية والحريات الفردية ،وغياب
الرقابة الفعالة على األداء العام ،مما زاد من معدالت الفساد بين الموظفين العموميين ،
وحرم األفراد المستهلكون من حقهم في الحصول على السلع الجيدة باألسعار التي تناسب
القدرات المالية لكل منهم .لذلك لم يكن غريبا أن ينهار النظام االشتراكي في معظم الدول
التي أخذت به ،وأهمها االتحاد السوفيتي رائدة هذا النظام ،وتحولت جمهورياته إلى اقتصاد
السوق ،كما أن الدول التي الزالت تتشبث بتطبيقه كالصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا
أخذت تتخلى عن نظامه الصارم ،وتشجع االستثمار الخاص لتنمية اقتصادياتها .
-الفكر االقتصادي االشتراكي:
يرجع الفضل إلى كارل ماركس في أنه نقل االشتراكية من مجرد أفكار خيالية ،ودعوات حالمة
أو إصالحية لدى بعض المفكرين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ،إلى منهج علمي ،يقوم على
تفضيل مصلحة الجماعة واعالء شأنها على مصلحة الفرد ،وينكر القول بأن مصلحة الجماعة هي
حاصل مجموع مصالح األفراد ،وانما تعتبر مصلحة الجماعة كيانا مستقال له ذاتية خاصة تميزه عن
مصلحة كل فرد من أفراد المجتمع .
وقد عبر كارل ماركس عن هذه األفكار أوال في بيان وقعه مع صديقه األلماني فريدريك انجلز
يسمى بالبيان الشيوعي The Communist Manifestoعام ،1848ثم في كتابه الشهير "رأس المال
"Das "Kapital" - "Capitalفي عام 1867داعيا إلى إفساح المجال للدولة لتقوم بدور أكبر في
النشاط االقتصادي ،تحقيقا لمصلحة الجماعة التي يجب أن تعلو على المصلحة الخاصة لكل فرد.
وتقوم مصلحة الجماعة عن طريق إشباع الحاجات الجماعية ،عن طريق السلطة العامة ،التى
تسعى لتحقيق هذا اإلشباع بكافة الوسائل ،دون أن يكون الربح هو الهدف األساسي لنشاطها.
ومع ذلك فإن مدلول ونطاق المصلحة الجماعية يختلف عند أنصار هذا الفكر إلى حد انقسامهم
إلى مذه بين ؛ يضيق المذهب األول من مدلول المصلحة الجماعية ونطاقها ،بحيث يسمح للقطاع
الخاص بأن يعمل بجانب القطاع العام ،ولكن في حدود ،و يحدد للعامل أجره حسب ما يؤديه من
عمل .وهذا هو المذهب االشتراكي .ولذلك يحتفظ هذا المذهب ببعض أدوات القطاع الخاص ،كالسوق
والنقود وجهاز الثمن ،لتستخدمها السلطة العامة في تحقيق أهدافها .
32
ويرجع ذلك إلى االعتقاد بأن الملكية الخاصة نظام طبيعي ألموال االستهالك ،حيث ال يمكن
للفرد أن يستهلك ماال قبل أن يتملكه ،ويكون له حرية التصرف فيه ،ومن ثم فال بأس من أن يتملك
الناس في ظل النظام ا الشتراكي المنازل والحدائق الملحقة بها ،ومساحات محدودة من الحقول والمزارع ،
طالما كان الغرض من امتالك هذه األموال هو االستهالك الخاص ؛ أي إشباع الحاجات الذاتية
ألصحابها ،وليست مخصصة لإلنتاج .
بينما يوسع أنصار المذهب الثاني من مدلول ونطاق المصلحة الجماعية لتشمل كافة مجاالت
النشاط االقتصادي ،رافضا أي دور للقطاع الخاص ،ليحتكر القطاع العام كافة أدوات اإلنتاج ،محددا
أج ار لكل فرد بحسب حاجته ،وهذا هو المذهب الشيوعي .وال وجود ألدوات القطاع الخاص ،حيث ال
حاجة لسوق ،أو نقود ،أو جهاز أثمان ،طالما احتكرت الدولة كل مجاالت النشاط االقتصادي ،لتقرر
ما تعطيه للفرد بحسب حاجته التي تراها .
القوانين الماركسية:
يرى ماركس أن النظم االجتماعية تخضع لقوانين ثابتة معينة ،ال يستثنى منها النظام الرأسمالي،
وأن معرفة هذه القوانين تساعد في التنبؤ بمستقبل النظام الرأسمالي ،ليلقى المصير الذي لقيته النظم
االقتصادية السابقة عليه ،ومن من هذه القوانين :قانون القيمة وفائض القيمة ،وقانون تناقص األرباح،
وقانون تراكم راس المال ،وقانون تركز رؤوس األموال ،وقانون اإلمالق (الفقر) العام ،وقانون انهيار
النظام الرأسمالي :
ويقصد بقيمة المبادلة :القيمة التي يتم من خاللها تبادل السلع مع سلعة أو سلع أخرى ،والتي
تعود جميعها إلى عنصر مشترك هو العمل ،وبذلك يحدد العمل قيمة السلعة ويمكن من مقارنتها بالسلع
األخرى ،وذلك على الرغم من اختالف قيم استعمالها ،التي تختلف باختالف استعمال الشخص للسلع،
وتغير خصائصها.
33
وتتحدد قيمة عنصر العمل المحدد لقيمة مبادلة السلعة بكمية العمل الضروري إلنتاج السلع
والخدمات التي تعتبر ضرورية لبقاء العامل واعاشته هو وأسرته .
فإذا كان الحصول على هذه األشياء يتطلب أن يعمل العامل مدة سبع ساعات عمل ليوم واحد ،
فإن قيمة السلعة التي ينتجها هذا العامل تعادل أجر سبع ساعات .واذا قام رب العامل بتحديد قيمة هذه
السلعة بما يعادل أجر تسع ساعات عمل ،فإن الفرق في القيمة بما يعادل ساعتين من أجر العمل يمثل
فائضا للقيمة .
وعلى هذا يعتبر فائض القيمة هو األجر المستحق للعامل دون أن يحصل عليه ،وانما استولى
عليه رب العمل ،استغالال منه لهذا العامل ،ال لشيء إال ألنه يملك أدوات اإلنتاج التي يتم بها العمل .
ويعتبر فائض القيمة الذي يستولى عليه رب العمل بمثابة الربح الذي يحققه الرأسمالي ،والذي
يحرم منه العامل ،وينخفض تبعا لذلك أجره ،مما يترتب على هذا االنخفاض تقص مماثل في طلب
المجتمع على السلع والخدمات ،يقابله زيادة في أرباح الرأسمالي تؤدى إلى تراكم رأس المال الثابت
(التكوين الرأسمالي).
ولما كان االتجاه السائد لدى الرأسماليين هو زيادة االعتماد على اآلالت والماكينات في اإلنتاج ،
فإن ذلك يعنى تناقص الحاجة إلى العمل ،حيث تحل اآلالت محل بعضهم ،األمر الذي يترتب عليه
تناقص فائض القيمة أو األرباح نتيجة انخفاض عدد العمال .ويواجه الرأسمالي ذلك بزيادة استغالل
العمال عن طريق تخفيض أجورهم ،مع استغالل األسواق واألوضاع االحتكارية برفع أثمان المنتجات .
34
.3قانون تراكم رأس المال
يرى ماركس أن رب العمل (الرأسمالي) في صراع دائم ومنافسة مستمرة مع غيره من أرباب
األعمال لالحتفاظ بمكانه في السوق ،ولكي يحتفظ بهذه المكانة يعمل على بيع أكبر كمية من السلعة
المنتجة بأقل سعر ،حتى يجذب إليه أكبر عدد من المستهلكين .
ويترتب على هذه المنافسة العمل على زيادة اإلنتاج ،من خالل زيادة طاقات العمال اإلنتاجية
لديه ،ومن ثم فهو يحتاج إلى اقتناء اآلالت المتطورة التي تزيد من إنتاجية العامل ،والى زيادة حجم
المشروع لالستفادة من مزايا المشروع الكبير في تخفيض التكاليف .
وكال الطريقين يحتاج إلى زيادة في رأس المال ،مما يعنى حاجة النظام الرأسمالي إلى تراكم رأس
المال للوفاء بمتطلبات زيادة اإلنتاج ،وتخفيض األسعار لضمان البقاء في المنافسة.
وينتج عن ذلك زيادة طبقة العمال ،وتناقص عدد أرباب األعمال (أصحاب رأس المال) ،مما
يؤدى إلى تركز رؤوس األموال في يد فئة قليلة من أرباب األعمال .
35
وتضاف الطبقة العاطلة الجديدة إلى صغار الرأسماليين الذين تحولوا بسبب شدة المنافسة إلى
عمال يطلبون العمل ،مما يزيد من عرض العمل ،وتقل األجور .
ويستفيد أرباب األعمال من هذا الوضع في زيادة استغالل العمال ،من خالل تقرير تخفيض
على أجورهم ،واال طردوا من أعمالهم ليحل محلهم عدد من العاطلين ،فيضطر العمال إلى تقبل
تخفيض األجور ،مما يقلل من دخولهم ،وتزيد معدالت اإلمالق (الفقر) ومستوياته في المجتمع .
ويتوقع ماركس أن تكون الغلبة في النهاية لطبقة العمال ،الذين يخلقون وضعا جديدا تتضاءل
فيه طبقة الرأسمالية إلى أن تفنى ،وتسود الملكية الجماعية ألدوات اإلنتاج ،وينشأ المجتمع الالطبقي ،
ومن ثم تنتهي الدولة.
شهدت السنوات األخيرة تطورات اقتصادية مهمة ،كان أبرزها انهيار النظام االشتراكي في معظم
الدول التي سارت على نهجه ،مع تصاعد الدعوة ،والتوجه ،إلى االعتماد على اقتصاد السوق:
36
مع تزايد مساوئ النظام االشتراكي في قتل الحافز الفردي الباعث إلى العمل وتحقيق الربح
الخاص ،وتزايد البيروقراطية الحكومية التي تدير الخطة العامة من خالل إدارة مركزية ،مما كبد الدول
خسائر فادحة نتيجة سوء إدارة القطاع العام ،وتحميل الخزانة العامة للدولة بأعباء مالية باهظة فى صورة
دعم هذا القطاع لضمان استمرار أدائه لوظيفته.
وذلك في الوقت الذي عانى فيه القطاع العام من الجمود وتخلف فنونه اإلنتاجية ،مما انعكس
سلبا على مستوى المنتج الذي يحصل عليه المستهلك ،مقارنة بمثيله في النظم الرأسمالية التي تعتمد
على القطاع الخاص إلنتاجه .
وقد طالب العديد من أنصار االشتراكية إلى إجراء إصالحات جوهرية في هذا النظام للحد من
مساوئه ،ومن أشهرهم االقتصادي السوفيتي ليبرمان ،Libermanالذي اقترح التخلي عن المركزية
الشديدة في تخطيط وتنفيذ المشروعات ،بحيث ال يكون للسلطة المركزية سوى الحق فى إصدار
التوجيهات العامة ،التي تبين أنواع اإلنتاج دون تحديد تفصيلي ،وبحيث يكون للفروع اإلدارية التابعة
حرية اتخاذ وضع الخطط التفصيلية بما يلبى رغبات المستهلكين في الجهة التي تدخل في اختصاصها.
كما ال يمانع أصحاب هذه اآلراء من أن تمنح المشروعات العامة جزء من أرباحها ،بدال من أن
تحول جميع هذه األرباح إلى الخزانة العامة ،حتى يكون في منح المشروع قد ار من الربح حافز له على
بذل غاية الجهد لزيادة اإلنتاج وتحسينه ،كما يكون تحقيق الربح مقياسا لتقييم المشروع .
وقد تزايد التوسع في األخذ بمبدأ الالمركزية في إدارة المشروعات ،وتطبيق بعض قواعد إدارة
المشروع الخاص على المشروعات العامة ،في محاولة لوقف نزيف الخسائر ،والتردي في هاوية الفشل.
بيد أن هذه المحاوالت لم تفلح ،وتعرضت النظم االشتراكية النهيار عنيف في معظم الدول التي
جعلتها أساسا لنظامها االقتصادي ،وعلى رأسها االتحاد السوفيتي قلعة هذا النظام .
وقد ظهر هذا االنهيار في أواخر عقد الثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي ،حين وضع
الرئيس الروسي جورباتشوف عام 1985برنامجا لالنفتاح واعادة اإلصالح تداعت أثارها إلى أن تحللت
جمهوريات االتحاد السوفيتي منذ ديسمبر ،1991وأصبحت الجمهوريات التي كانت تخضع سابقا
للحزب الشيوعي جمهوريات مستقلة ،تتبع اقتصاد السوق الحر بدال من النظام االشتراكي ،وتقلص عدد
37
الدول التي تأخذ بهذا النظام حاليا ،حيث الزالت كل من الصين وكوبا ونيكاراجوا وفيتنام تسير على
النهج االشتراكي في السياسة واالقتصاد .
وترتب على ذلك أن انتشرت الرأسمالية وصارت مجاال للتطبيق في معظم الدول النامية ،بل إن
الدول التي الزالت تتشبث بالنظام االشتراكي ،مثل الصين ،أخذت تغير من سياساتها التي تعتمد على
اقتصاد الدولة ،باالنفتاح على القطاع الخاص ،وتشجيع االستثمار األجنبي للعمل بها ،وقد أطلقت
على هذه الحالة العارمة من الرأسمالية بالرأسمالية العالمية Global Capitalism.
ويرى أنصار االشتراكية أن هذه التطورات ال تعنى انهيار المذهب والفكرة ،وانما مجرد سقوط
للنموذج السوفيتي في تطبيقها ،ووصف الرئيس الصيني بعض صور التحرر االقتصادي في بالده
باشتراكية السوق Market Socialism .
Market يفضل أنصار المذهب الرأسمالي المعاصرون استخدام تعبير اقتصاد السوق
Economyعلى النظام االقتصاد الذي يعتمد أساسا على الملكية الخاصة ،بدال من تعبير الرأسمالية ؛
تجنبا لتعريف ماركس للرأسمالية بأنها نظام اقتصادي استغاللي .إشارة منهم بأنه االقتصاد الذي يعتمد
على قوى السوق التي تحدد أسعار السلع والخدمات ،دون تدخل من الدولة إال في نطاق محدود يضمن
عمل هذه القوى بكفاءة وعدالة ،دون احتكار أو استغالل .
38
الفصل الثاني :الفكر االقتصادي اإلسالمي
تمهيد
نقل الدين اإلسالمي المجتمع العربي من حياة البداوة والتخلف إلى مجتمع متدين متحضر،
سادت دولته المشرق والمغرب ،فنقل إليها حضارته الجديدة ،وتأثر بعلوم أهلها ،فاستفاد وأفاد .
وكانت لمبادئه ،وال تزال ،أثر في المعامالت االقتصادية ،مما خلق فك ار اقتصاديا متمي از ذا
طابع أخالقي ألنه يستمد أصوله من الدين اإلسالمي .
ونبين في هذا الفصل البيئة والمبادئ واألفكار االقتصادية المؤثرة والمتأثرة بالنظام اإلسالمي ،
وذلك على النحو التالي:
مرت الجزيرة العربية – مهد الدين اإلسالمي –كما مرت غيرها من مناطق العالم ،بمراحل
التطور اإلنساني ،حيث مجتمع البداوة ،والرق ،والتجارة.
وقد ساعدت البيئة الصحراوية للجزيرة العربية على الحياة القبلية ،حيث يتكون قلب الجزيرة
العربية من سالسل من الجبال المرتفعة ،بينها بعض الوديان ،وهو قليل األمطار ،سكانه رحل يرعون
العشب ،ويستقرون حيث منابع المياه إلى أن تجف ،فيتركونها إلى منابع أخرى ،يعيشون في قبائل
متماسكة ،تتسم بالعصبية والتعاون فيما بينها .فكانت القبيلة تقتسم فيما بينها ما تجود به الطبيعة عليهم
من ماء وكأل ،وما يفوزون به من غنائم الحروب ماال أو عبيدا ،يجسدون صورة المشاركة العامة في
شكلها البدائي.
وكان الرق عنص ار هاما من عناصر العمل واإلنتاج ،حيث يعمل العبد لحساب سيده ،في مقابل
أن يحصل على الكفاف لطعامه ،وكسوته ،وكانت قوة السيد تزداد بزيادة العبيد الذين يمتلكهم بالشراء أو
باألسر في الحروب ،وكان العبيد يعملون في الزراعة والتجارة.
39
وظهر اإلقطاع في المجتمعات المستقرة في اليمن ،وفى الطائف حيث كان يمتلك بعض
األغنياء مساحات واسعة من البساتين أو األراضي الزراعية .
ولما جاء اإلسالم لم يقر روح العصبية للقبيلة ،وشجع بدال منها على التعاون والعمل لصالح
المجتمع ككل ،دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو القرابة ،كما تدرج في محاربة الرق ،والحد من
ظلمه .
ولم يعرف نظام اإلقطاع الذي عرفته المجتمعات األوربية ،وكل ما ظهر في العالم اإلسالمي
ملكيات زراعية كبيرة منذ العهد األموي ،وكثرت في العهد السلجوقي ،وكان ذلك يعرف بإقطاع
االستغالل ،حين كان يمنح الحكام للجند قطعا كبيرة من األرض لينتفعوا بدخلها بدال من منحهم مرتبات ،
ولم يكن لهؤالء الجنود حق توارث هذا اإلقطاع أو بيعه .أما النوع الثاني من اإلقطاع ،وهو إقطاع
التمليك فقد ظهر في شكل هبات تمنح لبعض األفراد .
ولم تمنح هذه الصور من اإلقطاع لإلقطاعي الحق في تملك الناس الذين يعملون على هذه
األرض ،كما كانت مقررة لإلقطاعيين في أوربا على قن أو عبيد األرض.
وقد عرفت الدولة اإلسالمية نظاما اقتصاديا خاصا يقوم على االعتراف بحق الفرد في الملكية
الخاصة مع جواز تدخل الدولة في النشاط االقتصادي لحماية المصلحة العامة .وقد أخذ هذا النظام أفكاره
من التعاليم الدينية ،ومصدرها القرآن الكريم والسنة المطهرة ،وآراء الفقهاء والفالسفة المسلمين.
.1القرآن الكريم
نزل القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم وفيه كل ما تحتاجه البشرية من
هدى ومعرفة ونور ،ومن جملة ذلك تنظيم الحياة االقتصادية في المجتمع .فالقرآن الكريم هو المصدر
األول للفكر االقتصادي منذ عهد الرسول صلى اهلل عليه وآله وسلم مرو ار بالخلفاء الراشدين واتباعهم
40
الصالحين .و قد بين اهلل سبحانه وتعالى في القرآن الخطوط األساسية لالقتصاد اإلسالمي ،حيث بين
حقائق أساسية في هذا المجال ،يمكن أن نذكر من بينها:
• حقيقة بأن اهلل هو المالك لجميع الموارد الطبيعية في الكون :وهلل ما في السموات وما في األرض.
• حقيقية إن اإلنسان مستخلف في المال والموارد الطبيعية :وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه.
• حقيقة حث اإلنسان على العمل لكسب الرزق وتحصيل المعاش :هو الذي جعل لكم األرض ذلوال
فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه.
• حقيقة إقرار الملكية الخاصة وعدم التعدي على حقوق اآلخرين :وال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.
• حماية حقوق الملكية بعقوبة رادعة :والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكال من اهلل.
• سن التشريعات التي تحفظ أموال القصر والذين ال يحسنون التصرف في أموالهم :وابتلوا اليتامى
حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم.
• حرم اإلسالم حبس األموال عن التداول وحارب ظاهرة االكتناز :والذين يكنزون الذهب والفضة وال
ينفقونها في سبيل اهلل فبشرهم بعذاب أليم.
وان لم تكن السـنة النبوية حجة ،فال معنى لجميع العبادات واألحكام التي جاء تفصيلها من طريق السـنة
وغيرها من األحكام التي أمر بها القرآن الكريم ،ثم جاءت السـنة بتفصيلها ووضع حدودها وشـرائطها.
.3اإلجماع
عرف علماء األصول اإلجماع بأنه اتفاق المجتهدين من أمة محمد بعد وفاه رسول اهلل صلى اهلل عليه
ّ
وعلى آله وسلم في عصر من العصور على حكم من األحكام .واذا خالف واحد من هؤالء المجتهدين
سائرهم لم ينعقد اإلجماع.
41
لقد كان اإلجماع في عصر كبار الصحابة ميسورا ،أما بعد تفرقهم في البالد فقد أصبح اإلجماع معتذ ار
عادة ،واليوم أصبح اإلجماع أكثر تعذ ار إذا التزمنا بشروطه التقليدية ،ولذلك تم االتفاق على إنشاء
المجامع الفقهية العالمية وهيئات لكبار العلماء لتبني االجتهاد الجماعي الذي هو أقرب إلى الصواب من
الحكم الصادر من االجتهاد الفري.
اإلجماع من أهم المصادر األصلية للفقه اإلسالمي ،ويأتي في المرتبة الثالثة بعد القرآن والسنة ،ويعده
رجال الفقه والقانون مصد ار خصبا الستنباط األحكام الشرعية وتطويرها.
يعنى االقتصاد اإلسالمي ما جاء بالشريعة اإلسالمية متعلقا باالقتصاد في أقسامها الثالثة:
العقيدة والفقه واألخالق.
النوع األول ،يتعلق بالشريعة وما ورد بها من أحكام لها ارتباط باالقتصاد.
والنوع الثاني ،ما يتعلق بالتحليل االقتصادي لهذه األحكام ،بمعنى تتبع أمر اقتصادي معين
للتعرف على العوامل المؤثرة فيه ،والستنتاج سلوكه؛ فاالدخار واالستهالك واالستثمار أمثلة لموضوعات
اقتصادية يقوم االقتصاد اإلسالمي بتحليلها في مجتمع يطبق أحكام الشريعة اإلسالمية ،كأثر الزكاة فيها،
وأثر الميراث على توزيع الثروة ،وهكذا...
واالقتصاد اإلسالمي بهذا المعنى ال يعنى علم االقتصاد السياسي بمعناه الذي نعرفه اليوم ،ألن
هذا العلم حديث النشأة نسبيا ،وألن اإلسالم دين دعوة ومنهج حياة ،وليس من وظيفته األصلية ممارسة
البحوث العلمية ،وبذلك يكون االقتصاد اإلسالمي بمثابة مذهب اقتصادي ،تتجسد فيه الطريقة
اإلسالمية في تنظيم الحياة االقتصادية ،بما يملك هذا المذهب ،ويدل عليه ،من رصيد فكرى يتألف من
أفكار اإلسالم األخالقية واألفكار العلمية االقتصادية أو التاريخية ،التي تتصل بمسائل االقتصاد
السياسي أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية.
42
ويقوم االقتصاد في اإلسالم على عدد من المبادئ األساسية ،أهمها احترام الملكية الخاصة ،
وتحريم الربا ،ومنع االحتكار ،ومحاربة الغش .
وفى المقابل لم يدع الحق في هذه الملكية الخاصة طليقا دون قيد ،وانما أجازت الشريعة
اإلسالمية لولى األمر (الدولة) في أن يتدخل للتخفيف من غلواء استعمال هذا الحق ،لمنع اإلضرار
باآلخرين ،أو لتحقيق المصلحة الجماعية .
ومن ذلك إجازة الملكية العامة للسلع الضرورية ،فقد قال صلى اهلل عليه وسلم في الحديث الذي
رواه أبو داود وأحمد "الناس شركاء في ثالث :الماء والكأل والنار " ،وزاد "الملح "في رواية أخرى
للحديث .وأقر الفقهاء المسلمون أن تعداد هذه األشياء لم يكن على سبيل الحصر ،وانما يجوز لولى
األمر أن ال يترك لألفراد ملكية أشياء أخرى مثل النفط والمعادن ،إذا ترتب على الملكية الخاصة لها
استغالل لحاجة الجماهير لها.
كما أجاز الرسول صلى اهلل عليه وسلم لمن يقوم باستصالح أرض من أراضى الدولة بأن يتملكها
ملكية خاصة ،بشرط أن يقوم بإحيائها خالل ثالث سنوات من وضع يده عليها ،وأن ال يهمل زراعتها
بعد ذلك ثالث سنوات متوالية ،ففي الحديث :يقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم " :من أحيا أرضا ميتة
فهي له ،وليس لمحتجر حق بعد ثالث سنين ".
و ورد أن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال لبالل "إن رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم -
لم يقطعك لتحتجره عن الناس ،وانما أقطعك لتعمل ،فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي " .أي
43
أنه لم يقر أن تظل األرض التي حصل عليها بالل رضي اهلل عنه ملكا دائما له ،وانما علق حقه فى
الملكية على شرط أن يعمرها ،واال تركها للمصلحة العامة.
وتقسم ملكية األموال في اإلسالم إلى ثالثة أنواع :أموال يحق لألفراد تملكها ،ويعنى بها الملكية
الفردية التي تتوافر فيها حقوق الملكية الخاصة ،وأموال ال يحق لألفراد تملكها ،ويقتصر ملكيتها على
الدولة ممثلة الجماعة ،ومن ذلك األنهار والبحار ،وأموال تتملكها الدولة وتديرها لصالح الجماعة
كالطرق وغيرها من مرافق البنية األساسية.
وقد ألزم اإلسالم المالك بأداء الزكاة وغيرها من الصدقات للفقراء والمحتاجين ،دعما للتكافل
االجتماعي بين األغنياء والفقراء ،ولكي يكون للملكية الخاصة وظيفة اجتماعية تتعدى مصلحة الملك
الفرد إلى غيره من المواطنين .فقد قال اهلل تعالى :إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها
والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل اهلل وابن السبيل" ،وقال تعالى " :وآتوهم من مال اهلل
الذي أتاكم ".
.2تقدير العمل:
أكد اإلسالم على أهمية العمل ،وجعل اإلنسان العامل العابد في مركز أعلى وأفضل ممن يلزم
العبادة دون عمل ،فقد قال اهلل تعالى " :وقل اعملوا فسير اهلل عملكم ورسوله والمؤمنون" " ،وقال صلى
اهلل عليه وسلم " :أطيب الكسب عمل الرجل بيده" ،و "إن اهلل يحب العبد المؤمن المحترف ".
وضرب الرسول والصحابة المثل في أداء العمل واتقانه ،ومن ذلك مشاركته صلى اهلل عليه وسلم
الصحابة في حفر الخندق استعدادا لغزوة األحزاب ،وقوله عليه الصالة والسالم ":إن اهلل يحب إذا عمل
أحدكم عمال أن يتقنه".
ولم تكن التجارة مستهجنة عند المسلمين األوائل ،كما كان األوربيون في العصور الوسطى
يستهجنونها ،بل إن اإلسالم وضع أسس التي يجب أن تقوم التجارة عليها ،كاألمانة ،ومنع الغش ،
واالحتكار .ففي القرآن الكريم "وال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إال أن تكون تجارة عن تراض منكم "،
وقوله تعالى :وأوفوا الكيل وال تكونوا من المخسرين" ،وقوله صلى اهلل عليه وسلم ":تسعة أعشار الرزق
في طلب التجارة" ،وقوله صلى اهلل عليه وسلم " :التاجر الصدوق مع الكرام البررة".
44
وفى ذات الوقت لم يحتقر اإلسالم مهنة حرفية كانت أو خدمية ،وشجع على كسب الرزق
بالعمل ،بدال من التسول والكسل ،فقد نهى الرسول صلى اهلل عليه وسلم عن التسول ،وأمر من يلجأ
إليه بأن "اذهب واحتطب وبع "وقال صلى اهلل عليه وسلم " :ألن يحمل الرجل حبال فيحتطب به ،ثم
يجيء ،فيضعه في السوق ،فيبيعه ،ثم يستغنى ،فينفقه على نفسه ،خير له من أن يسأل الناس أعطوه
أو منعوه " .وسأل سيدنا عمر بن الخطاب عن مصدر الدخل الذي ينفق منه رجل يقضى طوال وقته في
المسجد ،فلما علم أن أخاه ينفق عليه ،قال له "أخوك خير منك".
.3تحرير العبيد
جاء اإلسالم والرقيق عنصر أساسي من عناصر العمل في جزيرة العرب ،ولم يكن الرقيق في
بالد العرب كالرقيق في أوربا ،فهم ليسوا عبيدا لألرض يلتصقون بها ،وانما العبد ملك للسيد يحصل
عليه نظير أداء ثمن له من مالكه ،أو غنيمة نتيجة انتصاره في الحرب .ويمكن أن ينتقل لغيره من
السادة لنف س األسباب ،أو يحصل على حريته بأن يفدى نفسه أو يشتريها من السيد بمال أو عمل ،أو
مكرمة من هذا السيد في بعض األحيان.
ولم يشأ اإلسالم أن يقرر إلغاء الرق مرة واحدة ،نظ ار لحاجة العرب إليه في أوقات السلم
والحرب ،إال أنه غير نظرة العرب إلى الرقيق ،مبينا أنهم بشر كغيرهم من السادة ،وأن المرء ال يتميز
على أخيه بلونه أو جنسه أو ماله ،فالمؤمنون أخوة ،ال فرق بينهم إال بالتقوى والعمل الصالح.
وقد أخذ اإلسالم بنظرية التدرج في تحرير العبيد مراعاة للظروف االجتماعية واالقتصادية السائدة
فى هذا الوقت ،فجعل تحرير العبد سببا للقربى إلى اهلل ،أو كفارة لليمين ،أو تكفي ار للذنوب .فقد قال
تعالى " :ال يؤاخذكم اهلل باللغو في أيمانكم ،وانما يؤاخذكم بما عقدتم األيمان ،فكفارته إطعام عشرة
مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " ،وقال تعالى" :والذين يظاهرون من
نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ،ذلكم توعظون به...".
وقد تعددت الطرق التي سلكها اإلسالم لتحرير الرق ،ومن أهمها:
.0جعل تحرير العبيد مصرفا من مصارف الزكاة ،هو مصرف "وفى الرقاب" ،وصورة من
صور الصدقات التي حث اإلسالم عليها.
45
.2أعطى ل لعبد الحق في تحرير نفسه من الرق ،وذلك عن طريق المكاتبة ،وهو أن يدفع ثمنه
لسيده ،فإذا ماطل السيد في أخذ الثمن ،كان للعبد أن يودع هذا المال الخزانة العامة (بيت
المال) لحساب هذا السيد ،ليعجل بتحريره.
.3جعل عتق الرقبة صورة من صورة الكفارات ،التي تطهر المسلم من الذنوب التى اقترفها ،
أو بعض الجرائم التي ارتكبها ،مثل جريمة القتل الخطأ.
.4أبيح للسيد بأن يقرر حرية العبد من بعده ،حتى ال يورث العبد بعد وفاة سيده.
.5جعل ميالد ولد األمة من سيدها سببا لتحريرها تكريما لها.
.4تحريم الربا
حرم القرآن الكريم الربا ،ونهى عن اإلقراض نظير فائدة محددة ،يحصل عليها المقرض أو
المرابي من المدين ،بغض النظر عن مدى تحقق المدين لربح أو خسارة من استعماله لهذا القرض .وقد
قال تعالى " :يأيها الذين آمنوا ال تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة " ،وقال الرسول صلى اهلل عليه وسلم" :كل
ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي ،وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب".
ويرجع ذلك إلى ما للربا من مضار اقتصادية واجتماعية سيئة على الفرد والمجتمع ،لما ينطوي
عليه من استغالل لحاجة المدين إلى المال في حصول الدائن على مقابل هذا المال دون عمل ،وما
يترتب عليه من تحميل المدين بأعباء متزايدة تثقل كاهله ،وتقيد النشاط االقتصادي ،وتثير الحقد
والبغضاء في المجتمع.
وال يقتصر تحريم الربا على المعامالت النقدية ،بل تتجاوزه إلى كل صور التبادل بين السلع
المتماثلة في النوع ،والتي تقوم على الوفاء بأكبر من القيمة أو الكمية التي سبق الحصول عليها.
.5تنظيم السوق
فضل اإلسالم نظام المنافسة على التدخل في الشئون االقتصادية ،بما يتيح لكل من البائع
والمشترى حرية التعامل وفقا لمقتضيات وقوى السوق دون تدخل من الدولة ،ولذلك رفض الرسول الكريم
تسعير السلع ،واعتبرها الفقهاء المسلمون مظلمة ال تجوز.
46
وقد ثبت أنه لما غال السعر على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال الصحابة – فيما رواه
أنس رضي اهلل عنه -يا رسول اهلل لو سعرت ،فقال صلى اهلل عليه وسلم :إن اهلل هو القابض الباسط
الرازق المسعر ،واني ألرجو أن ألقى اهلل عز وجل وال يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم وال مال".
بيد أن المنافسة في األسواق ال تمنع من تدخل الدولة في حالة خروج هذه المنافسة عن نطاقها
الطبيعي والعادل .فقد ورد أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال لرجل يبيع زبيبا ":إما أن تزيد
في السعر أو تخرج من سوقنا ".كما وضع ابن تيمية معيا ار للتسعير المحرم والتسعير المباح ،فجعل
التسعير عمال محرما إذا كان الهدف منه الحد من االرتفاع التلقائي لألثمان ،أما التسعير المباح ،فهو
الذي يجيز لولى األمر أن يتدخل لتسعير سلع ترتفع أثمانها على نحو مقصود من التجار ال تقتضيه
طبيعة التعامل في األسواق المتنافسة .
ومن ثم منع اإلسالم االحتكار ،واعتبر الرسول أن المحتكر خاطئ ،مما يجيز لولى األمر
التدخل لوضع القواعد وسن القوانين التي تمنع االحتكار.
حاول عدد من المفكرين األوائل تفسير بعض الظواهر االقتصادية ،ويرجع إليهم الفضل في
وضع اللبنات األولى لبعض النظريات الحديثة .
وقد تأثر الفالسفة المسلمون األوائل بالفلسفة اليونانية ،فنجد الفارابى يتأثر بآراء أرسطو التي
تبرر قيام الدولة على أساس اجتماعي ،ليحقق الفرد اإلشباع لحاجاته الخاصة بالتعاون مع غيره من
البشر.
ونادى ابن سينا بمكافحة البطالة ،وبين أن أساس المبادالت هو قيمة المنفعة للسلعة التي يتم
تبادلها ،وأكد على تحريم الميسر (القمار) باعتباره نوعا من الكسب بال عمل أو منفعة.
ومن أشهر العلماء المسلمين الذين تضمنت كتاباتهم إسهامات اقتصادية مهمة :ابن خلدون
) ،)1332-1406و الدمشقي ) ،( 1364-1442و المقريزي ).(1365-1441
47
.0ابن خلدون
بالرغم من أن ابن خلدون يصنف على أنه من علماء االجتماع ،إال أنه من أوائل العلماء الذي
خص المسائل االقتصادية بدراسة معمقة في مقدمته الشهيرة ،إلى الحد الذي يعتبره بعض الكتاب بأنه
أبو االقتصاد السياسي الحقيقي ،سابقا في ذلك آدم سميث ،فقد قرر ابن خلدون أن هناك تالزم بين
االقتصاد والسياسة ،إذ تقوم حضارة الدول (العمران) عنده على دعامتين ،األولى اجتماعية سياسية
تقتضيها الحاجة إلى التأنس ،والثانية اقتصادية قوامها سعى الناس إلى الكسب.
والى هذا يقول ابن خلدون "اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن االجتماع اإلنساني
الذي هو عمران العالم ،وما يعرضه لطبيعة ذلك العمران من األحوال ،مثل التوحش والتأنس والعصبيات
وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض ،وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله
البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث فى ذلك العمران
بطبيعته من األحوال" .
وقد لفت ابن خلدون االهتمام إلى الندرة كمشكلة اقتصادية ناتجة عن عجز اإلنسان عن مقاومة
الطبيعة بمفرده ،وبسبب كثرة الضرائب و الجبايات التي تلزمه الحكومات بها مما يزيد من أعبائه .وفى
ذلك يقول ابن خلدون " :إن قدرة الواحد من البشر غير موفية له بمادة حياته ،ويستحيل أن تفي بذلك
كله أو ببعضه قدرة الواحد ،فالبد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم ،
فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجات ألكثر منهم بأضعاف".
واعتبر العمل هو مصدر القيمة ،و أن المنفعة شرط للقيمة ،إذ ليس كل شيء نافع له قيمة ،
ذلك أن عمل اإلنسان هو الذي يصنع القيمة ،والثمن هو التعبير النقدي لهذه القيمة ،وهذا الثمن ال
يظهر إال في األسواق .ويتحدد الثمن على أساس نفقة اإلنتاج ،حيث تؤدى زيادة نفقة إنتاج سلعة معينة
إلى زيادة ثمنها.
وعلل ابن خلدون تقلب أثمان السلع نتيجة قوى العرض والطلب ،ألن زيادة الحاجات (الطلب)
على الموجود (العرض) ترفع األثمان ،كما تنخفض أثمان السلع الضرورية وترتفع أثمان السلع الكمالية
بسبب زيادة العرض من األولى والطلب على الثانية ،بما يعرف حاليا بفائض العرض ،وفائض الطلب.
48
وسبق ابن خلدون الطبيعيين واالقتصاديين التقليديين في تقسيمهم العمل إلى منتج وغير منتج ،
حين فرق بين وجوه المعاش الطبيعية التي تخلق قيمة كالتجارة والفالحة والصناعة ،وبين وجوه المعاش
غير الطبيعية التي ال تخلق قيمة كاإلمارة .وميز بين العمل الظاهر المنتج لقيمة مباشرة والعمل المستتر
المنتج لقيمة مخزونة ،سابقا في ذلك كأل من سميث وريكاردو اللذين فرقا بين العمل الحالي والعمل
الماضي ،وماركس الذي ميز بين العمل الحي والعمل المخزون.
وناقش مسألة تقسيم العمل ،وأرجعها إلى التعليم كطريقة الكتساب المواهب والى زيادة السكان ،
وأنه ال يقتصر على تقسيم العمل الداخلي بل يتجاوزه إلى النطاق الدولي ،حيث يرجع تقسيم العمل بين
الدول إلى اختالف الحاجات من دولة إلى دولة ،نظ ار لتخصص كل دولة بأعمال تميزها عن الدول
األخرى ،والختالف الدول في درجة عمرانها ونموها.
ولذلك يقول ابن خلدون "في اختصاص بعض األمصار ببعض الصنائع دون بعض ..ما
يستدعى من األعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومون عليه ويستبصرون في صناعته ويختصون
بوظيفته ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه لعموم البالد به في المصر والحاجة إليه ،وما ال يستدعى فى
المصر يكون غفال ال فائدة لمنتحله في االحتراف به ،وما يستدعى من ذلك لضرورة المعاش ،فيوجد في
كل مصر كالخياط والحداد والنجار وأمثالها ،وما يستدعى لعوائد الترف وأحواله فإنما يوجد فى المدن
المستبحرة في العمارة اآلخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاج والصائغ والدهان...".
كما استخدم الطريقة الديناميكية في تحليل مزايا تقسيم العمل ،من خالل بيان تحليل تتابع
المؤثرات واآلثار في الزمن ،بحيث يؤثر حدث معين في الماضي على األحداث التالية له ،وهكذا يربط
التحليل بين الفترات الزمنية المختلفة بين السبب والنتيجة ،وهى طريقة في دراسة التطور االقتصادي لم
يفطن إليها إال الكتاب السويديون في بدايات القرن العشرين.
.2الدمشقي
بين أبو الفضل الدمشقي ) (1364-1442في كتابه "اإلشارة إلى محاسن التجارة " أن الدولة
قامت ألسباب اقتصادية ،نظ ار لتعدد حاجات اإلنسان وعجزه أن يشبعها جميعا بنفسه ،مما تطلب تعاون
الناس جميعا إشباع حاجاتهم .
49
وأن النقود ضرورة لتثمين األشياء التي يحتاج الناس إلى مبادلتها ،كما أشار إلى عيوب
المقايضة ،ولم ينظر إلى التجارة نظرة الريبة التي كانت للفكر اإلغريقي القديم ،وانما رأى أنه يمكن أن
تحقق التجارة السعادة في الدنيا إذا كانت متميزة ،وكان التاجر نبيل الخلق.
.3المقريزي
أعد المقريزي من بين مؤلفاته المتعددة في التاريخ رسالتين صغيرتين في موضوعين هامين من
موضوعات االقتصاد ،هما التضخم والطلب على النقود ،وذلك في رسالتيه بعنوان ":شذور العقود في
ذكر النقود" ،و"إغاثة األمة بكشف الغمة" .
وبرز ذلك بوضوح في رسالته الثانية ،بمناسبة تحليله ألسباب المجاعة االقتصادية التي حلت
) ( 1392- 1404وكان شاهدا عليها ،حيث أرجع هذه المجاعة إلى زيادة كمية النقود بمصر
المطروحة في التداول مما أدى إلى ارتفاع المستوى العام لألثمان ،وهو ما يعرف حاليا بالتضخم.
كما سبق جريشام في اكتشاف قانونه الشهير ،والقائل بأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من
األسواق ،حين الحظ اختفاء النقود الفضية تاركا المجال للنقود النحاسية تتداول فترة المجاعة ؛ فمع
ارتفاع المنتجات وانخفاض القوة الشرائية للنقود بدأت العملة الفضية في االختفاء نظ ار لقيام الناس
بتحويلها إلى معدن يستخدم في صناعة بعض المنتجات مثل الحلي واألواني الفضية.
إن تراكم الخبرات العملية والعلمية في المجال االقتصادي أوجد عدة مفاهيم وفرضيات يعتمد عليها الفكر
االقتصادي في الدراسة والبحث وهى في حد ذاتها مقبولة إسالميا ولكن نظ ار الختالف نظرة اإلسالم
للحياة عن النظرة الغربية يلزم إعادة صياغتها وفق المفهوم اإلسالمي ،ومن أهم هذه المفاهيم والفرضيات
ما يلي:
-فرضية الرشد االقتصادي :وهى تقوم في الفكر الغربي على أن اإلنسان بطبيعته رشيد
ويعرف مصلحته وبالتالي يجب ترك الحرية له في جميع تصرفاته االقتصادية ،والموقف
اإلسالمي من هذه القضية أن الرشيد في عرف الفقهاء هو المصلح لماله ويزيد الشافعية
على ذلك أنه المصلح لماله ودينه ،وأن اإلنسان إذا كان رشيدا تترك له حرية التصرف في
50
المال ،ولكن ليس كمسلمة وانما البد من اختبار رشده والتأكد منه قبل ذلك كما يقول سبحانه
وتعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم )
(النساء )6 :كما أنه يشترط في العاقدين في أي عقد األهلية والرشد ،ولذا فإنه قد يكون
اإلنسان غير رشيد وبالتالي يحجر عليه أو يعين وصى عليه.
-فرضية الحافز الذاتي أو المصلحة الشخصية :وتقوم على أن كل فرد يتصرف اقتصاديا
وفق ما يحقق مصلحته الخاصة ،ومع أن هذه الفرضية مقبولة إسالميا إال أن تركها على
إطالقها في ظل األنانية المفرطة قد تؤدى إلى عواقب وخيمة تتمثل في التأثير السلبي على
مصالح المجتمع ،ولذا فإن النظرة اإلسالمية لهذه الفرضية تعمل على تقليم أظافر األنانية
المفرطة عن طريق اإليمان بأن مصلحة اإلنسان الذاتية تمتد خارج حدود الدنيا إلى اآلخرة
وأن هناك مساءلة لإلنسان تجعل حدود ما يصبو إليه من منفعة ترتبط بالقواعد األخالقية
التي تمنعه من الجور على اآلخرين.
-فرضية التناسق والتناغم بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة دون حاجة إلى تدخل
لترتيب األولويات بينهما :وأن سعى كل إنسان لتحقيق مصلحته يحمل في طياته تحقيقا
لمصالح المجموع وتقرير هذه الفرضية من حيث هي سبق بها علماء اإلسالم علماء
االقتصاد المعاصرين حيث يقول الشاطبي في الموافقات" :فصار يسعى في نفع نفسه ينفع
غيره فحصل االنتفاع للمجموع بالمجموع وان كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه " ،غير
أن األخذ بهذه الفرضية وفى ظل األنانية المفرطة أدى إلى ممارسات فيها نفع شخصي
وضرر بالمجتمع مثل تلوث البيئة والفساد االقتصادي وزيادة الفقراء .ولذا فإن اإلسالم يضبط
هذه الفرضية بوضع قواعد حاكمة منها أنه عند التعارض تقدم المصلحة العامة على
المصلحة الخاصة ،وأن للمصلحة الخاصة حدودا ال تتعداها إذا أدى تحقيقها إلى إضرار
بمصالح اآلخرين.
-مفهوم آلية السوق ممثلة في تفاعل العرض والطلب وأنها كافية لكي يسير االقتصاد نحو
تحقيق أهدافه المنشودة من الكفاءة والعدالة ،وبالتالي يجب ترك السوق حرة دون تدخل
خارجي ،ولهذه الفرضية أصل في اإلسالم يستند إلى التراضي المذكور في قوله تعالى ( :إال
أن تكون تجارة عن تراض منكم ) (النساء )22 :وقول الرسول -صلى اهلل عليه وسلم":-
إنما البيع عن تراض" ولكن نظ ار ألن الواقع أثبت فشل آلية السوق نظ ار لوجود ممارسات
51
احتكارية وأساليب تنافسية ضارة وغير سليمة ،بدأ النظام الرأسمالي القائم على حرية السوق-
حتى سمي بنظام رأسمالية السوق الحرة -في إصدار التشريعات المناهضة للسياسات
االحتكارية والتي تمثل ضوابط أو قيود خارجية لتنظيم السوق دون ترك األمر كله آللية
السوق ،وهذا ما سبق به اإلسالم في ما يعرف في الفقه بالبيوع المنهي عنها شرعا والتي
تمثل ضوابط يجب االلتزام بها.
-مفهوم الوضعية :والتي تعنى أخذ سلوك األفراد واختياراتهم على عالتها دون النظر إلى مدى
انسجامها مع القيم المعيارية في المجتمع والحكم عليها بأنها حسنة أو سيئة ،وهذا المفهوم
يتعارض مع كون األخالق إحدى شعب اإلسالم ويجب إخضاع كل سلوك واقعي اقتصادي
للحكم عليه في ضوء السلوك المثالي كما سبق القول.
سادسا :أهم إنجازات الفكر االقتصادي اإلسالمي في الحياة المعاصرة
رغم أن أصول الفكر االقتصادي اإلسالمي و هي :القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مازالت
قائمة في حياة المسلمين ،وأن التراث الفقهي بين أيدي المسلمين ويتعالى بناؤه بالدراسات الفقهية المستمرة
في كل العصور وحتى اآلن ،وأن تاريخ الفكر االقتصادي اإلسالمي ضارب بجذوره في أعماق التاريخ
وشهد فترات ازدهار واضحة ،إال أن فترة التغريب التي عاشها المسلمون بعيدا عن تنظيم حياتهم
االقتصادية من المنظور اإلسالمي طالت حتى قدر اهلل سبحانه وتعالى أن تحدث صحوة إسالمية
معاصرة منذ حوالي ثالثين سنة مضت امتدت إلى المجال االقتصادي في صورة علمية وعملية ،وفى
خالل هذه المدة الوجيزة ظهرت إنجازات للفكر االقتصادي اإلسالمي تمثل قدرة هذا الفكر على مالحقة
المستجدات من قضايا ومشكالت اقتصادية معاصرة ،ونشير في هذه الفقرة إلى أهم هذه اإلنجازات على
الوجه التالي:
-في مجال التأصيل اإلسالمي لالقتصاد :ويعتبر من المجاالت المبكرة التي بدأ فيها بحث
موضوعات عديدة تمثل فروع االقتصاد حسب التصنيف المعاصر لها مثل :مبادئ وأصول
االقتصاد اإلسالمي -النقود والبنوك -اإلنتاج -السوق -المالية العامة -التنمية والتخطيط-
التمويل.
-في مجال التأريخ :وجدت بحوث ودراسات عديدة تناولت تاريخ الفكر االقتصادي اإلسالمي
سواء في صورة مجمعة ،أو في صورة دراسات منفردة إلسهامات علماء المسلمين في تاريخ
52
الفكر االقتصادي اإلسالمي مثل ابن خلدون -و المقريزي -و الشاطبي -و الدمشقي-
والماوردي ،وتمت هذه الدراسات وفق منهج يبرز أهم اآلثار االقتصادية التي قال بها هؤالء
العلماء ومقارنتها بتاريخ الفكر االقتصادي التقليدي .كما تم تناول التاريخ االقتصادي
للمسلمين بالتعرف على أهم األنشطة االقتصادية في عصور مختلفة واألسلوب الذي تتم به
وتقويمها إسالميا.
-في مجال مساندة المؤسسات االقتصادية والمالية اإلسالمية المعاصرة :لقد شهدت الفترة
األخيرة إنشاء العديد من هذه المؤسسات والتي تعمل وفق أحكام وتوجيهات اإلسالم وتؤدى
دورها باستخدام أحدث األساليب بكفاءة وفعالية تزيد إن لم تتكافأ مع نظيرها التقليدي ومن
هذه المؤسسات ما يلي:
البنوك اإلسالمية :التي بدأ إنشاؤها في بداية السبعينات من القرن العشرين وتواصل
إنشاء المزيد منها وتوسيع حجم أعمالها حيث وصل عددها إلى حوالي 211بنك
تعمل في جميع قارات العالم وبلغ حجم أصولها حوالي 011مليار دوالر.
شركات التأمين اإلسالمي :والتي أنشئت منذ حوالي عشرين سنة ووصل عددها اآلن
إلى حوالي ست وستين شركة وتقوم بأداء جميع األعمال التأمينية وفق منظور
إسالمي متميز عن شركات التأمين التجاري بالجمع بين فكرة التكافل االجتماعي في
اإلسالم وفكرة عقد المضاربة اإلسالمية.
صناديق االستثمار اإلسالمية :والتي أنشاء العديد منها سواء بواسطة البنوك
اإلسالمية أو في صورة صناديق مغلقة على هيئة شركات ومارست أعمالها على
المستوى المحلى والعالمي بكفاءة مثل صناديق األمين والتوفيق بالسعودية أو
صندوق المضاربة بشركة الراجح بالسعودية ،أو بالبنك اإلسالمي الدولي للتنمية
وصندوق المستثمر الدولي.
المؤسسات المعاصرة للزكاة :التي أنشئت في بعض البالد اإلسالمية لتطبيق
فريضة الزكاة إما على أساس اإلدارة الحكومية واإلشراف الحكومي مثل مصلحة
الزكاة والدخل في السعودية ،أو على أساس اإلدارة الشعبية واإلشراف الحكومي مثل
بيت الزكاة الكويتي ،أو على أساس إدارة حكومية واشراف شعبي مثل مصلحة الزكاة
53
في السودان ،أو على أساس إدارة واشراف شعبي مثل صناديق ولجان الزكاة في
بعض البنوك اإلسالمية والجمعيات الخيرية بمصر.
-في مجال القضايا والمشكالت االقتصادية المعاصرة :للفكر االقتصادي اإلسالمي إسهامات
بارزة في القضايا االقتصادية المعاصرة سواء من حيث التأصيل اإلسالمي لها أو اإلسهام
بتقديم مقترحات عملية لحلها أو تنظيم العمل بها وفق قيم اإلسالم وأحكامه ،ومن أمثلة ذلك
ما يلى:
على مستوى القضايا والمشكالت المرتبطة باالقتصاد الكلى ،تم تناول قضايا
ومشكالت عديدة مثل :العالج اإلسالمي للفقر ،وحماية البيئة من التلوث ،وكيفية
مواجهة الفساد االقتصادي واإلداري ،ومشكلة البطالة والتضخم ثم قضايا البورصة
وأسواق المال والمعامالت الحديثة فيها مثل االختيارات والمؤشرات والعقود
المستقبلية ،وكذلك قضايا االستثمار األجنبي والقروض الدولية ،ودور الدولة في
النشاط االقتصادي ،والموازنة العامة للدولة ،وموارد الدولة واإلنفاق العام ،والتكامل
االقتصادي.
على مستوى القضايا الجزئية تم تناول العديد منها مثل :تنظيم المنافسة ومنع
االحتكار ،والتأجير التمويلي ،والتجارة اإللكترونية ،وبطاقات االئتمان ،والصرف
األجنبي ،والتمويل العقاري ،والبيع بالتقسيط ،والركود ،وأزمة االئتمان المصرفي.
-على مستوى االبتكارات لألساليب المالية واالقتصادية التي ليس لها نظير في االقتصاد
التقليدي ،والذي استطاع الفكر االقتصادي اإلسالمي إنجازها اعتمادا على ما ورد في الفقه
اإلسالمي من عقود المعامالت ومنها ما يلي:
كيفية التطبيق المعاصر لعقود السلم االستصناع والمرابحة في النظام المصرفي
اإلسالمي المعاصر.
االستناد إلى عقد المضاربة في تنظيم العالقة بين البنك والمودعين وفى تنظيم وثائق
صناديق االستثمار.
ابتكار أدوات مالية إسالمية مثل سندات المقارضة وصكوك اإلجارة.
وثائق التأمين مع المشاركة في األرباح.
54
إصدار هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية اإلسالمية للعديد من معايير
المحاسبة اإلسالمية.
سندات أو صكوك الوقف.
وهكذا اتضح أن الفكر اإلسالمي موجود وأنه أختبر بنجاح في التطبيق ،وأن نتاجه غزير وله
مؤسساته وكوادره المتعددة ،وأنه يستوعب كافة القضايا والمشكالت االقتصادية المعاصرة والمستجدة
تأصيال وابتكارا.
إذا أردنا للفكر االقتصادي اإلسالمي االزدهار ،واإلفادة منه في تحقيق التقدم االقتصادي للدول
اإلسالمية بعد ما أسفر تطبيق النظم االقتصادية الغربية بها عن تخلف وتبعية ،واذا أردنا القدرة على
مواكبة المستجدات المتالحقة بشكل مميز يبرز خصائصه ويظهر حقيقة اإلسالم ونظرته للحياة ،وسعيا
نحو تالفى السلبيات السابق ذكرها فإن األمر يتطلب ما يلي:
.0المرتكزات األساسية :إن اإلسالم نظام متكامل يتكون من شعب ثالث هي العقيدة والشريعة
واألخالق ،وبالتالي يجب على الفكر االقتصادي اإلسالمي أن يرتكز على هذه الشعب الثالث
سواء في التحليل االقتصادي أو وضع النظام االقتصادي األمثل ،ومن أهم ما تشتمل عليه هذه
الشعب ويتصل باالقتصاد ما يلي:
-إن المال مال اهلل وأن البشر مستخلفون فيه يرزقهم اهلل به لنفعهم وأداء حقوق اهلل في المال
وحق اهلل في التصور اإلسالمي هو حق المجتمع الذي قرره رب العزة في تكاليف إيجابية
وسلبية وعدم تبديد الموارد وضياعها.
-اإليمان بأن اهلل عز وجل سوف يحاسب اإلنسان على التصرفات في األموال ويجازيهم على
ذلك في الدنيا بالبركة والمحق ،وفى اآلخرة بالعذاب مصداقا لقوله تعالى (ثم لتسألن يومئذ
عن النعيم ( (التكاثر )8 :وقول الرسول -صلى اهلل عليه وسلم" -ال تزول قدما عبد يوم
القيامة حتى يسأل عن أربع " ومنها" :عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه" وهذه المسألة
يقين وعقيدة تحكم سلوك المسلم يجب أخذها في االعتبار في التحليل االقتصادي لسلوك
المسلم المستهلك والمنتج.
55
.2األهداف :يجب أن يكون الهدف من االقتصاد اإلسالمي هو تحقيق الرفاهية اإلنسانية وليس
مجرد التوقف عند حد دراسة ما هو كائن يوصف وتفسير السلوك االقتصادي الواقعي ،ويجب
ربط تحقيق هذا الهدف بمقاصد الشريعة اإلسالمية ،وبالنظر للحاجات المادية والروحية وبالتوازن
بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة ،وهذا يتطلب من الفكر االقتصادي اإلسالمي وضع
النظام االقتصادي األمثل وليس مجرد دراسة السلوك القائم.
.3المعايير :إذا كان االقتصاد يدور في مجمله حول اتخاذ الق اررات باالختيار بين السياسات البديلة،
فإنه يجب أن يستند هذا االختيار إلى توافق القرار مع المعايير اإلسالمية االقتصادية وهى ما
ذكرهما اهلل سبحانه وتعالى في قوله( :وابتغ فيما آتاك اهلل الدار اآلخرة وال تنس نصيبك من الدنيا
وأحسن كما أحسن اهلل إليك وال تبغ الفساد في األرض إن اهلل ال يحب المفسدين) (القصص) 77
وبالتالي فإنه يجب على الفكر االقتصادي اإلسالمي في تحليل السلوك االقتصادي أو تقويمه
الختيار السلوك المتوافق إسالميا أن يستند إلى هذه المعايير التي نعبر عنها بلغة اقتصادية في
اآلتي:
أ) ( وابتغ فيما آتاك اهلل الدار اآلخرة ) :أي االلتزام بطاعة اهلل وعدم عصيانه حتى تنال ثواب اهلل
وتتجنب عقابه في اآلخرة ،ومن شأن االلتزام بذلك الحد من الممارسات غير األخالقية التي تتدرج
تحت ما حرمه اهلل ،والتي زادت في االقتصاديات المعاصرة.
ب) ( وال تنس نصيبك من الدنيا ) :وهذا من شأنه أن يعمل على تحقيق أفضل إشباع من الموارد
المتاحة بما يحقق الكفاءة.
جـ ( )وأحسن كما أحسن اهلل إليك ) :وهذا من شأنه مراعاة البعد االجتماعي وتحقيق التوازن بين
المصلحة الخاصة والمصلحة العامة.
د) ( وال تبغ الفساد في األرض) :وهذا من شأنه المحافظة على الموارد واستخدامها فيما يشبع
الحاجات ويحد من تلوث البيئة واستنزاف الموارد والفساد االقتصادي.
.4المنهج والخطوات :ويتم وفق ما يلي :
-دراسة السلوك االقتصادي الفعلي كما يحدث في الواقع ليس كما يحدث في االقتصاد الغربي
والذي يتم في ضوء المفاهيم واالفتراضات المستقاة من نظرته للحياة والكون وانما يلزم إعادة
صياغة هذه المفاهيم وفق منظور إسالمي كما سنبينه في فقرة الحقة مع ربط هذه الدراسة
باألهداف من االقتصاد اإلسالمي السابق ذكرها.
56
-تحديد السلوك االقتصادي اإلسالمي المثالي :ويتطلب هذا التحديد أن يتفق السلوك مع
المرتكزات األساسية والهدف المنشود من االقتصاد اإلسالمي وتحقيق مقاصد الشريعة استقاء
من الكتاب والسنة ثم اجتهادات علماء المسلمين بعد التدليل عليها عقال ،وما ثبت عند
تطبيق االقتصاد اإلسالمي في عصر الحضارة اإلسالمية الزاهرة.
-المقارنة بين السلوك الفعلي والسلوك المثالي وتحديد أوجه االختالف بينهما وتفسير أسباب
هذا االختالف.
-اقتراح اإلجراءات الالزمة للتقريب بين السلوك الفعلي والسلوك المثالي.
57
المراجع
.0رفعت العوضى :االقتصاد اإلسالمى ،الموسوعة اإلسالمية العامة ،من مطبوعات المجلس
األعلى للشئون اإلسالمية ،القاهرة،2003 ،
.2محمد حامد دويدار وآخرون :أصول االقتصاد السياسى ،الجزء األول ،دار المعرفة الجامعية ،
اإلسكندرية.1996 ،
.3احمد شلبى :االقتصاد فى الفكر اإلسالمى ،الطبعة الخامسة ،دار النهضة المصرية ،القاهرة،
.1983
.4محمد لبيب شقير :تاريخ الفكر االقتصادى ،دار نهضة مصر لطبع والنشر ،القاهرة
.5عبد الحليم الجندى :األخالق فى االقتصاد اإلسالمى ،دار المعارف ،القاهرة.1997 ،
.6حازم الببالوي :دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر االقتصادي ،دار الشروق ،ط ،0القاهرة،
.0225
.7عبد اهلل ساقور :االقتصاد السياسي ،دار العلوم للنشر و التوزيع ،عنابة ،الجزائر.2114 ،
58