You are on page 1of 2

‫احلق يف العقاب‬

‫د‪ .‬منى كامل تركي‬

‫تمثل مكافحة الظاهرة اإلجرامية والحد منها الهدف األسمى الذي يرمي إليه‬
‫كافة المهتمين بتلك الظاهرة‪ ،‬وبلوغ تلك الغاية أو الفشل فيه مقياس على مدى نجاح السياسة الجنائية‬
‫المتبعة داخل المجتمع‪.‬‬

‫وللسياسة الجنائية بحسبانها العلم الذي يهدف إلى استقصاء حقائق الظاهرة اإلجرامية للوصول إلى‬
‫أفضل السبل إلى مكافحتها مراتب تبدأ بالمستوى القاعدي المتعلق بشق التجريم من القاعدة الجنائية‪،‬‬
‫فتبحث في مدى تالئم التجريم المقرر من قبل المشرع مع قيم وعادات المجتمع‪ ،‬ومدى الحاجة إلى‬
‫هذا التجريم في الفترة المقرر فيها‪ ،‬حيث تتباين المجتمعات في هذا بحسب مستواها من التطور‬
‫االجتماعي والخلقي والروحي‪ .‬وكذلك تبحث في طبيعة الوقائع المجرمة لتحديد أي الوقائع يجب أن‬
‫تظل مجرمة‪ ،‬وأيها يجب إباحته‪ ،‬وأيها يجب أن يصبغ عليها وصف التجريم وتنتقل السياسة الجنائية‬
‫إلى الشق الجزائي من القاعدة الجنائية‪ ،‬كي تقيم العقوبات المقررة وحاالت التخفيف والتشديد واإلعفاء‬
‫وسبل التفريد التشريعي المقررة في مدونة العقوبات‬

‫ثم تنتهي السياسة الجنائية إلى مرتبتها الثالثة المتعلقة بتحديد أساليب المعاملة العقابية حال التنفيذ‬
‫الفعلي للجزاء الجنائي داخل المؤسسات العقابية‪ ،‬خاصة ما يتعلق بالتفريد التنفيذي للعقوبة والتدابير‬
‫الجنائية‪ ،‬وكفالة إتباع أسلوب علمي في تنفيذ الجزاء على المجرم بما يضمن تأهيله واصالحه وتهذيبه‬
‫واعادة اندماجه في المجتمع مرة أخرى ‪.‬وعلى ذلك فإن هدف السياسة الجنائية ال يقتصر على الحصول‬
‫على أفضل صياغة لقواعد قانون العقوبات وانما يمتد إلى إرشاد القاضي الذي يضطلع بتطبيق هذه‬
‫األخيرة والى اإلدارة العقابية المكلفة بتطبيق ما قد يحكم به القاضي‬

‫وهذا الشق األخير للسياسة الجنائية والمسمى بالسياسة العقابية هو الذي يضمه علم العقاب موضوعنا‬
‫والذي يرمي بالتالي إلى الوقوف على الكيفية التي ينبغي بها مواجهة الظاهرة اإلجرامية في مرحلة‬
‫التنفيذ العقابي‪ ،‬بما يكفل تحقيق أهداف المجتمع في منع الجريمة أو تقليصها إلى أبعد مدى فكأن علم‬
‫العقاب علم يسلم بحقيقة الظاهرة اإلجرامية‪ ،‬ويتلقفها بالدراسة والتحليل في أعقاب وقوع الجريمة وثبوتها‬
‫على جان أو أكثر‪ ،‬ثم يبدأ التعامل معها في مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي كي يباعد بين الجاني وكذا‬
‫بقية أفراد المجتمع وبين تكرار وقوعها‪ .‬من هنا تظهر أهمية دراسات علم العقاب حيث يتوقف على‬
‫هذا العلم نجاح المجتمع في مواجهة الظاهرة اإلجرامية‬

‫ومن الحقائق الثابتة أن أي علم من العلوم‪ ،‬طبيعياً كان أم إنسانياً‪ ،‬ينمو ويتطور بقدر نمو وتطور‬
‫موضوع هذا العلم والمحل الذي يعني بدراسته‪ .‬واذا كانت العقوبة قديماً‪ ،‬بحسبانها نوعاُ من األلم يعادل‬
‫ويكافئ ما قد وقع من جرم‪ ،‬هي الصورة األولى للجزاء الجنائي إال أنه سرعان ما تبين أن هذا النمط‬
‫يظل قاص اًر عن تحقيق أغراض المجتمع من توقيع العقاب والمتمثل في منع ومكافحة الجريمة‪ ،‬لذا فقد‬
‫كشف التطور عن نمط آخر من أنماط الجزاء الجنائي أال وهو التدابير‪ ،‬سواء أكانت وقائية أو عقابية‬
‫أم عالجية‪ ،‬والتي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر على يد المدرسة الوضعية اإليطالية حين قالت‬
‫بفكرة الخطورة اإلجرامية ‪.‬‬

‫ولعلنا ال نبالغ إذا قلنا أن نجاح سياسة المكافحة للظاهرة اإلجرامية على مستوى التنفيذ العقابي يتوقف‬
‫في نهاية األمر على أساليب وطرق المعاملة العقابية المتبعة داخل وخارج المؤسسة العقابية وقدرتها‬
‫على إعادة تأهيل المجرم وتحقيق كالً من الردع العام والخاص والحد من معدالت الجريمة في المجتمع ‪.‬‬
‫أي بيان أساليب المعاملة العقابية‪ ،‬سواء أكانت داخلية كالتصنيف والرعاية الصحية واالجتماعية‬
‫والعمل‪ ،‬أو خارجية كالوضع تحت االختبار وايقاف التنفيذ واإلفراج الشرطي والعمل للمصلحة العامة‬
‫والرعاية الالحقة ‪.‬بيد أن التطور الذي أصاب نوع العقاب وأساليب المعاملة العقابية صور رد الفعل‬
‫العقابي وكيفية اقتضاء الحق في العقاب ما كان ليتم لوال التطور الذي ط أر على فلسفة وأساس حق‬
‫العقاب ذاته؛ هذا التطور الذي نجم عن تبدل وتنوع المدارس الفكرية في مجال الدراسات الجنائية‬

You might also like